Professional Documents
Culture Documents
C O M
بي يدي الكتاب
كلـمـة معال الدكتور عبد ال عمر نصيف
كلـمـة معال الشيخ ممد بن على الركان
كلمة الؤلف
المد ل رب العالي ،والصلة والسلم على عبده ورسوله ممد أفضل الرسل وخات النبيي ،وعلى آله
وصحبه ومن اهتدي بديه إل يوم الدين.
وبعـــد:
فهذا الكتاب هو الذي أسهمت به ف مسابقة السية النبوية العالية الت نظمتها رابطة العال السلمي،
وأعلنت عنها عقب أول مؤتر للسية النبوية الذي عقدته دولة باكستان ف شهر ربيع الول عام
1396هـ.
وقد قدر ال لذا الكتاب من القبول ما ل أكن أرجوه وقت الكتابة ،فقد نال الركز الول ف السابقة،
وأقبل عليه الاصة والعامة إقبال يغتبط عليه.
وكان من حديث هذا الكتاب أن ل أطلع على إعلن الرابطة عن السابقة ف وقته ،ولا أخبت به بعد حي
ل أمِلْ إل السهام فيها ،بل رفضت هذا القتراح رفضًا كليًا إل أن القدر ساقن إل ذلك .وكان آخر
موعد لتلقي بوث السابقة واستقبالا عند الرابطة أول شهر مرم من العام القادم 1397هـ ،أي نو
تسعة أشهر من وقت العلن ،وقد ضاعت من من ذلك عدة أشهر ،والدة الباقية ل تكن تكفي لعداد
مثل هذا الكتاب ،ولكن لا عزمت على ذلك استعنت ال سبحانه وتعال ،وشرت عن ساق الد ،حت ت
إنازه وإرساله ف الوعد.
وكنت أعان ـ مع ضيق الوقت والشتغال بأعمال أخري ـ قلة الصادر ،وعدم القدرة على مراجعة كل
ما هو موجود ،وكانت الدقة مطلوبة عندي بصفة خاصة مع تنب الشو والزوائد ،والحاطة بالوضوع
بقدر المكان ،وقد مررت بأماكن شعرت فيها بشيء من الفجوة والفراغ ،وباجة إل إضافات ل تكن ف
مستطاعي ف ذلك الي .فكل ما كان بالمكان هو التسويد السريع لا هو موجود ،ث نسخه أو
استنساخه بغي مراجعة أو تنقيح.
وقد بقيت ف النفس رغبة إل ملء تلك الفجوة والفراغ وإضافة بعض الزيادات فيما بعد ،ولكن مضت
اليام والعوام ول يقدر ل ذلك ،حت تَقادم العَ ْهدُ وانفلت الزمامُ ،وكنت أحيانًا أثبت ف الكتاب أشياء،
وربا أقدم أو أؤخر ،أو أضـيف أو أعدل أشياء ،وهي وإن ل تكن عي ما كانت تتحدث به النفس عند
التأليف ،لكنها مهمة ومفيدة ف السية إن شاء ال ،وكذلك اطلعت على مصادر قديـة أغنتـن إل
ت إليه من الراجع الديثة ،فأدخلت كل ذلك ف هذه الطبعة بتوفيـق
حــد كبي عـما كـنت أحَ ْل ُ
ال .
وقد كنت أرجو ظهور بعض اللحوظات العلمية القيمة ،أستفيد با ف صلب بعض الوضوعات ،لكن
الذي وصلن منها ل يس الوهر ،وإنا يس بعض المور الانبية الت ل تقدم ول تؤخر ،يضاف إل ذلك
أن معظمها خطأ واضح ،بل تَخَبّطٌ غريب ل يكن يُرْجَي مثله من عامة الدارسي ،فضلًا عن أصحاب
التخصص.
وهذه الطبعة الت تتضمن هذه الضافات والتغييات تكون أفضل وأكثر فائدة من الطبعات السابقة إن
شاء ال ،وهي الطبعة الشرعية الوحيدة مع تلك الضافات والتعديلت .وقد طبع الكتاب قبل ذلك من
جهة الرابطة عدة طبعات ،كما طبعه بعض الخوان بإذن من الؤلف ،ولكن هناك عشرات الطبعات كلها
غي شرعية قام با الناشرون بغي إذن من الؤلف ول إشعار له ،مستغلي سعة الكتاب .وقد بلغت الرأة
ببعضهم إل أنه احتفظ بميع حقوق الكتاب لنفسه ،فهداهم ال للحق ،وليصال القوق إل أهلها قبل أن
يأت يوم ل بيع فيه ول خلل.
26أغسطس 1994م
فإن السنة النبوية الطهرة ـ وهي العطاء التجدد والزاد الباقي إل يوم الدين ،والت يتسابق التسابقون،
ويتنافس التنافسون إل الديث عنها وكتابة الكتب والسفار ف مواضيعها منذ بعث صلى ال عليه وسلم
حت تقوم الساعة ـ تضع للمسلمي النموذج العملي والبنامج الواقعي لا ينبغي أن يكون عليه سلوكهم
وأفعالم وأقوالم وعلقاتم بربم ،ث بأهلهم وعشيتم وإخوانم وأمتهم والناس أجعي.
وقد قال ال عز وجل{ :لَ َقدْ كَانَ لَ ُكمْ فِي َرسُولِ ال ِ أُسْ َوةٌ َحسََنةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ال َ وَالْيَ ْو َم الْآخِرَ
وَ َذكَرَ ال َ كَثِيًا} [الحزاب.]21 :
وقالت السيد عائشة ـ رضوان ال عليها ـ عندما سئلت عن خلق رسول ال صلى ال عليه وسلم( :
كان خلقه القرآن).
فل ريب إذن أنه لبد لن أراد النجاة من هذه الدنيا باتباع النهج الربان ف جيع شئون آخرته ودنياه وأن
يتأسي بالرسول العظم صلى ال عليه وسلم ،ويأخذ بالسية النبوية تفكرًا وتدبرًا على أنا هذا النهج
الربان القوي عاشه سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم واقعًا عمليّا ف جيع شئون الياة ،ففيها الدي
والرشاد للقادة والقودين والكام والحكومي والرشدين والوجهي والجاهدين ،وفيها السوة السنة ف
جيع الجالت :ف السياسة والكم والقتصاد والال والجتماع والعلقات النسانية والخلق الفاضلة
والعلقات الدولية ،فما أحرى السلمي اليوم ـ وقد اندروا ف مهاوي الهالة والتخلف لبتعادهم عن
هذه النهج ـ أن يعودوا إل صوابم وأن يقدموا السية النبوية ف مناهجهم الدراسية ومنتدياتم الختلفة
على أنا ليست للمتعة الفكرية وحسب ،بل فيها طريق العودة إل ال ،وفيها إصلح الناس وفلحهم،
فهي السلوب العلمي لترجة كتاب ال عزّ وجلّ سلوكًا وأخلقًا ،حت يصبح الؤمن متكمًا إل شريعة ال
سبحانه وتعال ومكمًا لا ف جيع شئون الناس.
وهذا الكتاب [الرحيق الختوم] جهد رائع وعمل مشكور لؤلفه فضيلة الشيخ صفي الرحن الباركفوري
الذي استجاب لدعوة رابطة العال السلمي ف مسابقة السية النبوية الت نظمتها عام 1396هـ ،ففاز
بالائزة الول كما هو مذكور ف مقدمة الطبعة الول لفضيلة الشيخ ممد على الركان ـ رحه ال ـ
المي العام السابق لرابطة العال السلمي تغمده ال برحته وجزاه عنا خي الزاء.
وقد كان إقبال الناس عظيمًا وثناؤهم عطرًا على هذا الكتاب ،وقد نفدت نسخ الطبعة الول بالكامل،
وطلب من التقدي للطبعة الثالثة فاستجبت له بذه القدمة الوجيزة ،سائلًا الول عز وجل أن يعل هذا
العمل خالصًا لوجهه الكري ،وأن ينفع به السلمي نفعًا يؤدي إل تغيي واقعهم إل الفضل ،وأن يعيد
للمة السلمية مدها الفقود ومكانتها ف قيادة المم عملًا بقوله عز وجل{ :كُنُتمْ خَيْرَ أُ ّمةٍ أُخْرِ َجتْ
لِلنّاسِ َتأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ َوتَنْهَ ْونَ َع ِن الْمُنكَرِ َوتُ ْؤمِنُونَ بِال ِ} [آل عمران.]110 :
وصلى ال على البعوث رحة للعالي ،رسول الدى ومرشد النسانية إل طريق النجاة والفلح ،وعلى آله
وصحبه وسلم.
والمد ل رب العالي.
المد ل رب العالي ،خالق السموات والرض ،وجاعل الظلمات والنور ،وصلي ال على سيدنا ممد
خات النبياء والرسل أجعي ،بشّر وأنذر ،ووعد وأوعد ،أنقذ ال به البشر من الضللة ،وهدي الناس إل
صراط مستقيم ،صراط ال الذي له ما ف السموات وما ف الرض أل إل ال تصي المور .وبعــد:
فلما أعطى ال سبحانه وتعال لرسوله الشفاعة والدرجة الرفيعة ،وهدي السلمي إل مبته ،وجعل اتباعه
من مبته تعال فقال تعالُ { :قلْ إِن كُنُتمْ ُتحِبّونَ ال َ فَاتِّبعُونِي ُيحْبِبْ ُكمُ ال ُ َويَ ْغفِرْ لَ ُكمْ ُذنُوبَ ُكمْ} [آل
عمران ،]31 :فكان هذا من السباب الت صيت القلوب تفو إل مبته صلى ال عليه وسلم ،وتتلمس
السباب الت توثق الصلة فيما بينها وبينه صلى ال عليه وسلم .فمنذ فجر السلم والسلمون يتسابقون
إل إبراز ماسنه ،ونشر سيته العطرة صلى ال عليه وسلم ،وسيته صلى ال عليه وسلم هي أقواله وأفعاله
وأخلقه الكرية ،فقد قالت السيدة عائشة زوج النب صلى ال عليه وسلم رضي ال عنها( :كان خلقه
القرآن) ،والقرآن كتاب ال وكلماته التامة ،ومن كان كذلك كان أحسن الناس وأكملهم وأحقهم بحبة
خلق ال جيعًا.
ول يَزَلِ السلمون متمسكي بذه الحبة الغالية الت انبثق عنها الؤتر السلمي الول للسية النبوية
الشريفة الذي عقد بباكستان سنة 1396هـ ،حيث أعلنت الرابطة ف هذا الؤتر عن جوائز مالية
مقدارها مائة وخسون ألف ريال سعودي توزع على أحسن خسة بوث ف السية النبوية بالشروط
التية:
فكان هذا العلن حافزًا لتسابق العلماء الذين وهبهم ال حب رسوله صلى ال عليه وسلم ،واستعدت
رابطة العال السلمي لستقبال هذه البحوث باللغات العربية والنليزية والردية وأية لغة أخري.
وبدأ الخوان الكرام ف إرسال بوثهم بذه اللغات ،وقد بلغ عددها واحدًا وسبعي ومائة بث منها:
84بثًا باللغة العربية 64 ،بثًا باللغة الردية 21 ،بثًا باللغة النليزية ،وبث واحد فقط باللغة
الفرنسية ،وبث واحد فقط باللغة الوساوية.
وقد كونت الرابطة لنة من كبار العلماء لدراسة هذه البحوث وترتيبها حسب استحقاق الفائز للجائزة،
وقد كان الفائزون بالوائز حسب الترتيب الت:
1ـ الفائز بالائزة الول الشيخ صفي الرحن الباركفوري من الامعة السلفية بالند ،ومقدار جائزته
خسون ألف ريال سعودي.
2ـ الفائز بالائزة الثانية الدكتور ماجد على خان من الامعة اللية السلمية نيودلي ،الند ،ومقدار
جائزته أربعون ألف ريال سعودي.
3ـ الفائز بالائزة الثالثة الدكتور نصي أحد ناصر رئيس الامعة السلمية بباكستان ،ومقدار جائزته
ثلثون ألف ريال سعودي.
4ـ الفائز بالائزة الرابعة الستاذ حامد ممود ممد منصور ليمود من جهورية مصر العربية ،ومقدار
جائزته عشرون ألف ريال سعودي.
5ـ الفائز بالائزة الامسة الستاذ عبد السلم هاشم حافظ من الدينة النورة ،الملكة العربية
السعودية ،ومقدار جائزته عشرة آلف ريال سعودي.
وقد أعلنت الرابطة أساء الفائزين ف الؤتر السلمي السيوي الول الذي عقد ف كراتشي ف شهر
شعبان سنة 1398هـ .كما أعلن عن ذلك ف جيع الصحف.
وبذه الناسبة أقامت المانة العامة للرابطة بقرها بكة الكرمة حفلًا كبيًا تت إشراف صاحب السمو
اللكي المي سعود بن عبد الحسن بن عبد العزيز وكيل إمارة منطقة مكة الكرمة ،نيابة عن صاحب
السمو اللكي المي فواز بن عبد العزيز أمي منطقة مكة الكرمة ،حيث تفضل سوه بتوزيع الوائز على
أصحابا ،وذلك صباح يوم السبت الوافق 12ربيع الول سنة 1399هـ .وف هذا الفل أعلنت
المانة العامة أنا ستقوم بطبع البحوث الفائزة ونشرها بعدة لغات ،وتنفيذًا لذلك ها هي ذي تضع بي
يدي القارئ الكري باكورة طبعات تلك البحوث ،وهو بث الشيخ /صفي الرحن الباركفوري ،من
الامعة السلفية بالند؛ لنه الفائز بالائزة الول ،وستوال طبع بقية البحوث الفائزة حسب ترتيبها،
سائلي ال سبحانه وتعال أن يتقبل منا جيعًا أعمالنا خالصة لوجهه الكري ،إنه نعم الول ونعم النصي.
وبعـد:
فإن من دواعي الغبطة والسرور أن رابطة العال السلمي أعلنت عقب مؤتر السية النبوية الذي عقد ف
باكستان ف شهر ربيع الول من سنة 1396هـ عن تنظيم مسابقة علمية عالية؛ لتقدي أحسن بث ف
موضوع السية النبوية ـ على صاحبها ألف ألف صلة وسلم وتية ـ وذلك تنشيطًا للكاتبي ،وتنسيقا
لهودهم الفكرية .وإن أري أن هذا العمل له قيمة كبية ربا ل ييط بوصفه البيان .فإن السية النبوية
والسوة الحمدية ـ على صاحبها ما يستحق من الصلة والسلم ـ إذا لحظناها بعي الدقة والعتبار
هي النبع الوحيد الذي تتفجر منه ينابيع حياة العال السلمي وسعادة الجتمع البشري.
وإن من سعادت وحسن حظي أن أقدم بثًا أسهم به ف تلك السابقة الباركة ،ولكن أين أنا حت ألقي
ضوءًا على حياة سيد الولي والخرين صلى ال عليه وسلم .وإنا أنا رجل يري لنفسه كل السعادة
والفلح أن يقتبس من نوره ،حت ل يتهالك ف دياجي الظلمات ،بل ييا وهو من أمته ،ويوت وهو من
أمته ،ويغفر ال له ذنوبه بشفاعته.
ومن منهجي ف هذا الكتاب ـ عدا ما جاء ف إعلن الرابطة ـ أن قررت سلوك سبيل العتدال ،متجنبًا
التطويل المل والياز الخل ،وقد وجدت الصادر تتلف فيما بينها حول كثي ما يتعلق بالحداث
اختلفًا ل يتمل المع والتوفيق ،فاخترت سبيل الترجيح ،وأثبت ف الكتاب ما ترجح لدي بعد التدقيق
ف الدراسة والنقد ،إل أن طويت ذكر الدلئل والوجوه؛ لن ذلك يفضي إل طول غي مطلوب.
أما بالنسبة لقبول الروايات وردها فقد استفدت ف ذلك ما كتبه الئمة التقنون ،واعتمدت عليهم فيما
حكموا به من الصحة والسن والضعف؛ إذ ل أجد وقتًا يكفي للخوض ف هذا الجال.
وقد أشرت ف بعض الواضع إل بعض الدلئل ووجوه الترجيح ،وذلك حينما ِخفْتُ الستغراب من يقرأ
الكتاب ،أو رأيت شبه التفاق فيما بي الولي والخرين على خلف ما هو الصواب .وال ول التوفيق.
ال م قدر ل الي ف الدنيا والخرة ،إنك أنت الغفور الودود ،ذو العرش الجيد.
بنارس ـ الند
العرب ،الرض والشعب ،الكم والقتصاد ،الديانة
إن السية النبوية ـ على صاحبها الصلة والسلم ـ هي ف القيقة عبارة عن الرسالة الت حلها رسول
ال صلى ال عليه وسلم إل الجتمع البشرى قولًا وفعلًا ،وتوجيها وسلوكًا ،وقلب با موازين الياة ،فبدل
مكان السيئة السنة ،وأخرج با الناس من الظلمات إل النور ،ومن عبادة العباد إل عبادة ال ،حت عدل
خط التاريخ وَغيّر مرى الياة ف العال النسان ،ول يتم إحضار هذه الصورة الرائعة إل بعد القارنة بي
البيئة الت سبقت هذه الرسالة وبي ما آلت إليه بعدها.
وهذا يقتضي تقدي فصول موجزة عن أقوام العرب وتطوراتا قبل السلم ،وعن تاريخ الكومات
والمارات والنظم القبلية الت كانت سائدة ف ذلك الزمان ،مع صور من الديانات وا ِللَل والّنحَل
والعادات والتقاليد ،والوضاع السياسية والجتماعية والقتصادية.
وجزيرة العرب يدها غربًا البحر الحر وشبه جزيرة سيناء ،وشرقًا الليج العرب وجزء من بلد العراق
النوبية ،وجنوبًا بر العرب الذي هو امتداد لبحر الند ،وشالًا بلد الشام وجزء من بلد العراق ،على
اختلف ف بعض هذه الدود ،وتقدر مساحتها ما بي مليون ميل مربع إل مليون وثلثائة ألف ميل مربع.
ولزيرة العرب أهية بالغة من حيث موقعها الطبيعي والغراف؛ فإنا ف وضعها الداخلي ماطة بالصحاري
والرمال من كل جانب؛ ولجل هذا الوضع صارت الزيرة حصنًا منيعًا ل يستطع الجانب أن يتلوها
ويبسطوا عليها سيطرتم ونفوذهم .ولذلك نرى سكان الزيرة أحرارًا ف جيع الشئون منذ أقدم العصور،
مع أنم كانوا ماورين لمباطوريتي عظيمتي ل يكونوا يستطيعون دفع هجماتما لول هذا السد النيع.
وأما بالنسبة إل الارج فإنا تقع بي القارات العروفة ف العال القدي ،وتلتقى به برًا وبرًا ،فإن ناحيتها
الشمالية الغربية باب للدخول ف قارة إفريقية ،وناحيتها الشمالية الشرقية مفتاح لقارة أوربا ،والناحية
الشرقية تفتح أبواب العجم؛ ومن ث آسيا الوسطى وجنوبا والشرق البعيد ،وكذلك تلتقي كل قارة
بالزيرة برًا ،وترسى سفنها وبواخرها على ميناء الزيرة رأسًا.
ولجل هذا الوضع الغراف كان شال الزيرة وجنوبا موئلًا للمم ،ومركزًا لتبادل التجارة ،والثقافة،
والديانة ،والفنون.
أقوام العرب
وأما أقوام العرب فقد قسمها الؤرخون إل ثلثة أقسام؛ بسب السللت الت ينحدرون منها:
1ـ العرب البائدة :وهم العرب القدامى الذين انقرضوا تامًا ول يكن الصول على تفاصيل كافية عن
تاريهم ،مثل :عاد ،وثود ،و َطسْم ،و َجدِيس ،وعِمْلق ،وُأمَيْم ،وجُرْهُم ،وحَضُور ،ووَبــار ،و َعبِيل،
وجاسم ،وحَضْ َرمَوت ،وغيها.
3ـ العرب الستعربة :وهي العرب النحدرة من صلب إساعيل عليه السلم ،وتسمى بالعرب العدنانية.
أما العرب العاربة ـ وهي شعب قحطان ـ فمَ ْهدُها بلد اليمن ،وقد تشعبت قبائلها وبطونا من ولد سبأ
بن يشجب بن يعرب بن قحطان .فاشتهرت منها قبيلتانِ :حمْيَر بن سبأ ،و َكهْلن بن سبأ ،وأما بقية بن
سبأ ـ وهـم أحـد عشـر أو أربعة عشـر بطنًا ـ فيقال لم :السبئيون ،وليست لم قبائل دون سبأ.
2ـ السّكاسِك :وهـم بنو زيـد بـن وائلة بن حي ،ولقب زيد :السكاسك ،وهي غي سكاسك
كِنْدة التية ف بن كَهْلن.
3ـ زيــد المهــور :ومنها حي الصغر ،وسبأ الصغر ،وحضور ،وذو أصبح.
هَمْدان ،وألْهَان ،وال ْشعَر ،وطيئ ،و َمذْحِج [ومن مذحج :عَنْس والّنخْع] ،وَلخْم [ومن لم :كندة ،ومن
كندة :بنو معاوية والسّكُون والسكاسك] ،و ُجذَام ،وعاملة ،و َخوْلن ،و َمعَافِر ،وأنار [ومن أنار :خَ ْثعَم
وَبجِي َلةَ ،ومن بيلة :أحْمَس] والزْد[ ،ومن الزد :الوس ،والزرج ،وخُزَاعة ،وأولد َجفْنَة ملوك الشام
العروفون بآل غسان].
وهاجرت بنو كهلن عن اليمن ،وانتشرت ف أناء الزيرة ،يقال :كانت هجرة معظمهم قبيل َسيْل العَرِم
حي فشلت تارتم لضغط الرومان وسيطرتم على طريق التجارة البحرية ،وإفسادهم طريق الب بعد
احتللم بلد مصر والشام.
ويقال :بل إنم هاجروا بعد السيل حي هلك الرث والنسل بعد أن كانت التجارة قد فشلت ،وكانوا قد
فقدوا كل وسائل العيش ،ويؤيده سياق القرآن {لَ َقدْ كَانَ لِسََبإٍ فِي مَسْكَِن ِهمْ آَيةٌ جَنّتَانِ عَن يَ ِميٍ َوشِمَالٍ
كُلُوا مِن رّ ْزقِ َربّ ُكمْ وَاشْكُرُوا َلهُ بَ ْل َدةٌ طَيَّبةٌ َو َربّ َغفُورٌ َفأَعْ َرضُوا َفأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْي ِهمْ سَ ْي َل الْعَ ِرمِ َوَب ّدلْنَاهُم
بِجَنّتَ ْي ِهمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَى ُأكُلٍ خَمْطٍ َوأَثْلٍ وَ َش ْيءٍ مّن ِسدْرٍ قَلِيلٍ َذلِكَ َج َزيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ ُنجَازِي ِإلّا
الْ َكفُورَ وَ َج َعلْنَا بَيْنَ ُهمْ َوبَيْ َن الْقُرَى الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِ َرةً وَ َقدّ ْرنَا فِيهَا السّيْرَ ِسيُوا فِيهَا لَيَالِيَ َوأَيّامًا
آمِنِيَ َفقَالُوا َربّنَا بَا ِعدْ بَيْنَ أَ ْسفَا ِرنَا َو َظلَمُوا أَنفُسَ ُهمْ َفجَعَ ْلنَا ُهمْ أَحَادِيثَ َومَزّ ْقنَا ُهمْ كُلّ مُمَ ّزقٍ إِنّ فِي َذلِكَ
لَآيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ َشكُورٍ} [سورة سبأ]19 :15:
ول غرو إن كانت هناك ـ عدا ما تقدم ـ منافسة بي بطون كهلن وبطون حي أدت إل جلء كهلن،
فقد يشي إل هذا بقاء حي مع جلء كهلن.
1ـ الزْد:
وكانت هجرتم على رأى سيدهم وكبيهم عمران بن عمرو مُ َزيْقِياء ،فساروا يتنقلون ف بلد اليمن
ويرسلون الرواد ،ث ساروا بعد ذلك إل الشمال والشرق .وهاك تفصيل الماكن الت سكنوا فيها بعد
الرحلة نائيًا:
و َعطَف ثَعْلَبة بن عمرو مزيقياء نو الجاز ،فأقام بي الثعلبية وذى قار ،ولا كب ولده وقوى ركنه سار نو
الدينة ،فأقام با واستوطنها ،ومن أبناء ثعلبة هذا :الوس والزرج ،ابنا حارثة بن ثعلبة.
وتنقل منهم حارثة بن عمرو ـ وهو خزاعة ـ وبنوه ف ربوع الجاز ،حت نزلوا بر الظهران ،ث افتتحوا
الرم فقطنوا مكة وأجلوا سكانا الراهة.
وسار َجفْنَة بن عمرو إل الشام فأقام با هو وبنوه ،وهو أبو اللوك الغساسنة؛ نسبة إل ماء ف الجاز
يعرف بغسان ،كانوا قد نزلوا با أولًا قبل انتقالم إل الشام.
وانضمت البطون الصغية إل هذه القبائل ف الجرة إل الجاز والشام ،مثل كعب بن عمرو ،والارث
بن عمرو ،وعوف بن عمرو.
انتقلوا إل الشرق والشمال ،وكان ف اللخميي نصر بن ربيعة أبو اللوك الناذرة بالية.
ساروا بعد مسي الزد نو الشمال حت نزلوا بالبلي أجأ وسلمى ،وأقاموا هناك ،حت عرف البلن
ببلى طيئ.
4ـ كِنْدة:
نزلوا بالبحرين ،ث اضطروا إل مغادرتا فنلوا بـ[حضرموت] ،ولقـوا هنـاك ما لقوا بالبحرين ،ث
نزلوا ندًا ،وكونوا هناك دولة كبية الشأن ،ولكنها سرعان ما فنيت وذهبت آثارها.
وهناك قبيلة من حي مع اختلف ف نسبتها إليه ـ وهي قضاعة ـ هجرت اليمن واستوطنت بادية
السماوة من مشارف العراق ،واستوطن بعض بطونا مشارف الشام وشال الجاز.
وأما العرب الستعربة ،فأصل جدهم العلى ـ وهو سيدنا إبراهيم عليه السلم ـ من بلد العراق ،من
مدينة يقال لا[ :أر] على الشاطئ الغرب من نر الفرات ،بالقرب من الكوفة ،وقد جاءت الفريات
والتنقيبات بتفاصيل واسعة عن هذه الدينة ،وعن أسرة إبراهيم عليه السلم ،وعن الحوال الدينية
والجتماعية ف تلك البلد.
ومعلوم أن إبراهيم عليه السلم هاجر منها إل حاران أو حَرّان ،ومنها إل فلسطي ،فاتذها قاعدة لدعوته،
وكانت له جولت ف أرجائها وأرجاء غيها من البلد ،وف إحدى هذه الولت أتى إبراهيم عليه السلم
على جبار من البابرة ،ومعه زوجته سارة ،وكانت من أحسن النساء ،فأراد ذلك البار أن يكيد با،
ولكن سارة دعت ال تعال عليه فرد ال كيده ف نره ،وعرف الظال أن سارة امرأة صالة ذات مرتبة
عالية عند ال ،فأخدمها هاجر اعترافًا بفضلها ،أو خوفًا من عذاب ال ،ووهبتها سارة لبراهيم عليه
السلم.
ورجع إبراهيم عليه السلم إل قاعدته ف فلسطي ،ث رزقه ال تعال من هاجر ابنه إساعيل ،وصار سببًا
لغية سارة حت ألأت إبراهيم إل نفي هاجر مع ولدهـا الرضيـع ـ إساعيل ـ فقدم بما إبراهيم عليه
السلم إل الجاز ،وأسكنهما بواد غي ذي زرع عند بيت ال الحرم الذي ل يكن إذ ذاك إل مرتفعًا من
الرض كالرابية ،تأتيه السيول فتأخذ عن يينه وشاله ،فوضعهما عند دوحة فوق زمزم ف أعلى السجد،
وليس بكة يومئذ أحد ،وليس با ماء ،فوضع عندها جرابا فيه تر ،وسقاء فيه ماء ،ورجع إل فلسطي،
ول تض أيام حت نفد الزاد والاء ،وهناك تفجرت بئر زمزم بفضل ال ،فصارت لما قوتا وبلغًا إل
حي .والقصة معروفة بطولا.
وجاءت قبيلة يانية ـ وهي ُجرْهُم الثانية ـ فقطنت مكة بإذن من أم إساعيل .يقال :إنم كانوا قبل ذلك
ف الودية الت بأطراف مكة ،وقد صرحت رواية البخاري أنم نزلوا مكة بعد إساعيل ،وقبل أن يشب،
وأنم كانوا يرون بذا الوادى قبل ذلك.
وكان إبراهيم عليه السلم يرتل إل مكة ليطالع تركته با ،ول يعلم بالضبط عدد هذه الرحلت ،إل أن
الصادر العتمدة حفظت لنا أربعة منها:
1ـ فقد ذكر ال تعال ف القرآن الكري أنه أرى إبراهيم ف النام أنه يذبح إساعيل ،فقام بامتثال هذا
ت الرّ ْؤيَا ِإنّا َكذَِلكَ نَجْزِي الْ ُمحْسِنِيَ إِنّ
صدّ ْق َ
المرَ { :فلَمّا أَ ْسلَمَا َوتَ ّلهُ لِ ْلجَِبيِ َونَا َديْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ َقدْ َ
َهذَا لَهُ َو الْبَلَاء الْمُبِيُ وَ َف َديْنَاهُ بِ ِذْبحٍ َعظِيمٍ} [الصافات]107 :103:
وقد ذكر ف ِسفْر التكوين أن إساعيل كان أكب من إسحاق بثلث عشرة سنة ،وسياق القصة يدل على
أنا وقعت قبل ميلد إسحاق؛ لن البشارة بإسحاق ذكرت بعد سرد القصة بتمامها.
وهذه القصة تتضمن رحلة واحدة ـ على القل ـ قبل أن يشب إساعيل ،أما الرحلت الثلث الخر
فقد رواها البخاري بطولا عن ابن عباس مرفوعًا ،وملخصها:
2ـ أن إساعيل عليه السلم لا شب وتعلم العربية من ُجرْهُم ،وأنفسهم وأعجبهم زوجوه امرأة منهم،
وماتت أمـه ،وبدا لبراهيم أن يطالع تركته ،فجاء بعد هذا الزواج ،فلم يد إساعيل ،فسأل امرأته عنه
وعن أحوالما ،فشكت إليه ضيق العيش فأوصاها أن تقول لساعيل أن يغي عتبة بابه ،وفهم إساعيل ما
أراد أبوه ،فطلق امرأته تلك وتزوج امرأة أخرى [وهي ابنة مُضَاض بن عمرو ،كبي جرهم وسيدهم على
قول الكثر].
3ـ وجاء إبراهيم عليه السلم مرة أخرى بعد أن تزوج إساعيل هذه الزوجة الثانية ،فلم يده فرجع إل
فلسطي بعد أن سأل زوجته عنه وعن أحوالما ،فأثنت على ال بي ،فأوصى إل إساعيل أن يُثَبّتَ عَتَبَة
بابه.
4ـ ث جاء إبراهيم عليه السلم بعد ذلك فلقى إساعيل ،وهو يَبْرِى نَبْل له تت دوحة قريبًا من زمزم،
فلما رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ،وكان لقاؤها بعد فترة طويلة من الزمن،
قلما يصب فيها الب الكبي الواه العطوف عن ولده ،والوالد البار الصال الرشيد عن أبيه ،وف هذه الرة
بنيا الكعبة ،ورفعا قواعدها ،وأذّن إبراهيم ف الناس بالج كما أمره ال .
وقد رزق ال إساعيل من ابنة مُضَاض اثن عشر ولدًا ذكرًا،وهم :نابت أو نبايوط،و َقيْدار ،وأدبائيل،
ومِبْشام ،ومِشْماع ،ودوما ،ومِيشا ،وحدد ،وتيما ،وَيطُور ،ونَفيس ،وقَ ْيدُمان.
وتشعبت من هؤلء اثنتا عشرة قبيلة ،سكنت كلها ف مكة مدة من الزمان ،وكانت جل معيشتهم إذ ذاك
التجارة من بلد اليمن إل بلد الشام ومصر ،ث انتشرت هذه القبائل ف أرجاء الزيرة بل وإل خارجها،
ث أدرجت أحوالم ف غياهب الزمان ،إل أولد نابت وقيدار.
وقد ازدهرت حضارة النباط ـ أبْناء نابت ـ ف شال الجاز ،وكونوا دولة قوية عاصمتها البتراء ـ
الدينة الثرية القدية العروفة ف جنوب الردن ،وقد دان لذه الدولة النبطية من بأطرافها ،ول يستطع أحد
أن يناوئها حت جاء الرومان وقضوا عليها.
وقد جنحت طائفة من الحققي من أهل العلم بالنساب إل أن ملوك آل غسان وكذا النصار من الوس
والزرج إنا كانوا من آل نابت بن إساعيل ،وبقاياهم ف تلك الديار.
وإليه مال المام البخاري ـ رحه ال ـ ف صحيحه ،فقد عقد بابًا عنوانه[ :نسبة اليمن إل إساعيل عليه
السلم] ،واستدل عليه ببعض الحاديث ،ورجح الافظ ابن حجر ف شرحه أن قحطان من آل نابت بن
إساعيل عليه السلم.
وأما قيدار بن إساعيل فلم يزل أبناؤه بكة ،يتناسلون هناك حت كان منه عدنان وولده مَ َعدّ ،ومنه حفظت
العرب العدنانية أنسابا .وعدنان هو الد الادى والعشرون ف سلسة النسب النبوى ،وقد ورد أنه صلى
ال عليه وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان يسك ويقول( :كذب النسابون) ،فل يتجاوزه ،وذهب جع
من العلماء إل جواز رفع النسب فوق عدنان؛ مضعفي للحديث الشار إليه ،ولكنهم اختلفوا ف هذا
الزء من النسب اختلفا ل يكن المع بي أقوالم ،وقد مال الحقق الكبي العلمة القاضى ممد سليمان
النصورفورى ـ رحه ال ـ إل ترجيح ما ذكره ابن سعد ـ والذي ذكره الطبى والسعودى وغيها ف
جلة القوال ـ وهو أن بي عدنان وبي إبراهيم عليه السلم أربعي أبا بالتحقيق الدقيق .وسيأتى.
وقد تفرقت بطون َم َعدّ من ولده نَزَار ـ قيل :ل يكن لعد ولد غيه ـ فكان لنار أربعة أولد ،تشعبت
منهم أربعة قبائل عظيمة :إياد وأنار وربيعة ومُضَر ،وهذان الخيان ها اللذان كثرت بطونما واتسعت
أفخاذها ،فكان من ربيعة :ضُبَ ْيعَة وأسد ،ومن أسدَ :عنْزَة و َجدِيلة ،ومن جديلة :القبائل الكثية الشهورة
مثل :عبد القيس ،والنّمِر ،وبنو وائل الذين منهم بكر وَتغْلِب ،ومن بن بكر :بنو قيس وبنو شيبان وبنو
حنيفة وغيها .أما عنة فمنها آل سعود ملوك الملكة العربية السعودية ف هذا الزمان.
وتشعبت قبائل مضر إل شعبتي عظيمتي :قَيْس عَيْلن بن مضر ،وبطون إلياس ابن مضر ،فمن قيس
صعَة ،وبنو َغطَفان .ومن غطفانَ :عبْس ،و ُذبْيان،
صعْ َ
عيلن :بنو سليم ،وبنو هوازن ،وبنو ثقيف ،وبنو َ
وأ ْشجَع،وأعْصُر.
ومن إلياس بن مُضَر :تيم بن مرة ،و ُه َذيْل بن مُدرِكة ،وبنو أسد بن خزية ،وبطون كنانة بن خزية ،ومن
كنانة قريش ،وهم أولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
وانقسمت قريش إل قبائل شت ،من أشهرها :جُمَح وسَهْم و َع ِدىّ ومزوم وتَيْم وزُهْرَة ،وبطون ُقصَىّ بن
كلب ،وهي :عبد الدار بن قصى،وأسد بن عبد العزى بن قصى ،وعبد مناف بن قصى.
وكان من عبد مناف أربع فصائل :عبد شس ،ونَوْفَل ،والطلب ،وهاشم ،وبيت هاشم هو الذي اصطفي
ال منه سيدنا ممد بن عبد ال بن عبد الطلب بن هاشم صلى ال عليه وسلم.
قال صلى ال عليه وسلم( :إن ال اصطفي من ولد إبراهيم إساعيل ،واصطفي من ولد إساعيل بن كنانة،
واصطفي من بن كنانة قريشًا ،واصطفي من قريش بن هاشم ،واصطفان من بن هاشم).
وعن العباس بن عبد الطلب قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :إن ال خلق اللق فجعلن من
خي فرقهم وخي الفريقي ،ث تي القبائل ،فجعلن من خي القبيلة ،ث تي البيوت ،فجعلن من خي
بيوتم ،فأنا خيهم نفسًا وخيهم بيتًا) .وف لفظ عنه( :إن ال خلق اللق فجعلن ف خيهم فرقة ،ث
جعلهم فرقتي فجعلن ف خيهم فرقة ،ث جعلهم قبائل فجعلن ف خيهم قبيلة ،ث جعلهم بيوتًا فجعلن ف
خيهم بيتًا وخيهم نفسًا).
ولا تكاثر أولد عدنان تفرقوا ف أناء شت من بلد العرب متتبعي مواقع القطر ومنابت العشب.
فهاجرت عبد القيس ،وبطون من بكر بن وائل ،وبطون من تيم إل البحرين فأقاموا با.
وخرجت بنو حنيفة بن على بن بكر إل اليمامة فنلوا ُبجْرَ ،قصَبة اليمامة ،وأقامت سائر بكر بن وائل ف
طول الرض من اليمامة إل البحرين إل سيف كاظمة إل البحر ،فأطراف سواد العراق فا ُلبُ ّلةُ فَهِيت.
وأقامت تغلب بالزيرة الفراتية ،ومنها بطون كانت تساكن بَكْرًا.وسكنت بنو تيم ببادية البصرة.
وأقامت بنو سليم بالقرب من الدينة ،من وادي القرى إل خيب إل شرقي الدينة إل حد البلي ،إل ما
ينتهي إل الرة.
وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغرب الكوفة ،بينهم وبي تيماء ديار ُبحْتُرٍ من طيئ ،وبينهم وبي الكوفة
خس ليال.
وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إل حوران ،وبقى بتهامة بطون كنانة ،وأقام بكة وضواحيها بطون
قريش ،وكانوا متفرقي ل تمعهم جامعة حت نبغ فيهم قص ّي ابن كلب ،فجمعهم ،وكون لم وحدة
شرفتهم ورفعت من أقدارهم.
الكـم والمـارة فـي العـرب
اللك باليمن
اللك بالية
اللك بالشام
المارة بالجاز
الكم ف سائر العرب
الالة السياسية
كان حكام جزيرة العرب عند ظهور دعوة النب صلى ال عليه وسلم على قسمي:
2ـ رؤسـاء القبائـل والعشائر ـ وكـان لم مـن الكم والمتـياز مـا كـان للملـوك
التوجي ،ومعظم هـؤلء كانـوا على تـام الستقـلل ،وربـا كانت لبعضـهم تبعية للك متـوج.
واللوك التوجون هم :ملوك اليمن ،وملوك مشارف الشام [وهم آل غسان] وملوك الية ،وما عدا
هؤلء من حكام الزيرة ل تكن لم تيجان .وفيما يلى موجز عن هؤلء اللوك والرؤساء.
اللك باليمن
من أقدم الشعوب الت عرفت باليمن من العرب العاربة قوم سبأ ،وقد عثر على ذكرهم ف حفريات [أور]
بمس وعشرين قرنا قبل اليلد ،ويبدأ ازدهار حضارتم ونفوذ سلطانم وبسط سيطرتم بأحد عشر قرنا
قبل اليلد.
عرفت دولتهم ف هذه الفترة بالدولة العينية ،ظهرت ف الَوْف؛ أى السهل الواقع بي نران وحضرموت،
ث أخذت تنمو وتتسع وتسيطر وتزدهر حت بلغ نفوذها السياسى إل العُل و َمعَان من شال الجاز.
ويقال :إن مستعمراتا وصلت إل خارج بلد العرب ،وكانت التجارة هي صلب معيشتهم ،ث إنم بنوا
سد مأرب الذي له شأن كبي ف تاريخ اليمن ،والذي وفر لم معظم خيات الرض{ ،حَتّى نَسُوا ال ّذكْرَ
َوكَانُوا َق ْومًا بُورًا} [ الفرقان]18:
وكان ملوكهم ف هذه الفترة يلقبون بـ [مكرب سبأ] وكانت عاصمتهم مدينة [صِرْوَاح] الت توجد
أنقاضها على بعد 50كيلو مترًا إل الشمال الغرب من مدينة [مأرب] ،وعلى بعد 142كيلو مترًا
شرقى صنعاء ،وتعرف باسم [خُ َريْبة] .ويقدر عدد هؤلء اللوك ما بي 22و 26ملكًا.
وعرفت دولتهم ف هذه الفترة بدولة سبأ ،وقد تركوا لقب [مكرب] وعرفوا بـ[ملوك سبأ] ،واتذوا [
مأرب] عاصمة لم بدل [صرواح] وتوجد أنقاض مأرب على بعد 192كيلو مترًا شرقي صنعاء.
وعرفت الدولة ف هذه الفترة بالدولة الميية الول؛ لن قبيلة حي غلبت واستقلت بملكة سبأ ،وقد
عرف ملوكها بـ[ملوك سبأ وذى ريدان] ،وهؤلء اللوك اتذوا مدينة [ريدان] عاصمة لم بدل مدينة [
مأرب] ،و تعرف [ريدان] باسم ظفار ،وتوجد أنقاضها على جبل مدور بالقرب من [يري] .وف هذا
العهد بدأ فيهم السقوط والنطاط ،فقد فشلت تارتم إل حد كبي لبسط النباط سيطرتم على شال
الجاز أولًا ،ث لغلبة الرومان على طريق التجارة البحرية بعد نفوذ سلطانم على مصر وسوريا وشال
الجاز ثانيًا ،ولتنافس القبائل فيما بينها ثالثًا .وهذه العناصر هي الت سببت ف تفرق آل قحطان وهجرتم
إل البلد الشاسعة.
عرفت الدولة ف هذه الفترة بالدولة الميية الثانية ،وعرف ملوكها بـ[ملوك سبأ وذى ريدان
وحضرمـوت ويـنت] ،وقد توالت على هذه الدولة الضطرابات والوادث ،وتتابعت النقلبات
والروب الهلية الت جعلتها عرضة للجانب حت قضى على استقللا .ففي هذا العهد دخل الرومان ف
عدن ،وبعونتهم احتلت الحباش اليمن لول مرة سنة 340م؛ مستغلي التنافس بي قبيلت هدان
وحي ،واستمر احتللم إل سنة 378م .ث نالت اليمن استقللا ،ولكن بدأت تقع الثلمات ف سد
مأرب ،حت وقع السيل العظيم الذي ذكره القرآن بسيل العرم ف سنة 450م ،أو 451م.وكانت
حادثة كبى أدت إل خراب العمران وتشتت الشعوب.
وف سنة 523م قاد ذو نُوَاس اليهودى حلة منكرة على السيحيي من أهل نران ،وحاول صرفهم عن
السيحية قسرًا ،ولا أبوا خدّ لم الخدود وألقاهم ف النيان ،وهذا الذي أشـار إلـيه القـرآن ف
صحَابُ اْلأُ ْخدُودِ} اليات [ البوج.]4:
سـورة الـبوج بقـوله{ :قُِتلَ أَ ْ
وكان هذا الادث هو السبب ف نقمة النصرانية الناشطة إل الفتح والتوسع تت قيادة أباطرة الرومان من
بلد العرب ،فقد حرضوا الحباش ،وهيأوا لم السطول البحرى ،فنل سبعون ألف جندى من البشة،
واحتلوا اليمن مرة ثانية ،بقيادة أرياط سنة 525م ،وظل أرياط حاكمًا من قبل ملك البشة حت اغتاله
أبرهة بن الصباح الشرم ـ أحد قواد جيشه ـ سنة 549م ،ونصب نفسه حاكمًا على اليمن بعد أن
استرضى ملك البشة وأرضاه ،وأبرهة هذا هو الذي جند النود لدم الكعبة ،وعرف هو وجنوده
بأصحاب الفيل.وقد أهلكه ال بعد عودته إل صنعاء عقب وقعة الفيل ،فخلفه على اليمن ابنه يَ ْكسُوم ،ث
البن الثان مسروق ،وكانا ـ فيما يقال ـ شرا من أبيهما ،وأخبث سية منه ف اضطهاد أهل اليمن
وقهرهم وإذللم.
أما أهل اليمن فإنم بعد وقعة الفيل استنجدوا بالفرس ،وقاموا بقاومة البشة حت أجلوهم عن البلد،
ونالوا الستقلل ف سنة 575م بقيادة معديكرب سيف بن ذى يزن الميى ،واتذوه ملكًا لم،
وكان معديكرب أبقى معه جعًا من البشة يدمونه ويشون ف ركابه ،فاغتالوه ذات يوم ،وبوته انقطع
اللك عن بيت ذى يزن ،وصارت اليمن مستعمرة فارسية تتعاقب عليها ولة من الفرس ،وكان أولم
وهرز ،ث الرزبان بن وهرز ،ث ابنه التينجان ،ث خسرو بن التينجان ،ث باذان ،وكان آخر ولة الفرس،
فإنه اعتنق السلم سنة 628م ،وبإسلمه انتهي نفوذ فارس على بلد اليمن.
اللك بالية
كانت الفرس تكم بلد العراق وما جاورها منذ أن جع شلهم قوروش الكبي ( 557ـ 529ق.م
) ول يكن أحد يناوئهم ،حت قام السكندر القدون سنة 326ق .م فهزم ملكهم دارا وبددهم وخضد
شوكتهم ،حت تزأت بلدهم ،وتولها ملوك عرفوا بلوك الطوائف ،وقد ظل هؤلء اللوك يكمون
البلد مزأة إل سنة 230م .وف عهد هؤلء اللوك هاجر القحطانيون ،واحتلوا جزءًا من ريف العراق،
ث لقهم من هاجر من العدنانيي فزاحوهم حت سكنوا جزءًا من الزيرة الفراتية.
وأول من ملك من هؤلء الهاجرين هو مالك بن فَهْم التّنُوخى من آل قحطان ،وكان منله النبار ،أو ما
يلى النبار ،وخلفه أخوه عمرو بن فهم ف رواية .و َجذِية بن مالك بن فهم ـ اللقب بالبْرش والوَضّاح
ـ ف رواية أخرى.
وعادت القوة مرة ثانية إل الفرس ف عهد أردشي بن بابك ـ مؤسس الدولة الساسانية سنة 226م ـ
فإنه جع شل الفرس ،واستول على العرب القيمي على توم ملكه ،وكان هذا سببا ف رحيل قضاعة إل
الشام ،ولكن دان له أهل الية والنبار.
وف عهد أردشي كانت ولية جذية الوضاح على الية وسائر مَنْ ببادية العراق والزيرة من ربيعة
ومضر ،وكأن أردشي رأى أنه يستحيل عليه أن يكم العرب مباشرة ،وينعهم من الغارة على توم
ملكه ،إل أن يلك عليهم رجلًا منهم له عصبية تؤيده وتنعه ،ومن جهة أخرى يكنه الستعانة بم على
ملوك الرومان الذين كان يتخوفهم ،وليكون عرب العراق أمام عرب الشام الذين اصطنعهم ملوك
الرومان ،وكان يبقى عند ملك الية كتيبة من جنود الفرس؛ ليستعي با على الارجي على سلطانه من
عرب البادية ،وكان موت جذية حوال سنة 268م.
وبعد موت جذية ول الية والنبار عمرو بن عدى بن نصر اللخمى [ 268ـ 288م] وهو أول
ملوك اللخميي ،وأول من اتذ الية مقرًا له ،وكان ف عهد كسرى سابور بن أردشي ،ث ل يزل اللوك
من اللخميي من بعده يتولون الية حت ول الفرس قُبَاذ بن فيوز [448ـ 531م] وف عهده ظهر
مَزْدَك ،وقام بالدعوة إل الباحية ،فتبعه قباذ كما تبعه كثي من رعيته ،ث أرسل قباذ إل ملك الية ـ
وهو النذر بن ماء السماء [512ـ 554م] ـ يدعوه إل اختيار هذا الذهب البيث ،فأب عليه
ذلك حية وأنفة ،فعزله قباذ ،وول بدله الارث بن عمرو بن حجر الكندى بعد أن أجاب دعوته إل
الذهب الزدكى.
وخلف قباذ كسرى أنوشروان [531ـ 578م] وكان يكره هذا الذهب جدًا ،فقتل الزدك وكثيًا
من دان بذهبه ،وأعاد النذر إل ولية الية ،وطلب الارث بن عمرو ،لكنه أفلت إل دار كلب ،فلم
يزل فيهم حت مات.
واستمر اللك بعد النذر بن ماء السماء ف عقبه حت كان النعمان بن النذر [ 583ـ 605م] فإنه
غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها زيد بن عدى العبادى ،فأرسل كسرى إل النعمان يطلبه ،فخرج
النعمان حت نـزل سـرا عـلى هانئ بن مسعود سـيد آل شيبان ،وأودعه أهله وماله ،ث توجه إل
كسرى ،فحبسه كسرى حت مات .وول على الية بدله إياس بن قَبِيصة الطائى ،وأمره أن يرسل إل
هانئ بن مسعود يطلب منه تسليم ما عنده ،فأب ذلك هانئ حية ،وآذن اللك بالرب ،ول يلبث أن جاءته
مرازبة كسرى وكتائبه ف موكب إياس ،ودارت بي الفريقي معركة هائلة عند ذى قار ،انتصر فيها بنو
شيبان وانزمت الفرس هزية نكراء .وهذا أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم ،وهو بعد ميلد
الرسول صلى ال عليه وسلم.
واختلف الؤرخون ف تديد زمن هذه العركة ،فقيل :هو بعد ميلد الرسول صلى ال عليه وسلم بقليل،
وأنه صلى ال عليه وسلم ولد لثمانية أشهر من ولية إياس بن قبيصة على الية .وقيل :قبل النبوة بقليل
ـ وهو القرب .وقيل :بعد النبوة بقليل .وقيل :بعد الجرة .وقيل :بعد بدر .وقيل غي ذلك.
وول كسرى على الية بعد إياس حاكمًا فارسيًا اسه آزادبه بن ماهبيان بن مهرابنداد ،وظل يكم 17
عاما[614ـ 631م] ث عاد اللك إل آل لم سنة 632م ،فتول منهم النذر بن النعمان اللقب
بالعرور ،ولكن ل تزد وليته على ثانية أشهر حت قدم عليه خالد بن الوليد بعساكر السلمي .
اللك بالشام
ف العهد الذي ماجت فيه العرب بجرات القبائل سارت بطون من قضاعة إل مشارف الشام وسكنت با،
جعَم ابن سليح العروفون باسم الضجاعمة ،فاصطنعهم
ضْوكانوا من بن ُسلَيْح بن ُحلْوان الذين منهم بنو َ
الرومان؛ ليمنعوا عرب البية من العبث ،وليكونوا عدة ضد الفرس ،وولوا منهم ملكًا ،ث تعاقب اللك
فيهم سني ،ومن أشهر ملوكهم زياد بن الَبُولة ،ويقدر زمنهم من أوائل القرن الثان اليلدى إل نايته
تقريبًا ،وانتهت وليتهم بعد قدوم آل غسان ،الذين غلبوا الضجاعمة على ما بيدهم وانتصروا عليهم،
فولتهم الروم ملوكًا على عرب الشام ،وكانت قاعدتم مدينة بصرى ،ول تزل تتوال الغساسنة على الشام
بصفتهم عمالًا للوك الروم حت كانت وقعة اليموك سنة 13هـ ،وانقاد للسلم آخر ملوكهم جََبلَة بن
اليهم ف عهد أمي الؤمني عمر بن الطاب رضي ال عنه.
المارة بالجاز
ول إساعيل عليه السلم زعامة مكة وولية البيت طول حياته ،وتوف وله 137سنة ،ث ول واحد،
وقيل :اثنان من أبنائه :نابت ث قَيْدار ،ويقال العكس ،ث ول أمر مكة بعدها جدها مُضَاض بن عمرو
الُرْهُمِىّ ،فانتقلت زعامة مكة إل جرهم ،وظلت ف أيديهم ،وكان لولد إساعيل مركز مترم؛ لا لبيهم
من بناء البيت ،ول يكن لم من الكم شيء.
ومضت الدهور واليام ول يزل أمر أولد إساعيل عليه السلم ضئيلًا ل يذكر ،حت ضعف أمر جرهم
قبيل ظهور ُبخْتُنَصّر ،وأخذ نم عدنان السياسى يتألق ف أفق ساء مكة منذ ذلك العصر ،بدليل ما جاء
بناسبة غزو بتنصر للعرب ف ذات عِرْق ،فإن قائد العرب ف الوقعة ل يكن جرهيًا ،بل كان عدنان
نفسه.
وتفرقت بنو عدنان إل اليمن عند غزوة بتنصر الثانية [سنة 587ق .م] وذهب برخيا ـ صاحب
يرمياه النب السرائيلى بَ َم َعدّ ـ إل حران من الشام ،فلما انكشف ضغط بتنصر رجع معد إل مكة فلم
يد من جرهم إل جَوْشَم بن ُجلْهُمة ،فتزوج بابنته ُمعَانة فولدت له نزارًا.
وساء أمر جرهم بكة بعد ذلك ،وضاقت أحوالم ،فظلموا الوافدين إليها ،واستحلوا مال الكعبة ،المر
الذي كان يغيظ العدنانيي ويثي حفيظتهم ،ولا نزلت خزاعة بِمَرّ الظّهْران ،ورأت نفور العدنانيي من
الراهة استغلت ذلك ،فقامت بعونة من بطون عدنان ـ وهم بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة ـ بحاربة
جرهم ،حت أجلتهم عن مكة ،واستولت على حكمها ف أواسط القرن الثان للميلد.
ولا لأت جرهم إل اللء سدوا بئر زمزم ،ودرسوا موضعها ،ودفنوا فيها عدة أشياء ،قال ابن إسحاق:
فخرج عمرو بن الارث بن مضاض الرهى بغزال الكعبة ،وبجر الركن السود فدفنهما ف بئر زمزم،
وانطلق هو ومن معه من جرهم إل اليمن ،فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنًا شديدًا ،وف
ذلك قال عمرو:
لدُود العَوَاثِر
بلــى نــن كــنا أهـلــها فأبـادنـا ** صُرُوف الليال وا ُ
ويقدر زمن إساعيل عليه السلم بعشرين قرنًا قبل اليلد ،فتكون إقامة جرهم ف مكة واحدًا وعشرين قرنًا
تقريبًا ،وحكمهم على مكة زهاء عشرين قرنًا.
واستبدت خزاعة بأمر مكة دون بن بكر ،إل أنه كان إل قبائل مضر ثلث خلل:
الول :الدفع بالناس من عرفة إل الزدلفة ،والجازة بم يوم النفر من من ،وكان يلى ذلك بنو الغَوْث بن
مرة من بطون إلياس بن مضر ،وكانوا يسمون صُوفَة ،ومعن هذه الجازة أن الناس كانوا ل يرمون يوم
النفر حت يرمى رجل من صوفة ،ث إذا فرغ الناس من الرمى وأرادوا النفر من من أخذت صوفة بانب
العقبة ،فلم يز أحد حت يروا ،ث يلون سبيل الناس ،فلما انقرضت صوفة ورثهم بنو سعد بن زيد مناة
من تيم.
واستمرت [ولية] خزاعة على مكة ثلثائة سنة .وف وقت حكمهم انتشر العدنانيون ف ند وأطراف
العراق والبحرين ،وبقى بأطراق مكة بطون من قريش وهم ُحلُول وصِرْم متقطعون ،وبيوتات متفرقون ف
قومهم من بن كنانة ،وليس لم من أمر مكة ول البيت الرام شيء حت جاء قصى بن كلب.
ويذكر من أمر قصى :أن أباه مات وهو ف حضن أمه ،ونكح أمه رجل من بن ُع ْذرَة ـ وهو ربيعة بن
حرام ـ فاحتملها إل بلده بأطراف الشام ،فلما شب قصى رجع إل مكة ،وكان واليها إذ ذاك ُحلَيْل بن
حَ ْبشِيّة من خزاعة ،فخطب قصى إل حليل ابنته حُبّى ،فرغب فيه حليل وزوجه إياها ،فلما مات حليل
قامت حرب بي خزاعة وقريش ،أدت أخيًا إل تغلب قصى على أمر مكة والبيت.
الول :أن قصيًا لا انتشر ولده وكثر ماله وعظم شرفه وهلك حليل رأى أنه أول بالكعبة وبأمر مكة من
خزاعة وبن بكر ،وإن قريشًا رءوس آل إساعيل وصريهم ،فكلم رجالًا من قريش وبن كنانة ف إخراج
خزاعة وبن بكر عن مكة فأجابوه.
الثانية :أن حليلًا ـ فيما تزعم خزاعة ـ أوصى قصيًا بالقيام على الكعبة وبأمر مكة ،ولكن أبت خزاعة
أن تضى ذلك لقصى فهاجت الرب بينهما.
الثالثة :أن حليلًا أعطى ابنته حب ولية البيت ،واتذ أبا غُبْشان .الزاعي وكيل لا ،فقام أبو غبشان
بسدانة الكعبة نيابة عن حب ،وكان ف عقله شيء ،فلما مات حليل خدعه قصى ،واشترى منه ولية
البيت بأذواد من البل أو بزق من المر ،ول ترض خزاعة بذا البيع ،وحاولوا منع قصى عن البيت،
فجمع قصى رجالًا من قريش وبن كنانة لخراج خزاعة من مكة ،فأجابوه.
وأيا ما كان ،فلما مات حليل وفعلت صوفة ما كانت تفعل أتاهم قصى بن معه من قريش وكنانة عند
العقبة ،فقال :نن أول بذا منكم ،فقاتلوه فغلبهم قصى على ما كان بأيديهم ،وانازت عند ذلك خزاعة
وبنو بكر عن قصى ،فبادأهم قصى وأجع لربم ،فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا حت كثرت القتلى ف
الفريقي جيعا ،ث تداعوا إل الصلح فحكّموا َيعْمُر بن عوف أحد بن بكر ،فقضى بأن قصيًا أول بالكعبة
وبأمر مكة من خزاعة ،وكل دم أصابه قصى منهم موضوع يشدخه تت قدميه ،وما أصابت خزاعة وبنو
بكر ففيه الدية ،وأن يلى بي قصى وبي الكعبة ،فسمى يعمر يومئذ :الشداخ.
وكانت فترة تول خزاعة أمر البيت ثلثائة سنة ،واستول قصى على أمر مكة والبيت ف أواسط القرن
الامس للميلد سنة 440م،وبذلك صارت لقصى ث لقريش السيادة التامة والمر النافذ ف مكة،
وصار قصى هو الرئيس الدين لذا البيت الذي كانت تفد إليه العرب من جيع أناء الزيرة.
وما فعله قصى بكة أنه جع قومه من منازلم إل مكة ،وقطعها رباعًا بي قومه ،وأنزل كل قوم من قريش
منازلم الت أصبحوا عليها ،وأقر النسأة وآل صفوان وعدوان ومرة بن عوف على ما كانوا عليه من
الناصب؛ لنه كان يراه دينًا ف نفسه ل ينبغى تغييه.
ومن مآثر قصى :أنه أسس دار الندوة بالانب الشمال من مسجد الكعبة ،وجعل بابا إل السجد ،وكانت
ممع قريش ،وفيها تفصيل مهام أمورها ،ولذه الدار فضل على قريش؛ لنا ضمنت اجتماع الكلمة وفض
الشاكل بالسن.
1ـ رياسة دار الندوة :ففيها كانوا يتشاورون فيما نزل بم من جسام المور ،وفيها كانوا يزوجون
بناتم.
2ـ اللواء :فكانت ل تعقد راية ول لواء لرب قوم من غيهم إل بيده أو بيد أحد أولده ،وف هذه
الدار.
3ـ القيادة :وهي إمارة الركب ،فكانت ل ترج ركب لهل مكة ف تارة أو غيها إل تت إمارته أو
إمارة أولده.
4ـ الجابـة :وهي حجابة الكعبة،ل يفتح بابا إل هو ،وهو الذي يلى أمر خدمتها وسدانتها.
5ـ سقاية الاج :وهي أنم كانوا يلون للحجاج حياضًا من الاء ،يلونا بشيء من التمر والزبيب،
فيشرب الناس منها إذا وردوا مكة.
6ـ رفادة الاج :وهي طعام كان يصنع للحاج على طريقة الضيافة ،وكان قصى فرض على قريش
خرجًا ترجه ف الوسم من أموالا إل قصى ،فيصنع به طعامًا للحاج ،يأكله من ل يكن له سعة ول زاد.
كان كل ذلك لقصى ،وكان ابنه عبد مناف قد شرف وساد ف حياته ،وكان عبد الدار بكره .فقال له
قصى فيما يقال :للقنك بالقوم وإن شرفوا عليك ،فأوصى له با كان يليه من مصال قريش ،فأعطاه دار
الندوة واللواء والقيادة والجابة والسقاية والرفادة ،وكان قصى ل يالف ول يرد عليه شيء صنعه،
وكان أمره ف حياته وبعد موته كالدين التبع ،فلما هلك أقام بنوه أمره ل نزاع بينهم ،ولكن لا هلك عبد
مناف نافس أبناؤه بن عمهم عبد الدار ف هذه الناصب ،وافترقت قريش فرقتي ،وكاد يكون بينهم قتال،
إل أنم تداعوا إل الصلح ،واقتسموا هذه الناصب ،فصارت السقاية والرفادة والقيادة إل بن عبد مناف،
وبقيت دار الندوة واللواء والجابة بيد بن عبد الدار .وقيل :كانت دار الندوة بالشتراك بي الفريقي ،ث
حكم بنو عبد مناف القرعة فيما أصابم ،فصارت السقاية والرفادة لاشم والقيادة لعبد شس ،فكان هاشم
بن عبد مناف هو الذي يلى السقاية والرفادة طول حياته ،فلما مات خلفه أخوه الطلب بن عبد مناف،
وول بعده عبد الطلب بن هاشم بن عبد مناف جد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وبعـده أبنـاؤه
حت جـاء السلم والولية إل العبـاس .ويقـال :إن قصيًا هـو الذي قسم الناصب على أولده،
ثـم توارثـها أبناؤهـم حسـب التفصيل الذكور ،وال أعلم .وكانت لقريش مناصب أخرى سوى ما
ذكرنا وزعوها فيما بينهم ،وكونوا با دويلة ـ بل بتعبي أصح :شبه دويلة ديقراطية ـ وكانت لم من
الدوائر والتشكيلت الكومية مـا يشبه ف عصرنـا هـذا دوائـر البلـان ومالسها ،وهاك لوحة من
تلك الناصب:
1ـ اليسار :أي تولية قداح الصنام للستقسام ،وكان ذلك ف بن جُمَح.
2ـ تجي الموال :أي تنظيم القربات والنذور الت كانت تدى إل الصنام ،وكذلك فصل الصومات
والرافعات.وكان ذلك ف بن سهم.
3ـ الشورى :وكانت ف بن أسد.
4ـ الشناق :أي تنظيم الديات والغرامات ،وكان ذلك ف بن تَيْم.
5ـ العقاب :أي حل اللواء القومى ،وكان ذلك ف بن أمية.
6ـ القبة :أي تنظيم العسكر ،وكذلك قيادة اليل ،وكان ف بن مزوم.
7ـ السفارة :وكانت ف بن عدي.
قد تقدم ذكر هجرات القبائل القحطانية والعدنانية ،وأنا اقتسمت البلد العربية فيما بينها ،فما كان من
هذه القبائل بالقرب من الية كانت تبعًا للك العرب بالية ،وما كان منها ف بادية الشام كانت تبعًا
للغساسنة ،إل أن هذه التبعية كانت اسية ل فعلية ،وأما ما كان منها ف البوادى ف داخل الزيرة فكانت
حرة مطلقة.
والقيقة أن هذه القبائل كانت تتار لنفسها رؤساء يسودونا ،وأن القبيلة كانت حكومة مصغرة ،أساس
كيانا السياسى الوحدة العصبية ،والنافع التبادلة ف حاية الرض ودفع العدوان عنها.
وكانت درجة رؤساء القبائل ف قومهم كدرجة اللوك ،فكانت القبيلة تبعًا لرأي سيدها ف السلم والرب،
ل تتأخر عنه بال ،وكان له من الكم والستبداد بالرأي ما يكون لدكتاتور قوى؛ حت كان بعضهم إذا
غضب غضب له ألوف من السيوف ل تسأله :فيم غضب ،إل أن النافسة ف السيادة بي أبناء العم كانت
تدعوهم إل الصانعة بالناس من بذل الندى وإكرام الضيف والكرم واللم ،وإظهار الشجاعة والدفاع عن
الغية ،حت يكسبوا الحامد ف أعي الناس ،ولسيما الشعراء الذين كانوا لسان القبيلة ف ذلك الزمان،
وحت تسمو درجتهم عن مستوى النافسي.
وكان للسادة والرؤساء حقوق خاصة ،فكانوا يأخذون من الغنيمة الِرْباع والصّفي والنّشيطة والفُضُول،
يقول الشاعر:
بعد أن ذكرنا حكام العرب يمل بنا أن نذكر جلة من أحوالم السياسية حت يتضح الوضع ،فالقطار
الثلثة الت كانت ماورة للجانب كانت حالتها السياسية ف تضعضع وانطاط ل مزيد عليه.فقد كان
الناس بي سادة وعبيد ،أو حكام ومكومي ،فالسادة ـ ولسيما الجانب ـ كان لم كل الغُنْم ،والعبيد
عليهم كل الغُرْم ،وبعبارة أوضح:إن الرعايا كانت بثابة مزرعة تورد الحصولت إل الكومات،
والكومات كانت تستخدمها ف ملذاتا وشهواتا ،ورغائبها ،وجورها ،وعدوانا.أما الناس فكانوا ف
عمايتهم يتخبطون ،والظلم ينحط عليهم من كل جانب ،وما ف استطاعتهم التذمر والشكوى ،بل كانوا
يسامون السف والور والعذاب ألوانًا ساكتي ،فقد كان الكم استبداديا ،والقوق ضائعة مهدورة.
وأما القبائل الجاورة لذه القطار فكانوا مذبذبي تتقاذفهم الهواء والغراض ،مرة يدخلون ف أهل
العراق ،ومرة يدخلون ف أهل الشام.
وكانت أحوال القبائل داخل الزيرة مفككة الوصال ،تغلب عليها النازعات القبلية والختلفات
العنصرية والدينية ،حت قال ناطقهم:
ول يكن لم ملك يدعم استقللم ،أو مرجع يرجعون إليه ،ويعتمدون عليه وقت الشدائد.
وأما حكومة الجاز فقد كانت تنظر إليها العرب نظرة تقدير واحترام ،ويرونا قادة و َسدَنة الركز الدين،
وكانت تلك الكومة ف القيقة خليطًا من الصدارة الدنيوية والكومية والزعامة الدينية ،حكمت بي
العرب باسم الزعامة الدينية ،وحكمت ف الرم وما واله بصفتها حكومة تشرف على مصال الوافدين
إل البيت ،وتنفذ حكم شريعة إبراهيم ،وكانت لا من الدوائر والتشكيلت ما يشابه دوائر البلان ـ
كما أسلفنا ـ ولكن هذه الكومة كانت ضعيفة ل تقدر على حل العبء كما وضح يوم غزو الحباش.
ديانات العـرب
كان معظم العرب يدينون بدين إبرهيم عليه السلم منذ أن نشأت ذريته ف مكة وانتشرت ف جزيرة
العرب ،فكانوا يعبدون ال ويوحدونه ويلتزمون بشعائر دينه النيف ،حت طال عليهم المد ونسوا حظًا
ما ذكروا به ،إل أنم بقى فيهم التوحيد وعدة شعائر من هذا الدين ،حت جاء عمرو بن ُلحَيّ رئيس
خزاعة ،وكان قد نشأ على أمر عظيم من العروف والصدقة والرص على أمور الدين ،فأحبه الناس
ودانوا له ،ظنًا منهم أنه من أكابر العلماء وأفاضل الوليـاء.
ث إنه سافر إل الشام ،فرآهم يعبدون الوثان ،فاستحسن ذلك وظنه حقًا؛ لن الشام مل الرسل
والكتب ،فقدم معه بُبَل وجعله ف جوف الكعبة ،ودعا أهل مكة إل الشرك بال فأجابوه ،ث ل يلبث أهل
الجاز أن تبعوا أهل مكة؛ لنم ولة البيت وأهل الرم.
وكان هبل من العقيق الحر على صورة إنسان ،مكسور اليد اليمن ،أدركته قريش كذلك ،فجعلوا له يدًا
من ذهب ،وكان أول صنم للمشركي وأعظمه وأقدسه عندهم.
ومن أقدم أصنامهم مَناة ،كانت ُل َذيْل وخزاعة ،وكانت بالُشَلّل على ساحل البحر الحر حذو ُق َديْد،
والشلل :ثنية جبل يهبط منها إل قديد .ث اتذوا اللت ف الطائف ،وكانت لثقيف ،وكانت ف موضع
منارة مسجد الطائف اليسرى ،ث اتذوا العُزّى بوادى نلة الشامية فوق ذات عِرْق ،وكانت لقريش وبن
كنانة مع كثي من القبائل الخرى.
وكانت هذه الصنام الثلثة أكب أوثان العرب ،ث كثر فيهم الشرك ،وكثرت الوثان ف كل بُقعة.
ويذكر أن عمرو بن لي كان له رئى من الن ،فأخبه أن أصنام قوم نوح ـ ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق
ونسرًا ـ مدفونة بدة ،فأتاها فاستثارها ،ث أوردها إل تامة ،فلما جاء الج دفعها إل القبائل ،فذهبت با
إل أوطانا.
فأما ود :فكانت لكلب ،بَرَش بدَ ْومَة الندل من أرض الشام ما يلى العراق ،وأما سواع :فكانت لذيل
بن ُمدْرِكة بكان يقال لهُ :رهَاط من أرض الجاز ،من جهة الساحل بقرب مكة ،وأما يغوث :فكانت لبن
ُغطَيف من بن مراد ،بالُرْف عند سبأ ،وأما يعوق:فكانت لمدان ف قرية خَيْوان من أرض اليمن،
وخيوان :بطن من هدان ،وأما نسر:فكانت لمي لل ذى الكلع ف أرض حي.
وقد اتذوا لذه الطواغيت بيوتًا كانوا يعظمونا كتعظيم الكعبة ،وكانت لا سدنة وحجاب ،وكانت تدى
لا كما يهدى للكعبة ،مع اعترافهم بفضل الكعبة عليها.
وقد سارت قبائل أخرى على نفس الطريق ،فاتذت لا أصنامًا آلة وبنت لا بيوتًا مثلها ،فكان منها ذو
الَلَصَة لدَوْس وخَ ْثعَم وُبجَيْلَة ،ببلدهم من أرض اليمن ،بتَبَالة بي مكة واليمن ،وكانت فِلْس لبن طيئ
ومن يليها بي جبلى طيئ سلمى وأجأ.وكان منها ريام ،بيت بصنعاء لهل اليمن وحي ،وكانت منها
رضاء ،بيت لبن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد ،مناة بن تيم ،وكان منها ال َكعَبَات لبكر وتغلب ابن
وائل ،ولياد بِسَ ْندَاد.
وكان لدَوْس أيضًا صنم يقال له:ذو الكفي ،ولبن بكر ومالك وملكان أبناء كنانة صنم يقال له:سعد،
وكان لقوم من عذرة صنم يقال له:شس ،وكان لولن صنم يقال له:عُمْيانِس.
وهكذا انتشرت الصنام ودور الصنام ف جزيرة العرب ،حت صار لكل قبيلة ث ف كل بيت منها صنم،
أما السجد الرام فكانوا قد ملوه بالصنام ،ولا فتح رسول ال صلىال عليه وسلم مكة وجد حول
البيت ثلثائة وستي صنمًا ،فجعل يطعنها بعود ف يده حت تساقطت ،ث أمر با فأخرجت من السجد
وحرقت ،وكان ف جوف الكعبة أيضًا أصنام وصور ،منها صنم على صورة إبراهيم ،وصنم على صورة
إساعيل ـ عليهما الصلة والسلم ـ وبيدها الزلم ،وقد أزيلت هذه الصنام وميت هذه الصور أيضًا
يوم الفتح.
وقد تادى الناس ف غيهم هذا حت يقول أبو رجاء العُطاردى رضي ال عنه :كنا نعبد الجر ،فإذا وجدنا
حجرًا هو خي منه ألقيناه وأخذنا الخر ،فإذا ل ند حجرًا جعنا جُثْ َوةً من تراب ،ث جئنا بالشاة فحلبناه
عليه ،ث طفنا به.
وجلة القول:إن الشرك وعبادة الصنام كانا أكب مظهر من مظاهر دين أهل الاهلية الذين كانوا يزعمون
أنم على دين إبراهيم عليه والسلم.
أما فكرة الشرك وعبادة الصنام فقد نشأت فيهم على أساس أنم لا رأوا اللئكة والرسل والنبيي وعباد
ال الصالي من الولياء والتقياء والقائمي بأعمال الي ـ لا رأوهم أنم أقرب خلق ال إليه ،وأكرمهم
درجة وأعظمهم منلة عنده ،وأنم قد ظهرت على أيديهم بعض الوارق والكرامات ،ظنوا أن ال
أعطاهم شيئًا من القدرة والتصرف ف بعض المور الت تتص بال سبحانه وتعال ،وأنم لجل تصرفهم
هذا ولجل جاههم ومنلتهم عند ال يستحقون أن يكونوا وسطاء بي ال سبحانه وتعال وبي عامة
عباده ،فل ينبغى لحد أن يعرض حاجته على ال إل بواسطة هؤلء؛ لنم يشفعون له عند ال ،وأن ال
ل يرد شفاعتهم لجل جاههم ،كذلك ل ينبغى القيام بعبادة ال إل بواسطة هؤلء؛ لنم بفضل مرتبتهم
سوف يقربونه إل ال زلفي.
ولا تكن منهم هذا الظن ورسخ فيهم هذا العتقاد اتذوهم أولياء ،وجعلوهم وسيلة فيما بينهم وبي ال
سبحانه وتعال ،وحاولوا التقرب إليهم بكل ما رأوه من أسباب التقرب؛ فنحتوا لعظمهم صورًا وتاثيل،
إما حقيقية تطابق صورهم الت كانوا عليها ،وإما خيالية تطابق ما تيلوا لم من الصور ف أذهانم ـ وهذه
الصور والتماثيل هي الت تسمى بالصنام.
وربا ل ينحتوا لم صورًا ول تاثيل ،بل جعلوا قبورهم وأضرحتهم وبعض مقراتم ومواضع نزولم
واستراحتهم أماكن مقدسة ،وقدموا إليها النذور والقرابي ،وأتوا لا بأعمال الضوع والطاعات ،وهذه
الضرحة والقرات والواضع هي الت تسمى بالوثان.
أما عبادتم لذه الصنام والوثان فكانت لم فيها تقاليد وأعمال ابتدع أكثرها عمرو بن لى ،وكانوا
يظنون أن ما أحدثه عمرو بن لى فهو بدعة حسنة ،وليس بتغيي لدين إبراهيم \ ،فكان من جلة عبادتم
للصنام والوثان أنم:
1ـ كانوا يعكفون عليها ويلتجئون إليها ..ويهتفون با ،ويستغيثونا ف الشدائد ،ويدعونا لاجاتم،
معتقدين أنا تشفع عند ال ،وتقق لم ما يريدون.
2ـ وكانوا يجون إليها ويطوفون حولا ،ويتذللون عندها ،ويسجدون لا.
3ـ وكانوا يتقربون إليها بأنواع من القرابي ،فكانوا يذبون وينحرون لا على أنصابا ،كما كانوا
يذبون بأسائها ف أي مكان.
4ـ وكان من أنواع التقرب إل هذه الصنام والوثان أنم كانوا يصون لا شيئا من مآكلهم ومشاربم
حسبما يبدو لم ،وكذلك كانوا يصون لا نصيبا من حرثهم وأنعامهم ،ومن الطرائف:أنم كانوا يصون
من ذلك جزءًا ل أيضًا.وكانت عندهم عدة أسباب ينقلون لجلها إل الصنام ما كان ل ،ولكن ل يكونوا
ينقلون إل ال ما كان لصنامهم بال ،قال تعالَ {:و َجعَلُواْ لِ ّلهِ مِمّا َذ َرأَ مِ َن اْلحَ ْرثِ وَا َلنْعَامِ نَصِيبًا َفقَالُواْ
هَـذَا لِ ّلهِ بِزَعْمِ ِهمْ وَهَـذَا لِشُ َركَآئِنَا َفمَا كَانَ لِشُ َركَآئِ ِهمْ َفلَ يَصِلُ إِلَى ال ِ َومَا كَانَ لِ ّلهِ فَهُوَ يَصِلُ ِإلَى
شُ َركَآئِ ِهمْ سَاء مَا َيحْكُمُونَ} [النعام.]136:
5ـ وكان من أنواع التقرب إليها النذر ف الرث والنعام قال تعال{ :وَقَالُواْ هَـ ِذهِ َأنْعَامٌ وَحَ ْرثٌ
ِحجْرٌ لّ َي ْطعَمُهَا إِلّ مَن نّشَاء بِزَعْ ِم ِهمْ َوَأنْعَامٌ حُ ّرمَتْ ظُهُو ُرهَا َوَأنْعَامٌ لّ َي ْذكُرُونَ ا ْسمَ ال ِ َعلَيْهَا افْتِرَاء
عَ َل ْيهِ سََيجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ َيفْتَرُونَ} [ النعام.]138:
قال سعيد بن السيب :البحية :الت ينع درها للطواغيت ،فل يلبها أحد من الناس.والسائبة :كانوا
يسيبونا للتهم ،فل يمل عليها شىء.والوصيلة :الناقة البكر تبكر ف أول نتاج البل بأنثى ،ث تثن بعد
بأنثى ،وكانوا يسيبونا لطواغيتهم إن وصلت إحداها بالخرى ،ليس بينهما ذكر .والامى :فحل البل
يضرب الضراب العدود [العشر من البل] فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت ،وأعفوه من المل ،فلم
يمل عليه شىء وسوه الامى.
وقال ابن إسحاق :البحية بنت السائبة ،هي الناقة إذا تابعت بي عشر إناث ليس بينهم ذكر ،سيبت فلم
يركب ظهرها ،ول يز وبرها ،ول يشرب لبنها إل ضيف ،فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنا ،ث
خلى سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها ،ول يز وبرها ،ول يشرب لبنها إل ضيف ،كما فعل بأمها ،فهي
البحية بنت السائبة .والوصيلة :الشاة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات ف خسة أبطن ليس بينهم ذكر
جعلت وصيلة .قالوا :قد وصلت ،فكان ما ولد بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم إل أن يوت شىء
فيشترك ف أكله ذكورهم وإناثهم .والامى :الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حى
ظهره ،فلم يركب ،ول يز وبره ،وخلى ف إبله يضرب فيها ،ل ينتفع منه بغي ذلك ،وف ذلك أنزل ال
يةٍ َولَ سَآئِبَةٍ وَلَ وَصِي َلةٍ وَلَ حَامٍ َولَـكِ ّن اّلذِينَ كَفَرُواْ َيفْتَرُونَ َعلَى ال ِ
تعال{:مَا َجعَلَ ال ُ مِن َبحِ َ
صةٌ
الْ َك ِذبَ َوَأكْثَرُ ُهمْ لَ َيعْقِلُونَ} [الائدة ،]103:وأنزلَ {:وقَالُواْ مَا فِي ُبطُونِ هَـ ِذهِ ا َلنْعَامِ خَالِ َ
لّ ُذكُو ِرنَا َو ُمحَ ّرمٌ َعلَى أَزْوَاجِنَا َوإِن يَكُن مّيَْتةً فَ ُهمْ فِيهِ شُ َركَاء} [ النعام ،]139:وقيل ف تفسي هذه
النعام غي ذلك.
وقد مر عن سعيد بن السيب أن هذه النعام كانت لطواغيتهم.وف الصحيحي أن النب صلىال عليه
وسلم قال( :رأيت عمرو بن عامر بن لى الزاعى ير َقصَبَه [أي أمعاءه ] ف النار)؛ لنه أول من غي
دين إبراهيم ،فنصب الوثان وسيب السائبة ،وبر البحية ،ووصل الوصيلة ،وحى الامى.
كانت العرب تفعل كل ذلك بأصنامهم معتقدين أنا تقربم إل ال وتوصلهم إليه،وتشفع لديه ،كما ف
ضرّ ُهمْ َولَ
القرآن{ :مَا َنعُْبدُ ُهمْ إِلّا لُِيقَرّبُونَا إِلَى ال ِ ُزْلفَى} [الزمرَ { ]3 :وَيعْبُدُونَ مِن دُونِ ال ِ مَا لَ يَ ُ
يَن َفعُ ُهمْ َوَيقُولُونَ هَـؤُلء ُش َفعَاؤُنَا عِندَ ال ِ} [يونس]81:
وكانت العرب تستقسم بالزلم ،وال ّزلَم:القدح الذي ل ريش له ،وكانت الزلم ثلثة أنواع:
1ـ نوع فيه ثلثة أسهم ،أحدها[:نعم] ،وثانيها[ :ل] ،وثالثهاُ [:غفْل] ،كانوا يستقسمون با فيما
يريدون من العمل؛ من نو السفر والنكاح وأمثالما.فإن خرج [نعم] عملوا به ،وإن خرج [ل]أخروه
عامه ذلك حت يأتوه مرة أخرى ،وإن طلع [غفل] أعادوا الضرب حت يرج واحد من الولي.
3ـ ونوع فيه [منكم] أو [من غيكم] أو [ملصق] ،فكانوا إذا شكوا ف نسب أحدهم ذهبوا به إل
هبل ،وبائة درهم وجزور ،فأعطوها صاحب القداح ،فإن خرج [منكم] كان منهم وسيطًا ،وإن خرج
عليه [من غيكم] كان حليفًا ،وإن خرج عليه [ملصق] كان على منلته فيهم ،ل نَسَب ول حِلْف.
ويقرب من هذا اليسر والقداح ،وهو ضرب من القمار ،كانوا يقتسمون به لم الزور الت كانوا
يتقامرون عليها؛ وذلك أنم كانوا يشترون الزور نسيئة فينحرونا ويقسمونا ثانية وعشرين قسمًا ،أو
عشرة أقسام ،ث يضربون عليها بالقداح ،وفيها [الرابح] و[الغفل] ،فمن خرج له قدح [الرابح] فاز،
وأخذ نصيبه من الزور ،ومن خرج له [الغفل] خاب وغرم ثنها.
وكانوا يؤمنون بأخبار الكهنة والعرافي والنجمي ،والكاهن :هو من يتعاطى الخبار عن الكوائن ف
الستقبل ،ويدعى معرفة السرار ومن الكهنة من يزعم أن له تابعًا من الن ،ومنهم من يدعى إدراك الغيب
بفهم أعطيه ،ومنهم من يدعى معرفة المور بقدمات وأسباب يستدل با على مواقعها من كلم من يسأله
أو فعله أو حاله ،وهذا القسم يسمى عرافًا ،كمن يدعى معرفة السروق ومكان السرقة والضالة ونوها.
والنجم:من ينظر ف النجوم أي الكواكب ،ويسب سيها ومواقيتها ،ليعلم با أحوال العال وحوادثه الت
تقع ف الستقبل.
والتصديق بأخبار النجمي هو ف القيقة إيان بالنجوم ،وكان من إيانم بالنجوم اليان بالنواء ،فكانوا
يقولون:مطرنا بنوء كذا وكذا.
وكانت فيهم الطية [بكسر ففتح] وهي التشاؤم بالشىء ،وأصله أنم كانوا يأتون الطي أو الظب
فينفرونه ،فإن أخذ ذات اليمي مضوا إل ما قصدوا وعدوه حسنًا ،وإن أخذ ذات الشمال انتهوا عن ذلك
وتشاءموا ،وكانوا يتشاءمون كذلك إن عرض الطي أو اليوان ف طريقهم.
ويقرب من هذا تعليقهم كعب الرنب ،والتشاؤم ببعض اليام والشهور واليوانات والدور والنساء،
والعتقاد بالعدوى والامة ،فكانوا يعتقدون أن القتول ل يسكن جأشه ما ل يؤخذ بثأره ،وتصي روحه
هامة أي بومة تطي ف الفلوات ،وتقول:صدى صدى أو اسقون اسقون ،فإذا أخذ بثأره سكن واستراح.
كان أهل الاهلية على ذلك وفيهم بقايا مـن ديــن إبراهيم ،ل يكونوا قد تركوه كلـه ـ مثـل
تعظيم البيت ،والطـواف بـه ،والـج ،والعمـرة ،والـوقوف بعرفة والزدلفة ،وإهداء البدن ـ وإنا
كانوا قد ابتدعوا ف ذلك بدعًا:
منها:أن قريشًا كانوا يقولون:نن بنو إبراهيم وأهل الرم ،وولة البيت وقاطنو مكة ،وليس لحد من
العرب مثل حقنا ومنلتنا ـ وكانوا يسمون أنفسهم الُمْس ـ فل ينبغى لنا أن نرج من الرم إل الل،
فكانوا ل يقفون بعرفة ،ول يفيضون منها ،وإنا كانوا يفيضون من الزدلفة وفيهم أنزل ال تعال{ :ثُمّ
أَفِيضُواْ مِنْ حَ ْيثُ أَفَاضَ النّاسُ} [البقرة.]199:
ومنها :أنم قالوا :ل ينبغى للحمس أن يأقِطوا القِط ول يسلوا السمن وهم حرم ،ول يدخلوا بيتًا من
شعر ،ول يستظلوا إن استظلوا إل ف بيوت الدم ما داموا حرمًا.
ومنها :أنم قالوا :ل ينبغى لهل الِلّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الل إل الرم ،إذا جاءوا حجاجا
أو عمارًا.
ومنها:أنم أمروا أهل الل أل يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إل ف ثياب المس ،وكانت المس
يتسبون على الناس ،يعطـى الرجـل الرجـل الثياب يطـوف فيها ،وتعطى الرأة الرأة الثياب ،تطوف
فيها ،فإن ل يدوا شيئًا فكان الرجال يطوفون عراة ،وكانت الرأة تضع ثيابا كلها إل درعًا مفرجًا ث
تطوف فيه ،وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فل أحله
ومنها :أنم كانوا ل يأتون بيوتم من أبوابا ف حال الحرام ،بل كانوا ينقبون ف ظهور البيوت نقبًا
يدخلون ويرجون منه ،وكانوا يسبون ذلك الفاء برّا ،وقد ني عنه القرآن ،قال ال تعالَ { :ولَ ْيسَ الْبِرّ
بَِأنْ َتأْتُ ْوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا َولَـكِنّ الْبِرّ مَ ِن اتّقَى َوأْتُوْا الْبُيُوتَ مِنْ َأبْوَابِهَا وَاتّقُواْ ال َ َلعَلّ ُكمْ تُفْ ِلحُونَ} [
البقرة. ]189:
كانت هذه الديانة ـ ديانة الشرك وعبادة الوثان ،والعتقاد بالوهام والرافات ـ هي الديانة السائدة
ف جزيرة العرب ،وقد وجدت اليهودية والنصرانية والجوسية والصابئية سبلًا للدخول ف ربوعها.
الول :هجرتم ف عهد الفتوح البابلية والشورية ف فلسطي ،فقد نشأ عن الضغط على اليهود ،وعن
تريب بلدهم وتدمي هيكلهم على يد اللك ُبخْتُنَصر سنة 587ق.م ،وسب أكثرهم إل بابل أن قسمًا
منهم هجر البلد الفلسطينية إل الجازَ ،وتَوطّن ف ربوعها الشمالية.
الدور الثان :يبدأ من احتلل الرومان لفلسطي بقيادة تيطس الرومان سنة 70م ،فقد نشأ عن ضغط
الرومان على اليهود وعن تريب اليكل وتدميه أن قبائل عديدة من اليهود رحلت إل الجاز ،واستقرت
ف يثرب وخيب وتيماء ،وأنشأت فيها القرى والطام والقلع ،وانتشرت الديانة اليهودية بي قسم من
العرب عن طريق هؤلء الهاجرين ،وأصبح لا شأن يذكر ف الوادث السياسية الت سبقت ظهور
السلم ،والت حدثت ف صدره .وحينما جاء السلم كانت القبائل اليهودية الشهورة هي :خيب والنضي
صطَلَق وقريظة وقينقاع ،وذكر السمهودي أن عدد القبائل اليهودية الت نزلت بيثرب بي حي وآخر:
والُ ْ
يزيد على عشرين.
ودخلت اليهودية ف اليمن من قبل تُبّان أسعد أب كَرَب ،فإنه ذهب مقاتلًا إل يثرب واعتنق هناك اليهودية
وجاء ببين من بن قريظة إل اليمن ،فأخذت اليهودية إل التوسع والنتشار فيها ،ولا ول اليمن بعده ابنه
يوسف ذو نُوَاس هجم على النصارى من أهل نران ودعاهم إل اعتناق اليهودية ،فلما أبوا خدّ لم
الخدود وأحرقهم بالنار ،ول يفرق بي الرجل والرأة والطفال الصغار والشيوخ الكبار ،ويقال :إن عدد
القتولي ما بي عشرين ألفًا إل أربعي ألفًا .وقع ذلك ف شهر أكتوبر سنة 523م .وقد ذكرهم ال
ت الْوَقُودِ إِذْ ُهمْ َعلَيْهَا
صحَابُ اْلأُ ْخدُو ِد النّارِ ذَا ِ
تعال ف القرآن الكري ف سورة البوج؛ إذ يقول{ :قُِتلَ أَ ْ
ُقعُودٌ وَ ُهمْ َعلَى مَا يَ ْفعَلُونَ بِالْمُ ْؤمِنِيَ ُشهُودٌ} [البوج.]7 :4 :
أما الديانة النصرانية ،فقد جاءت إل بلد العرب عن طريق احتلل البشة وبعض البعثات الرومانية،
وكان أول احتلل الحباش لليمن سنة 340م ،ولكن ل يطل أمد هذا الحتلل ،فقد طردوا منها ما
بي عامي 370ـ 378م ،إل أنم شجعوا على نشر النصرانية وتشجعوا لا ،وقد وصل أثناء هذا
الحتلل رجل زاهد مستجاب الدعوات وصاحب كرامات ـ اسه فيميون ـ إل نران ،ودعاهم إل
دين النصرانية فلبوا دعوته واعتنقوا النصرانية؛ لا رأوا من آيات صدقه وصدق دينه.
ولا احتلت الحباش اليمن مرة أخرى عام 525م ـ كرد فعل على ما أتاه ذو نواس من تريق نصارى
نران ف الخدود ،وتكن أبرهة الشرم من حكومة اليمن ـ أخذ ينشر الديانة النصرانية بأوفر نشاط
وأوسع نطاق ،حت بلغ من نشاطه أنه بن كعبة باليمن ،وأراد أن يصرف حج العرب إليها ويهدم بيت ال
الذي بكة ،فأخذه ال نكال الخرة والول.
وقد اعتنق النصرانية العرب الغساسنة وقبائل تغلب وطيئ وغيها لجاورة الرومان ،بل قد اعتنقها بعض
ملوك الية أيضًا.
أما الجوسية ،فكان ما كان منها ف العرب الجاورين للفرس ،فكانت ف عراق العرب وف البحرين ـ
الحسا ـ و َهجَر وما جاورها من منطقة سواحل الليج العرب ،ودان لا رجال من اليمن ف زمن
الحتلل الفارسي.
أما الصابئية ـ وهي ديانة تتاز بعبادة الكواكب وبالعتقاد ف أنواء النازل وتأثي النجوم وأنا هي الدبرة
للكون ـ فقد دلت الفريات والتنقيبات ف بلد العراق وغيها أنا كانت ديانة قوم إبراهيم الكلدانيي،
وقد دان با كثي من أهل الشام وأهل اليمن ف غابر الزمان ،وبعد تتابع الديانات الديدة من اليهودية
والنصرانية ،تضعضع بنيان الصابئية وخد نشاطها ،ولكن ل يزل ف الناس بقايا من أهل هذه الديانة
متلطي مع الجوس أو ماورين لم ف عراق العرب وعلى شواطئ الليج العرب .وقد وجد شيء من
الزندقة ف بعض العرب ،وكانت وصلت إليهم عن طريق الية ،كما وجدت ف بعض قريش لحتكاكهم
بالفرس عن طريق التجارة.
الالة الدينية
كانت هذه الديانات هي ديانات العرب حي جاء السلم ،وقد أصاب هذه الديانات النلل والبوار،
فالشركون الذين كانوا يدعون أنم على دين إبراهيم كانوا بعيدين عن أوامر ونواهي شريعة إبراهيم،
مهملي ما أتت به من مكارم الخلق .وكثرت فيهم العاصي ،ونشأ فيهم على توال الزمان ما ينشأ ف
الوثنيي من عادات وتقاليد ترى مرى الرافات الدينية ،وأثرت ف الياة الجتماعية والسياسية والدينية
تأثيًا بالغًا جدًا.
أما اليهودية ،فقد انقلبت رياء وتكمًا ،وصار رؤساؤها أربابًا من دون ال ،يتحكمون ف الناس
وياسبونم حت على خطرات النفس وهسات الشفاه ،وجعلوا ههم الظوة بالال والرياسة وإن ضاع
الدين وانتشر اللاد والكفر ،والتهاون بالتعاليم الت حض ال عليها وأمر كل فرد بتقديسها.
وأما النصرانية ،فقد عادت وثنية عسرة الفهم ،وأوجدت خلطًا عجيبًا بي ال والنسان ،ول يكن لا ف
نفوس العرب التديني بذا الدين تأثي حقيقي؛ لبعد تعاليمها عن طراز العيشة الت ألفوها ،ول يكونوا
يستطيعون البتعاد عنها.
وأما سائر أديان العرب :فكانت أحوال أهلها كأحوال الشركي ،فقد تشابت قلوبم ،وتواردت
عقائدهم ،وتوافقت تقاليدهم وعوائدهم.
صور من الجتمع العرب الاهلي
الالة الجتماعية
الالة القتصادية
الخلق
بعد البحث عن سياسة الزيرة وأديانا يمل بنا أن نلقى شيئًا من الضوء على أحوالا الجتماعية
والقتصادية واللقية ،وفيما يلي بيانا بإياز:
الالة الجتماعية
كانت ف العرب أوساط متنوعة تتلف أحوال بعضها عن بعض ،فكانت علقة الرجل مع أهله ف
الشراف على درجة كبية من الرقى والتقدم ،وكان لا من حرية الرادة ونفاذ القول القسط الوفر،
وكانت مترمة مصونة تُسَلّ دونا السيوف ،وتراق الدماء ،وكان الرجل إذا أراد أن يتدح با له ف نظر
العرب القام السامي من الكرم والشجاعة ل يكن ياطب ف معظم أوقاته إل الرأة ،وربا كانت الرأة إذا
شاءت جعت القبائل للسلم ،وإن شاءت أشعلت بينهم نار الرب والقتال ،ومع هذا كله فقد كان
الرجل يعتب بل نزاع رئيس السرة وصاحب الكلمة فيها ،وكان ارتباط الرجل بالرأة بعقد الزواج تت
إشراف أوليائها ،ول يكن من حقها أن تفتات عليهم.
بينما هذه حال الشراف ،كان هناك ف الوساط الخرى أنواع من الختلط بي الرجل والرأة ،ل
نستطيع أن نعب عنه إل بالدعارة والجون والسفاح والفاحشة .روى البخاري وغيه عن عائشة رضي ال
عنها.
إن النكاح ف الاهلية كان على أربعة أناء :فنكاح منها نكاح الناس اليوم؛ يطب الرجل إل الرجل وليته
أو ابنته فيصدقها ث ينكحها ،ونكاح آخر :كان الرجل يقول لمرأته إذا طهرت من طمثها :أرسلي إل
فلن فاستبضعي منه ،ويعتزلا زوجها ول يسها أبدًا حت يتبي حلها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه،
فإذا تبي حلها أصابا زوجها إذا أحب ،وإنا يفعل ذلك رغبة ف َنجَابة الـولد ،فكان هـذا النكاح [
يسمى] نكاح الستبضاع ،ونكاح آخر :يتمع الرهط دون العشرة ،فيدخلون على الرأة كلهم يصيبها،
فإذا حلت ،ووضعت ومر[ت] ليال بعد أن تضع حلها أرسلت إليهم ،فلم يستطع رجل منهم أن يتنع
حت يتمعوا عندها[ ،فـ] تقول لم :قد عرفتم الذي كان من أمركم ،وقد ولدت ،فهو ابنك يا فلن[ ،
فـ] تسمى من أحبت [منهم] باسه ،فيلحق به ولدها .ل يستطيع أن يتنع منه الرجل،ونكاح رابع:يتمع
الناس الكثي فيدخلون على الرأة ل تتنع من جاءها،وهن البغايا،كن ينصب على أبوابن رايات تكون
علمًا ،فمن أرادهن دخل عليهن ،فإذا حلت إحداهن ووضعت حلها جعوا لا ،ودعوا لم القافة ،ث ألقوا
ولدها بالذي يرون ،فالتاطته به ،ودعى ابنه ،ل يتنع من ذلك ،فلما بعث [ال ] ممدًا صلى ال عليه
وسلم بالق هدم نكاح [أهل] الاهلية كله إل نكاح السلم اليوم.
وكانت عندهم اجتماعات بي الرجل والرأة تعقدها شفار السيوف ،وأسنة الرماح ،فكان التغلب ف
حروب القبائل يسب نساء القهور فيستحلها ،ولكن الولد الذين تكون هذه أمهم يلحقهم العار مدة
حياتم.
وكان من العروف ف أهل الاهلية أنم كانوا يعددون بي الزوجات من غي حد معروف ينتهي إليه ،حت
حددها القرآن ف أربع .وكانوا يمعون بي الختي ،وكانوا يتزوجون بزوجة آبائهم إذا طلقوها أو ماتوا
شةً
عنها حت نى عنهما القرآن {وَلَ تَن ِكحُواْ مَا نَ َكحَ آبَا ُؤكُم مّ َن النّسَاء إِلّ مَا َقدْ َسلَفَ إِّنهُ كَانَ فَاحِ َ
َو َمقْتًا وَسَاء سَبِيلً حُ ّر َمتْ َعلَيْ ُكمْ ُأمّهَاتُ ُكمْ َوبَنَاتُ ُكمْ َوأَخَوَاتُ ُكمْ وَعَمّاتُ ُكمْ وَخَا َلتُ ُكمْ َوبَنَاتُ ا َلخِ َوبَنَاتُ
لتِي فِي
ضعْنَ ُكمْ َوأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَا َعةِ َوُأمّهَاتُ نِسَآئِ ُكمْ َو َربَائِبُ ُكمُ ال ّ
الُخْتِ َوُأمّهَاتُ ُك ُم اللّتِي أَ ْر َ
لئِلُ َأبْنَائِ ُكمُ
لتِي َدخَلْتُم بِهِنّ َفإِن ّلمْ تَكُونُواْ َدخَلْتُم بِهِنّ َفلَ جُنَاحَ َعلَيْ ُكمْ وَ َح َ
ُحجُو ِركُم مّن نّسَآئِ ُكمُ ال ّ
لبِ ُكمْ َوأَن َتجْ َمعُواْ بَيْنَ الُخْتَ ْينِ إَلّ مَا َقدْ َسلَفَ إِنّ ال َ كَانَ َغفُورًا رّحِيمًا} [سورة النساء:
صَاّلذِينَ مِنْ أَ ْ
]23 ،22وكان الطلق والرجعة بيد الرجال ،ول يكن لما حد معي حت حددها السلم.
وكانت فاحشة الزنا سائدة ف جيع الوساط ،ل نستطيع أن نص منها وسطًا دون وسط ،أو صنفًا دون
صنف إل أفرادًا من الرجال والنساء من كان تعاظم نفوسهم يأب الوقوع ف هذه الرذيلة ،وكانت الرائر
أحسن حالًا من الماء ،والطامة الكبى هي الماء ،ويبدو أن الغلبية الساحقة من أهل الاهلية ل تكن
تس بعار ف النتساب إل هذه الفاحشة ،روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :قام
رجل فقال :يا رسول ال ،إن فلنًا ابن ،عاهرت بأمه ف الاهلية ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
لجَر) ،وقصة اختصام سعد بن أب
(ل دعوة ف السلم ،ذهب أمر الاهلية ،الولد للفراش وللعاهر ا َ
وقاص وعبد بن َز ْمعَة ف ابن أمة زمعة ـ وهو عبد الرحن بن زمعة ـ معروفة.
وكانت علقة الرجل مع أولده على أنواع شت ،فمنهم من يقول:
ومنهم من كان يئد البنات خشية العار والنفاق ،ويقتل الولد خشية الفقر والملقُ {:قلْ َتعَالَ ْواْ أَتْلُ مَا
لقٍ ّنحْنُ نَ ْرزُقُ ُكمْ
حَ ّرمَ َربّ ُكمْ َعلَيْ ُكمْ أَلّ تُشْ ِركُواْ بِهِ شَيْئًا َوبِالْوَاِلدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَ َتقْتُلُواْ أَوْ َل َدكُم مّ ْن إمْ َ
س الّتِي حَ ّرمَ ال ُ إِلّ بِاْلحَقّ َذلِ ُكمْ
َوإِيّا ُهمْ َولَ َتقْ َربُوْا الْفَوَا ِحشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا َومَا َبطَنَ وَلَ َتقْتُلُوْا الّنفْ َ
وَصّا ُكمْ ِبهِ لَعَلّ ُكمْ تَ ْعقِلُونَ} [النعام ]151 :ولكن ل يكن لنا أن نعد هذا من الخلق النتشرة
السائدة ،فقد كانوا أشد الناس احتياجًا إل البني ليتقوا بم العدو.
أما معاملة الرجل مع أخيه وأبناء عمه وعشيته فقد كانت موطدة قوية ،فقد كانوا ييون للعصبية القبلية
ويوتون لا ،وكانت روح الجتماع سائدة بي القبيلة الواحدة تزيدها العصبية ،وكان أساس النظام
الجتماعي هو العصبية النسية والرحم ،وكانوا يسيون على الثل السائر( :انصر أخاك ظالًا أو مظلومًا)
على العن القيقي من غي التعديل الذي جاء به السلم؛ من أن نصر الظال كفه عن ظلمه ،إل أن
التنافس ف الشرف والسؤدد كثيًا ما كان يفضى إل الروب بي القبائل الت كان يمعها أب واحد ،كما
نرى ذلك بي الوس والزرج ،وعَبْس و ُذبْيان ،وبَكْر وَتغْلِب وغيها.
أما العلقة بي القبائل الختلفة فقد كانت مفككة الوصال تامًا ،وكانت قواهم متفانية ف الروب ،إل أن
الرهبة والوجل من بعض التقاليد والعادات الشتركة بي الدين والرافة ربا كان يفف من حدتا
وصرامتها .وأحيانًا كانت الوالة واللف والتبعية تفضى إل اجتماع القبائل التغايرة .وكانت الشهر
الرم رحة وعونًا لم على حياتم وحصول معايشهم .فقد كانوا يأمنون فيها تام المن؛ لشدة التزامهم
برمتها ،يقول أبو رجاء العُطاردي :إذا دخل شهر رجب قلنا :مُنَصّلُ السِنّة؛ فل ندع رمًا فيه حديدة ول
سهمًا فيه حديدة إل نزعناه ،وألقيناه شهر رجب .وكذلك ف بقية الشهر الرم.
وقصارى الكلم أن الالة الجتماعية كانت ف الضيض من الضعف والعماية ،فالهل ضارب أطنابه،
والرافات لا جولة وصولة ،والناس يعيشون كالنعام ،والرأة تباع وتشترى وتعامل كالمادات أحيانا،
والعلقة بي المة واهية مبتوتة ،وما كان من الكومات فجُلّ هتها ملء الزائن من رعيتها أو جر
الروب على مناوئيها.
الالة القتصادية
أما الالة القتصادية ،فتبعت الالة الجتماعية ،ويتضح ذلك إذا نظرنا ف طرق معايش العرب .فالتجارة
كانت أكب وسيلة للحصول على حوائج الياة ،والولة التجارية ل تتيسر إل إذا ساد المن والسلم،
وكان ذلك مفقودًا ف جزيرة العرب إل ف الشهر الرم ،وهذه هي الشهور الت كانت تعقد فيها أسواق
العرب الشهية من عُكاظ وذي الجَاز و َمجَنّة وغيها.
وأما الصناعات فكانوا أبعد المم عنها ،ومعظم الصناعات الت كانت توجد ف العرب من الياكة
والدباغة وغيها كانت ف أهل اليمن والية ومشارف الشام ،نعم ،كان ف داخل الزيرة شيء من
الزراعة والرث واقتناء النعام ،وكانت نساء العرب كافة يشتغلن بالغزل ،لكن كانت المتعة عرضة
للحروب ،وكان الفقر والوع والعرى عامًا ف الجتمع.
الخلق
ل شك أن أهل الاهلية كانت فيهم دنايا ورذائل وأمور ينكرها العقل السليم ويأباها الوجدان ،ولكن
كانت فيهم من الخلق الفاضلة الحمودة ما يروع النسان ويفضى به إل الدهشة والعجب ،فمن تلك
الخلق:
1ـ الكرم :وكانوا يتبارون ف ذلك ويفتخرون به ،وقد استنفدوا فيه نصف أشعارهم بي متدح به ومُ ْثنٍ
على غيه ،كان الرجل يأتيه الضيف ف شدة البد والوع وليس عنده من الال إل ناقته الت هي حياته
وحياة أسرته ،فتأخذه هزة الكرم فيقوم إليها ،فيذبها لضيفه .ومن آثار كرمهم أنم كانوا يتحملون
الديات الائلة والمالت الدهشة ،يكفون بذلك سفك الدماء ،وضياع النسان ،ويتدحون با مفتخرين
على غيهم من الرؤساء والسادات.
وكان من نتائج كرمهم أنم كانوا يتمدحون بشرب المور ،ل لنا مفخرة ف ذاتا؛ بل لنا سبيل من
سبل الكرم ،وما يسهل السّرَف على النفس ،ولجل ذلك كانوا يسمون َشجَرَ العنب بالكَرْم ،وخَمْرَه
بِبِنْتِ الكرم .وإذا نظرت إل دواوين أشعارالاهلية تد ذلك بابًا من أبواب الديح والفخر ،يقول عنترة
بن شداد العبسي ف معلقته:
ومن نتائج كرمهم اشتغالم باليسر ،فإنم كانوا يرون أنه سبيل من سبل الكرم؛ لنم كانوا يطعمون
الساكي ما ربوه أو ما كان يفضل عن سهام الرابي؛ ولذلك ترى القرآن ل ينكر نفع المر واليسر
وإنا يقولَ { :وإِثْمُ ُهمَآ َأكْبَرُ مِن نّ ْفعِهِمَا} [البقرة]219:
2ـ الوفاء بالعهد :فقد كان العهد عندهم دينًا يتمسكون به ،ويستهينون ف سبيله قتل أولدهم،
وتريب ديارهم ،وتكفي ف معرفة ذلك قصة هانئ بن مسعود الشيبان ،والسّمَوْأل بن عاديا ،وحاجب بن
زرارة التميمي.
3ـ عزة النفس والباء عن قبول السف والضيم :وكان من نتائج هذا فرط الشجاعة وشدة الغية،
وسرعة النفعال ،فكانوا ل يسمعون كلمة يشمون منها رائحة الذل والوان إل قاموا إل السيف
والسنان ،وأثاروا الروب العوان ،وكانوا ل يبالون بتضحية أنفسهم ف هذا السبيل.
4ـ الضي ف العزائم :فإذا عزموا على شيء يرون فيه الجد والفتخار ،ل يصرفهم عنه صارف ،بل
كانوا ياطرون بأنفسهم ف سبيله.
5ـ اللم ،والناة ،والتؤدة :كانوا يتمدحون با إل أنا كانت فيهم عزيزة الوجود؛ لفرط شجاعتهم
وسرعة إقدامهم على القتال.
6ـ السذاجة البدوية ،وعدم التلوث بلوثات الضارة ومكائدها :وكان من نتائجها الصدق والمانة،
والنفور عن الداع والغدر.
نرى أن هذه الخلق الثمينة ـ مع ما كان لزيرة العرب من الوقع الغراف بالنسبة إل العال ـ كانت
سببًا ف اختيار ال عز وجل إياهم لمل عبء الرسالة العامة ،وقيادة المة النسانية ،وإصلح الجتمع
البشرى؛ لن هذه الخلق وإن كان بعضها يفضى إل الشر ،ويلب الوادث الؤلة إل أنا كانت ف
نفسها أخلقًا ثينة ،تدر بالنافع العامة للمجتمع البشرى بعد شيء من الصلح ،وهذا الذي فعله
السلم.
ولعل أغلى ما عندهم من هذه الخلق وأعظمها نفعًا ـ بعد الوفاء بالعهد ـ هو عزة النفس والضي ف
العزائم؛ إذ ل يكن قمع الشر والفساد وإقامة نظام العدل والي إل بذه القوة القاهرة وبذا العزم
الصميم .ولم أخلق فاضلة أخرى دون هذه الت ذكرناها ،وليس قصدنا استقصاءها.
النسب والولد والنشأة
نسب نبينا ممد صلى ال عليه وسلم ينقسم إل ثلثة أجزاء :جزء اتفق عليه كافة أهل السي والنساب،
وهو الزء الذي يبدأ منه صلى ال عليه وسلم وينتهي إل عدنان.
وجزء آخر كثر فيه الختلف ،حت جاوز حد المع والئتلف ،وهو الزء الذي يبدأ بعد عدنان وينتهي
إل إبراهيم عليه السلم فقد توقف فيه قوم ،وقالوا :ل يوز سرده ،بينما جوزه آخرون وساقوه .ث
اختلف هؤل الجوزون ف عدد الباء وأسائهم ،فاشتد اختلفهم وكثرت أقوالم حت جاوزت ثلثي قولًا،
إل أن الميع متفقون على أن عدنان من صريح ولد إساعيل عليه السلم.
أما الزء الثالث فهو يبدأ من بعد إبراهيم عليه السلم وينتهي إل آدم عليه السلم ،وجل العتماد فيه
على نقل أهل الكتاب ،وعندهم فيه من بعض تفاصـيل العمـار وغيهـا ما ل نشك ف بطلنه ،بينما
نتوقف ف البقية الباقية.
وفيما يلى الجزاء الثلثة من نسبه الزكى صلى ال عليه وسلم بالترتيب :
الزء الول :ممد بن عبد ال بن عبد الطلب ـ واسه شَ ْيبَة ـ بن هاشم ـ واسه عمرو ـ بن عبد
مناف ـ واسه الغية ـ بن قُصَىّ ـ واسه زيد ـ بن كِلب بن مُرّة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فِهْر
ـ وهو اللقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة ـ بن مالك بن النّضْر ـ واسه قيس ـ بن كِنَانة بن خُ َزيْمَة
بن ُمدْرِكة ـ واسه عامـر ـ بن إلياس بن مُضَر بن نِزَار بن َم َعدّ بن عدنان.
الزء الثان :ما فوق عدنان ،وعدنان هو ابن أُدَد بن الَمَيْسَع بن سلمان بن عَوْص بن بوز بن قموال بن
أب بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخى بن عيض بن
عبقر بن عبيد بن الدعا بن حَمْدان بن سنب بن يثرب بن يزن بن يلحن بن أرعوى بن عيض بن ديشان بن
عيصر بن أفناد ابن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سى بن مزى بن عوضة بن عرام بن قيدار ابن
إساعيل بن إيراهيم عليهما السلم.
الزء الثالث :ما فوق إبراهيم عليه السلم ،وهو ابن تارَح ـ واسه آزر ـ بن ناحور بن ساروع ـ أو
خشَد بن سام بن نوح عليه السلم بن لمك بن
ساروغ ـ بن رَاعُو بن فَالَخ بن عابر بن شَالَخ بن أرْ َف ْ
مَتوشَلخَ بن أَخْنُوخ ـ يقال :هو إدريس النب عليه السلم ـ بن يَرْد بن مَهْلئيل بن قينان بن أنُوش بن
شِيث بن آدم ـ عليهما السلم.
السرة النبوية
تعرف أسرته صلى ال عليه وسلم بالسرة الاشية ـ نسبة إل جده هاشم بن عبد مناف ـ وإذن فلنذكر
شيئًا من أحوال هاشم ومن بعده :
قد أسلفنا أن هاشًا هو الذي تول السقاية والرفادة من بن عبد مناف حي تصال بنو عبد مناف وبنو عبد
الدار على اقتسام الناصب فيما بينهما ،وكان هاشم موسرًا ذا شرف كبي ،وهو أول من أطعم الثريد
للحجاج بكة ،وكان اسه عمرو فما سى هاشًا إل لشمه البز ،وهو أول من سن الرحلتي لقريش ،رحلة
الشتاء والصيف ،وفيه يقول الشاعر :
ومن حديثه أنه خرج إل الشام تاجرًا ،فلما قدم الدينة تزوج سلمى بنت عمرو أحد بن عدى بن النجار
وأقام عندها ،ث خرج إل الشام ـ وهي عند أهلها قد حلت بعبد الطلب ـ فمات هاشم بغزة من أرض
فلسطي ،وولدت امرأته سلمى عبد الطلب سنة 497م ،وسته شيبة؛ لشيبة كانت ف رأسه ،وجعلت
تربيه ف بيت أبيها ف يثرب ،ول يشعر به أحد من أسرتـه بكـة ،وكان لاشم أربعة بني وهم :أسد وأبو
صيفي ونضلة وعبد الطلب .وخس بنات وهن :الشفاء ،وخالدة ،وضعيفة ،ورقية ،وجنة.
قد علمنا ما سبق أن السقاية والرفادة بعد هاشم صارت إل أخيه الطلب بن عبد مناف [وكان شريفًا
مطاعًا ذا فضل ف قومه ،كانت قريش تسميه الفياض لسخائه] لا صار شيبة ـ عبد الطلب ـ وصيفًا أو
فوق ذلك ابن سبع سني أو ثان سني سع به الطلب .فرحل ف طلبه ،فلما رآه فاضت عيناه ،وضمه،
وأردفه على راحلته فامتنع حت تأذن له أمه ،فسألا الطلب أن ترسله معه ،فامتنعت ،فقال :إنا يضى إل
ملك أبيه وإل حرم ال فأذنت له ،فقدم به مكة مردفه على بعيه ،فقال الناس :هذا عبد الطلب ،فقال:
ويكم ،إنا هو ابن أخى هاشم ،فأقام عنده حت ترعرع ،ث إن الطلب هلك بـ [دمان] من أرض اليمن،
فول بعده عبد الطلب ،فأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم،وشرف ف قومه شرفًا ل يبلغه أحد من
آبائه ،وأحبه قومه وعظم خطره فيهم.
ولا مات الطلب وثب نوفل على أركاح بد الطلب فغصبه إياها ،فسأل رجالًا من قريش النصرة على
عمه ،فقالوا :ل ندخل بينك وبي عمك ،فكتب إل أخواله من بن النجار أبياتًا يستنجدهم ،فسار خاله أبو
سعد بن عدى ف ثاني راكبًا ،حت نزل بالبطح من مكة ،فتلقاه عبد الطلب ،فقال :النل يا خال ،فقال:
ل وال حت ألقى نوفلًا ،ث أقبل فوقف على نوفل ،وهو جالس ف الجر مع مشايخ قريش ،فسل أبو سعد
سيفه وقال :ورب البيت ،لئن ل ترد على ابن أخت أركاحه لمكنن منك هذا السيف ،فقال :رددتا عليه،
فأشهد عليه مشايخ قريش ،ث نزل على عبد الطلب ،فأقام عنده ثلثًا ،ث اعتمر ورجع إل الدينة .فلما
جرى ذلك حالف نوفل بن عبد شس بن عبد مناف على بن هاشم .ولا رأت خزاعة نصر بن النجار
لعبد الطلب قالوا :نن ولدناه كما ولدتوه ،فنحن أحق بنصره ـ وذلك أن أم عبد مناف منهم ـ
فدخلوا دار الندوة وحالفوا بن هاشم على بن عبد شس ونوفل ،وهذا اللف هو الذي صار سببًا لفتح
مكة كما سيأتى.
ولا بدت بئر زمزم نازعت قريش عبد الطلب ،وقالوا له :أشركنا.قال :ما أنا بفاعل ،هذا أمر خصصت
به ،فلم يتركوه حت خرجوا به للمحاكمة إل كاهنة بن سعد ُه َذيْم ،وكانت بأشراف الشام ،فلما كانوا
ف الطريق ،ونفد الاء سقى ال عبد الطلب مطرًا ،م ينل عليهم قطرة ،فعرفوا تصيص عبد الطلب بزمزم
ورجعـوا ،وحينئذ نذر عبد الطلب لئن آتاه ال عشرة أبناء ،وبلغوا أن ينعوه لينحرن أحدهم عند
الكعبة.
وخلصة الثان :أن أبرهة بن الصباح البشى ،النائب العام عن النجاشى على اليمن ،لا رأي العرب
يجون الكعبة بن كنيسة كبية بصنعاء ،وأراد أن يصرف حج العرب إليها ،وسع بذلك رجل من بن
كنانة ،فدخلها ليلًا فلطخ قبلتها بالعذرة .ولا علم أبرهة بذلك ثار غيظه ،وسار بيش عرمرم ـ عدده
ستون ألف جندى ـ إل الكعبة ليهدمها ،واختار لنفسه فيل من أكب الفيلة ،وكان ف اليش 9فيلة أو
13فيل ،وواصل سيه حت بلغ الُغَمّس ،وهناك عبأ جيشه وهيأ فيله ،وتيأ لدخول مكة ،فلما كان ف
وادى ُمحَسّر بي الزدلفة ومن برك الفيل ،ول يقم ليقدم إل الكعبة ،وكانوا كلما وجهوه إل النوب أو
الشمال أو الشرق يقوم يهرول ،وإذا صرفوه إل الكعبة برك ،فبيناهم كذلك إذ أرسل ال عليهم طيًا
أبابيل ،ترميهم بجارة من سجيل ،فجعلهم كعصف مأكول .وكانت الطي أمثال الطاطيف والبلسان ،مع
كل طائر ثلثة أحجار؛ حجر ف منقاره ،وحجران ف رجليه أمثال المص ،ل تصيب منهم أحدًا إل
صارت تتقطع أعضاؤه وهلك ،وليس كلهم أصابت ،وخرجوا هاربي يوج بعضهم ف بعض ،فتساقطوا
بكل طريق وهلكوا على كل منهل ،وأما أبرهة فبعث ال عليه داء تساقطت بسببه أنامله ،ول يصل إل
صنعاء إل وهو مثل الفرخ ،وانصدع صدره عن قلبه ث هلك.
وأما قريش فكانوا قد تفرقوا ف الشعاب ،وترزوا ف رءوس البال خوفًا على أنفسهم من معرة اليش،
فلما نزل باليش ما نزل رجعوا إل بيوتم آمني.
وكانت هذه الوقعة ف شهر الحرم قبل مولد النب صلى ال عليه وسلم بمسي يومًا أو بمسة وخسي
يومًا ـ عند الكثر ـ وهو يطابق أواخر فباير أو أوائل مارس سنة 571م ،وكانت تقدمة قدمها ال
لنبيه وبيته؛ لنّا حي ننظر إل بيت القدس نرى أن الشركي من أعداء ال استولوا على هذه القبلة مرتي
بينما كان أهلها مسلمي ،كما وقع لُبخْتُنَصّر سنة 587ق.م ،والرومان سنة 70م ،ولكن ل يتم
استيلء نصارى البشة على الكعبة وهم السلمون إذ ذاك ،وأهل الكعبة كانوا مشركي.
وقد وقعت هذه الوقعة ف الظروف الت يبلغ نبؤها إل معظم العمورة التحضرة إذ ذاك .فالبشة كانت لا
صلة قوية بالرومان ،والفرس ل يزالون لم بالرصاد ،يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائهم؛ ولذلك سرعان
ما جاءت الفرس إل اليمن بعد هذه الوقعة ،وهاتان الدولتان كانتا تثلن العال التحضر ف ذلك الوقت.
فهذه الوقعة لفتت أنظار العال ودلته على شرف بيت ال ،وأنه هو الذي اصطفاه ال للتقديس ،فإذن لو
قام أحد من أهله بدعوى النبوة كان ذلك هو عي ما تقتضيه هذه الوقعة ،وكان تفسيًا للحكمة الفية
الت كانت ف نصرة ال للمشركي ضد أهل اليان بطريق يفوق عال السباب.
وكان لعبد الطلب عشرة بني ،وهم :الارث ،والزبي ،وأبو طالب ،وعبد ال ،وحزة ،وأبو لب،
والغَ ْيدَاق ،وا ُلقَوّم ،وضِرَار ،والعباس .وقيل :كانوا أحد عشر ،فزادوا ولدًا اسه :قُثَم ،وقيل :كانوا ثلثة
عشر ،فزادوا :عبد الكعبة و َحجْلًا ،وقيل :إن عبد الكعبة هو القوم ،وحجل هو الغيداق ،ول يكن من
أولده رجل اسه قثم ،وأما البنات فست وهن :أم الكيم ـ وهي البيضاء ـ وبَرّة ،وعاتكة ،وصفية،
وأرْوَى ،وأميمة.
أمـه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مزوم بن يَ َقظَة بـن مـرة ،وكـان عبد ال أحسن أولد
عبد الطلب وأعفهم وأحبهم إليه ،وهو الذبيح؛ وذلك أن عبد الطلب لـا ت أبناؤه عشرة ،وعرف أنم
ينعونه أخبهم بنذره فأطاعوه ،فقيل :إنه أقـرع بينهم أيهم ينـحـر ؟ فطـارت القرعــة على
عـبد ال ،وكــان أحـب النـاس إليه.فقال:ال م هو أو مائة من البل.ث أقرع بينه وبي البل
فطارت القرعة على الائة من البل ،وقيل:إنه كتب أساءهم ف القداح،وأعطاها قيم هبل ،فضرب القداح
فخرج القدح على عبد ال ،فأخذه عبد الطلب ،وأخذ الشفرة،ث أقبل به إل الكعبة ليذبه،فمنعته
قريش،ولسيما أخواله من بن مزوم وأخوه أبو طالب .فقال عبد الطلب :فكيف أصنع بنذري؟ فأشاروا
عليه أن يأتى عرافة فيستأمرها ،فأتاها ،فأمرت أن يضرب القداح على عبد ال وعلى عشر من البل ،فإن
خرجت على عبد ال يزيد عشرًا من البل حت يرضى ربه ،فإن خرجت على البل نرها ،فرجع وأقرع
بي عبد ال وبي عشر من البل ،فوقعت القرعة على عبد ال ،فلم يزل يزيد من البل عشرًا عشرًا ول
تقع القرعة إل عليه إل أن بلغت البل مائة فوقعت القرعة عليها ،فنحرت ث تركت ،ل يرد عنها إنسان
ول سبع ،وكانت الدية ف قريش وف العرب عشرًا من البل ،فجرت بعد هذه الوقعة مائة من البل،
وأقرها السلم ،وروى عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال[ :أنا ابن الذبيحي] يعن إساعيل ،وأباه
عبد ال .
واختار عبد الطلب لولده عبد ال آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلب ،وهي يومئذ تعد
أفضل امرأة ف قريش نسبًا وموضعًا ،وأبوها سيد بن زهرة نسبًا وشرفًا ،فزوجه با ،فبن با عبد ال ف
مكة ،وبعد قليل أرسله عبد الطلب إل الدينة يتار لم ترًا ،فمات با ،وقيل :بل خرج تاجرًا إل الشام،
فأقبل ف عي قريش ،فنل بالدينة وهو مريض فتوف با ،ودفن ف دار النابغة العدى ،وله إذ ذاك خس
وعشرون سنة ،وكانت وفاته قبل أن يولد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وبه يقول أكثر الؤرخي ،وقيل
:بل توف بعد مولده بشهرين أو أكثر .ولا بلغ نعيه إل مكة رثته آمنة بأروع الراثى ،قالت :
َدعَتْـه النــايا دعــوة فأجـابـــهـا ** وما تركتْ ف الناس مثل ابن هاشـم
فإن تـك غـالتـه النـايا و َريْبَهـــا ** فقـد كـان ِمعْطــاءً كـثي التراحم
وجيع ما خلفه عبد ال خسة أجال ،وقطعة غنم ،وجارية حبشية اسها بركة وكنيتها أم أين ،وهي
حاضنـة رسول ال صلى ال عليه وسلم.
الولـــد
ولـد سيـد الرسلـي صلى ال عليه وسلم بشـعب بن هاشـم بكـة ف صبيحـة يــوم الثني
التاسع مـن شـهر ربيـع الول ،لول عـام مـن حادثـة الفيـل ،ولربعـي سنة خلت من ملك
كسرى أنوشروان ،ويوافق ذلك عشرين أو اثني وعشرين من شهر أبريل سنة 571م حسبما حققه
العال الكبي ممد سليمان ـ النصورفورى ـ رحه ال .
وروى ابــن سعــد أن أم رســول ال صلى ال عليه وسلم قالــت :لــا ولـدتــه
خــرج مــن فرجـى نــور أضــاءت لـه قصـور الشام .وروى أحد والدارمى وغيهـا
قريبـا مـن ذلك.
وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند اليلد ،فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى ،وخدت
النار الت يعبدها الجوس ،واندمت الكنائس حول بية ساوة بعد أن غاضت ،روى ذلك الطبى
والبيهقى وغيها .وليس له إسناد ثابت ،ول يشهد له تاريخ تلك المم مع قوة دواعى التسجيل.
ولا ولدته أمه أرسلت إل جده عبد الطلب تبشره بفيده،فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة ،ودعا ال
وشكر له .واختار له اسم ممد ـ وهذا السم ل يكن معروفًا ف العرب ـ وخَتَنَه يوم سابعه كما كان
العرب يفعلون.
وأول من أرضعته من الراضع ـ وذلك بعد أمه صلى ال عليه وسلم بأسبوع ـ ثُوَيْبَة مولة أب لب بلب
ابن لا يقال له :مَسْرُوح ،وكانت قد أرضعت قبله حزة بن عبد الطلب ،وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد
السد الخزومي.
ف بن سعد
وكانت العادة عند الاضرين من العرب أن يلتمسوا الراضع لولدهم ابتعادًا لم عن أمراض الواضر؛
ولتقوى أجسامهم ،وتشتد أعصابم ،ويتقنوا اللسان العرب ف مهدهم ،فالتمس عبد الطلب لرسول ال
صلى ال عليه وسلم الراضع ،واسترضع له امرأة من بن سعد بن بكر ،وهي حليمة بنت أب ذؤيب عبد
ال بن الارث ،وزوجها الارث ابن عبد العزى الكن بأب كبشة من نفس القبيلة.
وإخوته صلى ال عليه وسلم هناك من الرضاعة :عبد ال بن الارث ،وأنيسة بنت الارث ،وحذافة أو
جذامة بنت الارث [وهي الشيماء؛ لقب غلب على اسها] وكانت تضن رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،وأبو سفيان بن الارث بن عبد الطلب ابن عم رسول ال صلى ال عليه وسلم وكان عمه حزة بن
عبد الطلب مسترضعًا ف بن سعد بن بكر ،فأرضعت أمه رسول ال صلى ال عليه وسلم يومًا وهو عند
أمه حليمة،فكان حزة رضيع رسول ال صلى ال عليه وسلم من جهتي ،من جهة ثويبة ومن جهة
السعدية.
ورأت حليمة من بركته صلى ال عليه وسلم ما قضت منه العجب ،ولنتركها تروى ذلك مفصلًا :
قال ابن إسحاق :كانت حليمة تدث :أنا خرجت من بلدها مع زوجها وابن لا صغي ترضعه ف نسوة
من بن سعد بن بكر ،تلتمس الرضعاء .قالت :وذلك ف سنة شهباء ل تبق لنا شيئًا ،قالت :فخرجت على
أتان ل قمراء ،ومعنا شارف لنا ،وال ما تَبِضّ ُبقطرة ،وما ننام ليلنا أجع من صبينا الذي معنا ،من بكائه
من الوع ،ما ف ثدي ما يغنيه ،وما ف شارفنا ما يغذيه ،ولكن كنا نرجو الغيث والفرج ،فخرجت على
أتان تلك ،فلقد أ َذمّتْ بالركب حت شق ذلك عليهم ،ضعفًا وعجفًا ،حت قدمنا مكة نلتمس الرضعاء،
فما منا امرأة إل وقد عرض عليها رسول ال صلى ال عليه وسلم فتأباه ،إذا قيل لا :إنه يتيم ،وذلك أنا
كنا نرجو العروف من أب الصب ،فكنا نقول :يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده ،فكنا نكرهه لذلك،
فما بقيت امرأة قدمت معي إل أخذت رضيعًا غيى ،فلما أجعنا النطلق قلت لصاحب :وال ،إن لكره
أن أرجع من بي صواحب ول آخذ رضيعًا ،وال لذهب إل ذلك اليتيم فلخذنه .قال :ل عليك أن
تفعلى ،عسى ال أن يعل لنا فيه بركة .قالت :فذهبت إليه وأخذته،وما حلن على أخذه إل أن ل أجد
غيه ،قالت :فلما أخذته رجعت به إل رحلى ،فلما وضعته ف حجرى أقبل عليه ثديأي با شاء من لب،
فشرب حت روى ،وشرب معه أخوه حت روى ،ث ناما ،وما كنا ننام معه قبل ذلك ،وقام زوجي إل
شارفنا تلك ،فإذا هي حافل ،فحلب منها ما شرب وشربت معه حت انتهينا ريا وشبعا ،فبتنا بي ليلة،
قالت :يقول صاحب حي أصبحنا :تعلمي وال يا حليمة ،لقد أخذت نسمة مباركة ،قالت :فقلت :وال
إن لرجو ذلك .قالت :ث خرجنا وركبت أنا أتان ،وحلته عليها معى ،فوال لقطعت بالركب ما ل يقدر
عليه شىء من حرهم ،حت إن صواحب ليقلن ل :يا ابنة أب ذؤيب ،ويك! أ ْربِعى علينا ،أليست هذه
أتانك الت كنت خرجت عليها؟ فأقول لن :بلى وال ،إنا لي هي ،فيقلن :وال إن لا شأنًا ،قالت :ث
قدمنا منازلنا من بلد بن سعد ،وما أعلم أرضًا من أرض ال أجدب منها ،فكانت غنمى تروح علىّ حي
قدمنا به معنا شباعًا لُبّنـا ،فنحلب ونشرب ،وما يلب إنسان قطرة لب ،ول يدها ف ضرع ،حت كان
الاضرون من قومنا يقولون لرعيانم :ويلكم ،اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أب ذؤيب ،فتروح
أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لب ،وتروح غنمى شباعًا لبنًا .فلم نزل نتعرف من ال الزيادة والي حت
مضت سنتاه وفصلته ،وكان يشب شبابًا ل يشبه الغلمان ،فلم يبلغ سنتيه حت كان غلمًا جفرًا .قالت:
فقدمنا به على أمه ونن أحرص على مكثه فينا ،لا كنا نرى من بركته ،فكلمنا أمه ،وقلت لا :لو تركت
ابن عندي حت يغلظ ،فإن أخشى عليه وباء مكة ،قالت :فلم نزل با حت ردته معنا.
شق الصدر
وهكذا رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل بن سعد ،حت إذا كان بعده بأشهر على قول ابن
إسحاق ،وف السنة الرابعة من مولده على قول الحققي وقع حادث شق صدره ،روى مسلم عن أنس :أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم أتاه جبيل ،وهو يلعب مع الغلمان ،فأخذه فصرعه ،فشق عن قلبه،
فاستخرج القلب ،فاستخرج منه علقة ،فقال :هذا حظ الشيطان منك ،ث غسله ف طَسْت من ذهب باء
زمزم ،ث َلمَه ـ أي جعه وضم بعضه إل بعض ـ ث أعاده ف مكانه ،وجاء الغلمان يسعون إل أمه ـ
يعن ظئره ـ فقالوا :إن ممدًا قد قتل ،فاستقبلوه وهو مُنَْت ِقعُ اللون ـ أي متغي اللون ـ قال أنس :وقد
كنت أرى أثر ذلك الخيط ف صدره.
وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حت ردته إل أمه ،فكان عند أمه إل أن بلغ ست سني.
ورأت آمنة ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبه بيثرب ،فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ
نو خسمائة كيلو متر ومعها ولدها اليتيم ـ ممد صلى ال عليه وسلم ـ وخادمتها أم أين ،وقيمها عبد
الطلب ،فمكثت شهرًا ث قفلت ،وبينما هي راجعة إذ لقها الرض ف أوائل الطريق ،ث اشتد حت ماتت
بالبْوَاء بي مكة والدينة.
وعاد به عبد الطلب إل مكة ،وكانت مشاعر النو ف فؤاده تربو نو حفيده اليتيم الذي أصيب بصاب
جديد نَكَأ الروح القديةَ ،ف َرقّ عليه رقة ل يرقها على أحد من أولده ،فكان ل يدعه لوحدته الفروضة،
بل يؤثره على أولده ،قال ابن هشام :كان يوضع لعبد الطلب فراش ف ظل الكعبة ،فكان بنوه يلسون
حول فراشه ذلك حت يرج إليه ،ل يلس عليه أحد من بنيه إجللًا له ،فكان رسول ال صلى ال عليه
وسلم يأتى وهو غلم جفر حت يلس عليه ،فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه ،فيقول عبد الطلب إذا رأي
ذلك منهم :دعوا ابن هذا ،فوال إن له لشأنًا ،ث يلس معه على فراشه ،ويسح ظهره بيده ،ويسره ما
يراه يصنع.
ولثمان سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى ال عليه وسلم توف جده عبد الطلب بكة ،ورأي
قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إل عمه أب طالب شقيق أبيه.
أخرج ابن عساكر عن جَ ْلهُمَة بن عُرْ ُفطَة قال :قدمت مكة وهم ف قحط ،فقالت قريش :يا أبا طالب،
أقحط الوادي ،وأجدب العيال ،ف َه ُلمّ فاستسق ،فخرج أبو طالب ومعه غلم ،كأنه شس دُجُنّة ،تلت عنه
سحابة قَ ْتمَاء ،حوله أُغَيْلمة ،فأخذه أبو طالب ،فألصق ظهره بالكعبة،ولذ بأضبعه الغلم ،وما ف السماء
قَزَعَة ،فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق وا ْغدَوْدَق ،وانفجر الوادي ،وأخصب النادي والبادي،
وإل هذا أشار أبو طالب حي قال:
َبحِيَى الراهب
ولا بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم اثنت عشرة سنة ـ قيل :وشهرين وعشرة أيام ـ ارتل به أبو
طالب تاجرًا إل الشام ،حت وصل إل بُصْرَى ـ وهي معدودة من الشام ،وقَصَبَة لُورَان ،وكانت ف
ذلك الوقت قصبة للبلد العربية الت كانت تت حكم الرومان .وكان ف هذا البلد راهب عرف
بَبحِيَى ،واسه ـ فيما يقال :جرجيس ،فلما نزل الركب خرج إليهم ،وكان ل يرج إليهم قبل ذلك،
فجعل يتخلّلهم حت جاء فأخذ بيد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقال :هذا سيد العالي ،هذا رسول
رب العالي ،هذا يبعثه ال رحة للعالي .فقال له [أبو طالب و] أشياخ قريش[ :و] ما علمك [بذلك]؟
فقال :إنكم حي أشرفتم من العقبة ل يبق حجر ول شجر إل خر ساجدًا ،ول يسجدان إل لنب ،وإن
أعرفه بات النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة[ ،وإنا نده ف كتبنا] ،ث أكرمهم بالضيافة ،وسأل
أبا طالب أن يرده ،ول يقدم به إل الشام؛ خوفًا عليه من الروم واليهود ،فبعثه عمه مع بعض غلمانه إل
مكة.
حرب ال ِفجَار
وف السنة العشرين من عمره صلى ال عليه وسلم وقعت ف سوق عُكاظ حرب بي قريش ـ ومعهم
كنانة ـ وبي قَيْس عَيْلن ،تعرف برب ال ِفجَار وسببها :أن أحد بن كنانة ،واسه البَرّاض ،اغتال ثلثة
رجال من قيس عيلن ،ووصل الب إل عكاظ فثار الطرفان ،وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن
أمية؛ لكانته فيهم سنا وشرفًا ،وكان الظفر ف أول النهار لقيس على كنانة ،حت إذا كان ف وسط النهار
كادت الدائرة تدور على قيس .ث تداعى بعض قريش إل الصلح على أن يصوا قتلى الفريقي ،فمن وجد
قتله أكثر أخذ دية الزائد .فاصطلحوا على ذلك ،ووضعوا الرب ،وهدموا ما كان بينهم من العداوة
والشر .وسيت برب الفجار؛ لنتهاك حرمة الشهر الرام فيها ،وقد حضر هذه الرب رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،وكان ينبل على عمومته؛ أي يهز لم النبل للرمي.
حلف الفضول
وعلى أثر هذه الرب وقع حلف الفضول ف ذى القعدة ف شهر حرام تداعت إليه قبائل من قريش :بنو
هاشم ،وبنو الطلب،وأسد بن عبد العزى ،وزهرة بن كلب ،وتيم بن مرة ،فاجتمعوا ف دار عبد ال بن
ُجدْعان التيمى؛ لسنّه وشرفه ،فتعاقدوا وتعاهدوا على أل يدوا بكة مظلومًا من أهلها وغيهم من سائر
الناس إل قاموا معه ،وكانوا على من ظلمه حت ترد عليه مظلمته ،وشهد هذا اللف رسول ال صلى ال
عليه وسلم .وقال بعد أن أكرمه ال بالرسالة( :لقد شهدت ف دار عبد ال بن جدعان حلفًا ما أحب أن
ل به حر النعم ،ولو أدعى به ف السلم لجبت).
وهذا اللف روحه تناف المية الاهلية الت كانت العصبية تثيها ،ويقال ف سبب هذا اللف :إن رجلًا
من ُزبَيْد قدم مكة ببضاعة ،واشتراها منه العاص بن وائل السهمى ،وحبس عنه حقه ،فاستعدى عليه
الحلف عبد الدار ومزومًا ،وجُ َمحًا و َسهْمًا و َعدِيّا فلم يكترثوا له ،فعل جبل أب قُبَيْس ،ونادى بأشعار
يصف فيها ظلمته رافعًا صوته ،فمشى ف ذلك الزبي بن عبد الطلب ،وقال :ما لذا مترك؟ حت اجتمع
الذين مضى ذكرهم ف حلف الفضول ،فعقدوا اللف ث قاموا إل العاص بن وائل فانتزعوا منه حق
الزبيدي.
حياة الكدح
ول يكن له صلى ال عليه وسلم عمل معي ف أول شبابه ،إل أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنمًا،
رعاها ف بن سعد ،وف مكة لهلها على قراريط ،ويبدو أنه انتقل إل عمل التجارة حي شب،فقد ورد أنه
كان يتجر مع السائب بن أب السائب الخزومي فكان خي شريك له ،ل يدارى ول يارى ،وجاءه يوم
الفتح فرحب به ،وقال :مرحبًا بأخي وشريكي.
وف الامسة والعشرين من سنه خرج تاجرًا إل الشام ف مال خدية رضي ال عنها قال ابن إسحاق:
كانت خدية بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال ،تستأجر الرجال ف مالا ،وتضاربم إياه بشيء
تعله لم ،وكانت قريش قومًا تارًا ،فلما بلغها عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ما بلغها من صدق
حديثه ،وعظم أمانته وكرم أخلقه بعثت إليه ،فعرضت عليه أن يرج ف مال لا إل الشام تاجرًا ،وتعطيه
أفضل ما كانت تعطى غيه من التجار ،مع غلم لا يقال له :ميسرة ،فقبله رسول ال صلى ال عليه وسلم
منها ،وخرج ف مالا ذلك ،وخرج معه غلمها ميسرة حت قدم الشام.
زواجه بدية
ولا رجع إل مكة ،ورأت خدية ف مالا من المانة والبكة ما ل تر قبل هذا ،وأخبها غلمها ميسرة با
رأي فيه صلى ال عليه وسلم من خلل عذبة ،وشائل كرية ،وفكر راجح ،ومنطق صادق ،ونج أمي،
وجدت ضالتها النشودة ـ وكان السادات والرؤساء يرصون على زواجها فتأب عليهم ذلك ـ
فتحدثت با ف نفسها إل صديقتها نفيسة بنت منبه ،وهذه ذهبت إليه صلى ال عليه وسلم تفاته أن
يتزوج خدية ،فرضى بذلك ،وكلم أعمامه ،فذهبوا إل عم خدية وخطبوها إليه ،وعلى إثر ذلك ت
الزواج ،وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر ،وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين ،وأصدقها عشرين
بَكْرة .وكانت سنها إذ ذاك أربعي سنة ،وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلًا ،وهي أول
امرأة تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ول يتزوج عليها غيها حت ماتت.
وكل أولده صلى ال عليه وسلم منها سوى إبراهيم،ولدت له :أولًا القاسم ـ وبه كان يكن ـ ث
زينب ،ورقية ،وأم كلثوم ،وفاطمة ،وعبد ال .وكان عبد ال يلقب بالطيب والطاهر ،ومات بنوه كلهم
ف صغرهم ،أما البنات فكلهن أدركن السلم فأسلمن وهاجرن،إل أنن أدركتهن الوفاة ف حياته صلى
ال عليه وسلم سوى فاطمة رضي ال عنها ،فقد تأخرت بعده ستة أشهر ث لقت به.
ولمس وثلثي سنة من مولده صلى ال عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة؛ وذلك لن الكعبة كانت
َرضْمًا فوق القامة ،ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إساعيل عليه السلم ،ول يكن لا سقف ،فسرق نفر من
اللصوص كنها الذي كان ف جوفها ،وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرًا قديا ـ للعوادى
الت أدهت بنيانا ،وصدعت جدرانا ،وقبل بعثته صلى ال عليه وسلم بمس سني جرف مكة سيل عرم
اندر إل البيت الرام ،فأوشكت الكعبة منه على النيار ،فاضطرت قريش إل تديد بنائها حرصًا على
مكانتها ،واتفقوا على أل يدخلوا ف بنائها إل طيبًا ،فل يدخلون فيها مهر بغى ول بيع ربًا ول مظلمة أحد
من الناس ،وكانوا يهابون هدمها ،فابتدأ با الوليد بن الغية الخزومى ،فأخذ العول وقال :ال م ل نريد
إل الي ،ث هدم ناحية الركني ،ولا ل يصبه شيء تبعه الناس ف الدم ف اليوم الثان ،ول يزالوا ف الدم
حت وصلوا إل قواعد إبراهيم ،ث أرادوا الخذ ف البناء فجزأوا الكعبة ،وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها.
فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة ،وأخذوا يبنونا ،وتول البناء بناء رومي اسه :باقوم .ولا بلغ البنيان
موضع الجر السود اختلفوا فيمن يتاز بشرف وضعه ف مكانه ،واستمر الناع أربع ليال أو خسًا،
واشتد حت كاد يتحول إل حرب ضروس ف أرض الرم ،إل أن أبا أمية بن الغية الخزومى عرض عليهم
أن يكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب السجد فارتضوه ،وشاء ال أن يكون ذلك رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،فلما رأوه هتفوا :هذا المي ،رضيناه ،هذا ممد ،فلما انتهى إليهم ،وأخبوه
الب طلب رداء فوضع الجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل التنازعي أن يسكوا جيعًا بأطراف الرداء،
وأمرهم أن يرفعوه ،حت إذا أوصلوه إل موضعه أخذه بيده فوضعه ف مكانه ،وهذا حل حصيف رضى به
القوم.
وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الهة الشمالية نوا من ستة أذرع ،وهي الت تسمى بالجر
والطيم ،ورفعوا بابا من الرض؛ لئل يدخلها إل من أرادوا ،ولا بلغ البناء خسة عشر ذراعًا سقفوه على
ستة أعمدة.
وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبًا ،يبلغ ارتفاعه 15مترًا ،وطول ضلعه الذي فيه
الجر السود والقابل له 10أمتار ،والجر موضوع على ارتفاع 50.1متر من أرضية الطاف.
والضلع الذي فيه الباب والقابل له 12مترًا ،وبابا على ارتفاع مترين من الرض ،وييط با من الارج
قصبة من البناء أسفلها ،متوسط ارتفاعها 25.0مترًا ومتوسط عرضها 30.0مترًا وتسمى
بالشاذروان ،وهي من أصل البيت لكن قريشًا تركتها.
كان النب صلى ال عليه وسلم قد جع ف نشأته خي ما ف طبقات الناس من ميزات ،وكان طرازًا رفيعًا
من الفكر الصائب ،والنظر السديد ،ونال حظًا وافرًا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة
والدف ،وكان يستعي بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناه الق ،وطالع بعقله
الصب وفطرته الصافية صحائف الياة وشئون الناس وأحوال الماعات ،فعاف ما سواها من خرافة،
ونأي عنها ،ث عاشر الناس على بصية من أمره وأمرهم ،فما وجد حسنًا شارك فيه وإل عاد إل عزلته
العتيدة ،فكان ل يشرب المر ،ول يأكل ما ذبح على النصب ،ول يضر للوثان عيدًا ول احتفالًا ،بل
كان من أول نشأته نافرا من هذه العبودات الباطلة ،حت ل يكن شيء أبغض إليه منها ،وحت كان ل
يصب على ساع اللف باللت والعزى.
ول شك أن القدر حاطه بالفظ ،فعندما تتحرك نوازع النفس لستطلع بعض متع الدنيا ،وعندما يرضى
باتباع بعض التقاليد غي الحمودة ـ تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها ،قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم( :ما همت بشيء ما كان أهل الاهلية يعملون غي مرتي ،كل ذلك يول ال بين وبينه ،ث
ما همت به حت أكرمن برسالته ،قلت ليلة للغلم الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة :لو أبصرت ل
غنمي حت أدخل مكة وأسر با كما يسمر الشباب ،فقال :أفعل ،فخرجت حت إذا كنت عند أول دار
بكة سعت عزفًا ،فقلت :ما هذا؟ فقالوا :عرس فلن بفلنة ،فجلست أسع ،فضرب ال على أذنـى
فنمت ،فما أيقظن إل حر الشمس .فعدت إل صاحب فسألن ،فأخبته ،ث قلت ليلة أخرى مثل ذلك،
ودخلت بكة فأصابن مثل أول ليلة ...ث ما همت بسوء).
وروى البخاري عن جابر بن عبد ال قال :لا بنيت الكعبة ذهب النب صلى ال عليه وسلم وعباس ينقلن
الجارة ،فقال عباس للنب صلى ال عليه وسلم :اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الجارة ،فخر إل
الرض وطمحت عيناه إل السماء ث أفاق ،فقال( :إزاري ،إزاري) فشد عليه إزاره .وف رواية :فما
رؤيت له عورة بعد ذلك.
وكان النب صلى ال عليه وسلم يتاز ف قومه بلل عذبة وأخلق فاضلة ،وشائل كرية ،فكان أفضل
قومه مروءة ،وأحسنهم خلقًا ،وأعزهم جوارًا ،وأعظمهم حلمًا ،وأصدقهم حديثًا ،وألينهم َعرِيكة ،وأعفهم
نفسًا وأكرمهم خيًا ،وأبرهم عملًا ،وأوفاهم عهدًا ،وآمنهم أمانة حت ساه قومه[ :المي] لا جع فيه من
الحوال الصالة والصال الرضية ،وكان كما قالت أم الؤمني خدية رضي ال عنها يمل الكل،
ويكسب العدوم ،ويقرى الضيف ،ويعي على نوائب الق.
حياة النبـوة و الرسـالة والدعـوة
تنقسم حياة رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد أن شرفه ال بالنبوة والرسالة إل عهدين يتاز أحدها عن
الخـر تـام المتياز ،وها:
ث يشتمل كل من العهدين على عدة مراحل ،لكل مرحلة منها خصائص تتاز با عن غيها ،يظهر ذلك
جليًا بعد النظر الدقيق ف الظروف الت مرت با الدعوة خلل العهدين.
2ـ مرحلة إعلن الدعوة ف أهل مكة ،من بداية السنة الرابعة من النبوة إل هجرته صلى ال عليه
وسلم إل الدينة.
3ـ مرحلة الدعوة خارج مكة وفشوها فيهم ،من أواخر السنة العاشرة من النبوة .وقد شلت العهد
الدن وامتدت إل آخر حياته صلى ال عليه وسلم.
لا تقاربت سنه صلى ال عليه وسلم الربعي ،وكانت تأملته الاضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبي
قومه ،حبب إليه اللء ،فكان يأخذ السّوِيق والاء ،ويذهب إل غار حراء ف جبل النور على مبعدة نو
ميلي من مكة ـ وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع ،وعرضه ذراع وثلثة أرباع ذراع من ذراع الديد
ـ فيقيم فيه شهر رمضان ،ويقضي وقته ف العبادة والتفكي فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها
من قدرة مبدعة ،وهو غي مطمئن لا عليه قومه من عقائد الشرك الهلهلة وتصوراتا الواهية ،ولكن ليس
بي يديه طريق واضح ،ول منهج مدد ،ول طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
وكان اختياره صلى ال عليه وسلم لذه العزلة طرفًا من تدبي ال له ،وليكون انقطاعه عن شواغل الرض
ضجّة الياة وهوم الناس الصغية الت تشغل الياة نقطة تول لستعداده لا ينتظره من المر العظيم،
و َ
فيستعد لمل المانة الكبى وتغيي وجه الرض ،وتعديل خط التاريخ ...دبر ال له هذه العزلة قبل
تكليفه بالرسالة بثلث سنوات ،ينطلق ف هذه العزلة شهرًا من الزمان ،مع روح الوجود الطليقة ،ويتدبر
ما وراء الوجود من غيب مكنون ،حت يي موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن ال .
ولا تكامل له أربعون سنة ـ وهي رأس الكمال ،وقيل :ولا تبعث الرسل ـ بدأت طلئع النبوة تلوح
وتلمع ،فمن ذلك أن حجرًا بكة كان يسلم عليه ،ومنها أنه كان يرى الرؤيا الصادقة؛ فكان ل يرى رؤيا
إل جاءت مثل فلق الصبح ،حت مضت على ذلك ستة أشهر ـ ومدة النبوة ثلث وعشرون سنة ،فهذه
الرؤيا جزء من ستة وأربعي جزءًا من النبوة ـ فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى ال عليه
وسلم براء شاء ال أن يفيض من رحته على أهل الرض ،فأكرمه بالنبوة ،وأنزل إليه جبيل بآيات من
القرآن.
وبعد النظر والتأمل ف القرائن والدلئل يكن لنا أن ندد ذلك اليوم بأنه كان يوم الثني لحدى وعشرين
مضت من شهر رمضان ليلًا ،وقد وافق 10أغسطس سنة 610م ،وكان عمره صلى ال عليه وسلم
إذ ذاك بالضبط أربعي سنة قمرية ،وستة أشهر ،و 12يومًا ،وذلك نو 39سنة شسية وثلثة أشهر
وعشرين يومًا.
ولنستمع إل عائشة الصديقة رضي ال عنها تروى لنا قصة هذه الوقعة الت كانت نقطة بداية النبوة،
وأخذت تفتح دياجي ظلمات الكفر والضلل حت غيت مرى الياة ،وعدلت خط التاريخ ،قالت
عائشة رضي ال عنها.
أول ما بديء به رسول ال صلى ال عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالة ف النوم ،فكان ل يرى رؤيا إل
جاءت مثل َفلَق الصبح ،ث حُبّبَ إليه اللء ،وكان يلو بغار حراء ،فيََتحَنّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليال
ذوات العدد قبل أن ينع إل أهله ،ويتزود لذلك ،ث يرجع إل خدية فيتزود لثلها ،حت جاءه الق وهو
ف غار حراء ،فجاءه اللك فقال :اقرأ :قال( :ما أنا بقارئ) ،قال( :فأخذن فغطن حت بلغ من الهد ،ث
أرسلن ،فقال :اقرأ ،قلت :مـا أنـا بقـارئ ،قـال :فأخذن فغطن الثانية حت بلـغ منـى الهد ،ث
أرسلن فقال :اقرأ ،فقلت :ما أنا بقارئ ،فأخذن فغطن الثالثة ،ثـم أرسلـن فـقـال{ :اقْ َرأْ بِا ْسمِ
ك الَْأكْ َرمُ}[العلق ،)]3 :1:فرجع با رسول ال صلى
َرّبكَ اّلذِي َخلَقَ خَ َل َق الْإِنسَانَ مِنْ َعلَقٍ اقْ َرأْ وَ َرّب َ
ال عليه وسلم يرجف فؤاده ،فدخل على خدية بنت خويلد فقالَ ( :زمّلُون زملون) ،فزملوه حت ذهب
عنه الروع ،فقال لدية( :ما ل؟) فأخبها الب( ،لقد خشيت على نفسي) ،فقالت خدية :كل ،وال ما
يزيك ال أبدًا ،إنك لتصل الرحم ،وتمل الكل ،وتكسب العدوم ،وتقرى الضيف ،وتعي على نوائب
الق ،فانطلقت به خدية حت أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خدية ـ وكان امرأ
تنصر ف الاهلية ،وكان يكتب الكتاب العبان ،فيكتب من النيل بالعبانية ما شاء ال أن يكتب ،وكان
شيخًا كبيًا قد عمي ـ فقالت له خدية :يابن عم ،اسع من ابن أخيك ،فقال له ورقة :يابن أخي ،ماذا
ترى؟ فأخبه رسول ال صلى ال عليه وسلم خب ما رأي ،فقال له ورقة :هذا الناموس الذي نزله ال على
موسى ،يا ليتن فيها َجذَعا ،ليتن أكون حيًا إذ يرجك قومك ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :أو
مرجيّ هم؟) قال:نعم ،ل يأت رجل قط بثل ما جئت به إل عُو ِدىَ ،وإن يدركن يومك أنصرك نصرًا
شبْ ورقة أن توف ،وفَتَر الوحى.
مؤزرًا ،ث ل يَنْ َ
فَتْرَة الوحى
أما مدة فترة الوحى فاختلفوا فيها على عدة أقوال .والصحيح أنا كانت أيامًا ،وقد روى ابن سعد عن ابن
عباس ما يفيد ذلك .وأما ما اشتهر من أنا دامت ثلث سنوات أو سنتي ونصفًا فليس بصحيح.
وقد ظهر ل شىء غريب بعد إدارة النظر ف الروايات وف أقوال أهل العلم .ول أر من تعرض له منهم،
وهو أن هذه القوال والروايات تفيد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان ياور براء شهرًا واحدًا،
وهو شهر رمضان من كل سنة ،وذلك من ثلث سنوات قبل النبوة،وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلك
السنوات الثلث ،وأنه كان يتم جواره بتمام شهر رمضان ،فكان ينل بعده من حراء صباحًا ـ أي لول
يوم من شهر شوال ـ ويعود إل البيت.
وقد ورد التنصيص ف رواية الصحيحي على أن الوحى الذي نزل عليه صلى ال عليه وسلم بعد الفترة
إنا نزل وهو صلى ال عليه وسلم راجع إل بيته بعد إتام جواره بتمام الشهر.
أقول :فهذا يفيد أن الوحى الذي نزل عليه صلى ال عليه وسلم بعد الفترة إنا نزل ف أول يوم من شهر
شوال بعد ناية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبوة والوحى؛ لنه كان آخر ماورة له براء ،وإذا ثبت
أن أول نزول الوحى كان ف ليلة الثني الادية عشرة من شهر رمضان فإن هذا يعن أن فترة الوحى
كانت لعشرة أيام فقط .وأن الوحى نزل بعدها صبيحة يوم الميس لول شوال من السنة الول من
النبوة .ولعل هذا هو السر ف تصيص العشر الواخر من رمضان بالجاورة والعتكاف ،وف تصيص
أول شهر شوال بالعيد السعيد ،وال أعلم.
وقد بقى رسول ال صلى ال عليه وسلم ف أيام الفترة كئيبًا مزونًا تعتريه الية والدهشة ،فقد روى
البخاري ف كتاب التعبي ما نصه:
وفتر الوحي فترة حزن النب صلى ال عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا عدا منه مرارًا كى يتردى من رءوس
شواهق البال ،فكلما أوْف بذِرْوَة جبل لكى يلقى نفسه منه تَبدّى له جبيل فقال :يا ممد ،إنك رسول
ال حقًا ،فيسكن لذلك جأشه ،وَتقَرّ نفسه ،فيجع ،فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لثل ذلك ،فإذا أوف
بذروة البل تبدى له جبيل فقال له مثل ذلك.
قال ابن حجر :وكان ذلك [أي انقطاع الوحي أيامًا]؛ ليذهب ما كان صلى ال عليه وسلم وجده من
الروع ،وليحصل له التشوف إل العود ،فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مىء الوحى أكرمه ال بالوحي
مرة ثانية .قال :صلى ال عليه وسلم:
(جاورت براء شهرًا فلما قضيت جوارى هبطت [فلما استبطنت الوادي] فنوديت ،فنظرت عن يين فلم
أر شيئًا ،ونظرت عن شال فلم أر شيئًا ،ونظرت أمامي فلم أر شيئا ،ونظرت خلفي فلم أرشيئًا ،فرفعت
رأسى فرأيت شيئًا[ ،فإذا اللك الذي جاءن براء جالس على كرسي بي السماء والرضَ ،فجُئِ ْثتُ منه
رعبًا حت هويت إل الرض] فأتيت خدية فقلت[ :زملون ،زملون] ،دثرون ،وصبوا على ماء باردًا)،
قال( :فدثرون وصبوا على ماء باردًا ،فنلت{ :يَا أَيّهَا الْ ُمدّثّرُ ُقمْ َفأَنذِرْ َو َربّكَ َفكَبّرْ َوثِيَاَبكَ َفطَهّرْ وَالرّجْزَ
فَا ْهجُرْ} [الدثر )]5 :1 :وذلك قبل أن تفرض الصلة ،ث حى الوحى بعد وتتابع.
وهذه اليات هي مبدأ رسالته صلى ال عليه وسلم وهي متأخرة عن النبوة بقدار فترة الوحى .وتشتمل
على نوعي من التكليف مع بيان ما يترتب عليه:
النوع الول :تكليفه صلى ال عليه وسلم بالبلغ والتحذير ،وذلك ف قوله تعالُ { :قمْ َفأَنذِرْ} فإن معناه:
حذر الناس من عذاب ال إن ل يرجعوا عما هم فيه من الغى والضلل وعبادة غي ال التعال ،والشراك
به ف الذات والصفات والقوق و الفعال.
النوع الثان :تكليفه صلى ال عليه وسلم بتطبيق أوامر ال سبحانه وتعال على ذاته ،واللتزام با ف نفسه؛
ليحرز بذلك مرضاة ال ،ويصي أسوة حسنة لن آمن بال وذلك ف بقية اليات .فقوله{ :وَ َرّبكَ فَ َكبّرْ}
معناه :خصه بالتعظيم ،ول تشرك به ف ذلك أحدًا .وقولهَ { :وثِيَابَكَ َفطَهّرْ} القصود الظاهر منه :تطهي
الثياب والسد ،إذ ليس لن يكب ال ويقف بي يديه أن يكون نسًا مستقذرًا .وإذا كان هذا التطهر
مطلوبًا فإن التطهر من أدران الشرك وأرجاس العمال والخـلق أولـى بالطـلب ،وقولــه{ :
وَالرّجْزَ فَا ْهجُرْ} معناه :ابتعد عن أسباب سخط ال وعذابه ،وذلك بالتزام طاعته وترك معصيته .وقوله{ :
َولَا تَمْنُن تَسَْتكْثِرُ} أي :ل تسن إحسانًا تريد أجره من الناس أو تريد له جزاء أفضل ف هذه الدنيا.
أما الية الخية ففيها تنبيه على ما يلحقه من أذى قومه حي يفارقهم ف الدين ويقوم بدعوتم إل ال
صبِرْ} ،ث إن مطلع اليات تضمنت النداء العلوى
وحده وبتحذيرهم من عذابه وبطشه ،فقالَ { :ولِ َربّكَ فَا ْ
ـ ف صوت الكبي التعال ـ بانتداب النب صلى ال عليه وسلم لذا المر اللل ،وانتزاعه من النوم
والتدثر والدفء إل الهاد والكفاح والشقة{ :يَا أَيّهَا الْ ُمدّثّرُ ُقمْ َفأَنذِرْ} ،كأنه قيل :إن الذي يعيش لنفسه
قد يعيش مستريًا ،أما أنت الذي تمل هذا العبء الكبي فما لك والنوم؟ وما لك والراحة؟ وما لك
والفراش الدافئ؟ والعيش الادئ؟ والتاع الريح! قم للمر العظيم الذي ينتظرك ،والعبء الثقيل الهيأ
لك ،قم للجهد والنصب ،والكد والتعب ،قم فقد مضى وقت النوم والراحة ،وما عاد منذ اليوم إل السهر
التواصل ،والهاد الطويل الشاق ،قم فتهيأ لذا المر واستعد.
إنا كلمة عظيمة رهيبة تنعه صلى ال عليه وسلم من دفء الفراش ف البيت الادئ والضن الدافئ،
لتدفع به ف الضم ،بي الزعازع والنواء ،وبي الشد والذب ف ضمائر الناس وف واقع الياة سواء.
وقام رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامًا؛ ل يسترح ول يسكن ،ول
يعـش لنفسه ول لهله .قام وظل قائمًا على دعوة ال ،يمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ول ينوء
به ،عبء المانة الكبى ف هذه الرض ،عبء البشرية كلها ،عبء العقيدة كلها ،وعبء الكفاح
والهاد ف ميادين شت ،عاش ف العركة الدائبة الستمرة أكثر من عشرين عامًا؛ ل يلهيه شأن عن شأن ف
خلل هذا المد منذ أن سع النداء العلوى الليل ،وتلقى منه التكليف الرهيب ...جزاه ال عنا وعن
البشرية كلها خي الزاء.
وليست الوراق التية إل صورة مصغرة بسيطة من هذا الهاد الطويل الشاق الذي قام به رسول ال
صلى ال عليه وسلم خلل هذا المد.
أقسام الوحى
وقبل الدخول ف موضوع هذا الهاد أرى من الحسن أن أستطرد إل بيان أقسام الوحى ومراتبه .قال
ابن القيم ،وهو يذكر تلك الراتب:
الثانية :ما كان يلقيه اللك ف روعه وقلبه من غي أن يراه ،كما قال النب صلى ال عليه وسلم( :إن روح
القدس نفث ف روعى أنه لن توت نفس حت تستكمل رزقها ،فاتقوا ال وأجلوا ف الطلب ،ول يملنكم
استبطاء الرزق على أن تطلبوه بعصية ال ،فإن ما عند ال ل ينال إل بطاعته).
الثالثة :إنه صلى ال عليه وسلم كان يتمثل له اللك رجلًا فيخاطبه حت َيعِىَ عنه ما يقول له ،وف هذه
الرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا.
الرابعة :أنه كان يأتيه ف مثل صلصلة الرس ،وكان أشده عليه ،فيلتبس به اللك ،حت أن جبينه ليَتفَصّد
عرقًا ف اليوم الشديد البد ،وحت أن راحلته لتبك به إل الرض إذا كان راكبها ،ولقد جاء الوحى مرة
كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت ،فثقلت عليه حت كادت ترضها.
الامسة :إنه يرى اللك ف صورته الت خلق عليها ،فيوحى إليه ما شاء ال أن يوحيه ،وهذا وقع له مرتي
كما ذكر ال ذلك ف سورة النجم.
السادسة :ما أوحاه ال إليه ،وهو فوق السموات ليلة العراج من فرض الصلة وغيها.
السابعة :كلم ال له منه إليه بل واسطة ملك كما كلم ال موسى بن عمران ،وهذه الرتبة هي ثابتة لوسى
قطعًا بنص القرآن .وثبوتا لنبينا صلى ال عليه وسلم هو ف حديث السراء.
وقـد زاد بعضهم مرتبة ثامنة؛ وهي تكليم ال له كفاحًا من غي حجاب ،وهي مسألة خلف بي السلف
واللف .انتهي مع تلخيص يسي ف بيان الرتبة الول والثامنة.
قام رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد نزول ما تقدم من آيات سورة الدثر ،بالدعوة إل ال سبحانه
وتعال؛ وحيث إن قومه كانوا جفاة ل دين لم إل عبادة الصنام والوثان ،ول حجة لم إل أنم ألفوا
آباءهم على ذلك ،ول أخلق لم إل الخذ بالعزة والنفة ،ول سبيل لم ف حل الشاكل إل السيف،
وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية ف جزيرة العرب ،ومتلي مركزها الرئيس ،ضامني حفظ
كيانا ،فقد كان من الكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة ف بدء أمرها سرية؛ لئل يفاجئ أهل مكة با
يهيجهم.
الرعيل الول
وكان من الطبيعى أن يعرض الرسول صلى ال عليه وسلم السلم أولًا على ألصق الناس به من أهل بيته،
وأصدقائه ،فدعاهم إل السلم ،ودعا إليه كل من توسم فيه الي من يعرفهم ويعرفونه ،يعرفهم بب الق
والي ،ويعرفونه بتحرى الصدق والصلح ،فأجابه من هؤلء ـ الذين ل تالهم ريبة قط ف عظمة
الرسول صلى ال عليه وسلم وجللة نفسه وصدق خبه ـ جَ ْمعٌ عُرِفوا ف التاريخ السلمى بالسابقي
الولي ،وف مقدمتهم زوجة النب صلى ال عليه وسلم أم الؤمني خدية بنت خويلد ،وموله زيد بن
حارثة بن شراحيل الكلب وابن عمه علي بن أب طالب ـ وكان صبيًا يعيش ف كفالة الرسول صلى ال
عليه وسلم ـ وصديقه الميم أبو بكر الصديق .أسلم هؤلء ف أول يوم الدعوة.
ث نشط أبو بكر ف الدعوة إل السلم ،وكان رجلًا مألفًا مببًا سهلًا ذا خلق ومعروف،وكان رجال قومه
يأتونه ويألفونه؛ لعلمه وتارته وحسن مالسته ،فجعل يدعو من يثق به من قومه من يغشاه ويلس إليه،
فأسلم بدعوته عثمان بن عفان الموى ،والزبي بن العوام السدى ،وعبد الرحن بن عوف ،وسعد بن أب
وقاص الزهريان ،وطلحة بن عبيد ال التيمي .فكان هؤلء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس هم الرعيل
الول وطليعة السلم.
ث تل هؤلء أمي هذه المة أبو عبيدة عامر بن الراح من بن الارث بن فهر ،وأبو سلمة بن عبد السد
الخزومى ،وامرأته أم سلمة ،والرقم بن أب الرقم الخزومى ،وعثمان بن مظعون الُ َمحِىّ وأخواه قدامة
وعبد ال ،وعبيدة بن الارث ابن الطلب بن عبد مناف ،وسعيد بن زيد العدوى ،وامرأته فاطمة بنت
الطاب العدوية أخت عمر بن الطاب ،وخباب بن الرت التميمى ،وجعفر بن أب طالب ،وامرأته أساء
بنت عُمَيْس ،وخالد بن سعيد بن العاص الموى ،وامرأته أمينة بنت خلف ،ث أخوه عمرو بن سعيد بن
العاص ،وحاطب بن الارث المحي ،وامرأته فاطمة بنت ا ُلجَلّل وأخوه الطاب بن الارث ،وامرأته
فُكَ ْيهَة بنت يسار ،وأخوه معمر ابن الارث ،والطلب بن أزهر الزهري ،وامرأته رملة بنت أب عوف،
ونعيم بن عبد ال بن النحام العدوي ،وهؤلء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شت من قريش.
ومن السابقي الولي إل السلم من غي قريش :عبد ال بن مسعود الذل ،ومسعود بن ربيعة القاري،
وعبد ال بن جحش السدي وأخوه أبو أحد بن جحش ،وبلل بن رباح البشي ،صُهَيْب بن سِنان
الرومي ،وعمار بن ياسر العنسي ،وأبوه ياسر ،وأمه سية ،وعامر بن فُهية.
ومن سبق إل السلم من النساء غي من تقدم ذكرهن :أم أين بركة البشية ،وأم الفضل لبابة الكبى
بنت الارث الللية زوج العباس بن عبد الطلب ،وأساء بنت أب بكر الصديق رضي ال عنهما.
هؤلء معروفون بالسابقي الولي ،ويظهر بعد التتبع والستقراء أن عدد الوصوفي بالسبق إل السلم
وصل إل مائة وثلثي رجلًا وامرأة ،ولكن ل يعرف بالضبط أنم كلهم أسلموا قبل الهر بالدعوة أو تأخر
إسلم بعضهم إل الهر با.
الصلة
ومن أوائل ما نزل من الحكام المر بالصلة ،قال ابن حجر :كان صلى ال عليه وسلم قبل السراء
يصلى قطعًا وكذلك أصحابه ،ولكن اختلف هل فرض شىء قبل الصلوات المس من الصلوات أم ل؟
فقيل :إن الفرض كانت صلة قبل طلوع الشمس وقبل غروبا .انتهي .وروى الارث بن أب أسامة من
طريق ابن لَهِيعَة موصولًا عن زيد ابن حارثة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ف أول ما أوحى إليه أتاه
جبيل ،فعلمه الوضوء ،فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح با فرجه ،وقد رواه ابن ماجه
بعناه ،وروى نوه عن الباء بن عازب وابن عباس ،وف حديث ابن عباس :وكان ذلك من أول الفريضة.
وقد ذكر ابن هشام أن النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه كانوا إذا حضرت الصلة ذهبوا ف الشعاب
فاستخفوا بصلتم من قومهم ،وقد رأي أبو طالب النب صلى ال عليه وسلم وعليّا يصليان مرة ،فكلمهما
ف ذلك ،ولا عرف جلية المر أمرها بالثبات.
تلك هي العبادة الت أمر با الؤمنون ،ول تعرف لم عبادات وأوامر ونواه أخرى غي ما يتعلق بالصلة،
وإنا كان الوحى يبي لم جوانب شت من التوحيد ،ويرغبهم ف تزكية النفوس ،ويثهم على مكارم
الخلق ،ويصف لم النة والنار كأنما رأي عي ،ويعظهم بواعظ بليغة تشرح الصدور وتغذى
الرواح ،وتدو بم إل جو آخر غي الذي كان فيه الجتمع البشرى آنذاك.
وهكذا مرت ثلثة أعوام ،والدعوة ل تزل مقصورة على الفراد ،ول يهر با النب صلى ال عليه وسلم ف
الجامع والنوادى،إل أنا عرفت لدى قريش ،وفشا ذكر السلم بكة ،وتدث به الناس ،وقد تنكر له
بعضهم أحيانًا ،واعتدوا على بعض الؤمني ،إل أنم ل يهتموا به كثيًا حيث ل يتعرض رسول ال صلى ال
عليه وسلم لدينهم ،ول يتكلم ف آلتهم.
الرحلـة الثانية :الدعــوة جهــارًا
لا تكونت جاعة من الؤمني تقوم على الخوة والتعاون ،وتتحمل عبء تبليغ الرسالة وتكينها من مقامها
نزل الوحى يكلف رسول ال صلى ال عليه وسلم بعالنة الدعوة ،ومابة الباطل بالسن.
وكأن هذا التفصيل جىء به مع أمر الرسول صلى ال عليه وسلم بهر الدعوة إل ال ؛ ليكون أمامه وأمام
أصحابه مثال لا سيلقونه من التكذيب والضطهاد حينما يهرون بالدعوة ،وليكونوا على بصية من
أمرهم منذ البداية.
ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مآل الكذبي للرسل ،من قوم نوح ،وعاد ،وثود ،وقوم
إبراهيم ،وقوم لوط ،وأصحاب اليكة ـ عدا ما ذكر من أمر فرعون وقومه ـ ليعلم الذين سيقومون
بالتكذيب عاقبة أمرهم وما سيلقونه من مؤاخذة ال إن استمروا عليه ،وليعرف الؤمنون أن حسن العاقبة
لم وليس للمكذبي.
الدعـوة ف القربي
ودعا رسول ال صلى ال عليه وسلم عشيته بن هاشم بعد نزول هذه الية ،فجاءوا ومعهم نفر من بن
الطلب بن عبد مناف ،فكانوا نو خسة وأربعي رجلًا .فلما أراد أن يتكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم
بادره أبو لب وقال :هؤلء عمومتك وبنو عمك فتكلم ،ودع الصباة ،واعلم أنه ليس لقومك بالعرب
قاطبة طاقة ،وأنا أحق من أخذك ،فحسبك بنو أبيك ،وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن
يثب بك بطون قريش ،وتدهم العرب ،فما رأيت أحدًا جاء على بن أبيه بشر ما جئت به ،فسكت رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،ول يتكلم ف ذلك الجلس.
ث دعاهم ثانية وقال( :المد ل ،أحده وأستعينه ،وأومن به ،وأتوكل عليه .وأشهد أن ل إله إل ال وحده
ل شريك له) .ث قال( :إن الرائد ل يكذب أهله ،وال الذي ل إله إل هو ،إن رسول ال إليكم خاصة
وإل الناس عامة ،وال لتموتن كما تنامون ،ولتبعثن كما تستيقظون ،ولتحاسب با تعملون ،وإنا النة أبدًا
أو النار أبدًا).
فقال أبو طالب :ما أحب إلينا معاونتك ،وأقبلنا لنصيحتك ،وأشد تصديقًا لديثك .وهؤلء بنو أبيك
متمعون ،وإنا أنا أحدهم ،غي أن أسرعهم إل ما تب ،فامض لا أمرت به .فوال ،ل أزال أحوطك
وأمنعك ،غي أن نفسى ل تطاوعن على فراق دين عبد الطلب.
فقال أبو لب :هذه وال السوأة ،خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيكم ،فقال أبو طالب :وال لنمنعه ما
بقينا.
وبعد تأكد النب صلى ال عليه وسلم من تعهد أب طالب بمايته وهو يبلغ عن ربه ،صعد النب صلى ال
عليه وسلم ذات يوم على الصفا ،فعل أعلها حجرًا ،ث هتف( :يا صباحاه)
ث جعل ينادى بطون قريش ،ويدعوهم قبائل قبائل( :يا بن فهر ،يا بن عدى ،يا بن فلن ،يا بن فلن ،يا
بن عبد مناف ،يا بن عبد الطلب).
فلما سعوا قالوا :من هذا الذي يهتف؟ قالوا :ممد .فأسرع الناس إليه ،حت إن الرجل إذا ل يستطع أن
يرج إليه أرسل رسولًا لينظر ما هو ،فجاء أبو لب وقريش.
قال( :إن نذير لكم بي يدى عذاب شديد ،إنا مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي ال َعدُوّ فانطلق يَ ْربَأ أهله)(
أي يتطلع وينظر لم من مكان مرتفع لئل يدههم العدو) (خشى أن يسبقوه فجعل ينادى :يا صباحاه)
(يا معشر قريش ،اشتروا أنفسكم من ال ،أنقذوا أنفسكم من النار ،فإن ل أملك لكم من ال ضرًا ول
نفعًا ،ول أغن عنكم من ال شيئًا.
يا بن كعب بن لؤى ،أنقذوا أنفسكم من النار ،فإن ل أملك لكم ضرًا ول نفعًا.
يا معشر بن قصى ،أنقذوا أنفسكم من النار ،فإن ل أملك لكم ضرًا ول نفعًا.
يا معشر بن عبد مناف ،أنقذوا أنفسكم من النار ،فإن ل أملك لكم من ال ضرًا ول نفعًا ،ول أغن عنكم
من ال شيئًا.
يا معشر بن عبد الطلب ،أنقذوا أنفسكم من النار ،فإن ل أملك لكم ضرًا ول نفعًا ،ول أغن عنكم من
ال شيئًا ،سلون من مال ماشئتم ،ل أملك لكم من ال شيئًا.
يا صفية بنت عبد الطلب عمة رسول ال ،ل أغن عنك من ال شيئًا.
يا فاطمة بنت ممد رسول ال ،سلين ما شئت من مال ،أنقذى نفسك من النار ،فإن ل أملك لك ضرًا
ول نفعًا ،ول أغن عنك من ال شيئًا.
كانت هذه الصيحـة العالية هي غاية البلغ ،فقد أوضح الرسول صلى ال عليه وسلم لقرب الناس إليه
أن التصديق بذه الرسالة هو حياة الصلت بينه وبينهم ،وأن عصبة القرابة الت يقوم عليها العرب ذابت
ف حرارة هذا النذار التى من عند ال .
وقد نالت دعوته مزيدًا من القبول ،ودخل الناس ف دين ال واحدًا بعد واحد .وحصل بينهم وبي من ل
يسلم من أهل بيتهم تباغض وتباعد وعناد واشأزت قريش من كل ذلك ،وساءهم ما كانوا يبصرون.
وخلل هذه اليام أهم قريشًا أمر آخر،وذلك أن الهر بالدعوة ل يض عليه إل أيام أو أشهر معدودة حت
قرب موسم الج ،وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم ،فرأت أنه لبد من كلمة يقولونا
للعرب ،ف شأن ممد صلى ال عليه وسلم حت ل يكون لدعوته أثر ف نفوس العرب ،فاجتمعوا إل الوليد
بن الغية يتداولون ف تلك الكلمة ،فقال لم الوليد :أجعوا فيه رأيـا واحدًا،ول تتلفوا فيكذب بعضكم
بعضًا ،ويرد قولكم بعضه بعضًا ،قالوا :فأنت فقل ،وأقم لنا رأيًا نقول به .قال :بل أنتم فقولوا أسع .قالوا:
نقول :كاهن .قال :ل وال ما هو بكاهن ،لقد رأينا الكهان فما هو ب َزمْ َزمَة الكاهن ول سجعه .قالوا:
فنقول :منون ،قال :ما هو بجنون ،لقد رأينا النون وعرفناه ،ما هو بَ ْنقِه ول َتخَاُلجِه ول وسوسته.
قالوا :فنقول :شاعر .قال :ما هو بشاعر ،لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه و َمقْبُوضه
ومَبْسُوطه ،فما هو بالشعر ،قالوا :فنقول :ساحر .قال :ما هو بساحر ،لقد رأينا السحار وسحرهم ،فما
هو بنَفْثِهِم ول ع ْقدِهِم .قالوا :فما نقول؟ قال :وال إن لقوله للوة[ ،وإن عليه لطلوة] وإن أصله
ل َعذَق ،وإن فَرْعَه لَنَاة ،وما أنتم بقائلي من هذا شيئًا إل عرف أنه باطل ،وإن أقرب القول فيه لن
تقولوا :ساحر .جاء بقول هو سحر ،يفرق به بي الرء وأبيه ،وبي الرء وأخيه ،وبي الرء وزوجته ،وبي
الرء وعشيته ،فتفرقوا عنه بذلك.
وتفيد بعض الروايات أن الوليد لا رد عليهم كل ما عرضوا له ،قالوا :أرنا رأيك الذي ل غضاضة فيه،
فقال لم :أمهلون حت أفكر ف ذلك ،فظل الوليد يفكر ويفكر حت أبدى لم رأيه الذي ذكر آنفًا.
وف الوليد أنزل ال تعال ست عشرة آية من سورة الدثر{ذَ ْرنِي َومَنْ خَ َلقْتُ َوحِيدًا وَ َجعَ ْلتُ َلهُ مَالًا
صعُودًا إِّنهُ
مّ ْمدُودًا َوبَنِيَ شُهُودًا َومَهّدتّ لَهُ تَمْهِيدًا ُثمّ يَطْ َمعُ َأنْ أَزِيدَ كَلّا ِإنّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا َسأُ ْر ِهقُهُ َ
فَكّرَ وَ َقدّرَ َفقُِتلَ كَيْفَ َقدّرَ ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ َقدّرَ ُثمّ َنظَرَ ُثمّ عََبسَ َوبَسَرَ ُثمّ أَ ْدبَرَ وَاسَْتكْبَرَ َفقَالَ ِإنْ َهذَا ِإلّا
ِسحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ َهذَا ِإلّا قَوْلُ الْبَشَ ِر َسأُصْلِيهِ َسقَرَ} [من 11إل ]26وف خللا صور كيفية تفكيه،
فقالِ{ :إنّهُ َفكّرَ وَ َقدّرَ َفقُتِلَ كَيْفَ َقدّرَ ُثمّ قُِتلَ كَ ْيفَ َقدّرَ ُثمّ نَظَرَ ثُمّ عََبسَ َوبَسَرَ ُثمّ أَدْبَرَ وَاسْتَكَْبرَ َفقَالَ إِنْ
شرِ} [الدثر]25 :18:
َهذَا إِلّا ِسحْرٌ يُ ْؤثَرُ إِنْ َهذَا ِإلّا قَوْلُ الْبَ َ
وبعد أن اتفق الجلس على هذا القرار أخذوا ف تنفيذه ،فجلسوا بسبل الناس حي قدموا للموسم ،ل ير
بم أحد إل حذروه إياه وذكروا لم أمره.
أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فخرج يتبع الناس ف منازلم وف ُعكَاظ و َمجَنّة وذى ا َلجَاز ،يدعوهم
إل ال ،وأبو لب وراءه يقول :ل تطيعوه فإنه صابئ كذاب.
وأدى ذلك إل أن صدرت العرب من ذلك الوسم بأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم وانتشر ذكره ف
بلد العرب كلها.
ولا فرغت قريش من الج فكرت ف أساليب تقضى با على هذه الدعوة ف مهدها .وتتلخص هذه
الساليب فيما يلي:
وقد أكثروا من السخرية والستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيئًا فشيئًا حت أثر ذلك ف نفس
صدْرُكَ بِمَا َيقُولُونَ} [الجر:
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،كما قال ال تعالَ { :وَلقَدْ َنعْ َلمُ َأنّكَ يَضِيقُ َ
،]97ث ثبته ال وأمره با يذهب بذا الضيق فقال{ :فَسَّبحْ بِحَ ْمدِ َربّكَ َوكُن مّنَ السّا ِجدِينَ وَاعُْبدْ َرّبكَ
ك الْيَقِيُ}[الجر ،]99 ،98:وقد أخبه من قبل أنه يكفيه هؤلء الستهزئي حيث قال{ :إِنّا
حَتّى َيأْتَِي َ
جعَلُونَ َمعَ ال ِ إِلـهًا آخَرَ فَسَ ْوفَ َيعْمَلُونَ} [الجر ،]96 ،95 :وأخبه
ي اّلذِينَ يَ ْ
كَفَيْنَاكَ الْمُسَْتهْ ِزئِ َ
أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالًا عليهم فقالَ { :وَلقَدِ اسُْتهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَ ْب ِلكَ َفحَاقَ بِاّلذِينَ َسخِرُواْ
مِنْهُم مّا كَانُواْ ِبهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} [النعام.]10:
وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بيث ل يبقى لعامة الناس مال للتدبر ف دعوته والتفكي فيها ،فكانوا
لمٍ} [النبياء ]5:يراها ممد بالليل ويتلوها بالنهار ،ويقولون{ :بَلِ
ضغَاثُ أَ ْح َ
يقولون عن القرآن{ :أَ ْ
شرٌ} وقالوا{ :إِنْ َهذَا ِإلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ َوأَعَانَهُ عَلَ ْيهِ َق ْومٌ
افْتَرَاهُ} من عند نفسه ويقولونِ{ :إنّمَا يُعَلّ ُمهُ بَ َ
ي اكْتَتَبَهَا َفهِيَ تُمْلَى
آ َخرُونَ} [الفرقان ]4 :أي اشترك هو وزملؤه ف اختلقه{ .وَقَالُوا أَسَاطِيُ اْلأَ ّولِ َ
عَ َل ْيهِ بُكْ َرةً َوأَصِيلًا} [الفرقان]5:
وأحيانا قالوا :إن له جنًا أو شيطانًا يتنل عليه كما ينل الن والشياطي على الكهان .قال تعال ردًا
عليهمَ { :هلْ ُأنَبّئُ ُكمْ عَلَى مَن تَنَزّلُ الشّيَاطِيُ تَنَزّلُ عَلَى كُلّ أَفّاكٍ َأثِيمٍ} [الشعراء ،]222 ،221:أي
إنا تنل على الكذاب الفاجر التلطخ بالذنوب ،وما جرّبتم عل ّى كذبًا ،وما وجدت ف فسقًا ،فكيف
تعلون القرآن من تنيل الشيطان؟
وأحيانًا قالوا عن النب صلى ال عليه وسلم :إنه مصاب بنوع من النون ،فهو يتخيل العان ،ث يصوغها
شعَرَاء
ف كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء ،فهو شاعر وكلمه شعر .قال تعال ردًا عليهم{ :وَال ّ
يَتِّبعُ ُهمُ اْلغَاوُونَ أََلمْ تَرَ َأنّ ُهمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ َوأَنّ ُهمْ َيقُولُونَ مَا لَا يَ ْفعَلُونَ} [الشعراء]226 :225:
فهذه ثلث خصائص يتصف با الشعراء ليست واحدة منها ف النب صلى ال عليه وسلم ،فالذين اتبعوه
هداة مهتدون ،متقون صالون ف دينهم وخلقهم وأعمالم وتصرفاتم ،وليست عليهم مسحة من الغواية
ف أي شأن من شئونم ،ث النب صلى ال عليه وسلم ل يهيم ف كل واد كما يهيم الشعراء ،بل هو يدعو
إل رب واحد ،ودين واحد ،وصراط واحد ،وهو ل يقول إل ما يفعل ،ول يفعل إل ما يقول ،فأين هو من
الشعر والشعراء؟ وأين الشعر والشعراء منه.
هكذا كان يرد عليهم بواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيونا ضد النب صلى ال عليه وسلم والقرآن
والسلم.
ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد ،ث رسالة ممد صلى ال عليه وسلم ،ث بعث الموات
ونشرهم وحشرهم يوم القيامة ،وقد رد القرآن على كل شبهة من شبهاتم حول التوحيد ،بل زاد عليها
زيادات أوضح با هذه القضية من كل ناحية ،وبي عجز آلتهم عجزًا ل مزيد عليه ،ولعل هذا كان مثار
غضبهم واستنكارهم الذي أدى إل ما أدى إليه.
أما شبهاتم ف رسالة النب صلى ال عليه وسلم فإنم مع اعترافهم بصدق النب صلى ال عليه وسلم
وأمانته وغاية صلحه وتقواه ،كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر،
فالبشر ل يكون رسولًا ،والرسول ل يكون بشرًا حسب عقيدتم .فلما أعلن رسول ال صلى ال عليه
وسلم عن نبوته ،ودعا إل اليان به تيوا وقالوا{ :مَالِ َهذَا الرّسُولِ َيأْكُلُ ال ّطعَامَ َويَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}
[الفرقان ،]7 :وقالوا :إن ممدًا صلى ال عليه وسلم بشر،و {مَا أَنزَلَ ال ُ عَلَى بَشَرٍ مّن َش ْيءٍ} [
ب اّلذِي جَاء ِبهِ مُوسَى نُورًا َو ُهدًى لّلنّاسِ}،
النعام ،]19 :فقال تعال ردًا عليهمُ {:قلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَا َ
وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر .ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكارًا على
رسالتهم{ :إِنْ أَنُتمْ إِلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} [إبراهيم ،]10:فـ {قَالَتْ لَ ُهمْ رُ ُسلُ ُهمْ إِن ّنحْنُ إِلّ بَشَرٌ مّثْ ُل ُكمْ
َولَـ ِكنّ ال َ يَمُنّ َعلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَا ِدهِ} [إبراهيم .]11 :فالنبياء والرسل ل يكونون إل بشرًا ،ول
منافاة بي البشرية والرسالة.
وحيث إنم كانوا يعترفون بأن إبراهيم و إساعيل وموسى ـ عليهم السلم ـ كانوا رسلًا وكانوا بشرًا،
فإنم ل يدوا مالًا للصرار على شبهتهم هذه،فقالوا:أل يد ال لمل رسالته إل هذا اليتيم السكي،ما
كـان ال ليترك كـبار أهـل مكـة والطائف ويتخذ هذا السكي رسولًا{وَقَالُوا لَوْلَا نُزّلَ َهذَا اْلقُرْآنُ
عَلَى رَ ُجلٍ مّنَ اْلقَرْيَتَ ْينِ َعظِيمٍ} [الزخرف ،]31:قال تعال ردًا عليهم{:أَ ُهمْ َيقْسِمُونَ رَحْ َمةَ َربّكَ} [
الزخرف ،]32:يعن أن الوحى والرسالة رحة من ال و{ال ُ أَعْ َلمُ حَيْثُ َيجْعَلُ ِرسَالََتهُ} [النعام:
.]124
وانتقلوا بعد ذلك إل شبهة أخرى ،قالوا :إن رسل ملوك الدنيا يشون ف موكب من الدم والشم،
ويتمتعون بالبة واللل ،ويوفر لم كل أسباب الياة ،فما بال ممد يدفع ف السواق للقمة عيش وهو
يدعى أنه رسول ال ؟ {وَقَالُوا مَالِ َهذَا الرّسُولِ َي ْأكُ ُل الطّعَامَ َويَمْشِي فِي اْلأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ ِإلَيْهِ َم َلكٌ
فَيَكُونَ مَ َعهُ َنذِيرًا أَوْ يُ ْلقَى إِلَ ْيهِ كَنٌ أَوْ تَكُونُ َلهُ جَّنةٌ َي ْأكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظّالِمُونَ إِن تَتِّبعُونَ ِإلّا رَ ُجلًا
سحُورًا} [الفرقان ،]8 :7:ورد على شبهتهم هذه بأن ممدًا رسول ،يعن أن مهمته هو إبلغ رسالة
مّ ْ
ال إل كل صغي وكبي ،وضعيف وقوى ،وشريف ووضيع ،وحر وعبد ،فلو لبث ف البة واللل
والدم والشم والرس والواكبي مثل رسل اللوك ،ل يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم حت
يستفيدوا به ،وهم جهور البشر ،وإذن فاتت مصلحة الرسالة ،ول تعد لا فائدة تذكر.
أما إنكارهم البعث بعد الوت فلم يكن عندهم ف ذلك إل التعجب والستغراب والستبعاد العقلي،
فكانوا يقولونَ{ :أئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَ ِعظَامًا َأئِنّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَا ُؤنَا اْلأَ ّولُونَ} [الصافات،]17 ،16:
وكانوا يقولونَ { :ذِلكَ رَ ْجعٌ بَعِيدٌ} [ق ]3 :وكانوا يقولون على سبيل الستغراب{ :هَلْ َندُلّ ُكمْ َعلَى
َرجُلٍ يُنَبّئُ ُكمْ إِذَا مُزّقُْتمْ كُلّ مُمَ ّزقٍ ِإنّ ُكمْ لَفِي َخلْقٍ َجدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى ال ِ َك ِذبًا أَم ِبهِ جِّنةٌ} [سبأ.]8 ،7 :
وقال قائلهم:
وقد رد عليهم بتبصيهم ما يرى ف الدنيا ،فالـظال يوت دون أن يلقى جزاء ظلمه ،والظلوم يوت دون
أن يأخذ حقه من ظاله ،والحسن الصال يوت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلحه ،والفاجر السىء
يوت قبل أن يعاقب على سوء عمله ،فإن ل يكن بعث ول حياة ول جزاء بعد الوت لستوى الفريقان،
بل لكان الظال والفاجر أسعد من الظلوم والصال ،وهذا غي معقول إطلقا .ول يتصور من ال أن يبن
سلِمِيَ كَالْ ُمجْ ِرمِيَ مَا لَ ُكمْ كَ ْيفَ َتحْكُمُونَ} [
نظام خلقه على مثل هذا الفساد .قال تعال{ :أَفََنجْعَلُ الْمُ ْ
سلِمِيَ كَالْ ُمجْ ِرمِيَ مَا لَ ُكمْ كَ ْيفَ َتحْكُمُونَ} [ص،]28 :
القلم ،]36 ،35:وقال{ :أَفََنجْعَلُ الْمُ ْ
جعَلَ ُهمْ كَاّلذِينَ آمَنُوا وَ َعمِلُوا الصّاِلحَاتِ سَوَاء مّحْيَاهُم
ب اّلذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئَاتِ أّن نّ ْ
س َ
وقالً{ :أمْ حَ ِ
َومَمَاتُ ُهمْ سَاء مَا َيحْكُمُونَ} [الاثية.]21:
وأما الستبعاد العقلى فقال تعال ردًا عليه{ :أَأَنُتمْ أَ َشدّ َخ ْلقًا َأمِ السّمَاء بَنَاهَا} [النازعات ،]27:وقال:
{أَ َوَلمْ يَرَوْا أَنّ ال َ اّلذِي خَ َلقَ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضَ َوَلمْ َيعْيَ ِبخَ ْلقِهِنّ ِبقَادِرٍ عَلَى َأنْ يُحْيِيَ الْمَ ْوتَى بَلَى ِإّنهُ
شأَ َة اْلأُولَى فَ َل ْولَا تَذكّرُونَ} [الواقعة:
عَلَى كُلّ َش ْيءٍ َقدِيرٌ} [الحقاف ،]33 :وقالَ { :وَل َقدْ عَ ِلمُْت ُم النّ ْ
،]62وبي ما هو معروف عقلًا وعرفًا ،وهو أن العادة {أَهْ َونُ عَلَ ْيهِ} [الروم،]27 :وقال{ :كَمَا َب َدأْنَا
أَوّلَ خَ ْلقٍ ّنعِيدُهُ} [النبياء ،]104:وقال{ :أَ َفعَيِينَا بِاْلخَ ْل ِق الْأَوّلِ} [ق.]15 :
وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات ردًا مفحمًا يقنع كل ذى عقل ولب ،ولكنهم كانوا مشاغبي
مستكبين يريدون عُلوا ف الرض وفرض رأيهم على اللق ،فبقوا ف طغيانم يعمهون.
كان الشركون بنب إثارة هذه الشبهات يولون بي الناس وبي ساعهم القرآن ودعوة السلم بكل
طريق يكن ،فكانوا يطردون الناس ويثيون الشغب والضوضاء ويتغنون ويلعبون ،إذا رأوا أن النب صلى
ال عليه وسلم يتهيأ للدعوة ،أو إذا رأوه يصلى ويتلو القرآن .قال تعال{ :وَقَالَ اّلذِينَ َكفَرُوا لَا تَسْ َمعُوا
لِ َهذَا الْقُرْآنِ وَاْلغَوْا فِيهِ َلعَلّ ُكمْ َتغْلِبُونَ} [فصلت ]26:حت إن النب صلى ال عليه وسلم ل يتمكن من
تلوة القرآن عليهم ف مامعهم ونواديهم إل ف أواخر السنة الامسة من النبوة ،وذلك أيضًا عن طريق
الفاجأة ،دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلوة.
وكان النضر بن الارث ،أحد شياطي قريش قد قدم الية ،وتعلم با أحاديث ملوك الفرس ،وأحاديث
رستم واسفنديار ،فكان إذا جلس رسول ال صلى ال عليه وسلم ملسًا للتذكي بال والتحذير من نقمته
خلفه النضر ويقول :أنا و ال يا معشر قريش أحسن حديثًا منه ،ث يدثهم عن ملوك فارس ورستم
واسفنديار ،ث يقول :باذا ممد أحسن حديثًا من.
وف رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيَْنةً ،فكان ل يسمع بأحد يريد السلم إل انطلق به
إل قينته ،فيقول :أطعميه واسقيه وغنيه ،هذا خي ما يدعوك إليه ممد ،وفيه نزل قوله تعالَ { :ومِنَ النّاسِ
ضلّ عَن سَبِيلِ ال ِ} [لقمان.]6 :
حدِيثِ لِيُ ِ
مَن يَشْتَرِي لَهْ َو الْ َ
الضطهادات
أعمل الشركون الساليب الت ذكرناها شيئًا فشيئًا لحباط الدعوة بعد ظهورها ف بداية السنة الرابعة من
النبوة ،ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهم مقتصرون على هذه الساليب ل يتجاوزونا إل طريق
الضطهاد والتعذيب ،ولكنهم لا رأوا أن هذه الساليب ل تد نفعًا ف إحباط الدعوة السلمية استشاروا
فيما بينهم ،فقرروا القيام بتعذيب السلمي وفتنتهم عن دينهم ،فأخذ كل رئيس يعذب من دان من قبيلته
بالسلم ،وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق اليان.
وكان من الطبيعي أن يهرول الذناب والوباش خلف ساداتم وكبائهم ،ويتحركوا حسب مرضاتم
وأهوائهم ،فجروا على السلمي ـ ولسيما الضعفاء منهم ـ ويلت تقشعر منها اللود ،وأخذوهم
بنقمات تتفطر لسماعها القلوب.
كان أبو جهل إذا سع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه ،وأوعده بإبلغ السارة الفادحة ف
الال ،والاه ،وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به.
ولا علمت أم مصعب بن عمي بإسلمه منعته الطعام والشراب ،وأخرجته من بيته ،وكان من أنعم الناس
عيشًا ،فَتخَشّفَ جلده تشف الية.
وكان بلل مول أمية بن خلف المحي ،فكان أمية يضع ف عنقه حبلًا ،ث يسلمه إل الصبيان ،يطوفون به
ف جبال مكة ،ويرونه حت كان البل يؤثر ف عنقه ،وهو يقول :أ َحدٌ أ َحدٌ ،وكان أمية يـشده شـدًا ث
يضربه بالعصا ،و يلجئه إل اللوس ف حر الشمس ،كما كان يكرهه على الوع .وأشد من ذلك كله أنه
كان يرجه إذا حيت الظهية ،فيطرحه على ظهره ف الرمضاء ف بطحاء مكة ،ث يأمر بالصخرة العظيمة
فتوضع على صدره ،ث يقول :ل وال ل تـزال هكـذا حت توت أو تكفر بحمد ،وتعبد اللت
والعزى ،فيقول وهو ف ذلك :أحد،أحد ،ويقـول :لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها .ومر به أبو
بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلم أسود ،وقيل :بسبع أواق أو بمس من الفضة ،وأعتقه.
وكان عمار بن ياسر رضي ال عنه مول لبن مزوم ،أسلم هو وأبوه وأمه ،فكان الشركون ـ وعلى
رأسهم أبو جهل ـ يرجونم إل البطح إذا حيت الرمضاء فيعذبونم برها .ومر بم النب صلى ال عليه
وسلم وهم يعذبون فقال( :صبًا آل ياسر ،فإن موعدكم النة) ،فمات ياسر ف العذاب ،وطعن أبو جهل
سية ـ أم عمار ـ ف قبلها بربة فماتت ،وهي أول شهيدة ف السلم ،وهي سية بنت خياط مولة أب
حذيفة بن الغية بن عبد ال بن عمر بن مزوم ،وكانت عجوزًا كبية ضعيفة .وشددوا العذاب على عمار
بالر تارة ،وبوضع الصخر الحر على صدره أخرى ،وبغطه ف الاء حت كان يفقد وعيه .وقالوا له :ل
نتركك حت تسب ممدًا ،أو تقول ف اللت والعزى خيًا ،فوافقهم على ذلك مكرهًا ،وجاء باكيًا معتذرًا
إل النب صلى ال عليه وسلم .فأنزل ال { :مَن َكفَرَ بِال ِ مِن بَ ْعدِ إيَانِهِ إِلّ مَنْ ُأكْ ِرهَ وَ َقلُْبهُ ُمطْمَئِنّ
بِا ِليَانِ}الية [ النحل.] 106 :
وكان أبو ُفكَيْ َهةَ ـ واسة أفلح ـ مول لبن عبد الدار ،وكان من الزد .فكانوا يرجونه ف نصف النهار
ف حر شديد ،وف رجليه قيد من حديد ،فيجردونه من الثياب ،ويبطحونه ف الرمضاء ،ث يضعون على
ظهره صخرة حت ل يتحرك ،فكان يبقى كذلك حت ل يعقل ،فلم يزل يعذب كذلك حت هاجر إل
البشة الجرة الثانية ،وكانوا مرة قد ربطوا رجله ببل ،ث جروه وألقوه ف الرمضاء وخنقوه حت ظنوا أنه
قد مات ،فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه ل.
وكان خباب بن الرت مول لم أنار بنت سِباع الزاعية ،وكان حدادًا ،فلما أسلم عذبته مولته بالنار،
كانت تأتى بالديدة الحماة فتجعلها على ظهره أو رأسه ،ليكفر بحمد صلى ال عليه وسلم ،فلم يكن
يزيده ذلك إل إيانًا وتسليمًا ،وكان الشركون أيضًا يعذبونه فيلوون عنقه ،ويذبون شعره ،وقد ألقوه
على النار ،ث سحبوه عليها ،فما أطفأها إل وَدَكَ ظهره.
ي ُة أ َمةً رومية قد أسلمت فعذبت ف ال ،وأصيبت ف بصرها حت عميت ،فقيل لا :أصابتك
وكانت ِزنّ َ
اللت والعزى ،فقالت :ل وال ما أصابتن ،وهذا من ال ،وإن شاء كشفه ،فأصبحت من الغد وقد رد
ال بصرها ،فقالت قريش :هذا بعض سحر ممد.
وأسلمت أم عَُبيْس ،جارية لبن زهرة ،فكان يعذبا الشركون ،وباصة مولها السود بن عبد يغوث،
وكان من أشد أعداء رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ومن الستهزئي به.
وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بن عدى ،فكان عمر بن الطاب يعذبا ـ وهو يومئذ على الشرك ـ
فكان يضربا حت يفتر ،ث يدعها ويقول :وال ما أدعك إل سآمة ،فتقول :كذلك يفعل بك ربك.
ومـن أسلمـن وعـذبن مـن الـوارى :النهدية وابنتها ،وكانتا لمـرأة من بن عبد الدار.
ومن عذب من العبيد :عامر بن فُهَيْرَة ،كان يعذب حت يفقد وعيه ول يدرى ما يقول.
واشترى أبوبكر رضي ال عنه هؤلء الماء والعبيد رضي ال عنهم وعنهن أجعي ،فأعتقهم جيعًا .وقد
عاتبه ف ذلك أبوه أبو قحافة وقال :أراك تعتق رقابًا ضعافًا ،فلو أعتقت رجالًا جلدًا لنعوك .قال :إن أريد
صلَاهَا ِإلّا
وجه ال .فأنزل ال قرآنًا مدح فيه أبا بكر ،وذم أعداءه .قال تعالَ { :فأَنذَ ْرتُ ُكمْ نَارًا تَ َلظّى لَا يَ ْ
اْلأَ ْشقَى الّذِي َك ّذبَ َوتَ َولّى} [الليل ]16 :14:وهو أمية بن خلف ،ومن كان على شاكلته { َوسَُيجَنّبُهَا
سوْفَ يَرْضَى}
اْلأَْتقَى اّلذِي يُ ْؤتِي مَالَهُ يَتَ َزكّى َومَا ِلأَ َحدٍ عِن َدهُ مِن ّنعْ َمةٍ تُجْزَى ِإلّا ابِْتغَاء َو ْجهِ َرّبهِ اْلأَعْلَى َولَ َ
[الليـل ]21 :17:وهـو أبـو بـكـر الصديـق رضي ال عنه.
وأوذى أبو بكر الصديق رضي ال عنه أيضًا .فقد أخذه نوفل بن خويلد العدوى ،وأخذ معه طلحة بن
عبيد ال فشدها ف حبل واحد ،ليمنعهما عن الصلة وعن الدين فلم ييباه ،فلم يروعاه إل وها مطلقان
يصليان؛ ولذلك سيا بالقريني ،وقيل :إنا فعل ذلك عثمان بن عبيد ال أخو طلحة بن عبيد ال رضي ال
عنه.
والاصل أنم ل يعلموا بأحد دخل ف السلم إل وتصدوا له بالذى والنكال ،وكان ذلك سهلًا ميسورًا
بالنسبة لضعفاء السلمي ،ول سيما العبيد والماء منهم ،فلم يكن من يغضب لم ويميهم ،بل كانت
السادة والرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الوباش ،ولكن بالنسبة لن أسلم من الكبار
والشراف كان ذلك صعبًا جدًا؛ إذ كانوا ف عز ومنعة من قومهم ،ولذلك قلما كان يتريء عليهم إل
أشراف قومهم ،مع شيء كبي من اليطة والذر.
ايذاء الشركي السلمي
وأما بالنسبة لرسول ال صلى ال عليه وسلم فإنه صلى ال عليه وسلم كان رجلًا شهمًا وقورًا ذا شخصية
فذة ،تتعاظمه نفوس العداء والصدقاء بيث ل يقابل مثله إل بالجلل والتشريف ،ول يترئ على
اقتراف الدنايا والرذائل ضده إل أراذل الناس وسفهاؤهم ،ومع ذلك كان ف منعة أب طالب ،وأبو طالب
من رجال مكة العدودين ،كان معظمًا ف أصله ،معظمًا بي الناس ،فكان من الصعب أن يسر أحد على
إخفار ذمته واستباحة بيضته ،إن هذا الوضع أقلق قريشًا وأقامهم وأقعدهم ،ودعاهم إل تفكي سليم
يرجهم من الأزق دون أن يقعوا ف مذور ل يمد عقباه ،وقد هداهم ذلك إل أن يتاروا سبيل
الفاوضات مع السئول الكب :أب طالب ،ولكن مع شيء كبي من الكمة والدية ،ومع نوع من أسلوب
التحدي والتهديد الفي حت يذعن لا يقولون.
وفد قريش إل أب طالب
قال ابن إسحاق :مشى رجال من أشراف قريش إل أب طالب ،فقالوا :يا أبا طالب ،إن ابن أخيك قد
سب آلتنا ،وعاب ديننا ،و َسفّه أحلمنا ،وضلل آباءنا ،فإما أن تكفه عنا ،وإما أن تلى بيننا وبينه ،فإنك
على مثل ما نن عليه من خلفه ،فنكفيكه ،فقال لم أبو طالب قولًا رقيقًا وردهم ردًا جيلًا ،فانصرفوا
عنه ،ومضى رسول ال صلى ال عليه وسلم على ما هو عليه ،يظهر دين ال ويدعو إليه .ولكن ل تصب
قريش طويلًا حي رأته صلى ال عليه وسلم ماضيًا ف عمله ودعوته إل ال ،بل أكثرت ذكره وتذامرت
فيه ،حت قررت مراجعة أب طالب بأسلوب أغلظ وأقسى من السابق.
َعظُم على أب طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد ،فبعث إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال له :يا
بن أخي ،إن قومك قد جاءون فقالوا ل كذا وكذا ،فأبق عليّ وعلى نفسك ،ول تملن من المر ما ل
أطيق ،فظن رسول ال صلى ال عليه وسلم أن عمه خاذله ،وأنه ضعُف عن نصرته ،فقال( :يا عم ،وال لو
وضعوا الشمس ف يين والقمر ف يسارى على أن أترك هذا المر ـ حت يظهره ال أو أهلك فيه ـ ما
تركته) ،ث استعب وبكى ،وقام ،فلما ول ناداه أبو طالب ،فلما أقبل قال له :اذهب يا بن أخي ،فقل ما
أحببت ،فو ال ل أُسْلِمُك لشىء أبدًا وأنشد:
ولا رأت قريش أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ماض ف عمله عرفت أن أبا طالب قد أب خذلن
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأنه ممع لفراقهم وعداوتم ف ذلك ،فذهبوا إليه بعمارة ابن الوليد بن
الغية وقالوا له :يا أبا طالب ،إن هذا الفت أنْ َهدَ فت ف قريش وأجله ،فخذه فلك عقله ونصره ،واتذه
ولدًا فهو لك ،وأسْ ِل ْم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك ،وفرق جاعة قومك ،وسفه
أحلمهم ،فنقتله ،فإنا هو رجل برجل ،فقال :وال لبئس ما تسومونن ،أتعطون ابنكم أغذوه لكم،
وأعطيكم ابن تقتلونه؟ هذا وال ما ل يكون أبدًا .فقال الطعم بن عدى بن نوفل ابن عبد مناف :وال يا
أبا طالب لقد أنصفك قومك ،وجهدوا على التخلص ما تكره ،فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا ،فقال:
وال ما أنصفتمون ،ولكنك قد أجعت خذلن ومظاهرة القوم علىّ ،فاصنع ما بدا لك.
ولا فشلت قريش ف هذه الفاوضات ،ول توفق ف إقناع أب طالب بنع رسول ال صلى ال عليه وسلم
وكفه عن الدعوة إل ال ،قررت أن يتار سبيل قد حاولت تنبه والبتعاد منه مافة مغبته وما يؤول إليه،
وهو سبيل العتداء على ذات الرسول صلى ال عليه وسلم.
واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتترمه منذ ظهرت الدعوة على الساحة ،فقد صعب على غطرستها
وكبيائها أن تصب طويلًا ،فمدت يد العتداء إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،مع ما كانت تأتيه من
السخرية والستهزاء والتشوية والتلبيس والتشويش وغي ذلك .وكان من الطبيعى أن يكون أبو لب ف
مقدمتهم وعلى رأسهم ،فإنه كان أحد رؤوس بن هاشم ،فلم يكن يشى ما يشاه الخرون ،وكان عدوًا
لدودًا للسلم وأهله ،وقد وقف موقف العداء من رسول ال صلى ال عليه وسلم منذ اليوم الول،
واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش ،وقد أسلفنا ما فعل بالنب صلى ال عليه وسلم ف ملس بن هاشم،
وما فعل على الصفا.
وكان أبو لب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنت رسول ال صلى ال عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل
البعثة ،فلما كانت البعثة أمرها بتطليقهما بعنف وشدة حت طلقاها.
ولا مات عبد ال ـ البن الثان لرسول ال صلى ال عليه وسلم ـ استبشر أبو لب وذهب إل الشركي
يبشرهم بأن ممدًا صار أبتر.
وقد أسلفنا أن أبا لب كان يول خلف النب صلى ال عليه وسلم ف موسم الج والسواق لتكذيبه ،وقد
روى طارق بن عبد ال الحارب ما يفيد أنه كان ل يقتصر على التكذيب بل كان يضربه بالجر حت
يدمى عقباه.
وكانت امرأة أب لب ـ أم جيل أروى بنت حرب بن أمية ،أخت أب سفيان ـ ل تقل عن زوجها ف
عداوة النب صلى ال عليه وسلم ،فقد كانت تمل الشوك ،وتضعه ف طريق النب صلى ال عليه وسلم
وعلى بابه ليلًا ،وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانا ،وتطيل عليه الفتراء والدس ،وتؤجج نار الفتنة،
وتثي حربًا شعواء على النب صلى ال عليه وسلم؛ ولذلك وصفها القرآن بمالة الطب.
ولا سعت ما نزل فيها وف زوجها من القرآن أتت رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو جالس ف السجد
عند الكعبة ،ومعه أبو بكر الصديق وف يدها فِهْرٌ [أي بقدار ملء الكف] من حجارة ،فلما وقفت عليهما
أخذ ال ببصرها عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فل ترى إل أبا بكر ،فقالت :يا أبا بكر ،أين
صاحبك؟ قد بلغن أنه يهجون ،وال لو وجدته لضربت بذا الفهر فاه ،أما وال إن لشاعرة .ث قالت:
ث انصرفت ،فقال أبو بكر :يا رسول ال ،أما تراها رأتك؟ فقال( :ما رأتن ،لقد أخذ ال ببصرها عن).
وروى أبو بكر البزار هذه القصة ،وفيها :أنا لا وقفت على أب بكر قالت :أبا بكر ،هجانا صاحبك ،فقال
أبو بكر :ل ورب هذه البنية ،ما ينطق بالشعر ول يتفوه به ،فقالت :إنك لُصدّق.
كان أبو لب يفعل كل ذلك وهو عم رسول ال صلى ال عليه وسلم وجاره ،كان بيته ملصقا ببيته ،كما
كان غيه من جيان رسول ال صلى ال عليه وسلم يؤذونه وهو ف بيته.
قال ابن إسحاق :كان النفر الذين يؤذون رسول ال صلى ال عليه وسلم ف بيته أبا لب ،والكم بن أب
العاص بن أمية ،وعقبة بن أب معيط ،وعدى بن حراء الثقفي ،وابن الصداء الذل ـ وكانوا جيانه ـ ل
يسلم منهم أحد إل الكم بن أب العاص ،فكان أحدهم يطرح عليه صلى ال عليه وسلم رحم الشاة وهو
يصلى ،وكان أحدهم يطرحها ف برمته إذا نصبت له ،حت اتذ رسول ال صلى ال عليه وسلم حجرًا
ليستتر به منهم إذا صلى فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الذى يرج به على
العود ،فيقف به على بابه ،ث يقول( :يا بن عبد مناف ،أي جوار هذا؟) ث يلقيه ف الطريق.
وازداد عقبة بن أب مُعَيْط ف شقاوته وخبثه ،فقد روى البخاري عن عبد ال بن مسعود رضي ال عنه:أن
النب صلى ال عليه وسلم كان يصلى عند البيت ،وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض:
سلَ جَزُور بن فلن فيضعه على ظهر ممد إذا سجد ،فانبعث أشقى القوم [وهو عقبة بن أب
أيكم يىء ب َ
معيط] فجاء به فنظر ،حت إذا سجد النب وضع على ظهره بي كتفيه ،وأنا أنظر ،ل أغن شيئًا ،لو كانت
ل منعة ،قال :فجعلوا يضحكون ،وييل بعضهم على بعضهم [أي يتمايل بعضهم على بعض مرحًا وبطرًا]
ورسول ال صلى ال عليه وسلم ساجد ،ل يرفع رأسه ،حت جاءته فاطمة ،فطرحته عن ظهره ،فرفع
رأسه ،ث قال[ :ال م عليك بقريش] ثلث مرات ،فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم ،قال :وكانوا يرون
أن الدعوة ف ذلك البلد مستجابة ،ث سى( :ال م عليك بأب جهل ،وعليك بعتبة بن ربيعة ،وشيبة بن
ربيعة ،والوليد بن عتبة ،وأمية بن خلف ،وعقبة بن أب معيط) ـ وعد السابع فلم نفظه ـ فوالذي نفسى
بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول ال صلى ال عليه وسلم صرعى ف القَلِيب ،قليب بدر.
وكان أمية بن خلف إذا رأي رسول ال صلى ال عليه وسلم هزه ولزه .وفيه نزلَ { :ويْلٌ لّ ُكلّ هُمَ َزةٍ
لّمَ َزةٍ} [سورة المزة ]1:قال ابن هشام :المزة :الذي يشتم الرجل علنية ،ويكسر عينيه ،ويغمز به.
واللمزة :الذي يعيب الناس سرًا ،ويؤذيهم.
أما أخوه أب بن خلف فكان هو وعقبة بن أب معيط متصافيي .وجلس عقبة مرة إل النب صلى ال عليه
وسلم وسع منه ،فلما بلغ ذلك أبيًا أنبه وعاتبه ،وطلب منه أن يتفل ف وجه رسول ال صلى ال عليه
وسلم ففعل ،وأب بن خلف نفسه فت عظمًا رميمًا ث نفخه ف الريح نو رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وكان الخنس بن شَرِيق الثقفي من ينال من رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد وصفه القرآن بتسع
صفات تدل على ما كان عليه ،وهي ف قوله تعالَ {:ولَا ُت ِطعْ كُلّ حَلّافٍ مّهِيٍ هَمّازٍ مّشّاء بِنَمِيمٍ مَنّاعٍ
لّ ْلخَيْرِ ُمعَْتدٍ أَثِيمٍ عُتُلّ بَ ْعدَ َذِلكَ َزنِيمٍ} [القلم.]13 :10:
وكان أبو جهل يىء أحيانًا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يسمع منه القرآن ،ث يذهب عنه فل يؤمن
ول يطيع ،ول يتأدب ول يشى ،ويؤذى رسول ال صلى ال عليه وسلم بالقول ،ويصد عن سبيل ال ،ث
ص ّدقَ َولَا
يذهب متالًا با فعل ،فخورًا با ارتكب من الشر ،كأن ما فعل شيئًا يذكر ،وفيه نزل{ :فَلَا َ
صلّى} [القيامة ،]31:وكان ينع النب صلى ال عليه وسلم عن الصلة منذ أول يوم رآه يصلى ف
َ
الرم ،ومرة مر به وهو يصلى عند القام فقال :يا ممد ،أل أنك عن هذا ،وتوعده ،فأغلظ لــه
رسـول ال صلى ال عليه وسلم وانتـهره ،فقال :يا ممد ،بأي شىء تددن؟ أما وال إن لكثر هذا
الوادى ناديًا .فأنزل ال { َفلَْي ْدعُ نَا ِديَه َسَن ْدعُ ال ّزبَانَِيةَ} [العلق .]18 ،17:وف رواية أن النب صلى ال
عليه وسلم أخذ بناقه وهزه ،وهو يقول له{:أَ ْولَى َلكَ َفأَ ْولَى ُثمّ أَ ْولَى َلكَ َفأَ ْولَى} [القيامة]35 ،34:
فقال عدو ال :أتوعدن يا ممد؟ وال ل تستطيع أنت ول ربك شيئًا ،وإن لعز من مشى بي جبليها.
ول يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا النتهار ،بل ازداد شقاوة فيما بعد .أخرج مسلم عن أب
هريرة قال :قال أبو جهل :يعفر ممد وجهه بي أظهركم؟ فقيل :نعم ،فقال :واللت والعزى ،لئن رأيته
لطأن على رقبته ،ولعفرن وجهه ،فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يصلى ،زعم ليطأ رقبته ،فما
فجأهم إل وهو ينكص على عقبيه ،ويتقى بيديه ،فقالوا :ما لك يا أبا الكم؟ قال :إن بين وبينه لندقًا من
نار وهولًا وأجنحةً ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :لو دنا من لختطفته اللئكة عضوًا عضوًا).
هذه صورة مصغرة جدًا لا كان يتلقاه رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمون من الظلم والسف
والور على أيدى طغاة الشركي ،الذين كانوا يزعمون أنم أهل ال وسكان حرمه.
وكان من مقتضيات هذه الظروف التأزمة أن يتار رسول ال صلى ال عليه وسلم موقفًا حازمًا ينقذ به
السلمي عما دههم من البلء ،ويفف وطأته بقدر الستطاع ،وقد اتذ رسول ال صلى ال عليه وسلم
خطوتي حكيمتي كان لما أثرها ف تسيي الدعوة وتقيق الدف ،وها:
1ـ اختيار دار الرقم بن أب الرقم الخزومى مركزا للدعوة ومقرًا للتربية.
2ـ أمر السلمي بالجرة إل البشة.
دار الرقم
كانت هذه الدار ف أصل الصفا ،بعيدة عن أعي الطغاة ومالسهم ،فاختارها رسول ال صلى ال عليه
وسلم ليجتمع فيها بالسلمي سرًا ،فيتلو عليهم آيات ال ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والكمة؛ وليؤدى
السلمون عبادتم وأعمالم ،ويتلقوا ما أنزل ال على رسوله وهم ف أمن وسلم ،وليدخل من يدخل ف
السلم ول يعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة.
وما ل يكن يشك فيه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لو اجتمع بالسلمي علنا لاول الشركون بكل
ما عندهم من القسوة والغلظة أن يولوا بينه وبي ما يريد من تزكية نفوسهم ومن تعليمهم الكتاب
والكمة ،وربا أفضى ذلك إل مصادمة الفريقي ،بل قد وقع ذلك فعلًا .فقد ذكر ابن إسحاق أن
أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم كانوا يتمعون ف الشعاب ،فيصلون فيها سرًا ،فرآهم نفر من
كفار قريش ،فسبوهم وقاتلوهم ،فضرب سعد بن أب وقاص رجلًا فسال دمه ،وكان أول دم هريق ف
السلم.
ومعلوم أن الصادمة لو تعددت وطالت لفضت إل تدمي السلمي وإبادتم ،فكان من الكمة السريةُ
والختفاء ،فكان عامة الصحابة ُيخْفُون إسلمهم وعبادتم واجتماعهم ،أما رسول ال صلى ال عليه
وسلم فكان يهر بالدعوة والعبادة بي ظهرإن الشركي ،ل يصرفه عن ذلك شىء ،ولكن كان يتمع مع
السلمي سرًا؛ نظرًا لصالهم وصال السلم.
الجرة الول إل البشة
كانت بداية العتداءات ف أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة ،بدأت ضعيفة ،ث ل تزل تشتد يومًا
فيومًا وشهرًا فشهرا ،حت تفاقمت ف أواسط السنة الامسة ،ونبا بم القام ف مكة ،وأخذوا يفكرون ف
حيلة تنجيهم من هذا العذاب الليم ،وف هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشي إل اتاذ سبيل الجرة،
وتعلن بأن أرض ال ليست بضيقة {لِ ّلذِينَ أَحْسَنُوا فِي َه ِذهِ الدّنْيَا حَسََنةٌ َوأَ ْرضُ ال ِ وَا ِس َعةٌ إِنّمَا يُوَفّى
الصّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر.]10:
و َسقَطَ ف أيديهم لا أحسوا أن جلل كلم ال لَوّى زمامهم ،فارتكبوا عي ما كانوا يبذلون قصارى
جهدهم ف موه وإفنائه ،وقد توال عليهم اللوم والعتاب من كل جانب ،من ل يضر هذا الشهد من
الشركي ،وعند ذلك كذبوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم
بكلمة تقدير ،وأنه قال عنها ما كانوا يرددونه هم دائما من قولم( :تلك الغرانيـق العلى ،وإن شفاعتهم
لترتى) ،جاءوا بذا الفك البـي ليعـتذروا عـن سجودهم مع النب صلى ال عليه وسلم ،وليس
يستغـــرب هـذا مـن قـوم كانوا يألفون الكذب ،ويطيلون الدس والفتراء.
وبلغ هذا الب إل مهاجري البشة ،ولكن ف صورة تتلف تامًا عن صورته القيقية ،بلغهم أن قريشًا
أسلمت ،فرجعوا إل مكة ف شوال من نفس السنة ،فلما كانوا دون مكة ساعة من نار وعرفوا جلية
المر رجع منهم من رجع إل البشة ،ول يدخل ف مكة من سائرهم أحد إل مستخفيًا ،أو ف جوار رجل
من قريش.
ث اشتد عليهم وعلى السلمي البلء والعذاب من قريش ،وسطت بم عشائرهم ،فقد كان صعب على
قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الوار ،ول ير رسول ال صلى ال عليه وسلم بدا من أن يشي على
أصحابه بالجرة إل البشة مرة أخرى.
وف هذه الرة هاجر من الرجال ثلثة وثانون رجلًا إن كان فيهم عمار ،فإنه يشك فيه ،وثان عشرة
أوتسع عشرة امرأة.
عز على الشركي أن يد الهاجرون مأمنا لنفسهم ودينهم ،فاختاروا رجلي جلدين لبيبي ،وها :عمرو
بن العاص ،وعبد ال بن أب ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الدايا الستطرفة للنجاشي
ولبطارقته ،وبعد أن ساق الرجلن تلك الدايا إل البطارقة ،وزوداهم بالجج الت يطرد با أولئك
السلمون ،وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيوا على النجاشي بإقصائهم ،حضرا إل النجاشي ،وقدما له
الديا ث كلماه فقال له:
أيها اللك ،إنه قد ضَوَى إل بلدك غلمان سفهاء ،فارقوا دين قومهم ،ول يدخلوا ف دينك ،وجاءوا بدين
ابتدعوه ،ل نعرفه نن ول أنت ،وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛
لتردهم إليهم ،فهم أعلى بم عينًا ،وأعلم با عابوا عليهم ،وعاتبوهم فيه.
وقالت البطارقة :صدقا أيها اللك ،فأسلمهم إليهما ،فليداهم إل قومهم وبلدهم.
ولكن رأي النجاشي أنه ل بد من تحيص القضية ،وساع أطرافها جيعًا .فأرسل إل السلمي ،ودعاهم،
فحضروا ،وكانوا قد أجعوا على الصدق كائنًا ما كان .فقال لم النجاشي :ما هذا الدين الذي فارقتم فيه
قومكم ،ول تدخلوا به ف دين ول دين أحد من هذه اللل ؟
قال جعفر بن أب طالب ـ وكان هو التكلم عن السلمي :أيها اللك كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الصنام
ونأكل اليتة ،ونأتى الفواحش ،ونقطع الرحام ،ونسىء الوار ،ويأكل منا القوى الضعيف ،فكنا على
ذلك حت بعث ال إلينا رسولًا منا ،نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ،فدعانا إل ال لنوحده ونعبده،
ونلع ما كنا نعبد نن وآباؤنا من دونه من الجارة والوثان ،وأمرنا بصدق الديث ،وأداء المانة،
وصلة الرحم ،وحسن الوار ،والكف عن الحارم والدماء ،ونانا عن الفواحش ،وقول الزور ،وأكل مال
اليتيم،وقذف الحصنات،وأمرنا أن نعبد ال وحده،ل نشرك به شيئًا،وأمرنا بالصلة والزكاة والصيام ـ
فعدد عليه أمور السلم ـ فصدقناه ،وآمنا به ،واتبعناه على ما جاءنا به من دين ال ،فعبدنا ال وحده،
فلم نشرك به شيئًا ،وحرمنا ما حرم علينا ،وأحللنا ما أحل لنا ،فعدا علينا قومنا ،فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛
ليدونا إل عبادة الوثان من عبادة ال تعال ،وأن نستحل ما كنا نستحل من البائث ،فلما قهرونا
وظلمونا وضيقوا علينا ،وحالوا بيننا وبي ديننا خرجنا إل بلدك ،واخترناك على من سواك ،ورغبنا ف
جوارك ،ورجونا أل نظلم عندك أيها اللك.
فقال له النجاشي :هل معك ما جاء به عن ال من شيء؟ فقال له جعفر :نعم .فقال له النجاشي :فاقرأه
على ،فقرأ عليه صدرًا من{ :كهيعص} فبكى وال النجاشي حت اخضلت ليته ،وبكت أساقفته حت
أخْضَلُوا مصاحفهم حي سعوا ما تل عليهم ،ث قال لم النجاشي :إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج
من مشكاة واحدة ،انطلقا ،فل وال ل أسلمهم إليكما ،ول يكادون ـ ياطب عمرو بن العاص وصاحبه
ـ فخرجا ،فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد ال بن أب ربيعة :وال لتينه غدًا عنهم با أستأصل به
خضراءهم .فقال له عبد ال بن أب ربيعة :ل تفعل ،فإن لم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا ،ولكن أصر
عمرو على رأيه.
فلما كان الغد قال للنجاشي :أيها اللك ،إنم يقولون ف عيسى ابن مري قولًا عظيمًا ،فأرسل إليهم
النجاشي يسألم عن قولم ف السيح ففزعوا ،ولكن أجعوا على الصدق ،كائنًا ما كان ،فلما دخلوا عليه
وسألم ،قال له جعفر :نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى ال عليه وسلم :هو عبد ال ورسوله وروحه
وكلمته ألقاها إل مري العذراء البَتُول.
فأخذ النجاشي عودًا من الرض ث قال :وال ما عدا عيسى ابن مري ما قلت هذا العود ،فتناخرت
بطارقته ،فقال :وإن َنخَ ْرتُم وال .
ث قال للمسلمي :اذهبوا فأنتم شُيُو ٌم بأرضي ـ والشيوم :المنون بلسان البشة ـ من سَبّكم غَرِم ،من
سبكم غرم ،من سبكم غرم ،ما أحب أن ل َدبْرًا من ذهب وإن آذيت رجلًا منكم ـ والدبر :البل
بلسان البشة.
ث قال لاشيته :ردّوا عليهما هداياها فل حاجة ل با ،فوال ما أخذ ال منـي الرشـوة حي رد علي
ملكي ،فآخذ الرشـوة فيــه ،وما أطاع الناس ف فأطيعـهم فيه.
قالت أم سلمة الت تروى هذه القصة :فخرجا من عنده مقبوحي مردودًا عليهما ما جاءا به ،وأقمنا عنده
بي دار مع خي جار.
هذه رواية ابن إسحاق ،وذكر غيه أن وفادة عمرو بن العاص إل النجاشي كانت بعد بدر ،وجع بعضهم
بأن الوفادة كانت مرتي .ولكن السئلة والجوبة الت ذكروا أنا دارت بي النجاشي وبي جعفر بن أب
طالب ف الوفادة الثانية هي نفس السئلة والجوبة الت ذكرها ابن إسحاق هنا ،ث إن تلك السئلة تدل
بفحواها أنا كانت ف أول مرافعة قدمت إل النجاشي.
الشدة ف التعذيب وماولة القضاء على رسول ال صلى ال عليه وسلم
ولا أخفق الشركون ف مكيدتم ،وفشلوا ف استرداد الهاجرين استشاطوا غضبًا ،وكادوا يتميزون غيظًا،
فاشتدت ضراوتم وانقضوا على بقية السلمي ،ومدوا أيديهم إل رسول ال صلى ال عليه وسلم بالسوء،
وظهرت منهم تصرفات تدل على أنم أرادوا القضاء على رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ ليستأصلوا
جذور الفتنة الت أقضت مضاجعهم ،حسب زعمهم.
أما بالنسبة للمسلمي فإن الباقي منهم ف مكة كانوا قليلي جدًا ،وكانوا إما ذوى شرف ومنعة ،أو متمي
بوار أحد ،ومع ذلك كانوا يفون إسلمهم ويبتعدون عن أعي الطغاة بقدر المكان ،ولكنهم مع هذه
اليطة والذر ل يسلموا كل السلمة من الذى والسف والور.
وأما رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقد كان يصلى ويعبد ال أمام أعي الطغاة ،ويدعو إل ال سرًا
وجهرًا ل ينعه عن ذلك مانع ،ول يصرفه عنه شيء؛ إذ كان ذلك من جلة تبليغ رسالة ال منذ أمره ال
ص َدعْ بِمَا تُ ْؤمَرُ َوأَعْ ِرضْ َع ِن الْمُشْ ِركِيَ} [الجر ،]94:وبذلك كان يكن
سبحانه وتعال بقوله{ :فَا ْ
للمشركي أن يتعرضوا له إذا أرادوا ،ول يكن ف الظاهر ما يول بينهم وبي ما يريدون إل ما كان له
صلى ال عليه وسلم من الشمة والوقار ،وما كان لب طالب من الذمة والحترام ،وما كانوا يافونه من
مغبة سوء تصرفاتم ،ومن اجتماع بن هاشم عليهم ،إل أن كل ذلك ل يعد له أثره الطلوب ف نفوسهم؛
إذ بدءوا يستخفون به منذ شعروا بانيار كيانم الوثن وزعامتهم الدينية أمام دعوته صلى ال عليه وسلم.
وما روت لنا كتب السنة والسية من الحداث الت تشهد القرائن بأنا وقعت ف هذه الفترة :أن عتيبة بن
جمِ إِذَا هَوَى} [النجم]1:
أب لب أتى يومًا رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :أنا أكفر بـ {وَالّن ْ
وبالذي {ُثمّ َدنَا فََت َدلّى} [النجم ]8:ث تسلط عليه بالذى ،وشق قميصه ،وتفل ف وجهه صلى ال عليه
وسلم ،إل أن البزاق ل يقع عليه ،وحينئذ دعا عليه النب صلى ال عليه وسلم وقال( :ال م سلط عليه
كلبًا من كلبك) ،وقد استجيب دعاؤه صلى ال عليه وسلم ،فقد خرج عتيبة إثر ذلك ف نفر من قريش،
فلما نزلوا بالزرقاء من الشام طاف بم السد تلك الليلة ،فجعل عتيبة يقول :يا ويل أخي هو وال آكلى
كما دعا ممد علىّ ،قتلن وهو بكة ،وأنا بالشام ،ث جعلوه بينهم ،وناموا من حوله ،ولكن جاء السد
وتطاهم إليه ،فضغم رأسه.
ومنها :ما ذكر أن عقبة بن أب ُمعَيْط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حت كادت عيناه تبزان.
وما يدل على أن طغاتم كانوا يريدون قتله صلى ال عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق عن عبد ال ابن
عمرو بن العاص قال :حضرتم وقد اجتمعوا ف الجر ،فذكروا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقالوا:
ما رأينا مثل ما صبنا عليه من أمر هذا الرجل ،لقد صبنا منه على أمر عظيم ،فبينا هم كذلك إذ طلع
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأقبل يشى حت استلم الركن ،ث مر بم طائفًا بالبيت فغمزوه ببعض
القول ،فعرفت ذلك ف وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلما مر بم الثانية غمزوه بثلها ،فعرفت
ذلك ف وجهه ،ث مر بم الثالثة فغمزوه بثلها .فوقف ث قال( :أتسمعون يا معشر قريش ،أما والذي
نفسى بيده ،لقد جئتكم بالذبح) ،فأخذت القوم كلمته ،حت ما منهم رجل إل كأنا على رأسه طائر واقع،
حت إن أشدهم فيه ليفؤه بأحسن ما يد ،ويقول :انصرف يا أبا القاسم ،فو ال ما كنت جهولًا.
فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم ،فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به،
فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بجمع ردائه ،وقام أبو بكر دونه ،وهو يبكى ويقول :أتقتلون رجلًا أن يقول
رب ال ؟ ث انصرفوا عنه ،قال ابن عمرو :فإن ذلك لشد ما رأيت قريشًا نالوا منه قط .انتهي ملخصًا.
وف رواية البخاري عن عروة بن الزبي قال :سألت ابن عمرو بن العاص :أخبن بأشد شيء صنعه
الشركون بالنب صلى ال عليه وسلم ،قال :بينا النب صلى ال عليه وسلم يصلي ف حجر الكعبة إذ أقبل
عقبة بن أب معيط ،فوضع ثوبه ف عنقه ،فخنقه خنقًا شديدًا؛ فأقبل أبو بكر حت أخذ بنكبيه ،ودفعه عن
النب صلى ال عليه وسلم ،وقال :أتقتلون رجلًا أن يقول رب ال ؟.
وف حديث أساء :فأتى الصريخ إل أب بكر فقال :أدرك صاحبك ،فخرج من عندنا وعليه غدائر أربـع،
فـخرج وهــو يـقول :أتقتلون رجلًا أن يقول رب ال ؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أب بكر ،فرجع إلينا
ل نس شيئًا من غدائره إل رجع معنــا.
دخول كبار الصحابة ف السلم
خلل هذا الو اللبد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق ،وهو إسلم حزة بن عبد الطلب
رضي ال عنه أسلم ف أواخر السنة السادسة من النبوة ،والغلب أنه أسلم ف شهر ذى الجة.
وسبب إسلمه :أن أبا جهل مر برسول ال صلى ال عليه وسلم يومًا عند الصفا فآذاه ونال منه ،ورسول
جهُ حت نزف منه الدم ،ث
شّال صلى ال عليه وسلم ساكت ل يكلمه ،ث ضربه أبو جهل بجر ف رأسه فَ َ
انصرف عنه إل نادى قريش عند الكعبة ،فجلس معهم ،وكانت مولة لعبد ال بن ُجدْعَان ف مسكن لا
على الصفا ترى ذلك ،وأقبل حزة من القَنَص مُتَ َو ّشحًا قوسه ،فأخبته الولة با رأت من أب جهل،
فغضب حزة ـ وكان أعز فت ف قريش وأشده شكيمة ـ فخرج يسعى ،ل يقف لحد؛ معدًا لب جهل
صفّرَ اسْتَه ،تشتم ابن أخي وأنا على
إذا لقيه أن يوقع به ،فلما دخل السجد قام على رأسه ،وقال له :يا مُ َ
دينه ؟ ث ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة ،فثار رجال من بن مزوم ـ حى أب جهل ـ وثار بنو هاشم
ـ حي حزة ـ فقال أبو جهل :دعوا أبا عمارة ،فإن سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا.
وكان إسلم حزة أول المر أنفة رجل ،أب أن يهان موله ،ث شرح ال صدره فاستمسك بالعروة الوثقى،
واعتز به السلمون أيا اعتزاز.
وخلل هذا الو اللبد بغيوم الظلم والعدوان أضاء برق آخر أشد بريقًا وإضاءة من الول ،أل وهو إسلم
عمر بن الطاب ،أسلم ف ذى الجـة سـنة سـت مـن النبـوة .بعد ثلثة أيام من إسلم حزة رضي
ال عنه وكان النب صلى ال عليه وسلم قد دعا ال تعال لسلمه .فقد أخرج الترمذى عن ابن عمر،
وصححه ،وأخرج الطبان عن ابن مسعود وأنس أن النب صلى ال عليه وسلم قال( :ال م أعز السلم
بأحب الرجلي إليك :بعمر بن الطاب أو بأب جهل بن هشام) فكان أحبهما إل ال عمر رضي ال عنه.
وبعد إدارة النظر ف جيع الروايات الت رويت ف إسلمه يبدو أن نزول السلم ف قلبه كان تدرييًا،
ولكن قبل أن نسوق خلصتها نرى أن نشي إل ما كان يتمتع به رضي ال عنه من العواطف والشاعر.
كان رضي ال عنه معروفًا بدة الطبع وقوة الشكيمة ،وطالا لقى السلمون منه ألوان الذى ،والظاهر أنه
كانت تصطرع ف نفسه مشاعر متناقضة؛ احترامه للتقاليد الت سنها الباء والجداد وتمسه لا ،ث
إعجابه بصلبة السلمي ،وباحتمالم البلء ف سبيل العقيدة ،ث الشكوك الت كانت تساوره ـ كأي
عاقل ـ ف أن ما يدعو إليه السلم قد يكون أجل وأزكى من غيه ،ولذا ما إن يَثُور حت َيخُور.
وخلصة الروايات ـ مع المع بينها ـ ف إسلمه رضي ال عنه :أنه التجأ ليلة إل البيت خارج بيته،
فجاء إل الرم ،ودخل ف ستر الكعبة ،والنب صلى ال عليه وسلم قائم يصلي ،وقد استفتح سورة {
اْلحَاقّةُ}،فجعل عمر يستمع إل القرآن ،ويعجب من تأليفه ،قال :فقلت ـ أي ف نفسي :هذا وال شاعر،
كما قالت قريش ،قال :فقرأ {ِإنّهُ َلقَوْلُ رَسُولٍ كَ ِريٍ َومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُ ْؤمِنُونَ} [الاقة،40:
]41قال :قلت :كاهن .قالَ {:ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا َتذَكّرُونَ تَنِيلٌ مّن ّربّ اْلعَالَمِيَ} إل آخر
السورة [الاقة . ]43 ،42:قال :فوقع السلم ف قلب.
كان هذا أول وقوع نواة السلم ف قلبه ،لكن كانت قشرة النعات الاهلية ،وعصبية التقليد ،والتعاظم
بدين الباء هي غالبـة على مخ القيقة الت كان يتهمس با قلبه ،فبقى مدًا ف عمله ضد السلم غي
مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة.
وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول ال صلى ال عليه وسلم أنه خرج يومًا متوشحًا سيفه يريد
القضاء على النب صلى ال عليه وسلم ،فلقيه نعيم بن عبد ال النحام العدوي ،أو رجل من بن زهرة ،أو
رجل من بن مزوم فقال :أين تعمد يا عمر؟ قال :أريد أن أقتل ممدًا .قال :كيف تأمن من بن هاشم ومن
بن زهرة وقد قتلت ممدًا؟ فقال له عمر :ما أراك إل قد صبوت ،وتركت دينك الذي كنت عليه ،قال:
أفل أدلك على العجب يا عمر! إن أختك وخَتََنكَ قد صبوا ،وتركا دينك الذي أنت عليه ،فمشى عمر
دامرًا حت أتاها ،وعندها خباب بن الرت ،معه صحيفة فيها[ :طه] يقرئهما إياها ـ وكان يتلف إليهما
ويقرئهما القرآن ـ فلما سع خباب حس عمر توارى ف البيت ،وسترت فاطمة ـ أخت عمر ـ
الصحيفة .وكان قد سع عمر حي دنا من البيت قراءة خباب إليهما ،فلما دخل عليهما قال :ما هذه
الينمة الت سعتها عندكم؟ فقال :ما عدا حديثًا تدثناه بيننا .قال :فلعلكما قد صبوتا .فقال له ختنه :يا
عمر ،أرأيت إن كان الق ف غي دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدًا .فجاءت أخته فرفعته
عن زوجها ،فنفحها نفحة بيده ،فدمى وجهها ـ وف رواية ابن إسحاق أنه ضربا فشجها ـ فقالت ،وهي
غضب :يا عمر ،إن كان الق ف غي دينك ،أشهد أن ل إله إل ال ،وأشهد أن ممدًا رسول ال .
فلما يئس عمر ،ورأي ما بأخته من الدم ندم واستحيا ،وقال :أعطون هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه،
فقالت أخته :إنك رجس ،ول يسه إل الطهرون ،فقم فاغتسل ،فقام فاغتسل ،ث أخذ الكتاب ،فقرأ{ :
بسم ال الرحن الرحيم} فقال :أساء طيبة طاهرة .ث قرأ [طه] حت انتهي إل قولهِ{ :إنّنِي َأنَا ال ُ لَا ِإَلهَ إِلّا
أَنَا فَاعُْب ْدنِي َوأَقِمِ الصّلَاةَ ِل ِذكْرِي} [طه ]14:فقال :ما أحسن هذا الكلم وأكرمه؟ دلون على ممد.
فلما سع خباب قول عمر خرج من البيت ،فقال :أبشر يا عمر ،فإن أرجو أن تكون دعوة الرسول صلى
ال عليه وسلم لك ليلة الميس( :ال م أعز السلم بعمر بن الطاب أو بأب جهل بن هشام) ،ورسول
ال صلى ال عليه وسلم ف الدار الت ف أصل الصفا.
فأخذ عمر سيفه ،فتوشحه ،ث انطلق حت أتى الدار ،فضرب الباب ،فقام رجل ينظر من خلل الباب ،فرآه
متوشحًا السيف ،فأخب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،واستجمع القوم ،فقال لم حزة :ما لكم ؟ قالوا:
عمر؟ فقال :وعمر؟ افتحوا له الباب ،فإن كان جاء يريد خيًا بذلناه له ،وإن كان جاء يريد شرًا قتلناه
بسيفه ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم داخل يوحى إليه ،فخرج إل عمر حت لقيه ف الجرة ،فأخذ
بجامع ثوبه وحائل السيف ،ث جبذه جبذة شديدة فقال( :أما أنت منتهيًا يا عمر حت ينل ال بك من
الزى والنكال ما نزل بالوليد بن الغية؟ ال م ،هذا عمر بن الطاب ،ال م أعز السلم بعمر بن
الطاب) ،فقال عمر :أشهد أن ل إله إل ال ،وأنك رسول ال .وأسلم ،فكب أهل الدار تكبية سعها
أهل السجد.
كان عمر رضي ال عنه ذا شكيمة ل يرام ،وقد أثار إسلمه ضجة بي الشركي ،وشعورا لم بالذلة
والوان ،وكسا السلمي عزة وشرفًا وسرورًا.
روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال :لا أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول ال صلى ال عليه
وسلم عداوة ،قال :قلت :أبو جهل ،فأتيت حت ضربت عليه بابه ،فخرج إلّ ،وقال :أهلًا وسهلًا ،ما جاء
بك؟ قال :جئت لخبك إن قد آمنت بال وبرسوله ممد ،وصدقت با جاء به .قال :فضرب الباب ف
وجهي ،وقال :قبحك ال ،وقبح ما جئت به.
وذكر ابن الوزي أن عمر رضي ال عنه قال :كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال ،فيضربونه ويضربم،
فجئت ـ أي حي أسلمت ـ إل خال ـ وهو العاصى بن هاشم ـ فأعلمته فدخل البيت ،قال :وذهبت
إل رجل من كباء قريش ـ لعله أبو جهل ـ فأعلمته فدخل البيت.
وف رواية لبن إسحاق ،عن نافع ،عن ابن عمر قال :لا أسلم عمر بن الطاب ل تعلم قريش بإسلمه،
فقال :أي أهل مكة أنشأ للحديث؟ فقالوا :جيل بن معمر المحى .فخرج إليه وأنا معه ،أعقل ما أرى
وأسع ،فأتاه ،فقال :ياجيل ،إن قد أسلمت ،قال :فو ال ما رد عليه كلمة حت قام عامدًا إل السجد
فنادى [بأعلى صوته] أن :يا قريش ،إن ابن الطاب قد صبأ .فقال عمر ـ وهو خلفه :كذب ،ولكن قد
أسلمت [وآمنت بال وصدقت رسوله] ،فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حت قامت الشمس على
رءوسهم ،وطَلَح ـ أي أعيا ـ عمر ،فقعد ،وقاموا على رأسه ،وهو يقول :افعلوا ما بدا لكم ،فأحلف
بال أن لو كنا ثلثائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
وبعد ذلك زحف الشركون إل بيته يريدون قتله.روى البخاري عن عبد ال بن عمر قال:بينما هو ـ أي
عمر ـ ف الدار خائفًا إذ جاءه العاص بن وائل السهمى أبو عمرو،وعليه حلة حبة وقميص مكفوف
برير ـ وهو من بن سهم ،وهم حلفاؤنا ف الاهلية ـ فقال له :ما لك؟ قال :زعم قومك أنم سيقتلون
إن أسلمت ،قال :ل سبيل إليك ـ بعد أن قالا أمنت ـ فخرج العاص ،فلقى الناس قد سال بم الوادي،
فقال :أين تريدون؟ فقالوا :هذا ابن الطاب الذي قد صبأ ،قال :ل سبيل إليه ،فَ َك ّر الناس .وف لفظ ف
شطَ عنه.
رواية ابن إسحاق :وال ،لكأنا كانوا ثوبًا كُ ِ
هذا بالنسبة إل الشركي ،أما بالنسبة إل السلمي فروى ماهد عن ابن عباس قال :سألت عمر بن
الطاب :لي شيء سيت الفاروق؟ قال :أسلم حزة قبلى بثلثة أيام ـ ث قص عليه قصة إسلمه .وقال
ف آخره :قلت ـ أي حي أسلمت :يا رسول ال ،ألسنا على الق إن متنا وإن حيينا؟ قال( :بلى ،والذي
نفسي بيده ،إنكم على الق وإن متم وإن حييتم) ،قال :قلت :ففيم الختفاء؟ والذي بعثك بالق
لنخرجن ،فأخرجناه ف صفي ،حزة ف أحدها ،وأنا ف الخر ،له كديد ككديد الطحي ،حت دخلنا
السجد ،قال :فنظرت إلّ قريش وإل حزة ،فأصابتهم كآبة ل يصبهم مثلها ،فسمان رسول ال صلى ال
عليه وسلم (الفاروق) يومئذ.
وكان ابن مسعود رضي ال عنه يقول :ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حت أسلم عمر.
وعن صهيب بن سنان الرومى رضي ال عنه قال :لا أسلم عمر ظهر السلم ،ودعى إليه علنية ،وجلسنا
حول البيت حلقًا ،وطفنا بالبيت ،وانتصفنا من غلظ علينا ،ورددنا عليه بعض ما يأتى به.
وعن عبد ال بن مسعود قال :ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
وبعد إسلم هذين البطلي الليلي ـ حزة بن عبد الطلب وعمـر بن الطاب رضي ال عنهما أخذت
السحائب تتقشع ،وأفاق الشركون عن سكرهم ف تنكيلهم بالسلمي ،وغيوا تفكيهم ف معاملتهم مع
النب صلى ال عليه وسلم والؤمني ،واختاروا أسلوب الساومات وتقدي الرغائب والغريات ،ول يدر
هؤلء الساكي أن كل ما تطلع عليه الشمس ل يساوي جناح بعوضة أمام دين ال والدعوة إليه ،فخابوا
وفشلوا فيما أرادوا.
قال ابن إسحاق :حدثن يزيد بن زياد عن ممد بن كعب القرظى قال :حدثت أن عتبة بن ربيعة ،وكان
سيدًا ،قال يومًا ـ وهو ف نادى قريش ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم جالس ف السجد وحده :يا
معشر قريش ،أل أقوم إل ممد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها ،فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟
وذلك حي أسلم حزة رضي ال عنه ورأوا أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يكثرون ويزيدون،
فقالوا :بلى ،يا أبا الوليد ،قم إليه ،فكلمه ،فقام إليه عتبة،حت جلس إل رسول ال صلى ال عليه وسلم،
سطَةِ ف العشية ،والكان ف النسب ،وإنك قد أتيت
فقال :يابن أخي ،إنك منا حيث قد علمت من ال ّ
قومك بأمر عظيم ،فرقت به جاعتهم ،وسفهت به أحلمهم ،وعبت به آلتهم ودينهم ،وكفرت به من
مضى من آبائهم ،فاسع من أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها .قال :فقال رسول
صلى ال عليه وسلم( :قل يا أبا الوليد أسع).
قال :يابن أخي ،إن كنت إنا تريد با جئت به من هذا المر مالًا جعنا لك من أموالنا حت تكون أكثرنا
مالًا ،وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حت ل نقطع أمرًا دونك ،وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك
علينا ،وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه ل تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ،وبذلنا فيه أموالنا
حت نبئك منه ،فإنه ربا غلب التابع على الرجل حت يداوى منه ـ أو كما قال له ـ حت إذا فرغ عتبة
ورسول ال صلى ال عليه وسلم يستمع منه قال( :أقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال :نعم ،قال( :فاسع من)،
قال:أفعل ،فقال { :بسم ال الرحن الرحيم حم تَنِيلٌ مّنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ ُفصّ َلتْ آيَاُتهُ قُرْآنًا َع َربِيّا
لّقَ ْومٍ َيعْلَمُونَ بَشِيًا َونَذِيرًا َفأَعْ َرضَ َأكْثَرُ ُهمْ َف ُهمْ لَا يَسْ َمعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي َأكِّنةٍ مّمّا َتدْعُونَا ِإلَيْهِ} [
فصلت .]5 :1:ث مضى رسول ال فيها ،يقرؤها عليه .فلما سعها منه عتبة أنصت له ،وألقى يديه خلف
ظهره معتمدًا عليهما ،يسمع منه ،ث انتهي رسول ال صلى ال عليه وسلم إل السجدة منها فسجد ث
قال( :قد سعت يا أبا الوليد ما سعت ،فأنت وذاك).
فقام عتبة إل أصحابه ،فقال بعضهم لبعض :نلف بال لقد جاءكم أبو الوليد بغي الوجه الذي ذهب به.
فلما جلس إليهم قالوا :ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال :ورائي أن سعت قولًا وال ما سعت مثله قط ،وال ما
هو بالشعر ول بالسحر ،ول بالكهانة ،يا معشر قريش ،أطيعون واجعلوها ب ،وخلوا بي هذا الرجل وبي
ما هو فيه فاعتزلوه ،فوال ليكونن لقوله الذي سعت منه نبأ عظيم ،فإن تصبه العرب فقد كفيتموه
بغيكم ،وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ،وعزه عزكم ،وكنتم أسعد الناس به ،قالوا :سحرك وال يا
أبا الوليد بلسانه ،قال :هذا رأيي فيه ،فاصنعوا ما بدا لكم.
وف روايات أخرى :أن عتبة استمع حت إذا بلغ الرسول صلى ال عليه وسلم قوله تعالَ { :فِإنْ أَعْرَضُوا
َفقُلْ أَنذَ ْرتُ ُكمْ صَا ِع َقةً مّثْلَ صَا ِع َقةِ عَادٍ َوثَمُودَ} [فصلت ]13:قال :حسبك ،حسبك ،ووضع يده على
فم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وناشده بالرحم أن يكف ،وذلك مافة أن يقع النذير ،ث قام إل القوم
فقال ما قال.
رؤساء قريش يفاوضون رسول ال صلى ال عليه وسلم
عزم أب جهل على قتل رسول ال صلى ال عليه وسلم
مساومات وتنازلت
حية قريش وتفكيهم الاد واتصالم باليهود
موقف أب طالب وعشيته
وكأن رجاء قريش ل ينقطع با أجاب به النب صلى ال عليه وسلم عتبة على اقتراحاته؛ لنه ل يكن صريًا
ف الرفض أو القبول ،بل تل عليه النب صلى ال عليه وسلم آيات ل يفهمها عتبة ،ورجع من حيث جاء،
فتشاور رؤساء قريش فيما بينهم وفكروا ف كل جوانب القضية ،ودرسوا كل الواقف بروية وتريث ،ث
اجتمعوا يومًا عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس ،وأرسلوا إل النب صلى ال عليه وسلم يدعونه ،فجاء
مسرعًا يرجو خيًا ،فلما جلس إليهم قالوا له مثل ما قال عتبة ،وعرضوا عليه نفس الطالب الت عرضها
عتبة .وكأنم ظنوا أنه ل يثق بدية هذا العرض حي عرض عتبة وحده ،فإذا عرضوا هم أجعون يثق
ويقبل ،ولكن قال لم رسول ال صلى ال عليه وسلم( :ما ب ما َتقُولُون ،ما جِ ْئتُكُم با جِ ْئتُكُم بِه أَطْلُب
أَمْوَالكُم ول الشّرف فيكم ،ول الُ ْلكَ عليكم ،ولكنّ ال َبعَثَنِى إلَيْكُم رَسُولًا ،وَ َأنْزَلَ علىّ كِتابًا ،وَأمَ َرنِى
صحْتُ لَ ُكمْ ،فِإنْ َتقْبَلُوا مِنّى ما جِ ْئتُكُم بِه فَهُوَ
أنْ َأكُونَ لَكُم بَشِيًا َوَنذِيرًا ،فََب ّلغْتُكُم رِسَالتِ ربَ ،ونَ َ
َحظّكُم ف الدُنيا والخرة ،وإنْ تَرُدّوا علىّ أَصْبِر لمْرِ ال ِ حتّى َيحْكُم ال ُ بَيْنِى وَ بَيْـَنكُم) .أو كما
قال.
فانتقلوا إل نقطة أخرى ،وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يسي عنهم البال ،ويبسط لم البلد ،ويفجر فيها
النار ،ويي لم الوتى ـ ول سيما قصى بن كلب ـ فإن صدقوه يؤمنون به .فأجاب بنفس ما سبق من
الواب.
فانتقلوا إل نقطة ثالثة ،وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يبعث له ملكًا يصدقه ،ويراجعونه فيه ،وأن يعل له
جنات وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة ،فأجابم بنفس الواب.
فانتقلوا إل نقطة رابعة ،وطلبوا منه العذاب :أن يسقط عليهم السماء كسفًا ،كما يقول ويتوعد ،فقال( :
ذلك إل ال ،إن شاء فعل) .فقالوا :أما علم ربك أنا سنجلس معك ،ونسألك ونطلب منك ،حت يعلمك
ما تراجعنا به ،وما هو صانع بنا إذا ل نقبل.
وأخيًا هددوه أشد التهديد ،وقالوا:أما وال ل نتركك وما فعلت بنا حت نلكك أو تلكنا ،فقام رسول
ال صلى ال عليه وسلم عنهم ،وانصرف إل أهله حزينًا أسفا لا فاته ما طمع من قومه.
ولا انصرف رسول ال صلى ال عليه وسلم عنهم خاطبهم أبو جهل ف كبيائه وقال :يا معشر قريش ،إن
ممدًا قد أب إل ما ترون من عيب ديننا ،وشتم آبائنا ،وتسفيه أحلمنا ،وشتم آلتنا ،وأن أعاهد ال
لجلسن له بجر ما أطيق حله ،فإذا سجد ف صلته فضخت به رأسه ،فأسلمون عند ذلك أو امنعون،
فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لم ،قالوا :وال ل نسلمك لشيء أبدًا ،فامض لا تريد.
فلما أصبح أبو جهل ،أخذ حجرًا كما وصف ،ث جلس لرسول ال صلى ال عليه وسلم ينتظره ،وغدا
رسول ال صلى ال عليه وسلم كما كان يغدو ،فقام يصلي ،وقد غدت قريش فجلسوا ف أنديتهم
ينتظرون ما أبو جهل فاعل ،فلما سجد رسول ال صلى ال عليه وسلم احتمل أبو جهل الجر ،ث أقبل
نوه ،حت إذا دنا منه رجع منهزمًا متقعًا لونه ،مرعوبًا قد يبست يداه على حجره ،حت قذف الجر من
يده ،وقامت إليه رجال قريش فقالوا له :ما لك يا أبا الكم؟ قال :قمت إليه لفعل به ما قلت لكم
حلٌ من البل ،ل وال ما رأيت مثل هَامَتِه ،ول مثل قَصَ َرتِه ول
البارحة ،فلما دنوت منه عرض ل دونه َف ْ
أنيابه لفحل قط ،فَ َهمّ ب أن يأكلن.
قال ابن إسحاق :فذكر ل أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال( :ذلك جبيل عليه السلم لو دنا
لخذه)
مساومات وتنازلت
ولا فشلت قريش ف مفاوضتهم البنية على الغراء والترغيب ،والتهديد والترهيب ،وخاب أبو جهل فيما
أبداه من الرعونة وقصد الفتك ،تيقظت فيهم رغبة الوصول إل حل حصيف ينقذهم عما هم فيه ،ول
يكونوا يزمون أن النب صلى ال عليه وسلم على باطل ،بل كانوا ـ كما قال ال تعال {َلفِي َشكّ مّنْهُ
مُرِيبٍ} [الشورى .]14:فرأوا أن يساوموه صلى ال عليه وسلم ف أمور الدين ،ويلتقوا به ف منتصف
الطريق ،فيتركوا بعض ما هم عليه ،ويطالبوا النب صلى ال عليه وسلم بترك بعض ما هو عليه ،وظنوا أنم
بذا الطريق سيصيبون الق ،إن كان ما يدعو إليه النب صلى ال عليه وسلم حقًا.
روى ابن إسحاق بسنده ،قال :اعترض رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهو يطوف بالكعبة ـ السود
بن الطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن الغية وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمى ـ وكانوا
ذوى أسنان ف قومهم ـ فقالوا :يا ممد ،هلم فلنعبد ما تعبد ،وتعبد ما نعبد ،فنشترك نن وأنت ف
المر ،فإن كان الذي تعبد خيًا ما نعبد كنا قد أخذنا بظنا منه ،وإن كان ما نعبد خيًا ما تعبد كنت قد
أخذت بظك منه ،فأنزل ال تعال فيهم{ :قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعُْبدُ مَا تَعُْبدُونَ} السورة كلها.
وأخرج َع ْبدُ بن حُمَـيْد وغيه عن ابن عباس أن قريشًا قالت :لو استلمت آلتنا لعبدنا إلك .فأنزل ال :
{ ُقلْ يَا َأيّهَا الْكَافِرُونَ} السورة كلها وأخرج ابن جرير وغيه عنه أن قريشًا قالوا لرسول ال صلى ال
عليه وسلم :تعبد آلتنا سنة ،ونعبد إلك سنة،فأنزل ال ُ {:قلْ أَ َفغَيْرَ ال ِ َتأْمُرُونّي أَعُْبدُ أَيّهَا الْجَاهِلُونَ} [
الزمر]64:
ولا حسم ال تعال هذه الفاوضة الضحكة بذه الفاصلة الازمة ل تيأس قريش كل اليأس ،بل أبدوا مزيدًا
من التنازل بشرط أن يرى النب صلى ال عليه وسلم بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات ،فقالوا{ :
ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ َب ّدلْهُ} ،فقطع ال هذا السبيل أيضًا بإنزال ما يرد به النب صلى ال عليه وسلم
عليهم فقال{ :قُلْ مَا يَكُونُ لِي َأنْ أَُب ّدلَهُ مِن تِ ْلقَاء َنفْسِي ِإنْ َأتّبِعُ إِلّ مَا يُوحَى إِلَيّ ِإنّي أَخَافُ إِنْ عَصَ ْيتُ
َربّي َعذَابَ يَ ْومٍ َعظِيمٍ} [يونس ]15:ونبه على عظم خطورة هذا العمل بقولهَ {:وإِن كَادُواْ لََيفْتِنُونَكَ
عَنِ اّلذِي أَوْحَيْنَا ِإلَ ْيكَ لِتفْتَ ِريَ عَلَيْنَا غَيْ َرهُ َوإِذًا ّلّتخَذُوكَ َخلِيلً َولَوْلَ أَن ثَبّتْنَاكَ َلقَدْ كِدتّ تَ ْركَنُ ِإلَيْ ِهمْ
جدُ َلكَ عَ َليْنَا نَصِيًا} [السراء]75 :73:
ضعْفَ الْمَمَاتِ ُثمّ لَ تَ ِ
ضعْفَ اْلحَيَاةِ وَ ِ
شَيْئًا قَلِيلً إِذا لّأَذَقْنَاكَ ِ
.
أظلمت أمام الشركي السبل بعد فشلهم ف هذه الفاوضات والساومات والتنازلت ،واحتاروا فيما
يفعلون ،حت قام أحد شياطينهم :النضر بن الارث ،فنصحهم قائلًا :يا معشر قريش ،وال لقد نزل بكم
أمر ما أتيتم له بيلة بعد ،قد كان ممد فيكم غلمًا حدثًا أرضاكم فيكم ،وأصدقكم حديثًا ،وأعظمكم
أمانة ،حت إذا رأيتم ف صدغيه الشيب ،و جاءكم با جاءكم به ،قلتم :ساحر ،ل وال ما هو بساحر ،لقد
رأينا السحرة وَنفْثَهم و َعقْدَهم ،وقلتم :كاهن ،ل وال ما هو بكاهن ،قد رأينا الكهنة وَتخَاُلجَهم وسعنا
جعَهُم ،وقلتم :شاعر ،ل وال ما هو بشاعر ،قد رأينا الشعر وسعنا أصنافه كلها هَزَجَه ورَ َجزَه ،وقلتم:
َس َ
منون ،ل وال ما هو بجنون ،لقد رأينا النون ،فما هو بنقه ،ول وسوسته ،ول تليطه ،يا معشر قريش،
فانظروا ف شأنكم ،فإنه وال لقد نزل بكم أمر عظيم.
وكأنم لا رأوا صموده صلى ال عليه وسلم ف وجه كل التحديات ،ورفضه كل الغريات ،وصلبته ف
كل مرحلة ـ مع ما كان يتمتع به من الصدق والعفاف ومكارم الخلق ـ قويت شبهتهم ف كونه
رسولًا حقًا ،فقرروا أن يتصلوا باليهود حت يتأكدوا من أمره صلى ال عليه وسلم ،فلما نصحهم النضر
بن الارث با سبق كلفوه مع آخر أو آخرين ليذهب إل يهود الدينة ،فأتاهم فقال أحبارهم :سلوه عن
ثلث ،فإن أخب فهو نب مرسل ،وإل فهو متقول؛ سلوه عن فتية ذهبوا ف الدهر الول،ما كان أمرهم؟
فإن لم حديثًا عجبًا ،وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الرض ومغاربا ،ما كان نبؤه؟ وسلوه عن
الروح ،ما هي؟
فلما قدم مكة قال :جئناكم بفصل ما بينكم وبي ممد ،وأخبهم با قاله اليهود ،فسألت قريش رسول
صلى ال عليه وسلم عن المور الثلثة ،فنلت بعد أيام سورة الكهف ،فيها قصة أولئك الفتية ،وهم
أصحاب الكهف ،وقصة الرجل الطواف ،وهو ذو القرني ،ونزل الواب عن الروح ف سورة السراء.
وتبي لقريش أنه صلى ال عليه وسلم على حق وصدق ،ولكن أب الظالون إل كفورًا.
هذه نبذة خفيفة ما واجه به الشركون دعوة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقد مارسوا كل ذلك جنبا
إل جنب ،متنقلي من طور إل طور ،ومن دور إل دور .فمن شدة إل لي ،ومن لي إل شدة ،ومن جدال
إل مساومة ،ومن مساومة إل جدال ،ومن تديد إل ترغيب ،ومن ترغيب إل تديد ،كانوا يثورون ث
يورون ،ويادلون ث ياملون ،وينازلون ث يتنازلون ،ويوعدون ث يرغبون ،كأنم كانوا يتقدمون
ويتأخرون ،ل يقر لم قرار ،ول يعجبهم الفرار ،وكان الغرض من كل ذلك هو إحباط الدعوة السلمية،
وَلمّ َشعْثِ الكفر ،ولكنهم بعد بذل كل الهود واختبار كل اليل عادوا خائبي ،ول يبق أمامهم إل
السيف ،والسيف ل يزيد الفرقة إل شدة ،ول ينتج إل عن تناحر يستأصل الشأفة ،فاحتاروا ماذا يفعلون.
أما أبو طالب فإنه لا واجه مطالبة قريش بتسليم النب صلى ال عليه وسلم لم ليقتلوه ،ث رأي ف تركاتم
وتصرفاتم ما يؤكد أنم يريدون قتله وإخفار ذمته ـ مثل ما فعله عقبة بن أب معيط ،وأبو جهل بن هشام
وعمر بن الطاب ـ جع بن هاشم وبن الطلب ،ودعاهم إل القيام بفظ النب صلى ال عليه وسلم،
فأجابوه إل ذلك كلهم ـ مسلمهم وكافرهم ـ حَمِّيةً للجوار العرب ،وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند
الكعبة .إل ما كان من أخيه أب لب ،فإنه فارقهم ،وكان مع قريش.
القاطعة العامة
زادت حية الشركي إذ نفدت بم اليل ،ووجدوا بن هاشم وبن الطلب مصممي على حفظ نب ال
صلى ال عليه وسلم والقيام دونه ،كائنًا ما كان ،فاجتمعوا ف خيف بن كنانة من وادى ا ُلحَصّبِ
فتحالفوا على بن هاشم وبن الطلب أل يناكحوهم ،ول يبايعوهم ،ول يالسوهم ،ول يالطوهم ،ول
يدخلوا بيوتم ،ول يكلموهم ،حت يسلموا إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم للقـتل ،وكتـبوا
بذلك صحيـفـة فيها عهود ومواثيق (أل يقبلوا من بن هاشم صلحًا أبدًا ،ول تأخذهم بم رأفة حت
يسلموه للقتل) .قال ابن القيم :يقال :كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم ،ويقال :نضر بن
ت يده.
الارث ،والصحيح أنه بَغِيض بن عامر بن هاشم ،فدعا عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم فَشُلّ ْ
ت هذا اليثاق وعلقت الصحيفة ف جوف الكعبة ،فاناز بنو هاشم وبنو الطلب ،مؤمنهم وكافرهم ـ إل
أبا لب ـ وحبسوا ف شعب أب طالب ،وذلك فيما يقال :ليلة هلل الحرم سنة سبع من البعثة .وقد قيل
غي ذلك.
واشتد الصار ،وقطعت عنهم الية والادة ،فلم يكن الشركون يتركون طعامًا يدخل مكة ول بيعًا إل
بادروه فاشتروه ،حت بلغهم الهد ،والتجأوا إل أكل الوراق واللود ،وحت كان يسمع من وراء
الشعب أصوات نسائهم وصبيانم يتضاغون من الوع ،وكان ل يصل إليهم شيء إل سرًا ،وكانوا ل
يرجون من الشعب لشتراء الوائج إل ف الشهر الرم ،وكانوا يشترون من العي الت ترد مكة من
خارجها ،ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم ف السلعة قيمتها حت ل يستطيعون شراءها.
وكان حكيم بن حزام ربا يمل قمحًا إل عمته خدية رضي ال عنها وقـد تعـرض لـه مرة أبو جهل
فتعلق به ليمنعه ،فتدخل بينهما أبو البخترى ،ومكنه من حل القمح إل عمته.
وكان أبو طالب ياف على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول
ال صلى ال عليه وسلم أن يضطجع على فراشه ،حت يرى ذلك من أراد اغتياله ،فإذا نام الناس أمر أحد
بنيه أو إخوانه أو بن عمه فاضطجع على فراش رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأمره أن يأتى بعض
فرشهم.
وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمون يرجون ف أيام الوسم ،فيلقون الناس ،ويدعونم إل
السلم ،وقد أسلفنا ما كان يأتى به أبو لب.
وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بن عامر بن لؤى ـ وكان يصل بن هاشم ف الشعب مستخفيًا
بالليل بالطعام ـ فإنه ذهب إل زهي بن أب أمية الخزومى ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد الطلب ـ
وقال :يا زهي ،أرضيت أن تأكل الطعام ،وتشرب الشراب ،وأخوالك بيث تعلم؟ فقال :ويك ،فما
أصنع وأنا رجل واحد؟ أما وال لو كان معى رجل آخر لقمت ف نقضها ،قال :قد وجدت رجلًا .قال:
فمن هو؟ قال :أنا .قال له زهي :ابغنا رجلًا ثالثًا.
فذهب إل الطعم بن عدى ،فذكره أرحام بن هاشم وبن الطلب ابن عبد مناف ،ولمه على موافقته
لقريش على هذا الظلم ،فقال الطعم :ويك ،ماذا أصنع؟ إنا أنا رجل واحد ،قال :قد وجدت ثانيًا ،قال:
من هو؟ قال :أنا .قال :ابغنا ثالثًا .قال :قد فعلت .قال :من هو؟ قال :زهي بن أب أمية ،قال :ابغنا رابعًا.
فذهب إل أب البخترى بن هشام ،فقال له نوًا ما قال للمطعم ،فقال :وهل من أحد يعي على هذا؟ قال:
نعم .قال :من هو؟ قال زهي بن أب أمية ،والطعم بن عدى ،وأنا معك ،قال :ابغنا خامسًا.
فذهب إل زمعة بن السود بن الطلب بن أسد ،فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم ،فقال له :وهل على هذا
لجُون ،وتعاقدوا على القيام
المر الذي تدعون إليه من أحد؟ قال :نعم ،ث سى له القوم ،فاجتمعوا عند ا َ
بنقض الصحيفة ،وقال زهي :أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم.
فلما أصبحوا غدوا إل أنديتهم ،وغدا زهي عليه حلة ،فطاف بالبيت سبعًا ،ث أقبل على الناس ،فقال :يا
أهل مكة ،أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى ،ل يباع ول يبتاع منهم؟ وال ل أقعد حت تشق
هذه الصحيفة القاطعة الظالة.
فقال زمعة بن السود :أنت وال أكذب ،مارضينا كتابتها حيث كتبت.
قال أبو البخترى :صدق زمعة ،ل نرضى ما كتب فيها ،ول نقر به.
قال الطعم بن عدى :صدقتما ،وكذب من قال غي ذلك ،نبأ إل ال منها وما كتب فيها.
فقال أبو جهل :هذا أمر قضى بليل ،وتُشُووِر فيه بغي هذا الكان.
وأبو طالب جالس ف ناحية السجد ،إنا جاءهم لن ال كان قد أطلع رسوله صلى ال عليه وسلم على
أمر الصحيفة ،وأنه أرسل عليها الرضة ،فأكلت جيع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إل ذكر ال عز
وجل ،فأخب بذلك عمه ،فخرج إل قريش فأخبهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا ،فإن كان كاذبًا خلينا
بينكم وبينه ،وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا ،قالوا :قد أنصفت.
وبعد أن دار الكلم بي القوم وبي أب جهل ،قام الطعم إل الصحيفة ليشقها ،فوجد الرضة قد أكلتها إل
(باسك ال م) ،وما كان فيها من اسم ال فإنا ل تأكله.
ث نقض الصحيفة وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ومن معه من الشعب ،وقد رأي الشركون آية
عظيمة من آيات نبوته ،ولكنهم ـ كما أخب ال عنهم { َوإِن يَرَوْا آَيةً يُعْرِضُوا َويَقُولُوا ِسحْرٌ مّسْتَمِرّ} [
القمر ]2:ـ أعرضوا عن هذه الية وازدادوا كفرًا إل كفرهم .
خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم من الشعب ،وجعل يعمل على شاكلته ،وقريش وإن كانوا قد تركوا
القطيعة ،لكنهم ل يزالوا عاملي على شاكلتهم من الضغط على السلمي والصد عن سبيل ال ،وأما أبو
طالب فهو ل يزل يوط ابن أخيه ،لكنه كان قد جاوز الثماني من سنه ،وكانت اللم والوادث الضخمة
التوالية منذ سنوات ـ لسيما حصار الشعب ـ قد وهنت وضعفت مفاصله وكسرت صلبه ،فلم يض
على خروجه من الشعب إل أشهر معدودات ،وإذا هو يلحقه الرض ويلح به ،وحينئذ خاف الشركون
سوء سعتهم ف العرب إن أتوا بعد وفاته بنكر على ابن أخيه ،فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النب صلى
ال عليه وسلم بي يديه ،ويعطوا بعض ما ل يرضوا إعطاءه قبل ذلك .فقاموا بوفادة هي آخر وفادتم إل
أب طالب.
قال ابن إسحاق وغيه :لا اشتكى أبو طالب ،وبلغ قريشًا ثقله ،قالت قريش بعضها لبعض :إن حزة وعمر
قد أسلما ،وقد فشا أمر ممد ف قبائل قريش كلها ،فانطلقوا بنا إل أب طالب ،فليأخذ على ابن أخيه،
وليعطه منا ،وال ما نأمن أن يبتزونا أمرنا ،وف لفظ :فإنا ناف أن يوت هذا الشيخ فيكون إليه شيء
فتعينا به العرب ،يقولون :تركوه حت إذا مات عمه تناولوه.
مشوا إل أب طالب فكلموه ،وهم أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة ،وشيبة بن ربيعة ،وأبو جهل بن هشام،
وأمية بن خلف ،وأبو سفيان بن حرب ،ف رجال من أشرافهم ـ وهم خسة وعشرون تقريبًا ـ فقالوا :يا
أبا طالب ،إنك منا حيث قد علمت ،وقد حضرك ما ترى ،وتوفنا عليك ،وقد علمت الذي بيننا وبي ابن
أخيك ،فادعه فخذ له منا ،وخذ لنا منه؛ ليكف عنا ونكف عنه ،وليدعـنا وديننا وندعه ودينه ،فبعث أبو
طالب ،فجاءه فقال :يابن أخي ،هؤلء أشراف قومك ،قد اجتمعوا لك ليعطوك ،وليأخذوا منك ،ث
أخبـره بالذي قالوا له وعرضوا عليه من عدم تعرض كل فريق للخر .فقال لم رسول ال صلى ال عليه
وسلم( :أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم با ،ملكتم با العرب ،ودانت لكم با العجم) ،وف لفظ أنه
قال ماطبًا لب طالب( :إن أريدهم على كلمة واحدة يقولونا تدين لم با العرب ،وتؤدى إليهم با
العجم الزية) ،وف لفظ آخر قال( :أي عم ،أفل أدعوهم إل ما هو خي لم؟) قال :وإلم تدعوهم؟ قال:
(أدعوهم إل أن يتكلموا بكلمة تدين لم با العرب ،ويلكون با العجم) ،ولفظ رواية ابن إسحاق( :كلمة
واحدة تعطونا تلكون با العرب ،وتدين لكم با العجم) ،فلما قال هذه القالة توقفوا وتيوا ول يعرفوا
كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إل هذه الغاية والد .ث قال أبو جهل :ما هي؟ وأبيك
لنعطيكها وعشر أمثالا ،قال :تقولون( :ل إله إل ال ،وتلعون ما تعبدون من دونه) .فصفقوا بأيديهم ،ث
قالوا :أتريد يا ممد أن تعل اللة إلًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب.
ث قال بعضهم لبعض :إنه وال ما هذا الرجل بعطيكم شيئًا ما تريدون ،فانطلقوا وامضوا على دين
آبائكم ،حت يكم ال بينكم وبينه ،ث تفرقوا.
وف هؤلء نزل قوله تعال{ :ص وَاْلقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ بَ ِل الّذِينَ َكفَرُوا فِي ِع ّزةٍ وَ ِشقَاقٍ َكمْ أَهْلَ ْكنَا مِن
قَ ْبلِهِم مّن قَ ْرنٍ فَنَا َدوْا َولَاتَ حِيَ مَنَاصٍ وَ َعجِبُوا أَن جَاءهُم مّنذِرٌ مّنْ ُهمْ وَقَا َل الْكَافِرُونَ َهذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ
أَ َجعَ َل الْآلِ َهةَ ِإلَهًا وَا ِحدًا إِنّ َهذَا لَشَ ْيءٌ ُعجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَ َلأُ مِنْ ُهمْ أَ ِن امْشُوا وَاصِْبرُوا َعلَى آِلهَتِ ُكمْ ِإنّ َهذَا
لَشَ ْيءٌ يُرَادُ مَا سَ ِمعْنَا بِ َهذَا فِي الْمِ ّلةِ الْآخِ َرةِ إِنْ َهذَا ِإلّا اخِْتلَاقٌ} [ص.]7 :1:
عــام الـــزن
وفاة أب طالب
خدية إل رحة ال
تراكم الحزان
الزواج بسودة رضي ال عنها
عوامل الصب والثبات
وفاة أب طالب
أل الرض بأب طالب ،فلم يلبث أن وافته النية ،وكانت وفاته ف رجب سنة عشر من النبوة ،بعد الروج
من الشعب بستة أشهر .وقيل :توف ف رمضان قبل وفاة خدية رضي ال عنها بثلثة أيام.
وف الصحيح عن السيب :أن أبا طالب لا حضرته الوفاة دخل عليه النب صلى ال عليه وسلم وعنده أبو
جهل ،فقال( :أي عم ،قل :ل إله إل ال ،كلمة أحاج لك با عند ال ) فقال أبو جهل وعبد ال بن أب
أمية :يا أبا طالب ،ترغب عن ملة عبد الطلب؟ فلم يزال يكلماه حت قال آخر شيء كلمهم به :على ملة
عبد الطلب ،فقال النب صلى ال عليه وسلم( :لستغفرن لك ما ل أنه عنـه) ،فـنلت {:مَا كَانَ لِلنّبِيّ
جحِيمِ} [
ب الْ َ
صحَا ُ
ش ِركِيَ َولَوْ كَانُواْ أُ ْولِي قُ ْربَى مِن َب ْعدِ مَا تَبَيّنَ لَ ُهمْ َأنّ ُهمْ أَ ْ
وَاّلذِينَ آمَنُواْ أَن يَسَْت ْغفِرُواْ لِلْمُ ْ
التوبة ]113:ونزلت{ :إِّنكَ لَا تَ ْهدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص.]56 :
ول حاجة إل بيان ما كان عليه أبو طالب من الياطة والنع ،فقد كان الصن الذي احتمت به الدعوة
السلمية من هجمات الكباء والسفهاء ،ولكنه بقى على ملة الشياخ من أجداده ،فلم يفلح كل الفلح.
ففي الصحيح عن العباس بن عبد الطلب ،قال للنب صلى ال عليه وسلم :ما أغنيت عن عمك ،فإنه كان
ضحْضَاح من نار ،ولول أنا لكان ف الدرك السفل من النار)
يوطك ويغضب لك؟ قال( :هو ف َ
وعن أب سعيد الدرى أنه سع النب صلى ال عليه وسلم ـ وذكر عنده عمه ـ فقال( :لعله تنفعه
شفاعت يوم القيامة ،فيجعل ف ضحضاح من النار تبلغ كعبيه)
وبعد وفاة أب طالب بنحو شهرين أو بثلثة أيام ـ على اختلف القولي ـ توفيت أم الؤمني خدية
الكبى رضي ال عنها وكانت وفاتا ف شهر رمضان ف السنة العاشرة من النبوة ،ولا خس وستون سنة
على أشهر القوال ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم إذ ذاك ف المسي من عمره.
إن خدية كانت من نعم ال الليلة على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،بقيت معه ربع قرن تن عليه
ساعة قلقه ،وتؤازره ف أحرج أوقاته ،وتعينه على إبلغ رسالته ،وتشاركه ف مغارم الهاد الر،وتواسيه
بنفسها ومالا ،يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم( :آمنت ب حي كفر ب الناس ،وصدقتن حي كذبن
الناس ،وأشركتن ف مالا حي حرمن الناس ،ورزقن ال ولدها وحرم ولد غيها)
وف الصحيح عن أب هريرة قال :أتى جبيل النب صلى ال عليه وسلم ،فقال :يا رسول ال ،هـذه
خدية قـد أتت ،معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب ،فإذا هي أتتك فاقـرأ عليها السلم من ربا،
خبَ فيه ول نَصَبَ.
صَصبٍ ل َ
وبشرها ببيت ف النة من قَ َ
تراكم الحزان
وقعت هاتان الادثتان الؤلتان خلل أيام معدودة ،فاهتزت مشاعر الزن والل ف قلب رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،ث ل تزل تتوال عليه الصائب من قومه .فإنم ترأوا عليه وكاشفوه بالنكال والذى بعد
موت أب طالب ،فازداد غمًا على غم ،حت يئس منهم ،وخرج إل الطائف رجـاء أن يستجيبوا
لدعوتـه ،أو يؤووه وينصـروه على قومــه ،فلم يـر مـن يؤوى ول يـر ناصرًا ،بل آذوه أشد
الذى ،ونالوا منه ما ل ينله قومـه.
وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النب صلى ال عليه وسلم اشتدت على أصحابه حت التجأ رفيقه أبو
بكر الصديق رضي ال عنه إل الجرة عن مكة ،فخرج حت بلغ بَرْك الغِمَاد ،يريد البشة ،فأرجعه ابن
الدّغُنّة ف جواره.
قال ابن إسحاق :لا هلك أبو طالب نالت قريش من رسول ال صلى ال عليه وسلم من الذى ما ل تطمع
به ف حياة أب طالب ،حت اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابًا ،ودخل بيته والتراب على
رأسه ،فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكى ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم
يقول لا( :ل تبكى يابنية ،فإن ال مانع أباك) .قال :ويقول بي ذلك( :ما نالت من قريش شيئًا أكرهه
حت مات أبو طالب).
ولجل توال مثل هذه اللم ف هذا العام سى بعام الزن ،وعرف به ف السية والتاريخ.
وف شوال من هذه السنة ـ سنة 10من النبوة ـ تزوج رسول ال صلى ال عليه وسلم سودة بنت
زمعة ،كانت من أسلم قديًا وهاجرت الجرة الثانية إل البشة ،وكان زوجها السكران بن عمرو ،وكان
قد أسلم وهاجر معها ،فمات بأرض البشة ،أو بعد الرجوع إل مكة ،فلما حلت خطبها رسول ال صلى
ال عليه وسلم وتزوجها ،وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خدية ،وكانت قد وهبت نوبتها لعائشة
رضي ال عنها أخيًا.
وهنا يقف الليم حيان ،ويتساءل عقلء الرجال فيما بينهم :ما هي السباب والعوامل الت بلغت
بالسلمي إل هذه الغاية القصوى ،والد العجز من الثبات؟ كيف صبوا على هذه الضطهادات الت
تقشعر لسماعها اللود ،وترجف لا الفئدة؟ ونظرًا إل هذا الذي يتخال القلوب نرى أن نشي إل بعض
هذه العوامل والسباب إشارة عابرة بسيطة:
ويتفرع من هذا السبب الوحيد أسباب أخرى تقوى هذا الثبات والصابرة وهي:
اجتمع ثلثة نفر من قريش ،وكان قد استمع كل واحد منهم إل القرآن سرًا عن صاحبيه ،ث انكشف
سرهم ،فسأل أحدهم أبا جهل ـ وكان من أولئك الثلثة :ما رأيك فيما سعت من ممد؟ فقال :ماذا
سعت؟ تنازعنا نن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا ،وحلوا فحملنا ،وأعطوا فأعطينا ،حت إذا
تاذينا على الركب ،وكنا كَفَرَسىْ رِهَان قالوا :لنا نب يأتيه الوحى من السماء ،فمت ندرك هذه؟ وال ل
نؤمن به أبدًا ،ول نصدقه.
وكان أبو جهل يقول :يا ممد ،إنا ل نكذبك ولكن نكذب با جئت به ،فأنزل ال َ {:فِإنّ ُهمْ لَ يُ َك ّذبُوَنكَ
جحَدُونَ} [النعام.]33:
َولَكِنّ الظّالِمِيَ بِآيَاتِ ال ِ َي ْ
وغمزه صلى ال عليه وسلم الكفار يومًا ثلث مرات فقال ف الثالثة( :يا معشر قريش ،جئتكم بالذبح)،
فأخذتم تلك الكلمة حت إن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يد عنده.
ولا ألقوا عليه َسلَ جَزُورٍ وهو ساجد ،دعا عليهم ،فذهب عنهم الضحك ،وساورهم الم والقلق ،وأيقنوا
أنم هالكون.
ودعا على عتبة بن أب لب فلم يزل على يقي من لقاء ما دعا به عليه حت إنه حي رأي السد قال :قتلن
وال ـ ممد ـ وهو بكة.
وكان أب بن خلف يتوعده بالقتل .فقال( :بل أنا أقتلك إن شاء ال ) ،فلما طعن أبيًا ف عنقه يوم أحد ـ
وكان خدشًا غي كبي ـ كان أب يقول :إنه قد كان قال ل بكة :أنا أقتلك ،فو ال لو بصق على لقتلن
ـ وسيأت.
وقال سعد بن معاذ ـ وهو بكة ـ لمية بن خلف :لقد سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول( :
إنم ـ أي السلمي ـ قاتلوك) ففزع فزعًا شديدًا ،وعهد أل يرج عن مكة ،ولا ألأه أبو جهل للخروج
يوم بدر اشترى أجود بعي بكة ليمكنه من الفرار ،وقالت له امرأته :يا أبا صفوان ،وقد نسيت ما قال لك
أخوك اليثرب؟ قال :ل وال ما أريد أن أجوز معهم إل قريبًا.
هكذا كان حال أعدائه صلى ال عليه وسلم،أما أصحابه ورفقاؤه فقد حل منهم مل الروح والنفس،
وشغل منهم مكان القلب والعي ،فكان الب الصادق يندفع إليه اندفاع الاء إل الُدور ،وكانت النفوس
تنجذب إليه انذاب الديد إل الغناطيس.
وطيء أبو بكر بن أب قحافة يومًا بكة ،وضرب ضربًا شديدًا ،دنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلي
مصوفي ويرفهما لوجهه ،ونزا على بطن أب بكر ،حت ما يعرف وجهه من أنفه ،وحلت بنو تيم أبا بكر
ف ثوب حت أدخلوه منله ،ول يشكون ف موته ،فتكلم آخر النهار فقال :ما فعل رسول ال صلى ال
عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه ،ث قاموا وقالوا لمه أم الي :انظرى أن تطعميه شيئًا أو تسقيه
إياه ،فلما خلت به ألت عليه ،وجعل يقول :ما فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فقالت :وال ل علم
ل بصاحبك ،فقال :اذهب إل أم جيل بنت الطاب فاسأليها عنه ،فخرجت حت جاءت أم جيل فقالت:
إن أبا بكر يسألك عن ممد بن عبد ال ،قالت :ما أعرف أبا بكر ول ممد بن عبد ال ،وإن كنت تبي
أن أذهب معك إل ابنك ذهبت ،قالت :نعم ،فمضت معها حت وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا ،فدنت أم
جيل وأعلنت بالصياح ،وقالت :وال إن قومًا نالوا هذا منك لهل فسق وكفر ،وإن لرجو أن ينتقم ال
لك منهم ،قال :فما فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ قالت :هذه أمك تسمع ،قال :فل شيء علىك
منها ،قالت :سال صال ،فقال :أين هو؟ قالت :ف دار ابن الرقم ،قال :فإن ل على أل أذوق طعامًا ول
أشرب شرابًا أو آتى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأمهلتا حت إذا هدأت الرّجْل ،وسكن الناس خرجتا
به ،يتكئ عليهما ،حت أدخلتـاه على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وسننقل نوادر الب والتفإن ف مواضع شت من هذا الكتاب ،ول سيما ما وقع ف يوم أحد ،وما وقع من
خبيب وأمثاله.
5ـ القـــرآن:
وف هذه الفترات العصيبة الرهيبة الالكة كانت تنل السور واليات تقيم الجج والباهي على صدق
مبادئ السلم ـ الت كانت الدعوة تدور حولا ـ بأساليب منيعة خلبة ،وترشد السلمي إل أسس قدر
ال أن يتكون عليها أعظم وأروع متمع بشرى ف العال ـ وهو الجتمع السلمى ـ وتثي مشاعر
السلمي ونوازعهم على الصب والتجلد ،تضرب لذلك المثال ،وتبي لم ما فيه من الكم {أَمْ حَسِبُْتمْ أَن
تَدْ ُخلُوْا الْجَّنةَ َولَمّا َيأْتِكُم مّثَ ُل اّلذِينَ خَ َل ْواْ مِن قَ ْبلِكُم مّسّتْ ُه ُم الْبَأْسَاء وَالضّرّاء وَ ُزلْ ِزلُواْ حَتّى َيقُو َل الرّسُولُ
وَاّلذِينَ آمَنُواْ مَ َعهُ مَتَى نَصْرُ ال ِ أَل إِنّ نَصْرَ ال ِ قَرِيبٌ} [البقرة{ ] 214:ال أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُوا
صدَقُوا َولََيعْلَمَنّ الْكَا ِذبِيَ} [
أَن َيقُولُوا آ َمنّا وَ ُهمْ لَا ُيفْتَنُونَ َوَل َقدْ فَتَنّا اّلذِينَ مِن َقبْلِ ِهمْ فَلََيعْ َلمَنّ ال ُ اّلذِينَ َ
العنكبوت.]3 :1:
كما كانت تلك اليات ترد على إيرادات الكفار والعاندين ردًا مفحمًا ،ول تبقى لم حيلة ،ث تذرهم
مرة عن عواقب وَخِيمَة ـ إن أصروا على غيهم وعنادهم ـ ف جلء ووضوح ،مستدلة بأيام ال ،
والشواهد التاريية الت تدل على سنة ال ف أوليائه وأعدائه ،وتلطفهم مرة ،وتؤدى حق التفهيم والرشاد
والتوجيه حت ينصرفوا عما هم فيه من الضلل البي.
وكان القرآن يسي بالسلمي ف عال آخر ،ويبصرهم من مشاهد الكون وجال الربوبية ،وكمال اللوهية،
وآثار الرحة والرأفة ،وتليات الرضوان ما ينون إليه حنينًا ل يقوم له أي عقبة.
وكانت ف طى هذه اليات خطابات للمسلمي ،فيها {يُبَشّ ُر ُهمْ َربّهُم بِ َرحْ َمةٍ مّ ْنهُ وَ ِرضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لّ ُهمْ
فِيهَا نَعِيمٌ ّمقِيمٌ} [ التوبة ،] 21:وتصور لم صورة أعدائهم من الكفرة الطغاة الظالي ياكمون
سحَبُونَ فِي النّارِ َعلَى وُجُوهِ ِهمْ ذُوقُوا َمسّ َسقَرَ} [القمر.]48:
ويصادرون ،ث {يَ ْومَ يُ ْ
6ـ البشارات بالنجاح:
ومع هذا كله كان السلمون يعرفون منذ أول يوم لقوا فيه الشدة والضطهاد ـ بل ومن قبله ـ أن
الدخول ف السلم ليس معناه جر الصائب والتوف ،بل إن الدعوة السلمية تدف ـ منذ أول يومها
ـ إل القضاء على الاهلية الهلء ونظامها الغاشم ،وأن من نتائجها ف الدنيا بسط النفوذ على الرض،
والسيطرة على الوقف السياسي ف العال لتقود المة النسانية والمعية البشرية إل مرضاة ال ،وترجهم
من عبادة العباد إل عبادة ال .
وكان القرآن ينل بذه البشارات ـ مرة بالصراحة وأخرى بالكناية ـ ففي تلك الفترات القاصمة الت
ضيقت الرض على السلمي ،وكادت تنقهم وتقضى على حياتم كانت تنل اليات با جرى بي
النبياء السابقي وبي أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بم ،وكانت تشتمل هذه اليات على ذكر
الحوال الت تطابق تامًا أحوال مسلمى مكة وكفارها ،ث تذكر هذه اليات با تخضت عنه تلك
الحوال من إهلك الكفرة والظالي ،وإيراث عباد ال الصالي الرض والديار .فكانت ف هذه القصص
إشارات واضحة إل فشل أهل مكة ف الستقبل ،وناح السلمي مع ناح الدعوة السلمية.
وف هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة الؤمني ،قال تعالَ { :وَل َقدْ سََبقَتْ كَلِمَُتنَا لِعِبَا ِدنَا
صرُونَ
الْمُرْ َسلِيَ إِنّ ُهمْ لَ ُه ُم الْمَنصُورُونَ َوِإنّ جُندَنَا لَ ُه ُم الْغَالِبُونَ فَتَوَلّ عَ ْن ُهمْ حَتّى ِحيٍ َوأَبْصِرْ ُهمْ فَسَ ْوفَ يُبْ ِ
أَفَِبعَذَابِنَا يَسَْت ْعجِلُونَ َفإِذَا نَزَلَ بِسَاحَِت ِهمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات،]177 :171:وقال{ :
سَيُ ْه َزمُ اْلجَ ْمعُ َويُ َولّونَ ال ّدبُرَ} [القمر ،]45:وقال{ :جُندٌ مّا هُنَاِلكَ مَهْزُومٌ مّنَ اْلأَحْزَابِ} [ص.]11:
ونزلت ف الذين هاجروا إل البشة{ :وَاّلذِينَ هَا َجرُواْ فِي ال ِ مِن بَ ْعدِ مَا ظُلِمُواْ لَنَُب ّوئَنّ ُهمْ فِي الدّنْيَا حَسََنةً
َوَلأَجْرُ ال ِخ َرةِ َأكْبَرُ لَوْ كَانُواْ َيعْلَمُونَ} [النحل .]41:وسألوه عن قصة يوسف فأنزل ال ف طيها{ :لّ َقدْ
كَانَ فِي يُو ُسفَ َوإِخْ َوتِهِ آيَاتٌ لّلسّائِلِيَ} [يوسف .]7:أي فأهل مكة السائلون يلقون ما لقى إخوانه من
الفشل ،ويستسلمون كاستسلمهم ،وقال وهو يذكر الرسل{ :وَقَالَ اّلذِينَ َكفَرُواْ لِرُسُلِ ِهمْ لَُنخْرِجَنّـكُم
مّنْ أَ ْرضِنَآ أَوْ لََتعُو ُدنّ فِي مِلّتِنَا َفأَوْحَى إِلَيْ ِهمْ َربّ ُهمْ لَنُهْ ِلكَنّ الظّالِمِيَ َولَنُسْكِنَنّـ ُكمُ ا َل ْرضَ مِن َب ْعدِ ِهمْ َذلِكَ
لِمَنْ خَافَ َمقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم.]14 ،13:وحينما كانت الرب مشتعلة بي الفرس
والرومان ،وكان الكفار يبون غلبة الفرس لكونم مشركي ،والسلمون يبون غلبة الرومان لكونم
مؤمني بال والرسل والوحى والكتب واليوم الخر ،وكانت الفرس يغلبون ويتقدمون ،أنزل ال بشارة
بغلبة الروم ف بضع سني ،ولكنه ل يقتصر على هذه البشارة الواحدة ،بل صرح ببشارة أخرى ،وهي نصر
ح الْمُ ْؤمِنُونَ بِنَصْرِ ال } [الروم.]5 ،4 :
ال للمؤمني حيث قالَ { :ويَ ْومَِئذٍ يَفْ َر ُ
وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم نفسه يقـوم بـثل هذه البشارات بي آونـة وأخـرى ،فكـان
إذا واف الوسم ،وقـام بـي الناس ف عُكاظ ،و َمجَنّة ،وذى ا َلجَاز لتبليغ الرسالة ،لـم يكـن يبشرهم
بالـنة فحسب ،بل يقول لم بكل صراحة( :يأيها الناس ،قولوا :ل إله إل ال تفلحوا ،وتلكوا با
العرب ،وتدين لكم با العجم ،فإذا متم كنتم ملوكًا ف النة).
وقد أسلفنا ما أجاب به النب صلى ال عليه وسلم عتبة بن ربيعة حي أراد مساومته على رغائب الدنيا،
وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصلة والسلم.
وكذلك ما أجاب به النب صلى ال عليه وسلم آخر وفد جاء إل أب طالب ،فقد صرح لم أنه يطلب
منهم كلمة واحدة يعطونا تدين لم با العرب ،ويلكون العجم.
وقال خباب بن الرت :أتيت النب صلى ال عليه وسلم وهو متوسد برده وهو ف ظل الكعبة ،وقد لقينا
من الشركي شدة ،فقلت :أل تدعو ال ،فقعد ،وهو ممر وجهه ،فقال( :لقد كان من قبلكم ليمشط
بشاط الديد ما دون عظامه من لم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ،وليتمن ال هذا المر حت يسي
الراكب من صنعاء إل حضرموت ما ياف إل ال ـ زاد بيان الراوى ـ والذئب على غنمه) وف رواية:
(ولكنكم تستعجلون)
ول تكن هذه البشارات مفية مستورة ،بل كانت فاشية مكشوفة ،يعلمها الكفرة ،كما كان يعلمها
السلمون ،حت كان السود بن الطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النب صلى ال عليه وسلم تغامزوا
بم ،وقالوا :قد جاءكم ملوك الرض الذين يرثون كسرى وقيصر ،ث يصفرون ويصفقون.
وأمام هذه البشارات بالستقبل الجيد الستني ف الدنيا ،مع ما فيه من الرجاء الصال الكبي البالغ إل
النهاية ف الفوز بالنة كان الصحابة يرون أن الضطهادات الت تتوال عليهم من كل جانب ،والصائب
الت تيط بم من كل الرجاء ليست إل( :سحابة صيف عن قليل تقشع).
هذا ول يزل الرسول صلى ال عليه وسلم يغذى أرواحهم برغائب اليان ،ويزكى نفوسهم بتعليم الكمة
والقرآن ،ويربيهم تربية دقيقة عميقة ،يدو بنفوسهم إل منازل سو الروح ،ونقاء القلب ،ونظافة اللق،
والتحرر من سلطان الاديات ،والقاومة للشهوات ،والنوع إل رب الرض والسموات ،ويذكى جرة
قلوبم ،ويرجهم من الظلمات إل النور ،ويأخذهم بالصب على الذى ،والصفح الميل ،وقهر النفس.
فازدادوا رسوخًا ف الدين،وعزوفا عن الشهوات ،وتفانيًا ف سبيل الرضاة ،وحنينًا إل النة ،وحرصًا على
العلم ،وفقهًا ف الدين ،وماسبة للنفس ،وقهرًا للنعات وغلبة على العواطف ،وتسيطرًا على الثائرات
والائجات ،وتقيدًا بالصب والدوء والوقار.
الرحلة الثالثة :دعـوة السـلم خـارج مكـة
ف شوال سنة عشر من النبوة [ف أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619م] خرج النب صلى ال عليه
وسلم إل الطائف ،وهي تبعد عن مكة نو ستي ميلًا ،سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهوبًا ،ومعه موله
زيد بن حارثة ،وكان كلما مر على قبيلة ف الطريق دعاهم إل السلم ،فلم تب إليه واحدة منها.
فلما انتهي إل الطائف عمد ثلثة إخوة من رؤساء ثقيف ،وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن
عمي الثقفي ،فجلس إليهم ودعاهم إل ال ،وإل نصرة السلم ،فقال أحدهم :هو يَمْرُط ثياب الكعبة [
أي يزقها] إن كان ال أرسلك .وقال الخر :أما وَ َجدَ ال أحدًا غيك ،وقال الثالث:وال ل أكلمك أبدًا،
إن كنت رسولًا لنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلم ،ولئن كنت تكذب على ال ما ينبغى أن
أكلمك .فقام عنهم رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال لم[ :إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عن].
وأقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بي أهل الطائف عشرة أيام ،ل يدع أحدًا من أشرافهم إل جاءه
وكلمه ،فقالوا :اخرج من بلدنا .وأغروا به سفهاءهم ،فلما أراد الروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه
ويصيحون به ،حت اجتمع عليه الناس ،فوقفوا له سِمَاطَيْن [أي صفي] وجعلوا يرمونه بالجارة،
وبكلمات من السفه ،ورجوا عراقيبه ،حت اختضب نعله بالدماء .وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حت
أصابه ِشجَاج ف رأسه ،ول يزل به السفهاء كذلك حت ألأوه إل حائط لعتبة وشيبة ابن ربيعة على ثلثة
أميال من الطائف ،فلما التجأ إليه رجعوا عنه ،وأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم إل حُبْلَة من عنب
فجلس تت ظلها إل جدار .فلما جلس إليه واطمأن ،دعا بالدعاء الشهور الذي يدل على امتلء قلبه
كآبة وحزنًا ما لقى من الشدة ،وأسفًا على أنه ل يؤمن به أحد ،قال:
ضعْف قُ ّوتِى ،وقلة حيلت ،وهوإن على الناس ،يا أرحم الراحي ،أنت رب الستضعفي،
(ال م إليك أشكو َ
وأنت رب ،إل من تَكِلُن؟ إل بعيد يََتجَهّمُنِى؟ أم إل عدو ملكته أمري؟ إن ل يكن بك عليّ غضب فل
أبال ،ولكن عافيتك هي أوسع ل ،أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ،وصلح عليه أمر الدنيا
خطُك ،لك العُتْبَى حت ترضى ،ول حول ول قوة إل بك)
والخرة من أن تنل ب غضبك ،أو يل علي َس َ
.
فلما رآه ابنا ربيعة تركت له رحهما ،فدعوا غلمًا لما نصرانيًا يقال لهَ :عدّاس ،وقال له:خذ قطفًا من
هذا العنب ،واذهب به إل هذا الرجل .فلما وضعه بي يدى رسول ال صلى ال عليه وسلم مد يده إليه
قائلًا( :باسم ال ) ث أكل.
فقال عداس :إن هذا الكلم ما يقوله أهل هذه البلد ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم( :من أي
البلد أنت؟ وما دينك؟ قال :أنا نصران من أهل نِيَنوَى .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :من قرية
الرجل الصال يونس بن مَتّى) .قال له :وما يدريك ما يونس ابن مت؟ قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم( :ذاك أخي ،كان نبيًا وأنا نب) ،فأكب عداس على رأس رسول ال صلى ال عليه وسلم ويديه
ورجليه يقبلها.
فقال ابنا ربيعة أحدها للخر :أما غلمك فقد أفسده عليك .فلما جاء عداس قال له :ويك ما هذا؟
قال :يا سيدى ،ما ف الرض شيء خي من هذا الرجل ،لقد أخبن بأمر ل يعلمه إل نب ،قال له :ويك يا
عداس ،ل يصرفنك عن دينك ،فإن دينك خي من دينه.
ورجع رسول ال صلى ال عليه وسلم ف طريق مكة بعد خروجه من الائط كئيبًا مزونًا كسي القلب،
فلما بلغ قرن النازل بعث ال إليه جبيل ومعه ملك البال ،يستأمره أن يطبق الخشبي على أهل مكة.
وقد روى البخاري تفصيل القصة ـ بسنده ـ عن عروة بن الزبي ،أن عائشة رضي ال عنها حدثته أنا
قالت للنب صلى ال عليه وسلم :هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال( :لقيت من قومكِ
ما لقيت ،وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ،إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد ُكلَل ،فلم
يبن إل ما أردت ،فانطلقت ـ وأنا مهموم ـ على وجهي ،فلم أستفق إل وأنا بقَ ْر ِن الثعالب ـ وهو
السمى بقَ ْرنِ النازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتن ،فنظرت فإذا فيها جبيل ،فنادان ،فقال:
إن ال قد سع قول قومك لك ،وما ردوا عليك ،وقد بعث ال إليك ملك البال لتأمره با شئت فيهم.
فنادان ملك البال ،فسلم عليّ ث قال :يا ممد ،ذلك ،فما شئت ،إن شئت أن أطبق عليهم الخشبي ـ
أي لفعلت ،والخشبان :ها جبل مكة :أبو قُبَيْس والذي يقابله ،وهو ُقعَ ْيقِعَان ـ قال النب صلى ال عليه
وسلم :بل أرجو أن يرج ال عز وجل من أصلبم من يعبد ال عز وجل وحده ل يشرك به شيئا).
وف هذا الواب الذي أدل به الرسول صلى ال عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذة ،وما كان عليه من
اللق العظيم ل يدرك غوره.
وأفاق رسول ال صلى ال عليه وسلم واطمأن قلبه لجل هذا النصر الغيب الذي أمده ال عليه من فوق
سبع سوات ،ث تقدم ف طريق مكة حت بلغ وادى نلة ،وأقام فيه أيامًا .وف وادى نلة موضعان يصلحان
للقامة ـ السّيْل الكبي وال ّزيْمَة ـ لا بما من الاء والصب ،ول نقف على مصدر يعي موضع إقامته
صلى ال عليه وسلم فيه.
وخلل إقامته صلى ال عليه وسلم هناك بعث ال إليه نفرًا من الن ذكرهم ال ف موضعي من القرآن :ف
ضيَ
سورة الحقافَ { :وإِذْ صَرَفْنَا ِإلَ ْيكَ نَفَرًا مّنَ اْلجِنّ يَسْتَ ِمعُو َن الْقُرْآنَ فَ َلمّا َحضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمّا قُ ِ
صدّقًا لّمَا بَيْنَ َيدَْيهِ يَ ْهدِي ِإلَى
َولّوْا إِلَى قَ ْومِهِم مّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَ ْومَنَا ِإنّا سَ ِمعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن َبعْدِ مُوسَى مُ َ
اْلحَقّ َوإِلَى طَرِيقٍ مّسَْتقِيمٍ يَا قَ ْومَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ ال ِ وَآمِنُوا ِبهِ يَ ْغفِرْ لَكُم مّن ُذنُوبِ ُكمْ َوُيجِ ْركُم مّنْ َعذَابٍ
أَلِيمٍ} [الحقاف.]31 :29:
وف سورة النُ { :قلْ أُو ِحيَ ِإلَيّ َأنّهُ اسْتَ َمعَ نَفَرٌ مّنَ اْلجِنّ َفقَالُوا إِنّا َس ِمعْنَا قُرْآنًا َعجَبًا يَ ْهدِي ِإلَى الرّ ْشدِ
فَآمَنّا ِبهِ َولَن نّشْ ِركَ بِ َربّنَا أَ َحدًا} إلـى تـام اليــة الامـسة عشـر [ الن.]15 :1 :
ومن سياق هذه اليات ـ وكذا من سياق الروايات الت وردت ف تفسي هذا الادث ـ يتبي أن النب
صلى ال عليه وسلم ل يعلم حضور ذلك النفر من الن حي حضروا وسعوا ،وإنا علم بعد ذلك حي
أطلعه ال عليه بذه اليات ،وأن حضورهم هذا كان لول مرة ،ويقتضى سياق الروايات أنم وفدوا بعد
ذلك مرارًا.
وحقًا كان هذا الادث نصرًا آخر أمده ال من كنوز غيبه الكنون بنوده الت ل يعلمها إل هو ،ث إن
اليات الت نزلت بصدد هذا الادث كانت ف طيها بشارات بنجاح دعوة النب صلى ال عليه وسلم،
وأن أي قوة من قوات الكون ل تستطيع أن تول بينها وبي ناحهاَ { :ومَن لّا ُيجِبْ دَاعِيَ ال ِ فَلَ ْيسَ
ضلَالٍ مِّبيٍ} [الحقافَ { ،]32:وأَنّا ظَنَنّا أَن لّن
بِمُ ْعجِزٍ فِي اْلأَ ْرضِ َولَ ْيسَ َلهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُ ْولَِئكَ فِي َ
نّعجِزَ ال َ فِي اْلأَ ْرضِ َولَن نّ ْعجِ َزهُ هَ َربًا } [الن.]12:
أمام هذه النصرة ،وأمام هذه البشارات ،أقشعت سحابة الكآبة والزن واليأس الت كانت مطبقة عليه منذ
أن خرج من الطائف مطرودًا مدحورًا ،حت صمم على العود إل مكة ،وعلى القيام باستئناف خطته الول
ف عرض السلم وإبلغ رسالة ال الالدة بنشاط جديد وبد وحاس.
وحينئذ قال له زيد بن حارثة :كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعن قريشًا ،فقال( :يا زيد ،إن ال
جاعل لا ترى فرجًا ومرجًا ،وإن ال ناصر دينه ،ومظهر نبيه) .وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم حت
إذا دنا من مكة مكث بِرَاء ،وبعث رجلًا من خزاعة إل الخنس بن شَرِيق ليجيه ،فقال :أنا حليف،
والليف ل يي ،فبعث إل سهيل بن عمرو ،فقال سهيل :إن بن عامر ل تي على بن كعب ،فبعث إل
الطعم بن عدى ،فقال الطعم :نعم ،ث تسلح ودعا بنيه وقومه ،فقال :البسوا السلح ،وكونوا عند
أركان البيت ،فإن قد أجرت ممدًا ،ث بعث إل رسول ال صلى ال عليه وسلم :أن ادخل ،فدخل رسول
ال صلى ال عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حت انتهي إل السجد الرام ،فقام الطعم بن عدى على
راحلته فنادى :يا معشر قريش ،إن قد أجرت ممدًا فل يهجه أحد منكم ،وانتهي رسول ال صلى ال
عليه وسلم إل الركن فاستلمه ،وطاف بالبيت ،وصلى ركعتي ،وانصرف إل بيته ،ومطعم بن عدى وولده
مدقون به بالسلح حت دخل بيته.
وقيل :إن أبا جهل سأل مطعمًا :أمي أنت أم متابع ـ مسلم؟ .قال :بل مي .قال :قد أجرنا من أجرت.
وقد حفظ رسول ال صلى ال عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع ،فقال ف أسارى بدر( :لو كان الطعم بن
عدى حيًا ث كلمن ف هؤلء النتن لتركتهم له).
عرض السلم علي القبائل والفراد
القبائل الت عرض عليها السلم
الؤمنون من غي أهل مكة
ست نسمات طيبة من أهل يثرب
استطراد
ف ذى القعدة سنة عشر من النبوة ـ ف أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 619م ـ عاد رسول ال
صلى ال عليه وسلم إل مكة؛ ليستأنف عرض السلم على القبائل والفراد ،ولقتراب الوسم كان الناس
يأتون إل مكة رجال ،وعلى كل ضامر يأتي من كل فج عميق لداء فريضة الج ،وليشهدوا منافع لم،
ويذكروا اسم ال ف أيام معلومات ،فانتهز رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الفرصة ،فأتاهم قبيلة قبيلة
يعرض عليهم السلم ويدعوهم إليه ،كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة ،وقد بدأ يطلب
منهم من هذه السنة ـ العاشرة ـ أن يؤووه وينصروه وينعوه حت يبلغ ما بعثه ال به.
قال الزهرى :وكان من يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ودعاهم
صفَة ،وفزارة ،وغسان ،ومرة ،وحنيفة،
صعَة ،و ُمحَارِب بن َخ َ
صعْ َ
وعرض نفسه عليهم :بنو عامر بن َ
وسليم ،وعَبْس ،وبنو نصر ،وبنو البَكّاء ،وكندة ،وكلب ،والارث بن كعب ،و ُع ْذرَة ،والضارمة ،فلم
يستجب منهم أحد.
وهذه القبائل الت ساها الزهرى ل يكن عرض السلم عليها ف سنة واحدة ول ف موسم واحد ،بل إنا
كان ما بي السنة الرابعة من النبوة إل آخر موسم قبل الجرة .ول يكن تسمية سنة معينة لعرض السلم
على قبيلة معينة ،ولكن الكثر كان ف السنة العاشرة.
أما كيفية عرض السلم على هذه القبائل ،وكيف كانت ردودهم على هذا العرض فقد ذكرها ابن
إسحاق ،ونلخصها فيما يلي:
1ـ بنو كلب :أتى النب صلى ال عليه وسلم إل بطن منهم يقال لم :بنو عبد ال ،فدعاهم إل ال
وعرض عليهم نفسه ،حت إنه ليقول لم( :يا بن عبد ال ،إن ال قد أحسن اسم أبيكم) ،فلم يقبلوا منه
ما عرض عليهم.
2ـ بنو حنيفة :أتاهم ف منازلم فدعاهم إل ال ،وعرض عليهم نفسه ،فلم يكن أحد من العرب أقبح
عليه ردًا منهم.
3ـ وأتى إل بن عامر بن صعصعة :فدعاهم إل ال ،وعرض عليهم نفسه ،فقال بَ ْيحَرَة بن فِرَاس [
رجل منهم] :وال ،لو إن أخذت هذا الفت من قريش لكلت به العرب ،ث قال :أرأيت إن نن بايعناك
على أمرك ،ث أظهرك ال على من خالفك أيكون لنا المر من بعدك؟ قال( :المر إل ال ،يضعه حيث
يشاء) ،فقال له :أفَتُ ْهدَفُ نورنا للعرب دونك ،فإذا أظهرك ال كان المر لغينا ،ل حاجة لنا بأمرك،
فأبوا عليه.
ولا رجعت بنو عامر تدثوا إل شيخ لم ل يواف الوسم لكب سنه ،وقالوا له :جاءنا فت من قريش من بن
عبد الطلب يزعم أنه نب ،يدعونا إل أن ننعه ونقوم معه ،ونرج به إل بلدنا ،فوضع الشيخ يديه على
رأسه ث قال :يا بن عامر وهل لا من تَلَف؟ هل ل ُذنَابَاها من َمطْلَب؟ والذي نفس فلن بيده ما تَقَ ّولَها
إساعيلى قط ،وإنا لق ،فأين رأيكم كان عنكم؟.
وبعد رجوعهم إل يثرب ل يلبث إياس أن هلك ،وكان يهلل ويكب ويمد ويسبح عند موته ،فل يشكون
أنه مات مسلمًا.
روى البخاري عن ابن عباس قال :قال أبو ذر :كنت رجلًا من غفار ،فبلغنا أن رجلًا قد خرج بكة يزعم
أنه نب ،فقلت لخي :انطلق إل هذا الرجل وكلمه ،وائتن ببه ،فانطلق فلقيه ،ث رجع ،فقلت :ما
عندك؟ فقال :وال ،لقد رأيت رجلًا يأمر بالي ،وينهي عن الشر ،فقلت له :ل تشفن من الب ،فأخذت
جرابًا وعصا ،ث أقبلت إل مكة ،فجعلت ل أعرفه ،وأكره أن أسأل عنه ،وأشرب من ماء زمزم وأكون ف
السجد .قال :فمر ب عليّ .فقال :كأن الرجل غريب؟ قال :قلت :نعم .فقال :فانطلق إل النل ،فانطلقت
معه ل يسألن عن شيء ول أسأله ول أخبه .فلما أصبحت غدوت إل السجد لسأل عنه ،وليس أحد
يبن عنه بشيء .قال :فمر ب عليّ فقال :أما نال للرجل يعرف منله بعد؟ قال :قلت :ل .قال :فانطلق
معي ،قال :فقال :ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال :قلت له:إن كتمت عليّ أخبتك ،قال :فإن
أفعل ،قال :قلت له :بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نب ال ،فأرسلت أخي يكلمه فرجع ول
يشفن من الب ،فأردت أن ألقاه.
فقال له :أما إنك قد رشدت .هذا وجهي إليه ،ادخل حيث أدخل فإن إن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت
إل الائط كإن أصلح نعلى ،وامض أنت .فمضى ومضيت معه حت دخل ،ودخلت معه على النب صلى
ال عليه وسلم.فقلت له:اعرض عليّ السلم .فعرضه ،فأسلمت مكإن ،فقال ل( :يا أبا ذر ،اكتم هذا
المر ،وارجع إل بلدك ،فإذا بلغك ظهورنا فأقبل) .فقلت :والذي بعثك بالق لصرخن با بي أظهرهم،
فجئت إل السجد ،وقريش فيه ،فقلت :يا معشر قريش ،إن أشهد أن ل إله إل ال ،وأشهد أن ممدًا
عبده ورسوله ،فقالوا :قوموا إل هذا الصابئ .فقاموا ،فضربت لموت ،فأدركن العباس فأكب عليّ ،ث
أقبل عليهم فقال :ويلكم تقتلون رجلًا من غفار؟ ومتجركم ومركم على غفار ،فأقلعوا عن .فلما أن
أصبحت الغد ،رجعت ،فقلت مثل ما قلت بالمس .فقالوا :قوموا إل هذا الصابئ ،فصنع ب ما صنع
بالمس ،فأدركن العباس ،فأكب عليّ وقال مثل مقالته بالمس.
يقول طفيل :فوال ما زالوا ب حت أجعت أل أسع منه شيئًا ،ول أكلمه ،حت حشوت أذن حي غدوت
إل السجد كُرْ ُسفًا؛ فرقًا من أن يبلغن شيء من قوله ،قال :فغدوت إل السجد فإذا هو قائم يصلى عند
الكعبة ،فقمت قريبًا منه ،فأب ال إل أن يسمعن بعض قوله ،فسمعت كلمًا حسنًا ،فقلت ف نفسى:
واثكل أمي ،وال إن رجل لبيب شاعر؛ ما يفي عليّ السن من القبيح ،فما ينعن أن أسع من هذا الرجل
ما يقول؟ فإن كان حسنًا قبلته ،وإن كان قبيحًا تركته ،فمكثت حت انصرف إل بيته فاتبعته ،حت إذا
دخل بيته دخلت عليه ،فعرضت عليه قصة مقدمى ،وتويف الناس إياي ،وسد الذن بالكرسف ،ث ساع
بعض كلمه ،وقلت له :اعرض عليّ أمرك ،فعرض عليّ السلم ،وتل عليّ القرآن .فوال ما سعت قولًا
قط أحسن منه ،ول أمرًا أعدل منه ،فأسلمت وشهدت شهادة الق ،وقلت له :إن مطاع ف قومى،
وراجع إليهم ،وداعيهم إل السلم ،فادع ال أن يعل ل آية ،فدعا.
وكانت آيته أنه لا دنا من قومه جعل ال نورًا ف وجهه مثل الصباح ،فقال :ال م ف غي وجهي .أخشى
أن يقولوا :هذه مثلة ،فتحول النور إل سوطه ،فدعا أباه وزوجته إل السلم فأسلما ،وأبطأ عليه قومه ف
السلم ،لكن ل يزل بم حت هاجر بعد الندق ،ومعه سبعون أو ثانون بيتًا من قومه ،وقد أبلى ف
السلم بلء حسنًا ،وقتل شهيدًا يوم اليمامة.
فقال :أعد عليّ كلماتك هؤلء ،فأعادهن عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلث مرات ،فقال :لقد
سعت قول الكهنة ،وقول السحرة ،وقول الشعراء ،فما سعت مثل كلماتك هؤلء ،ولقد بلغن قاموس
البحر ،هات يدك أبايعك على السلم ،فبايعه.
وكان من حكمته صلى ال عليه وسلم إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصد عن سبيل ال
أنه كان يرج إل القبائل ف ظلم الليل ،حت ل يول بينه وبينهم أحد من أهل مكة الشركي.
فخرج ليلة ومعه أبو بكر وعلى ،فمر على منازل ذُهْل وشيبان بن ثعلبة ،وكلمهم ف السلم .وقد دارت
بي أب بكر وبي رجل من ذهل أسئلة وردود طريفة ،وأجاب بنو شيبان بأرجى الجوبة ،غي أنم توقفوا
ف قبول السلم.
ث مر رسول ال صلى ال عليه وسلم بعقبة من ،فسمع أصوات رجال يتكلمون فعمدهم حت لقهم،
وكانوا ستة نفر من شباب يثرب كلهم من الزرج ،وهم:
وكان من سعادة أهل يثرب أنم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود الدينة ،إذا كان بينهم شيء ،أن نبيًا
من النبياء مبعوث ف هذا الزمان سيخرج ،فنتبعه ،ونقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما لقهم رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لم( :من أنتم؟) قالوا :نفر من الزرج ،قال( :من موال
اليهود؟) أي حلفائهم ،قالوا :نعم .قال( :أفل تلسون أكلمكم؟) قالوا :بلى ،فجلسوا معه ،فشرح لم
حقيقة السلم ودعوته ،ودعاهم إل ال عز وجل ،وتل عليهم القرآن .فقال بعضهم لبعض :تعلمون وال
يا قوم ،إنه للنب الذي توعدكم به يهود ،فل تسبقنكم إليه ،فأسرعوا إل إجابة دعوته ،وأسلموا.
وكانوا من عقلء يثرب ،أنكتهم الرب الهلية الت مضت قريبًا ،والت ل يزال ليبها مستعرًا ،فأملوا أن
تكون دعوته سببًا لوضع الرب ،فقالوا :إنا قد تركنا قومنا ول قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم،
فعسى أن يمعهم ال بك ،فسنقدم عليهم ،فندعوهم إل أمرك ،ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا
الدين ،فإن يمعهم ال عليك فل رجل أعز منك.
ولا رجع هؤلء إل الدينة حلوا إليها رسالة السلم ،حت ل تبق دار من دور النصار إل وفيه ذكر رسول
ال صلى ال عليه وسلم.
وبينما النب صلى ال عليه وسلم يـر بذه الرحلة ،وأخذت الدعوة تشق طريقًا بي النجاح
والضطهـاد ،وبـدأت نـوم المل تتلمح ف آفاق بعيدة ،وقع حادث السراء والعـراج .واختلف
ف تعيي زمنه على أقوال شت:
1ـ فقيل :كان السراء ف السنة الت أكرمه ال فيها بالنبوة ،واختاره الطبى.
2ـ وقيل :كان بعد البعث بمس سني ،رجح ذلك النووى والقرطب.
3ـ وقيل :كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10من النبوة.
4ـ وقيل :قبل الجرة بستة عشر شهرًا ،أي ف رمضان سنة 12من النبوة.
5ـ وقيل :قبل الجرة بسنة وشهرين ،أي ف الحرم سنة 13من النبوة.
6ـ وقيل :قبل الجرة بسنة ،أي ف ربيع الول سنة 13من النبوة.
وَ ُر ّدتِ القوا ُل الثلثة الول بأن خدية رضي ال عنها توفيت ف رمضان سنة عشر من النبوة ،وكانت
وفاتا قبل أن تفرض الصلوات المس .ول خلف أن فرض الصلوات المس كان ليلة السراء .أما
القوال الثلثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحدًا منها ،غي أن سياق سورة السراء يدل على أن السراء
متأخر جدًا.
وروى أئمة الديث تفاصيل هذه الوقعة ،وفيما يلي نسردها بإياز:
قال ابن القيم :أسرى برسول ال صلى ال عليه وسلم بسده على الصحيح من السجد الرام إل بيت
القدس ،راكبًا على البُرَاق ،صحبة جبيل عليهما الصلة والسلم ،فنل هناك ،وصلى بالنبياء إمامًا،
وربط الباق بلقة باب السجد.
ث عرج به تلك الليلة من بيت القدس إل السماء الدنيا ،فاستفتح له جبيل ففتح له ،فرأي هنالك آدم أبا
البشر ،فسلم عليه ،فرحب به ورد عليه السلم ،وأقر بنبوته ،وأراه ال أرواح السعداء عن يينه ،وأرواح
الشقياء عن يساره.
ث عرج به إل السماء الثانية ،فاستفتح له ،فرأي فيها يي بن زكريا وعيسى ابن مري ،فلقيهما وسلم
عليهما ،فردا عليه ورحبا به ،وأقرّا بنبوته.
ث عرج به إل السماء الثالثة ،فرأي فيها يوسف ،فسلم عليه فرد عليه ورحب به ،وأقر بنبوته.
ث عرج به إل السماء الرابعة ،فرأي فيها إدريس ،فسلم عليه ،فرد عليه ،ورحب به ،وأقر بنبوته.
ث عرج به إل السماء الامسة ،فرأي فيها هارون بن عمران ،فسلم عليه ،فرد عليه ورحب به ،وأقر
بنبوته.
ث عرج به إل السماء السادسة ،فلقى فيها موسى بن عمران ،فسلم عليه ،فرد عليه ورحب به ،وأقر
بنبوته.
فلما جاوزه بكى موسى ،فقيل له :ما يبكيك ؟ فقال :أبكى؛ لن غلمًا بعث من بعدى يدخل النة من
أمته أكثر ما يدخلها من أمت.
ث عرج به إل السماء السابعة ،فلقى فيها إبراهيم عليه السلم ،فسلم عليه ،فرد عليه ،ورحب به ،وأقر
بنبوته.
ث رفع إل سدرة النتهى ،فإذا نَ ْبقُها مثل ِقلَل َهجَر ،وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ،ث غشيها فراش من
ذهب ،ونور وألوان ،فتغيت ،فما أحد من خلق ال يستطيع أن يصفها من حسنها .ث رفع له البيت
العمور ،وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ث ل يعودون .ث أدخل النة ،فإذا فيها حبائل اللؤلؤ،
وإذا ترابا السك .وعرج به حت ظهر لستوى يسمع فيه صَرِيف القلم.
ث عرج به إل البّار جل جلله ،فدنا منه حت كان قاب قوسي أو أدن ،فأوحى إل عبده ما أوحى،
وفرض عليه خسي صلة ،فرجع حت مرّ على موسى فقال له :ب أمرك ربك؟ قال[ :بمسي صلة].
قال :إن أمتك ل تطيق ذلك ،ارجع إل ربك فاسأله التخفيف لمتك ،فالتفت إل جبيل ،كأنه يستشيه
ف ذلك ،فأشار :أن نعم إن شئت ،فعل به جبيل حت أتى به البار تبارك وتعال ،وهو ف مكانه ـ هذا
لفظ البخاري ف بعض الطرق ـ فوضع عنه عشرًا ،ث أنزل حت مر بوسى ،فأخبه ،فقال :ارجع إل ربك
فاسأله التخفيف ،فلم يزل يتردد بي موسى وبي ال عز وجل ،حت جعلها خسًا ،فأمره موسى بالرجوع
وسؤال التخفيف ،فقال[ :قد استحييت من رب ،ولكن أرضى وأسلم] ،فلما بعد نادى مناد :قد أمضيت
فريضت وخففت عن عبادى .انتهي.
ث ذكر ابن القيم خلفًا ف رؤيته صلى ال عليه وسلم ربه تبارك وتعال ،ث ذكر كلمًا لبن تيمية بذا
الصدد ،وحاصل البحث أن الرؤية بالعي ل تثبت أصلًا ،وهو قول ل يقله أحد من الصحابة .وما نقل عن
ابن عباس من رؤيته مطلقًا ورؤيته بالفؤاد فالول ل يناف الثان.
ث قال :وأما قوله تعال ف سورة النجمُ{ :ثمّ َدنَا فََت َدلّى} [النجم ]8:فهو غي الدنو الذي ف قصة
السراء ،فإن الذي ف سورة النجم هو دنو جبيل وتدليه ،كما قالت عائشة وابن مسعود ،والسياق يدل
عليه ،وأما الدنو والتدل ف حديث السراء فذلك صريح ف أنه دنو الرب تبارك وتعال وتدليه ،ول
تعرض ف سورة النجم لذلك ،بل فيه أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة النتهى .وهذا هو جبيل ،رآه ممد
صلى ال عليه وسلم على صورته مرتي :مرة ف الرض ،ومرة عند سدرة النتهى ،وال أعلم .انتهى.
وقد جاء ف بعض الطرق أن صدره صلى ال عليه وسلم شق ف هذه الرة أيضًا ،وقد رأى النب صلى ال
عليه وسلم ف هذه الـرحلة أمورًا عديدة:
عرض عليه اللب والمر ،فاختار اللب ،فقيل :هديت الفطرة أو أصبت الفطرة ،أما إنك لو أخذت المر
غوت أمتك.
ورأي أربعة أنار يرجن من أصل سدرة النتهى :نران ظاهران ونران باطنان ،فالظاهران ها :النيل
والفرات ،عنصرها .والباطنان :نران ف النة .ولعل رؤية النيل والفرات كانت إشارة إل تكن السلم
من هذين القطرين ،وال أعلم.
ورأى مالكًا خازن النار ،وهو ل يضحك ،وليس على وجهه بشر ول بشاشة ،وكذلك رأي النة والنار.
ورأى أكلة أموال اليتامى ظلمًا لم مشافر كمشافر البل ،يقذفون ف أفواههم قطعًا من نار كالفهار،
فتخرج من أدبارهم.
ورأى أكلة الربا لم بطون كبية ل يقدرون لجلها أن يتحولوا عن أماكنهم ،وير بم آل فرعون حي
يعرضون على النار فيطأونم.
ورأى الزناة بي أيديهم لم سي طيب ،إل جنبه لم غث منت ،يأكلون من الغث النت ،ويتركون الطيب
السمي.
ورأى النساء اللتى يدخلن على الرجال من ليس من أولدهم ،رآهن معلقات بثديهن.
ورأى عيًا من أهل مكة ف الياب والذهاب ،وقد دلم على بعي َندّ لم ،وشرب ماءهم من إناء مغطى
وهم نائمون ،ث ترك الناء مغطى ،وقد صار ذلك دليلًا على صدق دعواه ف صباح ليلة السراء.
قال ابن القيم :فلما أصبح رسول ال صلى ال عليه وسلم ف قومه أخبهم با أراه ال عز وجل من آياته
الكبى ،فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه ،وسألوه أن يصف لم بيت القدس ،فجله ال له،
حت عاينه ،فطفق يبهم عن آياته ،ول يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا ،وأخبهم عن عيهم ف مسراه
ورجوعه ،وأخبهم عن وقت قدومها ،وأخبهم عن البعي الذي يقدمها ،وكان المر كما قال ،فلم يزدهم
ذلك إل نفورًا ،وأب الظالون إل كفورًا .
يقال :سُمى أبو بكر رضي ال عنه صديقًا؛ لتصديقه هذه الوقعة حي كذبا الناس.
وأوجز وأعظم ما ورد ف تعليل هذه الرحلة هو قوله تعال{ :لِنُ ِريَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [السراء ]1 :وهذه سنة
ال ف النبياء ،قالَ { :و َكذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَ َلكُوتَ السّمَاوَاتِ وَا َل ْرضِ َولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِيَ} [النعام:
،]75وقال لوسى عليه السلم{ :لِنُ ِرَيكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُ ْبرَى} [طه ،]23:وقد بي مقصود هذه الراءة
بقولهَ { :ولِيَكُونَ مِنَ الْمُو ِقنِيَ} فبعد استناد علوم النبياء إل رؤية اليات يصل لم من عي اليقي ما ل
يقادر قدره ،وليس الب كالعاينة ،فيتحملون ف سبيل ال ما ل يتحمل غيهم ،وتصي جيع قوات الدنيا
عندهم كجناح بعوضة ل يعبأون با إذا ما تدول عليهم بالحن والعذاب.
والكم والسرار الت تكمن وراء جزئيات هذه الرحلة إنا مل بثها كتب أسرار الشريعة ،ولكن هنا
حقائق بسيطة تتفجر من ينابيع هذه الرحلة الباركة ،وتتدفق إل حدائق أزهار السية النبوية ـ على
صاحبها الصلة والسلم والتحية ـ أرى أن أسجل بعضًا منها بالياز:
يرى القارئ ف سورة السراء أن ال ذكر قصة السراء ف آية واحدة فقط ،ث أخذ ف ذكر فضائح اليهود
وجرائمهم ،ث نبههم بأن هذا القرآن يهدى للت هي أقوم ،فربا يظن القارئ أن اليتي ليس بينهما
ارتباط ،والمر ليس كذلك ،فإن ال تعال يشي بذا السلوب إل أن السراء إنا وقع إل بيت القدس؛
لن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة المة النسانية؛ لا ارتكبوا من الرائم الت ل مال بعدها لبقائهم
على هذا النصب ،وإن ال سينقل هذا النصب فعل إل رسوله صلى ال عليه وسلم ويمع له مركزى
الدعوة البراهيمية كليهما ،فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إل أمة؛ من أمة ملت تاريها
بالغدر واليانة والث والعدوان ،إل أمة تتدفق بالب واليات ،ول يزال رسولا يتمتع بوحى القرآن الذي
يهدى للت هي أقوم.
ولكن كيف تنتقل هذه القيادة ،والرسول يطوف ف جبال مكة مطرودًا بي الناس؟ هذا السؤال يكشف
الغطاء عن حقيقة أخرى ،وهي أن عهدًا من هذه الدعوة السلمية قد أوشك إل النهاية والتمام ،وسيبدأ
عهد آخر جديد يتلف عن الول ف مراه ،ولذلك نرى بعض اليات تشتمل على إنذار سافر ووعيد
سقُواْ فِيهَا َفحَقّ َعلَيْهَا اْلقَوْلُ
شديد بالنسبة إل الشركي { َوإِذَا أَرَ ْدنَا أَن نّ ْه ِلكَ قَ ْرَيةً أَمَ ْرنَا مُتْرَفِيهَا َففَ َ
َف َدمّرْنَاهَا َت ْدمِيًا َو َكمْ أَهْلَكْنَا مِ َن الْقُرُونِ مِن بَ ْعدِ نُوحٍ َو َكفَى بِ َرّبكَ بِ ُذنُوبِ عِبَا ِدهِ خَبِيًَا بَصِيًا} [السراء:
]17 ،16وبنب هذه اليات آيات أخرى تبي للمسلمي قواعد الضارة وبنودها ومبادئها الت يبتن
عليها متمعهم السلمى ،كأنم قد أووا إل أرض امتلكوا فيها أمورهم من جيع النواحى ،وكونوا وحدة
متماسكة تدور عليها رحى الجتمع ،ففيه إشارة إل أن الرسول صلى ال عليه وسلم سيجد ملجأ ومأمنًا
يستقر فيه أمره ،ويصي مركزًا لبث دعوته ف أرجاء الدنيا .هذا سر من أسرار هذه الرحلة الباركة ،يتصل
ببحثنا فآثرنا ذكره.
ولجل هذه الكمة وأمثالا نرى أن السراء إنا وقع إما قبيل بيعة العقبة الول أو بي العقبتي ،وال
أعلم.
بيعة العقبة الول
سفي السلم ف الدينة
النجاح الغتبط
بيعة العقبة الثانية
بداية الحادثة وتشريح العباس لطورة السئولية
بنود البيعة
التأكيد من خطورة البيعة
عقد البيعة
اثنا عشر نقيبًا
شيطان يكتشف العاهدة
استعداد النصار لضرب قريش
قريش تقدم الحتجاج إل رؤساء يثرب
تأكد الب لدى قريش ومطاردة البايعي
قد ذكرنا أن ستة نفر من أهل يثرب أسلموا ف موسم الج سنة 11من النبوة ،ووعدوا رسول ال صلى
ال عليه وسلم بإبلغ رسالته ف قومهم.
وكان من جراء ذلك أن جاء ف الوسم التال ـ موسم الج سنة 12من النبوة ،يوليو سنة 621م ـ
اثنا عشر رجلًا ،فيهم خسة من الستة الذين كانوا قد التقوا برسول ال صلى ال عليه وسلم ف العام
السابق ـ والسادس الذي ل يضر هو جابر بن عبد ال بن رِئاب ـ وسبعة سواهم ،وهم:
التقى هؤلء برسول ال صلى ال عليه وسلم عند العقبة بن فبايعوه بيعة النساء ،أي وفق بيعتهن الت
نزلت بعد الديبية.
روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال[ :تعالوا بايعون على أل
تشركوا بال شيئًا ،ول تسرقوا ،ول تزنوا ،ول تقتلوا أولدكم ،ول تأتوا ببهتان تفترونه بي أيديكم
وأرجلكم ،ول تعصون ف معروف ،فمن وف منكم فأجره على ال ،ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به
ف الدنيا ،فهو له كفارة ،ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره ال ،فأمـره إل ال ؛ إن شاء عاقبه ،وإن شاء
عفا عـنه] .قــال :فبايعته ـ وف نسخة :فبايعناه ـ على ذلك.
النجاح الغتبط
نزل مصعب بن عمي على أسعد بن ُزرَارة ،وأخذا يبثان السلم ف أهل يثرب بد وحاس ،وكان مصعب
يُعْرَف بالقرئ.
ومن أروع ما يروى من ناحه ف الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يومًا يريد دار بن عبد الشهل ودار
بن َظفَر ،فدخل ف حائط من حوائط بن ظفر ،وجلسا على بئر يقال لا :بئر مَرَق ،واجتمع إليهما رجال
من السلمي ـ وسعد بن معاذ وأُسَيْد بن ُحضَيْر سيدا قومهما من بن عبد الشهل يومئذ على الشرك ـ
فلما سعا بذلك قال سعد لسيد :اذهب إل هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرها ،وانهما عن
أن يأتيا دارينا ،فإن أسعد بن زرارة ابن خالت ،ولول ذلك لكفيتك هذا.
فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما ،فلما رآه أسعد قال لصعب :هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق ال فيه ،قال
مصعب :إن يلس أكلمه .وجاء أسيد فوقف عليهما متشتمًا ،وقال :ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟
اعتزلنا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة ،فقال له مصعب :أو تلس فتسمع ،فإن رضيت أمرا قبلته ،وإن
كرهته كف عنك ما تكره ،فقال :أنصفت ،ث ركز حربته وجلس ،فكلمه مصعب بالسلم ،وتل عليه
القرآن .قال :فو ال لعرفنا ف وجهه السلم قبل أن يتكلم ،ف إشراقه وتلله ،ث قال :ما أحسن هذا
وأجله؟ كيف تصنعون إذا أردت أن تدخلوا ف هذا الدين؟
قال له :تغتسل ،وتطهر ثوبك ،ث تشهد شهادة الق ،ث تصلى ركعتي .فقام واغتسل ،وطهر ثوبه وتشهد
وصلى ركعتي ،ث قال :إن ورائى رجلًا إن تبعكما ل يتخلف عنه أحد من قومه ،وسأرشده إليكما الن ـ
سعد بن معاذ ـ ث أخذ حربته وانصرف إل سعد ف قومه ،وهم جلوس ف ناديهم .فقال سعد :أحلف بال
لقد جاءكم بغي الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلما وقف أسيد على النادى قال له سعد :ما فعلت؟ فقال :كلمت الرجلي ،فوال ما رأيت بما بأسًا ،وقد
نيتهما فقال :نفعل ما أحببت.
وقد حدثت أن بن حارثة خرجوا إل أسعد بن زرارة ليقتلوه ـ وذلك أنم قد عرفوا أنه ابن خالتك ـ
لُِيخْفِرُوك .فقام سعد مغضبًا للذى ذكر له ،فأخذ حربته ،وخرج إليهما ،فلما رآها مطمئني عرف أن
أسيدًا إنا أراد منه أن يسمع منهما ،فوقف عليهما متشتمًا ،ث قال لسعد بن زرارة :وال يا أبا أمامة ،لول
ما بين وبينك من القرابة ما ُرمْتَ هذا من ،تغشانا ف دارنا با نكره؟
وقـد كان أسعد قال لصعب :جاءك وال سيد من ورائه قومه ،إن يتبعك ل يتخلف عنك منهم أحد،
فقال مصعب لسعد بن معاذ :أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلته ،وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره،
قال :قد أنصفت ،ث ركز حربته فجلس .فعـرض عليــه السلم ،وقـرأ علـيه القـرآن ،قـال:
فعرفنـا وال ف وجهـه السلم قبـل أن يتكلم ،ف إشـراقه وتلّله ،ثـم قـال :كيـف تصنـعون
إذا أسلمتـم؟ قال :تغتسل ،وتطهر ثوبك ،ث تشهد شهادة الق ،ث تصلى ركعتي .ففعل ذلك.
ث أخذ حربته فأقبل إل نادى قومه ،فلما رأوه قالوا :نلف بال لقد رجع بغي الوجه الذي ذهب به.
فلما وقف عليهم قال :يا بن عبد الشهل ،كيف تعلمون أمرى فيكم؟ قالوا :سيدنا وأفضلنا رأيًا ،وأيننا
نقيبة ،قال :فإن كلم رجالكم ونسائكم علىّ حرام حت تؤمنوا بال ورسوله .فما أمسى فيهم رجل ول
امرأة إل مسلمًا ومسلمة ،إل رجل واحد ـ وهو الُصَ ْيرِم ـ تأخر إسلمه إل يوم أحد ،فأسلم ذلك
اليوم وقاتل وقتل ،ول يسجد ل سجدة ،فقال النب صلى ال عليه وسلم[ :عمل قليلًا وأجر كثيًا].
وأقام مصعب ف بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إل السلم ،حت ل تبق دار من دور النصار إل وفيها
رجال ونساء مسلمون ،إل ما كان من دار بن أمية بن زيد و َخطْمَة ووائل .كان فيهم قيس بن السلت
الشاعر ـ وكانوا يطيعونه ـ فوقف بم عن السلم حت كان عام الندق سنة خس من الجرة.
وقبل حلول موسم الج التال ـ أي حج السنة الثالثة عشرة ـ عاد مصعب بن عمي إل مكة يمل إل
رسول ال صلى ال عليه وسلم بشائر الفوز ،ويقص عليه خب قبائل يثرب ،وما فيها من مواهب الي،
وما لا من قوة ومنعة.
فلما قدموا مكة جرت بينهم وبي النب صلى ال عليه وسلم اتصالت سرية أدت إل اتفاق الفريقي على
أن يتمعوا ف أوسط أيام التشريق ف الشعب الذي عند العقبة حيث المرة الول من من ،وأن يتم
الجتماع ف سرية تامة ف ظلم الليل.
ولنترك أحد قادة النصار يصف لنا هذا الجتماع التاريي الذي حول مرى اليام ف صراع الوثنية
والسلم .يقول كعب بن مالك النصاري رضي ال عنه:
خرجنا إل الج ،وواعدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق ،فلما فرغنا من
الج ،وكانت الليلة الت واعدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم لا ،ومعنا عبد ال بن عمرو بن حَرَام أبو
جابر ،سيد من ساداتنا ،وشريف من أشرافنا ،أخذناه معنا ـ وكنا نكتم من معنا من قومنا من الشركي
أمرنا ـ فكلمناه وقلنا له :يا أبا جابر ،إنك سيد من ساداتنا ،وشريف من أشرافنا ،وإنا نرغب بك عما
أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدًا .ث دعوناه إل السلم ،وأخبناه بيعاد رسول ال صلى ال عليه وسلم
إيانا العقبة ،قال :فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا.
قال كعب :فنمنا تلك الليلة مع قومنا ف رحالنا حت إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا ليعاد رسول
شعْب عند العقبة ،ونن ثلثة
ال صلى ال عليه وسلم ،نتسلل تسلل ال َقطَا ،مستخفي ،حت اجتمعنا ف ال ّ
وسبعون رجلًا ،وامرأتان من نسائنا؛ نُسَيْبَة بنت كعب ـ أم عُمَارة ـ من بن مازن بن النجار،وأساء بنت
عمرو ـ أم منيع ـ من بن سلمة.
فاجتمعنا ف الشعب ننتظر رسول ال صلى ال عليه وسلم حت جاءنا ،ومعه عمه :العباس بن عبد الطلب
ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إل أنه أحب أن يضر أمر ابن أخيه ،ويتوثق له ،وكان أول متكلم.
بداية الحادثة وتشريح العباس لطورة السئولية
وبعد أن تكامل الجلس بدأت الحادثات لبرام التحالف الدين والعسكرى ،وكان أول التكلمي هو
العباس بن عبد الطلب عم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،تكلم ليشرح لم ـ بكل صراحة ـ خطورة
السئولية الت ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف .قال:
يا معشر الزرج ـ وكان العرب يسمون النصار خزرجـا ،خزرجـها وأوسـها كليهما ـ إن ممدًا
منا حيث قد علمتم ،وقد منعناه من قومنا من هو على مثل رأينا فيه،فهو ف عز من قومه ومنعة ف بلده.
وإنه قد أب إل النياز إليكم واللحوق بكم ،فإن كنتم ترون أنكم وافون له با دعوتوه إليه ،ومانعوه من
سلِمُوه وخاذلوه بعد الروج به إليكم فمن الن
خالفه ،فأنتم وما تملتم من ذلك .وإن كنتم ترون أنكم مُ ْ
فدعوه .فإنه ف عز ومنعة من قومه وبلده.
قال كعب :فقلنا له :قد سعنا ما قلت ،فتكلم يا رسول ال ،فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
وهذا الواب يدل على ما كانوا عليه من عزم صميم ،وشجاعة مؤمنة ،وإخلص كامل ف تمل هذه
السئولية العظيمة ،وتمل عواقبها الطية.
وألقى رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد ذلك بيانه ،ث تت البيعة.
بنود البيعة
وقد روى ذلك المام أحد عن جابر مفصلًا .قال جابر :قلنا :يا رسول ال ،علم نبايعك؟ قال:
وعلى أن تنصرون إذا قدمت إليكم ،وتنعون ما تنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ،ولكم النة].
وف رواية كعب ـ الت رواها ابن إسحاق ـ البند الخي فقط من هذه البنود ،ففيه :قال كعب :فتكلم
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فتل القرآن ،ودعا إل ال ،ورغب ف السلم ،ث قال[ :أبايعكم على
أن تنعون ما تنعون منه نسائكم وأبناءكم] .فأخذ الباء ابن مَعْرُور بيده ث قال :نعم ،والذي بعثك بالق
نبيًا ،لنمنعنك ما ننع أُزُرَنا منه ،فبايعنا يا رسول ال ،فنحن وال أبناء الرب وأهل اْلحَ ْلقَة ،ورثناها كابرًا
عن كابر.
قال :فاعترض القول ـ والباء يكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ أبو اليثم بن التّيّهَان ،فقال :يا
رسول ال ،إن بيننا وبي الرجال حبالًا ،وإنا قاطعوها ـ يعن اليهود ـ فهل عسيت إن نن فعلنا ذلك،
ث أظهرك ال إن ترجع إل قومك وتدعنا؟
قال :فتبسم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ث قال[ :بل ال ّدمُ الدّمُ ،وا َل ْدمُ الْ َه ْدمُ ،أنا منكم وأنتم من،
أحارب من حاربتم ،وأسال من سالتم].
قال ابن إسحاق :لا اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نَضْلَة :هل تدورن علم تبايعون هذا الرجل؟
قالوا :نعم ،قال :إنكم تبايعونه على حرب الحر والسود من الناس .فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهَكَتْ
أموالكم مصيبة ،وأشرافكم قتل أسلمتموه ،فمن الن ،فهو وال إن فعلتم خزى الدنيا والخرة .وإن كنتم
ترون أنكم وافون له با دعوتوه إليه على نَ ْهكَة الموال وقتل الشراف فخذوه ،فهو وال خي الدنيا
والخـرة.
قالوا :فإنا نأخذه على مصيبة الموال وقتل الشراف ،فما لنا بذلك يا رسول ال إن نن وفينا بذلك؟
قال[ :النة] .قالوا :ابسط يدك ،فبسط يده فبايعوه.
وف رواية جابر [قال] :فقمنا نبايعه،فأخذ بيده أسعد بن زرارة ـ وهو أصغر السبعي ـ فقال :رويدا يا
أهل يثرب ،إنا ل نضرب إليه أكباد البل إل ونن نعلم أنه رسول ال ،وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب
كافة ،وقتل خياركم ،وأن تعضكم السيوف ،فإما أنتم تصبون على ذلك فخذوه ،وأجركم على ال ،
وإما أنتم تافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند ال .
عقد البيعة
وبعد إقرار بنود البيعة ،وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالصافحة ،قال جابر ـ بعد أن حكى
قول أسعد بن زرارة ـ قال :فقالوا :يا أسعد ،أمِطْ عنا يدك .فوال ل نذر هذه البيعة ،ول نستقيلها.
وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية ف هذا السبيل وتأكد منه ـ وكان هو الداعية الكبي
مع مصعب بن عمي ـ فكان هو السابق إل هذه البيعة .قال ابن إسحاق :فبنو النجار يزعمون أن أبا
أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده .وبعد ذلك بدأت البيعة العامة ،قال جابر :فقمنا إليه
رجلًا رجلًا فأخذ علينا البيعة ،يعطينا بذلك النة.
وأما بيعة الرأتي اللتي شهدتا الوقعة فكانت قولًا .ما صافح رسول ال صلى ال عليه وسلم امرأة أجنبية
قط.
نقباء الزرج
ولا ت اختيار هؤلء النقباء أخذ عليهم النب صلى ال عليه وسلم ميثاقًا آخر بصفتهم رؤساء مسئولي.
قال لم[ :أنتم على قومكم با فيهم كفلء ،ككفالـة الواريي لعيسى ابن مري ،وأنا كفيل على قومي]
ـ يعن السلمي ـ قالوا :نعم.
شيطان يكتشف العاهدة
ولا ت إبرام العاهدة ،وكان القوم على وشك الرفضاض ،اكتشفها أحد الشياطي؛ وحيث إن هذا
الكتشاف جاء ف اللحظة الخية ،ول يكن يكن إبلغ زعماء قريش هذا الب سرًا ،ليباغتوا الجتمعي
وهم ف الشعب ،قام ذلك الشيطان على مرتفع من الرض،وصاح بأنفذ صوت سع قط :يا أهل الَبَاجب
ـ النازل ـ هل لكم ف ُمذَمّم والصباة معه؟ قد اجتمعوا على حربكم.
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم[ :هذا أ َزبّ العقبة ،أما وال يا عدو ال لتفرغن لك .ث أمرهم أن
ينفضوا إل رحالم].
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم[ :ل نؤمر بذلك ،ولكن ارجعوا إل رحالكم] ،فرجعوا وناموا حت
أصبحوا.
[يا معشر الزرج ،إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إل صاحبنا هذا تستخرجونه من بي أظهرنا ،وتبايعونه على
حربنا ،وإنه وال ما من حى من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الرب بيننا وبينهم منكم].
ولا كان مشركو الزرج ل يعرفون شيئًا عن هذه البيعة؛ لنا تت ف سرية تامة ف ظلم الليل ،انبعث
هؤلء الشركون يلفون بال :ما كان من شيء وما علمناه ،حت أتوا عبد ال بن أب بن سلول ،فجعل
يقول :هذا باطل ،وما كان هذا،وما كان قومى ليفتاتوا على بثل هذا ،ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا
حت يؤامرون.
أما السلمون فنظر بعضهم إل بعض ،ث لذوا بالصمت ،فلم يتحدث أحد منهم بنفي أو إثبات.
هذه هي بيعة العقبة الثانية ـ الت تعرف ببيعة العقبة الكبى ـ وقد تت ف جو تعلوه عواطف الب
والولء ،والتناصر بي أشتات الؤمني ،والثقة والشجاعة والستبسال ف هذا السبيل .فمؤمن من أهل
يثرب ينو على أخيه الستضعف ف مكة ،ويتعصب له،ويغضب من ظاله ،وتيش ف حناياه مشاعر الود
لذا الخ الذي أحبه بالغيب ف ذات ال .
ول تكن هذه الشاعر والعواطف نتيجة نزعة عابرة تزول على مر اليام ،بل كان مصدرها هو اليان بال
وبرسوله وبكتابه ،إيان ل يزول أمام أي قوة من قوات الظلم والعدوان ،إيان إذا هبت ريه جاءت
بالعجائب ف العقيدة والعمل ،وبذا اليان استطاع السلمون أن يسجلوا على أوراق الدهر أعمالًا،
ويتركوا عليها آثارًا خل عن نظائرها الغابر والاضر ،وسوف يلو الستقبل.
طلئـع الجـرة
طلئـع الجـرة
ف دار الندوة [برلان قريش]
النقاش البلان والجاع على قرار غاشم بقتل النب صلى ال عليه وسلم
طلئـع الجـرة
وبعد أن تت بيعة العقبة الثانية ونح السلم ف تأسيس وطن له وسط صحراء توج بالكفر والهالة ـ
وهو أخطر كسب حصل عليه السلم منذ بداية دعوته ـ أذن رسول ال صلى ال عليه وسلم للمسلمي
بالجرة إل هذا الوطن.
ول يكن معن الجرة إل إهدار الصال ،والتضحية بالموال ،والنجاة بالشخص فحسب ،مع الشعار بأنه
مستباح منهوب قد يهلك ف أوائل الطريق أو نايتها ،وبأنه يسي نو مستقبل مبهم ،ل يدرى ما يتمخض
عنه من قلقل وأحزان.
وبدأ السلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك ،وأخذ الشركون يولون بينهم وبي خروجهم؛ لا كانوا
يسون به من الطر ،وهاك ناذج من ذلك:
1ـ كان من أول الهاجرين أبو سلمة ـ هاجر قبل العقبة الكبى بسنة على ما قاله ابن إسحاق ـ
وزوجته وابنه ،فلما أجع على الروج قال له أصهاره :هذه نفسك غلبتنا عليها ،أرأيت صاحبتنا هذه؟
علم نتركك تسي با ف البلد؟ فأخذوا منه زوجته ،وغضب آل أب سلمة لرجلهم،فقالوا :ل نترك ابننا
معها إذ نزعتموها من صاحبنا ،وتاذبوا الغلم بينهم فخلعوا يده ،وذهبوا به .وانطلق أبو سلمة وحده إل
الدينة.
وكانت أم سلمة رضي ال عنها و بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها ترج كل غداة بالبطح تبكى حت
تسى ،ومضى على ذلك نو سنة ،فرق لا أحد ذويها وقال :أل ترجون هذه السكينة؟ فرقتم بينها وبي
زوجها وولدها ،فقالوا لا :القى بزوجك إن شئت ،فاسترجعت ابنها من عصبته ،وخرجت تريد الدينة
ـ رحلة تبلغ حوال خسمائة كيلو متر تر بي شواهق البال ومهالك الودية ـ وليس معها أحد من
خلق ال .حت إذا كانت بالتّ ْنعِيم لقيها عثمان بن طلحة بن أب طلحة ،وبعد أن عرف حالا شيعها حت
أقدمها إل الدينة ،فلما نظر إل قباء ،قال :زوجك ف هذه القرية فادخليها على بركة ال ،ث انصرف
راجعًا إل مكة.
صهَيْب بن سِنان الرومى بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلما أراد الجرة قال له كفار
2ـ وهاجر ُ
قريش :أتيتنا صعلوكًا حقيًا ،فكثر مالك عندنا ،وبلغت الذي بلغت ،ث تريد أن ترج بالك ونفسك؟
وال ل يكون ذلك .فقال لم صهيب :أرأيتم إن جعلت لكم مال أتلون سبيلى؟ قالوا :نعم ،قال :فأن قد
جعلت لكم مال ،فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال[ :ربح صهيب ،ربح صهيب].
3ـ وتواعد عمر بن الطاب ،وعَيّاش بن أب ربيعة ،وهشام بن العاص بن وائل موضعًا اسه التّنَاضُب
فوق سَرِف يصبحون عنده ،ث يهاجرون إل الدينة ،فاجتمع عمر وعياش ،وحبس عنهما هشام.
ولا قدما الدينة ونزل بقباء قدم أبو جهل وأخوه الارث إل عياش ـ وأم الثلثة واحدة ،وهي أساء بنت
ُمخَرّبَة ـ فقال له :إن أمك قد نذرت أل يس رأسها مشط ،ول تستظل بشمس حت تراك ،فَ َرقّ لا.
فقال له عمر :يا عياش ،إنه وال إن يريدك القوم إل ليفتنوك عن دينك فاحذرهم ،فوال لو آذى أمك
القمل لمتشطت ،ولو قد اشتد عليها حر مكة لستظلت ،فأب عياش إل الروج معهما ليب قسم أمه،
فقال له عمر :أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقت هذه ،فإنا ناقة نيبة ذلول ،فالزم ظهرها ،فإن رابك من
القوم ريب فانج عليها.
فخرج عليها معهما ،حت إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل :يابن أمي ،وال لقد استغلظت بعيي
هذا ،أفل تعقبن على ناقتك هذه؟ قال :بلى ،فأناخ وأناخا ليتحول عليها ،فلما استووا بالرض عدوا عليه
فأوثقاه وربطاه ،ث دخل به مكة نارًا موثقًا ،وقال :يا أهل مكة ،هكذا فافعلوا بسفهائكم ،كما فعلنا
بسفيهنا هذا.
هذه ثلثة ناذج لا كان الشركون يفعلونه بن يريد الجرة إذا علموا ذلك .ولكن على رغم ذلك خرج
الناس أرسالًا يتبع بعضهم بعضًا .وبعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبى ل يبق بكة من السلمي
إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبو بكر وعلى ـ أقاما بأمره لما ـ وإل من احتبسه الشركون
كرهًا ،وقد أعد رسول ال صلى ال عليه وسلم جهازه ينتظر مت يؤمر بالروج ،وأعد أبو بكر جهازه.
روى البخاري عن عائشة قالت :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم للمسلمي[ :أن أريت دار
هجرتكم ،ذات نل بي لبَتَيْن] ـ وها الرتان ـ فهاجر من هاجر قبل الدينة ،ورجع عامة من كان
هاجر بأرض البشة إل الدينة ،وتهز أبو بكر قبل الدينة ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم[ :على
ِرسْلِك ،فأن أرجو أن يؤذن ل] .فقال له أبو بكر :وهل ترجو ذلك بأب أنت؟ قال[ :نعم] ،فحبس أبو
بكر نفسه على رسول ال صلى ال عليه وسلم ليصحبه ،وعلف راحلتي كانتا عنده ورق السّمَر ـ وهو
الَبَطُ ـ أربعة أشهر.
ولا رأى الشركون أن أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم قد تهزوا وخرجوا ،وحلوا وساقوا
الذرارى والطفال والموال إل الوس والزرج أصابتهم الكآبة والزن ،وساورهم القلق والم بشكل ل
يسبق له مثيل ،فقد تسد أمامهم خطر حقيقى عظيم ،أخذ يهدد كيانم الوثن والقتصادي.
فقد كانوا يعلمون ما ف شخصية ممد صلى ال عليه وسلم من غاية قوة التأثي مع كمال القيادة
والرشاد ،وما ف أصحابه من العزية والستقامة والفداء ف سبيله ،ث ما ف قبائل الوس والزرج من
القوة والنعة ،وما ف عقلء هاتي القبيلتي من عواطف السلم والصلح ،والتداعي إل نبذ الحقاد،
ولسيما بعد أن ذاقوا مرارة الروب الهلية طيلة أعوام من الدهر.
كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الوقع الستراتيجي بالنسبة إل الحجة التجارية الت تر بساحل البحر
الحر من اليمن إل الشام .وقد كان أهل مكة يتاجرون إل الشام بقدر ربع مليون دينار ذهب سنويًا،
سوى ما كان لهل الطائف وغيها .ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار المن ف تلك
الطريق.
فل يفي ما كان لقريش من الطر البالغ ف تركز الدعوة السلمية ف يثرب ،ومابة أهلها ضدهم.
شعر الشركون بتفاقم الطر الذي كان يهدد كيانم ،فصاروا يبحثون عن أنح الوسائل لدفع هذا الطر
الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة السلم ممدصلى ال عليه وسلم.
وف يوم الميس 26من شهر صفر سنة 14من النبوة ،الوافق 12من شهر سبتمب سنة 622م ـ أي
بعد شهرين ونصف تقريبًا من بيعة العقبة الكبى ـ عقد برلان مكة [دار الندوة] ف أوائل النهارأخطر
اجتماع له ف تاريه ،وتوافد إل هذا الجتماع جيع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسة تكفل
القضاء سريعًا على حامل لواء الدعوة السلمية؛ وتقطع تيار نورها عن الوجود نائيًا .وكانت الوجوه
البارزة ف هذا الجتماع الطي من نواب قبائل قريش:
4 ،3 ،2ـ جبي بن ُم ْطعِم ،و ُطعَيْمَة بن عدى ،والارث بن عامر ،عن بن نَوْفَل بن عبد مناف.
7 ،6 ،5ـ شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب ،عن بن عبد شس بن عبد مناف.
11 ،10 ،9ـ أبو الَبخْتَرِى بن هشام ،و َزمْعَة بن السود ،وحَكِيم بن حِزَام ،عن بن أسد بن عبد العزى.
النقاش البلان والجاع على قرار غاشم بقتل النب صلى ال عليه وسلم
وبعد أن تكامل الجتماع بدأ عرض القتراحات واللول ،ودار النقاش طويلًا .قال أبو السود :نرجه
من بي أظهرنا وننفيه من بلدنا ،ول نبال أين ذهب ،ول حيث وقع ،فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما
كانت.
قال الشيخ النجدى :ل وال ما هذا لكم برأي ،أل تروا حسن حديثه ،وحلوة منطقه ،وغلبته على قلوب
الرجال با يأتى به؟ وال لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يل على حى من العرب ،ث يسي بم إليكم ـ بعد أن
يتابعوه ـ حت يطأكم بم ف بلدكم ،ث يفعل بكم ما أراد ،دبروا فيه رأيًا غي هذا.
قال أبو البخترى :احبسوه ف الديد وأغلقوا عليه بابًا ،ث تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين
كانوا قبله ـ زهيًا والنابغة ـ ومن مضى منهم ،من هذا الوت ،حت يصيبه ما أصابم.
قال الشيخ النجدى :ل وال ما هذا لكم برأي ،وال لئن حبستموه ـ كما تقولون ـ ليخرجن أمره من
وراء الباب الذي أغلقتم دونه إل أصحابه ،فلوشكوا أن يثبوا عليكم ،فينعوه من أيديكم ،ث يكاثروكم
به حت يغلبوكم على أمركم ،ما هذا لكم برأي ،فانظروا ف غيه.
وبعد أن رفض البلان هذين القتراحي ،قدم إليه اقتراح آث وافق عليه جيع أعضائه ،تقدم به كبي مرمى
مكة أبو جهل بن هشام .قال أبو جهل :وال إن ل فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد .قالوا :وما هو يا أبا
الكم؟ قال :أرى أن نأخذ من كل قبيلة فت شابًا جليدًا نَسِيبا وَسِيطًا فينا ،ث نعطى كل فت منهم سيفًا
صارمًا ،ث يعمدوا إليه ،فيضربوه با ضربة رجل واحد ،فيقتلوه ،فنستريح منه ،فإنم إذا فعلوا ذلك تفرق
دمه ف القبائل جيعًا ،فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جيعًا ،فرضوا منا بالعَقْل ،فعقلناه لم.
قال الشيخ النجدى :القول ما قال الرجل ،هذا الرأي الذي ل رأي غيه.
ووافق برلان مكة على هذا القتراح الث بالجاع ،ورجع النواب إل بيوتم وقد صمموا على تنفيذ هذا
القرار فورًا.
هجـرة النبـي صلى ال عليه وسلم
من طبيعة مثل هذا الجتماع السرية للغاية ،وأل يبدو على السطح الظاهر أي حركة تالف اليوميات،
وتغاير العادات الستمرة ،حت ل يشم أحد رائحة التآمر والطر ،ول يدور ف خلد أحد أن هناك غموضًا
ينبئ عن الشر ،وكان هذا مكرًا من قريش ،ولكنهم ماكروا بذلك ال سبحانه وتعال ،فخيبهم من حيث
ل يشعرون .فقد نزل جبيل عليه السلم إل النب صلى ال عليه وسلم بوحى من ربه تبارك وتعال فأخبه
بؤامرة قريش ،وأن ال قد أذن له ف الروج ،وحدد له وقت الجرة ،وبي له خطة الرد على قريش
فقال :ل تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.
وذهب النب صلى ال عليه وسلم ف الاجرة ـ حي يستريح الناس ف بيوتم ـ إل أب بكر رضي ال عنه
ليبم معه مراحل الجرة ،قالت عائشة رضي ال عنها :بينما نن جلوس ف بيت أب بكر ف نر الظهية،
قال قائل لب بكر :هذا رسول ال صلى ال عليه وسلم متقنعًا ،ف ساعة ل يكن يأتينا فيها ،فقال أبو بكر:
فداء له أب وأمى ،وال ما جاء به ف هذه الساعة إل أمر.
قالت :فجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم ،.فاستأذن،فأذن له فدخل ،فقال النب صلى ال عليه وسلم
لب بكر[ :أخرج مَنْ عندك] .فقال أبو بكر :إنا هم أهلك ،بأب أنت يا رسول ال .قال[ :فأن قد أذن
ل ف الروج] ،فقال أبو بكر :الصحبة بأب أنت يا رسول ال ؟ قال رسول ال صلى ال عليه وسلم[ :
نعم].
ث أبرم معه خطة الجرة ،ورجع إل بيته ينتظر مىء الليل .وقد استمر ف أعماله اليومية حسب العتاد حت
ل يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة ،أو لي أمر آخر اتقاء ما قررته قريش.
أما أكابر مرمي قريش فقضوا نارهم ف العداد سرا لتنفيذ الطة الرسومة الت أبرمها برلان مكة [دار
الندوة] صباحًا ،واختي لذلك أحد عشر رئيسًا من هؤلء الكابر ،وهم:
وكان من عادة رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ينام ف أوائل الليل بعد صلة العشاء ،ويرج بعد
نصف الليل إل السجد الرام ،يصلي فيه قيام الليل ،فأمر عليًا رضي ال عنه تلك الليلة أن يضطجع على
فراشه ،ويتسجى ببده الضرمي الخضر ،وأخبه أنه ل يصيبه مكروه.
فلما كانت عتمة من الليل وساد الدوء ،ونام عامة الناس جاء الذكورون إل بيته صلى ال عليه وسلم
سرًا ،واجتمعوا على بابه يرصدونه ،وهم يظنونه نائمًا حت إذا قام وخرج وثبوا عليه ،ونفذوا ما قرروا
فيه.
وكانوا على ثقة ويقي جازم من ناح هذه الؤامرة الدنية ،حت وقف أبو جهل وقفة الزهو واليلء ،وقال
ماطبًا لصحابه الطوقي ف سخرية واستهزاء :إن ممدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك
العرب والعجم ،ث بعثتم من بعد موتكم ،فجعلت لكم جنان كجنان الردن ،وإن ل تفعلوا كان له فيكم
ذبح ،ث بعثتم من بعد موتكم ،ث جعلت لكم نار ترقون فيها.
وقد كان ميعاد تنفيذ تلك الؤامرة بعد منتصف الليل ف وقت خروجه صلى ال عليه وسلم من البيت،
فباتوا متيقظي ينتظرون ساعة الصفر ،ولكن ال غالب على أمره ،بيده ملكوت السموات والرض ،يفعل
ما يشاء ،وهو يي ول يـار عليه ،فقـد فعـل مـا خاطب به الرسول صلى ال عليه وسلم فيما بعد:
ك الّذِينَ َكفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ َيقْتُلُوكَ أَوْ ُيخْرِجُوكَ َويَمْ ُكرُونَ َويَمْ ُكرُ ال ُ وَال ُ خَ ْي ُر الْمَاكِرِينَ}
{ َوإِذْ يَمْكُرُ ِب َ
[النفال.]30:
وقد فشلت قريش ف خطتهم فشلًا ذريعًا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم
من البيت ،واخترق صفوفهم ،وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رءوسهم ،وقد أخذ ال أبصارهم
صرُونَ} [
شيْنَا ُهمْ فَ ُهمْ لَ يُبْ ِ
عنه فل يرونه ،وهو يتلوَ { :و َجعَلْنَا مِن بَيْنِ َأْيدِي ِهمْ َسدّا َومِنْ َخ ْلفِ ِهمْ َسدّا َفأَغْ َ
يس .]9:فلم يبق منهم رجل إل وقد وضع على رأسه ترابًا ،ومضى إل بيت أب بكر ،فخرجا من خوخة
ف دار أب بكر ليلًا حت لقا بغار ثَوْر ف اتاه اليمن.
وبقى الحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر ،وقبيل حلولا تلت لم اليبة والفشل ،فقد جاءهم رجل
من ل يكن معهم ،ورآهم ببابه فقال :ما تنتظرون؟ قالوا :ممدًا .قال :خبتم وخسرت ،قد وال مر بكم،
وذر على رءوسكم التراب ،وانطلق لاجته ،قالوا :وال ما أبصرناه ،وقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم.
ولكنهم تطلعوا من صي الباب فرأوا عليًا ،فقالوا :وال إن هذا لحمد نائمًا ،عليه برده ،فلم يبحوا كذلك
حت أصبحوا .وقام علىّ عن الفراش ،فسقط ف أيديهم ،وسألوه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم،
فقال :ل علم ل به.
غادر رسول ال صلى ال عليه وسلم بيته ف ليلة 27من شهر صفر سنة 14من النبوة ،الوافق 12/13
سبتمب سنة 622م .وأتى إل دار رفيقه ـ وأمنّ الناس عليه ف صحبته وماله ـ أب بكر رضي ال عنه .ث
غادر منل الخي من باب خلفي؛ ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر.
إذ ها ف الغار
ولا انتهيا إل الغار قال أبو بكر :وال ل تدخله حت أدخل قبلك ،فإن كان فيه شيء أصابن دونك،
فدخل فكسحه ،ووجد ف جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به ،وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه ،ث قال
لرسول ال صلى ال عليه وسلم :ادخل ،فدخل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ووضع رأسه ف حجره
ونام ،فلدغ أبو بكر ف رجله من الحر ،ول يتحرك مافة أن ينتبه رسول ال صلى ال عليه وسلم،
فسقطت دموعه على وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال[ :ما لك يا أبا بكر؟] قال :لدغت،
فداك أب وأمي ،فتفل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فذهب ما يده.
وكَمُنَا ف الغار ثلث ليال ،ليلة المعة وليلة السبت وليلة الحد .وكان عبد ال بن أب بكر يبيت عندها.
سحَرٍ ،فيصبح مع قريش بكة كبائت ،فل
قالت عائشة :وهو غلم شاب َثقِف َلقِن ،فُي ْدلِج من عندها ب َ
يسمع أمرًا يكتادان به إل وعاه حت يأتيهما بب ذلك حي يتلط الظلم ،و [كان] يرعى عليهما عامر بن
فُهَ ْيرَة مول أب بكر مِ ْنحَة من غنم ،فييها عليهما حي تذهب ساعة من العشاء ،فيبيتان ف ِرسْل ـ وهو
لب مِ ْنحَتِهما ورَضيفِهما ـ حت يَ ْنعِق با عامر بن فُهَيْرَة بغَلَس ،يفعل ذلك ف كل ليلة من تلك الليال
الثلث ،وكان عامر بن فهية يتبع بغنمه أثر عبد ال بن أب بكر بعد ذهابه إل مكة لُيعَفي عليه.
أما قريش فقد جن جنونا حينما تأكد لديها إفلت رسول ال صلى ال عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ
الؤامرة .فأول ما فعلوا بذا الصدد أنم ضربوا عليًا ،وسحبوه إل الكعبة ،وحبسوه ساعة ،علهم يظفرون
ببها.
ولا ل يصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إل بيت أب بكر وقرعوا بابه ،فخرجت إليهم أساء بنت أب
بكر ،فقالوا لا :أين أبوك؟ قالت :ل أدرى وال أين أب؟ فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحشًا خبيثًا ـ
فلطم خـدها لطمـة طـرح منها قرطها.
وقررت قريش ف جلسة طارئة مستعجلة استخدام جيع الوسائل الت يكن با القبض على الرجلي،
فوضعت جيع الطرق النافذة من مكة [ف جيع الهات] تت الراقبة السلحة الشديدة ،كما قررت إعطاء
مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لن يعيدها إل قريش حيي أو ميتي ،كائنًا من كان.
وحينئذ جدت الفرسان والشاة وقصاص الثر ف الطلب ،وانتشروا ف البال والوديان ،والوهاد
والضاب ،لكن من دون جدوى وبغي عائدة.
وقد وصل الطاردون إل باب الغار ،ولكن ال غالب على أمره ،روى البخاري عن أنس عن أب بكر قال:
كنت مع النب صلى ال عليه وسلم ف الغار ،فرفعت رأسى فإذا أنا بأقدام القوم ،فقلت :يا نب ال ،لو أن
بعضهم طأطأ بصره رآنا .قال[ :اسكت يا أبا بكر ،اثنان ،ال ثالثهما] ،وف لفظ[ :ما ظنك يا أبا بكر
باثني ال ثالثهما].
وقد كانت معجزة أكرم ال با نبيه صلى ال عليه وسلم ،فقد رجع الطاردون حي ل يبق بينه وبينهم إل
خطوات معدودة.
ف الطريق إل الدينة
وحي خدت نار الطلب ،وتوقفت أعمال دوريات التفتيش ،وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار الطاردة
الثيثة ثلثة أيام بدون جدوى ،تيأ رسول ال صلى ال عليه وسلم وصاحبه للخروج إل الدينة.
وكانا قد استأجرا عبد ال بن أُ َرْيقِط الليثى ،وكان هاديًا خِرّيتًا ـ ماهرًا بالطريق ـ وكان على دين كفار
قريش ،وأمناه على ذلك ،وسلما إليه راحلتيهما ،وواعداه غار ثَوْر بعد ثلث ليال براحلتيهما ،فلما كانت
ليلة الثني ـ غرة ربيع الول سنة 1هـ 16 /سبتمب سنة 622م ـ جاءها عبد ال بن أريقط
بالراحلتي ،وكان قد قال أبو بكر للنب صلى ال عليه وسلم عند مشاورته ف البيت :بأب أنت يا رسول
ال ،خذ إحدى راحلت هاتي ،وقرب إليه أفضلهما ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم بالثمن .وأتتهما
سفْ َرتِهما ،ونسيت أن تعل لا ِعصَامًا ،فلما ارتل ذهبت لتعلق
أساء بنت أب بكر رضي ال عنها ب ُ
السفرة ،فإذا ليس لا عصام ،فشقت نطاقها باثني ،فعلقت السفرة بواحد ،وانتطقت بالخر فسميت:
ذات النطاقي.
ث ارتل رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبو بكر رضي ال عنه وارتل معهما عامر بن فُهَيْرة ،وأخذ بم
الدليل ـ عبد ال بن أريقط ـ على طريق السواحل.
وأول ما سلك بم بعد الروج من الغار أنه أمعن ف اتاه النوب نو اليمن ،ث اته غربًا نو الساحل،
حت إذا وصل إل طريق ل يألفه الناس ،اته شالًا على مقربة من شاطئ البحر الحر ،وسلك طريقًا ل يكن
يسلكه أحد إل نادرًا.
وقد ذكر ابن إسحاق الواضع الت مر با رسول ال صلى ال عليه وسلم ف هذا الطريق ،قال :لا خرج
سفَان ،ث
بما الدليل سلك بما أسفل مكة ،ث مضى بما على الساحل حت عارض الطريق أسفل من عُ ْ
سلك بما على أسفل أمَج ،ث استجاز بما حت عارض بما الطريق بعد أن أجاز ُق َدْيدًا ،ث أجاز بما من
مكانه ذلك فسلك بما اْلخَرّار ،ث سلك بما ثَنّية الْمَرّة ،ث سلك بما ِل ْقفًا ،ث أجاز بما َم ْدلَجَة ِلقْف ،ث
استبطن بما َمدْلَجة ِمجَاج ،ث سلك بما مَ ْرجِح ِمجَاح ،ث تبطن بما مَرْجِح من ذى الغُضْ َويْن ،ث بطن
جدَاجِد ،ث على الجرد ،ث سلك بما ذا سلم من بطن أعدا َمدَْلجَة ِتعْهِنَ،
ذى كَشْر ،ث أخذ بما على اْل َ
ث على العَبَابيد ،ث أجاز بما الفَاجَة ،ث هبط بما اْلعَرْج ،ث سلك بما ثنية العَائِر ـ عن يي َركُوبة ـ
حت هبط بما بطن ِرئْم ،ث قدم بما على قُباء.
1ـ روى البخاري عن أب بكر الصديق رضي ال عنه قال :أسرينا ليلتنا ومن الغد حت قام قائم الظهية
وخل الطريق ،ل ير فيه أحد ،فرفعت لنا صخرة طويلة ،لا ظل ل تأت عليها الشمس ،فنلنا عنده،
وسويت للنب صلى ال عليه وسلم مكانًا بيدى ،ينام عليه ،وبسطت عليه فروة ،وقلت :ن يا رسول ال ،
وأنا أنفض لك ما حولك ،فنام ،وخرجت أنفض ما حوله ،فإذا أنا براع مقبل بغنمه إل الصخرة ،يريد منها
مثل الذي أردنا ،فقلت له :لن أنت يا غلم؟ فقال :لرجل من أهل الدينة أو مكة .قلت :أف غنمك لب؟
قال :نعم .قلت :أفتحلب؟ قال :نعم .فأخذ شاة ،فقلت :انفض الضرع من التراب والشعر وال َقذَى،
فحلب ف قعب كُثْبة من لب ،ومعى إداوة حلتها للنب صلى ال عليه وسلم ،يرتوى منها ،يشرب ويتوضأ،
فأتيت النب صلى ال عليه وسلم فكرهت أن أوقظه ،فوافقته حي استيقظ ،فصببت من الاء على اللب
حت برد أسفله ،فقلت :اشرب يا رسول ال ،فشرب حت رضيت ،ث قال[ :أل يأن للرحيل؟] قلت:
بلى ،قال :فارتلنا.
2ـ وكان من دأب أب بكر رضي ال عنه أنه كان ردفًا للنب صلى ال عليه وسلم ،وكان شيخًا يعرف،
ونب ال صلى ال عليه وسلم شاب ل يعرف ،فيلقى الرجل أبا بكر فيقول :من هذا الرجل الذي بي
يديك؟ فيقول :هذا الرجل يهدين الطريق ،فيحسب الاسب أنه يعن به الطريق ،وإنا يعن سبيل الي.
شلّل من ناحية ُق َديْد على
3ـ وف اليوم الثان أو الثالث مر بيمت أم مَعْبَد الزاعية ،وكان موقعهما بالُ َ
بعد نو 130كيلو مترًا من مكة ،وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تتب بفناء اليمة ،ث تطعم وتسقى
من مر با ،فسألها :هل عندها شيء؟ فقالت :وال لو كان عندنا شيء ما أعوزكم ،القِرَى والشاء عازب،
وكانت سََنةٌ شَهْباء.
فنظر رسول ال صلى ال عليه وسلم إل شاة ف كسر اليمة ،فقال[ :ما هذه الشاة يا أم معبد؟] قالت:
شاة خلفها الهد عن الغنم ،فقال[ :هل با من لب؟] قالت :هي أجهد من ذلك .فقال[ :أتأذني ل أن
أحلبها؟] قالت :نعم بأب وأمي إن رأيت با حلبًا فاحلبها .فمسح رسول ال صلى ال عليه وسلم بيده
ضرعها ،وسى ال ودعا ،فَتفَاجّتْ عليه و َد ّرتْ ،فدعا بإناء لا يَ ْربِض الرهط ،فحلب فيه حت علته الرغوة،
فسقاها ،فشربت حت رويت ،وسقى أصحابه حت رووا ،ث شرب ،وحلب فيه ثانيًا ،حت مل الناء ،ث
غادره عندها فارتلوا.
فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنا عجافا يتساوكن هزلًا ،فلما رأي اللب عجب ،فقال :من
أين لك هذا؟ والشاة عازب ،ول حلوبة ف البيت؟ فقالت :ل وال إل أنه مر بنا رجل مبارك كان من
صفِيه ل يا أم
حديثه كيت وكيت ،ومن حاله كذا وكذا ،قال :أن وال أراه صاحب قريش الذي تطلبهِ ،
معبد ،فوصفته بصفاته الكرية وصفًا بديعًا كأن السامع ينظر إليه وهو أمامه ـ وسننقله ف بيان صفاته
صلى ال عليه وسلم ف أواخر الكتاب ـ فقال أبو معبد :وال هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره
ما ذكروا ،لقد همت أن أصحبه ،ولفعلن إن وجدت إل ذلك سبيلًا .وأصبح صوت بكة عاليًا يسمعونه
ول يرون القائل:
قالت أساء :ما درينا أين توجه رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ أقبل رجل من الن من أسفل مكة
فأنشد هذه البيات ،والناس يتبعونه ويسمعون صوته ول يرونه حت خرج من أعلها .قالت :فلما سعنا
قوله عرفنا حيث توجه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأن وجهه إل الدينة.
4ـ وتبعهما ف الطريق سُرَاقة بن مالك .قال سراقة :بينما أنا جالس ف ملس من مالس قومى بن مُدْل،
أقبل رجل منهم حت قام علينا ونن جلوس ،فقال :يا سراقة ،أن رأيت آنفًا أسْوِدَة بالساحل ،أراها ممدًا
وأصحابه .قال سراقة :فعرفت أنم هم ،فقلت له :إنم ليسوا بم ،ولكنك رأيت فلنًا وفلنًا انطلقوا
بأعيننا ،ث لبثت ف الجلس ساعة ،ث قمت فدخلت ،فأمرت جاريت أن ترج فرسى ،وهي من وراء أكَمَة،
خطَطْتُ بزُ ّجهِ الرض ،و َخفَضْتُ عاليه ،حت
فتحبسها عَ َلىّ ،وأخذت رمى ،فخرجت به من ظهر البيت ،ف َ
أتيت فرسى فركبتها ،ف َر َفعْتُها تُقَرّب ب حت دنوت منهم ،فعَثَ َرتْ ب فرسى فخررت عنها ،فقمت،
فأهويت يدى إل كنانت ،فاستخرجت منها الزلم ،فاستقسمت با ،أضُرّ ُهمْ أم ل؟ فخرج الذي أكره،
فركبت فرسي ـ وعصيت الزلم ـ تُقَ ّربُ ب ،حت إذا سعت قراءة رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ
وهو ل يلتفت ،وأبو بكر يكثر اللتفات ـ سَاخَتْ يدا فرسى ف الرض حت بلغتا الركبتي ،فخررت
عنها ،ث زجرتا فنهضت ،فلم تَ َكدْ ترج يديها ،فلما استوت قائمة إذا لثر يديها غبار ساطع ف السماء
مثل الدخان ،فاستقسمت بالزلم ،فخرج الذي أكره ،فناديتهم بالمان ،فوقفوا ،فركبت فرسى حت
جئتهم ،ووقع ف نفسى حي لقيت ما لقيت من البس عنهم أن سيظهر أمْرُ رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فقلت له :إن قومك قد جعلوا فيك الدية ،وأخبتم أخبار ما يريد الناس بم ،وعرضت عليهم
الزاد والتاع فلم يَرْزَأن ،ول يسألن إل أن قال[ :أَخْفِ عنا] ،فسألته أن يكتب ل كتاب أمْنٍ ،فأمر عامر
بن ُفهَيْرة ،فكتب ل ف رقعة من أدم ،ث مضى رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وف رواية عن أب بكر قال :ارتلنا والقوم يطلبوننا ،فلم يدركنا منهم أحد غي سراقة بن مالك بن ُجعْشُم،
على فرس له ،فقلت :هذا الطلب قد لقنا يا رسول ال ،فقال{ :لَ تَحْ َزنْ ِإنّ ال َ َمعَنَا} [التوبة.]40:
ورجع سراقة فوجد الناس ف الطلب فجعل يقول :قد استبأت لكم الب ،قد كفيتم ما ها هنا .وكان أول
النهار جاهدًا عليهما ،وآخره حارسًا لما.
5ـ وف الطريق لقى النب صلى ال عليه وسلم بُريْدَة بن الُصَيْب السلمى ومعه نو ثاني بيتًا ،فأسلم
وأسلموا ،وصلى رسول ال صلى ال عليه وسلم العشاء الخرة فصلوا خلفه ،وأقام بريدة بأرض قومه
حت قدم على رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد أُحُد.
وعن عبد ال بن بريدة أن النب صلى ال عليه وسلم كان يتفاءل ول يتطي ،فركب بريدة ف سبعي راكبًا
من أهل بيته من بن سهم ،فلقى النب صلى ال عليه وسلم ،فقال له[ :من أنت؟] قال :من أسلم ،فقال:
لب بكر :سلمنا ،ث قال[ :مِنْ بن مَنْ؟] قال :من بن سهم .قال[ :خرج سهمك]
6ـ ومر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأب أوْس تيم بن َحجَر أو بأب تيم أوس بن حجر السلمى،
لحْفَة و َهرْشَى ـ بالعرج ـ وكان قد أبطأ عليه بعض ظهره ،فكان هو وأبو بكر على
بقحداوات بي ا ُ
جل واحد ،فحمله أوس على فحل من إبله ،وبعث معهما غلمًا له اسه مسعود ،وقال :اسلك بما حيث
تعلم من مارم الطريق ول تفارقهما ،فسلك بما الطريق حت أدخلهما الدينة ،ث رد رسول ال صلى ال
عليه وسلم مسعودًا إل سيده ،وأمره أن يأمر أوسًا أن يسم إبله ف أعناقها قيد الفرس ،وهو حلقتان ،ومد
بينهما مدًا ،فهي ستهم .ولا أتى الشركون يوم أحد أرسل أوس غلمه مسعود بن ُهنَ ْيدَة من العَرْج على
قدميه إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يبه بم .ذكره ابن مَاكُول عن الطبى ،وقد أسلم بعد قدوم
رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة ،وكان يسكن العرج.
7ـ وف الطريق ـ ف بطن ِرئْم ـ لقى رسول ال صلى ال عليه وسلم الزبي ،وهو ف ركب من
السلمي ،كانوا تارًا قافلي من الشام ،فكسا الزبي رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بياضًا.
النول بقباء
وف يوم الثني 8ربيع الول سنة 14من النبوة ـ وهي السنة الول من الجرة ـ الوافق 23
سبتمب سنة 622م نزل رسول ال صلى ال عليه وسلم بقباء.
قال عروة بن الزبي :سع السلمون بالدينة بخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم من مكة ،فكانوا يغدون
كل غداة إل الَرّة ،فينتظرونه حت يردهم حر الظهية ،فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم ،فلما أووا
إل بيوتم أَوْف رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لمر ينظر إليه ،فبصر برسول ال صلى ال عليه وسلم
وأصحابه مُبَيّضِي يزول بم السراب ،فلم يلك اليهودى أن قال بأعلى صوته :يا معاشر العرب ،هذا
جدكم الذي تنتظرون ،فثار السلمون إل السلح .وتلقوا رسول ال صلى ال عليه وسلم بظهر الرة.
قال ابن القيم :وسُمِعت الوَجَْبةُ والتكبي ف بن عمرو بن عوف ،وكب السلمون فرحًا بقدومه ،وخرجوا
للقائه ،فتلقوه وحيوه بتحية النبوة ،فأحدقوا به مطيفي حوله ،والسكينة تغشاه ،والوحى ينل عليهَ { :فِإنّ
ال َ هُوَ مَ ْولَاهُ َوجِبْرِيلُ وَصَاِلحُ الْمُ ْؤمِنِيَ وَالْمَلَائِ َكةُ بَ ْعدَ َذِلكَ ظَهِيٌ} [التحري.]4:
قال عروة بن الزبي :فتلقوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فعدل بم ذات اليمي حت نزل بم ف بن
عمرو بن عوف ،وذلك يوم الثني من شهر ربيع الول .فقام أبو بكر للناس ،وجلس رسول ال صلى ال
عليه وسلم صامتًا ،فطفق من جاء من النصار من ل ير رسول ال صلى ال عليه وسلم يىى ـ وف
نسخة :يىء ـ أبا بكر ،حت أصابت الشمس رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأقبل أبو بكر حت ظلل
عليه بردائه ،فعرف الناس رسول ال صلى ال عليه وسلم عند ذلك.
وكانت الدينة كلها قد زحفت للستقبال ،وكان يومًا مشهودًا ل تشهد الدينة مثله ف تاريها ،وقد رأي
اليهود صدق بشارة حَ ْبقُوق النب :إن ال جاء من التيمان ،والقدوس من جبال فاران.
ونزل رسول ال صلى ال عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الدم ،وقيل :بل على سعد بن خَيَْثمَة ،والول
أثبت.
ومكث على بن أب طالب رضي ال عنه بكة ثلثًا حت أدى عن رسول ال صلى ال عليه وسلم الودائع
الت كانت عنده للناس ،ث هاجر ماشيًا على قدميه حت لقهما بقباء ،ونزل على كلثوم بن ا َلدْم.
وأقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بقباء أربعة أيام :الثني والثلثاء والربعاء والميس .وأسس مسجد
قباء وصلى فيه ،وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة ،فلما كان اليوم الامس ـ يوم المعة ـ
ركب بأمر ال له ،وأبو بكر ردفه ،وأرسل إل بن النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم ،فسار
نو الدينة وهم حوله ،وأدركته المعة ف بن سال بن عوف ،فجمع بم ف السجد الذي ف بطن الوادى،
وكانوا مائة رجل.
الدخول ف الدينة
ث سار النب صلى ال عليه وسلم بعد المعة حت دخل الدينة ـ ومن ذلك اليوم سيت بلدة يثرب بدينة
الرسول صلى ال عليه وسلم ،ويعب عنها بالدينة متصرًا ـ وكان يومًا مشهودًا أغر ،فقد ارتت البيوت
والسكك بأصوات المد والتسبيح ،وتغنت بنات النصار بغاية الفرح والسرور:
والنصار وإن ل يكونوا أصحاب ثروات طائلة إل أن كل واحد منهم كان يتمن أن ينل الرسول صلى
ال عليه وسلم عليه ،فكان ل ير بدار من دور النصار إل أخذوا خطام راحلته :هلم إل العدد والعدة
والسلح والنعة ،فكان يقول لم[ :خلوا سبيلها فإنا مأمورة] ،فلم تزل سائرة به حت وصلت إل موضع
السجد النبوى اليوم فبكت ،ول ينل عنها حت نضت وسارت قليلًا ،ث التفتت ورجعت فبكت ف
موضعها الول ،فنل عنها ،وذلك ف بن النجار ـ أخواله صلى ال عليه وسلم ـ وكان من توفيق ال
لا ،فإنه أحب أن ينل على أخواله ،يكرمهم بذلك ،فجعل الناس يكلمون رسول ال صلى ال عليه وسلم
ف النول عليهم ،وبادر أبو أيوب النصارى إل رحـله ،فأدخله بيته،فجعل رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقول[ :الرء مع رحله] ،وجـاء أسعد بن زرارة فأخـذ بزمام راحلته ،فكانت عنــده.
وف رواية أنس عند البخاري ،قال نب ال صلى ال عليه وسلم[ :أي بيوت أهلنا أقرب؟] فقال أبو
أيوب :أنا يا رسول ال ،هذه دارى ،وهذا بأب .قال[ :فانطلق فهيئ لنا مقيلًا] ،قال :قوما على بركة ال
.
وبعد أيام وصلت إليه زوجته سَ ْودَة ،وبنتاه فاطمة وأم كلثوم ،وأسامة بن زيد ،وأم أين ،وخرج معهم عبد
ال بن أب بكر بعيال أب بكر ،ومنهم عائشة ،وبقيت زينب عند أب العاص ،ل يكنها من الروج حت
هاجرت بعد بدر.
قالت عائشة :وقدمنا الدينة وهي أوبأ أرض ال ،فكان بُ ْطحَان يرى نَجْلًا ،أي ماءً آجِنًا.
وقالت :لا قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة وعك أبو بكر وبلل ،فدخلت عليهما فقلت :يا أبه
كيف تدك؟ ويا بلل كيف تدك؟ قالت :فكان أبو بكر إذا أخذته الُمّى يقول:
كل امرئ مُصَّبحٌ ف أهله ** والوت أدن من ِشرَاك َنعْلِه
قالت عائشة :فجئت رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأخبته ،فقال[ :ال م العن شيبة بن ربيعة ،وعتبة
بن ربيعة ،وأمية بن خلف ،كما أخرجونا من أرضنا إل أرض الوباء] .ث قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم[ :ال م حبب إلينا الدينة كحبنا مكة أو أشد ،وصححها ،وبارك ف صاعها ومدها ،وانقل حاها
لحْفَة].
فاجعلها با ُ
وقد استجاب ال دعاءه صلى ال عليه وسلم ،فأرى ف النام أن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من
الدينة حت نزلت بالَهَْيعَة ،وهي الحفة .وكان ذلك عبارة عن نقل وباء الدينة إل الحفة ،وبذلك
استراح الهاجرون عما كانوا يعانونه من شدة مناخ الدينة.
إل هنا انتهي بيان قسم من حياته صلى ال عليه وسلم بعد النبوة ،وهو العهد الكى .وفيما يلى نقدم
بالياز عهده الدن صلى ال عليه وسلم .وبال التوفيق.
العهد الدن عهد الدعوة والهاد والنجاح
1ـ مرحلة تأسيس الجتمع السلمي ،وتكي الدعوة السلمية ،وقد أثيت ف هذه الرحلة القلقل
والفت من الداخل ،وزحف فيها العداء من الارج؛ ليستأصلوا شأفة السلمي ،ويقلعوا الدعوة من
جذورها .وقد انتهت هذه الرحلة بتغلب السلمي وسيطرتم على الوقف مع عقد صلح الديبية ف ذى
القعدة سنة ست من الجرة.
2ـ مرحلة الصلح مع العدو الكب ،والفراغ لدعوة ملوك الرض إل السلم ،وللقضاء على أطراف
الؤامرات .وقد انتهت هذه الرحلة بفتح مكة الكرمة ف رمضان سنة ثان من الجرة.
3ـ مرحلة استقبال الوفود ،ودخول الناس ف دين ال أفواجًا .وقد امتدت هذه الرحلة إل وفاة
الرسول صلى ال عليه وسلم ف ربيع الول سنة إحدى عشرة من الجرة.
ل يكن معن الجرة التخلص والفرار من الفتنة فحسب ،بل كانت الجرة تعن مع هذا تعاونًا على إقامة
متمع جديد ف بلد آمن ،ولذلك أصبح فرضًا على كل مسلم يقدر على الجرة أن يهاجر ويسهم ف بناء
هذا الوطن الديد ،ويبذل جهده ف تصينه ورفعة شأنه.
ولشك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان هو المام والقائد والادى ف بناء هذا الجتمع ،وكانت
إليه أزمة المور بل نزاع.
والذين قابلهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الدينة كانوا على ثلثة أصناف ،يتلف أحوال كل واحد
منها بالنسبة إل الخر اختلفًا واضحًا ،وكان يواجه بالنسبة إل كل صنف منها مسائل عديدة غي السائل
الت كان يواجهها بالنسبة إل الخر.
أ ـ والسائل الت كان يواجهها بالنسبة إل أصحابه هو أن ظروف الدينة بالنسبة إليهم كانت تتلف تامًا
عن الظروف الت مروا با ف مكة ،فهم ف مكة وإن كانت تمعهم كلمة جامعة وكانوا يستهدفون هدفًا
واحدًا ،إل أنم كانوا متفرقي ف بيوتات شت ،مقهورين أذلء مطرودين ،ل يكن لم من المر شيء ،وإنا
كان المر بيد أعدائهم ف الدين ،فلم يكن هؤلء السلمون يستطيعون أن ينشئوا متمعًا إسلميًا جديدًا
بواده الت ل يستغن عنها أي متمع إنسإن ف العال؛ ولذلك نرى السور الكية تقتصر على تفصيل البادئ
السلمية ،وعلى التشريعات الت يكن العمل با لكل فرد وحده ،وعلى الترغيب ف الب والي ومكارم
الخلق والترهيب عن الرذائل والدنايا.
أما ف الدينة فكان أمر السلمي بأيديهم منذ أول يوم ،ول يكن يسيطر عليهم أحد من الناس ،وهذا يعن
أنم قد آن لم أن يواجهوا مسائل الضارة والعمران ،والعيشة والقتصاد ،والسياسة والكومة ،والسلم
والرب ،وأن تفصل لم مسائل اللل والرام ،والعبادة والخلق ،وما إل ذلك من شئون الياة.
أي آن للمسلمي أن يكونوا متمعًا إسلميًا يتلف ف جيع مراحل الياة عن الجتمع الاهلي ،ويتاز عن
أي متمع يوجد ف العال النسان ،ويكون مثلًا للدعوة السلمية الت عان لا السلمون ألوانًا من النكال
والعذاب طيلة عشر سنوات.
ول يفي أن تكوين أي متمع على هذا النمط ل يكن أن يستتب ف يوم واحد ،أو شهر واحد ،أو سنة
واحدة ،بل لبد له من زمن طويل يتكامل فيه التشريع والتقني والتربية والتثقيف والتدريب والتنفيذ شيئًا
فشيئًا ،وكان ال كفيلًا بذا التشريع ،وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم قائمًا بتنفيذه والرشاد إليه،
وبتربية السلمي وتزكيتهم وفق ذلك {هُوَ اّلذِي بَعَثَ فِي اْلُأمّيّيَ رَسُولًا مّنْ ُهمْ يَتْلُو َعلَيْ ِهمْ آيَاِتهِ َويُ َزكّي ِهمْ
َوُيعَلّمُ ُه ُم الْكِتَابَ وَاْلحِكْ َمةَ} [المعة.]2 :
وكان الصحابة رضي ال عنهم مقبلي عليه بقلوبم،يتحلون بأحكامه،ويستبشرون با { َوإِذَا تُلِيَتْ َعلَيْ ِهمْ
آيَاُتهُ زَا َدتْ ُهمْ إِيَانًا} [النفال .]2 :وليس تفصيل هذه السائل كلها من مباحث موضوعنا ،فنقتصر منها
على قدر الاجة.
وكان هذا أعظم ما واجهه رسول ال صلى ال عليه وسلم بالنسبة للمسلمي ،وهو الدف السى
والطلب النبيل القصود من الدعوة السلمية والرسالة الحمدية ،ومعلوم أنه ليس بقضية طارئة تطلب
الستعجال ،بل هي قضية أصيلة تتاج إل آجال .نعم ،كانت هناك قضايا طارئة تطلب الل العاجل
والكيم ،أهها أن السلمي كانوا على قسمي:
قسم كانوا ف أرضهم وديارهم وأموالم ،ل يهمهم من ذلك إل ما يهم الرجل وهو آمن ف سِ ْربِـه ،وهم
النصار ،وكان بينهم تنافر مستحكم وعداء مزمن منذ أمد بعيد.
وقسم آخر فاتم كل ذلك ،ونوا بأنفسهم إل الدينة ،وهم الهاجرون ،فلم يكن لم ملجأ يأوون إليه ،ول
عمل يكسبون به ما يسد حاجتهم ،ول مال يبلغون به قَوَامًا من العيش ،وكان عدد هؤلء اللجئي غي
قليل ،ث كانوا يزيدون يومًا فيوما؛ إذ كان قد أوذن بالجرة لكل من آمن بال ورسوله .ومعلوم أن الدينة
ل تكن على ثروة طائلة فتزعزع ميزانا القتصادى ،وف هذه الساعة الرجة قامت القوات العادية
للسلم بشبه مقاطعة اقتصاديةَ ،قلّت لجلها الستوردات وتفاقمت الظروف.
ب ـ أما القوم الثان ـ وهم الشركون من صميم قبائل الدينة ـ فلم تكن لم سيطرة على السلمي،
وكان منهم من يتخاله الشكوك ويتردد ف ترك دين الباء ،ولكن ل يكن يبطن العداوة والكيد ضد
السلم والسلمي ،ول تض عليهم مدة طويلة حت أسلموا وأخلصوا دينهم ل.
وكان فيهم من يبطن شديد الحن والعداوة ضد رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمي ،ولكن ل يكن
يستطيع أن يناوئهم ،بل كان مضطرًا إل إظهار الودّ والصفاء نظرًا إل الظروف ،وعلى رأس هؤلء عبد
ال بن أب ،فقد كانت الوس والزرج اجتمعوا على سيادته بعد حرب ُبعَاث ـ ول يكونوا اجتمعوا على
سيادة أحد قبله ـ وكانوا قد نظموا له الَرْز ،ليَُتوّجُوه ويُ َملّكُوه ،وكان على وشك أن يصي ملكًا على
أهل الدينة إذ بوغت بجىء رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وانصراف قومه عنه إليه ،فكان يرى أنه
استلبه اللك ،فكان يبطن شديد العداوة ضده ،ولا رأي أن الظروف ل تساعده على شركه ،وأنه سوف
يرم بقايا العز والشرف وما يترتب عليهما من منافع الياة الدنيا أظهر السلم بعد بدر ،ولكن بقى
مستبطنًا الكفر ،فكان ل يد مالًا يكيد فيه برسول ال صلى ال عليه وسلم وبالسلمي إل ويأتيه ،وكان
أصحابه ـ من الرؤساء الذين حرموا الناصب الرجوة ف ملكه ـ يساهونه ويدعمونه ف تنفيذ خططه،
وربا كانوا يتخذون بعض الشباب وسذجة السلمي عميلًا لتنفيذ خطتهم من حيث ل يشعر.
جـ ـ أما القوم الثالث ـ وهم اليهود ـ فإنم كانوا قد انازوا إل الجاز زمن الضطهاد الشورى
والرومان كما أسلفنا ،وكانوا ف القيقة عبانيي ،ولكن بعد النسحاب إل الجاز اصطبغوا بالصبغة
العربية ف الزى واللغة والضارة ،حت صارت أساؤهم وأساء قبائلهم عربية ،وحت قامت بينهم وبي
العرب علقة الزواج والصهر ،إل أنم احتفظوا بعصبيتهم النسية ،ول يندموا ف العرب قطعًا ،بل كانوا
يفتخرون بنسيتهم السرائيلية ـ اليهودية ـ وكانوا يتقرون العرب احتقارًا بالغًا وكانوا يرون أن أموال
العرب مباحة لم ،يأكلونا كيف شاءوا ،قال تعالَ { :ومِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن َت ْأمَنْهُ ِبقِنطَارٍ يُؤَ ّدهِ ِإلَيْكَ
َومِنْهُم مّنْ إِن َت ْأمَنْهُ ِبدِينَارٍ لّ يُؤَ ّدهِ ِإلَيْكَ إِلّ مَا ُدمْتَ عَلَ ْيهِ قَآئِمًا َذلِكَ ِبَأنّ ُهمْ قَالُواْ لَ ْيسَ عَلَيْنَا فِي ا ُلمّيّيَ
سَبِيلٌ} [آل عمران .]75 :ول يكونوا متحمسي ف نشر دينهم ،وإنا جل بضاعتهم الدينية هي :الفأل
والسحر والنفث والرقية وأمثالا ،وبذلك كانوا يرون أنفسهم أصحاب علم وفضل وقيادة روحانية.
وكانوا مَهَ َرةً ف فنون الكسب والعيشة ،فكانت ف أيديهم تارة البوب والتمر والمر والثياب ،كانوا
يستوردون الثياب والبوب والمر ،ويصدرون التمر ،وكانت لم أعمال من دون ذلك هم لا عاملون،
فكانوا يأخذون النافع من عامة العرب أضعافًا مضاعفة ،ث ل يكونوا يقتصرون على ذلك ،بل كانوا أكالي
للربا ،يعطون القروض الطائلة لشيوخ العرب وساداتم؛ ليكسبوا با مدائح الشعراء والسمعة السنة بي
الناس بعد إنفاقها من غي جدوى ول طائلة ،وكانوا يرتنون لا أرض هؤلء الرؤساء وزروعهم
وحوائطهم ،ث ل يلبثون إل أعوامًا حت يتملكونا.
وكانوا أصحاب دسائس ومؤامرات وعتو وفساد؛ يلقون العداوة والشحناء بي القبائل العربية الجاورة،
ويغرون بعضها على بعض بكيد خفي ل تكن تشعره تلك القبائل ،فكانت تتطاحن ف حروب ،ول تكد
تنطفئ نيانا حت تتحرك أنامل اليهود مرة أخرى لتؤججها من جديد .فإذا ت لم ذلك جلسوا على حياد
يرون نتائج هذا التحريض والغراء ،ويستلذون با يل بؤلء الساكي ـ العرب ـ من التعاسة والبوار،
ويزودونم بقروض ثقيلة ربوية حت ل يجموا عن الرب لعسر النفقة .وبذا التدبي كانوا يصلون على
فائدتي كبيتي :ها الحتفاظ على كيانم اليهودى ،وإنفاق سوق الربا؛ ليأكلوه أضعافًا مضاعفة،
ويكسبوا ثروات طائلة.
1ـ بنو قَيُْنقَاع :وكانوا حلفاء الزرج ،وكانت ديارهم داخل الدينة.
2ـ بنو النّضِي :وكانوا حلفاء الزرج ،وكانت ديارهم بضواحى الدينة.
3ـ بنو قُ َريْظة :وكانوا حلفاء الوس ،وكانت ديارهم بضواحى الدينة.
وهذه القبائل هي الت كانت تثي الروب بي الوس والزرج منذ أمد بعيد ،وقد ساهت بأنفسها ف
حرب ُبعَاث ،كل مع حلفائها.
وطبعًا فإن اليهود ل يكن يرجى منهم أن ينظروا إل السلم إل بعي البغض والقد؛ فالرسول ل يكن من
أبناء جنسهم حت يُسَكّن َج ْأشَ عصبيتهم النسية الت كانت مسيطرة على نفسياتم وعقليتهم ،ودعوة
السلم ل تكن إل دعوة صالة تؤلف بي أشتات القلوب ،وتطفئ نار العداوة والبغضاء ،وتدعو إل التزام
المانة ف كل الشئون ،وإل التقيد بأكل اللل من طيب الموال ،ومعن كل ذلك أن قبائل يثرب العربية
ستتآلف فيما بينها ،وحينئذ لبد من أن تفلت من براثن اليهود ،فيفشل نشاطهم التجارى ،ويرمون أموال
الربا الذي كانت تدور عليه رحى ثروتم ،بل يتمل أن تتيقظ تلك القبائل ،فتدخل ف حسابا الموال
الربوية الت أخذتا اليهود ،وتقوم بإرجاع أرضها وحوائطها الت أضاعتها إل اليهود ف تأدية الربا.
كان اليهود يدخلون كل ذلك ف حسابم منذ عرفوا أن دعوة السلم تاول الستقرار ف يثرب؛ ولذلك
كانوا يبطنون أشد العداوة ضد السلم ،وضد رسول ال صلى ال عليه وسلم منذ أن دخل يثرب ،وإن
كانوا ل يتجاسروا على إظهارها إل بعد حي.
ويظهر ذلك جليًا با رواه ابن إسحاق عن أم الؤمني صفية رضي ال عنها قال ابن إسحاق :حدثت عن
صفية بنت حيي بن أخطب أنا قالت :كنت أحَبّ ولد أب إليه ،وإل عمي أب ياسر ،ل ألقهما قط مع ولد
لما إل أخذإن دونه .قالت :فلما قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة ونزل قباء ف بن عمرو بن
عوف غدا عليه أب؛ حي بن أخطب ،وعمى أبو ياسر بن أخطب مُغَلّسِي ،قالت :فلم يرجعا حت كانا مع
غروب الشمس ،قالت :فأتيا كَالّيْن كسلني ساقطي يشيان الُ َويْنَى .قالت :فهششت إليهما كما كنت
أصنع ،فوال ما التفت إلّ واحد منهما ،مع ما بما من الغم .قالت :وسعت عمى أبا ياسر ،وهو يقول لب
حيي بن أخطب :أهو هو؟ قال :نعم وال ،قال :أتعرفه وتثبته؟ قال :نعم ،قال :فما ف نفسك منه؟ قال:
عداوته وال ما بقيت.
ويشهد بذلك أيضًا ما رواه البخاري ف إسلم عبد ال بن َسلَم رضي ال عنه فقد كان حبًا من فطاحل
علماء اليهود ،ولا سع بقدم رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة ف بن النجار جاءه مستعجلًا ،وألقى
إليه أسئلة ل يعلمها إل نب ،ولا سع ردوده صلى ال عليه وسلم عليها آمن به ساعته ومكانه ،ث قال له:
إن اليهود قوم بُ ْهتٌ ،إن علموا بإسلمي قبل أن تسألم بَهَتُونِى عندك ،فأرسل رسول ال صلى ال عليه
وسلم فجاءت اليهود ،ودخل عبد ال بن سلم البيت .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم[ :أي رجل
فيكم عبد ال بن سلم؟] قالوا :أعلمنا وابن أعلمنا ،وأخينا وابن أخينا ـ وف لفظ :سيدنا وابن سيدنا.
وف لفظ آخر :خينا وابن خينا ،وأفضلنا وابن أفضلنا ـ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم[ :أفرأيتم
إن أسلم عبد ال؟] فقالوا :أعاذه ال من ذلك [مرتي أو ثلثا] ،فخرج إليهم عبد ال فقال :أشهد أن ل
إله إل ال ،وأشهد أن ممدًا رسول ال ،قالوا :شرّنا وابن شرّنا ،ووقعوا فيه .وف لفظ :فقال :يا معشر
اليهود ،اتقوا ال ،فوال الذي ل إله إل هو ،إنكم لتعلمون أنه رسول ال ،وأنه جاء بق .فقالوا :كذبت.
وهذه أول تربة تلقاها رسول ال صلى ال عليه وسلم من اليهود ف أول يوم دخل فيه الدينة.
وهذه هي الظروف والقضايا الداخلية الت واجهها الرسول صلى ال عليه وسلم حي نزل بالدينة.
أما من ناحية الارج فكان ييط با من يدين بدين قريش ،وكانت قريش ألـد عـدو للسلم
والسلمي ،جربت عليهم طوال عشرة أعوام ـ حينما كان السلمون تت أيديها ـ كل أساليب
الرهاب والتهديد والضايقة والتعذيب ،والقاطعة والتجويع ،وأذاقتهم التنكيلت والويلت ،وشنت
عليهم حربًا نفسية مضنية مع دعاية واسعة منظمة ،ولا هاجر السلمون إل الدينة صادرت أرضهم
وديارهم وأموالم ،وحالت بينهم وبي أزواجهم وذرياتم ،بل حبست وعذبت من قدرت عليه ،ول تقتصر
على هذا ،بل تآمرت على الفتك بصاحب الدعوة صلى ال عليه وسلم ،والقضاء عليه وعلى دعوته ،ول
تَأْلُ جهدًا ف تنفيذ هذه الؤامرة .فكان من الطبيعى جدًا ،حينما نا السلمون منها إل أرض تبعد نو
خسمائة كيلو متر ،أن تقوم بدورها السياسى والعسكرى ،لا لا من الصدارة الدنيوية والزعامة الدينية بي
أوساط العرب بصفتها ساكنة الرم وماورة بيت ال وسدنته ،وتغرى غيها من مشركي الزيرة ضد أهل
الدينة ،وفعلًا قامت بذلك كله حت صارت الدينة مفوفة بالخطار ،وف شبه مقاطعة شديدة قَلّتْ لجلها
الستوردات ،ف حي كان عدد اللجئي إليها يزيد يومًا بعد يوم ،وبذلك كانت [حالة الرب] قائمة بي
هؤلء الطغاة من أهل مكة ومن دان دينهم ،وبي السلمي ف وطنهم الديد.
وكان من حق السلمي أن يصادروا أموال هؤلء الطغاة كما صودرت أموالم ،وأن يديلوا عليهم من
التنكيلت بثل ما أدالوا با ،وأن يقيموا ف سبيل حياتم العراقيل كما أقاموها ف سبيل حياة السلمي،
وأن يكيلوا لؤلء الطغاة صاعًا بصاع حت ل يدوا سبيلًا لبادة السلمي واستئصال خضرائهم.
وهذه هي القضايا والشاكل الارجية الت واجهها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعدما ورد الدينة،
وكان عليه أن يعالها بكمة بالغة حت يرج منها مكللًا بالنجاح.
وقد قام رسول ال صلى ال عليه وسلم بعالة كل القضايا أحسن قيام ،بتوفيق من ال وتأييده ،فعامل كل
قوم با كانوا يستحقونه من الرأفة والرحة أو الشدة والنكال،وذلك بانب قيامه بتزكية النفوس وتعليم
الكتاب والكمة ،ول شك أن جانب التزكية والتعليم والرأفة والرحة كان غالبًا على جانب الشدة
والعنت ـ حت عاد المر إل السلم وأهله ف بضع سنوات ،وسيجد القارئ كل ذلك جليًا ف
الصفحات التية.
الرحلة الول
قد أسلفنا أن نزول رسول ال صلى ال عليه وسلم بالدينة ف بن النجار كان يوم المعة [ 12ربيع
الول سنة 1هـ /الوافق 27سبتمب سنة 622م] ،وأنه نزل ف أرض أمام دار أب أيوب ،وقال[ :
هاهنا النل إن شاء ال] ،ث انتقل إل بيت أب أيوب رضي ال عنه
وأول خطوة خطاها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد ذلك هو بناء السجد النبوي ،واختار له الكان
الذي بركت فيه ناقته صلى ال عليه وسلم ،فاشتراه من غلمي يتيمي كانا يلكانه ،وأسهم ف بنائه
بنفسه ،فكان ينقل اللبِن والجارة ويقول:
وكان يقول:
وبن بانبه بيوتًا بالجر واللب ،وسقفها بالريد والذوع ،وهي حجرات أزواجه صلى ال عليه وسلم،
وبعد تكامل الجرات انتقل إليها من بيت أب أيوب.
ول يكن السجد موضعًا لداء الصلوات فحسب ،بل كان جامعة يتلقى فيها السلمون تعاليم السلم
وتوجيهاته ،ومنتدى تلتقى وتتآلف فيه العناصر القبلية الختلفة الت طالا نافرت بينها النعات الاهلية
وحروبا ،وقاعدة لدارة جيع الشئون وبث النطلقات ،وبرلان لعقد الجالس الستشارية والتنفيذية.
وكان مع هذا كله دارًا يسكن فيها عدد كبي من فقراء الهاجرين اللجئي الذين ل يكن لم هناك دار ول
مال ول أهل ول بنون.
وف أوائل الجرة شرع الذان ،تلك النغمة العلوية الت تدوى ف الفاق ،وتز أرجاء الوجود ،تعلن كل
يوم خس مرات بأن ل إله إل ال وأن ممدًا رسول ال ،وتنفي كل كبياء ف الكون وكل دين ف
الوجود ،إل كبياء ال ،والدين الذي جاء به عبده ممد رسول ال .وقد تشرف برؤيته ف النام أحد
الصحابة الخيار عبد ال بن زيد بن عبد ربه رضي ال عنه فأقره النب صلى ال عليه وسلم وقد وافقت
رؤياه رؤيا عمر بن الطاب رضي ال عنه فأقره النب صلى ال عليه وسلم ،والقصة بكاملها مروية ف
كتب السنة والسية.
الؤاخاة بي السلمي
ث إن النب صلى ال عليه وسلم بانب قيامه ببناء السجد :مركز التجمع والتآلف ،قام بعمل آخر من
أروع ما يأثره التاريخ ،وهو عمل الؤاخاة بي الهاجرين والنصار ،قال ابن القيم :ث أخي رسول ال صلى
ال عليه وسلم بي الهاجرين والنصار ف دار أنس بن مالك ،وكانوا تسعي رجلًا ،نصفهم من الهاجرين،
ونصفهم من النصار ،أخي بينهم على الواساة ،ويتوارثون بعد الوت دون ذوى الرحام إل حي وقعة
بدر ،فلما أنزل ال عز وجلَ { :وأُ ْولُواْ الَ ْرحَامِ َبعْضُ ُهمْ أَ ْولَى بَِب ْعضٍ} [النفال ]75 :رد التوارث إل
الرحم دون عقد الخوة.
وقد قيل :إنه أخي بي الهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية ...والثبت الول ،والهاجرون كانوا
مستغني بأخوة السلم وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة فيما بينهم ،بلف الهاجرين مع
النصار .اهـ.
ومعن هذا الخاء أن تذوب عصبيات الاهلية ،وتسقط فوارق النسب واللون والوطن ،فل يكون أساس
الولء والباء إل السلم.
وقد امتزجت عواطف اليثار والواساة والؤانسة وإسداء الي ف هذه الخوة ،وملت الجتمع الديد
بأروع المثال.
روى البخاري :أنم لا قدموا الدينة أخي رسول ال صلى ال عليه وسلم بي عبد الرحن وسعد ابن
الربيع ،فقال لعبد الرحن :إن أكثر النصار مالًا ،فاقسم مال نصفي ،ول امرأتان ،فانظر أعجبهما إليك
فسمها ل ،أطلقها ،فإذا انقضت عدتا فتزوجها ،قال :بارك ال لك ف أهلك ومالك ،وأين سوقكم؟
فدلوه على سوق بن قينقاع ،فما انقلب إل ومعه فضل من أقِطٍ وسَمْنٍ ،ث تابع الغدو ،ث جاء يومًا وبه أثر
صفْرَة ،فقال النب صلى ال عليه وسلم[ :مَهَْيمْ؟] قال :تزوجت .قال[ :كم سقت إليها؟] قال :نواة من
ُ
ذهب.
وروى عن أب هريرة قال :قالت النصار للنب صلى ال عليه وسلم :اقسم بيننا وبي إخواننا النخيل .قال:
[ل] ،فقالوا :فتكفونا الؤنة ونشرككم ف الثمرة .قالوا :سعنا وأطعنا.
وهذا يدلنا على ما كان عليه النصار من الفاوة البالغة بإخوانم الهاجرين ،ومن التضحية واليثار والود
والصفاء ،وما كان عليه الهاجرون من تقدير هذا الكرم حق قدره ،فلم يستغلوه ول ينالوا منه إل بقدر ما
يقيم أودهم.
وحقًا فقد كانت هذه الؤاخاة حكمةً فذةً ،وسياسةً حكيمةً ،وحلًا رشيدًا لكثي من الشاكل الت كان
يواجهها السلمون ،والت أشرنا إليها.
وكما قام رسول ال صلى ال عليه وسلم بعقد هذه الؤاخاة بي الؤمني ،قام بعقد معاهدة أزاح با ما كان
بينهم من حزازات ف الاهلية ،وما كانوا عليه من نزعات قبلية جائرة ،واستطاع بفضلها إياد وحدة
إسلمية شاملة .وفيما يلى بنودها ملخصًا:
هذا كتاب من ممد النب صلى ال عليه وسلم بي الؤمني والسلمي من قريش ويثرب ،ومن تبعهم فلحق
بم ،وجاهد معهم:
1ـ إنم أمة واحدة من دون الناس.
2ـ الهاجرون من قريش على ِرْبعَتِهم يتعاقلون بينهم ،وهم َيفْدُون عَانِيهم بالعروف والقسط بي
الؤمني ،وكل قبيلة من النصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الول ،وكل طائفة منهم تفدى عانيها
بالعروف والقسط بي الؤمني.
3ـ وإن الؤمني ل يتركون ُمفْرَحًا بينهم أن يعطوه بالعروف ف فداء أو عقل.
4ـ وإن الؤمني التقي على من بغى منهم ،أو ابتغى دَسِيعة ظلم أو إث أو عدوان أو فساد بي الؤمني.
5ـ وإن أيديهم عليه جيعًا ،ولو كان ولد أحدهم.
6ـ ول يقتل مؤمن مؤمنا ف كافر.
7ـ ول ينصر كافرًا على مؤمن.
8ـ وإن ذمة ال واحدة يي عليهم أدناهم.
9ـ وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والسوة ،غي مظلومي ول متناصرين عليهم.
10ـ وإن سلم الؤمني واحدة؛ ل يسال مؤمن دون مؤمن ف قتال ف سبيل ال إل على سواء وعدل
بينهم.
11ـ وإن الؤمني يبء بعضهم على بعض با نال دماءهم ف سبيل ال.
12ـ وإنه ل يي مشرك مالًا لقريش ول نفسًا ،ول يول دونه على مؤمن.
13ـ وإنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به إل أن يرضى ول القتول.
14ـ وإن الؤمني عليه كافة ،ول يل لم إل قيام عليه.
15ـ وإنه ل يل لؤمن أن ينصر مدثًا ول يؤويه ،وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة ال وغضبه يوم
القيامة ،ول يؤخذ منه صَرْف ول َعدْل.
16ـ وإنكم مهما اختلفـتم فيه من شيء ،فإن مرده إل ال ـ عز وجل ـ وإل ممـد صلى ال
عليه وسلم.
سأله رجل :أي السلم خي؟ قال[ :تطعم الطعام ،وتقرئ السلم على من عرفت ومن ل تعرف].
قال عبد ال بن سلم :لا قدم النب صلى ال عليه وسلم الدينة جئت ،فلما تبينت وجهه ،عرفت أن وجهه
ليس بوجه كذاب ،فكان أول ما قال[ :يا أيها الناس ،أفشوا السلم ،وأطعموا الطعام ،وصلوا الرحام،
وصلوا بالليل والناس نيام ،تدخلوا النة بسلم]
وكان يقول[ :ل يدخل النة من ل يأمن جاره بوائقه]
ويقول[ :السلم من سلم السلمون من لسانه ويده]
ويقول[ :ل يؤمن أحدكم حت يب لخيه ما يب لنفسه]
ويقول[ :الؤمنون كرجل واحد ،إن اشتكى عينه اشتكى كله ،وإن اشتكى رأسه اشتكى كله].
ويقول[ :الؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا] ويقول[ :ل تباغضوا ،ول تاسدون ،ول تدابروا،
وكونوا عباد ال إخوانا ،ول يل لسلم أن يهجر أخاه فوق ثلثة أيام] .ويقول[ :السلم أخو السلم ل
يظلمه ول يسلمه ،ومن كان ف حاجة أخيه كان ال ف حاجته ،ومن فرج عن مسلم كربة فرج ال عنه
كربة من كربات يوم القيامة ،ومن ستر مسلما ستره ال يوم القيامة] ويقول[ :ارحوا من ف الرض
يرحكم من ف السماء] .ويقول[ :ليس الؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إل جانبه] .ويقول[ :سِباب
الؤمن فسوق ،وقتاله كفر] .وكان يعل إماطة الذى عن الطريق صدقة ،ويعدها شعبة من شعب اليان .
ويقول[ :الصدقة تطفئ الطايا كما يطفئ الاء النار] .ويقول[ :أيا مسلم كسا مسلما ثوبا على عُرى
كساه ال من خُضر النة ،وأيا مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه ال من ثار النة ،وأيا مسلم سقى
مسلما على ظمأ سقاه ال من الرحيم الختوم] ويقول[ :اتقوا الناء ولو بشق ترة ،فإن ل تد فبكلمة
طيبة] .وبانب هذا كان يث حثا شديدا على الستعفاف عن السألة ،ويذكر فضائل الصب والقناعة،
فكان يعد السألة كدوحا أو خدوشا أو خوشا ف وجه السائل اللهم إل إذا كان مضطرا .كما كان يبي
لم ما ف العبادات من الفضائل والجر والثواب عند ال ،وكان يربطهم بالوحي النازل عليه من الساء
ربطا مؤثقا ،فكان يقرؤه عليهم ويقرؤونه :لتكون هذه الدراسة إشعارا با عليهم من حقوق الدعوة
وتبعات الرسلة ،فضلً عن ضرورة الفهم والتدبر .وهكذا هذب تفكيهم ،وربع معنوياتم ،وأيقظ
مواهبهم ،وزودهم بأعلى القيم والقدار ،حت وصول إل أعلى قمة من الكمال عرفت ف تاريخ البشر
بعد النبياء .يقول عبد ال بن مسعود رضى ال عنه :من كان مستنا فليست بن قد مات ،فإن الي ل
تؤمن عليه الفتنة ،أولئك أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم ،كانوا أفضل هذه المة؛ وأبرها قلوبا،
وأعمقها علما ،وأقلها تكلفا ،اختارهم ال لصحبة نبيه ،ولقامة دينه ،فاعرفوا لم فضلهم ،وابتعوهم على
أثرهم ،وتسكوا با استطعتم من أخلقهم وسيهم ،فإنم كانوا على الدى الستقيم .ث إن هذا الرسول
القائد العظم صلى ال عليه وسلم كان يتمتع من الصفات العنوية والظاهرة ،ومن الكمالت الواهب،
والماد والفضائل ،ومكارم الخلق وماسن العمال با جعتله توى إليه الفئدة ،وتتفان عليه النفوس،
فما يتكلم بكلمة إل ويبادر صحابته رضي ال عنهم إل امتثالا ،وما يصدر من إرشاد أو توجيه إل
ويتسابقون إل العمل به .بثل هذا استطاع النب صلى ال عليه وسلم أن يبن ف الدينة متمعا جديدا
أروع وأشرف متمع عرفة التاريخ ،وأن يضع لشاكل هذا الجتمع حلً تنفست له النسانية الصعداء ،بعد
أن كانت قد تعبت ف غياهب الزمان ودياجي الظلمات .وبثل هذه العنويات الشامة تكاملت عناصر
الجتمع الديد الذي واجه كل تيارات الزمان حت صرف وجهتها ،وحول مرى التاريخ واليام.
معاهدة مع اليهود
بعد أن أرسى رسول ال صلى ال وعليه وسلم قواعد متمع جديد وأمة إسلمية حديدة ،بإقامة الوحدة
العقدية والسياسية والنظامية بي السلمي ،بدأ بتنظيم علقاته بغي السلمي ،وكان قصده بذلك توفي
المن والسلم والسعادة الي للبشرية جعاء ،مع تنظيم النطقة ف وفاق واحد ،فسن ف ذلك قواني
السماح والتجاوز الت ل تعهد ف ذلك العال اللئ بالتعصب والغراض الفردية والعرقية.
وأقرب من كان ياور الدينة من غي السلمي هم اليهود -كما أسلفنا -وهم وإن كانوا يبطنون العداوة
للمسلمي ،لكن ل يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد ،فعقد معهم رسول ال صلى ال عليه وسلم
معاهدة قرر لم فيها النصح والي ،وترك لم فيها مطلق الرية ف الدين والال ،ول يتجه إل سياسة
البعاد أو الصادرة والصام.
وفيما يلى أهم بنود هذه العاهدة:
بنود العاهدة
-1إن يهود بن عوف أمة مع الؤمني ،لليهود دينهم وللمسلمي دينهم مواليهم وأنفسهم ،وكذلك لغي
بن عوف من اليهود.
-2وإن على اليهود نفقتهم ،وعلى السلمي نفقتهم.
-3وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
-4وإن بينهم النصح والنصحية ،والب دون الث.
-5وإنه ل يأث امرؤ بليفه.
-6وإن النصر للمظلوم.
-7وإن اليهود ينفقون مع الؤمني ما داموا ماربي.
-8وإن يثرب حرام جوفها لهل هذه الصحيفة.
-9وإنه ما كان بي أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار ياف فساده فإن مرده إل ال عز وجل،
وإل ممد رسول ال صلى ال عليه وسلم.
-10وإنه ل تار قريش ول من نصرها.
-11وإن بينهم النصر على من َدهَم يثرب ..على كل أناس حصتهم من جابنهم الذي قبلهم.
-12وإنه ل يول هذا الكتاب دون ظال أو آث.
وبإبرام هذه العاهدة صارت الدينة وضواحيها دولة وفاقية ،عاصمتها الدينة ،ورئيسها ـ إن صح هذا
التعبي ـ رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والكلمة النافذة والسلطان الغالب فيها للمسلمي.
ولتوسيع منطقة المن والسلم عاهد النب صلى ال عليه وسلم قبائل أخرى ف الستقبل بثل هذه
العاهدة ،حسب ما اقتضته الظروف ،وسيأت ذكر شيء عنها.
الكفاح الدامي
تقدم ما أدل به كفار مكة من التنكيلت والويلت على السلمي ف مكة ،ث ما أتوا به من الرائم الت
استحقوا لجلها الصادرة والقتال ،عند الجرة ،ث إنم ل يفيقوا من غيهم ول امتنعوا عن عدوانم بعدها،
بل زادهم غيظا أن فاتم السلمون ووجدوا مأمنا ومقرا بالدنية ،فكتبوا إل عبد ال بن أب سلول -وكان
إذ ذاك مشركا -بصفته رئيس النصار قبل الجرة -فمعلوا أنم كانوا قد اتفقوا عليه ،وكادوا يعلونه
ملكا على أنفسهم لول أن هاجر رسول ال صلى ال عليه وسلم إليهم ،وآمنوا به -كتبوا إليه وإل
أصحابه الشركي ،يقولون لم ف كلمات باتة:
إنكم آويتم صاحبنا ،وإنا نقسم بال لتقاتلنه أو لتخرجنه ،أو لنسين إليكم بأجعنا حت نقتل مقاتلتكم،
ونستبيح نساءكم.
وبجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد ال بن أب ليمتثل أوامر إخوانه الشركي من أهل مكة -وقد كان
يقد على النب صلى ال عليه وسلم :لا يراه أنه استبله ملكه -يقول عبد الرحن بن كعب :فلما بلغ ذلك
عبد ال بن أب ومن كان معه من عبدة الوثان اجتمعوا لقتال رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلما بلغ
ذلك النب صلى ال عليه وسلم لقيهم ،فقال( :لقد بلغ وعيد قريش منكم البالغ ،ما كانت تكيدكم بأكثر
ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم ،تريدون أن تقالوا أبناءكم وإخوانكم) ،فلما سعوا ذلك من النب صلى
ال عليه وسلم تفرقوا.
امتنع عبد ال بن أب بن سلول عن القتال إذ ذلك ،لا رأي خورا أو رشدا ف أصحابه ،ولكن يبدو من
تصرفاته أنه كان متواطئا مع قريش ،فكان ل يد فرصة إل وينتهزها ليقاع الشر بي السلمي
والشركي ،وكان يضم معه اليهود ،ليعينوه على ذلك ،ولكن تلك هي حكمة النب صلى ال عليه وسلم
الت كانت تطفئ نار شرهم حينا بعد حي.
ث أن سعد بن معاذ انطلق إل مكة معتمرا ،فنل على أمية بن خلف بكة ،فقال لمية :انظر ل ساعة خلوة
لعلي أن أطوف البيت ،فخرج به قريبا من نصف النهار ،فلقيهما أبو جهل ،فقال :يا أبا صفوان ،من هذا
معك؟ فقال :هذا سعد ،فقال له أبو جهل :أل أراك تطوف بكة آمنا وقد آويتم الصباة ،وزعمتم أنكم
تنصرونم ،وتعينونم ،أما وال لول أنك مع أب صفوان ما رجعت إل أهلك سالا ،فقال له سعد -ورفع
صوته عليه :أما وال لئن منعتن هذا لمنعك ما هو أشد عليكم منه :طريقك على أهل الدينة.
ول يكن هذا مرد وهم أو خيال ،فقد تأكد لدى رسول ال صلى ال عليه وسلم من مكائد قريش وإرادتا
على الشر ما كان لجله ل يبيت إل ساهرا ،أو ف حرس من الصحابة .روى الشيخان ف صحيحيهما عن
عائشة رضى ال عنها قالت :سهر رسول ال صلى ال عليه وسلم مقدمه الدينة ليلة فقال( :ليت رجلً
صالا من أصحاب يرسن الليلة) ،قالت :فبينما نن كذلك سعنا خشخشة سلح ،فقال( :من هذا ؟)
قال :سعد بن أب وقاص ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم( :ما جاء بك؟) فقال :وقع ف نفسي
خوف على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فجئت أحرسه ،فدعا له رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ث
نام.
ول تكن هذه الراسة متصة ببعض الليال ،بل كان ذلك أمرا مستمرا ،فقد روى عن عائشة قالت :كان
رسول ال صلى ال عليه وسلم يرس ليلً حت نزل{ :وَالُ يَعْصِ ُمكَ مِنَ النّاسِ} [الائدة ،]67 :فأخرج
رسول ال صلى ال عليه وسلم رأسه من القبة ،فقال( :يا أيها الناس ،انصرفوا عن فقد عصمن ال عز
وجل).
ول يكن الطر مقتصرا على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،بل كان يدق بالسلمي كافة ،فقد روى أب
بن كعب ،قال :لا قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه الدينة ،وآوتم النصار رمتهم العرب
عن قوس واحدة ،وكانوا ل يبيتون إل بالسلح ،ول يصبحون إل فيه.
الذان بالقتال
ف هذه الظروف الطية الت كانت تدد كيان السلمي بالدينة ،وتنبئ عن قريش أنم ل يفيقون عن
غيهم ول يتنعون عن تردهم بال ،أنزل ال تعال الذن بالقتال للمسلمي ول يفرضه عليهم ،قال تعال{ :
أُ ِذنَ لِ ّلذِينَ يُقَاتَلُونَ ِبأَنّ ُهمْ ظُ ِلمُوا َوِإ ّن الَ عَلَى نَصْرِ ِهمْ لَ َقدِيرٌ} [الج.]39 :
وأنزل معه آيات بي لم فيها أن هذا الذن إنا هو لزاحة الباطل وإقامة شعائر ال ،قال تعال{ :الّذِينَ إِن
مّكّنّا ُهمْ فِي الْأَ ْرضِ أَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوُا ال ّزكَاةَ َوأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ َونَهَوْا عَنِ الْمُن َكرِ َولِ ّلهِ عَاقَِبةُ اْلُأمُورِ } [
الج.]41 :
وكان الذن مقتصرا على قتال قريش ،ث تطور فيما بعد مع تغي الظروف حت وصل إل مرحلة الوجوب،
وجاوز قريشا إل غيهم ،ول بأس أن نذكر تلك الراحل بإياز قبل أن ندخل ف ذكر الحداث:
-1اعتبار مشركي قريش ماربي؛ لنم بدأوا بالعدوان ،فحق للمسلمي أن يقاتلوهم ويصادروا أموالم
دون غيهم من بقية مشركي العرب.
-2قتال كل من تال من مشركي العرب مع قريش واتد معهم ،وكذلك كل من تفرد بالعتداء على
السلمي من غي قريش.
-3قتال من خان أو تيز للمشركي من اليهود الذين كان لم عقد وميثاق مع رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،ونبذ ميثاقهم إليهم على سواء.
-4قتال من بادأ بعداوة السلمي من أهل الكتاب ،كالنصارى ،حت يعطوا الزية عن يد وهم صاغرون.
-5الكف عمن دخل ف السلم ،مشركا كان أو يهوديا أو نصرانيا أو غي ذلك ،فل يتعرض لنفسه
وماله إل بق السلم ،وحسابه على ال.
ولا نزل الذن بالقتال رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبسط سيطرته على الطريق الرئيس الذي
تسلكه قريش من مكة إل الشام ف تاراتم ،واختار لذلك خطتي:
الول :عقد معاهدات اللف أو عدم العتداء مع القبائل الت كانت ماورة لذا الطريق ،أو كانت تقطن
ما بي هذا الطريق وما بي الدينة ،وقد عقد صلى ال عليه وسلم معاهدة مع جهينة قبل الخذ ف النشاط
العسكري ،وكانت مساكنهم على ثلث مراحل من الدينة ،كما عقد معاهدات أخرى أثناء دورياته
العسكرية ،وسيأت ذكرها.
ولتنفيذ هاتي الطتي بدأ بالتحركات العسكرية فعلً بعد نزول الذن بالقتال وكانت أشبه بالدوريات
الستطلعية ،وكان الطلوب منها كما أشرنا:
وكان لواء حزة أول لواء عقده رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكان أبيض ،وحله أبو مرثد كَناز بن
حصي الغَنَوي.
-2سرية رابغ:
ف شوال سنة 1من الجرة ،الوافق أبريل سنة 632م ،بعث لا رسول ال صلى ال عليه وسلم عبيدة
بن الارث بن الطلب ف ستي رجلً من الهاجرين ،فلقى أبا سفيان -وهو ف مائتي -على بطن رابغ،
وقد ترامي الفريقان بالنبل ،ول يقع قتال.
وف هذه السرية انضم رجلن من جيش مكة إل السلمي ،وها القداد بن عمرو البهران ،وعتبه بن
غزوان الارن ،وكانا مسلمي خرجا مع الكفار ليكون ذلك وسيلة للوصول إل السلمي ،وكان لواء
عبيدة أبيض ،وحامله مسطح بن أثاثة بن الطلب بن عبد مناف.
-3سرية الرار
ف ذي العقدة سنة 1هـ ،الوافق مايو سنة 623م ،بعث لا رسول ال صلى ال عليه وسلم سعد بن
أب وقاص ف عشرين رجل يعترضون عيا لقريش ،وعهد إليه إل ياوز الرار ،فخرجوا مشاة يكمنون
بالنهار ،ويسيون بالليل ،حت بلغوا الرار صبيحة خس ،فوجدوا العي قد مرت بالمس.
وف هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مشى الضمري ،وكان سيد بن ضمرة ف زمانه ،وهذا
نص العاهدة( :هذا كتاب من ممد رسول ال لبن ضمره ،فإنم آمنون على أموالم وأنفسهم ،وإن لم
النصر على من رامهم إل أن ياربوا دين ال ن ما بل بر صوفة وأن النب إذا دعاهم لنصره أجابوه).
وهذه أول غزوة غزاها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكانت غيبته خس عشرة ليلة ،وكان اللواء
أبيض وحامله حزة بن عبد الطلب.
-5غزوة بواط:
ف شهر ربيع الول سنة 2هـ الوافق سبتمب سنة 623م ،خرج فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم
ف مائتي من أصحابه ،يعترض عيا لقريش فيها أمية بن خلف المحي ومائة رجل من قريش ،وألفان
وخسمئة بعي ،فبلغ بواطا من ناحية رضوى ول يلق كيدا.
واستخلف ف هذه الغزوة على الدينة سعد بن معاذ ،واللواء كان أبيض ،وحامله سعد بن أب وقاص رضى
ال عنه.
-6غزوة سفوان
ف شهر ربيع الول سنة 2هـ ،الوافق سبتمب سنة 623م ،أغار كرز بن جابر الفهري ف قوات خفيفة
من الشركي على مراعي الدينة ،ونب بعض الواشي فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ف سبعي
رجلً من أصحابه لطارته ،حت بلغ واديا يقال له :سفوان من ناحية بدر ،ولكنه ل يدرك كرزا وأصحابه،
فرجع من دون حرب ،وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الول.
واستخلف ف هذه الغزوة على الدينة زيد بن حارثة ،وكان اللواء أبيض ،وحامله علي بن أب طالب.
-7غزوة ذي العشية:
ف جادى الول ،وجادى الخرة سنة 2هـ ،الوافق نوفمب وديسمب سنة 623هـ ،خرج فيها
رسول ال صلى ال عليه وسلم ف خسي ومائة ويقال :ف مائتي ،من الهاجرين ،ول يكره أحدا على
الروج ،وخرجوا على ثلثي بعيا يعتقبونا ،يعترضون عيا لقريش ،ذاهبة إل الشام ،وقد جاء الب
بفصولا من مكة ،فيها أموال لقريش فبلغ ذا العشية ،فوجد العي قد فاتته بأيام ،وهذه هي العي الت
خرج ف طلبها حي رجعت من الشام ،فصارت سببا لغزوة بدر الكبى.
وكان خروجه صلى ال عليه وسلم ف أواخر جادى الول ،ورجوعه ف أوائل جادى الخرة ،على ما قاله
ابن إسحاق ،ولعل هذه هو سبب اختلف أهل السي ف تعيي شهر هذه الغزوة.
وف هذه الغزوة عقد رسول ال صلى ال عليه وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بن مدل وحلفائهم من بن
ضمرة.
واستخلف على الدينة ف هذه الغزوة أبا سلمة بن عبد السد الخزومي ،وكان اللواء أبيض ،وحامله حزة
بن عبد اللطب رضي ال عنه.
-8سرية نلة:
ف رجب سنة 2هـ ،الوافق يناير سنة 624م ،بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم كتب له كتابا،
وأمره أل ينظر فيه حت يسي يومي ،ث ينظر فيه .فسار عبد ال ث قرأ الكتاب بعد يومي ،فإذا فيه( :إذا
نظرت ف كتاب هذا فامض حت تنل نلة بي مكلة والطائف ،فترصد با عي قريش وتعلم لنا من
أخبارهم) .فقال :سعا وطاعة ،وأخب أصحابه بذلك ،وأنه ل يستكرههم ،فمن أحب الشهادة فلينهض،
ومن كره الوت فليجع ،وأما أنا فناهض ،فنهضوا كلهم ،غي أنه لا كان ف أثناء الطريق أضل سعد بن
أب وقاص وعتبة بن غزوان بعيا لما كانا يعتقبانه ،فتخلفا ف طلبه.
وسار عبد ال بن جحش حت نزل بنخلة ،فمرت عي لقريش تمل زبيبا وأدما وتارة ،وفيها عمرو بن
الضرمي ،وعثمان ونوفل ابنا عبد ال بن الغية ،والكم ابن كيسان مول بن الغية .فتشاور السلمون
وقالوا :نن ف آخر يوم من رجب الشهر الرام ،فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الرام ،وإن تركناهم الليلة
دخلوا الرم ،ث اجتمعوا على اللقاء ،فرمى أحدهم عمرو بن الضرمي فقتله ،وأسروا عثمان والكم
وأفلت نوفل ،ث قدموا بالعي والسيين إل الدينة ،وقد عزلوا من ذلك المس ،وهو أو خس كان ف
السلم ،وأول قتيل ف السلم ،وأول أسيين ف السلم.
وأنكر رسول ال صلى ال عليه وسلم ما فعلوه ،وقال( :ما أمرتكم بقتال ف الشهر الرام) وتوقف عن
التصرف ف العي والسيين.
ووجد الشركون فيما حدث فرصة لتام السلمي بأنم قد أحلوا ما حرم ال ،وكثر ف ذلك القيل
والقال ،حت نزل الوحي حاسا هذه القاويل وأن ما عليه الشروكون أكب وأعظم ما ارتكبه السلمون{ :
ج ِد الْحَرَامِ
سِصدّ عَن َسبِيلِ الِ َو ُكفْرٌ بِهِ وَالْمَ ْ
سأَلُوَنكَ عَنِ الشّ ْه ِر الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَِبيٌ َو َ
يَ ْ
َوإِخْرَاجُ أَهْ ِلهِ مِ ْنهُ َأكْبَرُ عِندَ الِ وَاْلفِتَْنةُ أَكْبَرُ مِ َن الْقَتْلِ} [البقرة.]217 :
فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة الت افتعلها الشركون لثارة الريبة ف سية القاتلي السلمي ل مساغ
لا ،فإن الرمات القدسة قد انتهكت كلها ف ماربة السلم ،واضطهاد أهله ،أل يكن السلمون مقيمي
بالبلد الرام حي تقرر سلب أموالم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لذه الرمات قداستها فجأة ،فأصبح
انتهاكها معرة وشناعة؟ ل جرم أن الدعاية الت أخذ ينشرها الشركون دعاية تبتن على وقاحة ودعارة.
وبعد ذلك أطلق رسول ال صلى ال عليه وسلم سراح السيين, ،أدى دية القتول إل أوليائه.
تلكم السرايا والغزوات قبل بدر ،ل ير ف احد منها سلب الموال وقتل الرجال إل بعد ما ارتكبه
الشركون ف قيادة كرز بن جابر الفهري ،فالبداية إنا هي من الشركي مع ما كانوا قد أتوه قبل ذلك من
الفاعيل.
وبعد وقوع ما وقع ف سرية عبد ال بن جحش تقق خوف الشركي وتسد أمامهم الطر القيقي،
ووقعوا فيما كانوا يشون الوقوع فيه ،وعلموا أن الدينة ف غاية من التيقظ والتربص ،تترقب كل حركة
من حركاتم التجارية ،وأن السلمي يستطيعون أن يزحفوا إل ثلثائة ميل تقريبا ،ث يقلتوا ويأسروا
رجالم ،ويأخذوا أموالم ،ويرجعوا سالي غاني ،وشعر هؤلء الشركون بأن تارتم إل الشام أمام خطر
دائم ،لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم ،ويأخذوا طريق الصلح والوادعة -كما فعلت جهينة وبنو ضمرة
ازدادوا حقدا وعيظا ،وصمم صناديدهم وكباؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل :من إبادة
السلمي ف عقر دارهم ،وهذا هو الطيش الذي جاء بم إل بدر.
أما السلمون فقد فرض ال عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد ال بن جحش ف شهر شعبان سنة 2هـ،
وأنزل ف ذلك آيات بينات{ :وَقَاتِلُواْ فِي َسبِيلِ الِ اّلذِينَ يُقَاتِلُونَ ُكمْ وَلَ َتعْتَدُواْ ِإ ّن الَ لَ ُيحِبّ الْ ُمعَْتدِينَ
وَاقْتُلُو ُهمْ َحيْثُ ثَ ِقفْتُمُو ُهمْ َوأَخْرِجُوهُم مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُو ُكمْ وَاْلفِتَْنةُ أَ َشدّ مِ َن الْقَتْلِ وَلَ ُتقَاتِلُو ُهمْ عِندَ
ج ِد الْحَرَامِ حَتّى ُيقَاتِلُو ُكمْ فِيهِ َفإِن قَاتَلُو ُكمْ فَاقْتُلُو ُهمْ َك َذلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ َفِإ ِن انتَهَ ْواْ َفِإ ّن الَ َغفُورٌ
سِالْمَ ْ
رّحِيمٌ وَقَاتِلُو ُهمْ حَتّى لَ تَكُونَ ِفتَْنةٌ َويَكُو َن الدّينُ لِ ّلهِ َفِإنِ انتَهَواْ َفلَ ُعدْوَانَ إِلّ َعلَى الظّالِمِيَ} [البقرة:
.]193 :190
ث ل يلبث أن أنزل ال تعال عليهم آيات من نوع آخر ،يعلمهم فيها طريقة القتال ،ويثهم عليه ،ويبي لم
شدّوا الْوَثَاقَ َفِإمّا مَنّا بَ ْعدُ
ب الرّقَابِ حَتّى إِذَا أَْثخَنتُمُو ُهمْ فَ ُ
بعض أحكامهَ { :فإِذا لَقِيُتمُ اّلذِينَ كَفَرُوا فَضَ ْر َ
ض َع الْحَ ْربُ أَوْزَا َرهَا َذِلكَ َولَوْ يَشَاء الُ لَانتَصَرَ مِنْ ُهمْ َولَكِن لّيَبْ ُلوَ َبعْضَكُم بَِبعْضٍ وَاّلذِينَ
َوِإمّا ِفدَاء حَتّى تَ َ
قُِتلُوا فِي سَبِي ِل الِ َفلَن يُضِلّ أَعْمَالَ ُهمْ سَيَ ْهدِي ِهمْ َويُصْ ِلحُ بَالَ ُهمْ َوُيدْخِلُ ُهمُ اْلجَّنةَ عَرّفَهَا لَ ُهمْ يَا َأيّهَا اّلذِينَ
آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الَ يَنصُ ْر ُكمْ َويُثَبّتْ أَ ْقدَامَ ُكمْ } [ممد.]7 :4 :
ث ذم ال الذين طفقت أفئدتم ترجف وتفق حي سعوا المر بالقتالَ { :فإِذَا أُن ِزلَتْ سُو َرةٌ ّمحْكَ َمةٌ وَ ُذكِرَ
ت اّلذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّ َرضٌ يَنظُرُونَ ِإلَ ْيكَ نَظَرَ الْ َمغْشِيّ عَلَ ْيهِ مِنَ الْمَ ْوتِ} [ممد.]20 :
فِيهَا اْلقِتَالُ َرَأيْ َ
وإياب القتال والض عليه ،والمر بالستعداد له هو عي ما كانت تقتضيه الحوال ،ولو كان هناك قائد
يسب أغوار الظروف لمر جنده بالستعداد لميع الطورائ ،فكيف بالرب العليم التعال ،فالظروف كانت
تقتضى عراكا داميا بي الق والباطل ،وكانت وقعة سرية عبد ال بن جحش ضربة قاسية على غية
الشركي وحيتهم ،آلتهم وتركتهم يتقلبون على مثل المر.
وآيات المر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي ،وأن النصر والغلبة فيه للمسلمي نائيا ،انظر
كيف يأمر ال السلمي بإخراج الشركي من حيث أخرجوهم ،وكيف يعلمهم أحكام الند التغلب ف
الساري والثخان ف الرض حت تضع الرب أوزارها ،هذه كلها إشارة إل غلبة السلمي نائيا .ولكن
ترك كل ذلك مستورا حت يأت كل رجل با فيه من التحمس ف سبيل ال.
وف هذه اليام -ف شعبان سنة 2هـ /فباير 624م -أمر ال تعال بتحويل القبلة من بيت القدس
إل السجد الرام ،وأفاد ذلك أن الضعفاء والنافقي من اليهود الذين كانوا قد خلوا صفوف السلمي
لثارة البلبلة ،انكشفوا عن السلمي ورجعوا إل ما كانوا عليه ،وهكذا تطهرت صفوف السلمي عن
كثي من أهل الغدر واليانة.
ولعل ف تويل القبلة إشارة لطيفة إل بداية دور جديد ل ينتهي إل بعد احتلل السلمي هذه القبلة ،أو
ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيد أعدائهم ،وإن كانت بأيديهم فعل فلبد من تليصها يوما ما إن
كانوا على الق.
وبده الوامر والشارات زاد نشاط السلمي ،واشتد شوقهم إل الهاد ف سبيل ال ،ولقاء العدو ف
معركة فاصلة لعلء كلمة ال.
غزوة بدر الكبى أول معركة من معارك السلم الفاصلة
سبب الغزوة
مبلغ قوة اليش السلمي وتوزيع القيادات
النذير ف مكة
أهل مكة يتجهزون للغزو
قوام اليش الكي
مشكلة قبائل بن بكر
جيش مكة يتحرك
العي تفلت
َهمّ اليش الكي بالرجوع ،ووقوع النشقاق فيه
موقف اليش السلمي ف ضيق وحرج
الجلس الستشاري
اليش السلمي يواصل سيه
الرسول صلى ال عليه وسلم يقوم بعملية الستكشاف
الصول على أهم العلومات عن اليش الكي
اليش السلمي يسبق إل أهم الراكز العسكرية
مقر القيادة
تعبئة اليش وقضاء الليل
اليش الكي ف عرصة القتال ،ووقوع النشقاق فيه
سبب الغزوة
سبق ف ذكر غرزة العشية أن عيا لقريش أفلتت من النب صلى ال عليه وسلم ف ذهابا من مكة إل
الشام ،فلما قرب رجوعها من الشام إل مكة بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم طلحة بن عبيد ال
وسعيد بن زيد إل الشمال ليقوما باكتشاف خبها ،فوصل إل الوراء ومكثا حت مر بما أبو سفيان
بالعي ،فأسرعا إل الدينة وأخبا رسول ال صلى ال عليه وسلم الب.
وكانت العي تمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها :ألف بعي موقرة بأموال ل تقل عن خسي
ألف دينار ذهب .ول يكن معها من الرب إل نو أربعي رجل.
إنا فرصة ذهبية للمسلمي ليصيبوا أهل مكة بضربة اقتصادية قاصمة ،تتأل لا قلوبم على مر العصور،
لذلك أعلن رسول ال صلى ال عليه وسلم قائلً( :هذه عي قريش فيها أموالم ،فاخرجوا إليها لعل ال
ينفلكموها).
ول يعزم على أحد بالروج ،بل ترك المر للرغبة الطلقة ،لا أنه ل يكن يتوقع عند هذا النتداب أنه
سيصطدم بيش مكة -بدل العي -هذا الصطدام العنيف ف بدر؛ ولذلك تلف كثي من الصحابة ف
الدينة ،وهم يسبون أن مضى رسول ال صلى ال عليه وسلم ف هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه ف السرايا
والغزوات الاضية؛ ولذلك ل ينكر على أحد تلفه ف هذه الغروة.
واستعد رسول ال صلى ال عليه وسلم للخروج ومعه ثلثائة وبضعة عشر رجلً ـ ،313أو
،314أو 317رجلً ـ 82أو 83أو 86من الهاجرين و 61من الوس و 170من
الرزج .ول يتفلوا لذا الروج احتفال بليغا ،ول اتذوا أهبتهم كاملة ،فلم يكن معهم إل فرس أو
فرسان :فرس للزبي بن العوام ،وفرس للمقداد بن السود الكندي ،وكان معهم سبعون بعيا يعتقب
الرجلن والثلثة على بعي واحد ،وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم وعلي ومرثد بن أب مرثد الغنوي
يعتقبون بعيا واحد.
واستخلف على الدينة وعلى الصلة ابن أم مكتوم ،فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد النذر،
واستعمله على الدينة.
ودفع لواء القيادة العامة إل مصعب بن عمي القرشي العبدري ،وكان هذا اللواء أبيض.
وجعل على قيادة اليمنة الزبي بن العوام ،وعلى اليسرة القداد بن عمرو -وكانا ها الفارسي الوحيدين
ف اليش -كما سبق -وجعل على الساقة قيس بن أب صعصعة ،وظلت القيادة العامة ف يده صلى ال
عليه وسلم كقائد أعلى للجيش.
وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم ف هذا اليش غي التأهب ،فخرج من نقب الدينة ،ومضى على
الطريق الرئيسي الؤدي إل مكة ،حت بلغ بئر الروحاء ،فلما ارتل منها ترك طريق مكة إل اليسار،
وانرف ذات اليمي على النازية يريد بدرا فسلك ف ناحية منه حت جزع وديا يقال له :رحقان بي النازية
وبي مضيق الصفراء ،ث مر على الضيق ث انصب منه حت قرب من الصفراء ،ومن هنالك بعث بسبس
بن عمرو الن وعدي بن أب الزغباء الهي إل بدر يتجسسان له أخبار العي.
النذير ف مكة
وأما خب العي فإن أبا سفيان -وهو السئول عنها -كان على غاية من اليطة والذر ،فقد كان يعلم أن
طريق مكة مفوف بالخطار ،وكان يتحسس الخبار ويسأل من لقى من الركبان ،ول يلبث أن نقلت إليه
استخباراته بأن ممدا صلى ال عليه وسلم قد استنفر أصحابه ليوقع بالعي ،وحينئذ استأجر أبو سفيان
ضمضم بن عمرو الغفاري إل مكة مستصرخا لقريش بالنفي إل عيهم؛ ليمنعوه من ممد صلى ال عليه
وسلم وأصحابه ،وخرج ضمضم سريعا حت أتى مكة ،فخرخ ببطن الوادي واقفا على بعيه ،وقد جدع
أنفه وحول رحله ،وشقق قميصه ،وهو يقول :يا معشر قريش ،اللطيمة ،اللطيمة أموالكم مع أب سفيان قد
عرض لا لا ممد ف أصحابه ،ل أرى أن تدركوها ،الغوث ...الغوث.
لحْفَة،
سفَان ،ث ُق َدْيدًا ،ث ا ُ
تركوا بسرعة فائقة نو الشمال ف اتاه بدر ،وسلكوا ف طريقهم وادى ُع ْ
وهناك تلقوا رسالة جديدة من أب سفيان يقول لم فيها :إنكم إنا خرجتم لتحرزوا عيكم ورجالكم
وأموالكم ،وقد ناها ال فارجعوا.
العي تفلت
وكان من قصة أب سفيان أنه كان يسي على الطريق الرئيسى ،ولكنه ل يزل حذرًا متيقظًا ،وضاعف
ج ِدىّ بن عمرو ،وسأله عن جيش الدينة،
حركاته الستكشافية ،ولا اقترب من بدر تقدم عيه حت لقى َم ْ
فقال :ما رأيت أحدًا أنكره إل إن قد رأيت راكبي قد أناخا إل هذا التل ،ث استقيا ف شن لما ،ث
انطلقا ،فبادر أبو سفيان إل مناخهما ،فأخذ من أبعار بعيها ،ففته فإذا فيه النوى ،فقال :هذه وال علئف
يثرب ،فرجع إل عيه سريعًا ،وضرب وجهها مولًا اتاهها نو الساحل غربًا ،تاركًا الطريق الرئيسى الذي
ير ببدر على اليسار ،وبذا نا بالقافلة من الوقوع ف قبضة جيش الدينة ،وأرسل رسالته إل جيش مكة
الت تلقاها ف الحفة.
ولكن على رغم أب جهل ـ أشار الخْنَس بن َشرِيق بالرجوع فعصوه،فرجع هو وبنو زُهْرَة ـ وكان
حليفًا لم ،ورئيسًا عليهم ف هذا النفي ـ فلم يشهد بدرًا زهرى واحد ،وكانوا حوال ثلثائة
رجل،واغتبطت بنو زهرة َب ْعدُ برأي الخنس بن شريق ،فلم يزل فيهم مطاعًا معظمًا.
وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل ،وقال :ل تفارقنا هذه العصابة حت نرجع.
فسار جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بن زهرة ـ وهو يقصد بدرًا ـ فواصل سيه حت نزل
قريبًا من بدر ،وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادى بدر.
أما استخبارات جيش الدينة فقد نقلت إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهو ل يزال ف الطريق
بوادي ذَفِرَان ـ خب العي والنفي ،وتأكد لديه بعد التدبر ف تلك الخبار أنه ل يبق مال لجتناب اللقاء
الدامي ،وأنه ل بد من إقدام يبن على الشجاعة والبسالة ،والراءة ،والسارة ،فمما ل شك فيه أنه لو
ترك جيش مكة يوس خلل تلك النطقة يكون ذلك تدعيمًا لكانة قريش العسكرية ،وامتدادًا لسلطانا
السياسي ،وإضعافًا لكلمة السلمي وتوهينًا لا،بل ربا تبقى الركة السلمية بعد ذلك جسدًا ل روح
فيه ،ويرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على السلم ف هذه النطقة.
ث هل هناك ضمان للمسلمي بامتناع جيش مكة عن مواصلة سيه نو الدينة ،حت ينقل العركة إل
أسوارها ،ويغزو السلمي ف عقر دارهم؟ كل! فلو حدث من جيش الدينة نكول ما ،لكان له أسوأ الثر
على هيبة السلمي وسعتهم.
الجلس الستشاري
ونظرًا إل هذا التطور الطي الفاجيء عقد رسول ال صلى ال عليه وسلم ملسًا عسكريًا استشاريًا
أعلى ،أشار فيه إل الوضع الراهن ،وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه وقادته .وحينئذ تزعزع قلوب فريق
من الناس،وخافوا اللقاء الدامى،وهم الذين قال ال فيهم{ :كَمَا أَخْ َر َجكَ َرّبكَ مِن بَيِْتكَ بِالْحَقّ َوِإنّ فَرِيقا
مّ َن الْمُ ْؤمِنِيَ لَكَا ِرهُونَ ُيجَادِلُوَنكَ فِي اْلحَقّ َب ْعدَمَا تَبَيّنَ َكأَنّمَا يُسَاقُونَ ِإلَى الْمَ ْوتِ وَ ُهمْ يَنظُرُونَ} [النفال:
،]6 ،5وأمــا قادة اليش فقـام أبو بكر الصديق فقال وأحسن،ث قام عمر بن الطاب فقال
وأحسن،ث قام القداد بن عمرو فقال :يا رسول ال ،امض لا أراك ال،فنحن معك،وال ل نقول لك كما
قالت بنو إسرائيل لوسى{ :فَاذْ َهبْ أَنتَ َو َربّكَ َفقَاتِل إِنّا هَاهُنَا قَا ِعدُونَ} [الائدة ،]24:ولكن اذهب
أنت وربك فقاتل إنا معكما مقاتلون ،فوالذي بعثك بالق لو سرت بنا إل بَرْك الغِمَاد لالدنا معك من
دونه حت تبلغه.
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم خيًا ودعا له به.
وهؤلء القادة الثلثة كانوا من الهاجرين ،وهم أقلية ف اليش ،فأحب رسول ال صلى ال عليه وسلم أن
يعرف رأي قادة النصار؛ لنم كانوا يثلون أغلبية اليش ،ولن ثقل العركة سيدور على كواهلهم ،مع
أن نصوص العقبة ل تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم ،فقال بعد ساع كلم هؤلء القادة الثلثة( :
أشيوا علىّ أيها الناس) وإنا يريد النصار ،وفطن إل ذلك قائد النصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ.
فقال :وال ،ولكأنك تريدنا يا رسول ال؟
قال( :أجل).
قال :فقد آمنا بك ،فصدقناك ،وشهدنا أن ما جئت به هو الق ،وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا
على السمع والطاعة ،فامض يا رسول ال لا أردت ،فوالذي بعثك بالق لو استعرضت بنا هذا البحر
فخضته لضناه معك ،ما تلف منا رجل واحد ،وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا ،إنا لصُبُر ف الرب،
صدّق ف اللقاء ،ولعل ال يريك منا ما تَقَرّ به عينك ،فسِرْ بنا على بركة ال.
ُ
وف رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم :لعلك تشى أن تكون النصار ترى حقًا
عليها أل تنصرك إل ف ديارهم ،وإن أقول عن النصار وأجيب عنهم :فاظعن حيث شئت ،وصِلْ حَبْل من
شئت ،واقطع حبل من شئت ،وخذ من أموالنا ما شئت ،وأعطنا ما شئت ،وما أخذت منا كان أحب إلينا
ما تركت ،وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لمرك ،فهو ال لئن سرت حت تبلغ البك من غِمْدان لنسين
معك ،ووال لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لضناه معك.
فَسُرّ رسول ال صلى ال عليه وسلم بقول سعد ،ونشطه ذلك ،ث قال( :سيوا وأبشروا ،فإن ال تعال قد
وعدن إحدى الطائفتي ،وال لكإن الن أنظر إل مصارع القوم).
قال الشيخ :فإنه بلغن أن ممدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ،فإن كان صدق الذي أخبن فهم اليوم
بكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش الدينة .وبلغن أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا ،فإن كان
صدق الذي أخبن فهم اليوم بكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش مكة.
ولا فرغ من خبه قال :من أنتما؟ فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم( :نن من ماء) ،ث انصرف
عنه ،وبقى الشيخ يتفوه :ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟
وف مساء ذلك اليوم بعث صلى ال عليه وسلم استخباراته من جديد ليبحث عن أخبار العدو ،وقام لذه
العملية ثلثة من قادة الهاجرين؛ على بن أب طالب والزبي بن العوام وسعد ابن أب وقاص ف نفر من
أصحابه ،ذهبوا إل ماء بدر فوجدوا غلمي يستقيان ليش مكة ،فألقوا عليهما القبض ،وجاءوا بما إل
الرسول صلى ال عليه وسلم وهو ف الصلة ،فاستخبها القوم ،فقال :نن سقاة قريش ،بعثونا نسقيهم
من الاء ،فكره القوم ،ورجوا أن يكونا لب سفيان ـ لتزال ف نفوسهم بقايا أمل ف الستيلء على
القافلة ـ فضربوها ضربًا موجعًا حت اضطر الغلمان أن يقول :نن لب سفيان فتركوها.
ولا فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم مـن الصلة قال لم كالعاتب( :إذا صدقاكم ضربتموها ،وإذا
كذباكم تركتموها ،صدقا وال ،إنما لقريش).
ث خاطب الغلمي قائلًا( :أخبإن عن قريش) ،قال :هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى،
فقال لما( :كم القوم؟) قال :كثي .قال( :ما عدتم؟) قال :ل ندرى ،قال( :كم ينحرون كل يوم؟) قال:
يومًا تسعًا ويومًا عشرًا ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :القوم فيما بي التسعمائة إل اللف) ،ث
قال لما( :فمن فيهم من أشراف قريش؟) قال :عتبة وشيبة ابنا ربيعة ،وأبو الَبخْتَرىّ بن هشام ،وحكيم بن
حِـزام ،ونَوْفَل بن خويلد ،والارث بن عامر ،و ُطعَيْمَة بن عدى ،والنضر بن الارث ،وَز ْمعَة بن السود،
وأبو جهل بن هشام ،وأميــة بن خلف ف رجال سياهم.
فأقبل رسول ال صلى ال عليه وسلم على الناس فقال( :هذه مكة قد ألقت إليكم أفلذ كبدها).
نزول الطر
وأنزل ال عز وجل ف تلك الليلة مطرًا واحدًا ،فكان على الشركي وابلًا شديدًا منعهم من التقدم ،وكان
على السلمي طل طهرهم به ،وأذهب عنهم رجس الشيطان ،ووطأ به الرض ،وصلب به الرمل ،وثبت
القدام ،ومهد به النل ،وربط به على قلوبم.
قال :يا رسول ال ،إن هذا ليس بنل ،فانض بالناس حت نأتى أدن ماء من القوم ـ قريش ـ فننله
ونغوّر ـ أي ُنخَرّب ـ ما وراءه من القُلُب ،ث نبن عليه حوضًا ،فنمله ماء ،ث نقاتل القوم ،فنشرب ول
يشربون ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :لقد أشرت بالرأي).
فنهض رسول ال صلى ال عليه وسلم باليش حت أتى أقرب ماء من العدو ،فنل عليه شطر الليل ،ث
صنعوا الياض وغوروا ما عداها من القلب.
مقر القيادة
وبعد أن ت نزول السلمي على الاء اقترح سعد بن معاذ على رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبن
السلمون مقرًا لقيادته؛ استعدادًا للطوارئ ،وتقديرًا للهزية قبل النصر ،حيث قال:
يا نب ال ،أل نبن لك عريشًا تكون فيه ،ونعد عندك ركائبك ،ث نلقى عدونا ،فإن أعزنا ال وأظهرنا على
عدونا كان ذلك ما أحببنا ،وإن كانت الخرى جلست على ركائبك فلحقت بِمَنْ وراءنا من قومنا ،فقد
تلف عنك أقوام يا نب ال ما نن بأشد لك حبًا منهم ،ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تلفوا عنك ،ينعك
ال بم ،يناصحونك وياهدون معك.
فأثن عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم خيًا ودعا له بي ،وبن السلمون عَرِيشًا على تل مرتفع يقع ف
الشمال الشرقى ليدان القتال ،ويشرف على ساحة العركة.
كما ت اختيار فرقة من شباب النصار بقيادة سعد بن معاذ يرسون رسول ال صلى ال عليه وسلم حول
مقر قيادته.
كانت هذه الليلة ليلة المعة ،السابعة عشرة من رمضان ف السنة الثانية من الجرة ،وكان خروجه صلى
ال عليه وسلم ف 8أو 12من نفس الشهر.
أما قريش فقضت ليلتها هذه ف معسكرها بالعدوة القصوى ،ولا أصبحت أقبلت ف كتائبها ،ونزلت من
الكثيب إل وادي بدر .وأقبل نفر منهم إل حوض رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال[ :دعوهم] ،فما
شرب أحد منهم يومئذ إل قتل ،سوى حكيم بن حزام ،فإنه ل يقتل ،وأسلم بعد ذلك ،وحسن إسلمه،
وكان إذا اجتهد ف اليمي قال :ل والذي نان من يوم بدر.
فلما اطمأنت قريش بعثت عُمَيْر بن وهب الُ َمحِى للتعرف على مدى قوة جيش الدينة ،فدار عمي بفرسه
حول العسكر ،ث رجع إليهم فقال :ثلثائة رجل ،يزيدون قليلًا أو ينقصون ،ولكن أمهلون حت أنظر
أللقوم كمي أو مدد؟
فضرب ف الوادى حت أبعد ،فلم ير شيئًا ،فرجع إليهم فقال :ما وجدت شيئًا ،ولكن قد رأيت يا معشر
قريش البليا تمل النايا ،نواضح يثرب تمل الوت الناقع ،قوم ليس معهم منعة ول ملجأ إل سيوفهم،
وال ما أرى أن يقتل رجل منهم حت يقتل رجلًا منكم،فإذا أصابوا منكم أعدادكم فما خي العيش بعد
ذلك؟ فروا رأيكم.
وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أب جهل ـ الصمم على العركة ـ تدعو إل العودة باليش إل مكة
دونا قتال ،فقد مشى حكيم بن حزام ف الناس ،وأتى عتبة ابن ربيعة فقال :يا أبا الوليد ،إنك كبي قريش
وسيدها ،والطاع فيها ،فهل لك إل خي تذكر به إل آخر الدهر؟ قال :وما ذاك يا حكيم؟ قال :ترجع
بالناس ،وتمل أمر حليفك عمرو بن الضرمى ـ القتول ف سرية نلة ـ فقال عتبة :قد فعلت .أنت
ضامن علىّ بذلك .إنا هو حليفي ،فعلى عقله [ديته] وما أصيب من ماله.
ث قال عتبة لكيم بن حزام :فائت ابن الَ ْنظَلِّيةِ ـ أبا جهل ،والنظلية أمه ـ فإن ل أخشى أن يشجر
أمر الناس غيه.
ث قام عتبة بن ربيعة خطيبًا فقال :يا معشر قريش ،إنكم وال ما تصنعون بأن تلقوا ممدًا وأصحابه شيئًا،
وال لئن أصبتموه ليزال الرجل ينظر ف وجه رجل يكره النظر إليه ،قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلًا
من عشيته ،فارجعوا وخلوا بي ممد وبي سائر العرب ،فإن أصابوه فذاك الذي أردت ،وإن كان غي
ذلك أْلفَا ُكمْ ول َتعَرّضُوا منه ما تريدون.
وانطلق حكيم بن حزام إل أب جهل ـ وهو يهيئ درعًا له ـ قال :يا أبا الكم ،إن عتبة أرسلن بكذا
وكذا ،فقال أبو جهل :انتفخ وال َسحْ ُرهُ حي رأي ممدًا وأصحابه ،كل وال ل نرجع حت يكم ال بيننا
وبي ممد ،وما بعتبة ما قال ،ولكنه قد رأي أن ممدًا وأصحابه أكلة جَزُور ،وفيهم ابنه ـ وهو أبو
حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديًا وهاجر ـ فََتخَوّفَ ُكمْ عليه.
اليشان يتراآن
ولا طلع الشركون وتراءى المعان قال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :اللهم هذه قريش قد أقبلت
بُيَلئها و َفخْرها ُتحَادّك وتكذب رسولك ،اللهم فنصرك الذي وعدتن ،اللهم أحِْنهُم [الغداة]) وقد قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ ورأى عتبة بن ربيعة ف القوم على جل له أحر( :إن يكن ف أحد من
القوم خي فعند صاحب المل الحر ،إن يطيعوه يَرْ ُشدُوا).
وعدل رسول ال صلى ال عليه وسلم صفوف السلمي ،وبينما هو يعدلا وقع أمر عجيب ،فقد كان ف
صلًا من الصف ،فطعن ف بطنه بالقدح ،وقال( :استو يا
يديه ِقدْح يعدل به ،وكان سَوَاد بن غَ ِزيّة مُسْتَنْ ِ
سواد) ،فقال سواد :يا رسول ال ،أوجعتن فأقدن ،فكشف عن بطنه وقال( :استقد) ،فاعتنقه سواد وقبل
بطنه ،فقال( :ما حلك على هذا يا سواد؟) قال :يا رسول ال ،قد حضر ما ترى ،فأردت أن يكون آخر
العهد بك أن يس جلدى جلدك .فدعا له رسول ال صلى ال عليه وسلم بي.
ولا ت تعديل الصفوف أصدر أوامره إل جيشه بأل يبدأوا القتال حت يتلقوا منه الوامر الخية ،ث أدل
إليهم بتوجيه خـاص ف أمـر الـرب ،فقال( :إذا أكثبوكم ـ يعن اقتربوا منكم ـ فارموهم،
واستبقوا نبلكم ،ول تسلوا السيوف حت يغشوكم) ث رجع إل العريش هو وأبو بكر خاصة،وقام سعد بن
معاذ بكتيبة الراسة على باب العريش.
أما الشركون فقد استفتح أبو جهل ف ذلك اليوم فقال :اللهم أقطعنا للرحم ،وآتانا با لنعرفه،فأحِنْه
الغداة،اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم ،وف ذلك أنزل ال{ :إِن تَسَْتفِْتحُواْ َف َقدْ
جَاءكُ ُم الْفَ ْتحُ َوإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لّ ُكمْ َوإِن َتعُودُواْ نَ ُعدْ َولَن تُغْنِيَ عَن ُكمْ فِئَُت ُكمْ شَ ْيئًا َولَوْ كَثُ َرتْ َوأَ ّن الَ
مَ َع الْمُ ْؤمِنِيَ} [النفال]19:
وكان أول وقود العركة السود بن عبد السد الخزومى ـ وكان رجلًا شرسًا سيئ اللق ـ خرج قائلًا:
أعاهد ال لشربن من حوضهم أو لهدمنه أو لموتن دونه .فلما خرج خرج إليه حزة بن عبد الطلب
رضي ال عنه فلما التقيا ضربه حزة فأطَنّ قدمه بنصف ساقه وهو دون الوض ،فوقع على ظهره تشخب
رجله دمًا نو أصحابه ،ث حبا إل الوض حت اقتحم فيه ،يريد أن تب يينه ،ولكن حزة ثن عليه بضربة
أخرى أتت عليه وهو داخل الوض.
البـــارزة
وكان هذا أول قتل أشعل نار العركة ،فقد خرج بعده ثلثة من خية فرسان قريش كانوا من عائلة
واحدة ،وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة ،والوليد بن عتبة ،فلما انفصلوا من الصف طلبوا البارزة ،فخرج
إليهم ثلثة من شباب النصار عَوْف و ُمعَوّذ ابنا الارث ـ وأمهما عفراء ـ وعبد ال بن رواحة ،فقالوا:
من أنتم؟ قالوا :رهط من النصار .قالوا :أكِفّاء كرام ،ما لنا بكم حاجة ،وإنا نريد بن عمنا ،ث نادى
مناديهم :يا ممد ،أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :قم يا عبيدة بن
الارث ،وقم يا حزة ،وقم يا على) ،فلما قاموا ودنوا منهم ،قالوا :من أنتم؟ فأخبوهم ،فقالوا :أنتم أكفاء
كرام ،فبارز عبيدة ـ وكان أسن القوم ـ عتبة بن ربيعة ،وبارز حزة شيبة ،وبارز على الوليد .فأما حزة
وعلى فلم يهل قرنيهما أن قتلها ،وأما عبيدة فاختلف بينه وبي قرنه ضربتان ،فأثخن كل واحد منهما
ضمِنًا حت مات
صاحبه ،ث كَرّ على وحزة على عتبة فقتله ،واحتمل عبيدة وقد قطعت رجله ،فلم يزل َ
بالصفراء،بعد أربعة أو خسة أيام من وقعة بدر ،حينما كان السلمون ف طريقهم إل الدينة .وكان على
يقسم بال أن هذه الية نــزلت فيهمَ { :هذَانِ َخصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي َربّ ِهمْ} الية [الج.]19:
الجوم العام
وكانت ناية هذه البارزة بداية سيئة بالنسبة للمشركي؛ إذ فقدوا ثلثة من خية فرسانم وقادتم دفعة
واحدة،فاستشاطوا غضبًا،وكروا على السلمي كرة رجل واحد.
وأما السلمون فبعد أن استنصروا ربم واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه تلقوا هجمات الشركي
التتالية ،وهم مرابطون ف مواقعهم ،واقفون موقف الدفاع ،وقد ألقوا بالشركي خسائر فادحة ،وهم
يقولون :أحَد أحَد.
أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر،
ويقول( :اللهم أنز ل ما وعدتن ،اللهم إن أنشدك عهدك ووعدك) ،حت إذا َحمِ َى ال َوطِيسُ ،واستدارت
رحى الرب بشدة واحتدم القتال ،وبلغت العركة قمتها ،قال( :اللهم إن تلك هذه العصابة اليوم ل
تعبد ،اللهم إن شئت ل تعبد بعد اليوم أبدًا) .وبالغ ف البتهال حت سقط رداؤه عن منكبيه ،فرده عليه
الصديق ،وقال :حسبك يا رسول ال ،ألحت على ربك.
وأوحى ال إل ملئكته{ :أَنّي مَعَ ُكمْ َفثَبّتُوْا الّذِينَ آ َمنُواْ َسُألْقِي فِي قُلُوبِ اّلذِينَ َكفَرُواْ الرّ ْعبَ} [النفال:
،]12وأوحى إل رسوله{ :أَنّي مُ ِمدّكُم ِبأَلْفٍ مّ َن الْمَلئِ َكةِ مُرْدِ ِفيَ} [النفال ]9:ـ أي إنم ردف
لكم ،أو يردف بعضهم بعضًا أرسالًا ،ل يأتون دفعة واحدة.
نزول اللئكة
وأغفي رسول ال صلى ال عليه وسلم إغفاءة واحدة ،ث رفع رأسه فقال( :أبشر يا أبا بكر ،هذا جبيل
على ثَنَاياه النّ ْقعُ) [أي الغبار] وف رواية ابن إسحاق :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :أبشر يا أبا
بكر ،أتاك نصر ال ،هذا جبيل آخذ بعنان فرسه يقوده ،وعلى ثناياه النقع).
ث خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم من باب العريش وهو يثب ف الدرع ويقول{ :سَيُهْ َز ُم اْلجَمْعُ
َويُ َولّونَ الدّبُرَ} [القمر، ]45:ث أخذ َحفَْنةً من الَصْبَاء ،فاستقبل با قريشًا وقال( :شاهت الوجوه)
ورمى با ف وجوههم ،فما من الشركي من أحد إل أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة ،وف
ذلك أنزل الَ { :ومَا َرمَ ْيتَ إِذْ َرمَيْتَ َولَـكِنّ الَ َرمَى} [النفال.]17:
الجوم الضاد
وحينئذ أصدر إل جيشه أوامره الخية بالجمة الضادة فقال( :شدوا) ،وحرضهم على القتال ،قائلًا( :
والذي نفس ممد بيده ،ل يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا متسبًا مقبلًا غي مدبر ،إل أدخله ال النة)،
وقال وهو يضهم على القتال( :قوموا إل جنة عرضها السموات والرض)[ ،وحينئذ] قال عُمَيْر بن
الُمَام :بَخْ َبخْ .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :ما يملك على قولك :بخ بخ؟) قال :ل ،وال يا
رسول ال إل رجاء أن أكون من أهلها ،قال( :فإنك من أهلها) .فأخرج ترات من قَ َرنِه فجعل يأكل
منهن ،ث قال :لئن أنا حييت حت آكل تراتى هذه إنا لياة طويلة ،فرمى با كان معه من التمر ،ث قاتلهم
حت قتل.
وكذلك سأله عوف بن الارث ـ ابن عفراء ـ فقال :يا رسول ال ،ما يضحك الرب من عبده؟ قال( :
غَمْسُه يده ف ال َعدُوّ حاسرًا) ،فنع درعا كانت عليه فقذفها ،ث أخذ سيفه فقاتل القوم حت قتل.
وحي أصدر رسول ال صلى ال عليه وسلم المر بالجوم الضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت
وفتر حاسه ،فكان لذه الطة الكيمة أثر كبي ف تعزيز موقف السلمي ،فإنم حينما تلقوا أمر الشد
والجوم ـ وقد كان نشاطهم الرب على شبابه ـ قاموا بجوم كاسح مرير ،فجعلوا يقلبون الصفوف،
ويقطعون العناق .وزادهم نشاطًا وحدة أن رأوا رسول ال صلى ال عليه وسلم يثب ف الدرع ،وقد
تقدمهم فلم يكن أحد أقرب من الشركي منه ،وهو يقول ف جزم وصراحة{ :سَيُ ْه َزمُ اْلجَ ْمعُ َويُ َولّونَ
الدّبُرَ} فقاتل السلمون أشد القتال ونصرتم اللئكة .ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال :كان يومئذ
يَ ْندُر رأس الرجل ل يدرى من ضربه ،وتندر يد الرجل ل يدرى من ضربا .وقال ابن عباس :بينما رجل
من السلمي يشتد ف إثر رجل من الشركي أمامه إذ سع ضربة بالسوط فوقه ،وصوت الفارس يقول:
أقدم حَيْزُوم ،فنظر إل الشرك أمامه ،فخر مستلقيًا ،فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة
السوط ،فا ْخضَرّ ذلك أجع ،فجاء النصارى فحدث بذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال( :
صدقت ،ذلك من مدد السماء الثالثة).
وقال أبو داود الازن :إن لتبع رجلًا من الشركي لضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ،فعرفت
أنه قد قتله غيى ،وجاء رجل من النصار بالعباس بن عبد الطلب أسيًا،فقال العباس :إن هذا وال ما
أسرن ،لقد أسرن رجل أجلح ،من أحسن الناس وجهًا على فرس أبْلَق ،وما أراه ف القوم ،فقال
النصاري :أنا أسرته يا رسول ال ،فقال( :اسكت فقد أيدك ال بلك كري).
وقال علي :قال ل رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم بدر ،ولب بكر( :مع أحدكما جبيل ومع الخر
ميكائيل ،وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ،أو يكون ف القتال).
الزية الساحقة
وبدأت أمارات الفشل والضطراب ف صفوف الشركي ،وجعلت تتهدم أمام حلت السلمي العنيفة،
واقتربت العركة من نايتها ،وأخذت جوع الشركي ف الفرار والنسحاب البدد ،وركب السلمون
ظهورهم يأسرون ويقتلون ،حت تت عليهم الزية.
صمود أب جهل
أما الطاغية الكب أبو جهل ،فإنه لا رأى أول أمارات الضطراب ف صفوفه حاول أن يصمد ف وجه هذا
السيل ،فجعل يشجع جيشه ويقول لم ف شراسة ومكابرة :ل يهزمنكم خذلن سراقة إياكم ،فإنه كان
على ميعاد من ممد ،ول يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد ،فإنم قد عجلوا ،فواللت والعزى ل نرجع
حت نقرنم بالبال ،ول ألفي رجلًا منكم قتل منهم رجلًا ،ولكن خذوهم أخذًا حت نعرفهم بسوء
صنيعهم.
ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة ،فما لبث إل قليلًا حت أخذت الصفوف تتصدع أمام
تيارات هجوم السلمي .نعم ،بقى حوله عصابة من الشركي ضربت حوله سياجًا من السيوف ،وغابات
من الرماح ،ولكن عاصفة هجوم السلمي بددت هذا السياج ،وأقلعت هذه الغابات ،وحينئذ ظهر هذا
الطاغية ،ورآه السلمون يول على فرسه ،وكان الوت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدى غلمي أنصاريي.
مصرع أب جهل
قال عبد الرحن بن عوف رضي اله عنه إن لفي الصف يوم بدر إذ التفت ،فإذا عن يين وعن يسارى
فتيان حديثا السن ،فكأن ل آمن بكانما ،إذ قال ل أحدها سرًا من صاحبه :يا عم ،أرن أبا جهل ،فقلت:
يابن أخي ،فما تصنع به؟ قال :أخبت أنه يسب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قال :والذي نفسي بيده
لئن رأيته ل يفارق سوادي سواده حت يوت العجل منا ،فتعجبت لذلك .قال :وغمزن الخر ،فقال ل
مثلها ،فلم أنشب أن نظرت إل أب جهل يول ف الناس .فقلت :أل تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألن
عنه ،قال :فابتدراه فضرباه حت قتله ،ث انصرفا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فـقال( :أيكما
قتله؟) فقـال كـل واحد منهما :أنا قتلته ،قال( :هل مسحتما سيفيكما؟) فـقال :ل .فنـظر رسول
ال صلى ال عليه وسلم إلــى السيفـي فقال( :كلكما قتله) ،وقضى رسول ال صلى ال عليه وسلم
بسَلَبِه لعاذ بن عمرو بن الموح ،والرجلن معاذ بن عمرو بن الموح و ُمعَوّذ ابن عفراء.
وقال ابن إسحاق :قال معاذ بن عمرو بن الموح :سعت القوم ،وأبو جهل ف مثل الَرَجَة ـ والرجة:
الشجر اللتف ،أو شجرة من الشجار ل يوصل إليها ،شبه رماح الشركي وسيوفهم الت كانت حول أب
جهل لفظه بذه الشجرة ـ وهم يقولون :أبو الكم ل يلص إليه ،قال :فلما سعتها جعلته من شان
فصمدت نوه ،فلما أمكنن حلت عليه ،فضربته ضربة أطَنّتْ قدمه ـ أطارتا ـ بنصف ساقه ،فوال ما
ضخَة النوى حي يضرب با .قال :وضربن ابنه عكرمة
شبهتها حي طاحت إل بالنواة َتطِيحُ من تت مِرْ ِ
على عاتقي فطرح يدي ،فتعلقت بلدة من جنب ،وأجهضن القتال عنه ،فلقد قاتلت عَا ّمةَ يومي وإن
لسحبها خلفي ،فلما آذتن وضعت عليها قدمي ،ث تَمَطّ ْيتُ با عليها حت طرحتها ،ث مر بأب جهل ـ
وهو َعقِيٌ ـ ُمعَوّذ ابن عفراء فضربه حت أثبته ،فتركه وبه َرمَق ،وقاتل معوذ حت قتل.
ولا انتهت العركة قال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :من ينظر ما صنع أبو جهل؟) فتفرق الناس ف
طلبه ،فوجده عبد ال بن مسعود رضي ال عنه وبه آخر رمق ،فوضع رجله على عنقه وأخذ ليته ليحتز
رأسه ،وقال :هل أخزاك ال يا عدو ال؟ قال :وباذا أخزان؟ أأعمد من رجل قتلتموه؟ أو هل فوق رجل
قتلتموه؟ وقال :فلو غي أكّار قتلن ،ث قال :أخبن لن الدائرة اليوم؟ قال :ل ورسوله ،ث قال لبن
مسعود ـ وكان قد وضع رجله على عنقه :لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُ َوْيعِىَ الغنم ،وكان ابن مسعود
من رعاة الغنم ف مكة.
وبعد أن دار بينهما هذا الكلم احتز ابن مسعود رأسه ،وجاء به إل رسول ال صلى ال عليه وسلم،
فقال :يا رسول ال ،هذا رأس عدو ال أب جهل ،فقال( :ال الذي ل إله إل هو؟) فرددها ثلثًا ،ث قال( :
ال أكب ،المد ل الذي صدق وعده ،ونصر عبده ،وهزم الحزاب وحده ،انطلق أرنيه) ،فانطلقـنا
فــأريته إيـاه ،فقال( :هذا فرعون هذه المة).
لقد أسلفنا نوذجي رائعي من عمي بن المام وعوف بن الارث ـ ابن عفراء ـ وقد تلت ف هذه
العركة مناظر رائعة تبز فيها قوة العقيدة وثبات البدأ ،ففي هذه العركة التقى الباء بالبناء ،والخوة
بالخوة ،خالفت بينهما البادئ ففصلت بينهما السيوف ،والتقى القهور بقاهره فشفي منه غيظه.
1ـ روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النب صلى ال عليه وسلم قال لصحابه( :إن قد عرفت أن
رجالًا من بن هاشم وغيهم قد أخرجوا كرهًا ،ل حاجة لم بقتالنا ،فمن لقى أحدًا من بن هاشم فل
يقتله ،ومن لقى أبا الَبخْتَ ِريّ بن هشام فل يقتله ،ومن لقى العباس بن عبد الطلب فل يقتله ،فإنه إنا أخرج
مستكرهًا) ،فقال أبو حذيفة بن عتبة :أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيتنا ونترك العباس ،وال لئن لقيته
للمنه ـ أو للمنه ـ بالسيف ،فبلغت رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال لعمر بن الطاب( :يا أبا
حفص ،أيضرب وجه عم رسول ال صلى ال عليه وسلم بالسيف) ،فقال عمر :يا رسول ال ،دعن
فلضرب عنقه بالسيف ،فوال لقد نافق.
فكان أبو حذيفة يقول :ما أنا بآمن من تلك الكلمة الت قلت يومئذ ،ول أزال منها خائفًا إل أن تكفرها
عن الشهادة .فقتل يوم اليمامة شهيدًا.
2ـ وكان النهي عن قتل أب البختري؛ لنه كان أكف القوم عن رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو
بكة ،وكان ل يؤذيه ،ول يبلغ عنه شيء يكرهه ،وكان من قام ف نقض صحيفة مقاطعة بن هاشم وبن
الطلب.
ى لقيه ف العركة ومعه زميل
جذّر بن زياد الَْبلَ ِو ّ
ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله ،وذلك أن ا ُل َ
له ،يقاتلن سويًا ،فقال الجذر :يا أبا البخترى إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد نانا عن قتلك،
فقال :وزميلي؟ فقال الجذر :ل وال ما نن بتاركي زميلك ،فقال:وال إذن لموتن أنا وهو جيعًا ،ث
اقتتل ،فاضطر الجذر إل قتله.
3ـ كان عبد الرحن بن عوف وأمية بن خلف صديقي ف الاهلية بكة ،فلما كان يوم بدر مر به عبد
الرحن ،وهو واقف مع ابنه على بن أمية ،آخذًا بيده ،ومع عبد الرحن أدراع قد استلبها ،وهو يملها،
فلما رآه قال :هل لك ف؟ فأنا خي من هذه الدراع الت معك ،ما رأيت كاليوم قط ،أما لكم حاجة ف
اللب؟ ـ يريد أن من أسرن افتديت منه بإبل كثية اللب ـ فطرح عبد الرحن الدراع ،وأخذها يشى
بما ،قال عبد الرحن :قال ل أمية بن خلف ،وأنا بينه وبي ابنه :من الرجل منكم العلم بريشة النعامة ف
صدره؟ قلت :ذاك حزة بن عبد الطلب ،قال :ذاك الذي فعل بنا الفاعيل.
قال عبد الرحن :فوال إن لقودها إذ رآه بلل معي ـ وكان أمية هو الذي يعذب بللًا بكة ـ فقال
بلل :رأس الكفر أمية بن خلف ،ل نوت إن نا .قلت :أي بلل ،أسيي .قال :ل نوت إن نا .قلت:
أتسمع يابن السوداء .قال :ل نوت إن نا .ث صرخ بأعلى صوته :يا أنصار ال ،رأس الكفر أمية بن
خلف ،ل نوت إن نا .قال :فأحاطوا بنا حت جعلونا ف مثل الْمَسَكَة ،وأنا أذب عنه ،قال :فأخلف رجل
السيف ،فضرب رجل ابنه فوقع ،وصاح أمية صيحة ما سعت مثلها قط ،فقلت :انج بنفسك ،ول ناء
بك ،فوال ما أغن عنك شيئًا .قال :فَهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حت فرغوا منهما ،فكان عبد الرحن يقول :يرحم
ال بللًا ،ذهبت أدراعي ،وفجعن بأسيي.
وروى البخاري عن عبد الرحن بن عوف قال :كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يفظن ف صاغيت ـ أي
خاصت ومال ـ بكة ،وأحفظه ف صاغيته بالدينة ...فلما كان يوم بدر خرجت إل جبل لحرزه حي نام
الناس ،فأبصره بلل ،فخرج حت وقف على ملس النصار فقال :أمية بن خلف ،ل نوت إن نا أمية،
فخرج معه فريق من النصار ف آثارنا ،فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لم ابنه ليشغلهم ،فقتلوه ،ث أبوا
حت يتبعونا ،وكان رجلًا ثقيلًا ،فلما أدركونا قلت له :ابرك ،فبك ،فألقيت عليه نفسي لمنعه ،فتخللوه
بالسيوف من تت حت قتلوه ،وأصاب أحدهم رجلي بسيفه .وكان عبد الرحن يرينا ذلك الثر ف ظهر
قدمه.
4ـ وقتل عمر بن الطاب رضي ال عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن الغية ،ول يلتفت إل قرابته
منه ،ولكن حي رجع إل الدينة قال للعباس عم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهو ف السر :يا عباس
أسلم ،فوال أن تسلم أحب إل من أن يسلم الطاب ،وما ذاك إل لا رأيت رسول ال صلى ال عليه
وسلم يعجبه إسلمك.
5ـ ونادى أبو بكر الصديق رضي ال عنه ابنه عبد الرحن ـ وهو يومئذ مع الشركي ـ فقال :أين
مال يا خبيث؟ فقال عبد الرحن:
ضلّل الشّيَبْ
لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شَ ّكةٍ ويَعْبُوب ** وصَا ِرمٍ يَقُْتلُ ُ
6ـ ولا وضع القوم أيديهم يأسرون ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم ف العريش ،وسعد بن معاذ قائم
على بابه يرسه متوشحًا سيفه ،رأي رسول ال صلى ال عليه وسلم ف وجه سعد بن معاذ الكراهية لا
يصنع الناس ،فقال له :وال لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ قال :أجل وال يا رسول ال ،كانت أول
وقعة أوقعها ال بأهل الشرك ،فكان الثخان ف القتل بأهل الشرك أحب إلّ من استبقاء الرجال.
7ـ وانقطع يومئذ سيف عُكّاشَة بن ِمحْصَن السدي ،فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم فأعطاه ِج ْذلًا
من حطب ،فقال( :قاتل بذا يا عكاشة) ،فلما أخذه من رسول ال صلى ال عليه وسلم هزه ،فعاد سيفًا ف
يده طويل القامة ،شديد الت ،أبيض الديدة ،فقاتل به حت فتح ال تعال للمسلمي ،وكان ذلك السيف
يسمى العَوْن ،ث ل يزل عنده يشهد به الشاهد ،حت قتل ف حروب الردة وهو عنده.
8ـ وبعد انتهاء العركة مر مصعب بن عمي العبدري بأخيه أب عزيز بن عمي الذي خاض العركة ضد
السلمي،مر به وأحد النصار يشد يده ،فقال مصعب للنصاري :شد يديك به ،فإن أمه ذات متاع ،لعلها
تفديه منك ،فقال أبو عزيز لخيه مصعب :أهذه وصاتك ب؟ فقال مصعب :إنه ـ أي النصاري ـ أخي
دونك.
9ـ ولا أمر بإلقاء جيف الشركي ف القَلِيب ،وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إل القليب ،نظر رسول ال
صلى ال عليه وسلم ف وجه ابنه أب حذيفة ،فإذا هو كئيب قد تغي ،فقال( :يا أبا حذيفة ،لعلك قد
دخلك من شأن أبيك شيء؟) فقال :ل وال ،يا رسول ال ،ما شككت ف أب ول مصرعه ،ولكنن كنت
أعرف من أب رأيًا وحلمًا وفضلًا ،فكنت أرجو أن يهديه ذلك إل السلم ،فلما رأيت ما أصابه ،وذكرت
ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنن ذلك .فدعا له رسول ال صلى ال عليه وسلم
بي ،وقال له خيًا.
قتلى الفريقي
مكة تتلقى نبأ الزية
الدينة تتلقى أنباء النصر
اليش النبوي يتحرك نو الدينة
وفود التهنئة
قضية السارى
القرآن يتحدث حول موضوع العركة
قتلى الفريقي
انتهت العركة بزية ساحقة بالنسبة للمشركي ،وبفتح مبي بالنسبة للمسلمي ،وقد استشهد من السلمي
ف هذه العركة أربعة عشر رجلًا ،ستة من الهاجرين وثانية من النصار.
أما الشركون فقد لقتهم خسائر فادحة ،قتل منهم سبعون ،وأسر سبعون .وعامتهم القادة والزعماء
والصناديد.
ولا انقضت الرب أقبل رسول ال صلى ال عليه وسلم حت وقف على القتلى فقال( :بئس العشية كنتم
لنبيكم؛ كذبتمون وصدقن الناس ،وخذلتمون ونصرن الناس ،وأخرجتمون وآوان الناس) ،ث أمر بم
فسحبوا إل قليب من قُلُب بدر.
وعن أب طلحة :أن نب ال صلى ال عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش،
فقذفوا ف طَويّ من أطواء بدر خَبِيث ُمخْبث .وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصَة ثلث ليال ،فلما كان
ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ،ث مشى ،واتبعه أصحابه .حت قام على شفة ال ّركِىّ،
فجعل يناديهم بأسائهم وأساء آبائهم( ،يا فلن بن فلن ،يا فلن بن فلن ،أيسركم أنكم أطعتم ال
ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا ،فهل وجدت ما وعد ربكم حقًا؟) فقال عمر :يا رسول ال ،ما
تكلم من أجساد ل أرواح لا؟ قال النب صلى ال عليه وسلم( :والذي نفس ممد بيده ،ما أنتم بأسع لا
أقول منهم) وف رواية( :ما أنتم بأسع منهم ،ولكن ل ييبون).
مكة تتلقى نبأ الزية
فر الشركون من ساحة بدر ف صورة غي منظمة؛ تبعثروا ف الوديان والشعاب ،واتهوا صوب مكة
مذعورين ،ل يدرون كيف يدخلونا خجلًا.
قال ابن إسحاق :وكان أول من قدم بصاب قريش الَيْسُمَان بن عبد ال الزاعى ،فقالوا :ما وراءك؟
قال :قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الكم بن هشام وأمية بن خلف ،ف رجال من الزعماء
لجْر :وال إن يعقل هذا ،فاسألوه
ساهم .فلما أخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد ف ا ِ
عن .قالوا :ما فعل صفوان بن أمية؟ قال :ها هو ذا جالس ف الجر ،وقد وال رأيت أباه وأخاه حي قتل.
وقال أبو رافع ـ مول رسول ال صلى ال عليه وسلم :كنت غلمًا للعباس وكان السلم قد دخلنا أهلَ
البيت ،فأسلم العباس ،وأسلمت أم الفضل ،وأسلمت ،وكان العباس يكتم إسلمه ،وكان أبو لب قد
تلف عن بدر ،فلما جاءه الب كبته ال وأخزاه ،ووجدنا ف أنفسنا قوة وعزًا ،وكنت رجلًا ضعيفًا أعمل
القداح ،أنتها ف حجرة زمزم ،فوال إن لالس فيها أنت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة ،وقد سرنا
ما جاءنا من الب ،إذ أقبل أبو لب ير رجليه بشر حت جلس على طُنُب الجرة ،فكان ظهره إل ظهرى،
فبينما هو جالس إذ قال الناس :هذا أبو سفيان بن الارث بن عبد الطلب قد قدم ،فقال له أبو لب :هلم
إلّ ،فعندك لعمرى الب ،قال :فجلس إليه،والناس قيام عليه .فقال :يابن أخي ،أخبن كيف كان أمر
الناس؟ قال :ما هو إل أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا ،يقتلوننا كيف شاءوا ،ويأسروننا كيف شاءوا واي
ال مع ذلك ما لت الناس ،لَقِينَا رجال بيض على خيل بُلْق بي السماء والرض ،وال ما تُلِيق شيئًا ،ول
يقوم لا شيء.
قال أبو رافع :فرفعت طنب الجرة بيدى ،ث قلت :تلك وال اللئكة .قال :فرفع أبو لب يده ،فضرب
با وجهي ضربة شديدة ،فثاورته ،فاحتملن فضرب ب الرض ،ث برك علىّ يضربن ،وكنت رجلًا ضعيفًا
فقامت أم الفضل إل عمود من عُمُد الجرة فأخذته ،فضربته به ضربة فَ َلعَتْ ف رأسه شجة منكرة،
وقالت :استضعفته أن غاب عنه سيده ،فقام موليًا ذليلًا ،فوال ما عاش إل سبع ليال حت رماه ال بالعدسة
[وهي قرحة تتشاءم با العرب] فقتلته ،فتركه بنوه ،وبقى ثلثة أيام ل تقرب جنازته ،ول ياول دفنه،
فلما خافوا السبة ف تركه حفروا له ،ث دفعوه بعود ف حفرته ،وقذفوه بالجارة من بعيد حت واروه.
هكذا تلقت مكة أنباء الزية الساحقة ف ميدان بدر ،وقد أثر ذلك فيهم أثرًا سيئًا جدًا ،حت منعوا النياحة
على القتلى؛ لئل يشمت بم السلمون.
ومن الطرائف أن السود بن الطلب أصيب ثلثة من أبنائه يوم بدر ،وكان يب أن يبكي عليهم ،وكان
ضرير البصر ،فسمع ليلًا صوت نائحة ،فبعث غلمه ،وقال :انظر هل أحل الّنحْبُ؟ هل بكت قريش على
قتلها؟ لعلي أبكي على أب حكيمة ـ ابنه ـ فإن جوف قد احترق ،فرجع الغلم وقال :إنا هي امرأة
تبكى على بعي لا أضلته ،فلم يتمالك السود نفسه وقال:
ولا ت الفتح للمسلمي أرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم بشيين إل أهل الدينة؛ ليعجل لم البشرى،
أرسل عبد ال بن رواحة بشيًا إل أهل العالية ،وأرسل زيد بن حارثة بشيًا إل أهل السافلة.
وكان اليهود والنافقون قد أرجفوا ف الدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة ،حت إنم أشاعوا خب مقتل النب
صلى ال عليه وسلم ،ولا رأي أحد النافقي زيد بن حارثة راكبًا القَصْوَاء ـ ناقة رسول ال صلى ال عليه
وسلم ـ قال :لقد قتل ممد ،وهذه ناقته نعرفها ،وهذا زيد ل يدري ما يقول من الرعب ،وجاء َفلّ
فلما بلغ الرسولن أحاط بما السلمون ،وأخذوا يسمعون منهما الب ،حت تأكد لديهم فتح السلميـن،
َفعَمّت البهجـة والسـرور ،واهتزت أرجاء الدينة تليلًا وتكبيًا ،وتقدم رءوس السلمي ـ الذين كانوا
بالدينة ـ إل طريق بدر ،ليهنئوا رسول ال صلى ال عليه وسلم بذا الفتح البي.
قال أسامة بن زيد :أتانا الب حي سوينا التراب على رقية بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم الت كانت
عند عثمان بن عفان ،كان رسول ال صلى ال عليه وسلم خلفن عليها مع عثمان.
أقام رسول ال صلى ال عليه وسلم ببدر بعد انتهاء العركة ثلثة أيام ،وقبل رحيله من مكان العركة وقع
خلف بي اليش حول الغنائم ،ولا اشتد هذا اللف أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأن يرد الميع
ما بأيديهم ،ففعلوا ،ث نزل الوحى بل هذه الشكلة.
عن عبادة بن الصامت قال :خرجنا مع النب صلى ال عليه وسلم ،فشهدت معه بدرًا ،فالتقى الناس فهزم
ال العدو ،فانطلقت طائفة ف آثارهم يطاردون ويقتلون ،وأكبت طائفة على الغنم يرزونه ويمعونه،
وأحدقت طائفة برسول ال صلى ال عليه وسلم؛ ل يصيب العدو منه غِرّة ،حت إذا كان الليل ،وفاء
الناس بعضهم إل بعض ،قال الذين جعوا الغنائم :نن حويناها ،وليس لحد فيها نصيب،وقال الذين
خرجوا ف طلب العدو :لستم أحق با منا ،نـن نـينا منـها العـدو وهزمناه ،وقال الذين أحدقوا
سأَلُوَنكَ عَنِ
برسول ال صلى ال عليه وسلم :خفنا أن يصيب العدو منه غرة ،فاشتغلنا به ،فأنزل ال{ :يَ ْ
ص ِلحُواْ ذَاتَ بِيِْن ُكمْ َوَأطِيعُوْا الَ َورَسُوَلهُ إِن كُنتُم مّ ْؤمِنِيَ} [
الَنفَالِ ُقلِ الَنفَالُ لِ ّلهِ وَالرّسُولِ فَاتّقُوْا الَ َوأَ ْ
النفال .]1:فقسمها رسول ال صلى ال عليه وسلم بي السلمي.
وبعد أن أقام رسول ال صلى ال عليه وسلم ببدر ثلثة أيام ترك بيشه نو الدينة ومعه السارى من
الشركي ،واحتمل معه النفل الذي أصيب من الشركي ،وجعل عليه عبد ال بن كعب ،فلما خرج من
مَضِيق الصفراء نزل على كَثِيب بي الضيق وبي النّا ِزيَة ،وقسم هنالك الغنائم على السلمي على السواء
بعد أن أخذ منها المس.
وعندما وصل إل الصفراء أمر بقتل النضر بن الارث ـ وكان هو حامل لواء الشركي يوم بدر ،وكان
من أكابر مرمى قريش ،ومن أشد الناس كيدًا للسلم وإيذاء لرسول ال صلى ال عليه وسلم ـ فضرب
عنقه علي بن أب طالب.
ولـا وصل إل ِعرْق الظّبَْيةِ أمر بقتل ُعقْبَة بن أب ُمعَيْط ـ وقد أسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،فهو الذي كان ألقى سَل جَزُور على ظهر رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو
ف الصلة ،وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله ،لول اعتراض أب بكر رضي ال عنه ـ فلما أمر بقتله
قال :من للصّبَْيةِ يا ممد؟ قال( :النار) .فقتله عاصم ابن ثابت النصارى ،ويقال :علي بن أب طالب.
وكان قتل هذين الطاغيتي واجبًا نظرًا إل سوابقهما ،فلم يكونا من السارى فحسب ،بل كانا من مرمى
الرب بالصطلح الديث.
وفود التهنئة
ولا وصل صلى ال عليه وسلم إل الرّوْحَاء لقيه رءوس السلمي ـ الذين كانوا قد خرجوا للتهنئة
والستقبال حي سعوا بشارة الفتح من الرسولي ـ يهنئونه بالفتح .وحينئذ قال لم سَلَمَة بن سلمة:ما
ص ْلعًا كالُْبدْن ال ُعقّ َلةِ ،فنحرناها ،فتبسم رسول ال صلى ال عليه
الذي تنئوننا به؟ فوال إن لَقِينا إل عجائز ُ
وسلم ،ث قال( :يا بن أخي ،أولئك الل).
وقال أسيد بن حضي :يا رسول ال ،المد ل الذي أظفرك ،وأقر عينك ،وال يا رسول ال ما كان تلفي
عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًا ،ولكن ظننت أنا عي ،ولو ظننت أنه عدو ما تلفت ،فقال رسول ال
صلى ال عليه وسلم( :صدقت).
ث دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة مظفرًا منصورًا قد خافه كل عدو له بالدينة وحولا ،فأسلم
بشر كثي من أهل الدينة ،وحينئذ دخل عبد ال بن أب وأصحابه ف السلم ظاهرًا.
وقدم السارى بعد بلوغه الدينة بيوم ،فقسمهم على أصحابه ،وأوصى بم خيًا .فكان الصحابة يأكلون
التمر ،ويقدمون لسرائهم البز ،عملًا بوصية رسول ال صلى ال عليه وسلم
قضية السارى
ولا بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة استشار أصحابه ف السارى ،فقال أبو بكر :يا رسول ال،
هؤلء بنو العم والعَشِية والخوان ،وإن أرى أن تأخذ منهم الفدية ،فيكون ما أخذناه قوة لنا على
الكفار ،وعسى أن يهديهم ال ،فيكونوا لنا عضدًا.
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :ما ترى يابن الطاب؟) قال :قلت :وال ما أرى ما رأى أبو بكر،
ولكن أرى أن تكنن من فلن ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه ،وتكن عليًا من َعقِيل بن أب طالب
فيضرب عنقه ،وتكن حزة من فلن أخيه فيضرب عنقه ،حت يعلم ال أنه ليست ف قلوبنا هوادة
للمشركي .وهؤلء صناديدهم وأئمتهم وقادتم.
فهوى رسول ال صلى ال عليه وسلم ما قال أبو بكر ،ول يهو ما قلت ،وأخذ منهم الفداء :فلما كان من
الغد قال عمر :فغدوت إل النب صلى ال عليه وسلم وأب بكر وها يبكيان ،فقلت :يا رسول ال ،أخبن
ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت ،وإن ل أجد بكاء تباكيت لبكائكما ،فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم( :أبكى للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء ،فقد عرض علىّ عذابم
أدن من هذه الشجرة) ـ شجرة قريبة.
وأنزل ال تعال{ :مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ َلهُ أَسْرَى َحتّى يُ ْثخِنَ فِي الَ ْرضِ تُرِيدُونَ عَ َرضَ ال ّدنْيَا وَالُ يُرِيدُ
الخِ َرةَ وَالُ َعزِيزٌ َحكِيمٌ لّوْلَ كِتَابٌ مّنَ الِ سَبَقَ لَمَسّ ُكمْ فِيمَا أَ َخ ْذُتمْ َعذَابٌ َعظِيمٌ} [النفال،67:
.]68
والكتاب الذي سبق من ال قيل :هو قوله تعالَ { :فِإمّا مَنّا َبعْدُ َوإِمّا ِفدَاء} [ممد .]4 :ففيه الذن بأخذ
الفدية من السارى؛ ولذلك ل يعذبوا ،وإنا نزل العتاب لنم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا ف الرض،
وقيل :بل الية الذكورة نزلت فيما بعد ،وإنا الكتاب الذي سبق من ال هو ما كان ف علم ال من إحلل
الغنائم لذه المة ،أو من الغفرة والرحة لهل بدر.
وحيث إن المر كان قد استقر على رأي الصديق فقد أخذ منهم الفداء ،وكان الفداء من أربعة آلف
درهم إل ثلثة آلف درهم إل ألف درهم ،وكان أهل مكة يكتبون ،وأهل الدينة ل يكتبون ،فمن ل يكن
عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان الدينة يعلمهم ،فإذا حذقوا فهو فداء.
ومنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم على عدة من السارى فأطلقهم بغي فداء ،منهم :الطلب ابن
حَ ْنطَب ،وصَيْفي بن أب رفاعة ،وأبو عزة الُ َمحِى ،وهو الذي قتله أسيا ف أحد ،وسيأت.
ومنّ على خََتنِه أب العاص بشرط أن يلى سبيل زينب ،وكانت قد بعثت ف فدائه بال بعثت فيه بقلدة لا
كانت عند خدية ،أدخلتها با على أب العاص ،فلما رآها رسول ال صلى ال عليه وسلم رق لا رقة
شديدة ،واستأذن أصحابه ف إطلق أب العاص ففعلوه ،واشترط رسول ال صلى ال عليه وسلم على أب
العاص أن يلى سبيل زينب ،فخلها فهاجرت ،وبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم زيد بن حارثة
ورجلًا من النصار ،فقال( :كونا ببطن يَأجَج حت تر بكما زينب فتصحباها) ،فخرجا حت رجعا با.
وقصة هجرتا طويلة ومؤلة جدًا.
ص َقعًا ،فقال عمر :يا رسول ال ،انزع ثنيت سهيل بن
وكان ف السرى سهيل بن عمرو ،وكان خطيبًا مِ ْ
عمرو َيدَْلعْ لسَانُه ،فل يقوم خطيبًا عليك ف موطن أبدًا ،بيد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رفض هذا
الطلب؛ احترازًا عن الُثْ َلةِ ،وعن بطش ال يوم القيامة.
وخرج سعد بن النعمان معتمرًا فحبسه أبو سفيان ،وكان ابنه عمرو بن أب سفيان ف السرى ،فبعثوا به
إل أب سفيان فخلى سبيل سعد.
وحول موضوع هذه العركة نزلت سورة النفال ،وهذه السورة تعليق إلي ـ إن صح هذا التعبي ـ
على هذه العركة ،يتلف كثيًا عن التعاليق الت ينطق با اللوك والقواد بعد الفتح.
إن ال تعال لفت أنظار السلمي ـ أولًا ـ إل بعض التقصيات الخلقية الت كانت قد بقيت فيهم،
وصدر بعضها منهم؛ ليسعوا ف تلية نفوسهم بأرفع مراتب الكمال ،وف تزكيتها عن هذه التقصيات.
ث ثَنّى با كان ف هذا الفتح من تأييد ال وعونه ونصره بالغيب للمسلمي .ذكر لم ذلك لئل يغتروا
بشجاعتهم وبسالتهم ،فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبياء ،بل ليتوكلوا على ال ،ويطيعوه ويطيعوا رسوله
عليه الصلة والسلم.
ث بي لم الهداف والغراض النبيلة الت خاض الرسول صلى ال عليه وسلم لجلها هذه العركة الدامية
الرهيبة ،ودلم على الصفات والخلق الت تتسبب ف الفتوح ف العارك.
ث خاطب الشركي والنافقي واليهود وأسارى العركة ،ووعظهم موعظة بليغة ،تديهم إل الستسلم
للحق واللتزام به.
ث خاطب السلمي حول موضوع الغنائم ،وقنن لم مبادئ وأسس هذه السألة.
ث بي وشرع لم من قواني الرب والسلم ما كانت الاجة تس إليها بعد دخول الدعوة السلمية ف
هذه الرحلة ،حت تتاز حروب السلمي عن حروب أهل الاهلية ،ويتفوق السلمون ف الخلق والقيم
والثل ،ويتأكد للدنيا أن السلم ليس مرد وجهة نظر ،بل هو دين يثقف أهله عمليًا على السس
والبادئ الت يدعو إليها.
ث قرر بنودًا من قواني الدولة السلمية الت تقيم الفرق بي السلمي الذين يسكنون داخل حدودها،
والذين يسكنون خارجها.
وف السنة الثانية من الجرة فرض صيام رمضان ،وفرضت زكاة الفطر ،وبينت أنصبة الزكاة الخرى،
وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الخرى تفيفًا لكثي من الوزار الت كان يعانيها عدد
كبي من الهاجرين اللجئي الذين كانوا فقراء ل يستطيعون ضربًا ف الرض.
ومن أحسن الواقع وأروع الصدقات أن أول عيد تعيد به السلمون ف حياتم هو العيد الذي وقع ف
شوال سنة 2هـ ،إثر الفتح البي الذي حصل لم ف غزوة بدر .فما أروع هذا العيد السعيد الذي جاء
به ال بعد أن تَ ّوجَ هامتهم بتاج الفتح والعز ،وما أروق منظر تلك الصلة الت صلوها بعد أن خرجوا من
بيوتم يرفعون أصواتم بالتكبي والتوحيد والتحميد ،وقد فاضت قلوبم رغبة إل ال ،وحنينًا إل رحته
ورضوانه بعد ما أولهم به من النعم،وأيدهم به من النصر ،وقد ذكرهم بذلك قائلًا{ :وَا ْذكُرُواْ إِذْ أَنُتمْ
خطّفَ ُك ُم النّاسُ فَآوَا ُكمْ َوأَّي َدكُم بِنَصْ ِرهِ َورَزَ َقكُم مّنَ الطّيّبَاتِ
ض َعفُونَ فِي الَ ْرضِ َتخَافُونَ أَن يََت َ
قَلِيلٌ مّسْتَ ْ
لَعَلّ ُكمْ تَشْكُرُونَ} [النفال.]26:
النشاط العسكري بي بدر وأحد
إن معركة بدر كانت أول لقاء مسلح بي السلمي والشركي ،وكانت معركة فاصلة أكسبت السلمي
نصرا حاسا شهد له العرب قاطبة .والذين كانوا أشد استياء لنتائج هذه العركة هم أولئك الذين منوا
بسائر فادحة مباشرة؛ وهم الشركون ،أو الذين كانوا يرون عزة السلمي وغلبتهم ضربا قاصما على
كيانم الدين والقتصادي ،وهم اليهود .فمنذ أن انتصر السلمون ف معركة بدر كان هذان الفريقان
يترقان غيظا وحنقًا على السلمي؛ {لََتجِ َدنّ أَ َش ّد النّاسِ َعدَا َوةً لّ ّلذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَاّلذِينَ أَشْ َركُواْ} [
الائدة ،]82:وكانت ف الدينة بطانة للفريقي دخلوا ف السلم حي ل يبق مال لعزهم إل ف السلم،
وهم عبد ال بن أب وأصحابه ،ول تكن هذه الفرقة الثالثة أقل غيظا من الوليي.
وكانت هناك فرقة رابعة ،وهم البدو الضاربون حول الدينة ،ل يكن يهمهم مسألة الكفر واليان ،ولكنهم
كانوا أصحاب سلب ونب ،فأخذهم القلق ،واضطربوا لذا النتصار ،وخافوا أن تقوم ف الدينة دولة
قوية تول بينهم وبي اكتساب قوتم عن طريق السلب والنهب ،فجعلوا يقدون على السلمي وصاروا
لم أعداء.
وتبي بذا أن النتصار ف بدر كما كان سببا لشوكة السلمي وعزهم وكرامتهم كذلك كان سببا لقد
جهات متعددة ،وكان من الطبيعي أن يتبع كل فريق ما يراه كفيلً ليصاله إل غايته.
فبينما كانت الدينة وما حولا تظاهر بالسلم ،وتأخذ ف طريق الؤامرات والدسائس الفية كانت فرقة
من اليهود تعلن بالعداوة ،وتكاشف عن القد والغيظ ،وكانت مكة تدد بالضرب القاصم ،وتعلن بأخذ
الثأر والنقمة ،وتتم بالتعبئة العامة جهارا ،وترسل إل السلمي بلسان حالا ،تقول:
وفعلً فقد قادت غزوة قاصمة إل أسوار الدينة عرفت ف التاريخ بغزوة أحد ،والت كان لا أثر سيئ على
سعة السلمي وهيبتهم.
وقد لعب السلمون دورا هاما للقضاء على هذه الخطار ،تظهر فيه عبقرية قيادة النب صلى ال عليه
وسلم ،وما كان عليه من غاية التيقظ حول هذه الخطار ،وما كان عليه من حسن التخطيط للقضاء
عليها ،ونذكر ف السطور التية صورة مصغرة منها:
غزوة بن ُسلَيم بال ُكدْر
أول ما نقلت استخبارات الدينة إل النب صلى ال عليه وسلم بعد بدر أن بن سليم وبن َغطَفَان تشد
قواتا لغزو الدينة ،فباغتهم النب صلى ال عليه وسلم ف مائت راكب ف عقر دراهم ،وبلغ إل منازلم ف
موضع يقال له :ال ُكدْر .ففر بنو سليم ،وتركوا ف الوادي خسمائة بعي استول عليها جيش الدينة،
وقسمها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد إخراج المس فأصاب كل رجل بعيين ،وأصاب غلما
يقال له( :يسار) فأعتقه.
وأقام النب صلى ال عليه وسلم ف ديارهم ثلثة أيام ،ث رجع إل الدينة.
وكانت هذه الغزوة ف شوال سنة 2هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام ،أوف الحرم للنصف منه،
واستخلف ف هذه الغزوة على الدينة سِبَاع بن عُرْ ُفطَة .وقيل :ابن أم مكتوم.
كان من أثر هزية الشركي ف وقعة بدر أن استشاطوا غضبا ،وجعلت مكة تغلي كالِرْجَل ضد النب صلى
ال عليه وسلم ،حت تآمر بطلن من أبطالا أن يقضوا على مبدأ هذا اللف والشقاق ومثار هذا الذل
والوان ف زعمهم ،وهو النب صلى ال عليه وسلم.
جلس عمي بن وهب المحي مع صفوان بن أمية ف الِجْر بعد وقعة بدر بيسي ـ وكان عمي من
شياطي قريش من كان يؤذي النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه وهم بكة ـ وكان ابنه وهب بن عمي
ف أساري بدر ،فذكر أصحاب القَلِيب ومصابم ،فقال صفوان :وال إن ف العيش بعدهم خي.
قال له عمي :صدقت وال ،أما وال لول َديْن على ليس له عندي قضاء ،وعيال أخشي عليهم الضّيْعةَ
بعدي لركبتُ إل ممد حت أقتله ،فإن ل قَِبلَ ُهمْ ِع ّلةً ،ابن أسي ف أيديهم.
فاغتنمها صفوان وقال :على دينك ،أنا أقضيه عنك ،وعيالك مع عيإل ،أواسيهم ما بقوا ،ل يسعن شيء
ويعجز عنهم.
فقال له عمي :فاكتم عن شأن وشأنك .قال :أفعل.
حذَ له و ُسمّ ،ث انطلق حت قدم به الدينة ،فبينما هو على باب السجد ينيخ راحلته
شِث أمر عمي بسيفه ف ُ
رآه عمر بن الطاب ـ وهو ف نفر من السلمي يتحدثون ما أكرمهم ال به يوم بدر ـ فقال عمر :هذا
الكلب عدو ال عمي ما جاء إل لشر .ث دخل على النب صلى ال عليه وسلم ،فقال :يا نب ال ،هذا
عدو ال عمي قد جاء متوشحا سيفه ،قال( :فأدخله علي) ،فأقبل إل عمي فلَبَّبهُ بَمَالة سيفه ،وقال لرجال
من النصار :ادخلوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا البيث،
فإنه غي مأمون ،ث دخل به ،فلما رآه رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وعمر آخذ بمالة سيفه ف عنقه
ـ قال( :أرسله يا عمر ،ادن يا عمي) ،فدنا وقال :أنْعِمُوا صباحا ،فقال النب صلى ال عليه وسلم( :قد
أكرمنا ال بتحية خي من تيتك يا عمي ،بالسلم تية أهل النة).
ث قال( :ما جاء بك يا عمي ؟) قال :جئت لذا السي الذي ف أيديكم ،فأحسنوا فيه.
قال( :فما بال السيف ف عنقك؟) قال:قبحها ال من سيوف ،وهل أغنت عنا شيئا ؟
قال( :اصدقن ،ما الذي جئت له ؟) قال :ما جئت إل لذلك.
لجْر ،فذكرتا أصحاب القليب من قريش ،ث قلت :لول دين
قال( :بل قعدتَ أنت وصفوان بن أمية ف ا ِ
علي وعيال عندي لرجت حت أقتل ممدا ،فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلن ،وال حائل
بينك وبي ذلك).
قال عمي :أشهد أنك رسول ال ،قد كنا يا رسول ال نكذبك با كنت تأتينا به من خب السماء ،وما ينل
عليك من الوحي ،وهذا أمر ل يضره إل أنا وصفوان ،فوال إن لعلم ما أتاك به إل ال ،فالمد ل الذي
هدان للسلم ،وساقن هذا الساق ،ث تشهد شهادة الق .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :فقهوا
أخاكم ف دينه ،وأقرئوه القرآن ،وأطلقوا له أسيه).
وأما صفوان فكان يقول :أبشروا بوقعة تأتيكم الن ف أيام تنسيكم وقعة بدر .وكان يسأل الركبان عن
عمي ،حت أخبه راكب عن إسلمه فحلف صفوان أل يكلمه أبدًا ،ول ينفعه بنفع أبدا.
ورجع عمي إل مكة وأقام با يدعو إل السلم ،فأسلم على يديه ناس كثي.
غـزوة بن قينقـاع
غـزوة بن قينقـاع
نوذج من مكيدة اليهود
بنو قَيُنقَاع ينقضون العهد
الصار ث التسليم ث اللء
غزوة السّوِيق
غزوة ذي أمر
قتل كعب بن الشرف
غزوة بُحْران
سرية زيد بن حارثة
غـزوة بن قينقـاع
قدمنا بنود العاهدة الت عقدها رسول ال صلى ال عليه وسلم مع اليهود ،وقد كان حريصا كل الرص
على تنفيذ ما جاء ف هذه العاهدة ،وفعلً ل يأت من السلمي ما يالف حرفا واحدا من نصوصها .ولكن
اليهود الذين ملوا تاريهم بالغدر واليانة ونكث العهود ،ل يلبثوا أن تشوا مع طبائعهم القدية ،وأخذوا
ف طريق الدس والؤامرة والتحريش وإثارة القلق والضطراب ف صفوف السلمي .وهاك مثلً من ذلك:
قال ابن إسحاق :مر شاس بن قيس ـ وكان شيخا [يهوديا] قد عسا ،عظيم الكفر ،شديد الضغن على
السلمي ،شديد السد لم ـ على نفر من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم من الوس والزرج
ف ملس قد جعهم ،يتحدثون فيه ،فغاظه ما رأي من ألفتهم وجاعتهم وصلح ذات بينهم على السلم،
بعد الذي كان بينهم من العداوة ف الاهلية ،فقال :قد اجتمع مل بن قَيْ َلةَ بذه البلد ،ل وال ما لنا معهم
إذا اجتمع ملؤهم با من قرار ،فأمر فت شابا من يهود كان معه ،فقال :اعمد إليهم ،فاجلس معهم ،ث
اذكر يوم بُعَاث وما كان من قبله ،وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الشعار ،ففعل ،فتكلم القوم
عند ذلك ،وتنازعوا وتفاخروا حت تواثب رجلن من اليي على الركب فتقاول ،ث قال أحدها لصاحبه:
إن شئتم رددناها الن َجذَعَة ـ يعن الستعداد لحياء الرب الهلية الت كانت بينهم ـ وغضب
الفريقان جيعا ،وقالوا :قد فعلنا ،موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة :الَرّة ـ السلح السلح ،فخرجوا إليها
[وكادت تنشب الرب].
فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه الهاجرين حت جاءهم
فقال( :يا معشر السلمي ،ال ال ،أبدعوي الاهلية وأنا بي أظهركم بعد أن هداكم ال للسلم،
وأكرمكم به ،وقطع به عنكم أمر الاهلية ،واستنقذكم به من الكفر وألف بي قلوبكم)
فعرف القوم أنا نزغة من الشيطان ،وكيد من عدوهم ،فبكوا ،وعانق الرجال من الوس والزرج بعضهم
بعضا ،ث انصرفوا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم سامعي مطيعي ،قد أطفأ ال عنهم كيد عدو ال
شاس بن قيس.
هذا نوذج ما كان اليهود يفعلونه وياولونه من إثارة القلقل والفت ف السلمي ،وإقامة العراقيل ف سبيل
الدعوة السلمية ،وقد كانت لم خطط شت ف هذا السبيل .فكانوا يبثون الدعايات الكاذبة ،ويؤمنون
وجه النهار ،ث يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك ف قلوب الضعفاء ،وكانوا يضيقون سبل العيشة على
من آمن إن كان لم به ارتباط مإل ،فإن كان لم عليه يتقاضونه صباح مساء ،وإن كان له عليهم
يأكلونـه بالباطل ،ويتنعون عن أدائه وكانوا يقولون :إنا كان علينا قرضك حينما كنت على دين
آبائك ،فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل.
كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر على رغم العاهدة الت عقدوها مع رسول ال صلى ال عليه وسلم،
وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه يصبون على كل ذلك؛ حرصا على رشدهم ،وعلى
بسط المن والسلم ف النطقة.
لكنهم لا رأوا أن ال قد نصر الؤمني نصرا مؤزرا ف ميدان بدر ،وأنم قد صارت لم عزة وشوكة وهيبة
ف قلوب القاصي والدان .تيزت قدر غيظهم ،وكاشفوا بالشر والعداوة ،وجاهروا بالبغي والذي.
وكان أعظمهم حقدا وأكبهم شرا كعب بن الشرف ـ وسيأت ذكره ـ كما أن شر طائفة من طوائفهم
الثلث هم يهود بن قينقاع ،كانوا يسكنون داخل الدينة ـ ف حي باسهم ـ وكانوا صاغة وحدادين
وصناع الظروف والوان ،ولجل هذه الرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلت الرب ،وكان
عدد القاتلي فيهم سبعمائة ،وكانوا أشجع يهود الدينة ،وكانوا أول من نكث العهد واليثاق من اليهود.
فلما فتح ال للمسلمي ف بدر اشتد طغيانم ،وتوسعوا ف ترشاتم واستفزازاتم ،فكانوا يثيون الشغب،
ويتعرضون بالسخرية ،ويواجهون بالذي كل من ورد سوقهم من السلمي حت أخذوا يتعرضون
بنسائهم.
وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم ،جعهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فوعظهم ودعاهم إل الرشد
والدي ،وحـذرهم مغـبة البغـي والـعدوان ،ولكنهم ازدادوا ف شرهم وغطرستهم.
روي أبو داود وغيه ،عن ابن عباس رضي ال عنهما قال :لا أصاب رسول ال صلى ال عليه وسلم
قريشا يوم بدر ،وقدم الدينة جع اليهود ف سوق بن قينقاع .فقال( :يا معشر يهود ،أسلموا قبل أن
يصيبكم مثل ما أصاب قريشا) .قالوا:يا ممد ،ل يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا
أغمارا ل يعرفون القتال ،إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نن الناس ،وأنك ل تلق مثلنا ،فأنزل ال تعال{ :قُل
س الْمِهَادُ َقدْ كَانَ لَ ُكمْ آَيةٌ فِي فِئَتَيْنِ الَْتقَتَا فَِئةٌ تُقَاتِلُ فِي
لّ ّلذِينَ َكفَرُواْ سَُتغْلَبُونَ َوُتحْشَرُونَ ِإلَى َجهَّنمَ َوبِ ْئ َ
سَبِي ِل الِ َوأُخْرَى كَافِ َرةٌ يَرَ ْونَهُم مّثْلَيْ ِهمْ َرْأيَ اْلعَيْنِ وَالُ يُ َؤّيدُ بِنَصْ ِرهِ مَن يَشَاء ِإنّ فِي َذِلكَ َلعِبْ َرةً لّأُ ْولِي
ا َلبْصَارِ} [آل عمران .]13 ،12
كان ف معن ما أجاب به بنو قينقاع هو العلن السافر عن الرب ،ولكن كظم النب صلى ال عليه
وسلم غيظه ،وصب السلمون ،وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليإل واليام.
وازداد اليهود ـ من بن قينقاع ـ جراءة ،فقلما لبثوا أن أثاروا ف الدينة قلقا واضطرابا ،وسعوا إل
حتفهم بظلفهم ،وسدوا على أنفسهم أبواب الياة.
روي ابن هشام عن أب عون :أن امرأة من العرب قدمت بَلَبٍ لا ،فباعته ف سوق بن قينقاع ،وجلست
إل صائغ ،فجعلوا يريدونا على كشف وجهها ،فأبتَ ،فعَمَد الصائغ إل طرف ثوبا فعقده إل ظهرها ـ
وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت سوأتا فضحكوا با فصاحت ،فوثب رجل من السلمي على الصائغ
فقتله ـ وكان يهوديا ـ فشدت اليهود على السلم فقتلوه ،فاستصرخ أهل السلم السلمي على اليهود،
فوقع الشر بينهم وبي بن قينقاع.
الصار ث التسليم ث اللء
وحينئذ عِيلَ صب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فاستخلف على الدينة أبا لُبَابة بن عبد النذر ،وأعطي
لواء السلمي حزة بن عبد الطلب ،وسار بنود ال إل بن قينقاع ،ولا رأوه تصنوا ف حصونم،
فحاصرهم أشد الصار ،وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2هـ ،ودام الصار خس
عشرة ليلة إل هلل ذي القعدة ،وقذف ال ف قلوبم الرعب ـ فهو إذا أرادوا خذلن قوم وهزيتهم
أنزله عليهم وقذفه ف قلوبم ـ فنلوا على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم ف رقابم وأموالم
ونسائهم وذريتهم ،فأمر بم فكتفوا.
وحينئذ قام عبد ال بن أب بن سلول بدور نفاقه ،فأل على رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يصدر
عنهم العفو ،فقال :يا ممد ،أحسن فـي موإل ـ وكـان بنـو قينـقاع حلفـاء الزرج ـ فأبطأ عليه
رسول ال صلى ال عليه وسلم فكرر ابن أب مقالته فأعرض عنه ،فأدخل يده ف جيب درعه ،فقال له
رسول ال صلى ال عليه وسلم( :أرسلن) ،وغضب حت رأوا لوجهه ظُللً ،ث قال( :ويك ،أرسلن).
ولكن النافق مضى على إصراره وقال :ل وال ل أرسلك حت تسن ف موال أربعمائة حاسر وثلثائة
دارع قد منعون من الحر والسود ،تصدهم ف غداة واحدة ؟ إن وال امرؤ أخشي الدوائر.
وعامل رسول ال صلى ال عليه وسلم هذا النافق ـ الذي ل يكن مضي على إظهار إسلمه إل نو شهر
واحد فحسب ـ عامله بالسن .فوهبهم له ،وأمرهم أن يرجوا من الدينة ول ياوروه با ،فخرجوا إل
أذْرُعَات الشام ،فقل أن لبثوا فيها حت هلك أكثرهم.
وقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم منهم أموالم ،فأخذ منها ثلث ِقسِي ودرعي وثلثة أسياف وثلثة
رماح ،وخس غنائمهم ،وكان الذي تول جع الغنائم ممد بن مسلمة.
غزوة السّوِيق
بينما كان صفوان بن أمية واليهود والنافقون يقومون بؤامراتم وعملياتم ،كان أبو سفيان يفكر ف عمل
قليل الغارم ظاهر الثر ،يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه ،ويبز ما لديهم من قوة ،وكان قد نذر أل يس
رأسه ماء من جنابة حت يغزو ممدا ،فخرج ف مائت راكب ليبِرّ يينه ،حت نزل بصدْر قَناة إل جبل يقال
له :ثَيبٌ ،من الدينة على بَرِيد أو نوه ،ولكنه ل يرؤ على مهاجة الدينة جهارا ،فقام بعمل هو أشبه
بأعمال القرصنة ،فإنه دخل ف ضواحي الدينة ف الليل مستخفيا تت جنح الظلم ،فأت حيي بن أخطب،
شكَم سيد بنِي النضي ،وصاحب كنهم إذ ذاك،
فاستفتح بابه ،فأب وخاف ،فانصرف إل َسلّم بن مِ ْ
فاستأذن عليه فأذنَ ،فقَرَاه وسقاه المر ،وَبطَن له من خب الناس ،ث خرج أبو سفيان ف عقب ليلته حت
أت أصحابه ،فبعث مفرزة منهم ،فأغارت على ناحية من الدينة يقال لا[ :العُرَيض] ،فقطعوا وأحرقوا
هناك أصْوَارًا من النخل ،ووجدوا رجلً من النصار وحليفا له ف حرث لما فقتلوها ،وفروا راجعي إل
مكة.
وبلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم الب ،فسارع لطاردة أب سفيان وأصحابه ،ولكنهم فروا ببالغ
السرعة ،وطرحوا سويقا كثيا من أزوادهم وتويناتم ،يتخففون به ،فتمكنوا من الفلت ،وبلغ رسول
ال صلى ال عليه وسلم إل َقرْقَ َرةِ ال ُكدْر ،ث انصرف راجعا .وحل السلمون ما طرحه الكفار من
سويقهم ،وسوا هذه الناوشة بغزوة السويق .وقد وقعت ف ذي الجة سنة 2هـ بعد بدر بشهرين،
واستعمل على الدينة ف هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد النذر.
غزوة ذي أمر
وهي أكب حلة عسكرية قادها رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل معركة أحد ،قادها ف الحرم سنة 3
هـ.
وسببها أن استخبارات الدينة نقلت إل رسول ال صلى ال عليه وسلم أن جعا كبيا من بن ثعلبة
ومارب تمعوا ،يريدون الغارة على أطراف الدينة ،فندب رسول ال صلى ال عليه وسلم السلمي،
وخرج ف أربعمائة وخسي مقاتلً ما بي راكب وراجل ،واستخلف على الدينة عثمان بن عفان.
وف أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له :جُبَار من بن ثعلبة ،فأدخل على رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فدعاه إل السلم فأسلم ،فضمه إل بلل ،وصار دليلً ليش السلمي إل أرض العدو.
وتفرق العداء ف رءوس البال حي سعوا بقدوم جيش الدينة .أما النب صلى ال عليه وسلم فقد وصل
بيشه إل مكان تمعهم ،وهو الاء السمي [بذي أمر] فأقام هناك صفرا كله ـ من سنة 3هـ ـ أو
قريبا من ذلك ،ليشعر العراب بقوة السلمي ،ويستول عليهم الرعب والرهبة ،ث رجح إل الدينة.
وهكذا تفرغ الرسول صلى ال عليه وسلم ـ إل حي ـ لواجهة الخطار الت كان يتوقع حدوثها من
خارج الدينة ،وأصبح السلمون وقد تفف عنهم كثي من التاعب الداخلية الت كانوا يتوجسونا،
ويشمون رائحتها بي آونة وأخري .
غزوة بُحْران
وهي دورية قتال كبية ،قوامها ثلثائة مقاتل ،قادها الرسول صلى ال عليه وسلم ف شهر ربيع الخر
سنة 3هـ إل أرض يقال لا :بران ـ وهي مَ ْعدِن بالجاز من ناحية الفُرْع ـ فأقام با شهر ربيع الخر
ث جادى الول ـ من السنة الثالثة من الجرة ـ ث رجع إل الدينة ،ول يلق حربا.
وتفصيلها :أن قريشا بقيت بعد بدر يساورها القلق والضطراب ،وجاء الصيف ،واقترب موسم رحلتها
إل الشام ،فأخذها َهمّ آخر.
قال صفوان بن أمية لقريش ـ وهو الذي نبته قريش ف هذا العام لقيادة تارتا إل الشام :إن ممدا
وصحبه عَوّرُوا علينا متجرنا ،فما ندري كيف نصنع بأصحابه ،وهم ل يبحون الساحل ؟ وأهل الساحل
قد وادعهم ودخل عامتهم معه ،فما ندري أين نسلك ؟ وإن أقمنا ف دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم
يكن لا من بقاء .وإنا حياتنا بكة على التجارة إل الشام ف الصيف ،وإل البشة ف الشتاء.
ودارت الناقشة حول هذا الوضوع ،فقال السود بن عبد الطلب لصفوان :تنكب الطريق على الساحل
وخذ طريق العراق ـ وهي طريق طويلة جدا تترق ندا إل الشام ،وتر ف شرقي الدينة على بعد كبي
منها ،وكانت قريش تهل هذه الطريق كل الهل ـ فأشار السود بن عبد الطلب على صفوان أن يتخذ
فُرَات بن َحيّان ـ من بن بكر بن وائل ـ دليلً له ،ويكون رائده ف هذه الرحلة.
وخرجت عي قريش يقودها صفوان بن أمية ،آخذة الطريق الديدة ،إل أن أنباء هذه القافلة وخطة سيها
طارت إل الدينة .وذلك أن َسلِيط بن النعمان ـ كان قد أسلم ـ اجتمع ف ملس شرب ـ وذلك قبل
تري المر ـ مع نعيم بن مسعود الشجعي ـ ول يكن أسلم إذ ذاك ـ فلما أخذت المر من نعيم
تدث بالتفصيل عن قضية العي وخطة سيها،فأسرع سليط إل النب صلى ال عليه وسلم يروي له
القصة.
وجهز رسول ال صلى ال عليه وسلم لوقته حلة قوامها مائة راكب ف قيادة زيد بن حارثة الكلب،
وأسرع زيد حت دهم القافلة بغتة ـ على حي غرة ـ وهي تنل على ماء ف أرض ند يقال له :قَ ْردَة ـ
بالفتح فالسكون ـ فاستول عليها كلها ،ول يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إل الفرار بدون
أي مقاومة.
وأسر السلمون دليل القافلة ـ فرات بن حيان ،وقيل :ورجلي غيه ـ وحلوا غنيمة كبية من الوان
والفضة كانت تملها القافلة ،قدرت قيمتها بائة ألف ،وقسم رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الغنيمة
على أفراد السرية بعد أخذ المس ،وأسلم فرات بن حيان على يديه صلى ال عليه وسلم.
وكانت مأساة شديدة ونكبة كبية أصابت قريشا بعد بدر ،اشتد لا قلق قريش وزادتا ها وحزنا .ول يبق
أمامها إل طريقان،إما أن تتنع عن غطرستها وكبيائها ،وتأخذ طريق الوادعة والصالة مع السلمي ،أو
تقوم برب شاملة تعيد لا مدها التليد ،وعزها القدي ،وتقضي على قوات السلمي بيث ل يبقي لم
سيطرة على هذا ول ذاك ،وقد اختارت مكة الطريق الثانية ،فازداد إصرارها على الطالبة بالثأر ،والتهيؤ
للقاء السلمي ف تعبئة كاملة ،وتصميمها على الغزو ف ديارهم ،فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد
القوي لعركة أحد.
غـزوة أحـد
وعلى أثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم برب شاملة ضد السلمي تشفي غيظها وتروي غلة
حقدها ،وأخذت ف الستعداد للخوض ف مثل هذه العركة.
وكان عكرمة بن أب جهل ،وصفوان بن أمية ،وأبو سفيان بن حرب ،وعبد ال بن أب ربيعة أكثر زعماء
قريش نشاطا وتمسا لوض العركة.
وأول ما فعلوه بذا الصدد أنم احتجزوا العي الت كان قد نا با أبو سفيان ،والت كانت سببا لعركة
بدر ،وقالوا للذين كانت فيها أموالم :يا معشر قريش ،إن ممدا قد َوتَ َركُم وقتل خياركم ،فأعينونا بذا
الال على حربه ؛ لعلنا أن ندرك منه ثأرا ،فأجابوا لذلك ،فباعوها ،وكانت ألف بعي ،والال خسي ألف
صدّواْ عَن سَبِيلِ الِ فَسَيُن ِفقُونَهَا ثُمّ
دينار ،وف ذلك أنزل ال تعالِ{ :إنّ اّلذِينَ َكفَرُواْ يُنفِقُونَ َأمْوَالَ ُهمْ لِيَ ُ
تَكُونُ َعلَيْ ِهمْ حَسْ َرةً ُثمّ ُيغْلَبُونَ} [النفال]36 :
ث فتحوا باب التطوع لكل من أحب الساهة ف غزو السلمي من الحابيش وكنانة وأهل تامة ،وأخذوا
لذلك أنواعا من طرق التحريض ،حت إن صفوان بن أمية أغري أبا عزة الشاعر ـ الذي كان قد أسر ف
بدر ،فَمَنّ عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم وأطلق سراحه بغي فدية ،وأخذ منه العهد بأل يقوم ضده
ـ أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد السلمي ،وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حيا يغنيه ،وإل
يكفل بناته ،فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره الت كانت تذكي حفائظهم ،كما اختاروا شاعرا آخر
ـ مُسَافع بن عبد مناف المحي ـ لنفس الهمة.
وكان أبو سفيان أشد تأليبا على السلمي بعدما رجع من غزوة السّوِيق خائبا ل ينل ما ف نفسه ،بل أضاع
مقدارًا كبيا من تويناته ف هذه الغزوة.
وزاد الطينة بلة ـ أو زاد النار إذكاء ،إن صح هذا التعبي ـ ما أصاب قريشا أخيا ف سرية زيد بن
حارثة من السارة الفادحة الت قصمت فقار اقتصادها ،وزودها من الزن والم ما ل يقادر قدره ،وحينئذ
زادت سرعة قريش ف استعدادها للخوض ف معركة تفصل بينهم وبي السلمي.
وكان سلح النقليات ف هذا اليش ثلثة آلف بعي ،ومن سلح الفرسان مائتا فرس ،جنبوها طول
الطريق ،وكان من سلح الوقاية سبعمائة درع .وكانت القيادة العامة إل أب سفيان بن حرب ،وقيادة
الفرسان إل خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أب جهل .أما اللواء فكان إل بن عبد الدار.
حركة العدو
وكان العباس بن عبد الطلب يرقب حركات قريش واستعداداتا العسكرية ،فلما ترك هذا اليش بعث
العباس رسالة مستعجلة إل النب صلى ال عليه وسلم ضمنها جيع تفاصيل اليش.
وأسرع رسول العباس بإبلغ الرسالة ،وجد ف السي حت إنه قطع الطريق بي مكة والدينة ـ الت تبلغ
مسافتها إل نو خسمائة كيلو متر ـ ف ثلثة أيام ،وسلم الرسالة إل النب صلى ال عليه وسلم وهو ف
مسجد قباء.
قرأ الرسالة على النب صلى ال عليه وسلم أب بن كعب ،فأمره بالكتمان ،وعاد مسرعا إل الدينة ،وتبادل
الرأي مع قادة الهاجرين والنصار.
وقامت مفرزة من النصار ـ فيهم سعد بن معاذ ،وأسيد بن حضي ،وسعد بن عبادة ـ براسة رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلح .وقامت على مداخل الدينة وأنقابا
مفرزات ترسها ؛ خوفا من أن يؤخذوا على غرة.
وقامت دوريات من السلمي ـ لكتشاف تركات العدو ـ تتجول حول الطرق الت يتمل أن يسلكها
الشركون للغارة على السلمي.
ث واصل جيش مكة سيه حت اقترب من الدينة ،فسلك وادي العَقيق ،ث انرف منه إل ذات اليمي حت
نزل قريبا ببل أحد ،ف مكان يقال له :عَينَيْن ،ف بطن السّ ْبخَة من قناة على شفي الوادي ـ الذي يقع
شإل الدينة بنب أحـد ،فعسكر هناك يوم المعة السادس من شهر شوال سنة ثلث من الجرة.
ث قدم رأيه إل صحابته أل يرجوا من الدينة وأن يتحصنوا با،فإن أقام الشركون بعسكرهم أقاموا بِشَرّ
مُقَام وبغي جدوي ،وإن دخلوا الدينة قاتلهم السلمون على أفواه الزقة ،والنساء من فوق البيوت ،وكان
هذا هو الرأي .ووافقه على هذا الرأي عبد ال بن أب بن سلول ـ رأس النافقي ـ وكان قد حضر
الجلس بصفته أحد زعماء الزرج .ويبدو أن موافقته لذا الرأي ل تكن لجل أن هذا هو الوقف
الصحيح من حيث الوجهة العسكرية ،بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد ،وشاء
ال أن يفتضح هو وأصحابه ـ لول مرة ـ أمام السلمي وينكشف عنهم الغطاء الذي كان كفرهم
ونفاقهم يكمن وراءه ،ويتعرف السلمون ف أحرج ساعاتم على تلك الفاعي الت كانت تتحرك تت
ملبسهم وأكمامهم.
فقد بادر جاعة من فضلء الصحابة من فاته الروج يوم بدر ومن غيهم ،فأشاروا على النب صلى ال
عليه وسلم بالروج ،وألوا عليه ف ذلك حت قال قائلهم :يا رسول ال،كنا نتمن هذا اليوم وندعو ال،
فقد ساقه إلينا وقرب السي ،اخرج إل أعدائنا ،ل يرون أنا جَبُنّا عنهم.
وكان ف مقدمة هؤلء التحمسي حزة بن عبد الطلب عم رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ الذي كان
قد أبلي أحسن بلء ف معركة بدر ـ فقد قال للنب صلى ال عليه وسلم :والذي أنزل عليك الكتاب ل
أطعم طعاما حت أجالدهم بسيفي خارج الدينة .
وتنازل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن رأيه مراعاة لؤلء التحمسي ،واستقر الرأي على الروج من
الدينة ،واللقاء ف اليدان السافر.
وكان الناس ينتظرون خروجه ،وقد قال لم سعد بن معاذ وأسيد بن حضي :استكرهتم رسول ال صلى
ال عليه وسلم على الروج فردوا المر إليه،فندموا جيعا على ما صنعوا ،فلما خرج قالوا له :يا رسول
ال،ما كان لنا أن نالفك فاصنع ما شئت ،إن أحببت أن تكث بالدينة فافعل .فقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم( :ما ينبغي لنب إذا لبس ْلمَتَه ـ وهي الدرع ـ أن يضعها حت يكم ال بينه وبي عدوه) .
وكان اليش متألفا من ألف مقاتل فيهم مائة دارع ،ول يكن فيهم من الفرسان أحد ،واستعمل على الدينة
ابن أم مكتوم على الصلة بن بقي ف الدينة،وآذن بالرحيل ،فتحرك اليش نو الشمال ،وخرج السعدان
أمام النب صلى ال عليه وسلم يعدوان دارعي.
ولا جاوز ثنية الوداع رأي كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد اليش ،فسأل عنها ،فأخب أنم اليهود
من حلفاء الزرج يرغبون الساهة ف القتال ضد الشركي ،فسأل( :هل أسلموا ؟) فقالوا:ل ،فأب أن
يستعي بأهل الكفر على أهل الشرك.
استعراض اليش
وعندما وصل إل مقام يقال له[ :الشيخان] استعرض جيشه ،فرد من استصغره ول يره مطيقا للقتال،
وكان منهم عبد ال بن عمر بن الطاب وأسامة بن زيد ،وأسيد بن ظُهَي ،وزيد بن ثابت ،وزيد بن أرقم،
وعَرَابَة بن أوْس ،وعمرو بن حزم ،وأبو سعيد الدري ،وزيد بن حارثة النصاري ،وسعد بن حَبّة ،ويذكر
ف هؤلء الباء بن عازب ،لكن حديثه ف البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم.
وأجاز رافع بن َخدِيج ،و َسمُرَة بن جُ ْندَب على صغر سنهما ،وذلك أن رافع بن خديج كان ماهرا ف رماية
النبل فأجازه ،فقال سرة :أنا أقوي من رافع،أنا أصرعه ،فلما أخب رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك
أمرها أن يتصارعا أمامه فتصارعا ،فصرع سرة رافعا ،فأجازه أيضا.
البيت بي أحد والدينة
وف هذا الكان أدركهم الساء ،فصلى الغرب ،ث صلى العشاء ،وبات هنالك ،واختار خسي رجلً
لراسة العسكر يتجولون حوله ،وكان قائدهم ممد بن مسلمة النصاري ،بطل سرية كعب بن الشرف،
وتول َذكْوَان بن عبد قيس حراسة النب صلى ال عليه وسلم خاصة.
ول شك أن سبب هذا النعزال ل يكن هو ما أبداه هذا النافق من رفض رسول ال صلى ال عليه وسلم
رأيه ،وإل ل يكن لسيه مع اليش النبوي إل هذا الكان معن .ولو كان هذا هو السبب ل نعزل عن
اليش منذ بداية سيه ،بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد ـ ف ذلك الظرف الدقيق ـ أن يدث
البلبلة والضطراب ف جيش السلمي على مرأي ومسمع من عدوهم،حت ينحاز عامة اليش عن النب
صلى ال عليه وسلم ،وتنهار معنويات من يبقي معه ،بينما يتشجع العدو ،وتعلو هته لرؤية هذا النظر،
فيكون ذلك أسرع إل القضاء على النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه الخلصي ،ويصحو بعد ذلك الو
لعودة الرياسة إل هذا النافق وأصحابه.
وكاد النافق ينجح ف تقيق بعض ما كان يهدف إليه ،فقد هت طائفتان ـ بنو حارثة من الوس ،وبنو
سلمة من الزرج ـ أن تفشل ،ولكن ال تولها ،فثبتتا بعدما سري فيهما الضطراب ،وهتا بالرجوع
شلَ وَالُ َولِيّهُمَا َوعَلَى الِ فَ ْليَتَ َوكّلِ
والنسحاب ،وعنهما يقول ال تعال{ :إِذْ هَمّت طّآئِفَتَانِ مِن ُكمْ أَن َتفْ َ
الْمُ ْؤمِنُونَ} [آل عمران.]122 :
وحاول عبد ال بن حَرَام ـ والد جابر بن عبد ال ـ تذكي هؤلء النافقي بواجبهم ف هذا الظرف
الدقيق ،فتبعهم وهو يوبهم ويضهم على الرجوع ،ويقول :تعالوا قاتلوا ف سبيل ال أو ادفعوا ،قالوا :لو
نعلم أنكم تقاتلون ل نرجع ،فرجع عنهم عبد ال بن حرام قائلً :أبعدكم ال أعداء ال ،فسيغن ال عنكم
نبيه.
وف هؤلء النافقي يقول ال تعال َ { :ولَْيعْ َل َم اّلذِينَ نَا َفقُواْ وَقِيلَ لَ ُهمْ َتعَالَ ْواْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الِ أَوِ ادْ َفعُواْ
قَالُواْ لَوْ نَعْ َلمُ قِتَالً ّلتّبَعْنَا ُكمْ ُهمْ لِ ْل ُكفْرِ يَ ْومَِئذٍ أَقْ َربُ مِنْ ُهمْ ِللِيَانِ يَقُولُونَ ِبأَفْوَاهِهِم مّا لَ ْيسَ فِي قُلُوبِ ِهمْ وَالُ
أَعْ َلمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران.]167 :
بقية اليش السلمي إل أحد
وبعد هذا التمرد والنسحاب قام النب صلى ال عليه وسلم ببقية اليش ـ وهم سبعمائة مقاتل ـ
ليواصل سيه نو العدو ،وكان معسكر الشركي يول بينه وبي أحد ف مناطق كثية ،فقال( :من رجل
يرج بنا على القوم من كَثَبٍ ـ أي من قريب ـ من طريق ل ير بنا عليهم ؟).
فقال أبو خَيثَمةَ :أنا يارسول ال ،ث اختار طريقا قصيا إل أحد ير بَ ّرةِ بن حارثة وبزارعهم ،تاركا
جيش الشركي إل الغرب.
ومر اليش ف هذا الطريق بائط مِرْبَع بن قَيظِي ـ وكان منافقا ضرير البصر ـ فلما أحس باليش قام
يثو التراب ف وجوه السلمي ،ويقول :ل أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول ال .فابتدره القوم
ليقتلوه ،فقال صلى ال عليه وسلم ( :ل تقتلوه ،فهذا العْمَى أعمى القلب أعمى البصر).
ونفذ رسول ال صلى ال عليه وسلم حت نزل الشعب من جبل أحد ف عدوة الوادي ،فعسكر بيشه
مستقبلً الدينة ،وجاعل ظهره إل هضاب جبل أحد ،وعلى هذا صار جيش العدو فاصلً بي السلمي
وبي الدينة.
خطة الدفاع
وهناك عبأ رسول ال صلى ال عليه وسلم جيشه ،وهيأهم صفوفا للقتال ،فاختار منهم فصيلة من الرماة
الاهرين ،قوامها خسون مقاتلً ،وأعطي قيادتا لعبد ال بن جبي بن النعمان النصاري الوسي البدري،
وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الشمالية من وادي قناة ـ وعرف فيما بعد ببل الرماة ـ
جنوب شرق معسكر السلمي ،على بعد حوال مائة وخسي مترا من مقر اليش السلمي.
والدف من ذلك هو ما أبداه رسول ال صلى ال عليه وسلم ف كلماته الت ألقاها إل هؤلء الرماة ،فقد
قال لقائدهم( :انضح اليل عنا بالنبل ،ل يأتونا من خلفنا ،إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك ،ل نؤتي
من قبلك) وقال للرماة( :احوا ظهورنا ،فإن رأيتمونا نقتل فل تنصرونا ،وإن رأيتمونا قد غنمنا فل
تشركونا) ،وف رواية البخاري أنه قال( :إن رأيتمونا تطفنا الطي فل تبحوا مكانكم هذا حت أرسل
إليكم ،وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فل تبحوا حت أرسل إليكم).
بتعي هذه الفصيلة ف البل مع هذه الوامر العسكرية الشديدة سد رسول ال صلى ال عليه وسلم الثلمة
الوحيدة الت كان يكن لفرسان الشركي أن يتسللوا من ورائها إل صفوف السلمي ،ويقوموا بركات
اللتفاف وعملية التطويق.
أما بقية اليش فجعل على اليمنة النذر بن عمرو ،وجعل على اليسرة الزبي بن العوام ،يسانده القداد بن
السود ،وكان إل الزبي مهمة الصمود ف وجه فرسان خالد بن الوليد،وجعل ف مقدمة الصفوف نبة
متازة من شجعان السلمي ورجالتم الشهورين بالنجدة والبسالة ،والذين يوزنون باللف .
ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جدا ،تتجلي فيها عبقرية قيادة النب صلى ال عليه وسلم لعسكرية ،وأنه
ل يكن لي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا؛ فقد احتل أفضل موضع من
ميدان العركة ،مع أنه نزل فيه بعد العدو ،فإنه حي ظهره ويينه بارتفاعات البل ،وحي ميسرته وظهره ـ
حي يتدم القتال ـ بسد الثلمة الوحيدة الت كانت توجد ف جانب اليش السلمي ،واختار لعسكره
موضعا مرتفعا يتمي به ـ إذا نزلت الزية بالسلمي ـ ول يلتجئ إل الفرار ،حت يتعرض للوقوع ف
قبضة العداء الطاردين وأسرهم ،ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلل معسكره
وتقدموا إليه،وألأ أعداءه إل قبول موضع منخفض يصعب عليهم جدا أن يصلوا على شيء من فوائد
الفتح إن كانت الغلبة لم ،ويصعب عليهم الفلت من السلمي الطاردين إن كانت الغلبة للمسلمي،
كما أنه عوض النقص العددي ف رجاله باختيار نبة متازة من أصحابه الشجعان البارزين.
وهكذا تت تعبئة اليش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ.
وكان أبو دجانة رجلً شجاعا يتال عند الرب ،وكانت له عصابة حراء إذا اعتصب با علم الناس أنه
سيقاتل حت الوت .فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة ،وجعل يتبختر بي الصفي ،وحينئذ قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم( :إنا لشية يبغضها ال إل ف مثل هذا الوطن).
أما اللواء فكان إل مفرزة من بن عبد الدار ،وقد كان ذلك منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف
الناصب الت ورثوها من قصي بن كلب ـ كما أسلفنا ف أوائل الكتاب ـ وكان ل يكن لحد أن
ينازعهم ف ذلك؛ تقيدا بالتقاليد الت ورثوها كابرا عن كابر ،بيد أن القائد العام ـ أبا سفيان ـ ذكرهم
با أصاب قريشا يوم بدر حي أسر حامل لوائهم النضر بن الارث ،وقال لم ـ ليستفز غضبهم ويثي
حيتهم :يا بن عبد الدار ،قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم ،وإنا يؤت الناس من قبل راياتم،
وإذا زالت زالوا ،فإما أن تكفونا لواءنا ،وإما أن تلوا بيننا وبينه فنكفيكموه.
ونح أبو سفيان ف هدفه ،فقد غضب بنو عبد الدار لقول أب سفيان أشد الغضب ،وهوا به وتواعدوه
وقالوا له :نن نسلم إليك لواءنا ؟ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع .وقد ثبتوا عند احتدام العركة حت
أبيدوا عن بكرة أبيهم.
واقتربت ساعة الصفر ،وتدانت الفئتان ،فقامت قريش بحاولة أخري لنفس الغرض ،فقد خرج إل
النصار عميل خائن يسمي أبا عامر الفاسق ـ واسه عبد عمرو ابن صَيفِي ،وكان يسمي الراهب ،فسماه
رسول ال صلى ال عليه وسلم الفاسق ،وكان رأس الوس ف الاهلية ،فلما جاء السلم شَرِق به،
وجاهر رسول ال صلى ال عليه وسلم بالعداوة ،فخرج من الدينة وذهب إل قريش يؤلبهم على رسول
ال صلى ال عليه وسلم ويضهم على قتاله ،ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ،ومالوا معه ـ فكان
أول من خرج إل السلمي ف الحابيش وعُ ْبدَان أهل مكة .فنادي قومه وتعرف عليهم ،وقال :يا معشر
الوس ،أنا أبو عامر .فقالوا :ل أنعم ال بك عينا يا فاسق .فقال :لقد أصاب قومي بعدي شر .ـ ولا بدأ
القتال قاتلهم قتالً شديدا وراضخهم بالجارة.
وهكذا فشلت قريش ف ماولتها الثانية للتفريق بي صفوف أهل اليان .ويدل عملهم هذا على ما كان
يسيطر عليهم من خوف السلمي وهيبتهم ،مع كثرتم وتفوقهم ف العدد والعدة.
وقامت نسوة قريش بنصيبهن من الشاركة ف العركة ،تقودهن هند بنت عتبة زوجة أب سفيان ،فكن
يتجولن ف الصفوف ،ويضربن بالدفوف؛ يستنهضن الرجال ،ويرضن على القتال ،ويثرن حفائظ
البطال ،ويركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال ،فتارة ياطب أهل اللواء فيقلن:
ورأي النب صلى ال عليه وسلم هذا الصراع الرائع فكب ،وكب السلمون وأثن على الزبي ،وقال ف
حقه( :إن لكل نب حواريا ،وحواري الزبي) .
ص ْعدَة أو تَ ْندَقّا
إنّ على أهْل اللوَاء حقــا ** أن ُتخْضَبَ ال ّ
فحمل عليه حزة بن عبد الطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه ،حت وصلت إل سرته،
فبانت رئته.
ث رفع اللواء أبو سعد بن أب طلحة ،فرماه سعد بن أب وقاص بسهم أصاب حنجرته ،فُأ ْدلِ َع لسانُ ُه ومات
لينه .وقيل :بل خرج أبو سعد يدعو إل الباز ،فتقدم إليه على بن أب طالب ،فاختلفا ضربتي ،فضربه
على فقتله.
ث رفع اللواء مُسَافع بن طلحة بن أب طلحة ،فرماه عاصم بن ثابت بن أب ال ْفلَح بسهم فقتله ،فحمل
اللواء بعده أخوه ِكلَب بن طلحة بن أب طلحة ،فانقض عليه الزبي بن العوام وقاتله حت قتله ،ث حل
للَس بن طلحة بن أب طلحة ،فطعنه طلحة بن عبيد ال طعنة قضت على حياته .وقيل :بل
اللواء أخوها ا ُ
رماه عاصم بن ثابت بن أب الفلح بسهم فقضي عليه.
هؤلء ستة نفر من بيت واحد ،بيت أب طلحة عبد ال بن عثمان بن عبد الدار ،قتلوا جيعا حول لواء
الشركي ،ث حله من بن عبد الدار أرطاة بن شُرَ ْحبِيل ،فقتله على بن أب طالب ،وقيل :حزة بن عبد
الطلب ،ث حله شُرَيح بن قارظ فقتله قُ ْزمَان ـ وكان منافقا قاتل مع السلمي حية ،ل عن السلم ـ ث
حله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري ،فقتله قزمان أيضا ،ث حله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري
فقتله قزمان أيضا.
فهؤلء عشرة من بن عبد الدار ـ من حله اللواء ـ أبيدوا عن آخرهم ،ول يبق منهم أحد يمل اللواء.
فتقدم غلم لـهم حبشي ـ اسه صُؤَاب ـ فحمل اللواء ،وأبدي من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق
به مواليه من حلة اللواء الذين قتلوا قبله ،فقد قاتل حت قطعت يداه ،فبك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئل
يسقط ،حت قتل وهو يقول :اللهم هل أعزرت ؟ يعن هل أعذرت؟.
وبعد أن قتل هذا الغلم ـ صُؤاب ـ سقط اللواء على الرض ،ول يبق أحد يمله ،فبقي ساقطا.
أقبل أبو دُجَانة معلما بعصابته المراء ،آخذا بسيف رسول ال صلى ال عليه وسلم ،مصمما على أداء
حقه ،فقاتل حت أمعن ف الناس ،وجعل ل يلقي مشركا إل قتله ،وأخذ يهد صفوف الشركي هدّا.قال
الزبي بن العوام :وجدت ف نفسي حي سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم السيف فمنعنيه ،وأعطاه أبا
دجانة ،وقلت ـ أي ف نفسي :أنا ابن صفية عمته ،ومن قريش ،وقد قمت إليه ،فسألته إياه قبله فآتاه إياه
وتركن ،وال لنظرن ما يصنع ؟ فاتبعته ،فأخرج عصابة له حراء فعصب با رأسه ،فقالت النصار :أخرج
أبو دجانة عصابة الوت ،فخرج وهو يقول:
فجعل ل يلقى أحدا إل قتله ،وكان ف الشركي رجل ل يدع لنا جريا إل ذَفّفَ عليه ،فجعل كل واحد
منهما يدنو من صاحبه ،فدعوت ال أن يمع بينهما فالتقيا ،فاختلفا ضربتي ،فضرب الشرك أبا دجانة
فاتقاه بدرقتهَ ،فعَضّتْ بسيفه ،فضربه أبو دجانة فقتله .
ث أمعن أبو دجانة ف هدّ الصفوف ،حت خلص إل قائدة نسوة قريش ،وهو ل يدري با .قال أبو دجانة:
رأيت إنسانا يْمِش الناس خشا شديدا ،فصمدت له ،فلما حلت عليه السيف ولَ ْولَ ،فإذا امرأة ،فأكرمت
سيف رسول ال صلى ال عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وكانت تلك الرأة هي هند بنت عتبة .قال الزبي بن العوام :رأيت أبا دجانة قد حل السيف على مفرق
رأس هند بنت عتبة ،ث عدل السيف عنها ،فقلت:ال ورسوله أعلم .
وقاتل حزة بن عبد الطلب قتال الليوث الهتاجة ،فقد اندفع إل قلب جيش الشركي يغامر مغامرة منقطعة
النظي ،ينكشف عنه البطال كما تتطاير الوراق أمام الرياح الوجاء ،فبالضافة إل مشاركته الفعالة ف
إبادة حاملي لواء الشركي فعل الفاعيل بأبطالم الخرين ،حت صرع وهو ف مقدمة البزين ،ولكن ل
كما تصـرع البطال وجها لوجـه ف ميدان القتـال ،وإنا كمـا يغتال الكرام ف حلك الظـلم.
قال :وهززت حربت حت إذا رضيت منها دفعتها إليه ،فوقعت ف ثُنّتِه ـ أحشائه ـ حت خرجت من بي
رجليه ،وذهب لينوء نوي َفغُ ِلبَ ،وتركته وإياها حت مات ،ث أتيته فأخذت حربت ،ث رجعت إل
العسكر فقعدت فيه ،ول يكن ل بغيه حاجة ،وإنا قتلته لعتق ،فلما قدمت مكة عتقت .
السيطرة على الوقف
وبرغم هذه السارة الفادحة الت لقت السلمي بقتل أسد ال وأسد رسوله حزة بن عبد الطلب ،ظل
السلمون مسيطرين على الوقف كله .فقد قاتل يومئذ أبو بكر ،وعمر بن الطاب ،وعلى بن أب طالب،
والزبي بن العوام ،ومصعب بن عمي ،وطلحة بن عبيد ال ،وعبد ال بن جحش ،وسعد بن معاذ ،وسعد
بن عبادة ،وسعد بن الربيع ،وأنس بن النضر وأمثالم قتالً فَلّ عزائم الشركي ،وفتّ ف أعضادهم.
وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم السلمي أحست بالعجز والور ،وانكسرت هتها ـ
حت ل يترئ أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل صُؤاب فيحمله ليدور حوله القتال ـ
فأخذت ف النسحاب ،ولأت إل الفرار ،ونسيت ما كانت تتحدث به ف نفوسها من أخذ الثأر والوتر
والنتقام ،وإعادة العز والجد والوقار.
قال ابن إسحاق :ث أنزل ال نصره على السلمي ،وصدقهم وعده ،فحسوهم بالسيوف حت كشفوهم
عن العسكر ،وكانت الزية لشك فيها.
روى عبد ال بن الزبي عن أبيه أنه قال :وال لقد رأيتن أنظر إل َخدَم ـ سوق ـ هند بنت عتبة
وصواحبها مشمرات هوارب ،ما دون أخذهن قليل ول كثي ...إل.
وف حديث الباء بن عازب عند البخاري ف الصحيح :فلما لقيناهم هربوا حت رأيت النساء يشتددن ف
البل ،يرفعن سوقهن قد بدت خلخيلهن .وتبع السلمون الشركي يضعون فيهم السلح وينتهبون
الغنائم.
أما قائدهم عبد ال بن جبي ،فقد ذكرهم أوامر الرسول صلى ال عليه وسلم ،وقال :أنسيتم ما قال لكم
رسول ال صلى ال عليه وسلم؟
ولكن الغلبية الساحقة ل تلق لذا التذكي بالً ،وقالت :وال لنأتي الناس فلنصيب من الغنيمة .ثـم
غـادر أربعون رجلً أو أكثر هؤلء الرماة مواقعهم من البل ،والتحقوا بسَوَاد اليش ليشاركـوه فـي
جع الغنائم .وهكذا خلت ظهور السلمي ،ول يبق فيها إل ابن جبي وتسعة أو أقل من أصحابه والتزموا
مواقفهم مصممي على البقاء حت يؤذن لم أو يبادوا.
وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم حينئذ ف مفرزة صغية ـ تسعة نفر من أصحابه ـ ف مؤخرة
السلمي ،كان يرقب مالدة السلمي ومطاردتم الشركي؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة ،فكان
أمامه طريقان :إما أن ينجو ـ بالسرعة ـ بنفسه وبأصحابه التسعة إل ملجأ مأمون ،ويترك جيشه الطوق
إل مصيه القدور ،وإما أن ياطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله ،ويتخذ بم جبهة قوية يشق با
الطريق ليشه الطوق إل هضاب أحد.
وهناك تلت عبقرية الرسول صلى ال عليه وسلم وشجاعته النقطعة النظي ،فقد رفع صوته ينادي
أصحابه( :إل عباد ال) ،وهو يعرف أن الشركي سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه السلمون ،ولكنه
ناداهم ودعاهم ماطرا بنفسه ف هذا الظرف الدقيق.
وفعلً فقد علم به الشركون فخلصوا إليه ،قبل أن يصل إليه السلمون.
ورجعت طائفة أخري فاختلطت بالشركي ،والتبس العسكران فلم يتميزا ،فوقع القتل ف السلمي بعضهم
من بعض .روي البخاري عن عائشة قالت :لا كان يوم أحد هزم الشركون هزية بينة ،فصاح إبليس :أي
عباد ال أخراكم ـ أي احترزوا من ورائكم ـ فرجعت أولهم فاجتلدت هي وأخراهم ،فبصر حذيفة،
فإذا هو بأبيه اليمان ،فقال :أي عباد ال أب أب .قالت :فوال ما احتجزوا عنه حت قتلوه ،فقال حذيفة:
يغفر ال لكم .قال عروة :فوال ما زالت ف حذيفة بقية خي حت لق بال .
وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد ،وعمتها الفوضي ،وتاه منها الكثيون؛ل يدرون أين
يتوجهون ،وبينما هم كذلك إذ سعوا صائحا يصيح :إن ممدا قد قتل ،فطارت بقية صوابم ،وانارت
الروح العنوية أو كادت تنهار ف نفوس كثي من أفرادها ،فتوقف من توقف منهم عن القتال ،وألقي
بأسلحته مستكينا ،وفكر آخرون ف التصال بعبد ال بن أب ـ رأس النافقي ـ ليأخذ لم المان من أب
سفيان.ومر بؤلء أنس بن النضر ،وقد ألقوا ما بأيديهم فقال :ما تنتظرون ؟ فقالوا :قتل رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،قال :ما تصنعون بالياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،ث قال :اللهم إن أعتذر إليك ما صنع هؤلء ،يعن السلمي ،وأبرأ إليك ما صنع هؤلء ،يعن
الشركي ،ث تقدم فلقيه سعد بن معاذ ،فقال :أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس :واها لريح النة يا سعد ،إن
أجده دون أحد ،ث مضي فقاتل القوم حت قتل ،فما عرف حت عرفته أخته ـ بعد ناية العركة ـببنانه،
وبه بضع وثانون ما بي طعنة برمح ،وضربة بسيف ،ورمية بسهم .
ونادى ثابت بن الدَ ْحدَاح قومه فقال :يا معشر النصار ،إن كان ممد قد قتل ،فإن ال حي ل يوت،
قاتلوا على دينكم ،فإن ال مظفركم وناصركم .فنهض إليه نفر من النصار ،فحمل بم على كتيبة فرسان
خالد فما زال يقاتلهم حت قتله خالد بالرمح ،وقتل أصحابه .
وبثل هذا الستبسال والتشجيع عادت إل جنود السلمي روحهم العنوية ،ورجع إليهم رشدهم
وصوابم ،فعدلوا عن فكرة الستسلم أو التصال بابن أب ،وأخذوا سلحهم ،يهاجون تيارات الشركي،
وهم ياولون شق الطريق إل مقر القيادة ،وقد بلغهم أن خب مقتل النب صلى ال عليه وسلم كذب
ُمخْتَلَق ،فزادهم ذلك قوة على قوتم ،فنجحوا ف الفلت عن التطويق ،وف التجمع حول مركز منيع،
بعد أن باشروا القتال الرير ،وجالدوا بضراوة بالغة.
وكانت هناك طائفة ثالثة ل يكن يهمهم إل رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقد كرت هذه الطائفة إل
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وعمل التطويق ف بدايته ،وف مقدمة هؤلء أبو بكر الصديق ،وعمر بن
الطاب ،وعلي بن أب طالب وغيهم ـ رضي ال عنهم ـ كانوا ف مقدمة القاتلي ،فلما أحسوا بالطر
على ذاته الشريفة ـ عليه الصلة والسلم والتحية ـ صاروا ف مقدمة الدافعي.
وكان آخر هؤلء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السّكَن ،قاتل حت أثبتته الراحة فسقط .
وف رواية الطبان أنه قال يومئذ( :اشتد غضب ال على قوم دموا وجه رسوله) ،ث مكث ساعة ث قال( :
اللهم اغفر لقومي فإنم ل يعلمون) ،وف صحيح مسلم أنه قال(:رب اغفر لقومي فإنم ل يعلمون) ،وف
الشفاء للقاضي عياض أنه قال( :اللهم اهد قومي فإنم ل يعلمون).
ول شك أن الشركي كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول ال صلى ال عليه وسلم إل أن القرشيي
سعد بن أب وقاص وطلحة بن عبيد ال قاما ببطولة نادرة ،وقاتل ببسالة منقطعة النظي ،حت ل يتركا ـ
وها اثنان فحسب ـ سبيل ً إل ناح الشركي ف هدفهم ،وكانا من أمهر رماة العرب فتناضل حت
أجهضا مفرزة الشركي عن رسول ال صلى ال عليه وسلم.
فأما سعد بن أب وقاص ،فقد نثل له رسول ال صلى ال عليه وسلم كنانته وقال(:ارم فداك أب وأمي) .
ويدل على مدى كفاءته أن النب صلى ال عليه وسلم ل يمع أبويه لحد غي سعد.
وأما طلحة بن عبيد ال فقد روي النسائي عن جابر قصة َتجَمّع الشركي حول رسول ال صلى ال عليه
وسلم ومعه نفر من النصار ،قال جابر :فأدرك الشركون رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال( :من
للقوم ؟) فقال طلحة :أنا ،ث ذكر جابر تقدم النصار ،وقتلهم واحدا بعد واحد ،بنحو ما ذكرنا من رواية
مسلم ،فلما قتل النصار كلهم تقدم طلحة .قال جابر :ث قاتل طلحة قتال الحد عشر حت ضربت يده
فقطعت أصابعه ،فقالَ :حسّ ،فقال النب صلى ال عليه وسلم( :لو قلت :بسم ال ،لرفعتك اللئكة
والناس ينظرون) ،قال :ث رد ال الشركي .ووقع عند الاكم ف الكليل أنه جرح يوم أحد تسعا
وثلثي أو خسا وثلثي ،وشلت إصبعه ،أي السبابة والت تليها .
وروي البخاري عن قيس بن أب حازم قال :رأيت يد طلحة شلء ،وقى با النب صلى ال عليه وسلم يوم
أحد.
وروي الترمذي وابن ماجه أن النب صلى ال عليه وسلم قال فيه يومئذ( :من أحب أن ينظر إل شهيد
يشي على وجه الرض فلينظر إل طلحة بن عبيد ال) .
وروي أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت :كان أبوبكر إذا ذكر يوم أحد قال :ذلك اليوم كله لطلحة.
وف ذلك الظرف الدقيق والساعة الرجة أنزل ال نصره بالغيب ،ففي الصحيحي عن سعد ،قال :رأيت
رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم أحد ،ومعه رجلن يقاتلن عنه ،عليهما ثياب بيض كأشد القتال ،ما
رأيتهما قبل ول بعد .وف رواية :يعن جبيل وميكائيل.
وقعت هذه كلها بسرعة هائلة ف لظات خاطفة ،وإل فالصطفون الخيار من صحابته صلى ال عليه
وسلم ـ الذين كانوا ف مقدمة صفوف السلمي عند القتال ـ ل يكادوا يرون تغي الوقف ،أو يسمعوا
صوته صلى ال عليه وسلم حت أسرعوا إليه ؛ لئل يصل إليه شيء يكرهونه ،إل أنم وصلوا وقد لقي
رسول ال صلى ال عليه وسلم ما لقي من الراحات ـ وستة من النصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته
الراحات ،وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجا من أجسادهم
وسلحهم ،وبالغوا ف وقايته من ضربات العدو ،ورد هجماته .وكان أول من رجع إليه هو ثانيه ف الغار
أبو بكر الصديق رضي ال عنه.
روي ابن حبان ف صحيحه عن عائشة قالت :قال أبو بكر الصديق :لا كان يوم أحد انصرف الناس كلهم
عن النب صلى ال عليه وسلم ،فكنت أول من فاء إل النب صلى ال عليه وسلم ،فرأيت بي يديه رجلً
يقاتل عنه ويميه ،قلت :كن طلحة ،فداك أب وأمي ،كن طلحة ،فداك أب وأمي[ ،حيث فاتن ما فاتن،
فقلت :يكون رجل من قومي أحب إل] فلم أنشب أن أدركن أبو عبيدة بن الراح ،وإذا هو يشتد كأنه
طي حت لقن ،فدفعنا إل النب صلى ال عليه وسلم ،فإذا طلحة بي يديه صريعا ،فقال النب صلى ال
عليه وسلم( :دونكم أخـاكم فقـد أوجب) ،وقد رمي النب صلى ال عليه وسلم ف وَجَْنِتهِ حت غابت
حلقتان من حلق ا ِل ْغفَر ف وجنته ،فذهبت لنزعهما عن النب صلى ال عليه وسلم فقال أبو عبيدة:
نشدتك بال يا أبا بكر ،إل تركتن ،قال :فأخذ بفيه فجعل ينَضّـضه كراهية أن يؤذي رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،ث استل السهم بفيه ،فَن َدرَت ثنية أب عبيدة ،قال أبو بكر :ث ذهبت لخذ الخر ،فقال
أبو عبيدة :نشدتك بال يا أبا بكر ،إل تركتن ،قال:فأخذه فجعل ينضضه حت اسَْتلّه ،فندرت ثنية أب
عبيدة الخري ،ث قال رسول ال صلى ال عليه وسلم(:دونكم أخاكم ،فقد أوجب) ،قال :فأقبلنا على
طلحة نعاله ،وقد أصابته بضع عشرة ضربة .وف تذيب تاريخ دمشق :فأتيناه ف بعض تلك الفار فإذا
به بضع وستون أو أقل أو أكثر ،بي طعنة ورمية وضربة ،وإذا قد قطعت إصبعه ،فأصلحنا من شأنه.
وخلل هذه اللحظات الرجة اجتمع حول النب صلى ال عليه وسلم عصابة من أبطال السلمي منهم أبو
دُجَانة ،ومصعب بن عمي ،وعلى بن أب طالب ،وسهل بن حنيف ،ومالك بن سنان والد أب سعيد
الدري ،وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب الازنية ،وقتادة ابن النعمان ،وعمر بن الطاب ،وحاطب بن أب
بلتعة ،وأبو طلحة.
البطولت النادرة
وقام السلمون ببطولت نادرة وتضحيات رائعة ،ل يعرف لا التاريخ نظيا .كان أبو طلحة يسور نفسه
بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ويرفع صدره ليقيه سهام العدو .قال أنس :لا كان يوم أحد
انزم الناس عن النب صلى ال عليه وسلم ،وأبو طلحة بي يديه موب عليه بجفة له ،وكان رجلً راميا
شديد النع ،كسر يومئذ قوسي أو ثلثا ،وكان الرجل ير معه َبعْبَة من النبل فيقول( :انثرها لب طلحة)
،قال :ويشرف النب صلى ال عليه وسلم ينظر إل القوم ،فيقول أبو طلحة :بأب أنت وأمي ل تشرف
يصيبك سهم من سهام القومَ ،نحْرِي دون نرك .
وعنه أيضا قال :كان أبو طلحة يتترس مع النب صلى ال عليه وسلم بترس واحد ،وكان أبو طلحة حسن
ال ّرمْي ،فكان إذا رمي تشرف النب صلى ال عليه وسلم ،فينظر إل موقع نبله.
وقام أبو دجانة أمام رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فَتَ ّرسَ عليه بظهره .والنبل يقع عليه وهو ل يتحرك.
وتبع حاطب بن أب بلتعة عتبة بن أب وقاص ـ الذي كسر الرّباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حت طرح
رأسه ،ث أخذ فرسه وسيفه ،وكان سعد بن أب وقاص شديد الرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إل أنه
ل يظفر به ،بل ظفر به حاطب.
وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة البطال ،بايع رسول ال صلى ال عليه وسلم على الوت ،ث قام بدور
فعال ف ذود الشركي.
وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه ،فعن قتادة بن النعمان :أن رسول ال رمي عن
قوسه حت اندقت سِيتُها ،فأخذها قتادة بن النعمان ،فكانت عنده ،وأصيبت يومئذ عينه حت وقعت على
وَجَْنتِه ،فردها رسول ال صلى ال عليه وسلم بيده ،فكانت أحسن عينيه وأ َحدّهُما.
وقاتل عبد الرحن بن عوف حت أصيب فوه يومئذ فهُِتمَ ،وجرح عشرين جراحة أو أكثر ،أصابه بعضها ف
رجله فعرج.
وامتص مالك بن سنان والد أب سعيد الدري الدم من وجنته صلى ال عليه وسلم حت أنقاه ،فقال( :
ُمجّه) ،فقال :وال ل أمه ،ث أدبر يقاتل ،فقال النب صلى ال عليه وسلم( :من أراد أن ينظر إل رجل من
أهل النة فلينظر إل هذا) ،فقتل شهيدا.
وقاتلت أم عمارة فاعترضت لبن قَمِئَة ف أناس من السلمي ،فضربا ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت
جرحا أجوف ،وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها ،لكن كانت عليه درعان فنجا ،وبقيت أم
عمارة تقاتل حت أصابا اثنا عشر جرحا.
وقاتل مصعب بن عمي بضراوة بالغة ،يدافع عن النب صلى ال عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه،
وكان اللواء بيده ،فضربوه على يده اليمن حت قطعت ،فأخذ اللواء بيده اليسري ،وصمد ف وجوه
الكفار حت قطعت يده اليسري ،ث برك عليه بصدره وعنقه حت قتل ،وكان الذي قتله هو ابن قمئة ،وهو
يظنه رسول ال ـ لشبهه به ـ فانصرف ابن قمئة إل الشركي ،وصاح :إن ممدا قد قتل .
وحينئذ استطاع رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يشق الطريق إل جيشه الطوق ،فأقبل إليهم فعرفه
كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته :يا معشر السلمي أبشروا ،هذا رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،فأشار إليه أن اصمت ـ وذلك لئل يعرف موضعه الشركون ـ إل أن هذا
الصوت بلغ إل آذان السلمي ،فلذ إليه السلمون حت تمع حوله حوال ثلثي رجلً من الصحابة.
وبعد هذا التجمع أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم ف النسحاب النظم إل شعب البل ،وهو يشق
الطريق بي الشركي الهاجي ،واشتد الشركون ف هجومهم ؛ لعرقلة النسحاب إل أنم فشلوا أمام
بسالة ليوث السلم .
تقدم عثمان بن عبد ال بن الغية ـ أحد فرسان الشركي ـ إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو
يقول :ل نوت إن نا .وقام رسول ال صلى ال عليه وسلم لواجهته ،إل أن الفرس عثرت ف بعض
الفر ،فنازله الارث بن الصّمّة ،فضرب على رجله فأقعده ،ث ذَفّفَ عليه وأخذ سلحه ،والتحق برسول
ال صلى ال عليه وسلم.
وعطف عبد ال بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الارث بن الصّمّة ،فضرب بالسيف على
عاتقه فجرحه حت حله السلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل الغامر ذو العصابة المراء ـ على عبد
ال بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه.
وأثناء هذا القتال الرير كان السلمون يأخذهم النعاس أمنة من ال ،كما تدث عنه القرآن .قال أبو
طلحة :كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حت سقط سيفي من يدي مرارا ،يسقط وآخذه ويسقط
وآخذه .
وبثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ ف انسحاب منظم ـ إل شعب البل ،وشق لبقية اليش طريقا
إل هذا القام الأمون ،فتلحق به ف البل ،وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول ال صلى ال عليه
وسلم.
مقتل أب بن خلف
قال ابن إسحاق :فلما أسند رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الشعب أدركه أب بن خلف وهو يقول:
ت إن نا .فقال القوم :يا رسول ال ،أيعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول ال صلى ال
أين ممد ؟ ل نو ُ
عليه وسلم(:دعوه) ،فلما دنا منه تناول رسول ال صلى ال عليه وسلم الربة من الارث بن الصمة،
فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعي إذا انتفض ،ث استقبله وأبصر
تَرْقُ َوتَه من فرجة بي سابغة الدرع والبيضة ،فطعنه فيها طعنة تدأدأ ـ تدحرج ـ منها عن فرسه مرارا.
فلما رجع إل قريش وقد خدشه ف عنقه خدشا غي كبي ،فاحتقن الدم ،قال :قتلن وال ممد ،قالوا له:
ذهب وال فؤادك ،وال إن بك من بأس ،قال :إنه قد كان قال ل بكة(:أنا أقتلك) ،فوال لو بصق على
لقتلن .فمات عدو ال بسَرِف وهم قافلون به إل مكة.وف رواية أب السود عن عروة ،وكذا ف رواية
سعيد بن السيب عن أبيه :أنه كان يور خوار الثور ،ويقول :والذي نفسي بيده ،لو كان الذي ب بأهل
ذي الجاز لاتوا جيعا .
طلحة ينهض بالنب صلى ال عليه وسلم
وف أثناء انسحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم إل البل عرضت له صخرة من البل ،فنهض إليها
ليعلوها فلم يستطع ؛ لنه كان قد َبدّنَ وظاهر بي الدرعي ،وقد أصابه جرح شديد.فجلس تته طلحة بن
عبيد ال ،فنهض به حت استوي عليها ،وقال( :أوْجَبَ طلحةُ) ،أي:النة.
وف مغازي الموي :أن الشركي صعدوا على البل ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لسعد(:
اجْنُبْ ُهمْ) ـ يقول :ارددهم ـ فقال :كيف أجْنُُب ُهمْ وحدي ؟ فقال ذلك ثلثا ،فأخذ سعد سهما من
كنانته ،فرمي به رجلً فقتله ،قال :ث أخذت سهمي أعرفه ،فرميت به آخر ،فقتلته ،ث أخذته أعرفه فرميت
به آخر فقتلته ،فهبطوا من مكانم ،فقلت :هذا سهم مبارك ،فجعلته ف كنانت .فكان عند سعد حت مات،
ث كان عند بنيه .
تشويه الشهداء
وكان هذا آخر هجوم قام به الشركون ضد النب صلى ال عليه وسلم ،ولا ل يكونوا يعرفون من مصيه
شيئا ـ بل كانوا على شبه اليقي من قتله ـ رجعوا إل مقرهم ،وأخذوا يتهيأون للرجوع إل مكة،
واشتغل من اشتغل منهم ـ وكذا اشتغلت نساؤهم ـ بقتلي السلمي ،يثلون بم ،ويقطعون الذان
والنوف والفروج ،ويبقرون البطون .وبقرت هند بنت عتبة كبد حزة فلكتها ،فلم تستطع أن تسيغها
فلفظتها ،واتذت من الذان والنوف َخدَما ـ خلخيل ـ وقلئد.
.1قال كعب بن مالك :كنت فيمن خرج من السلمي ،فلما رأيت تثيل الشركي بقتلي السلمي قمت
فتجاوزت ،فإذا رجل من الشركي جع اللمة يوز السلمي وهو يقول :استوسقوا كما استوسقت جزر
الغنم .وإذا رجل من السلمي ينتظره وعليه لمته ،فمضيت حت كنت من ورائه ،ث قمت أقدر السلم
والكافر ببصري ،فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة ،فلم أزل أنتظرها حت التقيا ،فضرب السلم الكافر
ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتي ،ث كشف السلم عن وجهه ،وقال :كيف تري يا كعب ؟ أنا أبو دجانة
.
.2جاءت نسوة من الؤمني إل ساحة القتال بعد ناية العركة ،قال أنس :لقد رأيت عائشة بنت أب بكر
وأم سليم ،وإنما لشمرتان ـ أري َخدَم سوقهما ـ تَنْقُزَانِ القِ َربَ على متونما ،تفرغانه ف أفواه القوم،
ث ترجعان فتملنا ،ث تيئان فتفرغانه ف أفواه القوم .وقال عمر :كانت [أم سَلِيط من نساء النصار]
تزفر لنا القرب يوم أحد .
وكانت ف هؤلء النسوة أم أين ،لا رأت فلول السلمي يريدون دخول الدينة ،أخذت تثو التراب ف
وجوههم وتقول لبعضهم:هاك الغزل ،وهلم سيفك .ث سارعت إل ساحة القتال ،فأخذت تسقي الرحي،
فرماها حِبّان ـ بالكسر ـ بن العَرَقَة بسهم ،فوقعت وتكشفت ،فأغرق عدو ال ف الضحك ،فشق ذلك
على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فدفع إل سعد بن ب وقاص سهما ل نصل له ،وقال(:ارم به) ،فرمي
به سعد ،فوقع السهم ف نر حبان ،فوقع مستلقيا حت تكشف ،فضحك رسول ال صلى ال عليه وسلم
حت بدت نواجذه ،ث قال(:استقاد لا سعد ،أجاب ال دعوته) .
وجاء ممد بن مسلمة باء عذب سائغ ،فشرب منه النب صلى ال عليه وسلم ودعا له بي .وصلى
الظهر قاعدا من أثر الراح ،وصلى السلمون خلفه قعودا.
ووجدوا ف الرحي الُصَيِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسي ،وكانوا من قبل يعرضون عليه السلم
فيأباه ،فقالوا :إن هذا الصيم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لنكر لذا المر ،ث سألوه :ما الذي جاء بك،
أ َحدَبٌ على قومك ،أم رغبة ف السلم؟ فقال :بل رغبة ف السلم ،آمنت بال ورسوله ،ث قاتلت مع
رسول ال صلى ال عليه وسلم حت أصابن ما ترون ،ومات من وقته ،فذكروه لرسول ال صلى ال عليه
صلّ ل صلة قط .
وسلم ،فقال( :هو من أهل النة) .قال أبو هريرة :ول يُ َ
ووجدوا ف الرحي قُ ْزمَان ـ وكان قد قاتل قتال البطال ؛ قتل وحده سبعة أو ثانية من الشركي ـ
وجدوه قد أثبتته الراحة ،فاحتملوه إل دار بن َظفَر ،وبشره السلمون فقال :وال إن قاتلت إل عن
أحساب قومي ،ولول ذلك ما قاتلت ،فلما اشتد به الراح نر نفسه .وكان رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقول ـ إذا ذكر له( :إنه من أهل النار) ـ وهذا هو مصي القاتلي ف سبيل الوطنية أو ف أي
سبيل سوي إعلء كلمة ال ،وإن قاتلوا تت لواء السلم ،بل وف جيش الرسول والصحابة.
وعلى عكس من هذا كان ف القتلي رجل من يهود بن ثعلبة ،قال لقومه :يا معشر يهود ،وال لقد علمتم
أن نصر ممد عليكم حق.قالوا:إن اليوم يوم السبت .قال:ل سبت لكم.فأخذ سيفه وعدته ،وقال :إن
أصبت فمإل لحمد .يصنع فيه ما شاء ،ث غدا فقاتل حت قتل.فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :
ُمخَيِيق خي يهود).
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلهم إل الدينة فأمر أن يردوهم ،فيدفنوهم ف مضاجعهم وأل
يغسلوا ،وأن يدفنوا كما هم بثيابم بعد نزع الديد واللود .وكان يدفن الثني والثلثة ف القب الواحد،
ويمع بي الرجلي ف ثوب واحد ،ويقول( :أيهم أكثر أَ ْخذًا للقرآن؟) فإذا أشاروا إل الرجل قدمه ف
اللحد ،وقال( :أنا شهيد على هؤلء يوم القيامة) .ودفن عبد ال بن عمرو بن حرام وعمرو بن الموح
ف قب واحد لا كان بينهما من الحبة .
وفقدوا نعش حنظلة ،فتفقدوه فوجدوه ف ناحية فوق الرض يقطر منه الاء ،فأخب رسول ال صلى ال
عليه وسلم أصحابه أن اللئكة تغسله ،ث قال( :سلوا أهله ما شأنه؟) فسألوا امرأته ،فأخبتم الب.ومن
هنا سي حنظلة :غسيل اللئكة .
ولا رأى ما بمزة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه ،وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها
حزة ،فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ابنها الزبي أن يصرفها ،ل تري ما بأخيها ،فقالت :ول؟ وقد
بلغن أن قد مُثّلَ بأخي ،وذلك ف ال ،فما أرضانا با كان من ذلك ،لحتسب ولصبن إن شاء ال ،فأتته
فنظرت إليه ،فصلت عليه ـ دعت له ـ واسترجعت واستغفرت له .ث أمر رسول ال صلى ال عليه
وسلم بدفنه مع عبد ال بن جحش ـ وكان ابن أخته ،وأخاه من الرضاعة.
قال ابن مسعود :ما رأينا رسول ال صلى ال عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حزة بن عبد
الطلب.وضعه ف القبلة ،ث وقف على جنازته وانتحب حت نَشَع من البكاء ـ والنشع :الشهيق.
وكان منظر الشهداء مريعا جدا يفتت الكباد .قال خباب :إن حزة ل يوجد له كفن إل بردة مَ ْلحَاء ،إذا
جعلت على رأسه َقلَصَت عن قدميه ،وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه ،حت مدت على رأسه،
وجعل على قدميه الِ ْذخَر .
وقال عبد الرحن بن عوف :قتل مصعب بن عمي وهو خي من ،كفن ف بردة إن غطي رأسه بدت
رجله ،وإن غطي رجله بدا رأسه ،وروي مثل ذلك عن خباب ،وفيه :فقال لنا النب صلى ال عليه
وسلم( :غطوا با رأسه ،واجعلوا على رجليه الذخر).
(اللهم لك المد كله ،اللهم ل قابض لا بسطت ،ول باسط لا قبضت ،ول هادي لن أضللت ،ول مضل
لن هديت ،ول معطي لا منعت ،ول مانع لا أعطيت ،ول مقرب لا باعدت ،ول مبعد لا قربت .اللهم
ابسط علينا من بركاتك ورحتك وفضلك ورزقك).
(اللهم إن أسألك النعيم القيم ،الذي ل يُول ول يزول .اللهم إن أسألك العون يوم العيلة ،والمن يوم
الوف .اللهم إن عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا .اللهم حبب إلينا اليان وزينه ف قلوبنا،
وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ،واجعلنا من الراشدين .اللهم توفنا مسلمي ،وأحينا مسلمي،
وألقنا بالصالي ،غي خزايا ول مفتوني .اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ،ويصدون عن
سبيلك ،واجعل عليهم رجزك وعذابك .اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ،إله الق).
لقيته ف الطريق حَمْنَة بنت جحشَ ،فُنعِي إليها أخوها عبد ال بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ،ث
نعي لا خالا حزة بن عبد الطلب ،فاسترجعت واستغفرت ،ث نعي لا زوجها مصعب بن عمي ،فصاحت
وولوت ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :إن زوج الرأة منها لبِمَكان) .
ومر بامرأة من بن دينار ،وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد ،فلما نعوا لا قالت :فما فعل رسول ال
صلى ال عليه وسلم؟ قالوا :خيا يا أم فلن ،هو بمد ال كما تبي ،قالت :أرونيه حت أنظر إليه ،فأشي
إليها حت إذا رأته قالت :كل مصيبة بعدك جَ َللٌ ـ تريد صغية.
وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو ،وسعد آخذ بلجام فرسه ،فقال :يا رسول ال ،أمي ،فقال( :مرحبا
با) ،ووقف لا ،فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ .فقالت :أما إذ رأيتك سالا فقد اشتويت الصيبة ـ
أي استقللتها ـ ث دعا لهل من قتل بأحد ،وقال( :يا أم سعد ،أبشري وبشري أهلهم أن قتلهم ترافقوا
ف النة جيعا ،وقد شفعوا ف أهلهم جيعا) .قالت :رضينا يا رسول ال ،ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ث
قالت :يا رسول ال ،ادع لن خلفوا منهم ،فقال( :اللهم أذهب حزن قلوبم ،واجب مصيبتهم ،وأحسن
الَلفَ على من خُ ّلفُوا) .
قتلى الفريقي
اتفقت جل الروايات على أن قتلي السلمي كانوا سبعي ،وكانت الغلبية الساحقة من النصار؛ فقد قتل
منهم خسة وستون رجلً ،واحد وأربعون من الزرج ،وأربعة وعشرون من الوس ،وقتل رجل من
اليهود .وأما شهداء الهاجرين فكانوا أربعة فقط.
وأما قتلي الشركي فقد ذكر ابن إسحاق أنم اثنان وعشرون قتيلً ،ولكن الحصاء الدقيق ـ بعد تعميق
النظر ف جيع تفاصيل العركة الت ذكرها أهل الغازي والسي ،والت تتضمن ذكر قتلي الشركي ف
متلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلي الشركي سبعة وثلثون ،ل اثنان وعشرون ،وال أعلم .
قال أهل الغازي ما حاصله :إن النب صلى ال عليه وسلم نادي ف الناس ،وندبم إل السي إل لقاء العدو
ـ وذلك صباح الغد من معركة أحد ،أي يوم الحد الثامن من شهر شوال سنة 3هـ ـ وقال( :ل
يرج معنا إل من شهد القتال) ،فقال له عبد ال بن أب :أركب معك؟ قال( :ل) ،واستجاب له السلمون
على ما بم من الرح الشديد ،والوف الزيد ،وقالوا :سعا وطاعة .واستأذنه جابر بن عبد ال ،وقال :يا
رسول ال ،إن أحب أل تشهد مشهدا إل كنت معك ،وإنا خلفن أب على بناته فائذن ل أسي معك،
فأذن له.
وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمون معه حت بلغوا حراء السد ،على بعد ثانية أميال من
الدينة ،فعسكروا هناك.
وهناك أقبل مَعْبَد بن أب معبد الزاعي إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فأسلم ـ ويقال :بل كان على
شركه ،ولكنه كان ناصحا لرسول ال صلى ال عليه وسلم لا كان بي خزاعة وبن هاشم من اللف ـ
فقال :يا ممد ،أما وال لقد عز علينا ما أصابك ف أصحابك ،ولوددنا أن ال عافاك .فأمره رسول ال
خذّلَه.
صلى ال عليه وسلم أن يلحق أبا سفيان فَُي َ
ول يكن ما خافه رسول ال صلى ال عليه وسلم من تفكي الشركي ف العودة إل الدينة إل حقا ،فإنم لا
نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلثي ميلً من الدينة تلوموا فيما بينهم ،قال بعضهم لبعض:ل تصنعوا
شيئا ،أصبتم شوكتهم وحدهم ،ث تركتموهم ،وقد بقي منهم رءوس يمعون لكم ،فارجعوا حت نستأصل
شأفتهم.
ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحيا من ل يكن يقدر قوة الفريقي ومعنوياتم تقديرا صحيحا ؛ ولذلك
خالفهم زعيم مسئول [صفوان بن أمية] قائلً :يا قوم ،لتفعلوا فإن أخاف أن يمع عليكم من تلف من
الروج ـ أي من السلمي ف غزوة أحد ـ فارجعوا والدولة لكم ،فإن ل آمن إن رجعتم أن تكون
الدولة عليكم .إل أن هذا الرأي رفض أمام رأي الغلبية الساحقة ،وأجع جيش مكة على السي نو
الدينة .ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بيشه من مقره لقه معبد بن أب معبد الزاعي ول يكن يعرف أبو
سفيان بإسلمه ،فقال :ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد ـ وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة :ممد
قد خرج ف أصحابه ،يطلبكم ف جع ل أر مثله قط ،يتحرقون عليكم ترقا ،قد اجتمع معه من كان تلف
عنه ف يومكم ،وندموا على ما ضيعوا ،فيهم من النق عليكم شيء ل أر مثله قط.
وحينئذ انارت عزائم اليش الكي وأخذه الفزع والرعب ،فلم ير العافية إل ف مواصلة النسحاب
والرجوع إل مكة ،بيد أن أبا سفيان قام برب أعصاب دعائية ضد اليش السلمي ،لعله ينجح ف كف
هذا اليش عن مواصلة الطاردة ،وطبعا فهو ينجح ف تنب لقائه .فقد مر به ركب من عبد القيس يريد
الدينة ،فقال :هل أنتم مبلغون عن ممدا رسالة ،وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إل مكة؟
قالوا :نعم.
قال :فأبلغوا ممدا أنا قد أجعنا الكرة ؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه.
فمر الركب برسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه ،وهم بمراء السد ،فأخبهم بالذي قال له أبو
سفيان ،وقالوا{ :إِ ّن النّاسَ َقدْ جَ َمعُواْ لَ ُكمْ فَاخْشَوْ ُهمْ فَزَادَ ُهمْ} ـ أي زاد السلمي قولم ذلك ـ {إِيَانا
سسْ ُهمْ سُوءٌ وَاتّبَعُواْ رِضْوَا َن الِ وَالُ ذُو
وَقَالُواْ حَسُْبنَا الُ َونِ ْع َم الْ َوكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِِنعْ َمةٍ مّ َن الِ وَ َفضْلٍ لّمْ يَمْ َ
ضلٍ َعظِيمٍ}[آل عمران.]174 ،173 :
فَ ْ
أقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بمراء السد ـ بعد مقدمه يوم الحد ـ الثني والثلثاء والربعاء
ـ 11 ،10 ،9شوال سنة 3هـ ـ ث رجع إل الدينة ،وأخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل
الرجوع إل الدينة أبا عَزّة المحي ـ وهو الذي كان قد منّ عليه من أساري بدر ؛ لفقره وكثرة بناته،
على أل يظاهر عليه أحدا ،ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النب صلى ال عليه وسلم
والسلمي ،كما أسلفنا ،وخرج لقاتلتهم ف أحد ـ فلما أخذه رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :يا
ممد ،أقلن ،وامنن على ،ودعن لبنات ،وأعطيك عهدا أل أعود لثل ما فعلت ،فقال صلى ال عليه
وسلم( :ل تسح عارضيك بكة بعدها وتقول :خدعت ممدا مرتي ،ل يلدغ الؤمن من جحر مرتي) ،ث
أمر الزبي أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه.
كما حكم بالعدام ف جاسوس من جواسيس مكة ،وهو معاوية بن الغية بن أب العاص جد عبد اللك بن
مروان لمه ؛ وذلك أنه لا رجع الشركون يوم أحد جاء معاوية هذا إل ابن عمه عثمان بن عفان رضي
ال عنه فاستأمن له عثمان رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلث قتله .فلما
خلت الدينة من اليش السلمي أقام فيها أكثر من ثلث يتجسس لساب قريش ،فلما رجع اليش
خرج معاوية هاربا ،فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم زيد بن حارثة وعمار بن ياسر ،فتعقباه حت قتله
.
وما ل شك فيه أن غزوة حراء السد ليست بغزوة مستقلة ،وإنا هي جزء من غزوة أحد ،وتتمة لا
وصفحة من صفحاتا.
تلك هي غزوة أحد بميع مراحلها وتفاصيلها ،وطالا بث الباحثون حول مصي هذه الغزوة ،هل كانت
هزية أم ل؟ والذي ل يشك فيه أن التفوق العسكري ف الصفحة الثانية من القتال كان للمشركي ،وأنم
كانوا مسيطرين على ساحة القتال ،وأن خسارة الرواح والنفوس كانت ف جانب السلمي أكثر وأفدح،
وأن طائفة من الؤمني انزمت قطعا ،وأن دفة القتال جرت لصال اليش الكي ،لكن هناك أمور تنعنا أن
نعب عن كل ذلك بالنصر والفتح.
فمما ل شك فيه أن اليش الكي ل يستطع احتلل معسكر السلمي ،وأن القدار الكبي من اليش الدن
ل يلتجئ إل الفرار ـ مع الرتباك الشديد والفوضي العامة ـ بل قاوم بالبسالة حت تمع حول مقر
قيادته ،وأن كفته ل تسقط إل حد أن يطارده اليش الكي ،وأن أحدا من جيش الدينة ل يقع ف أسر
الكفار ،وأن الكفار ل يصلوا على شيء من غنائم السلمي ،وأن الكفار ل يقوموا إل الصفحة الثالثة من
القتال مع أن جيش السلمي ل يزل ف معسكره ،وأنم ل يقيموا بساحة القتال يوما أو يومي أو ثلثة أيام
ـ كما هو دأب الفاتي ف ذلك الزمان ـ بل سارعوا إل النسحاب وترك ساحة القتال قبل أن يتركها
السلمون ،ول يترئوا على الدخول ف الدينة لنهب الذراري والموال ،مع أنا على بعد عدة خطوات
فحسب ،وكانت مفتوحة وخالية تاما.
كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش ل يكن أكثر من أنم وجدوا فرصة نحوا فيها بإلاق السائر
الفادحة بالسلمي ،مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة اليش السلمي بعد عمل التطويق ـ
وكثيا ما يلقي الفاتون بثل هذه السائر الت نالا السلمون ـ أما أن ذلك كان نصرا وفتحا فكل
وحاشا.
بل يؤكد لنا تعجيل أب سفيان ف النسحاب والنصراف أنه كان ياف على جيشه العرة والزية لو
جرت صفحة ثالثة من القتال ،ويزداد ذلك تأكدا حي ننظر إل موقف أب سفيان من غزوة حراء السد.
وإذن فهذه الغزوة إنا كانت حربا غي منفصلة ،أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والسارة ،ث
حاد كل منها عن القتال من غي أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لحتلل العدو ،وهذا هو معن
الرب غي النفصلة.
وإل هذا يشي قوله تعإل{ :وَلَ تَهِنُواْ فِي ابِْتغَاء اْلقَوْمِ إِن تَكُونُواْ َتأْلَمُونَ َفِإنّ ُهمْ َيأْلَمُونَ كَمَا تَ ْألَمونَ
َوتَرْجُونَ مِنَ الِ مَا لَ يَرْجُونَ} [النساء ،]104 :فقد شبه أحد العسكرين بالخر ف التأل وإيقاع الل،
ما يفيد أن الوقفي كانا متماثلي ،وأن الفريقي رجعا وكل غي غالب.
ونزل القرآن يلقي ضوءا على جيع الراحل الهمة من هذه العركة مرحلة مرحلة ،وصرح بالسباب الت
أدت إل هذه السارة الفادحة ،وأبدي النواحي الضعيفة الت ل تزل موجودة ف طوائف أهل اليان
بالنسبة إل واجبهم ف مثل هذه الواقف الاسة ،وبالنسبة إل الهداف النبيلة السامية الت أنشئت
للحصول عليها هذه المة ،والت تتاز عن غيها بكونا خي أمة أخرجت للناس.
كما تدث القرآن عن موقف النافقي ،ففضحهم وأبدي ما كان ف باطنهم من العداوة ل ولرسوله ،مع
إزالة الشبهات والوساوس الت كانت تتلج ف قلوب ضعفاء السلمي ،والت كان يثيها هؤلء النافقون
وإخوانم اليهود ـ أصحاب الدس والؤامرة ـ وقد أشار إل الكم والغايات الحمودة الت تخضت
عنها هذه العركة.
نزلت حول موضوع العركة ستون آية من سورة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل العركة:
{ َوإِذْ َغدَ ْوتَ مِنْ أَ ْه ِلكَ تُبَوّى ُء الْمُ ْؤمِنِيَ مَقَا ِعدَ لِ ْلقِتَالِ} [ آل عمران ،] 121 :وتترك ف نايتها تعليقا
جامعا على نتائج هذه العركة وحكمتها ،قال تعإل{ :مّا كَانَ الُ لَِيذَرَ الْمُ ْؤمِنِيَ َعلَى مَآ أَنُتمْ َعلَ ْيهِ َحتّىَ
يَمِي َز اْلخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ َومَا كَا َن الُ لُِيطْ ِلعَ ُكمْ َعلَى اْلغَيْبِ َولَكِ ّن الَ َيجْتَبِي مِن رّسُ ِلهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِالِ
وَ ُرسُ ِلهِ َوإِن تُ ْؤمِنُواْ َوتَّتقُواْ فَ َل ُكمْ أَجْرٌ َعظِيمٌ} [آل عمران.]179 :
الكم والغايات الحمودة ف هذه الغزوة
قد بسط ابن القيم الكلم على هذا الوضوع بسطا تاما .وقال ابن حجر :قال العلماء :وكان ف قصة
أحد وما أصيب به السلمون فيها من الفوائد والكم الربانية أشياء عظيمة ،منها تعريف السلمي سوء
عاقبة العصية ،وشؤم ارتكاب النهي؛ لا وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلى ال عليه
وسلم أل يبحوا منه.
ومنها أن عادة الرسل أن تبتلي وتكون لا العاقبة ،والكمة ف ذلك أنم لو انتصروا دائما دخل ف الؤمني
من ليس منهم ،ول يتميز الصادق من غيه ،ولو انكسروا دائما ل يصل القصود من البعثة ،فاقتضت
الكمة المع بي المرين لتمييز الصادق من الكاذب ،وذلك أن نفاق النافقي كان مفيا عن السلمي،
فلما جرت هذه القصة ،وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريا ،وعرف
السلمون أن لم عدوا ف دورهم ،فاستعدوا لم وترزوا منهم.
ومنها أن ف تأخي النصر ف بعض الواطن هضـما للنفس ،وكسرا لشـماختها ،فلما ابتلي الؤمنـون
صـبوا ،وجـزع النافقون.
ومنها أن ال هيأ لعباده الؤمني منازل ف دار كرامته ل تبلغها أعمالم ،فقيض لم أسباب البتلء والحن
ليصلوا إليها.
ومنها أنه أراد إهلك أعدائه ،فقيض لم السباب الت يستوجبون با ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانم ف
أذى أوليائه ،فمحص بذلك ذنوب الؤمني ،ومق بذلك الكافرين.
السرايا والبعوث بي أحد والحزاب
سرية أب سلمة
بعث عبد ال بن أُنَيس
بعث الرّجِيع
مأساة بئر مَعُونة
غزوة بن النضي
غزوة ند
غزوة بدر الثانية
غزوة دُوَمة الندل
كان لأساة أحد أثر سيئ على سعة الؤمني ،فقد ذهبت ريهم ،وزالت هيبتهم عن النفوس ،وزادت
التاعب الداخلية والارجية على الؤمني وأحاطت الخطار بالدينة من كل جانب ،وكاشف اليهود
والنافقون والعراب بالعداء السافر ،وهت كل طائفة منهم أن تنال من الؤمني ،بل طمعت ف أن تقضي
عليهم وتستأصل شأفتهم.
فلم يض على هذه العركة شهران حت تيأت بنو أسد للغارة على الدينة .ث قامت قبائل َعضَل وقَارَة ف
شهر صفر سنة 4هـ بكيدة تسببت ف قتل عشرة من الصحابة ،وف نفس الشهر نفسه قام عامر بن
الطّفَيل العامري بتحريض بعض القبائل حت قتلوا سبعي من الصحابة ،وتعرف هذه الوقعة بوقعة بئر
مَعُونَة ،ول تزل بنو نضي خلل هذه الدة تاهر بالعداوة حت قامت ف ربيع الول سنة 4هـ بكيدة
تدف إل قتل النب صلى ال عليه وسلم ،وترأت بنو َغ َطفَان حت هت بالغزو على الدينة ف جادي
الول سنة 4هـ.
فريح السلمي الت كانت قد ذهبت ف معركة أحد تركت السلمي ـ إل حي ـ يهددون بالخطار،
ولكن تلك هي حكمة ممد صلى ال عليه وسلم الت صرفت وجوه التيارات ،وأعادت للمسلمي هيبتهم
الفقودة ،وأكسبتهم العلو والجد من جديد .وأول ما أقدم عليه بذا الصدد هي حركة الطاردة الت قام
با إل حراء السد ،فقد حفظ با قدرا من سعة جيشه ،واستعاد با من مكانته شيئا مذكورا ،ث قام
بناورات أعادت للمسلمي هيبتهم ،بل زادت فيها ،وف الصفحات التية شيء ما جري بي الطرفي.
سرية أب سلمة
أول من قام ضد السلمي بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزية ،فقد نقلت استخبارات الدينة أن طلحة
وسلمة ابن خويلد قد سارا ف قومهما ومن أطاعهما يدعون بن أسد بن خزية إل حرب رسول ال صلى
ال عليه وسلم.
فسارع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل بعث سرية قوامها مائة وخسون مقاتلً من الهاجرين
والنصار ،وأمر عليهم أبا سلمة ،وعقد له لواء .وباغت أبو سلمة بن أسد بن خزية ف ديارهم قبل أن
يقوموا بغارتم ،فتشتتوا ف المر ،وأصاب السلمون إبل وشاء لم فاستاقوها ،وعادوا إل الدينة سالي
غاني ل يلقوا حربا.
كان مبعث هذه السرية حي استهل هلل الحرم سنة 4هـ .وعاد أبو سلمة وقد نفر عليه جرح كان
قد أصابه ف أحد ،فلم يلبث حت مات.
بعث الرّجِيع
وف شهر صفر من نفس السنة ـ أي الرابعة من الجرة ـ قدم على رسول ال صلى ال عليه وسلم قوم
من َعضَل وقَارَة ،وذكروا أن فيهم إسلما ،وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين ،ويقرئهم القرآن،
فبعث معهم ستة نفر ـ ف قول ابن إسحاق ،وف رواية البخاري أنم كانوا عشرة ـ وأمر عليهم مَ ْرثَد بن
أب مَرْثَد الغَنَوِي ـ ف قول ابن إسحاق ،وعند البخاري أنه عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن
الطاب ـ فذهبوا معهم ،فلما كانوا بالرجيع ـ وهو ماء ُلذَيلِ بناحية الجاز بي رَابِغ و ُجدّة ـ
استصرخوا عليهم حيا من هذيل يقال لم :بنو لَحْيَان ،فتبعوهم بقريب من مائة رام ،واقتصوا آثارهم حت
لقوهم ،فأحاطوا بم ـ وكانوا قد لأوا إل َفدْفَد ـ وقالوا :لكم العهد واليثاق إن نزلتم إلينا أل نقتل
منكم رجلً .فأما عاصم فأب من النول وقاتلهم ف أصحابه ،فقتل منهم سبعة بالنبل ،وبقي ُخبَيب وزيد
بن ال ّدثِّنةِ ورجل آخر ،فأعطوهم العهد واليثاق مرة أخري ،فنلوا إليهم ولكنهم غدروا بم وربطوهم
بأوتار قِسِيهم ،فقال الرجل الثالث :هذا أول الغدر ،وأب أن يصحبهم ،فجرروه وعالوه على أن
يصحبهم فلم يفعل فقتلوه ،وانطلقوا ببيب وزيد فباعوها بكة ،وكانا قتل من رءوسهم يوم بدر ،فأما
خبيب فمكث عندهم مسجونا ،ث أجعوا على قتله ،فخرجوا به من الرم إل التنعيم ،فلما أجعوا على
صلبه قال :دعون حت أركع ركعتي ،فتركوه فصلها ،فلما سلم قال :وال لول أن تقولوا :إن ما ب
جزع لزدت ،ث قال:اللهم أحْصِ ِهمْ َعدَدًا ،واقتلهم بَدَدًا ،ول تُبْقِ منهم أحدا ،ث قال :فقال له أبو سفيان:
أيسرك أن ممدا عندنا نضرب عنقه ،وأنك ف أهلك؟ فقال :ل وال ،ما يسرن أن ف أهلي وأن ممدا ف
مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه .ث صلبوه ووكلوا به من يرس جثته ،فجاء عمرو بن أمية
الضمري ،فاحتمله بدعة ليلً ،فذهب به فدفنه ،وكان الذي تول قتل خبيب هو عقبة بن الارث ،وكان
خبيب قد قتل أباه حارثا يوم بدر.
وف الصحيح أن خبيبا أول من سن الركعتي عند القتل ،وأنه رئي وهو أسي يأكل ِق ْطفًا من العنب ،وما
بكة ثرة.
وأما زيد بن ال ّدثِنّة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه.
وبعثت قريش إل عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه ـ وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم
بدر ـ فبعث ال عليه مثل الظّلّة من الدّبْر ـ الزنابي ـ فحمته من رسلهم ،فلم يقدروا منه على شيء.
وكان عاصم أعطي ال عهدا أل يسه مشرك ول يس مشركا .وكان عمر لا بلغه خبه يقول :يفظ ال
العبد الؤمن بعد وفاته كما يفظه ف حياته .
وملخصها :أن أبا براء عامر بن مالك الدعو ُبلَعِب السِنّة قدم على رسول ال صلى ال عليه وسلم
الدينة ،فدعاه إل السلم فلم يسلم ول يبعد ،فقال :يا رسول ال ،لو بعثت أصحابك إل أهل َنجْد
يدعونم إل دينك لرجوت أن ييبوهم ،فقال( :إن أخاف عليهم أهل ند) ،فقال أبو بَرَاء :أنا جَارٌ لم،
فبعث معه أربعي رجلً ـ ف قول ابن إسحاق ،وف الصحيح أنم كانوا سبعي ،والذي ف الصحيح هو
الصحيح ـ وأمر عليهم النذر بن عمرو أحد بن ساعدة اللقب با ُلعْنِقَ لِيمُوت ،وكانوا من خيار السلمي
وفضلئهم وساداتم وقرائهم ،فساروا يتطبون بالنهار ،يشترون به الطعام لهل الصفة ،ويتدارسون
القرآن ويصلون بالليل ،حت نزلوا بئر معونة ـ وهي أرض بي بن عامر و َحرّة بن ُسلَيْم ـ فنلوا هناك،
ث بعثوا حرام بن مِ ْلحَان أخا أم سليم بكتاب رسول ال صلى ال عليه وسلم إل عدو ال عامر بن
الطّفَيْل ،فلم ينظر فيه ،وأمر رجلً فطعنه بالربة من خلفه ،فلما أنفذها فيه ورأى الدم ،قال حرام :ال
أكب ،فُ ْزتُ ورب الكعبة.
ث استنفر عدو ال لفوره بن عامر إل قتال الباقي ،فلم ييبوه لجل جوار أب براء ،فاستنفر بن سليم،
فأجابته عُصَيّة ورِعْل و َذكَوان ،فجاءوا حت أحاطوا بأصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقاتلوا
حت قتلوا عن آخرهم إل كعب بن زيد بن النجار ،فإنه ا ْرتُثّ من بي القتلي ،فعاش حت قتل يوم الندق.
وكان عمرو بن أمية الضمري والنذر بن عقبة بن عامر ف سرح السلمي فرأيا الطي توم على موضع
الوقعة ،فنل النذر ،فقاتل الشركي حت قتل مع أصحابه ،وأسر عمرو بن أمية الضمري ،فلما أخب أنه
من مُضَر جَزّ عامر ناصيته ،وأعتقه عن رقبة كانت على أمه.
ولا كان عمرو بن أمية ف الطريق بالقَرْ َقرَة من صدر قناة ،نزل ف ظل شجرة ،وجاء رجلن من بن كلب
فنل معه ،فلما ناما فتك بما عمرو ،وهو يري أنه قد أصاب ثأر أصحابه ،وإذا معهما عهد من رسول ال
صلى ال عليه وسلم ل يشعر به ،فلما قدم أخب رسول ال صلى ال عليه وسلم با فعل ،فقال (:لقد قتلت
قتيلي ل ِديَنّهما) ،وانشغل بمع ديتهما من السلمي ومن حلفائهم اليهود ،وهذا الذي صار سببا لغزوة
بن النضي ،كما سيذكر.
وقد تأل النب صلى ال عليه وسلم لجل هذه الأساة ،ولجل مأساة الرجيع اللتي وقعتا خلل أيام معدودة
،تألا شديدا ،وتغلب عليه الزن والقلق ،حت دعا على هؤلء القوام والقبائل الت قامت بالغدر والفتك
ف أصحابه .ففي الصحيح عن أنس قال :دعا النب صلى ال عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر
صتْ ال
معونة ثلثي صباحا ،يدعو ف صلة الفجر على رِعْل و َذكْوَان وَلحْيَان وعُصَية ،ويقولُ (:عصَية عَ َ
ورسوله) ،فأنزل ال تعال على نبيه قرآنا قرأناه حت نسخ بعد( :بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا
ورضينا عنه) فترك رسول ال صلى ال عليه وسلم قُنُوتَه .
غزوة بن النضي
قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على السلم والسلمي إل أنم ل يكونوا أصحاب حرب وضرب ،بل
كانوا أصحاب دس ومؤامرة ،فكانوا ياهرون بالقد والعداوة ،ويتارون أنواعا من اليل ؛ ليقاع
اليذاء بالسلمي دون أن يقوموا للقتال مع ما كان بينهم وبي السلمي من عهود ومواثيق ،وأنم بعد
وقعة بن قينقاع وقتل كعب بن الشرف خافوا على أنفسهم فاستكانوا والتزموا الدوء والسكوت.
ولكنهم بعد وقعة أحد ترأوا ،فكاشفوا بالعداوة والغدر ،وأخذوا يتصلون بالنافقي وبالشركي من أهل
مكة سرا ،ويعملون لصالهم ضد السلمي .
وصب النب صلى ال عليه وسلم حت ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرّجِيع وبئر َمعُونة ،حت قاموا
بؤامرة تدف القضاء على النب صلى ال عليه وسلم.
وبيان ذلك :أنه صلى ال عليه وسلم خرج إليهم ف نفر من أصحابه ،وكلمهم أن يعينوه ف دية الكلبيي
اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضّ ْمرِي ـ وكان ذلك يب عليهم حسب بنود العاهدة ـ فقالوا :نفعل يا
أبا القاسم ،اجلس ها هنا حت نقضي حاجتك .فجلس إل جنب جدار من بيوتم ينتظر وفاءهم با وعدوا،
وجلس معه أبو بكر وعمر وعلى وطائفة من أصحابه.
وخل اليهود بعضهم إل بعض ،وسول لم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم ،فتآمروا بقتله صلى ال
عليه وسلم ،وقالوا :أيكم يأخذ هذه الرحي ،ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه با؟ ...فقال أشقاهم
عمرو بن جحاش :أنا .فقال لم َسلّم بن مِشْكَم :ل تفعلوا ،فوال ليخبن با همتم به ،وإنه لنقض للعهد
الذي بيننا وبينه .ولكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم.
ونزل جبيل من عند رب العالي على رسوله صلى ال عليه وسلم يعلمه با هوا به ،فنهض مسرعا
وتوجه إل الدينة ،ولقه أصحابه فقالوا :نضت ول نشعر بك ،فأخبهم با َهمّتْ به يهود.
وما لبث رسول ال صلى ال عليه وسلم أن بعث ممد بن مسلمة إل بن النضي يقول لم ( :اخرجوا من
الدينة ول تساكنون با ،وقد أجلتكم عشرا ،فمن وجدت بعد ذلك با ضربت عنقه) .ول يد يهود
مناصا من الروج ،فأقاموا أياما يتجهزون للرحيل ،بيد أن رئيس النافقي ـ عبد ال بن أب ـ بعث إليهم
أن اثبتوا وتَمَّنعُوا ،ول ترجوا من دياركم ،فإن معي ألفي يدخلون معكم حصنكم ،فيموتون دونكم {لَئِنْ
أُخْرِجُْتمْ لَنَخْ ُرجَنّ َمعَ ُكمْ َولَا ُنطِيعُ فِي ُكمْ أَ َحدًا َأبَدًا َوإِن قُوتِلُْتمْ لَنَنصُ َرنّ ُكمْ} [الشر ]11:وتنصركم
قريظة وحلفاؤكم من غطفان.
وهناك عادت لليهود ثقتهم ،واستقر رأيهم على الناوأة ،وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس
النافقي ،فبعث إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول :إنا ل نرج من ديارنا ،فاصنع ما بدا لك.
ول شك أن الوقف كان حرجا بالنسبة للمسلمي ،فإن اشتباكهم بصومهم ف هذه الفترة الحرجة من
تاريهم ل يكن مأمون العواقب ،وقد رأوا كَلَب العرب عليهم وفتكهم الشنيع ببعوثهم ،ث إن يهود بن
النضي كانوا على درجة من القوة تعل استسلمهم بعيد الحتمال ،وتعل فرض القتال معهم مفوفا
بالكاره ،إل أن الال الت جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية السلمي برائم الغتيال
والغدر الت أخذوا يتعرضون لا جاعات وأفرادا ،وضاعفت نقمتهم على مقترفيها ،ومن ث قرروا أن
يقاتلوا بن النضي ـ بعد ههم باغتيال الرسول صلى ال عليه وسلم ـ مهما تكن النتائج.
فلما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم جواب حيي بن أخطب كب وكب أصحابه ،ث نض لناجزة
القوم ،فاستعمل على الدينة ابن أم مكتوم ،وسار إليهم ،وعلى بن أب طالب يمل اللواء ،فلما انتهي إليهم
فرض عليهم الصار.
والتجأ بنو النضي إل حصونم ،فأقاموا عليها يرمون بالنبل والجارة ،وكانت نيلهم وبساتينهم عونا لم
ف ذلك ،فأمر بقطعها وتريقها ،وف ذلك يقول حسان:
[البويرة :اسم لنخل بن النضي] وف ذلك أنزل ال تعال{ :مَا َقطَعْتُم مّن لّيَنةٍ أَوْ تَ َركْتُمُوهَا قَائِ َمةً َعلَى
أُصُولِهَا فَِبإِ ْذ ِن الِ} [الشر.]5 :
واعتزلتهم قريظة ،وخانم عبد ال بن أب وحلفاؤهم من غطفان ،فلم ياول أحد أن يسوق لم خيا ،أو
يدفع عنهم شرا ،ولذا شبه سبحانه وتعإل قصتهم ،وجعل مثلهم{:كَمَثَلِ الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ لِ ْلإِنسَا ِن ا ْكفُرْ
فَ َلمّا َكفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مّنكَ} [الشر]16 :
ول يطل الصار ـ فقد دام ست ليال فقط ،وقيل :خس عشرة ليلة ـ حت قذف ال ف قلوبم الرعب،
فاندحروا وتيأوا للستسلم وللقاء السلح ،فأرسلوا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم :نن نرج عن
الدينة .فأنزلم على أن يرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم ،وأن لم ما حلت البل إل السلح.
فنلوا على ذلك ،وخربوا بيوتم بأيديهم ،ليحملوا البواب والشبابيك ،بل حت حل بعضهم الوتاد
وجذوع السقف ،ث حلوا النساء والصبيان ،وتملوا على ستمائة بعي ،فترحل أكثرهم وأكابرهم كحيي
لقَيق إل خيب ،وذهبت طائفة منهم إل الشام ،وأسلم منهم رجلن فقط :يامِيُ
بن أخطب وسلّم بن أب ا ُ
بن عمرو وأبو سعد بن وهب ،فأحرزا أموالما.
وقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم سلح بن النضي ،واستول على أرضهم وديارهم وأموالم ،فوجد
من السلح خسي درعا وخسي بيضة ،وثلثائة وأربعي سيفا.
وكانت أموال بن النضي وأرضهم وديارهم خالصة لرسول ال صلى ال عليه وسلم ؛ يضعها حيث يشاء،
ول يَمّسْها لن ال أفاءها عليه ،ول يوجِف السلمون عليها بِخَيلٍ ول رِكاب ،فقسمها بي الهاجرين
الولي خاصة ،إل أنه أعطي أبا دُجَانة وسهل بن حُنَيف النصاريي لفقرها .وكان ينفق منها على أهله
نفقة سنة ،ث يعل ما بقي ف السلح والكُرَاع عدة ف سبيل ال.
كانت غزوة بن النضي ف ربيع الول سنة 4من الجرة ،أغسطس 625م ،وأنزل ال ف هذه الغزوة
سورة الشر بأكملها ،فوصف طرد اليهود ،وفضح مسلك النافقي ،وبي أحكام الفيء ،وأثن على
الهاجرين والنصار ،وبي جواز القطع والرق ف أرض العدو للمصال الربية ،وأن ذلك ليس من الفساد
ف الرض ،وأوصي الؤمني بالتزام التقوي والستعداد للخرة ،ث ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسائه
وصفاته.
وكان ابن عباس يقول عن سورة الشر :قل :سورة النضي .
هذه خلصة ما رواه ابن إسحاق وعامة أهل السي حول هذه الغزوة .وقد روي أبو داود وعبد الرزاق
وغيها سببا آخر حول هذه الغزوة ،وهو أنه لا كانت وقعة بدر فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إل
اليهود :إنكم أهل اللقة والصون ،وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ،ول يول بيننا وبي
َخدَم نسائكم شيء ـ وهو اللخيل ـ فلما بلغ كتابم اليهود أجعت بنو النضي على الغدر ،فأرسلوا
إل النب صلى ال عليه وسلم :اخرج إلينا ف ثلثي رجلً من أصحابك ،ولنخرج ف ثلثي حبا ،حت
صفٌ بيننا وبينكم ،فيسمعوا منك ،فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا ،فخرج النب
نلتقي ف مكان كذا ،نَ َ
صلى ال عليه وسلم ف ثلثي من أصحابه ،وخرج إليه ثلثون حبا من يهود ،حت إذا برزوا ف براز من
الرض قال بعض اليهود لبعض :كيف تلصون إليه ومعه ثلثون رجلً من أصحابه ،كلهم يب أن يوت
قبله ،فأرسلوا إليه :كيف تفهم ونفهم ونن ستون رجلً ؟ اخرج ف ثلثة من أصحابك ويرج إليك ثلثة
من علمائنا ،فليسمعوا منك ،فإن آمنوا بك آمنا كلنا وصدقناك ،فخرج النب صلى ال عليه وسلم ف ثلثة
نفر من أصحابه واشتملوا [أي اليهود] على الناجر ،وأرادوا الفتك برسول ال صلى ال عليه وسلم،
فأرسلت امرأة ناصحة من بن النضي إل بن أخيها ،وهو رجل مسلم من النصار ،فأخبته خب ما أرادت
بنو النضي من الغدر برسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأقبل أخوها سريعا حت أدرك النب صلى ال عليه
وسلم ،فساره ببهم قبل أن يصل النب صلى ال عليه وسلم إليهم ،فرجع النب صلى ال عليه وسلم،
فلما كان من الغد غدا عليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم ،وقال لم ( :إنكم
لتأمنون عندي إل بعهد تعاهدون عليه) ،فأبوا أن يعطوه عهدا ،فقاتلهم يومهم ذلك هو والسلمون ،ث
غدا الغد على بن قريظة باليل والكتائب ،وترك بن النضي ،ودعاهم إل أن يعاهدوه ،فعاهدوه ،فانصرف
عنهم ،وغدا إل بن النضي بالكتائب ،فقاتلهم حت نزلوا على اللء ،وعلى أن لم ما أقلت البل إل
الَلْقة ـ واللْقة :السلح ـ فجاءت بنو النضي واحتملوا ما أقلت إبل من أمتعتهم وأبواب بيوتم
وخشبها ،فكانوا يربون بيوتم فيهدمونا ،فيحملون ما وافقهم من خشبها ،وكان جلؤهم ذلك أول
حشر الناس إل الشام .
غزوة ند
وبذا النصر الذي أحرزه السلمون ـ ف غزوة بن النضي ـ دون قتال وتضحية توطد سلطانم ف
الدينة ،وتاذل النافقون عن الهر بكيدهم ،وأمكن للرسول صلى ال عليه وسلم أن يتفرغ لقمع
العراب الذين آذوا السلمي بعد أحد ،وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالا ف نذالة وكفران،
وبلغت بم الرأة إل أن أرادوا القيام بر غزوة على الدينة.
فقبل أن يقوم النب صلى ال عليه وسلم بتأديب أولئك الغادرين ،نقلت إليه استخبارات الدينة بتحشد
جوع البدو والعراب من بن ُمحَارِب وبن ثعلبة من َغطَفَان ،فسارع النب صلى ال عليه وسلم إل
الروج ،يوس فياف ند ،ويلقي بذور الوف ف أفئدة أولئك البدو القساة؛ حت ل يعاودوا مناكرهم الت
ارتكبها إخوانم مع السلمي.
وأضحي العراب الذين مردوا على النهب والسطو ل يسمعون بقدم السلمي إل حذروا وتنعوا ف
رءوس البال ،وهكذا أرهب السلمون هذه القبائل الغية ،وخلطوا بشاعرهم الرعب ،ث رجعوا إل
الدينة آمني.
وقد ذكر أهل الغازي والسي بذا الصدد غزوة معينة غزاها السلمون ف أرض ند ف شهر ربيع الثان أو
جادي الول سنة 4هـ ،ويسمون هذه الغزوة بغزوة ذات الرّقَاع .أما وقوع الغزوة خلل هذه الدة
فهو أمر تقتضيه ظروف الدينة ،فإن موسم غزوة بدر الت كان قد تواعد با أبو سفيان حي انصرافه من
أحد ،كان قد اقترب .وإخلء الدينة ،مع ترك البدو والعراب على تردهم وغطرستهم ،والروج لثـل
هذا اللقاء الرهيب ل يكن من مصال سياسة الروب قطعا ،بل كان ل بد من خضد شوكتهم وكف
شرهم ،قبل الروج لثل هذه الرب الكبية ،الت كانوا يتوقعون وقوعها ف رحاب بدر .
وأما أن تلك الغزوة الت قادها الرسول صلى ال عليه وسلم ف ربيع الخر أو جادى الول سنة 4هـ
هى غزوة ذات الرقاع فل يصح ،فإن غزوة ذات الرقاع شهدها أبو هريرة وأبو موسى الشعرى رضي ال
عنهما ،وكان إسلم أب هريرة قبل غزوة خيب بأيام ،وكذلك أبو موسى الشعرى رضي ال عنه ،واف
النب صلى ال عليه وسلم بيب .وإذن فغزوة ذات الرقاع بعد خيب ،ويدل على تأخرها عن السنة الرابعة
أن النب صلى ال عليه وسلم صلى فيها صلة الوف ،وكانت أول شرعية صلة الوف ف غزوة
سفَان ،ول خلف أن غزوة عسفان كانت بعد الندق ،وكانت غزوة الندق ف أواخر السنة الامسة.
عُ ْ
ففي شعبان سنة 4هـ يناير سنة 626م خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم لوعده ف ألف
وخسمائة ،وكانت اليل عشرة أفراس ،وحل لواءه على بن أب طالب ،واستخلف على الدينة عبد ال بن
رواحة ،وانتهي إل بدر ،فأقام با ينتظر الشركي.
وأما أبو سفيان فخرج ف ألفي من مشركي مكة ،ومعهم خسون فرسا ،حت انتهي إل مَرّ الظّهْرَان على
بعد مرحلة من مكة فنل َبجَنّة ـ ماء ف تلك الناحية.
خرج أبو سفيان من مكة متثاقلً يفكر ف عقب القتال مع السلمي ،وقد أخذه الرعب ،واستولت على
مشاعره اليبة ،فلما نزل بر الظهران خار عزمه ،فاحتال للرجوع ،وقال لصحابه :يا معشر قريش ،إنه ل
يصلحكم إل عام خصب ترعون فيه الشجر ،وتشربون فيه اللب ،وإن عامكم هذا عام جدب ،وإن راجع
فارجعوا.
ويبدو أن الوف واليبة كانت مستولية على مشاعر اليش أيضا ،فقد رجع الناس ول يبدوا أي معارضة
لذا الرأي ،ول أي إصرار وإلاح على مواصلة السي للقاء السلمي.
وأما السلمون فأقاموا ببدر ثانية أيام ينتظرون العدو ،وباعوا ما معهم من التجارة فربوا بدرهم درهي،
ث رجعوا إل الدينة وقد انتقل زمام الفاجأة إل أيديهم ،وتوطدت هيبتهم ف النفوس ،وسادوا على
الوقف.
وتعرف هذه الغزوة ببدر الوعد ،وبدر الثانية ،وبدر الخرة ،وبدر الصغرى.
عاد رسول ال صلى ال عليه وسلم من بدر ،وقد ساد النطقة المن والسلم ،واطمأنت دولته ،فتفرغ
للتوجه إل أقصي حدود العرب حت تصي السيطرة للمسلمي على الوقف ،ويعترف بذلك الوالون
والعادون.
مكث بعد بدر الصغري ف الدينة ستة أشهر ،ث جاءت إليه الخبار بأن القبائل حول دومة الندل ـ
قريبا من الشام ـ تقطع الطريق هناك ،وتنهب ما ير با وأنا قد حشدت جعا كبيا تريد أن تاجم
الدينة ،فاستعمل رسول ال صلى ال عليه وسلم على الدينة ِسبَاع ابن عُرْ ُفطَة الغفاري ،وخرج ف ألف
من السلمي لمس ليال بقي من ربيع الول سنة 5هـ ،وأخذ رجلً من بن ُع ْذرَة دليلً للطريق يقال
له :مذكور.
خرج يسي الليل ويكمن النهار حت يفاجئ أعداءهم وهم غارون ،فلما دنا منهم إذا هم مغربون ،فهجم
على ما شيتهم ورعائهم ،فأصاب من أصاب ،وهرب من هرب.
وأما أهل دومة الندل ففروا ف كل وجه ،فلما نزل السلمون بساحتهم ل يدوا أحدا ،وأقام رسول ال
صلى ال عليه وسلم أياما ،وبث السرايا وفرق اليوش ،فلم يصب منهم أحدا ،ث رجع إل الدينة،
ووادع ف تلك الغزوة عيينة بن حصن .ودُومة بالضم :موضع معروف بشارف الشام بينها وبي دمشق
خس ليال ،وُبعْدُها من الدينة خس عشرة ليلة.
بذه الجراءات السريعة الاسة ،وبذه الطط الكيمة الازمة نح النب صلى ال عليه وسلم ف بسط
المن ،وتنفيذ السلم ف النطقة ،والسيطرة على الوقف ،وتويل مري اليام لصال السلمي ،وتفيف
التاعب الداخلية والارجية الت كانت قد توالت عليهم وأحاطت بم من كل جانب ،فقد سكت النافقون
واستكانوا ،وت إجلء قبيلة من اليهود ،وبقيت الخري تظاهر بإيفاء حق الوار ،وبإيفاء العهود والواثيق،
واستكانت البدو والعراب ،وحادت قريش عن مهاجة السلمي ،ووجد السلمون فرصة لنشر السلم
وتبليغ رسالت رب العالي.
غزوة الحزاب
عاد المن والسلم ،وهدأت الزيرة العربية بعد الروب والبعوث الت استغرقت أكثر من سنة كاملة ،إل
أن اليهود ـ الذين كانوا قد ذاقوا ألوانا من الذلة والوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتم ودسائسهم
ـ ل يفيقوا من غيهم ،ول يستكينوا ،ول يتعظوا با أصابم من نتيجة الغدر والتآمر .فهم بعد نفيهم إل
خيب ظلوا ينتظرون ما يل بالسلمي من خلل الناوشات الت كانت قائمة بي السلمي والوثنيي ،ولا
تول مري اليام لصال السلمي ،وتخضت الليإل واليام عن بسط نفوذهم ،وتوطد سلطانم ـ ترق
هؤلء اليهود أي ترق.
وشرعوا ف التآمر من جديد على السلمي ،وأخذوا يعدون العدة ،لتصويب ضربة إل السلمي تكون قاتلة
ل حياة بعدها .ولا ل يكونوا يدون ف أنفسهم جرأة على قتال السلمي مباشرة ،خططوا لذا الغرض
خطة رهيبة.
خرج عشرون رجلً من زعماء اليهود وسادات بن النضي إل قريش بكة ،يرضونم على غزو الرسول
صلى ال عليه وسلم ،ويوالونم عليه ،ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لم ،فأجابتهم قريش ،وكانت قريش
قد أخلفت موعدها ف الروج إل بدر ،فرأت ف ذلك إنقاذا لسمعتها والب بكلمتها.
ث خرج هذا الوفد إل َغ َطفَان ،فدعاهم إل ما دعا إليه قريشا فاستجابوا لذلك ،ث طاف الوفد ف قبائل
العرب يدعوهم إل ذلك فاستجاب له من استجاب ،وهكذا نح ساسة اليهود وقادتم ف تأليب أحزاب
الكفر على النب صلى ال عليه وسلم والسلمي.
وعلى إثر ذلك خرجت من النوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تامة ـ وقائدهم أبو سفيان ـ ف
أربعة آلف ،ووافاهم بنو سليم بَرّ الظّهْرَان ،وخرجت من الشرق قبائل غطفان :بنو فَزَارة ،يقودهم عُيينَة
سعَر بن ُرحَي َلةِ ،كما خرجت بنو
بن ِحصْن ،وبنو مُرّة ،يقودهم الارث بن عوف ،وبنو أشجع ،يقودهم مِ ْ
أسد وغيها.
واتهت هذه الحزاب وتركت نو الدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه.
وبعد أيام تمع حول الدينة جيش عَ َرمْرَم يبلغ عدده عشرة آلف مقاتل ،جيش ربا يزيد عدده على جيع
من ف الدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ.
ولو بلغت هذه الحزاب والحزبة والنود الجندة إل أسوار الدينة بغتة لكانت أعظم خطرا على كيان
السلمي ما يقاس ،وربا تبلغ إل استئصال الشأفة وإبادة الضراء ،ولكن قيادة الدينة كانت قيادة متيقظة،
ل تزل واضعة أناملها على العروق النابضة ،تتجسس الظروف ،وتقدر ما يتمخض عن مراها ،فلم تكد
تتحرك هذه اليوش عن مواضعها حت نقلت استخبارات الدينة إل قيادتا فيها بذا الزحف الطي.
وسارع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل عقد ملس استشاري أعلي ،تناول فيه موضوع خطة الدفاع
عن كيان الدينة ،وبعد مناقشات جرت بي القادة وأهل الشوري اتفقوا على قرار قدمه الصحاب النبيل
سلمان الفارسي ضي ال عنه.
قال سلمان :يا رسول ال ،إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَ ْندَقْنَا علينا .وكانت خطة حكيمة ل تكن
تعرفها العرب قبل ذلك.
وأسرع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل تنفيذ هذه الظة ،فوكل إل كل عشرة رجال أن يفروا من
الندق أربعي ذراعا ،وقام السلمون بد ونشاط يفرون الندق ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم يثهم
ويساههم ف عملهم هذا .ففي البخاري عن سهل بن سعد ،قال :كنا مع رسول ال ف الندق ،وهم
يفرون ،ونن ننقل التراب على أكتادنا ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :اللهم ل عَيشَ إل عيشُ
الخرة ،فاغفر للمهاجرين والنصار).
وعن أنس :خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم إل الندق فإذا الهاجرين والنصار يفرون ف غداة
باردة ،فلم يكن لم عبيد يعملون ذلك لم ،فلما رأي ما بم من النصب والوع قال:
وفيه عن الباء بن عازب قال :رأيته صلى ال عليه وسلم ينقل من تراب الندق حت واري عن الغبار
جلدة بطنه ،وكان كثي الشعر ،فسمعته يرتز بكلمات ابن رواحة ،وهو ينقل من التراب ويقول:
كان السلمون يعملون بذا النشاط وهم يقاسون من شدة الوع ما يفتت الكباد ،قال أنس :كان أهل
الندق يؤتون بلء كفي من الشعي ،فيصنع لم بإهَالَةٍ سنخة توضع بي يدي القوم ،والقوم جياع ،وهي
بشعة ف اللق ولا ريح.
وقال أبو طلحة :شكونا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم الوع ،فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر،
فرفع رسول ال صلى ال عليه وسلم عن حجرين.
وبذه الناسبة وقعت أثناء حفر الندق آيات من أعلم النبوة ،رأي جابر بن عبد ال ف النب صلى ال
عليه وسلم خصا شديدًا فذبح بيمة ،وطحنت امرأته صاعا من شعي ،ث التمس من رسول ال صلى ال
عليه وسلم سرا أن يأت ف نفر من أصحابه ،فقام النب صلى ال عليه وسلم بميع أهل الندق ،وهم ألف،
فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا ،وبقيت بُ ْرمَة اللحم تغط به كما هي ،وبقي العجي يبز كما هو.
وجاءت أخت النعمان بن بشي َبفْنَة من تر إل الندق ليتغدي به أبوه وخاله ،فمرت برسول ال صلى
ال عليه وسلم ،فطلب منها التمر ،وبدده فوق ثوب ،ث دعا أهل الندق ،فجعلوا يأكلون منه وجعل
التمر يزيد ،حت صدر أهل الندق عنه ،وإنه يسقط من أطراف الثواب.
وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابرقال :إنا يوم خندق نفر ،فعرضت ُكدْية شديدة ،فجاءوا النب
صلى ال عليه وسلم فقالوا :هذه كدية عرضت ف الندق .فقال( :أنا نازل) ،ث قام وبطنه معصوب بجر
ـ ولبثنا ثلثة ل نذوق ذواقا ـ فأخذ النب صلى ال عليه وسلم ا ِلعْوَل ،فضرب فعاد كثيبا أهْيل أو أهْيم
،أي صار رملً ل يتماسك.
وقال الباء :لا كان يوم الندق عرضت لنا ف بعض الندق صخرة ل تأخذ منها العاول ،فاشتكينا ذلك
لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فجاءة وأخذ العول فقال( :بسم ال) ،ث ضرب ضربة ،وقال( :ال أكب،
أعطيت مفاتيح الشام ،وال إن لنظر قصورها المر الساعة) ،ث ضرب الثانية فقطع آخر ،فقال( :ال
أكب ،أعطيت فارس ،وال إن لبصر قصر الدائن البيض الن) ،ث ضرب الثالثة ،فقال( :بسم ال)،
فقطع بقية الجر ،فقال( :ال أكب ،أعطيت مفاتيح اليمن ،وال إن لبصر أبواب صنعاء من مكان).
ولا كانت الدينة تيط با الرات والبال وبساتي من النخيل من كل جانب سوي الشمال ،وكان النب
صلى ال عليه وسلم يعلم أن زحف مثل هذا اليش الكبي ،ومهاجته الدينة ل يكن إل من جهة الشمال،
اتذ الندق ف هذا الانب.
وواصل السلمون عملهم ف حفره ،فكانوا يفرونه طول النهار ،ويرجعون إل أهليهم ف الساء ،حت
تكامل الندق حسب الطة النشودة ،قبل أن يصل اليش الوثن العرمرم إل أسوار الدينة.
وأقبلت قريش ف أربعة آلف ،حت نزلت بجتمع السيال من رُومَة بي الُرْف وزَغَابَة ،وأقبلت َغ َطفَان
ومن تبعهم من أهل ند ف ستة آلف حت نزلوا ب َذنَبِ َنقْمَي إل جانب أحد.
وأما النافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبم لرؤية هذا اليش { َوإِذْ َيقُو ُل الْمُنَا ِفقُونَ وَاّلذِينَ فِي
قُلُوبِهِم مّ َرضٌ مّا وَ َع َدنَا الُ َورَسُوُلهُ إِلّا ُغرُورًا}[ الحزاب.]12 :
وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ثلثة آلف من السلمي ،فجعلوا ظهورهم إل جبل َسلْع
فتحصنوا به ،والندق بينهم وبي الكفار.وكان شعارهم[ :حم ل ينصرون] ،واستحلف على الدينة ابن
أم مكتوم ،وأمر بالنساء والذراري فجعلوا ف آطام الدينة.
ولا أراد الشركون مهاجة السلمي واقتحام الدينة ،وجدوا خندقا عريضا يول بينهم وبينها ،فالتجأوا إل
فرض الصار على السلمي ،بينما ل يكونوا مستعدين له حي خرجوا من ديارهم ،إذ كانت هذه الطة ـ
كما قالوا ـ مكيدة ما عرفتها العرب ،فلم يكونوا أدخلوها ف حسابم رأسا.
وأخذ الشركون يدورون حول الندق غضابا ،يتحسسون نقطة ضعيفة ؛ لينحدروا منها ،وأخذ السلمون
يتطلعون إل جولت الشركي ،يرشقونم بالنبل ،حت ل يترئوا على القتراب منه ،ول يستطيعوا أن
يقتحموه ،أو يهيلوا عليه التراب ،ليبنوا به طريقا يكنهم من العبور.
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الندق من غي جدوي ف ترقب نتائج الصار ،فإن ذلك ل يكن
من شيمهم ،فخرجت منها جاعة فيها عمرو بن عبد وُدّ وعكرمة بن أب جهل وضرار بن الطاب
وغيهم ،فتيمموا مكانا ضيقا من الندق فاقتحموه ،وجالت بم خيلهم ف السّبْخة بي الندق وسَلْع،
وخرج على بن أب طالب ف نفر من السلمي حت أخذوا عليهم الثغرة الت أقحموا منها خيلهم ،ودعا
عمرو إل البارزة ،فانتدب له على بن أب طالب ،وقال كلمة حي لجلها ـ وكان من شجعان الشركي
وأبطالم ـ فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ،ث أقبل على علي ،فتجاول وتصاول حت قتله علي
رضي ال عنه ،وانزم الباقون حت اقتحموا الندق هاربي ،وقد بلغ بم الرعب إل أن ترك عكرمة رمه
وهو منهزم عن عمرو.
وقد حاول الشركون ف بعض اليام ماولة بليغة لقتحام الندق ،أو لبناء الطرق فيها ،ولكن السلمي
كافحوا مكافحة ميدة ،ورشقوهم بالنبل ،وناضلوهم أشد النضال حت فشل الشركون ف ماولتهم.
ولجل الشتغال بثل هذه الكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول ال صلى ال عليه وسلم
والسلمي ،ففي الصحيحي عن جابر رضي ال عنه :أن عمر بن الطاب جاء يوم الندق ،فجعل يسب
كفار قريش .فقال :يا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ما كدت أن أصلي حت كادت الشمس أن تغرب،
فقال النب صلى ال عليه وسلم( :وأنا وال ما صليتها) ،فنلنا مع النب صلى ال عليه وسلم ُب ْطحَان،
فتوضأ للصلة ،وتوضأنا لا ،فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ،ث صلي بعدها الغرب.
وقد استاء رسول ال صلى ال عليه وسلم لفوات هذه الصلة حت دعا على الشركي ،ففي البخاري عن
على عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال يوم الندق( :مل ال عليهم بيوتم وقبورهم نارا ،كما شغلونا
عن الصلة الوسطي حت غابت الشمس).
وف مسند أحد والشافعي أنم حبسوه عن صلة الظهر والعصر والغرب والعشاء فصلهن جيعا .قال
النووي :وطريق المع بي هذه الروايات أن وقعة الندق بقيت أياما فكان هذا ف بعض اليام ،وهذا ف
بعضها .انتهي.
ومن هنا يؤخذ أن ماولة العبور من الشركي ،والكافحة التواصلة من السلمي ،دامت أياما ،إل أن
الندق لا كان حائلً بي اليشي ل ير بينهما قتال مباشر أو حرب دامية ،بل اقتصروا على الراماة
والناضلة.
وف هذه الراماة قتل رجال من اليشي ،يعدون على الصابع :ستة من السلمي ،وعشرة من الشركي،
بينما كان قتل واحد أو اثني منهم بالسيف.
وف هذه الراماة رمي سعد بن معاذ رضي ال عنه بسهم فقطع منه ال ْكحَل ،رماه رجل من قريش يقال له:
حَبّان بن العَرِقَة ،فدعا سعد :اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إل أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا
رسولك وأخرجوه ،اللهم فإن أظن أنك قد وضعت الرب بيننا وبينهم ،فإن كان بقي من حرب قريش
شيء فأبقن لم حت أجاهدهم فيك ،وإن كنت وضعت الرب فافجرها واجعل موتت فيها .وقال ف آخر
دعائه :ول تتن حت تقر عين من بن قريظة.
وبينما كان السلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة العركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب ف
جحورها ،تريد إيصال السم داخل أجسادهم :انطلق كبي مرمي بن النضي حيي بن أخطب إل ديار بن
قريظة فأت كعب بن أسد القرظي ـ سيد بن قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم ،وكان قد عاقد رسول ال
صلى ال عليه وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب ،كما تقدم ـ فضرب عليه حيي الباب فأغلقه
كعب دونه ،فما زال يكلمه حت فتح له بابه ،فقال حيي :إن قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طَامٍ،
جئتك بقريش على قادتا وسادتا ،حت أنزلتهم بجمع السيال من رُومَة ،وبغطفان على قادتا وسادتا،
حت أنزلتهم ب َذنَب َنقْمَي إل جانب أحد ،قد عاهدون وعاقدون على أل يبحوا حت نستأصل ممدا ومن
معه.
فقال له كعب :جئتن وال بذُلّ الدهر وبَهَامٍ قد هَرَاق ماؤه ،فهو يرْعِد ويبْرِق ،ليس فيه شيء .ويك يا
حيي فدعن وما أنا عليه ،فإن ل أر من ممد إل صدقا ووفاء.
فلم يزل حيي بكعب يفْتِلُه ف الذّ ْروَة والغَارِب ،حت سح له على أن أعطاه عهدا من ال وميثاقا :لئن
رجعت قريش وغطفان ،ول يصيبوا ممدا أن أدخل معك ف حصنك ،حت يصيبن ما أصابك ،فنقض
كعب بن أسد عهده ،وبرئ ما كان بينه وبي السلمي ،ودخل مع الشركي ف الحاربة ضد السلمي.
وفعلً قامت يهود بن قريظة بعمليات الرب .قال ابن إسحاق :كانت صفية بنت عبد الطلب ف فارع
حصن حسان بن ثابت ،وكان حسان فيه مع النساء والصبيان ،قالت صفية :فمر بنا رجل من يهود،
فجعل يطيف بالصن ،وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبي رسول ال صلى ال عليه وسلم،
وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمون ف غور عدوهم ،ل
يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت ،قالت :فقلت :يا حسان ،إن هذا اليهودي كما تري يطيف
بالصن ،وإن وال ما آمنه أن يدل على عورتنا مَنْ وراءنا مِنْ يهود ،وقد شغل عنا رسول ال صلى ال
عليه وسلم وأصحابه ،فانزل إليه فاقتله.
قال :وال لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ،قالت :فاحتجزت ث أخذت عمودا ،ث نزلت من الصن إليه،
فضربته بالعمود حت قتلته ،ث رجعت إل الصن وقلت :يا حسان ،انزل إليه فاسلبه ،فإنه ل ينعن من
سبله إل أنه رجل ،قال :ما ل بسلبه من حاجة.
وقد كان لذا الفعل الجيد من عمة الرسول صلى ال عليه وسلم أثر عميق ف حفظ ذراري السلمي
ونسائهم ،ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الطام والصون ف منعة من اليش السلمي ـ مع أنا كانت
خالية عنهم تاما ـ فلم يترئوا مرة ثانية للقيام بثل هذا العمل ،إل أنم أخذوا يدون الغزاة الوثنيي
بالؤن ،كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد السلمي ،حت أخذ السلمون من مؤنم عشرين جلً.
وانتهي الب إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وإل السلمي فبادر إل تقيقه ،حت يستجلي موقف
قريظة ،فيواجهه با يب من الوجهة العسكرية ،وبعث لتحقيق الب السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن
عبادة ،وعبد ال بن رواحة وخَوّات بن جبي ،وقال( :انطلقوا حت تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلء القوم أم
ل ؟ فإن كان حقا فالنوا ل لنا أعرفه ،ول َتفُتّوا ف أعضاد الناس ،وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به
للناس) .فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون ،فقد جاهروهم بالسب والعداوة ،ونالوا من
رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وقالوا :من رسول ال ؟ ل عهد بيننا وبي ممد ،ول عقد .فانصرفوا عنهم ،فلما أقبلوا على رسول ال
صلى ال عليه وسلم لنوا له ،وقالواَ :عضَل وقَارَة ؛ أي إنم على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب
الرّجِيع.
وعلى رغم ماولتهم إخفاء القيقة تفطن الناس للية المر ،فتجسد أمامهم خطر رهيب.
وقد كان أحرج موقف يقفه السلمون ،فلم يكن يول بينهم وبي قريظة شيء ينعهم من ضربم من
اللف ،بينما كان أمامهم جيش عرمرم ل يكونوا يستطيعون النصراف عنه ،وكانت ذراريهم ونساؤهم
ت اْلأَبْصَارُ َوبَ َلغَتِ
بقربة من هؤلء الغادرين ف غي منعة وحفظ ،وصاروا كما قال ال تعالَ { :وإِذْ زَاغَ ْ
ل الظّنُونَا ُهنَاِلكَ ابُْتلِ َي الْمُ ْؤمِنُونَ َو ُزلْ ِزلُوا ِزلْزَالًا َشدِيدًا}[ الحزاب،10:
ب الْحَنَاجِرَ َوَتظُنّونَ بِا ِ
اْلقُلُو ُ
]11
ونم النفاق من بعض النافقي حت قال :كان ممد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر ،وأحدنا اليوم ل
يأمن على نفسه أن يذهب إل الغائط .وحت قال بعض آخر ف مل من رجال قومه :إن بيوتنا عورة من
العدو ،فائذن لنا أن نرج ،فنرجع إل دارنا فإنا خارج الدينة .وحت هت بنو سلمة بالفشل ،وف هؤلء
أنزل ال تعالَ { :وإِذْ َيقُو ُل الْمُنَا ِفقُونَ وَاّلذِينَ فِي ُقلُوبِهِم مّ َرضٌ مّا وَ َع َدنَا الُ وَرَسُولُهُ ِإلّا غُرُورًا َوإِذْ قَالَت
طّاِئفَةٌ مّنْ ُهمْ يَا أَ ْهلَ يَثْ ِربَ لَا مُقَامَ لَ ُكمْ فَا ْر ِجعُوا َويَسَْتأْ ِذنُ فَرِيقٌ مّنْ ُهمُ النِّبيّ َيقُولُونَ ِإنّ بُيُوتَنَا عَ ْو َرةٌ َومَا ِهيَ
بِعَ ْو َرةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلّا فِرَارًا} [الحزاب.]13 ،12 :
أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فتقنع بثوبه حي أتاه َغدْر قريظة ،فاضطجع ومكث طويلً حت اشتد
على الناس البلء ،ث نض مبشرا يقول( :ال أكب ،أبشروا يا معشر السلمي بفتح ال ونصره) ،ث أخذ
يطط لجابة الظرف الراهن ،وكجزء من هذه الطة كان يبعث الرس إل الدينة؛ لئل يؤت الذراري
والنساء على غرة ،ولكن كان لبد من إقدام حاسم ،يفضي إل تاذل الحزاب ،وتقيـقا لــذا
الـدف أراد أن يصالـح عُيينَة بن حصن والارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثار الدينة ،حت
ينصرفا بقومهما ،ويلو السلمون للاق الزية الساحقة العاجلة بقريش الت اختبوا مدي قوتا وبأسها
مرارا ،وجرت الراودة على ذلك ،فاستشار السعدين ف ذلك ،فقال :يا رسول ال ،إن كان ال أمرك بذا
فسمعا وطاعة ،وإن كان شيء تصنعه لنا فل حاجة لنا فيه ،لقد كنا نن وهؤلء القوم على الشرك بال
وعبادة الوثان ،وهم ل يطمعون أن يأكلوا منها ثرة إل قِرًي أو بيعا ،فحي أكرمنا ال بالسلم وهدانا له
ص ّوبَ رأيهما وقال( :إنا هو شيء أصنعه لكم
وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ وال ل نعطيهم إل السيف ،فَ َ
لا رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة).
ث إن ال عز وجل ـ وله المد ـ صنع أمرا من عنده خذل به العدو وهزم جوعهم ،و َفلّ حدهم ،فكان
ما هيأ من ذلك أن رجلً من غطفان يقال له :نعيم بن مسعود بن عامر الشجعي رضي ال عنه جاء رسول
ال صلى ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال ،إن قد أسلمت ،وإن قومي ل يعلموا بإسلمي ،فمرن ما
شئت ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :إنا أنت رجل واحد ،فَخذّلْ عنا ما استطعت ،فإن الرب
خدعة) ،فذهب من فوره إل بن قريظة ـ وكان عشيا لم ف الاهلية ـ فدخل عليهم وقال :قد عرفتم
ودي إياكم ،وخاصة ما بين وبينكم ،قالوا :صدقت .قال :فإن قريشا ليسوا مثلكم ،البلد بلدكم ،فيه
أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ،ل تقدرون أن تتحولوا منه إل غيه ،وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لرب
ممد وأصحابه ،وقد ظاهرتوهم عليه ،وبلدهم وأموالم ونساؤهم بغيه ،فإن أصابوا فرصة انتهزوها ،وإل
لقوا ببلدهم وتركوكم وممدا فانتقم منكم ،قالوا :فما العمل يا نعيم ؟ قال :ل تقاتلوا معهم حت
يعطوكم رهائن .قالوا :لقد أشرت بالرأي.
ث مضي نعيم على وجهه إل قريش وقال لم :تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا :نعم ،قال :إن يهود
قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد ممد وأصحابه ،وإنم قد راسلوه أنم يأخذون منكم رهائن
يدفعونا إليه ،ث يوالونه عليكم ،فإن سألوكم رهائن فل تعطوهم ،ث ذهب إل غطفان ،فقال لم مثل
ذلك.
فلما كانت ليلة السبت من شوال ـ سنة 5هـ ـ بعثوا إل يهود :أنا لسنا بأرض مقام ،وقد هلك
الكُرَاع والف ،فانضوا بنا حت نناجز ممدا ،فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت ،وقد علمتم ما
أصاب من قبلنا حي أحدثوا فيه ،ومع هذا فإنا ل نقاتل معكم حت تبعثوا إلينا رهائن ،فلما جاءتم رسلهم
بذلك قالت قريش وغطفان :صدقكم وال نعيم ،فبعثوا إل يهود إنا وال ل نرسل إليكم أحدا ،فاخرجوا
معنا حت نناجز ممدا ،فقالت قريظة :صدقكم وال نعيم .فتخاذل الفريقان ،ودبت الفرقة بي صفوفهم،
وخارت عزائمهم.
وكان السلمون يدعون ال تعإل( :اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا) ،ودعا رسول ال صلى ال عليه
وسلم على الحزاب ،فقال( :اللهم منل الكتاب ،سريع الساب ،اهزم الحزاب ،اللهم اهزمهم
وزلزلم).
وقد سع ال دعاء رسوله والسلمي ،فبعد أن دبت الفرقة ف صفوف الشركي وسري بينهم التخاذل
أرسل ال عليهم جندا من الريح فجعلت تقوض خيامهم ،ول تدع لم ِقدْرًا إل كفأتا ،ول طُنُبًا إل قلعته،
ول يقر لم قرار ،وأرسل جندا من اللئكة يزلزلونم ،ويلقون ف قلوبم الرعب والوف.
وأرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم ف تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه ببهم،
فوجدهم على هذه الالة ،وقد تيأوا للرحيل ،فرجع إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأخبه برحيل
القوم ،فأصبح رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد رد ال عدوه بغيظهم ل ينالوا خيا وكفاه ال قتالم،
فصدق وعده ،وأعز جنده ،ونصر عبده ،وهزم الحزاب وحده ،فرجع إل الدينة.
وكانت غزوة الندق سنة خس من الجرة ف شوال على أصح القولي ،وأقام الشركون ماصرين رسول
ال صلى ال عليه وسلم والسلمي شهرا أو نو شهر .ويبدو بعد المع بي الصادر أن بداية فرض
الصار كانت ف شوال ونايته ف ذي القعدة ،وعند ابن سعد أن انصراف رسول ال صلى ال عليه وسلم
من الندق كان يوم الربعاء لسبع بقي من ذي القعدة.
إن معركة الحزاب ل تكن معركة خسائر ،بل كانت معركة أعصاب ،ل ير فيها قتال مرير ،إل أنا كانت
من أحسم العارك ف تاريخ السلم ،تخضت عن تاذل الشركي ،وأفادت أن أية قوة من قوات العرب
ل تستطيع استئصال القوة الصغية الت تنمو ف الدينة ؛ لن العرب ل تكن تستطيع أن تأت بمع أقوي ما
أتت به ف الحزاب ،ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم حي أجلي ال الحزاب( :الن نغزوهم،
ول يغزونا ،نن نسي إليهم).
غزوة بن قريظة
غزوة بن قريظة
لقَيْق
مقتل َسلّم بن أب ا ُ
سرية ممد بن مسلمة
غزوة بن َلحْيَان
متابعة البعوث والسرايا
غزوة بن قريظة
وف اليوم الذي رجع فيه رسول ال إل الدينة ،جاءه جبيل \ عند الظهر ،وهو يغتسل ف بيت أم سلمة،
فقال :أو قد وضعت السلح؟ فإن اللئكة ل تضع أسلحتهم ،وما رجعت الن إل من طلب القوم ،فانض
بن معك إل بن قريظة ،فإن سائر أمامك أزلزل بم حصونم ،وأقذف ف قلوبم الرعب ،فسار جبيل ف
موكبه من اللئكة.
وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ف موكبه من الهاجرين والنصار ،حت نزل على بئر من آبار
قريظة يقال لا :بئر أنّا .وبادر السلمون إل امتثال أمره ،ونضوا من فورهم ،وتركوا نو قريظة،
وأدركتهم العصر ف الطريق فقال بعضهم :ل نصليها إل ف بن قريظة كما أمرنا ،حت إن رجالً منهم
صلوا العصر بعد العشاء الخرة ،وقال بعضهم :ل يرد منا ذلك ،وإنا أراد سرعة الروج ،فصلوها ف
الطريق ،فلم يعنف واحدة من الطائفتي.
هكذا ترك اليش السلمي نو بن قريظة أرسالً حت تلحقوا بالنب صلى ال عليه وسلم ،وهم ثلثة
آلف ،واليل ثلثون فرسا ،فنازلوا حصون بن قريظة ،وفرضوا عليهم الصار.
ولا اشتد عليهم الصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلث خصال :إما أن يسلموا ويدخلوا مع
ممد صلى ال عليه وسلم ف دينه ،فيأمنوا على دمائهم وأموالم وأبنائهم ونسائهم ـ وقد قال لم :وال،
لقد تبي لكم أنه لنب مرسل ،وأنه الذي تدونه ف كتابكم ـ وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم،
ويرجوا إل النب صلى ال عليه وسلم بالسيوف مُصْلِتِي ،يناجزونه حت يظفروا بم ،أو يقتلوا عن
آخرهم ،وإما أن يهجموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه ،ويكبسوهم يوم السبت ؛ لنم
قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه ،فأبوا أن ييبوه إل واحدة من هذه الصال الثلث ،وحينئذ قال سيدهم كعب
بن أسد ـ ف انزعاج وغضب :ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
ول يبق لقريظة بعد رد هذه الصال الثلث إل أن ينلوا على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم،
ولكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من السلمي ،لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بم إذا نزلوا على
حكمه ،فبعثوا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لُبَابة نستشيه ،وكان حليفا لم،
وكانت أمواله وولده ف منطقتهم ،فلما رأوه قام إليه الرجال ،وجَ َهشَ النساء والصبيان يبكون ف وجهه،
فَ َرقّ لم ،وقالوا :يا أبا لبابة ،أتري أن ننل على حكم ممد؟ قال :نعم ؛ وأشار بيده إل حلقه ،يقول :إنه
الذبح ،ث علم من فوره أنه خان ال ورسوله فمضي على وجهه ،ول يرجع إل رسول ال صلى ال عليه
وسلم حت أت السجد النبوي بالدينة ،فربط نفسه بسارية السجد ،وحلف أل يله إل رسول ال صلى ال
عليه وسلم بيده ،وأنه ل يدخل أرض بن قريظة أبدا .فلما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم خبه ـ
وكان قد استبطأه ـ قال( :أما إنه لو جاءن لستغفرت له ،أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من
مكانه حت يتوب ال عليه).
وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النول على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولقد كان
باستطاعة اليهود أن يتحملوا الصار الطويل ؛ لتوفر الواد الغذائية والياه والبار ومناعة الصون؛ ولن
السلمي كانوا يقاسون البد القارس والوع الشديد وهم ف العراء ،مع شدة التعب الذي اعتراهم ؛
لواصلة العمال الربية من قبل بداية معركة الحزاب ،إل أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب ،فقد
قذف ال ف قلوبم الرعب ،وأخذت معنوياتم تنهار ،وبلغ هذا النيار إل نايته أن تقدم علي بن أب
طالب والزبي بن العوام ،وصاح علي :يا كتيبة اليان ،وال لذوقن ما ذاق حزة أو لفتحن حصنهم.
وحينئذ بادروا إل النول على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأمر رسول ال صلى ال عليه
وسلم باعتقال الرجال ،فوضعت القيود ف أيديهم تت إشراف ممد بن مسلمة النصاري ،وجعلت
النساء والذراري بعزل عن الرجال ف ناحية ،وقامت الوس إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا :يا
رسول ال ،قد فعلت ف بن قينقاع ما قد علمت ،وهم حلفاء إخواننا الزرج ،وهؤلء موالينا ،فأحسن
فيهم ،فقال( :أل ترضون أن يكم فيهم رجل منكم؟) قالوا :بلي .قال( :فذاك إل سعد بن معاذ) .قالوا:
قد رضينا.
فأرسل إل سعد بن معاذ ،وكان ف الدينة ل يرج معهم للجرح الذي كان قد أصاب أ ْكحُلَه ف معركة
الحزاب .فأُركب حارا ،وجاء إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فجعلوا يقولون ،وهم كََنفَيْهِ :يا سعد،
أجل ف مواليك ،فأحسن فيهم ،فإن رسول ال قد حكمك لتحسن فيهم ،وهو ساكت ل يرجع إليهم
شيئا ،فلما أكثروا عليه قال :لقد آن لسعد أل تأخذه ف ال لومة لئم ،فلما سعوا ذلك منه رجع بعضهم
إل الدينة فنعي إليهم القوم.
ولا انتهى سعد إل النب صلى ال عليه وسلم قال للصحابة( :قوموا إل سيدكم) ،فلما أنزلوه قالوا :يا
سعد ،إن هؤلء قد نزلوا على حكمك .قال :وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا :نعم .قال :وعلى السلمي؟
قالوا :نعم ،قال :وعلى من هاهنا؟ وأعرض بوجهه وأشار إل ناحية رسول ال صلى ال عليه وسلم إجللً
له وتعظيمًا .قال( :نعم ،وعلي) .قال :فإن أحكم فيهم أن يقتل الرجال ،وتسب الذرية ،وتقسم الموال،
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :لقد حكمت فيهم بكم ال من فوق سبع سوات).
وكان حكم سعد ف غاية العدل والنصاف ،فإن بن قريظة ،بالضافة إل ما ارتكبوا من الغدر الشنيع،
كانوا قد جعوا لبادة السلمي ألفا وخسمائة سيف ،وألفي من الرماح ،وثلثائة درع ،وخسمائة ترس،
جفَة ،حصل عليها السلمون بعد فتح ديارهم.
و َح َ
وأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم فحبست بنو قريظة ف دار بنت الارث امرأة من بن النجار،
وحفرت لم خنادق ف سوق الدينة ،ث أمر بم ،فجعل يذهب بم إل النادق أرسالً أرسالً ،وتضرب ف
تلك النادق أعناقهم .فقال من كان بعد ف البس لرئيسهم كعب بن أسد :ما تراه يصنع بنا؟ فقال :أف
كل موطن ل تعقلون؟ أما ترون الداعي ل ينع؟ والذاهب منكم ل يرجع؟ هو وال القتل ـ وكانوا ما
بي الستمائة إل السبعمائة ،فضربت أعناقهم.
وهكذا ت استئصال أفاعي الغدر واليانة ،الذين كانوا قد نقضوا اليثاق الؤكد ،وعاونوا الحزاب على
إبادة السلمي ف أحرج ساعة كانوا يرون با ف حياتم ،وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مرمي
الروب الذين يستحقون الحاكمة والعدام.
وقتل مع هؤلء شيطان بن النضي ،وأحد أكابر مرمي معركة الحزاب حيي بن أخطب والد صفية أم
الؤمني رضي ال عنها كان قد دخل مع بن قريظة ف حصنهم حي رجعت عنهم قريش وغطفان ؛ وفاء
لكعب بن أسد با كان عاهده عليه حينما جاء يثيه على الغدر واليانة أيام غزوة الحزاب ،فلما أت به
ـ وعليه ُحلّة قد شقها من كل ناحية بقدر أنلة لئل يُسْلَبَها ـ مموعة يداه إل عنقه ببل ،قال لرسول
ال صلى ال عليه وسلم :أما وال ما لت نفسي ف معاداتك ،ولكن من يُغالب ال ُيغْلَب .ث قال :أيها
الناس ،ل بأس بأمر ال ،كتاب و َقدَر ومَ ْلحَمَة كتبها ال على بن إسرائيل ،ث جلس ،فضربت عنقه.
وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت قد طرحت الرحى على َخلّد بن ُس َويْد فقتلته ،فقتلت لجل ذلك.
وكان قد أمر رسول ال بقتل من أنْبَتَ ،وترك من ل ينبت ،فكان من ل ينبت عطية القُ َرظِي ،فترك حيا
فأسلم ،وله صحبة.
واستوهب ثابت بن قيس ،الزبي بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبي يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،فقال له ثابت بن قيس :قد وهبك رسول ال صلى ال عليه وسلم إل ،ووهب
ل مالك وأهلك فهم لك .فقال الزبي بعد أن علم بقتل قومه :سألتك بيدي عندك يا ثابت إل ألقتن
بالحبة ،فضرب عنقه ،وألقه بالحبة من اليهود ،واستحيا ثابت من ولد الزبي بن باطا عبد الرحن بن
الزبي ،فأسلم وله صحبة.
واستوهبت أم النذر سلمي بنت قيس النجارية رفاعة بن سوأل القرظي ،فوهبه لا فاستحيته ،فأسلم وله
صحبة.
وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النول ،فحقنوا دماءهم وأموالم وذراريهم.
وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رجلً ل يدخل مع بن قريظة ف غدرهم برسول ال صلى ال
عليه وسلم ـ فرآه ممد بن مسلمة قائد الرس النبوي ،فخلي سبيله حي عرفه ،فلم يعلم أين ذهب.
وقسم رسول ال صلى ال عليه وسلم أموال بن قريظة بعد أن أخرج منها المس ،فأسهم للفارس ثلثة
أسهم؛ سهمان للفرس وسهم للفارس ،وأسهم للراجل سهما واحدا ،وبعث من السبايا إل ند تت
إشراف سعد بن زيد النصاري فابتاع با خيلً وسلحا.
واصطفى رسول ال صلى ال عليه وسلم لنفسه من نسائهم َريْحَانة بنت عمرو بن خُنَافة ،فكانت عنده
حت توف عنها وهي ف ملكه ،هذا ما قاله ابن إسحاق.وقــال الكلب :إنه صلى ال عليه وسلم أعتقها،
وتزوجها سنة 6هـ ،وماتت مرجعـه مـن حجة الـوداع ،فدفنها بالبقيـع.
ولا ت أمر قريظة أجيبت دعوة العبد الصال سعد بن معاذ رضي ال عنه ـ الت قدمنا ذكرها ف غزوة
الحزاب ـ وكان النب صلى ال عليه وسلم قد ضرب له خيمة ف السجد ليعوده من قريب ،فلما ت أمر
قريظة انتقضت جراحته .قالت عائشة :فانفجرت من لَبِّتهِ فلم يَرُعْ ُهمْ ـ وف السجد خيمة من بن غفار
ـ إل والدم يسيل إليهم ،فقالوا :يا أهل اليمة ،ما هذا الذي يأتينا من قبلكم ،فإذا سعد يغذو جرحه دما،
فمات منها.
وف الصحيحي عن جابر أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال( :اهتز عرش الرحن لوت سعد بن معاذ)
.وصحح الترمذي من حديث أنس قال :لا حلت جنازة سعد بن معاذ قال النافقون :ما أخف جنازته،
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :إن اللئكة كانت تمله).
قتل ف حصار بن قريظة رجل واحد من السلمي ،وهو خلد بن سُ َويْد الذي طرحت عليه الرحى امرأة
من قريظة .ومات ف الصار أبو سِنان بن ِمحْصَن أخو عُكّاشَة.
وأما أبو لُبابة ،فأقام مرتبطا بالذع ست ليال ،تأتيه امرأته ف وقت كل صلة فتحله للصلة ،ث يعود
فيتبط بالذع ،ث نزلت توبته على رسول ال صلى ال عليه وسلم َسحَرًا وهو ف بيت أم سلمة ،فقامت
على باب حجرتا ،وقالت :يا أبا لبابة ،أبشر فقد تاب ال عليك ،فثار الناس ليطلقوه ،فأب أن يطلقه أحد
إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلما مر النب صلى ال عليه وسلم خارجا إل صلة الصبح أطلقه.
وقعت هــذه الغــزوة فـي ذي القعدة سنـة 5هـ ،ودام الصار خسا وعشريـن ليلة.
وأنزل ال تعإل ف غزوة الحزاب وبن قريظة آيات من سورة الحزاب ،ذكر فيها أهم جزئيات الوقعة،
وبي حال الؤمني والنافقي ،ث تذيل الحزاب ،ونتائج الغدر من أهل الكتاب.
النشاط العسكري بعد هذه الغزوة
لقَيْق
مقتل َسلّم بن أب ا ُ
كان سلم بن أب القيق ـ وكنيته أبو رافع ـ من أكابر مرمي اليهود الذين حزبوا الحزاب ضد
السلمي ،وأعانم بالؤن والموال الكثية ،وكان يؤذي رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلما فرغ
السلمون من أمر قريظة استأذنت الزرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ف قتله .وكان قتل كعب بن
الشرف على أيدي رجال من الوس ،فرغبت الزرج ف إحراز فضيلة مثل فضيلتهم ،فلذلك أسرعوا إل
هذا الستئذان.
وأذن رسول ال ف قتله وني عن قتل النساء والصبيان ،فخرجت مفرزة قوامها خسة رجال ،كلهم من
بن سلمة من الزرج ،قائدهم عبد ال بن عَتِيك.
خرجت هذه الفرزة ،واتهت نو خيب ؛ إذ كان هناك حصن أب رافع ،فلما دنوا منه ،وقد غربت
الشمس ،وراح الناس بسرحهم ،قال عبد ال بن عتيك لصحابه :اجلسوا مكانكم ،فإن منطلق ومتلطف
للبواب ،لعلى أن أدخل ،فأقبل حت دنا من الباب ،ث تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته ،وقد دخل الناس،
فهتف به البواب :يا عبد ال ،إن كنت تريد أن تدخل فادخل ،فإن أريد أن أغلق الباب.
قال عبد ال بن َعتِيك :فدخلت فكمنت ،فلما دخل الناس أغلق الباب ،ث علق الغاليق على وَدّ .قال:
فقمت إل القاليد فأخذتا ،ففتحت الباب ،وكان أبو رافع يسمر عنده ،وكان ف علل له ،فلما ذهب
عنه أهل سره صعدت إليه ،فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت على من داخل .قلت :إن القوم لو نَذِروا ب
ل يلصوا إل حت أقتله ،فانتهيت إليه ،فإذا هو ف بيت مظلم وسط عياله ،ل أدري أين هو من البيت.
قلت :أبا رافع ،قال :من هذا؟ فأهويت نو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش ،فما أغنيت شيئا،
وصاح ،فخرجت من البيت ،فأمكث غي بعيد ،ث دخلت إليه ،فقلت :ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال:
لمك الويل ،إن رجلً ف البيت ضربن قبل بالسيف .قال :فأضربه ضربة أثخنته ول أقتله .ث وضعت
ضَبِيب السيف ف بطنه حت أخذ ف ظهره ،فعرفت أن قتلته ،فجعلت أفتح البواب بابا بابا ،حت انتهيت
إل درجة له ،فوضعت رجلي ،وأنا أري أن قد انتهيت إل الرض ،فوقعت ف ليلة مقمرة ،فانكسرت
ساقي ،فعصبتها بعمامة ،ث انطلقت حت جلست على الباب .فقلت :ل أخرج الليلة حت أعلم أقتلته؟
فلما صاح الديك قام الناعي على السور ،فقال :أنعي أبا رافع تاجر أهل الجاز ،فانطلقت إل أصحاب
فقلت :النجاء ،فقد قتل ال أبا رافع .فانتهيت إل النب صلى ال عليه وسلم ،فحدثته فقال( :ابسط
رجلك) ،فبسطت رجلي فمسحها فكأنا ل أشتكها.
هذه رواية البخاري ،وعند ابن إسحاق أن جيع النفر دخلوا على أب رافع واشتركوا ف قتله ،وأن الذي
تامل عليه بالسيف حت قتله هو عبد ال بن أنيس ،وفيه :أنم لا قتلوه ليلً ،وانكسرت ساق عبد ال بن
عتيك حلوه ،وأتوا مَنْهَرًا من عيونم فدخلوا فيه ،وأوقد اليهود النيان واشتدوا ف كل وجه ،حت إذا
يئسوا رجعوا إل صاحبهم ،وأنم حي رجعوا احتملوا عبد ال بن عتيك حت قدموا على رسول ال صلى
ال عليه وسلم.
ولا فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم من الحزاب وقريظة أخذ يوجه حلت تأديبية إل القبائل
والعراب ،الذين ل يكونوا يستكينون للمن والسلم إل بالقوة القاهرة.
وكانت أول سرية بعد الفراغ من الحزاب وقريظة ،وكان عدد قوات هذه السرية ثلثي راكبا.
تركت هذه السرية إل القرطاء بناحية ضَ ِريّة بالبَكَرات من أرض ند ،وبي ضرية والدينة سبع ليال،
تركت لعشر ليال خلون من الحرم سنة 6هـ إل بطن بن بكر بن كلب .فلما أغارت عليهم هربوا،
فاستاق السلمون نعما وشاء ،وقدموا الدينة لليلة بقيت من الحرم ومعهم ثُمَامَة بن أثال النفي سيد بن
حنيفة ،كان قد خرج متنكرا لغتيال النب صلى ال عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب ،فأخذه السلمون،
فلما جاءوا به ربطوه بسارية من سواري السجد ،فخرج إليه النب صلى ال عليه وسلم فقال( :ما ذا
عندك يا ثامة؟) فقال :عندي خي يا ممد ،إن تقتل تقتل ذا دم ،وإن تنعم تنعم على شاكر ،وإن كنت
تريد الال فَسَلْ تعط منه ماشئت ،فتركه ،ث مرّ به مرة أخري ؛ فقال له مثل ذلك ،فرد عليه كما رد عليه
أولً ،ث مر مرة ثالثة فقال ـ بعد ما دار بينهما الكلم السابق( :أطلقوا ثامة) ،فأطلقوه ،فذهب إل نل
قريب من السجد فاغتسل ،ث جاءه فأسلم ،وقال :وال ،ما كان على وجه الرض وجه أبغض إل من
وجهك ،فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إل ،وال ما كان على وجه الرض دين أبغض إل من دينك،
فقد أصبح دينك أحب الديان إل ،وإن خيلك أخذتن وأنا أريد العمرة ،فبشره رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،وأمره أن يعتمر ،فلما قدم على قريش قالوا :صبأت يا ثامة ،قال :ل وال ،ولكن أسلمت مع
ممد صلى ال عليه وسلم ،ول وال ل يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حت يأذن فيها رسول ال صلى ال
عليه وسلم .وكانت يامة ريف مكة ،فانصرف إل بلده ،ومنع المل إل مكة ،حت جهدت قريش،
وكتبوا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إل ثامـة يلي إليـه حل
الطعـام ،ففعـل رسـول ال صلى ال عليه وسلم.
غزوة بن َلحْيَان
بنو ليان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم بالرّجِيع ،وتسببوا
ف إعدامهم ،ولكن لا كانت ديارهم متوغلة ف الجاز إل حدود مكة .والتارات الشديدة قائمة بي
السلمي وقريش والعراب ،ل يكن يري رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يتوغل ف البلد بقربة من
العدو الكب ،فلما تاذلت الحزاب ،واستوهنت عزائمهم ،واستكانوا للظروف الراهنة إل حد ما ،رأي
أن الوقت قد آن لن يأخذ من بن ليان ثأر أصحابه القتولي بالرجيع ،فخرج إليهم ف ربيع الول أو
جادي الول سنة 6هـ ف مائتي من أصحابه ،واستخلف على الدينة ابن أم مكتوم ،وأظهر أنه يريد
سفَان ـ حيث كان مصاب أصحابه،
الشام ،ث أسرع السي حت انتهي إل بطن غُرَان ـ واد بي أ َمجَ و ُع ْ
فترحم عليهم ودعا لم ،وسعت به بنو ليان فهربوا ف رءوس البال ،فلم يقدر منهم على أحد ،فأقام
يومي بأرضهم ،وبعث السرايا ،فلم يقدروا عليهم ،فسار إل عسفان ،فبعث عشرة فوارس إل كُرَاع
الغَمِيم لتسمع به قريش ،ث رجع إل الدينة .وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة.
ث تابع رسول ال صلى ال عليه وسلم ف إرسال البعوث والسرايا ،وهاك صورة مصغرة منها:
1ـ سرية عُكّاشَة بن ِمحْصَن إل الغَمْر ف ربيع الول أو الخر سنة 6هـ .خرج عكاشة ف أربعي
رجلً إل الغمْر ،ماء لبن أسد ،ففر القوم ،وأصاب السلمون مائت بعي ساقوها إل الدينة.
2ـ سرية ممد بن مَسْ َلمَة إل ذي القَصّة ف ربيع الول أو الخر سنة 6هـ .خرج ابن مسلمة ف
عشرة رجال إل ذي القصة ف ديار بن ثعلبة ،فكمن القوم لم ـ وهم مائة ـ فلما ناموا قتلوهم إل ابن
مسلمة فإنه أفلت منهم جريا.
3ـ سرية أب عبيدة بن الراح إل ذي القصة ف ربيع الخر سنة 6هـ ،وقد بعثه النب صلى ال عليه
وسلم على إثر مقتل أصحاب ممد بن مسلمة ،فخرج ومعه أربعون رجلً إل مصارعهم ،فساروا ليلتهم
مشاة ،ووافوا بن ثعلبة مع الصبح فأغاروا عليهم ،فأعجزوهم هربا ف البال ،وأصابوا رجلً واحدا
فأسلم ،وغنموا َنعَما وشاء.
4ـ سرية زيد بن حارثة إل الَمُوم ف ربيع الخر سنة 6هـ ـ والموم ماء لبن سليم ف مَرّ الظّهْرَان
ـ خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مُ َزيْنَة يقال لا :حليمة ،فدلتهم على ملة من بن سليم أصابوا فيها
نعما وشاء وأسري ،فلما قفل زيد با أصاب وهب رسول ال صلى ال عليه وسلم للمزينية نفسها
وزوجها.
5ـ سرية زيد إل العِيص ف جادي الول سنة 6هـ ف سبعي ومائة راكب ،وفيها أخذت أموال عي
لقريش كان قائدها أبو العاص خَتَن رسول ال صلى ال عليه وسلم.وأفلت أبو العاص ،فأت زينب
فاستجار با ،وسألا أن تطلب من رسول ال صلى ال عليه وسلم رد أموال العي عليه ففعلت ،وأشار
رسول ال صلى ال عليه وسلم على الناس برد الموال من غي أن يكرههم ،فردوا الكثي والقليل
والكبي والصغي حت رجع أبو العاص إل مكة ،وأدي الودائع إل أهلها ،ث أسلم وهاجر ،فرد عليه رسول
ال صلى ال عليه وسلم زينب بالنكاح الول بعد ثلث سني ونيف ،كما ثبت ف الديث الصحيح
ردهــا بالنـكاح الول ؛ لن آيــة تري السلمات على الكفار ل تكن نزلت إذ ذاك ،وأما ما ورد
من الديث من أنه رد عليه بنكاح جديد ،أو رد عليه بعد ست سني فل يصح معن ،كما أنـــه
ليـس بصحـيح سندا .والعجب من يتمسكون بذا الديث الضعيف فإنم يقولون :إن أبا العاص أسلم
ف أواخر سنة ثان قبيل الفتح .ث يناقضون أنفسهم ،فيقولون :إن زينب ماتت ف أوائل سنة ثان ،وقد
بسطنا الكلم شيئا ف تعليقنا على بلوغ الرام .وجنح موسي بن عقبة إل أن هذا الادث وقع ف سنة
7هـ من قبل أب بصي وأصحابه ،ولكن ذلك ل يطابق الديث الصحيح ول الضعيف.
6ـ سرية زيد أيضا إل الطّرِف أو الطّرِق ف جادي الخر سنة 6هـ .خرج زيد ف خسة عشر رجلً
إل بن ثعلبة فهربت العراب ،وخافوا أن يكون رسول ال صلى ال عليه وسلم سار إليهم ،فأصاب من
نَعَمِهِم عشرين بعيا ،وغاب أربع ليال.
7ـ سرية زيد أيضا إل وادي القري ف رجب سنة 6هـ .خرج زيد ف اثن عشر رجلً إل وادي
القري؛ لستكشاف حركات العدو إن كانت هناك ،فهجم عليهم سكان وادي القري ؛ فقتلوا تسعة،
وأفلتت ثلثة فيهم زيد بن حارثة.
8ـ سرية الَبَط ـ تذكر هذه السرية ف رجب سنة 8هـ ،ولكن السياق يدل على أنا كانت قبل
الديبية ـ قال جابر :بعثنا النب صلى ال عليه وسلم ف ثلثائة راكب ،أمينا أبو عبيدة بن الراح،
نرصد عيا لقريش ،فأصابنا جوع شديد حت أكلنا البط ،فسمي جيش البط ،فنحر رجل ثلث جزائر،
ث نر ثلث جزائر ،ث نر ثلث جزائر ،ث إن أبا عبيدة ناه ،فألقي إلينا البحر دابة يقال لا :العَنْبَر ،فأكلنا
منه نصف شهر ،وادّهَنّا منه حت ثابت منه أجسامنا ،وصلحت ،وأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلعه ،فنظر
إل أطول رجل ف اليش وأطول جل ،فحمل عليه ،ومر تته ،وتزودنا من لمة وَشَائِق ،فلما قدمنا
الدينة ،أتينا رسول ال صلى ال عليه وسلم فذكرنا له ذلك ،فقال( :هو رزق أخرجه ال لكم ،فهل معكم
من لمة شيء تطعمونا؟) فأرسلنا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم منه.
وإنا قلنا :إن سياق هذه السرية يدل على أنا كانت قبل الديبية؛ لن السلمي ل يكونوا يتعرضون لعي
قريش بعد صلح الديبية.
غزوة بن الُصطلق أو غزوة الريسيع ف شعبان سنة 5أو 6هـ
وهذه الغزوة وإن ل تكن طويلة الذيل ،عريضة الطراف من حيث الوجهة العسكريـة ،إل أنا وقعـت
فيـها وقـائـع أحدثـت البلبلـة والضطـراب فـي الجتمـع السلمي ،وتخضت عن افتضاح
النافقي ،والتشريعات التعزيرية الت أعطت الجتمع السلمي صورة خاصة من النبل والكرامة وطهارة
النفوس .ونسرد الغزوة أولً ،ث نذكر تلك الوقائع.
كانت هذه الغزوة ف شعبان سنة خس عند عامة أهل الغازي ،وسنة ست على قول ابن إسحاق.
وسببها أنه بلغه صلى ال عليه وسلم أن رئيس بن الصطلق الارث بن أب ضِرَار سار ف قومه ومن قدر
عليه من العرب يريدون حرب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فبعث بُ َرْيدَة بن الصيب السلمي لتحقيق
الب ،فأتاهم ،ولقي الارث بن أب ضرار وكلمه ،ورجع إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخبه الب.
وبعد أن تأكد لديه صلى ال عليه وسلم صحة الب ندب الصحابة ،وأسرع ف الروج ،وكان خروجه
لليلتي خلتا من شعبان ،وخرج معه جاعة من النافقي ل يرجوا ف غزاة قبلها ،واستعمل على الدينة زيد
بن حارثة ،وقيل :أبا ذر ،وقيل :نُمَيْلَة بن عبد ال الليثي ،وكان الارث بن أب ضرار قد وجه عينًا ؛ ليأتيه
بب اليش السلمي ،فألقي السلمون عليه القبض وقتلوه.
ولا بلغ الارث بن أب ضرار ومن معه مسي رسول ال صلى ال عليه وسلم وقتله عينه ،خافوا خوفا
شديدا وتفرق عنهم من كان معهم من العرب ،وانتهي رسول ال صلى ال عليه وسلم إل الُ َريْسِيع ـ
صفّ رسول ال
بالضم فالفتح مصغرا ،اسم لاء من مياههم ف ناحية ُق َديْد إل الساحل ـ فتهيأوا للقتال .وَ َ
صلى ال عليه وسلم أصحابه ،وراية الهاجرين مع أب بكر الصديق ،وراية النصار مع سعد بن عبادة،
فتراموا بالنبل ساعة ،ث أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم فحملوا حلة رجل واحد ،فكانت النصرة
وانزم الشركون ،وقتل من قتل ،وسب رسول ال صلى ال عليه وسلم النساء والذراري والنعم والشاء،
ول يقتل من السلمي إل رجل واحد ،قتله رجل من النصار ظنا منه أنه من العدو.
كذا قال أهل الغازي والسي ،قال ابن القيم :هو وَهْم ،فإنه ل يكن بينهم قتال ،وإنا أغار عليهم على الاء
فسب ذراريهم وأموالم ،كما ف الصحيح أغار رسول صلى ال عليه وسلم على بن الصطلق وهم
غارون ،وذكر الديث .انتهي.
وكان من جلة السب :جُ َويْ ِريَة بنت الارث سيد القوم ،وقعت ف سهم ثابت ابن قيس ،فكاتبها ،فـأدي
عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم وتزوجهـا ،فأعـتق السلـمون بسبـب هـذا التزويـج
مـائـة أهـل بيـت مـن بنـي الصطلق قـد أسلمـوا ،وقـالـوا :أصهـار رسول ال صلى ال
عليه وسلم.
وأما الوقائع الت حدثت ف هذه الغزوة ،فلجل أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد ال بن أب وأصحابه،
نري أن نورد أولً شيئا من أفعالم ف الجتمع السلمي.
قدمنا مرارا أن عبد ال بن أب كان َيحْنَقُ على السلم والسلمي ،ولسيما على رسول ال صلى ال عليه
وسلم َحَنقًا شديدا ؛ لن الوس والزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته ،وكانوا ينظمون له الَ َرزَ ليتوجوه
إذ دخل فيهم السلم ،فصرفهم عن ابن أب ،فكان يري أن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو الذي
استلبه ملكه.
وقد ظهر حنقه هذا وترقه منذ بداية الجرة قبل أن يتظاهر بالسلم ،وبعد أن تظاهر به .ركب رسول ال
صلى ال عليه وسلم مرة على حار ليعود سعد بن عبادة ،فمر بجلس فيه عبد ال بن أب فخَمّرَ ابن أب
أنفه ،وقال :ل تُغَبّرُوا علينا .ولا تل رسول ال صلى ال عليه وسلم على الجلس القرآن ،قال :اجلس ف
بيتك ،ول تؤذنا ف مالسنا.
وهذا قبل أن يتظاهر بالسلم ،ولا تظاهر به بعد بدر ل يزل إل عدوًا ل ولرسوله وللمؤمني ،ول يكن
يفكر إل ف تشتيت الجتمع السلمي وتوهي كلمة السلم .وكان يوإل أعداءه ،وقد تدخل ف أمر بن
قينقاع كما ذكرنا ،وكذلك جاء ف غزوة أحد من الشر والغدر والتفريق بي السلمي ،وإثارة الرتباك
والفوضي ف صفوفهم با مضي.
وكان من شدة مكر هذا النافق وخداعه بالؤمني أنه كان بعد التظاهر بالسلم ،يقوم كل جعة حي يلس
رسول ال صلى ال عليه وسلم للخطبة ،فيقول :هذا رسول ال صلى ال عليه وسلم بي أظهركم،
أكرمكم ال وأعزكم به ،فانصروه وعزروه ،واسعـوا لــه وأطيعوا ،ث يلس ،فيقوم رسول ال صلى
ال عليه وسلم ويطب .وكان من وقاحة هذا النافق أنه قام ف يوم المعة الت بعد أحد ـ مع ما ارتكبه
من الشر والغدر الشنيع ـ قام ليقول ما كان يقوله من قبل ،فأخذ السلمون بثيابه من نواحيه ،وقالوا له:
اجلس أي عدو ال ،لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت ،فخرج يتخطي رقاب الناس ،وهو يقول:
وال لكأنا قلت بُجْرًا أن قمت أشدد أمره ،فلقيه رجل من النصار بباب السجد ...فقال :ويلك ،ارجع
يستغفر لك رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قال :وال ما أبتغي أن يستغفر ل.
وكانت له اتصالت ببن النضي يؤامر معهم ضد السلمي حت قال لم{ :لَئِنْ أُخْرِجُْتمْ لََنخْرُجَنّ مَعَ ُكمْ َولَا
ص َرنّ ُكمْ} [ الشر.]11 :
نُطِيعُ فِي ُكمْ أَ َحدًا أََبدًا َوإِن قُوتِلُْتمْ لَنَن ُ
وكذلك فعل هو وأصحابه ف غزوة الحزاب من إثارة القلق والضطراب وإلقاء الرعب والدهشة ف
قلوب الؤمني ما قصه ال تعال ف سورة الحزابَ { :وإِذْ يَقُولُ الْمُنَا ِفقُونَ وَاّلذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّ َرضٌ مّا
ت الْأَ ْحزَابُ يَوَدّوا لَوْ أَنّهُم
وَ َع َدنَا ال ّلهُ َورَسُولُهُ ِإلّا غُرُورًا} إل قولهَ { :يحْسَبُو َن اْلأَحْزَابَ َلمْ َيذْهَبُوا َوإِن َيأْ ِ
سَألُونَ عَنْ أَنبَائِ ُكمْ َولَوْ كَانُوا فِيكُم مّا قَاتَلُوا إِلّا قَلِيلًا} [الحزاب.]20 :12 :
بَادُونَ فِي اْلأَعْرَابِ يَ ْ
بيد أن جيع أعداء السلم من اليهود والنافقي والشركي كانوا يعرفون جيدا أن سبب غلبة السلم ليس
هو التفوق الادي وكثرة السلح واليوش والعدد ،وإنا السبب هي القيم والخلق والثل الت يتمتع با
الجتمع السلمي وكل من يت بصلة إل هذا الدين ،وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيض إنا هو رسول
ال صلى ال عليه وسلم الذي هو الثل العلى ـ إل حد العجاز ـ لذه القيم ،كما عرفوا بعد إدارة
دفة الروب طيلة خس سني ،أن القضاء على هذا الدين وأهله ل يكن عن طريق استخدام السلح،
فقرروا أن يشنوا حربا دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الخلق والتقاليد ،وأن يعلوا شخصية الرسول
صلى ال عليه وسلم أول هدف لذه الدعاية الكاذبة الاطئة .ولا كان النافقون هم الطابور الامس ف
صفوف السلمي ،ولكونم سكان الدينة ،كان يكن لم التصال بالسلمي واستفزاز مشاعرهم كل حي.
تمل فريضة الدعاية هؤلء النافقون ،وعلى رأسهم ابن أب.
وقد ظهرت خطتهم هذه جلية حينما تزوج رسول ال صلى ال عليه وسلم بأم الؤمني زينب بنت
جحش ،بعد أن طلقها زيد بن حارثة ،فقد كان من تقاليد العرب أنم كانوا يعتبون التبن مثل البن
الصلب ،فكانوا يعتقدون حرمة حليلة التبن على الرجل الذي تبناه ،فلما تزوج النب صلى ال عليه وسلم
بزينب وجد النافقون ثُلْمَتَيْن ـ حسب زعمهم ـ لثارة الشاغب ضد النب صلى ال عليه وسلم.
الول :أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة ،والقرآن ل يكن أذن ف الزواج بأكثر من أربع نسوة ،فكيف
صح له هذا الزواج؟
الثانية :أن زينب كانت زوجة ابنه ـ مُتَبَنّاه ـ فالزواج با من أكب الكبائر ،حسب تقاليد العرب.
وأكثروا من الدعاية ف هذا السبيل ،واختلقوا قصصا وأساطي ،قالوا :إن ممدا رآها بغتة ،فتأثر بسنها
وشغفته حبا ،وعلقت بقلبه ،وعلم بذلك ابنه زيد فخلي سبيلها لحمد ،وقد نشروا هذه الدعاية الختلقة
نشرا بقيت آثاره ف كتب التفسي والديث إل هذا الزمان ،وقد أثرت تلك الدعاية أثرا قويا ف صفوف
الضعفاء حت نزل القرآن باليات البينات فيها شفاء لا ف الصدور ،وينبئ عن سعة نشر هذه الدعاية أن
ال استفتح سورة الحزاب بقوله{ :يا َأيّهَا النِّب ّي اتّقِ ال ّلهَ َولَا تُ ِطعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِيَ ِإنّ ال ّلهَ كَانَ عَلِيمًا
حَكِي ًماَ} [الحزاب.]1 :
وهذه إشارات عابرة ،وصور مصغرة لا اقترفه النافقون قبل غزوة بن الصطلق ،وكان النب صلى ال عليه
وسلم يكابد كل ذلك بالصب واللي والتلطف ،وكان عامة السلمي يترزون عن شرهم ،أو يتحملونه
بالصب ؛ إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخري حسب قوله تعال{ :أَوَلَ يَرَ ْونَ أَنّ ُهمْ ُيفْتَنُونَ فِي
كُلّ عَامٍ مّ ّرةً أَوْ مَرّتَ ْينِ ُثمّ لَ يَتُوبُونَ وَلَ ُهمْ َيذّكّرُونَ} [التوبة .]126:
ولا كانت غزوة بن الصطلق وخرج فيها النافقون مثلوا قوله تعال{ :لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُو ُكمْ إِلّ
للَ ُكمْ يَ ْبغُونَ ُكمُ اْلفِتَْنةَ} [التوبة ]47 :فقد وجدوا متنفسي للتنفس بالشر ،فأثاروا
ضعُواْ ِخ َ
خَبَالً و َلوْ َ
الرتباك الشديد ف صفوف السلمي ،والدعاية الشنيعة ضد النب صلى ال عليه وسلم ،وهاك بعض
التفصيل عنها:
1ـ قول النافقي[ :لئن رجعنا إل الدينة ليخرجن العز منها الذل]
كان رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الفراغ من الغزوة مقيما على الُ َريْسِيع ،ووردت واردة الناس،
ومع عمر بن الطاب أجي يقال له :جَ ْهجَاه الغفاري ،فازدحم هو وسِنَان بن َوبَر الهن على الاء فاقتتل،
فصرخ الهن :يا معشر النصار ،وصرخ جهجاه :يا معشر الهاجرين ،فقال رسول ال صلى ال عليه
وسلم( :أبدعوي الاهلية وأنا بي أظهركم؟ دعوها فإنا مُنْتِنَة) ،وبلغ ذلك عبد ال بن أب بن سلول
فغضب ـ وعنده رهط من قومه ،فيهم زيد بن أرقم غلم حدث ـ وقال :أو قد فعلوها ،قد نافرونا
وكاثرونا ف بلدنا ،وال ما نن وهم إل كما قال الول :سَمّنْ كَلَْبكَ يَأكُ ْلكَ ،أما وال لئن رجعنا إل
الدينة ليخرجن العز منها الذل ،ث أقبل على من حضره فقال لم :هذا ما فعلتم بأنفسكم ،أحللتموهم
بلدكم ،وقاستموهم أموالكم ،أما وال لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إل غي داركم.
فأخب زيد بن أرقم عمه بالب ،فأخب عمه رسول ال صلى ال عليه وسلم وعنده عمر ،فقال عمر :مُرْ
عَبّاد بن بشر فليقتله .فقال( :فكيف يا عمر إذا تدث الناس أن ممدا يقتل أصحابه؟ ل ولكن أَ ّذنْ
بالرحيل) ،وذلك ف ساعة ل يكن يرتل فيها ،فارتل الناس ،فلقيه أسيد بن حضي فحياه ،وقال :لقد
رحت ف ساعة منكرة؟ فقال له( :أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟) يريد ابن أب ،فقال :وما قال؟ قال( :
زعم أنه إن رجع إل الدينة ليخرجن العز منها الذل) ،قال :فأنت يا رسول ال ،ترجه منها إن شئت،
هو وال الذليل وأنت العزيز ،ث قال :يا رسول ال ،ارفق به ،فوال لقد جاءنا ال بك ،وإن قومه لينظمون
له الَرَز ليتوجوه ،فإنه يري أنك استلبته ملكا.
أما ابن أب فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الب جاء إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وحلف بال ما
قلت ما قال ،ول تكلمت به ،فقال من حضر من النصار :يا رسول ال عسي أن يكون الغلم قد أوهم ف
حديثه ،ول يفظ ما قال الرجل .فصدقه ،قال زيد :فأصابن َهمّ ل يصبن مثله قط ،فجلست ف بيت ،فأنزل
ال{ :إِذَا جَاءكَ الْمُنَا ِفقُونَ} إل قولهُ { :همُ اّلذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا َعلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ ال ّلهِ َحتّى يَنفَضّوا}
إل {لَُيخْرِ َج ّن اْلأَعَزّ مِنْهَا الْأَ َذلّ} [النافقون 1 :ـ ،]8فأرسل إل رسول ال صلى ال عليه وسلم
فقرأها علي .ث قال( :إن ال قد صدقك).
وكان ابن هذا النافق ـ وهو عبد ال بن عبد ال بن أب ـ رجلً صالا من الصحابة الخيار ،فتبأ من
أبيه ،ووقف له على باب الدينة ،واستل سيفه ،فلما جاء ابن أب قال له :وال ل توز من هاهنا حت يأذن
لك رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فإنه العزيز وأنت الذليل ،فلما جاء النب صلى ال عليه وسلم أذن له
فخلي سبيله ،وكان قد قال عبد ال ابن عبد ال بن أب :يا رسول ال ،إن أردت قتله فمرن بذلك ،فأنا
وال أحل إليك رأسه.
وف هذه الغزوة كانت قصة الفك ،وملخصها :أن عائشة رضي ال عنها كانت قد خرج با رسول ال
صلى ال عليه وسلم معه ف هذه الغزوة بقرعة أصابتها ،وكانت تلك عادته مع نسائه ،فلما رجعوا من
الغزوة نزلوا ف بعض النازل ،فخرجت عائشة لاجتها ،ففقدت عقدا لختها كانت أعارتا إياه ،فرجعت
تلتمسه ف الوضع الذي فقدته فيه ف وقتها ،فجاء النفر الذين كانوا يرحلون َهوْدَجَها فظنوها فيه فحملوا
الودج ،ول ينكرون ِخفّتَه؛ لنا رضي ال عنها كانت فَتِّيةَ السن ل َيغْشَهَا اللحم الذي كان يثقلها ،وأيضا
فإن النفر لا تساعدوا على حل الودج ل ينكروا خفته ،ولو كان الذي حله واحدا أو اثني ل يف عليهما
الال ،فرجعت عائشة إل منازلم ،وقد أصابت العقد ،فإذا ليس به داع ول ميب ،فقعدت ف النل،
وظنت أنم سيفقدونا فيجعون ف طلبها ،وال غالب على أمره ،يدبر المر من فوق عرشه كما يشاء،
فغلبتها عيناها ،فنامت ،فلم تستيقظ إل بقول صفوان بن ا ُلعَطّل :إنا ل وإنا إليه راجعون ،زوجة رسول ال
صلى ال عليه وسلم؟ وكان صفوان قد َعرَس ف أخريات اليش ؛ لنه كان كثي النوم ،فلما رآها عرفها،
وكان يراها قبل نزول الجاب ،فاسترجع وأناخ راحلته ،فقربا إليها ،فركبتها ،وما كلمها كلمة واحدة،
ول تسمع منه إل استرجاعه ،ث سار با يقودها ،حت قدم با ،وقد نزل اليش ف نر الظهية ،فلما رأي
ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته ،وما يليق به ،ووجد البيث عدو ال ابن أب متنفسا ،فتنفس من
كرب النفاق والسد الذي بي ضلوعه ،فجعل يستحكي الفك ،ويستوشيه ،ويشيعه ،ويذيعه ،ويمعه
ويفرقه ،وكان أصحابه يتقربون به إليه ،فلما قدموا الدينة أفاض أهل الفك ف الديث ،ورسول ال صلى
ال عليه وسلم ساكت ليتكلم ،ث استشار أصحابه ـ لا استلبث الوحي طويلً ـ ف فراقها ،فأشار عليه
علي رضي ال عنه أن يفارقها ،ويأخذ غيها ،تلويا لتصريا ،وأشار عليه أسامة وغيه بإمساكها ،وأل
يلتفت إل كلم العداء .فقام على النب يستعذر من عبد ال ابن أب ،فأظهر أسيد بن حضي سيد الوس
رغبته ف قتله فأخذت سعد بن عبادة ـ سيد الزرج ،وهي قبيلة ابن أب ـ المية القبلية ،فجري بينهما
كلم تثاور له اليان ،فخفضهم رسول ال صلى ال عليه وسلم حت سكتوا وسكت.
أما عائشة فلما رجعت مرضت شهرا ،وهي لتعلم عن حديث الفك شيئا ،سوي أنا كانت ل تعرف من
سطَح
رسول ال صلى ال عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حي تشتكي ،فلما نَقِ َهتْ خرجت مع أم مِ ْ
إل البَرَاز ليلً ،فعثرت أم مسطح ف مِ ْرطِها ،فدعت على ابنها ،فاستنكرت ذلك عائشة منها ،فأخبتا
الب ،فرجعت عائشة واستأذنت رسول ال صلى ال عليه وسلم ؛ لتأت أبويها وتستيقن الب ،ث أتتهما
بعد الذن حت عرفت جلية المر ،فجعلت تبكي ،فبكت ليلتي ويوما ،ل تكن تكتحل بنوم ،ول يرقأ لا
دمع ،حت ظنت أن البكاء فالق كبدها ،وجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ذلك ،فتشهد وقال( :أما
بعد يا عائشة ،فإنه قد بلغن عنك كذا وكذا ،فإن كنت بريئة فسيبئك ال ،وإن كنت ألمت بذنب
فاستغفري ال وتوب إليه ،فإن العبد إذا اعترف بذنبه ،ث تاب إل ال تاب ال عليه).
وحينئذ َقلَص دمعها ،وقالت لكل من أبويها أن ييبا ،فلم يدريا ما يقولن .فقالت :وال لقد علمت لقد
سعتم هذا الديث حت استقر ف أنفسكم ،وصدقتم به ،فلئن قلت لكم :إن بريئة ـ وال يعلم أن بريئة
صدّقنّي ،وال ما أجد ل
ـ ل تصدقونن بذلك ،ولئن اعترفت لكم بأمر ـ وال يعلم أن منه بريئة ـ لتُ َ
صفُونَ} [يوسف.]18 :
ولكم مثلً إل قول أب يوسف ،قالَ { :فصَبْرٌ جَمِيلٌ وَال ّل ُه الْمُسَْتعَانُ َعلَى مَا تَ ِ
ث تولت واضطجعت ،ونزل الوحي ساعته ،فَسُرّي عن رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يضحك.
فكانت أول كلمة تكلم با( :يا عائشة ،أما ال فقد برأك) ،فقالت لا أمها :قومي إليه ..فقالت عائشة ـ
إدللً بباءة ساحتها ،وثقة بحبة رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وال ل أقوم إليه ،ول أحد إل ال.
والذي أنزله ال بشأن الفك هو قوله تعال{ :إِنّ اّلذِينَ جَاؤُوا بِالْإِ ْفكِ ُعصَْبةٌ مّن ُكمْ [ }...النور:11 :
.]20العشر اليات.
سطَح بن أثاثة ،وحسان بن ثابت ،وحَمْنَة بنت جحش ،جلدوا ثاني ثاني ،ول
و ُجلِد من أهل الفك مِ ْ
حدّ البيث عبد ال بن أب مع أنه رأس أهل الفك ،والذي تول كبه ؛ إما لن الدود تفيف لهلها،
يُ َ
وقد وعده ال بالعذاب العظيم ف الخرة ،وإما للمصلحة الت ترك لجلها قتله.
وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والرتياب والقلق والضطراب عن جو الدينة ،وافتضح رأس
النافقي افتضاحا ل يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك ،قال ابن إسحاق :وجعل بعد ذلك إذا أحدث الدث
كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لعمر( :كيف ترى
يا عمر؟ أما وال لوقتلته يوم قلت ل :اقتله ،لرعدت له آنف ،ولو أمرتا اليوم بقتله لقتلته) .قال عمر:
قد وال علمتُ ،لمْر رسول ال صلى ال عليه وسلم أعظم بركة من أمري.
البعوث والسرايا بعد غزوة الُ َريْسِيع
1ـ سرية عبد الرحن بن عوف إل ديار بن كلب بدَ ْومَة الَ ْندَل ،ف شعبان سنة 6هـ .أقعده رسول
ال صلى ال عليه وسلم بي يديه وعممه بيده ،وأوصاه بأحسن المور ف الرب ،وقال له( :إن أطاعوك
فتزوج ابنة ملكهم) ،فمكث عبد الرحن بن عوف ثلثة أيام يدعوهم إل السلم ،فأسلم القوم وتزوج
عبد الرحن تُمَاضِر بنت الصبغ ،وهي أم أب سلمة ،وكان أبوها رأسهم وملكهم.
2ـ سرية على بن أب طالب إل بن سعد بن بكر ب َفدَك ،ف شعبان سنة 6هـ .وذلك أنه بلغ رسول
ال صلى ال عليه وسلم أن با جعا يريدون أن يدوا اليهود .فبعث إليهم عليا ف مائت رجل ،وكان يسي
الليل ويكمن النهار ،فأصاب عينا لم ،فأقر أنم بعثوه إل خيب يعرضون عليهم نصرتم على أن يعلوا لم
تر خيب .ودل العي على موضع تمع بن سعد ،فأغار عليهم علي ،فأخذ خسمائة بعي وألفي شاة،
وهربت بنو سعد بالظّعنُ ،وكان رئيسهم َوبَر بن ُعلَيْم.
3ـ سرية أب بكر الصديق أو زيد بن حارثة إل وادي القري ،ف رمضان سنة 6هـ .كان بطن من
فَزَارة يريد اغتيال النب صلى ال عليه وسلم ،فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا بكر الصديق .قال
َسلَمَة بن الكْوَع :وخرجت معه حت إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة ،فوردنا الاء ،فقتل أبو بكر من
قتل ،ورأيت طائفة وفيهم الذراري ،فخشيت أن يسبقون إل البل فأدركتهم ،ورميت بسهم بينهم وبي
شعٌ من أدِي ،معها ابنتها من أحسن
البل ،فلما رأوا السهم وقفوا ،وفيهم امرأة هي أم قِرْفَة ،عليها قَ ْ
العرب ،فجئت بم أسوقهم إل أب بكر ،فنفلن أبو بكر ابنتها ،فلم أكشف لا ثوبا ،وقد سأله رسول ال
صلى ال عليه وسلم بنت أم قِرْفَة ،فبعث با إل مكة ،وفدي با أسري من السلمي هناك.
وكانت أم قرفة شيطانة تاول اغتيال النب صلى ال عليه وسلم ،وجهزت ثلثي فارسا من أهل بيتها
لذلك ،فلقت جزاءها ،وقتل الثلثون.
4ـ سرية كُرْز بن جابر الفهري إل العُرَنِيّي ،ف شوال سنة 6هـ ،وذلك أن رهطا من عُكَل و ُعرَينَة
أظهروا السلم ،وأقاموا بالدينة فاستوخوها ،فبعثهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ذود ف الراعي،
وأمرهم أن يشربوا من ألبانا وأبوالا ،فلما صحوا قتلوا راعي رسول ال صلى ال عليه وسلم ،واستاقوا
البل ،وكفروا بعد إسلمهم ،فبعث ف طلبهم كرزا الفهري ف عشرين من الصحابة ،ودعا على العرنيي:
(اللّهم أعم عليهم الطريق ،واجعلها عليهم أضيق من مَسَك) ،فعمي ال عليهم السبيل فأدركوا ،فقطعت
أيديهم وأرجلهم ،وسَ ُملَتْ أعينهم ،جزاء وقصاصا با فعلوا ،ث تركوا ف ناحية الرة حت ماتوا ،
وحديثهم ف الصحيح عن أنس.
ويذكر أهل السي بعد ذلك سرية عمرو بن أمية الضّ ْمرِي مع سلمة بن أب سلمة ،ف شوال سنة 6هـ.
أنه ذهب إل مكة لغتيال أب سفيان ؛ لن أبا سفيان كان أرسل أعرابيا لغتيال النب صلى ال عليه
وسلم ،بيد أن البعوثي ل ينجحا ف الغتيال ،لهذا ،ول ذاك .ويذكرون أن عمرا قتل ف الطريق ثلثة
رجال ،ويقولون :إن عمرا أخذ جثة الشهيد خَُبيْب ف هذا السفر ،والعروف أن خبيبا استشهد بعد
الرّجِيع بأيام أو أشهر ،ووقعة الرجيع كانت ف صفر سنة 4هـ ،فل أدري هل اختلط السفران على
أهل السي ،أو كان المران ف سفر واحد ف السنة الرابعة ،وقد أنكر العلمة النصورفوري أن تكون هذه
السرية سرية حرب أو مناوشة .وال أعلم.
هذه هي السرايا والغزوات بعد الحزاب ،وبن قريظة ،ل ير ف واحدة منها قتال مرير ،وإنا وقعت فيما
وقعت مصادمة خفيفة ،فليست هذه البعوث إل دوريات استطلعية ،أو تركات تأديبية ؛ لرهاب
العراب والعداء الذين ل يستكينوا بعد .ويظهر بعد التأمل ف الظروف أن مري اليام كان قد أخذ ف
التطور بعد غزوة الحزاب ،وأن أعداء السلم كانت معنوياتم ف انيار متواصل ،ول يكن بقي لم أمل
ف ناح كسر الدعوة السلمية وخَضْد شوكتها ،إل أن هذا التطور ظهر جليا بصلح الديبية ،فلم تكن
الدنة إل العتراف بقوة السلم ،والتسجيل على بقائها ف ربوع الزيرة العربية.
عمرة الديبية ف ذي القعدة سنة 6هـ
ولا تطورت الظروف ف الزيزة العربية إل حد كبي لصال السلمي ،أخذت طلئع الفتح العظم وناح
الدعوة السلمية تبدو شيئا فشيئا ،وبدأت التمهيدات لقرار حق السلمي ف أداء عبادتم ف السجد
الرام ،الذي كان قد صد عنه الشركون منذ ستة أعوام.
أري رسول ال صلى ال عليه وسلم ف النام ،وهو بالدينة ،أنه دخل هو وأصحابه السجد الرام ،وأخذ
مفتاح الكعبة ،وطافوا واعتمروا ،وحلق بعضهم وقصر بعضهم ،فأخب بذلك أصحابه ففرحوا ،وحسبوا
أنم داخلو مكة عامهم ذلك ،وأخب أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر.
استنفار السلمي
واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه ،فأبطأ كثي من العراب ،أما هو فغسل ثيابه،
وركب ناقته القَصْواء ،واستخلف على الدينة ابن أم مكتوم أو نُمَ ْيلَة الليثي .وخرج منها يوم الثني غرة
ذي القعدة سنة 6هـ ،ومعه زوجته أم سلمة ،ف ألف وأربعمائة ،ويقال :ألف وخسمائة ،ول يرج معه
بسلح ،إل سلح السافر :السيوف ف القُرُب.
وترك ف اتاه مكة ،فلما كان بذي الُلَ ْيفَة قَلّد الدي وأ ْشعَرَه ،وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه،
سفَان أتاه عينه ،فقال :إن
وبعث بي يديه عينا له من خزاعة يبه عن قريش ،حت إذا كان قريبا من ُع ْ
تركت كعب بن لؤي قد جعوا لك الحابيش ،وجعوا لك جوعا ،وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت،
واستشار النب صلى ال عليه وسلم أصحابه ،وقال( :أترون نيل إل ذراري هؤلء الذين أعانوهم
فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين مزوني ،وإن نوا يكن عنق قطعها ال ،أم تريدون أن نؤم هذا البيت
فمن صدنا عنه قاتلناه؟) فقال أبو بكر :ال ورسوله أعلم ،إنا جئنا معتمرين ،ول نئ لقتال أحد ،ولكن من
حال بيننا وبي البيت قاتلناه ،فقال النب صلى ال عليه وسلم( :فروحوا) ،فراحوا.
وكانت قريش لا سعت بروج النب صلى ال عليه وسلم عقدت ملسا استشاريا قررت فيه صد السلمي
عن البيت كيفما يكن ،فبعد أن أعرض رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الحابيش ،نقل إليه رجل من
بن كعب أن قريشا نازلة بذي طُوَي ،وأن مائت فارس ف قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم ف
الطريق الرئيسي الذي يوصل إل مكة .وقد حاول خالد صد السلمي ،فقام بفرسانه إزاءهم يتراءي
اليشان .ورأي خالد السلمي ف صلة الظهر يركعون ويسجدون ،فقال :لقد كانوا على غرة ،لو كنا
حلنا عليهم لصبنا منهم ،ث قرر أن ييل على السلمي ـ وهم ف صلة العصر ـ ميلة واحدة ،ولكن ال
أنزل حكم صلة الوف ،ففاتت الفرصة خالدا.
وأخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم طريقا َوعْرًا بي شعاب ،وسلك بم ذات اليمي بي ظهري الَمْض
ف طريق ترجه على ثنية الُرَار مهبط الديبية من أسفل مكة ،وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إل
الرم مارا بالتنعيم ،تركه إل اليسار ،فلما رأي خالد قَتَرَة اليش السلمي قد خالفوا عن طريقه انطلق
يركض نذيرا لقريش.
وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم حت إذا كان بثنية الرار بركت راحلته ،فقال الناسَ :حلْ حَلْ،
فألَحّتْ ،فقالوا :خلت القصواء ،فقال النب صلى ال عليه وسلم( :ما خلت القصواء ،وما ذاك لا
بلق ،ولكن حبسها حابس الفيل) ،ث قال( :والذي نفسي بيده ل يسألون خطة يعظمون فيها حرمات ال
إل أعطيتهم إياها) ،ث زجرها فوثبت به ،فعدل حت نزل بأقصي الديبية ،على ثَمَد قليل الاء ،إنا يتبضه
الناس تبضا ،فلم يلبث أن نزحوه .فشكوا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم العطش ،فانتزع سهما من
كنانته ،ث أمرهم أن يعلوه فيه ،فوال ما زال ييش لم بالري حت صدروا.
ولا اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاء بديل بن وَرْقَاء الزاعي ف نفر من خزاعة ،وكانت خزاعة
عَيْبَة نُصْح لرسول ال صلى ال عليه وسلم من أهل تُهَامَة ،فقال :إن تركت كعب ابن لؤي ،نزلوا أعداد
مياه الديبية ،معهم العُوذ الطَافِيل ،وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت .قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم( :إنا ل نئ لقتال أحد ،ولكنا جئنا معتمرين ،وإن قريشا قد نكتهم الرب وأضرت بم ،فإن شاءوا
ماددتم ،ويلوا بين وبي الناس ،وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ،وإل فقد جَمّوا ،وإن
هم أبوا إل القتال فوالذي نفسي بيده لقاتلنهم على أمري هذا حت تنفرد سالفت ،أو لينفذن ال أمره).
قال بديل :سأبلغهم ما تقول ،فانطلق حت أت قريشا ،فقال :إن قد جئتكم من عند هذا الرجل ،وسعته
يقول قول ،فإن شئتم عرضته عليكم.
فقال سفهاؤهم :ل حاجة لنا أن تدثنا عنه بشيء .وقال ذوو الرأي منهم :هات ما سعته .قال :سعته
يقول كذا وكذا ،فبعثت قريش مِكْرَز بن حفص ،فلما رآه رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :هذا رجل
غادر ،فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه ،فرجع إل قريش وأخبهم.
رسل قريش
ث قال رجل من كنانة ـ اسه الُلَيْس بن علقمة :دعون آته .فقالوا :ائته ،فلما أشرف على النب صلى ال
عليه وسلم وأصحابه قال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :هذا فلن ،وهو من قوم يعظمون البدن،
فابعثوها) ،فبعثوها له ،واستقبله القوم يلبون ،فلما رأي ذلك .قال :سبحان ال ما ينبغي لؤلء أن يصدوا
عن البيت ،فرجع إل أصحابه ،فقال :رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ،وما أري أن يصدوا ،وجري بينه
وبي قريش كلم أحفظه.
فقال عروة بن مسعود الثقفي :إن هذا قد عرض عليكم خطة ُرشْد فاقبلوها ،ودعون آته ،فأتاه ،فجعل
يكلمه ،فقال له النب صلى ال عليه وسلم نوا من قوله لبديل .فقال له عروة عند ذلك :أي ممد أرأيت
لو استأصلت قومك ،هل سعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ،وإن تكن الخري فوال إن ل أري
وجوها ،وإن أري أوباشا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ،قال له أبو بكر :امصص َبظْر اللت ،أنن
نفر عنه؟ قال :من ذا؟ قالوا :أبو بكر ،قال :أما والذي نفسي بيده لول يد كانت عندي ل أجْزِكَ با
لجبتك .وجعل يكلم النب صلى ال عليه وسلم ،وكلما كلمه أخذ بلحيته ،والغية بن شعبة عند رأس
النب صلى ال عليه وسلم ،ومعه السيف وعليه ا ِل ْغفَرُ ،فكلما أهوي عروة إل لية النب صلى ال عليه
وسلم ضرب يده بنعل السيف ،وقال :أخر يدك عن لية رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فرفع عروة
رأسه ،وقال :من ذا؟ قالوا :الغية بن شعبة ،فقال :أي ُعذَر ،أو لستُ أسعي ف َغدْ َرتِك؟ وكان الغية
صحِبَ قوما ف الاهلية فقتلهم وأخذ أموالم ،ث جاء فأسلم ،فقال النبـي صلى ال عليه وسلم( :أما
َ
السلم فأقبلُ ،وأما الال فلست منـه فـي شيء) (وكان الغية ابن أخي عروة).
ث إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم وتعظيمهم له ،فرجع إل أصحابه ،فقال:
أي قوم ،وال لقد وفدت على اللوك ،على قيصر وكسري والنجاشي ،وال ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه
ما يعظم أصحاب ممد ممدا ،وال إن تََنخّمَ نامة إل وقعت ف كف رجل منهم ،فدلك با وجهه وجلده،
وإذا أمرهم ابتدروا أمره ،وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ،وإذا تكلم خفضوا أصواتم عنده ،وما
حدّون إليه النظر تعظيما له ،وقد عرض عليكم خطة ُر ْشدٍ فاقبلوها.
يُ ِ
ولا رأي شباب قريش الطائشون ،الطامون إل الرب ،رغبة زعمائهم ف الصلح فكروا ف خطة تول
بينهم وبي الصلح ،فقرروا أن يرجوا ليلً ،ويتسللوا إل معسكر السلمي ،ويدثوا أحداثا تشعل نار
الرب ،وفعلً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار ،فقد خرج سبعون أو ثانون منهم ليلً فهبطوا من جبل التنعيم،
وحاولوا التسلل إل معسكر السلمي ،غي أن ممد بن مسلمة قائد الرس اعتقلهم جيعا.
ورغبة فـــي الصلــح أطلـق سراحهم النب صلى ال عليه وسلم وعفا عنـهم ،وف ذلك أنزل
ال{ :وَ ُه َو الّذِي كَفّ أَْيدِيَ ُهمْ عَن ُكمْ َوَأْيدِيَ ُكمْ َعنْهُم بَِبطْنِ مَ ّكةَ مِن بَ ْعدِ َأنْ َأظْفَ َر ُكمْ عَ َليْ ِهمْ} [الفتح]24 :
وحينئذ أراد رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبعث سفيا يؤكد لدي قريش موقفه وهدفه من هذا
السفر ،فدعا عمر بن الطاب ليسله إليهم ،فاعتذر قائلً :يا رسول ال ،ليس ل أحد بكة من بن عدي
بن كعب يغضب ل إن أوذيت ،فأرسل عثمان بن عفان ،فإن عشيته با ،وإنه مبلغ ما أردت ،فدعاه،
وأرسله إل قريش ،وقال :أخبهم أنا ل نأت لقتال ،وإنا جئنا عمارا ،وادعهم إل السلم ،وأمره أن يأت
رجالً بكة مؤمني ،ونساء مؤمنات ،فيبشرهم بالفتح ،ويبهم أن ال عز وجل مظهر دينه بكة ،حت ل
يستخفي فيها أحد باليان.
فانطلق عثمان حت مر على قريش بِبَ ْلدَح ،فقالوا :أين تريد؟ فقال :بعثن رسول ال صلى ال عليه وسلم
بكذا وكذا ،قالوا :قد سعنا ما تقول ،فانفذ لاجتك ،وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص ،فرحب به ث
أسرج فرسه ،فحمل عثمان على الفرس ،وأجاره وأردفه حت جاء مكة ،وبلغ الرسالة إل زعماء قريش،
فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت ،فرفض هذا العرض ،وأب أن يطوف حت يطوف رسول ال
صلى ال عليه وسلم.
واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم ف الوضع الراهن ،ويبموا أمرهم ،ث
يردوا عثمان بواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال الحتباس ،فشاع بي السلمي أن عثمان قتل ،فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم لا بلغته الشاعة( :ل نبح حت نناجز القوم) ،ث دعا أصحابه إل البيعة،
فثاروا إليه يبايعونه على أل يفروا ،وبايعته جاعة على الوت ،وأول من بايعه أبو سنان السدي ،وبايعه
سلمة بن الكوع على الوت ثلث مرات ،ف أول الناس ووسطهم وآخرهم ،وأخذ رسول ال صلى ال
عليه وسلم بيد نفسه وقال( :هذه عن عثمان) .ولا تت البيعة جاء عثمان فبايعه ،ول يتخلف عن هذه
البيعة إل رجل من النافقي يقال لهَ :جدّ بن قَيْس.
أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه البيعة تت شجرة ،وكان عمر آخذا بيده ،و َمعْقِل بن يَسَار
آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهذه هي بيعة الرضوان الت أنزل ال
شجَ َرةِ}الية [الفتح]18 :
فيها{ :لَ َقدْ رَضِيَ ال ّلهُ عَنِ الْمُ ْؤمِنِيَ إِذْ يُبَاِيعُونَكَ َتحْتَ ال ّ
وعرفت قريش ضيق الوقف ،فأسرعت إل بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح ،وأكدت له أل يكون ف
الصلح إل أن يرجع عنا عامه هذا ،ل تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا ،فأتاه سهيل بن
عمرو ،فلما رآه \ قال( :قد سهل لكم أمركم) ،أراد القوم الصلح حي بعثوا هذا الرجل ،فجاء سهيل
فتكلم طويلً ،ث اتفقا على قواعد الصلح ،وهي هذه:
.1الرسول صلى ال عليه وسلم يرجع من عامه ،فل يدخل مكة ،وإذا كان العام القابل دخلها السلمون
فأقاموا با ثلثا ،معهم سلح الراكب ،السيوف ف القُرُب ،ول يتعرض لم بأي نوع من أنواع التعرض.
.2وضع الرب بي الطرفي عشر سني ،يأمن فيها الناس ،ويكف بعضهم عن بعض.
.3من أحب أن يدخل ف عقد ممد وعهده دخل فيه ،ومن أحب أن يدخل ف عقد قريش وعهدهم
دخل فيه ،وتعتب القبيلة الت تنضم إل أي الفريقي جزءا من ذلك الفريق ،فأي عدوان تتعرض له أي من
هذه القبائل يعتب عدوانا على ذلك الفريق.
.4من أت ممدا من قريش من غي إذن وليه ـ أي هاربا منهم ـ رده عليهم ،ومن جاء قريشا من مع
ممد ـ أي هاربا منه ـ ل يرد عليه.
ث دعا عليا ليكتب الكتاب ،فأملي عليه( :بسم ال الرحن الرحيم) فقال سهيل :أما الرحن فوال ل ندري
ما هو؟ ولكن اكتب :باسك اللّهم .فأمر النب صلى ال عليه وسلم بذلك .ث أملي( :هذا ما صال عليه
ممد رسول ال) فقال سهيل :لو نعلم أنك رسول ال ما صددناك عن البيت ،ول قاتلناك ،ولكن اكتب:
ممد بن عبد ال فقال( :إن رسول ال وإن كذبتمون) ،وأمر عليا أن يكتب :ممد بن عبد ال ،ويحو
لفظ رسول ال ،فأب على أن يحو هذا اللفظ .فمحاه صلى ال عليه وسلم بيده ،ث تت كتابة الصحيفة،
ولا ت الصلح دخلت خزاعة ف عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وكانوا حليف بن هاشم منذ عهد
عبد الطلب ،كما قدمنا ف أوائل الكتاب ،فكان دخولم ف هذا العهد تأكيدا لذلك اللف القدي ـ
ودخلت بنو بكر ف عهد قريش.
رد أب جندل
وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَ ْندَل بن سهيل يَرْسُفُ ف قيوده ،قد خرج من أسفل مكة حت رمي
بنفسه بي ظهور السلمي ،فقال سهيل :هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النب صلى ال عليه
وسلم( :إنا ل نقض الكتاب بعد).
فقال :فوال إذا ل أقاضيك على شيء أبدا .فقال النب صلى ال عليه وسلم( :فأجزه ل) .قال :ما أنا
بجيزه لك .قال( :بلى فافعل) ،قال :ما أنا بفاعل .وقد ضرب سهيل أبا جندل ف وجهه ،وأخذ بتلبيبه
وجره ؛ ليده إل الشركي ،وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته :يا معشر السلمي ،أأرد إل الشركي
يفتنون ف دين؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :يا أبا جندل ،اصب واحتسب ،فإن ال جاعل لك
ولن معك من الستضعفي فرجا ومرجا ،إنا قد عقدنا بيننا وبي القوم صلحا ،وأعطيناهم على ذلك،
وأعطونا عهد ال فل نغدر بم).
فوثب عمر بن الطاب رضي ال عنه مع أب جندل يشي إل جنبه ويقول :اصب يا أبا جندل ،فإنا هم
الشركون ،وإنا دم أحدهم دم كلب ،ويدن قائم السيف منه ،يقول عمر :رجوت أن يأخذ السيف
فيضرب به أباه ،فضن الرجل بأبيه ،ونفذت القضية.
ولا فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم من قضية الكتاب قال( :قوموا فانروا) ،فوال ما قام منهم أحد
حت قال ثلث مرات ،فلما ل يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ،فذكر لا ما لقي من الناس ،فقالت:
يا رسول ال ،أتب ذلك؟ اخرج ،ث ل تكلم أحدا كلمة حت تنحر بدنك ،وتدعو حالقك فيحلقك ،فقام
فخرج فلم يكلم أحدا منهم حت فعل ذلك ،نر ُب ْدنَه ،ودعا حالقه فحلقه ،فلما رأي الناس ذلك قاموا
فنحروا ،وجعل بعضهم يلق بعضا ،حت كاد بعضهم يقتل بعضا غما ،وكانوا نروا البدنة عن سبعة،
والبقرة عن سبعة ،ونر رسول ال صلى ال عليه وسلم جلً كان لب جهل ،كان ف أنفه بُ َرةٌ من فضة،
ليغيظ به الشركي ،ودعا رسول ال صلى ال عليه وسلم للمحلقي ثلثا بالغفرة وللمقصرين مرة .وف
هذا السفر أنزل ال فدية الذي لن حلق رأسه ،بالصيام ،أو الصدقة ،أو النسك ،ف شأن كعب بن ُعجْرَة.
الباء عن رد الهاجرات
ث جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي ت ف الديبية ،فرفض طلبهم هذا ؛
بدليل أن الكلمة الت كتبت ف العاهدة بصدد هذا البند هي( :وعلى أنه ل يأتيك منا رجل ،وإن كان على
دينك إل رددته علينا) ،فلم تدخل النساء ف العقد رأسا .وأنزل ال ف ذلك{ :يَا َأيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا إِذَا
ص ِم الْكَوَافِرِ} [المتحنة ]10 :فكان رسول ال
جَاءكُ ُم الْمُ ْؤمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامَْتحِنُو ُهنّ} ،حت بلغ {ِبعِ َ
صلى ال عليه وسلم يتحنهن بقوله تعال{ :إِذَا جَاءكَ الْمُ ْؤمِنَاتُ يُبَاِيعْنَكَ َعلَى أَن لّا يُشْ ِركْنَ بِال ّلهِ شَيْئًا}...
إل [المتحنة ،]12 :فمن أقرت بذه الشروط قال لا( :قد بايعتك) ،ث ل يكن يردهن.
وطلق السلمون زوجاتم الكافرات بذا الكم .فطلق عمر يومئذ امرأتي كانتا له ف الشرك ،تزوج
بإحداها معاوية ،وبالخري صفوان بن أمية.
هذا هو صلح الديبية ،ومن سب أغوار بنوده مع خلفياته ل يشك أنه فتح عظيم للمسلمي ،فقريش ل
تكن تعترف بالسلمي أي اعتراف ،بل كانت تـدف استئصـال شأفتهم ،وتنتظر أن تشهد يوما ما
نايتهم ،وكانت تاول بأقصي قوتا اليلولة بي الدعوة السلمية وبي الناس ،بصفتها مثلة الزعامة الدينية
والصدارة الدنيوية ف جزيرة العرب ،ومرد النوح إل الصلح اعتراف بقوة السلمي ،وأن قريشا ل تقدر
على مقاومتهم ،ث البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشا نسيت صدارتا الدنيوية وزعامتها الدينية ،وأنا
لتمها الن إل نفسها ،أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت ف السلم بأجعها ،فليهم ذلك
قريشا ،ول تتدخل ف ذلك بأي نوع من أنواع التدخل .أليس هذا فشلً ذريعا بالنسبة إل قريش؟ وفتحا
مبينا بالنسبة إل السلمي؟ إن الروب الدامية الت جرت بي السلمي وبي أعدائهم ل تكن أهدافها ـ
بالنسبة إل السلمي ـ مصادرة الموال وإبادة الرواح ،وإفناء الناس ،أو إكراه العدو على اعتناق
السلم ،وإنا كان الدف الوحيد الذي يهدفه السلمون من هذه الروب هو الــرية الكاملة للناس
فـي العــقيدة والــدين {فَمَن شَاء َفلْيُ ْؤمِن َومَن شَاء فَلَْي ْكفُر} [الكهف .]29 :ل يول بينهم
وبي ما يريدون أي قوة من القوات ،وقدحصل هذا الدف بميع أجزائه ولوازمه ،وبطريق ربا ل يصل
بثله ف الروب مع الفتح البي ،وقد كسب السلمون لجل هذه الرية ناحا كبيا ف الدعوة ،فبينما
كان عدد السلمي ل يزيد على ثلثة آلف قبل الدنة صار عدد اليش السلمي ف سنتي عند فتح مكة
عشرة آلف.
أما البند الثان فهو جزء ثان لذا الفتح البي ،فالسلمون ل يكونوا بادئي بالروب ،وإنا بدأتا قريش،
يقول ال تعال{ :وَهُم بَدَؤُو ُكمْ أَوّلَ مَ ّرةٍ} [التوبة ،]13 :أما السلمون فلم يكن القصود من دورياتم
العسكرية إل أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل ال ،وتعمل معهم بالساواة ،كل من الفريقي
يعمل على شاكلته ،فالعقد بوضع الرب عشر سني حد لذه الغطرسة والصد ،ودليل على فشل من بدأ
بالرب وعلى ضعفه وانياره.
أما البند الول فهو حد لصد قريش عن السجد الرام ،فهو أيضا فشل لقريش ،وليس فيه ما يشفي
قريشا سوي أنا نحت ف الصد لذلك العام الواحد فقط.
أعطت قريش هذه اللل الثلث للمسلمي ،وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط ،وهي ما ف البند
الرابــع ،ولـكن تلك اللة تافهة جدا ،ليس فيها شيء يضر بالسلمي ،فمعلوم أن السلم ما دام
مسلما ل يفر عن ال ورسوله ،وعن مدينة السلم ،ول يفر إل إذا ارتد عن السلم ظاهرا أو باطنا ،فإذا
ارتد فل حاجة إليه للمسلمي ،وانفصاله من الجتمع السلمي خي من بقائه فيه ،وهذا الذي أشار إليه
رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله( :إنه من ذهب منا إليهم فأبعده ال) .وأما من أسلم من أهل مكة
فهو وإن ل يبق للجوئه إل الدينة سبيل لكن أرض ال واسعة ،أل تكن البشة واسعة للمسلمي حينما ل
يكن يعرف أهل الدينة عن السلم شيئا؟ وهذا الذي أشار إليه النب بقوله( :ومن جاءنا منهم سيجعل ال
له فرجا ومرجا).
والخذ بثل هذا الحتفاظ ،وإن كان مظهر العتزاز لقريش ،لكنه ف القيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش
وهلعهم و َخوَرِهم ،وعن شدة خوفهم على كيانم الوثن ،وكأنم كانوا قد أحسوا أن كيانم اليوم على
شفا جُرُف هار ل بد له من الخذ بثل هذا الحتفاظ .وما سح به النب صلى ال عليه وسلم من أنه ل
يسترد من فرّ إل قريش من السلمي ،فليس هذا إل دليلً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال
العتماد ،ول ياف عليه من مثل هذا الشرط.
هذه هي حقيقة بنود هذ الصلح ،لكن هناك ظاهرتان عمت لجلهما السلمي كآبة وحزن شديد.
الول :أنه كان قد أخبهم أنا سنأت البيت فنطوف به ،فما له يرجع ول يطف به؟
الثانية :أنه رسول ال صلى ال عليه وسلم وعلى الق ،وال وعد إظهار دينه ،فما له قبل ضغط قريش،
وأعطي ال ّدنِّيةَ ف الصلح؟
كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون ،وصارت مشاعر السلمي لجلهما
جرية ،بيث غلب الم والزن على التفكي ف عواقب بنود الصلح.ولعل أعظمهم حزنا كان عمر بن
الطاب ،فقد جاء إل النب صلى ال عليه وسلم وقال :يا رسول ال ،ألسنا على حق وهم على باطل؟
قـال( :بلى) .قـال :أليس قتلنا ف النة وقتلهم ف النار؟ قال( :بلي) .قال :ففيم نعطي الدنية ف ديننا،
ونرجع ولا يكم ال بيننا وبينهم؟ قال( :يا ابن الطاب ،إن رسول ال ولست أعصيه ،وهو ناصري ولن
يضيعن أبدا) .قال :أوليس كنت تدثنا أنا سنأت البيت فنطوف به؟ قال( :بلي ،فأخبتك أنا نأتيه العام؟)
قال :ل .قال( :فإنك آتيه ومطوف به).
ث انطلق عمر متغيظا فأت أبا بكر ،فقال له كما قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،ورد عليه أبو بكر،
كما رد عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم سواء ،وزاد :فاستمسك بغَ ْرزِه حت توت ،فوال إنه لعلى
الق.
ث نزلتِ{ :إنّا فََتحْنَا َلكَ فَ ْتحًا مّبِينًا }...إل [سورة الفتح ،]1:فأرسل رسول ال إل عمر فأقرأه إياه.
فقال :يا رسول ال ،أو فتح هو؟ قال( :نعم) .فطابت نفسه ورجع.
ث ندم عمر على ما فرط منه ندما شديدا ،قال عمر :فعملت لذلك أعمالً ،مازلت أتصدق وأصوم
وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ ،مافة كلمي الذي تكلمت به ،حت رجوت أن يكون خيا.
انلت أزمة الستضعفي
ولا رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل الدينة ،واطمأن با ،انفلت رجل من السلمي ،من كان
يعذب ف مكة ،وهو أبو بَصِي ،رجل من ثقيف حليف لقريش ،فأرسلوا ف طلبه رجلي ،وقالوا للنب صلى
ال عليه وسلم :العهد الذي جعلت لنا .فدفعه النب صلى ال عليه وسلم إل الرجلي ،فخرجا به حت بلغا
ذا الُلَ ْيفَة ،فنلوا يأكلون من تر لم ،فقال أبو بصي لحد الرجلي :وال إن لري سيفك هذا يا فلن
جيدا ،فاستله الخر فقال :أجل ،وال إنه ليد ،لقد جَ ّربْتُ به ث جَ ّربْتُ .فقال أبو بصي :أرن أنظر إليه،
فأمكنه منه ،فضربه حت برد.
وفر الخر حت أت الدينة ،فدخل السجد يعدو ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم حي رآه( :لقد رأى
هذا ذعرا) ،فلما انتهي إل النب صلى ال عليه وسلم قال :قُتِل صاحب ،وإن لقتول ،فجاء أبو بصي
وقال :يا نب ال ،قد وال أوْفَي ال ذمتك ،قد رددتن إليهم ،ث أنان ال منهم ،قال رسول ال صلى ال
سعَر َح ْربٍ لو كان له أحد) ،فلما سع ذلك عرف أنه سيده إليهم ،فخرج حت
عليه وسلم( :ويل أمه ،مِ ْ
أت سِيفَ البحر ،وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل ،فلحق بأب بصي ،فجعل ل يرج من قريش رجل قد
أسلم إل لق بأب بصي ،حت اجتمعت منهم عصابة .فو ال ما يسمعون بعي خرجت لقريش إل الشام إل
اعترضوا لا ،فقتلوهم وأخذوا أموالم .فأرسلت قريش إل النب صلى ال عليه وسلم تناشده ال والرحم
لا أرسل ،فمن أتاه فهو آمن ،فأرسل النب صلى ال عليه وسلم إليهم ،فقدموا عليه الدينة.
وف سنة 7من الجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة ،ولا
حضروا عند النبـي صلى ال عليه وسلم قـال( :إن مكـة قد ألقت إلينا أفلذ كبدها).
الرحلة الثانية :طور جديد
إن صلح الديبية كان بداية طور جديد ف حياة السلم والسلمي ،فقد كانت قريش أقوي قوة وأعندها
وألدها ف عداء السلم ،وبانسحابا عن ميدان الرب إل رحاب المن والسلم انكسر أقوي جناح من
أجنحة الحزاب الثلثة ـ قريش و َغطَفَان واليهود ـ ولا كانت قريش مثلة للوثنية ،وزعيمتهم ف ربوع
جزيرة العرب انفضت حدة مشاعر الوثنيي ،وانارت نزعاتا العدائية إل حد كبي ،ولذلك ل نري
لغطفان استفزازا كبيا بعد هذه الدنة ،وجل ما جاء منهم إنا جاء من قبل إغراء اليهود.
أما اليهود فكانوا قد جعلوا خيب بعد جلئهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر ،وكانت شياطينهم تبيض
هناك وتفرخ ،وتؤجج نار الفتنة ،وتغري العراب الضاربة حول الدينة ،وتبيت للقضاء على النب صلى
ال عليه وسلم والسلمي ،أو للاق السائر الفادحة بم ،ولذلك كان أول إقدام حاسم من النب صلى
ال عليه وسلم بعد هذا الصلح هو شن الرب الفاصلة على هذا الوكر.
ث إن هذه الرحلة الت بدأت بعد الصلح أعطت السلمي فرصة كبية لنشر الدعوة السلمية وإبلغها،
وقد تضاعف نشاط السلمي ف هذا الجال ،وبرز نشاطهم ف هذا الوجه على نشاطهم العسكري ؛
ولذلك نري أن نقسم هذه الرحلة إل قسمي:
وقبل أن نتابع النشاط العسكري ف هذه الرحلة ،نتناول موضوع مكاتبة اللوك والمراء ؛ إذ الدعوة
السلمية هي القدمة طبعا ،بل ذلك هو الدف الذي عان له السلمون ما عانوه من الصائب واللم،
والروب والفت ،والقلقل والضطرابات.
ف أواخر السنة السادسة حي رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم من الديبية كتب إل اللوك يدعوهم
إل السلم.
ولا أراد أن يكتب إل هؤلء اللوك قيل له :إنم ل يقرءون كتابا إل وعليه خات ،فاتذ النب صلى ال عليه
وسلم خاتا من فضة ،نقشه :ممد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكان هذا النقش ثلثة أسطر :ممد
سطر ،ورسول سطر ،وال سطر ،هــكذا.
واختار من أصحابه رسلً لم معرفة وخبة ،وأرسلهم إل اللوك ،وقد جزم العلمة النصورفوري أن النب
صلى ال عليه وسلم أرسل هؤلء الرسل غرة الحرم سنة سبع من الجرة قبل الروج إل خيب بأيام.
وفيما يلي نصوص هذه الكتب ،وبعض ما تخضت عنه.
صحَمَة بن الْبجَر ،كتب إليه النب صلى ال عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضّمْرِي
وهذا النجاشي اسه أ ْ
ف آخر سنة ست أو ف الحرم سنة سبع من الجرة .وقد ذكر الطبي نص الكتاب ،ولكن النظر الدقيق
ف ذلك النص ،يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلى ال عليه وسلم بعد الديبية ،بل لعله نص
كتاب بعثه مع جعفر حي خرج هو وأصحابه مهاجرين إل البشة ف العهد الكي ،فقد ورد ف آخر
الكتاب ذكر هؤلء الهاجرين بذا اللفظ( :وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرا ومعه نفر من السلمي ،فإذا
جاءك فأقرهم ودع التجب).
وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النب صلى ال عليه وسلم إل النجاشي ،وهو هذا:
(بسم ال الرحن الرحيم .هذا كتاب من ممد رسول ال إل النجاشي ،الصحم عظيم البشة ،سلم على
من اتبع الدي ،وآمن بال ورسوله ،وشهد أن ل إله إلال وحده ل شريك له ،ل يتخذ صاحبه ول ولدا،
وأن ممدًا عبده ورسوله ،وأدعوك بدعاية السلم ،فإن أنا رسوله فأسلم تسلم{ ،يَا أَهْلَ الْكِتَابِ َتعَالَ ْواْ
خذَ َبعْضُنَا بَعْضا أَ ْربَابًا مّن دُونِ ال ّلهِ
إِلَى كَلَ َمةٍ َسوَاء بَيْنَنَا َوبَيْنَ ُكمْ أَلّ َنعُْبدَ إِلّ ال ّلهَ وَلَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا َولَ يَّت ِ
سلِمُونَ} فإن أبيت فعليك إث النصارى من قومك).
َفإِن تَ َولّوْاْ َفقُولُواْ اشْ َهدُواْ ِبأَنّا مُ ْ
وقد أورد الحقق الكبي الدكتور حيد ال ـ باريس ـ نص كتاب قد عثر عليه ف الاضي القريب ـ بثل
ما أورده ابن القيم مع الختلف ف كلمة فقط ـ وبذل الدكتور ف تقيق ذلك النص جهدا بليغا،
واستعان ف ذلك كثيا باكتشافات العصر الديث ،وأورد صورته ف الكتاب وهو هكذا:
(بسم ال الرحن الرحيم .من ممد رسول ال إل النجاشي عظيم البشة ،سلم على من اتبع الدى ،أما
بعد:
فإن أحد إليك ال الذي ل إله إل هو اللك القدوس السلم الؤمن الهيمن ،وأشهد أن عيسي بن مري
روح ال وكلمته ألقاها إل مري البتول الطيبة الصينة ،فحملت بعيسي من روحه ونفخه ،كما خلق آدم
بيده ،وإن أدعو إل ال وحده ل شريك له ،والوالة على طاعته ،وأن تتبعن ،وتؤمن بالذي جاءن ،فإن
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وإن أدعوك وجنودك إل ال عز وجل ،وقد بلغت ونصحت ،فاقبل
نصيحت ،والسلم على من اتبع الدى).
وأكد الدكتور الحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النب صلى ال عليه وسلم إل النجاشي بعد
الديبية ،أما صحة هذا النص فل شك فيها بعد النظر ف الدلئل ،وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب
بعد الديبية فل دليل عليه ،والذي أورد البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب الت كتبها النب صلى ال
عليه وسلم إل ملوك وأمراء النصاري بعد الديبية ،فإن فيه الية الكرية { :يَا أَ ْه َل الْكِتَابِ تَعَالَ ْواْ ِإلَى
كَلَ َمةٍ }...إل ،كما كان دأبه ف تلك الكتب ،وقد ورد فيه اسم الصحمة صريا ،وأما النص الذي أورده
الدكتور حيد ال ،فالغلب عندي أنه نص الكتاب الذي كتبه النب صلى ال عليه وسلم بعد موت
أصحمة إل خليفته ،ولعل هذا هو السبب ف ترك السم.
وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي الشهادات الداخلية الت تؤديها نصوص هذه الكتب.
والعجب من الدكتور حيد ال أنه جزم بأن النص الذي أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب
الذي كتبه النب صلى ال عليه وسلم بعد موت أصحمة إل خليفته مع أن اسم أصحمة وارد ف هذا النص
صريا ،والعلم عند ال.
ولا بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النب صلى ال عليه وسلم إل النجاشي أخذه النجاشي ،ووضعه
على عينه ،ونزل عن سريره على الرض ،وأسلم على يد جعفر بن أب طالب ،وكتب إل النب صلى ال
عليه وسلم بذلك ،وهاك نصه:
[بسم ال الرحن الرحيم .إل ممد رسول ال من النجاشي أصحمة ،سلم عليك يا نب ال من ال ورحة
ال وبركاته ،ال الذي ل إله إل هو ،أما بعد:
فقد بلغن كتابك يا رسول ال فيما ذكرت من أمر عيسي ،فورب السماء والرض إن عيسي ل يزيد على
ما ذكرت تُفْرُوقا ،إنه كما قلت ،وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ،وقد قرينا ابن عمك وأصحابك ،فأشهد أنك
رسول ال صادقا مصدقا ،وقد بايعتك ،وبايعت ابن عمك ،وأسلمت على يديه ل رب العالي).
وكان النب صلى ال عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفرا ومن معه من مهاجري البشة،
فأرسلهم ف سفينتي مع عمرو بن أمية الضمري ،فقدم بم على النب صلى ال عليه وسلم وهو بيب.
وتوف النجاشي هذا ف رجب سنة تسع من الجرة بعد تبوك ،ونعاه النب صلى ال عليه وسلم يوم وفاته،
وصلي عليه صلة الغائب ،ولا مات وتلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النب صلى ال عليه وسلم
كتابا آخر ،ول يدري هل أسلم أم ل؟.
وكتــب النبــي صلى ال عليه وسلم إل جُ َريْج بـن مَتّي اللقب با ُلقَوْقِس ملك مصر
والسكندرية:
(بسم ال الرحن الرحيم من ممد عبد ال ورسوله إل القوقس عظيم القبط ،سلم على من اتبع الدى،
أما بعد ،فإن أدعوك بدعاية السلم ،أسلم تسلم ،وأسلم يؤتك ال أجرك مرتي ،فإن توليت فإن عليك
إث أهل القبــط{ ،يَا أَ ْه َل الْكِتَابِ تَعَالَ ْواْ ِإلَى كَلَ َمةٍ سَوَاء بَيْنَنَا َوبَيْنَ ُكمْ أَلّ نَعُْبدَ إِلّ ال ّلهَ َولَ نُشْ ِركَ ِبهِ شَيْئًا
وَلَ يَّتخِذَ َبعْضُنَا َبعْضا أَ ْربَابًا مّن دُونِ ال ّلهِ َفإِن تَ َولّ ْواْ َفقُولُواْ اشْ َهدُواْ بَِأنّا مُسْلِمُونَ})
واختار لمل هذا الكتاب حاطب بن أب بَلَْتعَة .فلما دخل حاطب على القوقس قال له :إنه كان قبلك
رجل يزعم أنه الرب العلى ،فأخذه ال نكال الخرة والول ،فانتقم به ث انتقم منه ،فاعتب بغيك ،ول
يعتب غيك بك.
فقال حاطب :ندعوك إل دين السلم الكاف به ال َف ْقدَ ما سِواه ،إن هذا النب دعا الناس فكان أشدهم
عليه قريش ،وأعداهم له اليهود ،وأقربم منه النصاري ،ولعمري ما بشارة موسي بعيسي إل كبشارة
عيسي بحمد ،وما دعاؤنا إياك إل القرآن إل كدعائك أهل التوراة إل النيل ،فكل نب أدرك قوما فهم
أمته ،فالق عليهم أن يطيعوه ،وأنت من أدركه هذا النب ،ولسنا ننهاك عن دين السيح ،ولكنا نأمرك به.
فقال القوقس :إن قد نظرت ف أمر هذا النب ،فوجدته ل يأمر بزهود فيه .ول ينهي عن مرغوب فيه ،ول
أجده بالساحر الضال ،ول الكاهن الكاذب ،ووجدت معه آية النبوة بإخراج البء والخبار بالنجوي،
وسأنظر.
وأخذ كتاب النب صلى ال عليه وسلم ،فجعله ف حُقّ من عاج ،وختم عليه ،ودفعه إل جارية له ،ث دعا
كاتبا له يكتب بالعربية ،فكتب إل رسول ال صلى ال عليه وسلم:
(بسم ال الرحن الرحيم .لحمد بن عبد ال من القوقس عظيم القبط ،سلم عليك ،أما بعد:
فقد قرأت كتابك ،وفهمت ما ذكرت فيه ،وما تدعو إليه ،وقد علمت أن نبيا بقي ،وكنت أظن أنه يرج
بالشام ،وقد أكرمت رسولك ،وبعثت إليك باريتي ،لما مكان ف القبط عظيم ،وبكسوة ،وأهديت بغلة
لتركبها ،والسلم عليك).
ول يزد على هذا ول يسلم ،والاريتان مارية ،وسيين ،والبغلة ُدْلدُل ،بقيت إل زمن معاوية ،واتذ النب
صلى ال عليه وسلم مارية سرية له ،وهي الت ولدت له إبراهيم .وأما سيين فأعطاها لسان بن ثابت
النصاري.
3ـ الكتاب إل كسرى ملك فارس:
(بسم ال الرحن الرحيم .من ممد رسول ال إل كسرى عظيم فـارس ،سـلم على من اتبع الدي،
وآمن بال ورسوله ،وشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له ،وأن ممدا عبده ورسوله ،وأدعوك بدعاية
ال ،فإن أنا رسول ال إل الناس كافة ،لينذر من كان حيا ويق القول على الكافرين ،فأسلم تسلم ،فإن
أبيت فإن إث الجوس عليك).
واختار لمل هذا الكتاب عبد ال بن حذافة السهمي ،فدفعه السهمي إل عظيم البحرين ،ول ندري هل
بعث به عظيم البحرين رجلً من رجالته ،أم بعث عبد ال السهمي ،وأيّا ما كان فلما قرئ الكتاب على
كسرى مزقه ،وقال ف غطرسة :عبد حقي من رعيت يكتب اسه قبلي ،ولا بلغ ذلك رسول ال صلى ال
عليه وسلم قال( :مزق ال ملكه) ،وقد كان كما قال ،فقد كتب كسرى إل بَاذَان عامله على اليمن:
ابعث إل هذا الرجل الذي بالجاز رجلي من عندك جلدين فليأتيان به .فاختار باذان رجلي من عنده،
أحدها :قهرمانه بانويه ،وكان حاسبا كاتبا بكتاب فارس .وثانيهما :خرخسرو من الفرس ،وبعثهما
بكتاب إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يأمر أن ينصرف معهما إل كسري ،فلما قدما الدينة ،وقابل
النب صلى ال عليه وسلم ،قال أحدها :إن شاهنشاه [ملك اللوك] كسرى قد كتب إل اللك باذان
يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه بك ،وبعثن إليك لتنطلق معي ،وقال قولً توعده فيه ،فأمرها النب صلى
ال عليه وسلم أن يلقياه غدا.
وف ذلك الوقت كانت قد قامت ثورة كبية ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لقت جنوده هزية منكرة
أمام جنود قيصر ،فقد قام شيويه بن كسرى على أبيه فقتله ،وأخذ اللك لنفسه ،وكان ذلك ف ليلة
الثلثاء لعشر مضي من جادي الول سنة سبع ،وعلم رسول ال صلى ال عليه وسلم الب من الوحي،
فلما غدوا عليه أخبها بذلك .فقال :هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر ،أفنكتب هذا
عنك ،ونبه اللك .قال( :نعم أخباه ذلك عن ،وقول له :إن دين وسلطان سيبلغ ما بلغ كسرى !
وينتهي إل منتهي الف والافر ،وقول له :إن أسلمت أعطيتك ما تت يدك ،وملكتك على قومك من
البناء) ،فخرجا من عنده حت قدما على باذان فأخباه الب ،وبعد قليل جاء كتاب بقتل شيويه لبيه،
وقال له شيويه ف كتابه :انظر الرجل الذي كان كتب فيه أب إليك ،فل تجه حت يأتيك أمري.
وكان ذلك سببا ف إسلم باذان ومن معه من أهل فارس باليمن.
4ـ الكتاب إل قيصر ملك الروم:
روى البخاري ـ ضمن حديث طويل ـ نص الكتاب الذي كتبه النب صلى ال عليه وسلم إل ملك
الروم هرقل ،وهو هذا:
(بسم ال الرحن الرحيم .من ممد عبد ال ورسوله إل هرقل عظيم الروم ،سلم على من اتبع الدي،
أسلم تسلم ،أسلم يؤتك ال أجرك مرتي ،فإن توليت فإن عليك إث الريسيي { يَا أَ ْه َل الْكِتَابِ تَعَالَ ْواْ ِإلَى
خذَ َبعْضُنَا َبعْضا أَ ْربَابًا مّن دُونِ ال ّلهِ َفإِن
كَلَ َمةٍ َسوَاء بَيْنَنَا َوبَيْنَ ُكمْ أَلّ نَعُْبدَ إِلّ ال ّلهَ َولَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَ يَّت ِ
تَوَلّ ْواْ َفقُولُواْ اشْ َهدُواْ ِبأَنّا مُسْ ِلمُونَ}) [آل عمران.]64:
واختار لمل هذا الكتاب َدحْيَة بن خليفة الكلب ،وأمره أن يدفعه إل عظيم بصري ،ليدفعه إل قيصر،
وقد روي البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبه أن هرقل أرسل إليه ف ركب من قريش،
كانوا تارا بالشام ،ف الدة الت كان رسول ال صلى ال عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش،
فأتوه وهم بإيلياء ،فدعاهم ف ملسه وحوله عظماء الروم ،ث دعاهم ودعا ترجانه فقال :أيكم أقرب نسبا
بذا الرجل الذي يزعم أنه نب؟ قال أبو سفيان :فقلت :أنا أقربم نسبا ،فقال :أدنوه من ،وقربوا أصحابه،
فاجعلوهم عند ظهره ،ث قال لترجانه :إن سائل هذا عن هذا الرجل ،فإن كذبن فكذبوه ،فو ال لول
الياء من أن يأثروا على كذبا لكذبت عليه.
ث قال :أول ما سألن عنه أن قال :كيف نسبه فيكم؟ فقلت :هو فينا ذو نسب ،قال :فهل قال هذا القول
منكم أحد قط قبله؟ قلت :ل .قال :فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت :ل .قال :فأشراف الناس اتبعوه أم
ضعفاؤهم؟ قلت :بل ضعفاؤهم .قال :أيزيدون أم ينقصون؟ قلت :بل يزيدون .قال :فهل يرتد أحد منهم
سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه :قلت :ل .قال :فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت :ل.
قال :فهل يغدر؟ قلت :ل ،ونن منه ف مدة ل ندري ما هو فاعل فيها ـ قال :ول تكنن كلمة أدخل فيها
شيئا غي هذه الكلمة ـ قال :فهل قاتلتموه؟ قلت :نعم .قال :فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت :الرب بيننا
وبينه سجال ،ينال منا وننال منه .قال :ماذا يأمركم؟ قلت :يقول( :اعبدوا ال وحده ،ول تشركوا به
شيئا ،واتركوا ما يقول آباؤكم) ،ويأمرنا بالصلة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجان :قل له :سألتك عن نسبه ،فذكرت أنه فيكم ذو نسب ،وكذلك الرسل تبعث ف نسب من
قومها .وسألتك :هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن ل .قلت :لو كان أحد قال هذا القول
قبله لقلت :رجل يأتسي بقول قيل قبله .وسألتك :هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن ل .فقلت :فلو
كان من آبائه من ملك قلت :رجل يطلب ملك أبيه .وسألتك :هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما
قال؟ فذكرت أن ل ،فقد أعرف أنه ل يكن ليذر الكذب على الناس ،ويكذب على ال .وسألتك :أشراف
الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه ،وهم أتباع الرسل .وسألتك :أيزيدون أم
ينقصون؟ فذكرت أنم يزيدون ،وكذلك أمر اليان حت يتم .وسألتك :أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن
يدخل فيه؟ فذكرت أن ل ،وكذلك اليان حي تالط بشاشته القلوب .وسألتك :هل يغدر؟ فذكرت أن
ل ،وكذلك الرسل ل تغدر.وسألتك :باذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا ال ،ول تشركوا به شيئا
وينهاكم عن عبادة الوثان ،ويأمركم بالصلة والصدق والعفاف ،فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع
قدمي هاتي ،وقد كنت أعلم أنه خارج ،ول أكن أظنه أنه منكم ،فلو أن أعلم أن أخلص إليه لتجشمت
لقاءه ،ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ث دعا بكتاب رسول ال صلى ال عليه وسلم فقرأ ،فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الصوات عنده
وكثر اللغط ،وأمر بنا فأخرجنا ،قال :فقلت لصحاب حي أخرجنا :لقد أمِ َر أمْرُ ابن أب كَبْشَة ،إنه ليخافه
ملك بن الصفر ،فما زلت موقنا بأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه سيظهر حت أدخل ال على
السلم.
هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على قيصر ،وقد كان من أثره عليه أنه أجاز دحية بن خليفة
سمَي ف الطريق لقيه
الكلب ،حامل كتاب الرسول صلى ال عليه وسلم بال وكسوة ،ولا كان دحية بِ ْ
ناس من ُجذَام ،فقطعوها عليه ،فلم يتركوا معه شيئا ،فجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل أن يدخل
بيته ،فأخبه ،فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم زيد بن حارثة إل حسمي ،وهي وراء وادي القري،
ف خسمائة رجل ،فشن زيد الغارة على جذام ،فقتل فيهم قتلً ذريعا ،واستاق َنعَمهم ونساءهم ،فأخذ من
النعم ألف بعي ،ومن الشاء خسة آلف ،والسب مائة من النساء والصبيان.
وكان بي النب صلى ال عليه وسلم وبي قبيلة جذام موادعة ،فأسرع زيد بن رِفَاعة الذامي أحد زعماء
هذه القبيلة بتقدي الحتجاج إل النب صلى ال عليه وسلم ،وكان قد أسلم هو ورجال من قومه ،ونصروا
دحية حي قطع عليه الطريق فقبل النب صلى ال عليه وسلم احتجاجه ،وأمر برد الغنائم والسب.
وعامة أهل الغازي يذكرون هذه السرية قبل الديبية ،وهو خطأ واضح ،فإن بعث الكتـاب إل قيـصر
كـان بعد الديبية ؛ ولذا قال ابن القيم :هذا بعد الديبية بل شك.
5ـ الكتاب إل النذر بن سَاوِي:
وكتب النب صلى ال عليه وسلم إل النذر بن ساوي حاكم البحرين كتابا يدعوه فيه إل السلم ،وبعث
إليه العلء بن الضرمي بذلك الكتاب ،فكتب النذر إل رسول ال صلى ال عليه وسلم:
[أما بعد ،يا رسول ال ،فإن قرأت كتابك على أهل البحرين ،فمنهم من أحب السلم وأعجبه ،ودخل
فيه ،ومنهم من كرهه ،وبأرضي موس ويهود ،فأحدث إل ف ذلك أمرك].
(بسم ال الرحن الرحيم .من ممد رسول ال إل النذر بن ساوي ،سلم عليك ،فإن أحد إليك ال الذي
ل إله إل هو ،وأشهد أن ممدا عبده ورسوله ،أما بعد ،فإن أذكرك ال عز وجل ،فإنه من ينصح فإنا
ينصح لنفسه ،وإنه من يطيع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعن ،ومن نصح لم فقد نصح ل ،وإن رسلي قد
أثنوا عليك خيا ،وإن قد شفعتك ف قومك ،فاترك للمسلمي ما أسلموا عليه ،وعفوت عن أهل الذنوب،
فاقبل منهم ،وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك .ومن أقام على يهودية أو موسية فعليه الزية).
(بسم ال الرحن الرحيم .من ممد رسول ال إل هوذة بن علي ،سلم على من اتبع الدى ،واعلم أن
دين سيظهر إل منتهي الف والافر ،فأسلم تسلم ،وأجعل لك ما تت يديك).
واختار لمل هذا الكتاب َسلِيط بن عمرو العامري ،فلما قدم سليط على هوذة بذا الكتاب متوما أنزله
وحياه ،وقرأ عليه الكتاب ،فرد عليه ردا دون رد ،وكتب إل النب صلى ال عليه وسلم[ :ما أحسن ما
تدعو إليه وأجله ،والعرب تاب مكان ،فاجعل ل بعض المر أتبعك) ،وأجاز سليطا بائزة ،وكساه أثوابا
من نسج هجر.
فقدم بذلك كله على النب صلى ال عليه وسلم فأخبه ،وقرأ النب صلى ال عليه وسلم كتابه فقال( :لو
سألن قطعة من الرض ما فعلت ،باد ،وباد ما ف يديه) .فلما انصرف رسول ال من الفتح جاءه جبيل
عليه السلم بأن هوذة مات ،فقال النب صلى ال عليه وسلم( :أما إن اليمامة سيخرج با كذاب يتنب،
يقتل بعدي) ،فقال قائل :يا رسول ال ،من يقتله؟ فقال( :أنت وأصحابك) ،فكان كذلك؟.
(بسم ال الرحن الرحيم .من ممد رسول ال إل الارث بن أب شر ،سلم على من اتبع الدى ،وآمن
بال وصدق ،وإن أدعوك إل أن تؤمن بال وحده ل شريك له ،يبقي لك ملكك).
واختار لمل هذا الكتاب شجاع بن وهب من بن أسد بن خزية ،ولا أبلغه الكتاب رمي به وقال[ :من
ينع ملكي من؟ أنا سائر إليه] ،ول يسلم .واستأذن قيصر ف حرب رسول ال صلى ال عليه وسلم فثناه
عن عزمه ،فأجاز الارث شجاع بن وهب بالكسوة والنفقة ،ورده بالسن.
وكتب النب صلى ال عليه وسلم كـتابا إل ملـك عمان جَ ْيفَر وأخيه عبد ابن الُلَ ْندَي ،ونصه:
(بسم ال الرحن الرحيم .من ممد رسول ال إل جيفر وعبد ابن اللندي ،سلم على من اتبع الدي ،أما
بعد:
فإن أدعوكما بدعاية السلم ،أسلما تسلما ،فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم إل الناس كافة ،لنذر
من كان حيا ويق القول على الكافرين ،فإنكما إن أقررتا بالسلم وليتكما ،وإن أبيتما [أن تقرا
بالسلم] فإن ملككما زائل ،وخيلي تل بساحتكما ،وتظهر نبوت على ملككما).
واختار لمل هذا الكتاب عمرو بن العاص رضي ال عنه قال عمرو :فخرجت حت انتهيت إل عمان،
فلما قدمتها عمدت إل عبد ـ وكان أحلم الرجلي ،وأسهلهما خلقا ـ فقلت :إن رسول رسول ال
صلى ال عليه وسلم إليك وإل أخيك ،فقال :أخي القدم على بالسن واللك ،وأنا أوصلك إليه حت يقرأ
كتابك ،ث قال :وما تدعو إليه؟ قلت :أدعو إل ال وحده ل شريك له ،وتلع ما عبد من دونه ،وتشهد
أن ممدا عبده ورسوله .قال :يا عمرو ،إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة .قلت:
مات ول يؤمن بحمد صلى ال عليه وسلم ،ووددت أنه كان أسلم وصدق به ،وقد كنت أنا على مثل
رأيه حت هدان ال للسلم .قال :فمت تبعته؟ قلت :قريبا .فسألن أين كان إسلمك؟ قلت :عند
النجاشي ،وأخبته أن النجاشي قد أسلم .قال :وكيف صنع قومه بلكه؟ فقلت :أقروه واتبعوه .قال:
والساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت :نعم .قال :انظر يا عمرو ما تقول ،إنه ليس من خصلة ف رجل أفضح له
من الكذب .قلت :ما كذبت ،وما نستحله ف ديننا ،ث قال :ما أرى هرقل علم بإسلم النجاشي.قلت:
بلي ،قال :فبأي شيء علمت ذلك؟ قلت :كان النجاشي يرج له خرجا ،فلما أسلم وصدق بحمد صلى
ال عليه وسلم ،قال :ل وال لو سألن درها واحدا ما أعطيته ،فبلغ هرقل قوله ،فقال له اليَنّاق أخوه:
أتدع عبدك ل يرج لك خرجا ،ويدين بدين غيك دينا مدثا؟ قال هرقل :رجل رغب ف دين ،فاختاره
لنفسه ،ما أصنع به؟ وال لول الضن بلكي لصنعت كما صنع .قال :انظر ما تقول يا عمرو؟ قلت :وال
صدقتك.
قال عبد :فأخبن ما الذي يأمر به وينهي عنه؟ قلت :يأمر بطاعة ال عز وجل وينهي عن معصيته ،ويأمر
بالب وصلة الرحم ،وينهي عن الظلم والعدوان ،وعن الزنا ،وعن المر ،وعن عبادة الجر والوثن
والصليب .قال :ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ،لو كان أخي يتابعن عليه لركبنا حت نؤمن بحمد صلى
ال عليه وسلم ونصدق به ،ولكن أخي أضن بلكه من أن يدعه ويصي ذنبا .قلت :إنه إن أسلم مَلّ َكهُ
رسول ال صلى ال عليه وسلم على قومه ،فأخذ الصدقة من غنيهم فيدها على فقيهم .قال :إن هذا
للق حسن .وما الصدقة؟ فأخبته با فرض رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الصدقات ف الموال ،حت
انتهيت إل البل .قال :يا عمرو ،وتؤخذ من سوائم مواشينا الت ترعي الشجر وترد الياه؟ فقلت :نعم،
فقال :وال ما أري قومي ف بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون لذا.
قال :فمكثت ببابه أياما ،وهو يصل إل أخيه فيخبه كل خبي ،ث إنه دعان يوما فدخلت عليه ،فأخذ
أعوانه بضبعي فقال :دعوه ،فأرسلت فذهبت لجلس ،فأبوا أن يدعون أجلس ،فنظرت إليه فقال :تكلم
باجتك ،فدفعت إليه الكتاب متوما ،ففض خاته ،وقرأ حت انتهي إل آخره ،ث دفعه إل أخيه فقرأه مثل
قراءته ،إل أن رأيت أخاه أرق منه ،قال :أل تبن عن قريش كيف صنعت؟ فقلت :تبعوه ،إما راغب ف
الدين ،وإما مقهور بالسيف .قال :ومن معه؟ قلت :الناس قد رغبوا ف السلم واختاروه على غيه،
وعرفوا بعقولم مع هدي ال إياهم أنم كانوا ف ضلل ،فما أعلم أحدا بقي غيك ف هذه الَرجَة ،وأنت
إن ل تسلم اليوم وتبعته توطئك اليل وتبيد خضراءك ،فأسلم تسلم ،ويستعملك على قومك ،ول تدخل
عليك اليل والرجال ،قال :دعن يومي هذا ،وارجع إل غدا.
وسياق هذه القصة تدل على أن إرسال الكتاب إليهما تأخر كثيا عن كتب بقية اللوك ،والغلب أنه كان
بعد الفتح.
وبذه الكتب كان النب صلى ال عليه وسلم قد أبلغ دعوته إل أكثر ملوك الرض ،فمنهم من آمن به
ومنهم من كـفر ،ولكن شغل فكره هؤلء الكافرين ،وعرف لديهم باسه ودينه
النشاط العسكري بعد صلح الديبية
هذه الغزوة حركــة مطـاردة ضد فصيلة من بن َفزَارة قامت بعمل القرصنة ف ِلقَاحِ رسول ال صلى
ال عليه وسلم.
وهي أول غزوة غزاها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الديبية ،وقبل خيب .ذكر البخاري ف ترجة
باب أنا كانت قبل خيب بثلث ،وروي ذلك مسلم مسندا من حديث سلمة ابن الكوع .وذكر المهور
من أهل الغازي أنا كانت قبل الديبية ،وما ف الصحيح أصح ما ذكره أهل الغازي.
وخلصة الروايات عن سلمة بن الكوع بطل هذه الغزوة أنه قال :بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم
بظهره مع غلمه َربَاح ،وأنا معه بفرس أب طلحة ،فلما أصبحنا إذا عبد الرحن الفزاري قد أغار على
الظهر ،فاستاقه أجع ،وقتل راعيه ،فقلت :يا رباح ،خذ هذا الفرس فأبلغه أبا طلحة ،وأخب رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،ث قمت على أكَمَة ،واستتقبلت الدينة ،فناديت ثلثا :يا صباحاه ،ث خرجت ف
آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتز ،أقول:
فو ال ما زلت أرميهم وأعقر بم ،فإذا رجع إل فارس جلست ف أصل الشجر ،ث رميته فتعفرت به ،حت
إذا دخلوا ف تضايق البل علوته ،فجعلت أرديهم بالجارة ،فما زلت كذلك أتبعهم حت ما خلق ال
تعال من بعي من ظهر رسول ال صلى ال عليه وسلم إل خلفته وراء ظهري ،وخلوا بين وبينه ،ث
اتبعتهم أرميهم ،حت ألقوا أكثر من ثلثي بردة ،وثلثي رما يستخفون ،ول يطرحون شيئا إل جعلت
عليه آراما من الجارة ،يعرفها رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه .حت أتوا متضايقا من ثَنِّيةٍ،
فجلسوا يتغدون ،وجلست على رأس قَرْن ،فصعد إل منهم أربعة ف البل ،قلت :هل تعرفونن؟ أنا سلمة
بن الكوع ،ل أطلب رجلً منكم إل أدركته ،ول يطلبن فيدركن ،فرجعوا .فما برحت مكان حت رأيت
فوارس رسول ال صلى ال عليه وسلم يتخللون الشجر ،فإذا أولم أخرم ،وعلى أثره أبو قتادة ،وعلى
أثره القداد بن السود ،فالتقي عبد الرحن وأخرم ،فعقر بعبد الرحن فرسه ،وطعنه عبد الرحن فقتله،
وتول على فرسه ،ولق أبو قتادة بعبد الرحن فطعنه فقتله ،وول القوم مدبرين ،فتبعتهم أعدو على
رجلي ،حت يعدلوا قبل غروب الشمس إل شعب فيه ماء يقال له :ذو قَرَد ،ليشربوا منه ،وهم عطاش،
فأجليتهم عنه ،فما ذاقوا قطرة منه ،ولقن رسول ال صلى ال عليه وسلم واليل عشاء ،فقلت :يا
رسول ال ،إن القوم عطاش ،فلو بعثتن ف مائة رجل استنقذت ما عندهم من السّرْح ،وأخذت بأعناق
القوم ،فقال( :يا بن الكوع .ملكت فأسجح) ،ث قال( :إنم ليقرون الن ف غطفان).
وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :خي فرساننا اليوم أبو قتادة ،وخي رجالتنا سلمة) .وأعطان
سهمي ،سهم الراجل وسهم الفارس ،وأردفن وراءه على العَضْبَاء راجعي إل الدينة.
استعمل رسول ال صلى ال عليه وسلم على الدينة ف هذه الغزوة ابن أم مكتوم ،وعقد اللواء للمقداد بن
عمرو.
كانت خيب مدينة كبية ذات حصون ومزارع على بعد ثاني ميل من الدينة ف جهة الشمال ،وهي
الن قرية ف مناخها بعض الوخامة.
سبب الغزوة
ولا اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم من أقوي أجنحة الحزاب الثلثة ،وهو قريش ،وأمن منه تاما
بعد صلح الديبية أراد أن ياسب الناحي الباقيي ـ اليهود وقبائل ند ـ حت يتم المن والسلم،
ويسود الدوء ف النطقة ،ويفرغ السلمون من الصراع الدامي التواصل إل تبليغ رسالة ال والدعوة إليه.
ولا كانت خيب هي وكرة الدس والتآمر ومركز الستفزازات العسكرية ،ومعدن التحرشات وإثارة
الروب ،كانت هي الديرة بالتفات السلمي أول.
أما كون خيب بذه الصفة ،فل ننسي أن أهل خيب هم الذين حزبوا الحزاب ضد السلمي ،وأثاروا بن
قريظة على الغدر واليانة ،ث أخذوا ف التصالت بالنافقي ـ الطابور الامس ف الجتمع السلمي ـ
وبغطفان وأعراب البادية ـ الناح الثالث من الحزاب ـ وكانوا هم أنفسهم يتهيأون للقتال ،فألقوا
السلمي بإجراءاتم هذه ف من متوصلة ،حت وضعوا خطة لغتيال النب صلى ال عليه وسلم ،وإزاء
ذلك اضطر السلمون إل بعوث متواصلة ،وإل الفتك برأس هؤلء التآمرين ،مثل سلم بن أب الُقَيْق،
وأسِي بن زارم ،ولكن الواجب على السلمي إزاء هؤلء اليهود كان أكب من ذلك ،وإنا أبطأوا ف القيام
بذا الواجب ؛ لن قوة أكب وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت مابة للمسلمي ،فلما
انتهت هذه الجابة صفا الو لحاسبة هؤلء الجرمي ،واقترب لم يوم الساب.
الروج إل خيب
قال ابن إسحاق :أقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بالدينة حي رجع من الديبية ذا الجة وبعض
الحرم ،ث خرج ف بقية الحرم إل خيب.
ولا كان النافقون وضعفاء اليان تلفوا عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ف غزوة الديبية أمر ال
تعال نبيه صلى ال عليه وسلم فيهم قائلً{ :سََيقُو ُل الْ ُمخَ ّلفُونَ إِذَا انطَ َلقُْتمْ إِلَى مَغَاِنمَ لَِتأْ ُخذُوهَا ذَرُونَا
سدُونَنَا بَلْ
نَتِّبعْ ُكمْ يُرِيدُونَ أَن يَُبدّلُوا كَلَامَ ال ّلهِ قُل لّن تَتِّبعُونَا كَ َذلِ ُكمْ قَالَ ال ّلهُ مِن قَ ْبلُ َفسََيقُولُونَ بَلْ َتحْ ُ
كَانُوا لَا يَ ْفقَهُونَ إِلّا َقلِيلًا} [الفتح.]15 :
فلما أراد رسول ال صلى ال عليه وسلم الروج إل خيب أعلن أل يرج معه إل راغب ف الهاد ،فلم
يرج إل أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة.
واستعمل على الدينة سِبَاع بن ُعرْ ُف َطةَ الغفاري ،وقال ابن إسحاق :نُمَيْلَة بن عبد ال الليثي ،والول أصح
عند الحققي.
وبعد خروجه صلى ال عليه وسلم قدم أبو هريرة الدينة مسلما ،فواف سباع بن عرفطة ف صلة الصبح،
فلما فرغ من صلته أت سباعا فزوده ،حت قدم على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكلم السلمي
فأشركوه وأصحابه ف سهمانم.
وقد قام النافقون يعملون لليهود ،فقد أرسل رأس النافقي عبد ال بن أب إل يهود خيب :إن ممدا قصد
قصدكم ،وتوجه إليكم ،فخذوا حذركم ،ول تافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثية ،وقوم ممد شرذمة
قليلون ،عزّل ،ل سلح معهم إل قليل ،فلما علم ذلك أهل خيب ،أرسلوا كنانة بن أب القيق وهَ ْوذَة بن
قيس إل غطفان يستمدونم ؛ لنم كانوا حلفاء يهود خيب ،ومظاهرين لم على السلمي ،وشرطوا لم
نصف ثار خيب إن هم غلبوا السلمي.
الطريق إل خيب
وسلك رسول صلى ال عليه وسلم ف اتاهه نو خيب جـبل عــصر ـ بالكسر ،وقيل :بالتحريك ـ
ث على الصهباء ،ث نزل على واد يقال له :الرجيع ،وكان بينه وبي غطفان مسية يوم وليلة ،فتهيأت
غطفان وتوجهوا إل خيب ،لمداد اليهود ،فلما كانوا ببعض الطريق سعوا من خلفهم حسا ولغطا ،فظنوا
أن السلمي أغاروا على أهاليهم وأموالم فرجعوا ،وخلوا بي رسول ال صلى ال عليه وسلم وبي خيب.
ث دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم الدليلي اللذين كانا يسلكان باليش ـ وكان اسم أحدهاُ :حسَيْل
ـ ليدله على الطريق الحسن ،حت يدخل خيب من جهة الشمال ـ أي جهة الشام ـ فيحول بي
اليهود وبي طريق فرارهم إل الشام ،كما يول بينهم وبي غطفان.
قال أحدها :أنا أدلك يا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأقبل حت انتهي إل مفرق الطرق التعددة
وقال :يا رسول ال ،هذه طرق يكن الوصول من كل منها إل القصد ،فأمر أن يسمها له واحدا واحدا.
قال :اسم واحد منها حزن ،فأب النب صلى ال عليه وسلم من سلوكه ،قال :اسم الخر شاش ،فامتنع منه
أيضا ،وقال :اسم الخر حاطب ،فامتنع منه أيضا ،قال حسيل :فما بقي إل واحد .قال عمر :ما اسه؟
قال :مَرْحَب ،فاختار النب صلى ال عليه وسلم سلوكه.
بعض ما وقع ف الطريق
1ـ عن سلمة بن الكوع قال :خرجنا مع النب صلى ال عليه وسلم إل خيب فسرنا ليلً ،فقال رجل
من القوم لعامر :يا عامر ،أل تسمعنا من هنيهاتك؟ ـ وكان عامر رجلً شاعرا ـ فنل يدو بالقوم،
يقول:
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :من هذا السائق) قــالوا :عــامر بــن الكوع ،قال( :
يرحه ال) :قال رجل من القوم :وجبت يا نب ال ،لول أمتعتنا به.
وكانوا يعرفون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يستغفر لنسان يصه إل استشهد ،وقد وقع ذلك
ف حرب خيب.
2ـ وبالصهباء من أدن خيب صلي النب صلى ال عليه وسلم العصر ،ث دعا بالزواد ،فلم يؤت إل
بالسّوِيق ،فأمر به فثري ،فأكل وأكل الناس ،ث قام إل الغرب ،فمضمض ،ومضمض الناس ،ث صلي ول
يتوضأ ،ث صلي العشاء.
3ـ ولا دنا من خيب وأشرف عليها قال( :قفوا) ،فوقــف اليش ،فــقال( :اللهم رب السموات
السبع وما أظللن ،ورب الرضي السبع وما أقللن ،ورب الشياطي وما أضللن ،ورب الرياح وما أذرين،
فإنا نسألك خي هذه القرية ،وخي أهلها ،وخي ما فيها ،ونعوذ بك من شر هذه القرية ،وشر أهلها ،وشر
ما فيها ،أقدموا ،بسم ال).
وبات السلمون الليلة الخية الت بدأ ف صباحها القتال قريبًا من خيب ،ول تشعر بم اليهود ،وكان النب
صلى ال عليه وسلم إذا أت قومًا بليل ل يقربم حت يصبح ،فلما أصبح صلي الفجر بغَلَس ،وركب
السلمون ،فخرج أهل خيب بساحيهم ومكاتلهم ،ول يشعرون ،بل خرجوا لرضهم ،فلما رأوا اليش
قالوا :ممد ،وال ممد والَمِيس ،ث رجعوا هاربي إل مدينتهم ،فقال النب صلى ال عليه وسلم( :ال
أكب ،خربت خيب ،ال أكب ،خربت خيب ،إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح النذرين).
حصون خيب
صعْب بن معاذ.
1ـ حصن ناعم 2 .ـ حصن ال ّ
والصون الثلثة الول منها كانت تقع ف منطقة يقال لا( :النطاة) وأما الصنان الخران فيقعان ف
منطقة تسمي بالشّقّ.
وف خيب حصون وقلع غي هذه الثمانية ،إل أنا كانت صغية ،ل تبلغ إل درجة هذه القلع ف مناعتها
وقوتا.
والقتال الرير إنا دار ف الشطر الول منها ،أما الشطر الثان فحصونا الثلثة مع كثرة الحاربي فيها
سلمت دونا قتال.
ولا كانت ليلة الدخول ـ وقيل :بل بعد عدة ماولت وماربات ـ قال النب صلى ال عليه وسلم( :
لعطي الراية غدًا رجلً يب ال ورسوله ويبه ال ورسوله[ ،يفتح ال على يديه ]) فلما أصبح الناس
غدوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،كلهم يرجو أن يعطاها ،فقال( :أين علي بن أب طالب؟)
فقالوا :يا رسول ال ،هو يشتكي عينيه ،قال( :فأرسلوا إليه) ،فأت به فبصق رسول ال صلى ال عليه
وسلم ف عينيه ،ودعا له ،فبئ ،كأن ل يكن به وجع ،فأعطاه الراية ،فقال :يا رسول ال ،أقاتلهم حت
يكونوا مثلنا ،قال( :انفذ على رسلك ،حت تنل بساحتهم ،ث ادعهم إل السلم ،وأخبهم با يب
عليهم من حق ال فيه ،فوال ،لن يهدي ال بك رجل واحدًا خي لك من أن يكون لك حر النعم).
أما اليهود فإنم لا رأوا اليش وفروا إل مدينتهم تصنوا ف حصونم ،وكان من الطبيعي أن يستعدوا
للقتال.
وكان خط الدفاع الول لليهود لكانه الستراتيجي ،وكان هذا الصن هو حصن مرحب البطل اليهودي
الذي كان يعد باللف.
خرج علي بن أب طالب رضي ال عنه بالسلمي إل هذا الصن ،ودعا اليهود إل السلم ،فرفضوا هذه
الدعوة ،وبرزوا إل السلمي ومعهم ملكهم مرحب ،فلما خرج إل ميدان القتال دعا إل البارزة ،قال
سلمة بن الكوع :فلما أتينا خيب خرج ملكهم مرحب يطر بسيفه يقول:
قد َعلِمتْ خيب أن مَرْحَب ** شَاكِي السلح بطل ُمجَرّب
فاختلفا ضربتي ،فوقع سيف مرحب ف ترس عمي عامر ،وذهب عامر يسفل له ،وكان سيفه قصيًا،
فتناول به ساق اليهودي ليضربه ،فيجع ُذبَاب سيفه فأصاب عي ركبته فمات منه ،وقال فيه النب صلى
ال عليه وسلم( :إن له لجرين ـ وجع بي إصبعيه ـ إنه لَا ِهدٌ ُمجَاهِد ،قَلّ عرب مَشَي با مِثْلَه).
ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إل الباز مرة أخري وجعل يرتز بقوله:
قد علمت خيب أن مرحب ...إل ،فبز له على بن أب طالب .قال سلمة ابن الكوع :فقال علي:
أنا الذي ستن أمي َح ْيدَ َرهْ ** كلَيْثِ غابات كَرِيه الَ ْنظَ َرهْ
ولا دنا علي رضي ال عنه من حصونم اطلع يهودي من رأس الصن ،وقال :من أنت؟ فقال :أنا علي بن
أب طالب ،فقال اليهودي :علوت وما أنزل على موسى.
ث خرج ياسر أخو مرحب ،وهو يقول :من يبارز؟ فبز إليه الزبي ،فقالت صفية أمه :يا رسول ال ،يقتل
ابن ،قال( :بل ابنك يقتله) ،فقتله الزبي.
ودار القتال الرير حول حصن ناعم ،قتل فيه عدة سراة من اليهود ،انارت لجله مقاومة اليهود ،وعجزوا
عن صد هجوم السلمي ،ويؤخذ من الصادر أن هذا القتال دام أيامًا لقي السلمون فيها مقاومة شديدة،
صعْب ،واقتحم السلمون
إل أن اليهود يئسوا من مقاومة السلمي ،فتسللوا من هذا الصن إل حصن ال ّ
حصن ناعم.
فتح حصن الصعب بن معاذ
وكان حصن الصعب الصن الثان من حيث القوة والناعة بعد حصن ناعم ،قام السلمون بالجوم عليه
تت قيادة الباب بن النذر النصاري ،ففرضوا عليه الصار ثلثة أيام ،وف اليوم الثالث ،دعا رسول ال
صلى ال عليه وسلم لفتح هذا الصن دعوة خاصة.
روي ابن إسحاق أن بن سهم من أسلم أتوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقالوا :لقد جهدنا ،وما
بأيدينا من شيء ،فقال( :اللهم إنك قد عرفت حالم ،وأن ليست بم قوة ،وأن ليس بيدي شيء أعطيهم
إياه ،فافتح عليهم أعظم حصونا عنهم غَنَاء ،وأكثرها طعامًا و َو َدكًا) .فغدا الناس ففتح ال عز وجل
حصن الصعب بن معاذ ،وما بيب حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه.
ولا ندب النب صلى ال عليه وسلم السلمي بعد دعائه لهاجة هذا الصن كان بنو أسلم هم القادي ف
الهاجة ،ودار الباز والقتال أمام الصن ،ث فتح الصن ف ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس ،ووجد فيه
السلمون بعض النجنيقات والدبابات.
ولجل هذه الجاعة الشديدة الت ورد ذكرها ف رواية ابن إسحاق ،كان رجال من اليش قد ذبوا
المي ،ونصبوا القدور على النيان ،فلما علم رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك ني عن لوم المر
النسية.
وبعد فتح حصن ناعم والصعب تول اليهود من كل حصون الّنطَاة إل قلعة الزبي ،وهو حصن منيع ف
رأس ُق ّلةٍ ،ل تقدر عليه اليل والرجال لصعوبته وامتناعه ،ففرض عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم
الصار ،وأقام ماصرًا ثلثة أيام ،فجاء رجل من اليهود ،وقال :يا أبا القاسم ،إنك لو أقمت شهرًا ما
بالوا ،إن لم شرابًا وعيونًا تت الرض ،يرجون بالليل ويشربون منها ،ث يرجعون إل قلعتهم فيمتنعون
منك ،فإن قطعت مشربم عليهم أصحروا لك .فقطع ماءهم عليهم ،فخرجوا فقاتلوا أشد القتال ،قتل فيه
نفر من السلمي ،وأصيب نو العشرة من اليهود ،وافتتحه رسول ال صلى ال عليه وسلم.
كان هذا الصن أمنع حصون هذا الشطر ،وكان اليهود على شبه اليقي بأن السلمي ل يستطيعون اقتحام
هذه القلعة ،وإن بذلوا قصاري جهدهم ف هذا السبيل ،ولذلك أقاموا ف هذه القلعة مع الذراري والنساء،
بينما كانوا قد أخلوا منها القلع الربعة السابقة.
وفرض السلمون على هذا الصن أشد الصار ،وصاروا يضغطون عليهم بعنف ،ولكون الصن يقع على
جبل مرتفع منيع ل يكونوا يدون سبيل للقتحام فيه .أما اليهود فلم يترئوا للخروج من الصن،
وللشتباك مع قوات السلمي ،ولكنهم قاوموا السلمي مقاومة عنيدة برشق النبال ،وبإلقاء الجارة.
وعندما استعصى حصن النار على قوات السلمي ،أمر النب صلى ال عليه وسلم بنصب آلت النجنيق،
ويبدو أن السلمي قذفوا به القذائف ،فأوقعوا اللل ف جدران الصن ،واقتحموه ،ودار قتال مرير ف
داخل الصن انزم أمامه اليهود هزية منكرة ،وذلك لنم ل يتمكنوا من التسلل من هذا الصن كما
تسللوا من الصون الخري ،بل فروا من هذا الصن تاركي للمسلمي نساءهم وذراريهم.
وبعد فتح هذا الصن النيع ت فتح الشطر الول من خيب ،وهي ناحية الّنطَاة والشّقّ ،وكانت ف هذه
الناحية حصون صغية أخري إل أن اليهود بجرد فتح هذا الصن النيع أخلوا هذه الصون ،وهربوا إل
الشطر الثان من بلدة خيب.
ولا أت رسول ال صلى ال عليه وسلم فتح ناحية النطاة والشق ،تول إل أهل الكتيبة الت با حصن
لقَيْق من بن النضي ،وحصن ال َوطِيح والسّلل ،وجاءهم كل فَلّ كان انزم من
القَمُوص :حصن بن أب ا ُ
النطاة والشق ،وتصن هؤلء أشد التحصن.
واختلف أهل الغازي هل جري هناك قتال ف أي حصن من حصونا الثلثة أم ل؟ فسياق ابن إسحاق
صريح ف جريان القتال لفتح حصن القموص ،بل يؤخذ من سياقه أن هذا الصن ت فتحه بالقتال فقط من
غي أن يري هناك مفاوضة للستسلم.
أما الواقدي ،فيصرح تام التصريح أن قلع هذا الشطر الثلث إنا أخذت بعد الفاوضة ،ويكن أن تكون
الفاوضة قد جرت لستلم حصن القموص بعد إدارة القتال ،وأما الصنان الخران فقد سلما إل
السلمي دونا قتال.
ومهما كان ،فلما أت رسول ال صلى ال عليه وسلم إل هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد
الصار ،ودام الصار أربعة عشر يومًا ،واليهود ل يرجون من حصونم ،حت همّ رسول ال صلى ال
عليه وسلم أن ينصب عليهم النجنيق ،فلما أيقنوا باللكة سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم الصلح.
الفاوضة
وأرسل ابن أب الُقَيْق إل رسول ال صلى ال عليه وسلم :أنزل فأكلمك؟ قال( :نعم) ،فنل ،وصال على
حقن دماء مَنْ ف حصونم من القاتلة ،وترك الذرية لم ،ويرجون من خيب وأرضها بذراريهم ،ويلون
بي رسول ال صلى ال عليه وسلم وبي ما كان لم من مال وأرض ،وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي
الذهب والفضة ـ والكُرَاع واْلحَ ْلقَة إل ثوبًا على ظهر إنسان ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :
وبرئت منكم ذمة ال وذمة رسوله إن كتمتمون شيئا) ،فصالوه على ذلك ،وبعد هذه الصالة ت تسليم
الصون إل السلمي ،وبذلك ت فتح خيب.
وعلى رغم هذه العاهدة غيب ابنا أب القيق مال كثيا ،غيبا مَسْكًا فيه مال وحُلُي ليي بن أخطب ،كان
احتمله معه إل خيب حي أجليت النضي.
قال ابن إسحاق :وأت رسول ال صلى ال عليه وسلم بكِنَانة الربيع ،وكان عنده كن بن النضي ،فسأله
عنه ،فجحد أن يكون يعرف مكانه ،فأت رجل من اليهود فقال :إن رأيت كنانة يطيف بذه الربة كل
غداة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لكنانة( :أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟) قال :نعم ،فأمر
بالربة ،فحفرت ،فأخرج منها بعض كنهم ،ث سأله عما بقي ،فأب أن يؤديه .فدفعه إل الزبي ،وقال:
عذبه حت نستأصل ما عنده ،فكان الزبي يقدح بزند ف صدره حت أشرف على نفسه ،ث دفعه رسول ال
صلى ال عليه وسلم إل ممد بن مسلمة ،فضرب عنقه بحمود بن مسلمة ـ وكان ممود قتل تت
جدار حصن ناعم ،ألقي عليه الرحي ،وهو يستظل بالدار فمات ـ.
وذكر ابن القيم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أمر بقتل ابن أب القيق ،وكان الذي اعترف عليهما
بإخفاء الال هو ابن عم كنانة.
وسب رسول ال صلى ال عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب ،وكانت تت كنانة بن أب القيق،
وكانت عروسًا حديثة عهد بالدخول.
قسمة الغنائم
وأراد رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يلي اليهود من خيب ،فقالوا :يا ممد ،دعنا نكون ف هذه
الرض ،نصلحها ،ونقوم عليها ،فنحن أعلم با منكم ،ول يكن لرسول ال صلى ال عليه وسلم ول
لصحابه غلمان يقومون عليها ،وكانوا ل يفرغون حت يقوموا عليها ،فأعطاهم خيب على أن لم الشطر
من كل زرع ،ومن كل ثر ،ما بدا لرسول ال صلى ال عليه وسلم أن يقرهم ،وكان عبد ال بن رواحة
يرصه عليهم.
وقسم أرض خيب على ستة وثلثي سهمًا ،جع كل سهم مائة سهم ،فكانت ثلثة آلف وستمائة سهم،
فكان لرسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمي النصف من ذلك وهو ألف وثانائة سهم ،لرسول ال
صلى ال عليه وسلم سهم كسهم أحد السلمي ،وعزل النصف الخر ،وهو ألف وثانائة سهم ،لنوائبه
وما يتنل به من أمور السلمي ،وإنا قسمت على ألف وثانائة سهم لنا كانت طعمة من ال لهل
الديبية من شهد منهم ومن غاب ،وكانوا ألفا وأربعمائة ،وكان معهم مائتا فرس ،لكل فرس سهمان،
فقسمت على ألف وثانائة سهم ،فصار للفارس ثلثة أسهم ،وللراجل سهم واحد.
ويدل على كثرة مغان خيب ما رواه البخاري عن ابن عمر قال :ما شبعنا حت فتحنا خيب ،وما رواه عن
عائشة قالت :لا فتحت خيب قلنا :الن نشبع من التمر ،ولا رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل
الدينة رد الهاجرون إل النصار منائحهم الت كانوا منحوهم إياها من النخيل حي صار لم بيب مال
ونيل.
قال أبو موسي :بلغنا مرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ونن باليمن ،فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا
وأخوان ل ـ ف بضع وخسي رجلً من قومي ،ركبنا سفينة ،فألقتنا سفينتنا إل النجاشي بالبشة ،فوافقنا
جعفرًا وأصحابه عنده ،فقال :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالقامة ،فأقيموا معنا ،فأقمنا
معه حت قدمنا فوافقنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حي فتح خيب ،فأسهم لنا ،وما قسم لحد غاب
عن فتح خيب شيئا إل لن شهد معه ،إل لصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه ،قسم لم معهم.
ولا قدم جعفر على النب صلى ال عليه وسلم تلقاه وقَبّلَ ما بي عينيه وقال( :وال ما أدري بأيهما أفرح؟
بفتح خيب أم بقدوم جعفر).
وكان قدوم هؤلء على أثر بعث الرسول صلى ال عليه وسلم إل النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب
توجيههم إليه ،فأرسلهم النجاشي على مركبي ،وكانوا ستة عشر رجلً ،معهم من بقي من نسائهم
وأولدهم ،وبقيتهم جاءوا إل الدينة قبل ذلك.
الزواج بصفية
ذكرنا أن صفية جعلت ف السبايا حي قتل زوجها كِنَانة بن أب القيق لغدره ،ولا جع السب جاء دحية
بن خليفة الكلب ،فقال :يا نب ال ،أعطن جارية من السب ،فقال :اذهب فخذ جارية ،فأخذ صفية بنت
حيي ،فجاء رجل إل النب صلى ال عليه وسلم فقال :يا نب ال ،أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة
قريظة وبن النضي ،ل تصلح إل لك ،قال( :ادعوه با) .فجاء با ،فلما نظر إليها النب صلى ال عليه
وسلم قال( :خذ جارية من السب غيها) ،وعرض عليها النب صلى ال عليه وسلم السلم فأسلمت،
فأعتقها وتزوجها ،وجعل عتقها صداقها ،حت إذا كان بسد الصهباء راجعًا إل الدينة حلت ،فجهزتا له أم
سليم ،فأهدتا له من الليل ،فأصبح عروسًا با ،وأول عليها بيس من التمر والسمن والسّوِيق ،وأقام عليها
ثلثة أيام ف الطريق يبن با.
ورأى بوجهها خضرة ،فقال( :ما هذا؟) قالت :يا رسول ال ،رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من
مكانه ،وسقط ف حجري ،ول وال ما أذكر من شأنك شيئا ،فقصصتها على زوجي ،فلطم وجهي .فقال:
تني هذا اللك الذي بالدينة.
وكان معه بِشْر بن الباء بن َمعْرُور ،أخذ منها أكلة فأساغها ،فمات منها.
واختلفت الروايات ف التجاوز عن الرأة وقتلها ،وجعوا بأنه تاوز عنها أول ،فلما مات بشر قتلها
قصاصا.
وجلة من استشهد من السلمي ف معارك خيب ستة عشر رجلً ،أربعة من قريش وواحد من أ ْشجَع،
وواحد من أسْلَم ،وواحد من أهل خيب والباقون من النصار.
وذكر العلمة النصورفوري 91رجلً ،ث قال :إن وجدت بعد التفحص 32اسا ،واحد منها ف
الطبي فقط ،وواحد عند الواقدي فقط ،وواحد مات لجل أكل الشاة السمومة ،وواحد اختلفوا هل
قتل ف بدر أو خيب ،والصحيح أنه قتل ف بدر.
فَـدَك
ولا بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم إل خيب ،بعث ُمحَيّصَة بن مسعود إل يهود َفدَك ،ليدعوهم إل
السلم ،فأبطأوا عليه ،فلما فتح ال خيب قذف الرعب ف قلوبم ،فبعثوا إل رسول ال صلى ال عليه
وسلم يصالونه على النصف من فدك بثل ما عامل عليه أهل خيب ،فقبل ذلك منهم ،فكانت فدك
لرسول ال صلى ال عليه وسلم خالصة؛ لنه ل يُوجِف عليه السلمون بيل ول ركاب.
وادي القُرَي
ولا فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم من خيب ،انصرف إل وادي القري ،وكان با جاعة من اليهود،
وانضاف إليهم جاعة من العرب.
فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي ،وهم على تعبئة ،فقتل ِمدْعَم ـ عَ ْبدٌ لرسول ال صلى ال عليه وسلم
ـ فقال الناس :هنيئا له النة ،فقال النب صلى ال عليه وسلم( :كل ،والذي نفسي بيده ،إن الشّمْلَة الت
أخذها يوم خيب من الغان ،ل تصبها القاسم ،لتشتعل عليه نارًا) ،فلما سع بذلك الناس جاء رجل إل النب
شرَاك أو شراكي ،فقال النب صلى ال عليه وسلم( :شراك من نار أو شراكان من
صلى ال عليه وسلم ب ِ
نار).
وكانت الصلة تضر هذا اليوم ،فيصلي بأصحابه ،ث يعود ،فيدعوهم إل السلم وإل ال ورسوله،
فقاتلهم حت أمسوا ،وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حت أعطوا ما بأيديهم ،وفتحها عنوة،
ل أموالم ،وأصابوا أثاثا ومتاعًا كثيًا.
وغَنّ َمهُ ا ُ
وأقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بوادي القري أربعة أيام .وقسم على أصحابه ما أصاب با ،وترك
الرض والنخل بأيدي اليهود ،وعاملهم عليها ـ كما عامل أهل خيبـ.
تَيْمَـــاء
ولا بلغ يهود تيماء خب استسلم أهل خيب ث َفدَك ووادي القُرَي ،ل يبدوا أي مقاومة ضد السلمي ،بل
بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح ،فقبل ذلك منهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأقاموا
بأموالم .وكتب لم بذلك كتابا وهاك نصه :هذا كتاب ممد رسول ال لبن عاديا ،أن لم الذمة ،وعليهم
الزية ،ول عداء ول جلء ،الليل مد ،والنهار شد ،وكتب خالد بن سعيد.
العودة إل الدينة
ث أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم ف العودة إل الدينة ،وف الطريق أشرف الناس على واد فرفعوا
أصواتم بالتكبي( :ال أكب ،ال أكب ،ل إله إل ال) فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :أربعوا على
صمّ ول غائبا ،إنكم تدعون سيعا قريبا).
أنفسكم ،إنكم ل تدعون أ َ
وف مرجعه ذلك سار النب صلى ال عليه وسلم ليلة ،ث نام ف آخر الليل ببعض الطريق ،وقال لبلل( :
اكل لنا الليل) ،فغلبت بللً عيناه ،وهو مستند إل راحلته ،فلم يستيقظ أحد ،حت ضربتهم الشمس،
وأول من استيقظ بعد ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ث خرج من ذلك الوادي ،وتقدم ،ث صلي
الفجر بالناس ،وقيل :إن هذه القصة ف غي هذا السفر.
وبعد النظر ف تفصيل معارك خيب ،يبدو أن رجوع النب صلى ال عليه وسلم كان ف أواخر صفر أو ف
ربيع الول سنة 7هـ.
كان النب صلى ال عليه وسلم يعرف أكثر من كل قائد عسكري أن إخلء الدينة تاما بعد انقضاء
الشهر الرم ليس من الزم قطعًا ،بينما العراب ضاربة حولا ،تطلب غرة السلمي للقيام بالنهب
والسلب وأعمال القرصنة ؛ ولذلك أرسل سرية إل ند لرهاب العراب تت قيادة أبان بن سعيد ،بينما
كان هو إل خيب ،وقد رجع أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجبًا عليه ،فواف النب صلى ال عليه وسلم
بيب ،وقد افتتحها.
والغلب أن هذه السرية كانت ف صفر سنة 7هـ ،وقد ورد ذكرها ف البخاري .قال ابن حجر :ل
أعرف حال هذه السرية.
ولا كان هؤلء البدو ل تمعهم بلدة أو مدينة ،ول يكونوا يقطنون الصون والقلع ،كانت الصعوبة ف
فرض السيطرة عليهم وإخاد نار شرهم تامًا تزداد بكثي عما كانت بالنسبة إل أهل مكة وخيب ؛ ولذلك
ل تكن تدي فيهم إل حلت التأديب والرهاب ،وقام السلمون بثل هذه الملت مرة بعد أخري.
ولفرض الشوكة ـ أو لجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للغارة على أطراف الدينة ـ قام رسول
ال صلى ال عليه وسلم بملة تأديبية عرفت بغزوة ذات الرقاع.
وعامة أهل الغازي يذكرون هذه الغزوة ف السنة الرابعة ،ولكن حضور أب موسي الشعري وأب هريرة
رضي ال عنهما ف هذه الغزوة يدل على وقوعها بعد خيب ،والغلب أنا وقعت ف شهر ربيع الول سنة
7هـ.
وملخص ما ذكره أهل السي حول هذه الغزوة :أن النب صلى ال عليه وسلم سع باجتماع بن أنار أو
بن ثعلبة وبن مُحَارِب من غطفان ،فأسرع بالروج إليهم ف أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه ،واستعمل
على الدينة أبا ذر أو عثمان بن عفان رضي ال عنهما ،وسار فتوغل ف بلدهم حت وصل إل موضع يقال
له :نل ،على بعد يومي من الدينة ،ولقي جعا من غطفان ،فتقاربوا وأخاف بعضهم بعضا ول يكن بينهم
قتال ،إل أنه صلي بم يومئذ صلة الوف.وف رواية البخاري :وأقيمت الصلة فصلي بطائفة ركعتي ،ث
تأخروا ،وصلي بالطائفة الخري ركعتي ،وكان للنب صلى ال عليه وسلم أربع ،وللقوم ركعتان.
وف البخاري عن أب موسي الشعري رضي ال عنهم قال :خرجنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم
ونن ستة نفر بيننا بعي نعتقبه ،فنقبت أقدامنا ،ونقبت قدماي ،وسقطت أظفاري ،فكنا نلف على أرجلنا
الرق ،فسميت ذات الرقاع ،لا كنا نعصب الرق على أرجلنا.
وفيه عن جابر :كنا مع النب صلى ال عليه وسلم بذات الرقاع ،فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنب
صلى ال عليه وسلم ،فنل رسول ال صلى ال عليه وسلم فتفرق الناس ف العضاة ،يستظلون بالشجر،
ونزل رسول ال صلى ال عليه وسلم تت شجرة فعلق با سيفه .قال جابر :فنمنا نومة ،فجاء رجل من
الشركي :فاخترط سيف رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال :أتافن؟ قال( :ل) ،قال :فمن ينعك
من؟ قال( :ال) .قال جابر :فإذا رسول ال صلى ال عليه وسلم يدعونا ،فجئنا ،فإذا عنده أعراب جالس.
صلْتًا.
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم ،فاستيقظت وهو ف يده َ
فقال ل :من ينعك من؟ قلت :ال ،فها هو ذا جالس) ،ث ل يعاتبه رسول ال صلى ال عليه وسلم .وف
رواية أب عوانة :فسقط السيف من يده ،فأخذه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال( :من ينعك من؟)
قال :كـن خـي آخـذ ،قال( :تشهد أن ل إله إل ال وأن رسول ال؟) قال العراب :أعاهدك على أل
أقاتلك ،ول أكون مع قوم يقاتلونك ،قال :فخلي سبيله ،فجاء إل قومه ،فقال :جئتكم من عند خي
الناس.
وف رواية البخاري :قال مسدد عن أب عوانة عن أب بشر :اسم الرجل غَوْرَث ابن الارث.قال ابن
حجر :ووقع عند الواقدي ف سبب هذه القصة :أن اسم العراب دُعْثُور ،وأنه أسلم ،لكن ظاهر كلمه
أنما قصتان ف غزوتي .وال أعلم.
وف مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من الشركي ،فنذر زوجها أل يرجع حت يهريق دما ف أصحاب
ممد صلى ال عليه وسلم ،فجاء ليلً ،وقد أرصد رسول ال صلى ال عليه وسلم رجلي َربِيئة للمسلمي
من العدو ،وها عباد بن بشر وعمار بن ياسر ،فضرب عبادا ،وهو قائم يصلي ،بسهم فنعه ،ول يبطل
صلته ،حت رشقه بثلثة أسهم ،فلم ينصرف منها حت سلم ،فأيقظ صاحبه ،فقال :سبحان ال! هل
نبهتن ،فقال :إن كنت ف سورة فكرهت أن أقطعها.
كان لذه الغزوة أثر ف قذف الرعب ف قلوب العراب القساة ،وإذا نظرنا إل تفاصيل السرايا بعدالغزوة
نري أن هذه القبائل من غطفان ل تترئ أن ترفع رأسها بعد هذه الغزوة ،بل استكانت شيئا فشيئا حت
استسلمت ،بل وأسلمت ،حت نري عدة قبائل من هذه العراب تقوم مع السلمي ف فتح مكة ،وتغزو
حُنَيْنا ،وتأخذ من غنائمها ،ويبعث إليها الصدقون فتعطي صدقاتا بعد الرجوع من غزوة الفتح ،فبهذا ت
كسر الجنحة الثلثة الت كانت مثلة ف الحزاب ،وساد النطقة المن والسلم ،واستطاع السلمون بعد
ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت ف بعض الناطق من بعض القبائل ،بل بعد هذه الغزوة
بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والمالك الكبية ؛ لن الظروف ف داخل البلد كانت قد تطورت لصال
السلم والسلمي.
وبعد الرجوع من هذه الغزوة أقام رسول ال صلى ال عليه وسلم إل شوال سنة 7هـ.
سمَي ،ف جادي الثانية سنة 7هـ ،وقد مضي ذكرها ف مكاتبة اللوك.
2ـ سرية حِ ْ
3ـ سرية عمر بن الطاب إل تُ َربَة ،ف شعبان سنة 7هـ ،ومعه ثلثون رجلً .كانوا يسيون الليل
ويستخفون ف النهار ،وأت الب إل هوازن فهربوا ،وجاء عمر إل مالم فلم يلق أحدا ،فانصرف راجعا
إل الدينة.
4ـ سرية بشي بن سعد النصاري إل بن مرة بناحية َفدَك ،ف شعبان سنة 7هـ ف ثلثي رجلً .خرج
إليهم واستاق الشاء والنعم ،ث رجع فأدركه الطلب عند الليل ،فرموهم بالنبل حت فن نبل بشي
وأصحابه ،فقتلوا جيعا إل بشي ،فإنه ا ْرتُثّ إل فدك ،فأقام عند يهود حت برأت جراحه ،فرجع إل
الدينة.
5ـ سرية غالب بن عبد ال الليثي ،ف رمضان سنة 7هـ إل بن عُوَال وبن عبد ابن ثعلبة بالَ ْي َفعَة،
وقيل إل الُرَقَات من جُهَيْنَة ،ف مائة وثلثي رجلً ،فهجموا عليهم جيعا ،وقتلوا من أشرف لم ،واستاقوا
نعما وشاء ،وف هذه السرية قتل أسامةُ بن زيد نَهِيكَ بن مِرْدَاس بعد أن قال :ل إله إل ال ،فلما قدموا
وأخب النب صلى ال عليه وسلم ،كب عليه وقال( :أقتلته بعد ما قال :ل إله إل ال؟) فقال :إنا قالا
متعوذا قال( :فهل شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟).
6ـ سرية عبد ال بن رواحة إل خيب ،ف شوال سنة 7هـ ف ثلثي راكبًا .وذلك أن أسِي أو بشي
بن زارم كان يمع غطفان لغزو السلمي ،فأخرجوا أسيًا ف ثلثي من أصحابه ،وأطمعوه أن الرسول
صلى ال عليه وسلم يستعمله على خيب ،فلما كانوا بقَرْقَرَة نِيَار وقع بي الفريقي سوء ظن أفضي إل قتل
أسي وأصحابه الثلثي .ذكر الواقدي هذه السرية ف شوال سنة ست قبل خيب بأشهر.
7ـ سرية بشي بن سعد النصاري إل ين وجَبار [بالفتح ،أرض لغطفان ،وقيل :لفَزَارَة و ُع ْذرَة] ،ف
شوال سنة 7هـ ف ثلثائة من السلمي ،للقاء جع كبي تمعوا للغارة على أطراف الدينة ،فساروا
الليل وكمنوا النهار ،فلما بلغهم مسي بشي هربوا ،وأصاب بشي نعما كثية ،وأسر رجلي ،فقدم بما
الدينة إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فأسلما.
8ـ سرية أب َحدْرَد السلمي إل الغابة ،ذكرها ابن القيم ف سرايا السنة السابعة قبل عمرة القضاء،
وملخصها :أن رجل من جُشَم بن معاوية أقبل ف عدد كبي إل الغابة ،يريد أن يمع قيسًا على ماربة
السلمي .فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا حدرد مع رجلي ليأتوا منه بب وعلم ،فوصلوا إل
القوم مع غروب الشمس ،فكمن أبو حدرد ف ناحية ،وصاحباه ف ناحية أخري ،وأبطأ على القوم راعيهم
حت ذهبت فحمة العشاء ،فقام رئيس القوم وحده ،فلما مر بأب حدرد رماه بسهم ف فؤاده فسقط ول
يتكلم ،فاحتز أبو حدرد رأسه ،وشد ف ناحية العسكر ،وكب ،وكب صاحباه وشدا ،فما كان من القوم إل
الفرار ،واستاق السلمون الثلثة الكثي من البل والغنم.
عمرة القضاء
قال الاكم :تواترت الخبار أنه صلى ال عليه وسلم لا هَلّ ذو القعدة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء
عمرتم ،وأل يتخلف منهم أحد شهد الديبية ،فخرجوا إل من استشهد ،وخرج معه آخرون معتمرين،
فكانت عدتم ألفي سوي النساء والصبيان .ا هـ.
واستخلف على الدينة عُوَيف بن الضْبَط الدّيلي ،أو أبا رُهْم الغفاري ،وساق ستي بدنة ،وجعل عليها
ناجية بن جُ ْندُب السلمي ،وأحرم للعمرة من ذي الُلَ ْيفَة ،ولب ،ولب السلمون معه ،وخرج مستعدا
بالسلح والقاتلة ،خشية أن يقع من قريش غدر ،فلما بلغ يَأجُج وضع الداة كلها :الَجَف وا ِلجَانّ
والنّبْل والرّماح ،وخلف عليها أوس بن خَ ْولِي النصاري ف مائت رجل ،ودخل بسلح الراكب :السيوف
ف القُرُب.
وكان رسول اللهصلى ال عليه وسلم عند الدخول راكبا على ناقته القَصْواء ،والسلمون متوشحون
السيوف ،مدقون برسول ال صلى ال عليه وسلم يلبون.
وخـرج الشركـون إل جبل ُقعَ ْي ِقعَان ـ البل الذي ف شال الكعبة ـ ليوا السلمي ،وقد قالوا فيما
بينهم :إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حي يثرب ،فأمر النب صلى ال عليه وسلم أصحابه أن يرملوا
الشواط الثلثة ،وأن يشوا ما بي الركني .ول ينعه أن يأمرهم أن يرملوا الشواط كلها إل البقاء
عليهم ،وإنا أمرهم بذلك ليي الشركي قوته كما أمرهم بالضطباع ،أي أن يكشفوا الناكب اليمن،
ويضعوا طرف الرداء على اليسري.
ودخل رسول ال صلى ال عليه وسلم مكة من الثنية الت تطلعه على الَجُون ـ وقد صف الشركون
حجَنِه ،ث طاف ،وطاف السلمون ،وعبد ال بن رواحة
ينظرون إليه ـ فلم يزل يلب حت استلم الركن ِب ْ
بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم يرتز متوشحا بالسيف:
وف حديث أنس فقال عمر :يا ابن رواحة ،بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وف حرم ال تقول
الشعر؟ فقال له النب صلى ال عليه وسلم( :خَلّ عنه يا عمر ،فلهو أسرع فيهم من نضح النبل).
و َر َملَ رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمون ثلثة أشواط ،فلما رآهم الشركون قالوا :هؤلء الذين
زعمتم أن المي قد وهنتهم ،هؤلء أجلد من كذا وكذا.
ولا فرغ من الطواف سعي بي الصفا والروة ،فلما فرغ من السعي ،وقد وقف الدي عند الروة ،قال( :
هذا النحر ،وكل فجاج مكة منحر) ،فنحر عند الروة ،وحلق هناك ،وكذلك فعل السلمون ،ث بعث ناسا
إل يَأْجُج ،ليقيموا على السلح ،ويأت الخرون فيقضون نسكهم ففعلوا.
وأقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بكة ثلثا ،فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا عليا فقالوا :قل
لصاحبك :اخرج عنا فقد مضي الجل ،فخرج النب صلى ال عليه وسلم ،ونزل بسَرِف فأقام با.
ولا أراد الروج من مكة تبعتهم ابنة حزة ،تنادى ،يا عم يا عم ،فتناولا علي ،واختصم فيها على وجعفر
وزيد ،فقضي النب صلى ال عليه وسلم لعفر ؛ لن خالتها كانت تته.
وف هذه العمرة تزوج النب صلى ال عليه وسلم بيمونة بنت الارث العامرية ،وكان رسول ال صلى ال
عليه وسلم قبل الدخول ف مكة بعث جعفر بن أب طالب بي يديه إل ميمونة ،فجعلت أمرها إل العباس،
وكانت أختها أم الفضل تته ،فزوجها إياه ،فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حي
يشي ،فبن با بسرف.
وقــد أرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الرجـوع مـن هذه العمرة عدة سرايا ،وهي كما
يلي:
1ـ سرية ابن أب العوجاء ،ف ذي الجة سنة 7هـ ف خسي رجلً .بعثه رسول ال صلى ال عليه
وسلم إل بن سُلَيْم ؛ ليدعوهم إل السلم ،فقالوا :ل حاجة لنا إل ما دعوتنا ،ث قاتلوا قتالً شديدا.
جرح فيه أبو العوجاء ،وأسر رجلن من العدو.
2ـ سرية غالب بن عبد ال إل مصاب أصحاب بشي بن سعد ب َفدَك ،ف صفر سنة 8هـ .بعث ف
مائت رجل ،فأصابوا من العدو نعما ،وقتلوا منهم قتلي.
3ـ سرية ذات أطلح ف ربيع الول سنة 8هـ .كانت بنو ُقضَاعَة قد حشدت جوعا كبية للغارة
على السلمي ،فبعث إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم كعب بن عمي النصاري ف خسة عشر
رجلً ،فلقوا العدو ،فدعوهم إل السلم ،فلم يستجيبوا لـم ،وأرشقوهم بالنبل حت استشهد كلهم إل
رجل واحد ،فقد ا ْرتُثّ من بي القتلي.
4ـ سرية ذات عِرْق إل بن هوازن ،ف ربيع الول سنة 8هـ .كانت بنو هوازن قد أمدت العداء
مرة بعد أخري فأرسل إليها ُشجَاع بن وهب السدي ف خسة وعشرين رجلً ،فاستاقوا َنعَما من العدو،
ول يلقوا كيدا.
معركة مؤتة
وهذه العركة أكب لقاء مُ ْثخِن ،وأعظم حرب دامية خاضها السلمون ف حياة رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،وهي مقدمة وتهيد لفتوح بلدان النصاري ،وقعت ف جادي الول سنة 8هـ ،وفق أغسطس أو
سبتمب سنة 926م.
ومؤتة (بالضم فالسكون) هي قرية بأدن بلقاء الشام ،بينها وبي بيت القدس مرحلتان.
سبب العركة
وسبب هذه العركة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعث الارث بن عمي الزدي بكتابه إل عظيم
بُصْرَي .فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغسان ـ وكان عاملً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر
ـ فأوثقه رباطا ،ث قدمه ،فضرب عنقه.
وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الرائم ،يساوي بل يزيد على إعلن حالة الرب ،فاشتد ذلك على
رسول ال صلى ال عليه وسلم حي نقلت إليه الخبار ،فجهز إليهم جيشا قوامه ثلثة آلف مقاتل ،وهو
أكب جيش إسلمي ل يتمع قبل ذلك إل ف غزوة الحزاب.
أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة ،وقال( :إن قتل زيد فجعفر ،وإن قتل
جعفر فعبد ال بن رواحة) ،وعقد لم لواء أبيض ،ودفعه إل زيد بن حارثة.
وأوصاهم أن يأتوا مقتل الارث بن عمي ،وأن يدعوا مَنْ هناك إل السلم ،فإن أجابوا وإل استعانوا بال
عليهم ،وقاتلوهم ،وقال لم( :اغزوا بسم ال ،ف سبيل ال ،مَنْ كفر بال ،ل تغدروا ،ول تغلوا ،ول
تقتلوا وليدا ول امرأة ،ول كبيا فانيا ،ول منعزلً بصومعة ،ول تقطعوا نلً ول شجرة ،ول تدموا بناء).
حت يقال إذا مروا على جدثي ** أرشده ال من غاز وقد رشدا
ث خرج القوم ،وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم مشيعا لم حت بلغ ثنية الوداع ،فوقف وودّعهم.
وترك اليش السلمي ف اتاه الشمال حت نزل َمعَان ،من أرض الشام ،ما يلي الجاز الشمإل ،وحينئذ
نقلت إليهم الستخبارات بأن هرقل نازل بآب من أرض البلقاء ف مائة ألف من الروم ،وانضم إليهم من
لَخْم و ُجذَام وبَ ْلقَيْن وبَهْرَاء وبَلِي مائة ألف.
ولكن عبد ال بن رواحة عارض هذا الرأي ،وشجع الناس ،قائلً :يا قوم ،وال إن الت تكرهون لَلّتِي
خرجتم تطلبون :الشهادة ،وما نقاتل الناس بعدد ول قوة ول كثرة ،ما نقاتلهم إل بذا الدين الذي أكرمنا
ال به ،فانطلقوا ،فإنا هي إحدي السنيي ،إما ظهور وإما شهادة .وأخيا استقر الرأي على ما دعا إليه
عبد ال بن رواحة.
أخذ الراية زيد بن حارثة ـ ِحبّ رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وجعل يقاتل بضراوة بالغة ،وبسالة
ل يوجد لا نظي إل ف أمثاله من أبطال السلم ،فلم يزل يقاتل ويقاتل حت شاط ف رماح القوم ،وخر
صريعا.
وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أب طالب ،وطفق يقاتل قتالً منقطع النظي ،حت إذا أرهقه القتال اقتحم عن
فرسه الشقراء فعقرها ،ث قاتل حت قطعت يينه ،فأخذ الراية بشماله ،ول يزل با حت قطعت شاله،
فاحتضنها بعضديه ،فلم يزل رافعا إياها حت قتل .يقال :إن روميا ضربه ضربةً قطعته نصفي ،وأثابه ال
بناحيه جناحي ف النة ،يطي بما حيث يشاء ؛ ولذلك سي بعفر الطيار ،وبعفر ذي الناحي.
روى البخاري عن نافع؛ أن ابن عمر أخبه :أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهو قتيل ،فعددت به خسي بي
طعنة وضربة ،ليس منها شيء ف دبره ،يعن ظهره.
وف رواية أخري قال ابن عمر :كنت فيهم ف تلك الغزوة ،فالتمسنا جعفر بن أب طالب فوجدناه ف
القتلي ،ووجدنا ما ف جسده بضعا وتسعي من طعنة ورمية .وف رواية العمري عن نافع زيادة[ :فوجدنا
ذلك فيما أقبل من جسده].
ولا قتل جعفر بعد أن قاتل بثل هذه الضراوة والبسالة ،أخذ الراية عبد ال بن رواحة ،وتقدم با ،وهو
على فرسه ،فجعل يستنل نفسه ،ويتردد بعض التردد ،حت حاد حيدة ث قال:
ث نزل ،فأتاه ابن عم له بعَرْق من لم فقال :شد بذا صلبك ،فإنك قد لقيت ف أيامك هذه ما لقيت،
فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسَة ،ث ألقاه من يده ،ث أخذ سيفه فتقدم ،فقاتل حت قتل.
وحينئذ تقدم رجل من بن َعجْلن ـ اسه ثابت بن أقرم ـ فأخذ الراية وقال :يا معشر السلمي،
اصطلحوا على رجل منكم ،قالوا :أنت .قال :ما أنا بفاعل ،فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ،فلما
أخذ الراية قاتل قتالً مريرا ،فقد روي البخاري عن خالد بن الوليد قال :لقد انقطعت ف يدي يوم مؤتة
تسعة أسياف ،فما بقي ف يدي إل صفيحة يانية .وف لفظ آخر :لقد دق ف يدي يوم مؤتة تسعة أسياف،
وصبت ف يدي صفيحة ل يانية.
وقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم مؤتة ـ مبا بالوحي ،قبل أن يأت إل الناس الب من ساحة
القتال( :أخذ الراية زيد فأصيب ،ث أخذ جعفر فأصيب ،ث أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ
حت أخذ الراية سيف من سيوف ال ،حت فتح ال عليهم).
ناية العركة
ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة الريرتي ،كان مستغربا جدا أن ينجح هذا اليش الصغي ف
الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم .ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته
ونبوغه ف تليص السلمي ما ورطوا أنفسهم فيه.
واختلفت الروايات كثيا فيما آل إليه أمر هذه العركة أخيا .ويظهر بعد النظر ف جيع الروايات أن
خالد بن الوليد نح ف الصمود أمام جيش الرومان طول النهار ،ف أول يوم من القتال .وكان يشعر
بسيس الاجة إل مكيدة حربية تلقي الرعب ف قلوب الرومان حت ينجح ف النياز بالسلمي من غي
أن يقوم الرومان بركات الطاردة .فقد كـان يعرف جيدا أن الفلت من براثنهم صعب جدا لو
انكشف السلمون ،وقام الرومان بالطاردة.
فلما أصبح اليوم الثان غي أوضاع اليش ،وعبأه من جديد ،فجعل مقدمته ساقه ،وميمنته ميسرة ،وعلى
العكس ،فلما رآهم العداء أنكروا حالم ،وقالوا :جاءهم مدد ،فرعبوا ،وصار خالد ـ بعد أن تراءي
اليشان ،وتناوشا ساعة ـ يتأخر بالسلمي قليلً قليلً ،مع حفظ نظام جيشه ،ول يتبعهم الرومان ظنا
منهم أن السلمي يدعونم ،وياولون القيام بكيدة ترمي بم ف الصحراء.
وهكذا اناز العدو إل بلده ،ول يفكر ف القيام بطاردة السلمي ونح السلمون ف النياز سالي ،حت
عادوا إل الدينة.
قتلى الفريقي
واستشهد يومئذ من السلمي اثنا عشر رجلً ،أما الرومان ،فلم يعرف عدد قتلهم ،غي أن تفصيل
العركة يدل على كثرتم.
أثر العركة
وهذه العركة وإن ل يصل السلمون با على الثأر ،الذي عانوا مرارتا لجله ،لكنها كانت كبية الثر
لسمعة السلمي ،إنا ألقت العرب كلها ف الدهشة والية ،فقد كانت الرومان أكب وأعظم قوة على
وجه الرض ،وكانت العرب تظن أن معن جلدها هو القضاء على النفس وطلب التف بالظّلْف ،فكان
لقاء هذا اليش الصغي ـ ثلثة آلف مقاتل ـ مع ذلك اليش الضخم العرمرم الكبي ـ مائتا ألف
مقاتل ـ ث الرجوع عن الغزو من غي أن تلحق به خسارة تذكر .كان كل ذلك من عجائب الدهر،
وكان يؤكد أن السلمي من طراز آخر غي ما ألفته العرب وعرفته ،وأنم مؤيدون ومنصورون من عند
ال ،وأن صاحبهم رسول ال حقا .ولذلك نري القبائل اللدودة الت كانت ل تزال تثور على السلمي
جنحت بعد هذه العركة إل السلم ،فأسلمت بنو سُ َليْم وأ ْشجَع و َغ َطفَان و ُذبْيَان وفَزَارَة وغيها.
وكانت هذه العركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان ،فكانت توطئة وتهيدا لفتوح البلدان الرومانية،
واحتلل السلمي الراضي البعيدة النائية.
ولا علم رسول ال صلى ال عليه وسلم بوقف القبائل العربية ـ الت تقطن مشارف الشام ـ ف معركة
مؤتة من اجتماعهم إل الرومان ضد السلمي ،شعر بسيس الاجة إل القيام بكمة بالغة توقع الفرقة بينها
وبي الرومان ،وتكون سببا للئتلف بينها وبي السلمي ،حت ل تتحشد مثل هذه الموع الكبية مرة
أخري.
واختار لتنفيذ هذه الطة عمرو بن العاص ؛ لن أم أبيه كانت امرأة من بَلِي .فبعثه إليهم ف جادي الخرة
سنة 8هـ على إثر معركة مؤتة ؛ ليستألفهم ،ويقال :بل نقلت الستخبارات أن جعا من قُضَاعَة قد
تمعوا ،يريدون أن يدنوا من أطراف الدينة ،فبعثه إليه ،ويكن أن يكون السببان اجتمعا معا.
وعقد رسول ال صلى ال عليه وسلم لعمرو بن العاص لواء أبيض ،وجعل معه راية سوداء ،وبعثه ف
ثلثائة من سراة الهاجرين والنصار ،ومعهم ثلثون فرسا ،وأمره أن يستعي بن مر به من بَلِي و ُعذْ َرةَ
وبَ ْلقَيْنِ .فسار الليل وَك َمنَ النهار ،فلما قرب من القوم بلغه أن لم جعا كثيا ،فبعث رافع بن مَكِيثٍ
الُهَنِي إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يستمده ،فبعث إليه أبا عبيدة بن الراح ف مائتي ،وعقد له
لواء ،وبعث له سراة الهاجرين والنصار ـ فيهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يلحق بعمرو ،وأن يكونا
جيعا ول يتلفا .فلما لق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ،فقال عمرو :إنا قدمت على مددا ،وأنا المي،
فأطاعه أبو عبيدة ،فكان عمرو يصلي بالناس.
وسار حت وطئ بلد ُقضَاعَة ،فدوخها حت أت أقصي بلدهم ،ولقي ف آخر ذلك جعا ،فحمل عليهم
السلمون فهربوا ف البلد وتفرقوا.
وبعث عوف بن مالك الشجعي بريدا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأخبه بقفولم وسلمتهم ،وما
كان ف غزاتم.
وذات السلسل [بضم السي الول وفتحها :لغتان] بقعة وراء وادي القُرَي ،بينها وبي الدينة عشرة
أيام .وذكر ابن إسحاق أن السلمي نزلوا على ماء بأرض ُجذَام يقال له :السلسل ،فسمي ذات
السلسل.
ضرَة ـ وهي
كانت هذه السرية ف شعبان سنة 8هـ ؛ وذلك لن بن َغ َطفَان كانوا يتحشدون ف خَ ِ
أرض ُمحَارِب بَنجْد ـ فبعث إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا قتادة ف خسة عشر رجلً ،فقتل
منهم ،وسَبَي وغنم ،وكانت غيبته خس عشرة ليلة.
غزوة فتح مكة
قال ابن القيم :هو الفتح العظم الذي أعز ال به دينه ورسوله وجنده وحزبه المـي ،واستنقذ به
بلــده وبيته الذي جعله هدي للعالي ،من أيدي الكفار والشركي ،وهو الفتح الذي استبشر بـه
أهـل السمـاء ،وضـربت أطناب عِزّه على مناكب الوزاء ،ودخل الناس به فــي ديــن ال
أفواجـا ،وأشرق به وجه الرض ضياء وابتهاجا ا .هـ.
سبب الغزوة
قدمنا ف وقعة الديبية أن بندا من بنود هذه العاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل ف عقد ممد صلى ال
عليه وسلم وعهده دخل فيه ،ومن أحب أن يدخل ف عقد قريش وعهدهم دخل فيه ،وأن القبيلة الت
تنضم إل أي الفريقي تعتب جزءا من ذلك الفريق ،فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتب
عدوانا على ذلك الفريق.
وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة ف عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ودخلت بنو بكر ف عهد
قريش ،وصارت كل من القبيلتي ف أمن من الخري ،وقد كانت بي القبيلتي عداوة وتوترات ف
الاهلية ،فلما جاء السلم ،ووقعت هذه الدنة ،وأمن كل فريق من الخر ـ اغتنمها بنو بكر ،وأرادوا
أن يصيبوا من خزاعة الثأر القدي ،فخرج نَوْفَل بن معاوية الدّيلي ف جاعة من بن بكر ف شهر شعبان سنة
8هـ ،فأغاروا على خزاعة ليلً ،وهم على ماء يقال له[ :ال َوتِي] فأصابوا منهم رجالً ،وتناوشوا
واقتتلوا ،وأعانت قريش بن بكر بالسلح ،وقاتل معهم رجال من قريش مستغلي ظلمة الليل ،حت حازوا
خزاعة إل الرم ،فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر :يا نوفل ،إنا قد دخلنا الرم ،إلك إلك ،فقال كلمة
عظيمة :ل إله اليوم يا بن بكر ،أصيبوا ثأركم .فلعمري إنكم لتَسرِقُون ف الرم ،أفل تصيبون ثأركم فيه؟
ولا دخلت خزاعة مكة لأوا إل دار ُبدَيْل بن وَرْقَاء الزاعي ،وإل دار مول لم يقال له :رافع.
وأسرع عمرو بن سال الزاعي ،فخرج حت قدم على رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة ،فوقف عليه،
وهو جالس ف السجد بي ظهران الناس فقال:
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :نصرت يا عمرو بن سال) ،ث عرضت له سحابة من السماء ،فقال:
(إن هذه السحابة لتستهل بنصر بن كعب).
ث خرج بُ َديْل بن َورْقَاء الزاعي ف نفر من خُزَاعَة ،حت قدموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم
الدينة ،فأخبوه بن أصيب منهم ،وبظاهرة قريش بن بكر عليهم ،ث رجعوا إل مكة.
ول شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدرا مضا ونقضا صريا للميثاق ،ل يكن له أي مبر،
ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها ،وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة ،فعقدت ملسا استشاريا،
وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان مثلً لا ليقوم بتجديد الصلح.
وقد أخب رسول ال صلى ال عليه وسلم أصحابه با ستفعله قريش إزاء غدرتم .قال( :كأنكم بأب سفيان
قد جاءكم ليشد ال َعقْدَ ،ويزيد ف الدة).
فلما راح بديل إل مكة قال أبو سفيان :لئن كان جاء الدينة لقد علف با النوي ،فأت مبك راحلته ،فأخذ
من بعرها ،ففته ،فرأي فيها النوي ،فقال :أحلف بال لقد جاء بديل ممدا.
وقدم أبو سفيان الدينة ،فدخل على ابنته أم حبيبة ،فلما ذهب ليجلس على فراش رسول ال صلى ال
عليه وسلم طوته عنه ،فقال :يا بنية ،أرغبت ب عن هذا الفراش ،أم رغبت به عن؟ قالت :بل هو فراش
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأنت رجل مشرك نس .فقال :وال لقد أصابك بعدي شر.
ث خرج حت أت رسول ال صلى ال عليه وسلم فكلمه ،فلم يرد عليه شيئا ،ث ذهب إل أب بكر فكلمه
أن يكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال :ما أنا بفاعل .ث أت عمر بن الطاب فكلمه ،فقال :أأنا
أشفع لكم إل رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فوال لو ل أجد إل الذّرّ لاهدتكم به ،ث جاء فدخل على
على بن أب طالب ،وعنده فاطمة ،وحسن ،غلم يدب بي يديهما ،فقال :يا علي ،إنك أمس القوم ب
رحا ،وإن قد جئت ف حاجة ،فل أرجعن كما جئت خائبا ،اشفع ل إل ممد ،فقال :ويك يا أبا سفيان،
لقد عزم رسول ال صلى ال عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه .فالتفت إل فاطمة ،فقال :هل
لك أن تأمري ابنك هذا فيجي بي الناس ،فيكون سيد العرب إل آخر الدهر؟ قالت :وال ما يبلغ ابن
ذاك أن يي بي الناس ،وما يي أحد على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عين أب سفيان ،فقال لعلى بن أب طالب ف هلع وانزعاج ويأس وقنوط :يا أبا
السن ،إن أري المور قد اشتدت علي ،فانصحن ،قال :وال ما أعلم لك شيئا يغن عنك .ولكنك سيد
بن كنانة ،فقم فأجر بي الناس ،ث اْلحَقْ بأرضك .قال :أو تري ذلك مغنيا عن شيئا؟ قال :ل وال ما
أظنه ،ولكن ل أجد لك غي ذلك .فقام أبو سفيان ف السجد ،فقال :أيها الناس ،إن قد أجرت بي الناس،
ث ركب بعيه ،وانطلق.
ولا قدم على قريش ،قالوا :ما وراءك؟ قال :جئت ممدا فكلمته ،فوال ما رد على شيئا ،ث جئت ابن أب
قحافة فلم أجد فيه خيا ،ث جئت عمر بن الطاب ،فوجدته أدن العدو ،ث جئت عليا فوجدته ألي القوم،
قد أشار على بشيء صنعته ،فوال ما أدري هل يغن عن شيئا أم ل؟ قالوا :وب أمرك؟ قال :أمرن أن أجي
بي الناس ،ففعلت ،قالوا :فهل أجاز ذلك ممد؟ قال :ل .قالوا :ويلك ،إن زاد الرجل على أن لعب بك.
قال :ل وال ما وجدت غي ذلك.
يؤخذ من رواية الطبان أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل أن يأت إليه خب نقض
اليثاق بثلثة أيام ـ أن تهزه ،ول يعلم أحد ،فدخل عليها أبو بكر ،فقال :يابنية ،ما هذا الهاز؟ قالت:
وال ما أدري .فقال :وال ما هذا زمان غزو بن الصفر ،فأين يريد رسول ال؟ قالت :وال ل علم ل،
وف صباح الثالثة جاء عمرو بن سال الزاعي ف أربعي راكبا ،وارتز :يا رب إن ناشد ممدا ...البيات.
فعلم الناس بنقض اليثاق ،وبعد عمرو جاء بديل ،ث أبو سفيان ،وتأكد عند الناس الب ،فأمرهم رسول
ال صلى ال عليه وسلم بالهاز ،وأعلمهم أنه سائر إل مكة ،وقال( :اللّهم خذ العيون والخبار عن
قريش حت نبغتها ف بلدها).
وزيادة ف الخفاء والتعمية بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم سرية قوامها ثانية رجال ،تت قيادة أب
قتادة بن ِرْبعِي ،إل بطن إضَم ،فيما بي ذي َخشَب وذي الروة ،على ثلثة بُرُد من الدينة ،ف أول شهر
رمضان سنة 8هـ ؛ ليظن الظان أنه صلى ال عليه وسلم يتوجه إل تلك الناحية ،ولتذهب بذلك
الخبار ،وواصلت هذه السرية سيها ،حت إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم خرج إل مكة ،فسارت إليه حت لقته.
وكتب حاطب بن أب بَلَْتعَة إل قريش كتابا يبهم بسي رسول ال صلى ال عليه وسلم إليهم ،ث أعطاه
امرأة ،وجعل لا ُج ْعلً على أن تبلغه قريشا ،فجعلته ف قرون رأسها ،ث خرجت به ،وأت رسول ال صلى
ال عليه وسلم الب من السماء با صنع حاطب ،فبعث عليا والقداد والزبي بن العوام وأبا مَ ْرثَد الغَنَوِي
ضةَ خَاخ ،فإن با ظعينة معها كتاب إل قريش) ،فانطلقوا تعادي بم خيلهم
فقال( :انطلقوا حت تأتوا رَ ْو َ
حت وجدوا الرأة بذلك الكان ،فاستنـزلوها ،وقالوا :معك كتاب؟ فقالت :ما معي كتاب ،ففتشوا
رحلها فلم يدوا شيئا .فقال لا علي :أحلف بال ،ما كذب رسول ال صلى ال عليه وسلم ول كذبنا،
وال لتخرجن الكتاب أو لنجردنك .فلما رأت الد منه قالت :أعرض ،فأعرض ،فحلت قرون رأسها،
فاستخرجت الكتاب منها ،فدفعته إليهم ،فأتوا به رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فإذا فيه( :من حاطب
بن أب بلتعة إل قريش) يبهم بسي رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فدعا رسول ال صلى ال عليه
وسلم حاطبا ،فقال( :ما هذا يا حطب؟) فقال :ل تَ ْعجَلْ على يا رسول ال .وال إن لؤمن بال ورسوله،
وما ارتددت ول بدلت ،ولكن كنت امرأ مُلْصَقـا ف قريش ؛ لست من أْنفَسِهم ،ول فيهم أهل وعشية
وولد ،وليس ل فيهم قرابة يمونم ،وكان من معك له قرابات يمونم ،فأحببت إذ فاتن ذلك أن أتذ
عندهم يدا يمون با قرابت .فقال عمر بن الطاب :دعن يا رسول ال أضرب عنقه ،فإنه قد خان ال
ورسوله ،وقد نافق ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :إنه قد شهد بدرا ،وما يدريك يا عمر لعل ال
قد اطلع على أهل بدر فقال :اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ،فذَ َرفَتْ عينا عمر ،وقال :ال ورسوله
أعلم.
وهكذا أخذ ال العيون ،فلم يبلغ إل قريش أي خب من أخبار تهز السلمي وتيئهم للزحف والقتال.
ولعشر خلون من شهر رمضان البارك 8هـ ،غادر رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة متجها إل
مكــة ،ف عشرة ألف من الصحابة رضي ال عنهم ،واستخـلف على الدينة أبا رُهْم الغفاري.
حفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد الطلب ،وكان قد خرج بأهله وعياله
ولا كان بالُ ْ
مسلما مهاجرا ،ث لا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم بالبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الارث
وابن عمته عبد ال بن أب أمية ،فأعرض عنهما ،لا كان يلقاه منهما من شدة الذي والجو ،فقالت له أم
سلمة :ل يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك .وقال على لب سفيان بن الارث :ائت رسول
ال صلى ال عليه وسلم من قبل وجهه ،فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف{ :قَالُواْ تَال ّلهِ َل َقدْ آثَرَكَ ال ّلهُ
عَ َليْنَا َوإِن كُنّا َلخَاطِئِيَ} [يوسف ،]91:فإنه ل يرضي أن يكون أحد أحسن منه قولً .ففعل ذلك أبو
سفيان ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم{ :قَالَ لَ تَثْرَيبَ َعلَيْ ُك ُم الْيَ ْومَ يَ ْغفِرُ ال ّلهُ لَ ُكمْ وَ ُهوَ أَرْ َحمُ
الرّاحِمِيَ} [يوسف ،]92:فأنشده أبو سفيان أبياتا منها:
فضرب رسول ال صلى ال عليه وسلم صدره وقال( :أنتَ طَرّ ْدتَنِي كل مُطَرّد؟).
وواصل رسول ال صلى ال عليه وسلم سيه وهو صائم ،والناس صيام ،حت بلغ ال ُكدَيْد ـ وهو ماء بي
سفَان و ُق َديْد ـ فأفطر ،وأفطر الناس معه .ث واصل سيه حت نزل بر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله
عُ ْ
عشاء ،فأمر اليش ،فأوقدوا النيان ،فأوقدت عشرة آلف نار ،وجعل رسول ال صلى ال عليه وسلم
على الرس عمر بن الطاب رضي ال عنه
وركب العباس ـ بعد نزول السلمي بر الظهران ـ بغلة رسول ال صلى ال عليه وسلم البيضاء،
وخرج يلتمس ،لعله يد بعض الَطّابة أو أحدا يب قريشا ليخرجوا يستأمنون رسول ال صلى ال عليه
وسلم قبل أن يدخلها.
وكان ال قد عمي الخبار عن قريش ،فهم على َوجَلٍ وترقب ،وكان أبو سفيان يرج يتجسس الخبار،
فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام ،وبديل بن ورقاء يتجسسون الخبار.
قال العباس :وال إن لسي عليها ـ أي على بغلة رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ إذ سعت كلم أب
سفيان وبديل بن ورقاء ،وها يتراجعان ،وأبو سفيان يقول :ما رأيت كالليلة نيانا قط ول عسكرا .قال:
يقول بديل :هذه وال خزاعة ،حَمَشَتْها الرب ،فيقول أبو سفيان :خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه
نيانا وعسكرها.
قال العباس :فعرفت صوته ،فقلت :أبا َح ْنظَلَة؟ فعرف صوت ،فقال :أبا الفضل؟ قلت :نعم .قال :مالك؟
فداك أب وأمي .قلت :هذا رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الناس ،واصباح قريش وال.
قال :فما اليلة فداك أب وأمي؟ ،قلت :وال لئن ظفر بك ليضربن عنقك ،فاركب ف عجز هذه البغلة،
حت آت بك رسول ال صلى ال عليه وسلم فأستأمنه لك ،فركب خلفي ،ورجع صاحباه.
قال :فجئت به ،فكلما مررت به على نار من نيان السلمي ،قالوا :من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول ال
صلى ال عليه وسلم وأنا عليها قالوا :عم رسول ال صلى ال عليه وسلم على بغلته .حت مررت بنار
عمر بن الطاب فقال :من هذا؟ وقام إل ،فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال :أبو سفيان ،عدو
ال؟ المد ل الذي أمكن منك بغي عقد ول عهد ،ث خرج يشتد نو رسول ال صلى ال عليه وسلم،
ت البغلة فسبقت ،فاقتحمت عن البغلة ،فدخلت على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ودخل عليه
وركض ُ
عمر ،فقال :يا رسول ال ،هذا أبو سفيان فدعن أضرب عنقه ،قال :قلت :يا رسول ال ،إن قد أجرته ،ث
جلست إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخذت برأسه ،فقلت :وال ل يناجيه الليلة أحد دون ،فلما
أكثر عمر ف شأنه قلت :مهلً يا عمر ،فوال لو كان من رجال بن عدي بن كعب ما قلت مثل هذا ،قال:
مهلً يا عباس ،فوال لسلمك كان أحب إل من إسلم الطاب ،لو أسلم ،وما ب إل أن قد عرفت أن
إسلمك كان أحب إل رسول ال صلى ال عليه وسلم من إسلم الطاب.
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :اذهب به يا عباس إل رحلك ،فإذا أصبحت فأتن به) ،فذهبت،
فلما أصبحت غدوت به إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلما رآه قال( :ويك يا أبا سفيان ،أل يأن
لك أن تعلم أن ل إله إل ال؟) قال :بأب أنت وأمي ،ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو
كان مع ال إله غيه لقد أغن عن شيئا بعد.
قال( :ويك يا أبا سفيان ،أل يأن لك أن تعلم أن رسول ال؟) ،قال :بأب أنت وأمي ،ما أحلمك وأكرمك
وأوصلك :أما هذه فإن ف النفس حت الن منها شيء .فقال له العباس :ويك أسلم ،واشهد أن ل إله إل
ال ،وأن ممدا رسول ال ،قبل أن تضرب عنقك ،فأسلم وشهد شهادة الق.
قال العباس :يا رسول ال ،إن أبا سفيان رجل يب الفخر فاجعل له شيئا .قال( :نعم ،من دخل دار أب
سفيان فهو آمن ،ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ،ومن دخل السجد الرام فهو آمن).
وكانت راية النصار مع سعد بن عبادة ،فلما مر بأب سفيان قال له :اليوم يوم اللحمة ،اليوم تُسَْتحَلّ
الُرْمَة ،اليـوم أذل ال قـريشا .فلما حـاذي رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا سفيان قال :يا رسول
ال ،أل تسمع ما قال سعد؟ قال( :وما قال؟) فقال :قال كذا وكذا .فقال عثمان وعبد الرحن بن عوف:
يا رسول ال ،ما نأمن أن يكون له ف قريش صولة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :بل اليوم يوم
تُ َعظّم فيه الكعبة ،اليوم يوم أعز ال فيه قريشا) ث أرسل إل سعد فنع منه اللواء ،ودفعه إل ابنه قيس،
ورأي أن اللواء ل يرج عن سعد .وقيل :بل دفعه إل الزبي.
ولا مر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأب سفيان ومضي قال له العباس :النجاء إل قومك .فأسرع أبو
سفيان حت دخل مكة ،وصرخ بأعلى صوته :يا معشر قريش ،هذا ممد ،قد جاءكم فيما ل قبل لكم به.
فمن دخل دار أب سفيان فهو آمن .فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت :اقتلوا
الَمِيت الدسم الخش الساقي ،قُّبحَ من طَلِيعَة قوم.
قال أبو سفيان :ويلكم ،لتغرنكم هذه من أنفسكم ،فإنه قد جاءكم با ل قبل لكم به ،فمن دخل دار أب
سفيان فهو آمن .قالوا :قاتلك ال ،وما تغن عنا دارك؟ قال :ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ،ومن دخل
السجد فهو آمن .فتفرق الناس إل دورهم وإل السجد ،ووبشوا أوباشا لم ،وقالوا :نقدم هؤلء ،فإن
كان لقريش شيء كنا معهم ،وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا .فتجمع سفهاء قريش وأ ِخفّاؤها مع عكرمة
بن أب جهل ،وصفوان بن أمية ،وسهيل بن عمرو بالَ ْن َدمَة ليقاتلوا السلمي .وكان فيهم رجل من بن بكر
ـ حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلحا ،فقالت له امرأته :لاذا تعد ما أري؟ قال :لحمد
وأصحابه .قالت :وال ما يقوم لحمد وأصحابه شيء .قال :إن وال لرجو أن أخدمك بعضهم ،ث قال:
أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فمضي حت انتهي إل ذي طوي ـ وكان يضع رأسه تواضعا ل حي
رأي ما أكرمه ال به من الفتح ،حت أن شعر ليته ليكاد يس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه ،وكان
خالد بن الوليد على ا ُلجَنّبَةِ اليمن ـ وفيها أسْ َلمُ وسُلَيْم و ِغفَار و ُم َزيْنَة وجُهَيْنَة وقبائل من قبائل العرب ـ
فأمره أن يدخل مكة من أسفلها ،وقال( :إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا ،حت توافون
على الصفا).
وكان الزبي بن العوام على ا ُلجَنَّبةِ اليسري ،وكان معه راية رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأمره أن
لجُون ،ول يبح حت يأتيه.
يدخل مكة من أعلها ـ من َكدَاء ـ وأن يغرز رايته با َ
وكان أبو عبيدة على الرجالة والُسّر ـ وهم الذي لسلح معهم ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حت
ينصب لكة بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وتركت كل كتيبة من اليش السلمي على الطريق الت كلفت الدخول منها.
فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من الشركي إل أناموه .وقتل من أصحابه من السلمي كُرْز بن جابر
الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة .كانا قد شذا عن اليش ،فسلكا طريقا غي طريقه فقتل جيعا ،وأما
سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالَنْ َدمَة فناوشوهم شيئا من قتال ،فأصابوا من الشركي اثن عشر
رجلً ،فانزم الشركون ،وانزم حِمَاس بن قيس ـ الذي كان يعد السلح لقتال السلمي ـ حت دخل
بيته ،فقال لمرأته :أغلقي على باب.
فقالت :وأين ما كنت تقول؟ فقال:
وأقبل خالد يوس مكة حت واف رسول ال صلى ال عليه وسلم على الصفا.
ث نض رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والهاجرون والنصار بي يديه وخلفه وحوله ،حت دخل
السجد ،فأقبل إل الجر السود ،فاستلمه ،ث طاف بالبيت ،وف يده قوس ،وحول البيت ثلثائة وستون
صنما ،فجعل يطعنها بالقوس ،ويقول{ :جَاء اْلحَقّ َوزَ َه َق الْبَاطِلُ إِ ّن الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[السراء،]81:
ئ الْبَاطِلُ َومَا يُعِيدُ} [سبأ ]49:والصنام تتساقط على وجوهها.
{قُلْ جَاء اْلحَقّ َومَا يُ ْب ِد ُ
وكان طوافه على راحلته ،ول يكن مرما يومئذ ،فاقتصر على الطواف ،فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة،
فأخذ منه مفتاح الكعبة ،فأمر با ففتحت فدخلها ،فرأي فيها الصور ،ورأي فيها صورة إبراهيم ،وإساعيل
ـ عليهما السلم ـ يستقسمان بالزلم ،فقال( :قاتلهم ال ،وال ما استقسما با قط) .ورأي ف الكعبة
حامة من عيدان ،فكسرها بيده ،وأمر بالصور فمحيت.
ث أغلق عليه الباب ،وعلى أسامة وبلل ،فاستقبل الدار الذي يقابل الباب حت إذا كان بينه وبينه ثلثة
أذرع وقف ،وجعل عمودين عن يساره ،وعمودا عن يينه ،وثلثة أعمدة وراءه ـ وكان البيت يومئذ
على ستة أعمدة ـ ث صلي هناك .ث دار ف البيت ،وكب ف نواحيه ،ووحد ال ،ث فتح الباب ،وقريش
قد ملت السجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضادت الباب وهم تته ،فقال:
(ل إله إل ال وحده ل شريك له ،صدق وعده ،ونصر عبده ،وهزم الحزاب وحده ،أل كل مأثُرَة أو
مال أو دم فهو تت قدمي هاتي ،إل ِسدَانَة البيت وسِقاية الاج ،ألوقتيل الطأ شبه العمد ـ السوط
والعصا ـ ففيه الدية مغلظة ،مائة من البل أربعون منها ف بطونا أولد.
يا معشر قريش إن ال قد أذهب عنكم نوة الاهلية وتعظمها بالباء ،الناس من آدم ،وآدم من تراب ث
تل هذه الية{ :يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم
عند ال أتقاكم إن ال عليم خبي}.
ث قال( :يا معشر قريش ما ترون أن فاعل بكم؟) قالوا :خيًا ،أخ كري وابن أخ كري ،قال( :فإن أقول
لكم كما قال يوسف لخوته{ :لَ تَثْرَيبَ عَلَ ْي ُكمُ} اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ث جلس رسول ال صلى ال عليه وسلم ف السجد فقام إليه علي رضي ال عنه ومفتاح الكعبة ف يده
فقال :اجع لنا الجابة مع السقاية ،صلى ال عليك ـ وف رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم( :أين عثمان بن طلحة؟) .فدعي له ،فقال له( :هاك مفتاحك يا عثمان،
اليوم يوم بر ووفاء) ،وف رواية ابن سعد ف الطبقات أنه قال له حي دفع الفتاح إليه( :خذوها خالدة
تالدة ،ل ينعها منكم إل ظال ،يا عثمان إن ال استأمنكم على بيته ،فكلوا ما يصل إليكم من هذا البيت
بالعروف).
وحانت الصلة ،فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بلل أن يصعد فيؤذن على الكعبة ،وأبو سفيان بن
حرب ،وعتاب بن أسيد ،والارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ،فقال عتاب :لقد أكرم ال أسيدا أل
يكون سع هذا ،فيسمع منه ما يغيظه .فقال الارث :أما وال لو أعلم أنه حق لتبعته .فقال أبو سفيان :أما
وال ل أقول شيئًا ،لو تكلمت لخبت عن هذه الصباء .فخرج عليهم النب صلى ال عليه وسلم فقال
لم( :لقد علمت الذي قلتم) ث ذكر ذلك لم.
فقال الارث وعتاب :نشهد أنك رسول ال ،وال ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبك.
ودخل رسول ال صلى ال عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أب طالب ،فاغتسل وصلى ثان ركعات ف
بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صلة الضحى ،وإنا هذه صلة الفتح ،وأجارت أم هانئ حوين
لا ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) ،وقد كان أخوها علي بن أب
طالب أراد أن يقتلهما ،فأغلقت عليهما باب بيتها ،وسألت النب صلى ال عليه وسلم فقال لا ذلك.
وأهدر رسول ال صلى ال عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر الجرمي ،وأمر بقتلهم وإن وجدوا
تت أستار الكعبة ،وهم عبد العزى بن خطل ،وعبدال بن سعد بن أب سرح ،وعكرمة بن أب جهل،
والارث بن نفيل بن وهب ،ومقيس بن صبابة ،وهبار بن السود ،وقينتان كانتا لبن الخطل ،كانت
تغنيان بجو النب صلى ال عليه وسلم ،وسارة مولة لبعض بن عبد الطلب ،وهي الت وجد معها كتاب
حاطب.
فأما ابن أب سرح فجاء به عثمان إل النب صلى ال عليه وسلم ،وشفع فيه ،فحقن دمه ،وقبل إسلمه بعد
أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله ،وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر ،ث ارتد ورجع
إل مكة.
وأما عكرمة بن أب جهل ،ففر إل اليمن ،فاستأمنت له امرأته ،فأمنه النب صلى ال عليه وسلم فتبعته،
فرجع معها وأسلم وحسن إسلمه.
وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة ،فجاء رجل إل النب صلى ال عليه وسلم وأخبه ،فقال( :
اقتله) فقتله.
وأما مقيس بن صبابة فقتله نيلة بن عبدال ،وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك ،ث عدا على رجل من
النصار فقتله ،ث ارتد ولق بالشركي.
وأما هبار بن السود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم حي هاجرت،
فنخس با حت سقطت على صخرة وأسقطت جنينها ،ففر هبار يوم مكة ث أسلم وحسن إسلمه.
وأما القينتان فقتلت إحداها ،واستؤمن للخرى فأسلمت ،كما استؤمن لسارة وأسلمت.
قال ابن حجر :وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الارث بن طلطل الزاعي ،قتله على .وذكر الاكم
أيضا من أهدر دمه كعب بن زهي ،وقصته مشهورة ،وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح ،ووحشي بن
حرب ،وهند بنت عتبة امرأه أب سفيان ،وقد أسلمت ،وأرنب موله ابن خطل أيضا قتلت ،وأم سعد
قتلت ،فيما ذكر ابن إسحاق ،فكملت العدة ثامنية رجال وست نسوة ،ويتمل أن تكون أرنب وأم سعد
القينتان ،أختلف ف اسهما أو باعتبار الكنية واللقب.
ل يكن صفوان من أهدر دمه ،لكنه بصفته زعيما كبيا من زعماء قريش خاف على نفسه وفر ،فاستأمن
له عمي بن وهب المحي رسول ال صلى ال عليه وسلم فأمنه ،وأعطاه عمامته الت دخل با مكة،
فلحقة عمي وهو يريد أن يركب البحر من جدة إل اليمن فرده ،فقال لرسول ال صلى ال عليه وسلم:
اجعلن باليار شهرين .قال (أنت باليار أربعة أشهر) ث أسلم صفوان ،وقد كانت امرأته أسلمت قبله،
فأقرها على النكاح الول.
وكان فضالة رجلً جريئا جاء إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهو ف الطواف؛ ليقتله ،فأخب الرسول
صلى ال عليه وسلم با ف نفسه فأسلم.
ولا كان الغد من يوم الفتح قام رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الناس خطيبا ،فحمد ال ،وأثن عليه،
ومده با هو أهله ،ث قال( :أيها الناس ،إن ال حرم مكة يوم خلق السموات والرض ،فهي حرام برمة
ال إل يوم القيامة ،فل يل لمرئ يؤمن بال واليوم الخر أن يسفك فيها دما ،أو يعضد با شجرة ،فإن
أحد ترخص لقتال رسول ال صلى ال عليه وسلم فقولوا :إن ال أذن لرسولة ول يأذن لكم ،وإنا حلت
ل ساعة من نار ،وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالمس ،فليبلغ الشاهد الغائب).
وف رواية( :ل يعضد شوكه ،ول ينفر صيده ول تلتقط ساقطته إل من عرفها ،ول يتلى خله) ،فقال
العباس :يا رسول ال ،إل الذخر ،فإنه لقينهم وبيوتم ،فقال( :إل الذخر).
وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجل من بن ليث بقتيل لم ف الاهلية ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم
بذا الصدد( :يا معشر خزاعة ،ارفعو أيديكم عن القتل ،فلقد كثر القتل إن نفع ،ولقد قتلتم قتيال لدينه،
فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بي النظرين ،إن شاءوا فدم قاتله ،وإن شاءوا فعقله).
وف رواية :فقام رجل من أهل اليمن يقال له :شاه فقال :اكتب ل يا رسول ال ،فقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم( :اكتبو لب شاه).
ولا ت فتح مكة على الرسول صلى ال عليه وسلم -وهي بلده ووطنه ومولده -قال النصار فيما
بينهم :أترون رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ فتح ال عليه أرضه وبلده أن يقيم با -وهو يدعو على
الصفا رافعا يديه -فلما فرغ من دعائة قال( :ماذا قلتم؟) قالوا :ل شيء يا رسول ال ،فلم يزل بم حت
أخبوه ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :معاذ ال ،الحيا مياكم ،والمات ماتكم).
أخذ البيعة
وحي فتح ال مكة على رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمي ،تبي لهل مكة الق ،وعلموا أن ل
سبيل إل النجاح إل السلم ،فأذعنوا له ،واجتمعوا للبيعة ،فجلس رسول ال صلى ال عليه وسلم على
الصفا يبايع الناس ،وعمر بن الطاب أسفل منه ،يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما
استطاعوا.
وف الدارك :روى أن النب صلى ال عليه وسلم لا فرغ من بيعة الرجال أخذ ف بيعة النساء ،وهو على
الصفا ،وعمر قاعد أسفل منه ،يبايعهن بأمره ،ويبلغهن عنه ،فجاءت هند بنت عتبة امرأة أب سفيان
متنكرة ،خوفا من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يعرفها؛ لا صنعت بمزة ،فقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم (أبايعكن على أل تشركن بال شيئا) ،فبايع عمر النساء على أل يشركن بال شيئا فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم( :ول تسرقن) فقالت هند :إن أبا سفيان رجل شحيح ،فإن أنا أصبت من ماله
هنات؟ فقال أبو سفيان :وما أصبت فهو لك حلل ،فضحك رسول ال صلى ال عليه وسلم وعرفها،
فقال( :وإنك لند؟) قالت :نعم ،فاعف عما سلف يا نب ال ،عفا ال عنك.
فقال( :ول يقتلن أولدهن) .فقالت :ربيناهم صغارا ،وقتلناهم كبارا ،فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها
حنظلة بن أب سفيان قد قتل يوم بدرـ فضحك عمر حت استلقى فتبسم رسول ال صلى ال عليه وسلم.
قال( :ول يأتي ببهتان) فقالت :وال إن البهتان لمر قبيح وما تأمرنا إل بالرشد ومكارم الخلق.
فقال( :ول يعصينك ف معروف) فقالت :وال ما جلسنا ملسنا هذا وف أنفسنا أن نعصيك.
وف الصحيح :جاءت هند بنت عتبة فقالت :يا رسول ال ما كان على ظهر الرض من أهل خباء أحب
إل أن يذلوا من أهل خبائك ،ث ما أصبح اليوم على ظهر الرض أهل خباء أحب إل أن يغزوا من أهل
خبائك .قال( :وأيضا ،والذي نفسي بيده) قالت :يا رسول ال،له إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي
حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال( :ل أره إل بالعروف).
وأقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بكة تسعة عشر يومًا يدد معال السلم ،ويرشد الناس إل الدى
والتقى ،وخلل هذه اليام أمر أبا أسيد الزاعي ،فجدد أنصاب الرم ،وبث سراياه للدعوة إل السلم،
ولكسر الوثان الت كانت حول مكة ،فكسرت كلها ،ونادى مناديه بكة :من كان يؤمن بال واليوم
الخر فل يدع ف بيته صنما إل كسره.
السرايا والبعوث
1ـ ولا اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الفتح بعث خالد بن الوليد إل العزى لمس ليال
بقي من شهر رمضان ـ سنة 8هـ ـ ليهدمها وكانت بنخلة ،وكانت لقريش وجيع بن كنانة وهي
أعظم أصنامهم .وكان سدنتها بن شيبان ،فخرج إليها خالد ف ثلثي فارسًا حت انتهى إليها ،فهدمها .ولا
رجع إليها سأله رسول ال صلى ال عليه وسلم (هل رأيت شيئا؟) قال :ل قال( :فإنك ل تدمها فارجع
إليها فاهدمها) فرجع خالد متغيظًا قد جرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس فجعل
السادن يصيح با ،فضربا خالد فجزلا باثنتي ،ث رجع إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخبه ،فقال:
(نعم ،تلك العزى ،وقد أيست أن تعبد ف بلدكم أبدا).
2ـ ث بعث عمرو بن العاص ف نفس الشهر إل سواع ليهدمه وهو صنم لذيل برهاط ،على قرابة
150كيلوا مترا شال شرقي مكة ،فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن :ما تريد؟ قال :أمرن رسول
ال صلى ال عليه وسلم أن أهدمه قال :ل تقدر على ذلك قال :ل ؟ قال تنع قال :حت الن أنت على
الباطل؟ ويك فهل يسمع أو يبصر؟ ث دنا فكسره ،وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته فلم يدوا فيه شيئا،
ث قال للسادن :كيف رأيت؟ قال :أسلمت ل.
3ـ وف الشهر نفسه بعث سعد بن زيد بن الشهلي ف عشرين فارسًا إل مناة وكانت بالشلل عند قديد
للوس والزرج وغسان وغيهم ،فلما انتهى سعد إليها قال له سادنا :ما تريد؟ قال :هدم مناة ،قال:
أنت وذاك ،فأقبل إليها سعد ،وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس ،تدعو بالويل ،وتضرب صدرها،
فقال لا السادن :مناة دونك بعض عصاتك .فضربا سعد فقتلها ،وأقبل إل الصنم فهدمه وكسره ،ول
يدوا ف خزانته شيئًا.
4ـ ولا رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول ال صلى ال عليه وسلم ف شوال من نفس
السنة ـ 8هـ ـ إل بن جذية داعيا إل السلم ل مقاتل فخرج ف ثلثائة وخسي رجل من
الهاجرين والنصار وبن سليم ،فانتهى إليهم فدعاهم إل السلم فلم يسنوا أن يقولوا :أسلمنا ،فجعلوا
يقولون :صبأنا ،صبأنا .فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم ودفع إل كل رجل من كان معه أسيًا ،فأمر يومًا أن
يقتل كل رجل أسيه فأب ابن عمر وأصحابه حت قدموا على النب صلى ال عليه وسلم ،فذكروا له،
فرفع صلى ال عليه وسلم يديه وقال ( :اللهم إن أبرأ إليك ما صنع خالدًا) مرتي.
وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون الهاجرين والنصار وبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم
عليًا فودى لم قتلهم وما ذهب منهم وكان بي خالد وعبد الرحن بن عوف كلم وشر ف ذلك فبلغ
النب صلى ال عليه وسلم فقال( :مهل يا خالد ،دع عنك أصحاب ،فوال لو كان أحد ذهبا ،ث أنفقته ف
سبيل ال ما أدركت غدوة رجل من أصحاب ول روحته).
تلك هي غزوة فتح مكة ،وهي العركة الفاصلة والفتح العظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باتًا،
ول يترك لبقائها مال ول مبرا ف ربوع الزيرة العربية ،فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه
العراك والصطدام الذي كان دائرًا بي السلمي والوثنيي وكانت تلك القبائل تعرف جيدا أن الرم ل
يسيطر عليه إل من كان على الق وكان قد تأكد لديهم هذا العتقاد الازم أي تأكد قبل نصف القرن
حي قصد أصحاب الفيل هذا البيت فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول.
وكان صلح الديبية مقدمة وتوطئة بي يدي هذا الفتح العظيم ،أمن الناس به وكلم بعضهم بعضًا ،وناظره
ف السلم ،وتكن من اختفى من السلمي بكة من إظهار دينه والدعوة إليه والناظرة عليه ،ودخل بسببه
كثي ف السلم ،حت إن عدد اليش السلمي الذي ل يزد ف الغزوات السالفة على ثلث آلف إذا هو
يزخر ف هذه الغزوة ف عشرة آلف.
وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعي الناس وأزالت عنها آخر الستور الت كانت تول بينها وبي السلم
وبذا الفتح سيطر السلمون على الوقف السياسي والدين كليهما معا ف طول جزيرة العرب وعرضها،
فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية.
فالطور الذي كان قد بدأ بعد صلح الديبية لصال السلمي قد ت وكمل بذا الفتح البي ،وبدأ بعد ذلك
طور آخر كان لصال السلمي تامًا ،وكان لم فيه السيطرة على الوقف تامًا .ول يبق لقوام العرب إل
أن يفدوا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فيعتنقوا السلم ويملوا دعوته إل العال ،وقد ت استعدادهم
لذلك ف سنتي آتيتي.
الرحلة الثالثة
وهي آخر مرحلة من مراحل حياة الرسول صلى ال عليه وسلم .تثل النتائج الت أثرتا دعوته السلمية
بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلقل وفت واضطرابات ومعارك وحروب دامية واجهتها طيلة بضعة
وعشرين عامًا.
وكان فتح مكة هو أعظم فتح حصل عليه السلمون ف هذه العوام ،تغي لجله مرى اليام ،وتول به
جو العرب ،فقد كان الفتح حدًا فاصل بي السابقة عليه وبي ما بعده ،فإن قريشًا كانت ف نظر العرب
حاة الدين وأنصاره ،والعرب ف ذلك تبع لم ،فخضوع قريش يعتب القضاء الخي على الدين الوثن ف
جزيرة العرب.
وهاتان الصفحتان متلصقتان تناوبتا ف هذه الرحلة ،ووقعت كل واحدة منهما خلل الخرى إل أنا
اخترنا ف الترتيب الوضعي أن نأت على ذكر كل من الصفحتي متميزة عن الخرى ،ونظرًا إل صفحة
القتال ألصق با مضى ،وأكثر مناسبة من الخرى قدمناها ف الترتيب.
ولا أجع القائد العام ـ مالك بن عوف ـ السي إل حرب السلمي ،ساق مع الناس أموالم ونساءهم
وأبناءهم ،فسار حت نزل بأ ْوطَاس ـ وهو واد ف دار هَوَازِن بالقرب من حُنَيْن ،لكن وادي أوطاس غي
وادي حني ،وحني واد إل جنب ذي الجَاز ،بينه وبي مكة بضعة عشر ميلً من جهة عرفات.
ولكن مالكا ـ القائد العام ـ رفض هذا الطلب قائلً :واللّه ل أفعل ،إنك قد كبت وكب عقلك ،واللّه
لتطيعن هوازن أو لتّكِئَنّ على هذا السيف حت يرج من ظهري ،وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو
رأي ،فقالوا :أطعناك .فقال دريد :هذا يوم ل أشهده ول َيفُتْنِي:
ضعْ
يا ليتنـي فيها جـ َذعْ ** أخُبّ فيها وأ َ
ص َدعْ
أقود و ْطفَاءَ ال ّزمَــعْ ** كأنا شـاة َ
وجاءت إل مالك عيون كان قد بعثهم للستكشاف عن السلمي ،جاءت هذه العيون وقد تفرقت
أوصالم ،قال :ويلكم ،ما شأنكم؟ قالوا :رأينا رجالً بيضا على خيل بُلْق ،وال ما تاسكنا أن أصابنا ما
تري.
ونقلت الخبار إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بسي العدو ،فبعث أبا َحدْرَد السلمي ،وأمره أن
يدخل ف الناس ،فيقيم فيهم حت يعلم علمهم ،ث يأتيه ببهم ،ففعل.
ولا كان عشية جاء فارس ،فقال :إن طلعت جبل كذا وكذا ،فإذا أنا بوازن على بكرة آبائهم بِ ُظعُنِهم
وَنعَمِهم وشائهم اجتمعوا إل حني ،فتبسم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وقال( :تلك غنيمة السلمي
غدًا إن شاء اللّه) ،وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أب مَ ْرثَد الغَنَوي.
وف طريقهم إل حني رأوا ِسدْرَة عظيمة خضراء يقال لا :ذات أنْوَاط ،كانت العرب تعلق عليها
أسلحتهم ،ويذبون عندها ويعكفون ،فقال بعض أهل اليش لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم :اجعل لنا
ذات أنواط ،كما لم ذات أنواط .فقال( :اللّه أكب ،قلتم والذي نفس ممد بيده كما قال قوم موسي:
اجعل لنا إلا كما لم آلة ،قال :إنكم قوم تهلون ،إنا السّنَنُ ،لتركب سََننَ من كان قبلكم).
وقد كان بعضهم قال نظرا إل كثرة اليش :لن ُنغْلَبَ اليوم ،وكان قد شق ذلك على رسول اللّه صلى ال
عليه وسلم:
ت بالرماة والهاجي
اليش السلمي يُباغَ ْ
انتهي اليش السلمي إل حني ،الليلة الت بي الثلثاء والربعاء لعشر خلون من شوال ،وكان مالك بن
عوف قد سبقهم ،فأدخل جيشه بالليل ف ذلك الوادي ،وفرق كُمَنَاءه ف الطرق والداخل والشعاب
والخباء والضايق ،وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا السلمي أول ما طلعوا ،ث يشدوا شدة رجل واحد.
سحَر عبأ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم جيشه ،وعقد اللوية والرايات ،وفرقها على الناس ،وف
وبال ّ
عَمَاية الصبح استقبل السلمون وادي حني ،وشرعوا ينحدرون فيه ،وهم ل يدرون بوجود كمناء العدو
ف مضايق هذا الوادي ،فبينا هم ينحطون إذا تطر عليهم النبال ،وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة
رجل واحد ،فانشمر السلمون راجعي ،ل يلوي أحد على أحد ،وكانت هزية منكرة ،حت قال أبو
سفيان بن حرب ،وهو حديث عهد بالسلم :ل تنتهي هزيتهم دون البحر ـ الحر ـ وصرخ جَبَ َلةُ أو
سحْر اليوم.
كَ َل َدةُ بن الَنْبَل :أل بطل ال ّ
واناز رسول اللّه صلى ال عليه وسلم جهة اليمي وهو يقول( :هَ ُلمّوا إل أيها الناس ،أنا رسول ال ،أنا
ممد بن عبد اللّه) ول يبق معه ف موقفه إل عدد قليل من الهاجرين والنصار .تسعة على قول ابن
إسحاق ،واثنا عشر على قول النووي ،والصحيح ما رواه أحد والاكم ف الستدرك من حديث ابن
مسعود ،قال :كنت مع النب صلى ال عليه وسلم يوم حني ،فول عنه الناس وثبت معه ثانون رجلًمن
الهاجرين والنصار ،فكنا على أقدامنا ول نُ َولّهم ال ّدبُر ،وروي الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن
قال :لقد رأيتنا يوم حني وإن الناس لولي ،وما مع رسول اللّه صلى ال عليه وسلممائة رجل.
وحينئذ ظهرت شجاعة النب صلى ال عليه وسلم الت ل نظي لا ،فقد طفق يركض بغلته قبل الكفار وهو
يقول:
بيد أن أبا سفيان بن الارث كان آخذا بلجام بغلته ،والعباس بركابه ،يكفانا أل تسرع ،ث نزل رسول
اللّه صلى ال عليه وسلم فاستنصر ربه قائلً( :اللّهم أنزل نصرك).
وصرفت الدعوة إل النصار :يا معشر النصار ،يا معشر النصار ،ث قصرت الدعوة ف بن الارث بن
الزرج ،وتلحقت كتائب السلمي واحدة تلو الخري كما كانوا تركوا الوقعة ،وتالد الفريقان مالدة
شديدة ،ونظر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إل ساحة القتال ،وقد استحر واحتدم ،فقال( :الن حَمِي
ال َوطِيسُ) .ث أخذ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قبضة من تراب الرض ،فرمي با ف وجوه القوم
وقال( :شاهت الوجوه) ،فما خلق اللّه إنسانا إل ملعينيه ترابا من تلك القبضة ،فلم يزل َحدّهُم كَلِيلً
وأمرهم ُمدْبِرًا.
انكسار حدة العدو وهزيته الساحقة
وما هي إل ساعات قلئل ـ بعد رمي القبضة ـ حت انزم العدو هزية منكرة ،وقتل من ثَقِيف وحدهم
نو السبعي ،وحاز السلمون ما كان مع العدو من مال وسلح و ُظعُن.
وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعال ف قولهَ { :ويَ ْومَ حُنَيْنٍ إِذْ أَ ْعجَبَتْ ُكمْ كَ ْث َرتُ ُكمْ فَ َلمْ تُغْنِ عَن ُكمْ
شَيْئًا وَضَا َقتْ َعلَيْ ُكمُ الَ ْرضُ بِمَا َرحُبَتْ ُثمّ َولّيْتُم ّمدْبِرِينَ ثُمّ َأنَزلَ ال ّلهُ َسكِينََتهُ َعلَى َرسُولِهِ وَعَلَى الْمُ ْؤمِنِيَ
َوأَن َزلَ ُجنُودًا ّلمْ تَرَوْهَا وَع ّذبَ اّلذِينَ كَفَرُواْ وَ َذِلكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [التوبة]26 ،25:
حركة الطاردة
ولا انزم العدو صارت طائفة منهم إل الطائف ،وطائفة إل َنخْلَة ،وطائفة إل أوْطاس ،فأرسل النب صلى
ش الفريقان القتال قليلً ،
ال عليه وسلم إل أوطاس طائفة من الطاردين يقودهم أبو عامرالشعري ،فَتَنَا َو َ
ث انزم جيش الشركي ،وف هذه الناوشة قتل القائد أبو عامر الشعري.
وطاردت طائفة أخري من فرسان السلمي فلول الشركي الذين سلكوا نلة ،فأدركت ُد َرْيدَ بن الصّمّة
فقتله ربيعة بن رُفَيْع.
وأما معظم فلول الشركي الذين لأوا إل الطائف ،فتوجه إليهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بنفسه
بعد أن جع الغنائم.
الغنائم
وكانت الغنائم :السب ستة آلف رأس ،والبل أربعة وعشرون ألفا ،والغنم أكثر من أربعي ألف شاة،
لعْرَانَة ،وجعل عليها
وأربعة آلف أوقية فضة ،أمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بمعها ،ث حبسها با ِ
مسعود بن عمرو الغفاري ،ول يقسمها حت فرغ من غزوة الطائف.
وكانت ف السب الشيماء بنت الارث السعدية ؛ أخت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من الرضاعة،
فلما جيء با إل رسول ال صلى ال عليه وسلم عرفت له نفسها ،فعرفها بعلمة فأكرمها ،وبسط لا
رداءه ،وأجلسها عليه ،ث منّ عليها ،وردّها إل قومها.
غزوة الطائف
وهذه الغزوة ف القيقة امتداد لغزوة حني ،وذلك أن معظم فلول َهوَازن وَثقِيف دخلوا الطائف مع القائد
العام ـ مالك بن عوف النّصْرِي ـ وتصنوا با ،فسار إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد فراغه
من حني وجع الغنائم بالعرانة ،ف الشهر نفسه ـ شوال سنة 8هـ.
وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة ف ألف رجل ،ث سلك رسول اللهصلى ال عليه وسلم إل
الطائف ،فمر ف طريقه على نلة اليمانية ،ث على قَ ْرنِ النازل ،ث على لِّيةَ ،وكان هناك حصن لالك بن
عوف فأمر بدمه ،ث واصل سيه حت انتهي إل الطائف فنل قريبا من حصنه ،وعسكر هناك ،وفرض
الصار على أهل الصن.
ودام الصار مدة غي قليلة ،ففي رواية أنس عند مسلم :أن مدة حصارهم كانت أربعي يوما ،وعند أهل
السي خلف ف ذلك ،فقيل :عشرين يوما ،وقيل :بضعة عشر ،وقيل :ثانية عشر ،وقيل :خسة عشر.
ووقعت ف هذه الدة مراماة ،ومقاذفات ،فالسلمون أول ما فرضوا الصار رماهم أهل الصن رميا
شديدا ،كأنه ِرجْل جراد ،حت أصيب ناس من السلمي براحة ،وقتل منهم اثنا عشر رجلً ،واضطروا إل
الرتفاع عن معسكرهم إل مسجد الطائف اليوم ،فعسكروا هناك.
ونصب النب صلى ال عليه وسلم النجنيق على أهل الطائف ،وقذف به القذائف ،حت وقعت شدخة ف
جدار الصن ،فدخل نفر من السلمي تت دبابة.
ودخلوا با إل الدار ليحرقوه ،فأرسل عليهم العدو سكك الديد مماة بالنار .فخرجوا من تتها،
فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالً.
وأمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ـ كجزء من سياسة الرب للاء العدو إل الستسلم ـ أمر
بقطع العناب وتريقها ،فقطعها السلمون قطعا ذريعا ،فسألته ثقيف أن يدعها للّه والرحم ،فتركها للّه
والرحم.
ونادى مناديه صلى ال عليه وسلم :أيا عبد نزل من الصن وخرج إلينا فهو حر ،فخرج إليهم ثلثة
وعشرون رجلً ،فيهم أبو بكرة ـ تسور حصن الطائف ،وتدل منه ببكرة مستديرة يستقى عليها ،فكناه
رسول اللّه صلى ال عليه وسلم [أبا بكرة] ـ فأعتقهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،ودفع كل رجل
منهم إل رجل من السلمي يونه ،فشق ذلك على أهل الصن مشقة شديدة.
ولا طال الصار واستعصي الصن ،وأصيب السلمون با أصيب من رشق النبال وبسكك الديد الحماة
ـ وكان أهل الصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لصار سنة ـ استشار رسول اللّه صلى ال عليه وسلم
نَوْفَل بن معاوية الدّيلي فقال :هم ثعلب ف جحر ،إن أقمت عليه أخذته وإن تركته ل يضرك ،وحينئذ عزم
رسول اللّه صلى ال عليه وسلم على رفع الصار والرحيل ،فأمر عمر بن الطاب فأذن ف الناس ،إنا
قافلون غدا إن شاء اللّه ،فثقل عليهم وقالوا :نذهب ول نفتحه؟ فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم( :
اغدوا على القتال) ،فغدوا فأصابم جراح ،فقال( :إنا قافلون غدا إن شاء اللّه) فسروا بذلك وأذعنوا،
وجعلوا يرحلون ،ورسول اللّه صلى ال عليه وسلم يضحك.
ولا ارتلوا واستقلوا قال :قولوا( :آيبون تائبون عابدون ،لربنا حامدون).
وقيل :يا رسول اللّه ،ادع على ثقيف ،فقال( :اللّهم اهد ثقيفا ،وائت بم).
لعْرَانَة
قسمة الغنائم با ِ
ولا عاد رسول اللْه صلى ال عليه وسلم بعد رفع الصار عن الطائف مكث بالعرانة بضع عشرة ليلة ل
يقسم الغنائم ،ويتأن با ،يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبي فيحرزوا ما فقدوا ،ولكنه ل يئه أحد ،فبدأ
بقسمة الال ،ليسكت التطلعي من رؤساء القبائل وأشراف مكة ،فكان الؤلفة قلوبم أول من أعطي
وحظي بالنصبة الزلة.
أعطي أبا سفيان بن حرب أربعي أوقية ومائة من البل ،فقال :ابن يزيد؟ فأعطاه مثلها ،فقال :ابن معاوية؟
فأعطاه مثلها ،وأعطي حكيم بن حزام مائة من البل ،ث سأله مائة أخري ،فأعطاه إياها .وأعطي صفوان بن
أمية مائة من البل ،ث مائة ث مائة ـ كذا ف الشفاء ـ وأعطي الارث بن الارث بن كَ َلدَة مائة من
البل ،وكذلك أعطي رجال من رؤساء قريش وغيها مائة مائة من البل وأعطي آخرين خسي خسي
وأربعي أربعي ،حت شاع ف الناس أن ممدا يعطي عطاءً ،ما ياف الفقر ،فازدحت عليه العراب يطلبون
الال حت اضطروه إل شجرة ،فانتزعت رداءه فقال( :أيها الناس ،ردوا علي ردائي ،فو الذي نفسي بيده
لو كان عندي عدد شجر تامة نعما لقسمته عليكم ،ث ما ألفيتمون بيلً ول جبانا ول كذابا).
ث قام إل جنب بعيه فأخذ من سنامه وبرة ،فجعلها بي إصبعه ،ث رفعها ،فقال( :أيها الناس ،واللّه مال
من فيئكم ول هذه الوبرة إل المس ،والمس مردود عليكم).
وبعد إعطاء الؤلفة قلوبم أمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس ،ث
فرضها على الناس ،فكانت سهامهم لكل رجل إما أربعا من البل ،وإما أربعي شاة ،فإن كان فارسا أخذ
اثن عشر بعيا أو عشرين ومائة شاة.
روى ابن إسحاق عن أب سعيد الدري قال :لا أعطي رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ما أعطي من تلك
العطايا ف قريش وف قبائل العرب ،ول يكن ف النصار منها شيءَ ،و َجدَ هذا الي من النصار ف أنفسهم
حت كثرت فيهم القَاَلةُ ،حت قال قائلهم :لقي واللّه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قومه ،فدخل عليه
سعد بن عبادة فقال :يا رسول اللّه ،إن هذا الي من النصار قد وَ َجدُوا عليك ف أنفسهم لا صنعت ف
هذا الفيء الذي أصبت ،قسمت ف قومك ،وأعطيت عطايا عظاما ف قبائل العرب ،ول يك ف هذا الي
من النصار منها شيء.قال( :فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال :يا رسول اللّه ،ما أنا إل من قومي .قال( :
فاجع ل قومك ف هذه الظية) .فخرج سعد فجمع النصار ف تلك الظية ،فجاء رجال من الهاجرين
فتركهم فدخلوا .وجاء آخرون فردهم ،فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال :لقد اجتمع لك هذا الي من
النصار ،فأتاهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فحمد اللّه ،وأثن عليه ،ث قال( :يا معشر النصار ،ما
قَالَهٌ بلغتن عنكم ،وَ ِج َدةٌ وجدتوها على ف أنفسكم؟ أل آتكم ضللً فهداكم اللّه؟ وعالة فأغناكم اللّه؟
وأعداء فألف اللّه بي قلوبكم؟) قالـوا :بلـي ،اللّه ورسولـه أمَنّ وأفْضَلُ.
ث قال( :أل تيبون يا معشر النصار؟) قالوا :باذا نيبك يا رسول اللّه؟ للّه ورسوله الن والفضل .قال( :
صدّقُْتمْ :أتيتنا مُ َك ّذبًا فصدقناك ،ومذولً فنصرناك ،وطريدا فآويناك،
صدَقُْتمْ ول ُ
أما واللّه لو شئتم لقلتم ،ف َ
وعائلً فآ َسيْنَاك).
وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلما ،وهم أربعة عشر رجلً ورأسهم زهي ابن صُرَد ،وفيهم أبو
بُرْقَان عم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من الرضاعة ،فأسلموا وبايعوا ث قالوا :يا رسول اللّه ،إن فيمن
أصبتم المهات والخوات ،والعمات والالت ،وهن مازي القوام:
وذلك ف أبيات .فقال( :إن معي من ترون ،وإن أحب الديث إل أصدقه ،فأبناؤكم ونساؤكم أحب
إليكم أم أموالكم؟) قالوا :ما كنا نعدل بالحساب شيئا .فقال( :إذا صليت الغداة ـ أي صلة الظهر ـ
فقوموا فقولوا :إنا نستشفع برسول اللّه صلى ال عليه وسلم إل الؤمني ،ونستشفع بالؤمني إل رسول
اللّه صلى ال عليه وسلم أن يرد إلينا سبينا) ،فلما صلي الغداة قاموا فقالوا ذلك .فقال رسول اللّه صلى
ال عليه وسلم( :أما ما كان ل ولبن عبد الطلب فهو لكم ،وسأسأل لكم الناس) ،فقال الهاجرون
والنصار :ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم .فقال القْرَع بن حابس :أما أنا وبنو تيم فل.
وقال عُيَيْنَة بن ِحصْن :أما أنا وبنو فَزَارَة فل.وقال العباس بن مِرْدَاس :أما أنا وبنو سُلَيْم فل .فقالت بنو
سليم :ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم .فقال العباس بن مرداس :وهنتمون.
فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم( :إن هؤلء القوم قد جاءوا مسلمي ،وقد كنت استأنيت سَبَْي ُهمْ،
وقد خيتم فلم يعدلوا بالبناء والنساء شيئا ،فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل
ذلك ،ومن أحب أن يستمسك بقه فليد عليهم ،وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء اللّه
علينا) ،فقال الناس :قد طيبنا لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم .فقال( :إنا ل نعرف من رضي منكم من ل
يرض ،فارجعوا حت يرفع إلينا عُرَفَاؤكم أمركم) ،فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم ،ل يتخلف منهم أحد
غي عيينة بن حصن ،فإنه أب أن يرد عجوزا صارت ف يديه منهم ،ث ردها بعد ذلك ،وكسا رسول اللّه
صلى ال عليه وسلم السب قبطية قبطية.
ولا فرغ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من قسمة الغنائم ف الِعْرَانة أهلّ معتمرا منها ،فأدي العمرة،
وانصرف بعد ذلك راجعا إل الدينة بعد أن ول على مكة عَتّاب بن أسيد ،وكان رجوعه إل الدينة
ودخوله فيها لست ليال بقيت من ذي القعدة سنة 8هـ.
البعوث والسرايا بعد الرجوع من غزوة الفتح
وبعد الرجوع من هذا السفر الطويل الناجح أقام رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالدينة يستقبل الوفود،
ويبعث العمال ،ويبث الدعاة ،ويَكْبِتُ من بقي فيه الستكبار عن الدخول ف دين اللّه ،والستسلم للمر
الواقع الذي شاهدته العرب .وهاك صورة مصغرة من ذلك.
الصدقون
قد عرفنا ما تقدم أن رجوع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إل الدينة كان ف أواخر أيام السنة الثامنة،
صدّقي إل
فما هو إل أن استهل هلل الحرم من سنة 9هـ ،وبعث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم الُ َ
القبائل ،وهذه هي قائمتهم:
9ـ الهاجر بن أب أمية إل صنعاء ـ وخرج عليه السود العنسي وهو با.
وليس هؤلء العمال كلهم بعثوا ف الحرم سنة 9هـ ،بل تأخر بعث عدة منهم إل اعتناق السلم من
تلك القبائل الت بعثوا إليها .نعم كانت بداية بعث العمال بذا الهتمام البالغ ف الحرم سنة 9هـ،
وهذا يدل على مدي ناح الدعوة السلمية بعد صلح الديبية ،وأما بعد فتح مكة فقد دخل الناس ف
دين اللّه أفواجا.
السرايا
وكما بعث الصدقون إل القبائل ،مَسّتِ الاجة إل بعث عدة من السرايا مع سيادة المن على عامة
مناطق الزيرة ،وهاك لوحة تلك السرايا:
1ـ سرية عيينة بن حصن الفزاري ـ ف الحرم سنة 9هـ ـ إل بن تيم ،ف خسي فارسا ،ل يكن
فيهم مهاجري ول أنصاري ،وسببها :أن بن تيم كانوا قد أغروا القبائل ،ومنعوهم عن أداء الزية.
وخرج عيينة بن حصن يسي الليل ،ويكمن النهار ،حت هجم عليهم ف الصحراء فول القوم مدبرين،
وأخذ منهم أحد عشر رجلً وإحدي وعشرين امرأة وثلثي صبيا ،وساقهم إل الدينة ،فأنزلوا ف دار َرمْلَة
بنت الارث.
وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم ،فجاءوا إل باب النب صلى ال عليه وسلم فنادوا :يا ممد ،اخرج إلينا،
فخرج ،فتعلقوا به ،وجعلوا يكلمونه ،فوقف معهم ،ث مضي حت صلي الظهر ،ث جلس ف صحن
السجد ،فأظهروا رغبتهم ف الفاخرة والباهاة ،وقدموا خطيبهم ُعطَارِد بن حاجب فتكلم ،فأمر رسول ال
صلى ال عليه وسلم ثابت بن قيس بن شَمّاس ـ خطيب السلم ـ فأجابم ،ث قدموا شاعرهم الزبرقان
بن بدر ،فأنشد مفاخرا ،فأجابه شاعر السلم حسان بن ثابت على البديهة.
ولا فرغ الطيبان والشاعران قال القرع بن حابس :خطيبه أخطب من خطيبنا ،وشاعره أشعر من
شاعرنا ،وأصواتم أعلى من أصواتنا ،وأقوالم أعلى من أقوالنا ،ث أسلموا ،فأجازهم رسول اللّه صلى ال
عليه وسلم ،فأحسن جوائزهم ،ورد عليهم نساءهم وأبناءهم.
2ـ سرية ُقطْبَة بن عامر إل حي من خَ ْثعَم بناحية تَبَالَة ،بالقرب من تُرَبَة ف صفر سنة 9هـ .خرج
قطبة ف عشرين رجلً على عشرة أبعرة يعتقبونا ،فشن الغارة ،فاقتتلوا قتالً شديدا حت كثر الرحى ف
الفريقي جيعا ،وقتل قطبة مع من قتل ،وساق السلمون النّعَم والنساء والشاء إل الدينة.
3ـ سرية الضحاك بن سفيان الكلب إل بن ِكلَب ف ربيع الول سنة 9هـ .بعثت هذه السرية إل
بن كلب ؛ لدعوتم إل السلم ،فأبوا وقاتلوا ،فهزمهم السلمون ،وقتلوا منهم رجلً.
4ـ سرية علقمة بن ُمجَزّرِ ا ُلدْلِجي إل سواحل ُجدّة ف شهر ربيع الخر سنة 9هـ ف ثلثائة.بعثهم إل
رجال من البشة ،كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جدة للقيام بأعمال القَ ْرصَنَة ضد أهل مكة،
فخاض علقمة البحر حت انتهي إل جزيرة ،فلما سعوا بسي السلمي إليهم هربوا.
5ـ سرية على بن أب طالب إل صنم لطيئ يقال له :الفُلْس ـ ليهدمه ـ ف شهر ربيع الول سنة 9
هـ .بعثه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ف خسي ومائة ،على مائة بعي وخسي فرسا ،ومعه راية
سوداء ولواء أبيض ،فشنوا الغارة على ملة آل حات مع الفجر ،فهدموه وملوا أيديهم من السب والنعم
والشاء ،وف السب أخت عدي بن حات ،وهرب عدي إل الشام ،ووجد السلمون ف خزانة الفلس ثلثة
أسياف وثلثة أدرع ،وف الطريق قسموا الغنائم ،وعزلوا الصفي لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم .ول
يقسموا آل حات.
ولا جـاءوا إل الدينة استعطفت أخـت عـدي بـن حات رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،قائلـة :يا
رسول اللّه ،غاب الوافد ،وانقطع الوالد ،وأنا عجوز كبية ،ما ب من خدمة ،فمُنّ على ،منّ اللّه عليك.
قال( :من وافدك؟) قالت :عدي بن حات .،قال( :الذي فر من اللّه ورسوله؟) ث مضي ،فلما كان الغد
قالت مثل ذلك ،وقال لا مثل ما قال أمس .فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك ،فمن عليها ،وكان إل
جنبه رجل ـ تري أنه على ـ فقال لا :سليه الِمْلن فسألته فأمر لا به.
ورجعت أخت عدي بن حات إل أخيها عدي بالشام ،فلما لقيته قالت عن رسول ال صلى ال عليه
وسلم :لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ،ائته راغبا أو راهبا ،فجاءه عدي بغيأمان ول كتاب .فأت به
إل داره ،فلما جلس بي يديه حد اللّه وأثن عليه ،ث قال :ما ُيفِرّكَ؟ أُيفِرّك أن تقول( :ل إله إل اللّه؟ فهل
تعلم من إله سوى اللّه؟) قال :ل .ث تكلم ساعة ث قال( :إنا تفر أن يقال :اللّه أكب ،فهل تعلم شيئا أكب
من ال؟) قال :ل .قال( :فإن اليهود مغضوب عليهم ،وإن النصاري ضالون) .قال :فإن حَنِيف مسلم،
فانبسط وجهه فرحا ،وأمر به فنل عند رجل من النصار ،وجعل يأت النب صلى ال عليه وسلم طرف
النهار.
وف رواية ابن إسحاق عن عدي :أن النب صلى ال عليه وسلم لا أجلسه بي يديه ف داره قال له( :إيه يا
عدي بن حات ،أل تكن َركُوسِيّا؟) قال :قلت :بلي ،قال( :أو ل تكن تسي ف قومك بالِ ْربَاع؟).قال :قلت:
بلي .قال( :فإن ذلك ل يل لك ف دينك) .قال :قلت أجل واللّه .قال :وعرفت أنه نب مرسل ،يعرف ما
يُجْهَل.
وف رواية لحد :أن النب صلى ال عليه وسلم قال( :يا عدي ،أسلم تسلم) .فقلت :إن من أهل دين.
قال( :أنا أعلم بدينك منك) .فقلت :أنت أعلم بدين من؟ قال( :نعم ،ألست من الركوسية ،وأنت تأكل
مرباع قومك؟) فقلت :بلي ،قال( :فإن هذا ل يل لك ف دينك) .قال :فلم يعد أن قالا فتواضعت لا.
وروي البخاري عن عدي قال :بينا أنا عند النب صلى ال عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ،ث
أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل ،فقال( :يا عدي ،هل رأيت الية؟ فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة
ترتل من الية حت تطوف بالكعبة ،ل تاف أحدا إل اللّه ،ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسري،
ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يرج ملء كفه من ذهب أو فضة ،ويطلب من يقبله فل يد أحدا يقبله
منه )...الديث وف آخره :قال عدي :فرأيت الظعينة ترتل من الية حت تطوف بالكعبة ل تاف إل
اللّه .وكنت فيمن افتتح كنوز كسري بن هرمز ،ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النب أبو القاسم
صلى ال عليه وسلم( :يرج ملء كفه).
غـــزوة تبـــوك ف رجب سنة 9هـ
إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بي الق والباطل ،ل يبق بعدها مال للريبة والظن ف رسالة ممد
صلى ال عليه وسلم عند العرب ،ولذلك انقلب الجري تاما ،ودخل الناس ف دين اللّه أفواجا ـ كما
سيظهر ذلك ما نقدمه ف فصل الوفود ،ومن العدد الذي حضر ف حجة الوداع ـ وانتهت التاعب
الداخلية ،واستراح السلمون لتعليم شرائع الّّ ،وبث دعوة السلم.
سبب الغزوة
إل أنه كانت هناك قوة تعرضت للمسلمي من غي مبر ،وهي قوة الرومان ـ أكب قوة عسكرية ظهرت
على وجه الرض ف ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفي رسول
اللّه صلى ال عليه وسلم ـ الارث بن عمي الزدي ـ على يدي شُ َرحْبِيل بن عمرو الغسان ،حينما
كان السفي يمل رسالة النب صلى ال عليه وسلم إل عظيم بُصْرَي ،وأن النب صلى ال عليه وسلم
أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة الت اصطدمت بالرومان اصطداما عنيفا ف مؤتة ،ول تنجح ف أخذ
الثأر من أولئك الظالي التغطرسي ،إل أنا تركت أروع أثر ف نفوس العرب ،قريبهم وبعيدهم.
ول يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لعركة مؤتة من الثر الكبي لصال السلمي ،وعما كان يطمح إليه
بعد ذلك كثي من قبائل العرب من استقللم عن قيصر ،ومواطأتم للمسلمي ،إن هذا كان خطرا يتقدم
ويطو إل حدوده خطوة بعد خطوة ،ويهدد الثغور الشامية الت تاور العرب ،فكان يري أن القضاء يب
على قوة السلمي قبل أن تتجسد ف صورة خطر عظيم ل يكن القضاء عليها ،وقبل أن تثي القلقل
والثورات ف الناطق العربية الجاورة للرومان.
ونظرا إل هذه الصال ،ل يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حت أخذ يهيئ اليش مـن الرومـان
والعرب التابعة لم من آل غسان وغيهم ،وبدأ يهز لعركة دامية فاصلة.
وكانت النباء تترامي إل الدينة بإعداد الرومان ؛ للقيام بغزوة حاسة ضد السلمي ،حت كان الوف
يتسورهم كل حي ،ل يسمعون صوتا غي معتاد إل ويظنونه زحف الرومان.ويظهر ذلك جليا ما وقع
لعمر بن الطاب ،فقد كان النب صلى ال عليه وسلم إل من نسائه شهرا ف هذه السنة ـ 9هـ ـ
وكان هجرهن واعتزل عنهن ف مشربة له ،ول يفطن الصحابة إل حقيقة المر ف بدايته ،فظنوا أن النب
صلى ال عليه وسلم طلقهن ،فسري فيهم الم والزن والقلق .يقول عمر بن الطاب ـ وهو يروي هذه
القصة :وكان ل صاحب من النصار إذا غبت أتان بالب ،وإذا غاب كنت آتية أنا بالب ـ وكانا
يسكنان ف عوال الدينة ،يتناوبان إل النب صلى ال عليه وسلم ـ ونن نتخوف ملكا من ملوك غسان
ذكر لنا أنه يريد أن يسي إلينا ،فقد امتلت صدورنا منه ،فإذا صاحب النصاري يدق الباب ،فقال :افتح،
افتح ،فقلت :جاء الغسان؟ فقال :بل أشد من ذلك ،اعتزل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أزواجه...
الديث.
وف لفظ آخر ـ أنه قال ـ :وكنا تدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا ،فنل صاحب يوم نَ ْوبَِتهِ ،فرجع
عشاء ،فضرب باب ضربا شديدا وقال :أنائم هو؟ ففزعت ،فخرجت إليه ،وقال :حدث أمر عظيم.
فقلت :ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال :ل بل أعظم منه وأطول ،طلق رسول اللّه صلى ال عليه وسلم
نساءه ...الديث.
وهذا يدل على خطورة الوقف ،الذي كان يواجهه السلمون بالنسبة إل الرومان ،ويزيد ذلك تأكدا ما
فعله النافقون حينما نقلت إل الدينة أخبار إعداد الرومان ،فبغم ما رآه هؤلء النافقون من ناح رسول
اللّه صلى ال عليه وسلم ف كل اليادين ،وأنه ل يوجل من سلطان على ظهر الرض ،بل يذيب كل ما
يعترض ف طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ طفق هؤلء النافقون يأملون ف تقق ما كانوا يفونه ف
صدورهم ،وما كانوا يتربصونه من الشر بالسلم وأهله .ونظرا إل قرب تقق آمالم أنشأوا وكرة للدس
والتآمر ،ف صورة مسجد ،وهو مسجد الضّرَار ،أسسوه كفرا وتفريقا بي الؤمني وإرصادا لن حارب
اللّه ورسوله ،وعرضوا على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن يصلي فيه ،وإنا مرامهم بذلك أن يدعوا
الؤمني فل يفطنوا ما يؤت به ف هذا السجد من الدس والؤامرة ضدهم ،ول يلتفتوا إل من يرده ويصدر
عنه ،فيصي وكرة مأمونة لؤلء النافقي ولرفقائهم ف الارج ،ولكن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أخر
الصلة فيه ـ إل قفوله من الغزوة ـ لشغله بالهاز ،ففشلوا ف مرامهم وفضحهم اللّه ،حت قام الرسول
صلى ال عليه وسلم بدم السجد بعد القفول من الغزو ،بدل أن يصلي فيه.
والذي كان يزيد خطورة الوقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد ،وكان الناس ف عسرة وجدب من
البلء وقلة من الظهر ،وكانت الثمار قد طابت ،فكانوا يبون القام ف ثارهم وظللم ،ويكرهون
الشخوص على الال من الزمان الذي هم فيه ،ومع هذا كله كانت السافة بعيدة ،والطريق وعرة صعبة.
ولكن الرسول صلى ال عليه وسلم كان ينظر إل الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله،
إنه كان يري أنه لو توان وتكاسل عن غزو الرومان ف هذه الظروف الاسة ،وترك الرومان لتجوس
خلل الناطق الت كانت تت سيطرة السلم ونفوذه ،وتزحف إل الدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة
السلمية وعلى سعة السلمي العسكرية ،فالاهلية الت تلفظ نفسها الخي بعد ما لقيت من الضربة
القاصمة ف حني ستحيا مرة أخري ،والنافقون الذين يتربصون الدوائر بالسلمي ،ويتصلون بلك الرومان
بواسطة أب عامر الفاسق سيبعجون بطون السلمي بناجرهم من اللف ،ف حي تجم الرومان بملة
ضارية ضد السلمي من المام ،وهكذا يفق كثي من الهود الت بذلا هو أصحابه ف نشر السلم،
وتذهب الكاسب الت حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة ...تذهب هذه
الكاسب بغي جدوي.
كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يعرف كل ذلك جيدا ،ولذلك قرر القيام ـ مع ما كان فيه من
العسرة والشدة ـ بغزوة فاصلة يوضها السلمون ضد الرومان ف حدودهم ،ول يهلونم حت يزحفوا
إل دار السلم.
ول يكن من السلمي أن سعوا صوت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يدعو إل قتال الروم إل وتسابقوا
إل امتثاله ،فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة ،وأخذت القبائل والبطون تبط إل الدينة من كل صوب
وناحية ،ول يرض أحد من السلمي أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إل الذين ف قلوبم مرض وإل ثلثة نفر
ـ حت كان ييء أهل الاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ؛ ليخرجوا إل قتال
جدُواْ مَا يُنفِقُونَ}
الروم ،فإذا قال لم{ :لَ أَ ِجدُ مَا أَحْ ِملُ ُكمْ عَلَ ْيهِ تَ َولّواْ ّوأَعْيُنُ ُهمْ تَفِيضُ مِنَ الدّ ْمعِ َح َزنًا أَلّ يَ ِ
[التوبة.]92:
كما تسابق السلمون ف إنفاق الموال وبذل الصدقات ،كان عثمان بن عفان قد جهز عيا للشام ،مائتا
بعي بأقتابا وأحلسها ،ومائتا أوقية ،فتصدق با ،ث تصدق بائة بعي بأحلسها وأقتابا ،ث جاء بألف دينار
فنثرها ف حجره صلى ال عليه وسلم ،فكان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقلبها ويقول( :ما ضَرّ
عثمان ما عمل بعد اليوم) ،ث تصدق وتصدق حت بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعي ومائة فرس سوى
النقود.
وجاء عبد الرحن بن عوف بائت أوقية فضة ،وجاء أبو بكر باله كلّه ول يترك لهله إل اللّه ورسوله ـ
وكانت أربعة آلف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته .وجاء عمر بنصف ماله ،وجاء العباس بال كثي،
وجاء طلحة وسعد بن عبادة وممد بن مسلمة ،كلهم جاءوا بال .وجاء عاصم بن عدي بتسعي وَ ْسقًا من
التمر ،وتتابع الناس بصدقاتم قليلها وكثيها ،حت كان منهم من أنفق ُمدّا أو مدين ل يكن يستطيع
غيها .وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلخل وقُرْط وخوات.
صدَقَاتِ
ول يسك أحد يده ،ول يبخل باله إل النافقون {الّذِينَ يَ ْلمِزُو َن الْ ُمطّوّعِيَ مِنَ الْمُ ْؤمِنِيَ فِي ال ّ
سخَرُونَ مِنْ ُهمْ}[التوبة.]79 :
وَاّلذِينَ لَ َيجِدُونَ إِلّ جُ ْهدَ ُهمْ فَيَ ْ
اليش السلمي إل تبوك
وهكذا تهز اليش ،فاستعمل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم على الدينة ممد بن مسلمة النصاري،
وقيل :سِبَاع بن عُرْ ُف َطةَ ،وخلف على أهله على بن أب طالب ،وأمره بالقامة فيهم ،وغَ َمصَ عليه النافقون،
فخرج فلحق برسول ال صلى ال عليه وسلم ،فرده إل الدينة وقال( :أل ترضى أن تكون من بنلة
هارون من موسي ،إل أنه ل نب بعدي).
وترك رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يوم الميس نو الشمال يريد تبوك ،ولكن اليش كان كبيا ـ
ثلثون ألف مقاتل ،ل يرج السلمون ف مثل هذا المع الكبي قبله قط ـ فلم يستطع السلمون مع ما
بذلوه من الموال أن يهزوه تهيزا كاملً ،بل كانت ف اليش قلة شديدة بالنسبة إل الزاد والراكب،
فكان ثانية عشر رجلً يعتقبون بعيا واحدا ،وربا أكلوا أوراق الشجار حت تورمت شفاههم ،واضطروا
إل ذبح البعي ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما ف كرشه من الاء ،ولذلك سي هذا اليش جيش العُسْ َرةِ.
لجْر ـ ديار ثود الذين جابوا الصخر بالواد ،أي وادي القُرَى
ومر اليش السلمي ف طريقه إل تبوك با ِ
ـ فاستقي الناس من بئرها ،فلما راحوا قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم( :ل تشربوا من مائها ول
تتوضأوا منه للصلة ،وما كان من عجي عجنتموه فاعلفوه البل ،ول تأكلوا منه شيئا) ،وأمرهم أن
يستقوا من البئر الت كانت تردها ناقة صال رسول ال.
وف الصحيحي عن ابن عمر قال :لا مر النب صلى ال عليه وسلم بالجر قال( :ل تدخلوا مساكن الذين
ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابم إل أن تكونوا باكي) ،ث قَنعَ رأسه وأسرع بالسي حت جاز الوادي.
واشتدت ف الطريق حاجة اليش إل الاء حت شكوا إل رسول اللّه ،فدعا اللّه ،فأرسل اللّه سحابة
فأمطرت حت ارتوي الناس ،واحتملوا حاجاتم من الاء.
ضحَي
ولا قرب من تبوك قال( :إنكم ستأتون غدا إن شاء اللّه تعال عي تبوك ،وإنكم لن تأتوها حت يَ ْ
النهار ،فمن جاءها فل يس من مائها شيئا حت آت) ،قال معاذ :فجئنا وقد سبق إليها رجلن ،والعي تَِبضّ
بشيء من مائها ،فسألما رسول اللّه صلى ال عليه وسلم( :هل مسستما من مائها شيئا؟) قال :نعم .وقال
لما ما شاء اللّه أن يقول .ث غرف من العي قليلً قليلً حت اجتمع الْوَ َشلُ ،ث غسل رسول اللّه صلى ال
عليه وسلم فيه وجهه ويده ،ث أعاده فيها فجرت العي باء كثي ،فاستقي الناس ،ث قال رسول ال صلى
ال عليه وسلم( :يوشك يا معاذ ،إن طالت بك حياة أن تري ماهاهنا قد ملئ جنانا).
وف الطريق أو لا بلغ تبوك ـ على اختلف الروايات ـ قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم( :تب
عليكم الليلة ريح شديدة ،فل يقم أحد منكم ،فمن كان له بعي فليشد ِعقَالَه) ،فهبت ريح شديدة ،فقام
رجل فحملته الريح حت ألقته ببلي طيئ.
وكان دأب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ف الطريق أنه كان يمع بي الظهر والعصر ،وبي الغرب
والعشاء جع التقدي وجع التأخيكليهما.
نزل اليش السلمي بتبوك ،فعسكر هناك ،وهو مستعد للقاء العدو ،وقام رسول اللّه صلى ال عليه
وسلم فيهم خطيبا ،فخطب خطبة بليغة ،أت بوامع الكلم ،وحض على خي الدنيا والخرة ،وحذر وأنذر،
وبشر وأبشر ،حت رفع معنوياتم ،وجب با ما كان فيهم من النقص واللل من حيث قلة الزاد والادة
والؤنة .وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سعوا بزحف رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أخذهم الرعب ،فلم
يترئوا على التقدم واللقاء ،بل تفرقوا ف البلد ف داخل حدودهم ،فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إل
سعة السلمي العسكرية ،ف داخل الزيرة وأرجائها النائية ،وحصل بذلك السلمون على مكاسب سياسية
كبية خطية ،لعلهم ل يكونوا يصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بي اليشي.
جاء ُيحَنّةُ بن ُر ْؤبَةَ صاحب أيْ َلةَ ،فصال الرسول صلى ال عليه وسلم وأعطاه الزية ،وأتاه أهل َج ْربَاء
وأهل أذْرُح ،فأعطوه الزية ،وكتب لم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كتابا فهو عندهم ،وصاله أهل
مِينَاء على ربع ثارها ،وكتب لصاحب أيلة( :بسم اللّه الرحن الرحيم ،هذه أمنة من اللّه وممد النب
رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة ،سفنهم وسياراتم ف الب والبحر لم ذمة اللّه وذمة ممد النب ،ومن
كان معه من أهل الشام وأهل البحر ،فمن أحدث منهم حدثا ،فإنه ل يول ماله دون نفسه ،وإنه طيب لن
أخذه من الناس ،وأنه ل يل أن ينعوا ماء يردونه ،ول طريقا يريدونه من بر أو بر).
وبعث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم خالد بن الوليد إل أُكَ ْيدِرِ دُومَة الَ ْندَل ف أربعمائة وعشرين
فارسا ،وقال له( :إنك ستجده يصيد البقر) ،فأتاه خالد ،فلما كان من حصنه بنظر العي ،خرجت بقرة،
تك بقرونا باب القصر ،فخرج أكيدر لصيدها ـ وكانت ليلة مقمرة ـ فتلقاه خالد ف خيله ،فأخذه
وجاء به إل رسول اللّهصلى ال عليه وسلم ،فحقن دمه ،وصاله على ألفي بعي ،وثانائة رأس وأربعمائة
درع ،وأربعمائة رمح ،وأقر بإعطاء الزية ،فقاضاه مع ُيحَنّة على قضية دُومَة وتبوك وأيْ َلةَ َوتَيْماء.
وأيقنت القبائل الت كانت تعمل لساب الرومان أن اعتمادها على سادتا القدمي قد فات أوانه،
فانقلبت لصال السلمي ،وهكذا توسعت حدود الدولة السلمية ،حت لقت حدود الرومان مباشرة،
وشهد عملء الرومان نايتهم إل حد كبي.
الرجوع إل الدينة
ورجع اليش السلمي من تبوك مظفرين منصورين ،ل ينالوا كيدا ،وكفي ال الؤمني القتال ،وف الطريق
عند عقبة حاول اثنا عشر رجلً من النافقي الفتك بالنب صلى ال عليه وسلم ،وذلك أنه حينما كان ير
بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته ،وحذيفة ابن اليمان يسوقها ،وأخذ الناس ببطن الوادي،
فانتهز أولئك النافقون هذه الفرصة .فبينما رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وصاحباه يسيان إذ سعوا
حجَن كان
وكزة القوم من ورائهم ،قد غشوه وهم ملتثمون ،فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم ِب ْ
معه ،فأرعبهم اللّه ،فأسرعوا ف الفرار حت لقوا بالقوم ،وأخب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم
بأسائهم ،وبا هوا به ،فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سـر رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وف
ذلك يقول اللّه تعال{ :وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة.]74:
ولا لحت للنب صلى ال عليه وسلم معال الدينة من بعيد قال( :هذه طَابَةُ ،وهذا أ ُحدٌ ،جبل يبنا ونبه)،
وتسامع الناس بقدمه ،فخرج النساء والصبيان والولئد يقابلن اليش بفاوة بالغة ويقلن:
وكانت عودته صلى ال عليه وسلم من تبوك ودخوله ف الدينة ف رجب سنة 9هـ ،واستغرقت هذه
الغزوة خسي يوما ،أقام منها عشرين يوما ف تبوك ،والبواقي قضاها ف الطريق جيئة وذهوبًا .وكانت هذه
الغزوة آخر غزواته صلى ال عليه وسلم.
ا ُلخَلّفون
وكانت هذه الغزوة ـ لظروفها الاصة با ـ اختبارا شديدا من اللّه ،امتاز به الؤمنون من غيهم ،كما
هي سنته تعال ف مثل هذه الواطن ،حيث يقول{ :مّا كَانَ ال ّلهُ لَِيذَ َر الْمُ ْؤمِنِيَ َعلَى مَآ أَنتُمْ عَلَ ْيهِ حَتّىَ يَمِيزَ
اْلخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ}[ آل عمران .]179:فقد خرج لذه الغزوة كل من كان مؤمنا صادقا ،حت صار
التخلف أمارة على نفاق الرجل ،فكان الرجل إذا تلف وذكروه لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال
لم( :دعوه ،فإن يكن فيه خي فسيلحقه اللّه بكم ،وإن يكن غي ذلك فقد أراحكم منه) ،فلم يتخلف إل
من حبسهم العذر ،أو الذين كذبوا اللّه ورسوله من النافقي ،الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذبا،
أو قعدوا ول يستأذنوا رأسا .نعم كان هناك ثلثة نفر من الؤمني الصادقي تلفوا من غي مبر ،وهم
الذين أبلهم اللّه ،ث تاب عليهم.
ولا دخل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم الدينة بدأ بالسجد ،فصلي فيه ركعتي ،ث جلس للناس ،فأما
النافقون ـ وهم بضعة وثانون رجلً ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شت من العذار ،وطفقوا يلفون له،
فقبل منهم علنيتهم ،وبايعهم ،واستغفر لم ،ووكل سرائرهم إل اللّه.
وأما النفر الثلثة من الؤمني الصادقي ـ وهم كعب بن مالك ،ومُرَارَة بن الربيع ،وهلل بن أمية ـ
فاختاروا الصدق ،فأمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم الصحابة أل يكلموا هؤلء الثلثة ،وجرت ضد
هؤلء الثلثة مقاطعة شديدة ،وتغي لم الناس ،حت تنكرت لم الرض ،وضاقت عليهم با رحبت،
وضاقت عليهم أنفسهم ،وبلغت بم الشدة إل أنم بعد أن قضوا أربعي ليلة من بداية القاطعة أمروا أن
لثَ ِة الّذِينَ خُ ّلفُواْ
يعتزلوا نساءهم ،حت تت على مقاطعتهم خسون ليلة ،ث أنزل اللّه توبتهم{ :وَ َعلَى الّث َ
جأَ مِنَ ال ّلهِ إِلّ ِإلَ ْيهِ ثُمّ
حَتّى إِذَا ضَا َقتْ َعلَيْ ِهمُ ا َل ْرضُ بِمَا َرحُبَتْ وَضَا َقتْ عَلَيْ ِهمْ أَنفُسُ ُهمْ َوظَنّواْ أَن لّ مَ ْل َ
ب الرّحِيمُ} [التوبة.]118:
تَابَ َعلَيْ ِهمْ لِيَتُوبُواْ ِإنّ ال ّلهَ هُ َو التّوّا ُ
وفرح السلمون ،وفرح الثلثة فرحا ل يقاس مداه وغايته ،فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا
وتصدقوا ،وكان أسعد يوم من أيام حياتم.
أثر الغزوة
وكان لذه الغزوة أعظم أثر ف بسط نفوذ السلمي وتقويته على جزيرة العرب ،فقد تبي للناس أنه ليس
لي قوة من القوات أن تعيش ف العرب سوي قوة السلم ،وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك ف
قلوب بقايا الاهليي والنافقي الذين كانوا يتربصون الدوائر بالسلمي ،وكانوا قد عقدوا آمالم
بالرومان ،فقد استكانوا بعد هذه الغزوة ،واستسلموا للمر الواقع ،الذي ل يدوا عنه ميدا ول مناصا.
ولذلك ل يبق للمنافقي أن يعاملهم السلمون بالرفق واللي ،وقد أمر اللّه بالتشديد عليهم ،حت ني عن
قبول صدقاتم ،وعن الصلة عليهم ،والستغفار لم والقيام على قبهم ،وأمر بدم وكرة دسهم وتآمرهم
الت بنوها باسم السجد ،وأنزل فيهم آيات افتضحوا با افتضاحا تاما ،ل يبق ف معرفتهم بعدها أي خفاء،
كأن اليات قد نصت على أسائهم لن يسكن بالدينة.
ويعرف مدي أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت ف التوافد إل رسول اللّه صلى ال عليه
وسلم بعد غزوة فتح مكة ،بل وما قبلها ،إل أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إل القمة بعد هذه الغزوة.
نزلت آيات كثية من سورة براءة حول موضوع الغزوة ،نزل بعضها قبل الروج ،وبعضها بعد الروج
ـ وهو ف السفر ـ وبعض آخر منها بعد الرجوع إل الدينة ،وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة،
وفضح النافقي ،وفضل الجاهدين والخلصي ،وقبول التوبة من الؤمني الصادقي ،الارجي منهم ف
الغزوة والتخلفي ،إل غي ذلك من المور.
1ـ بعد قدوم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من تبوك وقع اللعان بي عُ َويْمِر ال َعجْلن وامرأته.
2ـ رجت الرأة الغامدية ،الت جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة ،رجت بعدما فطمت ابنها.
صحَمَة ،ملك البشة ،ف رجب ،وصلي عليه رسول ال صلة الغائب ف الدينة.
3ـ توف النجاشي أ ْ
4ـ توفيت أم كلثوم بنت النب صلى ال عليه وسلم ف شعبان ،فحزن عليها حزنا شديدا ،وقال
لعثمان( :لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها).
5ـ مات رأس النافقي عبد اللّه بن أب بن سَلُول بعد مرجع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من تبوك،
فاستغفر له رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،وصلي عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصلة عليه ،وقد
نزل القرآن بعد ذلك بوافقة عمر.
حج أب بكر رضي ال عنه
نظرة على الغزوات
الناس يدخلون ف دين اللّه أفواجا
الـوفـــود
وف ذي القعدة أو ذي الجــة من نفس السنة ـ 9هـ ـ بعث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم
أبــا بكر الصديق رضي ال عنه أميا على الج ،ليقيم بالسلمي الناسك.
ث نزلت أوائل سورة براءة بنقض الواثيق ونبذها على سواء ،فبعث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم على
بن أب طالب ليؤدي عنه ذلك ،وذلك تشيا منه على عادة العرب ف عهود الدماء والموال ،فالتقي على
ضجْنَان ،فقال أبو بكر :أمي أو مأمور؟ قال علي :ل ،بل مأمور .ث مضيا ،وأقام أبو
بأب بكر بالعَرْج أو ب َ
بكر للناس حجهم ،حت إذا كان يوم النحر ،قام على بن أب طالب عند المرة ،فأذن ف الناس بالذي
أمره رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،ونبذ إل كل ذي عهد عهده ،وأجل لم أربعة شهور ،وكذلك أجل
أربعة أشهر لن ل يكن له عهد ،وأما الذين ل ينقصوا السلمي شيئا ،ول يظاهروا عليهم أحدا فأبقي
عهدهم إل مدتم.
وبعث أبو بكر رضي ال عنه رجالً ينادون ف الناس :أل ل يج بعد هذا العام مشرك ،ول يطوف بالبيت
عُ ْريَان.
وكان هذا النداء بثابة إعلن ناية الوثنية ف جزيرة العرب ،وأنا ل تُ ْبدِئُ ول ُتعِيدُ بعد هذا العام.
إذا نظرنا إل غزوات النب صلى ال عليه وسلم وبعوثه وسراياه ،ل يكن لنا ول لحد من ينظر ف
أوضاع الروب وآثارها وخلفياتا ـ ل يكن لنا إل أن نقول:
إن النب صلى ال عليه وسلم كان أكب قائد عسكري ف الدنيا ،وأشدهم وأعمقهم فراسة وتيقظا ،إنه
صاحب عبقرية فذة ف هذا الوصف ،كما كان سيد الرسل وأعظمهم ف صفة النبوة والرسالة ،فلم يض
معركة من العارك إل ف الظرف ومن الهة اللذين يقتضيهما الزم والشجاعة والتدبي ،ولذلك ل يفشل
ف أي معركة من العارك الت خاضها لغلطة ف الكمة وما إليها من تعبئة اليش وتعيينه على الراكز
الستراتيجية ،واحتلل أفضل الواضع وأوثقها للمجابة ،واختيار أفضل خطة لدارة دفة القتال ،بل أثبت
ف كل ذلك أن له نوعا آخر من القيادة غي ما عرفتها الدنيا ف القواد .ول يقع ما وقع ف أُحد وحني إل
من بعض الضعف ف أفراد اليش ـ ف حني ـ أو من جهة معصيتهم أوامره وتركهم التقيد واللتزام
بالكمة والطة اللتي كان أوجبهما عليهم من حيث الوجهه العسكرية.
وقد تلت عبقريته صلى ال عليه وسلم ف هاتي الغزوتي عند هزية السلمي ،فقد ثبت مابا للعدو،
واستطاع بكمته الفذة أن ييبهم ف أهدافهم ـ كما فعل ف أحد ـ أو يغي مري الرب حت يبدل
الزية انتصارا ـ كما ف حني ـ مع أن مثل هذا التطور الطي ،ومثل هذه الزية الساحقة تأخذان
بشاعر القواد ،وتتركان على أعصابم أسوأ أثر ،ل يبقي لم بعد ذلك إل هم النجاة بأنفسهم.
هذه من ناحية القيادة العسكرية الالصة ،أما من نواح أخري ،فإنه استطاع بذه الغزوات فرض المن
وبسط السلم ،وإطفاء نار الفتنة ،وكسر شوكة العداء ف صراع السلم والوثنية ،وإلائهم إل
الصالة ،وتلية السبيل لنشر الدعوة ،كما استطاع أن يتعرف على الخلصي من أصحابه من هو يبطن
النفاق ،ويضمر نوازع الغدر واليانة.
وقد أنشأ طائفة كبية من القواد ،الذين لقوا بعده الفرس والرومان ف ميادين العراق والشام ،ففاقوهم ف
تطيط الروب وإدارة دفة القتال ،حت استطاعوا إجلءهم من أرضهم وديارهم وأموالم من جنات
وعيون وزروع ومقام كري ونعمة كانوا فيها فاكيهن.
كما استطاع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بفضل هذه الغزوات أن يوفر السكن والرض والرف
والشاغل للمسلمي ،حت تَفَصّي من كثي من مشاكل اللجئي الذين ل يكن لم مال ول دار ،وهيأ
السلح والكُرَاع والعدة والنفقات ،حصل على كل ذلك من غي أن يقوم بثقال ذرة من الظلم والطغيان
والبغي والعدوان على عباد اللّه.
وقد غي أغراض الروب وأهدافها الت كانت تضطرم نار الرب لجلها ف الاهلية ،فبينما كانت الرب
عبارة عن النهب والسلب والقتل والغارة والظلم والبغي والعدوان ،وأخذ الثأر ،والفوز بالوَتَر ،وكبت
الضعيف ،وتريب العمران ،وتدمي البنيان ،وهتك حرمات النساء ،والقسوة بالضعاف والولئد
والصبيان ،وإهلك الرث والنسل ،والعبث والفساد ف الرض ـ ف الاهلية ـ إذ صارت هذه الرب
ـ ف السلم ـ جهادا ف تقيق أهداف نبيلة ،وأغراض سامية ،وغايات ممودة ،يعتز با الجتمع
النسان ف كل زمان ومكان ،فقد صارت الرب جهادا ف تليص النسان من نظام القهر والعدوان ،إل
نظام العدالة والنّصَف ،من نظام يأكل فيه القوي الضعيف ،إل نظام يصي فيه القوي ضعيفا حت يؤخذ
ض َعفِيَ مِ َن الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِْلدَا ِن الّذِينَ َيقُولُونَ َربّنَا أَخْرِ ْجنَا
منه ،وصارت جهادا ف تليص {وَالْمُسْتَ ْ
مِنْ هَـ ِذهِ اْلقَ ْريَةِ الظّالِمِ أَ ْهلُهَا وَا ْجعَل لّنَا مِن ّلدُنكَ َولِيّا وَا ْجعَل لّنَا مِن ّلدُنكَ نَصِيًا} [النساء.]75:
وصارت جهادا ف تطهي أرض اللّه من الغدر واليانة والث والعدوان ،إل بسط المن والسلمة والرأفة
والرحة ومراعاة القوق والروءة.
كما شرع للحروب قواعد شريفة ألزم التقيد با على جنوده وقوادها ،ول يسمح لم الروج عنها بال.
روي سليمان بن بريدة عن أبيه قال :كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إذا أمر أميا على جيش أو
سرية أوصاه ف خاصته بتقوي اللّه عز وجل ،ومن معه من السلمي خيا ،ث قال( :اغزوا بسم اللّه ،ف
سبيل اللّه ،قاتلوا من كفر باللّه ،اغزوا ،فل تغلوا ،ولتغدروا ،ول تثلوا ،ول تقتلوا وليدا )...الديث.
وكان يأمر بالتيسي ويقول( :يسروا ول تعسروا ،وسكنوا ول تنفروا).
وكان إذا جاء قوما بِلَيْل ل ُيغِرْ عليهم حت يُصبِح ،وني أشد النهي عن التحريق ف النار ،وني عن قتل
الصب ،وقتل النساء وضربن ،وني عن النهب حت قال( :إن النّهْبَى ليست بأحل من اليتة) ،وني عن
إهلك الرث والنسل وقطع الشجار إل إذا اشتدت إليها الاجة ،ول يبقي سواه سبيل .وقال عند فتح
مكة( :ل تهزن على جريح ،ول تتبعن مدبرا ،ول تقتلن أسيا) ،وأمضى السنة بأن السفي ل يقتل،
وشدد ف النهي عن قتل العاهدين حت قال( :من قتل معاهدا ل يُ ِرحْ رائحة النة ،وإن ريها لتوجد من
مسية أربعي عاما) ،إل غي ذلك من القواعد النبيلة الت طهرت الروب من أدران الاهلية حت جعلتها
جهادا مقدسا.
كانت غزوة فتح مكة ـ كما قلنا ـ معركة فاصلة ،قضت على الوثنية قضاء باتا ،عرفت العرب لجلها
الق من الباطل ،وزالت عنهم الشبهات ،فتسارعوا إل اعتناق السلم .قال عمرو بن سلمة :كنا باء مر
الناس ،وكان ير بنا الركبان فنسألم :ماللناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ ـ أي النب صلى ال عليه
وسلم ـ فيقولون :يزعم أن اللّه أرسله ،أوحي إليه ،أوحي اللّه كذا ،فكنت أحفظ ذاك الكلم ،فكأنا يقر
ف صدري ،وكانت العرب تلوم بإسلمهم الفتح ،فيقولون :اتركوه وقومه ،فإنه إن ظهر عليهم فهو نب
صادق .فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلمهم ،وبدر أب قومي بإسلمهم ،فلما قدم قال:
جئتكم واللّه من عند النب صلى ال عليه وسلم حقا .فقال :صلوا صلة كذا ف حي كذا ،وصلة كذا ف
حي كذا ،فإذا حضرت الصلة فليؤذن أحدكم ،وليؤمكم أكثركم قرآنا ...الديث.
وهذا الديث يدل مدي أثر فتح مكة ف تطوير الظروف ،وتعزيز السلم ،وتعيي الوقف للعرب،
واستسلمهم للسلم ،وتأكد ذلك أي تأكد بعد غزوة تبوك ،ولذلك نري الوفود تقصد الدينة تتري ف
هذين العامي ـ التاسع والعاشر ـ ونري الناس يدخلون ف دين اللّه أفواجا ،حت إن اليش السلمي
الذي كان قوامه عشرة آلف مقاتل ف غزوة الفتح ،إذا هو يزخر ف ثلثي ألف مقاتل ف غزوة تبوك قبل
أن يضي على فتح مكة عام كامل ،ث نري ف حجة الوداع برا من رجال السلم ـ مائة ألف من الناس
أو مائة ألف وأربعة وأربعون ألفا منهم ـ يوج حول رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالتلبية والتكبي
والتسبيح والتحميد ،تدوي له الفاق ،وترتج له الرجاء.
الـوفـــود
والوفود الت سردها أهل الغازي يزيد عددها على سبعي وفدا ،ول يكن لنا استقصاءها ،وليس كبي
فائدة ف بسط تفاصيلها ،وإنا نذكر منها إجالً ماله روعة أو أهية ف التاريخ ،وليكن على ذكر من
القارئ أن وفادة عامة القبائل وإن كانت بعد الفتح ،ولكن هناك قبائل توافدت قبله أيضا:
لذَامي:
3ـ رسول فَرْوَة بن عمرو ا ُ
كان فروة قائدا عربيا من قواد الرومان ،عاملً لم على من يليهم من العرب ،وكان منله َمعَان وما حوله
من أرض الشام ،أسلم بعد ما رأي من جلد السلمي وشجاعتهم ،وصدقهم اللقاء ف معركة مؤتة سنة 8
هـ ،ولا أسلم بعث إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رسولً بإسلمه ،وأهدي له بغلة بيضاء ،ولا علم
الروم بإسلمه أخذوه فحبسوه ،ث خيوه بي الردة والوت ،فاختار الوت على الردة ،فصلبوه بفلسطي
على ماء يقال له :عفراء ،وضربوا عنقه.
صدَاء:
4ـ وفد ُ
لعْرَانة سنة 8هـ ،وذلك أن
جاء هذا الوفد عقب انصراف رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من ا ِ
رسول اللّّه صلى ال عليه وسلم هيأ بعثا من أربعمائة من السلمي ،وأمرهم أن يطأوا ناحية من اليمن فيها
صدْرِ قَنَاة علم به زياد بن الارث الصدائي ،فجاء إل رسول اللّه
صدَاء ،وبينما ذلك البعث معسكر ب َ
ُ
صلى ال عليه وسلم فقال :جئتك وافدا على مَنْ ورائي ،فاردد اليش وأنا لك بقومي ،فرد اليش من
صدر قناة ،وجاء الصدائي إل قومه فرغبهم ف القدوم على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،فقدم عليه
خسة عشر رجلً منهم ،وبايعوه على السلم ،ث رجعوا إل قومهم ،فدعوهم ففشا فيهم السلم ،فواف
رسول اللّه صلى ال عليه وسلم منهم مائة رجل ف حجة الوداع.
بانت سعاد فقلب اليوم مَتْبُول ** مُتَّيمٌ إثْرَهَا ،ل ُي ْفدَ ،مَكْبُول
قال فيها ـ وهو يعتذر إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،ويدحه:
مهل هداك الذي أعطاك نافلة الـ ** قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
من ضيغم بضراء الرض مدرة ** ف بطن عثر غيل دونه غيل
يشون مَشْي المال الزّ ْهرِ يعصمهم ** ضَ ْربٌ إذا َعرّد السّودُ التّنَابِيل
فلما أسلم وحسن إسلمه مدح النصار ف قصيدة له ،وتدارك ما كان قد فرط منه ف شأنم ،قال ف تلك
القصيدة:
فلما قدموا على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ضرب عليهم قبة ف ناحية السجد ،لكي يسمعوا
القرآن ،ويروا الناس إذا صلوا ،ومكثوا يتلفون إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،وهو يدعوهم إل
السلم ،حت سأل رئيسهم أن يكتب لم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قضية صلح بينه وبي ثقيف،
يأذن لم فيه بالزنا وشرب المور وأكل الربا ،ويترك لم طاغيتهم اللت ،وأن يعفيهم من الصلة ،وأل
يكسروا أصنامهم بأيديهم ،فأب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن يقبل شيئا من ذلك ،فخلوا وتشاوروا
فلم يدوا ميصا عن الستسلم لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،فاستسلموا وأسلموا ،واشترطوا أن
يتول رسول اللّه صلى ال عليه وسلم هدم اللت ،وأن ثقيفا ل يهدمونا بأيديهم أبدا .فقبل ذلك ،وكتب
لم كتابا ،وأمر عليهم عثمان بن أب العاص الثقفي ؛ لنه كان أحرصهم على التفقه ف السلم وتعلم
الدين والقرآن .وذلك أن الوفد كانوا كل يوم يغدون إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،ويلفون
عثمان بن أب العاص ف رحالم ،فإذا رجعوا وقالوا بالاجرة عمد عثمان بن أب العاص إل رسول اللّه
صلى ال عليه وسلم فاستقرأه القرآن ،وسأله عن الدين ،وإذا وجده نائما عمد إل أب بكر لنفس الغرض
(وكان من أعظم الناس بركة لقومه ف زمن الردة ،فإن ثقيفا لا عزمت على الردة قال لم :يا معشر
ثقيف ،كنتم آخر الناس إسلما ،فل تكونوا أول الناس ردة ،فامتنعوا عن الردة ،وثبتوا على السلم).
ورجع الوفد إل قومه فكتمهم القيقة ،وخوفهم بالرب والقتال ،وأظهر الزن والكآبة ،وأن رسول اللّه
صلى ال عليه وسلم سألم السلم وترك الزنا والمر والربا وغيها وإل يقاتلهم .فأخذت ثقيفا نوة
الاهلية ،فمكثوا يومي أو ثلثة يريدون القتال ،ث ألقي اللّه ف قلوبم الرعب ،وقالوا للوفد :ارجعوا إليه
فأعطوه ما سأل .وحينئذ أبدي الوفد حقيقة المر ،وأظهروا ما صالوا عليه ،فأسلمت ثقيف.
وبعث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رجالً لدم اللت ،أمر عليهم خالد بن الوليد ،فقام الغية ابن
شعبة ،فأخذ الكُرْزِين وقال لصحابه :واللّه لضحكنكم من ثقيف ،فضرب بالكرزين ،ث سقط يركض،
فارتج أهل الطائف ،وقالوا :أبعد اللّه الغية ،قتلته ال ّربّةُ ،فوثب الغية فقال :قبحكم اللّه ،إنا هي لُكَاع
حجارة و َمدَر ،ث ضرب الباب فكسره ،ث عل أعلى سورها ،وعل الرجال فهدموها وسووها بالرض
حت حفروا أساسها ،وأخرجوا حليها ولباسها ،فبهتت ثقيف ،ورجع خالد مع مفرزته إل رسول اللّْه صلى
ال عليه وسلم بليها وكسوتا ،فقسمها رسول ال صلى ال عليه وسلم من يومه ،وحد ال على نصرة
نبيه وإعزاز دينه.
وكانت وفادة أهل نران سنة 9هـ ،وقوام الوفد ستون رجلً منهم أربعة وعشرون من الشراف ،فيهم
ثلثة كانت إليهم زعامة أهل نران .أحدهمْ :العَاقِب ،كانت إليه المارة والكومة ،واسه عبد السيح.
والثان :السيد ،كانت تت إشرافه المور الثقافية والسياسية ،واسه اليْهَم أو شُ َرحِْبيل .والثالث:
السْقف ،وكانت إليه الزعامة الدينية ،والقيادة الروحانية ،واسه أبو حارثة بن علقمة.
ولا نزل الوفد بالدينة ،ولقي النب صلى ال عليه وسلم سألم وسألوه ،ث دعاهم إل السلم ،وتل عليهم
القرآن فامتنعوا ،وسألوه عما يقول ف عيسي عليه السلم ،فمكث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يومه
ذلك حت نزل عليه{ :إِنّ مََثلَ عِيسَى عِندَ ال ّلهِ كَمَثَلِ آ َدمَ خَ َل َقهُ مِن تُرَابٍ ِثمّ قَالَ َلهُ كُن فَيَكُونُ اْلحَقّ مِن
ّرّبكَ َفلَ تَكُن مّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآ ّجكَ فِيهِ مِن بَ ْعدِ مَا جَاءكَ مِنَ اْلعِ ْلمِ َفقُلْ َتعَالَ ْواْ نَ ْدعُ َأبْنَاءنَا َوأَبْنَاء ُكمْ
جعَل ّلعْنَةُ ال ّلهِ َعلَى الْكَا ِذبِيَ} [آل عمران61 :59:
َونِسَاءنَا َونِسَاء ُكمْ َوأَنفُسَنَا وأَنفُسَ ُكمْ ثُمّ نَبْتَ ِهلْ فََن ْ
].
ولا أصبح رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أخبهم بقوله ف عيسي ابن مري ف ضوء هذه الية الكرية،
وتركهم ذلك اليوم ؛ ليفكروا ف أمرهم ،فأبوا أن يقروا با قال ف عيسي .فلما أصبحوا وقد أبوا عن
قبول ما عرض عليهم من قوله ف عيسي ،وأبوا عن السلم دعاهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إل
الباهلة ،وأقبل مشتملً على السن والسي ف خَمِيل له ،وفاطمة تشي عند ظهره ،فلما رأوا منه الد
والتهيؤ خلوا وتشاوروا ،فقال كل من العاقب والسيد للخر :ل تفعل ،فو اللّه لئن كان نبيا َفلَعََننَا ل
نفلح نن ول عقبنا من بعدنا ،فل يبقي على وجه الرض منا شعرة ول ُظفْر إل هلك ،ث اجتمع رأيهم
على تكيم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ف أمرهم ،فجاءوا وقالوا :إنا نعطيك ما سألتنا .فقبل رسول
اللّه صلى ال عليه وسلم منهم الزية ،وصالهم على ألفي ُحلّة :ألف ف رجب ،وألف ف صفر ،ومع كل
حلة أوقية ،وأعطاهم ذمة اللّه وذمة رسوله .وترك لم الرية الكاملة ف دينهم ،وكتب لم بذلك كتابا،
وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلً أمينا ،فبعث عليهم أمي هذه المة أبا عبيدة بن الراح؛ ليقبض مال
الصلح.
ث طفق السلم يفشو فيهم ،فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعد ما رجعا إل نران ،وأن النب صلى
ال عليه وسلم بعث إليهم عليّا ؛ ليأتيه بصدقاتم وجزيتهم ،ومعلوم أن الصدقة إنا تؤخذ من السلمي.
وكان النب صلى ال عليه وسلم قد أري قبل ذلك ف النام أنه أت بزائن الرض ،فوقع ف يديه سواران
من ذهب ،فكبا عليه وأهاه ،فأوحي إليه أن انفخهما فنفخهما فذهبا ،فأ ّولَهُمَا كذابي يرجان من بعده،
فلما صدر من مسيلمة ما صدر من الستنكاف ـ وقد كان يقول :إن جعل ل ممد المر من بعده تبعته
ـ جاءه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وف يده قطعة من جريد ،ومعه خطيبه ثابت بن قيس بن شَمّاس،
حت وقف على مسيلمة ف أصحابه ،فكلمه ،فقال له مسيلمة :إن شئت خلينا بينك وبي المر ،ث جعلته
لنا بعدك ،فقال( :لو سألتن هذه القطعة ما أعطيتكها ،ولن تعدو أمر اللّه فيك ،ولئن أدبرتَ ليعقرنك اللّه،
واللّه إن لراك الذي أرِيتُ فيه ما رأيتُ ،وهذا ثابت ييبك عن) ،ث انصرف.
وأخيا وقع ما تَفَ ّرسَ فيه النب صلى ال عليه وسلم ،فإن مسيلمة لا رجع إل اليَمَامة بقي يفكر ف أمره،
حت ادعي أنه أشرك ف المر مع النب صلى ال عليه وسلم ،فادعي النبوة ،وجعل يسجع السجعات،
وأحل لقومه المر والزنا ،وهو مع ذلك يشهد لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنه نب ،وافتت به قومه
فتبعوه وأصفقوا معه ،حت تفاقم أمره ،فكان يقال له :رحان اليمامة لعظم قدره فيهم ،وكتب إل رسول
اللّه صلى ال عليه وسلم كتابا قال فيه :إن أشركت ف المر معك ،وإن لنا نصف المر ،ولقريش نصف
المر ،فرد عليه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بكتاب قال فيه( :إن الرض للّه يورثها من يشاء من
عباده ،والعاقبة للمتقي).
وعن ابن مسعود :جاء ابن النّوّاحَة ،وابن ُأثَال رسول مسيلمة إل النب صلى ال عليه وسلم ،فقال لما( :
أتشهدان أن رسول اللّّه؟) فقال :نشهد أن مسيلمة رسول اللّه .فقال النب صلى ال عليه وسلم( :آمنت
باللّه ورسوله ،لو كنت قاتلً رسولً لقتلتكما).
كان ادعاء مسيلمة النبوة سنة عشر ،وقتل ف حرب اليمامة ف عهد أب بكر الصديق رضي ال عنه ف
ربيع الول سنة 21هـ ،قتله وَ ْحشِي قاتل حزة.وأما التنبئ الثان ،وهو السود العَنْسِي الذي كان
باليمن ،فقتله فَيْرُوز ،واحتز رأسه قبل وفاة النب صلى ال عليه وسلم بيوم وليلة ،فأتاه الوحي فأخب به
أصحابه ،ث جاء الب من اليمن إل أب بكر رضي ال عنه.
صعَة:
صعْ َ
14ـ وفد بن عامر بن َ
كان فيهم عامر بن ال ّطفَيْل عدو اللّه وأ ْربَد بن قيس ـ أخو لَبِيد لمه ـ وخالد بن جعفر ،وجَبّار بن
أسلم ،وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم ،وكان عامر هو الذي غدر بأصحاب بئر َمعُونة ،فلما أراد هذا
الوفد أن يقدم الدينة تآمر عامر وأربد ،واتفقا على الفتك بالنب صلى ال عليه وسلم ،فلما جاء الوفد
جعل عامر يكلم النب صلى ال عليه وسلم ،ودار أربد خلفه ،واخترط سيفه شبا ،ث حبس اللّه يده فلم
يقدر على سله ،وعصم اللّه نبيه ،ودعا عليهما النب صلى ال عليه وسلم ،فلما رجعا أرسل اللّه على أربد
وجله صاعقة فأحرقته ،وأما عامر فنل على امرأة سَلُولِيّةٍ ،فأصيب ب ُغ ّدةٍ ف عنقه فمات وهو يقول :أغدة
كغدة البعي ،وموتا ف بيت السلولية.
وف صحيح البخاري :أن عامرا أت النب صلى ال عليه وسلم فقال :أُخَيّ ُركَ بي خصال ثلث :يكون لك
أهل السّ ْهلِ ول أهل ا َلدَرَ ،أو أكون خليفتك من بعدك ،أو أغزوك بغَ َطفَان بألف أشقر وألف شقراء،
فطعن ف بيت امرأة ،فقال :أغدة كغدة البعي ،ف بيت امرأة من بن فلن ! ايتون بفرسي ،فركب ،فمات
على فرسه.
وهكذا تتابعت الوفود إل الدينة ف سنت تسع وعشر ،وقد ذكر أهل الغازي والسي منها وفود أهل
اليمن ،والزْد وبن سعد ُه َذيْم من ُقضَاعَة ،وبن عامر بن قَيْس ،وبن أسد ،وبَ ْهرَاء وخَوْلن و ُمحَارِب وبن
الارث بن كعب وغَامِد وبن الُنَْتفِق ،وسَلمان ،وبن عَبْس ،ومُ َزيْنَة ،ومُرَاد ،و ُزبَيْد ،وكِ ْندَة ،وذي مُرّة،
وغَسّان ،وبن عِيش ،وَنخْع ـ وهو آخر الوفود ،توافـد فـي منتصف مـرم سنة 11هـ ف مائت
رجـل ـ وكانت وفادة الغلبية من هذه الوفود سنة 9و 01هـ ،وقد تأخرت وفادة بعضها إل سنة
11هـ.
وتَتَابُع هذه الوفود يدل على مدي ما نالت الدعوة السلمية من القبول التام ،وبسط السيطرة والنفوذ
على أناء جزيرة العرب وأرجائها ،وأن العرب كانت تنظر إل الدينة بنظر التقدير والجلل ،حت ل تكن
تري ميصا عن الستسلم أمامها ،فقد صارت الدينة عاصمة لزيرة العرب ،ل يكن صرف النظر عنها،
إل أننا ل يكن لنا القول بأن الدين قد تكن من أنفس هؤلء بأسرهم ؛ لنه كان وسطهم كثي من
العراب الفاة الذين أسلموا تبعا لسادتم ،ول تكن أنفسهم قد خلصت بعد عما تأصل فيها من اليل إل
الغارات ،ول تكن تعاليم السلم قد هذبت أنفسهم تام التهذيب.
وقد وصف القرآن بعضهم بقوله ف سورة التوبة{ :الَعْرَابُ أَ َشدّ ُكفْرًا َونِفَاقًا َوأَ ْجدَرُ أَلّ َيعْلَمُواْ ُحدُودَ مَا
أَنزَلَ ال ّلهُ عَلَى َرسُوِلهِ وَال ّلهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ َومِنَ الَ ْعرَابِ مَن يَّتخِذُ مَا يُنفِقُ َمغْ َرمًا َويَتَ َربّصُ بِ ُك ُم الدّوَائِرَ
عَ َليْ ِهمْ دَآئِ َرةُ السّ ْوءِ وَال ّلهُ َسمِيعٌ َعلِيمٌ} [التوبة]98 ،97:
وقبل أن نتقدم خطوة أخري إل مطالعة أواخر أيام حياة الرسول صلى ال عليه وسلم ،ينبغي لنا أن نلقي
نظرة إجالية على العمل اللل الذي هو فذلكة حياته ،والذي امتاز به عن سائر النبياء والرسلي ،حت
توج اللّّه هامته بسيادة الولي والخرين.
إنه صلى ال عليه وسلم قيل له{ :يَا َأيّهَا الْمُ ّزمّلُ ُقمِ اللّ ْيلَ ِإلّا َقلِيلًا} اليات [الزمل .]2 ،1:و{ يَا َأيّهَا
الْ ُم ّدثّرُ ُقمْ َفأَنذِرْ} [الدثر ]2 ،1:اليات ،فقام وظل قائما أكثر من عشرين عاما يمل على عاتقه عبء
المانة الكبي ف هذه الرض ،عبء البشرية كلها وعبء العقيدة كلها ،وعبء الكفاح والهاد ف
ميادين شت.
حل عبء الكفاح والهاد ف ميادين الضمي البشري الغارق ف أوهام الاهلية وتصوراتا ،الثقل بأثقال
الرض وجواذبا ،الكبل بأوهاق الشهوات وأغللا .حت إذا خلص هذا الضمي ف بعض صحابته ما يثقله
من ركام الاهلية والياة الرضية ،بدأ معركة أخري ف ميدان آخر ،بل معارك متلحقة ...مع أعداء
دعوة اللّه التألبي عليها ،وعلى الؤمني با ،الريصي على قتل هذه الغرسة الزكية ف منبتها ،قبل أن تنمو
وتد جذورها ف التربـة ،وفروعها ف الفضاء ،وتظلل مساحات أخرى ...ول يكد يفرغ من معارك
الزيرة العربية حت كانت الروم تعد لذه المة الديدة ،وتتهيأ للبطش با على ُتخُومِها الشمالية.
وف أثناء هذا كله ل تكن العركة الول ـ معركة الضمي ـ قد انتهت ،فهي معركة خالدة ،الشيطان
صاحبها ،وهو ل يَنِي لظة عن مزاولة نشاطه ف أعماق الضمي النسان ،وممد صلى ال عليه وسلم قائم
على دعوة اللّه هناك ،وعلى العركة الدائبة ف ميادينها التفرقة ،ف شظف من العيش ،والدنيا مقبلة عليه
وف جهد و َكدّ ،والؤمنون يستروحون من حوله ظلل المن والراحة ،وف نُصُب دائم ل ينقطع ،وف صب
جيل على هذا كله ،وف قيام الليل ،وف عبادة لربه وترتيل لقرآنه ،وتَبَتّل إليه كما أمره أن يفعل.
وهكذا عاش ف العركة الدائبة الستمرة أكثر من عشرين عاما ،ل يلهيه شأن عن شأن ف خلل هذا
المد ،حت نحت الدعوة السلمية على نطاق واسع تتحي له العقول ،فقد دانت لا الزيرة العربية،
وزالت غبة الاهلية عن آفاقها ،وصحت العقول العليلة حت تركت الصنام بل كسرت ،أخذ الو يرتج
بأصوات التوحيد ،وسع الذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلل الصحراء الت أحياها اليان الديد،
وانطلق القراء شالً وجنوبا ،يتلون آيات الكتاب ،ويقيمون أحكام اللّه.
وتوحدت الشعوب والقبائل التناثرة ،وخرج النسان من عبادة العباد إل عبادة اللّه ،فليس هناك قاهر
ومقهور ،وسادات وعبيد ،وحكام ومكومون ،وظال ومظلوم ،وإنا الناس كلهم عباد اللّه ،إخوان
متحابون ،متمثلون لحكامه ،أذهب اللّه عنهم عُبّّيةَ الاهلية ونوتا وتعاظمها بالباء ،ول يبق هناك فضل
لعرب على عجمي ،ول لعجمي على عرب ،ول لحر على أسود إل بالتقوي ،الناس كلهم بنو آدم ،وآدم
من تراب.
وهكذا تققت ـ بفضل هذه الدعوة ـ الوحدة العربية ،والوحدة النسانية ،والعدالة الجتماعية،
والسعادة البشرية ف قضاياها ومشاكلها الدنيوية ،وف مسائلها الخروية ،فتقلب مري اليام ،وتغي وجه
الرض ،وانعدل خط التاريخ ،تبدلت العقلية.
إن العال كانت تسيطر عليه روح الاهلية ـ قبل هذه الدعوة ـ ويتعفن ضميه ،وتأسن روحه ،وتتل فيه
القيم والقاييس ،ويسوده الظلم والعبودية ،وتتاحه موجة من الترف الفاجر والرمان التاعس ،وتغشاه
غاشية الكفر والضلل والظلم ،على الرغم من الديانات السماوية ،الت كانت قد أدركها التحريف،
وسري فيها الضعف ،وفقدت سيطرتا على النفوس ،واستحالت طقوسا جامدة ،ل حياة فيها ول روح.
فلما قامت هذه الدعوة بدورها ف حياة البشرية ،خلصت روح البشر من الوهم والرافة ،ومن العبودية
والرق ،ومن الفساد والتعفن ،ومن القذارة والنلل ،وخلصت الجتمع النسان من الظلم والطغيان،
ومن التفكك والنيار ،ومن فوارق الطبقات ،واستبداد الكام ،واستذلل الكهان ،وقامت ببناء العال
على أسس من العفة والنظافة ،واليابية والبناء ،والرية والتجدد ،ومن العرفة واليقي ،والثقة واليان،
والعدالة والكرامة ،ومن العمل الدائب لتنمية الياة ،وترقية الياة ،وإعطاء كل ذي حق حقه ف الياة.
وبفضل هذه التطورات شاهدت الزيرة العربية نضة مباركة ل تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران ،ول
يتألق تاريها تألقه ف هذه اليام الفريدة من عمرها.
حجـة الــوداع
تت أعمال الدعوة ،وإبلغ الرسالة ،وبناء متمع جديد على أساس إثبات اللوهية للّه ،ونفيها عن غيه،
وعلى أساس رسالة ممد صلى ال عليه وسلم ،وكأن هاتفا خفيا انبعث ف قلب رسول اللّه صلى ال عليه
وسلم ،يشعره أن مقامه ف الدنيا قد أوشك على النهاية ،حت إنه حي بعث معاذا على اليمن سنة
01هـ قال له ـ فيما قال( :يا معاذ ،إنك عسي أل تلقان بعد عامي هذا ،ولعلك أن تر بسجدي هذا
وقبي) ،فبكي معاذا خشعا لفراق رسول اللّه صلى ال عليه وسلم.
وشاء اللّه أن يري رسوله صلى ال عليه وسلم ثار دعوته ،الت عان ف سبيلها ألوانا من التاعب بضعا
وعشرين عاما ،فيجتمع ف أطراف مكة بأفراد قبائل العرب ومثليها ،فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه،
ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدي المانة ،وبلغ الرسالة ،ونصح المة.
أعلن النب صلى ال عليه وسلم بقصده لذه الجة البورة الشهودة ،فقدم الدينة بشر كثي كلهم يلتمس
أن يأت برسول اللّه صلى ال عليه وسلم .وف يوم السبت لمس بقي من ذي القعدة تيأ النب صلى ال
عليه وسلم للرحيل ،فتَ َرجّل وادّهَنَ ولبس إزاره ورداءه و َقلّد ُبدْنَه ،وانطلق بعد الظهر ،حت بلغ ذا
الُلَ ْيفَة قبل أن يصلي العصر ،فصلها ركعتي ،وبات هناك حت أصبح .فلما أصبح قال لصحابه( :أتان
صلّ ف هذا الوادي البارك وقل :عمرة ف حجة).
الليلة آت من رب فقالَ :
وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لحرامه ،ث طيبته عائشة بيدها بذَ ِريَرة وطيب فيه مِسْك ،ف بدنه ورأسه،
حت كان وبَِيصُ الطيب يري ف مفارقه وليته ،ث استدامه ول يغسله ،ث لبس إزاره ورداءه ،ث صلي
صلّه ،وقَرَن بينهما ،ث خرج ،فركب القَصْوَاءَ ،فأهَلّ أيضا ،ث
الظهر ركعتي ،ث أهل بالج والعمرة ف مُ َ
أهَلّ لا استقلت به على البَ ْيدَاء.
ث واصل سيه حت قرب من مكة ،فبات بذي طُوَي ،ث دخل مكة بعد أن صلي الفجر واغتسل من
صباح يوم الحد لربع ليال خلون من ذي الجة سنة 01هـ ـ وقد قضي ف الطريق ثان ليال ،وهي
السافة الوسطي ـ فلما دخل السجد الرام طاف بالبيت ،وسعي بي الصفا والروة ،ول َيحِلّ ؛لنه كان
لجُون ،وأقام هناك ،ول يعد إل الطواف غي طواف
قارنا قد ساق معه الدي ،فنل بأعلى مكة عند ا َ
الج.
وأمر من ل يكن معه َهدْي من أصحابه أن يعلوا إحرامهم عمرة ،فيطوفوا بالبيت وبي الصفا الروة ،ث
يلوا حللً تاما ،فترددوا ،فقال( :لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ،ولول أن معي الدي
لحللت) ،فحل من ل يكن معه هدي ،وسعوا وأطاعوا.
وف اليوم الثامن من ذي الجة ـ وهو يوم التّرْ ِويَة ـ توجه إل من ،فصلي با الظهر والعصر والغرب
والعشاء والفجر ـ خس صلوات ـ ث مكث قليلً حت طلعت الشمس ،فأجاز حت أت عرفة ،فوجد
القبة قد ضربت له بَنَمِرَة ،فنل با ،حت إذا زالت الشمس أمر بالقَصْوَاء فرحلت له ،فأت بطن الوادي،
وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفا من الناس ،فقام فيهم خطيبا ،وألقى
هذه الطبة الامعة:
(أيها الناس ،اسعوا قول ،فإن ل أدري لعلى ل ألقاكم بعد عامي هذا بذا الوقف أبدا).
(إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ،ف شهركم هذا ،ف بلدكم هذا .أل كل شيء
من أمر الاهلية تت قدمي موضوع ،ودماء الاهلية موضوعة ،وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة
بن الارث ـ وكان مسترضعا ف بن سعد فقتلته ُه َذيْل ـ وربا الاهلية موضوع ،وأول ربا أضع من
ربانا ربا عباس بن عبد الطلب ،فإنه موضوع كله).
(فاتقوا اللّه ف النساء ،فإنكم أخذتوهن بأمانة اللّه ،واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه ،ولكم عليهن أل
يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ،فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غي مُبَرّح ،ولن عليكم رزقهن وكسوتن
بالعروف).
(أيها الناس ،إنه ل نب بعدي ،ول أمة بعدكم ،أل فاعبدوا ربكم ،وصلوا خسكم ،وصوموا شهركم،
وأدوا زكاة أموالكم ،طيبة با أنفسكم ،وتجون بيت ربكم ،وأطيعوا أولت أمركم ،تدخلوا جنة ربكم).
(وأنتم تسألون عن ،فما أنتم قائلون؟) قالوا :نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال بأصبعه السبابة يرفعها إل السماء ،وينكتها إل الناس( :اللهم اشهد) ثلث مرات.
وكان الذي يصرخ ف الناس بقول رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ـ وهو بعرفة ـ ربيعة بن أمية ابن
َخلَف.
وبعد أن فرغ النب صلى ال عليه وسلم من إلقاء الطبة نزل عليه قوله تعال{ :الْيَ ْومَ َأكْمَلْتُ لَ ُكمْ دِينَ ُكمْ
َوأَتْمَ ْمتُ َعلَيْ ُكمْ نِعْمَتِي َورَضِيتُ لَ ُكمُ ا ِل ْسلَمَ دِينًا} [الائدة ،]3 :ولا نزلت بكي عمر ،فقال له النب
صلى ال عليه وسلم( :ما يبكيك؟) قال :أبكان أنا كنا ف زيادة من ديننا ،فأما إذا كمل فإنه ل يكمل شيء
قط إل نقص ،فقال( :صدقت).
وبعد الطبة أذن بلل ث أقام ،فصلى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالناس الظهر ،ث أقام فصلي
صخَرَات ،وجعل
العصر ،ول يصل بينهما شيئا ،ث ركب حت أت الوقف ،فجعل بطن ناقته القصواء إل ال ّ
حَبْل الشاة بي يديه ،واستقبل القبلة ،فلم يزل واقفا حت غربت الشمس ،وذهبت الصفرة قليلً حت
غاب القُرْص.
وأردف أسامة ،ودفع حت أت الُزْ َدِلفَة ،فصلي با الغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتي ول يسبح بينهما
شيئا ،ث اضطجع حت طلع الفجر ،فصلي الفجر حي تبي له الصبح بأذان وإقامة ،ث ركب القصواء حت
شعَرَ الرام ،فاستقبل القبلة ،فدعاه ،وكبه ،وهلّله ،ووحده ،فلم يزل واقفا حت أ ْسفَر ِجدّا.
أت الَ ْ
َفدَفَع ـ من الزدلفة إل من ـ قبل أن تطلع الشمس ،وأردف الفضل بن عباس حت أت َبطْنَ ُمحَسّرٍ،
َفحَرّك قليلً ،ث سلك الطريق الوسطي الت ترج على المرة الكبي ،حت أت المرة الت عند الشجرة
ـ وهي المرة الكبي نفسها ،كانت عندها شجرة ف ذلك الزمان ،وتسمي بمرة ال َعقَبَة وبالمرة الول
لذْف ،رمي من بطن الوادي ،ث انصرف
ـ فرماها بسبع حصيات ،يكب مع كل حصاة منها مثل حصي ا َ
إل النحر ،فنحر ثلثا وستي بدنة بيده ،ث أعطي عليا فنحر ما َغبَرَ ـ وهي سبع وثلثون بدنة ،تام الائة
ـ وأشركه ف هديه ،ث أمر من كل بدنة ببضعة ،فجعلت ف ِقدْر ،فطبخت ،فأكل من لمها ،وشربا من
مَرَقِها.
ث ركب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،فأفاض إل البيت ،فصلي بكة الظهر ،فأت على بن الطلب
سقُون على زمزم ،فقال( :انزعوا بن عبد الطلب ،فلول أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنعت معكم)،
يَ ْ
فناولوه دلوا فشرب منه.
وخطب النب صلى ال عليه وسلم يوم النحر ـ عاشر ذي الجة ـ أيضا حي ارتفع الضحي ،وهو على
بغلة شَهْبَاء ،وعلى يعب عنه ،والناس بي قائم وقاعد ،وأعاد ف خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس ،فقد
روي الشيخان عن أب بكرة قال :خطبنا النب صلى ال عليه وسلم يوم النحر ،قال( :إن الزمان قد استدار
كهيئته يوم خلق ال السموات والرض ،السنة اثنا عشر شهرا ،منها أربعة حرم ،ثلث متواليات ،ذو
القعدة وذو الجة والحرم ،ورجب مُضَر الذي بي جادي وشعبان).
وقال( :أي شهر هذا؟) قلنا :ال ورسوله أعلم ،فسكت حت ظننا أنه سيسميه بغي اسه ،قال( :أليس ذا
الجة؟) قلنا :بلي؟ قال( :أي بلد هذا؟) قلنا :ال ورسوله أعلم ،فسكت حت ظننا أنه سيسميه بغي اسه،
قال( :أليست البلدة؟) قلنا :بلي .قال( :فأي يوم هذا؟) قلنا :ال ورسوله أعلم .فسكت حت ظننا أنه
سيسمية بغي اسه ،قال( :أليس يوم النحر؟) قلنا :بلي .قال( :فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم
حرام كحرمة يومكم هذا ،ف بلدكم هذا ،ف شهركم هذا).
(وستلقون ربكم ،فيسألكم عن أعمالكم ،أل فل ترجعوا بعدي ضللً يضرب بعضكم رقاب بعض).
(أل هل بلغت؟) قالوا :نعم ،قال( :اللهم اشهد ،فليبلغ الشاهد الغائب ،فَ ُربّ مُبَلّغ أوعي من سامع).
وف رواية أنه قال ف تلك الطبة( :أل ل ين جَانٍ إل على نفسه ،أل ل ين جان على ولده ،ول مولود
على والده ،أل إن الشيطان قد يئس أن ُيعْبَد ف بلدكم هذا أبدا ،ولكن ستكون له طاعة فيما تتقرون من
أعمالكم ،فسيضى به).
وأقام أيام التشريق بن يؤدي الناسك ويعلم الشرائع ،ويذكر ال ،ويقيم سنن الدي من ملة إبراهيم،
ويحو آثار الشرك ومعالها.
وقد خطب ف بعض أيام التشريق أيضا ،فقد روي أبو داود بإسناد حسن عن سَرّاءِ بنت نَبْهَانَ قالت:
خطبنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم الرءوس ،فقال( :أليس هذا أوسط أيام التشريق) .وكانت
خطبته ف هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر ،ووقعت هذه الطبة عقب نزول سورة النصر.
وف يوم النّفْر الثان ـ الثالث عشر من ذي الجة ـ نفر النب صلى ال عليه وسلم من من ،فنل بِيف
بن كِنَانة من البْطَح ،وأقام هناك بقية يومه ذلك ،وليلته ،وصلي هناك الظهر والعصر والغرب والعشاء،
ث رقد رقدة ،ث ركب إل البيت ،فطاف به طواف الوداع ،وأمر به الناس.
ولا قضي مناسكه حث الركاب إل الدينة الطهرة ،ل ليأخذ حظا من الراحة ،بل ليستأنف الكفاح
والكدح ل وف سبيل ال.
آخر البعوث
كانت كبياء دولة الرم قد جعلتها تأب حق الياة على من آمن بال ورسوله ،وحلها على أن تقتل من
لذَامِي ،الذي كان واليا على َمعَان من قبل
أتباعها من يدخل ف السلم ،كما فعلت بفَرْوَة بن عمرو ا ُ
الروم.
ونظرا إل هذه الراءة والغطرسة ،أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم يهز جيشا كبيا ف صفر سنة
11هـ ،وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة ،وأمره أن يوطئ اليل ُتخُوم البلقاء والداروم من أرض
فلسطي ،يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إل قلوب العرب الضاربي على الدود ،حت ل يسب
أحد أن بطش الكنيسة ل معقب له ،وأن الدخول ف السلم ير على أصحابه التوف فحسب.
وتكلم الناس ف قائد اليش لداثة سنه ،واستبطأوا ف بعثه ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :إن
تطعنوا ف إمارته ،فقد كنتم تطعنون ف إمارة أبيه من قبل ،واي ال ،إن كان لليقا للمارة ،وإن كان من
أحب الناس إل ،و إن هذا من أحب الناس إل بعده).
وانتدب الناس يلتفون حول أسامة ،وينتظمون ف جيشة ،حت خرجوا ونزلوا الُرْف ،على فَرْسَخ من
الدينة ،إل أن الخبار القلقة عن مرض رسول ال صلى ال عليه وسلم ألزمتهم التريث ،حت يعرفوا ما
يقضي ال به ،وقد قضي ال أن يكون هذا أول بعث ينفذ ف خلفة أب بكر الصديق.
إل الرفيق العلي
طلئع التوديع
ولا تكاملت الدعوة وسيطر السلم على الوقف ،أخذت طلئع التوديع للحياة والحياء تطلع من
مشاعره صلى ال عليه وسلم ،وتتضح بعباراته وأفعاله.
إنه اعتكف ف رمضان من السنة العاشرة عشرين يوما ،بينما كان ل يعتكف إل عشرة أيام فحسب،
وتدارسه جبيل القرآن مرتي ،وقال ف حجة الوداع( :إن ل أدري لعلى ل ألقاكم بعد عامي هذا بذا
الوقف أبدا) ،وقال وهو عند جرة العقبة( :خذوا عن مناسككم ،فلعلي ل أحج بعد عامي هذا) ،وأنزلت
عليه سورة النصر ف أوسط أيام التشريق ،فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه.
وف أوائل صفر سنة 11هـ خرج النب صلى ال عليه وسلم إل أحد ،فصلي على الشهداء كالودع
للحياء والموات ،ث انصرف إل النب فقال( :إن فرط لكم ،وأنا شهيد عليكم ،وإن وال لنظر إل
حوضي الن ،وإن أعطيت مفاتيح خزائن الرض ،أو مفاتيح الرض ،وإن وال ما أخاف عليكم أن
تشركوا بعدي ،ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).
وخرج ليلة ـ ف منتصفها ـ إل البَقِيع ،فاستغفر لم ،وقــال( :السلم عليكـم يـا أهل القابر،
لِيَهْنَ لكم ما أصبحتم فيه با أصبح الناس فيه ،أقبلت الفت كقطع الليل الظلم ،يتبع آخرها أولا ،والخرة
شر من الول) ،وبشرهم قائلً( :إنا بكم للحقون).
بـدايـة الـرض
وف اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ ـ وكان يوم الثني ـ شهد رسول ال
صلى ال عليه وسلم جنازة ف البقيع ،فلما رجع ،وهو ف الطريق أخذه صداع ف رأسه ،واتقدت الرارة،
حت إنم كانوا يدون َسوْ َرتَها فوق العِصَابة الت تعصب با رأسه.
وقد صلي النب صلى ال عليه وسلم بالناس وهو مريض 11يوما ،وجيع أيام الرض كانت ،31أو
41يوما.
السبوع الخي
وثقل برسول ال صلى ال عليه وسلم الرض ،فجعل يسأل أزواجه( :أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟) ففهمن
مراده ،فأذن له يكون حيث شاء ،فانتقل إل بيت عائشة يشي بي الفضل بن عباس وعلى بن أب طالب،
عاصبا رأسه ،تط قدماه حت دخل بيتها ،فقضي عندها آخر أسبوع من حياته.
وكانت عائشة تقرأ بالعوذات والدعية الت حفظتها من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فكانت تنفث
على نفسه ،وتسحه بيده رجاء البكة.
ويوم الربعاء قبل خسة أيام من الوفاة ،اتقدت حرارة العلة ف بدنه ،فاشتد به الوجع وغمي ،فقال( :
هريقوا علي سبع قِرَب من آبار شت ،حت أخرج إل الناس ،فأعهد إليهم) ،فأقعدوه ف ِمخَضَبٍ ،وصبوا
عليه الاء حت طفق يقول( :حسبكم ،حسبكم).
وعند ذلك أحس بفة ،فدخل السجد متعطفا ملحفة على منكبيه ،قد عصب رأسه بعصابة دسة حت
جلس على النب ،وكان آخر ملس جلسه ،فحمد ال وأثن عليه ،ث قال( :أيها الناس ،إل) ،فثابوا إليه،
فقال ـ فيما قال( :لعنة ال على اليهود والنصارى ،اتذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وف رواية( :قاتل ال
اليهود والنصارى ،اتذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وقال( :ل تتخذوا قبي وثنا يعبد).
وعرض نفسه للقصاص قائلً( :من كنت جلدت له ظَهْرًا فهذا ظهري فليستقد منه ،ومن كنت شتمت له
عِرْضا فهذا عرضي فليستقد منه).
ث نزل فصلى الظهر ،ث رجع فجلس على النب ،وعاد لقالته الول ف الشحناء وغيها .فقال رجل :إن ل
عندك ثلثة دراهم ،فقال( :أعطه يا فضل) ،ث أوصي بالنصار قائلً:
(أوصيكم بالنصار ،فإنم كِ ْرشِي وعَيْبَتِي ،وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لم ،فاقبلوا من ُمحْسِنهم،
وتاوزوا عن مسيئهم) ،وف رواية أنه قال( :إن الناس يكثرون ،وَتقِلّ النصار حت يكونوا كاللح ف
الطعام ،فمن ول منكم أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه فليقبل من مسنهم ،ويتجاوز عن مسيئهم).
ث قال( :إن عبدا خيه ال بي أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء ،وبي ما عنده ،فاختار ما عنده) .قال أبو
سعيد الدري :فبكي أبو بكر .قال :فديناك بآبائنا وأمهاتنا ،فعجبنا له ،فقال الناس :انظروا إل هذا
الشيخ ،يب رسول ال صلى ال عليه وسلم عن عبد خيه ال بي أن يؤتيه من زهرة الدنيا ،وبي ما عنده،
وهو يقول :فديناك بآبائنا وأمهاتنا .فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم هو الخي ،وكان أبو بكر
أعلمنا.
ث قال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :إن من أم ّن الناس على ف صحبته وماله أبو بكر ،ولو كنت
متخذا خليلً غي رب ل تذت أبا بكر خليلً ،ولكن أخوة السلم ومودته ،ل يبقي ف السجد باب إل
سد ،إل باب أب بكر).
ويوم الميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال ـ وقد اشتد به الوجع( :هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده)
ـ وف البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر :قد غلب عليه الوجع ،وعندكم القرآن ،حسبكم كتاب ال،
فاختلف أهل البيت واختصموا ،فمنهم من يقول :قربوا يكتب لكم رسول ال صلى ال عليه وسلم،
ومنهم من يقول ما قال عمر ،فلما أكثروا اللغط والختلف قال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :قوموا
عن).
وأوصى ذلك اليوم بثلث :أوصي بإخراج اليهود والنصاري والشركي من جزيرة العرب ،وأوصي
بإجازة الوفود بنحو ما كان ييزهم ،أما الثالث فنسيه الراوي .ولعله الوصية بالعتصام بالكتاب والسنة،
أو تنفيذ جيش أسامة ،أو هي( :الصلة وما ملكت أيانكم).
والنب صلى ال عليه وسلم مع ما كان به من شدة الرض كان يصلي بالناس جيع صلواته حت ذلك اليوم
ـ يوم الميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلي بالناس ذلك اليوم صلة الغرب ،فقرأ فيها بالرسلت
عرفا.
وعند العشاء زاد ثقل الرض ،بيث ل يستطع الروج إل السجد .قالت عائشة :فقال النب صلى ال عليه
صلّى الناس؟) قلنا :ل يا رسول ال ،وهم ينتظرونك .قال( :ضعوا ل ماء ف ا ِلخْضَب) ،ففعلنا،
وسلم( :أ َ
فاغتسل ،فذهب لينوء فأغمي عليه .ث أفاق ،فقال( :أصلى الناس؟) ـ ووقع ثانيا وثالثا ما وقع ف الرة
الول من الغتسال ث الغماء حينما أراد أن ينوء ـ فأرسل إل أب بكر أن يصلي بالناس ،فصلي أبو
بكر تلك اليام 17صلة ف حياته صلى ال عليه وسلم ،وهي صلة العشاء من يوم الميس ،وصلة
الفجر من يوم الثني ،وخس عشرة صلة فيما بينها.
وراجعت عائشة النب صلى ال عليه وسلم ثلث أو أربع مرات ؛ ليصرف المامة عن أب بكر حت ل
يتشاءم به الناس ،فأب وقال( :إنكن لنت صواحب يوسف ،مروا أبا بكر فليصل بالناس).
قال جابر :سعت النب صلى ال عليه وسلم قبل موته بثلث وهو يقول( :أل ل يوت أحد منكم إل وهو
يسن الظـن بال).
ويوم السبت أو الحد وجد النب صلى ال عليه وسلم ف نفسه خفة ،فخرج بي رجلي لصلة الظهر،
وأبو بكر يصلي بالناس ،فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر ،فأومأ إليه بأل يتأخر ،قال( :أجلسان إل جنبه)،
فأجلساه إل يسار أب بكر ،فكان أبو بكر يقتدي بصلة رسول ال صلى ال عليه وسلم ويسمع الناس
التكبي.
قبل يوم
وقبل يوم من الوفاة ـ يوم الحد ـ أعتق النب صلى ال عليه وسلم غلمانه ،وتصدق بستة أو سبعة
دناني كانت عنده ،ووهب للمسلمي أسلحته ،وف الليل أرسلت عائشة بصباحها امرأة من النساء
وقالت :أقطري لنا ف مصباحنا من ُعكّتِك السمن ،وكانت درعه صلى ال عليه وسلم مرهونة عند
يهودي بثلثي صاعا من الشعي.
روي أنس بن مالك :أن السلمي بينا هم ف صلة الفجـر من يوم الثني ـ وأبو بكر يصلي بم ـ ل
يفجأهم إل رسول ال صلى ال عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم ،وهم ف صفوف
الصلة ،ث تبسم يضحك ،فنكص أبو بكر على عقبيه ؛ ليصل الصف ،وظن أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم يريد أن يرج إل الصلة .فقال أنس :و َهمّ السلمون أن يفتتنوا ف صلتمَ ،فرَحًا برسول ال صلى
ال عليه وسلم ،فأشار إليهم بيده رسول ال صلى ال عليه وسلم أن أتوا صلتكم ،ث دخل الجرة
وأرخي الستر.
ث ل يأت على رسول ال صلى ال عليه وسلم وقت صلة أخرى.
ولا ارتفع الضحى ،دعا النب صلى ال عليه وسلم فاطمة فسَارّها بشيء فبكت ،ث دعاها ،فسارها بشيء
فضحكت ،قالت عائشة :فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت :سارن النب صلى ال عليه وسلم أنه
يقبض ف وجعه الذي توف فيه ،فبكيت ،ث سارن فأخبن أن أول أهله يتبعه فضحكت.
وبشر النب صلى ال عليه وسلم فاطمة بأنا سيدة نساء العالي.
ورأت فاطمة ما برسول ال صلى ال عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه.
فقالت :وا كرب أباه .فقال لا( :ليس على أبيك كرب بعد اليوم).
ودعا السن والسي فقبلهما ،وأوصي بما خيا ،ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن.
وطفق الوجع يشتد ويزيد ،وقد ظهر أثر السم الذي أكله بيب حت كان يقول( :يا عائشة ،ما أزال أجد
أل الطعام الذي أكلت بيب ،فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَرِي من ذلك السم).
وقد طرح خَمِيصَة له على وجهه ،فإذا اغتم با كشفها عن وجهه ،فقال وهو كذلك ـ وكان هذا آخر ما
تكلم وأوصي به الناس( :لعنة ال على اليهود والنصارى ،اتذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ يذر ما صنعوا
ـ ل يبقي دينان بأرض العرب).
وأوصى الناس فقال( :الصلة ،الصلة ،وما ملكت أيانكم) ،كــرر ذلك مــرارا.
الحتضار
وبدأ الختصار فأسندته عائشة إليها ،وكانت تقول :إن من نعم ال على أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم توف ف بيت وف يومي وبي َسحْرِي وَنحْرِي ،وأن ال جع بي ريقي وريقه عند موته .دخل عبد
الرحن ـ بن أب بكر ـ وبيده السواك ،وأنا مسندة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فرأيته ينظر إليه،
وعرفت أنه يب السواك ،فقلت :آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم .فتناولته فاشتد عليه ،وقلت :ألينه لك؟
فأشار برأسه أن نعم .فلينته ،فأمره ـ وف رواية أنه است به كأحسن ما كان مستنا ـ وبي يديه َركْوَة
فيها ماء ،فجعل يدخل يديه ف الاء فيمسح به وجهه ،يقول( :ل إله إل ال ،إن للموت سكرات)...
الديث.
وما عدا أن فرغ من السواك حت رفع يده أو أصبعه ،وشخص بصره نو السقف ،وتركت شفتاه،
فأصغت إليه عائشة وهو يقول( :مع الذين أنعمت عليهم من النبيي والصديقي والشهداء والصالي،
اللهم اغفر ل وارحن ،وألقن بالرفيق العلي .اللهم ،الرفيق العلي).
كرر الكلمة الخية ثلثا ،ومالت يده ولق بالرفيق العلي .إنا ل وإنا إليه راجعون.
وقع هذا الادث حي اشتدت الضحي من يوم الثني 12ربيع الول سنة 11هـ ،وقد ت له صلى
ال عليه وسلم ثلث وستون سنة وزادت أربعة أيام.
وتسرب النبأ الفادح ،وأظلمت على أهل الدينة أرجاؤها وآفاقها .قال أنس :ما رأيت يوما قط كان
أحسن ول أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وما رأيت يوما كان أقبح ول
أظلم من يوم مات فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم.
ولا مات قالت فاطمة :يا أبتاه ،أجاب ربا دعاه .يا أبتاه ،مَنْ جنة الفردوس مأواه .يا أبتاه ،إل جبيل
ننعاه.
موقف عمر
ووقف عمر بن الطاب يقول :إن رجالً من النافقي يزعمون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم توف،
وإن رسول ال صلى ال عليه وسلم ما مات ،لكن ذهب إل ربه كما ذهب موسي بن عمران ،فغاب عن
قومه أربعي ليلة ،ث رجع إليهم بعد أن قيل :قد مات.
ووال ،ليجعن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات.
موقف أب بكر
وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسّنْح حت نزل ،فدخل السجد ،فلم يكلم الناس ،حت دخل على
عائشة فتيمم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهو مغشي بثوب ِحبَرَة ،فكشف عن وجهه ث أكب عليه،
فقبله وبكي ،ث قال :بأب أنت وأمي ،ل يمع ال عليك موتتي ،أما الوتة الت كتبت عليك فقد مِتّهَا.
ث خرج أبو بكر ،وعمر يكلم الناس ،فقال :اجلس يا عمر ،فأب عمر أن يلس ،فتشهد أبو بكر ،فأقبل
الناس إليه ،وتركوا عمر ،فقال أبو بكر:
أما بعد ،من كان منكم يعبد ممدا صلى ال عليه وسلم فإن ممدا قد مات ،ومن كان منكم يعبد ال فإن
ال حي ل يوت ،قال الَ { :ومَا ُمحَ ّمدٌ إِلّ رَسُولٌ َقدْ خَ َلتْ مِن قَ ْب ِلهِ الرّ ُسلُ أَ َفإِن مّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبُْتمْ عَلَى
أَعْقَابِ ُكمْ َومَن يَنقَ ِلبْ َعلَىَ َعقِبَ ْيهِ َفلَن يَضُرّ ال ّلهَ شَيْئًا وَسََيجْزِي ال ّلهُ الشّاكِرِينَ} [آل عمران.]144:
قال ابن عباس :وال لكأن الناس ل يعلموا أن ال أنزل هذه الية حت تلها أبو بكر ،فتلقاها منه الناس
كلهم ،فما أسع بشرا من الناس إل يتلوها.
قال ابن السيب :قال عمر :وال ،ما هو إل أن سعت أبا بكر تلها ،فعرفت أنه الق ،فعقرت حت ما
تُقُلّن رجلي ،وحت أهويت إل الرض حي سعته تلها ،علمت أن النب صلى ال عليه وسلم قد مات.
ووقع اللف ف أمراللفة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلى ال عليه وسلم ،فجرت مناقشات ومادلت
وحوار وردود بي الهاجرين والنصار ف َسقِيفة بن ساعدة ،وأخيًا اتفقوا على خلفة أب بكر رضي ال
عنه ،ومضي ف ذلك بقية يوم الثني حت دخل الليل ،وشغل الناس عن جهاز رسول ال صلى ال عليه
وسلم حت كان آخر الليل ـ ليلة الثلثاء ـ مع الصبح ،وبقي جسده البارك على فراشه مغشي بثوب
حِبَرَة ،قد أغلق دونه الباب أهله.
ويوم الثلثاء غسلوا رسول ال صلى ال عليه وسلم من غي أن يردوه من ثيابه ،وكان القائمون بالغسل:
العباس وعليّا ،والفضل وقُثَم ابن العباس ،و ُشقْرَان مول رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأسامة بن زيد،
وأوس بن خَوْل ،فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه ،وأسامة وشقران يصبان الاء ،وعلى يغسله ،وأوس
أسنده إل صدره.
وقد غسل ثلث غسلت باء و ِسدْر ،وغسل من بئر يقال لا :الغَرْس لسعد بن خَيْثَمَة بقُبَاء وكان يشرب
منها.
ث كفنوه ف ثلثة أثواب يانية بيض َسحُولِيّة من كُرْسُف ،ليس فيها قميص ول عمامة .أدرجوه فيها
إدراجًا.
واختلفوا ف موضع دفنه ،فقال أبو بكر :إن سعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول( :ما قبض نب
إل دفن حيث يـقبض) ،فرفع أبو طلحة فراشه الذي توف عليه ،فحفر تته ،وجعل القب لدا.
ودخل الناس الجرة أرسالً ،عشرة فعشرة ،يصلون على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أفذاذا ،ل
يؤمهم أحد ،وصلي عليه أولً أهل عشيته ،ث الهاجرون ،ث النصار ،ث الصبيان ،ث النساء ،أو النساء ث
الصبيان.
ومضى ف ذلك يوم الثلثاء كاملً ،ومعظم ليلة الربعاء ،قالت عائشة :ما علمنا بدفن رسول اللّه صلى ال
عليه وسلم حت سعنا صوت السَاحِي من جوف الليل ـ وف رواية :من آخر الليل ـ ليلة الربعاء.
البيت النبوي
-1كان البيت النبوي ف مكة قبل الجرة يتألف منه عليه الصلة والسلم ،ومن زوجته خدية بنت
خويلد ،تزوجها وهو ف خس وعشرين من سنه ،وهي ف الربعي ،وهي أول من تزوجه من النساء ،ول
يتزوج عليها غيها ،وكان له منها أبناء وبنات ،أما البناء ،فلم يعش منهم أحد ،وأما البنات فهن :
زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ،فأما زينب فتزوجها قبل الجرة ابن خالتها ,أبوالعاص بن الربيع ،وأما
رقية وأم كلثوم فقد تزوجهما عثمان بن عفان رضي ال عنه الواحدة بعد الخرى ،وأما فاطمة فتزوجها
على بن أب طالب بي بدر وأحد ،ومنها كان السن والسي وزينب وأم كلثوم.
ومعلوم أن النب صلى ال عليه وسلم كان يتاز عن أمته بل التزوج بأكثر من أربع زوجات لغراض
كثية ،فكان عدد من عقد عليهن ثلثة عشرة امرأه ،منهن تسع مات عنهن ،واثنتان توفيتا ف حياته،
إحداها خدية ،والخرى أم الساكي زينب بنت خرية ،واثنتان ل يدخل بما ،وها هي أساؤهن وشيء
عنهن.
-2سودة بنت زمعة ،تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف شوال سنة عشر من النبوة ،بعد وفاة
خدية بنحو شهر ،وكانت قبله عند ابن عم لا يقال له :السكران بن عمرو ،فمات عنها .توفيت بالدينة
ف شوال سنة 54هـ .
3ـ عائشة بنت أب بكر الصديق ،تزوجها ف شوال سنة إحدى عشرة من النبوة ،بعد زواجه بسودة
بسنة ،وقبل الجرة بسنتي وخسة أشهر ،تزوجها وهي بنت ست سني ،وبن با ف شوال بعد الجرة
بسبعة أشهر ف الدينة ،وهي بنت تسع سني ،وكانت بكرا ول يتزوج بكرا غيها ،وكانت أحب اللق
إليه ،وأفقه نساء المة ،وأعلمهن على الطلق ،فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام .
توفيت ف 17رمضان سنة 57هـ أو 58هـ ودفنت بالبقيع.
-4حفصة بنت عمر بن الطاب ،تأيت من زوجها خنيس بن خذافة السهمي بي بدر وأحد ،فلما حلت
تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف شعبان سنة 3هـ توفيت ف شعبان سنة 45هـ بالدينة ،ولا
ستون سنة،ودفنت بالبقيع.
-5زينب بنت خزية من بن هلل بن عامر بن صعصة ،وكانت تسمى أم الساكي ،لرحتها أياهم
ورقتها عليهم ،كانت تت عبد ال بن جحش ،فاستشهد ف أحد ،فتزوجها رسول ال صلى ال عليه
وسلم سنة 4هـ .ماتت بعد الزواج بنحو ثلثة أشهرف ربيع الخر سنة 4هـ ،فصلى عليها النب
صلى ال عليه وسلم ،ودفنت بالبقيع.
-6أم سلمة هند بنت أب أمية ،كانت تت أب سلمة،وله منها أولد ،فمات عنها ف جادى الخر سنة
4هـ ،فتزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ليال بقي من شوال السنة نفسها ،وكانت من افقه
النساء وأعقلهن .توفيت سنة 59هـ ،وقيل62 :هـ ودفنت بالبقيع ،ولا 84سنة.
-7زينب بنت جحش بن رباب من بن أسد بن خزية ،وهي بنت عمة رسول ال صلى ال عليه وسلم،
كانت تت زيد بن حارثة -الذي كان يعتب ابنا للنب صلى ال عليه وسلم -فطلقها زيد ،فلما انقضت
العدة أنزل ال تعال يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم {فَ َلمّا قَضَى َزيْدٌ مّنْهَا َوطَرًا َزوّجْنَاكَهَا} [
الحزاب ،]37 :وفيها نزلت من سورة الحزاب آيات فصلت قضية التبن -وسنأت على ذكرها -
تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ذي القعدة سنة خس من الجرة .وقيل :سنة 4هـ ،وكانت
أعبد النساء وأعظمهن صدقة ،توفيت سنة 20هـ ولا 53سنة .وكانت أول أمهات الؤمني وفاة بعد
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،صلى عليها عمر بن الطاب ،ودفنت بالبقيع.
-8جويرية بنت الارث سيد بن الصطلق من خزاعة ،كانت ف سب بن الصطلق ف سهم ثابت بن
قيس بن شاس ،فكاتبها ،فقضى رسول ال صلى ال عليه وسلم كتابتها ،وتزوجها ف شعبان سنة 6هـ.
وقيل :سنة 5هـ ،فأعتق السلمون مائة أهل بيت من بن الصطلق ،وقالوا أصهار رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فكانت أعظم النساء بركة على قومها .توفيت ف ربيع الول سنة 56هـ ،وقيل55 :
هـ .ولا 65سنة.
-9أم حبيبة رملة بنت أب سفيان ،كانت تت عبيد ال بن جحش ،فولدت له حبيبة فكنيت با،
وهاجرت معه إل البشة ،فارتد عبيد ال وتنصر ،وتوف هناك ،وثبتت أم حبيبة على دينها وهجرتا ،فلما
بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم عمرو بن أميه الضمري بكتابه إل النجاشي ف الحرم سنة 7هـ.
خطب عليه أم حبيبة فزوجها إياه وأصدقها من عنده أربعمائة دينار ،وبعث با مع شرحبيل بن حسنة.
فابتن با النب صلى ال عليه وسلم بعد رجوعه من خيب .توفيت سنة 42هـ ،أو 44هـ ،أو
50هـ.
-10صفية بنت حيي بن أخطب سيد بن النضي من بن إسرائيل ،كانت من سب خيب ،فاصطفاها
رسول ال صلى ال وعليه وسلم لنفسه ،وعرض عليها السلم فأسلمت ،فأعتقها وتزوجها بعد فتح خيب
سنة 7هـ ،وابتن با بسد الصهباء على بعد 12ميل من خيب ف طريقه إل الدينة .توفيت سنة 50
هـ وقيل52 :هـ ،وقيل 36هـ ودفنت بالبقيع.
-11ميمونة بنت الارث ،أخت أم الفضل لبابة بنت الارث ،تزوجها ف ذي القعدة سنة 7هـ ،ف
عمرة القضاء ،بعد أن حل منها على الصحيح.
وابتن با بسرف على بعد 9أميال من مكة ،وقد توفيت بسرف سنة 61هـ ،وقيل ،63 :وقيل:
38هـ ودفنت هناك ،ول يزال موضع قبها معروفا.
فهؤلء إحدى عشرة سيدة تزوج بن الرسول صلى ال عليه وسلم ،وبن بن وتوفيت منهن اثنتان -
خدية وزينب أم الساكي -ف حياته ،وتوف هو عن التسع البواقي.
وأما الثنتان اللتان ل يب بما ،فواحدة من بن كلب ،وأخرى من كندة ،وهي العروفة بالونبة ،وهناك
خلفات لحاجة إل بسطها.
وأما السراري فالعروف أنه تسرى باثنتي إحداها مارية القبطية ،أهداها له القوقس ،فأولدها ابنه إبراهيم،
الذي توف صغيا بالدينة ف حياته صلى ال عليه وسلم ،ف / 28أو 29من شهر شوال سنة 10
هـ وفق 27يناير سنة 632م.
والسرية الثانية هي ريانة بنت زيد النضرية أو القرظية ،كانت من سبايا قريظة ،فاصطفاها لنفسه ،وقيل:
بل هي من أزواجه صلى ال عليه وسلم ،أعتقها فتزوجها .والقول الول رجحه ابن القيم .وزاد أبو عبيدة
اثنتي أخريي ،جيلة أصابا ف بعض السب ،وجارية وهبتها له زينب بنت جحش.
ومن نظر إل حياة الرسول صلى ال عليه وسلم عرف جيدا أن زواجه بذا العدد الكثي من النساء ف
أواخر عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلثي عاما من ريعان شبابه وأجود أيامه مقتصرا على وجة واحدة
شبه عجوز -خدية ث سودة -عرف أن هذا الزواج ل يكن لجل أنه وجد بغته ف نفسه قوة عارمة من
الشبق ،ل يصب معها إل بثل هذا العدد الكثي من النساء؛ بل كانت هناك أغراض أخرى أجل وأعظم من
الغرض الذي يققه عامة الزواج.
فاتاه الرسول صلى ال عليه وصلى إل مصاهرة أب بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة -وكذلك
تزوجيه ابنته فاطمة بعلي بن أب طالب ،وتزويه ابنتيه رقية ث أم كلثوم بعثمان بن عفان -يشي إل أنه
يبغي من وراء ذلك توثيق الصلة بالرجال الربعة ،الذي عرف بلءهم وفداءهم للسلم ف الزمات الت
مرت به ،وشاء ال أن يتازها بسلم.
وكان من تقاليد العرب الحترام للمصاهرة ،فقد كان الصهر عندهم بابا من أبواب التقرب بي البطون
الختلفة ،وكانوا يرون مناوأة وماربة الصهار سبة وعارا على أنفسهم ،فأراد رسول ال صلى ال عليه
وسلم بزواج عدة من أمهات الؤمني أن يكسر سورة عداء القبائل للسلم ،ويطفئ حدة بغضائها ،كانت
أم سلمة من بن مزوم -حي أب جهل وخالد بن الوليد -فلما تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ل
يقف خالد من السلمي موقفه الشديد بأحد ،بل أسلم بعد مدة غي طويلة طائعا راغبا ،وكذلك أبو سفيان
ل يواجه رسول ال صلى ال عليه وسلم بأي ماربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة ،وكذلك ل نرى من قبيلت
بن الصطلق وبن النضي أي استفزاز وعداء بعد زواجه بويرية وصفية؛ بل كانت جويرية أعظم النساء
بركة على قومها ،فقد أطلق الصحابة أسر مائة بيت من قومها حي تزوجها رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،وقالوا :أصهار رسول ال صلى ال عليه وسلم .ول يفي ما لدا الن من الثر البالغ ف النفوس.
وأكب من كل ذلك وأعظم أن النب صلى ال عليه وسلم كان مأمورا بتزكية وتثقيف قوم ل يكونوا
يعرفون شيئا من آداب الثقافة والضارة والتقيد بلوازم الدينة ،والساهة ف بناء الجتمع وتعزيزه.
والبادئ الت كانت أسسا لبناء الجتمع السلمي ،ل تكن تسمح للرجال أن يتلطوا بالنساء ،فلم يكن
يكن تثقيفهن مباشرة مع الراعاة لذه البادئ ،مع أن مسيس الاجة إل تثفيفهن مباشرة ل يكن أهون
وأقل من الرجال ،بل كان أشد وأقوى.
وإذن فلم يكن للنب صلى ال عليه وسلم سبيل إل أن يتار من النساء الختلفة العمار والواهب ما يكفي
لذا الغرض ،فيزكيهن ويربيهن ،ويعلمهن الشرائع والحكام ،ويثقفهن بثقافة السلم حت يعدهن؛ لتربية
البدويات والضريات ،العجائر منهن والشابات ،فيكفي مؤنة التبليغ ف النساء.
وقد كان لمهات الؤمني فضل كبي ف نقل أحواله -صلى ال عليه وسلم -النلية للناس ،خصوصا
من طالت حياته منهن كعائشة ،فإنا روت كثيا من افعاله وأقواله.
وهناك نكاح واحد كان لنقض تقليد جاهلي متأصل ،وهي قاعدة التبن .وكان للمتبن عند العرب ف
الاهلية جيع الرمات والقوق الت كانت للبن القيقي سواء بسواء .وكانت قد تاصلت تلك القاعدة
ف القلوب ،بيث ل يكن موها سهلً ،لكن كانت تلك القاعدة تعارض معارضة شديدة للسس والبادئ
الت قررها السلم ف النكاح والطلق والياث وغي ذلك من العاملت ،وكانت تلك القاعدة تلب
كثيا من الفاسد والفواحش الت جاء السلم؛ ليمحوها عن الجتمع.
وقدر ال أن يكون هدم تلك القاعدة على يد رسول ال صلى ال عليه وسلم وبذاته الشريفة ،وكانت ابنة
عمته زينب بنت جحش ،وكانت تت زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن ممد ،ول يكن بينهما
توافق ،حت هم زيد بطلقها ،وفاتح بذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقد عرف الرسول صلى ال
عليه وسلم ـ إما بإشارات الظروف ،وإما بإخبار ال عز وجل إياه ـ أن زيدا إن طلقها فسيؤمر هو
صلى ال عليه وسلم أن يتزوجها بعد انقضاء عدتا ،وكان ذلك ف ظروف حرجة من تألب الشركي على
رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمي ،وكان ياف ـ إذا وقع هذا الزواج ـ دعاية النافقي
والشركي واليهود ،وما يثيونه من الوساوس والرافات ضده ،وما يكون له من الثر السيئ ف نفوس
ضعفاء السلمي ،فلما فاتح زيد رسول ال صلى ال عليه وسلم بإرادته طلق زينب أمره بأن يسكها ول
يطلقها ،وذلك لئل تئ له مرحلة هذا الزواج ف تلك الظروف الصعبة.
ول يرض ال من رسوله صلى ال عليه وسلم،هذا التردد والوف حت عاتبه ال عليه بقولهَ { :وإِذْ َتقُولُ
سكَ مَا ال ّلهُ مُ ْبدِيهِ
خفِي فِي َنفْ ِ
سكْ عَلَ ْيكَ زَوْ َجكَ وَاتّقِ ال ّلهَ َوُت ْ
لِ ّلذِي أَْنعَمَ ال ّلهُ َعلَ ْيهِ َوَأنْعَمْتَ َعلَ ْيهِ أَمْ ِ
َوَتخْشَى النّاسَ وَال ّلهُ أَ َحقّ أَن َتخْشَاهُ} [الحزاب.]37 :
وأخيا طلقها زيد ،وتزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف أيام فرض الصار على بن قريظة بعد أن
انقضت عدتا .وكان ال قد أوجب عليه هذا النكاح ،ول يترك له خيارا ول مال ،حت تول ال ذلك
النكاح بنفسه يقولَ { :فلَمّا َقضَى َزْيدٌ مّنْهَا َوطَرًا زَوّ ْجنَاكَهَا لِ َكيْ لَا يَكُونَ َعلَى الْمُ ْؤمِنِيَ حَ َرجٌ فِي أَ ْزوَاجِ
أَدْعِيَائِ ِهمْ إِذَا َقضَوْا مِنْهُنّ َوطَرًا} [الحزاب ،]37 :وذلك ليهدم قاعدة التبن فعلً كما هدمها قول{ :
سطُ عِندَ اللّهِ} [الحزاب{ ،]5 :مّا كَانَ ُمحَ ّمدٌ أَبَا أَ َحدٍ مّن رّجَالِ ُكمْ َولَكِن رّسُولَ
ادْعُو ُهمْ لِآبَائِ ِهمْ هُوَ أَقْ َ
ال ّلهِ وَخَاتَ َم النّبِيّيَ} [الحزاب.]40 :
وكم التقاليد التأصلة الافة ل يكن هدمها أو تعديلها لجرد القول ،بل لبد له من مقارنة فعل صاحب
الدعوة ،ويتضح ذلك با صدر من السلمي ف عمرة الديبية ،كان هناك أولئك السلمون الذين رآهم
عروة بن مسعود الثقفي ،ل يقع من النب صلى ال عليه وسلم نامة إل ف يد أحدهم ،ورآهم يتبادرون
إل وضوئه حت كادوا يقتتلون عليه ،نعم كان أولئك الذين تسابقوا إل البيعة على الوت أو على عدم
الفرار تت الشجرة ،والذين كان فيهم مثل أبو بكر وعمر ،لا أمر النب صلى ال عليه وسم أولئك
الصحابة التفاني ف ذاته -بعد عقد الصلح -أن يقوموا فينحروا هديهم ل يقم لمتثال أمره أحد ،حت
أخذه القلق والضطراب ،ولكن لا أشارت عليه أم سلمة أن يقوم إل هديه فينحر ،ول يكلم أحدا ففعل،
تبادر الصحابة إل اتباعه ف فعله ،فتسابقوا إل نر جزورهم .وبذا الادث يتضح جليا ما هو الفرق بي
أثري القول والفعل لدم قاعدة راسخة.
وقد أثر النافقون وساوس كثية ،وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح ،أثر بعضها ف ضعفاء
السلمي ،ل سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى ال عليه وسلم ،ول يكن يعرف السلمون حل
الزواج بأكثر من أربع نسوة وأن زيدا كان يعتب ابنا للنب صلى ال عليه وسلم ،والزواج بزوجة البن
كان من أغلظ الفواحش ،وقد أنزل ال ف سورة الحزاب حول الوضوعي ما شفى وكفى ،وعلم
الصحابة أن التبن ليس له أثر عند السلم ،وأن ال تعال وسع لرسوله صلى ال عليه وسلم ف الزواج
مال يوسع لغيه ،لغراضهة النبيلة المتازة.
هذا ،وكانت عشرته صلى ال عليه وسلم مع أمهات الؤمني ف غاية الشرف والنبل والسمو والسن،
كما كن ف أعلى درجة من الشرف والقناعة والصب والتواضع والدمة والقيام بقوق الزواج ,مع أنه
كان ف شظف من العيش ل يطيقه أحد .قال أنس :ما أعلم النب صلى ال عليه وسلم رأى رغيفا مرفقا
حت لق بال ،ول رأى شاة سيطا بعينه قط .وقالت عائشة :إن كنا لننظر إل اللل ثلثة أهلة ف شهرين،
وما أوقدت ف أبيات رسول ال صلى ال عليه وسلم نار .فقال لا عروة :ما كان يعيشكم؟ قالت:
السودان؛ التمر والاء .والخبار بذا الصدد كثية.
ومع هذا الشظف والضيق ل يصدر منهن ما يوجب العتاب إل مرة واحدة -حسب مقتضى البشرية،
وليكون سببا لتشريع الحكام -فأنزل ال آية التخيي {أَيّهَا النّبِيّ قُل لّأَ ْزوَاجِكَ إِن كُنُتنّ تُرِ ْد َن الْحَيَاةَ
الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فََتعَالَيْنَ أُمَّتعْكُنّ َوأُسَرّ ْحكُنّ سَرَاحًا جَمِيلًا َوإِن كُنتُنّ تُرِ ْدنَ ال ّلهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآ ِخ َرةَ َفِإنّ
سنَاتِ مِنكُنّ أَ ْجرًا َعظِيمً} [الحزاب ]29 ،28 :وكان من شرفهن ونبلهن أنن آثرن
ال ّلهَ أَ َعدّ لِلْ ُمحْ ِ
ال ورسوله ،ول تل واحدة منهن إل اختيار الدنيا.
وكذلك ل يقع منهن ما يقع بي الضرائر ـ مع كثرتن ـ إل شيء يسي من بعضهن حسب اقتضاء
البشرية ،ث عاتب ال عليه فلم يعدن له مرة أخرى وهو الذي ذكره ال ف سورة التحري بقوله {يَا أَيّهَا
النّبِيّ ِلمَ تُحَ ّرمُ مَا أَحَلّ ال ّلهُ َلكَ} إل تام الية الامسة.
وأخيا أرى أنه ل حاجة إل البحث ف موضوع مبدأ تعدد الزوجات ،فمن نظر ف حياة سكان اوروبا
الذين يصدر منهم النكي الشديد على هذا البدأ ،ونظر إل مايقاسون من الشقاوة والرارة ،وما يأتون من
الفضائح والرائم الشنيعة ،وما يواجهون من البليا والقلقل لنرافهم عن هذا البدأ كفى له ذلك عن
البحث والستدلل ،فحياتم أصدق شاهد على عدالة هذا البدأ ،وإن ف ذلك لعبة لول البصار.
الصفات والخلق
كان النب صلى ال عليه وسلم يتاز من جال خَلْقه وكمال خُلُقه با ل ييط بوصفه البيان ،وكان من أثره
أن القلوب فاضت بإجلله ،والرجال تفانوا ف حياطته وإكباره ،با ل تعرف الدنيا لرجل غيه ،فالذين
عاشروه أحبوه إل حد اليام ،ول يبالوا أن تندق أعناقهم ول يدش له ُظفْر ،وما أحبوه كذلك إل لن
أنصبته من الكمال الذي يبب عادة ل يرزق بثلها بشر .وفيما يلي نورد ملخص الروايات ف بيان جاله
وكماله مع اعتراف العجز عن الحاطة.
جال الَلْق
قالت أم مَعَْبدٍ الزاعية عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهي تصفه لزوجها ،حي مر بيمتها
صعْلَة ،وسِيم قَسِيم ،ف عينيه
مهاجرا :ظاهر الوَضَاءة ،أبْ َلجُ الوجه ،حسن الُلُق ،ل تعبه ُثجْلَة ،ول تُ ْزرِ به َ
دَعَج ،وف أشفاره َوطَف ،وف صوته صَهَل ،وف عنقه َسطَع ،أحْوَر ،أكْحَل ،أ َزجّ ،أقْرَن ،شديد سواد
الشعر ،إذا صمت عله الوقار ،وإن تكلم عله البَهَاء ،أجل الناس وأباهم من بعيد ،وأحسنه وأحله من
قريب ،حلو النطق ،فَضْل ،ل نَزْر ول َهذَر ،كأن منطقه َخرَزَات نظمن يَتَحدّرنَ ،رْبعَة ،ل تقحمه عي من
صنَيْن ،فهو أْنظَر الثلثة منظرا ،وأحسنهم قدْرًا ،له رفقاء يفون
قِصَر ،ول تشنؤه من طولُ ،غصْن بي غُ ْ
حفُودَ ،محْشُود ،ل عَابِس ول ُمفَنّد.
به ،إذا قال استمعوا لقوله ،وإذا أمر تبادروا إل أمرهَ ،م ْ
وقال على بن أب طالب ـ وهو ينعت رسول ال صلى ال عليه وسلم :ل يكن بالطويل الُ َمغّطِ ،ول
لعْد ال َقطِطِ ،ول بالسّبْط ،رَ ِجلً ،ول يكن با ُلطَهّم ،ول
القصي التردد ،وكان َربْعَة من القوم ،ول يكن با َ
بالُ َكلْثَم ،وكان ف الوجه تدوير ،وكان أبيض مُشْ َربًا ،أدْعَج العيني ،أ ْهدَب ال ْشفَار ،جَلِيل الُشَاش
والكََتدِ ،دقيق السْ ُربَة ،أجْرَد ،شَ ْثنُ الكفي والقدمي ،إذا مشي َتقَلّع كأنا يشي ف صَبَب ،وإذا التفت
التفت معا ،بي كتفيه خات النبوة ،وهو خات النبيي ،أجود الناس كفا ،وأجرأ الناس صدرا ،وأصدق
الناس لَ ْهجَة ،وأوف الناس ذمة ،وألينهم عَريكَة ،وأكرمهم عشرة ،من رآه بديهة هابه ،ومن خالطه معرفة
أحبه ،يقول ناعته :ل أر قبله ول بعده مثله ،صلى ال عليه وسلم.
صدًا.
وقال أبو الطفيل :كان أبيض ،مَلِيح الوجه ،مُقَ ّ
ط الكفي .وقال :كان أزْهَر اللون ،ليس بأبيض أمْهَقَ ،ول آدَم ،قُبض وليس
سَوقال أنس بن مالك :كان بِ ْ
ف رأسه وليته عشرون شعرة بيضاء.
وقال الباء :كان مَ ْربُوعًا ،بَعِيدَ ما بي الَ ْنكِبَيْن ،له َشعْر يبلغ َشحْمَة أذنيه ،رأيته ف حُلّة حراء ،ل أر شيئا
قط أحسن منه.
سدِل شعره أولً لبه موافقة أهل الكتاب ،ث فَرَق رأسه بعد.
وكان يُ ْ
وسئل :أكان وجه النب صلى ال عليه وسلم مثل السيف؟ قال :ل بل مثل القمر .وف رواية :كان وجهه
مستديرا.
وقال أبو هريرة :ما رأيت شيئا أحسن من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،كأن الشمس تري ف وجهه،
وما رأيت أحدا أسرع ف مشيه من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،كأنا الرض ُتطْوَي له ،وإنا لنجهد
أنفسنا ،وإنه لغي مكترث.
وقال كعب بن مالك :كان إذا سُرّ استنار وجهه ،حت كأنه قطعة قمر.
صفُ نعلً ،وهي تغزل غزلً ،فجعلت تبق أسارير وجهه،
وعرق مرة وهو عند عائشة رضي ال عنها يَخْ ِ
فلما رأته بُهَِتتْ وقالت :وال لو رآك أبو كَبِي ا ُلذَل لعلم أنك أحق بشعره من غيك:
ب الرمان.
وكان إذا غضب احر وجهه ،حت كأنا فقئ ف وجنتيه َح ّ
وقال جابر بن سَمُرَة :كان ف ساقيه حُمُوشة ،وكان ل يضحك إل تَبَسّما .وكنت إذا نظرت إليه قلت:
أ ْكحَل العيني ،وليس بأكحل.
قال ابن عباس :كان أفْ َلجَ الثنيتي ،إذا تكلم رؤي كالنور يرج من بي ثناياه.
وأما ُعنُقه فكأنه جِيدُ ُدمَْيةٍ ف صفاء الفضة ،وكان ف أَ ْشفَاره َعطَف ،وف ليته كثافة ،وكان واسع البي،
ل ّديْن ،من لُبّتِه إل سُ ّرتِه شعر يري كالقضيب،
أ َزجّ الواجب ف غي قرن بينهما ،أقْنَي العِ ْرنِي ،سَهْل ا َ
ليس ف بطنه ول صدره شعر غيه ،أ ْشعَر الذراعي والنكبي ،سَوَاءُ البطن والصدر ،مَسِيح الصدر
عريضه ،طويل الزّنْدَ ،رحْب الراحة ،سَبْط القَصَب ،خُمْصَان ال ْخمَصَيْن ،سَائِل الطراف ،إذا زَالَ زَالَ
قَلْعا ،يطو تَ َكفّيا ويشي هَوْنا.
وقال أنس :ما مسست حريرا ول ديباجا ألي من كف النب صلى ال عليه وسلم ،ول شمت ريا قط أو
عَرْفا قط ،وف رواية :ما شمت عنبا قط ول مِسْكا ول شيئا أطيب من ريح أو عرف رسول ال صلى ال
عليه وسلم.
وقال أبو ُجحَيْفة :أخذت بيده ،فوضعتها على وجهي ،فإذا هي أبرد من الثلج ،وأطيب رائحة من السك.
وقال جابر بن سرة ـ وكان صبيا :مسح َخدّي فوجدت ليده بردا أو ريا كأنا أخرجها من جُوَنةِ َعطّار.
وقال أنس :كأن عرقه اللؤلؤ .وقالت أم سليم :هو من أطيب الطيب.
وقال جابر :ل يسلك طريقا فيتبعه أحد إل عرف أنه قد سلكه من طيب عَرْفِه .أو قال :من ريح عرقه.
وكان بي كتفيه خات النبوة مثل بيضة المامة ،يشبه جسده ،وكان عند نَاغِض كتفه اليسري جُمْعا ،عليه
خِيَلن كأمثال الثّآلِيل.
كان النب صلى ال عليه وسلم يتاز بفصاحة اللسان ،وبلغة القول ،وكان من ذلك بالحل الفضل،
والوضع الذي ل يهل ،سلمة طبع ،ونصاعة لفظ ،وجزالة قول ،وصحة معان ،وقلة تكلف ،أوت جوامع
الكلم ،وخص ببدائع الكم ،وعلم ألسنة العرب ،ياطب كل قبيلة بلسانا ،وياورها بلغتها ،اجتمعت له
قوة عارضة البادية وجزالتها ،ونصاعة ألفاظ الاضرة ورونق كلمها ،إل التأييد اللي الذي مدده الوحي.
وكان اللم والحتمال ،والعفو عند القدرة ،والصب على الكاره ،صفاتٌ أدبه ال با ،وكل حليم قد
عرفت منه زلة ،وحفظت عنه َهفْوَة ،ولكنه صلى ال عليه وسلم ل يزد مع كثرة الذي إل صبا ،وعلى
إسراف الاهل إل حلما ،وقالت عائشة :ما خي رسول ال صلى ال عليه وسلم بي أمرين إل اختار
أيسرها ما ل يكن إثا ،فإن كان إثا كان أبعد الناس عنه ،وما انتقم لنفسه إل أن تنتهك حرمة ال فينتقم
ل با .وكان أبعد الناس غضبا ،وأسرعهم رضا.
وكان من صفة الود والكرم على مال يقادر قدره ،كان يعطي عطاء من ل ياف الفقر ،قال ابن عباس:
كان النب صلى ال عليه وسلم أجود الناس ،وأجود ما يكون ف رمضان حي يلقاه جبيل ،وكان جبيل
يلقاه ف كل ليلة من رمضان ،فيدارسه القرآن ،فلرسول ال صلى ال عليه وسلم أجود بالي من الريح
الرسلة .وقال جابر :ما سئل شيئا قط فقال :ل.
وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالكان الذي ل يهل ،كان أشجع الناس ،حضر الواقف الصعبة ،وفر
عنه الكماة والبطال غي مرة ،وهو ثابت ل يبح ،ومقبل ل يدبر ،ول يتزحزح ،وما شجاع إل وقد
أحصيت له فَرّة ،وحفظت عنه جولة سواه ،قال علي :كنا إذا حي البأس واحرت الَ َدقُ ،اتقينا برسول
ال صلى ال عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إل العدو منه .قال أنس :فزع أهل الدينة ذات ليلة،
فانطلق ناس قَِبلَ الصوت ،فتلقاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم راجعا ،وقد سبقهم إل الصوت ،وهو
على فرس لب طلحة عُرْي ،ف عنقه السيف ،وهو يقول( :ل تُرَاعوا ،ل تُرَاعوا).
وكان أشد الناس حياء وإغضاء ،قال أبو سعيد الدري :كان أشد حياء من العذراء ف ِخدْرها ،وإذا كره
شيئا عرف ف وجهة .وكان ل يثبت نظره ف وجه أحد ،خافض الطرف .نظره إل الرض أطول من نظره
إل السماء ،جُلّ نظره اللحظة ،ل يشافه أحدا با يكره حياء وكرم نفس ،وكان ل يسمي رجلً بلغ عنه
شيء يكرهه ،بل يقول( .ما بال أقوام يصنعون كذا).
وكان أعدل الناس ،وأعفهم ،وأصدقهم لجة ،وأعظمهم أمانة ،اعترف له بذلك ماوروه وأعداؤه ،وكان
يسمي قبل نبوته المي ،ويُتَحاكم إليه ف الاهلية قبل السلم ،روي الترمذي عن على أن أبا جهل قال
له :إنا ل نكذبك ،ولكن نكذب با جئت به ،فأنزل ال تعال فيهمَ { :فِإنّ ُهمْ لَ يُ َك ّذبُونَكَ َولَكِ ّن الظّالِمِيَ
حدُونَ} [النعام .]33:وسأل هرقل أبا سفيان ،هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما
جَبِآيَاتِ ال ّلهِ َي ْ
قال؟ قال :ل.
وكان أشد الناس تواضعا ،وأبعدهم عن الكب ،ينع عن القيام له كما يقومون للملوك ،وكان يعود
الساكي ،ويالس الفقراء ،وييب دعوة العبد ،ويلس ف أصحابه كأحدهم ،قالت عائشة :كان يصف
نعله ،وييط ثوبه ،ويعمل بيده كما يعمل أحدكم ف بيته ،وكان بشرا من البشر يَفْلِي ثوبه ،ويلب شاته،
ويدم نفسه.
وكان أوف الناس بالعهود ،وأوصلهم للرحم ،وأعظمهم شفقة ورأفة ورحة بالناس ،أحسن الناس عشرة
وأدبا ،وأبسط الناس خلقا ،أبعد الناس من سوء الخلق ،ل يكن فاحشا ،ول متفحشا ،ول لعانا ،ول
صخابا ف السواق ،ول يزي بالسيئة السيئة ،ولكن يعفو ويصفح ،وكان ل يدع أحدا يشي خلفه،
وكان ل يترفع على عبيده وإمائه ف مأكل ول ملبس ،ويدم من َخ َدمَه ،ول يقل لادمه أف قط ،ول يعاتبه
على فعل شيء أو تركه ،وكان يب الساكي ويالسهم ،ويشهد جنائزهم ،ول يقر فقيا لفقره .كان ف
بعض أسفارة فأمر بإصلح شاة ،فقال رجل :على ذبها ،وقال آخر :على سلخها ،وقال آخر على
طبخها ،فقال صلى ال عليه وسلم( :وعلي جع الطب) ،فقالوا :نن نكفيك .فقال( :قد علمت أنكم
تكفون ولكن أكره أن أتيز عليكم ،فإن ال يكره من عبده أن يراه متميزا بي أصحابه) ،وقام وجع
الطب.
ولنترك هند بن أب هالة يصف لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ؛ قال هند فيما قال :كان رسول ال
صلى ال عليه وسلم متواصل الحزان ،دائم الفكرة ،ليست له راحة ،ول يتكلم ف غي حاجة ،طويل
السكوت ،يفتتح الكلم ويتمه بأشداقه ـ ل بأطراف فمه ـ ويتكلم بوامع الكلم ،فصلً ،ل فضول فيه
ول تقصي ،دمثا ليس بالاف ول بالهي ،يعظم النعمة وإن دقت ،ليذم شيئا ،ول يكن يذم ذواقا ـ ما
يطعم ـ ول يدحه ،ول يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حت ينتصر له ،ل يغضب لنفسه ،ول ينتصر
لا ـ ساحة ـ وإذا أشار أشار بكفه كلها ،وإذا تعجب قلبها ،وإذا غضب أعرض وأشاح ،وإذا فرح
غض طرفه ،جل ضحكه التبسم ،ويفتر عن مثل حب الغمام.
وكان يزن لسانه إل عما يعنيه ،يؤلف أصحابه ول يفرقهم ،يكرم كري كل قوم ،ويوليه عليهم ،ويذر
الناس ،ويترس منهم من غي أن يطوي عن أحد منهم بشره.
يتفقد أصحابه ،ويسأل الناس عما ف الناس ،ويسن السن ويصوبه ،ويقبح القبيح ويوهنه ،معتدل المر،
غي متلف ،ل يغفل مافة أن يغفلوا أو يلوا ،لكل حال عنده عتاد ،ل يقصر عن الق ،ول ياوزه إل
غيه.
الذين يلونه من الناس خيارهم ،وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة ،وأعظمهم عنده منلة أحسنهم مواساة
ومؤازرة.
كان ل يلس ول يقوم إل على ذكر ،ول يوطن الماكن ـ ل ييز لنفسه مكانا ـ إذا انتهي إل القوم
جلس حيث ينتهي به الجلس ،ويأمر بذلك ،ويعطي كل جلسائه نصيبه حت ل يسب جليسه أن أحدا
أكرم عليه منه ،من جالسه أو قاومه لاجة صابره حت يكون هو النصرف عنه ،ومن سأله حاجة ل يرده
إل با أو بيسور من القول ،وقد وسع الناس بسطه وخلقه ،فصار لم أبا ،وصاروا عنده ف الق متقاربي،
يتفاضلون عنده بالتقوي ،ملسه ملس حلم وحياء وصب وأمانة ،ل ترفع فيه الصوات ،ول تؤبن فيه
الرم ـ ل تشي فلتاته ـ يتعاطفون بالتقوي ،يوقرون الكبي ،ويرحون الصغي ،ويرفدون ذا الاجة،
ويؤنسون الغريب.
صخّاب ،ول فحاش ،ول عتاب،
كان دائم البشر ،سهل اللق ،لي الانب ،ليس بفظ ،ول غليظ ،ول َ
ول مداح ،يتغافل عما ل يشتهي ،ول يقنط منه .قد ترك نفسه من ثلث :الرياء ،والكثار ،وما ل يعنيه،
وترك الناس من ثلث :ل يذم أحدا ،ول يعيه ،ول يطلب عورته ،ول يتكلم إل فيما يرجو ثوابه ،إذا
تكلم أطرق جلساؤه ،كأنا على رءوسهم الطي ،وإذا سكت تكلموا .ل يتنازعون عنده الديث ،من
تكلم عنده أنصتوا له حت يفرغ ،حديثهم حديث أولم ،يضحك ما يضحكون منه ،ويعجب ما يعجبون
منه ،ويصب للغريب على الفوة ف النطق ،يقول :إذا رأيتم صاحب الاجة يطلبها فأرفدوه ،ول يطلب
الثناء إل من مكافئ.
وقال خارجة بن زيد :كان النب صلى ال عليه وسلم أوقر الناس ف ملسه ،ل يكاد يرج شيئا من
أطرافه ،وكان كثي السكوت ،ل يتكلم ف غي حاجة ،يعرض عمن تكلم بغي جيل ،كان ضحكه تبسما،
وكلمه فصل ل فضول ول تقصي ،وكان ضحك أصحابه عنده التبسم توقيا له واقتداء به.
وعلى الملة ،فقد كان النب صلى ال عليه وسلم ملي بصفات الكمال النقطعة النظي ،أدبه ربه فأحسن
تأديبه ،حت خاطبه مثنيا عليه فقالَ { :وِإّنكَ لَعَلى ُخلُقٍ َعظِيمٍ} [القلم ،]4 :وكانت هذه اللل ما قرب
إليه النفوس ،وحببه إل القلوب ،وصيه قائدا توي إليه الفئدة ،وألن من شكيمة قومه بعد الباء ،حت
دخلوا ف دين ال أفواجا.
وهذه اللل الت أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته ،أما حقيقة ما كان عليه
من الماد والشمائل فأمر ل يدرك كنهه ،ول يسب غوره ،ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر ف الوجود
بلغ أعلى قمة من الكمال ،استضاء بنور ربه ،حت صار خلقه القرآن؟
اللهم صل على ممد وعلى آل ممد ،كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ،إنّك حَميد ميد.
اللهم بارك على ممد وعلى آل ممد ،كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حيد ميد.