You are on page 1of 442

‫جملة متخصصة تعنى باهلموم الفكرية للمسلم املعاصر‬

‫السنة الرابعة والعشرون العدد ‪ 74‬ـ ‪ 2020/73‬ـ ‪1441‬‬

‫صاحب االمتياز ورئـيس التحـرير‬

‫د‪ .‬عبد الجبار الرفاعي‬

‫مدير التحرير‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬
‫سكرتيرة التحرير‬
‫إنتزال الجبوري‬

‫تصدر عن‪ :‬مركز دراسات فلسفة الدين ـ بغداد‬


‫‪www.rifae.com‬‬
‫‪mohammad.refaee@gmail.com‬‬
‫هاتف‪0096170619679 :‬‬
‫مركز دراسات فلسفة الدين‬
‫مؤسسة فكرية مستقلة‪ ،‬تعنى بدراسة االتجاهات الحديثة في فلسفة الدين وعلم الكالم‪،‬‬
‫وتسعى لبلوغ أهدافها من خالل ما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ الدعوة للتعددية والتسامح‪ ،‬وإرساء قيم االختالف وقبول اآلخر‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ إشاعة ثقافة التعايش والحوار بين األديان والثقافات‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ ترسيخ العقلية النقدية الحوارية‪ ،‬وتجاوز العقلية السكونية المغلقة‪.‬‬
‫‪ 4‬ــ االستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة‪.‬‬
‫‪ 5‬ــ تعميم االجتهاد ليشمل كافة حقول الموروث‪ ،‬واسبتعاد عناصره القاتلة والميتة‪ ،‬واستدعاء‬
‫العناصر الحية منه ودمجها بالواقع‪.‬‬
‫‪ 6‬ــ تمثل روح العصر‪ ،‬واالنفتاح على المكاسب الراهنة للعلوم‪ ،‬انطالقا من‪ :‬الحكمة ضالة‬
‫المؤمن حيثما وجدها التقطها‪.‬‬
‫‪ 7‬ــ دراسة الدين والتراث على ضوء المناهج الحديثة للعلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ 8‬ــ تطهير التدين من الكراهية واإلكراهات‪.‬‬
‫‪ 9‬ــ تحــريـر فهم الــدين من المقــوالت واألفــكار والمــواقــف التعصبيــة والعدوانية‪.‬‬
‫‪ 10‬ــ الكشف عن األثر اإليجابي للفهم العقالني اإلنساني للدين في التنمية االجتماعية‬
‫واالقتصادية والسياسية والثقافية‪.‬‬
‫‪ 11‬ــ تبني الرؤى والمفاهيم التي تهدف الى مواكبة العصر‪ ،‬وتعزز المصالحة بين المتدين‬
‫والمحيط الذي يعيش فيه‪.‬‬
‫‪ 12‬ــ بناء مجتمع مدني تعددي تسود حياته قيم التسامح والعيش المشترك‪.‬‬
‫‪ 13‬ــ التثقيف على الحريات وحقوق االنسان‪ ،‬وتجفيف المنابع التي ترسخ مفاهيم االستبداد‪،‬‬
‫وتعمل على صياغة نفسية العبيد في المجتمع‪.‬‬
‫‪ 14‬ــ تجلية األبعاد العقالنية واألخالقية واإلنسانية والجمالية والمعنوية المضيئة في الدين والتراث‪.‬‬
‫‪ 15‬ــ التحرر من سلطة السلف‪ ،‬وأعمال العقل وشحذ وإطالق فاعلياته‪ ،‬والتوغل في الحقول‬
‫المعرفية الالمفكر فيها‪.‬‬
‫‪ 16‬ــ تنمية التفكير والبحث واالجتهاد في فلسفة الدين وعلم الكالم‪.‬‬
‫دوالرا أمريك ًّيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫االشتراك السنوي‪ :‬المؤسسات والجامعات والهيئات ‪ 100‬دوالر امريكي‪ ،‬األفراد‪50‬‬
‫يحق للمجلة إعادة إصدار النصوص المنشورة فيها‪ ،‬في كتاب‪ ،‬مستقلة أو ضمن مجموعة‪ ،‬بعد‬
‫نشرها فيها‪.‬‬
‫محتويات العدد‬

‫كلمة التحرير‬
‫‪4‬‬ ‫د‪ .‬عبدالجبار الرفاعي‬ ‫للشر األخالقي‬
‫ّ‬ ‫عالجا‬
‫ً‬ ‫الح ُّب بوصفه‬
‫ُ‬
‫حوارات‬
‫ُ‬
‫وطرق ال َت ِ‬ ‫ِ‬
‫‪45‬‬ ‫مصطفى ملكيان‬ ‫عامل معها‬ ‫ُمشكل ُة ّ‬
‫الشر‬
‫دراسات‬
‫‪61‬‬ ‫د‪ .‬آرش نراقي‬ ‫مدخل إلى مسألة الشر‬
‫‪87‬‬ ‫الدين العامري‬
‫د‪ .‬صالح ّ‬ ‫الشر في األديان‬
‫مقولة ّ‬
‫‪113‬‬ ‫د‪ .‬منذر جلوب‬ ‫منبعا الخير والشر‬
‫‪139‬‬ ‫د‪ .‬حسين الهنداوي‬ ‫الشر ومفاجئات الديالكتيك الهيغلي‬ ‫ّ‬
‫‪157‬‬ ‫د‪ .‬لؤي خزعل جبر‬ ‫الثيوديسية‬
‫َّ‬ ‫سيكولوجية‬
‫‪183‬‬ ‫د‪ .‬أسماء غريب‬ ‫الشر وقضاياه‬
‫في ّ‬
‫‪209‬‬ ‫ألفين بالنتينجا‬ ‫الشر ودفاع حرية اإلرادة‬
‫مشكلة ّ‬
‫‪237‬‬ ‫د‪ .‬كوثر فاتح‬ ‫مشكلة الشر عند خافيير زوبيري‬
‫‪273‬‬ ‫د‪ .‬الصادق الفقيه‬ ‫مشكلة الشر‪ :‬قراءة في محاضرات هيغل‬
‫‪309‬‬ ‫د‪.‬زهرة الثابت‬ ‫ً‬
‫حامل للخير‬ ‫الشر بوصفه‬
‫ّ‬
‫‪337‬‬ ‫د‪ .‬نورة بوحناش‬ ‫التقنية والشر‬
‫‪369‬‬ ‫د‪.‬ع َمر بن بوجليدة‬
‫ُ‬ ‫تساؤل ريكور حول مشكلة الشر‬
‫‪391‬‬ ‫د‪ .‬مصطفى العطار‬ ‫أخالقيات الوجه في إدارة النزاع‬
‫‪411‬‬ ‫عبد الرزاق الدغري‬ ‫مشكلة الشر في األديان الكتابية‬
‫كلمة التحرير‬

‫‪1‬‬
‫للشر األخالقي‬
‫ّ‬ ‫عالجا‬
‫ً‬ ‫الح ُّب بوصفه‬
‫ُ‬
‫د‪ .‬عبدالجبار الرفاعي‬ ‫____________________________________________‬

‫ـ‪1‬ـ‬
‫الطبيع ُة اإلنساني ُة ملتقى األضدا ِد‬
‫أهم االكتشافات التي يكتشفها اإلنسان في حياته هو اكتشافه لعجزه عن فهم‬ ‫من ّ‬
‫ِ‬
‫وفهمها‬ ‫ِ‬
‫اكتشاف الطبيعة اإلنسانية‬ ‫ً‬
‫شامل‪ ،‬وعجزه عن‬ ‫فهما دقي ًقا تا ًّما ً‬
‫كامل‬ ‫نفسه ً‬
‫بعض الناس لحظ َة تتحدث معه يخبرك أنه يعرفك بدقة‬‫فهما علم ًّيا تفصيل ًّيا‪ .‬وإن كان ُ‬
‫ً‬
‫نفسك إلى‬
‫كل شيء في داخلك‪ ،‬وهو ال يدري أنك ال تعرف َ‬ ‫وبالتفصيل‪ ،‬ويعرف ّ‬
‫هذه الدرجة التي يزعمها هو‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان عن‬ ‫نفس اإلنسان غامض ًة حتى لنفسه‪ ،‬ما ال يعرفه‬ ‫ما أقسى أن تكون ُ‬
‫عالمه الباطني‬
‫كثير مما يحجبه ُ‬ ‫اإلنسان عن معرفة ٍ‬
‫ُ‬ ‫نفسه أكثر مما يعرفه عنها‪ .‬يعجز‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كل منعطف حا ٍّد في حياته بشيء يثير دهشتَه مما‬‫بشكل واضح ودقيق‪ ،‬لذلك يبوح له ُّ‬
‫ٍ‬
‫اكتشاف لنفسه ما دام ح ًّيا‪ ،‬يلتقط في هذه الرحلة‬ ‫ِ‬
‫رحلة‬ ‫نفسه عنه‪ ،‬ويظل في‬‫تخفيه ُ‬
‫كل مرة شي ًئا مما يغوص في أعماقه‪ .‬يرى محيي الدين بن عربي‪« :‬أن اإلنسان بنفسه‬ ‫ّ‬
‫هو الطلسم األعظم والقربان األكرم‪ ،‬الجامع لخصائص العا َلم»‪ ،‬بصير ُة محيي‬
‫الدين تتكشف فيها بعض األسرار المختزنة في طبيعة اإلنسان‪ .‬وقبله ن ّبه أبو حيان‬
‫ُ‬
‫اإلنسان»‪.‬‬ ‫اإلنسان ْأشكل ِ‬
‫عليه‬ ‫َ‬ ‫التوحيدي إلى ذلك بقوله‪َّ :‬‬
‫«إن‬

‫بالرش‬
‫دراسته‪ .‬املقصو ُد ِ ّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫تصنيفات متنوع ٌة ّ‬
‫للرش عند الفالسفة والالهوتيني الذين تعمقوا يف‬ ‫ٌ‬ ‫‪ .1‬هناك‬
‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫األخالقي هنا هو كل اعتداء وظلم يصدر من اإلنسان جتاه غريه‪ ،‬مثل اعتداء اإلنسان وظلمه‬
‫ِ‬
‫واعتداء اإلنسان عىل الطبيعة‪ ،‬واستنزافِها بالشكل‬ ‫ِ‬
‫واعتداء اإلنسان عىل الكائنات احلية‪،‬‬ ‫لإلنسان‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الذي ينتهي إىل اختالل التوازن احليوي‪ ،‬واالحتباس احلراري‪ ،‬وغري ذلك من آثار فتاكة عىل مصري‬
‫األرض و َم ْن عليها‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫أعجز لو حاول معرف َة غيره‪ ،‬إذ تتعذر عليه معرف ُة ِّ‬


‫كل شيء في‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫ُ‬
‫يكون‬
‫أكثر الناس يحاول أن‬ ‫أعماق الشخصية اإلنسانية وما يكتنفها من غموض وخفاء‪ُ .‬‬
‫أكثر مما تظهر‪ ،‬وتتجلى‬ ‫ٍ‬
‫أكثر مما تعلن‪ ،‬وتضمر َ‬
‫يعلن عن شخصيته بكيفية تخفي َ‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫لتربية‬ ‫اإلنسان منذ والدته‬ ‫هذه الحال ُة بشكل أوضح في المجتمع الذي ّ‬
‫يتعرض فيه‬
‫غير سليمة‪ ،‬ويتعلم على وفق نظا ٍم تعليمي غير مؤسس على أسس علمية صحيحة‪،‬‬
‫ومعايير مزدوجة‪ ،‬وتتحكم في حياة‬
‫ُ‬ ‫وتسود محي َطه االجتماعي ٌ‬
‫قيم محلية متشدّ دة‬
‫الناس ومصائرهم تقاليدُ عشائرية مغلقة‪ ،‬وسلط ٌة سياسية قمعية‪ ،‬في مثل هذا‬
‫فتضح‬
‫َ‬ ‫خلف أقنعة ينتقيها بعناية لنفسه‪ ،‬لئال ُي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان إلى أن يختفي‬ ‫المجتمع يضطر‬
‫مصالحه للضياع‪ ،‬وربما حياتُه للخطر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ما في داخله‪ ،‬وتتعرض‬

‫الطبيع ُة اإلنساني ُة عميق ٌة مركب ٌة متضا ّد ٌة‬


‫غامض‪ ،‬ما يجري من قوانين في الطبيعة ال تنطبق ك ُّلها عليه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مركب‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان كائ ٌن‬
‫كل طبقاتها بشكل واضح‪ ،‬حتى على الخبراء‬ ‫تظل الطبيع ُة اإلنسانية عصي ًة على فهم ّ‬
‫علم النفس إلى مواقف نهائية حاسمة في الكشف‬ ‫المتخصصين‪ .‬ال يمكن أن ينتهي ُ‬
‫االختالف الواسع الذي يصل‬
‫ُ‬ ‫عن ّ‬
‫كل أسرار الطبيعة اإلنسانية‪ ،‬وذلك ما يؤشر إليه‬
‫ِ‬
‫ومواقفها المتنوعة‬ ‫ِ‬
‫مدارس علم النفس المتعدّ دة‪،‬‬ ‫حدَّ التناقض في بعض الحاالت في‬
‫ِ‬
‫واكتشاف الدوافع الخفية لمواقفه في مختلف أحواله‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تفسير سلوك اإلنسان‬ ‫في‬
‫األسرار حتى لدى أولئك الناس‬ ‫َ‬ ‫الطبيع ُة اإلنساني ُة عميق ٌة مركب ٌة متضا ّدة‪ ،2‬تختزن‬
‫سر كام ٌن‬
‫سذ ًجا‪ ،‬إذ‪« :‬ليس من شخص‪ ،‬وإن كان زر ًّيا قمي ًئا‪ ،‬إال وفيه ٌّ‬ ‫الذين نحسبهم ّ‬
‫ال يشركه فيه أحدٌ »‪ ،‬يقول أبو حيان التوحيدي‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان كائ ٌن يحتل‬ ‫أعظم وأشدُّ وأخطر مما هو ظاهر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫غاطس في اإلنسان‬
‫ٌ‬ ‫ما هو‬
‫مشاعر اإلنسان‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تستقل‬ ‫دورا أساس ًّيا في تشكيل فهمه ومواقفه وسلوكه‪ ،‬ال‬
‫الالشعور ً‬
‫ُ‬
‫علم النفس التحليلي أن‪ّ :‬‬
‫«كل شخص‬ ‫يستقل عق ُله عن مشاعره‪ .‬يرى ُ‬
‫ّ‬ ‫عن عقله‪ ،‬وال‬
‫هاوية‪ ،‬ستصاب بالدوار لو أنك نظرت إلى أعماقه»‪ ،‬كما يقول مؤسسه فرويد‪.‬‬

‫‪ .2‬التضاد والتناقض هنا ليس باملعنى املعروف يف املنطق األرسطي‪.‬‬


‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪6‬‬
‫كأي‬ ‫ٍ‬
‫علم النفس إجابات نهائية لألمراض واالضطرابات النفسية‪ ،‬إال أنه ّ‬ ‫لم يجد ُ‬
‫عل ٍم مايزال يواصل تنقيباتِه‪ ،‬ليكتشف المزيدَ مما هو مختبئ في النفس‪ ،‬ويعمل‬
‫باستمرار على نقد نظرياته وتمحيص آراء العلماء والمختصين ويغربلها ويعلن‬ ‫ٍ‬
‫ونتائجه الجديدة‪.‬‬
‫َ‬ ‫أخطا َءها وير ّمم ثغراتِها‪ ،‬ويواصل بجدية أبحا َثه‬
‫يفتح نافذ ًة علمية لدراسة وظائف الدماغ‬
‫علم األعصاب أن َ‬ ‫ويحاول اليوم ُ‬
‫والكشف عن دورها في عمليات اإلدراك والتفكير وتكوين‬
‫َ‬ ‫والشبكات العصبية‪،‬‬
‫المعرفة‪ ،‬وعلى فاعليات النفس وانفعاالتها المختلفة‪ ،‬وآثارها في التربية والتعليم‬
‫علم األعصاب‬ ‫والذاكرة والنسيان‪ ،‬والحاالت المتنوعة للوعي في حياة اإلنسان‪ُ .‬‬
‫َ‬
‫القليل‬ ‫مازال في بداية الطريق‪ ،‬وعلى الرغم من أنه يعد بالكثير غير أنه لم ينجز إال‬
‫حتى اآلن‪.‬‬
‫مشكالت اإلنسان تعود للفشل في اكتشاف حقيقة اإلنسان‪ّ .‬‬
‫إن اكتشاف الكائن‬
‫ٍ‬
‫شخص‬ ‫عمق ال نراه‪ ،‬وفي ِّ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬
‫بسيط ٌ‬ ‫ٍ‬
‫شخص‬ ‫كل‬‫البشري في غاية الصعوبة؛ ففي ّ‬
‫ٍ‬
‫طفل ال نسمعه‪ .‬تختبئ في أعماق األشخاص الذين نعيش ونتعامل‬ ‫ٍ‬
‫عميق صوت‬
‫ٍ‬
‫شخص نكتشفته‪ ،‬ما زالت لديه‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬
‫أشخاص لم نكتشفهم‪ُّ .‬‬ ‫معهم َّ‬
‫كل يو ٍم أشياء من‬
‫أبعا ٌد غاطس ٌة لم نصل إليها‪ ،‬وربما لن نصل إليها ما دمنا أحياء‪ .‬يمكننا أن نتص ّيد‬
‫مما ّ‬
‫يؤشر إليه ما يصدر عنهم‪ ،‬من‪ :‬الهفوات‪،‬‬ ‫أحيانًا ما يكشف عن المضمر لديهم‪ّ ،‬‬
‫وفلتات اللسان‪ ،‬والنسيان‪ ،‬والرغبات المتضا ّدة‪ ،‬واآلراء المتهافتة‪ ،‬والمواقف‬
‫المتناقضة‪ .‬الكائن البشري تجتمع في ذاته التناقضات‪ .‬ليس هناك شخصي ٌة ساكن ٌة‬
‫قار ٌة كالصخرة‪ ،‬إال إن كانت من نوع الحجر ال البشر‪ .‬كلما اشتدت حيو ّية الذات‬
‫ّ‬
‫تناقضات تب ًعا لمعايير األعراف‬
‫ٌ‬ ‫ومواهبها اشتدت تناقضاتُها‪ .‬تبدو هكذا‪ ،‬أي أنّها‬
‫ُ‬
‫اإلنسان إال تالقي األضداد؟ أليس‬ ‫والتقاليد واألديان واأليديولوجيات‪ ،‬لكن هل‬
‫ضعفنا جز ًءا من طبيعة الحياة؟ أليس التضا ّد هو ما تتح ّقق به صيرور ُة الحياة‬
‫ويتواصل تدف ُقها؟‬
‫والقوة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اجتماع‪ :‬الضعف‬
‫ُ‬ ‫هذه التناقضات ّ‬
‫يؤشر إليها في الكائن البشري‬
‫والحب‪ ،‬القسوة والرحمة‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬لكنّنا ال نتنبه إلى أنّه لوال‬
‫ّ‬ ‫الكراهية‬
‫القوة‪ ،‬ولوال الكراهية لم تكن‬
‫الفشل لم يكن النجاح‪ ،‬ولوال الضعف لم تكن ّ‬
‫‪7‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫المح ّبة‪ ،‬لوال القسوة لم تكن الرحمة‪ .‬ك ُّلها يمكن أن نعثر عليها في منجم الذات‬
‫البشرية ‪.3‬‬
‫أساسي في قراراته ومواقفه‪ .‬أحيانًا‬
‫ٌّ‬ ‫أثر عواطف اإلنسان ومشاعره وانفعاالته‬‫ُ‬
‫ٍ‬
‫كلمات هو ال يدري لماذا‬ ‫نتائجها‪ ،‬ويتكلم‬ ‫ٍ‬
‫قرارات هو ال يعرف‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫يتخذ‬
‫َ‬
‫تكلمها‪ ،‬ثم سرعان ما يندم عليها‪ ،‬لكنه لحظ َة الندم يعجز عن تدارك آثارها‬
‫وارتداداتها المؤذية عليه وعلى مصالحه وعالقاته وحياته‪ .‬يمكن أن يرتكب‬
‫اإلنسان جريم َة ٍ‬
‫قتل في لحظة غضب عنيفة من دون عداوة سابقة أو أسباب‬ ‫ُ‬
‫بعض الناس يفتقد عق ُله القدر َة على التحكم بإرادته ومواقفه لحظات‬
‫معروفة‪ُ ،‬‬
‫مصيره‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫قرارات حمقاء‪ ،‬ومواقف رعناء‪ ،‬تصادر عليه‬ ‫االنفعال الهائجة‪ ،‬فيتخذ‬
‫َ‬
‫صور جالل الدين الرومي في المثنوي التنازع في‬ ‫وتفسد َ‬
‫عيشه‪ ،‬وتد ّمر حياتَه‪ّ .‬‬
‫الشر والخير‪ ،‬في حديثه عن موسى بوصفه يرمز لإلرادة الخيرة‪،‬‬
‫ذات اإلنسان بين ّ‬
‫وفرعون بوصفه يرمز لإلرادة الشريرة‪ ،‬بقوله‪« :‬إن موسى وفرعون في وجودك‪،‬‬
‫كامل‪ ،‬ك ُّلنا على‬
‫ينبغي أن تبحث عن هذين الخصمين في وجودك»‪« .4‬ال أحدَ منا ٌ‬
‫نكون مالئك ًة»‪ ،‬تقول‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫وحوشا‪ ،‬وعلى بعد خطوة من أن‬ ‫َ‬
‫نكون‬ ‫بعد خطوة من أن‬
‫علم النفس وعلو ُم اإلنسان‬ ‫بعض خفايا الطبيعة اإلنسانية ُ‬
‫اكتشف َ‬
‫َ‬ ‫جانيت والز‪.5‬‬
‫ُ‬
‫تتواصل اكتشافاتُها‪ ،‬ألن الطبيع َة‬ ‫ومختلف العلوم الحديثة‪ ،‬وما زالت‬
‫ُ‬ ‫والمجتمع‬
‫األسرار التي أودعها اﷲُ في اإلنسان‪ .‬ذلك ما يقوله الفالسف ُة‬
‫َ‬ ‫اإلنسانية تختزن‬
‫ِ‬
‫استبصارات العرفاء الحاذقة‪.‬‬ ‫والخبراء في النفس البشرية‪ ،‬ويتكشف شي ٌء منه في‬
‫ِ‬
‫وكيفية خلقه من‬ ‫ِ‬
‫طبيعة اإلنسان وما ينطوي عليه‪،‬‬ ‫يشير محيي الدين ب ُن عربي إلى‬
‫األضداد‪ ،‬بقوله‪« :‬واعلم أن اإلنسان شجر ٌة من الشجرات‪ ،‬أنبتها اﷲُ شجر ًة ال‬
‫قائم على ساق‪ ،‬وجعله شجر ًة من التشاجر الذي فيه‪ ،‬لكونه مخلو ًقا‬
‫نجما‪ ،‬ألنه ٌ‬
‫ً‬

‫‪ .3‬الرفاعي‪ ،‬عبد اجلبار‪ ،‬الدين والظمأ األنطولوجي‪ ،‬ص ‪ ،‬ط‪ 32 ،3‬ــ ‪ ،2018 ،33‬دار التنوير‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫مركز دراسات فلسفة الدين‪ ،‬بغداد‪.‬‬
‫‪ .4‬الرومي‪ ،‬جالل الدين‪ ،‬املثنوي‪ ،‬ترمجة ورشح‪ :‬إبراهيم دسوقي شتا‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪ ،2017 ،1251‬املركز‬
‫القومي للرتمجة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ .5‬مؤلفة أمريكية وصحفية‪ ،‬مؤلفة كتاب «قلعة الزجاج» مذكرات طفولتها‪ ،‬صدر ‪ ،2005‬ترجم‬
‫الكتاب إىل ‪ 22‬لغة‪ ،‬وحتول إىل فيلم ‪ ،2017‬وبيعت منه أكثر من مليوين نسخة‪.‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪8‬‬
‫والتشاجر والمنازع َة»‪ .6‬ويقول محيي‬
‫َ‬ ‫التخاصم‬
‫َ‬ ‫تطلب‬
‫ُ‬ ‫من األضداد‪ ،‬واألضدا ُد‬
‫الدين في محل آخر‪« :‬ال شيء أوسع من حقيقة اإلنسان وال شيء أضيق منها»‪.7‬‬
‫ٌ‬
‫وانفصال بين األضداد في وجود اإلنسان‪ ،‬وجو ُده يختزن‬ ‫تمايز‬
‫ٌ‬ ‫ليس هناك‬
‫ِ‬
‫إمكانات اإلثبات والنفي م ًعا‪ ،‬يمكن أن يكون أحدهما في أية لحظة‪ ،‬ويمكن أن‬
‫ينقلب إلى ضده في لحظة أخرى‪ .‬يكتب ألكسندر سولجنيتسين‪« :8‬‏إنه ً‬
‫بدل من‬
‫وجود أناس أخيار وأناس أشرار‪ ،‬فإن العالم يتكون من أشخاص معقدين بشكل‬
‫والشر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قادر على إتيان الخير‬
‫كل منهم ٌ‬ ‫مدهش‪ ،‬وأحيانًا متناقضين حتى مع أنفسهم‪ٌّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫مكان ما‪،‬‬ ‫أناس أشرار فقط في‬ ‫لو كان فقط ُّ‬
‫كل شيء بهذه البساطة‪ ،‬لو كان هناك ٌ‬
‫يرتكبون بمكر ً‬
‫أفعال شريرة‪ ،‬لكان من الضروري فص ُلهم فقط عن بقيتنا وتدميرهم‪.‬‬
‫كل إنسان‪ ،‬ومن ذا الذي‬ ‫قلب ّ‬‫والشر يخترق َ‬
‫ّ‬ ‫الخط الذي يفصل بين الخير‬‫َّ‬ ‫لكن‬
‫والشر كامن ًة في باطن ِّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وسائل الخير‬ ‫يرغب في تدمير قطعة من قلبه؟»‪ .9‬ما دامت‬
‫إنسان وهي موجود ٌة بوجوده‪ ،‬فيمكن أن ينقلب َم ْن نراه خ ّي ًرا إلى شرير في أية لحظة‬
‫يمتلك ما يمكّنه من العدوانية والتوحش‪ .‬عندما يتمكّن أحدٌ من السلطة في بالدنا‬
‫الناس‬ ‫غال ًبا ما يستبدّ ويطغى ويتحول إلى ٍ‬
‫كائن مفترس‪ ،‬وكأنه ينقلب على ما يعرفه ُ‬
‫من أخالقه قبل السلطة‪ .‬إنه لم ينقلب على أخالقه‪ ،‬ألن تلك األخالق االجتماعية‬
‫محتاجا‪ ،‬وبمجرد‬ ‫ً‬ ‫استخدمها سفين ًة لعبوره إلى كرسي السلطة‪ ،‬عندما كان ضعي ًفا‬
‫ان َل َي ْط َغ ٰى‪َ ،‬أن‬‫نس َ‬ ‫الوحش المختبئ داخله فاستبدّ وطغى‪[ ،‬ك ََّل إِ َّن ْ ِ‬
‫ال َ‬ ‫ُ‬ ‫عبوره انبعث‬
‫اس َت ْغن َٰى]‪.10‬‬
‫َّرآ ُه ْ‬
‫ِ‬
‫تفاعل وتداخل عناصر متباينة في‬ ‫الالفت أن األبحاث البيولوجية تشير إلى‬
‫ٍ‬
‫جنس واحد‪ ،‬فقد أخذت نيلسون من جامعة واشنطن‬ ‫تكوين اإلنسان ال تنتمي إلى‬

‫‪ .6‬ابن عريب‪ ،‬الفتوحات املكية‪ ،‬باب ‪ ،336‬يف املنازل‪ ،‬ج‪ :3‬ص ‪.137‬‬
‫‪ .7‬املصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.515‬‬
‫‪ .8‬أديب ومعارض رويس‪ ،‬حائز عىل جائزة نوبل يف األدب سنة ‪ ،1970‬اشتهر بروايتيه‪« :‬أرخبيل‬
‫غوالغ» و«يوم يف حياة إيفان دينيسوفيتش»‪.‬‬
‫‪ .9‬جوندرمان‪ ،‬ريتشارد‪« ،‬‏كينونة يف حالة عدم اليقني‪ :‬مفهوم جون كيتس عن القدرة السلبية»‪ ،‬ترمجة‬
‫مجال مجعة‪ ،‬جريدة الصباح «بغداد»‪ 17 ،‬آذار ‪.2021‬‬
‫‪ .10‬العلق‪ 5 ،‬ــ ‪.6‬‬
‫‪9‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫(شرائح من نسيج دماغ امرأة‪،‬‬


‫َ‬ ‫مع وليام تشان من جامعة ألبرتا في إيدمونتون الكندية‪:‬‬
‫وفحصا محتواها الوراثي بح ًثا عن كروموسوم «واي» فكان قرابة ‪ 63‬في المئة من‬
‫النسيج يضم خاليا ذكرية‪« ،‬لم نجد فقط مادة وراثية ذكرية في خاليا دماغ بشري المرأة‬
‫في عملية رصد عامة‪ ،‬ولكننا اكتشفنا وجودها في مناطق متعددة من الدماغ»‪ ،‬حسبما‬
‫قال تشان)‪.11‬‬

‫ُ‬
‫والعقل‬ ‫الرو ُح‬
‫قدر فرضته على اإلنسان طبيعتُه المخلوقة بهذه الكيفية‪،‬‬
‫التضا ُّد بين الروح والعقل ٌ‬
‫مواقف بديلة‪ ،‬وكأن‬
‫ُ‬ ‫وهذا التضا ّد ال ينتهي‪ ،‬تتوالد من المواقف المتضا ّدة باستمرار‬
‫َ‬
‫اإلنسان يظل محكو ًما بهذه المعادلة التي شرحها هيغل في ديالكتيكه‪ ،‬بقوله‪ :‬اإلنسانية‬
‫الطبيعية هي «تناقض لم يتم حله داخل ًّيا»‪( ،12‬فعبر «وحدة األضداد» و«نفي النفي»‬
‫خاصا من قوانين الصيرورة التاريخية‪ ،‬كما تراها فلسفته‪ .‬فاإلرادة‬
‫ًّ‬ ‫يضع هيغل قانونًا‬
‫اإللهية‪ ،‬بالتغيير أو التدمير أحيانًا‪ ،‬هي القوة الكونية العاقلة الواعية التي تخلق سبب‬
‫التغيير وفعله موضوع ًّيا‪ .‬وبهذا المعنى تحديدً ا ينبغي تفسير موت ووالدة الدول واألمم‬
‫في فلسفته‪ ،‬كما في قوله‪« :‬من الموت تولد حياة جديدة»)‪.13‬‬
‫نرى التضا َّد بين الروح والعقل بوضوح في آراء اإلنسان ومواقفه وقراراته وسلوكه‪،‬‬
‫ُ‬
‫العقل‪ ،‬إذ ال‬ ‫الروح يصمت‬
‫ُ‬ ‫الروح‪ ،‬وعندما تتحدّ ث‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫العقل تصمت‬ ‫فعندما يتحدث‬
‫الروح‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫العقل إال عندما تصمت‬ ‫يستفيق‬
‫ُ‬ ‫الروح إال عندما يصمت العقل‪ ،‬وال‬
‫ُ‬ ‫تستفيق‬
‫مقيما في الروح لن‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان ً‬ ‫مقيما في العقل لن تمتلئ الروح‪ ،‬وما دام‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان ً‬ ‫مادام‬
‫ُ‬
‫العقل تنطفئ الروح‪ ،‬وربما تصير رما ًدا‪ ،‬وعندما تتوهج‬ ‫يمتلئ العقل‪ .‬عندما يتوهج‬
‫ُ‬
‫العقل يغرق‬ ‫ٍ‬
‫سبات أبدي‪ .‬عندما يغيب‬ ‫الروح ينطفئ العقل‪ ،‬وربما يخمد ويغرق في‬
‫ُ‬
‫المر ُء في كهوف ظالم الوهم والخرافة والضياع‪.‬‬

‫‪ .11‬روبسون‪ ،‬ديفيد‪ ،‬هل هناك إنسان آخر يعيش بداخلك؟‪ ،‬موقع يب يب يس‪ ،‬بتاريخ ‪ 2‬أكتوبر‪ /‬ترشين‬
‫األول ‪.2015‬‬
‫‪ .12‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪.92 :3 ،‬‬
‫‪ .13‬هنداوي‪ ،‬حسني‪ ،‬الرش ومفاجئات الديالكتيك اهليغيل‪ ،‬جملة قضايا إسالمية معارصة‪ ،‬ع ‪ 73‬ــ ‪،74‬‬
‫«‪ .»2021‬الدراسة منشورة يف هذا العدد‪.‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪10‬‬
‫اإلنسان بالروح ويهدر َ‬
‫العقل فيضيع في متاهات الحياة المظلمة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال يمكن أن يستغني‬
‫الروح فيضيع في متاهات القلق وكوابيس‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان بالعقل ويهدر‬ ‫وال يمكن أن يستغني‬
‫لهمة تحدثنا عن حاجات الروح وأشواقها وإشراقاتها‪ .‬لو‬ ‫الم ِ‬
‫آثار العرفاء ُ‬
‫الالمعنى‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫العقل للروح‬ ‫الروح للعقل ويتحدث فيها‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان أن يعيش حيا ًة تتحدث فيها‬ ‫حاول‬
‫الجمع بينهما‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يصعب عليه ذلك‪ ،‬وربما يتعذر أحيانًا على اإلنسان‬
‫ٍ‬
‫وموقف واحد‪ ،‬المتنا ِع‬ ‫وآن واحد‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وعاء واحد‪ٍ ،‬‬ ‫محاوالت الجمع بينهما في‪:‬‬ ‫ت ِ‬
‫ُخف ُق‬
‫ُ‬
‫وحجج‬
‫ُ‬ ‫عقل الفيلسوف يدله على طريق‪،‬‬ ‫السير في طريقين متوازيين في آن واحد‪ُ .‬‬
‫طريق‬
‫ٌ‬ ‫طريق الفيلسوف‪ ،‬وللعارف‬‫ِ‬ ‫الالهوتي تدله على طريق‪ ،‬ال يلتقي بالضرورة مع‬
‫ِ‬
‫الحقائق عبر شهوده لها‪ .‬وذلك ما يحكيه‬ ‫تذوق بعض‬‫آخر‪ ،‬استبصاراتُه فيه تمكّنه من ّ‬
‫ِ‬
‫ومواقف الفالسفة والالهوتيين والعرفاء في ّ‬
‫كل األديان‪.‬‬ ‫والتنو ُع في آراء‬ ‫االختالف‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫ذلك هو أحدُ أقدار اإلنسان الوجودية‪ ،‬وما فرضته عليه طبيعتُه‪ .‬لحظ َة اجتياز هذا‬
‫طور يستطيع فيه أن يعيش من‬ ‫اإلنسان في سفره إلى ٍ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بنجاح يصل‬ ‫االمتحان العسير‬
‫دون أن يضحي بالعقل قربانًا للروح‪ ،‬أو يضحي بالروح قربانًا للعقل‪ .‬وهو من أعسر‬
‫االختبار الوجودي المزمن الذي يولد‬
‫ُ‬ ‫اختبارات المرء في الحياة وأش ّقها وأشقاها‪ ،‬إنه‬
‫كثير من‬
‫اختبار يفشل فيه ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ونهارا‪ ،‬إنه‬
‫ً‬ ‫اختبار يعيش معنا ونعيش معه ً‬
‫ليل‬ ‫ٌ‬ ‫بوالدتنا‪ ،‬إنه‬
‫اختبار ال ينجو منه أحد‪ ،‬ولن يظفر باجتيازه بنجاح إال األفذاذ‪ .‬يقول إريك فروم‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫البشر‪،‬‬
‫متأصل في ظروف الوجود اإلنساني‪ ،‬ويتطلب‬ ‫ٌ‬ ‫تناقض‬
‫ٌ‬ ‫«أؤمن بأن طبيع َة اإلنسان هي‬
‫ٍ‬
‫متناقضات جديدة‪ ،‬وبالتالي تحتاج إلى‬ ‫البحث عن حلول تخلق بدورها‬‫َ‬ ‫التناقض‬
‫ُ‬ ‫هذا‬
‫االستمرار في البحث عن حلول»‪.14‬‬
‫شعوره بمرارات الحياة‬
‫ُ‬ ‫اإلنسان بمشقة الحياة‪ ،‬وك ّلما تقدم ُ‬
‫عمره اشتدَّ‬ ‫ُ‬ ‫يشعر‬
‫ِ‬
‫وتٔامين ٔامنه الشخصي‪ ،‬تٔامين العيش يتطلب بنا َء‬ ‫ِ‬
‫بتٔامين عيشه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ينشغل‬ ‫ومواجعها‪.‬‬
‫والتعامل مع مختلف أصنافهم‪ ،‬وأحيانًا يضطر للتعامل حتى مع‬ ‫َ‬ ‫عالقات مع الناس‬
‫الكف‬
‫َّ‬ ‫أالمن الشخصي والسال ُم الباطني يتطلبان‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫التعامل معهم‪ .‬وتأمي ُن‬ ‫الذين ال ُيطاق‬
‫ِ‬
‫مرارات الحياة ومواج َعها تٔاتي غال ًبا من هذا التعامل‪ .‬يتمنى‬ ‫عن التعامل مع الناس‪ٔ ،‬الن‬

‫‪ .14‬فروم‪ ،‬إريك‪ ،‬حب احلياة‪ :‬نصوص خمتارة‪ ،‬تقديم‪ :‬راينر فونك‪ ،‬ترمجة‪ :‬محيد لشهب‪ ،‬ص ‪.57‬‬
‫‪11‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫الموت يقلقه‪ ،‬ألن‬


‫ُ‬ ‫الموت ٔاحيانًا للخالص من هذه المفارقات‪ ،‬وإن كان‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫إالنسان‬
‫مجهول ُّ‬
‫وكل مجهول مخيف‪ .‬هذه نماذج للمفارقات التي تفرضها‬ ‫ٌ‬ ‫مصيره بعد الموت‬
‫َ‬
‫رغما عنه‪.‬‬
‫الحيا ُة على إالنسان ً‬

‫ُ‬
‫الجهل بالطبيعة اإلنسانية وأخطا ُء التربية‬
‫والغموض في شخصية الكائن‬
‫َ‬ ‫يكتشف اإلبها َم‬
‫َ‬ ‫يستطيع أن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫البسيط ال‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬
‫ٍ‬
‫شيء من الطبقات البعيدة الغور في داخله‪.‬‬ ‫ِ‬
‫التوغل في اكتشاف‬ ‫ويعجز عن‬ ‫البشري‪،‬‬
‫ُ‬
‫يحسب‬
‫ُ‬ ‫ساذجا‪،‬‬
‫ً‬ ‫فهما‬
‫ويفهم الحيا َة ً‬
‫ُ‬ ‫الواقع رؤي ًة مس ّطحة‪،‬‬
‫َ‬ ‫يرى ُ‬
‫مثل هذا اإلنسان‬
‫وكل ما فيها مكشو ًفا‪ ،‬وهو ال يدري أن الحيا َة تجرب ٌة عملي ٌة ال‬ ‫الحيا َة شديد َة الوضوح َّ‬
‫وخوض مساراتها‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالعيش فيها والصبر على اختباراتها القاسية‪،‬‬ ‫تتكشف لإلنسان إال‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫والنجاة‬ ‫ب على منعطفاتها الشاقة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والوقوف على محطاتها المختلفة‪ ،‬والتغ ّل ِ‬ ‫الوعرة‪،‬‬
‫من مباغتاتها المريعة‪ .‬الحيا ُة توجد بالتجارب واالختبارات والممارسات واألفعال‬
‫المبسطة والتوصيات الجاهزة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والمواقف‪ ،‬ولیس بالتساؤالت الساذجة واإلجابات‬
‫ُ‬
‫اختزال‬ ‫وال بالتمنيات المع ّلبة‪ ،‬والرغبات واألحالم‪ ،‬والكلمات الرخوة‪ .‬ال يمکن‬
‫ٌ‬
‫خليط من‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫اإلنسان وتعقیدات عيشه في الحياة بإجابات ونتائج سريعة واضحة‪.‬‬
‫عناصر وصفات وخصائص وحاالت متناقضة‪.‬‬
‫لكل ما‬ ‫ٍ‬
‫بمنطق واقعي هو البداي ُة الصحيحة ِّ‬ ‫التعرف علم ًّيا على الطبيعة اإلنسانية‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان من‪ :‬التربية‪ ،‬واكتشاف كيفية بناء عالقات إنسانية سلمية في إطار‬ ‫يرمي إليه‬
‫ِ‬
‫وكيفية فهم الدين‬ ‫وكيفية العمل من أجل صناعة عا َلم أجمل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫التنوع واالختالف‪،‬‬
‫ِ‬
‫وتفسير نصوصه بالشكل الذي يصير فيه الدي ُن ُم ِ‬
‫لهما للعيش في أفق المعنى‪َ .‬م ْن يجهل‬
‫الطبيع َة اإلنساني َة يجهل الطريق َة المريحة للعيش في األرض‪ ،‬ويجهل كيف يمكنه‬
‫ِ‬
‫متاعب وآال ِم حياته‪.‬‬ ‫التغلب على‬
‫ُ‬
‫يكشف لإلنسان عن شيء من أسرار ذاته المجهولة‬
‫ُ‬ ‫الفهم الواقعي للطبيعة اإلنسانية‬
‫ُ‬
‫يصوب أحكا َمه على الغير‪ ،‬ويجعل مواق َفه من مفارقات مواقفهم‬
‫لديه‪ ،‬مضا ًفا إلى أنه ّ‬
‫منصفة‪ ،‬ورأيه في ثغرات سلوكهم أكثر موضوعية‪ .‬وال يمكن تح ّقق هذا الفهم إال‬
‫ِ‬
‫واعتماد مناهج التفكير العلمي ومعطياته الفائقة األهمية‪،‬‬ ‫بالتمسك ِبالعقالنية النقدية‪،‬‬
‫ّ‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪12‬‬
‫ِ‬
‫وتمحيصها المتواصل لما تعتمده من‬ ‫ألن العقالني َة تتميز ِ‬
‫بنقدها لطرائق تفكيرها‪،‬‬
‫ِ‬
‫واختبارها المتكرر لصالحية‬ ‫المناهج‪ ،‬وما تنتهي إليه من النتائج‪ ،‬وغربلتِها ّ‬
‫كل مرة‪،‬‬
‫أدواتها‪ .‬تفضح العقالني ُة النقدية أخطا َء التفكير العلمي‪ ،‬وتكشف عن هناته وثغراته‬
‫ِ‬
‫تفسير‬ ‫ِ‬
‫واعتماد فهمها في‬ ‫ِ‬
‫للوثوق بإمكاناتها‪،‬‬ ‫على الدوام‪ ،‬وذلك ما يدعو َّ‬
‫كل عاقل‬
‫طبيعة الكائن البشري‪ ،‬وفه ِم حقائق الحياة‪.‬‬
‫َ‬
‫واألمان‪،‬‬ ‫الخوف‬
‫َ‬ ‫االضطرب والسكين َة‪،‬‬
‫َ‬ ‫القلق والطمأنين َة‪،‬‬
‫يعيش‪َ :‬‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان بطبيعته ُ‬
‫واالنشراح‪ ،‬البكا َء‬
‫َ‬ ‫االكتئاب‬
‫َ‬ ‫واالبتهاج‪،‬‬
‫َ‬ ‫الضجر والتسلي َة‪ ،‬السأ َم‬
‫َ‬ ‫التعب والراح َة‪،‬‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫يحزن‪،‬‬ ‫يفرح وال‬
‫ُ‬ ‫افتراض إنسان‬
‫ُ‬ ‫والفرح‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الحزن‬ ‫َ‬
‫واالنبساط‪،‬‬ ‫االنقباض‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫والضحك‪،‬‬
‫َ‬
‫اإلنسان في األرض‪.‬‬ ‫افتراض غير واقعي ال يشبه‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫يضحك وال يبكي‪،‬‬ ‫يبتهج وال يسأ ُم‪،‬‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫بشكل تام عن‬ ‫افتراض إنسان يعيش في كل حاالته «اللحظة اآلنية»‪ ،‬وينفصل‬
‫َ‬ ‫كما أن‬
‫مكون وجودي لحاضر اإلنسان‪،‬‬ ‫أيضا‪ .‬الماضي ِّ‬ ‫غير واقعي ً‬
‫افتراض ُ‬
‫ٌ‬ ‫ماضيه ومستقبله‪،‬‬
‫كل إنسان لن‬ ‫عميق لشخصية ِّ‬
‫ٌ‬ ‫مكو ٌن‬
‫الالشعور ِّ‬
‫ُ‬ ‫مكو ٌن سيكولوجي‪،‬‬‫مضا ًفا إلى أنه ِّ‬
‫َ‬
‫المستقبل نهائ ًّيا من شعوره‪ ،‬أحيانًا‬ ‫ِ‬
‫اإلنسان أن يغ ّيب‬ ‫يختفي مادام ح ًّيا‪ .‬يتعذر على‬
‫كأفق مظلم أو مضيء في لحظة اإلنسان اآلنية‪.‬‬ ‫حضوره بقوة ٍ‬
‫َ‬ ‫التفكير بالمستقبل‬
‫ُ‬ ‫يفرض‬
‫ُ‬
‫كتابات‪ ،‬تدعو للعيش في «اآلن» فقط‪ ،‬وتشدد على أن َم ْن يريد أن يعيش سعيدً ا‬ ‫ٍ‬ ‫أقرأ‬
‫قرارا بذلك‪ .‬ويتكرر فيها القول‪َ :‬م ْن يريد أن يعيش سعيدً ا ما عليه إال‬
‫ما عليه إال أن يتخذ ً‬
‫مغادرة الماضي والشطب عليه تما ًما‪ ،‬وغلق التفكير باألمس‪ ،‬والخالص من كوابيسه‬
‫الكف عن‬
‫ّ‬ ‫بشكل نهائي‪ ،‬وحذفِه من الشعور والالشعور‪َ .‬م ْن يريد أن يعيش سعيدً ا عليه‬
‫ِ‬
‫وغلق التفكير‬ ‫النظر للمستقبل‪ ،‬وصرف النظر عن أي شيء مقلق يتصل به بشكل كلي‪،‬‬
‫الكتابات بليد ٌة تجهل أبسط الحقائق العلمية‬
‫ُ‬ ‫بالغد‪ ،‬والتحرر من االنهمام بالمصير‪ .‬هذه‬
‫عن طبيعة اإلنسان‪ ،‬حين تنظر إليه وكأنه كائ ٌن ميكانيكي مادي‪ ،‬ليس عليه إال أن يلتزم‬
‫بالئحة توصيات جاهزة ويطبقها بحذافيرها إن أراد أن يمتلك السعادة‪.‬‬
‫كثير منها إلى‬
‫وآثارها المؤلمة يعود ٌ‬ ‫ُ‬ ‫وجروحها‬
‫ُ‬ ‫ثغرات وأخطا ُء التربية وعقدُ ها‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫يفعل إال ما بوسعه أن يفع َله‪،‬‬
‫اإلنسان ليس بوسعه أن َ‬
‫ُ‬ ‫الجهل بطبيعة اإلنسان‪.‬‬
‫ال يستجيب إال إلى ما يمكنه االستجابة له‪ .‬طبيع ُة اإلنسان ال تخضع لقرارات يفرضها‬
‫والمواقف التي تفوق قدر َة اإلنسان ال‬
‫ُ‬ ‫القرارات‬
‫ُ‬ ‫على نفسه بهذه الكيفية الساذجة‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫ُفرض عليه باإلكراه والعنف والتعذيب‪.‬‬‫يطيقها‪ ،‬وال يمكنه أن ينفذها إال أن ت َ‬
‫ُ‬
‫ونمط تربيته‪ ،‬ومستوى وعيه‬ ‫ال يطيق إال ما تستجيب له بنيتُه النفسية‪ ،‬وطاقتُه العصبية‪،‬‬
‫للحياة‪ ،‬وقدراتُه المتنوعة‪ ،‬وأهمها قدرته على التحكم بإرادته‪ ،‬وقدرته على تحمل ما‬
‫يتنكر له استعدا ُده الشخصي‪.‬‬
‫اكتشاف ما يختبئ في أعماقها‬
‫ُ‬ ‫الطبيع ُة اإلنساني ُة مركب ٌة‪ ،‬طبقاتُها متعددةٌ‪ ،‬ال يمكن‬
‫أكثر كتابات ما يسمى بـ ‪« :‬التنمية البشرية»‪ ،‬أو «تطوير‬
‫بتفكير تبسيطي يقف عند السطح‪ُ .‬‬
‫وشعارات‬
‫ٌ‬ ‫مبسطة‪،‬‬‫متعجلة ّ‬
‫ّ‬ ‫وعبارات‬
‫ٌ‬ ‫مفاهيم غير علمية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الذات»‪ ،‬أو «علم الطاقة»‪،‬‬
‫وقت‬‫يأكل َ‬ ‫ً‬
‫مبتذل‪ُ ،‬‬ ‫مكررة‪ ،‬تتالعب بمشاعر الناس‪ .‬أضحى ركا ُم هذه الكتابات‬ ‫سطحية ّ‬
‫تفشت‬ ‫تفكيرهم‪ ،‬ولغتُها الرثة بيانَهم‪ّ .‬‬ ‫وتستنزف توصياتُها الواهنة‬
‫ُ‬ ‫غير الخبراء‪،‬‬ ‫ِ‬
‫القراء ِ‬
‫َ‬
‫الكتابات التي تجهل الطبيع َة اإلنساني َة كالوباء بين القراء في السنوات األخيرة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫هذه‬
‫أكثر هذه الكتابات ٌ‬
‫هزيل‪ ،‬ال يقع‬ ‫كل متاعبهم النفسية‪ُ .‬‬ ‫وأوهمت عد ًدا منهم بأنها تعالج َّ‬
‫وروية وتدقيق‪ ،‬وال يمكن أبدً ا أن تغوي‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بتأمل‬ ‫الناس الذين ال يفكّرون‬ ‫في فتنتها إال‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫العقول الحكيمة اليقظة‪.‬‬
‫هذه الكتابات والتوصيات تجهل التناقضات الذاتية في اإلنسان‪ ،‬وتتعاطى معه كأنه‬
‫ِ‬
‫التوصيات‬ ‫أكثر‬ ‫ِ‬
‫كائ ٌن ميكانيكي‪ .‬يشبه هذه الكتابات في الجهل بحقيقة الطبيعة اإلنسانية ُ‬
‫كثيرا بهذه‬
‫علم النفس الحديث ً‬ ‫المتداولة بين الناس‪ .‬ال يكترث ُ‬
‫َ‬ ‫الجاهزة والعبارات‬
‫التوصيات الغائمة لكتابات تشدّ د على نصائح وإرشادات‪ ،‬من قبيل‪« :‬ال تحزن»‪،‬‬
‫«ال تكتئب»‪« ،‬ال تقلق»‪« ،‬ال تتشائم»‪« ،‬ال تتألم»‪« ،‬ال تنزعج»‪« ،‬ال تغتم»‪« ،‬ال تتأرق‬
‫ِ‬
‫بالتفكير‬ ‫بدل من تضييع الوقت‬‫في نومك»‪« ،‬كن حاز ًما وجا ًدا»‪« ،‬تأقلم مع الظروف ً‬
‫ٍ‬
‫توصيات ومواعظ ِ‬
‫غير علمية‪ .‬أحيانًا‬ ‫الزائد»‪« ،‬استمتع باللحظة الحالية»‪ ،‬وأمثالِها من‬
‫ٍ‬
‫إصابة‬ ‫ِ‬
‫وحاالت‬ ‫ٍ‬
‫اضطرابات نفسية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ألشخاص يعانون من‬ ‫يكررون مثل هذه التوصيات‬
‫ّ‬
‫بـأمراض‪ ،‬مثل‪« :‬االضطرابات الوجدانية»‪ ،‬أو «اضطرابات الشخصية»‪ ،‬أو «اضطرابات‬
‫القلق»‪ ،‬أو «الكآبة الحادة»‪ ،‬أو «الوسواس القهري»‪ ،‬أو «الهستيريا»‪ ،‬أو «البارانويا»‪،‬‬
‫متمرسون ومعالجون‬ ‫ٍ‬
‫وغير ذلك من أمراض تحتاج عيادات يديرها أطبا ٌء نفسانيون ّ‬
‫كتابات «التنمية البشرية»‪ ،‬أو «تطوير الذات»‪ ،‬أو «علم الطاقة» بشيء‬
‫ُ‬ ‫حاذقون‪ .‬اختلطت‬
‫من خبرات االرتياض التأملي المعروف في الديانات والثقافات الهندية واآلسيوية‪،‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪14‬‬
‫و ُف ّسرت هذه الخبرات بطرائق متنوعة‪ ،‬ومورست بأساليب مغايرة‪ ،‬ومبتذلة أحيانًا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫قليل من هذه الكتابات التي تو ِّظف َ‬
‫علم النفس اإليجابي‪ ،‬وإن كان‬ ‫لم أقرأ إال ً‬
‫مبسط‪َ ،‬‬
‫وأقل منها تلك التي تو ِّظفه بكفاءة علمية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫الكتابات العلمية‪ ،‬وال أنفي أهمي َة «علم النفس اإليجابي» الذي اقترحه‬ ‫ال أنفي أهمي َة‬
‫عالم النفس مارتن سليجمان‪ ،15‬منطل ًقا من التفكير اإليجابي‪ .‬آرا ُء سليجمان تشدّ د على‬
‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ويغذي َّ‬
‫كل طاقة بنّاءة محتجبة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫إيقاظ مكامن القوة في الشخصية‪ ،‬واالنهما ِم بما يبعث‬
‫مثل‪ :‬تقدير الذات والتفاؤل واألمل‪ ،‬والعطاء والقناعة واإليثار‪ ،‬والتسامح والصفح‪،‬‬
‫تعاليمه ليست‬
‫َ‬ ‫علم جميل‪ ،‬غير أن‬ ‫علم النفس اإليجابي ٌ‬
‫وما يتناغم معها من صفات‪ُ .‬‬
‫كل شخصية‬ ‫نترقب من ِّ‬ ‫تنطبق على ِّ‬
‫كل إنسان‪ ،‬وال يصح أن‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫وصفات سحري ًة جاهز ًة‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫الضطهاد‬ ‫مم ْن يعانون من اضطرابات عاطفية‪ ،‬و َم ْن تعرضوا‬
‫كثير َ‬‫تستسجيب لها‪ٌ .‬‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫وصدمات وجروح نفسية‪ ،‬يصعب وربما ّ‬
‫يتعذر عليهم أن يكونوا إيجابيين‪ .‬وهكذا‬ ‫ٍ‬
‫علم‬
‫الحال في َم ْن يفتقرون للذكاء العاطفي‪ ،‬فليس بالضروة أن يتفاعلوا مع ما يقوله ُ‬
‫النفس اإليجابي‪.‬‬
‫مختلف أبعادها‪ ،‬وال‬
‫َ‬ ‫إن أي َة محاولة لدراسة الطبيعة اإلنسانية ينبغي أن تستوعب‬
‫ذات ٍ‬
‫بعد واحد‪ .‬الطبيع ُة اإلنسانية متعدد ُة الطبقات‪ ،‬متنوع ُة األبعاد‪،‬‬ ‫تتعامل معها وكأنها ُ‬
‫تفكيرا مرك ًبا دقي ًقا يتسع ألبعادها المختلفة‪ ،‬ويغور في أعماقها كي‬
‫ً‬ ‫فهمها‬
‫يتطلب ُ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬
‫ضعف شديدة لدى ِّ‬ ‫يكتشف شي ًئا من أسرارها‪ .‬بموازاة مكامن القوة هناك مكام ُن‬
‫ٍ‬
‫وعجز‬ ‫ٍ‬
‫ويأس والجدوى‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وقلق وأل ٍم‬ ‫ٍ‬
‫خوف‬ ‫إنسان‪ ،‬نراها في ما يستبدُّ باإلنسان من‬
‫وترسخها عوامل ُمتنوعة متفشية في‬‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫وغياب لمعنى الحياة‪ ،‬تنتجها‬ ‫عن تقدير الذات‪،‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان من خفض ضراوتها بااليمان والمحبة وتنمية اإلرادة والتربية‪،‬‬ ‫الحياة‪ .‬يتمكن‬
‫وغير ذلك من عوامل تعمل على إيقاظ وتعزيز قدرات مكامن القوة لديه‪ ،‬إال أنه ال‬

‫‪ .15‬مارتن إلياس بيت سيليغامن‪ ،‬رئيس مجعية علامء النفس األمريكيني عام ‪ ،1998‬توىل سيليغامن منصب‬
‫مديرا ملركز‬
‫أستاذية عائلة زيلرباخ يف علم النفس يف قسم علم النفس يف جامعة بنسلفانيا‪ ،‬وعمل ً‬
‫علم النفس اإلجيايب فيها‪ .‬صنف استقصاء استعراض لعلم النفس العام يف سنة ‪ 2002‬سيليغامن يف‬
‫املرتبة احلادية والثالثني من بني أكثر علامء النفس استشها ًدا يف القرن العرشين‪ .‬ألف عدة كتب منها‪:‬‬
‫«اإلجيابية املكتسبة»‪ ،‬و«اإلجيابية األصيلة»‪ ،‬و«ازدهر»‪ .‬وأصدر سيليغامن عام ‪ 2018‬كتابه األخري حتت‬
‫عنوان‪« :‬جولة األمل‪ :‬رحلة عامل نفيس من العجز إىل التفاؤل»‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫يتمكن من إطفائها وإخمادها على الدوام‪ ،‬في ِّ‬


‫كل أحواله وفي مختلف منعطفات‬
‫حياته‪ ،‬وتقلبات ومباغتات أيامه‪.‬‬
‫يتكاثر َّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫الناس في مجتمعنا يستهجنون مراجع َة الطبيب والمعالج النفساني‪،‬‬
‫مادام ُ‬
‫حضور المشعوذين واألفاكين والمحتالين‬
‫ُ‬ ‫يوم دعا ُة ما يسمى بـ «علم الطاقة»‪ ،‬ويتفشى‬
‫خادعين والن ََّصابين‪ ،‬كمعالجين لألمراض النفسية‪ ،‬والوهن الروحي‪ ،‬والقلق‬ ‫والم ِ‬
‫ُ‬
‫أخطر هؤالء وأشدُّ هم سطو ًة على مشاعر الناس‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الوجودي الذي يكابده الناس‪.‬‬
‫وأبرعهم في إغوائهم وخداعهم‪َ ،‬م ْن يزعمون أن لهم صلة مباشرة بالغيب‪ ،‬وأن‬ ‫ُ‬
‫عالجهم الذي يقدمونه يعتمد على المقدّ س ويستعين بأسباب ميتافيزيقية في شفاء هذه‬
‫َ‬
‫األمراض‪.‬‬
‫الناس في مجتمعنا ال يستهجنون مراجع َة هؤالء المشعوذين وأمثالِهم‪،‬‬
‫َ‬ ‫الغريب أن‬
‫ُ‬
‫في حين يستهجنون مراجع َة األطباء النفسانيين والمعالجين المختصين‪ ،‬ويحذرون من‬
‫ذلك إلى الحدِّ الذي يمنع أكثر المصابين بهذه األمراض من زيارة العيادات النفسية‪،‬‬
‫على الرغم من حاجتهم الماسة لذلك‪ ،‬لئال يفتضحون وينعتون بالجنون في المحيط‬
‫االستطالعات الجا ّد ُة للصحة النفسية إلى أن مجتم َعنا من أكثر‬
‫ُ‬ ‫الذي يعيشون فيه‪ .‬تؤشر‬
‫األمراض النفسية‪ ،‬والمفارقة أنه من أفقر المجتمعات بعدد‬
‫ُ‬ ‫المجتمعات المتوطنة فيها‬
‫األطباء النفسانيين والمعالجين والعيادات المختصة‪.‬‬
‫نفسه ُمع ِّل ًما‬
‫يفرض َ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫جاهل‬ ‫جهل‪ ،‬لكن المشكل َة في‬
‫ً‬ ‫كثيرون يتحدثون ويكتبون‬
‫ترويج الجهل‪،‬‬ ‫يبرران‬ ‫ُ‬ ‫سن نية‪ .‬حسن ِ‬ ‫وح ِ‬
‫َ‬ ‫والصدق وحدَ هما ال ّ‬ ‫النية‬ ‫ُ ُ‬ ‫للناس‪ ،‬بصدق ُ‬
‫الجاهل ُمع ِّل ًما للعالِم‪ .‬مشكل ُة بعض من يكتبون عن اإلنسان والدين جه ُلهم‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫يكون‬ ‫وأن‬
‫بالفلسفة وعلوم اإلنسان والمجتمع الحديثة‪ ،‬وعد ُم معرفتهم بعلم األديان‪.‬‬

‫الشر والخير‬ ‫ُ‬


‫التكامل وصراع ِّ‬
‫مسرحا للصيرورة والتطور والتكامل‪ ،‬ال تتح ّقق تلك‬
‫ً‬ ‫خلق اﷲُ العا َلم ليكون‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫الجهل لما‬ ‫ِ‬
‫والنقص مقابل الكمال‪ ،‬فلوال‬ ‫الشر مقابل الخير‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الصيرور ُة بال وجود ِّ‬
‫المرض لما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان السال َم‪ ،‬ولوال‬ ‫الحرب لم يصنع‬
‫ُ‬ ‫العلم‪ ،‬ولوال‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫اكتسب‬
‫نسب إلى شيخ اإلشراق السهروردي‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان ما يحفظ به صحتَه‪ ،‬وهكذا‪ُ .‬ي َ‬ ‫ابتكر‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪16‬‬
‫المقتول نحو ‪ 586‬هجرية القول‪« :‬لوال التضاد ما صح دوام الفيض من المبدأ‬
‫الخير المحض غاي ُة ونهاي ُة الكمال‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ناقص ينشد الكمال‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مخلوق‬ ‫الجواد»‪ ،16‬العا َلم‬
‫التطور وتوقفت حرك ُة التاريخ‪ .‬حرك ُة التاريخ‬ ‫ُ‬ ‫اإلنسان والعا َلم لتعطل‬
‫ُ‬ ‫لو بلغه‬
‫َ‬
‫األشواك الموجع َة‬ ‫األزهار اليانع َة الجميل َة العطرة‪ ،‬مثلما تبيد‬
‫َ‬ ‫صيرور ٌة موجعة تبيد‬
‫قدر اإلنسان األبدي‪ ،‬وفي ضوء فهمنا لهذا‬ ‫الخشنة‪ .‬التضا ُّد في الطبيعة اإلنسانية ُ‬
‫الشر والخير في حياة اإلنسان‪ ،‬وكيفي َة توالد صرا ٍع‬
‫التضا ّد يمكننا تفس َير الصرا ِع بين ّ‬
‫إنسان في األرض‪ ،‬ومادامت الطبيع ُة‬ ‫ٌ‬ ‫من هذا الصراع‪ ،‬ولن ينتهي ذلك مادام هناك‬
‫ِ‬
‫األضداد‪.‬‬ ‫اإلنساني ُة ملتقى‬
‫الشر األخالقي الذي‬
‫ّ‬ ‫القيم واألخالق واألديان والثقافات إلى معالجة‬
‫ُ‬ ‫تهدف‬
‫يسببه اإلنسان‪ ،‬وتجفيف منابعه في الحياة‪ ،‬وإن لم تتمكن من ذلك‪ ،‬فعلى األقل‬
‫ُ‬
‫اإلنسان من‬ ‫يستطيع معه‬
‫ُ‬ ‫الشر والخير‪ ،‬إلى الحدِّ الذي‬
‫تخفض وتير َة الصراع بين ِّ‬
‫ِ‬
‫وتأمين متطلبات جيدة لحياته في األمن والعيش‬ ‫ِ‬
‫والعمل الخالق‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والبناء‬ ‫اإلبدا ِع‬
‫الكريم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫واضطراب في سلوكنا الشخصي يصل حدَّ التضا ّد‬ ‫ٍ‬
‫تذبذب في مواقفنا‬ ‫ما نعيشه من‬
‫أحيانًا‪ ،‬وما نراه في مواقف وسلوك من نتعامل معهم‪ ،‬ينشأ من العجز أو ضعف القدرة‬
‫مواقف‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫وإدارة التضا ّد بالشكل الذي يجعل‬ ‫على التحكم بالتضا ّد في الطبيعة اإلنسانية‪،‬‬
‫اإلنسان وسلوكَه يصدران عن األخالق والقيم الفاضلة‪ ،‬وينضبطان بالقوانين العادلة‪،‬‬
‫بكل أشكاله‪،‬‬ ‫كل ما يحمي عالقات اإلنسان بغيره من الكراهية والعنف ّ‬ ‫ويتحكّم فيهما ُّ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان من العيش‬ ‫االعتراف واالحترا َم المتبادل‪ ،‬بالشكل الذي يتمكن معه‬
‫َ‬ ‫ويرسخ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بأمن وسالم‪.‬‬
‫ب ال يقضي على‬ ‫الح ّ‬
‫للشر األخالقي في الحياة‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫عالجا‬
‫ً‬ ‫ب‬
‫الح ُّ‬ ‫َ‬
‫يكون ُ‬ ‫يمكن أن‬
‫الشر األخالقي مما ال يمكن القضا ُء عليه مادامت الطبيع ُة اإلنسانية ملتقى‬
‫الشر‪ ،‬ألن َّ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بنحو يتمكن‬ ‫الشر الموجعة إلى أدنى حدّ ‪،‬‬ ‫تخفيف آثار ّ‬
‫َ‬ ‫ب يكفل‬ ‫الح َّ‬
‫األضداد‪ ،‬إال أن ُ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان من العيش بسالم‪.‬‬ ‫معه‬

‫‪ .16‬زاده آميل‪ ،‬حسن‪ ،‬النّفس من كتاب ّ‬


‫الشفاء البن سینا‪ ،‬ج‪ : 2‬ص ‪.354‬‬
‫‪17‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫ـ‪2‬ـ‬
‫هل هناك حاجةللكراهية؟!‬
‫ِ‬
‫بمجهر علماء النفس‪ ،‬ال أرى في الكائن‬ ‫ِ‬
‫أعماق النفس اإلنسانية‬ ‫أنظر إلى‬
‫عندما ُ‬
‫ِ‬
‫بمجهر العرفاء أرى شي ًئا‬ ‫أنظر إلى روح اإلنسان‬
‫البشري ما يغويني بمح ّبته‪ ،‬وعندما ُ‬
‫من النور يغويني بمح ّبته‪ .‬ال أثق بالطبيعة اإلنسانية كما هي‪ ،‬ال أثق بها إال إذا تفاعلت‬
‫بماهيتها كيميا ُء المح ّبة والرحمة والشفقة على الخلق‪ ،‬ومن دون ذلك يمكن أن يصدر‬
‫نجاح يح ّققه‬‫ٍ‬ ‫أي‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان بطبيعته كائ ٌن يثيره ُّ‬ ‫مختلف أشكال الشرور األخالقية‪.‬‬‫ُ‬ ‫عنها‬
‫ظهر‬ ‫غيره‪ ،‬وإن كان أحيانًا ُي ِ‬ ‫ٍ‬
‫منجز ينجزه ُ‬ ‫أي‬‫وأكثر الناس يحزن في أعماقه من ّ‬ ‫ُ‬ ‫غيره‪،‬‬
‫ُ‬
‫تضج بالحقد والبغضاء‬ ‫ِ‬
‫خالف ما ُيبطن‪ .‬وربما يتفاقم حزنُه فيتحول إلى مواقف مثيرة‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫والضغينة‪ ،‬وتورطه في غدر ودسائس ومكائد ألقرب الناس المتفوقين من األقرباء‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫كل ذلك والتستر عليه‪ .‬ك ّلما كان‬ ‫واألصدقاء‪ ،‬غير أنه يظل يحرص على إخفاء ّ‬
‫وتحويل أكثر كلماته ومواقفه إلى أكثف أقنعته إبها ًما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تمويه سلوكه‪،‬‬ ‫أبرع في‬
‫أذكى كان َ‬
‫النفس اإلنسانية مولع ٌة بإخفاء ما ُين ِّفر َ‬
‫الناس منها بذكاء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وغموضا‪،‬‬
‫ً‬
‫يعرف أحدُ هما الغائص‬ ‫َ‬ ‫سنوات طويلة م ًعا‪ ،‬من دون أن‬‫ٍ‬ ‫أحيانًا يعيش شخصان‬
‫والمختبئ في أعماق شريكه‪ ،‬خاصة إن كان أحدُ الشريكين كتو ًما بطبيعته‪.‬‬

‫أقنع ٌة تغطي وجو َه أغلب الناس‬


‫اشتركت في االمتحان الوزاري الشامل للسادس‬ ‫ُ‬ ‫في نهاية ستينيات القرن الماضي‬
‫ُ‬
‫االمتحان ألبناء الريف في‬ ‫االبتدائي‪ ،‬الذي نسميه في العراق «بكالوريا»‪ ،‬يجرى هذا‬
‫ٍ‬
‫مدينة لقريتنا‪ ،‬تبعد عنها ‪ 15‬كم تقري ًبا‪ ،‬أسكنونا في‬ ‫أقرب‬ ‫المدينة‪ ،‬كانت قلع ُة سكر‬
‫َ‬
‫فراشا بسي ًطا للنوم جلبه من أهله‪ ،‬منحتنا‬
‫كل منا يحمل ً‬ ‫ِ‬
‫المدارس المعطلة‪ ،‬كان ّ‬ ‫إحدى‬
‫ِ‬
‫االستهجان والشفق َة‪ُ ،‬‬
‫نسير‬ ‫َ‬ ‫مديري ُة التربية مبل ًغا زهيدً ا لطعامنا‪ ،‬مشهدُ نا في المدينة ُ‬
‫يثير‬
‫مذعورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫خائفين ملتصقين ببعضنا‪ ،‬لو تأخر أحدُ نا عن أصحابه سرعان ما يلتحق بهم‬
‫مخلوقات‬ ‫ازدراء يلتبس بإشفاق‪ ،‬كأننا‬‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫أهل المدينة ينظرون إلينا بدهشة ال تخلو من‬
‫ٌ‬
‫ِ‬
‫المدينة وشبا ُبها كانوا أشدَّ وطأ ًة في تعاملهم‬ ‫ُ‬
‫أطفال‬ ‫غريب ٌة هبطت من كوكب آخر‪.‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪18‬‬
‫المبتذلة منا‪ ،‬بل يستغلون أي ّة ٍ‬
‫ثغرة‬ ‫َ‬ ‫معنا‪ ،‬ال يكتفون بنظراتِهم الحادة القاسية وسخريتِهم‬
‫نفر منهم ونحن نرتجف‪ .‬دهشتُهم‬ ‫س مجموعتنا ليرجمونا بالحجارة‪ُّ ،‬‬ ‫تحدث في تكدّ ِ‬
‫وجوهنا كالح ٌة‬
‫ُ‬ ‫غير المألوف في ٍ‬
‫كثير من األشياء الغريبة عليهم‪،‬‬ ‫منظرنا ِ‬
‫ربما تعود إلى ِ‬
‫ِ‬
‫سوء التغذية والحرمان‪ ،‬ثيا ُبنا منكمش ٌة‪ ،‬ألوانها متناشزةٌ‪ ،‬مشيتُنا ولغ ُة أجسادنا‬ ‫من‬
‫مرتبكة‪.‬‬
‫نمط ثقافة وحياة المدينة والريف واسع ًة جدً ا تلك األيام‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كانت الفجو ُة بين‬
‫مختلف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫ونمط العيش‬ ‫مختلف‪ ،‬االقتصا ُد‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫المطبخ‬ ‫مختلف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الزي‬
‫ُّ‬ ‫اللهج ُة مختلف ٌة‪،‬‬
‫العالقات مختلف ٌة‪ ،‬وكأن الفجو َة ال حدو َد لها‪ .‬تشك ّلت‬
‫ُ‬ ‫بعض األعراف ليست واحدة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫نسيجها الحضري المختلف عن‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بوضوح‬ ‫شخصي ٌة مديني ٌة تجاري ٌة للمدن العراقية تم ّيز‬
‫ِ‬
‫وتبعثر نسيجها الحضري‬ ‫قبل تقويض مدينية المدينة‬‫الريف الزراعية والرعوية‪َ ،‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شخصية‬
‫أكثر رجال السلطة من بعده‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وفساد ِ‬ ‫ِ‬
‫وعبث‬ ‫ِ‬
‫وجهل‬ ‫حروب صدام وفاشيتِه وسفهه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫في‬
‫كل‬ ‫ِ‬
‫للخالص منه ّ‬ ‫ممل‪ ،‬مخي ًفا ككابوس مرعب‪ ،‬أتطلع‬ ‫ثقيل ً‬
‫امتحان البكلوريا ً‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫كل كتبي‬ ‫وجدت َّ‬
‫ُ‬ ‫مقر إقامتي‪،‬‬
‫مبتهجا إلى ِّ‬
‫ً‬ ‫عدت‬
‫ُ‬ ‫لحظة‪ ،‬في اليو ِم األخير لالمتحانات‬
‫ٍ‬ ‫ودفاتري المدرسية ممزق ًة‪َّ ،‬‬
‫وكل لوازمي المدرسية وأقالمي مهشم ًة بحقد عنيف‪ّ ،‬‬
‫تحول‬
‫اكتئاب أغرقني في تراجيديا سوداء‪ .‬لم يكن هناك عدا ٌء معل ٌن بيني‬ ‫ٍ‬ ‫ابتهاجي فجأ ًة إلى‬
‫ضغينة ضدّ ي من أحد‪ ،‬كنا متفقين منسجمين‬ ‫ٍ‬ ‫أتحسس أي َة‬ ‫ٍ‬
‫تلميذ من زمالئي‪ ،‬لم‬ ‫أي‬
‫ّ‬ ‫وبين ِّ‬
‫كل منا من مشاعر متف ًقا مع‬ ‫متحا ّبين في الظاهر‪ ،‬لكن ليس بالضرورة أن يكون ما يخفيه ّ‬
‫اكتشفت الح ًقا أن ما يخفيه ٌ‬
‫كثير من الناس على الضدِّ مما يعلنُه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ما يظهره‪،‬‬
‫كل إنسان‪ ،‬وإن كان‬ ‫ِ‬
‫باطن ّ‬ ‫قادرا على فهم ما يختبئ في‬ ‫لم أكن في ذلك العمر ً‬
‫كل إنسان يحاول‬ ‫لكل منافس له‪ُّ ،‬‬
‫رة ّ‬ ‫وكراهية مضم ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وغضب‬ ‫ٍ‬
‫ونفور‬ ‫ٍ‬
‫غيرة‬ ‫صغيرا‪ ،‬من‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫وتفوق‬ ‫ِ‬
‫بنجاح‬ ‫أكثر الناس المتنافسين احتفا َءهم‬
‫التكتم لئال يفتضح‪ ،‬وعاد ًة ما يعلن ُ‬
‫َ‬
‫مستعرا‪ ،‬ينفجر أحيانًا لدى بعض األشخاص االنفعاليين‬ ‫ً‬ ‫غيضا‬
‫زميلهم‪ ،‬وهم يضمرون ً‬
‫عدوان ال تُعرف دواف ُعه ضدَّ الشخص الناجح‪ ،‬واألخطر عندما يتحول‬ ‫ٍ‬ ‫بتحريض وحتى‬
‫إلى مكائدَ خفية‪ .‬لم أدرك أن هذه ضريب ٌة بسيط ٌة لنجاحي في المرتبة األولى أو الثانية‬
‫كل مراحل‬ ‫ضرائب شتى لـ «أعداء متطوعين» في ّ‬
‫َ‬ ‫دفع‬
‫وعلي أن أواصل َ‬ ‫ّ‬ ‫سنوات دراستي‪،‬‬
‫ِ‬
‫وإنجازه المميز باهظة‪.‬‬ ‫ِكل إنسان‬ ‫ِ‬
‫ومحطات حياتي اآلتية‪ ،‬ألن ضريب َة نجاح ّ‬ ‫دراستي‬
‫‪19‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫والطيور‬
‫َ‬ ‫العصافير‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫األطفال‬ ‫ُ‬
‫التساؤل الذي كان يؤرقني في طفولتي‪ :‬لماذا يكره‬
‫رؤوسها بأيديهم بتوحش‪ ،‬وهم جذلون؟!‬
‫َ‬ ‫الجميلة فيالحقونها‪ ،‬ويقطعون‬
‫الكالب فيطاردونها بالحجارة‪ ،‬وربما يقتلونها؟!‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫األطفال‬ ‫لماذا يكره‬
‫غريب على محيطهم‪ ،‬فيرجمون السيار َة الخشبية‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شيء‬ ‫األطفال َّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫لماذا يكره‬
‫نادرا ما كنا نرى سيار ًة تصل قريتَنا‬ ‫ِ‬
‫«اللوري»‪ ،‬وهي تسير بالحجارة ويهربون‪ ،‬مع أنه ً‬
‫النائية؟!‬
‫َ‬
‫األطفال؟!‬ ‫ُ‬
‫األطفال‬ ‫لماذا يكره‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫وتعمق في مراهقتي وشبابي‪ ،‬كنت أقول‪ :‬لماذا يكره‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫التساؤل‬ ‫ّ‬
‫تضخم هذا‬
‫َ‬
‫اإلنسان؟!‬
‫أكثر من حاجته للمح ّبة‪ ،‬أم يحتاج الكراهي َة كحاجته‬
‫هل يحتاج اإلنسان الكراهي َة َ‬
‫غريب على البشر وليست حاجة؟!‬ ‫ٌ‬ ‫للمح ّبة‪ ،‬أم أن الكراهي َة ٌ‬
‫مرض‬
‫ِ‬
‫هجاء‬ ‫وغيرهم في‬ ‫ِ‬
‫رجال الدين والو ّعاظ ِ‬ ‫الكلمات الجميل ُة من‬ ‫لماذا ال تجدي نف ًعا‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫والثناء على المح ّبة؟!‬ ‫الكراهية‬
‫ُ‬
‫اإلنسان يضيق ذر ًعا بأي اعتراف‪ ،‬ويغطي وجو َه‬ ‫ُ‬
‫المحيط الذي يعيش فيه‬ ‫إن كان‬
‫كل‬ ‫ٍ‬
‫تمثيل على مسرح‪ٌّ ،‬‬ ‫أكثر الناس يقومون بعملية‬
‫كثير من األقنعة‪ ،‬فإن َ‬‫أغلب الناس ٌ‬
‫يخدع به َّ‬
‫الكل‪ .‬في مثل هذا المحيط‬ ‫َ‬ ‫الدور الذي يريد أن يختبئ خلفه كي‬
‫َ‬ ‫منهم ينتخب‬
‫تستمع إلى َم ْن يتحدثون عن المح ّبة والمشاعر الصادقة‪ ،‬غير أنك ال ترى إال القليل‬
‫مشاعر صادقة‪.‬‬
‫َ‬ ‫منها‪ ،‬وق ّلما تتذوق‬
‫قليل من األصدقاء‬‫في التجارب الشخصية للعالقات مع مختلف البشر ترى ً‬
‫الصادقين في و ِّدهم‪ ،‬ممن يتخذون موق ًفا أخالق ًّيا في دفع االفتراءات واألباطيل المثارة‬
‫ضدّ ك‪ .‬ترى أصدقا َء ممن يظهرون التو ّد َد لك في حضورك‪ ،‬ويتواصلون معك في‬
‫تستفزهم‬
‫ّ‬ ‫نفوسهم تغلي بما تضمره من حنق عليك‪ ،‬خاصة إن كانت‬
‫َ‬ ‫غيابك‪ ،‬غير أن‬
‫ومنجزك‪ ،‬يترصدونك ويسعون لتشويه صورتك‪ ،‬بال أن يصدر‬‫ُ‬ ‫وصبرك الطويل‬
‫ُ‬ ‫مثابرتُك‬
‫تجاوز على حريتهم‪ .‬ربما يفرحون ويبتهجون عندما يستمعون‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫انتهاك لح ِّقهم أو‬ ‫منك‬
‫ِ‬
‫االفتراءات واألباطيل‪ ،‬على‬ ‫أو يقرؤون االفتراءات واألباطيل ضدّ ك‪ ،‬ال يفندون هذه‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪20‬‬
‫ُكذ ُبها‪ ،‬بل ربما‬ ‫ٍ‬
‫دراية تامة بأن مواق َفك وسلوكَك وأخال َقك ت ّ‬ ‫الرغم من أنهم على‬
‫التعاطف‬
‫َ‬ ‫بعضهم إليصالها لك بغي َة التشفي‪ ،‬وإن كانوا يظهرون عند إرسالها‬
‫يسارع ُ‬
‫معك والغير َة عليك‪.‬‬
‫نجاح غيره في‬
‫َ‬ ‫ويفترسه الحسد‪ ،‬وهو يرى‬
‫ُ‬ ‫تنهشه الغير ُة‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان للتشفي حين ُ‬ ‫يلجأ‬
‫ُ‬
‫وينقذ‬ ‫األلم الذي يصي ُبه‪،‬‬ ‫يسكب فيه‬ ‫ٍ‬
‫يبحث عن وعاء‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫التفوق فيه‪ ،‬لذلك‬ ‫مجال يتمنى‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫اإلنسان‪ ،‬عندما يسمح‬ ‫بالحزن‪ .‬التشفي يريح‬
‫ويتخلص من الشعور ُ‬
‫ُ‬ ‫نفسه من اإلحباط‪،‬‬
‫َ‬
‫يتلذذ بمتاعب غيره‪ ،‬وينشرح بأحزان أصدقائه‪ .‬إنه يخ ّلصه من مشاعر العجز‬
‫له أن ّ‬
‫وظفرهم بمكاسب أخفق هو في‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتفوقهم عليه‪،‬‬ ‫المؤلمة حيال نجاحات اآلخرين‬
‫تقديره لذاته‪.‬‬
‫َ‬ ‫إنجازها‪ ،‬مضا ًفا إلى أنه يعيد‬

‫الحاج ُة إلى الكراهية‬


‫ووقائع الحياة والعالقات االجتماعية تخبرنا أن الكائ َن البشري مثلما‬
‫ُ‬ ‫طبيع ُة اإلنسان‬
‫أيضا‪ ،‬وربما يحتاج الكراهي َة أحيانًا أكثر من المح ّبة‪،‬‬
‫يحتاج المح ّب َة يحتاج الكراهي َة ً‬
‫ب على اإلنسان أن يعيش‬ ‫ِ‬ ‫وهو ما نراه ً‬
‫ماثل في حياتنا‪ .‬يقول دوستويفسكي ‪« :‬لقد كُت َ‬
‫‪17‬‬

‫حب العذاب‪ ،‬وأحيانًا يحبه‬ ‫ٍ‬


‫في تحد دائم‪ ،‬إنه ليس في حاجة إلى السعادة فقط‪ ،‬فهو ُي ُ‬
‫ٍ‬
‫بشغف»‪.‬‬
‫ِ‬
‫نزعة‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان من‬ ‫غيرهم كراهيتَهم‪ ،‬أحيانًا ال يحتمي‬‫بعض البشر يفرضون على ِ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالهروب واالختباء بعيدً ا عنهم‪ ،‬ولو حاول أن يتسامح لن يجدي‬ ‫االنتقام العنيفة لديهم إال‬
‫اإلحسان لن يك ّفوا‪ .‬هؤالء‬
‫َ‬ ‫الصمت لن يصمتوا‪ ،‬لو حاول‬
‫َ‬ ‫تسامحه معهم نف ًعا‪ ،‬لو حاول‬
‫ُ‬
‫متخصص ٌة في تفتيش المعتقدات واألفكار والكلمات والنوايا‪ ،‬يستبدّ بهم‬
‫ّ‬ ‫كأنهم شرط ٌة‬
‫كل الناس ومحاسبتهم وعقابهم‪ ،‬يرون‬‫الحق بمالحقة ّ‬
‫زائف يوهمهم بأن لهم َّ‬
‫ٌ‬ ‫شعور‬
‫ٌ‬
‫بعضهم يشعر أن‬ ‫ٍ‬
‫ألحد محاسبتُهم ورد ُعهم‪ُ ،‬‬ ‫يحق‬ ‫أنهم أوصيا ُء على ّ‬
‫الكل‪ ،‬من دون أن َّ‬
‫ِ‬
‫وفرض قناعاته‬ ‫ِ‬
‫بالوصاية على الناس‪ ،‬والتدخل في حياتهم الخاصة‪،‬‬ ‫تفويض إلهي‬
‫ٌ‬ ‫لديه‬
‫عليهم‪.‬‬

‫‪ .17‬يقول نيتشه‪« :‬دوستويفسكي هو الوحيد الذي أفادين يف علم النفس‪ ،‬كان اكتشايف له يفوق أمهية‬
‫اكتشاف ستاندال»‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫ُ‬
‫اإلنسان أحيانًا بعالقات خطأ بمصابين بأمراض نفسية أو أخالقية‪ ،‬وربما‬ ‫ُ‬
‫ويتورط‬
‫يجتمع لديهم النوعان من األمراض‪ ،‬يفرضون عليه وصايتهم‪ ،‬وهذه الحالة هي‬
‫يتضاعف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الصدق والكر ُم والعطا ُء والوفاء‪.‬‬ ‫ينفع معهم‬
‫أكثر هؤالء ال ُ‬
‫األقسى واألعنف‪ُ .‬‬
‫حضور هؤالء في المجتمع باتسا ِع وتفشي‪ :‬الجهل‪ ،‬والفقر‪ ،‬والمرض‪ ،‬وشيوع‬
‫ُ‬ ‫ويتسع‬
‫ُ‬
‫أساليب التربية والتعليم القمعية‪ ،‬والحروب العبثية‪ ،‬والنفاق‪ ،‬والتدين الشكلي‪ ،‬وانهيار‬
‫منظومات القيم واألخالق‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان بحاجته لكراهية بعض البشر ممن يتخذون مواقف عدائية‬ ‫أحيانًا يشعر‬
‫الشعور‬
‫ُ‬ ‫مؤلمة ضدَّ ه‪ ،‬من دون سبب يدعوهم لذلك‪ ،‬وربما يشعر بحاجته لالنتقام منهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان بسهولة‪ ،‬وال يستطيع كتمانَها‬ ‫بالكراهية موجع‪ ،‬إنها كالعلقم الذي ال يتجرعه‬
‫وأحكم الناس من يحرص على تفريغها بوسائل غير عنيفة‪ ،‬أما‬ ‫ُ‬ ‫إال بمكابدات قاسية‪،‬‬
‫اإلنسان األخالقي فتمنعه أخال ُقه من االنتقام‪ .‬أظ ُّن الحاج َة إلى الكراهية أشدَّ من‬
‫ُ‬
‫ب دوا ًء والكراهي ُة داء‪ ،‬الحاج ُة‬‫الح ّ‬
‫ب عند بعض البشر‪ ،‬وإن كان ُ‬ ‫الح ّ‬
‫الحاجة إلى ُ‬
‫اإلنسان‪ .‬في الغالب ال تعلن الكراهي ُة‬
‫ُ‬ ‫ب معلنة‪ ،‬الحاج ُة للكراهية كامن ٌة ال يبوح بها‬
‫للح ّ‬
‫ُ‬
‫عن حضورها‪ ،‬بل تتخفى في اللغة والكلمات الضبابية ومختلف أساليب التعبير‬
‫التحكم بما يعتمل في داخله من‬
‫َ‬ ‫والمواقف المراوغة‪ٌ .‬‬
‫قليل من الناس من يستطيع‬
‫وأقل منهم من يتخلص منها‪ ،‬وذلك‬ ‫الكراهية فيخفض هذه الحاج َة إلى الحدِّ األدنى‪ُّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بمشقة بالغة‪ .‬لو لم تكن هناك حاج ٌة دفينة للكراهية لما رأيناها متفشية‪،‬‬ ‫ال يتح ّقق إال‬
‫ولما انعكست آثارها الفتاكة في مختلف مرافق الحياة‪ ،‬ولما كانت سرعان ما تستغل‬
‫لتتفجر بضراوة‪ .‬ذلك ما تقوله‬
‫ّ‬ ‫أي مجتمع‬
‫واألوضاع الطارئة واالستثنائية في ّ‬
‫َ‬ ‫الظروف‬
‫َ‬
‫تجارب الحياة والعالقات ألصناف مختلفة من البشر‪ ،‬الذين ينتمون ألديان ومذاهب‬
‫ُ‬
‫متنوعة‪.‬‬
‫وثقافات وإثنيات ّ‬
‫الشر المختبئ لدى بعض البشر‪ ،‬والذي نراه يتفجر تار ًة كالبركان‬ ‫مذهل حجم ّ‬ ‫ٌ‬
‫يتسلل بخبث في‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫أدوات السلطة والقوة‪ ،‬وتار ًة أخرى‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫العاصف إن امتلك‬
‫الشر ما يتمكن من افتراسه في‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان ال يمتلك تلك األدوات‪ ،‬ليبدّ د ُّ‬ ‫الظالم‪ ،‬إن كان‬
‫الحياة‪.‬‬
‫والنزاعات‪ ،‬وأحيانًا‬
‫ُ‬ ‫الصراعات‬
‫ُ‬ ‫اإلنسان ضحي ٌة لغريزة العدوان‪ ،‬وهو ما تتحدث عنه‬
‫ُ‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪22‬‬
‫الحروب العنيف ُة الماثل ُة في مختلف العالقات بين الدول والشعوب والجماعات‬‫ُ‬
‫واألفراد‪ .‬حتى العائلة الواحدة ربما ال يمكنها حماي َة كيانها على الدوام من الغيرة‬
‫والتباغض والتنازع‪.‬‬
‫الكراهي ُة حاضر ٌة في حياة الناس وعالقاتهم االجتماعية‪ ،‬غير أنها ق ّلما تكون معلنة‪،‬‬
‫آثارها في الدسائس والمكائد والنمائم والسعي بين الناس بالباطل‪ ،‬ولو خرجت‬
‫نرى َ‬
‫الكراهي ُة المختبئة في أعماق النفس اإلنسانية‪ ،‬وأعلنت عن وجودها بال ٍ‬
‫حذر وخوف‪،‬‬
‫البشر‪ ،‬وصار‬
‫َ‬ ‫واخترقت َّ‬
‫كل المعايير األخالقية والقانونية والعقابية‪ ،‬ألكلت الكراهي ُة‬
‫متعذرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫عيش اإلنسان على األرض‬‫ُ‬
‫يتحدث علما ُء النفس واألطبا ُء النفسانيون وعلما ُء الجنايات واإلجرام واالجتماع‬
‫ِ‬
‫جذورها في النفس اإلنسانية‪،‬‬ ‫واألنثربولوجيا واألحياء عن هذه الحاجة‪ ،‬ويكشفون عن‬
‫ويبحثون مناشئها في اختالالت وإخفاقات‪ :‬التربية والتعليم‪ ،‬والثقافة واآلداب والفنون‪،‬‬
‫ومنظومات القيم‪ ،‬وتدهور مستوى العيش الكريم لإلنسان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫والتطور الحضاري‪،‬‬
‫واالبتكار‬
‫ُ‬ ‫اإلبداع‬
‫ُ‬ ‫وانهيار موقعه الطبقي‪ ،‬وتعصبات الهوية اإلثنية والدينية‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫علم النفس التحليلي‪.‬‬ ‫تعبير عن تفري ِغ الكبت في حياة اإلنسان‪ ،‬كما ُ‬
‫يقول ُ‬ ‫والحضار ُة ٌ‬

‫من روافد الش ّر األخالقي‬


‫َ‬
‫اإلنسان في التشدد واالنغالق والعنف‪ ،‬وفي أغلب‬ ‫ُ‬
‫الجهل وسو ُء الفهم‬ ‫يورط‬
‫ّ‬
‫الشر األخالقي في حياة اإلنسان‪ .‬من أعمق‬
‫محرضاته من ِّ‬
‫العنف ّ‬ ‫ُ‬ ‫الحاالت يستقي‬
‫الشر األخالقي االعتقا ُد بانحصار الحقيقة الدينية والنجاة في طريق واحد إلى‬ ‫روافد ّ‬
‫ٍ‬
‫لجماعة بشرية‬ ‫طريق ترسمه صور ُة اإلله القومي والمذهبي والطائفي‪ .‬الذي هو إل ٌه‬ ‫اﷲ‪ٌ .‬‬
‫غيرها من‬‫كل شيء‪ ،‬ويحرم َ‬ ‫ينشغل بها من دون غيرها من الناس‪ ،‬ويهبها َّ‬‫ُ‬ ‫خاصة‪ ،‬فهو‬
‫يسيرا‪ ،‬وال يقبل من غيرها َّ‬
‫كل‬ ‫كل شيء مهما كان ً‬ ‫كل شيء‪ ،‬ويتساهل معها فيقبل منها َّ‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬
‫إسعاد البشرية‪ .‬إنه إل ٌه متح ّي ٌز لهذه الجماعة‬ ‫جميل‪ ،‬وذا ٍ‬
‫أثر عظي ٍم في‬ ‫ً‬ ‫شيء حتى لو كان‬
‫وآثارهم في تطوير وسائل العيش‬ ‫غيرها من البشر مهما كانت إبداعاتُهم ُ‬‫دائما‪ ،‬ال يعنيه ُ‬
‫ً‬
‫وتأمينها‪ ،‬ومهما كانت منجزاتُهم وأعما ُلهم في صناعة ِعا َل ٍم أجمل لحياة اإلنسان‪ .‬إن‬
‫ِ‬
‫واحتكار الوصاية على‬ ‫احتكار تفسير النصوص المقدسة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ضرب من‬ ‫ِ‬
‫النجاة‬ ‫احتكار‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫‪23‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫الناس‪ .‬يرفض محيي الدين بن عربي هذا الضرب من االحتكار‪ ،‬حين يشير إلى أن‬
‫الكل لمراد اﷲ وإن اختلفوا‪ ،‬وكأنه يؤشر‬ ‫االختالف في تفسير مدلول كالم اﷲ يعني فهم ّ‬
‫َ‬
‫المنظار الذي ينظرون من خالله ذلك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اختالف‬ ‫إلى أن َّ‬
‫الكل يرون النور‪ ،‬على الرغ ِم من‬
‫أهل ذلك اللسان‬ ‫فاختلف ُ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫بلسان قو ٍم‪،‬‬ ‫النور‪ ،‬وهو ما يشرحه بقوله‪« :‬كال ُم اﷲ إذا َ‬
‫نزل‬
‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫فكل‬‫بالفه ِم عن اﷲ ما أراده بتلك الكلمة أو الكلمات مع اختالف مدلوالتها‪ُّ ،‬‬
‫فهم عن اﷲ ما أراده‪ ،‬فإنه عالِ ٌم بجميع الوجوه تعالى‪ ،‬وما من‬ ‫منهم وإن اختلفوا فقد َ‬
‫يخرج من اللسان‬ ‫وجه إال وهو مقصو ٌد ﷲ تعالى بالنسبة إلى هذا الشخص المعين‪ ،‬مالم‬ ‫ٍ‬
‫ْ‬
‫طرق متنوع ٌة‪ ،‬تتنوع وتتعدد تب ًعا لتنوع‬ ‫علم»‪ .18‬للوصول إلى اﷲ ٌ‬ ‫فهم وال َ‬
‫خرج فال َ‬ ‫فإن َ‬
‫وصورا متنوع ًة لوجوهها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫تجليات مختلف ًة للحقيقة الدينية‪،‬‬ ‫وتعدد األديان‪ ،‬بوصفها‬
‫ً‬
‫وأساليب متعددة للتعبير عنها‪ ،‬ومصابيح متنوعة تكشف عن النور اإللهي األبدي الذي‬ ‫َ‬
‫بحق االختالف في المعتقد‪ ،‬الذي هو أساس‬ ‫حقيقته واحدة‪ .‬وهذا هو معنى االعتراف ّ‬
‫قبول التعددية الدينية والعيش المشترك‪ ،‬والخالص من صراعات وحروب األديان‪،‬‬
‫والخالص من ٍ‬
‫كثير من الشر األخالقي في الحياة‪.19‬‬
‫اختالف األديان وانقسا ُمها على ذاتها ظاهر ٌة اجتماعية أبدية‪ ،‬ناتجة عن‪ :‬اختالف‬
‫ُ‬
‫ذوات البشر‪ ،‬واختالف أفهامهم‪ ،‬واختالف مصالحهم‪ُّ .‬‬
‫كل كائن بشري نسخ ٌة فريد ٌة ال‬
‫اختالف شبكات المصالح‬‫ُ‬ ‫يغذيه‬ ‫ِ‬
‫االختالف في الفهم الذي ّ‬ ‫تتكرر‪ ،‬وذلك ينتهي إلى‬
‫ّ‬
‫وتعارضها‪.‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫وغرس‬ ‫للقي ِم السامية في األديان ٌ‬
‫آثار روحية وأخالقية أساسية في خفض الكراهية‪،‬‬
‫ِ‬
‫وتغذية منابع التراحم والتكافل والتضامن في العائلة والمجتمع‪،‬‬ ‫المحبة وتكريسها‪،‬‬
‫القيم السامية في األديان ال تكفي وحدَ ها لكبح جماح الكراهية والعنف‪ .‬أحيانًا‬‫َ‬ ‫إال أن‬
‫تاريخ أكثر األديان دعو ًة للمح ّبة والعفو والمغفرة أقساها عن ًفا في حروبها‪ ،‬لذلك‬
‫َ‬ ‫تجد‬
‫ُ‬
‫الدول والمجتمعات إلى قواني َن عادلة إلرساء أسس السلم والعيش المشترك‪،‬‬ ‫تحتاج‬
‫وإلى صرامة في تنفيذها على ِّ‬
‫الكل مهما كانوا بال أي تمييز‪.‬‬

‫‪ .18‬ابن عريب‪ ،‬الفتوحات املكية‪ ،‬باب ‪ ،416‬ج ‪ ،7‬ص ‪ ،1999 ،36‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .19‬الرفاعي‪ ،‬عبد اجلبار‪ ،‬الدين واالغرتاب امليتافيزيقي‪ ،‬ص ‪ 30‬ــ ‪ ،36‬ط ‪ ،2019 ،2‬مركز دراسات فلسفة‬
‫الدين‪ ،‬بغداد‪ ،‬ودار التنوير‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪24‬‬
‫الحكم على األديان بمطالعة نصوصها فقط من دون ٍ‬
‫نظر إلى تاريخها‪ ،‬وما‬ ‫ُ‬ ‫ال يمكن‬
‫‏أكثر دراسات األديان والنقاشات حولها ال تنظر لتجربتها‬
‫أنتجته من تعصبات وحروب‪ُ .‬‬
‫في الواقع‪ُّ ،‬‬
‫تظل أسير َة الكال ِم‪ ،‬والتبرير‪ ،‬وتلجأ لالستدالل بنصوصها المقدّ سة‪،‬‬
‫ِ‬
‫واالحتجاج بالتراث الذي تمحور حول نصوصها‪ ،‬وتتجاهل تجربتها العملية ومواقف‬
‫كائنات حية تتأثر وتؤثر بما حولها من ظروف‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫األديان‬ ‫أتباعها عبر مسيرتها الطويلة‪.‬‬
‫وتؤثر هي في األفراد والمجتمعات‬
‫ُ‬ ‫والمجتمعات في األديان‪،‬‬
‫ُ‬ ‫متنوعة‪ ،‬يؤثر األفرا ُد‬
‫على وفق المعطيات المتاحة في الواقع‪.‬‬
‫وتعليمهم الجيد‪ ،‬وإعاد ُة بناء ثقافتهم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٕاصالح معاش الناس‪ ،‬وتربيتُهم السليمة‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫يكفل إنتاج قراءة تستفيق فيها القيم الروحية واألخالقية المشتركة في األديان‪ ،‬مثلما‬
‫كثيرا من اللجوء‬
‫ويخفض ً‬ ‫ُ‬ ‫يكفل ٕادار َة االنقسامات ّ‬
‫وحل النزاعات بالوسائل السلمية‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ٕالى العنف في سياسة إطفاء النزاعات‪.‬‬
‫ـ‪3‬ـ‬
‫الح ُّب واألضدا ُد في الطبيعة اإلنسانية‬
‫ُ‬
‫ُفرض عليك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫أوامر ت َ‬
‫َ‬ ‫ب عن‬‫الح ّ‬
‫يصدر ُ‬ ‫َ‬ ‫تتخذه‪ ،‬ال يمكن أن‬ ‫قرارا‬
‫ب ليس ً‬ ‫أن تُح ّ‬
‫فتنفذ هذه األوامر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تستسلم‬
‫َ‬ ‫ب فالنًا‪ ،‬أو تكره فالنًا‪ ،‬وال إراد َة لك إال أن‬ ‫ُح ّ‬ ‫فتُلزمك أن ت ُ‬
‫ُحد ُثها مجموع ُة أسباب‪ ،‬وتغذيها عد ُة عناصر‪،‬‬ ‫وعند عصيانك لها تُعا َقب‪ .‬الحب حال ٌة ت ِ‬
‫ُ ُّ‬
‫احتياجات‬ ‫تفرضها‬ ‫ٍ‬
‫ديناميات‬ ‫ب ُيع ِّبر عن‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫الح ُّ‬
‫أكثر وأثرى من الظاهر‪ُ ،‬‬ ‫المستتر منها ُ‬ ‫ُ‬
‫بعضها‪ ،‬غير أنه ال‬ ‫يتكشف لإلنسان ُ‬
‫ُ‬ ‫تعتمل في أعماق النفس اإلنسانية‪ ،‬ربما‬ ‫ُ‬ ‫عاطفي ٌة‬
‫يبحث‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يعرف َّ‬
‫الح ُّ‬
‫أمر ألحد يطلب منه أن ُيح ّبه‪ُ ،‬‬ ‫كل شيء فيها‪ .‬ال يصدر عن اإلنسان ٌ‬ ‫ُ‬
‫خارج‬
‫َ‬ ‫ب‬ ‫أكثرها‪ .‬ماهي ُة ُ‬
‫الح ّ‬ ‫يجهل َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫لعوامل‬ ‫عن اإلنسان‪ ،‬وغال ًبا ما يستولي على قلبه‬
‫كنهه خفي‪ ،‬وجو ُده ال يتح ّقق إال بعد أن تتح ّق َق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التعريفات وبيان الحدود والماهيات‪ُ ،‬‬
‫والعناصر الكامن ُة في‬ ‫األسباب‬ ‫أثرا‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كل مقدماته وأسبابه والعناصر المنتجة له‪ ،‬وأشدُّ ها ً‬
‫الالشعور‪.‬‬
‫الكم‬
‫ُّ‬ ‫الشر األخالقي ويرسخه‪ .‬وهو ما يؤشر إليه‬
‫يغذي َّ‬‫كثير مما يحيط باإلنسان ّ‬
‫ٌ‬
‫والكراهيات المتفشي ُة في الحياة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الهائل من التعصب والغضب والحقد في األرض‪،‬‬
‫‪25‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬
‫ِ‬
‫والفضيلة‬ ‫على الرغم من تشديد األديان والثقافات ودعوتها للرحمة والمحبة والسالم‪،‬‬
‫الشر المتراكمة في الطبقات‬
‫خفض بواعث ّ‬ ‫ِ‬ ‫والخ ُل ِق َ‬
‫الح َس ِن‪ ،‬وإلحاحها عليها‪ ،‬بغي َة‬ ‫ُ‬
‫حضور‬
‫َ‬ ‫الشر التي تبدأ بالتراكم بعد والدته‪ .‬إن‬ ‫ُ‬
‫بواعث ّ‬ ‫الغاطسة في باطن هذا الكائن‪،‬‬
‫الشر في الحياة كثيرةٌ‪ ،‬بل إن ما يستنبت في‬ ‫ُ‬
‫عوامل إنتاج ّ‬ ‫وعنيف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عاصف‬
‫ٌ‬ ‫الشر َف ٌّظ‬
‫ّ‬
‫الشر‬
‫أكثره يراكم ّ‬ ‫شخصية الكائن البشري وينمو ويترسخ بالتدريج منذ طفولته األولى ُ‬
‫األخالقي ويغذيه‪ ،‬الطبيع ُة اإلنسانية تتناغم مع ذلك وتستجيب ألنها ملتقى األضداد‪.‬‬
‫لعل في تقديم الفجور على التقوى ما يشي بهذا المعنى في القرآن الكريم‪َ [ :‬ف َأ ْل َه َم َها‬
‫الشر األخالقي ويتمدَّ د ويو ِّظف َّ‬
‫كل ما يمكنه توظيفه‬ ‫ور َها َو َت ْق َو َاها] ‪ .‬يطغى ُّ‬
‫‪20‬‬
‫ُف ُج َ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان بوجه‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان في األرض‪ ،‬لو لم يقف‬ ‫ليفترس الحياة ويعمل على هدم ما يبنيه‬
‫الشر لتهدّ م َّ‬
‫كل ما هو جميل في الحياة‪.‬‬ ‫اجتياح ّ‬
‫يتغلب في‬
‫َ‬ ‫الشر أن‬
‫للشر األخالقي المقيم في األرض‪ ،‬يسعى ُّ‬
‫الكم الهائل ّ‬
‫بسبب ّ‬
‫ُ‬
‫وعوامل‬ ‫التغلب على الرحمة‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫عوامل إنتاج القسوة‬ ‫ُ‬
‫وتحاول‬ ‫حياة البشر على الخير‪،‬‬
‫التغلب على‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تحاول‬ ‫ُ‬
‫وعوامل إنتاج الكراهية‬ ‫التغلب على السالم‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تحاول‬ ‫إنتاج العنف‬
‫َ‬
‫وانتهاك الكرامة‬ ‫نفسر َّ‬
‫كل هذا الخذالن والظلم واالستبداد والعنف‬ ‫المحبة‪ .‬وإال فكيف ّ‬
‫اإلنسانية‪ ،‬المقيم في األرض أمس واليوم‪.‬‬
‫وهروب معظمهم من العالقات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أسباب ُعزلة الفالسفة‪،‬‬ ‫ربما يكون ذلك أحدُ أه ِم‬
‫ِ‬
‫وانتحار غير واحد منهم‪ ،‬وك ُّلنا‬ ‫ِ‬
‫وجنون‬ ‫وإعراضهم عن العيش بين الناس‪،‬‬‫ِ‬ ‫االجتماعية‪،‬‬
‫ُّ‬
‫واألدق في الكشف عن حقيقة اإلنسان وما‬ ‫األعمق‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫عقول الفالسفة هي‬ ‫يعرف أن‬
‫ُ‬
‫يخفيه في داخله‪ .‬وهكذا عزلة كثير من العرفاء وأصحاب التجارب الروحية السامية‪،‬‬
‫ِ‬
‫أعماق اإلنسان‪.‬‬ ‫ألن بصيرتَهم ّ‬
‫يتكشف فيها شي ٌء مما يحتجب في‬

‫شحيح في حياتنا‬
‫ٌ‬ ‫الح ُّب‬
‫ُ‬
‫الحزن ٌ‬
‫طويل في حياتنا‪ .‬في مجتمعنا ينشد‬ ‫ُ‬ ‫شحيح في حياتنا‪ ،‬الكراهي ُة كثيرةٌ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ب‬
‫الح ُّ‬
‫ُ‬
‫ٌ‬
‫أحزان‪،‬‬ ‫أكثر أعيادنا تتلوها‬
‫أكثر أفراحنا تتلوها أحزان‪ُ ،‬‬ ‫َ‬
‫الحزن أكثر من الفرح‪ُ ،‬‬ ‫الناس‬
‫ُ‬

‫‪ .20‬الشمس‪.8 ،‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪26‬‬
‫أكثر كلماتنا يسكنها الموت‪ ،‬أحال ُمنا مؤجل ٌة لما بعد الموت‪.‬‬ ‫أيا ُمنا ال تبتهج إال ً‬
‫قليل‪ُ ،‬‬
‫بعض الناس ويضحك يتشائم ويتوجس خيف ًة من فرحه‬ ‫شحيح‪ ،‬لحظة يفرح ُ‬
‫ٌ‬ ‫الفرح‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫الحزن هو‬ ‫ٌ‬
‫عاجل يداهمه فجأةً‪ ،‬وألن‬ ‫كل فرح يتلوه ٌ‬
‫حزن‬ ‫وضحكه‪ ،‬ألن ثقافتَه تل ّقنه أن َّ‬
‫نتعلم‬
‫َ‬ ‫نتعلم كراهي َة الناس والبراء َه منهم قبل أن‬
‫ُ‬ ‫حضورا في يومياته‪ .‬حياتُنا كئيب ٌة‪،‬‬‫ً‬ ‫األكثر‬
‫محبتَهم‪ ،‬الدعوة للمحبة منحصر ٌة بمن هم مرآ ٌة لمعتقداتنا‪ ،‬ممن نشبههم في تفكيرنا‬
‫ويشبهونا‪ ،‬وإن استمعنا دعو ًة للمحبة نستمع معها دعو ًة لكراهية َم ْن ال نشبههم في‬
‫وعلم الكالم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تراث الفرق‬ ‫مكرس ٌة لذلك‪،‬‬‫المنابر ّ‬
‫ُ‬ ‫تفكيرنا واليشبهونا في معتقداتهم‪.‬‬
‫العالقات ال يشبه باطنَها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ظاهر ٍ‬
‫كثير من‬ ‫ُ‬ ‫ومقوالت وفتاوى التكفير مشبع ٌة بذلك‪،‬‬
‫ُ‬
‫يجهل الطبيع َة اإلنسانية‪َ ،‬م ْن يتحدثون على هذه‬ ‫واألحاديث الديني ُة ُ‬
‫أكثرها‬ ‫ُ‬ ‫الخطب‬
‫ُ‬
‫نادرا ما تجد أحدً ا منهم يشير إلى شيء من التباس‬ ‫ٍ‬
‫المنابر‪ ،‬و‏ َم ْن يكتبون كتابات وعظية‪ً ،‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان الديني الذي يتحدّ ثون عنه‬ ‫وغموض هذه الطبيعة وأسرارها وتناقضاتها‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان الذي يعيش على‬ ‫موجو ٌد في كلماتهم وكتاباتهم ومتخ ّيلهم‪ ،‬ق ّلما يعرفه الواقع‪.‬‬
‫بعضها غامض لم تصل الفلسف ُة وعلو ُم‬
‫مكون ٌة من سلسلة طبقات‪ُ ،‬‬‫األرض شخصيتُه ّ‬
‫اإلنسان والمجتمع والعلوم الطبيعية إلى المديات القصوى لها حتى اليوم‪ ،‬وربما لن‬
‫تصل إليها غدً ا‪ .‬وإلى ذلك يعود التضارب الذي يصل حدّ التناقض أحيانًا بين علماء‬
‫ِ‬
‫وتفسير دوافع سلوكه‪.‬‬ ‫النفس واإلنسان والمجتمع في فه ِم شخصية الكائن البشري‬
‫يقول علي الوردي‪« :‬إن طبيع َة البشر هي من أصعب المواضيع النفسية واالجتماعية‪،‬‬
‫إن لم تكن أصعبها جمي ًعا‪ ،‬فهي موضوع متشعب ومعقد إلى أبعد الحدود‪ ،‬والواقع أني‬
‫أزال في أول الطريق‪ ،‬وك ّلما بحثت في جانب‬
‫ك ّلما توغلت في دراسته شعرت بأني ال ُ‬
‫تحتاج إلى بحث‪ .‬ظهرت في موضوع الطبيعة البشرية‬
‫ُ‬ ‫جوانب أخرى‬
‫ُ‬ ‫منه ظهرت لي‬
‫نظريات متعددة‪ ،‬ونشرت فيه دراسات ال تحصى‪ ،‬وأعترف أني أشعر بالعجز تجاه تلك‬
‫النظريات والدراسات‪ ،‬فهي في غاية الصعوبة‪ ،‬بل من المستحيل استيعابها ك ّلها‪ .‬أضف‬
‫حائرا ال يعرف ماذا يأخذ منها‬
‫إلى ذلك أنها قد تتعارض وتتناقض‪ ،‬ولهذا يقف الباحث ً‬
‫وماذا يترك»‪.21‬‬

‫وجها لوجه‪ :‬د‪ .‬عيل الوردي‪ ،‬ود‪ .‬جليل العطية‪ ،‬العريب «الكويت»‪ ،‬ع ‪ ،360‬نوفمرب ‪.1988‬‬
‫‪ً .21‬‬
‫‪27‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫أصعب أشكال االستثمار في مجتمعنا‪ .‬ما يدعو في حياتنا‬ ‫ُ‬ ‫ب‬‫الح ّ‬‫االستثمار في ُ‬
‫ُ‬
‫كثير مما نرى ونسمع في حياتنا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أكثر وأشدُّ مما يدعو للمحبة‪ٌ .‬‬ ‫للعنف وكراهية اآلخر ُ‬
‫أساليب‬
‫ُ‬ ‫عنيف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الصوت‬
‫ُ‬ ‫عنف جسدي‪ .‬اللغ ُة عنيف ٌة‪،‬‬
‫عنف رمزي‪ٌ ،‬‬ ‫عنف لفظي‪ٌ ،‬‬ ‫اليومية‪ٌ :‬‬
‫ُ‬
‫الحديث‬ ‫نظرات العيون مخيف ٌة‪ ،‬الوجو ُه باكي ٌة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التعبير عنيف ٌة‪ ،‬لغ ُة الجسد وتعبيراتُه حا ّدةٌ‪،‬‬
‫عنف جسدي ود ٍم مسفوح‪،‬‬ ‫النزاعات التافهة أحيانًا تنتهي إلى ٍ‬
‫ُ‬ ‫بين شخصين ليس داف ًئا‪،‬‬
‫نشاز‪ ،‬إنه‬ ‫ُ‬
‫الصادق في مثل هذا المجتمع ٌ‬ ‫صوت المحبة‬
‫ُ‬ ‫حرب البسوس‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وكأننا نستأنف‬
‫ب ليست شائعة‪ ،‬وأحيانًا مستهجنة‪ .‬قلما‬ ‫كمن ينفخ في رماد‪ ،‬الكال ُم والكتاب ُة عن ُ‬
‫الح ّ‬
‫كبير‬
‫فائض ٌ‬‫ب في مدارسنا وجامعاتنا‪ ،‬الدينية منها والمدنية‪ .‬لدينا ٌ‬ ‫نعثر على مع ّلمين ُ‬
‫للح ّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫وتعطيل التفكير في‬ ‫ِ‬
‫واستنزاف العقل في مغالطات‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وتكديسه‪،‬‬ ‫من مع ّلمي ِ‬
‫إنتاج الكالم‬
‫ٍ‬
‫جدل عقيم‪.‬‬

‫الح ّب‬
‫ضيا ُع ُ‬
‫ب ويتحول من دواء إلى داء ومن ترياق إلى ُس ّم‪ ،‬عندما يفرضه على‬ ‫الح ُّ‬
‫يضيع ُ‬
‫اإلنسان االنتما ُء إلى معتقد يعتنقه‪ ،‬أو أيديولوجيا سياسية يتبناها‪ ،‬أو قومي ٌة ينتسب‬
‫ب شريكَه في‬
‫يح ّ‬
‫ب عندما يفرض عليه معتقدُ ه أن ُ‬ ‫إليها‪ ،‬أو جماع ٌة يرتبط بها‪ .‬يضيع ُ‬
‫الح ُّ‬
‫االعتقاد خاصة‪ ،‬وإن كان ال يتحسس في مواقفه وتعامله مع غيره ما يدعوه لمحبته‪ ،‬وأال‬
‫الناس لمحبته‪.‬‬
‫َ‬ ‫يحب المختلف عنه في االعتقاد وإن كانت أخال ُقه إنساني ًة نبيلة تدعو‬
‫ّ‬
‫ُ‬
‫الحال عندما تفرض على اإلنسان أيديولوجيا الجماعة الحزبية المنخرط فيها‬ ‫وهكذا‬
‫واحتكار‬
‫َ‬ ‫كُر َه بعض أصناف الناس‪ ،‬مهما كانت أخال ُقهم مهذب ًة ومواق ُفهم إنسانية‪،‬‬
‫ب شي ٌء يجرى امتالكُه وتداو ُله‪،‬‬
‫الح ّ‬
‫ب في إطار الجماعة المنتمي إليها ال غير‪ .‬وكأن ُ‬
‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫تداول السلع وامتالكُها في عمليات اإلنتاج والتسويق والبيع والشراء‬ ‫ُ‬ ‫مثلما يجري‬
‫ب ليس سلع ًة‬‫الح ُّ‬‫ب عندما ينقلب من كونه حقيق ًة فيصير شي ًئا‪ُ ،‬‬
‫الح ُّ‬
‫يضيع ُ‬
‫ُ‬ ‫واالستهالك‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ب حال ٌة للقلب يعيشها‪،‬‬
‫وجود‬ ‫وطور‬
‫ُ‬ ‫مبتذل ًة قابل ًة للتداول المادي واالستهالك‪ُ .‬‬
‫الح ُّ‬
‫ب كاإليمان ال إكراه فيه‪،‬‬ ‫لإلنسان يح ّققه ويتح ّقق به‪ ،‬وتجربة للحقيقة يتذوقها‪ُ .‬‬
‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان من الخارج‪.‬‬ ‫ألنه خارج مجال األمر والنهي ّ‬
‫وكل أنواع الخطابات التي يتلقاها‬
‫ب خارج تحكّم اإلرادة الذاتية‪ّ ،‬‬
‫وكل القرارات المفروضة على اإلنسان من غيره‪.‬‬ ‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪28‬‬
‫ب معبو ًدا‬ ‫وغموضا‪ ،‬حال ٌة يصير فيها ُ‬
‫الح ُّ‬ ‫ً‬ ‫ب‪ ،‬وهي أكثر ضبابي ًة‬ ‫حال ٌة أخرى لتضييع ُ‬
‫الح ّ‬
‫ب هو‬
‫الح ّ‬
‫آثاره إلى الضد منه‪ .‬إذا كان ُ‬
‫لذاته مثلما تُع َبد األوثان‪ ،‬فيجري إهداره وتنقلب ُ‬
‫اإلنسان هو الغاي ُة في األرض‪،‬‬
‫ُ‬ ‫استالب اإلنسان‪.‬‬
‫َ‬ ‫اإلنسان وسيل ًة‪ ،‬ما يعني‬
‫ُ‬ ‫الغاية يصير‬
‫أمرا معنو ًّيا وليس ماد ًّيا‪ .‬الدي ُن من‬ ‫سخر له‪ُّ ،‬‬
‫كل شيء ألجله‪ ،‬وإن كان ً‬ ‫ُّ‬
‫وكل شيء ُم ّ‬
‫ب من أجل اإلنسان‪ ،‬العلوم والمعارف واآلداب والفنون من أجل‬ ‫الح ُّ‬
‫أجل اإلنسان‪ُ ،‬‬
‫ب بوصفه تجرب ًة يتح ّقق بها ويتكامل‪ُ ،‬‬
‫يظل‬ ‫الح ُّ‬ ‫اإلنسان‪ُّ ،‬‬
‫كل شيء من أجل اإلنسان‪ُ .‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان ويفتقد ذاته إذا صار‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‪ ،‬ويصير ُ‬
‫عيشه بها أجمل‪ .‬ينحط‬ ‫وسيل ًة يتسامى بها‬
‫ُ‬
‫اإلنسان إلى أداة ووسيلة تستخدم ألجل ذلك الشيء‪.‬‬ ‫وتحول‬
‫ّ‬ ‫أي شيء غيره هو الغاية‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫اإلنسان ويتحكّم ّ‬
‫بكل شيء في حياته‪ ،‬إلى الحدّ الذي يستعبد فيه‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫الح ُّ‬‫أحيانًا يمتلك ُ‬
‫خلق في‬ ‫أي فعل ّ‬ ‫ّ‬
‫ويشل إرادتَه‪ ،‬ويوقف َّ‬ ‫ضميره‪،‬‬
‫َ‬ ‫وروحه‪ ،‬و ُي ِ‬
‫خرس‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عقل اإلنسان وقل َبه‬
‫ب حال ًة يعيشها‬
‫الح ُّ‬ ‫حياته‪ ،‬ويع ّطل قدرتَه على العطاء واإلنجاز‪ .‬هنا ً‬
‫بدل من أن يكون ُ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان في‬ ‫اإلنسان ويح ّققها ويتح ّقق بها وجو ُده بطور أسمى‪ ،‬يتحول إلى ٍ‬
‫وثن يسقط‬ ‫ُ‬
‫يستلب َّ‬
‫كل شيء في‬ ‫ُ‬ ‫ب معبو ًدا لذاته‬
‫الح ُّ‬
‫أسره ويظل مسجونًا في شراكه‪ .‬عندما يصير ُ‬
‫ب‬
‫الح ّ‬ ‫ّ‬
‫وتنحط معه كرامتُه‪ .‬يقول أحدُ مفكري القرن التاسع عشر‪« :‬إن ُ‬ ‫حياة اإلنسان‬
‫ّ‬
‫وككل ألوهية فإنها تريد االستيالء على اإلنسان بكامله‪ ،‬وال تكتفي‬ ‫هو آلهة شرسة‪،‬‬
‫بتقديمه لها لروحه فقط‪ ،‬بل جسده كذلك‪ .‬إن عبادتها هي المعاناة وقمة هذه العبادة‬
‫هي التضحية بالنفس‪ ،‬االنتحار»‪.22‬‬
‫ـ‪4‬ـ‬
‫صعب لك ّنه عظيم‬
‫ٌ‬ ‫الح ّب ُمع ّل ٌم‬
‫ُ‬
‫والوعي الجمالي‬
‫ُ‬ ‫الح ُّب‬
‫ُ‬
‫ب تلهمنا إراد َة‬ ‫ب‪ ،‬ال طاق َة أغنى من ُ‬
‫الح ّ‬ ‫الح ّ‬
‫منتج للمعنى في الحياة أجمل من ُ‬ ‫ال َ‬
‫ب ُمع ّل ٌم صعب لكنه عظيم‪،‬‬ ‫ب يع ّلمنا كيفي َة العيش‪ُ .‬‬
‫الح ّ‬ ‫الح ّ‬ ‫َ‬
‫أجمل من ُ‬ ‫الحياة‪ ،‬وال ُمع ّل َم‬

‫‪ .22‬هذا املفكر هو إدغار باور‪ ،‬ذكر ذلك يف مقالة له عن احلب ‪ .1844‬راجع‪ :‬فروم‪ ،‬إريك‪ ،‬حب احلياة‪:‬‬
‫نصوص خمتارة‪ ،‬تقديم‪ :‬راينر فونك‪ ،‬ترمجة‪ :‬محيد لشهب‪ ،‬ص ‪.164‬‬
‫‪29‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫ب من أشدِّ اختبارات المرء في األرض‪ ،‬وأغناها عطاء‪ .‬اإلنسان كائ ٌن مسكون بطلب‬
‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫ب‬
‫الح ّ‬ ‫ٌ‬
‫مخلوق من جمال‪ُ .‬‬ ‫كل شيء كأنه‬ ‫ب يرى َّ‬ ‫ب‪ .‬حين يتذوق اإلنسان نكه َة ُ‬
‫الح ّ‬ ‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫كل شيء في الوجود‬‫مصدر الوعي الجمالي في حياة الكائن البشري‪ ،‬وهو ما يص ّير َّ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫أجمل صورها المكتنزة‪.‬‬ ‫يلون الحيا َة بأجمل معانيها‪ ،‬و ُي ِ‬
‫خرج لإلنسان‬ ‫ب ّ‬ ‫الح ّ‬ ‫ً‬
‫جميل‪ُ .‬‬
‫صوت العنف‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يعيش في مجتمع ال يكترث بالجمال‪ ،‬ويطغى فيه‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان ُ‬ ‫إن كان‬
‫ُ‬
‫تذوق‬ ‫حواسه الخاصة بتذوق األلوان واألصوات واأللحان‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫يتبلد ذو ُقه الفني‪ ،‬وتتعطل‬
‫كل حياة‬ ‫تتواصل هذه التربي ُة ّ‬
‫َ‬ ‫الجمال يحتاج تربي َة الذوق الفني منذ الطفولة‪ ،‬وال بد أن‬
‫ِ‬
‫ونمط تم ّثله في‬ ‫ٍ‬
‫صلة مباشرة بكيفية الرؤية للعا َلم‪،‬‬ ‫اإلنسان‪ .‬تربي ُة الذوق الفني ُ‬
‫ذات‬
‫الالشعور الفردي والمجتمعي‪ .‬تنعكس رؤي ُة العا َلم على صلة اإلنسان بما حوله‪ ،‬من‪:‬‬
‫بشر‪ ،‬وكائنات ح ّية‪ ،‬وأشياء‪ ،‬كما تنعكس على نمط صلته باﷲ‪ .‬تربي ُة الذوق الفني تدخل‬
‫عنصرا أساس ًّيا في إنتاج رؤية للعا َلم مضيئة متفائلة تتغذى بالجمال والمحبة‪ .‬الرؤي ُة‬
‫ً‬
‫إنتاجها‪ .‬إن كانت بصير ُة‬ ‫المضيئ ُة للعا َلم تعيد َ‬
‫إنتاج الذوق الفني مثلما يعيد هذا الذوق َ‬
‫اإلنسان حاذق ًة‪ ،‬وذو ُقه الفني صاف ًيا‪ ،‬وحاستُه الجمالي ُة مضيئ ًة‪ ،‬تصبح رؤيتُه للعا َلم‬
‫تجليات جماله في الموجودات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اإلنسان صور َة اﷲ مشرق ًة‪ ،‬ويكتشف‬
‫ُ‬ ‫مضيئ ًة‪ ،‬يرى هذا‬
‫األثر الحيوي للذوق الفني في تفكير اإلنسان ورؤيته‬ ‫التربي ُة في مجتمعنا تجهل َ‬
‫للعا َلم وفهمه ومشاعره ومواقفه وسلوكه‪ .‬عندما ال تعبأ العائل ُة والمدرسة والمجتمع‬
‫الناس بما يمكن‬
‫ُ‬ ‫خمول وسبات‪ ،‬ويصاب‬ ‫ٍ‬ ‫الذوق حال َة‬
‫ُ‬ ‫بتربية الذوق الفني‪ ،‬يدخل هذا‬
‫ِ‬
‫والعجز عن الشعور بجمال األلوان‬ ‫ِ‬
‫بالدة تذوق الفنون السمعية والبصرية‪،‬‬ ‫تسميته بـ ‪:‬‬
‫والصور والموسيقى واأللحان واألصوات‪ ،‬ويظهر أثر ذلك في ِ‬
‫نمط إدراك صورة اﷲ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وطريقة قراءته لنصوصه‪ ،‬وفي ثقافة اإلنسان‪ ،‬وعالقاتهِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وكيفية فهم اإلنسان للدين‪،‬‬
‫االجتماعية‪ِّ ،‬‬
‫وكل شيء في حياته‪ .‬بالد ُة تذوق الفنون تعني بالدة تذوق الجمال‪ .‬تربي ُة‬
‫كثيرا من الغضب والحقد والضغينة والعنف والجريمة‪،‬‬ ‫الذوق الفني وتنميتُه تخفض ً‬
‫أخصب أرضية‬
‫ُ‬ ‫العالمي‪ .‬تربي ُة الذوق الفني‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫وترسخ السال َم‬ ‫السلم المجتمعي‪،‬‬
‫َ‬ ‫وتعزز‬
‫ّ‬
‫كل مجتمع يتجاهل تربي َة الذوق الفني‪ ،‬ويعجز‬ ‫ب وتغذيته وتكريسه‪ُّ .‬‬
‫الح ّ‬
‫الستنبات ُ‬
‫وإيقاع العصر‪ ،‬وتستجيب الحتياجات‬
‫َ‬ ‫عن تهذيبه‪ ،‬يعجز عن بناء حضارة ح ّية‪ ،‬تتناغم‬
‫اإلنسان المادية ولمتطلبات حياته المعنوية‪.‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪30‬‬
‫ظروف حياته صل ًة بكائن بشري يعجز عن رؤية ما‬
‫ُ‬ ‫ورطته األيا ُم وفرضت عليه‬
‫من ّ‬
‫مشاعره الفنون وتتذوقها‪ ،‬وال يرى تجليات جمال‬
‫ُ‬ ‫تتحسس‬
‫ّ‬ ‫هو جميل في العا َلم‪ ،‬ال‬
‫الهروب منه لئال تتسمم حياتُه‪ ،‬ويلبث حزينًا يبكي قل ُبه َّ‬
‫كل يوم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫اﷲ في الوجود‪ ،‬عليه‬
‫ب من الجمال ويغذيه يكون أحدَ أثرى منابع األمل والتفاؤل‬ ‫الح ُّ‬
‫يتغذى ُ‬ ‫عندما ّ‬
‫القلب‬
‫ُ‬ ‫والثقة بالغد‪ ،‬الثق ُة بالغد ضرور ٌة لتواصل إنتاج الحياة ألجمل معانيها‪ .‬يعيش‬
‫ب اشتدّ ت رغب ُة اإلنسان بالحياة‪ ،‬ك ّلما‬
‫الح ُّ‬‫ب كما تعيش السمكة بالماء‪ .‬ك ّلما اشتدّ ُ‬ ‫بالح ّ‬
‫ُ‬
‫قلق‬ ‫اإلنسان في التغلب على ِ‬
‫َ‬ ‫ب يساعد‬ ‫ب نضبت رغب ُة اإلنسان بالحياة‪ُ .‬‬
‫الح ُّ‬ ‫الح ّ‬
‫نضب ُ‬
‫َ‬
‫داخل اإلنسان لحظ َة‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫إكسيرا للحياة‪ ،‬يموت‬ ‫ب يمكن أن يكون‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫الح ُّ‬ ‫الموت‪ُ ،‬‬
‫ب يضيء الحيا َة بمعناها األجمل‪ ،‬ويبدّ د وحش َة الكائن‬ ‫الح ُّ‬
‫ب في األرض‪ُ .‬‬ ‫الح ُّ‬
‫يموت ُ‬
‫البشري وغربتَه فيها‪ .‬الظمأ البشري للمح ّبة حاج ٌة ال تتوقف وال تنتهي‪ .‬لحظ َة يفتقد‬
‫ب في حياة إنسان عاطفي‬ ‫ِ‬
‫الح ّ‬
‫ب تفتقد حياتُه معناها اآلسر‪ ،‬فقدان ُ‬ ‫الح َّ‬
‫الكائ ُن البشري ُ‬
‫الحس يقوده للحزن والتشاؤم واالكتئاب‪ ،‬وأحيانًا يكون أحدَ أسباب االنتحار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫رهف‬ ‫ُم َ‬

‫ُ‬
‫العيش وحده‬ ‫يصعب على اإلنسان‬
‫ُ‬
‫كسب الثق َة‬‫حاج ُة الكائن البشري لالعتراف تدعوه لكسب ثقة الناس‪ ،‬وأيسر ما ي ِ‬
‫ُ ُ‬
‫وخفض قلق‬ ‫ُ‬ ‫الخوف من الوحدة‪ ،‬والحاج ُة لالحتماء باآلخر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بأي إنسان ُح ّبه لغيره‪.‬‬
‫ّ‬
‫ب‪ .‬يقول باسكال‪ّ :‬‬
‫«كل مشاكل اإلنسانية‬ ‫الح ّ‬
‫الموت‪ ،‬تقود الكائ َن البشري للوقوع في ُ‬
‫تنبع من عدم قدرة اإلنسان على الجلوس لوحده فى غرفته بهدوء»‪ .‬الكائ ُن البشري‬
‫ُ‬
‫إالنسان غال ًبا‪،‬‬ ‫العيش وحده‪ ،‬ألن الحيا َة موحش ٌة جدً ا‪ ،‬الوحد ُة ال يطيقها‬
‫ُ‬ ‫يصعب عليه‬
‫وقلق هو ٕانسان استثنائي‪ .‬من ظفر‬ ‫وحشة وأل ٍم ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٔاي ٕانسان ٍ‬
‫قادر على العيش وحده بال‬ ‫ُّ‬
‫ضميره األخالقي بمواقفه‬
‫ُ‬ ‫روحه المح ّب ُة‪ ،‬وينبض قل ُبه بالرحمة‪ ،‬ويتحكم‬
‫بإنسان تسكن َ‬
‫وسلوكه‪ ،‬عليه التمسك به‪ .‬وما أقل وجود مثل هذا اإلنسان في حياتنا‪.‬‬
‫ب يعني أنك تعيش وحيدً ا‪ ،‬وتفشل في رؤية ما هو جميل في العا َلم‪،‬‬ ‫للح ّ‬
‫أن تفتقر ُ‬
‫ب حالة تمنحك طاق ًة حيوية تشعرك‬ ‫الح ُّ‬
‫وذلك يفضي إلى الشعور بالعزلة واالغتراب‪ُ .‬‬
‫وتحررك أو على األقل تخفض من‬ ‫إنفاق مال‪،‬‬ ‫بصلة بما هو جميل في العالم بال ٍ‬
‫جهد أو ِ‬
‫ّ‬
‫ب يصنع لك صل ًة عضوية بما حولك من ناس وكائنات وأشياء‪،‬‬ ‫الح ُّ‬
‫شعورك باالغتراب‪ُ .‬‬
‫‪31‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫ب األصيل في أبهى تجلياته حالة‬


‫الح ُّ‬
‫وتناغما مع إيقاع موسيقى الوجود‪ُ .‬‬
‫ً‬ ‫ويتيح لك ألف ًة‬
‫حدوث طور وجودي تسمو به‬‫َ‬ ‫الذات وتتكامل‪ ،‬بمعنى أنه يعني‬
‫ُ‬ ‫أنطولوجية تتح ّقق بها‬
‫الكينون ُة اإلنسانية‪ ،‬فتتمكّن من خفض اغترابها الوجودي إلى أدنى حدّ ‪.‬‬
‫كل شيء يقع تحت‬ ‫ب‪ ،‬كما يسعى الحتكار ّ‬ ‫الح ّ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان بطبيعته يسعى الحتكار ُ‬
‫الحرص على‬
‫ُ‬ ‫ب أحدً ا في العا َلم سواه‪.‬‬
‫يح ّ‬
‫يده‪ ،‬لذلك يحاول أن يفرض على حبيبه أال ُ‬
‫يتحول إلى غيرة مرضية‬ ‫ب‪ ،‬وإذا تمادى هذا الحرص واشتدّ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫الح ّ‬
‫ب ُيفسد ُ‬‫الح ّ‬
‫احتكار ُ‬
‫ب‪ .‬على‬ ‫بالح ّ‬
‫الكلمات ُ‬‫ُ‬ ‫تبتهج‬
‫ُ‬ ‫تبتهج الحيا ُة لحظة‬
‫ُ‬ ‫روح الحبيب‪.‬‬
‫ب وتنهك َ‬ ‫الح َّ‬
‫تبدّ د ُ‬
‫كثيرا حال َة الشعور‬‫ب يقترن عاد ًة بخوف من فقدانه‪ ،‬لكنّه يخفض ً‬ ‫الح ّ‬
‫الرغم من أن ُ‬
‫السري لما‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الحبل‬ ‫ب هو‬ ‫بالخوف‪ ،‬ويخ ّلص المر َء من الشعور بعدم األمان‪ُ .‬‬
‫الح ّ‬
‫الملهم ِّ‬
‫لكل ما هو‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان من حاالت الرضا والثقة واإلنجاز والسعادة‪ ،‬وهو ُ‬ ‫يعيشه‬
‫ِّ‬
‫ولكل ما تغتني وتتكامل وتسمو به كينون ُة الكائن البشري‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫جميل في الحياة‪،‬‬
‫وأبدع قصيدة‬
‫ُ‬ ‫ب أثرى تجربة عاطفية وروحية يعيشها الكائ ُن البشري‪،‬‬ ‫تجرب ُة ُ‬
‫الح ّ‬
‫الكل يحاول تع ّلمها‪ُّ ،‬‬
‫الكل‬ ‫الكل يسعى إليها‪ُّ ،‬‬‫أشواق تتد ّفق من قلب هذا الكائن‪ُّ .‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان األصيل ُح ّبه أصيل‪ ،‬فحين يكتب‬ ‫يسعي للتشبث بها‪ ،‬كي يتم ّثلها ويمتلكها‪.‬‬
‫قصيد َة ُح ّبه يعيشها ويدمن عليها ويتسامى بها‪ ،‬ولن تتبدّ د أو تهرب أو تضيع لحظة‬
‫ب من كلمة‬ ‫الح ّ‬
‫تحول ُ‬
‫أكثر البشر يكتبها فتضيع‪ ،‬ثم يكتبها فتضيع‪ ،‬ألن ّ‬
‫يمتلكها‪ُ .‬‬
‫اإلنسان تتضافر في إنتاجه مجموع ُة استعدادات ذاتية ومكتسبة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫إلى حالة يعيشها‬
‫ومشاعر صافية‪ ،‬ورؤي ًة‬
‫َ‬ ‫روحا نقية‪،‬‬ ‫الظفر ّ‬
‫بكل عناصرها‪ ،‬ألنها تتطلب ً‬ ‫ُ‬ ‫ربما ّ‬
‫يتعذر‬
‫ب الحقيقي بوصفه حال ًة‬ ‫متفائلة للعا َلم ‪ ،‬تتحسس جمالياته وتتذوقها بشغف‪ُ .‬‬
‫الح ُّ‬
‫ُ‬
‫العوامل المضا ّدة المتفشية في الحياة اإلنسانية‪،‬‬ ‫ال يولد بيسر وسهولة‪ ،‬تجهضه‬
‫ُ‬
‫العيش‬ ‫والشر في حياة البشر‪.‬‬
‫َّ‬ ‫والعنف‬
‫َ‬ ‫التعصب والكراهي َة‬
‫َ‬ ‫وهي عوامل مختلفة تنتج‬
‫العيش بالمحبة عذب بهيج‪ ،‬لكن‬‫ُ‬ ‫باألحقاد والضغائن تتحول فيه الحيا ُة إلى علقم‪،‬‬
‫ب أثم ُن معاني‬
‫الح ّ‬
‫ومتعذر أحيانًا‪ .‬على الرغم من أن ُ‬
‫ٌ‬ ‫صعب جدًّ ا‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫امتالك المحبة‬
‫أن حضوره ال يوازي الحاجة األبدية له في حياتنا‪ ،‬إذ‬ ‫الحياة اإلنسانية وأسماها‪ ،‬غير ّ‬
‫ق ّلما يحضر في ثقافتنا وكتاباتنا وفنوننا وآدابنا وأحاديثا ونقاشاتنا‪ ،‬ووسائل إعالمنا‬
‫ومنابرنا ومواعظنا الدينية وتديننا‪.‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪32‬‬
‫معيار الختبار إنسانية اإلنسان‪ ،‬وعالم ٌة دالة على حضور القيم وفاعليتها في‬ ‫ٌ‬ ‫ب‬ ‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫ضميره ومواقفه‪ ،‬إنه ثمر ٌة طيبة عبقة‪ ،‬ال تتجلى إال في شخصية مضيئة مشرقة‪ِ ،‬‬
‫«م ْن‬
‫الش ْو ِك ِعنَ ًبا‪َ ،‬أ ْو ِم َن ا ْل َح َس ِك تِينًا؟»‪.23‬‬
‫ُون ِم َن َّ‬ ‫ثِ َم ِ‬
‫ار ِه ْم َت ْع ِر ُفون َُه ْم‪َ .‬ه ْل َي ْج َتن َ‬
‫ـ‪5‬ـ‬
‫الح ّب أنه ال يتح ّقق إال ُ‬
‫بالح ّب‬ ‫سر ُ‬‫ُّ‬
‫مع ّل ُم األخالق والمح ّبة‬
‫أكون مع ّل ًما لألخالق والمح ّبة؟‬
‫َ‬ ‫تالمذتي‪:‬كيف يمكنني أن‬
‫َ‬ ‫سألني أحدُ‬
‫قلت له‪ :‬ال تكون مع ّل ًما لألخالق والمح ّبة إال‪ :‬أن تكون صاد ًقا مع نفسك ً‬
‫أول‪،‬‬
‫ب الناس‬ ‫ب الذات ً‬
‫أول‪ ،‬ثم ُح ّ‬ ‫بح ّ‬
‫ب يبدأ ُ‬ ‫صاد ًقا مع الناس ثان ًيا‪ ،‬وصاد ًقا مع اﷲ ثال ًثا‪ُ .‬‬
‫الح ّ‬
‫الناس ال‬
‫ب َ‬ ‫يح ّ‬
‫ب الناس‪ ،‬و َم ْن ال ُ‬
‫يح ّ‬
‫ب ذاتَه ال ُ‬ ‫ب اﷲ ثال ًثا‪َ .‬م ْن ال ُ‬
‫يح ّ‬ ‫ثان ًيا‪ ،‬ليصل إلى ُح ّ‬
‫ِ‬
‫سعادة‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان جهو َده من أجل‬ ‫يكرس‬ ‫يمر عبر الناس‪ ،‬مالم ّ‬‫الطريق إلى اﷲ ُّ‬
‫ُ‬ ‫ب اﷲ‪.‬‬
‫يح ّ‬ ‫ُ‬
‫وعيشهم أسهل‪ ،‬لن يصل إلى اﷲ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫والعمل على أن تكون حياتُهم أجمل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الناس‪،‬‬
‫إلها‪ .‬في‬
‫بشرا أو ً‬
‫ب غيره مهما كان‪ ،‬سواء أكان ً‬
‫ب ذاته يعجز عن ُح ّ‬
‫َم ْن يعجز عن ُح ّ‬
‫ليح ّبه اإلنسان‪ُ [ ،‬يح ّب ُه ْم‬
‫ب اإلنسان ُ‬‫بح ّ‬
‫القرآن الكريم إشار ٌة واضحة إلى أن اﷲَ يبدأ ُ‬
‫تفضل منه‬ ‫ً‬ ‫َو ُيح ّبونَه]‪ .24‬يقول محيي الدين بن عربي‪« :‬إن اﷲ هو الذي بدأنا بالمحبة‬
‫بعث الرسل إلينا‪ ،‬لتع ِّلمنا األعمال التي‬ ‫فخلقنا‪ ،‬هو ال يخلق إال ما أحب‪ِ ،‬‬
‫ومن ُح ِّبه لنا‪َ :‬‬
‫سبقت غضبه‪ ،‬وأن أشقى األشقياء مشمول‬
‫ْ‬ ‫تؤدي إلى سعادتنا‪ ،‬ثم أخبرنا أن رحمته‬
‫بالرحمة والعناية وإال هلك»‪.‬‬
‫اإلنسان مع ّل ًما لألخالق والمح ّبة‪ ،‬بل ّ‬
‫يتعذ ُر على بعض الناس‬ ‫ُ‬ ‫ٌّ‬
‫شاق جدً ا أن يكون‬
‫كل الناس مع ّلمين لألخالق والمح ّبة‪.‬‬
‫المصابين بأمراض نفسية ذلك‪ ،‬وإال ألصبح ُّ‬
‫نفسه للظفر‬
‫عظمهم ال تطاوعه ُ‬
‫الناس جمي ًعا‪ ،‬إال أن ُم َ‬
‫ُ‬ ‫األخالق والمح ّب ُة يتمناها‬
‫ُ‬
‫نجاحات اآلخرين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تستفزها‬
‫ُّ‬ ‫النفس‬ ‫لتتجرع ما يؤذيها‪.‬‬ ‫ويشق عليه قهر ِ‬
‫نفسه‬ ‫ُّ‬ ‫بذلك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬

‫‪ .23‬إنجيل متى ‪.16 :7‬‬


‫‪ .24‬املائدة‪.54 ،‬‬
‫‪33‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫تحث على‬‫ّ‬ ‫ُ‬


‫األخالق‬ ‫وتنفر من تفوقهم‪ ،‬وتؤذيها سعادتُهم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وتثيرها منجزاتُهم‪،‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫اإلنسان السعادة ِّ‬
‫بكل ما ُيسعد اآلخرين‪ .‬هنا‬ ‫َ‬ ‫ب يهب‬‫الح ُّ‬
‫االحتفاء بنجاحات اآلخرين‪ُ ،‬‬
‫نفسه منه‪ ،‬وما تفرضه عليه‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان ويتمناه‪ ،‬وما تنفر ُ‬ ‫يرغب فيه‬
‫ُ‬ ‫التناقض بين ما‬
‫ُ‬ ‫يقع‬
‫ُ‬
‫ترويض الطبيعة اإلنسانية بالتربية الروحية واألخالقية‬
‫ُ‬ ‫طبيعتُه بوصفها ملتقى األضداد‪.‬‬
‫يكفل احتوا َء هذا التناقض إلى حدٍّ كبير عندما يخفض من فاعلية عناصر‬ ‫ُ‬ ‫والجمالية‬
‫عناصر الخير في هذه الطبيعة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ويكرس‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويغذي‬ ‫الشر‪،‬‬
‫ّ‬
‫لمعنى لحياته تفوق َّ‬
‫كل حاجة معنوية‪ ،‬ال يستطيع‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫إنسان فإن حاجتَه‬ ‫ما دام هناك‬
‫معنى لحياته‪ ،‬وال معنى للحياة أثرى وأجمل من‬
‫العيش بسالمة نفسية من دون ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬
‫ُ‬
‫التشكيك‬ ‫ب لغ ُة القلوب‪ ،‬لغ ُة القلوب ال تخطئ‪ ،‬لغ ُة القلوب ال يمكن‬ ‫ب‪ .‬لغ ُة ُ‬
‫الح ّ‬ ‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫في صدقها‪ ،‬يتذوقها بغبطة وابتهاج َم ْن تفيض عليه ُح ّبك‪ ،‬وال ينجذب إليك َم ْن ال‬
‫ب ك ّلما امتلك المزيدَ من القلوب‪،‬‬‫الح ّ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان المزيد في ُ‬ ‫يتذوقها منك‪ .‬ك ّلما استثمر‬
‫وتنامت ثق ُة الناس فيه وثقتُه فيهم‪.‬‬

‫يكشف َّ‬
‫كل شيء‬ ‫ُ‬ ‫الح ُّب كالضوء‬
‫ُ‬
‫ب ال‬
‫الح ُّ‬
‫كل شيء ويظهره بجالء‪ُ .‬‬ ‫وينكشف فيه ُّ‬
‫ُ‬ ‫يكشف عن نفسه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ب كالضوء‬
‫الح ُّ‬
‫ُ‬
‫كل شيء‪ ،‬وإن حاول أحدٌ‬‫وأظهر من ِّ‬
‫َ‬ ‫أوضح‬
‫َ‬ ‫يحتاج إلى من يكشفه ويظهره‪ ،‬بوصفه‬
‫والحاالت أشياء وجودية‪ .‬كما أن مفهو َم‬
‫ُ‬ ‫ب حال ٌة‪،‬‬
‫الح ُّ‬
‫عصي على التفسير‪ُ .‬‬
‫ٌّ‬ ‫تفسيره فهو‬
‫َ‬
‫مبهم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫كنه ُه‬
‫واضح ُ‬
‫ٌ‬ ‫ب مفهو ُمه‬ ‫واضح‪ ،‬وحقيقتَه عصي ٌة على الفهم‪ ،‬هكذا ُ‬
‫الح ّ‬ ‫ٌ‬ ‫الوجود‬
‫قول مال هادي السبزواري في بيان حقيقة الوجود‪ ،‬فمفهوم الوجود‬ ‫ب ُ‬ ‫الح ّ‬
‫ينطبق على ُ‬
‫كنهه غاي ٌة في الخفاء‪:‬‬
‫واضح جدًّ ا‪ ،‬غير أن َ‬
‫ِ‬
‫الـــخـــفـــاء‬ ‫ِ‬
‫غـــــايـــــة‬ ‫وكــــنــــهــــهُ فـــــي‬
‫ُ‬ ‫أعـــــــرف األشــــيــــا ِء‬
‫ِ‬ ‫م ــف ــه ــومُ ــه مــــن‬
‫ب بآثاره‬
‫الح ّ‬
‫عرف ُ‬‫عرف الوجو ُد بآثاره ومظاهره وتجلياته وتعبيراته‪ُ ،‬ي ُ‬
‫مثلما ُي ُ‬
‫ومظاهره وتجلياته وتعبيراته وثمراته في حياة الكائن البشري‪ .‬يقول محيي الدين‬
‫ب معقول المعنى وإن كان ال ُي َحد‪ ،‬فهو ُمدْ َرك بالذوق غير‬
‫الح ّ‬
‫أن ُ‬‫بن عربي‪« :‬اعلم ّ‬
‫فإن األمور المعلومات على قسمين‪ :‬منها ما ُيحدّ ‪،‬‬ ‫التصور‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫مجهول‪ ،‬ولكنه عزيز‬
‫ومنها ما ال ُيحدّ ‪ ،‬والمح ّبة عند العلماء بها المتك ّلمين فيها من األمور التي ال تُحدّ ‪،‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪34‬‬
‫فيعرفها من قامت به ومن كانت صفتُه وال يعرف ما هي وال ينكر وجو َدها‪ .‬واختلف‬
‫تصور ذلك‪ ،‬فما حدّ ه‬
‫ب‪ ،‬فما رأيت أحدً ا حدّ ه بالحدّ الذاتي بل ال ُي ّ‬
‫الح ّ‬
‫الناس في حدّ ُ‬
‫ُ‬
‫من حدّ ه إال بنتائجه وآثاره ولوازمه‪ ،‬وال سيما وقد اتصف به الجناب العزيز وهو‬
‫ب ُيعرف به ذات ًّيا‪ ،‬ولكن ُيحد بالحدود الرسمية واللفظية‪ ،‬فمن َحدَّ‬ ‫للح ّ‬‫اﷲ‪ ،‬فال حدّ ُ‬
‫ب‬ ‫فالح ّ‬
‫ب ما عرفه‪ ،‬ومن لم يذقه شر ًبا ما عرفه‪ ،‬ومن قال ُرويت منه ما عرفه‪ُ ،‬‬ ‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫ري»‪.25‬‬‫شرب بال ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وبيان آثاره المتنوعة على القلب والروح‬ ‫وتفسيره‬ ‫ب‬ ‫طرائق فه ِم ُ‬
‫الح ّ‬ ‫ُ‬ ‫تعدّ دت‬
‫يفسره من منظور يتطابق مع الوجهة التي‬ ‫فكل فن وعلم ّ‬ ‫والضمير والعقل والجسد‪ّ ،‬‬
‫ب مرآ ٌة ال يرتسم فيها ّإل‬
‫الح ّ‬
‫له ًما‪ .‬وكأن ُ‬ ‫جميل ُم ِ‬
‫ً‬ ‫ب ال يتجلى ّإل‬
‫الح ّ‬
‫يتجلى له فيها‪ُ ،‬‬
‫وكل شيء‬‫ب حاج ٌة أبدية‪ُّ ،‬‬ ‫الح ّ‬
‫بوب لكونه ُح ًّبا ال غير‪ُ .‬‬
‫مح ٌ‬ ‫ب ُ‬
‫الح ّ‬
‫ما هو رؤيوي مضيء‪ُ .‬‬
‫غيره يدعوه للظفر به‪.‬‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان بهذا الشكل ال يحتاج سب ًبا آخر َ‬ ‫يحتاجه‬
‫ب‬ ‫وتحليل‪ ،‬وما زال تحلي ُلهم لماهية ُ‬
‫الح ّ‬ ‫ً‬ ‫كل األديان بح ًثا‬ ‫ب في ّ‬ ‫الح َّ‬
‫أشبع العرفا ُء ُ‬
‫هو األجمل واألبهج واألعذب واألثرى‪ ،‬وهكذا أنشده الشعرا ُء في قصائدهم وتغنوا‬
‫أعظم الروائيين مثل‬ ‫ِ‬
‫ومواجعه‬ ‫ِ‬
‫وأطواره وثمراته‬ ‫فيه بغزلياتهم‪ ،‬وتوغل في تصوير حاالتِه‬
‫ُ‬
‫دوستويفسكي في أعماله الخالدة‪ ،‬ونهض بتفسيره الفالسف ُة في علم النفس الفلسفي‪،‬‬
‫كل‬ ‫ومظاهره وتعبيراتِه في حياة الفرد والمجتمع‪ٌّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫واهتم بالكشف عن ِ‬
‫آثاره المتنوعة‬
‫وأخيرا قدّ م له علما ُء‬
‫ً‬ ‫من‪ :‬علماء النفس‪ ،‬واالجتماع‪ ،‬واألنثربولوجيا‪ ،‬واألخالق‪،‬‬
‫الكل يشد ّد على‬‫يفسره من منظوره‪ُّ ،‬‬ ‫كل علم وفن ّ‬ ‫تفسيرا بايولوج ًّيا‪ُّ .‬‬
‫ً‬ ‫األعصاب والدماغ‬
‫عدم استغناء اإلنسان عنه في أي مرحلة من مراحل حياته‪ ،‬وفي أية حالة يكون فيها‪،‬‬
‫ب مزمنة‪ ،‬تولد مع اإلنسان وال تنتهي‬ ‫تظل الحاج ُة ُ‬
‫للح ّ‬ ‫وفي أية محطة تصل حياتُه إليها‪ّ .‬‬
‫اإلنسان َّ‬
‫كل حياته إلى َم ْن ُيح ّبه في الدنيا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يتطلع‬
‫ُ‬ ‫بوفاته كما تنتهي احتياجاته األخرى‪ ،‬إذ‬
‫يتطلع إلى َم ْن يلبث ُيح ّبه ف ُيخ ِّلد ذكراه بعد وفاته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مثما‬

‫‪ .25‬الغراب‪ ،‬حممود حممود‪ ،‬احلب واملحبة اإلهلية‪ :‬من كالم الشيخ األكرب حميي الدين ابن العريب‪ ،‬ص ‪،17‬‬
‫ط‪ ،1992 ،2‬مطبعة نرض‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪35‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫الح ّب‬
‫مراتب ُ‬
‫ُ‬
‫ب الحقيقي كيميا ُء خاصة تتبدّ ل‬ ‫ِ‬
‫للح ّ‬
‫ب‪ُ .‬‬‫كالح ّ‬
‫ُ‬ ‫هم للسعادة في حياة اإلنسان‬
‫ال ُمل َ‬
‫تأثيرا‬
‫ب كاإليمان‪ ،‬لذلك يمتلك ً‬ ‫الح ُّ‬
‫نفيسا‪ُ .‬‬
‫جوهرها ً‬
‫ُ‬ ‫معها ماد ُة القلوب‪ ،‬فيصير‬
‫متنوع‪ ،‬إن وجو َده‬
‫ب واحد ٌة لكنّه ّ‬ ‫األرواح غاي َة وجودها‪ .‬حقيق ُة ُ‬
‫الح ّ‬ ‫ُ‬ ‫سحر ًّيا‪ ،‬تبلغ معه‬
‫أمر نسبي ذو مراتب‪ ،‬تتفاوت مرات ُبه فتبدأ من أدنى‬ ‫‪26‬‬
‫مشكّك ال متوطئ ‪ ،‬أي أنه ٌ‬
‫ب تتعدّ د كيفياتُها وتتسلسل درجاتُها‬ ‫الح ّ‬
‫مصاديق ُ‬
‫َ‬ ‫المراتب حتى أسماها‪ .‬بمعنى أن‬
‫ً‬
‫مشتعل‪،‬‬ ‫ب ضعي ًفا بار ًدا وقد يكون شديدً ا‬ ‫الح ّ‬
‫تب ًعا لألشخاص والحاالت‪ .‬ربما يكون ُ‬
‫ربما يكون ُح ًّبا جسد ًّيا حس ًّيا‪ ،‬وربما يكون أخالق ًّيا‪ ،‬ربما يكون روح ًّيا أخالق ًّيا‪ ،‬ربما‬
‫ب اﷲ لإلنسان‬
‫للحق تعالى أو يكون ُح ًّبا للخلق‪ ،‬وربما يكون من نوع ُح ّ‬
‫ِّ‬ ‫يكون ُح ًّبا‬
‫ب يتجلى في مراتب متنوعة في حياة‬
‫الح ِّ‬
‫ب اإلنسان ﷲ‪ .‬في ضوء ذلك نرى ُ‬
‫وح ّ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫ب يقيم في الجسد‪ ،‬ويغرق فيه‪ ،‬ولن‬ ‫المرتبة األولى‪ُ :‬ح ٌّ‬
‫ب شهواني عاطفي‪ُ ،‬ح ٌّ‬
‫ب‬ ‫الح ّ‬
‫يتحرر منه ليعبر إلى آفاق المعنى اإلنساني األخالقي‪ .‬هذه المرتبة من ُ‬
‫ّ‬
‫قلق واضطراب‪،‬‬ ‫ب يشوبه ٌ‬ ‫تتفشى في عالقات ٍ‬
‫كثير من المراهقين‪ .‬وهي نمط ُح ّ‬
‫ومسكون بالحذر والالأمان والشعور بالفقدان والاليقين‪ ،‬لذلك ال يصنّفه جماع ٌة‬
‫ٌ‬
‫ب عندهم‪ .‬غال ًبا ما تنطفئ هذه المرتبة‬ ‫من الباحثين ُح ًّبا‪ ،‬وال تُطلق عليه تسمي ُة ُ‬
‫الح ّ‬
‫ِ‬
‫المكوث‬ ‫ِ‬
‫واإلفراط في تعاطي الجنس‪ ،‬والسأم من‬ ‫الملل من تذوق الجسد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫لحظة‬
‫في سجن االحتياجات الحسية المادية‪ ،‬والفشل في عبور الجسد إلى رحاب‬
‫ب بقوله‪« :‬يكتسب مصدر اإلشباع الجنسي‬ ‫الح ّ‬
‫المعنى‪ .‬يصف إيريك فروم هذا ُ‬
‫وظيفة تجعله ال يختلف كثير ًا عن إدمان الكحول والمخدرات‪ .‬إنه يصبح محاولة‬
‫يائسة لتالفي القلق المتو ّلد من العزلة‪ ،‬ويؤدي بالنتيجة إلى تضخم أكبر لمشاعر‬
‫ب ال يمكنه أبد ًا أن يمد جسر ًا فوق هاوية‬
‫العزلة‪ ،‬ألن العمل الجنسي من غير ُح ّ‬

‫‪ .26‬الكيل املتواطئ هو املتوافقة أفراده ومصاديقه‪ ،‬يتساوى انطباقه عليها بالدرجة نفسها‪ ،‬كام يف انطباق‬
‫مفهوم اإلنسان عىل أفراده وتساوي كل فرد يف صدق معنى اإلنسانية‪ .‬املفهوم الكيل املشكك‪ ،‬هو‬
‫املختلفة أفراده وغري املتساوية مصاديقه يف درجة انطباقه عليها‪ ،‬كام يف مفهوم العدد الذي يكون رقم‬
‫واحد من مصاديقه‪ ،‬ورقم مليار من مصاديقه‪ .‬ينطبق عىل الواحد انه عدد‪ ،‬وهكذا ينطبق عىل املليار أنه‬
‫عدد‪ ،‬لكن باختالف يف الدرجة‪ ،‬وعدم تساوي العدد الصغري مع الكبري‪.‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪36‬‬
‫ِ‬
‫السياق ذاته يقول زيجمونت‬ ‫تفصل كائنين إنسانيين سوى للحظة قصيرة»‪ .‬وفي‬
‫باومان‪« :‬عندما يتحول الجنس إلى حدث فزيولوجي في الجسد‪ ،‬وال تثير التجربة‬
‫الحسية سوى لذة جسدية ممتعة‪ ،‬فإن ذلك ال يعني أن الجنس تحرر من األعباء‬
‫الثقيلة الزائدة المقيدة غير الضرورية وغير المجدية‪ ،‬بل يعني‪ ،‬على العكس تما ًما‪،‬‬
‫أن األعباء التي يحملها زادت عن حدها المعقول‪ ،‬فصار يفيض بآمال ليس بوسعه‬
‫تحقيقها» ‪.27‬‬
‫ب عند الجسد‪ ،‬بل يعبره آلفاق‬
‫الح ُّ‬ ‫المرتبة الثانية‪ُ :‬ح ٌّ‬
‫ب عاطفي جسدي‪ ،‬ال يقف هذا ُ‬
‫ب بين الرجال‬
‫الح ّ‬
‫المعنى اإلنساني األخالقي‪ .‬هذه المرتبة نجدها في كثير من حاالت ُ‬
‫حجر‬
‫َ‬ ‫ب‬
‫الح ّ‬
‫ناجحا‪ ،‬ال تستنزفه األيام سري ًعا‪ .‬يشكِّل هذا ُ‬
‫ً‬ ‫زواجا‬
‫ً‬ ‫والنساء‪ ،‬وعادة ما تثمر‬
‫كل عائلة تعيش حياة عاطفية متضامنة‪.‬‬ ‫الزاوية في بناء ّ‬
‫ب األم واألب لألبناء‪،‬‬
‫كح ّ‬ ‫المرتبة الثالثة‪ُ :‬ح ّ‬
‫ب عاطفي حميمي أخالقي إنساني‪ُ ،‬‬
‫ب هو ما يتجلى في األمومة بوصفها‬ ‫الح ّ‬
‫ب األبناء لآلباء‪ .‬وأسمى درجات هذا ُ‬ ‫وح ّ‬
‫ُ‬
‫الحال َة الوحيدة في الكائن البشري المخلوقة من الرحمة اإللهية الخالصة دون سواها‪،‬‬
‫ال يعرف منزل َة األم إال من ذاق مرارة فقدانها‪ ،‬والحرمان من ُح ّبها وحنانها‪ ،‬ضراو ُة هذا‬
‫ب العاطفي الحميمي األخالقي اإلنساني هو الكنز‬ ‫الح ُّ‬
‫الحرمان أقسى من ضراوة النار‪ُ .‬‬
‫ِ‬
‫عالقات‬ ‫ويكرس‬ ‫نسيجها بالرعاية والحماية‪،‬‬ ‫ويغذي‬‫ّ‬ ‫األثمن الذي يثري بناء العائلة‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ويرسخ‬ ‫ِ‬
‫العالقات االجتماعية المتنوعة‪،‬‬ ‫القرابة بالسكينة والمودة والرحمة‪ ،‬ويدعم‬
‫ّ‬
‫والتراحم داخلها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ترسخت بني ُة العائلة وتماسكت وتنامى التضام ُن‬‫بني َة المجتمع‪ .‬ك ّلما ّ‬
‫ترسخت بني ُة المجتمع وازدهر التوا ُّد والحيا ُة التراحمية في عالقاته‪ ،‬وتص ّلب‬
‫ك ّلما ّ‬
‫السياج األخالقي الذي يحميه من التصدّ ع واالنهيار‪.‬‬
‫ُ‬
‫تتكرس‬‫ب حال ٌة وجودي ٌة ّ‬ ‫الح ُّ‬
‫ب اإلنسان ﷲ‪ُ .‬‬ ‫وح ُّ‬ ‫المرتبة الرابعة‪ُ :‬ح ُّ‬
‫ب اﷲ لإلنسان ُ‬
‫ُ‬
‫واإليمان كالهما تجليان‬ ‫ب اﷲ‬
‫ب‪ُ .‬ح ُّ‬‫بالح ّ‬
‫تتكرس ُ‬ ‫اإليمان حال ٌة وجودية ّ‬
‫ُ‬ ‫باإليمان‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وح ّبنا له‪ ،‬هو لدينا حال ٌة‬
‫ب اﷲ لنا ُ‬ ‫ب وأجم ُلها هو ُح ّ‬ ‫الح ّ‬
‫لحقيقة واحدة‪ .‬أسمى مراتب ُ‬

‫ب السائل‪ :‬عن هشاشة الروابط اإلنسانية‪ ،‬ترمجة‪ :‬حجاج أبو جرب‪ ،‬تقديم‪ :‬هبة‬ ‫‪ .27‬باومان‪ ،‬زجيمونت‪ُ ،‬‬
‫احل ّ‬
‫رؤوف عزت‪ ،‬ص ‪ ،2016 ،22‬الشبكة العربية لألبحاث والنرش‪ ،‬منتدى الفقه االسرتاتيجي‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫ب‬ ‫الح ّ‬ ‫ُ‬


‫أنماط ُ‬ ‫وجودية ٌكاإليمان‪ ،‬يتع ّطش الكائ ُن البشري في أعماقه لنيله‪ ،‬وتستقي منه‬
‫ب ال يظفر بدرجاته العليا‬
‫الح ُّ‬
‫خلق اﷲ بال شروط‪ .‬هذا ُ‬ ‫ب َ‬ ‫يح ّ‬
‫ب اﷲَ ُ‬‫يح ّ‬
‫األخرى‪ ،‬فمن ُ‬
‫ٍ‬
‫استعداد روحي وأخالقي‬ ‫إال ُم ِلهمو الروح ذوو البصائر األفذاذ‪ ،‬ممن يتوافرون على‬
‫الشر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والتغلب على بواعث ِّ‬ ‫إطفاء نار الكراهية في أنفسهم‪،‬‬ ‫استثنائي‪ ،‬وقادرون على‬
‫المختبئة في باطنهم‪ .‬يقول محيي الدين بن عربي‪« :‬والحب اإللهي هو أسمى ما في‬
‫ب عن نفسه‪ ،‬ويفنَى في محبوبه‬ ‫عالم المعاني؛ ولهذا يستغرق الطاقة كلها‪ ،‬في ْذ ِه ُل ِ‬
‫المح َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فنا ًء معنو ًّيا ال يمكن تصوره‪ ،‬وكيف نتصور ما ليس بصورة وليست للمعنويات صور؟‬
‫وهذا هو حب العارفين‪ ،‬الذين يمتازون به عن العوام أصحاب االتحاد الذين تخ َّيلوا‬
‫الفناء اتحا ًدا ذات ًّيا ال معنو ًّيا‪ ،‬وتخ ُّيلهم هذا َد َّل على نقص فِ ْطرتهم»‪ .‬وفي تصنيفه لمراتب‬
‫ب‬‫ب طبيعي‪ :‬وهو ُح ّ‬
‫ب على ثالث مراتب‪ُ ،‬ح ّ‬
‫الح ّ‬
‫ب يقول محيي الدين‪« :‬فاعلم أن ُ‬ ‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫روحا لصاحبِه‬
‫كل واحد منهما ً‬‫العوام وغايته االتحاد في الروح الحيواني‪ ،‬فتكون روح ّ‬
‫ب تسري في‬
‫الح ّ‬
‫بطريق االلتذاذ وإثارة الشهوة ونهايته من الفعل النكاح‪ ،‬فإن شهوة ُ‬
‫ب روحاني‬
‫وح ّ‬
‫جميع المزاج سريان الماء في الصوفة بل سريان اللون في المتلون‪ُ .‬‬
‫ب إلهي‪:‬‬
‫وح ّ‬
‫نفسي‪ :‬وغايته التشبه بالمحبوب مع القيام بحق المحبوب ومعرفة قدره‪ُ .‬‬
‫ب العبد ربه‪ ،‬كما قال‪ُ :‬يح ّب ُه ْم َو ُيح ّبو َن ُه‪ .‬ونهايته من الطرفين أن‬
‫وح ّ‬
‫ب اﷲ للعبد ُ‬
‫وهو ُح ّ‬
‫مظهرا للحق‪ ،‬وهو لذلك الحق الظاهر كالروح للجسم باطنه غيب‬
‫ً‬ ‫يشاهد العبد كونه‬
‫ب»‪.28‬‬
‫مح ّ‬
‫فيه ال يدرك أبدً ا وال يشهده إال ُ‬
‫البشر ليتج ّلى من خاللهم‪ ،‬ال مرآ َة يتج ّلى فيها اﷲُ‬
‫َ‬ ‫جوهر اإليمان‪ .‬خلق اﷲُ‬
‫ُ‬ ‫ب‬
‫الح ُّ‬
‫ُ‬
‫ظمأ اإلنسان األنطولوجي‪،‬‬ ‫ب اإللهي يرتوي ُ‬ ‫بالح ّ‬
‫وترتسم فيها صورتُه كاإلنسان‪ُ .‬‬
‫ب هو وهو‬‫الح ُّ‬
‫ب‪ ،‬أي يكون ُ‬ ‫للح ّ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان أنطولوج ًّيا يصبح قل ُبه ينبو ًعا ُ‬ ‫وحين يرتوي‬
‫َ‬
‫ولون‬ ‫كل صورة‪،‬‬‫كل مادة‪ ،‬وصور َة ّ‬
‫كل مرآة‪ ،‬وماد َة ّ‬
‫ب في حياته‪ :‬مرآ َة ّ‬
‫الح ُّ‬
‫ب‪ .‬يصير ُ‬ ‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫وهدف ّ‬
‫كل دين‪.‬‬ ‫َ‬ ‫كل كلمة‪ ،‬ومقصدَ ّ‬
‫كل دعوة‪،‬‬ ‫كل موضوع‪ ،‬ومعنى ّ‬
‫وموضوع ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫كل لون‪،‬‬
‫ب يستوعب معنى الرحمة‪ ،‬ومعنى الشفقة‪ ،‬ومعنى العطاء‪ ،‬ومعنى اإليثار‪ ،‬ومعنى‬
‫الح ُّ‬
‫ُ‬
‫ب هو الدين»‪ ،‬كما جاء عن اإلمام محمد‬
‫والح ّ‬
‫ُ‬ ‫ب‪،‬‬
‫الح ّ‬
‫التضحية‪ .‬ويكون «الدين هو ُ‬

‫‪ .28‬ابن عريب‪ ،‬حميي الدين‪ ،‬الفتوحات املكية‪ ،‬جملد‪ ،2‬ص‪ ،111 ،‬مراتب احلب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪38‬‬
‫ب؟! إن اﷲ‬
‫الح ّ‬
‫الباقر‪ ،‬وولده اإلمام جعفر الصادق عليهما السالم‪( :‬هل الدين إال ُ‬
‫يوجه‬
‫ب هو َم ْن ّ‬‫الح ُّ‬
‫عز وجل يقول‪« :‬قل إن كنتم تح ّبون اﷲ فاتبعوني يحببكم اﷲ») ‪ُ .‬‬
‫‪29‬‬

‫ب الحق‬‫ب‪ ،‬فحيثما يتح ّقق ُح ّ‬


‫الح ّ‬ ‫بوصل َة الدين‪ ،‬وليس الدي ُن هو َم ْن ّ‬
‫يوجه بوصلة ُ‬
‫ب الخلق‪ ،‬وهنا يتج ّلى الدي ُن بأبهى صوره‪.‬‬
‫يتح ّقق ُح ّ‬
‫كثيرا من‬
‫ب على الرغم من أنه يسهم في منح حياتنا االجتماعية وعالقاتنا بالغير ً‬ ‫الح ُّ‬
‫ُ‬
‫القيم األخرى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الدفء والسالم‪ ،‬لكنه بوصفه حال ًة وجودية‪ ،‬يهبنا أعمق مما تهبنا إياه‬
‫َ‬
‫شرط‬ ‫َ‬
‫األخالق‬ ‫ب‬ ‫ب سياج ًا يحميه من االنهيار‪ ،‬كذلك يمنح ُ‬
‫الح ُّ‬ ‫الح َّ‬ ‫ُ‬
‫األخالق ُ‬ ‫كما تمنح‬
‫ب للناس هو بالضرورة يشعر بمسؤوليته عن إسعادهم‪،‬‬ ‫المح ّ‬
‫ُ‬ ‫فاعليتها وقو َة تأثيرها‪.‬‬
‫ويكرس جهو َده من أجل أن تكون‬
‫ّ‬ ‫ويكون صاد ًقا معهم‪ ،‬ويلبث أمينًا على أمن حياتهم‪،‬‬
‫ب من الضياع‪ ،‬ألنها تكفل‬
‫الح ّ‬ ‫ُ‬
‫األخالق هي الضمانة الوحيدة لحماية ُ‬ ‫حياتُهم أجمل‪.‬‬
‫ب‪ ،‬بوصفه أسمى قيمة إنسانية في الحياة‪ ،‬فإن كان‬
‫بالح ّ‬
‫للطرفين المتحابين عدم العبث ُ‬
‫السياج األخالقي‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ويتهشم‪ ،‬بل إن‬ ‫ب‬‫الح ّ‬
‫أحدُ الشخصين ال أخالق ًّيا سرعان ما يتصدّ ع ُ‬
‫وكل شيء جميل في حياة اإلنسان من االبتذال‬‫والمجتمع َّ‬
‫َ‬ ‫هو الذي يحمي العائل َة‬
‫واالمتهان‪.‬‬

‫الح ّب‬
‫صعوبة ُ‬
‫وتترسخ بها صلتي‬
‫ّ‬ ‫قلوب الناس‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أجمل لغة أكسب بها‬ ‫سألني أحد تالمذتي ما‬
‫َ‬
‫الصدق والثقة والسالم والمحبة بين الناس؟‬ ‫بهم‪ ،‬وأستطيع من خاللها أن أرسخ‬
‫َ‬
‫وتعيش سال ًما في عالقاتك‬ ‫تعيش سال ًما في داخلك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قلت له‪ :‬إذا أردت أن‬
‫كل إنسان ممن تتعامل معه‪ ،‬وتعرب له‬ ‫الجميل في ِّ‬
‫َ‬ ‫بالناس‪ ،‬حاول أن تكتشف‬
‫يفرح كفرح األطفال‬
‫ُ‬ ‫يعيش سالم ًة عقلية ونفسية وعاطفية‪،‬‬ ‫عن جماله‪ُّ .‬‬
‫كل إنسان ُ‬
‫أيضا إن رأى شي ًئا مما‬
‫حين يرى أو يستمع إلى ما يكشف له عن جماله‪ ،‬ويفرح ً‬
‫تفرح به األرض‪.‬‬
‫ُ‬
‫وجميع‬
‫ُ‬ ‫أعرف أحدَ األشخاص المشاكسين‪ ،‬كان ال يطيقه األقربا ُء واألصدقا ُء‬
‫ُ‬

‫‪ .29‬الريشهري‪ ،‬حممد املحمدي‪ ،‬ميزان احلكمة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.503‬‬


‫‪39‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫قبيحا لديه‪.‬‬
‫ً‬ ‫كل شيء يراه أو يسمعه من غيره ينقلب‬ ‫الناس الذين يتعامل معهم‪ُّ ،‬‬
‫قبيحا‪ ،‬وإذا استمع حدي ًثا‬ ‫َ‬
‫الجميل عند غيره إال ً‬ ‫طالما سمعته يذم َّ‬
‫كل شيء‪ ،‬ال يرى‬
‫من صديق‪ ،‬يع ّقب عليه بقوله‪ :‬هذا خطأ‪ ،‬بال أن يفكِّر ويتثبت ويد ّقق في مضمونه‪.‬‬
‫ومتى رأى شي ًئا يزدريه‪ ،‬وعندما يتلقى هدي ًة جميلة يفتّش بعناية عن ّ‬
‫أي نقص أو‬
‫عيب فيها‪ ،‬وإن لم يعثر على عيب يفتعل عي ًبا كي يذمها‪ .‬كان يترقب على الدوام‬
‫الناس على ِّ‬
‫كل شيء‪ ،‬من دون أن يفكِّر يو ًما‬ ‫ُ‬ ‫الناس َّ‬
‫كل شيء‪ ،‬ويمدحه‬ ‫ُ‬ ‫أن ُيقدِّ م له‬
‫مصير هذا اإلنسان في‬
‫ُ‬ ‫أن يقدم شي ًئا ألحد‪ ،‬أو يمتدح أحدً ا على فعل حسن‪ .‬انتهى‬
‫الكل‪ ،‬بعد أن نفر ُّ‬
‫الكل منه حتى‬ ‫شيخوخته إلى أن يعيش منف ًّيا في داخله‪ ،‬منبو ًذا من ِّ‬
‫أقرب الناس إليه‪.‬‬
‫نحتاج لغ ًة تتقن مخاطبة‬ ‫القلب أكثر من العقل‪،‬‬ ‫نحتاج‬ ‫ِ‬
‫معاشرة الناس‬ ‫في‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫المشاعر‬
‫َ‬ ‫نحتاج‬
‫ُ‬ ‫العواطف أكثر من لغة المنطق والفلسفة والرياضيات والعلم‪،‬‬
‫ِ‬
‫الكلمات الح ّية المهذبة أكثر من كلمات المجاملة الذابلة‪،‬‬ ‫نحتاج‬ ‫أكثر من الفكر‪،‬‬
‫ُ‬
‫ونحتاج المعاني األصيلة الصادقة أكثر من الفائض اللفظي الذي يمكن أن تقول‬ ‫ُ‬
‫الحكيم في هذا العا َلم هو من‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫جميل‪.‬‬ ‫كل شيء من دون أن تقول شي ًئا‬ ‫األلفاظ فيه َّ‬
‫ُ‬
‫يعمل من أجل أن تكون حياتُه والعا َل ُم الذي يعيش فيه أجمل‪ ،‬وال تكون حياتُه‬
‫قادرا على صناعة الجمال في حياة غيره‪ .‬صناع ُة الجمال تتطلب‬ ‫َ‬
‫أجمل إال إن َ‬
‫كان ً‬
‫كل حرف يكتبه‪ ،‬في ِّ‬
‫كل‬ ‫كل كلمة يقولها‪ ،‬في ِّ‬
‫اإلنسان ما هو أجمل في ِّ‬
‫ُ‬ ‫أن يعطي‬
‫فعل يفعله‪ ،‬وفي ِّ‬
‫كل قرار يتخذه‪.‬‬
‫ُ‬
‫األصيل إال‬ ‫ب‬
‫الح ّ‬
‫عصي على أكثر الناس‪ ،‬ال يسكن ُ‬
‫ٌّ‬ ‫ب ليس صع ًبا فقط‪ ،‬بل هو‬ ‫الح ُّ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫األرواح السامية‪ ،‬وال يناله إال َم ْن يتغ ّلب بمشقة بالغة على منابع التعصب والكراهية‬
‫َ‬
‫أشق األشياء في حياة اإلنسان‪ ،‬ألن هذا‬
‫ب اإلنسان من ِّ‬
‫والعنف الكامنة في أعماقه‪ُ .‬ح ُّ‬
‫أسير ضعفه البشري‪ ،‬يصعب عليه أن يتخ ّلص من بواعث الغيرة في‬ ‫الكائ َن بطبيعته ُ‬
‫للشر‬
‫نفسه‪ ،‬وما تنتجه غيرتُه من منافسات ونزاعات وصراعات‪ ،‬وما يفرضه استعدا ُده ِّ‬
‫ٍ‬
‫كراهيات بغيضة‪ ،‬وآال ٍم مريرة‪.‬‬ ‫من‬
‫ُ‬
‫اإلنسان عن الصراع مع غيره‪ ،‬وال يتوانى عن اللجوء لمختلف أنواع العنف‬ ‫يكف‬
‫ال ُّ‬
‫عنف‬
‫اللفظي والرمزي والجسدي مع خصومه‪ ،‬وإن كانت للعنف دواف ُعه المختلفة‪ ،‬وال َ‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪40‬‬
‫ٍ‬
‫سبب ظاهر‬ ‫أي‬ ‫َ‬
‫اإلنسان أحيانًا يلجأ للعنف بال ّ‬ ‫من دون أسباب ظاهرة أو كامنة‪ ،‬إال أن‬
‫الحيوانات المفترسة تمارس القتل ألنها تحتاج الطعا َم‪ ،‬ولحظة تشبع ال‬
‫ُ‬ ‫يدعوه لذلك‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان هو الكائن الوحيد الذي يمارس القتل من دون حاجة تدفعه إليه‪،‬‬ ‫غيرها‪،‬‬
‫تقتل َ‬
‫ب‬ ‫إال تفري ًغا للعنف المكبوت داخله‪ .‬يصعب جدًّ ا بلو ُغ اإلنسان مرتب ًة يصير فيها ُ‬
‫الح ّ‬
‫تجهضه نزع ُة التعصب‬
‫ُ‬ ‫ب‬ ‫حال ًة ال كلمة‪ ،‬وحقيق ًة راسخ ًة ال ظاهرة عابرة‪ .‬الظفر ُ‬
‫بالح ّ‬
‫المضمر غال ًبا‪ ،‬الذي يستبدّ ببعض‬
‫َ‬ ‫التلذ ُذ‬
‫ّ‬ ‫ويجهضه‬
‫ُ‬ ‫المترسب ُة في النفس اإلنسانية‪،‬‬
‫وآالمهم وأحزانِهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫نكبات الغير وانكساراتِهم‬
‫ِ‬ ‫الناس من حيث ال يشعر‪ ،‬فيبتهج لحظ َة‬
‫تضج بالكراهية‬ ‫ِّ‬
‫بالحط من بعضهم البعض‪ ،‬حياتُهم ّ‬ ‫ِ‬
‫الناس في مجتمعنا مشغولون‬ ‫أكثر‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫أكثرهم يعجز عن إنتاجها‪.‬‬ ‫واألحقاد والضغائن‪ ،‬ك ُّلهم جائعون للمح ّبة َ‬
‫غير أن َ‬
‫للكل‪ ،‬لكن الكائ َن البشري ال يتنبه‬‫ّ‬ ‫يح ّبه ّ‬
‫الكل‪ ،‬ويكون محبو ًبا‬ ‫ُّ‬
‫الكل يريد أن ُ‬
‫مح ًّبا ّ‬
‫للكل‪ .‬العالق ُة تفاعلية متبادلة بين‬ ‫إلى أنه لن يصبح محبو ًبا ّ‬
‫للكل‪ ،‬ما لم يكن ُ‬
‫يح ّبك‬
‫وح ّبك لآلخر‪ .‬ليس هناك شي ٌء ُيمنح مجانًا في األرض‪ ،‬لن ُ‬
‫ب اآلخر لك ُ‬
‫ُح ّ‬
‫ب‪ ،‬الذي هو أثم ُن عطاياهم‪ ،‬مالم‬
‫الح َّ‬
‫اآلخرون مالم تح ّبهم‪ ،‬ولن يهبك اآلخرون ُ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان على بعض األشياء مجانًا أو مقابل‬ ‫َ‬
‫يحصل‬ ‫تهبهم أثم َن عطاياك‪ .‬يمكن أن‬
‫سر‬
‫ب‪ُّ ،‬‬‫بالح ّ‬
‫ب إال ُ‬ ‫الح ّ‬
‫ثمن مادي مهما كانت نادر ًة وثمينة‪ ،‬لكنّه لن يحصل على ُ‬
‫ب‪،‬‬ ‫ب ّإل ُ‬
‫الح ّ‬ ‫الح ّ‬
‫ب‪ ،‬ال ينتج ُ‬ ‫ب ّإل ُ‬
‫الح ّ‬ ‫ب‪ .‬ال عل َة ُ‬
‫للح ّ‬ ‫ب أنه ال يتح ّقق إال ُ‬
‫بالح ّ‬ ‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫ب‪.‬‬ ‫ب ّإل ُ‬
‫الح ّ‬ ‫للح ّ‬
‫ال ثمرة ُ‬

‫والح ُّب‬
‫والصفح ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الغفران‬
‫اإلنسان وأغاله‪ ،‬فإن ني َله يتطلب معانا ًة شاق ًة وجهو ًدا‬
‫ُ‬ ‫ب أثم َن ما يظفر به‬ ‫الح ّ‬
‫مادام ُ‬
‫اإلنسان أعقدُ الكائنات في األرض‪ ،‬وأغر ُبها في تناقضاته‪ ،‬وتق ّلب حاالته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مضنية‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان بالتغلب‬ ‫تناقضات باستمرار‪ ،‬مالم يفلح‬
‫ٌ‬ ‫تناقضاتُه ال تنتهي‪ ،‬ألنها تتوالد منها‬
‫ِ‬
‫والخالص‬ ‫ِ‬
‫واكتشاف مسالكها الوعرة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بمزيد من صالبة اإلرادة‪ ،‬ووعي الحياة‪،‬‬ ‫عليها‬
‫ب‪.‬‬
‫الح ّ‬ ‫ِ‬
‫والعمل على االستثمار في منابع إلهام ُ‬ ‫من ضغائنها‪،‬‬
‫اإلنسان ويتح ّق ُق بها في طور وجودي جديد‪ ،‬ال ّ‬
‫تتكرس إال‬ ‫ُ‬ ‫ب حال ٌة يعيشها‬
‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ونحو من االرتياض النفسي والروحي واألخالقي الذي يسمو‬ ‫ِ‬
‫بالتربية والتهذيب‪،‬‬
‫‪41‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫الشر والعنف‬
‫باإلنسان في مراتب الكمال‪ ،‬والتدريب المتواصل على تجفيف منابع ِّ‬
‫ِ‬
‫والعمل الدؤوب على اكتشاف منابع إلهام‬ ‫والتعصب واألغالل المترسبة في باطنه‪،‬‬
‫النظر لما هو مضيء في َم ْن تتعامل معه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ب وتنميتها‪ .‬ومن أثرى هذه المنابع‬ ‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫والغفران‪ ،‬واالنهما ُم بالذات وعد ُم االنشغال بالغير وشؤونه‬ ‫والصفح‪،‬‬
‫ُ‬ ‫والعفو‪،‬‬
‫ُ‬
‫التدخل في الحياة الخاصة للناس وانتهاكها‪ ،‬ومطاردتِهم‬
‫ِ‬ ‫والكف عن‬
‫ُّ‬ ‫وأحواله‪،‬‬
‫وصي على الناس‪ ،‬يترصد َّ‬
‫كل‬ ‫ٌّ‬ ‫نفسه وكأنه‬
‫ينصب َ‬ ‫البعض الذي ّ‬‫ُ‬ ‫باألحقاد‪ ،‬كما يفعل‬
‫خيرا‬ ‫كل ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شيء يصدر عنهم فيحاسبهم عليه‪ .‬إنه ال يعلم أن َّ‬
‫فعل يرتدُّ على فاعله‪ ،‬إن ً‬
‫شرا فشر‪.‬‬ ‫فخير‪ ،‬وإن ًّ‬
‫ِ‬
‫وشرور البشر‪ .‬الحاج ُة‬ ‫غيرك من آالم‬ ‫ٍ‬
‫نفسك وتحمي به َ‬ ‫أنجع دواء تحمي به َ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬‫الح ُّ‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫أجمل استثمار في‬ ‫ب‬‫الح ّ‬
‫االستثمار في ُ‬
‫ُ‬ ‫ب من أشدِّ الحاجات العاطفية لإلنسان‪.‬‬ ‫للح ّ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫وجروح‬ ‫ِ‬
‫القلب‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫أجمل دواء آلال ِم‬ ‫ب يمك ُن أن يكونا‬ ‫ُ‬
‫والح ُّ‬
‫ُ‬ ‫الغفران‬ ‫إنتاج معنى للحياة‪.‬‬
‫كثيرا ما يتغ ّلبان على‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫مواقف متنوعة فوجدتُهما ً‬ ‫َ‬ ‫ب في‬ ‫والح َّ‬
‫ُ‬ ‫الغفران‬ ‫بت‬‫جر ُ‬
‫الروح‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫فضحها‪.‬‬ ‫حنق الناس وأحقادهم‪ ،‬ويخ ّلصاني من مكائدهم‪ ،‬ويعمالن على‬ ‫ضجيج ِ‬
‫دواء في شفائي وشفاء‬ ‫الغفران والحب كما جربتهما في حياتي‪ ،‬أنجع ٍ‬ ‫ُ‬ ‫كان وما زال‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ُّ‬
‫تتسبب بها الكراهي ُة والبغضاء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫األمراض التي‬ ‫عالقاتي في المحيط االجتماعي من‬
‫َ‬
‫الغفران‬ ‫ففشلت‪ ،‬وجربت‬
‫ُ‬ ‫ب مع بعض الناس‬ ‫والح َّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الغفران‬ ‫بت‬ ‫جر ُ‬‫أعترف أني ّ‬
‫ففشلت‪ ،‬وربما سأفشل‬
‫ُ‬ ‫ب معهم ثاني ًة وثالث ًة ورابع ًة وخامس ًة وسادس ًة وسابع ًة‬
‫والح َّ‬
‫ُ‬
‫زلت متشب ًثا بقناعتي الراسخة التي تشتدّ‬
‫كنت وما ُ‬‫ألف مرة‪ ،‬لكني ُ‬ ‫لو جربتُهما معهم َ‬
‫ب هما الدواء للضغائن واألحقاد المتفشية في مجتمعنا‪،‬‬
‫والح َّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الغفران‬ ‫َّ‬
‫كل يوم‪ ،‬بأن‬
‫وهما الدوا ُء الذي يكفل الشفا َء من أغلب الظواهر المقيتة لسأم الناس من الحياة‬
‫نوع من شفاء الذاكرة‪ ،‬إتما َم فترة حدادها‪ ،‬متحرر ًة من ثقل‬ ‫ُ‬
‫«الغفران هو ٌ‬ ‫وجزعهم‪،‬‬
‫ً‬
‫مستقبل»‪ ،‬يقول‬ ‫ُ‬
‫الغفران يعطي الذاكر َة‬ ‫الديون‪ ،‬تتحرر الذاكر ُة للمشاريع العظيمة‪.‬‬
‫بول ريكور‪.‬‬
‫ٍ‬
‫طويلة على‬ ‫ٍ‬
‫سنوات‬ ‫فعملت منذ‬
‫ُ‬ ‫أدركت أن الطبيع َة اإلنسانية ملتقى األضداد‪،‬‬
‫ُ‬
‫مريرا‬
‫مزعجا ً‬‫ً‬ ‫الترويض شديدً ا‬
‫ُ‬ ‫ب‪ ،‬كان هذا‬
‫والح ّ‬
‫ترويض نفسي على الغفران والصفح ُ‬ ‫ِ‬
‫األشق‪ ،‬خاصة‬
‫ّ‬ ‫الترويض على الغفران والصفح هو‬
‫ُ‬ ‫شا ًقا ُم ِنهكًا‪ ،‬لم يكن ً‬
‫سهل أبدً ا‪.‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪42‬‬
‫مع األعداء المتطوعين‪ ،‬لم أتجرعه إال كعلقم‪ ،‬إال أنه كان وما زال يطهرني من سمو ِم‬
‫الكراهية‪ ،‬وينجيني من ِ‬
‫أكثر شرور هؤالء‪.‬‬
‫ِ‬
‫لتخفيف آالم الكراهية‪ ،‬وال وسيل َة‬ ‫للشر‪ ،‬وال َ‬
‫سبيل‬ ‫اآلثار الفتاك َة ّ‬
‫َ‬ ‫يخفض‬
‫ُ‬ ‫ال دوا َء‬
‫لتقليل النتائج المرعبة للنزعة التدميرية في أعماق الكائن البشري سوى المزيد من‬
‫ب‪ ،‬بالكلمات الصادقة‪ ،‬والمواقف األخالقية النبيلة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والح ِّ‬
‫ُ‬ ‫الغفران‬ ‫االستثمار في‬
‫ِ‬
‫مرارات الصفح والعفو والغفران‪،‬‬ ‫تجرع‬
‫واألفعال المهذبة الجميلة‪ ،‬واإلصرار على ّ‬
‫على الرغم من صعوبتها ونفور المشاعر منها‪.‬‬
‫ِ‬
‫مرارات الصفح والغفران‪ ،‬يظل قلبي ينزف مد ًة‬ ‫كنت قبل ‪ 40‬عا ًما ال ُأطيق ّ‬
‫تجرع‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫وارتياض روحي‬ ‫طويل ًة من جروح ال تندمل‪ ،‬وبعد فه ٍم علمي للطبيعة اإلنسانية‪،‬‬
‫قة في الفلسفة وعلم النفس واالجتماع ومختلف العلوم‬ ‫ومطالعات معم ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وأخالقي مرير‪،‬‬
‫ّ‬
‫والمعارف الحديثة‪ ،‬وآثار العرفاء‪ ،‬ومعاشرة مختلف أصناف الناس في مجتمعات‬
‫ٍ‬
‫ومرارات أقل‪ .‬ما‬ ‫ٍ‬
‫بقدرة أكبر‬ ‫تجر َع مرارات الصفح والغفران‬
‫صرت أطيق ّ‬ ‫ُ‬ ‫متنوعة‪،‬‬
‫ُ‬
‫والغفران‬ ‫الصفح‬ ‫عالجها بالمحبة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫زلت أقاوم الكراهي َة بالصفح والغفران‪ ،‬وأحاول‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫طعنات غادرة‬ ‫نفسك تتلقى‬ ‫الفعل الالأخالقي‪ ،‬ربما تجد َ‬ ‫شا ّقان مريران عندما ّ‬
‫يتكرر‬
‫أشق وأقسى‬ ‫متكررة ممن لم تتعامل معهم على الدوام إال باإلحسان إليهم‪ .‬محب ُة هؤالء ُّ‬ ‫ّ‬
‫بعض الحاالت‪ ،‬عندما‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان إال في‬ ‫المواقف وأشدُّ ها مرار ًة في النفس‪ ،‬ال يطيقها‬
‫تحو ًل في سلوكهم‪ ،‬وتلك حاالت نادرة‪ .‬طالما أشفقت على مثل هؤالء‪ ،‬لحظة‬
‫يرى ّ‬
‫أكتشف أن حاجتهم للكراهية تفوق حاجتهم للمحبة‪ ،‬وأنهم ال يعيشون إال بكراهية‬
‫ِ‬
‫وانهيار حياتهم‬ ‫ِ‬
‫اعتالل صحتهم النفسية‪،‬‬ ‫من حولهم‪ ،‬بل حتى كراهية أنفسهم‪ ،‬أثر‬
‫األخالقية‪ ،‬إنهم كحالة بعض الكائنات الحية التي ال تعيش إال في الظالم أو في األماكن‬
‫القذرة‪.‬‬
‫الخالص منها إال‬
‫ُ‬ ‫الحرب ال يمكن‬
‫ُ‬ ‫الخالص منه إال بالماء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الحريق ال يمكن‬
‫ُ‬
‫الصفح ممك ٌن‬
‫ُ‬ ‫الخالص منها إال بالصفح والعفو والغفران‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بالسالم‪ ،‬الكراهي ُة ال يمكن‬
‫َ‬
‫العمل على إثراء منابع إلهام‬ ‫أشق‪ ،‬وأحيانًا ليست ممكن ًة‪ ،‬غير أن‬
‫وإن كان شا ًّقا‪ ،‬المحب ُة ّ‬
‫غير مستحيل‪ ،‬بالحرص على تغذية هذه المنابع باستمرار‪ .‬أثرى‬ ‫المحبة وتكريسها ُ‬
‫منابع المحبة أن تكون صاد ًقا مع نفسك‪ ،‬صاد ًقا مع الناس‪ ،‬صاد ًقا مع اﷲ‪ .‬عندما تكون‬
‫‪43‬‬ ‫اًجال هفصوبُّبُحلا‬
‫ع‬ ‫خأل ّ رشلل‬
‫ا‬

‫وملهما للمحبة في هذا العا َلم‬


‫ً‬ ‫كل كلماتك ومواقفك تكون مع ِّل ًما لألخالق‪،‬‬
‫صاد ًقا في ِّ‬
‫الموحش‪.‬‬

‫قو ُة ُ‬
‫الح ّب‬
‫كنوز‬
‫ُ‬ ‫تعبير عميق عن أشواق الروح اإلنسانية وتطلعها لالتحاد باآلخر‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ب‬‫الح ّ‬
‫ُ‬
‫أصعب‬
‫ُ‬ ‫ب‬‫الح ّ‬
‫إنتاج ُ‬‫ُ‬ ‫ب‪.‬‬ ‫المعنى مختبئ ٌة في القلوب ال تسفر عن جواهرها إال ُ‬
‫بالح ّ‬
‫أجمل معنى في‬ ‫َ‬ ‫ب يمنحك‬ ‫الح ّ‬
‫أشكال إنتاج المعنى في حياة اإلنسان‪ ،‬من يمنحك ُ‬
‫قلب‬ ‫أجمل معنى في الحياة‪ .‬إذا أردت أن تمتلك َ‬ ‫َ‬ ‫ب يسلبك‬ ‫الح َّ‬
‫الحياة‪ ،‬ومن يسلبك ُ‬
‫تحب أجمل‬ ‫ّ‬ ‫قلب اإلنسان ألنك تمنح حيا َة َم ْن‬
‫ب تمتلك َ‬ ‫بالح ّ‬
‫إنسان امنح حياتَه معنى‪ُ ،‬‬
‫القلوب‬
‫َ‬ ‫القلب قبل اللسان‪ ،‬كلم ُة المحبة تغسل‬ ‫ُ‬ ‫معانيها‪ .‬كلم ُة المحبة الصادقة يتحدثها‬
‫من سموم الكراهية‪.‬‬
‫َ‬
‫التاريخ على شاكلتها‪،‬‬ ‫التاريخ على شاكلته‪ ،‬مثلما صنعت الكراهي ُة‬
‫َ‬ ‫صنع‬
‫َ‬ ‫ب‬
‫الح ُّ‬
‫ُ‬
‫ب كانت ُملهم ًة‬ ‫ب تظل بصم ًة مضيئ ًة في ضمير التاريخ‪ ،‬قوة ُ‬
‫الح ّ‬ ‫الح ّ‬
‫غير أن قو َة ُ‬
‫كل اإلبداعات‬ ‫لكل ما شهدته اإلنساني ُة من مكاسب عظمى في تاريخ الحضارات‪ُّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫واالختراعات واالكتشافات في مختلف العلوم والفنون واآلداب اإلنسانية كان وقو َدها‬
‫ب‪.‬‬
‫والح ُّ‬
‫الشغف ُ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان في حياته‪ ،‬إن كانت هذه التجرب ُة‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫تجربة يعيشها‬ ‫َ‬
‫أجمل‬ ‫ب‬ ‫الح ُّ‬ ‫يظل ُ‬
‫ب‬ ‫اإلنسان تجرب َة ُح ّ‬
‫ُ‬ ‫يقظ ًة متوهج ًة فإنها تتجدّ د وال تنضب طاقتُها‪ .‬إن َ‬
‫عاش‬
‫ب تتدفق ألحانُها كأعذب‬ ‫الح ّ‬
‫قليل‪ .‬أنشودة تجربة ُ‬ ‫ً‬ ‫ب‬‫الح ّ‬ ‫كثير ُ‬ ‫َ‬ ‫أصيلة يجد‬
‫ب الذي‬ ‫ِ‬
‫الح ّ‬
‫تعزف على أوتار القلب وهي تُنشد‪ُ :‬‬ ‫ُ‬ ‫تبتهج بها الحياةُ‪ ،‬وكأنها‬ ‫ُ‬ ‫ألحان‬
‫ب‬ ‫القلب الذي ُ‬ ‫ِ‬
‫الح ُّ‬
‫ب ليس قل ًبا‪ُ .‬‬‫الح ّ‬
‫أزهار ُ‬
‫ُ‬ ‫تذبل فيه‬ ‫ُ‬ ‫يرتوي باللقاء ليس ُح ًّبا‪،‬‬
‫والشفق ُة على خلق اﷲ عصار ُة الجوهر الروحاني األخالقي لألديان‪ .‬ال يمكن‬
‫لهمة للخير والعدل والسالم‬ ‫األديان وعو َدها‪ ،‬وتتحول إلى طاقة ُم ِ‬ ‫ُ‬ ‫أن تنجز‬
‫والرحمة والمح ّبة والجمال‪ ،‬من دون اكتشاف ذلك الجوهر الروحاني األخالقي‬
‫المشترك‪ ،‬المختبئ خلف ركام الصراعات الالهوتية‪ ،‬والتفسيرات الفاشية‬
‫للنصوص الدينية‪.‬‬
‫يعافرلا رابجلادبع ‪.‬د‬ ‫‪44‬‬
‫ب هو الضمانة األساسية لحضور الدين المؤثر الفاعل في الحياة البشرية‪ُّ ،‬‬
‫فكل‬ ‫الح ُّ‬
‫ُ‬
‫الهدف الذي تسعى لتحقيقه في الحياة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ب‪ ،‬وتعلنه بوصفه‬ ‫الح ّ‬
‫ديانة تحرص على إنتاج ُ‬
‫حضورها في‬
‫ُ‬ ‫القلوب لالنتماء إليها‪ ،‬ويتأ ّبد‬
‫ُ‬ ‫ويجسده أتبا ُعها في سلوكهم‪ ،‬تتلهف‬ ‫ّ‬
‫إنتاج الحرب واالنشغال بصراعات السلطة والثروة‪،‬‬ ‫وكل ديانة تحرص على ِ‬ ‫الحياة‪ُّ .‬‬
‫ب يخسره ُّ‬
‫كل دين رسالتُه‬ ‫الح ّ‬
‫كل دين رسالتُه ُ‬‫القلوب منها ومن أتباعها‪ .‬ما يربحه ُّ‬
‫ُ‬ ‫تنفر‬
‫الحرب‪.‬‬
‫حوارات‬

‫َعامل معها‬
‫وطرق الت ِ‬
‫ُ‬ ‫الشر‬
‫لة ّ‬ ‫شك ُ‬
‫ُم ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫حوار مع‪:‬‬
‫_________________________________________________‬
‫‪1‬‬
‫مصطفى ملكيان‬

‫شغلت‬ ‫ِ‬ ‫وجود اﷲ من عدمه ُي َعدُّ واحدً ا من أهم المسائل التي‬ ‫ِ‬ ‫لعل موضوع‬ ‫‪َّ ‬‬
‫ِّجاهات الرئيس ُة في فه ِم‬ ‫ُ‬ ‫أهم َها على اإلطالق؛ فما هي االت‬ ‫البشري إن لم تكن َّ‬ ‫َّ‬ ‫الذهن‬
‫َ‬
‫هذا الموضوع؟‬
‫أساس ْي ِن ال‬ ‫َ‬ ‫حول ِم ْح َو َر ْي ِن‬
‫اإلنساني في هذا الموضو ِع َ‬ ‫ِّ‬ ‫أفكار الفه ِم‬
‫ُ‬ ‫تطوف‬
‫ُ‬ ‫‪‬‬
‫نكاد نجد َح ْيد ًة عنهما؛ أولهما يتعلق بإثبات الوجود اإللهي‪ ،‬وثانيهما يتعلق بنفي‬
‫جامع بينها إال‬ ‫ِّجاهات متشاكسة ال‬ ‫ٍ‬ ‫هذا الوجود‪ ،‬وفي كال المحورين نلتقي ات‬
‫َ‬
‫َّوجه نحو الموضوع‪.‬‬ ‫محاوالت الفهم والت ُّ‬
‫اإللهي‪،‬‬ ‫بيان‪ :‬في ما يتعلق بالمحور األول؛ أعني‪ :‬إثبات الوجود‬ ‫وإليك شي ًئا من ٍ‬
‫ّ‬
‫رئيسة‪ ،‬يرى األول منها بأنه قد قام‬ ‫منقسما إلى ثالثة اتِّجاهات َ‬ ‫ً‬ ‫الموقف‬
‫َ‬ ‫فإننا نجد‬
‫أي‬ ‫بحال‪ ،‬وال يتخ َّلله ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫حض‬ ‫غير ٍ‬
‫قابل للدَّ‬ ‫ٌ‬
‫دليل واحد على األقل ُيثبت هذا الوجود‪ُ ،‬‬
‫الداخلي‪ .‬ويتج َّلى االتِّجا ُه الثاني في القول‬ ‫ِّ‬ ‫تماس ِكه ومنطقه‬
‫قادح فيه من جهة ُ‬ ‫عيب ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حقيقي‬ ‫يأت أحدٌ حتى هذه اللحظة بدليل‬ ‫بِعدَ ِم تَح ُّق ِق هذا اإلثبات بعدُ ‪ ،‬وبأنه لم ِ‬
‫ٍّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫اضطراب‪ .‬أما أصحاب االتجاه الثالث فإنَّهم يوافقون‬ ‫واحد على وجود اﷲ يخلو من‬
‫َ‬
‫اإلتيان في السابق‬ ‫القول بأنه لم يستطِع أحدٌ‬
‫ِ‬ ‫االتِّجاه السابق إال أنهم ُيضيفون إلى‬

‫ْش هذه‬
‫وحرر احلوار بالعربية‪ :‬عبدُ العاطي طلبة‪ُ .‬تن َ ُ‬‫‪ .1‬ترمجها عن الفارسية‪ :‬حسن اهلاشمي‪ ،‬أعد ّ‬
‫ْش اجلزء الثاين يف عدد املجلة القادم‪.‬‬ ‫املحاورة عىل ُج ْز َأ ْي ِن‪ ،‬هذا هو ُ‬
‫األول منها‪ ،‬و ُين َ ُ‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪46‬‬
‫ُ‬
‫اإلتيان به‬ ‫تعذر‬ ‫بأن َ‬
‫مثل هذا الدليل كما َّ‬ ‫َ‬
‫القول َّ‬ ‫اإللهي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫حقيقي ُي ْثبِ ُت الوجو َد‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بدليل‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫اإلتيان به في الحاضر والمستقبل ً‬ ‫في الماضي‪ ،‬فإنه َّ‬
‫يتعذ ُر‬
‫ٍ‬
‫أقوال‬ ‫أنفسنا أما َم‬ ‫الم َت َع ِّل ِق بنفي الوجود‬
‫اإللهي‪ ،‬نجد َ‬
‫ّ‬ ‫وإذا ما انتقلنا إلى المحور الثاني ُ‬
‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫قليل في إثبات هذا الوجود؛ فيرى‬ ‫أخرى ُتنَاظر االتِّجاهات التي ذكرناها منذ ٍ‬
‫دحضه وإبطاله‪ ،‬ولنا إقام ُة البرهان على‬ ‫اإللهي ُم ْم ِك ٌن ُ‬
‫ِّ‬ ‫نفي الوجود‬
‫أن َ‬ ‫االتِّجاه األول َّ‬
‫الوجود اإللهي لم ت ُقم له قائمة‬ ‫ِ‬ ‫نفي‬ ‫فساده‪ .‬أما أصحاب االتِّجاه الثاني‪ ،‬فإنه يرى َّ‬
‫أن َ‬
‫أصحاب االت َِّج ِاه‬
‫ُ‬ ‫وأخيرا‪ ،‬يرى‬
‫ً‬ ‫حتى اآلن‪ ،‬ولم يتحقق صد ُقه بعد حتى هذه اللحظة‪.‬‬
‫ص على البرهان‪.‬‬ ‫مستحيل في ذاته‪ُ ،‬م ْس َت ْع ٍ‬
‫ٌ‬ ‫اإللهي‬
‫ّ‬ ‫نفي الوجود‬‫بأن َ‬‫الثالث َّ‬
‫اإللهي‬
‫َّ‬ ‫بأن الوجو َد‬ ‫ُ‬
‫البعض َّ‬ ‫‪ ‬رأينا في هذا العرض والتفصيل أنَّه في ِ‬
‫حين يقول‬
‫ِ‬
‫ِّجاهات‬ ‫والبرهان‪ ،‬لم َي ُق ْل أحد من أصحاب االت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الدليل‬ ‫وجو ٌد ُم َح َّق ٌق قد قام عليه‬
‫الثالثة ــ في محور ال َّن ْف ِي ــ بثباته ووقوعه؛ فما توجيهكم لذلك؟‬
‫يذهب أحدٌ من أصحاب النفي بقيام الدليل الثابت‬
‫ْ‬ ‫‪ ‬هذه مالحظة ذك َّية‪ ،‬إذ لم‬
‫إثبات عدم وجود اﷲ‪،‬‬‫َ‬ ‫عقل اإلنسان قد استطاع‬‫مثل بأن َ‬
‫فعل؛ فلم ي ُقل أحد ً‬‫عليه ً‬
‫يتوسلون‬
‫كثيرا من الفالسفة الناقضين لإليمان َّ‬
‫ولكننا في اآلونة األخيرة قد وجدنا ً‬
‫الشر‬ ‫الشر في العا َلم ً‬
‫دليل قو ًّيا على القول بإثبات النفي‪ ،‬إذ يرون وجو َد ِّ‬ ‫وجود ِّ‬
‫ِ‬
‫الصفات اإللهية التي يجمع عليها المؤمنون‪ ،‬ومن هنا ينفون ذلك‬ ‫ُينَافي بعض‬
‫ُ‬
‫نطرق باب هذا الموضوع؛ أعني‬ ‫ف بمثل هذه الصفات أو بعضها‪ .‬لعلنا‬ ‫المت َِّص َ‬
‫اإلل َه ُ‬
‫مشكلة الشر‪ ،‬ونلج إليها من هنا‪ ،‬ولنبدأ ببيان العالقة الوثيقة بين تلك المشكلة‬
‫ومبحث الصفات اإلله َّية‪.‬‬
‫يجمع المؤمنون ــ باختالف أديانهم وعقائدهم ــ على اإليمان ٍ‬
‫بإله يتَّصف بطالقة‬
‫العلم‪ ،‬و ُك ِّلية القدرة‪ ،‬والخير الالمحدود‪ .‬إنه إذا كان وجود الشر ُم ْبطِ ًل لصفة واحدة‬
‫أو صفتين من هذه الصفات المذكورة‪ ،‬فإنه يتسنَّى لهؤالء الناقضين القول بإبطال‬
‫ف بها‪ ،‬ومن هنا يمكن القول بتنافي وجود الشر في العالم مع‬ ‫اإلله المت َِّص ِ‬
‫ِ‬ ‫وجود‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫بإطالق؛ فكيف يعلم إل ٌه‬ ‫وجود اﷲ‪ ،‬أو ــ بشكل أدق ــ مع وجود ٍ‬
‫إله علي ٍم‪ٍ ،‬‬
‫قادر‪َ ،‬خ ِّير‬
‫ف بهذه الصفات بوجود هذا الشر‪ ،‬وال ينفيه‪ ،‬وبالنهاية نصفة بطالقة الخير؟!‬ ‫ُمت َِّص ٌ‬
‫‪47‬‬ ‫اهعم ِلماعَتلا ُقرطو ّرشلا ُةلِكشُم‬

‫لعل في هذا القول بعض الوجاهة فعلً ؛ فكيف يمكن أن نصف ً‬


‫إلها بالخير‪،‬‬ ‫‪َّ ‬‬
‫وهو يعلم بوجود الشر‪ ،‬ثم عالوة على ذلك نصفه بالقدرة المطلقة‪ ،‬ثم ال يقوم على‬
‫كنت جريئًا بعض الشيء‪.‬‬ ‫َم ْح ِوه وإزالتِه؟ سامحني إن ُ‬
‫‪ ‬ال عليك‪ .‬لقد قام كثير من الفالسفة المؤمنين بالرد على هذا االد ِ‬
‫عاء وقاموا‬ ‫ِّ‬
‫تفض ْل َت ــ ما تك َّل ُفوا عناء تفصيله والرد‬ ‫بتفينده‪ ،‬وإذا لم يكن ذا وجاهة ً‬
‫فعل ــ كما َّ‬
‫عليه‪ ،‬مثل ما فعل توما األكويني؛ الفيلسوف المسيحي المعروف‪ ،‬إذ قام بطرح‬
‫عرض‬ ‫ٍ‬
‫باختصار كيف َ‬ ‫ُح َّجتِهم‪ ،‬ومن َث َّم حاول اإلجاب َة ورفع اللثام عنها‪ ،‬دعني أشرح‬
‫األكويني مذهبهم‪.‬‬
‫ُّ‬
‫قائل بأن كائنًا ُمت َِّص ًفا بصفة من صفتين‬
‫المسيحي ا ِّدعاءهم ً‬‫ُّ‬ ‫الفيلسوف‬
‫ُ‬ ‫ُي َب ِّي ُن‬
‫ذات الوقت‪ .‬إنه يضرب ً‬
‫مثال‬ ‫متناقض َتي ِن ال يمكنه االتِّصاف بالصفة ونقيضها في ِ‬
‫َ ْ‬
‫ٍ‬ ‫أن ال يت َِّص َ‬
‫ف بعدَ ِم سواد ِّ‬
‫بأي‬ ‫بالسواد وعدمه؛ فمعنى أن يكون كائ ٌن ُم ْط َل َق َّ‬
‫السواد‪ْ ،‬‬ ‫َّ‬
‫نفي السواد‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫شكل كان؛ ألنه إن اتَّصف بعدم سواد وإن كان ً‬ ‫ٍ‬
‫قليل‪ ،‬فإن هذا يعني َ‬
‫نفي‬
‫اإللهي المطلق الذي يمكن ُ‬
‫ّ‬ ‫المطلق عنه‪ ،‬كذلك األمر عندما يتعلق بالخير‬
‫وإن َ‬
‫كان بحج ِم مثقال ذرة‪.‬‬ ‫طالقته عن طريق وجود ٍ‬
‫شر واحد في العا َلم ْ‬
‫هل تعرف من أي َن تأتي المشكلة؟ إنها تأتي من كون المؤمن يقول باجتماع هذه‬
‫الصفات الثالث م ًعا في اإلله الذي يؤمن به؛ أعني‪ :‬العلم المطلق‪ ،‬والقدرة المطلقة‪،‬‬
‫والخير المطلق‪ .‬إننا إذا قلنا باتِّصاف اﷲ بالقدرة والخير دون العلم؛ فلعلنا نجد‬
‫ِ‬
‫وجود‬ ‫اإللهي به‪ ،‬وهنا ال يتنافى وجو ُد اﷲ مع‬ ‫ُم َس ِّو ًغا للشر قائلين بعدم َت َع ُّل ِق العلم‬
‫ِّ‬
‫بنفي صفة القدرة المطلقة عنه‪ ،‬وأثب ْتنَا ِص َفت َِي‬ ‫بأي صورة‪ .‬وكذلك األمر إذا قمنا ِ‬ ‫الشر ِّ‬
‫وإن كان‬ ‫ألن اﷲَ ْ‬ ‫أيضا؛ َّ‬‫اإللهي مع وجود الشر ً‬ ‫ُّ‬ ‫العلم والخيرية‪ ،‬وهنا ال يتنافى الوجو ُد‬
‫وأخيرا إذا أثبتنا‬‫ً‬ ‫عالما به‪ُ ،‬مت َِّص ًفا بالخير َّية إال أنه ال يملك القدرة على َم ْح ِو ِه وإزالتِه‪.‬‬ ‫ً‬
‫الع ْل ِم والقدرة‪ ،‬ونفينا عنه الخير َّية‪ ،‬ينتقل وجو ُد الشر من كونِه مناف ًيا لوجود‬ ‫له ِص َفت َِي ِ‬
‫أخبرت قبل ــ من كونه ُمت َِّص ًفا بهذه‬ ‫ُ‬ ‫اﷲ إلى كونه مقصدً ا إله ًّيا‪ .‬تأتي المشكلة ــ كما‬
‫الصفات ُم ْجت َِم َع ًة‪.‬‬
‫ِ‬
‫محو‬ ‫قادرا على‬ ‫ِ‬ ‫اليوناني إبيقور َّ‬
‫أن األمر ال يخلو من كون اﷲ ً‬ ‫ُّ‬ ‫يرى الفيلسوف‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪48‬‬
‫الشر وإزالته‪ ،‬مع كونه مريدً ا لذلك‪ ،‬أو أنه قادر على محوه‪ ،‬لكنه ليس مريدً ا لذلك‪،‬‬
‫قادرا مع كونه يريد‬‫قادرا ما قام على َم ْح ِوه‪ ،‬أو ليس ً‬
‫وإن كان ً‬ ‫أصل‪ْ ،‬‬
‫قادرا ً‬
‫أو أنه ليس ً‬
‫ٍ‬
‫حاالت ال‬ ‫حصرا عقل ًّيا في أربع‬ ‫َم ْح َوه‪ .‬يحصر الفيلسوف اليوناني الموضوع ك َّله‬
‫ً‬
‫إن اﷲ يقدر على‬ ‫مثل َّ‬
‫فإن قال قائل ً‬ ‫ثالث لهما؛ ْ‬ ‫حالة تحتوي على ِش َّق ْي ِن ال َ‬
‫غير‪ ،‬كل ٍ‬
‫وجوب قيا ِم اﷲ على‬
‫َ‬ ‫محو الشر مع كونه مريدً ا لذلك (الحالة األولى)‪َّ ،‬‬
‫فإن هذا يعني‬
‫الم ْحو؛ ألنه إن قال قائل إن اﷲ قادر على محو الشر ولكنه ال يريد ذلك (الحالة‬ ‫هذا َ‬
‫الثانية)‪ ،‬فهذا يعني أنه ال يمكن اتِّصا ُفه بتلك الخير َّية المطلقة‪ .‬أما ْ‬
‫إن قلنا إنه ال يقدر‬
‫وإن حاز تلك القدرة (الحالة الثالثة)‪،‬‬ ‫محوه حتى ْ‬
‫أصل على محو الشر وال يريد َ‬ ‫ً‬
‫الم ْط َل َقت ِ‬
‫َين م ًعا‪ .‬وهنا ال يتبقى أمامنا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فهذا يقدح مباشر ًة في القول بقدرته وخيريته ُ‬
‫إال أن نقول إنه ال يقدر على هذا المحو وإن كان مريدً ا له (الحالة الرابعة)‪ ،‬وهذا‬
‫القول بقدرته المطلقة في َم ْقت ٍَل‪ .‬يحاول إبيقور هنا َز َّج المؤمن في خندق‬
‫َ‬ ‫يضرب‬
‫ُ‬ ‫ما‬
‫واحد؛ أعني الحال َة األولى‪ ،‬من أجل ِ‬
‫نفي الوجود اإللهي من أساسه‪.‬‬
‫اإلبيقوري؛ ألنه ال يتضمن العلم‬
‫ّ‬ ‫ولعلنا نشير هنا إلى نقص هذا االستدالل‬
‫إن أردنا تضمينه في استدالل إبيقور فيمكن تفريع ذلك في حال َت ْي ِن‪:‬‬
‫اإللهي الذي ْ‬
‫عالما به‪ ،‬ويكون في‬
‫قادرا على محو الشر‪ ،‬مريدً ا لذلك‪ً ،‬‬
‫الحالة األولى يكون اﷲُ فيها ً‬
‫الحالة الثانية قادرا على محوه‪ ،‬مريدً ا لذلك‪ ،‬دون ِ‬
‫الع ْل ِم به‪ .‬وال شك يقول المؤمن‬ ‫ً‬
‫منكرا للعلم اإللهي‬ ‫ُ‬
‫القول بالثانية؛ ألنه إن قال بها سيكون ً‬ ‫بالحالة األولى‪ ،‬وال يسعه‬
‫ُ‬
‫القول به من مقتضيات اإليمان‪ ،‬وفي نفس الوقت نرى أنه إن قال‬ ‫المطلق الذي ُي َعدّ‬
‫عالما‬ ‫ِ ِ‬
‫بالحالة األولى س ُي َجا َبه بسؤال م ْن أي َن تأتي كل هذه الشرور إذن ما دام اﷲُ ً‬
‫قادرا على محوها‪ ،‬مريدً ا للخير؟! وهكذا ينتهي القائلون باستدالل األكويني‬ ‫بها‪ً ،‬‬
‫السابق‪ ،‬واستدالل إبيقور الالحق بعد ِم انسجام وجود الشر في العالم مع الوجود‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫ميدان القول بالحكمة والعدالة اإللهية‪ ،‬نرى البعض يحاول‬‫ِ‬ ‫وإذا انتقلنا إلى‬
‫االستدالل بوجود الشر على نفي ِص َفتَي الحكمة والعدالة عن اﷲ م ًعا‪ ،‬كيف ذلك؟‬
‫اإللهي بتعمير‬
‫ُّ‬ ‫األمر‬
‫ُ‬ ‫يأمرنا اﷲُ بتعمير األرض؟ يقتضي‬ ‫مثال‪ :‬ألم ْ‬ ‫د ْعني أضرب ً‬
‫قائما على قدم وساق‪ ،‬ولكننا نرى الزالزل‬ ‫األرض َ‬
‫كون اﷲ مريدً ا لهذا الكون ُم َع َّم ًرا ً‬
‫‪49‬‬ ‫اهعم ِلماعَتلا ُقرطو ّرشلا ُةلِكشُم‬

‫والبراكين وغيرهما من الكوارث ّ‬


‫تدك األرض دكًّا‪ ،‬وتُدَ ِّم ُر مدنًا‪ ،‬بل بال ًدا عن بكرة‬
‫أبيها! إن الحكمة اإللهية تقتضي أن يحافظ على األرض عامرة‪ ،‬ال أن يقوم على‬
‫تدميرها!‬
‫دعني أضرب ً‬
‫مثال آخر‪ :‬ألم يأمرنا اﷲ بعدم انتهاك حرمة اإلنسان بغير وجه حق‬
‫بأي صورة؟ إذا كان الحفاظ على النفس اإلنسانية‬
‫عن طريق قتله أو االعتداء عليه ِّ‬
‫مقصدً ا إله ًّيا؛ فلماذا يسمح إذن لألمراض أن تنتهك جسده‪ ،‬وأن تقوم على قتله‬
‫زلزال واحدً ا مدمرا قد يودي بحياة ٍ‬
‫عدد كبير جدًّ ا من‬ ‫ً‬ ‫ِ‬
‫بعض األحايين؟ إن‬ ‫وإفنائه في‬
‫ُ‬ ‫ِّ ً‬
‫النفوس اإلنسانية البريئة‪ ،‬أال يتنافى ذلك مع القول بتلك العدالة اإللهية المزعومة؟!‬
‫‪ ‬هل لنا أن ننظر إلى الشرور الموجودة في العا َلم على أنها ك ٌُّل واحدٌ ‪ ،‬أم أنه‬
‫تقسيمها وتفري ُعها؟‬
‫ُ‬ ‫يمكن‬
‫تقسيمه أو تجزي ُئه‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫الشر ًّ‬
‫كل واحدً ا ال يمكن‬ ‫‪ ‬بالطبع ال يمكن أن يكون ُّ‬
‫ٍ‬
‫منطلقات شتَّى‪ .‬دعني بداي ًة أرسم ُم َخ َّط ًطا‬ ‫ِ‬
‫أنواعه وأقسامه من‬ ‫حاول كثيرون َ‬
‫بيان‬
‫أدلو بشيء من‬
‫عا ًّما لهذه التقسيمات التي قام به الناظرون‪ ،‬ثم أحاول بعد ذلك أن َ‬
‫فريق إمكان تقسيمه في العا َلم إلى أربعة أقسام هي‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫واحد منها‪ .‬يرى ٌ‬ ‫التفصيل في كل‬
‫الشرور الطبيعية‪ ،‬والشرور األخالق َّية‪ ،‬والشرور العاطفية‪ ،‬والشرور ما بعد الطبيعية‪.‬‬
‫آخر انقسا َمه انقسا ًما ثنائ ًّيا عن طريق حصره عقل ًّيا في الشرور الطبيعية‪،‬‬
‫ويرى فريق ُ‬
‫أيضا ولكن‬
‫والشرور األخالقية فحسب‪ .‬ويرى فريق ثالث انقسا َمه بصورة ثنائية ً‬
‫الشرور إما أن تكون فلسفية أو أخالقية ليس إال‪ .‬أما الفريق‬
‫َ‬ ‫من وجه آخر‪ ،‬إذ يرون‬
‫الرابع‪ ،‬فيرى انقسامها ثالث َة أقسام‪ :‬الشرور الطبيعية‪ ،‬والشرور االجتماعية‪ ،‬والشرور‬
‫األخالقية‪.‬‬
‫واآلن‪ ،‬فلنتكلم بشيء من التوضيح عن كل نوع من هذه التقسيمات األربعة‪ .‬يرى‬
‫الفريق األول (التقسيم الرباعي) َّ‬
‫أن الشر ينقسم إلى شرور طبيعية‪ ،‬وهي تلك الشرور‬
‫الناتجة عن فعل الطبيعة دون أدنى تَدَ ُّخل من اإلنسان مثل الزالزل‪ ،‬والبراكين‪،‬‬
‫سما ثان ًيا‬ ‫ِ‬
‫واألعاصير‪ ،‬وغير ذلك من الكوارث الطبيعية‪ .‬وتأتي الشرور األخالقية ق ً‬
‫ِ‬
‫مجال الحياة‪ ،‬وهي ما‬ ‫هنا‪ ،‬وهي تلك الشرور الناتجة عن اإلرادة اإلنسانية الحرة في‬
‫يعده الدي ُن من قبيل الذنوب والمعاصي كالكذب والسرقة وغير ذلك‪.‬‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪50‬‬
‫أن نعرف‬‫نأتي اآلن إلى ما ُي َس َّمى بالشرور العاطفية‪ .‬وحتى نفهم المراد منها علينا ْ‬
‫حصرها في نوعين؛ النوع األول‪ :‬هو ما كان وجو ُده‬ ‫ُ‬ ‫أن الموجودات في العا َلم يمكن‬
‫ٍ‬
‫محيط ال يدري‬ ‫ممكنًا حتى وإن لم نُدْ ِركْه أو نتعرف عليه؛ َف َس َم َك ٌة موجودة في قعر‬
‫ِ‬
‫الموجودات في أغلبها‬ ‫اإلنسان شي ًئا موجود ٌة حتى وإن لم نَدْ ِر عنها شي ًئا‪َّ ،‬‬
‫ولعل‬ ‫ُ‬ ‫عنها‬
‫مندرج ٌة في أصل هذا النوع‪ ،‬أما النوع الثاني من الموجودات؛ فهو تلك الموجودات‬
‫يستحيل وجودها إذا لم َيتِ ّم إدراكُها‪ ،‬وهو َم َح ُّل نقاشنا هنا‪َّ .‬‬
‫إن ما نعنيه بالشرور‬ ‫ُ‬ ‫التي‬
‫وه ٍّم‪ ،‬و َغ ٍّم‪ ،‬والتي ُت َعدُّ جز ًء من‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان من وجع‪ ،‬وألم‪َ ،‬‬ ‫العاطفية هو ما قد يكابده‬
‫ُ‬
‫اإلنسان وأدركها‪.‬‬ ‫يكون لها وجو ٌد ما إال إذا َأ َح َّس بها‬
‫َ‬ ‫الموجودات التي ال يمكن أن‬
‫إنني عندما أقول إنني أعاني من صداع شديد‪ ،‬وأشعر بألم في رأسي‪ ،‬فهذا يعني أنني‬
‫أي شعور‬ ‫ُ‬
‫القول بوجود ِّ‬ ‫مدرك لهذا الوجود األليم الذي أصاب رأسي‪ ،‬وهكذا يعني‬
‫البعض بتقسيم الشرور العاطفية إلى قسمين؛‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫القول بإدراكه ومعرفته‪ .‬يقوم‬ ‫نفساني‬
‫األول‪ :‬الشر الجسماني‪ ،‬والثاني‪ :‬الشر النفساني‪ .‬ويعنون بالشر الجسماني هذا النوع‬
‫وسيط هو الجسد؛ هذا الموجود الجامد‬‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان عن طريق‬ ‫من الشر الذي يشعر به‬
‫الروحي ِ‬
‫غير‬ ‫ِ‬
‫البعد‬ ‫ناقل للشعور أو اإلحساس إلى ذلك‬ ‫غير العالِم الذي ال يعد إال ً‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫الجسماني من اإلنسان وهو النفس‪ ،‬أما الشر النفساني‪ ،‬فيعنون به هذا النوع الذي ال‬
‫ّ‬
‫جسماني من أجل وجوده كاآلالم النفس َّية المحضة من حزن ويأس‬
‫ّ‬ ‫يحتاج إلى وسيط‬
‫وما شا َبه‪.‬‬
‫أخيرا إلى ما يسميه ليبنيز بالشرور ما بعد الطبيعية‪ .‬إنه يرى ت ََر ُّد َد الموجودات‬
‫ننتهي ً‬
‫واجب الوجود أو‬
‫َ‬ ‫كا َّف ًة بين الوجوب واإلمكان؛ فال موجو َد في العالم يخلو من كونه‬
‫وجوب الوجود إال على اﷲ وحده‪ ،‬أما ما عداه فواقع تحت‬ ‫ُ‬ ‫ممك َن الوجود‪ .‬وال َي ْصدُ ُق‬
‫ِ‬
‫ممكن الوجود‪ ،‬ومن َث َّم‬ ‫سلطان اإلمكان‪ .‬ينتقل ليبنيز بعد ذلك إلى القول بمحدود َّي ِة‬
‫الشر‪ .‬إنه‬
‫النقص إال ضر ًبا من ِّ‬ ‫ُ‬ ‫وليس‬
‫َ‬ ‫ألن المحدود َّية تستدعي النقص‪،‬‬ ‫القول بنقصه؛ َّ‬
‫كل ما سوى اﷲ ُمت َِّصف بهذا النقص الذي هو شر‪ ،‬وال ُي ْس َت ْثنَى من‬
‫أن َّ‬ ‫ِ‬
‫نتيجة َّ‬ ‫ينتهي إلى‬
‫ِ‬
‫وجوده واج ًبا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لكون‬ ‫هذا الشر إال اﷲ وحده‬
‫عقل‪ ،‬أال وهما الشرور الطبيعية‪،‬‬ ‫الشرور منحصر ًة في قسمين ً‬
‫َ‬ ‫ويرى الفريق الثاني‬
‫والشرور األخالقية‪ .‬ويعنون بالشرور الطبيعية تلك الشرور التي ال َت َع ُّل َق لإلرادة‬
‫‪51‬‬ ‫اهعم ِلماعَتلا ُقرطو ّرشلا ُةلِكشُم‬

‫اإلنسانية بحدوثها وحصولها‪ ،‬أما الشرور األخالقية‪ ،‬فهي كل ما كان حدو ُثه ً‬
‫ناتجا عن‬
‫وإرادة إنساني ٍة ٍ‬
‫حرة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اختيار‬
‫َّ‬
‫أيضا‪ ،‬ولكن‪،‬‬
‫تقسيما ثنائ ًّيا ً‬
‫ً‬ ‫وإذا ما انتقلنا إلى الفريق الثالث؛ فإننا نراه ُي َق ِّس ُم الشرور‬
‫الشرور منقسم ًة إلى شرور فلسفية‪ ،‬وهي ُّ‬
‫كل‬ ‫َ‬ ‫وجه آخر يختلف عن سابِ ِق ِه‪ ،‬إذ يرون‬ ‫من ٍ‬
‫تدخل من ِج َه ِة اإلنسان‪ ،‬وإلى شرور أخالقية‪ ،‬وهي تلك الناتجة‬ ‫حادث دون أدنى ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫شر‬
‫ٍّ‬
‫وإرادة إنسان َّي ٍة ُح َّر ٍة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اختيار‬ ‫عن‬
‫الثالثي‪ ،‬وهو الذي ُي َق ِّس ُم الشرور إلى طبيعية‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫واآلن‪ ،‬ننتهي إلى تقسيم الفريق الرابع‬
‫كانت طبيعية‪،‬‬
‫ْ‬ ‫كانت ناتج ًة ال عن إرادة إنسانية‬ ‫ْ‬ ‫الشرور إذا‬‫َ‬ ‫وأخالق َّية‪ ،‬واجتماعية‪َّ .‬‬
‫إن‬
‫أخالقي‪ ،‬وثانيهما‬ ‫ان؛ أحدهما‬ ‫حينئذ يكون لها ِش َّق ِ‬ ‫ٍ‬ ‫إرادة إنسان َّي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫كانت ناتج ًة عن‬
‫إن ْ‬ ‫أما ْ‬
‫ٌّ‬
‫ٍ‬
‫بإرادات‬ ‫شرا أخالق ًّيا؛ ل َت َع ُّل ِقه بإرادة أو‬ ‫اجتماعي‪ ،‬كانعدام األمن ً‬
‫مثل‪ ،‬إذ ُي َعدُّ انعدا ُمه ًّ‬ ‫ٌّ‬
‫أن تلك اإلرادات الشريرة تؤ ِّدي‬ ‫جهة َّ‬‫إنسانية حرة ترتكب الشرور‪ ،‬وشرا اجتماعيا من ِ‬
‫ًّ‬ ‫ًّ‬
‫إنساني ما‪.‬‬‫ٍّ‬ ‫حالة عا َّم ٍة من الشر (انعدام األمن هنا) في مجتمع‬ ‫إلى ٍ‬

‫الداخلي عند‬
‫ِّ‬ ‫الخ َل ِل‬
‫بعض َ‬ ‫ِ‬ ‫كل نوع من هذه التقسيمات من‬ ‫في الحقيقة‪ ،‬ال يخلو ُّ‬
‫لكل أنواع الشرور‪ .‬ولعلي‬ ‫نعتبر واحدً ا منها جام ًعا ِّ‬
‫النظر والتحقيق؛ ألنه ال يمكن أن َ‬
‫اعتباره من َم ُقو َل ِة‬
‫ُ‬ ‫جميع ما يمكن‬
‫َ‬ ‫الشر‪ ،‬إذ يرى‬
‫العرف َّ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الكيفية التي فهم بها‬ ‫أميل إلى‬
‫مثل من قبيل الشر‪ ،‬وكذلك كل ما يمكن أن‬ ‫الذاتي كوجع األسنان والصداع ً‬ ‫ِّ‬ ‫األلم‬
‫يؤ ِّدي إلى اآلالم واألوجاع في العالم كالزالزل والبراكين وغيرهما‪ .‬هذا الفهم ال ُع ْرفِ ُّي‬
‫بغض النظر عن مصدرها وأصلها‪ ،‬إذ الشر طِ ْب ًقا لهذا النوع إما أن‬ ‫ُي ْعنَى باآلالم اإلنسان َّية ِّ‬
‫شرا بال َع َرض‪.‬‬ ‫شرا َّ‬
‫بالذات‪ ،‬أو ًّ‬ ‫يكون ً‬
‫الم َؤ ِّل َه ُة من الفالسفة والمتكلمين إيجاد تسويغ لوجود الشر في العا َلم‪،‬‬
‫ولقد حاول ُ‬
‫ِ‬
‫الشر إما أن يكون متعل ًقا‬ ‫وطرحوا حلو َلهم من أجل نفي النقص ِّ‬
‫الص َفاتي عن اﷲ؛ فرأوا َّ‬
‫بمصلحة أو منفعة‪ ،‬أو ال يكون كذلك‪ .‬وهذا الشر الذي ال يتعلق بمصلحة هو شر في‬
‫شرا في الحقيقة‪ ،‬بل قد ُي َعدُّ ضر ًبا من الخير‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يتعلق بمصلحة بعينها فال ُي َعدُّ ًّ‬
‫نفسه‪ ،‬أما ما ُ‬
‫ولعل المشكلة تأتي عند محاولة التمييز بين الشر الذي يتعلق بالخير من خالفه؛ هذه‬ ‫َّ‬
‫الم َؤ ِّلهة من أهل اإليمان‪.‬‬ ‫دائما َّ‬
‫محل نقاش بين ُ‬ ‫المعضلة التي كانت ً‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪52‬‬
‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫سؤال مهم هو‪ :‬كيف حاول‬ ‫‪ ‬يقودنا حدي ُثك أستاذ إلى االنتقال إلى‬
‫اإليمان تسويغ وجود الشر؟‬
‫‪ ‬قبل اإلجابة عن هذا السؤال ينبغي علينا أن نتساءل‪ :‬هل ينبغي تقديم إجابة‬
‫َ‬
‫الخطأ الذي يقع‬ ‫واحدة عن مسألة الشر تفي جميع جوانبه أو أقسامه سابقة الذكر؟ َّ‬
‫إن‬
‫تقديم تسوي ٍغ أو‬
‫َ‬ ‫كثير من المفكرين في ِخ َض ِّم معالجتهم هذه المسألة محاولتُهم‬ ‫فيه ٌ‬
‫الشر من جميع جوانبه‪ .‬إنني أرى مشكل َة الشر أكثر تعقيدً ا‬ ‫استيعاب َّ‬
‫َ‬ ‫إجابة واحدة تحاول‬
‫بعينه‪ ،‬لذا سأحاول اآلن عرض بعض‬ ‫ِ‬ ‫أن نقدم لها معالج ًة أو َحلًّ واحدً ا‬
‫وتداخل من ْ‬
‫ً‬
‫المعالجات المهمة لهذه المشكلة‪ ،‬كل واحدة منها تحاول تسويغ الشر في قسم واحد‬ ‫ِ‬
‫حل األمر بِ ُر َّمتِه‪ .‬يحضرني‬
‫منه أو في بعض أقسامه ليس إال‪ ،‬وهكذا بالتدريج يمكن ُّ‬
‫رأي ينبغي علينا النظر فيه‪ ،‬وااللتفات إليه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫الشر‪ ،‬وهو ٌ‬
‫رأي القائلين بعدم َّية ِّ‬
‫اآلن ُ‬
‫معدوما وهو يمأل العالم؟ ما المقصو ُد بذلك؟‬
‫ً‬ ‫الشر‬
‫يكون ُّ‬
‫ُ‬ ‫‪ ‬عدم َّي ُة الشر! هل‬
‫الشر ال بمعدوم َّيتِه حلًّ من الحلول المطروحة لمعالجة‬ ‫ُ‬
‫القول بعدم َّية ِّ‬ ‫‪ ‬يأتي‬
‫الحل يقولون بوجود‬‫ِّ‬ ‫إن معدوم َّي َة الشيء تعني الوجو َده‪ ،‬وأصحاب هذا‬ ‫المشكلة‪َّ .‬‬
‫أن َ‬
‫ينشأ في ذاته عن عد ِم‬ ‫القول بعدم َّية ٍ‬
‫أمر ما إنما يعني ْ‬ ‫َ‬ ‫الشر ال شك‪ ،‬ولكنهم يرون‬
‫مثل ــ الذي نتصوره ضر ًبا من الشرور ــ ال ينشأ وجو ُده إال عن عدم‬‫شيء آخر؛ فالموت ً‬ ‫ٍ‬

‫بالوجوده‪ ،‬يقول خروسيوس‪« :‬وهل‬‫ِ‬ ‫الحياة؛ فهو أمر عَدَ ِم ٌّي ال معدوم‪ ،‬إذ ال يقول ٌ‬
‫عاقل‬
‫الج ْو ُر شيء غير انعدام العدل؟!»‪.‬‬
‫َ‬
‫صنعت‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫تقطيعها حتى‬ ‫أخذت ورق ًة و ُق ْم َت على‬
‫َ‬ ‫بالشك ِ‬
‫ْل‪ .‬إنك إذا‬ ‫دعني أضرب ً‬
‫مثال َّ‬
‫شكل ُم ْستَطِ ًيل‪ .‬إنه لو ُقدِّ َر لهذه الورقة االمتداد إلى ما ال نهاي َة؛ فلن يكون هناك‬
‫ً‬ ‫منها‬
‫ِ‬
‫مساحة الورقة؛‬ ‫معنى للشكل المستطيل الذي ال يستمدُّ وجو َده إال من عدم امتداد‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫نقول بعدم َّيته وإن كان له وجود كائن في الورقة‬ ‫فهو ناش ٌئ هنا عن عَدَ ِم أمر آخر‪ ،‬لذا ُ‬ ‫ِ‬
‫الم َق َّط َعة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الم ِض ِّي وقطع األشياء‪ ،‬كما ال يوجد‬ ‫السك ِ‬
‫ِّين قادر ًة على ُ‬ ‫إنه ال يوجد شر ما في كون ِّ‬
‫نسميه‬
‫إن ما ِّ‬ ‫قابل لالختراق بهذه اآللة الحا َّدة (السكين)‪َّ .‬‬ ‫جسما إنسان ًّيا ٌ‬
‫ً‬ ‫شر ما في َّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫شرا ال يحدث إال عندما ت ُْس َت ْع َمل هذه اآللة الحا َّدة في قتل إنسان باختراق جسده القابل‬ ‫ًّ‬
‫‪53‬‬ ‫اهعم ِلماعَتلا ُقرطو ّرشلا ُةلِكشُم‬

‫الموت ــ الناشئ هنا بهذا الفعل ــ أمر عدمي وإن لم يكن منعد ًما‪ ،‬إذ ال يعني‬
‫َ‬ ‫لذلك‪َّ .‬‬
‫إن‬
‫خالق‬
‫ٌ‬ ‫الموت هنا في الوجود اإللهي بشيء؛ ألن اﷲ‬ ‫ُ‬ ‫شي ًئا غير عدم الحياة‪ .‬ال يقدح‬
‫ُخ َلق‪.‬‬
‫الموت من قبيل العدَ م‪ ،‬واألعدام ال ت ْ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫وألن‬ ‫الحيا َة ال الموت‪،‬‬
‫ُ‬
‫األول في‬ ‫ُ‬
‫اإلشكال‬ ‫ِ‬
‫استدالل هذه المعالجة‪ .‬يأتي‬ ‫ِ‬
‫طريقة‬ ‫ٍ‬
‫إشكاالت على‬ ‫ُ‬
‫ثالث‬ ‫ت َِر ُد‬
‫وضع‬
‫ُ‬ ‫اللهم إال تال ُع ًبا باأللفاظ ليس إال‪ ،‬إذ‬‫َّ‬ ‫عدم تقديمه شي ًئا جديدً ا على اإلطالق‪،‬‬
‫ثم‬ ‫أمرا وجود ًيا مخلو ًقا لله‪َّ ،‬‬ ‫أمرا عدم ًّيا‪ ،‬ومن اآلخر ً‬
‫مقابل نقيضه ال يجعل منه ً‬ ‫َ‬ ‫الشيء‬
‫العدمي واألمر الوجودي؟ وكيف نعرف بالتحديد أن هذا‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫الفاصل بين األمر‬ ‫ما هو الحدُّ‬
‫ِ‬
‫معالجة‬ ‫وجودي‪ ،‬أو العكس بالعكس؟ وكيف ن َُم ِّيز بين الخير والشر في‬ ‫عدمي أو‬ ‫األمر‬
‫ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫َ‬
‫الم ْلتَبِ َسة؟‬
‫المفاهيم ُ‬
‫أمرا‬ ‫ٍ‬
‫بمكان‪ ،‬إ ْذ لماذا عُدَّ‬ ‫لعل اإلجاب َة عن هذه األسئلة تكون من الصعوبة‬ ‫َّ‬
‫البصر ً‬
‫ُ‬
‫أمرا وجود ًيا في مقابل‬ ‫مقابل ال َعمى‪ ،‬في حين أنه يمكن أن ن ُعدَّ العمى ً‬ ‫ِ‬ ‫وجود ًّيا في‬
‫إن العمى عد ُم البصر؟! وإذا أتينا إلى‬ ‫أيضا ــ على طريقتهم ــ ‪َّ :‬‬ ‫أن َ‬
‫نقول ً‬ ‫البصر؟ أليس لنا ْ‬
‫الس ْلم والحرب ــ على سبيل المثال ــ فإنه يصعب جدًّ ا معرف ُة أ ِّيهما وجودي‬ ‫مفهو َم ِي ِّ‬
‫األمر نفسه بالنسبة‬
‫َ‬ ‫أيضا تحديد أ ِّيهما خير وأيهما شر‪ ،‬قل‬
‫وأيهما عدمي‪ ،‬كما يصعب ً‬
‫إلى السكوت والكالم؛ أيهما عد ُم اآلخر‪ ،‬وأيهما خير‪ ،‬وأيهما شر؟‬
‫نقص َخ ْي ٍر؛ ألننا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِز ْد على ذلك َّ‬
‫الشرور كذلك ال َتت ََأتَّى من كونها عد ًما أو َ‬ ‫بعض‬
‫أن َ‬
‫أكثر من المطلوب ال عن محدود َّي ِة الخير‪ ،‬كالكثير من‬ ‫ِ‬
‫بعضها نات ًجا عن كونها َ‬
‫نرى َ‬
‫ينحرف هذا‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫نقص فيها‪.‬‬ ‫األمراض التي يعود سب ُبها إلى ارتفا ٍع في كريات الدم ال‬
‫االعتراض‪ ،‬من وجهة نظر القائلين بالعدم َّية‪ ،‬عن أصل المسألة؛ ألننا في الحقيقة ال‬
‫أمر وجودي ال يتعارض مع‬ ‫بأن ِع َّل َة َم َر ٍ‬
‫ض ما ٌ‬ ‫نبحث عن ِع َّلة الشر‪ ،‬بل عن ذاته‪ ،‬والقول َّ‬
‫ولعل اإلشكال يقف على قدم وساق أكثر عندما يأتي كذلك‬ ‫أمرا عدم ًّيا‪َّ .‬‬
‫القول بكونه ً‬
‫أصل‪ ،‬كالحزن على سبيل المثال الذي ال يمكن‬ ‫القول معها بعدم َّيتِها ً‬ ‫ُ‬ ‫بشرور ال يمكن‬
‫أمرا وجود ًّيا قد قا َم‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يكون ً‬ ‫مقابل للفرح‪ ،‬إذ يمكن أن‬ ‫بمجرد وضعه‬ ‫َّ‬ ‫أمرا عدم ًّيا‬
‫عَدُّ ه ً‬
‫بالنفس أو القلب واستبدَّ بهما‪.‬‬
‫افترضنا معرفتَنا باألمور الوجودية واألمور‬
‫ْ‬ ‫أما اإلشكال الثاني‪ ،‬فيرى أنه حتى ِ‬
‫وإن‬
‫آخر ُي ْعنَى بكيف َّية االستدالل على عدم َّية‬ ‫ٍ‬ ‫العدم َّية على وجه الدِّ َّقة‪ ،‬فإننا ُ‬
‫نقع في إشكال َ‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪54‬‬
‫ٍ‬
‫الحق‬ ‫ٍ‬
‫برهان‬ ‫عقلي)‪ ،‬أم عن طريق‬ ‫برهان سابق (قياس‬ ‫ٍ‬ ‫الشر؛ أيكون عن طريق‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫(استقراء)؟ ال يقو ُم ا ِّدعا ُء عدم ّية الشر غال ًبا عند القائلين به إال على الدليل الالحق‬
‫ِ‬
‫استقراء بعض‬ ‫بعض الشرور ليس إال‪ .‬وهنا ُ‬
‫أصل اإلشكال في كون‬ ‫الذي ُي ْس َت ْق َر ُأ فيه ُ‬
‫كل الشرور‪ ،‬إذ ال‬‫الحق في القيام بتعميمها على ِّ‬
‫َّ‬ ‫الشرور والقول بعدم َّيتِها ال يعطينا‬
‫بلغت حاالتُه‪ ،‬فإنه ال يخرج عن كونِه استقراء‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫بحال‪ ،‬ومهما‬ ‫ِ‬
‫جميعها‬ ‫يمكن استقرا ُء‬
‫جزئ ًّيا ال يصدق على ِّ‬
‫الكل‪.‬‬
‫يخرج القائلون بعدمية الشر من هذا اإلشكال‪ ،‬يحتاجون إيجاد دليل‬ ‫َ‬ ‫إنه حتى‬
‫العقلي‪،‬‬ ‫برهان يقوم على القياس‬ ‫ٍ‬ ‫داخل فيه عن طريق‬ ‫ً‬ ‫خارجا عن العالم ال‬ ‫سابق‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مثل على َخ ْل ِق اﷲ للعا َلم على أفضل ن َْح ٍو ُم ْم ِكن‪ ،‬وألنَّه مطلق العلم‬ ‫كأن يستدلوا ً‬ ‫ْ‬
‫حال‪ ،‬و َأت َِّم نظام‪ ،‬وبهذا قد‬ ‫ان عا َل ِمه على أحسن ٍ‬ ‫والقدرة والعطاء‪ ،‬فإنه قد أقام ُبنْ َي َ‬
‫خارج عن العا َلم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫استدالل كهذا؛ َق ْب ِل ٍّي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫القول بعدم َّية الشر عن طريق‬ ‫ُ‬ ‫تمرير‬
‫ُ‬ ‫يصح‬
‫ُّ‬
‫الشر‬
‫كانت إثار ُة مشكلة ِّ‬ ‫ْ‬ ‫البرهان ال َق ْب ِل ُّي من َخ َل ٍل‪ ،‬إ ْذ‬
‫ُ‬ ‫ولكن‪ ،‬عند التحقيق‪ ،‬ال يخلو‬
‫بح ِّل هذا اإلشكال عن‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬
‫القول َ‬ ‫تجريد اﷲ عن هذه الصفات؛ فال ينفعهم‬ ‫أصل من أجل‬
‫طريق ات َِّصافِه بها‪.‬‬
‫الثالث معرفتَنا باألمر العدمي على وجه التحديد والدِّ َّقة‪ ،‬كما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اإلشكال‬ ‫يفترض‬
‫ُ‬
‫وأن األمور الوجودية وحدها هي التي تحتاج إلى‬ ‫ِ‬
‫الشرور جميعها‪َّ ،‬‬ ‫يفترض عدم َّي َة‬
‫أن يخلق العا َلم خال ًيا من هذا‬ ‫ً‬
‫تساؤل‪ :‬ألم يكن بإمكان اﷲ ْ‬ ‫خالق‪ ،‬ولكنهم يطرحون‬
‫ص البشرية من شرور‬ ‫ُخ ِّل َ‬ ‫العدمي؟! َّ‬
‫إن خل َّية سرطانية واحد ًة كان بإمكانها أن ت َ‬ ‫ِّ‬ ‫الشر‬
‫نموها وتكا ُث ِرها في أجساد الصالحين كما ُي َع ِّب ُر ديفيد‬ ‫الطاغية نيرون العدم َّي ِة ً‬
‫بدل من ِّ‬
‫هيوم‪.‬‬
‫الشر الر َّد على فحوى اإلشكال الثالث الذي يتساءل عن‬ ‫ِ‬
‫أصحاب عدم َّية ِّ‬
‫ُ‬ ‫يحاول‬
‫يوض ُحون‬
‫اإللهي وراء وجوده‪ .‬إنهم ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫العدمي في العالم‪ ،‬وعن السبب‬ ‫ّ‬ ‫الشر‬
‫وجود ِّ‬
‫كأمر معدوم وبين عدم َّيتِه‪ .‬إنه كما أوضحنا‬ ‫ِ‬
‫الخلط بي َن الشر ٍ‬ ‫مر ًة أخرى ضرور َة عد ِم‬
‫ِ‬
‫الكائن‬ ‫كالشك ِ‬
‫ْل‬ ‫َّ‬ ‫الشر على محدود َّي ِة الخير المقابل له‪ ،‬تما ًما‬
‫ِّ‬ ‫ُّب عدم َّي ِة‬
‫ساب ًقا ت ََرت َ‬
‫بسبب محدود َّية الحجم والمساحة‪ .‬ال أحدَ يقول بال وجود َّية الشر‪ ،‬ال وجو َد لهذا‬
‫القول أبدً ا‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫اهعم ِلماعَتلا ُقرطو ّرشلا ُةلِكشُم‬

‫وأن الشر ال ينت ُُج إال عن محدود َّي ِة الخير‬


‫خالق الخير فحسب‪َّ ،‬‬ ‫نعم‪ ،‬يقولون َّ‬
‫بأن اﷲَ ُ‬
‫بديل عن السبب وراء ِ‬
‫خلق‬ ‫ٍ‬ ‫آخر‬
‫المخلوق في العالم‪ ،‬ولكنهم يقومون بطرح تساؤل َ‬
‫قادرا على ذلك؛ أعني على خلق‬ ‫الخير في العالم محدو ًدا ال ُم ْط َل ًقا‪ ،‬وهو‪ :‬ألم ِ‬
‫يكن اﷲُ ً‬
‫بعجز اﷲ‪ ،‬وقصوره عن هذا الخلق‪ ،‬بل يقولون‬ ‫ِ‬ ‫خير المحدود؟ إنهم ال يقولون طب ًعا‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫وجود َخ ْي َر ْي ِن ُم ْط َل َق ْي ِن في العا َلم‪ ،‬أحدهما اﷲ‪ ،‬واآلخر َخ ْي ٌر‬ ‫ِ‬
‫إمكان‬ ‫باستحالته‪ ،‬وعدم‬
‫ِ‬
‫وجود الخير‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫ِ‬
‫استمرار‬ ‫َاهيه َخ ْي ٌر في ذاتها من أجل‬ ‫من خلقه‪ .‬إن محدودي َة الخير و َتن ِ‬
‫شك‬ ‫الم ْط َلق‪ ،‬فهذا سيؤ ِّدي بال ٍّ‬
‫خلق هذا الخير ُ‬ ‫افترضنَا َ‬ ‫ْ‬ ‫الخ ْي َر ْي ِن مستحيل ٌة‪ ،‬ولو‬
‫طال َق َة َ‬
‫نفسه‪ ،‬وهذا ُم َحال‪.‬‬ ‫نقص الخير اإللهي ِ‬ ‫ِ‬ ‫إلى‬
‫ِّ‬
‫أن أطرح سؤالً ‪ :‬هل قال‬ ‫‪ ‬بعد هذا التفصيل الرائع حول القول بعدم َّي ِة الشر‪َ ،‬أ َو ُّد ْ‬
‫قائل بمعدومية الشر؛ أعني الوجو َد ُه َأ ْصلً في العا َلم؟‬
‫بالوجود الشر إلى الديانات الشرقية القديمة‪ ،‬إذ تطرح‬ ‫ِ‬ ‫جذور القول‬ ‫‪ ‬تمتدُّ‬
‫ُ‬
‫كل ما في عالم‬ ‫الو ْه َم والخيال‪ ،‬ويطلقونه على ِّ‬ ‫الما َيا الذي يعني َ‬‫مثل مفهوم َ‬ ‫الهندوسي ُة ً‬
‫اإلنسان ويرى أحال ًما يظنُّها حقيق ًة إلى أن يستقيظ ُمدْ ِركًا إياها ضر ًبا‬ ‫ُ‬ ‫الطبيعة؛ فكما ينام‬
‫النائم في نومه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الخياالت التي يراها‬ ‫كل ما في عالم الطبيعة من قبيل‬ ‫فإن َّ‬
‫من الوهم‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫هائل َي ُع ُّم العا َلمين!‬
‫اإلنسان‪ ،‬ونو ًما ً‬
‫ُ‬ ‫كبيرا ُ‬
‫يعيشه‬ ‫الما َيا زي ًفا ً‬
‫وهكذا تصير الحيا ُة مع َ‬
‫القائل‪« :‬الناس نيام‪ ،‬فإذا ماتُوا انتبهوا»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫كثيرا األثر‬
‫ولعل ما نحن بصدده يشبه ً‬
‫شبيها بالكوابيس‬
‫الشر هنا كجزء من هذا الوهم والخيال الذي يعيشه اإلنسان‪ً ،‬‬ ‫يأتي ُّ‬
‫نومه الكبير الذي هو الحياة‬ ‫نوم ِه الصغير داخل ِ‬ ‫اإلنسان في ِ‬
‫ُ‬ ‫الم ْف ِز َعة التي قد يراها‬
‫ُ‬
‫وض ْر ًبا من الخيال‪ ،‬مثله مثل‬ ‫ُبر َّمتها‪ .‬هل الشر هنا موجود؟ ال‪ ،‬إنه ليس إال زي ًفا َو َو ْه ًما َ‬ ‫ِ‬
‫كل شيء آخر في هذا العا َلم‪.‬‬
‫ِ‬
‫محاولة أصحابِه‬ ‫الحل لمجموعة من االعتراضات منها عد ُم‬ ‫بالطبع‪َ ،‬ي َت َع َّر ُض هذا ُّ‬
‫بأي صورة‪ ،‬بل يكتفون بمجرد القول بوهم َّيتِه ليس إال‪ .‬ولنفترض‬ ‫ِ‬
‫إثبات َز ْيف العالم ِّ‬
‫َ‬
‫أهل األرض‬ ‫أنه وهم كبير كما يعتقدون‪ ،‬وأنه نوم طويل ُم َف َّعم باألحالم‪ ،‬وأنه َي ُع ُّم َ‬
‫جميعهم‪ ،‬لماذا لم يجع ْله اﷲُ نوما هان ًئا ملي ًئا باألحالم السعيدة‪ ،‬لماذ لم ي ْض ِ‬
‫ف لونًا من‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫الهناء والسرور على مثل هذا النوم الذي يشمل حيا َة اإلنسان؟‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪56‬‬
‫دامت تمتلئ بهذه‬
‫ْ‬ ‫يضها‪ ،‬ال تخلو من الشر ما‬ ‫كانت وهما ب َق ِّضها و َق ِض ِ‬
‫وإن ْ‬ ‫إن الحياة ْ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫فعل حيا ًة كاذب ًة ُم َز َّي َف ًة‪ ،‬فإنَّه لن يكون فيها ُّ‬
‫أي‬ ‫يعيش ً‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان ُ‬ ‫الم ْف ِز َعة‪ .‬وإذا كان‬
‫األحالم ُ‬
‫وهما مثله مثل الشر ال‬
‫الخير ً‬
‫ُ‬ ‫حقيقي‪ ،‬وسيتساوى داخلها ُّ‬
‫كل شيء‪ ،‬حتى يصير‬ ‫ّ‬ ‫معنى‬
‫ً‬
‫فرق‪ ،‬وهنا ينعدم المعنى ك ُّله‪.‬‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫الناس‬ ‫أن أصحابه ال ُي َف ِّر َ‬
‫قون بين‬ ‫لعل هذا الحل يعاني من مشكلة أخرى‪ ،‬وهي َّ‬ ‫‪َّ ‬‬
‫في َع ْي ِش ِهم هذا ال َّز ْيفَ العا َل ِم ّي؛ فكل أحد يعيشُه حتى القائلون به‪ ،‬أال ترى ِص َّح َة‬
‫ذلك؟‬
‫تثبيت مفهو ِم المايا في السياق المسيحي بعد تعديله‬
‫َ‬ ‫حاولت ماري بيكر إيدي‬
‫ْ‬ ‫‪‬‬
‫تفادي بعض‬ ‫َ‬ ‫أيضا‬
‫وحاولت ً‬
‫ْ‬ ‫يناسب المفاهيم الدينية للديانة المسيحية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وتنقيحه بما‬
‫التصرفات التي‬ ‫ُّ‬ ‫تفض ْل َت به‪ .‬إنها ترى َّ‬
‫أن‬ ‫المشكالت الظاهرة في هذا المفهوم كالذي َّ‬
‫نتائج تطبيق َّي ٍة عمل َّي ٍة؛‬ ‫ٍ ِ ِ ٍ‬
‫نتائج معرف َّية ع ْلم َّية أو َ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان في حياته تؤ ِّدي إلى َ‬ ‫قد يرتكبها‬
‫الفعل إلى نو ٍع‬ ‫ُ‬ ‫عيني مباشرةً‪ ،‬سيؤدي هذا‬ ‫ؤبؤ إحدى ّ‬‫وضعت إصبعي أمام ُب ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫فمثل إذا‬
‫من الخطأ في رؤية الخارج؛ ألنني سأرى الشي َء َش ْي َئ ْي ِن بسبب ازدواج الرؤية‪ ،‬كذلك‬
‫قارص‪ ،‬سيؤ ِّدي‬ ‫ٍ‬ ‫شتوي‬ ‫ِ‬
‫البيت في يو ٍم‬ ‫ِ‬
‫المناسبة عند خروجي من‬ ‫المالبس‬ ‫إذا لم ِ‬
‫أرتد‬
‫ٍّ‬ ‫َ‬
‫ذلك إلى نو ٍع من الخطأ العملي التطبيقي‪ ،‬وهو إصابتي بزكا ٍم‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان في حياته لها آثار ونتائج‬ ‫والمعاصي التي قد يرتكبها‬
‫َ‬ ‫ترى بيكر أن الذنوب‬
‫المعرفي‪ ،‬إذ بسبب انحرافه عن الجا َّد ِة نراه ُي ْخطِئ تدريج ًّيا في إدراك‬ ‫ّ‬ ‫من النوع العلمي‬
‫َب ُيؤ ِّدي‬
‫الم ْر َتك َ‬
‫الذنب ُ‬
‫َ‬ ‫ف َح ًّقا‪ .‬إنها ترى‬ ‫الوهم فيه حقيق ًة‪َّ ،‬‬
‫والز ْي َ‬ ‫َ‬ ‫الخارج‪ ،‬ويتصور‬
‫وينغمس في‬
‫ُ‬ ‫ب‪،‬‬
‫الح ُج ُ‬
‫ف عليه ُ‬ ‫وجداني؛ بسببه َت َت َك َّث ُ‬ ‫روحي أو‬ ‫ٍ‬
‫اختالل‬ ‫باإلنسان إلى‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫األوهام‪.‬‬
‫وهما‬ ‫اإلنسان إذا لم يرتكب ذن ًبا ُي ِ‬
‫َ‬
‫ب؛ سيرى الحيا َة على حقيقتها ً‬ ‫الح ْج َ‬‫ب َ‬ ‫وج ُ‬ ‫إن‬
‫َ‬
‫صدق ما يراه من أوهام‬ ‫باطل‪ ،‬ولكنه إذا ما وقع في الذنوب‪ ،‬ال بد أن ُي َعا َقب باعتقاده‬
‫ً‬
‫الرعب‪ ،‬ويعيش الفزع بما َقدَّ َم ْت يداه‪ ،‬ويكون‬
‫ُ‬ ‫يستولي عليه‬
‫َ‬ ‫مخيفة في الخارج حتى‬
‫اإلدراك فيه أقوى‪ ،‬والمعرفة في عا َل ِمه‬
‫ُ‬ ‫األمر أنه كلما ق َّل ْت ذنوب اإلنسان‪ ،‬كلما كان‬
‫ُ‬
‫أخف و َأ ْو َهن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أصوب‪ ،‬والوقوع في الوهم‬
‫‪57‬‬ ‫اهعم ِلماعَتلا ُقرطو ّرشلا ُةلِكشُم‬

‫قائما في طرح ماري‬ ‫‪ ‬أستاذ‪ ،‬ما زال النقدُ الذي وجهنا ُه من قبل إلى الهندوسية ً‬
‫صح َة‬ ‫افترضنا َّ‬ ‫ْ‬ ‫بيكر‪ ،‬إذ لم ُت َقدِّ ْم دليلً واحدً ا على صدق دعواها زيفَ العا َلم‪ .‬ولو‬
‫ارتكاب الذنوب‪ ،‬ولماذا يعاقبني‬ ‫ِ‬ ‫قادرا على‬
‫دعواها‪ ،‬لعل مذن ًبا يقول‪ :‬لماذا خلقني اﷲ ً‬
‫بأن أعيش هذا ال َفزَع؟ إنها تلقي باللوم ك ِّله على عاتق المذنب الذي خلقه اﷲ ُم ْعطِ ًيا إيا ُه‬
‫الدور في العا َلم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫هذا‬
‫ات‬ ‫بالذ ِ‬ ‫‪ ‬هذا تعقيب ج ِّيد في الحقيقة‪ .‬للمذنب أن يتساءل‪ :‬لماذا اختارني اﷲُ أنا َّ‬
‫الج ْبر‬ ‫طريق الخوض في مسألة َ‬ ‫ِ‬ ‫أللعب هذا الدور؟ يمكن الر ُّد على هذا اإلشكال عن‬
‫ِ‬
‫إثبات حر َّية اإلنسان في أفعاله‪،‬‬ ‫تسنَّى‬
‫ُ‬ ‫عويصة جدًّ ا‪ ،‬ولكنه إذا َ‬
‫َ‬ ‫واالختيار‪ ،‬وهي مسألة‬
‫تمرير اعتراض كهذا‪ ،‬ولكن‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫أساس من االختيار المحض‪ ،‬يمكن‬ ‫ٍ‬ ‫وقيامها على‬
‫ُ‬
‫بعدئذ ــ إذا ألقينا الذنوب على‬ ‫ٍ‬ ‫إشكال آخر يربو ُم َعدَّ ًل‪ ،‬إذ للمذنب أن يتساءل‬ ‫ً‬ ‫لعل‬
‫قادرا على ارتكاب المعاصي‬ ‫عاتق اختياره الحر ــ ‪ :‬لماذا خلقني ُح ًّرا من األساس‪ً ،‬‬
‫إن إثبات مسؤولية اإلنسان التا َّمة عن أفعاله عن‬ ‫والذنوب؟! على ك ٍُّل‪ ،‬كما أخبرتك قبل َّ‬
‫إن لم يكن ُم َح ًال‪.‬‬ ‫طريق إثبات اختياره لها أمر في غاية التعقيد ْ‬
‫اإلنسان بين أمرين‬ ‫ِ‬ ‫الوجدان ــ الذي يدور فيه ت ََر ُّد ُد‬ ‫َ‬ ‫يذهب المتقدمون إلى َّ‬
‫أن‬
‫إثبات االختيار‪ .‬إن إنسانًا ُي ْع ِمل عق َله في الترجيح بين‬ ‫ِ‬ ‫أنفع األدلة في‬ ‫ومقارنته بينهما ــ ُ‬
‫دليل على أن ما يصدر عنه من اختياره الخالص ال‬ ‫ألدل ٍ‬
‫داخل وجدانه ُّ‬ ‫َ‬ ‫أمرين يتر َّد َدان‬
‫آخر فيه‪.‬‬ ‫لم َؤ ِّث ٍر َ‬
‫دخل ُ‬
‫يدل‬ ‫أمر ما بعد إعمال ذهن وت ََر ُّد ٍد‪ ،‬ال ُّ‬ ‫إن جنوح اإلنسان نحو فعل ٍ‬ ‫في الحقيقة‪َّ ،‬‬
‫ساعدً ا هنا‪ِ :‬‬ ‫مثال م ِ‬ ‫ٍ‬
‫هات‬ ‫اختيار منه على اإلطالق! يضرب جون ستيورات ميل ً ُ‬ ‫على‬
‫يزن خمسين كيلوجرا ًما‪ ،‬واجعل في األخرى وزنًا‬ ‫ميزانًا‪ ،‬وضع في إحدى َك َّف َت ْي ِه ما ُ‬
‫مثل‪ ،‬ما الذي سيحدث؟ سترتفع الك َّفة‬ ‫ٍ‬
‫كيلوجرامات ً‬ ‫أقل من ذلك بكثير‪ ،‬فلنقل خمسة‬ ‫ّ‬
‫ونظيره هنا ليسا‬
‫َ‬ ‫االرتفاع‬
‫َ‬ ‫الثقيلة سري ًعا‪ ،‬وستهوي األخرى بنفس السرعة الفائقة‪َّ .‬‬
‫إن‬
‫هات نفس الخمسين كيلوجرا ًما‪ ،‬وضع‬ ‫عن اختيار‪ ،‬ولكنهما عن جب ٍر وح ْت ٍم‪ .‬واآلن‪ِ ،‬‬
‫َْ َ‬
‫إن الكفتين‬‫مثل‪ ،‬ما الذي سيحدث اآلن؟ َّ‬ ‫أمامها وزنًا ُيقاربها‪ ،‬تسعة وأربعين كيلوجرا ًما ً‬
‫ِ‬
‫الهبوط نهاي ًة‪ ،‬هل‬ ‫يستقر أحدُ هما في ال ُع ُل ِّو واآلخر في‬ ‫سيترد ِ‬
‫دان تر ُّد ًدا شديدً ا إلى أن‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫أي نوع من االختيار؟! بالطبع ال‪.‬‬
‫الكثير في االستقرار َّ‬
‫ُ‬ ‫يعني هذا التر ُّد ُد‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪58‬‬
‫الشر‬
‫الخير على ِّ‬ ‫ِ‬ ‫القول ب َغ َل َب ِة‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫سؤال بدر إلى ذهني اآلن؛ هل ُي َعدُّ‬ ‫‪ ‬دعني أنتقل إلى‬
‫الخير غال ًبا أصلً ‪.‬‬‫ُ‬ ‫في العا َلم قولً ُمعالِ ًجا لهذه المشكلة؟ هذا ْ‬
‫إن ُعدَّ‬
‫ِ‬
‫أي‬ ‫ب ما َت َف َّض ْل َت بِه إلى أرسطو‪ ،‬ولكني في الحقيقة لم أجدْ ُه في ِّ‬ ‫نس ُ‬ ‫دائما ما ُي َ‬
‫‪ً ‬‬
‫أصحاب هذا القول العوالِ َم التي يمكن أن يخلقها اﷲُ في َح ْص ٍر‬ ‫ُ‬ ‫يقس ُم‬
‫كتاب من كتبه‪ِّ .‬‬
‫العالم‬
‫ُ‬ ‫عقلي من جهة اإلمكان من عدمه؛ فيرونها في خمسة إمكانات هي‪ :‬أن يكون‬ ‫ٍّ‬
‫محضا‪ ،‬ال وجود للخير فيه‪ ،‬أو أن‬ ‫ً‬ ‫شرا‬ ‫للشر فيه‪ ،‬أو أن يكون ًّ‬ ‫محضا‪ ،‬ال وجو َد ِّ‬ ‫ً‬ ‫خيرا‬
‫ً‬
‫الشر‪ ،‬أو أن يتساوى‬ ‫الشر غال ًبا فيه على ّ‬‫الشر‪ ،‬أو أن يكون ُّ‬ ‫الخير غال ًبا فيه على ِّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫يكون‬
‫ِ‬
‫ألحدهما َغ َل َب ٌة‪.‬‬ ‫وجو ُدهما؛ فال تكون‬
‫الم َج َّردات‪ ،‬وعا َلم الطبيعة‪ .‬يأتي العا َل ُم‬‫ين اثنين‪ :‬عا َلم ُ‬ ‫عالم الوجود إلى ِق ْس َم ِ‬
‫ينقس ُم ُ‬
‫ِ‬
‫المك ََّو ُن من اﷲ ومالئكته‪ .‬أما إذا‬ ‫محضا‪ ،‬ال وجود للشر فيه‪ ،‬وهو العا َلم ُ‬ ‫ً‬ ‫خيرا‬
‫األول ً‬ ‫ُ‬
‫الخير‬
‫ُ‬ ‫يمتزج‬
‫ُ‬ ‫الشق الثاني من الوجود‪ ،‬نجد أنفسنا أمام عا َلم‬ ‫انتقلنا إلى عا َلم الطبيعة؛ ّ‬
‫بأن‬ ‫ُ‬
‫القول َّ‬ ‫امتزاجا‪ .‬وما دا َم عا َل ُم الوجود ُمك ََّونًا من هذين ِّ‬
‫الش َّقين‪ ،‬فيمكن‬ ‫ً‬ ‫الشر‬
‫فيه مع ِّ‬
‫الوجود ككل‪.‬‬‫ِ‬ ‫الشر في‬
‫يغلب َّ‬‫ُ‬ ‫الخير‬
‫َ‬
‫الخير‬
‫ُ‬ ‫يعم أجم َعه‬
‫رأي هؤالء؛ عالم ُّ‬‫لم يخلق اﷲُ إال هذين العا َلمين فحسب في ِ‬
‫شره (الطبيعة)؛ ألننا إذا انتقلنا إلى العوالم الثالثة‬ ‫خيره َّ‬
‫يغلب ُ‬
‫ُ‬ ‫(الم َج َّردات)‪ ،‬وعا َلم‬‫ُ‬
‫ِ‬
‫شره‬
‫يغلب ُّ‬
‫ُ‬ ‫الم َت َب ِّق َية‪ ،‬فإننا نرى استحال َة خلقها على اﷲ‪ ،‬إذ ال يمكن أن يخلق اﷲُ ً‬
‫عالما‬ ‫ُ‬
‫الخلق مع الحكمة‬ ‫ِ‬
‫الشر جمي َعه‪ ،‬أو يتساوى فيه األمران؛ ل َتنَافي هذا‬
‫ُ‬ ‫خيره‪ ،‬أو ي ُع ُّم ُّ‬
‫َ‬
‫وإن كان واق ًعا في َط ْو ِر اإلمكان‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلله َّية‪ ،‬وإطالق َخ ْي ِر َّيته‪ْ ،‬‬
‫الم َج َّردات الذي هو خير مطلق‪ ،‬وعا َلم‬ ‫الو ُجو ُد ك ُّله على عا َل َم ْي ِن إذن؛ عالم ُ‬
‫ينطوي ُ‬
‫مجموع هذين العا َلمين بنا إلى القول ب َغ َل َب ِة‬ ‫ُ‬ ‫شره‪ ،‬ويؤ ِّدي‬
‫خيره َّ‬‫يغلب ُ‬‫ُ‬
‫ِ‬
‫الطبيعة الذي‬
‫ٍ‬
‫حينئذ‬ ‫ِ‬
‫بإرادة الخير‪ ،‬وال ُي ْست َْشك َُل علينا‬ ‫وصف اﷲ‬
‫ُ‬ ‫الخير على الوجود ك ِّله‪ ،‬وبهذا يمكن‬
‫يخلق شي ًئا للخير فيه ال َغ َل َبة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وألن من‬ ‫أقل َّأو ًل‪،‬‬‫ألن وجو َده ُّ‬‫الشر في العا َلم؛ َّ‬‫بوجود ِّ‬
‫الشر في ما خل َقتْه يداه‪ ،‬وهذا ثان ًيا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يستحق وصفه بالخير َّية مع وجود ِّ‬ ‫ُّ‬
‫اإلشكال يأتي من‬ ‫َ‬ ‫إمكانات صحيح‪ ،‬ولك َّن‬‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫خمس‬ ‫ِ‬
‫الوجود في‬ ‫حصر عوال ِم‬ ‫َّ‬
‫لعل‬
‫َ‬
‫طالقة تلك الخير َّية‬ ‫ِ‬ ‫الم َج َّردات؛ ما الدليل على‬ ‫ِ‬
‫جهة القول بالخيرية المطلقة لعالم ُ‬
‫‪59‬‬ ‫اهعم ِلماعَتلا ُقرطو ّرشلا ُةلِكشُم‬

‫أيضا‪ ،‬ليس على امتزاج‬ ‫األمر كذلك إذا انتقلنا إلى عا َلم الطبيعة‪ ،‬ما الدليل ً‬
‫ُ‬ ‫المزعومة؟‬
‫شخصا‬
‫ً‬ ‫الشر فيه؟ َّ‬
‫إن‬ ‫ِ‬
‫الخير َّ‬ ‫اهدة‪ ،‬ولكن‪ ،‬على غلبة‬ ‫بالم َش َ‬
‫الخير والشر فيه؛ فهذا موجود ُ‬
‫علما دقي ًقا به في‬
‫يحيط ً‬ ‫َ‬ ‫الشر في شيء ما‪ ،‬عليه أن‬ ‫يريدُ االنتهاء إلى غلبة الخير على ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫إمكان ولو‬ ‫المحيط‬ ‫مسار وجوده ك ِّله‪ ،‬من بداية كونه حتى فنائه ونها َيته؛ فهل لهذا العلم ُ‬
‫األمر بكل هذا الوجود الشاسع‬ ‫ٍ‬
‫لجزء ما من هذا الوجود‪ ،‬حتى نقول بإمكانه إذا تع َّل َق‬
‫ُ‬
‫الم ْمتَدِّ في الزمان والمكان؟ يستحيل هذا بالطبع‪.‬‬
‫ُ‬
‫بخالص عالم المجردات من الشر‪ ،‬وبامتزاج عالم‬ ‫ِ‬ ‫صحة القول‬
‫َّ‬ ‫افترضنا‬
‫ْ‬ ‫وإذا‬
‫ِ‬
‫قياس الخير أو الشر‬ ‫إشكال آخر يقول باستحالة‬ ‫ٍ‬ ‫وشرا‪ ،‬فإننا سنتصادم مع‬
‫خيرا ًّ‬ ‫الطبيعة ً‬
‫الخير على الشر من جهةِ‬‫ِ‬ ‫في العالم‪ ،‬إذ ال يوجد مقياس دقيق يمكنه إخبارنا بانتصار‬
‫ِّ‬
‫جهة الكم‪ ،‬وحصولهم على‬ ‫جهة الكيف‪ ،‬بل إذا افترضنا إمكان قياسه من ِ‬ ‫الكم أو من ِ‬
‫ّ‬
‫أصعب وأبعدُ َمن ًَال‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قياسه كيف ًّيا‬
‫فإن َ‬‫آلة أو طريقة ما ت َُمكِّنهم من ذلك‪َّ ،‬‬
‫إبدال الوجود بالموجود؟ لعل هذا اإلبدال يق ِّل ُل من حجم االعتراضات‬ ‫‪ ‬هل يمكن ُ‬
‫يتعر ُض لها هذا ّ‬
‫الحل‪.‬‬ ‫التي َّ‬
‫كثير من‬ ‫الموجود َم َح َّل الوجود َكك ٍُّل ُم ْخ ِر ٌج لهم من ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫القول بإحالل‬ ‫‪ ‬نعم‪َّ ،‬‬
‫لعل‬
‫فعل اال ِّطالع‬‫أيضا‪ ،‬إذ في اإلمكان ً‬ ‫ِ‬
‫داخل ّي ً‬ ‫ٍ‬
‫إشكال‬ ‫هذه االعتراضات‪ ،‬لكنه ال يخلو من‬
‫شره‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫موجود ما‪ ،‬ومن َث َّم القول بأن‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫غلب َّ‬ ‫الخير في موجود َّيته قد َ‬ ‫َ‬ ‫حياة‬ ‫الكامل على‬
‫الحال ُه َو ُه َو في ما يتع َّلق‬
‫َ‬ ‫القول َّ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بأن‬ ‫واحد ال ُي َخ ِّول لنا‬ ‫الع على موجود‬‫ولك َّن هذا اال ِّط ُ‬
‫ِ‬
‫بغلبة‬ ‫ُ‬
‫القول‬ ‫وحاضرا‪ ،‬و ُم ْس َت ْق َب ًل‪ ،‬حتى يتسنَّى‬ ‫بمجمو ِع الموجودات في العا َلم ماض ًيا‪،‬‬
‫ً‬
‫جهة استقراء جميع الموجودات‬ ‫الخير على الشر في ك ٍُّل‪ .‬إنه ال سبيل إلى ذلك إال من ِ‬ ‫ِ‬
‫ألن استيعاب جميع المخلوقات‬ ‫الكون َّية في جميع األزمان‪ ،‬وليس هذا في اإلمكان؛ َّ‬
‫ُ‬
‫القول بأننا‬ ‫يجوز‬
‫ُ‬ ‫الم ْس َت ْق َر ُأ‪ ،‬وإال فال‬
‫ُم َحال‪ ،‬وألنه حتى يتح َّق َق االستقرا ُء يجب َتك َْر ُار ُ‬
‫قد استقرأناه ً‬
‫فعل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أساس هنا‪ :‬لماذا‬ ‫ٍ‬
‫سؤال‬ ‫الطرف عن ِ‬
‫مثل هذه اإلشكاالت‪ ،‬ولننتقل إلى‬ ‫َ‬ ‫نغض‬
‫د ْعنا ّ‬
‫إلها تتع َّلق إرادتُه‬ ‫عالما ال ينطوي إال على الخير فحسب؟ َّ‬ ‫ِ‬
‫إن ً‬ ‫ال يخلق اﷲ منذ البداية ً‬
‫الخير‬
‫ُ‬ ‫خلق عال ٍم يكون‬ ‫تتوجه تلك اإلراد ُة إلى ِ‬
‫والشر‪ ،‬وال َّ‬
‫ُّ‬ ‫الخير‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫بخلق عالم يمتزج فيه‬
‫الخير َأ ْغ َل ُ‬
‫ب‬ ‫ُ‬ ‫خلق ما فيه‬ ‫فعل؛ َّ‬
‫ألن َ‬ ‫شر‪ ،‬يمكن اتِّصا ُفه بالخير ً‬
‫أي ٍّ‬ ‫ِ‬
‫شوائب ِّ‬ ‫خالصا من‬
‫ً‬ ‫فيه‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪60‬‬
‫ِ‬
‫بطالقة‬ ‫جهة اتِّصافِه‬
‫اإلشكال من ِ‬ ‫ُ‬ ‫يكون صاح ُبه َذا َخ ْي ٍر‪ ،‬ولك ْن‪ ،‬يأتي‬ ‫َ‬ ‫وجيها‪ ،‬إذ‬ ‫ُي َعدُّ داف ًعا‬
‫ً‬
‫خالصا في العا َلم‪ ،‬ولكنه لم يفعل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ِ‬
‫الخير‬ ‫خلق‬‫الخير‪ ،‬إذ كان بإمكانه ُ‬
‫امتالك اﷲ القدر َة على‬‫َ‬ ‫القول بِ َغ َل َب ِة الخير الر َّد على ما سبق؛ فيرون‬
‫ِ‬ ‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يحاول‬
‫ِ‬
‫خرجت‬ ‫تتوجه إرادتُه نحو َم ْز ِج الخير بالشر لما‬ ‫ِ‬
‫خلق هذا العالم المالئك ّي‪ ،‬ولكنَّه لو لم َّ‬
‫إن اﷲ كان أمام خيارين ليس إال؛‬ ‫طور الوجود‪ ،‬و َل َب ِق َيت في عا َلم اإلمكان‪َّ .‬‬ ‫الطبيع ُة إلى ِ‬
‫األول صار ًفا إياه عن َخ ْل ِق عالم الطبيعة من أجل َم َل ِئ ِك َّي ِة العا َلم‪ ،‬ويأتي‬ ‫ُ‬ ‫يأتي الخيار‬
‫الخيار الثاني داف ًعا إياه نحو خلق الطبيعة التي يستحيل كونُها إال بمزج الخير والشر‬ ‫ُ‬
‫فيها‪ .‬إن القائلين بهذا اإلشكال ال يريدون من الطبيعة أن تكون طبيع ًة‪ ،‬وكأنهم يريدون‬
‫للطبيعة أن يكون لها وجود إال بالخير والشر‬ ‫ِ‬ ‫من الشيء أن يكون وال يكون‪ ،‬وال يمكن‬
‫ألن وجودها َل ِزم من أجل الوجودِ‬ ‫وجود عال ِم الطبيعة؛ َّ‬ ‫ِ‬ ‫م ًعا‪ .‬وال ُي ْست َْشك َُل بالضرورة‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫نفسه‪ ،‬إنهم ينتهون إلى القول بضرورة‬ ‫أجل وجود الخير ِ‬ ‫أصل‪َ ،‬و َحت ٌْم من ِ‬ ‫اإلنساني ً‬ ‫ِّ‬
‫الشر ولزومه من أجل ضمان استمرار الخير في العالم‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وجود الشر في العالم إلى َح ٍّل رابع أال وهو ضرورة وقوع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بضرورة‬ ‫ُ‬
‫القول‬ ‫يؤ ِّدي بنا‬
‫الشر القليل في العالم من أجل وجود الخير الكثير فيه؛ فال يمكن للخير الكثير أن يوجد‬ ‫ِّ‬
‫الشر في العا َلم‪ ،‬إلغاء وجود الخير‬ ‫بالشر القليل‪ ،‬بل يلزم عن إلغاء وجود ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫اح ًبا‬‫إال ُم َص َ‬
‫ٍ‬
‫الحق إن شاء اﷲ‪.‬‬ ‫القول أكثر من تقرير أقوم على توضيح ذلك في حوار‬ ‫ُ‬ ‫تب ًعا له‪ ،‬ولهذا‬
‫دراسات‬

‫مدخل إلى مسألة الشر‬


‫(‪)1‬‬
‫‪1‬‬
‫د‪ .‬آرش نراقي‬ ‫_________________________________________________‬

‫شكل وجود الشر في هذا العا َلم إشكالية فلسفية الهوتية بالنسبة إلى المؤمنين‬
‫والملحدين على السواء‪ .‬سوف نتناول مسألة الشر من رؤية الفرد الملحد‪ ،‬ونركز في‬
‫هذا الشأن على خصوص آراء (ألبير كامو)‪ 2‬فيما يتعلق بمسألة (العبث)‪.‬‬
‫إن حدوث الشر في هذا العا َلم يبدو أمرا بديهيا‪ ،‬فليس هناك من لم يجرب‬
‫الشرور الفجيعة والمؤلمة في هذا العا َلم‪ ،‬أو لم يسمع بها أو يقف شاهدا على‬
‫حدوثها في الحد األدنى‪ .‬فالعا َلم مفعم بالمصاديق التاريخية للشرور‪ .‬خذ مثال‪:‬‬
‫معسكر (أوشفيتز بيركينو)‪ 3‬في عصر (أودولف هتلر)؛ حيث شهد تعذيب وقتل‬
‫الكثير من البشر على نحو فجيع‪ ،‬لمجرد ما يحملونه من المعتقدات واألفكار‪.‬‬
‫وخذ مثال آخر من عصابات ال‪( ،‬كو كلوكس كالن)‪ 4‬في تاريخ الواليات المتحدة‬

‫وحررها بالفارسية‪:‬‬ ‫أستاذ فلسفة الدين يف جامعة ‪ Moravian College‬يف الواليات املتحدة‪ .‬أعدها ّ‬ ‫‪.1‬‬
‫ْش الثاين يف‬ ‫ُ‬
‫األول منها‪ ،‬و ُين َ ُ‬ ‫ْش عىل ُج ْز َأ ْي ِن‪ ،‬هذا هو‬
‫اميد قائم بناه‪ ،‬ترمجها للعربية‪ :‬حسن مطر‪ُ .‬تن َ ُ‬
‫عدد املجلة القادم‪.‬‬
‫ألبري كامو (‪ 1913‬ـ ‪ 1960‬م)‪ :‬فيلسوف وجودي وكاتب مرسحي وروائي فرنيس مشهور‪ ،‬ولد‬ ‫‪.2‬‬
‫بقرية موندويف من أعامل قسنطينة باجلزائر‪.‬‬
‫أوشفيتز بريكينو‪ :‬معسكر اعتقال وإبادة بناه النازيون يف أثناء احلرب العاملية الثانية‪ .‬اشتمل هذا‬ ‫‪.3‬‬
‫املعسكر عىل غرف لإلعدام بالغاز‪ .‬وقد اهتم (رودولف هيس) من قبل حمكمة (نورنبريغ) بإعدام‬
‫ثالثة ماليني شخص يف هذا املعسكر‪.‬‬
‫كو كلوكس كالن (‪ )Ku Klux Klan‬وتدعى اختصارا (‪ .)KKK‬اسم يطلق عىل مجعية رسية تتألف‬ ‫‪.4‬‬
‫من عدد من املنظامت األخوية يف الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬تأسست بعد احلرب األهلية لرتسيخ‬
‫سيطرة البيض عىل الزنوج‪ ،‬منها القديم ومنها من ال يزال يعمل حتى اليوم‪ .‬تؤمن بتفوق العرق‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪62‬‬
‫األمريكية‪ ،‬وهي عبارة عن جماعات متعصبة ومتطرفة كانت تتفنن في تعذيب السود‬
‫قبل قتلهم بشكل مريع‪ .‬كما يمكن لنا أن نذكر مثال من التاريخ المعاصر حيث تمثل‬
‫الشر في بعض جوانبه بقصف صدام حسين لمدينة حلبجة بأسلحة الدمار الشامل‪،‬‬
‫الكارثة التي راح ضحيتها الكثير من األبرياء في حادثة يندى لها جبين اإلنسانية‪.‬‬
‫وهكذا لنأخذ مثال من انتشار األمراض واألوبئة الفتاكة في العقود المنصرمة التي‬
‫حصدت األرواح وكذلك األحداث األكثر تحديدً ا مما نسمعه في نشرات األخبار‬
‫بشكل يومي‪.‬‬
‫إن أصل وقوع الشر بحيث يهدّ د حياتنا ويزعزع هدوءنا‪ ،‬األمر الذي يتطلب منا‬
‫الشر في حياتنا تخلق لنا في حد‬
‫شرح ماهية الشرور وحقيقتها‪ .‬ال شك في أن تجربة ّ‬
‫ذاتها كثيرا من التشويش والفوضى‪ ،‬إال أن الذي يجعلنا نواجه أزمة أكبر هو استحالة‬
‫تفسير وجود الشرور في حياتنا‪ .‬فنحن ال نفهم الفلسفة من وجود الشر‪ .‬وبذلك‬
‫يكون فهم وجود الشر أكثر تعقيدا علينا من وقوع الشر نفسه‪ .‬لك أن تتصور والدة‬
‫لتوه السن القانونية التي تسمح له‬
‫وهي تشعر بالفرح والحبور ألن ولدها الذي بلغ ّ‬
‫تفوق في أداء‬
‫بالحصول على رخصة لقيادة السيارة‪ ،‬وقد حصل عليها بالفعل بعد أن ّ‬
‫االمتحان واالختبار بجدارة‪ ،‬ثم قرر أن يحتفل بهذه المناسبة؛ فخرج برفقة ثلة من‬
‫أصدقائه في رحلة إلى المناطق الجبلية في الشمال‪ ،‬وفي الطريق تتعرض الحافلة‬
‫إلى االنحراف والسقوط في أسفل الوادي‪ ،‬ويتم إخراج الشاب المأسوف عليه‬
‫من بين أنقاض تلك الحافلة جثة هامدة‪ .‬إن من بين أهم األمور التي تقض مضجع‬
‫والدته المفجوعة به‪ ،‬هو أن جميع تلك األحداث كان يمكن أن ال تحدث ببساطة‪،‬‬
‫ولكنها حدثت‪ .‬فهي ال تدرك أن جملة العناصر المؤثرة في هذا العا َلم قد اجتمعت‬
‫وتظاهرت لتسرق منها فلذة كبدها‪ .‬إن هذا النوع من عدم المفهومية والمعقولية التي‬
‫تتسبب بها الشرور أقسى على المفجوع من حدوث الشرور نفسها‪ .‬ومن هنا كان‬
‫اعتبار مسألة الشر أمرا يقض مضجع كل إنسان عاقل ومرهف وحساس وأخالقي‬
‫في هذا العا َلم‪ ،‬سواء أكان ذلك الفرد مؤمنا أو ملحدا‪ .‬ومن هنا تخرج مسألة الشر‬

‫األبيض‪ ،‬وتعمل عىل استخدام العنف واإلرهاب والتعذيب كاحلرق عىل الصليب الضطهاد من‬
‫تكره مثل األمريكيني األفارقة وغريهم‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫عن مجرد كونها مسألة الهوتية أو كالمية‪ ،‬لتغدو مسألة فلسفية تشغل اهتمام الفرد‬
‫سواء أكان مؤمنا بوجود اﷲ أو لم يكن مؤمنا بوجوده‪ .‬فعلى الجميع أن يفكر في‬
‫كيفية التعاطي مع الشرور في هذا العا َلم‪ ،‬ويتعلم كيفية التأقلم والتعايش معها‪ ،‬كي‬
‫الشر مطروحة في األدبيات‬
‫ال يصاب باالنهيار في مواجهتها‪ .‬ومن هنا نجد مسألة ِّ‬
‫الوجودية وفي أندية الفالسفة الوجوديين الملحدين‪ ،‬بنفس القوة والزخم الذي‬
‫تطرح فيه هذه المسألة في أندية الحكماء والمتكلمين من المؤمنين‪ .‬بغض النظر عن‬
‫االختالف في تفسير مفهوم الشر بين المؤمنين والملحدين بطبيعة الحال‪.‬‬
‫وقبل الدخول في البحث الالهوتي حول هذه المسألة وعرضها في الفضاء‬
‫التوحيدي‪ ،‬أرغب في بيان وإيضاح أسباب وكيفيات مواجهة هذه المسألة والتعاطي‬
‫معها من الملحدين‪ ،‬بشكل مختصر‪ ،‬حيث يتحتم عليهم أن يعثروا لها على حل في‬
‫منظومتهم الفكرية والفلسفية‪ ،‬هذا إذا كان هناك من طريقة حل لهذه المسألة بطبيعة‬
‫الحال‪.‬‬
‫وربما أمكن لك العثور على أحد أفضل األمثلة الفلسفية للتعاطي مع مسألة‬
‫الشر‪ ،‬من زاوية غير دينية‪ ،‬في مجموع مؤلفات الفيلسوف الوجودي واألديب‬
‫‪5‬‬
‫الفرنسي (ألبير كامو)‪ .‬لقد بين كامو فلسفته الخاصة في كتابه (أسطورة سيزيف)‬
‫التي ترصد بمعنى من المعاني مواجهة اإلنسان لظاهرة الشرور في هذا العا َلم‪ .‬وقد‬
‫عمد إلى نشر الصيغة األدبية لهذه الفلسفة في رواية له تحمل عنوان (الغريب)‪،‬‬
‫وهناك أيضا اتخذت هذه الفلسفة بنحو من األنحاء صيغة تدمج بين الفن والواقع‪ .‬إن‬
‫النقطة األساسية التي يرمي إليها كامو هي أن كل إنسان يفكر يعيش حالة من الغفلة‬

‫‪ .5‬أسطورة سيزيف‪ :‬رواية فلسفية من ‪ 120‬صفحة‪ ،‬ألفها (ألبري كامو) وتم نرشها سنة ‪ 1942‬م‪ .‬تنتمي‬
‫هذه الرواية إىل مرحلة (العبث) إىل جانب رواية (الغريب)‪ ،‬ومرسحيتيه‪( :‬كاليغوال) و(سوء‬
‫التفاهم)‪ .‬أما رواية أسطورة سيزيف فهي ترصد البحث غري املجدي لإلنسان عن معنى وحدة‬
‫ووضوح يف وجه عامل ال حيتوي عىل حقائق وقيم أزلية‪ ،‬حيث يتساءل قائال‪ :‬هل حتقيق العبثية‬
‫يستوجب االنتحار؟ جييب كامو بالقول‪ :‬كال‪ ،‬إن ذلك باألحرى يستوجب التمرد‪ .‬ويف الفصل‬
‫األخري يشبه كامو عبثية حياة اإلنسان بوضع سيزيف‪ ،‬وهي شخصية من امليثولوجيا اإلغريقية قدرها‬
‫أن حتمل صخرة إىل أعىل قمة جبل‪ ،‬وما أن تفعل ذلك تتدحرج الصخرة إىل األسفل‪ ،‬فيعود سيزيف‬
‫من جديد ليصعد هبا إىل أعىل اجلبل‪ ،‬وهكذا دواليك إىل ما ال هناية‪ .‬وخيتم (كامو) روايتَه بقوله‪:‬‬
‫(املثابرة يف حد ذاهتا كافية لتمأل قلب اإلنسان‪ ،‬وعىل املرء أن يتصور سيزيف سعيدا)‪ .‬املرتجم‪.‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪64‬‬
‫في حياتنا المعتادة‪ .‬فالنهار يعقبه الليل ونحن نكدح في العمل لنعود إلى مهاجعنا‬
‫منهكين‪ ،‬ولنا بعض أنواع التسلية‪ ،‬ونعيش لحظات من المتعة أحيانا‪ ،‬وتعرض علينا‬
‫بعض الحاالت المعتادة من الحزن والنكد وما إلى ذلك‪ .‬ولكن هناك لحظات في‬
‫الحياة تشهد أحداثا تدفعنا فجأة إلى التريث والتدبر؛ لنجد أنفسنا قد أفقنا من نوم‬
‫عميق‪ ،‬فنبدأ من حينها إلى التأمل في ما يجري حولنا في هذا العا َلم‪ .‬وبذلك نحصل‬
‫على نوع من الوعي واإلدراك من الدرجة الثانية‪ .‬ومن بين تلك األمور التي تؤدي إلى‬
‫هذا الوعي‪ ،‬وتجعل هذا الوعي منشغال بنفسه على نحو عميق‪ ،‬مواجهة ظواهر في‬
‫هذا العا َلم خارجة عن حدود وعينا وفهمنا‪ .‬فهي تطلب منا تفسيرا‪ ،‬لكننا نجد أنفسنا‬
‫أعجز من أن نقدر على تفسيرها‪ .‬وعلى حد تعبير كامو‪ :‬إننا نعود إلى رشدنا في هذا‬
‫العا َلم فجأة؛ لندرك أن في العا َلم الماثل أمامنا شيئا ال يمكن لفهمنا أن يستوعبه‪.‬‬
‫إن من أهم ما يميزنا نحن البشر هو امتالكنا للعقل‪ ،‬ويبدو أن الشيء المعقول يتحد‬
‫فينا حتى يكون جزءا منا‪ ،‬ولكن حيث تجد نفسك فجأة أمام عالم يحتوي في الحد‬
‫األدنى على أمور ال يمكن لفهمك أن يستوعبها‪ ،‬يحدث بينك وبين العا َلم الماثل‬
‫وهوة سحيقة ال سبيل إلى اجتيازها‪ .‬وأنت بحكم كونك صاحب‬
‫أمامك شرخ واسع ّ‬
‫وعي تواجه شيئا ال يسلم القياد للمعقولية‪ ،‬ويفتقر إلى الوعي‪ ،‬واألهم من ذلك أنه ال‬
‫يدرك بالعقل‪ .‬يذهب كامو إلى االعتقاد بأنك في مواجهة هذا المأزق‪ ،‬حيث يواجه‬
‫وجودك المعقول شيئا ال يعقل‪ ،‬تعيش تجربة يطلق عليها مصطلح العبث والتفاهة‬
‫(‪ .)Absurd‬وهنا تبدأ فجأة بالسؤال عن معنى الحياة‪ ،‬وتقول‪ :‬ما الذي تعنيه الحياة‬
‫في هذا العا َلم الغريب أصال؟ ولماذا أتيت إلى هذا الوجود أساسا؟ وحيث ال‬
‫تستطيع تكوين إدراك صحيح عن ذاتك‪ ،‬وعن واقعك‪ ،‬وعن العا َلم الذي تعيش فيه‪،‬‬
‫تحول حياتك برمتها ووجودك وبقاءك فيها إلى سؤال واستفهام‪ .‬من هنا يرى كامو‬
‫إن أول وأهم سؤال للفلسفة يكمن في سؤال االنتحار‪ .‬فما الذي يدعو إلى عدم‬
‫االنتحار‪ ،‬وما السبب الذي يمنعنا من االستسالم لمغريات الموت؟! وبعبارة أخرى‪:‬‬
‫ما هو السبب الذي يدعونا إلى مواصلة الحياة‪ ،‬وما سر الحياة الذي يقنعنا بالبقاء‬
‫واالستمرار في الحياة؟ والسؤال هنا هو سؤال عن معنى الحياة‪ .‬ومن أهم المسائل‬
‫التي ترمي بهذا المأزق والشرخ بيننا وبين العا َلم‪ ،‬هي مشكلة الشر‪ .‬الشيخوخة والوباء‬
‫‪65‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫وفقدان األحبة‪ .‬هناك شيء يكمن في هذه الظواهر ويجعلها متفلتة من دائرة فهمنا‪.‬‬
‫واسمحوا لي هنا أن أقرأ عليكم فقرات من كتاب كامو التي يصور فيها كيف تقذف‬
‫الهوة السحيقة بالفرد في أزمة العبثية وانعدام المعنى وتجعله وجها لوجه أمام‬
‫هذه ّ‬
‫تفاهة الحياة! يقول كامو في بداية كتابه (أسطورة سيزيف)‪( :‬االنتحار هو االعتراف‬
‫بأن الحياة كثيرة عليك‪ ،‬أو بأنك ال تفهمها)‪ .‬وهكذا فإن الذي يريد كامو قوله هو‬
‫أنك عندما تواجه استعصاء ظواهر هذا العا َلم على الفهم‪ ،‬ومنها مثال الشر في هذا‬
‫العا َلم‪ ،‬وعندما يعجز ذهنك عن إدراك هذه الظواهر‪ ،‬ويظهر أمامك فجأة عنصر غير‬
‫معقول‪ ،‬يستولي عليك شعور باالنفصام واالغتراب عن العا َلم الخارجي‪ ،‬وفي ظل‬
‫هذه الظروف تنظر إلى الحياة بوصفها عبئا ثقيال‪ ،‬ولن تعود لك القدرة على حملها‬
‫الثقيل‪ .‬وهنا يقول كامو‪( :‬وبذلك يفرض سؤال االنتحار نفسه تلقائيا)‪ .‬فالذي يقدم‬
‫على االنتحار يعترف بأنه قد عجز عن فهم الحياة‪ .‬وقال كامو في موضع آخر من‬
‫بداية هذه المقالة‪( :‬إن العا َلم الذي يمكن تفسيره‪ ،‬حتى ولو كان تفسيرا ساذجا‪،‬‬
‫هو عالم مألوف)‪ .‬وهذا يعني أن القدرة على الفهم تجعل من العا َلم المغترب عنك‬
‫مألوفا لديك؛ ألن ماهيتك تكمن في فهم األمور وعقلنتها‪ .‬ثم يستطرد كامو قائال‪:‬‬
‫(لكن من الناحية األخرى‪ ،‬نجد اإلنسان يحس بالغربة في كونه يتجرد فجأة من‬
‫األوهام والضوضاء‪ ،‬ونفيه هذا هو بال عالج‪ ،‬ما دام قد حرم من ذكريات وطن‬
‫مضيع‪ ،‬أو من أمل أرض موعودة)‪ .‬إن هذا الشرخ القائم بين اإلنسان والحياة وبين‬
‫الممثل وخشبة المسرح هو الشعور نفسه بتفاهة وعبثية الحياة‪ .‬هناك ظواهر روتينية‬
‫رتيبة في حياتنا اليومية‪ :‬حيث نستيقظ في الصباح‪ ،‬ونتناول إفطارنا‪ ،‬ثم نتوجه إلى‬
‫أعمالنا‪ ،‬وننهمك في العمل لعدة ساعات‪ ،‬ثم نستريح‪ ،‬لنستأنف العمل من جديد‪،‬‬
‫ثم نعود إلى البيت‪ ،‬نتناول وجبة العشاء‪ ،‬نتابع التلفاز‪ ،‬وندردش مع األسر‪ ،‬ثم نخلد‬
‫إلى النوم‪ .‬وهكذا سيتكرر المشهد في الغد‪ ،‬وبعد الغد‪ .‬وبذلك تكون حياتنا إلى‬
‫حد كبير شبيهة بحياة (سيزيف) المذكور في الميثولوجيا اإلغريقية‪ ،‬الذي حلت‬
‫به نقمة اآللهة وحكمت عليه بأن يحمل صخرة من أسفل الوادي والتسلق بها إلى‬
‫قمة الجبل‪ ،‬ولكنه ما أن يبلغ بها القمة حتى تتدحرج لتسقط ثانية في قعر الوادي‪،‬‬
‫فيتعين عليه حملها إلى القمة ثانية‪ ،‬ويستمر على هذا الحال طوال حياته‪ .‬إن الذي‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪66‬‬
‫يمثل العقوبة الواقعية في هذا المثال ال يكمن في حمل الصخرة إلى قمة الجبل؛ إذ لو‬
‫كان هناك من هدف وراء هذه العملية؛ ألمكن لسيزيف أن يتقبل األمر برحابة صدر‪.‬‬
‫بل العقوبة الحقيقية تكمن في عبثية وعدم وجود هدف لهذه العملية‪ .‬لو افترضنا أن‬
‫الغاية من تلك العملية هي بناء قصر منيف في أعلى قمة الجبل‪ ،‬لوجد سيزيف في ذلك‬
‫عزاء بأنه سيترك أثرا عنه لألجيال القادمة‪ ،‬األمر الذي يجعل المسألة بالنسبة له تستحق‬
‫العناء‪ .‬ولكن حيث ال وجود لمثل هذه الغاية يتحول هذا العناء إلى عذاب قاتل‪ .‬إن‬
‫الذي يريد كامو قوله هو إن كل يوم من حياتنا العادية يمثل شرا وتكرارا عديم المعنى إذ‬
‫ال ينتهي إلى شيء‪ .‬وإن هذا الشعور باإلنهاك‪ ،‬الذي يتجلى في نهاية الحياة الميكانيكية‬
‫الخالية من التأمل‪ ،‬يمكنه بطبيعة الحال أن يشكل بداية لنوع من الوعي‪ ،‬حيث يقدم‬
‫كامو محاولة الحل التي يرتئيها‪ .‬قد تفكر في نهاية المطاف باالنتحار في خضم هذه‬
‫المخاطر والحجم الهائل من الشر الذي يثقل كاهلك‪ ،‬متصورا أن الحياة ال معنى لها‪،‬‬
‫وأن كفة الموت ترجح على كفة الحياة‪ .‬يسعى كامو في فلسفته إلى العثور على معنى‬
‫للحياة من دون التخبط في مأزق الوهم‪ .‬وهو يرى أن الحلول الدينية وهمية وموهمة‪.‬‬
‫وعليه فإن نقطة اشتراك كامو مع الرؤية الدينية هي أن شرور العا َلم ال يمكن تحملها إال‬
‫من خالل تصور معنى لها‪ ،‬وعليه ال بد من العمل على توفير معنى لهذه الشرور (حتى‬
‫لو كان هذا المعنى مستخرجا من صلب الالمعنى)‪ .‬بيد أن اختالف كامو عن اإلجابات‬
‫الدينية يكمن في أنه يذهب إلى االعتقاد بأنها تقوم على نوع من الوهم‪ ،‬بمعنى أن هذه‬
‫الحلول تسعى إلى القفز على ماهية هذا المأزق الماثل بيننا وبين العا َلم المغترب من‬
‫خالل وهم بث الحياة في العا َلم المحيط بنا والقول بوجود إله واحد يعمل على إدارة‬
‫جميع مظاهر الحياة‪ .‬أما كامو فيعتقد أن اإلجابة األصيلة يجب أال تقترن بهذه األوهام‪،‬‬
‫وأن على الفرد أن يعترف بهذا الوضع التراجيدي القائم في وجود اإلنسان في هذا‬
‫العا َلم‪ ،‬إن كان هناك من حل يجب بيانه وتقديمه‪ .‬وعليه فإنك ترى أن مسألة الشر تمثل‬
‫بالنسبة إلى الفرد الملحد مسألة في غاية األهمية وتطلب منه أن يجيب عنها‪ .‬كان لدى‬
‫كامو إجابة خاصة‪ ،‬حيث كان لآلخرين (من الفالسفة الملحدين) إجابات أخرى عن‬
‫مسألة الشر‪.‬‬
‫بيد أنه ومن ناحية أخرى يسعى الفهم والتفكير الديني إلى اإلجابة عن هذه‬
‫‪67‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫التساؤالت بطريقته الخاصة‪ .‬إن الحل الذي يقترحه المتدين‪ ،‬عالوة على أنه يبين ماهية‬
‫الدين وفهمه ﷲ إلى حد كبير‪ ،‬يمكنه التخفيف من األزمة الناشئة عن تجربة الشر في هذا‬
‫العا َلم بالنسبة إلى المبتلى والمكلوم وتضميد شيء من جراحه‪ .‬إن إجابة الدين هي أن‬
‫العا َلم ليس غريبا عنا كما نتصور‪ .‬هناك معتقدان رئيسان في األديان‪ ،‬ال سيما األديان‬
‫التوحيدية منها‪ ،‬يميالن بمعنى من المعاني إلى معالجة الحياة التراجيدية للبشر في هذا‬
‫العا َلم‪ .‬أعيد التأكيد هنا على أن التراجيديا التي نعاني منها في هذا العا َلم ال تكمن في‬
‫الشر نفسه‪ ،‬بل إن الذي يجعل من الشر أمرا ال يطاق هو العجز عن فهمه وتفسيره‪،‬‬
‫فهذا هو الذي يجعل الشرور في العا َلم مسألة تراجيدية‪ .‬إن من بين المعتقدات التي‬
‫يقترحها المتدين هو اإليمان باﷲ‪ .‬وهو اإلله الذي يتصف بأنه عالم مطلق‪ ،‬وقادر مطلق‪،‬‬
‫وخير محض‪ .‬وهو الذي قام بتصميم جميع أجزاء هذا المسرح‪ ،‬ووضع كل شيء من‬
‫عناصره في موضعها‪ .‬وكأن اﷲ قد أعد سيناريو الكون‪ ،‬وكل ظاهرة تحدث في هذا‬
‫الكون تمثل جانبا وقطعة من هذا السيناريو‪ ،‬وإن الجميع يمارس دوره في تحقيق غاية‬
‫أهم وأسمى‪ .‬إن القول بوجود رواية شاملة في هذا العا َلم وأننا بأجمعنا أجزاء فيها‪ ،‬وأن‬
‫هذه القافلة بأسرها تتجه إلى غاية واحدة‪ ،‬هو من بين الطرق التي تميل األديان إليها في‬
‫إطار اإلجابة عن تراجيدية الشر في هذا العا َلم‪ .‬وعليه فلو أن والدة فقدت ابنها فسوف‬
‫ال يكون بإمكانها التعويض عن األلم الذي يخلفه فقدان الولد بطبيعة الحال أبدا‪ ،‬وهذا‬
‫األلم سيبقى يالحقها ويطحن فؤادها المكلوم طحن الرحى‪ .‬وأما إذا كانت هذه المرأة‬
‫إلها شاهدً ا في هذا العا َلم‪ ،‬واألهم‬
‫تؤمن بوجود مخطط عام في هذا العا َلم‪ ،‬وأن هناك ً‬
‫من ذلك أن هناك حياة بعد الموت‪ ،‬فإنها سوف تتحمل وقوع هذه الحادثة التي أدت إلى‬
‫موت ولدها الوحيد بشكل أسهل‪ .‬إذ ترى ضرورة أن تكون هناك حكمة وأن ابنها لم‬
‫يطله الفناء‪ ،‬وأنه انتقل من وجود إلى وجود آخر‪ .‬وال شأن لك في صحة أو عدم صحة‬
‫هذه النظريات‪ .‬فربما كان هناك شخص على شاكلة سيغموند فرويد يرى أن ذلك ليس‬
‫سوى وهم وخيال‪ .‬بيد أن فرويد نفسه يرى حتى هذا الوهم‪ ،‬في حد ذاته‪ ،‬يؤدي دورا‬
‫مهما في تسكين اآلالم واألوجاع المستعصية التي تقض مضجع اإلنسان‪ .‬إال أنه كان‬
‫يرى أن هذه األوجاع واآلالم يجب تسكينها بطريقة أخرى أكثر واقعية من هذه األوهام‪.‬‬
‫ولست هنا بصدد البحث حول صحة أو سقم هذه المعتقدات‪ ،‬بل أتحدث بشأن دورها‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪68‬‬
‫وتأثيرها‪ .‬وعليه فإن التصور القائل بوجود إله حكيم وضع هذا العا َلم على وفق خطة‬
‫تقضي بأن حياتنا ال تقف عند هذه الدنيا فقط‪ ،‬بل سوف تتواصل الحياة إلى ما بعد هذه‬
‫الدنيا‪ ،‬يمثل الجواب الذي تقدمه المعتقدات الدينية لتفسير ظاهرة الشر في هذا العا َلم‪.‬‬
‫علم الكالم على تفسير الشر أو جعله قابال للفهم في الحد‬
‫من األدلة التي قدمها ُ‬
‫األدنى‪ ،‬هو الدليل المتمثل بوجود حياة بعد الموت‪ .‬ولكن مسألة الشر‪ ،‬بغض النظر‬
‫عن الناحية النفسية‪ ،‬له أبعاد إلهية‪ ،‬بمعنى أن الدين وإن كان على حد تعبير فرويد يعمل‬
‫على تسكين أوجاع اإلنسان‪ ،‬إال أن أصل وقوع الشر‪،‬كما يشير الكثير من الحكماء‪،‬‬
‫يشكل تحديا لهذا النظام اإللهي الذي تدعو إليه األديان التوحيدية‪.‬‬

‫الش ّر في عا َلم يحكمه إله يتصف بالعلم والعدل والقدرة‬


‫ذكرنا أن الحاجة إلى فهم الشر وتفسير وجوده في هذا العا َلم ال تقتصر على‬
‫المؤمنين باﷲ فقط‪ ،‬بل هي تهم المنكرين له أيضا‪ ،‬فعليهم البحث عن حل لبيان مشكلة‬
‫وجود الشر في حياتنا وجعلها مفهومة‪ .‬وأشرنا إلى أن نوع المشكلة التي يخلقها‬
‫وجود الشر في العا َلم للملحدين ال تتحد بالضرورة مع المشكلة التي تثيرها للمؤمنين‬
‫والموحدين‪ ،‬ألن السؤال الذي يشغل الملحد قبل أي شيء آخر هو السؤال عن معنى‬
‫الحياة‪ .‬بمعنى أن الملحد عندما يواجه الشرور المهولة يعيش تجربة عنصر ال يمكن‬
‫فهمه في هذه التجربة المتمثلة بوجود الشر في هذا العا َلم‪ .‬إن عدم معقولية وإمكانية‬
‫فهم تجربة الشرور‪ ،‬ال سيما الشرور االعتباطية منها‪ ،‬سوف تجعل الملحد آجال أم‬
‫عاجال‪ ،‬وجها لوجه أمام السؤال القائل‪ :‬ما الذي يمنعني من االنتحار؟ وما المعيار‬
‫الذي يجعل الفرد قادرا على إضفاء القيمة على حياته‪.‬‬
‫أما المشكلة التي يثيرها وجود الشرور في العا َلم أمام المؤمنين‪ ،‬فهي من نوع آخر‪.‬‬
‫وهذا ال يعني بطبيعة الحال أن المؤمنين ال يواجهون مشكلة السؤال عن معنى الحياة‪،‬‬
‫إال أن المشكلة األهم التي يثيرها وجود الشر لهم‪ ،‬تتمثل بالعدل اإللهي‪ .‬فالسؤال هنا‬
‫يقول‪ :‬كيف يمكن تفسير وإيضاح الشرور المريعة في هذا العا َلم الذي يحكمه من‬
‫وجهة نظر المؤمنين إله يتصف بالعلم والعدل والقدرة؟ وهذه الناحية تمثل نقطة تميز‬
‫مسألة الشر الالهوتية من مسألة الشر غير الالهوتية التي تحظى باألهمية للملحدين‪.‬‬
‫‪69‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫هناك ثالثة بيانات لمسألة الشر في حقل الالهوت‪:‬‬


‫‪ .1‬الصورة المنطقية للشر‪ ،‬بمعنى أن أصل وجود الشرور في هذا العا َلم ال ينسجم‬
‫من الناحية المنطقية مع فرضية وجود إله عالم وقادر مطلق وخير محض‪ .‬بمعنى أنه‬
‫ال يمكن لكال هذين األمرين من الناحية المنطقية أن يصدقا في وقت واحد‪ .‬وبعبارة‬
‫أخرى‪ :‬ليس هناك ممكن في العا َلم يستطيع أن يفترض صدق هاتين القضيتين بشكل‬
‫متزامن‪ ،‬وعليه إذا كانت إحدى هاتين القضيتين صادقة‪ ،‬ستكون األخرى كاذبة ال‬
‫محالة‪.‬‬
‫‪ .2‬إال أن بعض الفالسفة القائلين ببرهان الشر يذهبون إلى االعتقاد بأن هذا االدعاء‬
‫قد يكون مبالغا به‪ ،‬وأنه ال بدّ من طرح ادعاء أكثر تواضعا‪ .‬ومن هنا ذهبوا إلى التقرير‬
‫الثاني في تفسير مشكلة وجود الشرور في العا َلم‪ .‬وهي الصيغة االحتمالية لمسألة‬
‫الشر‪ .‬ففي هذه الصورة يدعي الملحد أن وجود الشرور في هذا العا َلم يجعل من وجود‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫اإلله العالم والقادر والخير على ذروة هذا العا َلم والذي يدبر شؤون هذا العا َلم احتماال‬
‫بعيدا جدا‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬إن احتمال صدق القضية القائلة إن اﷲ موجود ضئيل جدا‬
‫مع وجود الشرور التي تحدث في هذا العا َلم‪ .‬ولذلك ال يمكن للفرد المتعقل أن يبقى‬
‫متمسكا باالعتقاد بوجود اﷲ مع تصديقه بوجود الشرور في العا َلم‪.‬‬
‫‪ .2‬المسألة الوجودية للشر‪ .‬إن المسألة الوجودية للشر تختلف عن التقريرين‬
‫المتقدمين‪ .‬التقريران السابقان هما من المسائل النظرية التي يجب بحثها وتمحيصها‬
‫من الفالسفة والمتكلمين‪ .‬أما المسألة الوجودية للشر فتعرض للفرد عندما يعيش في‬
‫حياته الشخصية تجربة المصائب الكبيرة والمهولة التي ال يعود بإمكانه أن ينوء بحملها‬
‫وثقلها‪ ،‬بحيث تتغير نظرته إلى العا َلم وال يعود بإمكانه اعتبار الوجود مخلوقا إلله‬
‫محب للخير وعالم وقادر بشكل مطلق‪ .‬وعليه فإن المسألة الماثلة هنا أمامنا قبل أن‬
‫تكون مسألة فلسفية‪ ،‬تعود إلى أزمة اإليمان والتحول الوجودي والشخصي لدى الفرد‬
‫الذي يعاني من هول الشر‪.‬‬
‫وعليه فإن موضوع البحث هذه المرة يدور في الحقية حول إبداء تعريف مختصر‬
‫للصورة المنطقية لمسألة الشر‪ .‬وإن نقطة البداية في منطقية مسألة الشر تكمن في بيان‬
‫أمرين‪:‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪70‬‬
‫األمر األول‪ :‬وجود الشر‬
‫األمر األول ينطوي على فهم خاص للشر‪ ،‬بمعنى أن القائلين ببرهان الشر‬
‫والمخالفين لهم‪ ،‬أي المؤمنون الذي ينتقدون هذا البرهان‪ ،‬يشتركون غالبا في إحدى‬
‫مقدمات هذا البرهان‪ ،‬وهي المقدمة المتمثلة بوجود الشر في هذا العا َلم على كل حال‪.‬‬
‫نعم كان هناك من شكك في أصل وجود الشر من الناحية الميتافيزيقية‪ ،‬بمعنى أن هناك‬
‫من ذهب إلى االعتقاد بأن الشرور في العا َلم أمور عدمية‪ ،‬وأنها ليس لها وجود مستقل‬
‫من هذه الناحية‪ ،‬وأن الشر من الناحية الميتافيزيقية عبارة عن فقدان الخير‪ .‬من قبيل‬
‫الظالم الذي يعني غياب النور‪ ،‬أو العمى الذي يعني فقدان البصر‪ .‬فإذا كان الشر أمرا‬
‫عدميا ال يمكن القول واالحتجاج على اﷲ بخلق الشر واعتباره هو المسؤول عن هذا‬
‫الشر الذي خلقه؛ فالشيء المعدوم ال يمكن العثور له على ما يمكن أن يكون مسؤوال‬
‫عنه‪ .‬ولكن هناك الكثير من اإلشكاالت الواردة على هذا المدعى‪ ،‬ومنها القول‪ :‬هب‬
‫أن األمر كما تقول‪ ،‬وأن الشر أمر عدمي من الناحية الميتافيزيقية‪ ،‬لكننا ال نستطيع أن‬
‫ننكر واقعية التبعات المترتبة على الشر في حياتنا‪ .‬فلو كان الموت يعني عدم الحياة‪ ،‬إال‬
‫أن األلم والوجع الذي سيعاني منه أهل الميت موجود وال يمكن إنكاره‪.‬‬
‫وفي األعمال المرتبطة بمسألة الشر يتم التمييز بين مجموعتين من الشرور‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫‪ ،1‬الشرور األخالقية‪.‬‬
‫‪ ،2‬الشرور الطبيعية‪.‬‬
‫إن الشرور األخالقية عبارة عن األوضاع المأساوية التي هي حصيلة السلوك‬
‫المنحرف لبعض أفراد البشر‪ ،‬من قبيل‪ :‬القتل واالحتيال‪ .‬أما الشرور الطبيعية فهي‬
‫التي ال ربط لها بسلوك اإلنسان‪ ،‬من قبيل‪ :‬البراكين والزالزل والسيول واألمراض‪.‬‬
‫هناك بعض الكوارث الطبيعية التي تعتبر نتاجا لسلوك البشر‪ ،‬كما هو الحال في ظاهرة‬
‫االحتباس الحراري وبعض األمراض واألوبئة‪ .‬االعتقاد باﷲ يرى الخالق هو العلة‬
‫الرئيسة لجميع الوقائع واألحداث‪ ،‬والذي تجري بأمره جميع التفاصيل والجزئيات‬
‫في هذا العا َلم‪ ،‬يجب أن ال يكون هناك تفاوت بين الشر األخالقي والشر الطبيعي على‬
‫وفق القاعدة‪ ،‬بمعنى أن اﷲ يجب أن يكون على كل حال هو المسؤول عن كال هذين‬
‫‪71‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫النوعين من أنواع الشرور‪ ،‬وإذا كان بإمكان وجود الشر أن يحدث خلال في المعتقدات‬
‫اإللهية للفرد‪ ،‬لن يكون هناك فرق بين أن يكون هذا الشر طبيعيا أم أخالقيا‪.‬‬
‫األمر الثاني‪ :‬صفات اهلل‬
‫النقطة الثانية في مسألة الشر‪ ،‬هي الصورة المفترضة ﷲ في هذه الدنيا‪ ،‬فإن الملحدين‬
‫ال يؤمنون بوجود اﷲ‪ ،‬بيد أنهم في برهان الشر يفترضون الصورة المرسومة ﷲ من‬
‫المؤمنين‪ ،‬وهي الصورة التي يطلق عليها الملحدون مصطلح (اإللهيات التقليدية)‪.‬‬
‫وهي الصورة التي تشترك فيها األديان التوحيدية جميعها (اإلسالم والمسيحية‬
‫واليهودية)‪ .‬وطبقا لهذه الصورة يتصف اﷲ بثالث صفات رئيسة‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪ ،1‬القادر المطلق‪ :‬إن هذا اإلله يتصف بأنه قادر مطلق‪ .‬إن قدرة اﷲ المطلقة ال تعني‬
‫أنه يقوم بكل شيء‪ ،‬بل تعني أنه قادر على فعل كل شيء يمكن فعله من الناحية المنطقية‪.‬‬
‫من قبيل رسم المربع على شكل دائرة‪ ،‬فهذا األمر محال من الناحية المنطقية‪ ،‬ولذلك‬
‫ال يمكن فعله؛ فإن قدرة اﷲ المطلقة محدودة بحدود اإلمكان المنطقي‪.‬‬
‫‪ ،2‬العا َلم المطلق‪ :‬إن اﷲ عالم مطلق‪ ،‬بمعنى أنه يعلم بجميع القضايا الصادقة في‬
‫هذا العا َلم‪ .‬وإن كل شيء يقع في هذا العا َلم داخل في نطاق علمه‪ .‬وهذا التعريف‬
‫بدوره يحتوي‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬على بعض اإلشكاالت‪ ،‬ولذلك ال بد من إضافة بعض‬
‫القيود عليه‪ ،‬ولكننا نفترض اآلن أنه تعريف مقبول‪.‬‬
‫‪ ،3‬الخير المحض‪ :‬إن اﷲ يتصف بأنه خير محض‪ .‬بمعنى هو خير في حد ذاته‪ ،‬وأنه‬
‫خيرا وأنه‬
‫يريد الخير لآلخرين‪ ،‬بما في ذلك اإلنسان‪ ،‬أيضا‪ .‬وهو ال يقتصر على كونه ً‬
‫يريد الخير لآلخرين فقط‪ ،‬بل هو خير مطلق‪ ،‬بمعنى أنه على أعلى مستويات الرحمانية‬
‫والرحيمية تجاه مخلوقاته وعباده‪.‬‬

‫الصيغة المنطقية للش ّر‬


‫إن الصيغة المنطقية لمسألة الشر مفادها‪ :‬إن القضية القائلة بـ (وجود إله يتصف‬
‫بهذه الصفات)‪ ،‬والقضية القائلة بـ (وجود الشرور في هذا العا َلم) ال يمكن لهما أن‬
‫يتناغما وينسجما فيما بينهما من الناحية المنطقية‪ .‬بمعنى إذا قبلنا بأن الشر موجود‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪72‬‬
‫في هذا العا َلم‪ ،‬لزم من ذلك أن اﷲ الواحد يفتقر إلى واحدة من هذه الصفات الثالثة‬
‫المتقدمة‪ ،‬ولذلك ال يكون اﷲ‪ ،‬المتصف بهذه الصفات الثالثة مجتمعة‪ ،‬موجودا‪.‬‬
‫لنفترض أن مجرما آثما اختطف طفال من بعض األحياء‪ ،‬وحبسه في سرداب في‬
‫منطقة نائية‪ ،‬وأخذ يسوم هذا الطفل البريء بألوان العذاب‪ ،‬وكان يبيت النية لقتله‪ .‬ثم‬
‫صدف أن صار مرورك بجوار هذا السرداب‪ ،‬دون أن تعلم بوجود هذا الطفل المعذب‬
‫والمهدد بالموت‪ ،‬لذلك واصلت طريقك من دون أن تفعل شيئا إلنقاذ ذلك الطفل من‬
‫محنته‪ .‬فهل يمكن في مثل هذه الحالة توجيه اللوم عليك؛ ألنك لم تحل دون وقوع‬
‫تلك الجريمة؟ كال؛ ألنك لم تعلم أبدا بوجود هذا الطفل في ذلك السجن‪ ،‬ولم تدرك‬
‫حجم األلم الذي يعانيه‪ .‬ولكن لو افترضنا أنك مررت به‪ ،‬وسمعت صراخ ذلك الطفل‪،‬‬
‫ونظرت من النافذة ورأيت رجال ضخما يقوم بتعذيب ذلك الطفل ويوشك أن يجهز‬
‫عليه‪ .‬لنفترض أنك لم تمتلك أي وسيلة لمنع حدوث تلك الجريمة‪ .‬كما لو كان ذلك‬
‫المجرم مسلحا‪ ،‬ولم تكن تمتلك حتى هاتفا يمكنك االتصال من خالله الستقدام‬
‫النجدة‪ ،‬ولم تكن لديك أية وسيلة إلنقاذ الطفل وتقديم المساعدة له‪ ،‬فهل يمكن‬
‫ألحد أن يلومك على عدم إنقاذ الطفل؟ الجواب أيضا‪ :‬كال‪ .‬ألنك وإن رأيت الطفل‬
‫يستغيث‪ ،‬وكنت تتمنى إنقاذه من كل قلبك‪ ،‬ولكن قدرتك قصرت عن إنقاذه‪ ،‬ولذلك‬
‫ال يمكن توجيه اللوم عليك‪ .‬ويمكن أن يكون هناك سيناريو ثالث‪ ،‬وهو أن تكون قد‬
‫مررت بذلك السجن‪ ،‬وسمعت صراخ ذلك الطفل وهو يستغيث‪ ،‬ثم نظرت من النافذة‬
‫ورأيت رجال ضخما يقوم بتعذيب ذلك الطفل ويوشك أن يقضي عليه‪ ،‬وكنت مسلحا‬
‫وكان بإمكانك أن تنقذ الطفل وتخلصه من الموت‪ ،‬ولكنك مع ذلك تقاعست عن‬
‫إنقاذه‪ ،‬وآثرت أال تدخل نفسك في مشكلة ال ناقة لك فيها وال جمل‪ ،‬وهكذا تركت‬
‫الطفل لمصيره وواصلت طريقك مبتعدا عنه‪ .‬فلو مات الطفل بعد ذلك متأثرا بتعذيب‬
‫المجرم له‪ ،‬كيف سيكون الحكم الذي يصدره بحقك وجدانك وضميرك األخالقي؟‬
‫من الواضح أنك هنا قد تكشفت عن شخص غير صالح وغير محب للخير‪ .‬بمعنى أن‬
‫هذا السلوك يعبر عن ضحالة عميقة في شخصيتك األخالقية‪ .‬وإذا كان هذا الحكم‬
‫صحيحا‪ ،‬يجب أن ننظر إلى المسألة من زاوية أخرى‪ .‬لو كان المؤمنون والمتدينون‬
‫على حق في روايتهم‪ ،‬وكان اﷲ موجودا‪ ،‬وهو يتصف بالعلم المطلق‪ ،‬فيجب أن يكون‬
‫‪73‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫قد علم بمحنة ذلك الطفل‪ ،‬ومن ناحية أخرى يتصف هذا اإلله بالقدرة المطلقة‪ ،‬بمعنى‬
‫أنه كان قادرا على إنقاذ حياة ذلك الطفل‪ ،‬فإذا كان إلى جانب ذلك متصفا بحب الخير‪،‬‬
‫فإننا نتوقع منه أن يسارع إلى إنقاذ الطفل‪ .‬النتيجة التي نراها هي أن هذا الطفل والكثير‬
‫من أمثاله من الذين كان باإلمكان إنقاذ حياتهم بكل بساطة بحسب الظاهر‪ ،‬ومع ذلك‬
‫تركوا لكي يواجهوا مصيرهم المحتوم بشكل مروع‪ .‬فإن اﷲ على الرغم من علمه بهذه‬
‫األحداث والشرور‪ ،‬و على الرغم من قدرته على منعها‪ ،‬إال أنه لم يقدم على أي شيء‬
‫حيالها‪ .‬فإذا كان الشخص الذي يتصف بالعلم والقدرة ومع ذلك ال يقوم بعمل إلنقاذ‬
‫الطفل‪ ،‬يحكم عليه بوجود خلل واضح في وجدانه وضميره األخالقي‪ ،‬لماذا ال يمكن‬
‫الحكم على اﷲ‪ ،‬المتصف بالعلم والقدرة وحب الخير المطلق بهذا الحكم أيضا‪ ،‬لماذا‬
‫ال يمكن القول بأن هذا اإلله غير محب للخير؟ ومن ناحية أخرى فإنكم إذا قبلتم بهذا‬
‫الحكم‪ ،‬فإن هذا اإلله‪ ،‬طبقا لتعريفكم له وقولكم إنه يجب أن يتصف بالخير المطلق‪،‬‬
‫فلن يكون إلها‪ ،‬ولن يكون باإلمكان أن نطلق عنوان األلوهية عليه‪ .‬هذه هي صورة‬
‫مسألة الشر‪ ،‬وعليه يمكن القول باختصار‪:‬‬
‫المقدمة األولى‪ :‬إذا كان اﷲ قادرا مطلقا‪ ،‬فإنه في مثل هذه الحالة يستطيع القيام بكل‬
‫فعل ممكن من الناحية المنطقية‪.‬‬
‫المقدمة الثانية‪ :‬إذا كان اﷲ عالما مطلقا‪ ،‬فإنه يعلم بجميع القضايا الصادقة‪ ،‬وإنه‬
‫مطلع على كل ما وقع ويقع من األحداث في الماضي والحاضر والمستقبل‪.‬‬
‫المقدمة الثالثة‪ :‬إذا كان اﷲ خيرا ومحبا للخير المحض‪ ،‬وعلم بحدوث شر‪ ،‬وكان‬
‫بإمكانه أن يحول دون حدوثه فإنه‪ ،‬بمقتضى خيريته‪ ،‬سيحول دون حدوثه‪.‬‬
‫بهذه المقدمات يجب أال يكون هناك أي شر في الدنيا‪ .‬بيد أن الحقيقة هي أن‬
‫المؤمنين والملحدين يعتقدون بوجود الكثير من الشرور في هذا العا َلم‪ ،‬وأنه كان‬
‫باإلمكان الحيلولة دون وقوعها بكل بساطة‪ ،‬خاصة بالنسبة إلى اﷲ القادر المطلق‪،‬‬
‫لكن هذه الشرور موجودة‪ .‬وعليه يجب القول‪ :‬إما أن اﷲ غير عالم بوجود هذه الشرور‪،‬‬
‫وهذا يعني أنه ليس عالما مطلقا‪ ،‬أو أنه كان يعلم بها‪ ،‬ولكنه ال يستطيع الحيلولة دونها‪،‬‬
‫وهذا يعني أنه ليس قادرا مطلقا‪ ،‬أو أنه كان يعلم ويستطيع أن يحول دون وقوع الشر‪،‬‬
‫ومع ذلك لم يمنع‪ ،‬وهذا يعني أنه ليس محبا للخير مطلقا‪ .‬وعلى كل حال فإن القضية‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪74‬‬
‫القائلة بوجود اإلله العالِم والقادر والمحب للخير ال ينسجم من الناحية المنطقية مع‬
‫قضية وجود الشرور في هذا العا َلم‪ .‬فإذا كانت إحدى هاتين القضيتين صادقة‪ ،‬وجب أن‬
‫تكون القضية األخرى كاذبة‪ ،‬وحيث ال شك في صدق وجود الشرور في هذا العا َلم‪ ،‬ال‬
‫مندوحة لنا من القول بعدم وجود اﷲ في هذا العا َلم‪.‬‬
‫في هذا االستدالل ال يمكن الشك في المقدمتين األوليين (العلم المطلق والقدرة‬
‫المطلقة)‪ ،‬فهما صحيحتان طبقا للتعريف ويجب افتراضهما على أساس الهوت‬
‫األديان التوحيدية‪ .‬ويبدو أن المؤمنين ال يريدون التشكيك في صحة هاتين المقدمتين‪.‬‬
‫ولكن ما الشأن في المقدمة الثالثة من هذا البرهان؟ إن المقدمة الثالثة تقول‪ :‬إذا كان‬
‫اﷲ خيرا ومحبا للخير فإنه كلما علم بوقوع الشر وأمكن له المنع منه‪ ،‬فإنه سيمنعه‪ .‬إن‬
‫هذه القضية تقوم على أصل أخالقي عام يقول‪ :‬إن الفاعل األخالقي الصالح والشريف‬
‫كلما واجه شرا وأمكنه أن يحول دون وقوعه‪ ،‬فإنه سوف يحول دون وقوعه‪ .‬إن هذا‬
‫من أهم عالمات اتصاف الفاعل األخالقي بالخير والصالح وحب الخير لآلخرين‪.‬‬
‫والسؤال هنا‪ :‬هل هذه المقدمة صحيحة؟ هذه المقدمة بهذا الشكل غير صحيحة‪ ،‬بل‬
‫هناك أدلة يمكن من خاللها أن نعتبر هذه المقدمة كاذبة وليست غير صحيحة فحسب‪.‬‬
‫إن الصدق الضروري هو الصدق الذي ال يشذ على أي حال‪ ،‬من قبيل معادلة‪ :‬اثنين‬
‫زائد اثنين يساوي أربعة‪ ،‬فهل المقدمة الثالثة من هذا القبيل؟ طبقا لألدلة الفلسفية إذا‬
‫كان المفترض أن تكون نتيجة هذه القضايا والمقدمات عدم وجود اﷲ فال بد أن تكون‬
‫المقدمة الثالثة ضرورية الصدق‪ .‬ال شك وال بحث في صحة المقدمة األولى (اﷲ عالم‬
‫مطلق)‪ ،‬والثانية (اﷲ قادر مطلق)‪ ،‬وكذلك الرابعة (الشر موجود) صحيحة أيضا‪ .‬بل‬
‫كل البحث في صدق المقدمة الثالثة‪ .‬ونحن نقول‪ :‬إن المقدمة الثالثة كاذبة‪ .‬لنفترض‬
‫أن األم تعمد لسبب ما إلى معاقبة ولدها‪،‬كأن يكون قد ارتكب فعال قبيحا‪ .‬إن عقوبة‬
‫األم لولدها يترتب عليها نوع من الوجع واأللم‪ ،‬وعليه فإن هذه العقوبة تنطوي على‬
‫نوع من الشر‪ ،‬واألم تعلم أن عقوبتها تحمل شيئا من األذى الروحي والنفسي على‬
‫ابنها‪ ،‬وهي تستطيع أن تجنبه هذا األلم وتمتنع عن معاقبته‪ ،‬ولكنها ال تفعل ذلك على‬
‫الرغم من علمها وقدرتها عليه‪ .‬وعليه هل يمكن وصف األم في ظل هذه الحالة بأنها‬
‫غير صالحة وال تحب الخير لولدها؟ يبدو أن الجواب واضح‪ ،‬وهو أنه ال يمكن وصف‬
‫‪75‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫األم بمثل هذه الصفات‪ .‬ولكن لماذا؟ إن السبب في ذلك هو أننا نعلم أن األم تمتلك‬
‫دليال أخالقيا وجيها يبيح لها أن تعاقب ولدها وتذيقه بعض الشر‪ ،‬فهي تقول‪ :‬إنني إذ‬
‫أعاقب ولدي في هذه اللحظة سيحصل على المصلحة الكامنة في هذه العقوبة على‬
‫المدى البعيد‪ ،‬وإن هذه المصلحة من األهمية بحيث تبرر فرض هذه العقوبة عليه‪ .‬من‬
‫هنا فإن هذا األصل القائل بأن الشخص إذا كان خيرا ومحبا للخير إذا علم واستطاع‬
‫الحيلولة دون وقوع الشر يجب عليه أن يحول دونه‪ ،‬ليس صحيحا‪ ،‬بل يجب القول‪:‬‬
‫إال إذا كان هناك من سبب أخالقي وجيه يقوم على الخالف‪.‬‬
‫وعليه إذا أريد لبرهان الشر أن يكون منتجا يجب أن نضيف إليه مقدمة أخرى‪ ،‬وهي‬
‫المقدمة القائلة‪( :‬إن اﷲ ليس لديه أي سبب أخالقي يبرر له عدم الحيلولة دون وقوع‬
‫الشر)‪ .‬بيان ذلك أن األم يمكنها القول‪ :‬لو كان بمقدوري إيصال ذلك الخير األسمى‪،‬‬
‫الذي هو عبارة عن تهذيب شخصية الطفل وصقلها‪ ،‬من طريق غير فرض العقوبة على‬
‫الطفل لفعلت‪ ،‬ولكني ال أمتلك تلك القدرة‪ ،‬وليس أمامي من وسيلة لتربية ولدي غير‬
‫العقوبة‪ .‬وبذلك تكون األم هنا معذورة؛ ألن علمها المحدود‪ ،‬وقدرتها المحدودة‪،‬‬
‫تجعل من العقوبة هي الطريق الوحيد أمامها للوصول إلى تربية الولد‪ .‬لكن هل يمكن‬
‫قول الشيء نفسه بخصوص اﷲ أيضا؟ هل يمكن ﷲ أن يقول‪ :‬ليس أمامي من طريقة‬
‫للوصول إلى تهذيب العبد غير تعذيبه؟ أو أني ال أستطيع القيام بعمل آخر؟ الجواب‪:‬‬
‫كال‪ .‬فإن بإمكانه القيام بأمر آخر؛ ألن إصالح هذا الولد ليس مستحيال من الناحية‬
‫المنطقية‪ ،‬وعليه يمكن ﷲ بوصفه قادرا مطلقا أن يصل إلى هذا األمر من دون اللجوء‬
‫إلى توظيف الشر‪ .‬فإذا كان لدى األم من عذر وجيه لعجزها وجهلها‪ ،‬ال يمكن ﷲ أن‬
‫يتمسك بهذا العذر الذي تتمسك به األم؛ ألنه بخالفها يعلم ويستطيع أن يحول دون‬
‫وقوع الشر ومع ذلك ال يحول دون وقوعه‪ .‬وعليه إذا أراد الملحد أن يصوغ برهان الشر‬
‫بشكل أدق‪ ،‬عليه أن يصوغه على النحو اآلتي‪ :‬إذا كان اﷲ عالما مطلقا‪ ،‬فإنه سيكون‬
‫على علم بجميع القضايا الصادقة‪ ،‬وإذا كان قادرا مطلقا‪ ،‬فسوف يمكنه القيام بكل‬
‫عمل ممكن من الناحية المنطقية‪ ،‬وإذا كان اﷲ خيرا محضا‪ ،‬فإن هذا اإلله حيث يعلم‬
‫ويستطيع أن يحول دون وقوع الشر‪ ،‬فإنه سيحول دون وقوعه‪ .‬وعليه فإن المقدمة‬
‫التكميلية هي‪ :‬إن اﷲ ال يمتلك أي سبب أخالقي وجيه وال يمكن له أن يمتلك مثل هذا‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪76‬‬
‫السبب الذي يبيح له السماح بحدوث مثل هذه الشرور في العا َلم‪ .‬فيما يتعلق بنا نحن‬
‫البشر‪ ،‬حيث نعاني من نقص العلم أو نقص في القدرة واالستطاعة‪ ،‬نمتلك سببا وجيها‬
‫للقيام ببعض الشرور في هذا العا َلم‪ ،‬إال أن هذا ال يمكن تعميمه على اﷲ؛ ألنه ال يمتلك‬
‫أي سبب وجيه للسماح بوقوع الشرور في هذا العا َلم‪ ،‬وعليه حيث يعلم بوقوع الشر‬
‫ويمكنه الحيلولة دون وقوع الشر (إذ هو موجود في كل مكان‪ ،‬بحسب التعريف‪ ،‬وهو‬
‫عالم بكل شيء‪ ،‬ويستطيع القيام بكل فعل غير مستحيل من الناحية المنطقية)‪ ،‬عليه أن‬
‫يمنع من وقوع الشر‪ .‬وحيث تقع الشرور في هذا العا َلم‪ ،‬فإن اﷲ في مثل هذه الحالة ال‬
‫يخلو أمره‪ ،‬فإما أن ال يكون عالما مطلقا‪ ،‬أو ال يكون قادرا مطلقا‪ ،‬أو ال يتصف بحب‬
‫الخير لآلخرين‪ .‬ومن هنا يدعي الملحدون أن وجود اﷲ بوصفه عالما مطلقا وقادرا‬
‫مطلقا وخيرا محضا‪ ،‬ال ينسجم مع وجود الشرور في هذا العا َلم‪ ،‬وال يمكن الجمع‬
‫بين هاتين القضيتين‪ ،‬وحيث أن وجود الشرور في هذا العا َلم ثابت بالبداهة‪ ،‬ال يبقى‬
‫أمام اإلنسان المنطقي والعاقل غير التشكيك في وجود اﷲ‪ ،‬ويذهب إلى االعتقاد بأن‬
‫القضية القائلة (إن اﷲ موجود)‪ ،‬بالوصف الذي تخلعه األديان التوحيدية على هذه‬
‫القضية‪ ،‬كاذبة‪.‬‬

‫مسألة الشر‪ :‬مناقشة الدليل السابق‬


‫هل يمتلك اﷲ من األسباب ما يبرر وجود الشرور في العا َلم‪ ،‬وتبرئة ساحة اﷲ من‬
‫اتهامه باإلهمال والتقصير تجاه وقوع الشرور في هذا العا َلم‪ ،‬كتلك التي تمتلكها األم‬
‫عندما تعاقب ابنها؟ ما السبب األخالقي الوجيه الذي يمكنه تبرير وجود وحدوث‬
‫الشرور في العا َلم؟ إن من التحليالت المبسطة في بيان هذه األسباب‪ ،‬هو ما ذكرته‬
‫الشر قد يتمخض أحيانا عن خير عظيم‪ ،‬وأن هذا الخير‬
‫في مستهل كالمي‪ ،‬بمعنى أن ّ‬
‫يكون من العظمة بحيث يمكنه تبرير وجود هذا الشر بكل بساطة‪ .‬أو أن الشر الذي‬
‫نرتكبه في هذا العا َلم‪ ،‬يحول في الحقيقة دون وقوع شر أعظم‪ ،‬وإن هذا الشر من‬
‫العظمة والفداحة بحيث يبيح حدوث ذلك الشر األول‪ .‬وعليه إذا كانت األسباب‬
‫األخالقية المبررة لهذا العا َلم من هذا القبيل‪ ،‬أمكن لنا أن نفترض فاعال أخالقيا يعلم‬
‫بوقوع شر‪ ،‬ويمكنه أن يحول دون وقوعه‪ ،‬ولكنه مع ذلك ال يحرك ساكنا تجاهه؛ ألحد‬
‫‪77‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫هذين السببين المانعين (أي أنه يعلم أن هذا الشر إما أن يؤدي إلى خير أعظم منه‪ ،‬أو‬
‫يحول دون حدوث شر أكبر منه)‪ .‬لنفترض مثال أن شخصا يخطف طفال ثم يحبسه في‬
‫سرداب بعيد ويعذبه إلى حد الموت‪ .‬إن هذه الحادثة من تلك الشرور التي يصعب‬
‫على شخص أن يتصور وجود أسباب أخالقية تبررها‪ .‬ولكن اسمحوا لنا أن نفترض في‬
‫عالم الخيال أن هذه الحادثة تعمل الحقا على تحفيز والد هذا الطفل وتشجعه على بناء‬
‫مؤسسة خيرية لتوفير الحماية لألطفال للحيلولة دون تعرضهم لنفس ما تعرض له نجله‬
‫الصغير‪ ،‬وبذلك سوف يتم إنقاذ مئات األطفال من األذى والموت‪ ،‬ولنفترض أن هذا‬
‫الخير من العظمة بحيث يبرر حدوث هذا الشر القليل‪ ،‬أنا لست مطمئنا إلى كون األمر‬
‫على هذه الشاكلة‪ ،‬بل أذكر ذلك على سبيل االفتراض‪.‬‬
‫يمكن قول هذا الكالم في فضائنا البشري‪ ،‬حيث أننا لم نكن في موقع الحادثة‬
‫كي نحول دون وقوعها‪ ،‬وإن إمكاناتنا أقل من أن يكون بإمكانها الحيلولة دون وقوع‬
‫األحداث المماثلة في المستقبل‪ .‬إن موت هذا الطفل في الحقيقة يحدث صدمة تؤدي‬
‫بدورها إلى خلق وعي اجتماعي‪ ،‬ونتيجة لذلك يتم التأسيس لمنظمات تعنى بالحفاظ‬
‫على حياة األطفال وحماية حقوقهم‪ ،‬وبذلك يؤدي حدوث هذا الشر إلى الحيلولة‬
‫دون وقوع شرور أعظم في المستقبل‪ ،‬حيث يتم إنقاذ أرواح مئات األطفال اآلخرين‪.‬‬
‫قد يمكن لنا أن نطرح مثل هذا االستدالل ويكون مقبوال بالنسبة لنا‪ .‬إال أن مثل هذا‬
‫االستدالل ال يمكن أن يكون مناسبا ﷲ؛ إذ بإمكان اﷲ أن يحقق هذا الخير األعظم أو‬
‫يدفع هذا الشر األعظم بألف سبيل وسبيل‪ ،‬من دون أن يكون تعريض الطفل للموت‬
‫واألذى من بين تلك السبل‪.‬‬
‫لو قبلنا بهذا التحليل فإن األسباب األخالقية المبررة ألعمالنا‪ ،‬ال تكون أسبابا مبررة‬
‫ألعمال اﷲ‪ .‬وعليه ما هو الحل في مثل هذه الحالة؟ لو كانت العالقة بين هذا الشر‬
‫وذلك الخير األعظم من نوع خاص مثال‪ ،‬ربما اختلف األمر‪ .‬فلو فرضنا أن وقوع هذا‬
‫الشر كان شرطا الزما ومنطقيا لحدوث ذلك الخير األعظم‪ ،‬لما كان بإمكانك إحداث‬
‫ذلك الخير األعظم إال من خالل هذا الشر القليل‪ .‬فإذا كان األمر على هذه الشاكلة لم‬
‫يكن ألحد‪ ،‬حتى اﷲ‪ ،‬أن يحقق هذا الخير األعظم إال من خالل ذلك الشر‪ ،‬بمعنى يجب‬
‫علينا قبل كل شيء أن نحدد نوع العالقة القائمة بين هذا الشر وذلك الخير األعظم‪.‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪78‬‬
‫ففي جميع األمثلة التي ذكرتها كان ذلك الشر يحدث على نحو الصدفة ليشكل مقدمة‬
‫لتحقيق خير أعظم‪ .‬بيد أن العالقة القائمة بين هذا الشر وذلك الخير األعظم لم تكن‬
‫من نوع العالقة واالرتباط الضروري‪ .‬بمعنى أن بإمكانك أن تفترض شرائط تؤدي إلى‬
‫تحقق ذلك الخير األعظم دون الحاجة إلى حدوث هذا الشر القليل‪ .‬ففي هذه الصورة‬
‫لو أمكن تحقيق ذلك الخير األعظم من دون هذا الشر‪ ،‬لوجب علينا تحقيق ذلك الخير‬
‫األعظم‪ .‬وأما إذا افترضنا وجود شر يعتبر شرطا الزما وضروريا لتحقق الخير األعظم‪،‬‬
‫ففي هذه الحالة ال يمكن تحقيق ذلك الخير األعظم‪ ،‬من الناحية المنطقية‪ ،‬إال من خالل‬
‫ذلك الشر‪ .‬وفي هذه الصورة ال يمكن ألي أحد‪ ،‬حتى اﷲ‪ ،‬أن يحقق ذلك الخير األعظم‬
‫إال من خالل هذا الشر‪ .‬فإذا كانت العالقة القائمة بين بعض الشرور والخيرات من هذا‬
‫النوع‪ ،‬أي عالقة الضرورة‪ ،‬ففي هذه الحالة يمكن أن يكون لدى اﷲ أسباب أخالقية‬
‫وجيهة لتبرير حدوث تلك الشرور‪ .‬بمعنى أن الشرور التي تمثل شرطا لتحقق الخيرات‬
‫العظيمة‪ ،‬إذا كانت تلك الخيرات من العظمة والقيمة بحيث تعوض عن تلك الشرور‪،‬‬
‫يمكن لذلك أن يشكل سببا أخالقيا وجيها لتبرير سلوك الفاعل الصالح والمحب للخير‪.‬‬
‫ويمكن أن يكون اﷲ هو هذا الفاعل والمحب للخير‪ .‬وال بأس بذكر مثال للموارد التي‬
‫يكون فيها الشر شرطا الزما وضروريا لحدوث الخير األعظم‪ .‬وقبل توضيح هذه‬
‫النقطة من األفضل أن نمر بمسألة منطقية بسيطة‪ .‬هناك في المنطق مجموعة من القضايا‬
‫التي يطلق عليها مصطلح القضايا التركيبية المعطوفة‪ .‬وهي عبارة عن قضيتين بسيطتين‬
‫تم الربط بينهما بحرف العطف (الواو)‪ .‬من قبيل القضية التركيبية القائلة‪( :‬إن غابريل‬
‫ماركيز مؤلف رواية مائة عام من العزلة‪ ،‬وإن يوسف زيدان مؤلف رواية عزازيل)‪ ،‬ففي‬
‫هذه العبارة هناك تركيب عطفي مؤلف من جملتين وقضيتين بسيطتين‪ .‬القضية األولى‬
‫عبارة عن‪( :‬إن غابريل ماركيز مؤلف رواية مئة عام من العزلة)‪ ،‬والقضية الثانية عبارة‬
‫عن‪( :‬إن يوسف زيدان مؤلف رواية عزازيل)‪ ،‬وقد عمدنا إلى ربط كلتا هاتين القضيتين‬
‫بوضع حرف العطف بينهما‪ ،‬لنحصل على قضية تركيبة منهما‪ .‬وعليه نقول‪ :‬إن قيمة‬
‫صدق القضايا التركيبية تابع لصدق أجزائها‪ .‬وفي القضية التركيبية التي ذكرتها لكم‬
‫كنت صادقا‪ ،‬ألن القضية األولى كانت صادقة‪ ،‬وكذلك القضية الثانية كانت صادقة‬
‫أيضا‪ .‬وعندما تكون كلتا القضيتين صادقة‪ ،‬تكون القضية التركيبية صادقة أيضا‪ .‬وأما‬
‫‪79‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫إذا قلت لكم‪( :‬إن غابريل ماركيز مؤلف رواية مئة عام من العزلة‪ ،‬وإن نجيب محفوظ‬
‫مؤلف رواية عزازيل)‪ ،‬ستكون هذه القضية التركيبية كاذبة‪ ،‬ألن أحد جزئيها كاذب‪،‬‬
‫وإن كذب بعض أجزاء القضية التركيبية يعني كذب القضية التركيبية برمتها‪ .‬وعليه فإن‬
‫قيمة صدق القضية التركيبية تابع لصدق أجزائها‪ ،‬وإن صدق األجزاء المؤلفة لها يمثل‬
‫شرطا ضروريا ومنطقيا لصدق مجموع القضية التركيبية‪ .‬وعليه لنأخذ هذه المسألة‬
‫المنطقية المبسطة بنظر االعتبار‪ .‬ولنفترض اآلن أن القضية (أ) تقول مثال‪( :‬إن زيدا‬
‫سعيد بما حدث لعمرو)‪ ،‬ونحن بطبيعة الحال نفترض أن هذه القضية جيدة؛ فأن يكون‬
‫الشخص سعيدا هو في حد ذاته أمر جيد‪ .‬ثم ننتقل إلى القضية (ب) والتي تقول‪( :‬إن‬
‫زيدا حزين لما حدث لعمرو)‪ ،‬ويبدو أن هذه القضية مؤسفة؛ ألن حالة الحزن غير‬
‫حسنة‪ .‬ولنأخذ بنظر االعتبار القضية (ج) وهي القضية القائلة‪( :‬لقد تصور زيد خطأ أن‬
‫عمرا قد تعرض لحادثة مؤسفة)‪ ،‬بمعنى أن زيدا قد سمع خبرا كاذبا مفاده أن عمرا قد‬
‫فقد شخصا عزيزا عليه‪ .‬وهنا يمكن لنا أن نؤلف قضية تركيبية من خالل عطف القضية‬
‫(ج) على القضية (أ)‪ ،‬فنقول‪( :‬لقد تصور زيد خطأ أن عمرا قد تعرض إلى مصيبة‪،‬‬
‫وشعر بالسعادة للمصيبة التي ظن أن عمرا قد أصيب بها)‪ ،‬إن هذه القضية التركيبية‬
‫تعبر في الحقيقة عن حالة سيئة‪ .‬إذ تبين الطبيعة الشريرة لزيد حيث يسعد بالمصيبة التي‬
‫حلت بصديقه عمرو‪ .‬ثم لننظر إلى القضية من زاوية أخرى‪( :‬لقد تصور زيد خطأ أن‬
‫عمرا قد تعرض إلى مصيبة‪ ،‬وشعر بالحزن بسبب المصيبة التي ظن أن عمرا قد أصيب‬
‫بها)‪ ،‬وهنا تبدو لنا هذه القضية أفضل من سابقتها؛ إذ أن زيدا وإن شعر بالحزن‪ ،‬ولكن‬
‫سبب الحزن هنا هو من أجل المصيبة التي تعرض لها صديقه عمرو‪ ،‬وهذا أفضل من‬
‫أن يشعر بالغبطة والسعادة على مصيبة صديقه‪ .‬وعليه فإننا في هذه األمور أمام حالتين؛‬
‫إحداهما تشتمل على الخير (السعادة)‪ ،‬واألخرى تشتمل على الشر (الحزن)‪ .‬بيد أن‬
‫وضع األمر المشتمل هنا على الشر أفضل من وضع األمر المشتمل على الخير‪ .‬وإذا‬
‫كان األمر كذلك فال أحد‪ ،‬حتى اﷲ (فيما لو فرضنا أن اﷲ خير بين تحقيق واحد من‬
‫هذين األمرين) الذي هو محب للخير‪ ،‬يحجم عن اختيار الحالة المتضمنة لذلك الشر‬
‫(أي المشتملة على حالة شعور زيد بالحزن)‪ ،‬وعدم اختيار الحالة المتضمنة لذلك‬
‫الخير (أي المشتملة على شعور زيد بالسعادة للمصيبة التي حلت بعمرو)‪ .‬في ظل‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪80‬‬
‫َح ُّق ِق تلك الشروط‬
‫هذه الشرائط ال يمكن لهذه الحالة التركيبية أن تتحقق من دون ت َ‬
‫المنطقية‪ .‬هذا مثال من الموارد التي تمثل فيها الشرور شرطا ضروريا‪ ،‬من الناحية‬
‫المنطقية‪ ،‬لألمور التي نطلق عليها مصطلح الخير األعظم‪ .‬وهنا تمثل الحالة التي شعر‬
‫فيها زيد بالحزن على المصيبة التي حلت بصديقه عمرو (على الرغم من عدم تحققها‬
‫في الواقع‪ ،‬ولكن زيدا ظن خطأ أنها قد حصلت) أفضل بكثير من الحالة التي شعر فيها‬
‫زيد بالسعادة على مصيبة صديقه‪ .‬وإن هذه الحالة األفضل ما كان لها أن تتحقق إال‬
‫من خالل ذلك الشر (شعور زيد بالحزن)‪ .‬وعليه ال بد من االلتفات إلى أن الذي أريد‬
‫قوله هو أن هناك بعض الشرور تمثل شرطا الزما لوجود الخيرات العظيمة‪ .‬بمعنى أن‬
‫تلك الخيرات العظيمة ال يمكن لها أن توجد إال من خالل تح ّقق هذه الشرور‪ .‬وأنا ال‬
‫أريد أن أقول إن هذا الكالم عام‪ ،‬بل الذي أريد التأكيد عليه هو أن بإمكاننا من الناحية‬
‫المنطقية أن نفترض شرائط يكون فيها وقوع الشر شرطا الزما ومنطقيا لتحقق الخير‬
‫األعظم‪ .‬وإذا توفرت مثل هذا الشروط ال يمكن ألحد‪ ،‬حتى اﷲ‪ ،‬أن يحقق ذلك الخير‬
‫األعظم من دون ذلك الشر (وهو الحزن في مثالنا)‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس فإن االدعاء الذي أريد االستدالل عليه هنا هو أن هناك شرورا‬
‫في هذا العا َلم تعتبر شروطا الزمة ومنطقية للخيرات العظمى‪ ،‬وإن هذه الشرور إذا كان‬
‫لها وجود‪ ،‬وقد ثبت مما سبق أن لها وجود‪ ،‬لن يكون بإمكان أي أحد حتى اﷲ أن يوجد‬
‫تلك الخيرات العظمى من دون أن يحقق تلك الشرور‪ .‬ويمكن لكم إعادة صياغة هذا‬
‫المثال فيما يتعلق بالعالقة بين الشرور والشرور األعظم أيضا‪.‬‬
‫وعليه لو فرضنا وجود أوضاع تستلزم شرا‪ ،‬وأوضاع ال تستلزم ذلك الشر‪ ،‬إال أن‬
‫وضع األمور المستلزمة لذلك الشر أفضل بكثير من وضع األمور التي ال تستلزم ذلك‬
‫الشر‪ .‬ففي مثل هذه الحالة يقوم افتراضنا على أن اﷲ المحب للخير يعمل بطبيعة الحال‬
‫على ترجيح وضع األمور المستلزمة للشر‪ ،‬وسوف يعمل على تحقيقها‪ ،‬من دون وضع‬
‫األمور التي ال تستلزم الشر‪ ،‬وال يمكنه أن يقوم بغير ذلك؛ ألنها تمثل شرطا الزما لذلك‬
‫الخير األعظم‪ .‬بمعنى أن ذلك الخير األعظم ال يتحقق إال بوقوع ذلك الشر‪ .‬وفي هذه‬
‫الحال إذا كان هناك وجود لمثل وضع هذه األمور‪ ،‬فإن اﷲ يمكنه أن يبقى على اتصافه‬
‫بالخير المحض ومع ذلك يخلق ذلك الوضع من األمور المتضمنة للشر‪ .‬وفي هذه‬
‫‪81‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫األحوال التي يكون فيها وقوع الشرور شرطا الزما لتحقق هذا النوع من األمور‪ ،‬يمكن‬
‫لها أن تكون أدلة أخالقية مبررة في مقام جواز الشرور على اﷲ‪ .‬يبقى السؤال هنا يقول‪:‬‬
‫ما هذا الخير األعظم الذي أشرت له في المثال؟ ما الخير األعظم في هذا العا َلم الذي‬
‫ال يمكن له أن يوجد إال من طريق تحقق بعض الشرور؟ ما هو الخير األعظم الموجود‬
‫في هذا العا َلم‪ ،‬والذي يمكن لوقوعه أن يبرر الشرور في هذا العا َلم؟‬

‫عندما يكون الش ّر شرطا لوجود خير أعظم‬


‫إن الخيرات العظمى التي ال نستطيع القيام بها إال من طريق اللجوء إلى ارتكاب‬
‫الشرور‪ ،‬قد ال تنطبق على اﷲ؛ إذ يمكن ﷲ أن يحقق تلك الخيرات العظمى دون المرور‬
‫بتلك الشرور‪ .‬وعليه فإن الشر الذي ارتكبه للوصول إلى خير أكبر‪ ،‬ال يمكن أن يكون‬
‫سببا أخالقيا لتبرير جواز الشر‪ ،‬لكن يوجد هنا استثناء‪ .‬وذلك االستثناء هو أن الشرور‬
‫في بعض الحاالت تكون شرطا الزما لتحقيق الخيرات العظمى‪ .‬بمعنى أن تلك‬
‫الخيرات الكبرى ال يمكن لها التحقق من الناحية المنطقية إال من طريق تلك الشرور‬
‫التمهيدية‪ .‬فإذا كانت العالقة القائمة بين هذا الشر وبين الخير األعظم المتمخض عنه‬
‫من قبيل العالقة الضرورية‪ ،‬لن يكون بمقدور أحد‪ ،‬حتى اﷲ‪ ،‬أن يوجد ذلك الخير‬
‫األعظم إال من طريق ذلك الشر التمهيدي‪ .‬وفي هذه الحالة يمكن أن يقال‪َّ :‬‬
‫إن هذا الشر‬
‫الذي ارتكبته سببه أنه يؤدي إلى خير أعظم‪ ،‬وأن هذا الخير األعظم ال يمكن تحقيقه إال‬
‫من هذا الطريق‪ ،‬وقد ذكرت لذلك مثاال في ما سبق‪ .‬ذكرت في ذلك المثال أن الشعور‬
‫بالتعاطف ال يكون خاليا من الحزن على آالم اآلخرين‪.‬كان ذلك مصداقا من مصاديق‬
‫الشر التمهيدي‪ ،‬وهو الشر الضروري للخير األعظم من الناحية المنطقية‪.‬‬
‫إن البرهان المنطقي للشر لم يبين هنا في الحد األدنى أن وجود اﷲ العالِم المطلق‪،‬‬
‫والقادر المطلق‪ ،‬والخير المحض‪ ،‬يتناقض مع أصل وجود الشر من الناحية المنطقية‪.‬‬
‫إذ لو أريد لهذا البرهان أن يبين ذلك‪ ،‬وجب أن نضيف إليه أشياء أخرى‪ .‬كأن يثبت‬
‫أن اﷲ ال يمتلك أي سبب أخالقي لجواز الشرور في هذا العا َلم‪ ،‬واألهم من ذلك ال‬
‫يستطيع أن تكون له مثل هذه األسباب‪ .‬بيد أن كون هذه القضية القائلة‪ :‬إن اﷲ موجود‪،‬‬
‫وإن الشر موجود في هذا العا َلم غير متناقضتين‪ ،‬أو أن أحدا لم يستطع أن يثبت أنهما‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪82‬‬
‫متناقضتان‪ ،‬ال يعني أنهما منسجمتان فيما بينهما حقيقة‪ .‬بل إن علينا لكي نثبت تناغم‬
‫هاتين القضيتين أن نفترض وضعا وعالما ممكنا ينسجم فيه وجود اﷲ مع افتراض‬
‫وجود الشرور في ذلك العا َلم‪ .‬وبعبارة أدق‪ :‬علينا العثور على قضية ممكنة تنسجم مع‬
‫القضية القائلة‪ :‬إن اﷲ موجود‪ ،‬وأن اجتماع تلك القضية االفتراضية بالقضية القائلة‪ :‬إن‬
‫اﷲ موجود‪ ،‬يستلزم من الناحية المنطقية وجود الشر في هذا العا َلم‪ .‬وعلينا أن ال ننسى‬
‫أن عدم انسجام قضيتين يعني أنهما ال يمكن أن تصدقا معا في أي عالم ممكن‪ .‬وعليه‬
‫إذا عثرت على عالم ممكن تصدق فيه هاتان القضيتان معا‪ ،‬تكون قد أثبت أن هاتين‬
‫القضيتين متناغمتان ومنسجمتان من الناحية المنطقية‪ .‬إن هذه المسألة التي نبحث فيها‬
‫عن عالم ممكن يصطلح عليها بجهة الدفاع (‪ )defense‬مقابل نظريات العدل اإللهي‪.‬‬
‫إن لب الكالم الذي يقال في نظريات العدل اإللهي هو أن أسباب اﷲ عبارة عن‪( :‬أ)‬
‫و(ب) و(ج) و(د)‪ .‬وأما في بحث مسألة الشر من الناحية المنطقية‪ ،‬ليس من الالزم‬
‫أن نذكر األسباب الحقيقية ﷲ‪ ،‬فالفرد يقول هنا‪ :‬ما يدريني ما الذي يجري في علم اﷲ‪.‬‬
‫بل إن الالزم في حل مسألة الشر من الناحية المنطقية هو أن نعثر على دليل ممكن‬
‫نستطيع من خالله في كون اﷲ عالما بالمطلق‪ ،‬وقادرا بالمطلق‪ ،‬وخيرا محضا‪ ،‬يبيح‬
‫وجود الشر في هذا العا َلم باعتبار ذلك الدليل الممكن‪ .‬وعليه فإننا هنا نبحث عن‬
‫دليل ممكن إذا امتلكه اﷲ (ونحن ال نعلم ما إذا كان اﷲ يمتلك مثل هذا الدليل أم ال)‬
‫أمكن له العثور على سبب أخالقي يبرر من خالله أصل وجود الشر‪ ،‬ويكون وجود‬
‫الشر في هذا العا َلم منسجما مع اتصاف اﷲ بالخير‪ .‬هذا ما يسمى بجهة الدفاع‪ .‬وعليه‬
‫فنحن في الدفاع نبحث عن دليل ممكن من الناحية المنطقية ينسجم فيه وجود اﷲ مع‬
‫أصل وجود الشر‪ .‬ويمكن لهذا العا َلم الممكن أن يكون هو عالمنا الواقعي‪ ،‬ويمكن أن‬
‫ال يكون هو عالمنا الواقعي‪ .‬ال أهمية لواقعية هذا العا َلم في حل مسألة الشر وصدق‬
‫هذه القضية من الناحية المنطقية‪ ،‬بل المهم هو أن يكون هذا الدليل ممكنا من الناحية‬
‫المنطقية‪ .‬والسؤال هنا‪ :‬ما هو هذا الدليل الممكن؟ من اإلجابات المطروحة هي‬
‫اإلجابة المعروفة بالدفاع القائم على االختيار (‪ .)free will defense‬إن الذي يقوله‬
‫دليل الدفاع القائم على االختيار هو أن الدليل األخالقي الذي يقدمه اﷲ هو اختيار‬
‫البشر‪ ،‬فإن اﷲ أراد أن يخلق عالما تعيش فيه الكائنات وهي مالكة لحريتها واختيارها‪،‬‬
‫‪83‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫وال يخفى أن هذا خير عظيم جدا‪ ،‬بيد أنه بمجرد أن يخلق الكائنات المختارة‪ ،‬فإن‬
‫ذلك سينطوي بطبيعة الحال على إمكان وجود الشر في هذا العا َلم‪ .‬وقبل التفصيل‬
‫في هذا الدفاع وإيضاح كيف يمكن له أن يكون سببا أخالقيا وجيها لتبرير أصل وجود‬
‫الشرور في هذا العا َلم‪ ،‬من األفضل أن نبحث أوال في إدراك االختيار المفترض في‬
‫هذا الدفاع‪ .‬إن الدفاع القائم على االختيار يقوم على نظرية ميتافيزيقية خاصة ال تجتمع‬
‫في األدبيات ذات الصلة (‪ )incompatibility‬أو النظرية القائلة باختيار اإلنسان مع أي‬
‫نوع من النزعة الحتمية (‪ .)determinism‬هناك بين الحتمية واختيار اإلنسان نوع من‬
‫التناقض‪ .‬وعليه طبقا لهذا الفهم عندما تقول‪ :‬إن زيدا كان حرا في القيام بالعمل (أ)‪،‬‬
‫فهذا يعني أن زيدا في تلك اللحظة التي يقوم فيها بذلك العمل‪ ،‬كان بإمكانه أن يقوم به‬
‫وأن ال يقوم به‪ .‬إن نتيجة هذه الحالة‪ ،‬أي إنجاز ذلك الفعل أو عدم إنجازه هو حصيلة‬
‫اختيار زيد‪ ،‬وليس هناك عنصر متقدم يفرض على زيد أن يقوم بالفعل (أ) أو (ب)‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس عندما نقول إن زيدا مختار في قيامه بالفعل (أ)‪ ،‬فهذا يعني أن عليا‬
‫هو الذي يمكنه القيام بالفعل (أ) فيما لو أراد القيام به‪ ،‬وإذا أراد أن يحجم عن فعله‬
‫ألمكنه ذلك أيضا‪ ،‬وليس هناك قانون أو شرط متقدم يستطيع أن يحدد لزيد قراره‪ .‬في‬
‫تلك اللحظة الخاصة من اتخاذ القرار‪ ،‬ال يكون بإمكان غير زيد أن يقوم بذلك الفعل‬
‫أو ال يقوم به‪ .‬وهذا يمثل واحدا من تعريفات االختيار‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬إن االختيار إنما‬
‫يكون له معنى فيما إذا كانت الخيارات أمامك مفتوحة‪ ،‬وأن تكون أنت الذي تتخذ‬
‫قرارك في أن تنتخب هذا الخيار أو ذاك الخيار‪ .‬فإذا كان االنتخاب متروكا لك على‬
‫نحو كامل‪ ،‬عندها يكون الفعل الصادر عنك قد صدر عن اختيار‪.‬‬
‫لقد تم بحث عدم انسجام اختيار اإلنسان والجبر في مواطن بحثها بأساليب‬
‫مختلفة‪ .‬ومن المناسب أن أعرض هنا الدليل المشهور الذي أقيم لصالح الحتمية‪،‬‬
‫وهو االستدالل المعروف بـ (‪ )consequences argument‬أو االستدالل القائم على‬
‫التداعيات‪ .‬يقوم افتراضنا األول على أننا حيث نقف حاليا في هذه النقطة ال نستطيع‬
‫تغيير الماضي‪ .‬واالفتراض الثاني في هذا البرهان هو أننا ال نستطيع تغيير القوانين‬
‫الطبيعية أيضا‪ .‬إن هذه القوانين الموجودة في الطبيعة‪ ،‬مستقلة عنا وعن إرادتنا‪ .‬نستطيع‬
‫توظيف تلك القوانين‪ ،‬ونتصرف في الطبيعة‪ ،‬لكننا محكومون دائما بها‪ .‬وبناء على هذه‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪84‬‬
‫المقدمة الثانية ال نستطيع حتى تغيير قوانين الطبيعة‪ .‬إذا كانت الحتمية صحيحة فإن‬
‫نتيجة ذلك هي أن كل ما نقوم به في اللحظة الراهنة‪ ،‬هو نتيجة سلسلة من األحداث‬
‫التي وقعت في الماضي والتي وصلت إلى اللحظة الراهنة طبقا لقوانين الطبيعة‪ .‬بعبارة‬
‫أخرى‪ :‬إن أعمالنا الراهنة نتيجة ضرورية للماضي وقوانين الطبيعة‪ .‬بمعنى أن ما حدث‬
‫في اللحظة الراهنة‪ ،‬كان يجب أن يحدث ضرورة بحكم قوانين الطبيعة وما حدث في‬
‫الماضي‪ .‬أي أن الشرائط التي كانت في الماضي‪ ،‬مضافة إلى قوانين الطبيعة‪ ،‬هي التي‬
‫تحدد صورة المستقبل‪ .‬وعليه عندما أقف على مفترق طريقين‪ ،‬ويتعين علي أن أختار‬
‫بين سلوك الطريق (أ) أو الطريق (ب)‪ ،‬يكون اختياري قد تم تحديده سابقا‪ .‬وعليه إذا‬
‫كانت الحتمية صحيحة‪ ،‬لن يكون بإمكاني إال اختيار الفعل الذي سوف أتخذ قرارا‬
‫باختياره‪ ،‬أي ال يكون أمامي من خيار آخر‪ .‬وعليه بحكم الحتمية لن يكون هناك شيء‬
‫باسم االختيار‪ .‬ويطلق على هذا االدعاء مصطلح الـ (‪ .)incompatibility‬بمعنى إذا‬
‫صح ادعاء (الحتمية) لن يكون هناك اختيار‪ .‬وإذا آمنت باالختيار‪ ،‬تعين عليك إبطال‬
‫الحتمية‪.‬‬
‫لقد تم في هذا الدفاع القائم على االختيار‪ ،‬االعتراف باألصل القائل بأن هناك‬
‫تناقضا بين اختيار اإلنسان والقول بالحتمية‪ .‬بيد أن الفرض يقوم على أن الحتمية كاذبة‬
‫ً‬
‫وأن اختيار اإلنسان صادق‪ .‬وعليه يجب أن نفترض وجود شيء باسم االختيار‪ .‬وأما إذا‬
‫أبطلت أصل االختيار‪ ،‬لن يكون هذا الدفاع مجديا‪ .‬وعليه يجب أن ال ننسى أننا نفترض‬
‫في هذا البرهان تعريفا خاصا لالختيار‪ ،‬وهو أن اتخاذ القرار بالقيام بفعل أو عدم القيام‬
‫به‪ ،‬أمر مرتهن إلرادتك‪ ،‬ولن يكون هناك أي عنصر خارجي أو قانون طبيعي يمكنه أن‬
‫يحدد قرارك سابقا‪ ،‬حتى لو كان ذلك العنصر هو إرادة اﷲ تعالى‪ .‬بل هذا رهن بإرادتك‬
‫تماما‪ .‬فإذا كان األمر كذلك أمكن لك القول بأنك قمت بهذا العمل عن اختيار تام‪.‬‬
‫انطالقا من هذا الفهم لالختيار‪.‬‬
‫يقول الدفاع القائم على االختيار لنفترض وجود عالمين‪ ،‬ولنطلق على أحدهما اسم‬
‫(‪ ،)W1‬وعلى اآلخر اسم (‪ .)W2‬ولنفترض أن هذين العا َلمين متساويان ومتشابهان‬
‫من جميع الجهات باستثناء جهة واحدة‪ ،‬وهي أن العا َلم (‪ )W1‬تقطنه كائنات حرة‬
‫ومختارة‪ ،‬وأنها تتخذ خطواتها وقراراتها وأفعالها عن حرية واختيار كاملين‪ ،‬بمعنى‬
‫‪85‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫أن قراراتها تكون رهنا بإرادتها‪ .‬وأما العا َلم (‪ )W2‬فالكائنات فيه عبارة عن روبوتات‬
‫مبرمجة‪ ،‬وليس ألحد فيه أي إرادة من نفسه‪ .‬يبدو أننا جميعا نفضل العا َلم (‪)W1‬‬
‫على العا َلم (‪)W2‬؛ فإن الشرائط التي افترضناها هنا تفضل العا َلم المتصف بالحرية‬
‫واالختيار على العا َلم الفاقد للحرية واالختيار‪ .‬بمعنى أننا غالبا ما نعطي القيمة الذاتية‬
‫لالختيار في هذا العا َلم‪.‬‬
‫وعليه لنفترض أننا نعيش اآلن لحظة الخلق‪ ،‬وأن اﷲ يريد أن يخلق العا َلم‪ .‬يبدو أن‬
‫اﷲ في مثل هذه الحالة يقف على مفترق طريقين‪ ،‬فإما أن يخلق عالما تسكنه كائنات‬
‫حرة مختارة‪ ،‬وإما أن يخلق عالما جميع كائناته مبرمجة وال إرادة لها من نفسها‪ .‬فإذا‬
‫كنت تعتقد أن وجود اإلرادة واالختيار في هذا العا َلم أمر حسن ومطلوب‪ ،‬وأن اﷲ خير‬
‫محض‪ ،‬فعندها يجب عليه بوصفه خيرا محضا أن يخلق هذا العا َلم المتصف بالحرية‬
‫واإلرادة واالختيار؛ بمعنى العا َلم الذي تكون فيه الكائنات حرة في االختيار بين الخير‬
‫والشر‪ .‬لنفترض أن اﷲ خلق هذا العا َلم (‪ )W1‬الذي تقطنه الكائنات الحرة والمختارة‪.‬‬
‫إال أنه بمجرد أن يخلق هذا العا َلم‪ ،‬لن يعود بإمكانه أن يفرض على هذا العا َلم أن ال‬
‫يصدر عنه غير الخير؛ ألن هذا على خالف اإلرادة واالختيار‪ .‬فإذا منع اﷲ الكائنات من‬
‫فعل الشر؛ لن تكون حرة وال مختارة‪ .‬وعليه فإن اﷲ ال يستطيع أن يخلق كائنا مختارا‬
‫وفي الوقت نفسه فاقدا لالختيار‪ ،‬بمعنى أن األمر في حد ذاته غير ممكن؛ فال يمكن‬
‫لنا أن نتصور شخصا يقرر فعل الخير بإرادته واختياره‪ ،‬وفي الوقت نفسه ال يستطيع‬
‫فعل الشر‪ .‬فإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فهذا يعني أن القدرة على فعل الشر من قبل الفاعل‬
‫المختار‪ ،‬تشكل جزءا تمهيديا ضروريا من الناحية المنطقية بالنسبة إلى خلق الكائنات‬
‫الحرة والمختارة‪ ،‬وفي هذه الحالة بمجرد أن يخلق اﷲ هذه الكائنات‪ ،‬حتى تتخذ هذه‬
‫الكائنات قراراتها وتقوم بأعمالها وأفعالها بإرادتها الذاتية‪ ،‬ويكون من الممكن جدا أن‬
‫ينحرف هذا الكائن في ظل ظروف معينة عن جادة الصواب‪ ،‬وبدال من أن يقوم باألفعال‬
‫الحسنة‪ ،‬يتجه إلى ارتكاب الشرور‪ .‬وعليه ففي هذا العا َلم‪ ،‬على الرغم من احتفاظ اﷲ‬
‫بصفاته من العلم والقدرة والخير المحض‪ ،‬يعد وقوع الشرور في هذا العا َلم شرطا‬
‫ضروريا لتحصيل الخير األعظم‪ ،‬أي التمتع بالحرية واإلرادة واالختيار‪ .‬من هنا إذا كان‬
‫هناك من يرى أن االختيار خير أعظم‪ ،‬وأن العا َلم المتصف باالختيار خير من العا َلم‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪86‬‬
‫الفاقد لالختيار‪ ،‬فإن عليه ال محالة أن يقبل بأن إمكان وقوع الشرور في هذا العا َلم أمر‬
‫ال يمكن اجتنابه‪ .‬وإن اﷲ لم يكن بإمكانه‪ ،‬من الناحية المنطقية‪ ،‬أن يخلق عالما واجدا‬
‫للخير األخالقي‪ ،‬وفي الوقت نفسه فاقدا للشر األخالقي أيضا‪ .‬وعليه من الممكن أن‬
‫يشتمل هذا العا َلم على الشرور‪ ،‬وفي الوقت نفسه تنسجم هذه الشرور مع وجود اﷲ‬
‫العالِم والقادر المطلق والخير المحض‪ .‬وعليه يبدو أن باإلمكان أن يمتلك اﷲ فيما‬
‫نحن فيه سببا أخالقيا وجيها لتبرير وجود الشرور في هذا العا َلم‪ .‬هذا هو باختصار ما‬
‫يسمى بالدفاع القائم على االختيار‪ .‬وال بد بطبيعة الحال من دراسة هذا الدفاع بتفصيل‬
‫أكبر في العدد القادم إن شاء اﷲ‪.‬‬
‫دراسات‬

‫الشر في األديان‬
‫مقولة ّ‬
‫والميتافيزيقي‬
‫ّ‬ ‫وسيولوجي‬
‫ّ‬ ‫الس‬
‫بين ّ‬
‫الدين العامري‬
‫‪1‬‬
‫د‪ .‬صالح ّ‬ ‫____________________________________________‬

‫وإن درجة الوعي به هي مقياس مستوى‬ ‫بالشيء هو المحدّ د لقيمته‪ّ ،‬‬


‫إن الوعي ّ‬ ‫ّ‬
‫والثقافي‪ .‬ومن هذه الزاوية تفاعل اإلنسان مع ّ‬
‫كل ما‬ ‫ّ‬ ‫الفكري‬
‫ّ‬ ‫استحضاره للتداول‬
‫واهتم بما تعارض مع رغباته‬
‫ّ‬ ‫فاجأ أفق انتظاره سلب ّيا في رحلة وجوده في التاريخ‪،‬‬
‫وع ّطل قدراته‪ ،‬وعرقل طموحاته المشروعة وغير المشروعة‪ ،‬وس ّبب له المعاناة‪.‬‬
‫وما يجعل لإلنسان قيمة استثنائ ّية بين سائر الموجودات هو تع ّقله لألشياء ودرجة‬
‫وعيه بسياق وجوده‪ ،‬ولع ّله لذلك قد ع ّبر عن وعيه بالصدمة والمعاناة من الشعور‬
‫ّ‬
‫طمأن له‪.2‬‬ ‫بالعجز والخيبة بمجموعة من التعبيرات؛ منها اعتبار العالم خبيثا ال ُي‬
‫الجماعي‪ ،‬صار جزءا من الفكر وال ّثقافة‪ .‬وقد‬
‫ّ‬ ‫الفردي إلى‬
‫ّ‬ ‫تحول القلق من‬
‫وحين ّ‬
‫مجردا في‬
‫اصطلحت الثقافات البشر ّية على هذا الخصم الذي يظهر ظهورا ماد ّيا أو ّ‬
‫«الشر»‪ .‬وإزاء ذلك استبطن اإلنسان ّ‬
‫أن األصل في الوجود‬ ‫ّ‬ ‫حياة اإلنسان بمصطلح‬
‫والسعادة وال ّطمأنينة والقدرة على تحقيق ّ‬
‫الرغبات من دون‬ ‫بالراحة ّ‬ ‫هو ّ‬
‫الشعور ّ‬
‫صعوبات وعراقيل واص ُطلح على هذا الشعور بمصطلح «الخير»‪.‬‬
‫بهذه المقاربة يكون اإلنسان قد ث ّبت قطبين ِح ِّسيين يتجاذبان حينا ويتدافعان‬
‫للزاوية التي يق ّيم منها قدرته على التفاعل مع‬
‫حينا آخر‪ ،‬وتكون طبيعة حركتهما تبعا ّ‬

‫‪ .1‬باحث وأكاديمي تونيس‪ ،‬خمتص يف الدراسات احلضارية وتاريخ األديان‪.‬جامعة الزيتونة‪.‬‬


‫جمرد العقل‪ ،‬نقله إىل العربية فتحي املسكيني‪ ،‬ط‪ ،1.‬جداول للنرش‬
‫‪ .2‬إيامنويل كانط‪ ،‬الدِّ ين يف حدود َّ‬
‫والتوزيع بريوت‪ ،2012 ،‬ص‪.65‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪88‬‬

‫وجوده‪ .‬وهما عنده قطبان يم ّثالن ّ‬


‫أسا ومرجعا في فهم حياته وتنظيمها وتقويمها؛‬
‫فأ ّما ّأولهما فموجب وهو «الخير»‪ ،‬وهو األصل في الوجود‪ ،‬وأ ّما ثانيهما فسالب‬
‫«الشر»‪ ،‬وهو الطارئ غير المرغوب فيه‪ .‬وعادة ما يقترن هذا القطب بالعجز‬
‫ّ‬ ‫وهو‬
‫ضجة‬
‫النفسي باألساس ّ‬
‫ّ‬ ‫الصراع‬ ‫‪3‬‬
‫عن الفعل ّ‬
‫والشعور بألم العجز ‪ .‬وقد أحدث هذا ّ‬
‫الكم الهائل‬
‫لدى اإلنسان‪ ،‬ع ّبرت عنها حيرة الفكر وحرك ّيته‪ ،‬وترجمها إلى تداول ّ‬
‫تنوعت األسئلة بحسب موقع السائل وخلفيته‬
‫الضجة‪ .‬وقد ّ‬
‫ّ‬ ‫لألسئلة الذي طرحته‬
‫الشر؟ وما مصدره؟ وهل هو أصل في اإلنسان وفي الوجود‬
‫المركّبة‪ .‬ومن بينها‪ :‬ما ّ‬
‫السلوك؟ وما مسؤول ّية اإلنسان في نشأته‬
‫أم هو حادث في الواقع ومكتسب في ّ‬
‫وظهوره وتعاظم مكانته؟ وما موقعه في نظام الوجود؟ وهل هو ظاهرة سالبة دوما‬
‫السبل الكفيلة للتغ ّلب عليه‬
‫أم يمكن تحويل طبيعته عكس ّيا ليكون خيرا أحيانا؟ وما ّ‬
‫أو التّخفيف من أثره في الحدّ األدنى؟‬
‫ّ‬
‫إن هذه األسئلة وغيرها تندرج ضمن مبحث أساسي يعود تاريخه البعيد إلى‬
‫البشري بالوجود‪ ،‬وتد ّعم بارتفاع منسوب الظمأ‬
‫ّ‬ ‫المراحل األولى لتشكّل الوعي‬
‫الرفاعي‪ .4‬ويدور هذا المبحث حول سؤال‬
‫األنطولوجي للمقدّ س بعبارة عبد الج ّبار ّ‬
‫ّ‬
‫ما اإلنسان؟ وقد شكّلت جهود اإلجابة عليه ورشة تاريخ ّية شديدة التعقيد‪ ،‬انخرطت‬
‫اإلنساني مثل االجتماعي واألسطوري والديني‬
‫ّ‬ ‫أغلب روافد الفكر‬
‫ُ‬ ‫في حياكة نسيجها‬
‫والفلسفي‪.‬‬
‫‪ I‬ـ في ضبط المفاهيم وتحديد المنهج‪:‬‬
‫«الشر» شكّلت ورشة بحث ّية تاريخ ّية‪ ،‬استقطبت أغلب روافد الفكر‬
‫ّ‬ ‫مقاربة مسألة‬
‫البشري عبر تاريخه‪ .‬وهذا يعني ّ‬
‫أن تعريفاتها متعدّ دة بتعدّ د المرجعيات والمقاربات‪.‬‬
‫للشر‪ ،‬فإنّنا سنحصر‬
‫تهتم أساسا بالمرجع ّيتين االجتماع ّية والدّ ين ّية ّ‬ ‫وباعتبار ّ‬
‫أن مقاربتنا ّ‬
‫للشر ومتق ّبال‬
‫مجال التناول في الجانب السلوكي واألخالقي لإلنسان بوصفه فاعال ّ‬

‫‪3. Jean - Louis Bruch, La philosophie religieuse de Kant, Paris, Aubier - Montaigne,‬‬
‫‪1968, pp, 67 - 68‬‬
‫‪ .4‬عبد اجل ّبار الرفاعي‪ ،‬الدين والظمأ األنطولوجي‪ ،‬ط‪ ،2018 ،3.‬مركز دراسات فلسفة الدّ ين ببغداد‪،‬‬
‫دار التنوير للطباعة والنرش ــ بريوت‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫‪89‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫له ومفكّرا فيه‪ .5‬وتم ّثل األخالق نقطة لقاء بين المرجع ّيتين‪ ،‬ومن شأن هذا اللقاء أن‬
‫يسهم في بناء مقاربة متماسكة للمسألة تساعد في مزيد اإلفصاح عن البعد االجتماعي‬
‫السياق بين األديان إال في مستوى المرجع ّية‪ .‬وقد دأبت‬
‫للمقدّ س‪ .‬وال نم ّيز في هذا ّ‬
‫المختصة على تصنيفها إلى أديان وضع ّية ذات مرجع ّية بشر ّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أغلب الدراسات‬
‫وأديان وحي ذات مرجع ّية غيب ّية‪ ،‬وتعني األديان الكتاب ّية الثالثة‪ .6‬وسيكون هذا التمييز‬
‫المرجعي مساعدا في رصد االنتقال من السوسيولوجي إلى المقدّ س بناء على التماثل‬
‫التحول التاريخي الب ّين في الوعي الدّ يني‬
‫ّ‬ ‫والمضمن بين األديان عا ّمة‪ ،‬وعلى‬
‫ّ‬ ‫الصريح‬
‫السوسيولوجي‬ ‫بين األديان الوضع ّية وأديان الوحي الثالثة‪ .‬ونحن على وعي ّ‬
‫بأن ّ‬
‫حاضن للمقدّ س ومسهم في تشكيله من منظور األنثروبولوجيا الثقافية‪ 7‬مهما كانت‬
‫طبيعة الدّ يانة‪ .‬وال نزعم اإلحاطة بالمفهوم من جوانبه ك ّلها‪ ،‬بل سنكتفي بدراسة‬
‫نماذج من ّ‬
‫كل مرجع ّية‪ .‬وأما منهج ّيا فسنعتمد العرض والتحليل استنادا إلى بعض‬
‫ونخص المنهج المقارن‪ .‬وإذا كانت المرجعية الدين ّية ب ّينة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫منجزات المناهج الحديثة‬
‫ّ‬
‫فإن المرجع ّية االجتماع ّية تشمل الفكري والثقافي والسلوكي والنفسي‪.‬‬

‫الرش يف نظام الطبيعة (‪)Le mal dans l’ordre naturel‬‬


‫الرش‪ّ :‬‬
‫‪ .5‬م ّيز توما األكويني بني صنفني من ّ‬
‫والرش يف نظام األخالق (‪ُ .)Le mal dans l’oredre moral‬ينظر‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪- Thomas d’Aquin, Somme contre les gentils, trad. de Latin par R. Bernier, Ed. du‬‬
‫‪CERF, Paris 1993, p411.‬‬
‫الرش امليتافيزيقي ومعناه النقص يف‬
‫الرش‪ّ :‬‬
‫وم ّيز اليبنتز (تـ‪1716.‬م) (‪ )Leibniz‬بني ثالثة أنواع من ّ‬
‫والرش األخالقي ويعني اخلطيئة‪ُ .‬ينظر‪:‬‬
‫ّ‬ ‫باحلس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والرش الطبيعي وهو اآلالم احلاصلة‬
‫ّ‬ ‫كامل الوجود‪،‬‬
‫‪Leibniz G. W., Essais De Théodicée, Garnier - Flammarion, Paris, 1969, I, 21, II, 116.‬‬
‫‪ .6‬تثري املصطلحات املقرتحة يف وصف هذه الديانات الثالث إشكاال من وجهة نظر األكاديميا‪.‬‬
‫فوصفها بالتوحيدية يصطدم بطرح فكرة التوحيد قبل ظهور هذا الثالوث‪ ،‬وتصنيفها كتاب ّية يواجه‬
‫خاصا هبا‪ ،‬وتواجه نسبتها إىل السامء (سامو ّية) اشرتاكها مع بعض‬ ‫بامتالك أغلب الديانات كتابا ّ‬
‫األديان األخرى يف إدعاء ارتباطها بعامل الغيب‪ .‬ومع وعينا هبذا اللقاء اخرتنا صفة الكتاب ّية ملجموعة‬
‫من األسباب منها‪ :‬مت ّيز مفهوم الكتاب يف اليهود ّية واملسيح ّية واإلسالم عن بق ّية األديان األخرى‪.‬‬
‫وهو اختيار قابل للمراجعة‪.‬‬
‫‪ .7‬كلود ريفيري‪ ،‬األنثروبولوجيا االجتامعية لألديان‪ ،‬ترمجة أسامة نبيل‪ ،‬ط‪ ،2015 ،1.‬املركز القومي‬
‫للرتمجة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪.155‬‬
‫بريان هويل وجينيل وليامز باريس‪ ،‬األنثروبولوجيا الثقاف ّية من منظور مسيحي‪ ،‬ترمجة إدوارد‬
‫وديع عبد املسيح‪ ،‬ط‪ ،2015 ،1.‬مكتبة دار الكلمة للنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪.245‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪90‬‬
‫‪ II‬ـ اإلنسان محدثا للش ّر ومتق ّبال له‪:‬‬
‫الصلة بمبحث‬‫ارتبطت صياغة هذا العنوان بمجموعة من الفرض ّيات البحث ّية ذات ّ‬
‫إنساني تجاه اإلنسان أو ال ّطبيعة‪ ،‬يس ّبب‬
‫ّ‬ ‫«الشر» فعل أو سلوك‬
‫ّ‬ ‫الشر‪ .‬ومن بينها ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬
‫الشر وجوبا‬
‫لآلخر‪ ،‬أفرادا أو جماعات‪ ،‬الحزن واأللم والمعاناة‪ .‬وبهذا المعنى ينتمي ّ‬
‫اإلنساني فعال ووعيا بطبيعة الفعل‪ ،‬أي مجاال للتفكير‪ .‬ومثلما يتل ّقى‬
‫ّ‬ ‫إلى دائرة الوجود‬
‫اإلنسان معناه وأثره من اإلنسان مباشرة‪ ،‬يمكن أن يتق ّبل صداه من محيطه الطبيعي‪.‬‬
‫الشر في الواقع وح ّفز على الوعي به منذ المراحل األولى لتشكّل‬
‫وقد أحدث اإلنسان ّ‬
‫السياق ال يسمح باالستفاضة في المسألة‪ ،‬فإنّنا سنكتفي‬
‫أن ّ‬‫وعيه بالوجود‪ .‬وباعتبار ّ‬
‫الحضاري‬
‫ّ‬ ‫ببعض النماذج من تاريخ البشر ّية‪ ،‬وسنحصر االهتمام في الموروث‬
‫لبعض األمم التي أسهمت بفاعل ّية في مراكمة بناء الحضارة اإلنسان ّية‪.‬‬
‫الشر وآثاره ا ّلتي يخ ّلفها‬
‫السياق بنى المصر ّيون القدامى تم ّثالتهم لمفهوم ّ‬
‫في هذا ّ‬
‫المصري بـعبارة‬
‫ّ‬ ‫الشر في المجتمع‬
‫في اإلنسان والطبيعة‪ ،‬وع ّبرت أدبياتهم عن ظاهرة ّ‬
‫«اإلسفت»‪ .‬وقد ظهر هذا المصطلح للتّداول مع نصوص األهرام‪ .8‬وتعني عبارته‬
‫مجموع الشرور والفساد والظلم واالعتداء واختالل التّوازن والفوضى سياس ّيا‬
‫ثم ّ‬
‫إن المعنى ُع ّمم ليشمل هذه المظاهر في كل زمان ومكان‬ ‫واجتماع ّيا وأخالق ّيا‪ّ .‬‬
‫ولدى األمم جميعها‪ .9‬وإلى جانب «الماعت»‪ ،‬وهو الخير‪ ،‬يشكّل «اإلسفت» عماد‬
‫األخالق عند المصر ّيين‪ .‬وقد جمع علي عبد الحليم علي شتات دالالت عبارة‬
‫المختصة‪ ،10‬وب ّين أنها ترتبط بمعنى الفوضى‬
‫ّ‬ ‫«اإلسفت» في المصادر والمراجع‬

‫‪8. J. Baines, Society, Morality and religious practices, Ed. B. Shaffer. Religion 1991,‬‬
‫‪P163.‬‬
‫نصوص األهرام أو متون األهرام هي جمموعة من النصوص الدينية املرصية القديمة التي ترجع‬
‫إىل عرص الدولة القديمة‪ ،‬وتُعدّ أقدم النصوص الدينية املعروفة يف العامل‪ .‬نحتت نصوصها باللغة‬
‫املرصية القديمة عىل جدران األهرام والتوابيت احلجرية يف أهرامات سقارة خالل عرصي‬
‫األرستني اخلامسة والسادسة‪ .‬وقد ُخ ّصصت متوهنا للملوك الفراعنة فقط‪ .‬متون األهرام املرص ّية‪،‬‬
‫ترمجة (عن اهلريوليف ّية القديمة) حسن صابر‪ ،‬ط‪ ،2002 ،1.‬املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬مرص‪.‬‬
‫الرش يف مرص القديمة‪ ،‬ط‪ ،2018 ،1.‬اهليئة العامة املرصية للكتاب‪،‬‬ ‫‪ .9‬عيل عبد احلليم عيل‪ ،‬مفهوم ّ‬
‫القاهرة‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫‪ .10‬أحال عيل عبد احلليم عيل عىل جمموعة من املصادر واملراجع العرب ّية واألجنب ّية وخاصة األملان ّية‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫وتجاوز القوانين واألعراف االجتماع ّية المس ّطرة واإلساءة لآلخر والتس ّبب له في‬
‫األلم والمعاناة‪ ،‬ومن بينها داللته في االصطالح المصري القديم على معنى «هالك‬
‫وبال وسخيف وركيك ومهلهل»‪ ،‬ومعنى «يسيء ويخطئ»‪ .‬ويرتبط في العرب ّية‬ ‫ٍ‬
‫بكلمتي «زيف وأسف»‪ ،‬وهما عبارتان تحيالن على سوء ُ‬
‫الخلق‪ .‬وما يزال المصر ّيون‬
‫والشرير‪ .‬وبها يق ّيمون األشياء الس ّيئة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اليوم يستعملون صفة «زفت» لإلنسان الس ّيئ‬
‫والفوضوي‬
‫ّ‬ ‫الشرير‬
‫ّ‬ ‫المشتق من «اإلسفت» هو «اإلسفتي»‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬ ‫والفاعل‬
‫حق األفراد والجماعات والمهدّ د للنّظام القائم‪،‬‬
‫والعاصي والمذنب والمخطئ في ّ‬
‫الشر في الموروث المصري القديم عصفور النّيل‬
‫وجمعه «اإلسفتو»‪ .‬ومن رموز ّ‬
‫والسوء والفوضى والمعاناة‬
‫والشر ّ‬
‫ّ‬ ‫الضيق‬
‫الدّ وري‪ ،‬وقد انحصرت رمز ّيته أساسا في ّ‬
‫والتّعب والمرض‪ ،‬وغالبا ما يظهر في األعمال الفن ّية وهو يأكل التّين ويد ّمر‬
‫مهما في صياغة‬ ‫المحاصيل الزراع ّية ‪ .‬وقد لعب الفكر األسطوري القديم دورا ّ‬
‫‪11‬‬

‫والتربوي‪ ،‬وهي‬
‫ّ‬ ‫التعليمي‬
‫ّ‬ ‫مفهوم «اإلسفت» في مجموعة من النّصوص ذات البعد‬
‫نصوص ث ّبتته سلوكا مزعجا يس ّبب األلم والمعاناة في عمل ّية قياس عكس ّية على قيمة‬
‫«الماعت»‪ ،‬أي الخير والعدالة‪.‬‬
‫السماو ّية»‪.12‬‬
‫الشر كتاب «البقرة ّ‬
‫من بين األساطير القديمة التي تناولت فكرة ّ‬
‫التمرد على األنظمة األخالق ّية والسياس ّية‬
‫الشر وحالة ّ‬
‫وتربط نصوص هذا الكتاب بين ّ‬
‫تمرد البشر ضدّ اإلله‬‫الشر دخل إلى العالم بسبب ّ‬
‫أن ّ‬‫والثقاف ّية القائمة‪ .‬وقد جاء فيها ّ‬
‫ّمرد تلك فرد ضدّ الجماعة‪،‬‬ ‫الخالق الذي تقدّ م في الس ّن ‪ ،‬وعادة ما يقوم بحركة الت ّ‬
‫‪13‬‬

‫المتخ َّيالت الثقاف ّية الشرق ّية عا ّمة‪ ،‬مع‬


‫الحق‪ ،‬في ُ‬
‫ألن ّ‬‫وتكون صورتها كافية إلدانته‪ّ ،‬‬
‫الجماعة‪ .‬وفي هذا السياق سعت السلطات السياس ّية لتلك الحقبة من تاريخ مصر‬

‫ومن املراجع العرب ّية‪:‬‬


‫عيل فهمي خشيم‪ ،‬آهلة مرص العرب ّية‪ ،1996 ،‬القاهرة‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.293‬‬
‫حممد عبد القادر‪ ،‬الديانة يف مرص الفرعون ّية‪ ،1984 ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪.128‬‬ ‫ّ‬
‫الرش يف مرص القديمة‪ ،‬ص ص ‪ 28‬ــ ‪.34‬‬ ‫‪ .11‬عيل عبد احلليم عيل‪ ،‬مفهوم ّ‬
‫‪ .12‬مل نتمك ّن من االطالع املبارش عىل نصوص األسطورة‪ ،‬فاكتفينا باإلفادة ّمما ورد يف بعض الكتب‬
‫واملنشورات االلكرتون ّية‪.‬‬
‫الرش يف مرص القديمة‪ ،‬ص ص ‪ 28‬ــ ‪.34‬‬‫ّ‬ ‫مفهوم‬ ‫‪ .13‬عيل عبد احلليم عيل‪،‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪92‬‬
‫وروجت العتبار‬‫باألخالقي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫السياسي من خالل ربطه‬
‫ّ‬ ‫إلى تضخيم خطر اإلسفت‬
‫التمرد ضدّ الملوك كارثة تهدّ د الجماعة ك ّلها‪ .‬وقد وجد هذا الترويج صداه وفاعليته من‬
‫ّ‬
‫الضمانة الوحيدة الستمرار حياة شعوبهم‪.14‬‬
‫خالل ثقافة تأليه الملوك‪ ،‬واعتبار سالمتهم ّ‬
‫فالزعيم والعسكر ّيون وطبقة الكهنة‬
‫التمرد فضيلة وانتصارا للماعت‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫وصار قمع هذا‬
‫هم من يصنع المعارف والقيم والميثيولوجيات واألساطير‪ ،‬وهم من يحدّ د مضامينها‬
‫وأهدافها‪.‬‬
‫وقد صنّف المصريون القدامى اإلسفت‪ ،‬باعتباره جرائم ضدّ البشر والملوك‬
‫المؤ ّلهين والحيوانات إلى ثالثة أصناف‪:‬‬
‫جرائم ضدّ البشر وتشمل القتل واإلساءة وال ّظلم والفوضى واالغتصاب‪.‬‬ ‫ــ‬
‫جرائم ضدّ اآللهة وتشمل ّ‬
‫الشتم وإنكار السلطة وسرقة القرابين وتدنيس أماكن‬ ‫ــ‬
‫القداسة‪.‬‬
‫جرائم ضدّ الحيوانات وتشمل تعذيب الحيوان واصطياده باألسلحة‪.15‬‬ ‫ــ‬
‫وتماثل المنظومة القيم ّية عند اإليرانيين القدامى نظيرتها المصر ّية في تقسيم الوجود‬
‫إلى خ ّيرين وأشرار‪ ،‬ولئن أض َفى اإليرانيون على منظوماتهم األخالق ّية صبغة مقدّ سة‪،‬‬
‫األخالقي لشعوب آسيا الوسطى‪ .‬فالمانو ّية‬
‫ّ‬ ‫االجتماعي‬
‫ّ‬ ‫فإنّنا ندرجها ضمن السياق‬
‫والزاردشت ّية والمزدكية لم تدّ ع االرتباط بالغيب والماورائ ّيات‪ 16‬مثلما سيحدث مع‬
‫اليهود ّية والمسيح ّية واإلسالم مثال‪ .‬وارتبطت تعاليمها وشرائعها أساسا بالخصوص ّيات‬
‫الذهن ّية والنفس ّية واألخالق ّية لزعمائها ماني ‪ Mani‬وزرادشت ‪ Zoroaster‬و َم ْز َدك‬
‫االجتماعي لألفكار وأصحابها‪ ،‬غير ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫مقومات من صناعة السياق‬ ‫‪ ،Mazdak‬وهي ّ‬
‫ووسعت دائرة تأثيرها‪ .‬وارتبطت‬
‫تطبيقاتها في التاريخ أغنتها بأشكال أكثر تجريدا ّ‬

‫‪ .14‬دومنيك غالبيل‪ ،‬الناس واحلياة يف مرص القديمة‪ ،‬ترمجة ماهر جوجيايت‪ ،‬ط‪ ،2001 ،2.‬دار الفكر‬
‫للدراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ص ‪ 29‬ــ ‪.50‬‬
‫الرش يف مرص القديمة‪ ،‬ص‪.95‬‬
‫‪ .15‬عيل عبد احلليم عيل‪ ،‬مفهوم ّ‬
‫الرش والشيطان‪ ،1970 ،‬بغداد‪.‬‬
‫متكن العودة أيضا إىل‪ :‬سامي سعيد األمحد‪ ،‬األصول األوىل ألفكار ّ‬
‫أن زرادشت تر ّقى يف االستقامة والفكر حتى نزل عليه الوحي‬
‫‪ .16‬توجد نصوص إيران ّية قديمة تدّ عي ّ‬
‫السامء‪ ،‬وهناك تل ّقى مزديسنا (الرسالة)‪ ،‬دين أهورامزدا‪ُ .‬ينظر فارس عثامن‪ ،‬زرادشت‬‫وقاده إىل ّ‬
‫والدّ يانة الزرادشت ّية‪ ،2003 ،‬دار املح ّبة‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص‪.22‬‬
‫‪93‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫تطور الوعي ومدى االنفتاح على تجارب األمم المجاورة‪ .‬وقد صار‬ ‫تحوالتها بدرجة ّ‬ ‫ّ‬
‫هذا األمر تقليدا في ال ّثقافة اإليران ّية‪ ،‬واستمر إلى العصر الحديث‪ ،‬وتج ّلى بوضوح في‬
‫صناعة صورة بعض الزعماء الدينيين المتأخرين‪ ،‬وعلى الرغم من عدم ثبوت ادعائهم‬
‫فإن أتباعهم ل ّقبوهم باإلمام‪ ،‬وأض َفوا عليهم ّ‬
‫مقومات اإلمامة ورفعوهم فوق‬ ‫العصمة‪ّ ،‬‬
‫والسياسي ا ّلذي رسم مالمح زعامتهم في التّاريخ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االجتماعي‬
‫ّ‬ ‫التّاريخ‬
‫أن مضامينها االجتماع ّية تمث ّلت‬
‫إذا بحثنا في أدب ّيات الزرادشت ّية مثال‪ ،‬نجد ّ‬
‫عددا من التّقاليد والقيم القديمة ّ‬
‫للشعوب اآلسيو ّية‪ ،‬ثم أعادت إنتاجها منسوبة إلى‬
‫زرادشت‪ .17‬وقد كانت دائرة اإلغناء واسعة في حركة مراكمة وتطوير للموروث‬
‫ومما استبطنته الزرادشت ّية وجعلته‬
‫ّ‬ ‫واإلقليمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واألخالقي المح ّلي‬
‫ّ‬ ‫االجتماعي‬
‫ّ‬
‫والشر‪ ،‬وهي ثنائ ّية قديمة توارثتها‬
‫ّ‬ ‫محورا للوجود اإلنساني‪ ،‬الصراع بين ثنائ ّية الخير‬
‫الذاكرات الجمع ّية وأعادت إخراجها على وفق سياقاتها الجديدة والمتجدّ دة‪ .18‬وقد‬ ‫ّ‬
‫الصراع بين ُق ْ‬
‫طبي المنظومة‬ ‫تصور ّ‬
‫حفلت أغلب نصوص األفيستا بمقاطع خطاب ّية ّ‬
‫األخالق ّية‪.‬‬
‫الصراع في بعض مقاطع أناشيد األفيستا ليكون حربا وجود ّية بين األخيار‬ ‫تطور ّ‬
‫ّ‬
‫واألشرار على وفق قاعدة ال ّثالث المرفوع ‪ .Le tiers exclu‬وتستبعد هذه القاعدة أ ّية‬
‫والشر في البنية المثال ّية التي يرنو إليها مجتمع‬
‫ّ‬ ‫فرض ّية للصلح أو التّعايش بين الخير‬
‫والسلم‪ .‬وقد أعلن زرادشت هذه المعادلة صراحة في وجه أهريمان‬
‫النّظام واألخالق ّ‬
‫الشرير أنكراماينيو سأهزم مخلوقات األبالسة»‪،‬‬
‫الشر حين أراد قتله‪ ،‬فقال له‪« :‬أ ّيها ّ‬
‫رمز ّ‬
‫تبرأ من ديانة مازديسنا الخ ّيرة‬
‫فأجابه أنكراماينيو‪« :‬ال تهلك مخلوقاتي يا زرادشت‪ّ ،‬‬
‫وتمسك بالدفاع عن الخير ضدّ‬‫ّ‬ ‫وستجد السعادة»‪ .‬إال ّ‬
‫أن زرادشت رفض دعوة خصمه‬
‫أتبرأ ألجلها عن ديانة مازديسنا حتّى لو انفصلت عن عظامي وحياتي‬
‫الشر قائال‪« :‬لن ّ‬
‫ّ‬
‫أتحرر} من هذه الدّ روج‪،‬‬
‫توجه بالمناجاة إلى أهورامازدا «ماذا أفعل {لكي ّ‬
‫روحي»‪ ،‬ثم ّ‬

‫للتوسع حول مرجعيات الزرادشت ّية متكن العودة إىل‪ :‬أمحد عيل عجيبة‪ ،‬زرادشت يف األديان الوثن ّية‬ ‫ّ‬ ‫‪.17‬‬
‫القديمة‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1.‬دار اآلفاق العرب ّية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ .18‬أرثر كريستينس‪ ،‬إيران يف عهد الساسيانيني‪ ،‬ترمجة حيي اخلشاب‪ ،‬ط‪ ،1.‬د‪.‬ت‪ ،‬دار النهضة العرب ّية‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ص‪.19‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪94‬‬
‫الرجل الصالح‬
‫أطهر ّ‬
‫الشرير أنكرامينيو‪ ،‬كيف أزيل النجاسة بشكل مباشر‪ ...‬كيف ّ‬
‫من ّ‬
‫وطهارة المرأة الصالحة؟»‪.19‬‬
‫والشر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الصراع القديم بين الخير‬
‫مصمما على مواصلة ّ‬
‫ّ‬ ‫بدا زرادشت في المرو ّية‬
‫النبوة االجتماع ّية ذات الطابع األخالقي‪.‬‬
‫مستجمعا قواه الذهن ّية والنفس ّية التي أهلته لمرتبة ّ‬
‫بقوة أهورامازدا اإلله الحكيم إله النّور والخير‪ ،‬فراهن‬
‫وقد دفعه إصراره إلى االحتماء ّ‬
‫الشر وتطهير المجتمع من دنس األشرار والفوضويين‬
‫على قدرته ودعمه في مقارعة ّ‬
‫السابقة بين الوجود الحقيقي واستمراره‬‫والمتوحشين‪ .‬وربط زرادشت جل ّيا في المحاورة ّ‬
‫ّ‬
‫الشر واألشرار من أبالسة أنكرامينيو المتح ّفزين‬
‫في الحياة رمزا للخير‪ ،‬وبين القضاء على ّ‬
‫لالعتداء والتس ّبب في األلم والمعاناة للخ ّيرين‪ .‬ويعتقد المانويون ّ‬
‫أن اإلنسان يمتلك‬
‫شريرة مصدرها الظلمة‪.20‬‬
‫نفسين إحداهما خ ّيرة ترتبط بإله النّور‪ ،‬واألخرى ّ‬
‫األهم في التّصنيف‬
‫ّ‬ ‫والشر المتصارعة هي المعيار‬
‫ّ‬ ‫يتضح جل ّيا ّ‬
‫أن ثنائ ّية الخير‬
‫اإليراني وامتداداته الجغراف ّية‪ ،‬وفي عالقة بهذا ذكر الباحث‬
‫ّ‬ ‫األخالقي للمجتمع‬
‫ّ‬
‫الفرنسي في اإليران ّيات آرثر كريستنسن ‪ّ Arthur Christensen‬‬
‫أن أهورامازدا إله‬ ‫ّ‬
‫الرحل وما يدور‬ ‫المستقرة والمتمدّ نة‪ّ ،‬‬
‫وأن القبائل ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحكمة والخير هو إله القبائل‬
‫في فلكها من محاربين ولصوص كانوا يعبدون الشياطين‪ .21‬وهذه صورة اجتماع ّية‬
‫استمر تأثيرها في ثقافات الشعوب الشرق ّية إلى العصر الحديث‪ .‬وفيها‬
‫ّ‬ ‫قديمة‬
‫والسطو‬
‫القوة والخشونة ّ‬
‫يدور صراع بين الحضر والبدو‪ ،‬فالبدو يرمزون غالبا إلى ّ‬
‫والوحش ّية‪ ،‬فيما يتم ّيز سكّان الحواضر بالنظام والحكمة‪ .‬وقد حفلت كتب التّراث‬
‫الصراع‪ ،‬ومن بينها مقامات بديع الزمان الهمذاني‪ ،‬وأغاني‬
‫العربي مثال بمعالم هذا ّ‬
‫ّ‬
‫البشري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األصفهاني‪ ،‬ومقدّ مة ابن خلدون في أطروحة علم العمران‬
‫يبدو ّ‬
‫أن الحركة االنسياب ّية لألفكار والثقافات في آسيا والتفاعالت بينها‪ ،‬لم تشمل‬
‫الفلسفي‬
‫ّ‬ ‫األساطير اإلغريقية والبابل ّية واإليران ّية فحسب‪ ،‬بل شملت أيضا الجانب‬

‫‪ .19‬خليل عبد الرمحان‪ ،‬أفيستا الكتاب املقدّ س للديانة الزرادشت ّية‪ ،‬ط‪ ،2008 ،2.‬روافد للثقافة والفنون‪،‬‬
‫دمشق‪ ،‬ص ص‪ 721‬ــ ‪.722‬‬
‫‪20. Saint Augustin, Œuvres de saint Augustin, les deux ames anti Manichéeens,‬‬
‫‪traduction R. Jolivet et M. Jourjon, Belgique: Desclée de Brouwer, 1961, pp. 95 - 97‬‬
‫‪ .21‬أرثر كريستينس‪ ،‬إيران يف عه د الساسيانيني‪ ،‬ص‪.19‬‬
‫‪95‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫مر العصور‪ .‬فآرثر كريستنسن مثال قد تحدّ ث عن تفاعل واسع بين‬


‫رمز العقالن ّية على ّ‬
‫الفلسفة اإلغريق ّية واألديان الشرق ّية‪ ،‬إلى حدّ وصل فيه‪ ،‬في تقديره‪ ،‬إلى درجة االتحاد‪،‬‬
‫األخالقي وجعلت‬
‫ّ‬ ‫ومتنوعا‪ .22‬وقد تل ّقت الفلسفة اليونان ّية المبحث‬
‫ّ‬ ‫فأنتج تشابكا كثيرا‬
‫الوجودي‪ .‬ولئن‬
‫ّ‬ ‫منه ورشة للتفكّر‪ ،‬وصارت جزءا من األطر المرجع ّية لهذا المبحث‬
‫الثنائي القديم للوجود‪ّ ،‬‬
‫فإن الفالسفة بنوا مقاربات‬ ‫ّ‬ ‫انخرطت الفلسفة في التّقسيم‬
‫الشر عديم الماهية‪ ،‬وحرمانا من ّ‬
‫كل‬ ‫مستق ّلة في النوع والدرجة‪ .‬وقد عدّ أفلوطين مثال ّ‬
‫شر‬
‫خير ‪ ،‬ورآه نقيض الخير وقرينه في الوجود؛ فبالنسبة إليه‪ ،‬مادام هناك خير‪ ،‬فهناك ّ‬
‫‪23‬‬

‫بالشر أيضا‪.24‬‬
‫ّ‬ ‫يقابله‪ ،‬و العلم بالخير هو علم‬
‫السابق عن التّقاطع بين‬
‫أن حديث آرثر كريستنسن ّ‬ ‫المهم اإلشارة إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫لع ّله من‬
‫الفلسفي‬
‫ّ‬ ‫الفلسفة واألديان الشرق ّية وعن التّفاعل الواسع بينهما‪ ،‬ال يعني ّ‬
‫أن النّسق‬
‫والميثيولوجي في آل ّيات اشتغاله‪ ،‬وأنّه يتم ّثل‬
‫ّ‬ ‫واألسطوري‬
‫ّ‬ ‫يني‬
‫يحاكي النّسق الدّ ّ‬
‫األنساق األخرى ثم يعيد إنتاجها في شكل سرديات سحر ّية‪ .‬ويتّضح هذا التمايز في‬
‫والشر يعودان إلى المصدر ذاته‪،25‬‬‫ّ‬ ‫تم ّثل أفلوطين مثال للمسألة‪ ،‬فهو يعتبر ّ‬
‫أن الخير‬
‫عكس األطروحة التقليد ّية التي تعيدهما إلى مرجعيتين مختلفتين ومتناقضتين‪ .‬وقد‬
‫وأقرت المانوية في عقيدة ال ّثنو ّية وجود‬
‫الشر وإله الخير‪ّ .‬‬
‫افترضت الزرادشت ّية وجود إله ّ‬
‫والشر‪ ،‬وجعلت الخير من‬
‫ّ‬ ‫مبدأين متناقضين هما النّور والظلمة‪ ،‬وقاست عليهما الخير‬
‫الشر االنتقال بها‬
‫والشر من الما ّدة‪/‬الشيطان ‪ .‬ومن مزايا المقاربة الفلسف ّية لمقولة ّ‬
‫‪26‬‬
‫ّ‬ ‫اﷲ‬
‫الشر‬
‫اعتبار ّ‬
‫ُ‬ ‫االبستيمولوجي‪ .‬ومن نتائج هذه النقلة‬
‫ّ‬ ‫السياق‬
‫األنطولوجي إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫السياق‬
‫من ّ‬
‫واإلقرار‬
‫ُ‬ ‫مسألة ضرور ّية في نظام الوجود‪ ،‬ولكن دون أن يكون مقصدا في حدّ ذاته‪،‬‬
‫تبصرها‪.27‬‬
‫يتم إدراكها بسبب الغفلة عن ّ‬
‫بمنافع ال ّ‬
‫َ‬ ‫للشر‬
‫ّ‬

‫‪ .22‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.26‬‬
‫‪ .23‬أفلوطني‪ ،‬تاسوعات أفلوطني‪ ،‬نقلها إىل العربية عن اليونان ّية فريد جرب‪ ،‬ط‪ ،1979 ،1.‬مكتبة لبنان‬
‫نارشون‪ ،‬بريوت‪ ،‬التاسوعة ‪ ،1‬ف‪ ،8.‬ص‪.97‬‬
‫‪ .24‬أفلوطني‪ ،‬تاسوعات أفلوطني‪ ،‬التاسوعة ‪ ،8‬ص ‪.97‬‬
‫‪ .25‬م‪.‬ن‪ ،‬التاسوعة‪ ،3‬ص ‪.219‬‬
‫‪ .26‬ابن النّديم‪ ،‬الفهرست‪ ،‬ط‪ ،1996 ،1.‬دار الكتب العلم ّية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.509‬‬
‫‪ .27‬أفلوطني‪ ،‬تاسوعات أفلوطني‪ ،‬التاسوعة ‪ ،3‬ص‪.204‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪96‬‬
‫مجرد‬
‫اهتم في كتابه «الدّ ين في حدود ّ‬
‫أ ّما إيمانويل كانط (‪ )Emanuel Kant‬فقد ّ‬
‫حر بصورة جذر ّية‪،‬‬
‫العقل» بثالث حقائق حول الطبيعة البشر ّية‪ ،‬وهي‪ :‬اإلنسان ّ‬
‫الشر‪ ،‬ومعنى ذلك ّ‬
‫أن اإلنسان‬ ‫واإلنسان م ّيال بطبعه إلى الخير‪ ،‬واإلنسان م ّيال إلى ّ‬
‫ُفسر غلبة النزعة ّ‬
‫الشريرة‬ ‫شريرة‪ .‬وت ّ‬
‫الذي ال يملك إرادة خ ّيرة أخالق ّيا‪ ،‬فهو يملك إرادة ّ‬
‫على النزعة الخ ّيرة عنده بهشاشة إرادته؛ فحين تطمح إرادة اإلنسان إلى إنجاز أفعال‬
‫فالسبب هو ضعفها وهشاشتها‪ ،‬والنتيجة االنزالق إلى فعل‬
‫أخالق ّية صائبة وتفشل‪ّ ،‬‬
‫الخطأ‪ .28‬وقد وصف بول ريكور (‪ )Paul Ricœur‬صاحب اإلرادة ّ‬
‫الهشة بــ«اإلنسان‬
‫الشر تحدّ يا ال مثيل له تواجهه الفلسفة والتيولوجيا معا‪.30‬‬
‫ّ‬ ‫الخ ّطاء»‪ ،29‬وعدّ‬
‫والشر اللذين‬
‫ّ‬ ‫من هذه الزاوية راهن كانط على اإلنسان القوي واإلرادي‪ ،‬وعدّ الخبث‬
‫لرقي البشر‪ ،‬ولو أن الناس اتبعوا االنجيل القائل‪« :‬ليحب‬
‫في اإلنسان عاملين كبيرين ّ‬
‫يشجع الناس على االقتتال‪ ،‬لظ ّلوا‬
‫بعضكم بعضا» بدال من أن يتبعوا مبدأ الطبيعة الذي ّ‬
‫الشر بهذا المعنى عنصرا جوهر ّيا في الوجود‪ ،‬يؤ ّدي‬ ‫‪31‬‬
‫عاكفين في الكهوف ‪ .‬ويكون ّ‬
‫غيابه حتما إلى فساد نظام العالم ك ّله‪ ،‬ويفقد الحياة طعمها وخصوصيتها‪ .‬وعلى الرغم‬
‫فإن وجوده‬ ‫حق اإلنسان أن يطمح إلى عالم من دون شرور وآالم ومعاناة‪ّ ،‬‬
‫أن من ّ‬ ‫من ّ‬
‫الشر والخير ويتمتّع فيه اإلنسان بالحر ّية‬ ‫يكون ّ‬
‫أقل قيمة ومعنى من عالم يتقاطع فيه ّ‬
‫والمسؤول ّية والقدرة على اختيار األفعال‪.‬‬
‫كون إلى‬
‫الشر ُي ّ‬
‫أن ّ‬ ‫ما نخلص إليه في خاتمة هذا القسم من البحث نتيجتان؛ ّأولهما ّ‬

‫‪28. Calder, Todd, «The concept of Evil», The stanford of philosophy, Ed. Encyclopedia‬‬
‫‪2020, Edward N. Zalta (ed) (https://plato.stanford.edu/archives/summer2020).‬‬
‫ترمجة أنس إبراهيم‪ ،‬جملة حكمة اإللكرتون ّية‪ ،‬ص‪ ،14‬بتاريخ ‪2020/10/18‬‬
‫‪https://hekmah.org/%D985% %D981% %D987% %D988% %D985%‬‬
‫‪%D8%A7%D984%%D8%B4%D8%B1/‬‬
‫‪ .29‬بول ريكور‪ ،‬فلسفة اإلرادة‪ :‬اإلنسان اخل ّطاء‪ ،‬ترمجة عدنان نجيب الدّ ين‪ ،‬ط‪ ،2008 ،2.‬املركز الثقايف‬
‫العريب‪ ،‬الدار البيضاء ــ املغرب‪ ،‬بريوت ــ لبنان‪.‬‬
‫‪30. Paul Ricœur, Le mal: défit à la philosophie et à la théologie, Ed. Labor et Fides,‬‬
‫‪Genève, 1986, p13.‬‬
‫‪ .31‬غوستاف لوبون‪ ،‬اآلراء واملعتقدات‪ ،‬نقله إىل العرب ّية عادل زعيرت‪ ،‬ط‪ ،1995 ،1.‬دار املعارف‪ ،‬سوسة ــ‬
‫تونس‪ ،‬ص‪.95‬‬
‫‪97‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫األخالقي في المجتمع منذ المراحل األولى لتشكّل الوعي‬


‫ّ‬ ‫جانب الخير أساس النظام‬
‫البشري‪ ،‬وهذا الثنائي يرتبط بوجود اإلنسان في التّاريخ ال خارجه‪ ،‬وثانيهما ّ‬
‫أن اإلنسان‬
‫الشر ومقاومة أثره في الوجود التاريخي الما ّدي‪ .‬وتؤكّد هذه‬
‫هو المسؤول عن صناعة ّ‬
‫خصصنا لها القسم األول من العنوان والبحث وهي ّ‬
‫أن‬ ‫االستنتاجات الفرض ّية التي ّ‬
‫البشري بمرجعياته المتعدّ دة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشر مقولة اجتماع ّية ّأوال‪ ،‬أنتجها االجتماع‬
‫ّ‬
‫‪ III‬ـ التم ّثل الكتابي لمقولة الش ّر‪:‬‬
‫األول من البحث إثبات المرجع ّية السوسيولوج ّية‬ ‫بعد أن عرضنا في القسم ّ‬
‫الشر‪ ،‬سنعمد في القسم ال ّث ّ‬
‫اني إلى تب ّين آليات انتقال المقولة إلى المجال‬ ‫لمقولة ّ‬
‫الزمني ا ّلذي‬
‫المقدّ س‪ ،‬والوقوف عند خصوصياتها المم ّيزة‪ .‬واستنادا إلى الترتيب ّ‬
‫افترضناه بين المجالين اخترنا عبارة «التم ّثل» (‪ )représentation‬في مقاربة‬
‫االنتقال بينهما‪ .‬وقد صار البحث في التم ّثالت االجتماع ّية من المباحث األساس ّية‬
‫في مجاالت المعرفة الحديثة مع منتصف القرن العشرين‪ .32‬وبرز في هذا اإلطار‬
‫تؤسس‬ ‫سيرج موسكوفيتشي (‪( )Serge Moscovici‬تـ‪ )2014.‬بجهود استثنائ ّية ّ‬
‫عرف‬ ‫المتنوعة‪ .‬فقد ّ‬
‫ّ‬ ‫للمفهوم وتث ّبته بين المناهج األساس ّية في دراسة السرديات‬
‫التم ّثالت باعتبارها شكال من أشكال المعرفة التي تُبنى على أمثلة ثقاف ّية واجتماع ّية‬
‫سابقة أو محايثة‪.33‬‬
‫االجتماعي‬
‫ّ‬ ‫وحسب فيشر ‪ Nicolas Fischer‬ــ ‪ ،Gustave‬يكتسب التم ّثل ُبعده‬
‫ثم هو يكتسب قيمته ودوره حين يكون‬ ‫الخاص في عالقته بالجماعة المنتجة له‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫مشتركا اجتماع ّيا (‪ )socialement partagée‬لدى جماعة ما‪ .34‬وباعتبار ّ‬
‫أن المقولة‬

‫‪ .32‬ينظر‪:‬‬
‫‪Serge Moscovici, »Des représentations collectives aux représentations sociales:‬‬
‫‪élément pour une histoire«, in Denise Jodlet, Les représentations sociales, PUF,‬‬
‫‪Sociologie d’aujourd’hui, pp79 - 103.‬‬
‫‪33. Serge Moscovici, La psychanalyse; son image et son public, Paris, PUF, 1976, p47.‬‬
‫‪34. Gustave - Nicolas Fischer, les concepts fondamentaux de la psychologie sociale, 5e‬‬
‫‪édition, Ed Dunod, 2015, p18.‬‬
‫وللتوسع حول مبحث التم ّثل االجتامعي متكن العودة إىل العمل اجلامعي‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪Les représentations sociales, théories, méthodes et applications, coordonné par‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪98‬‬
‫الزمان على نظيرتها في األديان الكتاب ّية‪ ،‬يجوز اعتبارها‬
‫للشر سابقة في ّ‬
‫ّ‬ ‫االجتماع ّية‬
‫السياق‬
‫الكتابي وأعاد إنتاجه على وفق شروط ّ‬ ‫ّ‬ ‫أنموذجا ومثاال تم ّثله الخطاب الدّ ّ‬
‫يني‬
‫الجديد للتجربة الدين ّية‪ .35‬وباعتبارنا نقارب المسألة في الدّ يانات ال ّثالث‪ ،‬فإنّنا نحافظ‬
‫المهم بالنّسبة‬
‫ّ‬ ‫على ترتيبها التاريخي‪ :‬اليهود ّية فالمسيح ّية فاإلسالم‪ .‬وقد كان من‬
‫التدرج‬
‫ّ‬ ‫إلينا أن نضع في االعتبار خصوص ّية مفهوم «اإلله» في التاريخ‪ ،‬وفي سياق‬
‫السوسيولوجي التاريخي إلى الميتافيزيقي المفارق‪ ،‬شأنه شأن مفاهيم عدّ ة‪ ،‬مثل‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫المادي للوجود إلى‬
‫ّ‬ ‫تدرج من التّفسير‬
‫و«الشر» و«الدّ ين» و«األخالق»‪ ،‬وهو ّ‬
‫ّ‬ ‫«الخير»‬
‫وتفرده‬
‫الكتابي كون ّيته ّ‬
‫ّ‬ ‫الفهم الدّ يني له‪ .36‬ومن مكتسبات مفهوم اإلله في المجال الدّ يني‬
‫بالخلق وارتباطه ّ‬
‫بكل ما هو خير‪ .‬وقد أ ّثر هذا المعطى على تم ّثل الدّ يانات ال ّثالث‬
‫وتطرق‬
‫ّ‬ ‫الشر‪ ،‬وعلى تنزيلها ضمن المنظومتين العقد ّية واألخالق ّية ألتباعها‪.‬‬
‫لمقولة ّ‬
‫الفكري الموسوم بــ«القراءة الجديدة» إلى العالقة بين‬
‫ّ‬ ‫محمد شحرور في مشروعه‬
‫تطور التاريخ اإلنساني بالتفاعل مع‬
‫خط ّ‬ ‫السرديات تعطي ّ‬
‫أن ّ‬‫الفكر والتّاريخ‪ ،‬فافترض ّ‬
‫والسلوك‪ .37‬فما من خطاب إال‬
‫الكوني وتفاعل اإلنسان مع التشريع ّ‬
‫ّ‬ ‫اإللهي‬
‫ّ‬ ‫الوجود‬
‫تاريخي‪ ،‬وال يكون التّاريخ تاريخا إالّ إذا ّ‬
‫تحركت به عجلة الزمان وتغ ّيرت‬ ‫ّ‬ ‫وله طابع‬
‫سياقاته الماد ّية والفكر ّية‪.‬‬

‫‪Grégory Lo Monaco, Sylvain Delouvée et Patrick Rateau, De Boeck Supérieur,‬‬


‫‪Louvain - la - Neuve, 2016.‬‬
‫وجاء يف مقدّ مة الكتاب‪:‬‬
‫‪«L’idée de rassembler plusieurs chercheurs au sein d’un ouvrage de synthèse sur la théorie‬‬
‫‪des représentations sociales est née fin 2011. Une première ébauche de sommaire a été‬‬
‫‪imaginée durant l’été 2012 chez l’un d’entre nous lors d’un séminaire estival. Les auteurs‬‬
‫‪ont été contactés pour la première fois en 2013 et l’ouvrage paraît en 2016», p33.‬‬
‫للتوسع حول معنى التجربة الدّ ين ّية متكن العودة إىل‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪.35‬‬
‫مجاعي‪ ،‬املقدّ س والتاريخ‪ ،‬إرشاف وتنسيق البشري ر ّبوح واحلاج داوق‪ ،2016 ،‬مؤسسة مؤمنون بال‬
‫حدود للدراسات والنرش‪ ،‬ضمن سلسلة الدّ ين وقضايا املجتمع الراهنة‪.‬‬
‫جمتهد شبسرتي‪« ،‬اإليامن والتجارب الدّ ين ّية» ضمن قضايا إسالم ّية معارصة‪1430/2009 ،‬هـ‪ ،‬مركز‬
‫دراسات فلسفة الدّ ين‪ ،‬بغداد‪ ،‬ع ‪ 39‬ــ ‪ ،40‬ص ص ‪ 49‬ــ ‪.70‬‬
‫للتوسع حول التفسري الديني للوجود متكن العودة إىل‪ :‬عبد اجل ّبار الرفاعي‪ ،‬اهلرمنيوطيقيا والتفسري‬ ‫ّ‬ ‫‪.36‬‬
‫الدّ يني للعامل‪ ،‬ط‪ ،2017 ،1.‬مركز دراسات فلسفة الدّ ين ببغداد‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنرش ــ تونس‪.‬‬
‫حممد شحرور‪ ،‬الكتاب والقرآن قراء معارصة‪ ،‬ط‪ ،1990 ،1.‬دار األهايل‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص‪.675‬‬ ‫‪ّ .37‬‬
‫‪99‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫‪ 1‬ـ مقولة الش ّر في اليهود ّية‪:‬‬


‫تنبني القداسة في اليهود ّية أساسا على التوراة على الرغم من قيمة التلمود التي‬
‫وتتأسس التوراة على سفر التكوين باعتباره‬
‫ّ‬ ‫تضاعفت بعد تدوين نصوصه الشفو ّية‪.38‬‬
‫كتاب األجوبة على أسئلة البدايات التي شغلت اإلنسان دوما‪ ،‬ومنذ آياته األولى‬
‫واألخالقي للوجود‪ ،‬فقد ورد في مطلعه‪« :‬في‬ ‫ّ‬ ‫الزمني‬
‫ّ‬ ‫تطالعنا الثنائ ّية القديمة للتّقسيم‬
‫َت األَ ْر ُض َخ ِر َب ًة َو َخالِ َي ًة‪َ ،‬و َع َلى َو ْج ِه ا ْل َغ ْم ِر‬
‫ات واألَر َض‪ .‬وكَان ِ‬ ‫ا ْلبدْ ِء َخ َل َق اﷲُ السم ِ‬
‫َ‬ ‫او َ ْ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫وح اﷲ َي ِر ُّ‬
‫ُور‪َ .‬و َر َأى اﷲُ الن َ‬
‫ُّور‬ ‫ُور‪َ ،‬فك َ‬
‫َان ن ٌ‬ ‫ف َع َلى َو ْجه ا ْلم َياه‪َ .‬و َق َال اﷲُ‪ :‬ل َي ُك ْن ن ٌ‬ ‫ُظ ْل َم ٌة‪َ ،‬و ُر ُ‬
‫ِ ‪39‬‬ ‫َأ َّن ُه َح َس ٌن‪َ .‬و َف َص َل اﷲُ َب ْي َن الن ِ‬
‫ُّور َوال ُّظ ْل َمة» ‪ .‬فإذا انطلقنا من افتراض وجود متخ ّيل ّ‬
‫ديني‬
‫التوراتي بين‬
‫ّ‬ ‫إنساني مشترك وقيم ومشتركات إنسان ّية كون ّية‪ ،‬فإنّه ال يمكن فهم التّمييز‬
‫ّ‬
‫االجتماعي القديم ا ّلذي عرضناه‬
‫ّ‬ ‫النّور وال ّظلمة مع تفضيل للنّور‪ ،‬بمعزل عن الموروث‬
‫السابق‪ .‬فحين رأى إله التوراة (يهوه) النّور للوهلة األولى اعتبره حسنا‪،‬‬
‫في القسم ّ‬
‫أن نقيضه الظلمة قبيحة‪ .‬ويم ّثل‬
‫وبذلك يكون المسكوت عنه ظرف ّيا في الخطاب هو ّ‬
‫األولي نقطة الوصل والتواصل مع الموروث القديم الذي م ّيز بين النّور‬ ‫هذا التم ّثل ّ‬
‫والشر‪ .‬ولكنّه ثم ّث ٌل متجدّ ٌد في سياق آخر‪ ،‬وسيكون‬
‫ّ‬ ‫وال ّظلمة وربطهما بثنائ ّية الخير‬
‫بدوره أساسا لدورة جديدة في وضع أ ُط ٍر لزمن البدايات وتحديد قواني َن لآلني وبناء‬
‫رات حول المستقبل‪ ،‬إنّها مرحلة أديان التوحيد الثالثة‪.‬‬‫تصو ٍ‬
‫ّ‬
‫والشر في‬
‫ّ‬ ‫ولئن م ّيز يهوه بين النور والظلمة‪ّ ،‬‬
‫فإن آيات التكوين جمعت بين الخير‬
‫وتم الجمع بينهما في شجرة واحدة‬
‫الشر بالذكر في مواضع أخرى‪ّ .‬‬ ‫مواضع وأفردت ّ‬
‫خص نفسه بهذه‬
‫أن يهوه قد ّ‬ ‫ُعرفت في الدّ راسات الدين ّية بشجرة المعرفة‪ .‬ويبدو ّ‬
‫والبشري‪ ،‬وكي ال‬
‫ّ‬ ‫اإللهي‬
‫ّ‬ ‫المعرفة‪ ،‬ولم يسمح للبشر بالتمكّن منها حتّى يفصل بين‬
‫الر ُّب ِ‬
‫اإلل ُه‬ ‫«و َأ ْن َب َت َّ‬
‫األول ما ُيثبت ذلك‪َ :‬‬
‫ينازعه أحد سلطانه‪ .‬وقد ورد في اإلصحاح ّ‬

‫الشوح التي‬
‫نص مقدّ س بعد التوراة عند اليهود‪ .‬وتأيت أمهيته من كونه جمموع ّ‬ ‫‪ .38‬يم ّثل التلمود أبرز ّ‬
‫وضعها كبار األحبار عىل حوايش التوراة‪ ،‬والتفسري ملضامينه‪ .‬وتزاد مكانته أمه ّية عند بعض الفرق‬
‫اليهود ّية املحافظة لتتجاوز قيمة التوراة يف مستوى الترشيع‪ .‬و ُعرف التلمود يف بدايات الزمن اليهودي‬
‫املقدّ س بالرشيعة الشفو ّية‪ ،‬لكن تم تدوينه ليكون جزءا من صناعة العقيدة اليهود ّية‪.‬‬
‫‪ .39‬تكوين‪ 1( 1 :‬ــ ‪.)4‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪100‬‬
‫ط ا ْل َجن َِّة‪،‬‬
‫ْل‪ ،‬و َشجر َة ا ْلحي ِاة فِي وس ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ‬ ‫ألك ِ َ َ َ‬‫ض ك َُّل َش َج َر ٍة َش ِه َّي ٍة لِلنَّ َظ ِر َو َج ِّيدَ ٍة لِ َ‬ ‫ِم َن األَ ْر ِ‬
‫الش ِّر»‪.40‬‬ ‫َو َش َج َر َة َم ْع ِر َف ِة ا ْل َخ ْي ِر َو َّ‬
‫اإلل ُه آ َد َم َق ِائالً‪ِ :‬م ْن‬
‫الر ُّب ِ‬ ‫«و َأ ْو َصى َّ‬ ‫نصه‪َ :‬‬ ‫تكرر هذا القصد ا ْل َي َه ِوي في موضع آخر ّ‬ ‫ّ‬
‫ال ت َْأك ُْل ِمن َْها‪ ،‬ألَن ََّك َي ْو َم‬ ‫َج ِمي ِع َش َج ِر ا ْل َجن َِّة ت َْأك ُُل َأ ْكالً‪َ ،‬و َأ َّما َش َج َر ُة َم ْع ِر َف ِة ا ْل َخ ْي ِر َو َّ‬
‫الش ِّر َف َ‬
‫الشجرة‬ ‫وت»‪ .41‬تتضح في هذا التشكيل الخطابي ع ّلة منع األكل من ّ‬ ‫ت َْأك ُُل ِمن َْها َم ْوتًا ت َُم ُ‬
‫وهي اقتران المعرفة بالموت‪ .‬وع ّلة الموت في المقصد اليهوي هي منع ارتقاء البشر‬
‫إلى مرتبة اإلله الخالق للوجود بما فيه اإلنسان‪ .‬ويرد تأكيد هذا المعنى في قول الح ّية‬
‫لزوجة آدم « َلن تَموتَا! ب ِل اﷲُ َعالِم َأ َّنه يوم ت َْأ ُكال َِن ِمنْه َتنْ َفتِح َأ ْعينُكُما و َتكُون ِ‬
‫َان كَاﷲ‬ ‫ُ ُ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ ُ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬
‫َع ِ‬
‫ار َف ْي ِن ا ْل َخ ْي َر َو َّ‬
‫الش َّر»‪.42‬‬
‫سلبي أقدم عليه اإلنسان حين خالف القواعد‬
‫ّ‬ ‫سينتج عن هذه المعرفة ّأول سلوك‬
‫الرب وأكل من شجرة‬
‫ّ‬ ‫والقوانين التي ن ّظمت وجوده في الجنّة‪ ،‬حين خالف أمر‬
‫الشر استنادا إلى مفهومه الذي حدّ دناه في‬
‫ولما كانت الح ّية هي سبب حدوث ّ‬ ‫المعرفة‪ّ .‬‬
‫األول من البحث‪ ،‬وصفتها التوراة بالمتح ّيلة‪ ،‬وجعلتها أكثر الحيوانات تم ّلكا‬
‫القسم ّ‬
‫لهذه الصفة الس ّيئة في سلم القيم األخالق ّية الموروثة‪ ،‬ودليل ذلك ما ورد في اإلصحاح‬
‫الر ُّب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلل ُه»‪.43‬‬ ‫«وكَانَت ا ْل َح َّي ُة َأ ْح َي َل َجمي ِع َح َي َوانَات ا ْل َب ِّر َّية ا َّلتي َعم َل َها َّ‬
‫الثالث َ‬
‫الشر بمعنى الهالك الذي يصيب اإلنسان من قبل اإلله الغاضب‪ .‬وجاء هذا‬ ‫وورد ّ‬
‫الر َّب ُم ْه ِل ٌك‬ ‫ِ‬
‫هذا ا ْل َمكَان‪ ،‬ألَ َّن َّ‬ ‫اخ ُر ُجوا ِم ْن َ‬‫المعنى في خطاب لوط ألصهاره‪ُ « :‬قو ُموا ْ‬
‫الم َل َك ْين للوط‪ُ « :‬ق ْم ُخ ْذ ا ْم َر َأت َ‬
‫َك َوا ْبنَ َت ْي َك‬ ‫الهالك‪/‬الشر في أمر َ‬
‫ّ‬ ‫ا ْل َم ِدينَ َة»‪ .44‬ويتضح سبب‬
‫ِ ِ‬ ‫ا ْلموجود َتي ِن لِ َئ َّ ِ‬
‫الشر على المدينة سببه تجاوزات سكّانها‬ ‫ال ت َْهل َك بِإِ ْث ِم ا ْل َمدينَة»‪ ،‬فتسليط ّ‬ ‫َْ ُ َ ْ‬
‫التوراتي بمصطلح «اإلثم»‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬ ‫للنّظام الذي س ّطره يهوه‪ ،‬وقد اصطلح عليه ّ‬
‫النص‬
‫مصطلح في أصله أخالقي قبل أن يستعيره الحقل الديني‪ .‬ويبدو من سياق القول ّ‬
‫أن َر َّد‬

‫‪ .40‬تكوين‪.)9( 1 :‬‬
‫‪ .41‬تكوين‪ 16( 2 :‬ــ ‪.)17‬‬
‫‪ .42‬تكوين‪ 1( 3 :‬ــ ‪)5‬‬
‫‪ .43‬تكوين ‪.1/3 :‬‬
‫‪ .44‬تكوين‪.14/19 :‬‬
‫‪101‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫ِ‬
‫الشرور ال ُيم ّيز بين اآلثمين وغيرهم‬ ‫الشر على مرتكبي ّ‬ ‫فعل اإلله المتم ّثل في تسليط ّ‬
‫من سكّان القرية‪ .‬فقد ورد هذا المعنى في ر ّد لوط على الملكين‪« :‬الَ َيا َس ِّيدُ ‪ُ .‬ه َو َذا‬
‫اء َن ْف ِسي‪،‬‬ ‫عبدُ َك َقدْ وجدَ نِعم ًة فِي عينَي َك‪ ،‬وع َّظمت ُل ْط َف َك ا َّل ِذي صنَعت إِ َلي بِاستِب َق ِ‬
‫َ ْ َ َّ ْ ْ‬ ‫َ َ ْ َ‬ ‫َْ ْ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َْ‬
‫فالشر الذي سيدرك آل‬ ‫وت»‪.45‬‬ ‫ِ‬
‫الش َّر ُيدْ ِركُني َف َأ ُم َ‬ ‫ِ‬
‫َو َأنَا الَ َأ ْقد ُر َأ ْن َأ ْه ُر َب إِ َلى ا ْل َج َب ِل َل َع َّل َّ‬
‫ّ‬
‫لوط هو الهالك الذي يس ّلطه يهوه على القرية بسبب أشرارها‪ .‬وهذا ما أزعج الهوتيي‬
‫للشر وهو الخير؟‬
‫الرب مصدرا ّ‬
‫التوراة حين واجههم سؤال‪ :‬كيف يكون ّ‬
‫تجرم االعتداء‬
‫الشر بمعنى الغدر والخيانة وتجاوز النّواميس األخالق ّية التي ّ‬
‫وورد ّ‬
‫الشرف‪ ،‬وقد حصل هذا األمر بين النّبي يوسف وامرأة س ّيده في مصر‪ .‬فقد أبى‬ ‫على ّ‬
‫النص‬‫شرا عظيما‪ .‬ففي ّ‬ ‫المتزوجة‪ ،‬وعدّ حدوث الخلوة معها ّ‬ ‫ّ‬ ‫يوسف تلبية رغبة الس ّيدة‬
‫ف م ِعي ما فِي ا ْلبي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ت‪َ ،‬وك ُُّل َما َل ُه َقدْ‬ ‫َْ‬ ‫ما قوله‪َ « :‬أ َبى َو َق َال ال ْم َر َأة َس ِّيده‪ُ :‬ه َو َذا َس ِّيدي الَ َي ْع ِر ُ َ َ‬
‫ت َأ ْع َظم ِمنِّي‪ .‬و َلم يم ِس ْك َعنِّي َشي ًئا َغير ِك‪ ،‬ألَن ِ‬‫هذا ا ْلبي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّك‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ ْ ُْ‬ ‫َ‬ ‫َد َف َع ُه إِ َلى َيدي‪َ .‬ل ْي َس ُه َو في َ َ ْ‬
‫يم َو ُأ ْخطِ ُئ إِ َلى اﷲ؟»‪ .46‬لقد ماثل يوسف في خطابه بين‬ ‫ِ‬
‫الش َّر ا ْل َعظ َ‬
‫هذا َّ‬ ‫ف َأ ْصن َُع َ‬‫ا ْم َر َأ ُت ُه‪َ .‬ف َك ْي َ‬
‫والشر‪ ،‬وعدّ ارتكابها خطيئة‪ .‬وسيكون مفهوم‬ ‫ّ‬ ‫الخيانة‪ ،‬باعتبارها سلوكا اجتماع ّيا مذموما‪،‬‬
‫المسيحي مثلما سنرى الحقا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشر في الالهوت‬
‫الخطيئة أحد المعاني البارزة لمفهوم ّ‬
‫الشر بمعنى األلم والمعاناة التي يمكن أن تصيب اإلنسان بسبب سلوك‬ ‫يحضر ّ‬
‫النبي يوسف حين تعاون أبناؤه‬ ‫خاطئ من غيره‪ .‬وقد ُس ّلط هذا النوع من ّ‬
‫الشر على والد ّ‬
‫للتخ ّلص من يوسف بر ْم ِيه في البئر‪ ،‬فتأ ّلم يعقوب بسبب سلوك أبنائه‪ ،‬وتضاعف ألمه‬
‫ونصه‪:‬‬‫الصغير في مصر‪ ،‬واإلصحاح األخير من التكوين ّ‬ ‫عندما حجز يوسف أخاه ّ‬
‫ال ُم َم َع إِ ْخ َوتِ ِه‪ .‬ألَنِّي‬
‫ال ِم‪َ ،‬ع ْبدً ا لِ َس ِّي ِدي‪َ ،‬و َي ْص َع ِد ا ْل ُغ َ‬
‫ُث َع ْبدُ َك ِع َو ًضا َع ِن ا ْل ُغ َ‬
‫اآلن لِ َي ْمك ْ‬
‫« َف َ‬
‫يب َأبِي»‪ُ 47‬يثبت ذلك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ال َأ ْن ُظر َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ف َأ ْص َعدُ إِ َلى َأبِي َوا ْل ُغ َ‬
‫الش َّر ا َّلذي ُيص ُ‬ ‫ال ُم َل ْي َس َمعي؟ ل َئ َّ َ‬ ‫َك ْي َ‬
‫النبي يعقوب‪ ،‬بسبب كيد اإلخوة ليوسف والتّفريط‬ ‫فقد اعتبر المتك ّلم في ّ‬
‫النص معاناة ّ‬
‫شرا يصيب والده‪.‬‬
‫في أخيهم األصغر‪ّ ،‬‬
‫للشر في سفر التكوين مثل تجاوز حدود النظام القائم والغدر‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫إن ما عرضنا من معان ّ‬

‫‪ .45‬تكوين‪.19/19 :‬‬
‫‪ .46‬تكوين‪ 7( 39 :‬ــ ‪.)9‬‬
‫‪ .47‬تكوين ‪ 33( 44 :‬ــ ‪.)34‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪102‬‬
‫التوراتي وأعاد‬
‫ّ‬ ‫والخيانة والمعاناة واإلساءة‪ ،‬هي معان اجتماع ّية قديمة ت ََم َّثلها ّ‬
‫النص‬
‫أن توسيع‬‫شك في ّ‬
‫السابق ويتمايز معه‪ ،‬وال ّ‬ ‫ديني جديد يتماثل مع ّ‬
‫إنتاجها ضمن سياق ّ‬
‫معاني أخرى‪.‬‬
‫َ‬ ‫اليهودي يمكن أن تفرز‬
‫ّ‬ ‫دائرة البحث في التّراث‬
‫‪ 2‬ـ مقولة الش ّر في المسيح ّية‪:‬‬
‫نشأت المسيح ّية وترعرعت في أحضان اليهود ّية من جهتين أساس ّيتن‪ :‬جهة أولى‬
‫تتم ّثل في انتماء عيسى بن مريم إلى بيت داود اليهودي‪ ،‬وجهة ثانية ترتبط بدور اليهودي‬
‫الفريسي شاؤول في نشأة المسيح ّية المكتوبة والمتداولة بين األمم‪ ،‬وصار شاؤول‬
‫ّ‬
‫نبي المسيح ّية معنى االستمرار ّية والتواصل بين الدّ يانتين‬ ‫الرسول بولس‪ .‬وقد أكّد ّ‬ ‫ّ‬
‫الكتاب ّيتين حين خاطب تالمذته قائال‪« :‬الَ َت ُظنُّوا َأنِّي ِج ْئ ُت ألَ ْن ُق َض النَّا ُم َ‬
‫وس َأ ِو األَنْبِ َيا َء‪.‬‬
‫َما ِج ْئ ُت ألَ ْن ُق َض َب ْل ألُك َِّم َل»‪.48‬‬
‫الرسل مقولة الخطيئة‬ ‫من المسائل األساس ّية التي حافظت عليها األناجيل وأعمال ّ‬
‫الرب‪ ،‬وحدث االنزياح بتأثير من الح ّية‬
‫األول على أوامر ّ‬
‫الناتجة عن انحراف اإلنسان ّ‬
‫التوراتي‪ ،‬فالحيلة تعني الخداع وتزييف الواقع وإيقاع الضح ّية في‬
‫ّ‬ ‫المتح ّيلة في الوصف‬
‫األول فأكل من الشجرة الممنوعة‪ ،‬فتجاوز النظام‬
‫المحظور‪ ،‬وقد انطلت على اإلنسان ّ‬
‫الشرور الحادثة في الوجود بعد أن كانت الحياة‬ ‫اإللهي في الجنّة‪ ،‬وكان سلوكه أولى ّ‬
‫الشر إالّ انحراف من اإلنسان على‬ ‫والنظام والخير‪ .‬فاألصل في الوجود هو الخير‪ ،‬وما ّ‬
‫ت ا ْل َخطِ َّي ُة إِ َلى ا ْل َعا َل ِم‪َ ،‬وبِا ْل َخطِ َّي ِة ا ْل َم ْو ُت»‪.49‬‬
‫اح ٍد د َخ َل ِ‬
‫َ‬
‫ان و ِ‬
‫ٍ‬
‫الخير‪ .‬فـ«بِإِن َْس َ‬
‫ومبررا لرسالة يسوع المسيح‪.‬‬‫صارت الخطيئة مقولة أساس ّية في فلسفة المسيح ّية ّ‬
‫والشر على النحو التّالي‪ُ « :‬يدعى خيرا ّ‬
‫كل ما‬ ‫ّ‬ ‫الكتابي» الخير‬
‫ّ‬ ‫وعرف «معجم ّ‬
‫اللهوت‬ ‫ّ‬
‫يكولوجي‪ ...‬وعلى العكس‬
‫ّ‬ ‫الس‬
‫الجسدي أو ّ‬
‫ّ‬ ‫الصعيد‬
‫يسهل الحياة في ّ‬
‫يس ّبب السعادة أو ّ‬
‫وباألخص إلى الموت هو‬
‫ّ‬ ‫من ذلك ّ‬
‫كل ما يؤ ّدي إلى المرض أو األلم بجميع أشكاله‪،‬‬
‫شرا من ّ‬
‫الشرور‪ ،‬بل هي أخطرها‬ ‫شر» ‪ .‬وقد أ ّدت الخطيئة إلى الموت‪ ،‬فكانت بذلك ّ‬
‫‪50‬‬
‫ّ‬

‫‪ .48‬متّى‪.17/5 :‬‬
‫‪ .49‬روم ّية‪.12/5 :‬‬
‫‪ .50‬كزافييه ليون دوفور‪ ،‬معجم الالهوت الكتايب‪ ،‬إرشاف عىل الرتمجة والتنظيم أنطونيوس نجيب‪ ،‬ط‪،2.‬‬
‫‪ ،1986‬دار املرشق‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.334‬‬
‫‪103‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫الصراع واأللم‬
‫باعتبارها نزلت باإلنسان من الجنّة إلى األرض ومن الخير والسعادة إلى ّ‬
‫والمعاناة ومن الحياة األبد ّية والخلود إلى الموت‪.‬‬
‫يدفع الحديث عن األخالق في المسيح ّية إلى العودة إلى كتابات ّ‬
‫اللهوتي‬
‫المتفلسف القديس أغسطين (تـ‪430.‬م) (‪ ،)Saint Agustin‬فقد بنى أسس فلسفته‬
‫الرسل‪،‬‬
‫التوراتي‪ ،‬وأسهم في تواصله في األناجيل وأعمال ّ‬ ‫ّ‬ ‫األخالق ّية على الطرح‬
‫السابق لمسألة‬ ‫ونخص من ذلك ما تع ّلق بالخطيئة‪ّ .‬‬
‫ثم إنّه أكّد بنوع من التّمايز مع ال ّطرح ّ‬ ‫ّ‬
‫الرب‬
‫تمرد على وص ّية ّ‬ ‫أن األصل في وجود اإلنسان هو الخير‪ ،‬غير ّ‬
‫أن اإلنسان ّ‬ ‫الشر ّ‬
‫ّ‬
‫الشر إلى حياة‬
‫الشر‪ .‬وقد استوجب استجالب ّ‬
‫بتأثير من الح ّية فكانت الخطيئة‪ ،‬وكان ّ‬
‫اإلنسان في تقديره العقاب العادل‪ .‬وقال في هذا السياق‪« :‬لقد خلق اﷲ اإلنسان سليما‬
‫مستقيما ألنّه خالق الطبيعة من دون األلم‪ ،‬ولك ّن اإلنسان قد خطئ بحر ّيته فعوقب‬
‫بعدل»‪.51‬‬
‫ذريته بالوراثة‪.‬‬
‫لم يقتصر أثر الخطيئة واآلثام على األب المخطئ‪ ،‬بل انتقلت إلى ّ‬
‫وأعاد أغسطين ال ّثقة باإلنسان وإبالغه مضمون الوص ّية اإلله ّية من دون إجباره على‬
‫للمرة األولى‪ ،‬إلى اإلفراط‬
‫الشر إلى الوجود ّ‬
‫االلتزام بها‪ ،‬وارتكاب الخطيئة وإدخال ّ‬
‫في الحر ّية‪ .‬وقال في هذا السياق‪« :‬على هذا النحو من اإلفراط في الحر ّية‪ ،‬نتج زمن‬
‫البشري الفاسد في ينبوعه‬
‫ّ‬ ‫الشر‪ ،‬وسلسلة طويلة من الشقاء امتدّ ت وسارت بالجنس‬ ‫ّ‬
‫وشبه المهترئ في أصله إلى الموت ال ّثاني»‪ .52‬وذهب فيلسوف األخالق في المسيح ّية‬
‫ّ‬
‫إبليس‪/‬الشيطان‬ ‫الشر بعد أن كان الوجود ك ّله خيرا‪ ،‬فاعتبر ّ‬
‫أن‬ ‫أبعد في مسألة وجود ّ‬
‫األول‪ ،‬وبسبب‬
‫شريرا ولكنّه أصبح كذلك بسبب سلوك يشبه سلوك اإلنسان ّ‬ ‫لم ُيخلق ّ‬
‫الكتابي‪ ،‬فهو‬
‫ّ‬ ‫الشيطان من المالئكة في التم ّثل الدّ يني‬
‫أن ّ‬‫شريرا‪ .53‬باعتبار ّ‬
‫إرادته صار ّ‬
‫التمرد على اإلرادة اإللهية والوقوع في‬
‫ّ‬ ‫شرا محضا بل صار كذلك بسبب‬ ‫لم يكن ّ‬
‫وحجة أغسطين في هذا‬
‫ّ‬ ‫الشرور مع البشر‪.‬‬ ‫الخطيئة‪ّ ،‬‬
‫فإن المالئكة شريكة في ارتكاب ّ‬

‫‪ .51‬القديس أغسطني‪ ،‬مدينة اهلل‪ ،‬نقله إىل العربية األسقف يوحنّا احللو‪ ،‬ط‪ ،2007 ،2.‬دار املرشق‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ج‪ ،2.‬ص ‪.126‬‬
‫‪ .52‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.126‬‬
‫‪ .53‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪104‬‬
‫عالمي البشر والمالئكة يحتويان أخيارا وأشرارا‪ ،‬ويقع األشرار من‬
‫ْ‬ ‫التم ّثل هي ّ‬
‫أن‬
‫والشر بعد االستسالم لهذيان قدرتهم الشخص ّية‪ ،‬فيسقطون من‬
‫ّ‬ ‫الجانبين في الخطيئة‬
‫الصالحين‬ ‫أعالي الخير األسمى‪ .‬وأكّد هذا المعنى قائال‪ْ :‬‬
‫«أن تكون ميول المالئكة ّ‬
‫والرغبات فيهم‪ ،‬وليست وليدة االختالف في‬
‫واألشرار المتناقضة وليدة التناقضات ّ‬
‫الطبيعة والمبدأ طالما أنّهم جميعا من خلق اﷲ‪ ...‬وعلى هذا النحو يتّحد البعض باﷲ‬
‫فيسعدون‪ ،‬ويتخ ّلى اآلخرون عن اﷲ فيش َق ْون»‪ .54‬فاﷲ يعني الخير في فلسفة أغسطين‪،‬‬
‫بالتمرد على وصاياه أو عدم االلتزام بها تعني التعاسة والشقاء والمعاناة‪ .‬وهي‬
‫ّ‬ ‫وخيانته‬
‫األول من البحث‪.‬‬
‫الشر التي حدّ دناها في القسم ّ‬
‫عالمات ّ‬
‫رفض توما اإلكويني (تـ‪1274.‬م) (‪ )Saint Thomas d’Aquin‬فكرة أن يكون غياب‬
‫شر أو شرور‪ .‬إزاء ذلك‬ ‫الشر‪ّ ،‬‬
‫ألن األشياء التي لم توجد تبعا لهذا الفهم هي ّ‬ ‫الخير هو ّ‬
‫مستحق بالنّوع‪ ،‬كالعمى الذي يم ّثل حرمانا من البصر‬
‫ّ‬ ‫الشر عنده الحرمان من خير‬
‫يكون ّ‬
‫الشر انعداما للماهية‪ .‬ويكون الخير بذلك‬
‫أو انعدام اليدين من جسد اإلنسان‪ .‬ويكون ّ‬
‫الشر حادثا‪ ،‬أي فرعا ناتجا عن حرمان ما‪.55‬‬
‫األصل في الوجود‪ ،‬ويكون ّ‬
‫الشر مثل الشياطين‪،‬‬
‫تطرق األكويني إلى القوى غير المرئ ّية المسهمة في حدوث ّ‬
‫ّ‬
‫وحاول تحديد دورها في دفع اإلنسان إلى ارتكاب ّ‬
‫الشرور قياسا على حادثة شجرة‬
‫للشر الذي لم يكن موجودا‬
‫المعرفة في سرد ّية الح ّية والمرأة‪ .‬واعتبر الشيطان مصدرا ّ‬
‫التمرد‪ .‬وأكّد‬
‫ّ‬ ‫في اإلنسان قبل تجاوزه وصايا الرب‪ ،‬وقبل أن يختار الشيطان بدوره‬
‫ّ‬
‫أن المالئكة‪ ،‬ومن بينها ّ‬
‫الشياطين‪ ،‬قادرة على تغيير إرادة اإلنسان الخ ّيرة ودفعه إلى‬
‫شراح الكتاب المقدّ س قوله‪ّ :‬‬
‫«إن‬ ‫والشر‪ .‬وفي اإلطار نفسه نقل عن بيدا أحد ّ‬
‫ّ‬ ‫الخطيئة‬
‫الدمشقي قوله في كتاب‬
‫ّ‬ ‫الشيطان ليس يلقي الهواجس القبيحة بل يضرمها»‪ ،‬ونقل عن‬
‫الشياطين‪ ،‬وقد ُأذن لهم‬
‫شر وكل هوى قبيح فهو صادر عن ّ‬ ‫«التعليم المستقيم»‪ّ :‬‬
‫«كل ّ‬

‫‪ .54‬القديس أغوسطني‪ ،‬مدينة اهلل‪ ،‬ص‪.59‬‬


‫عواد‪ ،‬ط‪ ،1891 ،1.‬املطبعة‬
‫‪ .55‬توما األكويني‪ ،‬اخلالصة الالهوت ّية‪ ،‬ترمجه من الالتين ّية اخلوري بولس ّ‬
‫األدبية‪ ،‬بريوت‪ ،‬مج‪ ،1‬ص ص ‪ 62‬ــ ‪.68‬‬
‫ُينظر أيضا‪:‬‬
‫‪Thomas d’Aquin, Somme contre les gentils, PP 40, 402, 418, 420.‬‬
‫‪105‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫الشيطان»‪ .56‬وأكد األكويني ّ‬


‫أن المالئكة األشرار يحاربون اإلنسان‬ ‫أن يلقوا ذلك في ّ‬
‫التمرد‬
‫ّ‬ ‫تهمنا واحدة منهما وهي إغراؤه بالخطيئة ودفعه إلى‬‫الخ ّير بالفطرة بطريقتين‪ّ ،‬‬
‫على القوانين المن ّظمة لوجوده‪ .‬ويمكن أن ينهض بهذا الدّ ور أيضا البشر الذين اندفعوا‬
‫إلى الخطيئة وأصبحوا بدورهم أشرارا‪.57‬‬
‫الشر في‬ ‫إن ما نخلص إليه في خاتمة هذا العنصر هو ّ‬
‫أن المسيح ّية بنت مفهوم ّ‬ ‫ّ‬
‫اليهودي‪ ،‬وركّزت أساسا على مفهوم الخطيئة‬
‫ّ‬ ‫فلسفتها األخالق ّية على الموروث‬
‫ووسعت في دائرة مفهومه ووظيفته‪ .‬وتمايزت مع الطرح األسبق بأن جعلت األصل‬ ‫ّ‬
‫الشر حادث بعده باالنزياح عنه بواسطة سلسلة من‬
‫أن ّ‬ ‫في الوجود هو الخير‪ ،‬واعتبرت ّ‬
‫الفواعل وهي الح ّية ّ‬
‫والشيطان واألشرار من النّاس‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ مقولة الش ّر في اإلسالم‪:‬‬


‫الشر على المقاربة الكالم ّية أساسا‪.‬‬
‫نشير بداية إلى أنّنا نركّز في دراسة مفهوم ّ‬
‫وباعتبار ّ‬
‫أن اإلسالم هو آخر الدّ يانات الكتاب ّية ظهورا في التاريخ‪ ،‬وبناء على فرض ّية‬
‫الطبيعي أن يعيد الفكر‬
‫ّ‬ ‫السابق في ّ‬
‫اللحق بأي شكل من األشكال‪ ،‬يكون من‬ ‫وجود ّ‬
‫الشر‪ .‬وقد أحرج‬‫البشري مثل مقولة ّ‬
‫ّ‬ ‫مهمة تخترق الوجود‬‫اإلسالمي طرح مسألة ّ‬
‫ّ‬
‫الكتابي بما طرحه من أسئلة تتع ّلق‬
‫ّ‬ ‫وأثرها الالهوت الدّ يني‬
‫حضور هذه المقولة ُ‬
‫ُ‬
‫الشر في‬
‫الشر في العالم وبدور اإلله فيه وبموقعه منه‪ .‬وعند البحث في مقولة ّ‬
‫بوجود ّ‬
‫كالمي‬
‫ّ‬ ‫الشر بمبحث‬
‫مهمتان‪ :‬أوالهما عدم إفراد ّ‬ ‫اإلسالمي تبرز مالحظتان ّ‬
‫ّ‬ ‫الفكر‬
‫الشر وال ّظلم ّ‬
‫والضرر‬ ‫خاص به‪ ،‬وجعله تابعا لمبحث القبح‪ ،‬هذا الذي َيعدّ ه المعتزلة ّ‬
‫ّ‬
‫للشر تعريفات متشابهة‬
‫ّ‬ ‫أن المتك ّلمين المسلمين جعلوا‬ ‫والفساد والعبث‪ ،‬وثانيهما ّ‬
‫الشر وأنواعه‪ ،‬بل‬
‫على الرغم من االختالف في التفاصيل‪ ،‬ولم يم ّيزوا بين أقسام ّ‬
‫لم يظهروا وعيا صريحا باختالف أنواعه من حيث الطبيعة أو المجال‪ ،‬وعدّ وه‬
‫يهتموا بالتقسيم األكثر انتشارا بين المقاربات السابقة‪ ،‬تلك التي‬
‫حقيقة واحدة‪ ،‬ولم ّ‬
‫األخالقي في الفلسفة‬
‫ّ‬ ‫االجتماعي أو‬
‫ّ‬ ‫والشر‬
‫ّ‬ ‫الطبيعي‬
‫ّ‬ ‫الشر‬
‫ّ‬ ‫قسمته إلى شرور منها‬
‫ّ‬

‫‪ .56‬توما األكويني‪ ،‬اخلالصة الالهوت ّية‪ ،‬مج‪ ،3‬ص‪.76‬‬


‫‪ .57‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ص‪ 106‬ــ ‪.107‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪106‬‬
‫المسيح ّية‪ .58‬والسبب في تمايز المقاربة الكالم ّية اإلسالم ّية عن سابقتها المسيح ّية‬
‫محمد بوهالل هو صدور آراء المتك ّلمين المسلمين «عن خلفيات أنطولوج ّية‬ ‫ّ‬ ‫عند‬
‫إبستمولوج ّية متشابهة تتم ّثل في النّظرة الذر ّية التي لم تكن تم ّيز بين المجال الما ّدي‬
‫كل موجود حادث فعال‬ ‫المعنوي‪ ،‬وفي نظر ّية الفعل التي كانت ترى في ّ‬ ‫ّ‬ ‫وفي المجال‬
‫يتط ّلب فاعال عاقال مسؤوال»‪.59‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فإنّه ال يمكن‬
‫ّ‬ ‫الكالمي‬
‫ّ‬ ‫لئن كان لموقف بوهالل وجاه ٌة في تفسير التم ّثل‬
‫اعتبار ما افترضه الع ّلة الوحيدة للفهم والتفسير‪ .‬ونحن نعتقد ّ‬
‫أن مفهوم التّوحيد القائم‬
‫على التّنزيه التّام ّ‬
‫للذات اإلله ّية عن كل نقص أو خطأ أو زلل هو العامل األكثر تأثيرا في‬
‫اإلسالمي‪ .‬ويجد هذا االستنتاج ُح ّجيته في صيغة التعميم‬
‫ّ‬ ‫الشر في الفكر‬
‫صياغة مقولة ّ‬
‫الشر عند المتك ّلمين المسلمين‪ ،‬ذلك‬
‫التي اعتمدها بوهالل لتفسير خصوص ّية تعريف ّ‬
‫أنّه قد جمع تعريفاتهم في س ّلة واحدة‪ ،‬ور ّد تطاب َقها إلى السبب ذاته‪ ،‬مع أنّهم اختلفوا‬
‫جل المسائل‪.‬‬‫دائما في ّ‬

‫فالمتك ّلمون المسلمون ّ‬


‫وسعوا دائرة الخالف واالختالف في أغلب المواضيع‪،‬‬
‫إالّ ّ‬
‫أن مقارباتهم لمسألة التوحيد تشابهت وتماثلت‪ .‬ويعود ذلك في تقديرنا إلى‬
‫طبيعة المبحث واتّصاله المباشر بالذات اإلله ّية وبحدّ ّ‬
‫الشرك والكفر‪ .‬وقد حدّ هذا‬
‫التطرق إلى مسائل أخرى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تحرك فيه المتك ّلمون عند‬
‫المبحث من هامش الحر ّية الذي ّ‬
‫حديثين في فصل النهي عن الجدال‪ ،‬يؤكّدان هذه‬ ‫فالشيخ المفيد (تـ‪413.‬هـ) مثال روى ِ‬
‫ونصه‪« :‬الجدال‬ ‫الخصوص ّية اإلسالم ّية في تم ّثل األلوه ّية؛ ّ‬
‫األول منهما عن أبي جعفر ّ‬
‫ونصه‪« :‬يهلك‬
‫الصادق ّ‬
‫منهي عنه ألنّه يؤ ّدي إلى ما ال يليق به»‪ ،‬والثاني عن جعفر ّ‬
‫في اﷲ ّ‬
‫أهل الكالم وينجو المس ّلمون»‪.60‬‬
‫خطاب القاضي عبد الج ّبار (تـ‪415.‬هـ) في مبحث التوحيد‪ ،‬وجاء‬
‫ُ‬ ‫يدعم افتراضنا‬

‫الرش بني علم الكالم والفلسفة»‪ ،‬ضمن جم ّلة مدارات فلسف ّية‪ ،2006 ،‬املغرب‪،‬‬
‫‪ .58‬حممد بوهالل‪« ،‬معضلة ّ‬
‫ص ‪( 14‬ص ص ‪ 7‬ــ ‪.)42‬‬
‫‪ .59‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪ .60‬الشيخ املفيد‪ ،‬تصحيح اعتقادات اإلمام ّية‪ ،‬حتقيق حسني درگاهي‪ ،‬ط‪1413 ،1.‬هـ‪ ،‬املؤمتر العاملي أللفية‬
‫الشيخ املفيد‪ ،‬قم ــ إيران‪ ،‬ص ‪.68‬‬
‫‪107‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫«فإن قيل‪ :‬فما الدّ ليل على ّ‬


‫أن اﷲ تعالى ال يفعل القبيح؟ قيل له‪ :‬ألنّه عالم بقبح‬ ‫فيه‪ْ :‬‬
‫أن اﷲ تعالى يفعل‬‫جوزنا ّ‬ ‫القبائح ك ّلها‪ ،‬ونعلم أنّه ّ‬
‫غني عنها‪ ،‬وال حاجة له إليها‪ ،...،‬ولو ّ‬
‫والصالحين ويدخلهم النّار‪ ،‬ولم نأمن أن يكون كالمه‬‫يعذب األنبياء ّ‬‫القبيح لم نأمن أن ّ‬
‫للشر عنها‪ ،‬باعتبار أنّه‬
‫ّ‬ ‫إن نفي القبح عن ّ‬
‫الذات اإللهية هو نفي‬ ‫كذبا وأمره باطال»‪ّ .61‬‬
‫متعال عن خلق‬‫ٍ‬ ‫وكرر الشيخ المفيد المعنى ذاته فقال‪« :‬واﷲ تعالى‬
‫أحد فروع القبح‪ّ .‬‬
‫الشر في إطار قدرة اﷲ‬ ‫‪62‬‬
‫كل حال» ‪ .‬ولتجاوز إشكال وجود ّ‬ ‫الفواحش والقبائح على ّ‬
‫الشر إلى اﷲ على وجه‬ ‫كل شيء‪ ،‬قبل القاضي عبد الج ّبار إضافة ّ‬ ‫وعلمه اللذين وسعا ّ‬
‫المضار‪.63‬‬
‫ّ‬ ‫بالشر على الرغم من االعتراف بأنّه خالق الكثير من‬
‫ّ‬ ‫المجاز‪ ،‬ولم يصف اﷲ‬
‫السابقة ويعيدون‬ ‫أن المتك ّلمين المسلمين يتبنّون األطروحات الكتاب ّية ّ‬
‫جلي ّ‬
‫ّ‬
‫إنتاجها‪ ،‬سواء باالستناد إلى القرآن أو باستلهامها من الشروح الالهوت ّية الكتاب ّية‪.‬‬
‫وأن األصل في الوجود هو الخير‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫أن اﷲ خير محض‪ّ ،‬‬ ‫وترى تلك األطروحات ّ‬
‫الشر مرتبط بسلوك اإلنسان المتعارض مع الخير‪ .‬وقد جاء في سفر التكوين مثال‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫«و َر َأى اﷲُ ك َُّل َما َعم َل ُه َفإِ َذا ُه َو َح َس ٌن جدًّ ا» ‪ ،‬وجاء في إنجيل متّى‪َ « :‬أ ُبوك ُُم ا َّلذي في‬
‫‪64‬‬
‫َ‬
‫السجدة‬
‫وتكرر المعنى ذاته في سورة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ات لِ َّل ِذي َن َي ْس َأ ُلو َن ُه»‪،65‬‬‫ات‪ ،‬يهب َخير ٍ‬
‫َ َ ُ َْ‬
‫السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬
‫ان ِمن طِ ٍ‬
‫النس ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ين]‪ .66‬وليس المقصود‬ ‫[ا َّلذي َأ ْح َس َن ك َُّل َش ْيء َخ َل َق ُه َو َبدَ َأ َخ ْل َق ْ ِ َ‬
‫بإعادة اإلنتاج ترديد المتك ّلمين للموروث السابق‪ ،‬ألنّهم أضفوا على تم ّثالتهم‬
‫للمسألة خصوص ّية ترتبط أساسا بمفهوم اإلله الذي يختلف بين الكتاب المقدّ س‬
‫بعهديه والقرآن‪.‬‬

‫‪ .61‬القايض عبد اجل ّبار بن أمحد األسد أبادي‪ ،‬األصول اخلمسة‪ ،‬حتقيق وتقديم فيصل بدير عون‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪ ،1998‬جلنة املطبوعات بجامعة الكويت‪ ،‬الكويت‪ ،‬ص‪.76‬‬
‫‪ .62‬الشيخ املفيد‪ ،‬تصحيح اعتقادات اإلمام ّية‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫‪ .63‬القايض عبد اجل ّبار بن أمحد األسد أبادي‪ ،‬املغني يف أبواب التوحيد والعدل‪ ،‬حتقيق‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬الدار‬
‫املرص ّية للتأليف والرتمجة‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ص ‪ 178‬ــ ‪ 180‬ــ ‪.239‬‬
‫‪ .64‬تكوين‪.31/1 :‬‬
‫‪ .65‬متى‪.11/7 :‬‬
‫‪ .66‬سورة السجدة‪.7/32 :‬‬
‫ُينظر أيضا‪ :‬جعفر السبحاين‪ ،‬اإلهليات عىل هدى الكتاب والسنّة والعقل‪ ،‬بقلم حسن حممد مكي‬
‫العاميل‪ ،‬ط‪1430 ،7.‬هـ‪ ،‬مؤسسة اإلمام الصادق‪ ،‬قم ــ إيران‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.273‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪108‬‬
‫سيتّضح هذا المعنى في تخصيص مباحث للحديث عن خلق اإلنسان ألفعاله‬
‫أن من يفعل الظلم يكون‬‫وعن مسؤوليته في ما يعمل‪ .‬فالقاضي عبد الج ّبار اعتبر ّ‬
‫الشر‬
‫ّ‬ ‫ظالما ومن يقيم العدل يكون عادال‪ ،‬وهذا ال يجيز القول على اﷲ إنّه خلق‬
‫شريرا بهذا المعنى‪ .‬ودافع القاضي عن خ ّير ّية اﷲ المطلقة فقال‪« :‬وقول‬ ‫ألنّه سيكون ّ‬
‫وجل‪[ :‬ما تَرى فِي َخ ْل ِق الرحم ِن ِمن َت َفاو ٍ‬
‫ت] وقوله [الذي َأ ْح َس َن ك َُّل‬ ‫ّ‬ ‫عز‬
‫اﷲ ّ‬
‫ْ ُ‬ ‫َّ ْ َ‬ ‫َ َ‬
‫أن هذه األفعال‬ ‫[صن َْع ال َّل ِه ا َّل ِذي َأ ْت َق َن ك َُّل َش ْي ٍء]‪ّ ،‬‬
‫يدل على ّ‬ ‫ٍ‬
‫َش ْيء َخ َل َق ُه] وقوله ُ‬
‫عز ّ‬
‫وجل‪ ،‬وأنّها من فعل العباد‪ ،‬وذلك أنّهم يستح ّقون عليها‬ ‫القبيحة لم يخلقها اﷲ ّ‬
‫الذ ّم والعقوبة»‪.67‬‬
‫التقى الشيخ المفيد مع القاضي عبد الج ّبار في هذا المعنى حين استحضر قول‬
‫أن المولود يولد على الفطرة‪ ،‬وأبواه يع ّلمانه عقيدته وسلوكه وأخالقه‪.‬‬
‫النبي (ص) في ّ‬
‫المنزهة للذات اإلله ّية عن خلق القبح ّ‬
‫والشرور‪ .‬وقال‬ ‫ّ‬ ‫ودعم بهذا الحديث أطروحته‬
‫أن اﷲ تعالى خلق الخلق ليعبدوه‪،‬‬ ‫صحة ما قدّ مناه من ّ‬
‫في ذلك‪« :‬وهذا أيضا مب ّين عن ّ‬
‫الضالون من ِق َبل {أنفسهم و} أض َّلهم من الج ّن واإلنس‬
‫ليوحدوه‪ ،‬وإنّما أتى ّ‬
‫وفطرهم ّ‬
‫دون اﷲ تعالى»‪.68‬‬
‫تكون األعمال بهذا المعنى ضمن دائرة المسؤول ّية المطلقة لإلنسان في أفعاله‪،‬‬
‫فالشر الذي يحدثه‬
‫ّ‬ ‫وعلى أساس ذلك يحاسب يوم القيامة في إطار العدالة اإلله ّية‪.‬‬
‫اإلنسان ليس قضاء لقدر اﷲ وإرادته‪ ،‬بل هو نتيجة عدم التزامه بالقوانين ّ‬
‫والشرائع‬
‫والنّواميس المن ّظمة لوجوده‪ .‬وقد خاطبت اآلية اإلنسان الفرد بوضوح في هذا‬
‫ونصها‬
‫الشر‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وحملته المسؤول ّية في االختيار بين أعمال الخير وأعمال‬ ‫ّ‬ ‫المعنى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫[ َما َأ َصا َب َك م ْن َح َسنَة َفم َن ال َّله َو َما َأ َصا َب َك م ْن َس ِّي َئة َفم ْن َن ْفسك]‪ .69‬وقد فتح هذا‬
‫التم ّثل الحديث عن الحر ّية في اإلسالم على قاعدة تم ّيز اإلنسان بالمسؤول ّية والعقل‬
‫عن سائر المخلوقات‪ ،‬وعن إرادته الكاملة في اختيار ما يفعل‪ .‬وما نخلص إليه في‬
‫أن المتك ّلمين المسلمين حافظوا على اإلطار العا ّم لمفهوم ّ‬
‫الشر‬ ‫خاتمة هذا العنصر ّ‬

‫‪ .67‬القايض عبد اجل ّبار‪ ،‬األصول اخلمسة‪ ،‬ص‪.78‬‬


‫‪ .68‬الشيخ املفيد‪ ،‬تصحيح اعتقادات اإلمام ّية‪ ،‬ص ‪ 61‬ــ ‪.62‬‬
‫‪ .69‬سورة النساء‪.79/4 :‬‬
‫‪109‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫عما سبقها‪.‬‬ ‫خاصة بهم تتمايز ّ‬


‫ّ‬ ‫في الدّ يانات الكتاب ّية ال ّثالث‪ ،‬ولكنّهم صاغوا مقاربة‬
‫َخ َّيل‬ ‫الشر عندهم بمعنى التّوحيد ا ّلذي شكّله ُ‬
‫المت َ‬ ‫ّ‬ ‫وقد ارتبطت خصوص ّية مفهوم‬
‫الروافد‪.‬‬ ‫الثقافي متعدّ د ّ‬
‫ّ‬

‫الخاتمة‪:‬‬
‫والضيق‬ ‫يستفز مشاعره ويعكّر صفو حياته ويس ّبب له األلم ّ‬ ‫ّ‬ ‫إن وعي اإلنسان بما‬ ‫ّ‬
‫الشرور‪ ،‬وح ّثه‬ ‫والمعاناة‪ ،‬هو ما دفعه إلى التفكير في وجوده بجد ّية أكبر لمواجهة ّ‬
‫على البحث عن أجوبة لألسئلة التي شغلته باستمرار ك ّلما تر ّقى وعيه و ُأتيحت له‬
‫الشر في سياق اجتماعي بحت‪ ،‬وشكّل‬ ‫آليات المراجعة‪ .‬وقد نشأ هذا الوعي بمقولة ّ‬
‫تي‬‫األخالقي على ثنائ ّي ْ‬
‫ّ‬ ‫تخصص في أخالق اإلنسان‪ ،‬وقد تشكّل النظام‬ ‫مبحثا حرك ّيا ّ‬
‫والشر‪ .‬ومع فاتحة السلسلة الدّ ين ّية الكتاب ّية تد ّعمت مكانة هذا المبحث وصار‬‫ّ‬ ‫الخير‬
‫استمر‬
‫ّ‬ ‫أساسا في بناء العقائد‪ ،‬وارتبط ارتباطا وثيقا بما وراء الطبيعة والوجود‪ ،‬بعد أن‬
‫االجتماعي لألديان‪ ،‬وسعينا إلى إثباته في‬
‫ّ‬ ‫طويال في التّاريخ‪ .‬وهذا ما اعتبرناه البعد‬
‫البحث ك ّله‪.‬‬
‫واللحق‪ّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫السابق ّ‬ ‫لئن حرصت المنظومات الدين ّية على التّمايز بينها وبين ّ‬
‫وكرر بعضها البعض اآلخر‪.‬‬ ‫الشر تقاطعت إلى حدّ التطابق أحيانا‪ّ ،‬‬ ‫تم ّثالتها لمقولة ّ‬
‫والشر بصورة اإلله الواحد‪ ،‬وجد المتك ّلمون في الدّ يانات ال ّثالث‬
‫ّ‬ ‫وبسبب ربط الخير‬
‫الشر عكس ما أقدم عليه الفالسفة‪.‬‬ ‫علمي صارم لمقولة ّ‬ ‫ّ‬ ‫صعوبة في تحديد مفهوم‬
‫وهذا ما دفع أغلبهم إلى تقديم الرأي ونقيضه أحيانا بسبب تغليب الجانب العرفاني‬
‫على الجانب العلمي‪ .‬وباعتبارنا في سياق مقارني‪ ،‬نذكّر ّ‬
‫بأن المقاربتين المسيح ّية‬
‫الشر‬
‫واإلسالم ّية تمايزتا مثلما تماثلتا؛ ففي حين رفعت المسيح ّية من شأن مقولة ّ‬
‫وقدّ مت المسيح قربانا لتخليص البشر ّية من أثرها‪ ،‬ق ّلل المسلمون من شأنها‬
‫وجعلوها فرعا ألصل هو القبح‪ ،‬وراهنوا على إرادة اإلنسان الخ ّيرة وحكمته للحدّ‬
‫من آثارها ولِ َم لم يتجاوزها‪ .‬والسبيل عندهم هو االلتزام بروح اإلسالم والتق ّيد‬
‫بشريعته‪.‬‬
‫رماعلا نيّدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪110‬‬

‫قائمة المصادر والمراجع‬


‫المصادر العرب ّية والمع ّربة‬
‫الشر والشيطان‪ ،1970 ،‬بغداد‪.‬‬
‫‪-‬األحمد‪ ،‬سامي سعيد‪ ،‬األصول األولى ألفكار ّ‬
‫‪-‬أفلوطين‪ ،‬تاسوعات أفلوطين‪ ،‬نقلها إلى العربية عن اليونان ّية فريد جبر‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪ ،1979‬مكتبة لبنان ناشرون‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪-‬جماعي‪ ،‬المقدّ س والتاريخ‪ ،‬إشراف وتنسيق البشير ر ّبوح والحاج داوق‪،2016 ،‬‬
‫مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات والنشر‪ ،‬ضمن سلسلة الدّ ين وقضايا‬
‫المجتمع الراهنة‪.‬‬
‫‪-‬خشيم‪ ،‬علي فهمي‪ ،‬آلهة مصر العرب ّية‪ ،1996 ،‬القاهرة‪ ،‬ج‪.1.‬‬
‫‪-‬دوفور‪ ،‬كزافييه ليون‪ ،‬معجم الالهوت الكتابي‪ ،‬إشراف على الترجمة والتنظيم‬
‫أنطونيوس نجيب‪ ،‬ط‪ ،1986 ،2.‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪-‬ريكور‪ ،‬بول‪ ،‬فلسفة اإلرادة‪ :‬اإلنسان الخ ّطاء‪ ،‬ترجمةعدنان نجيب الدّ ين‪ ،‬ط‪،2.‬‬
‫‪ ،2008‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء ــ المغرب‪ ،‬بيروت ــ لبنان‪.‬‬
‫والضمأ األنطولوجي‪ ،‬ط‪ ،2018 ،3.‬مركز دراسات‬ ‫‪-‬الرفاعي‪ ،‬عبد الج ّبار‪ ،‬الدين ّ‬
‫فلسفة الدّ ين ببغداد‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر ــ بيروت‪.‬‬
‫‪-‬الدّ ين والنزعة اإلنسان ّية‪ ،‬ط‪ ،2018 ،3.‬مركز دراسات فلسفة الدّ ين ببغداد‪ ،‬دار‬
‫التنوير للطباعة والنشر ــ بيروت‪.‬‬
‫‪-‬الهرمنيوطيقيا والتفسير الدّ يني للعالم‪ ،‬ط‪ ،2017 ،1.‬مركز دراسات فلسفة الدّ ين‬
‫ببغداد‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر ــ تونس‪.‬‬
‫‪-‬السبحاني‪ ،‬جعفر‪ ،‬اإللهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل‪ ،‬بقلم حسن محمد‬
‫مكي العاملي‪ ،‬ط‪1430 ،7.‬هـ‪ ،‬مؤسسة اإلمام الصادق‪ ،‬قم ــ إيران‪ ،‬ج‪.1.‬‬
‫‪-‬شبستري‪ ،‬مجتهد‪« ،‬اإليمان والتجارب الدّ ين ّية» ضمن قضايا إسالم ّية معاصرة‪،‬‬
‫‪1430/2009‬هـ‪ ،‬مركز دراسات فلسفة الدّ ين‪ ،‬بغداد‪ ،‬ع ‪ 39‬ــ ‪.40‬‬
‫‪111‬‬ ‫نايدألا يفّرشلا ةلوقم‬

‫محمد‪ ،‬الكتاب والقرآن قراء معاصرة‪ ،‬ط‪ ،1990 ،1.‬دار األهالي‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪-‬شحرور‪ّ ،‬‬
‫‪-‬الشيخ المفيد‪ ،‬تصحيح اعتقادات اإلمام ّية‪ ،‬تحقيق حسين درگاهي‪ ،‬ط‪1413 ،1.‬ه‪،‬‬
‫المؤتمر العالمي أللفية الشيخ المفيد‪ ،‬قم ــ إيران‪.‬‬
‫‪-‬عبد الرحمان‪ ،‬خليل‪ ،‬أفستا الكتاب المقدّ س للديانة الزرادشت ّية‪ ،‬ط‪،2008 ،2.‬‬
‫روافد للثقافة والفنون‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫محمد‪ ،‬الديانة في مصر الفرعون ّية‪ ،1984 ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬عبد القادر‪ّ ،‬‬
‫‪-‬عثمان‪ ،‬فارس‪ ،‬زرادشت والدّ يانة الزرادشت ّية‪ ،2003 ،‬دار المح ّبة‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪-‬عجيبة‪ ،‬أحمد علي‪ ،‬زرادشت في األديان الوثن ّية القديمة‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1.‬دار اآلفاق‬
‫العرب ّية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫الشر في مصر القديمة‪ ،‬ط‪ ،2018 ،1.‬الهيئة العامة‬ ‫‪-‬علي‪ ،‬عبد الحليم علي‪ ،‬مفهوم ّ‬
‫المصرية للكتاب‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪-‬غالبيل‪ ،‬دومنيك‪ ،‬الناس والحياة في مصر القديمة‪ ،‬ترجمة ماهر جويجاتي‪ ،‬ط‪،2.‬‬
‫‪ ،2001‬دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪-‬القاضي عبد الج ّبار بن أحمد األسد أبادي‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪،‬‬
‫تحقيق‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬الدار المصر ّية للتأليف والترجمة‪ ،‬ج‪.6‬‬
‫‪-‬القديس أغسطين‪ ،‬مدينة اﷲ‪ ،‬نقله إلى العربية األسقف يوحنّا الحلو‪ ،‬ط‪،2007 ،2.‬‬
‫دار المشرق‪ ،‬بيروت‪ ،‬ج‪.2.‬‬
‫‪-‬القدّ يس طوما األكويني‪ ،‬الخالصة الالهوت ّية‪ ،‬ترجمه من الالتين ّية الخوري بولس‬
‫عواد‪ ،‬ط‪ ،1891 ،1.‬المطبعة األدبية‪ ،‬بيروت‪ ،‬مج‪.1‬‬ ‫ّ‬
‫مجرد العقل‪ ،‬نقله إلى العربية فتحي المسكيني‪،‬‬ ‫‪-‬كانط‪ ،‬إيمانويل‪ ،‬الدِّ ين في حدود َّ‬
‫ط‪ ،1.‬جداول للنشر والتوزيع بيروت‪.‬‬
‫‪-‬كريستينس‪ ،‬أرثر‪ ،‬إيران في عهد الساسيانيين‪ ،‬ترجمة يحي الخشاب‪ ،‬ط‪ ،1.‬د‪.‬ت‪،‬‬
‫دار النهضة العرب ّية‪ ،‬بيروت‬
‫‪-‬مجهول‪ ،‬متون األهرام المصر ّية‪ ،‬ترجمة (عن الهيروليف ّية القديمة) حسن صابر‪،‬‬
‫ط‪ ،2002 ،1.‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪-‬لوبون‪ ،‬غوستاف‪ ،‬اآلراء والمعتقدات‪ ،‬نقله إلى العرب ّية عادل زعيتر‪ ،‬ط‪،1995 ،1.‬‬
‫دار المعارف‪ ،‬سوسة ــ تونس‪.‬‬
‫د‬. ‫رماعلا نيّدلا حالص‬ 112
.‫ بيروت‬،‫ دار الكتب العلم ّية‬،1996 ،1.‫ ط‬،‫ الفهرست‬،‫ابن النّديم‬-

‫المصادر األجنب ّية‬


-- Baines, J. Society, Morality and religious practices, Ed. B. Shaffer. Religion
1991
-- Bruch, Jean ‫ ــ‬Louis, La philosophie religieuse de Kant, Paris, Aubier ‫ــ‬
Montaigne, 1968.
-- Calder Todd, «The concept of Evil», The stanford Encyclopedia of
philosophy, Ed. 2020, Edward N. Zalta (ed).
-- Collectif, Les représentations sociales, théories, méthodes et applications,
coordonné par Grégory Lo Monaco, Sylvain Delouvée et Patrick Rateau,
De Boeck Supérieur, Louvain ‫ ــ‬la ‫ ــ‬Neuve, 2016.
-- Fischer, Gustave ‫ ــ‬Nicolas les concepts fondamentaux de la psychologie
sociale, 5e édition, Ed Dunod, 2015.
-- Leibniz G. W., Essais De Théodicée, Garnier ‫ ــ‬Flammarion, Paris, 1969.
-- Moscovici Serge,
-- «Des représentations collectives aux représentations sociales : élément
pour une histoire», in Denise Jodlet, Les représentations sociales, PUF,
Sociologie d’aujourd’hui.
-- La psychanalyse; son image et son public, Paris, PUF, 1976.
-- Ricœur Paul, Le mal : défit à la philosophie et à la théologie, Ed. Labor et
Fides, Genève, 1986.
-- Saint Augustin, Œuvres de saint Augustin, les deux ames anti Manichéeens,
traduction R. Jolivet et M. Jourjon, Belgique: Desclée de Brouwer, 1961.
-- Thomas, d’Aquin Somme contre les gentils, trad. de Latin par R. Bernier,
Ed. du CERF, Paris 1993.
‫دراسات‬

‫منبعا الخير والشر‬


‫د‪ .‬منذر جلوب‬
‫‪1‬‬ ‫___________________________________________________‬

‫ثنائية الخير والشر إحدى ثنائيات اللغة‪ ،‬مثل‪ :‬الكامل والناقص‪ ،‬والوحدة‬
‫والكثرة‪ ،‬والجميل والقبيح‪ ...‬الخ‪ ،‬جميعها مرتبط بطبيعة اللغة وال يمكن أن تقوم‬
‫لها قائمة باالستقالل عن اللغة‪.‬كما أنه ال شيء في هذا الوجود مستقل عن اللغة‪.‬‬
‫اإلنسان هو عقدة االتصال بين الوجود واللغة وهو الموحد بينهما‪ .‬واإلنسان بهذا‬
‫المعنى ليس مفهوم اإلنسانية الواسع الفضفاض بل هو الذات البشرية الواحدة التي‬
‫تمثلها األنا الواعية التي نصل إليها بـ «أنا أفكر» الديكارتية‪ ،‬والتي أسميتها (الضمير)‬
‫بالمعنى النحوي لهذه المفردة‪ ،‬أي (ضمير أنا)‪ ،‬وبالمعنى األخالقي لمفهوم الضمير‬
‫بوصفه الحاكم على ما هو خطأ أو صواب‪.‬‬
‫وهكذا يكون الضمير معيارا ألخالق مطلقة على الرغم من ارتباطه التام‬
‫باإلنسان‪ .‬هذا االرتباط ال يجعل من األحكام األخالقية نسبية بل يجعلها مطلقة ألن‬
‫األنا هي المرجع األهم واألكثر ثباتا لتعلق الوجود واللغة به‪ .‬ومع ذلك يبقى الوجود‬
‫بمعناه المطلق المرتبط بالضمير وباللغة متعاليا على أحكام الخير والشر‪ ،‬ألن هذه‬
‫األحكام ظرفية متعلقة بحالة الجسد وحمايته واستمرار بقائه وليست مؤثرة بحال‬
‫الوجود الذي ال يتأثر بالشر أو الخير سلبا أو إيجابا‪.‬‬
‫وهكذا تكون األخالق في قصاراها مطلقة وليست نسبية‪ ،‬وهي بموجب هذه‬
‫الرؤية وحدها من الممكن أن تكون مطلقة وراسخة أكثر مما تدعيه المنظومات‬
‫األخرى مهما ربطت نفسها بالمفاهيم والوقائع المادية أو العلمية أو األساطير‬

‫‪ .1‬باحث وأكاديمي عراقي‪ ،‬أستاذ الفلسفة يف كلية اآلداب بجامعة الكوفة يف العراق‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪114‬‬
‫أو العقائد الدينية‪ ،‬ألن ذلك يحيلها ويربطها بمتغيرات أخرى تنزع عنها إطالقها‬
‫وتجعلها متغيرة بحسب ما ترتبط به فتكون نسبية بالضرورة‪.‬‬

‫الوجود ومجال الخير والشر‪:‬‬


‫الوجود ككل بمعناه الشامل والكلي ال عالقة له بالخير أو الشر‪ .‬ذلك أن الخير‬
‫والشر مفاهيم مختصة بالجزئيات‪ .‬فهي متعلقة بجسد اإلنسان واألحداث التي‬
‫تخصه‪ .‬فإن كانت من صالحه كانت خيرا‪ .‬وإن كانت في غير صالحه كانت شرا‪.‬‬
‫ويبقى السؤال‪ ،‬هل وجود الوجود بحد ذاته خير أم شر؟ ولو لم يكن الوجود وكان‬
‫العدم أكان أفضل أم أسوأ؟‬
‫من الواضح أنه من الناحية الموضوعية‪ ،‬ال يمكن اإلجابة عن هذا السؤال بمعزل‬
‫عن اإلنسان‪ 2‬إذ يتساوى الوجود والعدم في القيمة‪ ،‬فال أفضلية بينهما‪ .‬ولذلك ال‬
‫ينطبق عليهما قول خير أو شر‪.‬‬
‫أما اإلنسان فهو من يصنع هذا التقييم‪ ،‬فقد يرى البعض أن الوجود خير‪ ،‬بمعنى‬
‫أن وجود الوجود أفضل مما لو كان عدما‪ ،‬وقد يرى البعض اآلخر أنه لو كان عدما‬
‫ولم يكن هناك وجود لكان أفضل من وجود الوجود‪ ،‬بل حتى حين أنظر إلى نفسي‬
‫كفرد وأسأل أكان من األفضل لي وجودي أم أنه كان أفضل وأكثر راحة لو أنني لم‬
‫أوجد‪ ،‬ولم أولد من األساس؟ والكالم نفسه ينطوي على اإلنسانية جمعاء باعتبارها‬
‫مقياسا لألفضل واألسوأ‪ ،‬وعلى الوجود كله‪ .‬وال فائدة من القول إن وجود الوجود‬
‫أفضل‪ ،‬ألن كائنا ما أوجده وقدر أنه أفضل‪ .‬ذلك أن هذا السؤال عن األفضلية يشمل‬
‫الوجود كله إطالقا‪ ،‬ويشمل الكائن الذي أوجده أيضا‪ .‬حتى الذي يقول بأن الوجود‬
‫شر كالفيلسوف (شوبنهاور) (‪ 1860‬ــ ‪1788‬م( ‪ Arthur Schopenhauer‬الذي‬

‫‪ .2‬احلديث عن اإلنسان هنا له جانبان؛ اجلانب األول هو جانب الضمري أو (األنا) وهو احلديث عن‬
‫اإلنسان بوصفه مركز الوجود من خالل األنا أفكر التي هي واجب الوجود وأساسه الذي ينتفي‬
‫الوجود بانتفائه‪ ،‬وهذا اجلانب هو املطلق الذي حيدد قيمة كل يشء من ناحية الوجود واملعرفة‬
‫واألخالق واجلامل‪ ...‬الخ‪ .‬وهناك جانب آخر للحديث عن اإلنسان‪ ،‬وهو احلديث عنه بوصفه‬
‫كائنا حيا اجتامعيا ضمن حميط ويصارع من أجل بقائه‪ ،‬وهو مصدر ما هو نسبي يف الوجود‪.‬‬
‫فاإلنسان عموما حيدد ما هو مطلق من جانب‪ ،‬وحيدد ما هو نسبي من جانب آخر‪.‬‬
‫‪115‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫يقول عن اإلنسان‪« :‬إنه يعيش بين كل األشياء التي تعاني األلم في عالمنا الواسع‬
‫كله» ‪ ،3‬فهو واقع بالخطأ نفسه‪ ،‬ألنه طبعا يعني أنه شر بحق اإلنسان‪ ،‬وهذا الجواب‬
‫مبتسر لم يشمل اإلجابة عن التقييم بالنسبة للوجود بحد ذاته ككل‪ .‬وشوبنهاور‬
‫يقصد باإلرادة الشريرة التي تحكم العالم ما يشبه إله األديان‪ ،‬سوى أن هذا اإلله‬
‫وهذه اإلرادة هي شريرة بحسب زعم شوبنهاور‪ ،‬وخيرة بحسب زعم األديان‪.4‬‬
‫أما إذا نظرنا إلى األمر مع مجمل موقفنا وطرحنا لمسألة الوجود والضمير‬
‫واﷲ‪ ،‬ولم ننظر إلى اﷲ على أنه كائن منفصل مشخص بل هو مرتبط بالضمير‪،‬‬
‫كنقطة تركز‪ ،‬وأنه الوجود كله والضمير معا‪ .‬ففي هذه الحالة يكون طرح سؤال‬
‫قيمة الوجود وهل هو خير أم شر أشد وطأة‪ .‬وأيضا تتبين لنا استحالة القول بأن‬
‫الوجود خير أم شر‪ .‬ويعود لإلنسان الفرد حسب ميوله النفسية ومنظومة عقائده‬
‫أن يتخذ قرارا بينه وبين نفسه‪ ،‬كون الوجود خيرا أو العدم هو األفضل‪ .‬فقد يقرر‬
‫المتدين أن الوجود خير ألن اﷲ خير‪ .‬لكنك حين تواجهه بالسؤال‪ :‬ماذا سيكون‬
‫عليه األمر لو أن الوجود واﷲ وكل شيء لم يكن موجودا وبضمنها الضمير؟ عندها‬
‫يكون موقفه صعبا‪ ،‬وإجابته مهما كانت سلبا أو إيجابا‪ ،‬ال تبرير لها‪ .‬وكذلك ينطبق‬
‫األمر على غير المتدين‪.‬‬
‫أتعاطف مع المتدين الذي يجد نفسه في حياة وهو مطالب بعدة التزامات وأوامر‬
‫وكل شيء خارج نطاق اختياره‪ ،‬ألنه مفروض من قوة‬ ‫ثابتة مطالب بالتمسك بها‪ّ ،‬‬
‫عليا‪ ،‬فأجد نفسي أفهمه تماما لو رأى أنه لو لم يوجد من األساس لكان أفضل وأكثر‬
‫راحة وأن الوجود واﷲ والضمير‪ ،‬لو لم توجد لكان أفضل‪ .‬لكن ذلك محال من‬
‫حيث المبدأ‪ ،‬بسبب اضطرارنا للجزم بأن العدم مستحيل بحكم كونه عدما وبحكم‬
‫طبيعة اللغة‪ ،‬وأن الوجود يكتسب ضرورته من ضرورة الضمير الذي هو واجب‬
‫الوجود‪.‬‬

‫‪3. Schopenhauer; The World as Will and Representation, vol. 1, translated by: Judith‬‬
‫‪Norman and others, Cambridge University Press, New York - USA, 1st edition,‬‬
‫‪2010, p. 381.‬‬
‫‪ .4‬كريسون‪ ،‬أندريه؛ شوبنهور‪ ،‬ت‪ :‬أمحد كوي‪ ،‬دار بريوت للطباعة والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،1958 ،‬ص ‪147‬‬
‫فام بعدها‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪116‬‬
‫وبهذا فإن السؤال عن المفاضلة بين الوجود والعدم المطلق الذي يشمل انعدام‬
‫األنا يسقط وال تعود من إمكانية لطرحه أو طرح أي سؤال غيره‪ ،‬إذ إن ذلك سيتضمن‬
‫انتفاء اللغة فضال عن انتفاء األنا والوجود‪ .‬فمن الواضح أنه يمكن السؤال عن إمكانية‬
‫انتفاء العالم‪ ،‬أو إمكانية انتفاء اﷲ‪ ،‬لكن ال يمكن السؤال عن إمكانية انتفاء اللغة أو‬
‫انتفاء األنا‪ .‬إذ ينتفي عندها السائل والمسؤول والسؤال كليا‪.‬‬

‫مشكلة الش ّر من منظور ديني‪:‬‬


‫تتمثل هذه المشكلة بوجود الشر الذي ال يمكن إنكاره وال التغافل عنه في هذا العالم‪.‬‬
‫هذه المشكلة كما عرضها أبيقور بشكل في غاية البساطة كانت سببا في إلحاد الكثيرين‪،‬‬
‫فأنكر البعض وجود إله (خير بحكم تعريف اإلله)‪ ،‬حيث ال يمكن تبرير وجود الشر مع‬
‫القول بوجود ذلك اإلله‪ .‬أو كما قال توما األكويني أن وجود شيء ال ٍ‬
‫متناه يجعل وجود‬
‫نقيضه مستحيال‪ ،‬وطالما أن اﷲ خير ال متناه فمن المستحيل أن يكون الشر موجودا‪.5‬‬
‫وكان األكويني‪ ،‬كما كان أوغسطين‪ 6‬قبله‪ ،‬متحزبا لعقيدته الدينية التي ال تسمح له برؤية‬
‫الشر في العالم‪ .‬والحقيقة أن حجته تصيب عقيدته بوجود إلهه الخير بمقتل‪ .‬فوجود‬
‫نقيض إلله ال متناهي الخير يجعل من ذلك اإلله إما متناهيا أو غير موجود‪.‬‬
‫الشر‪ ،‬فإن‬
‫يحل مشكلة ّ‬ ‫وفي األحوال كلها‪ ،‬فإن إنكار وجود اإلله الخير ال ّ‬
‫الشر‪ ،‬يبقى قائما‪ .‬وإنكار وجود اﷲ يبقينا في مواجهة المأساة‬
‫السؤال‪ ،‬من أين جاء ّ‬
‫بشكل شديد القسوة‪ .‬إذ نجد أنفسنا في وجود زاخر بالشرور من دون إله لينفيها أو‬
‫يصدها أو يعوضنا أو يواسينا على األقل‪.‬‬
‫أما إذا كان اإلله موجودا لكنه غير كامل‪ ،‬فهذا ال يجعل منه إلها حقا‪ ،‬بل هو كائن‬
‫مضاف إلى كائنات هذا العالم‪ ،‬وهو حلقة زائدة وافتراض يحتاج تسويغا (وواقع‬

‫‪5. Ross, James F., «Thomas Aquinas, Summa Theologiae (ca. 1273), Christian‬‬
‫‪Wisdom Explained Philosophically», in The Classics of Western Philosophy:‬‬
‫‪A Reader’s Guide, (eds.) Jorge J. E. Gracia, Gregory M. Reichberg, Bernard N.‬‬
‫‪Schumacher (Oxford: Blackwell Publishing, 2003),‬‬
‫كذلك ينظر‪:‬‬
‫موسى‪ ،‬حممد يونس؛ تاريخ األخالق‪ ،‬القاهرة‪ ،1953 ،‬ص‪.158‬‬
‫‪ .6‬أنظر‪ :‬أوغسطني؛ مدينة اهلل‪ ،‬ت‪ :‬أسقف يوحنا‪ ،‬بريوت‪ ،‬ج‪ ،2‬ط‪ ،2‬ص‪.70‬‬
‫‪117‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫الحال أن هذا الوصف ينطبق على جميع آلهة الديانات التي استماتت من أجل‬
‫إثبات كماله وال نهائيته‪ ،‬لكن حجة األكويني اآلنفة فضال عن تاريخ من نقد الحجج‬
‫على وجوده وعلى النهائيته وكماله‪ ،‬أبطلت إمكان اتصافه بالالنهائية لمجرد وجود‬
‫موجودات غيره)‪ .‬وكما قال إيمانويل كانت‪ ،‬إن اإلله ال بد من أن يكون كلي القدرة‬
‫ضروري الكمال بحكم التعريف والمفهوم‪ .‬وإذا لم يكن كامال فليس هو بإله‪.7‬‬
‫وأما إن وجدت آلهة متعددة‪ ،‬منها ما هو خير ومنها ما هو شرير‪ ،‬لكي نبرر وجود‬
‫الشر في هذا العالم‪ ،‬فتكون الصورة لدينا أن هذا العالم هو عبارة عن مسرح قبيح‬
‫سمج يديره آلهة متصارعون يقتتلون بأدوات من بشر‪ .‬وهي فكرة غير جديرة بإله‬
‫على اإلطالق ناهيك عن كونه خيرا‪ ،‬هذا يضاف إلى أنه من المتناقض أن يوصف إله‬
‫بأنه شرير‪ .8‬اإلله‪ ،‬ضروري الوجود‪ ،‬وجود مطلق فوق الخير والشر‪ ،‬وبهذا االعتبار‬
‫فهو ال يسمح بوجود الشر‪ .‬لكن الشر موجود‪ ،‬فأين اﷲ؟ هذا السؤال كانت إجابته‬
‫في موضع آخر‪ .‬لكن السؤال الحالي هو‪ ،‬من أين جاء الشر‪ ،‬سواء أكان اإلله موجودا‬
‫أم غير موجود؟‬

‫التزاحم المنطقي بين الكمال والش ّر‪:‬‬


‫إن سبب ظهور مشكلة الشر كمشكلة فلسفية‪ ،‬هو افتراض الكمال في اﷲ‪ ،‬فإذا‬
‫كان اﷲ خيرا كامال فمن أين جاء الشر؟ فإن كان من اﷲ فهو ليس خيرا كامال إذن‪.‬‬
‫وإن كان من العالم فمعنى ذلك وجود قوة أخرى منافسة له‪ ،‬يمكن أن تنتصر عليه‬
‫أحيانا فيظهر الشر‪ ،‬ومعنى ذلك نقص في كمال خيره‪ ،‬فلو كان خيرا كامال لما انتصر‬
‫عليه الشر‪ .‬وإن كان الشر هو غياب الخير‪ ،‬فهذا نقص في الخير أنه يغيب‪ .‬وإن كان‬
‫الشر في أنفسنا‪ ،‬فمن هو الذي أوجد أنفسنا؟ إن كان اﷲ هو الموجد‪ ،‬فمرد الشر إليه‪،‬‬
‫وإن كانت وجدت وحدها أو أوجدها غيره‪ ،‬ففي كل الحاالت ظهور الشر فيها معناه‬
‫نقص في خيرية اﷲ‪ ..‬وهكذا فإن افتراض الكمال كصفة واقعية ﷲ هي المشكلة‪.‬‬

‫‪ .7‬كنط‪ ،‬عامنويل؛ نقد العقل املحض‪ ،‬ت‪ :‬موسى وهبة‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنرش والتوزيع‪.2017 ،‬‬
‫‪ .8‬قارن‪ :‬هيوم‪ ،‬ديفد؛ حماورات يف الدين الطبيعي‪ ،‬ت‪ :‬حممد فتحي الشنيطي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،1956 ،1‬‬
‫ص‪ 124‬ــ ‪.130‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪118‬‬
‫إن مفهوم الكمال هو أحد مظاهر مفهوم الالنهاية ومفهوم الالنهاية حين يدخل‬
‫في أي معادلة يخرجها من إطار ما هو معقول وما هو منطقي‪ .‬وهذا يسري على‬
‫جميع المجاالت ومنها مجالي الفيزياء واألخالق‪ .‬وهو السبب في كل الصعوبات‬
‫والمشكالت التي تواجه الفيلسوف الذي يحاول إيجاد مسوغات وحججا لدعم‬
‫الدين‪ .‬فمفاهيم من قبل األزلية والكمال واألبدية والخلود وما شابه‪ ،‬التي تعول عليها‬
‫األديان‪ ،‬مثل مفهوم الصفر والالنهاية في الرياضيات الذي هو حل ومشكلة في الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬فهو يحل مشكالت لكنه يسبب مشكالت أخرى‪ ،‬ونظيره في الطبيعة مفاهيم‬
‫العدم والالنهاية المكانية واألبد واألزل‪.‬‬

‫إيمانويل كانت ومقاربته األخالقية الالهوتية‪:‬‬


‫أتفق مع كانت الذي انتهى إلى أن المحاوالت العقلية المنطقية إلثبات وجود اﷲ‬
‫أو دحض وجوده‪ ،‬هي محاوالت متهافتة ال يمكن لها الصمود المنطقي ألننا قادرون‬
‫على إثبات النتيجة ونقيضها بالقوة نفسها‪ .‬المقصود باﷲ هنا هو كائن آخر مفارق‬
‫ّ‬
‫مستقل عن هذا العالم‪ ،‬وغير محتاج إليه‪ ،‬وغير‬ ‫للعالم‪ ،‬ذو قدرة وإرادة وعقل وفعل‪،‬‬
‫محتاج إلي‪.‬‬
‫إن قدرتنا على إثبات وجود اﷲ أو دحض وجوده بمحاجات عقلية (الحجة‬
‫األنطولوجية والكوزمولوجية)‪ 9‬أمر مرت عليه قرون ولم يقدر أحد على حسمه وال‬
‫إمكانية لحسمه إال بعد الموت‪ ،‬كما في كثير من األديان‪ .‬والمشكلة أننا نريد إجابة‬
‫يمر كل هذا الزمن بال إجابة‪ .‬كما أن الدليل األخالقي ينطبق‬
‫اآلن‪ ،‬بل ما كان ينبغي أن ّ‬
‫عليه ما ينطبق على األدلة العقلية‪ ،‬فافتراض وجود اﷲ بوصفه كائنا أخالقيا البد له من‬
‫أن يحقق العدالة القصوى‪ ،‬هي أمنية بشرية جميلة أكثر من كونها دليال‪ ،‬تجردها من‬
‫قوتها مجرد الحاجة إليها‪ ،‬فلو كان اﷲ موجودا لما تمنينا تحقيق العدالة‪ ،‬ولكان وجوده‬

‫‪ .9‬توجد حجة مهمة عىل وجود اﷲ هي حجة التصميم الذكي التي تعتمد وجود تصميامت ذكية يف العامل‬
‫توصلت إليها العلوم التي ال يمكن تفسري وجودها بعمل املصادفة أو االحتامالت فالبد من افرتاض‬
‫مصمم فائق الذكاء وراءها‪ .‬ونرى أن هذه احلجة جيب تصنيفها ضمن حجة النظام التي تعزو كل‬
‫نظام يف العامل إىل وجود منظم‪ .‬وحجة النظام هذه تقع يف خانة احلجة الكوزمولوجية‪ ،‬فام هي باجلديدة‬
‫وتنطبق عليها االعرتاضات والتناقض نفسه‪.‬‬
‫‪119‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫كافيا لتحقيقها قبل أن نتمناها‪ ،‬مثلما أن وجود الشر إن لم يكن دليال على عدم وجود‬
‫اﷲ‪ ،‬فهو دليل على عدم وحدانيته‪ 10‬إذ إننا من أجل تفسير وجود الشر‪ ،‬ومع إصرارنا‬
‫على وجود إله خير‪ ،‬نحتاج أن نقول بوجود إله آخر للشر‪ .‬وبذلك نزيد المسألة تعقيدا‪،‬‬
‫فنحتاج إثباتا لوجود أكثر من إله‪ ،‬بعد أن عجزنا عن إثبات إله واحد‪ ،‬ما يضاعف صعوبة‬
‫الموضوع ويزيد في تعقيده‪.‬‬
‫وسأعرض صياغتي لمفارقة الخير‪ ،11‬هكذا‪ :‬هل كان بإمكان اإلله أن يجعل هذا‬
‫العالم خيرا مما هو عليه؟ من الواضح أن في العالم شرورا من أنواع ومستويات مختلفة‬
‫ال ينكرها إال مغمض العيون‪.12‬‬
‫إن قلت إن اإلله ليس بقادر على أن يجعل العالم خيرا مما هو عليه فقد جعلت‬
‫قدرته محدودة‪ ،‬وهذا ال يتوافق مع تعريفك له على أنه كائن مفارق مطلق القدرات‪،‬‬
‫وهو ما تصفه به األديان‪ .‬وإن قلت إنه يقدر‪ ،‬فما الذي يمنعه من ذلك؟‬
‫الحظ أنك مهما حاولت أن تجد من مبرر إلحجام اإلله عن فعل األفضل‪ ،‬على‬
‫الرغم من قدرته التي يفترضها تعريفك له‪ ،‬فإنك البد واقع في أحد فخين‪ ،‬إما تحديد‬
‫قدرته بطريقة غير مباشرة‪ ،‬وإما االنتقاص من خيريته‪ .‬فأن تقول مثال‪ ،‬إن اإلله ال يجعل‬
‫العالم أفضل ألنه يريد اختبار اإلنسان‪ ،‬أو أن الخير من اإلله والشر من البشر‪ ،‬فمعنى‬
‫ذلك أنك حددت قدرته على تحسين اإلنسان‪ ،‬أو قدرته على معرفة نتيجة االختبار‬
‫سابقا‪ .‬أي إن قلت إن الخير والشر إنسانيان وليسا مطلقين فذلك لن يعفي اإلله من‬
‫المسؤولية‪ .‬وإن قلت إن اإلله قادر أن يجعل العالم أفضل لكنه ترك تلك المهمة‬

‫‪ .10‬يمكن أن يقال إن الرش واخلري أمران نسبيان‪ ،‬ومن هنا فاهلل بوصفه واحدا يصدر عنه واحد والتعددية‬
‫يف تصنيف املفاهيم خرية ورشيرة عائدة إلينا‪ ،‬وهو رأي لقي رواجا لدى كثري من الفالسفة املشائني‪،‬‬
‫غري أن املشكلة فيه أنه يقفز عىل أصل املشكلة وهو من أين جاءت الكثرة يف العامل أو فينا إذا كنا نحن‬
‫السبب بموجب ذلك الفهم؟ وهذا ينقل املشكلة إىل سياق آخر‪ ،‬وهو حل لفظي يعتمد املامحكة هروبا‬
‫من أصل املشكلة‪.‬‬
‫‪ .11‬يف تاريخ الفلسفة مفارقة الرش التي تعزى إىل أبيقور ومفادها؛ هناك رش يف العامل‪ .‬اﷲ إما انه ال يقدر عىل‬
‫إزالته فهو ليس بقادر‪ .‬أو أنه يقدر وال يزيله فهو رشير‪.‬‬
‫‪ .12‬يرص اليبنتز عىل «أن هذا العامل هو أفضل العوامل املمكنة» وأنه ليس باإلمكان أحسن مما كان‪ .‬ونيس أنه‬
‫يتحدث عن اﷲ املطلق الذي ليس إلمكانه حدود‪ .‬فبهذا‪ ،‬وإذا كان اﷲ بقدرته املطلقة جعل كل اخلري‬
‫الذي يقدر عليه (وهو بال حدود)‪ ،‬يف هذا العامل‪ ،‬فمعنى ذلك أن هذا العامل خال من الرشور‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪120‬‬
‫لإلنسان‪ ،‬فإن ذلك يستدعي السؤال‪ ،‬وما الغاية من ذلك؟ فنعود لموضوع حاجة اإلله‬
‫لالختبار أو حاجته للمعين‪ ،‬وكالهما غير الئق بتعريف اإلله المفارق المطلق‪.‬‬
‫هذه معضلة في غاية الدقة والوضوح‪ ،‬وهي نقيضة تضرب التعريف الشائع لإلله‬
‫بالصميم‪ ،‬وال خروج منها إال بإعادة تعريف مفهوم اإلله‪ ،‬ذلك المفهوم المتسبب في‬
‫رفض الكثيرين للقول بوجود اﷲ أساسا‪ .‬وال ينفع الترقيع الذي قدمه بالنتنغا ‪Alvin‬‬
‫‪ ،Plantinga‬وال اليبنتز وقوله إن هذا العالم هو أفضل ما يكون‪ ،‬أو أنه أفضل العوالم‬
‫الممكنة‪.‬‬
‫والقول بضرورة وجود اﷲ لكي يكتسب الوجود معنى وغاية هو قول جميل‬
‫وشاعري أكثر مما ينبغي‪ ،‬ومجازفة باالدعاء تحتاج إلى إثبات‪ ،‬فهو أمر يحيلنا من‬
‫جديد إلى األدلة والبراهين العقلية والمنطقية‪ ،‬التي ثبت تهافتها‪ .‬كل هذا‪ ،‬وتساوي‬
‫أدلة اإلثبات والنقض في القيمة المنطقية يجعل األمرين متعادلين‪ ،‬أي تتساوى إمكانية‬
‫وجود اﷲ مع عدمه‪ ،‬لكن وجود الشيء يحتاج إلى إثبات‪ ،‬في حين َّ‬
‫أن عدمه ال يحتاج‬
‫إلى إثبات‪ ،‬وهذا يرجح عدم وجوده‪ ،‬فضال عن أن مسألة وجود الشر في العالم هي‬
‫مرجح آخر لمسألة عدم وجود إله يتصف بوجود صفات العدالة والخيرية‪.‬‬
‫يعيش اإلنسان حياة مليئة بالمتاعب والرزايا واألمراض منذ والدته ونبات أسنانه‬
‫اللبنية المصحوبة باأللم والحمى‪ ،‬يضاف إليها ما يصادفه في حياته من أمراض وآالم‬
‫أخرى‪ ،‬وأحزان فارهة‪ ،‬مصحوبة بسعادات ولحظات فرح سريعة شحيحة‪ ،‬ليكمل حياة‬
‫قصيرة مهما طالت‪ ،‬غير معروفة الجدوى والغاية‪ ،‬لتنتهي بالموت‪ ،‬كأنها عقوبة غير‬
‫مبررة على ذنب غير معروف‪ .‬أقول غير معروف إذ ال يمكن أن نأخذ على محمل الجد‬
‫قول األديان السماوية أنها عقوبة لإلنسان ألن أحد أسالفه أكل تفاحة‪ .‬فإن كان هذا‬
‫القول بقصد اإلشارة إلى واقعة حقيقية فهو غير جدير بإله حكيم‪ ،‬وإن كان رمزيا يواري‬
‫معنى آخر فقد ثبت قولنا إنها عقوبة على ذنب غير معروف‪.‬‬

‫ارتباط األخالق باأللوهية‪:‬‬


‫الحجة األخالقية التي قال بها إيمانويل كانت‪ ،‬تفيد أن القانون األخالقي يوجد‬
‫في العقل ويسميه كانت (قانون الواجب) وهو أساس األخالق ومصدرها‪ .‬ولهذا‬
‫‪121‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫القانون ثالث مسلمات يقوم عليها هي (اﷲ‪ ،‬النفس‪ ،‬الحرية)‪ ،‬هي ضرورية لقيام الفعل‬
‫األخالقي‪ ،‬فمن دون فكرة وجود اﷲ والنفس وحرية اإلرادة في العقل لن توجد أخالق‬
‫مطلقة لدينا‪ .‬فوجود اﷲ يحقق اإللزام بالواجب األخالقي‪ ،‬وهو ضروري أيض ًا من أجل‬
‫تحقيق تطابق السعادة والفضيلة األخالقية في عالم أفضل يتطلب وجود اﷲ بوصفه‬
‫خير ًا أسمى‪ ،‬يحقق السعادة والعدالة في حياة أخرى‪ ،‬ذاك أن السعادة التي ال توجد وال‬
‫يمكن أن توجد في هذه الحياة هي الغاية‪.13‬‬
‫هنا نجد أن كانت قد وضع العربة أمام الحصان‪ .‬فهو من أجل أن يثبت وجود اﷲ‬
‫افترض سابقا وجود اﷲ‪ .‬فكأنه يقول إن اﷲ موجود من أجل أن يثيب ويعاقب‪ ،‬اﷲ‬
‫موجود من أجل األخالق‪ ،‬واألخالق موجودة بسبب اﷲ‪ .‬فجعل منه نتيجة وسببا في‬
‫عملية دائرية محيرة متهافتة‪ .‬ويمكن الرد ببساطة عليه بالقول‪ :‬هناك مظالم لن يعاقب‬
‫أحد عليها‪ .‬كانت بعد كل جهده الجهيد وعمله على العقل النظري أراد بعجالة أن يحل‬
‫مسألة الوجود واألخالق من خالل دور منطقي يبني كال منهما على اآلخر‪ .‬فبعد أن‬
‫قوض جميع أسس بناء البيت نراه يريد أن يبني سقفا وصالة فسيحة فوق ذلك السقف‪.‬‬
‫مسلمات كانت األخالقية الثالث هي أفكار مركبة وليست بسيطة‪ ،‬فال توجد في‬
‫الذهن فكرة أولية بسيطة عن اﷲ ألنها فكرة في غاية التركيب‪ ،‬تختلف‪ ،‬إن وجدت‪،‬‬
‫من شخص آلخر حسب البيئة والتنشئة والعوامل النفسية‪ .‬ومثل هذا القول ينطبق‬
‫على فكرة النفس والحرية‪ .‬فهذه المسلمات ال توجد في الواقع كما أقر كانت نفسه‪،‬‬
‫وهي أيضا ال يمكن أن توجد في العقل‪ .‬إن ما يوجد أساسا هو الفكرة األولية الناشئة‬
‫من معنى (أنا موجود)‪ .‬إنه الضمير المحض الذي يبدأ منه االنتقال إلى الوجود وإلى‬
‫األخالق‪ .‬وهذا الضمير حر بحكم أوليته فهو ليس محكوما بما قبله أو فوقه ألنه أول‬
‫وهو فوق كل ما سواه‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى نجد أن الدليل األخالقي عند كانت سببه اليأس من تحقيق العدالة‬
‫على األرض‪ .‬وهذا اليأس هو أحد أهم الدوافع وراء القول بحياة أخرى أهم مميزاتها‬
‫ثواب األخيار وعقاب األشرار‪ ،‬فهي تمثل األمل في عدالة مؤجلة أمام اليأس من عدالة‬

‫‪ .13‬كانط‪ ،‬إيامنويل؛ نقد العقل العميل‪ ،‬ترمجة‪ :‬غانم‪ ،‬هنا‪ ،‬املنظمة العربية للرتمجة‪ ،‬بريوت ــ لبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،2008‬ص ‪ 218‬ــ ‪.219‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪122‬‬
‫آنية‪ .‬عدالة تالحق الذين أفلتوا منها وقضوا حياتهم في نعيم على الرغم مما ارتكبوه من‬
‫شرور‪ .‬ولو أن الناس ضمنوا تحقيق العدالة على األرض واستمروا بالعمل على ذلك‬
‫حتى يصير غاية يؤمنون بإمكانية تحقيقها ألفرغ الدليل األخالقي من قوته‪ ،‬لكن فكرة‬
‫اﷲ هنا بوصفه العادل المؤجل تسمح بتأجيل مطلب العدالة على األرض‪.‬‬
‫ومثلما أن إدراك النقص كان سببا في التفكير بالكمال والتوق إلى وجوده‪ ،‬هذا‬
‫التوق والرغبة بوجود الكامل اختلط باإليمان بوجوده ثم محاولة التدليل على وجود‬
‫الكامل والتأكيد عليه من خالل االصطدام بالناقص‪ ،‬وهكذا كان القول بوجود الكامل‬
‫تم جعله كائنا متعاليا‬
‫ليس من ضمن موجودات العالم التي تعلن نقصها كل حين بل ّ‬
‫ليتم إبعاده عن نقائص الواقع‪.‬كذلك كان االصطدام بالظلم وكانت الرغبة بالعدل سببا‬
‫بالقول بوجود هذا العدل‪ ،‬وألن الواقع الناقص البعيد عن الكمال ال يمكنه استيعاب‬
‫عدل كامل مطلق ال تشوبه المظالم تم إبعاد هذا العدل التام وتأجيله زمانا ومكانا إلى‬
‫حياة أخرى‪.‬‬

‫األنا أو الضمير‪:‬‬
‫البد من عرض ملخص لما نعنيه بالضمير وهو المفهوم الذي يمثل أهم مرتكز في‬
‫موقفنا الوجودي والمعرفي والقيمي‪ .‬وهو الفهم الذي من خالله نقدم رؤيتنا لمجمل ما‬
‫هو كائن‪ .14‬ما أعنيه باألنا أو الضمير ليس االيگو ‪ 15 ego‬بالمعنى السيكولوجي الشائع‬
‫أو المعنى اللغوي المعتاد‪ ،‬ذاك أن االيگو مع ارتباطه بالهوية فهو جزء من الوعي وهو‬
‫متصل بالجسد والجهاز العصبي من هذه الناحية‪ .‬أما الضمير فهو يقع فوق االيگو‪ .‬وهو‬
‫مختلف عن الالوعي الذي يتحدث عنه النفسانيون فذاك أيضا يقع ضمن المجموعة‬
‫نفسها وهو أحد عناصرها‪ ،‬أعني مجموعة نواتج العمليات المشتركة التي يقوم بها‬
‫الجهاز العصبي ليحدد عالقة الجسد بالعالم وتعامله معه وطريقة حفظه من المخاطر‬
‫وهذه النواتج تعين لذاتها هوية موحدة تحدد ذاتها وتتعرف إلى ذاتها بواسطتها وتلك‬

‫‪ .14‬تفصيل ذلك يأيت يف كتاب؛ منذر جلوب‪ :‬الوعي والعدم‪ .‬حتت الطبع‪.‬‬
‫‪15. Your ego is your conscious mind, the part of your identity that you consider your‬‬
‫‪«self.» If you say someone has «a big ego,» then you are saying he is too full of‬‬
‫‪himself. www.vocabulary.com. dictionary.‬‬
‫‪123‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫هي االيگو‪ .‬هذه االيگو بهذا المعنى تكون محايدة وفارغة من الفاعلية وتابعة لمن‬
‫أسسها ومقيدة وبال حرية إطالقا ألنها مجرد وسيلة وواسطة ليس لها استقالل‪ .‬هي‬
‫تربط الوعي بالضمير أو هي أداة الضمير للتحكم بالجسد‪.‬‬

‫الضمير واجب الوجود‪:‬‬


‫دليل واجب الوجود اخترعه الفارابي وتبناه ابن سينا وغيره من فالسفة الحضارة‬
‫اإلسالمية وانتقل إلى الفلسفة الغربية وصار شائعا‪ ،‬مفاده َّ‬
‫أن الوجود نوعان‪ :‬ممكن‬
‫وواجب‪.‬‬
‫الممكن هو الذي يمكنك تصور عدم وجوده‪ ،‬وال يترتب على ذلك أي اشكال‪ .‬إذا‬
‫تصورت أن الكرسي أو الجبل أو النهر غير موجود فليس هناك مشكلة‪ .‬أي ال يترتب‬
‫محال على ذلك كما يع ّبرون‪.‬‬
‫النوع اآلخر من الوجود هو الواجب‪ .‬وهو الذي إذا تصورته غير موجود نشأ عن‬
‫ذلك محال‪ .‬وقالوا أن الواجب هو اﷲ‪ .‬وأن من المحال أن تتصوره غير موجود ألنك‬
‫ستكون أمام مشكلة‪ ،‬هي كيف تفسر وجود بقية االشياء الممكنة؟ كيف تفسر وجود‬
‫الممكنات؟ الكرسي والجبل والنهر‪ ،‬إذ هي ممكنة وتحتاج ما يخرجها من اإلمكان‬
‫إلى الوجود‪ .‬إذن فالواجب البد من وجوده وإال الستحال وجود شيء من الممكنات‪.‬‬
‫إذا وجهت الكالم لي وقلت تخيل اختفاء جميع االشياء التي هي ممكنة الوجود‬
‫فتخيلت أن كل ما حولي اختفى وبقيت أنا ثم قلت إن الواجب هو الذي ال يمكن تخيل‬
‫عدم وجوده‪ ،‬فوجدت أنني قادر على تخيل اختفاء كل شيء إال أني غير قادر على‬
‫تصور اختفاء (أناي) أو ما أسميه ضميري‪ ،‬عندها يتبين جليا في الذهن أني واجب‬
‫الوجود وكل األشياء األخرى ممكنة‪ .‬وعندها أدرك أن واجب الوجود حقا هو أنا‪.‬‬
‫وبهذا يخرج هذا الدليل (دليل واجب الوجود) من كونه مجرد مماحكة لغوية تعتمد‬
‫تحصيل حاصل ومداورة ‪ tautology‬من خالل وضع تعريف لكلمة معينة ومحاولة‬
‫استنطاق نتائج من التعريف الذي تم افتراضه سابقا‪ .‬تماما كمن يحاول إقناع طفل‬
‫بكون القمر مصنوعا من الجبن اعتما ًدا على القول بأن كل الجبن يأتي من القمر‪.‬‬
‫أو كمن يعرف المحفظة بأنها جيب من الجلد يحتوي نقودا‪ ،‬ثم يستنتج أنه البد من‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪124‬‬
‫وجود النقود داخل أية محفظة اعتمادا على تعريف المحفظة‪ .‬هكذا كانت محاولة دليل‬
‫واجب الوجود أو الدليل األنطولوجي إلثبات وجود اﷲ‪ .‬أي أن هذا الدليل كما ساقه‬
‫واضعوه أساسا هو عبارة عن وضع تعريف لمفهوم اﷲ‪ ،‬وهو أنه الموجود الذي البد‬
‫من وجوده‪ ،‬ثم تم االستنتاج من هذا التعريف أن اﷲ البد أن يكون موجودا بحكم‬
‫هذا التعريف‪ .‬وهذا دور واضح‪ .‬في حين أن ما يثبته هذا الدليل الوجودي حقا هو أن‬
‫الضمير هو الواجب وما سواه ممكنات‪.‬‬

‫الكامل في الذهن وفي الواقع‪:‬‬


‫في الواقع ال وجود إلنسان كامل بمعنى الكمال المفترض في اﷲ‪ .‬لم يوجد ولن‬
‫يوجد‪ ،‬لذلك فالنماذج التاريخية التي تمثل رأسمالنا الرمزي البطولي واألخالقي‬
‫والقيمي‪ ،‬تستمد قيمتها من اقترابها من المثال الكامل الموجود في أذهاننا‪ ،‬وليس‬
‫العكس‪ .‬فمثالنا األخالقي ال يستمد قيمته من تلك الرموز أو الشخوص الواقعية بل‬
‫هي التي تستمد قيمتها منه‪ .‬إن وجود تلك الرموز على أرض الواقع في لحظة تاريخية‬
‫ما‪ ،‬واحتفالنا بذلك وإعجابنا وإكبارنا لتلك الرموز نابع من فرحتنا أن المثال الموجود‬
‫فينا قابل للتطبيق وأن أوامره قابلة للتنفيذ‪ ،‬وأنه يمكن االقتراب منه‪.‬‬
‫أما إذا تحول الرمز الواقعي أو الشخصية التاريخية إلى بديل للمثال فعند ذلك يفقد‬
‫قيمته التطبيقية‪ ،‬ويصبح كيانا خرافيا أو ماورائيا أو خارقا غير قابل للتطبيق‪ ،‬بل يصبح‬
‫ذريعة للخروقات األخالقية‪ ،‬بحجة استحالة تطبيقه أو تنفيذه من الناس العاديين‪.‬‬
‫فمثال النموذج التاريخي لاللتزام بالمبدأ والشجاعة والقوة‪ ،‬يكون نافعا إذا نظر‬
‫االنسان العادي إليه بوصفه شخصية تاريخية واقعية اكتسبت قيمتها من قدرتها على‬
‫االقتراب من المثال في ذهن اإلنسان العادي وتنفيذه‪ .‬لكن هذا النموذج يصبح عائقا‬
‫أخالقيا إذا نظرنا إليه بوصفه المثال األخالقي بحد ذاته وأن ال إمكانية لإلنسان العادي‬
‫أن يبلغه‪ ،‬ألنه إنما فعل ما فعل بتأييد من قوة خارقة ومعجزة إلهية‪ ،‬فمحاولة تقليده‬
‫وتكراره عبث محض‪.‬‬
‫األمر مشابه للمثال الذي يرى أفالطون وجوده لكن واقعه واقع آخر مختلف ال‬
‫يمكن بلوغه‪ ،‬في حين يرى أرسطو أنه في أذهاننا وأنه غاية ننفق ّ‬
‫كل حياتنا وجهدنا‬
‫‪125‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫في محاولة بلوغها‪ .‬عملت األديان على استبدال مثال أفالطون بشخوصها التاريخية‬
‫وأسطرتها وجعلها كيانات خارج حدود المقدرة البشرية االعتيادية محيطة إياها‬
‫بالتقديس رافعة إياها فوق مستوى الوصول إليها والتشابه معها‪ .‬ونريد التأكيد على‬
‫وجود المثال في الذهن الذي لوال وجود المثال فيه لما أدركه وال فكر فيه‪ .‬هذا المثال‬
‫في أذهاننا ال يحتاج إلى التقديس لكن معرفته والتأكد من وجوده عندنا تجعل منه بؤرة‬
‫جذب تضطرنا إلى تقليده والسير نحوه‪ ،‬في حين أن الدين يضع حاجزا بيننا وبينه بسبب‬
‫القدسية التي يضفيها عليه‪ .‬فأن تجعل كيانا ما مقدسا معناه أن تجعله بعيدا مفارقا عصيا‬
‫على النيل‪.‬‬
‫يرى أنسلم أني أجد في ذهني فكرة عن كامل ال وجود ألكمل منه‪ ،‬ولو وجد في‬
‫الواقع كائن ال وجود ألكمل منه لكان أكمل مما في ذهني ألنه اجتمع له التصور الذهني‬
‫والوجود الواقعي‪ ،‬فالذي ال يوجد ما هو أكمل منه‪ ،‬هناك ما هو أكمل منه‪ ،‬فال بد من أن‬
‫يوجد في الذهن وفي الواقع‪.16‬‬
‫هناك تالعب والتفاف‪ ،‬فالحديث عن اإلمكانية تمت مصادرته ليصبح حديثا عن‬
‫الواقع‪ .‬والحق أن الكائن الكامل في ذهني هناك إمكانية أن يتحقق في الواقع‪ .‬وهذه‬
‫مبرر لعزلها‬
‫اإلمكانية طالما أنها بدأت معي فهي غاية يمكن أن أحققها أنا فقط وال ّ‬
‫عني‪.‬‬
‫وفي الجانب االجتماعي يستعير المفكر الفرنسي بيير بورديو المفاهيم التي‬
‫يستخدمها من الماركسية‪ ،‬ويعيد تقديمها من خالل مفهوم رأس المال الثقافي أو‬
‫رأس مال رمزي في تقابل مع رأس المال االقتصادي على اعتبار هذا األخير مفهوما‬
‫ماديا‪« .‬بمعنى أن التمايز االجتماعي ال يقع بالضرورة وال يمكن رؤيته فقط في نطاق‬
‫الرأسمال االقتصادي كمدى حيوي بل في نطاق الرأسمال الثقافي الهابيتوس)‪ 17‬الذي‬

‫‪16. St Anselm; The Oxford Dictionary of the Christian Church, 3rd ed., Oxford: Oxford‬‬
‫‪University Press, 2005, pp. 73 - 75.‬‬
‫‪ .17‬اهلابيتوس من املفاهيم املحورية يف بنيوية بورديو‪ ،‬ويعرفه بأنه «نسق االستعدادات املكتسبة وتصورات‬
‫اإلدراك والتقويم والفعل التي طبعها املحيط يف حلظة حمددة وموقع خاص»‪ ،‬وهو موجه لسلوك الفرد‬
‫اعتامدا عىل مرجعية معينة تقع يف البنية الذهنية االجتامعية للفرد (األنا األعىل)‪.‬‬
‫انظر‪ :‬حجازي‪ ،‬د‪ .‬أكرم‪ :‬البنيوية الرتكيبية ــ فلسفة بيري بورديو‪ ،‬جملة علوم انسانية‪ ،‬العدد ‪.20‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪126‬‬
‫يسعى إلى تكريس التمايز وإعادة إنتاج الطبقات ال شعور ًّيا‪ ،‬لهذا فهو يتسم بالعنف‬
‫الرمزي تماما مثلما هو الرأسمال االقتصادي الذي يتسم هو اآلخر بعنف مادي»‪.18‬‬
‫من أجل التركيز على مفهوم رأس المال الرمزي وتجذيره وبيان بعده األخالقي‬
‫وارتباطه الميتافيزيقي سنهتم بأساسه عند الفرد‪ .‬فكل فرد يحتفظ في ذهنه بمجموعة‬
‫رموز هي بمثابة مثل عليا‪ .‬مثال يكون شكسبير عند اإلنكليز هو المثل األعلى في‬
‫الشعر‪ ،‬وأخيل هو مثال الشجاعة واإلسكندر المقدوني مثال البطولة عند كثير من أفراد‬
‫المجتمعات الغربية‪ ،‬وهكذا مع تفاوت بين الشعوب واألفراد على وفق البيئة الثقافية‬
‫والتنشئة‪.‬‬
‫إن العناصر أو األسماء التي يتكون منها رأس المال الرمزي هي مجرد وقائع إلثبات‬
‫إمكانية تطبيق المثل األخالقية المتعالية على صعيد الواقع‪ .‬ولقد كانت األديان واألنبياء‬
‫والشخصيات المقدسة وسائل للتخفيف من حدة المثال األخالقي في ذهننا والتقليل‬
‫من صرامته وإيجاد الوسائل والحيل لاللتفاف حوله عند التطبيق من أجل التماشي مع‬
‫الواقع العملي‪ ،‬كما سنبين‪.‬‬

‫عامالن يتنازعان السلوك األخالقي‪:‬‬


‫أ ـ المبدأ األخالقي األولي‪:‬‬
‫من جانب يوجد في داخل اإلنسان مبدأ أخالقي أولي واضح صارم محكم األوامر‬
‫والنواهي‪ ،‬قد نسميه الضمير أو نسميه أوامر الحق المطلق‪ ،‬وهي تتمثل في مفهوم ثابت‬
‫للعدالة ومعرفة بالحق والباطل‪ .‬فالعدالة هي المبدأ األول واألهم‪ .‬يدرك اإلنسان دائما‬
‫أن الظلم شر واالعتداء شر والقتل شر والسرقة شر والكذب رذيلة وشر‪...19‬الخ‪ .‬ومع‬

‫‪ .18‬حجازي‪ ،‬د‪ .‬أكرم‪ :‬البنيوية الرتكيبية ــ فلسفة بيري بورديو‪ ،‬جملة علوم إنسانية‪ ،‬العدد ‪.20‬‬
‫‪ .19‬هذا املوقف الذي قد حييل الذهن إىل موقف إيامنويل كانت هو بال شك خمتلف‪ .‬فكانت يرى أن أوامر‬
‫األخالق املطلقة والقواعد األخالقية موجودة وواجبة الطاعة‪ ،‬فهو يترصف وكأنه واعظ أخالقي‪ ،‬يف‬
‫حني أن موقفنا هنا الذي يؤكد صحة وجود قواعد أخالقية منبعها مبدأ العدالة‪ ،‬إال أن رضورة تنفيذها‬
‫أمر موضع نظر إذا تعارض مع مبدأ حفظ ذات الفرد أو املجموع‪ ،‬وهذا التعارض واقع ال حمالة‪ .‬وأن‬
‫األخالق العملية بناء عىل ذلك‪ ،‬تكون أفضل كلام أخذت يف احلسبان مبدأ العدل ووفقت بينه وبني‬
‫حفظ البقاء‪ ،‬وتلك مهمة النظريات األخالقية‪.‬‬
‫‪127‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫ذلك قد يرتكب بعض هذه األفعال وبكثرة‪ ،‬فلماذا؟ يعود سبب ذلك إلى العامل اآلخر‬
‫الذي يؤثر في السلوك األخالقي لإلنسان‪ ،‬ذلك هو عامل الحفاظ على البقاء بكل‬
‫تفاصيله وتأثيراته التي تتفاوت شدّ تها وأثرها تبعا للظرف والحال والتربية والبيئة‪.‬‬
‫اإلنسان يدرك أن القتل شر‪ ،‬ومع ذلك يبيح لنفسه قتل الحيوانات من أجل الغذاء‪،‬‬
‫ألنه يجد أن في ذلك ما يحافظ على بقائه‪ ،‬حاله في ذلك حال بعض األقوام من أكلة‬
‫البشر‪ ،‬وهم بذلك يسيرون على ناموس الحفاظ على البقاء‪ .‬ولوال وجود البدائل التي‬
‫تضمن للناس استمرارهم لكان أكل الناس للحوم بعضهم البعض أمرا مألوفا‪ ،‬مثل أكل‬
‫الناس للدجاج والخراف‪.‬‬
‫بالتأكيد فإن جميع المصالح البشرية من اقتصادية وسياسية ونفسية وما إلى ذلك‬
‫تدخل ضمن الهدف النهائي للبشر كأفراد وكمجموعات‪ ،‬لذلك فإن جميع التجاذبات‬
‫السياسية واالقتصادية والنفسية وغيرها‪ ،‬إنما تدخل ضمن متطلبات هدف البقاء هذا‪.‬‬
‫ومن هنا تأتي كل التجاوزات األخالقية متى حدث التعارض بين متطلبات الحفاظ‬
‫على البقاء وبين المبدأ األخالقي الصارم في داخل اإلنسان‪.‬‬
‫وبهذا تكون مهمة الحضارة والتربية لألفراد والمجتمعات هي محاولة إيجاد توازن‬
‫بين هدف البقاء وبين المبدأ األخالقي األولي‪ .‬وتكون األحجية الكبرى والمعضلة‬
‫األخالقية األهم أمام اإلنسان هي‪ ،‬كيف يحافظ على بقائه بأقل قدر من الخروقات‬
‫للمبدأ األخالقي الواضح في داخله؟ فمبدأ وجوب الصدق الدائم هو مبدأ مطلق‬
‫الصحة وفي غاية الوضوح‪ ،‬وهو صادق في كل زمان ومكان‪ ،‬بل هو غير خاضع‬
‫لمقوالت الزمان والمكان الرتباطه بالضمير الذي هو خارج ثنائيات الصدق والكذب‪.‬‬
‫ألنه مبدأ يعرض الحقيقة‪ ،‬والضمير هو الحقيقة األولى واألهم‪ ،‬ومن هنا الترابط الوثيق‬
‫بين الضمير ومعايير األخالق في بعدها األقصى‪ .‬لكن اإلنسان يبرر لنفسه خرق هذا‬
‫القانون بحسب مقتضيات الحال‪ ،‬فيخرقه مطمئنا بال تردد إذا كان من أجل إنقاذ حياته‬
‫أو حياة شخص آخر‪ ،‬ويخرقه مع شيء من عدم االرتياح إذا كان ألجل نفع مادي‪.‬‬

‫انظر‪ :‬وود‪ ،‬ألن؛ كانط‪ ،‬فيلسوف النقد ت‪ :‬بدوي عبد الفتاح‪ ،‬املركز القومي للرتمجة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،2014‬ص‪ 185‬فام بعدها‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪128‬‬
‫ويتفاوت قدر عدم االرتياح هذا بتفاوت العواطف والتربية والبيئة والعوامل الثقافية‬
‫وما إلى ذلك‪.‬‬
‫المبدأ األخالقي المطلق وما يتفرع منه مصدره الضمير في صفائه المطلق‪ ،‬وهو‬
‫مطلق غير خاضع لثنائية الحق والباطل‪ ،‬وهو مطلق غير خاضع لثنائية الخير والشر‪.‬‬
‫وحين نقول إن الضمير هو مصدر تلك األوامر فليس معنى ذلك أن الضمير يصدر‬
‫األوامر‪ ،‬ألن الضمير حقيقة مطلقة بسيطة ال تركيب فيها‪ ،‬تعبر عن نفسها وترتبط‬
‫بالجسد من خالل الوعي‪ .‬فتكون األخالق المطلقة شبيهة بذلك الضمير من ناحية‬
‫الصفاء والبساطة والخلو من التعقيد‪ .‬هو مبدأ واحد يمثل أساسها‪ ،‬وهو الحق أو‬
‫الحقيقة‪ ،‬ومنه تتفرع مفاهيم الصدق والعدالة والخير والجمال‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫ب ـ حفظ البقاء‪:‬‬
‫أما حفظ بقاء اإلنسان فردا أو نوعا‪ ،‬فالمراد منه بقاء الجسد‪ ،‬والمحافظة عليه في‬
‫هذه الحياة‪ .‬وإن سأل سائل‪ ،‬أليس ذاك مصدره الضمير أيضا؟ نقول (ال)‪ ،‬ألن الضمير‬
‫(الذي هو األنا نفسها في تمثلها وفعلها األخالقي) يعترض على كل محاوالت الحفاظ‬
‫التي تخرق المبدأ األخالقي األولي‪ ،‬وهو غير مكترث ببقاء الجسد لكونه باقيا سواء‬
‫أبقي الجسد أم لم يبق‪ ،‬ليس لكونه جوهرا مفارقا لجوهر الجسد كما يرى األفالطونيون‬
‫وليس لكونه استكماال ً‬
‫أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة كما يرى األرسطيون‪ ،‬بل‬
‫لكونه وجودا محضا وواجب الوجود‪ .‬أما مصدر ومحرك ومنظم عمليات المحافظة على‬
‫الجسد فهو جزء من الجسد نفسه‪ ،‬وهو الدماغ‪ .‬لذلك فإن مصدر الشر كله هي محاوالت‬
‫الجسد الحفاظ على بقائه وديمومته‪ .‬وهذه المحاوالت ليست شرورا بحد ذاتها بل تنتج‬
‫الشرور من تعارضها مع نقاء الضمير وما ينتج عنه من مبادئ وقوانين أخالقية‪ .‬تلك‬
‫ٍ‬
‫ونواه‪ ،‬بل هي‬ ‫المبادئ والقوانين األخالقية ال تتمثل بتفصيالت معقدة وال شبكة من أوامر‬
‫صفة واحدة كافية للحكم على كل تشعبات األخالق‪ ،‬وتلك الصفة هي الحقيقة أو الحق‪.‬‬
‫وليس كل ما يحفظ الذات يكون شرا بالضرورة‪ ،‬بل إن كل ما يخرق مبدأ الحق وما‬
‫يتعلق به من عدل هو ما يؤدي إلى ظهور الشرور في العالم‪ .‬ولطالما أدرك الفالسفة‬
‫والالهوتيون وجود وأصالة هذا المبدأ من دون أن يدركوا كنهه ففسروه تفسيرات‬
‫بعيدة عن حقيقته‪ ،‬فمنهم من أنكره ومنهم من عزاه إلى غير مصدره الحقيقي بأن ربطه‬
‫‪129‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫بموجود خارج الذات البشرية وخارج حدود الضمير‪ ،‬فصار عسيرا تفسير قوته الفاعلة‪.‬‬
‫بل إن منهم من جعله دليال على وجود إله بعيد خارج الضمير‪ ،20‬فازداد الفهم غموضا‪،‬‬
‫وكان الدليل متهافتا‪.‬‬

‫قانون البقاء والهروب من الفناء‪:‬‬


‫كثيرا ما تكون األكاذيب والتضليل هي الطرق التي تؤدي بأصحابها إلى السالمة‬
‫واالنسجام مع المجتمع وتحقيق المنافع‪ ،‬أما التغافل عما يريده اآلخرون والتمسك‬
‫بالحقائق وحدها فليس هو السبيل األمثل لحفظ البقاء‪ .‬وإن وظيفة الدين مثل وظيفة‬
‫المحامي التي هي إعادة نسج الوقائع وصياغتها ضمن سياق قصصي من أجل تحقيق‬
‫حياة أسهل لجموع ال تعنى بالحقيقة قدر عنايتها بسير األمور‪ ،‬فهي تحتاج إلى قصة‬
‫سهلة االستيعاب من أجل أن تقنع نفسها بإطار عام يشير إلى أن وجودها ليس خلوا‬
‫من المعنى‪ .‬فال هي ترتضي الكف عن السؤال عن المعنى‪ ،‬وال هي قادرة على البحث‬
‫الدقيق عنه وقبول نتائج ذلك البحث حتى لو كانت مخيبة أو محزنة أو غير مريحة‪.‬‬
‫الحقائق في هذا العالم مرتبطة به وليست مستقلة أو في عالم خاص بها كما يرى‬
‫أفالطون الذي قال إن مصداقية أية حقيقة إنما هي مستمدة من مشابهتها لتلك الحقيقة‬
‫المطلقة في عالم المثل‪ .‬على العكس تكون مصداقية أية حقيقة في عالمنا مستمدة من‬
‫قدرتها على االنسجام مع بقية الحقائق والوقائع واألحداث األخرى في هذا العالم‬
‫وقدرتها على خدمتنا والحفاظ على وجودنا ومنافعنا واستمرار بقائنا‪ .‬وبهذا نكون‬
‫فاعلين ومؤثرين وصانعين لحقائق عالمنا ووقائعه‪.‬‬
‫وهكذا فال يكون العامل االقتصادي وال الجنس وال الخوف من اﷲ هو المحرك‬
‫أو السبب الكامن خلف تفاصيل الحياة والصراع والسعي وراء لقمة العيش حتى بناء‬
‫الحضارة مرورا بالدين والعلم واألسطورة والفلسفة‪ ،‬بل الخوف من الفناء وقانون‬
‫البقاء هو المحرك األساس‪.21‬‬

‫‪ .20‬قارن‪ :‬بدوي‪ ،‬عبد الرمحن؛ مدخل جديد إىل الفلسفة‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪،1979 ،2‬‬
‫ص‪.230‬‬
‫‪ .21‬لأليدولوجيا أمهية استثنائية ألهنا تنظم عمل دافع احلفاظ عىل البقاء فتجعل منه عمال مجاعيا منظام‬
‫هدفه حفظ اجلامعة والدفاع عن مصاحلها‪ .‬فاأليدولوجيا خادمة ملبدأ احلفاظ عىل البقاء وليست سابقة‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪130‬‬
‫وقانون البقاء هو أن الناس أفرادا وجماعات يعملون على تطويع كل األشياء وكل‬
‫األفكار من أجل المحافظة على بقائهم ودفع الفناء عنهم أو تأجيله إلى أقصى مدى‬
‫يتمكنون منه‪ .‬وأهمية الجنس االستثنائية التي ضللت فرويد سببها أن الجنس يهدف إلى‬
‫إبقاء النوع متجاوزا الفرد‪ .‬وقانون البقاء هذا يصدق على البشر كما يصدق على غيرهم‬
‫من الكائنات الحية‪ .‬لكن اإلنسان ألجل أن يأخذ هذا القانون مجراه اخترع األيديولوجيا‪،‬‬
‫أو أنها نشأت تلقائيا بوصفها اتفاق الجماعة على تنسيق مصالحها والدفاع عنها‪.‬‬

‫منبع األحكام الخلقية‪:‬‬


‫هناك‪ ،‬إذن‪ ،‬مجاالن يحركان األخالق ويمثالن مصدر األحكام الخلقية وبالتالي‬
‫يقرران إطالق صفة الخير أو الشر على األفعال‪ ،‬المجال المطلق‪ ،‬وهو مجال‬
‫الضمير الذي ال يقيم اعتبارا ألي شيء سوى الحق المطلق ويطالب بتطبيقه من‬
‫دون أي تنازل أو تساهل أو تعديل على وفق ما يأمر به الضمير الذي هو في جوهره‬
‫(األنا) المجردة التي تطل على ذاتها كما هي في الكوجيتو الديكارتي‪ .‬تلك (األنا)‬
‫أدعوها الضمير الذي هو الوجود األول الذي يدرك ذاته ويدرك يقينا أساسيا ال شك‬
‫فيه وهو أنه موجود‪ .‬فأنا أدرك أنني موجود قبل إدراكي لوجود أي شيء سواي‪،‬‬
‫ويكون كل ما عداي قابال للشك بوجوده إال هذه األنا‪ ،‬هذا الضمير‪ ،‬فهو يقيني‬
‫األول واألهم‪ .‬هذا الضمير له هذا البعد الوجودي الذي يمثل نقطة ارتكاز أولى‪،‬‬
‫وله بعد أخالقي‪ ،‬فهو في كل اختيار يعرف الحق ويشير إليه بوضوح شديد بمجرد‬
‫الرجوع إليه واستنطاقه‪.‬‬
‫المجال الواقعي الذي يأخذ في اعتباراته حفظ البقاء للفرد وللنوع البشري‪.‬‬
‫وبالرجوع إلى الواقع يأخذ اإلنسان في اعتباراته حفظ جسده وماله ونسله وأحبته‪.‬‬
‫وتدخل في حساباته مقتضيات األنانية التي لوالها لما تمكن اإلنسان من الحفاظ على‬
‫وجوده فردا أو نوعا وال تمكن من البقاء‪ .‬فلوال تلك األنانية وانعكاساتها العملية لما‬
‫رضي اإلنسان أن يقتل حيوانا ليتدفأ بجلده ويتغذى بلحمه‪.‬‬

‫عليه‪ ،‬عىل الرغم من كوهنا توحي أحيانا باألسبقية عليه حني نجد أحداثا جتري بقيادة أيدلوجيا معينة‬
‫تؤدي بالتضحية بحياة ومصالح بعض األفراد خدمة ملصالح املجموعة وبقائها‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫فمقتضيات الضمير وأوامره من جهة‪ ،‬ومقتضيات الواقع وحفظ البقاء من الجهة‬


‫األخرى هما محركا أفعالنا‪ ،‬واعتمادا عليهما تأتي أحكامنا القيمية الخلقية‪ .‬فأوامر‬
‫الضمير ثابتة مطلقة نظرا لثبات الضمير ووحدته المتعالية على الزمان والمكان‬
‫واألحداث والوقائع‪ ،‬في حين تكون األحكام الخلقية المرتهنة بالوقائع وحفظ البقاء‬
‫نسبية متغيرة تبعا لمحركاتها التي هي في تغير دائم‪.‬‬

‫التعارض بين المجالين‪:‬‬


‫ثمة تعارض بين هذين المجالين‪ ،‬فاإلنسان ال يمكن أن يكون مرتاح الضمير وهو‬
‫يقتل الحيوان من أجل أن يأكله‪ ،‬أو يفضل مصالحه على مصالح غيره من البشر‪ ،‬إذ يرى‬
‫الضمير في ذلك فعال وحشيا‪ ،‬لكن أنانية اإلنسان وتفضيله ذاته على غيره تبيح تجاهل‬
‫أمر الضمير وارتكاب جرم بحق غيره من أجل استمراره في البقاء‪ .‬وكان من بين مهام‬
‫مفهوم اﷲ وعمل األنبياء واألديان في هذا المجال هو أنها بمثابة جهد لحل هذا التصادم‬
‫بين هذين المجالين‪ ،‬ذاك أن أوامر الضمير هي من القوة بحيث ال يمكن مواجهتها إال‬
‫بكيان عظيم بحجم فكرة األلوهية‪ ،‬وإال يكون التصادم شديدا ومستمرا بطريقة قد ينهار‬
‫أمامها فعل األنانية فيكون االنسان أمام مأزق اختيار‪ :‬إما أن يتمسك بأوامر الضمير‬
‫الصارمة ويتوقف عن تفضيل ذاته على غيره‪ ،‬فيموت جوعا‪ ،‬وإما أن يخالف أوامر‬
‫الضمير بصورة فظة ومن دون تسويغ أو مراعاة فيفقد احترامه لذاته وينتهك ضميره‬
‫وال يبقى مجال ألي ثبات أخالقي فيتحول إلى وحش‪ .‬وهنا يتدخل اإلله (عن طريق‬
‫إلها يدعمه في‬
‫التشريع الديني) إليجاد المنفذ‪ .‬وهكذا تجد أن لكل من طرفي الخصام ً‬
‫كل حروب أبناء البشر ضد بعضهم‪ ،‬ناهيك عن وقوف اإلله بجانبهم في حروبهم ضد‬
‫غيرهم من األجناس والكائنات بدءا من حربهم ضد الحشرات وصوال إلى تحسبهم‬
‫للحرب على الكائنات الفضائية إن وجدت‪.‬‬
‫بعض الفقهاء اتخذ ما يسمى بالحيل الشرعية‪ ،‬وهي بادرة تشير إلى أن التشريعات‬
‫ممكن التحايل عليها من داخلها‪ ،‬وهو أمر شائع بين المتدينين في الديانات المختلفة‪.‬‬
‫أي أنهم يعمدون إلى إيجاد طريقة لاللتفاف على الثوابت حين يواجهون مأزقا في‬
‫الواقع العملي‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪132‬‬
‫وما نريد قوله هو إن األديان تقوم بمحاوالت إلعطاء المرونة وإسباغها على حدية‬
‫األخالق ومطلقيتها المستندة إلى الضمير‪.‬‬
‫وتتفاوت األديان بتفاوت مقدار المرونة‪ ،‬فمنها ما يسمح بتجاوز المطلقية لتتناسب‬
‫مع أتباع دين معين أو أمة معينة‪ ،‬أو يتناسب مع عموم الناس ومحاولة حفظ مصالح‬
‫اإلنسان وبقائه‪.‬‬

‫الدين واأليديولوجيا والتقديس‪:‬‬


‫األخالق المطلقة التي منبعها الضمير تقرر ما يجب أن يكون بغض النظر عن البقاء‬
‫والمصالح في حين أن األديان وكثير من الفلسفات تعمل على إيجاد المنافذ من تلك‬
‫األخالق المطلقة بحسب ما يتالءم مع حاجات االنسان ومصالحه‪ .‬فاألديان على‬
‫الرغم من ادعائها وإصرارها على كون األخالق مطلقة إال أنها في حقيقة األمر تسهم‬
‫بالدفاع عن نسبية األخالق ألنها تحتال على األخالق من أجل مصالح أتباعها أو من‬
‫أجل بقاء الفرد أو النوع اإلنساني‪ .‬وبهذا فإن الدين بوصفه مؤسسة تستقطب جماعة‬
‫وتمفصل عملها هو أيديولوجيا هدفها رعاية مصالح أتباعها غالبا‪ ،‬وأحيانا تتجاوز ذلك‬
‫للدفاع عن مصلحة الكائن البشري عموما‪ ،‬فالمصلحة هي معيارها األهم وعلى هذا‬
‫المعيار تقيم الحقائق واألخالق‪ .‬وهو أيديولوجيا بقوى استثنائية تستخدم التقديس‬
‫قاعدة استناد صلبة‪.‬‬
‫وإن من الدعائم األساسية التي يقوم عليها الدين ومنها يستمد رسوخه النفسي لدى‬
‫األفراد والجماعات هو نوع من المشاعر المتفردة التي يمكن تسميتها بالقدسية أو‬
‫الميل للتقديس‪ .‬وهو خليط من الحب والرهبة واإلحساس بالجمال‪.‬‬
‫ما هو المصدر األساسي للقدسية؟ من اخترعها وكيف بدأت؟ هل هي حاجة نفسية‬
‫لإلنسان أم انبهار بعظمة المحيط أم ناتج خوف من المصير؟‬
‫يمكن القول إنها بكل اختصار إدراك األنا وانعكاسها في مفاصل الوجود‪.‬‬
‫ودائما حدث ويحدث أن يساء فهمها وتحويل التقديس إلى أشياء في الخارج‬
‫تنسج حولها األساطير وتبنى عليها المنظومات لتقيم أركان ما يسمى بالعقيدة‬
‫الدينية ثم ينشأ الدين بمؤسساته وتفاصيله‪ ،‬ليصبح منظومة فكرية اجتماعية تهدف‬
‫‪133‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫إلى الدفاع عن مصالح المجموعة التي تنتمي إليها وتمارس سلطة من أجل ذلك‬
‫(أيديولوجيا)‪.‬‬
‫ومهما يكن األمر‪ ،‬فإن الجانب األكثر خطورة في التقديس (المتبقي بعد نسيان‬
‫األنا والذي تمت إحالته خارج الذات‪ ،‬وهو األكثر شيوعا) هو أنه يمكن صاحبه‪ ،‬مهما‬
‫كان جاهال أو عالما‪ ،‬من الظن أنه يمتلك يقينا راسخا أنه وصل إلى الحقيقية المطلقة‪،‬‬
‫ويحجب عنه إمكانية التساؤل ويحمله على رفض التفكير والمراجعة‪ ،‬وقد يسوقه إلى‬
‫االندفاع إلى الحد األقصى من األفعال األخالقية أو غير األخالقية‪ ،‬وتقديم التضحيات‬
‫أو ارتكاب الفظائع‪ ،‬عن طيب خاطر في فسحة راحة نفسية ورضا يوفرها له شعوره‬
‫بحيازة الحقيقة واحتكارها التام‪.‬‬
‫وبذلك تؤسس األديان ألول وأشمل أشكال األيديولوجيا‪ .‬األيديولوجيا‪ :‬ذلك‬
‫الهم الذي سيهيمن على مجمل الهموم البشرية‪ ،‬ويقوم بتوجيه مجمل اهتمامات‬
‫البشرية المعرفية واألخالقية والجمالية‪.‬‬

‫األخالق والجمال‪:‬‬
‫ومثل وجود مجالين لألخالق‪ ،‬كذلك فالمجاالن نفسهما يحيطان األحكام‬
‫الجمالية ويشمالن عوامل التأثير فيها‪ ،‬وبموجبهما يصنف الناس الموضوعات إلى‬
‫جميل أو قبيح‪.‬‬
‫وفي هذا السياق تأتي الفنون‪ ،‬التي هي محاولة للوصول إلى الجميل واإلمساك به‪.‬‬
‫فالجميل هو ما يقترب من النفس ويمس المشاعر‪ .‬أي هو ما يمثل اقترابا من الضمير‬
‫وتشابها معه‪ .‬ألن الضمير هو الجمال في الوجود‪ ،‬وماذا عساه يكون جميال في الوجود‬
‫أكثر من (أنا) التي لوالها لما كان الوجود؟‬
‫الشعرية‪ ،‬مثال‪ ،‬هي ابتدا ًء قدرة الشعر على التأثير في المشاعر‪ ،‬ولذلك كان اشتقاق‬
‫كلمة الشعر من الشعور في اللغة العربية‪ .‬ألن الشعر عند العرب خاصة عند قدمائهم‬
‫هو الفن األول واألهم‪ .‬وبهذا فإن جميع الفنون يكون المشترك بينها هو التعبير عن‬
‫الجمال‪ ،‬والجمال أمر يتعلق بالمشاعر أكثر من تعلقه بأي أمر سواه‪ .‬إنه الشعور‬
‫الجمالي المنطلق من الذات والمتوجه نحوها فهو مرتبط بالضمير‪ .‬لذلك فاألحكام‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪134‬‬
‫الجمالية تكون مطلقة بهذا المعنى طالما كان منبعها الضمير‪ ،‬أما ما ينبع عن المصالح‬
‫واأليديولوجيا من أحكام جمالية فهو نسبي‪.‬‬

‫ّ‬
‫حل المعضلة‪:‬‬
‫من الجانب الموضوعي ال وجود للشر‪ ،‬فالشر اعتبار إنساني‪ .‬وتطلق هذه التسمية‬
‫على الظرف غير المواتي للبشر من الناحية الظرفية‪ ،‬مثل حدوث زلزال أو ما شابه ذلك‪.‬‬
‫الوجود ال يتعامل بتحيز تجاه أحداث مكوناته‪ .‬والوجود ال يتخذ موقفا من جذب نجم‬
‫لكوكب واصطدامهما‪ ،‬وال من سقوط قذيفة على منزل‪ .‬فالشر اعتبار إنساني محض‪،‬‬
‫وهو نسبي‪ .‬فلو قتل طفل اسمه أدولف هتلر لظنه الناس شرا في حينه‪ ،‬ولكن بقاءه بعد‬
‫ذلك وما ترتب عليه من أحداث عده الناس هو الشر‪.22‬‬
‫هكذا فالشر مفهوم إنساني حصرا وليس مفهوما وجوديا أو أنطولوجيا‪ ،‬وكذلك‬
‫الخير‪ .‬فما يواتي اإلنسان الفرد يكون خيره الفردي‪ ،‬وما ال يواتيه يكون شرا بالنسبة له‬
‫كفرد‪ ،‬وكذلك األمر بالنسبة للجماعات أو النوع البشري برمته‪ .‬فحدوث هزة أرضية‬
‫أو بركان يكون شرا إذا أدى إلى قتل الناس أو تشريدهم‪ ،‬ولكنه إن حدث في قاع البحر‬
‫ولم يؤد إلى نتائج تضر باإلنسان فال يعد شرا‪ ،‬بل قد يكون خيرا على المدى البعيد‪،‬‬
‫مثال إذا حدث بركان وأدى إلى ظهور جزيرة جديدة نافعة‪ .‬وإذا اصطدم نجم بنجم‬
‫آخر في مجرة أخرى من دون أن يؤثر علينا فال يمكن أن نعد ذلك شرا أو خيرا‪ ،‬بل هو‬
‫ظاهرة من ظواهر الطبيعة مثل تمدد الحديد بالحرارة الذي ال نعده شرا أو خيرا‪ ،‬أو مثل‬
‫السكين التي إن استخدمت في تحضير الطعام كانت خيرا وإن استخدمت لجرح الناس‬
‫كانت شرا‪ .‬وقد تكون خيرا لإلنسان لتحضير طعامه وشرا على الدواجن‪ .‬فالخير هو ما‬
‫يحقق مصالح اإلنسان فردا أو جماعة ويحافظ على بقائه ويدفع عنه خطر الفناء‪.‬‬

‫‪ .22‬هذا موقف قد يبدو مشاهبا ملوقف هاجسون وبتلر والرأي القائل أن االنسان ال خيتار الرش ملجرد كونه‬
‫رشا بل بحكم املصلحة‪ .‬ولكن موقفنا يقوم عىل دعائم خمتلفة من الناحية األنطولوجية‪ ،‬إذ إننا نرى يف‬
‫هناية املطاف أن الرش هو من نتائج ثنائية الذات واملوضوع التي هي من نتائج فاعلية اللغة يف خلق العامل‪.‬‬
‫انظر‪:‬‬
‫هوندرتش؛ دليل أكسفورد للفلسفة‪ ،‬ت‪ :‬نجيب احلصادي‪ ،‬دار الكتب الوطنية للطباعة والنرش‪،‬‬
‫طرابلس‪ ،‬ليبيا‪ ،2004 ،‬ص‪.509‬‬
‫‪135‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫الوجود بمجمله‪ ،‬إذن‪ ،‬أوسع من نطاق الخير والشر‪ .‬إن الخير والشر مفهومان‬
‫مرتبطان بجسد اإلنسان وكيانه النفسي واالجتماعي وما يتعلق بذلك وال عالقة لهما‬
‫بالوجود وال باﷲ‪ .‬وبهذا المعنى ال أقول إنهما مفهومان نسبيان‪ ،‬فهذا الموقف ال يحدد‬
‫نسبتيهما أو مطلقيتهما بل يحدد المجال الذي يغطيانه‪.‬‬
‫الخير هو ما يواتي اإلنسان والشر ما هو غير موات له‪ .‬هناك خير للفرد الواحد‬
‫وشر للفرد الواحد وتلك مفاهيم نسبية بهذا المعنى‪ ،‬مثل الربح والخسارة التجارية‬
‫لشخص معين‪ ،‬أو إن الخير بالنسبة لحفار القبور كثرة الموتى‪ ،‬والخير لتاجر‬
‫السالح كثرة الحروب‪ ،‬والشر بالنسبة ألطباء األطفال أن يكون كل األطفال أصحاء‬
‫ال يحتاجونهم وما شابه‪ .‬وهناك خير للبشرية جمعاء أو للبشرية كأمم وشعوب‪،‬‬
‫مثل وفرة المحاصيل وخصوبة األرض واكتشاف موارد طبيعية أو تطور صناعات‬
‫معينة ترفع المستوى المعيشي للناس وتسهم في إسعادهم‪ ،‬وهناك شرور جماعية‬
‫كحدوث الكوارث والحروب‪ .‬وكل تلك األمور يتلقاها اإلنسان بمشاعره‪ ،‬إما فرحا‬
‫أو جزعا تبعا لتصنيفه لها خيرا أو شرا‪ .‬ومع ذلك يبقى البعد األخالقي ثابتا‪ ،‬يبقى‬
‫تاجر الحرب مدركا أن ما يفرحه وما يراه خيرا إنما هو شر في حسابات غيره‪ ،‬وكذلك‬
‫حفار القبور‪ ،‬والطبيب متأكد في قرارته أن الصحة خير وإن أدت إلى ضرر منافعه‪.‬‬
‫فاألخالق في داخلنا موجود مبدؤها الثابت‪ ،‬وهي مطلقة كما أكد الفيلسوف‬
‫األلماني العتيد‪ .‬ومصدرها األساس هو األنا أو الضمير‪ ،‬ذلك األساس الثابت والواضح‬
‫لدينا جميعا ندركه من خالل مراجعة وجود األنا‪ ،‬وليس من خالل شبكة من المفاهيم‬
‫ال يؤكد وجودها أو يدعمه سوى أمنيات إيمانويل كانت الطيبة‪.‬‬
‫فالكون مكون من نجوم داخل مجرات بأعداد هائلة‪ ،‬والشمس نجم من تلك النجوم‬
‫يجري في مجرة من تلك المجرات ويجري وراءه متموجا كويكب أصغر من حبة رمل‬
‫على الشاطئ إذا قورن بحجم الكون‪ ،‬في خضم زمان مفتوح على الالنهاية‪ .‬في كل‬
‫ذلك‪ ،‬ما أهمية اهتزاز قشرة على أحد جوانب حبة الرمل الكوكبية (األرض)‪ ،‬وما أهمية‬
‫مقتل مليون إنسان؟ إنه مجرد حدث هامشي في تاريخ الوجود أقل قيمة من سقوط ورقة‬
‫من شجرة في إحدى الغابات‪ .‬فالوجود إنما هو فوق الخير والشر‪ ،‬وال يمكن النظر له‬
‫من خالل هذين المفهومين‪ .‬إنما الحقيقة المطلقة وجوديا وأخالقيا تتمثل بالضمير‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪136‬‬
‫فوضى الفالسفة‪:‬‬
‫كثير من الفالسفة لم يدرك هذا االعتبار ولم يتساءل عن البعد الوجودي لمفهومي‬
‫الخير والشر‪ .‬الفلسفات الدينية افترضت أن مفهومي الخير والشر مفهومان وجوديان‬
‫شرا وأن اﷲ اختار‬
‫خيرا وثمة ًّ‬
‫أصيالن كافتراضهم لمفهومي الوجود والعدم‪ ،‬فقررت ثمة ً‬
‫الخير‪ ،‬أو القول بأن الخير هو الموجود وأن الشر هو فقط انعدام الخير‪ ،‬وما شابه ذلك من‬
‫تالعب بالكلمات ومخادعات بهدف تبسيط األمور وصناعة صورة جميلة كاذبة لتلوين‬
‫واقع معين أو لتدعيم منظومة فكرية دينية خدمة لمؤسسة دينية ما ألهداف أيديولوجية‪.‬‬
‫والحق أن اﷲ (الحقيقة المطلقة‪ ،‬واجب الوجود‪ ،‬كما عرضنا رؤيتنا) هو الوجود‪،‬‬
‫والوجود هو اﷲ‪ ،‬وال معنى للعدم بحكم اللغة التي يستخدمها اإلنسان بوصفه طرفا‬
‫فاعال في الوجود‪ ،‬ولوال اللغة لما كان الوجود إذ ال إمكانية للوجود من دون اللغة‪ ،‬وال‬
‫يمكن استخدام اللغة دون اإلشارة للوجود‪ ،‬مثلما أن اللغة ال تستوعب العدم‪.‬‬
‫وكذلك فإن اﷲ لم يختر أن يكون خيرا أو أن يكون شرا‪ ،‬فالوجود ليس خيرا وال شرا‬
‫بل هو فوق ذلك‪ .‬قد تكون أمانينا أوهمتنا أن اﷲ خير وتوافقت األديان مع أمنياتنا إذ ال‬
‫بد لها أن تتوافق مع أمانينا بأن يكون اﷲ خيرا‪ ،‬وأال يكون الموت هو النهاية المطلقة‪.‬‬
‫والحق أن هذا تقليل من شأن اﷲ أن يحصر في خيارين (خير أو شر) ويفرض عليه‬
‫أحدهما‪ ،‬كما فعلت األديان بأن فرضت عليه الخير‪ ،‬وأقصت عنه الشر فمنها ما افترض‬
‫وجود إله آخر للشر ومنها ما عزاه للشيطان أو ما شابه‪ .‬ومن الطريف أن نجد شوبنهاور‪،‬‬
‫قد قال بإله واحد (كما هو اﷲ في األديان) وعزا إليه الشر نافيا الخير من الوجود واصفا‬
‫الوجود كله بأنه شر ألنه من نتاج إله شرير‪ .‬وأرى أن شوبنهاور يساوق في تفكيره تفكير‬
‫األديان في تعسفية وصف اﷲ بأحد األمرين (خير أو شر)‪ .‬وال وجود لسبب وجودي‬
‫وال منطقي الفتراض أن اﷲ خير‪ ،‬وليس هذا االفتراض من البديهيات‪ ،‬وال هو من‬
‫القضايا التحليلية‪ ،‬كما يستحيل على التجربة إثبات أن اﷲ خير أو أنه شر‪ .‬الفرق بين‬
‫شوبنهاور واألديان أنه تبنى الموقف اآلخر ووصم اﷲ بأنه شر‪ ،‬كما ذهب أصحاب‬
‫األديان وفالسفتها بأن وصفوه بالخير‪.‬‬
‫والمسألة أيضا‪ ،‬في وضع هذين االختيارين المتناقضين (خير وشر)‪ ،‬متعلقة باللغة‬
‫فكل مفهوم له نقيضه‪ .‬ولكن من الناحية الفكرية والوجودية نرى أن هذين المفهومين‬
‫‪137‬‬ ‫رشلاو ريخلا اعبنم‬

‫إنما هما مفهومان جزئيان متعلقان بوقائع عالمنا الجزئي المرتبط بحيواتنا اليومية‪،‬‬
‫وهما ليسا من المفاهيم التي ينبغي أن يتصف بها اﷲ أو الوجود‪ .‬هناك وجود‪ ،‬والعدم‬
‫ال يمكن الحديث عنه وال تستوعبه اللغة‪ ،‬وهذا الوجود أعلى من مفاهيم الخير والشر‬
‫مثلما هو أعلى من مفاهيم الليل والنهار‪ ،‬اذ الليل والنهار مفهومان أرض َّيان‪ ،‬كذلك‬
‫الخير والشر مفهومان أرضيان‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫وبهذا فإن فكرة إيمانويل كانت تنقلب تماما‪ ،‬فــ (النومين) الكانتي أو الشيء في ذاته‬
‫الذي رأى كانت أنه ال سبيل إلى التأكد من وجوده‪ ،‬نرى أنه هو الشيء الوحيد الذي يمكن‬
‫التأكد من وجوده على الرغم من صعوبة اإلمساك به معرفيا‪ ،‬هذا النومين هو الضمير‬
‫الواجب الوجود‪ ،‬وهو ضروري إلثبات كل ما عداه‪ .‬هذا النومين هو الجوهر في كل‬
‫شيء‪ ،‬إنه ضمير هذا الكيان الذي البد منه‪ ،‬والذي به يبدأ إدراكي للوجود من خالل (األنا‬
‫موجود) التي من دونها ال يمكن الوصول إلى شيء عداها‪ .‬إنه الشيء في ذاته في كل‬
‫األشياء‪ .‬أما ما أسميه أعراضا ومحموالت‪ ،‬فهي الجانب المقابل للضمير وهي الجانب‬
‫اآلخر من الوجود‪ .‬وباجتماع الضمير مع هذه األعراض والمحموالت يظهر الوجود‪ .‬هذه‬
‫التي سميتها اصطالحا وجريا على معتاد التسميات الفلسفية أعراضا ومحموالت‪ ،‬هي‬
‫ليست مجرد أعراض ومحموالت‪ ،‬بل هي الجانب اآلخر المكمل لهذا الوجود بصورته‬
‫الفيزيائية الظاهرة في العالم‪ ،‬التي يبدو كأنها كل ما هنالك‪ .‬هذه المكمالت هي سبب‬
‫الشر في العالم‪( .‬الشر الطبيعي) فالضمير ليس خيرا وال شرا بحد ذاته‪ ،‬هو باألحرى فوق‬
‫ثنائية الخير والشر اللذين يظهران من اجتماع هذه الظواهر (األعراض‪ ،‬المحموالت)‪.‬‬
‫الشرور هي من موجودات العالم المادي مثل الخير ومثل كل األفعال والحركات‪.‬‬
‫بتجريد الضمير فإن الناتج يكون عالما آخر غير العالم الفيزيائي إنه عالم «الضمير»‪.‬‬
‫األنا التي ليس بالضرورة أن تكون واحدة أو كثيرة‪ .‬فمفاهيم الوحدة والكثرة هي من‬
‫متطلبات الفيزياء وعالمنا المعروف واللغة‪ .‬هو ضمير له تمثالت في جسدي وجسدك‬
‫وفي األشجار والبحار واألقداح‪.‬‬

‫‪ .23‬النومني أو اليشء يف ذاته كام يرى إيامنويل كانت‪ ،‬تستحيل معرفته أو التأكد من وجوده‪ .‬وهو اجلوهر‬
‫احلامل جلميع األعراض‪ ،‬مجيع األعراض يمكن معرفتها وإقرار وجودها‪ ،‬يف حني أن النومني عيص‬
‫عىل املعرفة أو إثبات الوجود‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪138‬‬
‫النتيجة‪:‬‬
‫هكذا يكون الشر والخير من نواتج التقاء الـضمير بالمظاهر المادية للعالم‪ ،‬فتكون‬
‫الشرور والخيرات مرتبطة بالعالم الطبيعي وهي من طبيعة عالم المظاهر‪ .‬أما الضمير‬
‫بحد ذاته فال يمكن أن تنطبق عليه هذه األوصاف‪ ،‬أوصاف الخير والشر والعدد‪...‬إلخ‪.‬‬
‫والجسد محكوم بحتمية الفيزياء والبيولوجيا والفسيولوجيا والوقائع والمجتمع‬
‫والنفس‪ .‬يوجد الدماغ الذي يسير هذا الجسد على وفق االختيارات التي تتيحها‬
‫الظروف المحيطة من طبيعة وصحة وحالة نفسية ووضع اجتماعي‪ ،‬فيقوم الدماغ‬
‫مضطرا باالختيار‪ ،‬وغايته األساسية هي حفظ بقاء هذا الجسد‪ .‬أما الضمير فهو حر‬
‫من كل ذلك‪ ،‬ألن حفظ الجسد ليس غايته الوجودية‪ ،‬فليس بقاؤه من بقائه‪ ،‬ألنه غير‬
‫قابل للفناء وهو بسيط وليس قابال للتفكك أو التحلل إلى أجزاء أبسط منه كما يحدث‬
‫للجسد‪ .‬وكل االرتباكات وكل الشر يظهر عندما يتداخل األمر ويحدث نسيان الضمير‪،‬‬
‫ويكون الهم األوحد هو حفظ الجسد الذي هو زائل ال محالة مهما حاول اإلنسان‪.‬‬
‫مع نسيان الضمير‪ ،‬أو تعامل اإلنسان مع ذاته بوصفه أحد مكونات الوسط‬
‫االجتماعي فقط وليس بصفته ذاتا مركزية أو بوصفه واجب الوجود الذي يستحيل‬
‫افتراض انعدامه‪ ،‬تصبح غاية اإلنسان القصوى هي الحفاظ على جسده (أو مصالحه‬
‫أو الفئة التي ينتمي إليها‪ .‬وفي حاالت الشهداء والبطوالت‪ ،‬فالمعتاد أن يصنف الفعل‬
‫بطوليا طالما كان متجها خارج الذات تجاه مصلحة الجماعة‪ .‬وهنا تدخل األيديولوجيا‬
‫كواضع لمعايير البطولة‪ ،‬فالبطل هو المدافع عن الجماعة ومصالحها والمضحي من‬
‫أجلها‪ .‬وحتى البطل األخالقي في هذا السياق‪ ،‬هو من يسن للجماعة المثل األعلى أو‬
‫يصبح النموذج األسمى لها)‪ ،‬وهذا هو الوجه األبرز في حياة اإلنسان‪ ،‬ذلك أن اإلنسان‬
‫يقضي معظم حياته في حالة نسيان شبه تام للضمير أو األنا‪.24‬‬

‫‪ .24‬منذر جلوب؛ الوعي والعدم‪ ،‬حتت الطبع‪.‬‬


‫دراسات‬

‫الشر ومفاجئات الديالكتيك الهيغلي‬


‫ّ‬
‫د‪ .‬حسين الهنداوي‬
‫‪1‬‬ ‫______________________________________________‬

‫دائما في فلسفة الفيلسوف األلماني‪ ،‬جورج فلهلم‬


‫وحي وراهن ً‬
‫ّ‬ ‫ما هو عبقري‬
‫فردريش هيغل (‪ 1770‬ــ ‪ )1831‬ليس في نظرنا سوى الديالكتيك الذي ليس بدوره‬
‫سوى االستمرار السرمدي للصيرورة‪ ،‬أي للصراع الخالق للتجدد‪ ،‬وللنفي الخالق‬
‫لنفي النفي من جديد‪ ،‬وللموت المنجب للحياة‪ ،‬وللحياة األفضل دائما كضرورات‬
‫كونية بذاتها‪.‬‬
‫هذا المنظور المطروح كمنهج لديه يع ّبر عن نفسه بشكل ّ‬
‫خلق وفي مجاالت‬
‫وغنى أيضا حين يتعلق بالتاريخ‬
‫ً‬ ‫كثيرة‪ .‬إال أنه يكون في حالته األكثر أهمية وأصالة‬
‫اإلنساني الفعلي المحكوم بالتشكل من تصورات وتفسيرات وأحكام متناقضة‬
‫وغير محسومة بالضرورة‪ ،‬والمفعم بالتجاذب والحيوية ال سيما إذا عددناه واحدا‬
‫وعقالن ًّيا وح ًّيا‪.‬‬

‫نفي النفي‬
‫بموجب حركة ديالكتيكية صارمة وتلقائية‪ ،‬وحال وصولها إلى واقع جديد‪،‬‬
‫تخلق الروح فكرة جديدة متقدمة عن نفسها‪ ،‬فكرة هي نفي ذلك الواقع الجديد‬
‫المحقق ثم تنخرط في العمل بهدف التحقيق الملموس لهذه الفكرة الجديدة‪ .‬إن‬
‫وخلقة وسلسلة من التطورات حتى‬‫ّ‬ ‫هذه السيرورة هي ثورة دائمة‪ ،‬ثورة جذرية‬
‫الظفر النهائي للعقل وسيرورة يكون فيها لكل عنصر‪ ،‬سلبي أو أيجابي‪ ،‬دوره‬
‫المحدد بدقة وضرورته المطلقة بما في ذلك الشر والجريمة واالنتقام والحرب‪.‬‬

‫‪ 1‬باحث عراقي متخصص يف الفلسفة اهليغلية‪.‬‬


‫يوادنهلا نيسح ‪.‬د‬ ‫‪140‬‬
‫ويميز هيغل في منطقه الخاص بالتاريخ بين ثالث لحظات أو كينونات عقالنية‬
‫متعاقبة‪ ،‬تولد الالحقة منها في رحم السابقة عليها وتنفيها‪ ،‬ولكل منها أداة ومضمون‬
‫وعيها الخاص بها‪ ،‬وهي أوال الكينونة الق ْبلية الوجود بذاتها ولذاتها وكذلك‬
‫تحديداتها‪ ،‬وهي لحظة متناهية (وجود‪ ،‬حالة) لكنها مجردة كمضمون ومدركة‬
‫الحسي كوعي ناقص‪ .‬ثم الكينونة الديالكتيكية بتحديداتها‬
‫ّ‬ ‫بالحدس أو اإلدراك‬
‫الخاصة والمنبثقة من تلك الكينونة القبلية لكن كضدها أي كمحققة لنفيها الذاتي‬
‫وانتقالها إلى وفي نقيضها‪ ،‬والمعتمدة على اإلدراك التجريدي كوعي‪ ،‬فيما تبدو‬
‫اللحظة الثالثة كالمحصلة اإليجابية التي تنظم وحدة التحديدات المتضادة‪ ،‬وتحيط‬
‫باإليجابي المتضمن في حلها والمحقق انتقالها إلى وفي (وجود جديد) وحيث‬
‫المفهوم (الفلسفي) هو أداة الوعي فيها بمستوياته المختلفة‪.‬‬
‫بال ريب‪ ،‬إن هيغل يؤكد أن هذا التفريق بين ثالث لحظات أو كينونات عقالنية‪،‬‬
‫ينبغي أن تؤخذ مجازا ومؤقتا وحسب‪ ،‬وأن يقتصر على اختصاص كل منها‪ ،‬نظرا‬
‫إلى أن األمر يتعلق بما هو متحد في ذاته ومتكامل في السيرورة التطورية الكلية‬
‫لتحقق العقل في الوجود‪ .‬لكن هذا اإلقرار ال ينفي حقيقة أن بعدً ا هرم ًّيا يتمخض‬
‫بالضرورة عن هذا التقسيم االفتراضي خالقا تراتبية تفوق ّية وظيفية وبالتالي أخالقية‬
‫ضمنا حتى للوعي‪ ،‬مهما كان مستوى التجريد عال ًيا‪ .‬والسيرورة المجردة لهذا‬
‫الديالكتيك‪ ،‬نجدها قد شرحت بشكل مطول في كتابه (فينومينولوجيا الروح)‪،‬‬
‫المكرس «لدراسة تاريخ الوعي الكوني» على حد تعبير هيغل‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ففي ضوء هذا المنهج‪ ،‬الذي يطبقه على تطور األديان وأنماط الدول‬
‫والنظم السياسية والجمالية والفنية والفلسفية‪ ،‬تبدو اللحظة الثانية‪ ،‬لحظة النفي‪،‬‬
‫سلبية بالضرورة للوهلة األولى وبالتالي تحمل مضمونا «شريرا» نظرا إلى أنها تبدو‬
‫كتدمير جذري وحسب‪ .‬إال أن األمر ليس على هذه الدرجة من البساطة والحسم‪.‬‬
‫فهذا الفعل السلبي ظاهريا (التدمير) ضروري نظرا إلى أنه يحمل في ذاته نقيضه هو‬
‫استنتاجا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أيضا ما يسمح بالحديث عن «إيجابية الشر»‬
‫بكلمة أخرى‪ ،‬وبموجب الديالكتيك الهيغلي القائم على إقرار مطلق بـ «حتمية»‬
‫التناقض‪ ،‬يصبح «النفي» أو «النقض» بمثابة المعادل المفهومي لما كان يسمى‬
‫‪141‬‬ ‫يلغيهلا كيتكلايدلا تائجافمو ّرشلا‬

‫«الشر» في الفكر السابق عليه‪ ،‬والذي يبدو عندئذ ثاني قوانين الديالكتيك الثالثة‬
‫أحيانا (وحدة االضداد‪ ،‬نفي النفي‪ ،‬وحدة جديدة لألضداد) التي تعمل معا في‬
‫ً‬
‫أشكال معقدة‬ ‫عملية يفضي فيها (التراكم الكمي) إلى (تغير نوعي)‪ ،‬آخذ ًة أحيانًا‬
‫للتقدم يستخدمها العقل المطلق كإحدى الوسائط واألدوات لتحقيق تجلياته في‬
‫العالم الملموس وبالتالي في تحقيق غاياته على مسرح التاريخ الكوني ودائما عبر‬
‫اإلنسان‪.‬‬
‫وهذا االستخدام ومهما كانت النتائج التدميرية المترتبة عنه‪ ،‬ال يعني أن هذا‬
‫الفيلسوف يبرر المكر أو الخداع كقيمة أخالقية‪ ،‬بل هو يتعامل معه بوصفه فعال‬
‫حيويا في تقدم التاريخ وفي فهم مستوى هذا التقدم‪ .‬وبالفعل فهو ينطلق هنا من‬
‫الفكرة القائلة بأن الروح المطلق تترك لنفسها أن تعرف من خالل نقيضها‪ ،‬أي من‬
‫خالل ما هو مادي أو طبيعي‪ ،‬كما يتجلى هذا النقيض في الديناميكية الديالكتيكية‬
‫لمسار التاريخ الكوني التي تكشف على مستوى مضمون الوعي مثال أن الوعي‬
‫الطبيعي المؤسس على الحدس الفطري والذي يتماهى مع المبدأ اإلفريقي عند‬
‫الحسي المؤسس على اإلدراك العقلي المباشر الذي يتماهى‬
‫ّ‬ ‫هيغل‪ ،‬ينفيه الوعي‬
‫لديه مع المبدأ اآلسيوي‪ ،‬الذي بدوره ينفيه الوعي العقلي المؤسس على الفهم‬
‫والذي يتماهى مع المبدأ الجرماني أو األوربي‪ .‬ولنالحظ أن هناك أيضا هرمية‬
‫في مبادئ الطبيعة حيث يمثل مبدأ السهول نفيا لمبدأ األراضي المرتفعة (الجبال‬
‫والصحارى) فيما البحر هو نفي لمبدأ السهول‪.‬‬
‫إزاء ذلك فإن مبدأ الفن الكالسيكي على مستوى الوعي الفني يبدو نفيا لمبدأ‬
‫الفن الرمزي فيما ينتفي المبدأ الكالسيكي بمبدأ الفن الرومانتيكي‪.‬‬
‫وكذلك الحال على مستوى المضمون الجوهري لألديان إذ هناك من جهة هرمية‬
‫خارجية يضع فيها هيغل مبدأ الوحدانية اإللهية المجردة المقترن بالدولة االستبدادية‬
‫الذي يطلق حركة الوعي نحو الكونية‪ ،‬والذي ينسبه للروح الشرقية‪ ،‬كنفي مطلق‬
‫لمبدأ ديانة الطبيعة المنتجة لـ (دولة) الطبيعة في نظره‪ ،‬فيما يضع ديانة المطلق‬
‫المقترنة بدولة الحرية الذاتية كنفي لمبدأ ديانة الوحدانية الشرقية‪ ،‬تقابلها هرمية‬
‫داخلية صريحة يبدو مبدأ الروحانية اإلسالمية فيها (وحدانية اﷲ كروح مجردة)‬
‫يوادنهلا نيسح ‪.‬د‬ ‫‪142‬‬
‫نفيا لمبدأ المسيحية الكاثوليكية وبالتالي أعلى من األخيرة في فكرتها عن الماهية‬
‫اإللهية (التثليث الجسماني) فيما يبدو مبدأ المسيحية اللوثرية (التثليث الروحاني)‬
‫نفيا للمبدأ اإلسالمي أعاله وبالتالي أعلى مضمونا منه بخصوص حقيقة العالقة بين‬
‫اﷲ واإلنسان‪.‬‬
‫والتحليل نفسه يصح فيما يخص موضوع نمط الدولة ووعي الحرية المترتب‬
‫عليه‪ .‬فالهيمنة المطلقة لإلرادة الفطرية أو العشوائية التي تتماهى مع الفردانية الطبيعية‬
‫تنقلب في نظر هيغل‪ ،‬إلى النفي المطلق لكل حرية في الدولة االستبدادية المنبثقة‬
‫عن مبدأ الروح الشرقية‪ ،‬ما يجعلها تنتقل مباشرة إلى القطب اآلخر‪ ،‬أي إلى النفي‬
‫المطلق لكل فردانية ذاتية وحرة‪ ،‬ولذلك ترزح الروح الشرقية تحت الضغط المباشر‬
‫لموضوعها إلى درجة تمنع اإلنسان من الخالص من أعباء استبداد «المطلق»‬
‫والتحرر من كابوسه الجاثم عليه وتأكيد ذاته ضمن حريته الذاتية‪ .‬وهكذا‪ ،‬فمبدأ‬
‫الدولة في الشرق ينفيه مبدأ الدولة اإلغريقية‪ ،‬الذي ينفيه بدوره مبدأ الدولة الجرمانية‪،‬‬
‫كما نستنتجه من قول هيغل‪« :‬الشرقيون ال يعرفون أن الروح أو اإلنسان حر بصفته‬
‫حرا واحدً ا‬
‫أحرارا‪ .‬إنهم يعرفون فقط أن ًّ‬
‫ً‬ ‫هذه‪ .‬وألنهم ال يعرفون ذلك فهم ليسوا‬
‫هناك‪ ،‬وهذا الحر الواحد ليس سوى المستبد‪ .‬اإلغريق والرومان يعرفون فقط أن‬
‫وأخيرا أن الجرمانيين هم أول من‬
‫ً‬ ‫بعض الناس أحرار‪ ،‬وليس اإلنسان باعتباره إنسانًا‪.‬‬
‫توصل إلى إدراك أن اإلنسان حر باعتباره إنسانًا‪ ،‬وأن الروح طبيعته الخاصة فعل ًّيا»‪.2‬‬

‫وحدة الموت والحياة‬


‫خاصا من قوانين‬
‫وهكذا‪ ،‬فعبر «وحدة االضداد» و«نفي النفي» يضع هيغل قانونًا ًّ‬
‫الصيرورة التاريخية‪ ،‬كما تراها فلسفته‪ .‬فاإلرادة اإللهية‪ ،‬بالتغيير أو التدمير أحيانا‪،‬‬
‫هي القوة الكونية العاقلة الواعية التي تخلق سبب التغيير وفعله موضوع ًّيا‪ .‬وبهذا‬
‫المعنى تحديدً ا ينبغي تفسير موت ووالدة الدول واألمم في فلسفته كما في قوله «من‬
‫الموت تولد حياة جديدة»‪ 3‬متأثرا بشكل مباشر على األرجح بفكرة فلسفية كبرى‬

‫‪2. La Raison dans l’Histoire, pp. 83 - 84‬‬


‫‪3. La Raison dans l'Histoire, p. 54.‬‬
‫‪143‬‬ ‫يلغيهلا كيتكلايدلا تائجافمو ّرشلا‬

‫وشهيرة مستلهمة بشكل أو آخر من القرآن الكريم‪ ،‬وهي فكرة أساسية في العقيدة‬
‫ت‬‫اإلسالمية‪ ،‬عبرت عنها اآلية ‪ 27‬من سورة آل عمران‪[ :‬ي ْخ ِرج ا ْلحي ِمن ا ْلمي ِ‬
‫ُ ُ َ َّ َ َ ِّ‬
‫َو ُي ْخ ِر ُج ا ْل َم ِّي َت ِم َن ا ْل َح ِّي]‪.4‬‬
‫ويعزز هذه الفرضية كون هيغل يؤكد‪ ،‬بشكل واضح‪ ،‬في مقدمته حول «فلسفة‬
‫التاريخ»‪ ،‬أن فكرته من الموت تولد حياة جديدة‪ ،‬هي في األصل من إبداع الشرقيين‪،‬‬
‫و«لعلها الفكرة األعظم لديهم‪ ،‬والفكرة األسمى في تصوراتهم الميتافيزيقية»‪ .‬غير‬
‫أن هيغل يخطئ في اعتقاده أن مضمون هذه الفكرة‪ ،‬يتعلق هنا‪ ،‬بحياة الجسد أكثر‬
‫منه بحياة الروح‪ .‬وبالطبع‪ ،‬يظل من الممكن جدً ا أن يكون مصدره معرفة مباشرة أو‬
‫غير مباشرة بالنص القرآني المذكور عينه كما نفترض‪ ،‬فهيغل يذكر القرآن الكريم‬
‫مرارا في كتاباته‪ ،‬وربما كان قد اطلع على إحدى ترجماته األوربية العديدة‪.5‬‬
‫ً‬

‫مكر العقل‬
‫بيد أن هناك مفهو ًما آخر ذا أهمية استثنائية كبرى‪ ،‬في المنهج الديالكتيكي‬
‫أيضا‪.‬‬
‫الهيغلي‪ ،‬يتعلق بتفسير الصيرورة التاريخية خاصة‪ ،‬يوحي بأصول قرآنية له هو ً‬
‫ونقصد به مفهوم «مكر العقل»‪ .‬أما مضمونه لديه‪ ،‬فهو باختصار شديد كما يلي‪:‬‬
‫يقر هيغل بوجود ديالكتيك تلقائي هو الذي ينتج التوافق العميق بين الحرية الفردية‬
‫والضرورة الكونية‪ ،‬إنه ما يسميه بـ«مكر العقل» وهو مكر يقود اإلنسان من دون أن‬
‫يدري إلى خوض معركة العقل المطلق بدال منه‪ ،‬في الوقت نفسه الذي يخوض فيه‬
‫معركته من أجل تحقيق أهدافه المحددة‪ .‬وبالفعل إذا كان اإلنسان يخرج ظافرا أو‬
‫منتصرا في هذه المعركة‪ ،‬فإن ظفره أو انتصاره ليس إال انتصارا مؤقتًا محدو ًدا‪ ،‬على‬
‫األقل بسبب استهالكه هو أيضا في المعركة‪.‬‬
‫وفكرة «مكر العقل» هذه‪ ،‬يشير إليها هيغل‪ ،‬بشكل خاص في مدخل دروسه‬
‫حول «فلسفة التاريخ»‪ ،‬إال أننا نجدها‪ ،‬في «موسوعة العلوم الفلسفية» كما يلي‪« :‬إن‬

‫‪ .4‬الروم‪.19 ،‬‬
‫‪5. Hegel, Leçons sur l’histoire de la philosophie, trad. Garniron, Paris, Vrin, 6 vol., P.‬‬
‫‪1722.‬‬
‫يوادنهلا نيسح ‪.‬د‬ ‫‪144‬‬
‫العقل ماكر كما هو قوي‪ .‬ويتمثل المكر بشكل عام في النشاط التوسطي الذي‪ ،‬وعبر‬
‫تركه الموضوعات منسجمة مع طبيعتها الخاصة‪ ،‬يثير بعضها على بعض‪ ،‬ويستهلك‬
‫البعض في صراعه مع البعض اآلخر‪ ،‬دون تدخله المباشر في هذه السيرورة‪ ،‬على‬
‫الرغم من أنه ال يقوم بذلك إال من أجل إنجاز هدفه‪ .‬ونستطيع القول بهذا المعنى‪،‬‬
‫مكرا مطل ًقا‪ .‬فال ّله يترك البشر‬
‫أن العناية اإللهية تتصرف حيال العالم‪ ،‬كما لو كانت ً‬
‫يندفعون في نشاط يحقق رغباتهم ومصالحهم الخاصة‪ ،‬إال أنه ينتج من هذا االندفاع‬
‫تحقيق غايات أخرى غير تلك التي جرى االستعداد‪ ،‬باألصل‪ ،‬لتحقيقها من قبل أولئك‬
‫الذين يتم استخدامهم هنا»‪.6‬‬
‫من الواضح‪ ،‬إذن‪ ،‬أن مضمون مبدأ «مكر العقل»‪ ،‬عند هيغل‪ ،‬ال يختلف جوهر ًيا‬
‫ون َو َي ْمك ُُر اﷲُ‬ ‫[و َي ْمك ُُر َ‬ ‫عن ذلك الذي قد نستطيع استنتاجه من اآلية القرآنية المعروفة َ‬
‫اك ِري َن]‪ .7‬وما يعزز لدينا ذلك‪ ،‬هو أن هذه الفرضية‪ ،‬تجد ما يبررها في‬ ‫واﷲُ َخير ا ْلم ِ‬
‫ُْ َ‬ ‫َ‬
‫[وإِ َذا َأ َر ْدنَا َأن ن ُّْه ِل َك َق ْر َي ًة‬
‫النموذج التطبيقي الذي يضربه القرآن لذلك‪ ،‬في القول‪َ :‬‬
‫َاها تَدْ ِم ًيرا]‪.8‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َأ َم ْرنَا ُمت َْرف َيها َف َف َس ُقوا ف َيها َف َح َّق َع َل ْي َها ا ْل َق ْو ُل َفدَ َّم ْرن َ‬
‫أيضا يستعمله هيغل في المثال التوضيحي الذي يقدمه‪ ،‬والذي ال يكاد‬ ‫بهذا المعنى ً‬
‫مثل أن يقوم رجل‬ ‫يختلف‪ ،‬في الواقع‪ ،‬عن المثال القرآني أعاله‪ .‬يقول هيغل‪« :‬لنتصور ً‬
‫عادل ربما‪ ،‬من ظلم لحق به منه‪ .‬وهذا الفعل المباشر‪،‬‬ ‫بوضع النار في بيت آلخر انتقا ًما‪ً ،‬‬
‫سيؤدي إلى نتائج أخرى‪ ،‬غير تلك التي استهدفها‪ ،‬وال عالقة لها بفعله المباشر‪ .‬فبينما‬
‫كان الهدف األصلي من ذلك الفعل‪ ،‬ال يتجاوز إحداث حرق في عمود من ذلك البيت‪،‬‬
‫إذا به يتسبب‪ ،‬دون إرادة الفاعل‪ ،‬بإحراق البيت كله والبيوت المجاورة‪ ،‬وربما بيته هو‬
‫نفسه وكل بيوت الحي»‪ .9‬كما قد يكون سب ًبا في إزهاق أرواح‪ ،‬لم يفكر قط ًعا باإلساءة‬
‫إليها‪ ،‬تما ًما كما أن مترفي القرية‪ ،‬في اآلية القرآنية‪ ،‬أعاله‪ ،‬لم يعرفوا أنهم يدمرون‬
‫أنفسهم باستجابتهم لنزوع الفسق‪ ،‬الذي استسلموا له‪.‬‬

‫‪6. Hegel, Encyclopédie des sciences, trad. Bourgeois, Paris, Vrin, seconde édition, 1979,‬‬
‫‪P. 614.‬‬
‫‪ .7‬األنفال‪.30 ،‬‬
‫‪ .8‬اإلرساء‪.16 ،‬‬
‫‪9. La Raison dans l’Histoire, P. 111.‬‬
‫‪145‬‬ ‫يلغيهلا كيتكلايدلا تائجافمو ّرشلا‬

‫فاالنتقام في المثال أعاله ليس شرا على اإلطالق بل هو فعل نفي في المعادلة‬
‫الديالكتيكية الكونية لكل اإلنتاج البشري‪.‬‬
‫وقد يكون هيغل يتكلم عن مكر للعقل في التاريخ كما تم الكالم في المسيحية‬
‫عن التدابير الخفية للعناية اإللهية بتسخير رجال العهد القديم وطموحاتهم فوق‬
‫األرض لكي يجسدوا سابقا ودون علم منهم قدوم المسيح ودعوته التي عرف بظاهرة‬
‫«المسيحانية» التي انتشرت بين اليهود بشكل مثير إلى انتظار المسيح قبل قدومه على‬
‫أساس أنه سيجيء لبعث مجد بني إسرائيل على األرض‪ .‬بيد أن هيغل «يعلمن هذا‬
‫التصور للعناية اإللهية‪ ،‬متجاوزا كل رؤية أخالقية للعالم» كما يرى هيبوليت‪.10‬‬

‫إيجابية الشر‬
‫مفهوم «الخير المطلق» عند هيغل يدل على اﷲ ويسميه «روح العالم» الذي يقترن‬
‫لديه بمفهوم وحدة وجود جوهرية متجددة بسرمديتها‪ ،‬تسمو على األضداد وتشتمل‬
‫عليها في آن‪ .‬ولئن كان «النفي» يتضمن فكرة الشر باعتبارها سلبا‪ ،‬فإنه يتضمن فكرة‬
‫الخير باعتبارها إيجابا أيضا وهما لحظتان متكاملتان في المطلق الذي يسمو عليهما‬
‫محضا في تعريفه األسمى‪.‬‬
‫خيرا ً‬
‫م ًعا باعتباره ً‬
‫وهكذا‪ ،‬فللشر بصفته نف ًيا ضرورة أو وظيفة ميتافيزيقية أساسية وحاسمة في فلسفة‬
‫هيغل وفلسفته للتاريخ بوجه خاص‪ .‬أي إنه ليس ظاهرة اجتماعية أو أخالقية أو قيمية‬
‫لديه وال تع ّبر تاليا عن ممارسة سلوكية عدوانية أو سواها‪ ،‬وذات عالقة بالطبيعة البشرية‬
‫الملموسة‪ .‬بل هو فعل فلسفي أو معادل منطقي كوني له حدوده وشروطه الغيبية‬
‫وحركته الالمرئية الخاصة وأهدافه فوق البشرية المك ّلف بتحقيقها في إطار المهمة‬
‫الديالكتيكية الكونية التي يوكلها له «روح العالم» الذي يقود مسيرة تاريخ العالم إلى‬
‫األمام ودائما إلى األمام وقد تدفع اإلنسانية له ثمنا غال ًيا هنا أو هناك‪.‬‬
‫إن ما يميز هذه المسيرة هي أنها أساسا‪ ،‬ليست إال مسيرة روح العالم نفسه نحو بلوغ‬
‫الكمال في فهم حقيقته الجوهرية كعقل مطلق يتأمل ذاته بذاته‪ ،‬وفي تحقيق تمظهرها‬

‫‪ .10‬جان هيبوليت‪ ،‬مكر العقل والتاريخ عند هيغل‪ ،‬ترمجة‪ :‬فؤاد بن أمحد‪ ،‬أنفاس نت‪ ،‬نسخة الكرتونية‪،‬‬
‫‪.2016/1/30‬‬
‫يوادنهلا نيسح ‪.‬د‬ ‫‪146‬‬
‫األسمى في العالم الملموس‪ .‬ما يعني أن اإلنسان الطبيعي‪ ،‬أي اإلنسان التاريخي‬
‫الفعلي‪ ،‬وكعقل جزئي‪ ،‬هو األداة التي يستخدمها اﷲ لتحقيق غايته الكونية بأن يتجلى‪،‬‬
‫درك‪ ،‬على حقيقته كعقل محض‪ .‬ومن هنا مصدر مفهومي «إيجابية الشر» و«مكر‬
‫و ُي َ‬
‫العقل» أيضا في الفلسفة الهيغلية كما بيناه‪ .‬فال دور لإلنسان في الوجود إال لتحقيق‬
‫تجليات العقل المطلق في العالم الملموس‪ .‬بل إن اإلنسان ال يوجد إال لكي يكون‬
‫وقودا في هذا التحقق الكوني للعقل‪ .‬وعليه ال معنى لدى هيغل للسؤال التالي‪ :‬هل‬
‫اإلنسان شرير بطبيعته أم خير بطبيعته؟ أو هل هو أقرب إلى طبيعة الخير أم طبيعة الشر؟‬
‫فهيغل‪ ،‬ورغم استلهامه الواضح للكثير من المفاهيم الغربية والشرقية في هذا‬
‫المجال كما رأينا‪ ،‬يبدو هنا في قطيعة منهجية مع كل الفكر الفلسفي وحتى الديني‬
‫السابق عليه بما فيه األحدث واألكثر نفوذا في الثقافة األوربية في عصره‪ .‬فهو ال يربط‬
‫العقل البشري بنزعة سلوكية محددة كما فعل مكيافيلي الذي غلب نزعة الشر على‬
‫الخير في البشر لتبرير تسليط الحاكم‪ ،‬وكذلك فعل هوبز بمقولته المرعبة (اإلنسان‬
‫ذئب ألخيه اإلنسان) أو كما فعل جان جاك روسو بقوله‪« :‬إن اإلنسان ُيولد خ ّيرا أو‬
‫طي ًبا‪ ،‬لكن المجتمع بمؤسساته هو الذي يفسد األفراد و ُيبرز كوامن الشر الموجودة‬
‫فيهم»‪.‬‬
‫وبالفعل‪ ،‬يتبنى هيغل في موضوع الشر منظورا مختلفا جذريا عن كل الفكر السابق‬
‫حيث ينقل القضية من حالها كظاهرة سوسيولوجية أو أخالقية مرتبطة بالحالة البشرية‪،‬‬
‫ومن بعدها كحالة الهوتية مرتبطة بالدين‪ ،‬إلى طرحها كضرورة فلسفية ذات وظيفة‬
‫«ميتافيزيقية» في صيرورة التاريخ الكوني وتتمثل في اإلسهام في تحقق تجليات العقل‬
‫المطلق في العالم الملموس‪.‬‬
‫هذا التغير الجوهري الالفت في المنظور يجد بال ريب بعض أسبابه أو تفسيره‬
‫الموضوعي في تأثيرات الثورة الفكرية التي عرفتها القارة األوربية نتيجة لحركات‬
‫اإلصالح الديني (البروتستانتي) واالجتماعي ولدور فالسفة التنوير في اإلطاحة‬
‫بمنظومات الفكر الالهوتية والمدرسية المسيحية الوسيطة‪ ،‬ما أسهم في نجاح الثورة‬
‫الفرنسية وما نتج عنها من جدل واسع افضى إلى ترويج القبول بمفاهيم جديدة مثل‬
‫«الحقوق» و«النزعة اإلنسانية» و«التطورية» و«الرومانتيكية»‪...‬الخ‪.‬‬
‫‪147‬‬ ‫يلغيهلا كيتكلايدلا تائجافمو ّرشلا‬

‫وهي مفاهيم عبرت أيضا عن االزدهار السريع والقوي للبرجوازية كقوة اجتماعية‬
‫صاعدة إثر الثورة الصناعية‪ ،‬ما شرعن الحق بالثورة على القيم والطغم المهيمنة بما فيها‬
‫الدينية‪ ،‬وبرفض مبدأ «الحق االلهي» في السلطة السياسية‪ ،‬وبوضع مضامين المفاهيم‬
‫الالهوتية بما فيها مفاهيم الخير والشر موضع النقد وحتى اإلقصاء فيما شرعن‬
‫بالمقابل «حق» التوسع الكوني الكولنيالي والتفوقية العرقية وغيرها من األطروحات‬
‫االستعمارية‪ .‬بيد أن هيغل لم يشأ أن يتحدث عن التاريخ الكوني بمفاهيم االجتماع‬
‫واالقتصاد والسياسة واأليديولوجيا بل بلغة الفلسفة كفكر محض حصرا‪ .‬ألن الفلسفة‬
‫وحدها‪ ،‬في نظره‪ ،‬من تستطيع إدراك الحقيقة العميقة لماهية الروح‪ .‬ومن هنا األهمية‬
‫االستثنائية لـ «فلسفة التاريخ» لديه‪.‬‬

‫العقل يحكم العالم‬


‫ً‬
‫طويل أمام ما يسميه بـ «فلسفة التاريخ»‪ ،‬نستطيع القول إن التاريخ‬ ‫بدون التوقف‬
‫الذي يقصده هذا الفيلسوف هو التاريخ العام لإلنسانية بمعناه المعتاد لدينا اليوم وهو‬
‫الفترة الزمنية األرضية الممتدة لنحو سبعة آالف سنة من الطوفان إلى عصرنا الراهن‪،‬‬
‫ومن أول شكل للدولة في بالد النهرين حتى الدولة البرجوازية الليبرالية الحديثة التي‬
‫مهدت لقيامها الثورة الفرنسية‪ .‬في نص معروف جدً ا يتعلق بهذا التاريخ‪ ،‬يؤكد هيغل‬
‫على أن الفكرة السائدة عمو ًما حول مفهوم التاريخ البشري هي فكرة وافية‪ ،‬ونتفق معها‬
‫إلى هذا الحد أو ذاك‪ .‬إزاء ذلك‪ ،‬وعلى الرغم من تعقيدات وإشكاالت منهج تأملي‬
‫صارم التجريد‪ ،‬كان هيغل ثابت اليقين بوحدة النوع البشري وبوحدة تاريخه أيضا‪.‬‬
‫أما المشروع الذي يقترحه لفلسفته فهو الكشف عن «المضمون ذاته» الخاص بذلك‬
‫التاريخ‪ .‬وهذا الكشف ال يتم برأيه إال عن طريق الفلسفة التي عليها أيضا اكتشاف‬
‫وتحليل شروط إمكانية تكوين إدراك عقالني لألحداث البشرية التي حصلت في‬
‫الماضي‪ .‬وهذا اإلدراك هو «هدف فلسفة التاريخ» على وجه التحديد‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فاألسس المنطقية لفلسفة التاريخ الهيغلية تكمن في الحقيقة المفهومية‬
‫التالية التي نتلمسها فلسف ًيا وحسب‪ :‬العقل يحكم العالم‪ .‬وبالتالي فإن ما تثبته الفلسفة‬
‫بالمعرفة التأملية هو أن التاريخ الكوني ينجز عقالن ًيا‪ ،‬أي أن العقل هو جوهر التاريخ‬
‫يوادنهلا نيسح ‪.‬د‬ ‫‪148‬‬
‫كما أن قوته ومادته الالمتناهية وما يحقق مضمونه الخاص‪ .‬وهكذا‪ ،‬فالتاريخ الكوني‬
‫هو السيرورة التي تستعملها الروح أو اﷲ‪ ،‬كي‪ ،‬في غضونها‪ ،‬يجعل جوهره ممكن‬
‫اإلدراك حس ًيا في العالم الملموس‪ .‬لكن ما الطريقة التي تتصرف عبرها الروح في‬
‫التاريخ الكوني لتحقيق هدفها؟‬
‫«البشر ينظمون وجودهم عبر متابعة أهدافهم الخاصة‪ .‬لكن الروح‪ ،‬ومن خالل كل‬
‫خاصا بها‪ ،‬وهذا الهدف الكوني حاضر في كل األهداف‬ ‫ما يقومون به‪ ،‬تتابع هد ًفا كون ًّيا ًّ‬
‫الخاصة‪ ،‬وحيوي في استكمال تحققه عبرها‪ .‬ألنه فقط بواسطة النشاط اإلنساني ينبغي‬
‫على الكلي الكوني أن يتحقق عبر الجزئي الخاص»‪.11‬‬
‫أما ماهية هذا الجوهر‪ ،‬ففي تعريفه التأملي للروح اإللهية‪ ،‬يؤكد هيغل مرارا أن هذه‬
‫الروح ليست ماهية مجردة أو غامضة أو متوارية‪ ،‬وال تجريدا للطبيعة اإلنسانية‪ ،‬بل هي‬
‫كلي ونشيط وحي تما ًما‪ ،‬إنها وعي‪ ،‬لكنها أيضا موضوعها الخاص‪ .‬األمر‬ ‫«واحد أحد» ّ‬
‫الذي يعني أن األشياء الطبيعية ليست موضوع وعيها الخاص‪ ،‬وهي بالتالي ليست‬
‫حرة‪« .‬الروح على العكس‪ ،‬تمتلك مركزها في ذاتها بالتحديد‪ ،‬وال ترتبط إال بذاتها‬
‫ألنها ليست إال ذاتها‪ ،‬ولذلك فإن استقاللها هو استقالل مطلق حيال أي شيء آخر‬
‫غيرها‪ :‬إنها كلية في ذاتها حتى عندما تكون في غيرها»‪.‬‬
‫وبما أن «الحرية توجد فقط حيث ال يوجد بالنسبة لي أي آخر ال يكون هو أنا‬
‫بالذات»‪ ،12‬فإن الروح الكوني حرة وبشكل مطلق‪ ،‬ألنها الموضوع الوحيد لمعرفتها‬
‫نظرا إلى أن وعي ذاتها هو وعي استقالليتها‪ .‬إن الروح‪ ،‬كما يقول هيغل‪« ،‬هي في ذاتها‬
‫وتظل في جوهرها أو عنصرها الخاص بها‪ ،‬وفي هذا بالتحديد تتمثل الحرية‪ ،‬أنا حر‬
‫عندما أكون في جوهري الخاص»‪ ،13‬ألنني إذا كنت تابعا سأعتمد بوجودي على شيء‬
‫آخر هو ليس أنا‪ ،‬وال استطيع أن أوجد بدون هذا الشيء الخارجي‪ ،‬عالوة على ذلك‪،‬‬
‫فالروح واعية بالقدر الذي تكون فيه وع ًيا بذاتها فقط‪.‬‬
‫إن مجال الروح يشمل كل شيء أثار وما زال يثير اهتمام اإلنسان وكل ما ينتجه‪.‬‬

‫‪11. La Raison dans l'Histoire, p. 39.‬‬


‫‪12. Encyclopédie des sciences philosophiques, p. 477.‬‬
‫‪13. Leçon sur l'histoire de la philosophie, tome 2, p. 12.‬‬
‫‪149‬‬ ‫يلغيهلا كيتكلايدلا تائجافمو ّرشلا‬

‫لكن على الرغم من أن اإلنسان ينشط في مجاالت ال تحصى‪ ،‬اال أنه‪ ،‬وفي كل ما يقوم‬
‫به‪ ،‬الكائن الذي تنشط عبره الروح‪ .‬فمملكة الروح يجب أن تتحقق في اإلنسان لتعبر‬
‫إلى وفي الوجود‪ ،‬لكنها نتيجة إرادتها الخاصة هي وليست إرادة اإلنسان‪ :‬إنها تنتشر في‬
‫التاريخ بتنوعية ال متناهية من األشكال واألحوال لكنها مستقلة بذاتها وحرة دائما‪ ،‬وال‬
‫تحتاج إلى إرادة البشر لتحقيق غايتها الكونية عبرهم‪.‬‬
‫بكلمة أخرى‪ ،‬من كل هذا المجموع المتشابك من اإلنتاج البشري‪ :‬لدينا أمام العين‬
‫لوحة هائلة مصنوعة من فعاليات وأنشطة ألنواع متباينة إلى ما النهاية من الشعوب‬
‫والدول واألفراد تتوالى بال كلل‪ ...‬ومن عقول خاصة تتابع أهدا ًفا خاصة بها في حركة‬
‫تبدو وكأنها أبدية‪ ..‬إنها لوحة هائلة تفجر فينا مشاعر متنوعة‪ ،‬وتثير غال ًبا انبهارنا‪ ،‬ليس‬
‫خصوصا عبر هذا التجدد خاصة الذي ال‬ ‫ً‬ ‫فقط بالتفاصيل الالمنتهية التي تعرضها بل‬
‫يتوقف‪ ،‬وعبر «مشهد الصراع الذي نؤخذ به والذي حالما يسقط فيه شيء‪ ،‬فإن شيئا‬
‫آخر يأخذ مكانه»‪.14‬‬
‫أمام هذا المشهد البهي ثمة سؤال ينبثق‪ :‬ماهي الغاية المشتركة لكل هذه العقول‪،‬‬
‫عقول األفراد والشعوب واألمم‪ ،‬م ًعا؟ ألن من غير المعقول إنها تستهلك نفسها بكل‬
‫هذا الحماس واالندفاع والحيوية لمجرد متابعة أهداف خاصة بها ومحدودة بعوالمها‬
‫العابرة الشخصية والقومية والدينية‪ ،‬بل ال بد ألنشطتها جمي ًعا أن تساهم في صنع‬
‫عمل كوني ما‪ .‬فالمسألة اذن‪ ،‬بالنسبة لهيغل‪ ،‬هي معرفة «فيما إذا وتحت هذا االشتباك‬
‫المهيمن على السطح‪ ،‬ال يتم إنجاز عمل صامت وسري توضع فيه طاقات كل هذه‬
‫الظواهر»‪.15‬‬
‫في التاريخ الكوني «يترتب عن نشاطات البشر شيء ما آخر غير ما يعرفونه‬
‫ويستهدفونه آن ًّيا‪ .‬إنهم يهدفون إلى تحقيق مصالحهم‪ ،‬إال أنهم يقومون في الوقت ذاته‬
‫بإنتاج شيء آخر خفي ال يبلغه وعيهم وال يدخل في حساباتهم «هذا الشيء الخفي‬
‫يتحقق بالشكل التالي‪ :‬عبر متابعة األفراد لما هو خاص بهم‪ ،‬ينتجون ما هو عام‪ .‬وهذا‬

‫‪14. La Raison dans l'Histoire, pp. 53 - 55.‬‬


‫‪15. Ibid., p. 111.‬‬
‫يوادنهلا نيسح ‪.‬د‬ ‫‪150‬‬
‫األمر يفترض بالضرورة وجود «قوانين كونية للتاريخ لم يكن األفراد من قام بوضعها‬
‫من خالل نشاطهم‪ .‬إن األفراد يصنعون التاريخ إال أنهم ال يصنعونه إراد ًّيا‪ ،‬كما أن‬
‫التاريخ يبدو لهم دائما كقوة أسمى منهم‪ ،‬ومستقلة عنهم‪ ،‬وحتى غريبة عليهم أحيانًا‪،‬‬
‫‪16‬‬
‫على الرغم من أنه نتاج عملهم المباشر في واقع األمر»‪.‬‬
‫يجب االعتقاد عندئذ بأن هناك إرادة عليا وسامية‪ ،‬وبالتالي روح كونية هي التي‬
‫توجه األحداث واألنشطة‪ ،‬وهي التي قادت وتقود األرواح الخاصة‪ .‬روح كونية «شبيهة‬
‫بميركور سائق األرواح» في األساطير االغريقية القديمة‪ .‬وهكذا‪ ،‬وبالقدر الذي يكون‬
‫حاضرا في كل شيء فإنه يوجد في كل انسان ويظهر في كل وعي‪ .‬أما جوهر‬
‫ً‬ ‫فيه اﷲ‬
‫هذه الروح الكونية‪ ،‬ففي مناسبات عديدة خالل محاضراته البرلينية‪ ،‬كما في كتاباته‬
‫التي نشرها في حياته‪ ،‬يؤكد هيغل «بأن جوهر الروح هو الحرية» أو «أن مملكة الروح‬
‫هي مملكة الحرية»‪ .17‬وهذه الفكرة تبدو األكثر أساسية في فلسفة التاريخ الهيغلية التي‬
‫ترى أن «اإلنسان يتصرف حسب أهدافه لكنه محكوم بهدف المطلق»‪.‬‬
‫اساسا كوعي انساني إذ يقول‪« :‬هناك‬
‫وبالفعل فإن روح العالم في نظر هيغل‪ ،‬موجود ً‬
‫بينها وبين البشر الرابطة نفسها الموجودة بين األفراد وبين الكل الذي هو ماهيتهم»‪.‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فإن اإلنسان ليس إال إمكانية أن يصير ما يجب أن يصيره‪ ،‬أي أن يصير عقالن ًّيا‬
‫وحرا‪ ،‬لكن على اإلنسان أن يصير بنفسه ما يجب أن يكون عليه‪ ،‬يجب عليه أن يحقق‬
‫روحا فإن اإلنسان ال يتصرف‬
‫كل شيء بنفسه وذلك بالتحديد ألنه روح‪ ،‬لكنه وباعتباره ً‬
‫إال في ومن خالل الفكر لبلوغ وعيه بحريته‪ ،‬ينبغي عليه أن يتخلص تدريج ًيا من كل‬
‫ما هو عناصر طبيعية خارجية به ومن دون إغفال هذه الطبيعة الثانية التي خلقها بنفسه‬
‫بدون علم منه‪ ،‬أي الطبيعة واالجتماعية والثقافية‪.‬‬

‫ثنائية الشر‪/‬العناية اإللهية‬


‫مهما يكن األمر‪ ،‬فقد نال مـفـهـوم الشر اهـتـمـام سائـر الـفـلـسـفـات الـقـديـمـة‬
‫والـوسـيـطـة‪ ،‬وحـتـى الـحـديـثـة والمعاصرة‪ .‬وبغض النظر عن تنوع التناول‬

‫‪16. Hegel, philosophe du débat et du combat, pp. 159 - 160.‬‬


‫‪17. Encyclopédie des sciences philosophiques, p. 148.‬‬
‫‪151‬‬ ‫يلغيهلا كيتكلايدلا تائجافمو ّرشلا‬

‫والمنظورات في هذا الشأن وحتى تضاربها أحيانا‪ ،‬ما ظل ما يجمعها غالبا‪ ،‬ويفسر‬
‫انتشارها‪ ،‬هو انطالقها المشترك من الموازنة العقالنية بين اإلقرار القبلي بالثنائية‬
‫التالية‪ :‬وجود الشر ووجود العناية اإللهية في عا َلم الوجود‪ .‬فـفـي الفكر الميتافيزيقي‬
‫السومري ً‬
‫مثل‪ ،‬كان «آنزو» يرمز للشر فيما يرمز نقيضه «ننورتا» للخير‪ ،‬وهما في صراع‬
‫دائم وعنيف السيما في اللحظات الجوهرية من الخلق‪ .‬وتخبرنا قصيدة سومرية تحمل‬
‫اسمه أن «آنزو» سرق من اآللهة «ألواح القدر» التي تمنح من يحملها السلطة المطلقة‬
‫على اآللهة والبشر واألكوان‪ .‬إال أن اإلله «ننورتا» رمز الخير استرجع األلواح منه بعد‬
‫أن انتصر عليه إثر معركة كونية بمساعدة إله العقل والنظام إنكي‪ .‬وهذه الثنائية الكونية‬
‫ننورتا‪/‬آنزو‪ ،‬الخير‪/‬الشر‪ ،‬أخذت غالبا شكل وحدة بين أضداد في حالة صراع دائم‪،‬‬
‫كما لو أن ديناميكية التناقض هي ما يضمن نقل مركز الوعي‪ ،‬وبالتالي حرية الفعل‪ ،‬من‬
‫العقل المطلق إلى العقل الملموس‪ ،‬ومن اﷲ إلى اإلنسان‪ .‬ولعل النص البابلي الشهير‬
‫باسم «حوار السيد والعبد» يمثل نموذجا قويا على ذلك‪ ،‬حيث التضاد ال يغدو بين‬
‫وجودين ملموسين وحسب بل بين وعيين مستقلين تماما في إطار إشكالية وحدتهما‬
‫السرمدية‪ .‬وهذه أول محاولة لعقلنة ماهية الشر وفهمها كضرورة كونية قائمة بذاتها‪.‬‬
‫(مرموزا لهما بالنور والظالم على التوالي) هو المعادل الزرادشتي‬
‫ً‬ ‫هرمز‪/‬أهريمان‬
‫لوحدة وتضاد الخير‪/‬الشر تلك ولتطور الوعي بهما فيما تنوعت مواقف الفالسفة‬
‫اليونانيين من هذه الوحدة‪/‬التضاد لكنها ظلت إيجابية وضرورية كما لدى أبيقور‪ ،‬وأن‬
‫اجتماع األضداد حتمي كما لدى هيرقليدس الذي اعتبر أن وجود الشر مشروط بوجود‬
‫الخير‪ ،‬وأنه لوال وجود أحدهما لما وجد اآلخر وأن انتفاء أحدهما يعني انتفاء اآلخر‪.‬‬
‫في الفلسفة الغربية الوسيطة‪ ،‬المسيحية في قسمها األعظم‪ ،‬كانت الفكرة السائدة‬
‫هي أن الشر نقيض الخير‪ ،‬أما مصدره فليس اﷲ بداهة ألن اﷲ ال يخلق إال الخير‪ ،‬بل‬
‫هو سوء استخدام اإلنسان لعقله وإلرادته‪ .‬ومن هنا مبدأ «الخطيئة األصلية» الشهير في‬
‫الديانات االبراهيمية ومنها المسيحية‪ .‬وهي خطيئة معصية أبي البشر ورمزه آدم‪ .‬ففي‬
‫«العهد القديم» (الفصل الثالث‪/‬سفر التكوين‪/‬قصة الخلق)‪ ،‬أن اﷲ خلق آدم وحواء‬
‫ووضعهما في جنة وافرة الثمار برزت في وسطها شجرتان إحداهما تدعى شجرة‬
‫الحياة واألخرى شجرة المعرفة‪ ،‬ومعرفة الخير والشر خاصة‪ .‬وبينما أذن اﷲ آلدم أن‬
‫يوادنهلا نيسح ‪.‬د‬ ‫‪152‬‬
‫يأكل ثمار جميع شجر الجنة بما فيه شجرة الحياة التي تمنح الخلود‪ ،‬نهاه عن األكل‬
‫الر ُّب‬
‫أوصى َّ‬ ‫من شجرة المعرفة‪ .‬وقد عبر الكتاب المسيحي المقدس عن ذلك بقوله‪َ :‬و َ‬
‫«م ْن َج ِمي ِع َش َج ِر ا ْل َجن َِّة ت َْأك ُُل َأك ًْل‪َ ،‬و َأ َّما َش َج َر ُة َم ْع ِر َف ِة ا ْل َخ ْي ِر َو َّ‬
‫الش ِّر َف َ‬
‫ال‬ ‫اإل َله آدم َق ِائ ًل‪ِ :‬‬
‫ِ ُ ََ‬
‫وت»‪.18‬‬ ‫ت َْأك ُْل ِمن َْها ألَن ََّك َي ْو َم ت َْأك ُُل ِمن َْها َم ْوتًا ت َُم ُ‬
‫ونعلم ما حدث‪ ،‬فقد عصى أبو البشر أمر الرب وأكل من ثمار شجرة معرفة الخير‬
‫والشر‪ ،‬وحصلت المعصية أو الخطيئة األصلية فطرد من الجنة إلى األرض جالبا‬
‫ت ا ْل َخطِيئة إلى ا ْل َعا َل ِم»‪ ،‬كما جاء في رسالة بولس‬
‫اح ٍد د َخ َل ِ‬
‫َ‬
‫ان و ِ‬
‫ٍ‬
‫الشر لها‪َ « :‬إن ََّما بِإِن َْس َ‬
‫جلي في‬
‫الرسول إلى أهل رومية (‪ .)12 :5‬وبداهة‪ ،‬فإن الهدف األخالقي‪/‬السياسي ٌّ‬
‫هذا التصور‪ .‬بمعنى أن الخطيئة هي نتيجة عصيان ارتكبه اإلنسان األول فطرد بسببه من‬
‫الجنة وأن كل مرتكب لخطيئة معصية إرادة الرب يستطيع العودة عنها وبالتالي العودة‬
‫إلى الجنة التي خرج منها آدم وحواء‪ ،‬إذا تطهر من إغواء حب معرفة الخير والشر وقبل‬
‫بإرادة وامالءات السلطة الدينية‪.‬‬
‫بيد أن هذا التصور الالهوتي يطرح ضمنا‪ ،‬في رأينا الخاص‪ ،‬مفهوم إيجابية الشر‬
‫وبشكل غير مقصود تماما‪ :‬لوال الخطيئة لما وصل اإلنسان إلى المعرفة‪ ،‬والمعرفة‬
‫العقلية خاصة‪ ،‬نظرا إلى تعلق األمر بمعرفة قضايا الخير والشر وهي قضايا تتطلب‬
‫العقل بداهة‪.‬‬
‫لكن المبدأ اآلخر الذي ينطوي عليه هو أن اإلنسان حر بذاته ولذاته وبالتالي مسؤول‬
‫عن قراراته سواء الشريرة ممثلة بارتكاب خطيئة العصيان أو الخيرة ممثلة بالتراجع‬
‫عنها‪ .‬هذه الفكرة األخيرة دافع عنها القديس أوغسطين (‪ 354‬ــ ‪ )430‬بقوة عندما ذهب‬
‫إلى اعتبار الشر‪ ،‬بما فيه الطبيعي‪ ،‬بمثابة عقاب من اﷲ على الخطايا التي سببها اإلنسان‬
‫كفرد أو كطبيعة‪ ،‬وهما عارضان فانيان في التحصيل األخير ككل الوجود المادي‪،‬‬
‫ولذلك لن يكون هناك مكان للشر في «مدينة اﷲ» التي ّ‬
‫بشر بها أوغسطين‪.‬‬
‫هذه الفكرة «المقدسة» تعرضت إلى تصدع قوي في قلب القلعة الالهوتية المسيحية‬
‫نتيجة تعرف عدد من المفكرين المجددين على بعض أفكار الفيلسوف القرطبي أبو‬

‫‪ .18‬سفر التكوين‪.17 :2 ،‬‬


‫‪153‬‬ ‫يلغيهلا كيتكلايدلا تائجافمو ّرشلا‬

‫الوليد ابن رشد (‪ 1126‬ــ ‪1198‬م) خاصة في كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة‬
‫والشريعة من االتصال»‪ ،‬الذي عدّ ت بعض أفكاره بمثابة التمهيد للعلمانية الحديثة‬
‫ولفصل الدين عن الدولة حيث التأكيد على أزلية العالم‪ ،‬وعلى أن الدين ال يمكن فهمه‬
‫إال في ضوء العقل‪ ،‬والدعوة الجريئة إلى تحرير الفلسفة من الالهوت‪ ،‬وغيرها من‬
‫المواقف الفلسفية التي سرعان ما قادت المفكرين المسيحيين إلى التصور بأن الشر‪،‬‬
‫كنقيضه الخير‪ ،‬قد يكون وجوده مقتضى من اﷲ وبالتالي فهو الزم الوجود في العالم‬
‫ومستتبع لوجود الخير بالضرورة‪ .‬أو إلى االستنتاج بأن الشر ليس إال غياب صفة أو‬
‫مقدرة يجب أن تكون موجودة في الكائن بطبيعته‪ ،‬أو هو الحرمان من هذه الصفة أو‬
‫المقدرة‪ .‬فكل شيء خير كما خلقه اﷲ‪ ،‬ولكن اﷲ قد ال يريد أن ينقل كماله الالنهائي‬
‫إلى مخلوقاته‪ ،‬بل قد يجيز بعض الشر بقصد الوصول إلى بعض الغايات الخيرة أو‬
‫لمنع شر أشد منها‪ .‬هذه األفكار المتأثرة بمالحظ وشروح ابن رشد على كتابات‬
‫أرسطو‪ ،‬سيذهب بعض أصحابها أبعد بتقسيم الروح على قسمين متكاملين في نوع من‬
‫«وحدة وجود»‪ :‬روح كلية إلهية وروح جزئية إنسانية‪ ،‬وهذا هو في نظرنا األصل البعيد‬
‫للمفهوم الفلسفي الهيغلي عن الوحدة الجوهرية بين العقل الكلي أو المطلق (اﷲ)‬
‫والعقل الجزئي أو الملموس (اإلنسان)‪ .‬لكن هذا األصل سيقترن بتطور آخر يتعلق‬
‫بالمضمون السياسي ــ األخالقي لمفهوم الشر‪ ،‬والمنبثق في خضم الصراع التنويري‬
‫لتجاوز طغيان أنظمة الحكم المطلق المدعومة من المؤسسة الدينية التي كانت مطبقة‬
‫الهيمنة على كل جوانب الحياة المدنية األوربية في القرون الوسطى‪.‬‬

‫من الالهوت إلى السياسة‬


‫كان الفيلسوف السياسي اإليطالي مكيافيللي (‪ 1469‬ــ ‪ )1527‬مؤيدا لتوظيف‬
‫أساليب ال إنسانية وحتى ال أخالقية في سياسة األمير تجاه الرعية عند الضرورة‪ ،‬كما‬
‫عبرت عن ذلك فلسفته السياسية التي أوجزها بمقولته الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة»‬
‫المؤسسة على فكرته بأن الخير والحق ليسا كافيين لالحتفاظ بالسلطة وعلى الحاكم‬
‫الناجح عندئذ أن يعرف أنه فقط عن طريق االستخدام المالئم للقوة يمكن إرغام األفراد‬
‫على الخضوع ويمكن جعل الحاكم قادرا على حماية سلطته من األخطار المحدقة‪.‬‬
‫يوادنهلا نيسح ‪.‬د‬ ‫‪154‬‬
‫هذه النظرة األخالقية للسلطة التي سجلها مكيافيللي بالتفصيل في كتابه الشهير األمير‪،‬‬
‫وخالصتها أن ليس ثمة أساس أخالقي يمكن أن نفرق به بين الممارسات الشرعية‬
‫وغير الشرعية للقوة‪ ،‬مثلت انقالبا على النظرة السائدة من قبل ولقرون طويلة‪ ،‬وهي‬
‫تلك التي كانت قد أسست عالقة ما بين الخير األخالقي وشرعية السلطة‪ ،‬إذ اعتقد‬
‫معظم المفكرين والالهوتيين أن استخدام القوة ألغراض سياسية ال يكون مشرو ًعا إال‬
‫إذا كان الحاكم فاضال وأخالقيا ومحبا للخير نظريا في األقل‪.‬‬
‫الفيلسوف اإلنكليزي توماس هوبز (‪ 1588‬ــ ‪ )1679‬الذي عاش رعب ومآسي‬
‫الحروب االهلية في بالده لم يكن أول مفكر يعقلن دولة الحكم المطلق ملقيا المسؤولية‬
‫على الطبيعة اإلنسانية حيث تقدم فلسفته السياسية أول عقد اجتماعي‪ ،‬وقبل جون لوك‬
‫(‪ 1632‬ــ ‪ )1704‬وجان جاك روسو (‪ 1712‬ــ ‪ ،)1778‬لكنه عقد كارثي في واقع الحال‬
‫حيث ينطلق هوبز من االعتقاد بأن اإلنسان كان يعيش حياة همجية شأن الحيوانات‬
‫المفترسة كان فيها اإلنسان أشبه بذئب ألخيه اإلنسان‪ .‬ثم رأى أن يحمي وجوده كنوع‬
‫عبر التنازل عن همجيته مدفوعا بنزعة البقاء‪ .‬ومن هنا التوصل إلى ضرورة تسليط ما‬
‫أسماه «التنين» أو «اللفيتان» (وهو عنوان كتابه الفلسفي األشهر) ويقصد به سلطة حاكم‬
‫مطلق يتولى كبح جماح وإخضاع جميع األفراد كشرط لضمان عيشهم بسالم معا‪ ،‬ما‬
‫يشترط إبرام عقد اجتماعي بينهم يتخلون بموجبه عن كل حقوقهم وحرياتهم لصالح‬
‫حاكم مطلق يتسلط عليهم ويحكمهم بالطريقة التي يشاء‪ .‬فدولة الحكم المطلق التي‬
‫يبررها هوبز هذه‪ ،‬ال تستمد معقوليتها ال من الحق اإللهي وال من الحق الطبيعي وال من‬
‫أساسا‪ ،‬بل من العقد االجتماعي الطبيعي بين‬
‫القانون األخالقي الوضعي غير الموجود ً‬
‫األفراد‪ .‬فالحكم المطلق هو معيار العدل والحق‪ ،‬إما معايير الخير والشر والفضيلة فهي‬
‫عندئذ ليست بقيم بتاتا إذ ال قيمة اال للحاكم المطلق وال مكانة أو دور ألفراد سواه‪.‬‬
‫وكما لجأ جان بودان‪ ،‬الذي كان أيضا مستشار الملك ووكيله في برلمان باريس‪،‬‬
‫إلى توظيف عامل االجتماع والتاريخ لتبرير الحكم المطلق‪ ،‬وظف هوبز عامل الطبيعة‬
‫والسيكولوجيا لتبرير هيمنة «الدولة الحارسة» على المجتمع فيما ذهب المفكر‬
‫الالهوتي الفرنسي بوسويه (‪ 1627‬ــ ‪ )1704‬إلى حد استخدام نصوص «الكتاب‬
‫المقدس» لشرعنة نظرية «الحق االلهي» للملك في «السلطة المقدسة»‪ .‬وقبل بوسويه‪،‬‬
‫‪155‬‬ ‫يلغيهلا كيتكلايدلا تائجافمو ّرشلا‬

‫كانت المؤسسة الدينية المسيحية هي التي أسست ونظمت دفاعا عنيفا ومثابرا عن‬
‫جنين «السلطة المقدسة» متمثال بذلك المفهوم الالهوتي ــ األيديولوجي الذي ربط‬
‫بين سلطة الحاكم والقدسية اإللهية وأفتى بحق هذه السلطة في أن تكون مطلقة‪ .‬وهو‬
‫مفهوم أسهم في تطويره نخبة من كبار مفكري الكنيسة وفقهاء «القانون المقدس» أو‬
‫نظرية «الحق االلهي» لسلطان الملوك وقبلها لسلطان البابا‪.‬‬
‫هذا الفهم لمضامين طبيعة اإلنسان والمجتمع والسلطة والخير والشر اختلف كليا‬
‫في ماهية وشروط «العقد االجتماعي» عند جون لوك (‪ 1632‬ــ ‪ )1704‬وجان جاك‬
‫روسو (‪ 1778‬ــ ‪)1712‬؛ انعكاسا الختالف تصور مضمون دور األفراد في المجتمع‬
‫حيث انتقلوا من كونهم «مادة المجتمع» الهالمية أي مادة االستغالل واالستبداد‬
‫والحروب والذين ال حقوق لهم‪ ،‬إلى كونهم المجتمع المدني‪ ،‬وهو انتقال عكس‬
‫رأسا على عقب ما مهد الطريق‬
‫انقالبا في سيروة تطور المجتمعات األوربية الغربية ً‬
‫الندالع الثورة الفرنسية في عام ‪ .1789‬فاإلنسان على وفق رؤية جون لوك له حقوق‬
‫طبيعية توجد معه بوصفه إنسانًا وال يمكن التنازل عنها حتى للمجتمع‪ ،‬وفي مقدمتها أن‬
‫يكون حرا‪ ،‬وبالتالي حقه بالمساواة مع الغير‪ ،‬ما يجعل الحاكم مجرد إداري في خدمة‬
‫المجتمع المنتقل من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية الوضعية التي تؤسس للحكم‬
‫العادل على أساس القانون ورفض الحكم المطلق تاليا‪ ،‬ما يعني أن الدولة حسب‬
‫لوك‪ ،‬وبالعكس من هوبز‪ ،‬تقوم على أساس عقد واع وعقالني بين الحاكم والمحكوم‪،‬‬
‫في دولة مهمتها األساسية ضمان حقوق األفراد وحرياتهم الطبيعية واالجتماعية‬
‫والسياسية‪.‬‬
‫أما روسو فذهب إلى أبعد من لوك في «العقد االجتماعي» الذي اقترحه للمجتمع‬
‫النزاع إلى التمتع بالحرية والمساواة والعدل إذ رفض فكرة هوبز بأن‬
‫اإلنساني الحديث ّ‬
‫اإلنسان شرير بطبعه معتبرا أن اإلنسان ُيولد طي ًبا لكن المجتمع هو الذي يخلق اللجوء‬
‫أيضا كل أشكال أنظمة الحكم المطلق وكل اشكال‬
‫رافضا ً‬
‫ً‬ ‫إلى الشر لدى االفراد‪،‬‬
‫الوصاية التي فرضتها الكنيسة على الحياة االجتماعية والسياسية والثقافية آنذاك باسم‬
‫الحق المقدس‪ ،‬مؤكدا أن الحرية هي أساس الحق الطبيعي‪ ،‬وهي ما يجب أن يحميه‬
‫العقد االجتماعي الذي يفرضه انتقال اإلنسان إلى الحالة المدنية‪.‬‬
‫يوادنهلا نيسح ‪.‬د‬ ‫‪156‬‬
‫أما استنتاجنا عن منبع العالقة بين اإللهي واإلنساني في التاريخ عند هيغل‪ ،‬فنرى‬
‫أنه ذلك اليقين الديني الذي تشترك فيه الديانات اإلبراهيمية جمي ًعا‪ ،‬والقائل بأن‬
‫العالم اإللهي‪ ،‬هو عالم روحي محض‪ ،‬ومتصل باإلنسان‪ ،‬من خالل الروح‪ .‬وهذا‬
‫اليقين الديني‪ ،‬يؤمن به بقوة هيغل الذي‪ ،‬وغال ًبا ما تغفل اإلشارة إليه‪ ،‬درس الالهوت‬
‫قسا لوثر ًيا‪ ،‬لوال أن‬
‫المسيحي دراسة عميقة في توبنغن‪ ،‬بين ‪ 1788‬و‪ ،1793‬وكاد يتخرج ًّ‬
‫لوثري والفلسفة عززت لدي‬ ‫ّ‬ ‫جذبته الفلسفة‪ ،‬لكنه ّ‬
‫ظل مؤمنًا بدينه حتى وفاته‪« .‬إنني‬
‫لوثريتي»‪ ،‬كتب هيغل في رسالته إلى تولوك في ‪ 3‬تموز‪/‬يوليو ‪ ،1826‬وبالتحديد في‬
‫جدال حول موضوعة وحدة الوجود لدى المتصوفة المسلمين‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬لم نعدم من‬
‫ذهب إلى حد اتهام هيغل بتبنّي مذهب ما من مذاهب وحدة الوجود‪.‬‬
‫دراسات‬

‫الثيوديسية‬
‫َّ‬ ‫سيكولوجية‬
‫تمثالت الفرد وتفسيراته للشر في العالَم‬
‫د‪ .‬لؤي خزعل جبر‬
‫‪1‬‬ ‫______________________________________________‬

‫الثيوديسية ‪Theodicy‬‬
‫َّ‬
‫« ُمشكلة الشر» قديمة في الفكر الالهوتي والفلسفي‪ ،‬ولكن «الثيوديس َّية» ــ‬
‫مصطلحا ــ ظهرت في مقال «الثيوديسية‪ :‬مقاالت عن خير َّية اﷲ وحر َّية اإلنسان وأصل‬
‫الشر» ‪Theodicy: Essays on the Goodness of God, the Freedom of Man and‬‬
‫‪ the Origin of Evil‬للفيلسوف الفرنسي ‪Gottfried Wilhelm Leibniz‬ا(‪ 1646‬ــ‬
‫‪ ،)1716‬سنة (‪ .)1710‬والكلمة ــ بالمعنى الحرفي اليوناني ــ تعني العدالة اإلله َّية‪،‬‬
‫وأص َب َحت ــ بالمعنى التخصصي المعرفي ــ تُشير إلى النظر َّيات التبرير َّية لتلك العدا َلة‬
‫في مواجهة ُمشكلة الشر في العا َلم‪ ،‬وبتعبير أدق‪ :‬تفسير ــ أو محاولة إيجاد التنا ُغم‬
‫بين ــ وجود إله ُمط َلق الخير َّية والقدرة والعالِم َّية ووجود ٍ‬
‫شر ــ ُ‬
‫يطال الناس األبرياء في‬
‫سؤال أساس‪ :‬لماذا يسمح اﷲ بذلك؟ وقد ش َّك َلت ِ‬
‫هذه‬ ‫ٍ‬ ‫الغالِب ــ في العا َلم‪ ،‬إجا َبة عن‬
‫القض َّية تحد ًيا صع ًبا للمؤمنين‪ ،‬فهي إما تنتهي إلى َّ‬
‫أن اﷲ شرير أو إلى أنَّه غير موجود‪،‬‬
‫ولذلك انبرى الالهوتيون والفالسفة المؤمنون إلى تقديم نظر َّيات ال تجعل القض َّية‬
‫تنتهي إلى واحدة من هاتين النهايتين‪ ،‬فكانت هذه النظر َّيات‪ :‬ثيوديس َّيات‪.‬‬
‫حضرت مشكلة الشر في أقدم النصوص التراثية الدين َّية‪ ،‬وبشكل خاص في‬
‫التراثين اليهودي والمسيحي‪ ،‬وقد كان كتاب أيوب ‪ 2 Book of Job‬مكرس لهذه‬

‫‪ .1‬باحث وأكاديمي عراقي‪ ،‬أستاذ يف كلية الرتبية األساس َّية بجامعة املثنى يف العراق‪.‬‬
‫كتاب يف أسفار الكتابات من الكتاب املقدس العربي‪ ،‬وأول كتاب شعري يف العهد القديم من‬ ‫ٌ‬ ‫‪.2‬‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪158‬‬
‫لعل أقدم الثيوديس َّيات الواضحة المنظمة ثيوديس َّية الصناعة‬ ‫المشكلة‪ ،‬ولكن َّ‬
‫ُ‬
‫الروح َّية ‪ Soul Making‬للفيلسوف والالهوتي اليوناني ‪Irenaeus‬ا(‪ 130‬ــ ‪،)202‬‬
‫وجدَ ت غير ناضجة‪،‬‬ ‫أن البشر َّية ِ‬
‫في كتابه ضد البدع ‪ ،Against Heresies‬إذ أكَّد َّ‬
‫وغير كاملة‪ ،‬ولتحقيق النضج والكمال البد من أن تعيش خبرات هذا العا َلم‪ ،‬بخيراتِ ِه‬
‫فالمعاناة ِمن الشرور ضرورة حيات َّية‪ ،‬وهي طريق الكمال اإلنساني‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وشروره‪ُ ،‬‬
‫العواقب عن الخيارات‪ ،‬فاﷲ‬ ‫ِ‬ ‫وبدون تلك الشرور يفسد نظام العا َلم‪ ،‬إذ تنفك‬
‫يسمح بالشرور لبناء الشخص َّيات والقيمة العظيمة لإلرادة الحرة‪ .3‬ليأتي بعد ذلك‬‫َ‬
‫الفيلسوف والالهوتي القديس ُأغسطين ‪ Augustine‬ا(‪ 354‬ــ ‪ ،)430‬في اعترافاته‬
‫ِ‬
‫تأسيس‬ ‫ِ‬
‫فينطلق من‬ ‫‪ ،Confessions‬ويؤسس ثيوديس َّية اإلرادة الحرة ‪،Free Will‬‬
‫المحدَ َثة‪ ،‬بمعنى َّ‬
‫أن الشر عَدَ م‪ ،‬ليس بوجود‪ ،‬فما‬ ‫فكرة «عدم َّية َ‬
‫الشر» لألفالطونية ُ‬
‫ليس‬ ‫ِ‬ ‫هو إال عدم الخير‪ ،‬وبالتالي ال ُيسنَد إلى اﷲ‪َّ ،‬‬
‫ألن اﷲ خال ُق كل شيء‪ ،‬والشر َ‬
‫بشيء‪ ،‬وال يعني بذلك َّ‬
‫أن الشر ال وجود له‪ ،‬وال أنَّه وهم‪ ،‬فحديثه عن طبيعة الشر‬
‫الحرة»‪ ،‬فما لم يكُن‬ ‫وليس وجوده‪ ،‬وسماح اﷲ بحدوث الشر ِ‬
‫يرج ُع إلى «اإلرادة ُ‬
‫الحر‪ ،‬وذلك االختيار هو‬
‫هناك خياران‪ :‬خير وشر‪ ،‬لن يكون هناك معنى لالختيار ُ‬
‫جوهر اإلنسان ومزيته وسعادته‪ ،‬فيكون اإلنسان ــ بانحرافِ ِه اإلرادي عن الخير ــ هو‬
‫ِ‬
‫وأفعاله‪ .4‬وقدَّ م الالهوتي الفرنسي‬ ‫المسؤول عن الشر األخالقي‪ ،‬إذ هو نتيجة إرادته‬
‫‪John Calvin‬ا‪ 1564‬ـ ‪ ،1509‬ثيوديسية اإلرادة اإلله َّية ‪ ،Divine Voluntarism‬إذ‬
‫ِ‬
‫بوسائل جميلة‪،‬‬ ‫أن اﷲ ــ وأفعا َله ــ فوق ال َعقل‪ ،‬وأنه يدبر كل شيء‬
‫أو َغل في توكيد َّ‬
‫ِ‬
‫ويستسلم‪،‬‬ ‫وإن كانت غير مفهو َمة‪ ،‬وال يجب أن يسأل اإلنسان‪ ،‬بل يجب أن يثق‬

‫اإلنجيل املسيحي‪ ،‬كُتِب بني القرنني السابع والرابع قبل امليالديني‪ُ .‬ين َظر‪ :‬ليفيك‪ ،‬جان (‪)1989‬‬
‫أيوب‪ :‬الكتاب ورسالته‪ .‬ترمجة‪ :‬يوسف قوشاقجي‪ .‬بريوت‪ :‬دار املرشق‪.‬‬
‫‪ُ .3‬ين َظر‪ :‬الكنيس‪ ،‬أبو التقليد (‪ )1992‬القديس إيريناوس‪ :‬أسقف ليون‪ .‬ترمجة‪ :‬أنطون فهمي جورج‪.‬‬
‫لقاهرة‪ :‬كنيسة مارمرقس‪ .‬رمحة‪ ،‬جورج (‪ )1992‬ايريناوس‪ :‬اسقف مدينة ليون‪ .‬لبنان‪ :‬منشورات‬
‫املركز الرعوي لالبحاث والدراسات ‪.‬‬
‫‪ُ .4‬ين َظر‪ :‬عويضة‪ ،‬كامل حممد (‪ )1993‬أوغسطني‪ :‬فيلسوف العصور الوسطى‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب‬
‫العلم َّية‪ .‬ص‪ 39‬ــ ‪ .42‬ماثيوز‪ ،‬جاريث (‪ )2013‬أوغسطني‪ .‬ترمجة‪ :‬أيمن فؤاد زهري‪ .‬القاهرة‪:‬‬
‫املركز القومي للرتمجة‪ .‬ص‪ 169‬ــ ‪ .198‬تشادويك‪ ،‬هنري (‪ )2016‬أوغسطني‪ .‬ترمجة‪ :‬أمحد حممد‬
‫الرويب‪ .‬القاهرة‪ :‬مؤسسة هنداوي‪ .‬ص‪ 45‬ــ ‪.49‬‬
‫‪159‬‬ ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

‫فخطيئته سلبته القدرة التمييزية‪ .5‬وإزاء رفض المساءلة‪ ،‬قدَّ م الفيلسوف الفرنسي‬
‫‪ ،Leibniz‬ثيوديس َّية أفضل العوالم الممكنة ‪ ،Best of all Possible Worlds‬التي‬
‫أن اﷲ بعد أن ثبت أ َّنه مط َلق الخير والعلم والقدرة‪ ،‬ال ي ِ‬
‫مكن أن يخ ُلق إال‬ ‫أكدت َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫وشرور ِه ــ هو أفضل العوالِم الممكنة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫مكن‪ ،‬فهذا العا َلم ــ بخيراتِ ِه‬
‫أفضل عا َل ٍم م ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ونحن ال ِ‬
‫نعرف كيف تترا َب ُط شروره‪ ،‬وما إذا كان العا َلم َ‬
‫أفضل من دونها‪ ،‬وفي هذا‬
‫العا َلم تنبثق الخيرات من اﷲ‪ ،‬والشرور من اإلنسان نتيجة نقصه‪ .6‬لتأتي بعد ذلك‬
‫ثيوديس َّية االستيعاب الناقص للحكومة اإللهية ‪Imperfect Comprehension of‬‬
‫‪ God’s Governance‬للفيلسوف والالهوتي اإلنكليزي ا‪Joseph Butler‬ا(‪ 1692‬ــ‬
‫فكرة المعرفة المحدودة‪ ،‬فحكم اﷲ ــ كما تؤكد ــ نظامي وقانوني‪،‬‬
‫‪ ،)1752‬لتعمق َ‬
‫يعرف‬ ‫في المجال الطبيعي واألخالقي‪ ،‬فلكل حدث ِ‬
‫الزمه ونتيجته‪ ،‬لكن اإلنسان ال ِ‬
‫ٍ‬
‫خيرات أعظم‪ ،‬أو ستستبدَ ل‬ ‫ــ وال يستطيع أن ِ‬
‫يعرف ــ طبيعته‪َّ ،‬‬
‫ولعل الشرور تختزن‬
‫ٍ‬
‫بخيرات أعظم بعد الموت‪ .7‬وقدَّ م الكاتب البريطاني ‪Clive Staples Lewis‬ا(‪1898‬‬
‫ــ ‪ )1963‬ثيوديس َّية مكبر الصوت اإللهي ‪ ،God’s Megaphone‬في كتابه «مشكلة‬
‫الحب‬
‫األلم» )‪ ،The Problem of Pain (1940‬إذ أكَّد أن العالم وجد لتحقيق ُ‬
‫ِ‬
‫فيهمس‬ ‫اإللهي‪ ،‬ولكن الناس يبتعدون عن اﷲ‪ ،‬ولذلك يعمل اﷲ على تنبيههم‪،‬‬
‫بالملذات‪ ،‬ويتحدَّ ث بالضمير‪ ،‬ويصرخ باأللم‪ ،‬فالشرور وسيلة تنبيهية ليعود الناس‬
‫الحب مع اﷲ‪ .8‬الفيلسوف االنكليزي ‪Alfred Cyril Ewing‬ا(‪ 1899‬ــ‬
‫إلى عالقة ُ‬
‫‪ )1973‬قدَّ م ثيوديس َّية مبدأ الوحدات العضوية ‪،Principle of Organic Unities‬‬

‫‪ُ .5‬ين َظر‪ :‬اخلرضي‪ ،‬حنا جرجس (‪ )1989‬جون كلفن‪ :‬حياته وتعاليمه‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الثقافة‪ .‬ص‪ 194‬ــ‬
‫‪ .200‬بدوي‪ ،‬عبد الرمحن (‪ )1984‬موسوعة الفلسفة‪ .‬بريوت‪ :‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪.‬‬
‫ج‪ ،2‬ص‪ 264‬ــ ‪.266‬‬
‫‪6. Leibniz, G. W.(1985) Theodicy: Essays on the Goodness of God, the Freedom of‬‬
‫‪Man and the Origin of Evil. Translated by E.M. Huggard. Chicago: Open Court‬‬
‫‪Publishing. Anderson, J. M. (2014) Leibniz’s Theodicies. University of South‬‬
‫‪Florida: Graduate Theses and Dissertations.‬‬
‫‪7. Butler, J. (1850) The Analogy of Religion, Natural and Revealed, to the Constitution‬‬
‫‪and Course of Nature. Edinburgh: William and Robert Chambers.‬‬
‫‪8. Lewis, C. S. (1940) The Problem of Pain. HarperCollins, ebook.‬‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪160‬‬
‫في كتابه «القيمة والواقع» )‪ ،Value and Reality (1973‬إذ أكَّد أن بعض الخيرات‬
‫تنطوي ــ بالضرورة ــ على بعض الشر لتتحقق‪ ،‬وما الشر إال جزء من كل‪ ،‬حيث الكل‬
‫أن الالحتمية ضرورية كذلك‪ ،‬فال ي ِ‬
‫مكن ضمان أن يف َعل اإلنسان‬ ‫خير‪ ،‬إضافة إلى َّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫األفضل‪،‬كما َّ‬
‫أن الشرور نسبية‪ ،‬فما يعد لشخص أفضل قد ال يعد كذلك عند آخر‪،‬‬ ‫َ‬
‫وبالنتيجة يكون إرضاء الجميع ُمستحيل‪ ،‬وفي النهاية ُهناك قوانين السببية التي‬
‫تحكم العا َلم‪ ،‬وبفعل هذه القوانين ربما ال ُيمكن لإلنسان تحقيق كل ما يريده‪ ،‬بل‬
‫إن تطوراته األخالقية قد تتطلب ضبط الرغبات‪ .9‬الفيلسوف األمريكي ‪Alvin Carl‬‬
‫المبارك ‪ ،Felix Culpa‬في كتابه «طبيعة‬
‫)‪ Plantinga (1932‬قدَّ م ثيوديس َّية السقوط ُ‬
‫أن اﷲ موجود بالضرورة‪ ،‬في‬‫الضرورة» )‪ ،The Nature of Necessity (1974‬ليؤكد َّ‬
‫وأفضل‬
‫َ‬ ‫كل عالم ممكن‪ ،‬بخصائصه المثالية المطلقة‪ ،‬والعوالم الشريرة ُمستحيلة‪،‬‬
‫العوالِم الممكنة هو ما يتضمن الذوبان مع اﷲ‪ ،‬وال يحدُ ث ذلك إال بالتكفير والغفران‬
‫التابِعين للخطيئة‪ ،‬ولذلك َ‬
‫توجد‪ ،‬فيكون الشر والخطيئة ضرور َّيان‪ .10‬والفيلسوف‬
‫)‪ Richard Swinburne (1934‬قدَّ م ثيوديس َّية الخيرات األعظم ‪،Greater Goods‬‬
‫في كتابه «العناية ومشكلة الشر» )‪،Providence and the Problem of Evil (1998‬‬
‫توجد بال ُمعاناة‪ ،‬فاتخاذ قرارات خاطئة‬ ‫ِ‬ ‫ليؤكد َّ‬
‫أن الكثير من الخيرات ال ُيمكن أن َ‬
‫الحرة‪ ،‬كما توفر فرصة لتكوين خصائص الرحمة والرعاية‬
‫ضروري لتحقق اإلرادة ُ‬
‫والمساعدة والتفاعل المتبادل وتشكيل الشخصيات‪ ،‬وفي الوقت ذاته يتم تعويض‬
‫الجوانب السلبية بجوانب ايجابية بعد الموت‪.11‬‬
‫المعتزلة يؤكدون اإلرادة‬
‫تخرج الثيوديس َّيات اإلسالم َّية عن ذلك‪ ،‬إذ نجد ُ‬
‫ولم ُ‬
‫الحرة‪ ،‬واألشاعرة يتبنون اإلرادة اإلله َّية‪ ،‬والفالسفة يركزون على عدم َّية الشر‪،‬‬
‫األفضل والخيرات األع َظم‪ ،12‬بدرجات‬‫َ‬ ‫والسلف َّية والصوف َّية يعتمدون العا َلم‬

‫‪9. Ewing, A.C. (1973) Value and Reality. The Philosophical Case for Theism. London/‬‬
‫‪New York: Allen & Unwin/Humanities Press.‬‬
‫‪10. Plantinga, A. (1974) The Nature of Necessity. Oxford: Clarendon.‬‬
‫‪11. Swinburne, R. (1998) Providence and the Problem of Evil. Oxford: Clarendon.‬‬
‫‪Swinburne, R. (1993) Coherence the Theism. Oxford: Clarendon.‬‬
‫‪ُ .12‬ين َظر‪ :‬املطهري‪ ،‬مرتىض (‪ )1981‬العدل اإلهلي‪ .‬ترمجة‪ :‬حممد عبد املنعم اخلاقاين‪ .‬ص‪ 153‬ــ ‪.220‬‬
161 ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

‫ فلم ُيكرس له‬،‫أن المبحث لم يحض باهتما ٍم ُمناظِر‬


َّ ‫ مع مالحظة‬،‫وكيفيات متفاوتة‬
‫ وكل الثيوديس َّيات لم‬.‫ بحسب التتبع‬،‫فيلسوف أو متكلم إسالمي كتا ًبا على اإلطالق‬
ٍ
.13‫إجابات ُمرض َية‬ ‫تقدم‬

Anti ‫ ــ‬theodicy ‫الثيوديسية‬


َّ ‫مضادة‬
َّ ،‫مناهضة الثيوديس َّية‬
‫ولعل أهم تلك‬ َ ‫انبث َقت ــ في ُمقابِل الثيوديس َّية ــ اتجاهات‬
‫ كما في أعمال‬،Moral Antitheodicy ‫االتجاهات هو مضادة الثيوديسية األخالق َّية‬
َّ ‫ إذ أ َّكدَ ت‬،Nick Trakakis ‫ و‬Kenneth Surin ‫ و‬Dewi Zephaniah Phillips
‫أن‬
‫ ليس من‬،‫ وبتعبير آخر‬،‫ممارسة الثيوديس َّية بحد ذاته ينطوي على مخالفة أخالق َّية‬
‫ فالثيوديسية‬،Insensitivity ‫) الالحساس َّية‬1( :‫ أل َّن ُه ُينتِج‬،‫األخالقي تقديم ثيوديس َّية‬
‫ إذ تتط َّلب‬،Detachment ‫) االنفصال‬2(‫ و‬،‫تتضمن التعامل ببرودة مع ُمعاناة الناس‬

،‫ احلالق‬.‫ املؤسسة اجلامعية‬:‫ بريوت‬.‫) اخلري والرش يف الفلسفة اإلسالمية‬1991( ‫ منى أمحد‬،‫أبو زيد‬
‫ ــ‬641‫ ص‬.‫ دار النوادر‬:‫ دمشق‬.‫) العناية اإلهل َّية ومشكلة الرش يف الفكر الفلسفي‬2014( ‫ثائر عيل‬
:‫ السعودية‬.‫ الرد عىل أبرز شبهات املالحدة‬:‫) مشكلة الرش ووجود اهلل‬2016( ‫ سامي‬،‫ عامري‬.712
.‫تكوين‬
Saeedimehr, M. (2010) Islamic Philosophy and the Problem of Evil; a
Philosophical Theodicy. Intl. J. Humanities, 17 (1), 127 - 148.Hovver, J. (2018) A
Topology of Responses to the Philosophical Problem of Evil in the Islamic and
Christian Traditions. The Conrad Grebel Review, pp.82 - 96.Rouzati, N. (2018)
Evil and Human Suffering in Islamic Thought: Towards a Mystical Theodicy.
Religions, 9, 47, 1 - 13.
.‫ املركز القومي للرتمجة‬:‫ القاهرة‬.‫ سارة السباعي‬:‫ ترمجة‬.‫) مشكلة الرش‬2016( ‫ دانيال‬،‫ سبيك‬:‫ ُين َظر‬.13
Howard - Snyder, D. (1999) God, Evil and Suffering. In: Michael J. Murray (Ed.)
Reason for the Hope Within. Eerdmans.Cabrera, I. (2001) Is God Evil? In: María
Pía Lara (eds.) Rethinking Evil: Contemporary Perspectives. Berkely: University
of California Press. pp.17 - 26. Yardan, J. L. (2001) God and the Challenge of Evil:
A Critical Examination of Some Serious Objections to the Good and Omnipotent
God. The Council for Research in Values and Philosophy. Woudenberg, R. V.
(2013) A Brief History of Theodicy. In: Daniel Howard - Snyder & Justin P.
McBrayer (eds.) The Blackwell Companion to the Problem of Evil. New York:
John Wiley and Sons. pp.177 - 191.
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪162‬‬
‫الضارة ‪،Harmful Consequences‬‬
‫َّ‬ ‫المسافة العاطفية عن ُمعاناة الناس‪ ،‬و(‪ )3‬العواقب‬
‫بشكل ما ــ ال ُبنى القمع َّية‪ ،‬وتثبط مقاومة المظالِم‪ ،‬وتشجع البحث العقيم‬
‫ٍ‬ ‫حيث تُشرعن ــ‬
‫ِ‬
‫ستحكم‬ ‫الم‬
‫عن معنى خفي في األلم بدل العمل ضد مصادره‪ ،‬و(‪ )4‬العمى األخالقي ُ‬
‫‪ ،Irremissable Moral Blindness‬فصياغة عقيدة تبريرية يؤسس إلغفال القسوة‬
‫الالمعقو َلة في العا َلم‪ ،‬و(‪ )5‬عدم فهم كيفية عمل األخالق ‪Not Understand how‬‬
‫ُدرك الحد النوعي لبعض الشرور‬ ‫‪ ،Morality Works‬فبافتراض نفعية غير مقيدة‪ ،‬ال ت ِ‬
‫المروعة‪ ،‬وبذلك تشتغل ضمن نظرية أخالق َّية خاطئة‪ ،‬و(‪ )6‬عد الناس مجرد أدوات‬
‫‪ ،People as Mere Means‬بدل عدهم غايات‪.14‬‬
‫السياق ذاتِ ِه‪ ،‬ونتيجة له‪ ،‬وبموازاتِ ِه‪ُ ،‬ط ِر َحت الثيوديسية العالجية ‪Therapeutic‬‬
‫ِ‬ ‫في‬
‫للمعاناة من زاوية اﷲ‪ ،‬بعين اﷲ‪،‬‬
‫‪ ،Theodicy‬التي أشارت إلى أن الثيوديسية تنظر ُ‬
‫وليس بعين َمن ُيعاني‪ ،‬وبذلك تنطوي على إشكال َّيات أخالق َّية وإبستمولوجية‪،‬‬
‫ولتفادي هذه اإلشكاليات يجب إحداث نق َلة في النظر إلى ُ‬
‫المعاناة‪ ،‬طريقة عالجية‬
‫بدل المعرفية المجردة‪ ،‬التخلي عن المحاوالت التبريرية من منظور اإللهية المجردة‬
‫المعاني في معاناته الملموسة‪ .‬ومن أمثلة هذه‬ ‫لصالح الفهم التخيلي لوجهة نظر ُ‬
‫درست ثالث‬‫النقلة ما فعلته )‪ Nehama Verbin (2017‬في ُفرسان اإليمان الثالثة‪ ،‬إذ َ‬
‫ِ‬
‫لمعاناته‪ )1( :‬فارس الحكمة ‪Knight of‬‬ ‫ِ‬
‫رؤيته‬ ‫ِ‬
‫تحاول الكشف عن‬ ‫تمثيالت أليوب‪،‬‬
‫‪( Wisdom‬عند ‪ُ ،)Maimonides‬معاناته شكل عميق من غياب المعرفة‪ ،‬فيتجاوز‬
‫آالمه عبر اكتساب غير افتراضي للحكمة الصوفية من خالل التأمل في اإلله‪ ،‬و(‪)2‬‬
‫المح َّبة ‪( Knight of Loving Trust‬عند ‪ ،)Kierkegaard‬الذي ِ‬
‫يدرك‬ ‫ِ‬
‫فارس الثقة ُ‬
‫الوظيفة المركز َّية للمعاناة في الحياة اإليمانية‪ ،‬فيتجاوز خساراته عبر التعلق باإلله‪،‬‬
‫فارس االحتجاج ‪( Knight of Protest‬عند ‪ ،)Verbin‬شخصية صامدة‪ ،‬تهزم‬ ‫و(‪ِ )3‬‬
‫فالمعاني قد يسامح‬
‫الظلم بتسميته ومقاومته واالحتجاج عليه ورفض التصالح معه‪ُ ،‬‬

‫‪14. Simpson, R. M. (2009) Moral antitheodicy: prospects and problems. In: International‬‬
‫‪Journal for Philosophy of Religion, pp. 153 - 69. Betenson, T. G. (2014) The Problem‬‬
‫‪of Evil as a Moral Objection to Theism. A thesis submitted to the University of‬‬
‫‪Birmingham for the degree of PHD, University of Birmingham.‬‬
‫‪163‬‬ ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

‫اإلله‪ ،‬لكنه ال يزال غير راغب أو غير قادر على التصالح مع األلوهية‪ .‬وعلى الرغم‬
‫من االختالفات‪ ،‬فإن كل ِ‬
‫فارس يقدم صوتًا لمظاهر مختلفة من االستجابات القائمة‬
‫للمعاناة‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فإن مقارباتهم تتضمن مخاطر محتملة‪ .15‬ولكن تبقى‬
‫على اإليمان ُ‬
‫هذه المقاربة محاولة لفهم عمق معاناة اآلخرين‪ ،‬حتى لو لم يتمكن المرء من التجربة‬
‫بذاته‪ ،‬وهو فهم غير ممكن من دون نوع الثقة التعاطفية والمصداقية الممتدة ألولئك‬
‫الذين نشاركهم التقارب االنفعالي الحميم‪ ،‬وعندما نبدأ في أخذ هذه الشهادة كمصدر‬
‫موثوق للمعرفة قد نتحرك لمقاومة مثل هذا الشر‪ ،‬والوقوف مع أولئك الذين يعانون‪،‬‬
‫ومن أجلهم‪ .‬هنا‪ ،‬يتم تحويل فرسان الحكمة‪ ،‬والثقة المحبة‪ ،‬واالحتجاج إلى فارس‬
‫التراحم ‪ ،Knight of Compassion‬الفارس الذي ــ على الرغم من أنه ربما ال يستطيع‬
‫أن يشعر مع أو بـ أولئك الذين يعانون ــ يشعر إلى جانبهم بطريقة تقاربية تُظهر الفهم‬
‫والتضامن وااللتزام بالمقاومة‪ .‬فـ «الثيوديسية الفلسفية الحديثة نحرت أيوب على مذبح‬
‫اإليمان الكالسيكي‪ ،‬وقتل الالهوت الفلسفي ما بعد الحداثي إله الالهوت الكالسيكي‬
‫في ساحة معركة التعالي المعادي للميتافيزيقية‪ .‬وربما تكون إحدى المهمات الرئيسية‬
‫للفلسفة التحليلية للدين في القرن الحادي والعشرين هي تحويل البحث الدقيق إلى‬
‫النضال المطلق للمعاناة اإلنسانية الحقيقية‪ ،‬الستعادة منظور أيوب ومثابرة يعقوب‪ ،‬من‬
‫أجل تحديد تصورات الهوتية مثمرة عن إله ميتافيزيقي يمكن أن نغني ونرقص أمامه‪،‬‬
‫وجها لوجه‪ ،‬إله يمكننا أن نكافح معه بجدية‪ ،‬ويمكننا‬
‫ً‬ ‫أيضا أن نتصارع معه‬
‫ويمكن ً‬
‫كذلك أن نحتج عليه بصوت ٍ‬
‫عال»‪.16‬‬
‫ولع َّله ضمن التقاليد نفسها حدث االلتفات إلى السرد َّيات الثيوديس َّية ‪Theodicy‬‬
‫‪ ،Narratives‬فتوجه البحث إلى كيف َّية سرد الشر‪ ،‬وفهم للشر في المجال األخالقي‬
‫للمعاناة عبر تفسير السرديات‪ ،‬فـ «كل قصة‬
‫من خالل تطوير فهم للظروف العالمية ُ‬
‫تجلب شي ًئا جديدً ا إلى عالم تجربة المعاناة اإلنسانية‪ ،‬وإلقاء ضوء مختلف على‬

‫‪15. Verbin, N. (2017) Three Knights of Faith on Job’s Suffering and its Defeat.‬‬
‫‪International Journal of Philosophy and Theology, 78: 382 - 95.‬‬
‫‪16. Griffioen, A. L. (2018) Therapeutic Theodicy? Suffering, Struggle, and the Shift‬‬
‫‪from the God’s - Eye View. Religions, V.9, pp.1 - 8.‬‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪164‬‬
‫العالقة بين الفاعل والمصاب باألفعال الشريرة‪ ،‬وعلى ما هو مهم للتذكر‪ ،‬ومن‬
‫خالل هذه العملية‪ ،‬نبني ً‬
‫مثال أخالق ًيا سلب ًيا‪ ،‬نتعلم عن الضعف‪ ،‬عن نقاط ضعفنا‬
‫وخطئنا‪ ،‬وباختصار‪ ،‬عن أنفسنا فيما يتعلق بطموحاتنا وتوقعاتنا األخالقية»‪.17‬‬
‫وتأس َست هيرمنيوطيقية الشر ‪ ،Hermeneutics of Evil‬لتحليل االستراتيجيات‬ ‫َّ‬
‫السردية الخطابية (كالفجائع َّية واألس َط َرة والحكمة والثيوديس َّية)‪ ،‬وثالثة طرق‬
‫رئيسية لمقاربته‪ )1( :‬الفهم العملي ‪ ،Practical Understanding‬القدرة المحدودة‬
‫للعقل البشري على التفكير في لغز الشر‪ ،‬القدرة على نقل معضلة الشر من مجال‬
‫النظرية ــ المناسبة لمعايير المعرفة الدقيقة للمنطق والعلم والميتافيزيقا التأملية ــ إلى‬
‫مجال فن عملي أكثر من الفهم‪ ،‬فهم أكثر هرمنيوطيقية لخصائص الشر غير المحددة‬
‫والطارئة والمفردة‪ ،‬مع عدم التخلي عن كل االدعاءات لمعايير شبه عالمية‪ ،‬فيستعير‬
‫من الفعل القناعة بأن الشر شيء ال يجب أن يكون ويجب مكافحته‪ ،‬وبذلك يقاوم‬
‫قدرية عواقب الشر التي يمكن العثور عليها في كل من الميثولوجية والثيودسية‪،‬‬
‫فالشر ليس مجرد شيء نكافح ضدّ ه‪ ،‬بل نعيشه‪ ،‬وبذلك‬
‫ّ‬ ‫و(‪ )2‬التنفيس ‪،Catharsis‬‬
‫يكون «عمل الحداد» مهم جدً ا كطريقة لعدم السماح للطبيعة الالإنسانية للمعاناة‬
‫أن تؤدي إلى «فقدان كامل للذات»‪ ،‬ووظيفة الشهادات السردية ــ في هذه القضية‬
‫ــ حاسمة‪ ،‬إذ تنتقل الضح َّية من حالة العجز الصامت إلى أفعال تمرد َّية وتجديد‬
‫الذات‪ ،‬و(‪ )3‬الغفران ‪ ،Pardon‬فإمكانية الغفران هي «أعجوبة» ألنها تتجاوز حدود‬
‫الحساب والتفسير المنطقيين‪ ،‬وهو شيء ال معنى له قبل أن نعطيه‪ ،‬لكن له معنى‬
‫ً‬
‫مستحيل‪ ،‬وال يمكن التنبؤ به‪ ،‬وال‬ ‫كبير بمجرد أن نفعله‪ .‬فقبل أن يحدث‪ ،‬يبدو األمر‬
‫يمكن تقديره من حيث اقتصاد التبادل‪ ،‬والغفران ليس فقدانًا للذاكرة أبدً ا‪ ،‬بل يجب‬
‫تذكر الماضي والعمل من خالله حتى نتمكن من تحديد ما هو الشيء الذي نتسامح‬
‫معه ‪.18‬‬

‫‪17. Lara, M. P. (2001) Narrating Evil: A Postmetaphysical Theory of Reflective‬‬


‫‪Judgment. In: María Pía Lara (eds.) Rethinking Evil: Contemporary Perspectives.‬‬
‫‪Berkely: University of California Press. pp.239 - 250.‬‬
‫‪18. Kearney, R. (2006) On the Hermeneutics of Evil. Revue de métaphysique et de‬‬
‫‪morale, V.2, N. 50, p. 197 - 215.‬‬
‫‪165‬‬ ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

‫والضمنية ‪Explicit and Implicit Theodicy‬‬


‫َّ‬ ‫الثيوديسية الصريحة‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫حديث تم التمييز بين الثيوديس َّية الصريحة ‪ Explicit Theodicy‬والثيوديس َّية‬ ‫في تطور‬
‫ِ‬
‫الضمن َّية ‪ ،Implicit Theodicy‬إذ تُشير األولى إلى ما ُينت ُج ُه الالهوتيون والفالسفة‬
‫من النظر َّيات المذكورة في الفقرة السابقة‪ ،‬في حين تُشير الثانية إلى ما يحمله الناس‬
‫تخصص َّية ُمن َّظ َمة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫من تفسيرات ونظر َّيات وتصورات شخص َّية عن القضية‪ ،‬فاألولى‬
‫والثان َّية شعب َّية عفو َّية‪ ،‬وهما ــ كما ينبه )‪ Hutsebaut (1992‬ــ متفاعلتان‪ ،‬فالصريحة‬
‫ِ‬
‫تجارب شخص َّية و ُمشاهدات للناس‬ ‫قد تتأثر بالضمن َّية‪ ،‬عبر ما يعيشه المنظرون من‬
‫العاديين وسياقات اجتماع َّية توجه تفكيرهم باتجاهات محددة‪ ،‬والضمن َّية قد تتأثر‬
‫ِ‬
‫بطرائق متنوعة في حياتهم‬ ‫تعرض الناس لمعطيات الخطابات النظر َّية‬
‫بالصريحة‪ ،‬عبر ُّ‬
‫االعتيادية‪ .‬وقد صدرت بعض الدراسات التأسيسية لبحث الثيوديسية الضمنية‪ِ ،‬‬
‫يمكن‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫تحديد ثالث كمنطلقات وعالمات ِ‬
‫فار َقة‪.‬‬
‫المغ َفل من علم نفس الدين» لـ )‪Furnham & Brown (1992‬‬ ‫ِ‬
‫«الثيوديس َّية‪ :‬الجانب ُ‬
‫معارف غير منسجمة مع المقوالت العقائدية عن طبيعة‬ ‫التدين قد يتضمن سلسلة ِ‬
‫اﷲ‪ ،‬وفي مقدمة تلك التعارضات‪ :‬حدوث األشياء السيئة للناس الجيدين‪ ،‬فذلك يرتبط‬
‫باالعتقاد بخير َّية اﷲ‪ ،‬ولكن علماء نفس الدين ــ كما أكدت الدراسة ــ تجاهلوا أهمية‬
‫اﷲ للموضوعات المرتبطة بالثيوديس َّية والمعتقدات عن طبيعة الشر والعقابات اإلله َّية‪،‬‬
‫هذه العقائد التي م َّثلت مشكالت لفالسفة الدين والالهوتيين‪ ،‬وقد ميز الالهوتيون ــ‬
‫في محاولتهم لتفسير مشكلة الشر ــ بين الشر األخالقي ‪( Moral Evil‬الناتِج عن فعل‬
‫اإلنسان) والشر الطبيعي ‪ ،Natural Evil‬وضمن الحلول المطروحة نجد‪ )1( :‬الشر‬
‫موجود فقط كخبرة شخص َّية‪ ،‬و(‪ )2‬الشر طريق للخير‪ ،‬فالفصول األعظم من حياة‬
‫اإلنسان ناتجة عن معايشة المأساوية‪ ،‬و(‪ )3‬الخير والشر متعايشان في اﷲ‪ ،‬و(‪)4‬‬
‫الشر هو إساءة استعمال الحرية الممنوحة لإلنسان من اﷲ أو االخفاق في االستجابة‬
‫لقادر َّية اﷲ التي تتضمن كونه ال يملك قوة مطلقة بل قوة الحب‪ ،‬و(‪ )5‬الشر هو نتيجة‬
‫السقوط‪ ،‬وعقاب إلهي‪ ،‬فالمعاناة نتيجة مباشرة للخطيئة‪ ،‬و(‪ )6‬للشر واأللم فائدة‬
‫بيولوجية لتعليم الناس بطبيعة الخير‪ ،‬كخاص َّية متكونة في النضال للتغلب على الشر‪.‬‬
‫والدراسة ليست مهتمة بالتفسيرات الرسمية‪ ،‬بل بـتفسيرات الناس العاديين لمشكلة‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪166‬‬
‫الشر‪ ،‬ضمن إطار نظرية العزو ‪ ،Attribution Theory‬وقد ِ‬
‫لوحظ َّ‬
‫أن مواجهة حدث‬ ‫َّ‬
‫غير متوقع قد يقود إلى عزوه ألسباب طبيع َّية (داخل َّية أو خارج َّية)‪ ،‬أو أسباب متعالية‬
‫(كاﷲ أو الشيطان)‪ ،‬أو خليط من هذين النوعين‪ ،‬وكل تفسير فيه مخطط سببي يتضمن‬
‫اﷲ‪ ،‬ينطوي كذلك على مفهو ٍم ما ومعتقدات عن الممكن وحدود السيطرة والمسؤولية‬
‫اإلنسانية‪ .‬فانطلقت الدراسة من فرضيتين‪ )1( :‬قد تختلف التفسيرات نتيجة طبيعة‬
‫ِ‬
‫(عواقب شديدة‪/‬بسيطة)‪ ،‬و(‪ )2‬االختالفات‬ ‫الحدث (طبيعي‪/‬أخالقي) وخطورته‬
‫الدينية (اليهودية‪/‬المسيحية‪/‬اإلسالمية‪ )...‬متضمنة في تقديرات تفسيرات األحداث‬
‫الشريرة بصرف النظر عن طبيعة الحدث وخطورته‪ .‬والختبار هاتين الفرضيتين بحثت‬
‫الدراسة المذاهب الدينية وأهمية الدين واستعماله في الشدة ومركزيته في الحياة اليومية‬
‫ٍ‬
‫كمتغيرات دينية ُمستقلة‪ ،‬للتحقق من مدى كون تدين الناس ضمن تقاليد مختلفة يؤثر‬
‫في تفسيراتهم لألنواع المختلفة من الكوارث كأحداث شريرة‪ .‬فانتقت عينة تألفت‬
‫ذكرا و‪ 70‬أنثى)‪ ،‬بأعمار تراوحت بين (‪ 18‬ــ ‪ )55‬سنة‪ ،‬ومذاهب دينية‬
‫من (‪ً 38 :108‬‬
‫(‪ 36‬بروتستانت‪ 23 ،‬كاثوليك‪ 15 ،‬مسلم‪ 13 ،‬يهودي‪ 21 ،‬الأدري وملحد)‪ ،‬وقدمت‬
‫تفسيرا لوجود المعاناة في العالم‪ ،‬وطلبت منهم تقدير‬
‫ً‬ ‫لكل فرد استبانة تضمنت (‪)15‬‬
‫أهمية كل تفسير‪ ،‬وهذه التفسيرات اشت َّقت من مقابالت سابقة مع أناس عاديين عن‬
‫تفسيراتهم للشر‪ ،‬كما قدمت (‪ )4‬حوادث تعيسة (طبيعي بسيط‪ ،‬أخالقي بسيط‪،‬‬
‫طبيعي شديد‪ ،‬أخالقي بسيط)‪ ،‬و ُطلب تقدير أهم َّية كل تفسير لكل حدث‪ ،‬ثم طلب‬
‫منهم تقديم معلومات عن عمرهم ونوعهم ومذهبهم وتقدير أهمية الدين عندهم‬
‫ومدى مشاركتهم في عبادات جماعية‪ ،‬ومدى مساهمة دينهم في إراحتهم خالل‬
‫ظروفهم الصعبة‪ ،‬واألهمية المركزية لمعتقداتهم الدينية‪ .‬وابتدأت باستكشاف البنية‬
‫العميقة للتفسيرات‪ ،‬فأخضعت البيانات للتحليل العاملي االستكشافي‪ ،‬فتبين وجود‬
‫األول تعلق باإلنسان (جهل اإلنسان‪ ،‬االنحدار األخالقي للناس‪،‬‬
‫ثالثة عوامل رئيسة‪َّ :‬‬
‫الظلم‪ ،‬الإنسانية اإلنسان نحو اإلنسان)‪ ،‬والثاني باﷲ (عقاب مرسل من اﷲ‪ ،‬الخير قد‬
‫يأتي من الشر‪ ،‬إظهار واقع الشر‪ ،‬اختبار اإليمان باﷲ‪ ،‬جزء من تخطيط اﷲ)‪ ،‬والثالث‬
‫بالطبيعة (طبيعة العالم المادية‪ ،‬مجرد حظ سيء‪ ،‬الإمكانية السيطرة على ما يحدث‪،‬‬
‫حدث عشوائي‪ ،‬تأثيرات جينية‪ ،‬جزء طبيعي من الحياة)‪ .‬ثم استكشفت المذاهب‬
‫‪167‬‬ ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

‫ِ‬
‫العوامل التفسيرية الثالثة فيما يرتبط‬ ‫الدينية‪ ،‬فأجرت تحليل تباين ثالثي لكل واحد من‬
‫ِ‬
‫والمذاهب الخمسة (بروتستانتي‪،‬‬ ‫باألحداث األربعة (إنساني‪ ،‬طبيعي‪ ،‬شديد‪ ،‬بسيط)‬
‫كاثوليكي‪ ،‬مسلم‪ ،‬يهودي‪ ،‬الأدري أو ملحد)‪ ،‬فأظهرت النتائج أنما ًطا متسقة‪)1( :‬‬
‫ظهر للتفسيرات الطبيعية تأثير رئيس دال في نمط الحدث‪ ،‬مع درجات أعلى لألحداث‬
‫الطبيعية‪ ،‬وحظيت األحداث البسيطة بدرجات تفسيرات طبيعية أعلى‪ ،‬رغم عدم وجود‬
‫تفاعل دال مع نمط الحدث‪ ،‬ولم يكن للمذهب وال للتدين تفاعل دال مع نمط الحدث‬
‫وخطورته‪ ،‬و(‪ )2‬ظهر للتفسيرات الالهوتية فرق دال‪ ،‬إذ المسلمون واليهود يؤكدونها‬
‫أكثر من الكاثوليك والبروتستانت‪ ،‬يليهم الالأدريون والملحدون‪ ،‬وعلى الرغم من أنه‬
‫لم يكن هناك تأثير نمط الحدث‪ ،‬فإن هذه التفسيرات كانت قليلة األهمية لألحداث‬
‫الشديدة ولكن كثيرة األهمية لألحداث البسيطة اإلنسانية‪ ،‬وأدنى أهمية لألحداث‬
‫الطبيعية الشديدة‪ ،‬و(‪ )3‬ظهر للتفسيرات اإلنسانية ثالثة فروق دالة‪ ،‬مع تأثير أساس‬
‫في نمط الحدث‪ ،‬حيث األحداث اإلنسانية أعلى‪ ،‬واألحداث البسيطة أعلى‪ ،‬وفيما‬
‫يخص تفاعل النمط والخطورة تبين أن الحدث اإلنساني البسيط أعلى والحدث‬
‫الطبيعي الشديد أقل‪ ،‬و(‪ )4‬باستعمال تحليل التباين الرباعي (التفسيرات ‪ ،3‬المذاهب‬
‫‪ ،5‬النمط ‪ ،2‬الخطورة ‪ ،)2‬تم توكيد النتائج السابقة‪ ،‬كما ظهر أنه ــ مع استبعاد المذهب‬
‫ــ كل التأثيرات الرئيسة دالة‪ ،‬حيث التفسيرات الطبيعية في المقدمة واإللهية في النهاية‪،‬‬
‫وكذلك هناك تفاعل دال مع التفسيرات‪ ،‬وبالخصوص مع التدين‪ ،‬ألن المسلمين‬
‫واليهود ــ مقارنة بالالأدريين والملحدين ــ بالغوا في توكيد التضمينات اإللهية وأفرطوا‬
‫في تقليل أهمية التفسيرات الطبيعية‪ .‬وبعد ذلك استكشفت أهمية الدين‪ ،‬فأجرت ــ‬
‫كذلك ــ تحليل تباين ثالثي‪ ،‬فأظهرت النتائج‪ )1( :‬التفسيرات الطبيعية كانت ــ ثانية ــ‬
‫ذات تأثير رئيس دال في نمط الحدث‪ ،‬مع درجات أعلى لألحداث الطبيعية‪ ،‬ودرجات‬
‫األحداث البسيطة أعلى‪ ،‬وتأثير هامشي دال للنمط والخطورة‪ ،‬إذ األحداث البسيطة‬
‫أعلى في مقابل التفسيرات الطبيعية من األحداث البسيطة‪ ،‬وتفاعل هامشي دال للنمط‬
‫والخطورة‪ ،‬علة الرغم من عدم داللة التأثير الرئيس للمذاهب الدينية ولكل التفاعالت‪،‬‬
‫و(‪ )2‬التفسيرات الالهوتية أظهرت تأثيرا داال في أهمية الدين‪ ،‬إذ األشخاص الذين‬
‫مهما دعموا التفسيرات الالهوتية أكثر‪ ،‬كما ظهر تأثير رئيس دال للخطورة‪،‬‬
‫عدوا الدين ً‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪168‬‬
‫ولتفاعل النمط والخطورة‪ ،‬مشابه لما ظهر في التفسيرات الطبيعية‪ ،‬وكان هناك تفاعل‬
‫مهما دعموا‬
‫دال بين أهمية الدين وتضمين اإلله وخطورة الحدث‪ ،‬ألن الذين عدوا الدين ً‬
‫التفسيرات الالهوتية لألحداث الشديدة بدرجة أقوى من الذين عدوا الدين أقل أهمية‪،‬‬
‫و(‪ )3‬التفسيرات اإلنسانية كانت ذات تأثير رئيس دال في أهمية الدين ونمط الحدث‬
‫وخطورته‪ ،‬مع تفاعل دال للنمط والخطورة‪ ،‬كما ظهر أن األهمية المتزايدة للدين تتسق‬
‫أن التفسيرات‬ ‫ِ‬
‫النتائج تثبت َّ‬ ‫مع دعم تفسيرات الحدث ضمن األطر اإلنسانية‪ .‬وهذه‬
‫الدينية للشر تعتمد طبيعة الحدث وخطورته‪َّ ،‬‬
‫وأن الفروق الفردية في المعتقدات الدينية‬
‫واالصطفافات المؤسسية بالغة األهمية في تشكيل تلك التفسيرات‪ ،‬وبشكل خاص‬
‫في التفسيرات الالهوتية‪ ،‬فتأكيد المسلمين واليهود على أهمية التفسيرات الالهوتية‬
‫ــ مقارنة بالكاثوليك والبروتستانت والالأدريين والملحدين ــ يظهر الوظيفة المركزية‬
‫المعطاة‬
‫للتقاليد الدينية في هذه التفسيرات‪ ،‬كما تؤكد الفروق بين األديان في الوظيفة ُ‬
‫لله في الشؤون اليومية‪.19‬‬
‫«لماذا يسمح اﷲ بذلك؟ مقاربة إمبيريقية للمسألة الثيوديس َّية من خالل ثيمات‬
‫المعاناة والمعنى» لـ)‪.Hutsebaut (1992‬‬
‫عملت الدراسة على «بحث الثيوديسيات الضمن َّية بمساعدة الصريحة»‪ ،‬وركزت‬
‫على كيفية تفكير الناس بالسؤال الثيوديسي‪ ،‬واعتمدت ما طرحه ‪Van der Ven‬‬
‫)‪ (1984, 1989‬من نماذج سبعة في الالهوتيات الصريحة‪ )1( :‬اإلله الالمبالي ‪The‬‬
‫‪ apathetic God‬الذي ال تهمه المعاناة‪ ،‬ال تحركه وال تمسه وال تثيره‪ ،‬و(‪ )2‬اإلله‬
‫العقابي ‪ The retributive God‬الذي يسمح بالمعاناة كعقوبة على الخطيئة‪ ،‬سواء‬
‫خطيئة الفرد أو اآلخرين‪ ،‬و(‪ )3‬اإلله المخطط والمسيطر ‪The planning and‬‬
‫‪ ،controlling God‬ففي نهاية الحياة ستظهر الوظيفة المهمة للمعاناة‪ ،‬والهدف الذي‬
‫والمتعالي‪ ،‬و(‪)4‬‬ ‫الم ِ‬
‫فارق ُ‬ ‫حدثت ألجله‪ ،‬وهذه الصور الثالثة مشتقة من رؤية اإلله ُ‬
‫اإلله الشافي ‪ ،Therapeutic God‬رمز تعد المعاناة فيه وسيلة لتطهير الناس وتحقيق‬
‫اإلنسانية الحقة‪ ،‬وهذه الصورة مرتبطة برؤية اإلله القريب‪ ،‬و(‪ )5‬اإلله الرحيم ‪The‬‬

‫‪19. Furnham, A. & Brown, L. B. (1992) Theodicy: A Neglected Aspect of the Psychology‬‬
‫‪of Religion. The International Journal for The Psychology of Religion, 2(1), 37 - 45.‬‬
‫‪169‬‬ ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

‫‪ compassionate God‬الذي ينعطف نحو المعاناة بأن يظهر نفسه بشكل يسوع‪ ،‬حيث‬
‫يريح ويساند ويداوي ويبني المجتمع‪ ،‬و(‪ )6‬اإلله الخادم البديل ‪The vicarious‬‬
‫المعاني البريء يحل محل اإلله نفسه في تنازله لمعاناة‬
‫‪ ،servant of God‬حيث ُ‬
‫المعاني‪،‬‬
‫اآلخرين‪ ،‬و(‪ )7‬إله الوحدة الصوفية ‪ ،The mystical unity God‬فمن جانب ُ‬
‫يحل التسليم لإلله محلًّ سام ًيا‪ ،‬فتتحول المعاناة الجسدية والنفسية واالجتماعية إلى‬
‫معاناة صوفية من االنفصال عن اإلله‪ ،‬وبموازاة هذه الرموز الالهوتية الثيوديسية هناك‬
‫رموز كون َّية‪ .‬فصممت الدراسة استبانة تضمنت‪ )1( :‬مقياس للمفاهيم الثيوديسية‬
‫المحتملة‪ ،‬ضمت ــ إلى‬‫والكونية المركزية السبعة‪ ،‬و(‪ )2‬مقاييس للعوامل التفسيرية ُ‬
‫جانب العمر والنوع والتعليم والمهنة ــ العوامل االتجاهية‪ ،‬من قبيل‪ :‬صورة الذات ‪Self‬‬
‫‪ image‬ــ (مدى نظرة الفرد لذاته بإيجابية أو سلبية‪ ،‬وعالقة ذلك بالرموز الثيوديسية‬
‫والكونية)‪ ،‬واالتجاه مقابل القيم المحددة ‪Attitude versus specific values‬‬
‫(االتجاه المرتبط باألسرة‪ ،‬مع التوكيد على تحقيق الذات وقيمة اللذة وأهمية التضامن‬
‫مع اآلخرين)‪ ،‬وتجربة المعاناة ‪( Experience with suffering‬مدى تعرض الفرد‬
‫للمعاناة فيما سبق‪ ،‬واتجاهه نحو تلك المعاناة)‪ ،‬كما أضافت جملة من االتجاهات‬
‫الدينية كعوامل تفسيرية‪ ،‬كاالعتقاد بإله شخصي‪ ،‬واالتجاهات الدينية األساسية‪،‬‬
‫ودرجة الممارسة الدينية الشخصية‪ ،‬ومعنى الحياة المستقل عن المرجعية المتعالية‪،‬‬
‫ودرجة خبرة حضور اإلله في الحياة‪ ،‬وطبقت كل هذه المقاييس على عينة تألفت من‬
‫ٍ‬
‫بأعمار تراوحت بين (‪ 20‬ــ ‪ ،)60‬ومهن متنوعة‪ .‬وابتدأت بـتحليل‬ ‫ذكرا وأنثى‪،‬‬
‫(‪ً )274‬‬
‫الرموز الثيوديسية والكونية‪ ،‬باستعمال التحليل العاملي االستكشافي‪ ،‬فتبين وجود‬
‫أربعة عوامل ثيوديسية‪ :‬الالمبالي‪ ،‬والعقابي‪ ،‬والمخطط المربي (المخطط المسيطر‬
‫والشافي)‪ ،‬والرحيم (الرحيم والخادم البديل والوحدة الصوفية)‪ ،‬وذلك يقود إلى‬
‫استنتاج مزدوج مفاده أن هناك بنية ظاهرة قابلة للتفسير بمعقولية‪ ،‬وتمايزات الالهوتين‬
‫ليست متسقة بالكامل عاد ًة مع التجارب الفردية‪ ،‬وأما العوامل الكونية فكانت‪ :‬الكلية‬
‫(حيث ترتبط المعاناة والطبيعة)‪ ،‬والثنائية (حيث المعاناة مستقلة عن الطبيعة)‪ ،‬والعقابية‬
‫(المعاناة عقاب من الطبيعة)‪ ،‬وبالنظر للمستويات‪ ،‬نجد موافقة العينة على ثيوديسية‬
‫الرحيم والمخطط المربي‪ ،‬وانخفاض الميل إلى العقابي والالمبالي‪ ،‬وعلى الكونية‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪170‬‬
‫تماثلت درجات الكلية والثنائية‪ ،‬وانخفضت في العقابية‪ ،‬وفيما يخص االرتباطات‪،‬‬
‫وجد ارتباط عال بين العوامل الثيوديسية والكونية المتناظرة‪ ،‬فالكلية ارتبطت بالرحيم‬
‫والمخطط المربي‪ ،‬والثنائية بالالمبالي‪ ،‬والعقابية بالعقابي‪ .‬ثم عملت على تفسير الرموز‬
‫الثيوديسية‪ ،‬باستعمال أربع انحدارات متعددة لكل ثيوديسية كعامل تابع‪ ،‬مع المتغيرات‬
‫النفسية والثيوديسيات الثالثة المتبقية كعوامل مستقلة‪ ،‬فتبين تجمعات محددة للعوامل‬
‫النفسية‪ )1( :‬الالمبالي‪ ،‬اتصف الناس الذين يعتمدونه بالتباعد‪ ،‬فالمعاناة لم ترتبط‬
‫المعاناة لم تظهر نظرة مستقبلية‪،‬‬
‫بالمعاناة‪ ،‬وتجربة ُ‬
‫باالعتقاد باإلله‪ ،‬فاإلله ال صلة له ُ‬
‫ولم تساعد الفرد في إثراء حياته‪ ،‬والفرد ال يشعر بغياب اإلله‪ ،‬فإن كان اإلله موجودا‬
‫فهو عقابي‪ ،‬والتباعد نفسه نجده في الكونيات‪ ،‬و(‪ )2‬العقابي‪ ،‬كذلك متباعد‪ ،‬وال تمسه‬
‫المعاناة البشرية‪ ،‬بل يسبب المعاناة‪ ،‬ويوجد عند ذوي صورة الذات السلبية‪ ،‬ويتسق‬
‫مع العقابية الكونية‪ ،‬وتجربة المعاناة تتصف بالحتمية‪ ،‬خارج إطار السيطرة‪ ،‬فاألفراد‬
‫حاضرا بطريقة سلبية‪ ،‬و(‪ )3‬المخطط المربي‪ ،‬عند مواجهة‬
‫ً‬ ‫يتحاشون اإلله‪ ،‬لكنه يظل‬
‫المعاناة يتوقع الفرد بعض الدعم من معتقداته‪ ،‬فاإلله يهتم بالمعاناة البشرية‪ ،‬ويتدخل‬
‫بما يساعد الفرد على تحقيق لذته وتطوره‪ ،‬ويعمل على تطهيره‪ ،‬و(‪ )4‬الرحيم‪ ،‬اإلله في‬
‫خبرة من يحملون هذه الثيوديسية يتحرك بالمعاناة المرتبطة ــ بعمق ــ بألمه‪ ،‬فاإليمان‬
‫مهم عندهم‪ ،‬ويجب تنظيمه بالممارسة المؤسسية‪ ،‬ولذلك نجدهم يميلون للتضامن‪،‬‬
‫ويعلقون أهمية بالغة على التفكير بمشكلة المعنى وبفكرة استقاللية البشرية‪.20‬‬
‫المعاناة» لـ ــ ‪Hale‬‬
‫«قياس المعتقدات المرتبطة بالمعاناة‪ :‬تطوير مقياس رؤى ُ‬
‫)‪S.Smith, Park, & Edmondson (2012‬‬
‫أكدت أنَّه على الرغم من اتفاق ِ‬
‫الباحثين على كون المعتقدات بعدً ا دين ًّيا جوهر ًّيا‪،‬‬
‫المعتقدات‬ ‫ٍ‬
‫فإن دراسات قليلة بحثت ذلك‪ ،‬وتقف في مقدمة تلك المعتقدات‪ُ :‬‬
‫هذه المعتقدات‪ .‬وقد ميزت‬ ‫بخصوص المعاناة (الثيوديسية)‪ ،‬فتصدت الدراسة لبحث ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫بين الثيوديسيات والتفسيرات‪ ،‬فاألولى تقوم على االعتقاد بإله خير عالم قدير‪ ،‬وتحاول‬

‫‪20. Hutsebaut, D. (1992) Why Does God Allow This? An Empirical Approach to the‬‬
‫‪Theodicy Question through the Themes of Suffering and Meaning. Ultimate Reality‬‬
‫‪and Meaning, 15 (4), 286 - 295.‬‬
‫‪171‬‬ ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

‫مالءمة ذلك مع ِ‬
‫الواقع المليء بالشر‪ ،‬في حين ال تعتقد الثانية ــ كل ًّيا أو جزئ ًّيا ــ بذلك‪،‬‬
‫وتحاول البحث عن إجابة في مواضع أخرى‪ .‬فحدَّ َدت (‪ )10‬منظورات‪ )6( ،‬ثيوديس َّية‪،‬‬
‫و(‪ )4‬تفسير َّية‪ .‬فكانت الثيوديسيات‪ :‬المسؤولية اإللهية ‪Divine Responsibility‬‬
‫(اإلرادة الحرة البروتستانتية اإلصالحية والالهوتية الكاثوليكية‪ :‬توجد المعاناة بسبب‬
‫كسر البشر للعالقة اإللهية باستعمال إرادتهم الحرة في الممارسة الشريرة)‪ ،‬والمواجهة‬
‫‪( Encounter‬اليهودية والمسيحية‪ :‬األلم يخدم الهدف النهائي المتمثل بإتاحة الفرصة‬
‫المعاني ‪Sufering God‬‬
‫المعاناة)‪ ،‬واإلله ُ‬
‫للبشر لمقابلة اﷲ من خالل التساؤل عن سبب ُ‬
‫(المسيحية واليهودية‪ :‬ألن اﷲ يحب البشر‪ ،‬فإنه يشاركهم ــ عن ٍ‬
‫عمد ــ في ألمهم‪ ،‬مما‬ ‫ُ‬
‫يمنحه معنى)‪ ،‬والبناء الروحي ‪( Soul Building‬المسيحية واإلسالمية‪ :‬اﷲ يستعمل‬
‫ِ‬
‫الفضائل‪ ،‬كالرحمة والمغفرة والشجاعة‪ ،‬التي ال يمكن أن تتحقق بدون‬ ‫األلم لبناء‬
‫المعاناة)‪ ،‬والتغلب ‪( Overcoming‬إيمان الكلمة‪ :‬البشر يمكنهم التقليل من معاناتهم‬ ‫ُ‬
‫عبر اإليمان والعبادة والعمل الصالِح)‪ ،‬والتدبير َّية ‪( Providence‬اليهودية والمسيحية‬
‫بالمعاناة‪ ،‬وقد خطط لذلك من أجل أهداف خيرة‬ ‫واإلسالمية‪ :‬اﷲ يتحكم ــ بالكامل ــ ُ‬
‫سامية)‪ ،‬وكانت التفسيرات‪ :‬المعرفة المحدودة ‪( Limited Knowledge‬اإليمان‬
‫المفتوح‪ :‬اﷲ ــ بحسب منظور اإليمان المفتوح ــ ليس لديه معرفة سابقة محددة‬
‫المعاناة)‪ ،‬والقصاص َّية ‪( Retribution‬الهندوس َّية البوذ َّية‪:‬‬
‫بالمستقبل‪ ،‬فال يمكنه منع ُ‬
‫أفعال خاطئة ماضية)‪ ،‬والالأرثودوكسية‬ ‫ٍ‬ ‫المعاناة جزء من دورة الحياة‪ ،‬وهي نتاج‬
‫ُ‬
‫‪( Unorthodox‬إيمان َّية ال تقليد َّية‪ :‬اﷲ ليس مط َلق الخير َّية‪ ،‬ولذلك يسبب و‪/‬أو‬
‫المعاناة عبث َّية‪ ،‬بال َهدَ ف)‪ .‬وقد‬
‫بالمعاناة)‪ ،‬والعشوائ َّية ‪( Random‬الإيمان َّية‪ُ :‬‬
‫يسمح ُ‬
‫المعاناة ‪The View of Sufering‬‬ ‫ِ‬
‫قامت ببناء مقياس لهذه المعتقدات‪ :‬مقياس رؤى ُ‬
‫بواقع (‪ )3‬فقرات لكل‬ ‫‪ ،Scale‬تأ َّلف من (‪ )30‬فقرة‪ ،‬موزعة على (‪ )10‬مقاييس فرعية‪ِ ،‬‬
‫َّ‬
‫مقياس‪ ،‬وعملت على التحقق من رصانته بدراستين‪ ،‬في األولى (العينة ‪ 246‬طالب‬
‫وطالبة) أخضعته للتحليل العاملي االستكشافي‪ ،‬الذي أكد بنيته التعددية‪ ،‬وفي الثانية‬
‫(‪ 624‬طالب وطالبة) أخضعته للتحليل العاملي التوكيدي‪ ،‬الذي أكد االستكشافي‪،‬‬
‫وتحققت من ثباته‪ ،‬الذي تراوح بين (‪ 0,70‬ــ ‪ ،)0,90‬ومن صدقه ببحث عالقاته بخمسة‬
‫متغيرات‪ :‬األرثودوكسية المسيحية ‪ ،Christian Orthodoxy‬والسيطرة ‪،Mastery‬‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪172‬‬
‫وافتراضات العا َلم ‪( World Assumptions‬العدالة والعشوائية والحظ والسيطرة)‪،‬‬
‫وصورة اإلله ‪( God Image‬الخيرية والمتحدية والعقابية)‪ ،‬والمرغوبية االجتماعية‬
‫‪ ،Social Desirable‬التي كشفت عن صدقه البنائي والتقاربي‪.21‬‬
‫دراسات‬
‫ٌ‬ ‫المعاناة‪ ،‬ووظفته‬ ‫ِ‬
‫المقياس نق َلة ُمهمة في دراسة معتقدات ُ‬ ‫وقد شكَّل هذا‬
‫ِ‬
‫وعالقات تلك المعتقدات‪ ،‬من قبيل دراسة «المعتقدات‬ ‫ِ‬
‫استكشاف بنية‬ ‫كثيرة في‬
‫الالهوتية عن المعاناة والتفاعالت مع األلوه َّية» لـ ‪Wilt, Exline, Lindberg, Park,‬‬
‫المعاناة متغيرات متوسطة‬
‫أن معتقدات ُ‬ ‫افترضت َّ‬‫َ‬ ‫)‪ ،& Pargament (2017‬التي‬
‫‪ level‬ــ ‪ ،Mid‬تقع بين العموم َّية ‪ Global‬والسياق َّية ‪ ،Contextual‬فالعمومية تعكس‬
‫أنما ًطا ثابتة وواسعة من االرتباط باأللوهية‪ ،‬وتتضمن المعتقدات والممارسات‬
‫واالنفعاالت المنتشرة عبر المواقف‪ ،‬وت ِ‬
‫ُظهر درجة عالية من االتساق عبر الزمن‪،‬‬
‫والسياقية تعكس الخبرة المعرفية والوجدانية والسلوكية لالرتباط باأللوهية داخل‬
‫سياق زمن أو حدث أو موقف محدد‪ ،‬في حين تعكس المتوسطة محتوى المعتقدات‬
‫والممارسات واالنفعاالت المرتبطة بطرائق معينة للتفاعل مع ــ ورؤية ــ األلوهية‪،‬‬
‫دون أن يعني ذلك هرمية‪ ،‬بمعنى أن المتوسطة مشتقة من العمومية‪ ،‬أو السياقية‬
‫مشتقة من المتوسطة‪ ،‬وبتعبير آخر‪ ،‬ليس هناك ــ بالضرورة ــ ترتيب سببي‪ ،‬ينطلق من‬
‫العمومية إلى المتوسطة إلى السياقية‪ ،‬ولكن العمومية تقدم رؤية عامة‪ ،‬والمتوسطة‬
‫تفصيلية‪ ،‬والسياقية تمظهرات عيانية للمعتقدات والسلوكيات واالنفعاالت‪ .‬فهدف‬
‫الدراسة تحديد كيفية ارتباط معتقدات المعاناة باالنشغاالت الدينية ــ الروحية‪،‬‬
‫واالتجاهات نحو اإلله‪ ،‬وصور اإلله‪ ،‬وكذلك كيفية ارتباط هذه المعتقدات‬
‫بالتفاعالت مع األلوهية ضمن سياق صراعات دينية ــ روحية متواصلة‪ .‬وانتقت عينة‬
‫تألفت من (‪ ،)2920‬طبقت عليهم مقاييس العمومية‪ :‬االنشغال واالعتقاد والشك‬
‫الديني ‪(Religious Involvement, Belief, and Doubt‬قوة وأهمية المعتقدات‬

‫‪21. Hale - Smith, A., Park, C. L. & Edmondson, D. (2012) Measuring Beliefs About‬‬
‫‪Suffering: Development of the Views of Suffering Scale. Psychological Assessment,‬‬
‫‪24 (4), 855 - 866. Bambenek, R. (2017) The Relationship Between Beliefs About‬‬
‫‪Sufering and Well - Being. Masters Theses, 2562.htps://thekeep.eiu.edu/theses/2562.‬‬
‫‪173‬‬ ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

‫الدينية في الحياة اليومية)‪ ،‬واالتجاه نحو اإلله ‪(Attitudes toward God‬الغضب‬


‫والخيبة من اإلله‪ ،‬االتجاه االيجابي نحو اإلله)‪ ،‬ومفهوم اإلله ‪God concept‬‬
‫(المحب‪ ،‬القاسي‪ ،‬البعيد)‪ ،‬ومقاييس السياقية‪ :‬االستجابات المعرفية والوجدانية‬
‫ُ‬
‫والسلوكية للصراعات الدينية ــ الروحية المحددة (وصف صراعات محددة‪،‬‬
‫متعالية واجتماعية وشخصية‪ ،‬ثم تحديد إسنادات ومشاعر ومقاربات ايجابية‬
‫وسلبية ترتبط بوظيفة اإلله في لحظات تلك الصراعات)‪ ،‬ومقياس المتوسطة‪:‬‬
‫المعاناة‪ .‬وابتدأت باستكشاف عالقات العمومية بالمعتقدات‪ ،‬وكما هو‬
‫مقياس رؤى ُ‬
‫متوقع‪ ،‬ارتبطت الرؤى الخيرية لوظيفة اإلله في المعاناة بمستويات عالية من التدين‬
‫والمشاركة الدينية واالعتقاد باإلله والشك المنخفض بوجود اإلله‪ ،‬واالتجاهات‬
‫االيجابية نحو اإلله وصور اإلله‪ ،‬والعكس بالعكس‪ ،‬ثم استكشفت عالقات السياقية‬
‫بالمعتقدات‪ ،‬وكذلك ارتبطت الثيوديسيات الخيرية بإسنادات ايجابية لإلله‪ ،‬ومشاعر‬
‫إيجابية نحوه‪ ،‬وتقاربات سلوكية منه‪ ،‬والعكس بالعكس‪ ،‬ما يشير إلى أن المعتقدات‬
‫المتوسطة ذات تضمينات لطرائق تفكير وشعور وسلوك الناس في عالقتهم المدركة‬
‫باأللوهية خالل صراعاتهم الدينية ــ الروحية الخاصة‪ ،‬إضافة ــ وفيما وراء ــ رؤيتهم‬
‫العمومية لإلله‪ ،‬وبالنتيجة كان االعتقاد بأن المعاناة جز ٌء من الخطة اإللهية الخيرية ــ‬
‫عبر المستويات العمومية والسياقية ــ مرتبط بالتفاعالت المفضلة المدركة مع اإلله‪،‬‬
‫ً‬
‫تفضيل‬ ‫في حين ارتبطت المعتقدات العازية لوظيفة ال خيرية لإلله بالتفاعالت األقل‬
‫مع اإلله‪.22‬‬

‫للثيوديسية‬
‫َّ‬ ‫االجتماعية‬
‫َّ‬ ‫النفسية‬
‫َّ‬ ‫الديناميات‬
‫َّ‬
‫في كتابِه «االعتقاد بعدالة العا َلم‪ :‬وهم أساس» ‪Belief in a just world: A‬‬
‫)‪ ،fundamental delusion (1980‬أكَّد عالِم النفس االجتماعي ‪Melvin J. Lerner‬‬
‫«إن الناس‪ ،‬من أجل حماية أمنهم النفسي وقدرتهم على التخطيط للمستقبل‪ ،‬يحتاجون‬

‫)‪22. Wilt, J. A., Exline, J. J., Lindberg, M. J., Park, C. L. & Pargament, K. I. (2017‬‬
‫‪Theological Beliefs About Suffering and Interactions With the Divine. Psychology‬‬
‫‪of Religion and Spirituality, 9 (2), 137 - 147.‬‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪174‬‬
‫لالعتقاد بأنهم يعيشون في عالم عادل بالضرورة‪ ،‬يستطيعون فيه الحصول على ما‬
‫يستحقونه»‪ ،‬وبشكل خاص في عا َلمهم الشخصي مقارنة بما هو خارجه‪ِ ،‬‬
‫وضم َن‬ ‫ُ‬
‫جماعتهم الداخل َّية أكثر مما هو ضمن الجماعات الخارج َّية‪ ،23‬ويمارسون استراتيجيات‬
‫الم ِ‬ ‫ِ‬
‫نتهك للعدالة‪ :‬استراتيجيات‬ ‫للمواءمة بين الحاجة لالعتقاد بعدالة العا َلم والواقع ُ‬
‫ِ‬
‫كوسائل‬ ‫عقالن َّية ‪ ،Rational Strategies‬تعمل عند تقبل حقيقة وجود الظلم‪،‬‬
‫معقولة للتعامل مع هذه الحقيقة‪ ،‬تتم َّثل بـ (‪ )1‬المنع والتعويض ‪Prevention and‬‬
‫‪ ،Restitution‬حيث المؤسسات المانِ َعة للظلم والتأسيسات التعويضية للمتضررين‪،‬‬
‫وكذلك اإلسهامات الفردية لتقديم المساعدات المباشرة لآلخرين‪ ،‬و(‪ )2‬قبول الفرد‬
‫بمحدودية قدراته ‪ ،Acceptance of One’s Limitations‬حيث يتجنب الفرد مواجهة‬
‫المظالم‪ ،‬بعد أن يقارن بين المجازفة والفوائد المحتملة‪ ،‬واستراتيجيات العقالنية‬
‫‪ ،Nonrational Strategies‬تُعت ََمد للتخفيف المؤقت من مشاعر التعاسة الناجمة عن‬
‫التعرض للمظالم‪ ،‬وتتم َّثل بـ (‪ )1‬اإلنكار ــ االنسحاب ‪ Withdrawal‬ــ ‪ ،Denial‬فينتقي‬
‫ويغفل أخرى‪ ،‬ليتجنب رؤية المظالِم‪ ،‬و(‪ )2‬إعادة تفسير الحدث‬ ‫بعض المعلومات‪ِ ،‬‬
‫‪ ،Reinterpretation of the Event‬بأن يسنِد مصير الضح َّية إلى ما فعلته أو فشلت في‬
‫فعله‪ ،‬أو ينظر إليه كمرغوب‪ ،‬حيث يمكن أن يقود إلى خيرات أع َظم الحقة‪ ،‬أو يعيد‬
‫تقييم شخصية الضحية بحسب المعايير االجتماعية السائدة‪ ،‬لتحط من القدر بحيث‬
‫تستحق ما يحدث‪ ،‬و(‪ )3‬االعتقاد بالعدالة النهائ َّية ‪،Belief in an Ultimate Justice‬‬
‫بفصل اعتقاده بالعدالة عن األحداث اليوم َّية لعالم الواقع‪ ،‬لتقبل النكسات المؤقته‬
‫ستتحسن فيه شؤونه على المدى البعيد‪.24‬‬ ‫ٍ‬
‫كجزء من عا َلم‬
‫َّ‬

‫‪23. Hafer, C. & Begue, L. (2005) Experimental Research on Just - World Theory:‬‬
‫‪Problems, Developments, and Future Challenges. Psychological Bulletin, 131 (1):‬‬
‫‪128 - 167. Aguiar, P., Vala, J., Correia, I. & Pereira, C. (2008) Justice in Our World‬‬
‫‪and in that of Others: Belief in a Just World and Reactions to Victims. Soc Just Res,‬‬
‫‪21:50 - 68. Dalbert, C. & Donat, M. (2015) Belief in a just world. In J. D. Wright‬‬
‫‪(Ed.), International Encyclopedia of the Social & Behavioral Sciences. Oxford, UK:‬‬
‫‪Elsevier. 2ed., 2:487 - 492.‬‬
‫‪ .24‬نظمي‪ ،‬فارس كامل (‪ )2019‬االعتقاد بعدالة العامل‪ :‬الوهم والرضورة‪ .‬الكوفة‪ :‬دراسات فكر َّية‪.‬‬
‫ص‪ 106‬ــ ‪.108‬‬
‫‪175‬‬ ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

‫بعد ذلك‪ ،‬ظهرت نظرية تبرير النظام ‪ The System justification Theory‬لـ‬
‫‪ ،John T. Jost & Mahzarin R. Banaji 1994‬لتؤكد َّ‬
‫أن هناك داف ًعا ال شعور ًّيا ــ‬
‫للدفاع عن ــ وتبرير ــ الوضع الراهن‪ ،‬وقوة ذلك الدافع تتزايد مع إدراك حتمية‬
‫الوضع الراهن وتعرضه للتهديدات مع كون الفرد معتمدً ا عليه ومحكو ًما به‪ ،‬وهو‬
‫بذلك يشبع الدوافع اإلبستيمية األساسية لتقليل عدم اليقين‪ ،‬والدوافع الوجودية‬
‫إلدارة التهديد‪ ،‬والدوافع العالقاتية لمناغمة العالقات االجتماعية‪ ،‬والتغيرات‬
‫النزوعية والموقفية في هذه الحاجات ستحدد قوة الدافع التبريري‪ ،‬كما أن هناك‬
‫جملة وسائل محتملة للتبريرية‪ ،‬كالتأييد المباشر إليديولوجيات معينة وشرعنة‬
‫المشكالت‪ ،‬والتنميطية وال َعق َلنَة‪ ،‬وهو‬
‫المؤسسات والسلطات وإنكار أو تقليل ُ‬
‫(المفضلة للوضع الراهن) متسق مع دوافع تبرير األنا‬
‫ُ‬ ‫عند الجماعات المتفوقة‬
‫والجماعة‪ ،‬ولذلك يرتبط إيجاب ًّيا بتقدير الذات وتفضيلية الجماعة الداخلية‪ ،‬في‬
‫(المستاءة من الوضع الراهن) يتصارع مع دوافع‬
‫حين هو عند الجماعات المتدنية ُ‬
‫تبرير األنا والجماعة‪ ،‬ولذلك يرتبط سلب ًّيا بتقدير الذات وتفضيلية الجماعة‪.‬‬
‫وذلك يتم ضمن إيديولوج َّيات تبرير َّية متعددة‪ ،‬من قبيل‪ :‬أخالق َّيات العمل‬
‫البروتستانت َّية ‪( Protestant work ethic‬للناس مسؤولية أخالق َّية للعمل بجد‬
‫وتجنب النشاطات الترفيه َّية)‪ ،‬وإيديولوجية األهل َّية ‪Meritocratic ideology‬‬
‫ِ‬
‫والراغب‪ ،‬والنجاح مؤشر االستحقاق)‪ ،‬وتبرير النظام‬ ‫(النظام يثيب الفرد القادر‬
‫االقتصادي ‪( Economic system justification‬التفاوت االقتصادي طبيعي‬
‫والمخرجات االقتصادية منصفة ومستحقة)‪ ،‬واالعتقاد بعدالة‬
‫وحتمي وشرعي‪ُ ،‬‬
‫العالم ‪( Belief in a just world‬الناس يحصلون على ما يستحقونه)‪ ،‬وتفاوت‬
‫القوة ‪( Power distance‬التفاوت طبيعي و َمع َلم مرغوب للنظام االجتماعي‪،‬‬
‫ففروق القوة الواسعة مقبولة وشرعية)‪ ،‬وتوجه الهيمنة االجتماع َّية ‪Social‬‬
‫‪( dominance orientation‬بعض الجماعات متفوقة على أخرى‪ ،‬والهرم َّية‬
‫الجماع َّية صالحة)‪ ،‬ومعارضة المساواة (تزايد المساواة االجتماعية واالقتصادية‬
‫غير ممكن وغير مرغوب‪ ،‬فهو يقيد المجتمع)‪ ،‬والتسلط َّية اليمين َّية ‪ wing‬ــ ‪Right‬‬
‫‪( authoritarianism‬الناس يجب عليهم طاعة األعراف التقليدية والسلطات‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪176‬‬
‫الراسخة وتجنب األفكار التمردية)‪ .‬وهذه النزعة التبريرية نتيجة ُمسبقات‬
‫داخل َّية وموقف َّية‪ ،‬كالحاجة للنظام والبنية ‪Needs for order and structure‬‬
‫المنظمة والواضحة والمحددة)‪ ،‬وإدراك العا َلم الخطر‬
‫(تفضيل بيئة اتخاذ القرار ُ‬
‫‪( Perception of a dangerous world‬الحساسية المرتفعة للمخاطر المحتملة‬
‫في البيئة االجتماعية‪ ،‬كتهديدات العنف والجريمة واالرهاب)‪ ،‬وقلق الموت‬
‫‪( Death anxiety‬الوعي الوجودي ــ والخوف ــ المرتبط بمشهد الموت‪ ،‬والقلق‬
‫المنبثق من االهتمامات بالفناء)‪ ،‬واهتزاز وتهديد النظام ‪System instability‬‬
‫‪( and threat‬التهديد الفعلي أو المتخيل لشرعية أو استقرار النظام االجتماعي‬
‫أو االقتصادي أو السياسي‪ ،‬والمهاجمة الرمزية أو المادية للوضع الراهن)‪.25‬‬
‫هاتان النظر َّيتان تؤكدان أن عند اإلنسان دافعين عميقين‪ )1( :‬دافِع لرؤية‬
‫العدالة في عالمه‪ ،‬و(‪ )2‬دافع للمحا َف َظة على الوضع الراهن‪ ،‬والدفاع عن ذلك‬
‫من خالل المواجهة التبرير َّية‪ ،‬وما الثيوديس َّيات ــ الصريحة والضمن َّية ــ إال‬
‫ُ‬
‫يعيش تصا ُد ًما‬ ‫تمظهرات لدينام َّيات هذين الدافعين‪ .‬فاإلنسان ــ في الغالِب ــ‬
‫ِ‬
‫يتضمن‬ ‫َّ‬ ‫ضاغط‪،‬‬ ‫بين عا َلمين‪ :‬عالمه الخارجي وعالمه الداخلي‪ ،‬حيث َّ‬
‫األول‬ ‫َ‬
‫حروب وصراعات وإبادات‬ ‫ٍ‬ ‫عشرات التهديدات واالنتكاسات والمخاوف‪ ،‬من‬
‫المعاناة‪ ،‬في‬ ‫ٍ‬
‫وانتهاكات اجتماع َّية وفرد َّية‪ ،‬تقود الفرد والجماعة إلى معايشة ُ‬
‫حين يتوق الثاني لألمان‪ ،‬ويبني أنظمته (االعتقادية واالجتماعية والسياس َّية‬
‫واالقتصادية‪ )...‬بهدف تحقيق ذلك‪ ،‬ويحافِظ على تلك األنظِ َمة ــ حتى إن لم‬
‫تحقق هدفه ــ كوسيلة لتأمين الشعور ــ الواقعي أو الوهمي ــ باألمان‪ ،‬ويتجلى‬
‫ٍ‬
‫خاص حاجته‬ ‫ٍ‬
‫وبشكل‬ ‫توقه لذلك في حاجاتِ ِه اإلبستيمية والوجود َّية والعالقات َّية‪،‬‬
‫لالعتقاد بالعدالة‪ ،‬فاعتقاد الفرد بأنه ــ وكل فرد ــ يحصل على ما يستحقه يوفر‬

‫‪25. Jost, J. T. & Hunyady, O. (2005) Antecedents and Consequences of System -‬‬
‫‪Justifying Ideologies. Current Directions in Psychological Science, 14 (5): 260 -‬‬
‫‪265. Jost, J. T., Liviatan, I., Toorn, J., Ledgerwood, A., Mandisodza, A. & Nosek, B.‬‬
‫‪A. (2012) System Justification: A Motivational Process with Implications for Social‬‬
‫‪Conflict. In: E. Kals and J. Maes (eds.) Justice and Conflicts. Springer - Verlag‬‬
‫‪Berlin Heidelberg. 315 - 327.‬‬
‫‪177‬‬ ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

‫واق ٌع مليء بالشرور‬ ‫له الشعور باألمان‪ ،‬وهنا يحصل التصادم بين العالمين‪ِ :‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المستح َّقة وغير المعقولة في الغالِب‪ ،‬وحاجات عميقة لألمان‬ ‫ِ‬
‫والمظالم‪ ،‬غير ُ‬
‫والعدالة‪ ،‬ما يد َفع باتجاه اختالل التوازن‪ ،‬المعرفي واالنفعالي‪ ،‬وهو حالة قاس َية‪،‬‬
‫تعوق إمكانيات العيش‪ ،‬ما يب َعث على ابتكار استراتيجيات للموائمة والمصا َل َحة‬
‫األول صعب‪ ،‬يميل التغيير إلى التشكُّل ضمن‬ ‫بين هذين العالمين‪ ،‬ولكون تغيير َّ‬
‫المتدينة‬ ‫المتدين والجماعة ُ‬ ‫الثاني‪ ،‬باستراتيجيات تأويل َّية تبرير َّية‪ .‬وعند الفرد ُ‬
‫ضاعف‪ ،‬فالتد ُّين ــ بحد ذاتِ ِه ــ نمط خاص من البحث عن‬ ‫يتكر ُس ذلك بشكل ُم َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫لتحقيق‬ ‫ِ‬
‫قوة ُمتعا َلية ُمط َل َقة‪ ،‬ومنظو َمة اعتقاد َّية شاس َعة ُبن َيت‬ ‫ِ‬
‫األمان باالستناد إلى َّ‬
‫ذلك‪ ،‬تشبِع الحاجة اإلبستيمية لليقين والبنية‪ ،‬والحاجة الوجودية لمواجهة‬
‫للتواصل‪ ،‬وكذلك للتوق إلى العدا َلة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الرعب والموت‪ ،‬والحاجة االجتماعية‬ ‫ُ‬
‫فالعدالة ص َف ٌة أساس َّية لإلله ُمط َلق الخير والعلم والقدرة‪ ،‬وفي عا َل ٍم آخر َبعدي‬ ‫ِ‬
‫القداسة اإليمان َّية‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بأسوار من‬ ‫ٌ‬
‫محاط‬ ‫الكامل للعدا َلة‪ ،‬وكل ذلك‬ ‫ِ‬ ‫سيكون التحقق‬
‫َ‬
‫فإن أشد تهديد ِير ُد من « ُمشكلة الشر»‪ ،‬فتستجيب الجماعة بثيوديس َّيات‬ ‫ٍ‬ ‫ولذلك َّ‬
‫صريحة‪ ،‬إنكار َّية (عدم َّية الشر ومحدودية المعرفة) وتأويل َّية (اإلرادة والخطيئة‬ ‫َ‬
‫والصناعة والخيرات األع َظم) ونهائ َّية (عدا َلة عا َلم ما بعد الموت)‪ ،‬كما يستجيب‬
‫بطرائق متعددة‬‫ِ‬ ‫تحتفظ بالرؤية الخير َّية لإلله‪ ،‬متأثرة ــ‬ ‫ِ‬ ‫الفرد بثيوديس َّيات ضمن َّية‪،‬‬
‫بالتجارب الشخص َّية والسياقات الثقاف َّية‪ ،‬فكال‬ ‫ِ‬ ‫ــ بالخطاب الرسمي‪ ،‬وكذلك‬
‫النمطين يشتركان في الدينام َّيات النفس َّية االجتماع َّية‪ ،‬ويختلفان في مدى التنظيم َّية‬
‫بمقاربة‬
‫َ‬ ‫والتنظير َّية‪ .‬ولعل إدراك هذه الحقيقة ُيفيد في إعادة قراءة الثيوديسيات‬
‫المعاناة البشر َّية‪ ،‬إلحداث نق َلة‬ ‫سوسيوثقاف َّية‪ ،‬ويعزز النزعة اإلنسان َّية في مقاربة ُ‬
‫من التبرير َّية إلى التغيير َّية‪.‬‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪178‬‬

‫المراجع‬
‫‪-‬أبو زيد‪ ،‬منى أحمد (‪ )1991‬الخير والشر في الفلسفة اإلسالمية‪ .‬بيروت‪ :‬المؤسسة‬
‫الجامعية‪.‬‬
‫‪-‬بدوي‪ ،‬عبد الرحمن (‪ )1984‬موسوعة الفلسفة‪ .‬بيروت‪ :‬المؤسسة العربية‬
‫للدراسات والنشر‪.‬‬
‫‪-‬تشادويك‪ ،‬هنري (‪ )2016‬أوغسطين‪ .‬ترجمة‪ :‬أحمد محمد الروبي‪ .‬القاهرة‪:‬‬
‫مؤسسة هنداوي‪.‬‬
‫‪-‬الحالق‪ ،‬ثائر علي (‪ )2014‬العناية اإلله َّية ومشكلة الشر في الفكر الفلسفي‪.‬‬
‫دمشق‪ :‬دار النوادر‪.‬‬
‫‪-‬الخضري‪ ،‬حنا جرجس (‪ )1989‬جون كلفن‪ :‬حياته وتعاليمه‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الثقافة‪.‬‬
‫‪-‬رحمة‪ ،‬جورج (‪ )1992‬ايريناوس‪ :‬اسقف مدينة ليون‪ .‬لبنان‪ :‬منشورات المركز‬
‫الرعوي لالبحاث والدراسات ‪.‬‬
‫‪-‬سبيك‪ ،‬دانيال (‪ )2016‬مشكلة الشر‪ .‬ترجمة‪ :‬سارة السباعي‪ .‬القاهرة‪ :‬المركز‬
‫القومي للترجمة‪.‬‬
‫‪-‬عامري‪ ،‬سامي (‪ )2016‬مشكلة الشر ووجود اﷲ‪ :‬الرد على أبرز شبهات المالحدة‪.‬‬
‫السعودية‪ :‬تكوين‪.‬‬
‫‪-‬عويضة‪ ،‬كامل محمد (‪ )1993‬أوغسطين‪ :‬فيلسوف العصور الوسطى‪ .‬بيروت‪ :‬دار‬
‫الكتب العلم َّية‪.‬‬
‫‪-‬الكنسي‪ ،‬أبو التقليد (‪ )1992‬القديس إيريناوس‪ :‬أسقف ليون‪ .‬ترجمة‪ :‬أنطون‬
‫فهمي جورج‪ .‬القاهرة‪ :‬كنيسة مارمرقس‪.‬‬
‫‪-‬ليفيك‪ ،‬جان (‪ )1989‬أيوب‪ :‬الكتاب ورسالته‪ .‬ترجمة‪ :‬يوسف قوشاقجي‪.‬‬
‫بيروت‪ :‬دار المشرق‪.‬‬
179 ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

‫ المركز‬:‫ القاهرة‬.‫ أيمن فؤاد زهري‬:‫ ترجمة‬.‫) أوغسطين‬2013( ‫ جاريث‬،‫ماثيوز‬-


.‫القومي للترجمة‬
.‫ محمد عبد المنعم الخاقاني‬:‫ ترجمة‬.‫) العدل اإللهي‬1981( ‫ مرتضى‬،‫المطهري‬-
:‫ الكوفة‬.‫ الوهم والضرورة‬:‫) االعتقاد بعدالة العالم‬2019( ‫ فارس كمال‬،‫نظمي‬-
.‫دراسات فكر َّية‬
-- Anderson, J. M. (2014) Leibniz’s Theodicies. University of South Florida:
Graduate Theses and Dissertations.
-- Aguiar, P., Vala, J., Correia, I. & Pereira, C. (2008) Justice in Our World
and in that of Others: Belief in a Just World and Reactions to Victims. Soc
Just Res, 21:50 ‫ ــ‬68.
-- Bambenek, R. (2017) The Relationship Between Beliefs About Sufering and
Well ‫ ــ‬Being. Masters Theses, 2562.htps://thekeep.eiu.edu/theses/2562.
-- Betenson, T. G. (2014) The Problem of Evil as a Moral Objection to
Theism. A thesis submitted to the University of Birmingham for the
degree of PHD, University of Birmingham.
-- Butler, J. (1850) The Analogy of Religion, Natural and Revealed, to the
Constitution and Course of Nature. Edinburgh: William and Robert
Chambers.
-- Cabrera, I. (2001) Is God Evil? In: María Pía Lara (eds.) Rethinking Evil:
Contemporary Perspectives. Berkely: University of California Press.17 ‫ــ‬
26.
-- Dalbert, C. & Donat, M. (2015) Belief in a just world. In J. D. Wright
(Ed.), International Encyclopedia of the Social & Behavioral Sciences.
Oxford, UK: Elsevier. 2ed., 2:487 ‫ ــ‬492.
-- Ewing, A.C. (1973) Value and Reality. The Philosophical Case for Theism.
London/New York: Allen & Unwin/Humanities Press.
‫د‬. ‫ربج لعزخ يؤل‬ 180
-- Furnham, A. & Brown, L. B. (1992) Theodicy: A Neglected Aspect of the
Psychology of Religion. The International Journal for The Psychology of
Religion, 2(1): 37 ‫ ــ‬45.
-- Griffioen, A. L. (2018) Therapeutic Theodicy? Suffering, Struggle, and the
Shift from the God’s ‫ ــ‬Eye View. Religions, 9:1 ‫ ــ‬8.
-- Hale ‫ ــ‬Smith, A., Park, C. L. & Edmondson, D. (2012) Measuring
Beliefs About Suffering: Development of the Views of Suffering Scale.
Psychological Assessment, 24 (4): 855 ‫ ــ‬866.
-- Hafer, C. & Begue, L. (2005) Experimental Research on Just ‫ ــ‬World
Theory: Problems, Developments, and Future Challenges. Psychological
Bulletin, 131 (1): 128 ‫ ــ‬167.
-- Hovver, J. (2018) A Topology of Responses to the Philosophical Problem
of Evil in the Islamic and Christian Traditions. The Conrad Grebel
Review, 82 ‫ ــ‬96.
-- Howard ‫ ــ‬Snyder, D. (1999) God, Evil and Suffering. In: Michael J. Murray
(Ed.) Reason for the Hope Within. Eerdmans.
-- Hutsebaut, D. (1992) Why Does God Allow This? An Empirical Approach
to the Theodicy Question through the Themes of Suffering and Meaning.
Ultimate Reality and Meaning, 15 (4): 286 ‫ ــ‬295.
-- Jost, J. T. & Hunyady, O. (2005) Antecedents and Consequences of System
‫ ــ‬Justifying Ideologies. Current Directions in Psychological Science, 14
(5): 260 ‫ ــ‬265.
-- Jost, J. T., Liviatan, I., Toorn, J., Ledgerwood, A., Mandisodza, A. &
Nosek, B. A. (2012) System Justification: A Motivational Process with
Implications for Social Conflict. In: E. Kals and J. Maes (eds.) Justice and
Conflicts. Springer ‫ ــ‬Verlag Berlin Heidelberg. 315 ‫ ــ‬327.
181 ‫َّيسيدويثلا ةيجولوكيس‬

-- Kearney, R. (2006) On the Hermeneutics of Evil. Revue de métaphysique


et de morale, 2 (50): 197 ‫ ــ‬215.
-- Lara, M. P. (2001) Narrating Evil: A Postmetaphysical Theory of Reflective
Judgment. In: María Pía Lara (eds.) Rethinking Evil: Contemporary
Perspectives. Berkely: University of California Press. 239 ‫ ــ‬250.
-- Leibniz, G. W.(1985) Theodicy: Essays on the Goodness of God, the
Freedom of Man and the Origin of Evil. Translated by E.M. Huggard.
Chicago: Open Court Publishing.
-- Lewis, C. S. (1940) The Problem of Pain. HarperCollins, ebook.
-- Plantinga, A. (1974) The Nature of Necessity. Oxford: Clarendon.
-- Rouzati, N. (2018)Evil and Human Suffering in Islamic Thought: Towards
a Mystical Theodicy. Religions, 9 (47): 1 ‫ ــ‬13.
-- Saeedimehr, M. (2010) Islamic Philosophy and the Problem of Evil; a
Philosophical Theodicy. Intl. J. Humanities, 17 (1): 127 ‫ ــ‬148.
-- Simpson, R. M. (2009) Moral antitheodicy: prospects and problems. In:
International Journal for Philosophy of Religion, 153 ‫ ــ‬69.
-- Swinburne, R. (1993) Coherence the Theism. Oxford: Clarendon.
-- Swinburne, R. (1998) Providence and the Problem of Evil. Oxford:
Clarendon.
-- Verbin, N. (2017) Three Knights of Faith on Job’s Suffering and its Defeat.
International Journal of Philosophy and Theology, 78: 382 ‫ ــ‬95.
-- Wilt, J. A., Exline, J. J., Lindberg, M. J., Park, C. L. & Pargament, K. I.
(2017) Theological Beliefs About Suffering and Interactions With the
Divine. Psychology of Religion and Spirituality, 9 (2): 137 ‫ ــ‬147.
‫د‬. ‫ربج لعزخ يؤل‬ 182
-- Woudenberg, R. V. (2013) A Brief History of Theodicy. In: Daniel
Howard ‫ ــ‬Snyder & Justin P. McBrayer (eds.) The Blackwell Companion
to the Problem of Evil. New York: John Wiley and Sons.177 ‫ ــ‬191.
-- Yardan, J. L. (2001) God and the Challenge of Evil: A Critical Examination
of Some Serious Objections to the Good and Omnipotent God. The
Council for Research in Values and Philosophy.
‫دراسات‬

‫الشر وقضاياه‬
‫في ّ‬
‫وبيداغوجية‬
‫ّ‬ ‫خيميائية إيزوتير ّية‬
‫ّ‬ ‫وقفات‬
‫‪1‬‬
‫د‪ .‬أسماء غريب‬ ‫_________________________________________________‬

‫ـ‪1‬ـ‬
‫والط ُ‬
‫ارق خلف الباب‬ ‫ُ‬
‫الحرف جاهز ّ‬
‫أكتب فيها فصول دراسة ما تُناقش قض ّية فكر ّية‬ ‫المرة األولى التي ُ‬ ‫ليست هذه هي ّ‬
‫أعرف عنه شيئ ًا أو َمن‬
‫ُ‬ ‫أنتظر صاح َبها ا ّلذي سيطل ُبها منّي‪ ،‬وإن ُ‬
‫كنت ال‬ ‫ُ‬ ‫وأجلس‬
‫ُ‬ ‫مع ّينة‬
‫حتم َس َيأتي ّ‬
‫وبأن ما أنا بصدَ د كتابته‬ ‫ارق ال َ‬ ‫ذاتي العليا ُت ْع ِل ُمني ّ‬
‫بأن ال ّط َ‬ ‫سيكون‪ ،‬لك ّن َ‬
‫لتعم الفائدة‬
‫القراء ّ‬ ‫سيصل إلى أكبر عدد من ّ‬ ‫ُ‬ ‫خاص‪ ،‬إ ْذ من خالله‬ ‫ّ‬ ‫ُم َو َّجه له بشكل‬
‫المرة أيض ًا بشأن‬ ‫َ‬ ‫كل مكان‪ ،‬وهو األمر ا ّلذي‬ ‫الحرف في ّ‬ ‫ِ‬
‫حدث لي هذه ّ‬ ‫وه ُج‬
‫وينتشر َ‬
‫َ‬
‫كنت منهمكة في‬ ‫ِ‬
‫كيف أنّني في الوقت ا ّلذي ُ‬‫هذه الدّ راسة التي بين يديك‪ .‬وإنّي ألذك ُُر َ‬
‫ّ‬
‫المتجذرة في‬ ‫لي رامية إلى هدم بعض المفاهيم‬ ‫وتسلس ّ‬
‫ُ‬ ‫تلقائي‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫كتابة فصولها‬
‫الروحي ا ّلذي أصاب‬
‫ّ‬ ‫أهم أسباب هذا الخراب‬ ‫اإلنساني والتي أعتبرها من بين ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفكر‬
‫الشر من وجهة ٍ‬
‫نظر خيميائ ّية‬ ‫حول قض ّية ّ‬‫كل الفصول َ‬ ‫اإلنسان ّية‪َ ،‬و َجدْ تُني ُأ َم ْح ِو ُر ّ‬
‫وطر َق بابي‪ ،‬وأعني به هنا المفكّر‬
‫«صاحب األمر» َ‬
‫ُ‬ ‫إيزوتير ّية محضة‪ ،‬إلى أن أتى‬
‫َ‬
‫وأرسل لي أعداد ًا‬ ‫علي بعض كتبه الق ّيمة‪،‬‬
‫عرض ّ‬ ‫فاعي‪َ :‬‬
‫الر ّ‬ ‫العراقي د‪ .‬عبد الج ّبار ّ‬
‫ّ‬
‫الشر»‬
‫علي الكتابة عن «مشكلة ّ‬ ‫اقترح ّ‬
‫َ‬ ‫مع ّينة من مج ّلة «قضايا إسالم ّية معاصرة»‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫وسألت نفسي سؤاالً مجازي ًا ال ّ‬
‫أقل وال أكثر‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ابتسمت‬
‫ُ‬ ‫في هذا العدد الجديد منها‪.‬‬
‫أجبت على الفور‬
‫ُ‬ ‫ينتظر اآلخر ح ّق ًا؟‬
‫ُ‬ ‫أعلم بما يشغل بال اآلخر‪ ،‬وأ ّينا كان‬
‫َ‬ ‫أ ُّينا كان‬

‫‪ .1‬أكاديم ّية وروائية وناقدة ومرتمجة مغربية مقيمة يف إيطاليا‪.‬‬


‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪184‬‬
‫كتبت‬
‫ُ‬ ‫اآلن ورهن إشارتِ ِه‪ ،‬وقد‬ ‫جاهز َ‬‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫يطرق بابي‪ ،‬وحرفي‬ ‫عارف بال ّله‬
‫ٌ‬ ‫وقلت‪ :‬هذا‬
‫الكثير في الموضوع ا ّلذي اقترحه بشأن المج ّلة‪ ،‬وما بقي قابع ًا في بئري‪ ،‬وجب اليوم‬
‫شر‬
‫فعلت‪ ،‬وأنا أتساءل‪ :‬هل يلتقيان ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫اإللكتروني‪ .‬وهكذا‬
‫ّ‬ ‫قبل الغد سكبه فوق ال ّلوح‬
‫ِ‬
‫ُمط َلق وعشق مط َلق؟! وهل ُيمك ُن لعاشق محترق بالمح ّبة‪ ،‬أن يتحدّ ث عن ّ‬
‫الشر‬
‫وقضاياه في الكون والوجود؟! إنّها ح ّق ًا معضلة المعضالت‪ ،‬ال سيما ّ‬
‫وأن العارف‬
‫خير‪ ،‬يرا ُه إزار ًا من النّور والبهجة‬ ‫شر‪ ،‬بل ّ‬
‫الكل عنده ٌ‬ ‫أي ّ‬ ‫الحق ال يرى في الوجود ّ‬‫ّ‬
‫الكون منذ األزل‪ .‬لكن والحال ّ‬
‫أن الكثير من النّاس ال يرون ما‬ ‫َ‬ ‫الخالق‬
‫ُ‬ ‫قمط به‬‫والفرح ّ‬
‫العارف‪ ،‬وال يؤمنون بما يؤمن به‪ ،‬فال بدّ له أن َ‬
‫ينزل من العالم األعلى إلى العالم‬ ‫ُ‬ ‫يراه‬
‫ٍ‬
‫مضض إلى ضيق العبارة للتّعبير‬ ‫ويخرج من رحابة النّقطة‪ ،‬ويدخل على‬ ‫َ‬ ‫األدنى‪،‬‬
‫عما ال ُي َع َّبر عنه بالكلمات‪ ،‬و ُي َقدِّ َم أجوب ًة لمن يسأل عن هذا اﷲ الذي أصبح الن ُ‬
‫ّاس‬ ‫ّ‬
‫كل ما يجري في الكون من‬‫ينعتونه بغير العادل‪ ،‬المختفي خلف صمته المريب أمام ّ‬
‫شرور بما فيها الحروب والكوارث الطبيع ّية واألمراض والمصائب الحيات ّية اليوم ّية‬
‫وما إليها‪ ،‬ما دفع بالغالب ّية العظمى إلى إنكار وجوده بالكامل‪ ،‬ماداموا لم يستطيعوا‬
‫سماحه بحدوث ّ‬
‫كل هذه‬ ‫َ‬ ‫أن يجدوا لليوم إجابات كاملة وتفسيرات منطق ّية ت ُّبرر‬
‫التدخل من أجل إيقافها وهو ا ّلذي نسب إليه أهل‬
‫ّ‬ ‫المآسي في حياة البشر ّية دون‬
‫اإليمان والالهوت والعرفان خلق الكون ّ‬
‫بكل عوالمه!‬
‫الخاص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ويفسرها من منظوره‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫شخص أن يرى األمور بهذه ال ّطريقة‬ ‫أي‬
‫حق ّ‬
‫من ّ‬
‫الشر‪،‬‬
‫الخالق مادام ال يرى فيه األهل ّية للحيلولة دون وقوع ّ‬
‫َ‬ ‫ومن ح ّقه كذلك أن َ‬
‫ينكر‬
‫وتفشي األمراض واألوبئة‪ ،‬واندالع الحروب في ّ‬
‫كل مكان‪ .‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫وحدوث األلم‪،‬‬
‫ح ّقه أيض ًا أن يطالب أهل الحقيقة باإليضاح‪ ،‬وسؤالهم من أين لهم بالفرح في عالم‬
‫حق‬
‫تفجر ُه الحروب‪ ،‬وتقتل ُه األمراض‪ .‬ومن ّ‬
‫وبالسكينة في كوكب ّ‬ ‫ّ‬ ‫يضج باأللم‪،‬‬
‫ُّ‬
‫الشائكة ّ‬
‫كل على وفق إشراقة النّور في‬ ‫أهل الحقيقة أن يدلوا بآرائهم في هذه القض ّية ّ‬
‫إن ّأول طريق‬‫وقوة عزيمته وعمق عرفانه‪ .‬ومن هذا المنطلق أقول ّ‬ ‫همته ّ‬‫قلبه وعلو ّ‬
‫نفسه فإنّه‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان َ‬ ‫الستار عن هذه اإلشكالية معرفة النّفس‪ ،‬ومالم يعرف‬
‫لكشف ّ‬
‫يفهم الكون‬
‫يعرف ر َّبه‪ ،‬ولن يمكنه بالتّالي أن َ‬‫َ‬ ‫بأي شكل من األشكال أن‬ ‫لن يمكنه ّ‬
‫ب في ّ‬ ‫ِ‬
‫كل‬ ‫وآليات الخلق وحركة الخالق فيه‪ ،‬وسيبقى هكذا يخاص ُم خال َقه ويراه الس ّب َ‬
‫‪185‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫تعب من األمر‪ ،‬فإنه سيبحث غالب ًا عن ّ‬


‫قوة غيب ّية‬ ‫ما يلح ُقه من أذى إلى األبد‪ ،‬وإذا ما َ‬
‫أخرى ُي َع ّلق عليها أسباب فشله وآالمه‪ّ ،‬‬
‫ولعل أشهرها إبليس!‬
‫أن معرفة النّفس هي من أشرف العلوم‬ ‫اعلم يا أ ّيدك اﷲ بلطفه ومح ّبته ورحمته‪ّ ،‬‬
‫مفاتيحها ّإل لمن انتسب إلى المدرسة اإلله ّية؛ مدرسة العرفان‬
‫ُ‬ ‫وأرقاها‪ ،‬وال تُع َطى‬
‫مدجج ًا ّ‬
‫بالشهادات‬ ‫ّ‬ ‫والوالية واألسرار الكبرى وهي ال تحتاج َ‬
‫منك أن تكون‬
‫منك فقط إلى قلب‬ ‫األكاديم ّية واأللقاب العلم ّية الطنّانة وما إليها‪ ،‬بل تحتاج َ‬
‫عاشق‪ ،‬وهما مع ًا من أصعب ّ‬
‫الشهادات العرفان ّية التي ُيمكن أن‬ ‫ٍ‬ ‫ولي‬
‫طفل وعقل ّ‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫طريق اﷲ‪ ،‬وهما المفتاح إلى عوالمك الدّ اخل ّية للتعرف‬ ‫ٌ‬
‫سالك في‬ ‫يحصل عليها‬
‫الخالق معجزة ليس في الكون لها مثيل‪ ،‬من هنا البداية ومن‬
‫ُ‬ ‫عليك وكيف صنعك‬‫َ‬
‫الشر‪ ،‬وهل يوجد ح ّق ًا‪ ،‬وهل وجوده‬
‫هنا سنمشي مع ًا خطوة خطوة لنعرف مع ًا‪ :‬ما ُّ‬
‫الحب‬
‫ّ‬ ‫مرتبط بتج ّلي األضداد‪ّ ،‬‬
‫مما قد يدفعنا لتكون لنا وقفة مع الخير أيض ًا من باب‬
‫والمح ّبة!‬
‫ـ‪2‬ـ‬
‫ال ب ّد من الفراغ‬
‫ٍ‬
‫كشجرة ضربتها ريح صرصر‬ ‫تتجرد من ّ‬
‫كل شيء‬ ‫نفسك‪ ،‬ال بدّ َ‬
‫َ‬
‫لك أن ّ‬ ‫لكي تعرف‬
‫ّصلت‬
‫دخلت إلى مقام الفناء‪ ،‬وات َ‬
‫َ‬ ‫دت‬ ‫في ليلة عاصفة ولم تترك منها أثر ًا‪ ،‬وإذا ّ‬
‫تجر َ‬
‫ممن ُيؤ ّث ُر في‬
‫بملكوت ال ُقدس في حضرة األسماء والصفات اإلله ّية وأصبحت ّ‬
‫أي مخلوق كيفما كان ومهما عال‬ ‫أثر وال تأثير من ّ‬
‫بك ٌ‬‫يلحق َ‬
‫َ‬ ‫الخلق جميع ًا دون أن‬
‫الحق‬
‫بنيت فراغك الكامل‪ ،‬الذي هو أقصى ما يرنو العارف ّ‬ ‫ُ‬
‫تكون قد َ‬ ‫شأن ُه‪ ،‬ألن َّك‬
‫إلى بلوغه حيث ال شيء بعد وال قبل‪ ،‬وال حول وال فوق وال تحت سوى الفراغ‪.‬‬
‫َ‬
‫يمكنك أنت أيضا أيها القارئ أن تدخل إلى عالم الحقيقة‬ ‫وهو هذا الفراغ الذي به‬
‫أي حاضر‬ ‫َ‬
‫يعنيك سوى الحاضر‪ ،‬ليس ّ‬ ‫الح ّقة‪ .‬حيث ال ماضي وال مستقبل‪ ،‬وال شيء‬
‫طبع ًا‪ ،‬بل حاضر الحضرة األزل ّية األولى‪ ،‬حيث ُ‬
‫الحكم فيها ليس على صورتك وال‬
‫الحق‬
‫ّ‬ ‫األثيري‪ ،‬وعلى نفخ‬
‫ّ‬ ‫هيكلك ال ّطيني ألنهما زائل ْين‪ ،‬بل على قلبك وهيكلك‬
‫َ‬
‫فيك عند بلوغ سدرة المنتهى‪ .‬واعلم أنّك معي في حضرة المحو؛ ال شيء يدوم‪،‬‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪186‬‬
‫وال شيء يبقى‪ ،‬وأنا الحاضرة والغائبة في الوقت نفسه‪ ،‬وأنا الوجود والعدم‪ .‬ولكي‬
‫تدرك قولي هذا‪ ،‬عليك أن تكون من أهل هذا الفراغ المطلق‪ ،‬والمحو واالنمحاق‬‫َ‬
‫بك شيء كيفما كان‬ ‫منك شيء‪ ،‬وال تتع ّلق بشيء‪ ،‬وال يتع ّل ُق َ‬
‫الكامل ْين‪ ،‬بحيث ال يبقى َ‬
‫أصله أو نوعه‪ .‬ولكي تستوعب فكرة الفراغ هذه دعني أروي لك حكاي َة ٍ‬
‫قرية مازال‬ ‫َ‬
‫كل هذه األعوام والسنين‪ ،‬قرية بِكر لم‬ ‫أثرها عالق ًا بين ثنايا القلب على الرغم من ّ‬
‫ُ‬
‫هات‬ ‫ِ‬
‫ُيخلق مثلها في البالد‪ ،‬وال رآها قبلي وال قبلكم إنس وال جان‪ ،‬فيها اكتفت األ ّم ُ‬
‫الذكور فقط‪ ،‬من دون أن يعرف أحد لذلك سبب ًا‪ ،‬لكن األمر الذي ال ّ‬
‫شك فيه‪،‬‬ ‫بوالدة ّ‬
‫كل واحد فيهم‬ ‫أن هؤالء الذكور أصبحوا اليوم في س ّن الزواج وما من أنثى يقترن بها ّ‬ ‫ّ‬
‫تكون من بنات جيله أو تقربه في العمر والتفكير‪ .‬وهكذا باتت هذه المشكلة َ‬
‫شغل‬
‫الشاغل‪ ،‬وحار في ح ّلها الفقهاء والحكماء‪ ،‬ال سيما ّ‬
‫وأن القرية أصبحت في‬ ‫النّاس ّ‬
‫طورها إلى االنقراض بسبب ما لحق بقاعدتها الديمغرافية من شيخوخة‪ ،‬وعزم‬
‫ٍ‬
‫أراض أخرى‬ ‫العديد من شبانها على مغادرتها بحث ًا عن نساء لالقتران بهن يك ّن من‬
‫بعيدة عن هذه القرية المغرقة في عزلتها الصوفية التي ال ّأول لها وال آخر‪ .‬وتوالت‬
‫األعوام الواحدة تلو األخرى‪ ،‬وشاءت العناية اإلله ّية أن تبعث لرجال هذه القرية فتاة‬
‫ليس لبهائها وجمالها وحسنها الفتّان مثيل أو نظير‪ ،‬ظهرت في حياتهم هكذا بدون‬
‫سبب وال مقدّ مات‪ ،‬فحار الجميع في أمرها‪ :‬من تكون‪ ،‬وكم عمرها‪ ،‬ومن أين أتت‬
‫وما اسمها‪ ،‬وهل هي من اإلنس أو الجان أو من جنس المالئكة البررة الكرام؟!‬
‫لكن ال جواب يشفي عطش السائل الحزين اللهفان‪ ،‬لذا توقف الشباب عن السؤال‬
‫واتفقوا جميعهم على التقدّ م لطلب يدها من أجل الزواج بها‪ ،‬وبات ّ‬
‫كل واحد يحلم‬
‫بها عروس ًا له تشاركه ما تبقى من العمر‪ .‬وهكذا ما أن بزغت شمس اليوم التالي‪ ،‬حتّى‬
‫شباب القرية ك ّلهم أمام بيتها‪ ،‬ففزعت من األمر فزعا شديد ًا‪ ،‬وخرجت‬ ‫ِ‬
‫وجدت الفتا ُة‬
‫َ‬
‫لهم تخاطبهم بلسان الحصافة والعقل والحكمة وقالت لهم‪ :‬جميل جدّ ًا أن تكونوا‬
‫قد اتفقتم ك ّلكم على زيارتي في هذا اليوم طالبين يدي للزواج‪ ،‬لكن كما تعلمون‬
‫فهذا أمر يستحيل تحقيقه بهذه ال ّطريقة‪ ،‬فأنتم كُثر وأنا واحدة وال يمكنني أن أكون‬
‫لكم جميع ًا بل لواحد منكم فقط ال غير‪ ،‬وعليه فإنني أقترح عليكم ما يلي‪ :‬عودوا‬
‫إلي إال بعد ثالثة أ ّيام‪ ،‬تكونون قد حفظتم فيها عن ظهر قلب‬
‫إلى بيوتكم وال ترجعوا ّ‬
‫‪187‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫المطهرين‪ ،‬و َم ْن‬


‫ّ‬ ‫والرسل واألولياء‬ ‫كلمة الوحي المقدّ س التي نزلت على ّ‬
‫كل األنبياء ّ‬
‫س ُيظهر براعته في هذا األمر فإنني سأكون زوجته‪.‬‬
‫عاد ّ‬
‫الش ّبان إلى بيوتهم وبعد مرور ثالثة أيام كانوا في الموعد المحدّ د أمام بيت‬
‫الذكاء‪ ،‬واستظهر كل واحد منهم كلمة الوحي‬ ‫العروس الفاتنة الجمال والفائقة ّ‬
‫شاب أظهروا‬
‫ّ‬ ‫شاب أسفر الفرز النّهائي عن خمسين‬
‫ّ‬ ‫المقدّ سة ومن بين خمسمائة‬
‫جميعهم تفوقهم في حفظ كلمة الوحي بالتمام والكمال‪ .‬شعرت الفتاة بسعادة كبيرة‬
‫وقالت لهم‪ :‬يا لبراعتكم أيها الشباب المجدّ ون‪ ،‬ويا لسعادتي بهذه النتيجة التي‬
‫توصلتم إليها‪ ،‬لكن المشكل مازال قائم ًا‪ :‬أنتم خمسون‪ ،‬وأنا واحدة‪ ،‬لذا ال بدّ من‬
‫إجراء مسابقة أخرى‪ :‬عودوا إلى بيوتكم ومن يستطيع بعد مضي ثالثة أيام أخرى أن‬
‫ُيظهر لي مدى قدرته على تطبيق كلمة الوحي فإنّني سأكون له زوجة طيلة الحياة‪.‬‬
‫عاد الش ّبان إلى بيوتهم كما أوصتهم الفتاة وبعد مرور ثالثة أيام كانوا في الموعد‬
‫المحدد أمام منزلها‪ ،‬وحينما خرجت إليهم تحدّ ثت إليهم ولم تسفر نتيجة المسابقة‬
‫سوى عن عشرة ش ّبان كانوا قادرين على تطبيق كلمة الوحي ح ّقا وحقيقة‪ ،‬وحينذاك‬
‫نطقت الفتا ُة من جديد وقالت‪ :‬لقد ح ّققنا نجاح ًا مبهر ًا‪ ،‬وأصبحتم اليوم عشرة‪،‬‬
‫لكنني ال يمكنني أن أكون سوى لواحد منكم‪ ،‬لذا ّ‬
‫فإن امتحاني األخير سيكون كما‬
‫يلي‪ :‬عودوا إلى بيوتكم‪ ،‬ونلتق هنا من جديد بعد ثالثة أيام يتقدّ م لي فيها من يستطيع‬
‫أن يظهر لي أنّه ليس فقط يحفظ كلمة الوحي أو يسهر على تطبيقها‪ ،‬بل ُيظهر لي‬
‫مرت األيام الثالثة األخيرة من المسابقة‪،‬‬ ‫أيضا أنّه يفهم معانيها الكامنة جميعها‪ّ .‬‬
‫وعند الموعد خرجت الفتاة ولم تجد أمام بيتها أحد ًا‪ ،‬فاستغربت األمر كثير ًا‪ّ ،‬‬
‫ومرت‬
‫شاب واحد ال غير‪،‬‬
‫ال طرق بابها ّ‬ ‫ساعة ثم ساعتان ثم ثالث ًا‪ ،‬وفي ّ‬
‫الساعة العاشرة لي ً‬
‫اإللهي الكامنة والباطنة‪ ،‬ففرحت‬
‫ّ‬ ‫أظهر لها حق ًا قدرته على استيعاب معاني الوحي‬
‫جم ًا وهتفت منتشية بهذه النتيجة المذهلة‪ :‬أنا َ‬
‫لك أيها الفتى الشجاع‪ ،‬ه ّيا بنا‬ ‫به فرحا ّ‬
‫رسمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والدي لتطلب يدي منهما بشكل‬
‫ّ‬ ‫إذن لنغادر هذه القرية ونذهب معا إلى لقاء‬
‫الشاب إلى المدينة التي تقيم فيها عروسه وجد بيتها‬
‫ّ‬ ‫غادرا القرية وحينما وصل‬
‫تمت مراسيم‬ ‫ملكي باذخ‪ ،‬وفيه تسكن مع والديها المسنّ ْين‪ .‬وحينما ّ‬
‫ّ‬ ‫عبارة عن قصر‬
‫االحتفال به زوج ًا البنتهما الوحيدة‪ ،‬خاطبت األ ُّم الفتى العريس وقالت له‪« :‬ه ّيا‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪188‬‬
‫وفتح الغرفة لكنّه‬
‫العلوي فزوجتك تنتظرك هناك»‪ .‬صعد الفتى َ‬
‫ّ‬ ‫اصعد إلى غرفة ال ّطابق‬
‫لم يجد أحد ًا‪ ،‬التفت وإذا به يرى بابا مفتوحا ّ‬
‫مطل على حديقة شاسعة‪ ،‬دخلها وبقي‬
‫يمشي إلى أن انتهى إلى بحيرة كبيرة حام حولها ولم يجد لحبيبته من أثر سوى حذائها‬
‫الفض ّي‪ :‬أخذه بين يديه وألقى به في الهواء‪ ،‬ثم غطس في البحيرة وعبرها كاملة وحينما‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫فضحك‪ ،‬وهو‬ ‫وصل إلى الض ّفة األخرى التفت إلى القصر فلم يجد له أثرا هو اآلخر‪،‬‬
‫كل إنسان أن يصل‬‫بأن العروس الح ّقة التي على ّ‬
‫يشعر في داخله بسعادة كبيرة ألنّه فهم ّ‬
‫إليها هي الفرا ُغ الكامل‪ ،‬الذي ال يتح ّقق ّإل بالتخ ّلص من ّ‬
‫كل شيء‪ :‬األفكار السابقة‪،‬‬
‫األحكام الجاهزة‪ ،‬تاريخ الخلق المز ّيف‪ ،‬السياسات المع ّلبة‪ ،‬غسيل الدّ ماغ على ّ‬
‫كل‬
‫المستويات‪ ،‬وثقافات االستكبار وال ّطغيان‪.‬‬
‫ـ‪3‬ـ‬
‫افتح الكتاب‬
‫كنت في‬
‫يهم إن َ‬‫حينما تفنى وتُدرك الفراغ تكون قد دخلت إلى المدرسة اإلله ّية‪ ،‬ال ّ‬
‫فأنت لست‬ ‫َ‬
‫رحلتك األرض ّية‪َ ،‬‬ ‫كنت في بدايات‬ ‫َ‬
‫حياتك‪ ،‬وال إن َ‬ ‫السنوات األخيرة من‬‫ّ‬
‫وحي‪ ،‬ولكي تستوعب للعمق هذه الفكرة‬ ‫الر ّ‬‫األثيري ّ‬
‫ّ‬ ‫البيولوجي بل بعمرك‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫بعمرك‬
‫اعلم أوال أنّك ر ّبما‬
‫ُ‬ ‫السائق؟‬
‫الصنع؛ الس ّيار ُة أم ّ‬ ‫دعني أسألك وأ ُق ْل‪ :‬أ ّيهما ُ‬
‫أسبق في ّ‬
‫أي ّ‬
‫أن الس ّيارة ما إن تخرج جديدة‬ ‫السائق أسبق في الوجود من الس ّيارة‪ْ .‬‬ ‫ستجيبني ّ‬
‫أن ّ‬
‫كان في بلد آخر أو دولة أخرى غير تلك‬‫وإن َ‬
‫من المصنع فإنّها تجدُ سائ َقها في انتظارها ْ‬
‫َ‬
‫نفسك‪ ،‬أ ّي ُهما أسبق في الوجود‪:‬‬ ‫َ‬
‫أريدك أيها القارئ أن تسأل‬ ‫تم فيها تصني ُعها‪ .‬اآلن‬‫التي ّ‬
‫األول ستقول لي‪:‬‬
‫جوابك عن سؤال السائق والسيارة ّ‬‫َ‬ ‫روحك؟ طبع ًا بناء على‬
‫َ‬ ‫جسدُ َك أم‬
‫مرة أخرى‪ :‬كم تبلغ من ال ُعمر‬ ‫َ‬
‫جسدك‪ .‬اآلن دعني أسألك ّ‬ ‫روح َك أسبق في الوجود من‬
‫ُ‬
‫الشخصية تقول‬ ‫إن بطاقت ََك ّ‬ ‫َ‬
‫جسدك؟ طبع ًا أنت ستقول ّ‬ ‫روحك ُو ِجدَ ْت قبل‬
‫َ‬ ‫مادامت‬
‫الشهر كذا‪ ،‬من العام كذا‪ ،‬وعليه فإن َّك تبلغ من ال ُعمر كذا‪.‬‬
‫إنّك ُولدت في يوم كذا‪ ،‬من ّ‬
‫الشخص ّية كذبة كبيرة‪ ،‬فكيف باﷲ عليك‬ ‫المسجل في وثائقك ّ‬
‫ّ‬ ‫عمرك‬
‫إن َ‬‫وأنا أقول لك ّ‬
‫َ‬
‫جسدك؟ موجود في صلب أبيك وأبوك في صلب أبيه‬ ‫َ‬
‫عمرك‪ ،‬وأنت موجود قبل‬ ‫تحدّ ُد‬
‫وجدّ ك في صلب أصالب أجدادك الماضين وهكذا دواليك من السلسلة األصالب ّية‬
‫‪189‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫كنت روح ًا‬


‫الصنعة اإللهية األولى‪ ،‬حيث َ‬ ‫التي ال حدّ لها وال نهاية إلى أن تصل إلى منبع ّ‬
‫عرفت أنّه ال يحدُّ َك عمر‪ ،‬أريد أن أسألك‬
‫َ‬ ‫طيني! اآلن وقد‬
‫ّ‬ ‫أي هيكل‬ ‫خالصة بدون ّ‬
‫المحب؟‬
‫ّ‬ ‫سؤاال جديد ًا وأطلب منك أن تمعن فيه النّظر والفكر ج ّيد ًا‪ :‬من َ‬
‫أنت أ ّيها‬
‫من تكون؟ ولماذا أنت ُهنا؟ ستقول لي أنا فالن ابن فالن‪ ،‬ولدت في عام كذا‪ ،‬وأعمل‬
‫وجئت ألعيش كما أتى غيري من البشر‪ .‬وسأقول لك جميل جدّ ًا‪ ،‬لكن‬ ‫ُ‬ ‫في قطاع كذا‪،‬‬
‫كنت‬ ‫خليط من هذا وتلك‪ ،‬وإن َ‬ ‫ٌ‬ ‫تعرف ج ّيد ًا أنّني ال ُأ َذك ُّر َك وال ُأ َؤ ّن ُث َك‪ ،‬ألن َّك‬
‫َ‬ ‫عليك أن‬
‫الم ِح ّبة‪ .‬ولتعلم‬
‫حب‪ ،‬فإنّي أقصد أيض ًا أ ّيتُها ُ‬‫الم ّ‬ ‫لك أ ّيها ُ‬ ‫قلت َ‬ ‫تشعر بذلك‪ .‬لذا‪ ،‬فإذا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال‬
‫الحقيقي‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫اسمك‬ ‫وه ٌم‪ ،‬وإذا سألتني عن‬ ‫ألن اسمك كما أناك ْ‬ ‫باسمك‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أخاطبك‬ ‫أنّني لن‬
‫نمحق‬
‫ٌ‬ ‫ُعرف به بين البشر‪ ،‬أ ُق ْل لك إنّه غير موجود‪ ،‬ألنّك مثل البشر ال محالة ُم‬ ‫ا ّلذي ت َ‬
‫نخسف‪ .‬انظر إلى ال ّطفل‪ ،‬إنّه حينما يأتي إلى الوجود يكون بدون ّ‬
‫أي اس ٍم‬ ‫ٌ‬ ‫نكسف و ُم‬
‫ٌ‬ ‫و ُم‬
‫أي بدون أنا‪ ،‬ولمدّ ة تسعة أشهر كان في رحم أ ّمه مرتب ًطا بمركزها‬
‫خاص به‪ْ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وال مركز‬
‫خاص به من باب‬
‫وأناها واسمها‪ ،‬فقط حينما يولد يبدأ في التّفكير بامتالك مركز ُمنْفصل ّ‬
‫المنفعة حتّى ال تكون حياته صعبة أو مستحيلة وهو يصارع من أجل النّجاة‪ .‬وأنا أدعوك‬
‫أن اسمك قد‬‫فيك‪ ،‬إذا فعلت هذا‪ ،‬سوف تجد ّ‬ ‫لتغوص في نفسك حتّى آخر قطرة َ‬‫َ‬ ‫اآلن‬
‫اختفى‪ ،‬كما اختفت أيض ًا أناك‪ ،‬ألنّك مرتبط بالمركز الوحيد والواحد في الكون بأسره‪:‬‬
‫كل من عليها ٍ‬
‫فان ويبقى وج ُه ر ّبك ذو الجالل‬ ‫ألم تسمعه يقول‪ّ :‬‬ ‫خال ُق َك ّ‬
‫جل جالله‪ْ .‬‬
‫واإلكرام؟! ألجل هذا إذا سألتني من أنا‪ ،‬ومن أكون‪ ،‬سوف أبقى صامت ًة‪ ،‬ولن أجيب‬
‫ألنّني لم أ ُعد أنا‪ ،‬لم أعدْ منفصل ًة‪ ،‬فأنا ك ّل ّية تمام ًا‪ ،‬لكن ّ‬
‫علي كما الجميع أن أستخدم‬
‫وهمي ألقول مثال‪ :‬إنّني جائعة‪ ،‬أريد أن آكل بعض الخبز‪ ،‬وسوف‬
‫ّ‬ ‫ضمير «أنا» مع أنّه‬
‫إن مركز الكون الك ّل ّي جائع‬
‫لك‪ّ :‬‬
‫المنطقي في شيء أبد ًا أن أقول َ‬
‫ّ‬ ‫تفهمني‪ ،‬وليس من‬
‫أن عبارتي هذه هي األكثر د ّقة‪ ،‬ألنني أنا وأنت‬
‫ويريد أن يأكل‪ .‬سوف لن تفهمني‪ ،‬مع ّ‬
‫وهم وغيرنا مرتبطون بمركز الكون‪ ،‬وال توجد مراكز أخرى غيره‪ ،‬وقد قالها الخالق‬ ‫ُ‬
‫ان ال َّل ِه َر ِّب ا ْل َع ْر ِ‬
‫ش َع َّما َي ِص ُف َ‬
‫ون]‪،‬‬ ‫َان فِ ِيه َما آلِ َه ٌة إِلَّ ال َّل ُه َل َف َسدَ تَا َُس ْب َح َ‬
‫منذ األزل‪َ [ :‬ل ْو ك َ‬
‫لست‬
‫أي ُ‬‫في اختالف ًا‪ ،‬أنا اسمي أسماء‪ْ ،‬‬
‫األنبياء ‪ ،22‬أ ّما إذا سألتني عن اسمي‪ ،‬فلر ّبما تجد ّ‬
‫وولدت في عام ‪ ،1972‬ورقم ‪ ،72‬عند أهل المعرفة واألسرار‪ ،‬يعني اسم‬ ‫اسم ًا واحد ًا‪ُ ،‬‬
‫اﷲ األعظم غير المنطوق أبد ًا‪ ،‬وبهذا ُيصبح اسمي كامالً‪ :‬أسماء اﷲ‪ّ ،‬‬
‫وإن فيه تجسيد‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪190‬‬
‫وهم‪،‬‬
‫وكل اسم غيرها هو ْ‬‫للحقيقة التي تقول إنّه ال اسم في الكون ك ّله ّإل أسماء اﷲ‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫وتكوين األنا من أجل أداء أدوارك في‬ ‫وه ٌم جميل يصلح للتّعامل به مع النّاس‪،‬‬‫نعم‪ْ ،‬‬
‫َ‬
‫حياتك‬ ‫لك ّ‬
‫إن‬ ‫قلت َ‬
‫المحب إذا ُ‬
‫ُّ‬ ‫تغتر أ ّيها‬
‫هذه المسرح ّية الكبرى التي هي الحياة‪ .‬وقد ُّ‬
‫يمسحها‪ ،‬في حين ّ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬ ‫مجرد حروف تكت ُبها فوق رمال ّ‬
‫الشاطئ‪ ،‬يأتي الموج ّ‬ ‫هي ّ‬
‫وهم كبير‪ ،‬بل‬
‫الرمل‪ ،‬هذا ٌ‬
‫تكتب على ّ‬
‫ُ‬ ‫الحقيقة هي أكبر وأسرع من ذلك بكثير‪ :‬إنّك ال‬
‫حروف ما تُسميه حيا ًة فوق الماء مباشرة‪ ،‬وإنّها لتنمحي قبل أن تستطيع قراءتها‬
‫َ‬ ‫تكتب‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫عليك‬ ‫الرحلة الكبرى‪ :‬كتابة فوق الماء ال ّ‬
‫أقل وال أكثر! لذا‬ ‫مع كامل األسف‪ .‬هذه هي ّ‬
‫الصبي الدرويش ال ّطاهي الذي سأروي‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫عليك أن تكون ــ كما هذا‬ ‫أن تبدأ من الماء‪،‬‬
‫طينك وبهما تخ ّل َ‬
‫قت وفيهما لليوم تعوم‬ ‫َ‬ ‫فهما أساس‬ ‫قصته ــ ملتصق ًا بالماء والنّار ُ‬
‫لك ّ‬
‫صبي ف َقدَ‬
‫الزمان وسالف العصر واألوان ّ‬ ‫كي أنه كان فيما مضى من قديم ّ‬ ‫{ح َ‬
‫وتحترق‪ُ :‬‬
‫عن العمل لكن بدون أمل وال‬‫فاضطر إلى الخروج بحث ًا ِ‬
‫ّ‬ ‫والدَ ه في سن مبكرة من عمره‪،‬‬
‫مغادرة البالد‪ ،‬وهناك طرق أبوابا جديدة بعيدا عن قريته إلى أن‬‫ِ‬ ‫دفع ِبه إلى‬
‫جدوى‪ ،‬ما َ‬
‫وجد في أحد الجبال الشاهقة النّائية تك ّية من تكايا الدّ راويش‪ ،‬فدخلها والتقى برئيسها‬
‫فعرض عليه حاجتَه وروى له حكايته وما كان من هذا‬ ‫َ‬ ‫وكان شيخ ًا طاعن ًا في الس ّن‪،‬‬
‫الصحيح‪ ،‬رئيس مطابخ التكية في حاجة‬
‫طرقت الباب ّ‬
‫َ‬ ‫األخير سوى أن قال له‪« :‬لقد‬
‫األول‪ ،‬سأوصيه أن يع ّلمك ّ‬
‫كل شيء إلى‬ ‫توفي مساعده ّ‬
‫ّ‬ ‫ماسة إلى مساعد له بعد أن‬
‫ّ‬
‫المراهق‬
‫ُ‬ ‫الصبي‬
‫ّ‬ ‫أن تكتسب خبرة جيدة وتصبح قادر ًا على أن تطبخ لي شخص ّي ًا»‪ .‬فرح‬
‫ال عبوس الوجه قاسي القسمات‬ ‫فرح ًا عارم ًا‪ ،‬وذهب إلى لقاء رئيس المطابخ وكان رج ً‬
‫نشأت بين االثنين ألفة ومح ّبة فكان ّأول ما تع ّلمه‬
‫ْ‬ ‫لكن مع طيبة في القلب‪ ،‬وسرعان ما‬
‫من أصول ال ّطبخ كيف ّية عجن الخبز وطهوه‪ ،‬فأبدع في ذلك إبداع ًا ال مثيل له‪ ،‬وبدأ‬
‫يرتقي من درجة إلى أخرى‪ ،‬إلى أن أصبح هو نفسه رئيس المطابخ وبات يطبخ لشيخ‬
‫الزمن مريض ًا ومحتضرا‬ ‫ُ‬
‫الشيخ بمرور ّ‬ ‫المفضلة‪ .‬وحدث أن أصبح‬
‫ّ‬ ‫التكية الكبير أطباقه‬
‫على فراش الموت‪ ،‬ولم يعد يشغله سوى ِ‬
‫أمر تعيين خليفة له في التكية يكون قد بلغ‬
‫والتنور‪ ،‬وقد كان األمر في غاية الصعوبة بالنسبة له‪ ،‬فالتكية‬
‫ّ‬ ‫أكمل درجات اإلزهار‬
‫المتنورين ا ّلذي بلغوا أعلى درجات العلم والحكمة والفلسفة‪ ،‬فكيف‬
‫ّ‬ ‫ممتلئة بالرجال‬
‫ظل يفكر إلى أن اهتدى إلى ّ‬
‫حل أمثل‪ ،‬فنادى فيهم وقال‪« :‬من‬ ‫سيختار واحدا منهم؟ ّ‬
‫‪191‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫أظهر لي قدرتَه على كتابة خالصة تجربته العرفان ّية في بيت ْين شعريين ال غير سيصبح‬
‫َ‬
‫خليفتي»‪ .‬وارتفع صوت الدّ راويش وازداد صخبهم‪ ،‬وأصبح ّ‬
‫كل واحد منهم في حيرة‬
‫الكتب‬
‫ُ‬ ‫من أمره‪ ،‬فكيف يمكن لبيت ْين شعري ْين ال غير أن يجمعا خالصة طريق ال تسعها‬
‫دات؟ واتجهت أنظارهم ك ّلهم إلى نوفل‪ّ ،‬‬
‫الرجل األعلى ثقافة وعلم ًا وحكمة‬ ‫والمج ّل ُ‬
‫الرجل وقال‪« :‬سأحاول‬ ‫يحل هذه المعضلة سواك‪ :‬ابتسم ّ‬ ‫وفلسفة بينهم وقالوا له‪ :‬لن ّ‬
‫ذلك الليلة لكن هذا ال يمنع من مشاركتكم أنتم أيضا بكتابة بيت ْين تع ّبرون فيهما عن‬
‫كل الدراويش في المطبخ وبدأ ّ‬
‫كل‬ ‫وجهة نظركم»‪ ،‬وفي صباح اليوم التالي‪ :‬اجتمع ّ‬
‫الشاب رئيس المطابخ الجديد ينصت إليهم‬
‫ُّ‬ ‫واحد منهم يلقي بيت ْيه ّ‬
‫الشعريين وأحمدُ‬
‫«أنت وأنا زهرة فاح عطرها‬ ‫جميع ًا‪ ،‬إلى أن أتى دور ّ‬
‫الرجل األعلى حكمة وتنويرا فقال‪َ :‬‬
‫السالم الخالص»‪ ،‬فبهت ال ّطاهي وقال‪« :‬ال يمكنك‬ ‫في ّ‬
‫كل مكان‪/‬أنا اآلن حالة من ّ‬
‫أبدا بهذين البيتين أن تكون في حالة سالم خالص!»‪ ،‬ضحك الجميع من ال ّطاهي‬
‫أحمد وقال نوفل كبير الدّ راويش‪« :‬وأنّى لك أن تفهم في ّ‬
‫الشعر يا هذا وأنت ال تعرف‬
‫الكتابة وال القراءة‪ ،‬دعك في الخبز والخيار والطماطم فهذا أقصى ما يمكن أن تدركه‪،‬‬
‫حضر لنا ما نأكله ودعنا نذهب إلى الشيخ لنعرض عليه أبياتنا فإنه في انتظارنا»‪،‬‬
‫ه ّيا ّ‬
‫طاه كما تقول‪ ،‬لكن ليس لي‬ ‫ال بسيط ًا وأميا ومجرد ٍ‬
‫ابتسم أحمد وقال‪« :‬قد أكون رج ً‬
‫ّ‬ ‫ًّ‬
‫تضموا ما سأقوله اآلن من بيتين إلى أبياتكم‪ ،‬وال تكتبوا عليها اسمي‬
‫من طلب سوى أن ّ‬
‫اهتزت جدران المطبخ‬‫ودعوا الشيخ يقرأ كلماتي فمن يدري لر ّبما يجد فيها ضا ّلته»‪ّ .‬‬
‫الضحك التي تد ّفقت من أفواه الدّ راويش‪ ،‬وقالوا جميعهم‪« :‬أتطمع في‬
‫بسبب موجة ّ‬
‫رئاسة التك ّية أيها ال ّطاهي‪ ،‬يا للعجب‪ ،‬وكيف وأنت ال تعرف شيئا عن أصول الدّ روشة‬
‫ب خاطرك ونسايرك في األمر ونعرض ورقتك على الشيخ»‪.‬‬
‫وعلومها‪ ،‬عموما سنط ّي ُ‬
‫الصغيرة ماعدا نوفل فكان يحمل ورقته وورقة‬ ‫الشيخ ّ‬
‫وكل يحمل ورقته ّ‬ ‫ذهبوا إلى ّ‬
‫ال ّطاهي‪ ،‬وحينما أتى دوره ألقى كلمته‪ ،‬وقال للشيخ‪« :‬اسمح لي يا شيخنا أن ألقي أيضا‬
‫علي شخصي ًا ألنه ال‬
‫ممن يعمل هنا عندنا فقد وعدته بذلك وقد أمالها ّ‬ ‫كلمة أحدهم ّ‬
‫ُ‬
‫الشيخ عينيه وقال باهتمام شديد‪:‬‬ ‫يعرف القراءة وال الكتابة‪ ،‬فكتبتُها بدال عنه»‪ .‬رفع‬
‫الزهرة وال‬
‫الرجل األعلى ثقافة وقال‪« :‬ال أحد سواك‪ ،‬وال حتّى ّ‬
‫تفضل»‪ ،‬ابتسم ّ‬
‫«نعم‪ّ ،‬‬
‫حمق هذا‬
‫َ‬ ‫ختم العروج»‪ .‬ضحك ّ‬
‫الشيخ طويال وقال‪« :‬يا إلهي ما أشدّ‬ ‫العطر‪/‬هكذا ُي ُ‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪192‬‬
‫َ‬
‫ألعلنك أ ّيها الرجل األعلى‬ ‫مزق ورق َت ُه‪ ،‬واستعدّ غد ًا‬ ‫أقلت إنّه ُ‬
‫يعمل عندنا؟ ه ّيا ّ‬ ‫الرجل! َ‬ ‫ّ‬
‫تنويرا وحكمة وفلسفة رئيس ًا جديدا للتك ّية»‪.‬‬
‫الشيخ الكبير من فراشه وذهب ّ‬
‫بكل ما فيه من جهد ون َفس‬ ‫حل ال ّليل‪ ،‬قام ّ‬‫وحينما ّ‬
‫الحقيقي‪ ،‬لقد‬
‫ّ‬ ‫الشاب رئيس ال ّطهاة‪ ،‬فأيقظه وقال له‪« :‬إنّك َ‬
‫أنت رئيس التك ّية‬ ‫ّ‬ ‫إلى غرفة‬
‫وجئت اآلن ألطلب منك مغادرة التكية‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وعرفت أنّهما َ‬
‫لك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قرأت بيت ْيك الشعري ْين‬
‫ُ‬
‫كنت منذ‬ ‫َ‬
‫بأمرك قتلوك‪ .‬لقد َ‬ ‫فإن هؤالء المثقفين جدّ ًا إذا علموا‬
‫انفذ بجلدك يا أحمد ّ‬
‫رأيت هال َة النّور‬
‫كنت صب ّي ًا وجئتني تبحث عن عمل ُ‬
‫البداية رئيس التكية‪ ،‬أعني منذ أن َ‬
‫علي منذ البداية‬‫رأسك كبيرة ومكتملة كاكتمال البدر في منتصف آب‪ ،‬وكان ّ‬‫َ‬ ‫حول‬
‫َ‬
‫فأرسلتك إلى المطبخ‬ ‫خشيت عليك من القتل‬
‫ُ‬ ‫أن أعلنك رئيس ّ‬
‫كل الدّ راويش لكنني‬
‫نور َك‬
‫وحرصت على أن تُقدّ َم َ‬
‫ُ‬ ‫لتظل هناك بعيدا عن األنظار قريب ًا من الماء ومن النّار‪،‬‬
‫جت أكثر فأكثر‬ ‫وتوه َ‬
‫ّ‬ ‫كبرت‬
‫َ‬ ‫في األطباق ليأكل منه ويتن ّفع به الدراويش‪ .‬أ ّما اآلن وقد‬
‫دمعت عينا الشيخ وخرج ال ّطاهي قبل‬
‫ْ‬ ‫فعليك المغادرة‪ ،‬وال تنس ذكر اسمي عند ر ّبك»‪.‬‬
‫َ‬
‫كتابك‬ ‫أذان الفجر}‪ .‬ما أريدُ أن أقول لك عبر هذه الحكاية هو أنّه آن األوان لكي تفتح‬
‫الدّ اخلي وتروي لي فيه ماذا ترى‪ ،‬وكيف ومن تكون بعد أن قرأت حرفي هذا‪.‬‬
‫ـ‪4‬ـ‬
‫وأمك‬
‫انظر اآلن إلى أبيك ّ‬
‫أن تلتصق بالماء‪ ،‬يعني أن تعود إلى بداية الحكاية ك ّلها‪ْ ،‬‬
‫أي إلى بيضة الخلق‪ ،‬وإذا‬
‫كل شرور العالم بدأت بسقوط أبو ْي َك آدم ّ‬
‫وحواء‪ ،‬فدعني من مبدأ البيضة‬ ‫أن ّ‬‫ُنت تعتقد ّ‬
‫ك َ‬
‫فك بوالد ْي َك كما لم ُ‬
‫ترهما أو تسمع عنهما‬ ‫الكون ّية األولى أميط ال ّلثام عن الحقيقة ّ‬
‫وأعر َ‬
‫لك ّأل شيء في الكون بأكمله اسمه ٌّ‬
‫شر بالمفهوم المتداول بين‬ ‫من قبل حتّى يظهر َ‬
‫النّاس‪.‬‬
‫ِ‬
‫قطب َذ ّ‬
‫كري‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وكانت هي النّعيم والفردوس‪ ،‬وكان فيها‬
‫ْ‬ ‫كانت البيضة‪،‬‬ ‫في البدء‬
‫الوعي‬
‫ُ‬ ‫صمت كامل ُمطلق‪ ،‬وفجأة شاء‬ ‫ٌ‬ ‫وكينونة أنثو ّية تعوم في الماء‪ ،‬وكان هناك‬
‫للشيء ُك ْن فيكون‪،‬‬ ‫بسر وأ ْم ِر من ُ‬
‫يقول ّ‬ ‫تظهر الحركة‪ ،‬فظهرت ّ‬
‫اإللهي األكبر أن َ‬
‫ّ‬ ‫التخليقي‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫ولما كانت الحرك ُة لولب ّية االتّجاهات نتجت عنها‬ ‫وبهذا ال ّظهور ُولدَ ّ‬
‫ثم المكان‪ّ ،‬‬
‫الزمان ّ‬
‫‪193‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫مستمر ونبض يتسارع أكثر فأكثر ك ّلما اقترب نحو المركز ما‬
‫ّ‬ ‫دوامتان كانتا في تذبذب‬‫ّ‬
‫كري ا ّلذي سقط‬ ‫عجل بوالدة نواة شمس ّية‪ ،‬لم يكُن لها أن تولد لوال تالقح القطب ّ‬
‫الذ ّ‬ ‫ّ‬
‫فلي‪ .2‬وهو‬ ‫الس ّ‬ ‫الرابض في القسم ّ‬ ‫العلوي للبيضة ليلتحم بالقطب األنثوي ّ‬ ‫ّ‬ ‫من القسم‬
‫ِ‬
‫[ه َو ا َّلذي َخ َل َقكُم ِّمن‬ ‫عز ّ‬ ‫اإلخصاب ا ّلذي ذكره اﷲ ّ‬
‫وجل في محكم كتابه حينما قال‪ُ :‬‬
‫ال َخ ِفيف ًا َف َم َّر ْت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّن ْف ٍ ِ ٍ‬
‫س َواحدَ ة َو َج َع َل من َْها َز ْو َج َها ل َي ْس ُك َن إِ َل ْي َها َف َل َّما َت َغ َّش َ‬
‫اها َح َم َل ْت َح ْم ً‬
‫اك ِري َن]‪ ،‬األعراف ‪،189‬‬ ‫الش ِ‬ ‫بِ ِه َف َل َّما َأ ْث َق َلت َّد َع َوا ال ّل َه َر َّب ُه َما َل ِئ ْن آ َت ْي َتنَا َصالِح ًا َّلنَكُو َن َّن ِم َن َّ‬
‫األنثوي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كري ثم‬ ‫والزوج ْين هما المبدأ ّ‬
‫الذ ّ‬ ‫ّفس الواحدة هي ماء التّخليق في البيضة‪ّ ،‬‬
‫والن ُ‬
‫«مرت به»‪ ،‬فإنّما تعني هبوط القطب ّ‬
‫الذكري نحو‬ ‫والحمل الخفيف هو اإلخصاب‪ ،‬أ ّما ّ‬
‫القطب األنثوي بفعل الحركة الزمكان ّية المتلولبة‪ ،‬وهي هذه الحركة التي رمز لها أهل‬
‫وسماها أهل ال ّظاهر بإبليس‪.‬‬
‫األسرار باألفعى‪ّ ،‬‬
‫بحواء‪ ،‬وال يعني‬
‫النصوص الدّ ينية ّ‬
‫القطب األنثوي رمز له في ّ‬
‫َ‬ ‫لك ّ‬
‫أن‬ ‫يظهر َ‬
‫هكذا فقط ُ‬
‫بتاتا األ ّم التي منها خرجت البشر ّية جمعاء بل المبدأ األنثوي ا ّلذي به حصل التخصيب‬
‫في البيضة الكونية أثناء عملية خلق العوالم بأسرها‪ ،‬والشيء نفسه بالنسبة آلدم ا ّلذي‬
‫الذكري ا ّلذي‬
‫أصبحت تعرف اآلن أنه ليس بأبيك ا ّلذي خرجت من صلبه بل القطب ّ‬
‫ّخليقي األولى المرموز له بالفردوس ليهبط بحركة ماء التّخليق‬
‫ّ‬ ‫خرج من هناءة الماء الت‬
‫يتم ال ّظهور الك ّلي للكون‪.‬‬
‫إلى األنثى‪ ،‬كي ّ‬
‫وهو القول ا ّلذي يجد تأكيد ًا ل ُه في حديث أهل ّ‬
‫الشام حينما قال أبو جعفر»عليه‬
‫حي‪ ،‬فجعل نسب كل شيء إلى الماء‬ ‫«إن اﷲ خلق الماء وجعل منه ّ‬
‫كل شيء ّ‬ ‫السالم» ّ‬
‫ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه وخلق الريح من الماء ثم سلط الريح على الماء‬
‫فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك‬
‫الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع وال نقب وال صعود وال هبوط وال شجرة‪ ،‬ثم‬

‫ّقي‪ ،‬وهو‬ ‫اإلهلي الن ّ‬


‫ّ‬ ‫األنثوي هو التّكوين‬
‫ّ‬ ‫وسفيل‪ ،‬فالقطب‬
‫ّ‬ ‫‪ .2‬ال يوجد فعل ّي ًا يف الكون يشء اسمه ُع ّ‬
‫لوي‬
‫العلوي ليس هو القسم األعىل من البيضة الكون ّية بل‬
‫ّ‬ ‫رحم اإلبداع ا ّلذي منه انبعثت اخلليقة‪ ،‬والعامل‬
‫ُ‬
‫الثالوث األعىل من شجرة احلياة‪ ،‬التي رمز هلا أهل األرسار بشجرة حواء وآدم يف الفردوس‪ ،‬وهي‬
‫الزمان واملكان‪،‬‬ ‫املتحرر من عاميل ّ‬
‫ّ‬ ‫التجاوزي‬
‫ّ‬ ‫والعلوي منها يمثل العامل‬
‫ّ‬ ‫مؤ ّلفة من ثالثة متواليات‬
‫ّ‬
‫فيل من بيضة الكون إنّام هو الثالوث األخري وما يليه من جتسيد ما ّدي‬ ‫الس ّ‬
‫بينام العامل الدنيوي أو اجلزء ُّ‬
‫للكون‪.‬‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪194‬‬
‫طواها فوضعها فوق الماء‪ ،‬ثم خلق اﷲ النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار‬
‫من الماء دخان على قدر ما شاء اﷲ أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية‬
‫ليس فيها صدع وال نقب وال شمس وال قمر وال نجوم وال سحاب‪ ،‬ثم طواها فوضعها‬
‫فوق األرض ثم نسب الخليقتين فرفع السماء قبل األرض‪ ،‬وكانت السماء رتقا ال تنزل‬
‫المطر وكانت األرض رتقا ال تنبت الحب فلما خلق اﷲ تبارك وتعالى الخلق وبث فيها‬
‫الحب»‪.3‬‬
‫ّ‬ ‫من كل دابة فتق السماء بالمطر واألرض بنبات‬
‫المطلق‬
‫الشر ُ‬
‫رمز له بإبليس ليس هو ّ‬ ‫وعرفت ّ‬
‫أن ما ُي ُ‬ ‫َ‬ ‫عرفت أباك وأ ّم َك‪،‬‬
‫َ‬ ‫اآلن وقد‬
‫األنثوي بهما‪ ،‬أعلم أنّك‬
‫ّ‬ ‫وشق متن الماء‬
‫والريح والنّار ّ‬
‫وإنّما كناية عن خلق الحركة ّ‬
‫ستسألني وتقول هذا كالم ال يستقيم ومازال يل ّفه بعض الغموض‪ ،‬ال سيما ّ‬
‫وأن اﷲ‬
‫شر الخلق‪ ،‬وأعلم أيضا أنّك ستستشهد بسورتَي‬
‫نص له عن ّ‬
‫نفسه تحدّ ث في أكثر من ّ‬
‫وشر الغاسق إذا وقب والنّفاثات‬
‫شر الخلق ّ‬‫إن ّ‬‫لك ّ‬
‫النّاس والفلق‪ ،‬وهنا أيضا أقول َ‬
‫في العقد المذكور ْين في سورة الفلق‪ ،‬إنّما المقصود بهما االحتجاب باألهواء‬
‫الصبح وسطوع‬
‫واستيالؤها وتأثيرها على جسدك بشكل يجعلك بعيدا تماما عن نور ّ‬
‫همتك‬
‫وعلو ّ‬
‫ّ‬ ‫شمسك الباطن ّية بعد أن تكون القوى النّفسية قد نفثت في عقد عزيمتك‬
‫والتنور الحقيق َي ْي ِن‪ ،‬أ ّما ّ‬
‫شر الوسواس الخنّاس في‬ ‫ّ‬ ‫إلفشال ّ‬
‫كل خطوة لك نحو اإلزهار‬
‫سورة النّاس‪ ،‬فالمقصود به تلوي ُن األنا ا ّلذي يحول دون بلوغ مقام الفناء‪ ،‬حيث ال‬
‫صدور وال وسواس وموسوس له‪ .‬وإذ تسألني عن شمسك الباطنية من تكون أقول‬
‫الكوني المرموز له بيوسف وستجد عنده الجواب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عرج على أخيك القلب‬ ‫َ‬
‫لك‪ّ ،‬‬
‫وكيف ال وهو ا ّلذي رأى أ ّمه القمر وأباه ّ‬
‫الشمس ساجد ْين ل ُه‪ ،‬أ ّما عن إخوته األحد‬
‫الروحية التي يسلكها القلب في شجرة الحياة قبل‬ ‫عشر‪ ،‬فهم المقامات والدّ رجات ّ‬
‫حيث يتج ّلى األب‬
‫ُ‬ ‫أن يصل إلى المقام الثاني عشر ا ّلذي هو سدرة المنتهى «‪»7‬‬
‫أسر العالم‬ ‫كل إنسان من ْ‬ ‫بالشمس‪ ،‬التي تتقدّ م وتخ ّلص ّ‬
‫المخ ّلص المرموز له ّ‬
‫الدنيوي من خالل التج ّلي فعليا داخل شخص ّيته فتتغ ّير كامل طبيعته إذ ّ‬
‫تشع بالنّور‬
‫مس هو ّ‬
‫الذات المركزية والقدرة الباطن ّية‬ ‫اإللهي‪ ،‬وتفعم بالحيوية‪ .‬هذا األب ّ‬
‫الش ُ‬

‫املازندراين‪ ،‬رشح أصول الكايف‪ ،‬النّسخة اإللكرتون ّية‪ ،‬اجلزء ‪ ،12‬ص ‪.9‬‬
‫ّ‬ ‫‪ .3‬حممد صالح‬
‫‪195‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫الفلسفي فستجده القدرة‬


‫ّ‬ ‫نظرت إليه من الجانب‬
‫َ‬ ‫الروحي‪ ،‬وإذا‬
‫والنمو ّ‬
‫ّ‬ ‫التطور‬
‫ّ‬ ‫على‬
‫التنور‬
‫الصحيح‪ ،‬أ ّما من النّاح ّية الصوف ّية العرفان ّية فهو ّ‬
‫على اإلدارك السليم والفهم ّ‬
‫ّ‬
‫الخلقة‪.‬‬ ‫الحب‬
‫ّ‬ ‫وقوة‬
‫ـ‪5‬ـ‬
‫عانق أخو ْي َ‬
‫ك‬
‫وأعلم أيض ًا‬
‫ُ‬ ‫أعلم هذا يا أ ّيدك اﷲ بنوره وعلمه ومح ّبته‪،‬‬
‫مما أقول‪ُ ،‬‬
‫مازلت في مرية ّ‬
‫َ‬
‫شر بعد سقوط آدم‬ ‫أنّك ستسألني عن جريمة تعتقدها ثاني ما وقع في الوجود من ّ‬
‫ومازلت لليو ِم ال تجدُ لها تفسير ًا وتراها ّ‬
‫السبب فيما يعيشه اإلنسان المعاصر‬ ‫َ‬ ‫وحواء‬
‫ّ‬
‫كل مكان من األرض‪ُ :‬‬
‫قتل قابيل ألخيه هابيل‪.‬‬ ‫من حروب وأهوال وتقتيل وتذبيح في ّ‬
‫لك‪ ،‬إنّه ال يوجد شيء في الوجود اسمه ّأول جريمة ارتكبها أبناء‬‫وهنا أيض ًا دعني أقل َ‬
‫شرحت هذا في‬
‫ُ‬ ‫وحواء‪ ،‬وهذا ألنه فعل ّي ًا ال شيء اسمه ّ‬
‫حواء وآدم وقد سبق لي أن‬ ‫آدم ّ‬
‫كري‪ ،‬ثانيا ال شيء اسمه قابيل وال هابيل أيض ًا‪ ،‬بل‬ ‫حديثي عن المبدأين األنثوي ّ‬
‫والذ ّ‬
‫الستار الواحدة تلو األخرى‬
‫هما اسمان يرمزان إلى حقائق عرفان ّية جديدة‪ ،‬سأرفع عنها ّ‬
‫لتظهر لك البشارة كما هي‪ :‬قابيل هو األنا النّفسية‪ ،‬وهابيل هو ّ‬
‫الذات العليا القلب ّية‪،‬‬
‫أ ّما األختان ال ّلتان اقتتال من أجلهما ُ‬
‫فهما الوهم التخ ّيلي المرتبط بالنّفس‪ ،‬والعقل‬
‫واإلدراك الروحي المرتبط بالقلب‪ ،‬وقد ِ‬
‫قتلت األنا القلب ومنعته من االقتران بالقوى‬ ‫ّ‬
‫الروح و ُبعدها عن بلوغ مبتغاها ا ّلذي هو‬
‫الحقيقي‪ ،‬إظالم ّ‬
‫ّ‬ ‫الشر‬
‫العقلية اإلدراك ّية فحدث ّ‬
‫اإلنساني‪ .‬واآلن وقد أدركت معنى أخو ْيك‪ ،‬فعانق‬
‫ّ‬ ‫الحق في كامل الكيان‬
‫إشراقة شمس ّ‬
‫هابيل‪ ،‬وصالح قابيل ودعه يذعن لك ويأتمر بأمرك لتأخذ بيده وتصل به إلى شمس‬
‫وتعرفه حالوة انفالق القمر وعبور البرزخ ْين‪ .4‬وال تنس أن تاريخ األجداد‬
‫ّ‬ ‫الحقيقة‬
‫كقصة أوزيريس وإيزيس‬
‫الرموز ذاتها وإن بأسماء مختلفة ّ‬
‫حافل بقصص كهذه تستخدم ّ‬
‫سمه كما تشاء‪ ،‬بعد أن يكون قد قتل أوزيريس‬
‫التي يخطفها إبليس أو قابيل أو تايفون أو ّ‬
‫كري»‪ ،‬فيظهر حورس االبن المخ ّلص‪ ،‬آدم‪ ،‬أو ّ‬
‫محمد‪ ،‬أو عيسى‪،‬‬ ‫الذ ّ‬‫أو هابيل «القطب ّ‬

‫الصدد‪ ،‬حديثنا عن شجرة احلياة يف مقدّ مة اإلصدار اجلديد‪ :‬شجر ُة التّني واألفعى‪ ،‬تأ ّمالت‬
‫‪ .4‬انظر يف هذا ّ‬
‫نقدية عرفان ّية يف دنيا أهل احلرف‪ ،‬دار الفرات للثقافة واإلعالم‪ ،‬العراق‪.2020 ،‬‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪196‬‬
‫األنثوي و ُي َش ّخص بذلك‬
‫ّ‬ ‫سمه كما تشاء‪ ،‬وذلك ل ُيخ ّلص القطب‬ ‫أو المهدي المنتظر ّ‬
‫والروح الكامنة التي ذبحتها طبيعة اإلنسان ال ّطين ّية‪.‬‬
‫اإللهي ّ‬
‫ّ‬ ‫االنبعاث‬
‫الشر األكبر الذي لحق البشر ّية‪ ،‬إنّما‬
‫إن ّ‬ ‫الصورة دعني أقل لك ّ‬
‫اآلن وقد اكتملت ّ‬
‫ب األخرى العرفان ّية التي كتبها أهل‬‫وح ْج ِ‬
‫السماوية‪َ ،‬‬
‫ظهر بسبب سوء تفسير الكتب ّ‬
‫الحق وأصحاب األسرار اإلله ّية الكبرى‪ ،‬انظر حولك‪ ،‬وسوف ترى ما ا ّلذي لحق‬ ‫ّ‬
‫إن االعتداء عليه بهذه ال ّطريقة البشعة من طرف العديد‬
‫بالقطب األنثوي في الوجود‪ّ ،‬‬
‫عجل باستفحال قو ّة‬
‫من رجال الكهنوت والفقهاء بكتم وتحريف الحقيقة التأويل ّية‪ّ ،‬‬
‫الذكري‪ ،‬وطغيانه وظهور شخص ّيات تاريخية أضرمت العالم بنيران الحروب‬
‫ّ‬ ‫المبدأ‬
‫مما جعل القوة األنثوية الخالقة تتراجع بيد ْين مك ّبلت ْين‪،‬‬
‫واإلرهاب والحرق والتدمير‪ّ ،‬‬
‫الذكري‪ ،‬وضاع المبدأ األنثوي دون أن يتذكّر أحد ما كان‬
‫ّ‬ ‫وتشوهت صورة القطب‬
‫ّ‬
‫يقوله أهل اﷲ في الماضي البعيد القريب صارخين‪« :‬احموا إناثكم من اآلخرين‬
‫واحجبوه ّن عن الغرباء»‪ ،‬فاعتقد الجهالء بواجب تكفين المرأة من أعلى رأسها إلى‬
‫أخمص قدمها‪ ،‬وحجبوا زوجاته ّن وبناته ّن وأخواته ّن‪ ،‬ولم ينتبهوا إلى ّ‬
‫أن الحكماء‬
‫ومعرضة في‬
‫ّ‬ ‫األوائل كانوا يقصدون األنثى العقل ّية التي مازالت لليوم مكشوفة للجميع‬
‫عجل باندالع الحروب في ّ‬
‫كل مكان‬ ‫كل حين لالغتصاب بدون حسيب أو رقيب ما ّ‬ ‫ّ‬
‫السبي والقتل والحرق واإلرهاب والفوضى التي ال ّأول لها وال آخر‪.‬‬
‫وظهور ّ‬
‫ـ‪6‬ـ‬
‫شرور الحروب التكفير ّية إلى أين؟!‬
‫اإليمان بذر ُة اﷲ في قلوب البشر‪ ،‬والدِّ ي ُن بدع ُة البشر في أرض الدُّ نيا والحياة‬ ‫ُ‬
‫يتجزأ‪ ،‬وما‬ ‫ينقسم وال ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اإليمان لله‪ ،‬والدّ ي َن للبشر‪ ،‬وما هو لله واحد ال‬ ‫الفانية‪ ،‬لذا فإن‬
‫األديان وبقي اﷲُ واحد ًا أبد ّي ًا‬
‫ُ‬ ‫ويأخذ ألف شكل وصورة‪ ،‬ولهذا ك ُثر ِ‬
‫ت‬ ‫ُ‬ ‫هو َ‬
‫للبشر يتعدّ ُد‬
‫َ‬
‫ؤال الحقيقي ا ّلذي ِ‬ ‫الس ُ‬
‫سمح اﷲُ‬ ‫َ‬ ‫طرحه اآلن هو‪ :‬لماذا‬
‫ُ‬ ‫ب‬‫يج ُ‬ ‫ُّ‬ ‫أزل ّي ًا ق ّيوم ّي ًا‪ .‬لكن يبقى ُّ‬
‫ّاس على‬ ‫َ‬
‫يكون الن ُ‬ ‫لإلنسان بأن ُي َعدِّ د في دياناتِه وملله ونحله؟ َأول ْيس م َن «األفضل» أن‬
‫ِ‬
‫م ّلة واحدة؟!‬
‫السؤال‪َ :‬أول ْي َس اﷲُ هو من قال في‬
‫جوابي ــ ّ‬
‫َ‬ ‫من القرآن الكريم أقدِّ ُم للقارئ العزيز‬
‫‪197‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫ٌ‬
‫إنسان‬ ‫فمهما عبدَ‬
‫َ‬ ‫[و َق َضى َر ُّب َك َأ َّل َت ْع ُبدُ وا إِ َّل إِ َّيا ُه]؟! إذن‬
‫سورة اإلسراء «آية ‪َ :»23‬‬
‫مقضي منه منذ األزل‪ ،‬وال‬ ‫ٌّ‬ ‫ألن عباد َت ُه أمر‬ ‫وكيفما كان ما يعبدُ ه فإنّه ال يعبدُ حقيق ًة ّإل اﷲ‪ّ ،‬‬
‫فعل العبادة مظهر ًا وتج ّلي ًا من‬ ‫أحد له القدرة على تغيير هذه الحقيقة المس ّل َمة‪ .‬وما دا َم ُ‬
‫عاشق لصورة اﷲ الجميل‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫فإن ّ‬ ‫اإللهي‪َّ ،‬‬ ‫تج ّليات الجمال‬
‫ٌ‬ ‫كل عابد هو في الحقيقة ُمح ٌّ‬ ‫ّ‬
‫وعشقه في صورة واحدة‬ ‫ِ‬ ‫بحب اﷲ‬ ‫َ‬ ‫في ِّ‬
‫يكتفون ِّ‬ ‫كل شيء‪ ،‬وهذا هو مقا ُم العارفين ألنّهم ال‬
‫حب اﷲَ بشكل محدود وفي‬ ‫وإنّما في الوجود ِ ِ‬
‫أحب و ُي ُّ‬ ‫عمن ّ‬ ‫وهم بهذا يختلفون ّ‬ ‫بأسره‪ُ ،‬‬
‫بصره إلى‬ ‫يوج ُه َ‬‫يهودي ّ‬
‫ّ‬ ‫ويحج إليها‪ ،‬فهذا‬ ‫ُّ‬ ‫جه ًة ُيقدّ ُسها‬ ‫ال م َن األماكن َ‬ ‫دين مع ّين جاع ً‬
‫مسيحي‬
‫ٌّ‬ ‫والشافوت والسكوت‪ ،‬وذاك‬ ‫القدس وحائط المبكى ك ّلما ح ّلت أعياد البيساح َّ‬
‫يوج ُه قل َب ُه إلى مكّة حيث‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وآخر ُمسلم ّ‬‫ُ‬ ‫يقصدُ كنيسة القيامة ونهر األردن والفاتيكان‪،‬‬
‫ِ‬
‫رأس المع ّلم بوذا في النّيبال‪ ،‬وكذلك‬ ‫يحج إلى لومبيني مسقط‬‫بوذي ُّ‬
‫ٌّ‬ ‫ورابع‬
‫ٌ‬ ‫الكعبة‪،‬‬
‫ُ‬
‫حيث أعل َن‬ ‫مرة‪ .‬أو إلى سارناث في الهند‪،‬‬ ‫نزل عليه الوحي أول ّ‬ ‫إلى بود جايا حيث َ‬
‫تختلف باختالف‬
‫ُ‬ ‫عن رسالته وبدأ في نشر تعاليمه‪ ،‬وهكذا دواليك من األماكن ا ّلتي‬
‫أقل من أولئك ا ّلذين يعبدون اﷲ‬ ‫ديانات من يقصدُ ها‪ .‬وهؤالء ُهم في مراتب العبود ّية ُّ‬
‫كل‬ ‫جهة واحدة يستفرغون فيها ّ‬ ‫كل تج ّليات الوجود‪ ،‬ألنّهم قيدُ وا إيمانَهم ِبقب َلة أو ٍ‬
‫في ّ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬
‫واختالف ِق ْب َلة العبادة تشهدُ عليه آي ٌة قرآن ّية أخرى ُ‬
‫يقول فيها اﷲُ‬ ‫ُ‬ ‫جهدهم وطاقاتهم‪.‬‬
‫أن‬ ‫الذاريات ‪ ،56‬وهذا يعني ّ‬ ‫ِ‬
‫ليعبدون]‪ّ ،‬‬ ‫واإلنس ّإل‬ ‫خلقت الج ّن‬
‫ُ‬ ‫عز ّ‬
‫وجل‪[ :‬وما‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫كل من الج ّن واإلنس مشغول بعبادة خالقه ا ّلتي اختلفت باختالف مقتضيات أسمائه‪،‬‬ ‫ًّ‬
‫وا ّلتي يعنيني منها هنا اسميه «الهادي» الوارد في اآلية التّالية‪[ :‬و َك َفى بِرب َك ه ِ‬
‫ادي ًا‬ ‫َ ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫«المض ّل» المذكور في هذه اآلية‪َ [ :‬من َي َشإِ ال ّل ُه ُي ْضل ْل ُه َو َمن‬ ‫ِ‬
‫ثم ُ‬ ‫َونَصير ًا]‪ ،‬الفرقان ‪ّ ،31‬‬
‫والم ْهتدي‪ ،‬إذ‬ ‫الضال ُ‬ ‫ُّ‬ ‫اط ُّم ْست َِقي ٍم]‪ ،‬األنعام ‪ ،39‬وكالهما عابدٌ ؛‬
‫ي َش ْأ يجع ْله َع َلى ِصر ٍ‬
‫َ‬ ‫َ َ ْ َ ُ‬
‫الشكل الذي‬ ‫أن عبادتَها لله على ّ‬ ‫كل طائفة تعتقدُ ّ‬ ‫ألن ّ‬ ‫واختلفت ّإل ّ‬ ‫ْ‬ ‫قت‬‫تفر ْ‬ ‫ُ‬
‫الملل ما ّ‬
‫الس ْب ُع‬
‫ات َّ‬ ‫او ُ‬ ‫العزة‪[ :‬ت َُس ِّب ُح َل ُه َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫رب ّ‬ ‫وإل فما معنى أن يقول ّ‬ ‫أمر صائب‪ّ ،‬‬ ‫اختارت ُه ٌ‬
‫يح ُه ْم إِ َّن ُه ك َ‬
‫َان‬ ‫َو ْالَ ْر ُض َو َمن فِ ِيه َّن َوإِن ِّمن َش ْي ٍء إِ َّل ُي َس ِّب ُح بِ َح ْم ِد ِه َو َٰل ِكن َّل َت ْف َق ُه َ‬
‫ون ت َْسبِ َ‬
‫تنوع‬ ‫ف في عباده من حيث ّ‬ ‫المتصر ُ‬
‫ّ‬ ‫َح ِليم ًا َغ ُفور ًا]‪ ،‬اإلسراء ‪ ،44‬وهو سبحانه وتعالى‬
‫الوالية والن ّّبوة‪.‬‬‫ِ‬ ‫وهو الت ّّنوع ا ّلذي تح ّق َق على األرض من با َب ِي‬ ‫عباداتهم واختالفها‪َ ،‬‬
‫ومحمد وما شئت من األنبياء واألولياء كان‬ ‫ّ‬ ‫وعلي‬
‫ّ‬ ‫المسمى بآدم ونوح وإدريس‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫وقلبك‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪198‬‬
‫ممن جمع بين الوالية والن ُّّبوة؛ فحينما‬ ‫شرعهما على مصراع ْيهما‪ ،‬ألنّه كان ّ‬
‫ُ‬ ‫ّأول من‬
‫يؤم ُن به من حيث مقام ُه‬ ‫كان في الفردوس وهناءة البيضة الكونية‪ ،‬كان ولي ًا لله وكان ِ‬
‫َ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نزل إلى األرض األنثوية ومائها األصفر‬ ‫في دار الكرامة والمشاهدة والكشف‪ ،‬وحينما َ‬
‫ِ‬
‫واإليمان به‪،‬‬ ‫وتناسلت وكثرت ذر ّيتُه‪ ،‬أصبح نب ّي ًا ُفأ ْر ِس َل إليهم ليهديهم إلى طريق اﷲ‬ ‫ْ‬
‫معتق ٍد في اﷲ وبين مؤمن بال ّطبيعة ونجومها‬ ‫ومنذ ذلك الحين والبشري ُة منقسمة بين ِ‬
‫ّ‬
‫َّاكر عابد ًا لله‬
‫للخالق تماما‪ ،‬وإن كان حتّى الن ُ‬ ‫ِ‬ ‫ومائها وأحجارها وكواكبها وبين ٍ‬
‫ناكر‬
‫ِ‬
‫القارئ العزيز وهو يقول في‬ ‫ُ‬ ‫ألم تسم ِع اﷲَ أ ُّيها‬ ‫تسبيح ُه‪ْ ،‬‬‫َ‬ ‫ّاس‬‫ُم َس ّبح ًا له وإن لم يفقه الن ُ‬
‫ون]‪،‬‬‫ب بِ َما َلدَ ْي ِه ْم َف ِر ُح َ‬ ‫[م َن ا َّل ِذي َن َف َّر ُقوا ِدين َُه ْم َوكَانُوا ِش َيع ًا ك ُُّل ِح ْز ٍ‬
‫فرقانه المبين‪ِ :‬‬
‫الروم ‪ ،32‬نعم‪ ،‬إنّهم فرحون بأعمالهم في الدّ نيا وفي اآلخرة أيض ًا‪ ،‬وإن كان مآلهم إلى‬
‫حدث وأعيدوا‬ ‫َ‬ ‫عذاب في النّار‪ ،‬فإنّهم إذا‬ ‫ٍ‬ ‫الرغم مما ذاقوه من‬ ‫أي أنّهم على ّ‬ ‫الجحيم‪ْ ،‬‬
‫ظاهري به‪ ،‬ألنّهم‬ ‫ٍ‬
‫إيمان‬ ‫إلى الحياة الدُّ نيا‪ ،‬لعادوا إلى ماكانوا عليه من إنكار لله وعدم‬
‫ّ‬
‫الخالق‪َ [ :‬أ َّمن‬ ‫ُ‬ ‫وإل لما كان قال‬ ‫عذاب الجحيم من باب رحمة اﷲ بعباده‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫استلذوا‬
‫ض َأإِ َٰل ٌه َّم َع ال َّل ِه َق ِل ًيل َّما‬
‫السو َء َو َي ْج َع ُلك ُْم ُخ َل َفا َء ْالَ ْر ِ‬
‫ف ُّ‬‫يب ا ْل ُم ْض َط َّر إِ َذا َد َعا ُه َو َيك ِْش ُ‬
‫ُي ِج ُ‬
‫ويكشف‬
‫ُ‬ ‫المضطر حتّى وإن كان في الجحيم‬
‫َّ‬ ‫يجيب‬
‫ُ‬ ‫ون]‪ ،‬النمل ‪ ،62‬فهو وحده‬‫ت ََذك َُّر َ‬
‫السو َء والعذاب! فسبحانه وحده جعلنا نتك ّل ُم أكثر من لغة‪ ،‬وندين بأكثر من دين‪،‬‬
‫عنه ّ‬
‫لتتح ّقق مشيئته وكلمته‪ ،‬ويتج ّلى ملكوته!‬
‫عمن يك ّف ُر اآلخرين من أهل الديانات األخرى ألنّهم يعبدون إلها ال عالقة‬
‫وأ ّما ّ‬
‫له بإلههم ا ّلذي تنص عليه كتبهم كما يحدث في كثير من األحيان بين المسلمين‬
‫والمسيحيين‪ ،‬فهذا ما ال يقب ُله ٌ‬
‫عقل وال منطق! ومن يؤمن بهذه الفكرة معتمد ًا على‬
‫رفع حجاب‬
‫كحجة ضدّ هم‪ ،‬فإنّي أظ ُّن أنّه قد وجب ُ‬
‫ّ‬ ‫قض ّية التَّثليث لدى المسيحيين مث ً‬
‫ال‬
‫الس ّيدَ‬
‫الغموض والخلط والتّشكيك‪ .‬والبداية ستكون من قوله تعالى حينما سأل َّ‬
‫ِ‬ ‫َّاس ات ِ‬
‫نت ُق ْل َت لِلن ِ‬ ‫ِ‬
‫َّخ ُذوني‬ ‫[وإِ ْذ َق َال اﷲُ َيا ع َ‬
‫يسى ا ْب َن َم ْر َي َم َأ َأ َ‬ ‫المسيح عيسى ابن مريم‪َ :‬‬
‫ُنت‬ ‫ول َما َل ْي َس لِي بِ َح ٍّق إِن ك ُ‬ ‫ُون لِي َأ ْن َأ ُق َ‬‫ون اﷲ‪َ ،‬ق َال ُس ْب َحان ََك َما َيك ُ‬ ‫و ُأمي إِ َٰلهي ِن ِمن د ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ِّ َ َ ْ‬
‫وب‪َ ،‬ما ُق ْل ُت‬ ‫نت َع َّل ُم ا ْل ُغ ُي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُق ْل ُت ُه َف َقدْ َعل ْم َت ُه َت ْع َل ُم َما في َن ْفسي َو َل َأ ْع َل ُم َما في َن ْفس َك إِن ََّك َأ َ‬
‫ُنت َع َل ْي ِه ْم َش ِهيدً ا َّما ُد ْم ُت فِ ِيه ْم َف َل َّما‬ ‫َل ُه ْم إِ َّل َما َأ َم ْرتَنِي بِ ِه َأ ِن ا ْع ُبدُ وا اﷲَ َر ِّبي َو َر َّبك ُْم َوك ُ‬
‫نت َع َل ٰى ك ُِّل َش ْي ٍء َش ِهيدٌ ‪ ،‬إِن ُت َع ِّذ ْب ُه ْم َفإِن َُّه ْم ِع َبا ُد َك‬ ‫يب َع َل ْي ِه ْم َو َأ َ‬ ‫نت ِ‬
‫الرق َ‬ ‫ُنت َأ َ َّ‬ ‫ت ََو َّف ْيتَنِي ك َ‬
‫‪199‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫ِ‬ ‫َوإِن َت ْغ ِف ْر َل ُه ْم َفإِن ََّك َأ َ‬


‫يم]‪ ،‬المائدة ‪ ،116‬وهي اآلية التي سأع ّق ُ‬
‫ب عليها‬ ‫نت ا ْل َع ِز ُيز ا ْل َحك ُ‬
‫فإن ّأول اإلنجيل باسم األب‬ ‫الرحيم‪ّ ،‬‬
‫الرحمن ّ‬ ‫كما يلي‪ :‬إذا كان ّأول القرآن بـسم اﷲ ّ‬
‫َ‬
‫فأخذ‬ ‫ّأويل لكلتا البسملت ْين‬ ‫ُ‬
‫الخطأ ّإل في طريقة الت ِ‬ ‫وقع‬
‫والروح القدس‪ ،‬وما َ‬ ‫واالبن ّ‬
‫أن األب‬‫البعض منهم َّ‬ ‫ُ‬ ‫قوم عيسى في بداية العهد المسيحي الكال َم على ظاهره فظ َّن‬
‫إن اﷲ ثالث ثالثة‪ ،‬دون أن يعلموا آنذاك‬ ‫واالبن والروح القدس شيئ ًا واحد ًا‪ ،‬وقالوا ّ‬
‫الروح القدس‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬
‫المراد باسم األب هو اﷲ‪ ،‬وباسم االبن هو ماهية الحقائق‪ ،‬وباسم ّ‬ ‫أن ُ‬
‫عز وعال‪:‬‬ ‫هو الوجود المطلق أل ّن ُه نتيجة عن ماهية الكينونة والجوهر مصداقا لقوله ّ‬
‫يصبح ر ّد سيدنا‬ ‫ُ‬ ‫َاب]‪ ،‬الرعد ‪ ،39‬وعليه‬ ‫[ َي ْم ُحو ال ّل ُه َما َي َشاء َو ُي ْثبِ ُت َو ِعندَ ُه ُأ ُّم ا ْل ِكت ِ‬
‫المسيح على سؤال اﷲ‪َ [ :‬ما ُق ْل ُت َل ُه ْم إِ َّل َما َأ َم ْرتَنِي بِ ِه َأ ِن ا ْع ُبدُ وا ال َّل َه َر ِّبي َو َر َّبك ُْم]‪،‬‬
‫توه َم ُه قومه أل ّن ُه زاد في بيان وإيضاح ما التبس على‬
‫المائدة ‪ ،117‬دليال على براءته مما ّ‬
‫الناس‪ .‬فليس عيسى هو اﷲ‪ ،‬وال أ ُّمه كذلك معتذر ًا في الوقت ذاته لقومه طالبا من ّ‬
‫الرب‬
‫علموه باإلخبار اإللهي في أنفسهم‪ ،‬لذلك قال‬‫ّأل يلو َمهم على ما فعلو ُه من خالل ما ُ‬
‫ِ‬ ‫[وإِن َت ْغ ِف ْر َل ُه ْم َفإِن ََّك َأ َ‬
‫يعلم ج ّيد ًا ّ‬
‫أن‬ ‫نت ا ْل َع ِز ُيز ا ْل َحك ُ‬
‫يم]‪ ،‬المائدة ‪ ،118‬وهو ُ‬ ‫عيسى‪َ :‬‬
‫له ُم المغفرةَ‪ ،‬واكتفى بفعل ما فعل ُه‬ ‫طلب ُ‬ ‫َ‬ ‫وإل ماكان‬ ‫الحق أبد ًا‪ّ ،‬‬ ‫قو َمه لم يخرجوا عن ّ‬
‫يم ِلَبِ ِيه إِ َّل َعن َّم ْو ِعدَ ٍة َوعَدَ َها إِ َّيا ُه َف َل َّما‬ ‫ِ‬ ‫َان ِ‬
‫است ْغ َف ُار إِ ْب َراه َ‬ ‫[و َما ك َ ْ‬ ‫إبراهيم «ع» مع أهله‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يفسر كيف‬ ‫يم]‪ ،‬التوبة ‪ ،114‬وهذا ما ّ‬ ‫يم َلَ َّوا ٌه َحل ٌ‬ ‫َت َب َّي َن َل ُه َأ َّن ُه عَدُ ٌّو ِّل َّله َت َب َّر َأ منْ ُه‪ ،‬إِ َّن إِ ْب َراه َ‬
‫[ه َذا َي ْو ُم َين َف ُع‬
‫اإللهي دائم ًا حينما قال‪َٰ :‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫يكون الجواب‬ ‫أن جواب اﷲ كان بأحسن ما‬ ‫ّ‬
‫َحتِ َها ْالَن َْه ُار َخالِ ِدي َن فِ َيها َأ َبد ًا َّر ِض َي ال َّل ُه‬ ‫ِ‬
‫َج ِري من ت ْ‬ ‫اد ِقي َن ِصدْ ُق ُه ْم َل ُه ْم َجن ٌ‬
‫َّات ت ْ‬
‫الص ِ‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لما كانوا صادقي َن في‬ ‫أي أنّهم ّ‬ ‫يم]‪ ،‬المائدة ‪ْ ،119‬‬ ‫َعن ُْه ْم َو َر ُضوا َعنْ ُه َٰذل َك ا ْل َف ْو ُز ا ْل َعظ ُ‬
‫فإن صد َق ُهم هذا نفعهم عند ُه حتّى آلوا إلى‬ ‫لهم من ُه‪ّ ،‬‬ ‫ظهر ُ‬
‫تأويلهم لكالم اﷲ على ما َ‬
‫الذات في األسماء‪ ،‬وا ّلتي ُيعدُّ التَّج ّلي‬ ‫اإلنجيل عبارة عن تج ِّليات ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫فكان‬ ‫الرحمة اإلله ّية‬ ‫ّ‬
‫تلك ا ّلتي ظهر بها على قوم عيسى في عيسى‪ ،‬ومريم‬ ‫في الواحد ّية إحداها‪ ،‬وأعني َبها َ‬
‫كل مظهر من هذه المظاهر مصداق ًا لقوله‬ ‫الحق في ِّ‬ ‫فشهدوا َّ‬ ‫الروح القدس‪ِ ،‬‬ ‫وكذا في ُّ‬
‫اق وفِي َأ ْن ُف ِس ِهم حتَّى ي َتبين َلهم َأ َّنه الح ُّق َأو َلم يكْفِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ ٰ َ َ َّ َ ُ ْ ُ َ َ ْ َ‬ ‫[سن ُِر ِيه ْم آ َياتنَا في ْال َف ِ َ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫بِ َر ِّب َك َأ َّن ُه َع َل ٰى ك ُِّل َش ْي ٍء َش ِهيدٌ ]‪ ،‬فصلت ‪.53‬‬
‫مؤسسات ناموس ّية‪ ،‬قائمة‬ ‫فإن األديان بشكل عا ّم تبقى ّ‬ ‫كل هذه االختالفات ّ‬ ‫ألجل ّ‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪200‬‬

‫على منطق القانون‪ ،‬وال َّثواب والعقاب‪ ،‬غير قادرة على درء ّ‬
‫الشر عن اإلنسان وال على‬
‫ينبع من‬ ‫إن ّ‬
‫كل شيء يقوم على القانون ُ‬ ‫السالم في األرض وفي قلوب النَّاس‪ّ .‬‬ ‫تحقيق ّ‬
‫الحب أبد ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وكل شيء يقوم على الخوف ال يمكنه أن يعرف ال ّطريق إلى‬ ‫منطق الخوف‪ُّ ،‬‬
‫معظم المعتقدين في األديان والمؤمنين بها‪ ،‬تتع ّل ُق قلوبهم بالجنّة وتخشى النّار‪ :‬ال‬
‫ُ‬
‫يفتقر إلى منطق الحياة ا ّلذي تكبته‬ ‫كل قلبه ومن ّ‬
‫كل نفسه‪ ،‬ألنّه ُ‬ ‫يحب اﷲ من ّ‬
‫ّ‬ ‫يوجد أحدٌ‬
‫والحب تعبير واضح وصريح‬ ‫ُّ‬ ‫األديان في قلوب النّاس‪ .‬الدّ ين كالقانون‪ ،‬يفرض الخوف‪،‬‬
‫نسمع في حياتنا اليوم ّية َّ‬
‫أن القانون هو س ّيد المجتمع‪ ،‬لكنّنا‬ ‫ُ‬ ‫عن عدم الخوف‪ .‬كثير ًا ما‬
‫ال نتساءل أبد ًا عن المعنى الحقيقي لهذه العبارة‪ ،‬ولو تأ ّملناها للحظة واحدة سنجدُ أنّها‬
‫مستمر من العقاب‪ ،‬لكن لك أن تتخ ّيل معي‬ ‫ّ‬ ‫تعيش في خوف‬ ‫كل المجتمعات ُ‬ ‫أن ّ‬
‫تعني ّ‬
‫شك ّ‬
‫أن حياة النّاس ستكون آمنة وسالمة من‬ ‫الحب هو س ّيد المجتمع‪ ،‬ال ّ‬
‫ّ‬ ‫كيف لو كان‬
‫ّ‬
‫كل المن ّغصات واآلالم‪.‬‬
‫الحب دون أن يعرفوا ماهيته وحقيقته‬
‫ّ‬ ‫مشكلة النّاس اليوم أنّهم يكثرون الحديث عن‬
‫يحب أباه وأقاربه‪ ،‬كذلك في‬
‫َّ‬ ‫أبد ًا‪ :‬ال ّطفل في البيت يجد أ ّمه صباح مساء توصيه ْ‬
‫بأن‬
‫يحتاج‬
‫ُ‬ ‫الحب ال‬
‫ّ‬ ‫الشيء نفسه‪ ،‬لكن ال أحد يقول لهؤالء األطفال ّ‬
‫إن‬ ‫ُ‬
‫يحدث َّ‬ ‫المدرسة‬
‫الحب يجني عليك دون أن‬‫ّ‬ ‫ينبع من داخلك وإ ّما ال‪ .‬من يع ّل ُم َك‬
‫إلى تعليم‪ ،‬فهو إ ّما ُ‬
‫بالحب واال ّطالع على نبعه الف ّياض في‬
‫ّ‬ ‫حر ّية اإلحساس‬ ‫ُ‬
‫يترك لك ّ‬ ‫يدري‪ ،‬لكن من‬
‫الحب ال يحتاج إلى وصايا‪ ،‬أو تعاليم‬
‫ّ‬ ‫داخلك‪ ،‬يكون ح ّق ًا قد د ّلك على ال َّطريق َّ‬
‫السليم‪.‬‬
‫السالم الذي لم‬
‫السالم في القلب‪ ،‬وهو ّ‬ ‫أو نواميس وقوانين‪ ،‬بل يحتاج إلى حلول ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أنتجت لنا جماعات هائلة‬
‫ْ‬ ‫تستطع األديان أن تح ّققه ألنّها حينما شغلت الن َ‬
‫ّاس بالجنّة‬
‫الحروب ويشع ُلها من أجل هذه الجنّة‪ ،‬وحينما شغلهتم‬
‫َ‬ ‫من ال ّطامعين‪ ،‬فظهر من يعل ُن‬
‫أرأيت عيسى يا عزيزي‬
‫َ‬ ‫أنتجت لنا جموع ًا غفيرة من الخائفين والمرعوبين!‬
‫ْ‬ ‫بالنّار‬
‫أعر َ‬
‫فك به إذن‪ :‬إنّه‬ ‫وصلك خطا ُبه؟ هل تعرف من هو حقيقة؟ دعني ّ‬ ‫َ‬ ‫القارئ؟ هل‬
‫الرجل الوحيد ا ّلذي جاء ليقلب نواميس األديان رأس ًا على عقب‪ .‬ألنّه لم ِ‬
‫يأت بقانون‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ُج ُار الدّ ين حينما ظهر‪،‬‬
‫أو شريعة أو ناموس‪ ،‬بل جاء فقط بالمح ّبة‪ ،‬ألجل هذا لم يتق ّبله ت ّ‬
‫وحاكموه بمنطق القانون واعتبروه مجرم ًا وعاقبوه على درس المح ّبة‪ّ ،‬‬
‫ولعل طريقته في‬
‫الزانية أصدق مثال ودليل على ما أقول‪ :‬إنّه ال ُيدين أحد ًا‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫تعامله مع تلك المرأة َّ‬
‫‪201‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫أصبحت ُمع ِّلم ًا‪ ،‬وليس‬


‫َ‬ ‫الدَّ ّيان الحقيقي هو اﷲ وال أحد غيره‪ّ .‬أل ت ُِدي َن أحد ًا يعني أن َّك‬
‫متنور ًا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الممكن أن تُصبح ّ‬ ‫الفرق بين االثنين شاسع جدّ ًا‪ .‬من‬ ‫َ‬ ‫متنور فقط‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫رجل دين ّ‬‫َ‬
‫الصفت ْين مختلف تمام ًا‪.‬‬
‫ألن مسار الحالت ْين أو ّ‬ ‫الصعب جدّ ًا أن تكون ُم َع ِّلم ًا‪ّ ،‬‬
‫لكن من ّ‬
‫بالحب والعطاء والكرم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫متحر ٌر‬
‫ّ‬ ‫والمع ِّل ُم‬
‫المتنو ُر وإن كان رجل دين مق ّيدٌ باألطماع‪ُ ،‬‬
‫ّ‬
‫اب‬ ‫اهب ّ‬
‫الش ّ‬ ‫والمع ّلم‪ّ ،‬‬
‫فالر ُ‬ ‫المتنور ُ‬
‫ّ‬ ‫وسأعطيك عزيزي القارئ مثاالً على هذا الفرق بين‬
‫ِ‬
‫ويحر ُم جسدَ ه‬ ‫ويحافظ على العبادات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫متنور يحفظ ال ّطقوس‪،‬‬ ‫مجرد ّ‬‫ال قد يكون ّ‬ ‫مث ً‬
‫الرغم من ذلك لم يحدث بداخله الت َّّنو ُر الحقيقي ا َّلذي‬ ‫وعق َله من المغريات‪ ،‬لكنّه على ّ‬
‫ٍ‬
‫أي‬
‫لت إلى كبت يستحيل مع ُه ّ‬ ‫ألن ال ّطاقة ا ّلتي بداخله قد ّ‬
‫تحو ْ‬ ‫يرف ُعه إلى صفة المع ّلم‪ّ ،‬‬
‫تحول أو تفتّح صادق وف ّعال‪.‬‬
‫ّ‬
‫الك «بغض النّظر عن عقيدته أو «ديانته» ا ّلذي ال ّ‬
‫يتزوج مثالً‪ ،‬أو‬ ‫الس ُ‬‫اهب أو ّ‬ ‫الر ُ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫تتحول إلى كبت يعوقه عن العروج إلى‬ ‫ّ‬ ‫ناره الجنس ّية‬ ‫ال يعرف النّساء أبد ًا‪ّ ،‬‬
‫قوتُه أو ُ‬
‫ألن األنثى ضرورية جدّ ًا لهذا النّوع من العروج‪ ،‬إنّها المرآة ا ّلتي‬
‫سماوات الملكوت‪ّ ،‬‬
‫«الراهبة» أو العارفة أو‬‫والشيء نفسه ينطبق على المرأة ّ‬ ‫ف على النّفس‪َّ ،‬‬ ‫تُح ِّق ُق الت ُّ‬
‫َّعر َ‬
‫كل طاقة ال تنتهي‬ ‫بأن ّ‬
‫أهل الفيزياء عن هذا األمر يخبرونَك ّ‬ ‫واسأل َ‬
‫ْ‬ ‫السالكة في ال َّطريق‪.‬‬
‫ّ‬
‫تتحو ُل‪ ،‬وال َّطاقة الجنس ّية ا َّلتي أنا بصدد الحديث عنها اآلن‪ ،‬إذا لم ت َُو َّجه ّ‬
‫بالشكل‬ ‫أبد ًا بل ّ‬
‫وثمة من رجال‬ ‫ٍ‬ ‫كبت‪ّ ،‬‬ ‫السليم فإنّها تتحو ُل إلى ٍ‬
‫وكل ك ْبت هو مد ّمر للطبيعة البشر ّية‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الكبت في الدّ خول إلى باب ال ّطمع وتحقيق الغايات القصوى‬
‫َ‬ ‫الدّ ين من يستخد ُم هذا‬
‫سجله تاريخ الدّ يانات من تطاحنات‬
‫فسر ما ّ‬
‫من الحياة الكهنوت ّية أو العرفان ّية‪ ،‬وهذا ما ُي ِّ‬
‫والمؤسسات الدِّ ينية األخرى‪ ،‬وما قام‬
‫ّ‬ ‫دمو ّية قاتلة في جيراركيات الكنائس والمعابد‬
‫المتصوفة من تصفيات لبعضهم بعض ًا بدافع من الغيرة والحقد‬
‫ّ‬ ‫به بعد ذلك بعض‬
‫والحسد‪.‬‬
‫الحب‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫المتنور إلى درجة المع ّلم يعني أن تحترق بنار‬
‫ّ‬ ‫تتحول من درجة‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫ِ‬
‫يكفي أن تكون من أهل العمل فحسب‪ ،‬أو من أهل العلم فقط‪ .‬ال بدّ أن تجمع في‬
‫َ‬
‫ونارك المقدّ سة‪.‬‬ ‫َ‬
‫عملك على العقل‬ ‫طريقك بين جهادك للنّفس والجسد‪ ،‬وبين‬
‫ّنور في هذا ال يسلكون طريق ًا واحد ًا‪ ،‬بل ُهم مختلفون باختالف‬ ‫ورجال الت ّ‬
‫ال ّطرق ا َّلتي تؤ ّدي إلى اﷲ‪ ،‬لكن ا ّلذي يحدث أحيان ًا ــ وهذا ليس باألمر الج ّي ِد‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪202‬‬
‫العم ِل وحده‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫طبع ًا ــ ّ‬
‫أن البعض منهم يكتفي بطريق واحد‪ ،‬فيصبح إ ّما من رجال َ‬
‫َ‬
‫ليصل‬ ‫الحق‬
‫ّ‬ ‫المتنور‬ ‫القلب فقط‪ ،‬والحقيقة ّ‬
‫أن‬ ‫ِ‬ ‫وإما من رجال ِ‬
‫العلم‪ ،‬أو من أهل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كل هذه ال ّطرق والمسالك‪ .‬ومن لديه خبرة‬ ‫ِ‬
‫الم َع ّلم‪ ،‬عليه أن يجمع بين ّ‬
‫إلى درجة ُ‬
‫ألن هذا الجسد هو‬‫ودراية بماهية الجسد البشري‪ ،‬سيعرف ج ّيد ًا قيمة ما أقول‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫العقل؛ وهو المرشدُ األعلى‪ ،‬وفيه النّار المقدّ سة‪ ،‬وهي طاقة‬ ‫على درجتَين‪ :‬فيه‬
‫ُّوراني‪ ،‬ويدعو مركبة‬
‫ّ‬ ‫الحياة‪ ،‬والعقل هو المتحك ُّم في النّفس ُي َذك ُِّرها بأصلها الن‬
‫مجرد‬
‫كل عذاباتها وأمراضها هي ّ‬ ‫بأن ّ‬
‫ّفس ّ‬ ‫الصعود إلى أعلى‪ ،‬و ُي َذكّر الن َ‬
‫الجسد إلى ُّ‬
‫خيال ووه ٍم ُيمك ُن حرق ُه ج ّيد ًا بالنّار المقدّ سة وا ّلتي كثير ًا ما تحدّ ث عنها اﷲ في‬
‫العديد من نصوصه‪ ،‬أذكر منها على سبيل المثال ال الحصر هذه اآلية القرآن ّية ا ّلتي‬
‫َارا َف َق َال ِلَ ْه ِل ِه ا ْم ُك ُثوا إِنِّي آن َْس ُت‬‫وس ٰى‪ ،‬إِ ْذ َر َأ ٰى ن ً‬ ‫يث ُم َ‬‫َاك َح ِد ُ‬
‫[و َه ْل َأت َ‬ ‫يقول فيها‪َ :‬‬
‫وس ٰى‪ ،‬إِنِّي‬ ‫ِ‬ ‫س َأ ْو َأ ِجدُ َع َلى الن ِ‬‫َارا ل َع ِّلي آتِيكُم ِّمن َْها بِ َق َب ٍ‬
‫َاها نُود َي َيا ُم َ‬ ‫َّار ُهدً ى‪َ ،‬ف َل َّما َأت َ‬ ‫ن ً‬
‫َّك بِا ْلو ِ‬
‫اد ا ْل ُم َقدَّ ِ‬ ‫اخ َل ْع َن ْع َل ْي َك إِن َ‬
‫َأنَا َر ُّب َك َف ْ‬
‫س ُط ًوى] طه ‪ .9‬هذه الن ُّار بيتُها ّ‬
‫األول‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫وأمسك شعلتَها بيد ْيه‬ ‫اها إليه‬ ‫ُ‬
‫العقل د َع َ‬ ‫هو أسفل ال ّظهر وإذا اهتدى إليها ُموسى ــ‬
‫الشوائب‪ ،‬وأنار بها بق ّية «أهله» ا َّلذين ُهم‬ ‫وارتفع بها إلى األعلى ليحرق بها ّ‬
‫كل َّ‬
‫بأن هذه النّار‬‫أن أ َذك َِّر وأنا في هذا المقام ّ‬‫ويجب ْ‬
‫ُ‬ ‫والحواس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والروح‬
‫القلب والفؤاد ّ‬
‫ُ‬
‫الشهوة الجنس ّية المبال ِغ‬
‫بإخراجها من باب ّ‬ ‫ِ‬ ‫اإلنسان كامل ًة‬
‫ُ‬ ‫ف إذا استهلكَها‬
‫ت َْض ُع ُ‬
‫الجشع والنّهم واألكل الكثير‪ ،‬لذا فإنّه من المستحسن أن يعمل‬
‫فيها‪ ،‬أو عن طريق َ‬
‫يرغب في سلوك طريق النّور أن يحافظ على طاقته الجنسية ألنّها طاقة‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫كل إنسان‬
‫يحرق عق َله وجسدَ ه بالتُّخمة ا َّلتي‬
‫َ‬ ‫مقدّ سة وذلك بأن يقنّ َن الممارسة الجنس ّية‪ّ ،‬‬
‫وأل‬
‫تجر ّإل الوبال والمرض‪ْ ،‬‬
‫وأن يق ّل َل من الكالم‪ ،‬ألن ال ّلسان ُمهدر كبير لطاقة‬ ‫ال ّ‬
‫تسرق ال ّطاق َة‬
‫ُ‬ ‫يغض ما استطاع بصره عن النّظر إلى المغريات ألنّها‬
‫اإلنسان‪ ،‬وأن ّ‬
‫عبر العين‪.‬‬
‫يتم العمل على العقل والقلب‪،‬‬ ‫ألن بها ُّ‬‫مهم في جسد اإلنسان‪ّ ،‬‬ ‫النّار المقدّ سة شي ٌء ّ‬
‫ُ‬ ‫الروح ال ُقدُ س‪.‬‬ ‫ِ‬
‫والقلب هما كآلة العود إذا‬ ‫ُ‬ ‫العقل‬ ‫وهو ما اص ُطل َح عليه الحق ًا بعمل ّ‬
‫بحيث ال تكون مشدود ًة جدّ ًا‪ ،‬وال مرن ًة‬ ‫ُ‬ ‫يضبط أوتارها ج ّيد ًا‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان كيف‬ ‫ِ‬
‫يعرف‬ ‫لم‬
‫ْ‬
‫الخاصة ا ّلتي تم ّيز ُه عن بق ّية النّاس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أو ُمرتخي ًة بشكل مبالغ فيه‪ ،‬فإنّه لن ُي َقدِّ َم معزوفتَه‬
‫‪203‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫ومن األخطاء ا ّلتي مازال يرتك ُبها اإلنسان لليوم‪ ،‬اعتقاد ُه ّ‬


‫أن طاقتَه تنبع من قلبه فقط‬
‫ِ‬
‫أو من عقله أو منهما مع ًا‪ ،‬في حين أنّها تنبع من ُس ّرته ال غ ْير‪ .‬ال أحد ُ‬
‫ينظر إلى الوردة‬
‫ينظر إلى رأس‬ ‫سبب حياتها‪ّ .‬‬
‫الكل ُ‬ ‫جذورها هي ُ‬
‫َ‬ ‫ويستوعب حقيق ًة ّ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫وال إلى ّ‬
‫الشجرة‬
‫َ‬
‫اإلنسان‬ ‫أقول ّ‬
‫إن‬ ‫ِ‬
‫وأزهار ُه‪ .‬لذا ُ‬ ‫ثماره‬ ‫ويشمه‪ ،‬أو إلى رأس ّ‬
‫َ‬ ‫الشجرة يجني َ‬ ‫ّ‬ ‫الوردة يقطفه‬
‫سرته‪ ،‬وهي المكان الوحيد ا ّلذي منه يستمدُّ‬ ‫هو بمثابة ّ‬
‫الشجرة الواقفة وجذور ُه في ّ‬
‫وينفتح ِبه على الوجود‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ال ّطاقة‬
‫يكون مجتمع ًا فاسد ًا وممتلئ ًا بالمجانين والمهووسين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫العقل فقط‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كل مجتم ٍع يعتمدُ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫العقل وحدَ ه ال‬ ‫الجسد‪.‬‬
‫تهتم فقط بروحان ّيات َ‬ ‫والشيء نفسه بالنّسبة للمجتمعات ا َّلتي ُّ‬‫َّ‬
‫تحمل‬
‫اللزمة من أجل ُّ‬ ‫وهش ٌة جدّ ًا‪ ،‬وليس لها ّ‬
‫كل القدرة وال ّطاقة ّ‬ ‫حساسة ّ‬
‫ينفع‪ ،‬أل ّن ُه آلة ّ‬
‫ُ‬
‫النفسي وما إلى ذلك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫القلق والغضب واأللم‪ ،‬واإلجهاد‬ ‫ُ‬ ‫ضغوطات الحياة بما فيها‬
‫ف عن العمل الصحيح‪ ،‬وهذا هو السبب وراء كثرةِ‬ ‫فشله ويتو ّق ُ‬
‫أل ّن ُه في النهاية سيعل ُن َ‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫كل إنسان أن تصبح‬ ‫المختلين عقل ّي ًا والمرضى النّفسيين في المجتمعات المعاصرة‪ .‬على ّ‬
‫ب‬ ‫المصاح ِ‬
‫َ‬ ‫مت‬
‫الص َ‬ ‫الصمت في حياته اليوم ّية‪ ،‬وأعني هنا ّ‬ ‫تحقيق أعلى درجات ّ‬‫َ‬ ‫غايتُه‬
‫َ‬
‫العقل ال يمكنه أن يعمل‬ ‫بالسماع واالستماع واالستمتاع‪ .‬قد يبدو األمر صعب ًا‪ ،‬لك ّن‬ ‫ّ‬
‫مطالب‬
‫ٌ‬ ‫كل إنسان‬‫والسماع الكامل ْين‪ّ .‬‬
‫مت ّ‬
‫الص ُ‬ ‫خلق ّإل إذا تح ّقق له ّ‬
‫حقيق ًة وبشكل ّ‬
‫الس ّرة‪ .‬وهذا يعني‬
‫األهم في جسده وهو ّ‬
‫ّ‬ ‫الصمت من أجل التّواصل مع مركز ال ّطاقة‬
‫بهذا َّ‬
‫الصمت ا ّلذي ال يعادله صمت‪ ،‬وحيث الهناءة‬ ‫ِ‬
‫العودة بالعقل إلى حياة المشيمة حيث ّ‬
‫كل إنسان بدأ حيا َت ُه هكذا‪ ،‬لكن األخطاء ا ّلتي ارتكبتْها الحضارات‬ ‫والسالم‪ّ .‬‬ ‫والوداعة ّ‬
‫ُغتفر أبد ًا‪.‬‬
‫وال َّثقافات واألديان في هذا المجال ال ت ُ‬
‫الس ّري ا ّلذي يرب ُطها‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الحبل ّ‬ ‫قطع‬
‫بمجرد أن ُي َ‬
‫ّ‬ ‫كانت األ ُّم‬ ‫في المجتمعات البدائية‬
‫ُسارع مباشرة إلى تعويضه بثدي األمومة‪ ،‬وكانت ــ وهي ا ّلتي لم تك ْن ال‬ ‫ُ‬ ‫بطفلها‪ ،‬ت‬
‫ِ‬
‫القلب‪،‬‬ ‫الس ّرة إلى‬ ‫تعرف ج ّيد ًا كيف ُ‬
‫تنتقل من مركز ُّ‬ ‫ُ‬ ‫بالمث َّقفة وال الفيلسوفة وال ال ّطبيبة ــ‬
‫فل َ‬
‫كان ينمو بالمح ّبة‬ ‫أن ال ّط َ‬
‫الشيء ا َّلذي يعني ّ‬ ‫رضيعها عبر ال َّثدي‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بقلب‬ ‫ُ‬
‫وتربط قل َبها‬
‫حرمان ابنها من حليبها َّإل بعد أن يبدأ هو وعن‬ ‫َ‬ ‫تحب أبد ًا‬ ‫ِ‬
‫وكانت األ ُّم ال‬ ‫والسالم‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫عمره ثالث سنوات وفي حاالت‬ ‫طيب خاطر في االبتعاد عن ال ّثدي بعد أن يصبح ُ‬
‫أخرى حتّى أربع سنوات‪.‬‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪204‬‬
‫وانتقلت من حالة البداءة إلى حالة العقل وال َّثقافة‬
‫ْ‬ ‫رت وضعي ُة المرأة‬ ‫اليوم وقد تغ ّي ْ‬
‫ُلقم طف َل َها زجاجة‬ ‫َّحضر‪ ،‬أصبحت ما إن ُيق َط ُع الحبل ّ‬
‫الس ّري حتّى ت َ‬ ‫والتَّمدّ ن والت ّ‬
‫ثم قلبِه‬ ‫ِ‬ ‫الحليب االصطناعي فت َُض ِ‬
‫ف من ألمه وحرمانه بفصل ُس ّرته عن ُس ّرتها‪َّ ،‬‬ ‫اع َ‬ ‫ّ‬
‫السائدة في الغرب هي ثقافة العقل‪ ،‬وذلك‬ ‫أن ال َّثقاف َة ّ‬
‫كيف ّ‬
‫يفس ُر َ‬
‫عن قلبها‪ .‬وهذا ما ّ‬
‫الس ّرة والقلب‪ .‬بل هذا ما‬ ‫ٍ‬ ‫تم فقدانُه في ّ‬ ‫ِ‬
‫كل القرون الماضية من عالقة بين ّ‬ ‫لتعويض ما ّ‬
‫الغربي عانوا‬
‫ّ‬ ‫أن العديد من رجال ال ّثقافة الكبار والمشهورين في العالم‬
‫فس ُر أيض ًا كيف ّ‬
‫ُي ّ‬
‫أسهمت‬
‫ْ‬ ‫في حياتهم من الجنون أو من األمراض واآلالم العقل ّية المختلفة‪ .‬والمرأ ُة قد‬
‫أن اإلنسان في مساره الحضاري قد‬ ‫وحي‪ .‬لذا تجدُ ّ‬
‫الر ّ‬
‫بشكل كبير في هذا الخراب ّ‬
‫يعترف‬
‫ْ‬ ‫اللهوتية واإليمانية بصورة ِ‬
‫اإلله ــ األب‪ ،‬ولم‬ ‫عو َض صورتَها حتَّى في الدّ ائرة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قط بصورة المرأة ــ اإللهة‪ ،‬وفي أقصى الحاالت أعطاها درجة «أ ّم اإلله»‪ ،‬وليست‬ ‫ّ‬
‫فانظر كيف أصبح األبنا ُء يعاملون أ ّمهاتِهم‬
‫ْ‬ ‫باإللهة أبد ًا‪ .‬أ ّما على مستوى الحياة اليوم ّية‪،‬‬
‫رح األبناء‬ ‫كل ركن من العالم‪ :‬ال يوجد هناك احترام‪ ،‬وال مح ّبة‪ ،‬وال مو ّدة‪ّ .‬‬
‫ألن ُج َ‬ ‫في ّ‬
‫في أ ّمهاتهم عميق جدّ ًا وال يستطيعون أن يغفروا له ّن ما ارتكبنَه في ح ّقهم من جريمة‬
‫حينما منع َن عنهم ال ّثدي واستبدلن ُه بقنّينة زجاج ّية أو بالستيك ّية يبحثن فيها بشكل أو‬
‫بآخر عن طريق يوصلهم جميع ًا؛ أ ّمهات وأبناء إلى ماضي ّ‬
‫الس ّرة والقلب‪ .‬ألجل هذا‬
‫ثدي المرأة شيء مقدّ س واﷲ لم يخلقه عبث ًا‪ ،‬بل جعله بواب ًة إلى عالم ّ‬
‫الروح‬ ‫إن َ‬‫أقول ّ‬
‫َ‬
‫بنفسك مدى الحرمان‬ ‫السالم‪ :‬انظر إلى لوحات الفنّانين الكبار وستلمس‬ ‫وملكوت َّ‬
‫ا َّلذي تعيشه اإلنسان ّية‪ .‬الكثير من الفنّانين يرسمون أثداء النِّساء بشكل رائع وبديعٍ‪،‬‬
‫الحب والحنان واألمن واألمان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويع ّبرون فيه جمي ُعهم عن مدى حاجتهم َّ‬
‫الشديدة إلى‬
‫كل‬ ‫وشره في ّ‬
‫الرجل ّ‬ ‫َ‬
‫المستحيل وه ّن يعانين من عنف َّ‬ ‫ال يمك ُن للنّساء أن يطلبن‬
‫ثم عنفه في البيت‪ .‬إنّها كارثة حقيق ّية ولن‬ ‫الشارع‪ ،‬عنفه في العمل َّ‬ ‫مكان؛ عنفه في َّ‬
‫المرأة نفسها‪ ،‬وهي اآلن مطالبة أكثر من غيرها بالعودة‬‫ِ‬ ‫ينقذكم منها أ ّيها النّاس سوى‬
‫ُ‬
‫العقل‬ ‫إلى ُس ّرتها وثديها‪ ،‬حتَّى تقود أبناء العالم إلى مركز ال ّطاقة الح ّقة‪ ،‬وحتّى يجدَ‬
‫طريقه إلى ال َّطمأنينة َّ‬
‫والسالم‪.‬‬
‫األمومي‬
‫ّ‬ ‫كل مكان ناتج عن هذا ّ‬
‫الشرخ‬ ‫شر النّاس وحروبهم المضطرمة في ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫ويتلذذون به وبنتائجه‬ ‫الكبير‪ ،‬وعن كراه ّيتهم ألنفسهم لدرجة أنهم يرتكبون ّ‬
‫الش ّر‬
‫‪205‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫إن النّاس يكرهون أنفسهم‪ ،‬فإنّي أقصد بالكراه ّية‬ ‫أكثر من فعل الخير‪ .‬وحينما أقول ّ‬
‫اللهوت‬ ‫معظم نصوص ّ‬ ‫ُ‬ ‫تلك ا َّلتي تستمدُّ مشروع ّيتها من الوصايا واألحكام الدّ ين ّية‪.‬‬
‫وتقول له إنّها األفعى ا َّلتي تسعى بين‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫اإلنسان من نفسه‪،‬‬ ‫ُح ِّذ ُر‬ ‫وفي ّ‬
‫كل الدِّ يانات ت َ‬
‫الكثير من‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫وألن‬ ‫جنب ْيه وا َّلتي عليه أن يحار َب َها بدون هوادة ليضمن لروحه النّجاة‪،‬‬
‫يملكون خياالً ِخصب ًا في تأويل الوصايا والتّعاليم‪ ،‬فإن َّك تجدُ ُهم يط ّبقونها‬
‫َ‬ ‫النّاس‬
‫اهري ا َّلذي غالب ًا ما يقول لهم‪« :‬أبغض َ‬
‫نفس َك‬ ‫ّ‬ ‫بحذافيرها مكتفين فقط بالمعنى ال ّظ‬
‫يحق لي أن أتساءل وأقول‪ :‬ما‬
‫المالحظة ُّ‬ ‫وأحب اﷲ‪ ،‬هذا هو الخالص»‪ .‬ومن هذه ُ‬‫َّ‬
‫الم ِعيش ِمن حولنا‬
‫العالمي َ‬
‫ّ‬
‫وبغضه ِ‬
‫لنفسه؟ الواقع‬ ‫ِ‬ ‫ا ّلذي استفدناه من كراهية اإلنسان‬
‫أنفسهم في الكنائس والمساجد‪ ،‬في المعابد‬
‫فجروا َ‬
‫الشباب ّ‬‫آالف مؤ ّلفة من ّ‬
‫ٌ‬ ‫يقول‪:‬‬
‫والشوراع‪ .‬أليس كذلك؟ ّ‬
‫كل هؤالء فعلوا هذا‪،‬‬ ‫َّجمعات التّجارية َّ‬
‫واألسواق‪ ،‬وفي الت ّ‬
‫أنفسهم‪.‬‬
‫ألنّهم «يح ّبون اﷲ»‪ ،‬ويكرهون َ‬
‫ب اﷲ؛‬ ‫ِ‬ ‫المسلم ا ّلذي يقتُل‬
‫المسيحي‪ ،‬يقوم بذلك ألن ُه ُيح ُّ‬
‫ّ‬
‫حب اﷲ؛‬
‫المسلم‪ ،‬يقوم بذلك ألنّه ُي ُّ‬
‫َ‬ ‫المسيحي ا ّلذي يقتل‬
‫ّ‬
‫يحب اﷲ؛‬
‫ُّ‬ ‫اليهودي ا َّلذي ُ‬
‫يقتلهما مع ًا‪ ،‬يفعل ذلك‪ ،‬ألنّه هو أيض ًا‬ ‫ُّ‬
‫حب اﷲ ر ّبما أكثر منهم جميع ًا‪،‬‬ ‫والبوذي ا ّلذي ُ‬
‫يقتل المسلم‪ ،‬يقوم بذلك ألنّه ُي ّ‬
‫واللئحة تطول طبع ًا‪.‬‬
‫ّ‬
‫كل هذا األلم والعذاب‪ ،‬فمن يكون هذا اﷲُ‬ ‫ب في ّ‬ ‫ط ّيب‪ ،‬إذا كانت مح ّب ُة اﷲ تتس ّب ُ‬
‫يحب الدّ ماء ونحن ال ندري عنه‬ ‫ّ‬ ‫شك أنّه س ّفاك‬
‫كل هؤالء؟! ال َّ‬ ‫ا ّلذي من أجله يتقات َُل ّ‬
‫أنت عزيزي القارئ‪ ،‬ليست له أ ّية عالقة بهذا اإلله‬ ‫ألن اﷲَ ا ّلذي أعرفه أنا وتعر ُفه َ‬ ‫شيئ ًا‪ّ .‬‬
‫َكب ّ‬ ‫ِ ِ‬
‫نفسه‪ ،‬ال يمكنُه أن‬
‫أن من يكر ُه َ‬ ‫كل هذه المذابح! ما أريدُ قوله هو ّ‬ ‫ا َّلذي با ْسمه ت ُْرت ُ‬
‫ّاس جميع ًا اﷲَ جانب ًا‪ ،‬وليبدؤوا‬ ‫ِ‬ ‫ب اﷲَ أبد ًا‪ ،‬لذا فإنّي أعتقد ّ‬ ‫ِ‬
‫أن من األفضل لو يترك الن ُ‬ ‫ُيح َّ‬
‫يكم ُن ُهنا‪ ،‬في هذه النّفس ا َّلتي‬ ‫األقل بحب ِ‬
‫الحق ُ‬ ‫ألن طريق الخالص ّ‬ ‫أنفسهم‪ّ ،‬‬ ‫على ّ ُ ِّ‬
‫ببغضها ومقتها‪.‬‬ ‫يوصي الجميع ِ‬

‫كونوا مح ّبين لذواتِكُم‪ ،‬ما من ُمشكل في ذلك‪ ،‬أح ّبوا أنفسكم قدر ما استطعتم‪،‬‬
‫تعرفوا عليها‪ ،‬وال تنصتوا للباقي‪ّ ،‬‬
‫ألن الوالدة الجديدة تقتضي المح ّبة قبل‬ ‫اكتشفوها‪ّ ،‬‬
‫لم تبدأ من الدّ اخل فإنّكم لن تجدوا اﷲَ أبد ًا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كل شيء‪ ،‬وهذه المح ّبة إذا ْ‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪206‬‬
‫َ‬
‫وكونك تعيش اليوم فهذا ال يعني‬ ‫يفتح عين ْي َك على الحياة‪،‬‬ ‫الحب هو ّ‬
‫الحل إذن‪ ،‬ألنّه ُ‬ ‫ّ‬
‫أن َّك تحيا‪ ،‬فرق كبير يا صاحبي بين الحياة والع ْيش‪ .‬انظر حولك ولو لبضع لحظات‪،‬‬
‫الحق بعد‪،‬‬
‫حياتك كيف هي؟ وستجد أنّها جحيم مطلقة‪ ،‬ألنّك لم تعرف اﷲَ ّ‬ ‫َ‬ ‫انظر إلى‬
‫الشاطئ‪ ،‬ضائع كقوقعة‬ ‫مازلت على ّ‬
‫َ‬ ‫الرغم من إيمانك وصلواتك وعباداتك‪ ،‬إنّك‬ ‫على ّ‬
‫ٍ‬
‫منسية من ّ‬
‫كل شيء‪.‬‬
‫كمحمد وموسى‪ ،‬أو كمريم‬ ‫ّ‬ ‫ُن‬
‫ُن كعيسى‪ ،‬أو ك ْ‬ ‫لك ك ْ‬‫ال تصدِّ ْق من يقول َ‬
‫وتقزيم وتحقير‬
‫ٌ‬ ‫ألن في هذا القول إهان ٌة كبيرة َ‬
‫لك‪،‬‬ ‫وفاطمة‪ ،‬أو كتيريزا ورابعة‪ّ ،‬‬
‫نفس َك‪ ،‬ألنّه‬
‫ُن َ‬
‫أنت وال شيء غير هذا‪ .‬ك ْ‬ ‫ُن َ‬‫لك في المقابل‪ :‬ك ْ‬ ‫لنفسك‪ .‬أنا أقول َ‬ ‫َ‬
‫أردت طبع ًا ذلك من‬‫َ‬ ‫أفضل من هؤالء جميع ًا‪ ،‬إذا‬‫َ‬ ‫ستكتشف أنّه قدْ تكون‬
‫ُ‬ ‫ر ّبما بهذا‬
‫السماوات واألرض‪،‬‬ ‫لك؟ اﷲُ بديع ّ‬ ‫وإل فما قيم ُة َخ ْل ِق اﷲ َ‬
‫وروحك‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫كل قلبك‬‫ّ‬
‫وتوجدُ منه‬
‫َ‬ ‫يتكر ُر أو يتشاب ُه أبد ًا‪ ،‬وما من شيء في الكون ّإل‬ ‫ّ‬ ‫ال شي َء يخل ُقه‬
‫عليك أنت أيض ًا‪ :‬انظر إذن بداخلك‪ ،‬واعرف‬ ‫َ‬ ‫نسخ ٌة واحدة فقط‪ .‬وهذا ينطبق‬
‫يتكرر‪ ،‬ومحمدّ ًا كذلك‪ ،‬ومريم‬ ‫ّ‬ ‫أن المسيح واحد ال‬ ‫نفسك من تكون‪ .‬وتذكّر ّ‬
‫حي‬‫بقلب ّ‬‫ٍ‬ ‫منك أن تعيش‬‫ب َ‬ ‫سر الحياة ا ّلذي يتط ّل ُ‬
‫جر ًا‪ .‬هذا هو ّ‬ ‫وهلم ّ‬
‫ّ‬ ‫وفاطمة‬
‫المتحولة والمتغ ّيرة دائم ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أن الحياة ليست ثابتة بل هي‬ ‫وشجاع‪ ،‬وتذكّر ج ّيد ًا ّ‬
‫ال شيء فيها مضمون‪ ،‬وال شيء فيها يدعو إلى االطمئنان والخمول‪ ،‬عليك أن‬
‫َ‬
‫ألعطيك‬ ‫لست هنا‬
‫ُ‬ ‫لكل شيء‪ ،‬وتذكّر أيض ًا أنّني‬ ‫ومتأهب ًا ومستعدّ ًا ّ‬
‫ّ‬ ‫تكون متي ّقظ ًا‪،‬‬
‫لك‪ ،‬فقد ال تكون‬ ‫شروحات جاهزةً‪ ،‬ألنّها هي أيض ًا غ ْي ُر ثابتة‪ ،‬وكما هي صالحة َ‬ ‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫قيمة‬ ‫لغيرك‪ ،‬وكما قد تكون صالحة اليو َم فقد لن يصبح لها أ ّية‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كذلك بالنّسبة‬
‫الزمان‪ ،‬ولو عا ُدوا‬ ‫صالح ًة لفترة مع ّينة من ّ‬
‫َ‬ ‫كانت‬
‫ْ‬ ‫غد ًا‪ .‬وصايا العديد من األنبياء‬
‫ّهم سيأتون بالوصايا والكتب نفسها‪ .‬هكذا هي الحياة‪ ،‬هذا هو‬ ‫اليوم ال أعتقدُ أن ُ‬
‫شلل هادر‪ ،‬عاصفة هائجة‪ ،‬أنهار متد ّفقة‪ ،‬حركة دائبة نحو‬ ‫األوحد‪ ،‬إنّها ّ‬
‫َ‬ ‫قانُونها‬
‫تفتح نوافذ جديدة في أعماقك لتتح ّق َق‬
‫اللمنتهي‪ ،‬لذا عليك أن َ‬ ‫األبدي ّ‬
‫ّ‬ ‫األمام‬
‫كل‬‫أوالً وقبل ّ‬ ‫َ‬
‫وتتفاعل و َتن َْسجم معها ليس بعقلك فقط‪ ،‬بل بقلبك ّ‬ ‫َ‬
‫كينونتك‬ ‫َ‬
‫لك‬
‫الس ّر‪.‬‬
‫ْت ّ‬‫شيء‪ ،‬ألنّك إذا فعلت هذا فستكون قد أدرك َ‬
‫‪207‬‬ ‫هاياضقوّرشلا يف‬

‫ـ‪7‬ـ‬
‫َ‬
‫تحت فيء شجرة المح ّبة‬
‫التفسخ‬
‫ّ‬ ‫تفسخ‪ ،‬وال أعني به‬ ‫اإلنسان اآلن في هذه المرحلة من الحياة‪ ،‬إنه في حالة ّ‬
‫ألن األجساد الماد ّية ح ّية وإن ظاهر ّي ًا‪ ،‬ولكن‬
‫وحي‪ّ ،‬‬
‫الر ّ‬
‫الجسدي الما ّدي‪ ،‬بل الدّ اخلي ّ‬
‫ّ‬
‫الحقيقي اآلن هو النّفس وهي في حالة تح ّلل ذاتي سيتبعه وال شك تفكّك‬
‫ّ‬ ‫الميت‬
‫شر ًا‪ ،‬بل‬ ‫ثم والدة جديدة‪ .‬كورونا ّ‬
‫وكل مرض أو وباء كما ترى ليسا ّ‬ ‫األثيري‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫للهيكل‬
‫والشر الحق ال يظهر ّإل حينما تغيب المح ّبة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫هو إعالن عن والدة جديدة في ال ّطريق‪،‬‬
‫الحب هو معراجك‬‫ّ‬ ‫َ‬
‫عليك أن تعرف أن‬ ‫الحب‪ .‬لذا وجب‬
‫ّ‬ ‫وتجف أنهار الدّ نيا من ماء‬
‫ّ‬
‫كل من يسأل عن اﷲ هو في الحقيقة يسأل عن‬ ‫وأن ّ‬
‫الوحيد من الجحيم إلى الفردوس‪ّ ،‬‬
‫عرف المحبوب‪ .‬ليست المشكلة في أين هو اﷲ ولماذا يسمح‬ ‫الحب َ‬
‫َّ‬ ‫الحب‪ ،‬ومن عرف‬
‫ّ‬
‫حياتك‪ ،‬مرض ًا كان أو حرب ًا أو كارثة طبيعية أو إرهاب ًا‪ ،‬إنّما المشكلة‬
‫َ‬ ‫بتج ّلي ّ‬
‫الشر في‬
‫أي نوع من اإلحساس لتشعر‬
‫وأصم وبدون ّ‬
‫ّ‬ ‫في َ‬
‫أينك أنت؟ ولماذا أنت لليوم أعمى‬
‫الحب في ّ‬
‫كل مكان؟ فأين باﷲ عليك ستبحث عنه وكل موجود‬ ‫ّ‬ ‫بوجود اﷲ أو وجود‬
‫ُهو‪ ،‬إنّه الكيمياء الوحيدة التي تغ ّي ُر الكون‪ .‬لذا أقول لك ال تنتظر التغيير في الخارج‪ ،‬بل‬
‫بالحب ستنفتح ك ّلي ًا على عالم جديد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كل شيء يتغ ّير بداخلك وحينما ستكون ممتلئ ًا‬ ‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬ليس‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫دينك‬ ‫وقلبك سيصبح ناي ًا بين شفتي اﷲ‪ ،‬تخرج منه أنشودة عظيمة هي‬
‫ذاك ا ّلذي تلقيته في المعابد والكنائس والمساجد وعبر ال ّطقوس المختلفة‪ ،‬بل ذاك‬
‫َ‬
‫وبئرك العميقة والتي بها سترى أن الحياة أغنية رائعة‪،‬‬ ‫اخلي‬
‫ّ‬ ‫ا ّلذي ينبع من محرابك الدّ‬
‫والوجود في تناغم ووئام مبهرين‪ .‬دعني أروي لك حكاية بيداغوج ّية أخيرة بها أختم‬
‫رحلتي الخيميائ ّية معك‪{ :‬ذهب أحد الفالسفة إلى امرأة صوف ّية حكيمة وقال لها‪:‬‬
‫السماوية‬
‫أن هذه الكتب ّ‬ ‫«ع ّلميني الكتب المقدّ سة في جلسة واحدة»‪ ،‬وكان ُ‬
‫يعلم ج ّيد ًا ّ‬
‫واسعة عريضة وتحتاج إلى العمر ك ّله لمن يريد دراستها بشكل ِجدّ ي‪ ،‬لكنّه حينما‬
‫ال لها بنبرة فيها شيء من التحدّ ي‪:‬‬ ‫الصوف ّية العارفة العميق‪ ،‬أضاف قائ ً‬‫صمت ّ‬
‫َ‬ ‫لمس‬
‫شك أنّك تعرفين الكتب المقدّ سة عن ظهر قلب‪ ،‬لكنّي أريد ِ‬
‫منك أن تحدّ ثيني‬ ‫«ال ّ‬
‫األهم فيها واألشدّ واألكثر قيمة في مدّ ة زمنية وجيزة جدّ ًا»‪ .‬رمته بنظرة ثاقبة‬
‫ّ‬ ‫فقط عن‬
‫بيرغ ءامسأ ‪.‬د‬ ‫‪208‬‬
‫وعرفت أنّه كان عند فالسفة ومفكّرين آخرين وطرح عليهم القض ّية ذاتها وألنهم لم‬
‫والتصوف قالوا له‪« :‬هذا أمر ال يستقيم‪ ،‬ولن تجد في األرض‬ ‫ّ‬ ‫يكونوا من أهل العرفان‬
‫ِ‬
‫ابتسمت الس ّيدة ثم‬ ‫قاطبة أحد ًا يمكنه أن ُيع ّلمك الكتب المقدّ سة في جلسة واحدة»‪.‬‬
‫تحب أن يفعله اآلخرون لك‪ ،‬وال تفعل‬ ‫ّ‬ ‫قبلت التحدّ ي‪ ،‬وقالت له‪« :‬افعل لآلخرين ما‬
‫كل الكتب المقدّ سة‪ ،‬والباقي‬ ‫تحب أن يفعله اآلخرون لك‪ .‬هذه هي ّ‬ ‫ّ‬ ‫لآلخرين ما ال‬
‫ك ّله شروحات وتعليقات»‪ .‬ابتسم الفيلسوف‪ ،‬ثم خرج من عندها وهو ُ‬
‫يعلم أنّها أعطته‬
‫كل الكتب المقدّ سة‪،‬‬ ‫كل الدّ يانات وتنادي به ّ‬ ‫الحب األعظم ا ّلذي تقوم عليه ّ‬
‫ّ‬ ‫درس‬
‫نفسك وأكثر‪ ،‬وال تنظر لهم على أنّهم آخرين‬‫َ‬ ‫تحب‬
‫ّ‬ ‫أحب اآلخرين كما‬‫ّ‬ ‫لقد قالت له‪:‬‬
‫عنك‪ ،‬بل أنت وهم شيء واحد‪ ،‬أغن ّية واحدة‪ ،‬بحث واحد عن اﷲ‪ ،‬وقلب‬ ‫منفصلين َ‬
‫الحب المطلق!}‬
‫ّ‬ ‫واحد وانتشاء واحد في حضرة هذا الوجود ا ّلذي هو‬
‫دراسات‬

‫الشر ودفاع حرية اإلرادة‬


‫مشكلة ّ‬
‫‪1‬‬
‫ألفين بالنتينجا‬ ‫___________________________________________________‬

‫َل َع ِّلي أبدأ بما أسميه نقيض الالهوت الطبيعي الذي يحاول أصحا ُبه َ‬
‫نفي وجود‬
‫ً‬
‫معقول أو منطق ًّيا‪ .‬ويأتي ما‬ ‫َ‬
‫يكون‬ ‫ٍ‬
‫بحال أن‬ ‫اﷲ‪ ،‬أو القول َّ‬
‫بأن اإليمان بوجوده ال يمكن‬
‫الطبيعي ً‬
‫قبول وإثار ًة لإلعجاب؛‬ ‫ّ‬ ‫الشر كأكثر أجزاء نقيض الالهوت‬ ‫ُي َس َّمى بمشكلة ِّ‬
‫إذ ُي َشك ُِّل وجو ُد ِّ‬
‫الشر ــ في اعتقاد كثير من الفالسفة ــ مشكل ًة حقيق َّية للمؤمن‪ ،‬بل‬
‫الشر (أو على ِّ‬
‫األقل ما نجده من أنواع الشر ومقداره في‬ ‫ويعتقد كثيرون َّ‬
‫أن وجو َد ِّ‬
‫ٍ‬
‫مقبول منطق ًّيا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫معقول‪ ،‬أو غير‬ ‫َ‬
‫اإليمان باﷲ غير‬ ‫الواقع) يجعل‬
‫هائل من الشر‪ ،‬وقد قام ديفيد هيوم بإحصائها‪،‬‬ ‫قدرا ً‬ ‫أن العا َلم يحوي ً‬ ‫شك َّ‬‫ال َّ‬
‫يقول على لسان ِد ِم َيان‪« :‬ولكن‪ ،‬وإن َت ُك ْن هذه المهانات الخارجية التي ت ُِصي ُبنا‬
‫خي ًفا‬‫من الحيوانات واألناسي من العناصر ك ِّلها التي َتنْ َق ُّض علينا‪ُ ،‬تكَو ُن َثبتًا م ِ‬
‫ِّ ْ ُ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫يس ْت بتلك التي َتن َْشأ في نفوسنا من اختالل‬ ‫ِ‬
‫ليست شي ًئا إذا ق َ‬‫ْ‬ ‫الر َزا َيا؛ فهي‬
‫من َ‬
‫األمراض البطيء؟ أص ِغ إلى‬ ‫ِ‬ ‫ينشأ من تعذيب‬ ‫مزاج ذهننا وبدننا‪ ،‬وكم منها َ‬
‫الم ْف ِجع للشاعر العظيم‪ :2‬حصوة األمعاء‪ ،‬والقرحة‪ ،‬وآالم القولونج‪،‬‬ ‫اإلحصاء ُ‬
‫الم ْست َِعر‪ ،‬والهزال السقيم‪،‬‬ ‫المك ُظو َمة‪ ،‬والجنون ُ‬
‫ِ‬
‫الم ْحتَدم‪ ،‬والكآبة َ‬ ‫ُ‬
‫والغيظ ُ‬ ‫الم َب ِّر َحة‪،‬‬
‫ُ‬
‫الر َّج ُة ُمخي َف ًة‪ ،‬واألنَّات عميقة‪ :‬واليأس‬ ‫ِ‬
‫الم ْكتَسح‪ .‬لقد كانت َّ‬ ‫والنحول‪،‬والطاعون ُ‬
‫سهمه وهو يطعنهم ــ‬ ‫الم ْر َضى‪ ،‬وينتقل من فراش إلى فراش‪ ،‬وعليهم ُي َس ِّل ُط َ‬ ‫يس َعى إلى َ‬
‫وكأنَّه خيرهم األعظم‪،‬‬ ‫لكن في تبا ُطؤ ــ ‪ ،‬وإن كانوا غال ًبا ما يضرعون إليه بالنذور‪َ ،‬‬

‫‪ُ .1‬م ْست َّل من الفصل األول من كتاب‪ God, Freedom, and Evil( :‬اﷲ واحلرية والرش)‪ ،‬من تأليف‬
‫الفيلسوف األمريكي‪ :‬ألفني بالنتينجا ‪ .Alvin Plantinga‬ترمجة‪ :‬عبد العاطي طلبة‪.‬‬
‫‪ .2‬املقصود بالشاعر العظيم هنا‪ :‬جون ميلتون‪ ،‬واالقتباس من قصيدة‪( :‬الفردوس املفقود)‪.‬‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪210‬‬
‫وإن َت ُك ْن أكثر استخفاء‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اضطرابات الذهن ْ‬ ‫قائل‪َّ :‬‬
‫«إن‬ ‫وأملهم األخير»‪ .‬وأردف دميان ً‬
‫وإزعاجا‪ .‬والندم‪ ،‬والخجل‪ ،‬والكرب‪ ،‬والحنق‪ ،‬وخيبة‬ ‫ً‬ ‫إال أنها ربما لم تكن أقل كآبة‬
‫ٍ‬
‫غزوات‬ ‫مر بالحياة دون‬ ‫األمل‪ ،‬والقلق‪ ،‬والخوف‪ ،‬والكآبة‪ ،‬واليأس‪َ ،‬م ْن َذا الذي َّ‬
‫إن الكدح والفقر‬ ‫شعورهم بأحاسيس أفضل؟ َّ‬ ‫ُ‬ ‫الم َع ِّذ َبات؟ وكم نَدُ َر‬
‫قاسية من هذه ُ‬
‫الحقيقي ألكبر عدد‪ ،‬وأولئك المحظوظون‬ ‫ت الجميع لهما ــ هما الزاد‬ ‫ــ على م ْق ِ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫القالئل الذين ينعمون بال ُي ْس ِر وال َي َس ِار ال يبلغون البتَّة الرضا أو النعيم الصادق‪َّ .‬‬
‫إن‬
‫خيرات الحياة جمي ًعا مجتمعة لتجعله شق ًّيا ح ًّقا‪ ،‬بل وأي رزء من هذه األرزاء ــ ومن‬ ‫ِ‬
‫يستطيع أن‬
‫ُ‬ ‫إن َغ ْي َب َة خير واحد ــ َو َم ِن الذي‬
‫يفلت منها جمي ًعا؟ ــ ‪ ،‬بل َّ‬‫الذي يستطيع أن َ‬
‫يملك الخير ك َّله؟ ــ لتكفي في الغالب لِ َج ْع ِل الرغبة في الحياة ضئيلة»‪.3‬‬
‫المدّ والجزر‪،‬‬ ‫إنه باإلضافة إلى الشرور الطبيعية مثل الزالزل‪ ،‬وموجات َ‬
‫واألمراض الخبيثة؛ فإنه توجد شرور صادرة عن غباء اإلنسان‪ ،‬وكبريائه‪ ،‬وقسوته‪.‬‬
‫أيضا تلك المعاناة والوحش َّية التي تصاحب الحرب‪ ،‬ولعله من أقبح ِس َماتِها‬ ‫هناك ً‬
‫شاب‬
‫جندي ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫الطريقة التي ت َُص ِّي ُر بها من يشاكون فيها إلى وحوش ضارية‪ .‬وقد قال‬
‫تعلي ًقا على محاكمة المالزم وليام كالي‪ ،‬المتهم بالمشاركة في المذبحة األمريكية‬
‫التي ُقتِ َل فيها مدنيون ُع َّزل في ماي الي‪« :‬كيف يمكنهم معاقبة كالي؟ لقد أرسلونا‬
‫هنا من أجل قتل الفيتنام ِّيين‪ ،‬وظيفتنا قتل الفيتنام ِّيين‪ ،‬كيف لهم أن يعاقبوه على‬
‫إن أحدً ا يتكلم بهذه الطريقة ال شك أنه قد أصبح وحش ًّيا‪ .‬قال سقراط ذات‬ ‫ذلك؟!»‪َّ .‬‬
‫َ‬
‫تكون‬ ‫َ‬
‫تكون مظلو ًما خير لك من أن‬ ‫مرة إن مكابد َة الظلم أفضل من ارتكابه‪ ،‬وأن‬
‫قاسي القلب من جهة األخالق‪ ،‬دون‬
‫َ‬ ‫لعل هذا الذي أصبح‬ ‫ظالما! لعله كان ُم ِح ًّقا‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫شعور كما يوحي تعلي ُقه قد َف َقدَ ما هو أ ْث َمن من الحياة نفسها‪.‬‬

‫لماذا يسمح اهلل بوجود الشر؟‬


‫الالهوتي يبدأ بهذا السؤال؛‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫الجدل‬ ‫الشر‪َّ ،‬‬
‫ولعل‬ ‫هائل من ِّ‬ ‫قدرا ً‬‫يحوي العا َل ُم إذن ً‬
‫َ‬
‫يكون على نفس القدر‬ ‫كان خ ِّي ًرا كما َيدَّ ِعي الهوت ُّيو المسيحية؛ فإنه ينبغي أن‬
‫إن َ‬‫فاﷲ ْ‬

‫‪ .3‬ديفيد هيوم‪ ،‬حماورات يف الدين الطبيعي‪ ،‬ترمجة‪ :‬حممد فتحي الشنيطي‪ ،‬مكتبة القاهرة احلديثة‪ ،‬ص‬
‫‪.113 ،111‬‬
‫‪211‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫كان ُم ْط َل َق القدرة كما يدعون ً‬


‫أيضا؛‬ ‫وإن َ‬
‫من اندهاشنا جمي ًعا إزاء تلك الشرور‪ ،‬بل ْ‬
‫حال يسمح له بفعل شيء حياله‪ .‬لماذا يسمح بوجوده‬ ‫أن يكون في ٍ‬ ‫فإنه من المفترض ْ‬
‫يسيرا‬ ‫أليس ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫إذن؟ لماذا لم يح ِد ِ‬
‫كل هذا ً‬ ‫بشكل ليس للشر فيها وجود؟ َ‬ ‫ث األشيا َء‬ ‫ُ ْ‬
‫األمر كما يقول هيوم‪« :‬أهو مريد الجتناب الشر‬
‫َ‬ ‫إن‬ ‫على ٍ‬
‫كائن ُمطلق القدرة مثله؟! َّ‬
‫ولكنه غير قادر على ذلك؟ إذا كان؛ فهو عاجر‪ .‬أهو قادر ولكنه غير مريد؟ إذا كان؛‬
‫شر في العا َلم‬ ‫ِ‬
‫الشر إذن؟» ‪« .‬لماذا ُوجدَ ّ‬
‫‪4‬‬
‫فهو حقود‪ .‬أهو قادر مريد م ًعا؟ من أين يأتي ُّ‬
‫بعض المسب ِ‬
‫بات‪.‬‬ ‫ِ ُ َ ِّ‬ ‫من األساس؟ لم يكن ذلك مصادفة بالتأكيد‪ ،‬قد كان إ َذن عن طريق‬
‫الشر مقصو ًدا إله ًّيا؟ ومع ذلك‪ ،‬اﷲ َخ ْير ُم ْط َلق! أكان على غير مقصد منه؟! ال‬
‫أكان ُّ‬
‫ِ‬
‫شيء يمكنه أن ُي َخ ْلخ َل ُ‬
‫تماس َك هذا المنطق أبدً ا‪ ،‬إنه قصير جدا‪ ،‬وواضح جدًّ ا على‬
‫َحو ِ‬
‫حاس ٍم»‪.5‬‬ ‫ن ٍ‬
‫ما زال هيوم ُم ِص ًّرا على هذا السؤال‪ :‬إذا كان اﷲُ َخ ِّي ًرا على نحو تا ٍّم‪ ،‬بجانب كونه‬
‫شر في العا َلم؟ لماذا يسمح به؟‬ ‫ُك ِّل َّي القدرة أو االستطاعة‪ ،‬لماذا يوجد إذن ّ‬
‫تأتي إحدى اإلجابات لتعيين المقصد اإللهي وراء السماح بوجود‪ ،‬أو لخلق‬
‫ضروري بطريقة ما؛ من أجل‬
‫ّ‬ ‫الشر‬ ‫شرا من األساس في القول َّ‬
‫بأن َّ‬ ‫يتضم ُن ً‬
‫َّ‬ ‫عا َلم‬
‫وجود الخير نفسه! تُدْ َعى مثل هذه اإلجابة على سؤال هيوم بالثيوديسيا (نظرية‬
‫إن المؤمن عندما يتكلم عن مصدر الشر‪ ،‬أو يجيب عن سؤال‪:‬‬ ‫العدالة اإللهية)‪ّ .‬‬
‫«لماذا يسمح اﷲ بوجوده؟»؛ فإنه يقول بالعدالة اإللهية‪ ،‬ولعله كمؤمن يحاول بالطبع‬
‫إثبات العدالة اإللهية عن طريق اإلجابة عن مثل هذا السؤال‪ ،‬إنه يريد أن يعرف ح ًّقا‪:‬‬
‫خاص في الموت‪ ،‬أو معاناة‬
‫ّ‬ ‫لماذا قد يسمح إل ٌه بوجود الشر بوجه عام‪ ،‬أو بوجه‬
‫ٍ‬
‫قريب منه‪ ،‬أو حتى في ما يقاسيه هو في حياته الخاصة‪ .‬لنفترض أنه ال توجد‬ ‫ٍ‬
‫إنسان‬
‫إن المؤمن يعترف‬ ‫واحدة من اإلجابات الثيوديسية المقترحة ُمرض ّية للغاية‪ ،‬أو فلنقل َّ‬
‫فعل السبب وراء السماح اإللهي بوجود الشر‪ .‬ما الذي يترتب على هذا‬ ‫بأنه ال يعرف ً‬
‫ِ‬
‫األساس أنَّه إذا كان اﷲ‬ ‫بال في الحقيقة! لماذا نفترض من‬ ‫االفتراض؟ ليس أمرا ذا ٍ‬
‫ً‬

‫‪ .4‬ديفيد هيوم‪ ،‬حماورات يف الدين الطبيعي‪ ،‬ترمجة‪ :‬حممد فتحي الشنيطي بترصف بسيط‪ ،‬مكتبة القاهرة‬
‫احلديثة‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪5. Hume, Dialogues Concerning Natural Religion, part. X, pp. 88, 91.‬‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪212‬‬
‫وجيها للسماح بوجود الشر؛ فإن المؤمن من المفترض به أن يكون َ‬
‫أول‬ ‫ً‬ ‫يملك سب ًبا‬
‫من يعرفه؟ نعم‪َّ ،‬‬
‫لعل اﷲ يملك هذا السبب الوجيه ح ًّقا‪ ،‬لكنه ُم َع َّقد للغاية‪ ،‬ويصعب‬
‫على كل أحد فهمه‪ ،‬أو لعله لم يكشف عنه الحجاب ألساب أخرى يعلمها‪ .‬لعل‬
‫حقيق َة عدم معرفة المؤمن السبب وراء السماح اإللهي لوجود الشر تكون مثيرة‬
‫لالهتمام‪ ،‬لكنها في حدِّ ذاتها ال تكشف شي ًئا يتعلق بمدى معقولية اإليمان باﷲ‪ .‬لعل‬
‫وقوف الحجة اإللحادية على قدم وساق؛ يحتاج إلى جهد أكثر‪.‬‬
‫فلنر األمر بهذه الطريقة‪ :‬إن المؤمن يعتقد َّ‬
‫أن اﷲ يملك سب ًبا ما وراء السماح‬ ‫َ‬
‫بوجود الشر مع عدم معرفتِه هذا السبب‪ .‬لماذا يمكن أن يعني هذا عدم دقة اإليمان‬
‫أو العقالنيته؟ لِنضرب ً‬
‫مثال‪ :‬االعتقاد بأن هناك نو ًعا من ِ‬
‫الص َلة بين قرار بولس قطع‬
‫الم َش ِاركَة في هذا‬
‫الم َع َّقدَ ة من الحركات الجسدية ُ‬ ‫ُع ْش ِ‬
‫ب حديقته‪ ،‬وتلك المجموعة ُ‬
‫قراره في هذه الحركات الجسدية؟‬‫ب ُ‬ ‫الفعل‪ .‬لكن‪ ،‬ما وجه الصلة تحديدً ا؟ هل ت ََس َّب َ‬
‫إن القرار قد يتم اتخا ُذه قبل ٍ‬
‫وقت ال بأس به‪ ،‬قبل‬ ‫األمر على هذا النحو؛ فكيف؟ َّ‬
‫َ‬ ‫إذا تم ُ‬
‫أن يضع إحدى قدميه على هذا العشب‪ ،‬أتوجد هناك سلسلة وسيطة ُم ْمتَدَّ ة بين قراره‬
‫قامت‬
‫ْ‬ ‫وأولى هذه الحركات؟ إذا كان األمر كذلك؛ فأي نوع من األحداث بالضبط‬
‫قلت إنها تتعلق‬ ‫أي حدث منها يتع ّلق ُ‬
‫قرار بولس؟ إذا ُ‬ ‫بتكوين هذه السلسلة‪ ،‬وإلى ّ‬
‫بالحدث األول منها‪ ،‬يأتي السؤال‪ :‬ألها حدث أول ً‬
‫أصل؟ هذا إلى جانب محموعة‬
‫فعل قطع العشب‪ .‬هل قراره يتعلق بنفس‬ ‫يتضمنها ُ‬ ‫َّ‬ ‫كاملة من اإليماءات الجسدية التي‬
‫قرار بولس قطع‬ ‫الطريقة لكل واحدة من هذه اإليماءات؟ بالضبط‪ ،‬ما هي العالقة بين ِ‬
‫يتضم ُن َحدَ ًثا جسد ًّيا على اإلطالق ــ وما ُي ْح ِد ُثه من‬
‫َّ‬ ‫قرارا‬
‫العشب ــ الذي ال يبدو ً‬
‫حركة أثناء عمله؟ ال أحد يعرف اإلجابة عن هذه األسئلة كما أظن‪ .‬لكن‪ ،‬هل يترتب‬
‫على ذلك أن يكون من غير المنطقي أو من غير المعقول االعتقاد بأن قرار بولس‬
‫ِ‬
‫معرفة‬ ‫له عالقة ما بهذه السلسلة من الحركات الجسدية؟ بالتأكيد ال‪.‬كذلك‪ ،‬عدم‬
‫المؤمن السبب وراء السماح اإللهي لوجود الشر ال ُيظهر في حد ذاته المؤم َن غير‬
‫عقالني في اعتقاده بأنه من المؤكَّد أن لله سب ًبا وراءه‪ .‬لذلك‪ ،‬ال يمكن للملحد ــ من‬
‫أجل تدعيم قضيته ــ االستراحة ُم ْكت َِف ًيا بطرح أسئلة ُم ْح ِر َجة ال يعرف المؤمن اإلجابة‬
‫عنها‪ ،‬بل عليه أن يبذل جهدً ا أكبر كأن يحاول ــ على سبيل المثال ــ أن ُي ْثبِ َت استحالة‪،‬‬
‫‪213‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫حقيقي وراء وجود الشر‪ .‬لقد قام كثير من الفالسفة‬


‫ّ‬ ‫أو عدم احتمال أن يكون لله سبب‬
‫ــ كبعض الموسوعيين الفرنسيين‪ ،‬وجون ستيوارت ِمل‪ ،‬وفرانسيس هربرت برادلي‪،‬‬
‫بأن اﷲ ُم ْط َلق الخير‪،‬‬
‫يتضم ُن إصرار المؤمن القول َّ‬ ‫تعارض‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫وآخرون ــ با ِّد َعاء وجود ُ‬
‫و ُك ِّل ّي القدرة والعلم من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى القول بوجود الشر‪.‬‬

‫نفسه؟‬ ‫ُ‬
‫المؤمن َ‬ ‫هل ُي َنا ِق ُ‬
‫ض‬
‫نال ً‬
‫جدل واس ًعا بعنوان (الشر وطالقة القدرة‬ ‫ٍ‬
‫مقال له َ‬ ‫ُي َر ِّد ُد جاي إل‪ .‬ماكي في‬
‫‪ )Evil and Omnipotence‬ا ِّد َعا َءه فيقول‪« :‬ومع ذلك‪ ،‬أعتقد إمكان النقد الكثيف‬
‫عن طريق مشكلة الشر التقليدية‪ ،‬التي من خاللها يمكن أن ُن ْظ ِه َر ُ‬
‫المعتقدات الدينية‬
‫حتما العقالنية بإطالق‪ ،‬بل تعارض‬ ‫ِ‬
‫المدَ د العقالني‪ ،‬ولكنها ً‬ ‫ال تفتقر فحسب إلى َ‬
‫بعضا»‪.6‬‬
‫بعضها ً‬
‫أجزا ُء العقيدة الالهوتية الواحدة َ‬
‫سؤال‪ :‬ما الذي‬‫ً‬ ‫نفسه؟ علينا أن نطرح ُ‬
‫قبل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هل ماكي ُمح ّق؟ هل ُينَاق ُض المؤم ُن َ‬
‫الالهوتي يحوي داخله تبا ُينًا وتنا ُق ًضا بالطبع‪ .‬لكن‪ ،‬ما‬
‫َّ‬ ‫ُيدَّ َعى هنا؟ َّ‬
‫أن اإليمان‬
‫الج ِل َّي يعني‬ ‫ِ‬
‫وجه هذه المباينة أو المناقضة بالضبط؟ هناك أنواع عدَّ ة‪ .‬إن التناقض َ‬
‫وجو َد قض َّيتين يختلفان إيجا ًبا وسل ًبا‪ ،‬بمعنى أن وجود إحداهما ينفي وجود اآلخر‬
‫بالضرورة‪ .‬على سبيل المثال‪« :‬بولس العب كرة تنس جيد‪ ،‬وبولس ليس العب كرة‬
‫الناس على هذا النوع من التناقض الصريح)‪ .‬هل‬
‫ُ‬ ‫تنس جيد»‪( .‬يندر جدًّ ا أن ُي ِص َر‬
‫يتهم ماكي المؤم َن بقبول مثل هذا التناقض؟ أفترض ال؛ فما يقوله هو‪« :‬المشكلة‬
‫كلي القدرة‪ ،‬ومطلق الخيرية‪ ،‬لكن الشر موجود‪ .‬يبدو‬
‫في أبسط صورها كاآلتي‪ :‬اﷲ ّ‬
‫صح ْت واحدة‬ ‫ض بين هذه االفتراضات الثالثة على ٍ‬
‫نحو إذا َّ‬ ‫أن هناك نو ًعا من التنا ُق ِ‬
‫منها؛ َّ‬
‫فإن الثالثة تبطل‪ .‬ومع ذلك ُت َعدُّ تلك القضايا الثالث أجزاء رئيسة في معظم‬
‫المواقف الالهوتية‪ ،‬إذ يتقيد بها الالهوتي مرة واحدة‪ ،‬في حين أنه ال يملك القول‬
‫بها م ًعا على ٍ‬
‫نحو مستمر»‪.7‬‬

‫‪6. fohn Mackie, «Evil and Ommpotence, » In The Philosophy of Religion, ed. Basil‬‬
‫‪Mitchell (London. Oxford Umversity Press, 1971), p 92.‬‬
‫‪7. Ibid., pp. 92 - 93.‬‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪214‬‬
‫طب ًقا لما يقوله ماكي فإن المؤمن يقبل مجموعة تتكون من ثالث قضايا‪ ،‬ال يمكن‬
‫اجتماعها م ًعا‪ ،‬أطرافها بالطبع‪:‬‬
‫اﷲ كلي القدرة‪.‬‬
‫اﷲ ُم ْط َلق الخيرية‪.‬‬
‫اﷲ موجود‪.‬‬
‫أن ‪ A‬مجموعة متناقضة‪ ،‬ولكن ما الذي يعنيه أن‬ ‫ف ْلن َُس ِّم هذه المجموعة ‪ ،A‬ولندَّ ِع َّ‬
‫الج ِل َّي‪،‬‬
‫تكون مجموعة ما من القضايا ُمتناقضة أو متباينة؟ بعد أن قمنا بتعريف التناقض َ‬
‫يمكننا القول بتنا ُقض مجموعة من القضايا إذا كان أحدُ أطرافها ينكر أو ينفي طر ًفا آخر‬
‫فيها‪ ،‬وبالتالي يكون من الواضح ح ًّقا أن المجموعة التي نناقشها ال تتناقض تنا ُق ًضا‬
‫جل ًّيا؛ فعكس القضايا (‪ ،)1‬و(‪ ،)2‬و(‪ )3‬في المجموعة ‪ ،A‬يكون على التوالي‪:‬‬
‫كلي القدرة‪.‬‬
‫ليس اﷲُ ّ‬
‫ليس اﷲ مطلق الخيرية‪.‬‬
‫ال وجود للشر‪.‬‬
‫وال نجد أ ًّيا منها في المجموعة ‪.A‬‬
‫شك فيه أن هناك العديد من المجموعات التي تتناقض بوضوح‪ ،‬وبقدر كبير‪،‬‬ ‫مما ال َّ‬
‫الجلي‪ ،‬انظر إلى المجموعة ‪ B‬على سبيل المثال‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ولكنها ال تتناقض هذا التنا ُق َض‬
‫إذا كان البشر جميعهم فانين؛ فإن سقراط ٍ‬
‫فان‪.‬‬
‫البشر فانون‪.‬‬
‫سقراط ليس فان ًيا‪.‬‬
‫هذه المجموعة ال تتناقض تنا ُق ًضا جل ًّيا مع أنَّه من المؤك َِّد َّ‬
‫أن بعض مضامين هذا‬
‫المفهوم الها َّمة تنطبق عليها‪ .‬ما ُيه ُّم هنا هو استخدام قواعد المنطق العادي ــ قوانين‬
‫تمهيدي حول‬
‫ّ‬ ‫أي نص‬ ‫منطق حساب القضايا‪ ،‬ونظرية القياس الك َِّمي الموجودة في ِّ‬
‫مكنَنا االستدالل على تناقض المجموعة تنا ُق ًضا جل ًّيا‪ .‬أو يمكن‬ ‫موضوع ما ــ حتى ي ِ‬
‫ُ‬
‫إلنتاج قضية أخرى من‬ ‫ِ‬ ‫وضعها وض ًعا ُم ْخت َِل ًفا عن طريق استخدام قوانين المنطق‬
‫‪215‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫تناقضا جل ًّيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫المجموعة‪ ،‬والتي عندما ت َُضاف إليها تَحدث مجموعة جديدة تتناقض‬
‫فباستخدام قانون القياس االستثنائي ‪(8‬إذا كانت ‪ p‬تدل على ‪q‬؛ وكانت ‪ p‬صحيحة‪،‬‬
‫أيضا) يمكن استنتاج‪:‬‬
‫تكون ‪ q‬بالتالي صحيحة ً‬
‫سقراط ٍ‬
‫فان‪.‬‬
‫من (‪ ،)4‬و(‪ .)5‬وتنتج عن إضافة (‪ )7‬للمجموعة ‪ B‬مجموع ٌة جديدة تتكون من‪:‬‬
‫{(‪ ،)4‬و(‪ ،)5‬و(‪ ،)6‬و(‪ ،})7‬والتي مما ال شك فيه أنها تتناقض جل ًّيا في َّ‬
‫أن القضية (‪)6‬‬
‫تنفي القضية (‪ .)7‬إنه يمكن القول أن أي مجموعة تشارك ‪ B‬في نفس خصائصها‪ ،‬فإنها‬
‫تتناقض تنا ُق ًضا ُصور ًّيا‪ .‬لذا فإن المجموعة التي تتناقض صور ًّيا يجب أن نستنتج من‬
‫قضاياها تنا ُق ًضا باستخدام قوانين المنطق؛ فهل يدعي ماكي َّ‬
‫أن المجموعة ‪ A‬تتناقض‬
‫صور ًّيا؟‬
‫ُجيز لنا أن نستنتج ما ينافي‬ ‫ألن قوانين المنطق ال ت ِ‬
‫األمر كذلك‪ ،‬فهو مخطئ؛ َّ‬ ‫إذا كان ُ‬
‫أيضا‪ .‬لكن‪،‬‬ ‫قضية واحدة من قضايا المجموعة ‪ ،A‬بل وال تتناقض ‪ A‬تنا ُق ًضا صور ًّيا ً‬
‫تبقى هناك طريقة أخرى يمكن أن ت َُص ِّي َر بها مجموع ًة من القضايا ُم َتنَاقضة أو ُمت ََض ِ‬
‫اربة‪.‬‬
‫خذ عندك المجموعة ‪ ،C‬وقضاياها هي‪:‬‬
‫جورج أكبر من بولس‪.‬‬
‫بولس أكبر من نيك‪.‬‬
‫و‬
‫جوروج ليس أكبر من نيك‪.‬‬
‫هذه المجموعة ال تتناقض تنا ُق ًضا جل ًّيا أو صور ًّيا‪ .‬رغم أنه ال يمكننا استنتاج نفي ما‬
‫قاهرا يدعو إلى كونها‬
‫حسا ً‬ ‫ألي من هذه القضايا باستخدام قوانين المنطق‪ ،‬فإن هناك ًّ‬
‫ٍّ‬
‫متناقضة أو متضاربة؛ ألنه من الواضح أن قضاياها ال يمكن أن ت َْصدُ َق في الخارج مرة‬
‫واحدة‪ ،‬هذا صحيح بالضرورة أنه‪:‬‬

‫‪ .8‬القياس االستثنائي‪ :‬هو الذي ُذ ِك َر ْت فيه النتيجة أو نقيضها بالفعل يف مقدماته‪ ،‬مثل‪« :‬إن كانت الشمس‬
‫طالعة فالنهار موجود‪ ،‬لكن الشمس طالعة؛ فالنهار موجود»‪ .‬انظر‪ :‬األساس يف املنطق‪ ،‬دار ابن حزم‪،‬‬
‫الطبعة الثانية ‪ ،2012‬ص ‪.149‬‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪216‬‬
‫إذا كان جورج أكبر من بولس؛ فإن بول أكبر من نيك‪ ،‬وبالتالي يكون جورج أكبر‬
‫من نيك‪.‬‬
‫وبإضافة القضية (‪ )11‬للمجموعة ‪ C‬يمكننا أن نحصل على مجموعة تتناقض‬
‫صريحا للقضية (‪ )10‬باستخدام قوانين‬
‫ً‬ ‫صور ًّيا؛ فالقضايا (‪ ،)8‬و(‪ ،)9‬و(‪ )11‬تنتج نف ًيا‬
‫المنطق العادي‪.‬‬
‫إنني أقول أن (‪ )11‬صادقة بالضرورة‪ ،‬ولكن ما الذي يعنيه هذا؟ بالطبع يمكن‬
‫يصح‬
‫ُّ‬ ‫أن نقول بصدق قضية ما ضرور ًة إذا كان يستحيل تكذي ُبها‪ ،‬أو إذا كان نف ُيها ال‬
‫شخصا‬‫ً‬ ‫َّ‬
‫وألن‬ ‫ٍ‬
‫بحال‪ .‬إن هذا من شأنه أن ُي َع ِّرضنا لشرح معنى الضرورة بلغة االحتمال‪.‬‬
‫حائرا أمام مفهوم االحتمام سواء بسواء؛ فلن يجدي‬
‫ال يعرف معنى الضرورة سيقف ً‬
‫الشرح نف ًعا هنا‪ ،‬وربما كل ما يمكن فع ُله هنا ضرب بعض األمثلة راجين من ورائها‬
‫ُ‬
‫النفع‪ .‬في المقام األول‪ ،‬علينا أن نقول إن العديد من القضايا يمكن تأسيسها من خاللِ‬
‫ُ‬
‫قوانين المنطق ليس إال‪ ،‬على سبيل المثال‪:‬‬
‫فإن سقراط ٍ‬
‫فان‪.‬‬ ‫إذا كان كل البشر فانين‪ ،‬وسقراط بشر؛ َّ‬
‫تعد أمثال هذه القضايا حقائق المنطق‪ ،‬وتبدو جميعها صادقة بالضرورة في منطق‬
‫أيضا‪،‬‬
‫السؤال‪ ،‬لكن حقائق علم الحساب والرياضيات في عمومها صادقة بالضرورة ً‬
‫كما َّ‬
‫أن حشدً ا من القضايا التي ال ُت َعدُّ حقائق منطقية أو رياضية‪ ،‬ومع ذلك تكون صادقة‬
‫ضرور ًة كالقضية (‪.)11‬‬
‫ال أحد أطول من نفسه‪.‬‬
‫األحمر لون‪.‬‬
‫أشخاصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫األعداد ليست‬
‫رئيسا للوزراء‪.‬‬
‫ال رئيس للوزراء يكون ً‬
‫ال ُع َّزاب غير متزوجين‪.‬‬
‫لدينا هنا إذن نوع هام من الضرورة‪ ،‬فلنسمها «الضرورة المنطقية العا َّمة»‪ .‬بالطبع‬
‫مثل ُي ْحت ََم ُل صد ُقها (بمعنى الضرورة‬
‫هناك نوع مترابط من االحتمال‪ :‬فالقضية ‪ً p‬‬
‫المنطقية العامة) في حالة عدم صحة نفيها أو إنكار صدقها ضرور ًة (بمعنى الضرورة‬
‫‪217‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫المنطقية العامة)‪ .‬إنه يجب تمييز هذا الحس الضروري أو االحتمالي عن ما يمكن‬
‫ً‬
‫احتمال سبب ًيا أو طبيع ًّيا‪ .‬على سبيل المثال‪:‬‬ ‫تسميتُه ضرورة أو‬
‫سبح هنري كسنجر في المحيط األطلسي‪.‬‬
‫على الرغم من أن هذه القضية غير قابلة للتصديق إال أنها ليست كاذبة ضرورة‬
‫بالمعنى العام للضرورة المنطقية (وإنكارها ليس صاد ًقا ضرور ًة بنفس المنطق)‪ ،‬لكن‬
‫هناك ما يحملنا على القول بأنها غير ممكنة؛ ألنها تستحيل طبيع ًيا ومنطق ًّيا‪ .‬إن البشر‬
‫تؤه ُلهم لهذا العمل ّ‬
‫الفذ‪.‬‬ ‫ــ على خالف الدالفين ــ ال يملكون األعضاء الجسدية التي ِّ‬
‫لسنا سوبرمان ً‬
‫مثل؛ فال نقدر على القفز من أعلى مبنى شاهق مرة واحدة دون قوة‬
‫مساعدة من نوع ما‪ ،‬وال نملك السفر بسرعة تفوق رصاصة منطلقة‪ .‬إن هذه األشياء‬
‫مستحيلة لنا‪ ،‬ولكنها ال تستحيل منطق ًّيا حتى بمعناه العام‪.‬‬
‫معان للضرورة واالحتمال هنا؛ فعالوة على أنه قد يصعب‬ ‫إنه يمكن استخالص عدة ٍ‬
‫بعض هذه القضايا تقع‬ ‫القول باحتمال قضية ما من عدمها بالمعنى المنطقي العام‪َّ ،‬‬
‫فإن َ‬
‫تحت طائلة الجدل الفلسفي‪ .‬على سبيل المثال‪ :‬هل يمكن أن ال يكون اإلنسان واع ًيا‬
‫مدة وجوده؟ هل يمكن لإلنسان أن يعيش بال جسد (يحرر روحه)؟ إن كان هذا ممكنًا‪،‬‬
‫هل ُي ْحت ََمل وجود شخص لم يكن لديه جسد مطل ًقا خالل مدة وجوده كلها؟ هل يمكن‬
‫اإلبصار دون عين؟ كل هذه قضايا تتعلق باالحتمال بالمعنى المنطقي الواسع تحمل‬
‫كبيرا‪.‬‬ ‫ً‬
‫وجدال ً‬ ‫داخلها نزا ًعا‬
‫ِ‬
‫حقيقة أن اقتران أطرافها‬ ‫فلنعد اآلن إلى المجموعة ‪ C‬التي تأتي خصوصيتُها من‬
‫ــ أعني القضية التي تم التعبير عنها بنتيجة عن طريق الربط بين القضيتين (‪ ،)8‬و(‪)9‬‬
‫بالعاطفة (و) ــ خطأ بالضرورة‪ .‬أو لعله يمكننا القول‪َّ :‬‬
‫إن ما يمكن أن يميز المجموعة‬
‫‪ C‬حقيقة أنه يمكن الحصول على مجموعة متناقضة عن طريق إضافة قضية صادقة‬
‫ضرورةً‪ ،‬وهي القضية (‪ .)11‬ومن هنا يمكننا القول إن المجموعة تتناقض ضمن ًّيا إذا‬
‫جاءت متشابهة مع المجموعة ‪ C‬من هذه الناحية‪ .‬تتناقض مجموعة من القضايا إذا‬
‫تناقضت صور ًّيا‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫أضيفت النتيحة إلى المجموعة‬ ‫كانت هناك قضية ضرورية‪ ،‬بحيث إذا‬
‫وبتعبير آخر‪ :‬إن مجموعة ما تكون متناقضة ضمن ًّيا إذا كان فيها بعض القضايا الصادقة‬
‫جلي‬
‫ّ‬ ‫ضرورةً‪ ،‬بحيث إذا استخدمنا قوانين المنطق الطبيعي فحسب نتج لنا تنا ُقض‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪218‬‬
‫ٍ‬
‫لقضية مع باقي قضايا المجموعة‪ .‬وعندما يأتي ماكي ليقول إن المجموعة ‪ A‬متناقضة‪،‬‬
‫فإنه يمكن القول ــ كما أعتقد ــ بأنه يفهم التناقض فيها على أنه تناقض ضمني بالصورة‬
‫التي ُس ْقناها؛ فعلى حد تعبيره‪« :‬مهما ي ُك ْن‪ ،‬إن التناقض ال ينشأ مباشرة؛ إننا نحتاج إلى‬
‫المقدمات اإلضافية‪ ،‬أو ربما بعض القوانين شبه المنطقية للربط بين مصطلحات‬‫ِ‬ ‫بعض‬
‫«الخير»‪ ،‬و«الشر»‪ ،‬و«كلي القدرة»‪ .‬هذه المبادئ اإلضافية هي َّ‬
‫أن الخير يتعارض مع‬
‫كلي‬
‫الشر بحيث أن الشيء الخ ِّير يسعى في القضاء على الشر ما دام مستطي ًعا‪ ،‬وأن َّ‬
‫القدرة ال حدَّ لقدرته‪ ،‬وبالتالي من هنا يمكن القول‪ :‬إن كلي القدرة‪ ،‬مطلق الخيرية‬
‫يملك القضاء على الشر كل ًّيا‪ ،‬وأنه ال ينسجم وجود كلي القدرة بجانب وجود الشر‬
‫ٍ‬
‫بحال»‪.9‬‬
‫أيضا «مبادئ إضافية»‪ ،‬و«القوانين‬
‫يشير ماكي هنا إلى «مقدمات إضافية»‪ ،‬ويسميها ً‬
‫شبه المنطقية»‪ ،‬ويقول إننا بحاجة إليها من أجل إثبات هذا التنا ُقض‪ .‬إن الذي يعنيه‬
‫في ما أرى أنه للحصول على مجموعة تتناقض صور ًّيا فإنه علينا إضافة بعض القضايا‬
‫األخرى للمجموعة ‪ ،A‬وأنه إذا أردنا أن نكشف التعارض وراء المجموعة ‪ ،A‬فإن هذه‬
‫القضايا يجب أن تكون حقائق ضرورية باستخدام «القوانين شبه المنطقية» كما يسميها‬
‫ماكي‪ .‬أما عن المبدأين اإلضافيين اللذين اقترحهما ماكي فهما‪:‬‬
‫كل ما هو خ ِّير يقوم بالقضاء على الشر ما دام مستطي ًعا‪.‬‬
‫لكلي القدرة فع ُله‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال يوجد حد ما لما يمكن‬
‫الضمني‪ ،‬فإنه عليه أن يؤ ِّكدَ‬
‫ّ‬ ‫وبالطبع إذا كان ماكي يريد أن يكشف عن تنا ُقض ‪A‬‬
‫حرف ًّيا ليس على صدق القضيتين (‪ ،)19‬و(‪ )20‬فحسب‪ ،‬بل على ضرورة صدقهما‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬هل هما كذلك؟ ماذا عن القضية (‪ً )20‬‬
‫أول؟ ما الذي يعنيه أن تقول َّ‬
‫إن كائنًا ما‬
‫كلي القدرة؟ على األرجح نعني أنه مطلق القوة والسلطان‪ ،‬لكن‪ ،‬أال توجد حدود لقوة‬ ‫ّ‬
‫كائن كهذا؟ هل يمكنه أن يخلق دوائر مربعة‪ ،‬أو عزا ًبا متزوجين؟! َّ‬
‫إن معظم الالهوتيين‬
‫والمؤمنين من الفالسفة القائلين بطالقة القدرة اإللهية ال يقولون إنه قادر على خلق‬
‫مربعات مستديرة‪ ،‬أو أن يوجدها وال يوجدها في ٍ‬
‫آن واحد‪ .‬قد يقول هؤالء الالهوتيون‬

‫‪9. Ibid., p 93.‬‬


‫‪219‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫والفالسفة بنفي الحدود الالمنطقية لما يمكن أن يفعله كائن كلي القدرة‪ ،‬ولكنهم في‬
‫الوقت نفسه يس ِّلمون أن َّ‬
‫كلي القدرة ال يمكنه إيجا َد أمور تستحيل منطق ًّيا‪ ،‬أو أن يكون‬
‫ُم َس ِّب ًبا لقضايا يستحيل صد ُقها‪ .‬ومن جانب آخر‪ ،‬نجد بعض المؤمنين ــ مارتن لوثر‪،‬‬
‫وديكارت ربما ــ قد اعتقدوا في ما يظهر بأن القوة اإللهية مطلقة ال يمكن حدُّ ها حتى‬
‫بال عندهم‪.‬‬‫بقوانين المنطق‪ .‬بالنسبة إلى هذا النوع من المؤمنين لن يكون تنا ُقض ‪ A‬ذا ٍ‬
‫إذ يؤمنون بالقضايا (‪ ،)1‬و(‪ ،)2‬و(‪ )3‬في ما يبدو دون أن يشعروا بنوع من االنزعاج‬
‫ال ِّدعاء أن مثل هذه القضايا الثالث تتضارب م ًعا؛ ألنهم كما يقولون بأن فعل اﷲ لما‬
‫هو مستحيل منطق ًّيا ممكن‪ .‬ومن َث َّم‪ ،‬فبإمكان شخص كهذا أن يقول بصدق قضايا‬
‫كانت مجموعة متناقض ًة (من ُ‬
‫الم ْحت ََمل أن يصيبك التركيز‬ ‫ْ‬ ‫‪ A‬الثالث م ًعا حتى وإن‬
‫الم ْقت ََرح بالدوار)‪ .‬لذا‪ ،‬فإن المؤمن الذي يعتقد بعدم محدود َّية القوة‬
‫الشديد في هذا ُ‬
‫كانت بالقوانين المنطقية‪ ،‬لن يقتنع بحجة ماكي‪ ،‬ولن يجد أي نوع من‬
‫اإللهية حتى وإن ْ‬
‫الصعوبة في تناقض ‪ A‬التي ُيدَّ َعى احتواؤها عليه‪ .‬ال يحظى هذا الرأي بشعبية كبيرة‪،‬‬
‫ولعله ال يتمتع بنوع من التماسك لسبب وجيه؛ ألن ما يعنيه المؤمن عاد ًة عندما يقول إن‬
‫اﷲ كلي القدرة أنه ال حد لقوته اإللهية‪ ،‬ولكن‪ ،‬على األغلب أنه ال حدَّ غير منطقي لما‬
‫يمكنه فعله‪ ،‬واعتما ًدا على ذلك قد يكون من المعقول مبدئ ًّيا أن نفترض صدق القضية‬
‫(‪ )20‬ضرورةً‪.‬‬
‫واآلن‪ ،‬ماذا عن القضية (‪ )19‬القائلة َّ‬
‫بأن كل ما هو خير يسعى في القضاء على‬
‫قادرا؟ هل تصدق ضرورةً؟ هل هي صادقة ً‬
‫أصل؟ قبل أي‬ ‫كل ما هو شر ما دام ً‬
‫قرارا غير حكيم بقيادة سيارته في يوم‬ ‫شيء؛ فلنفترض َّ‬
‫أن صديقنا بولس قد اتَّخذ ً‬
‫ناء‪ ،‬ثم انخفضت درجة الحرارة حتى أصبحت‬ ‫شات ونفد منه الوقود في طريق ٍ‬
‫ٍ‬
‫وأنت تجلس‬ ‫َ‬ ‫عشر درجات مئو َّية‪ ،‬وإذ برياح بادرة عاتية تجتاح المكان‪ .‬كل هذا‬
‫نارا ُم ْلت َِه َبة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ببتك (تبتعد خمسة عشر ً‬ ‫هان ًئا في َ‬
‫ميل عن بولس)‪ ،‬ت ُْصلي الكستناء ً‬
‫وسيارتك في المرآب‪ ،‬في صندوقها حاوية ممتلئة خمس جالونات من الوقود‬
‫دائما لحاالت الطوارئ‪ .‬ال شك أن األسى والخطر اللذين يعيشهما بولس‬
‫ُت ْبقيها ً‬
‫شر يمكنك القضاء عليه‪ ،‬لكنَّك لم تفعل‪ .‬وحسبما أتوقع‪ ،‬ال يمكنك التنازل عن‬
‫ادعائك الخير َّية؛ ألنك ببساطة لم ِ‬
‫تدر شي ًئا عن محنة بولس‪ .‬لذلك ال تبدو القضية‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪220‬‬
‫ِ‬ ‫(‪ )19‬ضروري ًة؛ ألنها تقول َّ‬
‫إن كل ما هو خ ِّير له َخص َ‬
‫يصة هي القضاء على كل شر ما‬
‫أمكن‪ .‬وإذا كانت الحالة التي وصفتُها قبل ممكنة‪ ،‬أعني فشل شخص ما في القضاء‬
‫على شر ُم َع َّين ُي ْمكن القضاء عليه بسبب الجهل به؛ َّ‬
‫فإن (‪ )19‬ال يمكن أن تكون‬
‫ٍ‬
‫بحال‪.‬‬ ‫صادقة ضرورة‬
‫لكن ربما يمكن لماكي أن يحتج علينا بالعقل؛ فيدعي أنه إذا لم تكن على علم‬
‫الم ْعنِ ّي‬
‫فلست تحت طائلة المساءلة؛ ألنك ال تستطيع القضاء على الشر َ‬
‫َ‬ ‫بمحنة بولس؛‬
‫هنا‪ ،‬ولعله يكون ُم ِح ًّقا حينئذ‪ .‬على أي حال‪ ،‬يمكنه أن يراجع (‪ )19‬في ضوء الحالة‬
‫التي أوردتُها لتكون‪ )19a( :‬كل ما هو خ ِّير يسعى في القضاء على كل شر يعلم عنه‪،‬‬
‫محوه‪ .‬وبالجمع بين {(‪ ،)1‬و(‪ ،)2‬و(‪ ،)3‬و(‪ ،)20‬و(‪ })19a‬يمكننا أن نالحظ‬
‫ويمكنه ُ‬
‫تتناقض صور ًّيا علينا إضافة قضية أخرى تقول‬
‫َ‬ ‫أنها مجموعة ال تتناقض صور ًّيا‪ ،‬وحتى‬
‫عالما‪ ،‬ال تخفى عنه‬
‫بأن اﷲ يعلم كل شر حادث‪ .‬وألن معظم المؤمنين يعتقدون باﷲ ً‬
‫أن اﷲ بكل شيء‬ ‫فإن المجموعة الجديدة ــ المجموعة التي ينتج عنها قضية َّ‬
‫خافية‪َّ ،‬‬
‫عليم عند إضافتها إلى ‪ A‬ــ تتناقض ضمن ًّيا‪ ،‬وهنا يمكن لماكي أن يشعر بالرضا‪ ،‬في‬
‫الوقت الذي يرتبك فيه المؤمن‪( .‬ومن اآلن فصاعدً ا‪ِ ،‬‬
‫فلنبق ‪ A‬كما كانت في سابق مع‬
‫إضافة قضية أن اﷲ بكل شيء عليم)‪.‬‬
‫قائما‪ :‬هل القضية (‪ )19a‬ضرورية؟ لعلها بالكاد‪ .‬فلنفترض أنك‬ ‫إن السؤال ال يزال ً‬
‫أيضا‬ ‫تعلم بحالة بولس وقد تق َّط َع ْت به ُ‬
‫الس ُبل كما أوضحنا في المثال السابق‪ ،‬كما تعلم ً‬
‫أن صدي ًقا آخر في موقف مشابه يبتعد عنك خمسين ً‬
‫ميل في االتِّجاه المعاكس‪ ،‬ولنقل‬ ‫َّ‬
‫أيضا أنه في الوقت الذي يمكنك فيه مساعدة أحدهما ال يمكنك مساعدة اآلخر‪ ،‬ألنك‬
‫ً‬
‫ببساطة ليس في مقدورك إنقاذ كليهما‪ .‬إنه في مقدورك مساعدة االثنين والقضاء على‬
‫ما يحيط بهما من شر‪ ،‬بل وتعلم كذلك عن حالتهما‪ ،‬لكنك ال تستطيع القضاء على‬
‫ضيرا في ا ِّدعائك الخير َّية إذا ما قضيت على شر واحد منهما‬
‫الشرين م ًعا‪ ،‬وال ترى ً‬
‫فحسب؛ ألنه ببساطة ليس في استطاعتك أن تفعل أكثر من ذلك‪ .‬وبالتالي‪ ،‬حقيقة أنك‬
‫شخص َخ ِّير رغم ذلك ال يمكن الفرار منها‪ ،‬ومن أجل ذلك ال يمكن للقضية (‪ )19a‬أن‬
‫صحيحا إذن أن كل ما هو‬
‫ً‬ ‫تكون صادق ًة‪ً ،‬‬
‫فضل عن أن تكون صادقة بالضرورة‪ ،‬وليس‬
‫خ ِّير يمكنه القضاء على كل شر يعلم عنه‪.‬‬
‫‪221‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫زلت مبتدئًا في ذلك؛‬


‫كنت تتسلق الصخور وما َ‬ ‫فلنر األمر من منظور آخر‪ :‬فلنقل أنك َ‬
‫َ‬
‫بدل من قدميك‪،‬‬ ‫فأصابتك بعض الجروح والرضوض الستخدامك ركبت ْي َك عشوائ ًّيا ً‬
‫فذكرت ذلك لطبيب صديق لك‬ ‫َ‬ ‫وكانت بعض هذه الرضوض مؤلمة إلى حد كبير؛‬
‫األلم سينتهي من نفسه خالل يوم أو يومين‪ ،‬وأنه ال يوجد ما‬ ‫َ‬ ‫والذي أخبرك بدوره َّ‬
‫أن‬
‫يمكن فعله حيال ذلك اللهم إال أن يقوم بِ َبتْر ساقك من فوق الركبة حتى يزول األلم‪َّ .‬‬
‫إن‬
‫ألم ُركبتيك شر ال ُي َطاق‪ ،‬وسيكون من األفضل التخ ُّلص منه في أسرع وقت‪ ،‬وبإمكان‬
‫صديقك الطبيب أن يخلصك من هذا الشر تما ًما‪ .‬أيكون عد ُم قيامه بذلك ً‬
‫دليل على‬
‫صالحا؟ بالطبع ال؛ ألنه ال يستطيع القضاء على هذا الشر إال عن طريق شر‬
‫ً‬ ‫كونه ليس‬
‫آخر أسوأ منه‪ ،‬وهذا دليل آخر على كذب القضية (‪ .)19a‬إنه لمن الممكن جدًّ ا أن يعجز‬
‫إنسان خ ِّير عن القضاء على حالة شريرة يعلم عنها ويستطيع القضاء عليها تما ًما‪ ،‬لكنه‬
‫ال يستطيع ــ كما في المثال الحالي ــ القضاء عليها إال عن طريق إحداث شر آخر أكبر‬
‫منه‪.‬‬
‫إن نو ًعا مختل ًفا إلى حدٍّ ما من الحاالت يمكن أن يكشف عن األمر نفسه‪ :‬خير يثير‬
‫اإلعجاب ح ًّقا ‪ ،G‬نراه ينتصر على شر ٍ‬
‫تافه ‪َّ ،E‬‬
‫إن هذا االقتران بين ‪ ،G‬و ‪ E‬يمكن أن‬ ‫ٍّ‬ ‫َ‬
‫ضطرا إلى‬
‫نفسه ُم ًّ‬
‫يكون شأنًا خ ِّي ًرا في حد ذاته‪ ،‬ولكن‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬لن يجد شخص خ ِّير َ‬
‫القضاء على شر ُم َع َّين عن طرق القضاء على خير يفوقه شأنًا‪ .‬من أجل ذلك ال تصدق‬
‫ضمني في ‪.A‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )19a‬ضرورةً‪ ،‬وال يمكن استعما ُلها للكشف عن تناقض‬
‫االعتراضات إلى مراجعة (‪ )19‬مرة أخرى؛ فلنحاول‪ )19b( :‬يقضي ما‬
‫ُ‬ ‫تدفعنا هذه‬
‫هو َخ ِّير على كل شر ‪ E‬يعلمه ويقدر عليه دون إحداث شر يفوقه‪ ،‬أو القضاء على خير‬
‫أعلى من إزالة ‪.E‬‬
‫هل تصدق (‪)19b‬ضرورةً؟ إنها تضع في حسبانها َّ‬
‫حل المعضلة الثانية التي تؤ ِّثر في‬
‫(‪ ،)19a‬ولكنها ال تتعرض للمعضلة األولى بشيء‪ .‬لنا أن نرى األمر على هذا النحو‪:‬‬
‫الشر يقضي عليه كما ينبغي عن طريق إزالته دون‬
‫أن الكائن الذي يزيل َّ‬ ‫فلنفترض ً‬
‫أول َّ‬
‫إزهاق خير أعلى أو اجتالب شر أعظم‪ .‬يكون من الواضح حينئذ أن يجد شخص‬
‫نفسه في موقف يمكنه فيه القضاء على الشر ‪ E‬كما ينبغي‪ ،‬ويمكنه كذلك القضاء على‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫شر آخر ’‪ ،E‬ولكنه ال يمكنه القضاء على كليهما كما ينبغي في وقت واحد‪ .‬فلنقل‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪222‬‬
‫أنك تتسلق الصخور مرة أخرى على الجهة الشمالية لجبال جراند تيتون‪ ،‬وإذ بك‬
‫جبال؛ هما كيرت وبوب‪ ،‬عالِ َق ْي ِن على ارتفاع خمسة‬
‫ٍ‬ ‫بمت ََس ِّل َقي‬
‫وبمجموعتك تمرون ُ‬
‫وعشرون قد ًما بعد المائة على األقل‪ ،‬وقد قاما ب َف ِّك أنفسهما من أجل الحصول على‬
‫ٍ‬
‫وبإهمال منهما قاما بإسقاط حبلهيما وهما يشعالن السيجارتين‪ .‬وفجأة‪،‬‬ ‫سيجارتين‪،‬‬
‫إذ بعاصفة رعد َّية خطيرة تقترب‪ ،‬وال ُمت ََّسع لديك من الوقت إلنقاذ كليهما‪ ،‬ال وقت‬
‫اإلعصار‬
‫ُ‬ ‫المت ََس ِّل َق ْي ِن العالِ َق ْي ِن‪ ،‬ومن َث َّم العودة قبل أن يضرب‬
‫لديك يكفي إال إلنقاذ أحد ُ‬
‫قمت بإنقاذ كليهما‪ ،‬لن تمهلك العاصفة وقتًا؛ ألنها ستقوم بمحاصرتك‬ ‫َ‬
‫المكان‪ .‬وإذا َ‬
‫المت ََس ِّل َق ْي ِن؛ مما سيؤدي إلى هالك مجموعتك عن بكرة‬
‫أنت ومجموعتك إلى جانب ُ‬
‫أبيها‪ .‬في هذه الحالة ال يمكنك إال القضاء على شر واحد (كيرت العالق في الجبل)‬
‫دون أن تتسبب في شر أعظم‪ ،‬ودون إزهاق خير أعلى‪ ،‬كما أنه يمكنك القضاء على شر‬
‫الش َّر ْي ِن‬ ‫آخر كما ينبغي (بوب الذي تق َّط َع ْت به ُ‬
‫الس ُبل)‪ .‬هذا وأنت ال تستطيع أن تهزم َّ‬
‫م ًعا كما ينبغي‪ .‬وبالتالي‪َّ ،‬‬
‫إن حقيقة أنك ال تنقذ كيرت ــ على سبيل المثال ــ على الرغم‬
‫شريرا‪ .‬ومن هنا نقول إنَّك قادر على‬
‫ً‬ ‫شخصا‬
‫ً‬ ‫قادرا على ذلك ال تجعل َ‬
‫منك‬ ‫من كونك ً‬
‫َ‬
‫عجزك عن‬ ‫الش َّر ْي ِن كما ينبغي‪ ،‬لكن ليس م ًعا‪ ،‬ولذلك ال يمكن أن ت َُل َم في‬
‫إزالة كال َّ‬
‫إزالة أحدهما‪.‬‬
‫ما ننتهي إليه هنا هو عدم صدق القضيتين‪ ،)19a( :‬و(‪ .)19b‬ولعل إغراء الرد يأخذك‬
‫ٍ‬
‫شخص‬ ‫المت ََضا َّدة ــ األمثلة القائلة أنه بإمكان‬
‫للقول بأن هذا النوع المعروض من األمثلة ُ‬
‫القضاء على الشر ‪ ،A‬والقضاء على الشر ‪ B‬المختلف‪ ،‬ولكنه ال يستطيع القضاء عليهما‬
‫ِ‬
‫مطلق القدرة والعلم‪ .‬ذلك هو األمر‪ ،‬لعلك تعتقد‬ ‫بحال على ٍ‬
‫كائن كاﷲ‬ ‫ٍ‬ ‫م ًعا ــ ال تنطبق‬
‫الش َّر ْي ِن‪ ،‬ومن ثم القضاء عليهما م ًعا في‬ ‫بقدرة ٍ‬
‫كائن مطلق القدرة والعلم إزهاق كل من َّ‬
‫فعل‪ ،‬لكنه ال يتعلق بصلب موضوعنا ح ًّقا‪ .‬إن تلك األمثلة‬ ‫ٍ‬
‫آن‪ .‬قد يكون األمر كذلك ً‬
‫المتضادة تكشف عن عدم صدق (‪ ،)19a‬و(‪ )19b‬ضرورةً‪ ،‬وبالتالي عدم صالح َّية‬
‫الضمني في المجموعة ‪َّ .A‬‬
‫ولعل هذا الرد يدعو‬ ‫ّ‬ ‫استخدامهما من أجل إظهار التناقض‬
‫والعلم في‬ ‫نقيض الالهوتي إلى مزيد من الجهد إذا ما عمل على ِص َفتَي طالقة القدرة ِ‬
‫ّ‬
‫(‪ .)19‬لعله يمكنه أن يقول شي ًئا مثل‪ )19c( :‬إن كائنًا مطلق القدرة‪ ،‬مطلق ِ‬
‫العلم‪ ،‬خ ِّي ًرا‬
‫كل شر ممكن كما ينبغي‪ .‬ولنفترض ً‬
‫جدل أنَّنا ن َُس ِّلم بالصدق الضروري للقضية‬ ‫ُي ِز ُيل َّ‬
‫‪223‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫(‪ ،)19c‬هل يمكن لهذا التسليم أن يخدم غرض ماكي؟ أشك في ذلك؛ ألننا ال نحصل‬
‫على مجموعة تتعارض صور ًّيا بإضافة (‪ ،)20‬و(‪ )19c‬إلى المجموعة ‪ .A‬فلن َُس ِّم هذه‬
‫ست قضايا هي‪:‬‬
‫المجموعة إذن ’‪ ،A‬وتحتوي على ِّ‬
‫كلي القدرة‪.‬‬
‫اﷲ ُّ‬
‫اﷲ ُم ْط َلق الخير َّية‪.‬‬
‫)’‪ (2‬اﷲ بكل شيء عليم‪.‬‬
‫الشر موجود‪.‬‬
‫(‪ )19c‬إن كائنًا مطلق القدرة‪ ،‬مطلق ِ‬
‫العلم‪ ،‬خ ِّي ًرا ُي ِز ُيل َّ‬
‫كل شر ممكن كما ينبغي‪.‬‬
‫لكلي القدرة فع ُله‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )20‬ال يوجد حد ما لما يمكن‬
‫كانت ’‪ A‬متناقضة صور ًّيا؛ فمن أي واحدة من أطرافها الخمسة ينتج إنكار‬
‫واآلن‪ ،‬إذا ْ‬
‫القضية السادسة باستخدام قوانين المنطق العادي؟ هذا هو األمر؛ إنه يلزم عن أي قضية‬
‫منها إنكار السادسة؛ لذلك إذا كانت ’‪ A‬متضاربة صور ًّيا‪ ،‬سيكون إنكار (‪ )3‬الز ًما عن‬
‫الخمسة الباقية‪ ،‬وهذا يعني أنه يلزم صور ًّيا عن (‪ ،)1‬و(‪ ،)2‬و)’‪ ،(2‬و(‪19‬س)‪ ،‬و(‪)20‬‬
‫أنه‪:‬‬
‫)’‪ (3‬ال يوجد شر‪.‬‬
‫في الحقيقة إنها ال تؤ ِّدي إلى ذلك؛ ألنه ال يلزم عنها عدم وجود شر على اإلطالق‪،‬‬
‫لكن يلزم عنها فقط‪:‬‬
‫(‪ )»3‬ال يوجد شر يقدر عليه اﷲ كما ينبغي‪.‬‬
‫إن (‪ )19c‬ال تساعد ح ًّقا‪ ،‬ليس ألنها ال تصدق ضرورةً‪ ،‬ولكن ألنه بإضافتها إلى‬
‫(‪ )20‬في المجموعة ‪ A‬ال تنتج عنها مجموعة تتناقض صور ًّيا‪.‬‬
‫إن ما يمكن أن يضيفه نقيض الالهوتي هنا ــ كما يتضح لنا ــ من أجل الحصول على‬
‫مجموعة متناقضة‪:‬‬
‫كلي القدرة‪ ،‬مطلق العلم‪ ،‬فإنه يمكنه القضاء على كل وجود شرير كما‬
‫إذا كان اﷲُ ّ‬
‫ينبغي‪.‬‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪224‬‬
‫فلنفترض اآلن أن أطراف المجموعة ‪ A‬بجانب (‪ ،)19c‬و(‪ ،)20‬و(‪ )21‬تصدق‬
‫ضرورة‪ ،‬مما ُيؤدي إلى تناقض ضمني فيها‪ .‬ولقد َس َّل ْمنَا ً‬
‫أصل بضروة (‪ ،)19c‬و(‪)20‬‬
‫بالتأكيد؛ فهل يمكن لهذه القضية أن تصدق ضرورة؟‬
‫ً‬
‫سؤال حتى تُدرك األمر‪ :‬تحت أي ظرف يمكن لكلي‬ ‫ال يمكن‪ ،‬دعني أسألك‬
‫قادرا على إزالة شر بعينه ‪ E‬دون القضاء على خير أعلى؟‬ ‫القدرة أن ال يكون ً‬
‫أن ‪ E‬مندرجة في شأن خ ِّير يعلوها‪ ،‬ولتفترض َّ‬
‫أن شأنًا خ ِّي ًرا ‪G‬‬ ‫حسنًا‪ ،‬فلنفترض َّ‬
‫يتع َّلق بالحالة ‪ E‬تع ُّل ًقا يستحيل معه حصول ‪ ،G‬أو إجراؤه إذا ما تخلفت ‪ E‬عن‬
‫الحصول‪( .‬فلنصغ هذا في شكل آخر‪ :‬تتضمن الحال ُة ‪ S‬الحال َة ’‪ S‬إذا لم يكن‬
‫ً‬
‫مستحيل‪ ،‬أو إذا كان من الضروري أن تحصل ’‪ S‬إذا كانت ‪ S‬حاصلة‬ ‫اقترانهما‬
‫كذلك)‪ .‬اآلن‪ ،‬افترض َّ‬
‫أن بعض شئون الخير ‪ G‬تحتوي على شئون شريرة ‪ E‬تعلو‬
‫عليها‪ .‬إنه ال يمكن حتى لكائن كلي القدرة القضاء على ‪ E‬دون القضاء على ‪.G‬‬
‫ولكن‪ ،‬هل توجود حاالت خ ِّيرة يمكن أن يتضمنها ــ بهذا المعنى ــ نوع من الشر‬
‫مثل على ذلك‪ :‬افترض‬‫يفوقها؟‪ 10‬في الحقيقة‪ ،‬توجد مثل هذه الحاالت‪ .‬فلنضرب ً‬
‫أن ‪ E‬هي ما يعانيه بولس من خدش جلدي طفيف‪ ،‬وأن ‪ G‬هي كونك سعيدً ا حدَّ‬
‫الهذيان‪ .‬إن الحالة التي تقترن فيها ‪ G‬مع ‪ E‬ــ الحالة التي تحصل إذا‪ ،‬فقط إذا كانت‬
‫‪ G‬و‪ E‬ح ِ‬
‫اص َل ْي ِن ــ حالة َخ ِّي َرة‪ .‬أن تكون سعيدً ا للغاية أفضل من أال تكون كذلك؛‬ ‫َ‬
‫فكل شيء يستوي في ذات الوقت الذي يعاني فيه بولس من خدش مزعج إلى‬
‫حد ما‪َّ .‬‬
‫إن ‪ G‬و‪ E‬حالتان خ ِّيرتان إذن‪ ،‬بل من الواضح اشتمالهما م ًعا على ‪E‬؛ فمن‬
‫البديهي أنه في حالة كونك سعيدً ا حد الهذيان في الوقت الذي كان بولس يعاني‬
‫فيه من هذا الخدش‪ ،‬أنه كان يعاني منه آنذاك‪ .‬لعلك تعتقد بسخافة هذا المثال‪،‬‬
‫وخداعه‪ ،‬ومراوغته‪ ،‬وابتعاده عن أصل النقاش‪ .‬إذا كان األمر كذلك؛ فاستعد ألن‬
‫تتل َّقى مجموعة أخرى من األمثلة التي تؤكد على أنه ال يمكن أن توجد أنواع معينة‬
‫من القيم‪ ،‬والحاالت الخ ِّيرة بمعزل عن شر من نوع ما‪ .‬على سبيل المثال‪ُ :‬يظهر‬
‫الخ َّلق تُجاه الشدائد ِ‬
‫والم َحن؛ بطولة‬ ‫البطولي َ‬ ‫بعض األشخاص نو ًعا من التعامل‬
‫ّ‬

‫خية نو ًعا من الرش داخلها ً‬


‫قليل من االنتباه‬ ‫‪ .10‬ببساطة أكثر‪ :‬يوجه سؤال ما إذا كانت تتضمن حاالت ِّ‬
‫رش يفوقه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫نحو ال يمكن خلري أن حيوي داخله ُ‬
‫‪225‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫شرا في مثل هذه‬ ‫الشر ًّ‬


‫ُّ‬ ‫تلهم اآلخرين‪ ،‬وت َِلد حالة خ ِّي َرة من رحم شر ما‪ .‬ويبقى‬
‫الكلي بالطبع‪ .‬إن صمود شخص كهذا أمام األلم بهذا الثبات رائع ــ‬ ‫ّ‬ ‫الحالة بمعناه‬
‫األمر على هذا النحو؛ َّ‬
‫فإن الخير‬ ‫ُ‬ ‫على سبيل المثال ــ يعد ضر ًبا من الخير‪ .‬إذا كان‬
‫خيرا‪ .‬إن هذه‬
‫اإلجمالي ليس ً‬
‫َّ‬ ‫الحاضر يتفوق على الشر وجو ًبا‪ ،‬رغم َّ‬
‫أن الوضع‬
‫وأخيرا تأتي‬
‫ً‬ ‫أيضا‪.‬‬
‫الحالة الخ ِّيرة ال يمكن لها أن تحصل إال بحصول بعض الشر ً‬
‫الحقيقة التي نضطر إليها تخبرنا بأنَّه إذا كان شخص يتحمل األلم بثبات رائع؛ فإن‬
‫هذا ال ينفي مكابدتَه األلم‪.‬‬
‫إن النتيجة التي يمكن أن ننتهي إليها هي َّ‬
‫أن (‪ )21‬ال تصدق ضرورةً‪ .‬ولعل‬
‫مناقشتنا تظهر حتى اآلن على األقل أنه ليس من السهولة بمكان الحصول على‬
‫الصوري‪.11‬‬
‫ّ‬ ‫قضايا تصدق بالضرورة تؤ ِّدي بالمجموعة ‪ A‬عند إضافتها إلى التنا ُقض‬
‫ِ‬
‫الالهوت على القول بتناقض هذه المجموعة بكل‬ ‫إنني أتعجب‪ :‬لماذا ُي ِص ُّر ناقضو‬
‫هذه الثقة دون بذل محاوالت تثبت ذلك؟ إنه يرضيهم في أغلب األحايين اإلصرار‬
‫على وجود تناقض هنا ليس غير‪ .‬حتى ماكي نفسه الذي يرى الحاجة إلى وجود‬
‫بعض «المقدمات اإلضافية»‪ ،‬و«القوانين شبه المنطقية» بالكاد يخطو تجاه بعض‬
‫المقدمات التمهيدية الصادقة ضرورة‪ ،‬والتي إذا ما ُض َّم ْت إلى ‪ ،A‬فإنها ُتنْتِج تنا ُق ًضا‬
‫جل ًّيا‪.‬‬
‫نفي التناقض هنا؟‬
‫هل يمكننا ُ‬
‫إننا حتى نلخص ما انتهينا إليه حتى اآلن نقول‪ :‬على الرغم من أن العديدَ من ناقضي‬
‫الالهوت َيدَّ عون أن المؤمن غارق في التناقض عندما يصر على قضايا المجموعة ‪،A‬‬
‫تناقضا جل ًّيا أو صور ًّيا؛ فاال ِّدعاء األمثل ينبغي أن يكون‬
‫ً‬ ‫فإنها بكل وضوح ال تتناقض‬
‫الضمني‪ .‬ومن أجل تدعيم هذا اال ِّدعاء‪ ،‬فإنه ينبغي على ناقضي الالهوت أن‬
‫ّ‬ ‫تناقضها‬
‫يجدوا قضية صادقة بالضرورة ‪( P‬يمكن أن تكون ً‬
‫قياسا اقتران ًّيا ُمك ََّونًا من عدة قضايا)‬
‫تعارضا صور ًّيا‪ .‬إن ناقضي الالهوت‬
‫ً‬ ‫بحيث إذا ما تمت إضافتها إلى ‪ A‬أنتجت لنا‬

‫‪Plantinga, God and Other Minds (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, (967), .11‬‬
‫موسع)‪.‬‬
‫(ناقشت هناك هذا النوع من القضايا بشكل َّ‬
‫ُ‬ ‫‪chap.5,‬‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪226‬‬
‫لم يقوموا بتقديم ُم ْقت ََرح قابل للتصديق يشغل هذا ال َّث ْغر‪ ،‬وبالتالي يكون من الصعب‬
‫ما كان يمكن أن تكون عليه تلك القضية الغائبة‪ .‬إن ما يمكننا اعتقاده اآلن أن نعل َن‬
‫الضمني للمجموعة ‪ A‬بكل بساطة اعتما ًدا على مبدأ افتراض اتِّساق القضية‬
‫َّ‬ ‫التناسق‬
‫ُ‬
‫أو المجموعة‪ ،‬أو القول باحتمالها إلى أن يثبت العكس‪ .‬لعل هذا النسق يؤدينا كذلك‬
‫إلى مشكلة؛ ألنه يمكن تطبيق نفس هذا المبدأ من أجل القول باتِّساق أو احتمال ا ِّدعاء‬
‫ناقضي الالهوت بتناقض المجموعة ‪ .A‬إن اال ِّدعا َء بأن مجموعة معينة من القضايا‬
‫تتناقض ضمن ًّيا إما أن يكون صاد ًقا بالضرورة‪ ،‬أو كاذ ًبا بالضرورة؛ لذلك يكون هذا‬
‫اال ِّدعاء ُم ْحت ََم ًل؛ فال يكون كاذ ًبا بالضرورة‪ ،‬بل صاد ًقا (في الحقيقة‪ ،‬يكون صاد ًقا‬
‫بالضرورة)‪ .‬وبمتابعة هذا المبدأ المقترح أرى أنه من الواجب علينا القول بالتناسق‬
‫الضمني للمجموعة ‪(A‬ما دام لم يثبت عكس ذلك)‪ ،‬ولك َّن الشيء نفسه يجب قو ُله‬
‫ننف اتِّساقه‪ ،‬أو نثبت استحالتَه‪ .‬إضافة إلى‬ ‫حيال ادعاء ناقضي الالهوت‪ ،‬ما دمنا لم ِ‬
‫ِّ‬
‫ماسبق‪ ،‬فإن ا ِّدعاء ناقضي الالهوت يكون صاد ًقا بالضرورة ما دام ُم ْحت ََم ًل‪ ،‬وبالتالي‬
‫فإنه إذا قبلنا المبدأ السابق؛ فإننا سنقول باالتساق الضمني للمجموعة ‪ ،A‬وعدم‬
‫اتساقها كذلك؛ لذلك إن كل ما يمكن قوله هنا أن ‪ A‬لم يظهر لنا تناقضها الضمني‬
‫حتى اآلن‪.‬‬
‫هل يمكننا الذهاب أبعد من ذلك؟ ال يوجد سوى طريق واحد يمكن سلوكه‬
‫لمحاولة الكشف عن االتساق الضمني‪ ،‬أو احتمالية المجموعة ‪ A‬بالمعنى المنطقي‬
‫الواسع‪ .‬ما الذي يمكن استخدامه هنا من أجل إثبات هذا األمر؟ إنه على الرغم من‬
‫بعضا في جانب مهم‪،‬‬
‫بعضها ً‬
‫تلك الطرق العديدة لمقاربة هذا األمر‪ ،‬فإنها جمي ًعا يشبه ُ‬
‫عما يلي‪ :‬من أجل إظهار اتِّساق المجموعة ‪S‬؛ فإنه ينبغي التفكير‬
‫إذ ال يمكن أن تخرج َّ‬
‫في حالة محتملة (ال تحتاج إلى حصولها) بحيث إذا كانت حقيقية‪ ،‬فإن أطراف ‪S‬‬
‫نموذجا‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬يمكنك‬
‫ً‬ ‫بض ْر ِب ‪S‬‬
‫تصدق جمي ًعا‪ُ .‬ي َس َّمى هذا اإلجرا ُء أحيانًا َ‬
‫بإثبات اتِّساقها عن طريق ضرب نموذج‬ ‫ِ‬ ‫إنشاء مجموعة تصدق بداه ًة‪ ،‬ومن َث ّم تقوم‬
‫لها‪ ،‬وهكذا تب َّين لنا أن إنكار ُم َس َّلمة التوازي إلقليدس ينسجم مع باقي ُم َس َّل َماتِه‪ .‬هناك‬
‫العديد من الحاالت الخاصة لهذا اإلجراء تناسب ظرو ًفا َّ‬
‫خاصة‪ .‬على سبيل المثال‪،‬‬
‫افترض أن لديك قض َّي َت ْي ِن ا ْثنَ َت ْي ِن هما ‪ ،p‬و‪ q‬تريد أن َ‬
‫تثبت اتساقهما‪ .‬ولنفترض أننا نقول‬
‫‪227‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫أن صحة القضية ‪ p1‬تلزم عنها القضية ‪ p2‬إذا كان من المستحيل أن تكون ‪ p1‬صادق ًة و‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫هناك طريق‬ ‫‪p2‬كاذب ًة ما دامت القضيتان االقترانيتان ‪ ،p1‬و ‪ p2‬كاذبتين بالضرورة‪ .‬إذن‬
‫تعارض ‪ p‬مع ‪ ،q‬هذا الطريق هو إيجاد القضية ‪ r‬التي يمكن‬
‫واحد فقط؛ إلثبات عدم ُ‬
‫اقترانها بالقضية‪ .‬وبالمعنى المنطقي الواسع وما يلزم عن ‪ q‬يمكن ألخصائي سلوك َّية‬
‫بأن التفكير ليس ح ًّقا سوى حركات‬
‫أن يقول َّ‬‫َو ِقح وغير ُم َت َع ِّلم على سبيل المثال ْ‬
‫حنجر َّية‪ ،‬ولعله يرى ّ‬
‫أن‬
‫‪ P‬لم يحرك جونز حنجرته بعد الثالثين من أبريل‪.‬‬
‫تتعارض (بالمعنى المنطقي الواسع) مع‬
‫‪ Q‬قام جونز بالتفكير خالل شهر مايو‪.‬‬
‫ولعلنا نشير على سبيل الدَّ حض َّ‬
‫أن ‪ P‬يظهر اتِّساقها مع‬
‫‪ R‬إنه في المدة التي كان يتماثل فيها جونز للشفاء من َش ٍّق في حنجرته في‬
‫َّ‬
‫استغل وقت فراغه في كتابة ورقة بديعة عن النقد الكانطي للعقل‬ ‫الثالثين من أبريل‪،‬‬
‫الم ْحض في خالل شهر مايو‪.‬‬
‫َ‬
‫أيضا‬ ‫يظهر لنا إذن هذا االت َِّس َ‬
‫اق الكائ َن بين ‪ P‬و ‪ R‬عند اقترانهما‪ ،‬ولكن من الواضح ً‬
‫أيضا (ال يمكن أن تكتب ورقة معقولة عن النقد الكانطي للعقل‬
‫أنه يلزم عنهما صدق ‪ً Q‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫المحض دون القيام ببعض التفكير)؛ لذا تتناسق القضيتان ‪ P‬و ‪ً Q‬‬
‫إننا نستطيع أن نرى تلك الحالة الخاصة لهذا اإلجراء المذكور سال ًفا كالتالي‪ :‬تأتي‬
‫يصفان حال ًة ُم ْم ِكنَة‪ .‬أما‬
‫ِ‬ ‫القضية ‪ R‬متماشي ًة مع ‪P‬؛ لذلك فإن القضيتين ‪ P‬و‪ R‬مم ِكنَت ِ‬
‫َان؛‬ ‫ُْ‬
‫أيضا‪،‬‬
‫‪ Q‬فإنها تلزم عن ‪ P‬و ‪ ،R‬وإذا ما كانت ‪ P‬و ‪ R‬صادقتين؛ فإن ‪ Q‬ال بد أن تصدق ً‬
‫وبالتالي فإن ‪ P‬و ‪ Q‬صادقتان‪ .‬تلك إذن هي مسألة إنتاج حالة محتملة بحيث إذا ما‬
‫الم ْعنِ َّية (هنا هما القضيتان ‪ P‬و ‪ )Q‬ستكون‬
‫كانت حقيقية؛ فإن حميع أطراف المجموعة َ‬
‫صادقة‪.‬‬
‫بض ِّم القضايا‬
‫ذكرها؟ كالتالي‪ :‬دعنا نقوم َ‬
‫كيف ينطبق ذلك على المسألة التي سبق ُ‬
‫(‪ ،)1‬و(‪ ،)2‬و(‪ )2‬بعضها مع بعض لنحصل على النتيجة‪.‬‬
‫اﷲ كلي العلم‪ ،‬وكلي القدرة‪ ،‬ومطلق الخيرية‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪228‬‬
‫تعارض (‪ ،)1‬و(‪( )3‬الشر موجود)‪ .‬لعله‬‫إن المشكلة إذن تكمن في إثبات عدم ُ‬
‫َ‬
‫تتماشى مع (‪ )1‬بحيث تلزم‬ ‫يمكن القيام بذلك كما رأينا عن طريق إيحاد القضية ‪ r‬التي‬
‫(‪ )3‬عن (‪ )1‬و(‪ .)r‬إن القضية (‪ )22‬يمكنها القيام بهذه الحيلة‪:‬‬
‫إن اﷲ قد خلق العا َلم يحوي ًّ‬
‫شر‪ ،‬ولديه سبب وجيه وراء ذلك‪.‬‬
‫فإذا كانت (‪ )22‬متماشية مع (‪ ،)1‬فإن ما يتبع ذلك أن نقول باتِّساق (‪ )1‬و(‪)3‬‬
‫تعارض‬
‫إثبات عدم ُ‬
‫َ‬ ‫(وبالتالي المجموعة ‪ .)A‬بهذه الطريقة حاول ُ‬
‫بعض المؤمنين‬
‫(‪ )22‬مع (‪.)1‬‬
‫لعله يمكن للواحد منا السير في طريقين‪ .‬األول‪ :‬يمكننا محاولة تطبيق نفس‬
‫الطريقة مرة أخرى من خالل التفكير في حالة محتملة الوقوع بحيث إذا كان‬
‫حصولها؛ فإن اﷲ كلي القدرة‪ ،‬كلي العلم‪ ،‬مطلق الخيرية سيكون عنده سبب‬
‫وجيه وراء السماح بوقوع الشر‪ .‬أما الطريق الثاني؛ فإنه يمكن للواحد أن يحاول‬
‫تعيين السبب اإللهي ورءا السماح بوجود الشر‪ ،‬مع محاولة إظهار أنه سبب ج ِّيد‬
‫واضحا‪ .‬كتب القديس أوغسطين ــ وهو واحد من أعظم وأكثر‬
‫ً‬ ‫األمر‬
‫ُ‬ ‫إذا لم يكن‬
‫تأثيرا في الكنيسة المسيحية ــ على سبيل المثال ما يلي‪...« :‬‬
‫الفالسفة الالهوتيين ً‬
‫يرى بعض الناس أنَّه من األفضل للمخلوق وهو يمارس حرية إرادتِه أن يلتزم‬
‫البعض هذا األمر كحقيقة ال تقبل الدحض‪ ،‬لذا‬
‫ُ‬ ‫أوامر اإلله وال يذنب أبدً ا‪ ،‬يرى‬
‫عندما يجيء األمر إلى إمعان النظر في خطايا اإلنسان يصيبهم األسف ال ألنهم‬
‫ً‬
‫أصل‪ .‬إنهم يقولون‪ :‬لقد كان من‬ ‫يستمرون في الخطيئة‪ ،‬لكن ألنهم قد ُخ ِل ُقوا‬
‫دائما بالحقيقة التي ال تتغير‪.‬‬
‫األجدر أن يخلقنا ال نقدر على الخطيئة‪ ،‬لنتمتع ً‬
‫ذنب فقط ألنه خلقهم‬‫فل َي ُك ُّفوا عن النواح والغضب‪ .‬إن اﷲ لم يجبر أحدً ا على ٍ‬
‫وأوضع فيهم القدرة على االختيار بين أن يذنبوا أو ال يذنبوا‪ .‬إن المالئكة الذين‬
‫اإللهي لخير َّيته تعالى؛ أن ال‬
‫ّ‬ ‫لم يخطئوا ولن يخطئوا موجودون‪ .‬هذا هو العطاء‬
‫ُي ْع ِرض عن إعطاء هذا المخلوق حيا ًة رغم علمه ُ‬
‫الم ْس َبق أنه لن يخطئ فقط‪ ،‬ولكنه‬
‫سيبقى ُم ِص ًّرا على الخطيئة‪ .‬إنه كالحصان الجامح الذي يفضل الصخر الذي ال‬
‫مفتقر إلى حركة ذات َّية‪ ،‬والوعي الحسي‪ .‬لذلك كان من األفضل أن‬ ‫ٌ‬ ‫يتحرك؛ ألنه‬
‫ُيذنب المخلوق بإرادته الحرة أكثر من ذلك الذي ال يخطئ فقط؛ ألنه ال يمتلك‬
‫‪229‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫ً‬
‫كمال‬ ‫أصل»‪ .12‬وبلغة أعم‪ ،‬يدَّ ِعي أوغسطين َّ‬
‫أن اﷲ يمكنه أن يخلق كونًا أكثر‬ ‫إراد ًة ً‬
‫عن طريق السماح بوجود الشر‪ ،‬مما يمكن أن ُي ِ‬
‫وجدَ ون من دونه‪« :‬إن الخطيئة‬
‫والبؤس ليسا ضرور َّي ْي ِن من أجل كمال العالم‪ ،‬لكنَّهما الزمان عن األرواح؛ تلك‬
‫البؤس‬
‫َ‬ ‫أرادت؛ فيصيبها األسى جراء ذلك‪ .‬لو أن‬
‫ْ‬ ‫القادرة على ارتكاب الذنب إذا ما‬
‫يمضي قد ًما بعد استئصال الخطيئة‪ ،‬أو لو كان موجو ًدا ً‬
‫أصل قبل ارتكابها‪ ،‬هنا من‬
‫الممكن أن يصح قولك بفساد النظام الحاكم لهذا الكون‪ .‬مرة أخرى‪ :‬إذا كانت‬
‫هناك خطايا دون ألم ينتج عنها؛ ففي المقابل سيصبح هذا النظام مخز ًيا الفتقاره‬
‫إلى العدالة»‪.13‬‬
‫يحاول أوغسطين أن يخبرنا عن السبب اإللهي وراء السماح بوجود الشر‪ ،‬إذ يرى‬
‫عالما أكثر ً‬
‫كمال إال عن طريق السماح بالشر‪.‬‬ ‫في الفقرة الثانية َّ‬
‫أن اﷲ ال يمكنه أن يخلق ً‬
‫ٍ‬
‫كائنات حرة‪ ،‬وعاقلة‪ ،‬وأخالقية‪ ،‬وال شك‬ ‫إن كونًا من الطراز األكمل يتطلب وجود‬ ‫َّ‬
‫أن بعض هذه المخلوقات الحرة سترتكب األخطاء‪ ،‬ومع ذلك سيبقى هذا الكون‬
‫المحتوي على مخلوقات حرة ترتكب الشر أفضل مما كان يمكن أن يكون عليه إذا لم‬
‫ٍ‬
‫مخلوقات حرة أو وجود الشر‪ .‬إن مثل هذه المحاولة لتعيين السبب اإللهي‬ ‫ِ‬
‫يحتو على‬
‫وراء السماح بوجود الشر هو ما سميتُه قبل ذلك بالثيوديسيا (نظرية العدالة اإللهية)‪،‬‬
‫ُجا َه اإلنسان»‪ ،‬إلثبات أن‬
‫وبتعبير جون ميلتون أنها محاولة لـ «تسويغ الطرق اإللهية ت َ‬
‫اسم‬
‫اﷲ عادل عندما سمح للشر أن ُيوجد‪ .‬يمكن أن ُيطلق على ثيوديسيا أوغسطين َ‬
‫ِ‬
‫دامت فكرة المخلوقات العاقلة ذات اإلرادة الحرة تلعب‬ ‫ثيوديسيا اإلرادة الحرة ما‬
‫بارزا فيها‪.‬‬
‫دورا ً‬
‫ً‬
‫الشر؟ إن ما‬
‫الثيوديسي إذن اإلجابة عن سؤال‪ :‬لماذا يسمح اﷲُ بوجود ّ‬
‫ُّ‬ ‫يحاول‬
‫سأسميه دفاع اإلرادة الحرة يختلف بعض الشيء عن ثيوديسيا اإلرادة الحرة؛ فهدفي‬
‫ليس أن ُأبِي َن السر اإللهي وراء وجود الشر‪ ،‬ولكن عن السبب اإللهي ُ‬
‫الم ْحت ََمل‬
‫وراءه‪ .‬لع َّلنا نوضح الفرق بينهما بهذه الطريقة‪ :‬يحاول ّ‬
‫كل من القائل بثيوديسيا‬

‫‪12. The Problem of Free Choice, Vol. 22 of Ancient Christian Wn›ters (WeStminster,‬‬
‫‪Md.: The Newman Press, 1955), bk. 2, pp. 14 - 1 5.‬‬
‫‪13. Ibid., bk. 3, p. 9.‬‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪230‬‬
‫اإلرادة الحرة‪ ،‬ودفاع اإلرادة الحرة إثبات أن (‪ )1‬تتماشى مع (‪ ،)22‬وبالتالي طب ًعا‬
‫ُ‬
‫القائل بثيوديسيا اإلرادة‬ ‫يمكن القول باتِّساق المجموعة ‪ .A‬إن ما يحاول أن يفعله‬
‫الحرة إيجاد بعض القضايا ‪ r‬والتي إن اقترنت بدورها مع (‪ )1‬يلزم عنها (‪ ،)22‬وفوق‬
‫إخبارنا عن السبب‬
‫َ‬ ‫ما يدعيه من صدق هذه القضية وتماشيها مع (‪ ،)1‬فإنه يحاول‬
‫اإللهي الحقيقي وراء وجود الشر‪ .‬وعلى الجانب اآلخر يقف القائل بدفاع اإلرادة‬
‫أيضا إيجاد القضية ‪ r‬متماشي ًة مع (‪ ،)1‬وعن طريق اقترانهما تلزم‬ ‫ً‬
‫محاول ً‬ ‫الحرة‬
‫فضل عن اإليمان بها‪ .‬وله طب ًعا أن يمارس ح َّقه‬
‫صحة ‪ً r‬‬
‫عنهما (‪ ،)22‬ولكنه ال يدَّ عي َّ‬
‫إن هدفه إثبات تناسق (‪ )1‬مع (‪ ،)22‬وكل ما يحتاجه هنا هو‬ ‫المنطقي كما يريد‪ ،‬إذ َّ‬
‫أن يجد ‪ r‬متماشي ًة مع (‪ )1‬بحيث تنتج (‪ )22‬عن (‪ )1‬و(‪ )r‬بغض النظر عن صحة ‪r‬‬
‫هامشي هنا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫من عدمها؛ فهذا أمر‬
‫إن الفرق إذن بين ثيوديسيا اإلرادة الحرة‪ ،‬ودفاع اإلرادة الحرة شاسع‪ ،‬ففي الوقت‬
‫الذي يكتفي فيه دفاع اإلرادة الحرة (إذا كانت ناجحة) إلثبات التناسق الداخلي‬
‫للمجموعة ‪ ،A‬تذهب ثيوديسيا اإلرادة الحرة بعيدً ا وراء المطلوب‪ .‬ومن جانب آخر‪،‬‬
‫كانت ممكن َة التح ُّقق؛ فال شك أن‬
‫تظهر ثيوديسيا اإلرادة الحرة على أنها أكثر إرضا ًء إن ْ‬
‫المؤمن يود أن يعرف السبب اإللهي وراء السماح بوجود الشر ً‬
‫بدل من مجرد القول‬
‫وجيها ال نعرفه‪ .‬لكن‪ ،‬في هذا السياق (الذي نناقش فيه اتِّساق‬
‫ً‬ ‫باحتمال امتالكه سب ًبا‬
‫المجموعة ‪)A‬؛ فإن دفاع حرية اإلرادة هو كل ما نحتاجه؛ فال الدفاع وال الثيودسيا‬
‫بقا َد َرين على مجرد اإلشارة إلى سبب إلهي ممكن وراء شر معين كالموت‪ ،‬أو معاناة‬
‫‪14‬‬
‫شخص قريب منك على سبيل المثال‪ .‬وتبقى وظيفة أخرى بالجوار ــ وظيفة ساذجة‬
‫ــ ال يقومان (الدفاع ــ الثيوديسيا) بها إذا ما واجه اإلنسان الشر في حياته الخاصة‪ ،‬أو‬
‫انتهى فجأة إلى هذا الوعي التام بامتداده وعظم أمره أكثر من قبل‪،‬كل هذا قد ينتهي‬
‫يقاسي أزمة في إيمانه‪ ،‬ولعله ُي ْفتَن متاب ًعا النصيحة الواردة في سفر‬
‫َ‬ ‫بالمؤمن إلى أن‬
‫تتم صياغة ٍّ‬
‫كل من ثيوديسيا اإلرادة الحرة‪ ،‬ودفاع‬ ‫ف على اﷲ‪ ،‬و ُم ْت»‪ .‬لم ّ‬
‫«جدِّ ْ‬
‫أيوب‪َ :‬‬
‫كثيرا في جلب السالم الداخلي لشخص يعاني من‬
‫اإلرادة الحرة من أجل أن تساعد ً‬

‫‪ .14‬أنا مدين بالشكر هلنري شورمان ملناقشة مفيدة توضح الفرق بني تلك الوظيفة الساذجة‪ ،‬وما يمكن أن‬
‫ختدمه ثيوديسا أو دفاع اإلراد احلرة‪.‬‬
‫‪231‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫عصف روحي (على الرغم من أنه‪ ،‬وفي حاالت خاصة‪ ،‬يمكن للمرء أن يدلل على‬
‫نفعهما في ذلك)‪َّ .‬أو ًل‪ ،‬وقبل كل شيء‪ ،‬ال يمكن التفكير في هذا الدفاع على أنه نوع‬
‫من اإلرشاد النفسي الساذج‪ ،‬كما ينبغي أن ُي ْع َلم أنه على األرجح لن يجلب السالم‬
‫ٍ‬
‫لشخص مع اﷲ في مواجهة هذا الشر الكام َن في العا َلم‪ ،‬إننا ال نقصد شي ًئا من‬ ‫الداخلي‬
‫تلك األغراض هنا‪.‬‬

‫دفاع اإلرادة الحرة‬


‫في ما يلي سأقوم بتركيز االنتباه إلى دفاع اإلرادة الحرة‪ ،‬سأقاربها أكثر مما سبق‪،‬‬
‫وسأزيدها دق ًة‪ ،‬ومن ثم أقوم بإمعان النظر في ما ي َثار حو َلها من معارضات مج ِ‬
‫اد ًل‪،‬‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ِ‬
‫الخير هناك بعض منها‬ ‫أخيرا إلى نجاحها‪ .‬إننا رأينا ساب ًقا أنه من بين حاالت‬
‫ألنتهي ً‬
‫ال يمكن حتى ﷲ أن ُي ْج ِر َيها إال عن طريق إنشاء ٍّ‬
‫شر ما؛ فهذه األمور الخ ِّيرة يلزم عنها‪،‬‬
‫أو تنطوي حرف ًّيا على بعض الشر‪ .‬لعله يمكن النظر إلى دفاع اإلرادة الحرة على أنه‬
‫محاولة للقول بوجود نوع مختلف من الخير ال يمكن ﷲ إنشاؤه إال عن طريق السماح‬
‫بوجود الشر‪ .‬هذا النوع من الخير ليس منطو ًيا على شر‪ ،‬وال يلزم عنه وجود أي نوع من‬
‫الشر على الرغم من أن اﷲ نفسه ال يملك إال أن ُي ْج ٍر َيه إال عن طريق السماح بوجود‬
‫الشر‪.‬‬
‫كيف يعمل دفاع اإلرادة الحرة إذن؟ وما الذي يعنيه القائل بها عندما يقول إن‬
‫الناس أحرار‪ ،‬أو ربما يكونون كذلك؟ إننا نناقش اإلرادة الحرة هنا على أنها وثيقة‬
‫حرا في ما‬
‫فعل ما‪ .‬إذا كان شخص ما ًّ‬ ‫يخص ً‬ ‫ُّ‬ ‫حرا في ما‬
‫الصلة بفكرة أن تكون ًّ‬
‫ٍ‬
‫حينئذ مريدً ا إلجراء هذا الفعل أو االمتناع عنه دون وجود‬ ‫يخص ً‬
‫فعل بعينه‪ ،‬فإنه‬
‫شروط مسبقة‪ ،‬أو قوانين ِع ِّل َّية تعين عليه القيام به‪ ،‬أو عدم القيام به‪ .‬إن القيام‬
‫بهذا الفعل أو الشروع فيه واقع تحت سلطته في هذا الوقت كما أن اإلحجام عنه‬
‫نتصورها على هذا النحو ال يمكن الخلط‬ ‫َّ‬ ‫واقع تحت سلطته كذلك‪ .‬إن ُح ِّر َّي ًة‬
‫بينها وبين عدم القدرة على ال َّتنَ ُّبؤ‪ .‬إنه يمكنك التنبؤ بما ستفعله في موقف ُم َع َّي ٍن‬
‫كنت‬
‫إن ُ‬ ‫حتى وإن كان لك مطلق الحرية لفعل شيء آخر في هذا الموقف‪ .‬إنني ْ‬
‫أعرفك ج ِّيدً ا؛ فلعله يكون في إمكاني أن أتنبأ بالفعل الذي ستُمضيه إذا ما تع َّلق‬
‫َ‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪232‬‬
‫األمر بمجموعة معينة من الحاالت‪ ،‬وال يتبع هذا أن ننفي عنك الحرية في ما‬‫ُ‬
‫يخص ذلك الفعل‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬سأقول َّ‬
‫إن ذلك الفعل مهم أخالق ًّيا لشخص بعينه إذا‬
‫كان من الخطأ عنده القيام به‪ ،‬ومن الصحيح االمتناع عنه أو العكس بالعكس‪.‬‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬الوفاء بالوعد سيكون أخالق ًّيا عاد ًة لشخص يرفض االنضمام‬
‫إلى الجيش‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬لن يكون تناول حبوب ‪ً Cheerios‬‬
‫بدل من‬
‫مهما عادة من الناحية األخالقية‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فلنفترض أن‬ ‫‪ًّ Wheaties‬‬
‫حرا في‬ ‫ٍ‬
‫بقدر كبير من الحرية في مناسبة ما بعينها إذا كان حينها ًّ‬ ‫شخصا يتمتع‬
‫ً‬
‫وأخيرا‪ ،‬علينا التفرقة بين الشر األخالقي‪ ،‬والشر‬
‫ً‬ ‫ما يتعلق بفعل مهم أخالق ًّيا‪.‬‬
‫الطبيعي؛ فاألول هو الشر الناتج عن نشاط إنساني‪ ،‬أما الشر الطبيعي فهو أي نوع‬
‫‪15‬‬
‫آخر من الشر‪.‬‬
‫واعتما ًدا على هذه التعريفات والفروق‪ ،‬يمكننا وضع دفاع حرية اإلرادة في‬
‫ٍ‬
‫مخلوقات تتمتع بالحرية على نطاق واسع‪،‬‬ ‫عالما يحوي‬ ‫عبارة أول َّية كما يلي‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫ً‬
‫عالما كهذا أفضل من أي شيء آخر‪ ،‬من عالم‬
‫وتقوم بالخير إراد ًة أكثر من الشر‪ ،‬إن ً‬
‫ٍ‬
‫مخلوقات‬ ‫ال يحتوي على مخلوقات حرة على اإلطالق‪ .‬يمكن لإلله اآلن خلق‬
‫حرة‪ ،‬ولكن‪ ،‬ال يمكنه أن يحملهم على فعل الصواب أو أن يحدده لهم؛ ألنه إن‬
‫أحرارا بنفس القدر في النهاية‪ ،‬ولن يقوموا بما هو خير‬
‫ً‬ ‫فعل ذلك فإنهم لن يكونوا‬
‫األخالقي‪ ،‬فإنه ال بد من خلق‬ ‫ٍ‬
‫كائنات قادرة على الخير‬ ‫بحرية تامة‪ .‬إنه حتى تخلق‬
‫ّ‬
‫أيضا‪ ،‬وفي الوقت الذي يمنح فيه هذه‬ ‫ٍ‬
‫كائنات أخرى قادرة على الشر األخالقي ً‬
‫المخلوقات حرية القيام بالشر‪ ،‬فإنه ال يمكنه منعهم من إمضائه ً‬
‫فعل‪ .‬كما يتضح لنا‬
‫بكل أسف أن بعض هذه المخلوقات الحرة التي خلقها اﷲ قد ضلت في ممارستها‬
‫حريتها تلك‪ ،‬وهذا هو أصل الشر األخالقي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن حقيق َة أن المخلوقات‬
‫الحرة تخطئ في ممارسة حريتها ال تنافي طالقة القدرة اإللهية وال خيريته؛ ألنه‬
‫كان في إمكانه إحباط حدوث الشر األخالقي فقط عن طريق إزالة إمكان الخير‬
‫األخالقي‪.‬‬

‫ليست دقيقة متا ًما (كيف يمكن تفسري «ناتج عن» بالضبط؟)‪ ،‬لكن‪ ،‬لعلها ختدم غرضنا‬
‫ْ‬ ‫‪ .15‬هذه التفرقة‬
‫احلايل‪.‬‬
‫‪233‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫قلت مسب ًقا إن دفاع حرية اإلرادة يحاول إيجاد قضية تتماشى مع‪:‬‬
‫لقد ُ‬
‫العلم‪ ،‬وكلي القدرة‪ ،‬ومطلق الخيرية‪.‬‬ ‫اﷲ كلي ِ‬
‫ّ‬
‫إن (‪ )1‬تنطوي على وجود الشر‪ .‬ووف ًقا لدفاع حرية اإلرادة فإنه يجب أن نجد‬ ‫َّ‬
‫مكان ما في الموضوع السابق‪ .‬يتضمن جوهر القول بدفاع حرية‬ ‫ٍ‬ ‫هذه القضية في‬
‫اإلرادة ا ِّدعاء أن اﷲ ال يمكنه خلق العالم منعد ًما من الخير األخالقي (أو ما يمكن أن‬
‫يحتويه العالم من الخير األخالقي) من غير أن يخلق واحدً ا آخر يحتوي على الشر‬
‫األخالقي‪ .‬وما دام األمر كذلك‪ ،‬فإنه ُيحتمل أن يكون ﷲ سبب وجيه في خالق عالم‬
‫يتضمن الشر‪ُ .‬يالقي هذا الدفاع أنوا ًعا عدة من االعتراضات‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬يرى‬
‫تعارض بين الحتمية السببية والحرية‪ ،‬على عكس‬
‫بعض الفالسفة أنه ال يوجد ثمة ُ‬
‫ما قد نعتقد‪ 16.‬وما دام األمر على هذا النحو‪ ،‬فإن اﷲ يكون قد خلق مخلوقات حرة‪،‬‬
‫لها الحرية في أن تُخطئ‪ ،‬ولكنها مع ذلك ال تفعل إال ما هو صواب وف ًقا للحتمية‬
‫السببية‪ .‬وهكذا‪ ،‬يكون بإمكان اﷲ أن يخلق مخلوقات لها حرية ارتكاب األخطاء‪،‬‬
‫بينما يتم منعها من ارتكاب أي نوع من األفعال السيئة ببساطة عن طريق التأكد من‬
‫مصممة حتم ًّيا وسبب ًيا على فعل ما هو صواب فحسب‪ .‬ال شك أن هذا يناقض‬
‫َّ‬ ‫أنها‬
‫دفاع حرية اإلرادة إذ يتضارب الدفاع مع االفتراض القائل بأن اﷲ يفرض على‬
‫المخلوقات الحرة فعل ما هو صواب ليس إال‪.‬‬
‫ٍ‬
‫إنسان ما سبب ًّيا بينما يصدر بعضها عن‬ ‫لكن‪ ،‬هل يمكن ح ًّقا أن تتحتَّم جميع أفعال‬
‫حرية؟ كيف يمكن ذلك؟ طب ًقا إلحدى ن َُسخ العقيدة َم َح ّل النقاش يمكن القول بأن‬
‫أفعال جورج صدرت عن حرية في مناسبة بعينها بطريق واحد فحسب وهو أنه إذا لم‬
‫يقم باختيار هذا الفعل‪ ،‬لكان قد قام بخالفه‪ .‬واآلن‪ ،‬يتحتم عمل جورج ‪ A‬سبب ًّيا إذا‬
‫ما حدثت ‪( E‬بعض األحداث الخارجة عن إرادته)‪ ،‬حيث تكون الحال ُة الكائن ُة في‬
‫حصول ‪ E‬والمقترنة بامتناع جورج عن فعل ‪ A‬حال ًة مستحيلة سبب ًّيا‪ .‬يمكن للمرء إذن‬
‫أن جميع أفعال اإلنسان واقعة تحت سلطان الحتمية السببية‪ ،‬وأن‬ ‫أن يقول بأمرين؛ َّ‬

‫‪: A. Flew, «Divine Omnitence and Human Freedom» in New‬انظر عىل سبيل املثال ‪16.‬‬
‫‪Essays in Philosophical Theology, eds. A. Flew and A. Macintyre (London: SCM,‬‬
‫‪1955), pp. 150 - 153.‬‬
‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪234‬‬
‫بعضها صادر عن حرية إنسانية بالمعنى المذكور آن ًفا‪ .‬ولنفترض اآلن إذن أن الحتمية‬
‫ٍ‬
‫ظرف أن يختار أو‬ ‫السببية تحكم جميع أفعال اإلنسان درجة أنه ال يستطيع تحت أي‬
‫أي فعل ينافي ما قام به أو فعله ً‬
‫أصل‪ .‬قد يكون اختياره إمضاء خالف ما فعله ال‬ ‫يفعل َّ‬
‫صحيحا إذا اختار ذلك‪ .‬بالتأكيد‪ ،‬لم يكن بإمكانه أن يختار خالف ما اختاره‪ ،‬لكن‬
‫ً‬ ‫يزال‬
‫هذا يت َِّسق مع القول بأنه إن فعل؛ فإن األمور ستجري على نحو مغاير تما ًما‪.‬‬
‫يبدو هذا االعتراض على دفاع حرية اإلرادة غير قابل للتصديق إطال ًقا‪ .‬كلك قد‬
‫أن كونك في السجن ال يعني أن تتحدد حرية المسجون على أساس أنه إذا‬ ‫يدعي أحد َّ‬
‫حرا في الذهاب واإلياب كما يشاء‪ .‬لذا لن أقول أكثر من ذلك‬
‫كان في الخارج سيكون ًّ‬
‫‪17‬‬
‫في ما يتعلق بهذا االعتراض هنا‪.‬‬
‫هناك اعتراض آخر ال يمكننا االستهانة به‪ ،‬ولنا صياغة جوهره هكذا‪ :‬بالتأكيد يمكن‬
‫حرا في ارتكاب الخطأ‪ .‬بهذا المعنى‬
‫فعل ما هو صواب بغض النظر عن كون المرء ًّ‬
‫دائما‪.‬‬
‫المنطقي الواسع يمكن أن يحتوي عالم على مخلوقات حرة تفعل ما هو صواب ًّ‬
‫ّ‬
‫َّ‬
‫وألن اﷲ مطلق‬ ‫ال يوجد بالتأكيد أي نوع من التناقض أو التضارب في هذه الفكرة‪،‬‬
‫القدرة‪ ،‬وليس محكو ًما بالحدود المنطقية‪ ،‬فإنه يمكن لهذا العالم أن يوجد؛ ذلك الذي‬
‫يحوي مخلوقات لها حرية فعل ما هو خطأ لكنها ال ترتكب شي ًئا منه في الحقيقة‪ ،‬وما‬
‫كلي القدرة في إمكانه خلق عالم ما على هذا النحو‪ .‬وبالتالي‪،‬‬
‫يترتب على ذلك أن اﷲ‪ّ ،‬‬
‫ال بد أن يخطئ دفاع حرية اإلرادة في إصراره على االحتمال الجامع بين القدرة اإللهية‬
‫المطلقة وعدم القدرة على خلق عالم يشتمل على الخير األخالقي دون السماح بوجود‬
‫الشر األخالقي‪ .‬يصوغ جاي إل‪ .‬ماكي هذا االعتراض ً‬
‫قائل‪« :‬ما دام اﷲ قد خلق البشر‬
‫في مقدورهم أن يختاروا الخير أحيانًا‪ ،‬وأن يختاروا الشر أحيانًا؛ فلماذا لم يخلقهم‬
‫دائما؟ وما دامت ال توجود استحالة منطقية في اختيار اإلنسان‬
‫أحرارا‪ ،‬فاعلين للخير ً‬
‫ً‬
‫الحر فعل الخير مرة‪ ،‬أو في عدة مناسبات‪ ،‬فإنه ال توجد كذلك استحالة منطقية في أن‬
‫عالما آل ًّيا بري ًئا‬
‫يختار الخير وهو حر في كل مناسبة‪ .‬ليس الخيار أمام اﷲ إذن أن يخلق ً‬
‫ٍ‬
‫كائنات لها حرية الفعل‪ ،‬ومن الممكن أن ترتكب األخطاء أحيانًا‪ .‬لقد كان‬ ‫أو أن يخلق‬

‫‪ .17‬ملزيد من النقاش حول هذا املوضوع انظر‪ 135 :‬ــ ‪.Plantinga، God and Other Minds, pp. 132‬‬
‫‪235‬‬ ‫ةدارإلا ةيرح عافدو ّرشلا ةلكشم‬

‫أمامه خيار آخر متاح‪ ،‬احتمال أفضل‪ ،‬وهو أن يخلق كائنات حرة لكنها ال تفعل غير‬
‫الصواب‪ .‬إن عجزه عن أن يستفيد من هذا االحتمال يوضح التعارض القائم بين كونه‬
‫كلي القدرة ومطلق الخيرية في آن واحد»‪.18‬‬
‫واآلن‪ ،‬ما الذي يريد أن يقوله ماكي هنا؟ يجادل دفاع حرية اإلرادة عن فكرة أنه‬
‫عالما‬
‫كلي القدرة ولكنه في نفس الوقت ال يملك أن يخلق ً‬ ‫من الممكن أن يكون اﷲ َّ‬
‫أيضا‪ .‬يعلق ماكي على ذلك‬‫يحتوي على الخير األخالقي دون وجود الشر األخالقي ً‬
‫قائل إن ذلك َق ْيد يتعارض في الحقيقة مع طالقة القدرة اإللهية‪ .‬بالتأكيد يمكن أن‬
‫ً‬
‫يوجود عالم يحتوي على أشخاص أتقياء وهم أحرار تما ًما‪ ،‬ومع حريتهم تلك فإنهم‬
‫ال يفعلون إال ما هو خير فحسب‪ .‬وبالتأكيد‪ ،‬يمكن تصور عوالم أخرى تحتوي على‬
‫فعل‪ ،‬فإنه يملك خلق‬ ‫الخير األخالقي دون وجود ألي شر‪ ،‬وإذا كان اﷲ ُمطلق القدرة ً‬
‫ممكن يختاره‪ .‬لذا‪ ،‬على عكس ما يقوله دفاع حرية اإلرادة‪ ،‬ليس من الممكن‬ ‫ٍ‬ ‫أي عالم‬
‫عالما محتو ًيا على‬
‫ﷲ أن يكون مطلق القدرة‪ ،‬وال يملك في الوقت نفسه إال أن يخلق ً‬
‫فعل‪ ،‬فإن القيد الممكن الوحيد‬ ‫الخير األخالقي والشر م ًعا‪ .‬إنه إذا كان مطلق القدرة ً‬
‫لقدرته هو القيود المنطقية‪ ،‬ولهذا ال توجد عوالم ممكنة يستحيل عليه خلقها‪.‬‬
‫هناك نقطة دقيقة هنا ومهمة‪ ،‬وهي أن هذا العالم‪ ،‬العالم الفعلي‪ ،‬ال بد أن يكون أفضل‬
‫العوالم الممكنة طب ًقا لما يراه الفيلسوف األلماني الكبير غوتفريد فيلهيلم ليبنتز‪ .‬وكان‬
‫أي شيء على اإلطالق‪ ،‬كانت أمامه‬ ‫المنطق الذي تكلم به كاآلتي‪ :‬إن اﷲ قبل أن يخلق َّ‬
‫محموعة هائلة من الخيارات كان من الممكن معها ْ‬
‫أن يحقق أ ًّيا منها فعل ًيا‪ ،‬وأن يختار من‬
‫بين هذه العوالم الممكنة والمختلفة التي ال يمكن حصرها‪ .‬وكونه مطلق الخيرية يحتم‬
‫قادرا على خلق ما‬
‫عليه أن يختار أفضل هذه العوالم‪ ،‬وكونه مطلق القدرة يعني أن يكون ً‬
‫يشاؤه من هذه العوالم الممكنة‪ .‬لذا كان ال بد أن يختار أفضل هذه العوالم الممكنة‪ ،‬ومن‬
‫ثم كان ال بد أن يكون هذا العالم المخلوق أفضل إمكان‪ .‬وال شك أن ماكي اآلن يتفق مع‬
‫ليبنتز في أن اﷲ إذا كان كلي القدرة‪ ،‬فإنه يكون في إمكانه أن يخلق أي عالم يختاره‪ ،‬وأن‬
‫العالم الذي خلقه هو أفضل هذه العوالم الممكنة‪ .‬لكن في الوقت الذي ينتهي فيه ليبنتز‬
‫إلى نتيجة أن هذا العالم بغض النظر عن ما يظهر عليه‪ ،‬هو أفضل عالم ممكن‪ ،‬ينتهي‬

‫‪18. Mackie, in The Philosophy of Religion, pp. 100 - 101.‬‬


‫جنيتنالب نيفلأ‬ ‫‪236‬‬
‫ماكي إلى نتيجة أخرى مفادها بأنه ال وجود إلله كلي القدرة‪ ،‬مطلق الخيرية ً‬
‫أصل‪.‬‬
‫إن دفاع حرية اإلرادة يختلف مع كل من ليبنتز وماكي‪ .‬في المقام األول‪ ،‬لعلنا نتساءل‬
‫في ذلك‪ :‬ما هو سبب أن نفترض ما يمكن أن ُي َس َّمى بعالم هو أفضل العوالِم الممكنة؟‬
‫إنه بغض النظر عن مدى بداعة هذا العا َلم‪ ،‬وعدد األشخاص الذين يستمتعون بنعيمه‬
‫المحض‪ ،‬أليس من الممكن أن يكون هناك عالم أفضل يتحوي على عدد أكبر من‬
‫األشخاص المتمتعين بهذا النعيم المحض؟ إن ما يميز دفاع حرية اإلرادة ويعد مركز ًّيا‬
‫فيه هو اال ِّدعاء القائل بأنه رغم طالقة قدرة اﷲ‪ ،‬فإنه ال يمكن له أن ُيح َّقق أي عالم‬
‫ممكن يشاؤه فعل ًّيا‪.‬‬
‫دراسات‬

‫مشكلة الشر عند خافيير زوبيري‬


‫ترجمة وتقديم‪:‬‬
‫___________________________________________________‬
‫د‪ .‬كوثر فاتح‬
‫‪1‬‬

‫خافيير زوبيري ‪ Xavier zubiri‬فيلسوف والهوتي أسباني معاصر (‪ 1898‬ــ‬


‫‪ )1983‬من مواليد مدريد‪ .‬ينتمي إلى عائلة مسيحية كاثوليكية‪ .‬والده من أعيان األرض‬
‫في ‪ Sébastien‬ــ ‪ .Saint‬ظهر اهتمامه بالفلسفة والالهوت في سنوات دراسته‬
‫األولى لينتقل إلى مدريد طالبا خارجيا بسبب مشاكل صحية‪ .‬سنة ‪ 1917‬بدأ بدراسة‬
‫الفلسفة واآلداب في جامعة مدريد وهناك أصبح عضوا نشيطا في مدرسة مدريد‪.‬‬
‫هذه المدرسة ضمت بين جنباتها أسماء كبيرة في الفكر األيبيري من أمثال‪José :‬‬
‫‪ Ortega y Gasset،José Gaos، María Zambrano‬وآخرين‪ .‬وكان ‪José Ortega‬‬
‫‪ y Gasset‬ملهم هذه المدرسة؛ إذ نادى بقيام فلسفة أسبانية حرة تليق بظروف العصر‬
‫و تنفتح على الفكر األوربي‪ ،‬دشن من خاللها ميالد فكر ينشط خارج كل الحدود؛‬
‫فكر تلتقي فيه كل القضايا بعيدا عن األسوار المنهجية‪ .‬بفضل ‪ Ortega‬تعرف‬
‫زوبيري على فينومينولوجيا هوسرل‪ .‬سنة ‪ 1920‬انتقل لدراسة الفلسفة في الجامعة‬
‫الكاثوليكية بـ ‪ Louvain‬وهناك اكتشف كانط والسيميائيات‪ .‬حصل على الدكتوراه‬
‫في الفلسفة والالهوت سنة ‪ .1921‬رسالته في الدكتوراه كانت بعنوان ‪Ensayo de‬‬
‫‪ una teoría :enomenológica del juicio‬وكانت عن هوسرل‪ .‬وهي بذلك أول‬
‫عمل عن هذا الفيلسوف خارج المانيا‪ .‬سنة ‪ 1939‬تزوج إحدى طالباته ‪Carmen‬‬
‫‪ Castro‬ابنة الفيلولوجي والمؤرخ االسباني ‪.Americo Castro‬‬

‫‪ .1‬دكتوراه يف الفلسفة التأويلية «اهلريمنيوطيقا» ــ أكاديمية فاس ــ مكناس‪ ،‬املغرب‪.‬‬


‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪238‬‬
‫عاصر زوبيري الحربين العالميتين‪ ،‬والحرب األهلية األسبانية‪ ،‬وشهد انهيار قيم‬
‫الطبيعة‪ ،‬اﷲ‪ ،‬اإلنسان‪ ،‬العقل‪ ...‬فجاءت فلسفته متدفقة بمعاني إعادة االيمان باإلنسان‬
‫والوجود‪ .‬في باريس التقى زوبيري بهنري برغسون وتأثر بفلسفته التأملية‪ .‬ينتمي‬
‫زوبيري إلى التيار الوجودي‪ ،‬إذ تتلمذ على يد هيدغر‪ ،‬وإن كان يرفض عديدا من‬
‫األطروحات الوجودية‪ ،‬معتبرا أن اإلنسان لم «يلق» به إلى العالم‪ ،‬بل « ُأضيف» إلى‬
‫العالم‪ ،‬على أساس وجوده فيه مع الموضوعات والذوات األخرى فاعال في وجوده‪.‬‬
‫فهو يدافع بأن الوجود اإلنساني يتحدد كوجود مع الموضوعات وبجانبها‪ .‬والواقع‬
‫عنده يتجاوز الذات على اعتبار اﷲ كليا مطلقا واإلنسان نسبيا مطلقا‪ .‬غيرية اﷲ لذاتها‬
‫وليس غيرية بالنسبة لآلخرين‪ .‬يتحدث زوبيري عن تجربة األلوهية بوصفها تجربة فردية‬
‫اجتماعية وتاريخية‪ .‬في هذا الصدد يقر بأن كل وجود إنساني هو تجربة لأللوهية‪ .‬هكذا‬
‫أسهم الفيلسوف االسباني في بناء فلسفة مسيحية معاصرة فهو يرى أن الدين تمظهر‬
‫لقوة الواقع‪ .‬ذلك أن زوبيري يقارب الدين انطالقا من منهج ذكاء الحس ‪inteligencia‬‬
‫‪ sentiente‬مشدّ دا على أن العقل يعجز لوحده عن اإلدراك المباشر ﷲ‪ ،‬فال يتمثل اﷲ‬
‫عن طريق العقل وحده‪ ،‬لكن أيضا عن طريق التجربة‪ .‬هذا وتتأسس فلسفته انطالقا من‬
‫مشكلة االلوهية بوصفها أساس الشعور بالواقع وليس بالوجود‪ .‬ذلك أن مجمل كتاباته‬
‫تأمالت في مفاهيم‪ :‬اﷲ‪ ،‬الواقع‪ ،‬الوجود‪ ،‬الخير‪ ،‬الشر‪ ،‬الحرية‪ ...‬بعيدا عن أية قيود‬
‫منهجية أو معرفية‪ .‬لقد حاول زوبيري بناء منهج تفلسف جديد ينطلق من مراجعات‬
‫لماضي الفكر الفلسفي بناء على معطيات الواقع العلمي والرياضي المعاصر‪ .‬وقد‬
‫عمل في هذا الصدد على بناء فهم جديد للواقع بوصفه منفتحا ومتعدد األبعاد ومقدّ ما‬
‫لفهم جديد للذكاء‪ ،‬المعرفة والحقيقة‪ .‬هكذا يعمد زوبيري بجرأة إلى مساءلة اإلرث‬
‫الفلسفي وإخضاعه لمراجعات التطور العلمي والمعرفي‪.‬‬
‫مر فكر زوبيري بثالث مراحل‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ المرحلة الفينومينولوجية خالل سنوات دراسته األولى وحصوله على‬
‫الدكتوراه في الالهوت ثم الفلسفة‪.‬‬
‫طور مفهوم إعادة‬
‫‪ 2‬ــ المرحلة األنطولوجية طيلة فترة تنقله في أوروبا للدراسة إذ ّ‬
‫الوصل كمفهوم مركزي في فلسفته عن الدين‪.‬‬
‫‪239‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫‪ 3‬ــ لينتقل إلى مرحلة النضج وبناء مفهوم ذكاء الحس ‪inteligencia sentiente‬‬
‫في كتاباته المتأخرة‪.‬‬
‫واضح أن زوبيري ينتمي شكال إلى التيار الوجودي‪ .‬إذ تزاوج فلسفته بين‬
‫أيضا من مدارس الفلسفة‬ ‫مقاربة الواقع من زوايا فلسفية علمية والهوتية‪ .‬لكنه نهل ً‬
‫والالهوت بعيدا عن جغرافيا التخصص أو صراع المدارس؛ محاوال بذلك تأسيس‬
‫أنطولوجيا جديدة منفتحة على العلوم خاصة الفيزياء‪ ،‬الرياضيات‪ ،‬البيولوجيا‬
‫والالهوت؛ على فينومينولوجيا الواقع‪ ،‬الفيلولوجيا الهندو ــ أوربية والسيمائيات‪.‬‬
‫فجاءت كتاباته مزيجا مستنفرا لكل أشكال المعنى‪ .‬التفكير مع زوبيري هو‬
‫من دون شك مغامرة هرمنيوطيقية‪ .‬ولن نبالغ إن قلنا أن فلسفته زواج سعيد بين‬
‫الفينومينولوجيا‪ ،‬الوجودية‪ ،‬الهرمنيوطيقا والالهوت‪ .‬ثمرة هذا الزواج تكمن في‬
‫سبر أغوار إنسان ما بعد الحداثة‪.‬‬
‫من جهة اخرى‪ ،‬أوجد زوبيري جهازا مفاهيميا خاص ومركبا نتلمس فيه‬
‫تاثير هوسرل‪ .‬ففي ثالثية الذكاء عنده يجمع بين ذكاء الحس‪ ،‬ذكاء الواقع وذكاء‬
‫اللوغوس‪ ،‬مقدما فهما جديدا للذكاء كملكة إنسانية‪ ،‬مميزا بين أشياء ــ الداللة‬
‫وأشياء المعنى‪ ،‬ورافضا كل تعارض بين الحس والعقل‪ .‬وكثيرا ما تنزلق الكلمات‬
‫عنده من معناها الظاهر باتجاه معاني تعود ألصل اللغة وتفرض على القارئ مساءلة‬
‫قواعد االشتقاق والمعنى‪.‬‬
‫أما نواة فلسفة الدين عند زوبيري فتتأسس انطالقا من مفهوم إعادة الوصل‬
‫‪ relegación‬ذي البعد الهرمنيوطيقي‪ .‬فالتجربة الدينية عنده هي نتاج ‪ relegación‬أي‬
‫إعادة الوصل‪ .‬وتلك ليست فقط تجربة حسية أو إمبريقية بل اختبار للشيء كتمظهر‬
‫للواقع‪ ،‬وكتجربة لقوة الواقع في عالقة تتجه عموديا نحو السماء وأفقيا باتجاه غيره‪.‬‬
‫يرى زوبيري أن اﷲ ليس متعاليا عن الموضوعات بل هو فيها‪ .‬وأن إدراكنا ﷲ سابق‬
‫على إثباتنا لوجوده‪ ،‬ومنشؤه إعادة الوصل هذه‪ .‬الدين عنده ليس فقط قضية لبناء‬
‫المعنى بل إعادة للوصل‪.‬‬
‫مشكلة الخير والشر يتناولها زوبيري في المحاضرة التي ألقاها سنة ‪ 1964‬والتي‬
‫نشرت بعد وفاته في كتاب ‪( Sobre el sentimiento y la volición‬عن الشعور‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪240‬‬
‫وفعل اإلرادة)‪ .‬وقد غلب على محاضرته هذه الطابع األكاديمي مع حضور مكثف‬
‫للمعاني المكررة واألمثلة التوضيحية وإسراف أحيانا في التكرار؛ يبدو من خاللها‬
‫أسلوب األستاذ المسكون بهاجس تحقق الفهم‪ .‬لعل ذلك يجد تفسيره في كونها‬
‫محاضرة للجامعة لم يكتبها زوبيري ألغراض النشر ولم تنشر إال بعد وفاته‪.‬‬
‫مقاربة زوبيري لمفهوم الشر مقاربة فريدة تعرج بنا على أساطير المانوية‪،‬‬
‫الزرداشتية والمجوسية لتتوقف عند األفالطونية المحدثة والسكوالئية‪ .‬هو ال‬
‫يتوانى عن مساءلة كانط‪ ،‬هيجل‪ ،‬ليبنتز‪ ،‬شوبنهاور‪ ،‬نيتشه وغيرهم‪ .‬رافضا أطروحات‬
‫تعارض الخير والشر‪ ،‬ومقدما لقراءة هذه الجدلية بوصفها حالة واقع فقط‪ ،‬وليس‬
‫جوهرا في العالم أو في اإلنسان‪.‬‬
‫يعمد في هذا الكتاب إلى تناول هذه المشكلة انطالقا من مقاربة مركبة يبدأ فيها‬
‫من خالل استقصاء دالالت المفاهيم في أصولها اللغوية‪ ،‬وينشأ المعنى عبر منحى‬
‫أركيولوجي يغوص في األثر الداللي للمفاهيم قبل الوقوف عند معانيها‪ .‬وهنا يظهر‬
‫أثر دراساته الفيلولوجية‪ .‬فهو اللغوي قبل أن يكون الفيلسوف‪ .‬وفي رحلة بحثه‬
‫هذه يستنطق الفالسفة والالهوتيين مفرغا الخير والشر من قداستيهما ورهبتهما‬
‫األخالقية وجاعال منهما قضية لفلسفة الظاهرية ومهمة للمعنى‪.‬‬
‫هو ال ينكر واقع الشر‪ ،‬بل يعترف بتعالي الخير عليه‪ .‬تفاؤل زوبيري هذا له أسس‬
‫إنسانية والهوتية‪ .‬فهو يربط مفهوم الشر بمفهوم الحالة ‪ .condición‬ذلك ان الشر‬
‫عنده حالة للشيء وليس جوهرا فيه‪ .‬ليقر أن الشر فكرة ذاتية‪ .‬أما الخير األخالقي‬
‫كخير إرادي مرغوب فيه‪ .‬يرفض زوبيري بهذا المعنى فكرة الشر ألجل الشر ويرى‬
‫أنه اختالل وعيب في اإلنسان‪ .‬ليقول في األخير بشر تاريخي يتعدى الفرد ليصير‬
‫ورما خبيثا ينخر الجسم االجتماعي‪.‬‬
‫قراءة زوبيري رياضة فلسفية‪ ،‬وترجمته إلى العربية تحدٍّ لغوي يسائل ثوابت‬
‫لغتنا‪ .‬فإسبانيته مستباحة فلسفيا؛ يستحدث من خاللها زوبيري المعاني من دون‬
‫هواجس الوفاء للقواعد‪ ،‬وعربيتنا متمنعة إلى اآلن عن كل اغتصاب لغوي يبيحه‬
‫هاجس المعنى‪ .‬مع زوبيري نفكر فوق الحدود‪ ،‬فوق الفلسفة‪ ،‬فوق اللغة وفوق كل‬
‫خير أو شر‪.‬‬
‫‪241‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫مشكلة الخير والشر (‪)1‬‬


‫‪2‬‬
‫خافيير زوبيري‬
‫‪ 1‬ــ ما المقصود بمفهوم العالقة ‪respectividad‬؟‬
‫‪ 2‬ــ ما الحالة ‪condición‬؟‬
‫‪ 3‬ــ عمن يحدّ د الحالة ‪condición‬‬
‫الفصل‪ :2‬واقع الشر‬
‫‪ 1‬ــ الشر كواقع مجرد‬
‫الشر كمادة أو جوهر‬
‫أ ــ المانوية‬
‫ب ــ المجوسية‬
‫ج ــ االفالطونية المحدثة‬
‫‪ 2‬ــ الشر كحالة واقعية‬
‫‪ 3‬ــ أنواع الحاالت الشريرة للواقع‬
‫أ ــ فعل الشر ‪El maleficio‬‬
‫ب ــ الخبث ‪la malicia‬‬
‫ج ــ الخباثة ‪La malignidad‬‬
‫د ــ الخسة ‪La maldad‬‬
‫جدلية الخير والشر كما رأينا ليست جدلية قيم وال جدلية وقائع مجردة‪ .‬فالواقع‬
‫هو في ذاته وليس متعلقا بخير أو بشر‪ .‬لكن هذا ال يعني أن الواقع ال عالقة له بالخير‬

‫‪ .2‬ترمجة‪ :‬د‪ .‬كوثر فاتح‪.‬‬


‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪242‬‬
‫والشر‪ .‬فهذه الالصلة تتموقع على «خط الخير» أي على الحياد بين الخير والشر‪ .‬أما‬
‫الواقع المجرد فيوجد قبله‪ .‬هو ليس غير معني بمسألة الخير والشر‪ ،‬لكنه يتجاوز هذا‬
‫االختالف بينهما‪ .‬نحن نعتبر أن جدلية الخير والشر جدلية واقعية‪ ،‬على اعتبار الواقع‬
‫حالة واعتبار الخير والشر صفات هذه الحالة الواقعية‪.‬‬
‫من هذا المنطلق‪ ،‬أول ما ينبغي قوله هو أن التعارض بين الخير والشر ليس‬
‫مجرد عالقة تالزم‪ ،‬كما لو كان الخير شيئا إيجابيا والشر سلبيا‪.‬ألن اإليجابية‬
‫والسلبية هي مفاهيم اتفاقية تصرح بتعارض الخير والشر‪ .‬لكن القول بأن الخير‬
‫نقيض الشر غير كاف‪ .‬من زاوية قيمية‪ ،‬يمكن االعتراف بأن تعارض الخير والشر‬
‫هو مجرد تالزم‪ .‬لكن واقع األمر أعمق من ذلك بكثير كونه يتعلق بحالة الواقع‬
‫باألساس‪ .‬فإذا سلمنا بتالزم الوقائع فإن هذا ال يعني أن الخير نقيض الشر‪ ،‬أو‬
‫خالفه‪ .‬نحن نتكلم فقط عن الكلمات التي ينظر إليها الشر على أنها وظيفة الخير‪.‬‬
‫وبما أن كال المفهومين هما صفتان مختلفتان للواقع في ذاته‪ ،‬فمن األجدى أن‬
‫يتعلق سؤالنا بحالة الواقع‪ .‬ومن خالل اإلجابة عن هذا السؤال سوف نكون قد‬
‫أثرنا بدقة الطريقة التي يتجلى من خاللها كل من الخير والشر كوقائع‪.‬‬
‫لهذا الغرض‪ ،‬دعونا نالحظ أن الخير والشر ليسا بهذه البساطة في التعريف‪ ،‬فهما‬
‫خير أو شر بالنسبة لشخص ما‪ .‬هذا يعني أن كليهما نسبي‪ .‬وألن النسبية صفة تؤثر‬
‫على شيء في عالقته بشيء آخر فإن الخير والشر يقومان على الحكم البشري‪ ،‬وهما‬
‫بذلك يفتقران إلى كل موضوعية‪ .‬لكننا رأينا سابقا بأن الخير والشر هما باألساس‬
‫موضوعيان‪ ،‬وال مجال للحديث عن نسبيتهما‪ .‬فنحن عندما نقول أن شيئا ما هو خير‬
‫أو شر بالنسبة لشخص ما‪ ،‬إذ ذاك ال يتعلق األمر بالنسبية بل بالخصوصية‪ .‬نحن إذن‬
‫نعتزم التأكيد على أن هذه الصفة ليست خاصية الشيء في ذاته لكنها كذلك بالنسبة‬
‫لشخص ما‪.‬‬
‫وإذا ما أردنا االشتغال على مشكلة الخير و الشر بوصفها وقائع يجب علينا‬
‫أوال توضيح ماذا نقصد بالحالة‪ .‬لهذا الغرض سنقف بداية عند مفهومي العالقة‬
‫‪ respectividad‬والحالة ‪.condición‬‬
‫‪243‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫‪ 1‬ـ ما المقصود بمفهوم العالقة ‪respectividad‬؟ (‪)2‬‬


‫ليست الوقائع مستقلة عن بعضها البعض لكنها تتشكل داخل كلية يميزها جانبان‬
‫اثنان‪ .‬أولهما الجانب الوظيفي؛ حيث يؤثر بعضها في بعض فتتداخل وتترابط جميع‬
‫العمليات اإليجابية أو السلبية لكل واقعة مع االخرى‪ .‬وهذا يقودنا نحو الجانب‬
‫الثاني األعمق في هذه الكلية‪ .‬فهذا االرتباط الوظيفي أساسي في بنية كل واقعة‬
‫بوصفها وظيفية وأساسية ضمن البنية الكلية‪ .‬وعليه فإننا لسنا بصدد كلية وظيفية‬
‫بقدر ما هي بنيوية‪ .‬هذا ما أدعوه بالعالقة ‪ .respectividad‬وهذه العالقة ليست عالقة‬
‫بسيطة‪ ،‬ألن كل عالقة تفترض ما يلحقها‪ .‬وكل ‪ respectividad‬تفترض ارتباطا ما‪.‬‬
‫لذلك ليست هذه العالقة لحظة مضافة للواقعة‪ ،‬بل هي تتماهى معها وعلى ارتباط‬
‫بها أيضا‪.‬‬
‫إذا ما اعتبرنا كل واقعة ذاتية‪ ،‬خاصة وعلى عالقة ‪ ،respectividad‬فإنها بهذا‬
‫المعنى لحظة أساسية وجوهرية في العالم‪ .‬على هذا النحو فإن العالم هو عالقة‬
‫الواقع ‪ .la respectividad de lo real‬لكن ينبغي أن نميز هنا بين عالقة الوقائع‬
‫وخصائصها الواقعية‪ .‬تشكل العالقة ‪ respectividad‬تلك الكلية التي نسميها‬
‫الكون‪ .‬لكن من ناحية أخرى‪ ،‬هي ببساطة واقع‪ .‬وبهذا المعنى فقط تكون هذه‬
‫الكلية هي العالم‪ .‬هذا التمييز بين العالم والكون ضروري للميتافيزيقيا‪ .‬لكنه‬
‫ليس كذلك بالنسبة لمشكلتنا؛ لذلك فإن مشكلة الخير والشر التي نبحث فيها‬
‫ليست مشكلة العالم فقط بل مشكلة الكون‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬استخدم دائما كلمة‬
‫العالم كمرادف للكون‪ .‬فعالقة الوقائع تأخذ بعين االعتبار معا خصائصها الواقعية‬
‫وطابعها الواقعي‪.‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فإن مفهوم ‪ Respectividad‬يعني ببساطة أن الوقائع‪ ،‬ال تنطلق من كونها‬
‫واقعية أوال ثم تترابط مع بعضها‪ ،‬بل إن كل واحدة منها أساسية بالنسبة للبقية‪ .‬كما قلت‬
‫سابقا‪ ،‬الوقائع ال تنفصل عن الواقع بل تتماهى معه‪.‬‬
‫ضمن مفهوم العالقة هذا فقط يتشكل ما سميناه الحالة ‪ .condición‬فما هذه الحالة‬
‫إذن؟‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪244‬‬
‫‪ 2‬ـ ما الحالة ‪condición‬؟‬
‫يتعلق كل من الخير والشر كما أوضحنا سلفا بمعنى العالقة‪ .‬وبما أنهما يفترضان‬
‫حالة‪ ،‬فإنه يجب توضيح ما نقصده بالحالة انطالقا من بنية مفهوم ‪ respectividad‬أي‬
‫العالقة‪ .‬ذلك أن هذه العالقة الميتافيزيقية التأسيسية للعالم ضرورية للحديث عن حالة‬
‫خير أو شر‪ .‬لكن هذه العالقة على الرغم من كونها ضرورية‪ ،‬اال أنها غير كافية‪ .‬فإذا‬
‫كانت كل حالة هي عالقة فليست كل عالقة حالة‪ .‬العالقة إذن إمكانية ألية حالة دون‬
‫تمييز‪ .‬وعليه فنحن بحاجة إلى معرفة ما هو الواقع التأسيسي للحالة‪.‬‬
‫إذا كان الواقع في مجمله يفترض بنية العالقة فإن هذا يفتح الباب أمام إمكانية‬
‫وجود أنواع مختلفة من هذه العالقة‪ .‬دعونا نأخذ حالة الواقع البشري كمثال‪ .‬يعتبر‬
‫اإلنسان واقعا موضوعيا له خصائص جسدية خاصة به‪ .‬وعلى أساس هذه الخصائص‬
‫البيولوجية والنفسية‪ ،‬تتشكل عالقته بجميع الوقائع االخرى في العالم‪ .‬وفي الوقت‬
‫نفسه تنطوي هذه الوقائع في بنيتها على عالقة باإلنسان‪ .‬مفهوم العالقة إذن هو لحظة‬
‫جوهرية للواقع‪ ،‬هي ثنائية تجمع بين اإلنسان واألشياء األخرى التي هو على عالقة بها‪.‬‬
‫لكن لإلنسان خاصية تتعلق بنوع فريد من الذكاء‪ .‬إنها خاصية نفسية تشكلت بتوافق مع‬
‫جميع وقائع العالم األخرى‪.‬لكنها من ناحية اخرى‪ ،‬تتجاوز البعد النفسي لتؤثر في‬
‫الواقع نفسه وإن بشكل عرضي‪ .‬تأخذ شكل عالقة جوهرية باألشياء الواقعية وبالذكاء‬
‫نفسه‪ .‬إال أنها عالقة ذات اتجاه واحد ال ترتبط من خاللها الوقائع بالذكاء بل إن الذكاء‬
‫وحده هو الذي في حالة عالقة‪.‬‬
‫تأخذ األشياء التي يقدمها لنا الذكاء شكلين اثنين‪ .‬في بعض الحاالت يتعلق األمر‬
‫بأشياء «محدثة» فقط؛ فاألشياء الذكية العاقلة تحقق ما هي عليه في ذاتها على وفق‬
‫خصائصها الواقعية‪ .‬وهي بذلك أشياء في واقعها المجرد‪ .‬على سبيل المثال فلنأخذ‬
‫قطعة حديدية‪ ،‬قطعة خشبية‪ ،‬الشمس‪ ،‬األنهار‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬أو أشياء أخرى مثل‬
‫السكين‪ ،‬الباب‪ ،‬والكهف المأهول‪ ،‬إلخ‪ .‬هي موضوعات من أنواع مختلفة‪ .‬فبالنسبة‬
‫لقطعة الحديد أو الخشب فإن لها خصائص خاصة بها‪ ،‬في واقعها المجرد‪ ،‬تتدخل‬
‫من خاللها في أشياء اخرى‪ ،‬في حين أن السكين أو الباب ال تؤثر في أشياء أخرى‬
‫بوصفها سكينا أو بابا‪ ،‬لكن فقط باعتبارها حديدا أو خشبا‪ .‬وفي هذا النوع الثاني من‬
‫‪245‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫األشياء تتحدد عالقتها باإلنسان من خالل أفعال حيوية‪ .‬هذه األشياء إذن تفترض‬
‫اإلحساس لذا سنسميها‪ :‬أشياء ــ معنى «‪ sentido‬ــ ‪..»cosas‬خالفا للحديد والخشب‬
‫في واقعها المجرد فهي أشياء ــ واقع «‪ realidad‬ــ ‪ .»cosas‬لكنها كسكين أو باب هي‬
‫أشياء ــ معنى فقط‪ .‬كال النوعين من األشياء غير قابل الختزال بعضه في بعضه اآلخر‪.‬‬
‫فواقع الحديد أو الخشب غريب تماما عن السكين أو الباب؛ والكهف‪ ،‬تلك البنية‬
‫الجيولوجية تختلف تماما عن واقع المسكن‪ .‬لكن هذين النوعين من األشياء ليسا‬
‫مستقلين عن بعضهما‪ .‬أشياء ــ المعنى تتشكل بفضل خصائصها في الواقع المجرد‪.‬‬
‫فلو لم يكن للكهف شكله الذي هو عليه لما تحول مسكنا‪ .‬واألمر نفسه بالنسبة للحديد‬
‫أو الخشب‪ .‬لذلك فإن أشياء ــ المعنى هي سابقا أشياء ــ واقع‪ .‬فال أحد ينكر أن كل ما‬
‫يرتبط بالواقع يرتبط بالمعنى‪.‬‬
‫وصفت فينومينولوجيا كل من هوسرل وهايدجر جميع أشكال الوجود‪ ،‬باعتبارها‬
‫شيئا واضحا نراه أوال‪ ،‬على سبيل المثال األبواب والنوافذ والطاوالت والسكاكين‪،‬‬
‫إلخ‪ .‬لكن هذا غير صحيح‪ .‬باعتبار المعنى الدقيق لمفهوم «رؤية»‪ ،‬فما نراه أوال ليست‬
‫األبواب لكن أشياء من هذا الشكل أو ذاك اللون والحجم‪ ،‬وما إلى ذلك‪ .‬فنحن ال نرى‬
‫أبوابا لكن أشياء نعرف أنها أبواب‪ .‬إن إدراك األشياء في واقعها المجرد سابق على إدراك‬
‫أشياء ــ المعنى ليس على مستوى الزمن بل على مستوى عملية اإلدراك‪ .‬ذلك أن إدراك‬
‫الواقع المجرد ليس فائضا على إدراك شيء ــ المعنى لكنه لحظة أولية أساسية ومؤسسة‬
‫لهذا اإلدراك الالحق‪ .‬بمعنى آخر؛ الشيء ــ الواقع والشيء ــ المعنى هما متجانسان‬
‫لكنهما ليسا متكافئين أو مستقلين عن بعضهما‪ ،‬ذلك أن الثاني يحجب األول بشكل‬
‫جوهري ويتأسس من خالله‪ .‬يتضح إذن أن مشكلتنا ال تتعلق بالواقع المجرد الذي‬
‫يبتعد عن مسألة المعنى‪ ،‬لذلك دعونا نقف عند األشياء ــ المعنى ‪ sentido‬ــ ‪.cosas‬‬
‫ما الشيء ــ معنى؟ حقيقة الشيء ــ الواقع هي شيء ــ معنى من دون أن يعني هذا‬
‫تطابقهما‪ ،‬ومن دون أن يفيد أيضا أن شخصا ما جعل من شيء واقعي معنى لحياته‪.‬‬
‫لذلك يمكننا القول بشكل قطعي أن اإلنسان هو مؤسس المعنى‪ .‬على هذا النحو بدون‬
‫شخص لن يكون هناك باب أو مسكن‪ .‬لذلك فإن كل معنى هو معنى للشيء‪ .‬وهو‬
‫أساسي فيه‪ ،‬إنه منه‪ .‬ولعل هذا ما يبرر الخطأ الذي وقعت فيه الفلسفة الظاهراتية والذي‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪246‬‬
‫ألمحت إليه سابقا‪ .‬فالمعنى هو من الشيء الواقعي‪ .‬إنه ليس «عالقة» للشيء الواقعي‬
‫بالحياة‪ ،‬بل هو ما يربط الشيء بالحياة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن للشيء الواقعي معنى نظرا لطابعه الواقعي وللخصائص التي‬
‫يمتلكها؛ وإال ما أمكننا الحديث عن معنى‪ .‬لكني سرعان ما أالحظ أن ليس كل الواقع‬
‫لديه القدرة نفسها على أن يشكل معنى‪ .‬فال يمكنني مثال أن أصنع بابا من المياه‪،‬‬
‫أو سكينا من الزبدة‪ ،‬أو مسكنا في كهف صغير جدا‪ ،‬إلخ‪ .‬في سياق مشكلتنا (أنا ال‬
‫أتحدث عن سياقات أخرى)‪ ،‬هذا هو ما يشكل مفهوم الحالة ‪ .condición‬فالحالة إذن‬
‫هي قدرة الواقع على أن يشكل معنى‪ .‬بدون إنسان لن يكون هناك أي معنى‪ .‬ولن يكون‬
‫أيضا بدون حالة الواقع‪ .‬يتأسس الشيء ــ معنى بنا ًء على الشيء ــ الواقع‪ .‬وهذا األساس‬
‫هو مجرد حالة‪ .‬إنه نوع خاص من العالقة بالمعنى‪.‬‬
‫وعليه ما الشيء الذي قد يدخلني في حالة معنى‪ ،‬وبالتالي حالة ‪condición‬؟‬
‫هذه هي النقطة الثالثة التي يجب علينا فحصها‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ عمن يحدّد الحالة ‪condición‬‬


‫انطلقنا في تحليلنا السابق بشكل اعتباطي من اإلنسان أما اآلن فال بد أن نتساءل عن‬
‫مشروعية هذا المنطلق‪.‬‬
‫‪ 1‬ــ لكي تكون هنالك حالة ال بد أوال أن تكون هناك عالقة ضمن واقع مادي‪ .‬ذلك‬
‫أن كل وقائع العالم تتداخل فيما بينها بحكم طبيعتها المادية‪.‬فاللون و الصوت ليسا‬
‫وقائع مادية و ال حتى السكر أو الفسفور‪ .‬وعليه فإن العالقة التي ألمح لها هنا هي عالقة‬
‫خارجية لمواد مع بعضها وليست العالقة الداخلية المكونة للوحدة المادية نفسها‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ لكن هذا ال يكفي لتكون هناك حالة‪ .‬إذ ال تعمل المادة كمادة فقط‪ ،‬لكن أيضا‬
‫من أجل المادة‪ .‬خالفا لهذا‪ ،‬تتشكل الكائنات الحية من خالل استقاللها وتحكمها في‬
‫الوسط التي هي فيه‪ .‬وبقدر ما يتحقق هذا‪ ،‬فإن الكائن الحي ال يعمل فقط من أجل‬
‫المادة‪ ،‬لكن من أجل مادته هو‪ .‬في هذا التقابل‪ ،‬وضعت جانبا مسألة ما إذا كانت‬
‫الكائنات الحية‪ ،‬على الرغم من امتالكها وحدة أعلى من وحدة النجم‪ ،‬أو وحدة من‬
‫صنف آخر‪ ،‬هي ببساطة حقائق موضوعية‪.‬‬
‫‪247‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫‪ 3‬ــ هذا غير كاف لتوضيح ما نقصده بالحالة ‪ .condición‬إذا كان على الكائن الحي‬
‫أن يعمل من أجل المادة وضمن محدداتها فإن أفعاله تتشكل ضمن الواقع المادي‪.‬‬
‫ليكون تناول الواقع خاصية حصرية للذكاء‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن الكائن البشري هو الوحيد في‬
‫عالمنا الذي يتمتع بذكاء يجعله قادرا على بناء معنى وحالة‪ .‬إنه الكيان الواقعي الوحيد‬
‫القادر على إدراك أشياء ــ المعنى خالفا للحيوان الذي يدرك فقط أشياء ــ الداللة ‪cosas‬‬
‫)‪ signitivas (3‬ــ‪ .‬على سبيل المثال يلجأ القط إلى الفتحة الخاصة به في الباب؛ لكن‬
‫سلوكه هذا ليس سوى رد فعل دفاعي‪ ،‬وإن كان يحمل داللة إال أنه مختلف تماما عن‬
‫المعنى الذي يؤثر في الواقع‪ .‬الحيوان إذن ال يدرك إال المثيرات المباشرة أو الوسيطة‪.‬‬
‫فهو ال يدرك ذاته أو الموضوعات االخرى كوقائع‪.‬‬
‫لنقل إن الخير والشر في العالم يتشكالن ضمن بنية عالقة ‪ .respectividad‬كي‬
‫يكون هناك شيء ــ معنى‪ ،‬وبالتالي حالة‪ ،‬فمن الضروري وجود عالقة من أجل المادة‬
‫وفي نطاقها‪ .‬لذلك‪ ،‬من الضروري وجود عالقة مع اإلنسان‪.‬‬
‫من بين مختلف أفعال «تحقيق المعنى» «‪ »actualización en sentido‬التي‬
‫يستطيعها اإلنسان في عالقة بمختلف أنواع الحاالت التي يتجلى فيها الواقع‪،‬‬
‫هناك فعل واحد أساسي هو فعل التقدير ‪ acto de estimación‬الذي يرتبط بحالة‬
‫التقدير ‪ .condition de estimanda‬ليس كل معنى هو تقدير إذا‪ ،‬لكن كل تقدير‬
‫هو معنى (‪ .)4‬قدرة الواقع على إعطاء معنى للتقدير‪ ،‬هو ما أطلقنا عليه خط الخير‪.‬‬
‫وداخل هذا الخط‪ ،‬وضمن حدود قدرة الواقع على أن يتجلى كتقدير ‪،estimación‬‬
‫تتشكل مشكلة الخير والشر‪ .‬فالخير والشر في العالم مرتبطان باإلنسان ألن الحالة‬
‫تخصه وحده‪ .‬بالنسبة للحيوان ال وجود لخير أو شر بل قد توجد مثيرات ضارة‬
‫وأخرى نافعة‪ .‬فالوقائع تتجلى للحيوانات كمثيرات فقط‪ .‬وال يمكن الحديث عن‬
‫مثيرات خيرة أو شريرة‪ .‬بما أن الخير والشر هما صفتا الحالة الواقعية لألشياء‪،‬‬
‫فمن الضروري التأكيد بقوة على أن هناك أشياء تتشكل ضمن تقدير الخير أو الشر‪.‬‬
‫لتكون الحالة التي نحن بصددها قدرة واقعية‪ .‬وعليه فإن الخير والشر هما أيضا‬
‫وقائع‪.‬‬
‫نخلص إلى أن مشكلة الخير والشر هي إذا مشكلة وقائع‪.‬‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪248‬‬
‫الفصل ــ ‪ :2‬واقع الشر‬
‫إذا سلمنا بأن الشر واقع‪ ،‬يجب علينا اآلن أن نتساءل عن واقع هذا الشر‪.‬كل شيء‬
‫يعتمد ذكاء ما أسميناه الحالة‪ .‬وهو‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬شيء «من» الواقع دون أن يكون واقعا‪.‬‬
‫ما يعني أنه ال يمكن أن يكون الشر أو الخير لحظتين مما اعتبرناه «واقعا مجردا»‪.‬كل‬
‫هذا ليس أكثر من تحديد سلبي لواقع الشر؛ ال يسمح لنا بتعريفه‪ .‬ونفي الشر كواقع‬
‫مجرد يلزمنا بتوضيح ما نقصده بالشر كحالة‪.‬‬
‫ما الحالة الشريرة؟ قد تؤدي بنا اإلجابة عن هذا السؤال إلى فكرة غير سليمة‪.‬‬
‫فالحديث عن حالة شريرة هو مجرد فكرة عامة ال تفسر واقع الشر بدقة‪ .‬لنميز هنا بين‬
‫ثالث مراحل متتالية في الحاالت الشريرة‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ الشر كـ «واقع مجرد»‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ الشر كـ «حالة واقعية»‪.‬‬
‫‪« 3‬أنواع الحاالت الشريرة للواقع»‪.‬‬

‫‪ .1‬الشر كواقع مجرد‬


‫ألن الشر هو حالة «من» الواقع‪ ،‬فمن السهل أن نذهب للقول بأن الشر واقع‬
‫مجرد‪ .‬نتيجة لذلك سيظهر الشر كخاصية أو صفة لألشياء في الواقع المجرد‪ .‬لكننا‬
‫ال نقبل بهذه المقاربة لمفهوم الشر‪ .‬ذلك أن الشر ليس واقعا بل حالة واقعية‪ .‬الواقع‬
‫المجرد‪ ،‬كما سبق أن قلنا‪ ،‬هو باألساس مادة للعالقة‪ .‬لذلك نجد أنفسنا أمام فكرتين‬
‫مختلفين عن الشر كخاصية للواقع المجرد‪ .‬من جهة أولى وبالنظر إليه من زاوية‬
‫مادية فإن الشر مادة سيئة كما ذهبت لذلك الميتافيزيقا الكالسيكية‪ ،‬معتبرة إياه صفة‬
‫لبعض المواد أو األنواع الطبيعية الشريرة في ذاتها‪ .‬من جهة ثانية‪ ،‬وبالنظر للشر من‬
‫زاوية داخلية متعلقة بالبنية واألساس‪ ،‬ال يظهر الشر كمادة‪ ،‬لكن كصفة للمادة في‬
‫عالقتها بمواد اخرى‪ .‬وفي كلتا الحالتين ال يمكننا القول بأن الشر واقع مجرد‪ .‬دعونا‬
‫اآلن نتحقق من هذا‪.‬‬
‫‪249‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫أ‪ .‬الشر كمادة أو جوهر‬


‫سابقا‪ ،‬اعتقدنا بأن الشر صفة لألشياء في ذاتها وأن له طبيعة مناقضة للخير‪ ،‬والذي‬
‫هو خاصية لألشياء الخيرة في ذاتها‪ .‬ليكون كل من الخير والشر خصائص فيزيائية‬
‫للمادة‪ .‬هكذا نظر الفكر التقليدي للشر والخير ضمن جدلية للمادة باعتبارها خيرة أو‬
‫شريرة‪ .‬سنقف بداية عند أطروحات المانوية‪ ،‬المجوسية واألفالطونية المحدثة‪ ،‬قبل‬
‫أن نقدم لموقفنا منها‪.‬‬
‫‪ .1‬المانوية‬
‫لنقل أوال بأننا بصدد ثنوية مانوية ‪ .el maniqueísmo‬إذ يعتبر ماني بأن هناك مبدأين‪:‬‬
‫مبدأ الخير ومبدأ الشر‪ .‬هذان المبدآن لهما طبيعة «فيزيائية»‪ :‬وهما مبدآن للطبيعة‬
‫كطبيعة‪ .‬هذان المبدآن هما في حد ذاتهما مادتان كاملتان ‪.sustancias completas‬‬
‫لكنهما مادتان متناقضتان وإن كانتا متساويتين إال أن كل واحدة منهما مستقلة عن‬
‫األخرى‪ .‬هما غير مخلوقين وأزليان‪ .‬إنهما «أصل» كل الخير والشر في األشياء‪ .‬أصل‬
‫الخير هو اﷲ‪ ،‬وأصل الشر هو المادة‪ .‬لم يكن ماني فيلسوفا؛ لذلك فإن تصوره هذا‬
‫أقرب لألسطورة‪ .‬اﷲ نور؛ المادة هي الظالم‪ .‬دعونا نتذكر أن القدماء اعتقدوا بأن كال‬
‫من الظالم والضوء هي مواد على حد سواء‪ .‬هذان المبدآن هما في الواقع معزوالن‬
‫تماما‪ .‬وهذا الالاتصال بينهما له طابع خاص‪ .‬ولوال انفصالهما لكان العالم مزيجا‬
‫مرعبا من الخير والشر‪ .‬لكن‪ ،‬على الرغم من انفصالها إال أن هاتين المنطقتين تجمعهما‬
‫حدود مشتركة‪ .‬من خاللها‪ ،‬ينتشر الضوء شماال‪ ،‬والظالم أو المادة جنوبا‪ .‬لكل من‬
‫هاتين المنطقتين بنيتها الخاصة‪ .‬تتوزع منطقة الخير في خمسة «منازل ‪»moradas‬‬
‫يسكنها عدد ال يحصى من «العوالم ‪.»eones‬‬
‫منطقة الشر متماثلة مع منطقة الخير‪ ،‬تتوزع هي أيضا في خمسة «لجج ‪»abismos‬‬
‫متداخلة‪ ،‬يرأسها العديد من «األراكنة ‪)arcontes).«5‬‬
‫ولهذين األصلين طابع دينامي‪ .‬وهذه الدينامية هي ما يولد التاريخ الكوني للخير‬
‫والشر‪ .‬ما يجعل هذا التاريخ ممكنا هي تلك الحدود التي تجمعهما‪ .‬تحدد هذا التاريخ‬
‫ضمن أزمنة ثالثة‪ .‬الزمن األول هو زمن «الفصل» بين هذين األصلين‪ ،‬إذ احتفظ كل‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪250‬‬
‫واحد منهما بمنطقته الخاصة‪ .‬في الزمن الثاني‪ ،‬يدرك الشر مدى إشراق الخير ويجتاح‬
‫منطقته‪ .‬الشر إذن هو مبدأ الرغبة في االستيالء على الخير‪ .‬سيحاول الخير الدفاع عن‬
‫نفسه ضد عدوان الشر من خالل «العناصر ‪ »enviados‬المضيئة‪ .‬لكن المادة ستبتلع‬
‫هذا الضوء‪ .‬ومن هناك نشأ «الخليط» الوحشي من المادة والضوء على مراحل‪ .‬هكذا‬
‫تشكل اإلنسان ككائن لديه طبيعة جوهرية تجمع بين الشر والخير‪ .‬لذلك فهو واقع‬
‫متناقض تثيره الرغبة في االستيالء على الضوء واجتياحه‪.‬كل حركاته ورغباته الجسدية‬
‫هي شريرة باألساس‪ .‬تستمر األسطورة على مراحل باتجاه فريد يجعل من الحياة‬
‫والتاريخ العملية الكونية إلعادة فصل ما امتزج‪ .‬يتعلق األمر بفكرة «الخالص»‪ ،‬التي‬
‫تم تصويرها على أنها عودة إلى االنفصال‪ .‬األزمنة الثالثة والمتمثلة في االنفصال‬
‫واالختالط والخالص‪ ،‬هي اللحظات الثالث في تاريخ العالم والتي يحركها مبدآن‬
‫جوهريان‪.‬‬
‫المانوية في األساس غنوصية‪ .‬الغنوصية كفكر قديم سابق على المانوية بقرون‬
‫عديدة تتخذ اتجاهات متعددة‪ .‬لذلك تأثر ماني بالغنوصي بارديسان ‪ .Bardesane‬ونهل‬
‫أيضا من األصول المسيحية والبوذية واإليرانية‪ .‬هكذا فإن يسوع وبوذا وزرادشت هي‬
‫ثالث لحظات أساسية في المانوية‪.‬‬
‫المانوية هي في األصل أسطورة‪ .‬لكنها أسطورة ذات أبعاد أخالقية ودينية‪ .‬وهذا‬
‫ما يفسر انتشارها الواسع والسريع في جميع أنحاء أوروبا وآسيا وأفريقيا‪ .‬كان القديس‬
‫أوغسطينوس مانويا طيلة عشر سنين‪ ،‬ليظهر بوضوح بأن جوهر الدين ليس الشعور‬
‫الديني‪ ،‬لكن شيء آخر أعمق‪ .‬مع أسطورة ماني ندرك بأن الخير والشر هما مادتان‬
‫وسببان‪.‬‬
‫‪ .2‬المجوسية‬
‫قبل قرون من ماني‪ ،‬في إيران ظهر شكل مختلف من الثنوية‪ :‬إنها المجوسية‪،‬‬
‫وهي عقيدة ايران الساسانية التي تمتد جذورها إلى زرادشت‪ .‬يجب أن ننتبه‬
‫لعدم الخلط بينها وبين نبوءات زرادشت‪ ،‬الذي سنتحدث عنه الحقا‪ .‬المبدآن‬
‫المتناقضان هما‪ :‬مبدأ أهورا َمزدا‪ ،‬ومبدأ الشر أهريمان‪ .‬وهما مبدآن ال ماديان‪.‬‬
‫‪251‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫األول‪ ،‬ذو طبيعة مضيئة؛ والثاني‪ ،‬ذو طبيعة مظلمة‪ .‬يفصل هذين المبدأين‬
‫الفضاء أو الفراغ (‪ .)Vayu‬أهورامزدا يمتد صعودا‪ ،‬في حين يذهب اهرمان‬
‫باتجاه األسفل‪ .‬هذان المبدآن الجوهريان متجانسان لكنهما ليسا متكافئين‬
‫تماما‪ .‬في الواقع‪ ،‬فإن قوة أهورامزدا محدودة بقوة آهرمان‪ ،‬لكن ذلك لن يستمر‬
‫لفترة طويلة كما سنوضح الحقا‪ .‬فقوة الشر ليست محدودة فحسب‪ ،‬بل أقل‬
‫شأنا من قوة الخير‪ ،‬لذلك ستتعرض للهزيمة‪ .‬في كتاب اآلفستا قيل ان هذين‬
‫المبدأين توأمان‪ .‬هما طفال من؟ ال نعلم‪ .‬في رواية يعتقد بأنهما ابنا الزمن‪ .‬ذلك‬
‫مجرد تخمين يربط هذه الرواية بتيار ‪ zurvanismo‬السابق لزاردشت‪ .‬زورفان‬
‫هو بشكل عام «الوقت الالنهائي»‪ .‬أهورامزدا وآهرمان المتضادان يدعيان معا‬
‫العمل تحت إمرته وهو من وزع قوته بين ولديه‪ .‬سيستمر الصراع بين الخير‬
‫والشر لمدة تسعة آالف عام‪ ،‬على ثالث مراحل تمتد كل واحدة منها لثالثة آالف‬
‫سنة‪ .‬هي تتوافق مع مراحل الحياة الثالثة‪ :‬الشباب‪ ،‬النضج والشيخوخة‪ .‬لهذه‬
‫األزمنة طويلة األمد بنيتها الخاصة‪ .‬استخدم اإليرانيون على نطاق واسع طريقة‬
‫التفكير هذه‪ ،‬والتي بموجبها يتم تصور صفات الكيانات العليا على أنها أقانيم‪.‬‬
‫وهي صفات ثالث ‪( Asoqar‬ما يجعل فحال)‪( Frasoqar ،‬الذي يجعل رائعا)‪،‬‬
‫و ‪(zarokar‬ما يجعل قديما)‪.‬‬
‫في المرحلة األولى ينشط أهورامزدا فقط‪ .‬خالل هذا الوقت‪ ،‬ولتفادي هجوم‬
‫آهرمان‪ ،‬يبدأ أهورامزدا عملية الخلق في الفضاء الذي يفصله عن أخيه‪ .‬يقوم هذا‬
‫جيني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخلق على مبدأ «‪ »menok‬الذي يصعب تأويله‪ ،‬ما معناه كامل وغير متحرك‪ ،‬أو‬
‫لتتشكل بعدها المادة «‪ .»getik‬خالفا للمانوية إذا فإن المادة في المجوسية هي في‬
‫األصل خيرة‪ .‬بعد ثالثة آالف سنة‪ ،‬سيعتدي آهرمان على خلق أهورامزدا من خالل‬
‫مخلوقات شريرة (الزواحف والكواكب‪ ،‬الخ)‪ .‬من بين مخلوقاته اإلنسان الذي هو‬
‫في األصل غير ٍ‬
‫فان‪ .‬وبإيعاز من آهرمان سيختار اإلنسان الشر ويصبح فانيا‪ ،‬وهذا أصل‬
‫طبيعته المزدوجة‪ .‬ليس اإلنسان إذن «خليطا»من مادتين‪ ،‬كما هو الحال في المانوية‪،‬‬
‫بل هو «صراع» بين روحين‪ ،‬واختيار طوعي بين قوتين‪ .‬صفتا الخير أو الشر في اإلنسان‬
‫هي إذن اختيار‪ .‬تشير نصوص ‪ pehlevis‬بدقة إلى هذه الحالة التي يشترك فيها أهورامزدا‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪252‬‬
‫وآهرمان في الخلق‪ .‬في األلفية الثالثة‪ ،‬سينتصر أهورامزدا وتتراجع قوة آهرمان بشكل‬
‫يقر بأن الخير والشر‬
‫نهائي‪ .‬هذه المقاربة تتجاوز بكثير الطرح المانوي‪ ،‬الذي وإن كان ّ‬
‫هما مادتان وسببان اال أنهما ال ماديين بل روحيين‪ .‬وعلى الرغم من كونهما متناقضين‪،‬‬
‫فهما ليسا متكافئين ذلك أن الشر أقل شأنا من الخير‪.‬‬
‫‪ .3‬األفالطونية المحدثة‬
‫أجمع التصوران الثنويان السالفان على فكرة أن الخير والشر مادتان‪ ،‬خالفا‬
‫للفلسفة اليونانية التي تذهب أحيانا إلى اعتبار الشر مبدأ ماديا‪ .‬نستحضر في هذا‬
‫الصدد أفالطون‪ ،‬فيلون السكندري وأفلوطين‪ .‬يذهب أصحاب هذا االتجاه إلى‬
‫اعتبار ان الواحد المطلق هو الذي تصدر عنه األجسام والموجودات عن طريق‬
‫الفيض‪ .‬هذا الواحد المطلق هو الخير في ذاته‪ .‬إنه بؤرة النور‪ .‬عن طريق الفيض‪،‬‬
‫ينتشر هذا النور من خالل أشعة تتباين وتضعف حتى تصل نقطة ال يعود بإمكانها‬
‫اإلضاءة‪ .‬لذلك فإذا كان النور هو الوجود‪ ،‬فإن هذا الحد المظلم هو الالوجود وهو‬
‫المادة‪ .‬ليكون الشر واقعا في ذاته‪ .‬لكنه ليس واقعا مجردا‪ .‬هو فقط ال ــ وجود للخير‬
‫في األشياء‪ .‬نفهم من هذا أن المادة أي الشر نفي للوجود‪ .‬إال أنه غير واضح أو‬
‫معطى محدّ د ال مادي وآخر مادي‬ ‫ً‬ ‫محدد‪ .‬وعليه فإن األشياء باعتبارها مزيجا من‬
‫وغير محدّ د هي شكل ُم َش َّو ٌه ‪ formes‬ــ ‪ .de‬فإذا كان الخير يجملها‪ ،‬فإن الشر‬
‫يحولها بشعة ومشوهة‪ .‬يمكننا أن نقول بأن الشر باعتباره الال ــ وجود هو تشويه‬
‫وبشاعة‪ .‬األشياء المادية ليست الشر في ذاته‪ ،‬بل هي فقط شريرة كونها خليطا من‬
‫الوجود والال ــ وجود‪ .‬الشر ليس إذن خاصية للمادة أو صفة فيها‪ .‬هو مبدأ مادي‪.‬‬
‫أشرارا بل بنيتنا الميتافيزيقية تتضمن‬
‫ً‬ ‫هذا الوضع ينطبق أيضا على البشر‪ .‬نحن لسنا‬
‫ً‬
‫إجمال‪ ،‬الشر نفسه هو‬ ‫الشر ومادته‪ .‬نحن مسكونون بالشر الذي يتجلى في أفعالنا‬
‫المادة والالوجود‪ .‬هو نفي للخير من الوجود‪ .‬هو مستقل عنه من دون أن يكون أدنى‬
‫منه‪ .‬إنه مبدأ أساسي في األشياء وليس جوهرا‪ .‬هو تشويه‪ ،‬عيب وبشاعة‪ .‬الشر بهذا‬
‫المعنى نفي للخير وللوجود‪.‬‬
‫إذا كانت أطروحة الشر هذه قد اكتملت مع أفلوطين فإن جذورها تمتد في كل‬
‫الفكر والروح اليونانية‪ .‬لقد اعتبر اليونان الشر نقصانا والاكتماال‪ ،‬والخير كماال‪.‬‬
‫‪253‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫لذلك عجزوا عن التمييز بين الجميل والخير؛ عندما أرادوا التعبير عن الميزة العليا‬
‫في اإلنسان أطلقوا عليها ‪ ΚαΞοΚάυαΒία‬وهو لفظ تصعب ترجمته‪ .‬هو تلك الوحدة‬
‫الداخلية للجمال والخير ككمال للشكل‪ .‬الشكل في ذاته‪ ،‬هو الصورة ‪ eidos‬أي‬
‫«فكرة» بتعبير أفالطوني‪ .‬إنها تحمل في ذاتها وجودها المجرد‪ ،‬كمالها وخيرها‪ .‬المادة‬
‫في نهاية المطاف إ ًذا مبدأ للنقص والعيب‪.‬‬
‫نختم بالقول إن الشر باعتباره مادة كما في المانوية أو المجوسية‪ ،‬أو مبدأ جوهريا‬
‫في األفالطونية المحدثة‪ ،‬إنما يظهر كلحظة من الواقع المادي‪ .‬لكننا ال نقبل هذا الطرح‬
‫ونعتبره غير ممكن‪ .‬إذ ال يمكن القول بالطبيعة المادية للشر بالتوافق مع طبيعة مادية‬
‫للخير‪ .‬وذلك لعدة أسباب‪:‬‬
‫أ) أوال‪ ،‬ال يتوافق الخير والشر‪ .‬بالتأكيد‪ ،‬هناك اختالفات عميقة بين المانوية والمجوسية‪.‬‬
‫بالنسبة إلى المانوية‪ ،‬فإن المادة شريرة إلى حد كبير‪ ،‬أما في المجوسية‪ ،‬فإن المادة ليست‬
‫شريرة في ذاتها‪ .‬المادة التي خلقها أهورامزدا خيرة‪ ،‬خالفا لمادة آهرمان الشريرة‪ .‬لكن ًّ‬
‫كل‬
‫من المانوية والمجوسية تتفقان على القول بتفوق الخير على الشر‪ .‬في المانوية يتحرر النور‬
‫من الظالم؛ في المجوسية سينتهي آهرمان عاجزا‪ .‬أي أن قوة الخير تتفوق على الشر‪ .‬وهذا‬
‫ينفي كل توافق بينهما أو حتى تقابل‪ .‬فإذا كان صراع الخير والشر قد بدأ كاعتداء من قبل‬
‫الشر فان هذا ال يعني أن الخير نقيض الشر‪ .‬ال يتوافق الخير والشر وال يتعارضان‪.‬‬
‫ب) ثانيا‪ ،‬ليس الشر مادة‪ .‬تتلخص األطروحة الثنوية في التأكيد على أن الشر واقع‬
‫يحتاج لعلة‪ .‬وهذه العلة ال يمكن أن تكون الخير‪ .‬وليس الشر واقعا‪ .‬إذ ال يمكن أن‬
‫يكون الشر خاصية واقعية بل حالة واقعية لألشياء‪ .‬ال تحيل الحالة على الخاصية‪.‬‬
‫فقطعة الخشب في الباب ليس لديها خصائص واقعية أكثر من الخشب نفسه‪ .‬الشر‬
‫واقع‪ ،‬لكنه ليس خاصية واقعية بل حالة واقعية‪ .‬وبالتالي‪ ،‬ال يتعلق الشر بعلة مادية‪.‬‬
‫ج) هناك مبرر آخر أعمق لرفضنا هذا الطرح يتعلق بالشر والخير معا‪ .‬فهما ليسا مادة‬
‫أو علة للواقع المجرد‪ .‬فال عالقة للواقع المجرد بحالتي الخير أو الشر‪ .‬فإذا لم تكن‬
‫العلة اإللهية الخالقة لألشياء إرادة ذكية وحرة‪ ،‬بل فقط علة فاعلة للواقع المخلوق‪ ،‬فلن‬
‫يكون للواقع صفة الخير‪ .‬الشر والخير كالهما حالة للواقع فقط‪ .‬وهما ليسا لحظتين في‬
‫الواقع المجرد‪.‬‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪254‬‬
‫في سياق آخر‪ ،‬ليس الشر مادة أو حتى مبدأ ماديا كما اعتقد أفلوطين‪ .‬يرتبط الشر‬
‫عند أفلوطين بثالثة مفاهيم‪ :‬العيب‪ ،‬النقص والالوجود‪ .‬هذه المفاهيم الثالثة ليست‬
‫متكافئة‪ .‬لكن أفلوطين يغفل عن التمييز بينها‪ ،‬وينتقل بينها بحرية‪ .‬لنوضح ذلك‪:‬‬
‫(أ) إذا كان الشر عيبا‪ ،‬فليس كل عيب هو شر‪ .‬هو تشويه لشكل جيد وهذا يفترض‬
‫أن هناك شيئا جيدا من قبل‪ .‬لذلك فإن هذا التشويه ال يعني مسألة الشر‪.‬‬
‫(ب) إذا سلمنا بأن الشكل نفسه جيد وكامل‪ ،‬بالتالي فإن هذا الشكل سيكون‬
‫جيدا ألنه كامل‪ .‬اما الشر فسيكون «النقص»‪ ،‬وهذا يختلف بشكل ملحوظ عن‬
‫«التشويه»‪ .‬لكن ما المقصود بالكمال؟ إنه تعبير غامض‪ .‬يعني الكمال من جهة‬
‫أولى الشيء «المنتهي ‪ .»acabado‬الكمال هو صفة الواقع المجرد المادي‪ .‬من جهة‬
‫اخرى‪ ،‬يعني الكمال االكتمال المثالي لشيء ما‪ .‬الكمال ليس مطابقا للشكل‪ ،‬لكن‬
‫الشكل لن يكون كامال إال إذا كان يتطابق مع الكمال المثالي‪ .‬آنذاك فقط سيكون‬
‫الشكل «جيدا»‪ .‬أفلوطين‪ ،‬كغيره من المفكرين اإلغريق‪ ،‬يتداخل لديه معنيا الكمال‬
‫هذان‪ ،‬فإذا كان كل خير هو شكل فليس كل شكل هو خير‪ .‬وليس الخير مبدأ فيزيائيا‬
‫للواقع المجرد‪ .‬في السياق نفسه ليس كل نقص أو عدم اكتمال شرا‪ .‬هذا يعني أن‬
‫فهمنا للشر ال ينطلق من النقص‪ .‬وال يتعلق الكمال أو النقص‪ ،‬كلحظات مادية للواقع‬
‫المجرد بمشكلة الخير والشر‪.‬‬
‫ج) دعونا نسلم مرة اخرى بأن كل شكل هو الكمال المثالي‪ ،‬وأن كل وجود هو‬
‫خير‪ .‬وعليه لن يكون الشر نقصا بل نفيا للوجود‪ .‬وستكون المادة كمبدأ جوهري‬
‫متميزة عن الشكل‪ ،‬لتصبح مبدأ الالوجود‪ ،‬وتصير شريرة في ذاتها‪ .‬يتهاوى هذا‬
‫الطرح سواء فيما يتعلق بالمادة أو الشكل‪ .‬تطابق الوجود والخير ال ينطلق من‬
‫كونهما صورا ‪ eidos‬أو شكال‪ ،‬لكن من كون كل واحدة منهما‪ .‬لكن ما «الفكرة»؟ إذا‬
‫كنا نعني بالفكرة ذلك الفهم الذهني للواقع كما هو في حد ذاته‪ ،‬فال وجود لمطابقة‬
‫بين الوجود والخير‪ ،‬ذلك أن الواقع يجمع بين الخير والشر‪ .‬وهذا يحصر مفهوم‬
‫الفكرة بما هو خير فقط‪ .‬ويكون اإلنسان فكرة خيرة فقط‪ .‬يتناول هذا الموقف‬
‫الوجود كـ«فكرة» من جانب الخير فقط‪ .‬لكن ال يقاس الوجود من زاوية الفكرة بل‬
‫إن الفكرة هي التي تتحدّ د من جهة الوجود‪ .‬وال يمكن بهذه البساطة ان يكون الخير‬
‫‪255‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫هو الوجود‪ .‬فالالوجود ليس شرا‪ .‬النفي فقط هو ما يمكن أن نسميه «فكرة»‪ .‬ليس‬
‫الشكل مكونا في الوجود إذا خيرا أو شريرا‪ .‬وهذا التحديد من الوجود والخير ليس‬
‫صائبا من منظور مادي‪ .‬ليست المادة باعتبارها لحظة من الواقع المجرد «ال وجودا»‬
‫بل «هي» مادة الوجود؛ أي أنها لحظة إيجابية في بنية الواقع المجرد‪ .‬وعلى هذا‬
‫النحو فهي ليست «الالوجود» أو الشر‪.‬‬
‫خالصة القول «كمال الشكل» «الكمال» و«الوجود» ليست هي الخير؛ وليس الشر‬
‫هو «العيب»‪« ،‬النقص»‪ ،‬أو «الالوجود»‪ .‬كما ال يمكن الحديث عن أشكال خيرة أو‬
‫شريرة‪ .‬ال يرتبط الواقع المجرد بمشكلة الخير والشر‪ .‬نحن بصدد حاالت للواقع فقط‪.‬‬
‫لنقل في النهاية إن كال من الخير والشر ليسا واقعا مجردا‪ ،‬مادة وال مبدأ ماديا‪ .‬لكن‬
‫المادة هي باألساس ضمن بنية العالقة‪ .‬قد ال توجد مادة خيرة أو شريرة في ذاتها‪،‬‬
‫لكن ربما ما نسميه الخير والشر كلحظتين من الواقع المجرد تتأسسان ضمن بنية‬
‫‪ .respectividad‬وهذا ما سنعالجه في ما يلي‪:‬‬
‫‪ .2‬الشر كـ «حالة واقعية»‬
‫استنادا لما أسلفت فإن األشياء كلها في عالقة مع العالم‪ .‬وإن لم تكن كل عالقة‬
‫حالة‪ .‬لكن كل حالة هي نوع من الحالة‪ .‬العالقة هي إمكانية الحالة‪ .‬وحالة األشياء‬
‫خيرة كانت أو شريرة إنما تتعلق بشخص ما‪ .‬أما القول عن حالة ما إنها خيرة أو شريرة‬
‫فقط فذلك ال معنى له‪ .‬لقد رأينا أن الحيوان تستثيره مثيرات دالة فورية ومباشرة‬
‫من دون أن يحيل ذلك باألساس على شيء ــ معنى ‪ sentido‬ــ ‪ .cosa‬وهما بعدان‬
‫مختلفان تماما للمشكلة‪ ،‬فاألول يرتبط باإلشارة والثاني بالمعنى‪ .‬ذلك أن المثيرات‬
‫الدالة ال تحمل معنى‪ ،‬ألنها ال تؤثر على الواقع كواقع‪ ،‬فال يستطيع القط مثال إدراك‬
‫األشياء أو ذاته كواقع‪ .‬من أجل أن تكون هناك حالة أو شيء ــ بمعنى من الضروري‬
‫وجود كيان مادي يعمل من أجل المادة ومن خاللها‪ ،‬وهذا الكيان ما هو إال اإلنسان‪.‬‬
‫نتساءل كيف يمكن اعتبار الخير والشر كحالة‪ .‬بداية ال بد أن نشير إلى أنه إذا كان كل‬
‫خير أو شر حالة فإن الحالة ليست بالضرورة خيرة أو شريرة‪ .‬فالسكين مثال ال ينطبق‬
‫عليها هذا ألنه ليس واقعا مجردا؛ هو شيء ــ معنى‪ .‬ال يمكنه أن يكون خيرا أو شريرا‪.‬‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪256‬‬
‫دعونا نقول إنه‪ ،‬بطريقة ما غير معني بفكرة الخير والشر‪ .‬خالفا لإلنسان كواقع وحيد‬
‫في العالم قادر على إدراك األشياء بوصفها حالة خيرة أو شريرة‪ .‬وهذا يصدق على‬
‫واقعه الخاص أيضا الذي يتضمن كال من المعنى و الحالة‪ .‬اإلنسان باعتباره واقعا‪،‬‬
‫هو في اآلن نفسه شيء ــ واقع وشيء ــ معنى في ذاته‪ .‬هذا يعني أن المادة هي حالة‬
‫بالنسبة لإلنسان‪ .‬بما أن هذه الحالة هي الحد األخير في واقعه المادي المجرد‪ ،‬فهذا‬
‫يعني باختصار‪ ،‬أن هذه الحالة المادية هي ما نسميه بالمعنى الدقيق للكلمة الخير‪.‬‬
‫فخير اإلنسان هو اكتمال شكله المادي‪.‬‬
‫هذا ال يعني أن كل ما يعتزم اإلنسان القيام به أو فعله هو ضروري‪ .‬هذه أنانية‬
‫ميتافيزيقية ‪ .egoísmo metafísico‬ما أقوله هو أن كل شيء مرغوب بطريقة ما‪ .‬ألنني‬
‫أرغب فيه فهذا يعني أنه مرغوب في ذاته‪ .‬عبر هذا الوسيط اإلنساني يحدث ما نسميه‬
‫خيرا‪ .‬لذلك يطرح الخير مشكلة أخالقية‪ .‬إذ يجب أن تحدد األخالق بدقة ما يمكن‬
‫اعتباره حالة خير بالنسبة لإلنسان‪ .‬تلك هي المشكلة المركزية في فلسفة األخالق‪.‬‬
‫هذه المسالة ليست المقصودة في مقاربتنا هذه لمشكلة الخير والشر لذلك لن نفصل‬
‫فيها‪ ،‬ما يهمنا هو أن نقول أن ما تعتبره فلسفة األخالق اكتماال للمادة اإلنسانية‬
‫هو ما نسميه نحن حالة الخير‪ .‬حالة الخير لإلنسان‪ ،‬خيره المباشر والقريب‪ ،‬هو‬
‫اكتمال جوهره‪ .‬وعليه فإن تطابق الشيء ــ المعنى أو الحالة مع حالة الخير هو خير‬
‫الشيء‪ .‬وتعارضها مع حالة االكتمال هذه هو الشر بالنسبة لألشياء‪ .‬الخير أو الشر‬
‫بالنسبة لألشياء سيتحدد من خالل مطابقتها من عدمها مع ما هو خير بالنسبة لإلنسان‬
‫باعتباره حالة في ذاته‪.‬‬
‫أوغسطينوس‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ دعونا نؤكد مرة أخرى أن الحالة هي خاصية الواقع كأساس للمعنى‪ .‬لذلك فإن‬
‫الخير والشر هي صفات الواقع من حيث كونه حالة‪ .‬هي ليست قيمة وال مجرد عالقة‪،‬‬
‫لكن الحالة التي تؤثر على األشياء في عالقتها بالمادة اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ المادة البشرية التي نقصدها هنا ال تتطابق مع ما نسميه اإلنسان‪ .‬وفقا ألطروحة‬
‫كانط فال وجود لخير أو شر إال في عالقته بشخص ما‪ ،‬أي بإرادة خالصة‪ ،‬وهذا غير‬
‫ممكن‪ .‬بصرف النظر عن موقف كانط من مفهوم الشخص‪ ،‬فإن كال من الخير والشر‬
‫‪257‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫بنا ًء على هذه األطروحة يصبح متعلقا بشخص‪ .‬وتلك قضية اخرى‪ .‬كي يكون الخير أو‬
‫الشر خاصا بشخص ما‪ ،‬عليهما أن يكونا أوال خيرا أو شرا بشكل سابق على اإلنسان‪.‬‬
‫ما يضيفه الشخص إلى واقع اإلنسان‪ ،‬هو ببساطة تحققه كوجود‪ .‬لكن الخير والشر‬
‫يرتبطان باإلنسان في ذاته‪ ،‬وليس بالشخص‪ .‬ما يضيفه الشخص هو تملك الخير‬
‫والشر‪ ،‬دون أن يشكل ذلك الخير أو الشر نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ تجب اإلشارة إلى أن التطابق واالختالف اللذين أتحدث عنهما هنا ليس مجرد‬
‫تطابق)‪.adecuación (6‬‬
‫دعونا نذكر تعريف الحقيقة باعتبارها تطابق الفكر مع األشياء‪ .‬ال يتعلق األمر‬
‫بتطابق شكلي أو ساكن‪ .‬بل هو تطابق لألشياء باعتبارها تحمل معنى الخير في‬
‫عالقتها بالجوهر اإلنساني كحالة‪ .‬هنا بدل الحديث عن السببية أفضل استخدام‬
‫مفهوم التعزيز‪ .‬أقصد أن حالة األشياء باعتبارها تعزز الخير في الجوهر اإلنساني‬
‫وتدعمه‪ ،‬هو ما يجعلها خيرة‪ .‬والشريرة هي تلك التي ال ترتقي بمعنى الخير‬
‫هذا وتختلف عنه‪ .‬هذا االختالف هو ما يعنينا في مشكلة الخير والشر هو ليس‬
‫مجرد اختالف عالقة أو تالزم‪ ،‬بل هو اختالف في المعنى‪ .‬ليحضرنا هنا التعريف‬
‫الكالسيكي للقديس أوغسطين‪ :‬الشر هو دائما حرمان من الخير‪ .‬إنه ليس تشويها‬
‫أو التطابقا بل تعزيزا لالتطابق‪ .‬يفترض الالتطابق قبال حالة تطابق‪ ،‬وفي هذه‬
‫الحالة يصير الشر لحظة حرمان‪ .‬الحرمان ليس مجرد نقص‪ .‬هنا نستحضر ما‬
‫اخطأت فيه أطروحة ليبنتز‪ .‬فحيوان الخلد مثال ال يرى‪ ،‬لكنه ليس أعمى‪ .‬لكن إزاء‬
‫ذلك فإن كثيرا من الحيوانات والبشر قد تصاب بالعمى وهذا هو ما يمكن أن نسميه‬
‫حرمانا‪ .‬لماذا؟ ألن الحرمان ليس مجرد نقص بسيط‪ ،‬لكن هو عدم وجود شيء‬
‫يمكن وينبغي أن يوجد‪ .‬هذا يجعلنا نقر بأن الخير والشر ليسا مترابطين‪ .‬الشر هو‬
‫الحرمان من الخير‪ ،‬لكن الخير ليس حرمانا من الشر‪ .‬يفترض الشر سابقا للخير‪،‬‬
‫لكن الخير ال يفترض الشر‪ .‬الشر ليس شيئا وال سببا‪ .‬الشر ليس شيئا كما اعتقدت‬
‫المانوية‪ ،‬والمجوسية أو ثنويات اإلغريق‪ .‬إنه ليس شيئا بل عيب في الشيء‪ .‬وهو‬
‫ليس سببا ألنه ليس المسؤول عن األشياء الشريرة بل اإلنسان‪ .‬فالشخص الذي‬
‫لديه عيب جسدي جعل منه أعرج‪ ،‬ال يعني هذا أنه يفعل أشياء شريرة‪ .‬هو وإن كان‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪258‬‬
‫يمشي‪ ،‬فانه ال يمشي بشكل سليم‪ .‬ليس الشر شيئا أو سببا‪ ،‬إنه حرمان مجرد‪ .‬هكذا‬
‫يمكننا القول مع القديس أوغسطين‪ ،‬أن سبب الشر ليس فعاال لكنه عاطل‪ .‬نحن إذا‬
‫بصدد تصور عميق للشر‪ ،‬لكنه شكلي صرف‪ .‬فما خصائص الشر؟ وهل هو مجرد‬
‫حرمان فقط؟‬
‫‪« .3‬أنواع» الحاالت الشريرة للواقع‬
‫سنقف هنا عند بعض من المقاربات الميتافيزيقية للشر ولالتطابق‪ .‬هي ليست قضية‬
‫للتأمل فقط‪ ،‬بل تستدعي االشتغال على بنية الواقع ذاتها‪ .‬سنتناول من خاللها الشر عبر‬
‫أربع تمظهرات ‪:‬‬
‫أ‪ .‬فعل الشر )‪El maleficio (7‬‬
‫دعونا قبل أن نسترسل نذكر بأنه ال يمكن الحديث عن حالة خيرة أو شريرة إال في‬
‫عالقتها بشيء مادي‪ .‬بداية إن اإلنسان كوجود مادي فيزيائي له خصائص بيولوجية‬
‫عضوية ووظيفية‪ ،‬وأخرى نفسية وملكات مثل العقل‪ ،‬اإلرادة‪ .‬له ميوالت وطبع منذ‬
‫الوالدة‪ .‬كل هذا يشكل بنية المادة البشرية كشيء‪ .‬بالتأكيد إن سالمة هذه البنية المركبة‬
‫أساسي لإلنسان‪ .‬هذا سيساعدنا على فهم النوع األول من الشرور‪.‬‬
‫ألن الجوهر البشري هو وجود ــ مع‪ ،‬فإنه ال يتحقق إال في عالقته باألشياء‬
‫االخرى ضمن عالقة تأثير متبادل وهذا هو ما يشكل جوهره‪ .‬وهذا التفاعل هو‬
‫على نمط ‪ ،factio factum‬أي قدرة على الفعل‪ .‬ما يشوه شكل المادة البشرية في‬
‫جانبيها العضوي و النفسي هو فعل الشر ‪ .malefactio‬في العالم توجد أشياء قادرة‬
‫على فعل الخير أو الشر‪ .‬ينطبق هذا على خصائص اإلنسان النفسية‪ .‬هذا التفاعل قد‬
‫يكون من داخل البنية نفسها ‪ ،endógeno‬أو بتأثير من أشياء خارجية ‪ ،exógeno‬وفي‬
‫كلتا الحالتين هما المسؤوالن عما يلحق المادة من تغير أو تحريف وحتى تفكك‪.‬‬
‫بالمقابل توجد وقائع أخرى تعزز تكامل وتناغم العضوي والنفسي‪ .‬كما يمكن أيضا‬
‫لشخص أن يكون مصدر تعاسة شخص آخر‪ .‬تتعلق الحالة األولى بالشر والثانية‬
‫بالخير‪ .‬لسنا هنا بصدد جرد لكل وضعيات الخير أو الشر الممكنة‪ ،‬لكن نحاول‬
‫الوقوف عند أبعادها الميتافيزيقية‪ .‬وفي كل هذه الحاالت على اختالفها يتعلق األمر‬
‫‪259‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫باستمرار بفعل الشر‪ ،‬أي بشيء من شأنه أن يعكر الكمال المتناغم للبنية النفسية‬
‫والعضوية لإلنسان‪ .‬فعل الشر ‪ maleficio‬مجرد حالة‪ .‬أما البنية الحيوية ــ النفسية‬
‫لإلنسان ليست خيرة أو شريرة في ذاتها‪ .‬إن ما تحدثه العوامل الخارجية والداخلية‬
‫هو ما يمكن أن نسميه ‪ benefactum‬أو ‪ ،malefactum‬هو فعل خير أو فعل شر‪ .‬هو‬
‫مجرد حالة ترتبط بالحالة النفسية ــ الحيوية‪.‬‬
‫ال أن ندرك كل أفعال الشر على النحو نفسه‪ .‬قد يكون التبغ فعل شر لكننا ال نتمثله‬
‫كذلك‪ .‬خالفا لحاالت أخرى نستشعرها كفعل شر بشكل مباشر مثل األلم‪ .‬فهل األلم‬
‫في حد ذاته فعل شر؟ بالطبع ال‪ .‬يستشعر الحيوان األلم لكنه ال ينظر إليه كفعل شر‪ .‬إنه‬
‫كذلك من منظور انساني‪ .‬إنه مجرد وضع حيوي‪ ،‬ال يأخذ معنى الشر إال إذا كان حالة‬
‫الجوهر‪ .‬كل أشكال المعاناة هي مجرد حالة‪ .‬وعليه‪ ،‬فان مشكلة األلم الجسدي تتخذ‬
‫بعدين مختلفين تماما‪ :‬ما يتعلق باأللم وما يتعلق بفعل الشر‪ .‬وهما ال يتطابقان‪ .‬فالشر‬
‫الجسدي ال يحيل على األلم‪ .‬األلم ليس شرا جسديا بل فعل شر؛ وإن لم يكن دائما‬
‫كذلك‪.‬‬
‫فما الشر الكامن في ‪maleficio el‬؟‬
‫ليس األذى واأللم فعال شر بهذا المعنى اال إذا ما حرمانا من العافية‪ .‬هنا لفعل الشر‬
‫معنى الحرمان الناتج عن تفاعل عوامل داخلية أو خارجية مسببة له‪ .‬ينتج فعل الشر‬
‫عن سبب هو الشر ‪ el male del malefactum‬الذي يأخذ معنى الحرمان في عالقته‬
‫بالواقع‪ .‬هنا يبدو لنا الخطأ الذي وقع فيه شوبنهاور عندما اعتبر المتعة مجرد تعليق‬
‫مؤقت لأللم‪ .‬ليس لأللم أو المتعة عالقة بالشر‪ .‬فعل الشر هو مجرد وضع حرمان يؤثر‬
‫على سالمتنا النفسية‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن ‪ el maleficio‬هو في الواقع شر ال يمكن إنكاره؛‬
‫إنه الحالة التي يدخل فيها الجوهر اإلنساني في عالقة مع وقائع اخرى تؤثر على تناغمه‬
‫وسالمته‪.‬‬
‫هل يجوز لنا أن نقول ببساطة ان ‪ el maleficio‬شر؟ بداية‪ ،‬ال شيء شرير بالمطلق‪.‬‬
‫ألننا رأينا أنه ال وجود ألشياء في واقعها المجرد هي شريرة في ذاتها‪.‬كل شيء يمكن‬
‫أن يكون مؤذيا‪ .‬قد يجادل أحدهم بأنه يمكن لشخص ابتلع حمض البروسيك أن‬
‫يموت في عشر من الثانية‪ .‬أليس هذا فعل شر مطلقا؟ ال‪ ،‬بالنظر إلى هذا المثال من‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪260‬‬
‫زاوية مادية‪ ،‬فإن ما أحدثه هذا الحمض هو نفي المادة وليس شرا‪ .‬لكن إذا ما اعتقد‬
‫اإلنسان أن ما حدث ال يتعلق بعوامل نفسية وحيوية مرتبطة بالمادة إذ ذاك قد نتحدث‬
‫عن ‪ .el maleficio‬يتعلق األمر إذا بتصورنا للمادة البشرية وما يتعلق بها من عوامل‬
‫نفسية وحيوية خاصة بها‪ .‬وجع خلع سن قد يكون شرا في لحظته لكنه خير على المدى‬
‫البعيد‪ .‬إذن يرتبط فهمنا للشر بأبعاد أخرى تتعلق بالذكاء واإلرادة مثال‪ .‬هذا يقودنا‬
‫للحديث عن النوع الثاني من الشر‪ :‬الخبث‪.‬‬
‫ب‪ .‬الخبث ‪la malicia‬‬
‫الذكاء واإلرادة أبعاد أخرى في المادة اإلنسانية‪ .‬كالهما نفسي ‪ .psíquico‬يتخذ‬
‫الذكاء درجات متفاوتة‪ .‬وكذلك تختلف اإلرادة‪ ،‬فهناك من يتمتع بإرادة قوية‪،‬‬
‫وهناك مسلوب اإلرادة ‪ ،abulia‬ومن لديه فرط اإلرادة ‪( hiperbulia‬مفاهيم نفسية‬
‫سيكولوجية)‪ ،‬إلخ‪ .‬وألنها عوامل نفسية فإن من شأنها أن تحدث شرا‪.‬‬
‫كل هذا يؤثر على الذكاء وعلى اإلرادة اإلنسانية بالنظر إلى أبعادها النفسية‪ .‬إضافة‬
‫كل من الذكاء واإلرادة قصديان‪ .‬وفعلهما متجه نحو األشياء و نحوهما‬ ‫لهذا فإن ًّ‬
‫أيضا‪ .‬إنه ليس تفاعال فيزيائيا أو فكريا‪ .‬إنها لحظة داخلية للذكاء واإلرادة في واقعها‬
‫الفيزيائي‪ ،‬والتي من خالل فعلها الفيزيائي‪ ،‬تنفتح على األشياء األخرى‪ .‬هكذا يتعالى‬
‫كل من الذكاء واإلرادة على نفسيهما من خالل القصدية‪ .‬هي إذا وقائع فيزيائية قصدية‪.‬‬
‫الواقع الفيزيائي القصدي بدوره يتعالى على األبعاد النفسية الصرفة‪ .‬وعليه سأتعامل‬
‫مع الوقائع باعتبارها قصدية‪ .‬وسينفتح الواقع أمام القصدية بشكل موضوعي‪ .‬لتتشكل‬
‫المادة اإلنسانية من أبعاد نفسية وأخرى قصدية‪ .‬دعونا نتذكر مرة أخرى أن ال شيء‬
‫خير أو شرير اال باعتباره شيئا ــ معنى‪ .‬الكمال المتناغم لجوهري الخاص‪ ،‬كفعل‬
‫إرادة قصدي‪ ،‬هو ما يشكل الشرط القصدي والموضوعي للخير‪ .‬يتعلق األمر بالخير‬
‫الموضوعي القصدي الكامن في جوهري وهو قصدية اإلرادة والذكاء‪ .‬من وجهة النظر‬
‫هذه‪ ،‬فإن حياة اإلنسان تتلخص فيما أفعله أنا بي كجوهر أي ما أريد القيام به‪ ،‬وما‬
‫أريد أن أكون‪ .‬ال يتعلق األمر بفعل اعتباطي بل بفعل خاضع لنظام موضوعي‪ .‬هذا‬
‫الخير القصدي هو مسألة ترتبط بفلسفة األخالق‪ .‬يتجلى الواقع بالنسبة لي باعتباره‬
‫خيرا ‪.bonum‬‬
‫‪261‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫الكمال ليس فقط بيولوجيا‪ ،‬نفسيا أو قصديا إنه مسألة أخالقية‪ .‬اإلنسان باعتباره‬
‫واقعا فيزيائيا‪ ،‬إراديا وقصديا‪ ،‬هو واقع أخالقي‪ .‬وعليه فإن االخالق بمعنى ما‪ ،‬هي‬
‫معطى فيزيائي‪ .‬واإلنسان كائن فيزيائي وأخالقي‪ .‬والخير من هذا المنطلق هو خير‬
‫أخالقي‪ .‬على هذا األساس يكون الموضوع خيرا إذا ما توافق مع الخير األخالقي‬
‫وشريرا إذا ما شوهه‪ .‬في هذه الحالة فإن الخير والشر يتعلقان بحالة الموضوع بوصفه‬
‫محفزا لتحقق للخير األخالقي لدي ‪ .morale bonum‬وبما أن الخير األخالقي‬
‫يحيل على فعل اإلرادة‪ ،‬فإن هذا ال يعني فقط أن الموضوع خير أو شرير فقط‪ ،‬بل‬
‫أن إرادتي الخاصة نفسها خيرة أو شريرة‪ .‬يكون فعل اإلرادة ‪ La volición‬خيرا إذا‬
‫رغب في موضوع نعلم أنه خير‪ .‬وشريرا إذا ما رغبت إرادي في موضوع يتعلق بالشر‪.‬‬
‫ليس فعل اإلرادة ‪ La volición‬مسألة تفاعل في اتجاهين بين الموضوع والشخص‬
‫بل ترتبط بالشخص في ذاته‪ .‬إنه فعل شرير ‪ ،malefactum‬أي شر اختاره‪ .‬لذلك نسميه‬
‫خبثا ‪ .malicia‬ويحيل هذا الخبث على صفة أخالقية ترتبط بالواقع األخالقي إلرادتي‪.‬‬
‫بنا ًء عليه فإن الخير والشر صفتان أخالقيتان لفعل اإلرادة ذاتها ‪ .La volición‬هكذا‬
‫يكون الخبث من فعل اإلرادة نفسها‪.‬‬
‫فما هذا الخبث إذن؟‬
‫تعتمد اإلجابة على هذا السؤال على أربعة أسئلة فرعية‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ما اإلنسان باعتباره واقعا أخالقيا؟ ثانيا‪ :‬ما هو فعل اإلرادة ‪La volición‬؟‬
‫ثالثا‪ :‬أين يكمن الخبث ‪la malicia‬؟ رابعا‪ :‬ما العالقة بين الخبث وبين فعل الشر ‪el‬‬
‫‪maleficio‬؟‬
‫أوالً‪ :‬ما اإلنسان باعتباره واقعا أخالق ًّيا؟‬
‫اإلنسان جوهر ‪( subjectum‬في معناه الميتافيزيقي) له خصائصه‪ .‬وبعض من هذه‬
‫الخصائص ال ترتبط بالجوهر بل باإلنسان نفسه وبما يريده كالرذائل أو الفضائل‪،‬‬
‫المواهب أو المعارف‪ .‬هذه الخصائص تؤثر على المادة اإلنسانية‪ .‬هذا هو السبب في‬
‫أن اإلنسان ليس فقط مادة‪ ،‬لكنه ‪ suprastante‬أي فوق المادة‪ .‬إذ له خصائص متضمنة‬
‫تتجاوز مادته‪.‬‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪262‬‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬على اإلنسان أن يختار من سلسلة االحتماالت الممكنة التي‬
‫تتيحها له أشياء ــ المعنى‪ .‬لذلك فان أفعال إرادته متعددة بعضها يصدر عن األشياء‬
‫وبعضها عما يريده هو في عالقته بهذه األشياء‪ .‬أساس هذه االحتماالت إذن هو‬
‫المعنى‪ .‬وهي إرادية‪ .‬وعليه فإن الجوهر البشري في بعده األخالقي ينبني على‬
‫هذه االحتماالت‪ .‬وما يميز اإلنسان كواقع أخالقي هو قدرته على االختيار بين‬
‫هذه االحتماالت‪ .‬ليس اإلنسان إذن أخالقيا ألن هناك خير أخالقي‪ ،‬لكن الخير‬
‫األخالقي موجود ألن اإلنسان هو في األساس واقع أخالقي‪ .‬بهذا المعنى يتأسس‬
‫الخير األخالقي انطالقا من توافق االحتماالت التي اختارها اإلنسان مع الخير‬
‫األخالقي‪ .‬أما الشر فيكمن في اختالفها معه‪ .‬الخير والشر كالهما إذن اختيار في‬
‫اتجاه أو آخر‪.‬‬
‫ثانيا ــ ما فعل اإلرادة ‪la volición‬؟‬
‫ال تتعلق اإلرادة بالواقع كواقع مجرد‪ ،‬بل كمبدأ لالحتماالت الممكنة‪ .‬فالواقع حالة‬
‫تؤسس لإلمكانات‪ .‬وما يختاره اإلنسان هو اإلمكانات الواقعية التي يقدمها له الشيء‪.‬‬
‫يتعلق فعل اإلرادة إذا بموضوعه‪ .‬هو فعل قصدي‪ .‬فأنا أختار بشكل قصدي احتماال‬
‫معينا من بين احتماالت اخرى‪ .‬وما أختاره أعتقده األفضل بالنسبة لي وليس األفضل‬
‫في ذاته‪ .‬فعل اإلرادة هو نفسه حالة للخير والشر كونه فعال قصديا‪ .‬لتكون الرغبة إذا‬
‫اختيارا قصديا لحالة الخير أو الشر‪.‬‬
‫أية إضافة تحملها الحالة إلى الواقع المادي لفعل اإلرادة؟‬
‫اإلرادة لها خصائص نفسية ــ بيولوجية‪ ،‬وكذلك قصدية وال تضيف لها صفات‬
‫الخير والشر شيئا‪ .‬بل تغير حالتها‪ .‬وكذلك االمر بالنسبة لإلرادة إذ ال تغير األخالق‬
‫ً‬
‫إجمال يتعلق فعل اإلرادة باختيار‬ ‫واقعها المادي أو الفيزيائي وإنما تجعلها في حالة‪.‬‬
‫قصدي للحالة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أين يكمن الخبث؟‬
‫شكلت طبيعة الخبث موضوع جدال في الفلسفة السكوالئية و على طول‬
‫القرنين السادس عشر والسابع عشر‪ .‬إذ ذهب أنصار توجه القديس أوغسطين‬
‫‪263‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫إلى القول بأن الشر حرمان من الخير ‪ ،el malum es privatio boni‬وأن الخير‬
‫األخالقي يكمن في كمال الجوهر في النظام‪ .‬في حين أن خبث اإلرادة هو‬
‫حرمان‪ .‬أما معارضوهم فذهبوا العتبار فعل اإلرادة نفسه خيرا أو شريرا‪ .‬لكن‬
‫في كلتا الحالتين ال مجال للحديث عن خير أو شر اإلرادة أو ارتباطها بالنظام‬
‫األخالقي‪ .‬وعليه ال مجال الستحضار المفهوم األرسطي المتعلق بالحرمان‬
‫في الفعل األخالقي‪ .‬إذ يتعلق الحرمان بما أستطيع تملكه‪ .‬لكن بالنظر إلى فعل‬
‫اإلرادة‪ ،‬هل من مجال للحديث عن حرمان؟ إن فعل اإلرادة الشرير ال يمكن أن‬
‫يكون له طابع الخير؛ إنه باألساس شر‪ .‬ومن هنا فإن مؤيدي األطروحة القائلة‬
‫بأن اإلرادة شريرة بطبيعتها‪ ،‬يؤكدون أن في كل إرادة لحظة من الحرمان‪ ،‬تتأسس‬
‫بناءا على صفة إيجابية لإلرادة‪ .‬هذا ما يلحقوه بأطروحة القديس أوغسطين‪ .‬فهم‬
‫يفهمون أن الحرمان هو صفة ناتجة‪ ،‬وأن اإلرادة هي السبب؛ أما سبب الحرمان‬
‫فهو الخبث‪.‬‬
‫أعتقد أن أولئك الذين يدافعون عن إيجابية الخبث على حق‪ .‬وإن كنت‬
‫أختلف وإياهم في تصورنا لها‪ .‬أوال‪ ،‬فيما يتعلق بالسببية‪ .‬يمكن أن نسمي فعل‬
‫الشر فعل اإلرادة ذاك الذي يريد شيئا يعلم سابقا بأنه شر‪ .‬وهنا ال يكمن الشر في‬
‫فعل اإلرادة نفسه بل في موضوعه‪ .‬فهل يجوز القول بأن اإلرادة شريرة؟ يمكن‬
‫القول إن موضوع فعل اإلرادة ينقل صفاته إلى الفعل نفسه‪ .‬فكيف يحدث هذا؟‬
‫اإلجابة عن هذا السؤال تسمح لنا بفهم ما المقصود بالخبث كصفة إيجابية في‬
‫فعل االرادة‪.‬‬
‫الخبث هو حالة داخلية وجوهرية في فعل اإلرادة الشرير‪ .‬إنه ليس مجرد صفة‬
‫خارجية تتعلق بموضوع الفعل‪ .‬إنه «حالة»‪ .‬وهي كما قلنا قدرة الواقع على بناء معنى‪.‬‬
‫وزد على ذلك أن فعل اإلرادة هو ما يشكل حالتي الخاصة‪ .‬وبالتالي‪ ،‬تكمن المشكلة‬
‫في حالة اإلرادة‪ ،‬وليس في موضوعها‪.‬‬
‫في سياق آخر‪ ،‬سبق أن قلنا بأن خصائص موضوع اإلرادة ال ترتبط بالواقع‬
‫المجرد بل باإلمكانات التي يقدمها الشيء المرغوب فيه‪ .‬وبنا ًء عليه فإن فعل الرغبة‬
‫ال يرتبط بالموضوع ذاته بل باإلمكانات التي يحملها‪ .‬فأنا ال أرغب في باب مثال بل‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪264‬‬
‫أرغب في الدخول أو الخروج منه‪ .‬إذن تتعلق اإلرادة باإلمكانات‪ .‬وتتعلق الرغبة‬
‫بإلحاق صفات الموضوع بحالتي‪ .‬هي تملك فيزيائي إلمكانات الموضوع وليس‬
‫لواقعه‪ .‬فأنا ال املك المشرط‪ ،‬بل االحتماالت التي يقدمها هذا المشرط‪ ،‬كالقتل‬
‫مثال‪ ،‬أو إجراء عملية جراحية‪ .‬إذن تصير اإلمكانات الواقعية حالة اختارها‪ .‬فماذا‬
‫أختار وكيف؟‬
‫اختيار إمكانية واحدة من بين أخرى هو فعل إرادة‪ .‬وليست إمكانية فقط بل‬
‫إمكانية ممكنة ‪ .posibilitándome‬فعل اإلمكان هذا هو ما أسميه سلطة ‪.poder‬‬
‫الرغبة هي السماح للواقع بالسيطرة على حالتي‪ .‬للسلطة طابع ميتافيزيقي‪ .‬هي‬
‫كل سلطة تفترض‬ ‫ليست مجرد قوة‪ ،‬أو حتى ‪ δύναμις‬بالمعنى الميتافيزيقي‪ّ .‬‬
‫قوة أعلى وأخرى أدنى‪ .‬في الوقائع المادية يغطي نطاق السيطرة نطاق السببية‬
‫والقوة بوصفه السبب و العلة ‪ .αίτία‬ويتجاوز السبب التأثير‪ .‬لذا فإن التمييز بين‬
‫السببية والقوة قد ال يبدو أكثر من مجرد تدقيق مفاهيمي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإنه أساسي‬
‫في فعل اإلرادة‪ .‬فما تمارسه على اإلمكانات التي يتيحها الموضوع ليست قوة‬
‫بل سلطة‪.‬‬
‫السلطة كقوة لفعل اإلرادة في مناولة نفسية ــ بيولوجية‪ ،‬بعيدا عن معنى القصدية‬
‫تأخذ معنى قوة نفسية‪ .‬وهذا ما جعل اإلنسان البدائي يعتقد باإلحيائية ‪.el animismo‬‬
‫لذلك تقوم اإلحيائية على تفسير حيوي للسلطة‪ .‬فيصبح فعل اإلرادة ضحية لسلطة‬
‫يمتلكها موضوع اإلرادة‪ .‬ما عالقة هذا بمشكلتنا؟‬
‫فعل اإلرادة في حالة الشر يسمح للشر بممارسة سلطته علي‪ .‬إنه تأسيس للشر‬
‫كقوة‪ ،‬خالفا لفعل الشر ‪ maleficio‬القائم على تفاعل األشياء فيما بينها‪ .‬الرغبة هي‬
‫إذا ترخيص لسلطة قوة الشر أو قوة الخير علي‪ .‬وألن فعل اإلرادة ينشأ انطالقا من‬
‫قوة جوهرية داخلية خيرة أو شريرة كانت‪ ،‬فإن هذا ما يبرر القول بمفهوم الحرمان‬
‫وبخضوع اإلنسان لقوة الشر أو الخير‪ .‬خضوع تشرعه اإلرادة‪ .‬فعل اإلرادة إذا هو في‬
‫جوهره خير أو شرير وليس معلوال لحرمان أو سواه‪.‬‬
‫الحرمان هو بهذا المعنى نتيجة وليس سببا‪ .‬زد على ذلك أن ال أحد قد يفضل‬
‫قوة الشر‪ .‬فنحن كثيرا ما تساءلنا عما إذا ما كان لإلرادة أن تريد الشر ألجل الشر‪.‬‬
‫‪265‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫ال اظن ذلك ألني ال أعتقد أن أحدا يرضى بالشر‪ .‬وحتى اإلشباع الذي يسعى إليه‬
‫فعل الخبث هو الحد األدنى من الخير والذي قد يصير شرا‪ .‬وهذا يحدث مع‬
‫جميع أنواع الخبث‪ .‬دعونا نتحدث عن نيتشه الذي واجه اإلله‪ .‬من السهل جدا‬
‫القول إن نيتشه أراد الشر من أجل الشر‪ .‬لكن هذا ليس صحيحا‪ .‬ما أراده نيتشه‪،‬‬
‫على وجه التحديد‪ ،‬هو أن يكون نقيض االله ‪ Dios‬ــ ‪ .anti‬أراد كراهية اإلله‬
‫ألنه اعتقد أنه فوق الخير والشر وفوق اإلله‪ .‬الشعور بالذات كمبدأ مطلق ليس‬
‫شرا‪ ،‬بل هي الحالة الجوهرية للشخصية اإلنسانية‪ .‬أما الشر فهو االعتقاد بأنك‬
‫فوق األلوهية أو ما سواها‪ .‬الخبث ليس رغبة في الشر من أجل الشر‪ ،‬بل جعل‬
‫ما أريده فوق الخير‪ .‬بهذا المعنى‪ ،‬فإن الخبث ذاتي في اإلرادة‪ ،‬ويشكل لحظة‬
‫إيجابية فيها وال يتعلق بحرمان ما‪ .‬إن إرادتي هي تشريع للشر كقوة‪.‬‬
‫للخبث درجات‪ .‬فالمثال الذي أوردته سابقا ال يعادله فعل شرير تافه وغير خطير‪ .‬أما‬
‫من زاوية أخالقية فسواء كان كبيرا أو تافها‪ ،‬خطيرا أو غيره فإني أعتبره في كل الحاالت‬
‫تشريعا للشر كقوة على فعل اإلرادة‪ ،‬والذي بموجبه تصير اإلرادة في حالة شر ذاتي‪.‬‬
‫يترتب على ذلك‪ ،‬أن الخبث ‪ la malicia‬ليس فعل شر ‪ .un maleficio‬لكنهما ليسا‬
‫مفهومين منفصلين‪ .‬بل على العكس تماما‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬أية عالقة بين الخبث وفعل الشر؟‬
‫كل خبث يفترض سابقا القدرة على فعل الشر‪ .‬وكل ما هو خير يتجلى‬
‫لإلنسان بوصفه مرغوبا فيه‪ .‬والرغبة هي بالضبط بنية نفسية للواقع‪ .‬لكن هذا ال‬
‫يعني أن الخير هو المرغوب فيه‪ .‬بل أن المقصود هو أن كل خير يولد الرغبة‪.‬‬
‫وأن الرغبات هي لحظات نفسية ــ بيولوجية‪ .‬هذه العالقة بين الخير والرغبة هي‬
‫ما نسميه ‪ la atracción‬الجذب‪ .‬هي العملية التي من خاللها تتوحد السلطة بين‬
‫الفعل ‪ factum‬وقوة الفعل ‪ .factio‬لتكون األخالق‪ ،‬بشكل أو بآخر‪ ،‬تصحيحا‬
‫لميوالت اإلنسان الفزيولوجية باعتبارها خيرة أو شريرة‪ .‬هي لحظة معالجة‬
‫لصحة اإلنسان‪ higiene ،‬صحته العقلية‪ ،‬وكذلك النفسية ــ البيولوجية‪.‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬كل الشر وكل الخير هو استعداد قد يتحول إلى عادة ونمط وجود‬
‫أي ‪ .έξις‬فعل اإلرادة الشرير هو عادة و نمط وجود ‪ .έξις‬إنه رذيلة‪ .‬أما فعل إرادة‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪266‬‬
‫الخير والذي هو أيضا ‪ έξις‬فهو فضيلة‪ .‬وهذه العادات تؤثر على النفسية ــ البيولوجية‬
‫لإلنسان‪.‬‬
‫لكن ال يمكن القول إن الشر قد يتحول خيرا‪ .‬قد يحاجج البعض بأن العديد‬
‫من أعمال الخبث‪ ،‬والعديد من اإلرادات الشريرة قد أدت على المدى الطويل إلى‬
‫الخير‪ .‬لكن في مثل هذه الحاالت‪ ،‬سيكون من الضروري التمييز بين ما تفعله ‪el‬‬
‫‪ ،opus operatum‬والحالة التي تفعل فيها الخبث ‪ .Opus operantis‬قد يكون الفعل‬
‫الخاضع إلرادة خبيثة خيرا ألسباب أخرى ليس الخير من بينها‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬فإن القوة والخبث‪ ،‬فعل الشر وفعل الخير‪ ،‬الخبث والخير كقوى لإلرادة‪،‬‬
‫ليست مفاهيم متطابقة‪ .‬كما ال يمكن المطابقة بين العلة النفسية وبين القوة الواقعية لما‬
‫أرغبه‪.‬‬
‫واآلن نصل إلى الشكل الثاني من أشكال تعزيز الشر ‪ promoción del mal‬باعتباره‬
‫تشريعا للشر كقوة‪ .‬تلك هي الحالة المظلمة لفعل الخبث‪ .‬فذلك الحزن الذي أستشعره‬
‫في ارتباط بفعل الشر ليس استعارة غامضة أو شعورا‪ .‬حتى إن لم يدرك ذلك اإلنسان‬
‫بشكل مباشر فإن الشر يولد في ذاته شقاقا وتصدعا‪ .‬هذا الشقاق ينتج عن صراع قوة‬
‫الخير والشر في فعل االرادة‪ .‬هذا الخالف من طبيعة الخبث‪ .‬إنها إذا صح التعبير حالة‬
‫تضاد ‪ .antinómica‬فبقوة الخير أصير شريرا وأحول فعال خيرا إلى شرير من أجل‬
‫مصلحتي الخاصة‪ .‬لهذا السبب على وجه التحديد‪ ،‬فإن جوهر كل عمل من أعمال‬
‫الخبث هو ‪ ύβρις‬غلو يجعل اإلرادة فوق الخير األخالقي نفسه‪ .‬وهذا يتعلق بالشكل‬
‫الثالث للشر‪.‬‬
‫ج‪ .‬الخبث ‪La malignidad‬‬
‫الخبث هو تشريع للشر كقوة في داخلي‪ .‬لكن هناك امتدا ًدا لقوة الشر بالنظر إليه‬
‫كخصائص قصدية‪ .‬في حالة الخبث سيكون تفاعال‪ ،‬في حين تكون العالقة قصدية في‬
‫الحالة الثانية‪ .‬إنها‪ ،‬بطريقة ما‪ ،‬عالقة بين ــ االفراد ــ ‪.individual ínter‬‬
‫الشر في ذاتي أو سواها‪ .‬وبهذا المعنى‪ ،‬فإن اإلرادة تأخذ‬
‫إرادتي يمكنها أن تنتج ّ‬
‫للشر في اآلخر‪ .‬لكن أخطر أشكال الخبث هو‬
‫صفة الخبث‪ .‬في معنى أول‪ ،‬هي إنتاج ّ‬
‫‪267‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫جعل إرادة أخرى نفسها خبيثة بغرض تنفيذ فعل اإلرادة الشريرة‪ .‬في هذه الحالة تصبح‬
‫اإلمكانات التي أقدمها لآلخر أكثر من قوة جذب بل تحريضا ‪ .una incitación‬ومن‬
‫حر في أن‬
‫ثم فأنا لست خبيثا أو شريرا فحسب بل أنا الشر‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬فإن اآلخر ّ‬
‫شر مزدوج يجمع بين فعل‬
‫ينصاع للتحريض ويستسلم له أو يرفضه‪ .‬لذلك فإن الخبث ّ‬
‫الشر المنتج في إرادة اآلخر‪ .‬أنا لست خبيثا؛ أنا الخبث؛ أنا شرير‪،‬‬
‫إرادتي الشرير وفعل ّ‬
‫الشر‪.‬‬
‫أنا ّ‬
‫إن وحدة إرادتين خبيثتين في خباثة واحدة هي مثيرة‪ .‬إذ إن الشرير ال يرخص لقوة‬
‫للشر هو أكثر من‬
‫الشر في إرادته فحسب‪ ،‬بل يلهم اآلخر الشر أيضا‪ .‬الشكل الثالث ّ‬
‫الشر‪ ،‬لكنه ترخيص لها كمصدر إلهام لإلرادة‪.‬‬
‫تشريع لقوة ّ‬
‫د‪ .‬الخسة ‪La maldad‬‬
‫يرتبط اإلنسان باآلخرين في ظل الواقع االجتماعي‪ .‬هذا الواقع أو الجسم‬
‫االجتماعي يتشكل في فلك اإلرادات الفردية التي تتفاعل فيما بينها‪ .‬هذا الجانب‬
‫من الواقع هو ما وصفه هيجل بعبارة غير مرضية إلى حد ما متحدثا عن الروح‬
‫الموضوعية‪ .‬لكني أرى انها روح مموضوعة ‪ .un espíritu objetivado‬ال وجود‬
‫لروح خارج روح كل إنسان‪ ،‬وبالتالي فإن الحديث عن الروح الموضوعية ال معنى‬
‫له‪ .‬األجدى الحديث عن البعد الموضوعي لروح كل إنسان‪ .‬بهذا المعنى هل من‬
‫مجال للحديث عن الروح؟ بكل تأكيد‪ ،‬لكن ليس بمعنى العقل الكوني بالمفهوم‬
‫الهيجلي‪ ،‬وال بمعنى «روح الشعوب ‪ »Volksgeist‬كما في القرن ‪ .18‬ليس للشعوب‬
‫روح‪ ،‬بل يتعلق األمر بالمعنى االجتماعي للروح الفردية‪ .‬وقد أخذ هذا المفهوم‬
‫منذ اإلغريق معنى الروح‪ ،‬يمكن أن نطلق عليه «الروح المموضعة» هذا البعد الذي‬
‫يشير اإلنسان من خالله إلى اآلخرين بشكل ال ذاتي‪ .‬نتساءل ما عالقة مشكلتنا‬
‫بالموضعة؟‬
‫تتعلق الموضعة بالقصدية؛ قصدية الذكاء واإلرادة التي هي نتاجها‪ .‬هكذا نجد في‬
‫اللغة اليونانية كلمات تأخذ حرفي ‪ μα‬في آخرها مثل كلمتي ‪ noema‬و ‪ noesis‬التي‬
‫تفيد التعقل‪ .‬وكلمة ‪ βούλημα‬التي تعني اإلرادة‪ .‬هكذا تتعلق الموضعة بمفهومي‬
‫‪ noemático‬و ‪ .boulemático‬بمعنى أوضح تتحول األفكار والرغبات إلى أشياء ــ‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪268‬‬
‫معنى ‪ sentido‬ــ ‪ .cosas‬لنقل إن ما تتم موضعته هو الرغبة الكامنة في فعل اإلرادة‬
‫لإلرادة أي موضوع رغبتي الذي صار نتيجة إرادتي كشيء ــ معنى‪.‬‬
‫تتعلق الرغبة بشيء موجود هناك ‪ .ahí‬هذا الهناك ‪ ahí‬بالضبط هو خاصية ‪.τόπος‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن التفكير واإلرادة في حالة موضعة من خالل مفهومي ‪noemático‬‬
‫و ‪ boulemático‬هما معا ‪ ،τόπος‬أي أشياء هناك‪ ،‬أشياء ــ المعنى‪ .‬هذا الشيء هناك هو‬
‫ما سيصير موضوع رغبة وإرادة‪ .‬وهي مبادئ تنظيمية؛ أي معايير تشير إلى ما هو مقبول‬
‫أو مرفوض من اإلرادة أو العقل‪ .‬هي إذن مبادئ‪ ،άρχαί ،‬ليس بمعنى القوة ‪δύυαμις‬‬
‫لكن كسلطة‪ .‬وبموضعتها تأخذ معنى المكان ‪ τοποι‬فتصير روحا‪ .‬الموضعة إذن هي‬
‫تحويل مفاهيم عبر مفهومي ‪ noemático‬و ‪ boulemático‬إلى مبادئ موضعية‪ .‬هذه‬
‫هي الروح المموضعة أي الفكر والرغبة كمبادئ موضعية ‪ .tópicos principios‬نظام‬
‫المبادئ الموضعية لمجتمع ما هو ما يشكل عالمه‪ .‬وألن هذا العالم يمتلك مبادئ‬
‫موضعية فإنه يتمتع بقوة؛ القوة كمبدأ‪.‬‬
‫فيما يتعلق بفعل باإلرادة‪ ،‬تتم موضعة ما يرتبط بحالتي الخير والشر باعتبارهما‬
‫مبدأين للعالم‪ .‬لتتشكل مفاهيم جديدة تختلف عن الخبث هي الخسة ‪la maldad‬‬
‫والصالح ‪ .la bondad‬هذا هو الشكل الرابع لتعزيز الشر الذي من خالله يصبح الشر‬
‫مبدأ وقوة موضعيين‪.‬‬
‫لكن أين يكمن الشر في كل هذا؟ يتعلق االمر باإلتيقا أي األخالقيات‪ .‬كل من هو‬
‫غير مسيحي قد يعتقد أن المسيحية شر‪ .‬على أي حال‪ ،‬دعونا نضع هذه المناقشة جانبا‬
‫ألنها مسألة أخالقية‪ .‬فلنقل إن كل أخالقيات هذا الكوكب ال يتبعها أي كان على وجه‬
‫األرض بأمانة فقد أدخل عليها شيئ يتعلق بمبدأ العالم‪ :‬مبدأ الخير أو مبدأ الشر‪ .‬وعليه‬
‫فإن العالم يتشكل بنا ًء على روح الخير وروح الشر أي الخسة والصالح‪.‬‬
‫ارتبط نهج التفكير هذا في الشر بزرادشت‪ .Zarathustra .‬في ترانيم ‪Gathas‬‬
‫التي سبقت ‪ ،Avesta‬لم يكن زرادشت ثنويا‪ ،‬بل موحدا بإله واحد هو أهورا ــ مازدا‬
‫‪ Ahura‬ــ ‪ ،Mazda‬الرب الحكيم‪ ،‬الذي خرج في ‪ ،pahíevi‬وأعطى شكل أهورامازدا‬
‫‪ Ohrmazd‬والذي صار في اليونانية ‪ ،Oromandes‬وفي الالتينية ‪ ...Ormuz‬نتج عن‬
‫هذا روحان ‪ spenta Mainyu‬الروح الخيرة‪ ،‬واألخرى ‪ ،Anra Mainpu‬أي الروح‬
‫‪269‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫الشريرة‪ .‬وتخبرنا الرواية أن الروح الطيبة تتوجه نحو الشريرة قائلة‪« :‬لدينا روحان‬
‫ال يمكن التوفيق بينهما‪ .‬لقد اخترت المسارات‪ ،‬األفكار‪ ،‬الكلمات واألعمال التي‬
‫تتعارض معي»‪ .‬لقد كان لدى زرادشت الحدس الكافي ليدرك أن الشر اختيار‪.‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فإن األخالق التي يبشر بها زرادشت هي أفكار الخير‪ ،‬عبارات الخير‬
‫واألعمال الصالحة‪ .‬هذا هو الشكل األول من الدين واألخالق السابق على عصرنا‪،‬‬
‫خارج مملكة إسرائيل‪ .‬في وقت الحق فقط‪ ،‬سيتماهى ‪ spenta Mainyu‬روح الخير‬
‫مع أهورا ــ مازدا‪ ،‬وستصير روح الشر نقيض أهورا ــ مازدا نفسها‪ ،‬أي نقيض ــ االله‬
‫‪ Dios‬ــ ‪ ..el anti‬وهكذا ستنشأ كل من الثنوية المانوية والمجوسية‪ .‬لكن الزرادشتية‬
‫األولى هي توحيدية‪ ،‬وما قال به زرادشت هو نقيض فكرة الروحين‪ .‬لقد قال زرادشت‬
‫بالواقع الموضعي‪ ،‬حتى لو لم يكن لديه فهم لما يمكن أن يكون الخير والشر كمبادئ‬
‫للعالم ‪.άρχαί‬‬
‫هذه المبادئ تحوم حول العالم‪ .‬تتوقف قوتها على حرية اختيار كل واحد‪ .‬القول‬
‫بأن العالم هو هذا أو ذلك‪ ،‬أن أحدهم يفكر‪ ،‬يقول‪ ،‬يشعر أو يريد‪ ،‬ال يعني أن كال من‬
‫األفراد الذين هم في العالم يفكرون ويريدون مثله أو أنها فكرة األغلبية‪ .‬القول بأن‬
‫تلك هي اإلرادة العامة ‪ la volonté genérale‬ال يعني أنها إرادة الجميع ‪la volonté‬‬
‫)‪ .de tous(8‬لكن‪ ،‬إذا لم تسلم أغلبية من الناس بهذه المبادئ‪ ،‬فإنها لن تكون كذلك‪.‬‬
‫وهذا هو بالضبط ما يحدث‪ .‬إذ تقف قوة العالم أمام حدود حرية كل واحد‪ ،‬وتعلن هذه‬
‫اإلرادة نفسها مطابقة أو غير مطابقة للعالم الذي تعيش فيه؛ مطابقة أو غير مطابقة لكل‬
‫من روحي الخير والشر‪ .‬والن فعل اإلرادة يصير من العالم ينتهي به األمر بالضرورة‬
‫إلى تغيير العالم نفسه ليتشكل مبدأ آخر جديد هو التاريخ ‪ .la Historia‬لكني ال‬
‫أقصد أن موضوع التاريخ هو العالم‪ .‬بل هو الواقع االجتماعي أو الجسم االجتماعي‪.‬‬
‫ذاك الجسم االجتماعي‪ ،‬ككيان تاريخي‪ ،‬يحمل معه تغييرا في العالم‪ ،‬وهذا ما يهم‬
‫مشكلتنا‪ .‬بهذه الطريقة‪ ،‬فإن إرادة كل واحد‪ ،‬وحريته تنخرط في العالم‪ ،‬تحيط بها قوة‬
‫الشر‪.‬‬
‫الخير والشر‪ ،‬في توافق أو خالف مع هذا الخير وهذا ّ‬
‫فهل يحدث األفضل ام األسوأ؟ هذا سؤال خطير‪ .‬تعتمد اإلجابة عنه مرة أخرى‬
‫على األخالقيات‪ .‬إنها ليست قضيتنا‪.‬‬
‫حتاف رثوك ‪.‬د‬ ‫‪270‬‬
‫ما يهمنا هو أنه في سياق التاريخ‪ ،‬تعاني اإلنسانية بشكل متفاوت يختلف من‬
‫حقبة إلى أخرى‪ .‬قد تشهد بعضها سيادة الخير وقد تعرف أخرى طغيان الشر‪ .‬وخالل‬
‫صيرورته هذه قد يشهد العالم في حقبة ما خيرا أكثر من الحقب السابقة‪ .‬لكن هذا ال‬
‫ينفي تصاعد منحى الشر‪.‬‬
‫وسواء كان هذا المنحى مستقيما أو غير مستقيم فإنه تصاعدي دون أدنى شك‪ .‬لقد‬
‫تقدمت اإلنسانية على مر التاريخ وازدادت خيراتها‪ .‬نحن ال نعرف ما إذا كنا نعيش في‬
‫مرحلة االزدهار ام في مرحلة االنحطاط‪ .‬كل ما نعلمه أن اإلنسانية تتغير عبر مجرى‬
‫التاريخ‪ ،‬ويتغير موقفها مما نسميه الخير والشر‪ ،‬الخسة والصالح كمبادئ لروح العالم‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬يذهب التاريخ في هذه االتجاهات الثالثة‪ :‬اتجاه الصالح‪ ،‬اتجاه الخسة‬
‫واتجاه التقدم‪ .‬هذا هو المعنى اإليجابي للشكل الرابع من الشر‪.‬كيف لنا إذا أن نقول‬
‫إن الشر كمبدأ هو مجرد حرمان؟ وأن له طابعا جوهريا وإيجابيا‪ .‬أو أنه ليس أكثر من‬
‫حالة واقعية‪.‬‬
‫بدأ الخبث بوصفه تشريعا للشر كقوة في إرادتي‪ ،‬واستمر في أن يكون مصدر إلهام‬
‫للشر في اآلخر على شكل خبث‪ ،‬وانتهى به األمر كمبدأ‪ ،‬كخسة أو صالح للعالم‪ .‬من‬
‫ّ‬
‫الشر كحالة‬
‫الشر‪ ،‬وعن ّ‬
‫دون أن ننسى الحديث عن أفعال الخير أو الشر‪ ،‬عن بنيات ّ‬
‫وكواقع‪ .‬هكذا يتشكل على وجه التحديد مصير اإلنسان على األرض‪ .‬مصير موحد‬
‫مرتبط بالعلة األولى أي اﷲ‪.‬‬
‫فما علة الشر؟ وما العالقة‪ ،‬هذا إن وجدت‪ ،‬بين اﷲ‪ ،‬الشر والخير في العالم؟‬

‫الهوامش‬
‫‪ 1‬ــ هذه ترجمة للباب الثاني ‪ La realidad del mal‬من الفصل الثاني ‪El problema‬‬
‫)‪ del mal (1964‬من كتاب خافيير زوبيري ‪:Xavier Zubiri‬‬
‫‪Sobre el sentimiento y la volición Alianza Editorial Fundación Xavier‬‬
‫‪Zubiri Primera edición: 1992 Primera reimpresión. 1993‬‬
‫‪ 2‬ــ استعمال زوبيري لمفهوم العالقة ‪ respectividad‬هو استعمال قديم من الزاوية‬
‫‪271‬‬ ‫يريبوز رييفاخ دنع رشلا ةلكشم‬

‫اإليثيمولوجية حيث يوضح زوبيري بأن استعماله لهذا المفهوم ينطلق من أصله‬
‫الالتيني ‪ .respectus‬ويأخد المفهوم هنا معنى ميتافيزيقيا متعاليا عن الواقع وهو مفهوم‬
‫مركزي في فلسفة زوبيري المتأخرة‪ .‬لهذا ينبغي أن يفهم من ترجمتنا لها بلفظ العالقة‬
‫أنها صلة تأخذ اتجاها عموديا يربط بين الواقع و العقل‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ مفهوم فينومولوجي استخدمه هوسرل للتمييز بين أفعال الداللة وأفعال الحدس‪.‬‬
‫‪ 4‬ــ سنعود لهذا في بداية الفصل الالحق يقول زوبيري في النص األصلي‪.‬‬
‫‪ 5‬ــ اعتمدنا لترجمة كل من المنازل‪ ،‬العوالم‪ ،‬اللجج واألراكنة كتاب المرقيون َّية‬
‫والمانو َّية لألب بولس فغالي‪.2009 .‬المكتبة البولسية‪.‬‬
‫‪ 6‬ــ ‪ adecuación‬مفهوم مأخوذ عن فينومينولوجيا هوسرل الترسندنتالية يحيل على‬
‫تطابق الوعي واأليدوس ‪ εἶδος‬أي الماهية‪.‬‬
‫‪ 7‬ــ وإن كانت الترجمة المباشرة لها هنا هي اللعنة إال أن زوبيري يتناولها باعتبارها‬
‫فعال إنسانيا له ابعاد بيولوجية نفسية وليس لعنة تأخذ معنى ميتافيزيقيا‪.‬‬
‫‪ 8‬ــ بالفرنسية في النص األصلي‪.‬‬

‫المراجع‬
‫‪-- Zubiri y la filosofia de la religión armando savignano uniresita di Trieste‬‬
‫‪ 434.‬ـ ‪pensamiento vol 71 (2015) num 266 pp 425‬‬
‫‪-- X.Zubiri.1993.Sobre el sentimiento y la volición. Alianza Editorial Fundación‬‬
‫‪Xavier Zubiri Primera edición: 1992 Primera reimpresión.Espana.‬‬
‫‪ 1979, trabajos‬ـ ‪ IV :1976‬ـ ‪-- RESPECTIVIDAD DE LO REAL، De realitas III‬‬
‫‪ 43 In: https://fr.scribd.‬ــ ‪de Seminario Xavier Zubiri.Madrid.1979.p13‬‬
‫‪ Real‬ـ ‪ Lo‬ـ ‪ de‬ـ ‪com/document/269799287/Respectividad‬‬
‫ــ اطلع عليه بتاريخ ‪.)2020/11/28‬‬
‫‪-- M.F.Lacilla Ramas. La respectividad en Zubiri.1990. Universidad‬‬
‫‪Complutense de Madrid.Espana.‬‬
‫د‬. ‫حتاف رثوك‬ 272
-- P.Ascorra Costa.R.Espinoza.En cuerpo y alama en zubiri. Un problema
filosófico ‫ ــ‬teolÓgico. Pontificia Universidad Católica de Valparaíso In
https://www.psiucv.cl/wp ‫ ـ‬content/uploads/2012/11/Cuerpo_y_Alma_
en_Zubiri.pdf.
-- O.Barroso Fernández. 2015.Reflexiones en torno al problema del mal en
zubiri. Universidad de Granada.
-- REFLEXIONES EN TORNO AL PROBLEMA DEL MAL EN ZUBIRI
‫المكتبة البولسية‬.4‫المرقيون َّية والمانو َّية‬.2009.‫ــ بولس فغالي‬
‫دراسات‬

‫مشكلة الشر‪ :‬قراءة في محاضرات هيغل‬


‫د‪ .‬الصادق الفقيه‬
‫‪1‬‬ ‫___________________________________________________‬

‫يقول هيغل إن «الشر يكمن في النظرة‪ ،‬التي ترى الشر في كل مكان»‪ ،2‬وتُعتبر‬
‫محاضراته عن فلسفة الدين واحدة من أهم الموارد الفكرية والفلسفية في القرن‬
‫التاسع عشر التي تناولت موضوع الخلق واإلنسان و«الشر» في ثنايا علم الالهوت‪،‬‬
‫ألنها عالجت قضايا إشكالية أساسية ومعضالت عميقة تواجه الحداثة‪ ،‬وما بعد‬
‫الحداثة‪ ،‬وكل ما حملته من تحديات أخالقية في العالم‪ .‬وقد نُشرت نسخة نقدية من‬
‫هذه المحاضرات في الثمانينيات‪ ،‬ما جعل من الممكن دراسة النص على مستوى‬
‫ٍ‬
‫عال من الدقة والتمحيص‪ ،‬الذي لم يكن حتى ذلك الوقت قاب ً‬
‫ال للتحقيق‪ 3.‬كما‬
‫نُشرت رسائله في عام ‪ ،1984‬ووفرت هي األخرى قراءات شارحة لبعض أفكاره‬
‫الفلسفية حول الخلق واإلنسان و«الشر»‪ 4.‬فقد شغلت هذه القضايا العقل الفلسفي‪،‬‬
‫منذ أفالطون وأرسطو وغيرهما‪ ،‬وظلت جدلية الالهوت والناسوت‪ ،‬أو الذات‬
‫اإللهية والطبيعة البشرية‪ ،‬وتبادلية الحياة والموت‪ ،‬ومسألة الوجود واألزل‪ ،‬وصراع‬
‫«الخير» و«الشر»‪ ،‬ما هي إال تجليات ألهم القضايا التي استرعت انتباه المفكرين‪،‬‬
‫وشغلت عقول الفالسفة‪ ،‬وتداعى لها الحكماء‪ ،‬وكانت مثار بحث ودراسة ونظر من‬

‫‪ .1‬باحث سوداين‪ ،‬األمني العام السابق ملنتدى الفكر العريب‪ ،‬عامن‪ ،‬األردن‪.‬‬
‫‪ .2‬جورج فيلهلم فريدريش هيغل‪،‬‬
‫‪https://www.goodreads.com/quotes/288872 - evil - resides - in - the - very - gaze‬‬
‫‪- which - perceives - evil - all‬‬
‫‪ .3‬كوجيف‪ ،‬الكسندر‪« .‬مقدمة يف حمارضة هيغل»‪ ،‬باريس‪ :‬غاليامر‪ .1947 ،‬وطبع مقدمة لقراءة هيغل‬
‫عرب‪ .‬جي إتش نيكولز‪ ،‬االبن إيثاكا‪ :‬مطبعة جامعة كورنيل‪.1980 ،‬‬
‫‪ .4‬إد‪ .‬كالرك بتلر وكريستني سيلر‪« ،‬رسائل هيغل»‪ ،‬بلومنجتون‪ :‬مطبعة جامعة إنديانا‪.1984 ،‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪274‬‬
‫المختصين على مر العصور‪ ،‬ورافقت حواراتها المجامع العلمية منذ األزل‪ ،‬وستبقى‬
‫قضايا مهمة وملحة تؤرق الفكر اإلنساني إلى األبد‪ .‬وألن معضلة «الشر» قد مثلت‬
‫هم ًا مقيم ًا لإلنسانية منذ فجر التاريخ‪ ،‬فإننا سنمضي في ُصح َبة كوكبة من المفكرين‬
‫والفالسفة؛ نستطلع معهم آراء هيغل حول هذه المعضلة الشائكة‪ ،‬وعالقتها الجدلية‬
‫بـ«الخير»‪ ،‬ونستعرض إسهاماتهم هم حول هذه اآلراء؛ جرح ًا وتعديالً‪ .‬وإذا كان‬
‫هيغل قد ابتدع «الديالكتيك» فهو خير من نستجلي معه حقيقة التناقض الراسخ بين‬
‫«الخير» و«الشر»‪ ،‬وما بينهما من عالئق‪ ،‬تفحصها هو من منطلقات الهوتية‪ ،‬ومنطق‬
‫فلسفي تاريخي‪.‬‬
‫في عام ‪ ،1817‬نشر هيغل كتابه «موسوعة العلوم الفلسفية»‪ ،‬الذي أحدث ثورة في‬
‫الحوار الفلسفي‪ .‬وعندما مات الفيلسوف يوهان فيخته‪ ،‬الذي كان يحتل كرسي الفلسفة‬
‫في جامعة برلين حل هيغل محله‪ ،‬عام ‪ ،1818‬ووجد متسع ًا للترويج ألفكاره بين طالبه‪،‬‬
‫وراجع بعض محاضراته القديمة حول الالهوت والخلق و«الخير» و«الشر»‪.‬‬
‫كان هيغل يرى أن ما يتحقق في التاريخ عبر الصراعات الدامية واألهواء البشرية‬
‫المتعارضة والهائجة هو الفكر‪ ،‬أو الروح؛ أي العقالنية العميقة‪ 5.‬فالتاريخ عقالني‬
‫على الرغم من أنه يبدو لنا فوضوي ًا‪ ،‬مليئ ًا بالحروب والظلم والقهر و«الشر»‪ .‬وذلك‬
‫‪7‬‬
‫ألن العقل‪ ،‬بحسب النظرة المتفائلة لهيغل‪ 6،‬هو الذي يحكم العالم والتاريخ‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإن أحد أهم التعهدات الفلسفية لهيغل هي أن «الشر» يوجد في العالم‬
‫ويمكن فهمه‪ ،‬والتصالح معه‪ ،‬والخالص منه‪ .‬وفي هذه الحالة يكون هيغل قد‬
‫اهتم بشكل أساس بكفاءة الفلسفة فيما يتعلق بتزويدنا بشروحات لوقوع األحداث‬

‫‪ .5‬وفق ًا هليغل‪ ،‬فإن الناس يف عرصه أكثر عقالنية وأخالقية وحرية مما كانوا عليه يف املايض‪.‬‬
‫بالقطع هو ال ُييب بال‪ ،‬أو نعم‪ ،‬مغلقتني‪ ،‬ولكنه يؤرش أن اإلنسانية ما عادت تقبل غري ما يتوافق‬
‫مع العقالنية واألخالق واحلرية‪ ،‬كام تقبله الناس يف السابق‪ ،‬بل صاروا يشجبون كل ما يتناقض مع‬
‫قناعاهتم اخلاصة‪ ،‬ومل يعد ملحاكم التفتيش عن األفكار والقناعات مكان يف العرص احلديث‪.‬‬
‫‪ .6‬إن مسار روح العامل بالنسبة هليغل هيدف يف النهاية إىل تأسيس الدولة التي حتقق احلرية والسعادة‬
‫لكل املواطنني بال استثناء‪ .‬ويف الدولة تتحقق احلرية بشكل موضوعي‪ .‬وبالتايل فغاية التاريخ هي‬
‫الدولة‪ ،‬وغاية الدولة هي احلرية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ .7‬هل ينبغي أن نستنتج‪ ،‬أن هيغل‪ ،‬ونظرا ألنه أعطى العناية اإلهلية صفة دنيوية متاما‪ ،‬فال يمكن أن‬
‫يكون احلساب النهائي لعمل العناية اإلهلية خارج التاريخ نفسه؟‬
‫‪275‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫الجائرة؛ مع ما يصحبها من العواقب على مدار التاريخ؛ مع التبرير‪ ،‬أو على األقل‬
‫التسليم‪ ،‬بفكرة التصالح مع مثل هذه األفعال‪ ،‬التي يعتبر كل منها في حد ذاته عيبا‬
‫شنيعا في لوائح اإلجراءات البشرية‪.‬‬

‫المنهج‪:‬‬
‫إن الهدف المركزي لهذه المقالة هو تحديد العناصر األساسية لمفهوم‬
‫هيغل عن «الشر»‪ ،‬من خالل محاضراته ودراساته المتعمقة لالهوت المسيحي‪،‬‬
‫ومراجعات تالميذه ومعاصريه من المفكرين والفالسفة‪ ،‬ومقاربات ومقارنات‬
‫ومالحظات بعض من تناولوه بالدراسة والتعليق في العصر الحديث‪ .‬فقد ثبت‬
‫للجميع أن هيغل يفهم «الشر»‪ ،‬في المقام األول‪ ،‬على أنه ظاهرة أخالقية‪،‬‬
‫وذلك من خالل محاضراته ودراساته المستفيضة التي ركزت على الالهوت‬
‫المسيحي خاص ًة؛ ولم يأت على األديان األخرى إال عرض ًا‪ ،‬في إشاراته للديانات‬
‫الهندوسية والصينية‪ ،‬وحصره لغيرها في جملة «اليهودية واألديان اإلبراهيمية‬
‫األخرى»‪ .‬فقد حصر موضوعه فيما ُي ْح ِسن‪ ،‬وترك لنا تحديد تقديراتنا‪ ،‬إذ هو‬
‫يعرف «الشر»‪ ،‬على وجه الخصوص‪ ،‬على أنه خصيصة بشرية خبيثة‪ ،‬ونفاق‬ ‫ّ‬
‫يقوض الظروف االجتماعية والمؤسسية للفعل األخالقي‪ .‬وتُشير القراءة‬
‫المناسبة لمفهومه عن «الشر» إلى مركزية الثقة في األخالق الدينية‪ ،‬وهذا محل‬
‫اتفاق‪ ،‬لم نُخضعه في هذه المقالة لمحاكمات قيمية من أديان ومدارس فكرية‬
‫ٍ‬
‫إيضاح‬ ‫أخرى؛ وما إيرادنا لبضع آيات من القرآن الكريم‪ ،‬وأحاديث إال مجرد‬
‫لمعنى محدود‪ ،‬وغاية ُم ْغ َل َقة عليه‪ .‬وهذا يحيلنا إلى سؤال واسع جد ًا‪ :‬هل هناك‬
‫ً‬
‫فليسوف معين يمكن أن نفكر فيه أكثر شمولية من هيغل في النظر إلى معضلة‬
‫«الشر» بهذا الفهم‪ ،‬الذي يطرحه علينا؟ ربما ال نجد إجابة حصرية على هذا‬
‫السؤال‪ ،‬حتى عند هيغل نفسه‪ ،‬ألن هيغل يصنف موضوع «الخير» و«الشر» بشكل‬
‫مباشر‪ ،‬أو واسع أحيان ًا‪ ،‬مثل العديد من أسالفه‪ ،‬ال سيما في علم الالهوت‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬إذا أخذ المرء بهذا السؤال المحوري على أساس المقاييس األخالقية‪،‬‬
‫فيمكن اعتبار فلسفته بأكملها‪ ،‬وعلى وجه الخصوص فلسفة الروح‪ ،‬على أنها‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪276‬‬
‫أكثر محاولة جادة لمعالجة هذه المعضلة‪ .‬لهذا‪ ،‬نود أن نُلقي نظرة خاصة‪ ،‬في‬
‫هذا المقال‪ ،‬على جدلية «الخير» و«الشر» عند هيغل‪ ،‬والذي‪ ،‬في رأي العديد‬
‫من المفكرين‪ ،‬يحتوي على نقد للنظام األخالقي الكانطي في شكل تناقض‬
‫بين «الضمير الشرير»‪ ،‬الذي يرمز لالنحراف‪ ،‬و«الروح الجميلة»‪ ،‬التي ترمز‬
‫للخير‪ .‬ونتقصد أن نفحص بأعين َد ِار ِسيه‪ ،‬وباختصار شديد‪ ،‬ما يمثل الموقف‬
‫األخالقي عند هيغل‪ ،‬الذي ُي َمكِّن المرء أن يتصرف بطريقة «جيدة»‪ ،‬بإرادة‬
‫حرة مستقلة‪ ،‬إلى حد كبير من خالل تجنب الدوافع األنانية‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يمكننا‬
‫أن نتساءل‪ :‬هل يرى هيغل؛ بحكم دراسته لالهوت المسيحي والخطيئة‪ ،‬أن‬
‫هناك استحالة لتجنب «الشر» في الواقع؟ فقد ُيعلم الجواب لهذا السؤال من‬
‫خالل الجانب اآلخر من التناقض‪ ،‬بين «الروح الجميلة»‪ ،‬التي تُعادل «الخير»‪،‬‬
‫وبين «الضمير الشرير»‪ ،‬الذي ُيعادل االنحراف‪ ،‬ويعترف بالضرورة األساسية‬
‫لألنانية‪ .‬وبالتالي‪ ،‬يتصرف اإلنسان من دون مراعاة للنقاء األخالقي‪ ،‬ويعتبر‬
‫هيغل أن أية ادعاءات ألصحاب هذا «الضمير الشرير»‪ ،‬غالب ًا ما تكون عديمة‬
‫الجدوى بشكل أساس‪ ،‬أو تحمل في طياتها بذرة النفاق‪ .‬من هنا‪ ،‬يحاول هيغل‬
‫معالجة مشكلة «الشر» من خالل تقديم دعم فلسفي لفكرة أن التاريخ هو عملية‬
‫تطور تتحرك نحو نتيجة جيدة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فهو يخفف من بعض صفات كمال‬
‫ال هذا المقام اإللهي في العالم ليس متسامي ًا على َخ ْل ِق ِه؛ ليس تقلي ً‬
‫ال‬ ‫اﷲ‪ ،‬جاع ً‬
‫من رفعة شأنه‪ ،‬لكن بفعله هذا‪ ،‬فإن اﷲ يفسح المجال لألمل‪ ،‬ويوسع دائرة‬
‫«الخير»‪.‬‬
‫لقد توافقت نظرتنا‪ ،‬في هذا المقال‪ ،‬مع كثيرين من االمفكرين والفالسفة الذين‬
‫َد َر ُسوا و َع َّل ُقوا على محاضراته ومؤلفاته‪ .‬إن فهم هيغل لـ«الشر»‪ ،‬من خالل هذه‬
‫المحاضرات والمؤلفات‪ُ ،‬ي َعدُّ تعميق ًا للقيم األخالقية‪ ،‬فيما رأى فيه بعض المتأخرين‬
‫تشويه ًا للمعرفة‪ ،‬على الرغم من أن طرحه ُي َعدُّ جذري ًا بما فيه الكفاية‪ ،‬ألهميته في فهم‬
‫الطبيعة البشرية‪ .‬لهذا‪ ،‬فـ«الشر» هو سؤال يتمحور حوله الموضوع‪ ،‬الذي اخترناه‬
‫للبحث هنا‪ 8،‬في ظل القناعة الراسخة بأن إرادة «الخير» غالبة‪ ،‬ولكن كل شيء في‬

‫‪ .8‬بيرت يس هودجسون‪« ،‬هيغل والالهوت املسيحي‪ :‬قراءة املحارضات حول فلسفة الدين»‪،‬‬
‫‪277‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫الحياة له ما يناقضه تمام ًا‪ ،‬على وفق رؤية هيغل في الديالكتيك‪ .‬ومثلما سعت الفلسفة‬
‫واألديان لتعظيم قيمة «الخير»‪ ،‬فقد شكلت مسألة «الشر» محور ًا مهم ًا في التفكير‬
‫اإلنساني‪ ،‬وكانت اإلشكالية األهم في تاريخ الفلسفة القديمة والحديثة على حد‬
‫سواء‪ .‬فقد اجتهد المفكر جوزيف مكارني‪ ،‬في كتابه «هيغل في التاريخ»‪ ،‬في استدعاء‬
‫واستجالء دور هيغل في فلسفة التاريخ وعالقتها بالدراسات الالهوتية‪ 9.‬وكذلك‬
‫فعلت اإلسهامات القيمة التي قدمها إتش إس هاريس‪ ،‬في مراجعاته لـ«نهاية التاريخ‬
‫عند هيغل»‪ ،‬والتي أبانت األفكار الباكرة ألحاديث الفالسفة الالحقين عن بداية التاريخ‬
‫ونهايته‪ 10.‬على الرغم من أن ما عرفناه عن هيغل هو أنه قام بـ«تتويج للتاريخ»‪ 11،‬وليس‬
‫وضع نهاية له‪ ،‬وما قدمه يمكن أن ُيحسب أيض ًا على أنه ٌ‬
‫تمييز رائع لما بين «النهاية»‬
‫و«التتويج»‪ ،‬مع مقاربة ومفارقة ضرورية إلدراك غايته‪ .‬ففي ختام أطروحته الفلسفية‬
‫عن التاريخ‪َ ،‬ن ْل َح ُظ أنه يقول إن «هذه هي النقطة‪ ،‬التي بلغها الوعي»‪ 12،‬وكأنه ُيريد ِمنَّا‬
‫أن نردد معه قوله‪« :‬لقد قطعنا هذا الحد‪ ،‬ومن هنا يمكننا أن نستعرض الماضي ونفهم‬
‫كيف ولماذا نحن وصلنا هنا»‪ .‬لهذا‪ ،‬نقول إن من األمور األساسية‪ ،‬التي يجب مراعاتها‬
‫عند قراءة منهج هيغل الفينومينولوجي‪ ،‬عدم إصدار وصفات حول الكيفية‪ ،‬التي ينبغي‬
‫أن يكون عليها العالم‪ .‬فقد صرح هيغل بذلك صراحة في فلسفة الحق‪ ،‬بقوله‪ :‬إن هناك‬
‫«كلمة أخرى حول موضوع إصدار تعليمات حول الكيفية‪ ،‬التي يجب أن يكون عليها‬
‫العالم‪ :‬الفلسفة‪ ،‬على أي حال‪ ،‬تأتي دائم ًا متأخرة جد ًا ألداء هذه الوظيفة‪ 13».‬بالطبع‪،‬‬
‫حتى هذا التصريح عن «ذروة» التاريخ‪ ،‬أو «نهايته»‪ ،‬أو حتى مجرد «تتويجه»‪ ،‬يبدو‬
‫صادم ًا للغاية بالنسبة لمشاعر الداعين لحقبة ما بعد الحداثة‪.‬‬

‫مطبعة جامعة أكسفورد‪ ،‬تاريخ النرش أبريل ‪https://www.goodreads.com/book/ .2005‬‬


‫‪ theology‬ــ ‪ christian‬ــ ‪ and‬ــ ‪ hegel‬ــ ‪show/2603525‬‬
‫‪ .9‬مكارين‪ ،‬جوزيف‪ .‬هيغل يف التاريخ لندن‪ :‬روتليدج‪.2000 ،‬‬
‫‪ .10‬إتش إس هاريس‪« ،‬هناية التاريخ عند هيغل»‪ ،‬يف نرشة مجعية هيغل يف بريطانيا العظمى ‪ 23‬ــ ‪24‬‬
‫(‪ 1 :)1991‬ــ ‪.14‬‬
‫‪ .11‬إيفا مولدهناور وكارل ماركوس ميشيل‪ ،‬حمرران‪« ،‬باندون ويركي»‪ ،‬فرانكفورت أم ماين‪:‬‬
‫سوهركامب‪ ،1970 ،‬ص ‪.20‬‬
‫‪ .12‬إيفا مولدهناور وكارل ماركوس ميشيل‪ ،‬حمرران‪« ،‬باندون ويركي»‪.)539 :12( ،‬‬
‫‪ .13‬املصدر السابق‪« ،‬باندون ويركي» (‪ 27 :7‬ــ ‪.)28‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪278‬‬
‫إن هذا شبيه بما واجه فرانسيس فوكوياما‪ ،‬عندما تجرأ على نشر مقالته حول‬
‫«نهاية التاريخ‪ :‬والرجل األخير»‪ ،‬التي طورها لكتاب فيما بعد‪ 14.‬ففي الواقع‪ ،‬ال‬
‫فائدة من محاولة الدفاع عن هيغل ضد االدعاءات الميتافيزيقية بالمطلق‪ ،‬لكن لنكن‬
‫واضحين بشأن ما ال يقترحه هيغل في هذا الصدد‪ ،‬إذ إنه لم يلمح إلى أنه شهد نهاية‬
‫التاريخ‪ ،‬فقط أشار إلى «اللحظة التاريخية» التي وصلت فيها الحرية أخير ًا إلى أوجها؛‬
‫ونتذكر تعريفه لتاريخ العالم بأنه «تقدم وعي الحرية»‪ 15.‬ولتجديد التواصل الفكري‬
‫مع هيغل‪ ،‬صدر حديث ًا‪ ،‬أي في عام ‪ ،2005‬كتابان‪ ،‬لهما من األهمية ما يستحقان‬
‫معها تكرار النظر لهما في دراستنا هذه حول رؤية هيغل للخلق واإلنسان و«الشر»‪.‬‬
‫وهما‪ :‬كتاب ستيفن هولجيت «مدخل إلى هيغل»‪ 16،‬وكتاب بيتر هودجسون «هيغل‬
‫والالهوت المسيحي‪ :‬قراءة المحاضرات حول فلسفة الدين»‪ 17،‬اللذان يوفران‬
‫إضافة نوعية ممتازة لموضوعهما‪ ،‬خاصة وأنهما يأتيان من قبل محررين ومترجمين‬
‫للنسخة النقدية‪ ،‬التي فيها إعادة البناء التخميني لالهوت المسيحي الذي أنجزته‬
‫محاضرات هيغل‪ ،‬ويوفران قراءة قريبة للنص ككل‪ .‬وقد جرى نشر هذين الكتابين‪،‬‬
‫بالتزامن مع إعادة إصدار مطبعة جامعة أكسفورد لمحاضرات فلسفة الدين التي‬
‫يحدثنا فيها هيغل عن أن اﷲ يخلق من خالل «تحرير» اآلخر الذي هو جوهري‬
‫في الحياة اإللهية‪ ،‬ويخرجه إلى الوجود الفعلي والمستقل‪ ،‬ويجعل منه العالم‬
‫في مواجهة اﷲ‪ .‬ويرى‪ ،‬بهذا الفهم‪ ،‬أن العالم ينقسم على عالمي الطبيعة والروح‬
‫المحدودة «اإلنسانية»‪ .‬ويعتقد هيغل أن حكمة اﷲ تعمل في كال العالمين‪ ،‬لكن‬
‫العالقة الحرة والواعية باﷲ ممكنة فقط في النهاية‪ ،‬أي اإلنسان‪ ،‬وأن الخطيئة‬

‫‪ .14‬فرانسيس فوكوياما‪« ،‬هناية التاريخ والرجل األخري»‪ ،‬نيويورك‪ :‬املطبعة احلرة‪.1992 ،‬‬
‫‪ .15‬هل اعتقد هيغل أن احلرية قد بلغت متامها يف حياته‪ ،‬وفرسهتا فلسفته؟ ربام فعل‪ .‬لقد اعتقد بالتأكيد‬
‫أن رشوط هذا اإلنجاز قد وصلت‪ ،‬عىل األقل يف شكل ناشئ‪ ،‬وإذا كان هذا هو كل ما يعنيه املرتمجون‬
‫بنهاية التاريخ‪ ،‬فليكن‪ .‬هل كان يعتقد أنه يمكن حتقيق تطورات أخرى يف احلرية؟ ال أرى أي سبب‬
‫يمنع ذلك‪ ،‬خاصة بالنظر إىل ترصحياته القليلة حول تطور التاريخ يف األمريكتني‪ ،‬عىل سبيل املثال‪.‬‬
‫املصدر السابق‪« ،‬باندون ويركي» (‪.)32 :12‬‬
‫‪ .16‬ستيفن هوجليت‪» ،‬مدخل إىل هيغل»‪ ،‬النارش‪ :‬بالك ويل بوبليرش‪ ،‬نيويورك‪ ،‬عام ‪.2005‬‬
‫‪ .17‬بيرت يس هودجسون «هيغل والالهوت املسيحي‪ :‬قراءة املحارضات حول فلسفة الدين‪ ،‬أكسفورد‬
‫بريطانيا‪ ،‬مطبعة جامعة أكسفورد‪ ،‬عام ‪.2005‬‬
‫‪279‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫والتأمين الذاتي و«الشر» هي شرط إمكانية العالقات الحرة‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن نظرة‬
‫هيغل للطبيعة البشرية تأخذ جانب ًا مأساوي ًا‪ ،‬كما يتضح من تفسيره لقصة السقوط في‬
‫ِس ْفر التكوين‪.‬‬

‫فكرة الخلق‪:‬‬
‫مثلت قضية الخلق إشكالية فلسفية بالغة األهمية لكل الفكر اإلنساني الذي‬
‫حاول التصدي لتفسيرها‪ .‬وقد أدرك الفالسفة أن مسألة جوهرية الخلق هي قطع ًا‬
‫ليست بالسهولة‪ ،‬التي يمكن اإلجابة عنها داخل جملة واحدة؛ من َقبِيل أن هذا‬
‫الجوهر الوجودي «حدث في يوم مجهول من أيام الماضي»‪ .‬ومثلما دار الجدل بين‬
‫الفالسفة حول قضية الخلق‪ ،‬وميقات حدوثه‪ ،‬وجدنا أن هذا الجدل يتطور من دين‬
‫آلخر‪ ،‬وتم ربطه في العالقة بين الخالق والمخلوق‪ ،‬وهو هنا يختلف عن الفلسفة في‬
‫مفهومي الكلية والجزئية؛ كما هو الحال في الديانة الصينية والهندوسية‪ .‬إذ إنهم في‬
‫الهندوسية‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬يرون أنه لكي يتحد اإلنسان مع اﷲ عليه أن يفرغ نفسه‬
‫من كل مضمون‪ ،‬وهم يرون أن اﷲ تجريدٌ خالص‪ ،‬واالتحاد به يتطلب من بني البشر؛‬
‫وهو األساس لديهم في مفهوم العبادة‪ ،‬امتالك المشابهة لذلك التجريد الخالص‪.‬‬
‫‪ 18‬غير أن هيغل‪ ،‬في تعريفه العام للدين وللخلق‪ ،‬يقول‪« :‬إن الدين عبارة عن تجل‬
‫للمطلق في إطار الفكر التصوري للحظات الثالث‪ ،‬والخلق حدث بالفعل في يوم‬
‫مجهول من أيام الماضي»‪ 19.‬وقد نقرأ في عبارة «يوم مجهول» أنه لن يتسنى لنا كبشر‬
‫تحديده‪ ،‬أو وسمه بتاريخ معين تتنازعه األرقام‪ .‬ولكن هيغل جعل من مفهوم الدين‬
‫فكرة شاملة‪ ،‬على اعتبار أنه‪ ،‬أي الدين‪ ،‬حالة ضرورية للروح في مالزمة العقل ضمن‬
‫تطورهما الجدلي‪ ،‬ويعني هذا أن وجوده ليس بالصدفة‪ ،‬وإنما هو عمل ضروري من‬

‫‪ .18‬كام يف احلضارات الصينية واهلندية واليونانية والتأثري املتبادل ما بني الدين والفلسفة والفلسفة والدين‬
‫حيث اإلضافة واحلذف واإلبتكار والتقليد والشك وقبل الديانات الثالث األخرية أن العمق األوسع‬
‫ملفهوم اﷲ قد جلبته الديانة الزرادشتية ألن األخالق قد شكلت مرتكزا يف هذه الديانة فأصبح اﷲ‬
‫مرادفا للخري واملحبة والسالم‪.‬‬
‫‪« .19‬الفكرة اهليغلية ملفهوم الدين» ‪ online.com/%D8%A7%D9%84%‬ــ ‪ east‬ــ ‪https://middle‬‬
‫ــ ‪D9%81%D9%83%D8%B1%D8%A9‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪280‬‬
‫أعمال العقل‪ .‬وهذه الفكرة الشاملة هي فكرة هيغلية باألساس‪ ،‬بالنظر للتصور السائد‬
‫في السياق الثقافي الغربي‪ ،‬بنا ًء على أن مفهوم الفكرة الشمولية موجودة قبل هيغل‬
‫المتَحدَ ى البصيري‬
‫بقرون طويلة‪ ،‬في مقاربة الفلسفة التوحيدية ومعرفياتها‪ ،‬حيث ُ‬
‫‪20‬‬
‫الكامن في كينونة اإلنسان‪[ :‬بل اإلنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره]‪،‬‬
‫وحيث العقل التصوري يرد كل ُم ْعت ََذر عن معرفة اﷲ‪[ :‬أفلم يسيروا في األرض‬
‫فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها ال تعمى األبصار ولكن تعمى‬
‫القلوب التي في الصدور]‪ 21.‬وهي أعمال مطلوبة خلقي ًا ووجودي ًا‪ ،‬وما الوحي إال‬
‫تأكيد لهذه الحجة العقلية الوجودية‪ ،‬أي إن العقل قادر على أن يقود اإلنسان إليه من‬
‫دون مساعدة من الوحي‪ ،‬وأن أشياء كثيرة في الديانات ال تؤخذ بمعانيها الحرفية‬
‫فقط‪ ،‬لكن تؤخذ؛ وهو رأي هيغل‪ ،‬بمعناها الداخلي ومضمونها الفكري‪ ،‬تأكيد ًا على‬
‫أن هناك مساحه فاصلة بين اإلنسان وبين الخالق‪ ،‬أو ما أسماه هيغل بالعقل الكلي‪،‬‬
‫الذي هو اﷲ‪ ،‬وبين العقل الجزئي‪ ،‬الذي هو اإلنسان‪ .‬ويعمل الدين بما يحتويه من‬
‫وعد ووعيد‪ ،‬وإصالح وبينة‪ ،‬وإدراك ونقل تجارب األولين‪ ،‬على ردم تلك الهوة‬
‫والعبور تجاه الخالق‪ ،‬أو ما يمكن أن تفسره لنا اآلية الكريمة‪ ،‬في قوله تعالى‪[ :‬يا‬
‫‪22‬‬
‫أيها اإلنسان إنك كادح إلى ربك كدح ًا فمالقيه]‪.‬‬
‫إن فكرة المطلق والجوهر‪ ،‬في الفكرة الهيغلية لمفهوم الدين‪ ،‬تأخذ بعد ًا أكثر‬
‫وجدانية‪ ،‬إذ ينتقلون في مفهوم اﷲ‪ ،‬أو «براهما»‪ 23‬إلى مفهوم الوحدة المجردة‪،‬‬
‫أو الجوهر الواحد ويرون أن اﷲ واحد ال شكل له‪ ،‬وأن دون ذلك مجرد أعراض‬
‫ونسب وتسميات‪ 24.‬وتتلخص قصة الخلق عند هيغل‪ ،‬من التمايز الداخلي إلى الفناء‬

‫‪ .20‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة القيامة‪ :‬اآلية ‪.15‬‬


‫‪ .21‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة احلج‪ :‬اآلية ‪.46‬‬
‫‪ .22‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة اإلنشقاق‪ ،‬اآلية‪.6 :‬‬
‫ً‬
‫‪ .23‬برامها يف الديانة اهلندوسية‪ ،‬هو اإلله اخلالق للعامل ويؤلف مع شيڤا املدمر وڤيشنو احلفيظ‪ ،‬ثالوثا يف‬
‫حمفل اآلهلة اهلندوسية‪ ،‬وهو فلسفي ًا جتسيد لربامهان املطلق‪ ،‬املجرد‪ ،‬املتعايل املنزه عن الصفات‪ ،‬الروح‬
‫الكونية اخلالدة التي ترسي يف العامل كله‪ ،‬الذي ال بداية له وال هناية‪ ،‬وال حدود لتجلياته‪ ،‬والذي ال‬
‫يدرك إال بزوال غشاوة اجلهل‪ ،‬وإليه يتوسل حكامء اهلندوس لالستغراق يف الروح الكونية‪ ،‬وبه يبلغ‬
‫املتأمل االنعتاق من دورة احلياة واملوت‪.‬‬
‫‪ .24‬إن هذا االختالف يف املفاهيم بني ديانة وأخرى مثل ما بني الوجود اخلالص واجلوهر‪ ،‬أو املطلق‬
‫‪281‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫الخارجي‪ .‬ففي طرح هذه المسألة يتناول المناقشة الثانية من عناصر‪ ،‬أو مجاالت‬
‫الحياة اإللهية‪ ،‬أو تلك‪ ،‬التي هي جزء من خلق العالم‪ ،‬بما فيه اإلنسان وسقوطه‬
‫في الخطيئة‪ ،‬والخالص من خالل المسيح‪ .‬و ُيع َّبر عنها بشكل مجازي بأنها «مملكة‬
‫االبن»‪ 25.‬إن شرط إمكانية خلق عالم متميز عن اﷲ؛ على الرغم من أنه ال يزال‬
‫ُم ْحت ََضنَ ًا في الكل اإللهي‪ ،‬هو التمايز الداخلي في الحياة اإللهية‪ ،‬الذي يجعل اﷲ‬
‫موضوع ًا جامع ًا‪ ،‬وليس منفرد ًا ومغلق ًا بال نوافذ‪ .‬يخلق اﷲ من خصوبة اﷲ الداخلية‪،‬‬
‫أو قوة التوليد‪ ،‬وليس من شيء غريب‪ ،‬أو خارجي عن اﷲ‪ .‬وفي فعل الخلق‪ ،‬يفترض‬
‫اآلخر منطقي ًا أنه فعل وجودي‪ .‬والتمايز‪ ،‬الذي كان في «اللحظة» األولى من الفكرة‬
‫مجرد عرض «انعكاس»‪ ،‬أو مظهر‪ ،‬يأتي اآلن إلى اليمين»‪ 26.‬يفعل ذلك كعرض‪ ،‬أو‬
‫مظهر خارجي‪ .‬إذ لم تعد الروح مطلقة بل منتهية؛ وبقدر ما يكون التمايز بحد ذاته‬
‫شيئ ًا مختلف ًا داخلي ًا في الطبيعة والروح المحدودة‪ ،‬يكون لدينا خلق العالم‪ ،‬الشكل‪،‬‬
‫الذي يصبح فيه االبن اآلخر بالفعل‪ 27.‬في الحركة من المظهر إلى الجوهر‪ ،‬يصبح‬
‫االبن المثالي واألبدي؛ الذات الذاتية المتأصلة في اﷲ‪ ،‬ابن ًا حقيقي ًا للدم والروح‪.‬‬
‫يتمتع المظهر التاريخي بجودة إيجابية وتجريبية؛ ولكن‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬فإن كل ما يظهر‬
‫يختفي أيض ًا‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬فإن عنصر المظهر يبقى في الجوهر‪ .‬من ناحية‪ ،‬فقد اكتملت‬
‫الفكرة المطلقة‪ ،‬القائمة بذاتها ولها‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فهي‪ ،‬في جانبها «الذاتي»‪،‬‬
‫ليست كاملة‪ ،‬ألنها ليست ملموسة بعد‪ ،‬وال تنعكس في نفسها بعد‪ ،‬وال يتم اعتبارها‬
‫متمايزة‪ .‬هذا هو العنصر الثاني‪ ،‬الذي يمثل المظهر‪ 28.‬وبحسب محاضرات عام‬

‫والالمطلق وبني الوعي اجلزئي والوعي التام هو بسبب التطورات‪ ،‬التي رافقت تعديل كثري من‬
‫املفاهيم ضمن الفلسفات القديمة‪.‬‬
‫‪ .25‬يف عام ‪ 1795‬أ ّلف أول كتاب له حتت عنوان‪« :‬حياة يسوع»‪ ،‬ثم راح يدرس بشكل منهجي منتظم‬
‫مؤلفات كانط وفيختة يف مدينة فرانكفورت بني عامي ‪ 1797‬ــ ‪ .1800‬ثم يردف املؤلف قائالً‪ :‬ويف عام‬
‫‪ 1801‬انتقل إىل مدينة «يينا»‪ ،‬التي حتتوي عىل جامعة مهمة وحيث ان شيلنغ حل حمل فيخته كأستاذ‬
‫جامعي‪ .‬وهناك انخرط يف الكتابة والبحث واملناقشات الفلسفية إىل أقىص حد ممكن‪ .‬ثم أصبح أستاذ ًا‬
‫مساعد ًا يف اجلامعة نفسها‪ ،‬ولكن راتبه كان ضعيف ًا جد ًا‪.‬‬
‫‪ .26‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪.)365 :3( :‬‬
‫‪ .27‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ ،)365 :3( :‬وراجع (‪ 294‬ن‪.)128 .‬‬
‫‪ .28‬املصدر السابق‪ ،‬املحارضات‪( :‬ص ‪.)142‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪282‬‬
‫‪ ،1824‬هناك وجهان يمكن استيعابهما‪ً 29:‬‬
‫أوال‪ ،‬من جانب الفكرة اإللهية‪ ،‬يمكننا‬
‫أن نقول إن الروح في نسق الكونية تطرح نفسها في نمط الخصوصية‪ ،‬ولكن من‬
‫خالل ذلك تظل الفكرة األبدية‪« :‬اﷲ هو مجمل الكل»‪ ،‬الذي يشمل ك ً‬
‫ال من الكونية‬
‫والخاصة؛ التمييز الداخلي والتهويل الخارجي‪ ،‬على حد سواء‪ .‬وقد تم دمج هذه‬
‫الظاهرة الخارجية في الثالوث الشامل‪ .‬وبالتالي‪ ،‬أصبحت داخلية للحياة اإللهية‪،‬‬
‫أو يمكننا أن نقول إن االبن يوحد الطريقتين‪ :‬االبن يشكل الحقيقة‪ ،‬وكذلك الحالة‬
‫المثالية لالختالف‪« ،‬ولكن في الحب‪ ،‬وفي الروح»‪ ،‬ما يعني أن االبن يبقى متطابق ًا‬
‫مع الفكرة في الشكل للكونية‪ .‬إن طريقتي الكونية والخاصة‪ ،‬الهوية واالختالف‪،‬‬
‫«يجب أن ُيفترض أنها متميزة ــ ولكن فقط للحظة‪ ،‬كما كانت‪ ،‬ألنها ليست مميزة‬
‫حق ًا»‪ .‬بهذا يعني هيغل أن العالم الزماني المكاني ليس سوى لحظة عابرة في الخلود‬
‫اإللهي‪ .‬إنه التمثيل‪ ،‬الذي يفصل بين الجانبين في الوقت المناسب‪ ،‬ويتتبع تاريخ‬
‫الخلق والسقوط والفداء‪ .‬ويشير هذا إلى الجانب الثاني‪ ،‬الذي يجب أن يتم من‬
‫خالله استيعاب العنصر الثاني‪ ،‬أي الروح المعنوية‪ ،‬والتي هي «جوهري ًا عملية‬
‫‪30‬‬
‫االرتفاع» من المحدود إلى الالنهائي‪ ،‬من الخليقة إلى الخالق‪.‬‬

‫الخلق وإطالق اآلخر‪:‬‬


‫يطور هيغل مصطلحات مميزة لوصف فعل‪ ،‬أو عملية الخلق‪ .‬ويشير إليها من ناحية‬
‫على أنها فرضية وضعية‪ ،‬أو حكم‪ ،‬أو تقسيم أولي لهذا الحكم؛ ومن ناحية أخرى‬
‫كإصدار‪ ،‬أو إطالق سراح‪ .‬ولدى الوضع والحكم داللة «نحوية»‪ 31‬قانونية‪ ،‬ما يوحي‬
‫بأن اإلبداع اإللهي يمارس من خالل قول‪ ،‬أو مرسوم بدائي‪ ،‬أو دعوة إلى الوجود‪ ،‬أو‬

‫‪ .29‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 198 :3( :‬ــ ‪.)9‬‬


‫‪ .30‬يف حمارضات عام ‪ ،1827‬متت مناقشة اجلانبني برتتيب عكيس‪ .‬من وجهة نظر موضوع التفكري‪ ،‬جيب‬
‫أن تصبح فكرة املظهر اإلهلي حقيقة موضوعية مؤكدة؛ بينام من وجهة نظر الفكرة‪« ،‬الوجود األبدي»‬
‫يف «و» من أجل ــ نفسه هو ما يكشف عن نفسه‪ ،‬حيدد نفسه‪ ،‬يقسم نفسه‪ ،‬يفرتض نفسه عىل أنه ما‬
‫يميزه عن نفسه‪ ،‬ولكن الفرق يف نفس الوقت باستمرار مفصل «(‪.)291 :3‬‬
‫َان ِعنْدَ اهللِ‪َ ،‬وك َ‬
‫َان ا ْلك َِل َمة اهللَ‪( ...».‬يوحنا ‪ 1 :1‬ــ‬
‫ُ‬ ‫‪ .31‬الكتاب املقدس‪« :‬يف ا ْل َبدْ ِء ك َ‬
‫َان ا ْلك َِل َم ُة‪َ ،‬وا ْلك َِل َم ُة ك َ‬
‫‪.)13‬‬
‫‪283‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫تشكيل لفظي‪ ،‬أو حكم تمييزي‪ .‬والخلق هنا ليس جسدي ًا بقدر ما هو فعل فكري‪ :‬اﷲ‬
‫يخلق من خالل نطق كلمة واحدة‪ 32.‬وهكذا قرأنا في مخطوطة‪ ،‬عام ‪ ،1821‬أنها حكم‬
‫مطلق‪ 33،‬أو تقسيم أولي للحكم يمنح االستقالل لجانب الكائن اآلخر؛ إنه «الخير»‪،‬‬
‫الذي يمنح الفكرة ككل إلى هذا الجانب في الخطيئة «الشر»‪ .‬وتمضي المخطوطة‬
‫لتوحي بوجود حكمين‪ ،‬أو انقسامين‪ :‬أحدهما داخلي للحياة اإللهية في حين يفترض‬
‫اآلخر وجود العالم بامتياز عن اﷲ‪ 34.‬وفي حين أن الحكمين متماثالن ضمني ًا‪ ،‬إال أن‬
‫التمثيل يفصل بينهما عن الحق كأفعال متميزة‪ ،‬ألن ابن األب األبدي ليس هو العالم‬
‫المادي والروحي نفسه؛ فاﷲ في لحظة تمايز الذات ليس متطابق ًا ببساطة مع العالم‪ .‬بل‬
‫إن التمايز اإللهي داخل األرض هو األساس إلمكانية خلق عالم من الطبيعة والروح‬
‫المحدودة‪ ،‬التي تكون دعوتها لئال يكون اﷲ هو اآلخر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال يوجد نشاطان‬
‫أبديان ﷲ‪ ،‬ولكن هناك نشاطان فقط‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن التفريق بين «الكيانات الدنيوية» هذه‬
‫كشيء مستقل هو مجرد لحظة سلبية صريحة من وجود كائن آخر‪ ،‬من كونه «خارجي»‬
‫من وإلى نفسه‪ ،‬والتي على هذا النحو ليس لها حقيقة‪ ،‬ولكنها مجرد لحظة؛ في اﷲ‬
‫نفسه لحظة اختفاء المظهر‪ .‬بالنسبة للعالم‪ ،‬هي لحظة ظهور ممتدة؛ مكاني ًا وزمني ًا‪ ،‬هي‬
‫لحظة اختفاء اﷲ على الفور‪ :‬إنها مجرد وميض من البرق يتالشى على الفور‪ ،‬صوت‬
‫كلمة يتم إدراكها ويختفي في وجودها الخارجي في اللحظة‪ ،‬التي يتحدث بها‪ .‬وتنقل‬
‫هذه الصور الغامضة إحساس ًا باالختالف النوعي بين أبدية اﷲ وزمن الخلق‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن‬
‫االعتماد الراديكالي للعالم على اﷲ‪ ،‬وعدم قابلية الفعل الخالق للموضوعية؛ وميض‬
‫نور‪ ،‬صوت تالشي‪ .‬من وجهة نظر اﷲ‪ ،‬العالم هو لحظة اختفاء‪ ،‬تدعى إلى الوجود‬
‫«مفترضة» بكلمة عابرة؛ من وجهة نظر العالم‪ ،‬يحوم الخلق على حافة الالوجود‬
‫ويدعمه فقط «الخير» اإللهي‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫لقد جرى تطوير هذه الموضوعات بتركيز مختلف في محاضرات عام ‪.1827‬‬

‫‪ .32‬القرآن الكريم‪[ :‬إِ َنَّم َأ ْم ُر ُه إِ َذا َأ َرا َد َش ْي ًئا َأ ْن َي ُق َ‬


‫ول َل ُه ُك ْن َف َيك ُ‬
‫ُون]‪ ،‬سورة يس ــ اآلية ‪.82‬‬
‫‪ .33‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ ،3:86( :‬وص‪.)143 :‬‬
‫‪ .34‬املصدر السابق‪ 87 :3( ،‬ــ ‪.)8‬‬
‫‪ .35‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 291 :3( :‬ــ ‪.)3‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪284‬‬
‫ويقال لنا فيها إنه من دون الخلق والمظهر‪ ،‬ليست لنا عالقة باﷲ‪ ،‬وتبقى الفكرة لنفسه‬
‫فقط‪ .‬إن فعل التمايز هو مجرد حركة‪ ،‬أو لعبة حب مع نفسها‪ ،‬ال تصل إلى جدية الكائن‬
‫اآلخر‪ ،‬وإلى االنفصال والتمزق‪ ،‬أي أن العناصر البارزة هي نفسها‪ ،‬ولم يتم خلقها بعد‬
‫حتى يتم تحديدها بشكل واضح‪ .‬هذا هو تحديد ًا ما يجب أن يحدث إذا كان اآلخر‬
‫داخل اﷲ؛ االبن األبدي‪ ،‬هو الحصول على «حتمية الكائن اآلخر‪ ،‬ككيان حقيقي»‪.‬‬
‫اآلخر هو أمر ضروري حتى يكون هناك اختالف؛ إنه ضروري ألن المميز يجب أن‬
‫يكون غير الكيان‪ 36.‬ويستمر النص ببيان نقدي‪ :‬فقط الفكرة المطلقة هي‪ ،‬التي تحدد‬
‫نفسها‪ ،‬وهي متأكدة من أنها حرة تمام ًا داخل نفسها بسبب تقرير المصير هذا‪ .‬لهذا‬
‫السبب‪ ،‬فإن فهم تقرير المصير يتضمن ترك هذا «الكيان» المحدد موجود ًا كشيء حر‪،‬‬
‫أو شيء طليق‪ ،‬أو كشيء مستقل‪ .‬والحرية هي الحرية فقط؛ فقط من أجل اإلنسان‬
‫الحر‪ ،‬ألن اآلخر لديه الحرية أيض ًا‪ .‬إنه ينتمي إلى الحرية المطلقة للفكرة‪ ،‬وأنه‪ ،‬في‬
‫فعله لتقسيمه وتجزئته‪ ،‬يرفض اآلخر ليكون موجود ًا ككائن حر ومستقل‪ .‬هذا اآلخر‪،‬‬
‫الذي صدر كشيء حر ومستقل‪ ،‬واستبعاد اآلخرين من العمل الحر‪ ،‬الذي هو العالم‬
‫‪37‬‬
‫على هذا النحو‪.‬‬
‫هنا‪ ،‬يتم استدعاء االستعارة الرئيسة األخرى‪ ،‬التي يستخدمها هيغل لوصف‬
‫فعل الخلق‪ ،‬أو «اإلصدار»‪ ،‬أو «الوجود» الرافض‪ .‬الحظ سياق استخدامها‪:‬‬
‫الحرية المطلقة للفكرة المطلقة (اﷲ) هي أنها قادرة على إطالق اآلخر‪ ،‬الذي‬
‫هو جوهري لوجوده في الوجود الفعلي والمستقل‪ ،‬وهو العالم مقابل اﷲ؛ فقط‬
‫الحر يمكنه فعل ذلك‪ .‬إن وجود كائن غير حر‪ ،‬أو حر جزئي ًا يقتضي‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان‬
‫التمسك بأخالقه باعتباره ضروري ًا لدستوره الذاتي‪ .‬إن اﷲ قادر على خلق العالم‬
‫دون أي تهديد لحرية اﷲ الجوهرية الخاصة به‪ ،‬والتي هي كاملة في ذاتها ومن‬
‫أجلها‪ ،‬والتي تفيض دون مبرر إلى العالم‪ ،‬ومن دون أي نقص في الذات‪ ،‬ألن اﷲ‬
‫ينبوع ال ينضب‪ ،‬إذ يطلق خصوبته في غير اﷲ‪ .‬وبهذه الطريقة تصبح لعبة الحب‬
‫غير الجادة في حد ذاتها خطيرة ومميتة‪ ،‬وتخضع لتمزق وصراعات ومعاناة العالم‬

‫‪ .36‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪( :‬ص ‪.)144‬‬


‫‪ .37‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪.)292 :3( :‬‬
‫‪285‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫المحدود‪ .‬وبالتالي‪ ،‬ال يتضاءل اﷲ بل يتضخم‪ ،‬ألن العالم؛ في غيره من اﷲ على‬


‫وجه التحديد‪ ،‬يبقى لحظة في الحياة اإللهية‪ .‬اﷲ ال يتخلى عن هذا العالم بل يحميه‬
‫‪38‬‬
‫ويحفظه‪ ،‬وهو في الواقع يثريه ويكمله؛ لكن هذا إنجاز وجودي وليس منطق ًّيا‪.‬‬
‫ويجب الحفاظ على كلتا الحالتين‪ :‬أن اﷲ كامل بمعزل عن العالم‪ ،‬وأن اﷲ يحقق‬
‫االكتمال من خالل العالم‪.‬‬
‫ويتابع هيغل في محاضرات عام ‪ ،1827‬للتأكيد على أن «حقيقة العالم ليست‬
‫سوى حالة مثالية»‪ 39.‬من المؤكد أن العالم حقيقي‪ ،‬لكنه يفتقر إلى «الواقع‬
‫الحقيقي» على حسابه الخاص‪ .‬وحقيقة واقعيته هي مثاليته‪ ،‬ما يعني أنه «ليس‬
‫‪40‬‬
‫شيئ ًا أبدي ًا في حد ذاته‪ ،‬بل شيئ ًا تم إنشاؤه‪ ،‬والذي يفترض وجوده فقط»‪،‬‬
‫ومصيره هو «أن يكون مجرد لحظة‪ ،‬إذا جاز التعبير»‪ 41،‬إللغاء انقسامه وانفصاله‬
‫عن اﷲ‪ ،‬والعودة إلى أصله‪ ،‬والدخول في عالقة الحب والروح ــ وهو العنصر‬
‫الثالث في الثالوث الجامع‪« .‬العنصر الثاني هو‪ ،‬بالتالي‪ ،‬عملية العالم في الحب‪،‬‬
‫التي يمر بها من السقوط واالنفصال إلى الخالص»‪ ،‬وهذا الموضوع مذكور‬
‫أيض ًا في مخطوطة المحاضرة‪ 42.‬هنا يؤكد هيغل على أن مادية العالم لها وضع‬
‫شيء «يفترضه» اﷲ على أنه سلبي للمثالية‪ .‬على هذا النحو‪ ،‬فإن العالم الطبيعي‬
‫«نسبي»‪ ،‬و«مظهر»؛ ليس فقط بالنسبة لنا‪ ،‬ولكن أيض ًا في حد ذاته‪« .‬هذه هي‬
‫جودته‪ ،‬وهي التمرير‪ ،‬والتحرك إلى األمام‪ ،‬حتى يعود إلى الفكرة النهائية‪ ».‬وفي‬
‫حين أنه يتحمل مؤقت ًا‪ ،‬فإن وضعه الوجودي هو االختفاء والرحيل؛ وكل ما يظهر‬
‫يختفي أيض ًا‪ :‬إنه مظهر يختفي‪ ،‬أي «ظاهرة الزوال»‪ .‬إن السؤال حول ما إذا كان‬
‫الخلق والسقوط يتعارضان مع فكرة هيغل‪ ،‬أي سؤال‪ :‬ما إذا كان االنفصال‪،‬‬
‫أو التمايز عن اﷲ ينطوي بالضرورة على الخطيئة والمقاومة‪ ،‬سيأتي‪ .‬وفي هذه‬
‫اللحظة‪ ،‬فإن النقطة هي أن العالم في نهايته وزواله وطوارئه ليس غاية في حد‬

‫‪ .38‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪.)293 :2( :‬‬


‫‪ .39‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪.)293 :3( :‬‬
‫‪ .40‬إشارة الرتباط هيغل بني املثالية والواقع‪.‬‬
‫‪ .41‬املصدر السابق‪( ،‬ص ‪.)145‬‬
‫‪ .42‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 88 :3( :‬ــ ‪.)9‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪286‬‬
‫ذاته‪ ،‬بل يجد هدفه فقط في عودته إلى اﷲ‪ .‬وال يجب أن ُينظر إلى هذا على أنه‬
‫تشويه ترويجي لصالح العالم المادي‪ ،‬بل على أنه‪ ،‬من وجهة نظر هيغل‪ ،‬إعادة‬
‫صياغة لموضوع مسيحي كالسيكي‪ .‬فالعالم‪ ،‬على الرغم من أنه جيد‪ ،‬هو نسبي‪،‬‬
‫‪43‬‬
‫ومظهر سيختفي في النهاية‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫لهذا السبب بالذات‪ ،‬فإن مواضيع الخلق والحفظ متطابقة في تفسير هيغل‪،‬‬
‫ألن استقالل االكتفاء الذاتي ال ُينسب إلى العالم‪ ،‬ألن الحفاظ عليه يستلزم خلق ًا‬
‫مستمر ًا‪ .‬وعلى العكس من ذلك‪ ،‬فإن إبداعه هو أيض ًا في الحفاظ عليه‪ ،‬ألن لحظة‬
‫الوجود اآلخر هي نفسها لحظة ثابتة للفكرة‪ .‬إذا كان الخلق يستلزم تحرير ًا إلهي ًا‬
‫للعالم‪ ،‬فإن الحفظ يستتبع تمسك ًا إلهي ًا بالعالم‪ .‬يقال لنا إن هذا الخلق‪/‬الحفظ‬
‫المستمر هو حكمة اﷲ في الطبيعة‪ ،‬وهو موضوع ُي ْف َت َق ُر إليه في األديان السابقة‪،‬‬
‫ولكن يتم العثور عليه خاصة في اليهودية‪ ،‬والديانات اإلبراهيمية األخرى‪ .‬يعتقد‬
‫هيغل أن مهمة اإلدراك الفلسفي «التعرف على هذا المفهوم {الحكمة} في الطبيعة‪،‬‬
‫وفهم الطبيعة كنظام‪ ،‬وكمنظمة‪ ،‬حيث تنعكس الفكرة اإللهية»‪ .‬وهذه مهمة يعالجها‬
‫هيغل نفسه في الجزء الثاني من «موسوعة العلوم الفلسفية»‪ ،‬أو ما ُع ِر َ‬
‫ف بـ«فلسفة‬
‫الطبيعة»‪ ،‬الذي ُينظر إليه أحيان ًا على أنه أضعف جزء من نظامه الفلسفي‪ ،‬ولكن‬
‫ال بالطبيعة منذ دراساته األولى‪ ،‬ولعبت دور ًا حاسم ًا‬
‫في الواقع كان هيغل منشغ ً‬
‫في فكره‪ .‬ففي مخطوطة محاضرة «فلسفة الدين»‪ ،‬يقدم ملخص ًا موجز ًا للغاية عن‬
‫الموضوع المركزي حولها‪ ،‬وهو أن الحياة هي أعلى معرض للفكرة في الطبيعة‪.‬‬
‫لكن الحياة الطبيعية تعني «حصر ًا تضحية الذات ــ سلبية الفكرة مقابل هذا الوجود ــ‬
‫‪45‬‬
‫ووجود الروح»‪ ،‬أي اإلنسان‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ينقسم العالم المحدود إلى العالم الطبيعي والروح المحدودة‪ 46.‬وبذاتها‪ ،‬ال‬
‫تعرف الطبيعة شيئ ًا عن اﷲ‪ ،‬وال ترتبط باﷲ إال من خالل اإلنسانية‪ ،‬التي توفر لها «الجانب‬

‫‪ .43‬قد نالحظ أن هشاشة وشخصية العامل أصبحت يف عرصنا موضوع ًا علمي ًا وبيئي ًا‪ ،‬وكذلك ديني ًا‪( ،‬ص‬
‫‪.)146‬‬
‫‪ .44‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 89 :3( :‬ــ ‪.)90‬‬
‫‪ .45‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪.)90 :3( :‬‬
‫‪ .46‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 293 :3( :‬ــ ‪.)4‬‬
‫‪287‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫التابع»‪ .‬إن اإلنسانية هي‪ ،‬التي تعترف بوجود الفكرة اإللهية في الطبيعة‪ ،‬وترفع الطبيعة‬
‫إلى حقيقتها‪ .‬هذا هو مدى مناقشة هيغل للطبيعة في حد ذاتها‪ ،‬على الرغم من أن هذه‬
‫المالحظات الموجزة قد توسعت‪ ،‬إلى حد ما‪ ،‬في محاضرات عام ‪ 47.1831‬وما تبقى‬
‫من «العنصر الثاني» مكرس لمناقشة اإلنسانية‪ ،‬وسقوطها في الخطيئة‪ ،‬والخالص في‬
‫المسيح‪ .‬وحسب نهج هيغل‪ 48،‬من الواضح أن الطبيعة تتمحور حول اإلنسان‪ ،‬بمعنى‬
‫أغراضا إنسانية‪.‬‬
‫ً‬ ‫أن الطبيعة ليس لها عالقة باﷲ باستثناء ارتباط البشرية بها‪ ،‬وأنها تخدم‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن الفكرة اإللهية موجودة في الطبيعة‪ ،‬حيث «تنام» في طريقة ما قبل الذات‬
‫الذاتية‪ .‬ويمكن تصور الهوت الطبيعة الحساسة بيئي ًا على أساس هذه البصيرة‪ ،‬ولكن‬
‫يجب مراجعة التسلسل الهرمي للروح على الطبيعة في اتجاه أكثر جدلية ــ وهو اتجاه‬
‫يمكن القول إنه أكثر إخالص ًا ألعمق حدس هيغلي‪ .‬إذ تخدم الطبيعة والروح كل منهما‬
‫اآلخر في الوساطة الثالثية للفلسفة‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن الطبيعة غاية في حد ذاتها‪ ،‬إذ إن‬
‫لديها وظيفة حاسمة للتمايز‪ ،‬بدونها لن تكون هناك عملية وحياة‪ ،‬بل فقط هوية ميتة‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫ربما منع هيغل شكه في المثالية الرومانسية للطبيعة من التعبير عن روحانية الطبيعة‪.‬‬
‫وبالطبع كان ال يزال غير مدرك للتأثير الضار لطبيعة التكنولوجيا البشرية على البيئة‪،‬‬
‫التي تجسد معاناة اإلنسان على األرض اليوم‪.‬‬

‫‪ 294 :3 .47‬ــ ‪ 5‬ن‪ 128 .‬ــ ال يناقش هيغل الطبيعة يف حد ذاهتا حتى هنا‪ ،‬بل باألحرى عالقة الطبيعة والروح‪.‬‬
‫«الطبيعة ليست للبرش فقط العامل اخلارجي املبارش بل عامل تعرف فيه اإلنسانية اهلل؛ هبذه الطريقة الطبيعة‬
‫للبرشية وحي اهلل‪ .‬بالنسبة ألديان الطبيعة‪ ،‬يظهر اﷲ كقوة طبيعية‪ ،‬لكن مثل هذا التصور مل يعد مناسب ًا‬
‫ألديان الروح‪ .‬يقتبس هيغل أيوب ‪ 5 :37‬مفادها أن اﷲ ال ُيعرتف به عندما رعد اﷲ بصوت رعد‪.‬‬
‫«لكي ُيعرتف بالروح‪ ،‬جيب أن يفعل اﷲ أكثر من الرعد»‪.‬‬
‫‪ .48‬املصدر السابق‪( ،‬ص ‪.)147‬‬
‫‪ .49‬يقول هيغل يف حمارضاته عن فلسفة الطبيعة أن اﷲ يكشف عن نفسه بطريقتني‪ ،‬كطبيعة وروح‪ ،‬وأن‬
‫«كال التجليتني مها معابد اهلل»‪ ،‬التي متتلئ باحلضور اإلهلي‪ .‬اهلدف من فلسفة الطبيعة هو حتقيق حترير‬
‫الطبيعة من خالل اكتشاف وجود العقل والروح فيها‪« .‬احلجارة نفسها ترصخ وترفع نفسها إىل‬
‫الروح»‪ .‬جيب حترير الطبيعة من عبوديتها إىل اخلارج‪ ،‬من ميلها نحو التفرد (أو العزلة) والفوىض‬
‫(الروح يف الطبيعة هي «إله غري مقيد وغري مرا ٍع لنفسه»)‪ .‬إن االنسحاب اخلارجي املتفتت للقوى‬
‫املوحد للروح‪ .‬انظر موسوعة العلوم الفلسفية‪ 246 ،‬ــ ‪ 8‬اإلضافات‬ ‫الطبيعية يقاومه السحب الداخيل ّ‬
‫(فلسفة هيغل للطبيعة‪ ،‬ميلر‪ ،‬مطبعة كالرندن‪ :‬أوكسفورد‪ 14 ،13 ،1970( ،‬ــ ‪ 18 ،16‬ــ ‪ .)19‬ال توجد‬
‫هذه التلميحات إىل روحانية الطبيعة يف نص املوسوعة‪ ،‬ولكن يف إضافات من مالحظات حمارضات‬
‫الطالب‪ .‬ألول مرة يتم نرش نسخ من حمارضات املوسوعة حول فلسفة الطبيعة‪.‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪288‬‬
‫الطبيعة البشرية‪:‬‬
‫يحتوي تعبير «الطبيعة البشرية» على غموض‪ ،‬إذ يمكن أن ُيشير إلى ما هو ضروري‪،‬‬
‫وأكثر أهمية عن اإلنسانية‪ ،‬أو يمكن أن ُيشير إلى أن البشر ينتمون إلى الطبيعة‪ ،‬وأن‬
‫وجودهم محدود وطبيعي‪ ،‬وأنهم هم «إنسانية طبيعية»‪ .‬وفيما يتعلق باألخيرة‪ ،‬فإن‬
‫أسئلة هيغل المركزية هي ما إذا كانت هذه اإلنسانية الطبيعية جيدة‪ ،‬أو شريرة‪ ،‬وكيف‬
‫يرفع البشر أنفسهم من حالة طبيعية إلى حالة روحية‪ .‬وتختلف طريقة معالجته لهذه‬
‫ال من عام آلخر‪ .‬ففي مخطوطة عام ‪ ،1821‬ينصب التركيز‬ ‫األسئلة بشكل مختلف قلي ً‬
‫على حقيقة أن اإلنسانية الطبيعية هي «تناقض لم يتم حله داخلي ًا»‪ 50.‬إذا البشر هم‬
‫روح‪ ،‬وإذا كانت الروح هي في األساس شيء يتوسط مع نفسه‪ ،‬فعندئذ ال يمكن‬
‫للبشر أن يظلوا في حالة فورية طبيعية‪ ،‬فـ«اإلنسانية الطبيعية ال توجد بالشكل‪ ،‬الذي‬
‫يجب أن تكون عليه»‪ 51.‬في حالة الطبيعة‪ ،‬يتم تحديدها من خالل تفرد وجودها؛‬
‫إنها كائن راغب في الوجود‪ ،‬ولكن ليس راغب ًا بعد في التفكير‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن اإلنسان‬
‫الطبيعي ال يتحرر داخل نفسه مقابل نفسه والطبيعة الخارجية‪ 52.‬إنه اإلنسان؛ الممزق‬
‫بين الرغبة‪ ،‬والوحشية‪ ،‬والبحث عن الذات‪ ،‬والتبعية‪ ،‬والخوف‪ .‬ويستمر هيغل هنا‬
‫بتصوير الشعوب البدائية المستمدة من حسابات السفر‪ ،‬وموضوعها هو أن «دعوة‬
‫الروح ال تكمن في اتجاه هذه الطبيعة والبراءة‪ ،‬وهو ما يتعارض مع مفهومها»‪ 53،‬إذ‬
‫تكمن حالة البراءة قبل التمييز بين «الخير» و«الشر»‪ ،‬وفي هذه الحالة ليس البشر بعد‬
‫‪54‬‬
‫بشر ًا بالفعل‪.‬‬

‫‪ .50‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 92 :3( :‬ــ ‪.)5‬‬


‫‪ .51‬املصدر السابق‪( :‬ص ‪.)148‬‬
‫‪ .52‬حول اإلشارة املحتملة هنا إىل تعريف فريدريش شاليرماخر للدين عىل أنه «شعور باالعتامد»‪ ،‬انظر‬
‫‪ 93 :3‬ن‪.93 .‬‬
‫‪ .53‬للتمثيل علىل ذلك‪ ،‬نقول‪ :‬إن الزرادشتية قد أدارت ظهرها ملفهوم اجلوهر وأحيت مفهوم التضاد‬
‫فوجود «اخلري» يعني وجود النقيض له وهو «الرش» وغريها من التضادات‪ ،‬التي هيأت للرصاع‬
‫الفلسفي‪ ،‬والذي هو يف حقيقته لدى العامة بأنه رصاع الروح رصاع باطنها لإلستغاثة باملنقذ احلقيقي‬
‫والتوجه بصفاء جتاه أرسار الكون‪.‬‬
‫‪ .54‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 102 :3( :‬ــ ‪.)3‬‬
‫‪289‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫إذن ما عالقة كل هذا بـ«الشر» والالهوت؟‪ 55‬يدعي هيغل أن له عالقة كبيرة‬


‫‪56‬‬
‫بكليهما‪ ،‬ويستند في فلسفته عن التاريخ إلى االدعاء بأنها تعمل بمثابة ثيودسي‪،‬‬
‫أو وجهة نظر إلى الوراء حول «مذبحة التاريخ» تبرر تسميتها عمل اﷲ‪ 57.‬يكتب‪:‬‬
‫«إن سعينا الفكري يهدف إلى إظهار االقتناع بأن ما قصدته الحكمة األبدية‪ ،‬قد‬
‫تحقق في الواقع في مجال الروح الموجودة والفاعلة‪ ،‬وكذلك في مجال الطبيعة‬
‫المجردة‪ 58».‬هذا االهتمام بـ«الشر» في التاريخ‪ ،‬وتعريف «الشر» بحد ذاته‪ ،‬ليس‬
‫قضية عابرة بالنسبة لهيغل‪ ،‬كما أنه ال يتخطى دماء التاريخ وألمه في اندفاعه‬
‫لرؤية الروح تأتي إلى مكانها في العالم‪ ،‬فهيغل ليس هنا من األوغسطينيين‪ 59.‬إنه‬
‫يعتقد أن «الشر» ليس حرمان ًا لـ«الخير»‪ ،‬بل إنه ظاهرة حقيقية جد ًا تتجلى بنفس‬
‫الطريقة بالنسبة له كما تظهر لنا اليوم؛ في الكوارث الطبيعية‪ ،‬وفي الحرب‪ ،‬التي‬
‫ال معنى لها‪ ،‬وفي المرض‪ ،‬وفي العنف العشوائي‪ 60.‬إذن «الشر» بالنسبة لهيغل‬
‫هو حدث تاريخي واضح‪ ،‬ألنه يقول «إنه في تاريخ العالم نواجه مجموع «الشر»‬

‫‪ .55‬دايل‪ ،‬إريك مايكل وماكالشالن تورسني‪ ،‬حمرران‪« ،‬هيغل‪« ،‬الرش»‪ ،‬وهناية التاريخ‪ .‬يف التاريخ‬
‫واحلكم»‪ ،‬مؤمتر الزمالء الزائرين‪ ،‬فيينا‪ :‬املجلد ‪.2006 ،21‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ .56‬ختتلف معاين «الثيوديسيا» عىل وفق مقتضيات استعامهلا‪ ،‬فهي تارة نظرية ال َعدال ُة اإلهل َّية‪ ،‬أو ع ْل ُم ت َْبير‬
‫اإلهل َّية‪ ،‬وتعترب فرع ًا حمدد ًا من الثيولوجيا والفلسفة هيتم بحل مشكلة‬ ‫اإلهلية‪ ،‬أو إ ْثبات العدا َل ِة ِ‬
‫العدا َل ِة ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫«الرش»‪ .‬ويعني تربير اهلل؛ لإلجابة عىل سؤال ملاذا يسمح اﷲ «اخلري» بمظهر «الرش»‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬حل‬
‫مشكلة «الرش»‪.‬‬
‫‪ .57‬ويركي‪ ،)1 :35( ،‬وفيام خيص مفهوم إنجلز بأن هيغل «شعر بأنه مضطر إلهناء «العملية التارخيية»‪،‬‬
‫انظر كتاب إنجلز «لودفيج فيورباخ وهناية الفلسفة األملانية الكالسيكية‪ » ،‬ويرك ‪ 267 :21‬وما يليها‪.‬‬
‫ماركس‪ ،‬الغريب‪ ،‬ال إىل هذا االستنتاج من فكر هيغل (ماركس واثق متاما التاريخ كان يسري يف ختطي‬
‫هيغل كحركة احلرية)‪ ،‬عىل الرغم من أنه من املهم لتفسري إنجلز من مكان هيغل يف الفكر األملاين‪.‬‬
‫‪ .58‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪( :‬ويركي ‪.)12:28‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ .59‬نسبة للقديس أغسطينوس‪ ،‬الذي كان كاتبا وفيلسوفا من أصل نوميدي ــ التيني ولد يف طاغاست‪.‬‬
‫يعد أحد أهم الشخصيات املؤثرة يف املسيحية الغربية‪ .‬تعدّ ه الكنيستان الكاثوليكية واألنغليكانية قديسا‬
‫وأحد آباء الكنيسة البارزين وشفيع املسلك الرهباين األوغسطيني‪.‬‬
‫‪« .60‬الرش» أكرب من هذا بالنسبة هليغل بالطبع‪ .‬يتم رشحه بشكل أسايس من حيث املعرفة واالغرتاب يف‬
‫فلسفة الدين (‪VPR‬ا‪ 33‬ـ ‪ ،)228‬عىل سبيل املثال‪ .‬لكن تأكيد هيغل عىل الواقعية التارخيية الواقعية‬
‫يف حمارضات التاريخ يقوده بعيد ًا عن التفسريات األكثر جتريد ًا‪.‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪290‬‬
‫الملموس‪ 61».‬إنه ال يهتم بالتعريفات الميتافيزيقية لـ «الشر»‪ ،‬بل يهتم بأنواع‬
‫األشياء التي يعتبرها الناس شريرة في حياتهم اليومية‪ .‬في الوقت نفسه‪ ،‬يعتقد أن‬
‫هذه االحتماالت تجعل من الصعب تصور «الشر» البشري على أنه أي شيء آخر‬
‫غير الصدفة الجذرية في جميع جوانب الحياة‪ ،‬ويتم حسابها فيما يسميه «السيادة‬
‫المطلقة للعقل‪ 62،‬والحقيقة أن خسائر التاريخ يتم تعويضها في التاريخ‪ ،‬وعبر‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫إن تفسير «الشر» بهذه الطريقة هو بالطبع النطاق التقليدي للثيوديسي‪ .‬من‬
‫الناحية الفلسفية‪ ،‬إذ عاد ًة ما تقف الثيودسيات في النقطة النهائية؛ في مواجهة‬
‫كارثة‪ ،‬أو مناسبة بالغة األهمية‪ ،‬وتنشأ بسبب النظرة اإليمانية التقليدية للعناية‬
‫اإللهية‪ ،‬التي نوقشت سابق ًا‪ .‬أي أنهم ينظرون إلى الوراء‪ ،‬ويسعون جاهدين من‬
‫أجل القيمة التفسيرية في مواجهة ما يعتبر «الخير» األساسي للعالم‪ 63.‬بالنظر‬
‫إلى هذا‪ ،‬فإن تقديم هيغل لفلسفته للتاريخ على أنها ثيودسي يشير بالتأكيد إلى‬
‫أنه يشعر أنها نوع من الذروة الالهوتية‪ ،‬أو اكتمال التاريخ‪ ،‬على األقل‪ ،‬وإن لم‬
‫تكن «خاتمة» نهائية للتاريخ في حد ذاتها‪ .‬فالتمييز بين «النهاية» و«التتويج»‬
‫ربما تكون صغيرة‪ ،‬لكنها مهمة‪ ،‬إذ ال توجد نهاية في الالهوت الجوهري‪.‬‬
‫ووصف هيغل في محاضراته بأنها ثيودسي هو محاولة ثابتة من جانبه للحفاظ‬
‫على الهوته الجوهري‪ ،‬حيث يصل اﷲ والعالم إلى الشبع مع بعضهما البعض‬
‫وداخل بعضهما البعض‪ ،‬أو كما يخبرنا بأن «اﷲ بدون العالم ليس اﷲ‪ 64».‬وبما‬

‫‪ .61‬ضمن هذا املنظور اهليغيل الواسع يصبح للرش معنى وال يعود شيئ ًا عبثي ًا‪ ،‬أو اعتباطي ًا‪ ،‬أو شاذ ًا‪ .‬وإنام‬
‫يصبح شيئ ًا رضوري ًا لتحقيق التقدم يف التاريخ‪ .‬هذه هي فلسفة التاريخ العريضة هليغل‪ ،‬وهي فلسفة‬
‫جديرة بالتمعن واالهتامم ألهنا تنطبق عىل الواقع العريب واإلسالمي اليوم إذا ما أحسنا فهمها وتطبيقها‬
‫‪.)VG) 48‬‬
‫‪ .62‬إذا كان العقل حيكم العامل ويتجسد يف التاريخ إال أن املظهر السطحي للتاريخ يوحي لنا بأنه فوىض‪،‬‬
‫أو جنون‪ ،‬أو عنف أعمى ال غاية له وال عقالنية‪ .‬ولذا فينبغي علينا أن نفرق بني التاريخ العميق‪ ،‬أو‬
‫احلقيقي‪ ،‬والتاريخ الظاهري السطحي‪ .‬و«الرش» يف نظر هيغل ليس كله رش ًا‪ .‬فلواله ملا اكتشف الناس‪،‬‬
‫الذين يصنعون التاريخ معنى «اخلري» ‪.)VG) 49‬‬
‫‪ .63‬هيغل و«الرش» وهناية التاريخ»‪ ،‬مؤمتر مايكل ــ ديل ‪ ،iwm‬املجلد ‪ 9 ،20‬نوفمرب ‪ ،2009‬ص ‪.5‬‬
‫‪ .64‬بالنسبة هليغل فإن اﷲ خالق التاريخ الكوين‪ ،‬أو تاريخ العامل‪ ، ،‬ال هيتم باألشخاص الفرديني‪ ،‬بل هيتم‬
‫‪291‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫أن «الشر» هو مشكلة تاريخية لهيغل‪ ،‬فال بد أنه مشكلة إلهية أيض ًا‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫فإن فريدريش نيتشه‪ ،‬الذي يعارض هذا الفهم‪ ،‬هو ببساطة مخطئ عندما يتهم إله‬
‫هيغل بأنه خلقه التاريخ‪ ،‬ألن القصة أكثر تعقيد ًا من ذلك بكثير‪ .‬تتطلب فلسفة‬
‫هيغل نظرة إلى اﷲ يمكنها أن تتبنى ك ً‬
‫ال من الموقف الطبيعي؛ أي أن «العالم‬
‫مكتف ذاتي ًا»‪ ،‬والموقف التوحيدي؛ وهو أن «العالم كما صممه اﷲ»‪ .‬ويجمع‬
‫هيغل بين هذه في نظرته الجوهرية عن اﷲ‪ ،‬حيث‪ ،‬كما قال تشارلز تيلور‪« :‬فكرة‬
‫هيغل هي إذن عن إله يخلق إلى األبد الشروط لوجوده‪ 65.‬أيا كان هذا‪ ،‬فإنه ليس‬
‫من تاريخ نيتشه اهتمام مقدر باأللوهية‪ 66.‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬إذا كان هيغل‬
‫سيحافظ على وجهة نظر اﷲ في التاريخ‪ ،‬وفي الوقت نفسه يصر على أن «الشر»‬
‫مشكلة تاريخية‪ ،‬فسيتعين عليه التوفيق بين أفكار «الشر» واﷲ بطريقة ما‪ .‬نظر ًا‬
‫ألن هيغل ملتزم باإلمساك بقرني المعضلة الثيودية؛ أي الحماسة الكلية والقدرة‬
‫المطلقة‪ ،‬على الرغم من تعارض تأريخهما بشكل جذري بطريقة هيغلية فريدة‪،‬‬
‫يبدو أنه من المستحيل بالنسبة له الهروب من المفارقة الثيودية لإلله‪ ،‬الذي يعمل‬
‫بالفعل بطرق غامضة‪ ،‬لكنه يترك بعيد ًا عنه الكثير من الجثث‪ ،‬ما يجعل النظر إليه‬
‫كوحش منتقم منخلقه‪.‬‬
‫إن الصراحة تلزمنا باالعتقاد بأن هيغل ال يستطيع الهرب من هذه المفارقة‪،‬‬
‫التي تجعلنا نسائل أنفسنا‪ :‬لماذا نتناول هذا األمر؟ وهل بتناوله ندافع عن هيغل‬
‫ضد التفسيرات الخاطئة لفلسفته للتاريخ فقط‪ ،‬ونتجاهل الهدف ذاته من ذلك‬
‫التاريخ‪ ،‬وهو مصالحة اﷲ مع التاريخ؟ ال نتمنى أن نجيب عن هذين السؤالين‪،‬‬
‫خاصة إذا قارنا ثيودية هيغل مع افتقاره إلى وضع حد للتاريخ لإلشارة إلى توتر‬
‫أساسي في فكره‪ .‬هذا التوتر بين الصدفة والعزم‪ :‬أي التوتر بين رغبته المعلنة في‬

‫بالفرد الكوين‪ ،‬أي بالشعب ككل‪ ،‬وبروح هذا الشعب‪ .‬وهذا ما يمكن أن ندعوه اآلن بخصوصية‬
‫الشعب األملاين‪ ،‬أو الفرنيس‪ ،‬أو العريب اإلسالمي (ويرك ‪.)192 :16‬‬
‫‪ .65‬تشارلز تايلور‪« ،‬هيغل واملجتمع احلديث»‪ ،‬مطبعة جامعة كيمربدج‪ ،1979 ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪ .66‬كام أنه ليس تأريخ ويليام ديزموند اإلهلي‪ ،‬عىل الرغم من أن ديزموند حمق يف اإلشارة إىل أن الكشف‬
‫عن الذات عن اﷲ يف‪/‬باعتباره التاريخ خيلق مشاكل خطرية بالنسبة إىل اعتبار هيغل للرش (‪:2003‬‬
‫‪ 143‬ــ ‪.)5‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪292‬‬
‫التغلب على الطوارئ بأي ثمن‪ 67،‬وحزمه على القيادة إلبقاء نظامه مفتوح ًا في‬
‫المكان نفسه‪ ،‬الذي يتوقع المرء أن يغلق فيه‪ .‬وقد يكون نيتشه على حق‪ ،‬بطريقة‬
‫ما‪ ،‬في الزعم بأنه يجب على هيغل إنهاء التاريخ‪ ،‬لكنه فشل في ذلك‪ .‬ويعرف‬
‫هيغل أن نظامه يجب أن يكون بمثابة ذروة إذا كان له أن يكون كما يتصور أن‬
‫يكون‪ ،‬لكنه في نفس الوقت يصر على أن الفلسفة ال يمكن أن تكون في مجال‬
‫التنبؤ بالمستقبل‪ ،‬وأن هناك اتجاهات ومعاني تدور للخروج إلى المستقبل‬
‫وتخريب جميع محاوالت اإلغالق‪ .‬وإذا كانت فلسفة الوساطة الكاملة لها‬
‫حدودها‪ ،‬فإن هيغل ال يستطيع أن يعلن أن التاريخ قد انتهى‪ .‬هذا ما قصده‬
‫‪68‬‬
‫دريدا عندما قال إن «هيغل هو أيض ًا مفكر في اختالف غير قابل لالختزال؟»‬
‫فلسفة هيغل التأملية‪ ،‬حيث يتم تقييد جميع األطراف السائبة‪ ،‬ويتم تعيين جميع‬
‫الشرور بشكل صحيح في تأدية الروح المطلقة‪ ،‬هي أيض ًا ديالكتيكية الفلسفة‪،‬‬
‫التي تتطور فقط عندما يكون هناك نزاع وجدل‪ ،‬وال يمكن التغلب على التوتر‬
‫بين التكهنات والجدلية في فلسفة هيغل‪ ،‬ألنه سوف ينظر إلى هذا على أنه عيب؛‬
‫فيما يعتبره غيره قوة‪.‬‬
‫بيد أنه‪ ،‬ونظر ًا ألن هيغل أعطى العناية اإللهية صفة دنيوية تمام ًا‪ ،‬فال يمكن‬
‫أن يكون الحساب النهائي لعمل العناية اإللهية خارج التاريخ نفسه‪ .‬وذلك‪ ،‬ألن‬
‫التاريخ يمكن وسيستمر‪ ،‬ليس فقط عبر األحداث‪ ،‬ولكن بتطور وتقدم الحرية في‬
‫أشكال ملموسة‪ ،‬رغم أنه ال يمكن إجراء مثل هذا الحساب‪ .‬وبالتالي‪ ،‬ال يمكن‬
‫حساب «الشر» إال مؤقت ًا‪ ،‬وعلى كل حال‪ ،‬ومثل ما يبدو أن هيغل يريد التلميح‬

‫‪ .67‬يف رأي هيغل كان التاريخ عقالني ًا وسيبقى عىل الرغم من كل املظاهر اخلادعة التي تقول العكس‪.‬‬
‫والتاريخ ال يمكن أن يفهمه إال عقل الفيلسوف‪ .‬كان هيغل يقول باحلرف الواحد‪ :‬ينبغي أن ننظر‬
‫إىل التاريخ بعني العقل‪ ،‬التي هي وحدها القادرة عىل اخرتاق السطح املربقش لألحداث اليومية‪.‬‬
‫فالتاريخ‪ ،‬طبق َا لتصورات هيغل‪ ،‬يسري باجتاه هدف معني يدعوه فلسفي ًا بالفكرة العليا‪ ،‬أو الروح‬
‫املطلقة‪ :‬أي الوعي بالذات‪ ،‬هذا الوعي‪ ،‬الذي جيعل اإلنسان حر ًا‪ .‬التاريخ يميش يف اجتاه املزيد من‬
‫العقالنية‪ ،‬واألخالق‪ ،‬واحلرية‪ .‬هذا هو هدف التاريخ النهائي واألخري‪ .‬إنه هيدف إىل حتقيق السعادة‬
‫للبرش عىل هذه األرض‪ ،‬وكذلك حتقيق التقدم املادي واملعنوي؛ عىل سبيل املثال ‪.)VG) 29‬‬
‫‪ .68‬جاك دريدا‪« ،‬علم النحو»‪ ،‬باريس‪ :‬مطبعة املساء‪ :1967 ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪293‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫به‪ ،‬فإن هذا هو ما نعنيه عندما ندعو إلى فهم محلي‪ ،‬أو ثيودوسي محدود‪ ،‬الذي‬
‫هو‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬قلب كل الثيودسيين‪ .‬ونستطيع أن نجزم أن ال عالقة لمثل‬
‫هذه النظريات مطلق ًا بالمشروع الميتافيزيقي المتمثل في إعطاء «الشر» مكانه‬
‫الضروري بمعنى الكلمة‪ ،‬كما كان‪ ،‬بل باألحرى العمل على وضع «الشر» ضمن‬
‫السياق اإلنساني‪ ،‬والمحدود‪ ،‬الذي َو َّلدَ ُه‪ .‬إذ يتجنب الثيودسي المحدود كل‬
‫ادعاءات االكتمال الميتافيزيقي‪ ،‬ألن الثيودسيين بجميع أشكالهم؛ وهيغل على‬
‫رأسهم وبينهم في هذا الصدد‪ ،‬يجعلون معنى «الشر»‪ ،‬إما من خالل تفسيره على‬
‫أنه ضروري رغم أنه بغيض‪ ،‬أو تفسيره من خالل مناشدة الغموض فيه‪ ،‬ولكن‬
‫ليس الغموض بأي معنى حقيقي‪ ،‬بالطبع؛ اإلله‪ ،‬الكون‪ ،‬العناية اإللهية‪ ،‬أو أي‬
‫شيء يتحكم في الواقع يعرف في النهاية أسباب «الشر»‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فهو مسؤول‬
‫في النهاية عن «الشر» في العالم؛ من حيث القدرة المطلقة‪ ،‬والمعرفة السابقة‪،‬‬
‫والسببية‪ ،‬التي ال يمكن الفصل بينها بسهولة‪ .‬وال يقول الثيودسي المحدود إن‬
‫«هناك خير أعظم ُيخدم»‪ ،‬أو «ال نستطيع أن نعرف لماذا‪ ،‬لكن اﷲ يعلم»‪ ،‬أو حتى‬
‫«هناك سبب وسنفهمه يوم ًا ما‪ ».‬إنه ال ينظر إلى الوراء‪ ،‬لكنه يعلم أنه في الواقع‬
‫ليس مبرر ًا على اإلطالق‪ .‬والثيودسي المحدود يلغي «الشر» لصالح المحاسبة‪.‬‬
‫إن أكمل تجربة للثيوديسي تدعي أن اﷲ موجود في «الشر» واأللم‪ ،‬لكن ليس‬
‫هذا تبرير له‪ .‬إن مثل هذا الفهم من شأنه أن يغير بشكل جذري شروط المناقشة‬
‫عندما يتعلق األمر بالثيوديسي‪ ،‬الذي يمثله فيلسوف بقامة هيغل‪ ،‬الذي يؤكد‪،‬‬
‫في محاضرات عام ‪ ،1824‬على أن «الطبيعة» الحقيقية للبشرية هي التخلي عن‬
‫‪69‬‬
‫إلحاحها‪ ،‬والتخلي عن حالتها الطبيعية‪.‬‬
‫فهل يعني هذا‪ ،‬كما يقال غالب ًا‪ ،‬أن «البشر شر بطبيعتهم»؟ ولكن أال يمكن أن‬
‫يقال بالقدر نفسه أن «البشر صالحون بطبيعتهم»؟ ألن الطبيعة الحقيقية للبشرية هي‬
‫أن تكون عقالنية وروحية‪ ،‬وأن تكون على صورة اﷲ‪ ،‬وهذا أمر جيد بالتأكيد‪ .‬لكن‬
‫المشكلة هي أنه في حالة الطبيعة يكون البشر عقالنيين وروحيين بشكل ضمني‬

‫‪ .69‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 202 :3( :‬ــ ‪.)5‬‬


‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪294‬‬
‫فقط‪ .‬هذا فقط هو النقص‪« ،‬ألن الروح ال يجب أن تكون روح ًا ضمني ًا ــ إنها روح‬
‫ألنها صريحة جد ًا»‪ .‬إن حالة الطبيعة في حد ذاتها ليست شريرة‪ ،‬ولكنها يمكن أن‬
‫تصبح كذلك عندما يختار البشر البقاء في تلك الحالة‪ ،‬للعيش على وفق الطبيعة‬
‫بدالً من الروح‪ .‬وبالتالي‪ ،‬من المضلل القول إن البشر شريرون بطبيعتهم‪ .‬األطفال‬
‫ليسوا شريرين‪ .‬بل هم أبرياء ويفتقرون إلى البصيرة واإلرادة؛ بمعنى القدرة على‬
‫اتخاذ القرارات‪ ،‬والمساءلة‪ .‬و«يتعلق األمر بـ«الشر» لكي يكون {اإلنسان} قادر ًا‬
‫على أن يقرر‪ ،‬وأن يكون لديه إرادة‪ ،‬المتالك نظرة ثاقبة لطبيعة األفعال»‪ ،‬لكن الشيء‬
‫نفسه يتعلق بـ«الخير»‪ .‬وهكذا البشر بطبيعتهم ليسوا صالحين وال شريرين؛ يصبحون‬
‫خير ًا‪ ،‬أو شر ًا عندما ينهضون من الطبيعة من خالل االنضباط والتعليم والقوانين‬
‫والممارسات الثقافية‪ ،‬وغيرها‪ .‬وفي ذلك تختلف الديانات كثير ًا عن بعضها‬
‫‪70‬‬
‫البعض‪.‬‬
‫إن محاضرات ‪ ،1827‬تأخذ التحليل خطوة أخرى‪ 71.‬صحيح القول إن البشر‬
‫صالحون ضمني ًا؛ لكن «ضمني ًا» هذه تعني أنهم لم يصبحوا صراح ًة ما هم عليه في‬
‫الحقيقة‪ .‬ومصيرهم هو تجاوز ما هو ضمير الطبيعة‪ 72،‬أن يخرج كروح من الحياة‬
‫الطبيعية‪ .‬ويؤدي هذا التقدم إلى «الفصل» بين مفهوم اإلنسانية ووجودها المباشر؛‬
‫يولد «انقسام» داخل اإلنسانية‪ .‬هذا االنشقاق جوهري في الروح‪ ،‬ألن الروح هي‬
‫بالضبط انقسام الذات عن النفس لكي تصبح واعية لنفسها‪ .‬كما سنرى‪ ،‬االنفصال‪ ،‬أو‬
‫االنقسام‪ ،‬هو شرط إمكانية القطيعة بين «الخير» و«الشر»‪ ،‬لكنه ليس هو «الشر» نفسه‬
‫بالمعنى الدقيق‪ .‬إذ يحدث «الشر» بطريقتين‪ :‬عندما يتحول االنقسام إلى قسمين‪:‬‬
‫قسم يقبل وآخر يرفض‪ ،‬أو عندما يتراجع البشر عن االنقسام الضروري ويتواجدون‬
‫فقط «وفق ًا للطبيعة» في حالة فورية‪ .‬والعبارة األخيرة هي إشارة واضحة إلى عبارة‬
‫«حسب الجسد»‪ ،‬على النقيض من إشارة «وفق ًا للروح»‪ .‬فالوجود حسب الجسد هو‬

‫‪ .70‬إن هناك ديانات احتفظت بخصائص ديانات أخرى وهناك ديانات طورت من خصائص ديانات كام‬
‫هو احلال بني الديانتني املرصية والسورية بعد أن أخذت الفلسفة البدائية مأخذها من بعض الديانات‬
‫وفعلت األساطري األولية فعلها يف رسم مشاهد «الرش» واإلنتقام والغاية والوسيلة‪.‬‬
‫‪ .71‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 295 :3( :‬ــ ‪.)300‬‬
‫‪ .72‬املصدر السابق‪( ،‬ص ‪.)149‬‬
‫‪295‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫االنزالق إلى حالة البراءة‪ ،‬في حين أن العيش وفق ًا للروح هو تقدم في المسؤولية‪،‬‬
‫أو طريق القطيعة‪ .‬فقط مع مثل هذا التقدم‪ ،‬يصبح «الخير» و«الشر» بالمعنى الدقيق‬
‫ممكن ًا‪ .‬و«من الخطأ التساؤل عما إذا كانت اإلنسانية جيدة فقط بطبيعتها‪ ،‬أم أنها‬
‫فقط شريرة‪ .‬وبالقدر نفسه‪ ،‬من السطحي أن نقول إن اإلنسانية هي «الخير» و«الشر»‬
‫على حد سواء‪ ،‬وال يمكن للبشر أن يظلوا في حالة الطبيعة دون الوقوع في «الشر»‬
‫الطبيعي‪ ،‬الذي يأخذ شكل األنانية والصراع من أجل البقاء‪ .‬ولكن في الخروج من‬
‫الطبيعة من خالل الوعي واإلدراك‪ ،‬يقعون في «الشر» الروحي عن طريق تحويل‬
‫االنقسام إلى اغتراب‪ .‬إنهم يدركون صالحهم‪ ،‬في نمط من القطيعة والتجزئة‪ ،‬وأن‬
‫المعضلة هي أننا نحن البشر طبيعيون وروحيون‪ ،‬ومحدودون‪ ،‬وال نهائيون‪ .‬في هذه‬
‫الحالة المنقسمة‪ ،‬يبدو أن «الشر» ال مفر منه‪ :‬فهو‪ ،‬كما كان‪ ،‬وراءنا «في الطبيعة»‬
‫وأمامنا «في الغطرسة»‪.‬‬
‫ال يحصر هيغل‪ ،‬بأي حال من األحوال‪ ،‬قصة خلق البشر في الفصلين األول‬
‫والثاني من سفر التكوين‪ ،‬على الرغم من أنه يتحول إلى الفصل الثالث‪ ،‬كما رأينا‬
‫وسنرى‪ ،‬عندما يكون اهتمامه هو تفسير السقوط في الخطيئة و«الشر»؛ فيما يتعلق‬
‫بما يسمى بـ«الخطيئة األصلية»‪ ،‬التي نشأ فيها البشر‪ ،‬إذ يالحظ هيغل أنها تنطوي‬
‫على أسطورة وضعها كـ«حالة أصلية»‪ ،‬أو جوهرية‪ 73.‬إنه يشك في الحجج الفلسفية‪،‬‬
‫التي تصور هذه الحالة على أنها واحدة من «أعلى كمال روحي‪ ،‬لإلنسان في وحدة‬
‫مع الطبيعة‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬كذكاء ال يتزعزع في المطلق‪ ،‬الذي ال يبتعد به عن الطبيعة‬
‫إلى نفسه عن طريق التفكير»‪ .‬إنه يضع هنا في اعتباره عمل فريدريش شليغل‪ ،‬الذي‬
‫انجذب إلى الهندوس واألساطير القديمة األخرى‪ ،‬وفريدريش شيلينغ‪ ،‬الذي‬
‫قبل كحالة تاريخية مثالية من الناحية الفعلية‪ ،‬وأضاف إلى الكمال عناصر الشعور‬
‫والحدس والذكاء قبل االنعكاسي‪ 74.‬فنسخة هيغل عن حالة اإلنسانية األصلية‬

‫‪ .73‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 96 :3( :‬ــ ‪.)9‬‬


‫‪ .74‬انظر‪ :‬فريدريك شليغل‪ 97 :3( ،‬ن‪ ،)99 .‬عن لغة اهلنود وحكمتهم‪ :‬مسامهة يف تأسيس العصور القديمة‬
‫(هايدلربغ‪303 ،295 ،)1808 ،‬؛ وشيلينغ‪ ،‬يف الدراسات اجلامعية (‪ ،)1803‬العابرة‪ .‬ومورغان‪ ،‬يف‬
‫(أثينا‪ ،‬أوهايو‪ :‬مطبعة جامعة أوهايو‪ .83 ،)1966 ،‬وأنظر املصدر السابق‪( ،‬ص ‪.)150‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪296‬‬
‫مختلفة تمام ًا‪ ،‬ولن يكون لها عالقة بأسطورة رومانسية من األصول‪ .‬ويؤكد أن‬
‫فكرة أن اإلنسانية جيدة «بطبيعتها»‪ ،‬وهي «عقيدة العصر الحديث» التي ينسبها خطأ‬
‫إلى كانط‪ ،‬بدالً من روسو‪ 75.‬ويهتم بشكل خاص باآلثار التربوية لوجهة النظر‪ ،‬التي‬
‫تجعل المبادئ الطبيعية مثالية‪ ،‬وتعتبر أن الحضارة تلوث البراءة األصلية‪ ،‬وال تدرك‬
‫‪76‬‬
‫ضرورة االنضباط والمعرفة المكتسبة‪.‬‬

‫قصة السقوط‪:‬‬
‫يصف الكتاب المقدس االنتقال من حالة البراءة إلى حالة المسؤولية والذنب‬
‫بأنه «سقوط»‪ .‬هذا «سقوط من الفكرة اإللهية‪ ،‬من صورة اﷲ»؛‪ 77‬ولكن من‬
‫المفارقات أيض ًا أنه صعود إلى الفكرة اإللهية وصورة اﷲ‪ .‬من خالل األكل من‬
‫شجرة معرفة «الخير» و«الشر»‪ ،‬يصبح آدم وحواء «مثل اﷲ»‪ ،‬لكنهما يفقدان أيض ًا‬
‫خلودهما ويخضعان للموت مثل جميع المخلوقات األخرى‪ .‬وفي مخطوطة عام‬
‫‪ ،1821‬يؤكد هيغل على «التناقضات» في هذه القصة‪ 78.‬فإذا كانت معرفة «الخير»‬
‫و«الشر» تشكل «روح ًا»‪ ،‬فلماذا يمنع اﷲ آدم من األكل من شجرة واحدة ترفع‬
‫البشر إلى شبه آلهة؟ لماذا يجب اعتبار المعرفة على أنها «إغراء» عندما يؤكد اﷲ‬
‫أن المعرفة هي اإلله في اإلنسانية؟ هل ُينظر إلى الموت كعقاب على الخطيئة‪،‬‬
‫أم كشرط طبيعي للنهاية؟ إن التناقضات تعكس الغموض الموجود في الوعي‬
‫والمعرفة؛ ذلك الغموض‪ ،‬الذي ال يستطيع سوى التفكير المتضارب فهمه‪ .‬إن‬
‫النظر بالبصيرة العميقة لهذه القصة تنبؤنا بأن التاريخ األبدي للبشرية هو‪ ،‬الذي‬

‫‪ 100 :3 .75‬ن‪ 106 .‬ــ يف مقابل قبول روسو خلري الطبيعة البرشية‪ ،‬أكد كانط وجود «الرش» الراديكايل‬
‫يف اإلنسانية‪ ،‬عىل الرغم من أنه يعتقد أن نواة «اخلري» األصلية يمكن أن تستيقظ من خالل االلتزام‬
‫بالقانون األخالقي‪ .‬وحول اإلشارة املحتملة هنا إىل تعريف فريدريش شاليرماخر للدين عىل أنه‬
‫«شعور باالعتامد»‪ ،‬انظر ‪ 93 :3‬ن‪.93 .‬‬
‫‪ 100 :3 .76‬ن‪ 107 .‬ــ ُعرف نظام التعليم هذا باسم «العمل «اخلريي»‪ .‬انتقد هيغل هلا تأثر بفريدريك‬
‫إيامنويل نيتهامر‪.‬‬
‫‪ .77‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪.)101 :3( :‬‬
‫‪ .78‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 104 :3( :‬ــ ‪.)7‬‬
‫‪297‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫يكون الوعي واردا فيه‪ 79.‬ويالحظ هيغل أن القصة لم تُذكر مرة أخرى في الكتاب‬
‫المقدس العبري‪ ،‬وأن المسيحيين هم‪ ،‬الذين طوروا العالقة بين آدم األول والثاني‪.‬‬
‫ويمثل آدم الثاني‪ ،‬المسيح‪ ،‬شبيه اﷲ‪ ،‬الذي يجب استعادته‪ ،‬في حين أن هذا الوعد‪،‬‬
‫«الجانب الالمتناهي من المعرفة»‪« ،‬نائم» في الشعب اليهودي‪ 80.‬إن انشغال هيغل‬
‫بالقصة جدير بالمالحظة‪ ،‬وهو يمثل أكثر أعماله التفسيرية المكتوبة استدامة‪.‬‬
‫وتضيف محاضرات عامي ‪ 1824‬و‪ ،1827‬القليل إلى التفسير الوارد في المخطوطة‪،‬‬
‫إذ يالحظ هيغل‪ ،‬في عام ‪ ،1824‬أن عقوبة العصيان هي العمل‪ ،‬واالضطرار للعمل من‬
‫أجل لقمة العيش‪ ،‬ولكن مثل هذا العمل هو في الوقت نفسه طابع الطبيعة الروحية‬
‫العليا للبشرية‪ 81.‬تُخرج البشرية من الجنة إلى التاريخ‪ ،‬ومن خالل التاريخ تتقدم الروح‬
‫إلى مرحلة البلوغ؛ وبدون االنضباط والعقاب‪ ،‬كان الجنس البشري سيظل في سن‬
‫الطفولة‪ .‬وتضيف محاضرات عام ‪ ،1827‬أن الفكرة الخاطئة لالنتقال البيولوجي‬
‫‪82‬‬
‫للخطيئة تنتج من النظر إلى البشرية على أنها تمثل حرفي ًا نسخة من أول إنسان‪.‬‬
‫وبالكاد يجد هيغل الجرأة على أنه من الضروري اإلشارة إلى أن القصة يجب أن تُقرأ‬
‫كخرافة‪ ،‬وليس تاريخ ًا‪.‬‬

‫المعرفة والشر‪:‬‬
‫تشير قصة السقوط إلى نظرة مأساوية للطبيعة البشرية؛ إذ إن شرط إمكانية‬
‫«الخير» يشمل أيض ًا إمكانية «الشر»‪ 83.‬ومن أجل الخروج من الحالة الطبيعية‬

‫‪ .79‬املصدر السابق‪( ،‬ص ‪.)151‬‬


‫‪ .80‬هكذا يف ‪ 1821‬و‪ 1824‬و‪ 1827‬يعامل هيغل قصة السقوط يف سياق الدين املسيحي‪ .‬ولكن يف‬
‫حمارضات عام ‪ ،1831‬أصبح جزء ًا من مناقشة الدين اليهودي‪ ،‬الذي يصور اآلن عىل أنه دين الصالح‬
‫(‪ 739 :2‬ــ ‪ ،41‬انظر رقم ‪.)64‬‬
‫‪ .81‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪.)208 :3( :‬‬
‫‪ .82‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪.)302 :3( :‬‬
‫‪ .83‬ال تستخدم فئة «اخلطيئة» بشكل متكرر يف هذه املحارضات مثل فئة «الرش»‪ .‬يف حني أن «الرش» هو فئة‬
‫ال بني املصطلحات التي يستخدمها هيغل‪.‬‬ ‫أكثر فلسفية و«اخلطيئة» أكثر الهوتية‪ ،‬يمكنني التمييز قلي ً‬
‫ينطبق «الرش» عىل البرش‪ ،‬وليس عىل الطبيعة‪ .‬إن طبيعة الطبيعة وخصائصها اخلارجية وفردها ليست‬
‫رشيرة يف حد ذاهتا‪ ،‬ولكنها تصبح رشيرة عندما يلتهم البرش أنفسهم عىل وفق ذلك‪.‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪298‬‬
‫وتحقيق إمكاناته الروحية‪ ،‬يجب على اإلنسان أن يخضع لالنقسام‪ ،‬أو االنفصال‪،‬‬
‫الذي ينتج عنه القلق واالغتراب‪ ،‬وبذل الجهود من أجل تأمين الذات‪ ،‬وتحصيل‬
‫المعرفة‪ ،‬التي تجعل اإلنسان يصيبها أيض ًا‪ .‬وهنا‪ ،‬يعمل هيغل فلسفي ًا مع‬
‫المفارقات الواردة في القصة‪ ،‬ويالحظ‪ ،‬في مخطوطة المحاضرة‪ 84،‬أن فكرة‬
‫«االنتقال»‪ 85‬ما هي إال تمثيلية‪ ،‬وتستتبع سرد القصة‪ ،‬ما يوحي بأن «هناك شرطان‬
‫يتعلقان ببعضهما البعض‪ ،‬وليس أن الطبيعة نفسها في طابعها الفوري هي انتقال»‪:‬‬
‫الشرط األول‪ ،‬هو حالة رغبة طبيعية فورية‪ .‬أما الشرط الثاني‪ ،‬هو الوعي‪ ،‬والوعي‬
‫يجلب معه معرفة «الخير» والكونية‪ .‬وعندما يكون الوعي مرتبط ًا بالرغبة‪ ،‬فإنه‬
‫ينجذب نحو «الشر»‪ ،‬ورغبة االنفصال‪ ،‬ووضع خصوصية الفرد ضد اآلخرين‪.‬‬
‫«هذا «الشر» هو البحث عن الذات‪ :‬إنه خيار حر يتحمله البشر‪ ،‬ويعرفون أنهم‬
‫مسؤولون عنه»‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن «الشر»‪ ،‬إرادة البحث عن الذات‪ ،‬ال يوجد إال من‬
‫خالل الوعي واإلدراك‪ .‬لكن المبدأ اإللهي المتمثل في التحول‪ ،‬والعودة إلى‬
‫الذات‪ ،‬موجود بالقدر نفسه في اإلدراك؛ ويسبب الجرح ويشفيه‪ ،‬ألن المبدأ‬
‫روح وحق‪.‬‬
‫إن محاضرات عام ‪ ،1824‬تشرح العالقة بين اإلدراك و«الشر» بعمق أكبر‪ ،‬ألن‬
‫اإلدراك يفترض أن يكون نقيض التباين حيث يوجد «الشر»‪ 86.‬ويحدث «الشر»‬
‫أوالً في مجال التمزق‪ ،‬أو االنقسام؛ إنه وعي أن أكون في مقابل معارضة الطبيعة‬
‫الخارجية‪ ،‬ولكن أيض ًا في معارضة {الحقيقة} الموضوعية‪ ،‬التي تكون شاملة داخلي ًا‬
‫بمعنى المفهوم‪ ،‬أو اإلرادة العقالنية‪ .‬من خالل هذا الفصل؛ أنا موجود لنفسي ألول‬
‫مرة‪ ،‬وهنا يكمن «الشر»‪ .‬وباختصار‪ ،‬فإن كونك شرير ًا يعني تخصيص نفسك بطريقة‬
‫تعزلك عن الكونية؛ وهي العقالنية‪ ،‬والقوانين‪ ،‬وتحديد الروح‪ .‬ولكن إلى جانب‬
‫هذا الفصل‪ ،‬ينشأ وجود «لنفس»‪ ،‬وألول مرة القوانين الروحية الكونية؛ وما يجب‬
‫أن يكون‪ .‬إذن‪ ،‬ليس األمر أن للتأمل‪ ،‬أو االعتبار‪ ،‬عالقة خارجية بـ«الشر»‪ :‬إنه بحد‬

‫‪ .84‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 101 :3( :‬ــ ‪.)3‬‬


‫‪ .85‬املصدر السابق‪( ،‬ص‪.)152.‬‬
‫‪ .86‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 205 :3( :‬ــ ‪.)6‬‬
‫‪299‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫ذاته يحمل ما هو شرير َ‬


‫وخ ِّير‪ .‬وبقدر ما هي روح‪ ،‬يجب على اإلنسانية أن تتقدم‬
‫إلى نقيض الوجود هذا‪ ،‬من أجل الذات في حد ذاتها‪ .‬فالروح حرة؛ والحرية لها‬
‫فترض وجود الذات‬ ‫اللحظة األساسية لهذا الفصل داخل نفسها‪ .‬وفي هذا الفصل ُي َ‬
‫من أجلها‪ ،‬ويوجد «الشر» في مكانها‪ .‬وهنا مصدر كل خطأ‪ ،‬ولكن أيض ًا النقطة‪ ،‬التي‬
‫يكون فيها للخالص مصدره النهائي‪ ،‬وهو ما ُينْتِج المرض‪ ،‬وهو في الوقت نفسه‬
‫‪87‬‬
‫مصدر الصحة‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬نجد في هذا المقطع‪ ،‬االنقسام الضروري للوعي‪ ،‬لكونه من أجل الذات‪،‬‬
‫وينجذب إلى عالقة وثيقة للغاية‪ ،‬إن لم يكن إلى الهوية‪ ،‬فهي مع «الشر»‪ 88.‬وما يمنع‬
‫الذات من أن تصبح هوية محضة هي لغة مثل «تم العثور عليها في»‪ ،‬و«تحدث في»‪،‬‬
‫و«لها مقعد في»‪ .‬وإذا كان لـ«الشر» «مقعده» في االنفصال‪ ،‬في الوعي‪ ،‬فمن المنطقي‪،‬‬
‫على األقل‪ ،‬أن يوجد في اإلدراك‪ ،‬إن لم يكن باإلمكان تمييزه وجودي ًا عن الوعي في‬
‫حد ذاته‪ .‬وعندما يصبح الوعي وعي ًا؛ لكونك من أجل نفسك‪ ،‬في معارضة الحقيقة‬
‫الكونية النهائية‪ ،‬أي عندما يحدث الوعي في «تفرد» نفسي ضد الكائنات الحية‪،‬‬
‫وغيرها من الكائنات األخرى‪ ،‬يحدث «الشر»‪ .‬لكن مثل هذه المعارضة والفردية دائم ًا‬
‫ما يصاحبان التقدم إلى «الذات»‪ .‬وهنا يكمن العنصر المأساوي؛ وتكلفة الحرية هي‬
‫إساءة استخدام الحرية‪ .‬إن الخطيئة والخالص لهما المصدر نفسه‪ :‬الوعي واإلدراك‪،‬‬
‫إذ يستلزم الخالص إعادة توجيه الوعي بعيد ًا عن التركيز على الذات والفردية‪ ،‬إلى‬
‫التركيز على الحقيقة وتكوين المجتمع‪.‬‬
‫وتستمر محاضرات عام ‪ ،1827‬في هذه التأمالت العميقة‪ 89.‬وهنا‪ ،‬يعتمد هيغل‬
‫على االرتباط األصلي بين «الحكم»‪ ،‬أو «التقسيم»‪ ،‬الذي هو جوهري لإلدراك‬
‫على أنه «تمييز ذاتي داخل الذات»‪ ،‬و«االنقسام» الشرير‪ ،‬أو على األقل مقعد‬

‫بدال من «احلقيقة» بني قوسني بعد «اهلدف»‪ ،‬وتُرتجم‬‫‪ .206 :3 .87‬تُدرج النسخة اإلنجليزية «الواقع» ً‬
‫«بيرتاشتونغ» عىل أهنا «عقالنية»‪ .‬انظر البديل إىل اجلملتني األخريتني اللتني أرسلهام هوثو (‪206 :3‬‬
‫ن‪ ،)115.‬حيث يصور االنفصال عىل أنه «الكأس املسموم‪ ،‬الذي يرشب منه املوت واملضمون»‪ .‬إن‬
‫املقارنة ضمنية مع الكأس التي متنح احلياة والتي تأيت باخلالص‪.‬‬
‫‪ .88‬املصدر السابق‪( ،‬ص ‪.)153‬‬
‫‪ .89‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 301 :3( :‬ــ ‪.)10‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪300‬‬
‫‪90‬‬
‫«الشر»‪ ،‬ألنه أيض ًا مقعد «الخير»‪ .‬فالمعرفة تجلب معرفة «الخير» و«الشر»‪،‬‬
‫ما نتعرف عليه ليس أننا قد تجاوزنا هذه الوصية‪ ،‬أو تلك‪ ،‬ولكننا َب َش ٌر شريرون‬
‫وجوهريون بقدر ما نفترض االنقسامات فيما بيننا‪ ،‬بين البشر والعالم‪ ،‬وبين البشر‬
‫واﷲ‪ .‬نحن موجودون في حالة تمزق‪ ،‬أو نقيض‪ ،‬تجاه كل من اﷲ والعالم‪ 91.‬ويشرح‬
‫هيغل هذه النقطة األخيرة بطريقة غير موجودة في المحاضرات السابقة‪ 92.‬ويقول‬
‫إننا في مواجهة اﷲ‪ ،‬نختبر معاناة ال نهائية‪ ،‬معاناة االنفصال عن اﷲ‪ ،‬والذوبان في‬
‫أنفسنا‪ ،‬وفقدان «الخير»‪ .‬كان هذا هو الشرط الديني لليهودية في أواخر العصور‬
‫القديمة‪ ،‬التي تفترض إمكانية الكرب الالمحدود اإليمان بإله واحد كإله نقي‬
‫وروحي‪ ،‬تكون أحكامه مؤكدة وعادلة‪ .‬وفي مواجهة العالم‪ ،‬نشعر بالتعاسة‪،‬‬
‫والوعي بأننا لسنا راضين عن العالم‪ ،‬وال يمكن أن نجد في العالم أساس ًا نهائي ًا‪،‬‬
‫وغرض ًا من الحياة‪ .‬وبالتالي‪ ،‬يتم دفعنا إلى أنفسنا‪ ،‬بحث ًا عن السعادة في الوئام‬
‫الداخلي‪ .‬وكان هذا هو الوضع‪ ،‬الذي وصل فيه العالم الروماني في بداية العصر‬
‫المشترك‪ ،‬حيث ظهر في شكل من الرواقية والتشكك‪ 93.‬فكل من هذه الحاالت؛‬
‫الكرب والضيق‪ ،‬هي من جانب واحد بشكل تجريدي‪ :‬فمن ناحية‪ ،‬يوجد نقيض‬
‫غير قابل للكسر بين الالنهائي والمحدود؛ ومن ناحية أخرى‪ ،‬ذوبان اليأس إلى‬
‫الذات عن طريق الفرار من العالم‪ .‬لقد صقل مفهوم األديان السابقة نفسه في هذا‬
‫التناقض؛ وأن التناقض قد كشف وقدم نفسه على أنه حاجة موجودة بالفعل يتم‬
‫التعبير عنها بالكلمات‪« ،‬عندما حان الوقت بالكامل‪ ،‬أرسل اﷲ ابنه»‪ .‬مع هذه‬
‫المالحظة‪ ،‬يتم توفير انتقال إلى موضوع الخالص‪ ،‬ودليل على ظهور المسيح‬
‫الضروري في زمان ومكان معينين‪ 94.‬ولكن‪ ،‬في الواقع‪ ،‬فإن الكرب والتعاسة‬

‫‪ .90‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪.)301 :3( :‬‬


‫‪ .91‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 304 :3( :‬ــ ‪.)5‬‬
‫‪ .92‬هيغل‪ ،‬املحارضات‪ 305 :3( :‬ــ ‪.)10‬‬
‫‪ .93‬املصدر السابق‪( ،‬ص ‪.)154‬‬
‫‪ .94‬يساعد القلق عىل هذا االنتقال يف تفسري سبب معاجلة حمارضات عام ‪ 1827‬ملوضوعات املعرفة والغربة‬
‫و«الرش» بعد ملخص قصة السقوط وليس قبلها‪ ،‬كام هو احلال يف املحارضات السابقة‪ .‬يتبع عرضنا‬
‫ترتيب حمارضات ‪ .1827‬انظر ‪ 300 :3‬ن‪.138 .‬‬
‫‪301‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫هما عالمات دائمة وكونية لالغتراب الديني‪ ،‬وتسليم هيغل بهما هو تطبيق خاص‬
‫على زمانه ومكانه‪ .‬ويظهر الكرب اليهودي في العالم الحديث على شكل تقوى‬
‫بروتستانتية ال تعرف شيئ ًا عن اﷲ سوى بعدها عن اﷲ‪ .‬في حين يظهر عدم الرضا‬
‫الروماني في شكل عقالنية التنوير‪ ،‬التي تقدر قيمة المحدودية‪ ،‬وتكون عرضة‬
‫للعلمانية واإللحاد‪.‬‬
‫يقال‪ ،‬أحيان ًا‪ ،‬إن هيغل يسخر من مشكلة «الشر» من خالل ربطها بالمعرفة بشكل‬
‫وثيق للغاية‪ ،‬وعدم إدراك جوانبها السخيفة وغير العقالنية‪ .‬فمن وجهة نظر هيغل‪ ،‬ما‬
‫يمنح «الشر» قوته غير العادية هو بالضبط ارتباطه بالمعرفة‪ .‬إنه تشويه وانحراف لما هو‬
‫أعلى في اإلنسانية‪ ،‬وليس لما هو أدنى‪ .‬وبالتالي‪ ،‬له فاعلية تفوق بكثير الدمار الطبيعي‪،‬‬
‫وكذلك القدرة على خداع الذات‪ ،‬التي ال يستطيع العقل أن يتغلب عليها‪ ،‬والمطلوب‬
‫هو خالص العقل وليس إزاحته‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬صحيح أن رأي هيغل ال ينعكس كثير ًا؛‬
‫على األقل في فلسفة المحاضرات الدينية‪ ،‬على تعزيز وتكثيف «الشر» الشخصي في‬
‫الهياكل المؤسسية واأليديولوجيات االجتماعية‪ ،‬وبينما يدرك بعمق الطابع المأساوي‬
‫والعنيف للتاريخ البشري‪ ،‬فإنه ال يتصور نوع «الشر» الراديكالي‪ ،‬الذي تمثله المحرقة‬
‫وغيرها من أشكال اإلبادة الجماعية‪ .‬وما إذا كانت تجربة «الشر» في القرن العشرين‬
‫تستدعي إعادة التفكير بشكل أساس هو أحد األسئلة‪ ،‬التي ربما كان سيطرحها هيغل‬
‫عن طريق ما بعد الحداثة‪.‬‬

‫الشر الملموس‪:‬‬
‫يتطلب استكشاف مشكلة «الشر» عند هيغل استخدام منهج التحليل الفلسفي‪،‬‬
‫الذي اتبعه لمناقشة مفهوم الالهوت المسيحي في محاضراته‪ ،‬وكتابه عن التاريخ‪،‬‬
‫وموسوعة الفلسفة‪ ،‬وغيرهما من دراساته الكثيرة حول القانون والطبيعة وفلسفة‬
‫الدين‪ .‬فقد كان الشغل الشاغل لهيغل هو تفسير ظهور «الشر» في التاريخ‪ ،‬وتبرير‬
‫أفعال الحقد‪ ،‬التي تسيء بشكل مأساوي إلى سجل األحداث البشرية‪ 95،‬إذ يشير‬

‫‪ .95‬ديفيد ماكريغور‪« ،‬مشكلة «الرش»‪ ،‬مسودة حمارضة‪ ،‬مجعية ماركس والفلسفة‪ ،‬مؤمتر جو مكارين‬
‫التذكاري‪ ،‬يف خمترب املعرفة بلندن‪ 23 ،‬ــ ‪ 29‬شارع إمريالد‪ ،‬لندن ‪ WC1، 26‬أكتوبر ‪.2008‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪302‬‬
‫جوزيف مكارني‪ 96‬إلى استياء هيغل من ثيودوسية اليبنتز‪ ،‬الذي يدعي أنه من بين جميع‬
‫العوالم الممكنة‪ ،‬اختار اﷲ األفضل‪ .‬رغم أنه ُيشاركه االعتقاد في جدلية العالقة بين‬
‫بمستوى مختلف من الفهم‪ ،‬إذ يؤكد اليبنتز أن «الشر» ليس‬
‫ً‬ ‫«الخير» و«الشر»‪ ،‬وإن‬
‫سوى وسيلة لتحقيق «الخير»‪ ،‬وأن الشيطان هو الممهد لذلك‪ .‬لكن هيغل يتساءل‪:‬‬
‫إذا كان الشيطان هو مجرد وسيلة اﷲ لتحقيق «الخير»‪ ،‬فلماذا إذن لم يختر وسيلة‬
‫أخرى؟ ومن هنا يبدأ هيغل حل مشكلة «الشر» ببرنامج مصالحة‪ ،‬أو «خالص»‪ ،‬ال‬
‫يعتمد على اإلرادة الشخصية‪ ،‬بل باألحرى‪ ،‬على «ثيودسيا وحدة الوجود»‪ ،‬التي‬
‫ترى أن «الخير» قد رسخ نفسه دائم ًا في العالم بدرجة ال يستطيع «الشر» أبد ًا أن‬
‫يقف بجانبه على قدم المساواة‪ .‬وسر هذه المصالحة‪ ،‬أو هذا «الخالص»‪ ،‬هو العثور‬
‫على اإليجابي في التاريخ‪ ،‬الذي يتقلص قبله الجانب السلبي إلى لحظة عابرة‪ .‬و«في‬
‫‪97‬‬
‫مخططه‪ ،‬يكون العقالني والضروري تعبيرات عن األرضية األنطولوجية للكون»‪،‬‬
‫ويقتضي برنامج هيغل التعامل في الحال مع الجوانب التعسفية والطارئة لـ«الشر»‬
‫عن طريق إزالة عامل اإلرادة البشرية‪ ،‬وكذلك االضطرار لشرح التصرفات الغامضة‬
‫لإلله‪ .‬فقد انتقد معارضو هيغل فكرة المصالحة «الخالص» على أنها استجابة‬
‫غير كافية لمشكلة «الشر»؛ فبدالً من أخذ «الشر» بجدية‪ ،‬ينكر هيغل وجود مأساة‬
‫‪98‬‬
‫إنسانية‪ ،‬ويستبدلها بـ«الكوميديا الغائية للهدف النهائي للعالم وتأكيد الفكرة‪».‬‬
‫الم ْر ِضي لحل‬
‫في حين أن حنا أرندت‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬تحدثت عن الطابع غير ُ‬
‫هيغل لمشكلة «الشر»‪ ،‬في كتابها «أيخمان في القدس»‪ .‬ومن خالل لوم التاريخ‬
‫نفسه‪ ،‬تالحظ سوزان نيمان فيما يتعلق بحجة أرنت‪ ،‬أن هيغل قد أعفى البشر من‬
‫المسؤولية األخالقية‪ .‬فـ«إذا كان التاريخ مجرد حدث معاد للسامية تلو اآلخر‪ ،‬ألم‬
‫‪99‬‬
‫يكن {أيخمان} حتى ترس ًا أصغر في آلة أكبر مما ادعى هو نفسه؟»‪.‬‬

‫‪ .96‬جوزيف ماكارين‪« ،‬الرش» يف «الفكر احلديث‪ :‬تاريخ بديل للفلسفة»‪ ،‬أوكسفورد‪ ،‬ومطبعة جامعة‬
‫برينستون‪ ،‬عام ‪ ،2002‬ص ‪.93‬‬
‫‪ .97‬مكارين‪ ،‬املرجع السابق‪( ،‬ص ‪.)197‬‬
‫‪ .98‬مكارين‪ ،‬املرجع السابق‪( ،‬ص ‪.)199‬‬
‫‪ .99‬سوزان نيامن‪»« ،‬الرش» يف الفكر املعارص تاريخ بديل للفلسفة»‪ ،‬كالسيكيات برينستون‪ ،‬مطبعة جامعة‬
‫برينستون‪ 25 ،‬أغسطس ‪ ،2015‬ص ‪.261‬‬
‫‪303‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫ومع ذلك‪ ،‬وكما يقر مكارني‪ ،‬فإن قلة من الكتاب تحدثوا ببالغة‪ ،‬أو بحساسية‬
‫أكثر من هيغل عن وجود «الشر» في التاريخ‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬من خالل مفهومه‬
‫عن الثالوث اإلله‪ ،‬الذي مات في تقدير نيتشه‪ ،‬ينأى هيغل بنفسه عن الالهوت‬
‫المسيحي القياسي باإلصرار على وصمة «الشر» حتى داخل الثالوث‪ .‬وال يوجد‬
‫مكان في فكر هيغل ألي تصور للحياة اآلخرة قد يخفف من عواقب «الشر»‪.‬‬
‫بدالً من ذلك‪ ،‬بالنسبة لهيغل‪ ،‬يمكن العثور على مصالحة الروح الالنهائية فقط‬
‫في «دورة الوالدة والموت» داخل المجتمع البشري األبدي‪ 100.‬فقد استغل هيغل‬
‫الطابع الديالكتيكي لفكرة الثالوث في الالهوت المسيحي كحل لمشكلة «الشر»؛‬
‫فمن ناحية‪ ،‬تعترف المسيحية بالحقوق الالنهائية للفرد البشري‪ ،‬وهوية الفرد‬
‫االجتماعي مع اﷲ‪ ،‬وتدعو إلى إلغاء العبودية عالمي ًا‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬تقبل‬
‫المسيحية أهمية التعليم والتنمية في التغلب على «الشر» داخل الفرد والمجتمع‪.‬‬
‫فالحركة النهائية للثالوث (اﷲ) هي اتحاد الحب والمعرفة‪ ،‬كما هو مضمون في‬
‫مفهوم الحرية‪ ،‬الذي ُيعتبر المفتاح الحقيقي لمعنى التاريخ‪ .‬ويتم تلخيص هذه‬
‫اللحظات في الصراع الشخصي لكل فرد مع «الشر» الداخلي للنفس «األمارة‬
‫اها * َقدْ َأ ْف َل َح َم ْن َزك َ‬
‫َّاها *‬ ‫اها * َف َأ ْل َه َم َها ُف ُج َ‬
‫ور َها َو َت ْق َو َ‬ ‫بالسوء»‪[،‬و َن ْف ٍ‬
‫س َو َما َس َّو َ‬ ‫َ‬
‫َو َقدْ َخ َ‬
‫‪101‬‬
‫اها]‪.‬‬
‫اب َم ْن َد َّس َ‬
‫وعلى وفق ذلك‪ ،‬يشرح ماكريغر‪ ،‬في مناقشته لقصة جنة عدن والسقوط‪ ،‬اقتراح‬
‫هيغل أن الجهاد البشري داخل أنفسنا أكثر أهمية من عملية الفعل في خلق الفردانية‪.‬‬
‫لكنه الحظ أن العمل البشري؛ العمل الروحي والجسدي‪ ،‬الذي تسترشد به المعرفة‪،‬‬
‫ويجسد المواجهة مع العالم الخارجي هو الوسائل نفسها التي تتم بها هزيمة «الشر»‪،‬‬
‫وكأني به ُيشير إلى ما ورد في الحديث النبوي في التفريق بين الجهاد األكبر «داخل‬
‫أنفسنا»‪ ،‬والجهاد األصغر المتمثل في «العمل البشري»‪ .‬والعمل‪ ،‬الذي يتم بعرق‬
‫جبين المرء‪ ،‬أو العمل الجسدي‪ ،‬وعمل الروح‪ ،‬وهو أصعب من االثنين‪ ،‬يرتبط‬
‫مباشرة بمعرفة «الخير» و«الشر»‪ .‬أن البشرية يجب أن تجعل نفسها على ما هي‬

‫‪ .100‬مكارين‪ ،‬املرجع السابق‪( ،‬ص ‪.)203‬‬


‫‪ .101‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة الشمش‪ ،‬اآليات‪ 7 :‬ــ ‪.10‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪304‬‬
‫عليه‪ ،‬وأن تنتج الخبز وتأكله من عرق جبينها‪ ،‬وتنتمي إلى ما هو أكثر أهمية وتميز ًا‬
‫عنها‪ ،‬وتتوافق بالضرورة مع معرفة «الخير» و«الشر»‪ .‬وهنا‪ ،‬يقول ديفيد ماكريغور إن‬
‫تأمل سوزان نيمان الفلسفي لـ«الشر» في الفكر الحديث يقدم فهم ًا عميق ًا لمفهوم‬
‫هيغل عن «الشر»‪ ،‬إذ تشير إلى أن هيغل «كان أول من أعطى صياغة علمانية لمشكلة‬
‫في حين تنبه نيمان إلى أن اليبتنز ميز بين ثالثة أشكال من «الشر»‪،‬‬ ‫‪102‬‬
‫«الشر»»‪.‬‬
‫هي‪« :‬الشر» الطبيعي‪ ،‬الذي يتعلق بمجال المعاناة‪ ،‬وهو األلم‪ ،‬الذي يتحمله البشر‬
‫نتيجة لوجودهم على األرض وبدون خطأ من جانبهم‪ ،‬و«الشر» األخالقي‪ ،‬والذي‬
‫ينتمي إلى دائرة الخطيئة‪ ،‬وإخطائنا ضد اﷲ‪ ،‬وإرادة اإلنسان لتجاهل وصايا التقوى‪.‬‬
‫وأخير ًا‪ ،‬هناك شر ميتافيزيقي‪ ،‬وهو نقص في جميع الكائنات الحية‪ ،‬حيواني ًا وبشري ًا‪،‬‬
‫ووجود «الشر» بحكم خلقهم‪.‬‬
‫لقد فسر هيغل «الشر» بالفهم الميتافيزيقي لاليبنتز حول كيف أن العالم‪ ،‬بعد‬
‫كل شيء‪ ،‬هو ما يجب أن يكون عليه؛ أي أن «التغلب على الشرور جزء من العملية‬
‫المشار إليها‪،‬‬
‫الواضحة في التاريخ نفسه»‪ .‬لقد قدم ديفيد ماكريغور‪ ،‬في محاضرته ُ‬
‫‪103‬‬

‫مفهوم ًا عن هيغل لم يحظ باهتمام كبير‪ ،‬وهو مفهوم «الشر الملموس»‪ ،‬الذي ذكره‬
‫هيغل في فلسفة التاريخ‪ 104.‬إذ أعاد هيغل بناء فكرة اليبنتز عن «الشر» الميتافيزيقي‪،‬‬
‫في الجانب الكوني للحياة الروحية‪ ،‬وأطلق عليها اسم «الشر الملموس»‪ .‬على الرغم‬
‫من أن هذا «الشر الملموس» هو نفسه مكون من عوارض مفاجئة وحوادث طارئة‪ ،‬إال‬
‫أنه جانب عالمي للحياة البشرية‪ ،‬ووظيفة ثابتة في كشف التاريخ البشري‪ .‬وبالنسبة‬
‫لهيغل‪ .‬فـ«الشر الملموس»‪ ،‬بهذا الفهم‪ ،‬هو ظاهرة اجتماعية وتاريخية ترتبط ارتباط ًا‬
‫وثيق ًا بتقدم الروح البشرية في التاريخ‪ ،‬ودور الفلسفة هو المساعدة في فهم «كل العلل‬

‫‪ .102‬أنظر سوزان نيامن‪»« ،‬الرش» يف الفكر املعارص تاريخ بديل للفلسفة»‪ ،‬ص ‪ 86‬ــ ‪.96‬‬
‫‪ .103‬بيرت يس هودجسون‪ ،‬حمرر‪« ،‬حمارضات يف فلسفة الدين»‪ ،‬حمارضات عام ‪ ،1827‬طبعة من جملد‬
‫واحد‪ ،‬مطبعة جامعة كاليفورنيا‪.1988 ،‬‬
‫‪ .104‬ناقش ديفيد ماكغريغور‪ً ،‬‬
‫أوال‪ ،‬مفهوم «الرش امللموس» يف «السياسة العميقة يف ‪ 11‬سبتمرب‪ :‬االقتصاد‬
‫السيايس للرش اخلرساين»‪ ،‬يف مواجهة ‪ 9‬ــ ‪ ،11‬إيديولوجيات العرق‪ ،‬مع االقتصادي البارز بول‬
‫زارمبكا‪« ،‬البحث يف االقتصاد السيايس»‪ ،‬املجلد ‪ ،20‬أد‪ ،.‬حقوق الطبع والنرش لرشكة ‪Elsevier‬‬
‫‪ ،Science Ltd‬عام ‪ ،2002‬ص ‪ 3‬ــ ‪.60‬‬
‫‪305‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫في العالم‪ ،‬بما في ذلك وجود «الشر» حتى تتصالح روح التفكير مع الجوانب السلبية‬
‫‪105‬‬
‫للوجود»‪.‬‬
‫وعلى عكس كانط‪ ،‬ال يهتم هيغل أساس ًا بـ«الشر» كنتيجة للفسوق من جانب األفراد ــ‬
‫مجال األخالق‪ ،‬وال يقول إن «مصائر األمم‪ ،‬وتشنجات الدول ومصالحها‪ ،‬ومآزقها‬
‫ومشاركاتها هي من نظام مختلف عن األخالق»‪ ،‬بدالً من ذلك‪ ،‬فهو مهتم بالقوى‬
‫السلبية في تاريخ البشرية‪ ،‬التي تميز األقليات المهيمنة وتضر‪ ،‬أو تدمر مجتمعات‬
‫بأكملها‪ .‬كما يقول هيغل‪ ،‬إن «العواطف والمصالح الخاصة وإشباع الدوافع األنانية‬
‫هي القوة األكثر فعالية‪ .‬ما يجعلهم أقوياء هو أنهم ال يلتفتون ألي من القيود‪ ،‬التي‬
‫تفرضها العدالة‪ ،‬أو األخالق عليهم‪ ،‬وأن القوة األساسية للعاطفة لها سيطرة مباشرة‬
‫على اإلنسان أكثر من االنضباط المصطنع والمكتسب بجهد من النظام واالعتدال‬
‫والعدالة واألخالق»‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن «الشر الملموس» ليس مسألة قوى هيكلية مجهولة‬
‫الوجه تعمل تقريب ًا كقوة تشبه «الشر» بفهم اليبنتز الطبيعي‪ ،‬أي التغلب على مجتمع‬
‫معين‪ ،‬أو مجموعة بشرية‪ .‬إذ يشير «الشر الملموس» إلى األفعال البشرية المتعمدة التي‬
‫تسخر مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في خدمة الحقد‪ .‬ويذكرنا نيتشه بقوله إننا‬
‫ال نعرف ما «الشر»‪ ،‬وهو بهذا كان يعني أننا نميل إلى تبني مفهوم أحادي البعد لهذا‬
‫«الشر»؛ أي مفهوم الحقد كشيء يفعله دائم ًا الجانب اآلخر‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬فإن مفهوم‬
‫«الشر الملموس» الموجود في العالم ينطوي على تكثيف «الشر»‪ ،‬وظهور «الشر»‬
‫وحشده في نقاط مهمة‪ ،‬أو قفزة‪ ،‬أو تحول ديالكتيكي يتجلى في حدوث هذا «الشر»‪،‬‬
‫أو الترتيب االجتماعي الفاسد‪ .‬وفي أوقات معينة من التاريخ‪ ،‬يتم إبعاد «الشر»‪ ،‬على‬
‫الرغم من أن العالم مشبع بوجود هذا «الشر»‪.‬‬
‫إن رفض هيغل تخيل نهاية للتاريخ كان يجب أن يكون مصدر إلهام لتفكيره‬
‫في «الشر»‪ .‬ألن هذا «الشر»‪ ،‬اقتباس ًا من محاضراته‪ ،‬موجود «بشكل ملموس» في‬
‫التاريخ‪ .‬وال يمكن إجراء محاسبة كاملة لـ«الشر» من الناحية التاريخية حتى نتمكن‬
‫من إعادة النظر في التاريخ‪ ،‬كما كان؛ وهذا ال يمكننا فعله أبد ًا‪ ،‬أو على األكثر يمكننا‬

‫‪ .105‬نيسبت‪« ،‬حمارضات يف فلسفة تاريخ العامل»‪ ،‬مقدمة‪ :‬السبب يف التاريخ‪ ،‬كامربيدج‪ :‬مطبعة جامعة‬
‫كامربيدج‪ ،1975 ،‬ص ‪.21‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪306‬‬
‫القيام به جزئي ًا فقط‪ .‬إن نمط المحصل الصفري الذي يتخيله هيغل ليس بسبب عدم‬
‫وجود خسائر حقيقية‪ ،‬لكن ألن الخسائر ضرورية لتطور الروح‪ ،‬وبهذا يجري إغالق‬
‫الباب الذي ال يستطيع هيغل إغالقه‪ .‬إنه لمن غير المرضي للغاية بالنسبة للكثيرين‬
‫أن يتركوا «الشر» في عداد المفقودين بالمعنى النهائي‪ ،‬تمام ًا كما هو الحال مع ترك‬
‫المستقبل مفتوح ًا‪ ،‬دون سيطرة بعض القوى غير المرئية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تتطلب فلسفة‬
‫هيغل أن ُيترك كالهما كأسئلة مفتوحة‪ ،‬حتى عندما يريد هيغل نفسه إغالقهما‪ .‬في‬
‫النهاية‪ ،‬تفشل النظريات ليس ألنها تسعى إلى تبرير «الشر»؛ إذ إنه ليس لـ«الشر» تبرير‬
‫نهائي‪ ،‬مثل ما يطلبه هيغل‪ ،‬ولكن‪ ،‬بأخذ المصطلح حرفي ًا‪ ،‬بأنهم يسعون إلى تبرير‬
‫وجود اﷲ ــ وهو مثال رئيس لما أسماه هايدجر علم الوجود‪ ،‬أي السماح للفلسفة‬
‫لتقرر متى وأين وكيف يدخلها اإلله‪ .‬مثل هذا اإلله زائف في حياة الدين؛ كما يقول‬
‫يضحي لهذا‬
‫ّ‬ ‫هايدجر‪ ،‬هذا صنم‪ ،‬والسبب هو‪ ،‬أنه «ال يستطيع اإلنسان أن يصلي وال‬
‫اإلله‪ .‬فقبل السببية‪ ،‬ال يمكن لإلنسان أن يسقط على ركبتيه في رهبة‪ ،‬وال يمكنه عزف‬
‫الموسيقى والرقص أمام هذا اإلله»‪ 106.‬هذا هو اﷲ‪ ،‬الذي دافع عنه الثيودسيون‪ ،‬كما‬
‫دافع عنه هيغل‪.‬‬

‫الخالصة‪:‬‬
‫في الختام‪ ،‬نقول إن المقال تحاشى التعريفات في المتن‪ ،‬ولم يبدأ بوضع‬
‫شرح لغوي‪ ،‬أو اصطالحي‪ ،‬لـ«الشر»‪ ،‬ولم يقبل‪ ،‬أو يرفض‪ ،‬المفاهيم السلبية‪ ،‬أو‬
‫اإليجابية‪ ،‬المقدمة له كآراء في كل الدراسات‪ ،‬ألننا أدركنا أن هيغل كان حريص ًا‬
‫ومحق ًا في عدم حصره بمعنى ضيق يقيد هذا النظر العميق في أبعاده المختلفة‪،‬‬
‫وجدلية تواصله وتداخله مع «الخير» واألخالق الميتافيزيقية والمادية‪ ،‬وصعوده‬
‫وهبوطه ما بين السماء واألرض؛ كمتعلق إلهي يصارع الروح‪ ،‬وكمكون إنساني‬
‫ينحط بالمادة إلى الدرك األسفل‪ .‬فهل «الشر» هو الحرمان‪ ،‬كما قال به البعض‪،‬‬
‫الذي ال يمكن الحصول منه على مزيد من التبصر‪ ،‬وال يمكن إحراز تقدم نحو حل‬
‫لمشكلته؟ فقد علمنا أن لهذا‪ ،‬تعمد هيغل أن يذهب لصالح توصيف بناء‪ ،‬أكثر‬

‫‪ .106‬مارتن هايدجر‪« ،‬اهلوية واالختالف»‪ ،‬نسكي بولينغتون‪ ،‬عام ‪ ،1957‬ص ‪.64‬‬


‫‪307‬‬ ‫لغيه تارضاحم يف ةءارق ‪:‬رشلا ةلكشم‬

‫من غيره‪ ،‬إذ ربط «الشر» بشرط التخلي عن المسؤولية‪ ،‬أو التحلل من االلتزام‬
‫بإمالءات الضمير‪ ،‬أو إغفال أفعال «الروح الجميلة»‪ .‬نعم‪ ،‬إن «الشر»‪ ،‬بهذا الفهم‬
‫ال فشل في االلتزام األخالقي‪ ،‬وإنكار للمسؤولية‪ ،‬أو القدرة على‬‫الهيغلي‪ ،‬هو فع ً‬
‫التصرف‪ ،‬ولكن هيغل أبقى عليه قسر ًا كضرورة لوجود «الخير»‪ .‬وفي تقديرنا أن‬
‫هذا موقف منطقي ومفهوم‪ ،‬يسعى لتمكين الربط بين رؤية «الشر» على أنه مادة‬
‫غير مفهومة‪ ،‬أي غير عاطفي؛ والنظر إليه على أنه حقيقي وفعال‪ ،‬وهو واقعي‬
‫وعقالني‪ .‬على الرغم من أن هيغل قد اعتبر «الشر»‪ ،‬في أحيان كثيرة‪ ،‬كانحراف‬
‫غير عقالني للحقيقة الجوهرية الداخلية للعالم‪.‬‬
‫بيد أننا نجد أن نظرة هيغل إلى «الشر»‪ ،‬على الرغم من كل الحجج المنطقية‪،‬‬
‫وما أحاطه بها من أسوار فلسفية عالية رفيعة تفتقر إلى الكمال‪ ،‬ربما النشغاله‬
‫شر بالمعنى األخالقي‪ ،‬أكثر‬
‫بالتأكيد على أن «الشر الميتافيزيقي»‪ ،‬باعتبار أنه ّ‬
‫من «الشر الملموس»‪ ،‬الذي حاولت تفسيره والدفاع عنه تيارات مدارس المادية‬
‫الجدلية فيما بعد أيض ًا‪ .‬وقد تناولنا في استعراضنا عاليه إسهام أسماء رئيسة في‬
‫هذه التيارات؛ مثل مكارني‪ ،‬وماكريغر‪ ،‬وحتى حنا اردنت‪ ،‬وسوزان نيمان‪ ،‬الذين‬
‫اجتهدوا في تجسيد «الشر» بأمثلة مادية تاريخية شاخصة في الذاكرة اإلنسانية‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬مما ُيحمد لهيغل‪ ،‬في هذا الصدد‪ ،‬أنه لم يخلط بين الضرورة السببية‬
‫والضرورة المنطقية‪ ،‬ولم ينف ما يمكن أن يكون بينهما من عالئق معينة على‬
‫فهم الظواهر‪ ،‬ومنها ظاهرة «الشر» المادي‪ ،‬الذي وقفت عنده هذه األصوات‬
‫الفكرية اليسارية‪ ،‬خاصة عندما يقرر أن إنكار ضرورة «الشر» هو إنكار لضرورة‬
‫«الخير»‪ ،‬اعتراف ًا بأن هناك سبب ومنطق لهذه العالقة بين هذين الضدين‪.‬‬
‫ونحن نعلم أن إسهام هيغل المهم جد ًا في الفلسفة هو مفهومه عن «الديالكتيك»‪،‬‬
‫الذي وردت اإلشارة إليه في متن وهوامش هذا المقال‪ ،‬والذي صاغه في نظرية تتخلل‬
‫نظام أفكاره‪ .‬وشهدنا من خالل هذا االستعراض لرؤيته لـ«الشر»‪ ،‬أن الديالكتيك يأتي‬
‫كلما انعكست فكرتان متضاربتان؛ كـ»الخير» و«الشر»‪ ،‬ويستطيع بقدرة خارقة تمييز‬
‫الوحدة‪ ،‬أو العالقة‪ ،‬التي تشمل كليهما‪ ،‬ما يؤدي إلى انتاج اتحاد ُيطلق عليه مصطلح‬
‫خاص يعني اإللغاء والحفظ والتجاوز‪ .‬هذا إذن هو موقع «الديالكتيك» في فكر هيغل‪،‬‬
‫هيقفلا قداصلا ‪.‬د‬ ‫‪308‬‬
‫الذي يمكننا عن طريقه الوصول إلى معرفة ميتافيزيقية علمية عن الوجود المادي‬
‫والمفهوم األخالقي لـ«الشر»‪ ،‬من خالل مالحظة التناقضات وحركتها الداخلية‬
‫الضرورية‪ .‬ونجده يجادل بأن الفحص المنطقي لألفكار يخبرنا أن أي مفهوم يحتوي‬
‫بالضرورة على أضداده داخله‪ ،‬وتتحرك هذه األضداد وتنتقل إلى داخل بعضها منتجة‬
‫حقيقة جديد عكس مكوناتها السابقة‪ ،‬وذلك هو وحدة االثنين؛ «الخير» و«الشر»‪ ،‬هذه‬
‫هي سيرورة «الديالكتيك»‪ ،‬وعملية التجاوز هذه حركة ديناميكية‪ ،‬وصيرورة حياة‪.‬‬
‫وبهذا المنطق‪ ،‬يمكننا أن نفهم أنه‪ ،‬بالنسبة لهيغل‪ ،‬فإن «الخير» محدد عقالني ًا بالمنطق‬
‫الداخلي للعالم‪ ،‬وهذا أمر منطقي لكل حالة‪ ،‬أو عملية‪ ،‬اكتملت بالفعل؛ وأن «الشر»‬
‫كباطل‪ ،‬هو اآلخر منطقي‪ ،‬كأي منطق عقالني‪ ،‬وأن هذا الباطل عاجز عند مواجهة‬
‫الحقيقة المنطقية‪ ،‬ولكنها ال تنفيه من الوجود‪.‬‬
‫دراسات‬

‫الشر بوصفه حامال للخير‬


‫ّ‬
‫رؤية في ضوء القرآن الكريم‬
‫د‪ .‬زهرة الثابت‬
‫‪1‬‬ ‫___________________________________________________‬

‫قضية الشر من أهم القضايا التي الزمت اإلنسان منذ القديم‪ ،‬فهي الظاهرة‬
‫التي حضرت بامتياز في األساطير والفكر الديني القديم واستمرت في الفكر‬
‫الديني التوحيدي‪ ،‬ويبدو أن سؤال الشر ظل سؤاال جوهريا في ظل ما يشهده‬
‫العالم المعاصر اليوم من فتن وحروب وتطاحن وتناحر وعنف وعدوانية‬
‫وسفك للدماء وقتل وتدمير وتخريب تحت عناوين مختلفة دينية وسياسية‬
‫واقتصادية‪ ،‬ما يشي بأن المنظومة األخالقية قد تهاوت وتفككت وأن اإلنسان‬
‫صار يعيش أزمة قيم ألنه أصبح متوحشا وذئبا ألخيه اإلنسان كما صرح بذلك‬
‫هوبز‪.‬‬
‫الشر من حيث مفهومه ومصدره من أوكد الهموم التي‬ ‫لذلك غدا التفكير في ّ‬
‫مر العصور بهذه‬‫انشغل بها المرء‪ ،‬فاهتم الفالسفة والمفكرون ورجال الدين على ّ‬
‫الشر كما يذهب إلى ذلك ريكور كان تحديا فلسفيا والهوتيا‬
‫القضية على اعتبار أن ّ‬
‫في اآلن نفسه «فهو تحد للفلسفة ألنه يفرض عليها إعادة البحث في مسألة عقلنة‬
‫العالم‪ ،‬وتحد للثيولوجيا ألنه يشكل مدخال إلعادة النظر في مسألتي العدل اإللهي‬
‫والحرية اإلنسانية»‪ .2‬ثم إن الشر أيضا كان لغزا محيرا ومفهوما عصيا على المحاصرة‬

‫‪ .1‬باحثة وأستاذة يف كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬القريوان ــ تونس‪.‬‬


‫‪ .2‬إبراهيم جميديلة‪ ،‬أنرتوبولوجيا اإلنسان اخلطاء‪ :‬الرش جذريا والرش تافها والرش مؤوال‪ ،‬تبيني مج ‪،5‬‬
‫عدد‪ ،19‬شتاء ‪ ،2017‬ص‪.29.‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪310‬‬
‫ألننا «اعتدنا أن نجمع في إطار واحد بين ظواهر مختلفة ليس بينها وجه تعلق كاأللم‬
‫والموت والخطيئة»‪.3‬‬
‫وصار هاجس اإلنسان الظفر بأجوبة شافية عن تساؤالته المحيرة حول هذا‬
‫اللغز منها ما حقيقة الشر؟ وهل المرء مسؤول عنه؟ وهل هو حدث عرضي أم أنه‬
‫أمر مقصود ومفروض عليه؟ وهل يمكن له أن يتخلص منه؟ وهل يمكن أن يكون‬
‫اﷲ خالقا للشر؟ وانبرى اإلنسان متفحصا للنصوص المقدسة عساه يظفر بضالته‬
‫مترصدا أثر صور الشر التي احتوتها قصص األنبياء جاعال ديدنه األكبر الحفر في‬
‫غائية وجود الشر وهل يمكن أن يكون حامال للخير‪.‬‬
‫نروم من خالل هذه الورقة البرهنة على صحة هذه الفرضية‪ .‬ذلك أن المتدبر في‬
‫القرآن الكريم يلحظ أن قصص الشر كانت تعليمية‪ ،‬هادفة وتحمل في طياتها بذور‬
‫الخير فخطيئة آدم وحواء كان ال بد منها من أجل االستخالف في األرض‪ ،‬وقتل‬
‫قابيل ألخيه هابيل كان من أجل االعتراف بحقيقة الموت طقس عبور‪ ،‬والجنس‬
‫الحرام في قصة لوط وقصة قوم نوح وقصة يوسف وقصة حمل مريم البتولي كان‬
‫بغاية تثبيت مقولة الطهارة‪ ،‬ومعاناة موسى وإبراهيم ونوح بين أقوامهم كانت من‬
‫أجل خالص اإلنسانية‪ ،‬ومحنة االبن الذبيح في تجربة إبراهيم كانت رحمة باإلنسان‬
‫وتكريما له ومعاناة يوسف ومحمد كانت من أجل إتمام الرسالة‪.‬‬

‫‪ .1‬اإلنسان والدين ومعضلة الشر‬


‫• •اإلنسان ومشكلة الشر في الفكر الديني القديم‬
‫يبدو أن مشكلة تفسير الشر معضلة واجهها اإلنسان الديني منذ القديم‪ ،‬فهو‬
‫قد اعتقد بوجود قوى شريرة تتحكم بمصيره وقد ب ّثت في داخله الرعب‪ ،‬وأولى‬
‫الشرور التي وعى بها اإلنسان الموت لذلك راح يتقرب إلى هذه القوى ويجسدها‬
‫اتقاء ألذاها‪ .‬فاعتقد المصريون في «أوزيريس» إلها للخير و«ست» إلها للشر‪،‬‬

‫‪ .3‬انظر‬
‫‪Lectures3: Aux frontières de la philosophie, Paul Ricoeur, éditions du seuil, Paris,‬‬
‫‪1994, p.212.‬‬
‫‪311‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫واستقر رأيهم على أن الحياة إنما هي صراع بين هاتين القوتين و«ارتبط الشر في‬
‫ذهن المصري بالحياة بعد الموت أي البعث ومحاسبة النفس على ما فعلته في‬
‫الدنيا»‪.4‬‬
‫وأما في المجتمع البابلي القديم فقد تولدت فكرة الشر من خوف اإلنسان‬
‫من المجهول ومن الكوارث الطبيعية ومن اعتقاده بوجود قوى خارقة تتسبب في‬
‫أذيته‪ ،‬لذلك اقتنع «سكان بالد الرافدين بأن الكون مليء بالعفاريت الطيبة والخبيثة‬
‫واألخيرة هي أوالد آلهة الشر الذين نحرهم اإلله مردوخ في قصة الخليقة البابلية‬
‫والعفاريت الشريرة أكثر عددا من الطيبة فصوروهم كوحوش مخيفة وكائنات‬
‫مرعبة»‪ ،5‬لذلك مارس السحر وقدم القرابين درءا لخطر هذه القوى الشريرة‪ .‬بل‬
‫إن قناعته استقرت على وجود قوى شريرة هي السبب فيما يعرض لإلنسان من‬
‫زالزل وفيضانات وأمراض خطيرة وأمور خارجة عن المألوف‪.‬‬
‫أ ّما في عقيدة الهند فالشر مرادف للهدم والفساد ومكمنه األول المادة وال‬
‫خالص منه إال بالخالص من الجسد‪ .‬والشر في نظرهم تمثله (الراكشا) وهي‬
‫العفاريت الخبيثة والعابثة‪ ،‬وتمثله الحية (آهي) التي قتلها اإلله (أندرا) والربة‬
‫الهندية(سبيتاال) التي غضب عليها اإلله (كيالسا) وأخرجها من الجنة وتجسده‬
‫أيضا (مايا) األنثى الفاتنة التي ترمز إلى العالم المحسوس و(مارا) الرب الذي‬
‫أغوى بوذا وقد صورته األساطير الهندوسية كمسؤول عن مباهج الحياة ولذاتها‬
‫وعن الفساد‪ .‬لذلك فال خالص من هذه الروح الشريرة إال «بإفناء الوجود بالقضاء‬
‫على شهوات النفس إلى حدّ إماتة إرادتها حتى يصل اإلنسان إلى حالة من الفناء‬
‫النرفانا حيث السعادة الكاملة وحيث األمل في اإلفالت من متاعب توالي الوالدات‬
‫وتناسخ األرواح» ‪ .‬وأما الزرادشتية فقد قامت على مبدأ الثنوية فكان ّ‬
‫‪6‬‬
‫الشر مصدره‬
‫إله الظالم (أهريمان) والخير مصدره إله النور (أهورمزدا)‪.‬‬

‫‪ .4‬أمال األتريب‪ ،‬الرش من منظور ديني بني التجريد والتجسيم‪ ،‬ص‪ ،56‬ضمن جملة املحجة العدد‪،14‬‬
‫سنة ‪.2006‬‬
‫‪ .5‬غيث سليم فرحان وحيدر عقيل عبد‪ ،‬دور اآلهلة والكهنة يف طرد الشيطان يف العراق القديم‪ ،‬جملة‬
‫الدراسات التارخيية واألركيولوجية‪ ،‬عدد‪ ،54‬حزيران ‪ ،.2016‬ص‪.5.‬‬
‫‪ .6‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.57.‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪312‬‬
‫• •اإلنسان ومشكلة الشر في الفكر الديني التوحيدي‬
‫كان مصطلح «الشر» في النصوص الدينية المقدسة عهدا قديما وعهدا جديدا‬
‫وقرآنا كريما مفهوما جوهريا‪ ،‬فقد تواتر ذكره في الكتاب المقدس عديد المرات ‪،7‬‬
‫وتبدو قضية الخير والشر في اليهودية من أهم القضايا البدئية التي أثيرت في قصة‬
‫خلق آدم وحواء إذ األكل من الشجرة المحظورة كان في الحقيقة من أجل معرفة‬
‫الخير والشر كاإلله يهوه‪ ،‬بل إن الشر قد تجسم في صورة الحية‪/‬الشيطان التي‬
‫لش َج َر ِة‬
‫ف َأ َّن ُه ِحي َن ت َْأك َُل ِن ِم ْن َث َم ِر َه ِذ ِه ُا َّ‬
‫خاطبت حواء قائلة‪َ « :‬ل ْن ت َُموتَا َب ْل إِ َّن اﷲَ َي ْع ِر ُ‬
‫لش ِّر»‪ .8‬ويبدو أن اليهود‬ ‫ان ِم ْث َله َق ِ‬
‫اد ِري َن َع َلى ُالت َّْم ِييز ِ َب ْي َن َ‬
‫الخ ْي ِر َو ُا َّ‬ ‫َتنْ َفتِح َأ ْعينُكُما َفت َِصير ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫قد «عرفوا فكرة الشر من خالل األقوام المحيطة بهم مثل الكنعانيين والمصريين‬
‫والبابليين خاصة أثناء األسر»‪ .9‬وهم كهذه األقوام المجاورة اعتقدوا في العفاريت‬
‫والجن واألرواح الخبيثة رموزا للشر على الرغم من أن اإلله نفسه في تصورهم‬
‫حامل للشر‪.‬‬
‫أما المسيحية فلم ُ‬
‫تخل من اعتقاد بالشيطان وجنوده رموزا للشر والخير معا‪ ،‬إن‬
‫تصريحا أو تلميحا حتى سمي الشيطان ب«أبي النور» و«حامل الضياء» و«بعلزبول»‬
‫و«أمير الظالم» و«ملك األكاذيب» و«المتهم» و«الشرير» و«إبليس» ‪ .10‬ويذكر‬
‫قاموس الكتاب المقدس أن الشيطان «كائن حقيقي أعلى شأنا من اإلنسان‪ ،‬ورئيس‬
‫رتبة من األرواح النجسة‪ ،‬أما طبيعته فهي روحية تناسب امتيازات الرتبة المنتمي إليها‬
‫كاإلدراك والذاكرة والتمييز‪ ،‬أو حسية كالعواطف والشهوات أو إرادية كاالختيار»‪.11‬‬
‫ويحضر الشيطان بوصفه رمزا للشر حينما يحاول اإليقاع بيسوع الذي يبدي صمودا‬
‫في صراعه معه‪ .12‬ويبدو أن ميزة المسيحية أنها تجاوزت اليهودية في السمو باإلله‬

‫‪ .7‬انظر جورج بوست‪ ،‬فهرس الكتاب املقدس‪ ،‬مادة (رش)‪ ،‬ص‪.376.‬‬


‫‪ .8‬التكوين‪.5 :3‬‬
‫‪ .9‬فتحي مسكيني‪ ،‬الشيطان يف األديان الساموية‪ ،‬ص‪.39 .‬‬
‫‪ .10‬انظر روبرت فرينيك‪ ،‬من هو الشيطان‪ ،‬ترمجة حممد السيد عبد الغني‪ ،‬جملة الثقافة العاملية‪ ،‬عدد‬
‫‪ ،104‬جانفي ‪ ،2001‬صص‪.150/148‬‬
‫‪ .11‬نخبة من الالهوتيني‪ ،‬قاموس الكتاب املقدس‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الطبعة الثامنة ‪ ،2000‬مادة (الشيطان)‪،‬‬
‫صص‪.535/533.‬‬
‫‪ .12‬انظر متى ‪.10 :4‬‬
‫‪313‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫عن فعل الشر‪ ،‬إذ اإليمان باآلب السماوي وابنه «ابن اإلنسان» هو الكفيل بالنجاة من‬
‫َج ِر َب ٍة َل ِك ْن ن َِّجنَا‬ ‫ِ ِ‬ ‫التجربة والشرير‪ ،‬لذلك كانت دعوات المسيح دوما‪َ :‬‬
‫«ل تُدْ خ ْلنَا في ت ْ‬
‫لش ِّر ِير ِلَ َّن َل َك ُا ْل ُم ْل َك َو ُا ْل ُق َّو َة َو ُا ْل َم ْجدَ إِ َلى ُا ْلَ َب ِد»‪.13‬‬
‫ِم َن ُا ِّ‬
‫أ ّما في اإلسالم فمصطلح «الشر» تواتر ذكره صريحا أو متصال بمصطلح‬
‫‪16‬‬
‫«الخير» في سبعة مواطن من القرآن الكريم هي سور يونس‪ 14‬واإلسراء‪ 15‬والكهف‬
‫واألنبياء‪ 17‬ولقمان‪ 18‬وفصلت‪ 19‬والمعارج‪ ،20‬ويلحظ المتدبر لمعاني هذا المصطلح‬
‫لش ِّر َو ُا ْل َخ ْي ِر‬
‫[و َن ْب ُلوك ُْم بِ ُا َّ‬
‫أن الشر كان ابتالء إلهيا‪ ،‬فقد جاء في سورة األنبياء قوله‪َ :‬‬
‫ون]‪ .21‬فهو على هذا النحو امتحان لإلنسان وأن الشيطان كان أول‬ ‫فِ ْتنَ ًة َوإِ َل ْينَا ت ُْر َج ُع َ‬
‫مجسم للشر حين عصى ربه وامتنع عن السجود آلدم‪ ،22‬فغضب اﷲ عليه وأخرجه‬
‫من الجنة‪ ،23‬لذلك توعد الشيطان أن يزرع بذور الشر في بني آدم مرددا َ‬
‫[ل ْق ُعدَ َّن‬
‫يم ُث َّم َلتِ َين َُّه ْم ِم ْن َب ْي ِن َأ ْي ِد ِيه ْم َو ِم ْن َخ ْل ِف ِه ْم َو َع ْن َأ ْي َمان ُُه ْم َو َع ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َل ُه ْم ص َرا َط َك ُا ْل ُم ْستَق َ‬
‫اك ِري َن]‪ ،24‬وتو ّعد أن يضل اإلنسان‪ ،25‬وكانت أول‬ ‫َجدْ َأ ْك َثرهم َش ِ‬ ‫َشم ِائ ِل ِهم َو َل ت ِ‬
‫َ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫أعماله الشريرة حين أغوى آدم وحواء باقتراف المحظور والخروج من جنة الخلد‪.‬‬
‫لكن جعل الشيطان مصدر الشر لم يمنع اإلسالم من تحميل النفس أيضا مسؤولية‬
‫[ر َّبنَا َظ َل ْمنَا َأ ْن ُف َسنَا]‪ ،26‬وقوله‪:‬‬
‫األفعال الشريرة لذلك تواتر في القرآن الكريم قوله َ‬

‫‪ .13‬انظر متى ‪.13 :6‬‬


‫‪ .14‬يونس ‪.11 :10‬‬
‫‪ .15‬اإلرساء ‪.83 :17‬‬
‫‪ .16‬الكهف‪.18:29‬‬
‫‪ .17‬األنبياء‪.21:35‬‬
‫‪ .18‬لقامن‪.31:13‬‬
‫‪ .19‬فصلت‪.41:51‬‬
‫‪ .20‬املعارج‪.70:20‬‬
‫‪ .21‬األنبياء‪.35 :21‬‬
‫‪ .22‬انظر البقرة‪.34 :2‬‬
‫‪ .23‬انظر احلجر‪.15:34‬‬
‫‪ .24‬األعراف ‪ 16 :7‬ــ ‪.17‬‬
‫‪ .25‬النساء‪.119 :4‬‬
‫‪ .26‬األعراف‪.7:23‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪314‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫[وما ُأبرئ َن ْف ِسي إِ َّن ُالنَّ ْفس َلَمار ٌة بِ ُا ِ‬
‫يم]‪،27‬‬ ‫لسوء إِ َّل َما َرح َم َر ِّبي‪ ،‬إِ َّن َر ِّبي َغ ُف ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫َ َ َ ِّ ُ‬
‫وهو أمر نلفيه أيضا في اليهودية وفي المسيحية التي اعتبرت اإلنسان خطاء‪.‬‬
‫• •اإلنسان ومعضلة الشر والخير في الفلسفة والفكر الكالمي‬
‫يبدو أن المجتمعات الكتابية قد «احتفظت بفكرة الشيطان ولكنها أقحمت عنصرا‬
‫جديدا في تفسير المشكلة جعلته شريكا للشيطان في صنع الشر هو النفس‪ ،‬وأ ّدى ذلك‬
‫إلى اعتبار الشر مشكلة أخالقية وإلى حصرها في نطاق الفعل اإلنساني»‪ ،28‬لكن ذلك‬
‫لم يمنع الفالسفة والالهوتيين وعلماء الكالم من البحث في ماهية الشر خاصة وأن‬
‫المشكل األكبر الذي واجههم تالزم الشر مع الخير على الرغم من أنهما متضادان ألن‬
‫التضا ّد أساس الوجود «إذ لوال التضاد لما صح الكون والفساد»‪.29‬‬
‫وتنبه بعضهم إلى حقيقة جوهرية مفادها «امتزاج الخير بالشر في كثير من مظاهر‬
‫الواقع مع أنهما ضدان ال يلتقيان وانقالب الخير إلى شر والشر إلى خير في بعض‬
‫ممن يفعل الشر غالبا وظهور الشر ممن يفعل الخير»‪ .30‬وشكل‬
‫األحيان وظهور الخير ّ‬
‫هذا الثنائي معضلة في حياة اإلنسان الذي أرهقه قلق السؤال عن ظاهرة الشر فراح‬
‫يسائل نفسه ما الشر؟ ولم خلق؟ وهل هو جوهر أم عرض؟ وكيف يمكن أن يوجد‬
‫مع نظام إلهي أسمى؟ وهل يمكن أن يكون اﷲ خالقا للشر؟ وهل يفعل اإلنسان الشر‬
‫بمحض إرادته أم أن قوة متعالية تفرض عليه اقتراف الشر؟‬
‫وظلت هذه األسئلة مؤرقة لإلنسان لذلك انبرى الفالسفة يبحثون في ماهية‬
‫الشر وأول من طرق هذا المبحث أفالطون بعد سقراط لما لمسه من فساد وانحالل‬
‫أخالقي بين أبناء شعبه‪ ،‬ما جعله يذهب إلى أن الكون يعتوره النقص وأن العالم‬
‫مبني على ثنائية الخير والشر وهما أبدا في تصارع مستمر‪ .‬فهو القائل‪« :‬نالحظ في‬
‫الكون الكثير من األشياء التي تتراوح بين الخير والشر‪ ،‬لكن ال بد لنا من اإلذعان‬

‫‪ .27‬يوسف‪.53:‬‬
‫‪ .28‬حممد بوهالل‪ ،‬معضلة الرش‪ ،‬مدارات فلسفية‪ ،‬ص‪.7.‬‬
‫‪ .29‬شهاب الدين حيي السهروردي‪ ،‬جمموعة مصنفات اإلرشاق ج‪ ،2‬تصحيح هنري كوربان‪ ،‬معهد‬
‫العلوم اإلنسانية والدراسات الثقافية‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ ،2001‬اجلزء ‪ ،1‬ص‪.467.‬‬
‫‪ .30‬انظر القايض عبد اجلبار‪ ،‬املغني‪.‬‬
‫‪315‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫بوجود صراع دائم بينهما»‪ .31‬وتفطن هذا الفيلسوف إلى ثالثة مجاالت للشر‬
‫هي‪ :‬اإلنسان والحكومة والكون‪ ،‬فمن الشرور التي تصيب اإلنسان األمراض‪،‬‬
‫ومن شرور الحكومة الحروب‪ ،‬أما شرور الكون فهي الكوارث الطبيعية‪ .‬واعتبر‬
‫ٍ‬
‫مآس ليس إال عقابا‬ ‫أفالطون في كتاب الجمهورية أن ما يلحق اإلنسان من شرور‬
‫على المعاصي التي اقترفها‪ 32‬وأن اآللهة ال دور لها في إلحاق الشرور باإلنسان‪،‬‬
‫فهو القائل منتقدا أشعار هوميروس الذي نسب الشرور إلى اآللهة‪« :‬ال بد أن‬
‫نوضح الموضوع بشكل آخر وذلك بأن الذين تعرضوا للشر كانوا منحرفين بحيث‬
‫تسببوا بما حل بهم من مآسي‪ ،‬فقد كانوا مستحقين للعقاب الذي يخلصهم من‬
‫معاناتهم» ‪.33‬‬
‫وإلى جانب أفالطون طرق القديس أوغسطين أيضا معضلة الشر ولكنه لم يعرفه‬
‫إال بوصفه تابعا للخير فهو القائل‪« :‬إن النقص في الخير شر‪ ،‬فإن تعرض الخير في‬
‫الكائن إلى النقصان البد أن تبقى له بقية من كيان‪ ،‬وبوسع هذه البقية أن تعيده إلى كيانه‬
‫األصلي‪ ،‬ألنه مهما بلغ هذا الكيان من صغر‪ ،‬فال يسعنا أن ندمر الخير الذي يجعل منه‬
‫كائنا ما لم ندمره هو نفسه‪ ..‬ونخلص بالتالي إلى تلك النتيجة المدهشة‪ :‬بما أن كل كائن‬
‫خير بذاته فإذا قلنا إن الكائن الفاسد كائن شرير‪ ،‬كأنما نقول إن ما هو خير هو شرير‪،‬‬
‫وليس من شرير سوى الخير‪ ،‬والحال أن كل كائن خير وال وجود لما هو شرير‪ ،‬مادام‬
‫الشر ال كيان له بحد ذاته»‪.34‬‬
‫للشر تبعا ألوغسطين و«إن الشر في حد ذاته ال شيء‪ ،‬فهو بالمطلق‬
‫وعليه فال وجود ّ‬
‫شيء سلبي وهكذا نرى على الفور أنه من المستحيل أن نفكر في الطبيعة الجوهرية‬
‫للشر حيث أنه لم يتم تعريف الشر كشر‪ ،‬لكن من خالل اإلشارة إلى كينونة أخرى‬

‫‪ .31‬أفالطون‪ ،‬دور آثار أفالطون‪ ،‬إيران طهران‪ ،‬منشورات خوارزمي‪ ،1978 ،‬ج‪ ،7.‬ص‪ .2372.‬نقال عن‬
‫حممد فريوزكوهي وعيل أكرب أمحدي أفرجماين‪ ،‬مسألة الرش عند أفالطون‪ ،‬جملة االستغراب‪ ،‬عدد‪،21‬‬
‫خريف ‪ ،2021‬ص‪.22.‬‬
‫‪ .32‬املرجع نفسه‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.1276.‬‬
‫‪ .33‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.945.‬‬
‫‪ .34‬نقال عن هنري إيرينيه مارو‪ ،‬أوغسطني واألغسطينية‪ ،‬تر‪.‬سعد اﷲ سميح حجا‪ ،‬دار املرشق‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫الطبعة األوىل‪ ،2007 ،‬ص‪.74.‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪316‬‬
‫مختلفة عنه»‪ .35‬وينزه أوغسطين اﷲ عن فعل الشر معتبرا أن ما يقترفه اإلنسان من رذيلة‬
‫إنما مرده إرادته الحرة ألن «اﷲ ثابت ال يتغير وال يفسد»‪ 36‬كما يقول أوغسطين‪ ،‬وألن‬
‫«الطبائع التي أفسدتها الرذيلة الناتجة عن اإلرادة الشريرة ليست شريرة إال لكونها‬
‫ضحية لرذيلة بينما هي جيدة بصفتها طبائع»‪.37‬‬
‫واستمر طرح مبحث الشر في الفلسفة الحديثة والمعاصرة فبين اليبنز مثال في‬
‫مؤلفه «العدل اإللهي» أن «وجود الشر ال ينفي وجود اﷲ بأي شكل من األشكال ورد‬
‫على اعتراضات هيوم مؤكدا أن اﷲ سمح بوجود شر كلي يسبب خيرا أعظم وأن سقوط‬
‫آدم كان خطيئة سعيدة ألنها أدت إلى تجسيد اإلله رافعة البشرية إلى مصدر أسمى من‬
‫الذي يمكن أن تالقيه لو اختلف األمر»‪ .38‬أما سبينوزا فقد نفى فكرتي الخير والشر وأقر‬
‫«أن اﷲ فوق الخير والشر على السواء من حيث أنهما من تقييم اإلنسان وتلك نظرة‬
‫ضيقة محددة لحقيقة ما يجري في الكون»‪ .39‬ولم يخف موضوع الشر عن الفالسفة‬
‫المسلمين فابن سينا مثال اعتبر أن الشر ال حقيقة له فهو القائل‪« :‬والشر ال ذات له بل هو‬
‫إ ّما عدم جوهر أو عدم صالح لحال الجوهر»‪ ،40‬أما الغزالي فالشر في نظره دال على‬
‫عدم الوجود أو عدم كمال الوجود‪.‬‬
‫ومثلما كان موضوع الشر في الطرح الفلسفي موضوعا إشكاليا كذلك كان في‬
‫أعم هو القبيح الذي يضم إلى جانب‬
‫الفكر الكالمي الذي اعتبر الشر فرعا من مفهوم ّ‬
‫الشر الظلم والضرر والفساد والعبث‪ ،41‬وذهب القاضي عبد الجبار إلى أن «الضرر ال‬
‫يكون كله قبيحا ومن ثم شرا وإنما يقبح إذا ولد ألما ولما يؤدي إليهما من غير أن يعقب‬

‫‪ .35‬كريستيان نادو‪ ،‬املفردات واألسلوب‪ ،‬تر‪.‬شادي رياح نرص‪ ،‬دار النايا‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪،2014‬‬
‫ص‪.95.‬‬
‫‪ .36‬أوغسطينوس‪ ،‬مدينة اهلل‪ ،‬تر‪.‬يوحنا احللو‪ ،‬دار املرشق‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،2007‬مج‪ ،2‬ص‪.62.‬‬
‫‪ .37‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.63.‬‬
‫‪ .38‬املحجة‪ ،‬عدد‪ ،14‬صص‪ 32‬ــ ‪.33‬‬
‫‪ .39‬سمية الطيب الطاهر عمران‪ ،‬مفهوم اخلري والرش يف الفكر اإلنساين عند بعض الفالسفة‪ :‬دراسة حتليلية‬
‫مقارنة‪ ،‬جملة كلية اآلداب‪ ،‬عدد‪ ،29‬اجلزء األول‪ ،‬يونيو‪ ،2020‬ص‪.218.‬‬
‫‪.40‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء اإلهليات‪ ،‬تح‪.‬سعيد زايد‪ ،‬مكتبة آية اﷲ املرعيش‪ ،‬قم‪1424 ،‬هـ‪ ،‬ص‪.355.‬‬
‫‪ .41‬حممد بوهالل‪ ،‬معضلة الرش‪ ،‬ص‪.10.‬‬
‫‪317‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫نفعا عليهما أما إذا ولد نفعا مؤجال يضاهيه أو يوفي عليه فإنه يكون خيرا نافعا»‪.42‬‬
‫وأما الجبائي فقد اعتبر أن «األمراض واألسقام ليست بشر في الحقيقة وإنما شر في‬
‫المجاز وكذلك كان قوله في جهنم»‪ .43‬فالشر عند المعتزلة إذن «فعل مخصوص يفعله‬
‫المكلف على خالف ما ينبغي له فيكون مهلكا في الدنيا واآلخرة‪ .‬أما ما عدا ذلك من‬
‫مصائب وأضرار تصيب اإلنسان نتيجة األمراض والعوادي الطبيعية فليس شرا إال من‬
‫منظور الحواس والزمن الفاني وكالهما ال اعتبار له من منظور اآلخرة»‪.44‬‬

‫‪ .2‬أبعاد الشر في القرآن الكريم‬


‫• •الشر مسلك االستخالف في األرض‬
‫يلوح لنا الشر في قصة آدم وحواء بوصفه النموذج البدئي األول الباعث للشر‬
‫وذلك حين يخرق هذان الزوجان الناموس اإللهي القاضي بعدم األكل من الشجرة‬
‫المحرمة‪ ،45‬بإيعاز من الشيطان الذي أزلهما فأقبال على مذاق الشجرة ألنه وسوس‬
‫لهما بأن زين األكل من هذه الشجرة المحظورة ألنه كان يضمر سوءا وحقدا وغيرة من‬
‫آدم الذي فضله اﷲ حين طلب من إبليس السجود له لكنه امتنع‪ ،46‬فطرده اﷲ من رحاب‬
‫المقدس العنا إياه‪ ،47‬وانبرى الشيطان عدوا مبينا وعنوانا للشر والكيد من آدم‪ ،‬متوعدا‬
‫إياه بالحاق الضرر به فهو القائل مخاطبا الرب‪َ [ :‬فبِ َما َأ ْغ َو ْيتَنِي َلَ ْق ُعدَ َّن َل ُه ْم ِص َرا َط َك‬
‫ُا ْلمست َِقيم‪ُ ،‬ثم َلتِ َين َُّهم ِم ْن َب ْي ِن َأ ْي ِد ِيهم َو ِم ْن َخ ْل ِف ِهم َو َع ْن َأ ْيمانِ ِهم َو َع ْن َشم ِائ ِل ِهم َو َل ت ِ‬
‫َجدُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ َ َّ‬
‫‪48‬‬
‫اكري َن] ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َأ ْك َثرهم َش ِ‬
‫َ ُ ْ‬
‫والالفت لالنتباه أن الشيطان كان رمزا للشر وللقدرة على تصدير الشر‪ ،‬إذ هو قد‬
‫ض َو َلُ ْغ ِو َين َُّه ْم َج ِمي ًعا]‪،49‬‬
‫[لُ َز ِّينَ َّن َل ُه ْم فِي ُا ْلَ ْر ِ‬
‫توعد آدم ونسله بأن يغويهم مرددا‪َ :‬‬

‫‪ .42‬املرجع نفسه والصفحة نفسها‪.‬‬


‫‪ .43‬املرجع نفسه‪ ،‬والصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪ .44‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.11.‬‬
‫‪ .45‬انظر األعراف‪.19 :‬‬
‫‪ .46‬احلجر‪.31 :‬‬
‫‪ .47‬احلجر‪ 34 :‬ــ ‪.35‬‬
‫‪ .48‬األعراف‪ 16 :‬ــ ‪.17‬‬
‫‪ .49‬احلجر‪.39:‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪318‬‬
‫وبسلطته تلك جعل آدم وزوجه عنوانين للشر حين اقترفا المعصية وسارا على سمته‬
‫في أفعاله ومكائده ألن «الوالء للشيطان ال يتم إال سيرا على خطاه في إتيان المعاصي‬
‫واقتراف اآلثام والشرور»‪ .50‬وأقدم آدم وزوجه على خرق الحظر فكان األكل وكان‬
‫اكتشاف العورة التي مثلت فوضى في عالم المقدس ألنها جعلت الزوجين جسدين‬
‫معطوبين حاملين لثغرة هي السوأة التي خجال من رؤيها والكشف عنها لذلك سارعا‬
‫إلى حجبها‪ ،‬فقد جاء في سورة األعراف قوله‪َ [ :‬فدَ َّل ُه َما بِ ُغ ُر ٍ‬
‫ور َف َل َّما َذا َقا َّ‬
‫الش َج َر َة‬
‫ان َع َل ْي ِه َما ِمن َو َر ِق ا ْل َجن َِّة]‪ .51‬وقد أثار صنيعهما ذاك‬ ‫بدَ ْت َلهما سوآتُهما و َط ِف َقا ي ْخ ِص َف ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ ْ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫غضب اﷲ لذلك سارع الزوجان إلى طلب المغفرة ألن االستغفار وسيلة إللغاء الدنس‬
‫مرددين‪[ :‬ربنَا َظ َلمنَا َأ ْن ُفسنَا وإِ ْن َلم َت ْغ ِفر َلنَا وتَرحمنَا َلنَكُو َنن ِمن ُا ْل َخ ِ‬
‫اس ِري َن]‪.52‬‬ ‫َّ َ‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫ّ ْ‬
‫فكانت بذلك قصة آدم النموذج األنتروبولوجي الباهر التي يمكننا أن نرى فيه أصدق‬
‫تعبير عن مسألة الندم‪.‬‬
‫واالستغفار في الحقيقة يعكس قوة الخير المغروسة في أعماق النفس البشرية وفي‬
‫أعماق آدم وزوجه على الرغم مما اقترفاه من معصية وشر «سيبقى انتهاكا وخروجا‬
‫عن طاعة الوصية اإللهية»‪ .53‬وقد استحالت هذه الخطيئة مظهرا من مظاهر الخير حين‬
‫طرد اﷲ آدم المذنب وأخرجه وزوجه من جنة الخلد إلى األرض ومن العالم السرمدي‬
‫ض عَدُ ٌّو َو َلك ُْم فِي ُا ْلَ ْر ِ‬
‫ض ُم ْس َت َق ٌّر َو َمت ٌ‬
‫َاع‬ ‫إلى عالم الدنس قائال‪[ :‬اِ ْهبِ ُطوا َب ْع ُضك ُْم لِ َب ْع ٍ‬
‫ون]‪ .54‬ولكن الهبوط إلى األرض‬ ‫ُون َو ِمن َْها ت ْ‬
‫َخ ُر ُج َ‬ ‫َح َي ْو َن َوفِ َيها ت َُموت َ‬ ‫إِ َلى ِح ٍ ِ‬
‫ين‪ ،‬ف َيها ت ْ‬
‫كان من أجل حمل الرسالة‪/‬األمانة التي كشفت عنها اآلية‪[ :‬إِنَّا َع َر ْضنَا ُا ْلَ َما َن َة َع َلى‬
‫ان إِ َّن ُه ك َ‬
‫َان‬ ‫لن َْس ُ‬ ‫ال‪َ ،‬ف َأ َب ْي َن َأ ْن َي ْح ِم ْلن ََها َو َأ ْش َف ْق َن ِمن َْها َو َح َم َل َها ُا ْ ِ‬
‫ض َو ُا ْل ِج َب ِ‬ ‫ُالسماو ِ‬
‫ات َو ُا ْلَ ْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬
‫َظ ُلو ًما َج ُه ً‬
‫ول]‪ .55‬وأشار القرآن في مواضع أخرى منه أن األمانة هي الخالفة إذ يقول‬

‫‪ .50‬فتحي مسكيني‪ ،‬الشيطان يف الديانات الساموية‪ :‬الصورة والرمز‪ ،‬دار احلكمة للطباعة والنرش والتوزيع‪،‬‬
‫مرص‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،2014‬ص‪.115.‬‬
‫‪ .51‬األعراف‪.22 :‬‬
‫‪ .52‬األعراف‪.23 :‬‬
‫‪ .53‬بول ريكور‪ ،‬رصاع التأويالت‪ ،‬ص‪.403.‬‬
‫‪ .54‬األعراف‪.24 :7‬‬
‫‪ .55‬األحزاب‪.72 :33‬‬
‫‪319‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫اع ٌل فِي ُا ْلَ ْر ِ‬


‫ض َخ ِلي َف ًة]‪ .56‬فكانت الخالفة‬ ‫اﷲ تعالى [وإِ ْذ َق َال رب َك لِ ْلم َل ِئك َِة إِنِّي ج ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُّ‬ ‫َ‬
‫الخير األسمى الذي أغدقه اﷲ على عبده آدم الذي سيتولى تعمير األرض وعبادة اﷲ‬
‫وخالفته‪ ،57‬وهو خير أسمى أيضا ألن اﷲ سيكرم آدم بأن يفضله عن سائر الخلق ويرزقه‬
‫َاه ْم فِي ُا ْل َب ِّر‬ ‫ِ‬
‫[و َل َقدْ ك ََّر ْمنَا َبني آ َد َم َو َح َم ْلن ُ‬
‫من الطيبات‪ .‬جاء في سورة اإلسراء قوله‪َ :‬‬
‫َاه ْم َع َلى كَثِ ٍير ِم َّم ْن َخ َل ْقنَا َت ْف ِض ًيل]‪ .58‬أضف إلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو ُا ْل َب ْح ِر َو َر َز ْقن ُ‬
‫َاه ْم م َن ُال َّط ِّي َبات َو َف َّض ْلن ُ‬
‫ذلك أنه سخر له كل النعم على وجه البسيطة‪ .59‬هكذا إذن استحال الشر في قصة آدم‬
‫وجها من وجوه الخير‪.‬‬
‫الشر مسلك لالعتراف بحقيقة الموت طقس عبور‬
‫• • ّ‬
‫أشار القرآن الكريم في مواطن كثيرة منه إلى حقيقة الموت وإلى أن اﷲ هو المحيي‬
‫والمميت‪ ،‬ولكن على الرغم من أن الموت في نظر اإلنسان يعد شرا ألنه الخطر األسوأ‬
‫الذي قد يصيبه إال أن المتدبر في آيات نص الوحي اإلسالمي يلحظ أن هذا الموت‬
‫الذي خاله اإلنسان شرا إنّما يحمل في بعض وجوهه خيرا‪ .‬ونستشف ذلك من خالل‬
‫بعض النماذج األخرى التي ساقها القرآن ألن الشر دخل من خالل إنسان واحد هو آدم‬
‫وهو غير معصوم من الخطإ ألن «اإلنسان ال يمكن أن يخترع سوى الفوضى والشرور‬
‫اإلنسانية»‪ ،60‬فمبدأ الالعصمة هو الذي وجد الشر من خالله وليس أدل على ذلك من‬
‫جحود المرء الذي مر على قرية واستنكر قدرة اﷲ على إحيائها فأماته اﷲ مائة عام ليقيم‬
‫الدليل على حقيقة الموت وأنها بيد اﷲ وحده‪ .‬جاء في سورة البقرة قوله‪َ [ :‬أ َو كَا َّل ِذي‬
‫اوي ٌة َع َلى ُعر ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َم َّر َع َلى َق ْر َي ٍة َو ْه َي َخ ِ‬
‫وش َها‬ ‫ُ‬ ‫او َي ٌة َع َلى ُع ُروش َها َق َال َأنَّى ُ ُي ْح ِيي َهذه اﷲُ َو ْه َي َخ ِ َ‬
‫َق َال َأنَّى ُي ْح ِيي َه ِذ ِه اﷲُ َب ْعدَ َم ْوتِ َها َف َأ َما َت ُه ُاﷲُ َم ِائ َة َعا ٍم ُث َّم َب َع َث ُه َق َال ك َْم َلبِ ْث َت َق َال َلبِ ْث ُت َي ْو ًما‬
‫َأ ْو َب ْع َض َي ْو ٍم َق َال َب ْل َلبِ ْث َت َم ِائ َة َعا ٍم]‪ ،61‬وليبرهن على «قدرة اﷲ على إحياء خلقه بعد‬

‫‪ .56‬البقرة ‪.30 :2‬‬


‫‪ .57‬انظر الراغب األصفهاين‪ ،‬الذريعة يف مكارم الرشيعة‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬املنصورة‪ ،‬مرص‪ ،‬الطبعة الثانية ‪،1987‬‬
‫ص‪.92/90.‬‬
‫‪ .58‬اإلرساء‪.70 :17‬‬
‫‪ .59‬انظر مثال النحل‪/16:8‬آل عمران‪/14 :3‬‬
‫‪ .60‬بول ريكور‪ ،‬فلسفة اإلرادة‪ ،‬ص‪.213.‬‬
‫‪ .61‬البقرة ‪.259 :2‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪320‬‬
‫مماتهم وإعادتهم بعد فنائهم وأنه الذي بيده الحياة والموت»‪ .62‬وعليه فالموت إذن‬
‫قدر اإلنسان الذي ال مناص له منه‪ ،‬وهو قدر بيد اﷲ الذي يميت عبده ويقبره‪ .63‬فجحود‬
‫اإلنسان وإنكاره لحقيقة الموت كان في جوهره حامال لمعاني خيرة منها‪ :‬تعرف المرء‬
‫على حقيقة فنائه وأن الموت طقس عبور وأن لهذا الطقس مراسم أهمها الدفن الذي‬
‫هم أحدهما‬ ‫تجلوه بصورة أوضح في القرآن قصة األخوين قابيل وهابيل ابني آدم حين ّ‬
‫بقتل أخيه ألن قربانه لم يتقبل من اﷲ [ َف َط َّو َع ْت َل ُه َن ْف ُس ُه َقت َْل َأ ِخ ِيه َف َق َت َل ُه َف َأ ْص َب َح ِم َن‬
‫ُا ْل َخ ِ‬
‫اس ِري َن]‪.64‬‬
‫جلي أن الشر في قصة ابني آدم مرده الضعف الذي يبطنه اإلنسان بين دواخله‬ ‫ٌّ‬
‫حتى أنه ال يقيم توازنا بين ذاته‪ ،‬وبينه وبين العالم الخارجي‪ ،‬يقول ريكور في هذا‬
‫الصدد‪« :‬القول بأن اإلنسان خطاء يعني أن المحدودية الخاصة بالكائن الذي يتطابق‬
‫مع ذاته هي الضعف األصلي الذي ينبثق منه الشر ومع ذلك فالشر ال ينبثق من هذا‬
‫الضعف إال أنه يتموضع»‪ ،65‬لكن هذا الشر سرعان ما استحال خيرا حين تدخل‬
‫اإللهي ليع ّلم و بحكمة منه القاتل المذنب كيف له أن يدفن أخاه الضحية حين أرسل‬
‫ف ُي َو ِاري َس ْو َأ َة َأ ِخ ِيه»‪ ،66‬فكان مشهد الغراب‬
‫ض لِ ُي ِر َي ُه َك ْي َ‬
‫له « ُغ َرا ًبا َي ْب َح ُث فِي ُا ْلَ ْر ِ‬
‫وهو يحثو التراب مشهدا تلقينيا تعليميا مقصودا رام به اﷲ الكشف عن طقس الدفن‬
‫باعتباره أحد مراسم طقس الموت وباعتباره الوسيلة التي كرم بها اﷲ جسد آدم‬
‫اإلنسان على الرغم من شروره وجرائمه‪ .‬كما كان هذا المشهد أيضا مناسبة ألن‬
‫يعترف الجاني بذنبه الذي اقترف معلنا عن ندمه مرددا‪َ [ :‬يا َو ْي َلتِي َأ َع ِج ْز ُت َأ ْن َأك َ‬
‫ُون‬
‫اب َف ُأ َو ِاري َس ْو َء َة َأ ِخي]‪ ،67‬فكان الندم أمارة التطهير وأمارة التحول‬ ‫ِم ْث َل َه َذا ُا ْل ُغ َر ِ‬
‫من الشر إلى الخير‪.‬‬

‫‪ .62‬ابن جرير الطربي‪ ،‬جامع البيان عن تأويل آي القرآن‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،1994‬املج‪،2‬‬
‫صص‪ 140.‬ــ ‪.141‬‬
‫‪ .63‬انظر عبس‪.21 :‬‬
‫‪ .64‬املائدة‪.30 :5‬‬
‫‪ .65‬بول ريكور‪ ،‬فلسفة اإلرادة‪ ،‬ص‪.217.‬‬
‫‪ .66‬املائدة‪.31 :5‬‬
‫‪ .67‬املائدة‪.31 :5‬‬
‫‪321‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫الشر مسلك للعفة والطهارة‬


‫• • ّ‬
‫تعدّ قصة يوسف وقصة لوط من أهم النماذج القصصية النبوية التي تقوم دليال‬
‫ساطعا على ذلك‪ ،‬فالمتدبر في قصة عشق امرأة العزيز ليوسف يلحظ أن الرغبة فيها‬
‫كانت شرا ألنها حرام‪ ،‬إذ يأخذ يوسف بمجامع قلب امرأة العزيز فتضمر «رغبة جامحة‬
‫وشهوة عارمة»‪ 68‬فيه بل «تصبو إلى الفوز به وإن كان الفوز به حراما»‪ ،69‬ألنه شغفها حبا‬
‫لذلك همت به وغلقت دونه األبواب وقدت قميصه من دبر‪ ،70‬محاولة تعرية الجسد‬
‫المرغوب فيه ألن اللذة ال توجد إال على عتبة الداخلي وعند أسوار المحتجب إنها «في‬
‫المكان الذي يظهر من تثاؤب الثياب»‪ 71‬كما يقول بارت‪ .‬ومحاولة أيضا «اإلفالت من‬
‫سلطة المقدس التي يكتبها الثوب»‪.72‬‬
‫لقد كان جسد يوسف في نظر امرأة العزيز الراغبة واعدا بالمتع واللذات الحرام‬
‫ان َر ِّب ِه]‪ 73‬فاستعصم‬ ‫لذلك تهافتت عليه مغلقة دونه األبواب [ َل ْو َل َأ ْن َر َأى ُب ْر َه َ‬
‫وكان االستعصام مؤشرا لحلول الخير بدل الشر والحالل بدل الحرام إذ تحولت‬
‫لغة اإلفراط الجسدي التي اكتنزت عليها امرأة العزيز إلى اعتدال وتعقل‪ ،‬وانقلبت‬
‫من امرأة كافرة تبارك اللقاء المحرم إلى امرأة «مؤمنة طاهرة مغفور لها»‪ 74‬بعد أن‬
‫ص ُا ْل َح ُّق َأنَا َر َاو ْد ُت ُه َع ْن َن ْف ِس ِه َوإِ َّن ُه َل ِم َن‬ ‫[ال َن َح ْص َح َ‬ ‫اعترفت بخطيئتها قائلة‪ْ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ور‬‫لسوء إِ َّل َما َرح َم َر ِّبي إِ َّن َر ِّبي َغ ُف ٌ‬ ‫‪..‬و َما ُأ َب ِّر ُئ َن ْفسي إِ َّن ُالنَّ ْف َس َلَ َّم َار ٌة بِ ُا ُّ‬
‫لصادقي َن َ‬‫ُا َّ‬
‫يم]‪ .75‬فكان االعتراف باإلثم بارقة حلول الخير محل الشر‪ ،‬وبذلك استوت‬ ‫ِ‬
‫َرح ٌ‬
‫امرأة العزيز رمزا مؤسسا لطهارة الجنس التي تثبت نظام العالم المقدس وتثبت‬
‫الفعل الخير‪.‬‬

‫‪ .68‬وحيد السعفي‪ ،‬العجيب والغريب يف كتب التفسري‪ ،‬ص‪.267.‬‬


‫‪ .69‬املرجع نفسه‪ ،‬والصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪ .70‬انظر يوسف ‪.25 :12‬‬
‫‪ .71‬انظر‬
‫‪Roland Barthes, le plaisir du texte, p.31.‬‬
‫‪ .72‬زهرة الثابت‪ ،‬العشق يف النصوص املقدسة‪ ،‬ص‪.95.‬‬
‫‪ .73‬يوسف‪.24 :12‬‬
‫‪ .74‬وحيد السعفي‪ ،‬العجيب والعريب‪ ،‬ص‪.274.‬‬
‫‪ .75‬يوسف‪ 51 :12‬ــ ‪.53‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪322‬‬
‫وال تختلف قصة يوسف مع امرأة العزيز عن نظيرتها في تجربة لوط‪ ،‬إذ ما أتاه قوم‬
‫لوط من جنسية مثلية مع الضيفين كان تحريفا لحقيقة الجنس وعنفا ضد المقدس وضد‬
‫الطبيعة‪ ،‬ألن ما اقترفه قوم لوط ليس إال خروجا بالذكورة عن الحدود التي رسمت لها‬
‫ألنها ستتحول من «عنصر إنتاج تناسلي إلى أداة متعة غير منتجة»‪ ،76‬بل إن هذا الفعل‬
‫الجنسي اآلثم ليس إال تقويضا للنظام القضيببي الذي «ال يكون إال بوجود موضوع‬
‫واحد ممكن للمتعة الذكورية وهي المرأة»‪.77‬‬
‫لقد رام قوم لوط تشويه الجنس وتكريس واقع الدنس وهو شر في عرف‬
‫المقدس‪ ،‬إذ هو إخراج للجنس عن مقصده األسمى لذلك ألحق اﷲ العقاب‬
‫بقوم لوط فدمرهم وأنزل عليهم مطرا جارفا‪ .‬جاء في سورة الشعراء قوله‪ُ [ :‬ث َّم‬
‫ِ‬
‫ين]‪ .78‬فكان المطر شرا‬ ‫ين َو َأ ْم َط ْرنَا َع َل ْي ِه ْم َم َط ًرا َف َسا َء َم َط ُر ُا ْل ُمنْذ ِر َ‬
‫َد َّم ْرنَا ُا ْل َخ ِر َ‬
‫ألحقه اﷲ بقوم لوط ولكنه كان في اآلن ذاته نذير خير‪ ،‬ألنه نسف واقع الجنس‬
‫الحرام وواقع الدنس والقذارة إذ «القذارة إنما هي إساءة للنظام»‪ 79‬على حد‬
‫تعبير (‪ )Mary Douglas‬من أجل أن يرسي دعائم واقع الطهارة ألنها الخير‬
‫األسمى لإلنسان‪.‬‬
‫• •الشر منفذا للخالص‬
‫وتجلوه قصص نوح وإبراهيم وموسى مع أقوامهم‪ .‬فالمتأمل في قصة نوح‬
‫في القرآن الكريم يلحظ أن الشر كامن في واقع الشرك والفساد الذي كرسه قوم‬
‫نوح‪ ،‬إذ كانوا قوما ضالين كافرين باﷲ ونعمه ألنهم يعبدون األصنام‪ ،‬جاء في‬
‫ارا َو َقا ُلوا َل ت ََذ ُر َّن آل ِ َه َتك ُْم َو َل ت ََذ ُر َّن ُو ًّدا َو َل‬
‫[و َمك َُروا َمك ًْرا ُك َّب ً‬
‫سورة نوح قوله‪َ :‬‬
‫فلما كثر طغيانهم وفسوقهم حاول نوح‬ ‫‪80‬‬
‫وق َون َْس ًرا] ‪ّ .‬‬ ‫اعا َو َل َي ُغ َ‬
‫وث َو َي ُع َ‬ ‫ُس َو ً‬

‫‪ .76‬العرويس لسمر‪ ،‬اجلاحظ من اجلنسانية إىل امليتاجنسانية‪ ،‬كتابات معارصة‪ ،‬عدد‪ ،69‬ص‪.114.‬‬
‫‪ .77‬ألفة يوسف‪ ،‬حرية مسلمة يف املرياث والزواج واجلنسية املثلية‪ ،‬دار سحر للنرش‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬أفريل‬
‫‪ ،2008‬ص‪.184.‬‬
‫‪ .78‬الشعراء‪ 172 :26‬ــ ‪.173‬‬
‫‪ .79‬تقول (‪:)Mary Douglas‬‬
‫‪«La saleté est une offense contre l’ordre », voir Mary Douglas, De la souillure, p.24.‬‬
‫‪ .80‬انظر نوح‪22 :71‬و‪.23‬‬
‫‪323‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫هدايتهم قائال‪َ [ :‬يا َق ْو ُم ُا ْع ُبدُ وا ُااﷲَ َما َلك ُْم ِم ْن إِ َل ٍه َغ ْي َر ُه]‪ .81‬غير أنهم كانوا قوما‬
‫حل بهم‬‫كافرين‪82‬فاسقين‪ ،83‬إذ امتنعوا عن تصديق نوح وسخروا منه‪ ،84‬لذلك ّ‬
‫الطوفان بتدخل إلهي لينسف واقع الكفر والدنس والشر مستبدال إياه بواقع خير‬
‫بديل‪ ،‬كان الماء أمارته «إذ ال شيء مثل الماء يرفع التشويه ويرفع الدنس»‪.85‬‬
‫لقد كان حلول الطوفان بحكمة إلهية رامت تشييد واقع الطهر فتحول الماء «من‬
‫رمز للدمار والفناء والموت إلى رمز للحياة والبقاء والبعث من جديد واستحال‬
‫الطوفان انتصارا للخير على الشر»‪.86‬‬
‫أ ّما عن قصة النبي إبراهيم فال تكاد تختلف كثيرا عن قصة نوح‪ .‬إذ واقع إبراهيم‬
‫جسده أبوه الذي أعرض عن هداية ابنه‬ ‫بين قومه كان هو اآلخر واقع شر وواقع وثني ّ‬
‫يم َل ِئ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ْت َع ْن آل َهتي َيا إِ ْب َراه ُ‬
‫ب َأن َ‬ ‫ِ‬
‫متوعدا إياه بالرجم والهجر فهو القائل له‪َ [ :‬أ َراغ ٌ‬
‫وجسده أيضا القوم الذين كانوا يباركون واقع‬ ‫ّ‬ ‫َل ْم َتنْت َِه َلَ ْر ُج َمن ََّك َو ُا ْه ُج ْرنِي َم ِل ًّيا]‪،87‬‬
‫الصنم‪ ،‬فحاول إبراهيم النبي هدايتهم ليصرفوا نظرا عن تماثيلهم وأصنامهم ويؤمنوا‬
‫بأن اﷲ رب السماوات واألرض‪ ،88‬مؤاخذا إياهم في لهجة ال تخلو من تقريع قائال‪:‬‬
‫ون ِمن د ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون ِمن د ِ‬
‫ون ُاﷲ َما َل َينْ َف ُعك ُْم َش ْي ًئا َو َل َي ُض ُّرك ُْم ُأ ٍّ‬
‫ون‬ ‫ف َلك ُْم َول َما َت ْع ُبدُ َ ْ ُ‬ ‫[ َأ َف َت ْع ُبدُ َ ْ ُ‬
‫ون]‪.89‬‬‫ُاﷲ َأ َف َل َت ْع ِق ُل َ‬
‫لكنهم عمدوا إلى حرق إبراهيم اقتصاصا منه ألنه يشكل خطرا يهدد كيانهم‪ .‬غير‬
‫أن النار التي كانت شرا ال بدّ منه إنما كانت حاملة لبوادر الخير‪ ،‬إذ كانت بردا وسالما‬
‫على إبراهيم والطريقة الناجعة التي أنقذ بها اﷲ عبده إبراهيم من جبروت قومه ومن‬
‫أذاهم له ألنه كان «النبي المعضود دائما بالقوى الخفية التي تتدخل لشد أزره في الوقت‬

‫‪ .81‬املؤمنون‪.23 :23‬‬
‫‪ .82‬هود‪.42 :11‬‬
‫‪ .83‬الذاريات ‪.46 :51‬‬
‫‪ .84‬هود‪.38 :11‬‬
‫‪ .85‬وحيد السعفي‪ ،‬يف قراءة اخلطاب الديني‪ ،‬ص‪.143.‬‬
‫‪ .86‬زهرة الثابت‪ ،‬العشق يف النصوص املقدسة‪ ،‬ص‪.250.‬‬
‫‪ .87‬مريم ‪.46 :19‬‬
‫‪ .88‬األنبياء‪.56 :21‬‬
‫‪ .89‬األنبياء‪ 66 :21‬ــ ‪.67‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪324‬‬
‫المناسب تفكر عوضا عنه وتبحث له عن الحلول للمآزق التي تحل به»‪ .90‬فالنار كانت‬
‫رمزا للخالص الروحي كالماء تماما في قصة نوح‪ .‬وكانت الوسيلة التي تخيرها اﷲ‬
‫بحكمة منه إلنقاذ نبيه بعد أن توهم قومه أنهم حرقوه وساموه العذاب ألنه في نظرهم‬
‫مقوض له‪.‬‬
‫كافر بواقعهم ّ‬
‫أ ّما في قصة موسى فالشر م ّثله فرعون ألنه «األنموذج األمثل للشر والتنكر للعهد‬
‫اإللهي» كما يذهب إلى ذلك أركون حين يتحدث عن قصة الخالص التي ينهض فيها‬
‫‪92‬‬
‫األنبياء بدور الظهير للفعل اإللهي‪ ،‬أما اإلنسان فهو العبد المطيع والشكور‪ 91‬إذ استكبر‬
‫فرعون وكفر بآيات اﷲ‪ 93‬مدعيا الربوبية مرددا أمام قومه « َأنَا َر ُّبك ُْم ُا َْل ْع َلى»‪ 94‬وطغى‬
‫وتج ّبر فسام شعبه العذاب وذ ّبح أبناءهم واستحيا نساءهم‪« ،95‬فحاز من األوصاف‬
‫الشنيعة ما لم يحزه األشرار غيره»‪ .96‬فبعث اﷲ في فرعون وقومه موسى يهديهم إلى‬
‫سواء السبيل‪ ،‬لك ّن دعوته قوبلت بالصدّ والجحود والسخرية منه ومن نبوءته إذ اعتبر‬
‫‪98‬‬ ‫«س ِ‬
‫اح َرا ك ََّذا ًبا»‪ ،97‬لذلك يعضد اﷲ عبده موسى بالعصا التي تنقلب حية أو ثعبانا مبينا‬ ‫ّ‬

‫‪ .90‬محادي املسعودي‪ ،‬فنيات قصص األنبياء يف الرتاث العريب‪ ،‬ص‪.362.‬‬


‫‪ .91‬يقول أركون يف هذا الصدد‪:‬‬
‫‪«L’auditeur du récit n’est pas un simple spectateur d’évènements qui le divertiraient‬‬
‫‪sans engager sa conscience: il fait partie d’une structure actantielle invariable ou Dieu‬‬
‫‪est à la fois l’auteur - destinateur des évènements (cités détruites, peuples punis..) et de‬‬
‫;‪la Parole - Evènement (révélations successives) qui définissent une Histoire du Salut‬‬
‫‪le Destinateur de l’obéissance qu’il attend des hommes conformément à l’Alliance; les‬‬
‫‪prophètes sont les adjuvants de l’action de Dieu dans l’Economie du Salut; Pharaon -‬‬
‫‪prototype du Mal, de l’Infidélité à l’Alliance est l’opposant; les hommes enfin, sont les‬‬
‫‪destinataires des bienfaits et de la Sollicitude de Dieu, les destinateurs de l’obéissance‬‬
‫‪et l’action de grâces. Mohamed Arkoun, Peut - on parler de merveilleux dans le‬‬
‫‪Coran, L’étrange et de le merveilleux dans l’Islam médiéval, p.20.‬‬
‫‪ .92‬يونس‪.10:75‬‬
‫‪ .93‬األنفال‪.54 :8‬‬
‫‪ .94‬النازعات‪.24 :79‬‬
‫‪ .95‬انظر البقرة ‪.49 :2‬‬
‫‪ .96‬وحيد السعفي‪ ،‬العجيب والغريب‪ ،‬ص‪.586.‬‬
‫‪ .97‬غافر ‪.24 :40‬‬
‫‪ .98‬الشعراء ‪.32 :26‬‬
‫‪325‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫ليشدّ أزره حين تملكه الخوف‪ 99‬في االمتحان العصيب امتحان مقارعة فرعون والبرهنة‬
‫على صدق نبوته‪.‬‬
‫لكن فرعون تمادى في طغيانه ألنه كان مسكونا بالشر‪ ،‬لذلك توعد موسى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بالسجن قائال‪َ [ :‬ل ِئ ْن اِت َ‬
‫وتوعده‬
‫ّ‬ ‫ت إِ َل ًها َغ ْي ِري َلَ ْج َع َلن ََّك م َن ُا ْل َم ْس ُجون َ‬
‫ين]‪،100‬‬ ‫َّخ ْذ َ‬
‫أيضا بالقتل لترهيبه فالحقه وأتباعه من أجل إيذائهم وإلحاق الموت بهم‪ .‬لكن‬
‫اﷲ أوحى لموسى فلق البحر بعصاه لينجيه وقومه المؤمنين قائال‪َ [ :‬ف َأ ْو َح ْينَا إِ َلى‬
‫َان ك ُُّل فِ ْر ٍق َك ُال َّط ْو ِد ُا ْل َعظِي ِم]‪ .101‬وكان‬
‫اك ُا ْل َب ْح َر َفاِ ْن َف َل َق َفك َ‬
‫ب بِ َع َص َ‬ ‫ِ ِ‬
‫وسى َأن ا ْض َر ْ‬
‫ُم َ‬
‫يمكن لموسى وأتباعه أن يلقوا حتفهم في البحر لوال الحكمة اإللهية التي قلبت‬
‫حدث شق البحر من حدث كارثي مهلك لموسى إلى حدث خ ّير حقق نجاته‬
‫وخالصه وأهلك فرعون وحاشيته‪ ،‬مثلما توضحه اآلية التالية التي جاء فيها‬
‫ين]‪ .102‬لقد كان فلق‬ ‫آلخ ِر َ‬
‫وسى َو َم ْن َم َع ُه ُث َّم َأ ْغ َر ْقنَا ُا َ‬ ‫[و َأن َ‬
‫ْج ْينَا ُم َ‬ ‫قوله تعالى‪َ :‬‬
‫البحر الوسيلة المثلى لبلوغ موسى وأتباعه ّبر األمان‪ ،‬والوسيلة الناجعة لنسف‬
‫واقع فرعون واقع الجحود والكفر والطغيان واستبدال هذا الواقع الدنس بواقع‬
‫نجسه فرعون بشروره‬ ‫دل عليه الماء الذي لم يكن ّإل وسيلة تطهير لواقع ّ‬
‫طاهر ّ‬
‫البغيضة‪.‬‬
‫الشر رحمة باإلنسان‬
‫• • ّ‬
‫هم بذبح ابنه‪ ،‬إذ كان ال ينجب وتمنى أن يرزقه اﷲ‬
‫لما ّ‬
‫يتضح ذلك في قصة إبراهيم ّ‬
‫[ر ِّب‬
‫ابنا لكنه رأى في المنام أنه يذبح ابنه قربانا ﷲ‪ ،‬جاء في سورة الصافات قوله‪َ :‬‬
‫لس ْع ُي َق َال َيا ُبن ََّي إِنِّي َأ َرى فِي‬ ‫ِ‬ ‫هب لِي ِمن ُا ِ ِ‬
‫لصالحي َن َف َب َّش ْرنَا ُه بِ ُغ َل ٍم َحلي ٍم َف َل َّما َب َل َغ َم َع ُه ُا َّ‬
‫َ َّ‬ ‫َ ْ‬
‫ُا ْل َمنَا ِم َأنِّي َأ ْذ َب ُح َك]‪ .103‬وكان ذبح االبن شرا ألنه موت وألنه قد يشق على أب حرم‬
‫األوالد‪ ،‬ولكنه مع ذلك عزم على التضحية بابنه ابتغاء مرضاة اﷲ وبغية امتصاص عنف‬

‫‪ .99‬طه ‪ 67 :20‬ــ ‪ 68‬ــ ‪.69‬‬


‫‪ .100‬الشعراء ‪.29 :26‬‬
‫‪ .101‬الشعراء ‪.26:63‬‬
‫‪ .102‬الشعراء ‪ 65 :26‬ــ ‪.66‬‬
‫‪ .103‬الصافات‪.102 ،101 ،37:100‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪326‬‬
‫المقدس‪ .‬ولكن هذا الشر سرعان ما انقلب خيرا لما استجاب االبن الضحية ألمر أبيه‬
‫َجدُ نِي إِ ْن َشا َء ُاﷲُ ِم َن‬
‫ت اِ ْف َع ْل ما ت ُْؤمر ست ِ‬
‫َ َُ َ‬
‫وكان شهيدا في امتحان أليم فهو القائل‪[ :‬يا َأب ِ‬
‫َ َ‬
‫لصابِ ِري َن]‪ ،104‬إذ استجابة االبن ستكون القادح األكبر النقالب االبن وجبة الضحية‬ ‫ُا َّ‬
‫إلى بديل ذبائحي إلى «ذبح عظيم» مثلما تصرح اآلية بذلك‪ ،105‬فكان هذا الذبح خيرا‬
‫ألنه كان وسيلة لتحقيق السلم بين العبد واإلله ورحمة باإلنسان الذي كاد أن يسفك‬
‫دمه‪ .‬باختصار لقد كان حدث الذبح الخير األسمى ألنه كان بارقة حفظ ساللة إبراهيم‬
‫واستمرارها وبارقة لالستعاضة عن القربان اآلدمي بالقربان الحيواني بل آلية لنسف‬
‫الطقس القرباني الوثني‪.‬‬

‫الش ّر وإتمام الرسالة‬


‫وتجلوه لنا قصة النبي محمد عندما الحقه كفرة قريش لقتله ألن دعوته لإلسالم‬
‫كانت تشكل خطرا عليهم‪ ،‬إذ أخشى ما كان يخشاه أهل قريش أن ينسف محمد‬
‫واقعهم الوثني الذي هم فيه يعتقدون‪ ،‬لذلك طاردوه وتوعدوه بالقتل وهو الشر‬
‫األعظم‪ .‬وما كان لمحمد أن ينجو بنفسه لوال أن هرع إلى الغار رفقة أبي بكر‪ .‬يقول‬
‫الطبري في هذا السياق وتفسيرا لآلية األربعين من سورة التوبة‪« :‬وإنما عنى اﷲ جل‬
‫ثناؤه بقوله «ثاني اثنين» رسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم وأبي بكر رضي اﷲ عنه‬
‫هموا بقتل رسول اﷲ صلى اﷲ عليه‬
‫ألنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش إذ ّ‬
‫وسلم واختفيا في الغار» ‪.106‬‬
‫فكان الغار فضاء األمان والخير ألن خارج الغار الشر أو قل «الموت الذي يفرض‬
‫نظامه ويتهدد المصطفين من البشر»‪ ،107‬وكان الغار أيضا مستودع األسرار اإللهية‬
‫ومستودع الخير إذ سينصر اﷲ نبيه محمد بظهير خفي يؤيده ويبعث فيه السكينة‬
‫والطمأنينة‪ .‬جاء في سورة التوبة قوله‪َ [ :‬ف َأن َْز َل ُاﷲُ س ِكينَ َته‪َ ،‬ع َلي ِه و َأيدَ ه بِجن ٍ‬
‫ُود َل ْم‬ ‫ْ َ َّ ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫‪ .104‬الصافات‪.102 :37‬‬
‫‪ .105‬انظر الصافات‪.107 :37‬‬
‫‪ .106‬الطربي‪ ،‬جامع البيان عن تأويل القرآن‪ ،‬املج‪ ،4.‬ص‪.110.‬‬
‫‪ .107‬وحيد السعفي‪ ،‬يف قراءة اخلطاب الديني‪ ،‬نجمة الدراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬تونس‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪ ،2008‬ص‪.115.‬‬
‫‪327‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫ِ‬ ‫لس ْف َلى َوك َِل َم َة ُاﷲ ُا ْل ُع ْل َيا َو ُا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ﷲ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫يم]‪.108‬‬ ‫ت ََر ْو َها َو َج َع َل كَل َم َة ُا َّلذي َن َك َف ُروا ُا ُّ‬
‫وبذلك استحال الغار فضاء البد منه للتحول من واقع الكفر إلى واقع اإليمان‪،‬‬
‫من الشر إلى الخير ومن القتل إلى استمرار الحياة باستمرار الرسالة المحمدية‪ ،‬إذ‬
‫الغار صار «نقطة البد منها‪ ،‬نقطة عبور العابر من ضفة إلى أخرى من ضفة النظام‬
‫السائد إلى ضفة النظام الذي ال بد أن يكون‪ ،‬من ضفة الدين القديم إلى ضفة الدين‬
‫الجديد»‪.109‬‬
‫الشر أيضا قادحا إلتمام الرسالة في تجربة يوسف الذي استطاع أن يثبت‬
‫ونلفي ّ‬
‫دعائم رسالته النبوية ويؤمن مملكته رغم ما لحقه من األذى والشر من إخوته‪ ،‬إذ‬
‫كانت أفعالهم الشريرة خطرا ال بدّ منه في إبالغ رسالته‪ ،‬فيوسف قد اضطهد ونكل‬
‫به أ ّيما تنكيل‪ ،‬من ذلك أن إخوته كادوا له كيدا‪ ،110‬وفكروا في قتله لوال أن ارتأى‬
‫الجب‪ .‬يقول تعالى في هذا الصدد‪َ [ :‬ق َال َق ِائ ٌل ِمن ُْه ْم َل َت ْق ُت ُلوا‬ ‫ّ‬ ‫أحدهم رميه في‬
‫اع ِلي َن]‪ .111‬فكان‬ ‫ات ُا ْلجب ي ْلت َِق ُطه بع ُض ُالسيار ِة إِ ْن ُكنْتُم َف ِ‬
‫ف و َأ ْل ُقوه فِي ِغياب ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َّ َّ َ‬ ‫ُ َْ‬ ‫ُ ِّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُيوس َ َ‬
‫الرمي في قاع البئر أولى الشرور التي اقترفها اإلخوة في حق يوسف‪ ،‬وقد كانت‬
‫البئر إجراء قمعيا البدّ منه‪ ،‬فرضه اإلخوة على يوسف لترويضه وتقويمه وحتّمته‬
‫الغيرة ألن يوسف يحظى بمكانة أثيرة عند أبيه يعقوب‪ ،‬وأقره الحسد ألن اإلخوة‬
‫استاؤوا من الخير الذي حصل ليوسف أي محبة األب وهو غير جدير بها‪ .112‬لذلك‬
‫أضحى هذا الجسد السطح الذي سترتسم عليه أحداث التعذيب والمراقبة حيث‬
‫ّ‬
‫ستحل السلطة والقوة‪.‬‬
‫وتذكر القصص النبوية ّ‬
‫أن البئر كانت فضاء موحشا ال أنس فيه‪ ،‬فهي «بئر‬

‫‪ .108‬التوبة‪.40 :‬‬
‫‪ .109‬وحيد السعفي‪ ،‬يف قراءة اخلطاب الديني‪ ،‬ص‪.117.‬‬
‫‪ .110‬يوسف‪.5 :12‬‬
‫‪ .111‬يوسف‪.12:10‬‬
‫‪ .112‬يقول ديكارت يف هذا الصدد‪« :‬إن احلسد من حيث هو انفعال هو نوع من احلزن خيالطه الكره املتأيت‬
‫من أننا نرى اخلري يصل إىل أولئك الذين نعتربهم غري جديرين به»‪ ،‬راجع رينه ديكارت‪ ،‬انفعاالت‬
‫النفس‪ ،‬ترمجة جورج زينايت‪ ،‬دار املنتخب العريب للدراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪/‬لبنان‪ ،‬الطبعة‬
‫األوىل ‪ ،1993‬ص‪109‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪328‬‬
‫وحشة مظلمة أسفلها واسع وأعالها ضيق يهلك من طرح فيها من سعة أسفلها ال‬
‫يمكنه الصعود وكان ماؤها ملحا»‪ .113‬على حد تعبير الثعلبي وبذلك كانت البئر‬
‫أمارة على حقارة جسد يوسف ووضاعته في مرأى إخوته وبرهانا ساطعا على‬
‫ذروة أفعالهم الشريرة‪ .‬إذ ليس البئر إال فضاء لنسف تاريخ يوسف ألنه في نظر‬
‫اإلخوة بغيض‪.‬‬
‫السر وإخفائه‪ّ ،114‬‬
‫فإن منتهى‬ ‫وإذا كانت البئر في داللتها األسطورية رمزا لكتمان ّ‬
‫ما يصبو إليه اإلخوة كتمان تاريخ الجسد مع يوسف وإعدام تجربة الحب بين االبن‬
‫حجة تدين‬‫وأبيه والتي حفرت حروفها على جسد يوسف‪ .‬وإذا كان ظهور يوسف ّ‬
‫اإلخوة ّ‬
‫فإن البئر تضحي بهذا المفهوم آلية إلخفاء الجريمة والتالعب بالقانون‬
‫ّ‬
‫المعذب في حياة كريمة‪ ،‬وتلك لعمري كلها صنوف من أفعال الشر‪.‬‬ ‫وبحق الجسد‬
‫ّ‬
‫هكذا إذن غدت البئر مرتعا للقمع والعقاب وفضاء لتحقير جسد يوسف وعزله‪،‬‬
‫ألن هذا الكيان ال يمكن فهمه في عرف اإلخوة ّإل في ضوء هذا الضرب من نظام‬ ‫ّ‬
‫الضبط وفي ضوء هذا السلوك الشرير الذي رام اإلخوة به شطب جسد يوسف‬
‫وتركيعه لينتزعوا منه االعتراف بجرمه انتزاعا‪ ،‬بل توقيع هذا االعتراف الذي يعني‬
‫تنكرا لكالم سابق هو كالم الهوى بينه وبين أبيه يعقوب وإقرارا بكالم مقبل هو‬
‫محبة يعقوب لإلخوة‪.‬‬
‫فبالعنف إذن قامت سلطة اإلخوة وبالقهر والوحشية والشر تد ّعمت ّ‬
‫ألن منتهى‬
‫ما يأمل اإلخوة تحقيقه إحداث تصدّ ع بداخل يوسف بين إرادتين‪ :‬إرادة تعزم على‬
‫المقاومة وتثبت على الصمود وإرادة تسعى إلى تقويض المقاومة وتدمير الصمود‪ .‬ذاك‬
‫منطق الترويع الذي ينهض على الترغيب والترهيب‪ ،‬ترغيب في واقع مأمول ينشده‬

‫‪ .113‬الثعلبي النيسابوي‪ ،‬عرائس املجالس‪ ،‬ص‪99‬‬


‫‪ .114‬انظر‪:‬‬
‫‪Jean Chevalier &Alain Gheerbrant, Dictionnaire des symboles, Editions Robert‬‬
‫‪Laffont, article « puits », page625‬‬
‫وقد جاء فيه قول صاحبه‪:‬‬
‫‪«Le puit est par ailleurs symbole de secret, de dissimulation, notamment de celle de‬‬
‫‪la vérité, dont on sait qu’elle en sort nue »p625‬‬
‫‪329‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫اإلخوة وترهيب من واقع موبوء في اعتقادهم ألن يوسف هو األثير عند أبيه‪ .‬ذاك منطق‬
‫التعذيب الذي سنته يد سلطة «قاهرة فتاكة ال فكاك منها بالصمود وال إفالت من شرها‬
‫بالهرب»‪.115‬‬
‫فيوسف مجرم مارق عن القانون‪ ،‬لذلك اضطهده إخوته ومارسوا على جسده‬
‫الجلد (اإلخوة) ههنا أن يصمت جسد‬‫ّ‬ ‫سلوكا ساد ّيا قصد إخضاعه وقهره‪ّ .‬‬
‫إن غاية‬
‫يوسف بغية إلغائه وترويعه وتعميق اغترابه في الوجود‪ .‬وغايته أيضا إنتاج نظام‬
‫سلطوي ذي بنية هرمية يحتل فيها اإلخوة مركز السيادة ويحتل فيها يوسف موقع‬
‫القاعدة‪ .‬وهو نظام يحاصر الجسد المغلوب يوسف ويخترقه للتأثير فيه والسطو‬
‫عليه‪ ،‬فيغدو صورة من صور التأديب تخاطب في يوسف فكره عن طريق التأثير‬
‫على البدن عسى أن يتبدل‪ ،‬وهكذا يستحيل هذا النظام سلطة قامعة تثير الجسد‬
‫لتعيد إنتاجه‪ .‬ويستوي هذا النموذج السلطوي نموذخا تأديبيا‪ .‬نخلص إذن إلى أن‬
‫سلطة اإلخوة ال تمارس نفسها ّإل عبر ّ‬
‫الشطب‪ ،‬فكان العنف والقمع بالرمي في قاع‬
‫نمطت جسد يوسف وأنتجته من جديد‪ ،‬وهو شطب ارتقي إلى مصاف‬ ‫الجب أجهزة ّ‬
‫العبودية‪.‬‬
‫ألن التنكيل بالجاني‬ ‫إذ لم يكن وضع يوسف في غيابات الجب ليقنع اإلخوة‪ّ ،‬‬
‫يوسف في منطق اإلخوة الشرير كان البدّ أن يتّصل بمفهوم الفظاعة التي تستند‬
‫إلى علنية الفضيحة عبر اإليالم أوال ثم اإلذالل ثانيا‪ .116‬فكان التخلص من جسد‬
‫الحل البديل لتجنّب ارتكاب جريمة القتل‪ .‬إذ جاء في سورة يوسف‬ ‫ّ‬ ‫يوسف ببيعه‬
‫[و َجا َء ْت َس َّي َار ٌة َف َأ ْر َس ُلوا َو ِار َد ُه ْم َف َأ ْد َلى َد ْل َو ُه َو َق َال َيا ُب ْش َرى َه َذا ُغ َل ٌم َو َأ َس ُّرو ُه‬‫قوله‪َ :‬‬
‫اه َم َم ْعدُ و َد ٍة َوكَانُوا فِ ِيه ِم َن‬ ‫س در ِ‬
‫ون‪َ ،‬و َش َر ْو ُه بِ َث َم ٍن َب ْخ ٍ َ َ‬ ‫يم بِ َما َي ْع َم ُل َ‬ ‫ِ‬
‫بِ َضا َع ًة َو ُاﷲُ َعل ٌ‬
‫اه ِدي َن]‪.117‬‬ ‫ُا َّلز ِ‬

‫أذل اإلخوة يوسف فاستعاضوا عن التعذيب باالسترقاق ليسلبوه إنسانيته‬ ‫هكذا ّ‬


‫وح ّقه في أن يعيش ّ‬
‫حرا ويمارس حياة كريمة ال إكراه فيها وال إلزام‪ .‬وقد كشفوا‬

‫‪ .115‬حسني الواد‪ ،‬الرعب‪ ...‬ووعي الرعب‪ ،‬عيون املقاالت‪ ،‬العدد ‪ ،12‬السنة ‪ ،1989‬ص ‪128‬‬
‫‪ .116‬راجع ميشال فوكو‪ ،‬املراقبة والعقاب‪ ،‬صص‪87/86‬‬
‫‪ .117‬يوسف ‪ 19 :12‬ــ ‪.20‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪330‬‬
‫بذلك عن رغبة في التشفي واالنتقام وفي إلحاق األلم النفسي بيوسف‪ ،‬إذ منتهى‬
‫ما يرمي إليه اإلخوة حمل يوسف الجاني على التفكير في ذاته وفي إنسانيته‬
‫المسلوبة حتى يشعر بالندم إذ ك ّلما ازداد ندمه ازداد شعوره باأللم حدّ ة فانضبط‪.‬‬
‫وبذلك تضحي العبودية تقنية من تقنيات السلطة‪ ،‬بل نظاما تأديبيا غايته إصالح‬
‫جسد يوسف وإعادة إنتاجه وهو نظام ال يقل أهمية عن السجن وهو تمظهر آخر‬
‫للشر‪.‬‬
‫مهمة في رحلة العذاب التي لحقت بكيانه‪.‬‬
‫إذ تشكل قصة سجن يوسف حلقة ّ‬
‫البوابة التي البد منها للنفاذ إلى غياهب السجن‪ ،‬حيث تق ّيد‬
‫فالعبودية كانت ّ‬
‫القضبان جسد يوسف فتمنعه حرية االجتماع باآلخرين ويعيش معزوال منبوذا‪،‬‬
‫وللنفاذ إلى مؤسسة انضباطية أشدّ شراسة من السابقة ألنها كانت ممارسة تعسفية‬
‫لنص الوحي اإلسالمي‬‫حق جسده يوسف‪ .‬إذ يلحظ القارئ المتد ّبر ّ‬ ‫راسخة في ّ‬
‫لما حاولت امرأة العزيز‬
‫مفر من هروب يوسف منه ّ‬ ‫ّ‬
‫أن السجن كان واقعا مريرا ال ّ‬
‫مراودته عن نفسه وغلقت دونه األبواب‪ ،‬فاستعصم فرارا من ارتكاب الفاحشة‬
‫‪118‬‬
‫وتوجه صوب الباب‪ ،‬لكنها الحقته محاولة اإلمساك به فقدت قميصه من دبر‬
‫ّ‬
‫ولما ألفت سيدها عند الباب اتهمت يوسف بالزنا واقترحت على سيدها سجن‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫يوسف فهي القائلة‪َ [ :‬ما َج َزا ُء َم ْن َأ َرا َد بِ َأ ْهل َك ُسو َءا إِ َّل َأ ْن ُي ْس َج َن َأ ْو َع َذ ٌ‬
‫اب‬
‫ِ‬
‫َأل ٌ‬
‫يم]‪.119‬‬
‫والطريف أن السجن كان نظاما انضباطيا مشروعا لترويض يوسف الجانح ألنه رفض‬
‫تبادل المواقع في تجربة الهوى بينه وبين امرأة العزيز الراغبة فيه‪ ،‬فكان السجن مأواه‬
‫الذي «ال يحرر اإلنسان الكامن فيه بقدر ما يحبسه في إسار النظرة القسرية التي تحبسه‬
‫في ذاته وتنتهي بتحويل الذات إلى كينونة أو إلى حقيقة موضوعية قائمة بذاتها»‪.120‬‬
‫وعليه فالسجن فضاء لسلب الحرية وهو أيضا آلية تنظيمية أنتجها خرق يوسف لنظام‬
‫امرأة العزيز القاضي باجتناء لذة الذكر يوسف ألنه «ال لذة لها وال سعادة إال في طلب‬

‫‪ .118‬يوسف ‪25 :12‬‬


‫‪ .119‬يوسف‪25 :12‬‬
‫‪ .120‬حممد عيل الكردي‪ ،‬نظرية املعرفة والسلطة عند ميشال فوكو‪ ،‬ص ‪461‬‬
‫‪331‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫يوسف يلبي رغبتها الطبيعية التي بها كمال أمرها»‪ .121‬لذلك كان عقابه ضروريا وكان‬
‫السجن األداة الناجعة إلصالح يوسف وتهذيبه ببث مشاعر الرهبة والخوف واحترام‬
‫القانون الذي سنّته األنثى في تجربة العشق‪ .‬عندها فقط يستوي السجن مؤسسة تأديبية‬
‫حق العاشقة إ ّياه امرأة‬
‫يتعلم فيها الجاني يوسف سبل التكفير عن ذنوبه التي اقترفها في ّ‬
‫العزيز‪.‬‬
‫هكذا ّ‬
‫ظل يوسف حبيس تلك القضبان التي شيدتها أجهزة امرأة العزيز العادلة‬
‫الحر‪ .‬بل ّ‬
‫إن امرأة العزيز قد‬ ‫ّ‬ ‫ظل محتجزا حتى ال يصافح الخارج الوسط‬‫وهكذا ّ‬
‫ضيقت عليه الخناق حتى بات محبوسا ال في الخارج وحسب بل في الداخل‬
‫أيضا‪ ،‬إذ ستمارس األنثى على الذكر حجزا جوانيا فتبعث فيه دوما اإلحساس‬
‫بأنه مرا َقب وبوطأة الرقيب عليه‪ .‬فتعتمل الصراعات واإلحساس باأللم بداخل‬
‫المذنب يوسف‪ ،‬ألن السجن مؤشر ضغط يمارس تأثيره على المجرم في خفاء‪ .‬إذ‬
‫السجن وصمة عار ألحقت بيوسف فأساءت لسمعته‪ ،‬حينها يكون الحل األسلم‬
‫رشدت الجاني‬‫طلب الغفران وحينها أيضا يستوي السجن مؤسسة إصالحية ّ‬
‫يوسف وعالجت ما بداخله من فساد وجنوح إذ هو في عرف امرأة العزيز مريض‬
‫وشا ّذ ومنحرف وال سبيل لشفائه ّإل بالسيطرة عليه داخل هذا الجهاز التنظيمي‬
‫التأديبي‪ ،‬الذي سيكتسب «قيمة أخالقية إضافية‪ ،‬وذلك بالقدر الذي تمتد فيه آثاره‬
‫إلى ضمير السجين حيث ال تقتصر األحاسيس على الخوف من القانون فحسب‪،‬‬
‫وإنما تتجاوز مشاعر الرهبة والخوف إلى احترام القانون واإليمان بضرورته‬
‫وعقالنيته»‪ .122‬لكن يوسف نلفيه مرحبا بفضاء السجن هروبا من الشر خارج‬
‫أسوار هذا الفضاء إذ هناك كيد تناصبه إياه امرأة العزيز‪ ،‬لذلك رابط في مكانه‬
‫إلى حين أن ثبتت براءته لما اعترفت امرأة العزيز بمراودتها إياه‪ .123‬فأكرمه عزيز‬
‫مصر وجعله على خزائن األرض‪ ،124‬هكذا إذن تحولت كل المحن والشرور التي‬

‫‪ .121‬وحيد السعفي‪ ،‬العجيب والغريب‪ ،‬ترب الزمان‪ ،‬تونس‪ ،‬ص‪279 .‬‬


‫‪ .122‬حممد عيل الكردي‪ ،‬نظرية املعرفة والسلطة عند ميشال فوكو‪ ،‬ص ‪467‬‬
‫وراجع أيضا‪Michel Foucault, Surveiller et Punir , Paris, Gallimard, 1975 , pp228/241 :‬‬
‫‪ .123‬انظر يوسف ‪.51 :12‬‬
‫‪ .124‬يوسف‪.55 :12‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪332‬‬
‫تعرض لها يوسف إلى طالع خير إذ الرمي في غيابات الجب وبيع يوسف وسجنه‬
‫مكنت هذا النبي من أن يكون ملكا ومن أن يزرع قيم الخير والمحبة في صفوف‬
‫إخوته وبين شعبه وذاك هدف رسالته األسنى‪.‬‬

‫خاتمة‬
‫قضية الشر من أوكد المعضالت التي واجهت اإلنسان منذ األزل‪ ،‬بل إنها كانت‬
‫من المسائل الحارقة التي أرقت فكره حين انبرى باحثا عن تبرير لما يلم به من شرور‬
‫كالكوارث الطبيعية واألمراض والموت وراح يبحث عن سبب هذه الشرور‪ ،‬فاعتبر‬
‫أن اإلله خالقها وأنها عقاب إلهي ال طائل من وراء إال عذاب اإلنسان ألنه كان مارقا‬
‫عن نظام المقدس‪ .‬غير أن المتدبر في القرآن الكريم يتنبه إلى أن الشر في التجارب‬
‫النبوية كان حامال للخير وكان خطرا البد منه اقتضته الحكمة اإللهية من أجل خالص‬
‫األنبياء ونجاة اإلنسان وسعادته في هذا العالم‪ .‬إذ الشر لم يكن بغاية إلحاق األذى‬
‫بالبشرية بقدر ما كان مسلكا لالستخالف ولالعتراف بحقيقة الموت وللعفة والطهارة‬
‫وللخالص وللرحمة وإلتمام الرسالة‪.‬‬
‫لقد أسلمنا البحث في معضلة الشر وأبعادها في ضوء القرآن الكريم إلى أن‬
‫الشر في التجارب النبوية إنما كان لحكمة إلهية وما كانت غايته ــ وفي النماذج التي‬
‫تخيرناها ــ عقاب اإلنسان وإلحاق األذى به‪ .‬إذ تبين لنا أن أحداث الشر التي عاشها‬
‫األنبياء إنّما كانت من أجل خالص اإلنسان في الحياة الدنيا وتشييد صرح المصالحة‬
‫بينه وبين المقدس وذاك هو الخير األسمى‪ ،‬فالشر كان مفتعال من أجل الخالفة في‬
‫األرض وحمل األمانة وإتمام الرسالة واعترافا بالموت ومن أجل تثبيت جملة من‬
‫القيم اإلنسانية منها الرحمة والعفة والطهارة ألن المقدس ال يحيا إال في كنف الطهر‬
‫وفي كنف المحبة‪ .‬هكذا يكون الشر إذن سبيال إلى النجاة‪ ،‬إذ من صميم الشر ينبت‬
‫الخير‪ ،‬بل لع ّله في بعض وجوهه ّبر األمان‪ ،‬ألن مقصد الشر األسنى والمتوارى إنما‬
‫هو سعادة اإلنسان التي ظلت أمرا مفقودا يحلم نفسه به أبدا ك ّلما أخذه الحنين للحظة‬
‫البدء األولى‪ ،‬ولزمن الخلود هناك في العالم السماوي السرمدي‪.‬‬
‫‪333‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫المصادر والمراجع المعتمدة‬


‫• •المصادر‬
‫‪-‬الكتاب المقدس‪ ،‬كتاب الحياة‪ ،‬ترجمة تفسيرية‪.1988 ،‬‬
‫‪-‬القرآن الكريم‪ ،‬اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة السابعة‪1405 ،‬هـ‪.‬‬
‫• •المراجع‬
‫‪-‬ابن سينا (أبو علي)‪ ،‬الشفاء اإللهيات‪ ،‬تح‪ .‬سعيد زايد‪ ،‬مكتبة آية اﷲ المرعشي‪،‬‬
‫قم‪1424 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬األتربي(أمال)‪ ،‬الشر من منظور ديني بين التجريد والتجسيم‪ ،‬مجلة المحجة‬
‫العدد الرابع عشر‪.2006 ،‬‬
‫‪-‬األصفهاني(الراغب)‪ ،‬الذريعة في مكارم الشريعة‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬المنصورة‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫الطبعة الثانية ‪.1987‬‬
‫‪-‬أوغسطينوس‪ ،‬مدينة اﷲ‪ ،‬ترجمة يوحنا الحلو‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى ‪.2007‬‬
‫‪-‬بوست(جورج)‪ ،‬فهرس الكتاب المقدس‪ ،‬مجمع الكنائس في الشرق األدنى‪،‬‬
‫الطبعة الرابعة ‪.1969‬‬
‫‪-‬بوهالل(محمد)‪ ،‬معضلة الشر‪ ،‬مجلة مدارات فلسفية‪.2006 ،‬‬
‫‪-‬الثابت(زهرة)‪ ،‬العشق في النصوص المقدسة‪ ،‬مسكلياني للنشر والتوزيع‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪.2019‬‬
‫‪-‬ديكارت(رني)‪ ،‬انفعاالت النفس تر‪.‬جورج زناتي‪ ،‬دار المنتخب العربي‬
‫للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪/‬لبنان‪ ،‬الطبعة األولى ‪.1993‬‬
‫ تباثلا ةرهز ‪.‬د‬ ‫‪334‬‬
‫‪-‬ريكور(بول)‪ ،‬صراع التأويالت‪ ،‬ترجمة منذر عياشي‪ ،‬دار الكتاب المتحدة‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،‬كانون الثاني‪.2005‬‬
‫‪-‬ــــــــــــــــــــــ‪ ،‬فلسفة اإلرادة‪ ،‬ترجمة عدنان نجيب الدين‪ ،‬المركز الثقافي‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬الطبعة الثانية‪.2008 ،‬‬
‫‪-‬السعفي(وحيد)‪ ،‬العجيب والغريب في كتب التفسير‪ ،‬األوائل للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫سوريا‪/‬دمشق‪ ،‬الطبعة األولى أيار ‪2006‬م‪.‬‬
‫‪-‬ــــــــــــــــــــــ‪ ،‬في قراءة الخطاب الديني‪ ،‬نجمة الدراسات والنشر والتوزيع‪،‬‬
‫تونس‪.2008 ،‬‬
‫‪-‬السهروردي(شهاب الدين)‪ ،‬مجموعة مصنفات اإلشراق‪ ،‬تصحيح هنري‬
‫كوربان‪ ،‬معهد العلوم اإلنسانية والدراسات الثقافية‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة‬
‫الثالثة‪.2001،‬‬
‫‪-‬الطبري(محمد بن جرير)‪ ،‬جامع البيان عن تأويل آي القرآن‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪.1999‬‬
‫‪-‬عمران(سمية الطيب الطاهر)‪ ،‬مفهوم الخير والشر في الفكر اإلنساني عند بعض‬
‫الفالسفة‪ :‬دراسة تحليلية مقارنة‪ ،‬مجلة كلية اآلداب‪ ،‬عدد‪ ،29‬الجزء األول‪،‬‬
‫يونيو‪.2020‬‬
‫‪-‬غرينيك(روبرت)‪ ،‬من هو الشيطان؟ ترجمة محمد السيد عبد الغني‪ ،‬مجلة الثقافة‬
‫العالمية‪ ،‬عدد‪ ،104‬جانفي ‪.2001‬‬
‫‪-‬فرحان (غيث سالم) وعبد (عقيل حيدر)‪ ،‬دور اآللهة والكهنة في طرد الشيطان‬
‫في العراق القديم‪ ،‬مجلة‪.....‬عدد‪ ،54‬حزيران ‪.2016‬‬
‫‪-‬فوكو(ميشال)‪ ،‬المراقبة والعقاب‪ ،‬مركز اإلنماء العربي‪ ،‬بيروت‪.1990 ،‬‬
‫‪-‬فيروزكوهي(محمد)‪ ،‬وأفرمجاني(علي أكبر أحمدي)‪،‬مسألة الشر عند أفالطون‪،‬‬
‫دحض الضرورة بوصفها عقبة أمام حركة العقل‪ ،‬مجلة االستغراب‪،21 ،‬‬
‫خريف‪.2021‬‬
‫‪335‬‬ ‫يخللالماح هفصوب ّرشلا‬

‫‪-‬الكردي(محمد علي)‪ ،‬نظرية المعرفة والسلطة عند ميشال فوكو‪ ،‬دار المعرفة‬
‫الجامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪-‬مارو(هنري إيرينيه)‪ ،‬أوغسطين واألغسطينية‪ ،‬ترجمة سعد اﷲ سميح حجا‪ ،‬دار‬
‫المشرق‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪.2007،‬‬
‫‪-‬مجيديلة(إبراهيم)‪،‬أنتروبولوجيا اإلنسان الخطاء‪ ،‬مجلة تبيين المج‪ ،5.‬عدد‪،19‬‬
‫شتاء ‪.2017‬‬
‫‪-‬المسعودي(حمادي)‪ ،‬فنيات قصص األنبياء في التراث العربي‪،‬‬
‫‪-‬مسكيني(فتحي)‪ ،‬الشيطان في الديانات السماوية‪ :‬الصورة والرمز‪ ،‬الحكمة‬
‫للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬جمهورية مصر العربية‪ ،‬الطبعة األولى ‪.2014‬‬
‫‪-‬نادو(كريستيان)‪ ،‬المفردات واألسلوب‪ ،‬تر‪.‬شادي رياح نصر‪ ،‬دار النايا‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪.2014‬‬
‫‪-‬نخبة من الالهوتيين‪ ،‬قاموس الكتاب المقدس‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الطبعة الثامنة‪.2000 ،‬‬
‫‪-‬النيسابوري(الثعلبي)‪ ،‬قصص األنبياء المسمى «عرائس المجالس»‪ ،‬المكتبة‬
‫الثقافية‪ ،‬بيروت‪/‬لبنان‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪-‬لسمر(العروسي)‪ ،‬الجاحظ من الجنسانية إلى الميتاجنسانية‪ ،‬كتابات معاصرة‪،‬‬
‫عدد‪.69‬‬
‫‪-‬يوسف ألفة‪ ،‬حيرة مسلمة‪ ،‬دار سحر للنشر‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬أفريل ‪.2008‬‬
‫‪-‬الواد(حسين)‪ ،‬الرعب ووعي الرعب‪ ،‬عيون المقاالت‪ ،‬عدد‪ ،12‬سنة ‪.1989‬‬

‫‪-- Jean Chevalier & Alain Gheerbrant, Dictionnaire des symboles, éd. Robert‬‬
‫‪Laffont.‬‬
‫‪-- Lectures3, Aux frontières de la philosophie, Paul Ricoeur, éd. du seuil,‬‬
‫‪Paris, 1994.‬‬
‫‪-- Mary Douglas, De la souillure, éd. Routledge, 1966.‬‬
‫د‬. ‫ تباثلا ةرهز‬ 336
-- Michel Foucault, Surveiller et punir, éd.Gallimard,1975.
-- Mohamed Arkoun, Peut ‫ ــ‬on parler de merveilleux dans le Coran , in
l’étrange et le merveilleux dans l’islam médival, Paris, Jeune Afrique,1978.
‫دراسات‬

‫التقنية والشر‬
‫أو الخوف من التقنية‬
‫د‪ .‬نورة بوحناش‬
‫‪1‬‬ ‫___________________________________________________‬

‫النزعة البروموثيوسية‬
‫عند لمح الزوج الشر والتقنية تتشكل حتما المفارقة‪ ،‬فمنذ الوهلة األولى يبدو‬
‫بأن ال نسبة جامعة بين سؤال يتطلب مناظرة عقلية‪ ،‬تتشابك فيها العمائر الميتافزيقية‬
‫واألخالقية من جهة‪ ،‬ثم حقل إجرائي ينأى كليا عن المشاكسة التأملية النظرية‪،‬‬
‫مجاوزا بذلك كل نسق معياري‪ ،‬يستقطب حكم قيمة أكان خيرا أم شرا‪ .‬فال مراء في‬
‫أنه ال لتالمس بين مفهوم أكسيولوجي‪ ،‬وآخر إجرائي‪ ،‬يتعدى تعثر األسئلة النظرية‬
‫وتلعثمها‪ .‬فأي رابط بين المنطق التأملي النظري والمنطق التدخلي اإلجرائي؟ فال‬
‫صلة تجمع بين التقنية واألكسيولوجيا بوصفها استشرافا‪ .‬إنها المصادرة المعرفية‬
‫لالبيستمولوجيا الغربية‪ ،‬وقد خلصت إلى ممناعة عميقة وفاصلة بين العلم والقيم‪،‬‬
‫وانفصال في الطبيعة بين القيمة والواقعة‪.‬‬
‫من الجلي أن التصور السابق‪ ،‬يجري على مستويين‪ :‬مستوى التصور اإلبستيمولوجي‬
‫المحض‪ ،‬ثم مستوى تاريخية المفاهيم وبنيتها التأسيسة‪ ،‬وقد نمت في اإلطار العام‬
‫لفلسفة الحداثة‪ ،‬ذلك أن المنظور اإلبستمولوجي للعلم‪ ،‬وبعدما ثبت االنفصال بين‬
‫القيمة والواقعة ــ من خالل تشاكل معرفي تاريخي عميق‪ ،‬في نقد كل معرفة غائية‬
‫موصولة بروح العصور الوسطى ــ عاد مرة أخرى ليطرح في قلب اإلبستيمولوجيا‬
‫التقنوعلمية حيرة أكسيولوجية عارمة‪ ،‬تحولت إلى شاغل مركزي للعقل الراهن‪ ،‬وهو‬

‫‪ .1‬أستاذة يف جامعة قسنطينة‪ ،‬اجلزائر‪.‬‬


‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪338‬‬
‫ما تعنيه الحقول المختلفة لألخالق التطبيقية‪ ،‬وما تؤديه المراجعات الفلسفية للحداثة‬
‫وعقالنيتها‪ ،‬وما بعدهما من انقالب على التأصيل الحداثي‪ ،‬في خالصة يقول لسان‬
‫حالها‪« :‬ترتبط أخطر التهديدات التي تتربص بالبشرية بالتقدم األعمى وغير المتحكم‬
‫فيه للمعرفة»‪ .2‬المناص إذا من أن المعرفة التقنوعلمية‪ ،‬التي فاضت عنها جرائم القرن‬
‫العشرين بروموثيوسية أصال ال تفقه معنى المعنى‪ ،‬فقامت بتحطيم كل معنى ما أدى‬
‫إلى فرض النقد والمراجعة‪ ،‬وبيان كيف يجب أن تؤدى الصلة بين القيمة والواقعة‪،‬‬
‫بغية فرض انزياحات معرفية تعيد تخليق التقنية‪.‬‬
‫تدلل المراجعات المتالحقة للخطاب المعرفي الغربي على حضور األكسيولوجيا‬
‫في قلب التقنوعلمي‪ ،‬وهي بهذا تفند مقولة الحد الفاصل بين القيمة والواقعة‪ ،‬معيدة‬
‫النظر فيما جعله هيوم بداهة قطعية وقاطعة‪ ،‬تؤسس الروح الوضعية الحديثة‪ .3‬إذ الصلة‬
‫ب ّينة بين القضايا الوصفية والقضايا المعيارية‪ ،‬وهما يتداخالن وال يمكن تفكيكهما‪.4‬‬
‫إذن هو عود ضروري لإلجابة عما يجب فعله في قلب الممارسة التقنوعلمية‪ ،‬وقد‬
‫تجلت في حيرة اإلنسان أمام المسار الذي سيتخذه التدخل اليدوي مثال في الحياة‪.‬‬
‫فما هي اإلمكانات التي تمتلكها البيوتكنولوجيا للتدخل في معايير الطبيعة‪ ،‬تجاوزا‬
‫للنقص وتوجها نحو الكمال؟ ثم هل تعد عملية التدخل في حد ذاتها خيرا أم شرا؟‬
‫أيكون اضطرابا وفوضى‪ ،‬سيرا ضد غائية الخيرية المبثوثة في الطبيعة‪ ،‬حسبما ثبتته‬
‫قديما المراجعة األفالطونية؟ في زمان كان العلم ال ينفك عن الخير األقصى‪ ،‬مظهرا‬
‫متجليا في الطبيعة‪ ،‬تدركه األبصار وتعيه البصيرة توجها نحو الفضيلة‪.‬‬
‫جر الحدث اإلنساني في القرن العشرين االنشغال المركزي الى ضرورة معاودة‬
‫ّ‬
‫التفكير في مواضعة أكسيولوجية لها وزنها النقدي والتصويبي‪ ،‬فيما يخص الوعي‬
‫التطبيقي المنجز في المجال التقنوعلمي‪ .‬حددت هذه المواضعة لحظتين‪ :‬اللحظة‬
‫النقدية‪ ،‬وقد حركتها فظائع القرن العشرين‪ ،‬بوصفها ٍّ‬
‫تجل للذئبية المبدئية التي بشرت‬

‫‪ .2‬نامذج عن تفكيك بنية احلداثة وما بعدها‪ ،‬نتفحص يف ذلك مثال فلسفة مدرسة فرانكفورت مجلة‪،‬‬
‫مؤلفات زجيمونت باومان‪ ،‬جيل ليبوفتسكي‪ ،‬إدغار موران وغريهم‪.‬‬
‫‪3. Hume: enquête sur les principes de la morale, Flammarion, 1991, P. 119‬‬
‫‪ .4‬إدغار موران‪:‬الفكر واملستقبل ــ مدخل إىل الفكر املركب ــ ‪ ،‬ترمجة‪ ،‬أمحد القصوار ومنري احلجوجي‪،‬‬
‫دار توبقال للنرش‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط ‪ ،2004 ،1‬ص ‪.13‬‬
‫‪339‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫بها الهوبزية في غرة الحداثة‪ ،‬إذ العنف بوصفه تمظهرا لكل الشر الحداثي قد وسع‬
‫مداه على مقولة حنة أرندت‪ ،‬ألن «أدوات العنف قد تطورت تقنيا‪ ،‬إلى درجة لم يعد‬
‫من الممكن معها القول بأن ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية»‪ ،5‬وهي‬
‫الطاقة التي وفرها األنموذج العقالني البيروقراطي للحداثة‪ ،‬لتكون هذه الحداثة في‬
‫‪6‬‬
‫حد ذاتها كناية عن الشر‪.‬‬
‫أما اللحظة الثانية‪ :‬فقد بدت لحظة إجرائية وتأسيسية‪ ،‬وهي التفكير مرة أخرى‬
‫في القيمة وفي اندماج ممكن بين العقالنية والمعايير األخالقية‪ ،‬بدت في فلسفات‬
‫القيمة منبثقة تباعا منذ بداية القرن العشرين كفلسفات ماكس شيلر ولوي الفيل‪.‬‬
‫فليست الحياة بدون قيم إال حياة عمياء‪ ،‬وتكون المعرفة التقنوعلمية بالنسبة لشيلر‬
‫درجة أولى من المعرفة‪ ،‬إال أنها تقود العماء وترسخه ما لم ترتسم في أفق القيم‪ ،‬ما‬
‫‪7‬‬
‫دفع بشيلر إلى اعتبار قيم القداسة قيما مهيمنة على تراتب القيم‪.‬‬
‫وستتسع هذه اللحظة تلقائيا في نهاية القرن الفائت وبداية هذا القرن‪ ،‬متناسبة مع‬
‫الهواجس اإلنسانية التي أثارتها التطبيقات التقنوعلمية وعلى الحي خاصة‪ ،‬فال مراء‬
‫في أنها ستمثل مواضعة مثيرة لمشكلة الشر‪ ،‬والعجب أن تقود الرغبة في الكمال إلى‬
‫الكشف عن الوجه األشد قبحا للشر‪ ،‬وبالتالي تنفتح حزمة من األسئلة الميتافزيقية‬
‫واألخالقية عيانا‪ ،‬مؤكدة استحالة تجاوز حالة النقص التي تتساوق أصال مع الحياة‪،‬‬
‫فاالستزادة من المعرفة العلمية‪ ،‬لم تكفل الخالص من إله الشر البتة بل فتح مطلب الخير‬
‫المسار نحو الشر‪ .‬أما عن تصديق اإلنسان بأنه يمتلك إمكانية تخطي البؤس والشقاء‪،‬‬
‫وكل مفردات الشر المحيط به في هذا العالم بوسيلة التحكم التقني‪ ،‬فال يعد إال ضربا‬
‫من اجتياز المستحيل وطاقة من الالجدوى السيزيفي الذي ينتهي إلى تثبيت الالمعنى‪.‬‬
‫بدت التقنية استشرافا حتميا للعدم‪ ،‬حاملة لنبوءة النهاية القريبة لإلنسانية‪ ،‬هي‬
‫مواضعة تجلت صريحة في نظرية المسؤولية‪ ،‬مادامت التقنية تتسم بالعمى القيمي‪،‬‬

‫‪ .5‬حنة آرنت‪:‬يف العنف‪ ،‬ترمجة إبراهيم العريس‪ ،‬دار الساقي بريوت لبنان‪ ،‬ط ‪ ،2015 ،2‬ص ‪.5‬‬
‫‪ .6‬زجيمونت باومان‪ :‬احلداثة واهلولوكست‪ ،‬ترمجة حداد أبوجرب‪ ،‬دينا رمضان‪ ،‬مدارات لألبحاث‬
‫والنرش‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬ط‪ ،2014 ،1‬ص‪.174‬‬
‫‪7. Scheler Max: Formalisme en éthique - et l’éthique matériale des valeurs, Gallimard,‬‬
‫‪7 éme édition 1955, P. 79.‬‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪340‬‬
‫لتنطلق في عملية تحويل أنطولوجي مخيف للطبيعة واإلنسان‪ ،‬األمر الذي يستدعي‬
‫بالنسبة لهانس يوناس تفعيال لعاطفة الخوف من المستقبل‪ ،‬خوف من الكابوس‪،‬‬
‫من نهاية قريبة للطبيعة والجنس البشري إذا ما واصلت التقنية لعبتها في التحويل‬
‫األنطولوجي للكينونة‪ 8.‬ليبدو عند يوناس الشر حالة من التفوق األنطولوجي‪،‬‬
‫تميزت به التقنية كرهان تحكمي يفرض السيطرة‪ ،‬من دون إدراك للقيم‪ ،‬أو قل‬
‫تساوق للعدمية والتقنية في عملية التبديل الصناعي للعالم‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أنه تم التحقق بأن ال وصال بين التقنوعلمي واألكسيولوجية‪ ،‬بما‬
‫أن التقنوعلمي ال يقتضي البتة حكما قيميا بالخير أو بالشر‪ ،‬إال أن تحسس المساحات‬
‫األنطولوجية التي تستكشفها التقنية يقود مباشرة إلى ربطها بتصور لمفهوم قيمة الشر‪،‬‬
‫كتضمين ميتافزيقي وأخالقي‪ .‬والظاهر أن هذه الفكرة‪ ،‬ستثير المفاجأة فالتقنية تشكلت‬
‫في جسمها األداتي‪ ،‬لغاية مؤداة‪ ،‬وهي رفع الشرور وأخصها الشر الطبيعي‪ .‬ألم تضطلع‬
‫التقنية الحيوية‪ ،‬برفع لأللم والقضاء على الشر الطبيعي؟ ذلك «الذي يطلق على كل‬
‫نقص‪ ،‬مثل الضعف والتشويه في الخلقة والمرض واآلالم وما يشبهها»‪ .9‬ألم تستشرف‬
‫الكمال‪ ،‬خاصة في مشروعها الراهن القاضي بتحسين اإلنسان‪ ،‬بل وميالد اإلنسان‬
‫المحسن‪ ،‬والفائق بوصفه سيرورة نحو الكمال المطلق؟ وفي هذا المسار تنفتح أسئلة‬
‫عن معنى معايير الطبيعة وحدودها عن النقص والكمال عن الخير والشر‪ ،‬وإذا ما كانت‬
‫هناك معايير جوهرية للطبيعة أو حد فاصل بين السوي وغير السوي؟‬
‫وعلى الرغم من أن التقنية رفقة العلم‪ ،‬تصمت إزاء أحكام القيمة غير أن من بين‬
‫مهامها المؤداة إزالة الشر الطبيعي سيرا نحو مفهوم جديد للخير األقصى‪ ،‬بدا في‬
‫الكمال الطبيعي قيمة مرغوبة لذاتها‪ ،‬شيء يتضح مثال في البحوث التي تجري على‬
‫الخاليا الجذعية لألجنة في سبيل القضاء على الشيخوخة ولذلك تحولت التقنية‬
‫إلى علم السيطرة على الطبيعة‪ ،‬وإعادة اإلنتاج للنماذج حسب تصورها عن الكمال‪.‬‬
‫بيد أن هذا اإلنشاء الكياني الذي تتميز به التقنية أدى إلى فتح سبيل الشر والشقاء‬

‫‪8. Hans Jonas: Principe De Responsabilité Une éthique Pour La Civilisation‬‬


‫‪Technologique trad. Jean Greisch Flammarion Paris, 1995, P.23.‬‬
‫‪ .9‬مجيل صليبا‪:‬املعجم الفلسفي‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬دار الكتاب املرصي‪ ،‬د ط‪ ،1978 ،‬ج ‪ ،1‬ص‪.695.‬‬
‫‪341‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫اإلنسانييين على وفق تعبير أوليفيي راي‪ .10‬مادام المساس بمعايير الطبيعة يحدث‬
‫خلال في أنطولوجيا الكائن‪ .11‬ماذا يعني هذا التدخل‪ ،‬هل هو شر بمجرد فرضه‬
‫المتغيرات؟ ناهيك عن خالصاته التي تحققت بانتهاك للقيم األخالقية‪ ،‬أم أن مثل‬
‫هذا التوجس يضمر مجرد نزعة تشاؤمية ــ حسب جيلبار هوتوا ــ تبين عن خوف‬
‫ميتافيزيقي من التقنية‪12‬؟ لكن مهال بماذا تبوح حال البيئة؟ هل من حياة لإلنسان بين‬
‫جنباتها العليلة؟ إن إعادة إنتاج الطبيعة بحسب خطة الكمال المرسومة في التصور‬
‫الميتافيزيقي للحداثة يعد بنهاية للحياة بما أوحى به هذا الكمال فكان التكميل قيادة‬
‫نحو تنقيص للطبيعة يظهر عيانا عند تحقيق مناط الظرف الحديث‪.‬‬
‫الحاصل أن رهان التقنية ونتائجه األخالقية يتجلى في جدل ميتافزيقي قديم‪،‬‬
‫وهو جدل النقص والكمال‪ ،‬أو قل الشر والخير‪ ،‬ومن ثم فهو في حد ذاته تضمينا‬
‫معياريا‪ ،‬ال تنفك عنه التقنية مهما ادعت البراءة النسقية‪ ،‬والعمى القيمي في أصل‬
‫نشأتها المعرفية واإلجرائية‪ .‬إذ يكمن مقصدها حصريا في رفع الشر والسعي إلى‬
‫الكمال خيرا أقصى‪ ،‬وهو ما يتناسب مع الغاية التي سطرتها الحداثة في البدء‪،‬‬
‫فمقصد السعادة هو المرجح لمشروعية المشروع الحداثي ومبرره األسنى‪.‬‬
‫والحق أن هذا الرهان يدفع مباشرة إلى استثارة العالقة بين الحداثة والتقنية سؤاال‬
‫مفصليا‪ ،‬ثم تقصي ميتافيزيقا الحداثة بوصفها مرجعية كبرى تفسر النمو الالمحدود‬
‫للعلم‪ ،‬التقني والتقنوعلمي وتبرره‪ .‬فهل فكك عقل األنوار التصور الغائي للطبيعة‬
‫ليعود مرة أخرى إلى تضمين مفهوم للخير األقصى غاية لتكميل الطبيعة عبر التدخل‬
‫التقنوعلمي؟‬
‫في هذا اإلطار ستدلل ميتافزيقا الحداثة على ذلك الشكل التبادلي الذي أقيم بين‬

‫‪10. Olivire Rey: LEURRE ET MALHEUR DU TRANSHUMANISME‬‬


‫‪TRANSHUMANISME, DESCLEE DE BROUWER, P. 15.‬‬
‫‪ .11‬بدا هذا املتغري يف أسئلة مهمة جدا‪ ،‬فهل يؤدي التدخل اليدوي يف الكائن احلي إىل انتهاك للقيم‬
‫األخالقية؟ هل هناك تطابق بني معايري الطبيعة واملعايري األخالقية؟ هل تكتسب الصنعة البرشية‬
‫التنسيق والتناسق املحكمني‪ ،‬كام هي صنعة اإلله؟‬
‫‪12. Gilbert Hottois: De la rennaissance à la postemodernité - une histoire de la‬‬
‫‪philosophie moderne et contemporaine - 3éme édition, 2007, de boeck, Bruxelle,‬‬
‫‪P. 496.‬‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪342‬‬
‫اإلله واإلنسان‪،‬كما جرى بين ثنايا مسار الحداثة وصيروراتها وصوال إلى موت اإلله‬
‫الذي قتله اإلنسان‪ ،‬وصلة هذا التبادل بمفهوم الشر الكامن في جذر الخطيئة األصلية‬
‫بوصفها داللة من غير الممكن تجاوزها في صياغة العالقة بين اإلنسان اإلله والتقنية‬
‫سعيا إلى تحرير الطبيعة البشرية من وعي الخطيئة وتخليصا لها حتى تغدو أصال نقيا‪،‬‬
‫وكذا في حقها للمغايرة تحقيقا للرغبة كمكون أصيل من مكوناتها‪ ،‬فليست التقنية‬
‫سوى توصيف عن إنطولوجيا الصراع بين النقص والكمال والشر والخير‪ ،‬وعن رغبة‬
‫إنسانية تتجه إلى تقمص أفعال اإلله‪ .‬فهل تحولت إلى فعل متحرر من إرادة اإلنسان‪،‬‬
‫لتكون وجودا يضع الوجود اإلنساني في مخاطرة العدم؟‬
‫هنا تغدو التقنية تجليا للقوة اإلنسانية المتحررة‪ ،‬وتجاوزا لرهان الشر المغروز‬
‫في فكر الخطيئة‪ ،‬أليس اإلنسان المحسن والفائق‪ ،‬تعبير يفسر بحق ميتافيزيقا الحداثة‬
‫وصورة عن ألوهية اإلنسان الذي تحرر من الخطيئة بمعنى من الشر‪ ،‬ليعيد تثبيت‬
‫رهانات معيارية ذات طبيعة إنسية؟ ومن ثمة صياغة ذاته وفق مفهوم الكمال المضمر‬
‫في وعي الخطيئة‪ ،‬وهو الكمال اإللهي متجليا في صورة اإلنسان اإلله‪.‬‬
‫الحاصل أن المساءلة النسقية للصلة بين التقنوعلمي والشر تعد قضية معقدة ومتشابكة‪،‬‬
‫كما وتبدي مناقضة صميمية تضع اإلبستمي الغربي جملة تحت طائلة المساءلة‪ .‬فعلى‬
‫الصعيد اإلبستمولوجي المحض تحقيقا للموضوعية تأكد أن تطور العلم والتقنية لم يكن‬
‫يوما على صلة بالتحكيم المعياري والمواضعة األكسيولوجية‪ ،‬لينفصال عن كل حكم قيمة‬
‫ومن ثمة عن الشر كمفهوم له أبعاده المتعددة‪ .‬إال أنهما سيفرضان حتما صلة تجمعهما‬
‫بهذا التحكيم وتلك المواضعة‪ ،‬صلة تبينت في فظائع تقنيات التسلح وموت األيكوس‬
‫الحيوي وجملة البربريات التي عمرت العالم‪ ،‬مواكبة للتطور التكنولوجي‪« .‬مهما يكن‬
‫ليست هذه األخالق أو تلك أو هذه القيمة أو األخرى‪ ،‬ولكنها األخالق كما هي قدرة‬
‫األخالق وإمكانية األخالق»‪ ،13‬التي قد تقضي عليها التقنية فتكون السقطة العدمية‪ ،‬بنهاية‬
‫األخالق من أجل التمكين للممكن التقني الذي ال يحتد بحد‪.‬‬

‫‪13. Hottois Gilbert:Evaluer La technique et/ou(Re)EvaluerL Éthique? En Guise D‬‬


‫‪introduction, publiée dans: Evaluer La Technique, edité par Gilbert Hottois, pour‬‬
‫‪demain J.Vrin Bruxelle Belgique, P.12.‬‬
‫‪343‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫أما من جهة أخرى فقد تكيف أداء التقنية‪ ،‬ال مع العنف الدفين في الذئبية اإلنسية‬
‫فتجلى في التسلح الفتاك وفي تحول الكوكب إلى مجال صناعي‪ ،‬وأد ًا للحياة واستنزافا‬
‫لمقدرات األرض وقتال للمجال البيئي‪ .‬فكانت التقنية حقال لممارسة الشرور‪ ،‬وأداة‬
‫في يد هذه الذئبية لتمارس الطاقات الغريزية في أوسع مداها‪.‬‬
‫أما عن نتائج التدخل البيوتكنولوجي في الحي‪ ،‬فقد فتح الباب واسعا لمحاكمة‬
‫أفعال التقنوعلمي ووصلها بالشر وصال مباشرا‪ ،‬كشفا ألبعادها االبستيمولوجية‬
‫وتوجهاتها األنطولوجية‪ ،‬ما تعنيه الداللة التيمولوجية لمصطلح البيوإتيقا بوصفها‬
‫انفجارا أخالقيا تلقائيا في ميدان التقنوعلمي‪ ،14‬ووصال بين التقني واألخالقي‬
‫اختبارا جذريا للعدم المحيط بأفعال التقنيات الحيوية‪ ،‬وقد دخلت في إعادة صياغة‬
‫الوجود عبر مخرجات الفهم اإلنساني للكمال الذي يرادف الطغيان الالمحدود‪.‬‬
‫وهكذا كان على التقنية تحقيق المتخيل واألسطوري‪ ،‬واالرتقاء بما كان سحرا‬
‫يوما إلى اإلمكان المنجز وسيجري عليها هانس يونس رمزية لأللوهية‪ ،‬ولكنها ألوهية‬
‫خرقاء التدرك القيم فمن جهة تمتلك القوة الهائلة في التدخل وتحوير العالم بما رأته‬
‫الذات البشرية رغبة وكماال‪ ،‬وفي الوقت نفسه تتميز بالعمى األصلي‪ .‬بهذا يكون لقاء‬
‫القوة والعمى إيذانا بالكابوس والدخول في منطقة األبوكليبس ما يعني ضرورة لملمة‬
‫قوة التقنية‪ ،‬حتى ال يقع المحذور الذي يعني عند يوناس القضاء على الطبيعة واألجيال‬
‫القادمة‪ ،‬والولوج إلى العدم الذي هو مرادف للشر‪.‬‬
‫قد يبدو التعبير عن هذه العالقة الجامعة بين التقنوعلمي والشر انعكاسا لنزعة‬
‫تشاؤمية مميزة بوسم التكنوفوبيا‪ .‬ولكن عالم الحداثة هو درب لما وصفه بومان بالشر‬
‫السائل‪ ،15‬لم تكن التقنية متغيرا خالصا في سبيل الخير اإلنساني‪ ،‬بل ارتبطت بالعمى‬
‫األخالقي بالشر كمؤشر من الضرورة اعتباره في عملية التحكيم البشري للوجود‪،‬‬
‫فتعهدت بنشر الخيارات البشرية حول ما تريد وما التريد بطشا باإلنسان وبالطبيعة‪.‬‬

‫‪14. VAN RENSSELAER POTTER: BIOETHICS BRIDGE TO THE FUTURE,‬‬


‫‪PRENTICE - HALL, 1971 U.S.A. P P. Vii - Viii.‬‬
‫‪ .15‬زجيمونت باومان وليونيداس دونسكيس‪ :‬الرش السائل ــ العيش مع الالبديل‪ ،‬ترمجة‪ ،‬حجاج أبوجرب‪،‬‬
‫الشبكة العربية لألبحاث والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪ ،2018 ،1‬ص‪.20.‬‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪344‬‬
‫خاصة وأن الذئبية تساوق اإلنسانية في الجذر األنطولوجي للحداثة‪ ،‬أي في معادلة‬
‫الم ْع ِل ْن لسيادة‬
‫تأسيسها المبدئي حيث ُت ْف َت َقدُ المعايير األخالقية عبر صمت الكوجيتو ُ‬
‫العقالنية التي تطورت صوب األداتية والتشيؤ‪.‬‬
‫اتفق النقد الفلسفي للحداثة وما بعدها بأن العمى األخالقي هو سمة مولود‬
‫الحداثة‪ ،‬لذلك ونحن في عالم يحتضنه عمى العدمية ال بد من تحسس لتلك‬
‫الكيفية‪،‬التي س َي ِص ُ‬
‫يغ بها هذا العمى التمكن التقني استشرافا قادما في بنية العالم‪.‬‬
‫فإلى أي مدى يمكن اعتبار االستنطاق واالنكشاف وتحريض التقنية للممكنات‬
‫حسب المواضعة الهيدغيرية‪ ،‬مسارا لالنفتاح اإلنساني على الحرية وتخليص‬
‫الوجود من الزيف؟ أال يكون لقاء التتابع التفاعلي‪ ،‬لهذه المواضعة الهيدغيرية‬
‫انفتاحا على الممكنات وسقوطا في الهاوية؟ الشيء الذي قامت به النازية في محرقة‬
‫الم ْس َت ْف َه ْم و ُي ْس ِر مأخذه فيختصر في‪:‬‬
‫القرن العشرين الكبرى‪ .‬أما عن بساطة السؤال ُ‬
‫هل التقنية شر أم خير؟ هل هي تجاوز لألخالق؟ أم بناء لقيم تتناسب مع الظرف‬
‫اإلنساني الحديث؟‬
‫‪ .1‬الحداثة والتقنية‪ :‬انزياح النقص أو درب الكمال يتطلب التقييم المعياري‬
‫للمجال التقني تخطي حدود المدى البراغماتي بوصفه منظورا سطحيا‪ ،‬لما اعتبره‬
‫ديكارت سيطرة اإلنسان على الطبيعة وامتالكه إياها‪ .‬حتما سيرتقي تحسس األحكام‬
‫التقيمية حول التقنية إلى مناطق بحث تفتح مفاصل األسئلة األنطولوجية‪ ،‬وتكشف‬
‫عن تشكالت التاريخية التي ولدت المتغير التقني‪ ،‬ضمن اإلطار العام للحداثة‪ .‬فماذا‬
‫تعني التقنية في المنظور الميتافيزيقي للحداثة؟ هل هي انفتاح لممكنات الوجود‬
‫األصيل ضمن تمركز اللوغوس الغربي؟ أم أنها سلطة إجرائية ضمن سلطة إنسانية‬
‫ذات مركزية إالهية تولدت بفعل االنزياحات الكبرى‪ ،‬التي وسمت غرة الحداثة‬
‫بجملة انفصاالت؟‬
‫الظاهر أن الترجيح األول لوعي المتالزمة الحداثية يتطلب تحليال في المستوى‬
‫المفاهيمي‪ ،‬ليتسرب هذا التحليل إلى مسألة تبادل النماذج‪ :‬اإلنسان عوضا عن اإلله‪،‬‬
‫تكميل العالم بدال من العناية اإللهية‪ ،‬تكميل وتجميل هذا العالم عوضا عن جنة عدن‬
‫كمتخيل عقدي محمول في الثقافة اليهودية المسيحية‪ .‬تعبر صيرورة هذه المبادالت‬
‫‪345‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫عن منظور إنساني ينتهي إلى تبادل بين السماوي واألرضي بين الالمرئي والمرئي‪،‬‬
‫وتحكما في المجال اإلنساني‪ ،‬يضاهي الخلق‬
‫ً‬ ‫لذلك تتشكل التقنية بوصفها َخ ْل ًقا‬
‫والتحكم في المجال اإللهي وعليه ستحول التقنية العالم إلى ورشة يتم فيها تعويض‬
‫الطبيعي بالصناعي‪ ،‬حسب مستلزمات الرغبة اإلنسانية التي تعبر عن خطة الكمال‬
‫المطلوب‪ ،‬وقد اتخذ خطاب العقالنية معيارا بديال عن كل الخطابات‪ ،‬أما الفاعل فهو‬
‫اإلنسان اإلله الذي ولد عقب موت اإلله المصلوب على الصليب‪.‬‬
‫تدخل المبادالت السابقة في كنه ميتافزيقا الحداثة وتفسر مساراتها‪ ،‬ففي المستوى‬
‫الوجودي سيؤدي اإلنسان مهمة الخلق والتكميل بدل اإلله‪ .‬فقد فرضت القطيعة مع‬
‫مركزية األرض أخذ اإلنسان مسؤولية التفسير واالنتاج عوضا عن اإلله الذي غادر‬
‫العالم بمجرد حلول النظام الشمسي‪ ،‬وتمركزه في قلب الفهم الطبيعي للعالم بنشوء‬
‫فيزياء ترسخ االكتفاء الذاتي الخالص للطبيعة‪.‬‬
‫كما وتبين هذه المبادالت المعنى اإلنساني لمصطلح التقدم بوصفه إعالنا عن‬
‫الرشد اإلنساني بحسب المنظور الكانطي‪ ،‬هي ميزة وسم بها فيلسوف كوسمبرغ‬
‫اإلنسان كفينومين‪ ،‬يستكنه النومين ماهية تتربع كمصادرة في التضمين العقالني للذات‬
‫البشرية‪ ،‬هنا ينفصل الفينومين عن مراقبة النومن محدثا إفراطا في التقدم‪ ،‬اتجه نحو ما‬
‫يصفه إدغار موران على أنه «تقهقر داخل التقدم وتقدم التقهقر»‪ .16‬ثنائية تساءل حولها‬
‫بول فليري يوما في تأبينية برغسون في قلب الحرب العالمية الثانية وقد تجلى التقدم‪،‬‬
‫محققا لمناطه في مجازر ارتكبت بوسم هذا التقدم وبوسائله‪.17‬‬
‫يستوعب مفهوم اليوتوبيا مشروع الحداثة ويفسره‪ ،‬فما ألمح إليه األنواريون هو‬
‫جعل العالم مكانا أفضل للعيش اإلنساني‪ ،‬لترتكز هذه األفضلية على فكرة التقدم مسارا‬
‫ستسلكه اإلنسانية متجهة إلى عالم يتم فيه القضاء على النقص‪ .‬والحق أن عملية التبادل‬
‫التي تمت بين النقص والكمال تصف قلقا وأمال‪ ،‬قلق الخطيئة وأمل الخالص‪ .‬فبالنسبة‬

‫‪ .16‬ادغار موران‪:‬إىل أين يسري العامل؟ترمجة أمحد العلمي‪ ،‬الدار العربية للعلوم نارشون‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪،1‬‬
‫‪ ،2009‬ص ‪.33‬‬
‫‪17. Valery Paul:Henry Bergson, allocution prononcé a la seance de Lacademie le jeudi‬‬
‫‪091941/10/, collection mouchretion dans MVXLV‬‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪346‬‬
‫لتوماس مور هناك مكان ما ال يوجد في أي مكان‪ ،‬لكنه يخلو من الشر ويستوعب الكمال‪.‬‬
‫تلك هي الخطة التي راهنت عليها الحداثة‪ ،‬ليعيش اإلنسان في جنة عدن على األرض‪.‬‬
‫ففي رأي الحداثة عالم يتقدم يعني أنه عالم يتجاوز حالة النقص ويمحوه‪ ،‬معوضا إياها‬
‫بحالة من الكمال المتخيل‪ .‬هنا ارتسمت األطر العامة للحداثة ليغدو التقدم خطة للكمال‬
‫ومن أجل تحقيق الكمال‪ .‬فال مراء أن تواصل هذه الخطة تقدمها إلى حد اعتقادها «أن‬
‫المرض والشيخوخة ليست أقدارا‪ ،‬ومن المشروع توقع حياة طويلة ولذيذة بدون ألم‬
‫وال إعاقة»‪ .18‬بهذا يكون التقنوعلمي امتثاال لمفهوم له تضمين ميتافزيقي‪ ،‬إنه العناية التي‬
‫يؤديها اإلنسان اإلله اتجاه العالم‪ ،‬ففي الحداثة يتحول التدخل والتطبيق إلى عناية إجرائية‬
‫يتحملها اإلنسان‪ ،‬وهو مدفوع بوعي تكميل وتجميل العالم‪.‬‬
‫اختصرت اليوتوبيا وعي حضارة تضمر فهما مخصوصا للعالم‪ ،‬إنه عالم مليء‬
‫بالشرور أما عن مسؤولية تخليصه من هذه الشرور فتقع على اإلنسان ليكون العلم‬
‫حقال إجرائيا يفسر يتدخل ويغير‪ ،‬وهنا بالذات تكمن مهمة التقنية‪ .‬أما خطة التقنوعلمي‬
‫فتتراتب في نظام للمراحل‪ .‬التحكم ثم إعادة الصياغة تكميال وتجميال للعالم‪ .‬ففي‬
‫فضاء الطوبي تتكفل أطلنطس الجديدة بعملية المعاوضة لتدلل المدينة البيكونية على‬
‫أن تخليض العالم من الشر‪ ،‬مهمة قمينة بالعلماء الذين سيصبحون حكاما وسيقوم‬
‫العلم بمعركة الخالص الحقيقية‪.19‬‬
‫لذلك الزمان تشكلت فكرة التقدم لتؤلف فكرة بديهية‪ ،‬مقدمة لجدوى السعي‬
‫الحضاري الغربي إنه تخليص العالم من النقائص والشرور‪ ،‬فعلى األرض فقط يسعد‬
‫اإلنسان ال وجود لمكان آخر للبشرى والسعادة‪ .‬وانطالقا من الروح التفاؤلية التي‬
‫جلبتها فكرة التقدم يبشر أرنست بلوخ بأمل للسعادة األبدية في عالم الكمال الموعود‪،‬‬
‫يقينا ستنقل التقنية العالم من الكائن إلى الممكن فيتحول اإلنسان نحو تكميل الذات‪،‬‬
‫خارج حدود السيطرة‪ .‬حولت يوتوبيا األمل الماركسية العالم إلى آلة‪ ،‬يتمتع فيها اإلنسان‬
‫بالفراغ‪ ،‬ليكون اإلشباع التكنولوجي شرطا ضروريا لحرية االختيار‪ .‬وعموما ففرضية‬
‫اليوتوبيا الماركسية تعني االستهالك المتزايد لثروات الطبيعة و التحول التدريجي إلى‬

‫‪18. Laurent Alexandre: La MORT DE LA MORT, JC Lattés, 2011 p90‬‬


‫‪19. Sir Ferancis Bacon:The New Atlantis, Copie Electronique.‬‬
‫‪347‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫المكننة‪20‬ما يعني أن برومثيوس قد ُس ِر َح تماما وهو يعيث في األرض فسادا‪ .‬بهذا يمتد‬
‫مشروع اليوتوبيا منسقا مع القوى التاريخية لتكون االشتراكية عبور نحو الكمال الخالص‬
‫في الماركسية‪ ،‬إنه زمان الشيوعية الذي يخلص فيه اإلنسان إلى العيش في جنة عدن‪.‬‬
‫لم يكن من الممكن أن تنجز الحداثة مسارها اإلجرائي دون محيط من الثنائيات‬
‫المتتالية‪ ،‬في البداية كانت الخطيئة والخالص‪ ،‬ستعوضهما العقالنية والالعقالية‬
‫كثنائية تعمل على فرز العالم وإعادة تشكيله‪،‬كما تمثل سندا منطقيا للحداثة مرجحة‬
‫لمشروعية معتقداتها‪.‬ستليها دالالت لثنائيات أخرى أخصها ثنائية التخلف والتقدم‪،‬‬
‫وضمن هذه الثنائية تتشكل الحداثة كمتالزمة حضارية ممدة بمبررات كل أعمال‬
‫اإلبادة التي سيؤديها اإلنسان الغربي في العالم‪،‬بوسم التقدم الذي شرع القتل والدمار‬
‫وبرر البربريات المتعاقبة‪ ،‬فكان «باألساس في خدمة االستعباد والموت»‪ .21‬ما يعني أن‬
‫ميتافزيقا الحداثة‪ ،‬قد حررت قوى الشر وجعلتها فاعلة عبر الجرأة التقنوعلمية‪.‬‬
‫الحاصل لقد اتسم أفق الحداثة برسم صورة عن الوعد الحق‪ ،‬جرى تمثلها في‬
‫انتصار اإلنسان على الطبيعة‪ ،‬وفي سيادة للعلم وتحكم للتقنية في مفاصل الظواهر‬
‫الطبيعية واإلنسانية‪.‬كما تمت هيكلة الوجود اإلنساني في بنية العقالنية التي أزاحت ــ‬
‫بالتعبير الفيبري ــ السحر عن العالم وعقلنته بحيث تمت السيطرة الكلية على أرجائه‪.‬‬
‫وستنتهي المرافقة بين العقالنية والعلم إلى إنشاء أنظمة التحكم‪ ،‬التي تنوي تحصيل‬
‫الكمال وطرد الشر من العالم‪ ،‬ألم ِ‬
‫تنبن الماركسية على شيطنة اللبيرالية‪ ،‬مستحدثة‬
‫لعالم ثنوي يتركز فيه الشر في قلب أنا الملكية الخاصة‪ ،‬وعليه قدمت الماركسية‬
‫آلية الحرب كطريق إلى تحصيل الكمال الذي تجلى في عرف المادية الجدلية‪ ،‬في‬
‫الشيوعية كتعبير تاريخي وبديل واقعي عن جنة عدن بشرية‪.‬‬
‫هكذا هيكلت الروح التقنو ــ بيروقراطية الموسومة بآلية التنظيم العقالني ــ كمتالزمة‬
‫لفكرة التقدم ــ أنظمة للخير وأخرى للشر‪ ،22‬وسيكون اإلنسان الغربي هو عينه رسول‬

‫‪ .20‬أرنست بلوخ‪:‬فلسفة عرص النهضة‪ ،‬ترمجة إلياس مرقص‪ ،‬دار احلقيقة‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬ط ‪،1980 ،1‬‬
‫ص‪.111 .‬‬
‫‪ .21‬ادغار موران‪:‬إىل أين يسري العامل؟ص‪.35.‬‬
‫‪ .22‬فرنسيس فوكوياما‪:‬هناية التاريخ واإلنسان األخري‪ ،‬ترمجة فؤاد شاهني وآخرون‪ ،‬مركز اإلنامء القومي‪،‬‬
‫بريوت لبنان‪ ،‬دط‪ ،1993 ،‬ص‪.25 .‬‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪348‬‬
‫الخير الذي يبشر بالكمال في كل األنحاء‪ .‬أما عن األنظمة األخرى التي يمكن وصفها‬
‫بالالغربية فتنزوي في مقام النقص‪ ،‬األمر الذي أحدث هزة في أرجاء العالم انتهت‬
‫إلى ضرب من الجنون العقلي انتاب اإلنسانية وهي في طريقها إلى التقدم ‪.23‬كما كسر‬
‫األنظمة الوجودية واألخالقية السائدة‪ ،‬فكان تخريبا لبدائل قد تمد بفرص لنقد الحداثة‬
‫ومنجزاتها وتعويضها بظرف أنثروبولوجي يمكن من الحفاظ على المجال الطبيعي‪،‬‬
‫رعاية للطبيعة واإلنسان‪.‬‬
‫وعموما كان البديل عن المعرفة التأملية‪ ،‬هو المعرفة التحكمية بوسمها األداتي‬
‫حيث يهيمن العمى القيمي والفراغ الموصول بالعدمية‪ .‬حينئذ تثبت منهج الكشف في‬
‫إبستيمولوجيا الحداثة لتتمحور في عملية مزدوجة‪ :‬أوال تفسير الظاهرة وعقلنتها‪ ،‬ما‬
‫فتئ هذا التفسير ليتحول إلى التحقق بمطلب التحكم ومن ثمة إعادة إنتاج الظاهرة‪ .‬لقد‬
‫أصبح العلم وسيليا والمراء في أن الوسيلي ينحو إلى النفعي‪ ،‬إذ ذاك قدرت الحداثة‬
‫صيغة اتسمت بها الحضارة المعاصرة تحددت في جلب المنفعة تحقيقا لمطلب‬
‫السعادة كقيمة إنسية‪ .‬فكان تكثير الرغبات دافعا النشطار التقنية وميالد التقنوعلمي‪،‬‬
‫وعامال لسيطرتها على اإلنسان‪.‬‬
‫يبدو أن التداولية الحداثية تأسست على رباط بين المنفعة والسعادة‪ ،‬وهو «تمام السيادة‬
‫الذي تطلبه عقالنية النظام العلمي ــ التقني الحديث‪ ،‬هو بالذات أن يجعل اإلنسان الكل‬
‫ممكنا ويتمكن من ناصية الكل»‪ ،24‬ك ََّس َر هذا التزاوج بين الممكن واإلمكان في النظام‬
‫اإلبستيمولوجي الحديث أسطورة التحقق بالموضوعية بوصفها وسم المعرفة العلمية‬
‫ذاتها‪ ،‬ليرتهن التقدم العلمي بالتقنية ويجعلها النهاية البينية في نسقه المعرفي‪ ،‬إنه نظام‬

‫‪ .23‬يعرب كل من إدغار موران‪ ،‬وزيغمونت باومان عن أحداث القرن العرشين باجلنون األعظم فقد حتول‬
‫الساسة إىل حيوانات مفرتسة‪ ،‬بل حيوانات بأجنحة أسطورية‪.‬حربان علميتان اضطلع التقدم العلمي‬
‫فيهام بعملية إبداع وتفنن يف الرببرية‪ ،‬أما االستعامر الغريب لشعوب العامل فقد تفنن يف بريريات سياسية‬
‫مرتكبا ملجازر ضد اإلنسانية‪ .‬فيام خيص احلرب الباردة فقد مثلت جتيل للحقد الذي متثله الصيغة‬
‫الثنوية للحداثة‪ ،‬وسيتدحرج عامل ما بعد هذه احلرب الباردة نحو مآزق كربى‪ ،‬أحداث ‪ 11‬سبتمرب‪،‬‬
‫احلرب عىل اإلرهاب ترهيب العامل عرب تطوير األسلحة الفتاكة‪ ،‬حروب ضد الشعوب‪ ،‬ومن ثني هلذه‬
‫الشعوب عن مقاصدها لبناء دول تتجاوز النظام اليعقويب‪.‬‬
‫‪ .24‬طه عبد الرمحن‪:‬سؤال األخالق‪ :‬مسامهة يف النقد اخلالقي للحداثة الغربية‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪،‬‬
‫بريوت لبنان‪ ،‬الدار البيضاء املغرب‪ ،‬ط ‪ ،2000 ،1‬ص ‪.115‬‬
‫‪349‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫للتحكم من أجل السعادة التي تدل على الرغبة‪« ،‬فالتكنولوجيا تسمح بمراكمة الثروات‬
‫بالحدود‪ ،‬وبالتالي بإشباع جدول من الرغبات يتسع على الدوام»‪ ،25‬في عالم الليبرالية‬
‫المستتبة‪« :‬اتركه يعمل دعه يمر» خلق عالما تضاربت نزواته ورسمت صورة عن النهاية‪،‬‬
‫ترجمت في الحروب المعاصرة حيث تتولى تكنولوجيا التسلح زمام المبادرة‪ ،‬زارعة‬
‫والشر في كل مكان إنه رسم ألفضل العوالم الممكنة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخوف‬
‫الشر وإصالح اختالالت العالم يرتكز األصل‬
‫والشر الميتافزيقي‪ :‬نهاية ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ .2‬التقنية‬
‫األنطولوجي للحداثة على طرد األوهام من العالم المرئي واستبعاد العالم الالمرئي‪،‬‬
‫بوصفه أفقا الزما لتفسير العالم وجعله أخالقيا‪ .‬ويبدو أن عملية تنظيف العالم من‬
‫وهم الخطيئة ــ بوصفها جرحا ميتافزيقيا أليما مغروزا في الكنه الوجودي للذات‬
‫الغربية ــ قد استدعت عملية فرز على وفق مقتضى العالم المرئي إنه معيار التحقق‬
‫متحكما‪:‬مالحظة‪،‬تجربة واختزاال رياضيا‪.‬‬
‫انطلق الكوجيتو كفاتحة للحداثة من وجوب تثبيت القطيعة المعرفية والوجودية‪،‬‬
‫بين العالم المرئي والعالم الالمرئي وسيكون االنفصال بينهما من خالل موضعة‬
‫منهج رياضي‪ ،‬مكن من عملية الفرز النسقي للحقيقة والوهم‪ .‬وهي عملية عميقة‬
‫في ممارسة تنظيف الذات من الخطأ ومن الشر الذي يسكن مفاصلها‪ .‬يمكن اعتبار‬
‫الكوجيتو ضربا من ضروب الخالص‪ ،‬مؤديا لعملية تحرير كبرى من عالم الالمرئي‬
‫الذي كان يمثله الالهوت‪،‬كمتن ميتافزيقي تضخم إلى حد انسداد آفاق العقل‪ .‬بهذا‬
‫يضمر التمفصل بين الثنائيات الديكارتية تحرير العالم المرئي من سلطة الميتافزيقا‪،‬‬
‫وسيكون العلم هو أداة التحكم في عالم االمتداد وتطويعه بوسيلة النسق الهندسي‪،‬‬
‫عالم ُط ِر َد ْت منه الروح التي كانت تسكنه أما عالم الميتافزيقا فيبقى رهين معقولية‬
‫الكوجيتو‪ ،‬ومجرد تأمالت ال تؤثر في العالم المرئي بما أن فكرتي اإلله والروح‬
‫تقعان خارج قوانين االمتداد‪ .26‬في حين يؤدي المنهج الرياضي فصل المقال الذي‬
‫يعيد صياغة األنساق ويتحكم بها‪.‬‬

‫‪ .25‬فرنسيس فوكوياما‪:‬هناية التاريخ واإلنسان األخري‪ ،‬ص‪.26.‬‬


‫‪26. DESCARTES: MEDITATIONS METAPHYSIQUES, Cérés EDITION, Tunis,‬‬
‫‪1994, P.12.‬‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪350‬‬
‫يحضر الكوجيتو في قسمة ثنائية لعالمين‪ :‬عالم مرئي وآخر المرئي‪ ،‬وسيعيد‬
‫ديكارت للميتافزيقا مقامها في منظومة المعرفة الحديثة‪ ،‬لكن بما يتواءم والحدوس‬
‫العقلية ذات الوسم الرياضي‪ .‬هكذا أعاد ديكارت ضبط العالم بجهتيه المرئية والالمرئية‬
‫على وفق مستوى التعقيل الذي تفترضه بداهة المعقول‪ .‬وسيغدو تعامل ديكارت مع‬
‫العالم المرئي عبر الضرورة التحكمية‪ ،‬سعيا إلى بناء عالم يتجه إلى الكمال على وفق‬
‫الفوقية اإلنسانية التي عبر عنها الكوجيتو بمقولة‪« :‬أنا أفكر إذن أنا موجود» وإذن أنا‬
‫سيد للطبيعة ومالك لها‪ ،‬تكون العقلنة والجرأة وسيلتي التمكن من النقص بل وتنقيصه‬
‫حتى الفناء‪ ،‬لم يعد الشر كيانا يتغلب على اإلنسان لقد عثر على الوسيلة ألجل تكميل‬
‫العالم‪.‬‬
‫يعتبر إدغار موران هذا التصور العقالني المهيمن على العصر الحديث ضربا من‬
‫العمى العقلي ووقوعا في التبسيط إلى حد اختزال العالم في معادالت‪27.‬وهنا مكمن‬
‫الشر الذي جره هذا النظام الذي اختزل التعقيد في رموز حسابية مرتبا للوجود المعقد‬
‫في نظام صامت يحرض الطبيعة تحريضا غريزيا‪ ،‬حتى أصبح خطرا على الكل بهذا‬
‫«تكمن الباطولوجيا الحديثة للفكر في التبسيط الفائق الذي يعمي األبصار عن رؤية‬
‫تعقيد الواقع»‪ ،28‬معوضا الوجود المحقق باالفتراضي‪ ،‬والمتعين بالشمولي الكلي‪.‬‬
‫هكذا ينتهي مقصد الكوجيتو إلى تخليص العالم من الشر عن طريق التحكم في‬
‫ظواهر العالم‪ ،‬وإعادة إنتاجها على وفق المعقولية اإلنسانية‪ .‬إال أنها ولفرط التبسيط‬
‫الذي وقعت فيه‪ ،‬دمرت العالم بالقنابل النووية وأفسدت الطبيعة بالتلوث واستنزاف‬
‫الثروات‪ ،‬وقسمت دنيا البشر إلى متقدم ومتخلف‪ ،‬سيد وعبد وهي تستشرف إعادة‬
‫تنظيم هذه الدنيا بين من له القوة ومن يفتقدها في ملمح يجعل العالم مرتعا لألقوياء‬
‫فقط‪ ،‬ما تع ّبر عنه فلسفة اإلنسان الفائق الذي انطلق في حلم ميتافزيقي‪ ،‬يرمق الكمال‬
‫بعدما طرد الشر من العوالم الممكنة‪.‬‬
‫تعد التقنية المستلزم التحكمي الذي تؤدي عملية فرز دقيقة وإجرائية‪ ،‬تريد إنتاج‬
‫ظواهر العالم على وفق الطوبي الذي تم تمثله في بداية العصور الحديثة‪ ،‬عالم يخلو‬

‫‪ .27‬ادغار موران‪ :‬الفكر واملستقبل ــ مدخل إىل الفكر املركب‪ ،‬ص‪.15 .‬‬
‫‪ .28‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.19 .‬‬
‫‪351‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫من الخطيئة أي من النقص والشر متخذا مسؤولياته لينحصر الشر عبر التدخل في‬
‫الظواهر والتحكم فيها وإعادة صياغتها وإنتاجها على وفق التصور اإلنساني المرغوب‬
‫والمنظور في عالم الممكنات‪ .‬وليؤدي اإلنسان فيه مهمات اإلله معتبرا العالم سلسلة‬
‫من القوانين متحكمة فكان آلة على وفق منطوق الفيلسوف الفرنسي البالس‪ .‬يحدد‬
‫هذا التصور العقالني للعالم مدى انزياح الشر الميتافزيقي‪ ،‬وقد مثل قلقا وجوديا‬
‫يختبئ في منطق الخطيئة‪.‬‬
‫مع التحسين والتطوير المتتاليين للتقنية أصبحت تكنولوجيا‪ ،‬بمعنى أنها عقل‬
‫يتوحد مع تطور العلم ويمده بوسائل إجرائية من أجل المهمة األولى التي تصورتها‬
‫خال من الخطيئة يتم فيه طرد كل ضروب النقص والشر‪ .‬هكذا حررت‬ ‫الحداثة‪ ،‬عالم ٍ‬
‫الحداثة الغنوصية المسيحية من صفتها الميتافزيقية لتنقلها إلى عالم الظواهر وإذ ذاك‬
‫تنطلق عملية التحرير بمطاردة أشكال الخطيئة‪ ،‬والتوجه نحو صيرورة متسارعة من‬
‫أجل تكميل العالم‪.‬‬
‫قامت الحداثة بتعويض للثنوية المسيحية‪ ،‬الخطيئة والخالص بثنوية النقص‬
‫والكمال مركزة على طرد النقص والشر من العالم من خالل العقلنة وإعادة بناء نظام‬
‫العالم بما يتوافق مع السعي اإلنساني نحو الكمال‪ .‬إنه عالم يعيد فيه اإلنسان خلق‬
‫معايير أخرى‪ ،‬تؤدي مهمة تكميل العالم‪ .‬وفي سبيل تحقيق هذه المهمة حولت الحداثة‬
‫العالم إلى ورشة تنتج فيها الظواهر المصنوعة‪ ،‬وتطرد كل ما ال يتالءم مع خطة الكمال‬
‫المنصوصة‪ .‬ولعل مشروع تغيير اإلنسان تحسينا وتجاوزا صوب الخيار األبدي الذي‬
‫يتصور خلوده‪ ،‬ليعد الدليل القمين على عملية المحورة التي يدور رحاها في األرجاء‬
‫للتغلب على ضروب الشر‪ ،‬أهمها الموت الذي بدا نقيصة يمكن التخلص منها وتركيب‬
‫إنسانية تتحكم في المصير‪ ،‬تحديد القدوم إلى العالم وضبط ساعة مغادرته‪ ،‬بمعنى أن‬
‫هذه العملية الوجودية تصبح رهينة اإلرادة اإلنسانية المطلقة‪.‬‬
‫تكفلت الحداثة بأداء عملية تعويض‪،‬كمال العالم الالمرئي المتواري خلف الموت‬
‫األنطولوجي لإلله‪ ،‬تهيمن فكرته وصورته على العالم المرئي ويوجهانه‪ .‬أما مسؤولية‬
‫تكميل وتجميل العالم فتقع على عاتق اإلنسان‪ ،‬الذي ُح ِد َد ْت مهماته لتكون مهمات‬
‫إلهية‪ .‬ففي العالم المرئي تجسد الشر الميتافزيقي في الشر الفيزيقي ليغدو في متناول‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪352‬‬
‫اإلنسان‪ ،‬عن طريق التحكم في القوانين وإعادة صياغة الظواهر ففكر في الخلود‬
‫باالستنساخ والتحسين والتجاوز باإلنسان إلى حدود المنظورة ظن أنه سيقدر على‬
‫التنكيس في الخلق‪ ،‬ليقضي على الشيخوخة بالتجريب على الجنين فكان الصغير‬
‫المقبل وسيلة بيد الشيخ المدبر‪.‬‬
‫في هذا التدرج من الميتافزيقي إلى الفيزيقي‪،‬كانت التقنية وسيلة تنزيل الكمال‬
‫على العالم‪ ،‬والتدخل في معايير الظواهر تصحيحا وتصويبا‪ .‬واألمر هكذا ستبدي‬
‫فلسفة اإلنسان إرادة تكميل اإلنسان نيال لأللوهية‪ ،‬مستخدمة المعارف العلمية الدقيقة‬
‫والتكنولوجيا من الهندسة الوراثية‪ ،‬إلى تكنولوجيا النانو واإلعالم اآللي‪ .‬والحق أن‬
‫العالم الحديث أدى عملية تعويض كبرى‪ ،‬طرد تصور الميتافزيقا وعوضها بضرب‬
‫آخر لمتافيزيقا تسيرها غنوصية النقص والكمال‪ ،‬أما تحيين الكمال بالتكنولوجيا‬
‫الشر ليتمثله أبديا في عالم مرئي يقيس نفسه على العالم‬
‫فهو تخليص لإلنسان من ّ‬
‫الالمرئي‪.‬‬
‫وإذا كانت الرؤية الثنوية التي تميزت بها الغنوصية القديمة ترى في المادة شرا‪،‬‬
‫فإن الغنوصية المعاصرة تطرد الروح من العالم وتعتبره مصدرا للشر وتعود بعد ذلك‬
‫إلى إضفاء الروح على المادة‪.‬مهمة يؤديها الذكاء االصطناعي في عملية تعويض عن‬
‫الذكاء اإلنساني‪ ،‬وفي تمثل اإلنسان الفائق الذي تخلص من الروح وأبقى على مجرد‬
‫المادة‪ .‬تفكرت في اإلنسان الكامل في محض المادة لتنزوي عملية القضاء على الشر‬
‫في تحويل المادة والتدخل فيها «ويحدد الفيلسوف السياسي أريك فوجيلي السمات‬
‫البارزة للغنوصية الحديثة في عدة نقاط‪ :‬حالة من السخط على وضع اإلنسان في‬
‫العالم‪ ،‬واعتقاد بوجود تنظيم شيء أو شرير للعالم وأمل بإمكانية الخالص من شر‬
‫العالم‪ ،‬وإيمان بالفعل البشري وسيلة لتغيير نظام الوجود ووضع صيغة لخالص النفس‬
‫والعالم»‪.29‬فهل تمكن اإلنسان من تخليص العالم من الشر؟‬
‫في اإلطار العام النكشاف التقنية في صميم الوجود األصيل‪ ،‬تتميز قراءة هيدغر‬
‫للتقنية باالنحصار عن السطح والتوجه نحو الوجود األصيل‪ ،‬لن تكون التقنية أثرا ماديا‬

‫‪ .29‬حجاج أبو جرب‪ :‬مقدمة كتاب زجيمونت باومان وليونيداس دونسكيس‪ :‬الرش السائل ــ العيش مع‬
‫الالبديل‪ ،‬ص‪.8 .‬‬
‫‪353‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫أو أداة يستخدمها اإلنسان إن الفهم المسائل عن التقنية يتسرب إلى ماهيتها‪ ،‬إنها تجلي‬
‫للمكنات الالمتعينة التي يتفرد بها الوجود األصيل أو الدزاين‪.‬‬
‫ليست التقنية إال شكال من أشكال التموضع في الوجود واإلبحار فيه‪ ،‬إنها تدخل‬
‫عما هو غير موجود في الطبيعة وهي المهمة التي يؤديها إجالء الخفي‬
‫في مسار الكشف ّ‬
‫في الطبيعة وفتح الممكنات أمام الوجود اإلنساني والطبيعي‪ .‬ظهور فريد للممكن في‬
‫الوجود اإلنساني األصيل المستفسر والمتسائل‪ ،‬فحتما إن متعلق التقنية لن ينحصر‬
‫في األشياء المادية بل هو ٍّ‬
‫تجل لعمق الماهية‪ ،‬والتي تعد بال شك سؤاال مستمرا ال‬
‫ينقطع ألنه من صميم الوجود بما أنه يعبر عن مصير اإلنسان الوجودي‪ ،‬وعليه تتجرد‬
‫ماهية التقنية من االنتقائية وتتجاوز حدود المنفعة وإن كانت تؤديها‪ .‬بهذا تعبر التقنية‬
‫متخف في الطبيعة‪ ،‬رافعة الغطاء عن‬
‫ٍّ‬ ‫عن االنكشاف‪ ،‬فماهية التقنية هي استدعاء ما هو‬
‫‪30‬‬
‫الممكن‪.‬‬
‫هكذا تكون التقنية استدعاء ومغامرة للممكن‪ ،‬ويبدو السؤال عن طبيعة هذا‬
‫الممكن القادم من وراء هذا االستدعاء أحد التحديات التي تواجه الوجود اإلنساني‪،‬‬
‫مابعد استحضار الممكن التقني وقد انفرط عن عقد الحرية كحقيقة أصلية للدازين‪،‬‬
‫‪31‬‬
‫وماوراء الخلق واإلبداع المستحضر في الطبيعة‪.‬‬
‫إن من نتائج االستنطاق واالستفسار في تحقق ممكنات التقنية هو استحواذ العقل‬
‫الحسابي على ممكنات الطبيعة‪ .‬وألن الوجود األصيل بوصفه أصل هذا االستنطاق‪،‬‬
‫فاقد لكل أشكال المراقبة متبينا أنموذجا من التصور الحر للوجود فقد أصبح هو في‬
‫حد ذاته‪ ،‬ضمن الطاقات المسخرة للتقنية وموضوعا من موضوعاتها‪ .‬غدا اإلنسان‬
‫متميزا بالثنائية‪ ،‬فمن جهة هو كاشف الممكنات ولكنه أصبح ممكنا من ممكناتها ومن‬
‫‪32‬‬
‫ثمة أصبح في قبضتها‪.‬‬
‫لقد تبين أن التقنية لم تكن قرارا يتحكم فيه اإلنسان‪ ،‬بل أصبح مأخوذا في السياق‬

‫‪30. Heidegger: La question de la technique - Essais et Conferences - traduit de Lallmand‬‬


‫‪par André Preaud, TEL, Gallimard, Paris, 1980, P.25.‬‬
‫‪31. Ibid., P.42.‬‬
‫‪32. Ibid., P.43.‬‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪354‬‬
‫العام للتقنية ليستسلم للسيطرة‪ ،‬وجد اإلنسان نفسه منساقا داخل الثقب األسود الذي‬
‫خططته التقنية‪ .‬ولعل فن قتل اإلنسان الذي أداه الدزاين النازي‪ ،‬ليعد أمثل أنموذج عن‬
‫طبيعة الوجود األصيل الذي بينه القلق الوجودي الهيدغري‪ ،‬إذ أصبحت التقنية في‬
‫اإلطار العام للقتل واإلبادة البربرية‪ .‬إن لقاء الوجود الذي تخلص من التحديد بشغف‬
‫الكشف عن الممكنات في الطبيعة‪ ،‬عن طريق الصيرورة والسيولة الوجودية هو الذي‬
‫أدى إلى انحراف التقنية عن مسارها في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬حيث كان هيدغر‬
‫مندمجا في األيديولوجيا الشمولية للنازية‪ ،‬ألن الوجود األصيل يندفع دون مساءلة أو‬
‫تأنيب ضمير‪.‬‬
‫وعموما فقد غيرت التقنية وجه العالم مستنطقة للممكن‪ ،‬فشكلت أنموذجا من‬
‫التأويل الذي يجبر الظواهر الطبيعية على تقديم أسرارها‪ ،‬في سبيل الملكية اإلنسانية‬
‫لكن ما فتئت اإلنسانية أن تحولت إلى ملكية للتقنية ال أدل على ذلك من االنهمام‬
‫بالتعويض الذي تؤديه التقنيات في سبيل تحويل اإلنسان إلى مركب تقني ال يحيا‬
‫إال ضمن الشروط المفروضة منه‪ ،‬ما أدى إلى فتح عالم العبودية التقني الذي يتم فيه‬
‫التحكم في البشر قبل قدومهم إلى هذه الحياة‪.‬‬
‫الغرو أن التقنية ستؤلف متغيرا رئيسيا بدونه ال توجد إمكانية لفهم العالم المعاصر‬
‫وتفسيره‪ ،‬بهذا سيؤلف المتغير المالكون للتقنية‪/‬وغير المالكين لها أحد المؤشرات‬
‫األساسية في ترتيب العالم‪ ،‬وفي تسيير الهيمنة السياسية‪ ،‬ما أدخل الدولة القومية‬
‫الحديثة في سباق محموم من أجل السيطرة التكنولوجية وحرب استنزاف اقتصادي‬
‫جر حروبا ساخنة وباردة للسيطرة على مناطق العالم‪ ،‬فأصبح عالما غير مضياف مجبرا‬
‫الدولة اليعقوبية الحديثة على وضع اإلطار الكوني لعالم من المعايير المفروضة من‬
‫قبل أصحاب التقنية‪ ،‬ضمن هذا اإلطار أصبحت المجتمعات اإلنسانية تراكم في‬
‫الالمعنى وتسعى إليه‪.‬‬
‫أما عن نماذج هذه الدولة المتبقية في هوامش العالم الموصوف بأنه عالم ثالث‬
‫أو عالم متخلف‪ ،‬أي تركة الكولونيالية األولى فقد ولجت العالم ما بعد الكولونيالي‬
‫ليمثل سعيها إلى التكنولوجيا‪ ،‬سعيا في مجال الالجدوى‪ ،‬أو قل سيزيف يتعاون مع‬
‫برومثيوس في عالم أجبر للدخول في عالم التكنولوجيا قسرا‪ ،‬دون أن يجتياز العتبة‬
‫‪355‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫الثقافية للتقنية‪ .‬إن عالم اليوم َف َقدَ أصول التحكم في القيم لتنفلت عقدة التكنولوجيا‬
‫وتصبح في خدمة الدائرة الفردية توسيعا للمجال الفرداني‪ ،‬وهو ما ُت ِّبي ُن عنه‬
‫تكنولوجيات االتصال واستخدامتها‪ ،‬فما المعايير األخالقية التي بإمكانها ضبط عالم‬
‫تتحكم فيه التقنية؟‬
‫يدلل المسح األفقي للفكر األخالقي الراهن غنى النقاش الجاري بين الفلسفات‬
‫حول القيم المنوطة باإلنسانية التي تجاوزت الشر الميتافيزيقي بعدما أصبح العالم‬
‫المرئي هو مرتعها ومقام بقائها‪ .‬ال معايير أخالقية في اإلطار العام لما يصطلح عليه‬
‫زيجمونت باومان الحرية السائلة سوى إيجاد سبيل لالسترخاء األخالقي خاصة أن‬
‫ما يهم الفاعل األخالقي الحديث‪ ،‬ليست أخالقا لالستقامة السلوكية كما تصور كانط‬
‫في عصر األنوار وبناء الصرامة األخالقية التي تفتح الذات على آفاق المعنى العقلي‬
‫للواجب‪ ،‬بعد مغادرة السحر العالم متخلصا من التصور الميتافيزيقي‪ ،‬إن ما يهم هو‬
‫‪33‬‬
‫مزيد من استرخاء الهيدونية المحيطة بالذات‪.‬‬
‫لم تعد القيم لتعطى لإلنسان انطالقا من مبادئ مثالية كونية‪ ،‬بل هي ما يمثل معطى‬
‫مرتبطا بالذات وبالواقع تفعل به الفردانية‪ .‬فهذا كل من جيل دولوز وفليكس غاتاري‬
‫يعتبران أن الرغبة هي القوة الخالقة للقيم‪ ،‬فمن خالل التيارات الحيوية تنفتح سبل‬
‫الحكمة التي ال تنفصل عن قوة الفعل المرتبط بالجسد‪ .34‬وهو حال أجاد الفالسفة‬
‫توضيحه حصريا في مفهوم الحداثة السائلة لبومان‪ ،‬والحداثة الفائقة لجيل لوبفتسكي‬
‫إنما تتشكل التقنية وفق مطالب الفردية الهيدونية‪.‬‬
‫الحاصل أنه لم يعد االعتراف بالمثل األخالقية الكالسيكية دينية وعقلية مسيرا‬
‫للعملية األخالقية‪ .‬لقد زالت القيم بدافع من حركة غير مسبوقة من تحطيم األصنام‬
‫على الطريقة النتشوية‪ ،‬تم فيها تبني الحرية المكتسبة كعامل يؤدي إلى نهاية الوصاية‬
‫األبوية‪ ،‬والبحث عن السعادة للجميع لذلك تحطم المتعة المعاصرة نظام القيم الحالي‪.‬‬

‫‪33. Michel Onfray: ABREGE HEDONISTE, Extrait du Manifeste hédoniste, Librio,‬‬


‫‪Editions Autrement, 2011, P.34.‬‬
‫‪34. Russ Jacqueline et Leguil Clotilde: La pensée Éthique contemporaine, 1 ère Edition,‬‬
‫‪1994, P U F, P .12.‬‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪356‬‬
‫واألمر هكذا‪ ،‬فكيف يكون مصير العالم في اإلطار العام للوحدة بين الرغبة والتقنية‪.‬‬
‫كيف سيكون مصير العالم؟ ألم تتبنى الذات شكال جديدا من الشر الميتافزيقي عندما‬
‫ارتهنت بصورة للكمال المطلق؟‬
‫في عصر نهاية المعنى أحدثت الفردانية تشققا عارما في جدار البينة األخالقية‪ ،‬أوال‬
‫باعتبار الذات هي المحيط الذي ترتكز عليه القيمة وآفاق القيمة‪ ،‬مع ضبابية المعنى‬
‫ومحيط المعنى وسقوط الدالالت القيمية لتصبح متحولة تتغير تغيرا مفرطا وسريعا‪.‬‬
‫فإلى أين يسير العالم في إطار هذه الثنائية المنبثقة‪ ،‬التقنية التي تسير وفق الرغبة‬
‫والفردانية الفاقدة للمعنى التي ترى في التقنية منطقا لخالصها؟ ألم تسجل التقنية أعلى‬
‫مستويات الشر الميتافيزيقي‪ ،‬عندما تحققت بالعدمية وهي ترمي بالقنابل النووية على‬
‫هيروشيما ونغازاكي؟ ألم تستشرف التقنية الفناء وهي تعمل على إدارة موراد الطبيعة‬
‫استنزافا‪ ،‬إفناء لها وتحقيقا لنسب عالية من إبادة لأليكوس بوصفه مسكنا للوجود؟‬
‫‪ .3‬التقنية والشر الطبيعي‪ :‬تكميل الذات والموضوع أدارت المناظرة الالهوتية في‬
‫العصور الوسطى حواراتها حول طبيعة الشر في وصال مع تصور األلوهية‪ .‬فالخيرية‬
‫والكمال بوصفهما محيطا الزما لإلله يقتضيان سؤاال مفصليا‪ ،‬فإذا كان اإلله خيرا لماذا‬
‫يسمح بوجود الشر واآلالم في هذا العالم؟ خاصة أن محيط الثقافة المسيحية يلح على‬
‫تفسير وجود الشر بعدما آلم اإلله إبنه على الصليب غفرانا لخطايا البشر‪.‬‬
‫البد أن يتجه موضوع المناظرة الالهوتية صوب تحليل طبيعة الشر في مستوى‬
‫الوجود‪ .‬هل يكون الشر موجودا لذاته؟ أم هو عارض يحضر قبالة جوهرية الخير‬
‫كماهية إلهية؟ وإذا كان اإلله خيرا فلماذا إذن خلق الشر واآلالم في هذا العالم؟ كانت‬
‫إجابة ليبنتز حول مسألة الشر لتؤدي قناعة في اختيارات محددة أن اإلله قد خلق أفضل‬
‫العوالم الممكنة‪ ،‬مختارا لعالم يحتوي شرورا وأخطارا أقل‪ ،‬وفي حالة ما تدبر البشر‬
‫الكل الشامل لهذا العالم فإنهم سيدركون حتما وجود التناسق‪،‬كما ويدركون أن اإلله‬
‫قد خلق أفضل العوالم الممكنة‪ .‬وفي تحريره لسؤال الشر يقيم اليبنتز رباطا بين الخير‬
‫األخالقي والشر ليكون الشر من فعل اإلنسان‪ ،‬لذلك فإن ما يجعل الشر الطبيعي‬
‫‪35‬‬
‫موجودا هو الشر األخالقي‪.‬‬

‫‪ .35‬ليبنتز‪:‬املونادولوجيا‪ ،‬ترمجة ألبري نرصي‪ ،‬اللجنة الدولية لرتمجة الروائع‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬د ط‪ ،156 ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪357‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫تحمل اإلنسان الحديث المسؤولية عن اإلله الذي غادر العالم‪ ،‬تلك هي الماهية‬
‫التي تقمصها هذا اإلنسان إبان عملية االنبالج األنسانوي‪ ،‬وتلك هي المهمة التي‬
‫يجب أن يؤديها في سبيل التمكن‪ .‬وبما أن السحر قد زال عن العالم فكل القناعات‬
‫الميتافزيقية حول طبيعة األشياء غادرت‪ ،‬وسيتكفل اإلنسان باإلجابة عن ضروب‬
‫األسئلة الالزمة لتحريك المبادرة اإلنسانية‪ ،‬التي كانت في األصل قد غدت إالهية‬
‫وأخصها جدلية الخير والشر‪ .‬لم يعد في وسع الميتافزيقا واألخالق تقديم إجاباتيهما‬
‫الحرة هي من سيتحمل ثقل المهمة‪ ،‬ثقل‬
‫ّ‬ ‫النظرية والتنظرية بل المبادرة اإلنسانية‬
‫استشكلته الفلسفة الوجودية في مفاهيم ومضامين تعبر عن شسوع المبادرة اإلنسانية‬
‫المؤداة في هذا العالم بعد موت اإلله‪ ،‬فكان القلق الغثيان والالجدوى مترادفات عن‬
‫التجربة التي تكابدها الذات‪ ،‬بعدما غادرتها العناية اإللهية وترجيح الخير والشر‪.‬‬
‫ال تمثل الثورة الكوبرنيكية قطيعة جذرية مع تصور الكوسموس بتحول المركزيات‬
‫الكونية‪ ،‬بل مثلت ثورة عميقة في مفهوم طبيعة األشياء فال وجود ألشياء في ذاتها‪،‬‬
‫تفارق العالم فكل ما يحدث يحدث داخله‪.‬أما مسألة التحليل من تفسير وفهم فتجري‬
‫على مستوى العقلنة ليمد التجريب بمنطق التحقق‪ ،‬لذلك فالخير والشر سيتجسدان‬
‫وسيضطلع اإلنسان بعملية تفكيك للعليات‪،‬جلبا للخير ودرأ للشر‪.‬‬
‫شر طبيعي‪،‬‬
‫شر ميتافزيقي أو ّ‬
‫لقد استقدم العلم إجابته التفسيرية لما بدا دهورا على أنه ّ‬
‫وتحول فهم الخير والشر إلى عملية مبادرة عقالنية إنسانية تمر بدرجتين‪ :‬درجة التفسير‬
‫الذي أفصح عن إجابات موضوعية لما هو الشر الطبيعي‪ ،‬فبدا أنه ليس جوهريا بل‬
‫الشر الطبيعي المتعلق‬
‫عارضا يمكن تغييره سيرا نحو الخير‪.‬كانت آخر اإلجابات عن ّ‬
‫بالنقص البيولوجي قد تج ّلت في إجابة الجينوم عن أصل ّ‬
‫الشر الطبيعي‪ ،‬وكذا في فك‬
‫الشفرة الوراثية التي قادت إلى تفسير ظواهر النقص البشري من إعاقة مرض وآالم‬
‫بشرية‪ .‬لقد منحت الثورة الجينية رؤية استشرافية فسرت الشر الطبيعي وإمكانية التغلب‬
‫عليه‪ ،‬لكنها ستتجاوز ذلك إلى عملية تكميل الطبيعة‪ .‬فهل سيحدث مثل هذا التكميل‬
‫شرا طبيعيا؟بافتقاد الطبيعة لمعاييرها األصلية؟‬
‫أما عن الدرجة الثانية‪ ،‬فإنها تخرج من رحم التفسير ليكون التحكم هو عملية‬
‫شر طبيعي‪ .‬ستتمكن التقنية من تقديم‬
‫تصحيحية للنقص الذي بدا على أنه في األصل ّ‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪358‬‬
‫مشروع إزاحة الشر من العالم‪ ،‬وتتطلع إلى عملية تكميل العالم بطرد الشر من كل مواقع‬
‫الوجود‪ .‬إن هذه العملية التي تجريها التقنية‪ ،‬طرد الشر من العالم وتكميله وتجميله‪،‬‬
‫قد دخلت في عملية تغيير جذري للطبيعة من دون توجيه القيم‪ .‬فهل انحاز الشر من‬
‫الشر الطبيعي؟ ما‬
‫العالم؟ أم أن التقنية قد عملت على إحالل شرور أعمق تأثيرا من ّ‬
‫بالشر الصناعي منها التعديل الجيني‪ ،‬التدخل في الجينوم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يمكن أن نصطلح عليه‬
‫االستنساخ وهلم جرا من العمليات التي تجري على مستوى النظام التبسيطي‪ ،‬مع‬
‫تجاهل كلي للتعقيد تبعا لإلبستيمولجيا المورانية‪.‬‬
‫وعموما فقد تكفلت المهمة الحداثية بعملية تكميل العالم ولعل أولى هذه‬
‫المهمات المؤداة في المسار المتسارع للتقدم‪ ،‬هي نزع الشر الطبيعي من العالم‪،‬‬
‫بوصفه نقصا يشوب الظوهر الطبيعية الضعف المرض‪ ،‬التشويه في الخلقة واأللم‪.‬‬
‫التحرر الحداثي تمظهرا للشر الميتافزيقي وذا طبيعة قدرية‬
‫ّ‬ ‫الشر الطبيعي بعد‬
‫لم يعد ّ‬
‫اختبارا للنفس البشرية في مسار التهذيب األخالقي‪ ،‬بل تمكنت االنزياحات الوجودية‬
‫من اتخاذ المبادرة والعمل على طرد الشر من مفاصل العالم‪ ،‬والسعي إلى تغيير الطبيعة‬
‫بما تستصوبه الرغبة اإلنسانية‪.‬‬
‫يكون التخلص من الشر الطبيعي إحدى المهمات الكبرى التي سطرتها الحداثة‬
‫لذاتها‪ ،‬إذ ركزت المناظرة الفلسفية األنوارية على مقولة تغيير الطبيعة وتطويعها لصالح‬
‫الشر‬
‫اإلنسان‪ ،‬متخذة السبل اإلجرائية تيسيرا لهذا التغيير‪ ،‬وتكمن إحدى غاياته في طرد ّ‬
‫الشر من العالم‬
‫الطبيعي من العالم‪ ،‬واستشراف الخير العميم‪ .‬سيرتقي مشروع انزياح ّ‬
‫وجعل العالم مكانا للخير والكمال مع التطور العلمي والتحكم التكنولوجي‪ ،‬الذي‬
‫اليعرف الخير والشر بما أنه يشتغل خارج حدود التقييم‪ ،‬تقوده قوى كبرى منها العلماء‬
‫الذين يتبارون لنيل حظوة الكشف واالختراع‪ ،‬ومنها السياسية التي تأتمر بمنطق الغاية‬
‫تبرر الوسيلة‪ .‬فما كان إال أن توجه اللوغوس التقني إلى خلق الشر وتوزيع الشرور‬
‫في العالم الطبيعي‪ ،‬حتى تخلت الطبيعة عن معاييرها الضابطة بدا هذا في اتساع ثقب‬
‫األوزون‪ ،‬وموت الحياة‪ ،‬وتلوث المجاالت الطبيعية‪ ،‬وانقراض الكثير من األحياء‪.‬‬
‫وعليه أصبح الخوف من التقنية ظاهرة إنسانية ومجاال حضاريا‪ ،‬يهدد حضارة‬
‫اليوم بالنهاية الكاليبوكسية‪ .‬يكفي أن نفكر في الكائنات المعدلة جينيا‪ ،‬الطاقة النووية‪،‬‬
‫‪359‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫واالستنساخ‪ ،‬وتكنولوجيا النانو حتى يكون الشعور بالنفور والخوف‪ .‬لذلك ُتت ََه ُم‬
‫التقنية بأنها جالبة للشرور بسبب تحويلها لمعايير الطبيعة‪ ،‬بمعنى أنها تقتل الطبيعة‬
‫وتفكك مفاصل الوجود كما أنها تعطل التوازنات الطبيعية وتهدّ د البيئة بالفناء‪ .‬ولعل‬
‫ما يزيد األمر غموضا هو أنها تحولت إلى ميدان تجاري يتوزع بين األيدي الخفية‬
‫التي تُسعد‪ ،‬بالمرور عبر النوافذ واألبواب بغية الربح الخالص‪ .‬بمعنى أن التقنية قد‬
‫أصبحت وسيلة وغاية في إطار نظام نيوليبرالي فاقدة لإلحساس‪،‬كما أنها تحالفت مع‬
‫أيديولوجيات وضعية اقصائية تطرفت في اختيار الممكنات التقنوعلمية مثل فلسفة‬
‫‪36‬‬
‫اإلنسان الفائق بحيث «أصبحت الشرور قوية وكثيرة ال يمكن انكارها»‪.‬‬
‫تمثل التقنية خطرا على اإلنسانية عندما تفكر في تعديل اإلنسان تعديال وراثيا‪ ،‬أو‬
‫في األقل حين تعمل اليوم على خلقه قويا على وفق المعايير االصطناعية المشكلة‪،‬‬
‫وهي بهذا تفقد اإلنسانية الشعور بالقيم تعميقا للفردانية‪ .‬المستنسخ أو المعدل وراثيا‬
‫ثم هذا اإلنسان الفائق يفتقدون كليا للشعور المجتمعي‪ ،‬بل لن يفقهوا معنى الروابط‬
‫االجتماعية‪ .‬والحق أن القضاء على اإلنسانية من خالل هذه المتغيرات الموسومة‬
‫بالعقالنية المفرطة تنبئ بالموت العاجل لإلنسانية عن طريق موت رحيم‪ ،‬ال ينتظر‬
‫حالة العجز بل يتخلل الوجود اإلنساني منذ البدء‪.‬‬
‫بهذا كانت الصيرورة االنكشافية التي قامت بها التقنية تبعا للمواضعة الهيدغيرية‪،‬‬
‫شيء تجاوز اإلنسان ولم يعد بإمكانه التحكم فيه لم يكن هذا الوجود األصيل الذي‬
‫يستفسر ويستنطق‪ ،‬ينتج في اإلطار العام للمسار الذي سلكه التقدم غير المراقب سوى‬
‫وجود تملص من القيم لذلك انتهى االستنطاق إلى بناء وجود زائف اضطلعت بإنشائه‬
‫اإلمكانات التقنية‪ .‬لم يكن المسار الذي اتخذته التقنية مسارا تصويبيا ليتجه إلى استثارة‬
‫ممكنات الخير‪ ،‬إذ اتجهت هذه الممكنات إلى تكسير الوجود اإلنساني في هولوكست‬
‫أكبر قامت به األيديولوجيات الشمولية‪ ،‬ومنها الوجود األصيل الذي يتمثله هيدغر‪.‬‬
‫إن عملية التحريض للممكنات التي تؤديها التقنية في اإلطار غير المراقب للمجهود‬
‫األصيل هو الذي حرض على االنفكاك‪،‬كما أشار هانس يوناس‪ .‬فقد تجاوزت اإلنسانية‬

‫‪36. Olivire Rey: LEURRE ET MALHEUR DU TRANSHUMANISME, P.64.‬‬


‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪360‬‬
‫حدود الوجود المؤهل للحفاظ على الكيانات الطبيعية واإلنسانية‪ ،‬ذلك أن انصهار‬
‫المشروع الوجودي في التقنية هو أيضا من أحدث محرقة الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ومن‬
‫جعل التقنية تنفلت لتحول اإلنسان إلى عبد لها تشكل وجوده دون مشاورة فقد ُأ ِخ َذ بها‬
‫تطويعا ولم يعد مالكا لها بل مملوكا‪ ،‬وهنا يتمكن الشر من ترسيخ ذاته في الوجود فما‬
‫تصوره اإلنسان على أنه تحرر من التبعية للطبيعة تحول إلى عبودية للطبيعة المصنوعة‪.‬‬
‫‪ .4‬التقنية والنهايات الغائية‪ :‬تخليق التقنية تشكل العصر الحديث على وفق الثنائية‬
‫الكانطية وهي مفارقة عميقة‪ ،‬تفصل الفينومان عن النومان مرسخة لحدود بينهما‪.‬‬
‫انفصال بين العلم واألخالق‪ ،‬مكن من سيادة الحتمية والعماء القيمي في عالم الظواهر‪،‬‬
‫ثم انتقل للفصل في أمر الظواهر في ذاتها مميزا أياها بالجوهرية الخالصة‪ ،‬حرية‪،‬إرادة‬
‫خيرة‪،‬وتعميق لالستقاللية ثم تشخصن يعلي من الفوقية اإلنسانية‪ .‬وهنا تخلق الحداثة‬
‫عوالم الخير والشر وتضع معايير لترتيب العالم أخالقيا‪ ،‬تبعا لمعتقد الكوجيتو المشرع‬
‫للمركزية الذاتوية‪.‬‬
‫هكذا تتجزأ العوالم بين الطبيعة واألخالق‪ ،‬فما ينبغي أن يكون ال يعنيه ما هو كائن‪،‬‬
‫كل يجري على وفق قوانينه‪ .‬هي إذن الروح األنوارية التي تمثل فيها اإلنسان على أنه‬
‫حامل لروح الأدرية فيما يخص عالم األخالق‪ .‬لقد تشقق الوجود وبقي السعي إلى‬
‫الكشف عن الممكنات‪ ،‬في بنية جامعة بين العلم الحديث والتقنية‪ ،‬مع تواري الوظيفة‬
‫التي يجب أن يؤديها النومن في تنظيم العالم‪ ،‬بما أنه ركز على االستقاللية التي تقود‬
‫صوب الفردانية‪.‬‬
‫سيكون من ثوابت الحداثة التشريع الذاتي ألخالق الذات بوصف اإلنسان حامال‬
‫للقانون‪ ،‬ولن يكون الوجود المفارق إال واجب وجود يكمل الوجود األخالقي‪،‬‬
‫المنفصل عن هذا الوجود المفارق‪ .37‬أما عن ارتددات هذا المنطق األخالقي الجديد‬
‫فتمثلت في مواجهة الفاعل الغربي للفراغ والعدمية‪ ،‬وهذا أثناء سؤاله حول ما الذي‬
‫يجب علي أن أفعله وما الغاية من ذلك؟‬
‫أدت الكانطية وظيفة أساسية فيما يخص هيكلة أخالق اإلنسان الحديث‪ ،‬عندما‬

‫‪ .37‬كانط‪ :‬أسس ميتافيزيقا األخالق‪ ،‬ترمجة فتحي الشنيطي‪ ،‬موفم للنرش اجلزائر‪ ،‬د ط ‪ ،1991‬ص‪.338.‬‬
‫‪361‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫فصلت بين األبعاد‪ :‬الطبيعة‪/‬األخالق‪ ،‬الالمتعالي‪/‬المتعالي‪ ،‬العلم‪/‬األخالق‪ .‬ال‬


‫جدل بأن هذه االنفصاالت قد مكنت من االستقالل الذاتي للفرد‪ .‬فلم تعد مبادئ‬
‫األلوهية تمتلك طاقة التوجيه‪ ،‬بل يتمركز هذا التوجيه في الفردية المستقلة‪ .‬فال يعبر‬
‫الواجب إال عن مبادئ يجب أن تطيعها الذات المستقلة بطريقة حتمية‪ ،‬أي بدون‬
‫شروط إنسانية‪ 38‬ودون التشكيك في العواقب المحتملة ألفعاله‪.‬‬
‫اتجهت القسمة الثنائية للعالم إلى بيان أخالقي يعتبر االستقاللية المقود الذي يدير‬
‫عملية األخلقة العامة‪ .‬وعند فحص ماهية االستقاللية تبدو أنها رديفة الفردانية‪ ،‬وفي‬
‫هذا اإلطار نمت روح استرخائية تعني عند جيل لوبفتسكي موتا للواجب األخالقي‪،‬‬
‫وحلوال للهيدونية في مقام الصرامة األخالقية‪ 39‬التي كانت تمثلها مراحل التخلق بعدما‬
‫تم تجاوزها بفعل نظرية التقدم وقتل النماذج األخالقية‪ ،‬أو كما يؤكد بومان نحن في‬
‫عصر السيولة إذ ُف ِقدَ ْت الصالبة ولم يعد هناك معيار يضبط التحكم اإلنساني‪.40‬كيف‬
‫يمكن للفردانية أن تؤدي مهمة تخليق التقنية؟ مع تواري األنموذج األخالقي الكوني‪.‬‬
‫هل يمكن ضبط التقنية لكي ال يحل المحظور؟ محظور صوره هانس يوناس في‬
‫مستقبل قاتم تموت فيه الطبيعة واالجيال القادمة‪.‬‬
‫في الصياغة الشاملة لمطلب أخلقة التقنية سيكون من غير األجدى البحث في‬
‫معايير أخالقية بعينها‪ ،‬إنما تؤلف المساءلة اإلبستيمولوجية عند إدغار موران الثابت‬
‫األساسي ألنسنة التقنوعلمي‪ .‬فال مناص من أداء عملية نقد شاملة للنظام الذي ثبتته‬
‫عقالنية القرن الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،‬لقد أحالت هذه العقالنية إلى التبسيط مع‬
‫اندغام كلي للطبيعة المعقدة للكون‪ .‬فما كان لنظام معرفي يترقب الحساب الرياضي‪،‬‬

‫‪ .38‬لقد خضعت األخالق الكانطية إىل أقىص درجات العقلنة املنفصلة عن األخالقية فحذفت من اإلنسان‬
‫قوته وطاقته االنفعالية‪.‬كام فصلت بني قدرات الذات‪ .‬ال يمكن أن يكون اإلنسان إنسانا إال إذا حركته‬
‫الرغبة فيام بعد اداء الفعل‪ .‬إن منطق اإلرادة اخلرية التي تفعل عىل وفق أمر القانون األخالقي‪ ،‬هو‬
‫منطق اإلنسان اآليل الذي يفتقد للامهية اإلنسانية‪ ،‬فال غرو أن األفعال التي أداها النازيون يف احلرب‬
‫العاملية الثانية هي أمر من اإلرادة اخلرية «جيب ألنه جيب»‪.‬‬
‫‪39. Lipovetsky Gilles: Le crépuscule du Devoir, Folio Essais Gallimard, 1992, P.55.‬‬
‫‪ .40‬زجيمونت باومان‪:‬احلداثة السائلة‪ ،‬ترمجة‪ ،‬حجاج أبوجرب‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث والنرش‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،2016‬ص‪.42.‬‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪362‬‬
‫ويؤسس المعادالت اختزاال للطبيعة المركبة أن يؤسس التوازن في هذا العالم‪41.‬بل‬
‫باألحرى مكن من روح باردة اجتاحت الكون وفصلت في أمر القيم‪ ،‬لتصبح خاضعة‬
‫للمادة‪.‬‬
‫يكون العقل األعمى الذي ال ينظر إال إلى النظام البسيط وتسلسل الوحدات‪ ،‬من‬
‫دون أن يرمق التعقيد الكائن في العالم هو من أحدث هول الكارثة التي واكبت الحداثة‪.‬‬
‫وعليه تقف عملية تخليق التقنوعلمي عند إدغار موران على مساءلة النظام المعرفي‬
‫الغربي جملة‪ ،‬ومن ثمة االعتراف بمنظومة التعقيد بوصفها النسيج الذي يتركب على‬
‫وفقه العالم‪ .‬فال يجلي التبسيط سوى الظاهر المحدد بنظام عقالني فج‪ ،‬وال ينظر إال‬
‫إلى السطح في حين تخفي الظواهر الطبيعية واإلنسانية االجتماعية تركيبا معقدا‪ .‬إذ‬
‫أحدث التركيز على مجرد التبسيط العمى العقلي فأتبعه العمى األخالقي‪ ،‬بحيث يكون‬
‫السؤال عن مصير العالم سؤاال مركزيا وقد سيرته روح التبسيط‪ .‬بهذا تؤلف المراجعة‬
‫‪42‬‬
‫االبستيمولوجية أس تخليق التقنية عن إدغار موران‪.‬‬
‫تتسع مسألة تخلق التقنية أو أنسنتها عند الفالسفة الذين عايشوا الحرب العالمية‬
‫الثانية‪ ،‬فعند هؤالء يكون أداء هذه العملية عبارة عن صيرورة نقدية وممارسة تأويلية‬
‫لمفهوم العقالنية‪ .‬إنها مهمة مؤداة‪ ،‬تبينت عند أقطاب مدرسة فرنكفوت لتتجلى‬
‫المفارقة بين عقلين أداتي وآخر تواصلي عند يوغن هابرماس‪.‬‬
‫يكون العقل التواصلي بديال عن العقل األداتي‪ ،‬تلك هي سيرورة النقد الذي مارسه‬
‫هابرماس وأرسى دعائمه من خالل فلسفة التواصل‪ ،‬إن العقل التواصلي نتج عن العقل‬
‫النقدي وهو عقل مجاوز للحدود الضيقة التي فرضها الطابع اإلجرائي للعقل األداتي‪.‬‬
‫كما هو بديل عن العقالنية التقنية ذات النزعة العلماوية المتمركزة حول الطابع المطلق‬
‫للعقل الذي يلغي كل ما هو معياري‪ ،‬ما أدى إلى استبعاد كل ما هو أخالقي‪ .‬إن الفعل‬
‫التواصلي يبتعد عن ممارسات العقل األداتي القائم على المصلحة بل هو فعل مبني‬
‫على االتفاق وبعيد عن ضغط العنف‪ ،‬إنه ٍّ‬
‫تجل لعقالنية كونية وبنية منطقية تتيح اعتماد‬

‫‪41. Morin Edgar et Le Moigne Jean - Louis:Lintelligence de la Complexité, Editions de‬‬


‫‪Lhmattan, 1999, P. 47.‬‬
‫‪42. Morin Edgar: Science sans Conscience, Fayard edition duSeuil, 1990, P.89.‬‬
‫‪363‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫البرهان قاعد َة تأسيس نقاش منفتح بين أعضاء المجتمع‪ ،‬وهو ما يؤكد بأن الحقيقة ال‬
‫‪43‬‬
‫تقبل إال بواسطة التفاهم باللغة‪.‬‬
‫جرها التحالف المزدوج‬
‫أما كارل أوتو آبل فقد ب ّين قدر المخاطر واآلثار السلبية التي ّ‬
‫بين العلم والتقنية‪ ،‬فدعا إلى تأسيس أخالق نظرية أساسها إمكان ترانستندالي‪ ،‬يقود‬
‫إلى اتفاق الجماعة في عصر العلم‪.‬كما يفتح نقاشا حول المصاعب النظرية التي تحول‬
‫دون قيام أخالق نظرية‪ ،‬لينتقل آبل بعد ذلك للدعوة إلى ضرورة تأسيس أخالق كونية‬
‫ماسة لمثل هذا التأسيس خاصة داخل الوعي الوضعي المحيط‬
‫مشيرا إلى أن الحاجة ّ‬
‫بالتصورات الفلسفية العلمية المعيق لتأسيس أفق معياري يحل أزمة الوعي األخالقي‬
‫الغربي الحديث والمعاصر‪ .‬فاإلنسانية اآلن وخالفا ألي وقت آخر بحاجة ماسة إلى‬
‫إنشاء أخالق كونية تتفق حولها ردا لوضعية أنتجها التحالف بين العلم والتكنولوجيا‪،‬‬
‫«لذلك فإن الحاجة إلى تأسيس أخالق تفرض نفسها‪ ،‬في زمان التحالف المسيطر لكل‬
‫من العلم والتقنية على مستوى العالمي»‪.44‬‬
‫هكذا سعى آبل إلى تأسيس أخالقيات العلم مستدال على عدم حيادية المنطق‬
‫والعلم قيميا‪ ،‬بل هما يفترضان أخالقا‪،‬كما تحيل عدم الحيادية إلى وجود إمكان قبلي‬
‫اتفاقي بين الجماعة العلمية فهي تتفق فيما بينها بواسطة المنطق اللغوي والتواطؤ بال‬
‫عنف‪ ،‬وعليه فإن (يجب عليك) ترتبط بموضوعية العلم»‪ ،‬فالبرهان من حيث صالحه‬
‫المنطقي‪ ،‬يحيل دوما على جماعة مفكرين يتوصلون إلى تفاهم بين أشخاصهم»‪.45‬‬
‫يتواطأ هانس يوناس على بنية أخرى للواجب أنها المسؤولية األخالقية اتجاه‬
‫الوجود‪ ،‬ونعني بالوجود هنا الطبيعة واألجيال القادمة‪ .‬ويعبر مبدأ المسؤولية عن حالة‬
‫استباقية اتجاه مجهول قادم يظهر عند يوناس من جراء اآلثار السلبية الناجمة عن التقدم‬
‫التقني‪ .‬هي أخالق تعتني بالحماية والوقاية أخالق مستقبلية تهتم بما سيحصل في أفق‬
‫الزمان‪ ،‬ويتحمل مسؤولية درء األخطار القادمة من جراء التقدم التقنوعلمي‪.‬‬
‫وتعني المسؤولية المستقبلية ضرورة حماية الطبيعة المتضررة بفعل خطر التقنية‪،‬‬

‫‪43. Habermas Jurgen: Le discours philosophique de la modernite, Tel gallimard, P.230.‬‬


‫‪44. Jacqueline Russ Clotilde Leguil: La Philosophie Ethique Contemporaine, P 20‬‬
‫‪45. Ibid, P.23.‬‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪364‬‬
‫ودرء الخطر في المستقبل عن األجيال القادمة ومن الواجب التفكير في بيئة نظيفة‬
‫وأرض صالحة للحياة لهذه األجيال‪ ،‬ما يعني أن المسؤولية اليوناسية مسؤولية مستقبلية‪،‬‬
‫إذ «الواجب الجديد يتجه أكثر فأكثر للسياسة العامة منه إلى السلوك الفردي»‪ .46‬لعل‬
‫هذا األمر يؤدي إلى االهتداء إلى سبيل ندرأ بواسطته الكارثة القادمة‪ ،‬وهو ما يعني‬
‫للشر القادم وافتراضه بدل الخير‪ ،‬هي المسؤولية التي تحد من المصالح‬
‫معرفة سابقة ّ‬
‫المتعاظمة ومن ثمة تحدّ من المدّ التقنوعلمي على الطبيعة‪.‬‬
‫ويؤدي مصطلح األيكولوجيا العميقة ــ بوصفه نحتا دالليا‪ ،‬أنتجه الفيلسوف‬
‫النرويجي آرن نييس ــ مهمة نقدية لهذا التحالف بين التقوعلمي والروح النفعية للنظام‬
‫الليبرالي‪ .47‬يرى الفيلسوف نفسه أن أخالق البيئة السطحية تهتم ببعض القضايا مثل‬
‫التلوث واستنزاف الموارد البيئية‪ ،‬إنها ناتجة عن المصلحة اإلنسانية وال تعني الطبيعة‪،‬‬
‫أما األيكولوجيا العميقة فتتعدى التصور البراغماتي لهذه األيكولوجيا لتكون محال‬
‫للتقدير الذاتي‪.‬‬
‫إذن تختلف األيكولوجيا العميقة عن الفلسفة الفردية الحديثة ذات النزعة‬
‫االستقاللية المؤلفة لمنطق ثنائي اإلنسان والطبيعة فتركز األيكولوجيا العميقة على‬
‫إحداث الندّ ية بين اإلنسان والطبيعة بما يشتركان فيه من منطق الحياة ‪ .48‬فلن تكون‬
‫الحياة اإلنسانية كاملة متناغمة وجديرة بالعيش إال إذا ارتبطت بالطبيعة‪ ،‬فهي مصدر‬
‫للحكمة العميقة التي تمدّ اإلنسان بالعوامل القمينة بزحزحة األنانية والفردانية‪ ،‬ذلك‬
‫أن هذا االرتباط بين اإلنسان والطبيعة‪ ،‬يمكن من التوحد مع شيء عظيم يفوقه في القوة‬
‫والقدرة‪ .‬ففي حضن الطبيعة يجد اإلنسان وحيا أخالقيا يمكن من األخوة والتضامن‬
‫العميقين‪ ،‬مع كل من يستمد مصدر وجوده من هذه الطبيعة‪ ،‬سواء أكان عالم اإلنسان‬
‫أو عوالم الكائنات الحية عامة ‪ ،49‬هي الروحانية التي تدرأ عن الطبيعة شر التقنية‪.‬‬
‫يحتل سؤال األخالق مركزية فلسفية في الحقب الراهنة‪ ،‬دليل ذلك اعتبار األخالق‬

‫‪46. Hans Jonas: Principe De Responsabilité Une éthique Pour La Civilisation p, 141,‬‬
‫‪47. Métayer Michel: La philosophie éthique «Enjeux et débat actuels» éditions du‬‬
‫‪renouveau pédagogique Montréal Canada, p.310.‬‬
‫‪48. Ibid., p.311‬‬
‫‪49. Ibid., p 3.10.‬‬
‫‪365‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫التطبيقية المهمة الفلسفية األكثر إلحاحا‪ .‬فليس أمام اإلنسانية سوى ترجيح كفة‬
‫المعايير ضمن منظومة التقنوعلمي وتكون األخالق الحيوية أنموذجا عن السؤال‬
‫الملح لألخلقة‪ ،‬بيد أن مثل هذه العملية يحول دون أدائها أمران‪ :‬أولهما هو الفراغ‬
‫الهائل الذي ثبتته العدمية‪ ،‬منتجا للتعدد المعياري والتنازع الفرداني‪ ،‬جاعال من‬
‫الديموقراطية حدا فاصال في المساءلة األخالقية‪ .‬أما ثانيهما‪ :‬فهو طبيعة النظام في حد‬
‫ذاته‪ ،‬وهو نظام يقوم على التحكم والسيطرة‪ ،‬النظام النسقي التقنوعلمي الذي أصبح‬
‫نظاما شامال متحكما يقوم على المنفعة‪ ،‬ويؤدي مهمات للهيمنة‪ ،‬فما أداه النظام النازي‬
‫هو طاعة للقانون األخالقي‪ ،‬المؤسس على «يجب ألنه يجب»‪ ،‬ضمن الهيكل العام‬
‫للعقالنية البيروقراطية‪ .‬فكيف يمكن أخلقة التقنية‪ ،‬والتقليل من الشرور المنبثقة عن‬
‫العمى المميز لها؟‬

‫خاتمة‪ :‬قيد لبرومثيوس‬


‫لم يعد ممكنا تعريف الكينونة بوجه عام بمنأى عن الخطاب التقنوعلمي‪ ،‬فالعلم‬
‫الغربي إجرائي تطبيقي وسمة جذرية في المشروع الكوني للحداثة‪ ،‬بدونه تنتهي مهمتها‬
‫وتنقضي‪ .‬وألن هذا األنموذج من العلم مرتحل عن طريق تطبيقاته التقنية فارض لها‬
‫في هيكل الدولة الحديثة بوصفها بروقراطية البنية‪ ،‬فقد انقسمت العوالم البشرية إلى‬
‫عوالم تمتلك سر التقنية‪ ،‬وأخرى تستهلك التقنية تلك التي تسعى وتسعى من دون‬
‫السر ولكنه يزداد غموضا وتخفيا‪ .‬فماذا تعني التقنية في هذه العوالم‬
‫جدوى‪ ،‬تطارد ّ‬
‫المستهلكة لألفكار واألشياء؟ هل تعبر عن طاقة محررة أم هي عامل يزيد في عبودية‬
‫هذه العوالم الهامشية؟ عوالم تطال المسافات التي تفصلها عن المركز وتتباعد كلما‬
‫تقدمت التقنية‪ ،‬لتزداد تراجعا وانسدادا في مسارها التقدمي الموهوم‪ .‬فهل تمثل التقنية‬
‫خيرا أم شرا في عوالم الهامش؟‬
‫هي عوالم اضطرت إلى تقمص األنموذج التاريخي الغربي‪ ،‬بفعل الكولونيالية وما‬
‫بعدها‪ .‬لتصبح رهينة أيديولوجيا المكننة المتبدلة والتسلح المفرط فعلقت في التجديد‬
‫المتوالي للتقنية‪ ،‬ومن ثمة فهي تستنزف خيراتها ومقدراتها‪ ،‬بل وجودها ككل من دون‬
‫نيل حظوة سر التقنية‪ .‬تعبر هذه العملية عن فعل ال ٍ‬
‫مجد يجري بال هوادة‪ ،‬في سبيل‬ ‫ّ‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪366‬‬
‫رفاهية المركز‪ ،‬الذي يمعن في استعباد البشر بوسيلة التقنية‪ .‬لكن ما وراء التقنية توجد‬
‫هناك العقالنية التي ولدت الصمت والعمى حيث االسترقاق واالستحواذ‪ .‬إذن يتوجه‬
‫السؤال عن خيرية التقنية أو شريتها إلى العقالنية التي انسلت التقنية من رحمها‪.‬‬
‫انطلقنا من سؤال محوري‪ ،‬هل التقنية خير أم شر؟ وقد تأكد لدينا أن مثل هذا السؤال‬
‫ال يستوجب الحكم المعياري‪ .‬فالتقنية في حد ذاتها ال توصف بالخيرية أو الشرية‪ ،‬بل‬
‫في تحقيق لمناط الفعل التقني‪ ،‬يمكن إصدار الحكم القيمي‪ .‬فإلى أين صارت أفعال‬
‫التقنية في تبديلها للظرف البشري؟‬
‫قد ننال اإلجابة ونؤكد أن التقنية لم تنجز سوى الخير‪ ،‬بنفس النبرة التفاؤلية‬
‫ألرنست بلوخ فقد حررت اإلنسان من قهر الطبيعة وأمدته بطاقة متجاوزة نحو‬
‫الممكنات‪ .‬إذ تكفي نظرة بانورامية للوضع البشري المادي في قرون الحداثة لنتلقى‬
‫اإلجابة اإليجابية‪ ،‬مؤكدين أن التقنية قد جلبت الخيرات الجمة لإلنسانية‪ ،‬إذ تمكنت‬
‫أفعال التقنية من تغيير الظرف الوجودي للعالم الحديث‪ ،‬مقدمة لحصيلة تقدمية لم‬
‫ينلها اإلنسان طول تاريخ مكوثه على هذه األرض‪.‬‬
‫انطلقت التقنية في عملية متسارعة لتبديل وجه العالم و أثناء ذلك خلقت عوالم تاه‬
‫فيها اإلنسان واحتدم صراعه مع ذاته ومع الطبيعة‪ .‬هي عملية تفعيل لإلمكانات التي يمد‬
‫بها الوجود نحو الممكنات المحتملة وفي اختبار لطبيعة هذا الوجود الذي نراه وجودا‬
‫سقيما‪ ،‬أثار النزاع وأدى إلى فظائع لم تكن لتدرك في المعروف اإلنساني مثل جريمة‬
‫القنبلة النووية وما بعدها‪ .‬لكن من أين ينحدر هذا السقم؟ إنه ينحدر من بينة العقالنية‬
‫المسيرة للعملية برمتها‪ ،‬بما أنها تؤدي إلى عدمية كل ضرورب العقالنيات التي من‬
‫الواجب أن ترافقها‪ ،‬حتى يتحول الوجود إلى وجود رحيم يدرأ القسوة بالرحمة‪.‬‬
‫تبدو التقنية وسيلة لمكافحة الشرور والمآسي لكنها جلبت مآسي وشرور لم‬
‫تشهدها اإلنسانية‪ ،‬حتى في عصور توحشها وبربريتها‪ ،‬لماذا؟ تتطلب اإلجابة تنقيبا‬
‫أركيولوجيا في العقالنية التي تولدت عن الممارسة النقدية للكوجيتو عن ماذا يعبر‬
‫الكوجيتو؟ إنه ليس سوى األنا فريدا صامتا ووحيدا شرع في إعادة ضبط المعرفة‬
‫والوجود‪ ،‬بالنظر إلى وعي فرداني أقصى المحادثة سواء مع إله رحيم أو إنسان حكيم‪.‬‬
‫من هنا استقت العقالنية المنبثقة من الحوار الذاتي مع األنا طبيعتها‪ ،‬التي غارت فيها‬
‫‪367‬‬ ‫رشلاو ةينقتلا‬

‫األخالقية وانطفأت‪ .‬فكان الوجود ثنائية‪ ،‬نسيت فيه الروح وبقي االمتداد تحت توجيه‬
‫الملك والسلطان فتولد البطش مرافقا لهذا الكوجيتو‪.‬‬
‫شرا في حدّ ذاتها بل وسيلة العقالنية لمدّ قسوتها ملكا واستحواذا‪.‬‬
‫لم تكن التقنية ّ‬
‫بما أن األنا يشعر بمركزيته الفريدة فهو فاقد لمنطق الحدود األخالقية‪ ،‬لذلك واصل‬
‫التجاوز إلى أن أهلك الحرث والنسل‪ .‬من هذا الباب استخدمت النازية مثال بوصفها‬
‫ٍّ‬
‫تجل لفعل عقالنية الحداثة‪ ،‬أرقى مستويات التقنية لتسيير الجرائم ضد اإلنسانية كما‬
‫نسجت صورة للتعالي العرقي‪ ،‬ثم استخدمت التقنيات المتطورة في عملية فرز للبشر‬
‫بين األقوياء والضعفاء واألسياد والعبيد‪ ،‬لتضع موازين للحياة والموت «لم تكن اإلبادة‬
‫في عالقتها بالحداثة حالة شاذة‪ ،‬أو حالة من حاالت تعطل العقالنية بل إنها تكشف ما‬
‫يمكن أن تفعله النزعات العقالنية الهندسية الحديثة»‪.50‬‬
‫لقد تحولت العقالنية ــ بفعل التمركز الذاتوي ألنا الكوجيتو ــ إلى معيار كوني‬
‫مطلق فاصل‪ ،‬بين الحق والباطل بين العقالني والالعقالني‪ .‬فالعقالنية التي تؤدي مهام‬
‫الملك االستحوذ والقسوة‪ ،‬تكون وحدها صالحة لإلنسانية‪ .‬فما طبيعة العقالنية التي‬
‫ولدت الظاهرة الكولونيالية‪ ،‬وأبادت شعوبا وقبائل من أجل إتمام السيادة والملك؟‬
‫الشر الذي تمارسه التقنية وليد العقالنية التي انفصلت عن األخالقية‪،‬‬
‫الحاصل أن ّ‬
‫واعتدت بنفسها إلى أن ظنت أنها تمتلك القوة الفائقة‪،‬كما أنها تقمصت كينونة إالهية‪،‬‬
‫فسطرت منافع عاجلة قريبة‪ ،‬وجعلت الحق رهين هذه المنافع‪ .‬ما طبيعة هذا العقل‬
‫الذي أتاح لنفسه التصرف تصرفا مطلقا؟‬
‫جعل برغسون من العقل قوة موازية للغريزة تضاهيها في قدرة المعرفة‪ ،‬العقل‬
‫خاصية اإلنسان والغريزة خاصية الحيوان وكنه العقل األصلي‪ ،‬يتبين في عدم قدرته‬
‫على إدراك القيم من جهة أخرى تكون طاقة االنفعال أو الحدس هي القمينة بمعرفة‬
‫القيم‪ .51‬وسيسير طه عبد الرحمن سالكا منحى جاعال من العقل درجة من اإلدراك‬
‫تساوي درجة إدراك الغريزة عند الحيوان‪ .‬لذلك سيتيه اإلنسان ويضل عند انحصاره‬

‫‪ .50‬زجيمونت باومان‪ :‬احلداثة واهلولوكست ص‪.199 .‬‬


‫‪ .51‬برغسون هنري‪ :‬منبعا األخالق والدين‪ ،‬ترمجة سامي الدرويب‪ ،‬وعبد اﷲ عبد الدائم‪ ،‬اهليئة العامة‬
‫للتأليف والنرش‪.1971 ،‬ص‪.190 .‬‬
‫ شانحوب ةرون ‪.‬د‬ ‫‪368‬‬
‫في مجرد العقل وهو بهذا لن يعرف نفعا وال ضرا‪ ،‬بل قد يجعل الضرر نفعا والعكس‬
‫صحيح‪ .52‬فكيف ندرأ آفات العقالنية؟ خاصة وأن أخص تجلياتها هي العقالنية األداتية‬
‫التي تصرفت في إنتاج وسائل الدمار الشامل‪ ،‬وإبادة الحياة إنسانا وطبيعة‪.‬‬
‫قادنا سؤال الوسيلة إلى تخليق التقنية وأنسنتها إلى سؤال نقد العقل المجرد‪ ،‬إلعادة‬
‫وصله بالعقل العملي‪ ،‬فالفصل قاد إلى القسوة وخلط المعايير األخالقية‪ ،‬ولم يعد في‬
‫مقدور اإلنسان معرفة الخير والشر‪ .‬قدم طه عبد الرحمن قراءته للعقالنية الباطشة‬
‫والمتسلطة‪،‬كميزة جوهرية لهذه العقالنية المجردة من األخالقية‪ ،‬فرأى أن «األخالقية‬
‫هي ما به يكون اإلنسان إنسانا»‪ .53‬والحق أن الحيرة العارمة التي اجتاحت العقول حول‬
‫التقنيات الحيوية ومصير اإلنسان‪ ،‬فتحت باب النقاش األخالقي‪ ،‬ولكنها تاهت حول‬
‫المعايير األخالقية التي تعيد ضبط التوجهات اإلنسانية‪ ،‬بل التزال حريصة على منطق‬
‫الفوقية اإلنسانية الذي ركز على جوهرية العقل وعلى الحرية اإلنسانية مساحة قيمية بل‬
‫ضبط القيم على وفق هذه الحرية‪ ،‬من دون التساؤل عن حدودها وإمكاناتها األخالقية‪.‬‬
‫لذلك شرعت هذه األخالقية المستحدثة ضروبا من التجاوزات‪ ،‬ومكنت بواسطة‬
‫كرست فيها منطقا استعباديا‬‫فلسفة حقوق اإلنسان من إنتاج نسخ أخرى للكولونيالية ّ‬
‫آخر باسم حقوق اإلنسان‪.‬‬

‫‪ .52‬طه عبد الرمحن‪:‬سؤال األخالق‪ ،‬مسامهة يف النقد اخلالقي للحداثة الغربية‪ ،‬ص‪.14 .‬‬
‫‪ .53‬املرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬
‫دراسات‬

‫تساؤل ريكور حول مشكلة الشر‬


‫د‪ُ .‬ع َمر بن بوجليدة‬
‫‪1‬‬ ‫_____________________________________________‬

‫أن «ريكور» ال ينكر القطيعة التي جاءت‬ ‫نسجل أنّه وبالرغم من ّ‬ ‫ال يسعنا إالّ أن ّ‬
‫الغائي الذي يعطي األولو ّية‬
‫ّ‬ ‫بها الشكالن ّية ‪ formalisme‬الكانط ّية بالنسبة إلى اإلرث‬
‫إلى الخير أو السعادة‪ ،‬فهو يذهب إلى ضرورة اإلشارة إلى السمات التي بها يدنو هذا‬
‫يظل اإلدراك األخالقي للواجب مرتبطا‬ ‫ثم إلى تلك التي بها ّ‬ ‫‪2‬‬
‫اإلرث من الشكالن ّية ّ‬
‫الغائي لألخالق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫باإلدراك‬
‫فإن «ريكور» يتساءل عن إمكان‬ ‫الغائي ّ‬
‫ّ‬ ‫أ ّما بصدد استباقات الك ّل ّية ثني المنظور‬
‫لكل الفضائل وهو الوسط والحدّ‬‫بأن «أرسطو» حين وضع معيارا مشتركا ّ‬ ‫أن نقول ّ‬
‫التوسط ‪ّ ،médiation‬‬
‫فإن إنجازه هذا إنّما يأخذ استعاد ّيا معنى الشروع‬ ‫ّ‬ ‫األوسط أو‬
‫بالكل ّية في اآلن الذي يعترف فيه بأنّه إنّما يقتفي أثر «أرسطو» ال س ّيما عندما جعل‬
‫موضوع تقدير الذات ‪ ،estime de soi‬قدرات مثل أخذ المبادرة في العمل‪ ،‬والخيار‬
‫بناء على أسباب وتقدير أهداف العمل وتقييمها‪ ،‬وبسبب ذهابه هذا المذهب يتساءل‬

‫‪ .1‬باحث تونيس‪ ،‬حاصل عىل الدكتوراه يف الفلسفة‪.‬‬


‫‪ .2‬من املالحظ أننا ال نستطيع أن نفهم كتاب «أسس ميتافيزيقا األخالق» دون أن يكون لدينا إملام‬
‫بكتاب «األخالق إىل نيخوماخوس» فهو يناقش آراء «أرسطو» أخذا ومناقشة وإعادة إنتاج وفقا‬
‫لنظرية الواجب الكانطية‪ ،‬أيضا أمهية كتاب «أرسطو «امليتافيزيقا» ألن «كانط» كان عارفا أن‬
‫القاعدة الصلدة لكتاب «األخالق» إنام هو منبتها امليتافيزيقي‪ .‬إال أنه حقيق علينا كذلك أن نبني‬
‫أن طابع األخالق الكانطية يتعارض مع طابع األخالق األرسطية وما تالها من مذاهب أخالقية‪،‬‬
‫وهو ما هنض لبيانه‪ :‬إدوارد تسلر‪ ،‬يف بحث له بعنوان‪« :‬مبدأ األخالق عند كانط والتعارض بني‬
‫املبادىء الشكلية واملوضوعية»‪ ،‬ثم «ترندلنبورغ» يف بحث بعنوان‪« :‬التنازع بني كانط وأرسطو‬
‫يف األخالق»‪ ،‬و«فكتور بروشار» يف «األخالق القديمة واألخالق احلديثة»‪ .‬انظر‪ ،‬عبد الرمحن‬
‫بدوي‪ ،‬األخالق عند كانط‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪ ،1979 ،‬ص ‪.37‬‬
‫ ةديلجوب نب رَمُع ‪.‬د‬ ‫‪370‬‬
‫«ريكور» أيضا إذا لم يكن قد أعطى معنى ك ّليا لمثل هذه القدرات‪ ،‬معنى بفضله‬
‫تستحق التقدير بل معنى يحدد إن كنا نحن أنفسنا نستحق التقدير‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نعتبرها‬

‫‪ 1‬ـ الطاعة التي ألزمنا بها أنفسنا هي الحرية‪:‬‬


‫إن ما ال مجال لالعتراض عليه ّ‬
‫أن السمة الكون ّية لما يدعوه «ريكور» بالوجودان ّيات‬ ‫ّ‬
‫‪ existentiaux‬ال يمكن أن يكون شاغلها التمييز بين هو ّيتين‪ ،‬هو ّية الذات ّية وهو ّية‬
‫تيسر لـ «ريكور» التساؤل‪« :‬ماذا؟‪/‬من؟» الذي قام‬ ‫العين ‪ ،‬وبفضل هذه الك ّليات‪ّ ،‬‬
‫‪3‬‬

‫كل هذا فإن كانت فلسفة األخالق تالمس‬ ‫يستحق التقدير‪ .‬واستنا ًدا إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫بالعمل‬
‫الواجبي ليس‬
‫ّ‬ ‫األخالقي‬
‫ّ‬ ‫أن اإللزام‬ ‫الك ّل ّي بالسمات السابق ذكرها ّ‬
‫فإن ما هو مؤكّد ّ‬
‫بدوره من دون صالت تجمعه مع استهداف الحياة الج ّيدة الخ ّيرة‪ .‬وبهكذا استنتاج‬
‫الغائي ّ‬
‫وأن‬ ‫ّ‬ ‫يميط «ريكور» اللثام عن رسوخ لحظة أخالق الواجب في االستهداف‬
‫ذلك ما كان جل ّيا بفضل المكانة التي يحت ّلها عند «كانط» مفهوم اإلرادة الخ ّيرة «من‬
‫ثمة ما يمكن أن يعدّ‬‫تصوره في العالم‪ ،‬بل وخارج العالم بعا ّمة‪ ،‬ليس ّ‬
‫كل ما يمكن ّ‬ ‫ّ‬
‫اللهم إال اإلرادة الخ ّيرة»‪.4‬‬
‫ّ‬ ‫خيرا بدون حدود أو قيود‬

‫‪ .3‬يميز «ريكور» بني «هوية ذاتية»‪ ،‬ــ يطرأ عليها التاريخ ولكنها ال تتغري بالكلية‪ ،‬بالرغم من مرور‬
‫الزمان وذلك بطريقة الوفاء للوعد املقطوع‪ ،‬وتنتمي إىل الوجود الذي ال يمكن إال أن يتساءل حول‬
‫وجوده‪ .‬ــ و«هوية ثابتة» ال يطرأ عليها التاريخ‪ ،‬وإن شئت فقل هي الذات ‪،le meme/memeté‬‬
‫أي العينية‪ ،‬من جهة ما هي تظل عىل ما هي عليه‪ .‬وهي تنتمي إىل عامل األشياء التي بحوزتنا‪.‬‬
‫انظر‪ ،‬بول ريكور‪ ،‬الذات عينها كآخر‪ ،‬ترمجة وتقديم وتعليق جورج زينايت‪ ،‬املنظمة العربية للرتمجة‬
‫بريوت لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬نوفمرب ‪ ،2005‬ص ‪.50‬‬
‫‪Ricœur (Paul), Soi - même comme un autre, Paris, Seuil, coll. «L’Ordre‬‬
‫‪philosophique», 1990; réédition, coll. «Points Essais», 1996.‬‬
‫انظر أيضا‪ :‬بول ريكور‪ ،‬رصاع التأويالت‪ ،‬ترمجة منذر عيايش‪ ،‬دار الكتاب اجلديد املتحدة بريوت‪،‬‬
‫‪ ،2005‬ص‪.17‬‬
‫‪P. Ricœur: Le conflit des interprétations, Essais d’herméneutique, Paris, Seuil, coll,‬‬
‫‪L’ordre philosophique, 1969.‬‬
‫‪ .4‬انظر الرتمجة العرب ّية‪ :‬كانط تأسيس ميتافيزيقا األخالق ترمجة وتقديم عبد الغفار مكاوي منشورات‬
‫اجلمل الطبعة األوىل كولونيا‪.2002 ،‬‬
‫‪Emmanuel Kant Fondements de la métaphysique des mœurs, traduit par V.‬‬
‫‪Delbós ; revue et modifiée par F.Alquie, collection bibliothèque de la pléade‬‬
‫‪(Paris: Gallimard, 1985), tome 2, p.250, dans Œuvres philosophiques.‬‬
‫‪371‬‬ ‫رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست‬

‫الغائي بل قل من رسوخ في‬ ‫ّ‬ ‫وللتدليل على ما يذهب إليه من رسوخ في التراث‬
‫أن األمر عند «أرسطو» ّ‬
‫فإن الفلسفة األخالق ّية‬ ‫التجربة األخالق ّية العاد ّية ــ ذلك أنّه كما ّ‬
‫عند «كانط» ال تنطلق من ال شيء‪ ،‬فمهمتها ليست اختراع األخالق ولكن استخراج‬
‫األخالقي ــ ين ّبه «ريكور» إلى ّ‬
‫أن علينا أن نالحظ تكرار ألفاظ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫معنى واقعة وجود‬
‫األول من كتاب «تأسيس‬
‫و(يستحق التقدير) في ثنايا القسم ّ‬
‫ّ‬ ‫(تقدير)‪ ،‬و(يقدّ ر)‪،‬‬
‫ميتافيزيقا األخالق» ــ وهي ما ّ‬
‫تنفك على صلة باإلرادة الخ ّيرة‪ .‬يتراءى في أعطاف‬
‫هذا االستدالل إمكان انبثاق مجاالت اهتمام تضمر تأكيدين يسعى ّ‬
‫كل واحد منهما‬
‫إلى المحافظة على نوع من االستمرار ّية‪.‬‬
‫هذا اإلقرار ّ‬
‫يظل فرض ّية تحتاج إلى بيان وإنّه لينبغي في تقدير «ريكور» فحص‬
‫الغائي ذلك على الرغم من القطيعة‬
‫ّ‬ ‫ما بين وجهة النظر األدب ّيات ّية الواجب ّية والمنظور‬
‫الدالل ّية‪ّ .‬أولهما أنّه تحت هدي هذا النحو من النظر‪ ،‬يصبح ب ّينا ّ‬
‫أن ما هو ج ّيد‬
‫وخ ّير أخالق ّيا واجب ّيا يكون ال محالة ج ّيدا وخ ّيرا من دون قيد أي في ّ‬
‫كل الظروف‬
‫ومهما كانت األحوال فينبغي أن يكون كذلك دائما وجليا من خالل هذا التحليل‬
‫وأن التح ّفظ ــ دون قيد ــ يعلن عن‬
‫أن المحمول خ ّير وج ّيد يحتفظ بصبغته الغائ ّية ّ‬
‫ّ‬
‫مما اعتبر خيرا‪ ،‬صفته األخالق ّية والواجب ّية‪ ،‬ويتّضح‬ ‫استبعاد ّ‬
‫كل ما يمكن أن يسحب ّ‬
‫أن من يحمل بعد اآلن المحمول خيرا إنّما هو اإلرادة‪،‬‬ ‫في مستوى ٍ‬
‫ثان التأكيدان ّ‬
‫األخالقي قد أبقي عليها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مرة أخرى استمرار ّية مع ّينة مع المنظور‬
‫وتطالعنا هنا ّ‬
‫ّ‬
‫وإن هذا األمر ليفترض المساواة بين المفهوم الكانطي لإلرادة واالقتدار على‬
‫التدخل في مجرى األشياء إلحداث انطالقة جديدة واتّخاذ القرار ألسباب ودوافع‪،‬‬
‫أهمية‬
‫وضح «ريكور» موضوع تقدير الذات‪ ،‬مع ّ‬ ‫هذا االقتدار هو كما سبق أن ّ‬
‫الرغبة الحكيمة‬ ‫تحل ّ‬
‫محل ّ‬ ‫أن اإلرادة في األخالق الواجبة عند «كانط» ّ‬
‫اإلشارة إلى ّ‬
‫في األخالق عند «أرسطو»‪.‬‬
‫نتعرف‬
‫نتعرف إلى الرغبة من خالل استهدافها أ ّما اإلرادة فإننّا ّ‬
‫مما فات أنّنا ّ‬
‫لقد بان ّ‬
‫أن تعريف «كانط»‬‫إليها عبر عالقتها بالقانون‪ .‬وإنّنا لنعثر على عالمة حاسمة تؤكّد ّ‬
‫األعم إنّما يحمل بصمة هذه اإلحالة إلى المعيار الواجبي‪ ،‬فلئن‬
‫ّ‬ ‫لإلرادة في معناها‬
‫تصور‬
‫التصرف بحسب ّ‬
‫ّ‬ ‫كانت الظواهر الطبيع ّية تتبع القوانين فإن اإلرادة هي ملكة‬
‫ ةديلجوب نب رَمُع ‪.‬د‬ ‫‪372‬‬
‫التشريعي‬
‫ّ‬ ‫القوانين كما ذهب إلى ذلك كانط‪ّ ،5‬‬
‫وإن مثل هذا التعريف يب ّين األسلوب‬
‫الذي يخترق مصنّفات كانط جميعا كما الحظت ذلك» سيمون غويارفابر»‪Simone 6‬‬
‫‪ Fabre‬ــ ‪.Gayard‬‬
‫علي أن أفعل؟» مشروع ّيته‪ .‬وفي‬
‫في هذا الموضع بالذات يستعيد السؤال‪« :‬ماذا ّ‬
‫سياق سعيه إلى الظفر بنحو من التعريف األصيل والصارم لمعنى اإلرادة يذكّرنا‬
‫«ريكور» ّ‬
‫بأن اإلرادة إنّما تع ّبر عن نفسها في أفعال خطاب تنتمي إلى مجموعة أفعال‬
‫الرغبة وحتّى في السعادة هي‬ ‫األمر‪ ،‬في حين قد نرى ّ‬
‫أن األلفاظ المستعملة في ّ‬
‫أفعال خطاب انتماؤها ظاهر إلى طابع التمنّي‪.‬‬
‫يمم شطر اإلشكال ّية الكانط ّية انطالقا من‬
‫أن «ريكور» ّ‬ ‫هكذا يكون من الب ّين ّ‬
‫العالمة التي هي موضع النظر‪ :‬الكون ّية‪ .7‬غير ّ‬
‫أن تمييز األخالق الواجب ّية لإللزام ليس‬
‫رهين انتهاج هذا المسلك‪ .‬وثمة تحديد آخر ال مناص من التنبيه عليه وهو ّ‬
‫أن فكرة‬
‫الكون ّية مرتبطة بطريقة ال فكاك منها بفكرة اإلكراه المم ّيزة لفكرة الواجب ومر ّد ذلك‬
‫اإلمكانات المحدودة التي تم ّيز إرادة متناهية‪.‬‬
‫فإن اإلرادة في جوهرها ليست سوى العنوان األبرز للعقل‬ ‫في حقيقة األمر‪ّ ،‬‬
‫العملي‬
‫ّ‬ ‫العملي الذي تتالمس فيه مبدئ ّيا ّ‬
‫كل الكائنات العاقلة‪ ،8‬ويتع ّين هذا العقل‬ ‫ّ‬
‫تجريب ّيا عن طريق الميول الحس ّية بسبب تكوينه المتناهي وينتج عن ذلك أن ّتصبح‬
‫العالقة بين مفهوم اإلرادة الخ ّيرة ــ وهو سبيل الولوج إلى اإلشكال ّية األدب ّياتية‪،‬‬
‫الواجب ّية ــ ومفهوم عمل‪ ،‬ال ينجز إالّ طاعة للواجب‪ ،‬وثيقة إلى حد أنّه بات ممكنا‬
‫يحل أحدهما ّ‬
‫محل اآلخر‪.‬‬ ‫أن ّ‬
‫ولما كان مطلوب «ريكور» هاهنا معالجة مفهوم إرادة ك ّلية‪ ،‬جديرة في ذاتها‬
‫ّ‬

‫‪ .5‬املصدر نفسه ص‪274.‬‬


‫)‪6. Simone Gayard - Fabre, Kant et le problème du droit (Paris: Vrin.1975‬‬
‫‪« .7‬ملا كان ينبغي للقوانني األخالقية أن تكون صاحلة لكل كائن عىل اإلطالق‪ ،‬فإن من الواجب أن‬
‫تستنبط من التصور «الكيل» للكائن العاقل بوجه عام‪ ،‬وأن نجعل كل أخالق تكون يف حاجة إىل‬
‫علم االنثربولوجيا لتطبيقها عىل بني اإلنسان‪ ».‬انظر كانط‪ ،‬تأسيس ميتافيزيقا األخالق‪ ،‬ص ‪76‬‬
‫(مرجع سبق ذكره)‬
‫‪ .8‬ريكور الذات عينها كآخر (مصدر سابق) ص ‪402‬‬
‫‪373‬‬ ‫رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست‬

‫ّ‬
‫بكل تقدير‪ ،‬مهما تكن النوايا الالحقة «قدّ ر ّ‬
‫أن األمر يقتضي بادئ ذي بدء تفحص‬
‫مفهوم الواجب الذي يحتوي على مفهوم إرادة خ ّيرة وذلك مع بعض القيود وبعض‬
‫تشوهه‪ ،‬تسمح له عن طريق تباينه معها‪ ،‬أن‬
‫المعوقات الذات ّية التي بدل أن تحجبه أو ّ‬
‫ّ‬
‫يبدو أكثر وهجا وتأ ّلقا»‪.9‬‬
‫ويبدو ّ‬
‫أن إرادة خ ّيرة من دون قيد هي منذ البداية إرادة خاضعة بتركيبتها للمحدود‬
‫األخالقي‬
‫ّ‬ ‫فإن الخير من دون قيد‪ ،‬يأخذ شكل الواجب واألمر واإلكراه‬ ‫وبالنسبة إليها ّ‬
‫الواجبي‪ .‬لإلبانة عن ذلك يستأنف «ريكور» التفكير في المسيرة النقد ّية التي تنهض‬
‫ّ‬
‫العملي‪ ،10‬وقد فهم بما‬
‫ّ‬ ‫على الصعود من هذا الوضع المتناهي لإلرادة إلى العقل‬
‫هو تشريع ذاتي‪ ،‬كاستقالل ذاتي وفي هذا األفق فقط تحوز الذات القاعدة األولى‬
‫الواجبي من دون اإلقرار بالبنية الحوار ّية وبغير أن تضاف إليها‬
‫ّ‬ ‫األخالقي‬
‫ّ‬ ‫لوضعها‬
‫البينشخصي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫من الخارج‪ .‬ومتى استقام لها ذلك فإنّها تظهر معناها في البعد‬
‫القمة يشكّل‬ ‫فصل «ريكور» القول في هذا المبحث فاستبان ّ‬
‫أن ما دون هذه ّ‬ ‫وقد ّ‬
‫الواجبي اختبارا عسيرا لحيازة لقب خ ّير من دون قيد وضمنيا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األخالقي‬
‫ّ‬ ‫التفكر‬
‫لنيل لقب األمر القاطع باإلطالق باعتبار اإلرادة إرادة متناهية وإمعانا في التحديد‬
‫ٍ‬
‫حينئذ أن يتسم‬ ‫أن أسلوب أخالق الواجب لإللزام يمكن‬ ‫والضبط ين ّبه «ريكور» إلى ّ‬
‫تتدرج من اإلبعاد واالنتقاء إلى اإلقصاء لتصبح اإلرادة الخ ّيرة من دون قيد‬
‫بخطة ّ‬
‫المشرعة لذاتها علة وفق المبدأ األعلى لالستقالل‬
‫ّ‬ ‫في نهاية المطاف مساوية لإلرادة‬
‫الذاتي‪.11‬‬
‫أهمية فصل عدم النقاوة اإلمبيريقية عن الميل‬
‫ونرى مفيدا في هذا الحدّ استجالء ّ‬
‫وبالتالي عن العصيان المحتمل‪ ،‬فمهما استعصت فإنّها ارتدت إمارات تحيل إلى‬
‫الواجبي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األخالقي‬
‫ّ‬ ‫طابع اإلكراه لألمر‬

‫‪ Kant : fondement de la métaphysique des mœurs IV.397/p255 .9‬أورده ريكور يف الذات‬


‫عينها كآخر ص ‪403‬‬
‫‪ .10‬كانط (ايامنويل)‪ ،‬نقد العقل العميل‪ ،‬تعريب وتقديم ناجي العونيل‪ ،‬جداول للنرش والتوزيع‪ ،‬ط‬
‫‪ ،1‬نوفمرب ‪.2011‬‬
‫‪ .11‬انظر ريكور الذات عينها كآخر ص‪( 404‬مصدر سابق)‬
‫ ةديلجوب نب رَمُع ‪.‬د‬ ‫‪374‬‬
‫وفرارا من اللبس نوضح أنّه يعسر بل يتعذر التمييز بين إشكال ّيتي الكون ّية‬
‫واإلكراه‪ ،‬ويعود األمر في ذلك إلى التكوين المتناهي لإلرادة‪ .‬إالّ أنّه باإلمكان أن‬
‫نتصور طريقة تعيين ذات ّية ال تحمل عالمة التنافر بين العقل والرغبة‪ ،‬فال مناص هنا‬
‫ّ‬
‫كل ال ّلعبة ذلك ّ‬
‫أن صفته التجريب ّية وحدها هي التي‬ ‫من ضرورة وضع الميل خارج ّ‬
‫تمنعه من التأهل للبقاء‪ .‬وهكذا يقترح «ريكور» أنّه يمكن إقصاء هذه المرحلة تماما‬
‫عن المسيرة الكانط ّية‪ ،‬فمن الواضح أنها تقابل خضوع مبادئ قواعد العمل إلى‬
‫قاعدة التعميم الك ّلي‪.‬‬
‫وفي ضوء هذا‪ ،‬يجب أن نفهم تت ّبع «ريكور» لهذه المبادئ أو المس ّلمات وهي‬
‫تتضمن تعيينا عا ّما تقوم به اإلرادة وتخضع له العديد من القواعد العمل ّية»‪،12‬‬
‫ّ‬ ‫«قضايا‬
‫التي بواسطتها بمقدورنا أن نفرض على الميول الفحص واالمتحان فليس من اله ّين‬
‫أن أعرف‪ ،‬أثناء القيام بعملي ّ‬
‫بأن تقدير شيء مع ّين مطابق للتقدير المطلق الذي تقوم‬
‫المركزي بالنظر إلى آفاق انتظاراتنا يترتب سؤال بدا‬
‫ّ‬ ‫به اإلرادة الخ ّيرة‪ ،‬وعن انهمامنا‬
‫عملي أو مس ّلمته قابلة‬
‫ّ‬ ‫التالي‪ :‬هل ّ‬
‫أن قاعدة‬ ‫ّ‬ ‫لـ«ريكور» أنّه يمكن أن يصاغ على النحو‬
‫للتعميم الك ّلي‪13‬؟‬
‫عما ينطوي عليه ّ‬
‫أن‬ ‫ولعل ما يشهد بوجاهة ذلك السؤال ويكشف في الوقت ذاته ّ‬ ‫ّ‬
‫التوسط هنا الذي تقدّ مه مس ّلمة عملي يفترض ّ‬
‫بأن اإلرادة حين وضعت مشروعا متّسعا‬ ‫ّ‬
‫بالقوة طموحا لبلوغ الكون ّية وقد جاءت قاعدة التعميم الك ّلي لتضعه موضع‬
‫ضمنته ّ‬
‫فقد ّ‬
‫االمتحان‪.‬‬
‫أن ال جذور مكينة وال أصول متينة لمفهوم‬ ‫يتحرج «ريكور» من تأكيد مفاده ّ‬‫وال ّ‬
‫الغائي‪ ،‬على الرغم من بعض آثار الكون ّية‬
‫ّ‬ ‫المس ّلمة كما حددها ـ ريكور ــ ‪ ،‬في التراث‬
‫التي كشف عنها سابقا كما يزيح النقاب عن ّ‬
‫أن ما يم ّيز مفهوم «الرغبة العقل ّية» عند‬
‫ثم في تحاليله هو للعمل ولمفاهيم الممارسات وخطط الحياة والوحدة‬ ‫«أرسطو» ّأوال ّ‬
‫السرد ّية لحياة مع ّينة لم يكن الطموح لبلوغ الك ّلية بل كان عند كليهما الغائ ّية الداخل ّية‪،‬‬

‫‪ .12‬أنظر‪ ،‬كانط‪ ،‬نقد العقل العميل‪Emmanuel Kant, Critique de la raison pratique, traduit ،‬‬
‫‪par, F. Picavet , Paris ، P.U.F 1943 , 4è ed , 1965.V 19 , p17‬‬
‫‪ .13‬انظر ريكور الذات عينها كآخر ص ‪( 405‬مصدر سابق)‬
‫‪375‬‬ ‫رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست‬

‫وإذ قد تب ّين هذا فينبغي أن تناط العناية من جديد بلغة المس ّلمة‪ ،‬بسبب قرابتها من الطابع‬
‫التعميمي للمس ّلمة على صعيد فينومينولوجيا الممارسة‪.‬‬
‫أن اختيار التعميم الك ّلي هو الذي يعطي المس ّلمة داللتها النوع ّية في الوقت‬
‫غير ّ‬
‫األعم لألمر‬
‫ّ‬ ‫وللمرة األولى كما تشهد على ذلك الصياغة‬
‫ّ‬ ‫الذي يعرف هذا االختيار‬
‫«تصرف فقط بحسب المس ّلمة (القاعدة الذات ّية) التي تمكنّك في‬
‫ّ‬ ‫القطعي المطلق‬
‫الوقت عينه من أن تريد لها أن تصبح قانونا ك ّليا» ولقد استطاع «ريكور» ّ‬
‫تقصي‬ ‫‪14‬‬

‫أي معاودة‬ ‫تقصيا أحكم فبان له ّ‬


‫أن هذه المرحلة لم تأخذ بعين االعتبار ّ‬ ‫هذه المسألة ّ‬
‫للميل‪ ،‬وحده معيار التعميم الك ّل ّي يظهر عدم التطابق بين الطموح إلى الكون ّية المرتبط‬
‫العملي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالمس ّلمة‪ ،‬بالنسبة إلى مطلب الكون ّية المغروس في العقل‬
‫يتلمس «ريكور» ثالثة مواضع للقطيعة تتخذ في مستواها الفلسفة‬
‫على هذا النحو ّ‬
‫راديكالي تماما مع‬
‫ّ‬ ‫األخالق ّية الواجب ّية القائمة على اإللزام السمات التي تعارضها بشكل‬
‫فلسفة أخالق ّية تقوم على استهداف الحياة الج ّيدة الخ ّيرة‪ .‬وإنّه ليبدو اآلن ّ‬
‫أن الصلة بين‬
‫الواجبي واالستهداف‬
‫ّ‬ ‫األمر والطاعة تنطوي على اختالف جديد بين المعيار األخالقي‬
‫األخالقي‪ .‬والحال أنّه من الجدير بالمالحظة أنّنا في اللغة العاد ّية‪ ،‬يتط ّلب هذا النوع‬
‫ّ‬
‫األول يأمر واآلخر مكره على الطاعة‬ ‫ِ‬
‫من أفعال الخطاب مخاطبا ومخاطـَبا مختلفين‪ّ ،‬‬
‫يتضمنه األمر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بسبب شرط الرضى الذي‬
‫لما وضع في الفاعل‬
‫فمن هاهنا كان الوضع الذي استنبطه «كانط» وأحسن تخريجه ّ‬
‫عينه المقدرة على إصدار األمر والطاعة أو العصيان وعلى هذا المحمل تحمل معرفة‬
‫ثم ذهب‬ ‫الميل ومقدرته على العصيان‪ ،‬وهو ما جعل «كانط» يساوي المقدرة بالسلب ّية ّ‬
‫بتأصلها في الميل‪ ،‬وهذا ما جعله يطلق على الرغبة صفة مرض ّية‬ ‫ّ‬
‫ليستدل على ذلك ّ‬
‫أن إرادة الكائن العاقل المصاب مرض ّيا قد يحصل فيها صراع‬ ‫‪ ،pathologique‬ذلك ّ‬
‫بين المس ّلمات (= القواعد الذات ّية للسلوك) والقوانين العمل ّية التي يعترف بها هذا‬
‫الموجه لـ«كانط»‬
‫ّ‬ ‫الكالسيكي‬
‫ّ‬ ‫الكائن عينه‪ .15‬أرى المقام يقتضينا العودة إلى االتّهام‬

‫‪14. Kant ; fondements de la métaphysique des mœurs (I v, 421) op, cit, p.285‬‬
‫‪( Kant; Critique de la raison pratique .15‬مصدر سابق) أورده ريكور يف الذات عينها كآخر‬
‫ص‪407‬‬
‫ ةديلجوب نب رَمُع ‪.‬د‬ ‫‪376‬‬
‫وهو ما كان قد دعاه «ريكور» إ ّبانئذ باتهام التشدد والذي مداره ّ‬
‫بأن «كانط» يعتبر الرغبة‬
‫الرأي يرى «ريكور»‬
‫معادية جوهر ّيا للعقالن ّية‪ ،‬وعلى خالف ما رأى من كان وراء ذلك ّ‬
‫ّ‬
‫الخط‬ ‫ّ‬
‫أن باإلمكان مقاومة مثل هذه التهمة وذلك بأن نفعل ما فعله «كانط» حين جعل‬
‫الفيصل أنّما يقع داخل عائلة األوامر حين كان سبيله التمييز بين األمر القطعي المطلق‬
‫واألوامر المشروطة المتع ّلقة بأمور البراعة والفطنة والحذر ذلك ّ‬
‫أن مثل هذا التمييز‬
‫إنّما هو على مستوى اإلكراه‪ ،‬في تواز تماما مع ما يدخله معيار التعميم الك ّلي‪ .‬فيكون‬
‫األمر المطلق هو األمر الذي اجتاز بنجاح امتحان التعميم الك ّلي طالما كنّا نقبل ّ‬
‫بأن‬
‫الشكل األمري تتط ّلبه بنية إرادة متناهية‪.‬‬
‫أن تخ ّطي العتبة الحاسمة للقطيعة يحسم مع فكرة التشريع‬
‫أوضح «ريكور» ّ‬
‫الذاتي أو االستقالل الذاتي الذي يصفه «هوفي ‪ »Hoffet‬على أنّه الميتا ــ معيار‬
‫ّ‬
‫‪ critere‬ــ ‪. meta‬كي يم ّيزه عن قاعدة التعميم الك ّلي التي تشكّل المعيار الوحيد‬
‫‪16‬‬

‫للخير من دون قيد‪ ،‬وبالتالي فقد ظهر أنّه يعيد أصل التشريع الذاتي إلى قول «روسو»‬
‫الذاتي‬
‫ّ‬ ‫الحرية»‪ّ .17‬‬
‫إن االستقالل‬ ‫ّ‬ ‫‪ّ Rousseau‬‬
‫«إن الطاعة التي ألزمنا أنفسنا بها هي‬
‫التشريعي‬ ‫«إن إرادة يمكن الشكل‬ ‫معادل ٍ‬
‫لعقد أقامه المرء مع ذاته ّ‬ ‫ً‬ ‫يصبح بهذه الطريقة‬
‫ّ‬
‫المحض للمس ّلمة أن يكون بالنسبة لها قانونا هي إرادة ّ‬
‫حرة»‪ ،18‬وقد أمكن لـ«ريكور»‬
‫تهمه جدّ ا‪.‬‬
‫التعاقدي ّ‬
‫ّ‬ ‫أن يتب ّين ّ‬
‫أن هذه الصلة بين الشكالن ّية األخالق ّية والتراث‬
‫بالحرية‬
‫ّ‬ ‫أن األمر لم يعد يتع ّلق باإلرادة وحدها بل‬
‫إن ما يمكن أن نتب ّينه اآلن هو ّ‬
‫ّ‬
‫الحرية تعني اإلرادة في بنيتها األساس ّية وليس حسب وضعها‬ ‫ّ‬ ‫وهكذا فقد صارت‬
‫المبررة عمل ّيا لكن من جهة‬
‫ّ‬ ‫مما مضى ذكره أنّا اآلن أمام الحر ّية‬
‫ويتحصل ّ‬
‫ّ‬ ‫المتناهي‪.‬‬
‫الذاتي ّ‬
‫فإن القطيعة التي تت ّبع مسيرها‬ ‫ّ‬ ‫ما هي المانحة لنفسها القانون ومع االستقالل‬
‫يسيرا يسيرا تبلغ تعبيرها األكثر راديكال ّية‪ :‬مقابل االستقالل الذاتي هناك التبعية للغير‬

‫‪16. Hoffet, Introduction a la philosophie pratique de Kant, p.127‬‬


‫‪17. Jean Jacques Rousseau, du contrat social, édité par B.Gagnebin et M. Raymond,‬‬
‫‪collection, bibliothèque de la pléiade, (Paris): Gallimard, 1964, tome 3, livre 1, chap.‬‬
‫‪VIII‬‬
‫‪18. Kant ; Critique de la raison pratique 1943 problème I, op, cit, p.28‬‬
‫‪377‬‬ ‫رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست‬

‫مجرد»الوص ّية بطاعة عقالن ّية لقانون‬


‫الخاصة بالحكم والتي تجعل اإلرادة تمنح نفسها ّ‬
‫ّ‬
‫ضي»‪ ،19‬ومن هذه الجهة يغدو هذا التعارض بين االستقالل الذاتي والتبع ّية للغير‬
‫مر ّ‬
‫َ‬
‫مدخال تبلغ معه الشكالن ّية مبلغا حاسما‪ ،‬وتبعا لذلك يكون لـ«كانط» من القدرة ما‬
‫التشريعي‬
‫ّ‬ ‫إن أخالق الواجب تكمن حيث «يكون الشكل‬ ‫يؤهله أن يعلن في غير تردد‪ّ :‬‬
‫ّ‬
‫البحت للمس ّلمات هو وحده المبدأ الكافي لتعيين اإلرادة»‪.20‬‬
‫وليس من شأن «ريكور» في هذا المستوى بالذات ا ّدعاء مغادرة معجم األمر‬
‫ّ‬
‫التمشي إنّما استطاع أن‬ ‫وما في معناه بل ّ‬
‫إن غاية مراده أن يشير إلى أنّه وفق هذا‬
‫يمنح طابعا ساميا وذلك حين يستبدل االستقالل الذاتي إطاعة تعيين للج ّيد الخ ّير‬
‫من دون قيد معيار التعميم الك ّلي تشريع في الشكل فقط‪ ،‬وأخيرا االستقالل الذاتي‬
‫أن الطاعة عندها تفقد ّ‬
‫كل‬ ‫أن الفائدة الجل ّية ّ‬
‫للغير بالطاعة للذات عينها والواقع ّ‬
‫أن ال ّطاعة الحقيق ّية هي‬
‫صفة تبع ّية وخضوع‪ ،‬األمر الذي يسمح بالتأكيد على ّ‬
‫االستقالل الذاتي‪.‬‬
‫هكذا يتج ّلى تج ّليا ب ّينا ّ‬
‫أن هذا البناء الجديد للمفهوم الكانطي ألخالق الواجب‬
‫قد اختزل إلى العناصر التي تكفي لتصف وجهة نظر أخالق الواجب في مواجهة‬
‫ثم ّ‬
‫إن غوص النظر ينبؤنا أن التضا ّدات المم ّيزة للتأسيس‬ ‫الغائي لألخالق‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬
‫الكانطي قد ن ّظمت بحسب درجات منطق اإلقصاء‪ .‬وهكذا فإن التعارض بين‬
‫المكون للهو ّية الذاتية ألخالق‬
‫ّ‬ ‫االستقالل الذاتي والتبع ّية للغير قد بدا وكأنّه‬
‫يمر من تأكيد ّ‬
‫أن وضع الذات‬ ‫وأن الطريق الذي يتحتّم أكثر من غيره سلوكه ّ‬‫الواجب ّ‬
‫المشرعة في روح فلسفة «كانط» ينبغي أالّ يخلط مع أطروحة أنانو ّية‪ ،‬وهكذا يكون‬
‫ّ‬
‫التجريدي لهذه اللحظة األولى للبنية الثالث ّية‬
‫ّ‬ ‫«ريكور» أميل إلى اإلدراك ّ‬
‫بأن الطابع‬
‫ألخالق الواجب يتناسب مع درجة الك ّلية التي يبلغها الحكم األخالقي الواجبي‬
‫بشكل عام‪ .‬وما يلفت نظر «ريكور» في هذا الطريق الذي انتهجه «كانط» هو تدبير‬
‫الذاتي وفقه يهرب من الخيار بين مناجاة (الذات) والحوار‬
‫ّ‬ ‫معنى لمبدأ االستقالل‬
‫مع (اآلخر)‪.‬‬

‫السابق هو هو‪ ،‬ص‪33‬‬


‫‪ .19‬املصدر ّ‬
‫السابق هو هو‪ ،‬ص‪28.‬‬
‫‪ .20‬املصدر ّ‬
‫ ةديلجوب نب رَمُع ‪.‬د‬ ‫‪378‬‬
‫الشر الجذري في الطبيعة اإلنسانية‪:‬‬
‫نتصور‬
‫ّ‬ ‫أن الخيط الرقيق للشروع في اإلجابة عن وجه ما من الما ّدة حيث‬ ‫نجد ّ‬
‫لكل المس ّلمات‬
‫ثم من هناك نتقدّ م إلى التعيين الكامل ّ‬
‫األشخاص كغايات في حدّ ذاتها ّ‬
‫للتصرف) وذلك مع مفهوم سيادة حكم الغايات»‪ ،21‬المطلوب إنّما‬
‫ّ‬ ‫(القواعد الذات ّية‬
‫يتج ّلى وبحسب صيغة «كانط» في كتاب «أسس ميتافيزيقا األخالق» في وجود تقدّ م‬
‫القطعي المطلق إلى الصياغة‬
‫ّ‬ ‫نمر من الصياغة العا ّمة لألمر‬
‫خاص جدّ ا حين ّ‬ ‫ّ‬ ‫من جنس‬
‫الثانية والثالثة ال ّلتين ستقودان المرحلة الثانية والثالثة من مسيرتنا وبعد أن ع ّين طبيعة‬
‫هذا التقدّ م مقتفيا آثار كانط في تأكيد أن التقدّ م يحصل من «الشكل والصورة التي هي‬
‫نتصور األشخاص كغايات في حدّ ذاتها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في الك ّلية إلى الما ّدة حيث‬
‫النص وذلك‬ ‫ونحن نفترض ّ‬
‫أن المكاسب المبتكرة والتي ظفر بها «ريكور» في هذا ّ‬
‫من زاوية مطلوبنا إنّما يمكن حصرها أساسا في ّ‬
‫أن التقدّ م يحصل هنا بمعنى ما بحسب‬
‫المقوالت‪ ،‬انطالقا من «وحدة» صورة اإلرادة(=ك ّليتها) إلى تعدّ د ّية (الكثرة) الما ّدة‬
‫ثمة إلى الشمول ّية أو مجموع النسق أو النظام‬
‫(أغراض وأهداف أي غايات) ومن ّ‬
‫بأكمله ومع ذلك ّ‬
‫فإن أولو ّية الصيغة األولى تبقى قائمة»‪.‬‬
‫واجبي بحسب ما‬
‫ّ‬ ‫أخالقي‬
‫ّ‬ ‫نتصرف حين يتع ّلق األمر بإصدار حكم‬ ‫من األفضل لنا أن ّ‬
‫يقتضيه المنهج وأن نأخذ كمبدأ الصيغة العا ّمة الك ّلية لألمر المطلق‪ ،‬تلك التي تفترض‬
‫التصرف على وفق المس ّلمة التي يقع استبطانها سابقا كقانون عا ّم ك ّلي و«مع ذلك فإنّنا‬
‫ّ‬
‫األخالقي ليصل إلى النفوس فمن المفيد‬
‫ّ‬ ‫إن كنّا نريد فتح الطريق أمام قانون الواجب‬
‫يمر عبر المفاهيم الثالثة المشار إليها وتقريبه عندها بقدر‬
‫جدّ ا أن نجعل العمل نفسه ّ‬
‫المستطاع من الحدس»‪.22‬‬
‫كم ّية‪،‬‬
‫أن الوحدة والكثرة والمجموع هي بالطبع مقوالت ّ‬ ‫إن علينا أن نالحظ هنا ّ‬
‫ّ‬
‫غير ّ‬
‫أن وحدة الصورة أو الشكل تتم ّيز عن كثرة الما ّدة بمعنى ما وهذه الوحدة ليست‬
‫متوحدة‪ .‬وإنّه من رحم هذا التأويل بالذات أتى «ريكور» إلى فحص المعنى‬
‫ّ‬ ‫وحدة أنا‬

‫‪21. Kant; fondements de la métaphysique des mœurs, op, cit, p.p 303 - 304‬‬
‫‪ .22‬املصدر نفسه ص‪304.‬‬
‫‪379‬‬ ‫رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست‬

‫تم إدراكه في‬


‫اإلرادي وقد ّ‬
‫ّ‬ ‫األصلي لهذه الوحدة‪ ،‬فتب ّين أنّها إنّما هي وحدة كون ّية الفعل‬
‫ّ‬
‫توزع بعد على األشخاص في تعددهم‪.‬‬
‫المجردة ولم يكن قد ّ‬
‫ّ‬ ‫تلك اللحظة‬
‫وسابقا للمرور من استقالل ّية الذات في بعدها الك ّلي إلى نظام التعدد ّية يتع ّين‬
‫أي نقد آت من خارج أخالق‬ ‫علينا أن نشير إلى ثالثة مواضع‪ ،‬المسرب إليها قبل ّ‬
‫نوضح‬
‫ثم إنّه لينبغي أن ّ‬
‫بالقوة‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫النص الكانطي نفسه كموضع االستعصاء‬
‫الواجب‪ّ ،‬‬
‫يهمها أن تضيء تلك اللحظة التي يكون‬ ‫أيضا ّ‬
‫أن «ريكور» غفل عمدا في إعادة بناء ّ‬
‫الغائي قد بلغ مداه األقصى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫البون فيها بين وجهة نظر أخالق الواجب والمنظور‬
‫العملي‪ .‬فمثل هذا المبحث‬
‫ّ‬ ‫عن إبراز اإلسهام األصيل لدياليكتيك العقل المحض‬
‫تعمقنا هذا التعبير‬
‫يفتح أمامنا مسارب عمل جديدة مع موضوعة الخير األسمى‪ ،‬ولو ّ‬
‫عما يجب أن نسميه الموضوع‬ ‫التعمق أللفينا فيه ما ينبئ بتساؤل «كانط» ّ‬ ‫ّ‬ ‫بعض‬
‫وإن االنتباه الفاحص يثبت أنّه وبموجب التساؤل‬ ‫عملي‪ّ .‬‬‫ّ‬ ‫الكامل لعقل محض‬
‫الجديد اهتدى «كانط» إلى أرض ّية الغائ ّية األرسط ّية‪ .23‬وحين ننعم النّظر نتب ّين ّ‬
‫أن‬
‫بعض التعابير تدعم مثل هذا التأويل‪ :‬مثال «الخير التا ّم والكامل بما هو موضوع‬
‫المفهومي‬
‫ّ‬ ‫الرغبة عند الكائنات العاقلة والمتناهية‪ ،24‬يستبين بالتالي الجهاز‬
‫لملكة ّ‬
‫الذي انبجست من رحمه هذه المفردات وقدّ ت منه هذه التراكيب‪ ،‬كما ّ‬
‫أن «ريكور»‬
‫يرى ّ‬
‫أن في الجمع بين الفضيلة والسعادة وجه ذو بال‪ ،‬وهو من طبيعة غير تحليل ّية‬
‫بل توليف ّية‪ ،‬وهو ما من شأنه أن يطرح معضلة تقودنا إلى معضلة أكبر وهي معضلة‬
‫المهم إعادة القول مع «كانط» ّ‬
‫بأن الديالكتيك اليهدم‬ ‫ّ‬ ‫العملي ومن‬
‫ّ‬ ‫مصادرات العقل‬
‫ما بنته التحليل ّية‪ .‬وقد أظهر «ريكور» بهذا الصدد أنّه ومن أجل أن تملك اإلرادة‬
‫مهمة هذه اإلشكال ّية الجديدة للخير األسمى والسعادة‪،‬‬
‫استقاللها الذاتي‪ ،‬إنّما تفتح ّ‬
‫أن «كانط» حين ركّز على طبيعة الصلة المتالئمة‪،‬‬ ‫أن االنتباه الفاحص يظهر ّ‬ ‫إالّ ّ‬

‫‪ .23‬يرى «دلبوس» ‪ Victor Delbos‬أن اخلالف بني «أرسطو» و«كانط»‪ ،‬هو يف تصورمها للعالقة بني‬
‫النظرية والتطبيق‪ ،‬فـ «أرسطو» يرى أن النظرية ترتتب عىل التطبيق‪ ،‬وأحيانا يمكنها أن ختتفي أمام‬
‫التطبيق‪ ،‬أما «كانط» فريى أن النظرية هي التي تنظم وتتحكم يف التطبيق‪ ،‬وجيب بالتايل أن توضع‬
‫برصف النظر عن التطبيق‪ :‬صحيح أن األخالق وضعت لتطبق عىل اإلنسان‪ ،‬لكن جيب تأسيسها أوال‬
‫قبل تطبيقها‪ .‬انظر‪ ،‬عبدالرمحان بدوي‪ ،‬األخالق عند كانط‪ ،‬ص ‪( .38‬مرجع سبق ذكره)‬
‫‪ .24‬املصدر نفسه ص‪119 .‬‬
‫ ةديلجوب نب رَمُع ‪.‬د‬ ‫‪380‬‬
‫المتشاكلة أو غير المتالئمة المتشاكلة بين الفضيلة والسعادة لم يكن متأكدا في حقه‬
‫واجب مالقاة «أرسطو» في طريقه وآنئذ يسعنا أن نشير إلى أنّه لم يلتق من بين من‬
‫سبقوه إالّ باإلبيقور ّية والرواق ّية‪.‬‬
‫يتوضح كيف كان يمكن لشكالن ّية أخالق الواجب‬ ‫ّ‬ ‫إنّه في هذا المستوى فقط‬
‫أن تمنع «كانط» من طرح مشكلة الخير األسمى بتعابير الدينام ّية واالستهداف رغم‬
‫وألن «ريكور» يحاول تجذير‬‫ّ‬ ‫القرب الشديد في الظاهر من المعجم األرسطي‪.25‬‬
‫قراءة للمتن الكانطي عميقة‪ ،‬نراه يقترح االستئناف الذي يوجب العودة إلى تلك‬
‫المواضع الثالثة لمساءلتها وتتصل أولى هذه المواضع بطبيعة االستنباط الذي يؤكد‬
‫«كانط» أنّه استقاه من مبدأ االستقالل الذاتي وإن كن ّا نفهم من كلمة استنباط المعنى‬
‫تصور «ريكور» إنّه إنّما‬‫القانوني أي االرتقاء لبلوغ الفرض ّيات السابقة األخيرة‪ ،‬وفي ّ‬
‫ّ‬
‫بأن هذا االرتقاء في حالة االستقالل الذاتي يتو ّقف‬ ‫في أفق هذا الفهم علينا أن نعترف ّ‬
‫جمة‪ ،‬وين ّبه «ريكور»‬ ‫عند اإلقرار بواقعة العقل والتي كانت مدار تأويالت وشروح ّ‬
‫يخص الوعي الذي‬ ‫ّ‬ ‫أن كانط ال يتحدّ ث في مستوى هذه الواقعة إال في ما‬ ‫على ّ‬
‫األخالقي‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬ ‫نحصل عليه من المقدرة على التشريع الذاتي التي يتمتع بها الفاعل‬
‫بأن هذا الوعي إنّما هو البوابة الوحيدة التي‬ ‫أجل ذلك هو ال يجد حرجا في اإلقرار ّ‬
‫الحرية‬
‫ّ‬ ‫نملك للولوج إلى نوع العالقة التوليف ّية التي ينجزها االستقالل الذاتي بين‬
‫والقانون‪.26‬‬

‫‪ .25‬انظر ريكور الذات عينها كآخر ص‪( 412‬مصدر سابق)‬


‫تعب عن استقالل اإلرادة األخالقية‬‫‪ .26‬وإذا كان القانون األخالقي يعرض لنا يف اآلن نفسه بوصفه حرية ّ‬
‫وواجبا ختضع له اإلرادة عينها‪ ،‬فليس ذلك يف تقدير كانط من باب التنافر احلاصل بني احلرية (بوصفها‬
‫يلوح باخلضوع للقانون األخالقي) بل ألن للكائن العاقل « زاويتني‬ ‫استقالال) والواجب (من حيث ّ‬
‫يمكن أن ينظر منهام إىل نفسه ويعرف قوانني استخدام ملكاته‪ ،‬وبالتايل يعرف مجيع أفعاله‪ ،‬من زاوية‬
‫أوىل حيث ينتمي إىل العامل احليس وخيضع إىل قوانني الطبيعة (زاوية التنافر) ومن زاوية ثانية حيث‬
‫ينتمي إىل العامل العقيل وخيضع إىل قوانني مستقلة عن الطبيعة‪ ،‬فال تكون امبرييقية‪ ،‬بل تتأسس عىل‬
‫العقل فقط « (‪ )...‬بدلك التمييز بني الزاويتني (الذي ينبني بدوره عىل التمييز الكانطي بني الظواهر‬
‫واألشياء يف ذاهتا) يتم تربير املرور من فكرة احلرية إىل فكرة االستقالل ومنهام إىل فكرة املبدأ الكيل‬
‫لألخالقية‪.‬‬
‫انظر كانط‪ ،‬نقد العقل العميل‪ ،‬ص ‪( 33‬مرجع سابق)‪.‬‬
‫‪381‬‬ ‫رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست‬

‫ضمن هذا التوجه فإن واقعة العقل ال يمكن أن تكون سوى الوعي الذي نحصل‬
‫عليه من هذه العالقة األصيلة‪ .‬وال يرى «ريكور» حرجا في اعتبار هذا الوعي الشكل‬
‫الواجبي أو بصيغة أخرى‬
‫ّ‬ ‫النوعي الذي يأخذه اإلقرار بوجود «من»؟ في بعده األخالقي‬
‫ّ‬
‫الحرة‪.‬‬
‫الشهادة القائمة حول الوضع العملي لإلرادة ّ‬
‫أن «كانط» إنّما كان يرغب في أن يشير إلى ّ‬
‫أن أخالق الواجب‬ ‫يتع ّين علينا أن ندرك ّ‬
‫المفهومي الذي ظهرت في مستواه هذه المفردات‬
‫ّ‬ ‫قائمة بالفعل ويستبين بالتالي الجهاز‬
‫المعجمي الذي يمتح منه «كانط» في‬
‫ّ‬ ‫وتجلت داخله هذه التراكيب‪ ،‬في ضوء الحقل‬
‫ثمة يستحيل العقل المحض عقال عمل ّيا في الذات‪ ،‬وال ّ‬
‫يدل على‬ ‫هذه الواقعة ومن ّ‬
‫أن «كانط» حين يتك ّلم على واقعه فألنّه يعتبر وعي القانون األخالقي حقيقة‬
‫ذلك من ّ‬
‫واقع ّية ثابت وقوعها في الزمان وليس نسجا من الخيال‪.‬‬
‫الخاص جدّ ا أصبح من الدقيق أن يقال ّ‬
‫بأن االستقالل الذاتي عينه‬ ‫ّ‬ ‫وبهذا المعنى‬
‫نص ورد فيه ذكر‬ ‫أول ّ‬ ‫تقصينا ندرك ّ‬
‫أن ّ‬ ‫وبالمضي في ّ‬
‫ّ‬ ‫يدعى واقعة أكيدة برهاني ّا‬
‫التعبير «واقعة من وقائع العقل» قول «كانط» التالي» علينا أن نالحظ ج ّيدا بأنّه ليس‬
‫اشتراعي في‬
‫ّ‬ ‫واقعة تجريب ّية بل هو واقعة فريدة للعقل الذي يعلن هذا عن نفسه أنّه‬
‫أصله ــ هكذا أريد هكذا آمر ــ »‪ ،27‬وينحسم األمر على تمامه عندما يختزل «ريكور‬
‫لما ظفر بعبارة جامعة مفادها قول يقول ّ‬
‫إن هذه الواقعة لها «داللة‬ ‫«أشتات األمر ّ‬
‫عمل ّية محضة‪.‬‬
‫الضروري أن نلفت النظر إلى ما كان قد ن ّبه إليه «ريكور» من ّ‬
‫أن االحترام‬ ‫ّ‬ ‫وإنّه لمن‬
‫الواجبي ال يتل ّقى كامل داللته‬
‫ّ‬ ‫األخالقي‬
‫ّ‬ ‫لكل المذهب‬‫الرمزي ّ‬
‫ّ‬ ‫الذي انتصب للعنوان‬
‫إالّ إذا ضممنا بنيته الثالث ّية‪ .‬غير ّ‬
‫أن القول الذي هو أولى بالصواب عند «ريكور» أنّه‬
‫وعلى مستوى مبدأ االستقالل ّية الذات ّية وقد باتت الصلة بين الحرية والقانون واضحة‬
‫تنفضح الطبيعة الغريبة لالحترام مادام األشخاص لم يدخلوا في الموضوع بما هم‬
‫غايات في حدّ ذاتها والقول الوجيز ّ‬
‫أن ذلك ناشئ عن مكان االحترام من حيث هو‬
‫شعور فيستوي االحترام دافعا بما أنّه يجعل صاحبه يميل‪.‬‬

‫‪ .27‬املرجع‪ ،‬هو هو‪ 1943 ،‬ص‪.31‬‬


‫ ةديلجوب نب رَمُع ‪.‬د‬ ‫‪382‬‬
‫وهذا ما يؤكّد ّ‬
‫أن االحترام بهذا المعنى ال يط ّبق على األشياء على وجه اإلطالق‬
‫بل يط ّبق على األشخاص وحدهم‪ ،‬في حين ّ‬
‫أن التعبير «احترام القانون األخالقي‬
‫أن موضع‬ ‫إن هذا التردد في الظاهر يفسر ّ‬‫الواجبي» هو التعبير األكثر تداوال من غيره‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫الحقيقي هنا‪ ،‬ليس موضوع االحترام ولكنّه طبيعته بما هو شعور أي بما هو تأ ّثر‬
‫ّ‬ ‫الرهان‬
‫وانفعال بالنسبة إلى مبدأ االستقالل الذاتي‪.‬‬
‫أن المقام يقتضينا لفت االنتباه إلى ّ‬
‫أن «كانط» لم يثر مشكلة العالقة‬ ‫ههنا نرى ّ‬
‫االحتمالي‬
‫ّ‬ ‫بين الطابع شبه التثبيتي للذات بواسطة الذات لالستقالل الذاتي والطابع‬
‫للتأثر باآلخر الذي يشمله وضع االحترام بما هو دافع وحافز‪ .‬ويتضح لنا في ضوء‬
‫بأن الصعوبة يمكن تجاوزها وذلك عن طريق قسمة لطيفة‬ ‫أن»كانط» ظ ّن ّ‬ ‫ما تقدّ م ّ‬
‫للتأ ّثر العاطفي حيث ارتأى تقسيم التأثيرات والعواطف على نوعين‪ :‬أصبحت‬
‫قوة‬
‫(=حب الذات) وفي الحال اإليجاب ّية توقير ّ‬
‫ّ‬ ‫الحال السلب ّية إذالل الكبرياء‬
‫العقل فينا‪.‬‬
‫أن هذا االنفصال الذي يشطر العاطفة إلى شطرين يهم استقصاءنا‬ ‫ال ريب ّ‬
‫األخالقي ذلك ّ‬
‫أن تبنّي‬ ‫ّ‬ ‫حول الصلة بين معيار أخالق الواجب واالستهداف‬
‫التقسيم الكانطي يحدث انزياحا مدهشا بل خطيرا فإذا كان تقدير الذات هو‬
‫فإن «كانط» يرمي به إلى الجهة‬ ‫التعبير التفكّري الستهداف الحياة الج ّيدة الخ ّيرة ّ‬
‫لحب‬
‫ّ‬ ‫أن اإلدانة األخالق ّية‬ ‫ّ‬
‫ولعل ما ينبغي إبرازه هنا هو ّ‬ ‫الس ّيئة من ّ‬
‫خط التقسيم‪.‬‬
‫حب خاص بالمرء لنفسه‪،‬‬ ‫الذات تلحق به في صيغته المزدوجة من جهة ما هو ّ‬
‫وهو ما يمكن أن يتج ّلى ويظهر في شكل اهتمام بالذات واعتداد بالنفس زائد‪ .‬أو‬
‫ّ‬
‫األدق بهذا الخصوص الذي‬ ‫النص‬
‫التساهل مع الذات ويمكن أن تكون قراءة هذا ّ‬
‫يورده «ريكور» خير سبيل يتيح لنا النفاذ الناجع إلى مظانه وإلى دالالته الثاوية‬
‫نسمي هذا الميل بأن يقوم اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫فيما وراء مقاصد «كانط» ونواياه» يمكننا أن‬
‫الحر‪ ،‬فيجعل منها مبدأ موضوع ّيا‬
‫ّ‬ ‫بنفسه بحسب المبادئ الذات ّية التي تع ّين خياره‬
‫حب الذات‪ ،‬وهذا بدوره إن جعل من نفسه مشترعا‬‫يع ّين اإلرادة بشكل عا ّم‪ّ ،‬‬
‫لنفسه ومبدأ عمل ّيا غير مشروط يمكن أن يدعى اعتدادا»‪ .28‬وهكذا يتضح ّ‬
‫أن ما‬

‫‪ .28‬املرجع نفسه ‪1943‬ص ‪.78‬‬


‫‪383‬‬ ‫رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست‬

‫«إن ّ‬
‫كل هذه‬ ‫كان قد دعاه «ريكور» تقديرا للذات ال يبدو أنّه ينجو من هذه اإلدانة ّ‬
‫الواجبي تعدّ‬
‫ّ‬ ‫االدعاءات لتقدير الذات التي تسبق التوافق مع القانون األخالقي‬
‫الغية وغير مشروعة»‪ 29‬وال يعني هذا أبدا إقامة تماثل بين صوت «كانط» وصوت‬
‫«أرسطو» ففي الحقيقة ال يكمن جوهر المسألة هنا‪ ،‬ذلك ّ‬
‫أن ريكور» يعتبر أنّه من‬
‫المشروع تماما أن نرى في االحترام الكانطي وجها من تقدير الذات الذي اجتاز‬
‫بنجاح تجربة معيار التعميم الك ّلي‪.‬‬
‫الشر في مفهوم ديونتولوجي(أخالقياتي)‬
‫وتماديا في التحليل يتساءل «ريكور» حول مكان ّ‬
‫ّ‬
‫«مذل» هو هذا النوع من تقدير‬ ‫‪ déontologique‬ألخالق الواجب‪ ،‬ليفترض ّ‬
‫أن ما هو‬
‫(حب الذات) والذي يشكّل االنحراف الممكن دوما لتقدير‬
‫ّ‬ ‫الذات الذي يسميه «كانط»‬
‫العادي له‪ ،‬وهناك تعبير عند «كانط» يجعل هذا التأويل‬
‫ّ‬ ‫الذات‪ ،‬وهو في الواقع االنحراف‬
‫مقبوال‪ :‬حين يتحدّ ث عن شعور التساوي وهو الوجه الموجب المغاير لشعور اإلكراه في‬
‫يسمي التأثير الذاتي على الشعور بالنسبة إلى هذا‬
‫التكوين المتباين لالحترام فإنّه يقترح أن ّ‬
‫مجرد موافقة‪.‬‬
‫التسامي ّ‬
‫الضروري أن نن ّبه إلى أنّه يوجد سبب يدفع «ريكور» إلى التفكير ّ‬
‫بأن نقد‬ ‫ّ‬ ‫وإنّه لمن‬
‫حب الذات ال يقطع كل صلة ممكنة مع تقدير للذات موجب ال سيما وأنّها حاملة‬
‫ّ‬
‫لالستقالل الذاتي ومأتى هذا السبب على ما يرى «ريكور» االعتبارات الغائ ّية العديدة‬
‫الحاضرة في كتاب ‪ La critique de la faculté de juger‬تلك التي تتع ّلق بالممارسات‬
‫التي تقوم بها الميول التي تتحكّم في الطبيعة البشر ّية والحال ّ‬
‫أن الشخص ّية قد وضعت‬
‫على أعلى هرم هذه الميول‪.‬‬
‫مما هو‬
‫ويهمنا هنا أن نقوم بإطاللة على ما من شأنه أن يرتقي باإلنسان إلى أعلى ّ‬
‫ّ‬
‫عليه كما ورد في كتاب ‪ La critique de la raison pratique‬وبالتحديد في الفصل‬
‫الحرية واالستقالل بالنسبة‬
‫المخصص للدوافع «ليس شيئا آخر سوى الشخص ّية أي ّ‬ ‫ّ‬
‫إلى أو ّالية الطبيعة بأكملها‪ ،‬ونعتبره مع ذلك كسلطة كائن يخضع لقوانين ّ‬
‫خاصة أي‬
‫إلى قوانين محضة عمل ّية يعطيها عقله نفسه‪ ،‬حتّى ّ‬
‫إن الشخص بما هو كائن ينتمي إلى‬

‫‪ .29‬املرجع نفسه ‪ 1943‬ص‪.77‬‬


‫ ةديلجوب نب رَمُع ‪.‬د‬ ‫‪384‬‬
‫الخاصة به بماهي انتماء في الوقت عينه للعالم‬
‫ّ‬ ‫الحسي يخضع إلى شخص ّيته‬
‫ّ‬ ‫العالم‬
‫العقلي‪ ،‬عالم المعقوالت»‪.30‬‬
‫ّ‬
‫«حب الذات» يم ّثل سلطة نقد ّية بالنسبة إلى تقدير‬
‫ّ‬ ‫وبهذا المعنى ّ‬
‫فإن إقصاء‬
‫الشر‪ .‬واآلن وقد استوى‬
‫الذات فضال عن أنه يقوم بوظيفة تطهير ّية في اإلحالة على ّ‬
‫األمر واستقامت المفاهيم على النحو الذي ألمعنا إليه يمكن لـ«ريكور» أن يجازف‬
‫حب الذات إنّما هو ضرب من ضروب التقدير للذات إالّ ّ‬
‫أن النزوع نحو‬ ‫أن ّ‬ ‫بتأكيد ّ‬
‫حرفه وأفسده‪ ،‬كما ّ‬
‫أن االحترام إنّما هو أيضا تقدير الذات وقد انصاع لنظام‬ ‫الشر قد ّ‬
‫ّ‬
‫القانون‪.31‬‬
‫أن االحترام من حيث هو دافع يطرح مشكال يتم ّثل في‬ ‫نوضح ّ‬‫حري بنا أن ّ‬
‫ّ‬ ‫إالّ أنّه‬
‫الربط في‬ ‫إدخال عمل سالب إلى قلب مبدأ االستقالل الذاتي فـ«ريكور» ين ّبه إلى ّ‬
‫أن هذا ّ‬
‫االحترام بين التأكيد الذاتي والتأثر الذاتي والذي من شأنه أن يسمح بوضع استقالل ّية‬
‫الغائي‪ .‬وبذلك يستبين أننّا‬
‫ّ‬ ‫مبدأ االستقالل الذاتي موضع تساؤل بالنسبة إلى المنظور‬
‫سنشكك في االستقالل الذاتي لالستقالل الذاتي ‪ L’autonomie de l’autonomie‬وإذا‬
‫نستشف مالمح هذا االستعصاء المحتمل ّ‬
‫فإن «ريكور» يشير علينا‬ ‫ّ‬ ‫كان من المضني أن‬
‫الجذري» ‪ Essai sur le mal radical‬يفتتح‬
‫ّ‬ ‫الشر‬
‫بضرورة البحث عنه في «مقالة حول ّ‬
‫مجرد العقل»‪.32‬‬
‫بها كتابه «الدين في حدود ّ‬
‫الشر بمعنى أنّه انقالب لنظام يقيم احترام‬ ‫ّ‬
‫إن االنحراف هو المعنى الحرفي لكلمة ّ‬
‫لحرية االختيار‪ ،‬ال‬
‫سيء ّ‬
‫القانون أساسا قبل الميل‪ .‬وهكذا فنحن نقع في استعمال ّ‬

‫‪ .30‬املرجع نفسه ‪ 1943‬ص‪91.‬‬


‫‪ .31‬ال يكون االحرتام لـ «األشياء»‪ ،‬وإذا وجه لـ «األشخاص» فإنام يوجه إليهم عىل اعتبار إهنم رموز‬
‫أو أمثلة عىل الوفاء بالواجب‪ ،‬وموضوع االحرتام هو القانون وحده‪ ،‬القانون كام نفرضه نحن عىل‬
‫أنفسنا‪ ،‬وبام هو قانون رضوري يف ذاته‪.‬‬
‫انظر‪ :‬كانط‪ ،‬تأسيس ميتافيزيقا األخالق‪ ،‬ص ‪( 54‬مرجع مذكور)‬
‫‪32. Kant, la religion dans les limites de la simple raison, traduit par J.Gibeli (Paris: Vrin,‬‬
‫‪1968), p559‬‬
‫انظر‪ ،‬القطعة األوىل‪ ،‬يف أن مبدأ الرش ساكن بجوار مبدأ اخلري‪ ،‬أو حول الرش اجلذري يف الطبيعة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬الرتمجة العرب ّية‪ ،‬ايامنويل كانط‪ ،‬الدين يف حدود جمرد العقل‪ ،‬ترمجة فتحي املسكيني‪ ،‬جداول‬
‫للنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل فيفري ‪2012‬‬
‫‪385‬‬ ‫رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست‬

‫العملي عينه ذلك أنّه لو كان ذلك كذلك‬


‫ّ‬ ‫تصرف الرغبة وال مع إفساد العقل‬
‫مع سوء ّ‬
‫مجرد كائن سيئ‪.‬‬
‫الستحال اإلنسان كائنا شيطان ّيا‪ ،‬ال ّ‬
‫الشر واالستعداد للخير الذي‬
‫إنّه هنا بالتحديد يبدأ وجه التمايز بين النزوع إلى ّ‬
‫يراه «كانط» مالزما لوضع اإلرادة المتناهية‪ ،‬وإنّه ما مكّنه من تأكيد عرض ّية هذا النزوع‬
‫فإن «ريكور» يذهب إلى أنه‬‫البشري‪ ،‬بيد أنّه وعلى الرغم من ذلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫على صعيد التاريخ‬
‫التصرف بحسب‬
‫ّ‬ ‫الحرية وفي المقدرة على‬
‫الشر أثر واضح في استعمال ّ‬
‫للنزوع إلى ّ‬
‫الواجب وبإيجاز في المقدرة على أن يكون المرء فعال مستق ّ‬
‫ال ذاتيا‪ .‬في هذا المستوى‬
‫الحرية‪ ،‬حتّى‬
‫أن هذا التأثير على ّ‬ ‫تحديدا يثوي المشكل الحقيقي‪ ،‬ذلك أنّه ليس يستبعد ّ‬
‫إن لم يصل إلى مبدأ أخالق ّية الواجب التي تـُظِ ّل االستقالل الذاتي فإنّه يطال ممارستها‬
‫وتحقيقها‪.‬‬
‫غير ّ‬
‫أن هذا الوضع العجيب هو الذي من شأنه أن يفتح أمام الدين فضاء ال يشبه‬
‫فلسفة األخالق في شيء وبحسب «كانط» يكاد يكون من المحقق أن الموضوعة‬
‫الحرية أي إعادة سيطرة مبدأ الخير عليها‪.‬‬
‫الوحيدة للدين إنّما هي إعادة إحياء ّ‬
‫الشر ليأخذ‬
‫مؤشر انعطاف هو أنّه وعلى أرضية االستعدادات يأتي ّ‬ ‫على ّ‬
‫أن ما يشكل ّ‬
‫له مكانا‪ ،‬وبالتالي يظهر مقصود «كانط» بالنزوع‪ ،‬ذلك أنّه األساس الذاتي إلمكان ّية‬
‫وجود ميل‪.‬‬
‫األعم لالستعدادات‪ .‬في‬‫ّ‬ ‫الشر يدخل في النظر ّية‬ ‫هاهنا يمكن بيان ّ‬
‫أن النزوع إلى ّ‬
‫هم‬ ‫جذري وليس أصل ًّيا‪ .‬ولقد نعلم ّ‬
‫أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشر‬
‫أن ّ‬‫هذا المستوى بالذات بات ممكنا القول ّ‬
‫كل المس ّلمات‪ ،‬أضف إلى‬ ‫جذري ألنه يفسد أساس ّ‬‫ّ‬ ‫الشر‬
‫أن ّ‬ ‫«كانط» إنّما هو أن يثبت ّ‬
‫ّ‬
‫وألن األمر على هذه الشاكلة فإنّه ال يمكن للقوى البشر ّية‬ ‫طبيعي‬
‫ّ‬ ‫ذلك أنّه بما هو نزوع‬
‫أن تستأصله‪.33‬‬

‫‪ .33‬يذهب «ريكور» إىل أن الرش مل يعد يستطيع هو أيضا أن يقيم يف ختريب العقل‪ ،‬فالكائن خارج القانون‬
‫لن يكون رشيرا لكثرة ما هو شيطاين (‪ )...‬وإنني ألرى عىل نحو أكثر دقة كذلك يف «كانط» التجيل‬
‫الفلسفي التام بأن الرش األعىل ال يمثل املخالفة الكبرية للواجب‪ ،‬ولكنه يمثل اخلب‪ravitas ،‬‬
‫‪ vitiositas‬الذي جيعلنا نرى اخليانة أنه فضيلة‪.‬‬
‫انظر‪ ،‬ريكور‪ ،‬رصاع التأويالت‪ ،‬ص ‪( ،357‬مصدر سابق)‬
‫ ةديلجوب نب رَمُع ‪.‬د‬ ‫‪386‬‬
‫وليس للناظر إالّ أن يالحظ كيف يلفت «ريكور» االنتباه إلى مناقشة قديمة ويجعل‬
‫منها مالذا يلجأ إليه ليبرهن على ما يذهب إليه وليطمئن القارئ االطمئنان ك ّله على‬
‫أن هذه المسألة تعيد «كانط» إلى أراضي مناقشة كانت قد تحددت بالصراع بين»‬ ‫ّ‬
‫أوغسطينوس» و«بيالجيوس» ويرى «ريكور» في تحليل «كانط» حرصا خفيا على‬
‫الشر توقا‬
‫األوغسطيني عندما يجعل من الجنوح إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلبقاء على شيء من التراث‬
‫فطر ّيا‪.‬‬
‫الشر يتناسل مع كل فعل س ّيئ وإن كان في األصل موجودا وسابقا‬
‫أن ّ‬ ‫فقد أوضح ّ‬
‫حر ّية االختيار فكرة جذر ّية حين جعل منها‬ ‫لذلك الفعل‪ 34‬بل ّ‬
‫إن «كانط» قد جعل فكرة ّ‬

‫‪ .34‬انظر‪Jean Nabert « note sur l’idée du mal chez Kant » dans Essai sur le mal (Paris:‬‬
‫‪ 165‬ــ ‪PUF 1955)pp159‬‬
‫من أهم مؤلفات جان نابري (‪ 1881‬ــ ‪ )1960‬التجربة اجلوانية للحرية ‪L’expérience interne de‬‬
‫)‪ la libreté (1924‬وعنارص من أجل نظرية أخالقية )‪Eléments pour une éthique (1943‬‬
‫ومها الكتابان اللذان قدّ م هلام «ريكور» يف طبعتيهام الالحقتني‪ .‬وهو ما من شأنه أن ينبئ عن املسلك‬
‫الذي سلكه «ريكور» يف ثالثية «اإلرادي والالإرادي»‪ ،‬مقتفيا آثار «نابري»‪ ،‬وهو ما يمكن أن يسمى‬
‫«مسلكا اتيقيا»‪ ،‬لقد كان رضبا من رضوب التأمل يف الرش الذي شهده العامل ابانئذ‪ ،‬وهبذا كان اختالف‬
‫طروحات «ريكور» عىل ما أنجزته «حنا ارندت» حول الكليانية‪ ،‬وما أنجزه «مارلوبونتي» حول‬
‫احلرب والعنف‪ ،‬من حتاليل سياسية‪.‬‬
‫‪- Karl Jaspers, « Le mal radical chez Kant», dans: Karl Jespers, Billon et perspectives,‬‬
‫‪traduit par H ;Naef et J.Hersch (Desclée de Bronmer, 1956), pp189 - 215‬‬
‫من أهم مؤلفات « كارل ياسربز»‪« ،‬الذنب األملاين» (‪« ،)1946‬مدخل إىل الفلسفة» (‪ )1950‬وفيها‬
‫اجتهد كفيلسوف وجودي يف ترمجة حمنة الوجود األساسية التي تتجىل يف جتربة الفشل‪ ،‬والعذاب‬
‫والرش‪ ...‬باعتبارها وضعيات قصوى تشهد عىل نقص يف الوجود يشكل منطلقا للفلسفة‪ .‬ولقد‬
‫اعترب «ريكور»‪« ،‬كارل ياسربز» ملهمه األول‪ ،‬فقد ساعدته «وجوديته املؤمنة» أثناء االعتقال‬
‫وذلك ألهنا حتمل جزءا اتيقيا ينهض عىل إمكان بناء عالقة حوارية مع اآلخر تقوم عىل االعرتاف‬
‫والتفاهم‪ .‬ويقول «ريكور»‪« ،‬وأنا مدين لـ «ياسربز» الذي استطاع أن يبقي عىل إعجايب بالفكر‬
‫األملاين‪ ،‬فلم تعصف به فضاعات املحيط و«إرهاب التاريخ»‪ ،‬وقد أثمرت الدراسة الدقيقة‬
‫ألعامل «ياسربز» الذي اشرتكت يف تأليفه مع )‪ 1995‬ــ ‪ ،Mikel Dufrenne (1910‬وجعلنا‬
‫عيل أن أضيف إليه فيام بعد‪ ،‬كتابا يف الفلسفة‬
‫عنوانه‪ :‬كارل ياسربز وفلسفة الوجود (‪ )1947‬وكان ّ‬
‫املقارنة‪ ،‬عنوانه‪:‬غربيال مرسال وكارل ياسربز‪ ،‬فلسفة الرس وفلسفة املفارقة (‪».)1949‬‬
‫‪Paul Ricœur, Karl Jaspers et la philosophie de l’existence. En collaboration avec‬‬
‫‪Mikel Dufrenne. Préface de Karl Jasper. Paris, Seuil, 1947. (Réédition en 2000).‬‬
‫‪387‬‬ ‫رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست‬

‫مركز معارضة حقيق ّية لمصدر نشوء المس ّلمات عندما جعل ّ‬
‫الشر جذر ّيا وحين أدخل‬
‫كل المس ّلمات‪ .‬وبمثل هذا التقدير يستحيل‬ ‫الفكرة الصعبة لوجود مس ّلمة سيئة من بين ّ‬
‫لحرية االختيار التي تتراءى حاملة‬
‫الشر إلى عامل يزيح الحجب عن الطبيعة الجذر ّية ــ ّ‬
‫ّ‬
‫أصلي يحدّ من قدرتها على تحديد ذاتها وموقعها من القانون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لجرح‬
‫ولع ّله هاهنا تحديدا يتج ّلى لغز أصل ّ‬
‫الشر بوضوح فيما تخضع له الممارسة الفعل ّية‬
‫الشر أن يكون هذا النزوع موجودا‬ ‫يقل غموضا عن أصل ّ‬ ‫أن ما ال ّ‬
‫للحرية من تأثير غير ّ‬
‫ّ‬
‫كل مناسبة اختيار‪ ،‬وأن يكون مع ذلك مس ّلمة ّ‬
‫لحرية االختيار‪.‬‬ ‫دائما‪ ،‬سابقا في ّ‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫التصور الديونتولوجي ألخالق الواجب الحقا‬
‫ّ‬ ‫سيوجه ّ‬
‫كل أطوار‬ ‫ّ‬ ‫وبهذا ينشأ تساؤل‬
‫وحرية االختيار منابت حقيق ّية تلزم األخالق بسمات فلسفة أخالق‬
‫الشر ّ‬
‫مناطه إثبات ّ‬
‫الواجب‪.‬‬
‫ولما كان األمر كذلك ينتهي «ريكور إلى استخالص فكرة على غاية من الدقة‬ ‫ّ‬
‫بتحمل مسؤول ّية اختبار اإللزام‬
‫ّ‬ ‫والخطورة تلزم استهداف الحياة الج ّيدة الخ ّيرة‬
‫«تصرف فقط‬
‫ّ‬ ‫الواجبي الذي يمكننا أن نعيد صياغته على الشكل التالي‬
‫ّ‬ ‫األخالقي‬
‫بحسب المس ّلمة التي تمكنك في الوقت نفسه من أن تريد من أالّ يكون ما يجب أالّ‬
‫الشر»‪.35‬‬
‫يكون‪ ،‬أي ّ‬

‫‪Paul Ricœur, Gabriel Marcel et Karl Jaspers: Philosophie du mystère et philosophie du‬‬
‫‪paradoxe, Paris, Temps présent, 1948.‬‬
‫انظر‪ ،‬بول ريكور‪ ،‬بعد طول تأمل‪ :‬السرية الذاتية ترمجة فؤاد مليت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬املغرب‪،‬‬
‫ط‪ ،2006 ،1‬ص ‪.37‬‬
‫‪ .35‬إن الرش هو قبل كل يشء ما ال جيب أن يكون‪ ،‬بل جيب أن يصارع‪ .‬فتحت تأثري األسطورة‪ ،‬يكون‬
‫التفكري التأميل مشدودا إىل اخللف باجتاه األصل‪« :‬من أين يأيت الرش؟»‪ ،‬إن جواب الفعل ــ وليس احلل‬
‫ــ هو‪« :‬ما العمل يف مواجهة الرش؟» هكذا يتوجه النظر باجتاه املستقبل‪ .‬بفكرة املهمة الواجب إنجازها‪،‬‬
‫والتي تستجيب لفكرة األصل الذي جيب اكتشافه‪.‬‬
‫انظر‪ ،‬بول ريكور‪ ،‬فلسفة اإلرادة‪ ،‬االنسان اخلطاء‪ ،‬ترمجة عدنان نجيب الدين‪ ،‬املركز الثقايف العريب‬
‫بريوت‪ ،‬الدار البيضاء ط ‪ ،2008 ،2‬ص ‪.242‬‬
‫‪Ricœur (Paul), Philosophie de la volonté (1950 - 1960) tome 1: Le volontaire et‬‬
‫‪l’involontaire, Paris, Aubier, 1950; réédité en 1988 tome 2: Finitude et Culpabilité.‬‬
‫ ةديلجوب نب رَمُع ‪.‬د‬ ‫‪388‬‬

‫المراجع‬
‫‪-‬بول ريكور‪ ،‬الذات عينها كآخر‪ ،‬ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي‪ ،‬المنظمة‬
‫العربية للترجمة بيروت لبنان‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬نوفمبر ‪.2005‬‬
‫‪-‬بول ريكور‪ ،‬صراع التأويالت‪ ،‬ترجمة منذر عياشي‪ ،‬دار الكتاب الجديد المتحدة‬
‫بيروت‪،2005 ،‬‬
‫‪-‬بول ريكور‪ ،‬بعد طول تأمل‪ :‬السيرة الذاتية ترجمة فؤاد مليت‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫العربي‪ ،‬المغرب‪ ،‬ط‪.2006 ،1‬‬
‫‪-‬بول ريكور‪ ،‬فلسفة اإلرادة‪ ،‬االنسان الخطاء‪ ،‬ترجمة عدنان نجيب الدين‪ ،‬المركز‬
‫الثقافي العربي بيروت‪ ،‬الدار البيضاء ط‪.2008 ،2‬‬
‫‪-‬ايمانويل كانط تأسيس ميتافيزيقا األخالق ترجمة وتقديم عبد الغفار مكاوي‬
‫منشورات الجمل الطبعة األولى كولونيا‪.2002 ،‬‬
‫‪-‬ايمانويل كانط‪ ،‬نقد العقل العملي‪ ،‬تعريب وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬جداول للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬ط ‪ ،1‬نوفمبر ‪.2011‬‬
‫‪-‬ايمانويل كانط‪ ،‬الدين في حدود مجرد العقل‪ ،‬ترجمة فتحي المسكيني‪ ،‬جداول‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى فيفري ‪2012‬‬
‫‪-‬عبد الرحمان بدوي‪ ،‬األخالق عند كانط‪ ،‬وكالة المطبوعات‪ ،‬الكويت‪.1979 ،‬‬
‫‪ 1960).‬ــ ‪-- Ricœur (Paul), Philosophie de la volonté (1950‬‬
‫‪-- tome 1: Le volontaire et l’involontaire, Paris, Aubier, 1950; réédité en 1988.‬‬

‫‪I. L’homme faillible, Paris, Aubier, 1960 tome 3: Finitude et Culpabilité. II. La‬‬
‫‪symbolique du mal, Paris, Aubier, 1960.‬‬
‫‪Les tomes 2 et 3 de l’édition originale ont été regroupés dans un seul tome, lors de‬‬
‫‪la réédition de 1988: Finitude et Culpabilité.‬‬
389 ‫رشلا ةلكشم لوح روكير لؤاست‬

-- tome 2: Finitude et Culpabilité. I. L’homme faillible, Paris, Aubier, 1960.


-- tome 3: Finitude et Culpabilité. II. La symbolique du mal, Paris, Aubier,
1960.
-- Les tomes 2 et 3 de l’édition originale ont été regroupés dans un seul tome,
lors de la réédition de 1988: Finitude et Culpabilité.
-- P. Ricœur: Le conflit des interprétations, Essais d’herméneutique, Paris,
Seuil, coll, L’ordre philosophique, 1969.
-- Ricœur (Paul), Soi ‫ ــ‬même comme un autre, Paris, Seuil, coll. «L’Ordre
philosophique», 1990; réédition, coll. «Points Essais», 1996
-- Paul Ricœur, Karl Jaspers et la philosophie de l’existence. En collaboration
avec Mikel Dufrenne. Préface de Karl Jasper. Paris, Seuil, 1947. (Réédition
en 2000).
-- Paul Ricœur, Gabriel Marcel et Karl Jaspers: Philosophie du mystère et
philosophie du paradoxe, Paris, Temps présent, 1948.
-- Emmanuel Kant, Critique de la raison pratique, traduit par, F. Picavet,
Paris ,P.U.F 1943 , 4è ed , 1965.
-- Emmanuel Kant Fondements de la métaphysique des mœurs, traduit par V.
Delbós; revue et modifiée par F.Alquie, collection bibliothèque de la pléade
(Paris: Gallimard, 1985), tome 2, p.250, dans Œuvres philosophiques.
-- Kant, la religion dans les limites de la simple raison, traduit par J.Gibeli
(Paris :Vrin, 1968).
-- Karl Jaspers, «Le mal radical chez Kant» ,dans : Karl Jespers, Billon et
perspectives, traduit par H ;Naef et J.Hersch (Desclée de Bronmer,1956).
-- Simone Gayard ‫ ــ‬Fabre, Kant et le problème du droit (Paris : Vrin.1975).
‫د‬. ‫ ةديلجوب نب رَمُع‬ 390
-- Hoffet, Introduction a la philosophie pratique de Kant.
-- Jean Jacques Rousseau, du contrat social, édité par B.Gagnebin et M.
Raymond, collection, bibliothèque de la pléiade, (Paris): Gallimard, 1964,
tome 3, livre 1, chap. VIII
‫دراسات‬

‫أخالقيات الوجه في إدارة النزاع‬


‫دراسة تداولية إليتيقا الخير والشر‬
‫د‪ .‬مصطفى العطار‬
‫‪1‬‬ ‫_____________________________________________‬

‫عاش اإلنسان منذ األزل في حمأة الصراع مع اآلخر المختلف‪ .‬وفي ظل هذا‬
‫التدافع إلقرار الحق في الكينونة والوجود‪ ،‬تفرق الناس طرائق قددا‪ ،‬ونشأت بينهم‬
‫نزاعات مسلحة دانت بالوالء للقوة التهديدية على حساب القوة التكاملية‪ ،‬كما‬
‫تم تحييد القوانين وتجاهل التشريعات؛ فكان أن بعدت الشقة بين المجتمعات‪،‬‬
‫وتفتتت بنيات وأنساق داخلية بسبب طغيان منطق المواجهة والرد على منطق‬
‫الحوار والتوافق‪ .‬وقد أصبح لزاما على الباحثين في علم النزاع إعادة تشكيل‬
‫العالقات الدولية بإعمال مسالك التخاطب الرحيم التي تخرج اإلنسان من نزوعه‬
‫إلى التصادم والشر وتبرز ما فيه من تعاطف وقدرة على العطاء من القلب‪ ،‬لبناء‬
‫عالم أخالقي جديد يتقوم بالمحبة والخير والعيش المشترك‪ .‬وال شك أن اللسانيات‬
‫التداولية تقدم أدوات إجرائية تتميز بقدر كبير من النجاعة والمعقولية في تفسير‬
‫أسباب النزوع نحو الشر وضبط مساراته وتوجيه مخرجاته‪ .‬من هنا؛ كانت الحاجة‬
‫ملحة إلى إدارة النزاعات على وفق مقاربة جديدة تعتمد التفاوض المؤسس على‬
‫أخالق المسؤولية‪ ،‬وتشتغل بطريقة تعاونية تؤثر إيجابا على منهجية تصريف الكالم‬
‫وإجراءات تبديل األفهام‪.‬‬
‫وال شك في أن التوسل بأدوات العنف والقوة والتهديد والتملص من‬
‫بروتوكوالت القانون الدولي اإلنساني‪ ،‬يؤدي إلى تعميق مساحات االنزياح‬

‫‪ .1‬أستاذ التعليم العايل مساعد‪ ،‬املركز اجلهوي ملهن الرتبية والتكوين طنجة‪ ،‬تطوان‪ ،‬احلسيمة‪ ،‬دكتوراه‬
‫يف اللسانيات والتواصل والرتمجة‪.‬‬
‫ راطعلا ىفطصم ‪.‬د‬ ‫‪392‬‬
‫وتكريس الرغبة الجامحة في تحييد اآلخر وإلغاء وجوده وحرمانه من التعبير‬
‫عن شعوره‪ ،‬بدل التعاطف معه وتفهم حاجياته إلعادة تأسيس وعي هوياتي‬
‫جمعي قوامه االحترام وإعمال ثقافة االعتراف بآخرية الغير‪ ،‬لبناء كيان دولتي‬
‫يحتكم للقوانين والتشريعات المتفق عليها‪ ،‬تلك التي تتخذ صبغة اإللزام والقسر‬
‫لألطراف الموقعة عليها‪ ،‬دون اإلخالل بإتيقا النقاش‪ 2‬بوصفها بديال إجرائيا‬
‫للعقل األداتي‪ ،‬كما أقرها هابرماس‪.‬‬

‫التواصل الرحيم‪ ،‬أو التأسيس لقانون إنساني كوني‪:‬‬


‫يشكل مفهوم التواصل الرحيم العبارة المفتاح التي عليها مدار هذه الدراسة‬
‫التي منها البدء وإليها المنتهى في تدبير النزاع تدبيرا خيرا يحقق فيه كل طرف هدفه‬
‫مع الحفاظ على العالقة‪ ،‬ضمانا للعيش المشترك الذي يمكن أن يؤسس لمفهوم‬
‫المواطنة الكونية في ظل قانون كوسموبوليتي عادل يسود فيه السلم العالمي‪ ،‬بما‬
‫ينسجم مع المادة األولى من إعالن األمم المتحدة لحقوق اإلنسان الصادر بتاريخ‬
‫‪ 10‬دجنبر ‪ ،1948‬الذي ينص على أن «جميع الناس يولدون أحرارا متساوين في‬
‫الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقال وضميرا‪ ،‬فعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح‬
‫اإلخاء»‪ .‬في هذا التصريح تبرز الحاجة الملحة إلى أخالق كونية مشتركة قوامها‬
‫التعاون والتعاطف داخل نطاق التشريع اإلنساني الذي ال يحتكم لسؤال الهوية‬
‫واالنتماء؛ بل يدين بالوالء للقيم اإلنسانية الكونية التي تتأسس على التضامن‬
‫والتسامح والمحبة‪ ،‬وتعترف بمفهوم الوازع األخالقي الذي ينضبط لهذه التشريعات‬
‫والقوانين‪.‬‬
‫إن القانون‪ ،‬على حد تعبير كانط‪ ،‬هو الذي يسمح بتعايش حرية كل فرد‬
‫مع حرية الفرد اآلخر تبعا لقانون كلي‪ ،‬بحيث تسمح قاعدته المعيارية بهذا‬
‫التعايش‪ .3‬واستدعاء هذا القانون هو بمثابة إقرار لدستور موحد يؤسس لجماعة‬

‫‪2. J.Habermas, De L’éthique de la discussion, (Cerf 1992).‬‬


‫‪ .3‬عبد اﷲ السيد ولد باه‪ ،‬نظرية كانط يف السالم الدائم‪ :‬قراءة يورغن هابرماس‪( ،‬ص ‪ ،)215‬جملة‬
‫التفاهم‪ ،‬السنة الثانية عرشة‪ ،‬شتاء ‪2014‬م‪1435/‬هـ‪.‬‬
‫‪393‬‬ ‫ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ‬

‫أخالقية كونية وعاقلة‪ ،‬تمارس حقوقها في ظل السلم الدائم‪ ،‬وتكتسي صبغة‬


‫اإلطالقية ما دامت مستمدة من العقل الخالص ذي اإلرادة الخيرة التي تعمل‬
‫بمقتضى الواجب‪ ،‬وتخاصم كل غاية نفعية تركن إلى اإللف والعادة والموقف‬
‫الجزئي‪ .‬ولما كان ذلك كذلك؛ عمد كانط إلى صياغة جملة من القواعد‬
‫الكونية؛ كقاعدة التعميم والشمول التي مؤداها األمر األخالقي المطلق‪:‬‬
‫«افعل الفعل بحيث يمكن لمسلمة سلوكك أن تصبح مبدأ لتشريع عام»‪ .4‬أو‬
‫كما يقول بصيغة أخرى‪« :‬افعل الفعل بحيث تعامل اإلنسانية في شخصك وفي‬
‫شخص كل إنسان سواك باعتبارها دائما‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬غاية في ذاتها‪ ،‬وال‬
‫تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة»‪ .5‬التمكين لنظرية األخالق الكانطية‬
‫هو المعادل الموضوعي لتحقيق السلم الدائم واإلقرار بمقولة اإلنسان بما‬
‫هو إنسان حر‪ ،‬من دون أن تتعارض حريته مع مسألة الوعي القانوني الجمعي‬
‫الذي يعدّ الدستور األسمى الضامن لعدالة التشريعات والقوانين‪ ،‬والفاصل‬
‫بين مرحلة ما قبل النزاع ومرحلة ما بعد النزاع؛ ذلك أن العقل األخالقي‬
‫الكوني يمنع كل نية يعود معها اإلنسان إلى سيرته األولى في الصراع والنزوع‬
‫نحو الشر‪ ،‬وهو ما يمكن أن يؤشر على سلم موسوم بالديمومة والثبات‪ ،‬يكفله‬
‫القانون الدولي لحقوق اإلنسان الذي يقضي بضرورة التصرف بحسن نية‬
‫حتى في المعاهدات التي تم التوقيع عليها دون التصديق عليها؛ وذلك بالكف‬
‫عن مجمل السلوكات التي من شأنها تعطيل سير هذه المعاهدات من حيث‬
‫موضوعها أو هدفها‪.‬‬
‫يسعى التواصل الالعنيف على وفق مارشال روزنبرغ إلى اإلبقاء على الشعور‬
‫بالتعاطف تجاه اآلخر‪ ،‬وإخالء القلب من العنف‪ ،‬وإعادة صياغة األسلوب‬
‫الذي نتوسل به للتعبير عن أنفسنا واإلصغاء لآلخر؛ ما ينجم عنه استبدال موقف‬

‫وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪Kant, La Logique, (Vrin, 1989), p 25‬‬
‫‪ .4‬أمانويل كانت‪ ،‬تأسيس ميتافيزيقا األخالق‪ ،‬ترمجة وتقديم د‪ .‬عبد الغفار مكاوي‪ ،‬مراجعة د‪ .‬عبد‬
‫الرمحن بدوي‪( ،‬منشورات اجلمل‪ ،‬ط‪ ،1‬كولونيا ــ أملانيا‪ ،)2002 ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ .5‬املرجع السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫ راطعلا ىفطصم ‪.‬د‬ ‫‪394‬‬
‫المواجهة والرد بموقف المصالحة والتوافق‪ ،‬بعيدا عن األحكام الجاهزة التي‬
‫تنمط اآلخر وتقولبه‪ ،‬فتعدم سبل العطاء المتبادل من القلب‪ ،‬مع التركيز على‬
‫كيفية اإلبقاء على الجانب البشري فينا حتى عند التعرض لظروف قاسية‪ .‬إن جميع‬
‫البشر مبرمجون فطريا على التعاطف‪ ،‬بل منشأ الصراع في اإلستراتيجيات المتبعة‬
‫إلدارة الحاجيات اإلنسانية المشتركة‪ ،‬وهي مسالك تنم عن جهل باالختيارات‬
‫التواصلية األكثر فعالية ونجاعة؛ فإذا استطعنا تلبية احتياجاتنا بالموازاة مع‬
‫احتياجات اآلخرين‪ ،‬يمكن الوصول إلى إحداث تناغم في الرؤى والمواقف‪،‬‬
‫والتحول من الصراع بين األنا بوصفه ضدا لآلخر إلى األنا واآلخر بوصفهما‬
‫ضدا للمشكلة‪ ،‬بالشكل الذي يجعل سلوكنا تعاونيا‪ .‬إن طريقة التعاطي مع ثنائية‬
‫الهدف والعالقة هي المحدد األساس لما ينبغي أن يكون عليه الصراع؛ فإما أن‬
‫نعمل النمط التنافسي الذي نحقق فيه الهدف ونخسر العالقة؛ وهو نمط يحتكم‬
‫إلى لغة القوة والتهديد والتطويع والقدرة على التشغيب والمغالطة والميل إلى‬
‫الجدل‪ ،‬وإما أن نتوسل بالنمط التنازلي الذي نربح فيه العالقة ونخسر الهدف؛‬
‫ولكن ذلك يكون على حساب التخلي عن اآلراء واألفكار والمعتقدات‪ ،‬وإما أن‬
‫نوظف النمط الهروبي الذي نضحي فيه بالعالقة والهدف معا؛ من خالل التغاضي‬
‫عن الخالف بإنكاره‪ ،‬وإما أن نختار النمط الذي يقوم على المساومة باعتبارها‬
‫حال وسطيا يجمع بين التصلب والتعاون‪ ،‬وبين التنافس والتنازل‪ ،‬مع التحلي‬
‫بقدر كبير من المرونة والمقايضة لتبادل التنازالت‪ .‬ويبقى النمط التعاوني أرقى‬
‫هذه األنماط الخمسة‪.‬‬
‫«إن طريقة التواصل غير العنيف تدربنا على المالحظة بدقة واهتمام‪ ،‬وتمنحنا‬
‫القدرة على تحديد السلوكيات والظروف التي تؤثر علينا‪ ...‬إن التواصل غير‬
‫العنيف صيغة سهلة‪ ،‬ولكنها تحدث تغييرا هائال»‪ .6‬لذلك؛ يكون الرهان‪ ،‬مع‬
‫هذه الصيغة‪ ،‬هو تذكر كيفية تركيز االنتباه على الموضع الذي يعزز من احتماالت‬

‫‪6. Marshall.B.Rosenburg, Nonviolent communication, A Language of life,‬‬


‫‪(PuddleDancer Press 2003), p 1.‬‬
‫‪395‬‬ ‫ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ‬

‫حصولنا على ما نريده‪ ،7‬وال شك أن أسمى ما نطمح إليه هو التعاطف‪ ،‬الذي هو‬
‫عطاء من القلب‪ ،‬نسعى فيه طواعية إلى إثراء حياة شخص آخر‪ ،‬مع ما يرافق ذلك‬
‫من إحساس بمتعة العطاء واألخذ معا‪ .‬وال يتم ذلك إال بتركيز نافذة اإلدراك على‬
‫جوانب أربعة ‪:8‬‬
‫المالحظة من دون إصدار أي حكم أو تقييم؛‬
‫التعبير عن الشعور عند مالحظة السلوك؛‬
‫تقرير احتياجاتنا المرتبطة بالمشاعر التي قمنا بتحديدها؛‬
‫الطلب المحدد بدقة‪.‬‬
‫ومن شأن هذه المقومات األربعة أن تمنح لعالقاتنا مع اآلخر مزيدا من الدفء‪،‬‬
‫وهي ذات طبيعة ممتدة أو مستعرضة؛ ألنها تطال ميادين مختلفة‪ ،‬بما في ذلك تدبير‬
‫النزاعات في العالقات الدولية وتوجيه مآالت التفاوض‪ .‬ولكن ما الذي يجعل‬
‫التواصل معيقا للتعاطف؟ أو ما األسباب التي لو أقحمت في عملية التواصل‪ ،‬فإنها‬
‫تزري بشروط الرحمة فيه؟‬
‫إن تصنيف اآلخر والحكم عليه أخالقيا‪ ،‬من المعيقات التي تضرب في‬
‫قيمة التواصل الرحيم؛ فاألحكام األخالقية غالبا ما تكون صادرة عن عدم‬
‫التوافق في القيم والمعتقدات والمواقف‪ ،‬األمر الذي يجعلنا ننعت اآلخر‬
‫بالسوء‪ ،‬ونصنفه في محور الشر لمجرد اختالفه معنا في إدراك العالم‪ ،‬عالوة‬
‫على إنكار المسؤولية التي تحاكم اآلخر وتضعه في قفص االتهام وتبرئ‬
‫الذات من اجتراحها الشر أو من تحمل مسؤوليتها تجاه تصرفات رعناء صادرة‬
‫عنها‪ ،‬فضال عن التوسل بلغة ترشح عنها األوامر التي تمثل تهديدا صريحا‬
‫أو ضمنيا لآلخر الذي يشعر بالخوف من العقاب أو اللوم إذا لم يذعن لهذه‬
‫األوامر الفوقية‪.9‬‬

‫‪7. Ibid, p 4.‬‬


‫‪8. Ibid, p 6.‬‬
‫‪9. Ibid, p22.‬‬
‫ راطعلا ىفطصم ‪.‬د‬ ‫‪396‬‬
‫إيتيقا النقاش‪ ،‬أو تهذيب الفعل التواصلي‪:‬‬
‫يستند الفعل التواصلي على عملية تعاونية تروم التأسيس ألخالق نظرية في‬
‫صورتها الموسعة‪ ،‬تلك التي تتقوم بالنقاش العقالني الصارم والمنفتح‪ ،‬من‬
‫جهة كونه معيارا يتشارط مع المصداقية والرغبة في الوصول إلى التفاهم في‬
‫زمن التعددية‪ .‬وهذا ما يجعل من مسألة الحقيقة ال تعرف بشكل أحادي‪ ،‬وإنما‬
‫هي متروكة للتداول والتخاطب بين الجماعات اإلنسانية‪ ،‬باالستناد إلى قواعد‬
‫الحوار السليم وبدهيات المنطق اللغوي والبرهاني؛ ومن ثم تغدو الحقيقة‬
‫قيمة مشتركة‪ ،‬من منطلق كونها تتسم بالشمول وقابلية األجرأة داخل أنساق‬
‫اجتماعية مختلفة وضمن أحياز جغرافية متباعدة‪ ،‬يوحدها النقاش البيني الحر‪،‬‬
‫ويحكمها قانون كلي ينبني على مفهوم حقوق اإلنسان داخل مجموعة منظمة‬
‫من الشعوب‪.10‬‬
‫إن المبادئ األخالقية التي اقترحها هابرماس تجعل من عملية التفاوض ذات‬
‫بعد تداولي يعترف بجميع األطراف الفاعلة في سيرورة الحوار‪ ،‬كما يقر كل واحد‪،‬‬
‫في دورة النقاش هذه‪ ،‬بالمحصالت والنتائج التي تلزم جميع األفراد بمخرجاتها‬
‫التي تقبلها الجماعة عن طيب خاطر؛ ألنها محل إجماع وتوافق ينطلق من «شرعية‬
‫معيارية يتم تحقيقها بواسطة أوال‪ ،‬عقالنية خطابية تقتضي‪ ،‬نموذجيا‪ ،‬البحث عن‬
‫الحجة األفضل‪ ،‬ومن ثم االنفتاح على الحجج ذات الصلة كافة‪ .‬وثانيا‪ ،‬الشمولية‬
‫التي تتضمن‪ ،‬نموذجيا‪ ،‬مشاركة واعترافا متبادال بين كافة المعنيين»‪11‬؛ وهو ما من‬
‫شأنه الحد من النزاعات بمختلف أنماطها؛ فالعنف ال يمكن مقابلته بعنف مضاد‪،‬‬
‫ولكن إيتيقا النقاش تستدعي تعرف طبيعة النزاع وما يمكن أن يسفر عنه من نتائج‬
‫وخيمة يتحمل مسؤوليتها الطرفان معا‪ ،‬ليكون ذلك بمثابة رادع أخالقي يعمل على‬
‫تهذيب التفاوض حول الموضوع المتنازع حوله‪ ،‬في تماه مع الخاصية األخالقية‪،‬‬

‫‪10. J.Habermas, La Paix Perpétuelle, Le bicentenaire d’une idée Kantienne, (Cerf 1996),‬‬
‫‪p 101.‬‬
‫‪ .11‬حممد عبد السالم األشهب‪ ،‬مناظرة هابرماس وروالز‪ ،‬سؤال العدالة يف الفلسفة السياسية‪( ،‬كلية‬
‫اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬سلسلة ندوات ومناظرات رق ‪ ،)179‬ص ‪.136‬‬
‫‪397‬‬ ‫ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ‬

‫بتعبير طه عبد الرحمن‪ 12 ،‬التي تزداد بها إنسانية اإلنسان على المستوى التعاملي‪،‬‬
‫إلى جانب الخاصية العقالنية ذات االرتباط بما هو تواصلي‪ .‬وفي كل‪ ،‬يحضر‬
‫التهذيب بما هو عمل يخلص القول الطبيعي مما يعيب داللته وينزع عنه أسباب‬
‫االنتفاع به تأدبا وتخلقا؛ فأما التأدب‪ ،‬فمقتضاه‪ ،‬وفق طه عبد الرحمن‪« ،‬أن يأتي‬
‫المتكلم بفعل القول على الوجه الذي يبرز داللته القريبة ويقوي أسباب االنتفاع‬
‫العاجل به»‪ .13‬وهذا التهذيب الذي ينطوي على التأدب هو مدعاة الحفاظ على‬
‫الخيط الناظم للتواصل‪ ،‬الذي يسمح بتبادل االنتفاع‪ ،‬ورفض التمركز حول الذات‬
‫حتى نبقي على الهدف والعالقة معا (رابح‪/‬رابح)‪ .‬أما التخلق‪« ،‬فمقتضاه أن يأتي‬
‫المتكلم بفعل القول على الوجه الذي يبرز به داللته البعيدة‪ ،‬فضال عن اعتبار‬
‫داللته القريبة ويقوي أسباب االنتفاع اآلجل به‪ ،‬فضال عن اعتبار االنتفاع العاجل‬
‫به»‪ .14‬وهذا الضرب من التهذيب يجعل عملية التواصل قائمة على التفاعل الذي‬
‫مؤداه جلب الخير ودرء الشر؛ وهو منتهى اإلنسانية التي تزيد من اعتبار الغير على‬
‫اعتبار الذات‪ ،‬وهو‪ ،‬أيضا‪ ،‬جوهر العالقة التخاطبية‪/‬الفاعلة‪ ،‬المبنية على الذات‬
‫المتعاملة التي تتناسل منها الذات المتأدبة والذات المتخلقة‪.‬‬
‫وقد صنفت أركيوني‪ ،‬من جهتها‪ ،‬قواعد اللياقة والتأدب على صنفين‪:‬‬
‫قواعد خاصة بسلوك المتكلم تجاه المخاطب؛‬
‫قواعد خاصة بسلوك المتكلم تجاه نفسه‪ .‬فالقاعدة األولى‪ ،‬تلزم المتكلم بالحفاظ‬
‫على ماء وجه المخاطب؛ وذلك بالحرص على عدم توجيه األوامر العنيفة‪ ،‬أو تصريف‬
‫كل ما ينطوي على فظاظة‪.15‬‬
‫أما القاعدة الثانية‪ ،‬فتدعو المتكلم للحفاظ على ماء وجهه مع توخيه الحذر‪.‬‬
‫وال يمكن أن تتحقق القاعدتان السابقتان إال بالقاعدتين اآلتيتين‪:‬‬

‫‪ .12‬طه عبد الرمحن‪ ،‬اللسان وامليزان أو التكوثر العقيل‪( ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‬
‫‪ ،)2006 ،2‬ص‪.220‬‬
‫‪ .13‬املرجع السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.223‬‬
‫‪ .14‬املرجع السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.223‬‬
‫‪15. Orecchioni.c.k, L’implicite, (Paris, Colin, 1986), p 231 - 235.‬‬
‫ راطعلا ىفطصم ‪.‬د‬ ‫‪398‬‬
‫حافظ على حوزتك ما أمكن حتى ال يتهجم عليك الغير‪ ،‬وهو الوجه السلبي‬
‫للمتكلم؛‬
‫حافظ على كرامتك واحترامك‪ ،‬وال تسمح لآلخرين بالتهجم عليك‪ ،‬وهو الوجه‬
‫اإليجابي للمتكلم‪.16‬‬
‫من دون أن نعني بهاتين القاعدتين المبالغة في تمجيد الذات؛ وهو ما ينشأ عنه‬
‫قاعدة التواضع وعليه؛ يكون الحوار هو المجال الذي يسعى فيه المتحاور إلى حفظ‬
‫وجهه بحفظ وجه مخاطبه؛ وذلك باإلجابة عن األسئلة اآلتية‪:17‬‬
‫من أنا ألكلمه بهذه الطريقة؟؛‬
‫من هو ألكلمه بهذه الطريقة؟؛‬
‫من أنا ليكلمني بهذه الطريقة؟؛‬
‫من هو ليكلمني بهذه الطريقة؟‪.‬‬
‫تمثل هذه األسئلة التخاطبية التي يديرها المتكلم في ذهنه محاولة لإلبقاء على‬
‫مبدأ التعاون الذي أرساه غرايس وفرعه إلى مبادئ متناسلة عنه (مبدأ الكم‪ ،‬ومبدأ‬
‫الكيف‪ ،‬ومبدأ الصيغة‪ ،‬ومبدأ العالقة)‪ .‬ولسنا‪ ،‬ههنا‪ ،‬مطالبين ببسط القول النظري‬
‫في هذه المبادئ مجتمعة؛ لكننا مأخوذون بموضع القصور التهذيبي الذي يطالها‪،‬‬
‫وهو ما دفع اليكوف إلى اقتراح شروط التخاطب التهذيبي التي أطلقت عليه منطق‬
‫التأدب الذي يحرص المتخاطبان‪ ،‬بمقتضاه‪ ،‬على مراعاة التأدب أكثر من الوضوح‪.‬‬
‫يتفرع عن هذا المبدأ التداولي العام قواعد ثالث‪ :‬قاعدة التعفف‪ ،‬وقاعدة التشكك‪،‬‬
‫وقاعدة التودد‪:18‬‬
‫فأما قاعدة التعفف؛ فمقتضاها (ال تفرض نفسك على المخاطب)؛‬

‫‪16. Ibid, p 235.‬‬


‫وينظر أيضا‪ :‬مصفى العطار‪ ،‬لغة التخاطب احلجاجي‪/‬دراسة يف آليات التناظر عند ابن حزم‪( ،‬دار‬
‫كنوز املعرفة‪ ،‬عامن‪ ،‬األردن‪ ،‬ط ‪ ،)2017‬ص ‪ 126‬ــ ‪.127‬‬
‫‪17. Orecchioni.C.k, L’énonciation de la subjectivité dans le langage, (Paris, Armand‬‬
‫‪Colin 1980), p 20.‬‬
‫‪ .18‬طه عبد الرمحن‪ ،‬اللسان وامليزان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ 240‬ــ ‪.241‬‬
‫‪399‬‬ ‫ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ‬

‫وأما قاعدة التشكك؛ فمقتضاها (لتجعل المخاطب يختار بنفسه)؛‬


‫وأما قاعدة التودد؛ فمقتضاها (لتظهر الود للمخاطب)‪.‬‬
‫أخالق المسؤولية‪ ،‬من اإلنّية إلى الغيرية‪:‬‬
‫وفي تساوق مع هذه القواعد؛ نستحضر‪ ،‬ههنا‪ ،‬إيمانويل ليفيناس‪ 19‬في فلسفته‬
‫األخالقية التي تقوم على مقولة الوجه بوصفها ترتبط باآلخر؛ إذ يكون الوجه‬
‫وجها لآلخر الذي يتفاعل معه ضمن عالقة حوارية تعترف به إنسانا ال ذئبا‪.‬‬
‫لكن العالقة التي يتصورها ليفيناس مبنية على المحبة المتبادلة والشعور‬
‫بالمسؤولية تجاه اآلخر‪ ،‬والتخلص من الكينونة بوصفها مصدر الشر‪ ،‬والخروج‬
‫من شرنقة الذات المفرطة في أنا وحديتها والمتطهرة من اآلخر‪ ،‬ونقد النزعات‬
‫التي تتعامل مع الغير بالتحييد واإللغاء وتمارس عليه صنوف القهر وضروب‬
‫العنف؛ لذلك دعا ليفيناس إلى حماية اآلخر من األنا بالتضحية باألنا في سبيل‬
‫إسعاد الغير وحمايته من التغول الذي يسعى إلى إلغاء وجوده‪ .‬لقد اعتبر ليفيناس‬
‫أن الذات مسؤولة تجاه اآلخر مسؤولية إيتيقية‪ ،‬وهي التي تصوغ العالقة معه‬
‫صوغا تكامليا ال نزاعيا؛ لذلك يسعى التواصل الالعنيف مع الغير إلى بناء‬
‫عالقة تعاطفية نحقق من خاللها إنسانيتنا‪ ،‬ونعبر بها عما يختلج في دواخلنا من‬
‫عواطف ومشاعر تجاه اآلخر الذي يمثل مرآة عاكسة لحقيقة الذات ولوعيها‬
‫األخالقي قبل كينونتها الوجودية؛ فـ «اإليتيقا هي الحدث األول الذي يأتي منه‬
‫سؤال الحقيقة ويصاغ منه معنى الكينونة»‪ ،20‬وأخالق الغيرية هي الفلسفة األولى‬
‫التي أقام عليها ليفيناس رؤيته لآلخر‪ ،‬فـــ«األخالق ليست فرعا من الفلسفة‪،‬‬

‫‪ .19‬إيامنويل ليفيناس‪ ،‬فيلسوف هيودي لتواين األصل فرنيس اجلنسية‪ ،‬ولد سنة ‪ ،1906‬وتويف سنة ‪،1995‬‬
‫صاحب كتاب‪( :‬إيتيقا الغريية)‪ .‬يف مؤلفه (الكلية والالتناهي) اعترب أن حضور وجه اآلخر ليس‬
‫بالرضورة قائام عىل العالقة الرصاعية؛ بل عىل العكس من ذلك هي عالقة قبول واعرتاف‪ ،‬منتقدا نزعة‬
‫االنطواء واألنانية التي سقط فيها الكائن اإلنساين بإلغائه للغريية‪ .‬ملزيد من االطالع‪ :‬راجع مؤلفات‬
‫ليفيناس‪ ،‬وانظر أيضا‪ ،‬رشيد بوطيب‪ ،‬نقد احلرية‪ ،‬مدخل إىل فلسفة إيامنويل ليفيناس‪( ،‬بريوت‪،‬‬
‫منشورات ضفاف‪ ،‬اجلزائر منشورات االختالف اجلزائرية‪.)2018 ،‬‬
‫‪20. Levinas. E, Ethics and Infinty, Conversations with Philippe Nemo, (Translated by‬‬
‫‪Richard A.Cohen, Duquesne University, Pittsburgh, USA, 1985), p 86.‬‬
‫ راطعلا ىفطصم ‪.‬د‬ ‫‪400‬‬
‫بل هي الفلسفة األولى»‪ .21‬والحال أن سبب الشر يمكن رده إلى هيمنة أخالق‬
‫الذاتية على حساب أخالق الغيرية؛ ما ينجر عنه نزاع وتقاطب بين سطوة الذات‬
‫ومحاولة اآلخر مواجهة هذه السطوة التي تريد تجريده من كينونته ووجوده‪ .‬إن‬
‫رؤية وجه اآلخر في صورته اإلنسانية واألخالقية هي الضامن للتواصل الرحيم‪،‬‬
‫لالنتقال من القوة التهديدية إلى القوة التبادلية‪ ،‬وصوال إلى القوة التكاملية‬
‫المبنية على التفاهم والوصال والتعاطف‪ ،‬مع ما يرشح عن وجه اآلخر من‬
‫معاني النبل والتودد والتوسل‪ ،‬بشكل يستثير إنسانيتنا نحوه ويحرك مسؤوليتنا‬
‫األخالقية تجاهه‪ ،‬كما يجعلنا نخاطر بذاتينا في سبيل اآلخر حتى لو تعرضنا‬
‫لإلهانة واإلحراج‪.22‬‬
‫التهذيب األخالقي لذئبية اإلنسان هذه‪ ،‬وجد تفسيره في مفهوم المواجهة أو‬
‫التواجه؛ فعندما يكون وجه اآلخر هو وجهي‪ ،‬فذلك يفرض علي التزاما أخالقيا‬
‫بضرورة الحفاظ عليه‪ .23‬إن الحرية كامنة في هذه المواجهة اإليتيقية بين األنا‬
‫واألنت؛ بحيث يكون وجه الكل هو شرط إثبات األنا عبر الحوار ال اإلقصاء‪،‬‬
‫وبإعالن الحياة ال التهديد بالموت‪ .‬إن الطريق الوحيد إلى اﷲ‪ ،‬وفق ليفيناس‪ ،‬هو‬
‫اآلخر الذي يعيش تحت مسؤوليتنا‪ ،‬وقداسة الوجه اإلنساني ترجمة لتجلي اإللهي‬
‫في الحسي‪ .‬وال يمكن أن يتم ذلك إال بتحويل غيرية اآلخر إلى صورة مطابقة‬
‫لنا‪ ،‬يتحول فيها إلى المثيل‪ ،‬وبذلك تصبح العالقة بين األنا واألنت عالقة إيتيقية‬
‫متكافئة؛ بل تصبح الغيرية شرطا إلثبات اإلنية انطالقا من الوجه الذي يتجاوز‬
‫نظرتنا الحسية إليه بوصفه مجرد مالمح فيزيقية‪ ،24‬إلى اعتباره يتحدد خارج نطاق‬
‫عالقة الذات بالموضوع‪ .‬مبدأ التواجه ينطوي على عالقة تداولية يجعل من الوجه‬

‫‪21. Levinas. E, Totalité et infini, Essai sur l’extériorité, (Martinus Nijhoff, France 1971),‬‬
‫‪p 336.‬‬
‫‪22. Levenas. E, Autremant qu’être ou au - delà de l’essence, (Martinus Nijhoff 1978), p 73.‬‬
‫‪23. Levinas.E, Outside the subject, (Translated by Michael. B.Smith, Stanford University‬‬
‫‪Press, Stanford, California, Editions Fata Morgana), pp 34 - 35.‬‬
‫‪24. Lazare Benaroyo, Le visage au - délà de l’apparence, Levinas et l’autre rive de‬‬
‫‪l’éthique, (Articolo Sottoposto a peer review.Ricevuto il 232014/6/.Accettato il‬‬
‫‪12015/3/), P 218.‬‬
‫‪401‬‬ ‫ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ‬

‫مرآة تفيض باألسرار وتنضح بالتمايز‪ ،‬وتشجع على الحوار والتناظر بدل الصراع‬
‫والتنافر‪ ،‬وتغلب المسؤولية األخالقية على المعرفية‪ ،‬بالصورة التي تجعل من األنا‬
‫في خدمة سيده اآلخر‪ .‬إن االختالف ال يلغي االنتماء إلى زمرة النوع اإلنساني‪ ،‬وال‬
‫يلغي المحبة التي يفترض أن تنهض بها العالقة مع اآلخر المختلف‪ .‬هذه هي النزعة‬
‫اإلنسانية واألخالقية التي تتأسس على الحرية بوصفها مطلبا أنطولوجيا للكون‬
‫اإلنساني‪ .‬لهذا يغدو مفهوم الهوية الثابتة والذات المنعزلة عن غيرية اآلخر مفاهيم‬
‫خارجة عن إطار الهوية الكونية التي تجعل مالمح اآلخر ال تتحدد إال في عالقتها‬
‫المحايثة للغير باعتباره ذاتا ال موضوعا‪ ،‬روحا ال جسدا‪ .‬ومن شأن هذا الشرط‬
‫اإليتيقي أن يذيب النظرة الصدامية واإلقصائية ليخلق بدلها نظرة تذاوتية؛ حيث ذاتي‬
‫تحل في ذات اآلخر‪ ،‬أو تتضايف معه على األقل‪ ،‬دون السعي إلى تشييئه وتملكه؛‬
‫بل محاولة تتميم تلك المساحات التي تبدو فارغة لديه‪ ،‬من منطق مسؤوليتي تجاه‬
‫الضعف الذي يمكن أن يعتريه‪ .‬ولعل فلسفة الالمتناهي هي المنوال الجديد الذي‬
‫أقام عليه ليفيناس فكرته عن الغير والغيرية‪ ،‬وأسس عليه نظرته إلى اإلنسان بوصفه‬
‫إنسانا ال معرفة‪ .‬فالمسؤولية تجاه احتياجات اآلخر تطرد األنا من سيادته وسطوته‪،‬‬
‫ورضا األنا عن النفس يقضي على النزاهة األخالقية ‪.25‬‬
‫وإذا كانت القاعدة األخالقية لليفيناس تستوجب الشعور بالمسؤولية تجاه اآلخر‪،‬‬
‫فإن مضمون هذا المبدأ‪ ،‬في الدراسة المشتركة التي قام بها بروان وليفنسن‪ ،‬يبدو في‬
‫المبدأ اآلتي‪:26‬‬
‫لتصن وجه غيرك‪ .‬وصيانة وجه الغير ال يمكن أن تتعارض مع صيانة وجه األنا؛‬
‫وهو ما يبقي على الوجه الدافع والوجه الجالب دونما تهديد لهذين الوجهين‪.‬‬

‫‪25. Levinas E, Humanisme de l’autre homme, (FATA MORGANA, 1987)? P 53. «Le Moi‬‬
‫‪perd sa souveraine coïncidence avec soi, son identification où la conscience revient‬‬
‫‪triomphalement à elle - même pour reposer sur elle - même. Devant l’exigence de‬‬
‫‪l’autrui, le Moi s’expulse de ce repos, n’est pas la conscience, déjà glorieuse, de cet‬‬
‫‪exil. Toute complaisance détruit la droiture du mouvement éthique».‬‬
‫ــ‬ ‫‪ .26‬طه عبد الرمحن‪ ،‬اللسان وامليزان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.243‬‬
‫ راطعلا ىفطصم ‪.‬د‬ ‫‪402‬‬
‫قانون النزاع‪ ،‬من المنهجية الصفر إلى المنهجية التكاملية‪:‬‬
‫ال غرو أن مسارات حل النزاع التي تكون فيها صيانة الوجه من جهة األنا على‬
‫حساب الغير؛ تسفر‪ ،‬ال محالة‪ ،‬عن تشنج في المواقف يفضي إلى إنهاء النزاع‬
‫بصورة مأساوية (معا نحو الهاوية) هي نتيجة لتهديد الوجه الدافع والجالب‬
‫معا‪ .‬وتكون األدوات المعجمية المرتبطة بهذا السياق سابحة في فلك التهديد‬
‫والوعيد ونفي االعتراف ومدافعة الغيرية باإلنية‪ ،‬والقبول بتدمير الذات إذا كان‬
‫من مستتبعات ذلك تدمير اآلخر؛ من خالل عبارات التجريح وألفاظ التقويم التي‬
‫تتعارض مع قواعد التواصل الرحيم‪ .‬غير أنه في مرحلة معينة من مراحل النزاع‪،‬‬
‫يمكن لألطراف المتنازعة أن تبدي استعدادها للتفاوض في مسألة التسوية من‬
‫منطلق إيمانها بأن استمرار النزاع يؤدي إلى حدوث كارثة ال تبقي وال تذر‪،‬‬
‫وهي لحظة النضج التي تحتم على طرفي النزاع استغالل الفرص المتاحة‪ ،‬على‬
‫ضآلتها‪ ،‬من أجل إيجاد تسوية للنزاع‪ ،‬بإعمال ثقافة التنازل المتكافئ عن عقلية‬
‫القوة واالنتصار وتغليب منطق التوافق بوصفه الخيار األنسب إلنقاذ النزاع من‬
‫الوقوع في الهاوية‪ ،‬بعد تجاوز التصلب الذي يطبع المواقف واآلراء‪ ،‬وتقاسم‬
‫المكاسب والتكاليف معا؛ خاصة مع الصراع الخالص الذي يكون مخندقا في‬
‫قضايا ذات صلة بالوجود والهوية واالنتماء؛ ما يعني أن الصراع ال يخرج عن‬
‫النفي واإلثبات أو الهدم والترشيح‪ ،‬ويتبين معه أننا بصدد أزمة قانونية نسقية‬
‫ذات بعد إيديولوجي متجذر في الالوعي الجمعي‪ ،‬يذكيه اإليمان الراسخ بأن‬
‫كل طرف هو صاحب حق تاريخي وسيادة قانونية؛ فيتحول التفاوض إلى ترف‬
‫كالمي ال يثبت حسن النية ويخضع فيه الطرف األضعف‪ ،‬طوعا وقهرا‪ ،‬البتزاز‬
‫سياسي ومساومة قانونية‪ ،‬على الرغم مما يقدّ مه من تنازالت كبيرة‪.‬‬
‫لذلك يتم التمييز في أدبيات التفاوض بين المنهجية الصفرية التي تجعل‬
‫المكاسب في يد الطرف األقوى (النمط التنافسي الذي مؤداه رابح‪/‬خاسر)‪،‬‬
‫في حين تحرم الطرف األضعف من المكاسب نفسها‪ ،‬وبين المنهجية التكاملية‬
‫التي يحصل طرفا النزاع بموجبها على المكاسب بنوع من اإلنصاف والمناصفة‬
‫‪403‬‬ ‫ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ‬

‫(النمط التعاوني الذي مقتضاه رابح‪/‬رابح)‪ ،27‬مع إبداء االستعداد لتطبيق القواعد‬
‫األساسية للقانون الدولي اإلنساني وااللتزام بالمبادئ المتضمنة في اتفاقيات‬
‫جنيف‪.‬‬
‫وألن المنهجية الصفرية يبدو فيها الحل السلمي متعذرا‪ ،‬فقد تحول البحث‬
‫عن حل للصراع إلى إدارة الصراع بشكل يقلل من مظاهر العنف‪ ،‬واإلبقاء على‬
‫الوضعية كما هي‪ .‬لكن هذه المنهجية التي ترمي إلى االستمرار في التفاوض‬
‫وعدم قطع «حبل الود» تنطوي على تنازالت أخرى تزيد من تأجيج جذوة‬
‫الخالف‪ ،‬لتصبح حقا أريد به باطل‪ ،‬في وقت يبقى القانون اإلنساني الدولي حبرا‬
‫على ورق؛ ألنه ال يتم تنفيذه في هذا النزاع‪ ،‬كما ال يقدّ م الحدّ األدنى من أحكام‬
‫تنص عليه المادة ‪ 3‬المشتركة في اتفاقيات‬‫القانون اإلنساني الدولي‪ ،‬بناء على ما ّ‬
‫جنيف التي تحظر األعمال العدائية‪( :‬االعتداء على الحياة والسالمة البدنية‪،‬‬
‫االعتداء على الكرامة الشخصية‪ ،‬إصدار األحكام وتنفيذ العقوبات دون محاكمة‬
‫سابقة أمام محكمة قانونية‪ ،‬إهمال المرضى والجرحى وعدم االعتناء بهم)‪ ،‬في‬
‫حق األشخاص الذين ال يشتركون مباشرة في النزاع المسلح؛ بمن فيهم أفراد‬
‫القوات المسلحة الذين ألقوا أسلحتهم‪ ،‬واألفراد العاجزون عن القتال بسبب‬
‫المرض أو اإلصابة أو االحتجاز‪ ...‬لذلك؛ ال مجال للحديث‪ ،‬ههنا‪ ،‬عن حل‬
‫شامل ألصول النزاع؛ بل حتى مسألة تسوية النزاع في بعض القضايا تبدو عملية‬
‫في غاية التعقيد‪ ،‬فال يمكن التفاوض حول قضايا محددة في ظل صراع متجذر‬
‫حول الحاجات اإلنسانية األساسية كالوطن والهوية والوجود؛ وهي حاجات‬
‫تحتاج إلى من يشبعها‪ .‬لكن يمكن تحويل النزاع بإظهار التعاطف والتغيير‬
‫البنيوي لألنساق اإليديولوجية واالجتماعية والنفسية؛ وهو أمر يبدو مستحيال‪،‬‬
‫لكنه قابل للتطبيق إذا ما نحن اعتمدنا على أصول التخاطب الالعنفي؛ بما في‬
‫ذلك العطاء من القلب‪ ،‬ونبذ التواصل الذي يعيق التعاطف‪ ،‬والمالحظة بدون‬
‫تقييم‪ ،‬والتعرف على المشاعر والتعبير عنها‪ ،‬وتحمل المسؤولية عن مشاعرنا‪،‬‬
‫والطلب الذي سيثري الحياة‪ ،‬والتلقي المتعاطف‪ ،‬وقوة التعاطف‪ ،‬والتواصل‬

‫‪ .27‬أمحد جالل‪ ،‬مهارة التفاوض‪ ،‬القاهرة‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬ط ‪ ،2010‬ص ‪ 110‬وما بعدها‪.‬‬
‫ راطعلا ىفطصم ‪.‬د‬ ‫‪404‬‬
‫بتعاطف مع الذات‪ ،‬وتحرير أنفسنا من البرمجة القديمة‪ ،‬والتعبير عن التقدير‪.28‬‬
‫ومن جهة أخرى؛ فإن تحقق هذه األدبيات رهين بمدى القدرة على انتشال‬
‫النظام الدولي من صبغته الفوضوية وإعادة هيكلته نسقيا حتى تتشكل العالقات‬
‫الدولية على وفق نمط تعاوني رحيم؛ فتبعا للنظرية الواقعية الجديدة‪ ،‬يتحدد‬
‫سلوك الدول بطبيعة النظام الدولي السائد‪ ،29‬الذي يروم اإلبقاء على الوضع‬
‫الراهن‪ ،‬والحفاظ على هرمية العالقات الدولية في ظل نظام القطب الواحد‬
‫الذي يسعى إلى تطويع الدول الضعيفة لتخضع ألوامر القوى العظمى التي‬
‫تصوغ القانون الدولي وفق شروطها‪ .‬وإذا لم يتم خلخلة هذه األنساق التقليدية‬
‫المعتمدة على سياسة اإلرضاخ والتجني على القانون الدولي اإلنساني المتعلق‬
‫بالنزاعات المسلحة الذي خرج من صلبها‪ ،‬وتعويضها بسياسة التعاون والتكامل‬
‫والديبلوماسية الناعمة؛ فإن القوة التهديدية ستبقى مهيمنة على العالقات الدولية‬
‫التي يطبعها منطق الحرب بدل منطق التوفيق والبحث عن المصالح المتبادلة؛‬
‫سواء تعلق األمر بالنزاعات غير المتماثلة التي تحتدم بين أطراف غير متكافئة‬
‫على مستوى ميزان القوى أو تلك النزاعات المتماثلة التي تنشأ بين أطراف‬
‫متكافئة على مستوى معادلة القوة‪.‬‬
‫إن إعمال قواعد التعامل المتفرعة عن مبدأ التصديق‪ ،‬هو ما يؤشر على إمكانية‬
‫استمرار التفاوض في نطاق التواصل الرحيم‪ ،‬ولو في حده األدنى‪ .‬أما خرق هذه‬
‫القواعد‪ ،‬فإيذان بعودة القوة التهديدية‪.‬‬
‫وبتطبيق مثلث النزاع لجون غالتونغ فإننا نستنتج أن هناك ثالث زوايا للنزاع‪ :‬زاوية‬
‫التناقض‪ ،‬زاوية اإلدراك‪ ،‬زاوية السلوك‪30‬؛ فزاوية التناقض؛ تحيل على عدم التوافق‬

‫‪ .28‬هذه العنارص هي العناوين املشكلة لكتاب مارشال روزنربغ (التواصل الالعنفي لغة حياة)‪.‬‬
‫‪ .29‬أمحد نوري النعيمي‪ ،‬السياسة اخلارجية‪ ،‬دار زهران للنرش والتوزيع‪ ،‬عامن‪ ،‬األردن‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪ ،2011‬ص ‪.104‬‬
‫‪ .30‬مصطفى عثامن إسامعيل‪ ،‬إدارة النزاعات بني اإلسالم والغرب‪ ،‬دراسة مقارنة بني املنهج اإلسالمي‬
‫واملامرسات الدينية‪ ،‬مكتبة مدبويل‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مرص‪ ،‬ط ‪ ،2014 ،1‬ص ‪ 35‬ــ ‪.36‬‬
‫وينظر أيضا‪:‬‬
‫‪Johan Galthung, Theories of conflict, Definitions, Dimensions, Negations,‬‬
‫‪Formations, (University of Hawaii 1973).‬‬
‫‪405‬‬ ‫ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ‬

‫في المصالح واألهداف وتباين الخلفية االقتصادية واالجتماعية والثقافية (السياق)‪،‬‬


‫وهو الباعث أو العنصر المحرك لنشوب النزاع‪ .‬وزاوية اإلدراك أو المواقف؛ فتشير‬
‫إلى التصورات أو التمثالت أو المشاعر (الرؤية) التي يحملها كل طرف عن اآلخر‪،‬‬
‫وغالبا ما تنحو منحى سلبيا‪ .‬أما زاوية السلوك؛ فتنشأ عن تبلور الرؤية إلى سلوك‬
‫(فعل) ملموس يبدو في النزوع نحو التهديد والجنوح نحو العنف حتى يتخلى واحد‬
‫من األطراف عن مصالحه لصالح الطرف اآلخر‪.‬‬
‫تنصهر هذه الزوايا الثالث في بوتقة واحدة وتتفاعل في ما بينها‪ ،‬إيجابا أو سلبا‪،‬‬
‫لتفرز لنا تسوية للنزاع او استمرارا له‪ .‬فعالقة المحايثة بين هذه العناصر مجتمعة‬
‫تحتم التعامل مع أي عنصر بوصفه جزءا من النسق المتضام‪ .‬وهكذا؛ ولبناء مثلث‬
‫الحل‪ ،‬فإننا مطالبون بإحداث مجموعة من التغييرات التي تطال السلوك (العمل على‬
‫وقف تصعيد النزاع)‪ ،‬والمواقف (االنتقال من النظرة السلبية إلى النظرة اإليجابية)‪،‬‬
‫والتناقض (التحول من المصالح المتضاربة إلى المصالح المشتركة)‪ ،‬مع التمييز بين‬
‫العنف السلبي الذي هو وقف العنف المباشر والعنف اإليجابي الذي يعني التغلب‬
‫على العنف البنيوي والعنف الثقافي‪ .‬على وفق هذا التحول‪ ،‬نتدرج من عملية بناء‬
‫السالم إلى عملية صنع السالم لنصل إلى عملية حفظ السالم‪.31‬‬
‫نستنتج أن التواصل الرحيم هو ذر للرماد في العيون إذا لم يستتبعه استئصال‬
‫لنزعة االستقواء واألنانية المفرطة والصورة النمطية المنقوشة في الذهن والمهينة‬
‫لآلخر‪ ،‬والتخلص من الواقعية الهجومية‪ 32‬التي تنطلق من مسلمة (حافظ على‬
‫نفسك) في نفي صارخ لآلخر الضعيف الذي يجب عليه أن يتحمل مسؤولية ضعفه؛‬
‫فالخوف‪ ،‬والسعي نحو النجاة‪ ،‬وتعظيم المكانة والقوة هي الدوافع التي تستثير‬
‫اإلنسان لتغييب التواصل الرحيم‪ ،‬واالنتصار للهجوم بوصفه «دفاعا عن النفس»‬
‫إلعادة ضبط موازين القوى‪.‬‬

‫‪ .31‬مصطفى عثامن إسامعيل‪ ،‬إدارة النزاعات بني اإلسالم والغرب‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫‪ .32‬الواقعية اهلجومية نظرية هيكلية تنتمي إىل مدرسة الفكر الواقعي‪ ،‬أسسها جون مريشايمر أستاذ العلوم‬
‫السياسية يف جامعة شيكاغو‪ .‬ترى هذه النظرية أن من واجب الدولة القومية محاية نفسها يف ظل عامل‬
‫تنافيس يتسم بالفوىض والالنظام‪ ،‬ويكون اهلدف هو احلفاظ عىل األمن والبقاء وتوسيع نطاق القوة‬
‫القومية‪.‬‬
‫ راطعلا ىفطصم ‪.‬د‬ ‫‪406‬‬
‫نستنتج مما سبق؛ أن مباحث فلسفة األخالق هي مسالك تخاطبية‪ ،‬في األصل؛‬
‫ألنها ترتبط باآلخر المختلف عنا‪ .‬وفي ظل هذا االختالف نلفي إمكانية صناعة‬
‫التفاهم والتوافق؛ وذلك بتغليب أخالق المسؤولية التي تتغيا صيانة وجه الغير‬
‫واالعتراف به إيتيقيا‪ .‬وتحقيق هذا الرهان األخالقي‪/‬اإلنساني يمر من خالل تملك‬
‫كفاية تواصلية تحتكم لمبادئ تعاونية وتهذيبية ترتقي بمفهوم الغير وتحرره من‬
‫وصاية األنا‪ ،‬كما تخلق معه عالقة من التضايف تنبني على المحبة والسالم بوصفها‬
‫قيما يختزنها الوجه‪ ،‬بما هو طاقة رمزية تشع باإليحاءات التي تستدعينا لبناء تواصل‬
‫رحيم‪ ،‬تحل معه النزاعات على وفق ما تمليه شروط التواجه اإليتيقي‪ ،‬بعيدا عن لغة‬
‫العنف والتهديد والوعيد التي ينجر عنها توسيع مساحات التناقض وتأبيد النزاع‪،‬‬
‫لطغيان اإلنية على الغيرية‪ .‬وال شك في أن اللغة هي (المخلص من الضالل)؛‬
‫ألنها آلية التعرف على اآلخر‪ ،‬وإجراؤها على الوجه التهذيبي هو ما يسعفنا في حل‬
‫النزاعات‪.‬‬
‫بهذا المعنى‪ ،‬ال غياب للوجه وال صمت له؛ ألنه هو الذي يخاطب األنا ويخطب‬
‫وده‪ ،‬وهو الدافع نحو التخاطب والتواصل والوصال‪ ،‬ومنه البدء وإليه المنتهى في‬
‫صناعة عالم تخاطبي تعاوني ينضبط لقواعد التأدب ويحتكم لشروط التهذيب التي‬
‫تفرض علينا تخير أحسن األلفاظ وتس ّقط أدق التعابير التي تغير نظرة اآلخر إلينا‬
‫وتشجعه على الخوض في حوار عقالني هادئ تنزل كلماته كالسحر على المتلقي‬
‫الذي يطمئن للمتكلم ويركن إلى دائرة جذبه‪.‬‬
‫لكن إجراء هذه الشروط في حالة النزاعات الدولية المسلحة ال قيمة له إذا لم‬
‫ترفده قواعد القانون الدولي اإلنساني التي ترمي إلى تنظيم العالم بصورة رحيمة‪،‬‬
‫يتحقق معها السالم العالمي‪ ،‬ويعم الرخاء ويصبح اإلنسان مسؤوال عن أخيه اإلنسان‬
‫مسؤولية أخالقية قبل أن تكون قانونية‪ ،‬يقبل عليه ويسعى لخدمته إذا احتاجه‪ ،‬كما‬
‫يحقق معه شروط االجتماع اإلنساني‪ ،‬بما هو مطلب أخالقي يمنح حق الحياة‬
‫لآلخر‪ .‬وال يأتي ذلك إال إذا توفرت إرادة سياسية تعمل على االنضمام للمعاهدات‬
‫واالتفاقيات الدولية المتعلقة بقانون النزاع المسلح‪ ،‬والحرص على تمثلها وتطبيقها‬
‫ميدانيا‪.‬‬
‫‪407‬‬ ‫ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ‬

‫لقد بدا جليا أن نحت إحداثيات العالقات الدولية بإعمال التواصل الرحيم‬
‫ال يمكن أن يخرج عن التخاطب بوصفه بنية يتفاعل فيها المظهر التواصلي‬
‫(العقالني) والمظهر التعاملي (التهذيبي)‪ .‬وال شك في أن المبادئ التي يمكن أن‬
‫تسعف في إخراج الحوار والتفاوض من الدائرة التهديدية إلى الدائرة التكاملية هي‬
‫مبادئ تداولية هرمية‪ ،‬تتفاضل فيما بينها تبعا لدرجة أهميتها في صون التخاطب‬
‫من االنزالق نحو المالججة والمكابرة والمعاندة؛ بدءا بمبدأ التعاون‪ ،‬ثم مبدأ‬
‫التأدب‪ ،‬مرورا بمبدأ التواجه‪ ،‬وانتقاال إلى مبدأ التأدب األقصى‪ ،‬ثم انتهاء بمبدأ‬
‫التصديق‪.‬‬
‫ثم إننا بحاجة إلى تخليق الخطاب السياسي حتى يتأسس على منطق القيم‪،‬‬
‫باالحتكام إلى قواعد أو مسلمات أخالقية وجمالية واجتماعية تعمل على‬
‫تقريبه تداوليا؛ كتلك التي أرساها بول غرايس في مبادئ المحاورة‪ ،‬وغوردون‬
‫واليكوف في مسلمات المحاورة‪ ،‬وبراون وليفنسون في صيانة الوجه‪ ،‬وريفزين‬
‫في مسلمات التواصل العادي‪ ،‬وهابرماس في إيتيقا النقاش التي تنص على‬
‫مسؤولية الفاعل تجاه تبعات فعله‪ ،‬وطه عبد الرحمن في التواصل اإلنساني‬
‫والتعامل األخالقي‪ .‬إن أخالقيات الحوار تبقى قاصرة عن العقلنة وضمان‬
‫التفاهم البيني ما لم تتشارط مع مبادئ التداولية الكونية ‪ 33‬التي تسعى إلى خلق‬
‫تفاهم كوني يتأسس على مفهوم العقالنية التواصلية على حد تعبير هابرماس‪ .‬وال‬
‫يستقيم هذا المفهوم داخل نسق الممارسة التواصلية إال بالمعقولية‪ ،‬والحقيقة‪،‬‬
‫والصدقية‪ ،‬والنزاهة‪.‬‬
‫هذه بعض األدوات اإلجرائية التداولية التي أسسنا عليها دراستنا‪ .‬وال شك‬
‫في أن تلكم اآلليات تتصف بصبغة عرضانية (ممتدة) يمكن تطبيقها على ميادين‬
‫أخرى لكشف المستور في غيب الخطاب ومعرفة الضمني فيه‪ ،‬وتعرية ما ال يقال‬
‫منه‪.‬‬

‫‪33. Habermas.U, Signification de la pragmatique universelle, (dans Logique des sciences‬‬


‫‪sociales et autres essais, PUF 2005), p 368.‬‬
‫ راطعلا ىفطصم ‪.‬د‬ ‫‪408‬‬

‫الئحة المراجع‬
‫‪-‬عبد اﷲ السيد ولد أباه‪ ،‬نظرية كانط في السالم الدائم‪ :‬قراءة يورغن هابرماس‪،‬‬
‫(مجلة التفاهم‪ ،‬السنة الثانية عشرة‪ ،‬شتاء ‪2014‬م‪1435/‬ه)ـ‪.‬‬
‫‪-‬أمانويل كانت‪ ،‬تأسيس ميتافيزيقا األخالق‪ ،‬ترجمة وتقديم د‪ .‬عبد الغفار مكاوي‪،‬‬
‫مراجعة د‪ .‬عبد الرحمن بدوي‪( ،‬منشورات الجمل‪ ،‬ط‪ ،1‬كولونيا ــ ألمانيا‪.)2002 ،‬‬
‫‪-‬محمد عبد السالم األشهب‪ ،‬مناظرة هابرماس وروالز‪ ،‬سؤال العدالة في الفلسفة‬
‫السياسية‪( ،‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬سلسلة ندوات ومناظرات رق ‪.)179‬‬
‫‪-‬طه عبد الرحمن‪ ،‬اللسان والميزان أو التكوثر العقلي‪( ،‬المركز الثقافي العربي‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬ط ‪.)2006 ،2‬‬
‫‪-‬مصطفى العطار‪ ،‬لغة التخاطب الحجاجي‪/‬دراسة في آليات التناظر عند ابن حزم‪،‬‬
‫(دار كنوز المعرفة‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط ‪.)2017‬‬
‫‪-‬عبد السالم معال وأمين الرشيد بن ياتيبان‪ ،‬تقييم منهجية الدراسات التي تناولت‬
‫المفاوضات الفلسطينية واإلسرائيلية‪( ،‬مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪،‬‬
‫العدد الثالث‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬سبتمبر ‪.)2017‬‬
‫‪-‬أحمد جالل‪ ،‬مهارة التفاوض‪(،‬القاهرة‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬ط ‪.)2010‬‬
‫‪-‬أحمد نوري النعيمي‪ ،‬السياسة الخارجية‪( ،‬دار زهران للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪،‬‬
‫األردن‪ ،‬الطبعة األولى ‪.2011‬‬
‫‪-‬مصطفى عثمان إسماعيل‪ ،‬إدارة النزاعات بين اإلسالم والغرب‪ ،‬دراسة مقارنة‬
‫بين المنهج اإلسالمي والممارسات الدينية‪( ،‬مكتبة مدبولي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‬
‫‪.)2014 ،1‬‬
‫‪-‬نتنياهو بنيامين‪ ،‬مكان تحت الشمس‪ ،‬ترجمة محمد عودة الدويري‪( ،‬دار الجليل‬
409 ‫ازنلا ةرادإ يف هجولا تايقالخأ‬

،‫ مراجعة وتصويب كلثوم السعدي‬،‫للنشر واألبحاث والدراسات الفلسطينية‬


.)‫طبعة مزيدة ومنقحة‬
:‫الئحة المراجع األجنبية‬
-- Austin. John, How to do things with words, (Oxford Uni, Press, 1962), pp
101 ‫ ــ‬102.
-- J.Habermas, De L’éthique de la discussion, (Cerf 1992).
-- Kant, La Logique, (Vrin, 1989).
-- Marshall.B.Rosenburg, Nonviolent communication, A Language of life,
(PuddleDancer Press 2003(.
-- J.Habermas, La Paix Perpétuelle, Le bicentenaire d’une idée Kantienne,
(Cerf, 1996).
-- Habermas.U, Signification de la pragmatique universelle, (dans Logique
des sciences sociales et autres essais, PUF 2005), p 368.
-- Orecchioni.c.k, L’implicite, (Paris, Colin, 1986(.
-- Orecchioni.C.k, L’énonciation de la subjectivité dans le langage, (Paris,
Armand Colin 1980).
-- Levinas. E, Ethics and Infinty, Conversations with Philippe Nemo,
(Translated by Richard A.Cohen, Duquesne University, Pittsburgh, USA,
1985).
-- Levinas. E, Totalité et infini, Essai sur l’extériorité, (Martinus Nijhoff,
France 1971).
-- Levenas. E, Autremant qu’être ou au ‫ ــ‬delà de l’essence, (Martinus Nijhoff
1978).
-- Levinas.E, Outside the subject, (Translated by Michael. B.Smith, Stanford
University Press, Stanford, California, Editions Fata Morgana).
‫د‬. ‫ راطعلا ىفطصم‬ 410
-- Lazare Benaroyo, Le visage au ‫ ــ‬délà de l’apparence, Levinas et l’autre
rive de l’éthique, (Articolo Sottoposto a peer review.Ricevuto il 23/6/2014.
Accettato il 1/3/2015)..
-- Levinas E, Humanisme de l’autre homme, (FATA MORGANA, 1987).
-- Johan Galthung, Theories of conflict, Definitions, Dimensions, Negations,
Formations, (University of Hawaii 1973).
‫دراسات‬

‫مشكلة الشر في األديان الكتابية‬


‫عبد الرزاق الدغري‬
‫‪1‬‬ ‫_____________________________________________‬

‫التخصصات للوصول‬ ‫ّ‬ ‫تعمل الدّ راسات البينية على تحقيق التكامل بين مختلف‬
‫التطور‬
‫ّ‬ ‫إلى فهم شمولي للظواهر الفكرية والدينية واألدبية عبر دمج المعرفة ومواكبة‬
‫تنوع المعارف يسهم في انفتاح النّص‬‫أن ّ‬‫الحاصل في حقول متعدّ دة‪ .‬وال شك في ّ‬
‫الديني على آفاق من الفهم والقراءات‪ .‬آثرنا من خالل هذا البحث أن ندرس مشكلة‬
‫«الشر» باعتبارها مفهوما دينيا وعقيدة إيمانية ومسألة فكرية شكّلت مدار اهتمام‬
‫الفكر الديني والباحثين‪ ،‬وارتبطت به المعتقدات الدينية‪ .‬إننا نعمد إلى استجالء‬
‫مختلف تم ّثالته الدينية واالجتماعية والرمزية والنفسية واألسطورية انطالقا من‬
‫بعض رموزه ودالالته في األديان الكتابية من منظور مناهج العلوم الحديثة اعتمادا‬
‫على التخصصات البينية وعلى قراءة تأويلية هرمنوطيقية مقارنة تستفيد من منهج‬
‫علم األديان‪.‬‬
‫ونو ّد أن نعالج هذه المقولة‪ ،‬في إطار دراسة أدب ّية النص المقدّ س والنصوص‬
‫الالهوتية المسيحية واليهودية وكذلك النصوص الهوامش باعتبار ّ‬
‫أن هذه المرويات‬
‫أن النصوص‬ ‫الشفوية تستدعي ف ّن القص والتشويق وتعتمد على آليات قصصية ذلك ّ‬
‫التي تتحدث عن الشر تعكس تم ّثالت أدب ّية ودين ّية واجتماعية ورمزية وداللية‪،‬‬
‫صاغها المخيال ود ّعمتها اإليديولوجيا السياسية‪.‬‬
‫نسعى من خالل هذا المبحث إلى أن نعالج مسألتين‪ :‬تتعلق األولى بفهم‬
‫التمثالت الدينية واالجتماعية والرمزية لمقولة الشر في األديان الكتابية‪ ،‬واستجالء‬
‫التخصصات‬
‫ّ‬ ‫مالمح أدب ّية بعض النّصوص الدينية‪ .‬وتتصل الثانية بالكشف عن قيمة‬

‫‪ .1‬باحث يف احلضارة واألديان املقارنة من تونس‪.‬‬


‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪412‬‬
‫النص الديني ومعالجة األفكار الدينية‪ ،‬فالمباحث‬
‫البينية‪ ،‬وتب ّين دورها في مقاربة ّ‬
‫البين ّية توظف العلوم اإلنسانية‪ ،‬لذلك جعلنا مدار اهتمامنا استجالء أدب ّية النّصوص‬
‫الدينية مثل النصوص الهوامش والتعاليم الدينية الكنَسية بالتركيز على مقولة الشر‬
‫متنوعة لنرصد مظاهر التخييل وخصائص‬
‫ورموزه ومرجعياته استنادا إلى قراءات ّ‬
‫النص‪ .‬فما أبرز هذه التمثالت لمقولة الشر؟ وأين تكمن قيمة‬
‫الذهن ّية التي أنتجت ّ‬
‫التخصصات؟ وما مالمح أدبية النّصوص الدينية والنّصوص‬
‫ّ‬ ‫هذه المقاربة المتعدّ دة‬
‫اللواحق؟‬

‫‪ 1‬المقاربة السيميائية‪:‬‬
‫ال يمكن للمباحث الدينية أن تنهض وتواكب الواقع إال بتجديد المناهج‬
‫واالستفادة من المعارف والعلوم الحديثة‪ ،‬فتستثمر منجزات علوم اللسان‬
‫والسيميائية والهرمنيوطيقا وعلم األديان‪ّ .‬‬
‫إن الحاجة ضرورية إلى انفتاح‬
‫أدبي أو فني أو نقدي‬
‫أي عمل ّ‬
‫القراءات والتأويالت على تعدّ د المعنى باعتبار أن ّ‬
‫هو أثر أو نص مفتوح على حد رأي إمبرتو إيكو‪ .2‬وبات واضحا أنّه من األهمية‬
‫بمكان أن تتضافر عدّ ة علوم لدراسة الظاهرة الدينية وطرح األفكار‪ ،‬وكثيرا ما‬
‫يشغل الباحث عند مقاربة الدراسات الدينية هذا السؤال‪ :‬بأي منهج نقرأ النّص‬
‫الديني ونعالجه؟ وما جملة المقاربات التي تسمح بفهم بنائه التركيبي وإدراك‬
‫معناه وتاريخيته؟‬
‫لقد اخترنا أن نتطرق إلى مقولة الشر بتوظيف مجال السيميولوجيا وهو العلم‬
‫الذي يمكن من معرفة القوانين والدالئل التي تسير نظام اللغة والداللة‪ .‬إننا نالحظ‬
‫يتوزع على نصوص لها بنية أدبية وذات داللة دينية عقائدية مذهبية‬ ‫ّ‬
‫أن مفهوم الشر ّ‬
‫واجتماعية أو نفسية وال ّلغة هي علم ال يفهم خارج المجتمع‪ ،‬فتحمل اللغة وطرائق‬
‫انتظامها مدلوالت مختلفة‪ .3‬وال شك ّ‬
‫أن هذا البناء اللغوي العالماتي والرمزي‬

‫‪ .2‬أمربطو إيكو‪ ،‬األثر املفتوح‪ ،‬ط‪ ،2‬ترمجة عبد الرمحان بوعيل‪ ،‬دار احلوار‪ ،‬سورية‪ ،2001 ،‬ص‪.15‬‬
‫‪ .3‬آسيا جريوي‪ ،‬املصطلح السيميائي بني الفكر العريب والفكر الغريب‪ ،‬جملة كلية اآلداب واللغات‪،‬‬
‫العدد الثاين عرش‪ .‬جامعة حممد خضري‪ ،‬بسكرة‪Roland Barthes, Éléments de .2013 ،‬‬
‫‪ 134‬ـ ‪sémiologie, in : communications, 4, 1964 , pp92‬‬
‫‪413‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫يستدعي تأويال‪ ،‬والتأويل حسب رأي ريكور يسعى إلى فك الرموز وفهم رمزية‬
‫الخطاب‪/‬النّص‪.4‬‬
‫يتراءى لنا من خالل دراسة بعض القصص الدّ ينية واألحاديث والتفاسير‬
‫واألخبار دراسة سيميائية تنظر في نظام الدوال المشكلة لف ّن القص ّ‬
‫أن مشكلة الشر‬
‫تعبر عن معتقد يمثل وجها من وجوه صراع اإلنسان مع نفسه ومع الشيطان وعدة‬
‫رموز أخرى‪ ،‬فيبني الرواة والمفسرون وأصحاب المذاهب خطابات دينية قصصية‬
‫حول الشر ورموزه تتشكل من أحداث وفواعل وأمكنة وأزمنة مقدسة ومفارقة‬
‫للمألوف؛ يظهر ذلك في قصص األنبياء وأخبار الساعة والفتن والمالحم والمعاد‪،‬‬
‫وفي نظام الدوال واألسماء والصفات واألفعال والحركات واألصوات ما يدل على‬
‫أدبية هذه النصوص‪ ،‬إذ يكون هيكلها قصصي ينطوي على سردية أدبية تضمر عدة‬
‫مقاصد‪ ،‬فضال عن كونها تبعث على التشويق وإثارة انتباه القارئ‪ ،‬يبدو ذلك جليا في‬
‫تفسيري الطبري (ت‪310‬هـ) وابن كثير (ت‪744‬هـ) وفي كتب القصص النبوي‪ ،‬فرمز‬
‫الشر والغواية في قصص آدم وعيسى ومحمد هو الشيطان وفي أخبار اآلخرة يكون‬
‫الدجال وأهل الكفر والفسوق‪ ،‬وأ ّما في حكاية أهل الكهف‪ ،‬فالفتية رمز الخير في‬
‫حين ّ‬
‫أن الشر يمثله الطواغيت والجبابرة من الملوك وعبدة األصنام واألوثان‪ .5‬وإذا‬
‫الشر في القرآن بالحسد والوسوسة والمرض والدعاء واالبتالء وفعل السوء‪،‬‬
‫اتّصل ّ‬
‫الشر بالمحرمات‬
‫توسعوا في بيان اقتران ّ‬
‫المفسرين ّ‬
‫ّ‬ ‫والعداوة والبغضاء واإلثم‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫وما نهى اﷲ عنه مثل الخمر والميسر واألزالم والكفر‪ ،‬فتعلقت عقوبة فعل الشر‬
‫بلعنة اﷲ وغضبه وانتقامه من أهل الشر ومسخهم ‪ .6‬وم ّثل إبليس في النص المقدس‬

‫‪4. P. Ricoeur, De l’interprétation, essai sur Freud, Edit: Seuil, Paris, 1965, p19.‬‬
‫‪ .5‬إسامعيل بن كثري‪ ،‬البداية والنهاية‪ ،‬ط‪ ،1‬الرشوق للنرش والتوزيع‪ ،‬مرص‪ ،2007 ،‬املجلد‪ ،1‬ج‪،1‬‬
‫باب ذكر خلق اجلان وقصة الشيطان‪ ،‬ص ص‪ 64‬ــ ‪ 78‬وباب ما ورد يف خلق آدم عليه السالم‪،‬‬
‫ص ص‪ 78‬ــ ‪ .101‬إسامعيل بن كثري‪ ،‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬م‪ ،1‬ص ص‪ 72‬ــ ‪ ،78‬البقرة ‪ 34‬ــ‬
‫‪ 37‬إسامعيل بن كثري‪ ،‬قصص األنبياء‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،1992 ،‬ص ص‪ 57‬ــ ‪70‬‬
‫وص ص‪ 654‬ــ ‪.667‬أبو جعفر حممد بن جرير الطربي‪ ،‬جامع البيان يف تأويل القرآن‪ ،‬ط‪ ،1‬املكتبة‬
‫التوفيقية‪ ،‬القاهرة‪ ،2004 ،‬م‪ ،9‬ج‪ ،15‬ص ص‪ 201‬ــ ‪.204‬‬
‫‪ .6‬جامع البيان يف تأويل القرآن‪ ،‬م‪ ،16‬ج‪ ،28‬ص ص‪ 386‬ــ ‪.395‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬م‪ ،1‬ص‪245‬‬
‫وم‪ ،2‬ص ص‪ 92‬ــ ‪.99‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪414‬‬
‫اإلسالمي رمز التمرد والعصيان‪ .7‬وما من شك في ّ‬
‫أن الكثير من األخبار والتنبؤات‬
‫التي نشأت حول اآلي قوامها بناء لغوي سردي أسطوري وعجائبي‪ ،‬فاألساطير التي‬
‫تنهض على صراع الخير والشر تشكل محور اإليمان ومنها أساطير النشأة والتكوين‬
‫حسب ميشال مسيالن‪ .8‬كشفت العالمات النصية ومجموعة الدوال اللغوية في‬
‫أحاديث الغيب وأخبار النهاية في الزمان الصراع ضدّ قوى الشر والفساد والكذب‪،‬‬
‫ومحاربة المفسدين‪ ،‬وب ّينت تغلغل الفتن‪ ،‬فتحدث شرور عديدة وضاللة وافتراق‬
‫األمة‪ ،‬وينتصر الخير ونوره على الشر وظالمه‪ ،‬أو الحق على الباطل‪ .‬لقد كانت‬
‫لهذه األخبار واألحاديث المتصلة بفعل الشر وبعالمات اآلخرة والمعاد غايات‬
‫تحول إلى‬
‫الصراع الدنيوي بين البشر ّ‬ ‫إيديولوجية دينية وسياسية تكشف ّ‬
‫أن مظاهر ّ‬
‫صراع مقدّ س على التأويل والسيطرة على األرض وبسط النفوذ وادعاء امتالك‬
‫إن لهذه األحداث والتنبؤات هيكل قصصي وعالمات نصية‬ ‫الحقيقة الواحدة‪ّ .‬‬
‫متنوعة‪ ،‬وهي الفتة للنظر بفضل ما تحمله من طابع حكائي خرافي‬
‫تؤدي وظائف ّ‬
‫وأسطوري يكشف عقيدة رواة الحديث والمفسرين ومؤلفي كتب السيرة والقصص‬
‫النبوي‪ .‬لقد تحدّ ث القرآن عن الشر في عدّ ة مواضع‪ ،‬وأعاد الرواة والمفسرون تمثل‬
‫هذه اآليات واإلشارات الدالة على هذه الثنائية‪ ،‬ود ّعموها بأخبار عديدة ّ‬
‫تدل على‬
‫خطاب لغوي واجتماعي وسياسي وديني لمقولة الشر‪ ،‬واعتمدوا فن األدب والسيرة‬
‫في تفسير اآلي ونقل القصص واألخبار‪ ،‬فتأثر الشفوي بروح عصر التدوين‪.9‬‬
‫تتواتر بوضوح في قصص الخلق وأخبار الفتن والمعاد وفي فضائل الصحابة‬
‫والقبائل العربية ومعاجز األنبياء وخصالهم األفعال الدالة على الشر والخير‪ ،‬وهي‬
‫أخبار وتنبؤات تنطوي على عالمات نصية حكائية خرافية وأسطورية يروم من‬

‫‪ .7‬الناس‪ ،4‬املائدة‪ 60‬ــ ‪ 63‬و‪ 90‬ــ ‪ .92‬الفلق‪ ،5‬اإلرساء‪ ،11‬األنبياء‪ ،35‬آل عمران‪ ،180‬البقرة‪34‬و‪.216‬‬
‫األعراف‪.11‬‬
‫‪8. Michel Meslin, pour une science des religions, E. du seuil, 1973, pp120 - 221.‬‬
‫‪ .9‬يونس‪ ،11‬األنبياء‪ ،35‬املعارج‪ ،20‬اإلرساء‪ ،83‬الفلق‪ .2‬القصص‪ ،77‬الروم‪ ،41‬أبو لفداء إسامعيل‬
‫بن كثري‪ ،‬النهاية يف الفتن واملالحم‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفجر للرتاث‪ ،‬القاهرة‪ ،2003 ،‬ص ص‪ 22‬ــ ‪.72‬‬
‫تفسري القرآن العظيم‪ ،‬م‪ ،1‬ص ص‪ 350‬ــ ‪ 352‬و ‪ 556‬ــ ‪(.574‬تفسري اآليات‪ 52‬ــ ‪ 58‬و‪ 153‬ــ ‪171‬‬
‫من سورة النساء)‬
‫‪415‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫خاللها الرواة شد القارئ ونصرة الدين اإلسالمي وتهويل الوقائع وتضخيم رموز‬
‫الشر للترهيب والترغيب‪ ،‬فتجاوز المدونون ما رسمه نصهم المقدس بفعل نشاط‬
‫المخيال بمختلف تفرعاته الدينية والسياسية واالجتماعية‪ ،‬ليبالغ في الحديث عن‬
‫الشرور والفتن وعالمات اآلخرة وأهوال الساعة والحشر والعذاب‪ ،‬فيرسم الرواة‬
‫إشارات نصية جديدة وأخبار عديدة لثنائية الخير والشر مثل حديث الجساسة‬
‫والدابة والشيطان‪ ،‬تدل عالماتها النصية ولغتها األسطورية على أنها تجمع بين‬
‫الواقعي والغيبي والمتخيل‪.10‬‬
‫ولعل من أبرز مظاهر حضور هذه الثنائية في الحديث النبوي والتفسير ما تع ّلق‬
‫ّ‬
‫بقصص األنبياء ومنها قصة المسيح والمسيح الدجال وما يعتريها من أفكار مغالية‬
‫وأحداث تبعث على اإلثارة وشخصيات خارقة للمألوف في أمكنة وأزمنة غابرة‬
‫ومقدّ سة وغيبية‪ .‬يمثل المسيح رمز الخير أ ّما الدجال فهو رمز الشر‪ ،‬يكون بهيأته‬
‫وصفاته مثيرا للرعب والهيبة‪ ،‬ومعه دجالون كذابون منبع الكفر والضالل والعصيان‬
‫والتمرد والضياع والفتنة والبهتان‪ ،‬فيكون الدجال دليال على الشيطان الذي تصارع‬
‫معه األنبياء‪ .‬يأتي عيسى ليزيل الشرور ويقضي على األعور الدجال ومن معه‪ ،‬ليجترح‬
‫كل منهما معجزات وخوارق وأفعاال مثيرة للرعب ومعبرة عن القوة وعن التشويق‬
‫القصصي وهي تجسم الصراعات المنتظرة والحلم باالنتصار‪ .11‬ومن بين هذه‬
‫القصص أيضا قصص ذي القرنين وإدريس ويأجوج ومأجوج‪ ،‬فتتخذ األخبار طابعا‬
‫دراميا‪ ،‬وتتكثف عناصر اإلغراب والعجب والتشويق وعالمات الخارق للعادة‪.12‬‬
‫الصراع بين رموز الخير والشر وكذلك بين البشر أو بين الدول في األيام‬
‫يكون ّ‬
‫السابقة للساعة‪ ،‬فتنقل األخبار ما يجدّ من معارك وحروب وفتن‪ ،‬في ذلك الزمان‬
‫الصليب‪ ،‬و َينتصر المسلمون على الروم‪ ،‬فيشتد القتل‬
‫ُ‬ ‫الغيبي المقدّ س ُيكسر‬
‫والخسف‪ ،‬وتحدث فتن وحروب وأهوال‪ ،‬وتظهر رايات مع ّبرة عن الصراع بين‬

‫‪ .10‬األنعام‪ 6‬و‪ .47‬األعراف‪ 4‬و‪ .164‬النمل‪ .82‬جامع البيان يف تأويل القرآن‪ ،‬م‪ ،1‬ص ص‪ 285‬ــ ‪.340‬‬
‫مسلم بن احلجاج القشريي‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،2000 ،‬حديث‪.2942‬‬
‫‪ .11‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث‪169‬و‪.2933‬‬
‫‪ .12‬جامع البيان يف تأويل القرآن‪ ،‬تفسري اآليات‪ 83‬ــ ‪ 85‬من سورة الكهف‪ ،‬م‪ ،7‬ج‪ ،16‬ص ص‪ 15‬ــ ‪.16‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪416‬‬
‫الخير والشر‪ ،‬وهي تخالف ما ورد في النص القرآني من قرائن دالة على الساعة لتعبر‬
‫هذه الرموز والعالمات في الحديث والتفسير عن ذهنية الرواة والمفسرين والمدونين‬
‫الذين أسهموا في تأليف األخبار وتجميع أخرى عن غيرهم وعن أبعاد اجتماعية‬
‫السجال بين المسلمين وغيرهم من األمم وعلى تأ ّثر الحديث بأدب‬
‫ونفسية‪ ،‬وتكشف ّ‬
‫السيرة‪.13‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫إن لهذه القصص الدالة على ثنائية الشر والخير حضور الفت عند الحساب‪ ،‬فقد‬
‫بنبوة محمد وبكتاب اﷲ وعواقب‬
‫تعمق المخيال في االستدالل على قيمة اإليمان ّ‬ ‫ّ‬
‫الكفر‪ ،‬وقام على االنتقام من المخالفين ومن أعداء النبي‪ ،‬في ذلك الزمان ّ‬
‫يحل العقاب‬
‫والجزاء أو الخير للمحسن والشر لمن ال يعرف ربه وإمامه‪ ،‬ويحدث صراع بين رموز‬
‫المالئكة‪/‬الزبانية إلى قبره وهي تلعنه‪ ،‬فتتذ ّمر منه‬
‫ّ‬ ‫الخير والشر‪ ،‬فإذا مات الكافر تش ّيعه‬
‫األرض وتضيق عليه‪ ،‬ويحضر الملكان منكر ونكير في صورة مرعبة‪ ،‬ويحيل اسمهما‬
‫وصفاتهما وأفعالهما على عالمات الشر ورموزه‪ ،‬يكون لهما شعر طويل وأنياب وكبيرة‬
‫وصوت مثل الرعد وبصر مثل البرق الخاطف‪ ،‬يسأالن الميت عن ربه وإمامه‪ ،‬وإذا‬
‫ما تلجلج لسانه‪ ،‬يضرب بمطراق من حديد‪ ،‬فيمتلئ قبره نارا‪ ،‬ويسلط عليه العذاب‪،‬‬
‫وتنهشه الزواحف‪.14‬‬
‫ويستمر هذا الصراع في قصص القيامة‪ ،‬جاء في الحديث‪« :‬ال تقو ُم الساع ُة إالّ على‬
‫ِ‬
‫شرار الناس»‪ 15‬فتكون القيامة والبعث والحساب والجنّة والنار انتصار ًا للخير ورموزه‬
‫في تحقيق السعادة‪ ،‬ويلقى أعداء اإلسالم عند الموت عذاب الهون والعطش في األيام‬
‫السابقة للساعة وفي القبر وعند الحشر ويوم الحساب‪.‬‬
‫نتبين من خالل توظيف بعض علوم األديان ومنجزاتها في علم النفس الديني وعلم‬
‫تنم‬
‫توسعت في تشكيل صورة للشر ورموزه ّ‬ ‫أن النصوص اللواحق ّ‬ ‫االجتماع الديني ّ‬
‫ّ‬
‫وتحط من شأن المخالفين‪،‬‬ ‫عن إيديولوجيا سياسية وعقائدية تنصر الملة أو المذهب‬

‫‪ .13‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث‪.2899‬‬


‫‪ .14‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬الدر املنثور يف التفسري باملأثور‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪ ،1993 ،‬م ‪ ،5‬ص ص‪ 34‬ــ‬
‫‪.37‬‬
‫‪ .15‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث‪.2949‬‬
‫‪417‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫وتحتكر الحقيقة‪ ،‬وتعبر عن المشاعر وبنى المقدس في اإلسالم‪ ،‬وقد وظفت الصور‬
‫البالغية ومنظومة دوال جديدة معبرة عن الشر(للشخصيات المفارقة‪/‬األحداث‬
‫الغريبة‪/‬األمكنة‪ )...‬ألداء غايات عقدية‪ .‬وأضحت هناك عالمات لغوية جديدة تستخدم‬
‫الرمز الديني‪ ،‬فتتوالد األحداث‪ ،‬ويغذي المخيال هذه القصص والرموز(الرايات‬
‫السوداء‪ ،‬ألوان‪ ،‬وسائل القتال)‪ ،16‬لذلك تبدو المسافة الفاصلة بين القصص القرآني‬
‫ونصوص الحديث والتفسير واضحة‪ ،‬فتتنوع الخطابات وتتشكل خطابات جديدة‬
‫وأنساق داللية تتحكم في القصص الديني عبر آليات خطابية تنبني على التوليد والمبالغة‬
‫والتخيل والنمذجة‪.‬‬
‫شك في ّ‬
‫أن مجال البينية يقوم على تعدّ د االختصاصات وتداخل المعارف‬ ‫ما من ّ‬
‫تنوع مرجعيات األخبار‬ ‫‪17‬‬
‫لمعالجة النصوص والمفاهيم الدّ ينية‪ ،‬وقد ثبت لنا من خالله ّ‬
‫الشر وأدبيتها في النّص المقدّ س والنّصوص الحواف والجمع بين ما هو أسطوري‬
‫حول ّ‬
‫الشر مصدره غير إلهي بل‬
‫أن ّ‬‫وواقعي وغيبي‪ .‬فتكشف التمثالت االجتماعية والدينية ّ‬
‫نابع من الشيطان‪ ،‬وتعتمد األخبار على بنية أدبية تبعث على التشويق وإثارة القارئ‪،‬‬
‫ومنها قصص الخلق والمبدأ والمعاد وقصص األنبياء وسيرة الصالحين والمقدسين‪،‬‬
‫كقصة آدم وموسى وعيسى‪ ،‬حيث تجتمع قوى الخير وقوى الشر‪ ،‬وغاية األخبار‬
‫ّ‬
‫تكونت البنية القصصية من ثنائيات‬
‫الموعظة والتهويل وتعظيم ديانة التوحيد‪ ،‬فقد ّ‬
‫عديدة ومنها األمكنة واألزمنة وفواعل الخير والشر وأفعال المقدس والمدنس ومجال‬
‫العقاب والثواب واإليمان والكفر‪ ،18‬بلغة أسطورية وأفكار مغالية عند سرد األحداث‬
‫ورسم الفواعل لتبرز الصراع على التأويل واستثمار المقدس لبناء إيديولوجيا سياسية‬

‫‪ .16‬النهاية يف الفتن واملالحم‪ ،‬ص ص‪ 37‬ــ ‪ 60‬و‪ 144‬ــ ‪ 145.313‬ــ ‪.315‬‬


‫‪Pour une science des religions, p p81 - 95.pp118 - 123.‬‬
‫‪ .17‬آمنة بلعيل‪ ،‬الدراسات البينية وإشكالية املصطلح العابر للتخصصات‪ ،‬جملة سياقات‪ ،‬املجلد الثاين‪،‬‬
‫العدد‪ ،2‬أفريل‪ ،‬اجلزائر‪ ،2017 ،‬ص ص‪ 267‬ــ ‪ .282‬ميمون جماهد‪ ،‬أثر تعدد التخصصات وتكاملها‬
‫يف تعليمية اللغة العربية ونجاعتها‪ ،‬جملة الباحث‪ ،‬ع‪ ،17‬جملد‪ ،1‬اجلزائر‪ ،‬ص ص‪ 13‬ــ ‪.29‬‬
‫‪ .18‬راجع مثال سورة البقرة‪ ،‬سورة يوسف‪.‬الكتاب املقدس‪ ،‬إنجيل لوقا‪ ،‬سفر التكوين‪ ،‬سفر اخلروج‪.‬‬
‫يمكن التعمق يف خاصيات بنية القصص الديني ومدلوالهتا من خالل‪:‬محادي املسعودي‪ ،‬فنيات‬
‫قصص األنبياء يف الرتاث العريب‪ ،‬ط‪ ،1‬مسكلياين للنرش‪ ،‬تونس‪.2007 ،‬اهلادي اجلطالوي‪ ،‬يف‬
‫القصص القرآين‪ ،‬جملة موارد‪ ،‬ع‪ ،3‬كلية اآلداب سوسة‪.1998 ،‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪418‬‬
‫وعقائدية‪ ،‬في هذا السياق يرى ميشال مسالن ّ‬
‫أن اإلنسان ينشئ المقدس باستخدام بناه‬
‫النفسية والعقلية ولغات عديدة رمزية وأسطورية‪ ،‬ويوظفه لغايات مختلفة كاشفا أهمية‬
‫المنهج البنيوي في تبين آليات اشتغال العقل البشري واكتشاف بنى المقدس‪.19‬‬
‫ومن المفيد أن نشير إلى ّ‬
‫أن الفرق اإلسالمية اختلفت في تفسير مقولة الشر‪،‬‬
‫حرية اإلنسان‪ ،‬فارتكزت مقاالت‬‫وارتبطت بمبانيها العقائدية‪ ،‬ونظرتها إلى ّ‬
‫والشر ضربان‪ :‬صنف خلقي‬
‫ّ‬ ‫الشر‪،‬‬ ‫المن ّظرين المعتزلة على القول ّ‬
‫بأن اﷲ ال يخلق ّ‬
‫ينجم عن أفعال اإلنسان‪ ،‬يتج ّلى في المعاصي والجرائم مثل الكفر والقتل ّ‬
‫والسرقة؛‬
‫أ ّما الصنف الثاني فطبيعي على غرار الكوارث الطبيعية والمحن‪ .‬وارتبط العقاب‬
‫والثواب بأفعال اإلنسان عند األشعري(ت ‪324‬هـ)‪.‬وقد قال أهل السنّة بالتحسين‬
‫الشر كما يخلق الخير‪ّ .‬‬
‫إن األشاعرة أضافوا مصطلح‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وبأن اﷲ يخلق‬ ‫والتقبيح‪،‬‬
‫الشر‬
‫الشر‪ ،‬وقد نسبوا ّ‬
‫«الكسب»‪ ،‬أ ّما معظم علماء اإلمامية فيعدّ ون اإلنسان مصدر ّ‬
‫إلى المخالفين والمشكّكين في األئمة‪.20‬‬

‫‪ 2‬ـ المقاربة الهرمنوطيقية‬


‫نشأت الهرمنوطيقا في الغرب واهتمت في بادئ األمر بشرح الكتاب المقدس‬
‫وتفسيره‪ ،‬ثم امتدّ ت وشملت حقوال معرفية وأدبية وفكرية متنوعة‪ ،21‬ويمكن أن نستثمر‬
‫بعض منجزات هذا الحقل العلمي في دراسة مفهوم الشر‪ّ .‬‬
‫إن للتأويلية دورا مهما في‬
‫استجالء بنية تفكير المسلمين وتبين رؤاهم‪ .‬لقد ع ّبرت عن جهد في قراءة النص وتمثل‬

‫‪ .19‬املقدس وتوظيفه‪ ،‬مؤلف مجاعي‪ ،‬إرشاف رجاء بن سالمة‪ ،‬ط‪ ،1‬املنشورات اجلامعية بمنوبة‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫‪.2015‬‬
‫‪pour une science des religions, pp170 - 221.‬‬
‫‪ .20‬أبو احلسن عيل بن إسامعيل األشعري‪ ،‬مقاالت اإلسالميني واختالف املصلني‪ ،‬املكتبة العرصية‪،‬‬
‫بريوت‪ ،1990 ،‬ص ص‪ 239‬ــ ‪276‬و‪ 230‬ــ ‪ 385‬عبد القاهر البغدادي‪ ،‬الفرق بني ِ‬
‫الف َرق‪ ،‬ط‪ ،5‬دار‬
‫اآلفاق اجلديدة‪ ،‬بريوت‪ ،1982 ،‬ص ص‪ 313‬ــ ‪ .369‬أبو احلسن بن حممد بن طاهر العاميل‪ ،‬مرآة‬
‫األنوار ومشكاة األرسار‪ ،‬ط‪ ،2‬األعلمي للمطبوعات‪ ،‬بريوت‪ ،2006 ،‬ص‪.320‬‬
‫‪ .21‬جملة قضايا إسالمية معارصة‪ ،‬اهلرمنيوطيقا واملناهج احلديثة يف تفسري النصوص الدينية‪ ،‬مركز دراسات‬
‫فلسفة الدين بغداد‪ ،‬السنة‪ ،18‬العدد‪.2014 ،60/59‬‬
‫‪Paul Ricœur, Essais d'herméneutique, 2 Du texte à l’action, Paris: éd. du Seuil, 1986.‬‬
‫‪419‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫دواله وفهمها باالستفادة من مناهل متنوعة‪ ،‬لذلك فإن رموز الشر هم المعادون لله ودينه‬
‫أن الخير تعبر عنه بعض التم ّثالت االجتماعية‬
‫وأنبيائه ولخاتم الرسل وصحابته‪ ،‬ذلك ّ‬
‫التي تدل على المعرفة والعلم والعقل وقوة الضمير والعلماء والمفكرون وعدد من‬
‫المالئكة وبعض الشخصيات البشرية أو الحيوانية‪ ،‬وقد ارتبط الشر بعدة دوال ورموز‬
‫في الحديث والقصص الدّ يني تظهر عبر بعض معتقداته وغيب ّياته وتصوراته‪ ،‬وتعبر عن‬
‫ثم‬
‫الشر بعض الرموز المادية والقوى الطبيعية والغيبية مثل النفوس الشريرة واألبالسة‪ّ ،‬‬
‫يم ّثلها في أخبار المعاد بعض المالئكة مثل عزرائيل والشياطين‪ ،‬وهي ّ‬
‫تدل على الفساد‬
‫واإلغواء والشهوات والهالك والكفر والمرض والدنس والضياع والبهتان والقوة‬
‫الظالمة الغاشمة‪.22‬‬
‫المؤسس وبعض النّصوص ال ّلواحق مثل الحديث النبوي‬
‫ّ‬ ‫كان النّص اإلسالمي‬
‫الصراع بين‬
‫والتفسير مجاال الستحضار نصوص أدب ّية وشفو ّية تع ّبر عن تتويج ّ‬
‫الشر في‬
‫والشر‪ ،‬فلهذه الثنائية رموز بشرية وحيوانية ومعنو ّية وما ّدية‪ ،‬ويبرز ّ‬
‫ّ‬ ‫الخير‬
‫والعري‬
‫ّ‬ ‫األرض‪ ،‬وصار له دولة وسلطان‪ ،‬وتعبر عنه أحداث القتل والحروب والفسق‬
‫والدجالون‪ .‬واألشرار أعداء الدين الجديد‬
‫ّ‬ ‫والظلم والفتن‪ ،‬يقودها الطغاة والجبابرة‬
‫ورسوله وأتباعه‪ ،‬وكانت المرأة تحيل على فعل الشر منذ البدء وفي قصة آدم وحواء‪،‬‬
‫وظلت تحمل هذه الرمزية الدالة على الدنس واإلغواء والمعصية والشر بفعل‬
‫الجسد والحيض والوالدة واالعتقاد بالمكر وسوء التدبير‪ ،‬وال شك أن لهذا التفكير‬
‫مرجعياته القديمة في الثقافة اليهودية والديانات القديمة‪ ،‬وفي المقابل ّ‬
‫فإن للخير‬
‫رموزه هو اآلخر كاألنبياء والمصلحين والمهدي ّين والعلماء والمفكرين والمثقفين‪،23‬‬
‫أن بين الشر والجنس والسياسة عالقة كبرى ّ‬
‫وأن الشر مفهوم‬ ‫وهو ما يجعلنا نستنتج ّ‬
‫مركب يجعله متسع الداللة لتحقيق غايات ومقاصد‪ ،‬ولحفظ المجتمع من الفتن‬
‫وجب القضاء على الشرور واآلثام‪.‬‬

‫‪ .22‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ص ‪ 206‬ــ ‪.270‬وج‪ ،3‬ص ص‪ 70‬ــ ‪ 82‬و‪ 332‬ــ ‪ .406‬فصلت‪،49‬‬
‫املعارج‪ 20‬ــ ‪ .21‬البقرة‪ ،36‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث‪158‬و‪ .165‬الدر املنثور‪ ،‬م‪ ،2‬ص ص‪ 425‬ــ ‪.440‬‬
‫‪ .23‬حسن إغالن‪ ،‬اجلنس والسياسة‪ :‬التدبري السيايس للجسد يف اإلسالم‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ .2018 ،‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ص‪ 70‬ــ ‪ 107‬و ج‪ ،2‬ص ص ‪ 206‬ــ ‪.270‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪420‬‬
‫ّ‬
‫إن تأويل هذه األخبار يساعدنا على إدراك بنية التفكير العميقة التي صاغت هذه‬
‫النّصوص واالنتقال من الدوغمائية إلى العقالنية‪ ،‬ما يجعلنا نعتقد ّ‬
‫أن النّصوص‬
‫اللواحق مثل الحديث النبوي والتفسير مثلت مناسبة الستحضار وتوليد قصص‬
‫دينية رمزية تمتح من فن القص‪/‬األدب لتعبر من خالل القص عن تتويج الصراع‬
‫والشر ذلك ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫والشر‪ ،‬فتشكلت رموز بشرية وحيوانية ومعنوية للخير‬
‫ّ‬ ‫بين الخير‬
‫اإلنسان هو الذي يصنع رموز الشر ويبني القصة على وفق جهد تأويلي ينهل من‬
‫فن القص‪ ،‬فيجمع بين المتخيل والواقع اإلنساني واالجتماعي‪ ،‬ومن روافد شعبية‬
‫وحضارية متنوعة‪ ،‬وقد أسهمت كتب التفسير في بناء هذا المخيال على حد رأي‬
‫كلود جيليوت‪.24‬‬
‫ويمكن أن نستنتج من خالل هذه المقاربة الهرمنوطيقية دور المتلقي للنص‬
‫الديني المقدس في إنتاج نصوص ثوان توظف مجال التأويل والتخييل‪ ،‬فتتوالد‬
‫األحداث‪ ،‬وتتكثف الفواعل واألمكنة واألزمنة المقدسة للتعبير عن صراع عميق‬
‫بين فواعل الخير وفواعل الشر وعن تمثل اجتماعي وديني لمفهوم الشر يؤكد‬
‫بناء العالم على هذه الثنائية‪ ،‬ويثبت تأثر النص الديني بواقع مجتمع الوحي وزمن‬
‫التدوين‪ ،‬فقد صاغ الرواة القصص ونسجوا األخبار‪ ،‬وجمعوا في نقل السيرة‬
‫والحديث ما علموه من أخبار ومعتقدات كانت مألوفة في مجتمع الرسالة ومنتشرة‬
‫بين اليهود والنصارى‪ ،‬وأضافوا إليها بعض التصورات الجديدة التي اقترنت بنشر‬
‫الدعوة الوليدة‪.‬‬
‫وتتيح المقاربة التأويلية إدراك الغاية من هذه األخبار‪ ،‬فال يخرج هذا القص عن‬
‫دفع الناس إلى الدخول في الدعوة الجديدة واإلعراض عن الشرك والوثنية وتأكيد‬
‫انتصار اإلسالم وبقائه إلى قيام الساعة‪ ،‬فتع ّبر عن مظاهر حضور الشر في حياة المؤمن‪،‬‬
‫نقر ّ‬
‫أن‬ ‫وترصد رموزه‪ ،‬وتعتبر اآلخر تجليا للشر ورمزا له وتعبيرا عنه‪ ،‬ذلك ما يجعلنا ّ‬
‫هذا الخطاب حجاجي إقناعي يتضمن متكلما ومخاطبا معنيا بمقول القول‪ ،‬يسعى‬
‫المتكلم إلى إذعانه وإقناعه بعاقبة الشر‪.‬‬

‫‪24. Claude Gilliot, Mythe, récit, histoire de salut dans le commentaire de Tabari. Journal‬‬
‫‪asiatique, 2، 1994, p255.‬‬
‫‪421‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫على هذا النحو إذن‪ ،‬يمكن أن تسهم القراءة الهرمنوطيقية في اكتشاف البناء‬
‫األسطوري للنص القرآني وللنصوص الحواف وتفسيرها‪ ،‬فهناك تأويالت عديدة للغة‬
‫الدينية وللقصص الديني تظهر الصراع بين الخير والشر‪ ،‬ذلك أن القراءة التأويلية تثبت‬
‫أن الشر يمثله أعداء األنبياء وأهل الشرك وتكشفه بعض القصص األسطورية مثل قصة‬
‫أهل الكهف وعاد وثمود ويأجوج ومأجوج‪ 25‬وتؤكد المقاربة التأويلية الصراع بين‬
‫النقل والعقل‪ ،‬فتحمل هذه األخبار خطابا أسطوريا مقدّ سا ومتخ ّيال‪ ،‬فبالكاد نم ّيز بين‬
‫الصورة األسطورية المقدّ سة والواقع الذي تع ّبر عنه‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشر تم ّثال بشر ّيا دنيو ّيا‪ ،‬وتعبر‬
‫الصور للوقائع الدينية المع ّبرة عن ّ‬
‫لذلك تبدو هذه ّ‬
‫عن إعادة صياغة وتمثل للواقع الذي عاشه المسلمون زمن الفتوحات والمعارك مع‬
‫األمم األخرى وهيمن عليه القتل والفتن‪ ،‬فقد أعاد الرواة رسم الواقع التاريخي أثناء‬
‫نقل أخبار الغيب والمالحم والفتن صورة اآلخرة وعناصر الجزاء والعقاب‪ ،‬فانطبعت‬
‫هذه النصوص بما عاشه المسلمون من أحداث وصراعات وفتن‪ ،‬وأ ّما الشخصيات‬
‫الدينية فإنها جسمت صراعا بين رموز الخير والشر‪ ،‬يأتي المسيح المنتظر الدجال في‬
‫صورة بشر شرير أعور سمته الكذب والنفاق والفساد‪ ،‬وأما المسيح عيسى بن مريم‪،‬‬
‫فهو رجل خ ِّير مخلص يتسم بالطهارة والصفاء‪.26‬‬
‫ّ‬
‫إن المقاربة الهرمنوطيقية هي إحدى الفروع األساسية لعلم األديان‪ ،‬إذ يخلق التأويل‬
‫رؤية جديدة ومنهجا مقارنا في معالجة األفكار والظواهر الدينية‪ ،‬في هذا المستوى‬
‫يتأسس على الحياد والموضوعية عن علم الالهوت الذي‬
‫يتم ّيز علم األديان باعتباره ّ‬
‫توسع الالهوت الكتابي في‬
‫يدافع عن معتقدات المذهب ويجنح إلى المفاضلة ‪ .‬لقد ّ‬
‫‪27‬‬

‫تأويل مسألة الشر وربطها بالعقائد المسيحية التي تتمثل في التجسد والفداء والخالص‬
‫والتوبة‪ّ .28‬‬
‫وتدل المقاربة التأويلية والروحانية لعقيدة الشر في المسيحية أوال على ّ‬
‫أن‬

‫‪ .25‬راجع تفسري الكهف‪ 9‬ــ ‪ 26‬و ‪ 92‬ــ ‪ .96‬األنبياء‪ .96‬فصلت‪ 13‬ــ ‪ .16‬القمر‪ 18‬ــ ‪ .21‬احلاقة‪ 6‬ــ ‪ .8‬تفسري‬
‫القرآن العظيم‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ص‪ 70‬ــ ‪.105‬‬
‫‪ .26‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪ 561‬ــ ‪ .579‬النهاية يف الفتن واملالحم‪ ،‬ص ص‪ 44‬ــ ‪ 45‬و‪ 58‬ــ ‪.59‬‬
‫‪27. pour une science des religions, pp153 - 157.‬‬
‫‪ .28‬معجم الالهوت الكتايب‪ ،‬مؤلف مجاعي‪ ،‬دار املرشق‪ ،‬بريوت ــ لبنان‪ ،1986 ،‬ص ص‪ 238 ،217‬ــ‬
‫‪.643 ،595 ،321 ،242‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪422‬‬
‫الخير هو المقدس وال خالص بعيدا عنه‪ ،‬فال نجاة خارج الكنيسة من خالل قصة‬
‫التجسد ومقولة الخطيئة والفداء‪« ،‬فإن اﷲ يسمح بأن تحصل الشرور لكي يستخرج‬
‫منها خيرا أعظم‪ .‬من هنا قول القديس بولس‪ :‬حيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة‪.‬‬
‫ومن هنا يقال في‪ ...‬الفصح ياللخطيئة السعيدة التي استحقت هكذا فاديا وبمثل هذه‬
‫العظمة»‪.29‬‬
‫الشر حكمة وفاعل إيجابي‪ ،‬فيبدو اإلنسان في هذه القصص في‬
‫أن ّ‬ ‫ّ‬
‫وتدل ثانيا على ّ‬
‫مظهر الفاعل والضح ّية في آن‪ ،‬وتسير هذه النصوص المقدسة إلى الكشف عن مغزى‬
‫الحكاية أو القصة الدينية‪ ،‬فتثبت من خالل التأويل ّ‬
‫أن الشر قد يمثل حكمة إلهية لها‬
‫أسرارها ومغزاها ومدلوالتها‪ ،‬ليكون التجسد والكلمة‪ ،‬ومن حكمة اﷲ أنّه لم يخلق‬
‫الشر بل خلق عالما يسير إلى طريق الخير‪،‬‬
‫عالما من الكمال ال يمكن أن يوجد فيه ّ‬
‫فمع الخير الطبيعي هناك الشر الطبيعي‪ّ ،‬‬
‫إن المخلوقات الحرة قادرة على تجاوز مأساة‬
‫الخطيئة‪ ،‬و«ما من حرف في الرسالة المسيحية ال يدخل في الجواب عن مسألة الشر»‪.30‬‬
‫يتعلق «الشر األدبي» على وفق هذه المقاربة التأويلية في االعتقاد بإمكان الخطأ‪،‬‬
‫ويدرج ذلك ضمن اإلمكانات الحرة‪ ،‬واﷲ علة الشر األدبي‪ ،‬سمح به‪ ،‬مراعيا حرية‬
‫شر يكون في صنائعه‬
‫أي ّ‬
‫خلقه‪« ،‬فاﷲ الكلي القدرة‪...‬في صالحه المطلق‪ ،‬ال يدع أبدا ّ‬
‫لو لم يكن له من القدرة والجودة ما يكفي الستخراج الخير من الشر نفسه‪.31»...‬‬
‫ويثبت التأويل اإلنجيلي للقصص الديني ّ‬
‫أن يسوع يمثل المنقذ والبطل المقدّ س‪،‬‬
‫يحرر البشر من الشرور األرضية والجوع والموت والظلم والمرض‪ ،‬ويخلص الناس‬
‫ّ‬
‫من الخطيئة التي تذلهم وتمنعهم من أن يكونوا أبناء اﷲ وأحباءه‪ ،‬ويطرد الشياطين‪.‬‬
‫(متى‪/29 ،22 ،13 :12‬يوحنا‪ 34 :8‬ــ ‪ 48‬و‪ .)14 :9‬ويزول الشر بانكسار مملكة إبليس‬
‫والتحرر من الشياطين ومجيء ملكوت اﷲ بفضل يسوع الذي يموت على الصليب‪،‬‬
‫ّ‬

‫‪ .29‬التعليم املسيحي للكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬تعريب مجاعي‪ ،‬املكتبة البولسية‪ ،‬لبنان‪ ،1999 ،‬ص ص‪ 138‬ــ‬
‫‪ 139‬و ‪ 264‬و‪.270‬‬
‫‪ .30‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.114‬‬
‫‪ .31‬التعليم املسيحي‪ ،‬ص‪ .114‬أشعياء‪ .7 :45‬عاموس‪ .6 :3‬وقد جاء يف الكتاب املقدس أن اﷲ يكره‬
‫اخلطيئة والرش‪ :‬إرميا ‪ ،25 :2‬رومية ‪ 4 :13‬أيوب ‪ 10 :2‬و‪.10 :34‬‬
‫‪423‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫فيتجلى ابن اﷲ (متى‪»،)28:12‬لقد أخذ المسيح على عاتقه‪ ،‬وهو على الصليب كل‬
‫ثقل الشر «ورفع خطيئة آدم» (يوحنا‪ ،...)29:1:‬فالمسيح بآالمه وموته قد أضفى على‬
‫العذاب موتا جديدا‪ :‬وهو أن العذاب يستطيع أن يجعلنا على صورته ويضمنا إلى آالمه‬
‫الخالصية»‪.32‬‬
‫يكمن حضور الشر في الالهوت الكتابي من خالل تجليات الخطيئة في العالم‪،‬‬
‫بدءا بقتل قابيل ألخيه هابيل ووقوع الفساد الشامل في عقب الخطيئة وكذلك في‬
‫العهد القديم من خالل تاريخ بني إسرائيل (الخروج‪ ،‬موسى وفرعون‪ ،‬ذبائح الخطيئة‪:‬‬
‫إن حدث الخطيئة تاريخي وغيبي‪ ،‬فهي تسلط بين‬ ‫الالوين‪ 8،14‬ــ ‪ 36‬و‪ 9،1‬ــ ‪ّ .)24‬‬
‫الناس العنف والشهوة والظلم‪ ،‬لتنتقل هذه الخطايا من لحظة االنبثاق األولى إلى‬
‫لحظة تاريخية فاعلة في تاريخ البشرية‪ ،‬فتحدث أوضاع اجتماعية تخالف معاني‬
‫القداسة والرفعة اإللهية‪ ،‬وتحصل خطيئة اجتماعية‪ ،‬وهي كل فعل أو كلمة أو شهوة‬
‫تخالف الشريعة األزلية والعقل‪ ،‬وتع ّبر عن عصيان إله العهد‪ ،‬لتكون شمولية الخالص‬
‫بالمسيح) الرسالة إلى مؤمني روما‪18:5‬و‪ 1 :6‬ــ ‪.)14‬‬
‫ويمثل االستسالم للشر والعنف فعال دنيئا ال يمكن لإلنسان أن يتخطاه إالّ عن طريق‬
‫أن المحبة في اإليمان المسيحي هي من أعظم المقوالت‬ ‫النّعمة وعبر المحبة‪ ،‬ذلك ّ‬
‫الدينية واالجتماعية‪ ،‬تتحقق بفداء المسيح‪ .‬وتتجلى الخطيئة بين المسيحيين في وجوه‬
‫تفحص اإلنسان قلبه وجد أنّه م ّيال إلى الشر أيضا‪ ،‬وأنّه غارق في غمر‬
‫متعدّ دة‪...« :‬فإن ّ‬
‫من الشرور ال يمكن أن تصدر عن خالقه الصالح‪ ،‬فكثيرا ما يرفض اإلنسان أن يرى في‬
‫اﷲ مبدأه‪ ،‬فينقض النظام الذي يتوجه به إلى غايته القصوى‪.33»...‬‬
‫قوة تستعبد اإلنسان وتفسد‬
‫الشر في كتب الالهوت ومصادر اإليمان المسيحي ّ‬
‫يبرز ّ‬
‫العالم (تكوين ‪ 17 :3‬ــ ‪ .)18‬ويكشف الكتاب المقدس عن مواجهة بين العناصر‬
‫المخلصين‬
‫المحيلة على الخير ورموز الشر من خالل الصراع بين المالئكة األطهار ُ‬
‫لله ومالئكة الظلمة أعوان الشيطان (دانيال‪ 10:10‬ــ ‪ .)16‬وقد بدا اإلله التوراتي محيال‬

‫‪ .32‬التعليم املسيحي‪ ،‬ص‪ 451‬و ص‪.178‬‬


‫‪ .33‬التعليم املسيحي للكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬ص ص‪ 135‬و‪.539‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪424‬‬
‫والشر مع ًا‪ ،‬وهو ما يعبر عن تمثل بشري ليهوه‪ ،‬ذلك ّ‬
‫أن اإلله يجترح اآليات‬ ‫ّ‬ ‫على الخير‬
‫ليعترف به قومه‪ ،‬وقد عرفت اآليات بالضربات العشر‪ .34‬يدل هذا االستنتاج على ّ‬
‫أن‬
‫تصورات اإلنسان‬
‫النّص المقدّ س خليط من نصوص متعدّ دة وثقافات مختلفة حملت ّ‬
‫حول الشر واآللهة‪ .‬ويبرز في الكتاب المقدس صراع اإلنسان مع الشر‪ ،‬إذ يتج ّلى ّ‬
‫الشر‬
‫في صورة الح ّية في سفر «التكوين»‪ ،‬ف َي ِشي الصراع بين المرأة والح ّية وانتصارها عليها‬
‫سرية إلى أن يتغ ّلب على ّ‬
‫الشر‪ ،‬لقد «أقام اﷲ اإلنسان في‬ ‫بأن اﷲ دعا اإلنسان بطريقة ّ‬‫ّ‬
‫حالة برارة ولك ّن الشيطان أغواه منذ بدء التاريخ‪ ،‬فأساء استعمال حريته‪ ،‬منتصبا في‬
‫وجه اﷲ‪ ،‬و راغبا في أن يبلغ غايته من دون اﷲ»‪.35‬‬
‫الشرير‪ ،‬وهو مالك يحارب اﷲ ويعيق قصده‬ ‫ومن رموز هذا الشر أيضا الشيطان ّ‬
‫أتمه في المسيح‪ّ .‬‬
‫وكل العالم تحت سلطانه‪ ،‬وقد تم االنتصار‬ ‫وعمله الخالصي الذي ّ‬
‫عليه «في الساعة التي أسلم فيها يسوع ذاته بحرية إلى الموت‪ ،‬ليعطينا حياته‪ .‬إنّها‬
‫دينونة هذا العالم‪ ،‬ورئيس هذا العالم ُيلقى خارجا‪ ،‬إنّه يلحق بالمرأة (رؤ‪)13:12‬‬
‫ولكن ال سلطان له عليها‪ :‬فحواء الجديدة‪»،‬المتلئة نعمة»من الروح القدس‪ ،‬قد‬
‫ُحفظت من الخطيئة ومن فساد الموت‪»..‬فغضب على المرأة وذهب ليحارب باقي‬
‫نسلها(رؤ‪ ،)17:12‬لذلك يصلي الروح والكنيسة‪»:‬هلم أيها الرب يسوع»(رؤ‪ 17:22‬ــ‬
‫الشرير»‪.36‬‬ ‫‪ ،)20‬بما ّ‬
‫أن مجيئه ينقذنا من ّ‬
‫الشر وجنوده‬ ‫ويكمن السياق التأويلي للنص المقدس من خالل حضور رموز ّ‬
‫الروحية في السماوات‪ ،‬والسياق الحربي بين المؤمنين وحكام الظالم وسهام الشرير‪،‬‬
‫َاي ِد‬
‫ود فِي َو ْج ِه َمك ِ‬ ‫َام َل‪ ،‬لِ َتتَم َّكنُوا ِمن الصم ِ‬
‫َ ُّ ُ‬ ‫َ‬
‫فيتكثف المعجم القتالي‪»:‬ا ْلبسوا ِسالح اﷲ ا ْلك ِ‬
‫َ‬ ‫َُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وحي ِة فِي السم ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يس‪َ .‬فإِ َّن َح ْر َبنَا‪ِ ،....‬ضدُّ ِق َوى َّ‬ ‫ِ‬
‫الح اﷲ‬ ‫اوات‪ .‬ل َذل َك اتَّخ ُذوا س َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫الر َّ‬ ‫الش ِّر ُّ‬ ‫إِ ْبل َ‬
‫الح ِد ْرع ًا‬
‫الص َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اص ُمدُ وا إِ َذ ْن َب ْعدَ َأ ْن َتتَّخ ُذوا ا ْل َح َّق ح َزام ًا ألَ ْو َساطك ُْم‪َ ،‬و َّ‬
‫ِ‬
‫ا ْلكَام َل‪َ .....،‬ف ْ‬
‫وح‪( « .‬أفسس‪:6‬‬ ‫الر ِ‬
‫ف ُّ‬ ‫الص ُخو َذ ًة لِ َّلر ْأ ِ‬
‫س‪َ ،‬وك َِل َم َة اﷲ َس ْي َ‬ ‫ِ‬
‫ورك ُْم‪َ ..... ،‬واتَّخ ُذوا ا ْل َخ َ‬ ‫لِ ُصدُ ِ‬

‫اك َو ُمدَّ َيدَ َك َع َل ِم َي ِاه ا ْلِ ِ ْص ِّي َني‪َ ،‬ع َل‬ ‫‪ .34‬خروج‪« :19 ،7‬وخاطب الرب موسى‪ُ :‬ق ْل َ ِل ُار َ‬
‫ون‪ُ :‬خ ْذ َع َص َ‬
‫َأ ْنَ ِار ِه ْم َو َع َل َس َو ِاق ِيه ْم‪ »....‬و‪16 :8‬و‪ 20‬و ‪ 23‬و‪ 4 :9‬و‪ 8‬و‪ 13‬و‪.12 :10‬‬
‫‪ .35‬التعليم املسيحي للكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬ص ص ‪ 138‬ــ ‪.139‬‬
‫‪ .36‬التعليم املسيحي‪ ،‬ص‪ .800‬يوحنا‪ 18:5:‬ــ ‪. ،19‬يوحنا‪.44:8‬‬
‫‪425‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫‪ 11‬ــ ‪ ،)20‬فينبغي أن ينتصر اﷲ على الشر والشرير كي يخلص اإلنسان (تكوين‪،7 :38‬‬
‫حزقيال‪ ،،38.39‬رؤيا‪ 12:7‬ــ ‪ .37)18‬وقد تواتر هذا الصراع في التراث الشفوي الكتابي‬
‫من خالل قصة القديس مار جرجس والتنين‪ ،‬إذ تعبر عن انتقالها من السياق التاريخي‪،‬‬
‫إلى سياق آخر متخيل‪ ،‬بصبغة ملحمية مؤثرة في قصة قتله للتنين‪ ،‬ليصبح التنين في‬
‫التأويل الكتابي رمزا للشر الخالص‪ ،‬واألميرة هي الكنيسة‪ ،‬في حين ّ‬
‫أن الحربة تحيل‬
‫على الصليب المخلص والفادي للبشرية‪ ،‬لقد رفض جرجس أن يعبد األصنام‪ ،‬وجابه‬
‫الملوك‪ ،‬ودعاهم إل ترك األصنام وطاعة يسوع‪ ،‬ورفض السجود لآللهة‪ ،‬وصارع التنين‪،‬‬
‫فنال تنكيال وتعذيبا‪ ،‬فسانده الرب‪ ،‬وجعله سيدا على سبعين ملكا‪ ،‬ولم يلحقه ضرر‬
‫الشياطين والسحرة‪ ،‬ونال المجد والنعمة ‪ .38‬فكان الشر في هذه القصص عنصرا من‬
‫عناصر بناء المقدس وسبيال للثبات على الحق والتعبير عن رفض الصالحين لألوثان‪.‬‬
‫ونعتقد ّ‬
‫أن الكثير من المقوالت الدينية المسيحية والممارسات التعبدية قامت على‬
‫تأويل كلمة اﷲ وسيرته‪ ،‬ومنها ما اتصل بمفهوم التوحيد والفداء والقيامة وبطقوس‬
‫الصالة تمثل وسيلة ومخلصا قصد طلب النجاة‬ ‫العبادة والخالص من رموز الشر‪ّ .‬‬
‫إن ّ‬
‫من «الشرير»‪ .‬وعبر الصالة يطلب اإلنسان من اﷲ أن يحميه من الخطيئة‪ ،‬وهي تعبر عن‬
‫الشر وخالص‬
‫التضامن في جسد المسيح‪ .‬وفي صالة يسوع طلب لحفظ الناس من ّ‬
‫البشرية‪ ،‬ويتجلى من خالل حوار المسيح مع يوحنا(رؤيا‪ )18 ،8 :1‬دور الكنيسة‪،‬‬
‫فاعتبرها النصارى وسيطا بين الرب والمخلوقات‪ ،‬وأنها تحمل آالم العالم‪ ،‬وتبحث‬
‫عن الخالص من الشرور والخطيئة‪ ،‬وتمنح السالم‪ ،‬وتحقق السعادة بمجيء يسوع ‪.39‬‬
‫ِ‬ ‫‪ .37‬تكوين‪« 7 :38‬وإِ ْذ ك َ ِ‬
‫َان ع ُري بِك ُْر َُيو َذا ِّشير ًا‪َ ،‬أ َما َت ُه َّ‬
‫الر ُّب»‬ ‫َ‬
‫حزقيال‪ :38:39‬اإلصحاحان‪ 38‬و‪« :39‬مؤامرة جوج الرشيرة»‪« ،‬دفن قتىل جوج»‪.‬‬
‫ال َّي ُة األَ ْر َب َع ُة‪،‬‬ ‫وخ وا ْلك ِ‬ ‫«‪...‬اجت ََم َع ا َْلال َِئ َك ُة َجِيع ًا َح ْو َل ا ْل َع ْر ِ‬
‫َات ْ َ‬
‫َائن ُ‬ ‫الش ُي ُ َ‬ ‫ش‪َ ،‬و َم َع ُه ُم ُّ‬ ‫ْ‬ ‫رؤيا‪ 12:7‬ــ ‪18‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هلل‬
‫اه ْم‪َ ...‬و َي ْم َس ُح ا ُ‬ ‫ال َم َل ا َّلذي ف َو َسط ا ْل َع ْرش َي ْر َع ُ‬ ‫لِ‪َ ْ ...‬‬ ‫َو َخ ُّروا َع َل ُو ُجوهه ْم أ َما َم ا ْل َع ْرش ُس ُجود ًا ِ‬
‫ك َُّل َد ْم َع ٍة ِم ْن ُع ُي ِ ِ‬
‫ون ْم»‪.‬‬
‫‪ .38‬سرية الشهيد جرجس الشهري بالروماين‪ ،‬ط‪ ،1‬ترمجة كرستني فوزي عياد‪ ،‬مدرسة اإلسكندرية‪،2018 ،‬‬
‫ص ص‪ 21‬ــ ‪ .28‬معجم الالهوت الكتايب‪ ،‬ص ص ‪ 482‬ــ ‪ 484‬و‪ 671‬ــ ‪.678‬‬
‫‪ .39‬التعليم املسيحي‪ ،‬ص ص‪ 798‬و‪ 800‬ــ ‪ .801‬يوحنا‪« 15:17:‬وأنا ال أطلب أن تأخذهم من العامل‪ ،‬بل‬
‫أن حتفظهم من الرشير»‪ ،‬رؤيا‪« 18 ،8 :1‬من يوحنا إىل الكنائس السبع يف مقاطعة آسيا‪ ،‬لكم النعمة‬
‫والسالم من الكائن والذي كان‪»...‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪426‬‬
‫المتحرر من الشرور يكون من خالل عدّ ة طقوس مقدّ سة‬
‫ّ‬ ‫إن هذا العمل الخالصي‬ ‫ّ‬
‫على نحو التعميد واألفخارستيا والذبيحة‪ ،‬فاالغتسال بالماء يمثل درءا للشرور‬
‫وتجاوزا للخطيئة وغفرانا للذنوب‪ ،‬وأ ّما العمل الطقوسي األفخارستيا‪ ،‬فإنه يجعل‬
‫المؤمنين يشتركون في الحياة المقدسة الطاهرة ليسوع ويتجاوزون كل إثم ومعصية‬
‫وشر‪.40‬‬
‫تكشف المقاربة التأويلية البنيوية لمسألة الشر عدة أبعاد دينية وسياسية واجتماعية‬
‫وأسطورية تع ّبر عن تمثل اإلنسان للعالم األخروي والغيبي والمتعالي والمقدس‪،‬‬
‫وتبين إسهام اإلنسان في بناء عالم الخير والشر ومجاالت المقدس والمدنس‪ .‬وتقدم‬
‫المقاربة الهرمنيوطيقية رسما لفضاء غيبي متخيل وآخر دنيوي تحكمهما ثنائية الخير‬
‫والشر‪ ،‬وهي تصور خصائص عالم الرموز وداللة األساطير وإسهامها في بناء عناصر‬
‫الشرور وعالماتها‪ ،‬فالهرمنوطيقا تهتم بمعالجة المعنيين الظاهر والباطن وتكشف‬
‫الطاقات الرمزية بكل مظاهرها وأبعادها انطالقا من اكتناه األلفاظ والمعاني والتعبير‬
‫ودراسة تنوعها مثل‪ :‬ذنب‪ ،‬رجس‪ ،‬سقوط‪ ،‬نور‪ ،‬ظلمة‪ ،‬خطيئة‪ ،‬فارتبط الشر بالتعدي‬
‫على أحكام اﷲ وشريعته‪ ،‬لذلك يكون الخالص وإنقاذ الخطاة باإليمان بيسوع‪،‬‬
‫أن ثقافات الشعوب صاغت عدّ ة أساطير‬ ‫واحترام الشريعة ‪ .41‬ونشير في هذا الصدد إلى ّ‬
‫وقصص للشر والذنب والخطيئة األصلية ومنها ما راج من حكايات وأساطير ومالحم‬
‫بابلية وفي بالد الرافدين‪ .‬فتربط خطيئة آدم وحواء بالمعصية‪ ،‬لقد أصبح الشر والخطيئة‬
‫شيئا موروثا‪ ،‬يحمالن رموزا مصورة وأسطورية ومنها شجرة معرفة الخير والشر‪.42‬‬

‫‪ .40‬معجم الالهوت الكتايب‪ ،‬ص ص‪ 85‬ــ ‪ 353 ،89‬ــ ‪ .357‬التعليم املسيحي للكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬ص‬
‫ص‪ 375‬ــ ‪.390‬‬
‫‪ .41‬قاموس الكتاب املقدس‪ ،‬مؤلف مجاعي‪ ،‬ط‪ ،8‬دار الثقافة القاهرة‪ ،2004 ،‬ص‪ 344‬ــ ‪.345‬‬
‫خروج‪ .14:13‬متى‪ .1:21‬و‪ .25:45‬معجم الالهوت الكتايب‪ ،‬ص ص‪ 334‬ــ ‪336‬و‪ 312‬ــ ‪.322‬‬
‫‪ .42‬تكوين‪ ،‬اإلصحاح‪.17 ،8 ،9 ،2:16‬عبد اﷲ بريمي‪ ،‬من رمزية الرش إىل اهلرمنيوطيقا‪ :‬جملة قضايا‬
‫إسالمية معارصة‪ ،‬ع ‪ 59‬ــ ‪ ،60‬ص ص‪ .136 ،135‬وص‪ :140‬خيتلف مفهوم الرش ورموزه حسب‬
‫اإليديولوجيا‪ :‬يقول الغنوصيون يف تفسري وجود الرش إن املادة انبثقت من اﷲ عىل مراحل ويف كل‬
‫انبثاق كان اخلري يتقلص والرش يزيد وينبثق من اإلنسان‪ .‬وتذهب املانوية إىل وجود مبدأين أزليني وغري‬
‫أن الرش يكمن‬‫خملوقني‪ :‬النور‪/‬إله اخلري والظلمة‪/‬املادة‪ :‬إله الرش‪ .‬ويذهب الغنوصوين واملانويون إىل ّ‬
‫يف املادة‪ ،‬أما اﷲ روح حمض‪ ،‬فال وجود للرش فيه‪.‬‬
‫‪427‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫‪ 3‬ـ مقاربة علم األديان‬


‫لقد ظهر منذ القرن التاسع عشر علم األديان أو علم تاريخ األديان ويسمى أيضا‬
‫بعلم األديان المقارن‪ّ ،‬‬
‫ولعل من أبرز منظري منهج علم األديان األلمانيان ماكس ملر‬
‫تحرر علم األديان من الالهوت‬
‫وأ‪ .‬برونوف‪ ،‬والباحث الفرنسي ميشال مسالن‪ ،‬لقد ّ‬
‫والميتافيزيقا‪ ،‬وساعد هذا المبحث على انفتاح القراءات والتأويالت‪ ،‬وفضال عن‬
‫ذلك ّ‬
‫فإن من خصائص المقاربات الحديثة في علم األديان التعويل على المعطيات‬
‫االجتماعية للظاهرة الدينية‪ ،‬فيدرس علم األديان االقتصاد والدّ ين‪ ،‬ويعمد إلى التحليل‬
‫السوسيولوجي لألنماط والبنى الدينية وعلم النفس التحليلي والتحليل البنيوي للنص‬
‫إن علم األديان منهج شامل يجمع مباحث شتى في‬ ‫الديني وللمقدس واألساطير‪ّ .‬‬
‫األنتروبولوجيا وعلم االجتماع والتاريخ والفلسفة والهرمنوطيقا واإلناسة وتاريخية‬
‫النصوص الدينية وهي مباحث منشؤها غربي باألساس‪.43‬‬
‫مرت الظاهرة الدينية من علم الالهوت‪/‬الثيولوجيا الذي يقوم على اإليمان‬
‫لقد ّ‬
‫والتسليم والدفاع والتبرير إلى علم األديان‪ ،‬وهو مبحث يو ّظف مناهج العلوم‬
‫اإلنسانية لتحليل الظواهر وفهم بنى المقدس‪ ،‬ويعمد إلى التحليل السوسيولوجي‬
‫لألنماط والبنى الدينية وعلم النفس والتحليل وعلم اقتصاد الدين واألنتروبولوجيا‬
‫الدينية‪ .44‬وحين نستثمر بعض منجزات هذا العلم لدراسة مقولة الشر في النص‬
‫تنوع مرجعيات األخبار وتداخلها‬
‫المقدس اإلسالمي والنّصوص الحواف نلحظ ّ‬

‫‪43. Roland Barthes, Éléments de sémiologie.‬‬


‫‪Gilbert Durand, Les structures anthropologiques de l’imaginaire, Paris, édition‬‬
‫‪Dunod, 1984.‬‬
‫‪Michel Meslin, Pour une science des religions, pp85 - 223. Paul, Ricœur, Essais‬‬
‫‪d'herméneutique.‬‬
‫‪Emile Burnouf, la science des religions, 4é édition, paris, 1985.‬‬
‫بول ريكور‪ ،‬نظرية التأويل‪ ،‬ترمجة سعيد الغانمي‪ ،‬ط‪ ،2‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت ــ الدار البيضاء‪،‬‬
‫‪.2006‬‬
‫‪ .44‬محادي املسعودي‪ ،‬الظاهرة الدينية من علم الالهوت إىل علم األديان املقارن‪ ،‬ط‪ ،1‬مؤمنون بال حدود‪،‬‬
‫املغرب ــ بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،2018 ،‬ص ص‪ 17‬ــ ‪.25‬‬
‫‪ 335.‬ـ ‪pour une science des religions, pp85‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪428‬‬
‫بين ما هو أسطوري وواقعي وغيبي‪ .‬ونستطيع أن نتبين أيضا البنى الرمزية للقصص‬
‫القرآني والنبوي‪ ،‬فقد اجتهد الرواة في صياغة أخبار عديدة‪ ،‬وأسبغوا عليها عقائدهم‬
‫وميوالتهم‪ ،‬وأضافوا إليها من ثقافتهم الشعبية والكتابية‪ ،‬ويمكن أن نستدل على هذا‬
‫الرأي من خالل تعظيم الشخصيات التاريخية وكذلك الفضاءات المقدسة واألزمنة‬
‫والوقائع التاريخية واألخبار المتصلة بالغيب واآلخرة والمبدأ والمعاد‪ ،‬على نحو‬
‫قصة ذي القرنين حيث تكون قوى الشر ورموزه يأجوج ومأجوج في صراع مع قوى‬
‫الخير التي يمثلها ذو القرنين والمستضعفون الذين جاء لنصرتهم‪ ،‬وكذلك شأن‬
‫الصراع في قصتي يوسف وفرعون وغيرهما من الشخصيات الدينية وفي قصص‬
‫غريبة أسهم الرواة في تشكيل بعض هيكلها القصصي ‪ ،‬فتكشف ّ‬
‫‪45‬‬
‫مكونات الخطاب‬
‫أن للقصص اإلسالمية مصادر ومرجعيات مختلفة‪ّ ،‬‬
‫وأن جهد الرواة ارتكز‬ ‫السردي ّ‬
‫مرت القصص بتعديالت‪ ،‬ونهل مؤلفوها‬ ‫على أسلمة الروايات والشخصيات‪ ،‬فقد ّ‬
‫من ثقافات متعددة‪ .‬وتع ّبر القصص واألخبار والتفاسير عن تصور المسلمين للخير‬
‫والشر وموقفهم من المقدّ س‪ ،‬ونعتقد ّ‬
‫أن علم األديان يساعد على مقاربتها وفهم‬
‫تتعمق في دراسة السلوك البشري‬
‫طرائق تشكلها ألنه ينبني على اإلناسة الدينية التي ّ‬
‫أمام المقدس والبعد الديني لإلنسان ومعتقداته موظفة منهجا تأويليا‪ ،‬وفي هذا‬
‫الصدد يمكن اإلقرار ّ‬
‫بأن التأويلية قادرة على إبراز المعاني الخفية في الداللة الحرفية‬
‫والظاهرة التي تطفو على سطح وعي المتقبل للنصوص‪ ،‬فيتجلى المقدس باعتباره‬
‫عنصرا كامنا في بنية اإلنسان ذاته‪ ،‬ومن الب ّين أن كل جماعة تخلق بحكم ديناميتها‬
‫مقدسا جديدا يحوي أفعالها ويدعمها‪ .46‬لذلك تتنوع القراءة وتتعدد التأويالت على‬
‫أن التفسير الصوفي يقدم تصورا‬ ‫وفق تعدّ د زوايا النظر واختالف المتقبل من ذلك ّ‬
‫طريفا وجديدا لقصة الخلق المعروفة في التراث اإلسالمي‪ ،‬فـالشيطان متمرد كوني‬
‫وشهيد التوحيد‪ ،‬وهو سر اللعنة ألنّه رأى ّ‬
‫أن السجود آلدم شرك باﷲ‪ ،‬فمثل إبليس رمز‬
‫القدسية والتضحية عند بعض المتصوفة‪ ،‬وعصيانه قدر إلهي‪.47‬‬

‫‪ .45‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪101‬و‪ 154‬و‪ 462‬و‪.374‬‬


‫‪46. pour une science des religions, pp212 - 340.‬‬
‫‪ .47‬عفت الرشقاوي‪ ،‬اخلري والرش يف الرتاث اإلسالمي‪ ،‬جملة اإلبداع‪ ،‬ع‪ ،2‬فيفري‪ ،1998 ،‬ص ص‪ 45‬ــ ‪.47‬‬
‫‪429‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫للشر في الفكر اإلسالمي مدلوال اجتماعيا يع ّبر عنه الصراع االجتماعي‬


‫أن ّ‬ ‫نتبين ّ‬
‫السحر والغواية أو «شر‬
‫اإلنساني وبعض الممارسات التي نهى عنها القرآن ومنها ّ‬
‫النفاثات في العقد»(الفلق‪ ،)4‬وله بعد سياسي تمثل في معاداة النبي والمسلمين‬
‫لذلك دعا اﷲ نبيه إلى أن يهجر األعداء [هجرا جميال] (المزمل‪ ،)10‬أ ّما من‬
‫منظور ديني‪ ،‬فيتمثل في الكفر والشرك واقتراف المعاصي وإنكار النبوة والتوحيد‬
‫الشر تجاوزا للمقدّ س وصداما معه ومع‬
‫والرساالت والمبعوثين واآلخرة‪ ،‬فيكون ّ‬
‫النفس واإلرث الروحي‪ ،‬وهو من ناحية أخرى وجه من وجوه الحكمة اإللهية‬
‫وابتالء‪.‬‬
‫الشرور‪ ،‬فتتج ّلى من خالل عدة ممارسات واعتقادات لها مدلوالت‬
‫وأ ّما الطهارة من ّ‬
‫نفسية واجتماعية تع ّبر عن الخوف من الغيب ومجابهة قوى النفس وشهواتها وتغليب‬
‫تصور مصادر الخير والشر وتم ّثل األلوهية والتوحيد‪ ،‬فيعمد‬
‫ّ‬ ‫العقل‪ ،‬وهي تكشف‬
‫المؤمن إلى النّسك والزهد واالغتسال‪ ،‬إذ يرمز الماء إلى الطهارة والتطهر إلى الصفاء‬
‫والنقاء والسالمة من الشيطان والخروج من الكفر إلى اإليمان‪.48‬‬
‫ّ‬
‫إن العلوم اإلنسانية تدرس الظاهرة الدينية في سياقها التاريخي واالجتماعي‬
‫والنفسي التحليلي‪ ،‬وتبين مظاهر التفاعل بين الظاهرة الدينية والمجتمع الذي‬
‫تتشكل فيه‪ ،‬فيربط علم االجتماع الدّ يني الظواهر واألفكار الدّ ين ّية بالبنى االجتماعية‬
‫واالقتصادية‪ ،‬لقد أبرز ميشال مسالن وإيميل دوركايم أهمية علم االجتماع في فهم‬
‫اإلنسان المتد ّين والعالقة البنيوية بين المجتمع والدين‪ ،‬وضرورة دراسة الظاهرة‬
‫الدينية في مختلف تجلياتها االقتصادية واالجتماعية والنفسية‪ .49‬وتكشف سيكولوجية‬
‫العقل الباطن لدى كارل غوستاف يونغ ّ‬
‫أن الحياة البشرية والطبيعة اإلنسانية تقومان‬
‫على سلسلة من المتناقضات‪ ،‬ومنها ثنائية الخير والشر‪ ،‬الحياة والموت‪ .‬كما أثبت‬

‫‪ .48‬معجم الالهوت الكتايب‪ ،‬ص ص‪ 697‬ــ ‪.700‬‬


‫‪Chevalier, Jean, Alain Gheerbrant, Dictionnaire des symboles, éditions Robert‬‬
‫‪Laffont, Paris, 1982., pp374 - 381. Pour une science des religions, pp155 - 156.‬‬
‫‪49. Ibd, P 81.‬‬
‫إميل دوركايم‪ ،‬قواعد املنهج يف علم االجتامع‪ ،‬ترمجة حممود قاسم والسيد حممد بدوي‪ ،‬دار املعرفة‬
‫اجلامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪.1988 ،‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪430‬‬
‫يونغ ّ‬
‫أن اإلنسان يقبع تحت أخطار التغيرات التي تحدث بداخله‪ ،‬فهو قادر على إتيان‬
‫الشر والخير ومجابهة أي مصدر للشر‪.50‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ولعل من بين الصور‬ ‫الصور تعبر عن األحالم‪،‬‬ ‫ويثبت علم النفس الديني ّ‬
‫أن ّ‬
‫الدالة على الشر تلك التي تعلقت بحلم انتصار المؤمنين في المعاد وببعض‬
‫بالشر في مظهره‬
‫ّ‬ ‫الرموز والشخصيات الدينية‪ ،‬ذلك ّ‬
‫أن القصص الدينية التي تتّصل‬
‫تجسم بعض ما تج ّلى في صور الالوعي وتم ّثل‬
‫السياسي واالجتماعي والعقائدي ّ‬
‫خطابا رمزيا وحجاجيا إقناعيا بصحة العقيدة ويدحض المعتقدات األخرى‪،‬‬
‫ويمكن أن نتحدّ ث في هذا السياق عن التنبؤات والرؤى واآليات المتّصلة بالغيب‬
‫وبقدوم شخصيات شريرة ومع ّلمين كذبة ودجالين وحدوث فتن وهالك وشرور في‬
‫عدّ ة أسفار وأناجيل على غرار قصص «الوحش الخارج من البحر» وقصة «المرأة‬
‫والتنين» و«القبض على الوحش» و«النبي الدجال و تقييد إبليس وسجنه « الواردة‬
‫في سفر «الرؤيا»‪.51‬‬
‫إن القصص واألخبار األسطورية في األدبيات المسيحية تع ّبر عن تمثل‬ ‫ّ‬
‫اجتماعي ونفسي رمزي للشر‪ ،‬وترمي إلى مجابهة الظلم والكفر وتقييد الشهوات‬
‫للتحرر من هذه الشرور والخطايا ومن‬
‫ّ‬ ‫والممارسات الفاسدة‪ ،‬وتب ّين أنّه ال سبيل‬
‫شهوات النفس إالّ باإليمان بالمسيح والكنيسة‪ ،‬فتغدو هذه األخبار تعبيرا نفسيا‬
‫عن الشعور بالضيم والنهي عن اقتراف المنكرات أو الحلم بالفوز والدعوة إلى‬
‫المسيح‪ ،‬في هذا الصدد يرى ميشال ميسلان ّ‬
‫أن األساطير واألحالم تعبير نفسي‬
‫عن المشاعر والرؤى واألحاسيس‪ .52‬وتكشف المقاربة النفسية ّ‬
‫أن الصور تع ّبر‬
‫عن األحالم وعن تمثل األيام السابقة للساعة والمعاد والحياة األخرى‪ ،‬فتنطوي‬
‫على الكثير من التأويالت والرموز‪ .‬وتحدث فرويد عن رمزية الشيطان انطالقا‬

‫‪ .50‬كارل يونغ‪ ،‬الكتاب األمحر‪ ،‬ترمجة متيم الضايع ــ رنا بشنور‪ ،‬ط‪ ،1‬دار احلوار‪ ،‬سوريا‪.2015 ،‬‬
‫كارل يونغ‪ ،‬التنقيب يف أغوار النفس‪ ،‬ترمجة هناد خياطة‪ ،‬ط‪ ،1‬املؤسسة اجلامعية للدراسات والنرش‬
‫والتوزيع‪ ،‬بريوت‪.1986 ،‬‬
‫‪ .51‬رسالة يوحنا االوىل‪ 2:1‬ــ ‪.29‬رسالة هيوذا‪ :‬مصري املعلمني الكذبة‪...‬الرؤيا‪ ،‬اإلصحاحات‪1‬و‪ 2‬و‪ 4‬و‪5‬‬
‫و‪12‬و‪.13‬‬
‫‪52. pour une science des religions, pp 23 - 125.‬‬
‫‪431‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫من التحليل النفسي من خالل دراسة حالة ُمصاب بالعصاب‪ ،‬فقد سلم نفسه‬
‫يجسد‬ ‫وتوصل فرويد إلى ّ‬
‫أن الشيطان ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وحل الشيطان بديال عن األب‪.‬‬ ‫للشيطان‪،‬‬
‫معاني الغواية والشر والفساد‪ ،‬وليس له وجود مادي ولكنّه يم ّثل حقيقة نفس ّية تنتج‬
‫عنها أعراض مرضية لعل من أهمها ال ُعصاب‪ .‬وأ ّما يونغ فقد أثار العالقة بين الدين‬
‫أن اإلله اليهودي استعان برمز‬‫أن البنى النفسية والذهنية تكشف ّ‬ ‫وعلم النفس‪ ،‬فب ّين ّ‬
‫الشر‪/‬الشيطان لينزل أصناف العذاب على المخالفين‪ ،‬وقد تسلط الشيطان على‬
‫بعض األنبياء مثل أيوب‪ .‬وقرن يونغ بين الشر واإلرادة اإللهية‪ ،‬فبين قيمة تأويل‬
‫الرمز الديني لفهم طبيعة العالقة بين اإلله واإلنسان والخير والشر‪ .53‬قصة إبليس‬
‫ّ‬
‫السامي والعربي‬
‫الشر كانت منتشرة في التراث األسطوري ّ‬
‫وداللتها الرمزية على ّ‬
‫السماء واألرض‪ ،‬يحيل على التكبر‬ ‫في الشرق القديم‪ ،‬فكان إبليس سلطان ّ‬
‫تدل على الضاللة والطغيان‪ .‬لذلك يمكن‬ ‫والفساد‪ ،‬وتعلقت به قصص أسطورية ّ‬
‫الرموز الدينية المحيلة على الشر ال يعرف مغزاها إالّ عبر قراءة تأويلية‬
‫إن ّ‬‫القول ّ‬
‫نفسية واجتماعية‪ ،‬فقد يكون اإلله رمزا للخالص من الشر‪ ،‬وقد يكون سببا للعذاب‬
‫على غرار اإلله اليهودي «يهوه»‪.54‬‬
‫أن مفهوم الشر ّ‬
‫يظل إشكال ّية‬ ‫ويتضح لنا من خالل علم األديان بمختلف فروعه ّ‬
‫حاضرة في الكتاب المقدس والفكر الالهوتي‪ ،‬ويبرز في خطاب أدبي إبداعي وقصصي‬
‫وتنوع التأويل تبعا للمتلقي‪ .55‬ترد بعض النصوص في شكل‬
‫مقدّ س يثبت تعدّ د القراءة ّ‬
‫قصة أدبية‪ ،‬إذ تنطوي على فواعل وأحداث وأمكنة وأزمنة متنوعة مثل قصة المسيح‬
‫ابن اﷲ والمسيح الدجال والمسحاء الكذبة‪ ،‬والصراع بين مخلوقات غيبية ومالئكة‬
‫وعالمات نهاية الزمان(متى‪ 1 ،24:‬ــ ‪ .)31‬وفي صراع يسوع مع الشيطان أربعين يوما‬
‫وهو في البرية (لوقا‪ 1 ،4 :‬ــ ‪( ،)14‬متى‪ 1 ،4:‬ــ ‪ ،)11‬وقد تكون حكاية َم َثلية‪ ،‬لها‬

‫‪ .53‬بسام اجلمل‪ ،‬من الرمز إىل الرمز الديني‪ ،‬بحث يف املعنى والوظائف واملقاربات‪ ،‬مطبعة التسفري الفني‪،‬‬
‫صفاقس‪ ،2007 ،‬ص ص‪ 51‬ــ ‪.72‬‬
‫‪ .54‬من الرمز إىل الرمز الديني‪ ،‬ص ص‪ 75‬ــ ‪ .79‬حممد عجينة‪ ،‬موسوعة أساطري العرب عن اجلاهلية‬
‫ودالالهتا‪ ،‬ج‪ ،2‬ط‪ ،2‬دار حممد عيل احلامي‪ ،‬صفاقس‪ ،‬دار الفرايب ــ بريوت‪ ،1994 ،‬ص ص‪ 66‬ــ ‪.72‬‬
‫‪55. Umberto Eco, Les Limites de l’interprétation, traduit par Myriem Bouzaher, éditions‬‬
‫‪Grasset et Fasquelle ، 1992.‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪432‬‬
‫هيكل سردي وتدور حول مثل من األمثال(مرقس‪ 1:12‬ــ ‪ :15‬مثل المزارعين القتلة)‪،‬‬
‫ويجابه يسوع رموز الشر‪ ،‬فيغلب إبليس‪ ،‬ويجابه الشيطان‪ ،‬ويشفي المرضى(متى‪،17‬‬
‫‪ 14‬ــ ‪ )23‬فتنبني القصة بناء عجائبيا وأسطوريا مقدسا وتخيليا وتحمل غايات إقناعية‬
‫وحجاجية ‪.56‬‬
‫ويستجلي الباحث ّ‬
‫أن رموز الشر عديدة في النصوص الدينية المسيحية واليهودية‬
‫على اختالف أنواعها‪ ،‬فهو يتمثل في الشيطان‪ ،‬القتلة‪ ،‬الكذبة‪ ،‬الخونة‪ ،‬الخطيئة‪ ،‬الدنس‪،‬‬
‫النجاسة‪ ،...‬و ُيعلن الفكر المسيحي ّ‬
‫أن اﷲ ليس مس ّببا للشرور‪ ،‬فالذات اإللهية مقدسة‬
‫وطاهرة‪ ،‬ويسمي الكتاب المقدس وما تعلق به من نصوص كنسية بعض األفعال السيئة‬
‫المحيلة على الشر بـ«الخطيئة» و«هي التعدي على شريعة اﷲ وأحكامه‪ ...‬وإهمال ما‬
‫تفرضه شريعة اﷲ‪ ...‬وارتكاب ما نهت عنه تلك الشريعة»‪.57‬‬
‫ولنا أن نتبين من خالل تاريخ األديان ّ‬
‫أن نصوص الديانات الثنوية لها أبعاد أسطورية‪،‬‬
‫تحدثت عن ثنائ ّية الشر والخير من خالل إله الظلمة‪/‬الشر وإله النور‪/‬الخير‪ ،‬وثبت في‬
‫تاريخ المعتقدات واألفكار ّ‬
‫أن فضاءات العالمين تمتد على ح ّيزين مكاني‪/‬جغرافي‬
‫وزماني‪/‬تاريخي واقعي وآخر متخ ّيل‪ ،‬وتعبر عن بنية الفكر والالشعور وعالم األحالم‬
‫المتعلقة بالمتخيل األخروي والغيبي‪.58‬‬
‫لقد انطوت األخبار المتعلقة بالشر على بنية قصصية‪ ،‬جاء في اإلنجيل»صعد‬
‫الروح بيسوع إلى البرية‪....‬ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة‪ ،‬وأوقفه على حافة‬
‫قمة جبل عال جدا‪ ،‬وأراه جميع ممالك‬
‫سطح الهيكل‪...‬ثم أخذه إبليس أيضا إلى ّ‬
‫العالم وعظمتها‪(»..‬متى‪ 4،1‬ــ ‪ ،)11:‬وتج ّلى هذا ّ‬
‫الصراع بين الخير‪/‬المقدس‬

‫‪ .56‬متى‪ 25:31‬ــ ‪ .46‬الرؤيا إصحاح‪ 19:11‬ــ ‪ .15‬وليم وهبة دائرة املعارف الكتابية‪ ،‬جميء املسيح‪ ،‬دار‬
‫الثقافة القاهرة‪ ،1988 ،‬ص‪.601‬‬
‫‪ .57‬معجم الالهوت الكتايب‪ ،‬ص ص‪ 438‬ــ ‪ .440‬قاموس الكتاب املقدس‪ ،‬ص‪ 230 ،171‬ــ ‪،384 ،238‬‬
‫‪ 722 ،508 ،577‬ــ ‪ .723‬باسيليوس الكبري‪ ،‬اﷲ ليس مسببا للرشور‪ ،‬ترمجة جورج عوض إبراهيم‪،‬‬
‫مطبعة جيي يس سنرت‪ ،‬مرص‪ ،2012 ،‬ص ص‪ 11‬ــ ‪ ،17‬ص‪ .344‬متى‪ 45 :25‬وتكوين‪.4:7‬‬
‫‪ .58‬فراس السواح‪ ،‬موسوعة تاريخ األديان‪ ،‬الكتاب اخلامس‪ ،‬ط‪ ،2‬دار عالء الدين‪ ،‬سورية‪ ،2010 ،‬ص‬
‫ص‪ 68‬ــ ‪.70‬‬
‫‪433‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫والشر‪/‬المدنس الدنيوي في حكمة صلب يسوع وقيامته من الموت‪ .59‬وقد تداخل‬


‫البعد الديني مع الرافد األسطوري واالجتماعي والتاريخي‪ ،‬فلم يكن أهل الديانات‬
‫التوحيدية يجهلون الروايات المتعلقة برموز الشر‪ .‬وتذكر هذه النصوص الدينية الشر‬
‫في مراحل مختلفة‪ :‬قبل الخلق؛ وهو فعل يعبر عن الخطأ البشري‪ ،‬ويمكن أن ينبع‬
‫عن قوى غيبية تصيب الكون‪ ،‬ثم في أزمنة وأمكنة منتظرة سابقة للقيامة حين يعود‬
‫لما ينال اإلنسان آالم العذاب‬
‫عيسى ليقضي على الشرور ويقتل الدجال وبعد المعاد ّ‬
‫في الدينونة‪.60‬‬
‫وترتبط الخطيئة األصلية بآدم وحواء وبعقيدة فداء المسيح وعصيان اإلله ومخالفة‬
‫ُ‬
‫اإلنسان من شجرة معرفة الخير والشر‪ ،‬ولهذه القصة أصولها‬ ‫شريعة موسى‪ ،‬فقد ُمنع‬
‫الدينية والتاريخية الوثنية التي تع ّظم النبات وبعد رمزي في المتخيل الديني‪ .‬ويرى‬
‫الالهوت المسيحي ّ‬
‫أن الميل إلى الشر يع ّبر عن الشهوة وعدم سيطرة قوى النفس على‬
‫الروحي‪ ،‬وتُم ِّك ُن الكنيس ُة من المعمودية‬
‫َّ‬ ‫التغلب على الشر الجها َد‬
‫ُ‬ ‫ويستوجب‬
‫ُ‬ ‫الجسد‪،‬‬
‫بشر اﷲ اإلنسان بالخالص‪ ،‬ودعاه إلى مجابهة‬ ‫لرفع الخطايا وإزالة الشرور‪ ،‬فقد ّ‬
‫‪61‬‬
‫الشرور‪.‬‬
‫على هذا النحو تثبت دراسة القصص اإلنجيلي والتوراتي تداخل البعد الديني‬
‫والسياسي واألسطوري في مسألة الشر‪ ،‬إذ يعمد الرواة إلى بناء صورة عقلية وتخييلية‬
‫الهوتية لمفهوم الشر ورموزه ليصبح جزءا من اإليمان المسيحي‪ ،‬فمن دون هذا‬
‫المفهوم ال يستقيم حضور الرب‪/‬االبن على األرض وال يتحقق الفداء والخالص‪.‬‬

‫‪/4‬المقاربات الفلسفية لمفهوم الشر‬


‫توظف الدراسات البينية مناهج تكاملية تدمج التحليل النفسي والبالغي‬
‫واالجتماعي واللغوي والفلسفي وغيرها من المباحث والمناهج لمقاربة ظاهرة أدبية‬

‫‪ .59‬متى ‪ 25:31‬ــ ‪ .46‬مرقس‪ 1:12‬ــ ‪ ،15‬الرؤيا إصحاح‪ 19:11‬ــ ‪ .15‬دائرة املعارف الكتابية‪ ،‬جميء املسيح‪،‬‬
‫ص‪.601‬‬
‫‪ .60‬الرؤيا‪ ،‬إصحاح‪ 19:11‬ــ ‪.15‬‬
‫‪ .61‬التعليم املسيحي للكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬ص ص‪ 134‬ــ ‪135‬و‪137‬و‪ 138‬و‪ .163‬تكوين‪19 :3:‬و‪.23‬‬
‫تكوين‪.17:‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪434‬‬
‫أو حضارية أو لغوية قصد اإلحاطة بها وتحقيق معرفة شاملة‪ .‬وال شك في ّ‬
‫أن المقاربة‬
‫مهمة في دراسة المسائل الدّ ينية‪ ،‬فهي تم ّيز بين الرمزي والمتخيل والتاريخي‪،‬‬
‫الفلسفية ّ‬
‫وتنوع الداللة‪ ،62‬وقد حرصت هذه المقاربة على استجالء طبيعة‬
‫وتثبت تعدّ د القراءة ّ‬
‫الشر ورمزيته انطالقا من دراسة القصص الديني وتأويلها وفهم تجليات الشر من خالل‬
‫ّ‬
‫أفعال اإلنسان وأنماط عيشه وعالقاته‪ ،‬فكان الشر مدار اهتمام الفالسفة ومنهم بول‬
‫ريكور في كتابيه «اإلنسان الخطاء» و«رمزية الشر»‪ ،‬والفيلسوف األلماني إيمانيال‬
‫مؤ َّل ِفه «الدين في حدود مجرد العقل» والفيلسوفة األلمانية حنا آرنت صاحبة‬
‫كانط في َ‬
‫كتاب»تقرير حول تفاهة الشر»‪.63‬‬
‫أ ـ االتجاه الرمزي الهرمينوطيقي‪/‬التأويلي للشر‬
‫درس ريكور رموز الشر على المستوى الداللي؛ أي تأويل العبارات باستخدام‬
‫الدرس اللساني والفلسفي من قبيل‪ :‬دنس‪ ،‬رجس‪ ،‬خطيئة‪ ،‬جرم‪ ،‬ويذهب إلى ّ‬
‫أن‬
‫الشر يمكن أن يكون معنو ّيا‪ ،‬ألما ومعاناة‪ّ ،‬‬
‫وأن تجربة الشر تحمل تعابير رمزية تنطلق‬
‫من بعض المعاني الحرفية مثل‪ :‬انحراف‪ ،‬عبودية‪ ،‬سقوط‪ ،‬وهي يمكن أن تستهدف‬
‫بعض المعاني األخرى التي نستطيع تسميتها بأنّها وجودية وتعني الكائن الدنيوي‬
‫الخاطئ والذي يقترف جرما وإثما‪ّ .‬‬
‫إن للشر في قراءة ريكور بنية رمزية داخل الثقافات‬
‫محملة باالنفعال والخوف واالعتراف‪ ،‬ويمكن فهم‬ ‫ّ‬ ‫واللغات‪ ،‬يرى أنّها لغة رمزية‬
‫الشر وإدراكه بتأويل رموز االعتراف ّ‬
‫ألن الرمز يبعث على التفكير ويع ّبر عن التجربة‬
‫البشرية‪ ،‬ويكشف عن الوعي بالذات‪ .‬ويمكن التمييز بين ثالثة مستويات في التكوين‬
‫األولية التي تعبر عن المعاني األصلية‬
‫الرمزي للشر‪ :‬الرموز األولى‪/‬البيئية‪ ،‬وهي اللغة ّ‬

‫‪62. Mircia, Eliade, Images et Symboles, Gallimard, 1952.‬‬


‫‪63. Emmanuel Kant, La religion dans les limites de la raison, librairie Félix Alcan, Paris,‬‬
‫‪1913.‬‬
‫وانظر الرتمجة‪ :‬إيامنويل كانط‪ ،‬الدين يف حدود جمرد العقل‪ ،‬ترمجة فتحي املسكيني‪ ،‬ط‪ ،1‬جداول للنرش‬
‫والتوزيع‪ ،‬بريوت ــ لبنان‪.2012 ،‬حنة أرندت‪ ،‬أخيامن يف القدس‪ :‬تقرير حول تفاهة الرش‪ ،‬ترمجة‪ :‬أ‪.‬‬
‫نادرة السنويس‪ ،‬ط‪ ،1‬ابن النديم للنرش والتوزيع‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬دار الروافد الثقافية ــ نارشون‪ ،‬لبنان‪.2014 ،‬‬
‫بول ريكور‪ ،‬اإلنسان اخلطاء‪ ،‬ط‪ ،2‬ترمجة عدنان نجيب الدين‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪،2008 ،‬‬
‫ص ص‪ 216‬ــ ‪.246‬‬
‫‪435‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫ويرمز الشر إلى االنحطاط الخلقي‪ ،‬وثانيا األساطير الكبرى‪ ،‬فهي قصص وأمثلة عن‬
‫أصل الشر‪ ،‬وثالثا الموعظة الدينية في الخطيئة األصلية ‪.64‬‬
‫ب ّين بول ريكور عبر مقاربة أنثروبولوجية فلسفية في كتابه «اإلنسان الخطاء» ّ‬
‫أن الشر‬
‫وأن مفهوم « الالعصمة» يدل على هشاشة‬ ‫يكسب نفسه صبغة المتعالي والمقدس‪ّ ،‬‬
‫عاطفية وتكوين ضعيف للشخصية البشرية‪ ،‬فتسمح إلى جانب الحرية اإلنسانية‬
‫التحول من البراءة إلى الشر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫باقتراف الخطأ‪ .‬ويدعو ريكور إلى التأمل الفلسفي الكتناه‬
‫تيسر فهم اللغة األسطورية‪ ،‬وتبين‬
‫فتعتمد المقاربة الفلسفية قراءة تأويلية هرمينوطيقية ّ‬
‫رمزية الشر وحضوره الف ّعال عند اعتراف اإلنسان بارتكابه اإلرادي الحر للشر‪.65‬‬
‫يتج ّلى هذا المنحى التأويلي من خالل توظيف علوم متعدّ دة تدرس ّ‬
‫الرمز‬
‫واألسطورة واإلنسان ومنها اللغة والعلوم اإلنسانية ليبحث في «رمزية الشر» وفي‬
‫الهرمنوطيقا‪/‬التأويلية الفلسفية للشر‪ ،‬ويدرس أصل الشر وعلة وجوده ويبرز أسس‬
‫العالقة بين الشر والخطيئة ذلك ّ‬
‫أن إشكالية الشر مرتبطة بمفاهيم أخرى مثل المعاناة‪،‬‬
‫الذنب‪ ،‬الخطأ‪ ،‬غياب العدالة‪ ،‬ويمكن تأويل األسطورة أحيانا على أنّها رمزية الشر‬
‫الضروري االستناد إلى لغة الرموز واألساطير لفهم‬
‫وتحمل لغة إيحائ ّية ورمز ّية‪ ،‬فمن ّ‬
‫الشر هو تجربة ابتالء‬
‫أن ّ‬ ‫مسألة الشر مثل قصة آدم وحواء وقابيل وهابيل‪ .‬وتبين ريكور ّ‬
‫الشر الذي‬
‫إن أسوأه هو ّ‬ ‫ومعاناة‪ ،‬ولغز مبهم قد يكون بعيدا عن إدراكاتنا وكياناتنا‪ّ .‬‬
‫الشر‬
‫أن سمة ّ‬ ‫يستطيع اإلنسان تبريره وتفسيره‪ ،‬آنذاك ُيمنح الشرعية والعقالنية في حين ّ‬
‫هي الالعقالنية والالمنطق‪ .‬وتنقسم صورة الشر في مقاربة ريكور إلى صورة اإلنسان‬
‫الضحية‪.‬وقد يسر له توظيف مفاهيم التحليل النفسي ومنجزات‬
‫المذنب واإلنسان ّ‬

‫‪64. Paul Ricœur, les conflit des interprétations, p311. P.Ricoeur, Philosophie de la volonté‬‬
‫‪2, Finitude et culpabilité, éd. Points, 2009. J.Greisch, Paul Ricoeur. L’itinérance du‬‬
‫‪sens, éd, Jérome Million, 2001.‬‬
‫انظر‪ :‬اإلنسان اخلطاء‪ .‬ومقال‪ :‬بول ريكور‪ ،‬التأويل الفلسفي والديني ملفهوم عدم العصمة‪ ،‬ترمجة‬
‫مصطفى العارف‪ ،‬مؤمنون بالحدود‪ ،‬جويلية‪ .2020 ،‬وهو قسم مرتجم من كتاب‪Philosophie de :‬‬
‫‪ la volonté 2‬من رمزية الرش إىل اهلرمنيوطيقا‪ ،‬ص‪ 145‬ــ ‪.146‬‬
‫‪65. L’itinérance du sens pp 194 - 196 - 199. Philosophie de la volonté 2, pp. 184 - 199.‬‬
‫ص ص‪ 123‬ــ ‪ 129‬ــ ‪ .217‬اإلنسان اخلطاء‪.‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪436‬‬
‫المناهج الحديثة مثل التأويلية والنقد التاريخي واألنتربولوجي فهم األساطير وتحليل‬
‫مسألة الخطيئة ورموزها‪ ،‬فانطلق من فلسفة سياس ّية وأخالق ّية في مواجهة مشكلة الشر»‬
‫ومقاربتها من زاوية « الخطأ و العفو والعدالة‪.66‬‬
‫ب ـ تفاهة الشر‬
‫درست الفيلسوفة األلمانية حنة أرندت (ت‪ )1975‬مفهوم الشر من زاوية سياسية‬
‫الشر من منظور‬
‫تفسر ّ‬
‫بعيدا عن المواقف الفلسفية الميتافيزيقية التي عملت على أن ّ‬
‫أخالقي وسياسي‪ ،‬وسعت إلى فهم الشر الذي كرسته األنظمة السياسية‪ .67‬تحدثت عن‬
‫حضورها محاكمة أحد العمال النازيين‪ ،‬أدولف إيخمان‪ ،‬وهو ّ‬
‫الشخص المسؤول عن‬
‫يفضل مصلحته الشخصية‪ ،‬إذ يمارس القمع والقتل من‬
‫ترحيل اليهود‪ ،‬فالحظت أنّه ّ‬
‫أجل الحفاظ على وظيفته وعلى ما يجنيه من مكاسب مادية‪ ،‬ولم يكن اقترافه للشر‬
‫لغايات إيديولوجية‪ ،‬بل غاب عنه التفكير الواعي‪ ،‬لذلك تعتبره مجرما نازيا وموظفا‬
‫بيروقراطيا‪ ،‬ومحاكمته ظالمة ألنها بسبب جرائم تاريخية ارتكبتها النازية ولم يحاكم‬
‫كفرد على أخطائه الفردية ومسؤوليته األخالقية واإلجرامية‪ .‬وقد بدا إيخمان حسب‬
‫أرندت شخصا تافها وعاد ّيا‪ ،‬فقد إنسانيته وعقالنيته على الرغم من أنّه لم يكن متعصبا‬
‫الشر ليس جذر ّي ًا‪ .68‬لقد نقض مفهوم»تفاهة‬
‫أن ّ‬‫وليست له إرادة القتل‪ ،‬ما يدل على ّ‬
‫وأن الشر طبع إنساني‪ .‬لترفض أرندت األطروحات‬ ‫الشر»مقولة الخطيئة األصل ّية ّ‬
‫الفلسفية التي د ّعمت الدكتاتورية ومعاداة الحرية والديمقراطية‪ ،‬فمن األهمية بمكان‬
‫أن تقارب الفلسفة اإلنسان في فرديته‪.‬‬
‫ويتضح من خالل هذه المقاربة الفلسفية لمفهوم الشر قيمة فلسفة أرندت في مقاومة‬

‫‪66. L’itinérance du sens p p196 - 199.Paul Ricœur, les conflit des interprétations.‬‬
‫مقال‪ :‬التأويل الفلسفي والديني ملفهوم عدم العصمة‪ .‬من رمزية الرش إىل اهلرمنوطيقا‪ ،‬ص ص‪ 142‬ــ‬
‫‪.143‬‬
‫‪ .67‬حنة أرندت‪ ،‬ما السياسة؟ ترمجة وحتقيق زهري اخلويلدي وسلمى باحلاج مربوك‪ ،‬ط‪ ،1‬منشورات‬
‫االختالف‪ ،‬اجلزائر ومنشورات ضفاف‪ ،‬بريوت‪ ،2014 ،‬ص ص‪ 70‬ــ ‪ .79‬أخيامن يف القدس‪ :‬تقرير‬
‫حول تفاهة الرش‪ ،‬ص ص‪ 27‬ــ ‪.158‬‬
‫‪ .68‬أخيامن يف القدس‪ :‬تقرير حول تفاهة الرش‪ ،‬ص ص‪ 30‬ــ ‪ .229‬حنة أرندت‪ ،‬أسس التوتاليتارية‪ ،‬ترمجة‬
‫أنطوان أبو زيد‪ ،‬ط‪ ،2‬دار الساقي‪ ،‬بريوت‪ ،2016 ،‬ص ص‪ 124‬ــ ‪.267‬‬
‫‪437‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫العنف والرذيلة ونشر مفهوم اإلنسانية والحقوق الكونية‪ ،‬ذلك ّ‬


‫أن الباحثة عرضت‬
‫الشر بما هو تعبير عن فكر الطغاة وتجسيدا للظلم ومصادره الفاشية والتوتالليرية‬
‫ّ‬
‫واالستعمار ومعاداة السامية‪ ،‬وتمثلت أطروحة الباحثة في إعالء قيمة الفرد والدعوة‬
‫إلى الحب واألخالق‪.69‬‬
‫ج ـ الشر الجذري‬
‫يبرر كانط الشر بإرجاعه إلى الطبيعة البشرية‪ ،‬فيتجاوز بذلك مسألة الخطيئة األولى‬
‫ويحمل‬
‫ّ‬ ‫وإشكال التأويل التاريخي والديني‪ ،‬لقد جعل من الشر الجذري واقعة فلسفية‪،‬‬
‫ويوزع الشر إلى أربعة أصناف‪ ،‬هي»الشر الطبيعي»‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬ ‫البشر مسؤولية أفعالهم‪.‬‬
‫يصدر بصفة طبيعية تلقائية للتعبير عن القلق واالنتقام والحزن‪ .‬ويسمي الثاني بـ «الشر‬
‫الميتافيزيقي»‪ ،‬إذ يشمل كل األشياء والظواهر في العالم‪ .‬والمستوى الثالث هو «الشر‬
‫السياسي»‪ :‬ويقصد به أفعال البشر واألخالق السيئة‪ .‬وأ ّما «الشر األخالقي»‪ ،‬فإنه يرتبط‬
‫بالسلوك البشري‪ ،‬فقرن كانط بين الدين والعقل واألخالق‪.70‬‬
‫ويبرز اختالف المدلول الفلسفي األخالقي للشر لدى كانط عن المدلول السياسي‬
‫األخالقي لدى أرندت في ّ‬
‫أن كانط ينطلق من سؤال أخالقي مفاده‪ :‬هل اإلنسان خ ّير‬
‫أم شرير بطبعه؟ وأما أرندت فإنها تطرح اإلشكال من وجهة نظر سياسية‪ ،‬وعرضت‬
‫هذه المقاربة الحدود بين النزوع الطبيعي نحو ّ‬
‫الشر وبين االستعداد للقيام به كاختيار‬
‫حر وممارسته بموجب قوة خارجية‪ .71‬ويكشف التأويل الكانطي ّ‬
‫أن الدين يشترك مع‬ ‫ّ‬
‫بأن الشر عاصر العدمية في جميع أبعادها ّ‬
‫وأن الطبيعة اإلنسانية تحتوي‬ ‫الفلسفة في القول ّ‬
‫على ضرب من الشر الجذري‪ ،‬تبرزه رذائل الحضارة أو الرذائل الشيطانية‪ ،‬والشر والخير‬

‫‪ .69‬راجع أخيامن يف القدس‪ .‬أسس التوتاليتارية‪ ،‬وانظر‪ :‬حنة أرندت‪ ،‬الوضع البرشي‪ ،‬ترمجة هادية‬
‫العرقي‪ ،‬دار جداول‪ ،‬مؤمنون بال حدود‪ ،‬ص ص‪ 45‬ــ ‪.340‬‬
‫‪ .70‬رشيد العلوي‪ :‬سؤال الرش بني اجلذرية والتفاهة من كانط إىل حنا آرنت‪ ،‬ص ص‪ 1‬ــ ‪ .3‬وانظر مفهوم‬
‫اخلري والرش يف الفلسفة‪ ،‬صاحب الربيعي احلوار املتمدن ــ العدد‪ 1226 :‬ــ ‪ .12/6/2005‬الدين يف‬
‫حدود جمرد العقل‪ ،‬ص ص‪ 120‬ــ ‪ .276‬إمانويل كانط‪ ،‬نقد ملكة احلكم‪ ،‬ترمجة غانم هنا‪ ،‬ط‪ ،1‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،2005 ،‬ص ص‪ 106‬ــ ‪ 109‬و‪ 112‬ــ ‪.114‬‬
‫‪ .71‬سؤال الرش بني اجلذرية والتفاهة‪ ،‬ص ص‪ 1‬ــ ‪.3‬‬
‫ يرغدلا قازرلا دبع‬ ‫‪438‬‬
‫متالزمان في الطبيعة اإلنسانية ويجب التمييز بين الدين والكهنوت‪ ،72‬فاإلنسان مسؤول‬
‫والشر‪ ،‬لذلك تسعى القراءة الفلسفية إلى عقلنة‬
‫ّ‬ ‫عن أفعاله‪ ،‬والحرية هي مصدر الخير‬
‫الدين والتفكير بأن يخرج اإليمان عن التسليم األعمى والفهم السطحي‪ ،‬فيزول االستبداد‬
‫الديني‪ ،‬وتتحقق «مبادئ خلقية كونية لإليمان»‪.73‬لتقدم المقاربة الفلسفية إضافة تثري‬
‫المباحث العقائدية‪ ،‬وتحقق تفاعال مع عدة علوم‪ ،‬فتدرس مسألة الشر من زوايا مختلفة‪.‬‬

‫الخاتمة‬
‫أفضت دراستنا لمفهوم الشر انطالقا من مقاربة متعددة المداخل إلى تبين قيمة‬
‫التخصصات البينية في دراسة النص الديني‪ ،‬ومن األهمية بمكان أن يتحقق تكامل‬
‫المعارف للوصول إلى معرفة شاملة وفهم متنوع‪ ،‬فهناك تقاطعات مهمة بين الديني‬
‫والتاريخي واألدبي والفلسفي في فهم النصوص‪ .‬أ ّما النص الديني فهو منفتح على‬
‫الظاهرة اللغوية والتأويلية‪ ،‬والمناهج الحضارية وعلوم األديان والعلوم اإلنسانية‪ّ .‬‬
‫إن‬
‫تنوع مداخل مقاربة النص الديني يساعد على تنوع الفهم وحرية الفكر والتخلص من‬
‫التكفير والتبديع‪.‬‬
‫وقد ساعدتنا الدراسات البينية على استجالء أدبية النص الديني اإلنجيلي والتوراتي‬
‫وكذلك اإلسالمي وتبين عالقته بالشفوي والبشري واستجالء مظاهر األسطوري‬
‫القص المحيلة على فعلي الخير والشر‬
‫والمتخيل واإليديولوجي‪ ،‬فقد تضافرت عناصر ّ‬
‫مثل األحداث العجيبة واألمكنة واألزمنة‪ ،‬وتنوعت رموز الشر والخير‪ ،‬لتحمل أدبية‬
‫النص الديني أغراضا لعل أبرزها شد المتلقي واستمالته عبر عناصر المتعة والتشويق‬
‫والتخييل واإلغراب والعجب والتنبيه والتحذير لتعديل السلوك‪.‬‬
‫إننا نتبين من خالل المقاربات الدينية والتأويلية والفلسفية أن النصوص الدينية‬
‫الو َق ِائ ِع التاريخ ّية فتصنع المجتمعات رموزها‬ ‫تسعى إلى إض ِ‬
‫فاء الصبغة الت ْ ِ ِ‬
‫َخ ِييل َّية َعلى َ‬ ‫ْ‬
‫وعناصرها المقدسة لتتداخل المرجعيات وتتكثف األخبار الدالة على الصراع السياسي‬
‫والقضاء على الشرور فضال عن التنبؤ بانتصار الدين وأتباعه‪ .‬وتحمل هذه القصص‬

‫‪ .72‬إيامنويل كانط‪ ،‬الدين يف حدود جمرد العقل‪ ،‬ص ص‪ 16‬ــ ‪.20‬‬


‫‪ .73‬الدين يف حدود جمرد العقل‪ ،‬ص ص‪ 16‬ــ ‪20‬و‪ 74‬ــ ‪ 83 ،80 ،79 ،76‬ــ ‪.84‬‬
‫‪439‬‬ ‫يباتكلا نايدألا يف رشلا ةلكشم‬

‫طابعا سجاليا بين المسلمين والروم وأهل الكتاب‪ ،‬وبين عناصر الخير والشر‪ ،‬فتداخل‬
‫الواقع التاريخي بالمتخيل وبالمقاصد السياسية والثقافية للرواة‪ ،‬وال تخلو األخبار‬
‫المتصلة بأفعال الشر ورموزه وأحداثه من ثقافة المتقبل للنص الديني‪.‬‬
‫واستطعنا أن نستجلي من خالل المقاربة الفلسفية قراءة الفالسفة للشر والخير‬
‫من زوايا دينية وأخالقية وسياسية وباعتماد مناهج البحث الحديثة لتتعدد مصادر‬
‫أن الحاجة تبدو ضرورية إلى بناء تجارب معاصرة‬ ‫الشر والمواقف منه لذلك نعتقد ّ‬
‫للعالقات البینیة بین العلوم وتقییمها وتقدیم تصورات مستقبلیه لتطویر البرامج‬
‫تمر العالقات البینیة من الوحدة‬
‫التعلیمیة والمناهج البحثیة وضمان جوده التعلیم بأن ّ‬
‫إلی التکامل‪.‬‬
‫تدعو مجلة قضايا إسالمية معاصرة الباحثين الكرام‬
‫للمشاركة في محور العدد القادم‪:‬‬

‫مشكلة الشر‬
‫(‪)2‬‬

You might also like