Professional Documents
Culture Documents
مدير التحرير
محمد حسين الرفاعي
دَّ .
سكرتيرة التحرير
إنتزال الجبوري
كلمة التحرير
4 د .عبدالجبار الرفاعي للشر األخالقي
ّ عالجا
ً الح ُّب بوصفه
ُ
حوارات
ُ
وطرق ال َت ِ ِ
45 مصطفى ملكيان عامل معها ُمشكل ُة ّ
الشر
دراسات
61 د .آرش نراقي مدخل إلى مسألة الشر
87 الدين العامري
د .صالح ّ الشر في األديان
مقولة ّ
113 د .منذر جلوب منبعا الخير والشر
139 د .حسين الهنداوي الشر ومفاجئات الديالكتيك الهيغلي ّ
157 د .لؤي خزعل جبر الثيوديسية
َّ سيكولوجية
183 د .أسماء غريب الشر وقضاياه
في ّ
209 ألفين بالنتينجا الشر ودفاع حرية اإلرادة
مشكلة ّ
237 د .كوثر فاتح مشكلة الشر عند خافيير زوبيري
273 د .الصادق الفقيه مشكلة الشر :قراءة في محاضرات هيغل
309 د.زهرة الثابت ً
حامل للخير الشر بوصفه
ّ
337 د .نورة بوحناش التقنية والشر
369 د.ع َمر بن بوجليدة
ُ تساؤل ريكور حول مشكلة الشر
391 د .مصطفى العطار أخالقيات الوجه في إدارة النزاع
411 عبد الرزاق الدغري مشكلة الشر في األديان الكتابية
كلمة التحرير
1
للشر األخالقي
ّ عالجا
ً الح ُّب بوصفه
ُ
د .عبدالجبار الرفاعي ____________________________________________
ـ1ـ
الطبيع ُة اإلنساني ُة ملتقى األضدا ِد
أهم االكتشافات التي يكتشفها اإلنسان في حياته هو اكتشافه لعجزه عن فهم من ّ
ِ
وفهمها ِ
اكتشاف الطبيعة اإلنسانية ً
شامل ،وعجزه عن فهما دقي ًقا تا ًّما ً
كامل نفسه ً
بعض الناس لحظ َة تتحدث معه يخبرك أنه يعرفك بدقةفهما علم ًّيا تفصيل ًّيا .وإن كان ُ
ً
نفسك إلى
كل شيء في داخلك ،وهو ال يدري أنك ال تعرف َ وبالتفصيل ،ويعرف ّ
هذه الدرجة التي يزعمها هو.
ُ
اإلنسان عن نفس اإلنسان غامض ًة حتى لنفسه ،ما ال يعرفه ما أقسى أن تكون ُ
عالمه الباطني
كثير مما يحجبه ُ اإلنسان عن معرفة ٍ
ُ نفسه أكثر مما يعرفه عنها .يعجز
ٍ ٍ
كل منعطف حا ٍّد في حياته بشيء يثير دهشتَه ممابشكل واضح ودقيق ،لذلك يبوح له ُّ
ٍ
اكتشاف لنفسه ما دام ح ًّيا ،يلتقط في هذه الرحلة ِ
رحلة نفسه عنه ،ويظل فيتخفيه ُ
كل مرة شي ًئا مما يغوص في أعماقه .يرى محيي الدين بن عربي« :أن اإلنسان بنفسه ّ
هو الطلسم األعظم والقربان األكرم ،الجامع لخصائص العا َلم» ،بصير ُة محيي
الدين تتكشف فيها بعض األسرار المختزنة في طبيعة اإلنسان .وقبله ن ّبه أبو حيان
ُ
اإلنسان». اإلنسان ْأشكل ِ
عليه َ التوحيدي إلى ذلك بقولهَّ :
«إن
بالرش
دراسته .املقصو ُد ِ ّ
ِ ٍ تصنيفات متنوع ٌة ّ
للرش عند الفالسفة والالهوتيني الذين تعمقوا يف ٌ .1هناك
ٍ ُّ
األخالقي هنا هو كل اعتداء وظلم يصدر من اإلنسان جتاه غريه ،مثل اعتداء اإلنسان وظلمه
ِ
واعتداء اإلنسان عىل الطبيعة ،واستنزافِها بالشكل ِ
واعتداء اإلنسان عىل الكائنات احلية، لإلنسان،
ِ ِ
الذي ينتهي إىل اختالل التوازن احليوي ،واالحتباس احلراري ،وغري ذلك من آثار فتاكة عىل مصري
األرض و َم ْن عليها.
5 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
المح ّبة ،لوال القسوة لم تكن الرحمة .ك ُّلها يمكن أن نعثر عليها في منجم الذات
البشرية .3
أساسي في قراراته ومواقفه .أحيانًا
ٌّ أثر عواطف اإلنسان ومشاعره وانفعاالتهُ
ٍ
كلمات هو ال يدري لماذا نتائجها ،ويتكلم ٍ
قرارات هو ال يعرف ُ
اإلنسان يتخذ
َ
تكلمها ،ثم سرعان ما يندم عليها ،لكنه لحظ َة الندم يعجز عن تدارك آثارها
وارتداداتها المؤذية عليه وعلى مصالحه وعالقاته وحياته .يمكن أن يرتكب
اإلنسان جريم َة ٍ
قتل في لحظة غضب عنيفة من دون عداوة سابقة أو أسباب ُ
بعض الناس يفتقد عق ُله القدر َة على التحكم بإرادته ومواقفه لحظات
معروفةُ ،
مصيره، ٍ
قرارات حمقاء ،ومواقف رعناء ،تصادر عليه االنفعال الهائجة ،فيتخذ
َ
صور جالل الدين الرومي في المثنوي التنازع في وتفسد َ
عيشه ،وتد ّمر حياتَهّ .
الشر والخير ،في حديثه عن موسى بوصفه يرمز لإلرادة الخيرة،
ذات اإلنسان بين ّ
وفرعون بوصفه يرمز لإلرادة الشريرة ،بقوله« :إن موسى وفرعون في وجودك،
كامل ،ك ُّلنا على
ينبغي أن تبحث عن هذين الخصمين في وجودك»« .4ال أحدَ منا ٌ
نكون مالئك ًة» ،تقول
َ ً
وحوشا ،وعلى بعد خطوة من أن َ
نكون بعد خطوة من أن
علم النفس وعلو ُم اإلنسان بعض خفايا الطبيعة اإلنسانية ُ
اكتشف َ
َ جانيت والز.5
ُ
تتواصل اكتشافاتُها ،ألن الطبيع َة ومختلف العلوم الحديثة ،وما زالت
ُ والمجتمع
األسرار التي أودعها اﷲُ في اإلنسان .ذلك ما يقوله الفالسف ُة
َ اإلنسانية تختزن
ِ
استبصارات العرفاء الحاذقة. والخبراء في النفس البشرية ،ويتكشف شي ٌء منه في
ِ
وكيفية خلقه من ِ
طبيعة اإلنسان وما ينطوي عليه، يشير محيي الدين ب ُن عربي إلى
األضداد ،بقوله« :واعلم أن اإلنسان شجر ٌة من الشجرات ،أنبتها اﷲُ شجر ًة ال
قائم على ساق ،وجعله شجر ًة من التشاجر الذي فيه ،لكونه مخلو ًقا
نجما ،ألنه ٌ
ً
.3الرفاعي ،عبد اجلبار ،الدين والظمأ األنطولوجي ،ص ،ط 32 ،3ــ ،2018 ،33دار التنوير ،بريوت،
مركز دراسات فلسفة الدين ،بغداد.
.4الرومي ،جالل الدين ،املثنوي ،ترمجة ورشح :إبراهيم دسوقي شتا ،ج ،3ص ،2017 ،1251املركز
القومي للرتمجة ،القاهرة.
.5مؤلفة أمريكية وصحفية ،مؤلفة كتاب «قلعة الزجاج» مذكرات طفولتها ،صدر ،2005ترجم
الكتاب إىل 22لغة ،وحتول إىل فيلم ،2017وبيعت منه أكثر من مليوين نسخة.
يعافرلا رابجلادبع .د 8
والتشاجر والمنازع َة» .6ويقول محيي
َ التخاصم
َ تطلب
ُ من األضداد ،واألضدا ُد
الدين في محل آخر« :ال شيء أوسع من حقيقة اإلنسان وال شيء أضيق منها».7
ٌ
وانفصال بين األضداد في وجود اإلنسان ،وجو ُده يختزن تمايز
ٌ ليس هناك
ِ
إمكانات اإلثبات والنفي م ًعا ،يمكن أن يكون أحدهما في أية لحظة ،ويمكن أن
ينقلب إلى ضده في لحظة أخرى .يكتب ألكسندر سولجنيتسين« :8إنه ً
بدل من
وجود أناس أخيار وأناس أشرار ،فإن العالم يتكون من أشخاص معقدين بشكل
والشر.
ّ قادر على إتيان الخير
كل منهم ٌ مدهش ،وأحيانًا متناقضين حتى مع أنفسهمٌّ ،
ٍ
مكان ما، أناس أشرار فقط في لو كان فقط ُّ
كل شيء بهذه البساطة ،لو كان هناك ٌ
يرتكبون بمكر ً
أفعال شريرة ،لكان من الضروري فص ُلهم فقط عن بقيتنا وتدميرهم.
كل إنسان ،ومن ذا الذي قلب ّوالشر يخترق َ
ّ الخط الذي يفصل بين الخيرَّ لكن
والشر كامن ًة في باطن ِّ
كل ّ ُ
وسائل الخير يرغب في تدمير قطعة من قلبه؟» .9ما دامت
إنسان وهي موجود ٌة بوجوده ،فيمكن أن ينقلب َم ْن نراه خ ّي ًرا إلى شرير في أية لحظة
يمتلك ما يمكّنه من العدوانية والتوحش .عندما يتمكّن أحدٌ من السلطة في بالدنا
الناس غال ًبا ما يستبدّ ويطغى ويتحول إلى ٍ
كائن مفترس ،وكأنه ينقلب على ما يعرفه ُ
من أخالقه قبل السلطة .إنه لم ينقلب على أخالقه ،ألن تلك األخالق االجتماعية
محتاجا ،وبمجرد ً استخدمها سفين ًة لعبوره إلى كرسي السلطة ،عندما كان ضعي ًفا
ان َل َي ْط َغ ٰىَ ،أننس َ الوحش المختبئ داخله فاستبدّ وطغى[ ،ك ََّل إِ َّن ْ ِ
ال َ ُ عبوره انبعث
اس َت ْغن َٰى].10
َّرآ ُه ْ
ِ
تفاعل وتداخل عناصر متباينة في الالفت أن األبحاث البيولوجية تشير إلى
ٍ
جنس واحد ،فقد أخذت نيلسون من جامعة واشنطن تكوين اإلنسان ال تنتمي إلى
.6ابن عريب ،الفتوحات املكية ،باب ،336يف املنازل ،ج :3ص .137
.7املصدر السابق ،ج ،2ص .515
.8أديب ومعارض رويس ،حائز عىل جائزة نوبل يف األدب سنة ،1970اشتهر بروايتيه« :أرخبيل
غوالغ» و«يوم يف حياة إيفان دينيسوفيتش».
.9جوندرمان ،ريتشارد« ،كينونة يف حالة عدم اليقني :مفهوم جون كيتس عن القدرة السلبية» ،ترمجة
مجال مجعة ،جريدة الصباح «بغداد» 17 ،آذار .2021
.10العلق 5 ،ــ .6
9 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
ُ
والعقل الرو ُح
قدر فرضته على اإلنسان طبيعتُه المخلوقة بهذه الكيفية،
التضا ُّد بين الروح والعقل ٌ
مواقف بديلة ،وكأن
ُ وهذا التضا ّد ال ينتهي ،تتوالد من المواقف المتضا ّدة باستمرار
َ
اإلنسان يظل محكو ًما بهذه المعادلة التي شرحها هيغل في ديالكتيكه ،بقوله :اإلنسانية
الطبيعية هي «تناقض لم يتم حله داخل ًّيا»( ،12فعبر «وحدة األضداد» و«نفي النفي»
خاصا من قوانين الصيرورة التاريخية ،كما تراها فلسفته .فاإلرادة
ًّ يضع هيغل قانونًا
اإللهية ،بالتغيير أو التدمير أحيانًا ،هي القوة الكونية العاقلة الواعية التي تخلق سبب
التغيير وفعله موضوع ًّيا .وبهذا المعنى تحديدً ا ينبغي تفسير موت ووالدة الدول واألمم
في فلسفته ،كما في قوله« :من الموت تولد حياة جديدة»).13
نرى التضا َّد بين الروح والعقل بوضوح في آراء اإلنسان ومواقفه وقراراته وسلوكه،
ُ
العقل ،إذ ال الروح يصمت
ُ الروح ،وعندما تتحدّ ث
ُ ُ
العقل تصمت فعندما يتحدث
الروح.
ُ ُ
العقل إال عندما تصمت يستفيق
ُ الروح إال عندما يصمت العقل ،وال
ُ تستفيق
مقيما في الروح لن ُ
اإلنسان ً مقيما في العقل لن تمتلئ الروح ،وما دام ُ
اإلنسان ً مادام
ُ
العقل تنطفئ الروح ،وربما تصير رما ًدا ،وعندما تتوهج يمتلئ العقل .عندما يتوهج
ُ
العقل يغرق ٍ
سبات أبدي .عندما يغيب الروح ينطفئ العقل ،وربما يخمد ويغرق في
ُ
المر ُء في كهوف ظالم الوهم والخرافة والضياع.
.11روبسون ،ديفيد ،هل هناك إنسان آخر يعيش بداخلك؟ ،موقع يب يب يس ،بتاريخ 2أكتوبر /ترشين
األول .2015
.12هيغل ،املحارضات.92 :3 ،
.13هنداوي ،حسني ،الرش ومفاجئات الديالكتيك اهليغيل ،جملة قضايا إسالمية معارصة ،ع 73ــ ،74
« .»2021الدراسة منشورة يف هذا العدد.
يعافرلا رابجلادبع .د 10
اإلنسان بالروح ويهدر َ
العقل فيضيع في متاهات الحياة المظلمة، ُ ال يمكن أن يستغني
الروح فيضيع في متاهات القلق وكوابيس
َ ُ
اإلنسان بالعقل ويهدر وال يمكن أن يستغني
لهمة تحدثنا عن حاجات الروح وأشواقها وإشراقاتها .لو الم ِ
آثار العرفاء ُ
الالمعنىُ ،
ُ
العقل للروح الروح للعقل ويتحدث فيها
ُ ُ
اإلنسان أن يعيش حيا ًة تتحدث فيها حاول
الجمع بينهما.
ُ يصعب عليه ذلك ،وربما يتعذر أحيانًا على اإلنسان
ٍ
وموقف واحد ،المتنا ِع وآن واحد، ٍ
وعاء واحدٍ ، محاوالت الجمع بينهما في: ت ِ
ُخف ُق
ُ
وحجج
ُ عقل الفيلسوف يدله على طريق، السير في طريقين متوازيين في آن واحدُ .
طريق
ٌ طريق الفيلسوف ،وللعارفِ الالهوتي تدله على طريق ،ال يلتقي بالضرورة مع
ِ
الحقائق عبر شهوده لها .وذلك ما يحكيه تذوق بعضآخر ،استبصاراتُه فيه تمكّنه من ّ
ِ
ومواقف الفالسفة والالهوتيين والعرفاء في ّ
كل األديان. والتنو ُع في آراء االختالف
ُ
ّ
ذلك هو أحدُ أقدار اإلنسان الوجودية ،وما فرضته عليه طبيعتُه .لحظ َة اجتياز هذا
طور يستطيع فيه أن يعيش من اإلنسان في سفره إلى ٍ
ُ ٍ
بنجاح يصل االمتحان العسير
دون أن يضحي بالعقل قربانًا للروح ،أو يضحي بالروح قربانًا للعقل .وهو من أعسر
االختبار الوجودي المزمن الذي يولد
ُ اختبارات المرء في الحياة وأش ّقها وأشقاها ،إنه
كثير من
اختبار يفشل فيه ٌ
ٌ ونهارا ،إنه
ً اختبار يعيش معنا ونعيش معه ً
ليل ٌ بوالدتنا ،إنه
اختبار ال ينجو منه أحد ،ولن يظفر باجتيازه بنجاح إال األفذاذ .يقول إريك فروم:
ٌ البشر،
متأصل في ظروف الوجود اإلنساني ،ويتطلب ٌ تناقض
ٌ «أؤمن بأن طبيع َة اإلنسان هي
ٍ
متناقضات جديدة ،وبالتالي تحتاج إلى البحث عن حلول تخلق بدورهاَ التناقض
ُ هذا
االستمرار في البحث عن حلول».14
شعوره بمرارات الحياة
ُ اإلنسان بمشقة الحياة ،وك ّلما تقدم ُ
عمره اشتدَّ ُ يشعر
ِ
وتٔامين ٔامنه الشخصي ،تٔامين العيش يتطلب بنا َء ِ
بتٔامين عيشه، ُ
ينشغل ومواجعها.
والتعامل مع مختلف أصنافهم ،وأحيانًا يضطر للتعامل حتى مع َ عالقات مع الناس
الكف
َّ أالمن الشخصي والسال ُم الباطني يتطلبان ِ ُ
التعامل معهم .وتأمي ُن الذين ال ُيطاق
ِ
مرارات الحياة ومواج َعها تٔاتي غال ًبا من هذا التعامل .يتمنى عن التعامل مع الناسٔ ،الن
.14فروم ،إريك ،حب احلياة :نصوص خمتارة ،تقديم :راينر فونك ،ترمجة :محيد لشهب ،ص .57
11 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
ُ
الجهل بالطبيعة اإلنسانية وأخطا ُء التربية
والغموض في شخصية الكائن
َ يكتشف اإلبها َم
َ يستطيع أن
ُ ُ
البسيط ال ُ
اإلنسان
ٍ
شيء من الطبقات البعيدة الغور في داخله. ِ
التوغل في اكتشاف ويعجز عن البشري،
ُ
يحسب
ُ ساذجا،
ً فهما
ويفهم الحيا َة ً
ُ الواقع رؤي ًة مس ّطحة،
َ يرى ُ
مثل هذا اإلنسان
وكل ما فيها مكشو ًفا ،وهو ال يدري أن الحيا َة تجرب ٌة عملي ٌة ال الحيا َة شديد َة الوضوح َّ
وخوض مساراتهاِ ِ
بالعيش فيها والصبر على اختباراتها القاسية، تتكشف لإلنسان إال ّ
ِ
والنجاة ب على منعطفاتها الشاقة، ِ
والوقوف على محطاتها المختلفة ،والتغ ّل ِ الوعرة،
من مباغتاتها المريعة .الحيا ُة توجد بالتجارب واالختبارات والممارسات واألفعال
المبسطة والتوصيات الجاهزة،
ّ والمواقف ،ولیس بالتساؤالت الساذجة واإلجابات
ُ
اختزال وال بالتمنيات المع ّلبة ،والرغبات واألحالم ،والكلمات الرخوة .ال يمکن
ٌ
خليط من ُ
اإلنسان اإلنسان وتعقیدات عيشه في الحياة بإجابات ونتائج سريعة واضحة.
عناصر وصفات وخصائص وحاالت متناقضة.
لكل ما ٍ
بمنطق واقعي هو البداي ُة الصحيحة ِّ التعرف علم ًّيا على الطبيعة اإلنسانية
ُ
ِ ِ ِ ُ
اإلنسان من :التربية ،واكتشاف كيفية بناء عالقات إنسانية سلمية في إطار يرمي إليه
ِ
وكيفية فهم الدين وكيفية العمل من أجل صناعة عا َلم أجمل، ِ التنوع واالختالف،
ِ
وتفسير نصوصه بالشكل الذي يصير فيه الدي ُن ُم ِ
لهما للعيش في أفق المعنىَ .م ْن يجهل
الطبيع َة اإلنساني َة يجهل الطريق َة المريحة للعيش في األرض ،ويجهل كيف يمكنه
ِ
متاعب وآال ِم حياته. التغلب على
ُ
يكشف لإلنسان عن شيء من أسرار ذاته المجهولة
ُ الفهم الواقعي للطبيعة اإلنسانية
ُ
يصوب أحكا َمه على الغير ،ويجعل مواق َفه من مفارقات مواقفهم
لديه ،مضا ًفا إلى أنه ّ
منصفة ،ورأيه في ثغرات سلوكهم أكثر موضوعية .وال يمكن تح ّقق هذا الفهم إال
ِ
واعتماد مناهج التفكير العلمي ومعطياته الفائقة األهمية، بالتمسك ِبالعقالنية النقدية،
ّ
يعافرلا رابجلادبع .د 12
ِ
وتمحيصها المتواصل لما تعتمده من ألن العقالني َة تتميز ِ
بنقدها لطرائق تفكيرها،
ِ
واختبارها المتكرر لصالحية المناهج ،وما تنتهي إليه من النتائج ،وغربلتِها ّ
كل مرة،
أدواتها .تفضح العقالني ُة النقدية أخطا َء التفكير العلمي ،وتكشف عن هناته وثغراته
ِ
تفسير ِ
واعتماد فهمها في ِ
للوثوق بإمكاناتها، على الدوام ،وذلك ما يدعو َّ
كل عاقل
طبيعة الكائن البشري ،وفه ِم حقائق الحياة.
َ
واألمان، الخوف
َ االضطرب والسكين َة،
َ القلق والطمأنين َة،
يعيشَ : ُ
اإلنسان بطبيعته ُ
واالنشراح ،البكا َء
َ االكتئاب
َ واالبتهاج،
َ الضجر والتسلي َة ،السأ َم
َ التعب والراح َة،
َ
ُ
يحزن، يفرح وال
ُ افتراض إنسان
ُ والفرح.
َ َ
الحزن َ
واالنبساط، االنقباض
َ َ
والضحك،
َ
اإلنسان في األرض. افتراض غير واقعي ال يشبه
ٌ ُ
يضحك وال يبكي، يبتهج وال يسأ ُم،
ُ
ٍ
بشكل تام عن افتراض إنسان يعيش في كل حاالته «اللحظة اآلنية» ،وينفصل
َ كما أن
مكون وجودي لحاضر اإلنسان، أيضا .الماضي ِّ غير واقعي ً
افتراض ُ
ٌ ماضيه ومستقبله،
كل إنسان لن عميق لشخصية ِّ
ٌ مكو ٌن
الالشعور ِّ
ُ مكو ٌن سيكولوجي،مضا ًفا إلى أنه ِّ
َ
المستقبل نهائ ًّيا من شعوره ،أحيانًا ِ
اإلنسان أن يغ ّيب يختفي مادام ح ًّيا .يتعذر على
كأفق مظلم أو مضيء في لحظة اإلنسان اآلنية. حضوره بقوة ٍ
َ التفكير بالمستقبل
ُ يفرض
ُ
كتابات ،تدعو للعيش في «اآلن» فقط ،وتشدد على أن َم ْن يريد أن يعيش سعيدً ا ٍ أقرأ
قرارا بذلك .ويتكرر فيها القولَ :م ْن يريد أن يعيش سعيدً ا ما عليه إال
ما عليه إال أن يتخذ ً
مغادرة الماضي والشطب عليه تما ًما ،وغلق التفكير باألمس ،والخالص من كوابيسه
الكف عن
ّ بشكل نهائي ،وحذفِه من الشعور والالشعورَ .م ْن يريد أن يعيش سعيدً ا عليه
ِ
وغلق التفكير النظر للمستقبل ،وصرف النظر عن أي شيء مقلق يتصل به بشكل كلي،
الكتابات بليد ٌة تجهل أبسط الحقائق العلمية
ُ بالغد ،والتحرر من االنهمام بالمصير .هذه
عن طبيعة اإلنسان ،حين تنظر إليه وكأنه كائ ٌن ميكانيكي مادي ،ليس عليه إال أن يلتزم
بالئحة توصيات جاهزة ويطبقها بحذافيرها إن أراد أن يمتلك السعادة.
كثير منها إلى
وآثارها المؤلمة يعود ٌ ُ وجروحها
ُ ثغرات وأخطا ُء التربية وعقدُ ها
ُ
ُ
اإلنسان يفعل إال ما بوسعه أن يفع َله،
اإلنسان ليس بوسعه أن َ
ُ الجهل بطبيعة اإلنسان.
ال يستجيب إال إلى ما يمكنه االستجابة له .طبيع ُة اإلنسان ال تخضع لقرارات يفرضها
والمواقف التي تفوق قدر َة اإلنسان ال
ُ القرارات
ُ على نفسه بهذه الكيفية الساذجة.
13 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
ُ
اإلنسان ُفرض عليه باإلكراه والعنف والتعذيب.يطيقها ،وال يمكنه أن ينفذها إال أن ت َ
ُ
ونمط تربيته ،ومستوى وعيه ال يطيق إال ما تستجيب له بنيتُه النفسية ،وطاقتُه العصبية،
للحياة ،وقدراتُه المتنوعة ،وأهمها قدرته على التحكم بإرادته ،وقدرته على تحمل ما
يتنكر له استعدا ُده الشخصي.
اكتشاف ما يختبئ في أعماقها
ُ الطبيع ُة اإلنساني ُة مركب ٌة ،طبقاتُها متعددةٌ ،ال يمكن
أكثر كتابات ما يسمى بـ « :التنمية البشرية» ،أو «تطوير
بتفكير تبسيطي يقف عند السطحُ .
وشعارات
ٌ مبسطة،متعجلة ّ
ّ وعبارات
ٌ مفاهيم غير علمية،
ُ الذات» ،أو «علم الطاقة»،
وقتيأكل َ ً
مبتذلُ ، مكررة ،تتالعب بمشاعر الناس .أضحى ركا ُم هذه الكتابات سطحية ّ
تفشت تفكيرهم ،ولغتُها الرثة بيانَهمّ . وتستنزف توصياتُها الواهنة
ُ غير الخبراء، ِ
القراء ِ
َ
الكتابات التي تجهل الطبيع َة اإلنساني َة كالوباء بين القراء في السنوات األخيرة،
ُ هذه
أكثر هذه الكتابات ٌ
هزيل ،ال يقع كل متاعبهم النفسيةُ . وأوهمت عد ًدا منهم بأنها تعالج َّ
وروية وتدقيق ،وال يمكن أبدً ا أن تغويٍ ٍ
بتأمل الناس الذين ال يفكّرون في فتنتها إال
ُ
َ
العقول الحكيمة اليقظة.
هذه الكتابات والتوصيات تجهل التناقضات الذاتية في اإلنسان ،وتتعاطى معه كأنه
ِ
التوصيات أكثر ِ
كائ ٌن ميكانيكي .يشبه هذه الكتابات في الجهل بحقيقة الطبيعة اإلنسانية ُ
كثيرا بهذه
علم النفس الحديث ً المتداولة بين الناس .ال يكترث ُ
َ الجاهزة والعبارات
التوصيات الغائمة لكتابات تشدّ د على نصائح وإرشادات ،من قبيل« :ال تحزن»،
«ال تكتئب»« ،ال تقلق»« ،ال تتشائم»« ،ال تتألم»« ،ال تنزعج»« ،ال تغتم»« ،ال تتأرق
ِ
بالتفكير بدل من تضييع الوقتفي نومك»« ،كن حاز ًما وجا ًدا»« ،تأقلم مع الظروف ً
ٍ
توصيات ومواعظ ِ
غير علمية .أحيانًا الزائد»« ،استمتع باللحظة الحالية» ،وأمثالِها من
ٍ
إصابة ِ
وحاالت ٍ
اضطرابات نفسية، ٍ
ألشخاص يعانون من يكررون مثل هذه التوصيات
ّ
بـأمراض ،مثل« :االضطرابات الوجدانية» ،أو «اضطرابات الشخصية» ،أو «اضطرابات
القلق» ،أو «الكآبة الحادة» ،أو «الوسواس القهري» ،أو «الهستيريا» ،أو «البارانويا»،
متمرسون ومعالجون ٍ
وغير ذلك من أمراض تحتاج عيادات يديرها أطبا ٌء نفسانيون ّ
كتابات «التنمية البشرية» ،أو «تطوير الذات» ،أو «علم الطاقة» بشيء
ُ حاذقون .اختلطت
من خبرات االرتياض التأملي المعروف في الديانات والثقافات الهندية واآلسيوية،
يعافرلا رابجلادبع .د 14
و ُف ّسرت هذه الخبرات بطرائق متنوعة ،ومورست بأساليب مغايرة ،ومبتذلة أحيانًا.
ٍ
بشكل قليل من هذه الكتابات التي تو ِّظف َ
علم النفس اإليجابي ،وإن كان لم أقرأ إال ً
مبسطَ ،
وأقل منها تلك التي تو ِّظفه بكفاءة علمية. ّ
ِ
الكتابات العلمية ،وال أنفي أهمي َة «علم النفس اإليجابي» الذي اقترحه ال أنفي أهمي َة
عالم النفس مارتن سليجمان ،15منطل ًقا من التفكير اإليجابي .آرا ُء سليجمان تشدّ د على
ُ
ٍ ٍ ويغذي َّ
كل طاقة بنّاءة محتجبة، ّ ِ
إيقاظ مكامن القوة في الشخصية ،واالنهما ِم بما يبعث
مثل :تقدير الذات والتفاؤل واألمل ،والعطاء والقناعة واإليثار ،والتسامح والصفح،
تعاليمه ليست
َ علم جميل ،غير أن علم النفس اإليجابي ٌ
وما يتناغم معها من صفاتُ .
كل شخصية نترقب من ِّ تنطبق على ِّ
كل إنسان ،وال يصح أن ُ ٍ
وصفات سحري ًة جاهز ًة
َ
ٍ
الضطهاد مم ْن يعانون من اضطرابات عاطفية ،و َم ْن تعرضوا
كثير َتستسجيب لهاٌ .
َ أن
وصدمات وجروح نفسية ،يصعب وربما ّ
يتعذر عليهم أن يكونوا إيجابيين .وهكذا ٍ
علم
الحال في َم ْن يفتقرون للذكاء العاطفي ،فليس بالضروة أن يتفاعلوا مع ما يقوله ُ
النفس اإليجابي.
مختلف أبعادها ،وال
َ إن أي َة محاولة لدراسة الطبيعة اإلنسانية ينبغي أن تستوعب
ذات ٍ
بعد واحد .الطبيع ُة اإلنسانية متعدد ُة الطبقات ،متنوع ُة األبعاد، تتعامل معها وكأنها ُ
تفكيرا مرك ًبا دقي ًقا يتسع ألبعادها المختلفة ،ويغور في أعماقها كي
ً فهمها
يتطلب ُ
كل ٍ
ضعف شديدة لدى ِّ يكتشف شي ًئا من أسرارها .بموازاة مكامن القوة هناك مكام ُن
ٍ
وعجز ٍ
ويأس والجدوى، ٍ
وقلق وأل ٍم ٍ
خوف إنسان ،نراها في ما يستبدُّ باإلنسان من
وترسخها عوامل ُمتنوعة متفشية فيّ ٍ
وغياب لمعنى الحياة ،تنتجها عن تقدير الذات،
ُ
اإلنسان من خفض ضراوتها بااليمان والمحبة وتنمية اإلرادة والتربية، الحياة .يتمكن
وغير ذلك من عوامل تعمل على إيقاظ وتعزيز قدرات مكامن القوة لديه ،إال أنه ال
.15مارتن إلياس بيت سيليغامن ،رئيس مجعية علامء النفس األمريكيني عام ،1998توىل سيليغامن منصب
مديرا ملركز
أستاذية عائلة زيلرباخ يف علم النفس يف قسم علم النفس يف جامعة بنسلفانيا ،وعمل ً
علم النفس اإلجيايب فيها .صنف استقصاء استعراض لعلم النفس العام يف سنة 2002سيليغامن يف
املرتبة احلادية والثالثني من بني أكثر علامء النفس استشها ًدا يف القرن العرشين .ألف عدة كتب منها:
«اإلجيابية املكتسبة» ،و«اإلجيابية األصيلة» ،و«ازدهر» .وأصدر سيليغامن عام 2018كتابه األخري حتت
عنوان« :جولة األمل :رحلة عامل نفيس من العجز إىل التفاؤل».
15 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
ـ2ـ
هل هناك حاجةللكراهية؟!
ِ
بمجهر علماء النفس ،ال أرى في الكائن ِ
أعماق النفس اإلنسانية أنظر إلى
عندما ُ
ِ
بمجهر العرفاء أرى شي ًئا أنظر إلى روح اإلنسان
البشري ما يغويني بمح ّبته ،وعندما ُ
من النور يغويني بمح ّبته .ال أثق بالطبيعة اإلنسانية كما هي ،ال أثق بها إال إذا تفاعلت
بماهيتها كيميا ُء المح ّبة والرحمة والشفقة على الخلق ،ومن دون ذلك يمكن أن يصدر
نجاح يح ّققهٍ أي ُ
اإلنسان بطبيعته كائ ٌن يثيره ُّ مختلف أشكال الشرور األخالقية.ُ عنها
ظهر غيره ،وإن كان أحيانًا ُي ِ ٍ
منجز ينجزه ُ أيوأكثر الناس يحزن في أعماقه من ّ ُ غيره،
ُ
تضج بالحقد والبغضاء ِ
خالف ما ُيبطن .وربما يتفاقم حزنُه فيتحول إلى مواقف مثيرةّ ، َ
والضغينة ،وتورطه في غدر ودسائس ومكائد ألقرب الناس المتفوقين من األقرباء
ُ
اإلنسان كل ذلك والتستر عليه .ك ّلما كان واألصدقاء ،غير أنه يظل يحرص على إخفاء ّ
وتحويل أكثر كلماته ومواقفه إلى أكثف أقنعته إبها ًما ِ ِ
تمويه سلوكه، أبرع في
أذكى كان َ
النفس اإلنسانية مولع ٌة بإخفاء ما ُين ِّفر َ
الناس منها بذكاء. ُ وغموضا،
ً
يعرف أحدُ هما الغائص َ سنوات طويلة م ًعا ،من دون أنٍ أحيانًا يعيش شخصان
والمختبئ في أعماق شريكه ،خاصة إن كان أحدُ الشريكين كتو ًما بطبيعته.
والطيور
َ العصافير
َ ُ
األطفال ُ
التساؤل الذي كان يؤرقني في طفولتي :لماذا يكره
رؤوسها بأيديهم بتوحش ،وهم جذلون؟!
َ الجميلة فيالحقونها ،ويقطعون
الكالب فيطاردونها بالحجارة ،وربما يقتلونها؟!
َ ُ
األطفال لماذا يكره
غريب على محيطهم ،فيرجمون السيار َة الخشبية ٍ ٍ
شيء األطفال َّ
كل ُ لماذا يكره
نادرا ما كنا نرى سيار ًة تصل قريتَنا ِ
«اللوري» ،وهي تسير بالحجارة ويهربون ،مع أنه ً
النائية؟!
َ
األطفال؟! ُ
األطفال لماذا يكره
ُ
اإلنسان وتعمق في مراهقتي وشبابي ،كنت أقول :لماذا يكره
ّ ُ
التساؤل ّ
تضخم هذا
َ
اإلنسان؟!
أكثر من حاجته للمح ّبة ،أم يحتاج الكراهي َة كحاجته
هل يحتاج اإلنسان الكراهي َة َ
غريب على البشر وليست حاجة؟! ٌ للمح ّبة ،أم أن الكراهي َة ٌ
مرض
ِ
هجاء وغيرهم في ِ
رجال الدين والو ّعاظ ِ الكلمات الجميل ُة من لماذا ال تجدي نف ًعا
ُ
ِ
والثناء على المح ّبة؟! الكراهية
ُ
اإلنسان يضيق ذر ًعا بأي اعتراف ،ويغطي وجو َه ُ
المحيط الذي يعيش فيه إن كان
كل ٍ
تمثيل على مسرحٌّ ، أكثر الناس يقومون بعملية
كثير من األقنعة ،فإن َأغلب الناس ٌ
يخدع به َّ
الكل .في مثل هذا المحيط َ الدور الذي يريد أن يختبئ خلفه كي
َ منهم ينتخب
تستمع إلى َم ْن يتحدثون عن المح ّبة والمشاعر الصادقة ،غير أنك ال ترى إال القليل
مشاعر صادقة.
َ منها ،وق ّلما تتذوق
قليل من األصدقاءفي التجارب الشخصية للعالقات مع مختلف البشر ترى ً
الصادقين في و ِّدهم ،ممن يتخذون موق ًفا أخالق ًّيا في دفع االفتراءات واألباطيل المثارة
ضدّ ك .ترى أصدقا َء ممن يظهرون التو ّد َد لك في حضورك ،ويتواصلون معك في
تستفزهم
ّ نفوسهم تغلي بما تضمره من حنق عليك ،خاصة إن كانت
َ غيابك ،غير أن
ومنجزك ،يترصدونك ويسعون لتشويه صورتك ،بال أن يصدرُ وصبرك الطويل
ُ مثابرتُك
تجاوز على حريتهم .ربما يفرحون ويبتهجون عندما يستمعون
ٌ ٌ
انتهاك لح ِّقهم أو منك
ِ
االفتراءات واألباطيل ،على أو يقرؤون االفتراءات واألباطيل ضدّ ك ،ال يفندون هذه
يعافرلا رابجلادبع .د 20
ُكذ ُبها ،بل ربما ٍ
دراية تامة بأن مواق َفك وسلوكَك وأخال َقك ت ّ الرغم من أنهم على
التعاطف
َ بعضهم إليصالها لك بغي َة التشفي ،وإن كانوا يظهرون عند إرسالها
يسارع ُ
معك والغير َة عليك.
نجاح غيره في
َ ويفترسه الحسد ،وهو يرى
ُ تنهشه الغير ُة ُ
اإلنسان للتشفي حين ُ يلجأ
ُ
وينقذ األلم الذي يصي ُبه، يسكب فيه ٍ
يبحث عن وعاءُ َ
التفوق فيه ،لذلك مجال يتمنى
َ ُ
َ
اإلنسان ،عندما يسمح بالحزن .التشفي يريح
ويتخلص من الشعور ُ
ُ نفسه من اإلحباط،
َ
يتلذذ بمتاعب غيره ،وينشرح بأحزان أصدقائه .إنه يخ ّلصه من مشاعر العجز
له أن ّ
وظفرهم بمكاسب أخفق هو في ِ ِ
وتفوقهم عليه، المؤلمة حيال نجاحات اآلخرين
تقديره لذاته.
َ إنجازها ،مضا ًفا إلى أنه يعيد
.17يقول نيتشه« :دوستويفسكي هو الوحيد الذي أفادين يف علم النفس ،كان اكتشايف له يفوق أمهية
اكتشاف ستاندال».
21 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
ُ
اإلنسان أحيانًا بعالقات خطأ بمصابين بأمراض نفسية أو أخالقية ،وربما ُ
ويتورط
يجتمع لديهم النوعان من األمراض ،يفرضون عليه وصايتهم ،وهذه الحالة هي
يتضاعف
ُ ُ
الصدق والكر ُم والعطا ُء والوفاء. ينفع معهم
أكثر هؤالء ال ُ
األقسى واألعنفُ .
حضور هؤالء في المجتمع باتسا ِع وتفشي :الجهل ،والفقر ،والمرض ،وشيوع
ُ ويتسع
ُ
أساليب التربية والتعليم القمعية ،والحروب العبثية ،والنفاق ،والتدين الشكلي ،وانهيار
منظومات القيم واألخالق.
ُ
اإلنسان بحاجته لكراهية بعض البشر ممن يتخذون مواقف عدائية أحيانًا يشعر
الشعور
ُ مؤلمة ضدَّ ه ،من دون سبب يدعوهم لذلك ،وربما يشعر بحاجته لالنتقام منهم.
ُ
اإلنسان بسهولة ،وال يستطيع كتمانَها بالكراهية موجع ،إنها كالعلقم الذي ال يتجرعه
وأحكم الناس من يحرص على تفريغها بوسائل غير عنيفة ،أما ُ إال بمكابدات قاسية،
اإلنسان األخالقي فتمنعه أخال ُقه من االنتقام .أظ ُّن الحاج َة إلى الكراهية أشدَّ من
ُ
ب دوا ًء والكراهي ُة داء ،الحاج ُةالح ّ
ب عند بعض البشر ،وإن كان ُ الح ّ
الحاجة إلى ُ
اإلنسان .في الغالب ال تعلن الكراهي ُة
ُ ب معلنة ،الحاج ُة للكراهية كامن ٌة ال يبوح بها
للح ّ
ُ
عن حضورها ،بل تتخفى في اللغة والكلمات الضبابية ومختلف أساليب التعبير
التحكم بما يعتمل في داخله من
َ والمواقف المراوغةٌ .
قليل من الناس من يستطيع
وأقل منهم من يتخلص منها ،وذلك الكراهية فيخفض هذه الحاج َة إلى الحدِّ األدنىُّ ،
ٍ
بمشقة بالغة .لو لم تكن هناك حاج ٌة دفينة للكراهية لما رأيناها متفشية، ال يتح ّقق إال
ولما انعكست آثارها الفتاكة في مختلف مرافق الحياة ،ولما كانت سرعان ما تستغل
لتتفجر بضراوة .ذلك ما تقوله
ّ أي مجتمع
واألوضاع الطارئة واالستثنائية في ّ
َ الظروف
َ
تجارب الحياة والعالقات ألصناف مختلفة من البشر ،الذين ينتمون ألديان ومذاهب
ُ
متنوعة.
وثقافات وإثنيات ّ
الشر المختبئ لدى بعض البشر ،والذي نراه يتفجر تار ًة كالبركان مذهل حجم ّ ٌ
يتسلل بخبث فيُ ِ
أدوات السلطة والقوة ،وتار ًة أخرى ُ
اإلنسان العاصف إن امتلك
الشر ما يتمكن من افتراسه في ِ ُ
اإلنسان ال يمتلك تلك األدوات ،ليبدّ د ُّ الظالم ،إن كان
الحياة.
والنزاعات ،وأحيانًا
ُ الصراعات
ُ اإلنسان ضحي ٌة لغريزة العدوان ،وهو ما تتحدث عنه
ُ
يعافرلا رابجلادبع .د 22
الحروب العنيف ُة الماثل ُة في مختلف العالقات بين الدول والشعوب والجماعاتُ
واألفراد .حتى العائلة الواحدة ربما ال يمكنها حماي َة كيانها على الدوام من الغيرة
والتباغض والتنازع.
الكراهي ُة حاضر ٌة في حياة الناس وعالقاتهم االجتماعية ،غير أنها ق ّلما تكون معلنة،
آثارها في الدسائس والمكائد والنمائم والسعي بين الناس بالباطل ،ولو خرجت
نرى َ
الكراهي ُة المختبئة في أعماق النفس اإلنسانية ،وأعلنت عن وجودها بال ٍ
حذر وخوف،
البشر ،وصار
َ واخترقت َّ
كل المعايير األخالقية والقانونية والعقابية ،ألكلت الكراهي ُة
متعذرا.
ً عيش اإلنسان على األرضُ
يتحدث علما ُء النفس واألطبا ُء النفسانيون وعلما ُء الجنايات واإلجرام واالجتماع
ِ
جذورها في النفس اإلنسانية، واألنثربولوجيا واألحياء عن هذه الحاجة ،ويكشفون عن
ويبحثون مناشئها في اختالالت وإخفاقات :التربية والتعليم ،والثقافة واآلداب والفنون،
ومنظومات القيم ،وتدهور مستوى العيش الكريم لإلنسان، ِ والتطور الحضاري،
واالبتكار
ُ اإلبداع
ُ وانهيار موقعه الطبقي ،وتعصبات الهوية اإلثنية والدينية ،وغير ذلك.
علم النفس التحليلي. تعبير عن تفري ِغ الكبت في حياة اإلنسان ،كما ُ
يقول ُ والحضار ُة ٌ
الناس .يرفض محيي الدين بن عربي هذا الضرب من االحتكار ،حين يشير إلى أن
الكل لمراد اﷲ وإن اختلفوا ،وكأنه يؤشر االختالف في تفسير مدلول كالم اﷲ يعني فهم ّ
َ
المنظار الذي ينظرون من خالله ذلك ِ ِ
اختالف إلى أن َّ
الكل يرون النور ،على الرغ ِم من
أهل ذلك اللسان فاختلف ُ
َ ِ
بلسان قو ٍم، النور ،وهو ما يشرحه بقوله« :كال ُم اﷲ إذا َ
نزل
ٍ
واحد فكلبالفه ِم عن اﷲ ما أراده بتلك الكلمة أو الكلمات مع اختالف مدلوالتهاُّ ،
فهم عن اﷲ ما أراده ،فإنه عالِ ٌم بجميع الوجوه تعالى ،وما من منهم وإن اختلفوا فقد َ
يخرج من اللسان وجه إال وهو مقصو ٌد ﷲ تعالى بالنسبة إلى هذا الشخص المعين ،مالم ٍ
ْ
طرق متنوع ٌة ،تتنوع وتتعدد تب ًعا لتنوع علم» .18للوصول إلى اﷲ ٌ فهم وال َ
خرج فال َ فإن َ
وصورا متنوع ًة لوجوهها، ٍ
تجليات مختلف ًة للحقيقة الدينية، وتعدد األديان ،بوصفها
ً
وأساليب متعددة للتعبير عنها ،ومصابيح متنوعة تكشف عن النور اإللهي األبدي الذي َ
بحق االختالف في المعتقد ،الذي هو أساس حقيقته واحدة .وهذا هو معنى االعتراف ّ
قبول التعددية الدينية والعيش المشترك ،والخالص من صراعات وحروب األديان،
والخالص من ٍ
كثير من الشر األخالقي في الحياة.19
اختالف األديان وانقسا ُمها على ذاتها ظاهر ٌة اجتماعية أبدية ،ناتجة عن :اختالف
ُ
ذوات البشر ،واختالف أفهامهم ،واختالف مصالحهمُّ .
كل كائن بشري نسخ ٌة فريد ٌة ال
اختالف شبكات المصالحُ يغذيه ِ
االختالف في الفهم الذي ّ تتكرر ،وذلك ينتهي إلى
ّ
وتعارضها.
ُ
ِ
وغرس للقي ِم السامية في األديان ٌ
آثار روحية وأخالقية أساسية في خفض الكراهية،
ِ
وتغذية منابع التراحم والتكافل والتضامن في العائلة والمجتمع، المحبة وتكريسها،
القيم السامية في األديان ال تكفي وحدَ ها لكبح جماح الكراهية والعنف .أحيانًاَ إال أن
تاريخ أكثر األديان دعو ًة للمح ّبة والعفو والمغفرة أقساها عن ًفا في حروبها ،لذلك
َ تجد
ُ
الدول والمجتمعات إلى قواني َن عادلة إلرساء أسس السلم والعيش المشترك، تحتاج
وإلى صرامة في تنفيذها على ِّ
الكل مهما كانوا بال أي تمييز.
.18ابن عريب ،الفتوحات املكية ،باب ،416ج ،7ص ،1999 ،36دار الكتب العلمية ،بريوت.
.19الرفاعي ،عبد اجلبار ،الدين واالغرتاب امليتافيزيقي ،ص 30ــ ،36ط ،2019 ،2مركز دراسات فلسفة
الدين ،بغداد ،ودار التنوير ،بريوت.
يعافرلا رابجلادبع .د 24
الحكم على األديان بمطالعة نصوصها فقط من دون ٍ
نظر إلى تاريخها ،وما ُ ال يمكن
أكثر دراسات األديان والنقاشات حولها ال تنظر لتجربتها
أنتجته من تعصبات وحروبُ .
في الواقعُّ ،
تظل أسير َة الكال ِم ،والتبرير ،وتلجأ لالستدالل بنصوصها المقدّ سة،
ِ
واالحتجاج بالتراث الذي تمحور حول نصوصها ،وتتجاهل تجربتها العملية ومواقف
كائنات حية تتأثر وتؤثر بما حولها من ظروف
ٌ ُ
األديان أتباعها عبر مسيرتها الطويلة.
وتؤثر هي في األفراد والمجتمعات
ُ والمجتمعات في األديان،
ُ متنوعة ،يؤثر األفرا ُد
على وفق المعطيات المتاحة في الواقع.
وتعليمهم الجيد ،وإعاد ُة بناء ثقافتهم،
ُ ٕاصالح معاش الناس ،وتربيتُهم السليمة
ُ
ُ
يكفل إنتاج قراءة تستفيق فيها القيم الروحية واألخالقية المشتركة في األديان ،مثلما
كثيرا من اللجوء
ويخفض ً ُ يكفل ٕادار َة االنقسامات ّ
وحل النزاعات بالوسائل السلمية، ُ
ٕالى العنف في سياسة إطفاء النزاعات.
ـ3ـ
الح ُّب واألضدا ُد في الطبيعة اإلنسانية
ُ
ُفرض عليك، ُ ِ
أوامر ت َ
َ ب عنالح ّ
يصدر ُ َ تتخذه ،ال يمكن أن قرارا
ب ليس ً أن تُح ّ
فتنفذ هذه األوامر، َ تستسلم
َ ب فالنًا ،أو تكره فالنًا ،وال إراد َة لك إال أن ُح ّ فتُلزمك أن ت ُ
ُحد ُثها مجموع ُة أسباب ،وتغذيها عد ُة عناصر، وعند عصيانك لها تُعا َقب .الحب حال ٌة ت ِ
ُ ُّ
احتياجات تفرضها ٍ
ديناميات ب ُيع ِّبر عن
ٌ ُ الح ُّ
أكثر وأثرى من الظاهرُ ، المستتر منها ُ ُ
بعضها ،غير أنه ال يتكشف لإلنسان ُ
ُ تعتمل في أعماق النفس اإلنسانية ،ربما ُ عاطفي ٌة
يبحث ُ ب ٍ ٍ يعرف َّ
الح ُّ
أمر ألحد يطلب منه أن ُيح ّبهُ ، كل شيء فيها .ال يصدر عن اإلنسان ٌ ُ
خارج
َ ب أكثرها .ماهي ُة ُ
الح ّ يجهل َ ُ َ
لعوامل عن اإلنسان ،وغال ًبا ما يستولي على قلبه
كنهه خفي ،وجو ُده ال يتح ّقق إال بعد أن تتح ّق َق ِ ِ ِ
التعريفات وبيان الحدود والماهياتُ ،
والعناصر الكامن ُة في األسباب أثرا ِ ُّ
ُ ُ كل مقدماته وأسبابه والعناصر المنتجة له ،وأشدُّ ها ً
الالشعور.
الكم
ُّ الشر األخالقي ويرسخه .وهو ما يؤشر إليه
يغذي َّكثير مما يحيط باإلنسان ّ
ٌ
والكراهيات المتفشي ُة في الحياة،
ُ ُ
الهائل من التعصب والغضب والحقد في األرض،
25 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
ِ
والفضيلة على الرغم من تشديد األديان والثقافات ودعوتها للرحمة والمحبة والسالم،
الشر المتراكمة في الطبقات
خفض بواعث ّ ِ والخ ُل ِق َ
الح َس ِن ،وإلحاحها عليها ،بغي َة ُ
حضور
َ الشر التي تبدأ بالتراكم بعد والدته .إن ُ
بواعث ّ الغاطسة في باطن هذا الكائن،
الشر في الحياة كثيرةٌ ،بل إن ما يستنبت في ُ
عوامل إنتاج ّ وعنيف،
ٌ عاصف
ٌ الشر َف ٌّظ
ّ
الشر
أكثره يراكم ّ شخصية الكائن البشري وينمو ويترسخ بالتدريج منذ طفولته األولى ُ
األخالقي ويغذيه ،الطبيع ُة اإلنسانية تتناغم مع ذلك وتستجيب ألنها ملتقى األضداد.
لعل في تقديم الفجور على التقوى ما يشي بهذا المعنى في القرآن الكريمَ [ :ف َأ ْل َه َم َها
الشر األخالقي ويتمدَّ د ويو ِّظف َّ
كل ما يمكنه توظيفه ور َها َو َت ْق َو َاها] .يطغى ُّ
20
ُف ُج َ
ُ
اإلنسان بوجه ُ
اإلنسان في األرض ،لو لم يقف ليفترس الحياة ويعمل على هدم ما يبنيه
الشر لتهدّ م َّ
كل ما هو جميل في الحياة. اجتياح ّ
يتغلب في
َ الشر أن
للشر األخالقي المقيم في األرض ،يسعى ُّ
الكم الهائل ّ
بسبب ّ
ُ
وعوامل التغلب على الرحمة،
َ ُ
عوامل إنتاج القسوة ُ
وتحاول حياة البشر على الخير،
التغلب على
َ ُ
تحاول ُ
وعوامل إنتاج الكراهية التغلب على السالم،
َ ُ
تحاول إنتاج العنف
َ
وانتهاك الكرامة نفسر َّ
كل هذا الخذالن والظلم واالستبداد والعنف المحبة .وإال فكيف ّ
اإلنسانية ،المقيم في األرض أمس واليوم.
وهروب معظمهم من العالقات ِ ِ
أسباب ُعزلة الفالسفة، ربما يكون ذلك أحدُ أه ِم
ِ
وانتحار غير واحد منهم ،وك ُّلنا ِ
وجنون وإعراضهم عن العيش بين الناس،ِ االجتماعية،
ُّ
واألدق في الكشف عن حقيقة اإلنسان وما األعمق
ُ َ
عقول الفالسفة هي يعرف أن
ُ
يخفيه في داخله .وهكذا عزلة كثير من العرفاء وأصحاب التجارب الروحية السامية،
ِ
أعماق اإلنسان. ألن بصيرتَهم ّ
يتكشف فيها شي ٌء مما يحتجب في
شحيح في حياتنا
ٌ الح ُّب
ُ
الحزن ٌ
طويل في حياتنا .في مجتمعنا ينشد ُ شحيح في حياتنا ،الكراهي ُة كثيرةٌ،
ٌ ب
الح ُّ
ُ
ٌ
أحزان، أكثر أعيادنا تتلوها
أكثر أفراحنا تتلوها أحزانُ ، َ
الحزن أكثر من الفرحُ ، الناس
ُ
.20الشمس.8 ،
يعافرلا رابجلادبع .د 26
أكثر كلماتنا يسكنها الموت ،أحال ُمنا مؤجل ٌة لما بعد الموت. أيا ُمنا ال تبتهج إال ً
قليلُ ،
بعض الناس ويضحك يتشائم ويتوجس خيف ًة من فرحه شحيح ،لحظة يفرح ُ
ٌ الفرح
ُ
َ
الحزن هو ٌ
عاجل يداهمه فجأةً ،وألن كل فرح يتلوه ٌ
حزن وضحكه ،ألن ثقافتَه تل ّقنه أن َّ
نتعلم
َ نتعلم كراهي َة الناس والبراء َه منهم قبل أن
ُ حضورا في يومياته .حياتُنا كئيب ٌة،ً األكثر
محبتَهم ،الدعوة للمحبة منحصر ٌة بمن هم مرآ ٌة لمعتقداتنا ،ممن نشبههم في تفكيرنا
ويشبهونا ،وإن استمعنا دعو ًة للمحبة نستمع معها دعو ًة لكراهية َم ْن ال نشبههم في
وعلم الكالم
ُ ُ
تراث الفرق مكرس ٌة لذلك،المنابر ّ
ُ تفكيرنا واليشبهونا في معتقداتهم.
العالقات ال يشبه باطنَها.
ُ ظاهر ٍ
كثير من ُ ومقوالت وفتاوى التكفير مشبع ٌة بذلك،
ُ
يجهل الطبيع َة اإلنسانيةَ ،م ْن يتحدثون على هذه واألحاديث الديني ُة ُ
أكثرها ُ الخطب
ُ
نادرا ما تجد أحدً ا منهم يشير إلى شيء من التباس ٍ
المنابر ،و َم ْن يكتبون كتابات وعظيةً ،
ُ
اإلنسان الديني الذي يتحدّ ثون عنه وغموض هذه الطبيعة وأسرارها وتناقضاتها.
ُ
اإلنسان الذي يعيش على موجو ٌد في كلماتهم وكتاباتهم ومتخ ّيلهم ،ق ّلما يعرفه الواقع.
بعضها غامض لم تصل الفلسف ُة وعلو ُم
مكون ٌة من سلسلة طبقاتُ ،األرض شخصيتُه ّ
اإلنسان والمجتمع والعلوم الطبيعية إلى المديات القصوى لها حتى اليوم ،وربما لن
تصل إليها غدً ا .وإلى ذلك يعود التضارب الذي يصل حدّ التناقض أحيانًا بين علماء
ِ
وتفسير دوافع سلوكه. النفس واإلنسان والمجتمع في فه ِم شخصية الكائن البشري
يقول علي الوردي« :إن طبيع َة البشر هي من أصعب المواضيع النفسية واالجتماعية،
إن لم تكن أصعبها جمي ًعا ،فهي موضوع متشعب ومعقد إلى أبعد الحدود ،والواقع أني
أزال في أول الطريق ،وك ّلما بحثت في جانب
ك ّلما توغلت في دراسته شعرت بأني ال ُ
تحتاج إلى بحث .ظهرت في موضوع الطبيعة البشرية
ُ جوانب أخرى
ُ منه ظهرت لي
نظريات متعددة ،ونشرت فيه دراسات ال تحصى ،وأعترف أني أشعر بالعجز تجاه تلك
النظريات والدراسات ،فهي في غاية الصعوبة ،بل من المستحيل استيعابها ك ّلها .أضف
حائرا ال يعرف ماذا يأخذ منها
إلى ذلك أنها قد تتعارض وتتناقض ،ولهذا يقف الباحث ً
وماذا يترك».21
وجها لوجه :د .عيل الوردي ،ود .جليل العطية ،العريب «الكويت» ،ع ،360نوفمرب .1988
ً .21
27 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
أصعب أشكال االستثمار في مجتمعنا .ما يدعو في حياتنا ُ بالح ّاالستثمار في ُ
ُ
كثير مما نرى ونسمع في حياتنا ِ ِ
أكثر وأشدُّ مما يدعو للمحبةٌ . للعنف وكراهية اآلخر ُ
أساليب
ُ عنيف،
ٌ الصوت
ُ عنف جسدي .اللغ ُة عنيف ٌة،
عنف رمزيٌ ، عنف لفظيٌ ، اليوميةٌ :
ُ
الحديث نظرات العيون مخيف ٌة ،الوجو ُه باكي ٌة، ُ التعبير عنيف ٌة ،لغ ُة الجسد وتعبيراتُه حا ّدةٌ،
عنف جسدي ود ٍم مسفوح، النزاعات التافهة أحيانًا تنتهي إلى ٍ
ُ بين شخصين ليس داف ًئا،
نشاز ،إنه ُ
الصادق في مثل هذا المجتمع ٌ صوت المحبة
ُ حرب البسوس. َ وكأننا نستأنف
ب ليست شائعة ،وأحيانًا مستهجنة .قلما كمن ينفخ في رماد ،الكال ُم والكتاب ُة عن ُ
الح ّ
كبير
فائض ٌب في مدارسنا وجامعاتنا ،الدينية منها والمدنية .لدينا ٌ نعثر على مع ّلمين ُ
للح ّ ُ
ِ
وتعطيل التفكير في ِ
واستنزاف العقل في مغالطات، ِ
وتكديسه، من مع ّلمي ِ
إنتاج الكالم
ٍ
جدل عقيم.
الح ّب
ضيا ُع ُ
ب ويتحول من دواء إلى داء ومن ترياق إلى ُس ّم ،عندما يفرضه على الح ُّ
يضيع ُ
اإلنسان االنتما ُء إلى معتقد يعتنقه ،أو أيديولوجيا سياسية يتبناها ،أو قومي ٌة ينتسب
ب شريكَه في
يح ّ
ب عندما يفرض عليه معتقدُ ه أن ُ إليها ،أو جماع ٌة يرتبط بها .يضيع ُ
الح ُّ
االعتقاد خاصة ،وإن كان ال يتحسس في مواقفه وتعامله مع غيره ما يدعوه لمحبته ،وأال
الناس لمحبته.
َ يحب المختلف عنه في االعتقاد وإن كانت أخال ُقه إنساني ًة نبيلة تدعو
ّ
ُ
الحال عندما تفرض على اإلنسان أيديولوجيا الجماعة الحزبية المنخرط فيها وهكذا
واحتكار
َ كُر َه بعض أصناف الناس ،مهما كانت أخال ُقهم مهذب ًة ومواق ُفهم إنسانية،
ب شي ٌء يجرى امتالكُه وتداو ُله،
الح ّ
ب في إطار الجماعة المنتمي إليها ال غير .وكأن ُ
الح ّ
ُ
تداول السلع وامتالكُها في عمليات اإلنتاج والتسويق والبيع والشراء ُ مثلما يجري
ب ليس سلع ًةالح ُّب عندما ينقلب من كونه حقيق ًة فيصير شي ًئاُ ،
الح ُّ
يضيع ُ
ُ واالستهالك.
ٍ ب حال ٌة للقلب يعيشها،
وجود وطور
ُ مبتذل ًة قابل ًة للتداول المادي واالستهالكُ .
الح ُّ
ب كاإليمان ال إكراه فيه، لإلنسان يح ّققه ويتح ّقق به ،وتجربة للحقيقة يتذوقهاُ .
الح ّ
ُ
اإلنسان من الخارج. ألنه خارج مجال األمر والنهي ّ
وكل أنواع الخطابات التي يتلقاها
ب خارج تحكّم اإلرادة الذاتيةّ ،
وكل القرارات المفروضة على اإلنسان من غيره. الح ّ
ُ
يعافرلا رابجلادبع .د 28
ب معبو ًدا وغموضا ،حال ٌة يصير فيها ُ
الح ُّ ً ب ،وهي أكثر ضبابي ًة حال ٌة أخرى لتضييع ُ
الح ّ
ب هو
الح ّ
آثاره إلى الضد منه .إذا كان ُ
لذاته مثلما تُع َبد األوثان ،فيجري إهداره وتنقلب ُ
اإلنسان هو الغاي ُة في األرض،
ُ استالب اإلنسان.
َ اإلنسان وسيل ًة ،ما يعني
ُ الغاية يصير
أمرا معنو ًّيا وليس ماد ًّيا .الدي ُن من سخر لهُّ ،
كل شيء ألجله ،وإن كان ً ُّ
وكل شيء ُم ّ
ب من أجل اإلنسان ،العلوم والمعارف واآلداب والفنون من أجل الح ُّ
أجل اإلنسانُ ،
ب بوصفه تجرب ًة يتح ّقق بها ويتكاملُ ،
يظل الح ُّ اإلنسانُّ ،
كل شيء من أجل اإلنسانُ .
ُ
اإلنسان ويفتقد ذاته إذا صار ُ
اإلنسان ،ويصير ُ
عيشه بها أجمل .ينحط وسيل ًة يتسامى بها
ُ
اإلنسان إلى أداة ووسيلة تستخدم ألجل ذلك الشيء. وتحول
ّ أي شيء غيره هو الغاية، ُّ
اإلنسان ويتحكّم ّ
بكل شيء في حياته ،إلى الحدّ الذي يستعبد فيه َ بالح ُّأحيانًا يمتلك ُ
خلق في أي فعل ّ ّ
ويشل إرادتَه ،ويوقف َّ ضميره،
َ وروحه ،و ُي ِ
خرس َ َ
عقل اإلنسان وقل َبه
ب حال ًة يعيشها
الح ُّ حياته ،ويع ّطل قدرتَه على العطاء واإلنجاز .هنا ً
بدل من أن يكون ُ
ُ
اإلنسان في اإلنسان ويح ّققها ويتح ّقق بها وجو ُده بطور أسمى ،يتحول إلى ٍ
وثن يسقط ُ
يستلب َّ
كل شيء في ُ ب معبو ًدا لذاته
الح ُّ
أسره ويظل مسجونًا في شراكه .عندما يصير ُ
ب
الح ّ ّ
وتنحط معه كرامتُه .يقول أحدُ مفكري القرن التاسع عشر« :إن ُ حياة اإلنسان
ّ
وككل ألوهية فإنها تريد االستيالء على اإلنسان بكامله ،وال تكتفي هو آلهة شرسة،
بتقديمه لها لروحه فقط ،بل جسده كذلك .إن عبادتها هي المعاناة وقمة هذه العبادة
هي التضحية بالنفس ،االنتحار».22
ـ4ـ
صعب لك ّنه عظيم
ٌ الح ّب ُمع ّل ٌم
ُ
والوعي الجمالي
ُ الح ُّب
ُ
ب تلهمنا إراد َة ب ،ال طاق َة أغنى من ُ
الح ّ الح ّ
منتج للمعنى في الحياة أجمل من ُ ال َ
ب ُمع ّل ٌم صعب لكنه عظيم، ب يع ّلمنا كيفي َة العيشُ .
الح ّ الح ّ َ
أجمل من ُ الحياة ،وال ُمع ّل َم
.22هذا املفكر هو إدغار باور ،ذكر ذلك يف مقالة له عن احلب .1844راجع :فروم ،إريك ،حب احلياة:
نصوص خمتارة ،تقديم :راينر فونك ،ترمجة :محيد لشهب ،ص .164
29 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
ب من أشدِّ اختبارات المرء في األرض ،وأغناها عطاء .اإلنسان كائ ٌن مسكون بطلب
الح ّ
ُ
ب
الح ّ ٌ
مخلوق من جمالُ . كل شيء كأنه ب يرى َّ ب .حين يتذوق اإلنسان نكه َة ُ
الح ّ الح ّ
ُ
كل شيء في الوجودمصدر الوعي الجمالي في حياة الكائن البشري ،وهو ما يص ّير َّ ُ
َ
أجمل صورها المكتنزة. يلون الحيا َة بأجمل معانيها ،و ُي ِ
خرج لإلنسان ب ّ الح ّ ً
جميلُ .
صوت العنف،
ُ يعيش في مجتمع ال يكترث بالجمال ،ويطغى فيه ُ
اإلنسان ُ إن كان
ُ
تذوق حواسه الخاصة بتذوق األلوان واألصوات واأللحان.
ُّ يتبلد ذو ُقه الفني ،وتتعطل
كل حياة تتواصل هذه التربي ُة ّ
َ الجمال يحتاج تربي َة الذوق الفني منذ الطفولة ،وال بد أن
ِ
ونمط تم ّثله في ٍ
صلة مباشرة بكيفية الرؤية للعا َلم، اإلنسان .تربي ُة الذوق الفني ُ
ذات
الالشعور الفردي والمجتمعي .تنعكس رؤي ُة العا َلم على صلة اإلنسان بما حوله ،من:
بشر ،وكائنات ح ّية ،وأشياء ،كما تنعكس على نمط صلته باﷲ .تربي ُة الذوق الفني تدخل
عنصرا أساس ًّيا في إنتاج رؤية للعا َلم مضيئة متفائلة تتغذى بالجمال والمحبة .الرؤي ُة
ً
إنتاجها .إن كانت بصير ُة المضيئ ُة للعا َلم تعيد َ
إنتاج الذوق الفني مثلما يعيد هذا الذوق َ
اإلنسان حاذق ًة ،وذو ُقه الفني صاف ًيا ،وحاستُه الجمالي ُة مضيئ ًة ،تصبح رؤيتُه للعا َلم
تجليات جماله في الموجودات. ِ اإلنسان صور َة اﷲ مشرق ًة ،ويكتشف
ُ مضيئ ًة ،يرى هذا
األثر الحيوي للذوق الفني في تفكير اإلنسان ورؤيته التربي ُة في مجتمعنا تجهل َ
للعا َلم وفهمه ومشاعره ومواقفه وسلوكه .عندما ال تعبأ العائل ُة والمدرسة والمجتمع
الناس بما يمكن
ُ خمول وسبات ،ويصاب ٍ الذوق حال َة
ُ بتربية الذوق الفني ،يدخل هذا
ِ
والعجز عن الشعور بجمال األلوان ِ
بالدة تذوق الفنون السمعية والبصرية، تسميته بـ :
والصور والموسيقى واأللحان واألصوات ،ويظهر أثر ذلك في ِ
نمط إدراك صورة اﷲ، ُ
وطريقة قراءته لنصوصه ،وفي ثقافة اإلنسان ،وعالقاتهِ
ِ ِ
وكيفية فهم اإلنسان للدين،
االجتماعيةِّ ،
وكل شيء في حياته .بالد ُة تذوق الفنون تعني بالدة تذوق الجمال .تربي ُة
كثيرا من الغضب والحقد والضغينة والعنف والجريمة، الذوق الفني وتنميتُه تخفض ً
أخصب أرضية
ُ العالمي .تربي ُة الذوق الفني
َ ّ
وترسخ السال َم السلم المجتمعي،
َ وتعزز
ّ
كل مجتمع يتجاهل تربي َة الذوق الفني ،ويعجز ب وتغذيته وتكريسهُّ .
الح ّ
الستنبات ُ
وإيقاع العصر ،وتستجيب الحتياجات
َ عن تهذيبه ،يعجز عن بناء حضارة ح ّية ،تتناغم
اإلنسان المادية ولمتطلبات حياته المعنوية.
يعافرلا رابجلادبع .د 30
ظروف حياته صل ًة بكائن بشري يعجز عن رؤية ما
ُ ورطته األيا ُم وفرضت عليه
من ّ
مشاعره الفنون وتتذوقها ،وال يرى تجليات جمال
ُ تتحسس
ّ هو جميل في العا َلم ،ال
الهروب منه لئال تتسمم حياتُه ،ويلبث حزينًا يبكي قل ُبه َّ
كل يوم. ُ اﷲ في الوجود ،عليه
ب من الجمال ويغذيه يكون أحدَ أثرى منابع األمل والتفاؤل الح ُّ
يتغذى ُ عندما ّ
القلب
ُ والثقة بالغد ،الثق ُة بالغد ضرور ٌة لتواصل إنتاج الحياة ألجمل معانيها .يعيش
ب اشتدّ ت رغب ُة اإلنسان بالحياة ،ك ّلما
الح ُّب كما تعيش السمكة بالماء .ك ّلما اشتدّ ُ بالح ّ
ُ
قلق اإلنسان في التغلب على ِ
َ ب يساعد ب نضبت رغب ُة اإلنسان بالحياةُ .
الح ُّ الح ّ
نضب ُ
َ
داخل اإلنسان لحظ َة ُ
اإلنسان إكسيرا للحياة ،يموت ب يمكن أن يكون ِ
ً الح ُّ الموتُ ،
ب يضيء الحيا َة بمعناها األجمل ،ويبدّ د وحش َة الكائن الح ُّ
ب في األرضُ . الح ُّ
يموت ُ
البشري وغربتَه فيها .الظمأ البشري للمح ّبة حاج ٌة ال تتوقف وال تنتهي .لحظ َة يفتقد
ب في حياة إنسان عاطفي ِ
الح ّ
ب تفتقد حياتُه معناها اآلسر ،فقدان ُ الح َّ
الكائ ُن البشري ُ
الحس يقوده للحزن والتشاؤم واالكتئاب ،وأحيانًا يكون أحدَ أسباب االنتحار. ّ رهف ُم َ
ُ
العيش وحده يصعب على اإلنسان
ُ
كسب الثق َةحاج ُة الكائن البشري لالعتراف تدعوه لكسب ثقة الناس ،وأيسر ما ي ِ
ُ ُ
وخفض قلق ُ الخوف من الوحدة ،والحاج ُة لالحتماء باآلخر،
ُ بأي إنسان ُح ّبه لغيره.
ّ
ب .يقول باسكالّ :
«كل مشاكل اإلنسانية الح ّ
الموت ،تقود الكائ َن البشري للوقوع في ُ
تنبع من عدم قدرة اإلنسان على الجلوس لوحده فى غرفته بهدوء» .الكائ ُن البشري
ُ
إالنسان غال ًبا، العيش وحده ،ألن الحيا َة موحش ٌة جدً ا ،الوحد ُة ال يطيقها
ُ يصعب عليه
وقلق هو ٕانسان استثنائي .من ظفر وحشة وأل ٍم ٍ ٍ ٔاي ٕانسان ٍ
قادر على العيش وحده بال ُّ
ضميره األخالقي بمواقفه
ُ روحه المح ّب ُة ،وينبض قل ُبه بالرحمة ،ويتحكم
بإنسان تسكن َ
وسلوكه ،عليه التمسك به .وما أقل وجود مثل هذا اإلنسان في حياتنا.
ب يعني أنك تعيش وحيدً ا ،وتفشل في رؤية ما هو جميل في العا َلم، للح ّ
أن تفتقر ُ
ب حالة تمنحك طاق ًة حيوية تشعرك الح ُّ
وذلك يفضي إلى الشعور بالعزلة واالغترابُ .
وتحررك أو على األقل تخفض من إنفاق مال، بصلة بما هو جميل في العالم بال ٍ
جهد أو ِ
ّ
ب يصنع لك صل ًة عضوية بما حولك من ناس وكائنات وأشياء، الح ُّ
شعورك باالغترابُ .
31 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
يكشف َّ
كل شيء ُ الح ُّب كالضوء
ُ
ب ال
الح ُّ
كل شيء ويظهره بجالءُ . وينكشف فيه ُّ
ُ يكشف عن نفسه،
ُ ب كالضوء
الح ُّ
ُ
كل شيء ،وإن حاول أحدٌوأظهر من ِّ
َ أوضح
َ يحتاج إلى من يكشفه ويظهره ،بوصفه
والحاالت أشياء وجودية .كما أن مفهو َم
ُ ب حال ٌة،
الح ُّ
عصي على التفسيرُ .
ٌّ تفسيره فهو
َ
مبهم.
ٌ كنه ُه
واضح ُ
ٌ ب مفهو ُمه واضح ،وحقيقتَه عصي ٌة على الفهم ،هكذا ُ
الح ّ ٌ الوجود
قول مال هادي السبزواري في بيان حقيقة الوجود ،فمفهوم الوجود ب ُ الح ّ
ينطبق على ُ
كنهه غاي ٌة في الخفاء:
واضح جدًّ ا ،غير أن َ
ِ
الـــخـــفـــاء ِ
غـــــايـــــة وكــــنــــهــــهُ فـــــي
ُ أعـــــــرف األشــــيــــا ِء
ِ م ــف ــه ــومُ ــه مــــن
ب بآثاره
الح ّ
عرف ُعرف الوجو ُد بآثاره ومظاهره وتجلياته وتعبيراتهُ ،ي ُ
مثلما ُي ُ
ومظاهره وتجلياته وتعبيراته وثمراته في حياة الكائن البشري .يقول محيي الدين
ب معقول المعنى وإن كان ال ُي َحد ،فهو ُمدْ َرك بالذوق غير
الح ّ
أن ُبن عربي« :اعلم ّ
فإن األمور المعلومات على قسمين :منها ما ُيحدّ ، التصورّ ،
ّ مجهول ،ولكنه عزيز
ومنها ما ال ُيحدّ ،والمح ّبة عند العلماء بها المتك ّلمين فيها من األمور التي ال تُحدّ ،
يعافرلا رابجلادبع .د 34
فيعرفها من قامت به ومن كانت صفتُه وال يعرف ما هي وال ينكر وجو َدها .واختلف
تصور ذلك ،فما حدّ ه
ب ،فما رأيت أحدً ا حدّ ه بالحدّ الذاتي بل ال ُي ّ
الح ّ
الناس في حدّ ُ
ُ
من حدّ ه إال بنتائجه وآثاره ولوازمه ،وال سيما وقد اتصف به الجناب العزيز وهو
ب ُيعرف به ذات ًّيا ،ولكن ُيحد بالحدود الرسمية واللفظية ،فمن َحدَّ للح ّاﷲ ،فال حدّ ُ
ب فالح ّ
ب ما عرفه ،ومن لم يذقه شر ًبا ما عرفه ،ومن قال ُرويت منه ما عرفهُ ، الح ّ
ُ
ري».25شرب بال ّ
ِ ِ
وبيان آثاره المتنوعة على القلب والروح وتفسيره ب طرائق فه ِم ُ
الح ّ ُ تعدّ دت
يفسره من منظور يتطابق مع الوجهة التي فكل فن وعلم ّ والضمير والعقل والجسدّ ،
ب مرآ ٌة ال يرتسم فيها ّإل
الح ّ
له ًما .وكأن ُ جميل ُم ِ
ً ب ال يتجلى ّإل
الح ّ
يتجلى له فيهاُ ،
وكل شيءب حاج ٌة أبديةُّ ، الح ّ
بوب لكونه ُح ًّبا ال غيرُ .
مح ٌ ب ُ
الح ّ
ما هو رؤيوي مضيءُ .
غيره يدعوه للظفر به. ُ
اإلنسان بهذا الشكل ال يحتاج سب ًبا آخر َ يحتاجه
ب وتحليل ،وما زال تحلي ُلهم لماهية ُ
الح ّ ً كل األديان بح ًثا ب في ّ الح َّ
أشبع العرفا ُء ُ
هو األجمل واألبهج واألعذب واألثرى ،وهكذا أنشده الشعرا ُء في قصائدهم وتغنوا
أعظم الروائيين مثل ِ
ومواجعه ِ
وأطواره وثمراته فيه بغزلياتهم ،وتوغل في تصوير حاالتِه
ُ
دوستويفسكي في أعماله الخالدة ،ونهض بتفسيره الفالسف ُة في علم النفس الفلسفي،
كل ومظاهره وتعبيراتِه في حياة الفرد والمجتمعٌّ ، ِ واهتم بالكشف عن ِ
آثاره المتنوعة
وأخيرا قدّ م له علما ُء
ً من :علماء النفس ،واالجتماع ،واألنثربولوجيا ،واألخالق،
الكل يشد ّد علىيفسره من منظورهُّ ، كل علم وفن ّ تفسيرا بايولوج ًّياُّ .
ً األعصاب والدماغ
عدم استغناء اإلنسان عنه في أي مرحلة من مراحل حياته ،وفي أية حالة يكون فيها،
ب مزمنة ،تولد مع اإلنسان وال تنتهي تظل الحاج ُة ُ
للح ّ وفي أية محطة تصل حياتُه إليهاّ .
اإلنسان َّ
كل حياته إلى َم ْن ُيح ّبه في الدنيا، ُ يتطلع
ُ بوفاته كما تنتهي احتياجاته األخرى ،إذ
يتطلع إلى َم ْن يلبث ُيح ّبه ف ُيخ ِّلد ذكراه بعد وفاته.
ُ مثما
.25الغراب ،حممود حممود ،احلب واملحبة اإلهلية :من كالم الشيخ األكرب حميي الدين ابن العريب ،ص ،17
ط ،1992 ،2مطبعة نرض ،دمشق.
35 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
الح ّب
مراتب ُ
ُ
ب الحقيقي كيميا ُء خاصة تتبدّ ل ِ
للح ّ
بُ .كالح ّ
ُ هم للسعادة في حياة اإلنسان
ال ُمل َ
تأثيرا
ب كاإليمان ،لذلك يمتلك ً الح ُّ
نفيساُ .
جوهرها ً
ُ معها ماد ُة القلوب ،فيصير
متنوع ،إن وجو َده
ب واحد ٌة لكنّه ّ األرواح غاي َة وجودها .حقيق ُة ُ
الح ّ ُ سحر ًّيا ،تبلغ معه
أمر نسبي ذو مراتب ،تتفاوت مرات ُبه فتبدأ من أدنى 26
مشكّك ال متوطئ ،أي أنه ٌ
ب تتعدّ د كيفياتُها وتتسلسل درجاتُها الح ّ
مصاديق ُ
َ المراتب حتى أسماها .بمعنى أن
ً
مشتعل، ب ضعي ًفا بار ًدا وقد يكون شديدً ا الح ّ
تب ًعا لألشخاص والحاالت .ربما يكون ُ
ربما يكون ُح ًّبا جسد ًّيا حس ًّيا ،وربما يكون أخالق ًّيا ،ربما يكون روح ًّيا أخالق ًّيا ،ربما
ب اﷲ لإلنسان
للحق تعالى أو يكون ُح ًّبا للخلق ،وربما يكون من نوع ُح ّ
ِّ يكون ُح ًّبا
ب يتجلى في مراتب متنوعة في حياة
الح ِّ
ب اإلنسان ﷲ .في ضوء ذلك نرى ُ
وح ّ
ُ
اإلنسان ،وهي:
ب يقيم في الجسد ،ويغرق فيه ،ولن المرتبة األولىُ :ح ٌّ
ب شهواني عاطفيُ ،ح ٌّ
ب الح ّ
يتحرر منه ليعبر إلى آفاق المعنى اإلنساني األخالقي .هذه المرتبة من ُ
ّ
قلق واضطراب، ب يشوبه ٌ تتفشى في عالقات ٍ
كثير من المراهقين .وهي نمط ُح ّ
ومسكون بالحذر والالأمان والشعور بالفقدان والاليقين ،لذلك ال يصنّفه جماع ٌة
ٌ
ب عندهم .غال ًبا ما تنطفئ هذه المرتبة من الباحثين ُح ًّبا ،وال تُطلق عليه تسمي ُة ُ
الح ّ
ِ
المكوث ِ
واإلفراط في تعاطي الجنس ،والسأم من الملل من تذوق الجسد، ِ لحظة
في سجن االحتياجات الحسية المادية ،والفشل في عبور الجسد إلى رحاب
ب بقوله« :يكتسب مصدر اإلشباع الجنسي الح ّ
المعنى .يصف إيريك فروم هذا ُ
وظيفة تجعله ال يختلف كثير ًا عن إدمان الكحول والمخدرات .إنه يصبح محاولة
يائسة لتالفي القلق المتو ّلد من العزلة ،ويؤدي بالنتيجة إلى تضخم أكبر لمشاعر
ب ال يمكنه أبد ًا أن يمد جسر ًا فوق هاوية
العزلة ،ألن العمل الجنسي من غير ُح ّ
.26الكيل املتواطئ هو املتوافقة أفراده ومصاديقه ،يتساوى انطباقه عليها بالدرجة نفسها ،كام يف انطباق
مفهوم اإلنسان عىل أفراده وتساوي كل فرد يف صدق معنى اإلنسانية .املفهوم الكيل املشكك ،هو
املختلفة أفراده وغري املتساوية مصاديقه يف درجة انطباقه عليها ،كام يف مفهوم العدد الذي يكون رقم
واحد من مصاديقه ،ورقم مليار من مصاديقه .ينطبق عىل الواحد انه عدد ،وهكذا ينطبق عىل املليار أنه
عدد ،لكن باختالف يف الدرجة ،وعدم تساوي العدد الصغري مع الكبري.
يعافرلا رابجلادبع .د 36
ِ
السياق ذاته يقول زيجمونت تفصل كائنين إنسانيين سوى للحظة قصيرة» .وفي
باومان« :عندما يتحول الجنس إلى حدث فزيولوجي في الجسد ،وال تثير التجربة
الحسية سوى لذة جسدية ممتعة ،فإن ذلك ال يعني أن الجنس تحرر من األعباء
الثقيلة الزائدة المقيدة غير الضرورية وغير المجدية ،بل يعني ،على العكس تما ًما،
أن األعباء التي يحملها زادت عن حدها المعقول ،فصار يفيض بآمال ليس بوسعه
تحقيقها» .27
ب عند الجسد ،بل يعبره آلفاق
الح ُّ المرتبة الثانيةُ :ح ٌّ
ب عاطفي جسدي ،ال يقف هذا ُ
ب بين الرجال
الح ّ
المعنى اإلنساني األخالقي .هذه المرتبة نجدها في كثير من حاالت ُ
حجر
َ ب
الح ّ
ناجحا ،ال تستنزفه األيام سري ًعا .يشكِّل هذا ُ
ً زواجا
ً والنساء ،وعادة ما تثمر
كل عائلة تعيش حياة عاطفية متضامنة. الزاوية في بناء ّ
ب األم واألب لألبناء،
كح ّ المرتبة الثالثةُ :ح ّ
ب عاطفي حميمي أخالقي إنسانيُ ،
ب هو ما يتجلى في األمومة بوصفها الح ّ
ب األبناء لآلباء .وأسمى درجات هذا ُ وح ّ
ُ
الحال َة الوحيدة في الكائن البشري المخلوقة من الرحمة اإللهية الخالصة دون سواها،
ال يعرف منزل َة األم إال من ذاق مرارة فقدانها ،والحرمان من ُح ّبها وحنانها ،ضراو ُة هذا
ب العاطفي الحميمي األخالقي اإلنساني هو الكنز الح ُّ
الحرمان أقسى من ضراوة النارُ .
ِ
عالقات ويكرس نسيجها بالرعاية والحماية، ويغذيّ األثمن الذي يثري بناء العائلة
ّ َ
ويرسخ ِ
العالقات االجتماعية المتنوعة، القرابة بالسكينة والمودة والرحمة ،ويدعم
ّ
والتراحم داخلها،
ُ ترسخت بني ُة العائلة وتماسكت وتنامى التضام ُنبني َة المجتمع .ك ّلما ّ
ترسخت بني ُة المجتمع وازدهر التوا ُّد والحيا ُة التراحمية في عالقاته ،وتص ّلب
ك ّلما ّ
السياج األخالقي الذي يحميه من التصدّ ع واالنهيار.
ُ
تتكرسب حال ٌة وجودي ٌة ّ الح ُّ
ب اإلنسان ﷲُ . وح ُّ المرتبة الرابعةُ :ح ُّ
ب اﷲ لإلنسان ُ
ُ
واإليمان كالهما تجليان ب اﷲ
بُ .ح ُّبالح ّ
تتكرس ُ اإليمان حال ٌة وجودية ّ
ُ باإليمان،
ٍ
وح ّبنا له ،هو لدينا حال ٌة
ب اﷲ لنا ُ ب وأجم ُلها هو ُح ّ الح ّ
لحقيقة واحدة .أسمى مراتب ُ
ب السائل :عن هشاشة الروابط اإلنسانية ،ترمجة :حجاج أبو جرب ،تقديم :هبة .27باومان ،زجيمونتُ ،
احل ّ
رؤوف عزت ،ص ،2016 ،22الشبكة العربية لألبحاث والنرش ،منتدى الفقه االسرتاتيجي ،بريوت.
37 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
.28ابن عريب ،حميي الدين ،الفتوحات املكية ،جملد ،2ص ،111 ،مراتب احلب ،دار صادر ،بريوت.
يعافرلا رابجلادبع .د 38
ب؟! إن اﷲ
الح ّ
الباقر ،وولده اإلمام جعفر الصادق عليهما السالم( :هل الدين إال ُ
يوجه
ب هو َم ْن ّالح ُّ
عز وجل يقول« :قل إن كنتم تح ّبون اﷲ فاتبعوني يحببكم اﷲ») ُ .
29
الح ّب
صعوبة ُ
وتترسخ بها صلتي
ّ قلوب الناس،
َ ُ
أجمل لغة أكسب بها سألني أحد تالمذتي ما
َ
الصدق والثقة والسالم والمحبة بين الناس؟ بهم ،وأستطيع من خاللها أن أرسخ
َ
وتعيش سال ًما في عالقاتك تعيش سال ًما في داخلك، َ قلت له :إذا أردت أن
كل إنسان ممن تتعامل معه ،وتعرب له الجميل في ِّ
َ بالناس ،حاول أن تكتشف
يفرح كفرح األطفال
ُ يعيش سالم ًة عقلية ونفسية وعاطفية، عن جمالهُّ .
كل إنسان ُ
أيضا إن رأى شي ًئا مما
حين يرى أو يستمع إلى ما يكشف له عن جماله ،ويفرح ً
تفرح به األرض.
ُ
وجميع
ُ أعرف أحدَ األشخاص المشاكسين ،كان ال يطيقه األقربا ُء واألصدقا ُء
ُ
قبيحا لديه.
ً كل شيء يراه أو يسمعه من غيره ينقلب الناس الذين يتعامل معهمُّ ،
قبيحا ،وإذا استمع حدي ًثا َ
الجميل عند غيره إال ً طالما سمعته يذم َّ
كل شيء ،ال يرى
من صديق ،يع ّقب عليه بقوله :هذا خطأ ،بال أن يفكِّر ويتثبت ويد ّقق في مضمونه.
ومتى رأى شي ًئا يزدريه ،وعندما يتلقى هدي ًة جميلة يفتّش بعناية عن ّ
أي نقص أو
عيب فيها ،وإن لم يعثر على عيب يفتعل عي ًبا كي يذمها .كان يترقب على الدوام
الناس على ِّ
كل شيء ،من دون أن يفكِّر يو ًما ُ الناس َّ
كل شيء ،ويمدحه ُ أن ُيقدِّ م له
مصير هذا اإلنسان في
ُ أن يقدم شي ًئا ألحد ،أو يمتدح أحدً ا على فعل حسن .انتهى
الكل ،بعد أن نفر ُّ
الكل منه حتى شيخوخته إلى أن يعيش منف ًّيا في داخله ،منبو ًذا من ِّ
أقرب الناس إليه.
نحتاج لغ ًة تتقن مخاطبة القلب أكثر من العقل، نحتاج ِ
معاشرة الناس في
ُ َ ُ
المشاعر
َ نحتاج
ُ العواطف أكثر من لغة المنطق والفلسفة والرياضيات والعلم،
ِ
الكلمات الح ّية المهذبة أكثر من كلمات المجاملة الذابلة، نحتاج أكثر من الفكر،
ُ
ونحتاج المعاني األصيلة الصادقة أكثر من الفائض اللفظي الذي يمكن أن تقول ُ
الحكيم في هذا العا َلم هو من
ُ ً
جميل. كل شيء من دون أن تقول شي ًئا األلفاظ فيه َّ
ُ
يعمل من أجل أن تكون حياتُه والعا َل ُم الذي يعيش فيه أجمل ،وال تكون حياتُه
قادرا على صناعة الجمال في حياة غيره .صناع ُة الجمال تتطلب َ
أجمل إال إن َ
كان ً
كل حرف يكتبه ،في ِّ
كل كل كلمة يقولها ،في ِّ
اإلنسان ما هو أجمل في ِّ
ُ أن يعطي
فعل يفعله ،وفي ِّ
كل قرار يتخذه.
ُ
األصيل إال ب
الح ّ
عصي على أكثر الناس ،ال يسكن ُ
ٌّ ب ليس صع ًبا فقط ،بل هو الح ُّ
ُ
ٍ ٍ
األرواح السامية ،وال يناله إال َم ْن يتغ ّلب بمشقة بالغة على منابع التعصب والكراهية
َ
أشق األشياء في حياة اإلنسان ،ألن هذا
ب اإلنسان من ِّ
والعنف الكامنة في أعماقهُ .ح ُّ
أسير ضعفه البشري ،يصعب عليه أن يتخ ّلص من بواعث الغيرة في الكائ َن بطبيعته ُ
للشر
نفسه ،وما تنتجه غيرتُه من منافسات ونزاعات وصراعات ،وما يفرضه استعدا ُده ِّ
ٍ
كراهيات بغيضة ،وآال ٍم مريرة. من
ُ
اإلنسان عن الصراع مع غيره ،وال يتوانى عن اللجوء لمختلف أنواع العنف يكف
ال ُّ
عنف
اللفظي والرمزي والجسدي مع خصومه ،وإن كانت للعنف دواف ُعه المختلفة ،وال َ
يعافرلا رابجلادبع .د 40
ٍ
سبب ظاهر أي َ
اإلنسان أحيانًا يلجأ للعنف بال ّ من دون أسباب ظاهرة أو كامنة ،إال أن
الحيوانات المفترسة تمارس القتل ألنها تحتاج الطعا َم ،ولحظة تشبع ال
ُ يدعوه لذلك.
ُ
اإلنسان هو الكائن الوحيد الذي يمارس القتل من دون حاجة تدفعه إليه، غيرها،
تقتل َ
ب إال تفري ًغا للعنف المكبوت داخله .يصعب جدًّ ا بلو ُغ اإلنسان مرتب ًة يصير فيها ُ
الح ّ
تجهضه نزع ُة التعصب
ُ ب حال ًة ال كلمة ،وحقيق ًة راسخ ًة ال ظاهرة عابرة .الظفر ُ
بالح ّ
المضمر غال ًبا ،الذي يستبدّ ببعض
َ التلذ ُذ
ّ ويجهضه
ُ المترسب ُة في النفس اإلنسانية،
وآالمهم وأحزانِهم.
ِ نكبات الغير وانكساراتِهم
ِ الناس من حيث ال يشعر ،فيبتهج لحظ َة
تضج بالكراهية ِّ
بالحط من بعضهم البعض ،حياتُهم ّ ِ
الناس في مجتمعنا مشغولون أكثر
ُ
ِ
أكثرهم يعجز عن إنتاجها. واألحقاد والضغائن ،ك ُّلهم جائعون للمح ّبة َ
غير أن َ
للكل ،لكن الكائ َن البشري ال يتنبهّ يح ّبه ّ
الكل ،ويكون محبو ًبا ُّ
الكل يريد أن ُ
مح ًّبا ّ
للكل .العالق ُة تفاعلية متبادلة بين إلى أنه لن يصبح محبو ًبا ّ
للكل ،ما لم يكن ُ
يح ّبك
وح ّبك لآلخر .ليس هناك شي ٌء ُيمنح مجانًا في األرض ،لن ُ
ب اآلخر لك ُ
ُح ّ
ب ،الذي هو أثم ُن عطاياهم ،مالم
الح َّ
اآلخرون مالم تح ّبهم ،ولن يهبك اآلخرون ُ
ُ
اإلنسان على بعض األشياء مجانًا أو مقابل َ
يحصل تهبهم أثم َن عطاياك .يمكن أن
سر
بُّ ،بالح ّ
ب إال ُ الح ّ
ثمن مادي مهما كانت نادر ًة وثمينة ،لكنّه لن يحصل على ُ
ب، ب ّإل ُ
الح ّ الح ّ
ب ،ال ينتج ُ ب ّإل ُ
الح ّ ب .ال عل َة ُ
للح ّ ب أنه ال يتح ّقق إال ُ
بالح ّ الح ّ
ُ
ب. ب ّإل ُ
الح ّ للح ّ
ال ثمرة ُ
والح ُّب
والصفح ُ
ُ ُ
الغفران
اإلنسان وأغاله ،فإن ني َله يتطلب معانا ًة شاق ًة وجهو ًدا
ُ ب أثم َن ما يظفر به الح ّ
مادام ُ
اإلنسان أعقدُ الكائنات في األرض ،وأغر ُبها في تناقضاته ،وتق ّلب حاالته. ُ مضنية.
ُ
اإلنسان بالتغلب تناقضات باستمرار ،مالم يفلح
ٌ تناقضاتُه ال تنتهي ،ألنها تتوالد منها
ِ
والخالص ِ
واكتشاف مسالكها الوعرة، ٍ
بمزيد من صالبة اإلرادة ،ووعي الحياة، عليها
ب.
الح ّ ِ
والعمل على االستثمار في منابع إلهام ُ من ضغائنها،
اإلنسان ويتح ّق ُق بها في طور وجودي جديد ،ال ّ
تتكرس إال ُ ب حال ٌة يعيشها
الح ّ
ُ
ٍ
ونحو من االرتياض النفسي والروحي واألخالقي الذي يسمو ِ
بالتربية والتهذيب،
41 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
الشر والعنف
باإلنسان في مراتب الكمال ،والتدريب المتواصل على تجفيف منابع ِّ
ِ
والعمل الدؤوب على اكتشاف منابع إلهام والتعصب واألغالل المترسبة في باطنه،
النظر لما هو مضيء في َم ْن تتعامل معه،
ُ ب وتنميتها .ومن أثرى هذه المنابع الح ّ
ُ
ُ
والغفران ،واالنهما ُم بالذات وعد ُم االنشغال بالغير وشؤونه والصفح،
ُ والعفو،
ُ
التدخل في الحياة الخاصة للناس وانتهاكها ،ومطاردتِهم
ِ والكف عن
ُّ وأحواله،
وصي على الناس ،يترصد َّ
كل ٌّ نفسه وكأنه
ينصب َ البعض الذي ُّ باألحقاد ،كما يفعل
خيرا كل ٍ ٍ
شيء يصدر عنهم فيحاسبهم عليه .إنه ال يعلم أن َّ
فعل يرتدُّ على فاعله ،إن ً
شرا فشر. فخير ،وإن ًّ
ِ
وشرور البشر .الحاج ُة غيرك من آالم ٍ
نفسك وتحمي به َ أنجع دواء تحمي به َ ُ بالح ُّ
ُ
ُ
أجمل استثمار في بالح ّ
االستثمار في ُ
ُ ب من أشدِّ الحاجات العاطفية لإلنسان. للح ّ
ُ
ِ
وجروح ِ
القلب ٍ َ
أجمل دواء آلال ِم ب يمك ُن أن يكونا ُ
والح ُّ
ُ الغفران إنتاج معنى للحياة.
كثيرا ما يتغ ّلبان على ٍ َ
مواقف متنوعة فوجدتُهما ً َ ب في والح َّ
ُ الغفران بتجر ُ
الروحّ ،
ِ
فضحها. حنق الناس وأحقادهم ،ويخ ّلصاني من مكائدهم ،ويعمالن على ضجيج ِ
دواء في شفائي وشفاء الغفران والحب كما جربتهما في حياتي ،أنجع ٍ ُ كان وما زال
َ ّ ُ ُّ
تتسبب بها الكراهي ُة والبغضاء. ُ ِ
األمراض التي عالقاتي في المحيط االجتماعي من
َ
الغفران ففشلت ،وجربت
ُ ب مع بعض الناس والح َّ
ُ َ
الغفران بت جر ُأعترف أني ّ
ففشلت ،وربما سأفشل
ُ ب معهم ثاني ًة وثالث ًة ورابع ًة وخامس ًة وسادس ًة وسابع ًة
والح َّ
ُ
زلت متشب ًثا بقناعتي الراسخة التي تشتدّ
كنت وما ُألف مرة ،لكني ُ لو جربتُهما معهم َ
ب هما الدواء للضغائن واألحقاد المتفشية في مجتمعنا،
والح َّ
ُ َ
الغفران َّ
كل يوم ،بأن
وهما الدوا ُء الذي يكفل الشفا َء من أغلب الظواهر المقيتة لسأم الناس من الحياة
نوع من شفاء الذاكرة ،إتما َم فترة حدادها ،متحرر ًة من ثقل ُ
«الغفران هو ٌ وجزعهم،
ً
مستقبل» ،يقول ُ
الغفران يعطي الذاكر َة الديون ،تتحرر الذاكر ُة للمشاريع العظيمة.
بول ريكور.
ٍ
طويلة على ٍ
سنوات فعملت منذ
ُ أدركت أن الطبيع َة اإلنسانية ملتقى األضداد،
ُ
مريرا
مزعجا ًً الترويض شديدً ا
ُ ب ،كان هذا
والح ّ
ترويض نفسي على الغفران والصفح ُ ِ
األشق ،خاصة
ّ الترويض على الغفران والصفح هو
ُ شا ًقا ُم ِنهكًا ،لم يكن ً
سهل أبدً ا.
يعافرلا رابجلادبع .د 42
مع األعداء المتطوعين ،لم أتجرعه إال كعلقم ،إال أنه كان وما زال يطهرني من سمو ِم
الكراهية ،وينجيني من ِ
أكثر شرور هؤالء.
ِ
لتخفيف آالم الكراهية ،وال وسيل َة للشر ،وال َ
سبيل اآلثار الفتاك َة ّ
َ يخفض
ُ ال دوا َء
لتقليل النتائج المرعبة للنزعة التدميرية في أعماق الكائن البشري سوى المزيد من
ب ،بالكلمات الصادقة ،والمواقف األخالقية النبيلة، ِ
والح ِّ
ُ الغفران االستثمار في
ِ
مرارات الصفح والعفو والغفران، تجرع
واألفعال المهذبة الجميلة ،واإلصرار على ّ
على الرغم من صعوبتها ونفور المشاعر منها.
ِ
مرارات الصفح والغفران ،يظل قلبي ينزف مد ًة كنت قبل 40عا ًما ال ُأطيق ّ
تجرع ُ
ٍ
وارتياض روحي طويل ًة من جروح ال تندمل ،وبعد فه ٍم علمي للطبيعة اإلنسانية،
قة في الفلسفة وعلم النفس واالجتماع ومختلف العلوم ومطالعات معم ٍ
ٍ وأخالقي مرير،
ّ
والمعارف الحديثة ،وآثار العرفاء ،ومعاشرة مختلف أصناف الناس في مجتمعات
ٍ
ومرارات أقل .ما ٍ
بقدرة أكبر تجر َع مرارات الصفح والغفران
صرت أطيق ّ ُ متنوعة،
ُ
والغفران الصفح عالجها بالمحبة. ِ
زلت أقاوم الكراهي َة بالصفح والغفران ،وأحاول ُ
ُ َ
ٍ ُ
طعنات غادرة نفسك تتلقى الفعل الالأخالقي ،ربما تجد َ شا ّقان مريران عندما ّ
يتكرر
أشق وأقسى متكررة ممن لم تتعامل معهم على الدوام إال باإلحسان إليهم .محب ُة هؤالء ُّ ّ
بعض الحاالت ،عندما ِ ُ
اإلنسان إال في المواقف وأشدُّ ها مرار ًة في النفس ،ال يطيقها
تحو ًل في سلوكهم ،وتلك حاالت نادرة .طالما أشفقت على مثل هؤالء ،لحظة
يرى ّ
أكتشف أن حاجتهم للكراهية تفوق حاجتهم للمحبة ،وأنهم ال يعيشون إال بكراهية
ِ
وانهيار حياتهم ِ
اعتالل صحتهم النفسية، من حولهم ،بل حتى كراهية أنفسهم ،أثر
األخالقية ،إنهم كحالة بعض الكائنات الحية التي ال تعيش إال في الظالم أو في األماكن
القذرة.
الخالص منها إال
ُ الحرب ال يمكن
ُ الخالص منه إال بالماء،
ُ الحريق ال يمكن
ُ
الصفح ممك ٌن
ُ الخالص منها إال بالصفح والعفو والغفران،
ُ بالسالم ،الكراهي ُة ال يمكن
َ
العمل على إثراء منابع إلهام أشق ،وأحيانًا ليست ممكن ًة ،غير أن
وإن كان شا ًّقا ،المحب ُة ّ
غير مستحيل ،بالحرص على تغذية هذه المنابع باستمرار .أثرى المحبة وتكريسها ُ
منابع المحبة أن تكون صاد ًقا مع نفسك ،صاد ًقا مع الناس ،صاد ًقا مع اﷲ .عندما تكون
43 اًجال هفصوبُّبُحلا
ع خأل ّ رشلل
ا
قو ُة ُ
الح ّب
كنوز
ُ تعبير عميق عن أشواق الروح اإلنسانية وتطلعها لالتحاد باآلخر. ٌ بالح ّ
ُ
أصعب
ُ بالح ّ
إنتاج ُُ ب. المعنى مختبئ ٌة في القلوب ال تسفر عن جواهرها إال ُ
بالح ّ
أجمل معنى في َ ب يمنحك الح ّ
أشكال إنتاج المعنى في حياة اإلنسان ،من يمنحك ُ
قلب أجمل معنى في الحياة .إذا أردت أن تمتلك َ َ ب يسلبك الح َّ
الحياة ،ومن يسلبك ُ
تحب أجمل ّ قلب اإلنسان ألنك تمنح حيا َة َم ْن
ب تمتلك َ بالح ّ
إنسان امنح حياتَه معنىُ ،
القلوب
َ القلب قبل اللسان ،كلم ُة المحبة تغسل ُ معانيها .كلم ُة المحبة الصادقة يتحدثها
من سموم الكراهية.
َ
التاريخ على شاكلتها، التاريخ على شاكلته ،مثلما صنعت الكراهي ُة
َ صنع
َ ب
الح ُّ
ُ
ب كانت ُملهم ًة ب تظل بصم ًة مضيئ ًة في ضمير التاريخ ،قوة ُ
الح ّ الح ّ
غير أن قو َة ُ
كل اإلبداعات لكل ما شهدته اإلنساني ُة من مكاسب عظمى في تاريخ الحضاراتُّ ، ّ
واالختراعات واالكتشافات في مختلف العلوم والفنون واآلداب اإلنسانية كان وقو َدها
ب.
والح ُّ
الشغف ُ
ُ
اإلنسان في حياته ،إن كانت هذه التجرب ُة ُ ٍ
تجربة يعيشها َ
أجمل ب الح ُّ يظل ُ
ب اإلنسان تجرب َة ُح ّ
ُ يقظ ًة متوهج ًة فإنها تتجدّ د وال تنضب طاقتُها .إن َ
عاش
ب تتدفق ألحانُها كأعذب الح ّ
قليل .أنشودة تجربة ُ ً بالح ّ كثير ُ َ أصيلة يجد
ب الذي ِ
الح ّ
تعزف على أوتار القلب وهي تُنشدُ : ُ تبتهج بها الحياةُ ،وكأنها ُ ألحان
ب القلب الذي ُ ِ
الح ُّ
ب ليس قل ًباُ .الح ّ
أزهار ُ
ُ تذبل فيه ُ يرتوي باللقاء ليس ُح ًّبا،
والشفق ُة على خلق اﷲ عصار ُة الجوهر الروحاني األخالقي لألديان .ال يمكن
لهمة للخير والعدل والسالم األديان وعو َدها ،وتتحول إلى طاقة ُم ِ ُ أن تنجز
والرحمة والمح ّبة والجمال ،من دون اكتشاف ذلك الجوهر الروحاني األخالقي
المشترك ،المختبئ خلف ركام الصراعات الالهوتية ،والتفسيرات الفاشية
للنصوص الدينية.
يعافرلا رابجلادبع .د 44
ب هو الضمانة األساسية لحضور الدين المؤثر الفاعل في الحياة البشريةُّ ،
فكل الح ُّ
ُ
الهدف الذي تسعى لتحقيقه في الحياة، َ ب ،وتعلنه بوصفه الح ّ
ديانة تحرص على إنتاج ُ
حضورها في
ُ القلوب لالنتماء إليها ،ويتأ ّبد
ُ ويجسده أتبا ُعها في سلوكهم ،تتلهف ّ
إنتاج الحرب واالنشغال بصراعات السلطة والثروة، وكل ديانة تحرص على ِ الحياةُّ .
ب يخسره ُّ
كل دين رسالتُه الح ّ
كل دين رسالتُه ُالقلوب منها ومن أتباعها .ما يربحه ُّ
ُ تنفر
الحرب.
حوارات
َعامل معها
وطرق الت ِ
ُ الشر
لة ّ شك ُ
ُم ِ
()1
حوار مع:
_________________________________________________
1
مصطفى ملكيان
شغلت ِ وجود اﷲ من عدمه ُي َعدُّ واحدً ا من أهم المسائل التي ِ لعل موضوع َّ
ِّجاهات الرئيس ُة في فه ِم ُ أهم َها على اإلطالق؛ فما هي االت البشري إن لم تكن َّ َّ الذهن
َ
هذا الموضوع؟
أساس ْي ِن ال َ حول ِم ْح َو َر ْي ِن
اإلنساني في هذا الموضو ِع َ ِّ أفكار الفه ِم
ُ تطوف
ُ
نكاد نجد َح ْيد ًة عنهما؛ أولهما يتعلق بإثبات الوجود اإللهي ،وثانيهما يتعلق بنفي
جامع بينها إال ِّجاهات متشاكسة ال ٍ هذا الوجود ،وفي كال المحورين نلتقي ات
َ
َّوجه نحو الموضوع. محاوالت الفهم والت ُّ
اإللهي، بيان :في ما يتعلق بالمحور األول؛ أعني :إثبات الوجود وإليك شي ًئا من ٍ
ّ
رئيسة ،يرى األول منها بأنه قد قام منقسما إلى ثالثة اتِّجاهات َ ً الموقف
َ فإننا نجد
أي بحال ،وال يتخ َّلله ُّ ٍ ِ
حض غير ٍ
قابل للدَّ ٌ
دليل واحد على األقل ُيثبت هذا الوجودُ ،
الداخلي .ويتج َّلى االتِّجا ُه الثاني في القول ِّ تماس ِكه ومنطقه
قادح فيه من جهة ُ عيب ٍ ٍ
حقيقي يأت أحدٌ حتى هذه اللحظة بدليل بِعدَ ِم تَح ُّق ِق هذا اإلثبات بعدُ ،وبأنه لم ِ
ٍّ َ َ
ٍ
اضطراب .أما أصحاب االتجاه الثالث فإنَّهم يوافقون واحد على وجود اﷲ يخلو من
َ
اإلتيان في السابق القول بأنه لم يستطِع أحدٌ
ِ االتِّجاه السابق إال أنهم ُيضيفون إلى
ْش هذه
وحرر احلوار بالعربية :عبدُ العاطي طلبةُ .تن َ ُ .1ترمجها عن الفارسية :حسن اهلاشمي ،أعد ّ
ْش اجلزء الثاين يف عدد املجلة القادم. املحاورة عىل ُج ْز َأ ْي ِن ،هذا هو ُ
األول منها ،و ُين َ ُ
نايكلم ىفطصم 46
ُ
اإلتيان به تعذر بأن َ
مثل هذا الدليل كما َّ َ
القول َّ اإللهي،
َّ حقيقي ُي ْثبِ ُت الوجو َد
ٍّ ٍ
بدليل
أيضا. ُ
اإلتيان به في الحاضر والمستقبل ً في الماضي ،فإنه َّ
يتعذ ُر
ٍ
أقوال أنفسنا أما َم الم َت َع ِّل ِق بنفي الوجود
اإللهي ،نجد َ
ّ وإذا ما انتقلنا إلى المحور الثاني ُ
أصحاب
ُ قليل في إثبات هذا الوجود؛ فيرى أخرى ُتنَاظر االتِّجاهات التي ذكرناها منذ ٍ
دحضه وإبطاله ،ولنا إقام ُة البرهان على اإللهي ُم ْم ِك ٌن ُ
ِّ نفي الوجود
أن َ االتِّجاه األول َّ
الوجود اإللهي لم ت ُقم له قائمة ِ نفي فساده .أما أصحاب االتِّجاه الثاني ،فإنه يرى َّ
أن َ
أصحاب االت َِّج ِاه
ُ وأخيرا ،يرى
ً حتى اآلن ،ولم يتحقق صد ُقه بعد حتى هذه اللحظة.
ص على البرهان. مستحيل في ذاتهُ ،م ْس َت ْع ٍ
ٌ اإللهي
ّ نفي الوجودبأن َالثالث َّ
اإللهي
َّ بأن الوجو َد ُ
البعض َّ رأينا في هذا العرض والتفصيل أنَّه في ِ
حين يقول
ِ
ِّجاهات والبرهان ،لم َي ُق ْل أحد من أصحاب االت
ُ ُ
الدليل وجو ٌد ُم َح َّق ٌق قد قام عليه
الثالثة ــ في محور ال َّن ْف ِي ــ بثباته ووقوعه؛ فما توجيهكم لذلك؟
يذهب أحدٌ من أصحاب النفي بقيام الدليل الثابت
ْ هذه مالحظة ذك َّية ،إذ لم
إثبات عدم وجود اﷲ،َ عقل اإلنسان قد استطاعمثل بأن َ
فعل؛ فلم ي ُقل أحد ًعليه ً
يتوسلون
كثيرا من الفالسفة الناقضين لإليمان َّ
ولكننا في اآلونة األخيرة قد وجدنا ً
الشر الشر في العا َلم ً
دليل قو ًّيا على القول بإثبات النفي ،إذ يرون وجو َد ِّ وجود ِّ
ِ
الصفات اإللهية التي يجمع عليها المؤمنون ،ومن هنا ينفون ذلك ُينَافي بعض
ُ
نطرق باب هذا الموضوع؛ أعني ف بمثل هذه الصفات أو بعضها .لعلنا المت َِّص َ
اإلل َه ُ
مشكلة الشر ،ونلج إليها من هنا ،ولنبدأ ببيان العالقة الوثيقة بين تلك المشكلة
ومبحث الصفات اإلله َّية.
يجمع المؤمنون ــ باختالف أديانهم وعقائدهم ــ على اإليمان ٍ
بإله يتَّصف بطالقة
العلم ،و ُك ِّلية القدرة ،والخير الالمحدود .إنه إذا كان وجود الشر ُم ْبطِ ًل لصفة واحدة
أو صفتين من هذه الصفات المذكورة ،فإنه يتسنَّى لهؤالء الناقضين القول بإبطال
ف بها ،ومن هنا يمكن القول بتنافي وجود الشر في العالم مع اإلله المت َِّص ِ
ِ وجود
ُ
ٍ
بإطالق؛ فكيف يعلم إل ٌه وجود اﷲ ،أو ــ بشكل أدق ــ مع وجود ٍ
إله علي ٍمٍ ،
قادرَ ،خ ِّير
ف بهذه الصفات بوجود هذا الشر ،وال ينفيه ،وبالنهاية نصفة بطالقة الخير؟! ُمت َِّص ٌ
47 اهعم ِلماعَتلا ُقرطو ّرشلا ُةلِكشُم
اإلنسانية بحدوثها وحصولها ،أما الشرور األخالقية ،فهي كل ما كان حدو ُثه ً
ناتجا عن
وإرادة إنساني ٍة ٍ
حرة. ٍ ٍ
اختيار
َّ
أيضا ،ولكن،
تقسيما ثنائ ًّيا ً
ً وإذا ما انتقلنا إلى الفريق الثالث؛ فإننا نراه ُي َق ِّس ُم الشرور
الشرور منقسم ًة إلى شرور فلسفية ،وهي ُّ
كل َ وجه آخر يختلف عن سابِ ِق ِه ،إذ يرون من ٍ
تدخل من ِج َه ِة اإلنسان ،وإلى شرور أخالقية ،وهي تلك الناتجة حادث دون أدنى ُّ ٍ شر
ٍّ
وإرادة إنسان َّي ٍة ُح َّر ٍة.
ٍ ٍ
اختيار عن
الثالثي ،وهو الذي ُي َق ِّس ُم الشرور إلى طبيعية، ِّ واآلن ،ننتهي إلى تقسيم الفريق الرابع
كانت طبيعية،
ْ كانت ناتج ًة ال عن إرادة إنسانية ْ الشرور إذاَ وأخالق َّية ،واجتماعيةَّ .
إن
أخالقي ،وثانيهما ان؛ أحدهما حينئذ يكون لها ِش َّق ِ ٍ إرادة إنسان َّي ٍة
ٍ كانت ناتج ًة عن
إن ْ أما ْ
ٌّ
ٍ
بإرادات شرا أخالق ًّيا؛ ل َت َع ُّل ِقه بإرادة أو اجتماعي ،كانعدام األمن ً
مثل ،إذ ُي َعدُّ انعدا ُمه ًّ ٌّ
أن تلك اإلرادات الشريرة تؤ ِّدي جهة َّإنسانية حرة ترتكب الشرور ،وشرا اجتماعيا من ِ
ًّ ًّ
إنساني ما.ٍّ حالة عا َّم ٍة من الشر (انعدام األمن هنا) في مجتمع إلى ٍ
الداخلي عند
ِّ الخ َل ِل
بعض َ ِ كل نوع من هذه التقسيمات من في الحقيقة ،ال يخلو ُّ
لكل أنواع الشرور .ولعلي نعتبر واحدً ا منها جام ًعا ِّ
النظر والتحقيق؛ ألنه ال يمكن أن َ
اعتباره من َم ُقو َل ِة
ُ جميع ما يمكن
َ الشر ،إذ يرى
العرف َّ
ُ ِ
الكيفية التي فهم بها أميل إلى
مثل من قبيل الشر ،وكذلك كل ما يمكن أن الذاتي كوجع األسنان والصداع ً ِّ األلم
يؤ ِّدي إلى اآلالم واألوجاع في العالم كالزالزل والبراكين وغيرهما .هذا الفهم ال ُع ْرفِ ُّي
بغض النظر عن مصدرها وأصلها ،إذ الشر طِ ْب ًقا لهذا النوع إما أن ُي ْعنَى باآلالم اإلنسان َّية ِّ
شرا بال َع َرض. شرا َّ
بالذات ،أو ًّ يكون ً
الم َؤ ِّل َه ُة من الفالسفة والمتكلمين إيجاد تسويغ لوجود الشر في العا َلم،
ولقد حاول ُ
ِ
الشر إما أن يكون متعل ًقا وطرحوا حلو َلهم من أجل نفي النقص ِّ
الص َفاتي عن اﷲ؛ فرأوا َّ
بمصلحة أو منفعة ،أو ال يكون كذلك .وهذا الشر الذي ال يتعلق بمصلحة هو شر في
شرا في الحقيقة ،بل قد ُي َعدُّ ضر ًبا من الخير. ٍ
يتعلق بمصلحة بعينها فال ُي َعدُّ ًّ
نفسه ،أما ما ُ
ولعل المشكلة تأتي عند محاولة التمييز بين الشر الذي يتعلق بالخير من خالفه؛ هذه َّ
الم َؤ ِّلهة من أهل اإليمان. دائما َّ
محل نقاش بين ُ المعضلة التي كانت ً
نايكلم ىفطصم 52
أصحاب
ُ ٍ
سؤال مهم هو :كيف حاول يقودنا حدي ُثك أستاذ إلى االنتقال إلى
اإليمان تسويغ وجود الشر؟
قبل اإلجابة عن هذا السؤال ينبغي علينا أن نتساءل :هل ينبغي تقديم إجابة
َ
الخطأ الذي يقع واحدة عن مسألة الشر تفي جميع جوانبه أو أقسامه سابقة الذكر؟ َّ
إن
تقديم تسوي ٍغ أو
َ كثير من المفكرين في ِخ َض ِّم معالجتهم هذه المسألة محاولتُهم فيه ٌ
الشر من جميع جوانبه .إنني أرى مشكل َة الشر أكثر تعقيدً ا استيعاب َّ
َ إجابة واحدة تحاول
بعينه ،لذا سأحاول اآلن عرض بعض ِ أن نقدم لها معالج ًة أو َحلًّ واحدً ا
وتداخل من ْ
ً
المعالجات المهمة لهذه المشكلة ،كل واحدة منها تحاول تسويغ الشر في قسم واحد ِ
حل األمر بِ ُر َّمتِه .يحضرني
منه أو في بعض أقسامه ليس إال ،وهكذا بالتدريج يمكن ُّ
رأي ينبغي علينا النظر فيه ،وااللتفات إليه. ِ َ
الشر ،وهو ٌ
رأي القائلين بعدم َّية ِّ
اآلن ُ
معدوما وهو يمأل العالم؟ ما المقصو ُد بذلك؟
ً الشر
يكون ُّ
ُ عدم َّي ُة الشر! هل
الشر ال بمعدوم َّيتِه حلًّ من الحلول المطروحة لمعالجة ُ
القول بعدم َّية ِّ يأتي
الحل يقولون بوجودِّ إن معدوم َّي َة الشيء تعني الوجو َده ،وأصحاب هذا المشكلةَّ .
أن َ
ينشأ في ذاته عن عد ِم القول بعدم َّية ٍ
أمر ما إنما يعني ْ َ الشر ال شك ،ولكنهم يرون
مثل ــ الذي نتصوره ضر ًبا من الشرور ــ ال ينشأ وجو ُده إال عن عدمشيء آخر؛ فالموت ً ٍ
بالوجوده ،يقول خروسيوس« :وهلِ الحياة؛ فهو أمر عَدَ ِم ٌّي ال معدوم ،إذ ال يقول ٌ
عاقل
الج ْو ُر شيء غير انعدام العدل؟!».
َ
صنعت
َ ِ
تقطيعها حتى أخذت ورق ًة و ُق ْم َت على
َ بالشك ِ
ْل .إنك إذا دعني أضرب ً
مثال َّ
شكل ُم ْستَطِ ًيل .إنه لو ُقدِّ َر لهذه الورقة االمتداد إلى ما ال نهاي َة؛ فلن يكون هناك
ً منها
ِ
مساحة الورقة؛ معنى للشكل المستطيل الذي ال يستمدُّ وجو َده إال من عدم امتداد ً
ِ
نقول بعدم َّيته وإن كان له وجود كائن في الورقة فهو ناش ٌئ هنا عن عَدَ ِم أمر آخر ،لذا ُ ِ
الم َق َّط َعة. ُ
الم ِض ِّي وقطع األشياء ،كما ال يوجد السك ِ
ِّين قادر ًة على ُ إنه ال يوجد شر ما في كون ِّ
نسميه
إن ما ِّ قابل لالختراق بهذه اآللة الحا َّدة (السكين)َّ . جسما إنسان ًّيا ٌ
ً شر ما في َّ
أن ّ
ِ ٍ
شرا ال يحدث إال عندما ت ُْس َت ْع َمل هذه اآللة الحا َّدة في قتل إنسان باختراق جسده القابل ًّ
53 اهعم ِلماعَتلا ُقرطو ّرشلا ُةلِكشُم
الموت ــ الناشئ هنا بهذا الفعل ــ أمر عدمي وإن لم يكن منعد ًما ،إذ ال يعني
َ لذلكَّ .
إن
خالق
ٌ الموت هنا في الوجود اإللهي بشيء؛ ألن اﷲ ُ شي ًئا غير عدم الحياة .ال يقدح
ُخ َلق.
الموت من قبيل العدَ م ،واألعدام ال ت ْ
َ َّ
وألن الحيا َة ال الموت،
ُ
األول في ُ
اإلشكال ِ
استدالل هذه المعالجة .يأتي ِ
طريقة ٍ
إشكاالت على ُ
ثالث ت َِر ُد
وضع
ُ اللهم إال تال ُع ًبا باأللفاظ ليس إال ،إذَّ عدم تقديمه شي ًئا جديدً ا على اإلطالق،
ثم أمرا وجود ًيا مخلو ًقا للهَّ ، أمرا عدم ًّيا ،ومن اآلخر ً
مقابل نقيضه ال يجعل منه ً َ الشيء
العدمي واألمر الوجودي؟ وكيف نعرف بالتحديد أن هذا ِّ ُ
الفاصل بين األمر ما هو الحدُّ
ِ
معالجة وجودي ،أو العكس بالعكس؟ وكيف ن َُم ِّيز بين الخير والشر في عدمي أو األمر
ٌّ ٌّ َ
الم ْلتَبِ َسة؟
المفاهيم ُ
أمرا ٍ
بمكان ،إ ْذ لماذا عُدَّ لعل اإلجاب َة عن هذه األسئلة تكون من الصعوبة َّ
البصر ً
ُ
أمرا وجود ًيا في مقابل مقابل ال َعمى ،في حين أنه يمكن أن ن ُعدَّ العمى ً ِ وجود ًّيا في
إن العمى عد ُم البصر؟! وإذا أتينا إلى أيضا ــ على طريقتهم ــ َّ : أن َ
نقول ً البصر؟ أليس لنا ْ
الس ْلم والحرب ــ على سبيل المثال ــ فإنه يصعب جدًّ ا معرف ُة أ ِّيهما وجودي مفهو َم ِي ِّ
األمر نفسه بالنسبة
َ أيضا تحديد أ ِّيهما خير وأيهما شر ،قل
وأيهما عدمي ،كما يصعب ً
إلى السكوت والكالم؛ أيهما عد ُم اآلخر ،وأيهما خير ،وأيهما شر؟
نقص َخ ْي ٍر؛ ألننا ِ ِ ِز ْد على ذلك َّ
الشرور كذلك ال َتت ََأتَّى من كونها عد ًما أو َ بعض
أن َ
أكثر من المطلوب ال عن محدود َّي ِة الخير ،كالكثير من ِ
بعضها نات ًجا عن كونها َ
نرى َ
ينحرف هذا
ُ ٍ
نقص فيها. األمراض التي يعود سب ُبها إلى ارتفا ٍع في كريات الدم ال
االعتراض ،من وجهة نظر القائلين بالعدم َّية ،عن أصل المسألة؛ ألننا في الحقيقة ال
أمر وجودي ال يتعارض مع بأن ِع َّل َة َم َر ٍ
ض ما ٌ نبحث عن ِع َّلة الشر ،بل عن ذاته ،والقول َّ
ولعل اإلشكال يقف على قدم وساق أكثر عندما يأتي كذلك أمرا عدم ًّياَّ .
القول بكونه ً
أصل ،كالحزن على سبيل المثال الذي ال يمكن القول معها بعدم َّيتِها ً ُ بشرور ال يمكن
أمرا وجود ًّيا قد قا َم َ ً ِ ِ
يكون ً مقابل للفرح ،إذ يمكن أن بمجرد وضعه َّ أمرا عدم ًّيا
عَدُّ ه ً
بالنفس أو القلب واستبدَّ بهما.
افترضنا معرفتَنا باألمور الوجودية واألمور
ْ أما اإلشكال الثاني ،فيرى أنه حتى ِ
وإن
آخر ُي ْعنَى بكيف َّية االستدالل على عدم َّية ٍ العدم َّية على وجه الدِّ َّقة ،فإننا ُ
نقع في إشكال َ
نايكلم ىفطصم 54
ٍ
الحق ٍ
برهان عقلي) ،أم عن طريق برهان سابق (قياس ٍ الشر؛ أيكون عن طريق
ّ ِّ
(استقراء)؟ ال يقو ُم ا ِّدعا ُء عدم ّية الشر غال ًبا عند القائلين به إال على الدليل الالحق
ِ
استقراء بعض بعض الشرور ليس إال .وهنا ُ
أصل اإلشكال في كون الذي ُي ْس َت ْق َر ُأ فيه ُ
كل الشرور ،إذ الالحق في القيام بتعميمها على ِّ
َّ الشرور والقول بعدم َّيتِها ال يعطينا
بلغت حاالتُه ،فإنه ال يخرج عن كونِه استقراء
ْ ٍ
بحال ،ومهما ِ
جميعها يمكن استقرا ُء
جزئ ًّيا ال يصدق على ِّ
الكل.
يخرج القائلون بعدمية الشر من هذا اإلشكال ،يحتاجون إيجاد دليل َ إنه حتى
العقلي، برهان يقوم على القياس ٍ داخل فيه عن طريق ً خارجا عن العالم ال سابق
ّ ً
مثل على َخ ْل ِق اﷲ للعا َلم على أفضل ن َْح ٍو ُم ْم ِكن ،وألنَّه مطلق العلم كأن يستدلوا ً ْ
حال ،و َأت َِّم نظام ،وبهذا قد ان عا َل ِمه على أحسن ٍ والقدرة والعطاء ،فإنه قد أقام ُبنْ َي َ
خارج عن العا َلم.
ٍ استدالل كهذا؛ َق ْب ِل ٍّي، ٍ القول بعدم َّية الشر عن طريق ُ تمرير
ُ يصح
ُّ
الشر
كانت إثار ُة مشكلة ِّ ْ البرهان ال َق ْب ِل ُّي من َخ َل ٍل ،إ ْذ
ُ ولكن ،عند التحقيق ،ال يخلو
بح ِّل هذا اإلشكال عن ُ ِ ً
القول َ تجريد اﷲ عن هذه الصفات؛ فال ينفعهم أصل من أجل
طريق ات َِّصافِه بها.
الثالث معرفتَنا باألمر العدمي على وجه التحديد والدِّ َّقة ،كما
ُ ُ
اإلشكال يفترض
ُ
وأن األمور الوجودية وحدها هي التي تحتاج إلى ِ
الشرور جميعهاَّ ، يفترض عدم َّي َة
أن يخلق العا َلم خال ًيا من هذا ً
تساؤل :ألم يكن بإمكان اﷲ ْ خالق ،ولكنهم يطرحون
ص البشرية من شرور ُخ ِّل َ العدمي؟! َّ
إن خل َّية سرطانية واحد ًة كان بإمكانها أن ت َ ِّ الشر
نموها وتكا ُث ِرها في أجساد الصالحين كما ُي َع ِّب ُر ديفيد الطاغية نيرون العدم َّي ِة ً
بدل من ِّ
هيوم.
الشر الر َّد على فحوى اإلشكال الثالث الذي يتساءل عن ِ
أصحاب عدم َّية ِّ
ُ يحاول
يوض ُحون
اإللهي وراء وجوده .إنهم ِّ ِّ العدمي في العالم ،وعن السبب ّ الشر
وجود ِّ
كأمر معدوم وبين عدم َّيتِه .إنه كما أوضحنا ِ
الخلط بي َن الشر ٍ مر ًة أخرى ضرور َة عد ِم
ِ
الكائن كالشك ِ
ْل َّ الشر على محدود َّي ِة الخير المقابل له ،تما ًما
ِّ ُّب عدم َّي ِة
ساب ًقا ت ََرت َ
بسبب محدود َّية الحجم والمساحة .ال أحدَ يقول بال وجود َّية الشر ،ال وجو َد لهذا
القول أبدً ا.
55 اهعم ِلماعَتلا ُقرطو ّرشلا ُةلِكشُم
قائما في طرح ماري أستاذ ،ما زال النقدُ الذي وجهنا ُه من قبل إلى الهندوسية ً
صح َة افترضنا َّ ْ بيكر ،إذ لم ُت َقدِّ ْم دليلً واحدً ا على صدق دعواها زيفَ العا َلم .ولو
ارتكاب الذنوب ،ولماذا يعاقبني ِ قادرا على
دعواها ،لعل مذن ًبا يقول :لماذا خلقني اﷲ ً
بأن أعيش هذا ال َفزَع؟ إنها تلقي باللوم ك ِّله على عاتق المذنب الذي خلقه اﷲ ُم ْعطِ ًيا إيا ُه
الدور في العا َلم. َ هذا
ات بالذ ِ هذا تعقيب ج ِّيد في الحقيقة .للمذنب أن يتساءل :لماذا اختارني اﷲُ أنا َّ
الج ْبر طريق الخوض في مسألة َ ِ أللعب هذا الدور؟ يمكن الر ُّد على هذا اإلشكال عن
ِ
إثبات حر َّية اإلنسان في أفعاله، تسنَّى
ُ عويصة جدًّ ا ،ولكنه إذا َ
َ واالختيار ،وهي مسألة
تمرير اعتراض كهذا ،ولكن، ٍ
عندئذ أساس من االختيار المحض ،يمكن ٍ وقيامها على
ُ
بعدئذ ــ إذا ألقينا الذنوب على ٍ إشكال آخر يربو ُم َعدَّ ًل ،إذ للمذنب أن يتساءل ً لعل
قادرا على ارتكاب المعاصي عاتق اختياره الحر ــ :لماذا خلقني ُح ًّرا من األساسً ،
إن إثبات مسؤولية اإلنسان التا َّمة عن أفعاله عن والذنوب؟! على ك ٍُّل ،كما أخبرتك قبل َّ
إن لم يكن ُم َح ًال. طريق إثبات اختياره لها أمر في غاية التعقيد ْ
اإلنسان بين أمرين ِ الوجدان ــ الذي يدور فيه ت ََر ُّد ُد َ يذهب المتقدمون إلى َّ
أن
إثبات االختيار .إن إنسانًا ُي ْع ِمل عق َله في الترجيح بين ِ أنفع األدلة في ومقارنته بينهما ــ ُ
دليل على أن ما يصدر عنه من اختياره الخالص ال ألدل ٍ
داخل وجدانه ُّ َ أمرين يتر َّد َدان
آخر فيه. لم َؤ ِّث ٍر َ
دخل ُ
يدل أمر ما بعد إعمال ذهن وت ََر ُّد ٍد ،ال ُّ إن جنوح اإلنسان نحو فعل ٍ في الحقيقةَّ ،
ساعدً ا هناِ : مثال م ِ ٍ
هات اختيار منه على اإلطالق! يضرب جون ستيورات ميل ً ُ على
يزن خمسين كيلوجرا ًما ،واجعل في األخرى وزنًا ميزانًا ،وضع في إحدى َك َّف َت ْي ِه ما ُ
مثل ،ما الذي سيحدث؟ سترتفع الك َّفة ٍ
كيلوجرامات ً أقل من ذلك بكثير ،فلنقل خمسة ّ
ونظيره هنا ليسا
َ االرتفاع
َ الثقيلة سري ًعا ،وستهوي األخرى بنفس السرعة الفائقةَّ .
إن
هات نفس الخمسين كيلوجرا ًما ،وضع عن اختيار ،ولكنهما عن جب ٍر وح ْت ٍم .واآلنِ ،
َْ َ
إن الكفتينمثل ،ما الذي سيحدث اآلن؟ َّ أمامها وزنًا ُيقاربها ،تسعة وأربعين كيلوجرا ًما ً
ِ
الهبوط نهاي ًة ،هل يستقر أحدُ هما في ال ُع ُل ِّو واآلخر في سيترد ِ
دان تر ُّد ًدا شديدً ا إلى أن
َّ َّ
أي نوع من االختيار؟! بالطبع ال.
الكثير في االستقرار َّ
ُ يعني هذا التر ُّد ُد
نايكلم ىفطصم 58
الشر
الخير على ِّ ِ القول ب َغ َل َب ِة
ُ ٍ
سؤال بدر إلى ذهني اآلن؛ هل ُي َعدُّ دعني أنتقل إلى
الخير غال ًبا أصلً .ُ في العا َلم قولً ُمعالِ ًجا لهذه المشكلة؟ هذا ْ
إن ُعدَّ
ِ
أي ب ما َت َف َّض ْل َت بِه إلى أرسطو ،ولكني في الحقيقة لم أجدْ ُه في ِّ نس ُ دائما ما ُي َ
ً
أصحاب هذا القول العوالِ َم التي يمكن أن يخلقها اﷲُ في َح ْص ٍر ُ يقس ُم
كتاب من كتبهِّ .
العالم
ُ عقلي من جهة اإلمكان من عدمه؛ فيرونها في خمسة إمكانات هي :أن يكون ٍّ
محضا ،ال وجود للخير فيه ،أو أن ً شرا للشر فيه ،أو أن يكون ًّ محضا ،ال وجو َد ِّ ً خيرا
ً
الشر ،أو أن يتساوى الشر غال ًبا فيه على ّالشر ،أو أن يكون ُّ الخير غال ًبا فيه على ِّ
ُ َ
يكون
ِ
ألحدهما َغ َل َب ٌة. وجو ُدهما؛ فال تكون
الم َج َّردات ،وعا َلم الطبيعة .يأتي العا َل ُمين اثنين :عا َلم ُ عالم الوجود إلى ِق ْس َم ِ
ينقس ُم ُ
ِ
المك ََّو ُن من اﷲ ومالئكته .أما إذا محضا ،ال وجود للشر فيه ،وهو العا َلم ُ ً خيرا
األول ً ُ
الخير
ُ يمتزج
ُ الشق الثاني من الوجود ،نجد أنفسنا أمام عا َلم انتقلنا إلى عا َلم الطبيعة؛ ّ
بأن ُ
القول َّ امتزاجا .وما دا َم عا َل ُم الوجود ُمك ََّونًا من هذين ِّ
الش َّقين ،فيمكن ً الشر
فيه مع ِّ
الوجود ككل.ِ الشر في
يغلب َُّ الخير
َ
الخير
ُ يعم أجم َعه
رأي هؤالء؛ عالم ُّلم يخلق اﷲُ إال هذين العا َلمين فحسب في ِ
شره (الطبيعة)؛ ألننا إذا انتقلنا إلى العوالم الثالثة خيره َّ
يغلب ُ
ُ (الم َج َّردات) ،وعا َلمُ
ِ
شره
يغلب ُّ
ُ الم َت َب ِّق َية ،فإننا نرى استحال َة خلقها على اﷲ ،إذ ال يمكن أن يخلق اﷲُ ً
عالما ُ
الخلق مع الحكمة ِ
الشر جمي َعه ،أو يتساوى فيه األمران؛ ل َتنَافي هذا
ُ خيره ،أو ي ُع ُّم ُّ
َ
وإن كان واق ًعا في َط ْو ِر اإلمكان. ِ ِ
اإلله َّية ،وإطالق َخ ْي ِر َّيتهْ ،
الم َج َّردات الذي هو خير مطلق ،وعا َلم الو ُجو ُد ك ُّله على عا َل َم ْي ِن إذن؛ عالم ُ
ينطوي ُ
مجموع هذين العا َلمين بنا إلى القول ب َغ َل َب ِة ُ شره ،ويؤ ِّدي
خيره َّيغلب ُُ
ِ
الطبيعة الذي
ٍ
حينئذ ِ
بإرادة الخير ،وال ُي ْست َْشك َُل علينا وصف اﷲ
ُ الخير على الوجود ك ِّله ،وبهذا يمكن
يخلق شي ًئا للخير فيه ال َغ َل َبة، ُ َّ
وألن من أقل َّأو ًل،ألن وجو َده ُّالشر في العا َلم؛ َّبوجود ِّ
الشر في ما خل َقتْه يداه ،وهذا ثان ًيا. ِ
يستحق وصفه بالخير َّية مع وجود ِّ ُّ
اإلشكال يأتي من َ إمكانات صحيح ،ولك َّنٍ ِ
خمس ِ
الوجود في حصر عوال ِم َّ
لعل
َ
طالقة تلك الخير َّية ِ الم َج َّردات؛ ما الدليل على ِ
جهة القول بالخيرية المطلقة لعالم ُ
59 اهعم ِلماعَتلا ُقرطو ّرشلا ُةلِكشُم
أيضا ،ليس على امتزاج األمر كذلك إذا انتقلنا إلى عا َلم الطبيعة ،ما الدليل ً
ُ المزعومة؟
شخصا
ً الشر فيه؟ َّ
إن ِ
الخير َّ اهدة ،ولكن ،على غلبة بالم َش َ
الخير والشر فيه؛ فهذا موجود ُ
علما دقي ًقا به في
يحيط ً َ الشر في شيء ما ،عليه أن يريدُ االنتهاء إلى غلبة الخير على ِّ
ِ ِ ِ ِ ِ
ٌ
إمكان ولو المحيط مسار وجوده ك ِّله ،من بداية كونه حتى فنائه ونها َيته؛ فهل لهذا العلم ُ
األمر بكل هذا الوجود الشاسع ٍ
لجزء ما من هذا الوجود ،حتى نقول بإمكانه إذا تع َّل َق
ُ
الم ْمتَدِّ في الزمان والمكان؟ يستحيل هذا بالطبع.
ُ
بخالص عالم المجردات من الشر ،وبامتزاج عالم ِ صحة القول
َّ افترضنا
ْ وإذا
ِ
قياس الخير أو الشر إشكال آخر يقول باستحالة ٍ وشرا ،فإننا سنتصادم مع
خيرا ًّ الطبيعة ً
الخير على الشر من جهةِِ في العالم ،إذ ال يوجد مقياس دقيق يمكنه إخبارنا بانتصار
ِّ
جهة الكم ،وحصولهم على جهة الكيف ،بل إذا افترضنا إمكان قياسه من ِ الكم أو من ِ
ّ
أصعب وأبعدُ َمن ًَال.
ُ قياسه كيف ًّيا
فإن َآلة أو طريقة ما ت َُمكِّنهم من ذلكَّ ،
إبدال الوجود بالموجود؟ لعل هذا اإلبدال يق ِّل ُل من حجم االعتراضات هل يمكن ُ
يتعر ُض لها هذا ّ
الحل. التي َّ
كثير من الموجود َم َح َّل الوجود َكك ٍُّل ُم ْخ ِر ٌج لهم من ٍ ِ َ
القول بإحالل نعمَّ ،
لعل
فعل اال ِّطالعأيضا ،إذ في اإلمكان ً ِ
داخل ّي ً ٍ
إشكال هذه االعتراضات ،لكنه ال يخلو من
شره، ِ موجود ما ،ومن َث َّم القول بأن ٍ ِ
غلب َّ الخير في موجود َّيته قد َ َ حياة الكامل على
الحال ُه َو ُه َو في ما يتع َّلق
َ القول َّ َ ٍ
بأن واحد ال ُي َخ ِّول لنا الع على موجودولك َّن هذا اال ِّط ُ
ِ
بغلبة ُ
القول وحاضرا ،و ُم ْس َت ْق َب ًل ،حتى يتسنَّى بمجمو ِع الموجودات في العا َلم ماض ًيا،
ً
جهة استقراء جميع الموجودات الخير على الشر في ك ٍُّل .إنه ال سبيل إلى ذلك إال من ِ ِ
ألن استيعاب جميع المخلوقات الكون َّية في جميع األزمان ،وليس هذا في اإلمكان؛ َّ
ُ
القول بأننا يجوز
ُ الم ْس َت ْق َر ُأ ،وإال فال
ُم َحال ،وألنه حتى يتح َّق َق االستقرا ُء يجب َتك َْر ُار ُ
قد استقرأناه ً
فعل.
ٍ
أساس هنا :لماذا ٍ
سؤال الطرف عن ِ
مثل هذه اإلشكاالت ،ولننتقل إلى َ نغض
د ْعنا ّ
إلها تتع َّلق إرادتُه عالما ال ينطوي إال على الخير فحسب؟ َّ ِ
إن ً ال يخلق اﷲ منذ البداية ً
الخير
ُ خلق عال ٍم يكون تتوجه تلك اإلراد ُة إلى ِ
والشر ،وال َّ
ُّ الخير
ُ ِ
بخلق عالم يمتزج فيه
الخير َأ ْغ َل ُ
ب ُ خلق ما فيه فعل؛ َّ
ألن َ شر ،يمكن اتِّصا ُفه بالخير ً
أي ٍّ ِ
شوائب ِّ خالصا من
ً فيه
نايكلم ىفطصم 60
ِ
بطالقة جهة اتِّصافِه
اإلشكال من ِ ُ يكون صاح ُبه َذا َخ ْي ٍر ،ولك ْن ،يأتي َ وجيها ،إذ ُي َعدُّ داف ًعا
ً
خالصا في العا َلم ،ولكنه لم يفعل. ً ِ
الخير خلقالخير ،إذ كان بإمكانه ُ
امتالك اﷲ القدر َة علىَ القول بِ َغ َل َب ِة الخير الر َّد على ما سبق؛ فيرون
ِ أصحاب
ُ ُ
يحاول
ِ
خرجت تتوجه إرادتُه نحو َم ْز ِج الخير بالشر لما ِ
خلق هذا العالم المالئك ّي ،ولكنَّه لو لم َّ
إن اﷲ كان أمام خيارين ليس إال؛ طور الوجود ،و َل َب ِق َيت في عا َلم اإلمكانَّ . الطبيع ُة إلى ِ
األول صار ًفا إياه عن َخ ْل ِق عالم الطبيعة من أجل َم َل ِئ ِك َّي ِة العا َلم ،ويأتي ُ يأتي الخيار
الخيار الثاني داف ًعا إياه نحو خلق الطبيعة التي يستحيل كونُها إال بمزج الخير والشر ُ
فيها .إن القائلين بهذا اإلشكال ال يريدون من الطبيعة أن تكون طبيع ًة ،وكأنهم يريدون
للطبيعة أن يكون لها وجود إال بالخير والشر ِ من الشيء أن يكون وال يكون ،وال يمكن
ألن وجودها َل ِزم من أجل الوجودِ وجود عال ِم الطبيعة؛ َّ ِ م ًعا .وال ُي ْست َْشك َُل بالضرورة
ٌ َ
نفسه ،إنهم ينتهون إلى القول بضرورة أجل وجود الخير ِ أصلَ ،و َحت ٌْم من ِ اإلنساني ً ِّ
الشر ولزومه من أجل ضمان استمرار الخير في العالم. ِّ
وجود الشر في العالم إلى َح ٍّل رابع أال وهو ضرورة وقوع ِ ِ
بضرورة ُ
القول يؤ ِّدي بنا
الشر القليل في العالم من أجل وجود الخير الكثير فيه؛ فال يمكن للخير الكثير أن يوجد ِّ
الشر في العا َلم ،إلغاء وجود الخير بالشر القليل ،بل يلزم عن إلغاء وجود ِّ ِّ اح ًباإال ُم َص َ
ٍ
الحق إن شاء اﷲ. القول أكثر من تقرير أقوم على توضيح ذلك في حوار ُ تب ًعا له ،ولهذا
دراسات
شكل وجود الشر في هذا العا َلم إشكالية فلسفية الهوتية بالنسبة إلى المؤمنين
والملحدين على السواء .سوف نتناول مسألة الشر من رؤية الفرد الملحد ،ونركز في
هذا الشأن على خصوص آراء (ألبير كامو) 2فيما يتعلق بمسألة (العبث).
إن حدوث الشر في هذا العا َلم يبدو أمرا بديهيا ،فليس هناك من لم يجرب
الشرور الفجيعة والمؤلمة في هذا العا َلم ،أو لم يسمع بها أو يقف شاهدا على
حدوثها في الحد األدنى .فالعا َلم مفعم بالمصاديق التاريخية للشرور .خذ مثال:
معسكر (أوشفيتز بيركينو) 3في عصر (أودولف هتلر)؛ حيث شهد تعذيب وقتل
الكثير من البشر على نحو فجيع ،لمجرد ما يحملونه من المعتقدات واألفكار.
وخذ مثال آخر من عصابات ال( ،كو كلوكس كالن) 4في تاريخ الواليات المتحدة
وحررها بالفارسية: أستاذ فلسفة الدين يف جامعة Moravian Collegeيف الواليات املتحدة .أعدها ّ .1
ْش الثاين يف ُ
األول منها ،و ُين َ ُ ْش عىل ُج ْز َأ ْي ِن ،هذا هو
اميد قائم بناه ،ترمجها للعربية :حسن مطرُ .تن َ ُ
عدد املجلة القادم.
ألبري كامو ( 1913ـ 1960م) :فيلسوف وجودي وكاتب مرسحي وروائي فرنيس مشهور ،ولد .2
بقرية موندويف من أعامل قسنطينة باجلزائر.
أوشفيتز بريكينو :معسكر اعتقال وإبادة بناه النازيون يف أثناء احلرب العاملية الثانية .اشتمل هذا .3
املعسكر عىل غرف لإلعدام بالغاز .وقد اهتم (رودولف هيس) من قبل حمكمة (نورنبريغ) بإعدام
ثالثة ماليني شخص يف هذا املعسكر.
كو كلوكس كالن ( )Ku Klux Klanوتدعى اختصارا ( .)KKKاسم يطلق عىل مجعية رسية تتألف .4
من عدد من املنظامت األخوية يف الواليات املتحدة األمريكية ،تأسست بعد احلرب األهلية لرتسيخ
سيطرة البيض عىل الزنوج ،منها القديم ومنها من ال يزال يعمل حتى اليوم .تؤمن بتفوق العرق
يقارن شرآ .د 62
األمريكية ،وهي عبارة عن جماعات متعصبة ومتطرفة كانت تتفنن في تعذيب السود
قبل قتلهم بشكل مريع .كما يمكن لنا أن نذكر مثال من التاريخ المعاصر حيث تمثل
الشر في بعض جوانبه بقصف صدام حسين لمدينة حلبجة بأسلحة الدمار الشامل،
الكارثة التي راح ضحيتها الكثير من األبرياء في حادثة يندى لها جبين اإلنسانية.
وهكذا لنأخذ مثال من انتشار األمراض واألوبئة الفتاكة في العقود المنصرمة التي
حصدت األرواح وكذلك األحداث األكثر تحديدً ا مما نسمعه في نشرات األخبار
بشكل يومي.
إن أصل وقوع الشر بحيث يهدّ د حياتنا ويزعزع هدوءنا ،األمر الذي يتطلب منا
الشر في حياتنا تخلق لنا في حد
شرح ماهية الشرور وحقيقتها .ال شك في أن تجربة ّ
ذاتها كثيرا من التشويش والفوضى ،إال أن الذي يجعلنا نواجه أزمة أكبر هو استحالة
تفسير وجود الشرور في حياتنا .فنحن ال نفهم الفلسفة من وجود الشر .وبذلك
يكون فهم وجود الشر أكثر تعقيدا علينا من وقوع الشر نفسه .لك أن تتصور والدة
لتوه السن القانونية التي تسمح له
وهي تشعر بالفرح والحبور ألن ولدها الذي بلغ ّ
تفوق في أداء
بالحصول على رخصة لقيادة السيارة ،وقد حصل عليها بالفعل بعد أن ّ
االمتحان واالختبار بجدارة ،ثم قرر أن يحتفل بهذه المناسبة؛ فخرج برفقة ثلة من
أصدقائه في رحلة إلى المناطق الجبلية في الشمال ،وفي الطريق تتعرض الحافلة
إلى االنحراف والسقوط في أسفل الوادي ،ويتم إخراج الشاب المأسوف عليه
من بين أنقاض تلك الحافلة جثة هامدة .إن من بين أهم األمور التي تقض مضجع
والدته المفجوعة به ،هو أن جميع تلك األحداث كان يمكن أن ال تحدث ببساطة،
ولكنها حدثت .فهي ال تدرك أن جملة العناصر المؤثرة في هذا العا َلم قد اجتمعت
وتظاهرت لتسرق منها فلذة كبدها .إن هذا النوع من عدم المفهومية والمعقولية التي
تتسبب بها الشرور أقسى على المفجوع من حدوث الشرور نفسها .ومن هنا كان
اعتبار مسألة الشر أمرا يقض مضجع كل إنسان عاقل ومرهف وحساس وأخالقي
في هذا العا َلم ،سواء أكان ذلك الفرد مؤمنا أو ملحدا .ومن هنا تخرج مسألة الشر
األبيض ،وتعمل عىل استخدام العنف واإلرهاب والتعذيب كاحلرق عىل الصليب الضطهاد من
تكره مثل األمريكيني األفارقة وغريهم.
63 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
عن مجرد كونها مسألة الهوتية أو كالمية ،لتغدو مسألة فلسفية تشغل اهتمام الفرد
سواء أكان مؤمنا بوجود اﷲ أو لم يكن مؤمنا بوجوده .فعلى الجميع أن يفكر في
كيفية التعاطي مع الشرور في هذا العا َلم ،ويتعلم كيفية التأقلم والتعايش معها ،كي
الشر مطروحة في األدبيات
ال يصاب باالنهيار في مواجهتها .ومن هنا نجد مسألة ِّ
الوجودية وفي أندية الفالسفة الوجوديين الملحدين ،بنفس القوة والزخم الذي
تطرح فيه هذه المسألة في أندية الحكماء والمتكلمين من المؤمنين .بغض النظر عن
االختالف في تفسير مفهوم الشر بين المؤمنين والملحدين بطبيعة الحال.
وقبل الدخول في البحث الالهوتي حول هذه المسألة وعرضها في الفضاء
التوحيدي ،أرغب في بيان وإيضاح أسباب وكيفيات مواجهة هذه المسألة والتعاطي
معها من الملحدين ،بشكل مختصر ،حيث يتحتم عليهم أن يعثروا لها على حل في
منظومتهم الفكرية والفلسفية ،هذا إذا كان هناك من طريقة حل لهذه المسألة بطبيعة
الحال.
وربما أمكن لك العثور على أحد أفضل األمثلة الفلسفية للتعاطي مع مسألة
الشر ،من زاوية غير دينية ،في مجموع مؤلفات الفيلسوف الوجودي واألديب
5
الفرنسي (ألبير كامو) .لقد بين كامو فلسفته الخاصة في كتابه (أسطورة سيزيف)
التي ترصد بمعنى من المعاني مواجهة اإلنسان لظاهرة الشرور في هذا العا َلم .وقد
عمد إلى نشر الصيغة األدبية لهذه الفلسفة في رواية له تحمل عنوان (الغريب)،
وهناك أيضا اتخذت هذه الفلسفة بنحو من األنحاء صيغة تدمج بين الفن والواقع .إن
النقطة األساسية التي يرمي إليها كامو هي أن كل إنسان يفكر يعيش حالة من الغفلة
.5أسطورة سيزيف :رواية فلسفية من 120صفحة ،ألفها (ألبري كامو) وتم نرشها سنة 1942م .تنتمي
هذه الرواية إىل مرحلة (العبث) إىل جانب رواية (الغريب) ،ومرسحيتيه( :كاليغوال) و(سوء
التفاهم) .أما رواية أسطورة سيزيف فهي ترصد البحث غري املجدي لإلنسان عن معنى وحدة
ووضوح يف وجه عامل ال حيتوي عىل حقائق وقيم أزلية ،حيث يتساءل قائال :هل حتقيق العبثية
يستوجب االنتحار؟ جييب كامو بالقول :كال ،إن ذلك باألحرى يستوجب التمرد .ويف الفصل
األخري يشبه كامو عبثية حياة اإلنسان بوضع سيزيف ،وهي شخصية من امليثولوجيا اإلغريقية قدرها
أن حتمل صخرة إىل أعىل قمة جبل ،وما أن تفعل ذلك تتدحرج الصخرة إىل األسفل ،فيعود سيزيف
من جديد ليصعد هبا إىل أعىل اجلبل ،وهكذا دواليك إىل ما ال هناية .وخيتم (كامو) روايتَه بقوله:
(املثابرة يف حد ذاهتا كافية لتمأل قلب اإلنسان ،وعىل املرء أن يتصور سيزيف سعيدا) .املرتجم.
يقارن شرآ .د 64
في حياتنا المعتادة .فالنهار يعقبه الليل ونحن نكدح في العمل لنعود إلى مهاجعنا
منهكين ،ولنا بعض أنواع التسلية ،ونعيش لحظات من المتعة أحيانا ،وتعرض علينا
بعض الحاالت المعتادة من الحزن والنكد وما إلى ذلك .ولكن هناك لحظات في
الحياة تشهد أحداثا تدفعنا فجأة إلى التريث والتدبر؛ لنجد أنفسنا قد أفقنا من نوم
عميق ،فنبدأ من حينها إلى التأمل في ما يجري حولنا في هذا العا َلم .وبذلك نحصل
على نوع من الوعي واإلدراك من الدرجة الثانية .ومن بين تلك األمور التي تؤدي إلى
هذا الوعي ،وتجعل هذا الوعي منشغال بنفسه على نحو عميق ،مواجهة ظواهر في
هذا العا َلم خارجة عن حدود وعينا وفهمنا .فهي تطلب منا تفسيرا ،لكننا نجد أنفسنا
أعجز من أن نقدر على تفسيرها .وعلى حد تعبير كامو :إننا نعود إلى رشدنا في هذا
العا َلم فجأة؛ لندرك أن في العا َلم الماثل أمامنا شيئا ال يمكن لفهمنا أن يستوعبه.
إن من أهم ما يميزنا نحن البشر هو امتالكنا للعقل ،ويبدو أن الشيء المعقول يتحد
فينا حتى يكون جزءا منا ،ولكن حيث تجد نفسك فجأة أمام عالم يحتوي في الحد
األدنى على أمور ال يمكن لفهمك أن يستوعبها ،يحدث بينك وبين العا َلم الماثل
وهوة سحيقة ال سبيل إلى اجتيازها .وأنت بحكم كونك صاحب
أمامك شرخ واسع ّ
وعي تواجه شيئا ال يسلم القياد للمعقولية ،ويفتقر إلى الوعي ،واألهم من ذلك أنه ال
يدرك بالعقل .يذهب كامو إلى االعتقاد بأنك في مواجهة هذا المأزق ،حيث يواجه
وجودك المعقول شيئا ال يعقل ،تعيش تجربة يطلق عليها مصطلح العبث والتفاهة
( .)Absurdوهنا تبدأ فجأة بالسؤال عن معنى الحياة ،وتقول :ما الذي تعنيه الحياة
في هذا العا َلم الغريب أصال؟ ولماذا أتيت إلى هذا الوجود أساسا؟ وحيث ال
تستطيع تكوين إدراك صحيح عن ذاتك ،وعن واقعك ،وعن العا َلم الذي تعيش فيه،
تحول حياتك برمتها ووجودك وبقاءك فيها إلى سؤال واستفهام .من هنا يرى كامو
إن أول وأهم سؤال للفلسفة يكمن في سؤال االنتحار .فما الذي يدعو إلى عدم
االنتحار ،وما السبب الذي يمنعنا من االستسالم لمغريات الموت؟! وبعبارة أخرى:
ما هو السبب الذي يدعونا إلى مواصلة الحياة ،وما سر الحياة الذي يقنعنا بالبقاء
واالستمرار في الحياة؟ والسؤال هنا هو سؤال عن معنى الحياة .ومن أهم المسائل
التي ترمي بهذا المأزق والشرخ بيننا وبين العا َلم ،هي مشكلة الشر .الشيخوخة والوباء
65 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
وفقدان األحبة .هناك شيء يكمن في هذه الظواهر ويجعلها متفلتة من دائرة فهمنا.
واسمحوا لي هنا أن أقرأ عليكم فقرات من كتاب كامو التي يصور فيها كيف تقذف
الهوة السحيقة بالفرد في أزمة العبثية وانعدام المعنى وتجعله وجها لوجه أمام
هذه ّ
تفاهة الحياة! يقول كامو في بداية كتابه (أسطورة سيزيف)( :االنتحار هو االعتراف
بأن الحياة كثيرة عليك ،أو بأنك ال تفهمها) .وهكذا فإن الذي يريد كامو قوله هو
أنك عندما تواجه استعصاء ظواهر هذا العا َلم على الفهم ،ومنها مثال الشر في هذا
العا َلم ،وعندما يعجز ذهنك عن إدراك هذه الظواهر ،ويظهر أمامك فجأة عنصر غير
معقول ،يستولي عليك شعور باالنفصام واالغتراب عن العا َلم الخارجي ،وفي ظل
هذه الظروف تنظر إلى الحياة بوصفها عبئا ثقيال ،ولن تعود لك القدرة على حملها
الثقيل .وهنا يقول كامو( :وبذلك يفرض سؤال االنتحار نفسه تلقائيا) .فالذي يقدم
على االنتحار يعترف بأنه قد عجز عن فهم الحياة .وقال كامو في موضع آخر من
بداية هذه المقالة( :إن العا َلم الذي يمكن تفسيره ،حتى ولو كان تفسيرا ساذجا،
هو عالم مألوف) .وهذا يعني أن القدرة على الفهم تجعل من العا َلم المغترب عنك
مألوفا لديك؛ ألن ماهيتك تكمن في فهم األمور وعقلنتها .ثم يستطرد كامو قائال:
(لكن من الناحية األخرى ،نجد اإلنسان يحس بالغربة في كونه يتجرد فجأة من
األوهام والضوضاء ،ونفيه هذا هو بال عالج ،ما دام قد حرم من ذكريات وطن
مضيع ،أو من أمل أرض موعودة) .إن هذا الشرخ القائم بين اإلنسان والحياة وبين
الممثل وخشبة المسرح هو الشعور نفسه بتفاهة وعبثية الحياة .هناك ظواهر روتينية
رتيبة في حياتنا اليومية :حيث نستيقظ في الصباح ،ونتناول إفطارنا ،ثم نتوجه إلى
أعمالنا ،وننهمك في العمل لعدة ساعات ،ثم نستريح ،لنستأنف العمل من جديد،
ثم نعود إلى البيت ،نتناول وجبة العشاء ،نتابع التلفاز ،وندردش مع األسر ،ثم نخلد
إلى النوم .وهكذا سيتكرر المشهد في الغد ،وبعد الغد .وبذلك تكون حياتنا إلى
حد كبير شبيهة بحياة (سيزيف) المذكور في الميثولوجيا اإلغريقية ،الذي حلت
به نقمة اآللهة وحكمت عليه بأن يحمل صخرة من أسفل الوادي والتسلق بها إلى
قمة الجبل ،ولكنه ما أن يبلغ بها القمة حتى تتدحرج لتسقط ثانية في قعر الوادي،
فيتعين عليه حملها إلى القمة ثانية ،ويستمر على هذا الحال طوال حياته .إن الذي
يقارن شرآ .د 66
يمثل العقوبة الواقعية في هذا المثال ال يكمن في حمل الصخرة إلى قمة الجبل؛ إذ لو
كان هناك من هدف وراء هذه العملية؛ ألمكن لسيزيف أن يتقبل األمر برحابة صدر.
بل العقوبة الحقيقية تكمن في عبثية وعدم وجود هدف لهذه العملية .لو افترضنا أن
الغاية من تلك العملية هي بناء قصر منيف في أعلى قمة الجبل ،لوجد سيزيف في ذلك
عزاء بأنه سيترك أثرا عنه لألجيال القادمة ،األمر الذي يجعل المسألة بالنسبة له تستحق
العناء .ولكن حيث ال وجود لمثل هذه الغاية يتحول هذا العناء إلى عذاب قاتل .إن
الذي يريد كامو قوله هو إن كل يوم من حياتنا العادية يمثل شرا وتكرارا عديم المعنى إذ
ال ينتهي إلى شيء .وإن هذا الشعور باإلنهاك ،الذي يتجلى في نهاية الحياة الميكانيكية
الخالية من التأمل ،يمكنه بطبيعة الحال أن يشكل بداية لنوع من الوعي ،حيث يقدم
كامو محاولة الحل التي يرتئيها .قد تفكر في نهاية المطاف باالنتحار في خضم هذه
المخاطر والحجم الهائل من الشر الذي يثقل كاهلك ،متصورا أن الحياة ال معنى لها،
وأن كفة الموت ترجح على كفة الحياة .يسعى كامو في فلسفته إلى العثور على معنى
للحياة من دون التخبط في مأزق الوهم .وهو يرى أن الحلول الدينية وهمية وموهمة.
وعليه فإن نقطة اشتراك كامو مع الرؤية الدينية هي أن شرور العا َلم ال يمكن تحملها إال
من خالل تصور معنى لها ،وعليه ال بد من العمل على توفير معنى لهذه الشرور (حتى
لو كان هذا المعنى مستخرجا من صلب الالمعنى) .بيد أن اختالف كامو عن اإلجابات
الدينية يكمن في أنه يذهب إلى االعتقاد بأنها تقوم على نوع من الوهم ،بمعنى أن هذه
الحلول تسعى إلى القفز على ماهية هذا المأزق الماثل بيننا وبين العا َلم المغترب من
خالل وهم بث الحياة في العا َلم المحيط بنا والقول بوجود إله واحد يعمل على إدارة
جميع مظاهر الحياة .أما كامو فيعتقد أن اإلجابة األصيلة يجب أال تقترن بهذه األوهام،
وأن على الفرد أن يعترف بهذا الوضع التراجيدي القائم في وجود اإلنسان في هذا
العا َلم ،إن كان هناك من حل يجب بيانه وتقديمه .وعليه فإنك ترى أن مسألة الشر تمثل
بالنسبة إلى الفرد الملحد مسألة في غاية األهمية وتطلب منه أن يجيب عنها .كان لدى
كامو إجابة خاصة ،حيث كان لآلخرين (من الفالسفة الملحدين) إجابات أخرى عن
مسألة الشر.
بيد أنه ومن ناحية أخرى يسعى الفهم والتفكير الديني إلى اإلجابة عن هذه
67 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
التساؤالت بطريقته الخاصة .إن الحل الذي يقترحه المتدين ،عالوة على أنه يبين ماهية
الدين وفهمه ﷲ إلى حد كبير ،يمكنه التخفيف من األزمة الناشئة عن تجربة الشر في هذا
العا َلم بالنسبة إلى المبتلى والمكلوم وتضميد شيء من جراحه .إن إجابة الدين هي أن
العا َلم ليس غريبا عنا كما نتصور .هناك معتقدان رئيسان في األديان ،ال سيما األديان
التوحيدية منها ،يميالن بمعنى من المعاني إلى معالجة الحياة التراجيدية للبشر في هذا
العا َلم .أعيد التأكيد هنا على أن التراجيديا التي نعاني منها في هذا العا َلم ال تكمن في
الشر نفسه ،بل إن الذي يجعل من الشر أمرا ال يطاق هو العجز عن فهمه وتفسيره،
فهذا هو الذي يجعل الشرور في العا َلم مسألة تراجيدية .إن من بين المعتقدات التي
يقترحها المتدين هو اإليمان باﷲ .وهو اإلله الذي يتصف بأنه عالم مطلق ،وقادر مطلق،
وخير محض .وهو الذي قام بتصميم جميع أجزاء هذا المسرح ،ووضع كل شيء من
عناصره في موضعها .وكأن اﷲ قد أعد سيناريو الكون ،وكل ظاهرة تحدث في هذا
الكون تمثل جانبا وقطعة من هذا السيناريو ،وإن الجميع يمارس دوره في تحقيق غاية
أهم وأسمى .إن القول بوجود رواية شاملة في هذا العا َلم وأننا بأجمعنا أجزاء فيها ،وأن
هذه القافلة بأسرها تتجه إلى غاية واحدة ،هو من بين الطرق التي تميل األديان إليها في
إطار اإلجابة عن تراجيدية الشر في هذا العا َلم .وعليه فلو أن والدة فقدت ابنها فسوف
ال يكون بإمكانها التعويض عن األلم الذي يخلفه فقدان الولد بطبيعة الحال أبدا ،وهذا
األلم سيبقى يالحقها ويطحن فؤادها المكلوم طحن الرحى .وأما إذا كانت هذه المرأة
إلها شاهدً ا في هذا العا َلم ،واألهم
تؤمن بوجود مخطط عام في هذا العا َلم ،وأن هناك ً
من ذلك أن هناك حياة بعد الموت ،فإنها سوف تتحمل وقوع هذه الحادثة التي أدت إلى
موت ولدها الوحيد بشكل أسهل .إذ ترى ضرورة أن تكون هناك حكمة وأن ابنها لم
يطله الفناء ،وأنه انتقل من وجود إلى وجود آخر .وال شأن لك في صحة أو عدم صحة
هذه النظريات .فربما كان هناك شخص على شاكلة سيغموند فرويد يرى أن ذلك ليس
سوى وهم وخيال .بيد أن فرويد نفسه يرى حتى هذا الوهم ،في حد ذاته ،يؤدي دورا
مهما في تسكين اآلالم واألوجاع المستعصية التي تقض مضجع اإلنسان .إال أنه كان
يرى أن هذه األوجاع واآلالم يجب تسكينها بطريقة أخرى أكثر واقعية من هذه األوهام.
ولست هنا بصدد البحث حول صحة أو سقم هذه المعتقدات ،بل أتحدث بشأن دورها
يقارن شرآ .د 68
وتأثيرها .وعليه فإن التصور القائل بوجود إله حكيم وضع هذا العا َلم على وفق خطة
تقضي بأن حياتنا ال تقف عند هذه الدنيا فقط ،بل سوف تتواصل الحياة إلى ما بعد هذه
الدنيا ،يمثل الجواب الذي تقدمه المعتقدات الدينية لتفسير ظاهرة الشر في هذا العا َلم.
علم الكالم على تفسير الشر أو جعله قابال للفهم في الحد
من األدلة التي قدمها ُ
األدنى ،هو الدليل المتمثل بوجود حياة بعد الموت .ولكن مسألة الشر ،بغض النظر
عن الناحية النفسية ،له أبعاد إلهية ،بمعنى أن الدين وإن كان على حد تعبير فرويد يعمل
على تسكين أوجاع اإلنسان ،إال أن أصل وقوع الشر،كما يشير الكثير من الحكماء،
يشكل تحديا لهذا النظام اإللهي الذي تدعو إليه األديان التوحيدية.
النوعين من أنواع الشرور ،وإذا كان بإمكان وجود الشر أن يحدث خلال في المعتقدات
اإللهية للفرد ،لن يكون هناك فرق بين أن يكون هذا الشر طبيعيا أم أخالقيا.
األمر الثاني :صفات اهلل
النقطة الثانية في مسألة الشر ،هي الصورة المفترضة ﷲ في هذه الدنيا ،فإن الملحدين
ال يؤمنون بوجود اﷲ ،بيد أنهم في برهان الشر يفترضون الصورة المرسومة ﷲ من
المؤمنين ،وهي الصورة التي يطلق عليها الملحدون مصطلح (اإللهيات التقليدية).
وهي الصورة التي تشترك فيها األديان التوحيدية جميعها (اإلسالم والمسيحية
واليهودية) .وطبقا لهذه الصورة يتصف اﷲ بثالث صفات رئيسة ،هي:
،1القادر المطلق :إن هذا اإلله يتصف بأنه قادر مطلق .إن قدرة اﷲ المطلقة ال تعني
أنه يقوم بكل شيء ،بل تعني أنه قادر على فعل كل شيء يمكن فعله من الناحية المنطقية.
من قبيل رسم المربع على شكل دائرة ،فهذا األمر محال من الناحية المنطقية ،ولذلك
ال يمكن فعله؛ فإن قدرة اﷲ المطلقة محدودة بحدود اإلمكان المنطقي.
،2العا َلم المطلق :إن اﷲ عالم مطلق ،بمعنى أنه يعلم بجميع القضايا الصادقة في
هذا العا َلم .وإن كل شيء يقع في هذا العا َلم داخل في نطاق علمه .وهذا التعريف
بدوره يحتوي ،بطبيعة الحال ،على بعض اإلشكاالت ،ولذلك ال بد من إضافة بعض
القيود عليه ،ولكننا نفترض اآلن أنه تعريف مقبول.
،3الخير المحض :إن اﷲ يتصف بأنه خير محض .بمعنى هو خير في حد ذاته ،وأنه
خيرا وأنه
يريد الخير لآلخرين ،بما في ذلك اإلنسان ،أيضا .وهو ال يقتصر على كونه ً
يريد الخير لآلخرين فقط ،بل هو خير مطلق ،بمعنى أنه على أعلى مستويات الرحمانية
والرحيمية تجاه مخلوقاته وعباده.
قد علم بمحنة ذلك الطفل ،ومن ناحية أخرى يتصف هذا اإلله بالقدرة المطلقة ،بمعنى
أنه كان قادرا على إنقاذ حياة ذلك الطفل ،فإذا كان إلى جانب ذلك متصفا بحب الخير،
فإننا نتوقع منه أن يسارع إلى إنقاذ الطفل .النتيجة التي نراها هي أن هذا الطفل والكثير
من أمثاله من الذين كان باإلمكان إنقاذ حياتهم بكل بساطة بحسب الظاهر ،ومع ذلك
تركوا لكي يواجهوا مصيرهم المحتوم بشكل مروع .فإن اﷲ على الرغم من علمه بهذه
األحداث والشرور ،و على الرغم من قدرته على منعها ،إال أنه لم يقدم على أي شيء
حيالها .فإذا كان الشخص الذي يتصف بالعلم والقدرة ومع ذلك ال يقوم بعمل إلنقاذ
الطفل ،يحكم عليه بوجود خلل واضح في وجدانه وضميره األخالقي ،لماذا ال يمكن
الحكم على اﷲ ،المتصف بالعلم والقدرة وحب الخير المطلق بهذا الحكم أيضا ،لماذا
ال يمكن القول بأن هذا اإلله غير محب للخير؟ ومن ناحية أخرى فإنكم إذا قبلتم بهذا
الحكم ،فإن هذا اإلله ،طبقا لتعريفكم له وقولكم إنه يجب أن يتصف بالخير المطلق،
فلن يكون إلها ،ولن يكون باإلمكان أن نطلق عنوان األلوهية عليه .هذه هي صورة
مسألة الشر ،وعليه يمكن القول باختصار:
المقدمة األولى :إذا كان اﷲ قادرا مطلقا ،فإنه في مثل هذه الحالة يستطيع القيام بكل
فعل ممكن من الناحية المنطقية.
المقدمة الثانية :إذا كان اﷲ عالما مطلقا ،فإنه يعلم بجميع القضايا الصادقة ،وإنه
مطلع على كل ما وقع ويقع من األحداث في الماضي والحاضر والمستقبل.
المقدمة الثالثة :إذا كان اﷲ خيرا ومحبا للخير المحض ،وعلم بحدوث شر ،وكان
بإمكانه أن يحول دون حدوثه فإنه ،بمقتضى خيريته ،سيحول دون حدوثه.
بهذه المقدمات يجب أال يكون هناك أي شر في الدنيا .بيد أن الحقيقة هي أن
المؤمنين والملحدين يعتقدون بوجود الكثير من الشرور في هذا العا َلم ،وأنه كان
باإلمكان الحيلولة دون وقوعها بكل بساطة ،خاصة بالنسبة إلى اﷲ القادر المطلق،
لكن هذه الشرور موجودة .وعليه يجب القول :إما أن اﷲ غير عالم بوجود هذه الشرور،
وهذا يعني أنه ليس عالما مطلقا ،أو أنه كان يعلم بها ،ولكنه ال يستطيع الحيلولة دونها،
وهذا يعني أنه ليس قادرا مطلقا ،أو أنه كان يعلم ويستطيع أن يحول دون وقوع الشر،
ومع ذلك لم يمنع ،وهذا يعني أنه ليس محبا للخير مطلقا .وعلى كل حال فإن القضية
يقارن شرآ .د 74
القائلة بوجود اإلله العالِم والقادر والمحب للخير ال ينسجم من الناحية المنطقية مع
قضية وجود الشرور في هذا العا َلم .فإذا كانت إحدى هاتين القضيتين صادقة ،وجب أن
تكون القضية األخرى كاذبة ،وحيث ال شك في صدق وجود الشرور في هذا العا َلم ،ال
مندوحة لنا من القول بعدم وجود اﷲ في هذا العا َلم.
في هذا االستدالل ال يمكن الشك في المقدمتين األوليين (العلم المطلق والقدرة
المطلقة) ،فهما صحيحتان طبقا للتعريف ويجب افتراضهما على أساس الهوت
األديان التوحيدية .ويبدو أن المؤمنين ال يريدون التشكيك في صحة هاتين المقدمتين.
ولكن ما الشأن في المقدمة الثالثة من هذا البرهان؟ إن المقدمة الثالثة تقول :إذا كان
اﷲ خيرا ومحبا للخير فإنه كلما علم بوقوع الشر وأمكن له المنع منه ،فإنه سيمنعه .إن
هذه القضية تقوم على أصل أخالقي عام يقول :إن الفاعل األخالقي الصالح والشريف
كلما واجه شرا وأمكنه أن يحول دون وقوعه ،فإنه سوف يحول دون وقوعه .إن هذا
من أهم عالمات اتصاف الفاعل األخالقي بالخير والصالح وحب الخير لآلخرين.
والسؤال هنا :هل هذه المقدمة صحيحة؟ هذه المقدمة بهذا الشكل غير صحيحة ،بل
هناك أدلة يمكن من خاللها أن نعتبر هذه المقدمة كاذبة وليست غير صحيحة فحسب.
إن الصدق الضروري هو الصدق الذي ال يشذ على أي حال ،من قبيل معادلة :اثنين
زائد اثنين يساوي أربعة ،فهل المقدمة الثالثة من هذا القبيل؟ طبقا لألدلة الفلسفية إذا
كان المفترض أن تكون نتيجة هذه القضايا والمقدمات عدم وجود اﷲ فال بد أن تكون
المقدمة الثالثة ضرورية الصدق .ال شك وال بحث في صحة المقدمة األولى (اﷲ عالم
مطلق) ،والثانية (اﷲ قادر مطلق) ،وكذلك الرابعة (الشر موجود) صحيحة أيضا .بل
كل البحث في صدق المقدمة الثالثة .ونحن نقول :إن المقدمة الثالثة كاذبة .لنفترض
أن األم تعمد لسبب ما إلى معاقبة ولدها،كأن يكون قد ارتكب فعال قبيحا .إن عقوبة
األم لولدها يترتب عليها نوع من الوجع واأللم ،وعليه فإن هذه العقوبة تنطوي على
نوع من الشر ،واألم تعلم أن عقوبتها تحمل شيئا من األذى الروحي والنفسي على
ابنها ،وهي تستطيع أن تجنبه هذا األلم وتمتنع عن معاقبته ،ولكنها ال تفعل ذلك على
الرغم من علمها وقدرتها عليه .وعليه هل يمكن وصف األم في ظل هذه الحالة بأنها
غير صالحة وال تحب الخير لولدها؟ يبدو أن الجواب واضح ،وهو أنه ال يمكن وصف
75 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
األم بمثل هذه الصفات .ولكن لماذا؟ إن السبب في ذلك هو أننا نعلم أن األم تمتلك
دليال أخالقيا وجيها يبيح لها أن تعاقب ولدها وتذيقه بعض الشر ،فهي تقول :إنني إذ
أعاقب ولدي في هذه اللحظة سيحصل على المصلحة الكامنة في هذه العقوبة على
المدى البعيد ،وإن هذه المصلحة من األهمية بحيث تبرر فرض هذه العقوبة عليه .من
هنا فإن هذا األصل القائل بأن الشخص إذا كان خيرا ومحبا للخير إذا علم واستطاع
الحيلولة دون وقوع الشر يجب عليه أن يحول دونه ،ليس صحيحا ،بل يجب القول:
إال إذا كان هناك من سبب أخالقي وجيه يقوم على الخالف.
وعليه إذا أريد لبرهان الشر أن يكون منتجا يجب أن نضيف إليه مقدمة أخرى ،وهي
المقدمة القائلة( :إن اﷲ ليس لديه أي سبب أخالقي يبرر له عدم الحيلولة دون وقوع
الشر) .بيان ذلك أن األم يمكنها القول :لو كان بمقدوري إيصال ذلك الخير األسمى،
الذي هو عبارة عن تهذيب شخصية الطفل وصقلها ،من طريق غير فرض العقوبة على
الطفل لفعلت ،ولكني ال أمتلك تلك القدرة ،وليس أمامي من وسيلة لتربية ولدي غير
العقوبة .وبذلك تكون األم هنا معذورة؛ ألن علمها المحدود ،وقدرتها المحدودة،
تجعل من العقوبة هي الطريق الوحيد أمامها للوصول إلى تربية الولد .لكن هل يمكن
قول الشيء نفسه بخصوص اﷲ أيضا؟ هل يمكن ﷲ أن يقول :ليس أمامي من طريقة
للوصول إلى تهذيب العبد غير تعذيبه؟ أو أني ال أستطيع القيام بعمل آخر؟ الجواب:
كال .فإن بإمكانه القيام بأمر آخر؛ ألن إصالح هذا الولد ليس مستحيال من الناحية
المنطقية ،وعليه يمكن ﷲ بوصفه قادرا مطلقا أن يصل إلى هذا األمر من دون اللجوء
إلى توظيف الشر .فإذا كان لدى األم من عذر وجيه لعجزها وجهلها ،ال يمكن ﷲ أن
يتمسك بهذا العذر الذي تتمسك به األم؛ ألنه بخالفها يعلم ويستطيع أن يحول دون
وقوع الشر ومع ذلك ال يحول دون وقوعه .وعليه إذا أراد الملحد أن يصوغ برهان الشر
بشكل أدق ،عليه أن يصوغه على النحو اآلتي :إذا كان اﷲ عالما مطلقا ،فإنه سيكون
على علم بجميع القضايا الصادقة ،وإذا كان قادرا مطلقا ،فسوف يمكنه القيام بكل
عمل ممكن من الناحية المنطقية ،وإذا كان اﷲ خيرا محضا ،فإن هذا اإلله حيث يعلم
ويستطيع أن يحول دون وقوع الشر ،فإنه سيحول دون وقوعه .وعليه فإن المقدمة
التكميلية هي :إن اﷲ ال يمتلك أي سبب أخالقي وجيه وال يمكن له أن يمتلك مثل هذا
يقارن شرآ .د 76
السبب الذي يبيح له السماح بحدوث مثل هذه الشرور في العا َلم .فيما يتعلق بنا نحن
البشر ،حيث نعاني من نقص العلم أو نقص في القدرة واالستطاعة ،نمتلك سببا وجيها
للقيام ببعض الشرور في هذا العا َلم ،إال أن هذا ال يمكن تعميمه على اﷲ؛ ألنه ال يمتلك
أي سبب وجيه للسماح بوقوع الشرور في هذا العا َلم ،وعليه حيث يعلم بوقوع الشر
ويمكنه الحيلولة دون وقوع الشر (إذ هو موجود في كل مكان ،بحسب التعريف ،وهو
عالم بكل شيء ،ويستطيع القيام بكل فعل غير مستحيل من الناحية المنطقية) ،عليه أن
يمنع من وقوع الشر .وحيث تقع الشرور في هذا العا َلم ،فإن اﷲ في مثل هذه الحالة ال
يخلو أمره ،فإما أن ال يكون عالما مطلقا ،أو ال يكون قادرا مطلقا ،أو ال يتصف بحب
الخير لآلخرين .ومن هنا يدعي الملحدون أن وجود اﷲ بوصفه عالما مطلقا وقادرا
مطلقا وخيرا محضا ،ال ينسجم مع وجود الشرور في هذا العا َلم ،وال يمكن الجمع
بين هاتين القضيتين ،وحيث أن وجود الشرور في هذا العا َلم ثابت بالبداهة ،ال يبقى
أمام اإلنسان المنطقي والعاقل غير التشكيك في وجود اﷲ ،ويذهب إلى االعتقاد بأن
القضية القائلة (إن اﷲ موجود) ،بالوصف الذي تخلعه األديان التوحيدية على هذه
القضية ،كاذبة.
هذين السببين المانعين (أي أنه يعلم أن هذا الشر إما أن يؤدي إلى خير أعظم منه ،أو
يحول دون حدوث شر أكبر منه) .لنفترض مثال أن شخصا يخطف طفال ثم يحبسه في
سرداب بعيد ويعذبه إلى حد الموت .إن هذه الحادثة من تلك الشرور التي يصعب
على شخص أن يتصور وجود أسباب أخالقية تبررها .ولكن اسمحوا لنا أن نفترض في
عالم الخيال أن هذه الحادثة تعمل الحقا على تحفيز والد هذا الطفل وتشجعه على بناء
مؤسسة خيرية لتوفير الحماية لألطفال للحيلولة دون تعرضهم لنفس ما تعرض له نجله
الصغير ،وبذلك سوف يتم إنقاذ مئات األطفال من األذى والموت ،ولنفترض أن هذا
الخير من العظمة بحيث يبرر حدوث هذا الشر القليل ،أنا لست مطمئنا إلى كون األمر
على هذه الشاكلة ،بل أذكر ذلك على سبيل االفتراض.
يمكن قول هذا الكالم في فضائنا البشري ،حيث أننا لم نكن في موقع الحادثة
كي نحول دون وقوعها ،وإن إمكاناتنا أقل من أن يكون بإمكانها الحيلولة دون وقوع
األحداث المماثلة في المستقبل .إن موت هذا الطفل في الحقيقة يحدث صدمة تؤدي
بدورها إلى خلق وعي اجتماعي ،ونتيجة لذلك يتم التأسيس لمنظمات تعنى بالحفاظ
على حياة األطفال وحماية حقوقهم ،وبذلك يؤدي حدوث هذا الشر إلى الحيلولة
دون وقوع شرور أعظم في المستقبل ،حيث يتم إنقاذ أرواح مئات األطفال اآلخرين.
قد يمكن لنا أن نطرح مثل هذا االستدالل ويكون مقبوال بالنسبة لنا .إال أن مثل هذا
االستدالل ال يمكن أن يكون مناسبا ﷲ؛ إذ بإمكان اﷲ أن يحقق هذا الخير األعظم أو
يدفع هذا الشر األعظم بألف سبيل وسبيل ،من دون أن يكون تعريض الطفل للموت
واألذى من بين تلك السبل.
لو قبلنا بهذا التحليل فإن األسباب األخالقية المبررة ألعمالنا ،ال تكون أسبابا مبررة
ألعمال اﷲ .وعليه ما هو الحل في مثل هذه الحالة؟ لو كانت العالقة بين هذا الشر
وذلك الخير األعظم من نوع خاص مثال ،ربما اختلف األمر .فلو فرضنا أن وقوع هذا
الشر كان شرطا الزما ومنطقيا لحدوث ذلك الخير األعظم ،لما كان بإمكانك إحداث
ذلك الخير األعظم إال من خالل هذا الشر القليل .فإذا كان األمر على هذه الشاكلة لم
يكن ألحد ،حتى اﷲ ،أن يحقق هذا الخير األعظم إال من خالل ذلك الشر ،بمعنى يجب
علينا قبل كل شيء أن نحدد نوع العالقة القائمة بين هذا الشر وذلك الخير األعظم.
يقارن شرآ .د 78
ففي جميع األمثلة التي ذكرتها كان ذلك الشر يحدث على نحو الصدفة ليشكل مقدمة
لتحقيق خير أعظم .بيد أن العالقة القائمة بين هذا الشر وذلك الخير األعظم لم تكن
من نوع العالقة واالرتباط الضروري .بمعنى أن بإمكانك أن تفترض شرائط تؤدي إلى
تحقق ذلك الخير األعظم دون الحاجة إلى حدوث هذا الشر القليل .ففي هذه الصورة
لو أمكن تحقيق ذلك الخير األعظم من دون هذا الشر ،لوجب علينا تحقيق ذلك الخير
األعظم .وأما إذا افترضنا وجود شر يعتبر شرطا الزما وضروريا لتحقق الخير األعظم،
ففي هذه الحالة ال يمكن تحقيق ذلك الخير األعظم ،من الناحية المنطقية ،إال من خالل
ذلك الشر .وفي هذه الصورة ال يمكن ألي أحد ،حتى اﷲ ،أن يحقق ذلك الخير األعظم
إال من خالل هذا الشر .فإذا كانت العالقة القائمة بين بعض الشرور والخيرات من هذا
النوع ،أي عالقة الضرورة ،ففي هذه الحالة يمكن أن يكون لدى اﷲ أسباب أخالقية
وجيهة لتبرير حدوث تلك الشرور .بمعنى أن الشرور التي تمثل شرطا لتحقق الخيرات
العظيمة ،إذا كانت تلك الخيرات من العظمة والقيمة بحيث تعوض عن تلك الشرور،
يمكن لذلك أن يشكل سببا أخالقيا وجيها لتبرير سلوك الفاعل الصالح والمحب للخير.
ويمكن أن يكون اﷲ هو هذا الفاعل والمحب للخير .وال بأس بذكر مثال للموارد التي
يكون فيها الشر شرطا الزما وضروريا لحدوث الخير األعظم .وقبل توضيح هذه
النقطة من األفضل أن نمر بمسألة منطقية بسيطة .هناك في المنطق مجموعة من القضايا
التي يطلق عليها مصطلح القضايا التركيبية المعطوفة .وهي عبارة عن قضيتين بسيطتين
تم الربط بينهما بحرف العطف (الواو) .من قبيل القضية التركيبية القائلة( :إن غابريل
ماركيز مؤلف رواية مائة عام من العزلة ،وإن يوسف زيدان مؤلف رواية عزازيل) ،ففي
هذه العبارة هناك تركيب عطفي مؤلف من جملتين وقضيتين بسيطتين .القضية األولى
عبارة عن( :إن غابريل ماركيز مؤلف رواية مئة عام من العزلة) ،والقضية الثانية عبارة
عن( :إن يوسف زيدان مؤلف رواية عزازيل) ،وقد عمدنا إلى ربط كلتا هاتين القضيتين
بوضع حرف العطف بينهما ،لنحصل على قضية تركيبة منهما .وعليه نقول :إن قيمة
صدق القضايا التركيبية تابع لصدق أجزائها .وفي القضية التركيبية التي ذكرتها لكم
كنت صادقا ،ألن القضية األولى كانت صادقة ،وكذلك القضية الثانية كانت صادقة
أيضا .وعندما تكون كلتا القضيتين صادقة ،تكون القضية التركيبية صادقة أيضا .وأما
79 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
إذا قلت لكم( :إن غابريل ماركيز مؤلف رواية مئة عام من العزلة ،وإن نجيب محفوظ
مؤلف رواية عزازيل) ،ستكون هذه القضية التركيبية كاذبة ،ألن أحد جزئيها كاذب،
وإن كذب بعض أجزاء القضية التركيبية يعني كذب القضية التركيبية برمتها .وعليه فإن
قيمة صدق القضية التركيبية تابع لصدق أجزائها ،وإن صدق األجزاء المؤلفة لها يمثل
شرطا ضروريا ومنطقيا لصدق مجموع القضية التركيبية .وعليه لنأخذ هذه المسألة
المنطقية المبسطة بنظر االعتبار .ولنفترض اآلن أن القضية (أ) تقول مثال( :إن زيدا
سعيد بما حدث لعمرو) ،ونحن بطبيعة الحال نفترض أن هذه القضية جيدة؛ فأن يكون
الشخص سعيدا هو في حد ذاته أمر جيد .ثم ننتقل إلى القضية (ب) والتي تقول( :إن
زيدا حزين لما حدث لعمرو) ،ويبدو أن هذه القضية مؤسفة؛ ألن حالة الحزن غير
حسنة .ولنأخذ بنظر االعتبار القضية (ج) وهي القضية القائلة( :لقد تصور زيد خطأ أن
عمرا قد تعرض لحادثة مؤسفة) ،بمعنى أن زيدا قد سمع خبرا كاذبا مفاده أن عمرا قد
فقد شخصا عزيزا عليه .وهنا يمكن لنا أن نؤلف قضية تركيبية من خالل عطف القضية
(ج) على القضية (أ) ،فنقول( :لقد تصور زيد خطأ أن عمرا قد تعرض إلى مصيبة،
وشعر بالسعادة للمصيبة التي ظن أن عمرا قد أصيب بها) ،إن هذه القضية التركيبية
تعبر في الحقيقة عن حالة سيئة .إذ تبين الطبيعة الشريرة لزيد حيث يسعد بالمصيبة التي
حلت بصديقه عمرو .ثم لننظر إلى القضية من زاوية أخرى( :لقد تصور زيد خطأ أن
عمرا قد تعرض إلى مصيبة ،وشعر بالحزن بسبب المصيبة التي ظن أن عمرا قد أصيب
بها) ،وهنا تبدو لنا هذه القضية أفضل من سابقتها؛ إذ أن زيدا وإن شعر بالحزن ،ولكن
سبب الحزن هنا هو من أجل المصيبة التي تعرض لها صديقه عمرو ،وهذا أفضل من
أن يشعر بالغبطة والسعادة على مصيبة صديقه .وعليه فإننا في هذه األمور أمام حالتين؛
إحداهما تشتمل على الخير (السعادة) ،واألخرى تشتمل على الشر (الحزن) .بيد أن
وضع األمر المشتمل هنا على الشر أفضل من وضع األمر المشتمل على الخير .وإذا
كان األمر كذلك فال أحد ،حتى اﷲ (فيما لو فرضنا أن اﷲ خير بين تحقيق واحد من
هذين األمرين) الذي هو محب للخير ،يحجم عن اختيار الحالة المتضمنة لذلك الشر
(أي المشتملة على حالة شعور زيد بالحزن) ،وعدم اختيار الحالة المتضمنة لذلك
الخير (أي المشتملة على شعور زيد بالسعادة للمصيبة التي حلت بعمرو) .في ظل
يقارن شرآ .د 80
َح ُّق ِق تلك الشروط
هذه الشرائط ال يمكن لهذه الحالة التركيبية أن تتحقق من دون ت َ
المنطقية .هذا مثال من الموارد التي تمثل فيها الشرور شرطا ضروريا ،من الناحية
المنطقية ،لألمور التي نطلق عليها مصطلح الخير األعظم .وهنا تمثل الحالة التي شعر
فيها زيد بالحزن على المصيبة التي حلت بصديقه عمرو (على الرغم من عدم تحققها
في الواقع ،ولكن زيدا ظن خطأ أنها قد حصلت) أفضل بكثير من الحالة التي شعر فيها
زيد بالسعادة على مصيبة صديقه .وإن هذه الحالة األفضل ما كان لها أن تتحقق إال
من خالل ذلك الشر (شعور زيد بالحزن) .وعليه ال بد من االلتفات إلى أن الذي أريد
قوله هو أن هناك بعض الشرور تمثل شرطا الزما لوجود الخيرات العظيمة .بمعنى أن
تلك الخيرات العظيمة ال يمكن لها أن توجد إال من خالل تح ّقق هذه الشرور .وأنا ال
أريد أن أقول إن هذا الكالم عام ،بل الذي أريد التأكيد عليه هو أن بإمكاننا من الناحية
المنطقية أن نفترض شرائط يكون فيها وقوع الشر شرطا الزما ومنطقيا لتحقق الخير
األعظم .وإذا توفرت مثل هذا الشروط ال يمكن ألحد ،حتى اﷲ ،أن يحقق ذلك الخير
األعظم من دون ذلك الشر (وهو الحزن في مثالنا).
وعلى هذا األساس فإن االدعاء الذي أريد االستدالل عليه هنا هو أن هناك شرورا
في هذا العا َلم تعتبر شروطا الزمة ومنطقية للخيرات العظمى ،وإن هذه الشرور إذا كان
لها وجود ،وقد ثبت مما سبق أن لها وجود ،لن يكون بإمكان أي أحد حتى اﷲ أن يوجد
تلك الخيرات العظمى من دون أن يحقق تلك الشرور .ويمكن لكم إعادة صياغة هذا
المثال فيما يتعلق بالعالقة بين الشرور والشرور األعظم أيضا.
وعليه لو فرضنا وجود أوضاع تستلزم شرا ،وأوضاع ال تستلزم ذلك الشر ،إال أن
وضع األمور المستلزمة لذلك الشر أفضل بكثير من وضع األمور التي ال تستلزم ذلك
الشر .ففي مثل هذه الحالة يقوم افتراضنا على أن اﷲ المحب للخير يعمل بطبيعة الحال
على ترجيح وضع األمور المستلزمة للشر ،وسوف يعمل على تحقيقها ،من دون وضع
األمور التي ال تستلزم الشر ،وال يمكنه أن يقوم بغير ذلك؛ ألنها تمثل شرطا الزما لذلك
الخير األعظم .بمعنى أن ذلك الخير األعظم ال يتحقق إال بوقوع ذلك الشر .وفي هذه
الحال إذا كان هناك وجود لمثل وضع هذه األمور ،فإن اﷲ يمكنه أن يبقى على اتصافه
بالخير المحض ومع ذلك يخلق ذلك الوضع من األمور المتضمنة للشر .وفي هذه
81 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
األحوال التي يكون فيها وقوع الشرور شرطا الزما لتحقق هذا النوع من األمور ،يمكن
لها أن تكون أدلة أخالقية مبررة في مقام جواز الشرور على اﷲ .يبقى السؤال هنا يقول:
ما هذا الخير األعظم الذي أشرت له في المثال؟ ما الخير األعظم في هذا العا َلم الذي
ال يمكن له أن يوجد إال من طريق تحقق بعض الشرور؟ ما هو الخير األعظم الموجود
في هذا العا َلم ،والذي يمكن لوقوعه أن يبرر الشرور في هذا العا َلم؟
وال يخفى أن هذا خير عظيم جدا ،بيد أنه بمجرد أن يخلق الكائنات المختارة ،فإن
ذلك سينطوي بطبيعة الحال على إمكان وجود الشر في هذا العا َلم .وقبل التفصيل
في هذا الدفاع وإيضاح كيف يمكن له أن يكون سببا أخالقيا وجيها لتبرير أصل وجود
الشرور في هذا العا َلم ،من األفضل أن نبحث أوال في إدراك االختيار المفترض في
هذا الدفاع .إن الدفاع القائم على االختيار يقوم على نظرية ميتافيزيقية خاصة ال تجتمع
في األدبيات ذات الصلة ( )incompatibilityأو النظرية القائلة باختيار اإلنسان مع أي
نوع من النزعة الحتمية ( .)determinismهناك بين الحتمية واختيار اإلنسان نوع من
التناقض .وعليه طبقا لهذا الفهم عندما تقول :إن زيدا كان حرا في القيام بالعمل (أ)،
فهذا يعني أن زيدا في تلك اللحظة التي يقوم فيها بذلك العمل ،كان بإمكانه أن يقوم به
وأن ال يقوم به .إن نتيجة هذه الحالة ،أي إنجاز ذلك الفعل أو عدم إنجازه هو حصيلة
اختيار زيد ،وليس هناك عنصر متقدم يفرض على زيد أن يقوم بالفعل (أ) أو (ب).
وعلى هذا األساس عندما نقول إن زيدا مختار في قيامه بالفعل (أ) ،فهذا يعني أن عليا
هو الذي يمكنه القيام بالفعل (أ) فيما لو أراد القيام به ،وإذا أراد أن يحجم عن فعله
ألمكنه ذلك أيضا ،وليس هناك قانون أو شرط متقدم يستطيع أن يحدد لزيد قراره .في
تلك اللحظة الخاصة من اتخاذ القرار ،ال يكون بإمكان غير زيد أن يقوم بذلك الفعل
أو ال يقوم به .وهذا يمثل واحدا من تعريفات االختيار .وبعبارة أخرى :إن االختيار إنما
يكون له معنى فيما إذا كانت الخيارات أمامك مفتوحة ،وأن تكون أنت الذي تتخذ
قرارك في أن تنتخب هذا الخيار أو ذاك الخيار .فإذا كان االنتخاب متروكا لك على
نحو كامل ،عندها يكون الفعل الصادر عنك قد صدر عن اختيار.
لقد تم بحث عدم انسجام اختيار اإلنسان والجبر في مواطن بحثها بأساليب
مختلفة .ومن المناسب أن أعرض هنا الدليل المشهور الذي أقيم لصالح الحتمية،
وهو االستدالل المعروف بـ ( )consequences argumentأو االستدالل القائم على
التداعيات .يقوم افتراضنا األول على أننا حيث نقف حاليا في هذه النقطة ال نستطيع
تغيير الماضي .واالفتراض الثاني في هذا البرهان هو أننا ال نستطيع تغيير القوانين
الطبيعية أيضا .إن هذه القوانين الموجودة في الطبيعة ،مستقلة عنا وعن إرادتنا .نستطيع
توظيف تلك القوانين ،ونتصرف في الطبيعة ،لكننا محكومون دائما بها .وبناء على هذه
يقارن شرآ .د 84
المقدمة الثانية ال نستطيع حتى تغيير قوانين الطبيعة .إذا كانت الحتمية صحيحة فإن
نتيجة ذلك هي أن كل ما نقوم به في اللحظة الراهنة ،هو نتيجة سلسلة من األحداث
التي وقعت في الماضي والتي وصلت إلى اللحظة الراهنة طبقا لقوانين الطبيعة .بعبارة
أخرى :إن أعمالنا الراهنة نتيجة ضرورية للماضي وقوانين الطبيعة .بمعنى أن ما حدث
في اللحظة الراهنة ،كان يجب أن يحدث ضرورة بحكم قوانين الطبيعة وما حدث في
الماضي .أي أن الشرائط التي كانت في الماضي ،مضافة إلى قوانين الطبيعة ،هي التي
تحدد صورة المستقبل .وعليه عندما أقف على مفترق طريقين ،ويتعين علي أن أختار
بين سلوك الطريق (أ) أو الطريق (ب) ،يكون اختياري قد تم تحديده سابقا .وعليه إذا
كانت الحتمية صحيحة ،لن يكون بإمكاني إال اختيار الفعل الذي سوف أتخذ قرارا
باختياره ،أي ال يكون أمامي من خيار آخر .وعليه بحكم الحتمية لن يكون هناك شيء
باسم االختيار .ويطلق على هذا االدعاء مصطلح الـ ( .)incompatibilityبمعنى إذا
صح ادعاء (الحتمية) لن يكون هناك اختيار .وإذا آمنت باالختيار ،تعين عليك إبطال
الحتمية.
لقد تم في هذا الدفاع القائم على االختيار ،االعتراف باألصل القائل بأن هناك
تناقضا بين اختيار اإلنسان والقول بالحتمية .بيد أن الفرض يقوم على أن الحتمية كاذبة
ً
وأن اختيار اإلنسان صادق .وعليه يجب أن نفترض وجود شيء باسم االختيار .وأما إذا
أبطلت أصل االختيار ،لن يكون هذا الدفاع مجديا .وعليه يجب أن ال ننسى أننا نفترض
في هذا البرهان تعريفا خاصا لالختيار ،وهو أن اتخاذ القرار بالقيام بفعل أو عدم القيام
به ،أمر مرتهن إلرادتك ،ولن يكون هناك أي عنصر خارجي أو قانون طبيعي يمكنه أن
يحدد قرارك سابقا ،حتى لو كان ذلك العنصر هو إرادة اﷲ تعالى .بل هذا رهن بإرادتك
تماما .فإذا كان األمر كذلك أمكن لك القول بأنك قمت بهذا العمل عن اختيار تام.
انطالقا من هذا الفهم لالختيار.
يقول الدفاع القائم على االختيار لنفترض وجود عالمين ،ولنطلق على أحدهما اسم
( ،)W1وعلى اآلخر اسم ( .)W2ولنفترض أن هذين العا َلمين متساويان ومتشابهان
من جميع الجهات باستثناء جهة واحدة ،وهي أن العا َلم ( )W1تقطنه كائنات حرة
ومختارة ،وأنها تتخذ خطواتها وقراراتها وأفعالها عن حرية واختيار كاملين ،بمعنى
85 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
أن قراراتها تكون رهنا بإرادتها .وأما العا َلم ( )W2فالكائنات فيه عبارة عن روبوتات
مبرمجة ،وليس ألحد فيه أي إرادة من نفسه .يبدو أننا جميعا نفضل العا َلم ()W1
على العا َلم ()W2؛ فإن الشرائط التي افترضناها هنا تفضل العا َلم المتصف بالحرية
واالختيار على العا َلم الفاقد للحرية واالختيار .بمعنى أننا غالبا ما نعطي القيمة الذاتية
لالختيار في هذا العا َلم.
وعليه لنفترض أننا نعيش اآلن لحظة الخلق ،وأن اﷲ يريد أن يخلق العا َلم .يبدو أن
اﷲ في مثل هذه الحالة يقف على مفترق طريقين ،فإما أن يخلق عالما تسكنه كائنات
حرة مختارة ،وإما أن يخلق عالما جميع كائناته مبرمجة وال إرادة لها من نفسها .فإذا
كنت تعتقد أن وجود اإلرادة واالختيار في هذا العا َلم أمر حسن ومطلوب ،وأن اﷲ خير
محض ،فعندها يجب عليه بوصفه خيرا محضا أن يخلق هذا العا َلم المتصف بالحرية
واإلرادة واالختيار؛ بمعنى العا َلم الذي تكون فيه الكائنات حرة في االختيار بين الخير
والشر .لنفترض أن اﷲ خلق هذا العا َلم ( )W1الذي تقطنه الكائنات الحرة والمختارة.
إال أنه بمجرد أن يخلق هذا العا َلم ،لن يعود بإمكانه أن يفرض على هذا العا َلم أن ال
يصدر عنه غير الخير؛ ألن هذا على خالف اإلرادة واالختيار .فإذا منع اﷲ الكائنات من
فعل الشر؛ لن تكون حرة وال مختارة .وعليه فإن اﷲ ال يستطيع أن يخلق كائنا مختارا
وفي الوقت نفسه فاقدا لالختيار ،بمعنى أن األمر في حد ذاته غير ممكن؛ فال يمكن
لنا أن نتصور شخصا يقرر فعل الخير بإرادته واختياره ،وفي الوقت نفسه ال يستطيع
فعل الشر .فإذا كان األمر كذلك ،فهذا يعني أن القدرة على فعل الشر من قبل الفاعل
المختار ،تشكل جزءا تمهيديا ضروريا من الناحية المنطقية بالنسبة إلى خلق الكائنات
الحرة والمختارة ،وفي هذه الحالة بمجرد أن يخلق اﷲ هذه الكائنات ،حتى تتخذ هذه
الكائنات قراراتها وتقوم بأعمالها وأفعالها بإرادتها الذاتية ،ويكون من الممكن جدا أن
ينحرف هذا الكائن في ظل ظروف معينة عن جادة الصواب ،وبدال من أن يقوم باألفعال
الحسنة ،يتجه إلى ارتكاب الشرور .وعليه ففي هذا العا َلم ،على الرغم من احتفاظ اﷲ
بصفاته من العلم والقدرة والخير المحض ،يعد وقوع الشرور في هذا العا َلم شرطا
ضروريا لتحصيل الخير األعظم ،أي التمتع بالحرية واإلرادة واالختيار .من هنا إذا كان
هناك من يرى أن االختيار خير أعظم ،وأن العا َلم المتصف باالختيار خير من العا َلم
يقارن شرآ .د 86
الفاقد لالختيار ،فإن عليه ال محالة أن يقبل بأن إمكان وقوع الشرور في هذا العا َلم أمر
ال يمكن اجتنابه .وإن اﷲ لم يكن بإمكانه ،من الناحية المنطقية ،أن يخلق عالما واجدا
للخير األخالقي ،وفي الوقت نفسه فاقدا للشر األخالقي أيضا .وعليه من الممكن أن
يشتمل هذا العا َلم على الشرور ،وفي الوقت نفسه تنسجم هذه الشرور مع وجود اﷲ
العالِم والقادر المطلق والخير المحض .وعليه يبدو أن باإلمكان أن يمتلك اﷲ فيما
نحن فيه سببا أخالقيا وجيها لتبرير وجود الشرور في هذا العا َلم .هذا هو باختصار ما
يسمى بالدفاع القائم على االختيار .وال بد بطبيعة الحال من دراسة هذا الدفاع بتفصيل
أكبر في العدد القادم إن شاء اﷲ.
دراسات
الشر في األديان
مقولة ّ
والميتافيزيقي
ّ وسيولوجي
ّ الس
بين ّ
الدين العامري
1
د .صالح ّ ____________________________________________
3. Jean - Louis Bruch, La philosophie religieuse de Kant, Paris, Aubier - Montaigne,
1968, pp, 67 - 68
.4عبد اجل ّبار الرفاعي ،الدين والظمأ األنطولوجي ،ط ،2018 ،3.مركز دراسات فلسفة الدّ ين ببغداد،
دار التنوير للطباعة والنرش ــ بريوت ،ص.17
89 نايدألا يفّرشلا ةلوقم
له ومفكّرا فيه .5وتم ّثل األخالق نقطة لقاء بين المرجع ّيتين ،ومن شأن هذا اللقاء أن
يسهم في بناء مقاربة متماسكة للمسألة تساعد في مزيد اإلفصاح عن البعد االجتماعي
السياق بين األديان إال في مستوى المرجع ّية .وقد دأبت
للمقدّ س .وال نم ّيز في هذا ّ
المختصة على تصنيفها إلى أديان وضع ّية ذات مرجع ّية بشر ّية،
ّ أغلب الدراسات
وأديان وحي ذات مرجع ّية غيب ّية ،وتعني األديان الكتاب ّية الثالثة .6وسيكون هذا التمييز
المرجعي مساعدا في رصد االنتقال من السوسيولوجي إلى المقدّ س بناء على التماثل
التحول التاريخي الب ّين في الوعي الدّ يني
ّ والمضمن بين األديان عا ّمة ،وعلى
ّ الصريح
السوسيولوجي بين األديان الوضع ّية وأديان الوحي الثالثة .ونحن على وعي ّ
بأن ّ
حاضن للمقدّ س ومسهم في تشكيله من منظور األنثروبولوجيا الثقافية 7مهما كانت
طبيعة الدّ يانة .وال نزعم اإلحاطة بالمفهوم من جوانبه ك ّلها ،بل سنكتفي بدراسة
نماذج من ّ
كل مرجع ّية .وأما منهج ّيا فسنعتمد العرض والتحليل استنادا إلى بعض
ونخص المنهج المقارن .وإذا كانت المرجعية الدين ّية ب ّينة،
ّ منجزات المناهج الحديثة
ّ
فإن المرجع ّية االجتماع ّية تشمل الفكري والثقافي والسلوكي والنفسي.
8. J. Baines, Society, Morality and religious practices, Ed. B. Shaffer. Religion 1991,
P163.
نصوص األهرام أو متون األهرام هي جمموعة من النصوص الدينية املرصية القديمة التي ترجع
إىل عرص الدولة القديمة ،وتُعدّ أقدم النصوص الدينية املعروفة يف العامل .نحتت نصوصها باللغة
املرصية القديمة عىل جدران األهرام والتوابيت احلجرية يف أهرامات سقارة خالل عرصي
األرستني اخلامسة والسادسة .وقد ُخ ّصصت متوهنا للملوك الفراعنة فقط .متون األهرام املرص ّية،
ترمجة (عن اهلريوليف ّية القديمة) حسن صابر ،ط ،2002 ،1.املجلس األعىل للثقافة ،مرص.
الرش يف مرص القديمة ،ط ،2018 ،1.اهليئة العامة املرصية للكتاب، .9عيل عبد احلليم عيل ،مفهوم ّ
القاهرة ،ص.7
.10أحال عيل عبد احلليم عيل عىل جمموعة من املصادر واملراجع العرب ّية واألجنب ّية وخاصة األملان ّية.
91 نايدألا يفّرشلا ةلوقم
وتجاوز القوانين واألعراف االجتماع ّية المس ّطرة واإلساءة لآلخر والتس ّبب له في
األلم والمعاناة ،ومن بينها داللته في االصطالح المصري القديم على معنى «هالك
وبال وسخيف وركيك ومهلهل» ،ومعنى «يسيء ويخطئ» .ويرتبط في العرب ّية ٍ
بكلمتي «زيف وأسف» ،وهما عبارتان تحيالن على سوء ُ
الخلق .وما يزال المصر ّيون
والشرير .وبها يق ّيمون األشياء الس ّيئة.
ّ اليوم يستعملون صفة «زفت» لإلنسان الس ّيئ
والفوضوي
ّ الشرير
ّ المشتق من «اإلسفت» هو «اإلسفتي» ،وهو
ّ والفاعل
حق األفراد والجماعات والمهدّ د للنّظام القائم،
والعاصي والمذنب والمخطئ في ّ
الشر في الموروث المصري القديم عصفور النّيل
وجمعه «اإلسفتو» .ومن رموز ّ
والسوء والفوضى والمعاناة
والشر ّ
ّ الضيق
الدّ وري ،وقد انحصرت رمز ّيته أساسا في ّ
والتّعب والمرض ،وغالبا ما يظهر في األعمال الفن ّية وهو يأكل التّين ويد ّمر
مهما في صياغة المحاصيل الزراع ّية .وقد لعب الفكر األسطوري القديم دورا ّ
11
والتربوي ،وهي
ّ التعليمي
ّ مفهوم «اإلسفت» في مجموعة من النّصوص ذات البعد
نصوص ث ّبتته سلوكا مزعجا يس ّبب األلم والمعاناة في عمل ّية قياس عكس ّية على قيمة
«الماعت» ،أي الخير والعدالة.
السماو ّية».12
الشر كتاب «البقرة ّ
من بين األساطير القديمة التي تناولت فكرة ّ
التمرد على األنظمة األخالق ّية والسياس ّية
الشر وحالة ّ
وتربط نصوص هذا الكتاب بين ّ
تمرد البشر ضدّ اإللهالشر دخل إلى العالم بسبب ّ
أن ّوالثقاف ّية القائمة .وقد جاء فيها ّ
ّمرد تلك فرد ضدّ الجماعة، الخالق الذي تقدّ م في الس ّن ،وعادة ما يقوم بحركة الت ّ
13
.14دومنيك غالبيل ،الناس واحلياة يف مرص القديمة ،ترمجة ماهر جوجيايت ،ط ،2001 ،2.دار الفكر
للدراسات والنرش والتوزيع ،القاهرة ،ص ص 29ــ .50
الرش يف مرص القديمة ،ص.95
.15عيل عبد احلليم عيل ،مفهوم ّ
الرش والشيطان ،1970 ،بغداد.
متكن العودة أيضا إىل :سامي سعيد األمحد ،األصول األوىل ألفكار ّ
أن زرادشت تر ّقى يف االستقامة والفكر حتى نزل عليه الوحي
.16توجد نصوص إيران ّية قديمة تدّ عي ّ
السامء ،وهناك تل ّقى مزديسنا (الرسالة) ،دين أهورامزداُ .ينظر فارس عثامن ،زرادشتوقاده إىل ّ
والدّ يانة الزرادشت ّية ،2003 ،دار املح ّبة ،دمشق ،ص.22
93 نايدألا يفّرشلا ةلوقم
تطور الوعي ومدى االنفتاح على تجارب األمم المجاورة .وقد صار تحوالتها بدرجة ّ ّ
هذا األمر تقليدا في ال ّثقافة اإليران ّية ،واستمر إلى العصر الحديث ،وتج ّلى بوضوح في
صناعة صورة بعض الزعماء الدينيين المتأخرين ،وعلى الرغم من عدم ثبوت ادعائهم
فإن أتباعهم ل ّقبوهم باإلمام ،وأض َفوا عليهم ّ
مقومات اإلمامة ورفعوهم فوق العصمةّ ،
والسياسي ا ّلذي رسم مالمح زعامتهم في التّاريخ.
ّ االجتماعي
ّ التّاريخ
أن مضامينها االجتماع ّية تمث ّلت
إذا بحثنا في أدب ّيات الزرادشت ّية مثال ،نجد ّ
عددا من التّقاليد والقيم القديمة ّ
للشعوب اآلسيو ّية ،ثم أعادت إنتاجها منسوبة إلى
زرادشت .17وقد كانت دائرة اإلغناء واسعة في حركة مراكمة وتطوير للموروث
ومما استبطنته الزرادشت ّية وجعلته
ّ واإلقليمي.
ّ واألخالقي المح ّلي
ّ االجتماعي
ّ
والشر ،وهي ثنائ ّية قديمة توارثتها
ّ محورا للوجود اإلنساني ،الصراع بين ثنائ ّية الخير
الذاكرات الجمع ّية وأعادت إخراجها على وفق سياقاتها الجديدة والمتجدّ دة .18وقد ّ
الصراع بين ُق ْ
طبي المنظومة تصور ّ
حفلت أغلب نصوص األفيستا بمقاطع خطاب ّية ّ
األخالق ّية.
الصراع في بعض مقاطع أناشيد األفيستا ليكون حربا وجود ّية بين األخيار تطور ّ
ّ
واألشرار على وفق قاعدة ال ّثالث المرفوع .Le tiers excluوتستبعد هذه القاعدة أ ّية
والشر في البنية المثال ّية التي يرنو إليها مجتمع
ّ فرض ّية للصلح أو التّعايش بين الخير
والسلم .وقد أعلن زرادشت هذه المعادلة صراحة في وجه أهريمان
النّظام واألخالق ّ
الشرير أنكراماينيو سأهزم مخلوقات األبالسة»،
الشر حين أراد قتله ،فقال له« :أ ّيها ّ
رمز ّ
تبرأ من ديانة مازديسنا الخ ّيرة
فأجابه أنكراماينيو« :ال تهلك مخلوقاتي يا زرادشتّ ،
وتمسك بالدفاع عن الخير ضدّّ وستجد السعادة» .إال ّ
أن زرادشت رفض دعوة خصمه
أتبرأ ألجلها عن ديانة مازديسنا حتّى لو انفصلت عن عظامي وحياتي
الشر قائال« :لن ّ
ّ
أتحرر} من هذه الدّ روج،
توجه بالمناجاة إلى أهورامازدا «ماذا أفعل {لكي ّ
روحي» ،ثم ّ
للتوسع حول مرجعيات الزرادشت ّية متكن العودة إىل :أمحد عيل عجيبة ،زرادشت يف األديان الوثن ّية ّ .17
القديمة ،ط ،2004 ،1.دار اآلفاق العرب ّية ،القاهرة.
.18أرثر كريستينس ،إيران يف عهد الساسيانيني ،ترمجة حيي اخلشاب ،ط ،1.د.ت ،دار النهضة العرب ّية،
بريوت ،ص.19
رماعلا نيّدلا حالص .د 94
الرجل الصالح
أطهر ّ
الشرير أنكرامينيو ،كيف أزيل النجاسة بشكل مباشر ...كيف ّ
من ّ
وطهارة المرأة الصالحة؟».19
والشر،
ّ الصراع القديم بين الخير
مصمما على مواصلة ّ
ّ بدا زرادشت في المرو ّية
النبوة االجتماع ّية ذات الطابع األخالقي.
مستجمعا قواه الذهن ّية والنفس ّية التي أهلته لمرتبة ّ
بقوة أهورامازدا اإلله الحكيم إله النّور والخير ،فراهن
وقد دفعه إصراره إلى االحتماء ّ
الشر وتطهير المجتمع من دنس األشرار والفوضويين
على قدرته ودعمه في مقارعة ّ
السابقة بين الوجود الحقيقي واستمرارهوالمتوحشين .وربط زرادشت جل ّيا في المحاورة ّ
ّ
الشر واألشرار من أبالسة أنكرامينيو المتح ّفزين
في الحياة رمزا للخير ،وبين القضاء على ّ
لالعتداء والتس ّبب في األلم والمعاناة للخ ّيرين .ويعتقد المانويون ّ
أن اإلنسان يمتلك
شريرة مصدرها الظلمة.20
نفسين إحداهما خ ّيرة ترتبط بإله النّور ،واألخرى ّ
األهم في التّصنيف
ّ والشر المتصارعة هي المعيار
ّ يتضح جل ّيا ّ
أن ثنائ ّية الخير
اإليراني وامتداداته الجغراف ّية ،وفي عالقة بهذا ذكر الباحث
ّ األخالقي للمجتمع
ّ
الفرنسي في اإليران ّيات آرثر كريستنسن ّ Arthur Christensen
أن أهورامازدا إله ّ
الرحل وما يدور المستقرة والمتمدّ نةّ ،
وأن القبائل ّ ّ الحكمة والخير هو إله القبائل
في فلكها من محاربين ولصوص كانوا يعبدون الشياطين .21وهذه صورة اجتماع ّية
استمر تأثيرها في ثقافات الشعوب الشرق ّية إلى العصر الحديث .وفيها
ّ قديمة
والسطو
القوة والخشونة ّ
يدور صراع بين الحضر والبدو ،فالبدو يرمزون غالبا إلى ّ
والوحش ّية ،فيما يتم ّيز سكّان الحواضر بالنظام والحكمة .وقد حفلت كتب التّراث
الصراع ،ومن بينها مقامات بديع الزمان الهمذاني ،وأغاني
العربي مثال بمعالم هذا ّ
ّ
البشري.
ّ األصفهاني ،ومقدّ مة ابن خلدون في أطروحة علم العمران
يبدو ّ
أن الحركة االنسياب ّية لألفكار والثقافات في آسيا والتفاعالت بينها ،لم تشمل
الفلسفي
ّ األساطير اإلغريقية والبابل ّية واإليران ّية فحسب ،بل شملت أيضا الجانب
.19خليل عبد الرمحان ،أفيستا الكتاب املقدّ س للديانة الزرادشت ّية ،ط ،2008 ،2.روافد للثقافة والفنون،
دمشق ،ص ص 721ــ .722
20. Saint Augustin, Œuvres de saint Augustin, les deux ames anti Manichéeens,
traduction R. Jolivet et M. Jourjon, Belgique: Desclée de Brouwer, 1961, pp. 95 - 97
.21أرثر كريستينس ،إيران يف عه د الساسيانيني ،ص.19
95 نايدألا يفّرشلا ةلوقم
بالشر أيضا.24
ّ يقابله ،و العلم بالخير هو علم
السابق عن التّقاطع بين
أن حديث آرثر كريستنسن ّ المهم اإلشارة إلى ّ
ّ لع ّله من
الفلسفي
ّ الفلسفة واألديان الشرق ّية وعن التّفاعل الواسع بينهما ،ال يعني ّ
أن النّسق
والميثيولوجي في آل ّيات اشتغاله ،وأنّه يتم ّثل
ّ واألسطوري
ّ يني
يحاكي النّسق الدّ ّ
األنساق األخرى ثم يعيد إنتاجها في شكل سرديات سحر ّية .ويتّضح هذا التمايز في
والشر يعودان إلى المصدر ذاته،25ّ تم ّثل أفلوطين مثال للمسألة ،فهو يعتبر ّ
أن الخير
عكس األطروحة التقليد ّية التي تعيدهما إلى مرجعيتين مختلفتين ومتناقضتين .وقد
وأقرت المانوية في عقيدة ال ّثنو ّية وجود
الشر وإله الخيرّ .
افترضت الزرادشت ّية وجود إله ّ
والشر ،وجعلت الخير من
ّ مبدأين متناقضين هما النّور والظلمة ،وقاست عليهما الخير
الشر االنتقال بها
والشر من الما ّدة/الشيطان .ومن مزايا المقاربة الفلسف ّية لمقولة ّ
26
ّ اﷲ
الشر
اعتبار ّ
ُ االبستيمولوجي .ومن نتائج هذه النقلة
ّ السياق
األنطولوجي إلى ّ
ّ السياق
من ّ
واإلقرار
ُ مسألة ضرور ّية في نظام الوجود ،ولكن دون أن يكون مقصدا في حدّ ذاته،
تبصرها.27
يتم إدراكها بسبب الغفلة عن ّ
بمنافع ال ّ
َ للشر
ّ
.22م.ن ،ص.26
.23أفلوطني ،تاسوعات أفلوطني ،نقلها إىل العربية عن اليونان ّية فريد جرب ،ط ،1979 ،1.مكتبة لبنان
نارشون ،بريوت ،التاسوعة ،1ف ،8.ص.97
.24أفلوطني ،تاسوعات أفلوطني ،التاسوعة ،8ص .97
.25م.ن ،التاسوعة ،3ص .219
.26ابن النّديم ،الفهرست ،ط ،1996 ،1.دار الكتب العلم ّية ،بريوت ،ص.509
.27أفلوطني ،تاسوعات أفلوطني ،التاسوعة ،3ص.204
رماعلا نيّدلا حالص .د 96
مجرد
اهتم في كتابه «الدّ ين في حدود ّ
أ ّما إيمانويل كانط ( )Emanuel Kantفقد ّ
حر بصورة جذر ّية،
العقل» بثالث حقائق حول الطبيعة البشر ّية ،وهي :اإلنسان ّ
الشر ،ومعنى ذلك ّ
أن اإلنسان واإلنسان م ّيال بطبعه إلى الخير ،واإلنسان م ّيال إلى ّ
ُفسر غلبة النزعة ّ
الشريرة شريرة .وت ّ
الذي ال يملك إرادة خ ّيرة أخالق ّيا ،فهو يملك إرادة ّ
على النزعة الخ ّيرة عنده بهشاشة إرادته؛ فحين تطمح إرادة اإلنسان إلى إنجاز أفعال
فالسبب هو ضعفها وهشاشتها ،والنتيجة االنزالق إلى فعل
أخالق ّية صائبة وتفشلّ ،
الخطأ .28وقد وصف بول ريكور ( )Paul Ricœurصاحب اإلرادة ّ
الهشة بــ«اإلنسان
الشر تحدّ يا ال مثيل له تواجهه الفلسفة والتيولوجيا معا.30
ّ الخ ّطاء» ،29وعدّ
والشر اللذين
ّ من هذه الزاوية راهن كانط على اإلنسان القوي واإلرادي ،وعدّ الخبث
لرقي البشر ،ولو أن الناس اتبعوا االنجيل القائل« :ليحب
في اإلنسان عاملين كبيرين ّ
يشجع الناس على االقتتال ،لظ ّلوا
بعضكم بعضا» بدال من أن يتبعوا مبدأ الطبيعة الذي ّ
الشر بهذا المعنى عنصرا جوهر ّيا في الوجود ،يؤ ّدي 31
عاكفين في الكهوف .ويكون ّ
غيابه حتما إلى فساد نظام العالم ك ّله ،ويفقد الحياة طعمها وخصوصيتها .وعلى الرغم
فإن وجوده حق اإلنسان أن يطمح إلى عالم من دون شرور وآالم ومعاناةّ ،
أن من ّ من ّ
الشر والخير ويتمتّع فيه اإلنسان بالحر ّية يكون ّ
أقل قيمة ومعنى من عالم يتقاطع فيه ّ
والمسؤول ّية والقدرة على اختيار األفعال.
كون إلى
الشر ُي ّ
أن ّ ما نخلص إليه في خاتمة هذا القسم من البحث نتيجتان؛ ّأولهما ّ
28. Calder, Todd, «The concept of Evil», The stanford of philosophy, Ed. Encyclopedia
2020, Edward N. Zalta (ed) (https://plato.stanford.edu/archives/summer2020).
ترمجة أنس إبراهيم ،جملة حكمة اإللكرتون ّية ،ص ،14بتاريخ 2020/10/18
https://hekmah.org/%D985% %D981% %D987% %D988% %D985%
%D8%A7%D984%%D8%B4%D8%B1/
.29بول ريكور ،فلسفة اإلرادة :اإلنسان اخل ّطاء ،ترمجة عدنان نجيب الدّ ين ،ط ،2008 ،2.املركز الثقايف
العريب ،الدار البيضاء ــ املغرب ،بريوت ــ لبنان.
30. Paul Ricœur, Le mal: défit à la philosophie et à la théologie, Ed. Labor et Fides,
Genève, 1986, p13.
.31غوستاف لوبون ،اآلراء واملعتقدات ،نقله إىل العرب ّية عادل زعيرت ،ط ،1995 ،1.دار املعارف ،سوسة ــ
تونس ،ص.95
97 نايدألا يفّرشلا ةلوقم
.32ينظر:
Serge Moscovici, »Des représentations collectives aux représentations sociales:
élément pour une histoire«, in Denise Jodlet, Les représentations sociales, PUF,
Sociologie d’aujourd’hui, pp79 - 103.
33. Serge Moscovici, La psychanalyse; son image et son public, Paris, PUF, 1976, p47.
34. Gustave - Nicolas Fischer, les concepts fondamentaux de la psychologie sociale, 5e
édition, Ed Dunod, 2015, p18.
وللتوسع حول مبحث التم ّثل االجتامعي متكن العودة إىل العمل اجلامعي:
ّ
Les représentations sociales, théories, méthodes et applications, coordonné par
رماعلا نيّدلا حالص .د 98
الزمان على نظيرتها في األديان الكتاب ّية ،يجوز اعتبارها
للشر سابقة في ّ
ّ االجتماع ّية
السياق
الكتابي وأعاد إنتاجه على وفق شروط ّ ّ أنموذجا ومثاال تم ّثله الخطاب الدّ ّ
يني
الجديد للتجربة الدين ّية .35وباعتبارنا نقارب المسألة في الدّ يانات ال ّثالث ،فإنّنا نحافظ
المهم بالنّسبة
ّ على ترتيبها التاريخي :اليهود ّية فالمسيح ّية فاإلسالم .وقد كان من
التدرج
ّ إلينا أن نضع في االعتبار خصوص ّية مفهوم «اإلله» في التاريخ ،وفي سياق
السوسيولوجي التاريخي إلى الميتافيزيقي المفارق ،شأنه شأن مفاهيم عدّ ة ،مثل
ّ من
المادي للوجود إلى
ّ تدرج من التّفسير
و«الشر» و«الدّ ين» و«األخالق» ،وهو ّ
ّ «الخير»
وتفرده
الكتابي كون ّيته ّ
ّ الفهم الدّ يني له .36ومن مكتسبات مفهوم اإلله في المجال الدّ يني
بالخلق وارتباطه ّ
بكل ما هو خير .وقد أ ّثر هذا المعطى على تم ّثل الدّ يانات ال ّثالث
وتطرق
ّ الشر ،وعلى تنزيلها ضمن المنظومتين العقد ّية واألخالق ّية ألتباعها.
لمقولة ّ
الفكري الموسوم بــ«القراءة الجديدة» إلى العالقة بين
ّ محمد شحرور في مشروعه
تطور التاريخ اإلنساني بالتفاعل مع
خط ّ السرديات تعطي ّ
أن ّالفكر والتّاريخ ،فافترض ّ
والسلوك .37فما من خطاب إال
الكوني وتفاعل اإلنسان مع التشريع ّ
ّ اإللهي
ّ الوجود
تاريخي ،وال يكون التّاريخ تاريخا إالّ إذا ّ
تحركت به عجلة الزمان وتغ ّيرت ّ وله طابع
سياقاته الماد ّية والفكر ّية.
الشوح التي
نص مقدّ س بعد التوراة عند اليهود .وتأيت أمهيته من كونه جمموع ّ .38يم ّثل التلمود أبرز ّ
وضعها كبار األحبار عىل حوايش التوراة ،والتفسري ملضامينه .وتزاد مكانته أمه ّية عند بعض الفرق
اليهود ّية املحافظة لتتجاوز قيمة التوراة يف مستوى الترشيع .و ُعرف التلمود يف بدايات الزمن اليهودي
املقدّ س بالرشيعة الشفو ّية ،لكن تم تدوينه ليكون جزءا من صناعة العقيدة اليهود ّية.
.39تكوين 1( 1 :ــ .)4
رماعلا نيّدلا حالص .د 100
ط ا ْل َجن َِّة،
ْل ،و َشجر َة ا ْلحي ِاة فِي وس ِ
َ َ ََ ألك ِ َ َ َض ك َُّل َش َج َر ٍة َش ِه َّي ٍة لِلنَّ َظ ِر َو َج ِّيدَ ٍة لِ َ ِم َن األَ ْر ِ
الش ِّر».40 َو َش َج َر َة َم ْع ِر َف ِة ا ْل َخ ْي ِر َو َّ
اإلل ُه آ َد َم َق ِائالًِ :م ْن
الر ُّب ِ «و َأ ْو َصى َّ نصهَ : تكرر هذا القصد ا ْل َي َه ِوي في موضع آخر ّ ّ
ال ت َْأك ُْل ِمن َْها ،ألَن ََّك َي ْو َم َج ِمي ِع َش َج ِر ا ْل َجن َِّة ت َْأك ُُل َأ ْكالًَ ،و َأ َّما َش َج َر ُة َم ْع ِر َف ِة ا ْل َخ ْي ِر َو َّ
الش ِّر َف َ
الشجرة وت» .41تتضح في هذا التشكيل الخطابي ع ّلة منع األكل من ّ ت َْأك ُُل ِمن َْها َم ْوتًا ت َُم ُ
وهي اقتران المعرفة بالموت .وع ّلة الموت في المقصد اليهوي هي منع ارتقاء البشر
إلى مرتبة اإلله الخالق للوجود بما فيه اإلنسان .ويرد تأكيد هذا المعنى في قول الح ّية
لزوجة آدم « َلن تَموتَا! ب ِل اﷲُ َعالِم َأ َّنه يوم ت َْأ ُكال َِن ِمنْه َتنْ َفتِح َأ ْعينُكُما و َتكُون ِ
َان كَاﷲ ُ ُ َ َ ُ ٌ ُ َْ َ َ ْ ُ
َع ِ
ار َف ْي ِن ا ْل َخ ْي َر َو َّ
الش َّر».42
سلبي أقدم عليه اإلنسان حين خالف القواعد
ّ سينتج عن هذه المعرفة ّأول سلوك
الرب وأكل من شجرة
ّ والقوانين التي ن ّظمت وجوده في الجنّة ،حين خالف أمر
الشر استنادا إلى مفهومه الذي حدّ دناه في
ولما كانت الح ّية هي سبب حدوث ّ المعرفةّ .
األول من البحث ،وصفتها التوراة بالمتح ّيلة ،وجعلتها أكثر الحيوانات تم ّلكا
القسم ّ
لهذه الصفة الس ّيئة في سلم القيم األخالق ّية الموروثة ،ودليل ذلك ما ورد في اإلصحاح
الر ُّب ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
اإلل ُه».43 «وكَانَت ا ْل َح َّي ُة َأ ْح َي َل َجمي ِع َح َي َوانَات ا ْل َب ِّر َّية ا َّلتي َعم َل َها َّ
الثالث َ
الشر بمعنى الهالك الذي يصيب اإلنسان من قبل اإلله الغاضب .وجاء هذا وورد ّ
الر َّب ُم ْه ِل ٌك ِ
هذا ا ْل َمكَان ،ألَ َّن َّ اخ ُر ُجوا ِم ْن َالمعنى في خطاب لوط ألصهارهُ « :قو ُموا ْ
الم َل َك ْين للوطُ « :ق ْم ُخ ْذ ا ْم َر َأت َ
َك َوا ْبنَ َت ْي َك الهالك/الشر في أمر َ
ّ ا ْل َم ِدينَ َة» .44ويتضح سبب
ِ ِ ا ْلموجود َتي ِن لِ َئ َّ ِ
الشر على المدينة سببه تجاوزات سكّانها ال ت َْهل َك بِإِ ْث ِم ا ْل َمدينَة» ،فتسليط ّ َْ ُ َ ْ
التوراتي بمصطلح «اإلثم» ،وهو
ّ للنّظام الذي س ّطره يهوه ،وقد اصطلح عليه ّ
النص
مصطلح في أصله أخالقي قبل أن يستعيره الحقل الديني .ويبدو من سياق القول ّ
أن َر َّد
.40تكوين.)9( 1 :
.41تكوين 16( 2 :ــ .)17
.42تكوين 1( 3 :ــ )5
.43تكوين .1/3 :
.44تكوين.14/19 :
101 نايدألا يفّرشلا ةلوقم
ِ
الشرور ال ُيم ّيز بين اآلثمين وغيرهم الشر على مرتكبي ّ فعل اإلله المتم ّثل في تسليط ّ
من سكّان القرية .فقد ورد هذا المعنى في ر ّد لوط على الملكين« :الَ َيا َس ِّيدُ ُ .ه َو َذا
اء َن ْف ِسي، عبدُ َك َقدْ وجدَ نِعم ًة فِي عينَي َك ،وع َّظمت ُل ْط َف َك ا َّل ِذي صنَعت إِ َلي بِاستِب َق ِ
َ ْ َ َّ ْ ْ َ َ ْ َ َْ ْ َ َ َْ َْ
فالشر الذي سيدرك آل وت».45 ِ
الش َّر ُيدْ ِركُني َف َأ ُم َ ِ
َو َأنَا الَ َأ ْقد ُر َأ ْن َأ ْه ُر َب إِ َلى ا ْل َج َب ِل َل َع َّل َّ
ّ
لوط هو الهالك الذي يس ّلطه يهوه على القرية بسبب أشرارها .وهذا ما أزعج الهوتيي
للشر وهو الخير؟
الرب مصدرا ّ
التوراة حين واجههم سؤال :كيف يكون ّ
تجرم االعتداء
الشر بمعنى الغدر والخيانة وتجاوز النّواميس األخالق ّية التي ّ
وورد ّ
الشرف ،وقد حصل هذا األمر بين النّبي يوسف وامرأة س ّيده في مصر .فقد أبى على ّ
النصشرا عظيما .ففي ّ المتزوجة ،وعدّ حدوث الخلوة معها ّ ّ يوسف تلبية رغبة الس ّيدة
ف م ِعي ما فِي ا ْلبي ِ ِ ِ ِِ
تَ ،وك ُُّل َما َل ُه َقدْ َْ ما قولهَ « :أ َبى َو َق َال ال ْم َر َأة َس ِّيدهُ :ه َو َذا َس ِّيدي الَ َي ْع ِر ُ َ َ
ت َأ ْع َظم ِمنِّي .و َلم يم ِس ْك َعنِّي َشي ًئا َغير ِك ،ألَن ِهذا ا ْلبي ِ ِ ِ
َّك ْ َْ َ ْ ُْ َ َد َف َع ُه إِ َلى َيديَ .ل ْي َس ُه َو في َ َ ْ
يم َو ُأ ْخطِ ُئ إِ َلى اﷲ؟» .46لقد ماثل يوسف في خطابه بين ِ
الش َّر ا ْل َعظ َ
هذا َّ ف َأ ْصن َُع َا ْم َر َأ ُت ُهَ .ف َك ْي َ
والشر ،وعدّ ارتكابها خطيئة .وسيكون مفهوم ّ الخيانة ،باعتبارها سلوكا اجتماع ّيا مذموما،
المسيحي مثلما سنرى الحقا.
ّ الشر في الالهوت
الخطيئة أحد المعاني البارزة لمفهوم ّ
الشر بمعنى األلم والمعاناة التي يمكن أن تصيب اإلنسان بسبب سلوك يحضر ّ
النبي يوسف حين تعاون أبناؤه خاطئ من غيره .وقد ُس ّلط هذا النوع من ّ
الشر على والد ّ
للتخ ّلص من يوسف بر ْم ِيه في البئر ،فتأ ّلم يعقوب بسبب سلوك أبنائه ،وتضاعف ألمه
ونصه:الصغير في مصر ،واإلصحاح األخير من التكوين ّ عندما حجز يوسف أخاه ّ
ال ُم َم َع إِ ْخ َوتِ ِه .ألَنِّي
ال ِمَ ،ع ْبدً ا لِ َس ِّي ِديَ ،و َي ْص َع ِد ا ْل ُغ َ
ُث َع ْبدُ َك ِع َو ًضا َع ِن ا ْل ُغ َ
اآلن لِ َي ْمك ْ
« َف َ
يب َأبِي»ُ 47يثبت ذلك. ِ ال َأ ْن ُظر َّ ِ ِ ِ ف َأ ْص َعدُ إِ َلى َأبِي َوا ْل ُغ َ
الش َّر ا َّلذي ُيص ُ ال ُم َل ْي َس َمعي؟ ل َئ َّ َ َك ْي َ
النبي يعقوب ،بسبب كيد اإلخوة ليوسف والتّفريط فقد اعتبر المتك ّلم في ّ
النص معاناة ّ
شرا يصيب والده.
في أخيهم األصغرّ ،
للشر في سفر التكوين مثل تجاوز حدود النظام القائم والغدر ٍ ّ
إن ما عرضنا من معان ّ
.45تكوين.19/19 :
.46تكوين 7( 39 :ــ .)9
.47تكوين 33( 44 :ــ .)34
رماعلا نيّدلا حالص .د 102
التوراتي وأعاد
ّ والخيانة والمعاناة واإلساءة ،هي معان اجتماع ّية قديمة ت ََم َّثلها ّ
النص
أن توسيعشك في ّ
السابق ويتمايز معه ،وال ّ ديني جديد يتماثل مع ّ
إنتاجها ضمن سياق ّ
معاني أخرى.
َ اليهودي يمكن أن تفرز
ّ دائرة البحث في التّراث
2ـ مقولة الش ّر في المسيح ّية:
نشأت المسيح ّية وترعرعت في أحضان اليهود ّية من جهتين أساس ّيتن :جهة أولى
تتم ّثل في انتماء عيسى بن مريم إلى بيت داود اليهودي ،وجهة ثانية ترتبط بدور اليهودي
الفريسي شاؤول في نشأة المسيح ّية المكتوبة والمتداولة بين األمم ،وصار شاؤول
ّ
نبي المسيح ّية معنى االستمرار ّية والتواصل بين الدّ يانتين الرسول بولس .وقد أكّد ّ ّ
الكتاب ّيتين حين خاطب تالمذته قائال« :الَ َت ُظنُّوا َأنِّي ِج ْئ ُت ألَ ْن ُق َض النَّا ُم َ
وس َأ ِو األَنْبِ َيا َء.
َما ِج ْئ ُت ألَ ْن ُق َض َب ْل ألُك َِّم َل».48
الرسل مقولة الخطيئة من المسائل األساس ّية التي حافظت عليها األناجيل وأعمال ّ
الرب ،وحدث االنزياح بتأثير من الح ّية
األول على أوامر ّ
الناتجة عن انحراف اإلنسان ّ
التوراتي ،فالحيلة تعني الخداع وتزييف الواقع وإيقاع الضح ّية في
ّ المتح ّيلة في الوصف
األول فأكل من الشجرة الممنوعة ،فتجاوز النظام
المحظور ،وقد انطلت على اإلنسان ّ
الشرور الحادثة في الوجود بعد أن كانت الحياة اإللهي في الجنّة ،وكان سلوكه أولى ّ
الشر إالّ انحراف من اإلنسان على والنظام والخير .فاألصل في الوجود هو الخير ،وما ّ
ت ا ْل َخطِ َّي ُة إِ َلى ا ْل َعا َل ِمَ ،وبِا ْل َخطِ َّي ِة ا ْل َم ْو ُت».49
اح ٍد د َخ َل ِ
َ
ان و ِ
ٍ
الخير .فـ«بِإِن َْس َ
ومبررا لرسالة يسوع المسيح.صارت الخطيئة مقولة أساس ّية في فلسفة المسيح ّية ّ
والشر على النحو التّاليُ « :يدعى خيرا ّ
كل ما ّ الكتابي» الخير
ّ وعرف «معجم ّ
اللهوت ّ
يكولوجي ...وعلى العكس
ّ الس
الجسدي أو ّ
ّ الصعيد
يسهل الحياة في ّ
يس ّبب السعادة أو ّ
وباألخص إلى الموت هو
ّ من ذلك ّ
كل ما يؤ ّدي إلى المرض أو األلم بجميع أشكاله،
شرا من ّ
الشرور ،بل هي أخطرها شر» .وقد أ ّدت الخطيئة إلى الموت ،فكانت بذلك ّ
50
ّ
.48متّى.17/5 :
.49روم ّية.12/5 :
.50كزافييه ليون دوفور ،معجم الالهوت الكتايب ،إرشاف عىل الرتمجة والتنظيم أنطونيوس نجيب ،ط،2.
،1986دار املرشق ،بريوت ،ص.334
103 نايدألا يفّرشلا ةلوقم
الصراع واأللم
باعتبارها نزلت باإلنسان من الجنّة إلى األرض ومن الخير والسعادة إلى ّ
والمعاناة ومن الحياة األبد ّية والخلود إلى الموت.
يدفع الحديث عن األخالق في المسيح ّية إلى العودة إلى كتابات ّ
اللهوتي
المتفلسف القديس أغسطين (تـ430.م) ( ،)Saint Agustinفقد بنى أسس فلسفته
الرسل،
التوراتي ،وأسهم في تواصله في األناجيل وأعمال ّ ّ األخالق ّية على الطرح
السابق لمسألة ونخص من ذلك ما تع ّلق بالخطيئةّ .
ثم إنّه أكّد بنوع من التّمايز مع ال ّطرح ّ ّ
الرب
تمرد على وص ّية ّ أن األصل في وجود اإلنسان هو الخير ،غير ّ
أن اإلنسان ّ الشر ّ
ّ
الشر إلى حياة
الشر .وقد استوجب استجالب ّ
بتأثير من الح ّية فكانت الخطيئة ،وكان ّ
اإلنسان في تقديره العقاب العادل .وقال في هذا السياق« :لقد خلق اﷲ اإلنسان سليما
مستقيما ألنّه خالق الطبيعة من دون األلم ،ولك ّن اإلنسان قد خطئ بحر ّيته فعوقب
بعدل».51
ذريته بالوراثة.
لم يقتصر أثر الخطيئة واآلثام على األب المخطئ ،بل انتقلت إلى ّ
وأعاد أغسطين ال ّثقة باإلنسان وإبالغه مضمون الوص ّية اإلله ّية من دون إجباره على
للمرة األولى ،إلى اإلفراط
الشر إلى الوجود ّ
االلتزام بها ،وارتكاب الخطيئة وإدخال ّ
في الحر ّية .وقال في هذا السياق« :على هذا النحو من اإلفراط في الحر ّية ،نتج زمن
البشري الفاسد في ينبوعه
ّ الشر ،وسلسلة طويلة من الشقاء امتدّ ت وسارت بالجنس ّ
وشبه المهترئ في أصله إلى الموت ال ّثاني» .52وذهب فيلسوف األخالق في المسيح ّية
ّ
إبليس/الشيطان الشر بعد أن كان الوجود ك ّله خيرا ،فاعتبر ّ
أن أبعد في مسألة وجود ّ
األول ،وبسبب
شريرا ولكنّه أصبح كذلك بسبب سلوك يشبه سلوك اإلنسان ّ لم ُيخلق ّ
الكتابي ،فهو
ّ الشيطان من المالئكة في التم ّثل الدّ يني
أن ّشريرا .53باعتبار ّ
إرادته صار ّ
التمرد على اإلرادة اإللهية والوقوع في
ّ شرا محضا بل صار كذلك بسبب لم يكن ّ
وحجة أغسطين في هذا
ّ الشرور مع البشر. الخطيئةّ ،
فإن المالئكة شريكة في ارتكاب ّ
.51القديس أغسطني ،مدينة اهلل ،نقله إىل العربية األسقف يوحنّا احللو ،ط ،2007 ،2.دار املرشق ،بريوت،
ج ،2.ص .126
.52م.ن ،ص .126
.53م.ن ،ص .29
رماعلا نيّدلا حالص .د 104
عالمي البشر والمالئكة يحتويان أخيارا وأشرارا ،ويقع األشرار من
ْ التم ّثل هي ّ
أن
والشر بعد االستسالم لهذيان قدرتهم الشخص ّية ،فيسقطون من
ّ الجانبين في الخطيئة
الصالحين أعالي الخير األسمى .وأكّد هذا المعنى قائالْ :
«أن تكون ميول المالئكة ّ
والرغبات فيهم ،وليست وليدة االختالف في
واألشرار المتناقضة وليدة التناقضات ّ
الطبيعة والمبدأ طالما أنّهم جميعا من خلق اﷲ ...وعلى هذا النحو يتّحد البعض باﷲ
فيسعدون ،ويتخ ّلى اآلخرون عن اﷲ فيش َق ْون» .54فاﷲ يعني الخير في فلسفة أغسطين،
بالتمرد على وصاياه أو عدم االلتزام بها تعني التعاسة والشقاء والمعاناة .وهي
ّ وخيانته
األول من البحث.
الشر التي حدّ دناها في القسم ّ
عالمات ّ
رفض توما اإلكويني (تـ1274.م) ( )Saint Thomas d’Aquinفكرة أن يكون غياب
شر أو شرور .إزاء ذلك الشرّ ،
ألن األشياء التي لم توجد تبعا لهذا الفهم هي ّ الخير هو ّ
مستحق بالنّوع ،كالعمى الذي يم ّثل حرمانا من البصر
ّ الشر عنده الحرمان من خير
يكون ّ
الشر انعداما للماهية .ويكون الخير بذلك
أو انعدام اليدين من جسد اإلنسان .ويكون ّ
الشر حادثا ،أي فرعا ناتجا عن حرمان ما.55
األصل في الوجود ،ويكون ّ
الشر مثل الشياطين،
تطرق األكويني إلى القوى غير المرئ ّية المسهمة في حدوث ّ
ّ
وحاول تحديد دورها في دفع اإلنسان إلى ارتكاب ّ
الشرور قياسا على حادثة شجرة
للشر الذي لم يكن موجودا
المعرفة في سرد ّية الح ّية والمرأة .واعتبر الشيطان مصدرا ّ
التمرد .وأكّد
ّ في اإلنسان قبل تجاوزه وصايا الرب ،وقبل أن يختار الشيطان بدوره
ّ
أن المالئكة ،ومن بينها ّ
الشياطين ،قادرة على تغيير إرادة اإلنسان الخ ّيرة ودفعه إلى
شراح الكتاب المقدّ س قولهّ :
«إن والشر .وفي اإلطار نفسه نقل عن بيدا أحد ّ
ّ الخطيئة
الدمشقي قوله في كتاب
ّ الشيطان ليس يلقي الهواجس القبيحة بل يضرمها» ،ونقل عن
الشياطين ،وقد ُأذن لهم
شر وكل هوى قبيح فهو صادر عن ّ «التعليم المستقيم»ّ :
«كل ّ
الرش بني علم الكالم والفلسفة» ،ضمن جم ّلة مدارات فلسف ّية ،2006 ،املغرب،
.58حممد بوهالل« ،معضلة ّ
ص ( 14ص ص 7ــ .)42
.59م.ن ،ص .14
.60الشيخ املفيد ،تصحيح اعتقادات اإلمام ّية ،حتقيق حسني درگاهي ،ط1413 ،1.هـ ،املؤمتر العاملي أللفية
الشيخ املفيد ،قم ــ إيران ،ص .68
107 نايدألا يفّرشلا ةلوقم
.61القايض عبد اجل ّبار بن أمحد األسد أبادي ،األصول اخلمسة ،حتقيق وتقديم فيصل بدير عون ،ط،1.
،1998جلنة املطبوعات بجامعة الكويت ،الكويت ،ص.76
.62الشيخ املفيد ،تصحيح اعتقادات اإلمام ّية ،ص.43
.63القايض عبد اجل ّبار بن أمحد األسد أبادي ،املغني يف أبواب التوحيد والعدل ،حتقيق ،د.ت ،الدار
املرص ّية للتأليف والرتمجة ،ج ،6ص ص 178ــ 180ــ .239
.64تكوين.31/1 :
.65متى.11/7 :
.66سورة السجدة.7/32 :
ُينظر أيضا :جعفر السبحاين ،اإلهليات عىل هدى الكتاب والسنّة والعقل ،بقلم حسن حممد مكي
العاميل ،ط1430 ،7.هـ ،مؤسسة اإلمام الصادق ،قم ــ إيران ،ج ،1.ص.273
رماعلا نيّدلا حالص .د 108
سيتّضح هذا المعنى في تخصيص مباحث للحديث عن خلق اإلنسان ألفعاله
أن من يفعل الظلم يكونوعن مسؤوليته في ما يعمل .فالقاضي عبد الج ّبار اعتبر ّ
الشر
ّ ظالما ومن يقيم العدل يكون عادال ،وهذا ال يجيز القول على اﷲ إنّه خلق
شريرا بهذا المعنى .ودافع القاضي عن خ ّير ّية اﷲ المطلقة فقال« :وقول ألنّه سيكون ّ
وجل[ :ما تَرى فِي َخ ْل ِق الرحم ِن ِمن َت َفاو ٍ
ت] وقوله [الذي َأ ْح َس َن ك َُّل ّ عز
اﷲ ّ
ْ ُ َّ ْ َ َ َ
أن هذه األفعال [صن َْع ال َّل ِه ا َّل ِذي َأ ْت َق َن ك َُّل َش ْي ٍء]ّ ،
يدل على ّ ٍ
َش ْيء َخ َل َق ُه] وقوله ُ
عز ّ
وجل ،وأنّها من فعل العباد ،وذلك أنّهم يستح ّقون عليها القبيحة لم يخلقها اﷲ ّ
الذ ّم والعقوبة».67
التقى الشيخ المفيد مع القاضي عبد الج ّبار في هذا المعنى حين استحضر قول
أن المولود يولد على الفطرة ،وأبواه يع ّلمانه عقيدته وسلوكه وأخالقه.
النبي (ص) في ّ
المنزهة للذات اإلله ّية عن خلق القبح ّ
والشرور .وقال ّ ودعم بهذا الحديث أطروحته
أن اﷲ تعالى خلق الخلق ليعبدوه، صحة ما قدّ مناه من ّ
في ذلك« :وهذا أيضا مب ّين عن ّ
الضالون من ِق َبل {أنفسهم و} أض َّلهم من الج ّن واإلنس
ليوحدوه ،وإنّما أتى ّ
وفطرهم ّ
دون اﷲ تعالى».68
تكون األعمال بهذا المعنى ضمن دائرة المسؤول ّية المطلقة لإلنسان في أفعاله،
فالشر الذي يحدثه
ّ وعلى أساس ذلك يحاسب يوم القيامة في إطار العدالة اإلله ّية.
اإلنسان ليس قضاء لقدر اﷲ وإرادته ،بل هو نتيجة عدم التزامه بالقوانين ّ
والشرائع
والنّواميس المن ّظمة لوجوده .وقد خاطبت اآلية اإلنسان الفرد بوضوح في هذا
ونصها
الشرّ ، ّ وحملته المسؤول ّية في االختيار بين أعمال الخير وأعمال ّ المعنى
ِ ِ ٍ ِ ِ ِ ٍ ِ
[ َما َأ َصا َب َك م ْن َح َسنَة َفم َن ال َّله َو َما َأ َصا َب َك م ْن َس ِّي َئة َفم ْن َن ْفسك] .69وقد فتح هذا
التم ّثل الحديث عن الحر ّية في اإلسالم على قاعدة تم ّيز اإلنسان بالمسؤول ّية والعقل
عن سائر المخلوقات ،وعن إرادته الكاملة في اختيار ما يفعل .وما نخلص إليه في
أن المتك ّلمين المسلمين حافظوا على اإلطار العا ّم لمفهوم ّ
الشر خاتمة هذا العنصر ّ
الخاتمة:
والضيق يستفز مشاعره ويعكّر صفو حياته ويس ّبب له األلم ّ ّ إن وعي اإلنسان بما ّ
الشرور ،وح ّثه والمعاناة ،هو ما دفعه إلى التفكير في وجوده بجد ّية أكبر لمواجهة ّ
على البحث عن أجوبة لألسئلة التي شغلته باستمرار ك ّلما تر ّقى وعيه و ُأتيحت له
الشر في سياق اجتماعي بحت ،وشكّل آليات المراجعة .وقد نشأ هذا الوعي بمقولة ّ
تياألخالقي على ثنائ ّي ْ
ّ تخصص في أخالق اإلنسان ،وقد تشكّل النظام مبحثا حرك ّيا ّ
والشر .ومع فاتحة السلسلة الدّ ين ّية الكتاب ّية تد ّعمت مكانة هذا المبحث وصارّ الخير
استمر
ّ أساسا في بناء العقائد ،وارتبط ارتباطا وثيقا بما وراء الطبيعة والوجود ،بعد أن
االجتماعي لألديان ،وسعينا إلى إثباته في
ّ طويال في التّاريخ .وهذا ما اعتبرناه البعد
البحث ك ّله.
واللحقّ ،
فإن السابق ّ لئن حرصت المنظومات الدين ّية على التّمايز بينها وبين ّ
وكرر بعضها البعض اآلخر. الشر تقاطعت إلى حدّ التطابق أحياناّ ، تم ّثالتها لمقولة ّ
والشر بصورة اإلله الواحد ،وجد المتك ّلمون في الدّ يانات ال ّثالث
ّ وبسبب ربط الخير
الشر عكس ما أقدم عليه الفالسفة. علمي صارم لمقولة ّ ّ صعوبة في تحديد مفهوم
وهذا ما دفع أغلبهم إلى تقديم الرأي ونقيضه أحيانا بسبب تغليب الجانب العرفاني
على الجانب العلمي .وباعتبارنا في سياق مقارني ،نذكّر ّ
بأن المقاربتين المسيح ّية
الشر
واإلسالم ّية تمايزتا مثلما تماثلتا؛ ففي حين رفعت المسيح ّية من شأن مقولة ّ
وقدّ مت المسيح قربانا لتخليص البشر ّية من أثرها ،ق ّلل المسلمون من شأنها
وجعلوها فرعا ألصل هو القبح ،وراهنوا على إرادة اإلنسان الخ ّيرة وحكمته للحدّ
من آثارها ولِ َم لم يتجاوزها .والسبيل عندهم هو االلتزام بروح اإلسالم والتق ّيد
بشريعته.
رماعلا نيّدلا حالص .د 110
محمد ،الكتاب والقرآن قراء معاصرة ،ط ،1990 ،1.دار األهالي ،دمشق.
-شحرورّ ،
-الشيخ المفيد ،تصحيح اعتقادات اإلمام ّية ،تحقيق حسين درگاهي ،ط1413 ،1.ه،
المؤتمر العالمي أللفية الشيخ المفيد ،قم ــ إيران.
-عبد الرحمان ،خليل ،أفستا الكتاب المقدّ س للديانة الزرادشت ّية ،ط،2008 ،2.
روافد للثقافة والفنون ،دمشق.
محمد ،الديانة في مصر الفرعون ّية ،1984 ،القاهرة. -عبد القادرّ ،
-عثمان ،فارس ،زرادشت والدّ يانة الزرادشت ّية ،2003 ،دار المح ّبة ،دمشق.
-عجيبة ،أحمد علي ،زرادشت في األديان الوثن ّية القديمة ،ط ،2004 ،1.دار اآلفاق
العرب ّية ،القاهرة.
الشر في مصر القديمة ،ط ،2018 ،1.الهيئة العامة -علي ،عبد الحليم علي ،مفهوم ّ
المصرية للكتاب ،القاهرة.
-غالبيل ،دومنيك ،الناس والحياة في مصر القديمة ،ترجمة ماهر جويجاتي ،ط،2.
،2001دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع ،القاهرة.
-القاضي عبد الج ّبار بن أحمد األسد أبادي ،المغني في أبواب التوحيد والعدل،
تحقيق ،د.ت ،الدار المصر ّية للتأليف والترجمة ،ج.6
-القديس أغسطين ،مدينة اﷲ ،نقله إلى العربية األسقف يوحنّا الحلو ،ط،2007 ،2.
دار المشرق ،بيروت ،ج.2.
-القدّ يس طوما األكويني ،الخالصة الالهوت ّية ،ترجمه من الالتين ّية الخوري بولس
عواد ،ط ،1891 ،1.المطبعة األدبية ،بيروت ،مج.1 ّ
مجرد العقل ،نقله إلى العربية فتحي المسكيني، -كانط ،إيمانويل ،الدِّ ين في حدود َّ
ط ،1.جداول للنشر والتوزيع بيروت.
-كريستينس ،أرثر ،إيران في عهد الساسيانيين ،ترجمة يحي الخشاب ،ط ،1.د.ت،
دار النهضة العرب ّية ،بيروت
-مجهول ،متون األهرام المصر ّية ،ترجمة (عن الهيروليف ّية القديمة) حسن صابر،
ط ،2002 ،1.المجلس األعلى للثقافة ،مصر.
-لوبون ،غوستاف ،اآلراء والمعتقدات ،نقله إلى العرب ّية عادل زعيتر ،ط،1995 ،1.
دار المعارف ،سوسة ــ تونس.
د. رماعلا نيّدلا حالص 112
. بيروت، دار الكتب العلم ّية،1996 ،1. ط، الفهرست،ابن النّديم-
ثنائية الخير والشر إحدى ثنائيات اللغة ،مثل :الكامل والناقص ،والوحدة
والكثرة ،والجميل والقبيح ...الخ ،جميعها مرتبط بطبيعة اللغة وال يمكن أن تقوم
لها قائمة باالستقالل عن اللغة.كما أنه ال شيء في هذا الوجود مستقل عن اللغة.
اإلنسان هو عقدة االتصال بين الوجود واللغة وهو الموحد بينهما .واإلنسان بهذا
المعنى ليس مفهوم اإلنسانية الواسع الفضفاض بل هو الذات البشرية الواحدة التي
تمثلها األنا الواعية التي نصل إليها بـ «أنا أفكر» الديكارتية ،والتي أسميتها (الضمير)
بالمعنى النحوي لهذه المفردة ،أي (ضمير أنا) ،وبالمعنى األخالقي لمفهوم الضمير
بوصفه الحاكم على ما هو خطأ أو صواب.
وهكذا يكون الضمير معيارا ألخالق مطلقة على الرغم من ارتباطه التام
باإلنسان .هذا االرتباط ال يجعل من األحكام األخالقية نسبية بل يجعلها مطلقة ألن
األنا هي المرجع األهم واألكثر ثباتا لتعلق الوجود واللغة به .ومع ذلك يبقى الوجود
بمعناه المطلق المرتبط بالضمير وباللغة متعاليا على أحكام الخير والشر ،ألن هذه
األحكام ظرفية متعلقة بحالة الجسد وحمايته واستمرار بقائه وليست مؤثرة بحال
الوجود الذي ال يتأثر بالشر أو الخير سلبا أو إيجابا.
وهكذا تكون األخالق في قصاراها مطلقة وليست نسبية ،وهي بموجب هذه
الرؤية وحدها من الممكن أن تكون مطلقة وراسخة أكثر مما تدعيه المنظومات
األخرى مهما ربطت نفسها بالمفاهيم والوقائع المادية أو العلمية أو األساطير
.1باحث وأكاديمي عراقي ،أستاذ الفلسفة يف كلية اآلداب بجامعة الكوفة يف العراق.
بولج رذنم .د 114
أو العقائد الدينية ،ألن ذلك يحيلها ويربطها بمتغيرات أخرى تنزع عنها إطالقها
وتجعلها متغيرة بحسب ما ترتبط به فتكون نسبية بالضرورة.
.2احلديث عن اإلنسان هنا له جانبان؛ اجلانب األول هو جانب الضمري أو (األنا) وهو احلديث عن
اإلنسان بوصفه مركز الوجود من خالل األنا أفكر التي هي واجب الوجود وأساسه الذي ينتفي
الوجود بانتفائه ،وهذا اجلانب هو املطلق الذي حيدد قيمة كل يشء من ناحية الوجود واملعرفة
واألخالق واجلامل ...الخ .وهناك جانب آخر للحديث عن اإلنسان ،وهو احلديث عنه بوصفه
كائنا حيا اجتامعيا ضمن حميط ويصارع من أجل بقائه ،وهو مصدر ما هو نسبي يف الوجود.
فاإلنسان عموما حيدد ما هو مطلق من جانب ،وحيدد ما هو نسبي من جانب آخر.
115 رشلاو ريخلا اعبنم
يقول عن اإلنسان« :إنه يعيش بين كل األشياء التي تعاني األلم في عالمنا الواسع
كله» ،3فهو واقع بالخطأ نفسه ،ألنه طبعا يعني أنه شر بحق اإلنسان ،وهذا الجواب
مبتسر لم يشمل اإلجابة عن التقييم بالنسبة للوجود بحد ذاته ككل .وشوبنهاور
يقصد باإلرادة الشريرة التي تحكم العالم ما يشبه إله األديان ،سوى أن هذا اإلله
وهذه اإلرادة هي شريرة بحسب زعم شوبنهاور ،وخيرة بحسب زعم األديان.4
أما إذا نظرنا إلى األمر مع مجمل موقفنا وطرحنا لمسألة الوجود والضمير
واﷲ ،ولم ننظر إلى اﷲ على أنه كائن منفصل مشخص بل هو مرتبط بالضمير،
كنقطة تركز ،وأنه الوجود كله والضمير معا .ففي هذه الحالة يكون طرح سؤال
قيمة الوجود وهل هو خير أم شر أشد وطأة .وأيضا تتبين لنا استحالة القول بأن
الوجود خير أم شر .ويعود لإلنسان الفرد حسب ميوله النفسية ومنظومة عقائده
أن يتخذ قرارا بينه وبين نفسه ،كون الوجود خيرا أو العدم هو األفضل .فقد يقرر
المتدين أن الوجود خير ألن اﷲ خير .لكنك حين تواجهه بالسؤال :ماذا سيكون
عليه األمر لو أن الوجود واﷲ وكل شيء لم يكن موجودا وبضمنها الضمير؟ عندها
يكون موقفه صعبا ،وإجابته مهما كانت سلبا أو إيجابا ،ال تبرير لها .وكذلك ينطبق
األمر على غير المتدين.
أتعاطف مع المتدين الذي يجد نفسه في حياة وهو مطالب بعدة التزامات وأوامر
وكل شيء خارج نطاق اختياره ،ألنه مفروض من قوة ثابتة مطالب بالتمسك بهاّ ،
عليا ،فأجد نفسي أفهمه تماما لو رأى أنه لو لم يوجد من األساس لكان أفضل وأكثر
راحة وأن الوجود واﷲ والضمير ،لو لم توجد لكان أفضل .لكن ذلك محال من
حيث المبدأ ،بسبب اضطرارنا للجزم بأن العدم مستحيل بحكم كونه عدما وبحكم
طبيعة اللغة ،وأن الوجود يكتسب ضرورته من ضرورة الضمير الذي هو واجب
الوجود.
3. Schopenhauer; The World as Will and Representation, vol. 1, translated by: Judith
Norman and others, Cambridge University Press, New York - USA, 1st edition,
2010, p. 381.
.4كريسون ،أندريه؛ شوبنهور ،ت :أمحد كوي ،دار بريوت للطباعة والنرش ،بريوت ،1958 ،ص 147
فام بعدها.
بولج رذنم .د 116
وبهذا فإن السؤال عن المفاضلة بين الوجود والعدم المطلق الذي يشمل انعدام
األنا يسقط وال تعود من إمكانية لطرحه أو طرح أي سؤال غيره ،إذ إن ذلك سيتضمن
انتفاء اللغة فضال عن انتفاء األنا والوجود .فمن الواضح أنه يمكن السؤال عن إمكانية
انتفاء العالم ،أو إمكانية انتفاء اﷲ ،لكن ال يمكن السؤال عن إمكانية انتفاء اللغة أو
انتفاء األنا .إذ ينتفي عندها السائل والمسؤول والسؤال كليا.
5. Ross, James F., «Thomas Aquinas, Summa Theologiae (ca. 1273), Christian
Wisdom Explained Philosophically», in The Classics of Western Philosophy:
A Reader’s Guide, (eds.) Jorge J. E. Gracia, Gregory M. Reichberg, Bernard N.
Schumacher (Oxford: Blackwell Publishing, 2003),
كذلك ينظر:
موسى ،حممد يونس؛ تاريخ األخالق ،القاهرة ،1953 ،ص.158
.6أنظر :أوغسطني؛ مدينة اهلل ،ت :أسقف يوحنا ،بريوت ،ج ،2ط ،2ص.70
117 رشلاو ريخلا اعبنم
الحال أن هذا الوصف ينطبق على جميع آلهة الديانات التي استماتت من أجل
إثبات كماله وال نهائيته ،لكن حجة األكويني اآلنفة فضال عن تاريخ من نقد الحجج
على وجوده وعلى النهائيته وكماله ،أبطلت إمكان اتصافه بالالنهائية لمجرد وجود
موجودات غيره) .وكما قال إيمانويل كانت ،إن اإلله ال بد من أن يكون كلي القدرة
ضروري الكمال بحكم التعريف والمفهوم .وإذا لم يكن كامال فليس هو بإله.7
وأما إن وجدت آلهة متعددة ،منها ما هو خير ومنها ما هو شرير ،لكي نبرر وجود
الشر في هذا العالم ،فتكون الصورة لدينا أن هذا العالم هو عبارة عن مسرح قبيح
سمج يديره آلهة متصارعون يقتتلون بأدوات من بشر .وهي فكرة غير جديرة بإله
على اإلطالق ناهيك عن كونه خيرا ،هذا يضاف إلى أنه من المتناقض أن يوصف إله
بأنه شرير .8اإلله ،ضروري الوجود ،وجود مطلق فوق الخير والشر ،وبهذا االعتبار
فهو ال يسمح بوجود الشر .لكن الشر موجود ،فأين اﷲ؟ هذا السؤال كانت إجابته
في موضع آخر .لكن السؤال الحالي هو ،من أين جاء الشر ،سواء أكان اإلله موجودا
أم غير موجود؟
.7كنط ،عامنويل؛ نقد العقل املحض ،ت :موسى وهبة ،دار التنوير للطباعة والنرش والتوزيع.2017 ،
.8قارن :هيوم ،ديفد؛ حماورات يف الدين الطبيعي ،ت :حممد فتحي الشنيطي ،القاهرة ،ط،1956 ،1
ص 124ــ .130
بولج رذنم .د 118
إن مفهوم الكمال هو أحد مظاهر مفهوم الالنهاية ومفهوم الالنهاية حين يدخل
في أي معادلة يخرجها من إطار ما هو معقول وما هو منطقي .وهذا يسري على
جميع المجاالت ومنها مجالي الفيزياء واألخالق .وهو السبب في كل الصعوبات
والمشكالت التي تواجه الفيلسوف الذي يحاول إيجاد مسوغات وحججا لدعم
الدين .فمفاهيم من قبل األزلية والكمال واألبدية والخلود وما شابه ،التي تعول عليها
األديان ،مثل مفهوم الصفر والالنهاية في الرياضيات الذي هو حل ومشكلة في الوقت
نفسه ،فهو يحل مشكالت لكنه يسبب مشكالت أخرى ،ونظيره في الطبيعة مفاهيم
العدم والالنهاية المكانية واألبد واألزل.
.9توجد حجة مهمة عىل وجود اﷲ هي حجة التصميم الذكي التي تعتمد وجود تصميامت ذكية يف العامل
توصلت إليها العلوم التي ال يمكن تفسري وجودها بعمل املصادفة أو االحتامالت فالبد من افرتاض
مصمم فائق الذكاء وراءها .ونرى أن هذه احلجة جيب تصنيفها ضمن حجة النظام التي تعزو كل
نظام يف العامل إىل وجود منظم .وحجة النظام هذه تقع يف خانة احلجة الكوزمولوجية ،فام هي باجلديدة
وتنطبق عليها االعرتاضات والتناقض نفسه.
119 رشلاو ريخلا اعبنم
كافيا لتحقيقها قبل أن نتمناها ،مثلما أن وجود الشر إن لم يكن دليال على عدم وجود
اﷲ ،فهو دليل على عدم وحدانيته 10إذ إننا من أجل تفسير وجود الشر ،ومع إصرارنا
على وجود إله خير ،نحتاج أن نقول بوجود إله آخر للشر .وبذلك نزيد المسألة تعقيدا،
فنحتاج إثباتا لوجود أكثر من إله ،بعد أن عجزنا عن إثبات إله واحد ،ما يضاعف صعوبة
الموضوع ويزيد في تعقيده.
وسأعرض صياغتي لمفارقة الخير ،11هكذا :هل كان بإمكان اإلله أن يجعل هذا
العالم خيرا مما هو عليه؟ من الواضح أن في العالم شرورا من أنواع ومستويات مختلفة
ال ينكرها إال مغمض العيون.12
إن قلت إن اإلله ليس بقادر على أن يجعل العالم خيرا مما هو عليه فقد جعلت
قدرته محدودة ،وهذا ال يتوافق مع تعريفك له على أنه كائن مفارق مطلق القدرات،
وهو ما تصفه به األديان .وإن قلت إنه يقدر ،فما الذي يمنعه من ذلك؟
الحظ أنك مهما حاولت أن تجد من مبرر إلحجام اإلله عن فعل األفضل ،على
الرغم من قدرته التي يفترضها تعريفك له ،فإنك البد واقع في أحد فخين ،إما تحديد
قدرته بطريقة غير مباشرة ،وإما االنتقاص من خيريته .فأن تقول مثال ،إن اإلله ال يجعل
العالم أفضل ألنه يريد اختبار اإلنسان ،أو أن الخير من اإلله والشر من البشر ،فمعنى
ذلك أنك حددت قدرته على تحسين اإلنسان ،أو قدرته على معرفة نتيجة االختبار
سابقا .أي إن قلت إن الخير والشر إنسانيان وليسا مطلقين فذلك لن يعفي اإلله من
المسؤولية .وإن قلت إن اإلله قادر أن يجعل العالم أفضل لكنه ترك تلك المهمة
.10يمكن أن يقال إن الرش واخلري أمران نسبيان ،ومن هنا فاهلل بوصفه واحدا يصدر عنه واحد والتعددية
يف تصنيف املفاهيم خرية ورشيرة عائدة إلينا ،وهو رأي لقي رواجا لدى كثري من الفالسفة املشائني،
غري أن املشكلة فيه أنه يقفز عىل أصل املشكلة وهو من أين جاءت الكثرة يف العامل أو فينا إذا كنا نحن
السبب بموجب ذلك الفهم؟ وهذا ينقل املشكلة إىل سياق آخر ،وهو حل لفظي يعتمد املامحكة هروبا
من أصل املشكلة.
.11يف تاريخ الفلسفة مفارقة الرش التي تعزى إىل أبيقور ومفادها؛ هناك رش يف العامل .اﷲ إما انه ال يقدر عىل
إزالته فهو ليس بقادر .أو أنه يقدر وال يزيله فهو رشير.
.12يرص اليبنتز عىل «أن هذا العامل هو أفضل العوامل املمكنة» وأنه ليس باإلمكان أحسن مما كان .ونيس أنه
يتحدث عن اﷲ املطلق الذي ليس إلمكانه حدود .فبهذا ،وإذا كان اﷲ بقدرته املطلقة جعل كل اخلري
الذي يقدر عليه (وهو بال حدود) ،يف هذا العامل ،فمعنى ذلك أن هذا العامل خال من الرشور.
بولج رذنم .د 120
لإلنسان ،فإن ذلك يستدعي السؤال ،وما الغاية من ذلك؟ فنعود لموضوع حاجة اإلله
لالختبار أو حاجته للمعين ،وكالهما غير الئق بتعريف اإلله المفارق المطلق.
هذه معضلة في غاية الدقة والوضوح ،وهي نقيضة تضرب التعريف الشائع لإلله
بالصميم ،وال خروج منها إال بإعادة تعريف مفهوم اإلله ،ذلك المفهوم المتسبب في
رفض الكثيرين للقول بوجود اﷲ أساسا .وال ينفع الترقيع الذي قدمه بالنتنغا Alvin
،Plantingaوال اليبنتز وقوله إن هذا العالم هو أفضل ما يكون ،أو أنه أفضل العوالم
الممكنة.
والقول بضرورة وجود اﷲ لكي يكتسب الوجود معنى وغاية هو قول جميل
وشاعري أكثر مما ينبغي ،ومجازفة باالدعاء تحتاج إلى إثبات ،فهو أمر يحيلنا من
جديد إلى األدلة والبراهين العقلية والمنطقية ،التي ثبت تهافتها .كل هذا ،وتساوي
أدلة اإلثبات والنقض في القيمة المنطقية يجعل األمرين متعادلين ،أي تتساوى إمكانية
وجود اﷲ مع عدمه ،لكن وجود الشيء يحتاج إلى إثبات ،في حين َّ
أن عدمه ال يحتاج
إلى إثبات ،وهذا يرجح عدم وجوده ،فضال عن أن مسألة وجود الشر في العالم هي
مرجح آخر لمسألة عدم وجود إله يتصف بوجود صفات العدالة والخيرية.
يعيش اإلنسان حياة مليئة بالمتاعب والرزايا واألمراض منذ والدته ونبات أسنانه
اللبنية المصحوبة باأللم والحمى ،يضاف إليها ما يصادفه في حياته من أمراض وآالم
أخرى ،وأحزان فارهة ،مصحوبة بسعادات ولحظات فرح سريعة شحيحة ،ليكمل حياة
قصيرة مهما طالت ،غير معروفة الجدوى والغاية ،لتنتهي بالموت ،كأنها عقوبة غير
مبررة على ذنب غير معروف .أقول غير معروف إذ ال يمكن أن نأخذ على محمل الجد
قول األديان السماوية أنها عقوبة لإلنسان ألن أحد أسالفه أكل تفاحة .فإن كان هذا
القول بقصد اإلشارة إلى واقعة حقيقية فهو غير جدير بإله حكيم ،وإن كان رمزيا يواري
معنى آخر فقد ثبت قولنا إنها عقوبة على ذنب غير معروف.
القانون ثالث مسلمات يقوم عليها هي (اﷲ ،النفس ،الحرية) ،هي ضرورية لقيام الفعل
األخالقي ،فمن دون فكرة وجود اﷲ والنفس وحرية اإلرادة في العقل لن توجد أخالق
مطلقة لدينا .فوجود اﷲ يحقق اإللزام بالواجب األخالقي ،وهو ضروري أيض ًا من أجل
تحقيق تطابق السعادة والفضيلة األخالقية في عالم أفضل يتطلب وجود اﷲ بوصفه
خير ًا أسمى ،يحقق السعادة والعدالة في حياة أخرى ،ذاك أن السعادة التي ال توجد وال
يمكن أن توجد في هذه الحياة هي الغاية.13
هنا نجد أن كانت قد وضع العربة أمام الحصان .فهو من أجل أن يثبت وجود اﷲ
افترض سابقا وجود اﷲ .فكأنه يقول إن اﷲ موجود من أجل أن يثيب ويعاقب ،اﷲ
موجود من أجل األخالق ،واألخالق موجودة بسبب اﷲ .فجعل منه نتيجة وسببا في
عملية دائرية محيرة متهافتة .ويمكن الرد ببساطة عليه بالقول :هناك مظالم لن يعاقب
أحد عليها .كانت بعد كل جهده الجهيد وعمله على العقل النظري أراد بعجالة أن يحل
مسألة الوجود واألخالق من خالل دور منطقي يبني كال منهما على اآلخر .فبعد أن
قوض جميع أسس بناء البيت نراه يريد أن يبني سقفا وصالة فسيحة فوق ذلك السقف.
مسلمات كانت األخالقية الثالث هي أفكار مركبة وليست بسيطة ،فال توجد في
الذهن فكرة أولية بسيطة عن اﷲ ألنها فكرة في غاية التركيب ،تختلف ،إن وجدت،
من شخص آلخر حسب البيئة والتنشئة والعوامل النفسية .ومثل هذا القول ينطبق
على فكرة النفس والحرية .فهذه المسلمات ال توجد في الواقع كما أقر كانت نفسه،
وهي أيضا ال يمكن أن توجد في العقل .إن ما يوجد أساسا هو الفكرة األولية الناشئة
من معنى (أنا موجود) .إنه الضمير المحض الذي يبدأ منه االنتقال إلى الوجود وإلى
األخالق .وهذا الضمير حر بحكم أوليته فهو ليس محكوما بما قبله أو فوقه ألنه أول
وهو فوق كل ما سواه.
ومن ناحية أخرى نجد أن الدليل األخالقي عند كانت سببه اليأس من تحقيق العدالة
على األرض .وهذا اليأس هو أحد أهم الدوافع وراء القول بحياة أخرى أهم مميزاتها
ثواب األخيار وعقاب األشرار ،فهي تمثل األمل في عدالة مؤجلة أمام اليأس من عدالة
.13كانط ،إيامنويل؛ نقد العقل العميل ،ترمجة :غانم ،هنا ،املنظمة العربية للرتمجة ،بريوت ــ لبنان ،ط،1
،2008ص 218ــ .219
بولج رذنم .د 122
آنية .عدالة تالحق الذين أفلتوا منها وقضوا حياتهم في نعيم على الرغم مما ارتكبوه من
شرور .ولو أن الناس ضمنوا تحقيق العدالة على األرض واستمروا بالعمل على ذلك
حتى يصير غاية يؤمنون بإمكانية تحقيقها ألفرغ الدليل األخالقي من قوته ،لكن فكرة
اﷲ هنا بوصفه العادل المؤجل تسمح بتأجيل مطلب العدالة على األرض.
ومثلما أن إدراك النقص كان سببا في التفكير بالكمال والتوق إلى وجوده ،هذا
التوق والرغبة بوجود الكامل اختلط باإليمان بوجوده ثم محاولة التدليل على وجود
الكامل والتأكيد عليه من خالل االصطدام بالناقص ،وهكذا كان القول بوجود الكامل
تم جعله كائنا متعاليا
ليس من ضمن موجودات العالم التي تعلن نقصها كل حين بل ّ
ليتم إبعاده عن نقائص الواقع.كذلك كان االصطدام بالظلم وكانت الرغبة بالعدل سببا
بالقول بوجود هذا العدل ،وألن الواقع الناقص البعيد عن الكمال ال يمكنه استيعاب
عدل كامل مطلق ال تشوبه المظالم تم إبعاد هذا العدل التام وتأجيله زمانا ومكانا إلى
حياة أخرى.
األنا أو الضمير:
البد من عرض ملخص لما نعنيه بالضمير وهو المفهوم الذي يمثل أهم مرتكز في
موقفنا الوجودي والمعرفي والقيمي .وهو الفهم الذي من خالله نقدم رؤيتنا لمجمل ما
هو كائن .14ما أعنيه باألنا أو الضمير ليس االيگو 15 egoبالمعنى السيكولوجي الشائع
أو المعنى اللغوي المعتاد ،ذاك أن االيگو مع ارتباطه بالهوية فهو جزء من الوعي وهو
متصل بالجسد والجهاز العصبي من هذه الناحية .أما الضمير فهو يقع فوق االيگو .وهو
مختلف عن الالوعي الذي يتحدث عنه النفسانيون فذاك أيضا يقع ضمن المجموعة
نفسها وهو أحد عناصرها ،أعني مجموعة نواتج العمليات المشتركة التي يقوم بها
الجهاز العصبي ليحدد عالقة الجسد بالعالم وتعامله معه وطريقة حفظه من المخاطر
وهذه النواتج تعين لذاتها هوية موحدة تحدد ذاتها وتتعرف إلى ذاتها بواسطتها وتلك
.14تفصيل ذلك يأيت يف كتاب؛ منذر جلوب :الوعي والعدم .حتت الطبع.
15. Your ego is your conscious mind, the part of your identity that you consider your
«self.» If you say someone has «a big ego,» then you are saying he is too full of
himself. www.vocabulary.com. dictionary.
123 رشلاو ريخلا اعبنم
هي االيگو .هذه االيگو بهذا المعنى تكون محايدة وفارغة من الفاعلية وتابعة لمن
أسسها ومقيدة وبال حرية إطالقا ألنها مجرد وسيلة وواسطة ليس لها استقالل .هي
تربط الوعي بالضمير أو هي أداة الضمير للتحكم بالجسد.
في محاولة بلوغها .عملت األديان على استبدال مثال أفالطون بشخوصها التاريخية
وأسطرتها وجعلها كيانات خارج حدود المقدرة البشرية االعتيادية محيطة إياها
بالتقديس رافعة إياها فوق مستوى الوصول إليها والتشابه معها .ونريد التأكيد على
وجود المثال في الذهن الذي لوال وجود المثال فيه لما أدركه وال فكر فيه .هذا المثال
في أذهاننا ال يحتاج إلى التقديس لكن معرفته والتأكد من وجوده عندنا تجعل منه بؤرة
جذب تضطرنا إلى تقليده والسير نحوه ،في حين أن الدين يضع حاجزا بيننا وبينه بسبب
القدسية التي يضفيها عليه .فأن تجعل كيانا ما مقدسا معناه أن تجعله بعيدا مفارقا عصيا
على النيل.
يرى أنسلم أني أجد في ذهني فكرة عن كامل ال وجود ألكمل منه ،ولو وجد في
الواقع كائن ال وجود ألكمل منه لكان أكمل مما في ذهني ألنه اجتمع له التصور الذهني
والوجود الواقعي ،فالذي ال يوجد ما هو أكمل منه ،هناك ما هو أكمل منه ،فال بد من أن
يوجد في الذهن وفي الواقع.16
هناك تالعب والتفاف ،فالحديث عن اإلمكانية تمت مصادرته ليصبح حديثا عن
الواقع .والحق أن الكائن الكامل في ذهني هناك إمكانية أن يتحقق في الواقع .وهذه
مبرر لعزلها
اإلمكانية طالما أنها بدأت معي فهي غاية يمكن أن أحققها أنا فقط وال ّ
عني.
وفي الجانب االجتماعي يستعير المفكر الفرنسي بيير بورديو المفاهيم التي
يستخدمها من الماركسية ،ويعيد تقديمها من خالل مفهوم رأس المال الثقافي أو
رأس مال رمزي في تقابل مع رأس المال االقتصادي على اعتبار هذا األخير مفهوما
ماديا« .بمعنى أن التمايز االجتماعي ال يقع بالضرورة وال يمكن رؤيته فقط في نطاق
الرأسمال االقتصادي كمدى حيوي بل في نطاق الرأسمال الثقافي الهابيتوس) 17الذي
16. St Anselm; The Oxford Dictionary of the Christian Church, 3rd ed., Oxford: Oxford
University Press, 2005, pp. 73 - 75.
.17اهلابيتوس من املفاهيم املحورية يف بنيوية بورديو ،ويعرفه بأنه «نسق االستعدادات املكتسبة وتصورات
اإلدراك والتقويم والفعل التي طبعها املحيط يف حلظة حمددة وموقع خاص» ،وهو موجه لسلوك الفرد
اعتامدا عىل مرجعية معينة تقع يف البنية الذهنية االجتامعية للفرد (األنا األعىل).
انظر :حجازي ،د .أكرم :البنيوية الرتكيبية ــ فلسفة بيري بورديو ،جملة علوم انسانية ،العدد .20
بولج رذنم .د 126
يسعى إلى تكريس التمايز وإعادة إنتاج الطبقات ال شعور ًّيا ،لهذا فهو يتسم بالعنف
الرمزي تماما مثلما هو الرأسمال االقتصادي الذي يتسم هو اآلخر بعنف مادي».18
من أجل التركيز على مفهوم رأس المال الرمزي وتجذيره وبيان بعده األخالقي
وارتباطه الميتافيزيقي سنهتم بأساسه عند الفرد .فكل فرد يحتفظ في ذهنه بمجموعة
رموز هي بمثابة مثل عليا .مثال يكون شكسبير عند اإلنكليز هو المثل األعلى في
الشعر ،وأخيل هو مثال الشجاعة واإلسكندر المقدوني مثال البطولة عند كثير من أفراد
المجتمعات الغربية ،وهكذا مع تفاوت بين الشعوب واألفراد على وفق البيئة الثقافية
والتنشئة.
إن العناصر أو األسماء التي يتكون منها رأس المال الرمزي هي مجرد وقائع إلثبات
إمكانية تطبيق المثل األخالقية المتعالية على صعيد الواقع .ولقد كانت األديان واألنبياء
والشخصيات المقدسة وسائل للتخفيف من حدة المثال األخالقي في ذهننا والتقليل
من صرامته وإيجاد الوسائل والحيل لاللتفاف حوله عند التطبيق من أجل التماشي مع
الواقع العملي ،كما سنبين.
.18حجازي ،د .أكرم :البنيوية الرتكيبية ــ فلسفة بيري بورديو ،جملة علوم إنسانية ،العدد .20
.19هذا املوقف الذي قد حييل الذهن إىل موقف إيامنويل كانت هو بال شك خمتلف .فكانت يرى أن أوامر
األخالق املطلقة والقواعد األخالقية موجودة وواجبة الطاعة ،فهو يترصف وكأنه واعظ أخالقي ،يف
حني أن موقفنا هنا الذي يؤكد صحة وجود قواعد أخالقية منبعها مبدأ العدالة ،إال أن رضورة تنفيذها
أمر موضع نظر إذا تعارض مع مبدأ حفظ ذات الفرد أو املجموع ،وهذا التعارض واقع ال حمالة .وأن
األخالق العملية بناء عىل ذلك ،تكون أفضل كلام أخذت يف احلسبان مبدأ العدل ووفقت بينه وبني
حفظ البقاء ،وتلك مهمة النظريات األخالقية.
127 رشلاو ريخلا اعبنم
ذلك قد يرتكب بعض هذه األفعال وبكثرة ،فلماذا؟ يعود سبب ذلك إلى العامل اآلخر
الذي يؤثر في السلوك األخالقي لإلنسان ،ذلك هو عامل الحفاظ على البقاء بكل
تفاصيله وتأثيراته التي تتفاوت شدّ تها وأثرها تبعا للظرف والحال والتربية والبيئة.
اإلنسان يدرك أن القتل شر ،ومع ذلك يبيح لنفسه قتل الحيوانات من أجل الغذاء،
ألنه يجد أن في ذلك ما يحافظ على بقائه ،حاله في ذلك حال بعض األقوام من أكلة
البشر ،وهم بذلك يسيرون على ناموس الحفاظ على البقاء .ولوال وجود البدائل التي
تضمن للناس استمرارهم لكان أكل الناس للحوم بعضهم البعض أمرا مألوفا ،مثل أكل
الناس للدجاج والخراف.
بالتأكيد فإن جميع المصالح البشرية من اقتصادية وسياسية ونفسية وما إلى ذلك
تدخل ضمن الهدف النهائي للبشر كأفراد وكمجموعات ،لذلك فإن جميع التجاذبات
السياسية واالقتصادية والنفسية وغيرها ،إنما تدخل ضمن متطلبات هدف البقاء هذا.
ومن هنا تأتي كل التجاوزات األخالقية متى حدث التعارض بين متطلبات الحفاظ
على البقاء وبين المبدأ األخالقي الصارم في داخل اإلنسان.
وبهذا تكون مهمة الحضارة والتربية لألفراد والمجتمعات هي محاولة إيجاد توازن
بين هدف البقاء وبين المبدأ األخالقي األولي .وتكون األحجية الكبرى والمعضلة
األخالقية األهم أمام اإلنسان هي ،كيف يحافظ على بقائه بأقل قدر من الخروقات
للمبدأ األخالقي الواضح في داخله؟ فمبدأ وجوب الصدق الدائم هو مبدأ مطلق
الصحة وفي غاية الوضوح ،وهو صادق في كل زمان ومكان ،بل هو غير خاضع
لمقوالت الزمان والمكان الرتباطه بالضمير الذي هو خارج ثنائيات الصدق والكذب.
ألنه مبدأ يعرض الحقيقة ،والضمير هو الحقيقة األولى واألهم ،ومن هنا الترابط الوثيق
بين الضمير ومعايير األخالق في بعدها األقصى .لكن اإلنسان يبرر لنفسه خرق هذا
القانون بحسب مقتضيات الحال ،فيخرقه مطمئنا بال تردد إذا كان من أجل إنقاذ حياته
أو حياة شخص آخر ،ويخرقه مع شيء من عدم االرتياح إذا كان ألجل نفع مادي.
انظر :وود ،ألن؛ كانط ،فيلسوف النقد ت :بدوي عبد الفتاح ،املركز القومي للرتمجة ،القاهرة ،ط،1
،2014ص 185فام بعدها.
بولج رذنم .د 128
ويتفاوت قدر عدم االرتياح هذا بتفاوت العواطف والتربية والبيئة والعوامل الثقافية
وما إلى ذلك.
المبدأ األخالقي المطلق وما يتفرع منه مصدره الضمير في صفائه المطلق ،وهو
مطلق غير خاضع لثنائية الحق والباطل ،وهو مطلق غير خاضع لثنائية الخير والشر.
وحين نقول إن الضمير هو مصدر تلك األوامر فليس معنى ذلك أن الضمير يصدر
األوامر ،ألن الضمير حقيقة مطلقة بسيطة ال تركيب فيها ،تعبر عن نفسها وترتبط
بالجسد من خالل الوعي .فتكون األخالق المطلقة شبيهة بذلك الضمير من ناحية
الصفاء والبساطة والخلو من التعقيد .هو مبدأ واحد يمثل أساسها ،وهو الحق أو
الحقيقة ،ومنه تتفرع مفاهيم الصدق والعدالة والخير والجمال ...الخ.
ب ـ حفظ البقاء:
أما حفظ بقاء اإلنسان فردا أو نوعا ،فالمراد منه بقاء الجسد ،والمحافظة عليه في
هذه الحياة .وإن سأل سائل ،أليس ذاك مصدره الضمير أيضا؟ نقول (ال) ،ألن الضمير
(الذي هو األنا نفسها في تمثلها وفعلها األخالقي) يعترض على كل محاوالت الحفاظ
التي تخرق المبدأ األخالقي األولي ،وهو غير مكترث ببقاء الجسد لكونه باقيا سواء
أبقي الجسد أم لم يبق ،ليس لكونه جوهرا مفارقا لجوهر الجسد كما يرى األفالطونيون
وليس لكونه استكماال ً
أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة كما يرى األرسطيون ،بل
لكونه وجودا محضا وواجب الوجود .أما مصدر ومحرك ومنظم عمليات المحافظة على
الجسد فهو جزء من الجسد نفسه ،وهو الدماغ .لذلك فإن مصدر الشر كله هي محاوالت
الجسد الحفاظ على بقائه وديمومته .وهذه المحاوالت ليست شرورا بحد ذاتها بل تنتج
الشرور من تعارضها مع نقاء الضمير وما ينتج عنه من مبادئ وقوانين أخالقية .تلك
ٍ
ونواه ،بل هي المبادئ والقوانين األخالقية ال تتمثل بتفصيالت معقدة وال شبكة من أوامر
صفة واحدة كافية للحكم على كل تشعبات األخالق ،وتلك الصفة هي الحقيقة أو الحق.
وليس كل ما يحفظ الذات يكون شرا بالضرورة ،بل إن كل ما يخرق مبدأ الحق وما
يتعلق به من عدل هو ما يؤدي إلى ظهور الشرور في العالم .ولطالما أدرك الفالسفة
والالهوتيون وجود وأصالة هذا المبدأ من دون أن يدركوا كنهه ففسروه تفسيرات
بعيدة عن حقيقته ،فمنهم من أنكره ومنهم من عزاه إلى غير مصدره الحقيقي بأن ربطه
129 رشلاو ريخلا اعبنم
بموجود خارج الذات البشرية وخارج حدود الضمير ،فصار عسيرا تفسير قوته الفاعلة.
بل إن منهم من جعله دليال على وجود إله بعيد خارج الضمير ،20فازداد الفهم غموضا،
وكان الدليل متهافتا.
.20قارن :بدوي ،عبد الرمحن؛ مدخل جديد إىل الفلسفة ،وكالة املطبوعات ،الكويت ،ط،1979 ،2
ص.230
.21لأليدولوجيا أمهية استثنائية ألهنا تنظم عمل دافع احلفاظ عىل البقاء فتجعل منه عمال مجاعيا منظام
هدفه حفظ اجلامعة والدفاع عن مصاحلها .فاأليدولوجيا خادمة ملبدأ احلفاظ عىل البقاء وليست سابقة
بولج رذنم .د 130
وقانون البقاء هو أن الناس أفرادا وجماعات يعملون على تطويع كل األشياء وكل
األفكار من أجل المحافظة على بقائهم ودفع الفناء عنهم أو تأجيله إلى أقصى مدى
يتمكنون منه .وأهمية الجنس االستثنائية التي ضللت فرويد سببها أن الجنس يهدف إلى
إبقاء النوع متجاوزا الفرد .وقانون البقاء هذا يصدق على البشر كما يصدق على غيرهم
من الكائنات الحية .لكن اإلنسان ألجل أن يأخذ هذا القانون مجراه اخترع األيديولوجيا،
أو أنها نشأت تلقائيا بوصفها اتفاق الجماعة على تنسيق مصالحها والدفاع عنها.
عليه ،عىل الرغم من كوهنا توحي أحيانا باألسبقية عليه حني نجد أحداثا جتري بقيادة أيدلوجيا معينة
تؤدي بالتضحية بحياة ومصالح بعض األفراد خدمة ملصالح املجموعة وبقائها.
131 رشلاو ريخلا اعبنم
إلى الدفاع عن مصالح المجموعة التي تنتمي إليها وتمارس سلطة من أجل ذلك
(أيديولوجيا).
ومهما يكن األمر ،فإن الجانب األكثر خطورة في التقديس (المتبقي بعد نسيان
األنا والذي تمت إحالته خارج الذات ،وهو األكثر شيوعا) هو أنه يمكن صاحبه ،مهما
كان جاهال أو عالما ،من الظن أنه يمتلك يقينا راسخا أنه وصل إلى الحقيقية المطلقة،
ويحجب عنه إمكانية التساؤل ويحمله على رفض التفكير والمراجعة ،وقد يسوقه إلى
االندفاع إلى الحد األقصى من األفعال األخالقية أو غير األخالقية ،وتقديم التضحيات
أو ارتكاب الفظائع ،عن طيب خاطر في فسحة راحة نفسية ورضا يوفرها له شعوره
بحيازة الحقيقة واحتكارها التام.
وبذلك تؤسس األديان ألول وأشمل أشكال األيديولوجيا .األيديولوجيا :ذلك
الهم الذي سيهيمن على مجمل الهموم البشرية ،ويقوم بتوجيه مجمل اهتمامات
البشرية المعرفية واألخالقية والجمالية.
األخالق والجمال:
ومثل وجود مجالين لألخالق ،كذلك فالمجاالن نفسهما يحيطان األحكام
الجمالية ويشمالن عوامل التأثير فيها ،وبموجبهما يصنف الناس الموضوعات إلى
جميل أو قبيح.
وفي هذا السياق تأتي الفنون ،التي هي محاولة للوصول إلى الجميل واإلمساك به.
فالجميل هو ما يقترب من النفس ويمس المشاعر .أي هو ما يمثل اقترابا من الضمير
وتشابها معه .ألن الضمير هو الجمال في الوجود ،وماذا عساه يكون جميال في الوجود
أكثر من (أنا) التي لوالها لما كان الوجود؟
الشعرية ،مثال ،هي ابتدا ًء قدرة الشعر على التأثير في المشاعر ،ولذلك كان اشتقاق
كلمة الشعر من الشعور في اللغة العربية .ألن الشعر عند العرب خاصة عند قدمائهم
هو الفن األول واألهم .وبهذا فإن جميع الفنون يكون المشترك بينها هو التعبير عن
الجمال ،والجمال أمر يتعلق بالمشاعر أكثر من تعلقه بأي أمر سواه .إنه الشعور
الجمالي المنطلق من الذات والمتوجه نحوها فهو مرتبط بالضمير .لذلك فاألحكام
بولج رذنم .د 134
الجمالية تكون مطلقة بهذا المعنى طالما كان منبعها الضمير ،أما ما ينبع عن المصالح
واأليديولوجيا من أحكام جمالية فهو نسبي.
ّ
حل المعضلة:
من الجانب الموضوعي ال وجود للشر ،فالشر اعتبار إنساني .وتطلق هذه التسمية
على الظرف غير المواتي للبشر من الناحية الظرفية ،مثل حدوث زلزال أو ما شابه ذلك.
الوجود ال يتعامل بتحيز تجاه أحداث مكوناته .والوجود ال يتخذ موقفا من جذب نجم
لكوكب واصطدامهما ،وال من سقوط قذيفة على منزل .فالشر اعتبار إنساني محض،
وهو نسبي .فلو قتل طفل اسمه أدولف هتلر لظنه الناس شرا في حينه ،ولكن بقاءه بعد
ذلك وما ترتب عليه من أحداث عده الناس هو الشر.22
هكذا فالشر مفهوم إنساني حصرا وليس مفهوما وجوديا أو أنطولوجيا ،وكذلك
الخير .فما يواتي اإلنسان الفرد يكون خيره الفردي ،وما ال يواتيه يكون شرا بالنسبة له
كفرد ،وكذلك األمر بالنسبة للجماعات أو النوع البشري برمته .فحدوث هزة أرضية
أو بركان يكون شرا إذا أدى إلى قتل الناس أو تشريدهم ،ولكنه إن حدث في قاع البحر
ولم يؤد إلى نتائج تضر باإلنسان فال يعد شرا ،بل قد يكون خيرا على المدى البعيد،
مثال إذا حدث بركان وأدى إلى ظهور جزيرة جديدة نافعة .وإذا اصطدم نجم بنجم
آخر في مجرة أخرى من دون أن يؤثر علينا فال يمكن أن نعد ذلك شرا أو خيرا ،بل هو
ظاهرة من ظواهر الطبيعة مثل تمدد الحديد بالحرارة الذي ال نعده شرا أو خيرا ،أو مثل
السكين التي إن استخدمت في تحضير الطعام كانت خيرا وإن استخدمت لجرح الناس
كانت شرا .وقد تكون خيرا لإلنسان لتحضير طعامه وشرا على الدواجن .فالخير هو ما
يحقق مصالح اإلنسان فردا أو جماعة ويحافظ على بقائه ويدفع عنه خطر الفناء.
.22هذا موقف قد يبدو مشاهبا ملوقف هاجسون وبتلر والرأي القائل أن االنسان ال خيتار الرش ملجرد كونه
رشا بل بحكم املصلحة .ولكن موقفنا يقوم عىل دعائم خمتلفة من الناحية األنطولوجية ،إذ إننا نرى يف
هناية املطاف أن الرش هو من نتائج ثنائية الذات واملوضوع التي هي من نتائج فاعلية اللغة يف خلق العامل.
انظر:
هوندرتش؛ دليل أكسفورد للفلسفة ،ت :نجيب احلصادي ،دار الكتب الوطنية للطباعة والنرش،
طرابلس ،ليبيا ،2004 ،ص.509
135 رشلاو ريخلا اعبنم
الوجود بمجمله ،إذن ،أوسع من نطاق الخير والشر .إن الخير والشر مفهومان
مرتبطان بجسد اإلنسان وكيانه النفسي واالجتماعي وما يتعلق بذلك وال عالقة لهما
بالوجود وال باﷲ .وبهذا المعنى ال أقول إنهما مفهومان نسبيان ،فهذا الموقف ال يحدد
نسبتيهما أو مطلقيتهما بل يحدد المجال الذي يغطيانه.
الخير هو ما يواتي اإلنسان والشر ما هو غير موات له .هناك خير للفرد الواحد
وشر للفرد الواحد وتلك مفاهيم نسبية بهذا المعنى ،مثل الربح والخسارة التجارية
لشخص معين ،أو إن الخير بالنسبة لحفار القبور كثرة الموتى ،والخير لتاجر
السالح كثرة الحروب ،والشر بالنسبة ألطباء األطفال أن يكون كل األطفال أصحاء
ال يحتاجونهم وما شابه .وهناك خير للبشرية جمعاء أو للبشرية كأمم وشعوب،
مثل وفرة المحاصيل وخصوبة األرض واكتشاف موارد طبيعية أو تطور صناعات
معينة ترفع المستوى المعيشي للناس وتسهم في إسعادهم ،وهناك شرور جماعية
كحدوث الكوارث والحروب .وكل تلك األمور يتلقاها اإلنسان بمشاعره ،إما فرحا
أو جزعا تبعا لتصنيفه لها خيرا أو شرا .ومع ذلك يبقى البعد األخالقي ثابتا ،يبقى
تاجر الحرب مدركا أن ما يفرحه وما يراه خيرا إنما هو شر في حسابات غيره ،وكذلك
حفار القبور ،والطبيب متأكد في قرارته أن الصحة خير وإن أدت إلى ضرر منافعه.
فاألخالق في داخلنا موجود مبدؤها الثابت ،وهي مطلقة كما أكد الفيلسوف
األلماني العتيد .ومصدرها األساس هو األنا أو الضمير ،ذلك األساس الثابت والواضح
لدينا جميعا ندركه من خالل مراجعة وجود األنا ،وليس من خالل شبكة من المفاهيم
ال يؤكد وجودها أو يدعمه سوى أمنيات إيمانويل كانت الطيبة.
فالكون مكون من نجوم داخل مجرات بأعداد هائلة ،والشمس نجم من تلك النجوم
يجري في مجرة من تلك المجرات ويجري وراءه متموجا كويكب أصغر من حبة رمل
على الشاطئ إذا قورن بحجم الكون ،في خضم زمان مفتوح على الالنهاية .في كل
ذلك ،ما أهمية اهتزاز قشرة على أحد جوانب حبة الرمل الكوكبية (األرض) ،وما أهمية
مقتل مليون إنسان؟ إنه مجرد حدث هامشي في تاريخ الوجود أقل قيمة من سقوط ورقة
من شجرة في إحدى الغابات .فالوجود إنما هو فوق الخير والشر ،وال يمكن النظر له
من خالل هذين المفهومين .إنما الحقيقة المطلقة وجوديا وأخالقيا تتمثل بالضمير.
بولج رذنم .د 136
فوضى الفالسفة:
كثير من الفالسفة لم يدرك هذا االعتبار ولم يتساءل عن البعد الوجودي لمفهومي
الخير والشر .الفلسفات الدينية افترضت أن مفهومي الخير والشر مفهومان وجوديان
شرا وأن اﷲ اختار
خيرا وثمة ًّ
أصيالن كافتراضهم لمفهومي الوجود والعدم ،فقررت ثمة ً
الخير ،أو القول بأن الخير هو الموجود وأن الشر هو فقط انعدام الخير ،وما شابه ذلك من
تالعب بالكلمات ومخادعات بهدف تبسيط األمور وصناعة صورة جميلة كاذبة لتلوين
واقع معين أو لتدعيم منظومة فكرية دينية خدمة لمؤسسة دينية ما ألهداف أيديولوجية.
والحق أن اﷲ (الحقيقة المطلقة ،واجب الوجود ،كما عرضنا رؤيتنا) هو الوجود،
والوجود هو اﷲ ،وال معنى للعدم بحكم اللغة التي يستخدمها اإلنسان بوصفه طرفا
فاعال في الوجود ،ولوال اللغة لما كان الوجود إذ ال إمكانية للوجود من دون اللغة ،وال
يمكن استخدام اللغة دون اإلشارة للوجود ،مثلما أن اللغة ال تستوعب العدم.
وكذلك فإن اﷲ لم يختر أن يكون خيرا أو أن يكون شرا ،فالوجود ليس خيرا وال شرا
بل هو فوق ذلك .قد تكون أمانينا أوهمتنا أن اﷲ خير وتوافقت األديان مع أمنياتنا إذ ال
بد لها أن تتوافق مع أمانينا بأن يكون اﷲ خيرا ،وأال يكون الموت هو النهاية المطلقة.
والحق أن هذا تقليل من شأن اﷲ أن يحصر في خيارين (خير أو شر) ويفرض عليه
أحدهما ،كما فعلت األديان بأن فرضت عليه الخير ،وأقصت عنه الشر فمنها ما افترض
وجود إله آخر للشر ومنها ما عزاه للشيطان أو ما شابه .ومن الطريف أن نجد شوبنهاور،
قد قال بإله واحد (كما هو اﷲ في األديان) وعزا إليه الشر نافيا الخير من الوجود واصفا
الوجود كله بأنه شر ألنه من نتاج إله شرير .وأرى أن شوبنهاور يساوق في تفكيره تفكير
األديان في تعسفية وصف اﷲ بأحد األمرين (خير أو شر) .وال وجود لسبب وجودي
وال منطقي الفتراض أن اﷲ خير ،وليس هذا االفتراض من البديهيات ،وال هو من
القضايا التحليلية ،كما يستحيل على التجربة إثبات أن اﷲ خير أو أنه شر .الفرق بين
شوبنهاور واألديان أنه تبنى الموقف اآلخر ووصم اﷲ بأنه شر ،كما ذهب أصحاب
األديان وفالسفتها بأن وصفوه بالخير.
والمسألة أيضا ،في وضع هذين االختيارين المتناقضين (خير وشر) ،متعلقة باللغة
فكل مفهوم له نقيضه .ولكن من الناحية الفكرية والوجودية نرى أن هذين المفهومين
137 رشلاو ريخلا اعبنم
إنما هما مفهومان جزئيان متعلقان بوقائع عالمنا الجزئي المرتبط بحيواتنا اليومية،
وهما ليسا من المفاهيم التي ينبغي أن يتصف بها اﷲ أو الوجود .هناك وجود ،والعدم
ال يمكن الحديث عنه وال تستوعبه اللغة ،وهذا الوجود أعلى من مفاهيم الخير والشر
مثلما هو أعلى من مفاهيم الليل والنهار ،اذ الليل والنهار مفهومان أرض َّيان ،كذلك
الخير والشر مفهومان أرضيان.
23
وبهذا فإن فكرة إيمانويل كانت تنقلب تماما ،فــ (النومين) الكانتي أو الشيء في ذاته
الذي رأى كانت أنه ال سبيل إلى التأكد من وجوده ،نرى أنه هو الشيء الوحيد الذي يمكن
التأكد من وجوده على الرغم من صعوبة اإلمساك به معرفيا ،هذا النومين هو الضمير
الواجب الوجود ،وهو ضروري إلثبات كل ما عداه .هذا النومين هو الجوهر في كل
شيء ،إنه ضمير هذا الكيان الذي البد منه ،والذي به يبدأ إدراكي للوجود من خالل (األنا
موجود) التي من دونها ال يمكن الوصول إلى شيء عداها .إنه الشيء في ذاته في كل
األشياء .أما ما أسميه أعراضا ومحموالت ،فهي الجانب المقابل للضمير وهي الجانب
اآلخر من الوجود .وباجتماع الضمير مع هذه األعراض والمحموالت يظهر الوجود .هذه
التي سميتها اصطالحا وجريا على معتاد التسميات الفلسفية أعراضا ومحموالت ،هي
ليست مجرد أعراض ومحموالت ،بل هي الجانب اآلخر المكمل لهذا الوجود بصورته
الفيزيائية الظاهرة في العالم ،التي يبدو كأنها كل ما هنالك .هذه المكمالت هي سبب
الشر في العالم( .الشر الطبيعي) فالضمير ليس خيرا وال شرا بحد ذاته ،هو باألحرى فوق
ثنائية الخير والشر اللذين يظهران من اجتماع هذه الظواهر (األعراض ،المحموالت).
الشرور هي من موجودات العالم المادي مثل الخير ومثل كل األفعال والحركات.
بتجريد الضمير فإن الناتج يكون عالما آخر غير العالم الفيزيائي إنه عالم «الضمير».
األنا التي ليس بالضرورة أن تكون واحدة أو كثيرة .فمفاهيم الوحدة والكثرة هي من
متطلبات الفيزياء وعالمنا المعروف واللغة .هو ضمير له تمثالت في جسدي وجسدك
وفي األشجار والبحار واألقداح.
.23النومني أو اليشء يف ذاته كام يرى إيامنويل كانت ،تستحيل معرفته أو التأكد من وجوده .وهو اجلوهر
احلامل جلميع األعراض ،مجيع األعراض يمكن معرفتها وإقرار وجودها ،يف حني أن النومني عيص
عىل املعرفة أو إثبات الوجود.
بولج رذنم .د 138
النتيجة:
هكذا يكون الشر والخير من نواتج التقاء الـضمير بالمظاهر المادية للعالم ،فتكون
الشرور والخيرات مرتبطة بالعالم الطبيعي وهي من طبيعة عالم المظاهر .أما الضمير
بحد ذاته فال يمكن أن تنطبق عليه هذه األوصاف ،أوصاف الخير والشر والعدد...إلخ.
والجسد محكوم بحتمية الفيزياء والبيولوجيا والفسيولوجيا والوقائع والمجتمع
والنفس .يوجد الدماغ الذي يسير هذا الجسد على وفق االختيارات التي تتيحها
الظروف المحيطة من طبيعة وصحة وحالة نفسية ووضع اجتماعي ،فيقوم الدماغ
مضطرا باالختيار ،وغايته األساسية هي حفظ بقاء هذا الجسد .أما الضمير فهو حر
من كل ذلك ،ألن حفظ الجسد ليس غايته الوجودية ،فليس بقاؤه من بقائه ،ألنه غير
قابل للفناء وهو بسيط وليس قابال للتفكك أو التحلل إلى أجزاء أبسط منه كما يحدث
للجسد .وكل االرتباكات وكل الشر يظهر عندما يتداخل األمر ويحدث نسيان الضمير،
ويكون الهم األوحد هو حفظ الجسد الذي هو زائل ال محالة مهما حاول اإلنسان.
مع نسيان الضمير ،أو تعامل اإلنسان مع ذاته بوصفه أحد مكونات الوسط
االجتماعي فقط وليس بصفته ذاتا مركزية أو بوصفه واجب الوجود الذي يستحيل
افتراض انعدامه ،تصبح غاية اإلنسان القصوى هي الحفاظ على جسده (أو مصالحه
أو الفئة التي ينتمي إليها .وفي حاالت الشهداء والبطوالت ،فالمعتاد أن يصنف الفعل
بطوليا طالما كان متجها خارج الذات تجاه مصلحة الجماعة .وهنا تدخل األيديولوجيا
كواضع لمعايير البطولة ،فالبطل هو المدافع عن الجماعة ومصالحها والمضحي من
أجلها .وحتى البطل األخالقي في هذا السياق ،هو من يسن للجماعة المثل األعلى أو
يصبح النموذج األسمى لها) ،وهذا هو الوجه األبرز في حياة اإلنسان ،ذلك أن اإلنسان
يقضي معظم حياته في حالة نسيان شبه تام للضمير أو األنا.24
نفي النفي
بموجب حركة ديالكتيكية صارمة وتلقائية ،وحال وصولها إلى واقع جديد،
تخلق الروح فكرة جديدة متقدمة عن نفسها ،فكرة هي نفي ذلك الواقع الجديد
المحقق ثم تنخرط في العمل بهدف التحقيق الملموس لهذه الفكرة الجديدة .إن
وخلقة وسلسلة من التطورات حتىّ هذه السيرورة هي ثورة دائمة ،ثورة جذرية
الظفر النهائي للعقل وسيرورة يكون فيها لكل عنصر ،سلبي أو أيجابي ،دوره
المحدد بدقة وضرورته المطلقة بما في ذلك الشر والجريمة واالنتقام والحرب.
«الشر» في الفكر السابق عليه ،والذي يبدو عندئذ ثاني قوانين الديالكتيك الثالثة
أحيانا (وحدة االضداد ،نفي النفي ،وحدة جديدة لألضداد) التي تعمل معا في
ً
أشكال معقدة عملية يفضي فيها (التراكم الكمي) إلى (تغير نوعي) ،آخذ ًة أحيانًا
للتقدم يستخدمها العقل المطلق كإحدى الوسائط واألدوات لتحقيق تجلياته في
العالم الملموس وبالتالي في تحقيق غاياته على مسرح التاريخ الكوني ودائما عبر
اإلنسان.
وهذا االستخدام ومهما كانت النتائج التدميرية المترتبة عنه ،ال يعني أن هذا
الفيلسوف يبرر المكر أو الخداع كقيمة أخالقية ،بل هو يتعامل معه بوصفه فعال
حيويا في تقدم التاريخ وفي فهم مستوى هذا التقدم .وبالفعل فهو ينطلق هنا من
الفكرة القائلة بأن الروح المطلق تترك لنفسها أن تعرف من خالل نقيضها ،أي من
خالل ما هو مادي أو طبيعي ،كما يتجلى هذا النقيض في الديناميكية الديالكتيكية
لمسار التاريخ الكوني التي تكشف على مستوى مضمون الوعي مثال أن الوعي
الطبيعي المؤسس على الحدس الفطري والذي يتماهى مع المبدأ اإلفريقي عند
الحسي المؤسس على اإلدراك العقلي المباشر الذي يتماهى
ّ هيغل ،ينفيه الوعي
لديه مع المبدأ اآلسيوي ،الذي بدوره ينفيه الوعي العقلي المؤسس على الفهم
والذي يتماهى مع المبدأ الجرماني أو األوربي .ولنالحظ أن هناك أيضا هرمية
في مبادئ الطبيعة حيث يمثل مبدأ السهول نفيا لمبدأ األراضي المرتفعة (الجبال
والصحارى) فيما البحر هو نفي لمبدأ السهول.
إزاء ذلك فإن مبدأ الفن الكالسيكي على مستوى الوعي الفني يبدو نفيا لمبدأ
الفن الرمزي فيما ينتفي المبدأ الكالسيكي بمبدأ الفن الرومانتيكي.
وكذلك الحال على مستوى المضمون الجوهري لألديان إذ هناك من جهة هرمية
خارجية يضع فيها هيغل مبدأ الوحدانية اإللهية المجردة المقترن بالدولة االستبدادية
الذي يطلق حركة الوعي نحو الكونية ،والذي ينسبه للروح الشرقية ،كنفي مطلق
لمبدأ ديانة الطبيعة المنتجة لـ (دولة) الطبيعة في نظره ،فيما يضع ديانة المطلق
المقترنة بدولة الحرية الذاتية كنفي لمبدأ ديانة الوحدانية الشرقية ،تقابلها هرمية
داخلية صريحة يبدو مبدأ الروحانية اإلسالمية فيها (وحدانية اﷲ كروح مجردة)
يوادنهلا نيسح .د 142
نفيا لمبدأ المسيحية الكاثوليكية وبالتالي أعلى من األخيرة في فكرتها عن الماهية
اإللهية (التثليث الجسماني) فيما يبدو مبدأ المسيحية اللوثرية (التثليث الروحاني)
نفيا للمبدأ اإلسالمي أعاله وبالتالي أعلى مضمونا منه بخصوص حقيقة العالقة بين
اﷲ واإلنسان.
والتحليل نفسه يصح فيما يخص موضوع نمط الدولة ووعي الحرية المترتب
عليه .فالهيمنة المطلقة لإلرادة الفطرية أو العشوائية التي تتماهى مع الفردانية الطبيعية
تنقلب في نظر هيغل ،إلى النفي المطلق لكل حرية في الدولة االستبدادية المنبثقة
عن مبدأ الروح الشرقية ،ما يجعلها تنتقل مباشرة إلى القطب اآلخر ،أي إلى النفي
المطلق لكل فردانية ذاتية وحرة ،ولذلك ترزح الروح الشرقية تحت الضغط المباشر
لموضوعها إلى درجة تمنع اإلنسان من الخالص من أعباء استبداد «المطلق»
والتحرر من كابوسه الجاثم عليه وتأكيد ذاته ضمن حريته الذاتية .وهكذا ،فمبدأ
الدولة في الشرق ينفيه مبدأ الدولة اإلغريقية ،الذي ينفيه بدوره مبدأ الدولة الجرمانية،
كما نستنتجه من قول هيغل« :الشرقيون ال يعرفون أن الروح أو اإلنسان حر بصفته
حرا واحدً ا
أحرارا .إنهم يعرفون فقط أن ًّ
ً هذه .وألنهم ال يعرفون ذلك فهم ليسوا
هناك ،وهذا الحر الواحد ليس سوى المستبد .اإلغريق والرومان يعرفون فقط أن
وأخيرا أن الجرمانيين هم أول من
ً بعض الناس أحرار ،وليس اإلنسان باعتباره إنسانًا.
توصل إلى إدراك أن اإلنسان حر باعتباره إنسانًا ،وأن الروح طبيعته الخاصة فعل ًّيا».2
وشهيرة مستلهمة بشكل أو آخر من القرآن الكريم ،وهي فكرة أساسية في العقيدة
تاإلسالمية ،عبرت عنها اآلية 27من سورة آل عمران[ :ي ْخ ِرج ا ْلحي ِمن ا ْلمي ِ
ُ ُ َ َّ َ َ ِّ
َو ُي ْخ ِر ُج ا ْل َم ِّي َت ِم َن ا ْل َح ِّي].4
ويعزز هذه الفرضية كون هيغل يؤكد ،بشكل واضح ،في مقدمته حول «فلسفة
التاريخ» ،أن فكرته من الموت تولد حياة جديدة ،هي في األصل من إبداع الشرقيين،
و«لعلها الفكرة األعظم لديهم ،والفكرة األسمى في تصوراتهم الميتافيزيقية» .غير
أن هيغل يخطئ في اعتقاده أن مضمون هذه الفكرة ،يتعلق هنا ،بحياة الجسد أكثر
منه بحياة الروح .وبالطبع ،يظل من الممكن جدً ا أن يكون مصدره معرفة مباشرة أو
غير مباشرة بالنص القرآني المذكور عينه كما نفترض ،فهيغل يذكر القرآن الكريم
مرارا في كتاباته ،وربما كان قد اطلع على إحدى ترجماته األوربية العديدة.5
ً
مكر العقل
بيد أن هناك مفهو ًما آخر ذا أهمية استثنائية كبرى ،في المنهج الديالكتيكي
أيضا.
الهيغلي ،يتعلق بتفسير الصيرورة التاريخية خاصة ،يوحي بأصول قرآنية له هو ً
ونقصد به مفهوم «مكر العقل» .أما مضمونه لديه ،فهو باختصار شديد كما يلي:
يقر هيغل بوجود ديالكتيك تلقائي هو الذي ينتج التوافق العميق بين الحرية الفردية
والضرورة الكونية ،إنه ما يسميه بـ«مكر العقل» وهو مكر يقود اإلنسان من دون أن
يدري إلى خوض معركة العقل المطلق بدال منه ،في الوقت نفسه الذي يخوض فيه
معركته من أجل تحقيق أهدافه المحددة .وبالفعل إذا كان اإلنسان يخرج ظافرا أو
منتصرا في هذه المعركة ،فإن ظفره أو انتصاره ليس إال انتصارا مؤقتًا محدو ًدا ،على
األقل بسبب استهالكه هو أيضا في المعركة.
وفكرة «مكر العقل» هذه ،يشير إليها هيغل ،بشكل خاص في مدخل دروسه
حول «فلسفة التاريخ» ،إال أننا نجدها ،في «موسوعة العلوم الفلسفية» كما يلي« :إن
.4الروم.19 ،
5. Hegel, Leçons sur l’histoire de la philosophie, trad. Garniron, Paris, Vrin, 6 vol., P.
1722.
يوادنهلا نيسح .د 144
العقل ماكر كما هو قوي .ويتمثل المكر بشكل عام في النشاط التوسطي الذي ،وعبر
تركه الموضوعات منسجمة مع طبيعتها الخاصة ،يثير بعضها على بعض ،ويستهلك
البعض في صراعه مع البعض اآلخر ،دون تدخله المباشر في هذه السيرورة ،على
الرغم من أنه ال يقوم بذلك إال من أجل إنجاز هدفه .ونستطيع القول بهذا المعنى،
مكرا مطل ًقا .فال ّله يترك البشر
أن العناية اإللهية تتصرف حيال العالم ،كما لو كانت ً
يندفعون في نشاط يحقق رغباتهم ومصالحهم الخاصة ،إال أنه ينتج من هذا االندفاع
تحقيق غايات أخرى غير تلك التي جرى االستعداد ،باألصل ،لتحقيقها من قبل أولئك
الذين يتم استخدامهم هنا».6
من الواضح ،إذن ،أن مضمون مبدأ «مكر العقل» ،عند هيغل ،ال يختلف جوهر ًيا
ون َو َي ْمك ُُر اﷲُ [و َي ْمك ُُر َ عن ذلك الذي قد نستطيع استنتاجه من اآلية القرآنية المعروفة َ
اك ِري َن] .7وما يعزز لدينا ذلك ،هو أن هذه الفرضية ،تجد ما يبررها في واﷲُ َخير ا ْلم ِ
ُْ َ َ
[وإِ َذا َأ َر ْدنَا َأن ن ُّْه ِل َك َق ْر َي ًة
النموذج التطبيقي الذي يضربه القرآن لذلك ،في القولَ :
َاها تَدْ ِم ًيرا].8 ِ ِ
َأ َم ْرنَا ُمت َْرف َيها َف َف َس ُقوا ف َيها َف َح َّق َع َل ْي َها ا ْل َق ْو ُل َفدَ َّم ْرن َ
أيضا يستعمله هيغل في المثال التوضيحي الذي يقدمه ،والذي ال يكاد بهذا المعنى ً
مثل أن يقوم رجل يختلف ،في الواقع ،عن المثال القرآني أعاله .يقول هيغل« :لنتصور ً
عادل ربما ،من ظلم لحق به منه .وهذا الفعل المباشر، بوضع النار في بيت آلخر انتقا ًماً ،
سيؤدي إلى نتائج أخرى ،غير تلك التي استهدفها ،وال عالقة لها بفعله المباشر .فبينما
كان الهدف األصلي من ذلك الفعل ،ال يتجاوز إحداث حرق في عمود من ذلك البيت،
إذا به يتسبب ،دون إرادة الفاعل ،بإحراق البيت كله والبيوت المجاورة ،وربما بيته هو
نفسه وكل بيوت الحي» .9كما قد يكون سب ًبا في إزهاق أرواح ،لم يفكر قط ًعا باإلساءة
إليها ،تما ًما كما أن مترفي القرية ،في اآلية القرآنية ،أعاله ،لم يعرفوا أنهم يدمرون
أنفسهم باستجابتهم لنزوع الفسق ،الذي استسلموا له.
6. Hegel, Encyclopédie des sciences, trad. Bourgeois, Paris, Vrin, seconde édition, 1979,
P. 614.
.7األنفال.30 ،
.8اإلرساء.16 ،
9. La Raison dans l’Histoire, P. 111.
145 يلغيهلا كيتكلايدلا تائجافمو ّرشلا
فاالنتقام في المثال أعاله ليس شرا على اإلطالق بل هو فعل نفي في المعادلة
الديالكتيكية الكونية لكل اإلنتاج البشري.
وقد يكون هيغل يتكلم عن مكر للعقل في التاريخ كما تم الكالم في المسيحية
عن التدابير الخفية للعناية اإللهية بتسخير رجال العهد القديم وطموحاتهم فوق
األرض لكي يجسدوا سابقا ودون علم منهم قدوم المسيح ودعوته التي عرف بظاهرة
«المسيحانية» التي انتشرت بين اليهود بشكل مثير إلى انتظار المسيح قبل قدومه على
أساس أنه سيجيء لبعث مجد بني إسرائيل على األرض .بيد أن هيغل «يعلمن هذا
التصور للعناية اإللهية ،متجاوزا كل رؤية أخالقية للعالم» كما يرى هيبوليت.10
إيجابية الشر
مفهوم «الخير المطلق» عند هيغل يدل على اﷲ ويسميه «روح العالم» الذي يقترن
لديه بمفهوم وحدة وجود جوهرية متجددة بسرمديتها ،تسمو على األضداد وتشتمل
عليها في آن .ولئن كان «النفي» يتضمن فكرة الشر باعتبارها سلبا ،فإنه يتضمن فكرة
الخير باعتبارها إيجابا أيضا وهما لحظتان متكاملتان في المطلق الذي يسمو عليهما
محضا في تعريفه األسمى.
خيرا ً
م ًعا باعتباره ً
وهكذا ،فللشر بصفته نف ًيا ضرورة أو وظيفة ميتافيزيقية أساسية وحاسمة في فلسفة
هيغل وفلسفته للتاريخ بوجه خاص .أي إنه ليس ظاهرة اجتماعية أو أخالقية أو قيمية
لديه وال تع ّبر تاليا عن ممارسة سلوكية عدوانية أو سواها ،وذات عالقة بالطبيعة البشرية
الملموسة .بل هو فعل فلسفي أو معادل منطقي كوني له حدوده وشروطه الغيبية
وحركته الالمرئية الخاصة وأهدافه فوق البشرية المك ّلف بتحقيقها في إطار المهمة
الديالكتيكية الكونية التي يوكلها له «روح العالم» الذي يقود مسيرة تاريخ العالم إلى
األمام ودائما إلى األمام وقد تدفع اإلنسانية له ثمنا غال ًيا هنا أو هناك.
إن ما يميز هذه المسيرة هي أنها أساسا ،ليست إال مسيرة روح العالم نفسه نحو بلوغ
الكمال في فهم حقيقته الجوهرية كعقل مطلق يتأمل ذاته بذاته ،وفي تحقيق تمظهرها
.10جان هيبوليت ،مكر العقل والتاريخ عند هيغل ،ترمجة :فؤاد بن أمحد ،أنفاس نت ،نسخة الكرتونية،
.2016/1/30
يوادنهلا نيسح .د 146
األسمى في العالم الملموس .ما يعني أن اإلنسان الطبيعي ،أي اإلنسان التاريخي
الفعلي ،وكعقل جزئي ،هو األداة التي يستخدمها اﷲ لتحقيق غايته الكونية بأن يتجلى،
درك ،على حقيقته كعقل محض .ومن هنا مصدر مفهومي «إيجابية الشر» و«مكر
و ُي َ
العقل» أيضا في الفلسفة الهيغلية كما بيناه .فال دور لإلنسان في الوجود إال لتحقيق
تجليات العقل المطلق في العالم الملموس .بل إن اإلنسان ال يوجد إال لكي يكون
وقودا في هذا التحقق الكوني للعقل .وعليه ال معنى لدى هيغل للسؤال التالي :هل
اإلنسان شرير بطبيعته أم خير بطبيعته؟ أو هل هو أقرب إلى طبيعة الخير أم طبيعة الشر؟
فهيغل ،ورغم استلهامه الواضح للكثير من المفاهيم الغربية والشرقية في هذا
المجال كما رأينا ،يبدو هنا في قطيعة منهجية مع كل الفكر الفلسفي وحتى الديني
السابق عليه بما فيه األحدث واألكثر نفوذا في الثقافة األوربية في عصره .فهو ال يربط
العقل البشري بنزعة سلوكية محددة كما فعل مكيافيلي الذي غلب نزعة الشر على
الخير في البشر لتبرير تسليط الحاكم ،وكذلك فعل هوبز بمقولته المرعبة (اإلنسان
ذئب ألخيه اإلنسان) أو كما فعل جان جاك روسو بقوله« :إن اإلنسان ُيولد خ ّيرا أو
طي ًبا ،لكن المجتمع بمؤسساته هو الذي يفسد األفراد و ُيبرز كوامن الشر الموجودة
فيهم».
وبالفعل ،يتبنى هيغل في موضوع الشر منظورا مختلفا جذريا عن كل الفكر السابق
حيث ينقل القضية من حالها كظاهرة سوسيولوجية أو أخالقية مرتبطة بالحالة البشرية،
ومن بعدها كحالة الهوتية مرتبطة بالدين ،إلى طرحها كضرورة فلسفية ذات وظيفة
«ميتافيزيقية» في صيرورة التاريخ الكوني وتتمثل في اإلسهام في تحقق تجليات العقل
المطلق في العالم الملموس.
هذا التغير الجوهري الالفت في المنظور يجد بال ريب بعض أسبابه أو تفسيره
الموضوعي في تأثيرات الثورة الفكرية التي عرفتها القارة األوربية نتيجة لحركات
اإلصالح الديني (البروتستانتي) واالجتماعي ولدور فالسفة التنوير في اإلطاحة
بمنظومات الفكر الالهوتية والمدرسية المسيحية الوسيطة ،ما أسهم في نجاح الثورة
الفرنسية وما نتج عنها من جدل واسع افضى إلى ترويج القبول بمفاهيم جديدة مثل
«الحقوق» و«النزعة اإلنسانية» و«التطورية» و«الرومانتيكية»...الخ.
147 يلغيهلا كيتكلايدلا تائجافمو ّرشلا
وهي مفاهيم عبرت أيضا عن االزدهار السريع والقوي للبرجوازية كقوة اجتماعية
صاعدة إثر الثورة الصناعية ،ما شرعن الحق بالثورة على القيم والطغم المهيمنة بما فيها
الدينية ،وبرفض مبدأ «الحق االلهي» في السلطة السياسية ،وبوضع مضامين المفاهيم
الالهوتية بما فيها مفاهيم الخير والشر موضع النقد وحتى اإلقصاء فيما شرعن
بالمقابل «حق» التوسع الكوني الكولنيالي والتفوقية العرقية وغيرها من األطروحات
االستعمارية .بيد أن هيغل لم يشأ أن يتحدث عن التاريخ الكوني بمفاهيم االجتماع
واالقتصاد والسياسة واأليديولوجيا بل بلغة الفلسفة كفكر محض حصرا .ألن الفلسفة
وحدها ،في نظره ،من تستطيع إدراك الحقيقة العميقة لماهية الروح .ومن هنا األهمية
االستثنائية لـ «فلسفة التاريخ» لديه.
لكن على الرغم من أن اإلنسان ينشط في مجاالت ال تحصى ،اال أنه ،وفي كل ما يقوم
به ،الكائن الذي تنشط عبره الروح .فمملكة الروح يجب أن تتحقق في اإلنسان لتعبر
إلى وفي الوجود ،لكنها نتيجة إرادتها الخاصة هي وليست إرادة اإلنسان :إنها تنتشر في
التاريخ بتنوعية ال متناهية من األشكال واألحوال لكنها مستقلة بذاتها وحرة دائما ،وال
تحتاج إلى إرادة البشر لتحقيق غايتها الكونية عبرهم.
بكلمة أخرى ،من كل هذا المجموع المتشابك من اإلنتاج البشري :لدينا أمام العين
لوحة هائلة مصنوعة من فعاليات وأنشطة ألنواع متباينة إلى ما النهاية من الشعوب
والدول واألفراد تتوالى بال كلل ...ومن عقول خاصة تتابع أهدا ًفا خاصة بها في حركة
تبدو وكأنها أبدية ..إنها لوحة هائلة تفجر فينا مشاعر متنوعة ،وتثير غال ًبا انبهارنا ،ليس
خصوصا عبر هذا التجدد خاصة الذي ال ً فقط بالتفاصيل الالمنتهية التي تعرضها بل
يتوقف ،وعبر «مشهد الصراع الذي نؤخذ به والذي حالما يسقط فيه شيء ،فإن شيئا
آخر يأخذ مكانه».14
أمام هذا المشهد البهي ثمة سؤال ينبثق :ماهي الغاية المشتركة لكل هذه العقول،
عقول األفراد والشعوب واألمم ،م ًعا؟ ألن من غير المعقول إنها تستهلك نفسها بكل
هذا الحماس واالندفاع والحيوية لمجرد متابعة أهداف خاصة بها ومحدودة بعوالمها
العابرة الشخصية والقومية والدينية ،بل ال بد ألنشطتها جمي ًعا أن تساهم في صنع
عمل كوني ما .فالمسألة اذن ،بالنسبة لهيغل ،هي معرفة «فيما إذا وتحت هذا االشتباك
المهيمن على السطح ،ال يتم إنجاز عمل صامت وسري توضع فيه طاقات كل هذه
الظواهر».15
في التاريخ الكوني «يترتب عن نشاطات البشر شيء ما آخر غير ما يعرفونه
ويستهدفونه آن ًّيا .إنهم يهدفون إلى تحقيق مصالحهم ،إال أنهم يقومون في الوقت ذاته
بإنتاج شيء آخر خفي ال يبلغه وعيهم وال يدخل في حساباتهم «هذا الشيء الخفي
يتحقق بالشكل التالي :عبر متابعة األفراد لما هو خاص بهم ،ينتجون ما هو عام .وهذا
والمنظورات في هذا الشأن وحتى تضاربها أحيانا ،ما ظل ما يجمعها غالبا ،ويفسر
انتشارها ،هو انطالقها المشترك من الموازنة العقالنية بين اإلقرار القبلي بالثنائية
التالية :وجود الشر ووجود العناية اإللهية في عا َلم الوجود .فـفـي الفكر الميتافيزيقي
السومري ً
مثل ،كان «آنزو» يرمز للشر فيما يرمز نقيضه «ننورتا» للخير ،وهما في صراع
دائم وعنيف السيما في اللحظات الجوهرية من الخلق .وتخبرنا قصيدة سومرية تحمل
اسمه أن «آنزو» سرق من اآللهة «ألواح القدر» التي تمنح من يحملها السلطة المطلقة
على اآللهة والبشر واألكوان .إال أن اإلله «ننورتا» رمز الخير استرجع األلواح منه بعد
أن انتصر عليه إثر معركة كونية بمساعدة إله العقل والنظام إنكي .وهذه الثنائية الكونية
ننورتا/آنزو ،الخير/الشر ،أخذت غالبا شكل وحدة بين أضداد في حالة صراع دائم،
كما لو أن ديناميكية التناقض هي ما يضمن نقل مركز الوعي ،وبالتالي حرية الفعل ،من
العقل المطلق إلى العقل الملموس ،ومن اﷲ إلى اإلنسان .ولعل النص البابلي الشهير
باسم «حوار السيد والعبد» يمثل نموذجا قويا على ذلك ،حيث التضاد ال يغدو بين
وجودين ملموسين وحسب بل بين وعيين مستقلين تماما في إطار إشكالية وحدتهما
السرمدية .وهذه أول محاولة لعقلنة ماهية الشر وفهمها كضرورة كونية قائمة بذاتها.
(مرموزا لهما بالنور والظالم على التوالي) هو المعادل الزرادشتي
ً هرمز/أهريمان
لوحدة وتضاد الخير/الشر تلك ولتطور الوعي بهما فيما تنوعت مواقف الفالسفة
اليونانيين من هذه الوحدة/التضاد لكنها ظلت إيجابية وضرورية كما لدى أبيقور ،وأن
اجتماع األضداد حتمي كما لدى هيرقليدس الذي اعتبر أن وجود الشر مشروط بوجود
الخير ،وأنه لوال وجود أحدهما لما وجد اآلخر وأن انتفاء أحدهما يعني انتفاء اآلخر.
في الفلسفة الغربية الوسيطة ،المسيحية في قسمها األعظم ،كانت الفكرة السائدة
هي أن الشر نقيض الخير ،أما مصدره فليس اﷲ بداهة ألن اﷲ ال يخلق إال الخير ،بل
هو سوء استخدام اإلنسان لعقله وإلرادته .ومن هنا مبدأ «الخطيئة األصلية» الشهير في
الديانات االبراهيمية ومنها المسيحية .وهي خطيئة معصية أبي البشر ورمزه آدم .ففي
«العهد القديم» (الفصل الثالث/سفر التكوين/قصة الخلق) ،أن اﷲ خلق آدم وحواء
ووضعهما في جنة وافرة الثمار برزت في وسطها شجرتان إحداهما تدعى شجرة
الحياة واألخرى شجرة المعرفة ،ومعرفة الخير والشر خاصة .وبينما أذن اﷲ آلدم أن
يوادنهلا نيسح .د 152
يأكل ثمار جميع شجر الجنة بما فيه شجرة الحياة التي تمنح الخلود ،نهاه عن األكل
الر ُّب
أوصى َّ من شجرة المعرفة .وقد عبر الكتاب المسيحي المقدس عن ذلك بقولهَ :و َ
«م ْن َج ِمي ِع َش َج ِر ا ْل َجن َِّة ت َْأك ُُل َأك ًْلَ ،و َأ َّما َش َج َر ُة َم ْع ِر َف ِة ا ْل َخ ْي ِر َو َّ
الش ِّر َف َ
ال اإل َله آدم َق ِائ ًلِ :
ِ ُ ََ
وت».18 ت َْأك ُْل ِمن َْها ألَن ََّك َي ْو َم ت َْأك ُُل ِمن َْها َم ْوتًا ت َُم ُ
ونعلم ما حدث ،فقد عصى أبو البشر أمر الرب وأكل من ثمار شجرة معرفة الخير
والشر ،وحصلت المعصية أو الخطيئة األصلية فطرد من الجنة إلى األرض جالبا
ت ا ْل َخطِيئة إلى ا ْل َعا َل ِم» ،كما جاء في رسالة بولس
اح ٍد د َخ َل ِ
َ
ان و ِ
ٍ
الشر لهاَ « :إن ََّما بِإِن َْس َ
جلي في
الرسول إلى أهل رومية ( .)12 :5وبداهة ،فإن الهدف األخالقي/السياسي ٌّ
هذا التصور .بمعنى أن الخطيئة هي نتيجة عصيان ارتكبه اإلنسان األول فطرد بسببه من
الجنة وأن كل مرتكب لخطيئة معصية إرادة الرب يستطيع العودة عنها وبالتالي العودة
إلى الجنة التي خرج منها آدم وحواء ،إذا تطهر من إغواء حب معرفة الخير والشر وقبل
بإرادة وامالءات السلطة الدينية.
بيد أن هذا التصور الالهوتي يطرح ضمنا ،في رأينا الخاص ،مفهوم إيجابية الشر
وبشكل غير مقصود تماما :لوال الخطيئة لما وصل اإلنسان إلى المعرفة ،والمعرفة
العقلية خاصة ،نظرا إلى تعلق األمر بمعرفة قضايا الخير والشر وهي قضايا تتطلب
العقل بداهة.
لكن المبدأ اآلخر الذي ينطوي عليه هو أن اإلنسان حر بذاته ولذاته وبالتالي مسؤول
عن قراراته سواء الشريرة ممثلة بارتكاب خطيئة العصيان أو الخيرة ممثلة بالتراجع
عنها .هذه الفكرة األخيرة دافع عنها القديس أوغسطين ( 354ــ )430بقوة عندما ذهب
إلى اعتبار الشر ،بما فيه الطبيعي ،بمثابة عقاب من اﷲ على الخطايا التي سببها اإلنسان
كفرد أو كطبيعة ،وهما عارضان فانيان في التحصيل األخير ككل الوجود المادي،
ولذلك لن يكون هناك مكان للشر في «مدينة اﷲ» التي ّ
بشر بها أوغسطين.
هذه الفكرة «المقدسة» تعرضت إلى تصدع قوي في قلب القلعة الالهوتية المسيحية
نتيجة تعرف عدد من المفكرين المجددين على بعض أفكار الفيلسوف القرطبي أبو
الوليد ابن رشد ( 1126ــ 1198م) خاصة في كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة
والشريعة من االتصال» ،الذي عدّ ت بعض أفكاره بمثابة التمهيد للعلمانية الحديثة
ولفصل الدين عن الدولة حيث التأكيد على أزلية العالم ،وعلى أن الدين ال يمكن فهمه
إال في ضوء العقل ،والدعوة الجريئة إلى تحرير الفلسفة من الالهوت ،وغيرها من
المواقف الفلسفية التي سرعان ما قادت المفكرين المسيحيين إلى التصور بأن الشر،
كنقيضه الخير ،قد يكون وجوده مقتضى من اﷲ وبالتالي فهو الزم الوجود في العالم
ومستتبع لوجود الخير بالضرورة .أو إلى االستنتاج بأن الشر ليس إال غياب صفة أو
مقدرة يجب أن تكون موجودة في الكائن بطبيعته ،أو هو الحرمان من هذه الصفة أو
المقدرة .فكل شيء خير كما خلقه اﷲ ،ولكن اﷲ قد ال يريد أن ينقل كماله الالنهائي
إلى مخلوقاته ،بل قد يجيز بعض الشر بقصد الوصول إلى بعض الغايات الخيرة أو
لمنع شر أشد منها .هذه األفكار المتأثرة بمالحظ وشروح ابن رشد على كتابات
أرسطو ،سيذهب بعض أصحابها أبعد بتقسيم الروح على قسمين متكاملين في نوع من
«وحدة وجود» :روح كلية إلهية وروح جزئية إنسانية ،وهذا هو في نظرنا األصل البعيد
للمفهوم الفلسفي الهيغلي عن الوحدة الجوهرية بين العقل الكلي أو المطلق (اﷲ)
والعقل الجزئي أو الملموس (اإلنسان) .لكن هذا األصل سيقترن بتطور آخر يتعلق
بالمضمون السياسي ــ األخالقي لمفهوم الشر ،والمنبثق في خضم الصراع التنويري
لتجاوز طغيان أنظمة الحكم المطلق المدعومة من المؤسسة الدينية التي كانت مطبقة
الهيمنة على كل جوانب الحياة المدنية األوربية في القرون الوسطى.
كانت المؤسسة الدينية المسيحية هي التي أسست ونظمت دفاعا عنيفا ومثابرا عن
جنين «السلطة المقدسة» متمثال بذلك المفهوم الالهوتي ــ األيديولوجي الذي ربط
بين سلطة الحاكم والقدسية اإللهية وأفتى بحق هذه السلطة في أن تكون مطلقة .وهو
مفهوم أسهم في تطويره نخبة من كبار مفكري الكنيسة وفقهاء «القانون المقدس» أو
نظرية «الحق االلهي» لسلطان الملوك وقبلها لسلطان البابا.
هذا الفهم لمضامين طبيعة اإلنسان والمجتمع والسلطة والخير والشر اختلف كليا
في ماهية وشروط «العقد االجتماعي» عند جون لوك ( 1632ــ )1704وجان جاك
روسو ( 1778ــ )1712؛ انعكاسا الختالف تصور مضمون دور األفراد في المجتمع
حيث انتقلوا من كونهم «مادة المجتمع» الهالمية أي مادة االستغالل واالستبداد
والحروب والذين ال حقوق لهم ،إلى كونهم المجتمع المدني ،وهو انتقال عكس
رأسا على عقب ما مهد الطريق
انقالبا في سيروة تطور المجتمعات األوربية الغربية ً
الندالع الثورة الفرنسية في عام .1789فاإلنسان على وفق رؤية جون لوك له حقوق
طبيعية توجد معه بوصفه إنسانًا وال يمكن التنازل عنها حتى للمجتمع ،وفي مقدمتها أن
يكون حرا ،وبالتالي حقه بالمساواة مع الغير ،ما يجعل الحاكم مجرد إداري في خدمة
المجتمع المنتقل من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية الوضعية التي تؤسس للحكم
العادل على أساس القانون ورفض الحكم المطلق تاليا ،ما يعني أن الدولة حسب
لوك ،وبالعكس من هوبز ،تقوم على أساس عقد واع وعقالني بين الحاكم والمحكوم،
في دولة مهمتها األساسية ضمان حقوق األفراد وحرياتهم الطبيعية واالجتماعية
والسياسية.
أما روسو فذهب إلى أبعد من لوك في «العقد االجتماعي» الذي اقترحه للمجتمع
النزاع إلى التمتع بالحرية والمساواة والعدل إذ رفض فكرة هوبز بأن
اإلنساني الحديث ّ
اإلنسان شرير بطبعه معتبرا أن اإلنسان ُيولد طي ًبا لكن المجتمع هو الذي يخلق اللجوء
أيضا كل أشكال أنظمة الحكم المطلق وكل اشكال
رافضا ً
ً إلى الشر لدى االفراد،
الوصاية التي فرضتها الكنيسة على الحياة االجتماعية والسياسية والثقافية آنذاك باسم
الحق المقدس ،مؤكدا أن الحرية هي أساس الحق الطبيعي ،وهي ما يجب أن يحميه
العقد االجتماعي الذي يفرضه انتقال اإلنسان إلى الحالة المدنية.
يوادنهلا نيسح .د 156
أما استنتاجنا عن منبع العالقة بين اإللهي واإلنساني في التاريخ عند هيغل ،فنرى
أنه ذلك اليقين الديني الذي تشترك فيه الديانات اإلبراهيمية جمي ًعا ،والقائل بأن
العالم اإللهي ،هو عالم روحي محض ،ومتصل باإلنسان ،من خالل الروح .وهذا
اليقين الديني ،يؤمن به بقوة هيغل الذي ،وغال ًبا ما تغفل اإلشارة إليه ،درس الالهوت
قسا لوثر ًيا ،لوال أن
المسيحي دراسة عميقة في توبنغن ،بين 1788و ،1793وكاد يتخرج ًّ
لوثري والفلسفة عززت لدي ّ جذبته الفلسفة ،لكنه ّ
ظل مؤمنًا بدينه حتى وفاته« .إنني
لوثريتي» ،كتب هيغل في رسالته إلى تولوك في 3تموز/يوليو ،1826وبالتحديد في
جدال حول موضوعة وحدة الوجود لدى المتصوفة المسلمين .ومع ذلك ،لم نعدم من
ذهب إلى حد اتهام هيغل بتبنّي مذهب ما من مذاهب وحدة الوجود.
دراسات
الثيوديسية
َّ سيكولوجية
تمثالت الفرد وتفسيراته للشر في العالَم
د .لؤي خزعل جبر
1 ______________________________________________
الثيوديسية Theodicy
َّ
« ُمشكلة الشر» قديمة في الفكر الالهوتي والفلسفي ،ولكن «الثيوديس َّية» ــ
مصطلحا ــ ظهرت في مقال «الثيوديسية :مقاالت عن خير َّية اﷲ وحر َّية اإلنسان وأصل
الشر» Theodicy: Essays on the Goodness of God, the Freedom of Man and
the Origin of Evilللفيلسوف الفرنسي Gottfried Wilhelm Leibnizا( 1646ــ
،)1716سنة ( .)1710والكلمة ــ بالمعنى الحرفي اليوناني ــ تعني العدالة اإلله َّية،
وأص َب َحت ــ بالمعنى التخصصي المعرفي ــ تُشير إلى النظر َّيات التبرير َّية لتلك العدا َلة
في مواجهة ُمشكلة الشر في العا َلم ،وبتعبير أدق :تفسير ــ أو محاولة إيجاد التنا ُغم
بين ــ وجود إله ُمط َلق الخير َّية والقدرة والعالِم َّية ووجود ٍ
شر ــ ُ
يطال الناس األبرياء في
سؤال أساس :لماذا يسمح اﷲ بذلك؟ وقد ش َّك َلت ِ
هذه ٍ الغالِب ــ في العا َلم ،إجا َبة عن
القض َّية تحد ًيا صع ًبا للمؤمنين ،فهي إما تنتهي إلى َّ
أن اﷲ شرير أو إلى أنَّه غير موجود،
ولذلك انبرى الالهوتيون والفالسفة المؤمنون إلى تقديم نظر َّيات ال تجعل القض َّية
تنتهي إلى واحدة من هاتين النهايتين ،فكانت هذه النظر َّيات :ثيوديس َّيات.
حضرت مشكلة الشر في أقدم النصوص التراثية الدين َّية ،وبشكل خاص في
التراثين اليهودي والمسيحي ،وقد كان كتاب أيوب 2 Book of Jobمكرس لهذه
.1باحث وأكاديمي عراقي ،أستاذ يف كلية الرتبية األساس َّية بجامعة املثنى يف العراق.
كتاب يف أسفار الكتابات من الكتاب املقدس العربي ،وأول كتاب شعري يف العهد القديم من ٌ .2
ربج لعزخ يؤل .د 158
لعل أقدم الثيوديس َّيات الواضحة المنظمة ثيوديس َّية الصناعة المشكلة ،ولكن َّ
ُ
الروح َّية Soul Makingللفيلسوف والالهوتي اليوناني Irenaeusا( 130ــ ،)202
وجدَ ت غير ناضجة، أن البشر َّية ِ
في كتابه ضد البدع ،Against Heresiesإذ أكَّد َّ
وغير كاملة ،ولتحقيق النضج والكمال البد من أن تعيش خبرات هذا العا َلم ،بخيراتِ ِه
فالمعاناة ِمن الشرور ضرورة حيات َّية ،وهي طريق الكمال اإلنساني، ِ
وشرورهُ ،
العواقب عن الخيارات ،فاﷲ ِ وبدون تلك الشرور يفسد نظام العا َلم ،إذ تنفك
يسمح بالشرور لبناء الشخص َّيات والقيمة العظيمة لإلرادة الحرة .3ليأتي بعد ذلكَ
الفيلسوف والالهوتي القديس ُأغسطين Augustineا( 354ــ ،)430في اعترافاته
ِ
تأسيس ِ
فينطلق من ،Confessionsويؤسس ثيوديس َّية اإلرادة الحرة ،Free Will
المحدَ َثة ،بمعنى َّ
أن الشر عَدَ م ،ليس بوجود ،فما فكرة «عدم َّية َ
الشر» لألفالطونية ُ
ليس ِ هو إال عدم الخير ،وبالتالي ال ُيسنَد إلى اﷲَّ ،
ألن اﷲ خال ُق كل شيء ،والشر َ
بشيء ،وال يعني بذلك َّ
أن الشر ال وجود له ،وال أنَّه وهم ،فحديثه عن طبيعة الشر
الحرة» ،فما لم يكُن وليس وجوده ،وسماح اﷲ بحدوث الشر ِ
يرج ُع إلى «اإلرادة ُ
الحر ،وذلك االختيار هو
هناك خياران :خير وشر ،لن يكون هناك معنى لالختيار ُ
جوهر اإلنسان ومزيته وسعادته ،فيكون اإلنسان ــ بانحرافِ ِه اإلرادي عن الخير ــ هو
ِ
وأفعاله .4وقدَّ م الالهوتي الفرنسي المسؤول عن الشر األخالقي ،إذ هو نتيجة إرادته
John Calvinا 1564ـ ،1509ثيوديسية اإلرادة اإلله َّية ،Divine Voluntarismإذ
ِ
بوسائل جميلة، أن اﷲ ــ وأفعا َله ــ فوق ال َعقل ،وأنه يدبر كل شيء
أو َغل في توكيد َّ
ِ
ويستسلم، وإن كانت غير مفهو َمة ،وال يجب أن يسأل اإلنسان ،بل يجب أن يثق
اإلنجيل املسيحي ،كُتِب بني القرنني السابع والرابع قبل امليالدينيُ .ين َظر :ليفيك ،جان ()1989
أيوب :الكتاب ورسالته .ترمجة :يوسف قوشاقجي .بريوت :دار املرشق.
ُ .3ين َظر :الكنيس ،أبو التقليد ( )1992القديس إيريناوس :أسقف ليون .ترمجة :أنطون فهمي جورج.
لقاهرة :كنيسة مارمرقس .رمحة ،جورج ( )1992ايريناوس :اسقف مدينة ليون .لبنان :منشورات
املركز الرعوي لالبحاث والدراسات .
ُ .4ين َظر :عويضة ،كامل حممد ( )1993أوغسطني :فيلسوف العصور الوسطى .بريوت :دار الكتب
العلم َّية .ص 39ــ .42ماثيوز ،جاريث ( )2013أوغسطني .ترمجة :أيمن فؤاد زهري .القاهرة:
املركز القومي للرتمجة .ص 169ــ .198تشادويك ،هنري ( )2016أوغسطني .ترمجة :أمحد حممد
الرويب .القاهرة :مؤسسة هنداوي .ص 45ــ .49
159 َّيسيدويثلا ةيجولوكيس
فخطيئته سلبته القدرة التمييزية .5وإزاء رفض المساءلة ،قدَّ م الفيلسوف الفرنسي
،Leibnizثيوديس َّية أفضل العوالم الممكنة ،Best of all Possible Worldsالتي
أن اﷲ بعد أن ثبت أ َّنه مط َلق الخير والعلم والقدرة ،ال ي ِ
مكن أن يخ ُلق إال أكدت َّ
ُ ُ ُ
وشرور ِه ــ هو أفضل العوالِم الممكنة،
ِ مكن ،فهذا العا َلم ــ بخيراتِ ِه
أفضل عا َل ٍم م ِ
ُ َ
ونحن ال ِ
نعرف كيف تترا َب ُط شروره ،وما إذا كان العا َلم َ
أفضل من دونها ،وفي هذا
العا َلم تنبثق الخيرات من اﷲ ،والشرور من اإلنسان نتيجة نقصه .6لتأتي بعد ذلك
ثيوديس َّية االستيعاب الناقص للحكومة اإللهية Imperfect Comprehension of
God’s Governanceللفيلسوف والالهوتي اإلنكليزي اJoseph Butlerا( 1692ــ
فكرة المعرفة المحدودة ،فحكم اﷲ ــ كما تؤكد ــ نظامي وقانوني،
،)1752لتعمق َ
يعرف في المجال الطبيعي واألخالقي ،فلكل حدث ِ
الزمه ونتيجته ،لكن اإلنسان ال ِ
ٍ
خيرات أعظم ،أو ستستبدَ ل ــ وال يستطيع أن ِ
يعرف ــ طبيعتهَّ ،
ولعل الشرور تختزن
ٍ
بخيرات أعظم بعد الموت .7وقدَّ م الكاتب البريطاني Clive Staples Lewisا(1898
ــ )1963ثيوديس َّية مكبر الصوت اإللهي ،God’s Megaphoneفي كتابه «مشكلة
الحب
األلم» ) ،The Problem of Pain (1940إذ أكَّد أن العالم وجد لتحقيق ُ
ِ
فيهمس اإللهي ،ولكن الناس يبتعدون عن اﷲ ،ولذلك يعمل اﷲ على تنبيههم،
بالملذات ،ويتحدَّ ث بالضمير ،ويصرخ باأللم ،فالشرور وسيلة تنبيهية ليعود الناس
الحب مع اﷲ .8الفيلسوف االنكليزي Alfred Cyril Ewingا( 1899ــ
إلى عالقة ُ
)1973قدَّ م ثيوديس َّية مبدأ الوحدات العضوية ،Principle of Organic Unities
ُ .5ين َظر :اخلرضي ،حنا جرجس ( )1989جون كلفن :حياته وتعاليمه .القاهرة :دار الثقافة .ص 194ــ
.200بدوي ،عبد الرمحن ( )1984موسوعة الفلسفة .بريوت :املؤسسة العربية للدراسات والنرش.
ج ،2ص 264ــ .266
6. Leibniz, G. W.(1985) Theodicy: Essays on the Goodness of God, the Freedom of
Man and the Origin of Evil. Translated by E.M. Huggard. Chicago: Open Court
Publishing. Anderson, J. M. (2014) Leibniz’s Theodicies. University of South
Florida: Graduate Theses and Dissertations.
7. Butler, J. (1850) The Analogy of Religion, Natural and Revealed, to the Constitution
and Course of Nature. Edinburgh: William and Robert Chambers.
8. Lewis, C. S. (1940) The Problem of Pain. HarperCollins, ebook.
ربج لعزخ يؤل .د 160
في كتابه «القيمة والواقع» ) ،Value and Reality (1973إذ أكَّد أن بعض الخيرات
تنطوي ــ بالضرورة ــ على بعض الشر لتتحقق ،وما الشر إال جزء من كل ،حيث الكل
أن الالحتمية ضرورية كذلك ،فال ي ِ
مكن ضمان أن يف َعل اإلنسان خير ،إضافة إلى َّ
ُ َّ َّ
األفضل،كما َّ
أن الشرور نسبية ،فما يعد لشخص أفضل قد ال يعد كذلك عند آخر، َ
وبالنتيجة يكون إرضاء الجميع ُمستحيل ،وفي النهاية ُهناك قوانين السببية التي
تحكم العا َلم ،وبفعل هذه القوانين ربما ال ُيمكن لإلنسان تحقيق كل ما يريده ،بل
إن تطوراته األخالقية قد تتطلب ضبط الرغبات .9الفيلسوف األمريكي Alvin Carl
المبارك ،Felix Culpaفي كتابه «طبيعة
) Plantinga (1932قدَّ م ثيوديس َّية السقوط ُ
أن اﷲ موجود بالضرورة ،فيالضرورة» ) ،The Nature of Necessity (1974ليؤكد َّ
وأفضل
َ كل عالم ممكن ،بخصائصه المثالية المطلقة ،والعوالم الشريرة ُمستحيلة،
العوالِم الممكنة هو ما يتضمن الذوبان مع اﷲ ،وال يحدُ ث ذلك إال بالتكفير والغفران
التابِعين للخطيئة ،ولذلك َ
توجد ،فيكون الشر والخطيئة ضرور َّيان .10والفيلسوف
) Richard Swinburne (1934قدَّ م ثيوديس َّية الخيرات األعظم ،Greater Goods
في كتابه «العناية ومشكلة الشر» )،Providence and the Problem of Evil (1998
توجد بال ُمعاناة ،فاتخاذ قرارات خاطئة ِ ليؤكد َّ
أن الكثير من الخيرات ال ُيمكن أن َ
الحرة ،كما توفر فرصة لتكوين خصائص الرحمة والرعاية
ضروري لتحقق اإلرادة ُ
والمساعدة والتفاعل المتبادل وتشكيل الشخصيات ،وفي الوقت ذاته يتم تعويض
الجوانب السلبية بجوانب ايجابية بعد الموت.11
المعتزلة يؤكدون اإلرادة
تخرج الثيوديس َّيات اإلسالم َّية عن ذلك ،إذ نجد ُ
ولم ُ
الحرة ،واألشاعرة يتبنون اإلرادة اإلله َّية ،والفالسفة يركزون على عدم َّية الشر،
األفضل والخيرات األع َظم ،12بدرجاتَ والسلف َّية والصوف َّية يعتمدون العا َلم
9. Ewing, A.C. (1973) Value and Reality. The Philosophical Case for Theism. London/
New York: Allen & Unwin/Humanities Press.
10. Plantinga, A. (1974) The Nature of Necessity. Oxford: Clarendon.
11. Swinburne, R. (1998) Providence and the Problem of Evil. Oxford: Clarendon.
Swinburne, R. (1993) Coherence the Theism. Oxford: Clarendon.
ُ .12ين َظر :املطهري ،مرتىض ( )1981العدل اإلهلي .ترمجة :حممد عبد املنعم اخلاقاين .ص 153ــ .220
161 َّيسيدويثلا ةيجولوكيس
، احلالق. املؤسسة اجلامعية: بريوت.) اخلري والرش يف الفلسفة اإلسالمية1991( منى أمحد،أبو زيد
ــ641 ص. دار النوادر: دمشق.) العناية اإلهل َّية ومشكلة الرش يف الفكر الفلسفي2014( ثائر عيل
: السعودية. الرد عىل أبرز شبهات املالحدة:) مشكلة الرش ووجود اهلل2016( سامي، عامري.712
.تكوين
Saeedimehr, M. (2010) Islamic Philosophy and the Problem of Evil; a
Philosophical Theodicy. Intl. J. Humanities, 17 (1), 127 - 148.Hovver, J. (2018) A
Topology of Responses to the Philosophical Problem of Evil in the Islamic and
Christian Traditions. The Conrad Grebel Review, pp.82 - 96.Rouzati, N. (2018)
Evil and Human Suffering in Islamic Thought: Towards a Mystical Theodicy.
Religions, 9, 47, 1 - 13.
. املركز القومي للرتمجة: القاهرة. سارة السباعي: ترمجة.) مشكلة الرش2016( دانيال، سبيك: ُين َظر.13
Howard - Snyder, D. (1999) God, Evil and Suffering. In: Michael J. Murray (Ed.)
Reason for the Hope Within. Eerdmans.Cabrera, I. (2001) Is God Evil? In: María
Pía Lara (eds.) Rethinking Evil: Contemporary Perspectives. Berkely: University
of California Press. pp.17 - 26. Yardan, J. L. (2001) God and the Challenge of Evil:
A Critical Examination of Some Serious Objections to the Good and Omnipotent
God. The Council for Research in Values and Philosophy. Woudenberg, R. V.
(2013) A Brief History of Theodicy. In: Daniel Howard - Snyder & Justin P.
McBrayer (eds.) The Blackwell Companion to the Problem of Evil. New York:
John Wiley and Sons. pp.177 - 191.
ربج لعزخ يؤل .د 162
الضارة ،Harmful Consequences
َّ المسافة العاطفية عن ُمعاناة الناس ،و( )3العواقب
بشكل ما ــ ال ُبنى القمع َّية ،وتثبط مقاومة المظالِم ،وتشجع البحث العقيم
ٍ حيث تُشرعن ــ
ِ
ستحكم الم
عن معنى خفي في األلم بدل العمل ضد مصادره ،و( )4العمى األخالقي ُ
،Irremissable Moral Blindnessفصياغة عقيدة تبريرية يؤسس إلغفال القسوة
الالمعقو َلة في العا َلم ،و( )5عدم فهم كيفية عمل األخالق Not Understand how
ُدرك الحد النوعي لبعض الشرور ،Morality Worksفبافتراض نفعية غير مقيدة ،ال ت ِ
المروعة ،وبذلك تشتغل ضمن نظرية أخالق َّية خاطئة ،و( )6عد الناس مجرد أدوات
،People as Mere Meansبدل عدهم غايات.14
السياق ذاتِ ِه ،ونتيجة له ،وبموازاتِ ِهُ ،ط ِر َحت الثيوديسية العالجية Therapeutic
ِ في
للمعاناة من زاوية اﷲ ،بعين اﷲ،
،Theodicyالتي أشارت إلى أن الثيوديسية تنظر ُ
وليس بعين َمن ُيعاني ،وبذلك تنطوي على إشكال َّيات أخالق َّية وإبستمولوجية،
ولتفادي هذه اإلشكاليات يجب إحداث نق َلة في النظر إلى ُ
المعاناة ،طريقة عالجية
بدل المعرفية المجردة ،التخلي عن المحاوالت التبريرية من منظور اإللهية المجردة
المعاني في معاناته الملموسة .ومن أمثلة هذه لصالح الفهم التخيلي لوجهة نظر ُ
درست ثالثالنقلة ما فعلته ) Nehama Verbin (2017في ُفرسان اإليمان الثالثة ،إذ َ
ِ
لمعاناته )1( :فارس الحكمة Knight of ِ
رؤيته ِ
تحاول الكشف عن تمثيالت أليوب،
( Wisdomعند ُ ،)Maimonidesمعاناته شكل عميق من غياب المعرفة ،فيتجاوز
آالمه عبر اكتساب غير افتراضي للحكمة الصوفية من خالل التأمل في اإلله ،و()2
المح َّبة ( Knight of Loving Trustعند ،)Kierkegaardالذي ِ
يدرك ِ
فارس الثقة ُ
الوظيفة المركز َّية للمعاناة في الحياة اإليمانية ،فيتجاوز خساراته عبر التعلق باإلله،
فارس االحتجاج ( Knight of Protestعند ،)Verbinشخصية صامدة ،تهزم و(ِ )3
فالمعاني قد يسامح
الظلم بتسميته ومقاومته واالحتجاج عليه ورفض التصالح معهُ ،
14. Simpson, R. M. (2009) Moral antitheodicy: prospects and problems. In: International
Journal for Philosophy of Religion, pp. 153 - 69. Betenson, T. G. (2014) The Problem
of Evil as a Moral Objection to Theism. A thesis submitted to the University of
Birmingham for the degree of PHD, University of Birmingham.
163 َّيسيدويثلا ةيجولوكيس
اإلله ،لكنه ال يزال غير راغب أو غير قادر على التصالح مع األلوهية .وعلى الرغم
من االختالفات ،فإن كل ِ
فارس يقدم صوتًا لمظاهر مختلفة من االستجابات القائمة
للمعاناة ،ومع ذلك ،فإن مقارباتهم تتضمن مخاطر محتملة .15ولكن تبقى
على اإليمان ُ
هذه المقاربة محاولة لفهم عمق معاناة اآلخرين ،حتى لو لم يتمكن المرء من التجربة
بذاته ،وهو فهم غير ممكن من دون نوع الثقة التعاطفية والمصداقية الممتدة ألولئك
الذين نشاركهم التقارب االنفعالي الحميم ،وعندما نبدأ في أخذ هذه الشهادة كمصدر
موثوق للمعرفة قد نتحرك لمقاومة مثل هذا الشر ،والوقوف مع أولئك الذين يعانون،
ومن أجلهم .هنا ،يتم تحويل فرسان الحكمة ،والثقة المحبة ،واالحتجاج إلى فارس
التراحم ،Knight of Compassionالفارس الذي ــ على الرغم من أنه ربما ال يستطيع
أن يشعر مع أو بـ أولئك الذين يعانون ــ يشعر إلى جانبهم بطريقة تقاربية تُظهر الفهم
والتضامن وااللتزام بالمقاومة .فـ «الثيوديسية الفلسفية الحديثة نحرت أيوب على مذبح
اإليمان الكالسيكي ،وقتل الالهوت الفلسفي ما بعد الحداثي إله الالهوت الكالسيكي
في ساحة معركة التعالي المعادي للميتافيزيقية .وربما تكون إحدى المهمات الرئيسية
للفلسفة التحليلية للدين في القرن الحادي والعشرين هي تحويل البحث الدقيق إلى
النضال المطلق للمعاناة اإلنسانية الحقيقية ،الستعادة منظور أيوب ومثابرة يعقوب ،من
أجل تحديد تصورات الهوتية مثمرة عن إله ميتافيزيقي يمكن أن نغني ونرقص أمامه،
وجها لوجه ،إله يمكننا أن نكافح معه بجدية ،ويمكننا
ً أيضا أن نتصارع معه
ويمكن ً
كذلك أن نحتج عليه بصوت ٍ
عال».16
ولع َّله ضمن التقاليد نفسها حدث االلتفات إلى السرد َّيات الثيوديس َّية Theodicy
،Narrativesفتوجه البحث إلى كيف َّية سرد الشر ،وفهم للشر في المجال األخالقي
للمعاناة عبر تفسير السرديات ،فـ «كل قصة
من خالل تطوير فهم للظروف العالمية ُ
تجلب شي ًئا جديدً ا إلى عالم تجربة المعاناة اإلنسانية ،وإلقاء ضوء مختلف على
15. Verbin, N. (2017) Three Knights of Faith on Job’s Suffering and its Defeat.
International Journal of Philosophy and Theology, 78: 382 - 95.
16. Griffioen, A. L. (2018) Therapeutic Theodicy? Suffering, Struggle, and the Shift
from the God’s - Eye View. Religions, V.9, pp.1 - 8.
ربج لعزخ يؤل .د 164
العالقة بين الفاعل والمصاب باألفعال الشريرة ،وعلى ما هو مهم للتذكر ،ومن
خالل هذه العملية ،نبني ً
مثال أخالق ًيا سلب ًيا ،نتعلم عن الضعف ،عن نقاط ضعفنا
وخطئنا ،وباختصار ،عن أنفسنا فيما يتعلق بطموحاتنا وتوقعاتنا األخالقية».17
وتأس َست هيرمنيوطيقية الشر ،Hermeneutics of Evilلتحليل االستراتيجيات َّ
السردية الخطابية (كالفجائع َّية واألس َط َرة والحكمة والثيوديس َّية) ،وثالثة طرق
رئيسية لمقاربته )1( :الفهم العملي ،Practical Understandingالقدرة المحدودة
للعقل البشري على التفكير في لغز الشر ،القدرة على نقل معضلة الشر من مجال
النظرية ــ المناسبة لمعايير المعرفة الدقيقة للمنطق والعلم والميتافيزيقا التأملية ــ إلى
مجال فن عملي أكثر من الفهم ،فهم أكثر هرمنيوطيقية لخصائص الشر غير المحددة
والطارئة والمفردة ،مع عدم التخلي عن كل االدعاءات لمعايير شبه عالمية ،فيستعير
من الفعل القناعة بأن الشر شيء ال يجب أن يكون ويجب مكافحته ،وبذلك يقاوم
قدرية عواقب الشر التي يمكن العثور عليها في كل من الميثولوجية والثيودسية،
فالشر ليس مجرد شيء نكافح ضدّ ه ،بل نعيشه ،وبذلك
ّ و( )2التنفيس ،Catharsis
يكون «عمل الحداد» مهم جدً ا كطريقة لعدم السماح للطبيعة الالإنسانية للمعاناة
أن تؤدي إلى «فقدان كامل للذات» ،ووظيفة الشهادات السردية ــ في هذه القضية
ــ حاسمة ،إذ تنتقل الضح َّية من حالة العجز الصامت إلى أفعال تمرد َّية وتجديد
الذات ،و( )3الغفران ،Pardonفإمكانية الغفران هي «أعجوبة» ألنها تتجاوز حدود
الحساب والتفسير المنطقيين ،وهو شيء ال معنى له قبل أن نعطيه ،لكن له معنى
ً
مستحيل ،وال يمكن التنبؤ به ،وال كبير بمجرد أن نفعله .فقبل أن يحدث ،يبدو األمر
يمكن تقديره من حيث اقتصاد التبادل ،والغفران ليس فقدانًا للذاكرة أبدً ا ،بل يجب
تذكر الماضي والعمل من خالله حتى نتمكن من تحديد ما هو الشيء الذي نتسامح
معه .18
ِ
العوامل التفسيرية الثالثة فيما يرتبط الدينية ،فأجرت تحليل تباين ثالثي لكل واحد من
ِ
والمذاهب الخمسة (بروتستانتي، باألحداث األربعة (إنساني ،طبيعي ،شديد ،بسيط)
كاثوليكي ،مسلم ،يهودي ،الأدري أو ملحد) ،فأظهرت النتائج أنما ًطا متسقة)1( :
ظهر للتفسيرات الطبيعية تأثير رئيس دال في نمط الحدث ،مع درجات أعلى لألحداث
الطبيعية ،وحظيت األحداث البسيطة بدرجات تفسيرات طبيعية أعلى ،رغم عدم وجود
تفاعل دال مع نمط الحدث ،ولم يكن للمذهب وال للتدين تفاعل دال مع نمط الحدث
وخطورته ،و( )2ظهر للتفسيرات الالهوتية فرق دال ،إذ المسلمون واليهود يؤكدونها
أكثر من الكاثوليك والبروتستانت ،يليهم الالأدريون والملحدون ،وعلى الرغم من أنه
لم يكن هناك تأثير نمط الحدث ،فإن هذه التفسيرات كانت قليلة األهمية لألحداث
الشديدة ولكن كثيرة األهمية لألحداث البسيطة اإلنسانية ،وأدنى أهمية لألحداث
الطبيعية الشديدة ،و( )3ظهر للتفسيرات اإلنسانية ثالثة فروق دالة ،مع تأثير أساس
في نمط الحدث ،حيث األحداث اإلنسانية أعلى ،واألحداث البسيطة أعلى ،وفيما
يخص تفاعل النمط والخطورة تبين أن الحدث اإلنساني البسيط أعلى والحدث
الطبيعي الشديد أقل ،و( )4باستعمال تحليل التباين الرباعي (التفسيرات ،3المذاهب
،5النمط ،2الخطورة ،)2تم توكيد النتائج السابقة ،كما ظهر أنه ــ مع استبعاد المذهب
ــ كل التأثيرات الرئيسة دالة ،حيث التفسيرات الطبيعية في المقدمة واإللهية في النهاية،
وكذلك هناك تفاعل دال مع التفسيرات ،وبالخصوص مع التدين ،ألن المسلمين
واليهود ــ مقارنة بالالأدريين والملحدين ــ بالغوا في توكيد التضمينات اإللهية وأفرطوا
في تقليل أهمية التفسيرات الطبيعية .وبعد ذلك استكشفت أهمية الدين ،فأجرت ــ
كذلك ــ تحليل تباين ثالثي ،فأظهرت النتائج )1( :التفسيرات الطبيعية كانت ــ ثانية ــ
ذات تأثير رئيس دال في نمط الحدث ،مع درجات أعلى لألحداث الطبيعية ،ودرجات
األحداث البسيطة أعلى ،وتأثير هامشي دال للنمط والخطورة ،إذ األحداث البسيطة
أعلى في مقابل التفسيرات الطبيعية من األحداث البسيطة ،وتفاعل هامشي دال للنمط
والخطورة ،علة الرغم من عدم داللة التأثير الرئيس للمذاهب الدينية ولكل التفاعالت،
و( )2التفسيرات الالهوتية أظهرت تأثيرا داال في أهمية الدين ،إذ األشخاص الذين
مهما دعموا التفسيرات الالهوتية أكثر ،كما ظهر تأثير رئيس دال للخطورة،
عدوا الدين ً
ربج لعزخ يؤل .د 168
ولتفاعل النمط والخطورة ،مشابه لما ظهر في التفسيرات الطبيعية ،وكان هناك تفاعل
مهما دعموا
دال بين أهمية الدين وتضمين اإلله وخطورة الحدث ،ألن الذين عدوا الدين ً
التفسيرات الالهوتية لألحداث الشديدة بدرجة أقوى من الذين عدوا الدين أقل أهمية،
و( )3التفسيرات اإلنسانية كانت ذات تأثير رئيس دال في أهمية الدين ونمط الحدث
وخطورته ،مع تفاعل دال للنمط والخطورة ،كما ظهر أن األهمية المتزايدة للدين تتسق
أن التفسيرات ِ
النتائج تثبت َّ مع دعم تفسيرات الحدث ضمن األطر اإلنسانية .وهذه
الدينية للشر تعتمد طبيعة الحدث وخطورتهَّ ،
وأن الفروق الفردية في المعتقدات الدينية
واالصطفافات المؤسسية بالغة األهمية في تشكيل تلك التفسيرات ،وبشكل خاص
في التفسيرات الالهوتية ،فتأكيد المسلمين واليهود على أهمية التفسيرات الالهوتية
ــ مقارنة بالكاثوليك والبروتستانت والالأدريين والملحدين ــ يظهر الوظيفة المركزية
المعطاة
للتقاليد الدينية في هذه التفسيرات ،كما تؤكد الفروق بين األديان في الوظيفة ُ
لله في الشؤون اليومية.19
«لماذا يسمح اﷲ بذلك؟ مقاربة إمبيريقية للمسألة الثيوديس َّية من خالل ثيمات
المعاناة والمعنى» لـ).Hutsebaut (1992
عملت الدراسة على «بحث الثيوديسيات الضمن َّية بمساعدة الصريحة» ،وركزت
على كيفية تفكير الناس بالسؤال الثيوديسي ،واعتمدت ما طرحه Van der Ven
) (1984, 1989من نماذج سبعة في الالهوتيات الصريحة )1( :اإلله الالمبالي The
apathetic Godالذي ال تهمه المعاناة ،ال تحركه وال تمسه وال تثيره ،و( )2اإلله
العقابي The retributive Godالذي يسمح بالمعاناة كعقوبة على الخطيئة ،سواء
خطيئة الفرد أو اآلخرين ،و( )3اإلله المخطط والمسيطر The planning and
،controlling Godففي نهاية الحياة ستظهر الوظيفة المهمة للمعاناة ،والهدف الذي
والمتعالي ،و()4 الم ِ
فارق ُ حدثت ألجله ،وهذه الصور الثالثة مشتقة من رؤية اإلله ُ
اإلله الشافي ،Therapeutic Godرمز تعد المعاناة فيه وسيلة لتطهير الناس وتحقيق
اإلنسانية الحقة ،وهذه الصورة مرتبطة برؤية اإلله القريب ،و( )5اإلله الرحيم The
19. Furnham, A. & Brown, L. B. (1992) Theodicy: A Neglected Aspect of the Psychology
of Religion. The International Journal for The Psychology of Religion, 2(1), 37 - 45.
169 َّيسيدويثلا ةيجولوكيس
compassionate Godالذي ينعطف نحو المعاناة بأن يظهر نفسه بشكل يسوع ،حيث
يريح ويساند ويداوي ويبني المجتمع ،و( )6اإلله الخادم البديل The vicarious
المعاني البريء يحل محل اإلله نفسه في تنازله لمعاناة
،servant of Godحيث ُ
المعاني،
اآلخرين ،و( )7إله الوحدة الصوفية ،The mystical unity Godفمن جانب ُ
يحل التسليم لإلله محلًّ سام ًيا ،فتتحول المعاناة الجسدية والنفسية واالجتماعية إلى
معاناة صوفية من االنفصال عن اإلله ،وبموازاة هذه الرموز الالهوتية الثيوديسية هناك
رموز كون َّية .فصممت الدراسة استبانة تضمنت )1( :مقياس للمفاهيم الثيوديسية
المحتملة ،ضمت ــ إلىوالكونية المركزية السبعة ،و( )2مقاييس للعوامل التفسيرية ُ
جانب العمر والنوع والتعليم والمهنة ــ العوامل االتجاهية ،من قبيل :صورة الذات Self
imageــ (مدى نظرة الفرد لذاته بإيجابية أو سلبية ،وعالقة ذلك بالرموز الثيوديسية
والكونية) ،واالتجاه مقابل القيم المحددة Attitude versus specific values
(االتجاه المرتبط باألسرة ،مع التوكيد على تحقيق الذات وقيمة اللذة وأهمية التضامن
مع اآلخرين) ،وتجربة المعاناة ( Experience with sufferingمدى تعرض الفرد
للمعاناة فيما سبق ،واتجاهه نحو تلك المعاناة) ،كما أضافت جملة من االتجاهات
الدينية كعوامل تفسيرية ،كاالعتقاد بإله شخصي ،واالتجاهات الدينية األساسية،
ودرجة الممارسة الدينية الشخصية ،ومعنى الحياة المستقل عن المرجعية المتعالية،
ودرجة خبرة حضور اإلله في الحياة ،وطبقت كل هذه المقاييس على عينة تألفت من
ٍ
بأعمار تراوحت بين ( 20ــ ،)60ومهن متنوعة .وابتدأت بـتحليل ذكرا وأنثى،
(ً )274
الرموز الثيوديسية والكونية ،باستعمال التحليل العاملي االستكشافي ،فتبين وجود
أربعة عوامل ثيوديسية :الالمبالي ،والعقابي ،والمخطط المربي (المخطط المسيطر
والشافي) ،والرحيم (الرحيم والخادم البديل والوحدة الصوفية) ،وذلك يقود إلى
استنتاج مزدوج مفاده أن هناك بنية ظاهرة قابلة للتفسير بمعقولية ،وتمايزات الالهوتين
ليست متسقة بالكامل عاد ًة مع التجارب الفردية ،وأما العوامل الكونية فكانت :الكلية
(حيث ترتبط المعاناة والطبيعة) ،والثنائية (حيث المعاناة مستقلة عن الطبيعة) ،والعقابية
(المعاناة عقاب من الطبيعة) ،وبالنظر للمستويات ،نجد موافقة العينة على ثيوديسية
الرحيم والمخطط المربي ،وانخفاض الميل إلى العقابي والالمبالي ،وعلى الكونية
ربج لعزخ يؤل .د 170
تماثلت درجات الكلية والثنائية ،وانخفضت في العقابية ،وفيما يخص االرتباطات،
وجد ارتباط عال بين العوامل الثيوديسية والكونية المتناظرة ،فالكلية ارتبطت بالرحيم
والمخطط المربي ،والثنائية بالالمبالي ،والعقابية بالعقابي .ثم عملت على تفسير الرموز
الثيوديسية ،باستعمال أربع انحدارات متعددة لكل ثيوديسية كعامل تابع ،مع المتغيرات
النفسية والثيوديسيات الثالثة المتبقية كعوامل مستقلة ،فتبين تجمعات محددة للعوامل
النفسية )1( :الالمبالي ،اتصف الناس الذين يعتمدونه بالتباعد ،فالمعاناة لم ترتبط
المعاناة لم تظهر نظرة مستقبلية،
بالمعاناة ،وتجربة ُ
باالعتقاد باإلله ،فاإلله ال صلة له ُ
ولم تساعد الفرد في إثراء حياته ،والفرد ال يشعر بغياب اإلله ،فإن كان اإلله موجودا
فهو عقابي ،والتباعد نفسه نجده في الكونيات ،و( )2العقابي ،كذلك متباعد ،وال تمسه
المعاناة البشرية ،بل يسبب المعاناة ،ويوجد عند ذوي صورة الذات السلبية ،ويتسق
مع العقابية الكونية ،وتجربة المعاناة تتصف بالحتمية ،خارج إطار السيطرة ،فاألفراد
حاضرا بطريقة سلبية ،و( )3المخطط المربي ،عند مواجهة
ً يتحاشون اإلله ،لكنه يظل
المعاناة يتوقع الفرد بعض الدعم من معتقداته ،فاإلله يهتم بالمعاناة البشرية ،ويتدخل
بما يساعد الفرد على تحقيق لذته وتطوره ،ويعمل على تطهيره ،و( )4الرحيم ،اإلله في
خبرة من يحملون هذه الثيوديسية يتحرك بالمعاناة المرتبطة ــ بعمق ــ بألمه ،فاإليمان
مهم عندهم ،ويجب تنظيمه بالممارسة المؤسسية ،ولذلك نجدهم يميلون للتضامن،
ويعلقون أهمية بالغة على التفكير بمشكلة المعنى وبفكرة استقاللية البشرية.20
المعاناة» لـ ــ Hale
«قياس المعتقدات المرتبطة بالمعاناة :تطوير مقياس رؤى ُ
)S.Smith, Park, & Edmondson (2012
أكدت أنَّه على الرغم من اتفاق ِ
الباحثين على كون المعتقدات بعدً ا دين ًّيا جوهر ًّيا،
المعتقدات ٍ
فإن دراسات قليلة بحثت ذلك ،وتقف في مقدمة تلك المعتقداتُ :
هذه المعتقدات .وقد ميزت بخصوص المعاناة (الثيوديسية) ،فتصدت الدراسة لبحث ِ
َّ ُ
ِ
بين الثيوديسيات والتفسيرات ،فاألولى تقوم على االعتقاد بإله خير عالم قدير ،وتحاول
20. Hutsebaut, D. (1992) Why Does God Allow This? An Empirical Approach to the
Theodicy Question through the Themes of Suffering and Meaning. Ultimate Reality
and Meaning, 15 (4), 286 - 295.
171 َّيسيدويثلا ةيجولوكيس
مالءمة ذلك مع ِ
الواقع المليء بالشر ،في حين ال تعتقد الثانية ــ كل ًّيا أو جزئ ًّيا ــ بذلك،
وتحاول البحث عن إجابة في مواضع أخرى .فحدَّ َدت ( )10منظورات )6( ،ثيوديس َّية،
و( )4تفسير َّية .فكانت الثيوديسيات :المسؤولية اإللهية Divine Responsibility
(اإلرادة الحرة البروتستانتية اإلصالحية والالهوتية الكاثوليكية :توجد المعاناة بسبب
كسر البشر للعالقة اإللهية باستعمال إرادتهم الحرة في الممارسة الشريرة) ،والمواجهة
( Encounterاليهودية والمسيحية :األلم يخدم الهدف النهائي المتمثل بإتاحة الفرصة
المعاني Sufering God
المعاناة) ،واإلله ُ
للبشر لمقابلة اﷲ من خالل التساؤل عن سبب ُ
(المسيحية واليهودية :ألن اﷲ يحب البشر ،فإنه يشاركهم ــ عن ٍ
عمد ــ في ألمهم ،مما ُ
يمنحه معنى) ،والبناء الروحي ( Soul Buildingالمسيحية واإلسالمية :اﷲ يستعمل
ِ
الفضائل ،كالرحمة والمغفرة والشجاعة ،التي ال يمكن أن تتحقق بدون األلم لبناء
المعاناة) ،والتغلب ( Overcomingإيمان الكلمة :البشر يمكنهم التقليل من معاناتهم ُ
عبر اإليمان والعبادة والعمل الصالِح) ،والتدبير َّية ( Providenceاليهودية والمسيحية
بالمعاناة ،وقد خطط لذلك من أجل أهداف خيرة واإلسالمية :اﷲ يتحكم ــ بالكامل ــ ُ
سامية) ،وكانت التفسيرات :المعرفة المحدودة ( Limited Knowledgeاإليمان
المفتوح :اﷲ ــ بحسب منظور اإليمان المفتوح ــ ليس لديه معرفة سابقة محددة
المعاناة) ،والقصاص َّية ( Retributionالهندوس َّية البوذ َّية:
بالمستقبل ،فال يمكنه منع ُ
أفعال خاطئة ماضية) ،والالأرثودوكسية ٍ المعاناة جزء من دورة الحياة ،وهي نتاج
ُ
( Unorthodoxإيمان َّية ال تقليد َّية :اﷲ ليس مط َلق الخير َّية ،ولذلك يسبب و/أو
المعاناة عبث َّية ،بال َهدَ ف) .وقد
بالمعاناة) ،والعشوائ َّية ( Randomالإيمان َّيةُ :
يسمح ُ
المعاناة The View of Sufering ِ
قامت ببناء مقياس لهذه المعتقدات :مقياس رؤى ُ
بواقع ( )3فقرات لكل ،Scaleتأ َّلف من ( )30فقرة ،موزعة على ( )10مقاييس فرعيةِ ،
َّ
مقياس ،وعملت على التحقق من رصانته بدراستين ،في األولى (العينة 246طالب
وطالبة) أخضعته للتحليل العاملي االستكشافي ،الذي أكد بنيته التعددية ،وفي الثانية
( 624طالب وطالبة) أخضعته للتحليل العاملي التوكيدي ،الذي أكد االستكشافي،
وتحققت من ثباته ،الذي تراوح بين ( 0,70ــ ،)0,90ومن صدقه ببحث عالقاته بخمسة
متغيرات :األرثودوكسية المسيحية ،Christian Orthodoxyوالسيطرة ،Mastery
ربج لعزخ يؤل .د 172
وافتراضات العا َلم ( World Assumptionsالعدالة والعشوائية والحظ والسيطرة)،
وصورة اإلله ( God Imageالخيرية والمتحدية والعقابية) ،والمرغوبية االجتماعية
،Social Desirableالتي كشفت عن صدقه البنائي والتقاربي.21
دراسات
ٌ المعاناة ،ووظفته ِ
المقياس نق َلة ُمهمة في دراسة معتقدات ُ وقد شكَّل هذا
ِ
وعالقات تلك المعتقدات ،من قبيل دراسة «المعتقدات ِ
استكشاف بنية كثيرة في
الالهوتية عن المعاناة والتفاعالت مع األلوه َّية» لـ Wilt, Exline, Lindberg, Park,
المعاناة متغيرات متوسطة
أن معتقدات ُ افترضت ََّ ) ،& Pargament (2017التي
levelــ ،Midتقع بين العموم َّية Globalوالسياق َّية ،Contextualفالعمومية تعكس
أنما ًطا ثابتة وواسعة من االرتباط باأللوهية ،وتتضمن المعتقدات والممارسات
واالنفعاالت المنتشرة عبر المواقف ،وت ِ
ُظهر درجة عالية من االتساق عبر الزمن،
والسياقية تعكس الخبرة المعرفية والوجدانية والسلوكية لالرتباط باأللوهية داخل
سياق زمن أو حدث أو موقف محدد ،في حين تعكس المتوسطة محتوى المعتقدات
والممارسات واالنفعاالت المرتبطة بطرائق معينة للتفاعل مع ــ ورؤية ــ األلوهية،
دون أن يعني ذلك هرمية ،بمعنى أن المتوسطة مشتقة من العمومية ،أو السياقية
مشتقة من المتوسطة ،وبتعبير آخر ،ليس هناك ــ بالضرورة ــ ترتيب سببي ،ينطلق من
العمومية إلى المتوسطة إلى السياقية ،ولكن العمومية تقدم رؤية عامة ،والمتوسطة
تفصيلية ،والسياقية تمظهرات عيانية للمعتقدات والسلوكيات واالنفعاالت .فهدف
الدراسة تحديد كيفية ارتباط معتقدات المعاناة باالنشغاالت الدينية ــ الروحية،
واالتجاهات نحو اإلله ،وصور اإلله ،وكذلك كيفية ارتباط هذه المعتقدات
بالتفاعالت مع األلوهية ضمن سياق صراعات دينية ــ روحية متواصلة .وانتقت عينة
تألفت من ( ،)2920طبقت عليهم مقاييس العمومية :االنشغال واالعتقاد والشك
الديني (Religious Involvement, Belief, and Doubtقوة وأهمية المعتقدات
21. Hale - Smith, A., Park, C. L. & Edmondson, D. (2012) Measuring Beliefs About
Suffering: Development of the Views of Suffering Scale. Psychological Assessment,
24 (4), 855 - 866. Bambenek, R. (2017) The Relationship Between Beliefs About
Sufering and Well - Being. Masters Theses, 2562.htps://thekeep.eiu.edu/theses/2562.
173 َّيسيدويثلا ةيجولوكيس
للثيوديسية
َّ االجتماعية
َّ النفسية
َّ الديناميات
َّ
في كتابِه «االعتقاد بعدالة العا َلم :وهم أساس» Belief in a just world: A
) ،fundamental delusion (1980أكَّد عالِم النفس االجتماعي Melvin J. Lerner
«إن الناس ،من أجل حماية أمنهم النفسي وقدرتهم على التخطيط للمستقبل ،يحتاجون
)22. Wilt, J. A., Exline, J. J., Lindberg, M. J., Park, C. L. & Pargament, K. I. (2017
Theological Beliefs About Suffering and Interactions With the Divine. Psychology
of Religion and Spirituality, 9 (2), 137 - 147.
ربج لعزخ يؤل .د 174
لالعتقاد بأنهم يعيشون في عالم عادل بالضرورة ،يستطيعون فيه الحصول على ما
يستحقونه» ،وبشكل خاص في عا َلمهم الشخصي مقارنة بما هو خارجهِ ،
وضم َن ُ
جماعتهم الداخل َّية أكثر مما هو ضمن الجماعات الخارج َّية ،23ويمارسون استراتيجيات
الم ِ ِ
نتهك للعدالة :استراتيجيات للمواءمة بين الحاجة لالعتقاد بعدالة العا َلم والواقع ُ
ِ
كوسائل عقالن َّية ،Rational Strategiesتعمل عند تقبل حقيقة وجود الظلم،
معقولة للتعامل مع هذه الحقيقة ،تتم َّثل بـ ( )1المنع والتعويض Prevention and
،Restitutionحيث المؤسسات المانِ َعة للظلم والتأسيسات التعويضية للمتضررين،
وكذلك اإلسهامات الفردية لتقديم المساعدات المباشرة لآلخرين ،و( )2قبول الفرد
بمحدودية قدراته ،Acceptance of One’s Limitationsحيث يتجنب الفرد مواجهة
المظالم ،بعد أن يقارن بين المجازفة والفوائد المحتملة ،واستراتيجيات العقالنية
،Nonrational Strategiesتُعت ََمد للتخفيف المؤقت من مشاعر التعاسة الناجمة عن
التعرض للمظالم ،وتتم َّثل بـ ( )1اإلنكار ــ االنسحاب Withdrawalــ ،Denialفينتقي
ويغفل أخرى ،ليتجنب رؤية المظالِم ،و( )2إعادة تفسير الحدث بعض المعلوماتِ ،
،Reinterpretation of the Eventبأن يسنِد مصير الضح َّية إلى ما فعلته أو فشلت في
فعله ،أو ينظر إليه كمرغوب ،حيث يمكن أن يقود إلى خيرات أع َظم الحقة ،أو يعيد
تقييم شخصية الضحية بحسب المعايير االجتماعية السائدة ،لتحط من القدر بحيث
تستحق ما يحدث ،و( )3االعتقاد بالعدالة النهائ َّية ،Belief in an Ultimate Justice
بفصل اعتقاده بالعدالة عن األحداث اليوم َّية لعالم الواقع ،لتقبل النكسات المؤقته
ستتحسن فيه شؤونه على المدى البعيد.24 ٍ
كجزء من عا َلم
َّ
23. Hafer, C. & Begue, L. (2005) Experimental Research on Just - World Theory:
Problems, Developments, and Future Challenges. Psychological Bulletin, 131 (1):
128 - 167. Aguiar, P., Vala, J., Correia, I. & Pereira, C. (2008) Justice in Our World
and in that of Others: Belief in a Just World and Reactions to Victims. Soc Just Res,
21:50 - 68. Dalbert, C. & Donat, M. (2015) Belief in a just world. In J. D. Wright
(Ed.), International Encyclopedia of the Social & Behavioral Sciences. Oxford, UK:
Elsevier. 2ed., 2:487 - 492.
.24نظمي ،فارس كامل ( )2019االعتقاد بعدالة العامل :الوهم والرضورة .الكوفة :دراسات فكر َّية.
ص 106ــ .108
175 َّيسيدويثلا ةيجولوكيس
بعد ذلك ،ظهرت نظرية تبرير النظام The System justification Theoryلـ
،John T. Jost & Mahzarin R. Banaji 1994لتؤكد َّ
أن هناك داف ًعا ال شعور ًّيا ــ
للدفاع عن ــ وتبرير ــ الوضع الراهن ،وقوة ذلك الدافع تتزايد مع إدراك حتمية
الوضع الراهن وتعرضه للتهديدات مع كون الفرد معتمدً ا عليه ومحكو ًما به ،وهو
بذلك يشبع الدوافع اإلبستيمية األساسية لتقليل عدم اليقين ،والدوافع الوجودية
إلدارة التهديد ،والدوافع العالقاتية لمناغمة العالقات االجتماعية ،والتغيرات
النزوعية والموقفية في هذه الحاجات ستحدد قوة الدافع التبريري ،كما أن هناك
جملة وسائل محتملة للتبريرية ،كالتأييد المباشر إليديولوجيات معينة وشرعنة
المشكالت ،والتنميطية وال َعق َلنَة ،وهو
المؤسسات والسلطات وإنكار أو تقليل ُ
(المفضلة للوضع الراهن) متسق مع دوافع تبرير األنا
ُ عند الجماعات المتفوقة
والجماعة ،ولذلك يرتبط إيجاب ًّيا بتقدير الذات وتفضيلية الجماعة الداخلية ،في
(المستاءة من الوضع الراهن) يتصارع مع دوافع
حين هو عند الجماعات المتدنية ُ
تبرير األنا والجماعة ،ولذلك يرتبط سلب ًّيا بتقدير الذات وتفضيلية الجماعة.
وذلك يتم ضمن إيديولوج َّيات تبرير َّية متعددة ،من قبيل :أخالق َّيات العمل
البروتستانت َّية ( Protestant work ethicللناس مسؤولية أخالق َّية للعمل بجد
وتجنب النشاطات الترفيه َّية) ،وإيديولوجية األهل َّية Meritocratic ideology
ِ
والراغب ،والنجاح مؤشر االستحقاق) ،وتبرير النظام (النظام يثيب الفرد القادر
االقتصادي ( Economic system justificationالتفاوت االقتصادي طبيعي
والمخرجات االقتصادية منصفة ومستحقة) ،واالعتقاد بعدالة
وحتمي وشرعيُ ،
العالم ( Belief in a just worldالناس يحصلون على ما يستحقونه) ،وتفاوت
القوة ( Power distanceالتفاوت طبيعي و َمع َلم مرغوب للنظام االجتماعي،
ففروق القوة الواسعة مقبولة وشرعية) ،وتوجه الهيمنة االجتماع َّية Social
( dominance orientationبعض الجماعات متفوقة على أخرى ،والهرم َّية
الجماع َّية صالحة) ،ومعارضة المساواة (تزايد المساواة االجتماعية واالقتصادية
غير ممكن وغير مرغوب ،فهو يقيد المجتمع) ،والتسلط َّية اليمين َّية wingــ Right
( authoritarianismالناس يجب عليهم طاعة األعراف التقليدية والسلطات
ربج لعزخ يؤل .د 176
الراسخة وتجنب األفكار التمردية) .وهذه النزعة التبريرية نتيجة ُمسبقات
داخل َّية وموقف َّية ،كالحاجة للنظام والبنية Needs for order and structure
المنظمة والواضحة والمحددة) ،وإدراك العا َلم الخطر
(تفضيل بيئة اتخاذ القرار ُ
( Perception of a dangerous worldالحساسية المرتفعة للمخاطر المحتملة
في البيئة االجتماعية ،كتهديدات العنف والجريمة واالرهاب) ،وقلق الموت
( Death anxietyالوعي الوجودي ــ والخوف ــ المرتبط بمشهد الموت ،والقلق
المنبثق من االهتمامات بالفناء) ،واهتزاز وتهديد النظام System instability
( and threatالتهديد الفعلي أو المتخيل لشرعية أو استقرار النظام االجتماعي
أو االقتصادي أو السياسي ،والمهاجمة الرمزية أو المادية للوضع الراهن).25
هاتان النظر َّيتان تؤكدان أن عند اإلنسان دافعين عميقين )1( :دافِع لرؤية
العدالة في عالمه ،و( )2دافع للمحا َف َظة على الوضع الراهن ،والدفاع عن ذلك
من خالل المواجهة التبرير َّية ،وما الثيوديس َّيات ــ الصريحة والضمن َّية ــ إال
ُ
يعيش تصا ُد ًما تمظهرات لدينام َّيات هذين الدافعين .فاإلنسان ــ في الغالِب ــ
ِ
يتضمن َّ ضاغط، بين عا َلمين :عالمه الخارجي وعالمه الداخلي ،حيث َّ
األول َ
حروب وصراعات وإبادات ٍ عشرات التهديدات واالنتكاسات والمخاوف ،من
المعاناة ،في ٍ
وانتهاكات اجتماع َّية وفرد َّية ،تقود الفرد والجماعة إلى معايشة ُ
حين يتوق الثاني لألمان ،ويبني أنظمته (االعتقادية واالجتماعية والسياس َّية
واالقتصادية )...بهدف تحقيق ذلك ،ويحافِظ على تلك األنظِ َمة ــ حتى إن لم
تحقق هدفه ــ كوسيلة لتأمين الشعور ــ الواقعي أو الوهمي ــ باألمان ،ويتجلى
ٍ
خاص حاجته ٍ
وبشكل توقه لذلك في حاجاتِ ِه اإلبستيمية والوجود َّية والعالقات َّية،
لالعتقاد بالعدالة ،فاعتقاد الفرد بأنه ــ وكل فرد ــ يحصل على ما يستحقه يوفر
25. Jost, J. T. & Hunyady, O. (2005) Antecedents and Consequences of System -
Justifying Ideologies. Current Directions in Psychological Science, 14 (5): 260 -
265. Jost, J. T., Liviatan, I., Toorn, J., Ledgerwood, A., Mandisodza, A. & Nosek, B.
A. (2012) System Justification: A Motivational Process with Implications for Social
Conflict. In: E. Kals and J. Maes (eds.) Justice and Conflicts. Springer - Verlag
Berlin Heidelberg. 315 - 327.
177 َّيسيدويثلا ةيجولوكيس
واق ٌع مليء بالشرور له الشعور باألمان ،وهنا يحصل التصادم بين العالمينِ :
ُ ُ
المستح َّقة وغير المعقولة في الغالِب ،وحاجات عميقة لألمان ِ
والمظالم ،غير ُ
والعدالة ،ما يد َفع باتجاه اختالل التوازن ،المعرفي واالنفعالي ،وهو حالة قاس َية،
تعوق إمكانيات العيش ،ما يب َعث على ابتكار استراتيجيات للموائمة والمصا َل َحة
األول صعب ،يميل التغيير إلى التشكُّل ضمن بين هذين العالمين ،ولكون تغيير َّ
المتدينة المتدين والجماعة ُ الثاني ،باستراتيجيات تأويل َّية تبرير َّية .وعند الفرد ُ
ضاعف ،فالتد ُّين ــ بحد ذاتِ ِه ــ نمط خاص من البحث عن يتكر ُس ذلك بشكل ُم َ َّ
ِ
لتحقيق ِ
قوة ُمتعا َلية ُمط َل َقة ،ومنظو َمة اعتقاد َّية شاس َعة ُبن َيت ِ
األمان باالستناد إلى َّ
ذلك ،تشبِع الحاجة اإلبستيمية لليقين والبنية ،والحاجة الوجودية لمواجهة
للتواصل ،وكذلك للتوق إلى العدا َلة، ُ الرعب والموت ،والحاجة االجتماعية ُ
فالعدالة ص َف ٌة أساس َّية لإلله ُمط َلق الخير والعلم والقدرة ،وفي عا َل ٍم آخر َبعدي ِ
القداسة اإليمان َّية. ٍ
بأسوار من ٌ
محاط الكامل للعدا َلة ،وكل ذلك ِ سيكون التحقق
َ
فإن أشد تهديد ِير ُد من « ُمشكلة الشر» ،فتستجيب الجماعة بثيوديس َّيات ٍ ولذلك َّ
صريحة ،إنكار َّية (عدم َّية الشر ومحدودية المعرفة) وتأويل َّية (اإلرادة والخطيئة َ
والصناعة والخيرات األع َظم) ونهائ َّية (عدا َلة عا َلم ما بعد الموت) ،كما يستجيب
بطرائق متعددةِ تحتفظ بالرؤية الخير َّية لإلله ،متأثرة ــ ِ الفرد بثيوديس َّيات ضمن َّية،
بالتجارب الشخص َّية والسياقات الثقاف َّية ،فكال ِ ــ بالخطاب الرسمي ،وكذلك
النمطين يشتركان في الدينام َّيات النفس َّية االجتماع َّية ،ويختلفان في مدى التنظيم َّية
بمقاربة
َ والتنظير َّية .ولعل إدراك هذه الحقيقة ُيفيد في إعادة قراءة الثيوديسيات
المعاناة البشر َّية ،إلحداث نق َلة سوسيوثقاف َّية ،ويعزز النزعة اإلنسان َّية في مقاربة ُ
من التبرير َّية إلى التغيير َّية.
ربج لعزخ يؤل .د 178
المراجع
-أبو زيد ،منى أحمد ( )1991الخير والشر في الفلسفة اإلسالمية .بيروت :المؤسسة
الجامعية.
-بدوي ،عبد الرحمن ( )1984موسوعة الفلسفة .بيروت :المؤسسة العربية
للدراسات والنشر.
-تشادويك ،هنري ( )2016أوغسطين .ترجمة :أحمد محمد الروبي .القاهرة:
مؤسسة هنداوي.
-الحالق ،ثائر علي ( )2014العناية اإلله َّية ومشكلة الشر في الفكر الفلسفي.
دمشق :دار النوادر.
-الخضري ،حنا جرجس ( )1989جون كلفن :حياته وتعاليمه .القاهرة :دار الثقافة.
-رحمة ،جورج ( )1992ايريناوس :اسقف مدينة ليون .لبنان :منشورات المركز
الرعوي لالبحاث والدراسات .
-سبيك ،دانيال ( )2016مشكلة الشر .ترجمة :سارة السباعي .القاهرة :المركز
القومي للترجمة.
-عامري ،سامي ( )2016مشكلة الشر ووجود اﷲ :الرد على أبرز شبهات المالحدة.
السعودية :تكوين.
-عويضة ،كامل محمد ( )1993أوغسطين :فيلسوف العصور الوسطى .بيروت :دار
الكتب العلم َّية.
-الكنسي ،أبو التقليد ( )1992القديس إيريناوس :أسقف ليون .ترجمة :أنطون
فهمي جورج .القاهرة :كنيسة مارمرقس.
-ليفيك ،جان ( )1989أيوب :الكتاب ورسالته .ترجمة :يوسف قوشاقجي.
بيروت :دار المشرق.
179 َّيسيدويثلا ةيجولوكيس
الشر وقضاياه
في ّ
وبيداغوجية
ّ خيميائية إيزوتير ّية
ّ وقفات
1
د .أسماء غريب _________________________________________________
ـ1ـ
والط ُ
ارق خلف الباب ُ
الحرف جاهز ّ
أكتب فيها فصول دراسة ما تُناقش قض ّية فكر ّية المرة األولى التي ُ ليست هذه هي ّ
أعرف عنه شيئ ًا أو َمن
ُ أنتظر صاح َبها ا ّلذي سيطل ُبها منّي ،وإن ُ
كنت ال ُ وأجلس
ُ مع ّينة
حتم َس َيأتي ّ
وبأن ما أنا بصدَ د كتابته ارق ال َ ذاتي العليا ُت ْع ِل ُمني ّ
بأن ال ّط َ سيكون ،لك ّن َ
لتعم الفائدة
القراء ّ سيصل إلى أكبر عدد من ّ ُ خاص ،إ ْذ من خالله ّ ُم َو َّجه له بشكل
المرة أيض ًا بشأن َ كل مكان ،وهو األمر ا ّلذي الحرف في ّ ِ
حدث لي هذه ّ وه ُج
وينتشر َ
َ
كنت منهمكة في ِ
كيف أنّني في الوقت ا ّلذي ُهذه الدّ راسة التي بين يديك .وإنّي ألذك ُُر َ
ّ
المتجذرة في لي رامية إلى هدم بعض المفاهيم وتسلس ّ
ُ تلقائي
ّ ٍ
بشكل كتابة فصولها
الروحي ا ّلذي أصاب
ّ أهم أسباب هذا الخراب اإلنساني والتي أعتبرها من بين ّ ّ الفكر
الشر من وجهة ٍ
نظر خيميائ ّية حول قض ّية ّكل الفصول َ اإلنسان ّيةَ ،و َجدْ تُني ُأ َم ْح ِو ُر ّ
وطر َق بابي ،وأعني به هنا المفكّر
«صاحب األمر» َ
ُ إيزوتير ّية محضة ،إلى أن أتى
َ
وأرسل لي أعداد ًا علي بعض كتبه الق ّيمة،
عرض ّ فاعيَ :
الر ّ العراقي د .عبد الج ّبار ّ
ّ
الشر»
علي الكتابة عن «مشكلة ّ اقترح ّ
َ مع ّينة من مج ّلة «قضايا إسالم ّية معاصرة»ّ ،
ثم
وسألت نفسي سؤاالً مجازي ًا ال ّ
أقل وال أكثر: ُ ابتسمت
ُ في هذا العدد الجديد منها.
أجبت على الفور
ُ ينتظر اآلخر ح ّق ًا؟
ُ أعلم بما يشغل بال اآلخر ،وأ ّينا كان
َ أ ُّينا كان
أظهر لي قدرتَه على كتابة خالصة تجربته العرفان ّية في بيت ْين شعريين ال غير سيصبح
َ
خليفتي» .وارتفع صوت الدّ راويش وازداد صخبهم ،وأصبح ّ
كل واحد منهم في حيرة
الكتب
ُ من أمره ،فكيف يمكن لبيت ْين شعري ْين ال غير أن يجمعا خالصة طريق ال تسعها
دات؟ واتجهت أنظارهم ك ّلهم إلى نوفلّ ،
الرجل األعلى ثقافة وعلم ًا وحكمة والمج ّل ُ
الرجل وقال« :سأحاول يحل هذه المعضلة سواك :ابتسم ّ وفلسفة بينهم وقالوا له :لن ّ
ذلك الليلة لكن هذا ال يمنع من مشاركتكم أنتم أيضا بكتابة بيت ْين تع ّبرون فيهما عن
كل الدراويش في المطبخ وبدأ ّ
كل وجهة نظركم» ،وفي صباح اليوم التالي :اجتمع ّ
الشاب رئيس المطابخ الجديد ينصت إليهم
ُّ واحد منهم يلقي بيت ْيه ّ
الشعريين وأحمدُ
«أنت وأنا زهرة فاح عطرها جميع ًا ،إلى أن أتى دور ّ
الرجل األعلى حكمة وتنويرا فقالَ :
السالم الخالص» ،فبهت ال ّطاهي وقال« :ال يمكنك في ّ
كل مكان/أنا اآلن حالة من ّ
أبدا بهذين البيتين أن تكون في حالة سالم خالص!» ،ضحك الجميع من ال ّطاهي
أحمد وقال نوفل كبير الدّ راويش« :وأنّى لك أن تفهم في ّ
الشعر يا هذا وأنت ال تعرف
الكتابة وال القراءة ،دعك في الخبز والخيار والطماطم فهذا أقصى ما يمكن أن تدركه،
حضر لنا ما نأكله ودعنا نذهب إلى الشيخ لنعرض عليه أبياتنا فإنه في انتظارنا»،
ه ّيا ّ
طاه كما تقول ،لكن ليس لي ال بسيط ًا وأميا ومجرد ٍ
ابتسم أحمد وقال« :قد أكون رج ً
ّ ًّ
تضموا ما سأقوله اآلن من بيتين إلى أبياتكم ،وال تكتبوا عليها اسمي
من طلب سوى أن ّ
اهتزت جدران المطبخودعوا الشيخ يقرأ كلماتي فمن يدري لر ّبما يجد فيها ضا ّلته»ّ .
الضحك التي تد ّفقت من أفواه الدّ راويش ،وقالوا جميعهم« :أتطمع في
بسبب موجة ّ
رئاسة التك ّية أيها ال ّطاهي ،يا للعجب ،وكيف وأنت ال تعرف شيئا عن أصول الدّ روشة
ب خاطرك ونسايرك في األمر ونعرض ورقتك على الشيخ».
وعلومها ،عموما سنط ّي ُ
الصغيرة ماعدا نوفل فكان يحمل ورقته وورقة الشيخ ّ
وكل يحمل ورقته ّ ذهبوا إلى ّ
ال ّطاهي ،وحينما أتى دوره ألقى كلمته ،وقال للشيخ« :اسمح لي يا شيخنا أن ألقي أيضا
علي شخصي ًا ألنه ال
ممن يعمل هنا عندنا فقد وعدته بذلك وقد أمالها ّ كلمة أحدهم ّ
ُ
الشيخ عينيه وقال باهتمام شديد: يعرف القراءة وال الكتابة ،فكتبتُها بدال عنه» .رفع
الزهرة وال
الرجل األعلى ثقافة وقال« :ال أحد سواك ،وال حتّى ّ
تفضل» ،ابتسم ّ
«نعمّ ،
حمق هذا
َ ختم العروج» .ضحك ّ
الشيخ طويال وقال« :يا إلهي ما أشدّ العطر/هكذا ُي ُ
بيرغ ءامسأ .د 192
َ
ألعلنك أ ّيها الرجل األعلى مزق ورق َت ُه ،واستعدّ غد ًا أقلت إنّه ُ
يعمل عندنا؟ ه ّيا ّ الرجل! َ ّ
تنويرا وحكمة وفلسفة رئيس ًا جديدا للتك ّية».
الشيخ الكبير من فراشه وذهب ّ
بكل ما فيه من جهد ون َفس حل ال ّليل ،قام ّوحينما ّ
الحقيقي ،لقد
ّ الشاب رئيس ال ّطهاة ،فأيقظه وقال له« :إنّك َ
أنت رئيس التك ّية ّ إلى غرفة
وجئت اآلن ألطلب منك مغادرة التكية:
ُ وعرفت أنّهما َ
لك، ُ قرأت بيت ْيك الشعري ْين
ُ
كنت منذ َ
بأمرك قتلوك .لقد َ فإن هؤالء المثقفين جدّ ًا إذا علموا
انفذ بجلدك يا أحمد ّ
رأيت هال َة النّور
كنت صب ّي ًا وجئتني تبحث عن عمل ُ
البداية رئيس التكية ،أعني منذ أن َ
علي منذ البدايةرأسك كبيرة ومكتملة كاكتمال البدر في منتصف آب ،وكان َّ حول
َ
فأرسلتك إلى المطبخ خشيت عليك من القتل
ُ أن أعلنك رئيس ّ
كل الدّ راويش لكنني
نور َك
وحرصت على أن تُقدّ َم َ
ُ لتظل هناك بعيدا عن األنظار قريب ًا من الماء ومن النّار،
جت أكثر فأكثر وتوه َ
ّ كبرت
َ في األطباق ليأكل منه ويتن ّفع به الدراويش .أ ّما اآلن وقد
دمعت عينا الشيخ وخرج ال ّطاهي قبل
ْ فعليك المغادرة ،وال تنس ذكر اسمي عند ر ّبك».
َ
كتابك أذان الفجر} .ما أريدُ أن أقول لك عبر هذه الحكاية هو أنّه آن األوان لكي تفتح
الدّ اخلي وتروي لي فيه ماذا ترى ،وكيف ومن تكون بعد أن قرأت حرفي هذا.
ـ4ـ
وأمك
انظر اآلن إلى أبيك ّ
أن تلتصق بالماء ،يعني أن تعود إلى بداية الحكاية ك ّلهاْ ،
أي إلى بيضة الخلق ،وإذا
كل شرور العالم بدأت بسقوط أبو ْي َك آدم ّ
وحواء ،فدعني من مبدأ البيضة أن ُّنت تعتقد ّ
ك َ
فك بوالد ْي َك كما لم ُ
ترهما أو تسمع عنهما الكون ّية األولى أميط ال ّلثام عن الحقيقة ّ
وأعر َ
لك ّأل شيء في الكون بأكمله اسمه ٌّ
شر بالمفهوم المتداول بين من قبل حتّى يظهر َ
النّاس.
ِ
قطب َذ ّ
كري، ٌ وكانت هي النّعيم والفردوس ،وكان فيها
ْ كانت البيضة، في البدء
الوعي
ُ صمت كامل ُمطلق ،وفجأة شاء ٌ وكينونة أنثو ّية تعوم في الماء ،وكان هناك
للشيء ُك ْن فيكون، بسر وأ ْم ِر من ُ
يقول ّ تظهر الحركة ،فظهرت ّ
اإللهي األكبر أن َ
ّ التخليقي
ّ
ِ
ولما كانت الحرك ُة لولب ّية االتّجاهات نتجت عنها وبهذا ال ّظهور ُولدَ ّ
ثم المكانّ ،
الزمان ّ
193 هاياضقوّرشلا يف
مستمر ونبض يتسارع أكثر فأكثر ك ّلما اقترب نحو المركز ما
ّ دوامتان كانتا في تذبذبّ
كري ا ّلذي سقط عجل بوالدة نواة شمس ّية ،لم يكُن لها أن تولد لوال تالقح القطب ّ
الذ ّ ّ
فلي .2وهو الس ّ الرابض في القسم ّ العلوي للبيضة ليلتحم بالقطب األنثوي ّ ّ من القسم
ِ
[ه َو ا َّلذي َخ َل َقكُم ِّمن عز ّ اإلخصاب ا ّلذي ذكره اﷲ ّ
وجل في محكم كتابه حينما قالُ :
ال َخ ِفيف ًا َف َم َّر ْت ِ ِ َّن ْف ٍ ِ ٍ
س َواحدَ ة َو َج َع َل من َْها َز ْو َج َها ل َي ْس ُك َن إِ َل ْي َها َف َل َّما َت َغ َّش َ
اها َح َم َل ْت َح ْم ً
اك ِري َن] ،األعراف ،189 الش ِ بِ ِه َف َل َّما َأ ْث َق َلت َّد َع َوا ال ّل َه َر َّب ُه َما َل ِئ ْن آ َت ْي َتنَا َصالِح ًا َّلنَكُو َن َّن ِم َن َّ
األنثوي،
ّ كري ثم والزوج ْين هما المبدأ ّ
الذ ّ ّفس الواحدة هي ماء التّخليق في البيضةّ ،
والن ُ
«مرت به» ،فإنّما تعني هبوط القطب ّ
الذكري نحو والحمل الخفيف هو اإلخصاب ،أ ّما ّ
القطب األنثوي بفعل الحركة الزمكان ّية المتلولبة ،وهي هذه الحركة التي رمز لها أهل
وسماها أهل ال ّظاهر بإبليس.
األسرار باألفعىّ ،
بحواء ،وال يعني
النصوص الدّ ينية ّ
القطب األنثوي رمز له في ّ
َ لك ّ
أن يظهر َ
هكذا فقط ُ
بتاتا األ ّم التي منها خرجت البشر ّية جمعاء بل المبدأ األنثوي ا ّلذي به حصل التخصيب
في البيضة الكونية أثناء عملية خلق العوالم بأسرها ،والشيء نفسه بالنسبة آلدم ا ّلذي
الذكري ا ّلذي
أصبحت تعرف اآلن أنه ليس بأبيك ا ّلذي خرجت من صلبه بل القطب ّ
ّخليقي األولى المرموز له بالفردوس ليهبط بحركة ماء التّخليق
ّ خرج من هناءة الماء الت
يتم ال ّظهور الك ّلي للكون.
إلى األنثى ،كي ّ
وهو القول ا ّلذي يجد تأكيد ًا ل ُه في حديث أهل ّ
الشام حينما قال أبو جعفر»عليه
حي ،فجعل نسب كل شيء إلى الماء «إن اﷲ خلق الماء وجعل منه ّ
كل شيء ّ السالم» ّ
ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه وخلق الريح من الماء ثم سلط الريح على الماء
فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك
الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع وال نقب وال صعود وال هبوط وال شجرة ،ثم
املازندراين ،رشح أصول الكايف ،النّسخة اإللكرتون ّية ،اجلزء ،12ص .9
ّ .3حممد صالح
195 هاياضقوّرشلا يف
الصدد ،حديثنا عن شجرة احلياة يف مقدّ مة اإلصدار اجلديد :شجر ُة التّني واألفعى ،تأ ّمالت
.4انظر يف هذا ّ
نقدية عرفان ّية يف دنيا أهل احلرف ،دار الفرات للثقافة واإلعالم ،العراق.2020 ،
بيرغ ءامسأ .د 196
األنثوي و ُي َش ّخص بذلك
ّ سمه كما تشاء ،وذلك ل ُيخ ّلص القطب أو المهدي المنتظر ّ
والروح الكامنة التي ذبحتها طبيعة اإلنسان ال ّطين ّية.
اإللهي ّ
ّ االنبعاث
الشر األكبر الذي لحق البشر ّية ،إنّما
إن ّ الصورة دعني أقل لك ّ
اآلن وقد اكتملت ّ
ب األخرى العرفان ّية التي كتبها أهلوح ْج ِ
السماويةَ ،
ظهر بسبب سوء تفسير الكتب ّ
الحق وأصحاب األسرار اإلله ّية الكبرى ،انظر حولك ،وسوف ترى ما ا ّلذي لحق ّ
إن االعتداء عليه بهذه ال ّطريقة البشعة من طرف العديد
بالقطب األنثوي في الوجودّ ،
عجل باستفحال قو ّة
من رجال الكهنوت والفقهاء بكتم وتحريف الحقيقة التأويل ّيةّ ،
الذكري ،وطغيانه وظهور شخص ّيات تاريخية أضرمت العالم بنيران الحروب
ّ المبدأ
مما جعل القوة األنثوية الخالقة تتراجع بيد ْين مك ّبلت ْين،
واإلرهاب والحرق والتدميرّ ،
الذكري ،وضاع المبدأ األنثوي دون أن يتذكّر أحد ما كان
ّ وتشوهت صورة القطب
ّ
يقوله أهل اﷲ في الماضي البعيد القريب صارخين« :احموا إناثكم من اآلخرين
واحجبوه ّن عن الغرباء» ،فاعتقد الجهالء بواجب تكفين المرأة من أعلى رأسها إلى
أخمص قدمها ،وحجبوا زوجاته ّن وبناته ّن وأخواته ّن ،ولم ينتبهوا إلى ّ
أن الحكماء
ومعرضة في
ّ األوائل كانوا يقصدون األنثى العقل ّية التي مازالت لليوم مكشوفة للجميع
عجل باندالع الحروب في ّ
كل مكان كل حين لالغتصاب بدون حسيب أو رقيب ما ّ ّ
السبي والقتل والحرق واإلرهاب والفوضى التي ال ّأول لها وال آخر.
وظهور ّ
ـ6ـ
شرور الحروب التكفير ّية إلى أين؟!
اإليمان بذر ُة اﷲ في قلوب البشر ،والدِّ ي ُن بدع ُة البشر في أرض الدُّ نيا والحياة ُ
يتجزأ ،وما ينقسم وال ّ
ُ َ
اإليمان لله ،والدّ ي َن للبشر ،وما هو لله واحد ال الفانية ،لذا فإن
األديان وبقي اﷲُ واحد ًا أبد ّي ًا
ُ ويأخذ ألف شكل وصورة ،ولهذا ك ُثر ِ
ت ُ هو َ
للبشر يتعدّ ُد
َ
ؤال الحقيقي ا ّلذي ِ الس ُ
سمح اﷲُ َ طرحه اآلن هو :لماذا
ُ بيج ُ ُّ أزل ّي ًا ق ّيوم ّي ًا .لكن يبقى ُّ
ّاس على َ
يكون الن ُ لإلنسان بأن ُي َعدِّ د في دياناتِه وملله ونحله؟ َأول ْيس م َن «األفضل» أن
ِ
م ّلة واحدة؟!
السؤالَ :أول ْي َس اﷲُ هو من قال في
جوابي ــ ّ
َ من القرآن الكريم أقدِّ ُم للقارئ العزيز
197 هاياضقوّرشلا يف
ٌ
إنسان فمهما عبدَ
َ [و َق َضى َر ُّب َك َأ َّل َت ْع ُبدُ وا إِ َّل إِ َّيا ُه]؟! إذن
سورة اإلسراء «آية َ :»23
مقضي منه منذ األزل ،وال ٌّ ألن عباد َت ُه أمر وكيفما كان ما يعبدُ ه فإنّه ال يعبدُ حقيق ًة ّإل اﷲّ ،
فعل العبادة مظهر ًا وتج ّلي ًا من أحد له القدرة على تغيير هذه الحقيقة المس ّل َمة .وما دا َم ُ
عاشق لصورة اﷲ الجميل ب ِ فإن ّ اإللهيَّ ، تج ّليات الجمال
ٌ كل عابد هو في الحقيقة ُمح ٌّ ّ
وعشقه في صورة واحدة ِ بحب اﷲ َ في ِّ
يكتفون ِّ كل شيء ،وهذا هو مقا ُم العارفين ألنّهم ال
حب اﷲَ بشكل محدود وفي وإنّما في الوجود ِ ِ
أحب و ُي ُّ عمن ّ وهم بهذا يختلفون ّ بأسرهُ ،
بصره إلى يوج ُه َيهودي ّ
ّ ويحج إليها ،فهذا ُّ جه ًة ُيقدّ ُسها ال م َن األماكن َ دين مع ّين جاع ً
مسيحي
ٌّ والشافوت والسكوت ،وذاك القدس وحائط المبكى ك ّلما ح ّلت أعياد البيساح َّ
يوج ُه قل َب ُه إلى مكّة حيث ِ ِ
وآخر ُمسلم ُّ يقصدُ كنيسة القيامة ونهر األردن والفاتيكان،
ِ
رأس المع ّلم بوذا في النّيبال ،وكذلك يحج إلى لومبيني مسقطبوذي ُّ
ٌّ ورابع
ٌ الكعبة،
ُ
حيث أعل َن مرة .أو إلى سارناث في الهند، نزل عليه الوحي أول ّ إلى بود جايا حيث َ
تختلف باختالف
ُ عن رسالته وبدأ في نشر تعاليمه ،وهكذا دواليك من األماكن ا ّلتي
أقل من أولئك ا ّلذين يعبدون اﷲ ديانات من يقصدُ ها .وهؤالء ُهم في مراتب العبود ّية ُّ
كل جهة واحدة يستفرغون فيها ّ كل تج ّليات الوجود ،ألنّهم قيدُ وا إيمانَهم ِبقب َلة أو ٍ
في ّ
ْ ّ
واختالف ِق ْب َلة العبادة تشهدُ عليه آي ٌة قرآن ّية أخرى ُ
يقول فيها اﷲُ ُ جهدهم وطاقاتهم.
أن الذاريات ،56وهذا يعني ّ ِ
ليعبدون]ّ ، واإلنس ّإل خلقت الج ّن
ُ عز ّ
وجل[ :وما ّ
َ
كل من الج ّن واإلنس مشغول بعبادة خالقه ا ّلتي اختلفت باختالف مقتضيات أسمائه، ًّ
وا ّلتي يعنيني منها هنا اسميه «الهادي» الوارد في اآلية التّالية[ :و َك َفى بِرب َك ه ِ
ادي ًا َ ِّ َ َ ْ
ِ ِ
«المض ّل» المذكور في هذه اآليةَ [ :من َي َشإِ ال ّل ُه ُي ْضل ْل ُه َو َمن ِ
ثم ُ َونَصير ًا] ،الفرقان ّ ،31
والم ْهتدي ،إذ الضال ُ ُّ اط ُّم ْست َِقي ٍم] ،األنعام ،39وكالهما عابدٌ ؛
ي َش ْأ يجع ْله َع َلى ِصر ٍ
َ َ َ ْ َ ُ
الشكل الذي أن عبادتَها لله على ّ كل طائفة تعتقدُ ّ ألن ّ واختلفت ّإل ّ ْ قتتفر ْ ُ
الملل ما ّ
الس ْب ُع
ات َّ او ُ العزة[ :ت َُس ِّب ُح َل ُه َّ
الس َم َ رب ّ وإل فما معنى أن يقول ّ أمر صائبّ ، اختارت ُه ٌ
يح ُه ْم إِ َّن ُه ك َ
َان َو ْالَ ْر ُض َو َمن فِ ِيه َّن َوإِن ِّمن َش ْي ٍء إِ َّل ُي َس ِّب ُح بِ َح ْم ِد ِه َو َٰل ِكن َّل َت ْف َق ُه َ
ون ت َْسبِ َ
تنوع ف في عباده من حيث ّ المتصر ُ
ّ َح ِليم ًا َغ ُفور ًا] ،اإلسراء ،44وهو سبحانه وتعالى
الوالية والن ّّبوة.ِ وهو الت ّّنوع ا ّلذي تح ّق َق على األرض من با َب ِي عباداتهم واختالفهاَ ،
ومحمد وما شئت من األنبياء واألولياء كان ّ وعلي
ّ المسمى بآدم ونوح وإدريس ّ َ
وقلبك
بيرغ ءامسأ .د 198
ممن جمع بين الوالية والن ُّّبوة؛ فحينما شرعهما على مصراع ْيهما ،ألنّه كان ّ
ُ ّأول من
يؤم ُن به من حيث مقام ُه كان في الفردوس وهناءة البيضة الكونية ،كان ولي ًا لله وكان ِ
َ
ّ ّ
نزل إلى األرض األنثوية ومائها األصفر في دار الكرامة والمشاهدة والكشف ،وحينما َ
ِ
واإليمان به، وتناسلت وكثرت ذر ّيتُه ،أصبح نب ّي ًا ُفأ ْر ِس َل إليهم ليهديهم إلى طريق اﷲ ْ
معتق ٍد في اﷲ وبين مؤمن بال ّطبيعة ونجومها ومنذ ذلك الحين والبشري ُة منقسمة بين ِ
ّ
َّاكر عابد ًا لله
للخالق تماما ،وإن كان حتّى الن ُ ِ ومائها وأحجارها وكواكبها وبين ٍ
ناكر
ِ
القارئ العزيز وهو يقول في ُ ألم تسم ِع اﷲَ أ ُّيها تسبيح ُهْ ،َ ّاسُم َس ّبح ًا له وإن لم يفقه الن ُ
ون]،ب بِ َما َلدَ ْي ِه ْم َف ِر ُح َ [م َن ا َّل ِذي َن َف َّر ُقوا ِدين َُه ْم َوكَانُوا ِش َيع ًا ك ُُّل ِح ْز ٍ
فرقانه المبينِ :
الروم ،32نعم ،إنّهم فرحون بأعمالهم في الدّ نيا وفي اآلخرة أيض ًا ،وإن كان مآلهم إلى
حدث وأعيدوا َ عذاب في النّار ،فإنّهم إذا ٍ الرغم مما ذاقوه من أي أنّهم على ّ الجحيمْ ،
ظاهري به ،ألنّهم ٍ
إيمان إلى الحياة الدُّ نيا ،لعادوا إلى ماكانوا عليه من إنكار لله وعدم
ّ
الخالقَ [ :أ َّمن ُ وإل لما كان قال عذاب الجحيم من باب رحمة اﷲ بعبادهّ ، َ ّ
استلذوا
ض َأإِ َٰل ٌه َّم َع ال َّل ِه َق ِل ًيل َّما
السو َء َو َي ْج َع ُلك ُْم ُخ َل َفا َء ْالَ ْر ِ
ف ُّيب ا ْل ُم ْض َط َّر إِ َذا َد َعا ُه َو َيك ِْش ُ
ُي ِج ُ
ويكشف
ُ المضطر حتّى وإن كان في الجحيم
َّ يجيب
ُ ون] ،النمل ،62فهو وحدهت ََذك َُّر َ
السو َء والعذاب! فسبحانه وحده جعلنا نتك ّل ُم أكثر من لغة ،وندين بأكثر من دين،
عنه ّ
لتتح ّقق مشيئته وكلمته ،ويتج ّلى ملكوته!
عمن يك ّف ُر اآلخرين من أهل الديانات األخرى ألنّهم يعبدون إلها ال عالقة
وأ ّما ّ
له بإلههم ا ّلذي تنص عليه كتبهم كما يحدث في كثير من األحيان بين المسلمين
والمسيحيين ،فهذا ما ال يقب ُله ٌ
عقل وال منطق! ومن يؤمن بهذه الفكرة معتمد ًا على
رفع حجاب
كحجة ضدّ هم ،فإنّي أظ ُّن أنّه قد وجب ُ
ّ قض ّية التَّثليث لدى المسيحيين مث ً
ال
الس ّيدَ
الغموض والخلط والتّشكيك .والبداية ستكون من قوله تعالى حينما سأل َّ
ِ َّاس ات ِ
نت ُق ْل َت لِلن ِ ِ
َّخ ُذوني [وإِ ْذ َق َال اﷲُ َيا ع َ
يسى ا ْب َن َم ْر َي َم َأ َأ َ المسيح عيسى ابن مريمَ :
ُنت ول َما َل ْي َس لِي بِ َح ٍّق إِن ك ُ ُون لِي َأ ْن َأ ُق َون اﷲَ ،ق َال ُس ْب َحان ََك َما َيك ُ و ُأمي إِ َٰلهي ِن ِمن د ِ
ُ َ ِّ َ َ ْ
وبَ ،ما ُق ْل ُت نت َع َّل ُم ا ْل ُغ ُي ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ُق ْل ُت ُه َف َقدْ َعل ْم َت ُه َت ْع َل ُم َما في َن ْفسي َو َل َأ ْع َل ُم َما في َن ْفس َك إِن ََّك َأ َ
ُنت َع َل ْي ِه ْم َش ِهيدً ا َّما ُد ْم ُت فِ ِيه ْم َف َل َّما َل ُه ْم إِ َّل َما َأ َم ْرتَنِي بِ ِه َأ ِن ا ْع ُبدُ وا اﷲَ َر ِّبي َو َر َّبك ُْم َوك ُ
نت َع َل ٰى ك ُِّل َش ْي ٍء َش ِهيدٌ ،إِن ُت َع ِّذ ْب ُه ْم َفإِن َُّه ْم ِع َبا ُد َك يب َع َل ْي ِه ْم َو َأ َ نت ِ
الرق َ ُنت َأ َ َّ ت ََو َّف ْيتَنِي ك َ
199 هاياضقوّرشلا يف
على منطق القانون ،وال َّثواب والعقاب ،غير قادرة على درء ّ
الشر عن اإلنسان وال على
ينبع من إن ّ
كل شيء يقوم على القانون ُ السالم في األرض وفي قلوب النَّاسّ . تحقيق ّ
الحب أبد ًا.
ّ وكل شيء يقوم على الخوف ال يمكنه أن يعرف ال ّطريق إلى منطق الخوفُّ ،
معظم المعتقدين في األديان والمؤمنين بها ،تتع ّل ُق قلوبهم بالجنّة وتخشى النّار :ال
ُ
يفتقر إلى منطق الحياة ا ّلذي تكبته كل قلبه ومن ّ
كل نفسه ،ألنّه ُ يحب اﷲ من ّ
ّ يوجد أحدٌ
والحب تعبير واضح وصريح ُّ األديان في قلوب النّاس .الدّ ين كالقانون ،يفرض الخوف،
نسمع في حياتنا اليوم ّية َّ
أن القانون هو س ّيد المجتمع ،لكنّنا ُ عن عدم الخوف .كثير ًا ما
ال نتساءل أبد ًا عن المعنى الحقيقي لهذه العبارة ،ولو تأ ّملناها للحظة واحدة سنجدُ أنّها
مستمر من العقاب ،لكن لك أن تتخ ّيل معي ّ تعيش في خوف كل المجتمعات ُ أن ّ
تعني ّ
شك ّ
أن حياة النّاس ستكون آمنة وسالمة من الحب هو س ّيد المجتمع ،ال ّ
ّ كيف لو كان
ّ
كل المن ّغصات واآلالم.
الحب دون أن يعرفوا ماهيته وحقيقته
ّ مشكلة النّاس اليوم أنّهم يكثرون الحديث عن
يحب أباه وأقاربه ،كذلك في
َّ أبد ًا :ال ّطفل في البيت يجد أ ّمه صباح مساء توصيه ْ
بأن
يحتاج
ُ الحب ال
ّ الشيء نفسه ،لكن ال أحد يقول لهؤالء األطفال ّ
إن ُ
يحدث َّ المدرسة
الحب يجني عليك دون أنّ ينبع من داخلك وإ ّما ال .من يع ّل ُم َك
إلى تعليم ،فهو إ ّما ُ
بالحب واال ّطالع على نبعه الف ّياض في
ّ حر ّية اإلحساس ُ
يترك لك ّ يدري ،لكن من
الحب ال يحتاج إلى وصايا ،أو تعاليم
ّ داخلك ،يكون ح ّق ًا قد د ّلك على ال َّطريق َّ
السليم.
السالم الذي لم
السالم في القلب ،وهو ّ أو نواميس وقوانين ،بل يحتاج إلى حلول ّ
ِ ِ
أنتجت لنا جماعات هائلة
ْ تستطع األديان أن تح ّققه ألنّها حينما شغلت الن َ
ّاس بالجنّة
الحروب ويشع ُلها من أجل هذه الجنّة ،وحينما شغلهتم
َ من ال ّطامعين ،فظهر من يعل ُن
أرأيت عيسى يا عزيزي
َ أنتجت لنا جموع ًا غفيرة من الخائفين والمرعوبين!
ْ بالنّار
أعر َ
فك به إذن :إنّه وصلك خطا ُبه؟ هل تعرف من هو حقيقة؟ دعني ّ َ القارئ؟ هل
الرجل الوحيد ا ّلذي جاء ليقلب نواميس األديان رأس ًا على عقب .ألنّه لم ِ
يأت بقانون َ ّ
ُج ُار الدّ ين حينما ظهر،
أو شريعة أو ناموس ،بل جاء فقط بالمح ّبة ،ألجل هذا لم يتق ّبله ت ّ
وحاكموه بمنطق القانون واعتبروه مجرم ًا وعاقبوه على درس المح ّبةّ ،
ولعل طريقته في
الزانية أصدق مثال ودليل على ما أقول :إنّه ال ُيدين أحد ًاّ ،
ألن تعامله مع تلك المرأة َّ
201 هاياضقوّرشلا يف
إن النّاس يكرهون أنفسهم ،فإنّي أقصد بالكراه ّية أكثر من فعل الخير .وحينما أقول ّ
اللهوت معظم نصوص ّ ُ تلك ا َّلتي تستمدُّ مشروع ّيتها من الوصايا واألحكام الدّ ين ّية.
وتقول له إنّها األفعى ا َّلتي تسعى بينُ َ
اإلنسان من نفسه، ُح ِّذ ُر وفي ّ
كل الدِّ يانات ت َ
الكثير من
َ ّ
وألن جنب ْيه وا َّلتي عليه أن يحار َب َها بدون هوادة ليضمن لروحه النّجاة،
يملكون خياالً ِخصب ًا في تأويل الوصايا والتّعاليم ،فإن َّك تجدُ ُهم يط ّبقونها
َ النّاس
اهري ا َّلذي غالب ًا ما يقول لهم« :أبغض َ
نفس َك ّ بحذافيرها مكتفين فقط بالمعنى ال ّظ
يحق لي أن أتساءل وأقول :ما
المالحظة ُّ وأحب اﷲ ،هذا هو الخالص» .ومن هذه َُّ
الم ِعيش ِمن حولنا
العالمي َ
ّ
وبغضه ِ
لنفسه؟ الواقع ِ ا ّلذي استفدناه من كراهية اإلنسان
أنفسهم في الكنائس والمساجد ،في المعابد
فجروا َ
الشباب ّآالف مؤ ّلفة من ّ
ٌ يقول:
والشوراع .أليس كذلك؟ ّ
كل هؤالء فعلوا هذا، َّجمعات التّجارية َّ
واألسواق ،وفي الت ّ
أنفسهم.
ألنّهم «يح ّبون اﷲ» ،ويكرهون َ
ب اﷲ؛ ِ المسلم ا ّلذي يقتُل
المسيحي ،يقوم بذلك ألن ُه ُيح ُّ
ّ
حب اﷲ؛
المسلم ،يقوم بذلك ألنّه ُي ُّ
َ المسيحي ا ّلذي يقتل
ّ
يحب اﷲ؛
ُّ اليهودي ا َّلذي ُ
يقتلهما مع ًا ،يفعل ذلك ،ألنّه هو أيض ًا ُّ
حب اﷲ ر ّبما أكثر منهم جميع ًا، والبوذي ا ّلذي ُ
يقتل المسلم ،يقوم بذلك ألنّه ُي ّ
واللئحة تطول طبع ًا.
ّ
كل هذا األلم والعذاب ،فمن يكون هذا اﷲُ ب في ّ ط ّيب ،إذا كانت مح ّب ُة اﷲ تتس ّب ُ
يحب الدّ ماء ونحن ال ندري عنه ّ شك أنّه س ّفاك
كل هؤالء؟! ال َّ ا ّلذي من أجله يتقات َُل ّ
أنت عزيزي القارئ ،ليست له أ ّية عالقة بهذا اإلله ألن اﷲَ ا ّلذي أعرفه أنا وتعر ُفه َ شيئ ًاّ .
َكب ّ ِ ِ
نفسه ،ال يمكنُه أن
أن من يكر ُه َ كل هذه المذابح! ما أريدُ قوله هو ّ ا َّلذي با ْسمه ت ُْرت ُ
ّاس جميع ًا اﷲَ جانب ًا ،وليبدؤوا ِ ب اﷲَ أبد ًا ،لذا فإنّي أعتقد ّ ِ
أن من األفضل لو يترك الن ُ ُيح َّ
يكم ُن ُهنا ،في هذه النّفس ا َّلتي األقل بحب ِ
الحق ُ ألن طريق الخالص ّ أنفسهمّ ، على ّ ُ ِّ
ببغضها ومقتها. يوصي الجميع ِ
كونوا مح ّبين لذواتِكُم ،ما من ُمشكل في ذلك ،أح ّبوا أنفسكم قدر ما استطعتم،
تعرفوا عليها ،وال تنصتوا للباقيّ ،
ألن الوالدة الجديدة تقتضي المح ّبة قبل اكتشفوهاّ ،
لم تبدأ من الدّ اخل فإنّكم لن تجدوا اﷲَ أبد ًا. ّ
كل شيء ،وهذه المح ّبة إذا ْ
بيرغ ءامسأ .د 206
َ
وكونك تعيش اليوم فهذا ال يعني يفتح عين ْي َك على الحياة، الحب هو ّ
الحل إذن ،ألنّه ُ ّ
أن َّك تحيا ،فرق كبير يا صاحبي بين الحياة والع ْيش .انظر حولك ولو لبضع لحظات،
الحق بعد،
حياتك كيف هي؟ وستجد أنّها جحيم مطلقة ،ألنّك لم تعرف اﷲَ ّ َ انظر إلى
الشاطئ ،ضائع كقوقعة مازلت على ّ
َ الرغم من إيمانك وصلواتك وعباداتك ،إنّك على ّ
ٍ
منسية من ّ
كل شيء.
كمحمد وموسى ،أو كمريم ّ ُن
ُن كعيسى ،أو ك ْ لك ك ْال تصدِّ ْق من يقول َ
وتقزيم وتحقير
ٌ ألن في هذا القول إهان ٌة كبيرة َ
لك، وفاطمة ،أو كتيريزا ورابعةّ ،
نفس َك ،ألنّه
ُن َ
أنت وال شيء غير هذا .ك ْ ُن َلك في المقابل :ك ْ لنفسك .أنا أقول َ َ
أردت طبع ًا ذلك منَ أفضل من هؤالء جميع ًا ،إذاَ ستكتشف أنّه قدْ تكون
ُ ر ّبما بهذا
السماوات واألرض، لك؟ اﷲُ بديع ّ وإل فما قيم ُة َخ ْل ِق اﷲ َ
وروحكّ ، َ كل قلبكّ
وتوجدُ منه
َ يتكر ُر أو يتشاب ُه أبد ًا ،وما من شيء في الكون ّإل ّ ال شي َء يخل ُقه
عليك أنت أيض ًا :انظر إذن بداخلك ،واعرف َ نسخ ٌة واحدة فقط .وهذا ينطبق
يتكرر ،ومحمدّ ًا كذلك ،ومريم ّ أن المسيح واحد ال نفسك من تكون .وتذكّر ّ
حيبقلب ٍّ منك أن تعيشب َ سر الحياة ا ّلذي يتط ّل ُ
جر ًا .هذا هو ّ وهلم ّ
ّ وفاطمة
المتحولة والمتغ ّيرة دائم ًا،
ّ أن الحياة ليست ثابتة بل هي وشجاع ،وتذكّر ج ّيد ًا ّ
ال شيء فيها مضمون ،وال شيء فيها يدعو إلى االطمئنان والخمول ،عليك أن
َ
ألعطيك لست هنا
ُ لكل شيء ،وتذكّر أيض ًا أنّني ومتأهب ًا ومستعدّ ًا ّ
ّ تكون متي ّقظ ًا،
لك ،فقد ال تكون شروحات جاهزةً ،ألنّها هي أيض ًا غ ْي ُر ثابتة ،وكما هي صالحة َ ٍ
ٍ
قيمة لغيرك ،وكما قد تكون صالحة اليو َم فقد لن يصبح لها أ ّية َ َ
كذلك بالنّسبة
الزمان ،ولو عا ُدوا صالح ًة لفترة مع ّينة من ّ
َ كانت
ْ غد ًا .وصايا العديد من األنبياء
ّهم سيأتون بالوصايا والكتب نفسها .هكذا هي الحياة ،هذا هو اليوم ال أعتقدُ أن ُ
شلل هادر ،عاصفة هائجة ،أنهار متد ّفقة ،حركة دائبة نحو األوحد ،إنّها ّ
َ قانُونها
تفتح نوافذ جديدة في أعماقك لتتح ّق َق
اللمنتهي ،لذا عليك أن َ األبدي ّ
ّ األمام
كلأوالً وقبل ّ َ
وتتفاعل و َتن َْسجم معها ليس بعقلك فقط ،بل بقلبك ّ َ
كينونتك َ
لك
الس ّر.
ْت ّشيء ،ألنّك إذا فعلت هذا فستكون قد أدرك َ
207 هاياضقوّرشلا يف
ـ7ـ
َ
تحت فيء شجرة المح ّبة
التفسخ
ّ تفسخ ،وال أعني به اإلنسان اآلن في هذه المرحلة من الحياة ،إنه في حالة ّ
ألن األجساد الماد ّية ح ّية وإن ظاهر ّي ًا ،ولكن
وحيّ ،
الر ّ
الجسدي الما ّدي ،بل الدّ اخلي ّ
ّ
الحقيقي اآلن هو النّفس وهي في حالة تح ّلل ذاتي سيتبعه وال شك تفكّك
ّ الميت
شر ًا ،بل ثم والدة جديدة .كورونا ّ
وكل مرض أو وباء كما ترى ليسا ّ األثيريّ ،
ّ للهيكل
والشر الحق ال يظهر ّإل حينما تغيب المح ّبة،
ّ هو إعالن عن والدة جديدة في ال ّطريق،
الحب هو معراجكّ َ
عليك أن تعرف أن الحب .لذا وجب
ّ وتجف أنهار الدّ نيا من ماء
ّ
كل من يسأل عن اﷲ هو في الحقيقة يسأل عن وأن ّ
الوحيد من الجحيم إلى الفردوسّ ،
عرف المحبوب .ليست المشكلة في أين هو اﷲ ولماذا يسمح الحب َ
َّ الحب ،ومن عرف
ّ
حياتك ،مرض ًا كان أو حرب ًا أو كارثة طبيعية أو إرهاب ًا ،إنّما المشكلة
َ بتج ّلي ّ
الشر في
أي نوع من اإلحساس لتشعر
وأصم وبدون ّ
ّ في َ
أينك أنت؟ ولماذا أنت لليوم أعمى
الحب في ّ
كل مكان؟ فأين باﷲ عليك ستبحث عنه وكل موجود ّ بوجود اﷲ أو وجود
ُهو ،إنّه الكيمياء الوحيدة التي تغ ّي ُر الكون .لذا أقول لك ال تنتظر التغيير في الخارج ،بل
بالحب ستنفتح ك ّلي ًا على عالم جديد،
ّ كل شيء يتغ ّير بداخلك وحينما ستكون ممتلئ ًا ّ
الحق ،ليس
ّ َ
دينك وقلبك سيصبح ناي ًا بين شفتي اﷲ ،تخرج منه أنشودة عظيمة هي
ذاك ا ّلذي تلقيته في المعابد والكنائس والمساجد وعبر ال ّطقوس المختلفة ،بل ذاك
َ
وبئرك العميقة والتي بها سترى أن الحياة أغنية رائعة، اخلي
ّ ا ّلذي ينبع من محرابك الدّ
والوجود في تناغم ووئام مبهرين .دعني أروي لك حكاية بيداغوج ّية أخيرة بها أختم
رحلتي الخيميائ ّية معك{ :ذهب أحد الفالسفة إلى امرأة صوف ّية حكيمة وقال لها:
السماوية
أن هذه الكتب ّ «ع ّلميني الكتب المقدّ سة في جلسة واحدة» ،وكان ُ
يعلم ج ّيد ًا ّ
واسعة عريضة وتحتاج إلى العمر ك ّله لمن يريد دراستها بشكل ِجدّ ي ،لكنّه حينما
ال لها بنبرة فيها شيء من التحدّ ي: الصوف ّية العارفة العميق ،أضاف قائ ًصمت ّ
َ لمس
شك أنّك تعرفين الكتب المقدّ سة عن ظهر قلب ،لكنّي أريد ِ
منك أن تحدّ ثيني «ال ّ
األهم فيها واألشدّ واألكثر قيمة في مدّ ة زمنية وجيزة جدّ ًا» .رمته بنظرة ثاقبة
ّ فقط عن
بيرغ ءامسأ .د 208
وعرفت أنّه كان عند فالسفة ومفكّرين آخرين وطرح عليهم القض ّية ذاتها وألنهم لم
والتصوف قالوا له« :هذا أمر ال يستقيم ،ولن تجد في األرض ّ يكونوا من أهل العرفان
ِ
ابتسمت الس ّيدة ثم قاطبة أحد ًا يمكنه أن ُيع ّلمك الكتب المقدّ سة في جلسة واحدة».
تحب أن يفعله اآلخرون لك ،وال تفعل ّ قبلت التحدّ ي ،وقالت له« :افعل لآلخرين ما
كل الكتب المقدّ سة ،والباقي تحب أن يفعله اآلخرون لك .هذه هي ّ ّ لآلخرين ما ال
ك ّله شروحات وتعليقات» .ابتسم الفيلسوف ،ثم خرج من عندها وهو ُ
يعلم أنّها أعطته
كل الكتب المقدّ سة، كل الدّ يانات وتنادي به ّ الحب األعظم ا ّلذي تقوم عليه ّ
ّ درس
نفسك وأكثر ،وال تنظر لهم على أنّهم آخرينَ تحب
ّ أحب اآلخرين كماّ لقد قالت له:
عنك ،بل أنت وهم شيء واحد ،أغن ّية واحدة ،بحث واحد عن اﷲ ،وقلب منفصلين َ
الحب المطلق!}
ّ واحد وانتشاء واحد في حضرة هذا الوجود ا ّلذي هو
دراسات
َل َع ِّلي أبدأ بما أسميه نقيض الالهوت الطبيعي الذي يحاول أصحا ُبه َ
نفي وجود
ً
معقول أو منطق ًّيا .ويأتي ما َ
يكون ٍ
بحال أن اﷲ ،أو القول َّ
بأن اإليمان بوجوده ال يمكن
الطبيعي ً
قبول وإثار ًة لإلعجاب؛ ّ الشر كأكثر أجزاء نقيض الالهوت ُي َس َّمى بمشكلة ِّ
إذ ُي َشك ُِّل وجو ُد ِّ
الشر ــ في اعتقاد كثير من الفالسفة ــ مشكل ًة حقيق َّية للمؤمن ،بل
الشر (أو على ِّ
األقل ما نجده من أنواع الشر ومقداره في ويعتقد كثيرون َّ
أن وجو َد ِّ
ٍ
مقبول منطق ًّيا. ٍ
معقول ،أو غير َ
اإليمان باﷲ غير الواقع) يجعل
هائل من الشر ،وقد قام ديفيد هيوم بإحصائها، قدرا ً أن العا َلم يحوي ً شك َّال َّ
يقول على لسان ِد ِم َيان« :ولكن ،وإن َت ُك ْن هذه المهانات الخارجية التي ت ُِصي ُبنا
خي ًفامن الحيوانات واألناسي من العناصر ك ِّلها التي َتنْ َق ُّض عليناُ ،تكَو ُن َثبتًا م ِ
ِّ ْ ُ ّ
ِ
يس ْت بتلك التي َتن َْشأ في نفوسنا من اختالل ِ
ليست شي ًئا إذا ق َْ الر َزا َيا؛ فهي
من َ
األمراض البطيء؟ أص ِغ إلى ِ ينشأ من تعذيب مزاج ذهننا وبدننا ،وكم منها َ
الم ْف ِجع للشاعر العظيم :2حصوة األمعاء ،والقرحة ،وآالم القولونج، اإلحصاء ُ
الم ْست َِعر ،والهزال السقيم، المك ُظو َمة ،والجنون ُ
ِ
الم ْحتَدم ،والكآبة َ ُ
والغيظ ُ الم َب ِّر َحة،
ُ
الر َّج ُة ُمخي َف ًة ،واألنَّات عميقة :واليأس ِ
الم ْكتَسح .لقد كانت َّ والنحول،والطاعون ُ
سهمه وهو يطعنهم ــ الم ْر َضى ،وينتقل من فراش إلى فراش ،وعليهم ُي َس ِّل ُط َ يس َعى إلى َ
وكأنَّه خيرهم األعظم، لكن في تبا ُطؤ ــ ،وإن كانوا غال ًبا ما يضرعون إليه بالنذورَ ،
ُ .1م ْست َّل من الفصل األول من كتاب God, Freedom, and Evil( :اﷲ واحلرية والرش) ،من تأليف
الفيلسوف األمريكي :ألفني بالنتينجا .Alvin Plantingaترمجة :عبد العاطي طلبة.
.2املقصود بالشاعر العظيم هنا :جون ميلتون ،واالقتباس من قصيدة( :الفردوس املفقود).
جنيتنالب نيفلأ 210
وإن َت ُك ْن أكثر استخفاء، ِ
اضطرابات الذهن ْ قائلَّ :
«إن وأملهم األخير» .وأردف دميان ً
وإزعاجا .والندم ،والخجل ،والكرب ،والحنق ،وخيبة ً إال أنها ربما لم تكن أقل كآبة
ٍ
غزوات مر بالحياة دون األمل ،والقلق ،والخوف ،والكآبة ،واليأسَ ،م ْن َذا الذي َّ
إن الكدح والفقر شعورهم بأحاسيس أفضل؟ َّ ُ الم َع ِّذ َبات؟ وكم نَدُ َر
قاسية من هذه ُ
الحقيقي ألكبر عدد ،وأولئك المحظوظون ت الجميع لهما ــ هما الزاد ــ على م ْق ِ
ُّ ُ
القالئل الذين ينعمون بال ُي ْس ِر وال َي َس ِار ال يبلغون البتَّة الرضا أو النعيم الصادقَّ .
إن
خيرات الحياة جمي ًعا مجتمعة لتجعله شق ًّيا ح ًّقا ،بل وأي رزء من هذه األرزاء ــ ومن ِ
يستطيع أن
ُ إن َغ ْي َب َة خير واحد ــ َو َم ِن الذي
يفلت منها جمي ًعا؟ ــ ،بل َّالذي يستطيع أن َ
يملك الخير ك َّله؟ ــ لتكفي في الغالب لِ َج ْع ِل الرغبة في الحياة ضئيلة».3
المدّ والجزر، إنه باإلضافة إلى الشرور الطبيعية مثل الزالزل ،وموجات َ
واألمراض الخبيثة؛ فإنه توجد شرور صادرة عن غباء اإلنسان ،وكبريائه ،وقسوته.
أيضا تلك المعاناة والوحش َّية التي تصاحب الحرب ،ولعله من أقبح ِس َماتِها هناك ً
شاب
جندي ٌّ ٌّ الطريقة التي ت َُص ِّي ُر بها من يشاكون فيها إلى وحوش ضارية .وقد قال
تعلي ًقا على محاكمة المالزم وليام كالي ،المتهم بالمشاركة في المذبحة األمريكية
التي ُقتِ َل فيها مدنيون ُع َّزل في ماي الي« :كيف يمكنهم معاقبة كالي؟ لقد أرسلونا
هنا من أجل قتل الفيتنام ِّيين ،وظيفتنا قتل الفيتنام ِّيين ،كيف لهم أن يعاقبوه على
إن أحدً ا يتكلم بهذه الطريقة ال شك أنه قد أصبح وحش ًّيا .قال سقراط ذات ذلك؟!»َّ .
َ
تكون َ
تكون مظلو ًما خير لك من أن مرة إن مكابد َة الظلم أفضل من ارتكابه ،وأن
قاسي القلب من جهة األخالق ،دون
َ لعل هذا الذي أصبح ظالما! لعله كان ُم ِح ًّقاَّ ،
ً
ِ
شعور كما يوحي تعلي ُقه قد َف َقدَ ما هو أ ْث َمن من الحياة نفسها.
.3ديفيد هيوم ،حماورات يف الدين الطبيعي ،ترمجة :حممد فتحي الشنيطي ،مكتبة القاهرة احلديثة ،ص
.113 ،111
211 ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم
.4ديفيد هيوم ،حماورات يف الدين الطبيعي ،ترمجة :حممد فتحي الشنيطي بترصف بسيط ،مكتبة القاهرة
احلديثة ،ص .117
5. Hume, Dialogues Concerning Natural Religion, part. X, pp. 88, 91.
جنيتنالب نيفلأ 212
وجيها للسماح بوجود الشر؛ فإن المؤمن من المفترض به أن يكون َ
أول ً يملك سب ًبا
من يعرفه؟ نعمَّ ،
لعل اﷲ يملك هذا السبب الوجيه ح ًّقا ،لكنه ُم َع َّقد للغاية ،ويصعب
على كل أحد فهمه ،أو لعله لم يكشف عنه الحجاب ألساب أخرى يعلمها .لعل
حقيق َة عدم معرفة المؤمن السبب وراء السماح اإللهي لوجود الشر تكون مثيرة
لالهتمام ،لكنها في حدِّ ذاتها ال تكشف شي ًئا يتعلق بمدى معقولية اإليمان باﷲ .لعل
وقوف الحجة اإللحادية على قدم وساق؛ يحتاج إلى جهد أكثر.
فلنر األمر بهذه الطريقة :إن المؤمن يعتقد َّ
أن اﷲ يملك سب ًبا ما وراء السماح َ
بوجود الشر مع عدم معرفتِه هذا السبب .لماذا يمكن أن يعني هذا عدم دقة اإليمان
أو العقالنيته؟ لِنضرب ً
مثال :االعتقاد بأن هناك نو ًعا من ِ
الص َلة بين قرار بولس قطع
الم َش ِاركَة في هذا
الم َع َّقدَ ة من الحركات الجسدية ُ ُع ْش ِ
ب حديقته ،وتلك المجموعة ُ
قراره في هذه الحركات الجسدية؟ب ُ الفعل .لكن ،ما وجه الصلة تحديدً ا؟ هل ت ََس َّب َ
إن القرار قد يتم اتخا ُذه قبل ٍ
وقت ال بأس به ،قبل األمر على هذا النحو؛ فكيف؟ َّ
َ إذا تم ُ
أن يضع إحدى قدميه على هذا العشب ،أتوجد هناك سلسلة وسيطة ُم ْمتَدَّ ة بين قراره
قامت
ْ وأولى هذه الحركات؟ إذا كان األمر كذلك؛ فأي نوع من األحداث بالضبط
قلت إنها تتعلق أي حدث منها يتع ّلق ُ
قرار بولس؟ إذا ُ بتكوين هذه السلسلة ،وإلى ّ
بالحدث األول منها ،يأتي السؤال :ألها حدث أول ً
أصل؟ هذا إلى جانب محموعة
فعل قطع العشب .هل قراره يتعلق بنفس يتضمنها ُ َّ كاملة من اإليماءات الجسدية التي
قرار بولس قطع الطريقة لكل واحدة من هذه اإليماءات؟ بالضبط ،ما هي العالقة بين ِ
يتضم ُن َحدَ ًثا جسد ًّيا على اإلطالق ــ وما ُي ْح ِد ُثه من
َّ قرارا
العشب ــ الذي ال يبدو ً
حركة أثناء عمله؟ ال أحد يعرف اإلجابة عن هذه األسئلة كما أظن .لكن ،هل يترتب
على ذلك أن يكون من غير المنطقي أو من غير المعقول االعتقاد بأن قرار بولس
ِ
معرفة له عالقة ما بهذه السلسلة من الحركات الجسدية؟ بالتأكيد ال.كذلك ،عدم
المؤمن السبب وراء السماح اإللهي لوجود الشر ال ُيظهر في حد ذاته المؤم َن غير
عقالني في اعتقاده بأنه من المؤكَّد أن لله سب ًبا وراءه .لذلك ،ال يمكن للملحد ــ من
أجل تدعيم قضيته ــ االستراحة ُم ْكت َِف ًيا بطرح أسئلة ُم ْح ِر َجة ال يعرف المؤمن اإلجابة
عنها ،بل عليه أن يبذل جهدً ا أكبر كأن يحاول ــ على سبيل المثال ــ أن ُي ْثبِ َت استحالة،
213 ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم
نفسه؟ ُ
المؤمن َ هل ُي َنا ِق ُ
ض
نال ً
جدل واس ًعا بعنوان (الشر وطالقة القدرة ٍ
مقال له َ ُي َر ِّد ُد جاي إل .ماكي في
)Evil and Omnipotenceا ِّد َعا َءه فيقول« :ومع ذلك ،أعتقد إمكان النقد الكثيف
عن طريق مشكلة الشر التقليدية ،التي من خاللها يمكن أن ُن ْظ ِه َر ُ
المعتقدات الدينية
حتما العقالنية بإطالق ،بل تعارض ِ
المدَ د العقالني ،ولكنها ً ال تفتقر فحسب إلى َ
بعضا».6
بعضها ً
أجزا ُء العقيدة الالهوتية الواحدة َ
سؤال :ما الذيً نفسه؟ علينا أن نطرح ُ
قبل ِ ِ
هل ماكي ُمح ّق؟ هل ُينَاق ُض المؤم ُن َ
الالهوتي يحوي داخله تبا ُينًا وتنا ُق ًضا بالطبع .لكن ،ما
َّ ُيدَّ َعى هنا؟ َّ
أن اإليمان
الج ِل َّي يعني ِ
وجه هذه المباينة أو المناقضة بالضبط؟ هناك أنواع عدَّ ة .إن التناقض َ
وجو َد قض َّيتين يختلفان إيجا ًبا وسل ًبا ،بمعنى أن وجود إحداهما ينفي وجود اآلخر
بالضرورة .على سبيل المثال« :بولس العب كرة تنس جيد ،وبولس ليس العب كرة
الناس على هذا النوع من التناقض الصريح) .هل
ُ تنس جيد»( .يندر جدًّ ا أن ُي ِص َر
يتهم ماكي المؤم َن بقبول مثل هذا التناقض؟ أفترض ال؛ فما يقوله هو« :المشكلة
كلي القدرة ،ومطلق الخيرية ،لكن الشر موجود .يبدو
في أبسط صورها كاآلتي :اﷲ ّ
صح ْت واحدة ض بين هذه االفتراضات الثالثة على ٍ
نحو إذا َّ أن هناك نو ًعا من التنا ُق ِ
منها؛ َّ
فإن الثالثة تبطل .ومع ذلك ُت َعدُّ تلك القضايا الثالث أجزاء رئيسة في معظم
المواقف الالهوتية ،إذ يتقيد بها الالهوتي مرة واحدة ،في حين أنه ال يملك القول
بها م ًعا على ٍ
نحو مستمر».7
6. fohn Mackie, «Evil and Ommpotence, » In The Philosophy of Religion, ed. Basil
Mitchell (London. Oxford Umversity Press, 1971), p 92.
7. Ibid., pp. 92 - 93.
جنيتنالب نيفلأ 214
طب ًقا لما يقوله ماكي فإن المؤمن يقبل مجموعة تتكون من ثالث قضايا ،ال يمكن
اجتماعها م ًعا ،أطرافها بالطبع:
اﷲ كلي القدرة.
اﷲ ُم ْط َلق الخيرية.
اﷲ موجود.
أن Aمجموعة متناقضة ،ولكن ما الذي يعنيه أن ف ْلن َُس ِّم هذه المجموعة ،Aولندَّ ِع َّ
الج ِل َّي،
تكون مجموعة ما من القضايا ُمتناقضة أو متباينة؟ بعد أن قمنا بتعريف التناقض َ
يمكننا القول بتنا ُقض مجموعة من القضايا إذا كان أحدُ أطرافها ينكر أو ينفي طر ًفا آخر
فيها ،وبالتالي يكون من الواضح ح ًّقا أن المجموعة التي نناقشها ال تتناقض تنا ُق ًضا
جل ًّيا؛ فعكس القضايا ( ،)1و( ،)2و( )3في المجموعة ،Aيكون على التوالي:
كلي القدرة.
ليس اﷲُ ّ
ليس اﷲ مطلق الخيرية.
ال وجود للشر.
وال نجد أ ًّيا منها في المجموعة .A
شك فيه أن هناك العديد من المجموعات التي تتناقض بوضوح ،وبقدر كبير، مما ال َّ
الجلي ،انظر إلى المجموعة Bعلى سبيل المثال:
َّ ولكنها ال تتناقض هذا التنا ُق َض
إذا كان البشر جميعهم فانين؛ فإن سقراط ٍ
فان.
البشر فانون.
سقراط ليس فان ًيا.
هذه المجموعة ال تتناقض تنا ُق ًضا جل ًّيا مع أنَّه من المؤك َِّد َّ
أن بعض مضامين هذا
المفهوم الها َّمة تنطبق عليها .ما ُيه ُّم هنا هو استخدام قواعد المنطق العادي ــ قوانين
تمهيدي حول
ّ أي نص منطق حساب القضايا ،ونظرية القياس الك َِّمي الموجودة في ِّ
مكنَنا االستدالل على تناقض المجموعة تنا ُق ًضا جل ًّيا .أو يمكن موضوع ما ــ حتى ي ِ
ُ
إلنتاج قضية أخرى من ِ وضعها وض ًعا ُم ْخت َِل ًفا عن طريق استخدام قوانين المنطق
215 ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم
تناقضا جل ًّيا.
ً المجموعة ،والتي عندما ت َُضاف إليها تَحدث مجموعة جديدة تتناقض
فباستخدام قانون القياس االستثنائي (8إذا كانت pتدل على q؛ وكانت pصحيحة،
أيضا) يمكن استنتاج:
تكون qبالتالي صحيحة ً
سقراط ٍ
فان.
من ( ،)4و( .)5وتنتج عن إضافة ( )7للمجموعة Bمجموع ٌة جديدة تتكون من:
{( ،)4و( ،)5و( ،)6و( ،})7والتي مما ال شك فيه أنها تتناقض جل ًّيا في َّ
أن القضية ()6
تنفي القضية ( .)7إنه يمكن القول أن أي مجموعة تشارك Bفي نفس خصائصها ،فإنها
تتناقض تنا ُق ًضا ُصور ًّيا .لذا فإن المجموعة التي تتناقض صور ًّيا يجب أن نستنتج من
قضاياها تنا ُق ًضا باستخدام قوانين المنطق؛ فهل يدعي ماكي َّ
أن المجموعة Aتتناقض
صور ًّيا؟
ُجيز لنا أن نستنتج ما ينافي ألن قوانين المنطق ال ت ِ
األمر كذلك ،فهو مخطئ؛ َّ إذا كان ُ
أيضا .لكن، قضية واحدة من قضايا المجموعة ،Aبل وال تتناقض Aتنا ُق ًضا صور ًّيا ً
تبقى هناك طريقة أخرى يمكن أن ت َُص ِّي َر بها مجموع ًة من القضايا ُم َتنَاقضة أو ُمت ََض ِ
اربة.
خذ عندك المجموعة ،Cوقضاياها هي:
جورج أكبر من بولس.
بولس أكبر من نيك.
و
جوروج ليس أكبر من نيك.
هذه المجموعة ال تتناقض تنا ُق ًضا جل ًّيا أو صور ًّيا .رغم أنه ال يمكننا استنتاج نفي ما
قاهرا يدعو إلى كونها
حسا ً ألي من هذه القضايا باستخدام قوانين المنطق ،فإن هناك ًّ
ٍّ
متناقضة أو متضاربة؛ ألنه من الواضح أن قضاياها ال يمكن أن ت َْصدُ َق في الخارج مرة
واحدة ،هذا صحيح بالضرورة أنه:
.8القياس االستثنائي :هو الذي ُذ ِك َر ْت فيه النتيجة أو نقيضها بالفعل يف مقدماته ،مثل« :إن كانت الشمس
طالعة فالنهار موجود ،لكن الشمس طالعة؛ فالنهار موجود» .انظر :األساس يف املنطق ،دار ابن حزم،
الطبعة الثانية ،2012ص .149
جنيتنالب نيفلأ 216
إذا كان جورج أكبر من بولس؛ فإن بول أكبر من نيك ،وبالتالي يكون جورج أكبر
من نيك.
وبإضافة القضية ( )11للمجموعة Cيمكننا أن نحصل على مجموعة تتناقض
صريحا للقضية ( )10باستخدام قوانين
ً صور ًّيا؛ فالقضايا ( ،)8و( ،)9و( )11تنتج نف ًيا
المنطق العادي.
إنني أقول أن ( )11صادقة بالضرورة ،ولكن ما الذي يعنيه هذا؟ بالطبع يمكن
يصح
ُّ أن نقول بصدق قضية ما ضرور ًة إذا كان يستحيل تكذي ُبها ،أو إذا كان نف ُيها ال
شخصاً َّ
وألن ٍ
بحال .إن هذا من شأنه أن ُي َع ِّرضنا لشرح معنى الضرورة بلغة االحتمال.
حائرا أمام مفهوم االحتمام سواء بسواء؛ فلن يجدي
ال يعرف معنى الضرورة سيقف ً
الشرح نف ًعا هنا ،وربما كل ما يمكن فع ُله هنا ضرب بعض األمثلة راجين من ورائها
ُ
النفع .في المقام األول ،علينا أن نقول إن العديد من القضايا يمكن تأسيسها من خاللِ
ُ
قوانين المنطق ليس إال ،على سبيل المثال:
فإن سقراط ٍ
فان. إذا كان كل البشر فانين ،وسقراط بشر؛ َّ
تعد أمثال هذه القضايا حقائق المنطق ،وتبدو جميعها صادقة بالضرورة في منطق
أيضا،
السؤال ،لكن حقائق علم الحساب والرياضيات في عمومها صادقة بالضرورة ً
كما َّ
أن حشدً ا من القضايا التي ال ُت َعدُّ حقائق منطقية أو رياضية ،ومع ذلك تكون صادقة
ضرور ًة كالقضية (.)11
ال أحد أطول من نفسه.
األحمر لون.
أشخاصا.
ً األعداد ليست
رئيسا للوزراء.
ال رئيس للوزراء يكون ً
ال ُع َّزاب غير متزوجين.
لدينا هنا إذن نوع هام من الضرورة ،فلنسمها «الضرورة المنطقية العا َّمة» .بالطبع
مثل ُي ْحت ََم ُل صد ُقها (بمعنى الضرورة
هناك نوع مترابط من االحتمال :فالقضية ً p
المنطقية العامة) في حالة عدم صحة نفيها أو إنكار صدقها ضرور ًة (بمعنى الضرورة
217 ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم
المنطقية العامة) .إنه يجب تمييز هذا الحس الضروري أو االحتمالي عن ما يمكن
ً
احتمال سبب ًيا أو طبيع ًّيا .على سبيل المثال: تسميتُه ضرورة أو
سبح هنري كسنجر في المحيط األطلسي.
على الرغم من أن هذه القضية غير قابلة للتصديق إال أنها ليست كاذبة ضرورة
بالمعنى العام للضرورة المنطقية (وإنكارها ليس صاد ًقا ضرور ًة بنفس المنطق) ،لكن
هناك ما يحملنا على القول بأنها غير ممكنة؛ ألنها تستحيل طبيع ًيا ومنطق ًّيا .إن البشر
تؤه ُلهم لهذا العمل ّ
الفذ. ــ على خالف الدالفين ــ ال يملكون األعضاء الجسدية التي ِّ
لسنا سوبرمان ً
مثل؛ فال نقدر على القفز من أعلى مبنى شاهق مرة واحدة دون قوة
مساعدة من نوع ما ،وال نملك السفر بسرعة تفوق رصاصة منطلقة .إن هذه األشياء
مستحيلة لنا ،ولكنها ال تستحيل منطق ًّيا حتى بمعناه العام.
معان للضرورة واالحتمال هنا؛ فعالوة على أنه قد يصعب إنه يمكن استخالص عدة ٍ
بعض هذه القضايا تقع القول باحتمال قضية ما من عدمها بالمعنى المنطقي العامَّ ،
فإن َ
تحت طائلة الجدل الفلسفي .على سبيل المثال :هل يمكن أن ال يكون اإلنسان واع ًيا
مدة وجوده؟ هل يمكن لإلنسان أن يعيش بال جسد (يحرر روحه)؟ إن كان هذا ممكنًا،
هل ُي ْحت ََمل وجود شخص لم يكن لديه جسد مطل ًقا خالل مدة وجوده كلها؟ هل يمكن
اإلبصار دون عين؟ كل هذه قضايا تتعلق باالحتمال بالمعنى المنطقي الواسع تحمل
كبيرا. ً
وجدال ً داخلها نزا ًعا
ِ
حقيقة أن اقتران أطرافها فلنعد اآلن إلى المجموعة Cالتي تأتي خصوصيتُها من
ــ أعني القضية التي تم التعبير عنها بنتيجة عن طريق الربط بين القضيتين ( ،)8و()9
بالعاطفة (و) ــ خطأ بالضرورة .أو لعله يمكننا القولَّ :
إن ما يمكن أن يميز المجموعة
Cحقيقة أنه يمكن الحصول على مجموعة متناقضة عن طريق إضافة قضية صادقة
ضرورةً ،وهي القضية ( .)11ومن هنا يمكننا القول إن المجموعة تتناقض ضمن ًّيا إذا
جاءت متشابهة مع المجموعة Cمن هذه الناحية .تتناقض مجموعة من القضايا إذا
تناقضت صور ًّيا،
ْ ِ
أضيفت النتيحة إلى المجموعة كانت هناك قضية ضرورية ،بحيث إذا
وبتعبير آخر :إن مجموعة ما تكون متناقضة ضمن ًّيا إذا كان فيها بعض القضايا الصادقة
جلي
ّ ضرورةً ،بحيث إذا استخدمنا قوانين المنطق الطبيعي فحسب نتج لنا تنا ُقض
جنيتنالب نيفلأ 218
ٍ
لقضية مع باقي قضايا المجموعة .وعندما يأتي ماكي ليقول إن المجموعة Aمتناقضة،
فإنه يمكن القول ــ كما أعتقد ــ بأنه يفهم التناقض فيها على أنه تناقض ضمني بالصورة
التي ُس ْقناها؛ فعلى حد تعبيره« :مهما ي ُك ْن ،إن التناقض ال ينشأ مباشرة؛ إننا نحتاج إلى
المقدمات اإلضافية ،أو ربما بعض القوانين شبه المنطقية للربط بين مصطلحاتِ بعض
«الخير» ،و«الشر» ،و«كلي القدرة» .هذه المبادئ اإلضافية هي َّ
أن الخير يتعارض مع
كلي
الشر بحيث أن الشيء الخ ِّير يسعى في القضاء على الشر ما دام مستطي ًعا ،وأن َّ
القدرة ال حدَّ لقدرته ،وبالتالي من هنا يمكن القول :إن كلي القدرة ،مطلق الخيرية
يملك القضاء على الشر كل ًّيا ،وأنه ال ينسجم وجود كلي القدرة بجانب وجود الشر
ٍ
بحال».9
أيضا «مبادئ إضافية» ،و«القوانين
يشير ماكي هنا إلى «مقدمات إضافية» ،ويسميها ً
شبه المنطقية» ،ويقول إننا بحاجة إليها من أجل إثبات هذا التنا ُقض .إن الذي يعنيه
في ما أرى أنه للحصول على مجموعة تتناقض صور ًّيا فإنه علينا إضافة بعض القضايا
األخرى للمجموعة ،Aوأنه إذا أردنا أن نكشف التعارض وراء المجموعة ،Aفإن هذه
القضايا يجب أن تكون حقائق ضرورية باستخدام «القوانين شبه المنطقية» كما يسميها
ماكي .أما عن المبدأين اإلضافيين اللذين اقترحهما ماكي فهما:
كل ما هو خ ِّير يقوم بالقضاء على الشر ما دام مستطي ًعا.
لكلي القدرة فع ُله.
ّ ال يوجد حد ما لما يمكن
الضمني ،فإنه عليه أن يؤ ِّكدَ
ّ وبالطبع إذا كان ماكي يريد أن يكشف عن تنا ُقض A
حرف ًّيا ليس على صدق القضيتين ( ،)19و( )20فحسب ،بل على ضرورة صدقهما.
لكن ،هل هما كذلك؟ ماذا عن القضية (ً )20
أول؟ ما الذي يعنيه أن تقول َّ
إن كائنًا ما
كلي القدرة؟ على األرجح نعني أنه مطلق القوة والسلطان ،لكن ،أال توجد حدود لقوة ّ
كائن كهذا؟ هل يمكنه أن يخلق دوائر مربعة ،أو عزا ًبا متزوجين؟! َّ
إن معظم الالهوتيين
والمؤمنين من الفالسفة القائلين بطالقة القدرة اإللهية ال يقولون إنه قادر على خلق
مربعات مستديرة ،أو أن يوجدها وال يوجدها في ٍ
آن واحد .قد يقول هؤالء الالهوتيون
والفالسفة بنفي الحدود الالمنطقية لما يمكن أن يفعله كائن كلي القدرة ،ولكنهم في
الوقت نفسه يس ِّلمون أن َّ
كلي القدرة ال يمكنه إيجا َد أمور تستحيل منطق ًّيا ،أو أن يكون
ُم َس ِّب ًبا لقضايا يستحيل صد ُقها .ومن جانب آخر ،نجد بعض المؤمنين ــ مارتن لوثر،
وديكارت ربما ــ قد اعتقدوا في ما يظهر بأن القوة اإللهية مطلقة ال يمكن حدُّ ها حتى
بال عندهم.بقوانين المنطق .بالنسبة إلى هذا النوع من المؤمنين لن يكون تنا ُقض Aذا ٍ
إذ يؤمنون بالقضايا ( ،)1و( ،)2و( )3في ما يبدو دون أن يشعروا بنوع من االنزعاج
ال ِّدعاء أن مثل هذه القضايا الثالث تتضارب م ًعا؛ ألنهم كما يقولون بأن فعل اﷲ لما
هو مستحيل منطق ًّيا ممكن .ومن َث َّم ،فبإمكان شخص كهذا أن يقول بصدق قضايا
كانت مجموعة متناقض ًة (من ُ
الم ْحت ََمل أن يصيبك التركيز ْ Aالثالث م ًعا حتى وإن
الم ْقت ََرح بالدوار) .لذا ،فإن المؤمن الذي يعتقد بعدم محدود َّية القوة
الشديد في هذا ُ
كانت بالقوانين المنطقية ،لن يقتنع بحجة ماكي ،ولن يجد أي نوع من
اإللهية حتى وإن ْ
الصعوبة في تناقض Aالتي ُيدَّ َعى احتواؤها عليه .ال يحظى هذا الرأي بشعبية كبيرة،
ولعله ال يتمتع بنوع من التماسك لسبب وجيه؛ ألن ما يعنيه المؤمن عاد ًة عندما يقول إن
اﷲ كلي القدرة أنه ال حد لقوته اإللهية ،ولكن ،على األغلب أنه ال حدَّ غير منطقي لما
يمكنه فعله ،واعتما ًدا على ذلك قد يكون من المعقول مبدئ ًّيا أن نفترض صدق القضية
( )20ضرورةً.
واآلن ،ماذا عن القضية ( )19القائلة َّ
بأن كل ما هو خير يسعى في القضاء على
قادرا؟ هل تصدق ضرورةً؟ هل هي صادقة ً
أصل؟ قبل أي كل ما هو شر ما دام ً
قرارا غير حكيم بقيادة سيارته في يوم شيء؛ فلنفترض َّ
أن صديقنا بولس قد اتَّخذ ً
ناء ،ثم انخفضت درجة الحرارة حتى أصبحت شات ونفد منه الوقود في طريق ٍ
ٍ
وأنت تجلس َ عشر درجات مئو َّية ،وإذ برياح بادرة عاتية تجتاح المكان .كل هذا
نارا ُم ْلت َِه َبة، ِ ببتك (تبتعد خمسة عشر ً هان ًئا في َ
ميل عن بولس) ،ت ُْصلي الكستناء ً
وسيارتك في المرآب ،في صندوقها حاوية ممتلئة خمس جالونات من الوقود
دائما لحاالت الطوارئ .ال شك أن األسى والخطر اللذين يعيشهما بولس
ُت ْبقيها ً
شر يمكنك القضاء عليه ،لكنَّك لم تفعل .وحسبما أتوقع ،ال يمكنك التنازل عن
ادعائك الخير َّية؛ ألنك ببساطة لم ِ
تدر شي ًئا عن محنة بولس .لذلك ال تبدو القضية
جنيتنالب نيفلأ 220
ِ ( )19ضروري ًة؛ ألنها تقول َّ
إن كل ما هو خ ِّير له َخص َ
يصة هي القضاء على كل شر ما
أمكن .وإذا كانت الحالة التي وصفتُها قبل ممكنة ،أعني فشل شخص ما في القضاء
على شر ُم َع َّين ُي ْمكن القضاء عليه بسبب الجهل به؛ َّ
فإن ( )19ال يمكن أن تكون
ٍ
بحال. صادقة ضرورة
لكن ربما يمكن لماكي أن يحتج علينا بالعقل؛ فيدعي أنه إذا لم تكن على علم
الم ْعنِ ّي
فلست تحت طائلة المساءلة؛ ألنك ال تستطيع القضاء على الشر َ
َ بمحنة بولس؛
هنا ،ولعله يكون ُم ِح ًّقا حينئذ .على أي حال ،يمكنه أن يراجع ( )19في ضوء الحالة
التي أوردتُها لتكون )19a( :كل ما هو خ ِّير يسعى في القضاء على كل شر يعلم عنه،
محوه .وبالجمع بين {( ،)1و( ،)2و( ،)3و( ،)20و( })19aيمكننا أن نالحظ
ويمكنه ُ
تتناقض صور ًّيا علينا إضافة قضية أخرى تقول
َ أنها مجموعة ال تتناقض صور ًّيا ،وحتى
عالما ،ال تخفى عنه
بأن اﷲ يعلم كل شر حادث .وألن معظم المؤمنين يعتقدون باﷲ ً
أن اﷲ بكل شيء فإن المجموعة الجديدة ــ المجموعة التي ينتج عنها قضية َّ
خافيةَّ ،
عليم عند إضافتها إلى Aــ تتناقض ضمن ًّيا ،وهنا يمكن لماكي أن يشعر بالرضا ،في
الوقت الذي يرتبك فيه المؤمن( .ومن اآلن فصاعدً اِ ،
فلنبق Aكما كانت في سابق مع
إضافة قضية أن اﷲ بكل شيء عليم).
قائما :هل القضية ( )19aضرورية؟ لعلها بالكاد .فلنفترض أنك إن السؤال ال يزال ً
أيضا تعلم بحالة بولس وقد تق َّط َع ْت به ُ
الس ُبل كما أوضحنا في المثال السابق ،كما تعلم ً
أن صدي ًقا آخر في موقف مشابه يبتعد عنك خمسين ً
ميل في االتِّجاه المعاكس ،ولنقل َّ
أيضا أنه في الوقت الذي يمكنك فيه مساعدة أحدهما ال يمكنك مساعدة اآلخر ،ألنك
ً
ببساطة ليس في مقدورك إنقاذ كليهما .إنه في مقدورك مساعدة االثنين والقضاء على
ما يحيط بهما من شر ،بل وتعلم كذلك عن حالتهما ،لكنك ال تستطيع القضاء على
ضيرا في ا ِّدعائك الخير َّية إذا ما قضيت على شر واحد منهما
الشرين م ًعا ،وال ترى ً
فحسب؛ ألنه ببساطة ليس في استطاعتك أن تفعل أكثر من ذلك .وبالتالي ،حقيقة أنك
شخص َخ ِّير رغم ذلك ال يمكن الفرار منها ،ومن أجل ذلك ال يمكن للقضية ( )19aأن
صحيحا إذن أن كل ما هو
ً تكون صادق ًةً ،
فضل عن أن تكون صادقة بالضرورة ،وليس
خ ِّير يمكنه القضاء على كل شر يعلم عنه.
221 ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم
( ،)19cهل يمكن لهذا التسليم أن يخدم غرض ماكي؟ أشك في ذلك؛ ألننا ال نحصل
على مجموعة تتعارض صور ًّيا بإضافة ( ،)20و( )19cإلى المجموعة .Aفلن َُس ِّم هذه
ست قضايا هي:
المجموعة إذن ’ ،Aوتحتوي على ِّ
كلي القدرة.
اﷲ ُّ
اﷲ ُم ْط َلق الخير َّية.
)’ (2اﷲ بكل شيء عليم.
الشر موجود.
( )19cإن كائنًا مطلق القدرة ،مطلق ِ
العلم ،خ ِّي ًرا ُي ِز ُيل َّ
كل شر ممكن كما ينبغي.
لكلي القدرة فع ُله.
ّ ( )20ال يوجد حد ما لما يمكن
كانت ’ Aمتناقضة صور ًّيا؛ فمن أي واحدة من أطرافها الخمسة ينتج إنكار
واآلن ،إذا ْ
القضية السادسة باستخدام قوانين المنطق العادي؟ هذا هو األمر؛ إنه يلزم عن أي قضية
منها إنكار السادسة؛ لذلك إذا كانت ’ Aمتضاربة صور ًّيا ،سيكون إنكار ( )3الز ًما عن
الخمسة الباقية ،وهذا يعني أنه يلزم صور ًّيا عن ( ،)1و( ،)2و)’ ،(2و(19س) ،و()20
أنه:
)’ (3ال يوجد شر.
في الحقيقة إنها ال تؤ ِّدي إلى ذلك؛ ألنه ال يلزم عنها عدم وجود شر على اإلطالق،
لكن يلزم عنها فقط:
( )»3ال يوجد شر يقدر عليه اﷲ كما ينبغي.
إن ( )19cال تساعد ح ًّقا ،ليس ألنها ال تصدق ضرورةً ،ولكن ألنه بإضافتها إلى
( )20في المجموعة Aال تنتج عنها مجموعة تتناقض صور ًّيا.
إن ما يمكن أن يضيفه نقيض الالهوتي هنا ــ كما يتضح لنا ــ من أجل الحصول على
مجموعة متناقضة:
كلي القدرة ،مطلق العلم ،فإنه يمكنه القضاء على كل وجود شرير كما
إذا كان اﷲُ ّ
ينبغي.
جنيتنالب نيفلأ 224
فلنفترض اآلن أن أطراف المجموعة Aبجانب ( ،)19cو( ،)20و( )21تصدق
ضرورة ،مما ُيؤدي إلى تناقض ضمني فيها .ولقد َس َّل ْمنَا ً
أصل بضروة ( ،)19cو()20
بالتأكيد؛ فهل يمكن لهذه القضية أن تصدق ضرورة؟
ً
سؤال حتى تُدرك األمر :تحت أي ظرف يمكن لكلي ال يمكن ،دعني أسألك
قادرا على إزالة شر بعينه Eدون القضاء على خير أعلى؟ القدرة أن ال يكون ً
أن Eمندرجة في شأن خ ِّير يعلوها ،ولتفترض َّ
أن شأنًا خ ِّي ًرا G حسنًا ،فلنفترض َّ
يتع َّلق بالحالة Eتع ُّل ًقا يستحيل معه حصول ،Gأو إجراؤه إذا ما تخلفت Eعن
الحصول( .فلنصغ هذا في شكل آخر :تتضمن الحال ُة Sالحال َة ’ Sإذا لم يكن
ً
مستحيل ،أو إذا كان من الضروري أن تحصل ’ Sإذا كانت Sحاصلة اقترانهما
كذلك) .اآلن ،افترض َّ
أن بعض شئون الخير Gتحتوي على شئون شريرة Eتعلو
عليها .إنه ال يمكن حتى لكائن كلي القدرة القضاء على Eدون القضاء على .G
ولكن ،هل توجود حاالت خ ِّيرة يمكن أن يتضمنها ــ بهذا المعنى ــ نوع من الشر
مثل على ذلك :افترضيفوقها؟ 10في الحقيقة ،توجد مثل هذه الحاالت .فلنضرب ً
أن Eهي ما يعانيه بولس من خدش جلدي طفيف ،وأن Gهي كونك سعيدً ا حدَّ
الهذيان .إن الحالة التي تقترن فيها Gمع Eــ الحالة التي تحصل إذا ،فقط إذا كانت
Gو Eح ِ
اص َل ْي ِن ــ حالة َخ ِّي َرة .أن تكون سعيدً ا للغاية أفضل من أال تكون كذلك؛ َ
فكل شيء يستوي في ذات الوقت الذي يعاني فيه بولس من خدش مزعج إلى
حد ماَّ .
إن Gو Eحالتان خ ِّيرتان إذن ،بل من الواضح اشتمالهما م ًعا على E؛ فمن
البديهي أنه في حالة كونك سعيدً ا حد الهذيان في الوقت الذي كان بولس يعاني
فيه من هذا الخدش ،أنه كان يعاني منه آنذاك .لعلك تعتقد بسخافة هذا المثال،
وخداعه ،ومراوغته ،وابتعاده عن أصل النقاش .إذا كان األمر كذلك؛ فاستعد ألن
تتل َّقى مجموعة أخرى من األمثلة التي تؤكد على أنه ال يمكن أن توجد أنواع معينة
من القيم ،والحاالت الخ ِّيرة بمعزل عن شر من نوع ما .على سبيل المثالُ :يظهر
الخ َّلق تُجاه الشدائد ِ
والم َحن؛ بطولة البطولي َ بعض األشخاص نو ًعا من التعامل
ّ
Plantinga, God and Other Minds (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, (967), .11
موسع).
(ناقشت هناك هذا النوع من القضايا بشكل َّ
ُ chap.5,
جنيتنالب نيفلأ 226
لم يقوموا بتقديم ُم ْقت ََرح قابل للتصديق يشغل هذا ال َّث ْغر ،وبالتالي يكون من الصعب
ما كان يمكن أن تكون عليه تلك القضية الغائبة .إن ما يمكننا اعتقاده اآلن أن نعل َن
الضمني للمجموعة Aبكل بساطة اعتما ًدا على مبدأ افتراض اتِّساق القضية
َّ التناسق
ُ
أو المجموعة ،أو القول باحتمالها إلى أن يثبت العكس .لعل هذا النسق يؤدينا كذلك
إلى مشكلة؛ ألنه يمكن تطبيق نفس هذا المبدأ من أجل القول باتِّساق أو احتمال ا ِّدعاء
ناقضي الالهوت بتناقض المجموعة .Aإن اال ِّدعا َء بأن مجموعة معينة من القضايا
تتناقض ضمن ًّيا إما أن يكون صاد ًقا بالضرورة ،أو كاذ ًبا بالضرورة؛ لذلك يكون هذا
اال ِّدعاء ُم ْحت ََم ًل؛ فال يكون كاذ ًبا بالضرورة ،بل صاد ًقا (في الحقيقة ،يكون صاد ًقا
بالضرورة) .وبمتابعة هذا المبدأ المقترح أرى أنه من الواجب علينا القول بالتناسق
الضمني للمجموعة (Aما دام لم يثبت عكس ذلك) ،ولك َّن الشيء نفسه يجب قو ُله
ننف اتِّساقه ،أو نثبت استحالتَه .إضافة إلى حيال ادعاء ناقضي الالهوت ،ما دمنا لم ِ
ِّ
ماسبق ،فإن ا ِّدعاء ناقضي الالهوت يكون صاد ًقا بالضرورة ما دام ُم ْحت ََم ًل ،وبالتالي
فإنه إذا قبلنا المبدأ السابق؛ فإننا سنقول باالتساق الضمني للمجموعة ،Aوعدم
اتساقها كذلك؛ لذلك إن كل ما يمكن قوله هنا أن Aلم يظهر لنا تناقضها الضمني
حتى اآلن.
هل يمكننا الذهاب أبعد من ذلك؟ ال يوجد سوى طريق واحد يمكن سلوكه
لمحاولة الكشف عن االتساق الضمني ،أو احتمالية المجموعة Aبالمعنى المنطقي
الواسع .ما الذي يمكن استخدامه هنا من أجل إثبات هذا األمر؟ إنه على الرغم من
بعضا في جانب مهم،
بعضها ً
تلك الطرق العديدة لمقاربة هذا األمر ،فإنها جمي ًعا يشبه ُ
عما يلي :من أجل إظهار اتِّساق المجموعة S؛ فإنه ينبغي التفكير
إذ ال يمكن أن تخرج َّ
في حالة محتملة (ال تحتاج إلى حصولها) بحيث إذا كانت حقيقية ،فإن أطراف S
نموذجا .على سبيل المثال ،يمكنك
ً بض ْر ِب S
تصدق جمي ًعاُ .ي َس َّمى هذا اإلجرا ُء أحيانًا َ
بإثبات اتِّساقها عن طريق ضرب نموذج ِ إنشاء مجموعة تصدق بداه ًة ،ومن َث ّم تقوم
لها ،وهكذا تب َّين لنا أن إنكار ُم َس َّلمة التوازي إلقليدس ينسجم مع باقي ُم َس َّل َماتِه .هناك
العديد من الحاالت الخاصة لهذا اإلجراء تناسب ظرو ًفا َّ
خاصة .على سبيل المثال،
افترض أن لديك قض َّي َت ْي ِن ا ْثنَ َت ْي ِن هما ،pو qتريد أن َ
تثبت اتساقهما .ولنفترض أننا نقول
227 ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم
أن صحة القضية p1تلزم عنها القضية p2إذا كان من المستحيل أن تكون p1صادق ًة و َّ
َ
هناك طريق p2كاذب ًة ما دامت القضيتان االقترانيتان ،p1و p2كاذبتين بالضرورة .إذن
تعارض pمع ،qهذا الطريق هو إيجاد القضية rالتي يمكن
واحد فقط؛ إلثبات عدم ُ
اقترانها بالقضية .وبالمعنى المنطقي الواسع وما يلزم عن qيمكن ألخصائي سلوك َّية
بأن التفكير ليس ح ًّقا سوى حركات
أن يقول ََّو ِقح وغير ُم َت َع ِّلم على سبيل المثال ْ
حنجر َّية ،ولعله يرى ّ
أن
Pلم يحرك جونز حنجرته بعد الثالثين من أبريل.
تتعارض (بالمعنى المنطقي الواسع) مع
Qقام جونز بالتفكير خالل شهر مايو.
ولعلنا نشير على سبيل الدَّ حض َّ
أن Pيظهر اتِّساقها مع
Rإنه في المدة التي كان يتماثل فيها جونز للشفاء من َش ٍّق في حنجرته في
َّ
استغل وقت فراغه في كتابة ورقة بديعة عن النقد الكانطي للعقل الثالثين من أبريل،
الم ْحض في خالل شهر مايو.
َ
أيضا يظهر لنا إذن هذا االت َِّس َ
اق الكائ َن بين Pو Rعند اقترانهما ،ولكن من الواضح ً
أيضا (ال يمكن أن تكتب ورقة معقولة عن النقد الكانطي للعقل
أنه يلزم عنهما صدق ً Q
أيضا.
المحض دون القيام ببعض التفكير)؛ لذا تتناسق القضيتان Pو ً Q
إننا نستطيع أن نرى تلك الحالة الخاصة لهذا اإلجراء المذكور سال ًفا كالتالي :تأتي
يصفان حال ًة ُم ْم ِكنَة .أما
ِ القضية Rمتماشي ًة مع P؛ لذلك فإن القضيتين Pو Rمم ِكنَت ِ
َان؛ ُْ
أيضا،
Qفإنها تلزم عن Pو ،Rوإذا ما كانت Pو Rصادقتين؛ فإن Qال بد أن تصدق ً
وبالتالي فإن Pو Qصادقتان .تلك إذن هي مسألة إنتاج حالة محتملة بحيث إذا ما
الم ْعنِ َّية (هنا هما القضيتان Pو )Qستكون
كانت حقيقية؛ فإن حميع أطراف المجموعة َ
صادقة.
بض ِّم القضايا
ذكرها؟ كالتالي :دعنا نقوم َ
كيف ينطبق ذلك على المسألة التي سبق ُ
( ،)1و( ،)2و( )2بعضها مع بعض لنحصل على النتيجة.
اﷲ كلي العلم ،وكلي القدرة ،ومطلق الخيرية
جنيتنالب نيفلأ 228
تعارض ( ،)1و(( )3الشر موجود) .لعلهإن المشكلة إذن تكمن في إثبات عدم ُ
َ
تتماشى مع ( )1بحيث تلزم يمكن القيام بذلك كما رأينا عن طريق إيحاد القضية rالتي
( )3عن ( )1و( .)rإن القضية ( )22يمكنها القيام بهذه الحيلة:
إن اﷲ قد خلق العا َلم يحوي ًّ
شر ،ولديه سبب وجيه وراء ذلك.
فإذا كانت ( )22متماشية مع ( ،)1فإن ما يتبع ذلك أن نقول باتِّساق ( )1و()3
تعارض
إثبات عدم ُ
َ (وبالتالي المجموعة .)Aبهذه الطريقة حاول ُ
بعض المؤمنين
( )22مع (.)1
لعله يمكن للواحد منا السير في طريقين .األول :يمكننا محاولة تطبيق نفس
الطريقة مرة أخرى من خالل التفكير في حالة محتملة الوقوع بحيث إذا كان
حصولها؛ فإن اﷲ كلي القدرة ،كلي العلم ،مطلق الخيرية سيكون عنده سبب
وجيه وراء السماح بوقوع الشر .أما الطريق الثاني؛ فإنه يمكن للواحد أن يحاول
تعيين السبب اإللهي ورءا السماح بوجود الشر ،مع محاولة إظهار أنه سبب ج ِّيد
واضحا .كتب القديس أوغسطين ــ وهو واحد من أعظم وأكثر
ً األمر
ُ إذا لم يكن
تأثيرا في الكنيسة المسيحية ــ على سبيل المثال ما يلي...« :
الفالسفة الالهوتيين ً
يرى بعض الناس أنَّه من األفضل للمخلوق وهو يمارس حرية إرادتِه أن يلتزم
البعض هذا األمر كحقيقة ال تقبل الدحض ،لذا
ُ أوامر اإلله وال يذنب أبدً ا ،يرى
عندما يجيء األمر إلى إمعان النظر في خطايا اإلنسان يصيبهم األسف ال ألنهم
ً
أصل .إنهم يقولون :لقد كان من يستمرون في الخطيئة ،لكن ألنهم قد ُخ ِل ُقوا
دائما بالحقيقة التي ال تتغير.
األجدر أن يخلقنا ال نقدر على الخطيئة ،لنتمتع ً
ذنب فقط ألنه خلقهمفل َي ُك ُّفوا عن النواح والغضب .إن اﷲ لم يجبر أحدً ا على ٍ
وأوضع فيهم القدرة على االختيار بين أن يذنبوا أو ال يذنبوا .إن المالئكة الذين
اإللهي لخير َّيته تعالى؛ أن ال
ّ لم يخطئوا ولن يخطئوا موجودون .هذا هو العطاء
ُي ْع ِرض عن إعطاء هذا المخلوق حيا ًة رغم علمه ُ
الم ْس َبق أنه لن يخطئ فقط ،ولكنه
سيبقى ُم ِص ًّرا على الخطيئة .إنه كالحصان الجامح الذي يفضل الصخر الذي ال
مفتقر إلى حركة ذات َّية ،والوعي الحسي .لذلك كان من األفضل أن ٌ يتحرك؛ ألنه
ُيذنب المخلوق بإرادته الحرة أكثر من ذلك الذي ال يخطئ فقط؛ ألنه ال يمتلك
229 ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم
ً
كمال أصل» .12وبلغة أعم ،يدَّ ِعي أوغسطين َّ
أن اﷲ يمكنه أن يخلق كونًا أكثر إراد ًة ً
عن طريق السماح بوجود الشر ،مما يمكن أن ُي ِ
وجدَ ون من دونه« :إن الخطيئة
والبؤس ليسا ضرور َّي ْي ِن من أجل كمال العالم ،لكنَّهما الزمان عن األرواح؛ تلك
البؤس
َ أرادت؛ فيصيبها األسى جراء ذلك .لو أن
ْ القادرة على ارتكاب الذنب إذا ما
يمضي قد ًما بعد استئصال الخطيئة ،أو لو كان موجو ًدا ً
أصل قبل ارتكابها ،هنا من
الممكن أن يصح قولك بفساد النظام الحاكم لهذا الكون .مرة أخرى :إذا كانت
هناك خطايا دون ألم ينتج عنها؛ ففي المقابل سيصبح هذا النظام مخز ًيا الفتقاره
إلى العدالة».13
يحاول أوغسطين أن يخبرنا عن السبب اإللهي وراء السماح بوجود الشر ،إذ يرى
عالما أكثر ً
كمال إال عن طريق السماح بالشر. في الفقرة الثانية َّ
أن اﷲ ال يمكنه أن يخلق ً
ٍ
كائنات حرة ،وعاقلة ،وأخالقية ،وال شك إن كونًا من الطراز األكمل يتطلب وجود َّ
أن بعض هذه المخلوقات الحرة سترتكب األخطاء ،ومع ذلك سيبقى هذا الكون
المحتوي على مخلوقات حرة ترتكب الشر أفضل مما كان يمكن أن يكون عليه إذا لم
ٍ
مخلوقات حرة أو وجود الشر .إن مثل هذه المحاولة لتعيين السبب اإللهي ِ
يحتو على
وراء السماح بوجود الشر هو ما سميتُه قبل ذلك بالثيوديسيا (نظرية العدالة اإللهية)،
ُجا َه اإلنسان» ،إلثبات أن
وبتعبير جون ميلتون أنها محاولة لـ «تسويغ الطرق اإللهية ت َ
اسم
اﷲ عادل عندما سمح للشر أن ُيوجد .يمكن أن ُيطلق على ثيوديسيا أوغسطين َ
ِ
دامت فكرة المخلوقات العاقلة ذات اإلرادة الحرة تلعب ثيوديسيا اإلرادة الحرة ما
بارزا فيها.
دورا ً
ً
الشر؟ إن ما
الثيوديسي إذن اإلجابة عن سؤال :لماذا يسمح اﷲُ بوجود ّ
ُّ يحاول
سأسميه دفاع اإلرادة الحرة يختلف بعض الشيء عن ثيوديسيا اإلرادة الحرة؛ فهدفي
ليس أن ُأبِي َن السر اإللهي وراء وجود الشر ،ولكن عن السبب اإللهي ُ
الم ْحت ََمل
وراءه .لع َّلنا نوضح الفرق بينهما بهذه الطريقة :يحاول ّ
كل من القائل بثيوديسيا
12. The Problem of Free Choice, Vol. 22 of Ancient Christian Wn›ters (WeStminster,
Md.: The Newman Press, 1955), bk. 2, pp. 14 - 1 5.
13. Ibid., bk. 3, p. 9.
جنيتنالب نيفلأ 230
اإلرادة الحرة ،ودفاع اإلرادة الحرة إثبات أن ( )1تتماشى مع ( ،)22وبالتالي طب ًعا
ُ
القائل بثيوديسيا اإلرادة يمكن القول باتِّساق المجموعة .Aإن ما يحاول أن يفعله
الحرة إيجاد بعض القضايا rوالتي إن اقترنت بدورها مع ( )1يلزم عنها ( ،)22وفوق
إخبارنا عن السبب
َ ما يدعيه من صدق هذه القضية وتماشيها مع ( ،)1فإنه يحاول
اإللهي الحقيقي وراء وجود الشر .وعلى الجانب اآلخر يقف القائل بدفاع اإلرادة
أيضا إيجاد القضية rمتماشي ًة مع ( ،)1وعن طريق اقترانهما تلزم ً
محاول ً الحرة
فضل عن اإليمان بها .وله طب ًعا أن يمارس ح َّقه
صحة ً r
عنهما ( ،)22ولكنه ال يدَّ عي َّ
إن هدفه إثبات تناسق ( )1مع ( ،)22وكل ما يحتاجه هنا هو المنطقي كما يريد ،إذ َّ
أن يجد rمتماشي ًة مع ( )1بحيث تنتج ( )22عن ( )1و( )rبغض النظر عن صحة r
هامشي هنا.
ّ من عدمها؛ فهذا أمر
إن الفرق إذن بين ثيوديسيا اإلرادة الحرة ،ودفاع اإلرادة الحرة شاسع ،ففي الوقت
الذي يكتفي فيه دفاع اإلرادة الحرة (إذا كانت ناجحة) إلثبات التناسق الداخلي
للمجموعة ،Aتذهب ثيوديسيا اإلرادة الحرة بعيدً ا وراء المطلوب .ومن جانب آخر،
كانت ممكن َة التح ُّقق؛ فال شك أن
تظهر ثيوديسيا اإلرادة الحرة على أنها أكثر إرضا ًء إن ْ
المؤمن يود أن يعرف السبب اإللهي وراء السماح بوجود الشر ً
بدل من مجرد القول
وجيها ال نعرفه .لكن ،في هذا السياق (الذي نناقش فيه اتِّساق
ً باحتمال امتالكه سب ًبا
المجموعة )A؛ فإن دفاع حرية اإلرادة هو كل ما نحتاجه؛ فال الدفاع وال الثيودسيا
بقا َد َرين على مجرد اإلشارة إلى سبب إلهي ممكن وراء شر معين كالموت ،أو معاناة
14
شخص قريب منك على سبيل المثال .وتبقى وظيفة أخرى بالجوار ــ وظيفة ساذجة
ــ ال يقومان (الدفاع ــ الثيوديسيا) بها إذا ما واجه اإلنسان الشر في حياته الخاصة ،أو
انتهى فجأة إلى هذا الوعي التام بامتداده وعظم أمره أكثر من قبل،كل هذا قد ينتهي
يقاسي أزمة في إيمانه ،ولعله ُي ْفتَن متاب ًعا النصيحة الواردة في سفر
َ بالمؤمن إلى أن
تتم صياغة ٍّ
كل من ثيوديسيا اإلرادة الحرة ،ودفاع ف على اﷲ ،و ُم ْت» .لم ّ
«جدِّ ْ
أيوبَ :
كثيرا في جلب السالم الداخلي لشخص يعاني من
اإلرادة الحرة من أجل أن تساعد ً
.14أنا مدين بالشكر هلنري شورمان ملناقشة مفيدة توضح الفرق بني تلك الوظيفة الساذجة ،وما يمكن أن
ختدمه ثيوديسا أو دفاع اإلراد احلرة.
231 ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم
عصف روحي (على الرغم من أنه ،وفي حاالت خاصة ،يمكن للمرء أن يدلل على
نفعهما في ذلك)َّ .أو ًل ،وقبل كل شيء ،ال يمكن التفكير في هذا الدفاع على أنه نوع
من اإلرشاد النفسي الساذج ،كما ينبغي أن ُي ْع َلم أنه على األرجح لن يجلب السالم
ٍ
لشخص مع اﷲ في مواجهة هذا الشر الكام َن في العا َلم ،إننا ال نقصد شي ًئا من الداخلي
تلك األغراض هنا.
ليست دقيقة متا ًما (كيف يمكن تفسري «ناتج عن» بالضبط؟) ،لكن ،لعلها ختدم غرضنا
ْ .15هذه التفرقة
احلايل.
233 ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم
قلت مسب ًقا إن دفاع حرية اإلرادة يحاول إيجاد قضية تتماشى مع:
لقد ُ
العلم ،وكلي القدرة ،ومطلق الخيرية. اﷲ كلي ِ
ّ
إن ( )1تنطوي على وجود الشر .ووف ًقا لدفاع حرية اإلرادة فإنه يجب أن نجد َّ
مكان ما في الموضوع السابق .يتضمن جوهر القول بدفاع حرية ٍ هذه القضية في
اإلرادة ا ِّدعاء أن اﷲ ال يمكنه خلق العالم منعد ًما من الخير األخالقي (أو ما يمكن أن
يحتويه العالم من الخير األخالقي) من غير أن يخلق واحدً ا آخر يحتوي على الشر
األخالقي .وما دام األمر كذلك ،فإنه ُيحتمل أن يكون ﷲ سبب وجيه في خالق عالم
يتضمن الشرُ .يالقي هذا الدفاع أنوا ًعا عدة من االعتراضات .على سبيل المثال ،يرى
تعارض بين الحتمية السببية والحرية ،على عكس
بعض الفالسفة أنه ال يوجد ثمة ُ
ما قد نعتقد 16.وما دام األمر على هذا النحو ،فإن اﷲ يكون قد خلق مخلوقات حرة،
لها الحرية في أن تُخطئ ،ولكنها مع ذلك ال تفعل إال ما هو صواب وف ًقا للحتمية
السببية .وهكذا ،يكون بإمكان اﷲ أن يخلق مخلوقات لها حرية ارتكاب األخطاء،
بينما يتم منعها من ارتكاب أي نوع من األفعال السيئة ببساطة عن طريق التأكد من
مصممة حتم ًّيا وسبب ًيا على فعل ما هو صواب فحسب .ال شك أن هذا يناقض
َّ أنها
دفاع حرية اإلرادة إذ يتضارب الدفاع مع االفتراض القائل بأن اﷲ يفرض على
المخلوقات الحرة فعل ما هو صواب ليس إال.
ٍ
إنسان ما سبب ًّيا بينما يصدر بعضها عن لكن ،هل يمكن ح ًّقا أن تتحتَّم جميع أفعال
حرية؟ كيف يمكن ذلك؟ طب ًقا إلحدى ن َُسخ العقيدة َم َح ّل النقاش يمكن القول بأن
أفعال جورج صدرت عن حرية في مناسبة بعينها بطريق واحد فحسب وهو أنه إذا لم
يقم باختيار هذا الفعل ،لكان قد قام بخالفه .واآلن ،يتحتم عمل جورج Aسبب ًّيا إذا
ما حدثت ( Eبعض األحداث الخارجة عن إرادته) ،حيث تكون الحال ُة الكائن ُة في
حصول Eوالمقترنة بامتناع جورج عن فعل Aحال ًة مستحيلة سبب ًّيا .يمكن للمرء إذن
أن جميع أفعال اإلنسان واقعة تحت سلطان الحتمية السببية ،وأن أن يقول بأمرين؛ َّ
: A. Flew, «Divine Omnitence and Human Freedom» in Newانظر عىل سبيل املثال 16.
Essays in Philosophical Theology, eds. A. Flew and A. Macintyre (London: SCM,
1955), pp. 150 - 153.
جنيتنالب نيفلأ 234
بعضها صادر عن حرية إنسانية بالمعنى المذكور آن ًفا .ولنفترض اآلن إذن أن الحتمية
ٍ
ظرف أن يختار أو السببية تحكم جميع أفعال اإلنسان درجة أنه ال يستطيع تحت أي
أي فعل ينافي ما قام به أو فعله ً
أصل .قد يكون اختياره إمضاء خالف ما فعله ال يفعل َّ
صحيحا إذا اختار ذلك .بالتأكيد ،لم يكن بإمكانه أن يختار خالف ما اختاره ،لكن
ً يزال
هذا يت َِّسق مع القول بأنه إن فعل؛ فإن األمور ستجري على نحو مغاير تما ًما.
يبدو هذا االعتراض على دفاع حرية اإلرادة غير قابل للتصديق إطال ًقا .كلك قد
أن كونك في السجن ال يعني أن تتحدد حرية المسجون على أساس أنه إذا يدعي أحد َّ
حرا في الذهاب واإلياب كما يشاء .لذا لن أقول أكثر من ذلك
كان في الخارج سيكون ًّ
17
في ما يتعلق بهذا االعتراض هنا.
هناك اعتراض آخر ال يمكننا االستهانة به ،ولنا صياغة جوهره هكذا :بالتأكيد يمكن
حرا في ارتكاب الخطأ .بهذا المعنى
فعل ما هو صواب بغض النظر عن كون المرء ًّ
دائما.
المنطقي الواسع يمكن أن يحتوي عالم على مخلوقات حرة تفعل ما هو صواب ًّ
ّ
َّ
وألن اﷲ مطلق ال يوجد بالتأكيد أي نوع من التناقض أو التضارب في هذه الفكرة،
القدرة ،وليس محكو ًما بالحدود المنطقية ،فإنه يمكن لهذا العالم أن يوجد؛ ذلك الذي
يحوي مخلوقات لها حرية فعل ما هو خطأ لكنها ال ترتكب شي ًئا منه في الحقيقة ،وما
كلي القدرة في إمكانه خلق عالم ما على هذا النحو .وبالتالي،
يترتب على ذلك أن اﷲّ ،
ال بد أن يخطئ دفاع حرية اإلرادة في إصراره على االحتمال الجامع بين القدرة اإللهية
المطلقة وعدم القدرة على خلق عالم يشتمل على الخير األخالقي دون السماح بوجود
الشر األخالقي .يصوغ جاي إل .ماكي هذا االعتراض ً
قائل« :ما دام اﷲ قد خلق البشر
في مقدورهم أن يختاروا الخير أحيانًا ،وأن يختاروا الشر أحيانًا؛ فلماذا لم يخلقهم
دائما؟ وما دامت ال توجود استحالة منطقية في اختيار اإلنسان
أحرارا ،فاعلين للخير ً
ً
الحر فعل الخير مرة ،أو في عدة مناسبات ،فإنه ال توجد كذلك استحالة منطقية في أن
عالما آل ًّيا بري ًئا
يختار الخير وهو حر في كل مناسبة .ليس الخيار أمام اﷲ إذن أن يخلق ً
ٍ
كائنات لها حرية الفعل ،ومن الممكن أن ترتكب األخطاء أحيانًا .لقد كان أو أن يخلق
.17ملزيد من النقاش حول هذا املوضوع انظر 135 :ــ .Plantinga، God and Other Minds, pp. 132
235 ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم
أمامه خيار آخر متاح ،احتمال أفضل ،وهو أن يخلق كائنات حرة لكنها ال تفعل غير
الصواب .إن عجزه عن أن يستفيد من هذا االحتمال يوضح التعارض القائم بين كونه
كلي القدرة ومطلق الخيرية في آن واحد».18
واآلن ،ما الذي يريد أن يقوله ماكي هنا؟ يجادل دفاع حرية اإلرادة عن فكرة أنه
عالما
كلي القدرة ولكنه في نفس الوقت ال يملك أن يخلق ً من الممكن أن يكون اﷲ َّ
أيضا .يعلق ماكي على ذلكيحتوي على الخير األخالقي دون وجود الشر األخالقي ً
قائل إن ذلك َق ْيد يتعارض في الحقيقة مع طالقة القدرة اإللهية .بالتأكيد يمكن أن
ً
يوجود عالم يحتوي على أشخاص أتقياء وهم أحرار تما ًما ،ومع حريتهم تلك فإنهم
ال يفعلون إال ما هو خير فحسب .وبالتأكيد ،يمكن تصور عوالم أخرى تحتوي على
فعل ،فإنه يملك خلق الخير األخالقي دون وجود ألي شر ،وإذا كان اﷲ ُمطلق القدرة ً
ممكن يختاره .لذا ،على عكس ما يقوله دفاع حرية اإلرادة ،ليس من الممكن ٍ أي عالم
عالما محتو ًيا على
ﷲ أن يكون مطلق القدرة ،وال يملك في الوقت نفسه إال أن يخلق ً
فعل ،فإن القيد الممكن الوحيد الخير األخالقي والشر م ًعا .إنه إذا كان مطلق القدرة ً
لقدرته هو القيود المنطقية ،ولهذا ال توجد عوالم ممكنة يستحيل عليه خلقها.
هناك نقطة دقيقة هنا ومهمة ،وهي أن هذا العالم ،العالم الفعلي ،ال بد أن يكون أفضل
العوالم الممكنة طب ًقا لما يراه الفيلسوف األلماني الكبير غوتفريد فيلهيلم ليبنتز .وكان
أي شيء على اإلطالق ،كانت أمامه المنطق الذي تكلم به كاآلتي :إن اﷲ قبل أن يخلق َّ
محموعة هائلة من الخيارات كان من الممكن معها ْ
أن يحقق أ ًّيا منها فعل ًيا ،وأن يختار من
بين هذه العوالم الممكنة والمختلفة التي ال يمكن حصرها .وكونه مطلق الخيرية يحتم
قادرا على خلق ما
عليه أن يختار أفضل هذه العوالم ،وكونه مطلق القدرة يعني أن يكون ً
يشاؤه من هذه العوالم الممكنة .لذا كان ال بد أن يختار أفضل هذه العوالم الممكنة ،ومن
ثم كان ال بد أن يكون هذا العالم المخلوق أفضل إمكان .وال شك أن ماكي اآلن يتفق مع
ليبنتز في أن اﷲ إذا كان كلي القدرة ،فإنه يكون في إمكانه أن يخلق أي عالم يختاره ،وأن
العالم الذي خلقه هو أفضل هذه العوالم الممكنة .لكن في الوقت الذي ينتهي فيه ليبنتز
إلى نتيجة أن هذا العالم بغض النظر عن ما يظهر عليه ،هو أفضل عالم ممكن ،ينتهي
3ــ لينتقل إلى مرحلة النضج وبناء مفهوم ذكاء الحس inteligencia sentiente
في كتاباته المتأخرة.
واضح أن زوبيري ينتمي شكال إلى التيار الوجودي .إذ تزاوج فلسفته بين
أيضا من مدارس الفلسفة مقاربة الواقع من زوايا فلسفية علمية والهوتية .لكنه نهل ً
والالهوت بعيدا عن جغرافيا التخصص أو صراع المدارس؛ محاوال بذلك تأسيس
أنطولوجيا جديدة منفتحة على العلوم خاصة الفيزياء ،الرياضيات ،البيولوجيا
والالهوت؛ على فينومينولوجيا الواقع ،الفيلولوجيا الهندو ــ أوربية والسيمائيات.
فجاءت كتاباته مزيجا مستنفرا لكل أشكال المعنى .التفكير مع زوبيري هو
من دون شك مغامرة هرمنيوطيقية .ولن نبالغ إن قلنا أن فلسفته زواج سعيد بين
الفينومينولوجيا ،الوجودية ،الهرمنيوطيقا والالهوت .ثمرة هذا الزواج تكمن في
سبر أغوار إنسان ما بعد الحداثة.
من جهة اخرى ،أوجد زوبيري جهازا مفاهيميا خاص ومركبا نتلمس فيه
تاثير هوسرل .ففي ثالثية الذكاء عنده يجمع بين ذكاء الحس ،ذكاء الواقع وذكاء
اللوغوس ،مقدما فهما جديدا للذكاء كملكة إنسانية ،مميزا بين أشياء ــ الداللة
وأشياء المعنى ،ورافضا كل تعارض بين الحس والعقل .وكثيرا ما تنزلق الكلمات
عنده من معناها الظاهر باتجاه معاني تعود ألصل اللغة وتفرض على القارئ مساءلة
قواعد االشتقاق والمعنى.
أما نواة فلسفة الدين عند زوبيري فتتأسس انطالقا من مفهوم إعادة الوصل
relegaciónذي البعد الهرمنيوطيقي .فالتجربة الدينية عنده هي نتاج relegaciónأي
إعادة الوصل .وتلك ليست فقط تجربة حسية أو إمبريقية بل اختبار للشيء كتمظهر
للواقع ،وكتجربة لقوة الواقع في عالقة تتجه عموديا نحو السماء وأفقيا باتجاه غيره.
يرى زوبيري أن اﷲ ليس متعاليا عن الموضوعات بل هو فيها .وأن إدراكنا ﷲ سابق
على إثباتنا لوجوده ،ومنشؤه إعادة الوصل هذه .الدين عنده ليس فقط قضية لبناء
المعنى بل إعادة للوصل.
مشكلة الخير والشر يتناولها زوبيري في المحاضرة التي ألقاها سنة 1964والتي
نشرت بعد وفاته في كتاب ( Sobre el sentimiento y la voliciónعن الشعور
حتاف رثوك .د 240
وفعل اإلرادة) .وقد غلب على محاضرته هذه الطابع األكاديمي مع حضور مكثف
للمعاني المكررة واألمثلة التوضيحية وإسراف أحيانا في التكرار؛ يبدو من خاللها
أسلوب األستاذ المسكون بهاجس تحقق الفهم .لعل ذلك يجد تفسيره في كونها
محاضرة للجامعة لم يكتبها زوبيري ألغراض النشر ولم تنشر إال بعد وفاته.
مقاربة زوبيري لمفهوم الشر مقاربة فريدة تعرج بنا على أساطير المانوية،
الزرداشتية والمجوسية لتتوقف عند األفالطونية المحدثة والسكوالئية .هو ال
يتوانى عن مساءلة كانط ،هيجل ،ليبنتز ،شوبنهاور ،نيتشه وغيرهم .رافضا أطروحات
تعارض الخير والشر ،ومقدما لقراءة هذه الجدلية بوصفها حالة واقع فقط ،وليس
جوهرا في العالم أو في اإلنسان.
يعمد في هذا الكتاب إلى تناول هذه المشكلة انطالقا من مقاربة مركبة يبدأ فيها
من خالل استقصاء دالالت المفاهيم في أصولها اللغوية ،وينشأ المعنى عبر منحى
أركيولوجي يغوص في األثر الداللي للمفاهيم قبل الوقوف عند معانيها .وهنا يظهر
أثر دراساته الفيلولوجية .فهو اللغوي قبل أن يكون الفيلسوف .وفي رحلة بحثه
هذه يستنطق الفالسفة والالهوتيين مفرغا الخير والشر من قداستيهما ورهبتهما
األخالقية وجاعال منهما قضية لفلسفة الظاهرية ومهمة للمعنى.
هو ال ينكر واقع الشر ،بل يعترف بتعالي الخير عليه .تفاؤل زوبيري هذا له أسس
إنسانية والهوتية .فهو يربط مفهوم الشر بمفهوم الحالة .condiciónذلك ان الشر
عنده حالة للشيء وليس جوهرا فيه .ليقر أن الشر فكرة ذاتية .أما الخير األخالقي
كخير إرادي مرغوب فيه .يرفض زوبيري بهذا المعنى فكرة الشر ألجل الشر ويرى
أنه اختالل وعيب في اإلنسان .ليقول في األخير بشر تاريخي يتعدى الفرد ليصير
ورما خبيثا ينخر الجسم االجتماعي.
قراءة زوبيري رياضة فلسفية ،وترجمته إلى العربية تحدٍّ لغوي يسائل ثوابت
لغتنا .فإسبانيته مستباحة فلسفيا؛ يستحدث من خاللها زوبيري المعاني من دون
هواجس الوفاء للقواعد ،وعربيتنا متمنعة إلى اآلن عن كل اغتصاب لغوي يبيحه
هاجس المعنى .مع زوبيري نفكر فوق الحدود ،فوق الفلسفة ،فوق اللغة وفوق كل
خير أو شر.
241 يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم
األشياء تتحدد عالقتها باإلنسان من خالل أفعال حيوية .هذه األشياء إذن تفترض
اإلحساس لذا سنسميها :أشياء ــ معنى « sentidoــ ..»cosasخالفا للحديد والخشب
في واقعها المجرد فهي أشياء ــ واقع « realidadــ .»cosasلكنها كسكين أو باب هي
أشياء ــ معنى فقط .كال النوعين من األشياء غير قابل الختزال بعضه في بعضه اآلخر.
فواقع الحديد أو الخشب غريب تماما عن السكين أو الباب؛ والكهف ،تلك البنية
الجيولوجية تختلف تماما عن واقع المسكن .لكن هذين النوعين من األشياء ليسا
مستقلين عن بعضهما .أشياء ــ المعنى تتشكل بفضل خصائصها في الواقع المجرد.
فلو لم يكن للكهف شكله الذي هو عليه لما تحول مسكنا .واألمر نفسه بالنسبة للحديد
أو الخشب .لذلك فإن أشياء ــ المعنى هي سابقا أشياء ــ واقع .فال أحد ينكر أن كل ما
يرتبط بالواقع يرتبط بالمعنى.
وصفت فينومينولوجيا كل من هوسرل وهايدجر جميع أشكال الوجود ،باعتبارها
شيئا واضحا نراه أوال ،على سبيل المثال األبواب والنوافذ والطاوالت والسكاكين،
إلخ .لكن هذا غير صحيح .باعتبار المعنى الدقيق لمفهوم «رؤية» ،فما نراه أوال ليست
األبواب لكن أشياء من هذا الشكل أو ذاك اللون والحجم ،وما إلى ذلك .فنحن ال نرى
أبوابا لكن أشياء نعرف أنها أبواب .إن إدراك األشياء في واقعها المجرد سابق على إدراك
أشياء ــ المعنى ليس على مستوى الزمن بل على مستوى عملية اإلدراك .ذلك أن إدراك
الواقع المجرد ليس فائضا على إدراك شيء ــ المعنى لكنه لحظة أولية أساسية ومؤسسة
لهذا اإلدراك الالحق .بمعنى آخر؛ الشيء ــ الواقع والشيء ــ المعنى هما متجانسان
لكنهما ليسا متكافئين أو مستقلين عن بعضهما ،ذلك أن الثاني يحجب األول بشكل
جوهري ويتأسس من خالله .يتضح إذن أن مشكلتنا ال تتعلق بالواقع المجرد الذي
يبتعد عن مسألة المعنى ،لذلك دعونا نقف عند األشياء ــ المعنى sentidoــ .cosas
ما الشيء ــ معنى؟ حقيقة الشيء ــ الواقع هي شيء ــ معنى من دون أن يعني هذا
تطابقهما ،ومن دون أن يفيد أيضا أن شخصا ما جعل من شيء واقعي معنى لحياته.
لذلك يمكننا القول بشكل قطعي أن اإلنسان هو مؤسس المعنى .على هذا النحو بدون
شخص لن يكون هناك باب أو مسكن .لذلك فإن كل معنى هو معنى للشيء .وهو
أساسي فيه ،إنه منه .ولعل هذا ما يبرر الخطأ الذي وقعت فيه الفلسفة الظاهراتية والذي
حتاف رثوك .د 246
ألمحت إليه سابقا .فالمعنى هو من الشيء الواقعي .إنه ليس «عالقة» للشيء الواقعي
بالحياة ،بل هو ما يربط الشيء بالحياة.
ومع ذلك ،فإن للشيء الواقعي معنى نظرا لطابعه الواقعي وللخصائص التي
يمتلكها؛ وإال ما أمكننا الحديث عن معنى .لكني سرعان ما أالحظ أن ليس كل الواقع
لديه القدرة نفسها على أن يشكل معنى .فال يمكنني مثال أن أصنع بابا من المياه،
أو سكينا من الزبدة ،أو مسكنا في كهف صغير جدا ،إلخ .في سياق مشكلتنا (أنا ال
أتحدث عن سياقات أخرى) ،هذا هو ما يشكل مفهوم الحالة .condiciónفالحالة إذن
هي قدرة الواقع على أن يشكل معنى .بدون إنسان لن يكون هناك أي معنى .ولن يكون
أيضا بدون حالة الواقع .يتأسس الشيء ــ معنى بنا ًء على الشيء ــ الواقع .وهذا األساس
هو مجرد حالة .إنه نوع خاص من العالقة بالمعنى.
وعليه ما الشيء الذي قد يدخلني في حالة معنى ،وبالتالي حالة condición؟
هذه هي النقطة الثالثة التي يجب علينا فحصها.
3ــ هذا غير كاف لتوضيح ما نقصده بالحالة .condiciónإذا كان على الكائن الحي
أن يعمل من أجل المادة وضمن محدداتها فإن أفعاله تتشكل ضمن الواقع المادي.
ليكون تناول الواقع خاصية حصرية للذكاء .وعليه ،فإن الكائن البشري هو الوحيد في
عالمنا الذي يتمتع بذكاء يجعله قادرا على بناء معنى وحالة .إنه الكيان الواقعي الوحيد
القادر على إدراك أشياء ــ المعنى خالفا للحيوان الذي يدرك فقط أشياء ــ الداللة cosas
) signitivas (3ــ .على سبيل المثال يلجأ القط إلى الفتحة الخاصة به في الباب؛ لكن
سلوكه هذا ليس سوى رد فعل دفاعي ،وإن كان يحمل داللة إال أنه مختلف تماما عن
المعنى الذي يؤثر في الواقع .الحيوان إذن ال يدرك إال المثيرات المباشرة أو الوسيطة.
فهو ال يدرك ذاته أو الموضوعات االخرى كوقائع.
لنقل إن الخير والشر في العالم يتشكالن ضمن بنية عالقة .respectividadكي
يكون هناك شيء ــ معنى ،وبالتالي حالة ،فمن الضروري وجود عالقة من أجل المادة
وفي نطاقها .لذلك ،من الضروري وجود عالقة مع اإلنسان.
من بين مختلف أفعال «تحقيق المعنى» « »actualización en sentidoالتي
يستطيعها اإلنسان في عالقة بمختلف أنواع الحاالت التي يتجلى فيها الواقع،
هناك فعل واحد أساسي هو فعل التقدير acto de estimaciónالذي يرتبط بحالة
التقدير .condition de estimandaليس كل معنى هو تقدير إذا ،لكن كل تقدير
هو معنى ( .)4قدرة الواقع على إعطاء معنى للتقدير ،هو ما أطلقنا عليه خط الخير.
وداخل هذا الخط ،وضمن حدود قدرة الواقع على أن يتجلى كتقدير ،estimación
تتشكل مشكلة الخير والشر .فالخير والشر في العالم مرتبطان باإلنسان ألن الحالة
تخصه وحده .بالنسبة للحيوان ال وجود لخير أو شر بل قد توجد مثيرات ضارة
وأخرى نافعة .فالوقائع تتجلى للحيوانات كمثيرات فقط .وال يمكن الحديث عن
مثيرات خيرة أو شريرة .بما أن الخير والشر هما صفتا الحالة الواقعية لألشياء،
فمن الضروري التأكيد بقوة على أن هناك أشياء تتشكل ضمن تقدير الخير أو الشر.
لتكون الحالة التي نحن بصددها قدرة واقعية .وعليه فإن الخير والشر هما أيضا
وقائع.
نخلص إلى أن مشكلة الخير والشر هي إذا مشكلة وقائع.
حتاف رثوك .د 248
الفصل ــ :2واقع الشر
إذا سلمنا بأن الشر واقع ،يجب علينا اآلن أن نتساءل عن واقع هذا الشر.كل شيء
يعتمد ذكاء ما أسميناه الحالة .وهو ،كما رأينا ،شيء «من» الواقع دون أن يكون واقعا.
ما يعني أنه ال يمكن أن يكون الشر أو الخير لحظتين مما اعتبرناه «واقعا مجردا».كل
هذا ليس أكثر من تحديد سلبي لواقع الشر؛ ال يسمح لنا بتعريفه .ونفي الشر كواقع
مجرد يلزمنا بتوضيح ما نقصده بالشر كحالة.
ما الحالة الشريرة؟ قد تؤدي بنا اإلجابة عن هذا السؤال إلى فكرة غير سليمة.
فالحديث عن حالة شريرة هو مجرد فكرة عامة ال تفسر واقع الشر بدقة .لنميز هنا بين
ثالث مراحل متتالية في الحاالت الشريرة:
1ــ الشر كـ «واقع مجرد».
2ــ الشر كـ «حالة واقعية».
« 3أنواع الحاالت الشريرة للواقع».
األول ،ذو طبيعة مضيئة؛ والثاني ،ذو طبيعة مظلمة .يفصل هذين المبدأين
الفضاء أو الفراغ ( .)Vayuأهورامزدا يمتد صعودا ،في حين يذهب اهرمان
باتجاه األسفل .هذان المبدآن الجوهريان متجانسان لكنهما ليسا متكافئين
تماما .في الواقع ،فإن قوة أهورامزدا محدودة بقوة آهرمان ،لكن ذلك لن يستمر
لفترة طويلة كما سنوضح الحقا .فقوة الشر ليست محدودة فحسب ،بل أقل
شأنا من قوة الخير ،لذلك ستتعرض للهزيمة .في كتاب اآلفستا قيل ان هذين
المبدأين توأمان .هما طفال من؟ ال نعلم .في رواية يعتقد بأنهما ابنا الزمن .ذلك
مجرد تخمين يربط هذه الرواية بتيار zurvanismoالسابق لزاردشت .زورفان
هو بشكل عام «الوقت الالنهائي» .أهورامزدا وآهرمان المتضادان يدعيان معا
العمل تحت إمرته وهو من وزع قوته بين ولديه .سيستمر الصراع بين الخير
والشر لمدة تسعة آالف عام ،على ثالث مراحل تمتد كل واحدة منها لثالثة آالف
سنة .هي تتوافق مع مراحل الحياة الثالثة :الشباب ،النضج والشيخوخة .لهذه
األزمنة طويلة األمد بنيتها الخاصة .استخدم اإليرانيون على نطاق واسع طريقة
التفكير هذه ،والتي بموجبها يتم تصور صفات الكيانات العليا على أنها أقانيم.
وهي صفات ثالث ( Asoqarما يجعل فحال)( Frasoqar ،الذي يجعل رائعا)،
و (zarokarما يجعل قديما).
في المرحلة األولى ينشط أهورامزدا فقط .خالل هذا الوقت ،ولتفادي هجوم
آهرمان ،يبدأ أهورامزدا عملية الخلق في الفضاء الذي يفصله عن أخيه .يقوم هذا
جيني.
ّ الخلق على مبدأ « »menokالذي يصعب تأويله ،ما معناه كامل وغير متحرك ،أو
لتتشكل بعدها المادة « .»getikخالفا للمانوية إذا فإن المادة في المجوسية هي في
األصل خيرة .بعد ثالثة آالف سنة ،سيعتدي آهرمان على خلق أهورامزدا من خالل
مخلوقات شريرة (الزواحف والكواكب ،الخ) .من بين مخلوقاته اإلنسان الذي هو
في األصل غير ٍ
فان .وبإيعاز من آهرمان سيختار اإلنسان الشر ويصبح فانيا ،وهذا أصل
طبيعته المزدوجة .ليس اإلنسان إذن «خليطا»من مادتين ،كما هو الحال في المانوية،
بل هو «صراع» بين روحين ،واختيار طوعي بين قوتين .صفتا الخير أو الشر في اإلنسان
هي إذن اختيار .تشير نصوص pehlevisبدقة إلى هذه الحالة التي يشترك فيها أهورامزدا
حتاف رثوك .د 252
وآهرمان في الخلق .في األلفية الثالثة ،سينتصر أهورامزدا وتتراجع قوة آهرمان بشكل
يقر بأن الخير والشر
نهائي .هذه المقاربة تتجاوز بكثير الطرح المانوي ،الذي وإن كان ّ
هما مادتان وسببان اال أنهما ال ماديين بل روحيين .وعلى الرغم من كونهما متناقضين،
فهما ليسا متكافئين ذلك أن الشر أقل شأنا من الخير.
.3األفالطونية المحدثة
أجمع التصوران الثنويان السالفان على فكرة أن الخير والشر مادتان ،خالفا
للفلسفة اليونانية التي تذهب أحيانا إلى اعتبار الشر مبدأ ماديا .نستحضر في هذا
الصدد أفالطون ،فيلون السكندري وأفلوطين .يذهب أصحاب هذا االتجاه إلى
اعتبار ان الواحد المطلق هو الذي تصدر عنه األجسام والموجودات عن طريق
الفيض .هذا الواحد المطلق هو الخير في ذاته .إنه بؤرة النور .عن طريق الفيض،
ينتشر هذا النور من خالل أشعة تتباين وتضعف حتى تصل نقطة ال يعود بإمكانها
اإلضاءة .لذلك فإذا كان النور هو الوجود ،فإن هذا الحد المظلم هو الالوجود وهو
المادة .ليكون الشر واقعا في ذاته .لكنه ليس واقعا مجردا .هو فقط ال ــ وجود للخير
في األشياء .نفهم من هذا أن المادة أي الشر نفي للوجود .إال أنه غير واضح أو
معطى محدّ د ال مادي وآخر مادي ً محدد .وعليه فإن األشياء باعتبارها مزيجا من
وغير محدّ د هي شكل ُم َش َّو ٌه formesــ .deفإذا كان الخير يجملها ،فإن الشر
يحولها بشعة ومشوهة .يمكننا أن نقول بأن الشر باعتباره الال ــ وجود هو تشويه
وبشاعة .األشياء المادية ليست الشر في ذاته ،بل هي فقط شريرة كونها خليطا من
الوجود والال ــ وجود .الشر ليس إذن خاصية للمادة أو صفة فيها .هو مبدأ مادي.
أشرارا بل بنيتنا الميتافيزيقية تتضمن
ً هذا الوضع ينطبق أيضا على البشر .نحن لسنا
ً
إجمال ،الشر نفسه هو الشر ومادته .نحن مسكونون بالشر الذي يتجلى في أفعالنا
المادة والالوجود .هو نفي للخير من الوجود .هو مستقل عنه من دون أن يكون أدنى
منه .إنه مبدأ أساسي في األشياء وليس جوهرا .هو تشويه ،عيب وبشاعة .الشر بهذا
المعنى نفي للخير وللوجود.
إذا كانت أطروحة الشر هذه قد اكتملت مع أفلوطين فإن جذورها تمتد في كل
الفكر والروح اليونانية .لقد اعتبر اليونان الشر نقصانا والاكتماال ،والخير كماال.
253 يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم
لذلك عجزوا عن التمييز بين الجميل والخير؛ عندما أرادوا التعبير عن الميزة العليا
في اإلنسان أطلقوا عليها ΚαΞοΚάυαΒίαوهو لفظ تصعب ترجمته .هو تلك الوحدة
الداخلية للجمال والخير ككمال للشكل .الشكل في ذاته ،هو الصورة eidosأي
«فكرة» بتعبير أفالطوني .إنها تحمل في ذاتها وجودها المجرد ،كمالها وخيرها .المادة
في نهاية المطاف إ ًذا مبدأ للنقص والعيب.
نختم بالقول إن الشر باعتباره مادة كما في المانوية أو المجوسية ،أو مبدأ جوهريا
في األفالطونية المحدثة ،إنما يظهر كلحظة من الواقع المادي .لكننا ال نقبل هذا الطرح
ونعتبره غير ممكن .إذ ال يمكن القول بالطبيعة المادية للشر بالتوافق مع طبيعة مادية
للخير .وذلك لعدة أسباب:
أ) أوال ،ال يتوافق الخير والشر .بالتأكيد ،هناك اختالفات عميقة بين المانوية والمجوسية.
بالنسبة إلى المانوية ،فإن المادة شريرة إلى حد كبير ،أما في المجوسية ،فإن المادة ليست
شريرة في ذاتها .المادة التي خلقها أهورامزدا خيرة ،خالفا لمادة آهرمان الشريرة .لكن ًّ
كل
من المانوية والمجوسية تتفقان على القول بتفوق الخير على الشر .في المانوية يتحرر النور
من الظالم؛ في المجوسية سينتهي آهرمان عاجزا .أي أن قوة الخير تتفوق على الشر .وهذا
ينفي كل توافق بينهما أو حتى تقابل .فإذا كان صراع الخير والشر قد بدأ كاعتداء من قبل
الشر فان هذا ال يعني أن الخير نقيض الشر .ال يتوافق الخير والشر وال يتعارضان.
ب) ثانيا ،ليس الشر مادة .تتلخص األطروحة الثنوية في التأكيد على أن الشر واقع
يحتاج لعلة .وهذه العلة ال يمكن أن تكون الخير .وليس الشر واقعا .إذ ال يمكن أن
يكون الشر خاصية واقعية بل حالة واقعية لألشياء .ال تحيل الحالة على الخاصية.
فقطعة الخشب في الباب ليس لديها خصائص واقعية أكثر من الخشب نفسه .الشر
واقع ،لكنه ليس خاصية واقعية بل حالة واقعية .وبالتالي ،ال يتعلق الشر بعلة مادية.
ج) هناك مبرر آخر أعمق لرفضنا هذا الطرح يتعلق بالشر والخير معا .فهما ليسا مادة
أو علة للواقع المجرد .فال عالقة للواقع المجرد بحالتي الخير أو الشر .فإذا لم تكن
العلة اإللهية الخالقة لألشياء إرادة ذكية وحرة ،بل فقط علة فاعلة للواقع المخلوق ،فلن
يكون للواقع صفة الخير .الشر والخير كالهما حالة للواقع فقط .وهما ليسا لحظتين في
الواقع المجرد.
حتاف رثوك .د 254
في سياق آخر ،ليس الشر مادة أو حتى مبدأ ماديا كما اعتقد أفلوطين .يرتبط الشر
عند أفلوطين بثالثة مفاهيم :العيب ،النقص والالوجود .هذه المفاهيم الثالثة ليست
متكافئة .لكن أفلوطين يغفل عن التمييز بينها ،وينتقل بينها بحرية .لنوضح ذلك:
(أ) إذا كان الشر عيبا ،فليس كل عيب هو شر .هو تشويه لشكل جيد وهذا يفترض
أن هناك شيئا جيدا من قبل .لذلك فإن هذا التشويه ال يعني مسألة الشر.
(ب) إذا سلمنا بأن الشكل نفسه جيد وكامل ،بالتالي فإن هذا الشكل سيكون
جيدا ألنه كامل .اما الشر فسيكون «النقص» ،وهذا يختلف بشكل ملحوظ عن
«التشويه» .لكن ما المقصود بالكمال؟ إنه تعبير غامض .يعني الكمال من جهة
أولى الشيء «المنتهي .»acabadoالكمال هو صفة الواقع المجرد المادي .من جهة
اخرى ،يعني الكمال االكتمال المثالي لشيء ما .الكمال ليس مطابقا للشكل ،لكن
الشكل لن يكون كامال إال إذا كان يتطابق مع الكمال المثالي .آنذاك فقط سيكون
الشكل «جيدا» .أفلوطين ،كغيره من المفكرين اإلغريق ،يتداخل لديه معنيا الكمال
هذان ،فإذا كان كل خير هو شكل فليس كل شكل هو خير .وليس الخير مبدأ فيزيائيا
للواقع المجرد .في السياق نفسه ليس كل نقص أو عدم اكتمال شرا .هذا يعني أن
فهمنا للشر ال ينطلق من النقص .وال يتعلق الكمال أو النقص ،كلحظات مادية للواقع
المجرد بمشكلة الخير والشر.
ج) دعونا نسلم مرة اخرى بأن كل شكل هو الكمال المثالي ،وأن كل وجود هو
خير .وعليه لن يكون الشر نقصا بل نفيا للوجود .وستكون المادة كمبدأ جوهري
متميزة عن الشكل ،لتصبح مبدأ الالوجود ،وتصير شريرة في ذاتها .يتهاوى هذا
الطرح سواء فيما يتعلق بالمادة أو الشكل .تطابق الوجود والخير ال ينطلق من
كونهما صورا eidosأو شكال ،لكن من كون كل واحدة منهما .لكن ما «الفكرة»؟ إذا
كنا نعني بالفكرة ذلك الفهم الذهني للواقع كما هو في حد ذاته ،فال وجود لمطابقة
بين الوجود والخير ،ذلك أن الواقع يجمع بين الخير والشر .وهذا يحصر مفهوم
الفكرة بما هو خير فقط .ويكون اإلنسان فكرة خيرة فقط .يتناول هذا الموقف
الوجود كـ«فكرة» من جانب الخير فقط .لكن ال يقاس الوجود من زاوية الفكرة بل
إن الفكرة هي التي تتحدّ د من جهة الوجود .وال يمكن بهذه البساطة ان يكون الخير
255 يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم
هو الوجود .فالالوجود ليس شرا .النفي فقط هو ما يمكن أن نسميه «فكرة» .ليس
الشكل مكونا في الوجود إذا خيرا أو شريرا .وهذا التحديد من الوجود والخير ليس
صائبا من منظور مادي .ليست المادة باعتبارها لحظة من الواقع المجرد «ال وجودا»
بل «هي» مادة الوجود؛ أي أنها لحظة إيجابية في بنية الواقع المجرد .وعلى هذا
النحو فهي ليست «الالوجود» أو الشر.
خالصة القول «كمال الشكل» «الكمال» و«الوجود» ليست هي الخير؛ وليس الشر
هو «العيب»« ،النقص» ،أو «الالوجود» .كما ال يمكن الحديث عن أشكال خيرة أو
شريرة .ال يرتبط الواقع المجرد بمشكلة الخير والشر .نحن بصدد حاالت للواقع فقط.
لنقل في النهاية إن كال من الخير والشر ليسا واقعا مجردا ،مادة وال مبدأ ماديا .لكن
المادة هي باألساس ضمن بنية العالقة .قد ال توجد مادة خيرة أو شريرة في ذاتها،
لكن ربما ما نسميه الخير والشر كلحظتين من الواقع المجرد تتأسسان ضمن بنية
.respectividadوهذا ما سنعالجه في ما يلي:
.2الشر كـ «حالة واقعية»
استنادا لما أسلفت فإن األشياء كلها في عالقة مع العالم .وإن لم تكن كل عالقة
حالة .لكن كل حالة هي نوع من الحالة .العالقة هي إمكانية الحالة .وحالة األشياء
خيرة كانت أو شريرة إنما تتعلق بشخص ما .أما القول عن حالة ما إنها خيرة أو شريرة
فقط فذلك ال معنى له .لقد رأينا أن الحيوان تستثيره مثيرات دالة فورية ومباشرة
من دون أن يحيل ذلك باألساس على شيء ــ معنى sentidoــ .cosaوهما بعدان
مختلفان تماما للمشكلة ،فاألول يرتبط باإلشارة والثاني بالمعنى .ذلك أن المثيرات
الدالة ال تحمل معنى ،ألنها ال تؤثر على الواقع كواقع ،فال يستطيع القط مثال إدراك
األشياء أو ذاته كواقع .من أجل أن تكون هناك حالة أو شيء ــ بمعنى من الضروري
وجود كيان مادي يعمل من أجل المادة ومن خاللها ،وهذا الكيان ما هو إال اإلنسان.
نتساءل كيف يمكن اعتبار الخير والشر كحالة .بداية ال بد أن نشير إلى أنه إذا كان كل
خير أو شر حالة فإن الحالة ليست بالضرورة خيرة أو شريرة .فالسكين مثال ال ينطبق
عليها هذا ألنه ليس واقعا مجردا؛ هو شيء ــ معنى .ال يمكنه أن يكون خيرا أو شريرا.
حتاف رثوك .د 256
دعونا نقول إنه ،بطريقة ما غير معني بفكرة الخير والشر .خالفا لإلنسان كواقع وحيد
في العالم قادر على إدراك األشياء بوصفها حالة خيرة أو شريرة .وهذا يصدق على
واقعه الخاص أيضا الذي يتضمن كال من المعنى و الحالة .اإلنسان باعتباره واقعا،
هو في اآلن نفسه شيء ــ واقع وشيء ــ معنى في ذاته .هذا يعني أن المادة هي حالة
بالنسبة لإلنسان .بما أن هذه الحالة هي الحد األخير في واقعه المادي المجرد ،فهذا
يعني باختصار ،أن هذه الحالة المادية هي ما نسميه بالمعنى الدقيق للكلمة الخير.
فخير اإلنسان هو اكتمال شكله المادي.
هذا ال يعني أن كل ما يعتزم اإلنسان القيام به أو فعله هو ضروري .هذه أنانية
ميتافيزيقية .egoísmo metafísicoما أقوله هو أن كل شيء مرغوب بطريقة ما .ألنني
أرغب فيه فهذا يعني أنه مرغوب في ذاته .عبر هذا الوسيط اإلنساني يحدث ما نسميه
خيرا .لذلك يطرح الخير مشكلة أخالقية .إذ يجب أن تحدد األخالق بدقة ما يمكن
اعتباره حالة خير بالنسبة لإلنسان .تلك هي المشكلة المركزية في فلسفة األخالق.
هذه المسالة ليست المقصودة في مقاربتنا هذه لمشكلة الخير والشر لذلك لن نفصل
فيها ،ما يهمنا هو أن نقول أن ما تعتبره فلسفة األخالق اكتماال للمادة اإلنسانية
هو ما نسميه نحن حالة الخير .حالة الخير لإلنسان ،خيره المباشر والقريب ،هو
اكتمال جوهره .وعليه فإن تطابق الشيء ــ المعنى أو الحالة مع حالة الخير هو خير
الشيء .وتعارضها مع حالة االكتمال هذه هو الشر بالنسبة لألشياء .الخير أو الشر
بالنسبة لألشياء سيتحدد من خالل مطابقتها من عدمها مع ما هو خير بالنسبة لإلنسان
باعتباره حالة في ذاته.
أوغسطينوس:
1ــ دعونا نؤكد مرة أخرى أن الحالة هي خاصية الواقع كأساس للمعنى .لذلك فإن
الخير والشر هي صفات الواقع من حيث كونه حالة .هي ليست قيمة وال مجرد عالقة،
لكن الحالة التي تؤثر على األشياء في عالقتها بالمادة اإلنسانية.
2ــ المادة البشرية التي نقصدها هنا ال تتطابق مع ما نسميه اإلنسان .وفقا ألطروحة
كانط فال وجود لخير أو شر إال في عالقته بشخص ما ،أي بإرادة خالصة ،وهذا غير
ممكن .بصرف النظر عن موقف كانط من مفهوم الشخص ،فإن كال من الخير والشر
257 يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم
بنا ًء على هذه األطروحة يصبح متعلقا بشخص .وتلك قضية اخرى .كي يكون الخير أو
الشر خاصا بشخص ما ،عليهما أن يكونا أوال خيرا أو شرا بشكل سابق على اإلنسان.
ما يضيفه الشخص إلى واقع اإلنسان ،هو ببساطة تحققه كوجود .لكن الخير والشر
يرتبطان باإلنسان في ذاته ،وليس بالشخص .ما يضيفه الشخص هو تملك الخير
والشر ،دون أن يشكل ذلك الخير أو الشر نفسه.
3ــ تجب اإلشارة إلى أن التطابق واالختالف اللذين أتحدث عنهما هنا ليس مجرد
تطابق).adecuación (6
دعونا نذكر تعريف الحقيقة باعتبارها تطابق الفكر مع األشياء .ال يتعلق األمر
بتطابق شكلي أو ساكن .بل هو تطابق لألشياء باعتبارها تحمل معنى الخير في
عالقتها بالجوهر اإلنساني كحالة .هنا بدل الحديث عن السببية أفضل استخدام
مفهوم التعزيز .أقصد أن حالة األشياء باعتبارها تعزز الخير في الجوهر اإلنساني
وتدعمه ،هو ما يجعلها خيرة .والشريرة هي تلك التي ال ترتقي بمعنى الخير
هذا وتختلف عنه .هذا االختالف هو ما يعنينا في مشكلة الخير والشر هو ليس
مجرد اختالف عالقة أو تالزم ،بل هو اختالف في المعنى .ليحضرنا هنا التعريف
الكالسيكي للقديس أوغسطين :الشر هو دائما حرمان من الخير .إنه ليس تشويها
أو التطابقا بل تعزيزا لالتطابق .يفترض الالتطابق قبال حالة تطابق ،وفي هذه
الحالة يصير الشر لحظة حرمان .الحرمان ليس مجرد نقص .هنا نستحضر ما
اخطأت فيه أطروحة ليبنتز .فحيوان الخلد مثال ال يرى ،لكنه ليس أعمى .لكن إزاء
ذلك فإن كثيرا من الحيوانات والبشر قد تصاب بالعمى وهذا هو ما يمكن أن نسميه
حرمانا .لماذا؟ ألن الحرمان ليس مجرد نقص بسيط ،لكن هو عدم وجود شيء
يمكن وينبغي أن يوجد .هذا يجعلنا نقر بأن الخير والشر ليسا مترابطين .الشر هو
الحرمان من الخير ،لكن الخير ليس حرمانا من الشر .يفترض الشر سابقا للخير،
لكن الخير ال يفترض الشر .الشر ليس شيئا وال سببا .الشر ليس شيئا كما اعتقدت
المانوية ،والمجوسية أو ثنويات اإلغريق .إنه ليس شيئا بل عيب في الشيء .وهو
ليس سببا ألنه ليس المسؤول عن األشياء الشريرة بل اإلنسان .فالشخص الذي
لديه عيب جسدي جعل منه أعرج ،ال يعني هذا أنه يفعل أشياء شريرة .هو وإن كان
حتاف رثوك .د 258
يمشي ،فانه ال يمشي بشكل سليم .ليس الشر شيئا أو سببا ،إنه حرمان مجرد .هكذا
يمكننا القول مع القديس أوغسطين ،أن سبب الشر ليس فعاال لكنه عاطل .نحن إذا
بصدد تصور عميق للشر ،لكنه شكلي صرف .فما خصائص الشر؟ وهل هو مجرد
حرمان فقط؟
« .3أنواع» الحاالت الشريرة للواقع
سنقف هنا عند بعض من المقاربات الميتافيزيقية للشر ولالتطابق .هي ليست قضية
للتأمل فقط ،بل تستدعي االشتغال على بنية الواقع ذاتها .سنتناول من خاللها الشر عبر
أربع تمظهرات :
أ .فعل الشر )El maleficio (7
دعونا قبل أن نسترسل نذكر بأنه ال يمكن الحديث عن حالة خيرة أو شريرة إال في
عالقتها بشيء مادي .بداية إن اإلنسان كوجود مادي فيزيائي له خصائص بيولوجية
عضوية ووظيفية ،وأخرى نفسية وملكات مثل العقل ،اإلرادة .له ميوالت وطبع منذ
الوالدة .كل هذا يشكل بنية المادة البشرية كشيء .بالتأكيد إن سالمة هذه البنية المركبة
أساسي لإلنسان .هذا سيساعدنا على فهم النوع األول من الشرور.
ألن الجوهر البشري هو وجود ــ مع ،فإنه ال يتحقق إال في عالقته باألشياء
االخرى ضمن عالقة تأثير متبادل وهذا هو ما يشكل جوهره .وهذا التفاعل هو
على نمط ،factio factumأي قدرة على الفعل .ما يشوه شكل المادة البشرية في
جانبيها العضوي و النفسي هو فعل الشر .malefactioفي العالم توجد أشياء قادرة
على فعل الخير أو الشر .ينطبق هذا على خصائص اإلنسان النفسية .هذا التفاعل قد
يكون من داخل البنية نفسها ،endógenoأو بتأثير من أشياء خارجية ،exógenoوفي
كلتا الحالتين هما المسؤوالن عما يلحق المادة من تغير أو تحريف وحتى تفكك.
بالمقابل توجد وقائع أخرى تعزز تكامل وتناغم العضوي والنفسي .كما يمكن أيضا
لشخص أن يكون مصدر تعاسة شخص آخر .تتعلق الحالة األولى بالشر والثانية
بالخير .لسنا هنا بصدد جرد لكل وضعيات الخير أو الشر الممكنة ،لكن نحاول
الوقوف عند أبعادها الميتافيزيقية .وفي كل هذه الحاالت على اختالفها يتعلق األمر
259 يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم
باستمرار بفعل الشر ،أي بشيء من شأنه أن يعكر الكمال المتناغم للبنية النفسية
والعضوية لإلنسان .فعل الشر maleficioمجرد حالة .أما البنية الحيوية ــ النفسية
لإلنسان ليست خيرة أو شريرة في ذاتها .إن ما تحدثه العوامل الخارجية والداخلية
هو ما يمكن أن نسميه benefactumأو ،malefactumهو فعل خير أو فعل شر .هو
مجرد حالة ترتبط بالحالة النفسية ــ الحيوية.
ال أن ندرك كل أفعال الشر على النحو نفسه .قد يكون التبغ فعل شر لكننا ال نتمثله
كذلك .خالفا لحاالت أخرى نستشعرها كفعل شر بشكل مباشر مثل األلم .فهل األلم
في حد ذاته فعل شر؟ بالطبع ال .يستشعر الحيوان األلم لكنه ال ينظر إليه كفعل شر .إنه
كذلك من منظور انساني .إنه مجرد وضع حيوي ،ال يأخذ معنى الشر إال إذا كان حالة
الجوهر .كل أشكال المعاناة هي مجرد حالة .وعليه ،فان مشكلة األلم الجسدي تتخذ
بعدين مختلفين تماما :ما يتعلق باأللم وما يتعلق بفعل الشر .وهما ال يتطابقان .فالشر
الجسدي ال يحيل على األلم .األلم ليس شرا جسديا بل فعل شر؛ وإن لم يكن دائما
كذلك.
فما الشر الكامن في maleficio el؟
ليس األذى واأللم فعال شر بهذا المعنى اال إذا ما حرمانا من العافية .هنا لفعل الشر
معنى الحرمان الناتج عن تفاعل عوامل داخلية أو خارجية مسببة له .ينتج فعل الشر
عن سبب هو الشر el male del malefactumالذي يأخذ معنى الحرمان في عالقته
بالواقع .هنا يبدو لنا الخطأ الذي وقع فيه شوبنهاور عندما اعتبر المتعة مجرد تعليق
مؤقت لأللم .ليس لأللم أو المتعة عالقة بالشر .فعل الشر هو مجرد وضع حرمان يؤثر
على سالمتنا النفسية .وبالتالي ،فإن el maleficioهو في الواقع شر ال يمكن إنكاره؛
إنه الحالة التي يدخل فيها الجوهر اإلنساني في عالقة مع وقائع اخرى تؤثر على تناغمه
وسالمته.
هل يجوز لنا أن نقول ببساطة ان el maleficioشر؟ بداية ،ال شيء شرير بالمطلق.
ألننا رأينا أنه ال وجود ألشياء في واقعها المجرد هي شريرة في ذاتها.كل شيء يمكن
أن يكون مؤذيا .قد يجادل أحدهم بأنه يمكن لشخص ابتلع حمض البروسيك أن
يموت في عشر من الثانية .أليس هذا فعل شر مطلقا؟ ال ،بالنظر إلى هذا المثال من
حتاف رثوك .د 260
زاوية مادية ،فإن ما أحدثه هذا الحمض هو نفي المادة وليس شرا .لكن إذا ما اعتقد
اإلنسان أن ما حدث ال يتعلق بعوامل نفسية وحيوية مرتبطة بالمادة إذ ذاك قد نتحدث
عن .el maleficioيتعلق األمر إذا بتصورنا للمادة البشرية وما يتعلق بها من عوامل
نفسية وحيوية خاصة بها .وجع خلع سن قد يكون شرا في لحظته لكنه خير على المدى
البعيد .إذن يرتبط فهمنا للشر بأبعاد أخرى تتعلق بالذكاء واإلرادة مثال .هذا يقودنا
للحديث عن النوع الثاني من الشر :الخبث.
ب .الخبث la malicia
الذكاء واإلرادة أبعاد أخرى في المادة اإلنسانية .كالهما نفسي .psíquicoيتخذ
الذكاء درجات متفاوتة .وكذلك تختلف اإلرادة ،فهناك من يتمتع بإرادة قوية،
وهناك مسلوب اإلرادة ،abuliaومن لديه فرط اإلرادة ( hiperbuliaمفاهيم نفسية
سيكولوجية) ،إلخ .وألنها عوامل نفسية فإن من شأنها أن تحدث شرا.
كل هذا يؤثر على الذكاء وعلى اإلرادة اإلنسانية بالنظر إلى أبعادها النفسية .إضافة
كل من الذكاء واإلرادة قصديان .وفعلهما متجه نحو األشياء و نحوهما لهذا فإن ًّ
أيضا .إنه ليس تفاعال فيزيائيا أو فكريا .إنها لحظة داخلية للذكاء واإلرادة في واقعها
الفيزيائي ،والتي من خالل فعلها الفيزيائي ،تنفتح على األشياء األخرى .هكذا يتعالى
كل من الذكاء واإلرادة على نفسيهما من خالل القصدية .هي إذا وقائع فيزيائية قصدية.
الواقع الفيزيائي القصدي بدوره يتعالى على األبعاد النفسية الصرفة .وعليه سأتعامل
مع الوقائع باعتبارها قصدية .وسينفتح الواقع أمام القصدية بشكل موضوعي .لتتشكل
المادة اإلنسانية من أبعاد نفسية وأخرى قصدية .دعونا نتذكر مرة أخرى أن ال شيء
خير أو شرير اال باعتباره شيئا ــ معنى .الكمال المتناغم لجوهري الخاص ،كفعل
إرادة قصدي ،هو ما يشكل الشرط القصدي والموضوعي للخير .يتعلق األمر بالخير
الموضوعي القصدي الكامن في جوهري وهو قصدية اإلرادة والذكاء .من وجهة النظر
هذه ،فإن حياة اإلنسان تتلخص فيما أفعله أنا بي كجوهر أي ما أريد القيام به ،وما
أريد أن أكون .ال يتعلق األمر بفعل اعتباطي بل بفعل خاضع لنظام موضوعي .هذا
الخير القصدي هو مسألة ترتبط بفلسفة األخالق .يتجلى الواقع بالنسبة لي باعتباره
خيرا .bonum
261 يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم
الكمال ليس فقط بيولوجيا ،نفسيا أو قصديا إنه مسألة أخالقية .اإلنسان باعتباره
واقعا فيزيائيا ،إراديا وقصديا ،هو واقع أخالقي .وعليه فإن االخالق بمعنى ما ،هي
معطى فيزيائي .واإلنسان كائن فيزيائي وأخالقي .والخير من هذا المنطلق هو خير
أخالقي .على هذا األساس يكون الموضوع خيرا إذا ما توافق مع الخير األخالقي
وشريرا إذا ما شوهه .في هذه الحالة فإن الخير والشر يتعلقان بحالة الموضوع بوصفه
محفزا لتحقق للخير األخالقي لدي .morale bonumوبما أن الخير األخالقي
يحيل على فعل اإلرادة ،فإن هذا ال يعني فقط أن الموضوع خير أو شرير فقط ،بل
أن إرادتي الخاصة نفسها خيرة أو شريرة .يكون فعل اإلرادة La voliciónخيرا إذا
رغب في موضوع نعلم أنه خير .وشريرا إذا ما رغبت إرادي في موضوع يتعلق بالشر.
ليس فعل اإلرادة La voliciónمسألة تفاعل في اتجاهين بين الموضوع والشخص
بل ترتبط بالشخص في ذاته .إنه فعل شرير ،malefactumأي شر اختاره .لذلك نسميه
خبثا .maliciaويحيل هذا الخبث على صفة أخالقية ترتبط بالواقع األخالقي إلرادتي.
بنا ًء عليه فإن الخير والشر صفتان أخالقيتان لفعل اإلرادة ذاتها .La voliciónهكذا
يكون الخبث من فعل اإلرادة نفسها.
فما هذا الخبث إذن؟
تعتمد اإلجابة على هذا السؤال على أربعة أسئلة فرعية:
أوال :ما اإلنسان باعتباره واقعا أخالقيا؟ ثانيا :ما هو فعل اإلرادة La volición؟
ثالثا :أين يكمن الخبث la malicia؟ رابعا :ما العالقة بين الخبث وبين فعل الشر el
maleficio؟
أوالً :ما اإلنسان باعتباره واقعا أخالق ًّيا؟
اإلنسان جوهر ( subjectumفي معناه الميتافيزيقي) له خصائصه .وبعض من هذه
الخصائص ال ترتبط بالجوهر بل باإلنسان نفسه وبما يريده كالرذائل أو الفضائل،
المواهب أو المعارف .هذه الخصائص تؤثر على المادة اإلنسانية .هذا هو السبب في
أن اإلنسان ليس فقط مادة ،لكنه suprastanteأي فوق المادة .إذ له خصائص متضمنة
تتجاوز مادته.
حتاف رثوك .د 262
من جهة أخرى ،على اإلنسان أن يختار من سلسلة االحتماالت الممكنة التي
تتيحها له أشياء ــ المعنى .لذلك فان أفعال إرادته متعددة بعضها يصدر عن األشياء
وبعضها عما يريده هو في عالقته بهذه األشياء .أساس هذه االحتماالت إذن هو
المعنى .وهي إرادية .وعليه فإن الجوهر البشري في بعده األخالقي ينبني على
هذه االحتماالت .وما يميز اإلنسان كواقع أخالقي هو قدرته على االختيار بين
هذه االحتماالت .ليس اإلنسان إذن أخالقيا ألن هناك خير أخالقي ،لكن الخير
األخالقي موجود ألن اإلنسان هو في األساس واقع أخالقي .بهذا المعنى يتأسس
الخير األخالقي انطالقا من توافق االحتماالت التي اختارها اإلنسان مع الخير
األخالقي .أما الشر فيكمن في اختالفها معه .الخير والشر كالهما إذن اختيار في
اتجاه أو آخر.
ثانيا ــ ما فعل اإلرادة la volición؟
ال تتعلق اإلرادة بالواقع كواقع مجرد ،بل كمبدأ لالحتماالت الممكنة .فالواقع حالة
تؤسس لإلمكانات .وما يختاره اإلنسان هو اإلمكانات الواقعية التي يقدمها له الشيء.
يتعلق فعل اإلرادة إذا بموضوعه .هو فعل قصدي .فأنا أختار بشكل قصدي احتماال
معينا من بين احتماالت اخرى .وما أختاره أعتقده األفضل بالنسبة لي وليس األفضل
في ذاته .فعل اإلرادة هو نفسه حالة للخير والشر كونه فعال قصديا .لتكون الرغبة إذا
اختيارا قصديا لحالة الخير أو الشر.
أية إضافة تحملها الحالة إلى الواقع المادي لفعل اإلرادة؟
اإلرادة لها خصائص نفسية ــ بيولوجية ،وكذلك قصدية وال تضيف لها صفات
الخير والشر شيئا .بل تغير حالتها .وكذلك االمر بالنسبة لإلرادة إذ ال تغير األخالق
ً
إجمال يتعلق فعل اإلرادة باختيار واقعها المادي أو الفيزيائي وإنما تجعلها في حالة.
قصدي للحالة.
ثالثا :أين يكمن الخبث؟
شكلت طبيعة الخبث موضوع جدال في الفلسفة السكوالئية و على طول
القرنين السادس عشر والسابع عشر .إذ ذهب أنصار توجه القديس أوغسطين
263 يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم
إلى القول بأن الشر حرمان من الخير ،el malum es privatio boniوأن الخير
األخالقي يكمن في كمال الجوهر في النظام .في حين أن خبث اإلرادة هو
حرمان .أما معارضوهم فذهبوا العتبار فعل اإلرادة نفسه خيرا أو شريرا .لكن
في كلتا الحالتين ال مجال للحديث عن خير أو شر اإلرادة أو ارتباطها بالنظام
األخالقي .وعليه ال مجال الستحضار المفهوم األرسطي المتعلق بالحرمان
في الفعل األخالقي .إذ يتعلق الحرمان بما أستطيع تملكه .لكن بالنظر إلى فعل
اإلرادة ،هل من مجال للحديث عن حرمان؟ إن فعل اإلرادة الشرير ال يمكن أن
يكون له طابع الخير؛ إنه باألساس شر .ومن هنا فإن مؤيدي األطروحة القائلة
بأن اإلرادة شريرة بطبيعتها ،يؤكدون أن في كل إرادة لحظة من الحرمان ،تتأسس
بناءا على صفة إيجابية لإلرادة .هذا ما يلحقوه بأطروحة القديس أوغسطين .فهم
يفهمون أن الحرمان هو صفة ناتجة ،وأن اإلرادة هي السبب؛ أما سبب الحرمان
فهو الخبث.
أعتقد أن أولئك الذين يدافعون عن إيجابية الخبث على حق .وإن كنت
أختلف وإياهم في تصورنا لها .أوال ،فيما يتعلق بالسببية .يمكن أن نسمي فعل
الشر فعل اإلرادة ذاك الذي يريد شيئا يعلم سابقا بأنه شر .وهنا ال يكمن الشر في
فعل اإلرادة نفسه بل في موضوعه .فهل يجوز القول بأن اإلرادة شريرة؟ يمكن
القول إن موضوع فعل اإلرادة ينقل صفاته إلى الفعل نفسه .فكيف يحدث هذا؟
اإلجابة عن هذا السؤال تسمح لنا بفهم ما المقصود بالخبث كصفة إيجابية في
فعل االرادة.
الخبث هو حالة داخلية وجوهرية في فعل اإلرادة الشرير .إنه ليس مجرد صفة
خارجية تتعلق بموضوع الفعل .إنه «حالة» .وهي كما قلنا قدرة الواقع على بناء معنى.
وزد على ذلك أن فعل اإلرادة هو ما يشكل حالتي الخاصة .وبالتالي ،تكمن المشكلة
في حالة اإلرادة ،وليس في موضوعها.
في سياق آخر ،سبق أن قلنا بأن خصائص موضوع اإلرادة ال ترتبط بالواقع
المجرد بل باإلمكانات التي يقدمها الشيء المرغوب فيه .وبنا ًء عليه فإن فعل الرغبة
ال يرتبط بالموضوع ذاته بل باإلمكانات التي يحملها .فأنا ال أرغب في باب مثال بل
حتاف رثوك .د 264
أرغب في الدخول أو الخروج منه .إذن تتعلق اإلرادة باإلمكانات .وتتعلق الرغبة
بإلحاق صفات الموضوع بحالتي .هي تملك فيزيائي إلمكانات الموضوع وليس
لواقعه .فأنا ال املك المشرط ،بل االحتماالت التي يقدمها هذا المشرط ،كالقتل
مثال ،أو إجراء عملية جراحية .إذن تصير اإلمكانات الواقعية حالة اختارها .فماذا
أختار وكيف؟
اختيار إمكانية واحدة من بين أخرى هو فعل إرادة .وليست إمكانية فقط بل
إمكانية ممكنة .posibilitándomeفعل اإلمكان هذا هو ما أسميه سلطة .poder
الرغبة هي السماح للواقع بالسيطرة على حالتي .للسلطة طابع ميتافيزيقي .هي
كل سلطة تفترض ليست مجرد قوة ،أو حتى δύναμιςبالمعنى الميتافيزيقيّ .
قوة أعلى وأخرى أدنى .في الوقائع المادية يغطي نطاق السيطرة نطاق السببية
والقوة بوصفه السبب و العلة .αίτίαويتجاوز السبب التأثير .لذا فإن التمييز بين
السببية والقوة قد ال يبدو أكثر من مجرد تدقيق مفاهيمي .ومع ذلك ،فإنه أساسي
في فعل اإلرادة .فما تمارسه على اإلمكانات التي يتيحها الموضوع ليست قوة
بل سلطة.
السلطة كقوة لفعل اإلرادة في مناولة نفسية ــ بيولوجية ،بعيدا عن معنى القصدية
تأخذ معنى قوة نفسية .وهذا ما جعل اإلنسان البدائي يعتقد باإلحيائية .el animismo
لذلك تقوم اإلحيائية على تفسير حيوي للسلطة .فيصبح فعل اإلرادة ضحية لسلطة
يمتلكها موضوع اإلرادة .ما عالقة هذا بمشكلتنا؟
فعل اإلرادة في حالة الشر يسمح للشر بممارسة سلطته علي .إنه تأسيس للشر
كقوة ،خالفا لفعل الشر maleficioالقائم على تفاعل األشياء فيما بينها .الرغبة هي
إذا ترخيص لسلطة قوة الشر أو قوة الخير علي .وألن فعل اإلرادة ينشأ انطالقا من
قوة جوهرية داخلية خيرة أو شريرة كانت ،فإن هذا ما يبرر القول بمفهوم الحرمان
وبخضوع اإلنسان لقوة الشر أو الخير .خضوع تشرعه اإلرادة .فعل اإلرادة إذا هو في
جوهره خير أو شرير وليس معلوال لحرمان أو سواه.
الحرمان هو بهذا المعنى نتيجة وليس سببا .زد على ذلك أن ال أحد قد يفضل
قوة الشر .فنحن كثيرا ما تساءلنا عما إذا ما كان لإلرادة أن تريد الشر ألجل الشر.
265 يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم
ال اظن ذلك ألني ال أعتقد أن أحدا يرضى بالشر .وحتى اإلشباع الذي يسعى إليه
فعل الخبث هو الحد األدنى من الخير والذي قد يصير شرا .وهذا يحدث مع
جميع أنواع الخبث .دعونا نتحدث عن نيتشه الذي واجه اإلله .من السهل جدا
القول إن نيتشه أراد الشر من أجل الشر .لكن هذا ليس صحيحا .ما أراده نيتشه،
على وجه التحديد ،هو أن يكون نقيض االله Diosــ .antiأراد كراهية اإلله
ألنه اعتقد أنه فوق الخير والشر وفوق اإلله .الشعور بالذات كمبدأ مطلق ليس
شرا ،بل هي الحالة الجوهرية للشخصية اإلنسانية .أما الشر فهو االعتقاد بأنك
فوق األلوهية أو ما سواها .الخبث ليس رغبة في الشر من أجل الشر ،بل جعل
ما أريده فوق الخير .بهذا المعنى ،فإن الخبث ذاتي في اإلرادة ،ويشكل لحظة
إيجابية فيها وال يتعلق بحرمان ما .إن إرادتي هي تشريع للشر كقوة.
للخبث درجات .فالمثال الذي أوردته سابقا ال يعادله فعل شرير تافه وغير خطير .أما
من زاوية أخالقية فسواء كان كبيرا أو تافها ،خطيرا أو غيره فإني أعتبره في كل الحاالت
تشريعا للشر كقوة على فعل اإلرادة ،والذي بموجبه تصير اإلرادة في حالة شر ذاتي.
يترتب على ذلك ،أن الخبث la maliciaليس فعل شر .un maleficioلكنهما ليسا
مفهومين منفصلين .بل على العكس تماما.
رابعا :أية عالقة بين الخبث وفعل الشر؟
كل خبث يفترض سابقا القدرة على فعل الشر .وكل ما هو خير يتجلى
لإلنسان بوصفه مرغوبا فيه .والرغبة هي بالضبط بنية نفسية للواقع .لكن هذا ال
يعني أن الخير هو المرغوب فيه .بل أن المقصود هو أن كل خير يولد الرغبة.
وأن الرغبات هي لحظات نفسية ــ بيولوجية .هذه العالقة بين الخير والرغبة هي
ما نسميه la atracciónالجذب .هي العملية التي من خاللها تتوحد السلطة بين
الفعل factumوقوة الفعل .factioلتكون األخالق ،بشكل أو بآخر ،تصحيحا
لميوالت اإلنسان الفزيولوجية باعتبارها خيرة أو شريرة .هي لحظة معالجة
لصحة اإلنسان higiene ،صحته العقلية ،وكذلك النفسية ــ البيولوجية.
عالوة على ذلك ،كل الشر وكل الخير هو استعداد قد يتحول إلى عادة ونمط وجود
أي .έξιςفعل اإلرادة الشرير هو عادة و نمط وجود .έξιςإنه رذيلة .أما فعل إرادة
حتاف رثوك .د 266
الخير والذي هو أيضا έξιςفهو فضيلة .وهذه العادات تؤثر على النفسية ــ البيولوجية
لإلنسان.
لكن ال يمكن القول إن الشر قد يتحول خيرا .قد يحاجج البعض بأن العديد
من أعمال الخبث ،والعديد من اإلرادات الشريرة قد أدت على المدى الطويل إلى
الخير .لكن في مثل هذه الحاالت ،سيكون من الضروري التمييز بين ما تفعله el
،opus operatumوالحالة التي تفعل فيها الخبث .Opus operantisقد يكون الفعل
الخاضع إلرادة خبيثة خيرا ألسباب أخرى ليس الخير من بينها.
هكذا ،فإن القوة والخبث ،فعل الشر وفعل الخير ،الخبث والخير كقوى لإلرادة،
ليست مفاهيم متطابقة .كما ال يمكن المطابقة بين العلة النفسية وبين القوة الواقعية لما
أرغبه.
واآلن نصل إلى الشكل الثاني من أشكال تعزيز الشر promoción del malباعتباره
تشريعا للشر كقوة .تلك هي الحالة المظلمة لفعل الخبث .فذلك الحزن الذي أستشعره
في ارتباط بفعل الشر ليس استعارة غامضة أو شعورا .حتى إن لم يدرك ذلك اإلنسان
بشكل مباشر فإن الشر يولد في ذاته شقاقا وتصدعا .هذا الشقاق ينتج عن صراع قوة
الخير والشر في فعل االرادة .هذا الخالف من طبيعة الخبث .إنها إذا صح التعبير حالة
تضاد .antinómicaفبقوة الخير أصير شريرا وأحول فعال خيرا إلى شرير من أجل
مصلحتي الخاصة .لهذا السبب على وجه التحديد ،فإن جوهر كل عمل من أعمال
الخبث هو ύβριςغلو يجعل اإلرادة فوق الخير األخالقي نفسه .وهذا يتعلق بالشكل
الثالث للشر.
ج .الخبث La malignidad
الخبث هو تشريع للشر كقوة في داخلي .لكن هناك امتدا ًدا لقوة الشر بالنظر إليه
كخصائص قصدية .في حالة الخبث سيكون تفاعال ،في حين تكون العالقة قصدية في
الحالة الثانية .إنها ،بطريقة ما ،عالقة بين ــ االفراد ــ .individual ínter
الشر في ذاتي أو سواها .وبهذا المعنى ،فإن اإلرادة تأخذ
إرادتي يمكنها أن تنتج ّ
للشر في اآلخر .لكن أخطر أشكال الخبث هو
صفة الخبث .في معنى أول ،هي إنتاج ّ
267 يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم
جعل إرادة أخرى نفسها خبيثة بغرض تنفيذ فعل اإلرادة الشريرة .في هذه الحالة تصبح
اإلمكانات التي أقدمها لآلخر أكثر من قوة جذب بل تحريضا .una incitaciónومن
حر في أن
ثم فأنا لست خبيثا أو شريرا فحسب بل أنا الشر .وبطبيعة الحال ،فإن اآلخر ّ
شر مزدوج يجمع بين فعل
ينصاع للتحريض ويستسلم له أو يرفضه .لذلك فإن الخبث ّ
الشر المنتج في إرادة اآلخر .أنا لست خبيثا؛ أنا الخبث؛ أنا شرير،
إرادتي الشرير وفعل ّ
الشر.
أنا ّ
إن وحدة إرادتين خبيثتين في خباثة واحدة هي مثيرة .إذ إن الشرير ال يرخص لقوة
للشر هو أكثر من
الشر في إرادته فحسب ،بل يلهم اآلخر الشر أيضا .الشكل الثالث ّ
الشر ،لكنه ترخيص لها كمصدر إلهام لإلرادة.
تشريع لقوة ّ
د .الخسة La maldad
يرتبط اإلنسان باآلخرين في ظل الواقع االجتماعي .هذا الواقع أو الجسم
االجتماعي يتشكل في فلك اإلرادات الفردية التي تتفاعل فيما بينها .هذا الجانب
من الواقع هو ما وصفه هيجل بعبارة غير مرضية إلى حد ما متحدثا عن الروح
الموضوعية .لكني أرى انها روح مموضوعة .un espíritu objetivadoال وجود
لروح خارج روح كل إنسان ،وبالتالي فإن الحديث عن الروح الموضوعية ال معنى
له .األجدى الحديث عن البعد الموضوعي لروح كل إنسان .بهذا المعنى هل من
مجال للحديث عن الروح؟ بكل تأكيد ،لكن ليس بمعنى العقل الكوني بالمفهوم
الهيجلي ،وال بمعنى «روح الشعوب »Volksgeistكما في القرن .18ليس للشعوب
روح ،بل يتعلق األمر بالمعنى االجتماعي للروح الفردية .وقد أخذ هذا المفهوم
منذ اإلغريق معنى الروح ،يمكن أن نطلق عليه «الروح المموضعة» هذا البعد الذي
يشير اإلنسان من خالله إلى اآلخرين بشكل ال ذاتي .نتساءل ما عالقة مشكلتنا
بالموضعة؟
تتعلق الموضعة بالقصدية؛ قصدية الذكاء واإلرادة التي هي نتاجها .هكذا نجد في
اللغة اليونانية كلمات تأخذ حرفي μαفي آخرها مثل كلمتي noemaو noesisالتي
تفيد التعقل .وكلمة βούλημαالتي تعني اإلرادة .هكذا تتعلق الموضعة بمفهومي
noemáticoو .boulemáticoبمعنى أوضح تتحول األفكار والرغبات إلى أشياء ــ
حتاف رثوك .د 268
معنى sentidoــ .cosasلنقل إن ما تتم موضعته هو الرغبة الكامنة في فعل اإلرادة
لإلرادة أي موضوع رغبتي الذي صار نتيجة إرادتي كشيء ــ معنى.
تتعلق الرغبة بشيء موجود هناك .ahíهذا الهناك ahíبالضبط هو خاصية .τόπος
وهكذا ،فإن التفكير واإلرادة في حالة موضعة من خالل مفهومي noemático
و boulemáticoهما معا ،τόποςأي أشياء هناك ،أشياء ــ المعنى .هذا الشيء هناك هو
ما سيصير موضوع رغبة وإرادة .وهي مبادئ تنظيمية؛ أي معايير تشير إلى ما هو مقبول
أو مرفوض من اإلرادة أو العقل .هي إذن مبادئ ،άρχαί ،ليس بمعنى القوة δύυαμις
لكن كسلطة .وبموضعتها تأخذ معنى المكان τοποιفتصير روحا .الموضعة إذن هي
تحويل مفاهيم عبر مفهومي noemáticoو boulemáticoإلى مبادئ موضعية .هذه
هي الروح المموضعة أي الفكر والرغبة كمبادئ موضعية .tópicos principiosنظام
المبادئ الموضعية لمجتمع ما هو ما يشكل عالمه .وألن هذا العالم يمتلك مبادئ
موضعية فإنه يتمتع بقوة؛ القوة كمبدأ.
فيما يتعلق بفعل باإلرادة ،تتم موضعة ما يرتبط بحالتي الخير والشر باعتبارهما
مبدأين للعالم .لتتشكل مفاهيم جديدة تختلف عن الخبث هي الخسة la maldad
والصالح .la bondadهذا هو الشكل الرابع لتعزيز الشر الذي من خالله يصبح الشر
مبدأ وقوة موضعيين.
لكن أين يكمن الشر في كل هذا؟ يتعلق االمر باإلتيقا أي األخالقيات .كل من هو
غير مسيحي قد يعتقد أن المسيحية شر .على أي حال ،دعونا نضع هذه المناقشة جانبا
ألنها مسألة أخالقية .فلنقل إن كل أخالقيات هذا الكوكب ال يتبعها أي كان على وجه
األرض بأمانة فقد أدخل عليها شيئ يتعلق بمبدأ العالم :مبدأ الخير أو مبدأ الشر .وعليه
فإن العالم يتشكل بنا ًء على روح الخير وروح الشر أي الخسة والصالح.
ارتبط نهج التفكير هذا في الشر بزرادشت .Zarathustra .في ترانيم Gathas
التي سبقت ،Avestaلم يكن زرادشت ثنويا ،بل موحدا بإله واحد هو أهورا ــ مازدا
Ahuraــ ،Mazdaالرب الحكيم ،الذي خرج في ،pahíeviوأعطى شكل أهورامازدا
Ohrmazdوالذي صار في اليونانية ،Oromandesوفي الالتينية ...Ormuzنتج عن
هذا روحان spenta Mainyuالروح الخيرة ،واألخرى ،Anra Mainpuأي الروح
269 يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم
الشريرة .وتخبرنا الرواية أن الروح الطيبة تتوجه نحو الشريرة قائلة« :لدينا روحان
ال يمكن التوفيق بينهما .لقد اخترت المسارات ،األفكار ،الكلمات واألعمال التي
تتعارض معي» .لقد كان لدى زرادشت الحدس الكافي ليدرك أن الشر اختيار.
وبالتالي ،فإن األخالق التي يبشر بها زرادشت هي أفكار الخير ،عبارات الخير
واألعمال الصالحة .هذا هو الشكل األول من الدين واألخالق السابق على عصرنا،
خارج مملكة إسرائيل .في وقت الحق فقط ،سيتماهى spenta Mainyuروح الخير
مع أهورا ــ مازدا ،وستصير روح الشر نقيض أهورا ــ مازدا نفسها ،أي نقيض ــ االله
Diosــ ..el antiوهكذا ستنشأ كل من الثنوية المانوية والمجوسية .لكن الزرادشتية
األولى هي توحيدية ،وما قال به زرادشت هو نقيض فكرة الروحين .لقد قال زرادشت
بالواقع الموضعي ،حتى لو لم يكن لديه فهم لما يمكن أن يكون الخير والشر كمبادئ
للعالم .άρχαί
هذه المبادئ تحوم حول العالم .تتوقف قوتها على حرية اختيار كل واحد .القول
بأن العالم هو هذا أو ذلك ،أن أحدهم يفكر ،يقول ،يشعر أو يريد ،ال يعني أن كال من
األفراد الذين هم في العالم يفكرون ويريدون مثله أو أنها فكرة األغلبية .القول بأن
تلك هي اإلرادة العامة la volonté genéraleال يعني أنها إرادة الجميع la volonté
) .de tous(8لكن ،إذا لم تسلم أغلبية من الناس بهذه المبادئ ،فإنها لن تكون كذلك.
وهذا هو بالضبط ما يحدث .إذ تقف قوة العالم أمام حدود حرية كل واحد ،وتعلن هذه
اإلرادة نفسها مطابقة أو غير مطابقة للعالم الذي تعيش فيه؛ مطابقة أو غير مطابقة لكل
من روحي الخير والشر .والن فعل اإلرادة يصير من العالم ينتهي به األمر بالضرورة
إلى تغيير العالم نفسه ليتشكل مبدأ آخر جديد هو التاريخ .la Historiaلكني ال
أقصد أن موضوع التاريخ هو العالم .بل هو الواقع االجتماعي أو الجسم االجتماعي.
ذاك الجسم االجتماعي ،ككيان تاريخي ،يحمل معه تغييرا في العالم ،وهذا ما يهم
مشكلتنا .بهذه الطريقة ،فإن إرادة كل واحد ،وحريته تنخرط في العالم ،تحيط بها قوة
الشر.
الخير والشر ،في توافق أو خالف مع هذا الخير وهذا ّ
فهل يحدث األفضل ام األسوأ؟ هذا سؤال خطير .تعتمد اإلجابة عنه مرة أخرى
على األخالقيات .إنها ليست قضيتنا.
حتاف رثوك .د 270
ما يهمنا هو أنه في سياق التاريخ ،تعاني اإلنسانية بشكل متفاوت يختلف من
حقبة إلى أخرى .قد تشهد بعضها سيادة الخير وقد تعرف أخرى طغيان الشر .وخالل
صيرورته هذه قد يشهد العالم في حقبة ما خيرا أكثر من الحقب السابقة .لكن هذا ال
ينفي تصاعد منحى الشر.
وسواء كان هذا المنحى مستقيما أو غير مستقيم فإنه تصاعدي دون أدنى شك .لقد
تقدمت اإلنسانية على مر التاريخ وازدادت خيراتها .نحن ال نعرف ما إذا كنا نعيش في
مرحلة االزدهار ام في مرحلة االنحطاط .كل ما نعلمه أن اإلنسانية تتغير عبر مجرى
التاريخ ،ويتغير موقفها مما نسميه الخير والشر ،الخسة والصالح كمبادئ لروح العالم.
باختصار ،يذهب التاريخ في هذه االتجاهات الثالثة :اتجاه الصالح ،اتجاه الخسة
واتجاه التقدم .هذا هو المعنى اإليجابي للشكل الرابع من الشر.كيف لنا إذا أن نقول
إن الشر كمبدأ هو مجرد حرمان؟ وأن له طابعا جوهريا وإيجابيا .أو أنه ليس أكثر من
حالة واقعية.
بدأ الخبث بوصفه تشريعا للشر كقوة في إرادتي ،واستمر في أن يكون مصدر إلهام
للشر في اآلخر على شكل خبث ،وانتهى به األمر كمبدأ ،كخسة أو صالح للعالم .من
ّ
الشر كحالة
الشر ،وعن ّ
دون أن ننسى الحديث عن أفعال الخير أو الشر ،عن بنيات ّ
وكواقع .هكذا يتشكل على وجه التحديد مصير اإلنسان على األرض .مصير موحد
مرتبط بالعلة األولى أي اﷲ.
فما علة الشر؟ وما العالقة ،هذا إن وجدت ،بين اﷲ ،الشر والخير في العالم؟
الهوامش
1ــ هذه ترجمة للباب الثاني La realidad del malمن الفصل الثاني El problema
) del mal (1964من كتاب خافيير زوبيري :Xavier Zubiri
Sobre el sentimiento y la volición Alianza Editorial Fundación Xavier
Zubiri Primera edición: 1992 Primera reimpresión. 1993
2ــ استعمال زوبيري لمفهوم العالقة respectividadهو استعمال قديم من الزاوية
271 يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم
اإليثيمولوجية حيث يوضح زوبيري بأن استعماله لهذا المفهوم ينطلق من أصله
الالتيني .respectusويأخد المفهوم هنا معنى ميتافيزيقيا متعاليا عن الواقع وهو مفهوم
مركزي في فلسفة زوبيري المتأخرة .لهذا ينبغي أن يفهم من ترجمتنا لها بلفظ العالقة
أنها صلة تأخذ اتجاها عموديا يربط بين الواقع و العقل.
3ــ مفهوم فينومولوجي استخدمه هوسرل للتمييز بين أفعال الداللة وأفعال الحدس.
4ــ سنعود لهذا في بداية الفصل الالحق يقول زوبيري في النص األصلي.
5ــ اعتمدنا لترجمة كل من المنازل ،العوالم ،اللجج واألراكنة كتاب المرقيون َّية
والمانو َّية لألب بولس فغالي.2009 .المكتبة البولسية.
6ــ adecuaciónمفهوم مأخوذ عن فينومينولوجيا هوسرل الترسندنتالية يحيل على
تطابق الوعي واأليدوس εἶδοςأي الماهية.
7ــ وإن كانت الترجمة المباشرة لها هنا هي اللعنة إال أن زوبيري يتناولها باعتبارها
فعال إنسانيا له ابعاد بيولوجية نفسية وليس لعنة تأخذ معنى ميتافيزيقيا.
8ــ بالفرنسية في النص األصلي.
المراجع
-- Zubiri y la filosofia de la religión armando savignano uniresita di Trieste
434.ـ pensamiento vol 71 (2015) num 266 pp 425
-- X.Zubiri.1993.Sobre el sentimiento y la volición. Alianza Editorial Fundación
Xavier Zubiri Primera edición: 1992 Primera reimpresión.Espana.
1979, trabajosـ IV :1976ـ -- RESPECTIVIDAD DE LO REAL، De realitas III
43 In: https://fr.scribd.ــ de Seminario Xavier Zubiri.Madrid.1979.p13
Realـ Loـ deـ com/document/269799287/Respectividad
ــ اطلع عليه بتاريخ .)2020/11/28
-- M.F.Lacilla Ramas. La respectividad en Zubiri.1990. Universidad
Complutense de Madrid.Espana.
د. حتاف رثوك 272
-- P.Ascorra Costa.R.Espinoza.En cuerpo y alama en zubiri. Un problema
filosófico ــteolÓgico. Pontificia Universidad Católica de Valparaíso In
https://www.psiucv.cl/wp ـcontent/uploads/2012/11/Cuerpo_y_Alma_
en_Zubiri.pdf.
-- O.Barroso Fernández. 2015.Reflexiones en torno al problema del mal en
zubiri. Universidad de Granada.
-- REFLEXIONES EN TORNO AL PROBLEMA DEL MAL EN ZUBIRI
المكتبة البولسية.4المرقيون َّية والمانو َّية.2009.ــ بولس فغالي
دراسات
يقول هيغل إن «الشر يكمن في النظرة ،التي ترى الشر في كل مكان» ،2وتُعتبر
محاضراته عن فلسفة الدين واحدة من أهم الموارد الفكرية والفلسفية في القرن
التاسع عشر التي تناولت موضوع الخلق واإلنسان و«الشر» في ثنايا علم الالهوت،
ألنها عالجت قضايا إشكالية أساسية ومعضالت عميقة تواجه الحداثة ،وما بعد
الحداثة ،وكل ما حملته من تحديات أخالقية في العالم .وقد نُشرت نسخة نقدية من
هذه المحاضرات في الثمانينيات ،ما جعل من الممكن دراسة النص على مستوى
ٍ
عال من الدقة والتمحيص ،الذي لم يكن حتى ذلك الوقت قاب ً
ال للتحقيق 3.كما
نُشرت رسائله في عام ،1984ووفرت هي األخرى قراءات شارحة لبعض أفكاره
الفلسفية حول الخلق واإلنسان و«الشر» 4.فقد شغلت هذه القضايا العقل الفلسفي،
منذ أفالطون وأرسطو وغيرهما ،وظلت جدلية الالهوت والناسوت ،أو الذات
اإللهية والطبيعة البشرية ،وتبادلية الحياة والموت ،ومسألة الوجود واألزل ،وصراع
«الخير» و«الشر» ،ما هي إال تجليات ألهم القضايا التي استرعت انتباه المفكرين،
وشغلت عقول الفالسفة ،وتداعى لها الحكماء ،وكانت مثار بحث ودراسة ونظر من
.1باحث سوداين ،األمني العام السابق ملنتدى الفكر العريب ،عامن ،األردن.
.2جورج فيلهلم فريدريش هيغل،
https://www.goodreads.com/quotes/288872 - evil - resides - in - the - very - gaze
- which - perceives - evil - all
.3كوجيف ،الكسندر« .مقدمة يف حمارضة هيغل» ،باريس :غاليامر .1947 ،وطبع مقدمة لقراءة هيغل
عرب .جي إتش نيكولز ،االبن إيثاكا :مطبعة جامعة كورنيل.1980 ،
.4إد .كالرك بتلر وكريستني سيلر« ،رسائل هيغل» ،بلومنجتون :مطبعة جامعة إنديانا.1984 ،
هيقفلا قداصلا .د 274
المختصين على مر العصور ،ورافقت حواراتها المجامع العلمية منذ األزل ،وستبقى
قضايا مهمة وملحة تؤرق الفكر اإلنساني إلى األبد .وألن معضلة «الشر» قد مثلت
هم ًا مقيم ًا لإلنسانية منذ فجر التاريخ ،فإننا سنمضي في ُصح َبة كوكبة من المفكرين
والفالسفة؛ نستطلع معهم آراء هيغل حول هذه المعضلة الشائكة ،وعالقتها الجدلية
بـ«الخير» ،ونستعرض إسهاماتهم هم حول هذه اآلراء؛ جرح ًا وتعديالً .وإذا كان
هيغل قد ابتدع «الديالكتيك» فهو خير من نستجلي معه حقيقة التناقض الراسخ بين
«الخير» و«الشر» ،وما بينهما من عالئق ،تفحصها هو من منطلقات الهوتية ،ومنطق
فلسفي تاريخي.
في عام ،1817نشر هيغل كتابه «موسوعة العلوم الفلسفية» ،الذي أحدث ثورة في
الحوار الفلسفي .وعندما مات الفيلسوف يوهان فيخته ،الذي كان يحتل كرسي الفلسفة
في جامعة برلين حل هيغل محله ،عام ،1818ووجد متسع ًا للترويج ألفكاره بين طالبه،
وراجع بعض محاضراته القديمة حول الالهوت والخلق و«الخير» و«الشر».
كان هيغل يرى أن ما يتحقق في التاريخ عبر الصراعات الدامية واألهواء البشرية
المتعارضة والهائجة هو الفكر ،أو الروح؛ أي العقالنية العميقة 5.فالتاريخ عقالني
على الرغم من أنه يبدو لنا فوضوي ًا ،مليئ ًا بالحروب والظلم والقهر و«الشر» .وذلك
7
ألن العقل ،بحسب النظرة المتفائلة لهيغل 6،هو الذي يحكم العالم والتاريخ.
لذلك ،فإن أحد أهم التعهدات الفلسفية لهيغل هي أن «الشر» يوجد في العالم
ويمكن فهمه ،والتصالح معه ،والخالص منه .وفي هذه الحالة يكون هيغل قد
اهتم بشكل أساس بكفاءة الفلسفة فيما يتعلق بتزويدنا بشروحات لوقوع األحداث
.5وفق ًا هليغل ،فإن الناس يف عرصه أكثر عقالنية وأخالقية وحرية مما كانوا عليه يف املايض.
بالقطع هو ال ُييب بال ،أو نعم ،مغلقتني ،ولكنه يؤرش أن اإلنسانية ما عادت تقبل غري ما يتوافق
مع العقالنية واألخالق واحلرية ،كام تقبله الناس يف السابق ،بل صاروا يشجبون كل ما يتناقض مع
قناعاهتم اخلاصة ،ومل يعد ملحاكم التفتيش عن األفكار والقناعات مكان يف العرص احلديث.
.6إن مسار روح العامل بالنسبة هليغل هيدف يف النهاية إىل تأسيس الدولة التي حتقق احلرية والسعادة
لكل املواطنني بال استثناء .ويف الدولة تتحقق احلرية بشكل موضوعي .وبالتايل فغاية التاريخ هي
الدولة ،وغاية الدولة هي احلرية.
ً ً
.7هل ينبغي أن نستنتج ،أن هيغل ،ونظرا ألنه أعطى العناية اإلهلية صفة دنيوية متاما ،فال يمكن أن
يكون احلساب النهائي لعمل العناية اإلهلية خارج التاريخ نفسه؟
275 لغيه تارضاحم يف ةءارق :رشلا ةلكشم
الجائرة؛ مع ما يصحبها من العواقب على مدار التاريخ؛ مع التبرير ،أو على األقل
التسليم ،بفكرة التصالح مع مثل هذه األفعال ،التي يعتبر كل منها في حد ذاته عيبا
شنيعا في لوائح اإلجراءات البشرية.
المنهج:
إن الهدف المركزي لهذه المقالة هو تحديد العناصر األساسية لمفهوم
هيغل عن «الشر» ،من خالل محاضراته ودراساته المتعمقة لالهوت المسيحي،
ومراجعات تالميذه ومعاصريه من المفكرين والفالسفة ،ومقاربات ومقارنات
ومالحظات بعض من تناولوه بالدراسة والتعليق في العصر الحديث .فقد ثبت
للجميع أن هيغل يفهم «الشر» ،في المقام األول ،على أنه ظاهرة أخالقية،
وذلك من خالل محاضراته ودراساته المستفيضة التي ركزت على الالهوت
المسيحي خاص ًة؛ ولم يأت على األديان األخرى إال عرض ًا ،في إشاراته للديانات
الهندوسية والصينية ،وحصره لغيرها في جملة «اليهودية واألديان اإلبراهيمية
األخرى» .فقد حصر موضوعه فيما ُي ْح ِسن ،وترك لنا تحديد تقديراتنا ،إذ هو
يعرف «الشر» ،على وجه الخصوص ،على أنه خصيصة بشرية خبيثة ،ونفاق ّ
يقوض الظروف االجتماعية والمؤسسية للفعل األخالقي .وتُشير القراءة
المناسبة لمفهومه عن «الشر» إلى مركزية الثقة في األخالق الدينية ،وهذا محل
اتفاق ،لم نُخضعه في هذه المقالة لمحاكمات قيمية من أديان ومدارس فكرية
ٍ
إيضاح أخرى؛ وما إيرادنا لبضع آيات من القرآن الكريم ،وأحاديث إال مجرد
لمعنى محدود ،وغاية ُم ْغ َل َقة عليه .وهذا يحيلنا إلى سؤال واسع جد ًا :هل هناك
ً
فليسوف معين يمكن أن نفكر فيه أكثر شمولية من هيغل في النظر إلى معضلة
«الشر» بهذا الفهم ،الذي يطرحه علينا؟ ربما ال نجد إجابة حصرية على هذا
السؤال ،حتى عند هيغل نفسه ،ألن هيغل يصنف موضوع «الخير» و«الشر» بشكل
مباشر ،أو واسع أحيان ًا ،مثل العديد من أسالفه ،ال سيما في علم الالهوت .ومع
ذلك ،إذا أخذ المرء بهذا السؤال المحوري على أساس المقاييس األخالقية،
فيمكن اعتبار فلسفته بأكملها ،وعلى وجه الخصوص فلسفة الروح ،على أنها
هيقفلا قداصلا .د 276
أكثر محاولة جادة لمعالجة هذه المعضلة .لهذا ،نود أن نُلقي نظرة خاصة ،في
هذا المقال ،على جدلية «الخير» و«الشر» عند هيغل ،والذي ،في رأي العديد
من المفكرين ،يحتوي على نقد للنظام األخالقي الكانطي في شكل تناقض
بين «الضمير الشرير» ،الذي يرمز لالنحراف ،و«الروح الجميلة» ،التي ترمز
للخير .ونتقصد أن نفحص بأعين َد ِار ِسيه ،وباختصار شديد ،ما يمثل الموقف
األخالقي عند هيغل ،الذي ُي َمكِّن المرء أن يتصرف بطريقة «جيدة» ،بإرادة
حرة مستقلة ،إلى حد كبير من خالل تجنب الدوافع األنانية .ومن ثم ،يمكننا
أن نتساءل :هل يرى هيغل؛ بحكم دراسته لالهوت المسيحي والخطيئة ،أن
هناك استحالة لتجنب «الشر» في الواقع؟ فقد ُيعلم الجواب لهذا السؤال من
خالل الجانب اآلخر من التناقض ،بين «الروح الجميلة» ،التي تُعادل «الخير»،
وبين «الضمير الشرير» ،الذي ُيعادل االنحراف ،ويعترف بالضرورة األساسية
لألنانية .وبالتالي ،يتصرف اإلنسان من دون مراعاة للنقاء األخالقي ،ويعتبر
هيغل أن أية ادعاءات ألصحاب هذا «الضمير الشرير» ،غالب ًا ما تكون عديمة
الجدوى بشكل أساس ،أو تحمل في طياتها بذرة النفاق .من هنا ،يحاول هيغل
معالجة مشكلة «الشر» من خالل تقديم دعم فلسفي لفكرة أن التاريخ هو عملية
تطور تتحرك نحو نتيجة جيدة .وهكذا ،فهو يخفف من بعض صفات كمال
ال هذا المقام اإللهي في العالم ليس متسامي ًا على َخ ْل ِق ِه؛ ليس تقلي ً
ال اﷲ ،جاع ً
من رفعة شأنه ،لكن بفعله هذا ،فإن اﷲ يفسح المجال لألمل ،ويوسع دائرة
«الخير».
لقد توافقت نظرتنا ،في هذا المقال ،مع كثيرين من االمفكرين والفالسفة الذين
َد َر ُسوا و َع َّل ُقوا على محاضراته ومؤلفاته .إن فهم هيغل لـ«الشر» ،من خالل هذه
المحاضرات والمؤلفاتُ ،ي َعدُّ تعميق ًا للقيم األخالقية ،فيما رأى فيه بعض المتأخرين
تشويه ًا للمعرفة ،على الرغم من أن طرحه ُي َعدُّ جذري ًا بما فيه الكفاية ،ألهميته في فهم
الطبيعة البشرية .لهذا ،فـ«الشر» هو سؤال يتمحور حوله الموضوع ،الذي اخترناه
للبحث هنا 8،في ظل القناعة الراسخة بأن إرادة «الخير» غالبة ،ولكن كل شيء في
.8بيرت يس هودجسون« ،هيغل والالهوت املسيحي :قراءة املحارضات حول فلسفة الدين»،
277 لغيه تارضاحم يف ةءارق :رشلا ةلكشم
الحياة له ما يناقضه تمام ًا ،على وفق رؤية هيغل في الديالكتيك .ومثلما سعت الفلسفة
واألديان لتعظيم قيمة «الخير» ،فقد شكلت مسألة «الشر» محور ًا مهم ًا في التفكير
اإلنساني ،وكانت اإلشكالية األهم في تاريخ الفلسفة القديمة والحديثة على حد
سواء .فقد اجتهد المفكر جوزيف مكارني ،في كتابه «هيغل في التاريخ» ،في استدعاء
واستجالء دور هيغل في فلسفة التاريخ وعالقتها بالدراسات الالهوتية 9.وكذلك
فعلت اإلسهامات القيمة التي قدمها إتش إس هاريس ،في مراجعاته لـ«نهاية التاريخ
عند هيغل» ،والتي أبانت األفكار الباكرة ألحاديث الفالسفة الالحقين عن بداية التاريخ
ونهايته 10.على الرغم من أن ما عرفناه عن هيغل هو أنه قام بـ«تتويج للتاريخ» 11،وليس
وضع نهاية له ،وما قدمه يمكن أن ُيحسب أيض ًا على أنه ٌ
تمييز رائع لما بين «النهاية»
و«التتويج» ،مع مقاربة ومفارقة ضرورية إلدراك غايته .ففي ختام أطروحته الفلسفية
عن التاريخَ ،ن ْل َح ُظ أنه يقول إن «هذه هي النقطة ،التي بلغها الوعي» 12،وكأنه ُيريد ِمنَّا
أن نردد معه قوله« :لقد قطعنا هذا الحد ،ومن هنا يمكننا أن نستعرض الماضي ونفهم
كيف ولماذا نحن وصلنا هنا» .لهذا ،نقول إن من األمور األساسية ،التي يجب مراعاتها
عند قراءة منهج هيغل الفينومينولوجي ،عدم إصدار وصفات حول الكيفية ،التي ينبغي
أن يكون عليها العالم .فقد صرح هيغل بذلك صراحة في فلسفة الحق ،بقوله :إن هناك
«كلمة أخرى حول موضوع إصدار تعليمات حول الكيفية ،التي يجب أن يكون عليها
العالم :الفلسفة ،على أي حال ،تأتي دائم ًا متأخرة جد ًا ألداء هذه الوظيفة 13».بالطبع،
حتى هذا التصريح عن «ذروة» التاريخ ،أو «نهايته» ،أو حتى مجرد «تتويجه» ،يبدو
صادم ًا للغاية بالنسبة لمشاعر الداعين لحقبة ما بعد الحداثة.
.14فرانسيس فوكوياما« ،هناية التاريخ والرجل األخري» ،نيويورك :املطبعة احلرة.1992 ،
.15هل اعتقد هيغل أن احلرية قد بلغت متامها يف حياته ،وفرسهتا فلسفته؟ ربام فعل .لقد اعتقد بالتأكيد
أن رشوط هذا اإلنجاز قد وصلت ،عىل األقل يف شكل ناشئ ،وإذا كان هذا هو كل ما يعنيه املرتمجون
بنهاية التاريخ ،فليكن .هل كان يعتقد أنه يمكن حتقيق تطورات أخرى يف احلرية؟ ال أرى أي سبب
يمنع ذلك ،خاصة بالنظر إىل ترصحياته القليلة حول تطور التاريخ يف األمريكتني ،عىل سبيل املثال.
املصدر السابق« ،باندون ويركي» (.)32 :12
.16ستيفن هوجليت» ،مدخل إىل هيغل» ،النارش :بالك ويل بوبليرش ،نيويورك ،عام .2005
.17بيرت يس هودجسون «هيغل والالهوت املسيحي :قراءة املحارضات حول فلسفة الدين ،أكسفورد
بريطانيا ،مطبعة جامعة أكسفورد ،عام .2005
279 لغيه تارضاحم يف ةءارق :رشلا ةلكشم
والتأمين الذاتي و«الشر» هي شرط إمكانية العالقات الحرة .وبالتالي ،فإن نظرة
هيغل للطبيعة البشرية تأخذ جانب ًا مأساوي ًا ،كما يتضح من تفسيره لقصة السقوط في
ِس ْفر التكوين.
فكرة الخلق:
مثلت قضية الخلق إشكالية فلسفية بالغة األهمية لكل الفكر اإلنساني الذي
حاول التصدي لتفسيرها .وقد أدرك الفالسفة أن مسألة جوهرية الخلق هي قطع ًا
ليست بالسهولة ،التي يمكن اإلجابة عنها داخل جملة واحدة؛ من َقبِيل أن هذا
الجوهر الوجودي «حدث في يوم مجهول من أيام الماضي» .ومثلما دار الجدل بين
الفالسفة حول قضية الخلق ،وميقات حدوثه ،وجدنا أن هذا الجدل يتطور من دين
آلخر ،وتم ربطه في العالقة بين الخالق والمخلوق ،وهو هنا يختلف عن الفلسفة في
مفهومي الكلية والجزئية؛ كما هو الحال في الديانة الصينية والهندوسية .إذ إنهم في
الهندوسية ،على سبيل المثال ،يرون أنه لكي يتحد اإلنسان مع اﷲ عليه أن يفرغ نفسه
من كل مضمون ،وهم يرون أن اﷲ تجريدٌ خالص ،واالتحاد به يتطلب من بني البشر؛
وهو األساس لديهم في مفهوم العبادة ،امتالك المشابهة لذلك التجريد الخالص.
18غير أن هيغل ،في تعريفه العام للدين وللخلق ،يقول« :إن الدين عبارة عن تجل
للمطلق في إطار الفكر التصوري للحظات الثالث ،والخلق حدث بالفعل في يوم
مجهول من أيام الماضي» 19.وقد نقرأ في عبارة «يوم مجهول» أنه لن يتسنى لنا كبشر
تحديده ،أو وسمه بتاريخ معين تتنازعه األرقام .ولكن هيغل جعل من مفهوم الدين
فكرة شاملة ،على اعتبار أنه ،أي الدين ،حالة ضرورية للروح في مالزمة العقل ضمن
تطورهما الجدلي ،ويعني هذا أن وجوده ليس بالصدفة ،وإنما هو عمل ضروري من
.18كام يف احلضارات الصينية واهلندية واليونانية والتأثري املتبادل ما بني الدين والفلسفة والفلسفة والدين
حيث اإلضافة واحلذف واإلبتكار والتقليد والشك وقبل الديانات الثالث األخرية أن العمق األوسع
ملفهوم اﷲ قد جلبته الديانة الزرادشتية ألن األخالق قد شكلت مرتكزا يف هذه الديانة فأصبح اﷲ
مرادفا للخري واملحبة والسالم.
« .19الفكرة اهليغلية ملفهوم الدين» online.com/%D8%A7%D9%84%ــ eastــ https://middle
ــ D9%81%D9%83%D8%B1%D8%A9
هيقفلا قداصلا .د 280
أعمال العقل .وهذه الفكرة الشاملة هي فكرة هيغلية باألساس ،بالنظر للتصور السائد
في السياق الثقافي الغربي ،بنا ًء على أن مفهوم الفكرة الشمولية موجودة قبل هيغل
المتَحدَ ى البصيري
بقرون طويلة ،في مقاربة الفلسفة التوحيدية ومعرفياتها ،حيث ُ
20
الكامن في كينونة اإلنسان[ :بل اإلنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره]،
وحيث العقل التصوري يرد كل ُم ْعت ََذر عن معرفة اﷲ[ :أفلم يسيروا في األرض
فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها ال تعمى األبصار ولكن تعمى
القلوب التي في الصدور] 21.وهي أعمال مطلوبة خلقي ًا ووجودي ًا ،وما الوحي إال
تأكيد لهذه الحجة العقلية الوجودية ،أي إن العقل قادر على أن يقود اإلنسان إليه من
دون مساعدة من الوحي ،وأن أشياء كثيرة في الديانات ال تؤخذ بمعانيها الحرفية
فقط ،لكن تؤخذ؛ وهو رأي هيغل ،بمعناها الداخلي ومضمونها الفكري ،تأكيد ًا على
أن هناك مساحه فاصلة بين اإلنسان وبين الخالق ،أو ما أسماه هيغل بالعقل الكلي،
الذي هو اﷲ ،وبين العقل الجزئي ،الذي هو اإلنسان .ويعمل الدين بما يحتويه من
وعد ووعيد ،وإصالح وبينة ،وإدراك ونقل تجارب األولين ،على ردم تلك الهوة
والعبور تجاه الخالق ،أو ما يمكن أن تفسره لنا اآلية الكريمة ،في قوله تعالى[ :يا
22
أيها اإلنسان إنك كادح إلى ربك كدح ًا فمالقيه].
إن فكرة المطلق والجوهر ،في الفكرة الهيغلية لمفهوم الدين ،تأخذ بعد ًا أكثر
وجدانية ،إذ ينتقلون في مفهوم اﷲ ،أو «براهما» 23إلى مفهوم الوحدة المجردة،
أو الجوهر الواحد ويرون أن اﷲ واحد ال شكل له ،وأن دون ذلك مجرد أعراض
ونسب وتسميات 24.وتتلخص قصة الخلق عند هيغل ،من التمايز الداخلي إلى الفناء
الخارجي .ففي طرح هذه المسألة يتناول المناقشة الثانية من عناصر ،أو مجاالت
الحياة اإللهية ،أو تلك ،التي هي جزء من خلق العالم ،بما فيه اإلنسان وسقوطه
في الخطيئة ،والخالص من خالل المسيح .و ُيع َّبر عنها بشكل مجازي بأنها «مملكة
االبن» 25.إن شرط إمكانية خلق عالم متميز عن اﷲ؛ على الرغم من أنه ال يزال
ُم ْحت ََضنَ ًا في الكل اإللهي ،هو التمايز الداخلي في الحياة اإللهية ،الذي يجعل اﷲ
موضوع ًا جامع ًا ،وليس منفرد ًا ومغلق ًا بال نوافذ .يخلق اﷲ من خصوبة اﷲ الداخلية،
أو قوة التوليد ،وليس من شيء غريب ،أو خارجي عن اﷲ .وفي فعل الخلق ،يفترض
اآلخر منطقي ًا أنه فعل وجودي .والتمايز ،الذي كان في «اللحظة» األولى من الفكرة
مجرد عرض «انعكاس» ،أو مظهر ،يأتي اآلن إلى اليمين» 26.يفعل ذلك كعرض ،أو
مظهر خارجي .إذ لم تعد الروح مطلقة بل منتهية؛ وبقدر ما يكون التمايز بحد ذاته
شيئ ًا مختلف ًا داخلي ًا في الطبيعة والروح المحدودة ،يكون لدينا خلق العالم ،الشكل،
الذي يصبح فيه االبن اآلخر بالفعل 27.في الحركة من المظهر إلى الجوهر ،يصبح
االبن المثالي واألبدي؛ الذات الذاتية المتأصلة في اﷲ ،ابن ًا حقيقي ًا للدم والروح.
يتمتع المظهر التاريخي بجودة إيجابية وتجريبية؛ ولكن ،كما سنرى ،فإن كل ما يظهر
يختفي أيض ًا ،وبالتالي ،فإن عنصر المظهر يبقى في الجوهر .من ناحية ،فقد اكتملت
الفكرة المطلقة ،القائمة بذاتها ولها ،ومن ناحية أخرى ،فهي ،في جانبها «الذاتي»،
ليست كاملة ،ألنها ليست ملموسة بعد ،وال تنعكس في نفسها بعد ،وال يتم اعتبارها
متمايزة .هذا هو العنصر الثاني ،الذي يمثل المظهر 28.وبحسب محاضرات عام
والالمطلق وبني الوعي اجلزئي والوعي التام هو بسبب التطورات ،التي رافقت تعديل كثري من
املفاهيم ضمن الفلسفات القديمة.
.25يف عام 1795أ ّلف أول كتاب له حتت عنوان« :حياة يسوع» ،ثم راح يدرس بشكل منهجي منتظم
مؤلفات كانط وفيختة يف مدينة فرانكفورت بني عامي 1797ــ .1800ثم يردف املؤلف قائالً :ويف عام
1801انتقل إىل مدينة «يينا» ،التي حتتوي عىل جامعة مهمة وحيث ان شيلنغ حل حمل فيخته كأستاذ
جامعي .وهناك انخرط يف الكتابة والبحث واملناقشات الفلسفية إىل أقىص حد ممكن .ثم أصبح أستاذ ًا
مساعد ًا يف اجلامعة نفسها ،ولكن راتبه كان ضعيف ًا جد ًا.
.26هيغل ،املحارضات.)365 :3( :
.27هيغل ،املحارضات ،)365 :3( :وراجع ( 294ن.)128 .
.28املصدر السابق ،املحارضات( :ص .)142
هيقفلا قداصلا .د 282
،1824هناك وجهان يمكن استيعابهماً 29:
أوال ،من جانب الفكرة اإللهية ،يمكننا
أن نقول إن الروح في نسق الكونية تطرح نفسها في نمط الخصوصية ،ولكن من
خالل ذلك تظل الفكرة األبدية« :اﷲ هو مجمل الكل» ،الذي يشمل ك ً
ال من الكونية
والخاصة؛ التمييز الداخلي والتهويل الخارجي ،على حد سواء .وقد تم دمج هذه
الظاهرة الخارجية في الثالوث الشامل .وبالتالي ،أصبحت داخلية للحياة اإللهية،
أو يمكننا أن نقول إن االبن يوحد الطريقتين :االبن يشكل الحقيقة ،وكذلك الحالة
المثالية لالختالف« ،ولكن في الحب ،وفي الروح» ،ما يعني أن االبن يبقى متطابق ًا
مع الفكرة في الشكل للكونية .إن طريقتي الكونية والخاصة ،الهوية واالختالف،
«يجب أن ُيفترض أنها متميزة ــ ولكن فقط للحظة ،كما كانت ،ألنها ليست مميزة
حق ًا» .بهذا يعني هيغل أن العالم الزماني المكاني ليس سوى لحظة عابرة في الخلود
اإللهي .إنه التمثيل ،الذي يفصل بين الجانبين في الوقت المناسب ،ويتتبع تاريخ
الخلق والسقوط والفداء .ويشير هذا إلى الجانب الثاني ،الذي يجب أن يتم من
خالله استيعاب العنصر الثاني ،أي الروح المعنوية ،والتي هي «جوهري ًا عملية
30
االرتفاع» من المحدود إلى الالنهائي ،من الخليقة إلى الخالق.
تشكيل لفظي ،أو حكم تمييزي .والخلق هنا ليس جسدي ًا بقدر ما هو فعل فكري :اﷲ
يخلق من خالل نطق كلمة واحدة 32.وهكذا قرأنا في مخطوطة ،عام ،1821أنها حكم
مطلق 33،أو تقسيم أولي للحكم يمنح االستقالل لجانب الكائن اآلخر؛ إنه «الخير»،
الذي يمنح الفكرة ككل إلى هذا الجانب في الخطيئة «الشر» .وتمضي المخطوطة
لتوحي بوجود حكمين ،أو انقسامين :أحدهما داخلي للحياة اإللهية في حين يفترض
اآلخر وجود العالم بامتياز عن اﷲ 34.وفي حين أن الحكمين متماثالن ضمني ًا ،إال أن
التمثيل يفصل بينهما عن الحق كأفعال متميزة ،ألن ابن األب األبدي ليس هو العالم
المادي والروحي نفسه؛ فاﷲ في لحظة تمايز الذات ليس متطابق ًا ببساطة مع العالم .بل
إن التمايز اإللهي داخل األرض هو األساس إلمكانية خلق عالم من الطبيعة والروح
المحدودة ،التي تكون دعوتها لئال يكون اﷲ هو اآلخر .ومع ذلك ،ال يوجد نشاطان
أبديان ﷲ ،ولكن هناك نشاطان فقط .وبالتالي ،فإن التفريق بين «الكيانات الدنيوية» هذه
كشيء مستقل هو مجرد لحظة سلبية صريحة من وجود كائن آخر ،من كونه «خارجي»
من وإلى نفسه ،والتي على هذا النحو ليس لها حقيقة ،ولكنها مجرد لحظة؛ في اﷲ
نفسه لحظة اختفاء المظهر .بالنسبة للعالم ،هي لحظة ظهور ممتدة؛ مكاني ًا وزمني ًا ،هي
لحظة اختفاء اﷲ على الفور :إنها مجرد وميض من البرق يتالشى على الفور ،صوت
كلمة يتم إدراكها ويختفي في وجودها الخارجي في اللحظة ،التي يتحدث بها .وتنقل
هذه الصور الغامضة إحساس ًا باالختالف النوعي بين أبدية اﷲ وزمن الخلق ،فض ً
ال عن
االعتماد الراديكالي للعالم على اﷲ ،وعدم قابلية الفعل الخالق للموضوعية؛ وميض
نور ،صوت تالشي .من وجهة نظر اﷲ ،العالم هو لحظة اختفاء ،تدعى إلى الوجود
«مفترضة» بكلمة عابرة؛ من وجهة نظر العالم ،يحوم الخلق على حافة الالوجود
ويدعمه فقط «الخير» اإللهي.
35
لقد جرى تطوير هذه الموضوعات بتركيز مختلف في محاضرات عام .1827
.43قد نالحظ أن هشاشة وشخصية العامل أصبحت يف عرصنا موضوع ًا علمي ًا وبيئي ًا ،وكذلك ديني ًا( ،ص
.)146
.44هيغل ،املحارضات 89 :3( :ــ .)90
.45هيغل ،املحارضات.)90 :3( :
.46هيغل ،املحارضات 293 :3( :ــ .)4
287 لغيه تارضاحم يف ةءارق :رشلا ةلكشم
التابع» .إن اإلنسانية هي ،التي تعترف بوجود الفكرة اإللهية في الطبيعة ،وترفع الطبيعة
إلى حقيقتها .هذا هو مدى مناقشة هيغل للطبيعة في حد ذاتها ،على الرغم من أن هذه
المالحظات الموجزة قد توسعت ،إلى حد ما ،في محاضرات عام 47.1831وما تبقى
من «العنصر الثاني» مكرس لمناقشة اإلنسانية ،وسقوطها في الخطيئة ،والخالص في
المسيح .وحسب نهج هيغل 48،من الواضح أن الطبيعة تتمحور حول اإلنسان ،بمعنى
أغراضا إنسانية.
ً أن الطبيعة ليس لها عالقة باﷲ باستثناء ارتباط البشرية بها ،وأنها تخدم
ومع ذلك ،فإن الفكرة اإللهية موجودة في الطبيعة ،حيث «تنام» في طريقة ما قبل الذات
الذاتية .ويمكن تصور الهوت الطبيعة الحساسة بيئي ًا على أساس هذه البصيرة ،ولكن
يجب مراجعة التسلسل الهرمي للروح على الطبيعة في اتجاه أكثر جدلية ــ وهو اتجاه
يمكن القول إنه أكثر إخالص ًا ألعمق حدس هيغلي .إذ تخدم الطبيعة والروح كل منهما
اآلخر في الوساطة الثالثية للفلسفة .وبالتالي ،فإن الطبيعة غاية في حد ذاتها ،إذ إن
لديها وظيفة حاسمة للتمايز ،بدونها لن تكون هناك عملية وحياة ،بل فقط هوية ميتة.
49
ربما منع هيغل شكه في المثالية الرومانسية للطبيعة من التعبير عن روحانية الطبيعة.
وبالطبع كان ال يزال غير مدرك للتأثير الضار لطبيعة التكنولوجيا البشرية على البيئة،
التي تجسد معاناة اإلنسان على األرض اليوم.
294 :3 .47ــ 5ن 128 .ــ ال يناقش هيغل الطبيعة يف حد ذاهتا حتى هنا ،بل باألحرى عالقة الطبيعة والروح.
«الطبيعة ليست للبرش فقط العامل اخلارجي املبارش بل عامل تعرف فيه اإلنسانية اهلل؛ هبذه الطريقة الطبيعة
للبرشية وحي اهلل .بالنسبة ألديان الطبيعة ،يظهر اﷲ كقوة طبيعية ،لكن مثل هذا التصور مل يعد مناسب ًا
ألديان الروح .يقتبس هيغل أيوب 5 :37مفادها أن اﷲ ال ُيعرتف به عندما رعد اﷲ بصوت رعد.
«لكي ُيعرتف بالروح ،جيب أن يفعل اﷲ أكثر من الرعد».
.48املصدر السابق( ،ص .)147
.49يقول هيغل يف حمارضاته عن فلسفة الطبيعة أن اﷲ يكشف عن نفسه بطريقتني ،كطبيعة وروح ،وأن
«كال التجليتني مها معابد اهلل» ،التي متتلئ باحلضور اإلهلي .اهلدف من فلسفة الطبيعة هو حتقيق حترير
الطبيعة من خالل اكتشاف وجود العقل والروح فيها« .احلجارة نفسها ترصخ وترفع نفسها إىل
الروح» .جيب حترير الطبيعة من عبوديتها إىل اخلارج ،من ميلها نحو التفرد (أو العزلة) والفوىض
(الروح يف الطبيعة هي «إله غري مقيد وغري مرا ٍع لنفسه») .إن االنسحاب اخلارجي املتفتت للقوى
املوحد للروح .انظر موسوعة العلوم الفلسفية 246 ،ــ 8اإلضافات الطبيعية يقاومه السحب الداخيل ّ
(فلسفة هيغل للطبيعة ،ميلر ،مطبعة كالرندن :أوكسفورد 14 ،13 ،1970( ،ــ 18 ،16ــ .)19ال توجد
هذه التلميحات إىل روحانية الطبيعة يف نص املوسوعة ،ولكن يف إضافات من مالحظات حمارضات
الطالب .ألول مرة يتم نرش نسخ من حمارضات املوسوعة حول فلسفة الطبيعة.
هيقفلا قداصلا .د 288
الطبيعة البشرية:
يحتوي تعبير «الطبيعة البشرية» على غموض ،إذ يمكن أن ُيشير إلى ما هو ضروري،
وأكثر أهمية عن اإلنسانية ،أو يمكن أن ُيشير إلى أن البشر ينتمون إلى الطبيعة ،وأن
وجودهم محدود وطبيعي ،وأنهم هم «إنسانية طبيعية» .وفيما يتعلق باألخيرة ،فإن
أسئلة هيغل المركزية هي ما إذا كانت هذه اإلنسانية الطبيعية جيدة ،أو شريرة ،وكيف
يرفع البشر أنفسهم من حالة طبيعية إلى حالة روحية .وتختلف طريقة معالجته لهذه
ال من عام آلخر .ففي مخطوطة عام ،1821ينصب التركيز األسئلة بشكل مختلف قلي ً
على حقيقة أن اإلنسانية الطبيعية هي «تناقض لم يتم حله داخلي ًا» 50.إذا البشر هم
روح ،وإذا كانت الروح هي في األساس شيء يتوسط مع نفسه ،فعندئذ ال يمكن
للبشر أن يظلوا في حالة فورية طبيعية ،فـ«اإلنسانية الطبيعية ال توجد بالشكل ،الذي
يجب أن تكون عليه» 51.في حالة الطبيعة ،يتم تحديدها من خالل تفرد وجودها؛
إنها كائن راغب في الوجود ،ولكن ليس راغب ًا بعد في التفكير .وهكذا ،فإن اإلنسان
الطبيعي ال يتحرر داخل نفسه مقابل نفسه والطبيعة الخارجية 52.إنه اإلنسان؛ الممزق
بين الرغبة ،والوحشية ،والبحث عن الذات ،والتبعية ،والخوف .ويستمر هيغل هنا
بتصوير الشعوب البدائية المستمدة من حسابات السفر ،وموضوعها هو أن «دعوة
الروح ال تكمن في اتجاه هذه الطبيعة والبراءة ،وهو ما يتعارض مع مفهومها» 53،إذ
تكمن حالة البراءة قبل التمييز بين «الخير» و«الشر» ،وفي هذه الحالة ليس البشر بعد
54
بشر ًا بالفعل.
.55دايل ،إريك مايكل وماكالشالن تورسني ،حمرران« ،هيغل« ،الرش» ،وهناية التاريخ .يف التاريخ
واحلكم» ،مؤمتر الزمالء الزائرين ،فيينا :املجلد .2006 ،21
ِ ِ
.56ختتلف معاين «الثيوديسيا» عىل وفق مقتضيات استعامهلا ،فهي تارة نظرية ال َعدال ُة اإلهل َّية ،أو ع ْل ُم ت َْبير
اإلهل َّية ،وتعترب فرع ًا حمدد ًا من الثيولوجيا والفلسفة هيتم بحل مشكلة اإلهلية ،أو إ ْثبات العدا َل ِة ِ
العدا َل ِة ِ
َ َّ َ
«الرش» .ويعني تربير اهلل؛ لإلجابة عىل سؤال ملاذا يسمح اﷲ «اخلري» بمظهر «الرش» ،وبالتايل ،حل
مشكلة «الرش».
.57ويركي ،)1 :35( ،وفيام خيص مفهوم إنجلز بأن هيغل «شعر بأنه مضطر إلهناء «العملية التارخيية»،
انظر كتاب إنجلز «لودفيج فيورباخ وهناية الفلسفة األملانية الكالسيكية » ،ويرك 267 :21وما يليها.
ماركس ،الغريب ،ال إىل هذا االستنتاج من فكر هيغل (ماركس واثق متاما التاريخ كان يسري يف ختطي
هيغل كحركة احلرية) ،عىل الرغم من أنه من املهم لتفسري إنجلز من مكان هيغل يف الفكر األملاين.
.58هيغل ،املحارضات( :ويركي .)12:28
ً ً
.59نسبة للقديس أغسطينوس ،الذي كان كاتبا وفيلسوفا من أصل نوميدي ــ التيني ولد يف طاغاست.
يعد أحد أهم الشخصيات املؤثرة يف املسيحية الغربية .تعدّ ه الكنيستان الكاثوليكية واألنغليكانية قديسا
وأحد آباء الكنيسة البارزين وشفيع املسلك الرهباين األوغسطيني.
« .60الرش» أكرب من هذا بالنسبة هليغل بالطبع .يتم رشحه بشكل أسايس من حيث املعرفة واالغرتاب يف
فلسفة الدين (VPRا 33ـ ،)228عىل سبيل املثال .لكن تأكيد هيغل عىل الواقعية التارخيية الواقعية
يف حمارضات التاريخ يقوده بعيد ًا عن التفسريات األكثر جتريد ًا.
هيقفلا قداصلا .د 290
الملموس 61».إنه ال يهتم بالتعريفات الميتافيزيقية لـ «الشر» ،بل يهتم بأنواع
األشياء التي يعتبرها الناس شريرة في حياتهم اليومية .في الوقت نفسه ،يعتقد أن
هذه االحتماالت تجعل من الصعب تصور «الشر» البشري على أنه أي شيء آخر
غير الصدفة الجذرية في جميع جوانب الحياة ،ويتم حسابها فيما يسميه «السيادة
المطلقة للعقل 62،والحقيقة أن خسائر التاريخ يتم تعويضها في التاريخ ،وعبر
التاريخ.
إن تفسير «الشر» بهذه الطريقة هو بالطبع النطاق التقليدي للثيوديسي .من
الناحية الفلسفية ،إذ عاد ًة ما تقف الثيودسيات في النقطة النهائية؛ في مواجهة
كارثة ،أو مناسبة بالغة األهمية ،وتنشأ بسبب النظرة اإليمانية التقليدية للعناية
اإللهية ،التي نوقشت سابق ًا .أي أنهم ينظرون إلى الوراء ،ويسعون جاهدين من
أجل القيمة التفسيرية في مواجهة ما يعتبر «الخير» األساسي للعالم 63.بالنظر
إلى هذا ،فإن تقديم هيغل لفلسفته للتاريخ على أنها ثيودسي يشير بالتأكيد إلى
أنه يشعر أنها نوع من الذروة الالهوتية ،أو اكتمال التاريخ ،على األقل ،وإن لم
تكن «خاتمة» نهائية للتاريخ في حد ذاتها .فالتمييز بين «النهاية» و«التتويج»
ربما تكون صغيرة ،لكنها مهمة ،إذ ال توجد نهاية في الالهوت الجوهري.
ووصف هيغل في محاضراته بأنها ثيودسي هو محاولة ثابتة من جانبه للحفاظ
على الهوته الجوهري ،حيث يصل اﷲ والعالم إلى الشبع مع بعضهما البعض
وداخل بعضهما البعض ،أو كما يخبرنا بأن «اﷲ بدون العالم ليس اﷲ 64».وبما
.61ضمن هذا املنظور اهليغيل الواسع يصبح للرش معنى وال يعود شيئ ًا عبثي ًا ،أو اعتباطي ًا ،أو شاذ ًا .وإنام
يصبح شيئ ًا رضوري ًا لتحقيق التقدم يف التاريخ .هذه هي فلسفة التاريخ العريضة هليغل ،وهي فلسفة
جديرة بالتمعن واالهتامم ألهنا تنطبق عىل الواقع العريب واإلسالمي اليوم إذا ما أحسنا فهمها وتطبيقها
.)VG) 48
.62إذا كان العقل حيكم العامل ويتجسد يف التاريخ إال أن املظهر السطحي للتاريخ يوحي لنا بأنه فوىض،
أو جنون ،أو عنف أعمى ال غاية له وال عقالنية .ولذا فينبغي علينا أن نفرق بني التاريخ العميق ،أو
احلقيقي ،والتاريخ الظاهري السطحي .و«الرش» يف نظر هيغل ليس كله رش ًا .فلواله ملا اكتشف الناس،
الذين يصنعون التاريخ معنى «اخلري» .)VG) 49
.63هيغل و«الرش» وهناية التاريخ» ،مؤمتر مايكل ــ ديل ،iwmاملجلد 9 ،20نوفمرب ،2009ص .5
.64بالنسبة هليغل فإن اﷲ خالق التاريخ الكوين ،أو تاريخ العامل ، ،ال هيتم باألشخاص الفرديني ،بل هيتم
291 لغيه تارضاحم يف ةءارق :رشلا ةلكشم
أن «الشر» هو مشكلة تاريخية لهيغل ،فال بد أنه مشكلة إلهية أيض ًا .ومع ذلك،
فإن فريدريش نيتشه ،الذي يعارض هذا الفهم ،هو ببساطة مخطئ عندما يتهم إله
هيغل بأنه خلقه التاريخ ،ألن القصة أكثر تعقيد ًا من ذلك بكثير .تتطلب فلسفة
هيغل نظرة إلى اﷲ يمكنها أن تتبنى ك ً
ال من الموقف الطبيعي؛ أي أن «العالم
مكتف ذاتي ًا» ،والموقف التوحيدي؛ وهو أن «العالم كما صممه اﷲ» .ويجمع
هيغل بين هذه في نظرته الجوهرية عن اﷲ ،حيث ،كما قال تشارلز تيلور« :فكرة
هيغل هي إذن عن إله يخلق إلى األبد الشروط لوجوده 65.أيا كان هذا ،فإنه ليس
من تاريخ نيتشه اهتمام مقدر باأللوهية 66.ومن ناحية أخرى ،إذا كان هيغل
سيحافظ على وجهة نظر اﷲ في التاريخ ،وفي الوقت نفسه يصر على أن «الشر»
مشكلة تاريخية ،فسيتعين عليه التوفيق بين أفكار «الشر» واﷲ بطريقة ما .نظر ًا
ألن هيغل ملتزم باإلمساك بقرني المعضلة الثيودية؛ أي الحماسة الكلية والقدرة
المطلقة ،على الرغم من تعارض تأريخهما بشكل جذري بطريقة هيغلية فريدة،
يبدو أنه من المستحيل بالنسبة له الهروب من المفارقة الثيودية لإلله ،الذي يعمل
بالفعل بطرق غامضة ،لكنه يترك بعيد ًا عنه الكثير من الجثث ،ما يجعل النظر إليه
كوحش منتقم منخلقه.
إن الصراحة تلزمنا باالعتقاد بأن هيغل ال يستطيع الهرب من هذه المفارقة،
التي تجعلنا نسائل أنفسنا :لماذا نتناول هذا األمر؟ وهل بتناوله ندافع عن هيغل
ضد التفسيرات الخاطئة لفلسفته للتاريخ فقط ،ونتجاهل الهدف ذاته من ذلك
التاريخ ،وهو مصالحة اﷲ مع التاريخ؟ ال نتمنى أن نجيب عن هذين السؤالين،
خاصة إذا قارنا ثيودية هيغل مع افتقاره إلى وضع حد للتاريخ لإلشارة إلى توتر
أساسي في فكره .هذا التوتر بين الصدفة والعزم :أي التوتر بين رغبته المعلنة في
بالفرد الكوين ،أي بالشعب ككل ،وبروح هذا الشعب .وهذا ما يمكن أن ندعوه اآلن بخصوصية
الشعب األملاين ،أو الفرنيس ،أو العريب اإلسالمي (ويرك .)192 :16
.65تشارلز تايلور« ،هيغل واملجتمع احلديث» ،مطبعة جامعة كيمربدج ،1979 ،ص .39
.66كام أنه ليس تأريخ ويليام ديزموند اإلهلي ،عىل الرغم من أن ديزموند حمق يف اإلشارة إىل أن الكشف
عن الذات عن اﷲ يف/باعتباره التاريخ خيلق مشاكل خطرية بالنسبة إىل اعتبار هيغل للرش (:2003
143ــ .)5
هيقفلا قداصلا .د 292
التغلب على الطوارئ بأي ثمن 67،وحزمه على القيادة إلبقاء نظامه مفتوح ًا في
المكان نفسه ،الذي يتوقع المرء أن يغلق فيه .وقد يكون نيتشه على حق ،بطريقة
ما ،في الزعم بأنه يجب على هيغل إنهاء التاريخ ،لكنه فشل في ذلك .ويعرف
هيغل أن نظامه يجب أن يكون بمثابة ذروة إذا كان له أن يكون كما يتصور أن
يكون ،لكنه في نفس الوقت يصر على أن الفلسفة ال يمكن أن تكون في مجال
التنبؤ بالمستقبل ،وأن هناك اتجاهات ومعاني تدور للخروج إلى المستقبل
وتخريب جميع محاوالت اإلغالق .وإذا كانت فلسفة الوساطة الكاملة لها
حدودها ،فإن هيغل ال يستطيع أن يعلن أن التاريخ قد انتهى .هذا ما قصده
68
دريدا عندما قال إن «هيغل هو أيض ًا مفكر في اختالف غير قابل لالختزال؟»
فلسفة هيغل التأملية ،حيث يتم تقييد جميع األطراف السائبة ،ويتم تعيين جميع
الشرور بشكل صحيح في تأدية الروح المطلقة ،هي أيض ًا ديالكتيكية الفلسفة،
التي تتطور فقط عندما يكون هناك نزاع وجدل ،وال يمكن التغلب على التوتر
بين التكهنات والجدلية في فلسفة هيغل ،ألنه سوف ينظر إلى هذا على أنه عيب؛
فيما يعتبره غيره قوة.
بيد أنه ،ونظر ًا ألن هيغل أعطى العناية اإللهية صفة دنيوية تمام ًا ،فال يمكن
أن يكون الحساب النهائي لعمل العناية اإللهية خارج التاريخ نفسه .وذلك ،ألن
التاريخ يمكن وسيستمر ،ليس فقط عبر األحداث ،ولكن بتطور وتقدم الحرية في
أشكال ملموسة ،رغم أنه ال يمكن إجراء مثل هذا الحساب .وبالتالي ،ال يمكن
حساب «الشر» إال مؤقت ًا ،وعلى كل حال ،ومثل ما يبدو أن هيغل يريد التلميح
.67يف رأي هيغل كان التاريخ عقالني ًا وسيبقى عىل الرغم من كل املظاهر اخلادعة التي تقول العكس.
والتاريخ ال يمكن أن يفهمه إال عقل الفيلسوف .كان هيغل يقول باحلرف الواحد :ينبغي أن ننظر
إىل التاريخ بعني العقل ،التي هي وحدها القادرة عىل اخرتاق السطح املربقش لألحداث اليومية.
فالتاريخ ،طبق َا لتصورات هيغل ،يسري باجتاه هدف معني يدعوه فلسفي ًا بالفكرة العليا ،أو الروح
املطلقة :أي الوعي بالذات ،هذا الوعي ،الذي جيعل اإلنسان حر ًا .التاريخ يميش يف اجتاه املزيد من
العقالنية ،واألخالق ،واحلرية .هذا هو هدف التاريخ النهائي واألخري .إنه هيدف إىل حتقيق السعادة
للبرش عىل هذه األرض ،وكذلك حتقيق التقدم املادي واملعنوي؛ عىل سبيل املثال .)VG) 29
.68جاك دريدا« ،علم النحو» ،باريس :مطبعة املساء :1967 ،ص .41
293 لغيه تارضاحم يف ةءارق :رشلا ةلكشم
به ،فإن هذا هو ما نعنيه عندما ندعو إلى فهم محلي ،أو ثيودوسي محدود ،الذي
هو ،في الحقيقة ،قلب كل الثيودسيين .ونستطيع أن نجزم أن ال عالقة لمثل
هذه النظريات مطلق ًا بالمشروع الميتافيزيقي المتمثل في إعطاء «الشر» مكانه
الضروري بمعنى الكلمة ،كما كان ،بل باألحرى العمل على وضع «الشر» ضمن
السياق اإلنساني ،والمحدود ،الذي َو َّلدَ ُه .إذ يتجنب الثيودسي المحدود كل
ادعاءات االكتمال الميتافيزيقي ،ألن الثيودسيين بجميع أشكالهم؛ وهيغل على
رأسهم وبينهم في هذا الصدد ،يجعلون معنى «الشر» ،إما من خالل تفسيره على
أنه ضروري رغم أنه بغيض ،أو تفسيره من خالل مناشدة الغموض فيه ،ولكن
ليس الغموض بأي معنى حقيقي ،بالطبع؛ اإلله ،الكون ،العناية اإللهية ،أو أي
شيء يتحكم في الواقع يعرف في النهاية أسباب «الشر» .وبالتالي ،فهو مسؤول
في النهاية عن «الشر» في العالم؛ من حيث القدرة المطلقة ،والمعرفة السابقة،
والسببية ،التي ال يمكن الفصل بينها بسهولة .وال يقول الثيودسي المحدود إن
«هناك خير أعظم ُيخدم» ،أو «ال نستطيع أن نعرف لماذا ،لكن اﷲ يعلم» ،أو حتى
«هناك سبب وسنفهمه يوم ًا ما ».إنه ال ينظر إلى الوراء ،لكنه يعلم أنه في الواقع
ليس مبرر ًا على اإلطالق .والثيودسي المحدود يلغي «الشر» لصالح المحاسبة.
إن أكمل تجربة للثيوديسي تدعي أن اﷲ موجود في «الشر» واأللم ،لكن ليس
هذا تبرير له .إن مثل هذا الفهم من شأنه أن يغير بشكل جذري شروط المناقشة
عندما يتعلق األمر بالثيوديسي ،الذي يمثله فيلسوف بقامة هيغل ،الذي يؤكد،
في محاضرات عام ،1824على أن «الطبيعة» الحقيقية للبشرية هي التخلي عن
69
إلحاحها ،والتخلي عن حالتها الطبيعية.
فهل يعني هذا ،كما يقال غالب ًا ،أن «البشر شر بطبيعتهم»؟ ولكن أال يمكن أن
يقال بالقدر نفسه أن «البشر صالحون بطبيعتهم»؟ ألن الطبيعة الحقيقية للبشرية هي
أن تكون عقالنية وروحية ،وأن تكون على صورة اﷲ ،وهذا أمر جيد بالتأكيد .لكن
المشكلة هي أنه في حالة الطبيعة يكون البشر عقالنيين وروحيين بشكل ضمني
.70إن هناك ديانات احتفظت بخصائص ديانات أخرى وهناك ديانات طورت من خصائص ديانات كام
هو احلال بني الديانتني املرصية والسورية بعد أن أخذت الفلسفة البدائية مأخذها من بعض الديانات
وفعلت األساطري األولية فعلها يف رسم مشاهد «الرش» واإلنتقام والغاية والوسيلة.
.71هيغل ،املحارضات 295 :3( :ــ .)300
.72املصدر السابق( ،ص .)149
295 لغيه تارضاحم يف ةءارق :رشلا ةلكشم
االنزالق إلى حالة البراءة ،في حين أن العيش وفق ًا للروح هو تقدم في المسؤولية،
أو طريق القطيعة .فقط مع مثل هذا التقدم ،يصبح «الخير» و«الشر» بالمعنى الدقيق
ممكن ًا .و«من الخطأ التساؤل عما إذا كانت اإلنسانية جيدة فقط بطبيعتها ،أم أنها
فقط شريرة .وبالقدر نفسه ،من السطحي أن نقول إن اإلنسانية هي «الخير» و«الشر»
على حد سواء ،وال يمكن للبشر أن يظلوا في حالة الطبيعة دون الوقوع في «الشر»
الطبيعي ،الذي يأخذ شكل األنانية والصراع من أجل البقاء .ولكن في الخروج من
الطبيعة من خالل الوعي واإلدراك ،يقعون في «الشر» الروحي عن طريق تحويل
االنقسام إلى اغتراب .إنهم يدركون صالحهم ،في نمط من القطيعة والتجزئة ،وأن
المعضلة هي أننا نحن البشر طبيعيون وروحيون ،ومحدودون ،وال نهائيون .في هذه
الحالة المنقسمة ،يبدو أن «الشر» ال مفر منه :فهو ،كما كان ،وراءنا «في الطبيعة»
وأمامنا «في الغطرسة».
ال يحصر هيغل ،بأي حال من األحوال ،قصة خلق البشر في الفصلين األول
والثاني من سفر التكوين ،على الرغم من أنه يتحول إلى الفصل الثالث ،كما رأينا
وسنرى ،عندما يكون اهتمامه هو تفسير السقوط في الخطيئة و«الشر»؛ فيما يتعلق
بما يسمى بـ«الخطيئة األصلية» ،التي نشأ فيها البشر ،إذ يالحظ هيغل أنها تنطوي
على أسطورة وضعها كـ«حالة أصلية» ،أو جوهرية 73.إنه يشك في الحجج الفلسفية،
التي تصور هذه الحالة على أنها واحدة من «أعلى كمال روحي ،لإلنسان في وحدة
مع الطبيعة ،وبالتالي ،كذكاء ال يتزعزع في المطلق ،الذي ال يبتعد به عن الطبيعة
إلى نفسه عن طريق التفكير» .إنه يضع هنا في اعتباره عمل فريدريش شليغل ،الذي
انجذب إلى الهندوس واألساطير القديمة األخرى ،وفريدريش شيلينغ ،الذي
قبل كحالة تاريخية مثالية من الناحية الفعلية ،وأضاف إلى الكمال عناصر الشعور
والحدس والذكاء قبل االنعكاسي 74.فنسخة هيغل عن حالة اإلنسانية األصلية
قصة السقوط:
يصف الكتاب المقدس االنتقال من حالة البراءة إلى حالة المسؤولية والذنب
بأنه «سقوط» .هذا «سقوط من الفكرة اإللهية ،من صورة اﷲ»؛ 77ولكن من
المفارقات أيض ًا أنه صعود إلى الفكرة اإللهية وصورة اﷲ .من خالل األكل من
شجرة معرفة «الخير» و«الشر» ،يصبح آدم وحواء «مثل اﷲ» ،لكنهما يفقدان أيض ًا
خلودهما ويخضعان للموت مثل جميع المخلوقات األخرى .وفي مخطوطة عام
،1821يؤكد هيغل على «التناقضات» في هذه القصة 78.فإذا كانت معرفة «الخير»
و«الشر» تشكل «روح ًا» ،فلماذا يمنع اﷲ آدم من األكل من شجرة واحدة ترفع
البشر إلى شبه آلهة؟ لماذا يجب اعتبار المعرفة على أنها «إغراء» عندما يؤكد اﷲ
أن المعرفة هي اإلله في اإلنسانية؟ هل ُينظر إلى الموت كعقاب على الخطيئة،
أم كشرط طبيعي للنهاية؟ إن التناقضات تعكس الغموض الموجود في الوعي
والمعرفة؛ ذلك الغموض ،الذي ال يستطيع سوى التفكير المتضارب فهمه .إن
النظر بالبصيرة العميقة لهذه القصة تنبؤنا بأن التاريخ األبدي للبشرية هو ،الذي
100 :3 .75ن 106 .ــ يف مقابل قبول روسو خلري الطبيعة البرشية ،أكد كانط وجود «الرش» الراديكايل
يف اإلنسانية ،عىل الرغم من أنه يعتقد أن نواة «اخلري» األصلية يمكن أن تستيقظ من خالل االلتزام
بالقانون األخالقي .وحول اإلشارة املحتملة هنا إىل تعريف فريدريش شاليرماخر للدين عىل أنه
«شعور باالعتامد» ،انظر 93 :3ن.93 .
100 :3 .76ن 107 .ــ ُعرف نظام التعليم هذا باسم «العمل «اخلريي» .انتقد هيغل هلا تأثر بفريدريك
إيامنويل نيتهامر.
.77هيغل ،املحارضات.)101 :3( :
.78هيغل ،املحارضات 104 :3( :ــ .)7
297 لغيه تارضاحم يف ةءارق :رشلا ةلكشم
يكون الوعي واردا فيه 79.ويالحظ هيغل أن القصة لم تُذكر مرة أخرى في الكتاب
المقدس العبري ،وأن المسيحيين هم ،الذين طوروا العالقة بين آدم األول والثاني.
ويمثل آدم الثاني ،المسيح ،شبيه اﷲ ،الذي يجب استعادته ،في حين أن هذا الوعد،
«الجانب الالمتناهي من المعرفة»« ،نائم» في الشعب اليهودي 80.إن انشغال هيغل
بالقصة جدير بالمالحظة ،وهو يمثل أكثر أعماله التفسيرية المكتوبة استدامة.
وتضيف محاضرات عامي 1824و ،1827القليل إلى التفسير الوارد في المخطوطة،
إذ يالحظ هيغل ،في عام ،1824أن عقوبة العصيان هي العمل ،واالضطرار للعمل من
أجل لقمة العيش ،ولكن مثل هذا العمل هو في الوقت نفسه طابع الطبيعة الروحية
العليا للبشرية 81.تُخرج البشرية من الجنة إلى التاريخ ،ومن خالل التاريخ تتقدم الروح
إلى مرحلة البلوغ؛ وبدون االنضباط والعقاب ،كان الجنس البشري سيظل في سن
الطفولة .وتضيف محاضرات عام ،1827أن الفكرة الخاطئة لالنتقال البيولوجي
82
للخطيئة تنتج من النظر إلى البشرية على أنها تمثل حرفي ًا نسخة من أول إنسان.
وبالكاد يجد هيغل الجرأة على أنه من الضروري اإلشارة إلى أن القصة يجب أن تُقرأ
كخرافة ،وليس تاريخ ًا.
المعرفة والشر:
تشير قصة السقوط إلى نظرة مأساوية للطبيعة البشرية؛ إذ إن شرط إمكانية
«الخير» يشمل أيض ًا إمكانية «الشر» 83.ومن أجل الخروج من الحالة الطبيعية
بدال من «احلقيقة» بني قوسني بعد «اهلدف» ،وتُرتجم .206 :3 .87تُدرج النسخة اإلنجليزية «الواقع» ً
«بيرتاشتونغ» عىل أهنا «عقالنية» .انظر البديل إىل اجلملتني األخريتني اللتني أرسلهام هوثو (206 :3
ن ،)115.حيث يصور االنفصال عىل أنه «الكأس املسموم ،الذي يرشب منه املوت واملضمون» .إن
املقارنة ضمنية مع الكأس التي متنح احلياة والتي تأيت باخلالص.
.88املصدر السابق( ،ص .)153
.89هيغل ،املحارضات 301 :3( :ــ .)10
هيقفلا قداصلا .د 300
90
«الشر» ،ألنه أيض ًا مقعد «الخير» .فالمعرفة تجلب معرفة «الخير» و«الشر»،
ما نتعرف عليه ليس أننا قد تجاوزنا هذه الوصية ،أو تلك ،ولكننا َب َش ٌر شريرون
وجوهريون بقدر ما نفترض االنقسامات فيما بيننا ،بين البشر والعالم ،وبين البشر
واﷲ .نحن موجودون في حالة تمزق ،أو نقيض ،تجاه كل من اﷲ والعالم 91.ويشرح
هيغل هذه النقطة األخيرة بطريقة غير موجودة في المحاضرات السابقة 92.ويقول
إننا في مواجهة اﷲ ،نختبر معاناة ال نهائية ،معاناة االنفصال عن اﷲ ،والذوبان في
أنفسنا ،وفقدان «الخير» .كان هذا هو الشرط الديني لليهودية في أواخر العصور
القديمة ،التي تفترض إمكانية الكرب الالمحدود اإليمان بإله واحد كإله نقي
وروحي ،تكون أحكامه مؤكدة وعادلة .وفي مواجهة العالم ،نشعر بالتعاسة،
والوعي بأننا لسنا راضين عن العالم ،وال يمكن أن نجد في العالم أساس ًا نهائي ًا،
وغرض ًا من الحياة .وبالتالي ،يتم دفعنا إلى أنفسنا ،بحث ًا عن السعادة في الوئام
الداخلي .وكان هذا هو الوضع ،الذي وصل فيه العالم الروماني في بداية العصر
المشترك ،حيث ظهر في شكل من الرواقية والتشكك 93.فكل من هذه الحاالت؛
الكرب والضيق ،هي من جانب واحد بشكل تجريدي :فمن ناحية ،يوجد نقيض
غير قابل للكسر بين الالنهائي والمحدود؛ ومن ناحية أخرى ،ذوبان اليأس إلى
الذات عن طريق الفرار من العالم .لقد صقل مفهوم األديان السابقة نفسه في هذا
التناقض؛ وأن التناقض قد كشف وقدم نفسه على أنه حاجة موجودة بالفعل يتم
التعبير عنها بالكلمات« ،عندما حان الوقت بالكامل ،أرسل اﷲ ابنه» .مع هذه
المالحظة ،يتم توفير انتقال إلى موضوع الخالص ،ودليل على ظهور المسيح
الضروري في زمان ومكان معينين 94.ولكن ،في الواقع ،فإن الكرب والتعاسة
هما عالمات دائمة وكونية لالغتراب الديني ،وتسليم هيغل بهما هو تطبيق خاص
على زمانه ومكانه .ويظهر الكرب اليهودي في العالم الحديث على شكل تقوى
بروتستانتية ال تعرف شيئ ًا عن اﷲ سوى بعدها عن اﷲ .في حين يظهر عدم الرضا
الروماني في شكل عقالنية التنوير ،التي تقدر قيمة المحدودية ،وتكون عرضة
للعلمانية واإللحاد.
يقال ،أحيان ًا ،إن هيغل يسخر من مشكلة «الشر» من خالل ربطها بالمعرفة بشكل
وثيق للغاية ،وعدم إدراك جوانبها السخيفة وغير العقالنية .فمن وجهة نظر هيغل ،ما
يمنح «الشر» قوته غير العادية هو بالضبط ارتباطه بالمعرفة .إنه تشويه وانحراف لما هو
أعلى في اإلنسانية ،وليس لما هو أدنى .وبالتالي ،له فاعلية تفوق بكثير الدمار الطبيعي،
وكذلك القدرة على خداع الذات ،التي ال يستطيع العقل أن يتغلب عليها ،والمطلوب
هو خالص العقل وليس إزاحته .ومع ذلك ،صحيح أن رأي هيغل ال ينعكس كثير ًا؛
على األقل في فلسفة المحاضرات الدينية ،على تعزيز وتكثيف «الشر» الشخصي في
الهياكل المؤسسية واأليديولوجيات االجتماعية ،وبينما يدرك بعمق الطابع المأساوي
والعنيف للتاريخ البشري ،فإنه ال يتصور نوع «الشر» الراديكالي ،الذي تمثله المحرقة
وغيرها من أشكال اإلبادة الجماعية .وما إذا كانت تجربة «الشر» في القرن العشرين
تستدعي إعادة التفكير بشكل أساس هو أحد األسئلة ،التي ربما كان سيطرحها هيغل
عن طريق ما بعد الحداثة.
الشر الملموس:
يتطلب استكشاف مشكلة «الشر» عند هيغل استخدام منهج التحليل الفلسفي،
الذي اتبعه لمناقشة مفهوم الالهوت المسيحي في محاضراته ،وكتابه عن التاريخ،
وموسوعة الفلسفة ،وغيرهما من دراساته الكثيرة حول القانون والطبيعة وفلسفة
الدين .فقد كان الشغل الشاغل لهيغل هو تفسير ظهور «الشر» في التاريخ ،وتبرير
أفعال الحقد ،التي تسيء بشكل مأساوي إلى سجل األحداث البشرية 95،إذ يشير
.95ديفيد ماكريغور« ،مشكلة «الرش» ،مسودة حمارضة ،مجعية ماركس والفلسفة ،مؤمتر جو مكارين
التذكاري ،يف خمترب املعرفة بلندن 23 ،ــ 29شارع إمريالد ،لندن WC1، 26أكتوبر .2008
هيقفلا قداصلا .د 302
جوزيف مكارني 96إلى استياء هيغل من ثيودوسية اليبنتز ،الذي يدعي أنه من بين جميع
العوالم الممكنة ،اختار اﷲ األفضل .رغم أنه ُيشاركه االعتقاد في جدلية العالقة بين
بمستوى مختلف من الفهم ،إذ يؤكد اليبنتز أن «الشر» ليس
ً «الخير» و«الشر» ،وإن
سوى وسيلة لتحقيق «الخير» ،وأن الشيطان هو الممهد لذلك .لكن هيغل يتساءل:
إذا كان الشيطان هو مجرد وسيلة اﷲ لتحقيق «الخير» ،فلماذا إذن لم يختر وسيلة
أخرى؟ ومن هنا يبدأ هيغل حل مشكلة «الشر» ببرنامج مصالحة ،أو «خالص» ،ال
يعتمد على اإلرادة الشخصية ،بل باألحرى ،على «ثيودسيا وحدة الوجود» ،التي
ترى أن «الخير» قد رسخ نفسه دائم ًا في العالم بدرجة ال يستطيع «الشر» أبد ًا أن
يقف بجانبه على قدم المساواة .وسر هذه المصالحة ،أو هذا «الخالص» ،هو العثور
على اإليجابي في التاريخ ،الذي يتقلص قبله الجانب السلبي إلى لحظة عابرة .و«في
97
مخططه ،يكون العقالني والضروري تعبيرات عن األرضية األنطولوجية للكون»،
ويقتضي برنامج هيغل التعامل في الحال مع الجوانب التعسفية والطارئة لـ«الشر»
عن طريق إزالة عامل اإلرادة البشرية ،وكذلك االضطرار لشرح التصرفات الغامضة
لإلله .فقد انتقد معارضو هيغل فكرة المصالحة «الخالص» على أنها استجابة
غير كافية لمشكلة «الشر»؛ فبدالً من أخذ «الشر» بجدية ،ينكر هيغل وجود مأساة
98
إنسانية ،ويستبدلها بـ«الكوميديا الغائية للهدف النهائي للعالم وتأكيد الفكرة».
الم ْر ِضي لحل
في حين أن حنا أرندت ،على سبيل المثال ،تحدثت عن الطابع غير ُ
هيغل لمشكلة «الشر» ،في كتابها «أيخمان في القدس» .ومن خالل لوم التاريخ
نفسه ،تالحظ سوزان نيمان فيما يتعلق بحجة أرنت ،أن هيغل قد أعفى البشر من
المسؤولية األخالقية .فـ«إذا كان التاريخ مجرد حدث معاد للسامية تلو اآلخر ،ألم
99
يكن {أيخمان} حتى ترس ًا أصغر في آلة أكبر مما ادعى هو نفسه؟».
.96جوزيف ماكارين« ،الرش» يف «الفكر احلديث :تاريخ بديل للفلسفة» ،أوكسفورد ،ومطبعة جامعة
برينستون ،عام ،2002ص .93
.97مكارين ،املرجع السابق( ،ص .)197
.98مكارين ،املرجع السابق( ،ص .)199
.99سوزان نيامن»« ،الرش» يف الفكر املعارص تاريخ بديل للفلسفة» ،كالسيكيات برينستون ،مطبعة جامعة
برينستون 25 ،أغسطس ،2015ص .261
303 لغيه تارضاحم يف ةءارق :رشلا ةلكشم
ومع ذلك ،وكما يقر مكارني ،فإن قلة من الكتاب تحدثوا ببالغة ،أو بحساسية
أكثر من هيغل عن وجود «الشر» في التاريخ .عالوة على ذلك ،من خالل مفهومه
عن الثالوث اإلله ،الذي مات في تقدير نيتشه ،ينأى هيغل بنفسه عن الالهوت
المسيحي القياسي باإلصرار على وصمة «الشر» حتى داخل الثالوث .وال يوجد
مكان في فكر هيغل ألي تصور للحياة اآلخرة قد يخفف من عواقب «الشر».
بدالً من ذلك ،بالنسبة لهيغل ،يمكن العثور على مصالحة الروح الالنهائية فقط
في «دورة الوالدة والموت» داخل المجتمع البشري األبدي 100.فقد استغل هيغل
الطابع الديالكتيكي لفكرة الثالوث في الالهوت المسيحي كحل لمشكلة «الشر»؛
فمن ناحية ،تعترف المسيحية بالحقوق الالنهائية للفرد البشري ،وهوية الفرد
االجتماعي مع اﷲ ،وتدعو إلى إلغاء العبودية عالمي ًا ،ومن ناحية أخرى ،تقبل
المسيحية أهمية التعليم والتنمية في التغلب على «الشر» داخل الفرد والمجتمع.
فالحركة النهائية للثالوث (اﷲ) هي اتحاد الحب والمعرفة ،كما هو مضمون في
مفهوم الحرية ،الذي ُيعتبر المفتاح الحقيقي لمعنى التاريخ .ويتم تلخيص هذه
اللحظات في الصراع الشخصي لكل فرد مع «الشر» الداخلي للنفس «األمارة
اها * َقدْ َأ ْف َل َح َم ْن َزك َ
َّاها * اها * َف َأ ْل َه َم َها ُف ُج َ
ور َها َو َت ْق َو َ بالسوء»[،و َن ْف ٍ
س َو َما َس َّو َ َ
َو َقدْ َخ َ
101
اها].
اب َم ْن َد َّس َ
وعلى وفق ذلك ،يشرح ماكريغر ،في مناقشته لقصة جنة عدن والسقوط ،اقتراح
هيغل أن الجهاد البشري داخل أنفسنا أكثر أهمية من عملية الفعل في خلق الفردانية.
لكنه الحظ أن العمل البشري؛ العمل الروحي والجسدي ،الذي تسترشد به المعرفة،
ويجسد المواجهة مع العالم الخارجي هو الوسائل نفسها التي تتم بها هزيمة «الشر»،
وكأني به ُيشير إلى ما ورد في الحديث النبوي في التفريق بين الجهاد األكبر «داخل
أنفسنا» ،والجهاد األصغر المتمثل في «العمل البشري» .والعمل ،الذي يتم بعرق
جبين المرء ،أو العمل الجسدي ،وعمل الروح ،وهو أصعب من االثنين ،يرتبط
مباشرة بمعرفة «الخير» و«الشر» .أن البشرية يجب أن تجعل نفسها على ما هي
مفهوم ًا عن هيغل لم يحظ باهتمام كبير ،وهو مفهوم «الشر الملموس» ،الذي ذكره
هيغل في فلسفة التاريخ 104.إذ أعاد هيغل بناء فكرة اليبنتز عن «الشر» الميتافيزيقي،
في الجانب الكوني للحياة الروحية ،وأطلق عليها اسم «الشر الملموس» .على الرغم
من أن هذا «الشر الملموس» هو نفسه مكون من عوارض مفاجئة وحوادث طارئة ،إال
أنه جانب عالمي للحياة البشرية ،ووظيفة ثابتة في كشف التاريخ البشري .وبالنسبة
لهيغل .فـ«الشر الملموس» ،بهذا الفهم ،هو ظاهرة اجتماعية وتاريخية ترتبط ارتباط ًا
وثيق ًا بتقدم الروح البشرية في التاريخ ،ودور الفلسفة هو المساعدة في فهم «كل العلل
.102أنظر سوزان نيامن»« ،الرش» يف الفكر املعارص تاريخ بديل للفلسفة» ،ص 86ــ .96
.103بيرت يس هودجسون ،حمرر« ،حمارضات يف فلسفة الدين» ،حمارضات عام ،1827طبعة من جملد
واحد ،مطبعة جامعة كاليفورنيا.1988 ،
.104ناقش ديفيد ماكغريغورً ،
أوال ،مفهوم «الرش امللموس» يف «السياسة العميقة يف 11سبتمرب :االقتصاد
السيايس للرش اخلرساين» ،يف مواجهة 9ــ ،11إيديولوجيات العرق ،مع االقتصادي البارز بول
زارمبكا« ،البحث يف االقتصاد السيايس» ،املجلد ،20أد ،.حقوق الطبع والنرش لرشكة Elsevier
،Science Ltdعام ،2002ص 3ــ .60
305 لغيه تارضاحم يف ةءارق :رشلا ةلكشم
في العالم ،بما في ذلك وجود «الشر» حتى تتصالح روح التفكير مع الجوانب السلبية
105
للوجود».
وعلى عكس كانط ،ال يهتم هيغل أساس ًا بـ«الشر» كنتيجة للفسوق من جانب األفراد ــ
مجال األخالق ،وال يقول إن «مصائر األمم ،وتشنجات الدول ومصالحها ،ومآزقها
ومشاركاتها هي من نظام مختلف عن األخالق» ،بدالً من ذلك ،فهو مهتم بالقوى
السلبية في تاريخ البشرية ،التي تميز األقليات المهيمنة وتضر ،أو تدمر مجتمعات
بأكملها .كما يقول هيغل ،إن «العواطف والمصالح الخاصة وإشباع الدوافع األنانية
هي القوة األكثر فعالية .ما يجعلهم أقوياء هو أنهم ال يلتفتون ألي من القيود ،التي
تفرضها العدالة ،أو األخالق عليهم ،وأن القوة األساسية للعاطفة لها سيطرة مباشرة
على اإلنسان أكثر من االنضباط المصطنع والمكتسب بجهد من النظام واالعتدال
والعدالة واألخالق» .وبالتالي ،فإن «الشر الملموس» ليس مسألة قوى هيكلية مجهولة
الوجه تعمل تقريب ًا كقوة تشبه «الشر» بفهم اليبنتز الطبيعي ،أي التغلب على مجتمع
معين ،أو مجموعة بشرية .إذ يشير «الشر الملموس» إلى األفعال البشرية المتعمدة التي
تسخر مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في خدمة الحقد .ويذكرنا نيتشه بقوله إننا
ال نعرف ما «الشر» ،وهو بهذا كان يعني أننا نميل إلى تبني مفهوم أحادي البعد لهذا
«الشر»؛ أي مفهوم الحقد كشيء يفعله دائم ًا الجانب اآلخر .وفي الواقع ،فإن مفهوم
«الشر الملموس» الموجود في العالم ينطوي على تكثيف «الشر» ،وظهور «الشر»
وحشده في نقاط مهمة ،أو قفزة ،أو تحول ديالكتيكي يتجلى في حدوث هذا «الشر»،
أو الترتيب االجتماعي الفاسد .وفي أوقات معينة من التاريخ ،يتم إبعاد «الشر» ،على
الرغم من أن العالم مشبع بوجود هذا «الشر».
إن رفض هيغل تخيل نهاية للتاريخ كان يجب أن يكون مصدر إلهام لتفكيره
في «الشر» .ألن هذا «الشر» ،اقتباس ًا من محاضراته ،موجود «بشكل ملموس» في
التاريخ .وال يمكن إجراء محاسبة كاملة لـ«الشر» من الناحية التاريخية حتى نتمكن
من إعادة النظر في التاريخ ،كما كان؛ وهذا ال يمكننا فعله أبد ًا ،أو على األكثر يمكننا
.105نيسبت« ،حمارضات يف فلسفة تاريخ العامل» ،مقدمة :السبب يف التاريخ ،كامربيدج :مطبعة جامعة
كامربيدج ،1975 ،ص .21
هيقفلا قداصلا .د 306
القيام به جزئي ًا فقط .إن نمط المحصل الصفري الذي يتخيله هيغل ليس بسبب عدم
وجود خسائر حقيقية ،لكن ألن الخسائر ضرورية لتطور الروح ،وبهذا يجري إغالق
الباب الذي ال يستطيع هيغل إغالقه .إنه لمن غير المرضي للغاية بالنسبة للكثيرين
أن يتركوا «الشر» في عداد المفقودين بالمعنى النهائي ،تمام ًا كما هو الحال مع ترك
المستقبل مفتوح ًا ،دون سيطرة بعض القوى غير المرئية .ومع ذلك ،تتطلب فلسفة
هيغل أن ُيترك كالهما كأسئلة مفتوحة ،حتى عندما يريد هيغل نفسه إغالقهما .في
النهاية ،تفشل النظريات ليس ألنها تسعى إلى تبرير «الشر»؛ إذ إنه ليس لـ«الشر» تبرير
نهائي ،مثل ما يطلبه هيغل ،ولكن ،بأخذ المصطلح حرفي ًا ،بأنهم يسعون إلى تبرير
وجود اﷲ ــ وهو مثال رئيس لما أسماه هايدجر علم الوجود ،أي السماح للفلسفة
لتقرر متى وأين وكيف يدخلها اإلله .مثل هذا اإلله زائف في حياة الدين؛ كما يقول
يضحي لهذا
ّ هايدجر ،هذا صنم ،والسبب هو ،أنه «ال يستطيع اإلنسان أن يصلي وال
اإلله .فقبل السببية ،ال يمكن لإلنسان أن يسقط على ركبتيه في رهبة ،وال يمكنه عزف
الموسيقى والرقص أمام هذا اإلله» 106.هذا هو اﷲ ،الذي دافع عنه الثيودسيون ،كما
دافع عنه هيغل.
الخالصة:
في الختام ،نقول إن المقال تحاشى التعريفات في المتن ،ولم يبدأ بوضع
شرح لغوي ،أو اصطالحي ،لـ«الشر» ،ولم يقبل ،أو يرفض ،المفاهيم السلبية ،أو
اإليجابية ،المقدمة له كآراء في كل الدراسات ،ألننا أدركنا أن هيغل كان حريص ًا
ومحق ًا في عدم حصره بمعنى ضيق يقيد هذا النظر العميق في أبعاده المختلفة،
وجدلية تواصله وتداخله مع «الخير» واألخالق الميتافيزيقية والمادية ،وصعوده
وهبوطه ما بين السماء واألرض؛ كمتعلق إلهي يصارع الروح ،وكمكون إنساني
ينحط بالمادة إلى الدرك األسفل .فهل «الشر» هو الحرمان ،كما قال به البعض،
الذي ال يمكن الحصول منه على مزيد من التبصر ،وال يمكن إحراز تقدم نحو حل
لمشكلته؟ فقد علمنا أن لهذا ،تعمد هيغل أن يذهب لصالح توصيف بناء ،أكثر
من غيره ،إذ ربط «الشر» بشرط التخلي عن المسؤولية ،أو التحلل من االلتزام
بإمالءات الضمير ،أو إغفال أفعال «الروح الجميلة» .نعم ،إن «الشر» ،بهذا الفهم
ال فشل في االلتزام األخالقي ،وإنكار للمسؤولية ،أو القدرة علىالهيغلي ،هو فع ً
التصرف ،ولكن هيغل أبقى عليه قسر ًا كضرورة لوجود «الخير» .وفي تقديرنا أن
هذا موقف منطقي ومفهوم ،يسعى لتمكين الربط بين رؤية «الشر» على أنه مادة
غير مفهومة ،أي غير عاطفي؛ والنظر إليه على أنه حقيقي وفعال ،وهو واقعي
وعقالني .على الرغم من أن هيغل قد اعتبر «الشر» ،في أحيان كثيرة ،كانحراف
غير عقالني للحقيقة الجوهرية الداخلية للعالم.
بيد أننا نجد أن نظرة هيغل إلى «الشر» ،على الرغم من كل الحجج المنطقية،
وما أحاطه بها من أسوار فلسفية عالية رفيعة تفتقر إلى الكمال ،ربما النشغاله
شر بالمعنى األخالقي ،أكثر
بالتأكيد على أن «الشر الميتافيزيقي» ،باعتبار أنه ّ
من «الشر الملموس» ،الذي حاولت تفسيره والدفاع عنه تيارات مدارس المادية
الجدلية فيما بعد أيض ًا .وقد تناولنا في استعراضنا عاليه إسهام أسماء رئيسة في
هذه التيارات؛ مثل مكارني ،وماكريغر ،وحتى حنا اردنت ،وسوزان نيمان ،الذين
اجتهدوا في تجسيد «الشر» بأمثلة مادية تاريخية شاخصة في الذاكرة اإلنسانية.
ولكن ،مما ُيحمد لهيغل ،في هذا الصدد ،أنه لم يخلط بين الضرورة السببية
والضرورة المنطقية ،ولم ينف ما يمكن أن يكون بينهما من عالئق معينة على
فهم الظواهر ،ومنها ظاهرة «الشر» المادي ،الذي وقفت عنده هذه األصوات
الفكرية اليسارية ،خاصة عندما يقرر أن إنكار ضرورة «الشر» هو إنكار لضرورة
«الخير» ،اعتراف ًا بأن هناك سبب ومنطق لهذه العالقة بين هذين الضدين.
ونحن نعلم أن إسهام هيغل المهم جد ًا في الفلسفة هو مفهومه عن «الديالكتيك»،
الذي وردت اإلشارة إليه في متن وهوامش هذا المقال ،والذي صاغه في نظرية تتخلل
نظام أفكاره .وشهدنا من خالل هذا االستعراض لرؤيته لـ«الشر» ،أن الديالكتيك يأتي
كلما انعكست فكرتان متضاربتان؛ كـ»الخير» و«الشر» ،ويستطيع بقدرة خارقة تمييز
الوحدة ،أو العالقة ،التي تشمل كليهما ،ما يؤدي إلى انتاج اتحاد ُيطلق عليه مصطلح
خاص يعني اإللغاء والحفظ والتجاوز .هذا إذن هو موقع «الديالكتيك» في فكر هيغل،
هيقفلا قداصلا .د 308
الذي يمكننا عن طريقه الوصول إلى معرفة ميتافيزيقية علمية عن الوجود المادي
والمفهوم األخالقي لـ«الشر» ،من خالل مالحظة التناقضات وحركتها الداخلية
الضرورية .ونجده يجادل بأن الفحص المنطقي لألفكار يخبرنا أن أي مفهوم يحتوي
بالضرورة على أضداده داخله ،وتتحرك هذه األضداد وتنتقل إلى داخل بعضها منتجة
حقيقة جديد عكس مكوناتها السابقة ،وذلك هو وحدة االثنين؛ «الخير» و«الشر» ،هذه
هي سيرورة «الديالكتيك» ،وعملية التجاوز هذه حركة ديناميكية ،وصيرورة حياة.
وبهذا المنطق ،يمكننا أن نفهم أنه ،بالنسبة لهيغل ،فإن «الخير» محدد عقالني ًا بالمنطق
الداخلي للعالم ،وهذا أمر منطقي لكل حالة ،أو عملية ،اكتملت بالفعل؛ وأن «الشر»
كباطل ،هو اآلخر منطقي ،كأي منطق عقالني ،وأن هذا الباطل عاجز عند مواجهة
الحقيقة المنطقية ،ولكنها ال تنفيه من الوجود.
دراسات
قضية الشر من أهم القضايا التي الزمت اإلنسان منذ القديم ،فهي الظاهرة
التي حضرت بامتياز في األساطير والفكر الديني القديم واستمرت في الفكر
الديني التوحيدي ،ويبدو أن سؤال الشر ظل سؤاال جوهريا في ظل ما يشهده
العالم المعاصر اليوم من فتن وحروب وتطاحن وتناحر وعنف وعدوانية
وسفك للدماء وقتل وتدمير وتخريب تحت عناوين مختلفة دينية وسياسية
واقتصادية ،ما يشي بأن المنظومة األخالقية قد تهاوت وتفككت وأن اإلنسان
صار يعيش أزمة قيم ألنه أصبح متوحشا وذئبا ألخيه اإلنسان كما صرح بذلك
هوبز.
الشر من حيث مفهومه ومصدره من أوكد الهموم التي لذلك غدا التفكير في ّ
مر العصور بهذهانشغل بها المرء ،فاهتم الفالسفة والمفكرون ورجال الدين على ّ
الشر كما يذهب إلى ذلك ريكور كان تحديا فلسفيا والهوتيا
القضية على اعتبار أن ّ
في اآلن نفسه «فهو تحد للفلسفة ألنه يفرض عليها إعادة البحث في مسألة عقلنة
العالم ،وتحد للثيولوجيا ألنه يشكل مدخال إلعادة النظر في مسألتي العدل اإللهي
والحرية اإلنسانية» .2ثم إن الشر أيضا كان لغزا محيرا ومفهوما عصيا على المحاصرة
.3انظر
Lectures3: Aux frontières de la philosophie, Paul Ricoeur, éditions du seuil, Paris,
1994, p.212.
311 يخللالماح هفصوب ّرشلا
واستقر رأيهم على أن الحياة إنما هي صراع بين هاتين القوتين و«ارتبط الشر في
ذهن المصري بالحياة بعد الموت أي البعث ومحاسبة النفس على ما فعلته في
الدنيا».4
وأما في المجتمع البابلي القديم فقد تولدت فكرة الشر من خوف اإلنسان
من المجهول ومن الكوارث الطبيعية ومن اعتقاده بوجود قوى خارقة تتسبب في
أذيته ،لذلك اقتنع «سكان بالد الرافدين بأن الكون مليء بالعفاريت الطيبة والخبيثة
واألخيرة هي أوالد آلهة الشر الذين نحرهم اإلله مردوخ في قصة الخليقة البابلية
والعفاريت الشريرة أكثر عددا من الطيبة فصوروهم كوحوش مخيفة وكائنات
مرعبة» ،5لذلك مارس السحر وقدم القرابين درءا لخطر هذه القوى الشريرة .بل
إن قناعته استقرت على وجود قوى شريرة هي السبب فيما يعرض لإلنسان من
زالزل وفيضانات وأمراض خطيرة وأمور خارجة عن المألوف.
أ ّما في عقيدة الهند فالشر مرادف للهدم والفساد ومكمنه األول المادة وال
خالص منه إال بالخالص من الجسد .والشر في نظرهم تمثله (الراكشا) وهي
العفاريت الخبيثة والعابثة ،وتمثله الحية (آهي) التي قتلها اإلله (أندرا) والربة
الهندية(سبيتاال) التي غضب عليها اإلله (كيالسا) وأخرجها من الجنة وتجسده
أيضا (مايا) األنثى الفاتنة التي ترمز إلى العالم المحسوس و(مارا) الرب الذي
أغوى بوذا وقد صورته األساطير الهندوسية كمسؤول عن مباهج الحياة ولذاتها
وعن الفساد .لذلك فال خالص من هذه الروح الشريرة إال «بإفناء الوجود بالقضاء
على شهوات النفس إلى حدّ إماتة إرادتها حتى يصل اإلنسان إلى حالة من الفناء
النرفانا حيث السعادة الكاملة وحيث األمل في اإلفالت من متاعب توالي الوالدات
وتناسخ األرواح» .وأما الزرادشتية فقد قامت على مبدأ الثنوية فكان ّ
6
الشر مصدره
إله الظالم (أهريمان) والخير مصدره إله النور (أهورمزدا).
.4أمال األتريب ،الرش من منظور ديني بني التجريد والتجسيم ،ص ،56ضمن جملة املحجة العدد،14
سنة .2006
.5غيث سليم فرحان وحيدر عقيل عبد ،دور اآلهلة والكهنة يف طرد الشيطان يف العراق القديم ،جملة
الدراسات التارخيية واألركيولوجية ،عدد ،54حزيران ،.2016ص.5.
.6املرجع نفسه ،ص.57.
تباثلا ةرهز .د 312
• •اإلنسان ومشكلة الشر في الفكر الديني التوحيدي
كان مصطلح «الشر» في النصوص الدينية المقدسة عهدا قديما وعهدا جديدا
وقرآنا كريما مفهوما جوهريا ،فقد تواتر ذكره في الكتاب المقدس عديد المرات ،7
وتبدو قضية الخير والشر في اليهودية من أهم القضايا البدئية التي أثيرت في قصة
خلق آدم وحواء إذ األكل من الشجرة المحظورة كان في الحقيقة من أجل معرفة
الخير والشر كاإلله يهوه ،بل إن الشر قد تجسم في صورة الحية/الشيطان التي
لش َج َر ِة
ف َأ َّن ُه ِحي َن ت َْأك َُل ِن ِم ْن َث َم ِر َه ِذ ِه ُا َّ
خاطبت حواء قائلةَ « :ل ْن ت َُموتَا َب ْل إِ َّن اﷲَ َي ْع ِر ُ
لش ِّر» .8ويبدو أن اليهود ان ِم ْث َله َق ِ
اد ِري َن َع َلى ُالت َّْم ِييز ِ َب ْي َن َ
الخ ْي ِر َو ُا َّ َتنْ َفتِح َأ ْعينُكُما َفت َِصير ِ
ُ َ ُ ُ َ
قد «عرفوا فكرة الشر من خالل األقوام المحيطة بهم مثل الكنعانيين والمصريين
والبابليين خاصة أثناء األسر» .9وهم كهذه األقوام المجاورة اعتقدوا في العفاريت
والجن واألرواح الخبيثة رموزا للشر على الرغم من أن اإلله نفسه في تصورهم
حامل للشر.
أما المسيحية فلم ُ
تخل من اعتقاد بالشيطان وجنوده رموزا للشر والخير معا ،إن
تصريحا أو تلميحا حتى سمي الشيطان ب«أبي النور» و«حامل الضياء» و«بعلزبول»
و«أمير الظالم» و«ملك األكاذيب» و«المتهم» و«الشرير» و«إبليس» .10ويذكر
قاموس الكتاب المقدس أن الشيطان «كائن حقيقي أعلى شأنا من اإلنسان ،ورئيس
رتبة من األرواح النجسة ،أما طبيعته فهي روحية تناسب امتيازات الرتبة المنتمي إليها
كاإلدراك والذاكرة والتمييز ،أو حسية كالعواطف والشهوات أو إرادية كاالختيار».11
ويحضر الشيطان بوصفه رمزا للشر حينما يحاول اإليقاع بيسوع الذي يبدي صمودا
في صراعه معه .12ويبدو أن ميزة المسيحية أنها تجاوزت اليهودية في السمو باإلله
عن فعل الشر ،إذ اإليمان باآلب السماوي وابنه «ابن اإلنسان» هو الكفيل بالنجاة من
َج ِر َب ٍة َل ِك ْن ن َِّجنَا ِ ِ التجربة والشرير ،لذلك كانت دعوات المسيح دوماَ :
«ل تُدْ خ ْلنَا في ت ْ
لش ِّر ِير ِلَ َّن َل َك ُا ْل ُم ْل َك َو ُا ْل ُق َّو َة َو ُا ْل َم ْجدَ إِ َلى ُا ْلَ َب ِد».13
ِم َن ُا ِّ
أ ّما في اإلسالم فمصطلح «الشر» تواتر ذكره صريحا أو متصال بمصطلح
16
«الخير» في سبعة مواطن من القرآن الكريم هي سور يونس 14واإلسراء 15والكهف
واألنبياء 17ولقمان 18وفصلت 19والمعارج ،20ويلحظ المتدبر لمعاني هذا المصطلح
لش ِّر َو ُا ْل َخ ْي ِر
[و َن ْب ُلوك ُْم بِ ُا َّ
أن الشر كان ابتالء إلهيا ،فقد جاء في سورة األنبياء قولهَ :
ون] .21فهو على هذا النحو امتحان لإلنسان وأن الشيطان كان أول فِ ْتنَ ًة َوإِ َل ْينَا ت ُْر َج ُع َ
مجسم للشر حين عصى ربه وامتنع عن السجود آلدم ،22فغضب اﷲ عليه وأخرجه
من الجنة ،23لذلك توعد الشيطان أن يزرع بذور الشر في بني آدم مرددا َ
[ل ْق ُعدَ َّن
يم ُث َّم َلتِ َين َُّه ْم ِم ْن َب ْي ِن َأ ْي ِد ِيه ْم َو ِم ْن َخ ْل ِف ِه ْم َو َع ْن َأ ْي َمان ُُه ْم َو َع ْن ِ ِ
َل ُه ْم ص َرا َط َك ُا ْل ُم ْستَق َ
اك ِري َن] ،24وتو ّعد أن يضل اإلنسان ،25وكانت أول َجدْ َأ ْك َثرهم َش ِ َشم ِائ ِل ِهم َو َل ت ِ
َ ُ ْ ْ َ
أعماله الشريرة حين أغوى آدم وحواء باقتراف المحظور والخروج من جنة الخلد.
لكن جعل الشيطان مصدر الشر لم يمنع اإلسالم من تحميل النفس أيضا مسؤولية
[ر َّبنَا َظ َل ْمنَا َأ ْن ُف َسنَا] ،26وقوله:
األفعال الشريرة لذلك تواتر في القرآن الكريم قوله َ
.27يوسف.53:
.28حممد بوهالل ،معضلة الرش ،مدارات فلسفية ،ص.7.
.29شهاب الدين حيي السهروردي ،جمموعة مصنفات اإلرشاق ج ،2تصحيح هنري كوربان ،معهد
العلوم اإلنسانية والدراسات الثقافية ،طهران ،الطبعة الثالثة ،2001اجلزء ،1ص.467.
.30انظر القايض عبد اجلبار ،املغني.
315 يخللالماح هفصوب ّرشلا
بوجود صراع دائم بينهما» .31وتفطن هذا الفيلسوف إلى ثالثة مجاالت للشر
هي :اإلنسان والحكومة والكون ،فمن الشرور التي تصيب اإلنسان األمراض،
ومن شرور الحكومة الحروب ،أما شرور الكون فهي الكوارث الطبيعية .واعتبر
ٍ
مآس ليس إال عقابا أفالطون في كتاب الجمهورية أن ما يلحق اإلنسان من شرور
على المعاصي التي اقترفها 32وأن اآللهة ال دور لها في إلحاق الشرور باإلنسان،
فهو القائل منتقدا أشعار هوميروس الذي نسب الشرور إلى اآللهة« :ال بد أن
نوضح الموضوع بشكل آخر وذلك بأن الذين تعرضوا للشر كانوا منحرفين بحيث
تسببوا بما حل بهم من مآسي ،فقد كانوا مستحقين للعقاب الذي يخلصهم من
معاناتهم» .33
وإلى جانب أفالطون طرق القديس أوغسطين أيضا معضلة الشر ولكنه لم يعرفه
إال بوصفه تابعا للخير فهو القائل« :إن النقص في الخير شر ،فإن تعرض الخير في
الكائن إلى النقصان البد أن تبقى له بقية من كيان ،وبوسع هذه البقية أن تعيده إلى كيانه
األصلي ،ألنه مهما بلغ هذا الكيان من صغر ،فال يسعنا أن ندمر الخير الذي يجعل منه
كائنا ما لم ندمره هو نفسه ..ونخلص بالتالي إلى تلك النتيجة المدهشة :بما أن كل كائن
خير بذاته فإذا قلنا إن الكائن الفاسد كائن شرير ،كأنما نقول إن ما هو خير هو شرير،
وليس من شرير سوى الخير ،والحال أن كل كائن خير وال وجود لما هو شرير ،مادام
الشر ال كيان له بحد ذاته».34
للشر تبعا ألوغسطين و«إن الشر في حد ذاته ال شيء ،فهو بالمطلق
وعليه فال وجود ّ
شيء سلبي وهكذا نرى على الفور أنه من المستحيل أن نفكر في الطبيعة الجوهرية
للشر حيث أنه لم يتم تعريف الشر كشر ،لكن من خالل اإلشارة إلى كينونة أخرى
.31أفالطون ،دور آثار أفالطون ،إيران طهران ،منشورات خوارزمي ،1978 ،ج ،7.ص .2372.نقال عن
حممد فريوزكوهي وعيل أكرب أمحدي أفرجماين ،مسألة الرش عند أفالطون ،جملة االستغراب ،عدد،21
خريف ،2021ص.22.
.32املرجع نفسه ،ج ،4ص.1276.
.33املرجع نفسه ،ص.945.
.34نقال عن هنري إيرينيه مارو ،أوغسطني واألغسطينية ،تر.سعد اﷲ سميح حجا ،دار املرشق ،بريوت،
الطبعة األوىل ،2007 ،ص.74.
تباثلا ةرهز .د 316
مختلفة عنه» .35وينزه أوغسطين اﷲ عن فعل الشر معتبرا أن ما يقترفه اإلنسان من رذيلة
إنما مرده إرادته الحرة ألن «اﷲ ثابت ال يتغير وال يفسد» 36كما يقول أوغسطين ،وألن
«الطبائع التي أفسدتها الرذيلة الناتجة عن اإلرادة الشريرة ليست شريرة إال لكونها
ضحية لرذيلة بينما هي جيدة بصفتها طبائع».37
واستمر طرح مبحث الشر في الفلسفة الحديثة والمعاصرة فبين اليبنز مثال في
مؤلفه «العدل اإللهي» أن «وجود الشر ال ينفي وجود اﷲ بأي شكل من األشكال ورد
على اعتراضات هيوم مؤكدا أن اﷲ سمح بوجود شر كلي يسبب خيرا أعظم وأن سقوط
آدم كان خطيئة سعيدة ألنها أدت إلى تجسيد اإلله رافعة البشرية إلى مصدر أسمى من
الذي يمكن أن تالقيه لو اختلف األمر» .38أما سبينوزا فقد نفى فكرتي الخير والشر وأقر
«أن اﷲ فوق الخير والشر على السواء من حيث أنهما من تقييم اإلنسان وتلك نظرة
ضيقة محددة لحقيقة ما يجري في الكون» .39ولم يخف موضوع الشر عن الفالسفة
المسلمين فابن سينا مثال اعتبر أن الشر ال حقيقة له فهو القائل« :والشر ال ذات له بل هو
إ ّما عدم جوهر أو عدم صالح لحال الجوهر» ،40أما الغزالي فالشر في نظره دال على
عدم الوجود أو عدم كمال الوجود.
ومثلما كان موضوع الشر في الطرح الفلسفي موضوعا إشكاليا كذلك كان في
أعم هو القبيح الذي يضم إلى جانب
الفكر الكالمي الذي اعتبر الشر فرعا من مفهوم ّ
الشر الظلم والضرر والفساد والعبث ،41وذهب القاضي عبد الجبار إلى أن «الضرر ال
يكون كله قبيحا ومن ثم شرا وإنما يقبح إذا ولد ألما ولما يؤدي إليهما من غير أن يعقب
.35كريستيان نادو ،املفردات واألسلوب ،تر.شادي رياح نرص ،دار النايا ،بريوت ،الطبعة األوىل ،2014
ص.95.
.36أوغسطينوس ،مدينة اهلل ،تر.يوحنا احللو ،دار املرشق ،بريوت ،الطبعة الثانية ،2007مج ،2ص.62.
.37املرجع نفسه ،ص.63.
.38املحجة ،عدد ،14صص 32ــ .33
.39سمية الطيب الطاهر عمران ،مفهوم اخلري والرش يف الفكر اإلنساين عند بعض الفالسفة :دراسة حتليلية
مقارنة ،جملة كلية اآلداب ،عدد ،29اجلزء األول ،يونيو ،2020ص.218.
.40ابن سينا ،الشفاء اإلهليات ،تح.سعيد زايد ،مكتبة آية اﷲ املرعيش ،قم1424 ،هـ ،ص.355.
.41حممد بوهالل ،معضلة الرش ،ص.10.
317 يخللالماح هفصوب ّرشلا
نفعا عليهما أما إذا ولد نفعا مؤجال يضاهيه أو يوفي عليه فإنه يكون خيرا نافعا».42
وأما الجبائي فقد اعتبر أن «األمراض واألسقام ليست بشر في الحقيقة وإنما شر في
المجاز وكذلك كان قوله في جهنم» .43فالشر عند المعتزلة إذن «فعل مخصوص يفعله
المكلف على خالف ما ينبغي له فيكون مهلكا في الدنيا واآلخرة .أما ما عدا ذلك من
مصائب وأضرار تصيب اإلنسان نتيجة األمراض والعوادي الطبيعية فليس شرا إال من
منظور الحواس والزمن الفاني وكالهما ال اعتبار له من منظور اآلخرة».44
.50فتحي مسكيني ،الشيطان يف الديانات الساموية :الصورة والرمز ،دار احلكمة للطباعة والنرش والتوزيع،
مرص ،الطبعة األوىل ،2014ص.115.
.51األعراف.22 :
.52األعراف.23 :
.53بول ريكور ،رصاع التأويالت ،ص.403.
.54األعراف.24 :7
.55األحزاب.72 :33
319 يخللالماح هفصوب ّرشلا
.62ابن جرير الطربي ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مؤسسة الرسالة ،الطبعة األوىل ،1994املج،2
صص 140.ــ .141
.63انظر عبس.21 :
.64املائدة.30 :5
.65بول ريكور ،فلسفة اإلرادة ،ص.217.
.66املائدة.31 :5
.67املائدة.31 :5
321 يخللالماح هفصوب ّرشلا
.76العرويس لسمر ،اجلاحظ من اجلنسانية إىل امليتاجنسانية ،كتابات معارصة ،عدد ،69ص.114.
.77ألفة يوسف ،حرية مسلمة يف املرياث والزواج واجلنسية املثلية ،دار سحر للنرش ،الطبعة األوىل ،أفريل
،2008ص.184.
.78الشعراء 172 :26ــ .173
.79تقول (:)Mary Douglas
«La saleté est une offense contre l’ordre », voir Mary Douglas, De la souillure, p.24.
.80انظر نوح22 :71و.23
323 يخللالماح هفصوب ّرشلا
هدايتهم قائالَ [ :يا َق ْو ُم ُا ْع ُبدُ وا ُااﷲَ َما َلك ُْم ِم ْن إِ َل ٍه َغ ْي َر ُه] .81غير أنهم كانوا قوما
حل بهمكافرين82فاسقين ،83إذ امتنعوا عن تصديق نوح وسخروا منه ،84لذلك ّ
الطوفان بتدخل إلهي لينسف واقع الكفر والدنس والشر مستبدال إياه بواقع خير
بديل ،كان الماء أمارته «إذ ال شيء مثل الماء يرفع التشويه ويرفع الدنس».85
لقد كان حلول الطوفان بحكمة إلهية رامت تشييد واقع الطهر فتحول الماء «من
رمز للدمار والفناء والموت إلى رمز للحياة والبقاء والبعث من جديد واستحال
الطوفان انتصارا للخير على الشر».86
أ ّما عن قصة النبي إبراهيم فال تكاد تختلف كثيرا عن قصة نوح .إذ واقع إبراهيم
جسده أبوه الذي أعرض عن هداية ابنه بين قومه كان هو اآلخر واقع شر وواقع وثني ّ
يم َل ِئ ْن ِ ِ ِ
ْت َع ْن آل َهتي َيا إِ ْب َراه ُ
ب َأن َ ِ
متوعدا إياه بالرجم والهجر فهو القائل لهَ [ :أ َراغ ٌ
وجسده أيضا القوم الذين كانوا يباركون واقع ّ َل ْم َتنْت َِه َلَ ْر ُج َمن ََّك َو ُا ْه ُج ْرنِي َم ِل ًّيا]،87
الصنم ،فحاول إبراهيم النبي هدايتهم ليصرفوا نظرا عن تماثيلهم وأصنامهم ويؤمنوا
بأن اﷲ رب السماوات واألرض ،88مؤاخذا إياهم في لهجة ال تخلو من تقريع قائال:
ون ِمن د ِ ِ ون ِمن د ِ
ون ُاﷲ َما َل َينْ َف ُعك ُْم َش ْي ًئا َو َل َي ُض ُّرك ُْم ُأ ٍّ
ون ف َلك ُْم َول َما َت ْع ُبدُ َ ْ ُ [ َأ َف َت ْع ُبدُ َ ْ ُ
ون].89ُاﷲ َأ َف َل َت ْع ِق ُل َ
لكنهم عمدوا إلى حرق إبراهيم اقتصاصا منه ألنه يشكل خطرا يهدد كيانهم .غير
أن النار التي كانت شرا ال بدّ منه إنما كانت حاملة لبوادر الخير ،إذ كانت بردا وسالما
على إبراهيم والطريقة الناجعة التي أنقذ بها اﷲ عبده إبراهيم من جبروت قومه ومن
أذاهم له ألنه كان «النبي المعضود دائما بالقوى الخفية التي تتدخل لشد أزره في الوقت
.81املؤمنون.23 :23
.82هود.42 :11
.83الذاريات .46 :51
.84هود.38 :11
.85وحيد السعفي ،يف قراءة اخلطاب الديني ،ص.143.
.86زهرة الثابت ،العشق يف النصوص املقدسة ،ص.250.
.87مريم .46 :19
.88األنبياء.56 :21
.89األنبياء 66 :21ــ .67
تباثلا ةرهز .د 324
المناسب تفكر عوضا عنه وتبحث له عن الحلول للمآزق التي تحل به» .90فالنار كانت
رمزا للخالص الروحي كالماء تماما في قصة نوح .وكانت الوسيلة التي تخيرها اﷲ
بحكمة منه إلنقاذ نبيه بعد أن توهم قومه أنهم حرقوه وساموه العذاب ألنه في نظرهم
مقوض له.
كافر بواقعهم ّ
أ ّما في قصة موسى فالشر م ّثله فرعون ألنه «األنموذج األمثل للشر والتنكر للعهد
اإللهي» كما يذهب إلى ذلك أركون حين يتحدث عن قصة الخالص التي ينهض فيها
92
األنبياء بدور الظهير للفعل اإللهي ،أما اإلنسان فهو العبد المطيع والشكور 91إذ استكبر
فرعون وكفر بآيات اﷲ 93مدعيا الربوبية مرددا أمام قومه « َأنَا َر ُّبك ُْم ُا َْل ْع َلى» 94وطغى
وتج ّبر فسام شعبه العذاب وذ ّبح أبناءهم واستحيا نساءهم« ،95فحاز من األوصاف
الشنيعة ما لم يحزه األشرار غيره» .96فبعث اﷲ في فرعون وقومه موسى يهديهم إلى
سواء السبيل ،لك ّن دعوته قوبلت بالصدّ والجحود والسخرية منه ومن نبوءته إذ اعتبر
98 «س ِ
اح َرا ك ََّذا ًبا» ،97لذلك يعضد اﷲ عبده موسى بالعصا التي تنقلب حية أو ثعبانا مبينا ّ
ليشدّ أزره حين تملكه الخوف 99في االمتحان العصيب امتحان مقارعة فرعون والبرهنة
على صدق نبوته.
لكن فرعون تمادى في طغيانه ألنه كان مسكونا بالشر ،لذلك توعد موسى
ِ ِ بالسجن قائالَ [ :ل ِئ ْن اِت َ
وتوعده
ّ ت إِ َل ًها َغ ْي ِري َلَ ْج َع َلن ََّك م َن ُا ْل َم ْس ُجون َ
ين]،100 َّخ ْذ َ
أيضا بالقتل لترهيبه فالحقه وأتباعه من أجل إيذائهم وإلحاق الموت بهم .لكن
اﷲ أوحى لموسى فلق البحر بعصاه لينجيه وقومه المؤمنين قائالَ [ :ف َأ ْو َح ْينَا إِ َلى
َان ك ُُّل فِ ْر ٍق َك ُال َّط ْو ِد ُا ْل َعظِي ِم] .101وكان
اك ُا ْل َب ْح َر َفاِ ْن َف َل َق َفك َ
ب بِ َع َص َ ِ ِ
وسى َأن ا ْض َر ْ
ُم َ
يمكن لموسى وأتباعه أن يلقوا حتفهم في البحر لوال الحكمة اإللهية التي قلبت
حدث شق البحر من حدث كارثي مهلك لموسى إلى حدث خ ّير حقق نجاته
وخالصه وأهلك فرعون وحاشيته ،مثلما توضحه اآلية التالية التي جاء فيها
ين] .102لقد كان فلق آلخ ِر َ
وسى َو َم ْن َم َع ُه ُث َّم َأ ْغ َر ْقنَا ُا َ [و َأن َ
ْج ْينَا ُم َ قوله تعالىَ :
البحر الوسيلة المثلى لبلوغ موسى وأتباعه ّبر األمان ،والوسيلة الناجعة لنسف
واقع فرعون واقع الجحود والكفر والطغيان واستبدال هذا الواقع الدنس بواقع
نجسه فرعون بشروره دل عليه الماء الذي لم يكن ّإل وسيلة تطهير لواقع ّ
طاهر ّ
البغيضة.
الشر رحمة باإلنسان
• • ّ
هم بذبح ابنه ،إذ كان ال ينجب وتمنى أن يرزقه اﷲ
لما ّ
يتضح ذلك في قصة إبراهيم ّ
[ر ِّب
ابنا لكنه رأى في المنام أنه يذبح ابنه قربانا ﷲ ،جاء في سورة الصافات قولهَ :
لس ْع ُي َق َال َيا ُبن ََّي إِنِّي َأ َرى فِي ِ هب لِي ِمن ُا ِ ِ
لصالحي َن َف َب َّش ْرنَا ُه بِ ُغ َل ٍم َحلي ٍم َف َل َّما َب َل َغ َم َع ُه ُا َّ
َ َّ َ ْ
ُا ْل َمنَا ِم َأنِّي َأ ْذ َب ُح َك] .103وكان ذبح االبن شرا ألنه موت وألنه قد يشق على أب حرم
األوالد ،ولكنه مع ذلك عزم على التضحية بابنه ابتغاء مرضاة اﷲ وبغية امتصاص عنف
.104الصافات.102 :37
.105انظر الصافات.107 :37
.106الطربي ،جامع البيان عن تأويل القرآن ،املج ،4.ص.110.
.107وحيد السعفي ،يف قراءة اخلطاب الديني ،نجمة الدراسات والنرش والتوزيع ،تونس ،الطبعة األوىل
،2008ص.115.
327 يخللالماح هفصوب ّرشلا
.108التوبة.40 :
.109وحيد السعفي ،يف قراءة اخلطاب الديني ،ص.117.
.110يوسف.5 :12
.111يوسف.12:10
.112يقول ديكارت يف هذا الصدد« :إن احلسد من حيث هو انفعال هو نوع من احلزن خيالطه الكره املتأيت
من أننا نرى اخلري يصل إىل أولئك الذين نعتربهم غري جديرين به» ،راجع رينه ديكارت ،انفعاالت
النفس ،ترمجة جورج زينايت ،دار املنتخب العريب للدراسات والنرش والتوزيع ،بريوت/لبنان ،الطبعة
األوىل ،1993ص109
تباثلا ةرهز .د 328
وحشة مظلمة أسفلها واسع وأعالها ضيق يهلك من طرح فيها من سعة أسفلها ال
يمكنه الصعود وكان ماؤها ملحا» .113على حد تعبير الثعلبي وبذلك كانت البئر
أمارة على حقارة جسد يوسف ووضاعته في مرأى إخوته وبرهانا ساطعا على
ذروة أفعالهم الشريرة .إذ ليس البئر إال فضاء لنسف تاريخ يوسف ألنه في نظر
اإلخوة بغيض.
السر وإخفائهّ ،114
فإن منتهى وإذا كانت البئر في داللتها األسطورية رمزا لكتمان ّ
ما يصبو إليه اإلخوة كتمان تاريخ الجسد مع يوسف وإعدام تجربة الحب بين االبن
حجة تدينوأبيه والتي حفرت حروفها على جسد يوسف .وإذا كان ظهور يوسف ّ
اإلخوة ّ
فإن البئر تضحي بهذا المفهوم آلية إلخفاء الجريمة والتالعب بالقانون
ّ
المعذب في حياة كريمة ،وتلك لعمري كلها صنوف من أفعال الشر. وبحق الجسد
ّ
هكذا إذن غدت البئر مرتعا للقمع والعقاب وفضاء لتحقير جسد يوسف وعزله،
ألن هذا الكيان ال يمكن فهمه في عرف اإلخوة ّإل في ضوء هذا الضرب من نظام ّ
الضبط وفي ضوء هذا السلوك الشرير الذي رام اإلخوة به شطب جسد يوسف
وتركيعه لينتزعوا منه االعتراف بجرمه انتزاعا ،بل توقيع هذا االعتراف الذي يعني
تنكرا لكالم سابق هو كالم الهوى بينه وبين أبيه يعقوب وإقرارا بكالم مقبل هو
محبة يعقوب لإلخوة.
فبالعنف إذن قامت سلطة اإلخوة وبالقهر والوحشية والشر تد ّعمت ّ
ألن منتهى
ما يأمل اإلخوة تحقيقه إحداث تصدّ ع بداخل يوسف بين إرادتين :إرادة تعزم على
المقاومة وتثبت على الصمود وإرادة تسعى إلى تقويض المقاومة وتدمير الصمود .ذاك
منطق الترويع الذي ينهض على الترغيب والترهيب ،ترغيب في واقع مأمول ينشده
اإلخوة وترهيب من واقع موبوء في اعتقادهم ألن يوسف هو األثير عند أبيه .ذاك منطق
التعذيب الذي سنته يد سلطة «قاهرة فتاكة ال فكاك منها بالصمود وال إفالت من شرها
بالهرب».115
فيوسف مجرم مارق عن القانون ،لذلك اضطهده إخوته ومارسوا على جسده
الجلد (اإلخوة) ههنا أن يصمت جسدّ سلوكا ساد ّيا قصد إخضاعه وقهرهّ .
إن غاية
يوسف بغية إلغائه وترويعه وتعميق اغترابه في الوجود .وغايته أيضا إنتاج نظام
سلطوي ذي بنية هرمية يحتل فيها اإلخوة مركز السيادة ويحتل فيها يوسف موقع
القاعدة .وهو نظام يحاصر الجسد المغلوب يوسف ويخترقه للتأثير فيه والسطو
عليه ،فيغدو صورة من صور التأديب تخاطب في يوسف فكره عن طريق التأثير
على البدن عسى أن يتبدل ،وهكذا يستحيل هذا النظام سلطة قامعة تثير الجسد
لتعيد إنتاجه .ويستوي هذا النموذج السلطوي نموذخا تأديبيا .نخلص إذن إلى أن
سلطة اإلخوة ال تمارس نفسها ّإل عبر ّ
الشطب ،فكان العنف والقمع بالرمي في قاع
نمطت جسد يوسف وأنتجته من جديد ،وهو شطب ارتقي إلى مصاف الجب أجهزة ّ
العبودية.
ألن التنكيل بالجاني إذ لم يكن وضع يوسف في غيابات الجب ليقنع اإلخوةّ ،
يوسف في منطق اإلخوة الشرير كان البدّ أن يتّصل بمفهوم الفظاعة التي تستند
إلى علنية الفضيحة عبر اإليالم أوال ثم اإلذالل ثانيا .116فكان التخلص من جسد
الحل البديل لتجنّب ارتكاب جريمة القتل .إذ جاء في سورة يوسف ّ يوسف ببيعه
[و َجا َء ْت َس َّي َار ٌة َف َأ ْر َس ُلوا َو ِار َد ُه ْم َف َأ ْد َلى َد ْل َو ُه َو َق َال َيا ُب ْش َرى َه َذا ُغ َل ٌم َو َأ َس ُّرو ُهقولهَ :
اه َم َم ْعدُ و َد ٍة َوكَانُوا فِ ِيه ِم َن س در ِ
ونَ ،و َش َر ْو ُه بِ َث َم ٍن َب ْخ ٍ َ َ يم بِ َما َي ْع َم ُل َ ِ
بِ َضا َع ًة َو ُاﷲُ َعل ٌ
اه ِدي َن].117 ُا َّلز ِ
.115حسني الواد ،الرعب ...ووعي الرعب ،عيون املقاالت ،العدد ،12السنة ،1989ص 128
.116راجع ميشال فوكو ،املراقبة والعقاب ،صص87/86
.117يوسف 19 :12ــ .20
تباثلا ةرهز .د 330
بذلك عن رغبة في التشفي واالنتقام وفي إلحاق األلم النفسي بيوسف ،إذ منتهى
ما يرمي إليه اإلخوة حمل يوسف الجاني على التفكير في ذاته وفي إنسانيته
المسلوبة حتى يشعر بالندم إذ ك ّلما ازداد ندمه ازداد شعوره باأللم حدّ ة فانضبط.
وبذلك تضحي العبودية تقنية من تقنيات السلطة ،بل نظاما تأديبيا غايته إصالح
جسد يوسف وإعادة إنتاجه وهو نظام ال يقل أهمية عن السجن وهو تمظهر آخر
للشر.
مهمة في رحلة العذاب التي لحقت بكيانه.
إذ تشكل قصة سجن يوسف حلقة ّ
البوابة التي البد منها للنفاذ إلى غياهب السجن ،حيث تق ّيد
فالعبودية كانت ّ
القضبان جسد يوسف فتمنعه حرية االجتماع باآلخرين ويعيش معزوال منبوذا،
وللنفاذ إلى مؤسسة انضباطية أشدّ شراسة من السابقة ألنها كانت ممارسة تعسفية
لنص الوحي اإلسالميحق جسده يوسف .إذ يلحظ القارئ المتد ّبر ّ راسخة في ّ
لما حاولت امرأة العزيز
مفر من هروب يوسف منه ّ ّ
أن السجن كان واقعا مريرا ال ّ
مراودته عن نفسه وغلقت دونه األبواب ،فاستعصم فرارا من ارتكاب الفاحشة
118
وتوجه صوب الباب ،لكنها الحقته محاولة اإلمساك به فقدت قميصه من دبر
ّ
ولما ألفت سيدها عند الباب اتهمت يوسف بالزنا واقترحت على سيدها سجن ّ
ِ
يوسف فهي القائلةَ [ :ما َج َزا ُء َم ْن َأ َرا َد بِ َأ ْهل َك ُسو َءا إِ َّل َأ ْن ُي ْس َج َن َأ ْو َع َذ ٌ
اب
ِ
َأل ٌ
يم].119
والطريف أن السجن كان نظاما انضباطيا مشروعا لترويض يوسف الجانح ألنه رفض
تبادل المواقع في تجربة الهوى بينه وبين امرأة العزيز الراغبة فيه ،فكان السجن مأواه
الذي «ال يحرر اإلنسان الكامن فيه بقدر ما يحبسه في إسار النظرة القسرية التي تحبسه
في ذاته وتنتهي بتحويل الذات إلى كينونة أو إلى حقيقة موضوعية قائمة بذاتها».120
وعليه فالسجن فضاء لسلب الحرية وهو أيضا آلية تنظيمية أنتجها خرق يوسف لنظام
امرأة العزيز القاضي باجتناء لذة الذكر يوسف ألنه «ال لذة لها وال سعادة إال في طلب
يوسف يلبي رغبتها الطبيعية التي بها كمال أمرها» .121لذلك كان عقابه ضروريا وكان
السجن األداة الناجعة إلصالح يوسف وتهذيبه ببث مشاعر الرهبة والخوف واحترام
القانون الذي سنّته األنثى في تجربة العشق .عندها فقط يستوي السجن مؤسسة تأديبية
حق العاشقة إ ّياه امرأة
يتعلم فيها الجاني يوسف سبل التكفير عن ذنوبه التي اقترفها في ّ
العزيز.
هكذا ّ
ظل يوسف حبيس تلك القضبان التي شيدتها أجهزة امرأة العزيز العادلة
الحر .بل ّ
إن امرأة العزيز قد ّ ظل محتجزا حتى ال يصافح الخارج الوسطوهكذا ّ
ضيقت عليه الخناق حتى بات محبوسا ال في الخارج وحسب بل في الداخل
أيضا ،إذ ستمارس األنثى على الذكر حجزا جوانيا فتبعث فيه دوما اإلحساس
بأنه مرا َقب وبوطأة الرقيب عليه .فتعتمل الصراعات واإلحساس باأللم بداخل
المذنب يوسف ،ألن السجن مؤشر ضغط يمارس تأثيره على المجرم في خفاء .إذ
السجن وصمة عار ألحقت بيوسف فأساءت لسمعته ،حينها يكون الحل األسلم
رشدت الجانيطلب الغفران وحينها أيضا يستوي السجن مؤسسة إصالحية ّ
يوسف وعالجت ما بداخله من فساد وجنوح إذ هو في عرف امرأة العزيز مريض
وشا ّذ ومنحرف وال سبيل لشفائه ّإل بالسيطرة عليه داخل هذا الجهاز التنظيمي
التأديبي ،الذي سيكتسب «قيمة أخالقية إضافية ،وذلك بالقدر الذي تمتد فيه آثاره
إلى ضمير السجين حيث ال تقتصر األحاسيس على الخوف من القانون فحسب،
وإنما تتجاوز مشاعر الرهبة والخوف إلى احترام القانون واإليمان بضرورته
وعقالنيته» .122لكن يوسف نلفيه مرحبا بفضاء السجن هروبا من الشر خارج
أسوار هذا الفضاء إذ هناك كيد تناصبه إياه امرأة العزيز ،لذلك رابط في مكانه
إلى حين أن ثبتت براءته لما اعترفت امرأة العزيز بمراودتها إياه .123فأكرمه عزيز
مصر وجعله على خزائن األرض ،124هكذا إذن تحولت كل المحن والشرور التي
خاتمة
قضية الشر من أوكد المعضالت التي واجهت اإلنسان منذ األزل ،بل إنها كانت
من المسائل الحارقة التي أرقت فكره حين انبرى باحثا عن تبرير لما يلم به من شرور
كالكوارث الطبيعية واألمراض والموت وراح يبحث عن سبب هذه الشرور ،فاعتبر
أن اإلله خالقها وأنها عقاب إلهي ال طائل من وراء إال عذاب اإلنسان ألنه كان مارقا
عن نظام المقدس .غير أن المتدبر في القرآن الكريم يتنبه إلى أن الشر في التجارب
النبوية كان حامال للخير وكان خطرا البد منه اقتضته الحكمة اإللهية من أجل خالص
األنبياء ونجاة اإلنسان وسعادته في هذا العالم .إذ الشر لم يكن بغاية إلحاق األذى
بالبشرية بقدر ما كان مسلكا لالستخالف ولالعتراف بحقيقة الموت وللعفة والطهارة
وللخالص وللرحمة وإلتمام الرسالة.
لقد أسلمنا البحث في معضلة الشر وأبعادها في ضوء القرآن الكريم إلى أن
الشر في التجارب النبوية إنما كان لحكمة إلهية وما كانت غايته ــ وفي النماذج التي
تخيرناها ــ عقاب اإلنسان وإلحاق األذى به .إذ تبين لنا أن أحداث الشر التي عاشها
األنبياء إنّما كانت من أجل خالص اإلنسان في الحياة الدنيا وتشييد صرح المصالحة
بينه وبين المقدس وذاك هو الخير األسمى ،فالشر كان مفتعال من أجل الخالفة في
األرض وحمل األمانة وإتمام الرسالة واعترافا بالموت ومن أجل تثبيت جملة من
القيم اإلنسانية منها الرحمة والعفة والطهارة ألن المقدس ال يحيا إال في كنف الطهر
وفي كنف المحبة .هكذا يكون الشر إذن سبيال إلى النجاة ،إذ من صميم الشر ينبت
الخير ،بل لع ّله في بعض وجوهه ّبر األمان ،ألن مقصد الشر األسنى والمتوارى إنما
هو سعادة اإلنسان التي ظلت أمرا مفقودا يحلم نفسه به أبدا ك ّلما أخذه الحنين للحظة
البدء األولى ،ولزمن الخلود هناك في العالم السماوي السرمدي.
333 يخللالماح هفصوب ّرشلا
-الكردي(محمد علي) ،نظرية المعرفة والسلطة عند ميشال فوكو ،دار المعرفة
الجامعية ،اإلسكندرية ،د.ت.
-مارو(هنري إيرينيه) ،أوغسطين واألغسطينية ،ترجمة سعد اﷲ سميح حجا ،دار
المشرق ،بيروت ،الطبعة األولى.2007،
-مجيديلة(إبراهيم)،أنتروبولوجيا اإلنسان الخطاء ،مجلة تبيين المج ،5.عدد،19
شتاء .2017
-المسعودي(حمادي) ،فنيات قصص األنبياء في التراث العربي،
-مسكيني(فتحي) ،الشيطان في الديانات السماوية :الصورة والرمز ،الحكمة
للطباعة والنشر والتوزيع ،جمهورية مصر العربية ،الطبعة األولى .2014
-نادو(كريستيان) ،المفردات واألسلوب ،تر.شادي رياح نصر ،دار النايا ،بيروت،
الطبعة األولى .2014
-نخبة من الالهوتيين ،قاموس الكتاب المقدس ،دار الثقافة ،الطبعة الثامنة.2000 ،
-النيسابوري(الثعلبي) ،قصص األنبياء المسمى «عرائس المجالس» ،المكتبة
الثقافية ،بيروت/لبنان ،د.ت.
-لسمر(العروسي) ،الجاحظ من الجنسانية إلى الميتاجنسانية ،كتابات معاصرة،
عدد.69
-يوسف ألفة ،حيرة مسلمة ،دار سحر للنشر ،الطبعة األولى ،أفريل .2008
-الواد(حسين) ،الرعب ووعي الرعب ،عيون المقاالت ،عدد ،12سنة .1989
-- Jean Chevalier & Alain Gheerbrant, Dictionnaire des symboles, éd. Robert
Laffont.
-- Lectures3, Aux frontières de la philosophie, Paul Ricoeur, éd. du seuil,
Paris, 1994.
-- Mary Douglas, De la souillure, éd. Routledge, 1966.
د. تباثلا ةرهز 336
-- Michel Foucault, Surveiller et punir, éd.Gallimard,1975.
-- Mohamed Arkoun, Peut ــon parler de merveilleux dans le Coran , in
l’étrange et le merveilleux dans l’islam médival, Paris, Jeune Afrique,1978.
دراسات
التقنية والشر
أو الخوف من التقنية
د .نورة بوحناش
1 ___________________________________________________
النزعة البروموثيوسية
عند لمح الزوج الشر والتقنية تتشكل حتما المفارقة ،فمنذ الوهلة األولى يبدو
بأن ال نسبة جامعة بين سؤال يتطلب مناظرة عقلية ،تتشابك فيها العمائر الميتافزيقية
واألخالقية من جهة ،ثم حقل إجرائي ينأى كليا عن المشاكسة التأملية النظرية،
مجاوزا بذلك كل نسق معياري ،يستقطب حكم قيمة أكان خيرا أم شرا .فال مراء في
أنه ال لتالمس بين مفهوم أكسيولوجي ،وآخر إجرائي ،يتعدى تعثر األسئلة النظرية
وتلعثمها .فأي رابط بين المنطق التأملي النظري والمنطق التدخلي اإلجرائي؟ فال
صلة تجمع بين التقنية واألكسيولوجيا بوصفها استشرافا .إنها المصادرة المعرفية
لالبيستمولوجيا الغربية ،وقد خلصت إلى ممناعة عميقة وفاصلة بين العلم والقيم،
وانفصال في الطبيعة بين القيمة والواقعة.
من الجلي أن التصور السابق ،يجري على مستويين :مستوى التصور اإلبستيمولوجي
المحض ،ثم مستوى تاريخية المفاهيم وبنيتها التأسيسة ،وقد نمت في اإلطار العام
لفلسفة الحداثة ،ذلك أن المنظور اإلبستمولوجي للعلم ،وبعدما ثبت االنفصال بين
القيمة والواقعة ــ من خالل تشاكل معرفي تاريخي عميق ،في نقد كل معرفة غائية
موصولة بروح العصور الوسطى ــ عاد مرة أخرى ليطرح في قلب اإلبستيمولوجيا
التقنوعلمية حيرة أكسيولوجية عارمة ،تحولت إلى شاغل مركزي للعقل الراهن ،وهو
.2نامذج عن تفكيك بنية احلداثة وما بعدها ،نتفحص يف ذلك مثال فلسفة مدرسة فرانكفورت مجلة،
مؤلفات زجيمونت باومان ،جيل ليبوفتسكي ،إدغار موران وغريهم.
3. Hume: enquête sur les principes de la morale, Flammarion, 1991, P. 119
.4إدغار موران:الفكر واملستقبل ــ مدخل إىل الفكر املركب ــ ،ترمجة ،أمحد القصوار ومنري احلجوجي،
دار توبقال للنرش ،الدار البيضاء ،املغرب ،ط ،2004 ،1ص .13
339 رشلاو ةينقتلا
بها الهوبزية في غرة الحداثة ،إذ العنف بوصفه تمظهرا لكل الشر الحداثي قد وسع
مداه على مقولة حنة أرندت ،ألن «أدوات العنف قد تطورت تقنيا ،إلى درجة لم يعد
من الممكن معها القول بأن ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية» ،5وهي
الطاقة التي وفرها األنموذج العقالني البيروقراطي للحداثة ،لتكون هذه الحداثة في
6
حد ذاتها كناية عن الشر.
أما اللحظة الثانية :فقد بدت لحظة إجرائية وتأسيسية ،وهي التفكير مرة أخرى
في القيمة وفي اندماج ممكن بين العقالنية والمعايير األخالقية ،بدت في فلسفات
القيمة منبثقة تباعا منذ بداية القرن العشرين كفلسفات ماكس شيلر ولوي الفيل.
فليست الحياة بدون قيم إال حياة عمياء ،وتكون المعرفة التقنوعلمية بالنسبة لشيلر
درجة أولى من المعرفة ،إال أنها تقود العماء وترسخه ما لم ترتسم في أفق القيم ،ما
7
دفع بشيلر إلى اعتبار قيم القداسة قيما مهيمنة على تراتب القيم.
وستتسع هذه اللحظة تلقائيا في نهاية القرن الفائت وبداية هذا القرن ،متناسبة مع
الهواجس اإلنسانية التي أثارتها التطبيقات التقنوعلمية وعلى الحي خاصة ،فال مراء
في أنها ستمثل مواضعة مثيرة لمشكلة الشر ،والعجب أن تقود الرغبة في الكمال إلى
الكشف عن الوجه األشد قبحا للشر ،وبالتالي تنفتح حزمة من األسئلة الميتافزيقية
واألخالقية عيانا ،مؤكدة استحالة تجاوز حالة النقص التي تتساوق أصال مع الحياة،
فاالستزادة من المعرفة العلمية ،لم تكفل الخالص من إله الشر البتة بل فتح مطلب الخير
المسار نحو الشر .أما عن تصديق اإلنسان بأنه يمتلك إمكانية تخطي البؤس والشقاء،
وكل مفردات الشر المحيط به في هذا العالم بوسيلة التحكم التقني ،فال يعد إال ضربا
من اجتياز المستحيل وطاقة من الالجدوى السيزيفي الذي ينتهي إلى تثبيت الالمعنى.
بدت التقنية استشرافا حتميا للعدم ،حاملة لنبوءة النهاية القريبة لإلنسانية ،هي
مواضعة تجلت صريحة في نظرية المسؤولية ،مادامت التقنية تتسم بالعمى القيمي،
.5حنة آرنت:يف العنف ،ترمجة إبراهيم العريس ،دار الساقي بريوت لبنان ،ط ،2015 ،2ص .5
.6زجيمونت باومان :احلداثة واهلولوكست ،ترمجة حداد أبوجرب ،دينا رمضان ،مدارات لألبحاث
والنرش ،بريوت لبنان ،ط ،2014 ،1ص.174
7. Scheler Max: Formalisme en éthique - et l’éthique matériale des valeurs, Gallimard,
7 éme édition 1955, P. 79.
شانحوب ةرون .د 340
لتنطلق في عملية تحويل أنطولوجي مخيف للطبيعة واإلنسان ،األمر الذي يستدعي
بالنسبة لهانس يوناس تفعيال لعاطفة الخوف من المستقبل ،خوف من الكابوس،
من نهاية قريبة للطبيعة والجنس البشري إذا ما واصلت التقنية لعبتها في التحويل
األنطولوجي للكينونة 8.ليبدو عند يوناس الشر حالة من التفوق األنطولوجي،
تميزت به التقنية كرهان تحكمي يفرض السيطرة ،من دون إدراك للقيم ،أو قل
تساوق للعدمية والتقنية في عملية التبديل الصناعي للعالم.
وعلى الرغم من أنه تم التحقق بأن ال وصال بين التقنوعلمي واألكسيولوجية ،بما
أن التقنوعلمي ال يقتضي البتة حكما قيميا بالخير أو بالشر ،إال أن تحسس المساحات
األنطولوجية التي تستكشفها التقنية يقود مباشرة إلى ربطها بتصور لمفهوم قيمة الشر،
كتضمين ميتافزيقي وأخالقي .والظاهر أن هذه الفكرة ،ستثير المفاجأة فالتقنية تشكلت
في جسمها األداتي ،لغاية مؤداة ،وهي رفع الشرور وأخصها الشر الطبيعي .ألم تضطلع
التقنية الحيوية ،برفع لأللم والقضاء على الشر الطبيعي؟ ذلك «الذي يطلق على كل
نقص ،مثل الضعف والتشويه في الخلقة والمرض واآلالم وما يشبهها» .9ألم تستشرف
الكمال ،خاصة في مشروعها الراهن القاضي بتحسين اإلنسان ،بل وميالد اإلنسان
المحسن ،والفائق بوصفه سيرورة نحو الكمال المطلق؟ وفي هذا المسار تنفتح أسئلة
عن معنى معايير الطبيعة وحدودها عن النقص والكمال عن الخير والشر ،وإذا ما كانت
هناك معايير جوهرية للطبيعة أو حد فاصل بين السوي وغير السوي؟
وعلى الرغم من أن التقنية رفقة العلم ،تصمت إزاء أحكام القيمة غير أن من بين
مهامها المؤداة إزالة الشر الطبيعي سيرا نحو مفهوم جديد للخير األقصى ،بدا في
الكمال الطبيعي قيمة مرغوبة لذاتها ،شيء يتضح مثال في البحوث التي تجري على
الخاليا الجذعية لألجنة في سبيل القضاء على الشيخوخة ولذلك تحولت التقنية
إلى علم السيطرة على الطبيعة ،وإعادة اإلنتاج للنماذج حسب تصورها عن الكمال.
بيد أن هذا اإلنشاء الكياني الذي تتميز به التقنية أدى إلى فتح سبيل الشر والشقاء
اإلنسانييين على وفق تعبير أوليفيي راي .10مادام المساس بمعايير الطبيعة يحدث
خلال في أنطولوجيا الكائن .11ماذا يعني هذا التدخل ،هل هو شر بمجرد فرضه
المتغيرات؟ ناهيك عن خالصاته التي تحققت بانتهاك للقيم األخالقية ،أم أن مثل
هذا التوجس يضمر مجرد نزعة تشاؤمية ــ حسب جيلبار هوتوا ــ تبين عن خوف
ميتافيزيقي من التقنية12؟ لكن مهال بماذا تبوح حال البيئة؟ هل من حياة لإلنسان بين
جنباتها العليلة؟ إن إعادة إنتاج الطبيعة بحسب خطة الكمال المرسومة في التصور
الميتافيزيقي للحداثة يعد بنهاية للحياة بما أوحى به هذا الكمال فكان التكميل قيادة
نحو تنقيص للطبيعة يظهر عيانا عند تحقيق مناط الظرف الحديث.
الحاصل أن رهان التقنية ونتائجه األخالقية يتجلى في جدل ميتافزيقي قديم،
وهو جدل النقص والكمال ،أو قل الشر والخير ،ومن ثم فهو في حد ذاته تضمينا
معياريا ،ال تنفك عنه التقنية مهما ادعت البراءة النسقية ،والعمى القيمي في أصل
نشأتها المعرفية واإلجرائية .إذ يكمن مقصدها حصريا في رفع الشر والسعي إلى
الكمال خيرا أقصى ،وهو ما يتناسب مع الغاية التي سطرتها الحداثة في البدء،
فمقصد السعادة هو المرجح لمشروعية المشروع الحداثي ومبرره األسنى.
والحق أن هذا الرهان يدفع مباشرة إلى استثارة العالقة بين الحداثة والتقنية سؤاال
مفصليا ،ثم تقصي ميتافيزيقا الحداثة بوصفها مرجعية كبرى تفسر النمو الالمحدود
للعلم ،التقني والتقنوعلمي وتبرره .فهل فكك عقل األنوار التصور الغائي للطبيعة
ليعود مرة أخرى إلى تضمين مفهوم للخير األقصى غاية لتكميل الطبيعة عبر التدخل
التقنوعلمي؟
في هذا اإلطار ستدلل ميتافزيقا الحداثة على ذلك الشكل التبادلي الذي أقيم بين
أما من جهة أخرى فقد تكيف أداء التقنية ،ال مع العنف الدفين في الذئبية اإلنسية
فتجلى في التسلح الفتاك وفي تحول الكوكب إلى مجال صناعي ،وأد ًا للحياة واستنزافا
لمقدرات األرض وقتال للمجال البيئي .فكانت التقنية حقال لممارسة الشرور ،وأداة
في يد هذه الذئبية لتمارس الطاقات الغريزية في أوسع مداها.
أما عن نتائج التدخل البيوتكنولوجي في الحي ،فقد فتح الباب واسعا لمحاكمة
أفعال التقنوعلمي ووصلها بالشر وصال مباشرا ،كشفا ألبعادها االبستيمولوجية
وتوجهاتها األنطولوجية ،ما تعنيه الداللة التيمولوجية لمصطلح البيوإتيقا بوصفها
انفجارا أخالقيا تلقائيا في ميدان التقنوعلمي ،14ووصال بين التقني واألخالقي
اختبارا جذريا للعدم المحيط بأفعال التقنيات الحيوية ،وقد دخلت في إعادة صياغة
الوجود عبر مخرجات الفهم اإلنساني للكمال الذي يرادف الطغيان الالمحدود.
وهكذا كان على التقنية تحقيق المتخيل واألسطوري ،واالرتقاء بما كان سحرا
يوما إلى اإلمكان المنجز وسيجري عليها هانس يونس رمزية لأللوهية ،ولكنها ألوهية
خرقاء التدرك القيم فمن جهة تمتلك القوة الهائلة في التدخل وتحوير العالم بما رأته
الذات البشرية رغبة وكماال ،وفي الوقت نفسه تتميز بالعمى األصلي .بهذا يكون لقاء
القوة والعمى إيذانا بالكابوس والدخول في منطقة األبوكليبس ما يعني ضرورة لملمة
قوة التقنية ،حتى ال يقع المحذور الذي يعني عند يوناس القضاء على الطبيعة واألجيال
القادمة ،والولوج إلى العدم الذي هو مرادف للشر.
قد يبدو التعبير عن هذه العالقة الجامعة بين التقنوعلمي والشر انعكاسا لنزعة
تشاؤمية مميزة بوسم التكنوفوبيا .ولكن عالم الحداثة هو درب لما وصفه بومان بالشر
السائل ،15لم تكن التقنية متغيرا خالصا في سبيل الخير اإلنساني ،بل ارتبطت بالعمى
األخالقي بالشر كمؤشر من الضرورة اعتباره في عملية التحكيم البشري للوجود،
فتعهدت بنشر الخيارات البشرية حول ما تريد وما التريد بطشا باإلنسان وبالطبيعة.
عن منظور إنساني ينتهي إلى تبادل بين السماوي واألرضي بين الالمرئي والمرئي،
وتحكما في المجال اإلنساني ،يضاهي الخلق
ً لذلك تتشكل التقنية بوصفها َخ ْل ًقا
والتحكم في المجال اإللهي وعليه ستحول التقنية العالم إلى ورشة يتم فيها تعويض
الطبيعي بالصناعي ،حسب مستلزمات الرغبة اإلنسانية التي تعبر عن خطة الكمال
المطلوب ،وقد اتخذ خطاب العقالنية معيارا بديال عن كل الخطابات ،أما الفاعل فهو
اإلنسان اإلله الذي ولد عقب موت اإلله المصلوب على الصليب.
تدخل المبادالت السابقة في كنه ميتافزيقا الحداثة وتفسر مساراتها ،ففي المستوى
الوجودي سيؤدي اإلنسان مهمة الخلق والتكميل بدل اإلله .فقد فرضت القطيعة مع
مركزية األرض أخذ اإلنسان مسؤولية التفسير واالنتاج عوضا عن اإلله الذي غادر
العالم بمجرد حلول النظام الشمسي ،وتمركزه في قلب الفهم الطبيعي للعالم بنشوء
فيزياء ترسخ االكتفاء الذاتي الخالص للطبيعة.
كما وتبين هذه المبادالت المعنى اإلنساني لمصطلح التقدم بوصفه إعالنا عن
الرشد اإلنساني بحسب المنظور الكانطي ،هي ميزة وسم بها فيلسوف كوسمبرغ
اإلنسان كفينومين ،يستكنه النومين ماهية تتربع كمصادرة في التضمين العقالني للذات
البشرية ،هنا ينفصل الفينومين عن مراقبة النومن محدثا إفراطا في التقدم ،اتجه نحو ما
يصفه إدغار موران على أنه «تقهقر داخل التقدم وتقدم التقهقر» .16ثنائية تساءل حولها
بول فليري يوما في تأبينية برغسون في قلب الحرب العالمية الثانية وقد تجلى التقدم،
محققا لمناطه في مجازر ارتكبت بوسم هذا التقدم وبوسائله.17
يستوعب مفهوم اليوتوبيا مشروع الحداثة ويفسره ،فما ألمح إليه األنواريون هو
جعل العالم مكانا أفضل للعيش اإلنساني ،لترتكز هذه األفضلية على فكرة التقدم مسارا
ستسلكه اإلنسانية متجهة إلى عالم يتم فيه القضاء على النقص .والحق أن عملية التبادل
التي تمت بين النقص والكمال تصف قلقا وأمال ،قلق الخطيئة وأمل الخالص .فبالنسبة
.16ادغار موران:إىل أين يسري العامل؟ترمجة أمحد العلمي ،الدار العربية للعلوم نارشون ،بريوت ،ط ،1
،2009ص .33
17. Valery Paul:Henry Bergson, allocution prononcé a la seance de Lacademie le jeudi
091941/10/, collection mouchretion dans MVXLV
شانحوب ةرون .د 346
لتوماس مور هناك مكان ما ال يوجد في أي مكان ،لكنه يخلو من الشر ويستوعب الكمال.
تلك هي الخطة التي راهنت عليها الحداثة ،ليعيش اإلنسان في جنة عدن على األرض.
ففي رأي الحداثة عالم يتقدم يعني أنه عالم يتجاوز حالة النقص ويمحوه ،معوضا إياها
بحالة من الكمال المتخيل .هنا ارتسمت األطر العامة للحداثة ليغدو التقدم خطة للكمال
ومن أجل تحقيق الكمال .فال مراء أن تواصل هذه الخطة تقدمها إلى حد اعتقادها «أن
المرض والشيخوخة ليست أقدارا ،ومن المشروع توقع حياة طويلة ولذيذة بدون ألم
وال إعاقة» .18بهذا يكون التقنوعلمي امتثاال لمفهوم له تضمين ميتافزيقي ،إنه العناية التي
يؤديها اإلنسان اإلله اتجاه العالم ،ففي الحداثة يتحول التدخل والتطبيق إلى عناية إجرائية
يتحملها اإلنسان ،وهو مدفوع بوعي تكميل وتجميل العالم.
اختصرت اليوتوبيا وعي حضارة تضمر فهما مخصوصا للعالم ،إنه عالم مليء
بالشرور أما عن مسؤولية تخليصه من هذه الشرور فتقع على اإلنسان ليكون العلم
حقال إجرائيا يفسر يتدخل ويغير ،وهنا بالذات تكمن مهمة التقنية .أما خطة التقنوعلمي
فتتراتب في نظام للمراحل .التحكم ثم إعادة الصياغة تكميال وتجميال للعالم .ففي
فضاء الطوبي تتكفل أطلنطس الجديدة بعملية المعاوضة لتدلل المدينة البيكونية على
أن تخليض العالم من الشر ،مهمة قمينة بالعلماء الذين سيصبحون حكاما وسيقوم
العلم بمعركة الخالص الحقيقية.19
لذلك الزمان تشكلت فكرة التقدم لتؤلف فكرة بديهية ،مقدمة لجدوى السعي
الحضاري الغربي إنه تخليص العالم من النقائص والشرور ،فعلى األرض فقط يسعد
اإلنسان ال وجود لمكان آخر للبشرى والسعادة .وانطالقا من الروح التفاؤلية التي
جلبتها فكرة التقدم يبشر أرنست بلوخ بأمل للسعادة األبدية في عالم الكمال الموعود،
يقينا ستنقل التقنية العالم من الكائن إلى الممكن فيتحول اإلنسان نحو تكميل الذات،
خارج حدود السيطرة .حولت يوتوبيا األمل الماركسية العالم إلى آلة ،يتمتع فيها اإلنسان
بالفراغ ،ليكون اإلشباع التكنولوجي شرطا ضروريا لحرية االختيار .وعموما ففرضية
اليوتوبيا الماركسية تعني االستهالك المتزايد لثروات الطبيعة و التحول التدريجي إلى
المكننة20ما يعني أن برومثيوس قد ُس ِر َح تماما وهو يعيث في األرض فسادا .بهذا يمتد
مشروع اليوتوبيا منسقا مع القوى التاريخية لتكون االشتراكية عبور نحو الكمال الخالص
في الماركسية ،إنه زمان الشيوعية الذي يخلص فيه اإلنسان إلى العيش في جنة عدن.
لم يكن من الممكن أن تنجز الحداثة مسارها اإلجرائي دون محيط من الثنائيات
المتتالية ،في البداية كانت الخطيئة والخالص ،ستعوضهما العقالنية والالعقالية
كثنائية تعمل على فرز العالم وإعادة تشكيله،كما تمثل سندا منطقيا للحداثة مرجحة
لمشروعية معتقداتها.ستليها دالالت لثنائيات أخرى أخصها ثنائية التخلف والتقدم،
وضمن هذه الثنائية تتشكل الحداثة كمتالزمة حضارية ممدة بمبررات كل أعمال
اإلبادة التي سيؤديها اإلنسان الغربي في العالم،بوسم التقدم الذي شرع القتل والدمار
وبرر البربريات المتعاقبة ،فكان «باألساس في خدمة االستعباد والموت» .21ما يعني أن
ميتافزيقا الحداثة ،قد حررت قوى الشر وجعلتها فاعلة عبر الجرأة التقنوعلمية.
الحاصل لقد اتسم أفق الحداثة برسم صورة عن الوعد الحق ،جرى تمثلها في
انتصار اإلنسان على الطبيعة ،وفي سيادة للعلم وتحكم للتقنية في مفاصل الظواهر
الطبيعية واإلنسانية.كما تمت هيكلة الوجود اإلنساني في بنية العقالنية التي أزاحت ــ
بالتعبير الفيبري ــ السحر عن العالم وعقلنته بحيث تمت السيطرة الكلية على أرجائه.
وستنتهي المرافقة بين العقالنية والعلم إلى إنشاء أنظمة التحكم ،التي تنوي تحصيل
الكمال وطرد الشر من العالم ،ألم ِ
تنبن الماركسية على شيطنة اللبيرالية ،مستحدثة
لعالم ثنوي يتركز فيه الشر في قلب أنا الملكية الخاصة ،وعليه قدمت الماركسية
آلية الحرب كطريق إلى تحصيل الكمال الذي تجلى في عرف المادية الجدلية ،في
الشيوعية كتعبير تاريخي وبديل واقعي عن جنة عدن بشرية.
هكذا هيكلت الروح التقنو ــ بيروقراطية الموسومة بآلية التنظيم العقالني ــ كمتالزمة
لفكرة التقدم ــ أنظمة للخير وأخرى للشر ،22وسيكون اإلنسان الغربي هو عينه رسول
.20أرنست بلوخ:فلسفة عرص النهضة ،ترمجة إلياس مرقص ،دار احلقيقة ،بريوت لبنان ،ط ،1980 ،1
ص.111 .
.21ادغار موران:إىل أين يسري العامل؟ص.35.
.22فرنسيس فوكوياما:هناية التاريخ واإلنسان األخري ،ترمجة فؤاد شاهني وآخرون ،مركز اإلنامء القومي،
بريوت لبنان ،دط ،1993 ،ص.25 .
شانحوب ةرون .د 348
الخير الذي يبشر بالكمال في كل األنحاء .أما عن األنظمة األخرى التي يمكن وصفها
بالالغربية فتنزوي في مقام النقص ،األمر الذي أحدث هزة في أرجاء العالم انتهت
إلى ضرب من الجنون العقلي انتاب اإلنسانية وهي في طريقها إلى التقدم .23كما كسر
األنظمة الوجودية واألخالقية السائدة ،فكان تخريبا لبدائل قد تمد بفرص لنقد الحداثة
ومنجزاتها وتعويضها بظرف أنثروبولوجي يمكن من الحفاظ على المجال الطبيعي،
رعاية للطبيعة واإلنسان.
وعموما كان البديل عن المعرفة التأملية ،هو المعرفة التحكمية بوسمها األداتي
حيث يهيمن العمى القيمي والفراغ الموصول بالعدمية .حينئذ تثبت منهج الكشف في
إبستيمولوجيا الحداثة لتتمحور في عملية مزدوجة :أوال تفسير الظاهرة وعقلنتها ،ما
فتئ هذا التفسير ليتحول إلى التحقق بمطلب التحكم ومن ثمة إعادة إنتاج الظاهرة .لقد
أصبح العلم وسيليا والمراء في أن الوسيلي ينحو إلى النفعي ،إذ ذاك قدرت الحداثة
صيغة اتسمت بها الحضارة المعاصرة تحددت في جلب المنفعة تحقيقا لمطلب
السعادة كقيمة إنسية .فكان تكثير الرغبات دافعا النشطار التقنية وميالد التقنوعلمي،
وعامال لسيطرتها على اإلنسان.
يبدو أن التداولية الحداثية تأسست على رباط بين المنفعة والسعادة ،وهو «تمام السيادة
الذي تطلبه عقالنية النظام العلمي ــ التقني الحديث ،هو بالذات أن يجعل اإلنسان الكل
ممكنا ويتمكن من ناصية الكل» ،24ك ََّس َر هذا التزاوج بين الممكن واإلمكان في النظام
اإلبستيمولوجي الحديث أسطورة التحقق بالموضوعية بوصفها وسم المعرفة العلمية
ذاتها ،ليرتهن التقدم العلمي بالتقنية ويجعلها النهاية البينية في نسقه المعرفي ،إنه نظام
.23يعرب كل من إدغار موران ،وزيغمونت باومان عن أحداث القرن العرشين باجلنون األعظم فقد حتول
الساسة إىل حيوانات مفرتسة ،بل حيوانات بأجنحة أسطورية.حربان علميتان اضطلع التقدم العلمي
فيهام بعملية إبداع وتفنن يف الرببرية ،أما االستعامر الغريب لشعوب العامل فقد تفنن يف بريريات سياسية
مرتكبا ملجازر ضد اإلنسانية .فيام خيص احلرب الباردة فقد مثلت جتيل للحقد الذي متثله الصيغة
الثنوية للحداثة ،وسيتدحرج عامل ما بعد هذه احلرب الباردة نحو مآزق كربى ،أحداث 11سبتمرب،
احلرب عىل اإلرهاب ترهيب العامل عرب تطوير األسلحة الفتاكة ،حروب ضد الشعوب ،ومن ثني هلذه
الشعوب عن مقاصدها لبناء دول تتجاوز النظام اليعقويب.
.24طه عبد الرمحن:سؤال األخالق :مسامهة يف النقد اخلالقي للحداثة الغربية ،املركز الثقايف العريب،
بريوت لبنان ،الدار البيضاء املغرب ،ط ،2000 ،1ص .115
349 رشلاو ةينقتلا
للتحكم من أجل السعادة التي تدل على الرغبة« ،فالتكنولوجيا تسمح بمراكمة الثروات
بالحدود ،وبالتالي بإشباع جدول من الرغبات يتسع على الدوام» ،25في عالم الليبرالية
المستتبة« :اتركه يعمل دعه يمر» خلق عالما تضاربت نزواته ورسمت صورة عن النهاية،
ترجمت في الحروب المعاصرة حيث تتولى تكنولوجيا التسلح زمام المبادرة ،زارعة
والشر في كل مكان إنه رسم ألفضل العوالم الممكنة.
ّ الخوف
الشر وإصالح اختالالت العالم يرتكز األصل
والشر الميتافزيقي :نهاية ّ
ّ .2التقنية
األنطولوجي للحداثة على طرد األوهام من العالم المرئي واستبعاد العالم الالمرئي،
بوصفه أفقا الزما لتفسير العالم وجعله أخالقيا .ويبدو أن عملية تنظيف العالم من
وهم الخطيئة ــ بوصفها جرحا ميتافزيقيا أليما مغروزا في الكنه الوجودي للذات
الغربية ــ قد استدعت عملية فرز على وفق مقتضى العالم المرئي إنه معيار التحقق
متحكما:مالحظة،تجربة واختزاال رياضيا.
انطلق الكوجيتو كفاتحة للحداثة من وجوب تثبيت القطيعة المعرفية والوجودية،
بين العالم المرئي والعالم الالمرئي وسيكون االنفصال بينهما من خالل موضعة
منهج رياضي ،مكن من عملية الفرز النسقي للحقيقة والوهم .وهي عملية عميقة
في ممارسة تنظيف الذات من الخطأ ومن الشر الذي يسكن مفاصلها .يمكن اعتبار
الكوجيتو ضربا من ضروب الخالص ،مؤديا لعملية تحرير كبرى من عالم الالمرئي
الذي كان يمثله الالهوت،كمتن ميتافزيقي تضخم إلى حد انسداد آفاق العقل .بهذا
يضمر التمفصل بين الثنائيات الديكارتية تحرير العالم المرئي من سلطة الميتافزيقا،
وسيكون العلم هو أداة التحكم في عالم االمتداد وتطويعه بوسيلة النسق الهندسي،
عالم ُط ِر َد ْت منه الروح التي كانت تسكنه أما عالم الميتافزيقا فيبقى رهين معقولية
الكوجيتو ،ومجرد تأمالت ال تؤثر في العالم المرئي بما أن فكرتي اإلله والروح
تقعان خارج قوانين االمتداد .26في حين يؤدي المنهج الرياضي فصل المقال الذي
يعيد صياغة األنساق ويتحكم بها.
.27ادغار موران :الفكر واملستقبل ــ مدخل إىل الفكر املركب ،ص.15 .
.28املرجع نفسه ،ص.19 .
351 رشلاو ةينقتلا
من الخطيئة أي من النقص والشر متخذا مسؤولياته لينحصر الشر عبر التدخل في
الظواهر والتحكم فيها وإعادة صياغتها وإنتاجها على وفق التصور اإلنساني المرغوب
والمنظور في عالم الممكنات .وليؤدي اإلنسان فيه مهمات اإلله معتبرا العالم سلسلة
من القوانين متحكمة فكان آلة على وفق منطوق الفيلسوف الفرنسي البالس .يحدد
هذا التصور العقالني للعالم مدى انزياح الشر الميتافزيقي ،وقد مثل قلقا وجوديا
يختبئ في منطق الخطيئة.
مع التحسين والتطوير المتتاليين للتقنية أصبحت تكنولوجيا ،بمعنى أنها عقل
يتوحد مع تطور العلم ويمده بوسائل إجرائية من أجل المهمة األولى التي تصورتها
خال من الخطيئة يتم فيه طرد كل ضروب النقص والشر .هكذا حررت الحداثة ،عالم ٍ
الحداثة الغنوصية المسيحية من صفتها الميتافزيقية لتنقلها إلى عالم الظواهر وإذ ذاك
تنطلق عملية التحرير بمطاردة أشكال الخطيئة ،والتوجه نحو صيرورة متسارعة من
أجل تكميل العالم.
قامت الحداثة بتعويض للثنوية المسيحية ،الخطيئة والخالص بثنوية النقص
والكمال مركزة على طرد النقص والشر من العالم من خالل العقلنة وإعادة بناء نظام
العالم بما يتوافق مع السعي اإلنساني نحو الكمال .إنه عالم يعيد فيه اإلنسان خلق
معايير أخرى ،تؤدي مهمة تكميل العالم .وفي سبيل تحقيق هذه المهمة حولت الحداثة
العالم إلى ورشة تنتج فيها الظواهر المصنوعة ،وتطرد كل ما ال يتالءم مع خطة الكمال
المنصوصة .ولعل مشروع تغيير اإلنسان تحسينا وتجاوزا صوب الخيار األبدي الذي
يتصور خلوده ،ليعد الدليل القمين على عملية المحورة التي يدور رحاها في األرجاء
للتغلب على ضروب الشر ،أهمها الموت الذي بدا نقيصة يمكن التخلص منها وتركيب
إنسانية تتحكم في المصير ،تحديد القدوم إلى العالم وضبط ساعة مغادرته ،بمعنى أن
هذه العملية الوجودية تصبح رهينة اإلرادة اإلنسانية المطلقة.
تكفلت الحداثة بأداء عملية تعويض،كمال العالم الالمرئي المتواري خلف الموت
األنطولوجي لإلله ،تهيمن فكرته وصورته على العالم المرئي ويوجهانه .أما مسؤولية
تكميل وتجميل العالم فتقع على عاتق اإلنسان ،الذي ُح ِد َد ْت مهماته لتكون مهمات
إلهية .ففي العالم المرئي تجسد الشر الميتافزيقي في الشر الفيزيقي ليغدو في متناول
شانحوب ةرون .د 352
اإلنسان ،عن طريق التحكم في القوانين وإعادة صياغة الظواهر ففكر في الخلود
باالستنساخ والتحسين والتجاوز باإلنسان إلى حدود المنظورة ظن أنه سيقدر على
التنكيس في الخلق ،ليقضي على الشيخوخة بالتجريب على الجنين فكان الصغير
المقبل وسيلة بيد الشيخ المدبر.
في هذا التدرج من الميتافزيقي إلى الفيزيقي،كانت التقنية وسيلة تنزيل الكمال
على العالم ،والتدخل في معايير الظواهر تصحيحا وتصويبا .واألمر هكذا ستبدي
فلسفة اإلنسان إرادة تكميل اإلنسان نيال لأللوهية ،مستخدمة المعارف العلمية الدقيقة
والتكنولوجيا من الهندسة الوراثية ،إلى تكنولوجيا النانو واإلعالم اآللي .والحق أن
العالم الحديث أدى عملية تعويض كبرى ،طرد تصور الميتافزيقا وعوضها بضرب
آخر لمتافيزيقا تسيرها غنوصية النقص والكمال ،أما تحيين الكمال بالتكنولوجيا
الشر ليتمثله أبديا في عالم مرئي يقيس نفسه على العالم
فهو تخليص لإلنسان من ّ
الالمرئي.
وإذا كانت الرؤية الثنوية التي تميزت بها الغنوصية القديمة ترى في المادة شرا،
فإن الغنوصية المعاصرة تطرد الروح من العالم وتعتبره مصدرا للشر وتعود بعد ذلك
إلى إضفاء الروح على المادة.مهمة يؤديها الذكاء االصطناعي في عملية تعويض عن
الذكاء اإلنساني ،وفي تمثل اإلنسان الفائق الذي تخلص من الروح وأبقى على مجرد
المادة .تفكرت في اإلنسان الكامل في محض المادة لتنزوي عملية القضاء على الشر
في تحويل المادة والتدخل فيها «ويحدد الفيلسوف السياسي أريك فوجيلي السمات
البارزة للغنوصية الحديثة في عدة نقاط :حالة من السخط على وضع اإلنسان في
العالم ،واعتقاد بوجود تنظيم شيء أو شرير للعالم وأمل بإمكانية الخالص من شر
العالم ،وإيمان بالفعل البشري وسيلة لتغيير نظام الوجود ووضع صيغة لخالص النفس
والعالم».29فهل تمكن اإلنسان من تخليص العالم من الشر؟
في اإلطار العام النكشاف التقنية في صميم الوجود األصيل ،تتميز قراءة هيدغر
للتقنية باالنحصار عن السطح والتوجه نحو الوجود األصيل ،لن تكون التقنية أثرا ماديا
.29حجاج أبو جرب :مقدمة كتاب زجيمونت باومان وليونيداس دونسكيس :الرش السائل ــ العيش مع
الالبديل ،ص.8 .
353 رشلاو ةينقتلا
أو أداة يستخدمها اإلنسان إن الفهم المسائل عن التقنية يتسرب إلى ماهيتها ،إنها تجلي
للمكنات الالمتعينة التي يتفرد بها الوجود األصيل أو الدزاين.
ليست التقنية إال شكال من أشكال التموضع في الوجود واإلبحار فيه ،إنها تدخل
عما هو غير موجود في الطبيعة وهي المهمة التي يؤديها إجالء الخفي
في مسار الكشف ّ
في الطبيعة وفتح الممكنات أمام الوجود اإلنساني والطبيعي .ظهور فريد للممكن في
الوجود اإلنساني األصيل المستفسر والمتسائل ،فحتما إن متعلق التقنية لن ينحصر
في األشياء المادية بل هو ٍّ
تجل لعمق الماهية ،والتي تعد بال شك سؤاال مستمرا ال
ينقطع ألنه من صميم الوجود بما أنه يعبر عن مصير اإلنسان الوجودي ،وعليه تتجرد
ماهية التقنية من االنتقائية وتتجاوز حدود المنفعة وإن كانت تؤديها .بهذا تعبر التقنية
متخف في الطبيعة ،رافعة الغطاء عن
ٍّ عن االنكشاف ،فماهية التقنية هي استدعاء ما هو
30
الممكن.
هكذا تكون التقنية استدعاء ومغامرة للممكن ،ويبدو السؤال عن طبيعة هذا
الممكن القادم من وراء هذا االستدعاء أحد التحديات التي تواجه الوجود اإلنساني،
مابعد استحضار الممكن التقني وقد انفرط عن عقد الحرية كحقيقة أصلية للدازين،
31
وماوراء الخلق واإلبداع المستحضر في الطبيعة.
إن من نتائج االستنطاق واالستفسار في تحقق ممكنات التقنية هو استحواذ العقل
الحسابي على ممكنات الطبيعة .وألن الوجود األصيل بوصفه أصل هذا االستنطاق،
فاقد لكل أشكال المراقبة متبينا أنموذجا من التصور الحر للوجود فقد أصبح هو في
حد ذاته ،ضمن الطاقات المسخرة للتقنية وموضوعا من موضوعاتها .غدا اإلنسان
متميزا بالثنائية ،فمن جهة هو كاشف الممكنات ولكنه أصبح ممكنا من ممكناتها ومن
32
ثمة أصبح في قبضتها.
لقد تبين أن التقنية لم تكن قرارا يتحكم فيه اإلنسان ،بل أصبح مأخوذا في السياق
الثقافية للتقنية .إن عالم اليوم َف َقدَ أصول التحكم في القيم لتنفلت عقدة التكنولوجيا
وتصبح في خدمة الدائرة الفردية توسيعا للمجال الفرداني ،وهو ما ُت ِّبي ُن عنه
تكنولوجيات االتصال واستخدامتها ،فما المعايير األخالقية التي بإمكانها ضبط عالم
تتحكم فيه التقنية؟
يدلل المسح األفقي للفكر األخالقي الراهن غنى النقاش الجاري بين الفلسفات
حول القيم المنوطة باإلنسانية التي تجاوزت الشر الميتافيزيقي بعدما أصبح العالم
المرئي هو مرتعها ومقام بقائها .ال معايير أخالقية في اإلطار العام لما يصطلح عليه
زيجمونت باومان الحرية السائلة سوى إيجاد سبيل لالسترخاء األخالقي خاصة أن
ما يهم الفاعل األخالقي الحديث ،ليست أخالقا لالستقامة السلوكية كما تصور كانط
في عصر األنوار وبناء الصرامة األخالقية التي تفتح الذات على آفاق المعنى العقلي
للواجب ،بعد مغادرة السحر العالم متخلصا من التصور الميتافيزيقي ،إن ما يهم هو
33
مزيد من استرخاء الهيدونية المحيطة بالذات.
لم تعد القيم لتعطى لإلنسان انطالقا من مبادئ مثالية كونية ،بل هي ما يمثل معطى
مرتبطا بالذات وبالواقع تفعل به الفردانية .فهذا كل من جيل دولوز وفليكس غاتاري
يعتبران أن الرغبة هي القوة الخالقة للقيم ،فمن خالل التيارات الحيوية تنفتح سبل
الحكمة التي ال تنفصل عن قوة الفعل المرتبط بالجسد .34وهو حال أجاد الفالسفة
توضيحه حصريا في مفهوم الحداثة السائلة لبومان ،والحداثة الفائقة لجيل لوبفتسكي
إنما تتشكل التقنية وفق مطالب الفردية الهيدونية.
الحاصل أنه لم يعد االعتراف بالمثل األخالقية الكالسيكية دينية وعقلية مسيرا
للعملية األخالقية .لقد زالت القيم بدافع من حركة غير مسبوقة من تحطيم األصنام
على الطريقة النتشوية ،تم فيها تبني الحرية المكتسبة كعامل يؤدي إلى نهاية الوصاية
األبوية ،والبحث عن السعادة للجميع لذلك تحطم المتعة المعاصرة نظام القيم الحالي.
.35ليبنتز:املونادولوجيا ،ترمجة ألبري نرصي ،اللجنة الدولية لرتمجة الروائع ،بريوت لبنان ،د ط ،156 ،ص .21
357 رشلاو ةينقتلا
تحمل اإلنسان الحديث المسؤولية عن اإلله الذي غادر العالم ،تلك هي الماهية
التي تقمصها هذا اإلنسان إبان عملية االنبالج األنسانوي ،وتلك هي المهمة التي
يجب أن يؤديها في سبيل التمكن .وبما أن السحر قد زال عن العالم فكل القناعات
الميتافزيقية حول طبيعة األشياء غادرت ،وسيتكفل اإلنسان باإلجابة عن ضروب
األسئلة الالزمة لتحريك المبادرة اإلنسانية ،التي كانت في األصل قد غدت إالهية
وأخصها جدلية الخير والشر .لم يعد في وسع الميتافزيقا واألخالق تقديم إجاباتيهما
الحرة هي من سيتحمل ثقل المهمة ،ثقل
ّ النظرية والتنظرية بل المبادرة اإلنسانية
استشكلته الفلسفة الوجودية في مفاهيم ومضامين تعبر عن شسوع المبادرة اإلنسانية
المؤداة في هذا العالم بعد موت اإلله ،فكان القلق الغثيان والالجدوى مترادفات عن
التجربة التي تكابدها الذات ،بعدما غادرتها العناية اإللهية وترجيح الخير والشر.
ال تمثل الثورة الكوبرنيكية قطيعة جذرية مع تصور الكوسموس بتحول المركزيات
الكونية ،بل مثلت ثورة عميقة في مفهوم طبيعة األشياء فال وجود ألشياء في ذاتها،
تفارق العالم فكل ما يحدث يحدث داخله.أما مسألة التحليل من تفسير وفهم فتجري
على مستوى العقلنة ليمد التجريب بمنطق التحقق ،لذلك فالخير والشر سيتجسدان
وسيضطلع اإلنسان بعملية تفكيك للعليات،جلبا للخير ودرأ للشر.
شر طبيعي،
شر ميتافزيقي أو ّ
لقد استقدم العلم إجابته التفسيرية لما بدا دهورا على أنه ّ
وتحول فهم الخير والشر إلى عملية مبادرة عقالنية إنسانية تمر بدرجتين :درجة التفسير
الذي أفصح عن إجابات موضوعية لما هو الشر الطبيعي ،فبدا أنه ليس جوهريا بل
الشر الطبيعي المتعلق
عارضا يمكن تغييره سيرا نحو الخير.كانت آخر اإلجابات عن ّ
بالنقص البيولوجي قد تج ّلت في إجابة الجينوم عن أصل ّ
الشر الطبيعي ،وكذا في فك
الشفرة الوراثية التي قادت إلى تفسير ظواهر النقص البشري من إعاقة مرض وآالم
بشرية .لقد منحت الثورة الجينية رؤية استشرافية فسرت الشر الطبيعي وإمكانية التغلب
عليه ،لكنها ستتجاوز ذلك إلى عملية تكميل الطبيعة .فهل سيحدث مثل هذا التكميل
شرا طبيعيا؟بافتقاد الطبيعة لمعاييرها األصلية؟
أما عن الدرجة الثانية ،فإنها تخرج من رحم التفسير ليكون التحكم هو عملية
شر طبيعي .ستتمكن التقنية من تقديم
تصحيحية للنقص الذي بدا على أنه في األصل ّ
شانحوب ةرون .د 358
مشروع إزاحة الشر من العالم ،وتتطلع إلى عملية تكميل العالم بطرد الشر من كل مواقع
الوجود .إن هذه العملية التي تجريها التقنية ،طرد الشر من العالم وتكميله وتجميله،
قد دخلت في عملية تغيير جذري للطبيعة من دون توجيه القيم .فهل انحاز الشر من
الشر الطبيعي؟ ما
العالم؟ أم أن التقنية قد عملت على إحالل شرور أعمق تأثيرا من ّ
بالشر الصناعي منها التعديل الجيني ،التدخل في الجينوم،
ّ يمكن أن نصطلح عليه
االستنساخ وهلم جرا من العمليات التي تجري على مستوى النظام التبسيطي ،مع
تجاهل كلي للتعقيد تبعا لإلبستيمولجيا المورانية.
وعموما فقد تكفلت المهمة الحداثية بعملية تكميل العالم ولعل أولى هذه
المهمات المؤداة في المسار المتسارع للتقدم ،هي نزع الشر الطبيعي من العالم،
بوصفه نقصا يشوب الظوهر الطبيعية الضعف المرض ،التشويه في الخلقة واأللم.
التحرر الحداثي تمظهرا للشر الميتافزيقي وذا طبيعة قدرية
ّ الشر الطبيعي بعد
لم يعد ّ
اختبارا للنفس البشرية في مسار التهذيب األخالقي ،بل تمكنت االنزياحات الوجودية
من اتخاذ المبادرة والعمل على طرد الشر من مفاصل العالم ،والسعي إلى تغيير الطبيعة
بما تستصوبه الرغبة اإلنسانية.
يكون التخلص من الشر الطبيعي إحدى المهمات الكبرى التي سطرتها الحداثة
لذاتها ،إذ ركزت المناظرة الفلسفية األنوارية على مقولة تغيير الطبيعة وتطويعها لصالح
الشر
اإلنسان ،متخذة السبل اإلجرائية تيسيرا لهذا التغيير ،وتكمن إحدى غاياته في طرد ّ
الشر من العالم
الطبيعي من العالم ،واستشراف الخير العميم .سيرتقي مشروع انزياح ّ
وجعل العالم مكانا للخير والكمال مع التطور العلمي والتحكم التكنولوجي ،الذي
اليعرف الخير والشر بما أنه يشتغل خارج حدود التقييم ،تقوده قوى كبرى منها العلماء
الذين يتبارون لنيل حظوة الكشف واالختراع ،ومنها السياسية التي تأتمر بمنطق الغاية
تبرر الوسيلة .فما كان إال أن توجه اللوغوس التقني إلى خلق الشر وتوزيع الشرور
في العالم الطبيعي ،حتى تخلت الطبيعة عن معاييرها الضابطة بدا هذا في اتساع ثقب
األوزون ،وموت الحياة ،وتلوث المجاالت الطبيعية ،وانقراض الكثير من األحياء.
وعليه أصبح الخوف من التقنية ظاهرة إنسانية ومجاال حضاريا ،يهدد حضارة
اليوم بالنهاية الكاليبوكسية .يكفي أن نفكر في الكائنات المعدلة جينيا ،الطاقة النووية،
359 رشلاو ةينقتلا
واالستنساخ ،وتكنولوجيا النانو حتى يكون الشعور بالنفور والخوف .لذلك ُتت ََه ُم
التقنية بأنها جالبة للشرور بسبب تحويلها لمعايير الطبيعة ،بمعنى أنها تقتل الطبيعة
وتفكك مفاصل الوجود كما أنها تعطل التوازنات الطبيعية وتهدّ د البيئة بالفناء .ولعل
ما يزيد األمر غموضا هو أنها تحولت إلى ميدان تجاري يتوزع بين األيدي الخفية
التي تُسعد ،بالمرور عبر النوافذ واألبواب بغية الربح الخالص .بمعنى أن التقنية قد
أصبحت وسيلة وغاية في إطار نظام نيوليبرالي فاقدة لإلحساس،كما أنها تحالفت مع
أيديولوجيات وضعية اقصائية تطرفت في اختيار الممكنات التقنوعلمية مثل فلسفة
36
اإلنسان الفائق بحيث «أصبحت الشرور قوية وكثيرة ال يمكن انكارها».
تمثل التقنية خطرا على اإلنسانية عندما تفكر في تعديل اإلنسان تعديال وراثيا ،أو
في األقل حين تعمل اليوم على خلقه قويا على وفق المعايير االصطناعية المشكلة،
وهي بهذا تفقد اإلنسانية الشعور بالقيم تعميقا للفردانية .المستنسخ أو المعدل وراثيا
ثم هذا اإلنسان الفائق يفتقدون كليا للشعور المجتمعي ،بل لن يفقهوا معنى الروابط
االجتماعية .والحق أن القضاء على اإلنسانية من خالل هذه المتغيرات الموسومة
بالعقالنية المفرطة تنبئ بالموت العاجل لإلنسانية عن طريق موت رحيم ،ال ينتظر
حالة العجز بل يتخلل الوجود اإلنساني منذ البدء.
بهذا كانت الصيرورة االنكشافية التي قامت بها التقنية تبعا للمواضعة الهيدغيرية،
شيء تجاوز اإلنسان ولم يعد بإمكانه التحكم فيه لم يكن هذا الوجود األصيل الذي
يستفسر ويستنطق ،ينتج في اإلطار العام للمسار الذي سلكه التقدم غير المراقب سوى
وجود تملص من القيم لذلك انتهى االستنطاق إلى بناء وجود زائف اضطلعت بإنشائه
اإلمكانات التقنية .لم يكن المسار الذي اتخذته التقنية مسارا تصويبيا ليتجه إلى استثارة
ممكنات الخير ،إذ اتجهت هذه الممكنات إلى تكسير الوجود اإلنساني في هولوكست
أكبر قامت به األيديولوجيات الشمولية ،ومنها الوجود األصيل الذي يتمثله هيدغر.
إن عملية التحريض للممكنات التي تؤديها التقنية في اإلطار غير المراقب للمجهود
األصيل هو الذي حرض على االنفكاك،كما أشار هانس يوناس .فقد تجاوزت اإلنسانية
.37كانط :أسس ميتافيزيقا األخالق ،ترمجة فتحي الشنيطي ،موفم للنرش اجلزائر ،د ط ،1991ص.338.
361 رشلاو ةينقتلا
.38لقد خضعت األخالق الكانطية إىل أقىص درجات العقلنة املنفصلة عن األخالقية فحذفت من اإلنسان
قوته وطاقته االنفعالية.كام فصلت بني قدرات الذات .ال يمكن أن يكون اإلنسان إنسانا إال إذا حركته
الرغبة فيام بعد اداء الفعل .إن منطق اإلرادة اخلرية التي تفعل عىل وفق أمر القانون األخالقي ،هو
منطق اإلنسان اآليل الذي يفتقد للامهية اإلنسانية ،فال غرو أن األفعال التي أداها النازيون يف احلرب
العاملية الثانية هي أمر من اإلرادة اخلرية «جيب ألنه جيب».
39. Lipovetsky Gilles: Le crépuscule du Devoir, Folio Essais Gallimard, 1992, P.55.
.40زجيمونت باومان:احلداثة السائلة ،ترمجة ،حجاج أبوجرب ،الشبكة العربية لألبحاث والنرش ،ط،1
،2016ص.42.
شانحوب ةرون .د 362
ويؤسس المعادالت اختزاال للطبيعة المركبة أن يؤسس التوازن في هذا العالم41.بل
باألحرى مكن من روح باردة اجتاحت الكون وفصلت في أمر القيم ،لتصبح خاضعة
للمادة.
يكون العقل األعمى الذي ال ينظر إال إلى النظام البسيط وتسلسل الوحدات ،من
دون أن يرمق التعقيد الكائن في العالم هو من أحدث هول الكارثة التي واكبت الحداثة.
وعليه تقف عملية تخليق التقنوعلمي عند إدغار موران على مساءلة النظام المعرفي
الغربي جملة ،ومن ثمة االعتراف بمنظومة التعقيد بوصفها النسيج الذي يتركب على
وفقه العالم .فال يجلي التبسيط سوى الظاهر المحدد بنظام عقالني فج ،وال ينظر إال
إلى السطح في حين تخفي الظواهر الطبيعية واإلنسانية االجتماعية تركيبا معقدا .إذ
أحدث التركيز على مجرد التبسيط العمى العقلي فأتبعه العمى األخالقي ،بحيث يكون
السؤال عن مصير العالم سؤاال مركزيا وقد سيرته روح التبسيط .بهذا تؤلف المراجعة
42
االبستيمولوجية أس تخليق التقنية عن إدغار موران.
تتسع مسألة تخلق التقنية أو أنسنتها عند الفالسفة الذين عايشوا الحرب العالمية
الثانية ،فعند هؤالء يكون أداء هذه العملية عبارة عن صيرورة نقدية وممارسة تأويلية
لمفهوم العقالنية .إنها مهمة مؤداة ،تبينت عند أقطاب مدرسة فرنكفوت لتتجلى
المفارقة بين عقلين أداتي وآخر تواصلي عند يوغن هابرماس.
يكون العقل التواصلي بديال عن العقل األداتي ،تلك هي سيرورة النقد الذي مارسه
هابرماس وأرسى دعائمه من خالل فلسفة التواصل ،إن العقل التواصلي نتج عن العقل
النقدي وهو عقل مجاوز للحدود الضيقة التي فرضها الطابع اإلجرائي للعقل األداتي.
كما هو بديل عن العقالنية التقنية ذات النزعة العلماوية المتمركزة حول الطابع المطلق
للعقل الذي يلغي كل ما هو معياري ،ما أدى إلى استبعاد كل ما هو أخالقي .إن الفعل
التواصلي يبتعد عن ممارسات العقل األداتي القائم على المصلحة بل هو فعل مبني
على االتفاق وبعيد عن ضغط العنف ،إنه ٍّ
تجل لعقالنية كونية وبنية منطقية تتيح اعتماد
البرهان قاعد َة تأسيس نقاش منفتح بين أعضاء المجتمع ،وهو ما يؤكد بأن الحقيقة ال
43
تقبل إال بواسطة التفاهم باللغة.
جرها التحالف المزدوج
أما كارل أوتو آبل فقد ب ّين قدر المخاطر واآلثار السلبية التي ّ
بين العلم والتقنية ،فدعا إلى تأسيس أخالق نظرية أساسها إمكان ترانستندالي ،يقود
إلى اتفاق الجماعة في عصر العلم.كما يفتح نقاشا حول المصاعب النظرية التي تحول
دون قيام أخالق نظرية ،لينتقل آبل بعد ذلك للدعوة إلى ضرورة تأسيس أخالق كونية
ماسة لمثل هذا التأسيس خاصة داخل الوعي الوضعي المحيط
مشيرا إلى أن الحاجة ّ
بالتصورات الفلسفية العلمية المعيق لتأسيس أفق معياري يحل أزمة الوعي األخالقي
الغربي الحديث والمعاصر .فاإلنسانية اآلن وخالفا ألي وقت آخر بحاجة ماسة إلى
إنشاء أخالق كونية تتفق حولها ردا لوضعية أنتجها التحالف بين العلم والتكنولوجيا،
«لذلك فإن الحاجة إلى تأسيس أخالق تفرض نفسها ،في زمان التحالف المسيطر لكل
من العلم والتقنية على مستوى العالمي».44
هكذا سعى آبل إلى تأسيس أخالقيات العلم مستدال على عدم حيادية المنطق
والعلم قيميا ،بل هما يفترضان أخالقا،كما تحيل عدم الحيادية إلى وجود إمكان قبلي
اتفاقي بين الجماعة العلمية فهي تتفق فيما بينها بواسطة المنطق اللغوي والتواطؤ بال
عنف ،وعليه فإن (يجب عليك) ترتبط بموضوعية العلم» ،فالبرهان من حيث صالحه
المنطقي ،يحيل دوما على جماعة مفكرين يتوصلون إلى تفاهم بين أشخاصهم».45
يتواطأ هانس يوناس على بنية أخرى للواجب أنها المسؤولية األخالقية اتجاه
الوجود ،ونعني بالوجود هنا الطبيعة واألجيال القادمة .ويعبر مبدأ المسؤولية عن حالة
استباقية اتجاه مجهول قادم يظهر عند يوناس من جراء اآلثار السلبية الناجمة عن التقدم
التقني .هي أخالق تعتني بالحماية والوقاية أخالق مستقبلية تهتم بما سيحصل في أفق
الزمان ،ويتحمل مسؤولية درء األخطار القادمة من جراء التقدم التقنوعلمي.
وتعني المسؤولية المستقبلية ضرورة حماية الطبيعة المتضررة بفعل خطر التقنية،
46. Hans Jonas: Principe De Responsabilité Une éthique Pour La Civilisation p, 141,
47. Métayer Michel: La philosophie éthique «Enjeux et débat actuels» éditions du
renouveau pédagogique Montréal Canada, p.310.
48. Ibid., p.311
49. Ibid., p 3.10.
365 رشلاو ةينقتلا
التطبيقية المهمة الفلسفية األكثر إلحاحا .فليس أمام اإلنسانية سوى ترجيح كفة
المعايير ضمن منظومة التقنوعلمي وتكون األخالق الحيوية أنموذجا عن السؤال
الملح لألخلقة ،بيد أن مثل هذه العملية يحول دون أدائها أمران :أولهما هو الفراغ
الهائل الذي ثبتته العدمية ،منتجا للتعدد المعياري والتنازع الفرداني ،جاعال من
الديموقراطية حدا فاصال في المساءلة األخالقية .أما ثانيهما :فهو طبيعة النظام في حد
ذاته ،وهو نظام يقوم على التحكم والسيطرة ،النظام النسقي التقنوعلمي الذي أصبح
نظاما شامال متحكما يقوم على المنفعة ،ويؤدي مهمات للهيمنة ،فما أداه النظام النازي
هو طاعة للقانون األخالقي ،المؤسس على «يجب ألنه يجب» ،ضمن الهيكل العام
للعقالنية البيروقراطية .فكيف يمكن أخلقة التقنية ،والتقليل من الشرور المنبثقة عن
العمى المميز لها؟
األخالقية وانطفأت .فكان الوجود ثنائية ،نسيت فيه الروح وبقي االمتداد تحت توجيه
الملك والسلطان فتولد البطش مرافقا لهذا الكوجيتو.
شرا في حدّ ذاتها بل وسيلة العقالنية لمدّ قسوتها ملكا واستحواذا.
لم تكن التقنية ّ
بما أن األنا يشعر بمركزيته الفريدة فهو فاقد لمنطق الحدود األخالقية ،لذلك واصل
التجاوز إلى أن أهلك الحرث والنسل .من هذا الباب استخدمت النازية مثال بوصفها
ٍّ
تجل لفعل عقالنية الحداثة ،أرقى مستويات التقنية لتسيير الجرائم ضد اإلنسانية كما
نسجت صورة للتعالي العرقي ،ثم استخدمت التقنيات المتطورة في عملية فرز للبشر
بين األقوياء والضعفاء واألسياد والعبيد ،لتضع موازين للحياة والموت «لم تكن اإلبادة
في عالقتها بالحداثة حالة شاذة ،أو حالة من حاالت تعطل العقالنية بل إنها تكشف ما
يمكن أن تفعله النزعات العقالنية الهندسية الحديثة».50
لقد تحولت العقالنية ــ بفعل التمركز الذاتوي ألنا الكوجيتو ــ إلى معيار كوني
مطلق فاصل ،بين الحق والباطل بين العقالني والالعقالني .فالعقالنية التي تؤدي مهام
الملك االستحوذ والقسوة ،تكون وحدها صالحة لإلنسانية .فما طبيعة العقالنية التي
ولدت الظاهرة الكولونيالية ،وأبادت شعوبا وقبائل من أجل إتمام السيادة والملك؟
الشر الذي تمارسه التقنية وليد العقالنية التي انفصلت عن األخالقية،
الحاصل أن ّ
واعتدت بنفسها إلى أن ظنت أنها تمتلك القوة الفائقة،كما أنها تقمصت كينونة إالهية،
فسطرت منافع عاجلة قريبة ،وجعلت الحق رهين هذه المنافع .ما طبيعة هذا العقل
الذي أتاح لنفسه التصرف تصرفا مطلقا؟
جعل برغسون من العقل قوة موازية للغريزة تضاهيها في قدرة المعرفة ،العقل
خاصية اإلنسان والغريزة خاصية الحيوان وكنه العقل األصلي ،يتبين في عدم قدرته
على إدراك القيم من جهة أخرى تكون طاقة االنفعال أو الحدس هي القمينة بمعرفة
القيم .51وسيسير طه عبد الرحمن سالكا منحى جاعال من العقل درجة من اإلدراك
تساوي درجة إدراك الغريزة عند الحيوان .لذلك سيتيه اإلنسان ويضل عند انحصاره
.52طه عبد الرمحن:سؤال األخالق ،مسامهة يف النقد اخلالقي للحداثة الغربية ،ص.14 .
.53املرجع نفسه ،الصفحة نفسها.
دراسات
أن «ريكور» ال ينكر القطيعة التي جاءت نسجل أنّه وبالرغم من ّ ال يسعنا إالّ أن ّ
الغائي الذي يعطي األولو ّية
ّ بها الشكالن ّية formalismeالكانط ّية بالنسبة إلى اإلرث
إلى الخير أو السعادة ،فهو يذهب إلى ضرورة اإلشارة إلى السمات التي بها يدنو هذا
يظل اإلدراك األخالقي للواجب مرتبطا ثم إلى تلك التي بها ّ 2
اإلرث من الشكالن ّية ّ
الغائي لألخالق.
ّ باإلدراك
فإن «ريكور» يتساءل عن إمكان الغائي ّ
ّ أ ّما بصدد استباقات الك ّل ّية ثني المنظور
لكل الفضائل وهو الوسط والحدّبأن «أرسطو» حين وضع معيارا مشتركا ّ أن نقول ّ
التوسط ّ ،médiation
فإن إنجازه هذا إنّما يأخذ استعاد ّيا معنى الشروع ّ األوسط أو
بالكل ّية في اآلن الذي يعترف فيه بأنّه إنّما يقتفي أثر «أرسطو» ال س ّيما عندما جعل
موضوع تقدير الذات ،estime de soiقدرات مثل أخذ المبادرة في العمل ،والخيار
بناء على أسباب وتقدير أهداف العمل وتقييمها ،وبسبب ذهابه هذا المذهب يتساءل
كل هذا فإن كانت فلسفة األخالق تالمس يستحق التقدير .واستنا ًدا إلى ّ
ّ بالعمل
الواجبي ليس
ّ األخالقي
ّ أن اإللزام الك ّل ّي بالسمات السابق ذكرها ّ
فإن ما هو مؤكّد ّ
بدوره من دون صالت تجمعه مع استهداف الحياة الج ّيدة الخ ّيرة .وبهكذا استنتاج
الغائي ّ
وأن ّ يميط «ريكور» اللثام عن رسوخ لحظة أخالق الواجب في االستهداف
ذلك ما كان جل ّيا بفضل المكانة التي يحت ّلها عند «كانط» مفهوم اإلرادة الخ ّيرة «من
ثمة ما يمكن أن يعدّتصوره في العالم ،بل وخارج العالم بعا ّمة ،ليس ّ
كل ما يمكن ّ ّ
اللهم إال اإلرادة الخ ّيرة».4
ّ خيرا بدون حدود أو قيود
.3يميز «ريكور» بني «هوية ذاتية» ،ــ يطرأ عليها التاريخ ولكنها ال تتغري بالكلية ،بالرغم من مرور
الزمان وذلك بطريقة الوفاء للوعد املقطوع ،وتنتمي إىل الوجود الذي ال يمكن إال أن يتساءل حول
وجوده .ــ و«هوية ثابتة» ال يطرأ عليها التاريخ ،وإن شئت فقل هي الذات ،le meme/memeté
أي العينية ،من جهة ما هي تظل عىل ما هي عليه .وهي تنتمي إىل عامل األشياء التي بحوزتنا.
انظر ،بول ريكور ،الذات عينها كآخر ،ترمجة وتقديم وتعليق جورج زينايت ،املنظمة العربية للرتمجة
بريوت لبنان ،الطبعة األوىل ،نوفمرب ،2005ص .50
Ricœur (Paul), Soi - même comme un autre, Paris, Seuil, coll. «L’Ordre
philosophique», 1990; réédition, coll. «Points Essais», 1996.
انظر أيضا :بول ريكور ،رصاع التأويالت ،ترمجة منذر عيايش ،دار الكتاب اجلديد املتحدة بريوت،
،2005ص.17
P. Ricœur: Le conflit des interprétations, Essais d’herméneutique, Paris, Seuil, coll,
L’ordre philosophique, 1969.
.4انظر الرتمجة العرب ّية :كانط تأسيس ميتافيزيقا األخالق ترمجة وتقديم عبد الغفار مكاوي منشورات
اجلمل الطبعة األوىل كولونيا.2002 ،
Emmanuel Kant Fondements de la métaphysique des mœurs, traduit par V.
Delbós ; revue et modifiée par F.Alquie, collection bibliothèque de la pléade
(Paris: Gallimard, 1985), tome 2, p.250, dans Œuvres philosophiques.
371 رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست
الغائي بل قل من رسوخ في ّ وللتدليل على ما يذهب إليه من رسوخ في التراث
أن األمر عند «أرسطو» ّ
فإن الفلسفة األخالق ّية التجربة األخالق ّية العاد ّية ــ ذلك أنّه كما ّ
عند «كانط» ال تنطلق من ال شيء ،فمهمتها ليست اختراع األخالق ولكن استخراج
األخالقي ــ ين ّبه «ريكور» إلى ّ
أن علينا أن نالحظ تكرار ألفاظ: ّ معنى واقعة وجود
األول من كتاب «تأسيس
و(يستحق التقدير) في ثنايا القسم ّ
ّ (تقدير) ،و(يقدّ ر)،
ميتافيزيقا األخالق» ــ وهي ما ّ
تنفك على صلة باإلرادة الخ ّيرة .يتراءى في أعطاف
هذا االستدالل إمكان انبثاق مجاالت اهتمام تضمر تأكيدين يسعى ّ
كل واحد منهما
إلى المحافظة على نوع من االستمرار ّية.
هذا اإلقرار ّ
يظل فرض ّية تحتاج إلى بيان وإنّه لينبغي في تقدير «ريكور» فحص
الغائي ذلك على الرغم من القطيعة
ّ ما بين وجهة النظر األدب ّيات ّية الواجب ّية والمنظور
الدالل ّيةّ .أولهما أنّه تحت هدي هذا النحو من النظر ،يصبح ب ّينا ّ
أن ما هو ج ّيد
وخ ّير أخالق ّيا واجب ّيا يكون ال محالة ج ّيدا وخ ّيرا من دون قيد أي في ّ
كل الظروف
ومهما كانت األحوال فينبغي أن يكون كذلك دائما وجليا من خالل هذا التحليل
وأن التح ّفظ ــ دون قيد ــ يعلن عن
أن المحمول خ ّير وج ّيد يحتفظ بصبغته الغائ ّية ّ
ّ
مما اعتبر خيرا ،صفته األخالق ّية والواجب ّية ،ويتّضح استبعاد ّ
كل ما يمكن أن يسحب ّ
أن من يحمل بعد اآلن المحمول خيرا إنّما هو اإلرادة، في مستوى ٍ
ثان التأكيدان ّ
األخالقي قد أبقي عليها.
ّ مرة أخرى استمرار ّية مع ّينة مع المنظور
وتطالعنا هنا ّ
ّ
وإن هذا األمر ليفترض المساواة بين المفهوم الكانطي لإلرادة واالقتدار على
التدخل في مجرى األشياء إلحداث انطالقة جديدة واتّخاذ القرار ألسباب ودوافع،
أهمية
وضح «ريكور» موضوع تقدير الذات ،مع ّ هذا االقتدار هو كما سبق أن ّ
الرغبة الحكيمة تحل ّ
محل ّ أن اإلرادة في األخالق الواجبة عند «كانط» ّ
اإلشارة إلى ّ
في األخالق عند «أرسطو».
نتعرف
نتعرف إلى الرغبة من خالل استهدافها أ ّما اإلرادة فإننّا ّ
مما فات أنّنا ّ
لقد بان ّ
أن تعريف «كانط»إليها عبر عالقتها بالقانون .وإنّنا لنعثر على عالمة حاسمة تؤكّد ّ
األعم إنّما يحمل بصمة هذه اإلحالة إلى المعيار الواجبي ،فلئن
ّ لإلرادة في معناها
تصور
التصرف بحسب ّ
ّ كانت الظواهر الطبيع ّية تتبع القوانين فإن اإلرادة هي ملكة
ةديلجوب نب رَمُع .د 372
التشريعي
ّ القوانين كما ذهب إلى ذلك كانطّ ،5
وإن مثل هذا التعريف يب ّين األسلوب
الذي يخترق مصنّفات كانط جميعا كما الحظت ذلك» سيمون غويارفابر»Simone 6
Fabreــ .Gayard
علي أن أفعل؟» مشروع ّيته .وفي
في هذا الموضع بالذات يستعيد السؤال« :ماذا ّ
سياق سعيه إلى الظفر بنحو من التعريف األصيل والصارم لمعنى اإلرادة يذكّرنا
«ريكور» ّ
بأن اإلرادة إنّما تع ّبر عن نفسها في أفعال خطاب تنتمي إلى مجموعة أفعال
الرغبة وحتّى في السعادة هي األمر ،في حين قد نرى ّ
أن األلفاظ المستعملة في ّ
أفعال خطاب انتماؤها ظاهر إلى طابع التمنّي.
يمم شطر اإلشكال ّية الكانط ّية انطالقا من
أن «ريكور» ّ هكذا يكون من الب ّين ّ
العالمة التي هي موضع النظر :الكون ّية .7غير ّ
أن تمييز األخالق الواجب ّية لإللزام ليس
رهين انتهاج هذا المسلك .وثمة تحديد آخر ال مناص من التنبيه عليه وهو ّ
أن فكرة
الكون ّية مرتبطة بطريقة ال فكاك منها بفكرة اإلكراه المم ّيزة لفكرة الواجب ومر ّد ذلك
اإلمكانات المحدودة التي تم ّيز إرادة متناهية.
فإن اإلرادة في جوهرها ليست سوى العنوان األبرز للعقل في حقيقة األمرّ ،
العملي
ّ العملي الذي تتالمس فيه مبدئ ّيا ّ
كل الكائنات العاقلة ،8ويتع ّين هذا العقل ّ
تجريب ّيا عن طريق الميول الحس ّية بسبب تكوينه المتناهي وينتج عن ذلك أن ّتصبح
العالقة بين مفهوم اإلرادة الخ ّيرة ــ وهو سبيل الولوج إلى اإلشكال ّية األدب ّياتية،
الواجب ّية ــ ومفهوم عمل ،ال ينجز إالّ طاعة للواجب ،وثيقة إلى حد أنّه بات ممكنا
يحل أحدهما ّ
محل اآلخر. أن ّ
ولما كان مطلوب «ريكور» هاهنا معالجة مفهوم إرادة ك ّلية ،جديرة في ذاتها
ّ
ّ
بكل تقدير ،مهما تكن النوايا الالحقة «قدّ ر ّ
أن األمر يقتضي بادئ ذي بدء تفحص
مفهوم الواجب الذي يحتوي على مفهوم إرادة خ ّيرة وذلك مع بعض القيود وبعض
تشوهه ،تسمح له عن طريق تباينه معها ،أن
المعوقات الذات ّية التي بدل أن تحجبه أو ّ
ّ
يبدو أكثر وهجا وتأ ّلقا».9
ويبدو ّ
أن إرادة خ ّيرة من دون قيد هي منذ البداية إرادة خاضعة بتركيبتها للمحدود
األخالقي
ّ فإن الخير من دون قيد ،يأخذ شكل الواجب واألمر واإلكراه وبالنسبة إليها ّ
الواجبي .لإلبانة عن ذلك يستأنف «ريكور» التفكير في المسيرة النقد ّية التي تنهض
ّ
العملي ،10وقد فهم بما
ّ على الصعود من هذا الوضع المتناهي لإلرادة إلى العقل
هو تشريع ذاتي ،كاستقالل ذاتي وفي هذا األفق فقط تحوز الذات القاعدة األولى
الواجبي من دون اإلقرار بالبنية الحوار ّية وبغير أن تضاف إليها
ّ األخالقي
ّ لوضعها
البينشخصي.
ّ من الخارج .ومتى استقام لها ذلك فإنّها تظهر معناها في البعد
القمة يشكّل فصل «ريكور» القول في هذا المبحث فاستبان ّ
أن ما دون هذه ّ وقد ّ
الواجبي اختبارا عسيرا لحيازة لقب خ ّير من دون قيد وضمنيا،
ّ األخالقي
ّ التفكر
لنيل لقب األمر القاطع باإلطالق باعتبار اإلرادة إرادة متناهية وإمعانا في التحديد
ٍ
حينئذ أن يتسم أن أسلوب أخالق الواجب لإللزام يمكن والضبط ين ّبه «ريكور» إلى ّ
تتدرج من اإلبعاد واالنتقاء إلى اإلقصاء لتصبح اإلرادة الخ ّيرة من دون قيد
بخطة ّ
المشرعة لذاتها علة وفق المبدأ األعلى لالستقالل
ّ في نهاية المطاف مساوية لإلرادة
الذاتي.11
أهمية فصل عدم النقاوة اإلمبيريقية عن الميل
ونرى مفيدا في هذا الحدّ استجالء ّ
وبالتالي عن العصيان المحتمل ،فمهما استعصت فإنّها ارتدت إمارات تحيل إلى
الواجبي.
ّ األخالقي
ّ طابع اإلكراه لألمر
.12أنظر ،كانط ،نقد العقل العميلEmmanuel Kant, Critique de la raison pratique, traduit ،
par, F. Picavet , Paris ، P.U.F 1943 , 4è ed , 1965.V 19 , p17
.13انظر ريكور الذات عينها كآخر ص ( 405مصدر سابق)
375 رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست
وإذ قد تب ّين هذا فينبغي أن تناط العناية من جديد بلغة المس ّلمة ،بسبب قرابتها من الطابع
التعميمي للمس ّلمة على صعيد فينومينولوجيا الممارسة.
أن اختيار التعميم الك ّلي هو الذي يعطي المس ّلمة داللتها النوع ّية في الوقت
غير ّ
األعم لألمر
ّ وللمرة األولى كما تشهد على ذلك الصياغة
ّ الذي يعرف هذا االختيار
«تصرف فقط بحسب المس ّلمة (القاعدة الذات ّية) التي تمكنّك في
ّ القطعي المطلق
الوقت عينه من أن تريد لها أن تصبح قانونا ك ّليا» ولقد استطاع «ريكور» ّ
تقصي 14
14. Kant ; fondements de la métaphysique des mœurs (I v, 421) op, cit, p.285
( Kant; Critique de la raison pratique .15مصدر سابق) أورده ريكور يف الذات عينها كآخر
ص407
ةديلجوب نب رَمُع .د 376
وهو ما كان قد دعاه «ريكور» إ ّبانئذ باتهام التشدد والذي مداره ّ
بأن «كانط» يعتبر الرغبة
الرأي يرى «ريكور»
معادية جوهر ّيا للعقالن ّية ،وعلى خالف ما رأى من كان وراء ذلك ّ
ّ
الخط ّ
أن باإلمكان مقاومة مثل هذه التهمة وذلك بأن نفعل ما فعله «كانط» حين جعل
الفيصل أنّما يقع داخل عائلة األوامر حين كان سبيله التمييز بين األمر القطعي المطلق
واألوامر المشروطة المتع ّلقة بأمور البراعة والفطنة والحذر ذلك ّ
أن مثل هذا التمييز
إنّما هو على مستوى اإلكراه ،في تواز تماما مع ما يدخله معيار التعميم الك ّلي .فيكون
األمر المطلق هو األمر الذي اجتاز بنجاح امتحان التعميم الك ّلي طالما كنّا نقبل ّ
بأن
الشكل األمري تتط ّلبه بنية إرادة متناهية.
أن تخ ّطي العتبة الحاسمة للقطيعة يحسم مع فكرة التشريع
أوضح «ريكور» ّ
الذاتي أو االستقالل الذاتي الذي يصفه «هوفي »Hoffetعلى أنّه الميتا ــ معيار
ّ
critereــ . metaكي يم ّيزه عن قاعدة التعميم الك ّلي التي تشكّل المعيار الوحيد
16
للخير من دون قيد ،وبالتالي فقد ظهر أنّه يعيد أصل التشريع الذاتي إلى قول «روسو»
الذاتي
ّ الحرية»ّ .17
إن االستقالل ّ ّ Rousseau
«إن الطاعة التي ألزمنا أنفسنا بها هي
التشريعي «إن إرادة يمكن الشكل معادل ٍ
لعقد أقامه المرء مع ذاته ّ ً يصبح بهذه الطريقة
ّ
المحض للمس ّلمة أن يكون بالنسبة لها قانونا هي إرادة ّ
حرة» ،18وقد أمكن لـ«ريكور»
تهمه جدّ ا.
التعاقدي ّ
ّ أن يتب ّين ّ
أن هذه الصلة بين الشكالن ّية األخالق ّية والتراث
بالحرية
ّ أن األمر لم يعد يتع ّلق باإلرادة وحدها بل
إن ما يمكن أن نتب ّينه اآلن هو ّ
ّ
الحرية تعني اإلرادة في بنيتها األساس ّية وليس حسب وضعها ّ وهكذا فقد صارت
المبررة عمل ّيا لكن من جهة
ّ مما مضى ذكره أنّا اآلن أمام الحر ّية
ويتحصل ّ
ّ المتناهي.
الذاتي ّ
فإن القطيعة التي تت ّبع مسيرها ّ ما هي المانحة لنفسها القانون ومع االستقالل
يسيرا يسيرا تبلغ تعبيرها األكثر راديكال ّية :مقابل االستقالل الذاتي هناك التبعية للغير
21. Kant; fondements de la métaphysique des mœurs, op, cit, p.p 303 - 304
.22املصدر نفسه ص304.
379 رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست
.23يرى «دلبوس» Victor Delbosأن اخلالف بني «أرسطو» و«كانط» ،هو يف تصورمها للعالقة بني
النظرية والتطبيق ،فـ «أرسطو» يرى أن النظرية ترتتب عىل التطبيق ،وأحيانا يمكنها أن ختتفي أمام
التطبيق ،أما «كانط» فريى أن النظرية هي التي تنظم وتتحكم يف التطبيق ،وجيب بالتايل أن توضع
برصف النظر عن التطبيق :صحيح أن األخالق وضعت لتطبق عىل اإلنسان ،لكن جيب تأسيسها أوال
قبل تطبيقها .انظر ،عبدالرمحان بدوي ،األخالق عند كانط ،ص ( .38مرجع سبق ذكره)
.24املصدر نفسه ص119 .
ةديلجوب نب رَمُع .د 380
المتشاكلة أو غير المتالئمة المتشاكلة بين الفضيلة والسعادة لم يكن متأكدا في حقه
واجب مالقاة «أرسطو» في طريقه وآنئذ يسعنا أن نشير إلى أنّه لم يلتق من بين من
سبقوه إالّ باإلبيقور ّية والرواق ّية.
يتوضح كيف كان يمكن لشكالن ّية أخالق الواجب ّ إنّه في هذا المستوى فقط
أن تمنع «كانط» من طرح مشكلة الخير األسمى بتعابير الدينام ّية واالستهداف رغم
وألن «ريكور» يحاول تجذيرّ القرب الشديد في الظاهر من المعجم األرسطي.25
قراءة للمتن الكانطي عميقة ،نراه يقترح االستئناف الذي يوجب العودة إلى تلك
المواضع الثالثة لمساءلتها وتتصل أولى هذه المواضع بطبيعة االستنباط الذي يؤكد
«كانط» أنّه استقاه من مبدأ االستقالل الذاتي وإن كن ّا نفهم من كلمة استنباط المعنى
تصور «ريكور» إنّه إنّماالقانوني أي االرتقاء لبلوغ الفرض ّيات السابقة األخيرة ،وفي ّ
ّ
بأن هذا االرتقاء في حالة االستقالل الذاتي يتو ّقف في أفق هذا الفهم علينا أن نعترف ّ
جمة ،وين ّبه «ريكور» عند اإلقرار بواقعة العقل والتي كانت مدار تأويالت وشروح ّ
يخص الوعي الذي ّ أن كانط ال يتحدّ ث في مستوى هذه الواقعة إال في ما على ّ
األخالقي ،ومن
ّ نحصل عليه من المقدرة على التشريع الذاتي التي يتمتع بها الفاعل
بأن هذا الوعي إنّما هو البوابة الوحيدة التي أجل ذلك هو ال يجد حرجا في اإلقرار ّ
الحرية
ّ نملك للولوج إلى نوع العالقة التوليف ّية التي ينجزها االستقالل الذاتي بين
والقانون.26
ضمن هذا التوجه فإن واقعة العقل ال يمكن أن تكون سوى الوعي الذي نحصل
عليه من هذه العالقة األصيلة .وال يرى «ريكور» حرجا في اعتبار هذا الوعي الشكل
الواجبي أو بصيغة أخرى
ّ النوعي الذي يأخذه اإلقرار بوجود «من»؟ في بعده األخالقي
ّ
الحرة.
الشهادة القائمة حول الوضع العملي لإلرادة ّ
أن «كانط» إنّما كان يرغب في أن يشير إلى ّ
أن أخالق الواجب يتع ّين علينا أن ندرك ّ
المفهومي الذي ظهرت في مستواه هذه المفردات
ّ قائمة بالفعل ويستبين بالتالي الجهاز
المعجمي الذي يمتح منه «كانط» في
ّ وتجلت داخله هذه التراكيب ،في ضوء الحقل
ثمة يستحيل العقل المحض عقال عمل ّيا في الذات ،وال ّ
يدل على هذه الواقعة ومن ّ
أن «كانط» حين يتك ّلم على واقعه فألنّه يعتبر وعي القانون األخالقي حقيقة
ذلك من ّ
واقع ّية ثابت وقوعها في الزمان وليس نسجا من الخيال.
الخاص جدّ ا أصبح من الدقيق أن يقال ّ
بأن االستقالل الذاتي عينه ّ وبهذا المعنى
نص ورد فيه ذكر أول ّ تقصينا ندرك ّ
أن ّ وبالمضي في ّ
ّ يدعى واقعة أكيدة برهاني ّا
التعبير «واقعة من وقائع العقل» قول «كانط» التالي» علينا أن نالحظ ج ّيدا بأنّه ليس
اشتراعي في
ّ واقعة تجريب ّية بل هو واقعة فريدة للعقل الذي يعلن هذا عن نفسه أنّه
أصله ــ هكذا أريد هكذا آمر ــ » ،27وينحسم األمر على تمامه عندما يختزل «ريكور
لما ظفر بعبارة جامعة مفادها قول يقول ّ
إن هذه الواقعة لها «داللة «أشتات األمر ّ
عمل ّية محضة.
الضروري أن نلفت النظر إلى ما كان قد ن ّبه إليه «ريكور» من ّ
أن االحترام ّ وإنّه لمن
الواجبي ال يتل ّقى كامل داللته
ّ األخالقي
ّ لكل المذهبالرمزي ّ
ّ الذي انتصب للعنوان
إالّ إذا ضممنا بنيته الثالث ّية .غير ّ
أن القول الذي هو أولى بالصواب عند «ريكور» أنّه
وعلى مستوى مبدأ االستقالل ّية الذات ّية وقد باتت الصلة بين الحرية والقانون واضحة
تنفضح الطبيعة الغريبة لالحترام مادام األشخاص لم يدخلوا في الموضوع بما هم
غايات في حدّ ذاتها والقول الوجيز ّ
أن ذلك ناشئ عن مكان االحترام من حيث هو
شعور فيستوي االحترام دافعا بما أنّه يجعل صاحبه يميل.
«إن ّ
كل هذه كان قد دعاه «ريكور» تقديرا للذات ال يبدو أنّه ينجو من هذه اإلدانة ّ
الواجبي تعدّ
ّ االدعاءات لتقدير الذات التي تسبق التوافق مع القانون األخالقي
الغية وغير مشروعة» 29وال يعني هذا أبدا إقامة تماثل بين صوت «كانط» وصوت
«أرسطو» ففي الحقيقة ال يكمن جوهر المسألة هنا ،ذلك ّ
أن ريكور» يعتبر أنّه من
المشروع تماما أن نرى في االحترام الكانطي وجها من تقدير الذات الذي اجتاز
بنجاح تجربة معيار التعميم الك ّلي.
الشر في مفهوم ديونتولوجي(أخالقياتي)
وتماديا في التحليل يتساءل «ريكور» حول مكان ّ
ّ
«مذل» هو هذا النوع من تقدير déontologiqueألخالق الواجب ،ليفترض ّ
أن ما هو
(حب الذات) والذي يشكّل االنحراف الممكن دوما لتقدير
ّ الذات الذي يسميه «كانط»
العادي له ،وهناك تعبير عند «كانط» يجعل هذا التأويل
ّ الذات ،وهو في الواقع االنحراف
مقبوال :حين يتحدّ ث عن شعور التساوي وهو الوجه الموجب المغاير لشعور اإلكراه في
يسمي التأثير الذاتي على الشعور بالنسبة إلى هذا
التكوين المتباين لالحترام فإنّه يقترح أن ّ
مجرد موافقة.
التسامي ّ
الضروري أن نن ّبه إلى أنّه يوجد سبب يدفع «ريكور» إلى التفكير ّ
بأن نقد ّ وإنّه لمن
حب الذات ال يقطع كل صلة ممكنة مع تقدير للذات موجب ال سيما وأنّها حاملة
ّ
لالستقالل الذاتي ومأتى هذا السبب على ما يرى «ريكور» االعتبارات الغائ ّية العديدة
الحاضرة في كتاب La critique de la faculté de jugerتلك التي تتع ّلق بالممارسات
التي تقوم بها الميول التي تتحكّم في الطبيعة البشر ّية والحال ّ
أن الشخص ّية قد وضعت
على أعلى هرم هذه الميول.
مما هو
ويهمنا هنا أن نقوم بإطاللة على ما من شأنه أن يرتقي باإلنسان إلى أعلى ّ
ّ
عليه كما ورد في كتاب La critique de la raison pratiqueوبالتحديد في الفصل
الحرية واالستقالل بالنسبة
المخصص للدوافع «ليس شيئا آخر سوى الشخص ّية أي ّ ّ
إلى أو ّالية الطبيعة بأكملها ،ونعتبره مع ذلك كسلطة كائن يخضع لقوانين ّ
خاصة أي
إلى قوانين محضة عمل ّية يعطيها عقله نفسه ،حتّى ّ
إن الشخص بما هو كائن ينتمي إلى
.33يذهب «ريكور» إىل أن الرش مل يعد يستطيع هو أيضا أن يقيم يف ختريب العقل ،فالكائن خارج القانون
لن يكون رشيرا لكثرة ما هو شيطاين ( )...وإنني ألرى عىل نحو أكثر دقة كذلك يف «كانط» التجيل
الفلسفي التام بأن الرش األعىل ال يمثل املخالفة الكبرية للواجب ،ولكنه يمثل اخلبravitas ،
vitiositasالذي جيعلنا نرى اخليانة أنه فضيلة.
انظر ،ريكور ،رصاع التأويالت ،ص ( ،357مصدر سابق)
ةديلجوب نب رَمُع .د 386
وليس للناظر إالّ أن يالحظ كيف يلفت «ريكور» االنتباه إلى مناقشة قديمة ويجعل
منها مالذا يلجأ إليه ليبرهن على ما يذهب إليه وليطمئن القارئ االطمئنان ك ّله على
أن هذه المسألة تعيد «كانط» إلى أراضي مناقشة كانت قد تحددت بالصراع بين» ّ
أوغسطينوس» و«بيالجيوس» ويرى «ريكور» في تحليل «كانط» حرصا خفيا على
الشر توقا
األوغسطيني عندما يجعل من الجنوح إلى ّ
ّ اإلبقاء على شيء من التراث
فطر ّيا.
الشر يتناسل مع كل فعل س ّيئ وإن كان في األصل موجودا وسابقا
أن ّ فقد أوضح ّ
حر ّية االختيار فكرة جذر ّية حين جعل منها لذلك الفعل 34بل ّ
إن «كانط» قد جعل فكرة ّ
.34انظرJean Nabert « note sur l’idée du mal chez Kant » dans Essai sur le mal (Paris:
165ــ PUF 1955)pp159
من أهم مؤلفات جان نابري ( 1881ــ )1960التجربة اجلوانية للحرية L’expérience interne de
) la libreté (1924وعنارص من أجل نظرية أخالقية )Eléments pour une éthique (1943
ومها الكتابان اللذان قدّ م هلام «ريكور» يف طبعتيهام الالحقتني .وهو ما من شأنه أن ينبئ عن املسلك
الذي سلكه «ريكور» يف ثالثية «اإلرادي والالإرادي» ،مقتفيا آثار «نابري» ،وهو ما يمكن أن يسمى
«مسلكا اتيقيا» ،لقد كان رضبا من رضوب التأمل يف الرش الذي شهده العامل ابانئذ ،وهبذا كان اختالف
طروحات «ريكور» عىل ما أنجزته «حنا ارندت» حول الكليانية ،وما أنجزه «مارلوبونتي» حول
احلرب والعنف ،من حتاليل سياسية.
- Karl Jaspers, « Le mal radical chez Kant», dans: Karl Jespers, Billon et perspectives,
traduit par H ;Naef et J.Hersch (Desclée de Bronmer, 1956), pp189 - 215
من أهم مؤلفات « كارل ياسربز»« ،الذنب األملاين» (« ،)1946مدخل إىل الفلسفة» ( )1950وفيها
اجتهد كفيلسوف وجودي يف ترمجة حمنة الوجود األساسية التي تتجىل يف جتربة الفشل ،والعذاب
والرش ...باعتبارها وضعيات قصوى تشهد عىل نقص يف الوجود يشكل منطلقا للفلسفة .ولقد
اعترب «ريكور»« ،كارل ياسربز» ملهمه األول ،فقد ساعدته «وجوديته املؤمنة» أثناء االعتقال
وذلك ألهنا حتمل جزءا اتيقيا ينهض عىل إمكان بناء عالقة حوارية مع اآلخر تقوم عىل االعرتاف
والتفاهم .ويقول «ريكور»« ،وأنا مدين لـ «ياسربز» الذي استطاع أن يبقي عىل إعجايب بالفكر
األملاين ،فلم تعصف به فضاعات املحيط و«إرهاب التاريخ» ،وقد أثمرت الدراسة الدقيقة
ألعامل «ياسربز» الذي اشرتكت يف تأليفه مع ) 1995ــ ،Mikel Dufrenne (1910وجعلنا
عيل أن أضيف إليه فيام بعد ،كتابا يف الفلسفة
عنوانه :كارل ياسربز وفلسفة الوجود ( )1947وكان ّ
املقارنة ،عنوانه:غربيال مرسال وكارل ياسربز ،فلسفة الرس وفلسفة املفارقة (».)1949
Paul Ricœur, Karl Jaspers et la philosophie de l’existence. En collaboration avec
Mikel Dufrenne. Préface de Karl Jasper. Paris, Seuil, 1947. (Réédition en 2000).
387 رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست
مركز معارضة حقيق ّية لمصدر نشوء المس ّلمات عندما جعل ّ
الشر جذر ّيا وحين أدخل
كل المس ّلمات .وبمثل هذا التقدير يستحيل الفكرة الصعبة لوجود مس ّلمة سيئة من بين ّ
لحرية االختيار التي تتراءى حاملة
الشر إلى عامل يزيح الحجب عن الطبيعة الجذر ّية ــ ّ
ّ
أصلي يحدّ من قدرتها على تحديد ذاتها وموقعها من القانون.
ّ لجرح
ولع ّله هاهنا تحديدا يتج ّلى لغز أصل ّ
الشر بوضوح فيما تخضع له الممارسة الفعل ّية
الشر أن يكون هذا النزوع موجودا يقل غموضا عن أصل ّ أن ما ال ّ
للحرية من تأثير غير ّ
ّ
كل مناسبة اختيار ،وأن يكون مع ذلك مس ّلمة ّ
لحرية االختيار. دائما ،سابقا في ّ
خاتمة:
التصور الديونتولوجي ألخالق الواجب الحقا
ّ سيوجه ّ
كل أطوار ّ وبهذا ينشأ تساؤل
وحرية االختيار منابت حقيق ّية تلزم األخالق بسمات فلسفة أخالق
الشر ّ
مناطه إثبات ّ
الواجب.
ولما كان األمر كذلك ينتهي «ريكور إلى استخالص فكرة على غاية من الدقة ّ
بتحمل مسؤول ّية اختبار اإللزام
ّ والخطورة تلزم استهداف الحياة الج ّيدة الخ ّيرة
«تصرف فقط
ّ الواجبي الذي يمكننا أن نعيد صياغته على الشكل التالي
ّ األخالقي
بحسب المس ّلمة التي تمكنك في الوقت نفسه من أن تريد من أالّ يكون ما يجب أالّ
الشر».35
يكون ،أي ّ
Paul Ricœur, Gabriel Marcel et Karl Jaspers: Philosophie du mystère et philosophie du
paradoxe, Paris, Temps présent, 1948.
انظر ،بول ريكور ،بعد طول تأمل :السرية الذاتية ترمجة فؤاد مليت ،املركز الثقايف العريب ،املغرب،
ط ،2006 ،1ص .37
.35إن الرش هو قبل كل يشء ما ال جيب أن يكون ،بل جيب أن يصارع .فتحت تأثري األسطورة ،يكون
التفكري التأميل مشدودا إىل اخللف باجتاه األصل« :من أين يأيت الرش؟» ،إن جواب الفعل ــ وليس احلل
ــ هو« :ما العمل يف مواجهة الرش؟» هكذا يتوجه النظر باجتاه املستقبل .بفكرة املهمة الواجب إنجازها،
والتي تستجيب لفكرة األصل الذي جيب اكتشافه.
انظر ،بول ريكور ،فلسفة اإلرادة ،االنسان اخلطاء ،ترمجة عدنان نجيب الدين ،املركز الثقايف العريب
بريوت ،الدار البيضاء ط ،2008 ،2ص .242
Ricœur (Paul), Philosophie de la volonté (1950 - 1960) tome 1: Le volontaire et
l’involontaire, Paris, Aubier, 1950; réédité en 1988 tome 2: Finitude et Culpabilité.
ةديلجوب نب رَمُع .د 388
المراجع
-بول ريكور ،الذات عينها كآخر ،ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي ،المنظمة
العربية للترجمة بيروت لبنان ،الطبعة األولى ،نوفمبر .2005
-بول ريكور ،صراع التأويالت ،ترجمة منذر عياشي ،دار الكتاب الجديد المتحدة
بيروت،2005 ،
-بول ريكور ،بعد طول تأمل :السيرة الذاتية ترجمة فؤاد مليت ،المركز الثقافي
العربي ،المغرب ،ط.2006 ،1
-بول ريكور ،فلسفة اإلرادة ،االنسان الخطاء ،ترجمة عدنان نجيب الدين ،المركز
الثقافي العربي بيروت ،الدار البيضاء ط.2008 ،2
-ايمانويل كانط تأسيس ميتافيزيقا األخالق ترجمة وتقديم عبد الغفار مكاوي
منشورات الجمل الطبعة األولى كولونيا.2002 ،
-ايمانويل كانط ،نقد العقل العملي ،تعريب وتقديم ناجي العونلي ،جداول للنشر
والتوزيع ،ط ،1نوفمبر .2011
-ايمانويل كانط ،الدين في حدود مجرد العقل ،ترجمة فتحي المسكيني ،جداول
للنشر والتوزيع ،بيروت ،الطبعة األولى فيفري 2012
-عبد الرحمان بدوي ،األخالق عند كانط ،وكالة المطبوعات ،الكويت.1979 ،
1960).ــ -- Ricœur (Paul), Philosophie de la volonté (1950
-- tome 1: Le volontaire et l’involontaire, Paris, Aubier, 1950; réédité en 1988.
I. L’homme faillible, Paris, Aubier, 1960 tome 3: Finitude et Culpabilité. II. La
symbolique du mal, Paris, Aubier, 1960.
Les tomes 2 et 3 de l’édition originale ont été regroupés dans un seul tome, lors de
la réédition de 1988: Finitude et Culpabilité.
389 رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست
عاش اإلنسان منذ األزل في حمأة الصراع مع اآلخر المختلف .وفي ظل هذا
التدافع إلقرار الحق في الكينونة والوجود ،تفرق الناس طرائق قددا ،ونشأت بينهم
نزاعات مسلحة دانت بالوالء للقوة التهديدية على حساب القوة التكاملية ،كما
تم تحييد القوانين وتجاهل التشريعات؛ فكان أن بعدت الشقة بين المجتمعات،
وتفتتت بنيات وأنساق داخلية بسبب طغيان منطق المواجهة والرد على منطق
الحوار والتوافق .وقد أصبح لزاما على الباحثين في علم النزاع إعادة تشكيل
العالقات الدولية بإعمال مسالك التخاطب الرحيم التي تخرج اإلنسان من نزوعه
إلى التصادم والشر وتبرز ما فيه من تعاطف وقدرة على العطاء من القلب ،لبناء
عالم أخالقي جديد يتقوم بالمحبة والخير والعيش المشترك .وال شك أن اللسانيات
التداولية تقدم أدوات إجرائية تتميز بقدر كبير من النجاعة والمعقولية في تفسير
أسباب النزوع نحو الشر وضبط مساراته وتوجيه مخرجاته .من هنا؛ كانت الحاجة
ملحة إلى إدارة النزاعات على وفق مقاربة جديدة تعتمد التفاوض المؤسس على
أخالق المسؤولية ،وتشتغل بطريقة تعاونية تؤثر إيجابا على منهجية تصريف الكالم
وإجراءات تبديل األفهام.
وال شك في أن التوسل بأدوات العنف والقوة والتهديد والتملص من
بروتوكوالت القانون الدولي اإلنساني ،يؤدي إلى تعميق مساحات االنزياح
.1أستاذ التعليم العايل مساعد ،املركز اجلهوي ملهن الرتبية والتكوين طنجة ،تطوان ،احلسيمة ،دكتوراه
يف اللسانيات والتواصل والرتمجة.
راطعلا ىفطصم .د 392
وتكريس الرغبة الجامحة في تحييد اآلخر وإلغاء وجوده وحرمانه من التعبير
عن شعوره ،بدل التعاطف معه وتفهم حاجياته إلعادة تأسيس وعي هوياتي
جمعي قوامه االحترام وإعمال ثقافة االعتراف بآخرية الغير ،لبناء كيان دولتي
يحتكم للقوانين والتشريعات المتفق عليها ،تلك التي تتخذ صبغة اإللزام والقسر
لألطراف الموقعة عليها ،دون اإلخالل بإتيقا النقاش 2بوصفها بديال إجرائيا
للعقل األداتي ،كما أقرها هابرماس.
وانظر أيضا:
Kant, La Logique, (Vrin, 1989), p 25
.4أمانويل كانت ،تأسيس ميتافيزيقا األخالق ،ترمجة وتقديم د .عبد الغفار مكاوي ،مراجعة د .عبد
الرمحن بدوي( ،منشورات اجلمل ،ط ،1كولونيا ــ أملانيا ،)2002 ،ص .11
.5املرجع السابق نفسه ،ص .11
راطعلا ىفطصم .د 394
المواجهة والرد بموقف المصالحة والتوافق ،بعيدا عن األحكام الجاهزة التي
تنمط اآلخر وتقولبه ،فتعدم سبل العطاء المتبادل من القلب ،مع التركيز على
كيفية اإلبقاء على الجانب البشري فينا حتى عند التعرض لظروف قاسية .إن جميع
البشر مبرمجون فطريا على التعاطف ،بل منشأ الصراع في اإلستراتيجيات المتبعة
إلدارة الحاجيات اإلنسانية المشتركة ،وهي مسالك تنم عن جهل باالختيارات
التواصلية األكثر فعالية ونجاعة؛ فإذا استطعنا تلبية احتياجاتنا بالموازاة مع
احتياجات اآلخرين ،يمكن الوصول إلى إحداث تناغم في الرؤى والمواقف،
والتحول من الصراع بين األنا بوصفه ضدا لآلخر إلى األنا واآلخر بوصفهما
ضدا للمشكلة ،بالشكل الذي يجعل سلوكنا تعاونيا .إن طريقة التعاطي مع ثنائية
الهدف والعالقة هي المحدد األساس لما ينبغي أن يكون عليه الصراع؛ فإما أن
نعمل النمط التنافسي الذي نحقق فيه الهدف ونخسر العالقة؛ وهو نمط يحتكم
إلى لغة القوة والتهديد والتطويع والقدرة على التشغيب والمغالطة والميل إلى
الجدل ،وإما أن نتوسل بالنمط التنازلي الذي نربح فيه العالقة ونخسر الهدف؛
ولكن ذلك يكون على حساب التخلي عن اآلراء واألفكار والمعتقدات ،وإما أن
نوظف النمط الهروبي الذي نضحي فيه بالعالقة والهدف معا؛ من خالل التغاضي
عن الخالف بإنكاره ،وإما أن نختار النمط الذي يقوم على المساومة باعتبارها
حال وسطيا يجمع بين التصلب والتعاون ،وبين التنافس والتنازل ،مع التحلي
بقدر كبير من المرونة والمقايضة لتبادل التنازالت .ويبقى النمط التعاوني أرقى
هذه األنماط الخمسة.
«إن طريقة التواصل غير العنيف تدربنا على المالحظة بدقة واهتمام ،وتمنحنا
القدرة على تحديد السلوكيات والظروف التي تؤثر علينا ...إن التواصل غير
العنيف صيغة سهلة ،ولكنها تحدث تغييرا هائال» .6لذلك؛ يكون الرهان ،مع
هذه الصيغة ،هو تذكر كيفية تركيز االنتباه على الموضع الذي يعزز من احتماالت
حصولنا على ما نريده ،7وال شك أن أسمى ما نطمح إليه هو التعاطف ،الذي هو
عطاء من القلب ،نسعى فيه طواعية إلى إثراء حياة شخص آخر ،مع ما يرافق ذلك
من إحساس بمتعة العطاء واألخذ معا .وال يتم ذلك إال بتركيز نافذة اإلدراك على
جوانب أربعة :8
المالحظة من دون إصدار أي حكم أو تقييم؛
التعبير عن الشعور عند مالحظة السلوك؛
تقرير احتياجاتنا المرتبطة بالمشاعر التي قمنا بتحديدها؛
الطلب المحدد بدقة.
ومن شأن هذه المقومات األربعة أن تمنح لعالقاتنا مع اآلخر مزيدا من الدفء،
وهي ذات طبيعة ممتدة أو مستعرضة؛ ألنها تطال ميادين مختلفة ،بما في ذلك تدبير
النزاعات في العالقات الدولية وتوجيه مآالت التفاوض .ولكن ما الذي يجعل
التواصل معيقا للتعاطف؟ أو ما األسباب التي لو أقحمت في عملية التواصل ،فإنها
تزري بشروط الرحمة فيه؟
إن تصنيف اآلخر والحكم عليه أخالقيا ،من المعيقات التي تضرب في
قيمة التواصل الرحيم؛ فاألحكام األخالقية غالبا ما تكون صادرة عن عدم
التوافق في القيم والمعتقدات والمواقف ،األمر الذي يجعلنا ننعت اآلخر
بالسوء ،ونصنفه في محور الشر لمجرد اختالفه معنا في إدراك العالم ،عالوة
على إنكار المسؤولية التي تحاكم اآلخر وتضعه في قفص االتهام وتبرئ
الذات من اجتراحها الشر أو من تحمل مسؤوليتها تجاه تصرفات رعناء صادرة
عنها ،فضال عن التوسل بلغة ترشح عنها األوامر التي تمثل تهديدا صريحا
أو ضمنيا لآلخر الذي يشعر بالخوف من العقاب أو اللوم إذا لم يذعن لهذه
األوامر الفوقية.9
10. J.Habermas, La Paix Perpétuelle, Le bicentenaire d’une idée Kantienne, (Cerf 1996),
p 101.
.11حممد عبد السالم األشهب ،مناظرة هابرماس وروالز ،سؤال العدالة يف الفلسفة السياسية( ،كلية
اآلداب والعلوم اإلنسانية ،سلسلة ندوات ومناظرات رق ،)179ص .136
397 ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ
بتعبير طه عبد الرحمن 12 ،التي تزداد بها إنسانية اإلنسان على المستوى التعاملي،
إلى جانب الخاصية العقالنية ذات االرتباط بما هو تواصلي .وفي كل ،يحضر
التهذيب بما هو عمل يخلص القول الطبيعي مما يعيب داللته وينزع عنه أسباب
االنتفاع به تأدبا وتخلقا؛ فأما التأدب ،فمقتضاه ،وفق طه عبد الرحمن« ،أن يأتي
المتكلم بفعل القول على الوجه الذي يبرز داللته القريبة ويقوي أسباب االنتفاع
العاجل به» .13وهذا التهذيب الذي ينطوي على التأدب هو مدعاة الحفاظ على
الخيط الناظم للتواصل ،الذي يسمح بتبادل االنتفاع ،ورفض التمركز حول الذات
حتى نبقي على الهدف والعالقة معا (رابح/رابح) .أما التخلق« ،فمقتضاه أن يأتي
المتكلم بفعل القول على الوجه الذي يبرز به داللته البعيدة ،فضال عن اعتبار
داللته القريبة ويقوي أسباب االنتفاع اآلجل به ،فضال عن اعتبار االنتفاع العاجل
به» .14وهذا الضرب من التهذيب يجعل عملية التواصل قائمة على التفاعل الذي
مؤداه جلب الخير ودرء الشر؛ وهو منتهى اإلنسانية التي تزيد من اعتبار الغير على
اعتبار الذات ،وهو ،أيضا ،جوهر العالقة التخاطبية/الفاعلة ،المبنية على الذات
المتعاملة التي تتناسل منها الذات المتأدبة والذات المتخلقة.
وقد صنفت أركيوني ،من جهتها ،قواعد اللياقة والتأدب على صنفين:
قواعد خاصة بسلوك المتكلم تجاه المخاطب؛
قواعد خاصة بسلوك المتكلم تجاه نفسه .فالقاعدة األولى ،تلزم المتكلم بالحفاظ
على ماء وجه المخاطب؛ وذلك بالحرص على عدم توجيه األوامر العنيفة ،أو تصريف
كل ما ينطوي على فظاظة.15
أما القاعدة الثانية ،فتدعو المتكلم للحفاظ على ماء وجهه مع توخيه الحذر.
وال يمكن أن تتحقق القاعدتان السابقتان إال بالقاعدتين اآلتيتين:
.12طه عبد الرمحن ،اللسان وامليزان أو التكوثر العقيل( ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،املغرب ،ط
،)2006 ،2ص.220
.13املرجع السابق نفسه ،ص .223
.14املرجع السابق نفسه ،ص .223
15. Orecchioni.c.k, L’implicite, (Paris, Colin, 1986), p 231 - 235.
راطعلا ىفطصم .د 398
حافظ على حوزتك ما أمكن حتى ال يتهجم عليك الغير ،وهو الوجه السلبي
للمتكلم؛
حافظ على كرامتك واحترامك ،وال تسمح لآلخرين بالتهجم عليك ،وهو الوجه
اإليجابي للمتكلم.16
من دون أن نعني بهاتين القاعدتين المبالغة في تمجيد الذات؛ وهو ما ينشأ عنه
قاعدة التواضع وعليه؛ يكون الحوار هو المجال الذي يسعى فيه المتحاور إلى حفظ
وجهه بحفظ وجه مخاطبه؛ وذلك باإلجابة عن األسئلة اآلتية:17
من أنا ألكلمه بهذه الطريقة؟؛
من هو ألكلمه بهذه الطريقة؟؛
من أنا ليكلمني بهذه الطريقة؟؛
من هو ليكلمني بهذه الطريقة؟.
تمثل هذه األسئلة التخاطبية التي يديرها المتكلم في ذهنه محاولة لإلبقاء على
مبدأ التعاون الذي أرساه غرايس وفرعه إلى مبادئ متناسلة عنه (مبدأ الكم ،ومبدأ
الكيف ،ومبدأ الصيغة ،ومبدأ العالقة) .ولسنا ،ههنا ،مطالبين ببسط القول النظري
في هذه المبادئ مجتمعة؛ لكننا مأخوذون بموضع القصور التهذيبي الذي يطالها،
وهو ما دفع اليكوف إلى اقتراح شروط التخاطب التهذيبي التي أطلقت عليه منطق
التأدب الذي يحرص المتخاطبان ،بمقتضاه ،على مراعاة التأدب أكثر من الوضوح.
يتفرع عن هذا المبدأ التداولي العام قواعد ثالث :قاعدة التعفف ،وقاعدة التشكك،
وقاعدة التودد:18
فأما قاعدة التعفف؛ فمقتضاها (ال تفرض نفسك على المخاطب)؛
.19إيامنويل ليفيناس ،فيلسوف هيودي لتواين األصل فرنيس اجلنسية ،ولد سنة ،1906وتويف سنة ،1995
صاحب كتاب( :إيتيقا الغريية) .يف مؤلفه (الكلية والالتناهي) اعترب أن حضور وجه اآلخر ليس
بالرضورة قائام عىل العالقة الرصاعية؛ بل عىل العكس من ذلك هي عالقة قبول واعرتاف ،منتقدا نزعة
االنطواء واألنانية التي سقط فيها الكائن اإلنساين بإلغائه للغريية .ملزيد من االطالع :راجع مؤلفات
ليفيناس ،وانظر أيضا ،رشيد بوطيب ،نقد احلرية ،مدخل إىل فلسفة إيامنويل ليفيناس( ،بريوت،
منشورات ضفاف ،اجلزائر منشورات االختالف اجلزائرية.)2018 ،
20. Levinas. E, Ethics and Infinty, Conversations with Philippe Nemo, (Translated by
Richard A.Cohen, Duquesne University, Pittsburgh, USA, 1985), p 86.
راطعلا ىفطصم .د 400
بل هي الفلسفة األولى» .21والحال أن سبب الشر يمكن رده إلى هيمنة أخالق
الذاتية على حساب أخالق الغيرية؛ ما ينجر عنه نزاع وتقاطب بين سطوة الذات
ومحاولة اآلخر مواجهة هذه السطوة التي تريد تجريده من كينونته ووجوده .إن
رؤية وجه اآلخر في صورته اإلنسانية واألخالقية هي الضامن للتواصل الرحيم،
لالنتقال من القوة التهديدية إلى القوة التبادلية ،وصوال إلى القوة التكاملية
المبنية على التفاهم والوصال والتعاطف ،مع ما يرشح عن وجه اآلخر من
معاني النبل والتودد والتوسل ،بشكل يستثير إنسانيتنا نحوه ويحرك مسؤوليتنا
األخالقية تجاهه ،كما يجعلنا نخاطر بذاتينا في سبيل اآلخر حتى لو تعرضنا
لإلهانة واإلحراج.22
التهذيب األخالقي لذئبية اإلنسان هذه ،وجد تفسيره في مفهوم المواجهة أو
التواجه؛ فعندما يكون وجه اآلخر هو وجهي ،فذلك يفرض علي التزاما أخالقيا
بضرورة الحفاظ عليه .23إن الحرية كامنة في هذه المواجهة اإليتيقية بين األنا
واألنت؛ بحيث يكون وجه الكل هو شرط إثبات األنا عبر الحوار ال اإلقصاء،
وبإعالن الحياة ال التهديد بالموت .إن الطريق الوحيد إلى اﷲ ،وفق ليفيناس ،هو
اآلخر الذي يعيش تحت مسؤوليتنا ،وقداسة الوجه اإلنساني ترجمة لتجلي اإللهي
في الحسي .وال يمكن أن يتم ذلك إال بتحويل غيرية اآلخر إلى صورة مطابقة
لنا ،يتحول فيها إلى المثيل ،وبذلك تصبح العالقة بين األنا واألنت عالقة إيتيقية
متكافئة؛ بل تصبح الغيرية شرطا إلثبات اإلنية انطالقا من الوجه الذي يتجاوز
نظرتنا الحسية إليه بوصفه مجرد مالمح فيزيقية ،24إلى اعتباره يتحدد خارج نطاق
عالقة الذات بالموضوع .مبدأ التواجه ينطوي على عالقة تداولية يجعل من الوجه
21. Levinas. E, Totalité et infini, Essai sur l’extériorité, (Martinus Nijhoff, France 1971),
p 336.
22. Levenas. E, Autremant qu’être ou au - delà de l’essence, (Martinus Nijhoff 1978), p 73.
23. Levinas.E, Outside the subject, (Translated by Michael. B.Smith, Stanford University
Press, Stanford, California, Editions Fata Morgana), pp 34 - 35.
24. Lazare Benaroyo, Le visage au - délà de l’apparence, Levinas et l’autre rive de
l’éthique, (Articolo Sottoposto a peer review.Ricevuto il 232014/6/.Accettato il
12015/3/), P 218.
401 ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ
مرآة تفيض باألسرار وتنضح بالتمايز ،وتشجع على الحوار والتناظر بدل الصراع
والتنافر ،وتغلب المسؤولية األخالقية على المعرفية ،بالصورة التي تجعل من األنا
في خدمة سيده اآلخر .إن االختالف ال يلغي االنتماء إلى زمرة النوع اإلنساني ،وال
يلغي المحبة التي يفترض أن تنهض بها العالقة مع اآلخر المختلف .هذه هي النزعة
اإلنسانية واألخالقية التي تتأسس على الحرية بوصفها مطلبا أنطولوجيا للكون
اإلنساني .لهذا يغدو مفهوم الهوية الثابتة والذات المنعزلة عن غيرية اآلخر مفاهيم
خارجة عن إطار الهوية الكونية التي تجعل مالمح اآلخر ال تتحدد إال في عالقتها
المحايثة للغير باعتباره ذاتا ال موضوعا ،روحا ال جسدا .ومن شأن هذا الشرط
اإليتيقي أن يذيب النظرة الصدامية واإلقصائية ليخلق بدلها نظرة تذاوتية؛ حيث ذاتي
تحل في ذات اآلخر ،أو تتضايف معه على األقل ،دون السعي إلى تشييئه وتملكه؛
بل محاولة تتميم تلك المساحات التي تبدو فارغة لديه ،من منطق مسؤوليتي تجاه
الضعف الذي يمكن أن يعتريه .ولعل فلسفة الالمتناهي هي المنوال الجديد الذي
أقام عليه ليفيناس فكرته عن الغير والغيرية ،وأسس عليه نظرته إلى اإلنسان بوصفه
إنسانا ال معرفة .فالمسؤولية تجاه احتياجات اآلخر تطرد األنا من سيادته وسطوته،
ورضا األنا عن النفس يقضي على النزاهة األخالقية .25
وإذا كانت القاعدة األخالقية لليفيناس تستوجب الشعور بالمسؤولية تجاه اآلخر،
فإن مضمون هذا المبدأ ،في الدراسة المشتركة التي قام بها بروان وليفنسن ،يبدو في
المبدأ اآلتي:26
لتصن وجه غيرك .وصيانة وجه الغير ال يمكن أن تتعارض مع صيانة وجه األنا؛
وهو ما يبقي على الوجه الدافع والوجه الجالب دونما تهديد لهذين الوجهين.
25. Levinas E, Humanisme de l’autre homme, (FATA MORGANA, 1987)? P 53. «Le Moi
perd sa souveraine coïncidence avec soi, son identification où la conscience revient
triomphalement à elle - même pour reposer sur elle - même. Devant l’exigence de
l’autrui, le Moi s’expulse de ce repos, n’est pas la conscience, déjà glorieuse, de cet
exil. Toute complaisance détruit la droiture du mouvement éthique».
ــ .26طه عبد الرمحن ،اللسان وامليزان ،مصدر سابق ،ص .243
راطعلا ىفطصم .د 402
قانون النزاع ،من المنهجية الصفر إلى المنهجية التكاملية:
ال غرو أن مسارات حل النزاع التي تكون فيها صيانة الوجه من جهة األنا على
حساب الغير؛ تسفر ،ال محالة ،عن تشنج في المواقف يفضي إلى إنهاء النزاع
بصورة مأساوية (معا نحو الهاوية) هي نتيجة لتهديد الوجه الدافع والجالب
معا .وتكون األدوات المعجمية المرتبطة بهذا السياق سابحة في فلك التهديد
والوعيد ونفي االعتراف ومدافعة الغيرية باإلنية ،والقبول بتدمير الذات إذا كان
من مستتبعات ذلك تدمير اآلخر؛ من خالل عبارات التجريح وألفاظ التقويم التي
تتعارض مع قواعد التواصل الرحيم .غير أنه في مرحلة معينة من مراحل النزاع،
يمكن لألطراف المتنازعة أن تبدي استعدادها للتفاوض في مسألة التسوية من
منطلق إيمانها بأن استمرار النزاع يؤدي إلى حدوث كارثة ال تبقي وال تذر،
وهي لحظة النضج التي تحتم على طرفي النزاع استغالل الفرص المتاحة ،على
ضآلتها ،من أجل إيجاد تسوية للنزاع ،بإعمال ثقافة التنازل المتكافئ عن عقلية
القوة واالنتصار وتغليب منطق التوافق بوصفه الخيار األنسب إلنقاذ النزاع من
الوقوع في الهاوية ،بعد تجاوز التصلب الذي يطبع المواقف واآلراء ،وتقاسم
المكاسب والتكاليف معا؛ خاصة مع الصراع الخالص الذي يكون مخندقا في
قضايا ذات صلة بالوجود والهوية واالنتماء؛ ما يعني أن الصراع ال يخرج عن
النفي واإلثبات أو الهدم والترشيح ،ويتبين معه أننا بصدد أزمة قانونية نسقية
ذات بعد إيديولوجي متجذر في الالوعي الجمعي ،يذكيه اإليمان الراسخ بأن
كل طرف هو صاحب حق تاريخي وسيادة قانونية؛ فيتحول التفاوض إلى ترف
كالمي ال يثبت حسن النية ويخضع فيه الطرف األضعف ،طوعا وقهرا ،البتزاز
سياسي ومساومة قانونية ،على الرغم مما يقدّ مه من تنازالت كبيرة.
لذلك يتم التمييز في أدبيات التفاوض بين المنهجية الصفرية التي تجعل
المكاسب في يد الطرف األقوى (النمط التنافسي الذي مؤداه رابح/خاسر)،
في حين تحرم الطرف األضعف من المكاسب نفسها ،وبين المنهجية التكاملية
التي يحصل طرفا النزاع بموجبها على المكاسب بنوع من اإلنصاف والمناصفة
403 ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ
(النمط التعاوني الذي مقتضاه رابح/رابح) ،27مع إبداء االستعداد لتطبيق القواعد
األساسية للقانون الدولي اإلنساني وااللتزام بالمبادئ المتضمنة في اتفاقيات
جنيف.
وألن المنهجية الصفرية يبدو فيها الحل السلمي متعذرا ،فقد تحول البحث
عن حل للصراع إلى إدارة الصراع بشكل يقلل من مظاهر العنف ،واإلبقاء على
الوضعية كما هي .لكن هذه المنهجية التي ترمي إلى االستمرار في التفاوض
وعدم قطع «حبل الود» تنطوي على تنازالت أخرى تزيد من تأجيج جذوة
الخالف ،لتصبح حقا أريد به باطل ،في وقت يبقى القانون اإلنساني الدولي حبرا
على ورق؛ ألنه ال يتم تنفيذه في هذا النزاع ،كما ال يقدّ م الحدّ األدنى من أحكام
تنص عليه المادة 3المشتركة في اتفاقياتالقانون اإلنساني الدولي ،بناء على ما ّ
جنيف التي تحظر األعمال العدائية( :االعتداء على الحياة والسالمة البدنية،
االعتداء على الكرامة الشخصية ،إصدار األحكام وتنفيذ العقوبات دون محاكمة
سابقة أمام محكمة قانونية ،إهمال المرضى والجرحى وعدم االعتناء بهم) ،في
حق األشخاص الذين ال يشتركون مباشرة في النزاع المسلح؛ بمن فيهم أفراد
القوات المسلحة الذين ألقوا أسلحتهم ،واألفراد العاجزون عن القتال بسبب
المرض أو اإلصابة أو االحتجاز ...لذلك؛ ال مجال للحديث ،ههنا ،عن حل
شامل ألصول النزاع؛ بل حتى مسألة تسوية النزاع في بعض القضايا تبدو عملية
في غاية التعقيد ،فال يمكن التفاوض حول قضايا محددة في ظل صراع متجذر
حول الحاجات اإلنسانية األساسية كالوطن والهوية والوجود؛ وهي حاجات
تحتاج إلى من يشبعها .لكن يمكن تحويل النزاع بإظهار التعاطف والتغيير
البنيوي لألنساق اإليديولوجية واالجتماعية والنفسية؛ وهو أمر يبدو مستحيال،
لكنه قابل للتطبيق إذا ما نحن اعتمدنا على أصول التخاطب الالعنفي؛ بما في
ذلك العطاء من القلب ،ونبذ التواصل الذي يعيق التعاطف ،والمالحظة بدون
تقييم ،والتعرف على المشاعر والتعبير عنها ،وتحمل المسؤولية عن مشاعرنا،
والطلب الذي سيثري الحياة ،والتلقي المتعاطف ،وقوة التعاطف ،والتواصل
.27أمحد جالل ،مهارة التفاوض ،القاهرة ،جامعة القاهرة ،ط ،2010ص 110وما بعدها.
راطعلا ىفطصم .د 404
بتعاطف مع الذات ،وتحرير أنفسنا من البرمجة القديمة ،والتعبير عن التقدير.28
ومن جهة أخرى؛ فإن تحقق هذه األدبيات رهين بمدى القدرة على انتشال
النظام الدولي من صبغته الفوضوية وإعادة هيكلته نسقيا حتى تتشكل العالقات
الدولية على وفق نمط تعاوني رحيم؛ فتبعا للنظرية الواقعية الجديدة ،يتحدد
سلوك الدول بطبيعة النظام الدولي السائد ،29الذي يروم اإلبقاء على الوضع
الراهن ،والحفاظ على هرمية العالقات الدولية في ظل نظام القطب الواحد
الذي يسعى إلى تطويع الدول الضعيفة لتخضع ألوامر القوى العظمى التي
تصوغ القانون الدولي وفق شروطها .وإذا لم يتم خلخلة هذه األنساق التقليدية
المعتمدة على سياسة اإلرضاخ والتجني على القانون الدولي اإلنساني المتعلق
بالنزاعات المسلحة الذي خرج من صلبها ،وتعويضها بسياسة التعاون والتكامل
والديبلوماسية الناعمة؛ فإن القوة التهديدية ستبقى مهيمنة على العالقات الدولية
التي يطبعها منطق الحرب بدل منطق التوفيق والبحث عن المصالح المتبادلة؛
سواء تعلق األمر بالنزاعات غير المتماثلة التي تحتدم بين أطراف غير متكافئة
على مستوى ميزان القوى أو تلك النزاعات المتماثلة التي تنشأ بين أطراف
متكافئة على مستوى معادلة القوة.
إن إعمال قواعد التعامل المتفرعة عن مبدأ التصديق ،هو ما يؤشر على إمكانية
استمرار التفاوض في نطاق التواصل الرحيم ،ولو في حده األدنى .أما خرق هذه
القواعد ،فإيذان بعودة القوة التهديدية.
وبتطبيق مثلث النزاع لجون غالتونغ فإننا نستنتج أن هناك ثالث زوايا للنزاع :زاوية
التناقض ،زاوية اإلدراك ،زاوية السلوك30؛ فزاوية التناقض؛ تحيل على عدم التوافق
.28هذه العنارص هي العناوين املشكلة لكتاب مارشال روزنربغ (التواصل الالعنفي لغة حياة).
.29أمحد نوري النعيمي ،السياسة اخلارجية ،دار زهران للنرش والتوزيع ،عامن ،األردن ،الطبعة األوىل
،2011ص .104
.30مصطفى عثامن إسامعيل ،إدارة النزاعات بني اإلسالم والغرب ،دراسة مقارنة بني املنهج اإلسالمي
واملامرسات الدينية ،مكتبة مدبويل ،القاهرة ،مرص ،ط ،2014 ،1ص 35ــ .36
وينظر أيضا:
Johan Galthung, Theories of conflict, Definitions, Dimensions, Negations,
Formations, (University of Hawaii 1973).
405 ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ
.31مصطفى عثامن إسامعيل ،إدارة النزاعات بني اإلسالم والغرب ،املرجع نفسه ،ص .38
.32الواقعية اهلجومية نظرية هيكلية تنتمي إىل مدرسة الفكر الواقعي ،أسسها جون مريشايمر أستاذ العلوم
السياسية يف جامعة شيكاغو .ترى هذه النظرية أن من واجب الدولة القومية محاية نفسها يف ظل عامل
تنافيس يتسم بالفوىض والالنظام ،ويكون اهلدف هو احلفاظ عىل األمن والبقاء وتوسيع نطاق القوة
القومية.
راطعلا ىفطصم .د 406
نستنتج مما سبق؛ أن مباحث فلسفة األخالق هي مسالك تخاطبية ،في األصل؛
ألنها ترتبط باآلخر المختلف عنا .وفي ظل هذا االختالف نلفي إمكانية صناعة
التفاهم والتوافق؛ وذلك بتغليب أخالق المسؤولية التي تتغيا صيانة وجه الغير
واالعتراف به إيتيقيا .وتحقيق هذا الرهان األخالقي/اإلنساني يمر من خالل تملك
كفاية تواصلية تحتكم لمبادئ تعاونية وتهذيبية ترتقي بمفهوم الغير وتحرره من
وصاية األنا ،كما تخلق معه عالقة من التضايف تنبني على المحبة والسالم بوصفها
قيما يختزنها الوجه ،بما هو طاقة رمزية تشع باإليحاءات التي تستدعينا لبناء تواصل
رحيم ،تحل معه النزاعات على وفق ما تمليه شروط التواجه اإليتيقي ،بعيدا عن لغة
العنف والتهديد والوعيد التي ينجر عنها توسيع مساحات التناقض وتأبيد النزاع،
لطغيان اإلنية على الغيرية .وال شك في أن اللغة هي (المخلص من الضالل)؛
ألنها آلية التعرف على اآلخر ،وإجراؤها على الوجه التهذيبي هو ما يسعفنا في حل
النزاعات.
بهذا المعنى ،ال غياب للوجه وال صمت له؛ ألنه هو الذي يخاطب األنا ويخطب
وده ،وهو الدافع نحو التخاطب والتواصل والوصال ،ومنه البدء وإليه المنتهى في
صناعة عالم تخاطبي تعاوني ينضبط لقواعد التأدب ويحتكم لشروط التهذيب التي
تفرض علينا تخير أحسن األلفاظ وتس ّقط أدق التعابير التي تغير نظرة اآلخر إلينا
وتشجعه على الخوض في حوار عقالني هادئ تنزل كلماته كالسحر على المتلقي
الذي يطمئن للمتكلم ويركن إلى دائرة جذبه.
لكن إجراء هذه الشروط في حالة النزاعات الدولية المسلحة ال قيمة له إذا لم
ترفده قواعد القانون الدولي اإلنساني التي ترمي إلى تنظيم العالم بصورة رحيمة،
يتحقق معها السالم العالمي ،ويعم الرخاء ويصبح اإلنسان مسؤوال عن أخيه اإلنسان
مسؤولية أخالقية قبل أن تكون قانونية ،يقبل عليه ويسعى لخدمته إذا احتاجه ،كما
يحقق معه شروط االجتماع اإلنساني ،بما هو مطلب أخالقي يمنح حق الحياة
لآلخر .وال يأتي ذلك إال إذا توفرت إرادة سياسية تعمل على االنضمام للمعاهدات
واالتفاقيات الدولية المتعلقة بقانون النزاع المسلح ،والحرص على تمثلها وتطبيقها
ميدانيا.
407 ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ
لقد بدا جليا أن نحت إحداثيات العالقات الدولية بإعمال التواصل الرحيم
ال يمكن أن يخرج عن التخاطب بوصفه بنية يتفاعل فيها المظهر التواصلي
(العقالني) والمظهر التعاملي (التهذيبي) .وال شك في أن المبادئ التي يمكن أن
تسعف في إخراج الحوار والتفاوض من الدائرة التهديدية إلى الدائرة التكاملية هي
مبادئ تداولية هرمية ،تتفاضل فيما بينها تبعا لدرجة أهميتها في صون التخاطب
من االنزالق نحو المالججة والمكابرة والمعاندة؛ بدءا بمبدأ التعاون ،ثم مبدأ
التأدب ،مرورا بمبدأ التواجه ،وانتقاال إلى مبدأ التأدب األقصى ،ثم انتهاء بمبدأ
التصديق.
ثم إننا بحاجة إلى تخليق الخطاب السياسي حتى يتأسس على منطق القيم،
باالحتكام إلى قواعد أو مسلمات أخالقية وجمالية واجتماعية تعمل على
تقريبه تداوليا؛ كتلك التي أرساها بول غرايس في مبادئ المحاورة ،وغوردون
واليكوف في مسلمات المحاورة ،وبراون وليفنسون في صيانة الوجه ،وريفزين
في مسلمات التواصل العادي ،وهابرماس في إيتيقا النقاش التي تنص على
مسؤولية الفاعل تجاه تبعات فعله ،وطه عبد الرحمن في التواصل اإلنساني
والتعامل األخالقي .إن أخالقيات الحوار تبقى قاصرة عن العقلنة وضمان
التفاهم البيني ما لم تتشارط مع مبادئ التداولية الكونية 33التي تسعى إلى خلق
تفاهم كوني يتأسس على مفهوم العقالنية التواصلية على حد تعبير هابرماس .وال
يستقيم هذا المفهوم داخل نسق الممارسة التواصلية إال بالمعقولية ،والحقيقة،
والصدقية ،والنزاهة.
هذه بعض األدوات اإلجرائية التداولية التي أسسنا عليها دراستنا .وال شك
في أن تلكم اآلليات تتصف بصبغة عرضانية (ممتدة) يمكن تطبيقها على ميادين
أخرى لكشف المستور في غيب الخطاب ومعرفة الضمني فيه ،وتعرية ما ال يقال
منه.
الئحة المراجع
-عبد اﷲ السيد ولد أباه ،نظرية كانط في السالم الدائم :قراءة يورغن هابرماس،
(مجلة التفاهم ،السنة الثانية عشرة ،شتاء 2014م1435/ه)ـ.
-أمانويل كانت ،تأسيس ميتافيزيقا األخالق ،ترجمة وتقديم د .عبد الغفار مكاوي،
مراجعة د .عبد الرحمن بدوي( ،منشورات الجمل ،ط ،1كولونيا ــ ألمانيا.)2002 ،
-محمد عبد السالم األشهب ،مناظرة هابرماس وروالز ،سؤال العدالة في الفلسفة
السياسية( ،كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،سلسلة ندوات ومناظرات رق .)179
-طه عبد الرحمن ،اللسان والميزان أو التكوثر العقلي( ،المركز الثقافي العربي،
الدار البيضاء ،المغرب ،ط .)2006 ،2
-مصطفى العطار ،لغة التخاطب الحجاجي/دراسة في آليات التناظر عند ابن حزم،
(دار كنوز المعرفة ،عمان ،األردن ،ط .)2017
-عبد السالم معال وأمين الرشيد بن ياتيبان ،تقييم منهجية الدراسات التي تناولت
المفاوضات الفلسطينية واإلسرائيلية( ،مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية،
العدد الثالث ،المجلد األول ،سبتمبر .)2017
-أحمد جالل ،مهارة التفاوض(،القاهرة ،جامعة القاهرة ،ط .)2010
-أحمد نوري النعيمي ،السياسة الخارجية( ،دار زهران للنشر والتوزيع ،عمان،
األردن ،الطبعة األولى .2011
-مصطفى عثمان إسماعيل ،إدارة النزاعات بين اإلسالم والغرب ،دراسة مقارنة
بين المنهج اإلسالمي والممارسات الدينية( ،مكتبة مدبولي ،القاهرة ،مصر ،ط
.)2014 ،1
-نتنياهو بنيامين ،مكان تحت الشمس ،ترجمة محمد عودة الدويري( ،دار الجليل
409 ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ
التخصصات للوصول ّ تعمل الدّ راسات البينية على تحقيق التكامل بين مختلف
التطور
ّ إلى فهم شمولي للظواهر الفكرية والدينية واألدبية عبر دمج المعرفة ومواكبة
تنوع المعارف يسهم في انفتاح النّصأن ّالحاصل في حقول متعدّ دة .وال شك في ّ
الديني على آفاق من الفهم والقراءات .آثرنا من خالل هذا البحث أن ندرس مشكلة
«الشر» باعتبارها مفهوما دينيا وعقيدة إيمانية ومسألة فكرية شكّلت مدار اهتمام
الفكر الديني والباحثين ،وارتبطت به المعتقدات الدينية .إننا نعمد إلى استجالء
مختلف تم ّثالته الدينية واالجتماعية والرمزية والنفسية واألسطورية انطالقا من
بعض رموزه ودالالته في األديان الكتابية من منظور مناهج العلوم الحديثة اعتمادا
على التخصصات البينية وعلى قراءة تأويلية هرمنوطيقية مقارنة تستفيد من منهج
علم األديان.
ونو ّد أن نعالج هذه المقولة ،في إطار دراسة أدب ّية النص المقدّ س والنصوص
الالهوتية المسيحية واليهودية وكذلك النصوص الهوامش باعتبار ّ
أن هذه المرويات
أن النصوص الشفوية تستدعي ف ّن القص والتشويق وتعتمد على آليات قصصية ذلك ّ
التي تتحدث عن الشر تعكس تم ّثالت أدب ّية ودين ّية واجتماعية ورمزية وداللية،
صاغها المخيال ود ّعمتها اإليديولوجيا السياسية.
نسعى من خالل هذا المبحث إلى أن نعالج مسألتين :تتعلق األولى بفهم
التمثالت الدينية واالجتماعية والرمزية لمقولة الشر في األديان الكتابية ،واستجالء
التخصصات
ّ مالمح أدب ّية بعض النّصوص الدينية .وتتصل الثانية بالكشف عن قيمة
1المقاربة السيميائية:
ال يمكن للمباحث الدينية أن تنهض وتواكب الواقع إال بتجديد المناهج
واالستفادة من المعارف والعلوم الحديثة ،فتستثمر منجزات علوم اللسان
والسيميائية والهرمنيوطيقا وعلم األديانّ .
إن الحاجة ضرورية إلى انفتاح
أدبي أو فني أو نقدي
أي عمل ّ
القراءات والتأويالت على تعدّ د المعنى باعتبار أن ّ
هو أثر أو نص مفتوح على حد رأي إمبرتو إيكو .2وبات واضحا أنّه من األهمية
بمكان أن تتضافر عدّ ة علوم لدراسة الظاهرة الدينية وطرح األفكار ،وكثيرا ما
يشغل الباحث عند مقاربة الدراسات الدينية هذا السؤال :بأي منهج نقرأ النّص
الديني ونعالجه؟ وما جملة المقاربات التي تسمح بفهم بنائه التركيبي وإدراك
معناه وتاريخيته؟
لقد اخترنا أن نتطرق إلى مقولة الشر بتوظيف مجال السيميولوجيا وهو العلم
الذي يمكن من معرفة القوانين والدالئل التي تسير نظام اللغة والداللة .إننا نالحظ
يتوزع على نصوص لها بنية أدبية وذات داللة دينية عقائدية مذهبية ّ
أن مفهوم الشر ّ
واجتماعية أو نفسية وال ّلغة هي علم ال يفهم خارج المجتمع ،فتحمل اللغة وطرائق
انتظامها مدلوالت مختلفة .3وال شك ّ
أن هذا البناء اللغوي العالماتي والرمزي
.2أمربطو إيكو ،األثر املفتوح ،ط ،2ترمجة عبد الرمحان بوعيل ،دار احلوار ،سورية ،2001 ،ص.15
.3آسيا جريوي ،املصطلح السيميائي بني الفكر العريب والفكر الغريب ،جملة كلية اآلداب واللغات،
العدد الثاين عرش .جامعة حممد خضري ،بسكرةRoland Barthes, Éléments de .2013 ،
134ـ sémiologie, in : communications, 4, 1964 , pp92
413 يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم
يستدعي تأويال ،والتأويل حسب رأي ريكور يسعى إلى فك الرموز وفهم رمزية
الخطاب/النّص.4
يتراءى لنا من خالل دراسة بعض القصص الدّ ينية واألحاديث والتفاسير
واألخبار دراسة سيميائية تنظر في نظام الدوال المشكلة لف ّن القص ّ
أن مشكلة الشر
تعبر عن معتقد يمثل وجها من وجوه صراع اإلنسان مع نفسه ومع الشيطان وعدة
رموز أخرى ،فيبني الرواة والمفسرون وأصحاب المذاهب خطابات دينية قصصية
حول الشر ورموزه تتشكل من أحداث وفواعل وأمكنة وأزمنة مقدسة ومفارقة
للمألوف؛ يظهر ذلك في قصص األنبياء وأخبار الساعة والفتن والمالحم والمعاد،
وفي نظام الدوال واألسماء والصفات واألفعال والحركات واألصوات ما يدل على
أدبية هذه النصوص ،إذ يكون هيكلها قصصي ينطوي على سردية أدبية تضمر عدة
مقاصد ،فضال عن كونها تبعث على التشويق وإثارة انتباه القارئ ،يبدو ذلك جليا في
تفسيري الطبري (ت310هـ) وابن كثير (ت744هـ) وفي كتب القصص النبوي ،فرمز
الشر والغواية في قصص آدم وعيسى ومحمد هو الشيطان وفي أخبار اآلخرة يكون
الدجال وأهل الكفر والفسوق ،وأ ّما في حكاية أهل الكهف ،فالفتية رمز الخير في
حين ّ
أن الشر يمثله الطواغيت والجبابرة من الملوك وعبدة األصنام واألوثان .5وإذا
الشر في القرآن بالحسد والوسوسة والمرض والدعاء واالبتالء وفعل السوء،
اتّصل ّ
الشر بالمحرمات
توسعوا في بيان اقتران ّ
المفسرين ّ
ّ والعداوة والبغضاء واإلثمّ ،
فإن
وما نهى اﷲ عنه مثل الخمر والميسر واألزالم والكفر ،فتعلقت عقوبة فعل الشر
بلعنة اﷲ وغضبه وانتقامه من أهل الشر ومسخهم .6وم ّثل إبليس في النص المقدس
4. P. Ricoeur, De l’interprétation, essai sur Freud, Edit: Seuil, Paris, 1965, p19.
.5إسامعيل بن كثري ،البداية والنهاية ،ط ،1الرشوق للنرش والتوزيع ،مرص ،2007 ،املجلد ،1ج،1
باب ذكر خلق اجلان وقصة الشيطان ،ص ص 64ــ 78وباب ما ورد يف خلق آدم عليه السالم،
ص ص 78ــ .101إسامعيل بن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،م ،1ص ص 72ــ ،78البقرة 34ــ
37إسامعيل بن كثري ،قصص األنبياء ،ط ،1دار الفكر ،بريوت ،لبنان ،1992 ،ص ص 57ــ 70
وص ص 654ــ .667أبو جعفر حممد بن جرير الطربي ،جامع البيان يف تأويل القرآن ،ط ،1املكتبة
التوفيقية ،القاهرة ،2004 ،م ،9ج ،15ص ص 201ــ .204
.6جامع البيان يف تأويل القرآن ،م ،16ج ،28ص ص 386ــ .395تفسري القرآن العظيم ،م ،1ص245
وم ،2ص ص 92ــ .99
يرغدلا قازرلا دبع 414
اإلسالمي رمز التمرد والعصيان .7وما من شك في ّ
أن الكثير من األخبار والتنبؤات
التي نشأت حول اآلي قوامها بناء لغوي سردي أسطوري وعجائبي ،فاألساطير التي
تنهض على صراع الخير والشر تشكل محور اإليمان ومنها أساطير النشأة والتكوين
حسب ميشال مسيالن .8كشفت العالمات النصية ومجموعة الدوال اللغوية في
أحاديث الغيب وأخبار النهاية في الزمان الصراع ضدّ قوى الشر والفساد والكذب،
ومحاربة المفسدين ،وب ّينت تغلغل الفتن ،فتحدث شرور عديدة وضاللة وافتراق
األمة ،وينتصر الخير ونوره على الشر وظالمه ،أو الحق على الباطل .لقد كانت
لهذه األخبار واألحاديث المتصلة بفعل الشر وبعالمات اآلخرة والمعاد غايات
تحول إلى
الصراع الدنيوي بين البشر ّ إيديولوجية دينية وسياسية تكشف ّ
أن مظاهر ّ
صراع مقدّ س على التأويل والسيطرة على األرض وبسط النفوذ وادعاء امتالك
إن لهذه األحداث والتنبؤات هيكل قصصي وعالمات نصية الحقيقة الواحدةّ .
متنوعة ،وهي الفتة للنظر بفضل ما تحمله من طابع حكائي خرافي
تؤدي وظائف ّ
وأسطوري يكشف عقيدة رواة الحديث والمفسرين ومؤلفي كتب السيرة والقصص
النبوي .لقد تحدّ ث القرآن عن الشر في عدّ ة مواضع ،وأعاد الرواة والمفسرون تمثل
هذه اآليات واإلشارات الدالة على هذه الثنائية ،ود ّعموها بأخبار عديدة ّ
تدل على
خطاب لغوي واجتماعي وسياسي وديني لمقولة الشر ،واعتمدوا فن األدب والسيرة
في تفسير اآلي ونقل القصص واألخبار ،فتأثر الشفوي بروح عصر التدوين.9
تتواتر بوضوح في قصص الخلق وأخبار الفتن والمعاد وفي فضائل الصحابة
والقبائل العربية ومعاجز األنبياء وخصالهم األفعال الدالة على الشر والخير ،وهي
أخبار وتنبؤات تنطوي على عالمات نصية حكائية خرافية وأسطورية يروم من
.7الناس ،4املائدة 60ــ 63و 90ــ .92الفلق ،5اإلرساء ،11األنبياء ،35آل عمران ،180البقرة34و.216
األعراف.11
8. Michel Meslin, pour une science des religions, E. du seuil, 1973, pp120 - 221.
.9يونس ،11األنبياء ،35املعارج ،20اإلرساء ،83الفلق .2القصص ،77الروم ،41أبو لفداء إسامعيل
بن كثري ،النهاية يف الفتن واملالحم ،ط ،1دار الفجر للرتاث ،القاهرة ،2003 ،ص ص 22ــ .72
تفسري القرآن العظيم ،م ،1ص ص 350ــ 352و 556ــ (.574تفسري اآليات 52ــ 58و 153ــ 171
من سورة النساء)
415 يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم
خاللها الرواة شد القارئ ونصرة الدين اإلسالمي وتهويل الوقائع وتضخيم رموز
الشر للترهيب والترغيب ،فتجاوز المدونون ما رسمه نصهم المقدس بفعل نشاط
المخيال بمختلف تفرعاته الدينية والسياسية واالجتماعية ،ليبالغ في الحديث عن
الشرور والفتن وعالمات اآلخرة وأهوال الساعة والحشر والعذاب ،فيرسم الرواة
إشارات نصية جديدة وأخبار عديدة لثنائية الخير والشر مثل حديث الجساسة
والدابة والشيطان ،تدل عالماتها النصية ولغتها األسطورية على أنها تجمع بين
الواقعي والغيبي والمتخيل.10
ولعل من أبرز مظاهر حضور هذه الثنائية في الحديث النبوي والتفسير ما تع ّلق
ّ
بقصص األنبياء ومنها قصة المسيح والمسيح الدجال وما يعتريها من أفكار مغالية
وأحداث تبعث على اإلثارة وشخصيات خارقة للمألوف في أمكنة وأزمنة غابرة
ومقدّ سة وغيبية .يمثل المسيح رمز الخير أ ّما الدجال فهو رمز الشر ،يكون بهيأته
وصفاته مثيرا للرعب والهيبة ،ومعه دجالون كذابون منبع الكفر والضالل والعصيان
والتمرد والضياع والفتنة والبهتان ،فيكون الدجال دليال على الشيطان الذي تصارع
معه األنبياء .يأتي عيسى ليزيل الشرور ويقضي على األعور الدجال ومن معه ،ليجترح
كل منهما معجزات وخوارق وأفعاال مثيرة للرعب ومعبرة عن القوة وعن التشويق
القصصي وهي تجسم الصراعات المنتظرة والحلم باالنتصار .11ومن بين هذه
القصص أيضا قصص ذي القرنين وإدريس ويأجوج ومأجوج ،فتتخذ األخبار طابعا
دراميا ،وتتكثف عناصر اإلغراب والعجب والتشويق وعالمات الخارق للعادة.12
الصراع بين رموز الخير والشر وكذلك بين البشر أو بين الدول في األيام
يكون ّ
السابقة للساعة ،فتنقل األخبار ما يجدّ من معارك وحروب وفتن ،في ذلك الزمان
الصليب ،و َينتصر المسلمون على الروم ،فيشتد القتل
ُ الغيبي المقدّ س ُيكسر
والخسف ،وتحدث فتن وحروب وأهوال ،وتظهر رايات مع ّبرة عن الصراع بين
.10األنعام 6و .47األعراف 4و .164النمل .82جامع البيان يف تأويل القرآن ،م ،1ص ص 285ــ .340
مسلم بن احلجاج القشريي ،صحيح مسلم ،ط ،1دار الفكر ،بريوت ،لبنان ،2000 ،حديث.2942
.11صحيح مسلم ،حديث169و.2933
.12جامع البيان يف تأويل القرآن ،تفسري اآليات 83ــ 85من سورة الكهف ،م ،7ج ،16ص ص 15ــ .16
يرغدلا قازرلا دبع 416
الخير والشر ،وهي تخالف ما ورد في النص القرآني من قرائن دالة على الساعة لتعبر
هذه الرموز والعالمات في الحديث والتفسير عن ذهنية الرواة والمفسرين والمدونين
الذين أسهموا في تأليف األخبار وتجميع أخرى عن غيرهم وعن أبعاد اجتماعية
السجال بين المسلمين وغيرهم من األمم وعلى تأ ّثر الحديث بأدب
ونفسية ،وتكشف ّ
السيرة.13
ّ
ّ
إن لهذه القصص الدالة على ثنائية الشر والخير حضور الفت عند الحساب ،فقد
بنبوة محمد وبكتاب اﷲ وعواقب
تعمق المخيال في االستدالل على قيمة اإليمان ّ ّ
الكفر ،وقام على االنتقام من المخالفين ومن أعداء النبي ،في ذلك الزمان ّ
يحل العقاب
والجزاء أو الخير للمحسن والشر لمن ال يعرف ربه وإمامه ،ويحدث صراع بين رموز
المالئكة/الزبانية إلى قبره وهي تلعنه ،فتتذ ّمر منه
ّ الخير والشر ،فإذا مات الكافر تش ّيعه
األرض وتضيق عليه ،ويحضر الملكان منكر ونكير في صورة مرعبة ،ويحيل اسمهما
وصفاتهما وأفعالهما على عالمات الشر ورموزه ،يكون لهما شعر طويل وأنياب وكبيرة
وصوت مثل الرعد وبصر مثل البرق الخاطف ،يسأالن الميت عن ربه وإمامه ،وإذا
ما تلجلج لسانه ،يضرب بمطراق من حديد ،فيمتلئ قبره نارا ،ويسلط عليه العذاب،
وتنهشه الزواحف.14
ويستمر هذا الصراع في قصص القيامة ،جاء في الحديث« :ال تقو ُم الساع ُة إالّ على
ِ
شرار الناس» 15فتكون القيامة والبعث والحساب والجنّة والنار انتصار ًا للخير ورموزه
في تحقيق السعادة ،ويلقى أعداء اإلسالم عند الموت عذاب الهون والعطش في األيام
السابقة للساعة وفي القبر وعند الحشر ويوم الحساب.
نتبين من خالل توظيف بعض علوم األديان ومنجزاتها في علم النفس الديني وعلم
تنم
توسعت في تشكيل صورة للشر ورموزه ّ أن النصوص اللواحق ّ االجتماع الديني ّ
ّ
وتحط من شأن المخالفين، عن إيديولوجيا سياسية وعقائدية تنصر الملة أو المذهب
وتحتكر الحقيقة ،وتعبر عن المشاعر وبنى المقدس في اإلسالم ،وقد وظفت الصور
البالغية ومنظومة دوال جديدة معبرة عن الشر(للشخصيات المفارقة/األحداث
الغريبة/األمكنة )...ألداء غايات عقدية .وأضحت هناك عالمات لغوية جديدة تستخدم
الرمز الديني ،فتتوالد األحداث ،ويغذي المخيال هذه القصص والرموز(الرايات
السوداء ،ألوان ،وسائل القتال) ،16لذلك تبدو المسافة الفاصلة بين القصص القرآني
ونصوص الحديث والتفسير واضحة ،فتتنوع الخطابات وتتشكل خطابات جديدة
وأنساق داللية تتحكم في القصص الديني عبر آليات خطابية تنبني على التوليد والمبالغة
والتخيل والنمذجة.
شك في ّ
أن مجال البينية يقوم على تعدّ د االختصاصات وتداخل المعارف ما من ّ
تنوع مرجعيات األخبار 17
لمعالجة النصوص والمفاهيم الدّ ينية ،وقد ثبت لنا من خالله ّ
الشر وأدبيتها في النّص المقدّ س والنّصوص الحواف والجمع بين ما هو أسطوري
حول ّ
الشر مصدره غير إلهي بل
أن ّوواقعي وغيبي .فتكشف التمثالت االجتماعية والدينية ّ
نابع من الشيطان ،وتعتمد األخبار على بنية أدبية تبعث على التشويق وإثارة القارئ،
ومنها قصص الخلق والمبدأ والمعاد وقصص األنبياء وسيرة الصالحين والمقدسين،
كقصة آدم وموسى وعيسى ،حيث تجتمع قوى الخير وقوى الشر ،وغاية األخبار
ّ
تكونت البنية القصصية من ثنائيات
الموعظة والتهويل وتعظيم ديانة التوحيد ،فقد ّ
عديدة ومنها األمكنة واألزمنة وفواعل الخير والشر وأفعال المقدس والمدنس ومجال
العقاب والثواب واإليمان والكفر ،18بلغة أسطورية وأفكار مغالية عند سرد األحداث
ورسم الفواعل لتبرز الصراع على التأويل واستثمار المقدس لبناء إيديولوجيا سياسية
.19املقدس وتوظيفه ،مؤلف مجاعي ،إرشاف رجاء بن سالمة ،ط ،1املنشورات اجلامعية بمنوبة ،تونس،
.2015
pour une science des religions, pp170 - 221.
.20أبو احلسن عيل بن إسامعيل األشعري ،مقاالت اإلسالميني واختالف املصلني ،املكتبة العرصية،
بريوت ،1990 ،ص ص 239ــ 276و 230ــ 385عبد القاهر البغدادي ،الفرق بني ِ
الف َرق ،ط ،5دار
اآلفاق اجلديدة ،بريوت ،1982 ،ص ص 313ــ .369أبو احلسن بن حممد بن طاهر العاميل ،مرآة
األنوار ومشكاة األرسار ،ط ،2األعلمي للمطبوعات ،بريوت ،2006 ،ص.320
.21جملة قضايا إسالمية معارصة ،اهلرمنيوطيقا واملناهج احلديثة يف تفسري النصوص الدينية ،مركز دراسات
فلسفة الدين بغداد ،السنة ،18العدد.2014 ،60/59
Paul Ricœur, Essais d'herméneutique, 2 Du texte à l’action, Paris: éd. du Seuil, 1986.
419 يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم
دواله وفهمها باالستفادة من مناهل متنوعة ،لذلك فإن رموز الشر هم المعادون لله ودينه
أن الخير تعبر عنه بعض التم ّثالت االجتماعية
وأنبيائه ولخاتم الرسل وصحابته ،ذلك ّ
التي تدل على المعرفة والعلم والعقل وقوة الضمير والعلماء والمفكرون وعدد من
المالئكة وبعض الشخصيات البشرية أو الحيوانية ،وقد ارتبط الشر بعدة دوال ورموز
في الحديث والقصص الدّ يني تظهر عبر بعض معتقداته وغيب ّياته وتصوراته ،وتعبر عن
ثم
الشر بعض الرموز المادية والقوى الطبيعية والغيبية مثل النفوس الشريرة واألبالسةّ ،
يم ّثلها في أخبار المعاد بعض المالئكة مثل عزرائيل والشياطين ،وهي ّ
تدل على الفساد
واإلغواء والشهوات والهالك والكفر والمرض والدنس والضياع والبهتان والقوة
الظالمة الغاشمة.22
المؤسس وبعض النّصوص ال ّلواحق مثل الحديث النبوي
ّ كان النّص اإلسالمي
الصراع بين
والتفسير مجاال الستحضار نصوص أدب ّية وشفو ّية تع ّبر عن تتويج ّ
الشر في
والشر ،فلهذه الثنائية رموز بشرية وحيوانية ومعنو ّية وما ّدية ،ويبرز ّ
ّ الخير
والعري
ّ األرض ،وصار له دولة وسلطان ،وتعبر عنه أحداث القتل والحروب والفسق
والدجالون .واألشرار أعداء الدين الجديد
ّ والظلم والفتن ،يقودها الطغاة والجبابرة
ورسوله وأتباعه ،وكانت المرأة تحيل على فعل الشر منذ البدء وفي قصة آدم وحواء،
وظلت تحمل هذه الرمزية الدالة على الدنس واإلغواء والمعصية والشر بفعل
الجسد والحيض والوالدة واالعتقاد بالمكر وسوء التدبير ،وال شك أن لهذا التفكير
مرجعياته القديمة في الثقافة اليهودية والديانات القديمة ،وفي المقابل ّ
فإن للخير
رموزه هو اآلخر كاألنبياء والمصلحين والمهدي ّين والعلماء والمفكرين والمثقفين،23
أن بين الشر والجنس والسياسة عالقة كبرى ّ
وأن الشر مفهوم وهو ما يجعلنا نستنتج ّ
مركب يجعله متسع الداللة لتحقيق غايات ومقاصد ،ولحفظ المجتمع من الفتن
وجب القضاء على الشرور واآلثام.
.22تفسري القرآن العظيم ،ج ،2ص ص 206ــ .270وج ،3ص ص 70ــ 82و 332ــ .406فصلت،49
املعارج 20ــ .21البقرة ،36صحيح مسلم ،حديث158و .165الدر املنثور ،م ،2ص ص 425ــ .440
.23حسن إغالن ،اجلنس والسياسة :التدبري السيايس للجسد يف اإلسالم ،املركز الثقايف العريب ،الدار
البيضاء .2018 ،تفسري القرآن العظيم ،ج ،3ص ص 70ــ 107و ج ،2ص ص 206ــ .270
يرغدلا قازرلا دبع 420
ّ
إن تأويل هذه األخبار يساعدنا على إدراك بنية التفكير العميقة التي صاغت هذه
النّصوص واالنتقال من الدوغمائية إلى العقالنية ،ما يجعلنا نعتقد ّ
أن النّصوص
اللواحق مثل الحديث النبوي والتفسير مثلت مناسبة الستحضار وتوليد قصص
دينية رمزية تمتح من فن القص/األدب لتعبر من خالل القص عن تتويج الصراع
والشر ذلك ّ
أن ّ والشر ،فتشكلت رموز بشرية وحيوانية ومعنوية للخير
ّ بين الخير
اإلنسان هو الذي يصنع رموز الشر ويبني القصة على وفق جهد تأويلي ينهل من
فن القص ،فيجمع بين المتخيل والواقع اإلنساني واالجتماعي ،ومن روافد شعبية
وحضارية متنوعة ،وقد أسهمت كتب التفسير في بناء هذا المخيال على حد رأي
كلود جيليوت.24
ويمكن أن نستنتج من خالل هذه المقاربة الهرمنوطيقية دور المتلقي للنص
الديني المقدس في إنتاج نصوص ثوان توظف مجال التأويل والتخييل ،فتتوالد
األحداث ،وتتكثف الفواعل واألمكنة واألزمنة المقدسة للتعبير عن صراع عميق
بين فواعل الخير وفواعل الشر وعن تمثل اجتماعي وديني لمفهوم الشر يؤكد
بناء العالم على هذه الثنائية ،ويثبت تأثر النص الديني بواقع مجتمع الوحي وزمن
التدوين ،فقد صاغ الرواة القصص ونسجوا األخبار ،وجمعوا في نقل السيرة
والحديث ما علموه من أخبار ومعتقدات كانت مألوفة في مجتمع الرسالة ومنتشرة
بين اليهود والنصارى ،وأضافوا إليها بعض التصورات الجديدة التي اقترنت بنشر
الدعوة الوليدة.
وتتيح المقاربة التأويلية إدراك الغاية من هذه األخبار ،فال يخرج هذا القص عن
دفع الناس إلى الدخول في الدعوة الجديدة واإلعراض عن الشرك والوثنية وتأكيد
انتصار اإلسالم وبقائه إلى قيام الساعة ،فتع ّبر عن مظاهر حضور الشر في حياة المؤمن،
نقر ّ
أن وترصد رموزه ،وتعتبر اآلخر تجليا للشر ورمزا له وتعبيرا عنه ،ذلك ما يجعلنا ّ
هذا الخطاب حجاجي إقناعي يتضمن متكلما ومخاطبا معنيا بمقول القول ،يسعى
المتكلم إلى إذعانه وإقناعه بعاقبة الشر.
24. Claude Gilliot, Mythe, récit, histoire de salut dans le commentaire de Tabari. Journal
asiatique, 2، 1994, p255.
421 يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم
على هذا النحو إذن ،يمكن أن تسهم القراءة الهرمنوطيقية في اكتشاف البناء
األسطوري للنص القرآني وللنصوص الحواف وتفسيرها ،فهناك تأويالت عديدة للغة
الدينية وللقصص الديني تظهر الصراع بين الخير والشر ،ذلك أن القراءة التأويلية تثبت
أن الشر يمثله أعداء األنبياء وأهل الشرك وتكشفه بعض القصص األسطورية مثل قصة
أهل الكهف وعاد وثمود ويأجوج ومأجوج 25وتؤكد المقاربة التأويلية الصراع بين
النقل والعقل ،فتحمل هذه األخبار خطابا أسطوريا مقدّ سا ومتخ ّيال ،فبالكاد نم ّيز بين
الصورة األسطورية المقدّ سة والواقع الذي تع ّبر عنه.
ّ
الشر تم ّثال بشر ّيا دنيو ّيا ،وتعبر
الصور للوقائع الدينية المع ّبرة عن ّ
لذلك تبدو هذه ّ
عن إعادة صياغة وتمثل للواقع الذي عاشه المسلمون زمن الفتوحات والمعارك مع
األمم األخرى وهيمن عليه القتل والفتن ،فقد أعاد الرواة رسم الواقع التاريخي أثناء
نقل أخبار الغيب والمالحم والفتن صورة اآلخرة وعناصر الجزاء والعقاب ،فانطبعت
هذه النصوص بما عاشه المسلمون من أحداث وصراعات وفتن ،وأ ّما الشخصيات
الدينية فإنها جسمت صراعا بين رموز الخير والشر ،يأتي المسيح المنتظر الدجال في
صورة بشر شرير أعور سمته الكذب والنفاق والفساد ،وأما المسيح عيسى بن مريم،
فهو رجل خ ِّير مخلص يتسم بالطهارة والصفاء.26
ّ
إن المقاربة الهرمنوطيقية هي إحدى الفروع األساسية لعلم األديان ،إذ يخلق التأويل
رؤية جديدة ومنهجا مقارنا في معالجة األفكار والظواهر الدينية ،في هذا المستوى
يتأسس على الحياد والموضوعية عن علم الالهوت الذي
يتم ّيز علم األديان باعتباره ّ
توسع الالهوت الكتابي في
يدافع عن معتقدات المذهب ويجنح إلى المفاضلة .لقد ّ
27
تأويل مسألة الشر وربطها بالعقائد المسيحية التي تتمثل في التجسد والفداء والخالص
والتوبةّ .28
وتدل المقاربة التأويلية والروحانية لعقيدة الشر في المسيحية أوال على ّ
أن
.25راجع تفسري الكهف 9ــ 26و 92ــ .96األنبياء .96فصلت 13ــ .16القمر 18ــ .21احلاقة 6ــ .8تفسري
القرآن العظيم ،ج ،3ص ص 70ــ .105
.26تفسري القرآن العظيم ،ج ،1ص 561ــ .579النهاية يف الفتن واملالحم ،ص ص 44ــ 45و 58ــ .59
27. pour une science des religions, pp153 - 157.
.28معجم الالهوت الكتايب ،مؤلف مجاعي ،دار املرشق ،بريوت ــ لبنان ،1986 ،ص ص 238 ،217ــ
.643 ،595 ،321 ،242
يرغدلا قازرلا دبع 422
الخير هو المقدس وال خالص بعيدا عنه ،فال نجاة خارج الكنيسة من خالل قصة
التجسد ومقولة الخطيئة والفداء« ،فإن اﷲ يسمح بأن تحصل الشرور لكي يستخرج
منها خيرا أعظم .من هنا قول القديس بولس :حيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة.
ومن هنا يقال في ...الفصح ياللخطيئة السعيدة التي استحقت هكذا فاديا وبمثل هذه
العظمة».29
الشر حكمة وفاعل إيجابي ،فيبدو اإلنسان في هذه القصص في
أن ّ ّ
وتدل ثانيا على ّ
مظهر الفاعل والضح ّية في آن ،وتسير هذه النصوص المقدسة إلى الكشف عن مغزى
الحكاية أو القصة الدينية ،فتثبت من خالل التأويل ّ
أن الشر قد يمثل حكمة إلهية لها
أسرارها ومغزاها ومدلوالتها ،ليكون التجسد والكلمة ،ومن حكمة اﷲ أنّه لم يخلق
الشر بل خلق عالما يسير إلى طريق الخير،
عالما من الكمال ال يمكن أن يوجد فيه ّ
فمع الخير الطبيعي هناك الشر الطبيعيّ ،
إن المخلوقات الحرة قادرة على تجاوز مأساة
الخطيئة ،و«ما من حرف في الرسالة المسيحية ال يدخل في الجواب عن مسألة الشر».30
يتعلق «الشر األدبي» على وفق هذه المقاربة التأويلية في االعتقاد بإمكان الخطأ،
ويدرج ذلك ضمن اإلمكانات الحرة ،واﷲ علة الشر األدبي ،سمح به ،مراعيا حرية
شر يكون في صنائعه
أي ّ
خلقه« ،فاﷲ الكلي القدرة...في صالحه المطلق ،ال يدع أبدا ّ
لو لم يكن له من القدرة والجودة ما يكفي الستخراج الخير من الشر نفسه.31»...
ويثبت التأويل اإلنجيلي للقصص الديني ّ
أن يسوع يمثل المنقذ والبطل المقدّ س،
يحرر البشر من الشرور األرضية والجوع والموت والظلم والمرض ،ويخلص الناس
ّ
من الخطيئة التي تذلهم وتمنعهم من أن يكونوا أبناء اﷲ وأحباءه ،ويطرد الشياطين.
(متى/29 ،22 ،13 :12يوحنا 34 :8ــ 48و .)14 :9ويزول الشر بانكسار مملكة إبليس
والتحرر من الشياطين ومجيء ملكوت اﷲ بفضل يسوع الذي يموت على الصليب،
ّ
.29التعليم املسيحي للكنيسة الكاثوليكية ،تعريب مجاعي ،املكتبة البولسية ،لبنان ،1999 ،ص ص 138ــ
139و 264و.270
.30املصدر نفسه ،ص.114
.31التعليم املسيحي ،ص .114أشعياء .7 :45عاموس .6 :3وقد جاء يف الكتاب املقدس أن اﷲ يكره
اخلطيئة والرش :إرميا ،25 :2رومية 4 :13أيوب 10 :2و.10 :34
423 يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم
فيتجلى ابن اﷲ (متى»،)28:12لقد أخذ المسيح على عاتقه ،وهو على الصليب كل
ثقل الشر «ورفع خطيئة آدم» (يوحنا ،...)29:1:فالمسيح بآالمه وموته قد أضفى على
العذاب موتا جديدا :وهو أن العذاب يستطيع أن يجعلنا على صورته ويضمنا إلى آالمه
الخالصية».32
يكمن حضور الشر في الالهوت الكتابي من خالل تجليات الخطيئة في العالم،
بدءا بقتل قابيل ألخيه هابيل ووقوع الفساد الشامل في عقب الخطيئة وكذلك في
العهد القديم من خالل تاريخ بني إسرائيل (الخروج ،موسى وفرعون ،ذبائح الخطيئة:
إن حدث الخطيئة تاريخي وغيبي ،فهي تسلط بين الالوين 8،14ــ 36و 9،1ــ ّ .)24
الناس العنف والشهوة والظلم ،لتنتقل هذه الخطايا من لحظة االنبثاق األولى إلى
لحظة تاريخية فاعلة في تاريخ البشرية ،فتحدث أوضاع اجتماعية تخالف معاني
القداسة والرفعة اإللهية ،وتحصل خطيئة اجتماعية ،وهي كل فعل أو كلمة أو شهوة
تخالف الشريعة األزلية والعقل ،وتع ّبر عن عصيان إله العهد ،لتكون شمولية الخالص
بالمسيح) الرسالة إلى مؤمني روما18:5و 1 :6ــ .)14
ويمثل االستسالم للشر والعنف فعال دنيئا ال يمكن لإلنسان أن يتخطاه إالّ عن طريق
أن المحبة في اإليمان المسيحي هي من أعظم المقوالت النّعمة وعبر المحبة ،ذلك ّ
الدينية واالجتماعية ،تتحقق بفداء المسيح .وتتجلى الخطيئة بين المسيحيين في وجوه
تفحص اإلنسان قلبه وجد أنّه م ّيال إلى الشر أيضا ،وأنّه غارق في غمر
متعدّ دة...« :فإن ّ
من الشرور ال يمكن أن تصدر عن خالقه الصالح ،فكثيرا ما يرفض اإلنسان أن يرى في
اﷲ مبدأه ،فينقض النظام الذي يتوجه به إلى غايته القصوى.33»...
قوة تستعبد اإلنسان وتفسد
الشر في كتب الالهوت ومصادر اإليمان المسيحي ّ
يبرز ّ
العالم (تكوين 17 :3ــ .)18ويكشف الكتاب المقدس عن مواجهة بين العناصر
المخلصين
المحيلة على الخير ورموز الشر من خالل الصراع بين المالئكة األطهار ُ
لله ومالئكة الظلمة أعوان الشيطان (دانيال 10:10ــ .)16وقد بدا اإلله التوراتي محيال
اك َو ُمدَّ َيدَ َك َع َل ِم َي ِاه ا ْلِ ِ ْص ِّي َنيَ ،ع َل .34خروج« :19 ،7وخاطب الرب موسىُ :ق ْل َ ِل ُار َ
ونُ :خ ْذ َع َص َ
َأ ْنَ ِار ِه ْم َو َع َل َس َو ِاق ِيه ْم »....و16 :8و 20و 23و 4 :9و 8و 13و.12 :10
.35التعليم املسيحي للكنيسة الكاثوليكية ،ص ص 138ــ .139
.36التعليم املسيحي ،ص .800يوحنا 18:5:ــ . ،19يوحنا.44:8
425 يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم
11ــ ،)20فينبغي أن ينتصر اﷲ على الشر والشرير كي يخلص اإلنسان (تكوين،7 :38
حزقيال ،،38.39رؤيا 12:7ــ .37)18وقد تواتر هذا الصراع في التراث الشفوي الكتابي
من خالل قصة القديس مار جرجس والتنين ،إذ تعبر عن انتقالها من السياق التاريخي،
إلى سياق آخر متخيل ،بصبغة ملحمية مؤثرة في قصة قتله للتنين ،ليصبح التنين في
التأويل الكتابي رمزا للشر الخالص ،واألميرة هي الكنيسة ،في حين ّ
أن الحربة تحيل
على الصليب المخلص والفادي للبشرية ،لقد رفض جرجس أن يعبد األصنام ،وجابه
الملوك ،ودعاهم إل ترك األصنام وطاعة يسوع ،ورفض السجود لآللهة ،وصارع التنين،
فنال تنكيال وتعذيبا ،فسانده الرب ،وجعله سيدا على سبعين ملكا ،ولم يلحقه ضرر
الشياطين والسحرة ،ونال المجد والنعمة .38فكان الشر في هذه القصص عنصرا من
عناصر بناء المقدس وسبيال للثبات على الحق والتعبير عن رفض الصالحين لألوثان.
ونعتقد ّ
أن الكثير من المقوالت الدينية المسيحية والممارسات التعبدية قامت على
تأويل كلمة اﷲ وسيرته ،ومنها ما اتصل بمفهوم التوحيد والفداء والقيامة وبطقوس
الصالة تمثل وسيلة ومخلصا قصد طلب النجاة العبادة والخالص من رموز الشرّ .
إن ّ
من «الشرير» .وعبر الصالة يطلب اإلنسان من اﷲ أن يحميه من الخطيئة ،وهي تعبر عن
الشر وخالص
التضامن في جسد المسيح .وفي صالة يسوع طلب لحفظ الناس من ّ
البشرية ،ويتجلى من خالل حوار المسيح مع يوحنا(رؤيا )18 ،8 :1دور الكنيسة،
فاعتبرها النصارى وسيطا بين الرب والمخلوقات ،وأنها تحمل آالم العالم ،وتبحث
عن الخالص من الشرور والخطيئة ،وتمنح السالم ،وتحقق السعادة بمجيء يسوع .39
ِ .37تكوين« 7 :38وإِ ْذ ك َ ِ
َان ع ُري بِك ُْر َُيو َذا ِّشير ًاَ ،أ َما َت ُه َّ
الر ُّب» َ
حزقيال :38:39اإلصحاحان 38و« :39مؤامرة جوج الرشيرة»« ،دفن قتىل جوج».
ال َّي ُة األَ ْر َب َع ُة، وخ وا ْلك ِ «...اجت ََم َع ا َْلال َِئ َك ُة َجِيع ًا َح ْو َل ا ْل َع ْر ِ
َات ْ َ
َائن ُ الش ُي ُ َ شَ ،و َم َع ُه ُم ُّ ْ رؤيا 12:7ــ 18
ِ ِ ِ ِ ِ َ ِ ِ
هلل
اه ْمَ ...و َي ْم َس ُح ا ُ ال َم َل ا َّلذي ف َو َسط ا ْل َع ْرش َي ْر َع ُ لَِ ْ ... َو َخ ُّروا َع َل ُو ُجوهه ْم أ َما َم ا ْل َع ْرش ُس ُجود ًا ِ
ك َُّل َد ْم َع ٍة ِم ْن ُع ُي ِ ِ
ون ْم».
.38سرية الشهيد جرجس الشهري بالروماين ،ط ،1ترمجة كرستني فوزي عياد ،مدرسة اإلسكندرية،2018 ،
ص ص 21ــ .28معجم الالهوت الكتايب ،ص ص 482ــ 484و 671ــ .678
.39التعليم املسيحي ،ص ص 798و 800ــ .801يوحنا« 15:17:وأنا ال أطلب أن تأخذهم من العامل ،بل
أن حتفظهم من الرشير» ،رؤيا« 18 ،8 :1من يوحنا إىل الكنائس السبع يف مقاطعة آسيا ،لكم النعمة
والسالم من الكائن والذي كان»...
يرغدلا قازرلا دبع 426
المتحرر من الشرور يكون من خالل عدّ ة طقوس مقدّ سة
ّ إن هذا العمل الخالصي ّ
على نحو التعميد واألفخارستيا والذبيحة ،فاالغتسال بالماء يمثل درءا للشرور
وتجاوزا للخطيئة وغفرانا للذنوب ،وأ ّما العمل الطقوسي األفخارستيا ،فإنه يجعل
المؤمنين يشتركون في الحياة المقدسة الطاهرة ليسوع ويتجاوزون كل إثم ومعصية
وشر.40
تكشف المقاربة التأويلية البنيوية لمسألة الشر عدة أبعاد دينية وسياسية واجتماعية
وأسطورية تع ّبر عن تمثل اإلنسان للعالم األخروي والغيبي والمتعالي والمقدس،
وتبين إسهام اإلنسان في بناء عالم الخير والشر ومجاالت المقدس والمدنس .وتقدم
المقاربة الهرمنيوطيقية رسما لفضاء غيبي متخيل وآخر دنيوي تحكمهما ثنائية الخير
والشر ،وهي تصور خصائص عالم الرموز وداللة األساطير وإسهامها في بناء عناصر
الشرور وعالماتها ،فالهرمنوطيقا تهتم بمعالجة المعنيين الظاهر والباطن وتكشف
الطاقات الرمزية بكل مظاهرها وأبعادها انطالقا من اكتناه األلفاظ والمعاني والتعبير
ودراسة تنوعها مثل :ذنب ،رجس ،سقوط ،نور ،ظلمة ،خطيئة ،فارتبط الشر بالتعدي
على أحكام اﷲ وشريعته ،لذلك يكون الخالص وإنقاذ الخطاة باإليمان بيسوع،
أن ثقافات الشعوب صاغت عدّ ة أساطير واحترام الشريعة .41ونشير في هذا الصدد إلى ّ
وقصص للشر والذنب والخطيئة األصلية ومنها ما راج من حكايات وأساطير ومالحم
بابلية وفي بالد الرافدين .فتربط خطيئة آدم وحواء بالمعصية ،لقد أصبح الشر والخطيئة
شيئا موروثا ،يحمالن رموزا مصورة وأسطورية ومنها شجرة معرفة الخير والشر.42
.40معجم الالهوت الكتايب ،ص ص 85ــ 353 ،89ــ .357التعليم املسيحي للكنيسة الكاثوليكية ،ص
ص 375ــ .390
.41قاموس الكتاب املقدس ،مؤلف مجاعي ،ط ،8دار الثقافة القاهرة ،2004 ،ص 344ــ .345
خروج .14:13متى .1:21و .25:45معجم الالهوت الكتايب ،ص ص 334ــ 336و 312ــ .322
.42تكوين ،اإلصحاح.17 ،8 ،9 ،2:16عبد اﷲ بريمي ،من رمزية الرش إىل اهلرمنيوطيقا :جملة قضايا
إسالمية معارصة ،ع 59ــ ،60ص ص .136 ،135وص :140خيتلف مفهوم الرش ورموزه حسب
اإليديولوجيا :يقول الغنوصيون يف تفسري وجود الرش إن املادة انبثقت من اﷲ عىل مراحل ويف كل
انبثاق كان اخلري يتقلص والرش يزيد وينبثق من اإلنسان .وتذهب املانوية إىل وجود مبدأين أزليني وغري
أن الرش يكمنخملوقني :النور/إله اخلري والظلمة/املادة :إله الرش .ويذهب الغنوصوين واملانويون إىل ّ
يف املادة ،أما اﷲ روح حمض ،فال وجود للرش فيه.
427 يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم
.50كارل يونغ ،الكتاب األمحر ،ترمجة متيم الضايع ــ رنا بشنور ،ط ،1دار احلوار ،سوريا.2015 ،
كارل يونغ ،التنقيب يف أغوار النفس ،ترمجة هناد خياطة ،ط ،1املؤسسة اجلامعية للدراسات والنرش
والتوزيع ،بريوت.1986 ،
.51رسالة يوحنا االوىل 2:1ــ .29رسالة هيوذا :مصري املعلمني الكذبة...الرؤيا ،اإلصحاحات1و 2و 4و5
و12و.13
52. pour une science des religions, pp 23 - 125.
431 يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم
من التحليل النفسي من خالل دراسة حالة ُمصاب بالعصاب ،فقد سلم نفسه
يجسد وتوصل فرويد إلى ّ
أن الشيطان ّ ّ ّ
وحل الشيطان بديال عن األب. للشيطان،
معاني الغواية والشر والفساد ،وليس له وجود مادي ولكنّه يم ّثل حقيقة نفس ّية تنتج
عنها أعراض مرضية لعل من أهمها ال ُعصاب .وأ ّما يونغ فقد أثار العالقة بين الدين
أن اإلله اليهودي استعان برمزأن البنى النفسية والذهنية تكشف ّ وعلم النفس ،فب ّين ّ
الشر/الشيطان لينزل أصناف العذاب على المخالفين ،وقد تسلط الشيطان على
بعض األنبياء مثل أيوب .وقرن يونغ بين الشر واإلرادة اإللهية ،فبين قيمة تأويل
الرمز الديني لفهم طبيعة العالقة بين اإلله واإلنسان والخير والشر .53قصة إبليس
ّ
السامي والعربي
الشر كانت منتشرة في التراث األسطوري ّ
وداللتها الرمزية على ّ
السماء واألرض ،يحيل على التكبر في الشرق القديم ،فكان إبليس سلطان ّ
تدل على الضاللة والطغيان .لذلك يمكن والفساد ،وتعلقت به قصص أسطورية ّ
الرموز الدينية المحيلة على الشر ال يعرف مغزاها إالّ عبر قراءة تأويلية
إن ّالقول ّ
نفسية واجتماعية ،فقد يكون اإلله رمزا للخالص من الشر ،وقد يكون سببا للعذاب
على غرار اإلله اليهودي «يهوه».54
أن مفهوم الشر ّ
يظل إشكال ّية ويتضح لنا من خالل علم األديان بمختلف فروعه ّ
حاضرة في الكتاب المقدس والفكر الالهوتي ،ويبرز في خطاب أدبي إبداعي وقصصي
وتنوع التأويل تبعا للمتلقي .55ترد بعض النصوص في شكل
مقدّ س يثبت تعدّ د القراءة ّ
قصة أدبية ،إذ تنطوي على فواعل وأحداث وأمكنة وأزمنة متنوعة مثل قصة المسيح
ابن اﷲ والمسيح الدجال والمسحاء الكذبة ،والصراع بين مخلوقات غيبية ومالئكة
وعالمات نهاية الزمان(متى 1 ،24:ــ .)31وفي صراع يسوع مع الشيطان أربعين يوما
وهو في البرية (لوقا 1 ،4 :ــ ( ،)14متى 1 ،4:ــ ،)11وقد تكون حكاية َم َثلية ،لها
.53بسام اجلمل ،من الرمز إىل الرمز الديني ،بحث يف املعنى والوظائف واملقاربات ،مطبعة التسفري الفني،
صفاقس ،2007 ،ص ص 51ــ .72
.54من الرمز إىل الرمز الديني ،ص ص 75ــ .79حممد عجينة ،موسوعة أساطري العرب عن اجلاهلية
ودالالهتا ،ج ،2ط ،2دار حممد عيل احلامي ،صفاقس ،دار الفرايب ــ بريوت ،1994 ،ص ص 66ــ .72
55. Umberto Eco, Les Limites de l’interprétation, traduit par Myriem Bouzaher, éditions
Grasset et Fasquelle ، 1992.
يرغدلا قازرلا دبع 432
هيكل سردي وتدور حول مثل من األمثال(مرقس 1:12ــ :15مثل المزارعين القتلة)،
ويجابه يسوع رموز الشر ،فيغلب إبليس ،ويجابه الشيطان ،ويشفي المرضى(متى،17
14ــ )23فتنبني القصة بناء عجائبيا وأسطوريا مقدسا وتخيليا وتحمل غايات إقناعية
وحجاجية .56
ويستجلي الباحث ّ
أن رموز الشر عديدة في النصوص الدينية المسيحية واليهودية
على اختالف أنواعها ،فهو يتمثل في الشيطان ،القتلة ،الكذبة ،الخونة ،الخطيئة ،الدنس،
النجاسة ،...و ُيعلن الفكر المسيحي ّ
أن اﷲ ليس مس ّببا للشرور ،فالذات اإللهية مقدسة
وطاهرة ،ويسمي الكتاب المقدس وما تعلق به من نصوص كنسية بعض األفعال السيئة
المحيلة على الشر بـ«الخطيئة» و«هي التعدي على شريعة اﷲ وأحكامه ...وإهمال ما
تفرضه شريعة اﷲ ...وارتكاب ما نهت عنه تلك الشريعة».57
ولنا أن نتبين من خالل تاريخ األديان ّ
أن نصوص الديانات الثنوية لها أبعاد أسطورية،
تحدثت عن ثنائ ّية الشر والخير من خالل إله الظلمة/الشر وإله النور/الخير ،وثبت في
تاريخ المعتقدات واألفكار ّ
أن فضاءات العالمين تمتد على ح ّيزين مكاني/جغرافي
وزماني/تاريخي واقعي وآخر متخ ّيل ،وتعبر عن بنية الفكر والالشعور وعالم األحالم
المتعلقة بالمتخيل األخروي والغيبي.58
لقد انطوت األخبار المتعلقة بالشر على بنية قصصية ،جاء في اإلنجيل»صعد
الروح بيسوع إلى البرية....ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة ،وأوقفه على حافة
قمة جبل عال جدا ،وأراه جميع ممالك
سطح الهيكل...ثم أخذه إبليس أيضا إلى ّ
العالم وعظمتها(»..متى 4،1ــ ،)11:وتج ّلى هذا ّ
الصراع بين الخير/المقدس
.56متى 25:31ــ .46الرؤيا إصحاح 19:11ــ .15وليم وهبة دائرة املعارف الكتابية ،جميء املسيح ،دار
الثقافة القاهرة ،1988 ،ص.601
.57معجم الالهوت الكتايب ،ص ص 438ــ .440قاموس الكتاب املقدس ،ص 230 ،171ــ ،384 ،238
722 ،508 ،577ــ .723باسيليوس الكبري ،اﷲ ليس مسببا للرشور ،ترمجة جورج عوض إبراهيم،
مطبعة جيي يس سنرت ،مرص ،2012 ،ص ص 11ــ ،17ص .344متى 45 :25وتكوين.4:7
.58فراس السواح ،موسوعة تاريخ األديان ،الكتاب اخلامس ،ط ،2دار عالء الدين ،سورية ،2010 ،ص
ص 68ــ .70
433 يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم
.59متى 25:31ــ .46مرقس 1:12ــ ،15الرؤيا إصحاح 19:11ــ .15دائرة املعارف الكتابية ،جميء املسيح،
ص.601
.60الرؤيا ،إصحاح 19:11ــ .15
.61التعليم املسيحي للكنيسة الكاثوليكية ،ص ص 134ــ 135و137و 138و .163تكوين19 :3:و.23
تكوين.17:
يرغدلا قازرلا دبع 434
أو حضارية أو لغوية قصد اإلحاطة بها وتحقيق معرفة شاملة .وال شك في ّ
أن المقاربة
مهمة في دراسة المسائل الدّ ينية ،فهي تم ّيز بين الرمزي والمتخيل والتاريخي،
الفلسفية ّ
وتنوع الداللة ،62وقد حرصت هذه المقاربة على استجالء طبيعة
وتثبت تعدّ د القراءة ّ
الشر ورمزيته انطالقا من دراسة القصص الديني وتأويلها وفهم تجليات الشر من خالل
ّ
أفعال اإلنسان وأنماط عيشه وعالقاته ،فكان الشر مدار اهتمام الفالسفة ومنهم بول
ريكور في كتابيه «اإلنسان الخطاء» و«رمزية الشر» ،والفيلسوف األلماني إيمانيال
مؤ َّل ِفه «الدين في حدود مجرد العقل» والفيلسوفة األلمانية حنا آرنت صاحبة
كانط في َ
كتاب»تقرير حول تفاهة الشر».63
أ ـ االتجاه الرمزي الهرمينوطيقي/التأويلي للشر
درس ريكور رموز الشر على المستوى الداللي؛ أي تأويل العبارات باستخدام
الدرس اللساني والفلسفي من قبيل :دنس ،رجس ،خطيئة ،جرم ،ويذهب إلى ّ
أن
الشر يمكن أن يكون معنو ّيا ،ألما ومعاناةّ ،
وأن تجربة الشر تحمل تعابير رمزية تنطلق
من بعض المعاني الحرفية مثل :انحراف ،عبودية ،سقوط ،وهي يمكن أن تستهدف
بعض المعاني األخرى التي نستطيع تسميتها بأنّها وجودية وتعني الكائن الدنيوي
الخاطئ والذي يقترف جرما وإثماّ .
إن للشر في قراءة ريكور بنية رمزية داخل الثقافات
محملة باالنفعال والخوف واالعتراف ،ويمكن فهم ّ واللغات ،يرى أنّها لغة رمزية
الشر وإدراكه بتأويل رموز االعتراف ّ
ألن الرمز يبعث على التفكير ويع ّبر عن التجربة
البشرية ،ويكشف عن الوعي بالذات .ويمكن التمييز بين ثالثة مستويات في التكوين
األولية التي تعبر عن المعاني األصلية
الرمزي للشر :الرموز األولى/البيئية ،وهي اللغة ّ
ويرمز الشر إلى االنحطاط الخلقي ،وثانيا األساطير الكبرى ،فهي قصص وأمثلة عن
أصل الشر ،وثالثا الموعظة الدينية في الخطيئة األصلية .64
ب ّين بول ريكور عبر مقاربة أنثروبولوجية فلسفية في كتابه «اإلنسان الخطاء» ّ
أن الشر
وأن مفهوم « الالعصمة» يدل على هشاشة يكسب نفسه صبغة المتعالي والمقدسّ ،
عاطفية وتكوين ضعيف للشخصية البشرية ،فتسمح إلى جانب الحرية اإلنسانية
التحول من البراءة إلى الشر،
ّ باقتراف الخطأ .ويدعو ريكور إلى التأمل الفلسفي الكتناه
تيسر فهم اللغة األسطورية ،وتبين
فتعتمد المقاربة الفلسفية قراءة تأويلية هرمينوطيقية ّ
رمزية الشر وحضوره الف ّعال عند اعتراف اإلنسان بارتكابه اإلرادي الحر للشر.65
يتج ّلى هذا المنحى التأويلي من خالل توظيف علوم متعدّ دة تدرس ّ
الرمز
واألسطورة واإلنسان ومنها اللغة والعلوم اإلنسانية ليبحث في «رمزية الشر» وفي
الهرمنوطيقا/التأويلية الفلسفية للشر ،ويدرس أصل الشر وعلة وجوده ويبرز أسس
العالقة بين الشر والخطيئة ذلك ّ
أن إشكالية الشر مرتبطة بمفاهيم أخرى مثل المعاناة،
الذنب ،الخطأ ،غياب العدالة ،ويمكن تأويل األسطورة أحيانا على أنّها رمزية الشر
الضروري االستناد إلى لغة الرموز واألساطير لفهم
وتحمل لغة إيحائ ّية ورمز ّية ،فمن ّ
الشر هو تجربة ابتالء
أن ّ مسألة الشر مثل قصة آدم وحواء وقابيل وهابيل .وتبين ريكور ّ
الشر الذي
إن أسوأه هو ّ ومعاناة ،ولغز مبهم قد يكون بعيدا عن إدراكاتنا وكياناتناّ .
الشر
أن سمة ّ يستطيع اإلنسان تبريره وتفسيره ،آنذاك ُيمنح الشرعية والعقالنية في حين ّ
هي الالعقالنية والالمنطق .وتنقسم صورة الشر في مقاربة ريكور إلى صورة اإلنسان
الضحية.وقد يسر له توظيف مفاهيم التحليل النفسي ومنجزات
المذنب واإلنسان ّ
64. Paul Ricœur, les conflit des interprétations, p311. P.Ricoeur, Philosophie de la volonté
2, Finitude et culpabilité, éd. Points, 2009. J.Greisch, Paul Ricoeur. L’itinérance du
sens, éd, Jérome Million, 2001.
انظر :اإلنسان اخلطاء .ومقال :بول ريكور ،التأويل الفلسفي والديني ملفهوم عدم العصمة ،ترمجة
مصطفى العارف ،مؤمنون بالحدود ،جويلية .2020 ،وهو قسم مرتجم من كتابPhilosophie de :
la volonté 2من رمزية الرش إىل اهلرمنيوطيقا ،ص 145ــ .146
65. L’itinérance du sens pp 194 - 196 - 199. Philosophie de la volonté 2, pp. 184 - 199.
ص ص 123ــ 129ــ .217اإلنسان اخلطاء.
يرغدلا قازرلا دبع 436
المناهج الحديثة مثل التأويلية والنقد التاريخي واألنتربولوجي فهم األساطير وتحليل
مسألة الخطيئة ورموزها ،فانطلق من فلسفة سياس ّية وأخالق ّية في مواجهة مشكلة الشر»
ومقاربتها من زاوية « الخطأ و العفو والعدالة.66
ب ـ تفاهة الشر
درست الفيلسوفة األلمانية حنة أرندت (ت )1975مفهوم الشر من زاوية سياسية
الشر من منظور
تفسر ّ
بعيدا عن المواقف الفلسفية الميتافيزيقية التي عملت على أن ّ
أخالقي وسياسي ،وسعت إلى فهم الشر الذي كرسته األنظمة السياسية .67تحدثت عن
حضورها محاكمة أحد العمال النازيين ،أدولف إيخمان ،وهو ّ
الشخص المسؤول عن
يفضل مصلحته الشخصية ،إذ يمارس القمع والقتل من
ترحيل اليهود ،فالحظت أنّه ّ
أجل الحفاظ على وظيفته وعلى ما يجنيه من مكاسب مادية ،ولم يكن اقترافه للشر
لغايات إيديولوجية ،بل غاب عنه التفكير الواعي ،لذلك تعتبره مجرما نازيا وموظفا
بيروقراطيا ،ومحاكمته ظالمة ألنها بسبب جرائم تاريخية ارتكبتها النازية ولم يحاكم
كفرد على أخطائه الفردية ومسؤوليته األخالقية واإلجرامية .وقد بدا إيخمان حسب
أرندت شخصا تافها وعاد ّيا ،فقد إنسانيته وعقالنيته على الرغم من أنّه لم يكن متعصبا
الشر ليس جذر ّي ًا .68لقد نقض مفهوم»تفاهة
أن ّوليست له إرادة القتل ،ما يدل على ّ
وأن الشر طبع إنساني .لترفض أرندت األطروحات الشر»مقولة الخطيئة األصل ّية ّ
الفلسفية التي د ّعمت الدكتاتورية ومعاداة الحرية والديمقراطية ،فمن األهمية بمكان
أن تقارب الفلسفة اإلنسان في فرديته.
ويتضح من خالل هذه المقاربة الفلسفية لمفهوم الشر قيمة فلسفة أرندت في مقاومة
66. L’itinérance du sens p p196 - 199.Paul Ricœur, les conflit des interprétations.
مقال :التأويل الفلسفي والديني ملفهوم عدم العصمة .من رمزية الرش إىل اهلرمنوطيقا ،ص ص 142ــ
.143
.67حنة أرندت ،ما السياسة؟ ترمجة وحتقيق زهري اخلويلدي وسلمى باحلاج مربوك ،ط ،1منشورات
االختالف ،اجلزائر ومنشورات ضفاف ،بريوت ،2014 ،ص ص 70ــ .79أخيامن يف القدس :تقرير
حول تفاهة الرش ،ص ص 27ــ .158
.68أخيامن يف القدس :تقرير حول تفاهة الرش ،ص ص 30ــ .229حنة أرندت ،أسس التوتاليتارية ،ترمجة
أنطوان أبو زيد ،ط ،2دار الساقي ،بريوت ،2016 ،ص ص 124ــ .267
437 يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم
.69راجع أخيامن يف القدس .أسس التوتاليتارية ،وانظر :حنة أرندت ،الوضع البرشي ،ترمجة هادية
العرقي ،دار جداول ،مؤمنون بال حدود ،ص ص 45ــ .340
.70رشيد العلوي :سؤال الرش بني اجلذرية والتفاهة من كانط إىل حنا آرنت ،ص ص 1ــ .3وانظر مفهوم
اخلري والرش يف الفلسفة ،صاحب الربيعي احلوار املتمدن ــ العدد 1226 :ــ .12/6/2005الدين يف
حدود جمرد العقل ،ص ص 120ــ .276إمانويل كانط ،نقد ملكة احلكم ،ترمجة غانم هنا ،ط ،1مركز
دراسات الوحدة العربية ،بريوت ،2005 ،ص ص 106ــ 109و 112ــ .114
.71سؤال الرش بني اجلذرية والتفاهة ،ص ص 1ــ .3
يرغدلا قازرلا دبع 438
متالزمان في الطبيعة اإلنسانية ويجب التمييز بين الدين والكهنوت ،72فاإلنسان مسؤول
والشر ،لذلك تسعى القراءة الفلسفية إلى عقلنة
ّ عن أفعاله ،والحرية هي مصدر الخير
الدين والتفكير بأن يخرج اإليمان عن التسليم األعمى والفهم السطحي ،فيزول االستبداد
الديني ،وتتحقق «مبادئ خلقية كونية لإليمان».73لتقدم المقاربة الفلسفية إضافة تثري
المباحث العقائدية ،وتحقق تفاعال مع عدة علوم ،فتدرس مسألة الشر من زوايا مختلفة.
الخاتمة
أفضت دراستنا لمفهوم الشر انطالقا من مقاربة متعددة المداخل إلى تبين قيمة
التخصصات البينية في دراسة النص الديني ،ومن األهمية بمكان أن يتحقق تكامل
المعارف للوصول إلى معرفة شاملة وفهم متنوع ،فهناك تقاطعات مهمة بين الديني
والتاريخي واألدبي والفلسفي في فهم النصوص .أ ّما النص الديني فهو منفتح على
الظاهرة اللغوية والتأويلية ،والمناهج الحضارية وعلوم األديان والعلوم اإلنسانيةّ .
إن
تنوع مداخل مقاربة النص الديني يساعد على تنوع الفهم وحرية الفكر والتخلص من
التكفير والتبديع.
وقد ساعدتنا الدراسات البينية على استجالء أدبية النص الديني اإلنجيلي والتوراتي
وكذلك اإلسالمي وتبين عالقته بالشفوي والبشري واستجالء مظاهر األسطوري
القص المحيلة على فعلي الخير والشر
والمتخيل واإليديولوجي ،فقد تضافرت عناصر ّ
مثل األحداث العجيبة واألمكنة واألزمنة ،وتنوعت رموز الشر والخير ،لتحمل أدبية
النص الديني أغراضا لعل أبرزها شد المتلقي واستمالته عبر عناصر المتعة والتشويق
والتخييل واإلغراب والعجب والتنبيه والتحذير لتعديل السلوك.
إننا نتبين من خالل المقاربات الدينية والتأويلية والفلسفية أن النصوص الدينية
الو َق ِائ ِع التاريخ ّية فتصنع المجتمعات رموزها تسعى إلى إض ِ
فاء الصبغة الت ْ ِ ِ
َخ ِييل َّية َعلى َ ْ
وعناصرها المقدسة لتتداخل المرجعيات وتتكثف األخبار الدالة على الصراع السياسي
والقضاء على الشرور فضال عن التنبؤ بانتصار الدين وأتباعه .وتحمل هذه القصص
طابعا سجاليا بين المسلمين والروم وأهل الكتاب ،وبين عناصر الخير والشر ،فتداخل
الواقع التاريخي بالمتخيل وبالمقاصد السياسية والثقافية للرواة ،وال تخلو األخبار
المتصلة بأفعال الشر ورموزه وأحداثه من ثقافة المتقبل للنص الديني.
واستطعنا أن نستجلي من خالل المقاربة الفلسفية قراءة الفالسفة للشر والخير
من زوايا دينية وأخالقية وسياسية وباعتماد مناهج البحث الحديثة لتتعدد مصادر
أن الحاجة تبدو ضرورية إلى بناء تجارب معاصرة الشر والمواقف منه لذلك نعتقد ّ
للعالقات البینیة بین العلوم وتقییمها وتقدیم تصورات مستقبلیه لتطویر البرامج
تمر العالقات البینیة من الوحدة
التعلیمیة والمناهج البحثیة وضمان جوده التعلیم بأن ّ
إلی التکامل.
تدعو مجلة قضايا إسالمية معاصرة الباحثين الكرام
للمشاركة في محور العدد القادم:
مشكلة الشر
()2