You are on page 1of 458

W W W . I S LA M WAY .

C O M
‫بي يدي الكتاب‬
‫كلـمـة معال الدكتور عبد ال عمر نصيف‬
‫كلـمـة معال الشيخ ممد بن على الركان‬
‫كلمة الؤلف‬

‫بي يدي الكتاب‬

‫المد ل رب العالي‪ ،‬والصلة والسلم على عبده ورسوله ممد أفضل الرسل وخات النبيي‪ ،‬وعلى آله‬
‫وصحبه ومن اهتدي بديه إل يوم الدين‪.‬‬

‫وبعـــد‪:‬‬

‫فهذا الكتاب هو الذي أسهمت به ف مسابقة السية النبوية العالية الت نظمتها رابطة العال السلمي‪،‬‬
‫وأعلنت عنها عقب أول مؤتر للسية النبوية الذي عقدته دولة باكستان ف شهر ربيع الول عام‬
‫‪1396‬هـ‪.‬‬

‫وقد قدر ال لذا الكتاب من القبول ما ل أكن أرجوه وقت الكتابة‪ ،‬فقد نال الركز الول ف السابقة‪،‬‬
‫وأقبل عليه الاصة والعامة إقبال يغتبط عليه‪.‬‬

‫وكان من حديث هذا الكتاب أن ل أطلع على إعلن الرابطة عن السابقة ف وقته‪ ،‬ولا أخبت به بعد حي‬
‫ل أمِلْ إل السهام فيها‪ ،‬بل رفضت هذا القتراح رفضًا كليًا إل أن القدر ساقن إل ذلك‪ .‬وكان آخر‬
‫موعد لتلقي بوث السابقة واستقبالا عند الرابطة أول شهر مرم من العام القادم ‪1397‬هـ‪ ،‬أي نو‬
‫تسعة أشهر من وقت العلن‪ ،‬وقد ضاعت من من ذلك عدة أشهر‪ ،‬والدة الباقية ل تكن تكفي لعداد‬
‫مثل هذا الكتاب‪ ،‬ولكن لا عزمت على ذلك استعنت ال سبحانه وتعال‪ ،‬وشرت عن ساق الد‪ ،‬حت ت‬
‫إنازه وإرساله ف الوعد‪.‬‬

‫وكنت أعان ـ مع ضيق الوقت والشتغال بأعمال أخري ـ قلة الصادر‪ ،‬وعدم القدرة على مراجعة كل‬
‫ما هو موجود‪ ،‬وكانت الدقة مطلوبة عندي بصفة خاصة مع تنب الشو والزوائد‪ ،‬والحاطة بالوضوع‬
‫بقدر المكان‪ ،‬وقد مررت بأماكن شعرت فيها بشيء من الفجوة والفراغ‪ ،‬وباجة إل إضافات ل تكن ف‬
‫مستطاعي ف ذلك الي‪ .‬فكل ما كان بالمكان هو التسويد السريع لا هو موجود‪ ،‬ث نسخه أو‬
‫استنساخه بغي مراجعة أو تنقيح‪.‬‬

‫وقد بقيت ف النفس رغبة إل ملء تلك الفجوة والفراغ وإضافة بعض الزيادات فيما بعد‪ ،‬ولكن مضت‬
‫اليام والعوام ول يقدر ل ذلك‪ ،‬حت تَقادم العَ ْهدُ وانفلت الزمامُ‪ ،‬وكنت أحيانًا أثبت ف الكتاب أشياء‪،‬‬
‫وربا أقدم أو أؤخر‪ ،‬أو أضـيف أو أعدل أشياء‪ ،‬وهي وإن ل تكن عي ما كانت تتحدث به النفس عند‬
‫التأليف‪ ،‬لكنها مهمة ومفيدة ف السية إن شاء ال ‪ ،‬وكذلك اطلعت على مصادر قديـة أغنتـن إل‬
‫ت إليه من الراجع الديثة‪ ،‬فأدخلت كل ذلك ف هذه الطبعة بتوفيـق‬
‫حــد كبي عـما كـنت أحَ ْل ُ‬
‫ال ‪.‬‬

‫وقد كنت أرجو ظهور بعض اللحوظات العلمية القيمة‪ ،‬أستفيد با ف صلب بعض الوضوعات‪ ،‬لكن‬
‫الذي وصلن منها ل يس الوهر‪ ،‬وإنا يس بعض المور الانبية الت ل تقدم ول تؤخر‪ ،‬يضاف إل ذلك‬
‫أن معظمها خطأ واضح‪ ،‬بل تَخَبّطٌ غريب ل يكن يُرْجَي مثله من عامة الدارسي‪ ،‬فضلًا عن أصحاب‬
‫التخصص‪.‬‬

‫وهذه الطبعة الت تتضمن هذه الضافات والتغييات تكون أفضل وأكثر فائدة من الطبعات السابقة إن‬
‫شاء ال ‪ ،‬وهي الطبعة الشرعية الوحيدة مع تلك الضافات والتعديلت‪ .‬وقد طبع الكتاب قبل ذلك من‬
‫جهة الرابطة عدة طبعات‪ ،‬كما طبعه بعض الخوان بإذن من الؤلف‪ ،‬ولكن هناك عشرات الطبعات كلها‬
‫غي شرعية قام با الناشرون بغي إذن من الؤلف ول إشعار له‪ ،‬مستغلي سعة الكتاب‪ .‬وقد بلغت الرأة‬
‫ببعضهم إل أنه احتفظ بميع حقوق الكتاب لنفسه‪ ،‬فهداهم ال للحق‪ ،‬وليصال القوق إل أهلها قبل أن‬
‫يأت يوم ل بيع فيه ول خلل‪.‬‬

‫وصلى ال على خي خلقه ممد وعلى آله وصحبه وبارك وسلم‪.‬‬

‫‪ 18‬ربيع الول ‪1415‬هـ‬

‫‪ 26‬أغسطس ‪1994‬م‬

‫صفي الرحن الباركفوري‬

‫الامعة السلمية‪ ،‬الدينة النورة‬


‫كلـمـة معال الدكتور عبد ال عمر نصيف‬
‫المد ل الذي بنعمته تتم الصالات‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن ممدًا عبده‬
‫ورسوله وصفيه وخليله‪ ،‬أدي الرسالة وبلغ المانة ونصح المة وتركها على الحجة البيضاء ليلها‬
‫كنهارها‪ ،‬صلى ال عليه وعلى آله وصحبه أجعي‪ ،‬ورضي ال عن كل من تبع سنته وعمل با إل يوم‬
‫أما بعد‪:‬‬ ‫الدين‪ ،‬وعنا معهم بعفوك ورضاك يا أرحم الراحي‪.‬‬

‫فإن السنة النبوية الطهرة ـ وهي العطاء التجدد والزاد الباقي إل يوم الدين‪ ،‬والت يتسابق التسابقون‪،‬‬
‫ويتنافس التنافسون إل الديث عنها وكتابة الكتب والسفار ف مواضيعها منذ بعث صلى ال عليه وسلم‬
‫حت تقوم الساعة ـ تضع للمسلمي النموذج العملي والبنامج الواقعي لا ينبغي أن يكون عليه سلوكهم‬
‫وأفعالم وأقوالم وعلقاتم بربم‪ ،‬ث بأهلهم وعشيتم وإخوانم وأمتهم والناس أجعي‪.‬‬

‫وقد قال ال عز وجل‪{ :‬لَ َقدْ كَانَ لَ ُكمْ فِي َرسُولِ ال ِ أُسْ َوةٌ َحسََنةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ال َ وَالْيَ ْو َم الْآخِرَ‬
‫وَ َذكَرَ ال َ كَثِيًا} [الحزاب‪.]21 :‬‬

‫وقالت السيد عائشة ـ رضوان ال عليها ـ عندما سئلت عن خلق رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬‬
‫كان خلقه القرآن)‪.‬‬

‫فل ريب إذن أنه لبد لن أراد النجاة من هذه الدنيا باتباع النهج الربان ف جيع شئون آخرته ودنياه وأن‬
‫يتأسي بالرسول العظم صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويأخذ بالسية النبوية تفكرًا وتدبرًا على أنا هذا النهج‬
‫الربان القوي عاشه سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم واقعًا عمليّا ف جيع شئون الياة‪ ،‬ففيها الدي‬
‫والرشاد للقادة والقودين والكام والحكومي والرشدين والوجهي والجاهدين‪ ،‬وفيها السوة السنة ف‬
‫جيع الجالت‪ :‬ف السياسة والكم والقتصاد والال والجتماع والعلقات النسانية والخلق الفاضلة‬
‫والعلقات الدولية‪ ،‬فما أحرى السلمي اليوم ـ وقد اندروا ف مهاوي الهالة والتخلف لبتعادهم عن‬
‫هذه النهج ـ أن يعودوا إل صوابم وأن يقدموا السية النبوية ف مناهجهم الدراسية ومنتدياتم الختلفة‬
‫على أنا ليست للمتعة الفكرية وحسب‪ ،‬بل فيها طريق العودة إل ال ‪ ،‬وفيها إصلح الناس وفلحهم‪،‬‬
‫فهي السلوب العلمي لترجة كتاب ال عزّ وجلّ سلوكًا وأخلقًا‪ ،‬حت يصبح الؤمن متكمًا إل شريعة ال‬
‫سبحانه وتعال ومكمًا لا ف جيع شئون الناس‪.‬‬
‫وهذا الكتاب [الرحيق الختوم] جهد رائع وعمل مشكور لؤلفه فضيلة الشيخ صفي الرحن الباركفوري‬
‫الذي استجاب لدعوة رابطة العال السلمي ف مسابقة السية النبوية الت نظمتها عام ‪1396‬هـ‪ ،‬ففاز‬
‫بالائزة الول كما هو مذكور ف مقدمة الطبعة الول لفضيلة الشيخ ممد على الركان ـ رحه ال ـ‬
‫المي العام السابق لرابطة العال السلمي تغمده ال برحته وجزاه عنا خي الزاء‪.‬‬

‫وقد كان إقبال الناس عظيمًا وثناؤهم عطرًا على هذا الكتاب‪ ،‬وقد نفدت نسخ الطبعة الول بالكامل‪،‬‬
‫وطلب من التقدي للطبعة الثالثة فاستجبت له بذه القدمة الوجيزة‪ ،‬سائلًا الول عز وجل أن يعل هذا‬
‫العمل خالصًا لوجهه الكري‪ ،‬وأن ينفع به السلمي نفعًا يؤدي إل تغيي واقعهم إل الفضل‪ ،‬وأن يعيد‬
‫للمة السلمية مدها الفقود ومكانتها ف قيادة المم عملًا بقوله عز وجل‪{ :‬كُنُتمْ خَيْرَ أُ ّمةٍ أُخْرِ َجتْ‬
‫لِلنّاسِ َتأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ َوتَنْهَ ْونَ َع ِن الْمُنكَرِ َوتُ ْؤمِنُونَ بِال ِ} [آل عمران‪.]110 :‬‬

‫وصلى ال على البعوث رحة للعالي‪ ،‬رسول الدى ومرشد النسانية إل طريق النجاة والفلح‪ ،‬وعلى آله‬
‫وصحبه وسلم‪.‬‬

‫والمد ل رب العالي‪.‬‬

‫د‪ .‬عبد ال عمر نصيف‬


‫المي العال لرابطة العال السلمي [سابقًا]‬
‫نائب الرئيس لجلس الشوري‬
‫الملكة العربية السعودية‬
‫كلـمـة معال الشيخ ممد بن على الركان‬
‫ـ رحه ال ـ المي العام لرابطة العال السلمي‬

‫المد ل رب العالي‪ ،‬خالق السموات والرض‪ ،‬وجاعل الظلمات والنور‪ ،‬وصلي ال على سيدنا ممد‬
‫خات النبياء والرسل أجعي‪ ،‬بشّر وأنذر‪ ،‬ووعد وأوعد‪ ،‬أنقذ ال به البشر من الضللة‪ ،‬وهدي الناس إل‬
‫صراط مستقيم‪ ،‬صراط ال الذي له ما ف السموات وما ف الرض أل إل ال تصي المور‪ .‬وبعــد‪:‬‬

‫فلما أعطى ال سبحانه وتعال لرسوله الشفاعة والدرجة الرفيعة‪ ،‬وهدي السلمي إل مبته‪ ،‬وجعل اتباعه‬
‫من مبته تعال فقال تعال‪ُ { :‬قلْ إِن كُنُتمْ ُتحِبّونَ ال َ فَاتِّبعُونِي ُيحْبِبْ ُكمُ ال ُ َويَ ْغفِرْ لَ ُكمْ ُذنُوبَ ُكمْ} [آل‬
‫عمران‪ ،]31 :‬فكان هذا من السباب الت صيت القلوب تفو إل مبته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتتلمس‬
‫السباب الت توثق الصلة فيما بينها وبينه صلى ال عليه وسلم‪ .‬فمنذ فجر السلم والسلمون يتسابقون‬
‫إل إبراز ماسنه‪ ،‬ونشر سيته العطرة صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسيته صلى ال عليه وسلم هي أقواله وأفعاله‬
‫وأخلقه الكرية‪ ،‬فقد قالت السيدة عائشة زوج النب صلى ال عليه وسلم رضي ال عنها‪( :‬كان خلقه‬
‫القرآن)‪ ،‬والقرآن كتاب ال وكلماته التامة‪ ،‬ومن كان كذلك كان أحسن الناس وأكملهم وأحقهم بحبة‬
‫خلق ال جيعًا‪.‬‬

‫ول يَزَلِ السلمون متمسكي بذه الحبة الغالية الت انبثق عنها الؤتر السلمي الول للسية النبوية‬
‫الشريفة الذي عقد بباكستان سنة ‪1396‬هـ‪ ،‬حيث أعلنت الرابطة ف هذا الؤتر عن جوائز مالية‬
‫مقدارها مائة وخسون ألف ريال سعودي توزع على أحسن خسة بوث ف السية النبوية بالشروط‬
‫التية‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ أن يكون البحث متكاملًا مع ترتيب الوادث التاريية حسب وقوعها‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ أن يكون جيدًا ول يسبق نشره من قبل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يذكر الباحث جيع الخطوطات والصادر العلمية الت اعتمد عليها ف كتابة البحث‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن يكتب الباحث ترجة كاملة ومفصلة عن حياته مع ذكر مؤهلته العلمية ومؤلفاته إن وجدت‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن يكتب البحث بط واضح‪ ،‬ويستحسن نسخه على اللة الكاتبة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ تقبل البحوث باللغة العربية واللغات الية الخري‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ يبدأ قبول البحوث من غرة ربيع الثان ‪1396‬هـ‪ ،‬وينتهي موعد القبول بغرة مرم‬
‫‪1397‬هـ‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ تسلم البحوث إل المانة العامة لرابطة العال السلمي بكة الكرمة ف ظرف متوم‪ ،‬وتضع المانة‬
‫عليه رقمًا تسلسليًا خاصًا‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ تقوم بفحص البحوث لنة عليا من كبار العلماء ف هذ الشأن‪.‬‬

‫فكان هذا العلن حافزًا لتسابق العلماء الذين وهبهم ال حب رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬واستعدت‬
‫رابطة العال السلمي لستقبال هذه البحوث باللغات العربية والنليزية والردية وأية لغة أخري‪.‬‬

‫وبدأ الخوان الكرام ف إرسال بوثهم بذه اللغات‪ ،‬وقد بلغ عددها واحدًا وسبعي ومائة بث منها‪:‬‬

‫‪ 84‬بثًا باللغة العربية‪ 64 ،‬بثًا باللغة الردية‪ 21 ،‬بثًا باللغة النليزية‪ ،‬وبث واحد فقط باللغة‬
‫الفرنسية‪ ،‬وبث واحد فقط باللغة الوساوية‪.‬‬

‫وقد كونت الرابطة لنة من كبار العلماء لدراسة هذه البحوث وترتيبها حسب استحقاق الفائز للجائزة‪،‬‬
‫وقد كان الفائزون بالوائز حسب الترتيب الت‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الفائز بالائزة الول الشيخ صفي الرحن الباركفوري من الامعة السلفية بالند‪ ،‬ومقدار جائزته‬
‫خسون ألف ريال سعودي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الفائز بالائزة الثانية الدكتور ماجد على خان من الامعة اللية السلمية نيودلي‪ ،‬الند‪ ،‬ومقدار‬
‫جائزته أربعون ألف ريال سعودي‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الفائز بالائزة الثالثة الدكتور نصي أحد ناصر رئيس الامعة السلمية بباكستان‪ ،‬ومقدار جائزته‬
‫ثلثون ألف ريال سعودي‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الفائز بالائزة الرابعة الستاذ حامد ممود ممد منصور ليمود من جهورية مصر العربية‪ ،‬ومقدار‬
‫جائزته عشرون ألف ريال سعودي‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ الفائز بالائزة الامسة الستاذ عبد السلم هاشم حافظ من الدينة النورة‪ ،‬الملكة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬ومقدار جائزته عشرة آلف ريال سعودي‪.‬‬

‫وقد أعلنت الرابطة أساء الفائزين ف الؤتر السلمي السيوي الول الذي عقد ف كراتشي ف شهر‬
‫شعبان سنة ‪1398‬هـ‪ .‬كما أعلن عن ذلك ف جيع الصحف‪.‬‬
‫وبذه الناسبة أقامت المانة العامة للرابطة بقرها بكة الكرمة حفلًا كبيًا تت إشراف صاحب السمو‬
‫اللكي المي سعود بن عبد الحسن بن عبد العزيز وكيل إمارة منطقة مكة الكرمة‪ ،‬نيابة عن صاحب‬
‫السمو اللكي المي فواز بن عبد العزيز أمي منطقة مكة الكرمة‪ ،‬حيث تفضل سوه بتوزيع الوائز على‬
‫أصحابا‪ ،‬وذلك صباح يوم السبت الوافق ‪ 12‬ربيع الول سنة ‪1399‬هـ‪ .‬وف هذا الفل أعلنت‬
‫المانة العامة أنا ستقوم بطبع البحوث الفائزة ونشرها بعدة لغات‪ ،‬وتنفيذًا لذلك ها هي ذي تضع بي‬
‫يدي القارئ الكري باكورة طبعات تلك البحوث‪ ،‬وهو بث الشيخ‪ /‬صفي الرحن الباركفوري‪ ،‬من‬
‫الامعة السلفية بالند؛ لنه الفائز بالائزة الول‪ ،‬وستوال طبع بقية البحوث الفائزة حسب ترتيبها‪،‬‬
‫سائلي ال سبحانه وتعال أن يتقبل منا جيعًا أعمالنا خالصة لوجهه الكري‪ ،‬إنه نعم الول ونعم النصي‪.‬‬

‫وصلى ال على سيدنا ممد وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬

‫ممد بن على الركان‬


‫المي العام لرابطة العال السلمي‬
‫كلمة الؤلف‬
‫المد ل الذي أرسل رسوله بالدي ودين الق ليظهره على الدين كله‪ ،‬فجعله شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا‪،‬‬
‫وداعيًا إل ال بإذنه وسراجًا منيًا‪ ،‬وجعل فيه أسوة حسنة لن كان يرجو ال واليوم الخر وذكر ال‬
‫كثيًا‪ .‬ال م صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إل يوم الدين‪ ،‬وفجّر لم ينابيع‬
‫الرحة والرضوان تفجيا‪.‬‬

‫وبعـد‪:‬‬

‫فإن من دواعي الغبطة والسرور أن رابطة العال السلمي أعلنت عقب مؤتر السية النبوية الذي عقد ف‬
‫باكستان ف شهر ربيع الول من سنة ‪1396‬هـ عن تنظيم مسابقة علمية عالية؛ لتقدي أحسن بث ف‬
‫موضوع السية النبوية ـ على صاحبها ألف ألف صلة وسلم وتية ـ وذلك تنشيطًا للكاتبي‪ ،‬وتنسيقا‬
‫لهودهم الفكرية‪ .‬وإن أري أن هذا العمل له قيمة كبية ربا ل ييط بوصفه البيان‪ .‬فإن السية النبوية‬
‫والسوة الحمدية ـ على صاحبها ما يستحق من الصلة والسلم ـ إذا لحظناها بعي الدقة والعتبار‬
‫هي النبع الوحيد الذي تتفجر منه ينابيع حياة العال السلمي وسعادة الجتمع البشري‪.‬‬

‫وإن من سعادت وحسن حظي أن أقدم بثًا أسهم به ف تلك السابقة الباركة‪ ،‬ولكن أين أنا حت ألقي‬
‫ضوءًا على حياة سيد الولي والخرين صلى ال عليه وسلم‪ .‬وإنا أنا رجل يري لنفسه كل السعادة‬
‫والفلح أن يقتبس من نوره‪ ،‬حت ل يتهالك ف دياجي الظلمات‪ ،‬بل ييا وهو من أمته‪ ،‬ويوت وهو من‬
‫أمته‪ ،‬ويغفر ال له ذنوبه بشفاعته‪.‬‬

‫ومن منهجي ف هذا الكتاب ـ عدا ما جاء ف إعلن الرابطة ـ أن قررت سلوك سبيل العتدال‪ ،‬متجنبًا‬
‫التطويل المل والياز الخل‪ ،‬وقد وجدت الصادر تتلف فيما بينها حول كثي ما يتعلق بالحداث‬
‫اختلفًا ل يتمل المع والتوفيق‪ ،‬فاخترت سبيل الترجيح‪ ،‬وأثبت ف الكتاب ما ترجح لدي بعد التدقيق‬
‫ف الدراسة والنقد‪ ،‬إل أن طويت ذكر الدلئل والوجوه؛ لن ذلك يفضي إل طول غي مطلوب‪.‬‬

‫أما بالنسبة لقبول الروايات وردها فقد استفدت ف ذلك ما كتبه الئمة التقنون‪ ،‬واعتمدت عليهم فيما‬
‫حكموا به من الصحة والسن والضعف؛ إذ ل أجد وقتًا يكفي للخوض ف هذا الجال‪.‬‬
‫وقد أشرت ف بعض الواضع إل بعض الدلئل ووجوه الترجيح‪ ،‬وذلك حينما ِخفْتُ الستغراب من يقرأ‬
‫الكتاب‪ ،‬أو رأيت شبه التفاق فيما بي الولي والخرين على خلف ما هو الصواب‪ .‬وال ول التوفيق‪.‬‬

‫ال م قدر ل الي ف الدنيا والخرة‪ ،‬إنك أنت الغفور الودود‪ ،‬ذو العرش الجيد‪.‬‬

‫صفي الرحن الباركفوري‬

‫بنارس ـ الند‬
‫العرب‪ ،‬الرض والشعب‪ ،‬الكم والقتصاد‪ ،‬الديانة‬

‫موقع العرب وأقوامها‬

‫إن السية النبوية ـ على صاحبها الصلة والسلم ـ هي ف القيقة عبارة عن الرسالة الت حلها رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم إل الجتمع البشرى قولًا وفعلًا‪ ،‬وتوجيها وسلوكًا‪ ،‬وقلب با موازين الياة‪ ،‬فبدل‬
‫مكان السيئة السنة‪ ،‬وأخرج با الناس من الظلمات إل النور‪ ،‬ومن عبادة العباد إل عبادة ال ‪ ،‬حت عدل‬
‫خط التاريخ وَغيّر مرى الياة ف العال النسان‪ ،‬ول يتم إحضار هذه الصورة الرائعة إل بعد القارنة بي‬
‫البيئة الت سبقت هذه الرسالة وبي ما آلت إليه بعدها‪.‬‬

‫وهذا يقتضي تقدي فصول موجزة عن أقوام العرب وتطوراتا قبل السلم‪ ،‬وعن تاريخ الكومات‬
‫والمارات والنظم القبلية الت كانت سائدة ف ذلك الزمان‪ ،‬مع صور من الديانات وا ِللَل والّنحَل‬
‫والعادات والتقاليد‪ ،‬والوضاع السياسية والجتماعية والقتصادية‪.‬‬

‫وقد خصصنا لكل من ذلك هذا الباب‪ ،‬وإليكم تلك الفصول‪:‬‬


‫موقع العرب‬

‫جدِبة الت ل ماء فيها ول نبات‪ .‬وقد أطلق هذا‬


‫كلمة العرب تنبء عن الصحارى وال ِقفَار‪ ،‬والرض ا ُل ْ‬
‫اللفظ منذ أقدم العصور على جزيرة العرب‪ ،‬كما أطلق على قوم َقطَنُوا تلك الرض واتذوها موطنا لم‪.‬‬

‫وجزيرة العرب يدها غربًا البحر الحر وشبه جزيرة سيناء‪ ،‬وشرقًا الليج العرب وجزء من بلد العراق‬
‫النوبية‪ ،‬وجنوبًا بر العرب الذي هو امتداد لبحر الند‪ ،‬وشالًا بلد الشام وجزء من بلد العراق‪ ،‬على‬
‫اختلف ف بعض هذه الدود‪ ،‬وتقدر مساحتها ما بي مليون ميل مربع إل مليون وثلثائة ألف ميل مربع‪.‬‬

‫ولزيرة العرب أهية بالغة من حيث موقعها الطبيعي والغراف؛ فإنا ف وضعها الداخلي ماطة بالصحاري‬
‫والرمال من كل جانب؛ ولجل هذا الوضع صارت الزيرة حصنًا منيعًا ل يستطع الجانب أن يتلوها‬
‫ويبسطوا عليها سيطرتم ونفوذهم‪ .‬ولذلك نرى سكان الزيرة أحرارًا ف جيع الشئون منذ أقدم العصور‪،‬‬
‫مع أنم كانوا ماورين لمباطوريتي عظيمتي ل يكونوا يستطيعون دفع هجماتما لول هذا السد النيع‪.‬‬

‫وأما بالنسبة إل الارج فإنا تقع بي القارات العروفة ف العال القدي‪ ،‬وتلتقى به برًا وبرًا‪ ،‬فإن ناحيتها‬
‫الشمالية الغربية باب للدخول ف قارة إفريقية‪ ،‬وناحيتها الشمالية الشرقية مفتاح لقارة أوربا‪ ،‬والناحية‬
‫الشرقية تفتح أبواب العجم؛ ومن ث آسيا الوسطى وجنوبا والشرق البعيد‪ ،‬وكذلك تلتقي كل قارة‬
‫بالزيرة برًا‪ ،‬وترسى سفنها وبواخرها على ميناء الزيرة رأسًا‪.‬‬

‫ولجل هذا الوضع الغراف كان شال الزيرة وجنوبا موئلًا للمم‪ ،‬ومركزًا لتبادل التجارة‪ ،‬والثقافة‪،‬‬
‫والديانة‪ ،‬والفنون‪.‬‬
‫أقوام العرب‬

‫وأما أقوام العرب فقد قسمها الؤرخون إل ثلثة أقسام؛ بسب السللت الت ينحدرون منها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ العرب البائدة‪ :‬وهم العرب القدامى الذين انقرضوا تامًا ول يكن الصول على تفاصيل كافية عن‬
‫تاريهم‪ ،‬مثل‪ :‬عاد‪ ،‬وثود‪ ،‬و َطسْم‪ ،‬و َجدِيس‪ ،‬وعِمْلق‪ ،‬وُأمَيْم‪ ،‬وجُرْهُم‪ ،‬وحَضُور‪ ،‬ووَبــار‪ ،‬و َعبِيل‪،‬‬
‫وجاسم‪ ،‬وحَضْ َرمَوت‪ ،‬وغيها‪.‬‬

‫شجُب بن يَعْرُب بن َقحْطان‪ ،‬وتسمى بالعرب‬


‫‪ 2‬ـ العرب العاربة‪ :‬وهم العرب النحدرة من صلب يَ ْ‬
‫القحطانية‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ العرب الستعربة‪ :‬وهي العرب النحدرة من صلب إساعيل عليه السلم‪ ،‬وتسمى بالعرب العدنانية‪.‬‬

‫أما العرب العاربة ـ وهي شعب قحطان ـ فمَ ْهدُها بلد اليمن‪ ،‬وقد تشعبت قبائلها وبطونا من ولد سبأ‬
‫بن يشجب بن يعرب بن قحطان‪ .‬فاشتهرت منها قبيلتان‪ِ :‬حمْيَر بن سبأ‪ ،‬و َكهْلن بن سبأ‪ ،‬وأما بقية بن‬
‫سبأ ـ وهـم أحـد عشـر أو أربعة عشـر بطنًا ـ فيقال لم‪ :‬السبئيون‪ ،‬وليست لم قبائل دون سبأ‪.‬‬

‫أ ـ فأما حي فأشهر بطونا‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ قُضَاعة‪ :‬ومنها بَهْراء َوبِلىّ والقَيْن وكَلْب و ُعذْرَة و َوبَرَة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ السّكاسِك‪ :‬وهـم بنو زيـد بـن وائلة بن حي‪ ،‬ولقب زيد‪ :‬السكاسك‪ ،‬وهي غي سكاسك‬
‫كِنْدة التية ف بن كَهْلن‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ زيــد المهــور‪ :‬ومنها حي الصغر‪ ،‬وسبأ الصغر‪ ،‬وحضور‪ ،‬وذو أصبح‪.‬‬

‫ب ـ وأما كَهْلن فأشهر بطونا‪:‬‬

‫هَمْدان‪ ،‬وألْهَان‪ ،‬وال ْشعَر‪ ،‬وطيئ‪ ،‬و َمذْحِج [ومن مذحج‪ :‬عَنْس والّنخْع]‪ ،‬وَلخْم [ومن لم‪ :‬كندة‪ ،‬ومن‬
‫كندة‪ :‬بنو معاوية والسّكُون والسكاسك]‪ ،‬و ُجذَام‪ ،‬وعاملة‪ ،‬و َخوْلن‪ ،‬و َمعَافِر‪ ،‬وأنار [ومن أنار‪ :‬خَ ْثعَم‬
‫وَبجِي َلةَ‪ ،‬ومن بيلة‪ :‬أحْمَس] والزْد‪[ ،‬ومن الزد‪ :‬الوس‪ ،‬والزرج‪ ،‬وخُزَاعة‪ ،‬وأولد َجفْنَة ملوك الشام‬
‫العروفون بآل غسان]‪.‬‬
‫وهاجرت بنو كهلن عن اليمن‪ ،‬وانتشرت ف أناء الزيرة‪ ،‬يقال‪ :‬كانت هجرة معظمهم قبيل َسيْل العَرِم‬
‫حي فشلت تارتم لضغط الرومان وسيطرتم على طريق التجارة البحرية‪ ،‬وإفسادهم طريق الب بعد‬
‫احتللم بلد مصر والشام‪.‬‬

‫ويقال‪ :‬بل إنم هاجروا بعد السيل حي هلك الرث والنسل بعد أن كانت التجارة قد فشلت‪ ،‬وكانوا قد‬
‫فقدوا كل وسائل العيش‪ ،‬ويؤيده سياق القرآن {لَ َقدْ كَانَ لِسََبإٍ فِي مَسْكَِن ِهمْ آَيةٌ جَنّتَانِ عَن يَ ِميٍ َوشِمَالٍ‬
‫كُلُوا مِن رّ ْزقِ َربّ ُكمْ وَاشْكُرُوا َلهُ بَ ْل َدةٌ طَيَّبةٌ َو َربّ َغفُورٌ َفأَعْ َرضُوا َفأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْي ِهمْ سَ ْي َل الْعَ ِرمِ َوَب ّدلْنَاهُم‬
‫بِجَنّتَ ْي ِهمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَى ُأكُلٍ خَمْطٍ َوأَثْلٍ وَ َش ْيءٍ مّن ِسدْرٍ قَلِيلٍ َذلِكَ َج َزيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ ُنجَازِي ِإلّا‬
‫الْ َكفُورَ وَ َج َعلْنَا بَيْنَ ُهمْ َوبَيْ َن الْقُرَى الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِ َرةً وَ َقدّ ْرنَا فِيهَا السّيْرَ ِسيُوا فِيهَا لَيَالِيَ َوأَيّامًا‬
‫آمِنِيَ َفقَالُوا َربّنَا بَا ِعدْ بَيْنَ أَ ْسفَا ِرنَا َو َظلَمُوا أَنفُسَ ُهمْ َفجَعَ ْلنَا ُهمْ أَحَادِيثَ َومَزّ ْقنَا ُهمْ كُلّ مُمَ ّزقٍ إِنّ فِي َذلِكَ‬
‫لَآيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ َشكُورٍ} [سورة سبأ‪]19 :15:‬‬

‫ول غرو إن كانت هناك ـ عدا ما تقدم ـ منافسة بي بطون كهلن وبطون حي أدت إل جلء كهلن‪،‬‬
‫فقد يشي إل هذا بقاء حي مع جلء كهلن‪.‬‬

‫ويكن تقسيم الهاجرين من بطون كهلن إل أربعة أقسام‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الزْد‪:‬‬

‫وكانت هجرتم على رأى سيدهم وكبيهم عمران بن عمرو مُ َزيْقِياء‪ ،‬فساروا يتنقلون ف بلد اليمن‬
‫ويرسلون الرواد‪ ،‬ث ساروا بعد ذلك إل الشمال والشرق‪ .‬وهاك تفصيل الماكن الت سكنوا فيها بعد‬
‫الرحلة نائيًا‪:‬‬

‫نزل عمران بن عمرو ف عُمَان‪ ،‬واستوطنها هو وبنوه‪ ،‬وهم أزْد عُمَان‪.‬‬

‫واستوطنت بنو نصر بن الزد تُهامة‪ ،‬وهم أزد شَنُوءة‪.‬‬

‫و َعطَف ثَعْلَبة بن عمرو مزيقياء نو الجاز‪ ،‬فأقام بي الثعلبية وذى قار‪ ،‬ولا كب ولده وقوى ركنه سار نو‬
‫الدينة‪ ،‬فأقام با واستوطنها‪ ،‬ومن أبناء ثعلبة هذا‪ :‬الوس والزرج‪ ،‬ابنا حارثة بن ثعلبة‪.‬‬

‫وتنقل منهم حارثة بن عمرو ـ وهو خزاعة ـ وبنوه ف ربوع الجاز‪ ،‬حت نزلوا بر الظهران‪ ،‬ث افتتحوا‬
‫الرم فقطنوا مكة وأجلوا سكانا الراهة‪.‬‬
‫وسار َجفْنَة بن عمرو إل الشام فأقام با هو وبنوه‪ ،‬وهو أبو اللوك الغساسنة؛ نسبة إل ماء ف الجاز‬
‫يعرف بغسان‪ ،‬كانوا قد نزلوا با أولًا قبل انتقالم إل الشام‪.‬‬

‫وانضمت البطون الصغية إل هذه القبائل ف الجرة إل الجاز والشام‪ ،‬مثل كعب بن عمرو‪ ،‬والارث‬
‫بن عمرو‪ ،‬وعوف بن عمرو‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ لَخْم و ُجذَام‪:‬‬

‫انتقلوا إل الشرق والشمال‪ ،‬وكان ف اللخميي نصر بن ربيعة أبو اللوك الناذرة بالية‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ بنو طَيّئ‪:‬‬

‫ساروا بعد مسي الزد نو الشمال حت نزلوا بالبلي أجأ وسلمى‪ ،‬وأقاموا هناك‪ ،‬حت عرف البلن‬
‫ببلى طيئ‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ كِنْدة‪:‬‬

‫نزلوا بالبحرين‪ ،‬ث اضطروا إل مغادرتا فنلوا بـ[حضرموت]‪ ،‬ولقـوا هنـاك ما لقوا بالبحرين‪ ،‬ث‬
‫نزلوا ندًا‪ ،‬وكونوا هناك دولة كبية الشأن‪ ،‬ولكنها سرعان ما فنيت وذهبت آثارها‪.‬‬

‫وهناك قبيلة من حي مع اختلف ف نسبتها إليه ـ وهي قضاعة ـ هجرت اليمن واستوطنت بادية‬
‫السماوة من مشارف العراق‪ ،‬واستوطن بعض بطونا مشارف الشام وشال الجاز‪.‬‬

‫وأما العرب الستعربة‪ ،‬فأصل جدهم العلى ـ وهو سيدنا إبراهيم عليه السلم ـ من بلد العراق‪ ،‬من‬
‫مدينة يقال لا‪[ :‬أر] على الشاطئ الغرب من نر الفرات‪ ،‬بالقرب من الكوفة‪ ،‬وقد جاءت الفريات‬
‫والتنقيبات بتفاصيل واسعة عن هذه الدينة‪ ،‬وعن أسرة إبراهيم عليه السلم‪ ،‬وعن الحوال الدينية‬
‫والجتماعية ف تلك البلد‪.‬‬

‫ومعلوم أن إبراهيم عليه السلم هاجر منها إل حاران أو حَرّان‪ ،‬ومنها إل فلسطي‪ ،‬فاتذها قاعدة لدعوته‪،‬‬
‫وكانت له جولت ف أرجائها وأرجاء غيها من البلد‪ ،‬وف إحدى هذه الولت أتى إبراهيم عليه السلم‬
‫على جبار من البابرة‪ ،‬ومعه زوجته سارة‪ ،‬وكانت من أحسن النساء‪ ،‬فأراد ذلك البار أن يكيد با‪،‬‬
‫ولكن سارة دعت ال تعال عليه فرد ال كيده ف نره‪ ،‬وعرف الظال أن سارة امرأة صالة ذات مرتبة‬
‫عالية عند ال ‪ ،‬فأخدمها هاجر اعترافًا بفضلها‪ ،‬أو خوفًا من عذاب ال ‪ ،‬ووهبتها سارة لبراهيم عليه‬
‫السلم‪.‬‬

‫ورجع إبراهيم عليه السلم إل قاعدته ف فلسطي‪ ،‬ث رزقه ال تعال من هاجر ابنه إساعيل‪ ،‬وصار سببًا‬
‫لغية سارة حت ألأت إبراهيم إل نفي هاجر مع ولدهـا الرضيـع ـ إساعيل ـ فقدم بما إبراهيم عليه‬
‫السلم إل الجاز‪ ،‬وأسكنهما بواد غي ذي زرع عند بيت ال الحرم الذي ل يكن إذ ذاك إل مرتفعًا من‬
‫الرض كالرابية‪ ،‬تأتيه السيول فتأخذ عن يينه وشاله‪ ،‬فوضعهما عند دوحة فوق زمزم ف أعلى السجد‪،‬‬
‫وليس بكة يومئذ أحد‪ ،‬وليس با ماء‪ ،‬فوضع عندها جرابا فيه تر‪ ،‬وسقاء فيه ماء‪ ،‬ورجع إل فلسطي‪،‬‬
‫ول تض أيام حت نفد الزاد والاء‪ ،‬وهناك تفجرت بئر زمزم بفضل ال ‪ ،‬فصارت لما قوتا وبلغًا إل‬
‫حي‪ .‬والقصة معروفة بطولا‪.‬‬

‫وجاءت قبيلة يانية ـ وهي ُجرْهُم الثانية ـ فقطنت مكة بإذن من أم إساعيل‪ .‬يقال‪ :‬إنم كانوا قبل ذلك‬
‫ف الودية الت بأطراف مكة‪ ،‬وقد صرحت رواية البخاري أنم نزلوا مكة بعد إساعيل‪ ،‬وقبل أن يشب‪،‬‬
‫وأنم كانوا يرون بذا الوادى قبل ذلك‪.‬‬

‫وكان إبراهيم عليه السلم يرتل إل مكة ليطالع تركته با‪ ،‬ول يعلم بالضبط عدد هذه الرحلت‪ ،‬إل أن‬
‫الصادر العتمدة حفظت لنا أربعة منها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ فقد ذكر ال تعال ف القرآن الكري أنه أرى إبراهيم ف النام أنه يذبح إساعيل‪ ،‬فقام بامتثال هذا‬
‫ت الرّ ْؤيَا ِإنّا َكذَِلكَ نَجْزِي الْ ُمحْسِنِيَ إِنّ‬
‫صدّ ْق َ‬
‫المر‪َ { :‬فلَمّا أَ ْسلَمَا َوتَ ّلهُ لِ ْلجَِبيِ َونَا َديْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ َقدْ َ‬
‫َهذَا لَهُ َو الْبَلَاء الْمُبِيُ وَ َف َديْنَاهُ بِ ِذْبحٍ َعظِيمٍ} [الصافات‪]107 :103:‬‬

‫وقد ذكر ف ِسفْر التكوين أن إساعيل كان أكب من إسحاق بثلث عشرة سنة‪ ،‬وسياق القصة يدل على‬
‫أنا وقعت قبل ميلد إسحاق؛ لن البشارة بإسحاق ذكرت بعد سرد القصة بتمامها‪.‬‬

‫وهذه القصة تتضمن رحلة واحدة ـ على القل ـ قبل أن يشب إساعيل‪ ،‬أما الرحلت الثلث الخر‬
‫فقد رواها البخاري بطولا عن ابن عباس مرفوعًا‪ ،‬وملخصها‪:‬‬

‫‪2‬ـ أن إساعيل عليه السلم لا شب وتعلم العربية من ُجرْهُم‪ ،‬وأنفسهم وأعجبهم زوجوه امرأة منهم‪،‬‬
‫وماتت أمـه‪ ،‬وبدا لبراهيم أن يطالع تركته‪ ،‬فجاء بعد هذا الزواج‪ ،‬فلم يد إساعيل‪ ،‬فسأل امرأته عنه‬
‫وعن أحوالما‪ ،‬فشكت إليه ضيق العيش فأوصاها أن تقول لساعيل أن يغي عتبة بابه‪ ،‬وفهم إساعيل ما‬
‫أراد أبوه‪ ،‬فطلق امرأته تلك وتزوج امرأة أخرى [وهي ابنة مُضَاض بن عمرو‪ ،‬كبي جرهم وسيدهم على‬
‫قول الكثر]‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ وجاء إبراهيم عليه السلم مرة أخرى بعد أن تزوج إساعيل هذه الزوجة الثانية‪ ،‬فلم يده فرجع إل‬
‫فلسطي بعد أن سأل زوجته عنه وعن أحوالما‪ ،‬فأثنت على ال بي‪ ،‬فأوصى إل إساعيل أن يُثَبّتَ عَتَبَة‬
‫بابه‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ ث جاء إبراهيم عليه السلم بعد ذلك فلقى إساعيل‪ ،‬وهو يَبْرِى نَبْل له تت دوحة قريبًا من زمزم‪،‬‬
‫فلما رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد‪ ،‬وكان لقاؤها بعد فترة طويلة من الزمن‪،‬‬
‫قلما يصب فيها الب الكبي الواه العطوف عن ولده‪ ،‬والوالد البار الصال الرشيد عن أبيه‪ ،‬وف هذه الرة‬
‫بنيا الكعبة‪ ،‬ورفعا قواعدها‪ ،‬وأذّن إبراهيم ف الناس بالج كما أمره ال ‪.‬‬

‫وقد رزق ال إساعيل من ابنة مُضَاض اثن عشر ولدًا ذكرًا‪،‬وهم‪ :‬نابت أو نبايوط‪،‬و َقيْدار‪ ،‬وأدبائيل‪،‬‬
‫ومِبْشام‪ ،‬ومِشْماع‪ ،‬ودوما‪ ،‬ومِيشا‪ ،‬وحدد‪ ،‬وتيما‪ ،‬وَيطُور‪ ،‬ونَفيس‪ ،‬وقَ ْيدُمان‪.‬‬

‫وتشعبت من هؤلء اثنتا عشرة قبيلة‪ ،‬سكنت كلها ف مكة مدة من الزمان‪ ،‬وكانت جل معيشتهم إذ ذاك‬
‫التجارة من بلد اليمن إل بلد الشام ومصر‪ ،‬ث انتشرت هذه القبائل ف أرجاء الزيرة بل وإل خارجها‪،‬‬
‫ث أدرجت أحوالم ف غياهب الزمان‪ ،‬إل أولد نابت وقيدار‪.‬‬

‫وقد ازدهرت حضارة النباط ـ أبْناء نابت ـ ف شال الجاز‪ ،‬وكونوا دولة قوية عاصمتها البتراء ـ‬
‫الدينة الثرية القدية العروفة ف جنوب الردن‪ ،‬وقد دان لذه الدولة النبطية من بأطرافها‪ ،‬ول يستطع أحد‬
‫أن يناوئها حت جاء الرومان وقضوا عليها‪.‬‬

‫وقد جنحت طائفة من الحققي من أهل العلم بالنساب إل أن ملوك آل غسان وكذا النصار من الوس‬
‫والزرج إنا كانوا من آل نابت بن إساعيل‪ ،‬وبقاياهم ف تلك الديار‪.‬‬

‫وإليه مال المام البخاري ـ رحه ال ـ ف صحيحه‪ ،‬فقد عقد بابًا عنوانه‪[ :‬نسبة اليمن إل إساعيل عليه‬
‫السلم]‪ ،‬واستدل عليه ببعض الحاديث‪ ،‬ورجح الافظ ابن حجر ف شرحه أن قحطان من آل نابت بن‬
‫إساعيل عليه السلم‪.‬‬
‫وأما قيدار بن إساعيل فلم يزل أبناؤه بكة‪ ،‬يتناسلون هناك حت كان منه عدنان وولده مَ َعدّ‪ ،‬ومنه حفظت‬
‫العرب العدنانية أنسابا‪ .‬وعدنان هو الد الادى والعشرون ف سلسة النسب النبوى‪ ،‬وقد ورد أنه صلى‬
‫ال عليه وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان يسك ويقول‪( :‬كذب النسابون)‪ ،‬فل يتجاوزه‪ ،‬وذهب جع‬
‫من العلماء إل جواز رفع النسب فوق عدنان؛ مضعفي للحديث الشار إليه‪ ،‬ولكنهم اختلفوا ف هذا‬
‫الزء من النسب اختلفا ل يكن المع بي أقوالم‪ ،‬وقد مال الحقق الكبي العلمة القاضى ممد سليمان‬
‫النصورفورى ـ رحه ال ـ إل ترجيح ما ذكره ابن سعد ـ والذي ذكره الطبى والسعودى وغيها ف‬
‫جلة القوال ـ وهو أن بي عدنان وبي إبراهيم عليه السلم أربعي أبا بالتحقيق الدقيق‪ .‬وسيأتى‪.‬‬

‫وقد تفرقت بطون َم َعدّ من ولده نَزَار ـ قيل‪ :‬ل يكن لعد ولد غيه ـ فكان لنار أربعة أولد‪ ،‬تشعبت‬
‫منهم أربعة قبائل عظيمة‪ :‬إياد وأنار وربيعة ومُضَر‪ ،‬وهذان الخيان ها اللذان كثرت بطونما واتسعت‬
‫أفخاذها‪ ،‬فكان من ربيعة‪ :‬ضُبَ ْيعَة وأسد‪ ،‬ومن أسد‪َ :‬عنْزَة و َجدِيلة‪ ،‬ومن جديلة‪ :‬القبائل الكثية الشهورة‬
‫مثل‪ :‬عبد القيس‪ ،‬والنّمِر‪ ،‬وبنو وائل الذين منهم بكر وَتغْلِب‪ ،‬ومن بن بكر‪ :‬بنو قيس وبنو شيبان وبنو‬
‫حنيفة وغيها‪ .‬أما عنة فمنها آل سعود ملوك الملكة العربية السعودية ف هذا الزمان‪.‬‬

‫وتشعبت قبائل مضر إل شعبتي عظيمتي‪ :‬قَيْس عَيْلن بن مضر‪ ،‬وبطون إلياس ابن مضر‪ ،‬فمن قيس‬
‫صعَة‪ ،‬وبنو َغطَفان‪ .‬ومن غطفان‪َ :‬عبْس‪ ،‬و ُذبْيان‪،‬‬
‫صعْ َ‬
‫عيلن‪ :‬بنو سليم‪ ،‬وبنو هوازن‪ ،‬وبنو ثقيف‪ ،‬وبنو َ‬
‫وأ ْشجَع‪،‬وأعْصُر‪.‬‬

‫ومن إلياس بن مُضَر‪ :‬تيم بن مرة‪ ،‬و ُه َذيْل بن مُدرِكة‪ ،‬وبنو أسد بن خزية‪ ،‬وبطون كنانة بن خزية‪ ،‬ومن‬
‫كنانة قريش‪ ،‬وهم أولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة‪.‬‬

‫وانقسمت قريش إل قبائل شت‪ ،‬من أشهرها‪ :‬جُمَح وسَهْم و َع ِدىّ ومزوم وتَيْم وزُهْرَة‪ ،‬وبطون ُقصَىّ بن‬
‫كلب‪ ،‬وهي‪ :‬عبد الدار بن قصى‪،‬وأسد بن عبد العزى بن قصى‪ ،‬وعبد مناف بن قصى‪.‬‬

‫وكان من عبد مناف أربع فصائل‪ :‬عبد شس‪ ،‬ونَوْفَل‪ ،‬والطلب‪ ،‬وهاشم‪ ،‬وبيت هاشم هو الذي اصطفي‬
‫ال منه سيدنا ممد بن عبد ال بن عبد الطلب بن هاشم صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫قال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن ال اصطفي من ولد إبراهيم إساعيل‪ ،‬واصطفي من ولد إساعيل بن كنانة‪،‬‬
‫واصطفي من بن كنانة قريشًا‪ ،‬واصطفي من قريش بن هاشم‪ ،‬واصطفان من بن هاشم)‪.‬‬
‫وعن العباس بن عبد الطلب قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن ال خلق اللق فجعلن من‬
‫خي فرقهم وخي الفريقي‪ ،‬ث تي القبائل‪ ،‬فجعلن من خي القبيلة‪ ،‬ث تي البيوت‪ ،‬فجعلن من خي‬
‫بيوتم‪ ،‬فأنا خيهم نفسًا وخيهم بيتًا)‪ .‬وف لفظ عنه‪( :‬إن ال خلق اللق فجعلن ف خيهم فرقة‪ ،‬ث‬
‫جعلهم فرقتي فجعلن ف خيهم فرقة‪ ،‬ث جعلهم قبائل فجعلن ف خيهم قبيلة‪ ،‬ث جعلهم بيوتًا فجعلن ف‬
‫خيهم بيتًا وخيهم نفسًا)‪.‬‬

‫ولا تكاثر أولد عدنان تفرقوا ف أناء شت من بلد العرب متتبعي مواقع القطر ومنابت العشب‪.‬‬

‫فهاجرت عبد القيس‪ ،‬وبطون من بكر بن وائل‪ ،‬وبطون من تيم إل البحرين فأقاموا با‪.‬‬

‫وخرجت بنو حنيفة بن على بن بكر إل اليمامة فنلوا ُبجْر‪َ ،‬قصَبة اليمامة‪ ،‬وأقامت سائر بكر بن وائل ف‬
‫طول الرض من اليمامة إل البحرين إل سيف كاظمة إل البحر‪ ،‬فأطراف سواد العراق فا ُلبُ ّلةُ فَهِيت‪.‬‬

‫وأقامت تغلب بالزيرة الفراتية‪ ،‬ومنها بطون كانت تساكن بَكْرًا‪.‬وسكنت بنو تيم ببادية البصرة‪.‬‬

‫وأقامت بنو سليم بالقرب من الدينة‪ ،‬من وادي القرى إل خيب إل شرقي الدينة إل حد البلي‪ ،‬إل ما‬
‫ينتهي إل الرة‪.‬‬

‫وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغرب الكوفة‪ ،‬بينهم وبي تيماء ديار ُبحْتُرٍ من طيئ‪ ،‬وبينهم وبي الكوفة‬
‫خس ليال‪.‬‬

‫وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إل حوران‪ ،‬وبقى بتهامة بطون كنانة‪ ،‬وأقام بكة وضواحيها بطون‬
‫قريش‪ ،‬وكانوا متفرقي ل تمعهم جامعة حت نبغ فيهم قص ّي ابن كلب‪ ،‬فجمعهم‪ ،‬وكون لم وحدة‬
‫شرفتهم ورفعت من أقدارهم‪.‬‬
‫الكـم والمـارة فـي العـرب‬

‫اللك باليمن‬
‫اللك بالية‬
‫اللك بالشام‬
‫المارة بالجاز‬
‫الكم ف سائر العرب‬
‫الالة السياسية‬

‫كان حكام جزيرة العرب عند ظهور دعوة النب صلى ال عليه وسلم على قسمي‪:‬‬

‫‪1‬ـ ملوك مُتَوّجُون ـ إل أنم ف القيقة كانوا غي مستقلي‪.‬‬

‫‪2‬ـ رؤسـاء القبائـل والعشائر ـ وكـان لم مـن الكم والمتـياز مـا كـان للملـوك‬
‫التوجي‪ ،‬ومعظم هـؤلء كانـوا على تـام الستقـلل‪ ،‬وربـا كانت لبعضـهم تبعية للك متـوج‪.‬‬

‫واللوك التوجون هم‪ :‬ملوك اليمن‪ ،‬وملوك مشارف الشام [وهم آل غسان] وملوك الية‪ ،‬وما عدا‬
‫هؤلء من حكام الزيرة ل تكن لم تيجان‪ .‬وفيما يلى موجز عن هؤلء اللوك والرؤساء‪.‬‬

‫اللك باليمن‬

‫من أقدم الشعوب الت عرفت باليمن من العرب العاربة قوم سبأ‪ ،‬وقد عثر على ذكرهم ف حفريات [أور]‬
‫بمس وعشرين قرنا قبل اليلد‪ ،‬ويبدأ ازدهار حضارتم ونفوذ سلطانم وبسط سيطرتم بأحد عشر قرنا‬
‫قبل اليلد‪.‬‬

‫ويكن تقسيم أدوارهم حسب التقدير التى‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ما بي ‪ 1300‬إل ‪ 620‬ق‪.‬م‬

‫عرفت دولتهم ف هذه الفترة بالدولة العينية‪ ،‬ظهرت ف الَوْف؛ أى السهل الواقع بي نران وحضرموت‪،‬‬
‫ث أخذت تنمو وتتسع وتسيطر وتزدهر حت بلغ نفوذها السياسى إل العُل و َمعَان من شال الجاز‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إن مستعمراتا وصلت إل خارج بلد العرب‪ ،‬وكانت التجارة هي صلب معيشتهم‪ ،‬ث إنم بنوا‬
‫سد مأرب الذي له شأن كبي ف تاريخ اليمن‪ ،‬والذي وفر لم معظم خيات الرض‪{ ،‬حَتّى نَسُوا ال ّذكْرَ‬
‫َوكَانُوا َق ْومًا بُورًا} [ الفرقان‪]18:‬‬

‫وكان ملوكهم ف هذه الفترة يلقبون بـ [مكرب سبأ] وكانت عاصمتهم مدينة [صِرْوَاح] الت توجد‬
‫أنقاضها على بعد ‪ 50‬كيلو مترًا إل الشمال الغرب من مدينة [مأرب]‪ ،‬وعلى بعد ‪ 142‬كيلو مترًا‬
‫شرقى صنعاء‪ ،‬وتعرف باسم [خُ َريْبة]‪ .‬ويقدر عدد هؤلء اللوك ما بي ‪ 22‬و ‪ 26‬ملكًا‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ما بي ‪ 620‬ق‪ .‬م إل سنة ‪ 115‬ق‪ .‬م‬

‫وعرفت دولتهم ف هذه الفترة بدولة سبأ‪ ،‬وقد تركوا لقب [مكرب] وعرفوا بـ[ملوك سبأ]‪ ،‬واتذوا [‬
‫مأرب] عاصمة لم بدل [صرواح] وتوجد أنقاض مأرب على بعد ‪ 192‬كيلو مترًا شرقي صنعاء‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ منذ سنة ‪ 115‬ق‪ .‬م إل سنة ‪ 300‬م‬

‫وعرفت الدولة ف هذه الفترة بالدولة الميية الول؛ لن قبيلة حي غلبت واستقلت بملكة سبأ‪ ،‬وقد‬
‫عرف ملوكها بـ[ملوك سبأ وذى ريدان]‪ ،‬وهؤلء اللوك اتذوا مدينة [ريدان] عاصمة لم بدل مدينة [‬
‫مأرب]‪ ،‬و تعرف [ريدان] باسم ظفار‪ ،‬وتوجد أنقاضها على جبل مدور بالقرب من [يري]‪ .‬وف هذا‬
‫العهد بدأ فيهم السقوط والنطاط‪ ،‬فقد فشلت تارتم إل حد كبي لبسط النباط سيطرتم على شال‬
‫الجاز أولًا‪ ،‬ث لغلبة الرومان على طريق التجارة البحرية بعد نفوذ سلطانم على مصر وسوريا وشال‬
‫الجاز ثانيًا‪ ،‬ولتنافس القبائل فيما بينها ثالثًا‪ .‬وهذه العناصر هي الت سببت ف تفرق آل قحطان وهجرتم‬
‫إل البلد الشاسعة‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ منذ سنة ‪300‬م إل أن دخل السلم ف اليمن‬

‫عرفت الدولة ف هذه الفترة بالدولة الميية الثانية‪ ،‬وعرف ملوكها بـ[ملوك سبأ وذى ريدان‬
‫وحضرمـوت ويـنت]‪ ،‬وقد توالت على هذه الدولة الضطرابات والوادث‪ ،‬وتتابعت النقلبات‬
‫والروب الهلية الت جعلتها عرضة للجانب حت قضى على استقللا‪ .‬ففي هذا العهد دخل الرومان ف‬
‫عدن‪ ،‬وبعونتهم احتلت الحباش اليمن لول مرة سنة ‪ 340‬م؛ مستغلي التنافس بي قبيلت هدان‬
‫وحي‪ ،‬واستمر احتللم إل سنة ‪ 378‬م‪ .‬ث نالت اليمن استقللا‪ ،‬ولكن بدأت تقع الثلمات ف سد‬
‫مأرب‪ ،‬حت وقع السيل العظيم الذي ذكره القرآن بسيل العرم ف سنة ‪450‬م‪ ،‬أو ‪ 451‬م‪.‬وكانت‬
‫حادثة كبى أدت إل خراب العمران وتشتت الشعوب‪.‬‬

‫وف سنة ‪523‬م قاد ذو نُوَاس اليهودى حلة منكرة على السيحيي من أهل نران‪ ،‬وحاول صرفهم عن‬
‫السيحية قسرًا‪ ،‬ولا أبوا خدّ لم الخدود وألقاهم ف النيان‪ ،‬وهذا الذي أشـار إلـيه القـرآن ف‬
‫صحَابُ اْلأُ ْخدُودِ} اليات [ البوج‪.]4:‬‬
‫سـورة الـبوج بقـوله‪{ :‬قُِتلَ أَ ْ‬

‫وكان هذا الادث هو السبب ف نقمة النصرانية الناشطة إل الفتح والتوسع تت قيادة أباطرة الرومان من‬
‫بلد العرب‪ ،‬فقد حرضوا الحباش‪ ،‬وهيأوا لم السطول البحرى‪ ،‬فنل سبعون ألف جندى من البشة‪،‬‬
‫واحتلوا اليمن مرة ثانية‪ ،‬بقيادة أرياط سنة ‪ 525‬م‪ ،‬وظل أرياط حاكمًا من قبل ملك البشة حت اغتاله‬
‫أبرهة بن الصباح الشرم ـ أحد قواد جيشه ـ سنة ‪549‬م‪ ،‬ونصب نفسه حاكمًا على اليمن بعد أن‬
‫استرضى ملك البشة وأرضاه‪ ،‬وأبرهة هذا هو الذي جند النود لدم الكعبة‪ ،‬وعرف هو وجنوده‬
‫بأصحاب الفيل‪.‬وقد أهلكه ال بعد عودته إل صنعاء عقب وقعة الفيل‪ ،‬فخلفه على اليمن ابنه يَ ْكسُوم‪ ،‬ث‬
‫البن الثان مسروق‪ ،‬وكانا ـ فيما يقال ـ شرا من أبيهما‪ ،‬وأخبث سية منه ف اضطهاد أهل اليمن‬
‫وقهرهم وإذللم‪.‬‬

‫أما أهل اليمن فإنم بعد وقعة الفيل استنجدوا بالفرس‪ ،‬وقاموا بقاومة البشة حت أجلوهم عن البلد‪،‬‬
‫ونالوا الستقلل ف سنة ‪ 575‬م بقيادة معديكرب سيف بن ذى يزن الميى‪ ،‬واتذوه ملكًا لم‪،‬‬
‫وكان معديكرب أبقى معه جعًا من البشة يدمونه ويشون ف ركابه‪ ،‬فاغتالوه ذات يوم‪ ،‬وبوته انقطع‬
‫اللك عن بيت ذى يزن‪ ،‬وصارت اليمن مستعمرة فارسية تتعاقب عليها ولة من الفرس‪ ،‬وكان أولم‬
‫وهرز‪ ،‬ث الرزبان بن وهرز‪ ،‬ث ابنه التينجان‪ ،‬ث خسرو بن التينجان‪ ،‬ث باذان‪ ،‬وكان آخر ولة الفرس‪،‬‬
‫فإنه اعتنق السلم سنة ‪628‬م‪ ،‬وبإسلمه انتهي نفوذ فارس على بلد اليمن‪.‬‬

‫اللك بالية‬

‫كانت الفرس تكم بلد العراق وما جاورها منذ أن جع شلهم قوروش الكبي (‪ 557‬ـ ‪ 529‬ق‪.‬م‬
‫) ول يكن أحد يناوئهم‪ ،‬حت قام السكندر القدون سنة ‪ 326‬ق‪ .‬م فهزم ملكهم دارا وبددهم وخضد‬
‫شوكتهم‪ ،‬حت تزأت بلدهم‪ ،‬وتولها ملوك عرفوا بلوك الطوائف‪ ،‬وقد ظل هؤلء اللوك يكمون‬
‫البلد مزأة إل سنة ‪230‬م‪ .‬وف عهد هؤلء اللوك هاجر القحطانيون‪ ،‬واحتلوا جزءًا من ريف العراق‪،‬‬
‫ث لقهم من هاجر من العدنانيي فزاحوهم حت سكنوا جزءًا من الزيرة الفراتية‪.‬‬

‫وأول من ملك من هؤلء الهاجرين هو مالك بن فَهْم التّنُوخى من آل قحطان‪ ،‬وكان منله النبار‪ ،‬أو ما‬
‫يلى النبار‪ ،‬وخلفه أخوه عمرو بن فهم ف رواية‪ .‬و َجذِية بن مالك بن فهم ـ اللقب بالبْرش والوَضّاح‬
‫ـ ف رواية أخرى‪.‬‬

‫وعادت القوة مرة ثانية إل الفرس ف عهد أردشي بن بابك ـ مؤسس الدولة الساسانية سنة ‪ 226‬م ـ‬
‫فإنه جع شل الفرس‪ ،‬واستول على العرب القيمي على توم ملكه‪ ،‬وكان هذا سببا ف رحيل قضاعة إل‬
‫الشام‪ ،‬ولكن دان له أهل الية والنبار‪.‬‬

‫وف عهد أردشي كانت ولية جذية الوضاح على الية وسائر مَنْ ببادية العراق والزيرة من ربيعة‬
‫ومضر‪ ،‬وكأن أردشي رأى أنه يستحيل عليه أن يكم العرب مباشرة‪ ،‬وينعهم من الغارة على توم‬
‫ملكه‪ ،‬إل أن يلك عليهم رجلًا منهم له عصبية تؤيده وتنعه‪ ،‬ومن جهة أخرى يكنه الستعانة بم على‬
‫ملوك الرومان الذين كان يتخوفهم‪ ،‬وليكون عرب العراق أمام عرب الشام الذين اصطنعهم ملوك‬
‫الرومان‪ ،‬وكان يبقى عند ملك الية كتيبة من جنود الفرس؛ ليستعي با على الارجي على سلطانه من‬
‫عرب البادية‪ ،‬وكان موت جذية حوال سنة ‪ 268‬م‪.‬‬

‫وبعد موت جذية ول الية والنبار عمرو بن عدى بن نصر اللخمى [ ‪268‬ـ ‪288‬م] وهو أول‬
‫ملوك اللخميي‪ ،‬وأول من اتذ الية مقرًا له‪ ،‬وكان ف عهد كسرى سابور بن أردشي‪ ،‬ث ل يزل اللوك‬
‫من اللخميي من بعده يتولون الية حت ول الفرس قُبَاذ بن فيوز [‪448‬ـ ‪531‬م] وف عهده ظهر‬
‫مَزْدَك‪ ،‬وقام بالدعوة إل الباحية‪ ،‬فتبعه قباذ كما تبعه كثي من رعيته‪ ،‬ث أرسل قباذ إل ملك الية ـ‬
‫وهو النذر بن ماء السماء [‪512‬ـ ‪ 554‬م] ـ يدعوه إل اختيار هذا الذهب البيث‪ ،‬فأب عليه‬
‫ذلك حية وأنفة‪ ،‬فعزله قباذ‪ ،‬وول بدله الارث بن عمرو بن حجر الكندى بعد أن أجاب دعوته إل‬
‫الذهب الزدكى‪.‬‬

‫وخلف قباذ كسرى أنوشروان [‪531‬ـ ‪578‬م] وكان يكره هذا الذهب جدًا‪ ،‬فقتل الزدك وكثيًا‬
‫من دان بذهبه‪ ،‬وأعاد النذر إل ولية الية‪ ،‬وطلب الارث بن عمرو‪ ،‬لكنه أفلت إل دار كلب‪ ،‬فلم‬
‫يزل فيهم حت مات‪.‬‬
‫واستمر اللك بعد النذر بن ماء السماء ف عقبه حت كان النعمان بن النذر [‪ 583‬ـ ‪ 605‬م] فإنه‬
‫غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها زيد بن عدى العبادى‪ ،‬فأرسل كسرى إل النعمان يطلبه‪ ،‬فخرج‬
‫النعمان حت نـزل سـرا عـلى هانئ بن مسعود سـيد آل شيبان‪ ،‬وأودعه أهله وماله‪ ،‬ث توجه إل‬
‫كسرى‪ ،‬فحبسه كسرى حت مات‪ .‬وول على الية بدله إياس بن قَبِيصة الطائى‪ ،‬وأمره أن يرسل إل‬
‫هانئ بن مسعود يطلب منه تسليم ما عنده‪ ،‬فأب ذلك هانئ حية‪ ،‬وآذن اللك بالرب‪ ،‬ول يلبث أن جاءته‬
‫مرازبة كسرى وكتائبه ف موكب إياس‪ ،‬ودارت بي الفريقي معركة هائلة عند ذى قار‪ ،‬انتصر فيها بنو‬
‫شيبان وانزمت الفرس هزية نكراء‪ .‬وهذا أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم‪ ،‬وهو بعد ميلد‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫واختلف الؤرخون ف تديد زمن هذه العركة‪ ،‬فقيل‪ :‬هو بعد ميلد الرسول صلى ال عليه وسلم بقليل‪،‬‬
‫وأنه صلى ال عليه وسلم ولد لثمانية أشهر من ولية إياس بن قبيصة على الية‪ .‬وقيل‪ :‬قبل النبوة بقليل‬
‫ـ وهو القرب‪ .‬وقيل‪ :‬بعد النبوة بقليل‪ .‬وقيل‪ :‬بعد الجرة‪ .‬وقيل‪ :‬بعد بدر‪ .‬وقيل غي ذلك‪.‬‬

‫وول كسرى على الية بعد إياس حاكمًا فارسيًا اسه آزادبه بن ماهبيان بن مهرابنداد‪ ،‬وظل يكم ‪17‬‬
‫عاما[‪614‬ـ ‪631‬م] ث عاد اللك إل آل لم سنة ‪632‬م‪ ،‬فتول منهم النذر بن النعمان اللقب‬
‫بالعرور‪ ،‬ولكن ل تزد وليته على ثانية أشهر حت قدم عليه خالد بن الوليد بعساكر السلمي ‪.‬‬

‫اللك بالشام‬

‫ف العهد الذي ماجت فيه العرب بجرات القبائل سارت بطون من قضاعة إل مشارف الشام وسكنت با‪،‬‬
‫جعَم ابن سليح العروفون باسم الضجاعمة‪ ،‬فاصطنعهم‬
‫ضْ‬‫وكانوا من بن ُسلَيْح بن ُحلْوان الذين منهم بنو َ‬
‫الرومان؛ ليمنعوا عرب البية من العبث‪ ،‬وليكونوا عدة ضد الفرس‪ ،‬وولوا منهم ملكًا‪ ،‬ث تعاقب اللك‬
‫فيهم سني‪ ،‬ومن أشهر ملوكهم زياد بن الَبُولة‪ ،‬ويقدر زمنهم من أوائل القرن الثان اليلدى إل نايته‬
‫تقريبًا‪ ،‬وانتهت وليتهم بعد قدوم آل غسان‪ ،‬الذين غلبوا الضجاعمة على ما بيدهم وانتصروا عليهم‪،‬‬
‫فولتهم الروم ملوكًا على عرب الشام‪ ،‬وكانت قاعدتم مدينة بصرى‪ ،‬ول تزل تتوال الغساسنة على الشام‬
‫بصفتهم عمالًا للوك الروم حت كانت وقعة اليموك سنة ‪13‬هـ‪ ،‬وانقاد للسلم آخر ملوكهم جََبلَة بن‬
‫اليهم ف عهد أمي الؤمني عمر بن الطاب رضي ال عنه‪.‬‬
‫المارة بالجاز‬

‫ول إساعيل عليه السلم زعامة مكة وولية البيت طول حياته‪ ،‬وتوف وله ‪ 137‬سنة‪ ،‬ث ول واحد‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬اثنان من أبنائه‪ :‬نابت ث قَيْدار‪ ،‬ويقال العكس‪ ،‬ث ول أمر مكة بعدها جدها مُضَاض بن عمرو‬
‫الُرْهُمِىّ‪ ،‬فانتقلت زعامة مكة إل جرهم‪ ،‬وظلت ف أيديهم‪ ،‬وكان لولد إساعيل مركز مترم؛ لا لبيهم‬
‫من بناء البيت‪ ،‬ول يكن لم من الكم شيء‪.‬‬

‫ومضت الدهور واليام ول يزل أمر أولد إساعيل عليه السلم ضئيلًا ل يذكر‪ ،‬حت ضعف أمر جرهم‬
‫قبيل ظهور ُبخْتُنَصّر‪ ،‬وأخذ نم عدنان السياسى يتألق ف أفق ساء مكة منذ ذلك العصر‪ ،‬بدليل ما جاء‬
‫بناسبة غزو بتنصر للعرب ف ذات عِرْق‪ ،‬فإن قائد العرب ف الوقعة ل يكن جرهيًا‪ ،‬بل كان عدنان‬
‫نفسه‪.‬‬

‫وتفرقت بنو عدنان إل اليمن عند غزوة بتنصر الثانية [سنة ‪ 587‬ق‪ .‬م] وذهب برخيا ـ صاحب‬
‫يرمياه النب السرائيلى بَ َم َعدّ ـ إل حران من الشام‪ ،‬فلما انكشف ضغط بتنصر رجع معد إل مكة فلم‬
‫يد من جرهم إل جَوْشَم بن ُجلْهُمة‪ ،‬فتزوج بابنته ُمعَانة فولدت له نزارًا‪.‬‬

‫وساء أمر جرهم بكة بعد ذلك‪ ،‬وضاقت أحوالم‪ ،‬فظلموا الوافدين إليها‪ ،‬واستحلوا مال الكعبة‪ ،‬المر‬
‫الذي كان يغيظ العدنانيي ويثي حفيظتهم‪ ،‬ولا نزلت خزاعة بِمَرّ الظّهْران‪ ،‬ورأت نفور العدنانيي من‬
‫الراهة استغلت ذلك‪ ،‬فقامت بعونة من بطون عدنان ـ وهم بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة ـ بحاربة‬
‫جرهم‪ ،‬حت أجلتهم عن مكة‪ ،‬واستولت على حكمها ف أواسط القرن الثان للميلد‪.‬‬

‫ولا لأت جرهم إل اللء سدوا بئر زمزم‪ ،‬ودرسوا موضعها‪ ،‬ودفنوا فيها عدة أشياء‪ ،‬قال ابن إسحاق‪:‬‬
‫فخرج عمرو بن الارث بن مضاض الرهى بغزال الكعبة‪ ،‬وبجر الركن السود فدفنهما ف بئر زمزم‪،‬‬
‫وانطلق هو ومن معه من جرهم إل اليمن‪ ،‬فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنًا شديدًا‪ ،‬وف‬
‫ذلك قال عمرو‪:‬‬

‫صفَا ** أنيـس ولـم يَسْمُـر بكـــة سامـــر‬


‫لجُون إل ال ّ‬
‫كأن ل يكن بي ا َ‬

‫لدُود العَوَاثِر‬
‫بلــى نــن كــنا أهـلــها فأبـادنـا ** صُرُوف الليال وا ُ‬
‫ويقدر زمن إساعيل عليه السلم بعشرين قرنًا قبل اليلد‪ ،‬فتكون إقامة جرهم ف مكة واحدًا وعشرين قرنًا‬
‫تقريبًا‪ ،‬وحكمهم على مكة زهاء عشرين قرنًا‪.‬‬

‫واستبدت خزاعة بأمر مكة دون بن بكر‪ ،‬إل أنه كان إل قبائل مضر ثلث خلل‪:‬‬

‫الول‪ :‬الدفع بالناس من عرفة إل الزدلفة‪ ،‬والجازة بم يوم النفر من من‪ ،‬وكان يلى ذلك بنو الغَوْث بن‬
‫مرة من بطون إلياس بن مضر‪ ،‬وكانوا يسمون صُوفَة‪ ،‬ومعن هذه الجازة أن الناس كانوا ل يرمون يوم‬
‫النفر حت يرمى رجل من صوفة‪ ،‬ث إذا فرغ الناس من الرمى وأرادوا النفر من من أخذت صوفة بانب‬
‫العقبة‪ ،‬فلم يز أحد حت يروا‪ ،‬ث يلون سبيل الناس‪ ،‬فلما انقرضت صوفة ورثهم بنو سعد بن زيد مناة‬
‫من تيم‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬الفاضة من جع غداة النحر إل من‪ ،‬وكان ذلك ف بن عدوان‪.‬‬

‫الثالثة‪:‬إنساء الشهر الرم‪ ،‬وكان ذلك إل بن ُفقَيْم بن عدى من بن كنانة‪.‬‬

‫واستمرت [ولية] خزاعة على مكة ثلثائة سنة‪ .‬وف وقت حكمهم انتشر العدنانيون ف ند وأطراف‬
‫العراق والبحرين‪ ،‬وبقى بأطراق مكة بطون من قريش وهم ُحلُول وصِرْم متقطعون‪ ،‬وبيوتات متفرقون ف‬
‫قومهم من بن كنانة‪ ،‬وليس لم من أمر مكة ول البيت الرام شيء حت جاء قصى بن كلب‪.‬‬

‫ويذكر من أمر قصى‪ :‬أن أباه مات وهو ف حضن أمه‪ ،‬ونكح أمه رجل من بن ُع ْذرَة ـ وهو ربيعة بن‬
‫حرام ـ فاحتملها إل بلده بأطراف الشام‪ ،‬فلما شب قصى رجع إل مكة‪ ،‬وكان واليها إذ ذاك ُحلَيْل بن‬
‫حَ ْبشِيّة من خزاعة‪ ،‬فخطب قصى إل حليل ابنته حُبّى‪ ،‬فرغب فيه حليل وزوجه إياها‪ ،‬فلما مات حليل‬
‫قامت حرب بي خزاعة وقريش‪ ،‬أدت أخيًا إل تغلب قصى على أمر مكة والبيت‪.‬‬

‫وهناك ثلث روايات ف بيان سبب هذه الرب‪:‬‬

‫الول‪ :‬أن قصيًا لا انتشر ولده وكثر ماله وعظم شرفه وهلك حليل رأى أنه أول بالكعبة وبأمر مكة من‬
‫خزاعة وبن بكر‪ ،‬وإن قريشًا رءوس آل إساعيل وصريهم‪ ،‬فكلم رجالًا من قريش وبن كنانة ف إخراج‬
‫خزاعة وبن بكر عن مكة فأجابوه‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬أن حليلًا ـ فيما تزعم خزاعة ـ أوصى قصيًا بالقيام على الكعبة وبأمر مكة‪ ،‬ولكن أبت خزاعة‬
‫أن تضى ذلك لقصى فهاجت الرب بينهما‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن حليلًا أعطى ابنته حب ولية البيت‪ ،‬واتذ أبا غُبْشان‪ .‬الزاعي وكيل لا‪ ،‬فقام أبو غبشان‬
‫بسدانة الكعبة نيابة عن حب‪ ،‬وكان ف عقله شيء‪ ،‬فلما مات حليل خدعه قصى‪ ،‬واشترى منه ولية‬
‫البيت بأذواد من البل أو بزق من المر‪ ،‬ول ترض خزاعة بذا البيع‪ ،‬وحاولوا منع قصى عن البيت‪،‬‬
‫فجمع قصى رجالًا من قريش وبن كنانة لخراج خزاعة من مكة‪ ،‬فأجابوه‪.‬‬

‫وأيا ما كان‪ ،‬فلما مات حليل وفعلت صوفة ما كانت تفعل أتاهم قصى بن معه من قريش وكنانة عند‬
‫العقبة‪ ،‬فقال‪ :‬نن أول بذا منكم‪ ،‬فقاتلوه فغلبهم قصى على ما كان بأيديهم‪ ،‬وانازت عند ذلك خزاعة‬
‫وبنو بكر عن قصى‪ ،‬فبادأهم قصى وأجع لربم‪ ،‬فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا حت كثرت القتلى ف‬
‫الفريقي جيعا‪ ،‬ث تداعوا إل الصلح فحكّموا َيعْمُر بن عوف أحد بن بكر‪ ،‬فقضى بأن قصيًا أول بالكعبة‬
‫وبأمر مكة من خزاعة‪ ،‬وكل دم أصابه قصى منهم موضوع يشدخه تت قدميه‪ ،‬وما أصابت خزاعة وبنو‬
‫بكر ففيه الدية‪ ،‬وأن يلى بي قصى وبي الكعبة‪ ،‬فسمى يعمر يومئذ‪ :‬الشداخ‪.‬‬

‫وكانت فترة تول خزاعة أمر البيت ثلثائة سنة‪ ،‬واستول قصى على أمر مكة والبيت ف أواسط القرن‬
‫الامس للميلد سنة ‪ 440‬م‪،‬وبذلك صارت لقصى ث لقريش السيادة التامة والمر النافذ ف مكة‪،‬‬
‫وصار قصى هو الرئيس الدين لذا البيت الذي كانت تفد إليه العرب من جيع أناء الزيرة‪.‬‬

‫وما فعله قصى بكة أنه جع قومه من منازلم إل مكة‪ ،‬وقطعها رباعًا بي قومه‪ ،‬وأنزل كل قوم من قريش‬
‫منازلم الت أصبحوا عليها‪ ،‬وأقر النسأة وآل صفوان وعدوان ومرة بن عوف على ما كانوا عليه من‬
‫الناصب؛ لنه كان يراه دينًا ف نفسه ل ينبغى تغييه‪.‬‬

‫ومن مآثر قصى‪ :‬أنه أسس دار الندوة بالانب الشمال من مسجد الكعبة‪ ،‬وجعل بابا إل السجد‪ ،‬وكانت‬
‫ممع قريش‪ ،‬وفيها تفصيل مهام أمورها‪ ،‬ولذه الدار فضل على قريش؛ لنا ضمنت اجتماع الكلمة وفض‬
‫الشاكل بالسن‪.‬‬

‫وكان لقصى من مظاهر الرياسة والتشريف‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ رياسة دار الندوة‪ :‬ففيها كانوا يتشاورون فيما نزل بم من جسام المور‪ ،‬وفيها كانوا يزوجون‬
‫بناتم‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ اللواء‪ :‬فكانت ل تعقد راية ول لواء لرب قوم من غيهم إل بيده أو بيد أحد أولده‪ ،‬وف هذه‬
‫الدار‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ القيادة‪ :‬وهي إمارة الركب‪ ،‬فكانت ل ترج ركب لهل مكة ف تارة أو غيها إل تت إمارته أو‬
‫إمارة أولده‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ الجابـة‪ :‬وهي حجابة الكعبة‪،‬ل يفتح بابا إل هو‪ ،‬وهو الذي يلى أمر خدمتها وسدانتها‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ سقاية الاج‪ :‬وهي أنم كانوا يلون للحجاج حياضًا من الاء‪ ،‬يلونا بشيء من التمر والزبيب‪،‬‬
‫فيشرب الناس منها إذا وردوا مكة‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ رفادة الاج‪ :‬وهي طعام كان يصنع للحاج على طريقة الضيافة‪ ،‬وكان قصى فرض على قريش‬
‫خرجًا ترجه ف الوسم من أموالا إل قصى‪ ،‬فيصنع به طعامًا للحاج‪ ،‬يأكله من ل يكن له سعة ول زاد‪.‬‬

‫كان كل ذلك لقصى‪ ،‬وكان ابنه عبد مناف قد شرف وساد ف حياته‪ ،‬وكان عبد الدار بكره‪ .‬فقال له‬
‫قصى فيما يقال‪ :‬للقنك بالقوم وإن شرفوا عليك‪ ،‬فأوصى له با كان يليه من مصال قريش‪ ،‬فأعطاه دار‬
‫الندوة واللواء والقيادة والجابة والسقاية والرفادة‪ ،‬وكان قصى ل يالف ول يرد عليه شيء صنعه‪،‬‬
‫وكان أمره ف حياته وبعد موته كالدين التبع‪ ،‬فلما هلك أقام بنوه أمره ل نزاع بينهم‪ ،‬ولكن لا هلك عبد‬
‫مناف نافس أبناؤه بن عمهم عبد الدار ف هذه الناصب‪ ،‬وافترقت قريش فرقتي‪ ،‬وكاد يكون بينهم قتال‪،‬‬
‫إل أنم تداعوا إل الصلح‪ ،‬واقتسموا هذه الناصب‪ ،‬فصارت السقاية والرفادة والقيادة إل بن عبد مناف‪،‬‬
‫وبقيت دار الندوة واللواء والجابة بيد بن عبد الدار‪ .‬وقيل‪ :‬كانت دار الندوة بالشتراك بي الفريقي‪ ،‬ث‬
‫حكم بنو عبد مناف القرعة فيما أصابم‪ ،‬فصارت السقاية والرفادة لاشم والقيادة لعبد شس‪ ،‬فكان هاشم‬
‫بن عبد مناف هو الذي يلى السقاية والرفادة طول حياته‪ ،‬فلما مات خلفه أخوه الطلب بن عبد مناف‪،‬‬
‫وول بعده عبد الطلب بن هاشم بن عبد مناف جد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبعـده أبنـاؤه‬
‫حت جـاء السلم والولية إل العبـاس‪ .‬ويقـال‪ :‬إن قصيًا هـو الذي قسم الناصب على أولده‪،‬‬
‫ثـم توارثـها أبناؤهـم حسـب التفصيل الذكور‪ ،‬وال أعلم‪ .‬وكانت لقريش مناصب أخرى سوى ما‬
‫ذكرنا وزعوها فيما بينهم‪ ،‬وكونوا با دويلة ـ بل بتعبي أصح‪ :‬شبه دويلة ديقراطية ـ وكانت لم من‬
‫الدوائر والتشكيلت الكومية مـا يشبه ف عصرنـا هـذا دوائـر البلـان ومالسها‪ ،‬وهاك لوحة من‬
‫تلك الناصب‪:‬‬

‫‪1‬ـ اليسار‪ :‬أي تولية قداح الصنام للستقسام‪ ،‬وكان ذلك ف بن جُمَح‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تجي الموال‪ :‬أي تنظيم القربات والنذور الت كانت تدى إل الصنام‪ ،‬وكذلك فصل الصومات‬
‫والرافعات‪.‬وكان ذلك ف بن سهم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الشورى‪ :‬وكانت ف بن أسد‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الشناق‪ :‬أي تنظيم الديات والغرامات‪ ،‬وكان ذلك ف بن تَيْم‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ العقاب‪ :‬أي حل اللواء القومى‪ ،‬وكان ذلك ف بن أمية‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ القبة‪ :‬أي تنظيم العسكر‪ ،‬وكذلك قيادة اليل‪ ،‬وكان ف بن مزوم‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ السفارة‪ :‬وكانت ف بن عدي‪.‬‬

‫الكم ف سائر العرب‬

‫قد تقدم ذكر هجرات القبائل القحطانية والعدنانية‪ ،‬وأنا اقتسمت البلد العربية فيما بينها‪ ،‬فما كان من‬
‫هذه القبائل بالقرب من الية كانت تبعًا للك العرب بالية‪ ،‬وما كان منها ف بادية الشام كانت تبعًا‬
‫للغساسنة‪ ،‬إل أن هذه التبعية كانت اسية ل فعلية‪ ،‬وأما ما كان منها ف البوادى ف داخل الزيرة فكانت‬
‫حرة مطلقة‪.‬‬

‫والقيقة أن هذه القبائل كانت تتار لنفسها رؤساء يسودونا‪ ،‬وأن القبيلة كانت حكومة مصغرة‪ ،‬أساس‬
‫كيانا السياسى الوحدة العصبية‪ ،‬والنافع التبادلة ف حاية الرض ودفع العدوان عنها‪.‬‬

‫وكانت درجة رؤساء القبائل ف قومهم كدرجة اللوك‪ ،‬فكانت القبيلة تبعًا لرأي سيدها ف السلم والرب‪،‬‬
‫ل تتأخر عنه بال‪ ،‬وكان له من الكم والستبداد بالرأي ما يكون لدكتاتور قوى؛ حت كان بعضهم إذا‬
‫غضب غضب له ألوف من السيوف ل تسأله‪ :‬فيم غضب‪ ،‬إل أن النافسة ف السيادة بي أبناء العم كانت‬
‫تدعوهم إل الصانعة بالناس من بذل الندى وإكرام الضيف والكرم واللم‪ ،‬وإظهار الشجاعة والدفاع عن‬
‫الغية‪ ،‬حت يكسبوا الحامد ف أعي الناس‪ ،‬ولسيما الشعراء الذين كانوا لسان القبيلة ف ذلك الزمان‪،‬‬
‫وحت تسمو درجتهم عن مستوى النافسي‪.‬‬

‫وكان للسادة والرؤساء حقوق خاصة‪ ،‬فكانوا يأخذون من الغنيمة الِرْباع والصّفي والنّشيطة والفُضُول‪،‬‬
‫يقول الشاعر‪:‬‬

‫صفَايا ** وحُ ْكمُك والنّشِيطة والفُضُول‬


‫لك الِ ْربَاع فينـا وال ّ‬
‫والرباع‪ :‬ربع الغنيمة‪ ،‬والصفي‪ :‬ما كان يصطفيه الرئيس‪ ،‬أي يتاره لنفسه قبل القسمة‪ ،‬والنشيطة‪ :‬ما‬
‫أصاب الرئيس ف الطريق قبل أن يصل إل بيضة القوم‪.‬والفضول‪:‬ما فضل من القسمة ما ل تصح قسمته‬
‫على عدد الغزاة‪ ،‬كالبعي والفرس ونوها‪.‬‬
‫الالة السياسية‬

‫بعد أن ذكرنا حكام العرب يمل بنا أن نذكر جلة من أحوالم السياسية حت يتضح الوضع‪ ،‬فالقطار‬
‫الثلثة الت كانت ماورة للجانب كانت حالتها السياسية ف تضعضع وانطاط ل مزيد عليه‪.‬فقد كان‬
‫الناس بي سادة وعبيد‪ ،‬أو حكام ومكومي‪ ،‬فالسادة ـ ولسيما الجانب ـ كان لم كل الغُنْم‪ ،‬والعبيد‬
‫عليهم كل الغُرْم‪ ،‬وبعبارة أوضح‪:‬إن الرعايا كانت بثابة مزرعة تورد الحصولت إل الكومات‪،‬‬
‫والكومات كانت تستخدمها ف ملذاتا وشهواتا‪ ،‬ورغائبها‪ ،‬وجورها‪ ،‬وعدوانا‪.‬أما الناس فكانوا ف‬
‫عمايتهم يتخبطون‪ ،‬والظلم ينحط عليهم من كل جانب‪ ،‬وما ف استطاعتهم التذمر والشكوى‪ ،‬بل كانوا‬
‫يسامون السف والور والعذاب ألوانًا ساكتي‪ ،‬فقد كان الكم استبداديا‪ ،‬والقوق ضائعة مهدورة‪.‬‬

‫وأما القبائل الجاورة لذه القطار فكانوا مذبذبي تتقاذفهم الهواء والغراض‪ ،‬مرة يدخلون ف أهل‬
‫العراق‪ ،‬ومرة يدخلون ف أهل الشام‪.‬‬

‫وكانت أحوال القبائل داخل الزيرة مفككة الوصال‪ ،‬تغلب عليها النازعات القبلية والختلفات‬
‫العنصرية والدينية‪ ،‬حت قال ناطقهم‪:‬‬

‫وما أنا إل من غَزَّية إن غَ َوتْ ** غويت‪ ،‬وإن ترشد غزية أرشد‬

‫ول يكن لم ملك يدعم استقللم‪ ،‬أو مرجع يرجعون إليه‪ ،‬ويعتمدون عليه وقت الشدائد‪.‬‬

‫وأما حكومة الجاز فقد كانت تنظر إليها العرب نظرة تقدير واحترام‪ ،‬ويرونا قادة و َسدَنة الركز الدين‪،‬‬
‫وكانت تلك الكومة ف القيقة خليطًا من الصدارة الدنيوية والكومية والزعامة الدينية‪ ،‬حكمت بي‬
‫العرب باسم الزعامة الدينية‪ ،‬وحكمت ف الرم وما واله بصفتها حكومة تشرف على مصال الوافدين‬
‫إل البيت‪ ،‬وتنفذ حكم شريعة إبراهيم‪ ،‬وكانت لا من الدوائر والتشكيلت ما يشابه دوائر البلان ـ‬
‫كما أسلفنا ـ ولكن هذه الكومة كانت ضعيفة ل تقدر على حل العبء كما وضح يوم غزو الحباش‪.‬‬
‫ديانات العـرب‬

‫كان معظم العرب يدينون بدين إبرهيم عليه السلم منذ أن نشأت ذريته ف مكة وانتشرت ف جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬فكانوا يعبدون ال ويوحدونه ويلتزمون بشعائر دينه النيف‪ ،‬حت طال عليهم المد ونسوا حظًا‬
‫ما ذكروا به‪ ،‬إل أنم بقى فيهم التوحيد وعدة شعائر من هذا الدين‪ ،‬حت جاء عمرو بن ُلحَيّ رئيس‬
‫خزاعة‪ ،‬وكان قد نشأ على أمر عظيم من العروف والصدقة والرص على أمور الدين‪ ،‬فأحبه الناس‬
‫ودانوا له‪ ،‬ظنًا منهم أنه من أكابر العلماء وأفاضل الوليـاء‪.‬‬

‫ث إنه سافر إل الشام‪ ،‬فرآهم يعبدون الوثان‪ ،‬فاستحسن ذلك وظنه حقًا؛ لن الشام مل الرسل‬
‫والكتب‪ ،‬فقدم معه بُبَل وجعله ف جوف الكعبة‪ ،‬ودعا أهل مكة إل الشرك بال فأجابوه‪ ،‬ث ل يلبث أهل‬
‫الجاز أن تبعوا أهل مكة؛ لنم ولة البيت وأهل الرم‪.‬‬

‫وكان هبل من العقيق الحر على صورة إنسان‪ ،‬مكسور اليد اليمن‪ ،‬أدركته قريش كذلك‪ ،‬فجعلوا له يدًا‬
‫من ذهب‪ ،‬وكان أول صنم للمشركي وأعظمه وأقدسه عندهم‪.‬‬

‫ومن أقدم أصنامهم مَناة‪ ،‬كانت ُل َذيْل وخزاعة‪ ،‬وكانت بالُشَلّل على ساحل البحر الحر حذو ُق َديْد‪،‬‬
‫والشلل‪ :‬ثنية جبل يهبط منها إل قديد‪ .‬ث اتذوا اللت ف الطائف‪ ،‬وكانت لثقيف‪ ،‬وكانت ف موضع‬
‫منارة مسجد الطائف اليسرى‪ ،‬ث اتذوا العُزّى بوادى نلة الشامية فوق ذات عِرْق‪ ،‬وكانت لقريش وبن‬
‫كنانة مع كثي من القبائل الخرى‪.‬‬

‫وكانت هذه الصنام الثلثة أكب أوثان العرب‪ ،‬ث كثر فيهم الشرك‪ ،‬وكثرت الوثان ف كل بُقعة‪.‬‬

‫ويذكر أن عمرو بن لي كان له رئى من الن‪ ،‬فأخبه أن أصنام قوم نوح ـ ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق‬
‫ونسرًا ـ مدفونة بدة‪ ،‬فأتاها فاستثارها‪ ،‬ث أوردها إل تامة‪ ،‬فلما جاء الج دفعها إل القبائل‪ ،‬فذهبت با‬
‫إل أوطانا‪.‬‬

‫فأما ود‪ :‬فكانت لكلب‪ ،‬بَرَش بدَ ْومَة الندل من أرض الشام ما يلى العراق‪ ،‬وأما سواع‪ :‬فكانت لذيل‬
‫بن ُمدْرِكة بكان يقال له‪ُ :‬رهَاط من أرض الجاز‪ ،‬من جهة الساحل بقرب مكة‪ ،‬وأما يغوث‪ :‬فكانت لبن‬
‫ُغطَيف من بن مراد‪ ،‬بالُرْف عند سبأ‪ ،‬وأما يعوق‪:‬فكانت لمدان ف قرية خَيْوان من أرض اليمن‪،‬‬
‫وخيوان‪ :‬بطن من هدان‪ ،‬وأما نسر‪:‬فكانت لمي لل ذى الكلع ف أرض حي‪.‬‬
‫وقد اتذوا لذه الطواغيت بيوتًا كانوا يعظمونا كتعظيم الكعبة‪ ،‬وكانت لا سدنة وحجاب‪ ،‬وكانت تدى‬
‫لا كما يهدى للكعبة‪ ،‬مع اعترافهم بفضل الكعبة عليها‪.‬‬

‫وقد سارت قبائل أخرى على نفس الطريق‪ ،‬فاتذت لا أصنامًا آلة وبنت لا بيوتًا مثلها‪ ،‬فكان منها ذو‬
‫الَلَصَة لدَوْس وخَ ْثعَم وُبجَيْلَة‪ ،‬ببلدهم من أرض اليمن‪ ،‬بتَبَالة بي مكة واليمن‪ ،‬وكانت فِلْس لبن طيئ‬
‫ومن يليها بي جبلى طيئ سلمى وأجأ‪.‬وكان منها ريام‪ ،‬بيت بصنعاء لهل اليمن وحي‪ ،‬وكانت منها‬
‫رضاء‪ ،‬بيت لبن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد‪ ،‬مناة بن تيم‪ ،‬وكان منها ال َكعَبَات لبكر وتغلب ابن‬
‫وائل‪ ،‬ولياد بِسَ ْندَاد‪.‬‬

‫وكان لدَوْس أيضًا صنم يقال له‪:‬ذو الكفي‪ ،‬ولبن بكر ومالك وملكان أبناء كنانة صنم يقال له‪:‬سعد‪،‬‬
‫وكان لقوم من عذرة صنم يقال له‪:‬شس‪ ،‬وكان لولن صنم يقال له‪:‬عُمْيانِس‪.‬‬

‫وهكذا انتشرت الصنام ودور الصنام ف جزيرة العرب‪ ،‬حت صار لكل قبيلة ث ف كل بيت منها صنم‪،‬‬
‫أما السجد الرام فكانوا قد ملوه بالصنام‪ ،‬ولا فتح رسول ال صلىال عليه وسلم مكة وجد حول‬
‫البيت ثلثائة وستي صنمًا‪ ،‬فجعل يطعنها بعود ف يده حت تساقطت‪ ،‬ث أمر با فأخرجت من السجد‬
‫وحرقت‪ ،‬وكان ف جوف الكعبة أيضًا أصنام وصور‪ ،‬منها صنم على صورة إبراهيم‪ ،‬وصنم على صورة‬
‫إساعيل ـ عليهما الصلة والسلم ـ وبيدها الزلم‪ ،‬وقد أزيلت هذه الصنام وميت هذه الصور أيضًا‬
‫يوم الفتح‪.‬‬

‫وقد تادى الناس ف غيهم هذا حت يقول أبو رجاء العُطاردى رضي ال عنه‪ :‬كنا نعبد الجر‪ ،‬فإذا وجدنا‬
‫حجرًا هو خي منه ألقيناه وأخذنا الخر‪ ،‬فإذا ل ند حجرًا جعنا جُثْ َوةً من تراب‪ ،‬ث جئنا بالشاة فحلبناه‬
‫عليه‪ ،‬ث طفنا به‪.‬‬

‫وجلة القول‪:‬إن الشرك وعبادة الصنام كانا أكب مظهر من مظاهر دين أهل الاهلية الذين كانوا يزعمون‬
‫أنم على دين إبراهيم عليه والسلم‪.‬‬

‫أما فكرة الشرك وعبادة الصنام فقد نشأت فيهم على أساس أنم لا رأوا اللئكة والرسل والنبيي وعباد‬
‫ال الصالي من الولياء والتقياء والقائمي بأعمال الي ـ لا رأوهم أنم أقرب خلق ال إليه‪ ،‬وأكرمهم‬
‫درجة وأعظمهم منلة عنده‪ ،‬وأنم قد ظهرت على أيديهم بعض الوارق والكرامات‪ ،‬ظنوا أن ال‬
‫أعطاهم شيئًا من القدرة والتصرف ف بعض المور الت تتص بال سبحانه وتعال‪ ،‬وأنم لجل تصرفهم‬
‫هذا ولجل جاههم ومنلتهم عند ال يستحقون أن يكونوا وسطاء بي ال سبحانه وتعال وبي عامة‬
‫عباده‪ ،‬فل ينبغى لحد أن يعرض حاجته على ال إل بواسطة هؤلء؛ لنم يشفعون له عند ال ‪ ،‬وأن ال‬
‫ل يرد شفاعتهم لجل جاههم‪ ،‬كذلك ل ينبغى القيام بعبادة ال إل بواسطة هؤلء؛ لنم بفضل مرتبتهم‬
‫سوف يقربونه إل ال زلفي‪.‬‬

‫ولا تكن منهم هذا الظن ورسخ فيهم هذا العتقاد اتذوهم أولياء‪ ،‬وجعلوهم وسيلة فيما بينهم وبي ال‬
‫سبحانه وتعال‪ ،‬وحاولوا التقرب إليهم بكل ما رأوه من أسباب التقرب؛ فنحتوا لعظمهم صورًا وتاثيل‪،‬‬
‫إما حقيقية تطابق صورهم الت كانوا عليها‪ ،‬وإما خيالية تطابق ما تيلوا لم من الصور ف أذهانم ـ وهذه‬
‫الصور والتماثيل هي الت تسمى بالصنام‪.‬‬

‫وربا ل ينحتوا لم صورًا ول تاثيل‪ ،‬بل جعلوا قبورهم وأضرحتهم وبعض مقراتم ومواضع نزولم‬
‫واستراحتهم أماكن مقدسة‪ ،‬وقدموا إليها النذور والقرابي‪ ،‬وأتوا لا بأعمال الضوع والطاعات‪ ،‬وهذه‬
‫الضرحة والقرات والواضع هي الت تسمى بالوثان‪.‬‬

‫أما عبادتم لذه الصنام والوثان فكانت لم فيها تقاليد وأعمال ابتدع أكثرها عمرو بن لى‪ ،‬وكانوا‬
‫يظنون أن ما أحدثه عمرو بن لى فهو بدعة حسنة‪ ،‬وليس بتغيي لدين إبراهيم \‪ ،‬فكان من جلة عبادتم‬
‫للصنام والوثان أنم‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ كانوا يعكفون عليها ويلتجئون إليها‪ ..‬ويهتفون با‪ ،‬ويستغيثونا ف الشدائد‪ ،‬ويدعونا لاجاتم‪،‬‬
‫معتقدين أنا تشفع عند ال ‪ ،‬وتقق لم ما يريدون‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ وكانوا يجون إليها ويطوفون حولا‪ ،‬ويتذللون عندها‪ ،‬ويسجدون لا‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ وكانوا يتقربون إليها بأنواع من القرابي‪ ،‬فكانوا يذبون وينحرون لا على أنصابا‪ ،‬كما كانوا‬
‫يذبون بأسائها ف أي مكان‪.‬‬

‫صبِ} [الائدة‪ ،]3 :‬وف قوله‪{:‬‬


‫وهذان النوعان من الذبح ذكرها ال تعال ف قوله‪َ { :‬ومَا ُذبِحَ َعلَى النّ ُ‬
‫وَلَ َتأْكُلُواْ مِمّا َلمْ ُي ْذكَرِ ا ْسمُ ال ِ َعلَ ْيهِ} [النعام‪]121:‬‬

‫‪ 4‬ـ وكان من أنواع التقرب إل هذه الصنام والوثان أنم كانوا يصون لا شيئا من مآكلهم ومشاربم‬
‫حسبما يبدو لم‪ ،‬وكذلك كانوا يصون لا نصيبا من حرثهم وأنعامهم‪ ،‬ومن الطرائف‪:‬أنم كانوا يصون‬
‫من ذلك جزءًا ل أيضًا‪.‬وكانت عندهم عدة أسباب ينقلون لجلها إل الصنام ما كان ل‪ ،‬ولكن ل يكونوا‬
‫ينقلون إل ال ما كان لصنامهم بال‪ ،‬قال تعال‪َ {:‬و َجعَلُواْ لِ ّلهِ مِمّا َذ َرأَ مِ َن اْلحَ ْرثِ وَا َلنْعَامِ نَصِيبًا َفقَالُواْ‬
‫هَـذَا لِ ّلهِ بِزَعْمِ ِهمْ وَهَـذَا لِشُ َركَآئِنَا َفمَا كَانَ لِشُ َركَآئِ ِهمْ َفلَ يَصِلُ إِلَى ال ِ َومَا كَانَ لِ ّلهِ فَهُوَ يَصِلُ ِإلَى‬
‫شُ َركَآئِ ِهمْ سَاء مَا َيحْكُمُونَ} [النعام‪.]136:‬‬

‫‪ 5‬ـ وكان من أنواع التقرب إليها النذر ف الرث والنعام قال تعال‪{ :‬وَقَالُواْ هَـ ِذهِ َأنْعَامٌ وَحَ ْرثٌ‬
‫ِحجْرٌ لّ َي ْطعَمُهَا إِلّ مَن نّشَاء بِزَعْ ِم ِهمْ َوَأنْعَامٌ حُ ّرمَتْ ظُهُو ُرهَا َوَأنْعَامٌ لّ َي ْذكُرُونَ ا ْسمَ ال ِ َعلَيْهَا افْتِرَاء‬
‫عَ َل ْيهِ سََيجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ َيفْتَرُونَ} [ النعام‪.]138:‬‬

‫‪ 6‬ـ وكانت منها البحية والسائبة والوصيلة والامى‪.‬‬

‫قال سعيد بن السيب‪ :‬البحية‪ :‬الت ينع درها للطواغيت‪ ،‬فل يلبها أحد من الناس‪.‬والسائبة‪ :‬كانوا‬
‫يسيبونا للتهم‪ ،‬فل يمل عليها شىء‪.‬والوصيلة‪ :‬الناقة البكر تبكر ف أول نتاج البل بأنثى‪ ،‬ث تثن بعد‬
‫بأنثى‪ ،‬وكانوا يسيبونا لطواغيتهم إن وصلت إحداها بالخرى‪ ،‬ليس بينهما ذكر‪ .‬والامى‪ :‬فحل البل‬
‫يضرب الضراب العدود [العشر من البل] فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت‪ ،‬وأعفوه من المل‪ ،‬فلم‬
‫يمل عليه شىء وسوه الامى‪.‬‬

‫وقال ابن إسحاق‪ :‬البحية بنت السائبة‪ ،‬هي الناقة إذا تابعت بي عشر إناث ليس بينهم ذكر‪ ،‬سيبت فلم‬
‫يركب ظهرها‪ ،‬ول يز وبرها‪ ،‬ول يشرب لبنها إل ضيف‪ ،‬فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنا‪ ،‬ث‬
‫خلى سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها‪ ،‬ول يز وبرها‪ ،‬ول يشرب لبنها إل ضيف‪ ،‬كما فعل بأمها‪ ،‬فهي‬
‫البحية بنت السائبة‪ .‬والوصيلة‪ :‬الشاة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات ف خسة أبطن ليس بينهم ذكر‬
‫جعلت وصيلة‪ .‬قالوا‪ :‬قد وصلت‪ ،‬فكان ما ولد بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم إل أن يوت شىء‬
‫فيشترك ف أكله ذكورهم وإناثهم‪ .‬والامى‪ :‬الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حى‬
‫ظهره‪ ،‬فلم يركب‪ ،‬ول يز وبره‪ ،‬وخلى ف إبله يضرب فيها‪ ،‬ل ينتفع منه بغي ذلك‪ ،‬وف ذلك أنزل ال‬
‫يةٍ َولَ سَآئِبَةٍ وَلَ وَصِي َلةٍ وَلَ حَامٍ َولَـكِ ّن اّلذِينَ كَفَرُواْ َيفْتَرُونَ َعلَى ال ِ‬
‫تعال‪{:‬مَا َجعَلَ ال ُ مِن َبحِ َ‬
‫صةٌ‬
‫الْ َك ِذبَ َوَأكْثَرُ ُهمْ لَ َيعْقِلُونَ} [الائدة‪ ،]103:‬وأنزل‪َ {:‬وقَالُواْ مَا فِي ُبطُونِ هَـ ِذهِ ا َلنْعَامِ خَالِ َ‬
‫لّ ُذكُو ِرنَا َو ُمحَ ّرمٌ َعلَى أَزْوَاجِنَا َوإِن يَكُن مّيَْتةً فَ ُهمْ فِيهِ شُ َركَاء} [ النعام‪ ،]139:‬وقيل ف تفسي هذه‬
‫النعام غي ذلك‪.‬‬
‫وقد مر عن سعيد بن السيب أن هذه النعام كانت لطواغيتهم‪.‬وف الصحيحي أن النب صلىال عليه‬
‫وسلم قال‪( :‬رأيت عمرو بن عامر بن لى الزاعى ير َقصَبَه [أي أمعاءه ] ف النار)؛ لنه أول من غي‬
‫دين إبراهيم‪ ،‬فنصب الوثان وسيب السائبة‪ ،‬وبر البحية‪ ،‬ووصل الوصيلة‪ ،‬وحى الامى‪.‬‬

‫كانت العرب تفعل كل ذلك بأصنامهم معتقدين أنا تقربم إل ال وتوصلهم إليه‪،‬وتشفع لديه‪ ،‬كما ف‬
‫ضرّ ُهمْ َولَ‬
‫القرآن‪{ :‬مَا َنعُْبدُ ُهمْ إِلّا لُِيقَرّبُونَا إِلَى ال ِ ُزْلفَى} [الزمر‪َ { ]3 :‬وَيعْبُدُونَ مِن دُونِ ال ِ مَا لَ يَ ُ‬
‫يَن َفعُ ُهمْ َوَيقُولُونَ هَـؤُلء ُش َفعَاؤُنَا عِندَ ال ِ} [يونس‪]81:‬‬

‫وكانت العرب تستقسم بالزلم‪ ،‬وال ّزلَم‪:‬القدح الذي ل ريش له‪ ،‬وكانت الزلم ثلثة أنواع‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ نوع فيه ثلثة أسهم‪ ،‬أحدها‪[:‬نعم]‪ ،‬وثانيها‪[ :‬ل]‪ ،‬وثالثها‪ُ [:‬غفْل]‪ ،‬كانوا يستقسمون با فيما‬
‫يريدون من العمل؛ من نو السفر والنكاح وأمثالما‪.‬فإن خرج [نعم] عملوا به‪ ،‬وإن خرج [ل]أخروه‬
‫عامه ذلك حت يأتوه مرة أخرى‪ ،‬وإن طلع [غفل] أعادوا الضرب حت يرج واحد من الولي‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ونوع فيه الياه والعقول والديات‪.‬‬

‫‪3‬ـ ونوع فيه [منكم] أو [من غيكم] أو [ملصق]‪ ،‬فكانوا إذا شكوا ف نسب أحدهم ذهبوا به إل‬
‫هبل‪ ،‬وبائة درهم وجزور‪ ،‬فأعطوها صاحب القداح‪ ،‬فإن خرج [منكم] كان منهم وسيطًا‪ ،‬وإن خرج‬
‫عليه [من غيكم] كان حليفًا‪ ،‬وإن خرج عليه [ملصق] كان على منلته فيهم‪ ،‬ل نَسَب ول حِلْف‪.‬‬

‫ويقرب من هذا اليسر والقداح‪ ،‬وهو ضرب من القمار‪ ،‬كانوا يقتسمون به لم الزور الت كانوا‬
‫يتقامرون عليها؛ وذلك أنم كانوا يشترون الزور نسيئة فينحرونا ويقسمونا ثانية وعشرين قسمًا‪ ،‬أو‬
‫عشرة أقسام‪ ،‬ث يضربون عليها بالقداح‪ ،‬وفيها [الرابح] و[الغفل]‪ ،‬فمن خرج له قدح [الرابح] فاز‪،‬‬
‫وأخذ نصيبه من الزور‪ ،‬ومن خرج له [الغفل] خاب وغرم ثنها‪.‬‬

‫وكانوا يؤمنون بأخبار الكهنة والعرافي والنجمي‪ ،‬والكاهن‪ :‬هو من يتعاطى الخبار عن الكوائن ف‬
‫الستقبل‪ ،‬ويدعى معرفة السرار ومن الكهنة من يزعم أن له تابعًا من الن‪ ،‬ومنهم من يدعى إدراك الغيب‬
‫بفهم أعطيه‪ ،‬ومنهم من يدعى معرفة المور بقدمات وأسباب يستدل با على مواقعها من كلم من يسأله‬
‫أو فعله أو حاله‪ ،‬وهذا القسم يسمى عرافًا‪ ،‬كمن يدعى معرفة السروق ومكان السرقة والضالة ونوها‪.‬‬
‫والنجم‪:‬من ينظر ف النجوم أي الكواكب‪ ،‬ويسب سيها ومواقيتها‪ ،‬ليعلم با أحوال العال وحوادثه الت‬
‫تقع ف الستقبل‪.‬‬
‫والتصديق بأخبار النجمي هو ف القيقة إيان بالنجوم‪ ،‬وكان من إيانم بالنجوم اليان بالنواء‪ ،‬فكانوا‬
‫يقولون‪:‬مطرنا بنوء كذا وكذا‪.‬‬

‫وكانت فيهم الطية [بكسر ففتح] وهي التشاؤم بالشىء‪ ،‬وأصله أنم كانوا يأتون الطي أو الظب‬
‫فينفرونه‪ ،‬فإن أخذ ذات اليمي مضوا إل ما قصدوا وعدوه حسنًا‪ ،‬وإن أخذ ذات الشمال انتهوا عن ذلك‬
‫وتشاءموا‪ ،‬وكانوا يتشاءمون كذلك إن عرض الطي أو اليوان ف طريقهم‪.‬‬

‫ويقرب من هذا تعليقهم كعب الرنب‪ ،‬والتشاؤم ببعض اليام والشهور واليوانات والدور والنساء‪،‬‬
‫والعتقاد بالعدوى والامة‪ ،‬فكانوا يعتقدون أن القتول ل يسكن جأشه ما ل يؤخذ بثأره‪ ،‬وتصي روحه‬
‫هامة أي بومة تطي ف الفلوات‪ ،‬وتقول‪:‬صدى صدى أو اسقون اسقون‪ ،‬فإذا أخذ بثأره سكن واستراح‪.‬‬

‫كان أهل الاهلية على ذلك وفيهم بقايا مـن ديــن إبراهيم‪ ،‬ل يكونوا قد تركوه كلـه ـ مثـل‬
‫تعظيم البيت‪ ،‬والطـواف بـه‪ ،‬والـج‪ ،‬والعمـرة‪ ،‬والـوقوف بعرفة والزدلفة‪ ،‬وإهداء البدن ـ وإنا‬
‫كانوا قد ابتدعوا ف ذلك بدعًا‪:‬‬

‫منها‪:‬أن قريشًا كانوا يقولون‪:‬نن بنو إبراهيم وأهل الرم‪ ،‬وولة البيت وقاطنو مكة‪ ،‬وليس لحد من‬
‫العرب مثل حقنا ومنلتنا ـ وكانوا يسمون أنفسهم الُمْس ـ فل ينبغى لنا أن نرج من الرم إل الل‪،‬‬
‫فكانوا ل يقفون بعرفة‪ ،‬ول يفيضون منها‪ ،‬وإنا كانوا يفيضون من الزدلفة وفيهم أنزل ال تعال‪{ :‬ثُمّ‬
‫أَفِيضُواْ مِنْ حَ ْيثُ أَفَاضَ النّاسُ} [البقرة‪.]199:‬‬

‫ومنها‪ :‬أنم قالوا‪ :‬ل ينبغى للحمس أن يأقِطوا القِط ول يسلوا السمن وهم حرم‪ ،‬ول يدخلوا بيتًا من‬
‫شعر‪ ،‬ول يستظلوا إن استظلوا إل ف بيوت الدم ما داموا حرمًا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنم قالوا‪ :‬ل ينبغى لهل الِلّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الل إل الرم‪ ،‬إذا جاءوا حجاجا‬
‫أو عمارًا‪.‬‬

‫ومنها‪:‬أنم أمروا أهل الل أل يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إل ف ثياب المس‪ ،‬وكانت المس‬
‫يتسبون على الناس‪ ،‬يعطـى الرجـل الرجـل الثياب يطـوف فيها‪ ،‬وتعطى الرأة الرأة الثياب‪ ،‬تطوف‬
‫فيها‪ ،‬فإن ل يدوا شيئًا فكان الرجال يطوفون عراة‪ ،‬وكانت الرأة تضع ثيابا كلها إل درعًا مفرجًا ث‬
‫تطوف فيه‪ ،‬وتقول‪:‬‬
‫اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فل أحله‬

‫جدٍ} [العراف‪ ]31:‬فإن تكرم أحد من‬


‫سِ‬‫وأنزل ال ف ذلك‪{ :‬يَا بَنِي آ َدمَ ُخذُواْ زِينَتَ ُكمْ عِندَ كُلّ مَ ْ‬
‫الرجل والرأة فطاف ف ثيابه الت جاء با من الل ألقاها بعد الطواف ول ينتفع با هو ول أحد غيه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنم كانوا ل يأتون بيوتم من أبوابا ف حال الحرام‪ ،‬بل كانوا ينقبون ف ظهور البيوت نقبًا‬
‫يدخلون ويرجون منه‪ ،‬وكانوا يسبون ذلك الفاء برّا‪ ،‬وقد ني عنه القرآن‪ ،‬قال ال تعال‪َ { :‬ولَ ْيسَ الْبِرّ‬
‫بَِأنْ َتأْتُ ْوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا َولَـكِنّ الْبِرّ مَ ِن اتّقَى َوأْتُوْا الْبُيُوتَ مِنْ َأبْوَابِهَا وَاتّقُواْ ال َ َلعَلّ ُكمْ تُفْ ِلحُونَ} [‬
‫البقرة‪. ]189:‬‬

‫كانت هذه الديانة ـ ديانة الشرك وعبادة الوثان‪ ،‬والعتقاد بالوهام والرافات ـ هي الديانة السائدة‬
‫ف جزيرة العرب‪ ،‬وقد وجدت اليهودية والنصرانية والجوسية والصابئية سبلًا للدخول ف ربوعها‪.‬‬

‫ولليهود دوران ـ على القل ـ مثلوها ف جزيرة العرب‪:‬‬

‫الول‪ :‬هجرتم ف عهد الفتوح البابلية والشورية ف فلسطي‪ ،‬فقد نشأ عن الضغط على اليهود‪ ،‬وعن‬
‫تريب بلدهم وتدمي هيكلهم على يد اللك ُبخْتُنَصر سنة ‪ 587‬ق‪.‬م‪ ،‬وسب أكثرهم إل بابل أن قسمًا‬
‫منهم هجر البلد الفلسطينية إل الجاز‪َ ،‬وتَوطّن ف ربوعها الشمالية‪.‬‬

‫الدور الثان‪ :‬يبدأ من احتلل الرومان لفلسطي بقيادة تيطس الرومان سنة ‪70‬م‪ ،‬فقد نشأ عن ضغط‬
‫الرومان على اليهود وعن تريب اليكل وتدميه أن قبائل عديدة من اليهود رحلت إل الجاز‪ ،‬واستقرت‬
‫ف يثرب وخيب وتيماء‪ ،‬وأنشأت فيها القرى والطام والقلع‪ ،‬وانتشرت الديانة اليهودية بي قسم من‬
‫العرب عن طريق هؤلء الهاجرين‪ ،‬وأصبح لا شأن يذكر ف الوادث السياسية الت سبقت ظهور‬
‫السلم‪ ،‬والت حدثت ف صدره‪ .‬وحينما جاء السلم كانت القبائل اليهودية الشهورة هي‪ :‬خيب والنضي‬
‫صطَلَق وقريظة وقينقاع‪ ،‬وذكر السمهودي أن عدد القبائل اليهودية الت نزلت بيثرب بي حي وآخر‪:‬‬
‫والُ ْ‬
‫يزيد على عشرين‪.‬‬

‫ودخلت اليهودية ف اليمن من قبل تُبّان أسعد أب كَرَب‪ ،‬فإنه ذهب مقاتلًا إل يثرب واعتنق هناك اليهودية‬
‫وجاء ببين من بن قريظة إل اليمن‪ ،‬فأخذت اليهودية إل التوسع والنتشار فيها‪ ،‬ولا ول اليمن بعده ابنه‬
‫يوسف ذو نُوَاس هجم على النصارى من أهل نران ودعاهم إل اعتناق اليهودية‪ ،‬فلما أبوا خدّ لم‬
‫الخدود وأحرقهم بالنار‪ ،‬ول يفرق بي الرجل والرأة والطفال الصغار والشيوخ الكبار‪ ،‬ويقال‪ :‬إن عدد‬
‫القتولي ما بي عشرين ألفًا إل أربعي ألفًا‪ .‬وقع ذلك ف شهر أكتوبر سنة ‪ 523‬م‪ .‬وقد ذكرهم ال‬
‫ت الْوَقُودِ إِذْ ُهمْ َعلَيْهَا‬
‫صحَابُ اْلأُ ْخدُو ِد النّارِ ذَا ِ‬
‫تعال ف القرآن الكري ف سورة البوج؛ إذ يقول‪{ :‬قُِتلَ أَ ْ‬
‫ُقعُودٌ وَ ُهمْ َعلَى مَا يَ ْفعَلُونَ بِالْمُ ْؤمِنِيَ ُشهُودٌ} [البوج‪.]7 :4 :‬‬

‫أما الديانة النصرانية‪ ،‬فقد جاءت إل بلد العرب عن طريق احتلل البشة وبعض البعثات الرومانية‪،‬‬
‫وكان أول احتلل الحباش لليمن سنة ‪ 340‬م‪ ،‬ولكن ل يطل أمد هذا الحتلل‪ ،‬فقد طردوا منها ما‬
‫بي عامي ‪370‬ـ ‪ 378‬م‪ ،‬إل أنم شجعوا على نشر النصرانية وتشجعوا لا‪ ،‬وقد وصل أثناء هذا‬
‫الحتلل رجل زاهد مستجاب الدعوات وصاحب كرامات ـ اسه فيميون ـ إل نران‪ ،‬ودعاهم إل‬
‫دين النصرانية فلبوا دعوته واعتنقوا النصرانية؛ لا رأوا من آيات صدقه وصدق دينه‪.‬‬

‫ولا احتلت الحباش اليمن مرة أخرى عام ‪525‬م ـ كرد فعل على ما أتاه ذو نواس من تريق نصارى‬
‫نران ف الخدود‪ ،‬وتكن أبرهة الشرم من حكومة اليمن ـ أخذ ينشر الديانة النصرانية بأوفر نشاط‬
‫وأوسع نطاق‪ ،‬حت بلغ من نشاطه أنه بن كعبة باليمن‪ ،‬وأراد أن يصرف حج العرب إليها ويهدم بيت ال‬
‫الذي بكة‪ ،‬فأخذه ال نكال الخرة والول‪.‬‬

‫وقد اعتنق النصرانية العرب الغساسنة وقبائل تغلب وطيئ وغيها لجاورة الرومان‪ ،‬بل قد اعتنقها بعض‬
‫ملوك الية أيضًا‪.‬‬

‫أما الجوسية‪ ،‬فكان ما كان منها ف العرب الجاورين للفرس‪ ،‬فكانت ف عراق العرب وف البحرين ـ‬
‫الحسا ـ و َهجَر وما جاورها من منطقة سواحل الليج العرب‪ ،‬ودان لا رجال من اليمن ف زمن‬
‫الحتلل الفارسي‪.‬‬

‫أما الصابئية ـ وهي ديانة تتاز بعبادة الكواكب وبالعتقاد ف أنواء النازل وتأثي النجوم وأنا هي الدبرة‬
‫للكون ـ فقد دلت الفريات والتنقيبات ف بلد العراق وغيها أنا كانت ديانة قوم إبراهيم الكلدانيي‪،‬‬
‫وقد دان با كثي من أهل الشام وأهل اليمن ف غابر الزمان‪ ،‬وبعد تتابع الديانات الديدة من اليهودية‬
‫والنصرانية‪ ،‬تضعضع بنيان الصابئية وخد نشاطها‪ ،‬ولكن ل يزل ف الناس بقايا من أهل هذه الديانة‬
‫متلطي مع الجوس أو ماورين لم ف عراق العرب وعلى شواطئ الليج العرب‪ .‬وقد وجد شيء من‬
‫الزندقة ف بعض العرب‪ ،‬وكانت وصلت إليهم عن طريق الية‪ ،‬كما وجدت ف بعض قريش لحتكاكهم‬
‫بالفرس عن طريق التجارة‪.‬‬
‫الالة الدينية‬

‫كانت هذه الديانات هي ديانات العرب حي جاء السلم‪ ،‬وقد أصاب هذه الديانات النلل والبوار‪،‬‬
‫فالشركون الذين كانوا يدعون أنم على دين إبراهيم كانوا بعيدين عن أوامر ونواهي شريعة إبراهيم‪،‬‬
‫مهملي ما أتت به من مكارم الخلق‪ .‬وكثرت فيهم العاصي‪ ،‬ونشأ فيهم على توال الزمان ما ينشأ ف‬
‫الوثنيي من عادات وتقاليد ترى مرى الرافات الدينية‪ ،‬وأثرت ف الياة الجتماعية والسياسية والدينية‬
‫تأثيًا بالغًا جدًا‪.‬‬

‫أما اليهودية‪ ،‬فقد انقلبت رياء وتكمًا‪ ،‬وصار رؤساؤها أربابًا من دون ال ‪ ،‬يتحكمون ف الناس‬
‫وياسبونم حت على خطرات النفس وهسات الشفاه‪ ،‬وجعلوا ههم الظوة بالال والرياسة وإن ضاع‬
‫الدين وانتشر اللاد والكفر‪ ،‬والتهاون بالتعاليم الت حض ال عليها وأمر كل فرد بتقديسها‪.‬‬

‫وأما النصرانية‪ ،‬فقد عادت وثنية عسرة الفهم‪ ،‬وأوجدت خلطًا عجيبًا بي ال والنسان‪ ،‬ول يكن لا ف‬
‫نفوس العرب التديني بذا الدين تأثي حقيقي؛ لبعد تعاليمها عن طراز العيشة الت ألفوها‪ ،‬ول يكونوا‬
‫يستطيعون البتعاد عنها‪.‬‬

‫وأما سائر أديان العرب‪ :‬فكانت أحوال أهلها كأحوال الشركي‪ ،‬فقد تشابت قلوبم‪ ،‬وتواردت‬
‫عقائدهم‪ ،‬وتوافقت تقاليدهم وعوائدهم‪.‬‬
‫صور من الجتمع العرب الاهلي‬

‫الالة الجتماعية‬
‫الالة القتصادية‬
‫الخلق‬

‫بعد البحث عن سياسة الزيرة وأديانا يمل بنا أن نلقى شيئًا من الضوء على أحوالا الجتماعية‬
‫والقتصادية واللقية‪ ،‬وفيما يلي بيانا بإياز‪:‬‬

‫الالة الجتماعية‬

‫كانت ف العرب أوساط متنوعة تتلف أحوال بعضها عن بعض‪ ،‬فكانت علقة الرجل مع أهله ف‬
‫الشراف على درجة كبية من الرقى والتقدم‪ ،‬وكان لا من حرية الرادة ونفاذ القول القسط الوفر‪،‬‬
‫وكانت مترمة مصونة تُسَلّ دونا السيوف‪ ،‬وتراق الدماء‪ ،‬وكان الرجل إذا أراد أن يتدح با له ف نظر‬
‫العرب القام السامي من الكرم والشجاعة ل يكن ياطب ف معظم أوقاته إل الرأة‪ ،‬وربا كانت الرأة إذا‬
‫شاءت جعت القبائل للسلم‪ ،‬وإن شاءت أشعلت بينهم نار الرب والقتال‪ ،‬ومع هذا كله فقد كان‬
‫الرجل يعتب بل نزاع رئيس السرة وصاحب الكلمة فيها‪ ،‬وكان ارتباط الرجل بالرأة بعقد الزواج تت‬
‫إشراف أوليائها‪ ،‬ول يكن من حقها أن تفتات عليهم‪.‬‬

‫بينما هذه حال الشراف‪ ،‬كان هناك ف الوساط الخرى أنواع من الختلط بي الرجل والرأة‪ ،‬ل‬
‫نستطيع أن نعب عنه إل بالدعارة والجون والسفاح والفاحشة‪ .‬روى البخاري وغيه عن عائشة رضي ال‬
‫عنها‪.‬‬

‫إن النكاح ف الاهلية كان على أربعة أناء‪ :‬فنكاح منها نكاح الناس اليوم؛ يطب الرجل إل الرجل وليته‬
‫أو ابنته فيصدقها ث ينكحها‪ ،‬ونكاح آخر‪ :‬كان الرجل يقول لمرأته إذا طهرت من طمثها‪ :‬أرسلي إل‬
‫فلن فاستبضعي منه‪ ،‬ويعتزلا زوجها ول يسها أبدًا حت يتبي حلها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه‪،‬‬
‫فإذا تبي حلها أصابا زوجها إذا أحب‪ ،‬وإنا يفعل ذلك رغبة ف َنجَابة الـولد‪ ،‬فكان هـذا النكاح [‬
‫يسمى] نكاح الستبضاع‪ ،‬ونكاح آخر‪ :‬يتمع الرهط دون العشرة‪ ،‬فيدخلون على الرأة كلهم يصيبها‪،‬‬
‫فإذا حلت‪ ،‬ووضعت ومر[ت] ليال بعد أن تضع حلها أرسلت إليهم‪ ،‬فلم يستطع رجل منهم أن يتنع‬
‫حت يتمعوا عندها‪[ ،‬فـ] تقول لم‪ :‬قد عرفتم الذي كان من أمركم‪ ،‬وقد ولدت‪ ،‬فهو ابنك يا فلن‪[ ،‬‬
‫فـ] تسمى من أحبت [منهم] باسه‪ ،‬فيلحق به ولدها‪ .‬ل يستطيع أن يتنع منه الرجل‪،‬ونكاح رابع‪:‬يتمع‬
‫الناس الكثي فيدخلون على الرأة ل تتنع من جاءها‪،‬وهن البغايا‪،‬كن ينصب على أبوابن رايات تكون‬
‫علمًا‪ ،‬فمن أرادهن دخل عليهن‪ ،‬فإذا حلت إحداهن ووضعت حلها جعوا لا‪ ،‬ودعوا لم القافة‪ ،‬ث ألقوا‬
‫ولدها بالذي يرون‪ ،‬فالتاطته به‪ ،‬ودعى ابنه‪ ،‬ل يتنع من ذلك‪ ،‬فلما بعث [ال ] ممدًا صلى ال عليه‬
‫وسلم بالق هدم نكاح [أهل] الاهلية كله إل نكاح السلم اليوم‪.‬‬

‫وكانت عندهم اجتماعات بي الرجل والرأة تعقدها شفار السيوف‪ ،‬وأسنة الرماح‪ ،‬فكان التغلب ف‬
‫حروب القبائل يسب نساء القهور فيستحلها‪ ،‬ولكن الولد الذين تكون هذه أمهم يلحقهم العار مدة‬
‫حياتم‪.‬‬

‫وكان من العروف ف أهل الاهلية أنم كانوا يعددون بي الزوجات من غي حد معروف ينتهي إليه‪ ،‬حت‬
‫حددها القرآن ف أربع‪ .‬وكانوا يمعون بي الختي‪ ،‬وكانوا يتزوجون بزوجة آبائهم إذا طلقوها أو ماتوا‬
‫شةً‬
‫عنها حت نى عنهما القرآن {وَلَ تَن ِكحُواْ مَا نَ َكحَ آبَا ُؤكُم مّ َن النّسَاء إِلّ مَا َقدْ َسلَفَ إِّنهُ كَانَ فَاحِ َ‬
‫َو َمقْتًا وَسَاء سَبِيلً حُ ّر َمتْ َعلَيْ ُكمْ ُأمّهَاتُ ُكمْ َوبَنَاتُ ُكمْ َوأَخَوَاتُ ُكمْ وَعَمّاتُ ُكمْ وَخَا َلتُ ُكمْ َوبَنَاتُ ا َلخِ َوبَنَاتُ‬
‫لتِي فِي‬
‫ضعْنَ ُكمْ َوأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَا َعةِ َوُأمّهَاتُ نِسَآئِ ُكمْ َو َربَائِبُ ُكمُ ال ّ‬
‫الُخْتِ َوُأمّهَاتُ ُك ُم اللّتِي أَ ْر َ‬
‫لئِلُ َأبْنَائِ ُكمُ‬
‫لتِي َدخَلْتُم بِهِنّ َفإِن ّلمْ تَكُونُواْ َدخَلْتُم بِهِنّ َفلَ جُنَاحَ َعلَيْ ُكمْ وَ َح َ‬
‫ُحجُو ِركُم مّن نّسَآئِ ُكمُ ال ّ‬
‫لبِ ُكمْ َوأَن َتجْ َمعُواْ بَيْنَ الُخْتَ ْينِ إَلّ مَا َقدْ َسلَفَ إِنّ ال َ كَانَ َغفُورًا رّحِيمًا} [سورة النساء‪:‬‬
‫صَ‬‫اّلذِينَ مِنْ أَ ْ‬
‫‪ ]23 ،22‬وكان الطلق والرجعة بيد الرجال‪ ،‬ول يكن لما حد معي حت حددها السلم‪.‬‬

‫وكانت فاحشة الزنا سائدة ف جيع الوساط‪ ،‬ل نستطيع أن نص منها وسطًا دون وسط‪ ،‬أو صنفًا دون‬
‫صنف إل أفرادًا من الرجال والنساء من كان تعاظم نفوسهم يأب الوقوع ف هذه الرذيلة‪ ،‬وكانت الرائر‬
‫أحسن حالًا من الماء‪ ،‬والطامة الكبى هي الماء‪ ،‬ويبدو أن الغلبية الساحقة من أهل الاهلية ل تكن‬
‫تس بعار ف النتساب إل هذه الفاحشة‪ ،‬روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‪ :‬قام‬
‫رجل فقال‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن فلنًا ابن‪ ،‬عاهرت بأمه ف الاهلية‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫لجَر)‪ ،‬وقصة اختصام سعد بن أب‬
‫(ل دعوة ف السلم‪ ،‬ذهب أمر الاهلية‪ ،‬الولد للفراش وللعاهر ا َ‬
‫وقاص وعبد بن َز ْمعَة ف ابن أمة زمعة ـ وهو عبد الرحن بن زمعة ـ معروفة‪.‬‬
‫وكانت علقة الرجل مع أولده على أنواع شت‪ ،‬فمنهم من يقول‪:‬‬

‫إنـــا أولدنـــا بيننــا ** أكبادنا تشى على الرض‬

‫ومنهم من كان يئد البنات خشية العار والنفاق‪ ،‬ويقتل الولد خشية الفقر والملق‪ُ {:‬قلْ َتعَالَ ْواْ أَتْلُ مَا‬
‫لقٍ ّنحْنُ نَ ْرزُقُ ُكمْ‬
‫حَ ّرمَ َربّ ُكمْ َعلَيْ ُكمْ أَلّ تُشْ ِركُواْ بِهِ شَيْئًا َوبِالْوَاِلدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَ َتقْتُلُواْ أَوْ َل َدكُم مّ ْن إمْ َ‬
‫س الّتِي حَ ّرمَ ال ُ إِلّ بِاْلحَقّ َذلِ ُكمْ‬
‫َوإِيّا ُهمْ َولَ َتقْ َربُوْا الْفَوَا ِحشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا َومَا َبطَنَ وَلَ َتقْتُلُوْا الّنفْ َ‬
‫وَصّا ُكمْ ِبهِ لَعَلّ ُكمْ تَ ْعقِلُونَ} [النعام‪ ]151 :‬ولكن ل يكن لنا أن نعد هذا من الخلق النتشرة‬
‫السائدة‪ ،‬فقد كانوا أشد الناس احتياجًا إل البني ليتقوا بم العدو‪.‬‬

‫أما معاملة الرجل مع أخيه وأبناء عمه وعشيته فقد كانت موطدة قوية‪ ،‬فقد كانوا ييون للعصبية القبلية‬
‫ويوتون لا‪ ،‬وكانت روح الجتماع سائدة بي القبيلة الواحدة تزيدها العصبية‪ ،‬وكان أساس النظام‬
‫الجتماعي هو العصبية النسية والرحم‪ ،‬وكانوا يسيون على الثل السائر‪( :‬انصر أخاك ظالًا أو مظلومًا)‬
‫على العن القيقي من غي التعديل الذي جاء به السلم؛ من أن نصر الظال كفه عن ظلمه‪ ،‬إل أن‬
‫التنافس ف الشرف والسؤدد كثيًا ما كان يفضى إل الروب بي القبائل الت كان يمعها أب واحد‪ ،‬كما‬
‫نرى ذلك بي الوس والزرج‪ ،‬وعَبْس و ُذبْيان‪ ،‬وبَكْر وَتغْلِب وغيها‪.‬‬

‫أما العلقة بي القبائل الختلفة فقد كانت مفككة الوصال تامًا‪ ،‬وكانت قواهم متفانية ف الروب‪ ،‬إل أن‬
‫الرهبة والوجل من بعض التقاليد والعادات الشتركة بي الدين والرافة ربا كان يفف من حدتا‬
‫وصرامتها‪ .‬وأحيانًا كانت الوالة واللف والتبعية تفضى إل اجتماع القبائل التغايرة‪ .‬وكانت الشهر‬
‫الرم رحة وعونًا لم على حياتم وحصول معايشهم‪ .‬فقد كانوا يأمنون فيها تام المن؛ لشدة التزامهم‬
‫برمتها‪ ،‬يقول أبو رجاء العُطاردي‪ :‬إذا دخل شهر رجب قلنا‪ :‬مُنَصّلُ السِنّة؛ فل ندع رمًا فيه حديدة ول‬
‫سهمًا فيه حديدة إل نزعناه‪ ،‬وألقيناه شهر رجب‪ .‬وكذلك ف بقية الشهر الرم‪.‬‬

‫وقصارى الكلم أن الالة الجتماعية كانت ف الضيض من الضعف والعماية‪ ،‬فالهل ضارب أطنابه‪،‬‬
‫والرافات لا جولة وصولة‪ ،‬والناس يعيشون كالنعام‪ ،‬والرأة تباع وتشترى وتعامل كالمادات أحيانا‪،‬‬
‫والعلقة بي المة واهية مبتوتة‪ ،‬وما كان من الكومات فجُلّ هتها ملء الزائن من رعيتها أو جر‬
‫الروب على مناوئيها‪.‬‬

‫الالة القتصادية‬
‫أما الالة القتصادية‪ ،‬فتبعت الالة الجتماعية‪ ،‬ويتضح ذلك إذا نظرنا ف طرق معايش العرب‪ .‬فالتجارة‬
‫كانت أكب وسيلة للحصول على حوائج الياة‪ ،‬والولة التجارية ل تتيسر إل إذا ساد المن والسلم‪،‬‬
‫وكان ذلك مفقودًا ف جزيرة العرب إل ف الشهر الرم‪ ،‬وهذه هي الشهور الت كانت تعقد فيها أسواق‬
‫العرب الشهية من عُكاظ وذي الجَاز و َمجَنّة وغيها‪.‬‬

‫وأما الصناعات فكانوا أبعد المم عنها‪ ،‬ومعظم الصناعات الت كانت توجد ف العرب من الياكة‬
‫والدباغة وغيها كانت ف أهل اليمن والية ومشارف الشام‪ ،‬نعم‪ ،‬كان ف داخل الزيرة شيء من‬
‫الزراعة والرث واقتناء النعام‪ ،‬وكانت نساء العرب كافة يشتغلن بالغزل‪ ،‬لكن كانت المتعة عرضة‬
‫للحروب‪ ،‬وكان الفقر والوع والعرى عامًا ف الجتمع‪.‬‬

‫الخلق‬

‫ل شك أن أهل الاهلية كانت فيهم دنايا ورذائل وأمور ينكرها العقل السليم ويأباها الوجدان‪ ،‬ولكن‬
‫كانت فيهم من الخلق الفاضلة الحمودة ما يروع النسان ويفضى به إل الدهشة والعجب‪ ،‬فمن تلك‬
‫الخلق‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الكرم‪ :‬وكانوا يتبارون ف ذلك ويفتخرون به‪ ،‬وقد استنفدوا فيه نصف أشعارهم بي متدح به ومُ ْثنٍ‬
‫على غيه‪ ،‬كان الرجل يأتيه الضيف ف شدة البد والوع وليس عنده من الال إل ناقته الت هي حياته‬
‫وحياة أسرته‪ ،‬فتأخذه هزة الكرم فيقوم إليها‪ ،‬فيذبها لضيفه‪ .‬ومن آثار كرمهم أنم كانوا يتحملون‬
‫الديات الائلة والمالت الدهشة‪ ،‬يكفون بذلك سفك الدماء‪ ،‬وضياع النسان‪ ،‬ويتدحون با مفتخرين‬
‫على غيهم من الرؤساء والسادات‪.‬‬

‫وكان من نتائج كرمهم أنم كانوا يتمدحون بشرب المور‪ ،‬ل لنا مفخرة ف ذاتا؛ بل لنا سبيل من‬
‫سبل الكرم‪ ،‬وما يسهل السّرَف على النفس‪ ،‬ولجل ذلك كانوا يسمون َشجَرَ العنب بالكَرْم‪ ،‬وخَمْرَه‬
‫بِبِنْتِ الكرم‪ .‬وإذا نظرت إل دواوين أشعارالاهلية تد ذلك بابًا من أبواب الديح والفخر‪ ،‬يقول عنترة‬
‫بن شداد العبسي ف معلقته‪:‬‬

‫ولقد شَ ِربْتُ من ا ُلدَامَة َب ْعدَ ما ** َركَــد الَواجـرُ بالَشـوفِ ا ُلعْلـم‬


‫بزُجَا َجةٍ صـفْراء ذات أسـرّة ** قُرنَـتْ بأزهــرَ بالشّمال مُفـدّمِ‬
‫فــإذا شـرِبتُ فإنن مُسْتَهْلـك ** مال وعِرْضِى وافِـرٌ ل يُكْلــمِ‬
‫صحَ ْوتُ فما أُقَصّرُ عن نَدَى ** وكمــا عَلمـت شائلــى َوتَكَرّمـى‬
‫وإذا َ‬

‫ومن نتائج كرمهم اشتغالم باليسر‪ ،‬فإنم كانوا يرون أنه سبيل من سبل الكرم؛ لنم كانوا يطعمون‬
‫الساكي ما ربوه أو ما كان يفضل عن سهام الرابي؛ ولذلك ترى القرآن ل ينكر نفع المر واليسر‬
‫وإنا يقول‪َ { :‬وإِثْمُ ُهمَآ َأكْبَرُ مِن نّ ْفعِهِمَا} [البقرة‪]219:‬‬

‫‪ 2‬ـ الوفاء بالعهد‪ :‬فقد كان العهد عندهم دينًا يتمسكون به‪ ،‬ويستهينون ف سبيله قتل أولدهم‪،‬‬
‫وتريب ديارهم‪ ،‬وتكفي ف معرفة ذلك قصة هانئ بن مسعود الشيبان‪ ،‬والسّمَوْأل بن عاديا‪ ،‬وحاجب بن‬
‫زرارة التميمي‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ عزة النفس والباء عن قبول السف والضيم‪ :‬وكان من نتائج هذا فرط الشجاعة وشدة الغية‪،‬‬
‫وسرعة النفعال‪ ،‬فكانوا ل يسمعون كلمة يشمون منها رائحة الذل والوان إل قاموا إل السيف‬
‫والسنان‪ ،‬وأثاروا الروب العوان‪ ،‬وكانوا ل يبالون بتضحية أنفسهم ف هذا السبيل‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ الضي ف العزائم‪ :‬فإذا عزموا على شيء يرون فيه الجد والفتخار‪ ،‬ل يصرفهم عنه صارف‪ ،‬بل‬
‫كانوا ياطرون بأنفسهم ف سبيله‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ اللم‪ ،‬والناة‪ ،‬والتؤدة‪ :‬كانوا يتمدحون با إل أنا كانت فيهم عزيزة الوجود؛ لفرط شجاعتهم‬
‫وسرعة إقدامهم على القتال‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ السذاجة البدوية‪ ،‬وعدم التلوث بلوثات الضارة ومكائدها‪ :‬وكان من نتائجها الصدق والمانة‪،‬‬
‫والنفور عن الداع والغدر‪.‬‬

‫نرى أن هذه الخلق الثمينة ـ مع ما كان لزيرة العرب من الوقع الغراف بالنسبة إل العال ـ كانت‬
‫سببًا ف اختيار ال عز وجل إياهم لمل عبء الرسالة العامة‪ ،‬وقيادة المة النسانية‪ ،‬وإصلح الجتمع‬
‫البشرى؛ لن هذه الخلق وإن كان بعضها يفضى إل الشر‪ ،‬ويلب الوادث الؤلة إل أنا كانت ف‬
‫نفسها أخلقًا ثينة‪ ،‬تدر بالنافع العامة للمجتمع البشرى بعد شيء من الصلح‪ ،‬وهذا الذي فعله‬
‫السلم‪.‬‬
‫ولعل أغلى ما عندهم من هذه الخلق وأعظمها نفعًا ـ بعد الوفاء بالعهد ـ هو عزة النفس والضي ف‬
‫العزائم؛ إذ ل يكن قمع الشر والفساد وإقامة نظام العدل والي إل بذه القوة القاهرة وبذا العزم‬
‫الصميم‪ .‬ولم أخلق فاضلة أخرى دون هذه الت ذكرناها‪ ،‬وليس قصدنا استقصاءها‪.‬‬
‫النسب والولد والنشأة‬

‫نسب النب صلى ال عليه وسلم وأسرته‬


‫السرة النبوية‬
‫الولـــد‬
‫السية الجالية قبل النبوة‬

‫نسب النب صلى ال عليه وسلم وأسرته‬

‫نسب النب صلى ال عليه وسلم‬

‫نسب نبينا ممد صلى ال عليه وسلم ينقسم إل ثلثة أجزاء‪ :‬جزء اتفق عليه كافة أهل السي والنساب‪،‬‬
‫وهو الزء الذي يبدأ منه صلى ال عليه وسلم وينتهي إل عدنان‪.‬‬

‫وجزء آخر كثر فيه الختلف‪ ،‬حت جاوز حد المع والئتلف‪ ،‬وهو الزء الذي يبدأ بعد عدنان وينتهي‬
‫إل إبراهيم عليه السلم فقد توقف فيه قوم‪ ،‬وقالوا‪ :‬ل يوز سرده‪ ،‬بينما جوزه آخرون وساقوه‪ .‬ث‬
‫اختلف هؤل الجوزون ف عدد الباء وأسائهم‪ ،‬فاشتد اختلفهم وكثرت أقوالم حت جاوزت ثلثي قولًا‪،‬‬
‫إل أن الميع متفقون على أن عدنان من صريح ولد إساعيل عليه السلم‪.‬‬

‫أما الزء الثالث فهو يبدأ من بعد إبراهيم عليه السلم وينتهي إل آدم عليه السلم‪ ،‬وجل العتماد فيه‬
‫على نقل أهل الكتاب‪ ،‬وعندهم فيه من بعض تفاصـيل العمـار وغيهـا ما ل نشك ف بطلنه‪ ،‬بينما‬
‫نتوقف ف البقية الباقية‪.‬‬

‫وفيما يلى الجزاء الثلثة من نسبه الزكى صلى ال عليه وسلم بالترتيب ‪:‬‬

‫الزء الول ‪ :‬ممد بن عبد ال بن عبد الطلب ـ واسه شَ ْيبَة ـ بن هاشم ـ واسه عمرو ـ بن عبد‬
‫مناف ـ واسه الغية ـ بن قُصَىّ ـ واسه زيد ـ بن كِلب بن مُرّة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فِهْر‬
‫ـ وهو اللقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة ـ بن مالك بن النّضْر ـ واسه قيس ـ بن كِنَانة بن خُ َزيْمَة‬
‫بن ُمدْرِكة ـ واسه عامـر ـ بن إلياس بن مُضَر بن نِزَار بن َم َعدّ بن عدنان‪.‬‬
‫الزء الثان ‪ :‬ما فوق عدنان‪ ،‬وعدنان هو ابن أُدَد بن الَمَيْسَع بن سلمان بن عَوْص بن بوز بن قموال بن‬
‫أب بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخى بن عيض بن‬
‫عبقر بن عبيد بن الدعا بن حَمْدان بن سنب بن يثرب بن يزن بن يلحن بن أرعوى بن عيض بن ديشان بن‬
‫عيصر بن أفناد ابن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سى بن مزى بن عوضة بن عرام بن قيدار ابن‬
‫إساعيل بن إيراهيم عليهما السلم‪.‬‬

‫الزء الثالث ‪ :‬ما فوق إبراهيم عليه السلم‪ ،‬وهو ابن تارَح ـ واسه آزر ـ بن ناحور بن ساروع ـ أو‬
‫خشَد بن سام بن نوح عليه السلم بن لمك بن‬
‫ساروغ ـ بن رَاعُو بن فَالَخ بن عابر بن شَالَخ بن أرْ َف ْ‬
‫مَتوشَلخَ بن أَخْنُوخ ـ يقال ‪ :‬هو إدريس النب عليه السلم ـ بن يَرْد بن مَهْلئيل بن قينان بن أنُوش بن‬
‫شِيث بن آدم ـ عليهما السلم‪.‬‬

‫السرة النبوية‬

‫تعرف أسرته صلى ال عليه وسلم بالسرة الاشية ـ نسبة إل جده هاشم بن عبد مناف ـ وإذن فلنذكر‬
‫شيئًا من أحوال هاشم ومن بعده ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ هاشم ‪:‬‬

‫قد أسلفنا أن هاشًا هو الذي تول السقاية والرفادة من بن عبد مناف حي تصال بنو عبد مناف وبنو عبد‬
‫الدار على اقتسام الناصب فيما بينهما‪ ،‬وكان هاشم موسرًا ذا شرف كبي‪ ،‬وهو أول من أطعم الثريد‬
‫للحجاج بكة‪ ،‬وكان اسه عمرو فما سى هاشًا إل لشمه البز‪ ،‬وهو أول من سن الرحلتي لقريش‪ ،‬رحلة‬
‫الشتاء والصيف‪ ،‬وفيه يقول الشاعر ‪:‬‬

‫شمَ الثريدَ لقومه ** قَومٍ بكة مُسِْنتِي ِعجَافِ‬


‫عمرو الذي هَ َ‬

‫سُنّتْ إليه الرحلتان كلها ** َسفَرُ الشتاء ورحلة الصياف‬

‫ومن حديثه أنه خرج إل الشام تاجرًا‪ ،‬فلما قدم الدينة تزوج سلمى بنت عمرو أحد بن عدى بن النجار‬
‫وأقام عندها‪ ،‬ث خرج إل الشام ـ وهي عند أهلها قد حلت بعبد الطلب ـ فمات هاشم بغزة من أرض‬
‫فلسطي‪ ،‬وولدت امرأته سلمى عبد الطلب سنة ‪ 497‬م‪ ،‬وسته شيبة؛ لشيبة كانت ف رأسه‪ ،‬وجعلت‬
‫تربيه ف بيت أبيها ف يثرب‪ ،‬ول يشعر به أحد من أسرتـه بكـة‪ ،‬وكان لاشم أربعة بني وهم‪ :‬أسد وأبو‬
‫صيفي ونضلة وعبد الطلب‪ .‬وخس بنات وهن‪ :‬الشفاء‪ ،‬وخالدة‪ ،‬وضعيفة‪ ،‬ورقية‪ ،‬وجنة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ عبـد الطلب ‪:‬‬

‫قد علمنا ما سبق أن السقاية والرفادة بعد هاشم صارت إل أخيه الطلب بن عبد مناف [وكان شريفًا‬
‫مطاعًا ذا فضل ف قومه‪ ،‬كانت قريش تسميه الفياض لسخائه] لا صار شيبة ـ عبد الطلب ـ وصيفًا أو‬
‫فوق ذلك ابن سبع سني أو ثان سني سع به الطلب‪ .‬فرحل ف طلبه‪ ،‬فلما رآه فاضت عيناه‪ ،‬وضمه‪،‬‬
‫وأردفه على راحلته فامتنع حت تأذن له أمه‪ ،‬فسألا الطلب أن ترسله معه‪ ،‬فامتنعت‪ ،‬فقال ‪ :‬إنا يضى إل‬
‫ملك أبيه وإل حرم ال فأذنت له‪ ،‬فقدم به مكة مردفه على بعيه‪ ،‬فقال الناس‪ :‬هذا عبد الطلب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ويكم‪ ،‬إنا هو ابن أخى هاشم‪ ،‬فأقام عنده حت ترعرع‪ ،‬ث إن الطلب هلك بـ [دمان] من أرض اليمن‪،‬‬
‫فول بعده عبد الطلب‪ ،‬فأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم‪،‬وشرف ف قومه شرفًا ل يبلغه أحد من‬
‫آبائه‪ ،‬وأحبه قومه وعظم خطره فيهم‪.‬‬

‫ولا مات الطلب وثب نوفل على أركاح بد الطلب فغصبه إياها‪ ،‬فسأل رجالًا من قريش النصرة على‬
‫عمه‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل ندخل بينك وبي عمك‪ ،‬فكتب إل أخواله من بن النجار أبياتًا يستنجدهم‪ ،‬فسار خاله أبو‬
‫سعد بن عدى ف ثاني راكبًا‪ ،‬حت نزل بالبطح من مكة‪ ،‬فتلقاه عبد الطلب‪ ،‬فقال‪ :‬النل يا خال‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ل وال حت ألقى نوفلًا‪ ،‬ث أقبل فوقف على نوفل‪ ،‬وهو جالس ف الجر مع مشايخ قريش‪ ،‬فسل أبو سعد‬
‫سيفه وقال‪ :‬ورب البيت‪ ،‬لئن ل ترد على ابن أخت أركاحه لمكنن منك هذا السيف‪ ،‬فقال‪ :‬رددتا عليه‪،‬‬
‫فأشهد عليه مشايخ قريش‪ ،‬ث نزل على عبد الطلب‪ ،‬فأقام عنده ثلثًا‪ ،‬ث اعتمر ورجع إل الدينة‪ .‬فلما‬
‫جرى ذلك حالف نوفل بن عبد شس بن عبد مناف على بن هاشم‪ .‬ولا رأت خزاعة نصر بن النجار‬
‫لعبد الطلب قالوا‪ :‬نن ولدناه كما ولدتوه‪ ،‬فنحن أحق بنصره ـ وذلك أن أم عبد مناف منهم ـ‬
‫فدخلوا دار الندوة وحالفوا بن هاشم على بن عبد شس ونوفل‪ ،‬وهذا اللف هو الذي صار سببًا لفتح‬
‫مكة كما سيأتى‪.‬‬

‫ومن أهم ما وقع لعبد الطلب من أمور البيت شيئان‪:‬‬

‫حفر بئر زمزم ووقعة الفيل‬


‫وخلصة الول‪ :‬أنه أمر ف النام بفر زمزم ووصف له موضعها‪ ،‬فقام يفر‪ ،‬فوجد فيه الشياء الت دفنها‬
‫الراهة حي لأوا إل اللء‪ ،‬أي السيوف والدروع والغزالي من الذهب‪ ،‬فضرب السياف بابًا للكعبة‪،‬‬
‫وضرب ف الباب الغزالي صفائح من ذهب‪ ،‬وأقام سقاية زمزم للحجاج‪.‬‬

‫ولا بدت بئر زمزم نازعت قريش عبد الطلب‪ ،‬وقالوا له ‪ :‬أشركنا‪.‬قال‪ :‬ما أنا بفاعل‪ ،‬هذا أمر خصصت‬
‫به‪ ،‬فلم يتركوه حت خرجوا به للمحاكمة إل كاهنة بن سعد ُه َذيْم‪ ،‬وكانت بأشراف الشام‪ ،‬فلما كانوا‬
‫ف الطريق‪ ،‬ونفد الاء سقى ال عبد الطلب مطرًا‪ ،‬م ينل عليهم قطرة‪ ،‬فعرفوا تصيص عبد الطلب بزمزم‬
‫ورجعـوا‪ ،‬وحينئذ نذر عبد الطلب لئن آتاه ال عشرة أبناء‪ ،‬وبلغوا أن ينعوه لينحرن أحدهم عند‬
‫الكعبة‪.‬‬

‫وخلصة الثان‪ :‬أن أبرهة بن الصباح البشى‪ ،‬النائب العام عن النجاشى على اليمن‪ ،‬لا رأي العرب‬
‫يجون الكعبة بن كنيسة كبية بصنعاء‪ ،‬وأراد أن يصرف حج العرب إليها‪ ،‬وسع بذلك رجل من بن‬
‫كنانة‪ ،‬فدخلها ليلًا فلطخ قبلتها بالعذرة‪ .‬ولا علم أبرهة بذلك ثار غيظه‪ ،‬وسار بيش عرمرم ـ عدده‬
‫ستون ألف جندى ـ إل الكعبة ليهدمها‪ ،‬واختار لنفسه فيل من أكب الفيلة‪ ،‬وكان ف اليش ‪ 9‬فيلة أو‬
‫‪ 13‬فيل‪ ،‬وواصل سيه حت بلغ الُغَمّس‪ ،‬وهناك عبأ جيشه وهيأ فيله‪ ،‬وتيأ لدخول مكة‪ ،‬فلما كان ف‬
‫وادى ُمحَسّر بي الزدلفة ومن برك الفيل‪ ،‬ول يقم ليقدم إل الكعبة‪ ،‬وكانوا كلما وجهوه إل النوب أو‬
‫الشمال أو الشرق يقوم يهرول‪ ،‬وإذا صرفوه إل الكعبة برك‪ ،‬فبيناهم كذلك إذ أرسل ال عليهم طيًا‬
‫أبابيل‪ ،‬ترميهم بجارة من سجيل‪ ،‬فجعلهم كعصف مأكول‪ .‬وكانت الطي أمثال الطاطيف والبلسان‪ ،‬مع‬
‫كل طائر ثلثة أحجار؛ حجر ف منقاره‪ ،‬وحجران ف رجليه أمثال المص‪ ،‬ل تصيب منهم أحدًا إل‬
‫صارت تتقطع أعضاؤه وهلك‪ ،‬وليس كلهم أصابت‪ ،‬وخرجوا هاربي يوج بعضهم ف بعض‪ ،‬فتساقطوا‬
‫بكل طريق وهلكوا على كل منهل‪ ،‬وأما أبرهة فبعث ال عليه داء تساقطت بسببه أنامله‪ ،‬ول يصل إل‬
‫صنعاء إل وهو مثل الفرخ‪ ،‬وانصدع صدره عن قلبه ث هلك‪.‬‬

‫وأما قريش فكانوا قد تفرقوا ف الشعاب‪ ،‬وترزوا ف رءوس البال خوفًا على أنفسهم من معرة اليش‪،‬‬
‫فلما نزل باليش ما نزل رجعوا إل بيوتم آمني‪.‬‬

‫وكانت هذه الوقعة ف شهر الحرم قبل مولد النب صلى ال عليه وسلم بمسي يومًا أو بمسة وخسي‬
‫يومًا ـ عند الكثر ـ وهو يطابق أواخر فباير أو أوائل مارس سنة ‪ 571‬م‪ ،‬وكانت تقدمة قدمها ال‬
‫لنبيه وبيته؛ لنّا حي ننظر إل بيت القدس نرى أن الشركي من أعداء ال استولوا على هذه القبلة مرتي‬
‫بينما كان أهلها مسلمي‪ ،‬كما وقع لُبخْتُنَصّر سنة ‪ 587‬ق‪.‬م‪ ،‬والرومان سنة ‪ 70‬م‪ ،‬ولكن ل يتم‬
‫استيلء نصارى البشة على الكعبة وهم السلمون إذ ذاك‪ ،‬وأهل الكعبة كانوا مشركي‪.‬‬

‫وقد وقعت هذه الوقعة ف الظروف الت يبلغ نبؤها إل معظم العمورة التحضرة إذ ذاك‪ .‬فالبشة كانت لا‬
‫صلة قوية بالرومان‪ ،‬والفرس ل يزالون لم بالرصاد‪ ،‬يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائهم؛ ولذلك سرعان‬
‫ما جاءت الفرس إل اليمن بعد هذه الوقعة‪ ،‬وهاتان الدولتان كانتا تثلن العال التحضر ف ذلك الوقت‪.‬‬
‫فهذه الوقعة لفتت أنظار العال ودلته على شرف بيت ال ‪ ،‬وأنه هو الذي اصطفاه ال للتقديس‪ ،‬فإذن لو‬
‫قام أحد من أهله بدعوى النبوة كان ذلك هو عي ما تقتضيه هذه الوقعة‪ ،‬وكان تفسيًا للحكمة الفية‬
‫الت كانت ف نصرة ال للمشركي ضد أهل اليان بطريق يفوق عال السباب‪.‬‬

‫وكان لعبد الطلب عشرة بني‪ ،‬وهم‪ :‬الارث‪ ،‬والزبي‪ ،‬وأبو طالب‪ ،‬وعبد ال ‪ ،‬وحزة‪ ،‬وأبو لب‪،‬‬
‫والغَ ْيدَاق‪ ،‬وا ُلقَوّم‪ ،‬وضِرَار‪ ،‬والعباس‪ .‬وقيل‪ :‬كانوا أحد عشر‪ ،‬فزادوا ولدًا اسه‪ :‬قُثَم‪ ،‬وقيل ‪ :‬كانوا ثلثة‬
‫عشر‪ ،‬فزادوا‪ :‬عبد الكعبة و َحجْلًا‪ ،‬وقيل‪ :‬إن عبد الكعبة هو القوم‪ ،‬وحجل هو الغيداق‪ ،‬ول يكن من‬
‫أولده رجل اسه قثم‪ ،‬وأما البنات فست وهن ‪ :‬أم الكيم ـ وهي البيضاء ـ وبَرّة‪ ،‬وعاتكة‪ ،‬وصفية‪،‬‬
‫وأرْوَى‪ ،‬وأميمة‪.‬‬

‫‪3‬ـ عبد ال والد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫أمـه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مزوم بن يَ َقظَة بـن مـرة‪ ،‬وكـان عبد ال أحسن أولد‬
‫عبد الطلب وأعفهم وأحبهم إليه‪ ،‬وهو الذبيح؛ وذلك أن عبد الطلب لـا ت أبناؤه عشرة‪ ،‬وعرف أنم‬
‫ينعونه أخبهم بنذره فأطاعوه‪ ،‬فقيل ‪ :‬إنه أقـرع بينهم أيهم ينـحـر ؟ فطـارت القرعــة على‬
‫عـبد ال ‪ ،‬وكــان أحـب النـاس إليه‪.‬فقال‪:‬ال م هو أو مائة من البل‪.‬ث أقرع بينه وبي البل‬
‫فطارت القرعة على الائة من البل‪ ،‬وقيل‪:‬إنه كتب أساءهم ف القداح‪،‬وأعطاها قيم هبل‪ ،‬فضرب القداح‬
‫فخرج القدح على عبد ال ‪ ،‬فأخذه عبد الطلب‪ ،‬وأخذ الشفرة‪،‬ث أقبل به إل الكعبة ليذبه‪،‬فمنعته‬
‫قريش‪،‬ولسيما أخواله من بن مزوم وأخوه أبو طالب‪ .‬فقال عبد الطلب ‪ :‬فكيف أصنع بنذري؟ فأشاروا‬
‫عليه أن يأتى عرافة فيستأمرها‪ ،‬فأتاها‪ ،‬فأمرت أن يضرب القداح على عبد ال وعلى عشر من البل‪ ،‬فإن‬
‫خرجت على عبد ال يزيد عشرًا من البل حت يرضى ربه‪ ،‬فإن خرجت على البل نرها‪ ،‬فرجع وأقرع‬
‫بي عبد ال وبي عشر من البل‪ ،‬فوقعت القرعة على عبد ال ‪ ،‬فلم يزل يزيد من البل عشرًا عشرًا ول‬
‫تقع القرعة إل عليه إل أن بلغت البل مائة فوقعت القرعة عليها‪ ،‬فنحرت ث تركت‪ ،‬ل يرد عنها إنسان‬
‫ول سبع‪ ،‬وكانت الدية ف قريش وف العرب عشرًا من البل‪ ،‬فجرت بعد هذه الوقعة مائة من البل‪،‬‬
‫وأقرها السلم‪ ،‬وروى عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال‪[ :‬أنا ابن الذبيحي] يعن إساعيل‪ ،‬وأباه‬
‫عبد ال ‪.‬‬

‫واختار عبد الطلب لولده عبد ال آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلب‪ ،‬وهي يومئذ تعد‬
‫أفضل امرأة ف قريش نسبًا وموضعًا‪ ،‬وأبوها سيد بن زهرة نسبًا وشرفًا‪ ،‬فزوجه با‪ ،‬فبن با عبد ال ف‬
‫مكة‪ ،‬وبعد قليل أرسله عبد الطلب إل الدينة يتار لم ترًا‪ ،‬فمات با‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل خرج تاجرًا إل الشام‪،‬‬
‫فأقبل ف عي قريش‪ ،‬فنل بالدينة وهو مريض فتوف با‪ ،‬ودفن ف دار النابغة العدى‪ ،‬وله إذ ذاك خس‬
‫وعشرون سنة‪ ،‬وكانت وفاته قبل أن يولد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبه يقول أكثر الؤرخي‪ ،‬وقيل‬
‫‪ :‬بل توف بعد مولده بشهرين أو أكثر‪ .‬ولا بلغ نعيه إل مكة رثته آمنة بأروع الراثى‪ ،‬قالت ‪:‬‬

‫ب البطحاءِ من ابن هاشم ** وجاور َلحْدًا خارجـا ف الغَـمَاغِـــم‬


‫َعفَا جان ُ‬

‫َدعَتْـه النــايا دعــوة فأجـابـــهـا ** وما تركتْ ف الناس مثل ابن هاشـم‬

‫عشيـة راحـوا يملــون سريـره ** َتعَا َو َرهُ أصـحـابــه ف التزاحــــم‬

‫فإن تـك غـالتـه النـايا و َريْبَهـــا ** فقـد كـان ِمعْطــاءً كـثي التراحم‬

‫وجيع ما خلفه عبد ال خسة أجال‪ ،‬وقطعة غنم‪ ،‬وجارية حبشية اسها بركة وكنيتها أم أين‪ ،‬وهي‬
‫حاضنـة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫الولد وأربعون عامًا قبل النبوة‬

‫الولـــد‬

‫ولـد سيـد الرسلـي صلى ال عليه وسلم بشـعب بن هاشـم بكـة ف صبيحـة يــوم الثني‬
‫التاسع مـن شـهر ربيـع الول‪ ،‬لول عـام مـن حادثـة الفيـل‪ ،‬ولربعـي سنة خلت من ملك‬
‫كسرى أنوشروان‪ ،‬ويوافق ذلك عشرين أو اثني وعشرين من شهر أبريل سنة ‪ 571‬م حسبما حققه‬
‫العال الكبي ممد سليمان ـ النصورفورى ـ رحه ال ‪.‬‬
‫وروى ابــن سعــد أن أم رســول ال صلى ال عليه وسلم قالــت ‪ :‬لــا ولـدتــه‬
‫خــرج مــن فرجـى نــور أضــاءت لـه قصـور الشام‪ .‬وروى أحد والدارمى وغيهـا‬
‫قريبـا مـن ذلك‪.‬‬

‫وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند اليلد‪ ،‬فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى‪ ،‬وخدت‬
‫النار الت يعبدها الجوس‪ ،‬واندمت الكنائس حول بية ساوة بعد أن غاضت‪ ،‬روى ذلك الطبى‬
‫والبيهقى وغيها‪ .‬وليس له إسناد ثابت‪ ،‬ول يشهد له تاريخ تلك المم مع قوة دواعى التسجيل‪.‬‬

‫ولا ولدته أمه أرسلت إل جده عبد الطلب تبشره بفيده‪،‬فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة‪ ،‬ودعا ال‬
‫وشكر له‪ .‬واختار له اسم ممد ـ وهذا السم ل يكن معروفًا ف العرب ـ وخَتَنَه يوم سابعه كما كان‬
‫العرب يفعلون‪.‬‬

‫وأول من أرضعته من الراضع ـ وذلك بعد أمه صلى ال عليه وسلم بأسبوع ـ ثُوَيْبَة مولة أب لب بلب‬
‫ابن لا يقال له‪ :‬مَسْرُوح‪ ،‬وكانت قد أرضعت قبله حزة بن عبد الطلب‪ ،‬وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد‬
‫السد الخزومي‪.‬‬

‫ف بن سعد‬

‫وكانت العادة عند الاضرين من العرب أن يلتمسوا الراضع لولدهم ابتعادًا لم عن أمراض الواضر؛‬
‫ولتقوى أجسامهم‪ ،‬وتشتد أعصابم‪ ،‬ويتقنوا اللسان العرب ف مهدهم‪ ،‬فالتمس عبد الطلب لرسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم الراضع‪ ،‬واسترضع له امرأة من بن سعد بن بكر‪ ،‬وهي حليمة بنت أب ذؤيب عبد‬
‫ال بن الارث‪ ،‬وزوجها الارث ابن عبد العزى الكن بأب كبشة من نفس القبيلة‪.‬‬

‫وإخوته صلى ال عليه وسلم هناك من الرضاعة ‪ :‬عبد ال بن الارث‪ ،‬وأنيسة بنت الارث‪ ،‬وحذافة أو‬
‫جذامة بنت الارث [وهي الشيماء؛ لقب غلب على اسها] وكانت تضن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وأبو سفيان بن الارث بن عبد الطلب ابن عم رسول ال صلى ال عليه وسلم وكان عمه حزة بن‬
‫عبد الطلب مسترضعًا ف بن سعد بن بكر‪ ،‬فأرضعت أمه رسول ال صلى ال عليه وسلم يومًا وهو عند‬
‫أمه حليمة‪،‬فكان حزة رضيع رسول ال صلى ال عليه وسلم من جهتي‪ ،‬من جهة ثويبة ومن جهة‬
‫السعدية‪.‬‬

‫ورأت حليمة من بركته صلى ال عليه وسلم ما قضت منه العجب‪ ،‬ولنتركها تروى ذلك مفصلًا ‪:‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬كانت حليمة تدث ‪ :‬أنا خرجت من بلدها مع زوجها وابن لا صغي ترضعه ف نسوة‬
‫من بن سعد بن بكر‪ ،‬تلتمس الرضعاء‪ .‬قالت ‪ :‬وذلك ف سنة شهباء ل تبق لنا شيئًا‪ ،‬قالت ‪ :‬فخرجت على‬
‫أتان ل قمراء‪ ،‬ومعنا شارف لنا‪ ،‬وال ما تَبِضّ ُبقطرة‪ ،‬وما ننام ليلنا أجع من صبينا الذي معنا‪ ،‬من بكائه‬
‫من الوع‪ ،‬ما ف ثدي ما يغنيه‪ ،‬وما ف شارفنا ما يغذيه‪ ،‬ولكن كنا نرجو الغيث والفرج‪ ،‬فخرجت على‬
‫أتان تلك‪ ،‬فلقد أ َذمّتْ بالركب حت شق ذلك عليهم‪ ،‬ضعفًا وعجفًا‪ ،‬حت قدمنا مكة نلتمس الرضعاء‪،‬‬
‫فما منا امرأة إل وقد عرض عليها رسول ال صلى ال عليه وسلم فتأباه‪ ،‬إذا قيل لا‪ :‬إنه يتيم‪ ،‬وذلك أنا‬
‫كنا نرجو العروف من أب الصب‪ ،‬فكنا نقول‪ :‬يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده‪ ،‬فكنا نكرهه لذلك‪،‬‬
‫فما بقيت امرأة قدمت معي إل أخذت رضيعًا غيى‪ ،‬فلما أجعنا النطلق قلت لصاحب‪ :‬وال ‪ ،‬إن لكره‬
‫أن أرجع من بي صواحب ول آخذ رضيعًا‪ ،‬وال لذهب إل ذلك اليتيم فلخذنه‪ .‬قال ‪ :‬ل عليك أن‬
‫تفعلى‪ ،‬عسى ال أن يعل لنا فيه بركة‪ .‬قالت‪ :‬فذهبت إليه وأخذته‪،‬وما حلن على أخذه إل أن ل أجد‬
‫غيه‪ ،‬قالت‪ :‬فلما أخذته رجعت به إل رحلى‪ ،‬فلما وضعته ف حجرى أقبل عليه ثديأي با شاء من لب‪،‬‬
‫فشرب حت روى‪ ،‬وشرب معه أخوه حت روى‪ ،‬ث ناما‪ ،‬وما كنا ننام معه قبل ذلك‪ ،‬وقام زوجي إل‬
‫شارفنا تلك‪ ،‬فإذا هي حافل‪ ،‬فحلب منها ما شرب وشربت معه حت انتهينا ريا وشبعا‪ ،‬فبتنا بي ليلة‪،‬‬
‫قالت‪ :‬يقول صاحب حي أصبحنا‪ :‬تعلمي وال يا حليمة‪ ،‬لقد أخذت نسمة مباركة‪ ،‬قالت‪ :‬فقلت‪ :‬وال‬
‫إن لرجو ذلك‪ .‬قالت‪ :‬ث خرجنا وركبت أنا أتان‪ ،‬وحلته عليها معى‪ ،‬فوال لقطعت بالركب ما ل يقدر‬
‫عليه شىء من حرهم‪ ،‬حت إن صواحب ليقلن ل‪ :‬يا ابنة أب ذؤيب‪ ،‬ويك! أ ْربِعى علينا‪ ،‬أليست هذه‬
‫أتانك الت كنت خرجت عليها؟ فأقول لن‪ :‬بلى وال ‪ ،‬إنا لي هي‪ ،‬فيقلن‪ :‬وال إن لا شأنًا‪ ،‬قالت‪ :‬ث‬
‫قدمنا منازلنا من بلد بن سعد‪ ،‬وما أعلم أرضًا من أرض ال أجدب منها‪ ،‬فكانت غنمى تروح علىّ حي‬
‫قدمنا به معنا شباعًا لُبّنـا‪ ،‬فنحلب ونشرب‪ ،‬وما يلب إنسان قطرة لب‪ ،‬ول يدها ف ضرع‪ ،‬حت كان‬
‫الاضرون من قومنا يقولون لرعيانم‪ :‬ويلكم‪ ،‬اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أب ذؤيب‪ ،‬فتروح‬
‫أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لب‪ ،‬وتروح غنمى شباعًا لبنًا‪ .‬فلم نزل نتعرف من ال الزيادة والي حت‬
‫مضت سنتاه وفصلته‪ ،‬وكان يشب شبابًا ل يشبه الغلمان‪ ،‬فلم يبلغ سنتيه حت كان غلمًا جفرًا‪ .‬قالت‪:‬‬
‫فقدمنا به على أمه ونن أحرص على مكثه فينا‪ ،‬لا كنا نرى من بركته‪ ،‬فكلمنا أمه‪ ،‬وقلت لا‪ :‬لو تركت‬
‫ابن عندي حت يغلظ‪ ،‬فإن أخشى عليه وباء مكة‪ ،‬قالت‪ :‬فلم نزل با حت ردته معنا‪.‬‬

‫شق الصدر‬
‫وهكذا رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل بن سعد‪ ،‬حت إذا كان بعده بأشهر على قول ابن‬
‫إسحاق‪ ،‬وف السنة الرابعة من مولده على قول الحققي وقع حادث شق صدره‪ ،‬روى مسلم عن أنس‪ :‬أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم أتاه جبيل‪ ،‬وهو يلعب مع الغلمان‪ ،‬فأخذه فصرعه‪ ،‬فشق عن قلبه‪،‬‬
‫فاستخرج القلب‪ ،‬فاستخرج منه علقة‪ ،‬فقال‪ :‬هذا حظ الشيطان منك‪ ،‬ث غسله ف طَسْت من ذهب باء‬
‫زمزم‪ ،‬ث َلمَه ـ أي جعه وضم بعضه إل بعض ـ ث أعاده ف مكانه‪ ،‬وجاء الغلمان يسعون إل أمه ـ‬
‫يعن ظئره ـ فقالوا‪ :‬إن ممدًا قد قتل‪ ،‬فاستقبلوه وهو مُنَْت ِقعُ اللون ـ أي متغي اللون ـ قال أنس‪ :‬وقد‬
‫كنت أرى أثر ذلك الخيط ف صدره‪.‬‬

‫إل أمه النون‬

‫وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حت ردته إل أمه‪ ،‬فكان عند أمه إل أن بلغ ست سني‪.‬‬

‫ورأت آمنة ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبه بيثرب‪ ،‬فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ‬
‫نو خسمائة كيلو متر ومعها ولدها اليتيم ـ ممد صلى ال عليه وسلم ـ وخادمتها أم أين‪ ،‬وقيمها عبد‬
‫الطلب‪ ،‬فمكثت شهرًا ث قفلت‪ ،‬وبينما هي راجعة إذ لقها الرض ف أوائل الطريق‪ ،‬ث اشتد حت ماتت‬
‫بالبْوَاء بي مكة والدينة‪.‬‬

‫إل جده العطوف‬

‫وعاد به عبد الطلب إل مكة‪ ،‬وكانت مشاعر النو ف فؤاده تربو نو حفيده اليتيم الذي أصيب بصاب‬
‫جديد نَكَأ الروح القدية‪َ ،‬ف َرقّ عليه رقة ل يرقها على أحد من أولده‪ ،‬فكان ل يدعه لوحدته الفروضة‪،‬‬
‫بل يؤثره على أولده‪ ،‬قال ابن هشام‪ :‬كان يوضع لعبد الطلب فراش ف ظل الكعبة‪ ،‬فكان بنوه يلسون‬
‫حول فراشه ذلك حت يرج إليه‪ ،‬ل يلس عليه أحد من بنيه إجللًا له‪ ،‬فكان رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يأتى وهو غلم جفر حت يلس عليه‪ ،‬فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه‪ ،‬فيقول عبد الطلب إذا رأي‬
‫ذلك منهم‪ :‬دعوا ابن هذا‪ ،‬فوال إن له لشأنًا‪ ،‬ث يلس معه على فراشه‪ ،‬ويسح ظهره بيده‪ ،‬ويسره ما‬
‫يراه يصنع‪.‬‬

‫ولثمان سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى ال عليه وسلم توف جده عبد الطلب بكة‪ ،‬ورأي‬
‫قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إل عمه أب طالب شقيق أبيه‪.‬‬

‫إل عمه الشفيق‬


‫ونض أبو طالب بق ابن أخيه على أكمل وجه‪ ،‬وضمه إل ولده وقدمه عليهم واختصه بفضل احترام‬
‫وتقدير‪ ،‬وظل فوق أربعي سنة يعز جانبه‪ ،‬ويبسط عليه حايته‪ ،‬ويصادق وياصم من أجله‪ ،‬وستأت نبذ من‬
‫ذلك ف مواضعها‪.‬‬

‫يستسقى الغمام بوجهه‬

‫أخرج ابن عساكر عن جَ ْلهُمَة بن عُرْ ُفطَة قال‪ :‬قدمت مكة وهم ف قحط‪ ،‬فقالت قريش‪ :‬يا أبا طالب‪،‬‬
‫أقحط الوادي‪ ،‬وأجدب العيال‪ ،‬ف َه ُلمّ فاستسق‪ ،‬فخرج أبو طالب ومعه غلم‪ ،‬كأنه شس دُجُنّة‪ ،‬تلت عنه‬
‫سحابة قَ ْتمَاء‪ ،‬حوله أُغَيْلمة‪ ،‬فأخذه أبو طالب‪ ،‬فألصق ظهره بالكعبة‪،‬ولذ بأضبعه الغلم‪ ،‬وما ف السماء‬
‫قَزَعَة‪ ،‬فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق وا ْغدَوْدَق‪ ،‬وانفجر الوادي‪ ،‬وأخصب النادي والبادي‪،‬‬
‫وإل هذا أشار أبو طالب حي قال‪:‬‬

‫وأبيضَ يُستسقى الغَمَام بوجهه ** ثِما ُل اليتامى عِصْ َمةٌ للرامل‬

‫َبحِيَى الراهب‬

‫ولا بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم اثنت عشرة سنة ـ قيل‪ :‬وشهرين وعشرة أيام ـ ارتل به أبو‬
‫طالب تاجرًا إل الشام‪ ،‬حت وصل إل بُصْرَى ـ وهي معدودة من الشام‪ ،‬وقَصَبَة لُورَان‪ ،‬وكانت ف‬
‫ذلك الوقت قصبة للبلد العربية الت كانت تت حكم الرومان‪ .‬وكان ف هذا البلد راهب عرف‬
‫بَبحِيَى‪ ،‬واسه ـ فيما يقال‪ :‬جرجيس‪ ،‬فلما نزل الركب خرج إليهم‪ ،‬وكان ل يرج إليهم قبل ذلك‪،‬‬
‫فجعل يتخلّلهم حت جاء فأخذ بيد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال‪ :‬هذا سيد العالي‪ ،‬هذا رسول‬
‫رب العالي‪ ،‬هذا يبعثه ال رحة للعالي‪ .‬فقال له [أبو طالب و] أشياخ قريش‪[ :‬و] ما علمك [بذلك]؟‬
‫فقال‪ :‬إنكم حي أشرفتم من العقبة ل يبق حجر ول شجر إل خر ساجدًا‪ ،‬ول يسجدان إل لنب‪ ،‬وإن‬
‫أعرفه بات النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة‪[ ،‬وإنا نده ف كتبنا]‪ ،‬ث أكرمهم بالضيافة‪ ،‬وسأل‬
‫أبا طالب أن يرده‪ ،‬ول يقدم به إل الشام؛ خوفًا عليه من الروم واليهود‪ ،‬فبعثه عمه مع بعض غلمانه إل‬
‫مكة‪.‬‬

‫حرب ال ِفجَار‬

‫وف السنة العشرين من عمره صلى ال عليه وسلم وقعت ف سوق عُكاظ حرب بي قريش ـ ومعهم‬
‫كنانة ـ وبي قَيْس عَيْلن‪ ،‬تعرف برب ال ِفجَار وسببها‪ :‬أن أحد بن كنانة‪ ،‬واسه البَرّاض‪ ،‬اغتال ثلثة‬
‫رجال من قيس عيلن‪ ،‬ووصل الب إل عكاظ فثار الطرفان‪ ،‬وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن‬
‫أمية؛ لكانته فيهم سنا وشرفًا‪ ،‬وكان الظفر ف أول النهار لقيس على كنانة‪ ،‬حت إذا كان ف وسط النهار‬
‫كادت الدائرة تدور على قيس‪ .‬ث تداعى بعض قريش إل الصلح على أن يصوا قتلى الفريقي‪ ،‬فمن وجد‬
‫قتله أكثر أخذ دية الزائد‪ .‬فاصطلحوا على ذلك‪ ،‬ووضعوا الرب‪ ،‬وهدموا ما كان بينهم من العداوة‬
‫والشر‪ .‬وسيت برب الفجار؛ لنتهاك حرمة الشهر الرام فيها‪ ،‬وقد حضر هذه الرب رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬وكان ينبل على عمومته؛ أي يهز لم النبل للرمي‪.‬‬

‫حلف الفضول‬

‫وعلى أثر هذه الرب وقع حلف الفضول ف ذى القعدة ف شهر حرام تداعت إليه قبائل من قريش‪ :‬بنو‬
‫هاشم‪ ،‬وبنو الطلب‪،‬وأسد بن عبد العزى‪ ،‬وزهرة بن كلب‪ ،‬وتيم بن مرة‪ ،‬فاجتمعوا ف دار عبد ال بن‬
‫ُجدْعان التيمى؛ لسنّه وشرفه‪ ،‬فتعاقدوا وتعاهدوا على أل يدوا بكة مظلومًا من أهلها وغيهم من سائر‬
‫الناس إل قاموا معه‪ ،‬وكانوا على من ظلمه حت ترد عليه مظلمته‪ ،‬وشهد هذا اللف رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬وقال بعد أن أكرمه ال بالرسالة‪( :‬لقد شهدت ف دار عبد ال بن جدعان حلفًا ما أحب أن‬
‫ل به حر النعم‪ ،‬ولو أدعى به ف السلم لجبت)‪.‬‬

‫وهذا اللف روحه تناف المية الاهلية الت كانت العصبية تثيها‪ ،‬ويقال ف سبب هذا اللف‪ :‬إن رجلًا‬
‫من ُزبَيْد قدم مكة ببضاعة‪ ،‬واشتراها منه العاص بن وائل السهمى‪ ،‬وحبس عنه حقه‪ ،‬فاستعدى عليه‬
‫الحلف عبد الدار ومزومًا‪ ،‬وجُ َمحًا و َسهْمًا و َعدِيّا فلم يكترثوا له‪ ،‬فعل جبل أب قُبَيْس‪ ،‬ونادى بأشعار‬
‫يصف فيها ظلمته رافعًا صوته‪ ،‬فمشى ف ذلك الزبي بن عبد الطلب‪ ،‬وقال‪ :‬ما لذا مترك؟ حت اجتمع‬
‫الذين مضى ذكرهم ف حلف الفضول‪ ،‬فعقدوا اللف ث قاموا إل العاص بن وائل فانتزعوا منه حق‬
‫الزبيدي‪.‬‬

‫حياة الكدح‬

‫ول يكن له صلى ال عليه وسلم عمل معي ف أول شبابه‪ ،‬إل أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنمًا‪،‬‬
‫رعاها ف بن سعد‪ ،‬وف مكة لهلها على قراريط‪ ،‬ويبدو أنه انتقل إل عمل التجارة حي شب‪،‬فقد ورد أنه‬
‫كان يتجر مع السائب بن أب السائب الخزومي فكان خي شريك له‪ ،‬ل يدارى ول يارى‪ ،‬وجاءه يوم‬
‫الفتح فرحب به‪ ،‬وقال‪ :‬مرحبًا بأخي وشريكي‪.‬‬
‫وف الامسة والعشرين من سنه خرج تاجرًا إل الشام ف مال خدية رضي ال عنها قال ابن إسحاق‪:‬‬
‫كانت خدية بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال‪ ،‬تستأجر الرجال ف مالا‪ ،‬وتضاربم إياه بشيء‬
‫تعله لم‪ ،‬وكانت قريش قومًا تارًا‪ ،‬فلما بلغها عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ما بلغها من صدق‬
‫حديثه‪ ،‬وعظم أمانته وكرم أخلقه بعثت إليه‪ ،‬فعرضت عليه أن يرج ف مال لا إل الشام تاجرًا‪ ،‬وتعطيه‬
‫أفضل ما كانت تعطى غيه من التجار‪ ،‬مع غلم لا يقال له‪ :‬ميسرة‪ ،‬فقبله رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫منها‪ ،‬وخرج ف مالا ذلك‪ ،‬وخرج معه غلمها ميسرة حت قدم الشام‪.‬‬

‫زواجه بدية‬

‫ولا رجع إل مكة‪ ،‬ورأت خدية ف مالا من المانة والبكة ما ل تر قبل هذا‪ ،‬وأخبها غلمها ميسرة با‬
‫رأي فيه صلى ال عليه وسلم من خلل عذبة‪ ،‬وشائل كرية‪ ،‬وفكر راجح‪ ،‬ومنطق صادق‪ ،‬ونج أمي‪،‬‬
‫وجدت ضالتها النشودة ـ وكان السادات والرؤساء يرصون على زواجها فتأب عليهم ذلك ـ‬
‫فتحدثت با ف نفسها إل صديقتها نفيسة بنت منبه‪ ،‬وهذه ذهبت إليه صلى ال عليه وسلم تفاته أن‬
‫يتزوج خدية‪ ،‬فرضى بذلك‪ ،‬وكلم أعمامه‪ ،‬فذهبوا إل عم خدية وخطبوها إليه‪ ،‬وعلى إثر ذلك ت‬
‫الزواج‪ ،‬وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر‪ ،‬وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين‪ ،‬وأصدقها عشرين‬
‫بَكْرة‪ .‬وكانت سنها إذ ذاك أربعي سنة‪ ،‬وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلًا‪ ،‬وهي أول‬
‫امرأة تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول يتزوج عليها غيها حت ماتت‪.‬‬

‫وكل أولده صلى ال عليه وسلم منها سوى إبراهيم‪،‬ولدت له‪ :‬أولًا القاسم ـ وبه كان يكن ـ ث‬
‫زينب‪ ،‬ورقية‪ ،‬وأم كلثوم‪ ،‬وفاطمة‪ ،‬وعبد ال ‪ .‬وكان عبد ال يلقب بالطيب والطاهر‪ ،‬ومات بنوه كلهم‬
‫ف صغرهم‪ ،‬أما البنات فكلهن أدركن السلم فأسلمن وهاجرن‪،‬إل أنن أدركتهن الوفاة ف حياته صلى‬
‫ال عليه وسلم سوى فاطمة رضي ال عنها‪ ،‬فقد تأخرت بعده ستة أشهر ث لقت به‪.‬‬

‫بناء الكعبة وقضية التحكيم‬

‫ولمس وثلثي سنة من مولده صلى ال عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة؛ وذلك لن الكعبة كانت‬
‫َرضْمًا فوق القامة‪ ،‬ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إساعيل عليه السلم‪ ،‬ول يكن لا سقف‪ ،‬فسرق نفر من‬
‫اللصوص كنها الذي كان ف جوفها‪ ،‬وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرًا قديا ـ للعوادى‬
‫الت أدهت بنيانا‪ ،‬وصدعت جدرانا‪ ،‬وقبل بعثته صلى ال عليه وسلم بمس سني جرف مكة سيل عرم‬
‫اندر إل البيت الرام‪ ،‬فأوشكت الكعبة منه على النيار‪ ،‬فاضطرت قريش إل تديد بنائها حرصًا على‬
‫مكانتها‪ ،‬واتفقوا على أل يدخلوا ف بنائها إل طيبًا‪ ،‬فل يدخلون فيها مهر بغى ول بيع ربًا ول مظلمة أحد‬
‫من الناس‪ ،‬وكانوا يهابون هدمها‪ ،‬فابتدأ با الوليد بن الغية الخزومى‪ ،‬فأخذ العول وقال‪ :‬ال م ل نريد‬
‫إل الي‪ ،‬ث هدم ناحية الركني‪ ،‬ولا ل يصبه شيء تبعه الناس ف الدم ف اليوم الثان‪ ،‬ول يزالوا ف الدم‬
‫حت وصلوا إل قواعد إبراهيم‪ ،‬ث أرادوا الخذ ف البناء فجزأوا الكعبة‪ ،‬وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها‪.‬‬
‫فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة‪ ،‬وأخذوا يبنونا‪ ،‬وتول البناء بناء رومي اسه‪ :‬باقوم‪ .‬ولا بلغ البنيان‬
‫موضع الجر السود اختلفوا فيمن يتاز بشرف وضعه ف مكانه‪ ،‬واستمر الناع أربع ليال أو خسًا‪،‬‬
‫واشتد حت كاد يتحول إل حرب ضروس ف أرض الرم‪ ،‬إل أن أبا أمية بن الغية الخزومى عرض عليهم‬
‫أن يكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب السجد فارتضوه‪ ،‬وشاء ال أن يكون ذلك رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما رأوه هتفوا‪ :‬هذا المي‪ ،‬رضيناه‪ ،‬هذا ممد‪ ،‬فلما انتهى إليهم‪ ،‬وأخبوه‬
‫الب طلب رداء فوضع الجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل التنازعي أن يسكوا جيعًا بأطراف الرداء‪،‬‬
‫وأمرهم أن يرفعوه‪ ،‬حت إذا أوصلوه إل موضعه أخذه بيده فوضعه ف مكانه‪ ،‬وهذا حل حصيف رضى به‬
‫القوم‪.‬‬

‫وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الهة الشمالية نوا من ستة أذرع‪ ،‬وهي الت تسمى بالجر‬
‫والطيم‪ ،‬ورفعوا بابا من الرض؛ لئل يدخلها إل من أرادوا‪ ،‬ولا بلغ البناء خسة عشر ذراعًا سقفوه على‬
‫ستة أعمدة‪.‬‬

‫وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبًا‪ ،‬يبلغ ارتفاعه ‪ 15‬مترًا‪ ،‬وطول ضلعه الذي فيه‬
‫الجر السود والقابل له ‪ 10‬أمتار‪ ،‬والجر موضوع على ارتفاع ‪50.1‬متر من أرضية الطاف‪.‬‬
‫والضلع الذي فيه الباب والقابل له ‪12‬مترًا‪ ،‬وبابا على ارتفاع مترين من الرض‪ ،‬وييط با من الارج‬
‫قصبة من البناء أسفلها‪ ،‬متوسط ارتفاعها ‪25.0‬مترًا ومتوسط عرضها ‪ 30.0‬مترًا وتسمى‬
‫بالشاذروان‪ ،‬وهي من أصل البيت لكن قريشًا تركتها‪.‬‬

‫السية الجالية قبل النبوة‬

‫كان النب صلى ال عليه وسلم قد جع ف نشأته خي ما ف طبقات الناس من ميزات‪ ،‬وكان طرازًا رفيعًا‬
‫من الفكر الصائب‪ ،‬والنظر السديد‪ ،‬ونال حظًا وافرًا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة‬
‫والدف‪ ،‬وكان يستعي بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناه الق‪ ،‬وطالع بعقله‬
‫الصب وفطرته الصافية صحائف الياة وشئون الناس وأحوال الماعات‪ ،‬فعاف ما سواها من خرافة‪،‬‬
‫ونأي عنها‪ ،‬ث عاشر الناس على بصية من أمره وأمرهم‪ ،‬فما وجد حسنًا شارك فيه وإل عاد إل عزلته‬
‫العتيدة‪ ،‬فكان ل يشرب المر‪ ،‬ول يأكل ما ذبح على النصب‪ ،‬ول يضر للوثان عيدًا ول احتفالًا‪ ،‬بل‬
‫كان من أول نشأته نافرا من هذه العبودات الباطلة‪ ،‬حت ل يكن شيء أبغض إليه منها‪ ،‬وحت كان ل‬
‫يصب على ساع اللف باللت والعزى‪.‬‬

‫ول شك أن القدر حاطه بالفظ‪ ،‬فعندما تتحرك نوازع النفس لستطلع بعض متع الدنيا‪ ،‬وعندما يرضى‬
‫باتباع بعض التقاليد غي الحمودة ـ تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها‪ ،‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪( :‬ما همت بشيء ما كان أهل الاهلية يعملون غي مرتي‪ ،‬كل ذلك يول ال بين وبينه‪ ،‬ث‬
‫ما همت به حت أكرمن برسالته‪ ،‬قلت ليلة للغلم الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة‪ :‬لو أبصرت ل‬
‫غنمي حت أدخل مكة وأسر با كما يسمر الشباب‪ ،‬فقال‪ :‬أفعل‪ ،‬فخرجت حت إذا كنت عند أول دار‬
‫بكة سعت عزفًا‪ ،‬فقلت‪ :‬ما هذا؟ فقالوا‪ :‬عرس فلن بفلنة‪ ،‬فجلست أسع‪ ،‬فضرب ال على أذنـى‬
‫فنمت‪ ،‬فما أيقظن إل حر الشمس‪ .‬فعدت إل صاحب فسألن‪ ،‬فأخبته‪ ،‬ث قلت ليلة أخرى مثل ذلك‪،‬‬
‫ودخلت بكة فأصابن مثل أول ليلة‪ ...‬ث ما همت بسوء)‪.‬‬

‫وروى البخاري عن جابر بن عبد ال قال‪ :‬لا بنيت الكعبة ذهب النب صلى ال عليه وسلم وعباس ينقلن‬
‫الجارة‪ ،‬فقال عباس للنب صلى ال عليه وسلم‪ :‬اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الجارة‪ ،‬فخر إل‬
‫الرض وطمحت عيناه إل السماء ث أفاق‪ ،‬فقال‪( :‬إزاري‪ ،‬إزاري) فشد عليه إزاره‪ .‬وف رواية‪ :‬فما‬
‫رؤيت له عورة بعد ذلك‪.‬‬

‫وكان النب صلى ال عليه وسلم يتاز ف قومه بلل عذبة وأخلق فاضلة‪ ،‬وشائل كرية‪ ،‬فكان أفضل‬
‫قومه مروءة‪ ،‬وأحسنهم خلقًا‪ ،‬وأعزهم جوارًا‪ ،‬وأعظمهم حلمًا‪ ،‬وأصدقهم حديثًا‪ ،‬وألينهم َعرِيكة‪ ،‬وأعفهم‬
‫نفسًا وأكرمهم خيًا‪ ،‬وأبرهم عملًا‪ ،‬وأوفاهم عهدًا‪ ،‬وآمنهم أمانة حت ساه قومه‪[ :‬المي] لا جع فيه من‬
‫الحوال الصالة والصال الرضية‪ ،‬وكان كما قالت أم الؤمني خدية رضي ال عنها يمل الكل‪،‬‬
‫ويكسب العدوم‪ ،‬ويقرى الضيف‪ ،‬ويعي على نوائب الق‪.‬‬
‫حياة النبـوة و الرسـالة والدعـوة‬

‫النبــوة والدعــوة ‪ -‬العهـد الكـي‬


‫ف ظلل النبوة والرسالة‬
‫الرحلة الول‪ :‬من جهاد الدعوة إل ال‬

‫النبــوة والدعــوة ‪ -‬العهـد الكـي‬

‫تنقسم حياة رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد أن شرفه ال بالنبوة والرسالة إل عهدين يتاز أحدها عن‬
‫الخـر تـام المتياز‪ ،‬وها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ العهد الكي‪ ،‬ثلث عشرة سنة تقريبًا‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ العهد الدن‪ ،‬عشر سنوات كاملة‪.‬‬

‫ث يشتمل كل من العهدين على عدة مراحل‪ ،‬لكل مرحلة منها خصائص تتاز با عن غيها‪ ،‬يظهر ذلك‬
‫جليًا بعد النظر الدقيق ف الظروف الت مرت با الدعوة خلل العهدين‪.‬‬

‫ويكن تقسيم العهد الكي إل ثلث مراحل‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ مرحلة الدعوة السرية‪ ،‬ثلث سنوات‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ مرحلة إعلن الدعوة ف أهل مكة‪ ،‬من بداية السنة الرابعة من النبوة إل هجرته صلى ال عليه‬
‫وسلم إل الدينة‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ مرحلة الدعوة خارج مكة وفشوها فيهم‪ ،‬من أواخر السنة العاشرة من النبوة‪ .‬وقد شلت العهد‬
‫الدن وامتدت إل آخر حياته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫أما مراحل العهد الدن فسيجيء تفصيلها ف موضعه‪.‬‬

‫ف ظلل النبوة والرسالة‬


‫ف غار حراء‬

‫لا تقاربت سنه صلى ال عليه وسلم الربعي‪ ،‬وكانت تأملته الاضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبي‬
‫قومه‪ ،‬حبب إليه اللء‪ ،‬فكان يأخذ السّوِيق والاء‪ ،‬ويذهب إل غار حراء ف جبل النور على مبعدة نو‬
‫ميلي من مكة ـ وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع‪ ،‬وعرضه ذراع وثلثة أرباع ذراع من ذراع الديد‬
‫ـ فيقيم فيه شهر رمضان‪ ،‬ويقضي وقته ف العبادة والتفكي فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها‬
‫من قدرة مبدعة‪ ،‬وهو غي مطمئن لا عليه قومه من عقائد الشرك الهلهلة وتصوراتا الواهية‪ ،‬ولكن ليس‬
‫بي يديه طريق واضح‪ ،‬ول منهج مدد‪ ،‬ول طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه‪.‬‬

‫وكان اختياره صلى ال عليه وسلم لذه العزلة طرفًا من تدبي ال له‪ ،‬وليكون انقطاعه عن شواغل الرض‬
‫ضجّة الياة وهوم الناس الصغية الت تشغل الياة نقطة تول لستعداده لا ينتظره من المر العظيم‪،‬‬
‫و َ‬
‫فيستعد لمل المانة الكبى وتغيي وجه الرض‪ ،‬وتعديل خط التاريخ‪ ...‬دبر ال له هذه العزلة قبل‬
‫تكليفه بالرسالة بثلث سنوات‪ ،‬ينطلق ف هذه العزلة شهرًا من الزمان‪ ،‬مع روح الوجود الطليقة‪ ،‬ويتدبر‬
‫ما وراء الوجود من غيب مكنون‪ ،‬حت يي موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن ال ‪.‬‬

‫جبيل ينل بالوحي‬

‫ولا تكامل له أربعون سنة ـ وهي رأس الكمال‪ ،‬وقيل‪ :‬ولا تبعث الرسل ـ بدأت طلئع النبوة تلوح‬
‫وتلمع‪ ،‬فمن ذلك أن حجرًا بكة كان يسلم عليه‪ ،‬ومنها أنه كان يرى الرؤيا الصادقة؛ فكان ل يرى رؤيا‬
‫إل جاءت مثل فلق الصبح‪ ،‬حت مضت على ذلك ستة أشهر ـ ومدة النبوة ثلث وعشرون سنة‪ ،‬فهذه‬
‫الرؤيا جزء من ستة وأربعي جزءًا من النبوة ـ فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى ال عليه‬
‫وسلم براء شاء ال أن يفيض من رحته على أهل الرض‪ ،‬فأكرمه بالنبوة‪ ،‬وأنزل إليه جبيل بآيات من‬
‫القرآن‪.‬‬

‫وبعد النظر والتأمل ف القرائن والدلئل يكن لنا أن ندد ذلك اليوم بأنه كان يوم الثني لحدى وعشرين‬
‫مضت من شهر رمضان ليلًا‪ ،‬وقد وافق ‪ 10‬أغسطس سنة ‪ 610‬م‪ ،‬وكان عمره صلى ال عليه وسلم‬
‫إذ ذاك بالضبط أربعي سنة قمرية‪ ،‬وستة أشهر‪ ،‬و ‪ 12‬يومًا‪ ،‬وذلك نو ‪ 39‬سنة شسية وثلثة أشهر‬
‫وعشرين يومًا‪.‬‬
‫ولنستمع إل عائشة الصديقة رضي ال عنها تروى لنا قصة هذه الوقعة الت كانت نقطة بداية النبوة‪،‬‬
‫وأخذت تفتح دياجي ظلمات الكفر والضلل حت غيت مرى الياة‪ ،‬وعدلت خط التاريخ‪ ،‬قالت‬
‫عائشة رضي ال عنها‪.‬‬

‫أول ما بديء به رسول ال صلى ال عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالة ف النوم‪ ،‬فكان ل يرى رؤيا إل‬
‫جاءت مثل َفلَق الصبح‪ ،‬ث حُبّبَ إليه اللء‪ ،‬وكان يلو بغار حراء‪ ،‬فيََتحَنّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليال‬
‫ذوات العدد قبل أن ينع إل أهله‪ ،‬ويتزود لذلك‪ ،‬ث يرجع إل خدية فيتزود لثلها‪ ،‬حت جاءه الق وهو‬
‫ف غار حراء‪ ،‬فجاءه اللك فقال‪ :‬اقرأ‪ :‬قال‪( :‬ما أنا بقارئ)‪ ،‬قال‪( :‬فأخذن فغطن حت بلغ من الهد‪ ،‬ث‬
‫أرسلن‪ ،‬فقال‪ :‬اقرأ‪ ،‬قلت‪ :‬مـا أنـا بقـارئ‪ ،‬قـال‪ :‬فأخذن فغطن الثانية حت بلـغ منـى الهد‪ ،‬ث‬
‫أرسلن فقال‪ :‬اقرأ‪ ،‬فقلت‪ :‬ما أنا بقارئ‪ ،‬فأخذن فغطن الثالثة‪ ،‬ثـم أرسلـن فـقـال‪{ :‬اقْ َرأْ بِا ْسمِ‬
‫ك الَْأكْ َرمُ}[العلق‪ ،)]3 :1:‬فرجع با رسول ال صلى‬
‫َرّبكَ اّلذِي َخلَقَ خَ َل َق الْإِنسَانَ مِنْ َعلَقٍ اقْ َرأْ وَ َرّب َ‬
‫ال عليه وسلم يرجف فؤاده‪ ،‬فدخل على خدية بنت خويلد فقال‪َ ( :‬زمّلُون زملون)‪ ،‬فزملوه حت ذهب‬
‫عنه الروع‪ ،‬فقال لدية‪( :‬ما ل؟) فأخبها الب‪( ،‬لقد خشيت على نفسي)‪ ،‬فقالت خدية‪ :‬كل‪ ،‬وال ما‬
‫يزيك ال أبدًا‪ ،‬إنك لتصل الرحم‪ ،‬وتمل الكل‪ ،‬وتكسب العدوم‪ ،‬وتقرى الضيف‪ ،‬وتعي على نوائب‬
‫الق‪ ،‬فانطلقت به خدية حت أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خدية ـ وكان امرأ‬
‫تنصر ف الاهلية‪ ،‬وكان يكتب الكتاب العبان‪ ،‬فيكتب من النيل بالعبانية ما شاء ال أن يكتب‪ ،‬وكان‬
‫شيخًا كبيًا قد عمي ـ فقالت له خدية‪ :‬يابن عم‪ ،‬اسع من ابن أخيك‪ ،‬فقال له ورقة‪ :‬يابن أخي‪ ،‬ماذا‬
‫ترى؟ فأخبه رسول ال صلى ال عليه وسلم خب ما رأي‪ ،‬فقال له ورقة‪ :‬هذا الناموس الذي نزله ال على‬
‫موسى‪ ،‬يا ليتن فيها َجذَعا‪ ،‬ليتن أكون حيًا إذ يرجك قومك‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬أو‬
‫مرجيّ هم؟) قال‪:‬نعم‪ ،‬ل يأت رجل قط بثل ما جئت به إل عُو ِدىَ‪ ،‬وإن يدركن يومك أنصرك نصرًا‬
‫شبْ ورقة أن توف‪ ،‬وفَتَر الوحى‪.‬‬
‫مؤزرًا‪ ،‬ث ل يَنْ َ‬

‫فَتْرَة الوحى‬

‫أما مدة فترة الوحى فاختلفوا فيها على عدة أقوال‪ .‬والصحيح أنا كانت أيامًا‪ ،‬وقد روى ابن سعد عن ابن‬
‫عباس ما يفيد ذلك‪ .‬وأما ما اشتهر من أنا دامت ثلث سنوات أو سنتي ونصفًا فليس بصحيح‪.‬‬

‫وقد ظهر ل شىء غريب بعد إدارة النظر ف الروايات وف أقوال أهل العلم‪ .‬ول أر من تعرض له منهم‪،‬‬
‫وهو أن هذه القوال والروايات تفيد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان ياور براء شهرًا واحدًا‪،‬‬
‫وهو شهر رمضان من كل سنة‪ ،‬وذلك من ثلث سنوات قبل النبوة‪،‬وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلك‬
‫السنوات الثلث‪ ،‬وأنه كان يتم جواره بتمام شهر رمضان‪ ،‬فكان ينل بعده من حراء صباحًا ـ أي لول‬
‫يوم من شهر شوال ـ ويعود إل البيت‪.‬‬

‫وقد ورد التنصيص ف رواية الصحيحي على أن الوحى الذي نزل عليه صلى ال عليه وسلم بعد الفترة‬
‫إنا نزل وهو صلى ال عليه وسلم راجع إل بيته بعد إتام جواره بتمام الشهر‪.‬‬

‫أقول‪ :‬فهذا يفيد أن الوحى الذي نزل عليه صلى ال عليه وسلم بعد الفترة إنا نزل ف أول يوم من شهر‬
‫شوال بعد ناية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبوة والوحى؛ لنه كان آخر ماورة له براء‪ ،‬وإذا ثبت‬
‫أن أول نزول الوحى كان ف ليلة الثني الادية عشرة من شهر رمضان فإن هذا يعن أن فترة الوحى‬
‫كانت لعشرة أيام فقط‪ .‬وأن الوحى نزل بعدها صبيحة يوم الميس لول شوال من السنة الول من‬
‫النبوة‪ .‬ولعل هذا هو السر ف تصيص العشر الواخر من رمضان بالجاورة والعتكاف‪ ،‬وف تصيص‬
‫أول شهر شوال بالعيد السعيد‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫وقد بقى رسول ال صلى ال عليه وسلم ف أيام الفترة كئيبًا مزونًا تعتريه الية والدهشة‪ ،‬فقد روى‬
‫البخاري ف كتاب التعبي ما نصه‪:‬‬

‫وفتر الوحي فترة حزن النب صلى ال عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا عدا منه مرارًا كى يتردى من رءوس‬
‫شواهق البال‪ ،‬فكلما أوْف بذِرْوَة جبل لكى يلقى نفسه منه تَبدّى له جبيل فقال‪ :‬يا ممد‪ ،‬إنك رسول‬
‫ال حقًا‪ ،‬فيسكن لذلك جأشه‪ ،‬وَتقَرّ نفسه‪ ،‬فيجع‪ ،‬فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لثل ذلك‪ ،‬فإذا أوف‬
‫بذروة البل تبدى له جبيل فقال له مثل ذلك‪.‬‬

‫جبيل ينل بالوحي مرة ثانية‬

‫قال ابن حجر‪ :‬وكان ذلك [أي انقطاع الوحي أيامًا]؛ ليذهب ما كان صلى ال عليه وسلم وجده من‬
‫الروع‪ ،‬وليحصل له التشوف إل العود‪ ،‬فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مىء الوحى أكرمه ال بالوحي‬
‫مرة ثانية‪ .‬قال‪ :‬صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫(جاورت براء شهرًا فلما قضيت جوارى هبطت [فلما استبطنت الوادي] فنوديت‪ ،‬فنظرت عن يين فلم‬
‫أر شيئًا‪ ،‬ونظرت عن شال فلم أر شيئًا‪ ،‬ونظرت أمامي فلم أر شيئا‪ ،‬ونظرت خلفي فلم أرشيئًا‪ ،‬فرفعت‬
‫رأسى فرأيت شيئًا‪[ ،‬فإذا اللك الذي جاءن براء جالس على كرسي بي السماء والرض‪َ ،‬فجُئِ ْثتُ منه‬
‫رعبًا حت هويت إل الرض] فأتيت خدية فقلت‪[ :‬زملون‪ ،‬زملون]‪ ،‬دثرون‪ ،‬وصبوا على ماء باردًا)‪،‬‬
‫قال‪( :‬فدثرون وصبوا على ماء باردًا‪ ،‬فنلت‪{ :‬يَا أَيّهَا الْ ُمدّثّرُ ُقمْ َفأَنذِرْ َو َربّكَ َفكَبّرْ َوثِيَاَبكَ َفطَهّرْ وَالرّجْزَ‬
‫فَا ْهجُرْ} [الدثر‪ )]5 :1 :‬وذلك قبل أن تفرض الصلة‪ ،‬ث حى الوحى بعد وتتابع‪.‬‬

‫وهذه اليات هي مبدأ رسالته صلى ال عليه وسلم وهي متأخرة عن النبوة بقدار فترة الوحى‪ .‬وتشتمل‬
‫على نوعي من التكليف مع بيان ما يترتب عليه‪:‬‬

‫النوع الول‪ :‬تكليفه صلى ال عليه وسلم بالبلغ والتحذير‪ ،‬وذلك ف قوله تعال‪ُ { :‬قمْ َفأَنذِرْ} فإن معناه‪:‬‬
‫حذر الناس من عذاب ال إن ل يرجعوا عما هم فيه من الغى والضلل وعبادة غي ال التعال‪ ،‬والشراك‬
‫به ف الذات والصفات والقوق و الفعال‪.‬‬

‫النوع الثان‪ :‬تكليفه صلى ال عليه وسلم بتطبيق أوامر ال سبحانه وتعال على ذاته‪ ،‬واللتزام با ف نفسه؛‬
‫ليحرز بذلك مرضاة ال ‪ ،‬ويصي أسوة حسنة لن آمن بال وذلك ف بقية اليات‪ .‬فقوله‪{ :‬وَ َرّبكَ فَ َكبّرْ}‬
‫معناه‪ :‬خصه بالتعظيم‪ ،‬ول تشرك به ف ذلك أحدًا‪ .‬وقوله‪َ { :‬وثِيَابَكَ َفطَهّرْ} القصود الظاهر منه‪ :‬تطهي‬
‫الثياب والسد‪ ،‬إذ ليس لن يكب ال ويقف بي يديه أن يكون نسًا مستقذرًا‪ .‬وإذا كان هذا التطهر‬
‫مطلوبًا فإن التطهر من أدران الشرك وأرجاس العمال والخـلق أولـى بالطـلب‪ ،‬وقولــه‪{ :‬‬
‫وَالرّجْزَ فَا ْهجُرْ} معناه‪ :‬ابتعد عن أسباب سخط ال وعذابه‪ ،‬وذلك بالتزام طاعته وترك معصيته‪ .‬وقوله‪{ :‬‬
‫َولَا تَمْنُن تَسَْتكْثِرُ} أي‪ :‬ل تسن إحسانًا تريد أجره من الناس أو تريد له جزاء أفضل ف هذه الدنيا‪.‬‬

‫أما الية الخية ففيها تنبيه على ما يلحقه من أذى قومه حي يفارقهم ف الدين ويقوم بدعوتم إل ال‬
‫صبِرْ}‪ ،‬ث إن مطلع اليات تضمنت النداء العلوى‬
‫وحده وبتحذيرهم من عذابه وبطشه‪ ،‬فقال‪َ { :‬ولِ َربّكَ فَا ْ‬
‫ـ ف صوت الكبي التعال ـ بانتداب النب صلى ال عليه وسلم لذا المر اللل‪ ،‬وانتزاعه من النوم‬
‫والتدثر والدفء إل الهاد والكفاح والشقة‪{ :‬يَا أَيّهَا الْ ُمدّثّرُ ُقمْ َفأَنذِرْ}‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬إن الذي يعيش لنفسه‬
‫قد يعيش مستريًا‪ ،‬أما أنت الذي تمل هذا العبء الكبي فما لك والنوم؟ وما لك والراحة؟ وما لك‬
‫والفراش الدافئ؟ والعيش الادئ؟ والتاع الريح! قم للمر العظيم الذي ينتظرك‪ ،‬والعبء الثقيل الهيأ‬
‫لك‪ ،‬قم للجهد والنصب‪ ،‬والكد والتعب‪ ،‬قم فقد مضى وقت النوم والراحة‪ ،‬وما عاد منذ اليوم إل السهر‬
‫التواصل‪ ،‬والهاد الطويل الشاق‪ ،‬قم فتهيأ لذا المر واستعد‪.‬‬

‫إنا كلمة عظيمة رهيبة تنعه صلى ال عليه وسلم من دفء الفراش ف البيت الادئ والضن الدافئ‪،‬‬
‫لتدفع به ف الضم‪ ،‬بي الزعازع والنواء‪ ،‬وبي الشد والذب ف ضمائر الناس وف واقع الياة سواء‪.‬‬
‫وقام رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامًا؛ ل يسترح ول يسكن‪ ،‬ول‬
‫يعـش لنفسه ول لهله‪ .‬قام وظل قائمًا على دعوة ال ‪ ،‬يمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ول ينوء‬
‫به‪ ،‬عبء المانة الكبى ف هذه الرض‪ ،‬عبء البشرية كلها‪ ،‬عبء العقيدة كلها‪ ،‬وعبء الكفاح‬
‫والهاد ف ميادين شت‪ ،‬عاش ف العركة الدائبة الستمرة أكثر من عشرين عامًا؛ ل يلهيه شأن عن شأن ف‬
‫خلل هذا المد منذ أن سع النداء العلوى الليل‪ ،‬وتلقى منه التكليف الرهيب‪ ...‬جزاه ال عنا وعن‬
‫البشرية كلها خي الزاء‪.‬‬

‫وليست الوراق التية إل صورة مصغرة بسيطة من هذا الهاد الطويل الشاق الذي قام به رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم خلل هذا المد‪.‬‬

‫أقسام الوحى‬

‫وقبل الدخول ف موضوع هذا الهاد أرى من الحسن أن أستطرد إل بيان أقسام الوحى ومراتبه‪ .‬قال‬
‫ابن القيم‪ ،‬وهو يذكر تلك الراتب‪:‬‬

‫إحداها‪ :‬الرؤيا الصادقة‪ ،‬وكانت مبدأ وحيه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬ما كان يلقيه اللك ف روعه وقلبه من غي أن يراه‪ ،‬كما قال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن روح‬
‫القدس نفث ف روعى أنه لن توت نفس حت تستكمل رزقها‪ ،‬فاتقوا ال وأجلوا ف الطلب‪ ،‬ول يملنكم‬
‫استبطاء الرزق على أن تطلبوه بعصية ال ‪ ،‬فإن ما عند ال ل ينال إل بطاعته)‪.‬‬

‫الثالثة‪ :‬إنه صلى ال عليه وسلم كان يتمثل له اللك رجلًا فيخاطبه حت َيعِىَ عنه ما يقول له‪ ،‬وف هذه‬
‫الرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا‪.‬‬

‫الرابعة‪ :‬أنه كان يأتيه ف مثل صلصلة الرس‪ ،‬وكان أشده عليه‪ ،‬فيلتبس به اللك‪ ،‬حت أن جبينه ليَتفَصّد‬
‫عرقًا ف اليوم الشديد البد‪ ،‬وحت أن راحلته لتبك به إل الرض إذا كان راكبها‪ ،‬ولقد جاء الوحى مرة‬
‫كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت‪ ،‬فثقلت عليه حت كادت ترضها‪.‬‬

‫الامسة‪ :‬إنه يرى اللك ف صورته الت خلق عليها‪ ،‬فيوحى إليه ما شاء ال أن يوحيه‪ ،‬وهذا وقع له مرتي‬
‫كما ذكر ال ذلك ف سورة النجم‪.‬‬

‫السادسة‪ :‬ما أوحاه ال إليه‪ ،‬وهو فوق السموات ليلة العراج من فرض الصلة وغيها‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬كلم ال له منه إليه بل واسطة ملك كما كلم ال موسى بن عمران‪ ،‬وهذه الرتبة هي ثابتة لوسى‬
‫قطعًا بنص القرآن‪ .‬وثبوتا لنبينا صلى ال عليه وسلم هو ف حديث السراء‪.‬‬

‫وقـد زاد بعضهم مرتبة ثامنة؛ وهي تكليم ال له كفاحًا من غي حجاب‪ ،‬وهي مسألة خلف بي السلف‬
‫واللف‪ .‬انتهي مع تلخيص يسي ف بيان الرتبة الول والثامنة‪.‬‬

‫الرحلة الول‪ :‬من جهاد الدعوة إل ال‬

‫ثلث سنوات من الدعوة السرية‬

‫قام رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد نزول ما تقدم من آيات سورة الدثر‪ ،‬بالدعوة إل ال سبحانه‬
‫وتعال؛ وحيث إن قومه كانوا جفاة ل دين لم إل عبادة الصنام والوثان‪ ،‬ول حجة لم إل أنم ألفوا‬
‫آباءهم على ذلك‪ ،‬ول أخلق لم إل الخذ بالعزة والنفة‪ ،‬ول سبيل لم ف حل الشاكل إل السيف‪،‬‬
‫وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية ف جزيرة العرب‪ ،‬ومتلي مركزها الرئيس‪ ،‬ضامني حفظ‬
‫كيانا‪ ،‬فقد كان من الكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة ف بدء أمرها سرية؛ لئل يفاجئ أهل مكة با‬
‫يهيجهم‪.‬‬

‫الرعيل الول‬

‫وكان من الطبيعى أن يعرض الرسول صلى ال عليه وسلم السلم أولًا على ألصق الناس به من أهل بيته‪،‬‬
‫وأصدقائه‪ ،‬فدعاهم إل السلم‪ ،‬ودعا إليه كل من توسم فيه الي من يعرفهم ويعرفونه‪ ،‬يعرفهم بب الق‬
‫والي‪ ،‬ويعرفونه بتحرى الصدق والصلح‪ ،‬فأجابه من هؤلء ـ الذين ل تالهم ريبة قط ف عظمة‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم وجللة نفسه وصدق خبه ـ جَ ْمعٌ عُرِفوا ف التاريخ السلمى بالسابقي‬
‫الولي‪ ،‬وف مقدمتهم زوجة النب صلى ال عليه وسلم أم الؤمني خدية بنت خويلد‪ ،‬وموله زيد بن‬
‫حارثة بن شراحيل الكلب وابن عمه علي بن أب طالب ـ وكان صبيًا يعيش ف كفالة الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم ـ وصديقه الميم أبو بكر الصديق‪ .‬أسلم هؤلء ف أول يوم الدعوة‪.‬‬

‫ث نشط أبو بكر ف الدعوة إل السلم‪ ،‬وكان رجلًا مألفًا مببًا سهلًا ذا خلق ومعروف‪،‬وكان رجال قومه‬
‫يأتونه ويألفونه؛ لعلمه وتارته وحسن مالسته‪ ،‬فجعل يدعو من يثق به من قومه من يغشاه ويلس إليه‪،‬‬
‫فأسلم بدعوته عثمان بن عفان الموى‪ ،‬والزبي بن العوام السدى‪ ،‬وعبد الرحن بن عوف‪ ،‬وسعد بن أب‬
‫وقاص الزهريان‪ ،‬وطلحة بن عبيد ال التيمي‪ .‬فكان هؤلء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس هم الرعيل‬
‫الول وطليعة السلم‪.‬‬

‫ث تل هؤلء أمي هذه المة أبو عبيدة عامر بن الراح من بن الارث بن فهر‪ ،‬وأبو سلمة بن عبد السد‬
‫الخزومى‪ ،‬وامرأته أم سلمة‪ ،‬والرقم بن أب الرقم الخزومى‪ ،‬وعثمان بن مظعون الُ َمحِىّ وأخواه قدامة‬
‫وعبد ال ‪ ،‬وعبيدة بن الارث ابن الطلب بن عبد مناف‪ ،‬وسعيد بن زيد العدوى‪ ،‬وامرأته فاطمة بنت‬
‫الطاب العدوية أخت عمر بن الطاب‪ ،‬وخباب بن الرت التميمى‪ ،‬وجعفر بن أب طالب‪ ،‬وامرأته أساء‬
‫بنت عُمَيْس‪ ،‬وخالد بن سعيد بن العاص الموى‪ ،‬وامرأته أمينة بنت خلف‪ ،‬ث أخوه عمرو بن سعيد بن‬
‫العاص‪ ،‬وحاطب بن الارث المحي‪ ،‬وامرأته فاطمة بنت ا ُلجَلّل وأخوه الطاب بن الارث‪ ،‬وامرأته‬
‫فُكَ ْيهَة بنت يسار‪ ،‬وأخوه معمر ابن الارث‪ ،‬والطلب بن أزهر الزهري‪ ،‬وامرأته رملة بنت أب عوف‪،‬‬
‫ونعيم بن عبد ال بن النحام العدوي‪ ،‬وهؤلء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شت من قريش‪.‬‬

‫ومن السابقي الولي إل السلم من غي قريش‪ :‬عبد ال بن مسعود الذل‪ ،‬ومسعود بن ربيعة القاري‪،‬‬
‫وعبد ال بن جحش السدي وأخوه أبو أحد بن جحش‪ ،‬وبلل بن رباح البشي‪ ،‬صُهَيْب بن سِنان‬
‫الرومي‪ ،‬وعمار بن ياسر العنسي‪ ،‬وأبوه ياسر‪ ،‬وأمه سية‪ ،‬وعامر بن فُهية‪.‬‬

‫ومن سبق إل السلم من النساء غي من تقدم ذكرهن‪ :‬أم أين بركة البشية‪ ،‬وأم الفضل لبابة الكبى‬
‫بنت الارث الللية زوج العباس بن عبد الطلب‪ ،‬وأساء بنت أب بكر الصديق رضي ال عنهما‪.‬‬

‫هؤلء معروفون بالسابقي الولي‪ ،‬ويظهر بعد التتبع والستقراء أن عدد الوصوفي بالسبق إل السلم‬
‫وصل إل مائة وثلثي رجلًا وامرأة‪ ،‬ولكن ل يعرف بالضبط أنم كلهم أسلموا قبل الهر بالدعوة أو تأخر‬
‫إسلم بعضهم إل الهر با‪.‬‬

‫الصلة‬

‫ومن أوائل ما نزل من الحكام المر بالصلة‪ ،‬قال ابن حجر‪ :‬كان صلى ال عليه وسلم قبل السراء‬
‫يصلى قطعًا وكذلك أصحابه‪ ،‬ولكن اختلف هل فرض شىء قبل الصلوات المس من الصلوات أم ل؟‬
‫فقيل‪ :‬إن الفرض كانت صلة قبل طلوع الشمس وقبل غروبا‪ .‬انتهي‪ .‬وروى الارث بن أب أسامة من‬
‫طريق ابن لَهِيعَة موصولًا عن زيد ابن حارثة‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ف أول ما أوحى إليه أتاه‬
‫جبيل‪ ،‬فعلمه الوضوء‪ ،‬فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح با فرجه‪ ،‬وقد رواه ابن ماجه‬
‫بعناه‪ ،‬وروى نوه عن الباء بن عازب وابن عباس‪ ،‬وف حديث ابن عباس‪ :‬وكان ذلك من أول الفريضة‪.‬‬

‫وقد ذكر ابن هشام أن النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه كانوا إذا حضرت الصلة ذهبوا ف الشعاب‬
‫فاستخفوا بصلتم من قومهم‪ ،‬وقد رأي أبو طالب النب صلى ال عليه وسلم وعليّا يصليان مرة‪ ،‬فكلمهما‬
‫ف ذلك‪ ،‬ولا عرف جلية المر أمرها بالثبات‪.‬‬

‫تلك هي العبادة الت أمر با الؤمنون‪ ،‬ول تعرف لم عبادات وأوامر ونواه أخرى غي ما يتعلق بالصلة‪،‬‬
‫وإنا كان الوحى يبي لم جوانب شت من التوحيد‪ ،‬ويرغبهم ف تزكية النفوس‪ ،‬ويثهم على مكارم‬
‫الخلق‪ ،‬ويصف لم النة والنار كأنما رأي عي‪ ،‬ويعظهم بواعظ بليغة تشرح الصدور وتغذى‬
‫الرواح‪ ،‬وتدو بم إل جو آخر غي الذي كان فيه الجتمع البشرى آنذاك‪.‬‬

‫وهكذا مرت ثلثة أعوام‪ ،‬والدعوة ل تزل مقصورة على الفراد‪ ،‬ول يهر با النب صلى ال عليه وسلم ف‬
‫الجامع والنوادى‪،‬إل أنا عرفت لدى قريش‪ ،‬وفشا ذكر السلم بكة‪ ،‬وتدث به الناس‪ ،‬وقد تنكر له‬
‫بعضهم أحيانًا‪ ،‬واعتدوا على بعض الؤمني‪ ،‬إل أنم ل يهتموا به كثيًا حيث ل يتعرض رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم لدينهم‪ ،‬ول يتكلم ف آلتهم‪.‬‬
‫الرحلـة الثانية‪ :‬الدعــوة جهــارًا‬

‫أول أمـر بإظهار الدعـوة‬


‫الجلس الستشاري لكف الجاج عن استماع الدعوة‬
‫أساليب شت لجابة الدعوة‬
‫الضطهادات‬

‫أول أمـر بإظهار الدعـوة‬

‫لا تكونت جاعة من الؤمني تقوم على الخوة والتعاون‪ ،‬وتتحمل عبء تبليغ الرسالة وتكينها من مقامها‬
‫نزل الوحى يكلف رسول ال صلى ال عليه وسلم بعالنة الدعوة‪ ،‬ومابة الباطل بالسن‪.‬‬

‫يَتكَ اْلأَقْ َربِيَ} [الشعراء‪ ،]214:‬وقد ورد ف سياق‬


‫وأول ما نزل بذا الصدد قوله تعال‪َ { :‬وأَنذِرْ َعشِ َ‬
‫ذكرت فيه أولًا قصة موسى عليه السلم‪ ،‬من بداية نبوته إل هجرته مع بن إسرائيل‪ ،‬وقصة ناتم من‬
‫فرعون وقومه‪ ،‬وإغراق آل فرعون معه‪ ،‬وقد اشتملت هذه القصة على جيع الراحل الت مر با موسى‬
‫عليه السلم‪ ،‬خلل دعوة فرعون وقومه إل ال ‪.‬‬

‫وكأن هذا التفصيل جىء به مع أمر الرسول صلى ال عليه وسلم بهر الدعوة إل ال ؛ ليكون أمامه وأمام‬
‫أصحابه مثال لا سيلقونه من التكذيب والضطهاد حينما يهرون بالدعوة‪ ،‬وليكونوا على بصية من‬
‫أمرهم منذ البداية‪.‬‬

‫ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مآل الكذبي للرسل‪ ،‬من قوم نوح‪ ،‬وعاد‪ ،‬وثود‪ ،‬وقوم‬
‫إبراهيم‪ ،‬وقوم لوط‪ ،‬وأصحاب اليكة ـ عدا ما ذكر من أمر فرعون وقومه ـ ليعلم الذين سيقومون‬
‫بالتكذيب عاقبة أمرهم وما سيلقونه من مؤاخذة ال إن استمروا عليه‪ ،‬وليعرف الؤمنون أن حسن العاقبة‬
‫لم وليس للمكذبي‪.‬‬

‫الدعـوة ف القربي‬

‫ودعا رسول ال صلى ال عليه وسلم عشيته بن هاشم بعد نزول هذه الية‪ ،‬فجاءوا ومعهم نفر من بن‬
‫الطلب بن عبد مناف‪ ،‬فكانوا نو خسة وأربعي رجلًا‪ .‬فلما أراد أن يتكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بادره أبو لب وقال‪ :‬هؤلء عمومتك وبنو عمك فتكلم‪ ،‬ودع الصباة‪ ،‬واعلم أنه ليس لقومك بالعرب‬
‫قاطبة طاقة‪ ،‬وأنا أحق من أخذك‪ ،‬فحسبك بنو أبيك‪ ،‬وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن‬
‫يثب بك بطون قريش‪ ،‬وتدهم العرب‪ ،‬فما رأيت أحدًا جاء على بن أبيه بشر ما جئت به‪ ،‬فسكت رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول يتكلم ف ذلك الجلس‪.‬‬

‫ث دعاهم ثانية وقال‪( :‬المد ل‪ ،‬أحده وأستعينه‪ ،‬وأومن به‪ ،‬وأتوكل عليه‪ .‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده‬
‫ل شريك له)‪ .‬ث قال‪( :‬إن الرائد ل يكذب أهله‪ ،‬وال الذي ل إله إل هو‪ ،‬إن رسول ال إليكم خاصة‬
‫وإل الناس عامة‪ ،‬وال لتموتن كما تنامون‪ ،‬ولتبعثن كما تستيقظون‪ ،‬ولتحاسب با تعملون‪ ،‬وإنا النة أبدًا‬
‫أو النار أبدًا)‪.‬‬

‫فقال أبو طالب‪ :‬ما أحب إلينا معاونتك‪ ،‬وأقبلنا لنصيحتك‪ ،‬وأشد تصديقًا لديثك‪ .‬وهؤلء بنو أبيك‬
‫متمعون‪ ،‬وإنا أنا أحدهم‪ ،‬غي أن أسرعهم إل ما تب‪ ،‬فامض لا أمرت به‪ .‬فوال ‪ ،‬ل أزال أحوطك‬
‫وأمنعك‪ ،‬غي أن نفسى ل تطاوعن على فراق دين عبد الطلب‪.‬‬

‫فقال أبو لب‪ :‬هذه وال السوأة‪ ،‬خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيكم‪ ،‬فقال أبو طالب‪ :‬وال لنمنعه ما‬
‫بقينا‪.‬‬

‫على جبل الصفا‬

‫وبعد تأكد النب صلى ال عليه وسلم من تعهد أب طالب بمايته وهو يبلغ عن ربه‪ ،‬صعد النب صلى ال‬
‫عليه وسلم ذات يوم على الصفا‪ ،‬فعل أعلها حجرًا‪ ،‬ث هتف‪( :‬يا صباحاه)‬

‫وكانت كلمة إنذار تب عن هجوم جيش أو وقوع أمر عظيم‪.‬‬

‫ث جعل ينادى بطون قريش‪ ،‬ويدعوهم قبائل قبائل‪( :‬يا بن فهر‪ ،‬يا بن عدى‪ ،‬يا بن فلن‪ ،‬يا بن فلن‪ ،‬يا‬
‫بن عبد مناف‪ ،‬يا بن عبد الطلب)‪.‬‬

‫فلما سعوا قالوا‪ :‬من هذا الذي يهتف؟ قالوا‪ :‬ممد‪ .‬فأسرع الناس إليه‪ ،‬حت إن الرجل إذا ل يستطع أن‬
‫يرج إليه أرسل رسولًا لينظر ما هو‪ ،‬فجاء أبو لب وقريش‪.‬‬

‫سفْح هذا البل تريد أن تغي عليكم أكنتم‬


‫فلما اجتمعوا قال‪( :‬أرأيتكم لو أخبتكم أن خيلًا بالوادى ب َ‬
‫صدّقِىّ؟)‪.‬‬
‫مُ َ‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬ما جربنا عليك كذبًا‪ ،‬ما جربنا عليك إل صدقًا‪.‬‬

‫قال‪( :‬إن نذير لكم بي يدى عذاب شديد‪ ،‬إنا مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي ال َعدُوّ فانطلق يَ ْربَأ أهله)(‬
‫أي يتطلع وينظر لم من مكان مرتفع لئل يدههم العدو) (خشى أن يسبقوه فجعل ينادى‪ :‬يا صباحاه)‬

‫ث دعاهم إل الق‪ ،‬وأنذرهم من عذاب ال ‪ ،‬فخص وعم فقال‪:‬‬

‫(يا معشر قريش‪ ،‬اشتروا أنفسكم من ال ‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪ ،‬فإن ل أملك لكم من ال ضرًا ول‬
‫نفعًا‪ ،‬ول أغن عنكم من ال شيئًا‪.‬‬

‫يا بن كعب بن لؤى‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪ ،‬فإن ل أملك لكم ضرًا ول نفعًا‪.‬‬

‫يا بن مرة بن كعب‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪.‬‬

‫يا معشر بن قصى‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪ ،‬فإن ل أملك لكم ضرًا ول نفعًا‪.‬‬

‫يا معشر بن عبد مناف‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪ ،‬فإن ل أملك لكم من ال ضرًا ول نفعًا‪ ،‬ول أغن عنكم‬
‫من ال شيئًا‪.‬‬

‫يا بن عبد شس‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪.‬‬

‫يا بن هاشم‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪.‬‬

‫يا معشر بن عبد الطلب‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪ ،‬فإن ل أملك لكم ضرًا ول نفعًا‪ ،‬ول أغن عنكم من‬
‫ال شيئًا‪ ،‬سلون من مال ماشئتم‪ ،‬ل أملك لكم من ال شيئًا‪.‬‬

‫يا عباس بن عبد الطلب‪ ،‬ل أغن عنك من ال شيئًا‪.‬‬

‫يا صفية بنت عبد الطلب عمة رسول ال ‪ ،‬ل أغن عنك من ال شيئًا‪.‬‬

‫يا فاطمة بنت ممد رسول ال ‪ ،‬سلين ما شئت من مال‪ ،‬أنقذى نفسك من النار‪ ،‬فإن ل أملك لك ضرًا‬
‫ول نفعًا‪ ،‬ول أغن عنك من ال شيئًا‪.‬‬

‫غي أن لكم رحًا سأبُلّها بِبلَلا) أي أصلها حسب حقها‪.‬‬


‫ولا ت هذا النذار انفض الناس وتفرقوا‪ ،‬ول يذكر عنهم أي ردة فعل‪ ،‬سوى أن أبا لب واجه النب صلى‬
‫ال عليه وسلم بالسوء‪ ،‬وقال‪ :‬تبا لك سائر اليوم‪ ،‬ألذا جعتنا؟ فنلت‪{ :‬تَبّتْ َيدَا أَبِي لَ َهبٍ َوتَبّ} [سورة‬
‫السد‪.]1:‬‬

‫كانت هذه الصيحـة العالية هي غاية البلغ‪ ،‬فقد أوضح الرسول صلى ال عليه وسلم لقرب الناس إليه‬
‫أن التصديق بذه الرسالة هو حياة الصلت بينه وبينهم‪ ،‬وأن عصبة القرابة الت يقوم عليها العرب ذابت‬
‫ف حرارة هذا النذار التى من عند ال ‪.‬‬

‫ص َدعْ بِمَا تُ ْؤمَرُ َوأَعْ ِرضْ َعنِ‬


‫ول يزل هذا الصوت يرتج دويه ف أرجاء مكة حت نزل قوله تعال‪{ :‬فَا ْ‬
‫الْمُشْ ِر ِكيَ} [الجر‪ ،]94:‬فقام رسول ال صلى ال عليه وسلم يهر بالدعوة إل السلم ف مامع‬
‫الشركي ونواديهم‪ ،‬يتلو عليهم كتاب ال ‪ ،‬ويقول لم ما قالته الرسل لقوامهم‪{ :‬يَا قَ ْومِ اعُْبدُواْ ال َ مَا‬
‫لَكُم مّنْ ِإلَـهٍ غَيْ ُرهُ} [العراف‪،]59:‬وبدء يعبد ال تعال أمام أعينهم‪ ،‬فكان يصلى بفناء الكعبة نارًا‬
‫جهارًا وعلى رءوس الشهاد‪.‬‬

‫وقد نالت دعوته مزيدًا من القبول‪ ،‬ودخل الناس ف دين ال واحدًا بعد واحد‪ .‬وحصل بينهم وبي من ل‬
‫يسلم من أهل بيتهم تباغض وتباعد وعناد واشأزت قريش من كل ذلك‪ ،‬وساءهم ما كانوا يبصرون‪.‬‬

‫الجلس الستشاري لكف الجاج عن استماع الدعوة‬

‫وخلل هذه اليام أهم قريشًا أمر آخر‪،‬وذلك أن الهر بالدعوة ل يض عليه إل أيام أو أشهر معدودة حت‬
‫قرب موسم الج‪ ،‬وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم‪ ،‬فرأت أنه لبد من كلمة يقولونا‬
‫للعرب‪ ،‬ف شأن ممد صلى ال عليه وسلم حت ل يكون لدعوته أثر ف نفوس العرب‪ ،‬فاجتمعوا إل الوليد‬
‫بن الغية يتداولون ف تلك الكلمة‪ ،‬فقال لم الوليد‪ :‬أجعوا فيه رأيـا واحدًا‪،‬ول تتلفوا فيكذب بعضكم‬
‫بعضًا‪ ،‬ويرد قولكم بعضه بعضًا‪ ،‬قالوا‪ :‬فأنت فقل‪ ،‬وأقم لنا رأيًا نقول به‪ .‬قال‪ :‬بل أنتم فقولوا أسع‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫نقول‪ :‬كاهن‪ .‬قال‪ :‬ل وال ما هو بكاهن‪ ،‬لقد رأينا الكهان فما هو ب َزمْ َزمَة الكاهن ول سجعه‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫فنقول‪ :‬منون‪ ،‬قال‪ :‬ما هو بجنون‪ ،‬لقد رأينا النون وعرفناه‪ ،‬ما هو بَ ْنقِه ول َتخَاُلجِه ول وسوسته‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فنقول‪ :‬شاعر‪ .‬قال‪ :‬ما هو بشاعر‪ ،‬لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه و َمقْبُوضه‬
‫ومَبْسُوطه‪ ،‬فما هو بالشعر‪ ،‬قالوا‪ :‬فنقول‪ :‬ساحر‪ .‬قال‪ :‬ما هو بساحر‪ ،‬لقد رأينا السحار وسحرهم‪ ،‬فما‬
‫هو بنَفْثِهِم ول ع ْقدِهِم‪ .‬قالوا‪ :‬فما نقول؟ قال‪ :‬وال إن لقوله للوة‪[ ،‬وإن عليه لطلوة] وإن أصله‬
‫ل َعذَق‪ ،‬وإن فَرْعَه لَنَاة‪ ،‬وما أنتم بقائلي من هذا شيئًا إل عرف أنه باطل‪ ،‬وإن أقرب القول فيه لن‬
‫تقولوا‪ :‬ساحر‪ .‬جاء بقول هو سحر‪ ،‬يفرق به بي الرء وأبيه‪ ،‬وبي الرء وأخيه‪ ،‬وبي الرء وزوجته‪ ،‬وبي‬
‫الرء وعشيته‪ ،‬فتفرقوا عنه بذلك‪.‬‬

‫وتفيد بعض الروايات أن الوليد لا رد عليهم كل ما عرضوا له‪ ،‬قالوا‪ :‬أرنا رأيك الذي ل غضاضة فيه‪،‬‬
‫فقال لم‪ :‬أمهلون حت أفكر ف ذلك‪ ،‬فظل الوليد يفكر ويفكر حت أبدى لم رأيه الذي ذكر آنفًا‪.‬‬

‫وف الوليد أنزل ال تعال ست عشرة آية من سورة الدثر{ذَ ْرنِي َومَنْ خَ َلقْتُ َوحِيدًا وَ َجعَ ْلتُ َلهُ مَالًا‬
‫صعُودًا إِّنهُ‬
‫مّ ْمدُودًا َوبَنِيَ شُهُودًا َومَهّدتّ لَهُ تَمْهِيدًا ُثمّ يَطْ َمعُ َأنْ أَزِيدَ كَلّا ِإنّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا َسأُ ْر ِهقُهُ َ‬
‫فَكّرَ وَ َقدّرَ َفقُِتلَ كَيْفَ َقدّرَ ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ َقدّرَ ُثمّ َنظَرَ ُثمّ عََبسَ َوبَسَرَ ُثمّ أَ ْدبَرَ وَاسَْتكْبَرَ َفقَالَ ِإنْ َهذَا ِإلّا‬
‫ِسحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ َهذَا ِإلّا قَوْلُ الْبَشَ ِر َسأُصْلِيهِ َسقَرَ} [من ‪ 11‬إل ‪ ]26‬وف خللا صور كيفية تفكيه‪،‬‬
‫فقال‪ِ{ :‬إنّهُ َفكّرَ وَ َقدّرَ َفقُتِلَ كَيْفَ َقدّرَ ُثمّ قُِتلَ كَ ْيفَ َقدّرَ ُثمّ نَظَرَ ثُمّ عََبسَ َوبَسَرَ ُثمّ أَدْبَرَ وَاسْتَكَْبرَ َفقَالَ إِنْ‬
‫شرِ} [الدثر‪]25 :18:‬‬
‫َهذَا إِلّا ِسحْرٌ يُ ْؤثَرُ إِنْ َهذَا ِإلّا قَوْلُ الْبَ َ‬

‫وبعد أن اتفق الجلس على هذا القرار أخذوا ف تنفيذه‪ ،‬فجلسوا بسبل الناس حي قدموا للموسم‪ ،‬ل ير‬
‫بم أحد إل حذروه إياه وذكروا لم أمره‪.‬‬

‫أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فخرج يتبع الناس ف منازلم وف ُعكَاظ و َمجَنّة وذى ا َلجَاز‪ ،‬يدعوهم‬
‫إل ال ‪ ،‬وأبو لب وراءه يقول‪ :‬ل تطيعوه فإنه صابئ كذاب‪.‬‬

‫وأدى ذلك إل أن صدرت العرب من ذلك الوسم بأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم وانتشر ذكره ف‬
‫بلد العرب كلها‪.‬‬

‫أساليب شت لجابة الدعوة‬

‫ولا فرغت قريش من الج فكرت ف أساليب تقضى با على هذه الدعوة ف مهدها‪ .‬وتتلخص هذه‬
‫الساليب فيما يلي‪:‬‬

‫‪1‬ـ السخرية والتحقي‪ ،‬والستهزاء والتكذيب والتضحيك‪:‬‬


‫قصدوا با تذيل السلمي‪ ،‬وتوهي قواهم العنوية‪ ،‬فرموا النب صلى ال عليه وسلم بتهم هازلة‪ ،‬وشتائم‬
‫سفيهة‪ ،‬فكانوا ينادونه بالجنون {وَقَالُواْ يَا َأيّهَا اّلذِي نُزّلَ عَلَ ْي ِه الذّكْرُ ِإّنكَ لَمَجْنُونٌ} [الجر‪،]6:‬‬
‫ويصمونه بالسحر والكذب { َو َعجِبُوا أَن جَاءهُم مّنذِرٌ مّنْ ُهمْ وَقَا َل الْكَافِرُونَ َهذَا سَاحِرٌ َكذّابٌ} [ص‪]4:‬‬
‫‪،‬وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة‪ ،‬وعواطف منفعلة هائجة { َوإِن يَكَا ُد اّلذِينَ كَفَرُوا‬
‫لَيُ ْزلِقُوَنكَ بَِأبْصَارِ ِهمْ لَمّا سَ ِمعُوا ال ّذكْرَ َوَيقُولُونَ ِإنّهُ لَ َمجْنُونٌ} [القلم‪،]51:‬وكان إذا جلس وحوله‬
‫الستضعفون من أصحابه استهزأوا بم وقالوا‪ :‬هؤلء جلساؤه {مَنّ ال ُ عَلَ ْيهِم مّن بَيْنِنَا} [النعام‪،]53 :‬‬
‫قال تعال‪{ :‬أَلَ ْيسَ ال ُ ِبأَعْ َلمَ بِالشّاكِرِينَ} [النعام‪،]53:‬وكانوا كما قص ال علينا {ِإنّ اّلذِينَ أَجْ َرمُوا‬
‫ضحَكُونَ َوإِذَا مَرّواْ بِ ِهمْ يََتغَامَزُونَ َوإِذَا انقَلَبُواْ ِإلَى أَهْلِ ِهمُ انقَلَبُواْ َفكِهِيَ َوإِذَا َرأَوْ ُهمْ‬
‫كَانُواْ مِ َن اّلذِينَ آمَنُوا يَ ْ‬
‫قَالُوا ِإنّ َه ُؤلَاء لَضَالّونَ َومَا أُ ْرسِلُوا عَلَ ْي ِهمْ حَا ِفظِيَ} [الطففي‪.]33 :29 :‬‬

‫وقد أكثروا من السخرية والستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيئًا فشيئًا حت أثر ذلك ف نفس‬
‫صدْرُكَ بِمَا َيقُولُونَ} [الجر‪:‬‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كما قال ال تعال‪َ { :‬وَلقَدْ َنعْ َلمُ َأنّكَ يَضِيقُ َ‬
‫‪ ،]97‬ث ثبته ال وأمره با يذهب بذا الضيق فقال‪{ :‬فَسَّبحْ بِحَ ْمدِ َربّكَ َوكُن مّنَ السّا ِجدِينَ وَاعُْبدْ َرّبكَ‬
‫ك الْيَقِيُ}[الجر‪ ،]99 ،98:‬وقد أخبه من قبل أنه يكفيه هؤلء الستهزئي حيث قال‪{ :‬إِنّا‬
‫حَتّى َيأْتَِي َ‬
‫جعَلُونَ َمعَ ال ِ إِلـهًا آخَرَ فَسَ ْوفَ َيعْمَلُونَ} [الجر‪ ،]96 ،95 :‬وأخبه‬
‫ي اّلذِينَ يَ ْ‬
‫كَفَيْنَاكَ الْمُسَْتهْ ِزئِ َ‬
‫أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالًا عليهم فقال‪َ { :‬وَلقَدِ اسُْتهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَ ْب ِلكَ َفحَاقَ بِاّلذِينَ َسخِرُواْ‬
‫مِنْهُم مّا كَانُواْ ِبهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} [النعام‪.]10:‬‬

‫‪2‬ـ إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة‪:‬‬

‫وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بيث ل يبقى لعامة الناس مال للتدبر ف دعوته والتفكي فيها‪ ،‬فكانوا‬
‫لمٍ} [النبياء‪ ]5:‬يراها ممد بالليل ويتلوها بالنهار‪ ،‬ويقولون‪{ :‬بَلِ‬
‫ضغَاثُ أَ ْح َ‬
‫يقولون عن القرآن‪{ :‬أَ ْ‬
‫شرٌ} وقالوا‪{ :‬إِنْ َهذَا ِإلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ َوأَعَانَهُ عَلَ ْيهِ َق ْومٌ‬
‫افْتَرَاهُ} من عند نفسه ويقولون‪ِ{ :‬إنّمَا يُعَلّ ُمهُ بَ َ‬
‫ي اكْتَتَبَهَا َفهِيَ تُمْلَى‬
‫آ َخرُونَ} [الفرقان‪ ]4 :‬أي اشترك هو وزملؤه ف اختلقه‪{ .‬وَقَالُوا أَسَاطِيُ اْلأَ ّولِ َ‬
‫عَ َل ْيهِ بُكْ َرةً َوأَصِيلًا} [الفرقان‪]5:‬‬

‫وأحيانا قالوا‪ :‬إن له جنًا أو شيطانًا يتنل عليه كما ينل الن والشياطي على الكهان‪ .‬قال تعال ردًا‬
‫عليهم‪َ { :‬هلْ ُأنَبّئُ ُكمْ عَلَى مَن تَنَزّلُ الشّيَاطِيُ تَنَزّلُ عَلَى كُلّ أَفّاكٍ َأثِيمٍ} [الشعراء‪ ،]222 ،221:‬أي‬
‫إنا تنل على الكذاب الفاجر التلطخ بالذنوب‪ ،‬وما جرّبتم عل ّى كذبًا‪ ،‬وما وجدت ف فسقًا‪ ،‬فكيف‬
‫تعلون القرآن من تنيل الشيطان؟‬

‫وأحيانًا قالوا عن النب صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنه مصاب بنوع من النون‪ ،‬فهو يتخيل العان‪ ،‬ث يصوغها‬
‫شعَرَاء‬
‫ف كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء‪ ،‬فهو شاعر وكلمه شعر‪ .‬قال تعال ردًا عليهم‪{ :‬وَال ّ‬
‫يَتِّبعُ ُهمُ اْلغَاوُونَ أََلمْ تَرَ َأنّ ُهمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ َوأَنّ ُهمْ َيقُولُونَ مَا لَا يَ ْفعَلُونَ} [الشعراء‪]226 :225:‬‬
‫فهذه ثلث خصائص يتصف با الشعراء ليست واحدة منها ف النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فالذين اتبعوه‬
‫هداة مهتدون‪ ،‬متقون صالون ف دينهم وخلقهم وأعمالم وتصرفاتم‪ ،‬وليست عليهم مسحة من الغواية‬
‫ف أي شأن من شئونم‪ ،‬ث النب صلى ال عليه وسلم ل يهيم ف كل واد كما يهيم الشعراء‪ ،‬بل هو يدعو‬
‫إل رب واحد‪ ،‬ودين واحد‪ ،‬وصراط واحد‪ ،‬وهو ل يقول إل ما يفعل‪ ،‬ول يفعل إل ما يقول‪ ،‬فأين هو من‬
‫الشعر والشعراء؟ وأين الشعر والشعراء منه‪.‬‬

‫هكذا كان يرد عليهم بواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيونا ضد النب صلى ال عليه وسلم والقرآن‬
‫والسلم‪.‬‬

‫ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد‪ ،‬ث رسالة ممد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ث بعث الموات‬
‫ونشرهم وحشرهم يوم القيامة‪ ،‬وقد رد القرآن على كل شبهة من شبهاتم حول التوحيد‪ ،‬بل زاد عليها‬
‫زيادات أوضح با هذه القضية من كل ناحية‪ ،‬وبي عجز آلتهم عجزًا ل مزيد عليه‪ ،‬ولعل هذا كان مثار‬
‫غضبهم واستنكارهم الذي أدى إل ما أدى إليه‪.‬‬

‫أما شبهاتم ف رسالة النب صلى ال عليه وسلم فإنم مع اعترافهم بصدق النب صلى ال عليه وسلم‬
‫وأمانته وغاية صلحه وتقواه‪ ،‬كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر‪،‬‬
‫فالبشر ل يكون رسولًا‪ ،‬والرسول ل يكون بشرًا حسب عقيدتم‪ .‬فلما أعلن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم عن نبوته‪ ،‬ودعا إل اليان به تيوا وقالوا‪{ :‬مَالِ َهذَا الرّسُولِ َيأْكُلُ ال ّطعَامَ َويَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}‬
‫[الفرقان‪ ،]7 :‬وقالوا‪ :‬إن ممدًا صلى ال عليه وسلم بشر‪،‬و {مَا أَنزَلَ ال ُ عَلَى بَشَرٍ مّن َش ْيءٍ} [‬
‫ب اّلذِي جَاء ِبهِ مُوسَى نُورًا َو ُهدًى لّلنّاسِ}‪،‬‬
‫النعام‪ ،]19 :‬فقال تعال ردًا عليهم‪ُ {:‬قلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَا َ‬
‫وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر‪ .‬ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكارًا على‬
‫رسالتهم‪{ :‬إِنْ أَنُتمْ إِلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} [إبراهيم‪ ،]10:‬فـ {قَالَتْ لَ ُهمْ رُ ُسلُ ُهمْ إِن ّنحْنُ إِلّ بَشَرٌ مّثْ ُل ُكمْ‬
‫َولَـ ِكنّ ال َ يَمُنّ َعلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَا ِدهِ} [إبراهيم‪ .]11 :‬فالنبياء والرسل ل يكونون إل بشرًا‪ ،‬ول‬
‫منافاة بي البشرية والرسالة‪.‬‬

‫وحيث إنم كانوا يعترفون بأن إبراهيم و إساعيل وموسى ـ عليهم السلم ـ كانوا رسلًا وكانوا بشرًا‪،‬‬
‫فإنم ل يدوا مالًا للصرار على شبهتهم هذه‪،‬فقالوا‪:‬أل يد ال لمل رسالته إل هذا اليتيم السكي‪،‬ما‬
‫كـان ال ليترك كـبار أهـل مكـة والطائف ويتخذ هذا السكي رسولًا{وَقَالُوا لَوْلَا نُزّلَ َهذَا اْلقُرْآنُ‬
‫عَلَى رَ ُجلٍ مّنَ اْلقَرْيَتَ ْينِ َعظِيمٍ} [الزخرف‪ ،]31:‬قال تعال ردًا عليهم‪{:‬أَ ُهمْ َيقْسِمُونَ رَحْ َمةَ َربّكَ} [‬
‫الزخرف‪ ،]32:‬يعن أن الوحى والرسالة رحة من ال و{ال ُ أَعْ َلمُ حَيْثُ َيجْعَلُ ِرسَالََتهُ} [النعام‪:‬‬
‫‪.]124‬‬

‫وانتقلوا بعد ذلك إل شبهة أخرى‪ ،‬قالوا‪ :‬إن رسل ملوك الدنيا يشون ف موكب من الدم والشم‪،‬‬
‫ويتمتعون بالبة واللل‪ ،‬ويوفر لم كل أسباب الياة‪ ،‬فما بال ممد يدفع ف السواق للقمة عيش وهو‬
‫يدعى أنه رسول ال ؟ {وَقَالُوا مَالِ َهذَا الرّسُولِ َي ْأكُ ُل الطّعَامَ َويَمْشِي فِي اْلأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ ِإلَيْهِ َم َلكٌ‬
‫فَيَكُونَ مَ َعهُ َنذِيرًا أَوْ يُ ْلقَى إِلَ ْيهِ كَنٌ أَوْ تَكُونُ َلهُ جَّنةٌ َي ْأكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظّالِمُونَ إِن تَتِّبعُونَ ِإلّا رَ ُجلًا‬
‫سحُورًا} [الفرقان‪ ،]8 :7:‬ورد على شبهتهم هذه بأن ممدًا رسول‪ ،‬يعن أن مهمته هو إبلغ رسالة‬
‫مّ ْ‬
‫ال إل كل صغي وكبي‪ ،‬وضعيف وقوى‪ ،‬وشريف ووضيع‪ ،‬وحر وعبد‪ ،‬فلو لبث ف البة واللل‬
‫والدم والشم والرس والواكبي مثل رسل اللوك‪ ،‬ل يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم حت‬
‫يستفيدوا به‪ ،‬وهم جهور البشر‪ ،‬وإذن فاتت مصلحة الرسالة‪ ،‬ول تعد لا فائدة تذكر‪.‬‬

‫أما إنكارهم البعث بعد الوت فلم يكن عندهم ف ذلك إل التعجب والستغراب والستبعاد العقلي‪،‬‬
‫فكانوا يقولون‪َ{ :‬أئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَ ِعظَامًا َأئِنّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَا ُؤنَا اْلأَ ّولُونَ} [الصافات‪،]17 ،16:‬‬
‫وكانوا يقولون‪َ { :‬ذِلكَ رَ ْجعٌ بَعِيدٌ} [ق‪ ]3 :‬وكانوا يقولون على سبيل الستغراب‪{ :‬هَلْ َندُلّ ُكمْ َعلَى‬
‫َرجُلٍ يُنَبّئُ ُكمْ إِذَا مُزّقُْتمْ كُلّ مُمَ ّزقٍ ِإنّ ُكمْ لَفِي َخلْقٍ َجدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى ال ِ َك ِذبًا أَم ِبهِ جِّنةٌ} [سبأ‪.]8 ،7 :‬‬

‫وقال قائلهم‪:‬‬

‫أَم ْوتٌ ث بَعْثٌ ث َحشْرٌ ** حدِيثُ خُرَافة يا أم عمرو‬

‫وقد رد عليهم بتبصيهم ما يرى ف الدنيا‪ ،‬فالـظال يوت دون أن يلقى جزاء ظلمه‪ ،‬والظلوم يوت دون‬
‫أن يأخذ حقه من ظاله‪ ،‬والحسن الصال يوت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلحه‪ ،‬والفاجر السىء‬
‫يوت قبل أن يعاقب على سوء عمله‪ ،‬فإن ل يكن بعث ول حياة ول جزاء بعد الوت لستوى الفريقان‪،‬‬
‫بل لكان الظال والفاجر أسعد من الظلوم والصال‪ ،‬وهذا غي معقول إطلقا‪ .‬ول يتصور من ال أن يبن‬
‫سلِمِيَ كَالْ ُمجْ ِرمِيَ مَا لَ ُكمْ كَ ْيفَ َتحْكُمُونَ} [‬
‫نظام خلقه على مثل هذا الفساد‪ .‬قال تعال‪{ :‬أَفََنجْعَلُ الْمُ ْ‬
‫سلِمِيَ كَالْ ُمجْ ِرمِيَ مَا لَ ُكمْ كَ ْيفَ َتحْكُمُونَ} [ص‪،]28 :‬‬
‫القلم‪ ،]36 ،35:‬وقال‪{ :‬أَفََنجْعَلُ الْمُ ْ‬
‫جعَلَ ُهمْ كَاّلذِينَ آمَنُوا وَ َعمِلُوا الصّاِلحَاتِ سَوَاء مّحْيَاهُم‬
‫ب اّلذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئَاتِ أّن نّ ْ‬
‫س َ‬
‫وقال‪ً{ :‬أمْ حَ ِ‬
‫َومَمَاتُ ُهمْ سَاء مَا َيحْكُمُونَ} [الاثية‪.]21:‬‬

‫وأما الستبعاد العقلى فقال تعال ردًا عليه‪{ :‬أَأَنُتمْ أَ َشدّ َخ ْلقًا َأمِ السّمَاء بَنَاهَا} [النازعات‪ ،]27:‬وقال‪:‬‬
‫{أَ َوَلمْ يَرَوْا أَنّ ال َ اّلذِي خَ َلقَ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضَ َوَلمْ َيعْيَ ِبخَ ْلقِهِنّ ِبقَادِرٍ عَلَى َأنْ يُحْيِيَ الْمَ ْوتَى بَلَى ِإّنهُ‬
‫شأَ َة اْلأُولَى فَ َل ْولَا تَذكّرُونَ} [الواقعة‪:‬‬
‫عَلَى كُلّ َش ْيءٍ َقدِيرٌ} [الحقاف‪ ،]33 :‬وقال‪َ { :‬وَل َقدْ عَ ِلمُْت ُم النّ ْ‬
‫‪ ،]62‬وبي ما هو معروف عقلًا وعرفًا‪ ،‬وهو أن العادة {أَهْ َونُ عَلَ ْيهِ} [الروم‪،]27 :‬وقال‪{ :‬كَمَا َب َدأْنَا‬
‫أَوّلَ خَ ْلقٍ ّنعِيدُهُ} [النبياء‪ ،]104:‬وقال‪{ :‬أَ َفعَيِينَا بِاْلخَ ْل ِق الْأَوّلِ} [ق‪.]15 :‬‬

‫وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات ردًا مفحمًا يقنع كل ذى عقل ولب‪ ،‬ولكنهم كانوا مشاغبي‬
‫مستكبين يريدون عُلوا ف الرض وفرض رأيهم على اللق‪ ،‬فبقوا ف طغيانم يعمهون‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ اليلولة بي الناس وبي ساعهم القرآن‪ ،‬ومعارضته بأساطي الولي‪:‬‬

‫كان الشركون بنب إثارة هذه الشبهات يولون بي الناس وبي ساعهم القرآن ودعوة السلم بكل‬
‫طريق يكن‪ ،‬فكانوا يطردون الناس ويثيون الشغب والضوضاء ويتغنون ويلعبون‪ ،‬إذا رأوا أن النب صلى‬
‫ال عليه وسلم يتهيأ للدعوة‪ ،‬أو إذا رأوه يصلى ويتلو القرآن‪ .‬قال تعال‪{ :‬وَقَالَ اّلذِينَ َكفَرُوا لَا تَسْ َمعُوا‬
‫لِ َهذَا الْقُرْآنِ وَاْلغَوْا فِيهِ َلعَلّ ُكمْ َتغْلِبُونَ} [فصلت‪ ]26:‬حت إن النب صلى ال عليه وسلم ل يتمكن من‬
‫تلوة القرآن عليهم ف مامعهم ونواديهم إل ف أواخر السنة الامسة من النبوة‪ ،‬وذلك أيضًا عن طريق‬
‫الفاجأة‪ ،‬دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلوة‪.‬‬

‫وكان النضر بن الارث‪ ،‬أحد شياطي قريش قد قدم الية‪ ،‬وتعلم با أحاديث ملوك الفرس‪ ،‬وأحاديث‬
‫رستم واسفنديار‪ ،‬فكان إذا جلس رسول ال صلى ال عليه وسلم ملسًا للتذكي بال والتحذير من نقمته‬
‫خلفه النضر ويقول‪ :‬أنا و ال يا معشر قريش أحسن حديثًا منه‪ ،‬ث يدثهم عن ملوك فارس ورستم‬
‫واسفنديار‪ ،‬ث يقول‪ :‬باذا ممد أحسن حديثًا من‪.‬‬
‫وف رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيَْنةً‪ ،‬فكان ل يسمع بأحد يريد السلم إل انطلق به‬
‫إل قينته‪ ،‬فيقول‪ :‬أطعميه واسقيه وغنيه‪ ،‬هذا خي ما يدعوك إليه ممد‪ ،‬وفيه نزل قوله تعال‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ‬
‫ضلّ عَن سَبِيلِ ال ِ} [لقمان‪.]6 :‬‬
‫حدِيثِ لِيُ ِ‬
‫مَن يَشْتَرِي لَهْ َو الْ َ‬

‫الضطهادات‬

‫أعمل الشركون الساليب الت ذكرناها شيئًا فشيئًا لحباط الدعوة بعد ظهورها ف بداية السنة الرابعة من‬
‫النبوة‪ ،‬ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهم مقتصرون على هذه الساليب ل يتجاوزونا إل طريق‬
‫الضطهاد والتعذيب‪ ،‬ولكنهم لا رأوا أن هذه الساليب ل تد نفعًا ف إحباط الدعوة السلمية استشاروا‬
‫فيما بينهم‪ ،‬فقرروا القيام بتعذيب السلمي وفتنتهم عن دينهم‪ ،‬فأخذ كل رئيس يعذب من دان من قبيلته‬
‫بالسلم‪ ،‬وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق اليان‪.‬‬

‫وكان من الطبيعي أن يهرول الذناب والوباش خلف ساداتم وكبائهم‪ ،‬ويتحركوا حسب مرضاتم‬
‫وأهوائهم‪ ،‬فجروا على السلمي ـ ولسيما الضعفاء منهم ـ ويلت تقشعر منها اللود‪ ،‬وأخذوهم‬
‫بنقمات تتفطر لسماعها القلوب‪.‬‬

‫كان أبو جهل إذا سع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه‪ ،‬وأوعده بإبلغ السارة الفادحة ف‬
‫الال‪ ،‬والاه‪ ،‬وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به‪.‬‬

‫وكان عم عثمان بن عفان يلفه ف حصي من ورق النخيل ث يدخنه من تته‪.‬‬

‫ولا علمت أم مصعب بن عمي بإسلمه منعته الطعام والشراب‪ ،‬وأخرجته من بيته‪ ،‬وكان من أنعم الناس‬
‫عيشًا‪ ،‬فَتخَشّفَ جلده تشف الية‪.‬‬

‫وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذّب حت يفقد وعيه ول يدرى ما يقول‪.‬‬

‫وكان بلل مول أمية بن خلف المحي‪ ،‬فكان أمية يضع ف عنقه حبلًا‪ ،‬ث يسلمه إل الصبيان‪ ،‬يطوفون به‬
‫ف جبال مكة‪ ،‬ويرونه حت كان البل يؤثر ف عنقه‪ ،‬وهو يقول‪ :‬أ َحدٌ أ َحدٌ‪ ،‬وكان أمية يـشده شـدًا ث‬
‫يضربه بالعصا‪ ،‬و يلجئه إل اللوس ف حر الشمس‪ ،‬كما كان يكرهه على الوع‪ .‬وأشد من ذلك كله أنه‬
‫كان يرجه إذا حيت الظهية‪ ،‬فيطرحه على ظهره ف الرمضاء ف بطحاء مكة‪ ،‬ث يأمر بالصخرة العظيمة‬
‫فتوضع على صدره‪ ،‬ث يقول‪ :‬ل وال ل تـزال هكـذا حت توت أو تكفر بحمد‪ ،‬وتعبد اللت‬
‫والعزى‪ ،‬فيقول وهو ف ذلك‪ :‬أحد‪،‬أحد‪ ،‬ويقـول‪ :‬لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها‪ .‬ومر به أبو‬
‫بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلم أسود‪ ،‬وقيل‪ :‬بسبع أواق أو بمس من الفضة‪ ،‬وأعتقه‪.‬‬

‫وكان عمار بن ياسر رضي ال عنه مول لبن مزوم‪ ،‬أسلم هو وأبوه وأمه‪ ،‬فكان الشركون ـ وعلى‬
‫رأسهم أبو جهل ـ يرجونم إل البطح إذا حيت الرمضاء فيعذبونم برها‪ .‬ومر بم النب صلى ال عليه‬
‫وسلم وهم يعذبون فقال‪( :‬صبًا آل ياسر‪ ،‬فإن موعدكم النة)‪ ،‬فمات ياسر ف العذاب‪ ،‬وطعن أبو جهل‬
‫سية ـ أم عمار ـ ف قبلها بربة فماتت‪ ،‬وهي أول شهيدة ف السلم‪ ،‬وهي سية بنت خياط مولة أب‬
‫حذيفة بن الغية بن عبد ال بن عمر بن مزوم‪ ،‬وكانت عجوزًا كبية ضعيفة‪ .‬وشددوا العذاب على عمار‬
‫بالر تارة‪ ،‬وبوضع الصخر الحر على صدره أخرى‪ ،‬وبغطه ف الاء حت كان يفقد وعيه‪ .‬وقالوا له‪ :‬ل‬
‫نتركك حت تسب ممدًا‪ ،‬أو تقول ف اللت والعزى خيًا‪ ،‬فوافقهم على ذلك مكرهًا‪ ،‬وجاء باكيًا معتذرًا‬
‫إل النب صلى ال عليه وسلم‪ .‬فأنزل ال ‪{ :‬مَن َكفَرَ بِال ِ مِن بَ ْعدِ إيَانِهِ إِلّ مَنْ ُأكْ ِرهَ وَ َقلُْبهُ ُمطْمَئِنّ‬
‫بِا ِليَانِ}الية [ النحل‪.] 106 :‬‬

‫وكان أبو ُفكَيْ َهةَ ـ واسة أفلح ـ مول لبن عبد الدار‪ ،‬وكان من الزد‪ .‬فكانوا يرجونه ف نصف النهار‬
‫ف حر شديد‪ ،‬وف رجليه قيد من حديد‪ ،‬فيجردونه من الثياب‪ ،‬ويبطحونه ف الرمضاء‪ ،‬ث يضعون على‬
‫ظهره صخرة حت ل يتحرك‪ ،‬فكان يبقى كذلك حت ل يعقل‪ ،‬فلم يزل يعذب كذلك حت هاجر إل‬
‫البشة الجرة الثانية‪ ،‬وكانوا مرة قد ربطوا رجله ببل‪ ،‬ث جروه وألقوه ف الرمضاء وخنقوه حت ظنوا أنه‬
‫قد مات‪ ،‬فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه ل‪.‬‬

‫وكان خباب بن الرت مول لم أنار بنت سِباع الزاعية‪ ،‬وكان حدادًا‪ ،‬فلما أسلم عذبته مولته بالنار‪،‬‬
‫كانت تأتى بالديدة الحماة فتجعلها على ظهره أو رأسه‪ ،‬ليكفر بحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلم يكن‬
‫يزيده ذلك إل إيانًا وتسليمًا‪ ،‬وكان الشركون أيضًا يعذبونه فيلوون عنقه‪ ،‬ويذبون شعره‪ ،‬وقد ألقوه‬
‫على النار‪ ،‬ث سحبوه عليها‪ ،‬فما أطفأها إل وَدَكَ ظهره‪.‬‬

‫ي ُة أ َمةً رومية قد أسلمت فعذبت ف ال ‪ ،‬وأصيبت ف بصرها حت عميت‪ ،‬فقيل لا‪ :‬أصابتك‬
‫وكانت ِزنّ َ‬
‫اللت والعزى‪ ،‬فقالت‪ :‬ل وال ما أصابتن‪ ،‬وهذا من ال ‪ ،‬وإن شاء كشفه‪ ،‬فأصبحت من الغد وقد رد‬
‫ال بصرها‪ ،‬فقالت قريش‪ :‬هذا بعض سحر ممد‪.‬‬
‫وأسلمت أم عَُبيْس‪ ،‬جارية لبن زهرة‪ ،‬فكان يعذبا الشركون‪ ،‬وباصة مولها السود بن عبد يغوث‪،‬‬
‫وكان من أشد أعداء رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن الستهزئي به‪.‬‬

‫وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بن عدى‪ ،‬فكان عمر بن الطاب يعذبا ـ وهو يومئذ على الشرك ـ‬
‫فكان يضربا حت يفتر‪ ،‬ث يدعها ويقول‪ :‬وال ما أدعك إل سآمة‪ ،‬فتقول‪ :‬كذلك يفعل بك ربك‪.‬‬

‫ومـن أسلمـن وعـذبن مـن الـوارى‪ :‬النهدية وابنتها‪ ،‬وكانتا لمـرأة من بن عبد الدار‪.‬‬

‫ومن عذب من العبيد‪ :‬عامر بن فُهَيْرَة‪ ،‬كان يعذب حت يفقد وعيه ول يدرى ما يقول‪.‬‬

‫واشترى أبوبكر رضي ال عنه هؤلء الماء والعبيد رضي ال عنهم وعنهن أجعي‪ ،‬فأعتقهم جيعًا‪ .‬وقد‬
‫عاتبه ف ذلك أبوه أبو قحافة وقال‪ :‬أراك تعتق رقابًا ضعافًا‪ ،‬فلو أعتقت رجالًا جلدًا لنعوك‪ .‬قال‪ :‬إن أريد‬
‫صلَاهَا ِإلّا‬
‫وجه ال ‪ .‬فأنزل ال قرآنًا مدح فيه أبا بكر‪ ،‬وذم أعداءه‪ .‬قال تعال‪َ { :‬فأَنذَ ْرتُ ُكمْ نَارًا تَ َلظّى لَا يَ ْ‬
‫اْلأَ ْشقَى الّذِي َك ّذبَ َوتَ َولّى} [الليل‪ ]16 :14:‬وهو أمية بن خلف‪ ،‬ومن كان على شاكلته { َوسَُيجَنّبُهَا‬
‫سوْفَ يَرْضَى}‬
‫اْلأَْتقَى اّلذِي يُ ْؤتِي مَالَهُ يَتَ َزكّى َومَا ِلأَ َحدٍ عِن َدهُ مِن ّنعْ َمةٍ تُجْزَى ِإلّا ابِْتغَاء َو ْجهِ َرّبهِ اْلأَعْلَى َولَ َ‬
‫[الليـل‪ ]21 :17:‬وهـو أبـو بـكـر الصديـق رضي ال عنه‪.‬‬

‫وأوذى أبو بكر الصديق رضي ال عنه أيضًا‪ .‬فقد أخذه نوفل بن خويلد العدوى‪ ،‬وأخذ معه طلحة بن‬
‫عبيد ال فشدها ف حبل واحد‪ ،‬ليمنعهما عن الصلة وعن الدين فلم ييباه‪ ،‬فلم يروعاه إل وها مطلقان‬
‫يصليان؛ ولذلك سيا بالقريني‪ ،‬وقيل‪ :‬إنا فعل ذلك عثمان بن عبيد ال أخو طلحة بن عبيد ال رضي ال‬
‫عنه‪.‬‬

‫والاصل أنم ل يعلموا بأحد دخل ف السلم إل وتصدوا له بالذى والنكال‪ ،‬وكان ذلك سهلًا ميسورًا‬
‫بالنسبة لضعفاء السلمي‪ ،‬ول سيما العبيد والماء منهم‪ ،‬فلم يكن من يغضب لم ويميهم‪ ،‬بل كانت‬
‫السادة والرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الوباش‪ ،‬ولكن بالنسبة لن أسلم من الكبار‬
‫والشراف كان ذلك صعبًا جدًا؛ إذ كانوا ف عز ومنعة من قومهم‪ ،‬ولذلك قلما كان يتريء عليهم إل‬
‫أشراف قومهم‪ ،‬مع شيء كبي من اليطة والذر‪.‬‬
‫ايذاء الشركي السلمي‬

‫موقف الشركي من رسول ال صلى ال عليه وسلم‬


‫وفد قريش إل أب طالب‬
‫قريش يهددون أبا طالب‬
‫قريش بي يدى أب طالب مرة أخرى‬
‫اعتداءات على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫دار الرقم‬
‫الجرة الول إل البشة‬
‫سجود الشركي مع السلمي وعودة الهاجرين‬
‫الجرة الثانية إل البشة‬
‫مكيدة قريش بهاجري البشة‬
‫الشدة ف التعذيب وماولة القضاء على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫موقف الشركي من رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫وأما بالنسبة لرسول ال صلى ال عليه وسلم فإنه صلى ال عليه وسلم كان رجلًا شهمًا وقورًا ذا شخصية‬
‫فذة‪ ،‬تتعاظمه نفوس العداء والصدقاء بيث ل يقابل مثله إل بالجلل والتشريف‪ ،‬ول يترئ على‬
‫اقتراف الدنايا والرذائل ضده إل أراذل الناس وسفهاؤهم‪ ،‬ومع ذلك كان ف منعة أب طالب‪ ،‬وأبو طالب‬
‫من رجال مكة العدودين‪ ،‬كان معظمًا ف أصله‪ ،‬معظمًا بي الناس‪ ،‬فكان من الصعب أن يسر أحد على‬
‫إخفار ذمته واستباحة بيضته‪ ،‬إن هذا الوضع أقلق قريشًا وأقامهم وأقعدهم‪ ،‬ودعاهم إل تفكي سليم‬
‫يرجهم من الأزق دون أن يقعوا ف مذور ل يمد عقباه‪ ،‬وقد هداهم ذلك إل أن يتاروا سبيل‬
‫الفاوضات مع السئول الكب‪ :‬أب طالب‪ ،‬ولكن مع شيء كبي من الكمة والدية‪ ،‬ومع نوع من أسلوب‬
‫التحدي والتهديد الفي حت يذعن لا يقولون‪.‬‬
‫وفد قريش إل أب طالب‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬مشى رجال من أشراف قريش إل أب طالب‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬إن ابن أخيك قد‬
‫سب آلتنا‪ ،‬وعاب ديننا‪ ،‬و َسفّه أحلمنا‪ ،‬وضلل آباءنا‪ ،‬فإما أن تكفه عنا‪ ،‬وإما أن تلى بيننا وبينه‪ ،‬فإنك‬
‫على مثل ما نن عليه من خلفه‪ ،‬فنكفيكه‪ ،‬فقال لم أبو طالب قولًا رقيقًا وردهم ردًا جيلًا‪ ،‬فانصرفوا‬
‫عنه‪ ،‬ومضى رسول ال صلى ال عليه وسلم على ما هو عليه‪ ،‬يظهر دين ال ويدعو إليه‪ .‬ولكن ل تصب‬
‫قريش طويلًا حي رأته صلى ال عليه وسلم ماضيًا ف عمله ودعوته إل ال ‪ ،‬بل أكثرت ذكره وتذامرت‬
‫فيه‪ ،‬حت قررت مراجعة أب طالب بأسلوب أغلظ وأقسى من السابق‪.‬‬

‫قريش يهددون أبا طالب‬


‫وجاءت سادات قريش إل أب طالب فقالوا له‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬إن لك سنًا وشرفًا ومنلة فينا‪ ،‬وإنا قد‬
‫استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا‪ ،‬وإنا وال ل نصب على هذا من شتم آبائنا‪ ،‬وتسفيه أحلمنا‪ ،‬وعيب‬
‫آلتنا‪ ،‬حت تكفه عنا‪ ،‬أو ننازله وإياك ف ذلك‪ ،‬حت يهلك أحد الفريقي‪.‬‬

‫َعظُم على أب طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد‪ ،‬فبعث إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال له‪ :‬يا‬
‫بن أخي‪ ،‬إن قومك قد جاءون فقالوا ل كذا وكذا‪ ،‬فأبق عليّ وعلى نفسك‪ ،‬ول تملن من المر ما ل‬
‫أطيق‪ ،‬فظن رسول ال صلى ال عليه وسلم أن عمه خاذله‪ ،‬وأنه ضعُف عن نصرته‪ ،‬فقال‪( :‬يا عم‪ ،‬وال لو‬
‫وضعوا الشمس ف يين والقمر ف يسارى على أن أترك هذا المر ـ حت يظهره ال أو أهلك فيه ـ ما‬
‫تركته)‪ ،‬ث استعب وبكى‪ ،‬وقام‪ ،‬فلما ول ناداه أبو طالب‪ ،‬فلما أقبل قال له‪ :‬اذهب يا بن أخي‪ ،‬فقل ما‬
‫أحببت‪ ،‬فو ال ل أُسْلِمُك لشىء أبدًا وأنشد‪:‬‬

‫وال لن يصلوا إليك بَمْعـهِم ** حت أُوَ ّسدَ ف التــراب دفيــنًا‬

‫فاصدع بأمرك ما عليك َغضَاضَة ** وابْشِرْ وقَرّ بذاك منك عيونًا‬


‫وذلك ف أبيات‪.‬‬

‫قريش بي يدى أب طالب مرة أخرى‬

‫ولا رأت قريش أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ماض ف عمله عرفت أن أبا طالب قد أب خذلن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأنه ممع لفراقهم وعداوتم ف ذلك‪ ،‬فذهبوا إليه بعمارة ابن الوليد بن‬
‫الغية وقالوا له‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬إن هذا الفت أنْ َهدَ فت ف قريش وأجله‪ ،‬فخذه فلك عقله ونصره‪ ،‬واتذه‬
‫ولدًا فهو لك‪ ،‬وأسْ ِل ْم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك‪ ،‬وفرق جاعة قومك‪ ،‬وسفه‬
‫أحلمهم‪ ،‬فنقتله‪ ،‬فإنا هو رجل برجل‪ ،‬فقال‪ :‬وال لبئس ما تسومونن‪ ،‬أتعطون ابنكم أغذوه لكم‪،‬‬
‫وأعطيكم ابن تقتلونه؟ هذا وال ما ل يكون أبدًا‪ .‬فقال الطعم بن عدى بن نوفل ابن عبد مناف‪ :‬وال يا‬
‫أبا طالب لقد أنصفك قومك‪ ،‬وجهدوا على التخلص ما تكره‪ ،‬فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وال ما أنصفتمون‪ ،‬ولكنك قد أجعت خذلن ومظاهرة القوم علىّ‪ ،‬فاصنع ما بدا لك‪.‬‬

‫ولا فشلت قريش ف هذه الفاوضات‪ ،‬ول توفق ف إقناع أب طالب بنع رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وكفه عن الدعوة إل ال ‪ ،‬قررت أن يتار سبيل قد حاولت تنبه والبتعاد منه مافة مغبته وما يؤول إليه‪،‬‬
‫وهو سبيل العتداء على ذات الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫اعتداءات على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتترمه منذ ظهرت الدعوة على الساحة‪ ،‬فقد صعب على غطرستها‬
‫وكبيائها أن تصب طويلًا‪ ،‬فمدت يد العتداء إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مع ما كانت تأتيه من‬
‫السخرية والستهزاء والتشوية والتلبيس والتشويش وغي ذلك‪ .‬وكان من الطبيعى أن يكون أبو لب ف‬
‫مقدمتهم وعلى رأسهم‪ ،‬فإنه كان أحد رؤوس بن هاشم‪ ،‬فلم يكن يشى ما يشاه الخرون‪ ،‬وكان عدوًا‬
‫لدودًا للسلم وأهله‪ ،‬وقد وقف موقف العداء من رسول ال صلى ال عليه وسلم منذ اليوم الول‪،‬‬
‫واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش‪ ،‬وقد أسلفنا ما فعل بالنب صلى ال عليه وسلم ف ملس بن هاشم‪،‬‬
‫وما فعل على الصفا‪.‬‬

‫وكان أبو لب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنت رسول ال صلى ال عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل‬
‫البعثة‪ ،‬فلما كانت البعثة أمرها بتطليقهما بعنف وشدة حت طلقاها‪.‬‬

‫ولا مات عبد ال ـ البن الثان لرسول ال صلى ال عليه وسلم ـ استبشر أبو لب وذهب إل الشركي‬
‫يبشرهم بأن ممدًا صار أبتر‪.‬‬

‫وقد أسلفنا أن أبا لب كان يول خلف النب صلى ال عليه وسلم ف موسم الج والسواق لتكذيبه‪ ،‬وقد‬
‫روى طارق بن عبد ال الحارب ما يفيد أنه كان ل يقتصر على التكذيب بل كان يضربه بالجر حت‬
‫يدمى عقباه‪.‬‬

‫وكانت امرأة أب لب ـ أم جيل أروى بنت حرب بن أمية‪ ،‬أخت أب سفيان ـ ل تقل عن زوجها ف‬
‫عداوة النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد كانت تمل الشوك‪ ،‬وتضعه ف طريق النب صلى ال عليه وسلم‬
‫وعلى بابه ليلًا‪ ،‬وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانا‪ ،‬وتطيل عليه الفتراء والدس‪ ،‬وتؤجج نار الفتنة‪،‬‬
‫وتثي حربًا شعواء على النب صلى ال عليه وسلم؛ ولذلك وصفها القرآن بمالة الطب‪.‬‬

‫ولا سعت ما نزل فيها وف زوجها من القرآن أتت رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو جالس ف السجد‬
‫عند الكعبة‪ ،‬ومعه أبو بكر الصديق وف يدها فِهْرٌ [أي بقدار ملء الكف] من حجارة‪ ،‬فلما وقفت عليهما‬
‫أخذ ال ببصرها عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فل ترى إل أبا بكر‪ ،‬فقالت‪ :‬يا أبا بكر‪ ،‬أين‬
‫صاحبك؟ قد بلغن أنه يهجون‪ ،‬وال لو وجدته لضربت بذا الفهر فاه‪ ،‬أما وال إن لشاعرة‪ .‬ث قالت‪:‬‬

‫ُمذَمّما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قَ َليْنا‬

‫ث انصرفت‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أما تراها رأتك؟ فقال‪( :‬ما رأتن‪ ،‬لقد أخذ ال ببصرها عن)‪.‬‬
‫وروى أبو بكر البزار هذه القصة‪ ،‬وفيها‪ :‬أنا لا وقفت على أب بكر قالت‪ :‬أبا بكر‪ ،‬هجانا صاحبك‪ ،‬فقال‬
‫أبو بكر‪ :‬ل ورب هذه البنية‪ ،‬ما ينطق بالشعر ول يتفوه به‪ ،‬فقالت‪ :‬إنك لُصدّق‪.‬‬

‫كان أبو لب يفعل كل ذلك وهو عم رسول ال صلى ال عليه وسلم وجاره‪ ،‬كان بيته ملصقا ببيته‪ ،‬كما‬
‫كان غيه من جيان رسول ال صلى ال عليه وسلم يؤذونه وهو ف بيته‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬كان النفر الذين يؤذون رسول ال صلى ال عليه وسلم ف بيته أبا لب‪ ،‬والكم بن أب‬
‫العاص بن أمية‪ ،‬وعقبة بن أب معيط‪ ،‬وعدى بن حراء الثقفي‪ ،‬وابن الصداء الذل ـ وكانوا جيانه ـ ل‬
‫يسلم منهم أحد إل الكم بن أب العاص‪ ،‬فكان أحدهم يطرح عليه صلى ال عليه وسلم رحم الشاة وهو‬
‫يصلى‪ ،‬وكان أحدهم يطرحها ف برمته إذا نصبت له‪ ،‬حت اتذ رسول ال صلى ال عليه وسلم حجرًا‬
‫ليستتر به منهم إذا صلى فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الذى يرج به على‬
‫العود‪ ،‬فيقف به على بابه‪ ،‬ث يقول‪( :‬يا بن عبد مناف‪ ،‬أي جوار هذا؟) ث يلقيه ف الطريق‪.‬‬

‫وازداد عقبة بن أب مُعَيْط ف شقاوته وخبثه‪ ،‬فقد روى البخاري عن عبد ال بن مسعود رضي ال عنه‪:‬أن‬
‫النب صلى ال عليه وسلم كان يصلى عند البيت‪ ،‬وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض‪:‬‬
‫سلَ جَزُور بن فلن فيضعه على ظهر ممد إذا سجد‪ ،‬فانبعث أشقى القوم [وهو عقبة بن أب‬
‫أيكم يىء ب َ‬
‫معيط] فجاء به فنظر‪ ،‬حت إذا سجد النب وضع على ظهره بي كتفيه‪ ،‬وأنا أنظر‪ ،‬ل أغن شيئًا‪ ،‬لو كانت‬
‫ل منعة‪ ،‬قال‪ :‬فجعلوا يضحكون‪ ،‬وييل بعضهم على بعضهم [أي يتمايل بعضهم على بعض مرحًا وبطرًا]‬
‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم ساجد‪ ،‬ل يرفع رأسه‪ ،‬حت جاءته فاطمة‪ ،‬فطرحته عن ظهره‪ ،‬فرفع‬
‫رأسه‪ ،‬ث قال‪[ :‬ال م عليك بقريش] ثلث مرات‪ ،‬فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم‪ ،‬قال‪ :‬وكانوا يرون‬
‫أن الدعوة ف ذلك البلد مستجابة‪ ،‬ث سى‪( :‬ال م عليك بأب جهل‪ ،‬وعليك بعتبة بن ربيعة‪ ،‬وشيبة بن‬
‫ربيعة‪ ،‬والوليد بن عتبة‪ ،‬وأمية بن خلف‪ ،‬وعقبة بن أب معيط) ـ وعد السابع فلم نفظه ـ فوالذي نفسى‬
‫بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول ال صلى ال عليه وسلم صرعى ف القَلِيب‪ ،‬قليب بدر‪.‬‬

‫وكان أمية بن خلف إذا رأي رسول ال صلى ال عليه وسلم هزه ولزه‪ .‬وفيه نزل‪َ { :‬ويْلٌ لّ ُكلّ هُمَ َزةٍ‬
‫لّمَ َزةٍ} [سورة المزة‪ ]1:‬قال ابن هشام‪ :‬المزة‪ :‬الذي يشتم الرجل علنية‪ ،‬ويكسر عينيه‪ ،‬ويغمز به‪.‬‬
‫واللمزة‪ :‬الذي يعيب الناس سرًا‪ ،‬ويؤذيهم‪.‬‬
‫أما أخوه أب بن خلف فكان هو وعقبة بن أب معيط متصافيي‪ .‬وجلس عقبة مرة إل النب صلى ال عليه‬
‫وسلم وسع منه‪ ،‬فلما بلغ ذلك أبيًا أنبه وعاتبه‪ ،‬وطلب منه أن يتفل ف وجه رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ففعل‪ ،‬وأب بن خلف نفسه فت عظمًا رميمًا ث نفخه ف الريح نو رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وكان الخنس بن شَرِيق الثقفي من ينال من رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد وصفه القرآن بتسع‬
‫صفات تدل على ما كان عليه‪ ،‬وهي ف قوله تعال‪َ {:‬ولَا ُت ِطعْ كُلّ حَلّافٍ مّهِيٍ هَمّازٍ مّشّاء بِنَمِيمٍ مَنّاعٍ‬
‫لّ ْلخَيْرِ ُمعَْتدٍ أَثِيمٍ عُتُلّ بَ ْعدَ َذِلكَ َزنِيمٍ} [القلم‪.]13 :10:‬‬

‫وكان أبو جهل يىء أحيانًا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يسمع منه القرآن‪ ،‬ث يذهب عنه فل يؤمن‬
‫ول يطيع‪ ،‬ول يتأدب ول يشى‪ ،‬ويؤذى رسول ال صلى ال عليه وسلم بالقول‪ ،‬ويصد عن سبيل ال ‪ ،‬ث‬
‫ص ّدقَ َولَا‬
‫يذهب متالًا با فعل‪ ،‬فخورًا با ارتكب من الشر‪ ،‬كأن ما فعل شيئًا يذكر‪ ،‬وفيه نزل‪{ :‬فَلَا َ‬
‫صلّى} [القيامة‪ ،]31:‬وكان ينع النب صلى ال عليه وسلم عن الصلة منذ أول يوم رآه يصلى ف‬
‫َ‬
‫الرم‪ ،‬ومرة مر به وهو يصلى عند القام فقال‪ :‬يا ممد‪ ،‬أل أنك عن هذا‪ ،‬وتوعده‪ ،‬فأغلظ لــه‬
‫رسـول ال صلى ال عليه وسلم وانتـهره‪ ،‬فقال‪ :‬يا ممد‪ ،‬بأي شىء تددن؟ أما وال إن لكثر هذا‬
‫الوادى ناديًا‪ .‬فأنزل ال { َفلَْي ْدعُ نَا ِديَه َسَن ْدعُ ال ّزبَانَِيةَ} [العلق‪ .]18 ،17:‬وف رواية أن النب صلى ال‬
‫عليه وسلم أخذ بناقه وهزه‪ ،‬وهو يقول له‪{:‬أَ ْولَى َلكَ َفأَ ْولَى ُثمّ أَ ْولَى َلكَ َفأَ ْولَى} [القيامة‪]35 ،34:‬‬
‫فقال عدو ال ‪ :‬أتوعدن يا ممد؟ وال ل تستطيع أنت ول ربك شيئًا‪ ،‬وإن لعز من مشى بي جبليها‪.‬‬

‫ول يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا النتهار‪ ،‬بل ازداد شقاوة فيما بعد‪ .‬أخرج مسلم عن أب‬
‫هريرة قال‪ :‬قال أبو جهل‪ :‬يعفر ممد وجهه بي أظهركم؟ فقيل‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬واللت والعزى‪ ،‬لئن رأيته‬
‫لطأن على رقبته‪ ،‬ولعفرن وجهه‪ ،‬فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يصلى‪ ،‬زعم ليطأ رقبته‪ ،‬فما‬
‫فجأهم إل وهو ينكص على عقبيه‪ ،‬ويتقى بيديه‪ ،‬فقالوا‪ :‬ما لك يا أبا الكم؟ قال‪ :‬إن بين وبينه لندقًا من‬
‫نار وهولًا وأجنحةً‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬لو دنا من لختطفته اللئكة عضوًا عضوًا)‪.‬‬

‫هذه صورة مصغرة جدًا لا كان يتلقاه رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمون من الظلم والسف‬
‫والور على أيدى طغاة الشركي‪ ،‬الذين كانوا يزعمون أنم أهل ال وسكان حرمه‪.‬‬
‫وكان من مقتضيات هذه الظروف التأزمة أن يتار رسول ال صلى ال عليه وسلم موقفًا حازمًا ينقذ به‬
‫السلمي عما دههم من البلء‪ ،‬ويفف وطأته بقدر الستطاع‪ ،‬وقد اتذ رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫خطوتي حكيمتي كان لما أثرها ف تسيي الدعوة وتقيق الدف‪ ،‬وها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ اختيار دار الرقم بن أب الرقم الخزومى مركزا للدعوة ومقرًا للتربية‪.‬‬
‫‪2‬ـ أمر السلمي بالجرة إل البشة‪.‬‬

‫دار الرقم‬
‫كانت هذه الدار ف أصل الصفا‪ ،‬بعيدة عن أعي الطغاة ومالسهم‪ ،‬فاختارها رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ليجتمع فيها بالسلمي سرًا‪ ،‬فيتلو عليهم آيات ال ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والكمة؛ وليؤدى‬
‫السلمون عبادتم وأعمالم‪ ،‬ويتلقوا ما أنزل ال على رسوله وهم ف أمن وسلم‪ ،‬وليدخل من يدخل ف‬
‫السلم ول يعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة‪.‬‬

‫وما ل يكن يشك فيه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لو اجتمع بالسلمي علنا لاول الشركون بكل‬
‫ما عندهم من القسوة والغلظة أن يولوا بينه وبي ما يريد من تزكية نفوسهم ومن تعليمهم الكتاب‬
‫والكمة‪ ،‬وربا أفضى ذلك إل مصادمة الفريقي‪ ،‬بل قد وقع ذلك فعلًا‪ .‬فقد ذكر ابن إسحاق أن‬
‫أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم كانوا يتمعون ف الشعاب‪ ،‬فيصلون فيها سرًا‪ ،‬فرآهم نفر من‬
‫كفار قريش‪ ،‬فسبوهم وقاتلوهم‪ ،‬فضرب سعد بن أب وقاص رجلًا فسال دمه‪ ،‬وكان أول دم هريق ف‬
‫السلم‪.‬‬

‫ومعلوم أن الصادمة لو تعددت وطالت لفضت إل تدمي السلمي وإبادتم‪ ،‬فكان من الكمة السريةُ‬
‫والختفاء‪ ،‬فكان عامة الصحابة ُيخْفُون إسلمهم وعبادتم واجتماعهم‪ ،‬أما رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم فكان يهر بالدعوة والعبادة بي ظهرإن الشركي‪ ،‬ل يصرفه عن ذلك شىء‪ ،‬ولكن كان يتمع مع‬
‫السلمي سرًا؛ نظرًا لصالهم وصال السلم‪.‬‬
‫الجرة الول إل البشة‬
‫كانت بداية العتداءات ف أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة‪ ،‬بدأت ضعيفة‪ ،‬ث ل تزل تشتد يومًا‬
‫فيومًا وشهرًا فشهرا‪ ،‬حت تفاقمت ف أواسط السنة الامسة‪ ،‬ونبا بم القام ف مكة‪ ،‬وأخذوا يفكرون ف‬
‫حيلة تنجيهم من هذا العذاب الليم‪ ،‬وف هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشي إل اتاذ سبيل الجرة‪،‬‬
‫وتعلن بأن أرض ال ليست بضيقة {لِ ّلذِينَ أَحْسَنُوا فِي َه ِذهِ الدّنْيَا حَسََنةٌ َوأَ ْرضُ ال ِ وَا ِس َعةٌ إِنّمَا يُوَفّى‬
‫الصّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر‪.]10:‬‬

‫صحَمَة النجاشى ملك البشة ملك عادل‪ ،‬ل يظلم‬


‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد علم أن أ ْ‬
‫عنده أحد‪ ،‬فأمر السلمي أن يهاجروا إل البشة فرارًا بدينهم من ال‪ ،‬لكن لا بلغت إل الشاطئ كانوا قد‬
‫انطلقوا آمني‪ ،‬وأقام السلمون ف البشة ف أحسن جوار‪.‬‬

‫سجود الشركي مع السلمي وعودة الهاجرين‬


‫وف رمضان من نفس السنة خرج النب صلى ال عليه وسلم إل الرم‪ ،‬وفيه جع كبي من قريش‪ ،‬فيهم‬
‫ساداتم وكباؤهم‪ ،‬فقام فيهم‪ ،‬وفاجأهم بتلوة سورة النجم‪ ،‬ول يكن أولئك الكفار سعوا كلم ال من‬
‫قبل؛ لنم كانوا مستمرين على ما تواصى به بعضهم بعضًا‪،‬من قولم‪{ :‬لَا تَسْ َمعُوا لِ َهذَا اْلقُرْآنِ وَاْلغَوْا فِيهِ‬
‫لَعَلّ ُكمْ تَغْ ِلبُونَ} [فصلت‪ ]26:‬فلما باغتهم بتلوة هذه السورة‪ ،‬وقرع آذانم كلم إلي خلب‪ ،‬وكان‬
‫أروع كلم سعوه قط‪ ،‬أخذ مشاعرهم‪ ،‬ونسوا ما كانوا فيه فما من أحد إل وهو مصغ إليه‪ ،‬ل يطر بباله‬
‫جدُوا لِ ّلهِ وَاعُْبدُوا}‬
‫شىء سواه‪ ،‬حت إذا تل ف خواتيم هذه السورة قوارع تطي لا القلوب‪ ،‬ث قرأ‪{ :‬فَا ْس ُ‬
‫[النجم‪ ]62:‬ث سجد‪ ،‬ل يتمالك أحد نفسه حت خر ساجدًا‪ .‬وف القيقة كانت روعة الق قد صدعت‬
‫العناد ف نفوس الستكبين والستهزئي‪ ،‬فما تالكوا أن يروا ل ساجدين‪.‬‬

‫و َسقَطَ ف أيديهم لا أحسوا أن جلل كلم ال لَوّى زمامهم‪ ،‬فارتكبوا عي ما كانوا يبذلون قصارى‬
‫جهدهم ف موه وإفنائه‪ ،‬وقد توال عليهم اللوم والعتاب من كل جانب‪ ،‬من ل يضر هذا الشهد من‬
‫الشركي‪ ،‬وعند ذلك كذبوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم‬
‫بكلمة تقدير‪ ،‬وأنه قال عنها ما كانوا يرددونه هم دائما من قولم‪( :‬تلك الغرانيـق العلى‪ ،‬وإن شفاعتهم‬
‫لترتى)‪ ،‬جاءوا بذا الفك البـي ليعـتذروا عـن سجودهم مع النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وليس‬
‫يستغـــرب هـذا مـن قـوم كانوا يألفون الكذب‪ ،‬ويطيلون الدس والفتراء‪.‬‬
‫وبلغ هذا الب إل مهاجري البشة‪ ،‬ولكن ف صورة تتلف تامًا عن صورته القيقية‪ ،‬بلغهم أن قريشًا‬
‫أسلمت‪ ،‬فرجعوا إل مكة ف شوال من نفس السنة‪ ،‬فلما كانوا دون مكة ساعة من نار وعرفوا جلية‬
‫المر رجع منهم من رجع إل البشة‪ ،‬ول يدخل ف مكة من سائرهم أحد إل مستخفيًا‪ ،‬أو ف جوار رجل‬
‫من قريش‪.‬‬

‫ث اشتد عليهم وعلى السلمي البلء والعذاب من قريش‪ ،‬وسطت بم عشائرهم‪ ،‬فقد كان صعب على‬
‫قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الوار‪ ،‬ول ير رسول ال صلى ال عليه وسلم بدا من أن يشي على‬
‫أصحابه بالجرة إل البشة مرة أخرى‪.‬‬

‫الجرة الثانية إل البشة‬


‫واستعد السلمون للهجرة مرة أخرى‪ ،‬وعلى نطاق أوسع‪ ،‬ولكن كانت هذه الجرة الثانية أشق من‬
‫سابقتها‪ ،‬فقد تيقظت لا قريش وقررت إحباطها‪ ،‬بيد أن السلمي كانوا أسرع‪ ،‬ويسر ال لم السفر‪،‬‬
‫فانازوا إل ناشي البشة قبل أن يدركوا‪.‬‬

‫وف هذه الرة هاجر من الرجال ثلثة وثانون رجلًا إن كان فيهم عمار‪ ،‬فإنه يشك فيه‪ ،‬وثان عشرة‬
‫أوتسع عشرة امرأة‪.‬‬

‫مكيدة قريش بهاجري البشة‬

‫عز على الشركي أن يد الهاجرون مأمنا لنفسهم ودينهم‪ ،‬فاختاروا رجلي جلدين لبيبي‪ ،‬وها‪ :‬عمرو‬
‫بن العاص‪ ،‬وعبد ال بن أب ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الدايا الستطرفة للنجاشي‬
‫ولبطارقته‪ ،‬وبعد أن ساق الرجلن تلك الدايا إل البطارقة‪ ،‬وزوداهم بالجج الت يطرد با أولئك‬
‫السلمون‪ ،‬وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيوا على النجاشي بإقصائهم‪ ،‬حضرا إل النجاشي‪ ،‬وقدما له‬
‫الديا ث كلماه فقال له‪:‬‬
‫أيها اللك‪ ،‬إنه قد ضَوَى إل بلدك غلمان سفهاء‪ ،‬فارقوا دين قومهم‪ ،‬ول يدخلوا ف دينك‪ ،‬وجاءوا بدين‬
‫ابتدعوه‪ ،‬ل نعرفه نن ول أنت‪ ،‬وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛‬
‫لتردهم إليهم‪ ،‬فهم أعلى بم عينًا‪ ،‬وأعلم با عابوا عليهم‪ ،‬وعاتبوهم فيه‪.‬‬

‫وقالت البطارقة‪ :‬صدقا أيها اللك‪ ،‬فأسلمهم إليهما‪ ،‬فليداهم إل قومهم وبلدهم‪.‬‬

‫ولكن رأي النجاشي أنه ل بد من تحيص القضية‪ ،‬وساع أطرافها جيعًا‪ .‬فأرسل إل السلمي‪ ،‬ودعاهم‪،‬‬
‫فحضروا‪ ،‬وكانوا قد أجعوا على الصدق كائنًا ما كان‪ .‬فقال لم النجاشي‪ :‬ما هذا الدين الذي فارقتم فيه‬
‫قومكم‪ ،‬ول تدخلوا به ف دين ول دين أحد من هذه اللل ؟‬

‫قال جعفر بن أب طالب ـ وكان هو التكلم عن السلمي‪ :‬أيها اللك كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الصنام‬
‫ونأكل اليتة‪ ،‬ونأتى الفواحش‪ ،‬ونقطع الرحام‪ ،‬ونسىء الوار‪ ،‬ويأكل منا القوى الضعيف‪ ،‬فكنا على‬
‫ذلك حت بعث ال إلينا رسولًا منا‪ ،‬نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه‪ ،‬فدعانا إل ال لنوحده ونعبده‪،‬‬
‫ونلع ما كنا نعبد نن وآباؤنا من دونه من الجارة والوثان‪ ،‬وأمرنا بصدق الديث‪ ،‬وأداء المانة‪،‬‬
‫وصلة الرحم‪ ،‬وحسن الوار‪ ،‬والكف عن الحارم والدماء‪ ،‬ونانا عن الفواحش‪ ،‬وقول الزور‪ ،‬وأكل مال‬
‫اليتيم‪،‬وقذف الحصنات‪،‬وأمرنا أن نعبد ال وحده‪،‬ل نشرك به شيئًا‪،‬وأمرنا بالصلة والزكاة والصيام ـ‬
‫فعدد عليه أمور السلم ـ فصدقناه‪ ،‬وآمنا به‪ ،‬واتبعناه على ما جاءنا به من دين ال ‪ ،‬فعبدنا ال وحده‪،‬‬
‫فلم نشرك به شيئًا‪ ،‬وحرمنا ما حرم علينا‪ ،‬وأحللنا ما أحل لنا‪ ،‬فعدا علينا قومنا‪ ،‬فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛‬
‫ليدونا إل عبادة الوثان من عبادة ال تعال‪ ،‬وأن نستحل ما كنا نستحل من البائث‪ ،‬فلما قهرونا‬
‫وظلمونا وضيقوا علينا‪ ،‬وحالوا بيننا وبي ديننا خرجنا إل بلدك‪ ،‬واخترناك على من سواك‪ ،‬ورغبنا ف‬
‫جوارك‪ ،‬ورجونا أل نظلم عندك أيها اللك‪.‬‬

‫فقال له النجاشي‪ :‬هل معك ما جاء به عن ال من شيء؟ فقال له جعفر‪ :‬نعم‪ .‬فقال له النجاشي‪ :‬فاقرأه‬
‫على‪ ،‬فقرأ عليه صدرًا من‪{ :‬كهيعص} فبكى وال النجاشي حت اخضلت ليته‪ ،‬وبكت أساقفته حت‬
‫أخْضَلُوا مصاحفهم حي سعوا ما تل عليهم‪ ،‬ث قال لم النجاشي‪ :‬إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج‬
‫من مشكاة واحدة‪ ،‬انطلقا‪ ،‬فل وال ل أسلمهم إليكما‪ ،‬ول يكادون ـ ياطب عمرو بن العاص وصاحبه‬
‫ـ فخرجا‪ ،‬فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد ال بن أب ربيعة‪ :‬وال لتينه غدًا عنهم با أستأصل به‬
‫خضراءهم‪ .‬فقال له عبد ال بن أب ربيعة‪ :‬ل تفعل‪ ،‬فإن لم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا‪ ،‬ولكن أصر‬
‫عمرو على رأيه‪.‬‬

‫فلما كان الغد قال للنجاشي‪ :‬أيها اللك‪ ،‬إنم يقولون ف عيسى ابن مري قولًا عظيمًا‪ ،‬فأرسل إليهم‬
‫النجاشي يسألم عن قولم ف السيح ففزعوا‪ ،‬ولكن أجعوا على الصدق‪ ،‬كائنًا ما كان‪ ،‬فلما دخلوا عليه‬
‫وسألم‪ ،‬قال له جعفر‪ :‬نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى ال عليه وسلم‪ :‬هو عبد ال ورسوله وروحه‬
‫وكلمته ألقاها إل مري العذراء البَتُول‪.‬‬

‫فأخذ النجاشي عودًا من الرض ث قال‪ :‬وال ما عدا عيسى ابن مري ما قلت هذا العود‪ ،‬فتناخرت‬
‫بطارقته‪ ،‬فقال‪ :‬وإن َنخَ ْرتُم وال ‪.‬‬

‫ث قال للمسلمي‪ :‬اذهبوا فأنتم شُيُو ٌم بأرضي ـ والشيوم‪ :‬المنون بلسان البشة ـ من سَبّكم غَرِم‪ ،‬من‬
‫سبكم غرم‪ ،‬من سبكم غرم‪ ،‬ما أحب أن ل َدبْرًا من ذهب وإن آذيت رجلًا منكم ـ والدبر‪ :‬البل‬
‫بلسان البشة‪.‬‬

‫ث قال لاشيته‪ :‬ردّوا عليهما هداياها فل حاجة ل با‪ ،‬فوال ما أخذ ال منـي الرشـوة حي رد علي‬
‫ملكي‪ ،‬فآخذ الرشـوة فيــه‪ ،‬وما أطاع الناس ف فأطيعـهم فيه‪.‬‬

‫قالت أم سلمة الت تروى هذه القصة‪ :‬فخرجا من عنده مقبوحي مردودًا عليهما ما جاءا به‪ ،‬وأقمنا عنده‬
‫بي دار مع خي جار‪.‬‬

‫هذه رواية ابن إسحاق‪ ،‬وذكر غيه أن وفادة عمرو بن العاص إل النجاشي كانت بعد بدر‪ ،‬وجع بعضهم‬
‫بأن الوفادة كانت مرتي‪ .‬ولكن السئلة والجوبة الت ذكروا أنا دارت بي النجاشي وبي جعفر بن أب‬
‫طالب ف الوفادة الثانية هي نفس السئلة والجوبة الت ذكرها ابن إسحاق هنا‪ ،‬ث إن تلك السئلة تدل‬
‫بفحواها أنا كانت ف أول مرافعة قدمت إل النجاشي‪.‬‬
‫الشدة ف التعذيب وماولة القضاء على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫ولا أخفق الشركون ف مكيدتم‪ ،‬وفشلوا ف استرداد الهاجرين استشاطوا غضبًا‪ ،‬وكادوا يتميزون غيظًا‪،‬‬
‫فاشتدت ضراوتم وانقضوا على بقية السلمي‪ ،‬ومدوا أيديهم إل رسول ال صلى ال عليه وسلم بالسوء‪،‬‬
‫وظهرت منهم تصرفات تدل على أنم أرادوا القضاء على رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ ليستأصلوا‬
‫جذور الفتنة الت أقضت مضاجعهم‪ ،‬حسب زعمهم‪.‬‬

‫أما بالنسبة للمسلمي فإن الباقي منهم ف مكة كانوا قليلي جدًا‪ ،‬وكانوا إما ذوى شرف ومنعة‪ ،‬أو متمي‬
‫بوار أحد‪ ،‬ومع ذلك كانوا يفون إسلمهم ويبتعدون عن أعي الطغاة بقدر المكان‪ ،‬ولكنهم مع هذه‬
‫اليطة والذر ل يسلموا كل السلمة من الذى والسف والور‪.‬‬

‫وأما رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد كان يصلى ويعبد ال أمام أعي الطغاة‪ ،‬ويدعو إل ال سرًا‬
‫وجهرًا ل ينعه عن ذلك مانع‪ ،‬ول يصرفه عنه شيء؛ إذ كان ذلك من جلة تبليغ رسالة ال منذ أمره ال‬
‫ص َدعْ بِمَا تُ ْؤمَرُ َوأَعْ ِرضْ َع ِن الْمُشْ ِركِيَ} [الجر‪ ،]94:‬وبذلك كان يكن‬
‫سبحانه وتعال بقوله‪{ :‬فَا ْ‬
‫للمشركي أن يتعرضوا له إذا أرادوا‪ ،‬ول يكن ف الظاهر ما يول بينهم وبي ما يريدون إل ما كان له‬
‫صلى ال عليه وسلم من الشمة والوقار‪ ،‬وما كان لب طالب من الذمة والحترام‪ ،‬وما كانوا يافونه من‬
‫مغبة سوء تصرفاتم‪ ،‬ومن اجتماع بن هاشم عليهم‪ ،‬إل أن كل ذلك ل يعد له أثره الطلوب ف نفوسهم؛‬
‫إذ بدءوا يستخفون به منذ شعروا بانيار كيانم الوثن وزعامتهم الدينية أمام دعوته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وما روت لنا كتب السنة والسية من الحداث الت تشهد القرائن بأنا وقعت ف هذه الفترة‪ :‬أن عتيبة بن‬
‫جمِ إِذَا هَوَى} [النجم‪]1:‬‬
‫أب لب أتى يومًا رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬أنا أكفر بـ {وَالّن ْ‬
‫وبالذي {ُثمّ َدنَا فََت َدلّى} [النجم‪ ]8:‬ث تسلط عليه بالذى‪ ،‬وشق قميصه‪ ،‬وتفل ف وجهه صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬إل أن البزاق ل يقع عليه‪ ،‬وحينئذ دعا عليه النب صلى ال عليه وسلم وقال‪( :‬ال م سلط عليه‬
‫كلبًا من كلبك)‪ ،‬وقد استجيب دعاؤه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد خرج عتيبة إثر ذلك ف نفر من قريش‪،‬‬
‫فلما نزلوا بالزرقاء من الشام طاف بم السد تلك الليلة‪ ،‬فجعل عتيبة يقول‪ :‬يا ويل أخي هو وال آكلى‬
‫كما دعا ممد علىّ‪ ،‬قتلن وهو بكة‪ ،‬وأنا بالشام‪ ،‬ث جعلوه بينهم‪ ،‬وناموا من حوله‪ ،‬ولكن جاء السد‬
‫وتطاهم إليه‪ ،‬فضغم رأسه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما ذكر أن عقبة بن أب ُمعَيْط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حت كادت عيناه تبزان‪.‬‬

‫وما يدل على أن طغاتم كانوا يريدون قتله صلى ال عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق عن عبد ال ابن‬
‫عمرو بن العاص قال‪ :‬حضرتم وقد اجتمعوا ف الجر‪ ،‬فذكروا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫ما رأينا مثل ما صبنا عليه من أمر هذا الرجل‪ ،‬لقد صبنا منه على أمر عظيم‪ ،‬فبينا هم كذلك إذ طلع‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأقبل يشى حت استلم الركن‪ ،‬ث مر بم طائفًا بالبيت فغمزوه ببعض‬
‫القول‪ ،‬فعرفت ذلك ف وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما مر بم الثانية غمزوه بثلها‪ ،‬فعرفت‬
‫ذلك ف وجهه‪ ،‬ث مر بم الثالثة فغمزوه بثلها‪ .‬فوقف ث قال‪( :‬أتسمعون يا معشر قريش‪ ،‬أما والذي‬
‫نفسى بيده‪ ،‬لقد جئتكم بالذبح)‪ ،‬فأخذت القوم كلمته‪ ،‬حت ما منهم رجل إل كأنا على رأسه طائر واقع‪،‬‬
‫حت إن أشدهم فيه ليفؤه بأحسن ما يد‪ ،‬ويقول‪ :‬انصرف يا أبا القاسم‪ ،‬فو ال ما كنت جهولًا‪.‬‬

‫فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم‪ ،‬فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به‪،‬‬
‫فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بجمع ردائه‪ ،‬وقام أبو بكر دونه‪ ،‬وهو يبكى ويقول‪ :‬أتقتلون رجلًا أن يقول‬
‫رب ال ؟ ث انصرفوا عنه‪ ،‬قال ابن عمرو‪ :‬فإن ذلك لشد ما رأيت قريشًا نالوا منه قط‪ .‬انتهي ملخصًا‪.‬‬

‫وف رواية البخاري عن عروة بن الزبي قال‪ :‬سألت ابن عمرو بن العاص‪ :‬أخبن بأشد شيء صنعه‬
‫الشركون بالنب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬بينا النب صلى ال عليه وسلم يصلي ف حجر الكعبة إذ أقبل‬
‫عقبة بن أب معيط‪ ،‬فوضع ثوبه ف عنقه‪ ،‬فخنقه خنقًا شديدًا؛ فأقبل أبو بكر حت أخذ بنكبيه‪ ،‬ودفعه عن‬
‫النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال‪ :‬أتقتلون رجلًا أن يقول رب ال ؟‪.‬‬

‫وف حديث أساء‪ :‬فأتى الصريخ إل أب بكر فقال‪ :‬أدرك صاحبك‪ ،‬فخرج من عندنا وعليه غدائر أربـع‪،‬‬
‫فـخرج وهــو يـقول‪ :‬أتقتلون رجلًا أن يقول رب ال ؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أب بكر‪ ،‬فرجع إلينا‬
‫ل نس شيئًا من غدائره إل رجع معنــا‪.‬‬
‫دخول كبار الصحابة ف السلم‬

‫إسلم حزة رضي ال عنه‬

‫خلل هذا الو اللبد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق‪ ،‬وهو إسلم حزة بن عبد الطلب‬
‫رضي ال عنه أسلم ف أواخر السنة السادسة من النبوة‪ ،‬والغلب أنه أسلم ف شهر ذى الجة‪.‬‬

‫وسبب إسلمه‪ :‬أن أبا جهل مر برسول ال صلى ال عليه وسلم يومًا عند الصفا فآذاه ونال منه‪ ،‬ورسول‬
‫جهُ حت نزف منه الدم‪ ،‬ث‬
‫شّ‬‫ال صلى ال عليه وسلم ساكت ل يكلمه‪ ،‬ث ضربه أبو جهل بجر ف رأسه فَ َ‬
‫انصرف عنه إل نادى قريش عند الكعبة‪ ،‬فجلس معهم‪ ،‬وكانت مولة لعبد ال بن ُجدْعَان ف مسكن لا‬
‫على الصفا ترى ذلك‪ ،‬وأقبل حزة من القَنَص مُتَ َو ّشحًا قوسه‪ ،‬فأخبته الولة با رأت من أب جهل‪،‬‬
‫فغضب حزة ـ وكان أعز فت ف قريش وأشده شكيمة ـ فخرج يسعى‪ ،‬ل يقف لحد؛ معدًا لب جهل‬
‫صفّرَ اسْتَه‪ ،‬تشتم ابن أخي وأنا على‬
‫إذا لقيه أن يوقع به‪ ،‬فلما دخل السجد قام على رأسه‪ ،‬وقال له‪ :‬يا مُ َ‬
‫دينه ؟ ث ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة‪ ،‬فثار رجال من بن مزوم ـ حى أب جهل ـ وثار بنو هاشم‬
‫ـ حي حزة ـ فقال أبو جهل‪ :‬دعوا أبا عمارة‪ ،‬فإن سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا‪.‬‬

‫وكان إسلم حزة أول المر أنفة رجل‪ ،‬أب أن يهان موله‪ ،‬ث شرح ال صدره فاستمسك بالعروة الوثقى‪،‬‬
‫واعتز به السلمون أيا اعتزاز‪.‬‬

‫إسلم عمر بن الطاب رضي ال عنه‬

‫وخلل هذا الو اللبد بغيوم الظلم والعدوان أضاء برق آخر أشد بريقًا وإضاءة من الول‪ ،‬أل وهو إسلم‬
‫عمر بن الطاب‪ ،‬أسلم ف ذى الجـة سـنة سـت مـن النبـوة‪ .‬بعد ثلثة أيام من إسلم حزة رضي‬
‫ال عنه وكان النب صلى ال عليه وسلم قد دعا ال تعال لسلمه‪ .‬فقد أخرج الترمذى عن ابن عمر‪،‬‬
‫وصححه‪ ،‬وأخرج الطبان عن ابن مسعود وأنس أن النب صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬ال م أعز السلم‬
‫بأحب الرجلي إليك‪ :‬بعمر بن الطاب أو بأب جهل بن هشام) فكان أحبهما إل ال عمر رضي ال عنه‪.‬‬

‫وبعد إدارة النظر ف جيع الروايات الت رويت ف إسلمه يبدو أن نزول السلم ف قلبه كان تدرييًا‪،‬‬
‫ولكن قبل أن نسوق خلصتها نرى أن نشي إل ما كان يتمتع به رضي ال عنه من العواطف والشاعر‪.‬‬

‫كان رضي ال عنه معروفًا بدة الطبع وقوة الشكيمة‪ ،‬وطالا لقى السلمون منه ألوان الذى‪ ،‬والظاهر أنه‬
‫كانت تصطرع ف نفسه مشاعر متناقضة؛ احترامه للتقاليد الت سنها الباء والجداد وتمسه لا‪ ،‬ث‬
‫إعجابه بصلبة السلمي‪ ،‬وباحتمالم البلء ف سبيل العقيدة‪ ،‬ث الشكوك الت كانت تساوره ـ كأي‬
‫عاقل ـ ف أن ما يدعو إليه السلم قد يكون أجل وأزكى من غيه‪ ،‬ولذا ما إن يَثُور حت َيخُور‪.‬‬

‫وخلصة الروايات ـ مع المع بينها ـ ف إسلمه رضي ال عنه‪ :‬أنه التجأ ليلة إل البيت خارج بيته‪،‬‬
‫فجاء إل الرم‪ ،‬ودخل ف ستر الكعبة‪ ،‬والنب صلى ال عليه وسلم قائم يصلي‪ ،‬وقد استفتح سورة {‬
‫اْلحَاقّةُ}‪،‬فجعل عمر يستمع إل القرآن‪ ،‬ويعجب من تأليفه‪ ،‬قال‪ :‬فقلت ـ أي ف نفسي‪ :‬هذا وال شاعر‪،‬‬
‫كما قالت قريش‪ ،‬قال‪ :‬فقرأ {ِإنّهُ َلقَوْلُ رَسُولٍ كَ ِريٍ َومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُ ْؤمِنُونَ} [الاقة‪،40:‬‬
‫‪ ]41‬قال‪ :‬قلت‪ :‬كاهن‪ .‬قال‪َ {:‬ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا َتذَكّرُونَ تَنِيلٌ مّن ّربّ اْلعَالَمِيَ} إل آخر‬
‫السورة [الاقة‪ . ]43 ،42:‬قال‪ :‬فوقع السلم ف قلب‪.‬‬

‫كان هذا أول وقوع نواة السلم ف قلبه‪ ،‬لكن كانت قشرة النعات الاهلية‪ ،‬وعصبية التقليد‪ ،‬والتعاظم‬
‫بدين الباء هي غالبـة على مخ القيقة الت كان يتهمس با قلبه‪ ،‬فبقى مدًا ف عمله ضد السلم غي‬
‫مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة‪.‬‬

‫وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول ال صلى ال عليه وسلم أنه خرج يومًا متوشحًا سيفه يريد‬
‫القضاء على النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلقيه نعيم بن عبد ال النحام العدوي‪ ،‬أو رجل من بن زهرة‪ ،‬أو‬
‫رجل من بن مزوم فقال‪ :‬أين تعمد يا عمر؟ قال‪ :‬أريد أن أقتل ممدًا‪ .‬قال‪ :‬كيف تأمن من بن هاشم ومن‬
‫بن زهرة وقد قتلت ممدًا؟ فقال له عمر‪ :‬ما أراك إل قد صبوت‪ ،‬وتركت دينك الذي كنت عليه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أفل أدلك على العجب يا عمر! إن أختك وخَتََنكَ قد صبوا‪ ،‬وتركا دينك الذي أنت عليه‪ ،‬فمشى عمر‬
‫دامرًا حت أتاها‪ ،‬وعندها خباب بن الرت‪ ،‬معه صحيفة فيها‪[ :‬طه] يقرئهما إياها ـ وكان يتلف إليهما‬
‫ويقرئهما القرآن ـ فلما سع خباب حس عمر توارى ف البيت‪ ،‬وسترت فاطمة ـ أخت عمر ـ‬
‫الصحيفة‪ .‬وكان قد سع عمر حي دنا من البيت قراءة خباب إليهما‪ ،‬فلما دخل عليهما قال‪ :‬ما هذه‬
‫الينمة الت سعتها عندكم؟ فقال‪ :‬ما عدا حديثًا تدثناه بيننا‪ .‬قال‪ :‬فلعلكما قد صبوتا‪ .‬فقال له ختنه‪ :‬يا‬
‫عمر‪ ،‬أرأيت إن كان الق ف غي دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدًا‪ .‬فجاءت أخته فرفعته‬
‫عن زوجها‪ ،‬فنفحها نفحة بيده‪ ،‬فدمى وجهها ـ وف رواية ابن إسحاق أنه ضربا فشجها ـ فقالت‪ ،‬وهي‬
‫غضب‪ :‬يا عمر‪ ،‬إن كان الق ف غي دينك‪ ،‬أشهد أن ل إله إل ال ‪ ،‬وأشهد أن ممدًا رسول ال ‪.‬‬

‫فلما يئس عمر‪ ،‬ورأي ما بأخته من الدم ندم واستحيا‪ ،‬وقال‪ :‬أعطون هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه‪،‬‬
‫فقالت أخته‪ :‬إنك رجس‪ ،‬ول يسه إل الطهرون‪ ،‬فقم فاغتسل‪ ،‬فقام فاغتسل‪ ،‬ث أخذ الكتاب‪ ،‬فقرأ‪{ :‬‬
‫بسم ال الرحن الرحيم} فقال‪ :‬أساء طيبة طاهرة‪ .‬ث قرأ [طه] حت انتهي إل قوله‪ِ{ :‬إنّنِي َأنَا ال ُ لَا ِإَلهَ إِلّا‬
‫أَنَا فَاعُْب ْدنِي َوأَقِمِ الصّلَاةَ ِل ِذكْرِي} [طه‪ ]14:‬فقال‪ :‬ما أحسن هذا الكلم وأكرمه؟ دلون على ممد‪.‬‬

‫فلما سع خباب قول عمر خرج من البيت‪ ،‬فقال‪ :‬أبشر يا عمر‪ ،‬فإن أرجو أن تكون دعوة الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم لك ليلة الميس‪( :‬ال م أعز السلم بعمر بن الطاب أو بأب جهل بن هشام)‪ ،‬ورسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ف الدار الت ف أصل الصفا‪.‬‬

‫فأخذ عمر سيفه‪ ،‬فتوشحه‪ ،‬ث انطلق حت أتى الدار‪ ،‬فضرب الباب‪ ،‬فقام رجل ينظر من خلل الباب‪ ،‬فرآه‬
‫متوشحًا السيف‪ ،‬فأخب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬واستجمع القوم‪ ،‬فقال لم حزة‪ :‬ما لكم ؟ قالوا‪:‬‬
‫عمر؟ فقال‪ :‬وعمر؟ افتحوا له الباب‪ ،‬فإن كان جاء يريد خيًا بذلناه له‪ ،‬وإن كان جاء يريد شرًا قتلناه‬
‫بسيفه‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم داخل يوحى إليه‪ ،‬فخرج إل عمر حت لقيه ف الجرة‪ ،‬فأخذ‬
‫بجامع ثوبه وحائل السيف‪ ،‬ث جبذه جبذة شديدة فقال‪( :‬أما أنت منتهيًا يا عمر حت ينل ال بك من‬
‫الزى والنكال ما نزل بالوليد بن الغية؟ ال م‪ ،‬هذا عمر بن الطاب‪ ،‬ال م أعز السلم بعمر بن‬
‫الطاب)‪ ،‬فقال عمر‪ :‬أشهد أن ل إله إل ال ‪ ،‬وأنك رسول ال ‪ .‬وأسلم‪ ،‬فكب أهل الدار تكبية سعها‬
‫أهل السجد‪.‬‬

‫كان عمر رضي ال عنه ذا شكيمة ل يرام‪ ،‬وقد أثار إسلمه ضجة بي الشركي‪ ،‬وشعورا لم بالذلة‬
‫والوان‪ ،‬وكسا السلمي عزة وشرفًا وسرورًا‪.‬‬

‫روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال‪ :‬لا أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم عداوة‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬أبو جهل‪ ،‬فأتيت حت ضربت عليه بابه‪ ،‬فخرج إلّ‪ ،‬وقال‪ :‬أهلًا وسهلًا‪ ،‬ما جاء‬
‫بك؟ قال‪ :‬جئت لخبك إن قد آمنت بال وبرسوله ممد‪ ،‬وصدقت با جاء به‪ .‬قال‪ :‬فضرب الباب ف‬
‫وجهي‪ ،‬وقال‪ :‬قبحك ال ‪ ،‬وقبح ما جئت به‪.‬‬

‫وذكر ابن الوزي أن عمر رضي ال عنه قال‪ :‬كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال‪ ،‬فيضربونه ويضربم‪،‬‬
‫فجئت ـ أي حي أسلمت ـ إل خال ـ وهو العاصى بن هاشم ـ فأعلمته فدخل البيت‪ ،‬قال‪ :‬وذهبت‬
‫إل رجل من كباء قريش ـ لعله أبو جهل ـ فأعلمته فدخل البيت‪.‬‬

‫وف رواية لبن إسحاق‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر قال‪ :‬لا أسلم عمر بن الطاب ل تعلم قريش بإسلمه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أي أهل مكة أنشأ للحديث؟ فقالوا‪ :‬جيل بن معمر المحى‪ .‬فخرج إليه وأنا معه‪ ،‬أعقل ما أرى‬
‫وأسع‪ ،‬فأتاه‪ ،‬فقال‪ :‬ياجيل‪ ،‬إن قد أسلمت‪ ،‬قال‪ :‬فو ال ما رد عليه كلمة حت قام عامدًا إل السجد‬
‫فنادى [بأعلى صوته] أن‪ :‬يا قريش‪ ،‬إن ابن الطاب قد صبأ‪ .‬فقال عمر ـ وهو خلفه‪ :‬كذب‪ ،‬ولكن قد‬
‫أسلمت [وآمنت بال وصدقت رسوله]‪ ،‬فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حت قامت الشمس على‬
‫رءوسهم‪ ،‬وطَلَح ـ أي أعيا ـ عمر‪ ،‬فقعد‪ ،‬وقاموا على رأسه‪ ،‬وهو يقول‪ :‬افعلوا ما بدا لكم‪ ،‬فأحلف‬
‫بال أن لو كنا ثلثائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا‪.‬‬

‫وبعد ذلك زحف الشركون إل بيته يريدون قتله‪.‬روى البخاري عن عبد ال بن عمر قال‪:‬بينما هو ـ أي‬
‫عمر ـ ف الدار خائفًا إذ جاءه العاص بن وائل السهمى أبو عمرو‪،‬وعليه حلة حبة وقميص مكفوف‬
‫برير ـ وهو من بن سهم‪ ،‬وهم حلفاؤنا ف الاهلية ـ فقال له‪ :‬ما لك؟ قال‪ :‬زعم قومك أنم سيقتلون‬
‫إن أسلمت‪ ،‬قال‪ :‬ل سبيل إليك ـ بعد أن قالا أمنت ـ فخرج العاص‪ ،‬فلقى الناس قد سال بم الوادي‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أين تريدون؟ فقالوا‪ :‬هذا ابن الطاب الذي قد صبأ‪ ،‬قال‪ :‬ل سبيل إليه‪ ،‬فَ َك ّر الناس‪ .‬وف لفظ ف‬
‫شطَ عنه‪.‬‬
‫رواية ابن إسحاق‪ :‬وال ‪ ،‬لكأنا كانوا ثوبًا كُ ِ‬

‫هذا بالنسبة إل الشركي‪ ،‬أما بالنسبة إل السلمي فروى ماهد عن ابن عباس قال‪ :‬سألت عمر بن‬
‫الطاب‪ :‬لي شيء سيت الفاروق؟ قال‪ :‬أسلم حزة قبلى بثلثة أيام ـ ث قص عليه قصة إسلمه‪ .‬وقال‬
‫ف آخره‪ :‬قلت ـ أي حي أسلمت‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ألسنا على الق إن متنا وإن حيينا؟ قال‪( :‬بلى‪ ،‬والذي‬
‫نفسي بيده‪ ،‬إنكم على الق وإن متم وإن حييتم)‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬ففيم الختفاء؟ والذي بعثك بالق‬
‫لنخرجن‪ ،‬فأخرجناه ف صفي‪ ،‬حزة ف أحدها‪ ،‬وأنا ف الخر‪ ،‬له كديد ككديد الطحي‪ ،‬حت دخلنا‬
‫السجد‪ ،‬قال‪ :‬فنظرت إلّ قريش وإل حزة‪ ،‬فأصابتهم كآبة ل يصبهم مثلها‪ ،‬فسمان رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم (الفاروق) يومئذ‪.‬‬

‫وكان ابن مسعود رضي ال عنه يقول‪ :‬ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حت أسلم عمر‪.‬‬

‫وعن صهيب بن سنان الرومى رضي ال عنه قال‪ :‬لا أسلم عمر ظهر السلم‪ ،‬ودعى إليه علنية‪ ،‬وجلسنا‬
‫حول البيت حلقًا‪ ،‬وطفنا بالبيت‪ ،‬وانتصفنا من غلظ علينا‪ ،‬ورددنا عليه بعض ما يأتى به‪.‬‬

‫وعن عبد ال بن مسعود قال‪ :‬ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر‪.‬‬

‫مثل قريش بي يدي الرسول صلى ال عليه وسلم‬

‫وبعد إسلم هذين البطلي الليلي ـ حزة بن عبد الطلب وعمـر بن الطاب رضي ال عنهما أخذت‬
‫السحائب تتقشع‪ ،‬وأفاق الشركون عن سكرهم ف تنكيلهم بالسلمي‪ ،‬وغيوا تفكيهم ف معاملتهم مع‬
‫النب صلى ال عليه وسلم والؤمني‪ ،‬واختاروا أسلوب الساومات وتقدي الرغائب والغريات‪ ،‬ول يدر‬
‫هؤلء الساكي أن كل ما تطلع عليه الشمس ل يساوي جناح بعوضة أمام دين ال والدعوة إليه‪ ،‬فخابوا‬
‫وفشلوا فيما أرادوا‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬حدثن يزيد بن زياد عن ممد بن كعب القرظى قال‪ :‬حدثت أن عتبة بن ربيعة‪ ،‬وكان‬
‫سيدًا‪ ،‬قال يومًا ـ وهو ف نادى قريش‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم جالس ف السجد وحده‪ :‬يا‬
‫معشر قريش‪ ،‬أل أقوم إل ممد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها‪ ،‬فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟‬
‫وذلك حي أسلم حزة رضي ال عنه ورأوا أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يكثرون ويزيدون‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬بلى‪ ،‬يا أبا الوليد‪ ،‬قم إليه‪ ،‬فكلمه‪ ،‬فقام إليه عتبة‪،‬حت جلس إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫سطَةِ ف العشية‪ ،‬والكان ف النسب‪ ،‬وإنك قد أتيت‬
‫فقال‪ :‬يابن أخي‪ ،‬إنك منا حيث قد علمت من ال ّ‬
‫قومك بأمر عظيم‪ ،‬فرقت به جاعتهم‪ ،‬وسفهت به أحلمهم‪ ،‬وعبت به آلتهم ودينهم‪ ،‬وكفرت به من‬
‫مضى من آبائهم‪ ،‬فاسع من أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها‪ .‬قال‪ :‬فقال رسول‬
‫صلى ال عليه وسلم‪( :‬قل يا أبا الوليد أسع)‪.‬‬

‫قال‪ :‬يابن أخي‪ ،‬إن كنت إنا تريد با جئت به من هذا المر مالًا جعنا لك من أموالنا حت تكون أكثرنا‬
‫مالًا‪ ،‬وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حت ل نقطع أمرًا دونك‪ ،‬وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك‬
‫علينا‪ ،‬وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه ل تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب‪ ،‬وبذلنا فيه أموالنا‬
‫حت نبئك منه‪ ،‬فإنه ربا غلب التابع على الرجل حت يداوى منه ـ أو كما قال له ـ حت إذا فرغ عتبة‬
‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم يستمع منه قال‪( :‬أقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪( :‬فاسع من)‪،‬‬
‫قال‪:‬أفعل‪ ،‬فقال‪ { :‬بسم ال الرحن الرحيم حم تَنِيلٌ مّنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ ُفصّ َلتْ آيَاُتهُ قُرْآنًا َع َربِيّا‬
‫لّقَ ْومٍ َيعْلَمُونَ بَشِيًا َونَذِيرًا َفأَعْ َرضَ َأكْثَرُ ُهمْ َف ُهمْ لَا يَسْ َمعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي َأكِّنةٍ مّمّا َتدْعُونَا ِإلَيْهِ} [‬
‫فصلت‪ .]5 :1:‬ث مضى رسول ال فيها‪ ،‬يقرؤها عليه‪ .‬فلما سعها منه عتبة أنصت له‪ ،‬وألقى يديه خلف‬
‫ظهره معتمدًا عليهما‪ ،‬يسمع منه‪ ،‬ث انتهي رسول ال صلى ال عليه وسلم إل السجدة منها فسجد ث‬
‫قال‪( :‬قد سعت يا أبا الوليد ما سعت‪ ،‬فأنت وذاك)‪.‬‬

‫فقام عتبة إل أصحابه‪ ،‬فقال بعضهم لبعض‪ :‬نلف بال لقد جاءكم أبو الوليد بغي الوجه الذي ذهب به‪.‬‬
‫فلما جلس إليهم قالوا‪ :‬ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال‪ :‬ورائي أن سعت قولًا وال ما سعت مثله قط‪ ،‬وال ما‬
‫هو بالشعر ول بالسحر‪ ،‬ول بالكهانة‪ ،‬يا معشر قريش‪ ،‬أطيعون واجعلوها ب‪ ،‬وخلوا بي هذا الرجل وبي‬
‫ما هو فيه فاعتزلوه‪ ،‬فوال ليكونن لقوله الذي سعت منه نبأ عظيم‪ ،‬فإن تصبه العرب فقد كفيتموه‬
‫بغيكم‪ ،‬وإن يظهر على العرب فملكه ملككم‪ ،‬وعزه عزكم‪ ،‬وكنتم أسعد الناس به‪ ،‬قالوا‪ :‬سحرك وال يا‬
‫أبا الوليد بلسانه‪ ،‬قال‪ :‬هذا رأيي فيه‪ ،‬فاصنعوا ما بدا لكم‪.‬‬

‫وف روايات أخرى‪ :‬أن عتبة استمع حت إذا بلغ الرسول صلى ال عليه وسلم قوله تعال‪َ { :‬فِإنْ أَعْرَضُوا‬
‫َفقُلْ أَنذَ ْرتُ ُكمْ صَا ِع َقةً مّثْلَ صَا ِع َقةِ عَادٍ َوثَمُودَ} [فصلت‪ ]13:‬قال‪ :‬حسبك‪ ،‬حسبك‪ ،‬ووضع يده على‬
‫فم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وناشده بالرحم أن يكف‪ ،‬وذلك مافة أن يقع النذير‪ ،‬ث قام إل القوم‬
‫فقال ما قال‪.‬‬
‫رؤساء قريش يفاوضون رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫عزم أب جهل على قتل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫مساومات وتنازلت‬
‫حية قريش وتفكيهم الاد واتصالم باليهود‬
‫موقف أب طالب وعشيته‬

‫رؤساء قريش يفاوضون رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫وكأن رجاء قريش ل ينقطع با أجاب به النب صلى ال عليه وسلم عتبة على اقتراحاته؛ لنه ل يكن صريًا‬
‫ف الرفض أو القبول‪ ،‬بل تل عليه النب صلى ال عليه وسلم آيات ل يفهمها عتبة‪ ،‬ورجع من حيث جاء‪،‬‬
‫فتشاور رؤساء قريش فيما بينهم وفكروا ف كل جوانب القضية‪ ،‬ودرسوا كل الواقف بروية وتريث‪ ،‬ث‬
‫اجتمعوا يومًا عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس‪ ،‬وأرسلوا إل النب صلى ال عليه وسلم يدعونه‪ ،‬فجاء‬
‫مسرعًا يرجو خيًا‪ ،‬فلما جلس إليهم قالوا له مثل ما قال عتبة‪ ،‬وعرضوا عليه نفس الطالب الت عرضها‬
‫عتبة‪ .‬وكأنم ظنوا أنه ل يثق بدية هذا العرض حي عرض عتبة وحده‪ ،‬فإذا عرضوا هم أجعون يثق‬
‫ويقبل‪ ،‬ولكن قال لم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬ما ب ما َتقُولُون‪ ،‬ما جِ ْئتُكُم با جِ ْئتُكُم بِه أَطْلُب‬
‫أَمْوَالكُم ول الشّرف فيكم‪ ،‬ول الُ ْلكَ عليكم‪ ،‬ولكنّ ال َبعَثَنِى إلَيْكُم رَسُولًا‪ ،‬وَ َأنْزَلَ علىّ كِتابًا‪ ،‬وَأمَ َرنِى‬
‫صحْتُ لَ ُكمْ‪ ،‬فِإنْ َتقْبَلُوا مِنّى ما جِ ْئتُكُم بِه فَهُوَ‬
‫أنْ َأكُونَ لَكُم بَشِيًا َوَنذِيرًا‪ ،‬فََب ّلغْتُكُم رِسَالتِ رب‪َ ،‬ونَ َ‬
‫َحظّكُم ف الدُنيا والخرة‪ ،‬وإنْ تَرُدّوا علىّ أَصْبِر لمْرِ ال ِ حتّى َيحْكُم ال ُ بَيْنِى وَ بَيْـَنكُم)‪ .‬أو كما‬
‫قال‪.‬‬

‫فانتقلوا إل نقطة أخرى‪ ،‬وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يسي عنهم البال‪ ،‬ويبسط لم البلد‪ ،‬ويفجر فيها‬
‫النار‪ ،‬ويي لم الوتى ـ ول سيما قصى بن كلب ـ فإن صدقوه يؤمنون به‪ .‬فأجاب بنفس ما سبق من‬
‫الواب‪.‬‬

‫فانتقلوا إل نقطة ثالثة‪ ،‬وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يبعث له ملكًا يصدقه‪ ،‬ويراجعونه فيه‪ ،‬وأن يعل له‬
‫جنات وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة‪ ،‬فأجابم بنفس الواب‪.‬‬
‫فانتقلوا إل نقطة رابعة‪ ،‬وطلبوا منه العذاب‪ :‬أن يسقط عليهم السماء كسفًا‪ ،‬كما يقول ويتوعد‪ ،‬فقال‪( :‬‬
‫ذلك إل ال ‪ ،‬إن شاء فعل)‪ .‬فقالوا‪ :‬أما علم ربك أنا سنجلس معك‪ ،‬ونسألك ونطلب منك‪ ،‬حت يعلمك‬
‫ما تراجعنا به‪ ،‬وما هو صانع بنا إذا ل نقبل‪.‬‬

‫وأخيًا هددوه أشد التهديد‪ ،‬وقالوا‪:‬أما وال ل نتركك وما فعلت بنا حت نلكك أو تلكنا‪ ،‬فقام رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم عنهم‪ ،‬وانصرف إل أهله حزينًا أسفا لا فاته ما طمع من قومه‪.‬‬

‫عزم أب جهل على قتل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫ولا انصرف رسول ال صلى ال عليه وسلم عنهم خاطبهم أبو جهل ف كبيائه وقال‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إن‬
‫ممدًا قد أب إل ما ترون من عيب ديننا‪ ،‬وشتم آبائنا‪ ،‬وتسفيه أحلمنا‪ ،‬وشتم آلتنا‪ ،‬وأن أعاهد ال‬
‫لجلسن له بجر ما أطيق حله‪ ،‬فإذا سجد ف صلته فضخت به رأسه‪ ،‬فأسلمون عند ذلك أو امنعون‪،‬‬
‫فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لم‪ ،‬قالوا‪ :‬وال ل نسلمك لشيء أبدًا‪ ،‬فامض لا تريد‪.‬‬

‫فلما أصبح أبو جهل‪ ،‬أخذ حجرًا كما وصف‪ ،‬ث جلس لرسول ال صلى ال عليه وسلم ينتظره‪ ،‬وغدا‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم كما كان يغدو‪ ،‬فقام يصلي‪ ،‬وقد غدت قريش فجلسوا ف أنديتهم‬
‫ينتظرون ما أبو جهل فاعل‪ ،‬فلما سجد رسول ال صلى ال عليه وسلم احتمل أبو جهل الجر‪ ،‬ث أقبل‬
‫نوه‪ ،‬حت إذا دنا منه رجع منهزمًا متقعًا لونه‪ ،‬مرعوبًا قد يبست يداه على حجره‪ ،‬حت قذف الجر من‬
‫يده‪ ،‬وقامت إليه رجال قريش فقالوا له‪ :‬ما لك يا أبا الكم؟ قال‪ :‬قمت إليه لفعل به ما قلت لكم‬
‫حلٌ من البل‪ ،‬ل وال ما رأيت مثل هَامَتِه‪ ،‬ول مثل قَصَ َرتِه ول‬
‫البارحة‪ ،‬فلما دنوت منه عرض ل دونه َف ْ‬
‫أنيابه لفحل قط‪ ،‬فَ َهمّ ب أن يأكلن‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬فذكر ل أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬ذلك جبيل عليه السلم لو دنا‬
‫لخذه)‬
‫مساومات وتنازلت‬

‫ولا فشلت قريش ف مفاوضتهم البنية على الغراء والترغيب‪ ،‬والتهديد والترهيب‪ ،‬وخاب أبو جهل فيما‬
‫أبداه من الرعونة وقصد الفتك‪ ،‬تيقظت فيهم رغبة الوصول إل حل حصيف ينقذهم عما هم فيه‪ ،‬ول‬
‫يكونوا يزمون أن النب صلى ال عليه وسلم على باطل‪ ،‬بل كانوا ـ كما قال ال تعال {َلفِي َشكّ مّنْهُ‬
‫مُرِيبٍ} [الشورى‪ .]14:‬فرأوا أن يساوموه صلى ال عليه وسلم ف أمور الدين‪ ،‬ويلتقوا به ف منتصف‬
‫الطريق‪ ،‬فيتركوا بعض ما هم عليه‪ ،‬ويطالبوا النب صلى ال عليه وسلم بترك بعض ما هو عليه‪ ،‬وظنوا أنم‬
‫بذا الطريق سيصيبون الق‪ ،‬إن كان ما يدعو إليه النب صلى ال عليه وسلم حقًا‪.‬‬

‫روى ابن إسحاق بسنده‪ ،‬قال‪ :‬اعترض رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهو يطوف بالكعبة ـ السود‬
‫بن الطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن الغية وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمى ـ وكانوا‬
‫ذوى أسنان ف قومهم ـ فقالوا‪ :‬يا ممد‪ ،‬هلم فلنعبد ما تعبد‪ ،‬وتعبد ما نعبد‪ ،‬فنشترك نن وأنت ف‬
‫المر‪ ،‬فإن كان الذي تعبد خيًا ما نعبد كنا قد أخذنا بظنا منه‪ ،‬وإن كان ما نعبد خيًا ما تعبد كنت قد‬
‫أخذت بظك منه‪ ،‬فأنزل ال تعال فيهم‪{ :‬قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعُْبدُ مَا تَعُْبدُونَ} السورة كلها‪.‬‬

‫وأخرج َع ْبدُ بن حُمَـيْد وغيه عن ابن عباس أن قريشًا قالت‪ :‬لو استلمت آلتنا لعبدنا إلك‪ .‬فأنزل ال ‪:‬‬
‫{ ُقلْ يَا َأيّهَا الْكَافِرُونَ} السورة كلها وأخرج ابن جرير وغيه عنه أن قريشًا قالوا لرسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ :‬تعبد آلتنا سنة‪ ،‬ونعبد إلك سنة‪،‬فأنزل ال ‪ُ {:‬قلْ أَ َفغَيْرَ ال ِ َتأْمُرُونّي أَعُْبدُ أَيّهَا الْجَاهِلُونَ} [‬
‫الزمر‪]64:‬‬

‫ولا حسم ال تعال هذه الفاوضة الضحكة بذه الفاصلة الازمة ل تيأس قريش كل اليأس‪ ،‬بل أبدوا مزيدًا‬
‫من التنازل بشرط أن يرى النب صلى ال عليه وسلم بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات‪ ،‬فقالوا‪{ :‬‬
‫ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ َب ّدلْهُ}‪ ،‬فقطع ال هذا السبيل أيضًا بإنزال ما يرد به النب صلى ال عليه وسلم‬
‫عليهم فقال‪{ :‬قُلْ مَا يَكُونُ لِي َأنْ أَُب ّدلَهُ مِن تِ ْلقَاء َنفْسِي ِإنْ َأتّبِعُ إِلّ مَا يُوحَى إِلَيّ ِإنّي أَخَافُ إِنْ عَصَ ْيتُ‬
‫َربّي َعذَابَ يَ ْومٍ َعظِيمٍ} [يونس‪ ]15:‬ونبه على عظم خطورة هذا العمل بقوله‪َ {:‬وإِن كَادُواْ لََيفْتِنُونَكَ‬
‫عَنِ اّلذِي أَوْحَيْنَا ِإلَ ْيكَ لِتفْتَ ِريَ عَلَيْنَا غَيْ َرهُ َوإِذًا ّلّتخَذُوكَ َخلِيلً َولَوْلَ أَن ثَبّتْنَاكَ َلقَدْ كِدتّ تَ ْركَنُ ِإلَيْ ِهمْ‬
‫جدُ َلكَ عَ َليْنَا نَصِيًا} [السراء‪]75 :73:‬‬
‫ضعْفَ الْمَمَاتِ ُثمّ لَ تَ ِ‬
‫ضعْفَ اْلحَيَاةِ وَ ِ‬
‫شَيْئًا قَلِيلً إِذا لّأَذَقْنَاكَ ِ‬
‫‪.‬‬

‫حية قريش وتفكيهم الاد واتصالم باليهود‬

‫أظلمت أمام الشركي السبل بعد فشلهم ف هذه الفاوضات والساومات والتنازلت‪ ،‬واحتاروا فيما‬
‫يفعلون‪ ،‬حت قام أحد شياطينهم‪ :‬النضر بن الارث‪ ،‬فنصحهم قائلًا‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬وال لقد نزل بكم‬
‫أمر ما أتيتم له بيلة بعد‪ ،‬قد كان ممد فيكم غلمًا حدثًا أرضاكم فيكم‪ ،‬وأصدقكم حديثًا‪ ،‬وأعظمكم‬
‫أمانة‪ ،‬حت إذا رأيتم ف صدغيه الشيب‪ ،‬و جاءكم با جاءكم به‪ ،‬قلتم‪ :‬ساحر‪ ،‬ل وال ما هو بساحر‪ ،‬لقد‬
‫رأينا السحرة وَنفْثَهم و َعقْدَهم‪ ،‬وقلتم‪ :‬كاهن‪ ،‬ل وال ما هو بكاهن‪ ،‬قد رأينا الكهنة وَتخَاُلجَهم وسعنا‬
‫جعَهُم‪ ،‬وقلتم‪ :‬شاعر‪ ،‬ل وال ما هو بشاعر‪ ،‬قد رأينا الشعر وسعنا أصنافه كلها هَزَجَه ورَ َجزَه‪ ،‬وقلتم‪:‬‬
‫َس َ‬
‫منون‪ ،‬ل وال ما هو بجنون‪ ،‬لقد رأينا النون‪ ،‬فما هو بنقه‪ ،‬ول وسوسته‪ ،‬ول تليطه‪ ،‬يا معشر قريش‪،‬‬
‫فانظروا ف شأنكم‪ ،‬فإنه وال لقد نزل بكم أمر عظيم‪.‬‬

‫وكأنم لا رأوا صموده صلى ال عليه وسلم ف وجه كل التحديات‪ ،‬ورفضه كل الغريات‪ ،‬وصلبته ف‬
‫كل مرحلة ـ مع ما كان يتمتع به من الصدق والعفاف ومكارم الخلق ـ قويت شبهتهم ف كونه‬
‫رسولًا حقًا‪ ،‬فقرروا أن يتصلوا باليهود حت يتأكدوا من أمره صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما نصحهم النضر‬
‫بن الارث با سبق كلفوه مع آخر أو آخرين ليذهب إل يهود الدينة‪ ،‬فأتاهم فقال أحبارهم‪ :‬سلوه عن‬
‫ثلث‪ ،‬فإن أخب فهو نب مرسل‪ ،‬وإل فهو متقول؛ سلوه عن فتية ذهبوا ف الدهر الول‪،‬ما كان أمرهم؟‬
‫فإن لم حديثًا عجبًا ‪ ،‬وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الرض ومغاربا‪ ،‬ما كان نبؤه؟ وسلوه عن‬
‫الروح‪ ،‬ما هي؟‬

‫فلما قدم مكة قال‪ :‬جئناكم بفصل ما بينكم وبي ممد‪ ،‬وأخبهم با قاله اليهود‪ ،‬فسألت قريش رسول‬
‫صلى ال عليه وسلم عن المور الثلثة‪ ،‬فنلت بعد أيام سورة الكهف‪ ،‬فيها قصة أولئك الفتية‪ ،‬وهم‬
‫أصحاب الكهف‪ ،‬وقصة الرجل الطواف‪ ،‬وهو ذو القرني‪ ،‬ونزل الواب عن الروح ف سورة السراء‪.‬‬
‫وتبي لقريش أنه صلى ال عليه وسلم على حق وصدق‪ ،‬ولكن أب الظالون إل كفورًا‪.‬‬

‫هذه نبذة خفيفة ما واجه به الشركون دعوة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد مارسوا كل ذلك جنبا‬
‫إل جنب‪ ،‬متنقلي من طور إل طور‪ ،‬ومن دور إل دور‪ .‬فمن شدة إل لي‪ ،‬ومن لي إل شدة‪ ،‬ومن جدال‬
‫إل مساومة‪ ،‬ومن مساومة إل جدال‪ ،‬ومن تديد إل ترغيب‪ ،‬ومن ترغيب إل تديد‪ ،‬كانوا يثورون ث‬
‫يورون‪ ،‬ويادلون ث ياملون‪ ،‬وينازلون ث يتنازلون‪ ،‬ويوعدون ث يرغبون‪ ،‬كأنم كانوا يتقدمون‬
‫ويتأخرون‪ ،‬ل يقر لم قرار‪ ،‬ول يعجبهم الفرار‪ ،‬وكان الغرض من كل ذلك هو إحباط الدعوة السلمية‪،‬‬
‫وَلمّ َشعْثِ الكفر‪ ،‬ولكنهم بعد بذل كل الهود واختبار كل اليل عادوا خائبي‪ ،‬ول يبق أمامهم إل‬
‫السيف‪ ،‬والسيف ل يزيد الفرقة إل شدة‪ ،‬ول ينتج إل عن تناحر يستأصل الشأفة‪ ،‬فاحتاروا ماذا يفعلون‪.‬‬

‫موقف أب طالب وعشيته‬

‫أما أبو طالب فإنه لا واجه مطالبة قريش بتسليم النب صلى ال عليه وسلم لم ليقتلوه‪ ،‬ث رأي ف تركاتم‬
‫وتصرفاتم ما يؤكد أنم يريدون قتله وإخفار ذمته ـ مثل ما فعله عقبة بن أب معيط‪ ،‬وأبو جهل بن هشام‬
‫وعمر بن الطاب ـ جع بن هاشم وبن الطلب‪ ،‬ودعاهم إل القيام بفظ النب صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فأجابوه إل ذلك كلهم ـ مسلمهم وكافرهم ـ حَمِّيةً للجوار العرب‪ ،‬وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند‬
‫الكعبة‪ .‬إل ما كان من أخيه أب لب‪ ،‬فإنه فارقهم‪ ،‬وكان مع قريش‪.‬‬
‫القاطعة العامة‬

‫ميثاق الظلم والعدوان‬


‫ثلثة أعوام ف شعب أب طالب‬
‫نقض صحيفة اليثاق‬
‫آخر وفد قريش إل أب طالب‬

‫ميثاق الظلم والعدوان‬

‫زادت حية الشركي إذ نفدت بم اليل‪ ،‬ووجدوا بن هاشم وبن الطلب مصممي على حفظ نب ال‬
‫صلى ال عليه وسلم والقيام دونه‪ ،‬كائنًا ما كان‪ ،‬فاجتمعوا ف خيف بن كنانة من وادى ا ُلحَصّبِ‬
‫فتحالفوا على بن هاشم وبن الطلب أل يناكحوهم‪ ،‬ول يبايعوهم‪ ،‬ول يالسوهم‪ ،‬ول يالطوهم‪ ،‬ول‬
‫يدخلوا بيوتم‪ ،‬ول يكلموهم‪ ،‬حت يسلموا إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم للقـتل‪ ،‬وكتـبوا‬
‫بذلك صحيـفـة فيها عهود ومواثيق (أل يقبلوا من بن هاشم صلحًا أبدًا‪ ،‬ول تأخذهم بم رأفة حت‬
‫يسلموه للقتل)‪ .‬قال ابن القيم‪ :‬يقال‪ :‬كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم‪ ،‬ويقال‪ :‬نضر بن‬
‫ت يده‪.‬‬
‫الارث‪ ،‬والصحيح أنه بَغِيض بن عامر بن هاشم‪ ،‬فدعا عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم فَشُلّ ْ‬

‫ت هذا اليثاق وعلقت الصحيفة ف جوف الكعبة‪ ،‬فاناز بنو هاشم وبنو الطلب‪ ،‬مؤمنهم وكافرهم ـ إل‬
‫أبا لب ـ وحبسوا ف شعب أب طالب‪ ،‬وذلك فيما يقال‪ :‬ليلة هلل الحرم سنة سبع من البعثة‪ .‬وقد قيل‬
‫غي ذلك‪.‬‬

‫ثلثة أعوام ف شعب أب طالب‬

‫واشتد الصار‪ ،‬وقطعت عنهم الية والادة‪ ،‬فلم يكن الشركون يتركون طعامًا يدخل مكة ول بيعًا إل‬
‫بادروه فاشتروه‪ ،‬حت بلغهم الهد‪ ،‬والتجأوا إل أكل الوراق واللود‪ ،‬وحت كان يسمع من وراء‬
‫الشعب أصوات نسائهم وصبيانم يتضاغون من الوع‪ ،‬وكان ل يصل إليهم شيء إل سرًا‪ ،‬وكانوا ل‬
‫يرجون من الشعب لشتراء الوائج إل ف الشهر الرم‪ ،‬وكانوا يشترون من العي الت ترد مكة من‬
‫خارجها‪ ،‬ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم ف السلعة قيمتها حت ل يستطيعون شراءها‪.‬‬

‫وكان حكيم بن حزام ربا يمل قمحًا إل عمته خدية رضي ال عنها وقـد تعـرض لـه مرة أبو جهل‬
‫فتعلق به ليمنعه‪ ،‬فتدخل بينهما أبو البخترى‪ ،‬ومكنه من حل القمح إل عمته‪.‬‬

‫وكان أبو طالب ياف على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم أن يضطجع على فراشه‪ ،‬حت يرى ذلك من أراد اغتياله‪ ،‬فإذا نام الناس أمر أحد‬
‫بنيه أو إخوانه أو بن عمه فاضطجع على فراش رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأمره أن يأتى بعض‬
‫فرشهم‪.‬‬

‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمون يرجون ف أيام الوسم‪ ،‬فيلقون الناس‪ ،‬ويدعونم إل‬
‫السلم‪ ،‬وقد أسلفنا ما كان يأتى به أبو لب‪.‬‬

‫نقض صحيفة اليثاق‬


‫مر عامان أو ثلثة أعوام والمر على ذلك‪ ،‬وف الحرم سنة عشر من النبوة نقضت الصحيفة وفك‬
‫الصار؛ وذلك أن قريشًا كانوا بي راض بذا اليثاق وكاره له‪ ،‬فسعى ف نقض الصحيفة من كان كارهًا‬
‫لا‪.‬‬

‫وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بن عامر بن لؤى ـ وكان يصل بن هاشم ف الشعب مستخفيًا‬
‫بالليل بالطعام ـ فإنه ذهب إل زهي بن أب أمية الخزومى ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد الطلب ـ‬
‫وقال‪ :‬يا زهي‪ ،‬أرضيت أن تأكل الطعام‪ ،‬وتشرب الشراب‪ ،‬وأخوالك بيث تعلم؟ فقال‪ :‬ويك‪ ،‬فما‬
‫أصنع وأنا رجل واحد؟ أما وال لو كان معى رجل آخر لقمت ف نقضها‪ ،‬قال‪ :‬قد وجدت رجلًا‪ .‬قال‪:‬‬
‫فمن هو؟ قال‪ :‬أنا‪ .‬قال له زهي‪ :‬ابغنا رجلًا ثالثًا‪.‬‬
‫فذهب إل الطعم بن عدى‪ ،‬فذكره أرحام بن هاشم وبن الطلب ابن عبد مناف‪ ،‬ولمه على موافقته‬
‫لقريش على هذا الظلم‪ ،‬فقال الطعم‪ :‬ويك‪ ،‬ماذا أصنع؟ إنا أنا رجل واحد‪ ،‬قال‪ :‬قد وجدت ثانيًا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫من هو؟ قال‪ :‬أنا‪ .‬قال‪ :‬ابغنا ثالثًا‪ .‬قال‪ :‬قد فعلت‪ .‬قال‪ :‬من هو؟ قال‪ :‬زهي بن أب أمية‪ ،‬قال‪ :‬ابغنا رابعًا‪.‬‬

‫فذهب إل أب البخترى بن هشام‪ ،‬فقال له نوًا ما قال للمطعم‪ ،‬فقال‪ :‬وهل من أحد يعي على هذا؟ قال‪:‬‬
‫نعم‪ .‬قال‪ :‬من هو؟ قال زهي بن أب أمية‪ ،‬والطعم بن عدى‪ ،‬وأنا معك‪ ،‬قال‪ :‬ابغنا خامسًا‪.‬‬

‫فذهب إل زمعة بن السود بن الطلب بن أسد‪ ،‬فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم‪ ،‬فقال له‪ :‬وهل على هذا‬
‫لجُون‪ ،‬وتعاقدوا على القيام‬
‫المر الذي تدعون إليه من أحد؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ث سى له القوم‪ ،‬فاجتمعوا عند ا َ‬
‫بنقض الصحيفة‪ ،‬وقال زهي‪ :‬أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم‪.‬‬

‫فلما أصبحوا غدوا إل أنديتهم‪ ،‬وغدا زهي عليه حلة‪ ،‬فطاف بالبيت سبعًا‪ ،‬ث أقبل على الناس‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫أهل مكة‪ ،‬أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى‪ ،‬ل يباع ول يبتاع منهم؟ وال ل أقعد حت تشق‬
‫هذه الصحيفة القاطعة الظالة‪.‬‬

‫قال أبو جهل ـ وكان ف ناحية السجد‪ :‬كذبت‪ ،‬وال ل تشق‪.‬‬

‫فقال زمعة بن السود‪ :‬أنت وال أكذب‪ ،‬مارضينا كتابتها حيث كتبت‪.‬‬

‫قال أبو البخترى‪ :‬صدق زمعة‪ ،‬ل نرضى ما كتب فيها‪ ،‬ول نقر به‪.‬‬

‫قال الطعم بن عدى‪ :‬صدقتما‪ ،‬وكذب من قال غي ذلك‪ ،‬نبأ إل ال منها وما كتب فيها‪.‬‬

‫وقال هشام بن عمرو نوًا من ذلك‪.‬‬

‫فقال أبو جهل‪ :‬هذا أمر قضى بليل‪ ،‬وتُشُووِر فيه بغي هذا الكان‪.‬‬
‫وأبو طالب جالس ف ناحية السجد‪ ،‬إنا جاءهم لن ال كان قد أطلع رسوله صلى ال عليه وسلم على‬
‫أمر الصحيفة‪ ،‬وأنه أرسل عليها الرضة‪ ،‬فأكلت جيع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إل ذكر ال عز‬
‫وجل‪ ،‬فأخب بذلك عمه‪ ،‬فخرج إل قريش فأخبهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا‪ ،‬فإن كان كاذبًا خلينا‬
‫بينكم وبينه‪ ،‬وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا‪ ،‬قالوا‪ :‬قد أنصفت‪.‬‬

‫وبعد أن دار الكلم بي القوم وبي أب جهل‪ ،‬قام الطعم إل الصحيفة ليشقها‪ ،‬فوجد الرضة قد أكلتها إل‬
‫(باسك ال م)‪ ،‬وما كان فيها من اسم ال فإنا ل تأكله‪.‬‬

‫ث نقض الصحيفة وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ومن معه من الشعب‪ ،‬وقد رأي الشركون آية‬
‫عظيمة من آيات نبوته‪ ،‬ولكنهم ـ كما أخب ال عنهم { َوإِن يَرَوْا آَيةً يُعْرِضُوا َويَقُولُوا ِسحْرٌ مّسْتَمِرّ} [‬
‫القمر‪ ]2:‬ـ أعرضوا عن هذه الية وازدادوا كفرًا إل كفرهم ‪.‬‬

‫آخر وفد قريش إل أب طالب‬

‫خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم من الشعب‪ ،‬وجعل يعمل على شاكلته‪ ،‬وقريش وإن كانوا قد تركوا‬
‫القطيعة‪ ،‬لكنهم ل يزالوا عاملي على شاكلتهم من الضغط على السلمي والصد عن سبيل ال ‪ ،‬وأما أبو‬
‫طالب فهو ل يزل يوط ابن أخيه‪ ،‬لكنه كان قد جاوز الثماني من سنه‪ ،‬وكانت اللم والوادث الضخمة‬
‫التوالية منذ سنوات ـ لسيما حصار الشعب ـ قد وهنت وضعفت مفاصله وكسرت صلبه‪ ،‬فلم يض‬
‫على خروجه من الشعب إل أشهر معدودات‪ ،‬وإذا هو يلحقه الرض ويلح به‪ ،‬وحينئذ خاف الشركون‬
‫سوء سعتهم ف العرب إن أتوا بعد وفاته بنكر على ابن أخيه‪ ،‬فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النب صلى‬
‫ال عليه وسلم بي يديه‪ ،‬ويعطوا بعض ما ل يرضوا إعطاءه قبل ذلك‪ .‬فقاموا بوفادة هي آخر وفادتم إل‬
‫أب طالب‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق وغيه‪ :‬لا اشتكى أبو طالب‪ ،‬وبلغ قريشًا ثقله‪ ،‬قالت قريش بعضها لبعض‪ :‬إن حزة وعمر‬
‫قد أسلما‪ ،‬وقد فشا أمر ممد ف قبائل قريش كلها‪ ،‬فانطلقوا بنا إل أب طالب‪ ،‬فليأخذ على ابن أخيه‪،‬‬
‫وليعطه منا‪ ،‬وال ما نأمن أن يبتزونا أمرنا‪ ،‬وف لفظ‪ :‬فإنا ناف أن يوت هذا الشيخ فيكون إليه شيء‬
‫فتعينا به العرب‪ ،‬يقولون‪ :‬تركوه حت إذا مات عمه تناولوه‪.‬‬
‫مشوا إل أب طالب فكلموه‪ ،‬وهم أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة‪ ،‬وشيبة بن ربيعة‪ ،‬وأبو جهل بن هشام‪،‬‬
‫وأمية بن خلف‪ ،‬وأبو سفيان بن حرب‪ ،‬ف رجال من أشرافهم ـ وهم خسة وعشرون تقريبًا ـ فقالوا‪ :‬يا‬
‫أبا طالب‪ ،‬إنك منا حيث قد علمت‪ ،‬وقد حضرك ما ترى‪ ،‬وتوفنا عليك‪ ،‬وقد علمت الذي بيننا وبي ابن‬
‫أخيك‪ ،‬فادعه فخذ له منا‪ ،‬وخذ لنا منه؛ ليكف عنا ونكف عنه‪ ،‬وليدعـنا وديننا وندعه ودينه‪ ،‬فبعث أبو‬
‫طالب‪ ،‬فجاءه فقال‪ :‬يابن أخي‪ ،‬هؤلء أشراف قومك‪ ،‬قد اجتمعوا لك ليعطوك‪ ،‬وليأخذوا منك‪ ،‬ث‬
‫أخبـره بالذي قالوا له وعرضوا عليه من عدم تعرض كل فريق للخر‪ .‬فقال لم رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪( :‬أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم با‪ ،‬ملكتم با العرب‪ ،‬ودانت لكم با العجم) ‪ ،‬وف لفظ أنه‬
‫قال ماطبًا لب طالب‪( :‬إن أريدهم على كلمة واحدة يقولونا تدين لم با العرب‪ ،‬وتؤدى إليهم با‬
‫العجم الزية)‪ ،‬وف لفظ آخر قال‪( :‬أي عم‪ ،‬أفل أدعوهم إل ما هو خي لم؟) قال‪ :‬وإلم تدعوهم؟ قال‪:‬‬
‫(أدعوهم إل أن يتكلموا بكلمة تدين لم با العرب‪ ،‬ويلكون با العجم)‪ ،‬ولفظ رواية ابن إسحاق‪( :‬كلمة‬
‫واحدة تعطونا تلكون با العرب‪ ،‬وتدين لكم با العجم)‪ ،‬فلما قال هذه القالة توقفوا وتيوا ول يعرفوا‬
‫كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إل هذه الغاية والد‪ .‬ث قال أبو جهل‪ :‬ما هي؟ وأبيك‬
‫لنعطيكها وعشر أمثالا‪ ،‬قال‪ :‬تقولون‪( :‬ل إله إل ال ‪ ،‬وتلعون ما تعبدون من دونه)‪ .‬فصفقوا بأيديهم‪ ،‬ث‬
‫قالوا‪ :‬أتريد يا ممد أن تعل اللة إلًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب‪.‬‬

‫ث قال بعضهم لبعض‪ :‬إنه وال ما هذا الرجل بعطيكم شيئًا ما تريدون‪ ،‬فانطلقوا وامضوا على دين‬
‫آبائكم‪ ،‬حت يكم ال بينكم وبينه‪ ،‬ث تفرقوا‪.‬‬

‫وف هؤلء نزل قوله تعال‪{ :‬ص وَاْلقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ بَ ِل الّذِينَ َكفَرُوا فِي ِع ّزةٍ وَ ِشقَاقٍ َكمْ أَهْلَ ْكنَا مِن‬
‫قَ ْبلِهِم مّن قَ ْرنٍ فَنَا َدوْا َولَاتَ حِيَ مَنَاصٍ وَ َعجِبُوا أَن جَاءهُم مّنذِرٌ مّنْ ُهمْ وَقَا َل الْكَافِرُونَ َهذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ‬
‫أَ َجعَ َل الْآلِ َهةَ ِإلَهًا وَا ِحدًا إِنّ َهذَا لَشَ ْيءٌ ُعجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَ َلأُ مِنْ ُهمْ أَ ِن امْشُوا وَاصِْبرُوا َعلَى آِلهَتِ ُكمْ ِإنّ َهذَا‬
‫لَشَ ْيءٌ يُرَادُ مَا سَ ِمعْنَا بِ َهذَا فِي الْمِ ّلةِ الْآخِ َرةِ إِنْ َهذَا ِإلّا اخِْتلَاقٌ} [ص‪.]7 :1:‬‬
‫عــام الـــزن‬

‫وفاة أب طالب‬
‫خدية إل رحة ال‬
‫تراكم الحزان‬
‫الزواج بسودة رضي ال عنها‬
‫عوامل الصب والثبات‬

‫وفاة أب طالب‬

‫أل الرض بأب طالب‪ ،‬فلم يلبث أن وافته النية‪ ،‬وكانت وفاته ف رجب سنة عشر من النبوة‪ ،‬بعد الروج‬
‫من الشعب بستة أشهر‪ .‬وقيل‪ :‬توف ف رمضان قبل وفاة خدية رضي ال عنها بثلثة أيام‪.‬‬

‫وف الصحيح عن السيب‪ :‬أن أبا طالب لا حضرته الوفاة دخل عليه النب صلى ال عليه وسلم وعنده أبو‬
‫جهل‪ ،‬فقال‪( :‬أي عم‪ ،‬قل‪ :‬ل إله إل ال ‪ ،‬كلمة أحاج لك با عند ال ) فقال أبو جهل وعبد ال بن أب‬
‫أمية‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬ترغب عن ملة عبد الطلب؟ فلم يزال يكلماه حت قال آخر شيء كلمهم به‪ :‬على ملة‬
‫عبد الطلب‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬لستغفرن لك ما ل أنه عنـه)‪ ،‬فـنلت‪ {:‬مَا كَانَ لِلنّبِيّ‬
‫جحِيمِ} [‬
‫ب الْ َ‬
‫صحَا ُ‬
‫ش ِركِيَ َولَوْ كَانُواْ أُ ْولِي قُ ْربَى مِن َب ْعدِ مَا تَبَيّنَ لَ ُهمْ َأنّ ُهمْ أَ ْ‬
‫وَاّلذِينَ آمَنُواْ أَن يَسَْت ْغفِرُواْ لِلْمُ ْ‬
‫التوبة‪ ]113:‬ونزلت‪{ :‬إِّنكَ لَا تَ ْهدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص‪.]56 :‬‬

‫ول حاجة إل بيان ما كان عليه أبو طالب من الياطة والنع‪ ،‬فقد كان الصن الذي احتمت به الدعوة‬
‫السلمية من هجمات الكباء والسفهاء‪ ،‬ولكنه بقى على ملة الشياخ من أجداده‪ ،‬فلم يفلح كل الفلح‪.‬‬

‫ففي الصحيح عن العباس بن عبد الطلب‪ ،‬قال للنب صلى ال عليه وسلم‪ :‬ما أغنيت عن عمك‪ ،‬فإنه كان‬
‫ضحْضَاح من نار‪ ،‬ولول أنا لكان ف الدرك السفل من النار)‬
‫يوطك ويغضب لك؟ قال‪( :‬هو ف َ‬
‫وعن أب سعيد الدرى أنه سع النب صلى ال عليه وسلم ـ وذكر عنده عمه ـ فقال‪( :‬لعله تنفعه‬
‫شفاعت يوم القيامة‪ ،‬فيجعل ف ضحضاح من النار تبلغ كعبيه)‬

‫خدية إل رحة ال‬

‫وبعد وفاة أب طالب بنحو شهرين أو بثلثة أيام ـ على اختلف القولي ـ توفيت أم الؤمني خدية‬
‫الكبى رضي ال عنها وكانت وفاتا ف شهر رمضان ف السنة العاشرة من النبوة‪ ،‬ولا خس وستون سنة‬
‫على أشهر القوال‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم إذ ذاك ف المسي من عمره‪.‬‬

‫إن خدية كانت من نعم ال الليلة على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بقيت معه ربع قرن تن عليه‬
‫ساعة قلقه‪ ،‬وتؤازره ف أحرج أوقاته‪ ،‬وتعينه على إبلغ رسالته‪ ،‬وتشاركه ف مغارم الهاد الر‪،‬وتواسيه‬
‫بنفسها ومالا‪ ،‬يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬آمنت ب حي كفر ب الناس‪ ،‬وصدقتن حي كذبن‬
‫الناس‪ ،‬وأشركتن ف مالا حي حرمن الناس‪ ،‬ورزقن ال ولدها وحرم ولد غيها)‬

‫وف الصحيح عن أب هريرة قال‪ :‬أتى جبيل النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هـذه‬
‫خدية قـد أتت‪ ،‬معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب‪ ،‬فإذا هي أتتك فاقـرأ عليها السلم من ربا‪،‬‬
‫خبَ فيه ول نَصَبَ‪.‬‬
‫صَ‬‫صبٍ ل َ‬
‫وبشرها ببيت ف النة من قَ َ‬

‫تراكم الحزان‬

‫وقعت هاتان الادثتان الؤلتان خلل أيام معدودة‪ ،‬فاهتزت مشاعر الزن والل ف قلب رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬ث ل تزل تتوال عليه الصائب من قومه‪ .‬فإنم ترأوا عليه وكاشفوه بالنكال والذى بعد‬
‫موت أب طالب‪ ،‬فازداد غمًا على غم‪ ،‬حت يئس منهم‪ ،‬وخرج إل الطائف رجـاء أن يستجيبوا‬
‫لدعوتـه‪ ،‬أو يؤووه وينصـروه على قومــه‪ ،‬فلم يـر مـن يؤوى ول يـر ناصرًا‪ ،‬بل آذوه أشد‬
‫الذى‪ ،‬ونالوا منه ما ل ينله قومـه‪.‬‬

‫وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النب صلى ال عليه وسلم اشتدت على أصحابه حت التجأ رفيقه أبو‬
‫بكر الصديق رضي ال عنه إل الجرة عن مكة‪ ،‬فخرج حت بلغ بَرْك الغِمَاد‪ ،‬يريد البشة‪ ،‬فأرجعه ابن‬
‫الدّغُنّة ف جواره‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬لا هلك أبو طالب نالت قريش من رسول ال صلى ال عليه وسلم من الذى ما ل تطمع‬
‫به ف حياة أب طالب‪ ،‬حت اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابًا‪ ،‬ودخل بيته والتراب على‬
‫رأسه‪ ،‬فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكى‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫يقول لا‪( :‬ل تبكى يابنية‪ ،‬فإن ال مانع أباك)‪ .‬قال‪ :‬ويقول بي ذلك‪( :‬ما نالت من قريش شيئًا أكرهه‬
‫حت مات أبو طالب)‪.‬‬

‫ولجل توال مثل هذه اللم ف هذا العام سى بعام الزن‪ ،‬وعرف به ف السية والتاريخ‪.‬‬

‫الزواج بسودة رضي ال عنها‬

‫وف شوال من هذه السنة ـ سنة ‪ 10‬من النبوة ـ تزوج رسول ال صلى ال عليه وسلم سودة بنت‬
‫زمعة‪ ،‬كانت من أسلم قديًا وهاجرت الجرة الثانية إل البشة‪ ،‬وكان زوجها السكران بن عمرو‪ ،‬وكان‬
‫قد أسلم وهاجر معها‪ ،‬فمات بأرض البشة‪ ،‬أو بعد الرجوع إل مكة‪ ،‬فلما حلت خطبها رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم وتزوجها‪ ،‬وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خدية‪ ،‬وكانت قد وهبت نوبتها لعائشة‬
‫رضي ال عنها أخيًا‪.‬‬

‫عوامل الصب والثبات‬

‫وهنا يقف الليم حيان‪ ،‬ويتساءل عقلء الرجال فيما بينهم‪ :‬ما هي السباب والعوامل الت بلغت‬
‫بالسلمي إل هذه الغاية القصوى‪ ،‬والد العجز من الثبات؟ كيف صبوا على هذه الضطهادات الت‬
‫تقشعر لسماعها اللود‪ ،‬وترجف لا الفئدة؟ ونظرًا إل هذا الذي يتخال القلوب نرى أن نشي إل بعض‬
‫هذه العوامل والسباب إشارة عابرة بسيطة‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ اليــان بال ‪:‬‬


‫إن السبب الرئيسي ف ذلك أولًا وبالذات هو اليان بال وحده ومعرفته حق العرفة‪ ،‬فاليان الازم إذا‬
‫خالطت بشاشته القلوب يزن البال ول يطيش‪ ،‬وإن صاحب هذا اليان الحكم وهذا اليقي الازم يرى‬
‫متاعب الدنيا مهما كثرت وكبت وتفاقمت واشتدت ـ يراها ف جنب إيانه ـ طحالب عائمة فوق‬
‫سَيْل جارف جاء ليكسر السدود النيعة والقلع الصينة‪ ،‬فل يبال بشيء من تلك التاعب أمام ما يده‬
‫من حلوة إيانه‪ ،‬وطراوة إذعانه‪ ،‬وبشاشة يقينه { َفَأمّا ال ّزبَدُ فََيذْهَبُ ُجفَاء َوأَمّا مَا يَنفَ ُع النّاسَ فَيَمْ ُكثُ فِي‬
‫الَ ْرضِ} [الرعد‪.]17:‬‬

‫ويتفرع من هذا السبب الوحيد أسباب أخرى تقوى هذا الثبات والصابرة وهي‪:‬‬

‫‪ 2‬ـ قيادة توى إليها الفئدة‪:‬‬


‫فقد كان النب صلى ال عليه وسلم ـ وهو القائد العلى للمة السلمية‪ ،‬بل وللبشرية جعاء ـ يتمتع‬
‫من جال اللق‪ ،‬وكمال النفس‪ ،‬ومكارم الخلق‪ ،‬والشيم النبيلة‪ ،‬والشمائل الكرية‪ ،‬با تتجاذب إليه‬
‫القلوب وتتفإن دونه النفوس‪ ،‬وكانت أنصبته من الكمال الذي يبّبُ ل يرزق بثلها بشر‪ .‬وكان على‬
‫أعلى قمة من الشرف والنبل والي والفضل‪ .‬وكان من العفة والمانة والصدق‪ ،‬ومن جيع سبل الي‬
‫على ما ل يتمار ول يشك فيه أعداؤه فضلًا عن مبيه ورفقائه‪ ،‬ل تصدر منه كلمة إل ويستيقنون صدقها‪.‬‬

‫اجتمع ثلثة نفر من قريش‪ ،‬وكان قد استمع كل واحد منهم إل القرآن سرًا عن صاحبيه‪ ،‬ث انكشف‬
‫سرهم‪ ،‬فسأل أحدهم أبا جهل ـ وكان من أولئك الثلثة‪ :‬ما رأيك فيما سعت من ممد؟ فقال‪ :‬ماذا‬
‫سعت؟ تنازعنا نن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا‪ ،‬وحلوا فحملنا‪ ،‬وأعطوا فأعطينا‪ ،‬حت إذا‬
‫تاذينا على الركب‪ ،‬وكنا كَفَرَسىْ رِهَان قالوا‪ :‬لنا نب يأتيه الوحى من السماء‪ ،‬فمت ندرك هذه؟ وال ل‬
‫نؤمن به أبدًا‪ ،‬ول نصدقه‪.‬‬
‫وكان أبو جهل يقول‪ :‬يا ممد‪ ،‬إنا ل نكذبك ولكن نكذب با جئت به‪ ،‬فأنزل ال ‪َ {:‬فِإنّ ُهمْ لَ يُ َك ّذبُوَنكَ‬
‫جحَدُونَ} [النعام‪.]33:‬‬
‫َولَكِنّ الظّالِمِيَ بِآيَاتِ ال ِ َي ْ‬

‫وغمزه صلى ال عليه وسلم الكفار يومًا ثلث مرات فقال ف الثالثة‪( :‬يا معشر قريش‪ ،‬جئتكم بالذبح)‪،‬‬
‫فأخذتم تلك الكلمة حت إن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يد عنده‪.‬‬

‫ولا ألقوا عليه َسلَ جَزُورٍ وهو ساجد‪ ،‬دعا عليهم‪ ،‬فذهب عنهم الضحك‪ ،‬وساورهم الم والقلق‪ ،‬وأيقنوا‬
‫أنم هالكون‪.‬‬

‫ودعا على عتبة بن أب لب فلم يزل على يقي من لقاء ما دعا به عليه حت إنه حي رأي السد قال‪ :‬قتلن‬
‫وال ـ ممد ـ وهو بكة‪.‬‬

‫وكان أب بن خلف يتوعده بالقتل‪ .‬فقال‪( :‬بل أنا أقتلك إن شاء ال )‪ ،‬فلما طعن أبيًا ف عنقه يوم أحد ـ‬
‫وكان خدشًا غي كبي ـ كان أب يقول‪ :‬إنه قد كان قال ل بكة‪ :‬أنا أقتلك‪ ،‬فو ال لو بصق على لقتلن‬
‫ـ وسيأت‪.‬‬

‫وقال سعد بن معاذ ـ وهو بكة ـ لمية بن خلف‪ :‬لقد سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪( :‬‬
‫إنم ـ أي السلمي ـ قاتلوك) ففزع فزعًا شديدًا‪ ،‬وعهد أل يرج عن مكة‪ ،‬ولا ألأه أبو جهل للخروج‬
‫يوم بدر اشترى أجود بعي بكة ليمكنه من الفرار‪ ،‬وقالت له امرأته‪ :‬يا أبا صفوان‪ ،‬وقد نسيت ما قال لك‬
‫أخوك اليثرب؟ قال‪ :‬ل وال ما أريد أن أجوز معهم إل قريبًا‪.‬‬

‫هكذا كان حال أعدائه صلى ال عليه وسلم‪،‬أما أصحابه ورفقاؤه فقد حل منهم مل الروح والنفس‪،‬‬
‫وشغل منهم مكان القلب والعي‪ ،‬فكان الب الصادق يندفع إليه اندفاع الاء إل الُدور‪ ،‬وكانت النفوس‬
‫تنجذب إليه انذاب الديد إل الغناطيس‪.‬‬

‫فصورته هيول كل جسم ** ومغناطيس أفئـدة الرجــال‬


‫وكان من أثر هذا الب والتفان أنم كانوا ليضون أن تندق أعناقهم ول يدش له ظفر أو يشاك شوكة‪.‬‬

‫وطيء أبو بكر بن أب قحافة يومًا بكة‪ ،‬وضرب ضربًا شديدًا‪ ،‬دنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلي‬
‫مصوفي ويرفهما لوجهه‪ ،‬ونزا على بطن أب بكر‪ ،‬حت ما يعرف وجهه من أنفه‪ ،‬وحلت بنو تيم أبا بكر‬
‫ف ثوب حت أدخلوه منله‪ ،‬ول يشكون ف موته‪ ،‬فتكلم آخر النهار فقال‪ :‬ما فعل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه‪ ،‬ث قاموا وقالوا لمه أم الي‪ :‬انظرى أن تطعميه شيئًا أو تسقيه‬
‫إياه‪ ،‬فلما خلت به ألت عليه‪ ،‬وجعل يقول‪ :‬ما فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فقالت‪ :‬وال ل علم‬
‫ل بصاحبك‪ ،‬فقال‪ :‬اذهب إل أم جيل بنت الطاب فاسأليها عنه‪ ،‬فخرجت حت جاءت أم جيل فقالت‪:‬‬
‫إن أبا بكر يسألك عن ممد بن عبد ال ‪ ،‬قالت‪ :‬ما أعرف أبا بكر ول ممد بن عبد ال ‪ ،‬وإن كنت تبي‬
‫أن أذهب معك إل ابنك ذهبت‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فمضت معها حت وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا‪ ،‬فدنت أم‬
‫جيل وأعلنت بالصياح‪ ،‬وقالت‪ :‬وال إن قومًا نالوا هذا منك لهل فسق وكفر‪ ،‬وإن لرجو أن ينتقم ال‬
‫لك منهم‪ ،‬قال‪ :‬فما فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ قالت‪ :‬هذه أمك تسمع‪ ،‬قال‪ :‬فل شيء علىك‬
‫منها‪ ،‬قالت‪ :‬سال صال‪ ،‬فقال‪ :‬أين هو؟ قالت‪ :‬ف دار ابن الرقم‪ ،‬قال‪ :‬فإن ل على أل أذوق طعامًا ول‬
‫أشرب شرابًا أو آتى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأمهلتا حت إذا هدأت الرّجْل‪ ،‬وسكن الناس خرجتا‬
‫به‪ ،‬يتكئ عليهما‪ ،‬حت أدخلتـاه على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وسننقل نوادر الب والتفإن ف مواضع شت من هذا الكتاب‪ ،‬ول سيما ما وقع ف يوم أحد‪ ،‬وما وقع من‬
‫خبيب وأمثاله‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الشعور بالسئولية‪:‬‬


‫فكان الصحابة يشعرون شعورًا تامًا ما على كواهل البشر من السئولية الفخمة الضخمة‪ ،‬وأن هذه‬
‫السئولية ل يكن عنها الياد والنراف بال‪ ،‬فالعواقب الت تترتب على الفرار عن تملها أشد وخامة‬
‫وأكب ضررًا عما هم فيه من الضطهاد‪ ،‬وأن السارة الت تلحقهم ـ وتلحق البشرية جعاء ـ بعد هذا‬
‫الفرار ل يقاس بال على التاعب الت كانوا يواجهونا نتيجة هذا التحمل‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ اليـان بالخـرة‪:‬‬


‫وهو ما كان يقوى هذا الشعور ـ الشعور بالسئولية ـ فقد كانوا على يقي جازم بأنم يقومون لرب‬
‫العالي‪ ،‬وياسبون على أعمالم دقها وجلها‪ ،‬صغيها وكبيها‪ ،‬فإما إل النعيم القيم‪ ،‬وإما إل عذاب خالد‬
‫ف سواء الحيم‪ ،‬فكانوا يقضون حياتم بي الوف والرجاء‪ ،‬يرجون رحة ربم ويافون عذابه‪ ،‬وكانوا {‬
‫يُؤْتُونَ مَا آتَوا وّقُلُوبُ ُهمْ وَ ِج َلةٌ أَنّ ُهمْ ِإلَى َربّ ِهمْ رَا ِجعُونَ} [الؤمنون‪ ،]60:‬وكانوا يعرفون أن الدنيا بعذابا‬
‫ونعيمها ل تساوى جناح بعوضة ف جنب الخرة‪ ،‬وكانت هذه العرفة القوية تون لم متاعب الدنيا‬
‫ومشاقها ومرارتا؛ حت ل يكونوا يكترثون لا ويلقون إليها بالًا‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ القـــرآن‪:‬‬
‫وف هذه الفترات العصيبة الرهيبة الالكة كانت تنل السور واليات تقيم الجج والباهي على صدق‬
‫مبادئ السلم ـ الت كانت الدعوة تدور حولا ـ بأساليب منيعة خلبة‪ ،‬وترشد السلمي إل أسس قدر‬
‫ال أن يتكون عليها أعظم وأروع متمع بشرى ف العال ـ وهو الجتمع السلمى ـ وتثي مشاعر‬
‫السلمي ونوازعهم على الصب والتجلد‪ ،‬تضرب لذلك المثال‪ ،‬وتبي لم ما فيه من الكم {أَمْ حَسِبُْتمْ أَن‬
‫تَدْ ُخلُوْا الْجَّنةَ َولَمّا َيأْتِكُم مّثَ ُل اّلذِينَ خَ َل ْواْ مِن قَ ْبلِكُم مّسّتْ ُه ُم الْبَأْسَاء وَالضّرّاء وَ ُزلْ ِزلُواْ حَتّى َيقُو َل الرّسُولُ‬
‫وَاّلذِينَ آمَنُواْ مَ َعهُ مَتَى نَصْرُ ال ِ أَل إِنّ نَصْرَ ال ِ قَرِيبٌ} [البقرة‪{ ] 214:‬ال أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُوا‬
‫صدَقُوا َولََيعْلَمَنّ الْكَا ِذبِيَ} [‬
‫أَن َيقُولُوا آ َمنّا وَ ُهمْ لَا ُيفْتَنُونَ َوَل َقدْ فَتَنّا اّلذِينَ مِن َقبْلِ ِهمْ فَلََيعْ َلمَنّ ال ُ اّلذِينَ َ‬
‫العنكبوت‪.]3 :1:‬‬

‫كما كانت تلك اليات ترد على إيرادات الكفار والعاندين ردًا مفحمًا‪ ،‬ول تبقى لم حيلة‪ ،‬ث تذرهم‬
‫مرة عن عواقب وَخِيمَة ـ إن أصروا على غيهم وعنادهم ـ ف جلء ووضوح‪ ،‬مستدلة بأيام ال ‪،‬‬
‫والشواهد التاريية الت تدل على سنة ال ف أوليائه وأعدائه‪ ،‬وتلطفهم مرة‪ ،‬وتؤدى حق التفهيم والرشاد‬
‫والتوجيه حت ينصرفوا عما هم فيه من الضلل البي‪.‬‬

‫وكان القرآن يسي بالسلمي ف عال آخر‪ ،‬ويبصرهم من مشاهد الكون وجال الربوبية‪ ،‬وكمال اللوهية‪،‬‬
‫وآثار الرحة والرأفة‪ ،‬وتليات الرضوان ما ينون إليه حنينًا ل يقوم له أي عقبة‪.‬‬

‫وكانت ف طى هذه اليات خطابات للمسلمي‪ ،‬فيها {يُبَشّ ُر ُهمْ َربّهُم بِ َرحْ َمةٍ مّ ْنهُ وَ ِرضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لّ ُهمْ‬
‫فِيهَا نَعِيمٌ ّمقِيمٌ} [ التوبة‪ ،] 21:‬وتصور لم صورة أعدائهم من الكفرة الطغاة الظالي ياكمون‬
‫سحَبُونَ فِي النّارِ َعلَى وُجُوهِ ِهمْ ذُوقُوا َمسّ َسقَرَ} [القمر‪.]48:‬‬
‫ويصادرون‪ ،‬ث {يَ ْومَ يُ ْ‬
‫‪ 6‬ـ البشارات بالنجاح‪:‬‬
‫ومع هذا كله كان السلمون يعرفون منذ أول يوم لقوا فيه الشدة والضطهاد ـ بل ومن قبله ـ أن‬
‫الدخول ف السلم ليس معناه جر الصائب والتوف‪ ،‬بل إن الدعوة السلمية تدف ـ منذ أول يومها‬
‫ـ إل القضاء على الاهلية الهلء ونظامها الغاشم‪ ،‬وأن من نتائجها ف الدنيا بسط النفوذ على الرض‪،‬‬
‫والسيطرة على الوقف السياسي ف العال لتقود المة النسانية والمعية البشرية إل مرضاة ال ‪ ،‬وترجهم‬
‫من عبادة العباد إل عبادة ال ‪.‬‬

‫وكان القرآن ينل بذه البشارات ـ مرة بالصراحة وأخرى بالكناية ـ ففي تلك الفترات القاصمة الت‬
‫ضيقت الرض على السلمي‪ ،‬وكادت تنقهم وتقضى على حياتم كانت تنل اليات با جرى بي‬
‫النبياء السابقي وبي أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بم‪ ،‬وكانت تشتمل هذه اليات على ذكر‬
‫الحوال الت تطابق تامًا أحوال مسلمى مكة وكفارها‪ ،‬ث تذكر هذه اليات با تخضت عنه تلك‬
‫الحوال من إهلك الكفرة والظالي‪ ،‬وإيراث عباد ال الصالي الرض والديار‪ .‬فكانت ف هذه القصص‬
‫إشارات واضحة إل فشل أهل مكة ف الستقبل‪ ،‬وناح السلمي مع ناح الدعوة السلمية‪.‬‬

‫وف هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة الؤمني‪ ،‬قال تعال‪َ { :‬وَل َقدْ سََبقَتْ كَلِمَُتنَا لِعِبَا ِدنَا‬
‫صرُونَ‬
‫الْمُرْ َسلِيَ إِنّ ُهمْ لَ ُه ُم الْمَنصُورُونَ َوِإنّ جُندَنَا لَ ُه ُم الْغَالِبُونَ فَتَوَلّ عَ ْن ُهمْ حَتّى ِحيٍ َوأَبْصِرْ ُهمْ فَسَ ْوفَ يُبْ ِ‬
‫أَفَِبعَذَابِنَا يَسَْت ْعجِلُونَ َفإِذَا نَزَلَ بِسَاحَِت ِهمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات‪،]177 :171:‬وقال‪{ :‬‬
‫سَيُ ْه َزمُ اْلجَ ْمعُ َويُ َولّونَ ال ّدبُرَ} [القمر‪ ،]45:‬وقال‪{ :‬جُندٌ مّا هُنَاِلكَ مَهْزُومٌ مّنَ اْلأَحْزَابِ} [ص‪.]11:‬‬
‫ونزلت ف الذين هاجروا إل البشة‪{ :‬وَاّلذِينَ هَا َجرُواْ فِي ال ِ مِن بَ ْعدِ مَا ظُلِمُواْ لَنَُب ّوئَنّ ُهمْ فِي الدّنْيَا حَسََنةً‬
‫َوَلأَجْرُ ال ِخ َرةِ َأكْبَرُ لَوْ كَانُواْ َيعْلَمُونَ} [النحل‪ .]41:‬وسألوه عن قصة يوسف فأنزل ال ف طيها‪{ :‬لّ َقدْ‬
‫كَانَ فِي يُو ُسفَ َوإِخْ َوتِهِ آيَاتٌ لّلسّائِلِيَ} [يوسف‪ .]7:‬أي فأهل مكة السائلون يلقون ما لقى إخوانه من‬
‫الفشل‪ ،‬ويستسلمون كاستسلمهم‪ ،‬وقال وهو يذكر الرسل‪{ :‬وَقَالَ اّلذِينَ َكفَرُواْ لِرُسُلِ ِهمْ لَُنخْرِجَنّـكُم‬
‫مّنْ أَ ْرضِنَآ أَوْ لََتعُو ُدنّ فِي مِلّتِنَا َفأَوْحَى إِلَيْ ِهمْ َربّ ُهمْ لَنُهْ ِلكَنّ الظّالِمِيَ َولَنُسْكِنَنّـ ُكمُ ا َل ْرضَ مِن َب ْعدِ ِهمْ َذلِكَ‬
‫لِمَنْ خَافَ َمقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم‪.]14 ،13:‬وحينما كانت الرب مشتعلة بي الفرس‬
‫والرومان‪ ،‬وكان الكفار يبون غلبة الفرس لكونم مشركي‪ ،‬والسلمون يبون غلبة الرومان لكونم‬
‫مؤمني بال والرسل والوحى والكتب واليوم الخر‪ ،‬وكانت الفرس يغلبون ويتقدمون‪ ،‬أنزل ال بشارة‬
‫بغلبة الروم ف بضع سني‪ ،‬ولكنه ل يقتصر على هذه البشارة الواحدة‪ ،‬بل صرح ببشارة أخرى‪ ،‬وهي نصر‬
‫ح الْمُ ْؤمِنُونَ بِنَصْرِ ال } [الروم‪.]5 ،4 :‬‬
‫ال للمؤمني حيث قال‪َ { :‬ويَ ْومَِئذٍ يَفْ َر ُ‬

‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم نفسه يقـوم بـثل هذه البشارات بي آونـة وأخـرى‪ ،‬فكـان‬
‫إذا واف الوسم‪ ،‬وقـام بـي الناس ف عُكاظ‪ ،‬و َمجَنّة‪ ،‬وذى ا َلجَاز لتبليغ الرسالة‪ ،‬لـم يكـن يبشرهم‬
‫بالـنة فحسب‪ ،‬بل يقول لم بكل صراحة‪( :‬يأيها الناس‪ ،‬قولوا‪ :‬ل إله إل ال تفلحوا‪ ،‬وتلكوا با‬
‫العرب‪ ،‬وتدين لكم با العجم‪ ،‬فإذا متم كنتم ملوكًا ف النة)‪.‬‬

‫وقد أسلفنا ما أجاب به النب صلى ال عليه وسلم عتبة بن ربيعة حي أراد مساومته على رغائب الدنيا‪،‬‬
‫وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصلة والسلم‪.‬‬

‫وكذلك ما أجاب به النب صلى ال عليه وسلم آخر وفد جاء إل أب طالب‪ ،‬فقد صرح لم أنه يطلب‬
‫منهم كلمة واحدة يعطونا تدين لم با العرب‪ ،‬ويلكون العجم‪.‬‬

‫وقال خباب بن الرت‪ :‬أتيت النب صلى ال عليه وسلم وهو متوسد برده وهو ف ظل الكعبة‪ ،‬وقد لقينا‬
‫من الشركي شدة‪ ،‬فقلت‪ :‬أل تدعو ال ‪ ،‬فقعد‪ ،‬وهو ممر وجهه‪ ،‬فقال‪( :‬لقد كان من قبلكم ليمشط‬
‫بشاط الديد ما دون عظامه من لم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه‪ ،‬وليتمن ال هذا المر حت يسي‬
‫الراكب من صنعاء إل حضرموت ما ياف إل ال ـ زاد بيان الراوى ـ والذئب على غنمه) وف رواية‪:‬‬
‫(ولكنكم تستعجلون)‬

‫ول تكن هذه البشارات مفية مستورة‪ ،‬بل كانت فاشية مكشوفة‪ ،‬يعلمها الكفرة‪ ،‬كما كان يعلمها‬
‫السلمون‪ ،‬حت كان السود بن الطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النب صلى ال عليه وسلم تغامزوا‬
‫بم‪ ،‬وقالوا‪ :‬قد جاءكم ملوك الرض الذين يرثون كسرى وقيصر‪ ،‬ث يصفرون ويصفقون‪.‬‬

‫وأمام هذه البشارات بالستقبل الجيد الستني ف الدنيا‪ ،‬مع ما فيه من الرجاء الصال الكبي البالغ إل‬
‫النهاية ف الفوز بالنة كان الصحابة يرون أن الضطهادات الت تتوال عليهم من كل جانب‪ ،‬والصائب‬
‫الت تيط بم من كل الرجاء ليست إل‪( :‬سحابة صيف عن قليل تقشع)‪.‬‬
‫هذا ول يزل الرسول صلى ال عليه وسلم يغذى أرواحهم برغائب اليان‪ ،‬ويزكى نفوسهم بتعليم الكمة‬
‫والقرآن‪ ،‬ويربيهم تربية دقيقة عميقة‪ ،‬يدو بنفوسهم إل منازل سو الروح‪ ،‬ونقاء القلب‪ ،‬ونظافة اللق‪،‬‬
‫والتحرر من سلطان الاديات‪ ،‬والقاومة للشهوات‪ ،‬والنوع إل رب الرض والسموات‪ ،‬ويذكى جرة‬
‫قلوبم‪ ،‬ويرجهم من الظلمات إل النور‪ ،‬ويأخذهم بالصب على الذى‪ ،‬والصفح الميل‪ ،‬وقهر النفس‪.‬‬
‫فازدادوا رسوخًا ف الدين‪،‬وعزوفا عن الشهوات‪ ،‬وتفانيًا ف سبيل الرضاة‪ ،‬وحنينًا إل النة‪ ،‬وحرصًا على‬
‫العلم‪ ،‬وفقهًا ف الدين‪ ،‬وماسبة للنفس‪ ،‬وقهرًا للنعات وغلبة على العواطف‪ ،‬وتسيطرًا على الثائرات‬
‫والائجات‪ ،‬وتقيدًا بالصب والدوء والوقار‪.‬‬
‫الرحلة الثالثة‪ :‬دعـوة السـلم خـارج مكـة‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم ف الطائف‬

‫ف شوال سنة عشر من النبوة [ف أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة ‪ 619‬م] خرج النب صلى ال عليه‬
‫وسلم إل الطائف‪ ،‬وهي تبعد عن مكة نو ستي ميلًا‪ ،‬سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهوبًا‪ ،‬ومعه موله‬
‫زيد بن حارثة‪ ،‬وكان كلما مر على قبيلة ف الطريق دعاهم إل السلم‪ ،‬فلم تب إليه واحدة منها‪.‬‬

‫فلما انتهي إل الطائف عمد ثلثة إخوة من رؤساء ثقيف‪ ،‬وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن‬
‫عمي الثقفي‪ ،‬فجلس إليهم ودعاهم إل ال ‪ ،‬وإل نصرة السلم‪ ،‬فقال أحدهم‪ :‬هو يَمْرُط ثياب الكعبة [‬
‫أي يزقها] إن كان ال أرسلك‪ .‬وقال الخر‪ :‬أما وَ َجدَ ال أحدًا غيك‪ ،‬وقال الثالث‪:‬وال ل أكلمك أبدًا‪،‬‬
‫إن كنت رسولًا لنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلم‪ ،‬ولئن كنت تكذب على ال ما ينبغى أن‬
‫أكلمك‪ .‬فقام عنهم رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال لم‪[ :‬إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عن]‪.‬‬

‫وأقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بي أهل الطائف عشرة أيام‪ ،‬ل يدع أحدًا من أشرافهم إل جاءه‬
‫وكلمه‪ ،‬فقالوا‪ :‬اخرج من بلدنا‪ .‬وأغروا به سفهاءهم‪ ،‬فلما أراد الروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه‬
‫ويصيحون به‪ ،‬حت اجتمع عليه الناس‪ ،‬فوقفوا له سِمَاطَيْن [أي صفي] وجعلوا يرمونه بالجارة‪،‬‬
‫وبكلمات من السفه‪ ،‬ورجوا عراقيبه‪ ،‬حت اختضب نعله بالدماء‪ .‬وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حت‬
‫أصابه ِشجَاج ف رأسه‪ ،‬ول يزل به السفهاء كذلك حت ألأوه إل حائط لعتبة وشيبة ابن ربيعة على ثلثة‬
‫أميال من الطائف‪ ،‬فلما التجأ إليه رجعوا عنه‪ ،‬وأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم إل حُبْلَة من عنب‬
‫فجلس تت ظلها إل جدار‪ .‬فلما جلس إليه واطمأن‪ ،‬دعا بالدعاء الشهور الذي يدل على امتلء قلبه‬
‫كآبة وحزنًا ما لقى من الشدة‪ ،‬وأسفًا على أنه ل يؤمن به أحد‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ضعْف قُ ّوتِى‪ ،‬وقلة حيلت‪ ،‬وهوإن على الناس‪ ،‬يا أرحم الراحي‪ ،‬أنت رب الستضعفي‪،‬‬
‫(ال م إليك أشكو َ‬
‫وأنت رب‪ ،‬إل من تَكِلُن؟ إل بعيد يََتجَهّمُنِى؟ أم إل عدو ملكته أمري؟ إن ل يكن بك عليّ غضب فل‬
‫أبال‪ ،‬ولكن عافيتك هي أوسع ل‪ ،‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات‪ ،‬وصلح عليه أمر الدنيا‬
‫خطُك‪ ،‬لك العُتْبَى حت ترضى‪ ،‬ول حول ول قوة إل بك)‬
‫والخرة من أن تنل ب غضبك‪ ،‬أو يل علي َس َ‬
‫‪.‬‬

‫فلما رآه ابنا ربيعة تركت له رحهما‪ ،‬فدعوا غلمًا لما نصرانيًا يقال له‪َ :‬عدّاس‪ ،‬وقال له‪:‬خذ قطفًا من‬
‫هذا العنب‪ ،‬واذهب به إل هذا الرجل‪ .‬فلما وضعه بي يدى رسول ال صلى ال عليه وسلم مد يده إليه‬
‫قائلًا‪( :‬باسم ال ) ث أكل‪.‬‬

‫فقال عداس‪ :‬إن هذا الكلم ما يقوله أهل هذه البلد‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬من أي‬
‫البلد أنت؟ وما دينك؟ قال‪ :‬أنا نصران من أهل نِيَنوَى‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬من قرية‬
‫الرجل الصال يونس بن مَتّى)‪ .‬قال له‪ :‬وما يدريك ما يونس ابن مت؟ قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪( :‬ذاك أخي‪ ،‬كان نبيًا وأنا نب)‪ ،‬فأكب عداس على رأس رسول ال صلى ال عليه وسلم ويديه‬
‫ورجليه يقبلها‪.‬‬

‫فقال ابنا ربيعة أحدها للخر‪ :‬أما غلمك فقد أفسده عليك‪ .‬فلما جاء عداس قال له‪ :‬ويك ما هذا؟‬
‫قال‪ :‬يا سيدى‪ ،‬ما ف الرض شيء خي من هذا الرجل‪ ،‬لقد أخبن بأمر ل يعلمه إل نب‪ ،‬قال له‪ :‬ويك يا‬
‫عداس ‪ ،‬ل يصرفنك عن دينك‪ ،‬فإن دينك خي من دينه‪.‬‬

‫ورجع رسول ال صلى ال عليه وسلم ف طريق مكة بعد خروجه من الائط كئيبًا مزونًا كسي القلب‪،‬‬
‫فلما بلغ قرن النازل بعث ال إليه جبيل ومعه ملك البال‪ ،‬يستأمره أن يطبق الخشبي على أهل مكة‪.‬‬

‫وقد روى البخاري تفصيل القصة ـ بسنده ـ عن عروة بن الزبي‪ ،‬أن عائشة رضي ال عنها حدثته أنا‬
‫قالت للنب صلى ال عليه وسلم‪ :‬هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال‪( :‬لقيت من قومكِ‬
‫ما لقيت‪ ،‬وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة‪ ،‬إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد ُكلَل‪ ،‬فلم‬
‫يبن إل ما أردت‪ ،‬فانطلقت ـ وأنا مهموم ـ على وجهي‪ ،‬فلم أستفق إل وأنا بقَ ْر ِن الثعالب ـ وهو‬
‫السمى بقَ ْرنِ النازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتن‪ ،‬فنظرت فإذا فيها جبيل‪ ،‬فنادان‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إن ال قد سع قول قومك لك‪ ،‬وما ردوا عليك‪ ،‬وقد بعث ال إليك ملك البال لتأمره با شئت فيهم‪.‬‬
‫فنادان ملك البال‪ ،‬فسلم عليّ ث قال‪ :‬يا ممد‪ ،‬ذلك‪ ،‬فما شئت‪ ،‬إن شئت أن أطبق عليهم الخشبي ـ‬
‫أي لفعلت‪ ،‬والخشبان‪ :‬ها جبل مكة‪ :‬أبو قُبَيْس والذي يقابله‪ ،‬وهو ُقعَ ْيقِعَان ـ قال النب صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ :‬بل أرجو أن يرج ال عز وجل من أصلبم من يعبد ال عز وجل وحده ل يشرك به شيئا)‪.‬‬

‫وف هذا الواب الذي أدل به الرسول صلى ال عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذة‪ ،‬وما كان عليه من‬
‫اللق العظيم ل يدرك غوره‪.‬‬

‫وأفاق رسول ال صلى ال عليه وسلم واطمأن قلبه لجل هذا النصر الغيب الذي أمده ال عليه من فوق‬
‫سبع سوات‪ ،‬ث تقدم ف طريق مكة حت بلغ وادى نلة‪ ،‬وأقام فيه أيامًا‪ .‬وف وادى نلة موضعان يصلحان‬
‫للقامة ـ السّيْل الكبي وال ّزيْمَة ـ لا بما من الاء والصب‪ ،‬ول نقف على مصدر يعي موضع إقامته‬
‫صلى ال عليه وسلم فيه‪.‬‬

‫وخلل إقامته صلى ال عليه وسلم هناك بعث ال إليه نفرًا من الن ذكرهم ال ف موضعي من القرآن‪ :‬ف‬
‫ضيَ‬
‫سورة الحقاف‪َ { :‬وإِذْ صَرَفْنَا ِإلَ ْيكَ نَفَرًا مّنَ اْلجِنّ يَسْتَ ِمعُو َن الْقُرْآنَ فَ َلمّا َحضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمّا قُ ِ‬
‫صدّقًا لّمَا بَيْنَ َيدَْيهِ يَ ْهدِي ِإلَى‬
‫َولّوْا إِلَى قَ ْومِهِم مّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَ ْومَنَا ِإنّا سَ ِمعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن َبعْدِ مُوسَى مُ َ‬
‫اْلحَقّ َوإِلَى طَرِيقٍ مّسَْتقِيمٍ يَا قَ ْومَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ ال ِ وَآمِنُوا ِبهِ يَ ْغفِرْ لَكُم مّن ُذنُوبِ ُكمْ َوُيجِ ْركُم مّنْ َعذَابٍ‬
‫أَلِيمٍ} [الحقاف‪.]31 :29:‬‬

‫وف سورة الن‪ُ { :‬قلْ أُو ِحيَ ِإلَيّ َأنّهُ اسْتَ َمعَ نَفَرٌ مّنَ اْلجِنّ َفقَالُوا إِنّا َس ِمعْنَا قُرْآنًا َعجَبًا يَ ْهدِي ِإلَى الرّ ْشدِ‬
‫فَآمَنّا ِبهِ َولَن نّشْ ِركَ بِ َربّنَا أَ َحدًا} إلـى تـام اليــة الامـسة عشـر [ الن‪.]15 :1 :‬‬

‫ومن سياق هذه اليات ـ وكذا من سياق الروايات الت وردت ف تفسي هذا الادث ـ يتبي أن النب‬
‫صلى ال عليه وسلم ل يعلم حضور ذلك النفر من الن حي حضروا وسعوا‪ ،‬وإنا علم بعد ذلك حي‬
‫أطلعه ال عليه بذه اليات‪ ،‬وأن حضورهم هذا كان لول مرة‪ ،‬ويقتضى سياق الروايات أنم وفدوا بعد‬
‫ذلك مرارًا‪.‬‬

‫وحقًا كان هذا الادث نصرًا آخر أمده ال من كنوز غيبه الكنون بنوده الت ل يعلمها إل هو‪ ،‬ث إن‬
‫اليات الت نزلت بصدد هذا الادث كانت ف طيها بشارات بنجاح دعوة النب صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وأن أي قوة من قوات الكون ل تستطيع أن تول بينها وبي ناحها‪َ { :‬ومَن لّا ُيجِبْ دَاعِيَ ال ِ فَلَ ْيسَ‬
‫ضلَالٍ مِّبيٍ} [الحقاف‪َ { ،]32:‬وأَنّا ظَنَنّا أَن لّن‬
‫بِمُ ْعجِزٍ فِي اْلأَ ْرضِ َولَ ْيسَ َلهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُ ْولَِئكَ فِي َ‬
‫نّعجِزَ ال َ فِي اْلأَ ْرضِ َولَن نّ ْعجِ َزهُ هَ َربًا } [الن‪.]12:‬‬

‫أمام هذه النصرة‪ ،‬وأمام هذه البشارات‪ ،‬أقشعت سحابة الكآبة والزن واليأس الت كانت مطبقة عليه منذ‬
‫أن خرج من الطائف مطرودًا مدحورًا‪ ،‬حت صمم على العود إل مكة‪ ،‬وعلى القيام باستئناف خطته الول‬
‫ف عرض السلم وإبلغ رسالة ال الالدة بنشاط جديد وبد وحاس‪.‬‬

‫وحينئذ قال له زيد بن حارثة‪ :‬كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعن قريشًا‪ ،‬فقال‪( :‬يا زيد‪ ،‬إن ال‬
‫جاعل لا ترى فرجًا ومرجًا‪ ،‬وإن ال ناصر دينه‪ ،‬ومظهر نبيه)‪ .‬وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم حت‬
‫إذا دنا من مكة مكث بِرَاء‪ ،‬وبعث رجلًا من خزاعة إل الخنس بن شَرِيق ليجيه‪ ،‬فقال‪ :‬أنا حليف‪،‬‬
‫والليف ل يي ‪ ،‬فبعث إل سهيل بن عمرو‪ ،‬فقال سهيل‪ :‬إن بن عامر ل تي على بن كعب‪ ،‬فبعث إل‬
‫الطعم بن عدى‪ ،‬فقال الطعم‪ :‬نعم ‪ ،‬ث تسلح ودعا بنيه وقومه ‪ ،‬فقال‪ :‬البسوا السلح‪ ،‬وكونوا عند‬
‫أركان البيت‪ ،‬فإن قد أجرت ممدًا‪ ،‬ث بعث إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أن ادخل‪ ،‬فدخل رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حت انتهي إل السجد الرام‪ ،‬فقام الطعم بن عدى على‬
‫راحلته فنادى‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إن قد أجرت ممدًا فل يهجه أحد منكم‪ ،‬وانتهي رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم إل الركن فاستلمه‪ ،‬وطاف بالبيت‪ ،‬وصلى ركعتي‪ ،‬وانصرف إل بيته‪ ،‬ومطعم بن عدى وولده‬
‫مدقون به بالسلح حت دخل بيته‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إن أبا جهل سأل مطعمًا‪ :‬أمي أنت أم متابع ـ مسلم؟‪ .‬قال‪ :‬بل مي‪ .‬قال‪ :‬قد أجرنا من أجرت‪.‬‬

‫وقد حفظ رسول ال صلى ال عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع‪ ،‬فقال ف أسارى بدر‪( :‬لو كان الطعم بن‬
‫عدى حيًا ث كلمن ف هؤلء النتن لتركتهم له)‪.‬‬
‫عرض السلم علي القبائل والفراد‬
‫القبائل الت عرض عليها السلم‬
‫الؤمنون من غي أهل مكة‬
‫ست نسمات طيبة من أهل يثرب‬
‫استطراد‬

‫عرض السلم علي القبائل والفراد‬

‫ف ذى القعدة سنة عشر من النبوة ـ ف أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة ‪ 619‬م ـ عاد رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم إل مكة؛ ليستأنف عرض السلم على القبائل والفراد‪ ،‬ولقتراب الوسم كان الناس‬
‫يأتون إل مكة رجال‪ ،‬وعلى كل ضامر يأتي من كل فج عميق لداء فريضة الج‪ ،‬وليشهدوا منافع لم‪،‬‬
‫ويذكروا اسم ال ف أيام معلومات‪ ،‬فانتهز رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الفرصة‪ ،‬فأتاهم قبيلة قبيلة‬
‫يعرض عليهم السلم ويدعوهم إليه ‪ ،‬كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة ‪ ،‬وقد بدأ يطلب‬
‫منهم من هذه السنة ـ العاشرة ـ أن يؤووه وينصروه وينعوه حت يبلغ ما بعثه ال به‪.‬‬

‫القبائل الت عرض عليها السلم‬

‫قال الزهرى‪ :‬وكان من يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودعاهم‬
‫صفَة‪ ،‬وفزارة‪ ،‬وغسان‪ ،‬ومرة‪ ،‬وحنيفة‪،‬‬
‫صعَة‪ ،‬و ُمحَارِب بن َخ َ‬
‫صعْ َ‬
‫وعرض نفسه عليهم‪ :‬بنو عامر بن َ‬
‫وسليم‪ ،‬وعَبْس‪ ،‬وبنو نصر‪ ،‬وبنو البَكّاء‪ ،‬وكندة‪ ،‬وكلب‪ ،‬والارث بن كعب‪ ،‬و ُع ْذرَة‪ ،‬والضارمة‪ ،‬فلم‬
‫يستجب منهم أحد‪.‬‬

‫وهذه القبائل الت ساها الزهرى ل يكن عرض السلم عليها ف سنة واحدة ول ف موسم واحد‪ ،‬بل إنا‬
‫كان ما بي السنة الرابعة من النبوة إل آخر موسم قبل الجرة‪ .‬ول يكن تسمية سنة معينة لعرض السلم‬
‫على قبيلة معينة‪ ،‬ولكن الكثر كان ف السنة العاشرة‪.‬‬
‫أما كيفية عرض السلم على هذه القبائل‪ ،‬وكيف كانت ردودهم على هذا العرض فقد ذكرها ابن‬
‫إسحاق‪ ،‬ونلخصها فيما يلي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ بنو كلب‪ :‬أتى النب صلى ال عليه وسلم إل بطن منهم يقال لم‪ :‬بنو عبد ال ‪ ،‬فدعاهم إل ال‬
‫وعرض عليهم نفسه‪ ،‬حت إنه ليقول لم‪( :‬يا بن عبد ال ‪ ،‬إن ال قد أحسن اسم أبيكم)‪ ،‬فلم يقبلوا منه‬
‫ما عرض عليهم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ بنو حنيفة‪ :‬أتاهم ف منازلم فدعاهم إل ال ‪ ،‬وعرض عليهم نفسه‪ ،‬فلم يكن أحد من العرب أقبح‬
‫عليه ردًا منهم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وأتى إل بن عامر بن صعصعة‪ :‬فدعاهم إل ال ‪ ،‬وعرض عليهم نفسه‪ ،‬فقال بَ ْيحَرَة بن فِرَاس [‬
‫رجل منهم]‪ :‬وال ‪ ،‬لو إن أخذت هذا الفت من قريش لكلت به العرب‪ ،‬ث قال‪ :‬أرأيت إن نن بايعناك‬
‫على أمرك‪ ،‬ث أظهرك ال على من خالفك أيكون لنا المر من بعدك؟ قال‪( :‬المر إل ال ‪ ،‬يضعه حيث‬
‫يشاء)‪ ،‬فقال له‪ :‬أفَتُ ْهدَفُ نورنا للعرب دونك‪ ،‬فإذا أظهرك ال كان المر لغينا‪ ،‬ل حاجة لنا بأمرك‪،‬‬
‫فأبوا عليه‪.‬‬

‫ولا رجعت بنو عامر تدثوا إل شيخ لم ل يواف الوسم لكب سنه‪ ،‬وقالوا له‪ :‬جاءنا فت من قريش من بن‬
‫عبد الطلب يزعم أنه نب‪ ،‬يدعونا إل أن ننعه ونقوم معه‪ ،‬ونرج به إل بلدنا‪ ،‬فوضع الشيخ يديه على‬
‫رأسه ث قال‪ :‬يا بن عامر وهل لا من تَلَف؟ هل ل ُذنَابَاها من َمطْلَب؟ والذي نفس فلن بيده ما تَقَ ّولَها‬
‫إساعيلى قط‪ ،‬وإنا لق‪ ،‬فأين رأيكم كان عنكم؟‪.‬‬

‫الؤمنون من غي أهل مكة‬


‫وكما عرض رسول ال صلى ال عليه وسلم السلم على القبائل والوفود‪ ،‬عرض على الفراد‬
‫والشخاص‪ ،‬وحصل من بعضهم على ردود صالة‪ ،‬وآمن به عدة رجال بعد هذا الوسم بقليل‪ ،‬وهاك‬
‫نبذة منهم‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ سويد بن الصامت‪:‬‬


‫كان شاعرًا لبيبًا‪ ،‬من سكان يثرب‪ ،‬يسميه قومه [الكامل] للده وشعره وشرفه ونسبه‪ ،‬جاء مكة حاجًا أو‬
‫معتمرًا‪ ،‬فدعاه رسول ال صلى ال عليه وسلم إل السلم‪ ،‬فقال‪ :‬لعل الذي معك مثل الذي معى‪ .‬فقال‬
‫له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬وما الذي معك؟) قال‪ :‬حكمة لقمان‪ .‬قال‪( :‬اعرضها عليّ)‪.‬‬
‫فعرضها‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن هذا لكلم حسن‪ ،‬والذي معى أفضل من هذا؛‬
‫قرآن أنزله ال تعال عليّ‪ ،‬هو هدى ونور)‪ ،‬فتل عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم القرآن‪ ،‬ودعاه إل‬
‫السلم‪ ،‬فأسلم‪ ،‬وقال‪ :‬إن هذا لقول حسن‪ .‬فلما قدم الدينة ل يلبث أن قتل ف وقعة بي الوس والزرج‬
‫قبل يوم بعاث‪ .‬والغلب أنه أسلم ف أوائل السنة الادية عشرة من النبوة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ إياس بن معاذ‪:‬‬


‫كان غلمًا حدثا من سكان يثرب‪ ،‬قدم ف وفد من الوس‪ ،‬جاءوا يلتمسون اللف من قريش على قومهم‬
‫من الزرج‪ ،‬وذلك قبيل حـرب بعاث ف أوائل سنة ‪ 11‬من النبوة؛ إذ كانت نيان العداوة متقدة ف‬
‫يثرب بي القبيلتي ـ وكان الوس أقل عددًا من الزرج ـ فلما علم رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بقدمهم جاءهم‪ ،‬فجلس إليهم‪ ،‬وقال لم‪( :‬هل لكم ف خي ما جئتم له؟) فقالوا‪ :‬وما ذاك؟ قال‪( :‬أنا‬
‫رسول ال ‪ ،‬بعثن إل العباد‪ ،‬أدعوهم إل أن يعبدوا ال ول يشركوا به شيئًا‪ ،‬وأنزل عل ّي الكتاب)‪ ،‬ث‬
‫ذكر لم السلم‪ ،‬وتل عليهم القرآن‪ .‬فقال إياس بن معاذ‪ :‬أي قوم‪ ،‬هذا وال خي ما جئتم له‪ ،‬فأخذ أبو‬
‫اليسر أنس بن رافع ـ رجل من الوفد ـ حفنة من تراب البطحاء فرمى با وجه إياس‪ ،‬وقال‪ :‬دعنا‬
‫فلعمرى لقد جئنا لغي هذا‪ ،‬فصمت إياس‪ ،‬وقام رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وانصرفوا إل الدينة من‬
‫غي أن ينجحوا ف عقد حلف مع قريش‪.‬‬

‫وبعد رجوعهم إل يثرب ل يلبث إياس أن هلك‪ ،‬وكان يهلل ويكب ويمد ويسبح عند موته‪ ،‬فل يشكون‬
‫أنه مات مسلمًا‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ أبو ذر الغفاري‪:‬‬


‫وكان من سكان نواحي يثرب‪ ،‬ولعله لا بلغ إل يثرب خب مبعث النب صلى ال عليه وسلم بسويد بن‬
‫الصامت وإياس بن معاذ‪ ،‬وقع ف أذن أب ذر أيضًا‪ ،‬وصار سببًا لسلمه‪.‬‬

‫روى البخاري عن ابن عباس قال‪ :‬قال أبو ذر‪ :‬كنت رجلًا من غفار‪ ،‬فبلغنا أن رجلًا قد خرج بكة يزعم‬
‫أنه نب‪ ،‬فقلت لخي‪ :‬انطلق إل هذا الرجل وكلمه‪ ،‬وائتن ببه‪ ،‬فانطلق فلقيه‪ ،‬ث رجع‪ ،‬فقلت‪ :‬ما‬
‫عندك؟ فقال‪ :‬وال ‪ ،‬لقد رأيت رجلًا يأمر بالي‪ ،‬وينهي عن الشر‪ ،‬فقلت له‪ :‬ل تشفن من الب‪ ،‬فأخذت‬
‫جرابًا وعصا‪ ،‬ث أقبلت إل مكة‪ ،‬فجعلت ل أعرفه‪ ،‬وأكره أن أسأل عنه‪ ،‬وأشرب من ماء زمزم وأكون ف‬
‫السجد‪ .‬قال‪ :‬فمر ب عليّ‪ .‬فقال‪ :‬كأن الرجل غريب؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم‪ .‬فقال‪ :‬فانطلق إل النل‪ ،‬فانطلقت‬
‫معه ل يسألن عن شيء ول أسأله ول أخبه‪ .‬فلما أصبحت غدوت إل السجد لسأل عنه‪ ،‬وليس أحد‬
‫يبن عنه بشيء‪ .‬قال‪ :‬فمر ب عليّ فقال‪ :‬أما نال للرجل يعرف منله بعد؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فانطلق‬
‫معي‪ ،‬قال‪ :‬فقال‪ :‬ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال‪ :‬قلت له‪:‬إن كتمت عليّ أخبتك‪ ،‬قال‪ :‬فإن‬
‫أفعل‪ ،‬قال‪ :‬قلت له‪ :‬بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نب ال ‪ ،‬فأرسلت أخي يكلمه فرجع ول‬
‫يشفن من الب‪ ،‬فأردت أن ألقاه‪.‬‬

‫فقال له‪ :‬أما إنك قد رشدت‪ .‬هذا وجهي إليه‪ ،‬ادخل حيث أدخل فإن إن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت‬
‫إل الائط كإن أصلح نعلى‪ ،‬وامض أنت‪ .‬فمضى ومضيت معه حت دخل‪ ،‬ودخلت معه على النب صلى‬
‫ال عليه وسلم‪.‬فقلت له‪:‬اعرض عليّ السلم‪ .‬فعرضه‪ ،‬فأسلمت مكإن ‪ ،‬فقال ل‪( :‬يا أبا ذر‪ ،‬اكتم هذا‬
‫المر‪ ،‬وارجع إل بلدك‪ ،‬فإذا بلغك ظهورنا فأقبل)‪ .‬فقلت‪ :‬والذي بعثك بالق لصرخن با بي أظهرهم‪،‬‬
‫فجئت إل السجد‪ ،‬وقريش فيه ‪ ،‬فقلت‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إن أشهد أن ل إله إل ال ‪ ،‬وأشهد أن ممدًا‬
‫عبده ورسوله ‪ ،‬فقالوا‪ :‬قوموا إل هذا الصابئ‪ .‬فقاموا‪ ،‬فضربت لموت‪ ،‬فأدركن العباس فأكب عليّ‪ ،‬ث‬
‫أقبل عليهم فقال‪ :‬ويلكم تقتلون رجلًا من غفار؟ ومتجركم ومركم على غفار‪ ،‬فأقلعوا عن‪ .‬فلما أن‬
‫أصبحت الغد‪ ،‬رجعت‪ ،‬فقلت مثل ما قلت بالمس‪ .‬فقالوا‪ :‬قوموا إل هذا الصابئ‪ ،‬فصنع ب ما صنع‬
‫بالمس‪ ،‬فأدركن العباس‪ ،‬فأكب عليّ وقال مثل مقالته بالمس‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ طُفَيْل بن عمرو الدّوْسى‪:‬‬


‫كان رجلًا شريفًا‪ ،‬شاعرًا لبيبًا‪ ،‬رئيس قبيلة دوس‪ ،‬وكانت لقبيلته إمارة أو شبه إمارة ف بعض نواحى‬
‫اليمن‪ ،‬قدم مكة ف عام ‪ 11‬من النبوة‪ ،‬فاستقبله أهلها قبل وصوله إليها‪ ،‬وبذلوا له أجل تية وأكرم‬
‫تقدير‪ ،‬وقالوا له‪ :‬يا طفيل‪ ،‬إنك قدمت بلدنا‪ ،‬وهذا الرجل الذي بي أظهرنا قد أعضل بنا‪ ،‬وقد فرق‬
‫جاعتنا‪ ،‬وشتت أمرنا‪ ،‬وإنا قوله كالسحر‪ ،‬يفرق بي الرجل وأبيه‪ ،‬وبي الرجل وأخيه ‪ ،‬وبي الرجل‬
‫وزوجـه‪ ،‬وإنا نشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا‪ ،‬فل تكلمه ول تسمعن منه شيئًا‪.‬‬

‫يقول طفيل‪ :‬فوال ما زالوا ب حت أجعت أل أسع منه شيئًا‪ ،‬ول أكلمه‪ ،‬حت حشوت أذن حي غدوت‬
‫إل السجد كُرْ ُسفًا؛ فرقًا من أن يبلغن شيء من قوله‪ ،‬قال‪ :‬فغدوت إل السجد فإذا هو قائم يصلى عند‬
‫الكعبة‪ ،‬فقمت قريبًا منه‪ ،‬فأب ال إل أن يسمعن بعض قوله‪ ،‬فسمعت كلمًا حسنًا‪ ،‬فقلت ف نفسى‪:‬‬
‫واثكل أمي‪ ،‬وال إن رجل لبيب شاعر؛ ما يفي عليّ السن من القبيح‪ ،‬فما ينعن أن أسع من هذا الرجل‬
‫ما يقول؟ فإن كان حسنًا قبلته‪ ،‬وإن كان قبيحًا تركته‪ ،‬فمكثت حت انصرف إل بيته فاتبعته‪ ،‬حت إذا‬
‫دخل بيته دخلت عليه‪ ،‬فعرضت عليه قصة مقدمى‪ ،‬وتويف الناس إياي‪ ،‬وسد الذن بالكرسف‪ ،‬ث ساع‬
‫بعض كلمه‪ ،‬وقلت له‪ :‬اعرض عليّ أمرك‪ ،‬فعرض عليّ السلم‪ ،‬وتل عليّ القرآن‪ .‬فوال ما سعت قولًا‬
‫قط أحسن منه‪ ،‬ول أمرًا أعدل منه‪ ،‬فأسلمت وشهدت شهادة الق‪ ،‬وقلت له‪ :‬إن مطاع ف قومى‪،‬‬
‫وراجع إليهم‪ ،‬وداعيهم إل السلم‪ ،‬فادع ال أن يعل ل آية‪ ،‬فدعا‪.‬‬

‫وكانت آيته أنه لا دنا من قومه جعل ال نورًا ف وجهه مثل الصباح‪ ،‬فقال‪ :‬ال م ف غي وجهي‪ .‬أخشى‬
‫أن يقولوا‪ :‬هذه مثلة‪ ،‬فتحول النور إل سوطه‪ ،‬فدعا أباه وزوجته إل السلم فأسلما‪ ،‬وأبطأ عليه قومه ف‬
‫السلم‪ ،‬لكن ل يزل بم حت هاجر بعد الندق‪ ،‬ومعه سبعون أو ثانون بيتًا من قومه‪ ،‬وقد أبلى ف‬
‫السلم بلء حسنًا‪ ،‬وقتل شهيدًا يوم اليمامة‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ ضِمَاد الزدى‪:‬‬


‫كان من أزْدِ شَنُوءَة من اليمن‪ ،‬وكان يرقى من هذا الريح‪ ،‬قدم مكة فسمع سفهاءها يقولون‪ :‬إن ممدًا‬
‫منون‪ ،‬فقال‪ :‬لو إن أتيت هذا الرجل لعل ال يشفيه على يدى‪ ،‬فلقيه‪ ،‬فقال‪ :‬يا ممد‪ ،‬إن أرقى من هذا‬
‫الريح‪ ،‬فهل لك؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن المد ل نمده ونستعينه‪ ،‬من يهده ال فل‬
‫مضل له‪ ،‬ومن يضلله فل هادى له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن ممدًا عبده‬
‫ورسوله‪ .‬أما بعد)‪.‬‬

‫فقال‪ :‬أعد عليّ كلماتك هؤلء‪ ،‬فأعادهن عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلث مرات‪ ،‬فقال‪ :‬لقد‬
‫سعت قول الكهنة‪ ،‬وقول السحرة‪ ،‬وقول الشعراء‪ ،‬فما سعت مثل كلماتك هؤلء‪ ،‬ولقد بلغن قاموس‬
‫البحر‪ ،‬هات يدك أبايعك على السلم‪ ،‬فبايعه‪.‬‬

‫ست نسمات طيبة من أهل يثرب‬


‫وف موسم الج من سنة ‪ 11‬من النبوة ـ يوليو سنة ‪620‬م ـ وجدت الدعوة السلمية بذورًا‬
‫صالة‪ ،‬سرعان ما تولت إل شجرات باسقات‪ ،‬اتقى السلمون ف ظللا الوارفة لفحات الظلم والعدوان‬
‫حت تغي مرى الحداث وتول خط التاريخ‪.‬‬

‫وكان من حكمته صلى ال عليه وسلم إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصد عن سبيل ال‬
‫أنه كان يرج إل القبائل ف ظلم الليل‪ ،‬حت ل يول بينه وبينهم أحد من أهل مكة الشركي‪.‬‬

‫فخرج ليلة ومعه أبو بكر وعلى‪ ،‬فمر على منازل ذُهْل وشيبان بن ثعلبة ‪ ،‬وكلمهم ف السلم‪ .‬وقد دارت‬
‫بي أب بكر وبي رجل من ذهل أسئلة وردود طريفة‪ ،‬وأجاب بنو شيبان بأرجى الجوبة‪ ،‬غي أنم توقفوا‬
‫ف قبول السلم‪.‬‬

‫ث مر رسول ال صلى ال عليه وسلم بعقبة من‪ ،‬فسمع أصوات رجال يتكلمون فعمدهم حت لقهم‪،‬‬
‫وكانوا ستة نفر من شباب يثرب كلهم من الزرج‪ ،‬وهم‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ أسعد بن ُزرَارة [من بن النجار]‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ عوف بن الارث بن رفاعة ابن َعفْراء [من بن النجار]‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ رافع بن مالك بن العَجْلن [من بن ُز َريْق]‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ُقطْبَة بن عامر بن حديدة [من بن سلمة]‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ُعقْبَة بن عامر بن ناب [من بن َحرَام بن كعب ]‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ جابر بن عبد ال بن رِئاب [من بن عبيد بن غَنْم ]‪.‬‬

‫وكان من سعادة أهل يثرب أنم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود الدينة‪ ،‬إذا كان بينهم شيء‪ ،‬أن نبيًا‬
‫من النبياء مبعوث ف هذا الزمان سيخرج‪ ،‬فنتبعه‪ ،‬ونقتلكم معه قتل عاد وإرم‪.‬‬

‫فلما لقهم رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لم‪( :‬من أنتم؟) قالوا‪ :‬نفر من الزرج‪ ،‬قال‪( :‬من موال‬
‫اليهود؟) أي حلفائهم‪ ،‬قالوا‪ :‬نعم‪ .‬قال‪( :‬أفل تلسون أكلمكم؟) قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬فجلسوا معه‪ ،‬فشرح لم‬
‫حقيقة السلم ودعوته‪ ،‬ودعاهم إل ال عز وجل‪ ،‬وتل عليهم القرآن‪ .‬فقال بعضهم لبعض‪ :‬تعلمون وال‬
‫يا قوم‪ ،‬إنه للنب الذي توعدكم به يهود‪ ،‬فل تسبقنكم إليه‪ ،‬فأسرعوا إل إجابة دعوته‪ ،‬وأسلموا‪.‬‬
‫وكانوا من عقلء يثرب‪ ،‬أنكتهم الرب الهلية الت مضت قريبًا‪ ،‬والت ل يزال ليبها مستعرًا‪ ،‬فأملوا أن‬
‫تكون دعوته سببًا لوضع الرب‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنا قد تركنا قومنا ول قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم‪،‬‬
‫فعسى أن يمعهم ال بك‪ ،‬فسنقدم عليهم‪ ،‬فندعوهم إل أمرك‪ ،‬ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا‬
‫الدين ‪ ،‬فإن يمعهم ال عليك فل رجل أعز منك‪.‬‬

‫ولا رجع هؤلء إل الدينة حلوا إليها رسالة السلم‪ ،‬حت ل تبق دار من دور النصار إل وفيه ذكر رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫استطراد ـ زواج رسول ال صلى ال عليه وسلم بعائشة‬


‫وف شوال من هذه السنة ـ سنة ‪ 11‬من النبوة ـ تزوج رسول ال صلى ال عليه وسلم عائشة‬
‫الصديقة رضي ال عنها وهي بنت ست سني وبن با بالدينة ف شوال ف السنة الول من الجرة وهي‬
‫بنت تسع سني‪.‬‬
‫الســراء والعــراج‬

‫وبينما النب صلى ال عليه وسلم يـر بذه الرحلة‪ ،‬وأخذت الدعوة تشق طريقًا بي النجاح‬
‫والضطهـاد‪ ،‬وبـدأت نـوم المل تتلمح ف آفاق بعيدة‪ ،‬وقع حادث السراء والعـراج‪ .‬واختلف‬
‫ف تعيي زمنه على أقوال شت‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ فقيل‪ :‬كان السراء ف السنة الت أكرمه ال فيها بالنبوة‪ ،‬واختاره الطبى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وقيل‪ :‬كان بعد البعث بمس سني‪ ،‬رجح ذلك النووى والقرطب‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وقيل‪ :‬كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة ‪ 10‬من النبوة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ وقيل‪ :‬قبل الجرة بستة عشر شهرًا‪ ،‬أي ف رمضان سنة ‪ 12‬من النبوة‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ وقيل‪ :‬قبل الجرة بسنة وشهرين‪ ،‬أي ف الحرم سنة ‪ 13‬من النبوة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ وقيل‪ :‬قبل الجرة بسنة‪ ،‬أي ف ربيع الول سنة ‪ 13‬من النبوة‪.‬‬
‫وَ ُر ّدتِ القوا ُل الثلثة الول بأن خدية رضي ال عنها توفيت ف رمضان سنة عشر من النبوة‪ ،‬وكانت‬
‫وفاتا قبل أن تفرض الصلوات المس‪ .‬ول خلف أن فرض الصلوات المس كان ليلة السراء‪ .‬أما‬
‫القوال الثلثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحدًا منها‪ ،‬غي أن سياق سورة السراء يدل على أن السراء‬
‫متأخر جدًا‪.‬‬

‫وروى أئمة الديث تفاصيل هذه الوقعة‪ ،‬وفيما يلي نسردها بإياز‪:‬‬

‫قال ابن القيم‪ :‬أسرى برسول ال صلى ال عليه وسلم بسده على الصحيح من السجد الرام إل بيت‬
‫القدس‪ ،‬راكبًا على البُرَاق‪ ،‬صحبة جبيل عليهما الصلة والسلم‪ ،‬فنل هناك‪ ،‬وصلى بالنبياء إمامًا‪،‬‬
‫وربط الباق بلقة باب السجد‪.‬‬

‫ث عرج به تلك الليلة من بيت القدس إل السماء الدنيا‪ ،‬فاستفتح له جبيل ففتح له‪ ،‬فرأي هنالك آدم أبا‬
‫البشر‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرحب به ورد عليه السلم‪ ،‬وأقر بنبوته‪ ،‬وأراه ال أرواح السعداء عن يينه‪ ،‬وأرواح‬
‫الشقياء عن يساره‪.‬‬
‫ث عرج به إل السماء الثانية‪ ،‬فاستفتح له‪ ،‬فرأي فيها يي بن زكريا وعيسى ابن مري‪ ،‬فلقيهما وسلم‬
‫عليهما‪ ،‬فردا عليه ورحبا به‪ ،‬وأقرّا بنبوته‪.‬‬
‫ث عرج به إل السماء الثالثة‪ ،‬فرأي فيها يوسف‪ ،‬فسلم عليه فرد عليه ورحب به‪ ،‬وأقر بنبوته‪.‬‬
‫ث عرج به إل السماء الرابعة‪ ،‬فرأي فيها إدريس‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه‪ ،‬ورحب به‪ ،‬وأقر بنبوته‪.‬‬
‫ث عرج به إل السماء الامسة‪ ،‬فرأي فيها هارون بن عمران‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه ورحب به‪ ،‬وأقر‬
‫بنبوته‪.‬‬
‫ث عرج به إل السماء السادسة‪ ،‬فلقى فيها موسى بن عمران‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه ورحب به‪ ،‬وأقر‬
‫بنبوته‪.‬‬
‫فلما جاوزه بكى موسى‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما يبكيك ؟ فقال‪ :‬أبكى؛ لن غلمًا بعث من بعدى يدخل النة من‬
‫أمته أكثر ما يدخلها من أمت‪.‬‬

‫ث عرج به إل السماء السابعة‪ ،‬فلقى فيها إبراهيم عليه السلم‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه‪ ،‬ورحب به‪ ،‬وأقر‬
‫بنبوته‪.‬‬

‫ث رفع إل سدرة النتهى‪ ،‬فإذا نَ ْبقُها مثل ِقلَل َهجَر‪ ،‬وإذا ورقها مثل آذان الفيلة‪ ،‬ث غشيها فراش من‬
‫ذهب‪ ،‬ونور وألوان‪ ،‬فتغيت‪ ،‬فما أحد من خلق ال يستطيع أن يصفها من حسنها‪ .‬ث رفع له البيت‬
‫العمور‪ ،‬وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ث ل يعودون‪ .‬ث أدخل النة‪ ،‬فإذا فيها حبائل اللؤلؤ‪،‬‬
‫وإذا ترابا السك‪ .‬وعرج به حت ظهر لستوى يسمع فيه صَرِيف القلم‪.‬‬

‫ث عرج به إل البّار جل جلله‪ ،‬فدنا منه حت كان قاب قوسي أو أدن‪ ،‬فأوحى إل عبده ما أوحى‪،‬‬
‫وفرض عليه خسي صلة‪ ،‬فرجع حت مرّ على موسى فقال له‪ :‬ب أمرك ربك؟ قال‪[ :‬بمسي صلة]‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن أمتك ل تطيق ذلك‪ ،‬ارجع إل ربك فاسأله التخفيف لمتك‪ ،‬فالتفت إل جبيل‪ ،‬كأنه يستشيه‬
‫ف ذلك‪ ،‬فأشار‪ :‬أن نعم إن شئت‪ ،‬فعل به جبيل حت أتى به البار تبارك وتعال‪ ،‬وهو ف مكانه ـ هذا‬
‫لفظ البخاري ف بعض الطرق ـ فوضع عنه عشرًا‪ ،‬ث أنزل حت مر بوسى‪ ،‬فأخبه‪ ،‬فقال‪ :‬ارجع إل ربك‬
‫فاسأله التخفيف‪ ،‬فلم يزل يتردد بي موسى وبي ال عز وجل‪ ،‬حت جعلها خسًا‪ ،‬فأمره موسى بالرجوع‬
‫وسؤال التخفيف‪ ،‬فقال‪[ :‬قد استحييت من رب‪ ،‬ولكن أرضى وأسلم]‪ ،‬فلما بعد نادى مناد‪ :‬قد أمضيت‬
‫فريضت وخففت عن عبادى‪ .‬انتهي‪.‬‬

‫ث ذكر ابن القيم خلفًا ف رؤيته صلى ال عليه وسلم ربه تبارك وتعال‪ ،‬ث ذكر كلمًا لبن تيمية بذا‬
‫الصدد‪ ،‬وحاصل البحث أن الرؤية بالعي ل تثبت أصلًا‪ ،‬وهو قول ل يقله أحد من الصحابة‪ .‬وما نقل عن‬
‫ابن عباس من رؤيته مطلقًا ورؤيته بالفؤاد فالول ل يناف الثان‪.‬‬

‫ث قال‪ :‬وأما قوله تعال ف سورة النجم‪ُ{ :‬ثمّ َدنَا فََت َدلّى} [النجم‪ ]8:‬فهو غي الدنو الذي ف قصة‬
‫السراء‪ ،‬فإن الذي ف سورة النجم هو دنو جبيل وتدليه‪ ،‬كما قالت عائشة وابن مسعود‪ ،‬والسياق يدل‬
‫عليه‪ ،‬وأما الدنو والتدل ف حديث السراء فذلك صريح ف أنه دنو الرب تبارك وتعال وتدليه‪ ،‬ول‬
‫تعرض ف سورة النجم لذلك‪ ،‬بل فيه أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة النتهى‪ .‬وهذا هو جبيل‪ ،‬رآه ممد‬
‫صلى ال عليه وسلم على صورته مرتي‪ :‬مرة ف الرض‪ ،‬ومرة عند سدرة النتهى‪ ،‬وال أعلم‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫وقد جاء ف بعض الطرق أن صدره صلى ال عليه وسلم شق ف هذه الرة أيضًا‪ ،‬وقد رأى النب صلى ال‬
‫عليه وسلم ف هذه الـرحلة أمورًا عديدة‪:‬‬

‫عرض عليه اللب والمر‪ ،‬فاختار اللب‪ ،‬فقيل‪ :‬هديت الفطرة أو أصبت الفطرة‪ ،‬أما إنك لو أخذت المر‬
‫غوت أمتك‪.‬‬

‫ورأي أربعة أنار يرجن من أصل سدرة النتهى‪ :‬نران ظاهران ونران باطنان‪ ،‬فالظاهران ها‪ :‬النيل‬
‫والفرات‪ ،‬عنصرها‪ .‬والباطنان‪ :‬نران ف النة‪ .‬ولعل رؤية النيل والفرات كانت إشارة إل تكن السلم‬
‫من هذين القطرين‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫ورأى مالكًا خازن النار‪ ،‬وهو ل يضحك‪ ،‬وليس على وجهه بشر ول بشاشة‪ ،‬وكذلك رأي النة والنار‪.‬‬

‫ورأى أكلة أموال اليتامى ظلمًا لم مشافر كمشافر البل‪ ،‬يقذفون ف أفواههم قطعًا من نار كالفهار‪،‬‬
‫فتخرج من أدبارهم‪.‬‬
‫ورأى أكلة الربا لم بطون كبية ل يقدرون لجلها أن يتحولوا عن أماكنهم‪ ،‬وير بم آل فرعون حي‬
‫يعرضون على النار فيطأونم‪.‬‬

‫ورأى الزناة بي أيديهم لم سي طيب‪ ،‬إل جنبه لم غث منت‪ ،‬يأكلون من الغث النت‪ ،‬ويتركون الطيب‬
‫السمي‪.‬‬

‫ورأى النساء اللتى يدخلن على الرجال من ليس من أولدهم‪ ،‬رآهن معلقات بثديهن‪.‬‬

‫ورأى عيًا من أهل مكة ف الياب والذهاب‪ ،‬وقد دلم على بعي َندّ لم‪ ،‬وشرب ماءهم من إناء مغطى‬
‫وهم نائمون‪ ،‬ث ترك الناء مغطى‪ ،‬وقد صار ذلك دليلًا على صدق دعواه ف صباح ليلة السراء‪.‬‬

‫قال ابن القيم‪ :‬فلما أصبح رسول ال صلى ال عليه وسلم ف قومه أخبهم با أراه ال عز وجل من آياته‬
‫الكبى‪ ،‬فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه‪ ،‬وسألوه أن يصف لم بيت القدس‪ ،‬فجله ال له‪،‬‬
‫حت عاينه‪ ،‬فطفق يبهم عن آياته‪ ،‬ول يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا‪ ،‬وأخبهم عن عيهم ف مسراه‬
‫ورجوعه‪ ،‬وأخبهم عن وقت قدومها‪ ،‬وأخبهم عن البعي الذي يقدمها‪ ،‬وكان المر كما قال‪ ،‬فلم يزدهم‬
‫ذلك إل نفورًا‪ ،‬وأب الظالون إل كفورًا ‪.‬‬

‫يقال‪ :‬سُمى أبو بكر رضي ال عنه صديقًا؛ لتصديقه هذه الوقعة حي كذبا الناس‪.‬‬

‫وأوجز وأعظم ما ورد ف تعليل هذه الرحلة هو قوله تعال‪{ :‬لِنُ ِريَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [السراء‪ ]1 :‬وهذه سنة‬
‫ال ف النبياء‪ ،‬قال‪َ { :‬و َكذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَ َلكُوتَ السّمَاوَاتِ وَا َل ْرضِ َولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِيَ} [النعام‪:‬‬
‫‪ ،]75‬وقال لوسى عليه السلم‪{ :‬لِنُ ِرَيكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُ ْبرَى} [طه‪ ،]23:‬وقد بي مقصود هذه الراءة‬
‫بقوله‪َ { :‬ولِيَكُونَ مِنَ الْمُو ِقنِيَ} فبعد استناد علوم النبياء إل رؤية اليات يصل لم من عي اليقي ما ل‬
‫يقادر قدره‪ ،‬وليس الب كالعاينة‪ ،‬فيتحملون ف سبيل ال ما ل يتحمل غيهم‪ ،‬وتصي جيع قوات الدنيا‬
‫عندهم كجناح بعوضة ل يعبأون با إذا ما تدول عليهم بالحن والعذاب‪.‬‬

‫والكم والسرار الت تكمن وراء جزئيات هذه الرحلة إنا مل بثها كتب أسرار الشريعة‪ ،‬ولكن هنا‬
‫حقائق بسيطة تتفجر من ينابيع هذه الرحلة الباركة‪ ،‬وتتدفق إل حدائق أزهار السية النبوية ـ على‬
‫صاحبها الصلة والسلم والتحية ـ أرى أن أسجل بعضًا منها بالياز‪:‬‬

‫يرى القارئ ف سورة السراء أن ال ذكر قصة السراء ف آية واحدة فقط‪ ،‬ث أخذ ف ذكر فضائح اليهود‬
‫وجرائمهم‪ ،‬ث نبههم بأن هذا القرآن يهدى للت هي أقوم‪ ،‬فربا يظن القارئ أن اليتي ليس بينهما‬
‫ارتباط‪ ،‬والمر ليس كذلك‪ ،‬فإن ال تعال يشي بذا السلوب إل أن السراء إنا وقع إل بيت القدس؛‬
‫لن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة المة النسانية؛ لا ارتكبوا من الرائم الت ل مال بعدها لبقائهم‬
‫على هذا النصب‪ ،‬وإن ال سينقل هذا النصب فعل إل رسوله صلى ال عليه وسلم ويمع له مركزى‬
‫الدعوة البراهيمية كليهما‪ ،‬فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إل أمة؛ من أمة ملت تاريها‬
‫بالغدر واليانة والث والعدوان‪ ،‬إل أمة تتدفق بالب واليات‪ ،‬ول يزال رسولا يتمتع بوحى القرآن الذي‬
‫يهدى للت هي أقوم‪.‬‬

‫ولكن كيف تنتقل هذه القيادة‪ ،‬والرسول يطوف ف جبال مكة مطرودًا بي الناس؟ هذا السؤال يكشف‬
‫الغطاء عن حقيقة أخرى‪ ،‬وهي أن عهدًا من هذه الدعوة السلمية قد أوشك إل النهاية والتمام‪ ،‬وسيبدأ‬
‫عهد آخر جديد يتلف عن الول ف مراه‪ ،‬ولذلك نرى بعض اليات تشتمل على إنذار سافر ووعيد‬
‫سقُواْ فِيهَا َفحَقّ َعلَيْهَا اْلقَوْلُ‬
‫شديد بالنسبة إل الشركي { َوإِذَا أَرَ ْدنَا أَن نّ ْه ِلكَ قَ ْرَيةً أَمَ ْرنَا مُتْرَفِيهَا َففَ َ‬
‫َف َدمّرْنَاهَا َت ْدمِيًا َو َكمْ أَهْلَكْنَا مِ َن الْقُرُونِ مِن بَ ْعدِ نُوحٍ َو َكفَى بِ َرّبكَ بِ ُذنُوبِ عِبَا ِدهِ خَبِيًَا بَصِيًا} [السراء‪:‬‬
‫‪ ]17 ،16‬وبنب هذه اليات آيات أخرى تبي للمسلمي قواعد الضارة وبنودها ومبادئها الت يبتن‬
‫عليها متمعهم السلمى‪ ،‬كأنم قد أووا إل أرض امتلكوا فيها أمورهم من جيع النواحى‪ ،‬وكونوا وحدة‬
‫متماسكة تدور عليها رحى الجتمع‪ ،‬ففيه إشارة إل أن الرسول صلى ال عليه وسلم سيجد ملجأ ومأمنًا‬
‫يستقر فيه أمره‪ ،‬ويصي مركزًا لبث دعوته ف أرجاء الدنيا‪ .‬هذا سر من أسرار هذه الرحلة الباركة‪ ،‬يتصل‬
‫ببحثنا فآثرنا ذكره‪.‬‬

‫ولجل هذه الكمة وأمثالا نرى أن السراء إنا وقع إما قبيل بيعة العقبة الول أو بي العقبتي‪ ،‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫بيعة العقبة الول‬
‫سفي السلم ف الدينة‬
‫النجاح الغتبط‬
‫بيعة العقبة الثانية‬
‫بداية الحادثة وتشريح العباس لطورة السئولية‬
‫بنود البيعة‬
‫التأكيد من خطورة البيعة‬
‫عقد البيعة‬
‫اثنا عشر نقيبًا‬
‫شيطان يكتشف العاهدة‬
‫استعداد النصار لضرب قريش‬
‫قريش تقدم الحتجاج إل رؤساء يثرب‬
‫تأكد الب لدى قريش ومطاردة البايعي‬

‫بيعة العقبة الول‬

‫قد ذكرنا أن ستة نفر من أهل يثرب أسلموا ف موسم الج سنة ‪ 11‬من النبوة‪ ،‬ووعدوا رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم بإبلغ رسالته ف قومهم‪.‬‬

‫وكان من جراء ذلك أن جاء ف الوسم التال ـ موسم الج سنة ‪ 12‬من النبوة‪ ،‬يوليو سنة ‪621‬م ـ‬
‫اثنا عشر رجلًا‪ ،‬فيهم خسة من الستة الذين كانوا قد التقوا برسول ال صلى ال عليه وسلم ف العام‬
‫السابق ـ والسادس الذي ل يضر هو جابر بن عبد ال بن رِئاب ـ وسبعة سواهم‪ ،‬وهم‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ معاذ بن الارث‪ ،‬ابن عفراء من بن النجار [من الزرج]‬


‫‪ 2‬ـ َذكْوَان بن عبد القيس من بن زُ َريْق‪[ .‬من الزرج]‬
‫‪ 3‬ـ عبادة بن الصامت من بن غَنْم [من الزرج]‬
‫‪ 4‬ـ يزيد بن ثعلبة من حلفاء بن غنم [من الزرج]‬
‫‪ 5‬ـ العباس بن عُبَادة بن نَضْلَة من بن سال [من الزرج]‬
‫‪ 6‬ـ أبو الَيْثَم بن التّيّهَان من بن عبد الشهل [من الوس]‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ عُ َويْم بن ساعدة من بن عمرو بن عَوْف [من الوس]‪.‬‬

‫الخيان من الوس‪ ،‬والبقية كلهم من الزرج‪.‬‬

‫التقى هؤلء برسول ال صلى ال عليه وسلم عند العقبة بن فبايعوه بيعة النساء‪ ،‬أي وفق بيعتهن الت‬
‫نزلت بعد الديبية‪.‬‬

‫روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪[ :‬تعالوا بايعون على أل‬
‫تشركوا بال شيئًا‪ ،‬ول تسرقوا‪ ،‬ول تزنوا‪ ،‬ول تقتلوا أولدكم‪ ،‬ول تأتوا ببهتان تفترونه بي أيديكم‬
‫وأرجلكم‪ ،‬ول تعصون ف معروف‪ ،‬فمن وف منكم فأجره على ال ‪ ،‬ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به‬
‫ف الدنيا‪ ،‬فهو له كفارة‪ ،‬ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره ال ‪ ،‬فأمـره إل ال ؛ إن شاء عاقبه‪ ،‬وإن شاء‬
‫عفا عـنه]‪ .‬قــال‪ :‬فبايعته ـ وف نسخة‪ :‬فبايعناه ـ على ذلك‪.‬‬

‫سفي السلم ف الدينة‬


‫وبعد أن تت البيعة وانتهى الوسم بعث النب صلى ال عليه وسلم مع هؤلء البايعي أول سفي ف يثرب؛‬
‫ليعلم السلمي فيها شرائع السلم‪ ،‬ويفقههم ف الدين‪ ،‬وليقوم بنشر السلم بي الذين ل يزالوا على‬
‫صعَب بن عُمَيْر العبدرى‬
‫الشرك‪ ،‬واختار لذه السفارة شابًا من شباب السلم من السابقي الولي‪ ،‬وهو مُ ْ‬
‫رضي ال عنه‪.‬‬

‫النجاح الغتبط‬
‫نزل مصعب بن عمي على أسعد بن ُزرَارة‪ ،‬وأخذا يبثان السلم ف أهل يثرب بد وحاس‪ ،‬وكان مصعب‬
‫يُعْرَف بالقرئ‪.‬‬
‫ومن أروع ما يروى من ناحه ف الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يومًا يريد دار بن عبد الشهل ودار‬
‫بن َظفَر‪ ،‬فدخل ف حائط من حوائط بن ظفر‪ ،‬وجلسا على بئر يقال لا‪ :‬بئر مَرَق‪ ،‬واجتمع إليهما رجال‬
‫من السلمي ـ وسعد بن معاذ وأُسَيْد بن ُحضَيْر سيدا قومهما من بن عبد الشهل يومئذ على الشرك ـ‬
‫فلما سعا بذلك قال سعد لسيد‪ :‬اذهب إل هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرها‪ ،‬وانهما عن‬
‫أن يأتيا دارينا‪ ،‬فإن أسعد بن زرارة ابن خالت‪ ،‬ولول ذلك لكفيتك هذا‪.‬‬

‫فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما‪ ،‬فلما رآه أسعد قال لصعب‪ :‬هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق ال فيه‪ ،‬قال‬
‫مصعب‪ :‬إن يلس أكلمه‪ .‬وجاء أسيد فوقف عليهما متشتمًا‪ ،‬وقال‪ :‬ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟‬
‫اعتزلنا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة‪ ،‬فقال له مصعب‪ :‬أو تلس فتسمع‪ ،‬فإن رضيت أمرا قبلته‪ ،‬وإن‬
‫كرهته كف عنك ما تكره‪ ،‬فقال‪ :‬أنصفت‪ ،‬ث ركز حربته وجلس‪ ،‬فكلمه مصعب بالسلم‪ ،‬وتل عليه‬
‫القرآن‪ .‬قال‪ :‬فو ال لعرفنا ف وجهه السلم قبل أن يتكلم‪ ،‬ف إشراقه وتلله‪ ،‬ث قال‪ :‬ما أحسن هذا‬
‫وأجله؟ كيف تصنعون إذا أردت أن تدخلوا ف هذا الدين؟‬

‫قال له‪ :‬تغتسل‪ ،‬وتطهر ثوبك‪ ،‬ث تشهد شهادة الق‪ ،‬ث تصلى ركعتي‪ .‬فقام واغتسل‪ ،‬وطهر ثوبه وتشهد‬
‫وصلى ركعتي‪ ،‬ث قال‪ :‬إن ورائى رجلًا إن تبعكما ل يتخلف عنه أحد من قومه‪ ،‬وسأرشده إليكما الن ـ‬
‫سعد بن معاذ ـ ث أخذ حربته وانصرف إل سعد ف قومه‪ ،‬وهم جلوس ف ناديهم‪ .‬فقال سعد‪ :‬أحلف بال‬
‫لقد جاءكم بغي الوجه الذي ذهب به من عندكم‪.‬‬

‫فلما وقف أسيد على النادى قال له سعد‪ :‬ما فعلت؟ فقال‪ :‬كلمت الرجلي‪ ،‬فوال ما رأيت بما بأسًا‪ ،‬وقد‬
‫نيتهما فقال‪ :‬نفعل ما أحببت‪.‬‬

‫وقد حدثت أن بن حارثة خرجوا إل أسعد بن زرارة ليقتلوه ـ وذلك أنم قد عرفوا أنه ابن خالتك ـ‬
‫لُِيخْفِرُوك‪ .‬فقام سعد مغضبًا للذى ذكر له‪ ،‬فأخذ حربته‪ ،‬وخرج إليهما‪ ،‬فلما رآها مطمئني عرف أن‬
‫أسيدًا إنا أراد منه أن يسمع منهما‪ ،‬فوقف عليهما متشتمًا‪ ،‬ث قال لسعد بن زرارة‪ :‬وال يا أبا أمامة‪ ،‬لول‬
‫ما بين وبينك من القرابة ما ُرمْتَ هذا من‪ ،‬تغشانا ف دارنا با نكره؟‬

‫وقـد كان أسعد قال لصعب‪ :‬جاءك وال سيد من ورائه قومه‪ ،‬إن يتبعك ل يتخلف عنك منهم أحد‪،‬‬
‫فقال مصعب لسعد بن معاذ‪ :‬أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلته‪ ،‬وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره‪،‬‬
‫قال‪ :‬قد أنصفت‪ ،‬ث ركز حربته فجلس‪ .‬فعـرض عليــه السلم‪ ،‬وقـرأ علـيه القـرآن‪ ،‬قـال‪:‬‬
‫فعرفنـا وال ف وجهـه السلم قبـل أن يتكلم‪ ،‬ف إشـراقه وتلّله‪ ،‬ثـم قـال‪ :‬كيـف تصنـعون‬
‫إذا أسلمتـم؟ قال‪ :‬تغتسل‪ ،‬وتطهر ثوبك‪ ،‬ث تشهد شهادة الق‪ ،‬ث تصلى ركعتي‪ .‬ففعل ذلك‪.‬‬

‫ث أخذ حربته فأقبل إل نادى قومه‪ ،‬فلما رأوه قالوا‪ :‬نلف بال لقد رجع بغي الوجه الذي ذهب به‪.‬‬

‫فلما وقف عليهم قال‪ :‬يا بن عبد الشهل‪ ،‬كيف تعلمون أمرى فيكم؟ قالوا‪ :‬سيدنا وأفضلنا رأيًا‪ ،‬وأيننا‬
‫نقيبة‪ ،‬قال‪ :‬فإن كلم رجالكم ونسائكم علىّ حرام حت تؤمنوا بال ورسوله‪ .‬فما أمسى فيهم رجل ول‬
‫امرأة إل مسلمًا ومسلمة‪ ،‬إل رجل واحد ـ وهو الُصَ ْيرِم ـ تأخر إسلمه إل يوم أحد‪ ،‬فأسلم ذلك‬
‫اليوم وقاتل وقتل‪ ،‬ول يسجد ل سجدة‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪[ :‬عمل قليلًا وأجر كثيًا]‪.‬‬

‫وأقام مصعب ف بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إل السلم‪ ،‬حت ل تبق دار من دور النصار إل وفيها‬
‫رجال ونساء مسلمون‪ ،‬إل ما كان من دار بن أمية بن زيد و َخطْمَة ووائل‪ .‬كان فيهم قيس بن السلت‬
‫الشاعر ـ وكانوا يطيعونه ـ فوقف بم عن السلم حت كان عام الندق سنة خس من الجرة‪.‬‬

‫وقبل حلول موسم الج التال ـ أي حج السنة الثالثة عشرة ـ عاد مصعب بن عمي إل مكة يمل إل‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم بشائر الفوز‪ ،‬ويقص عليه خب قبائل يثرب‪ ،‬وما فيها من مواهب الي‪،‬‬
‫وما لا من قوة ومنعة‪.‬‬

‫بيعة العقبة الثانية‬


‫ف موسم الج ف السنة الثالثة عشرة من النبوة ـ يونيو سنة ‪622‬م ـ حضر لداء مناسك الج بضع‬
‫وسبعون نفسًا من السلمي من أهل يثرب‪،‬جاءوا ضمن حجاج قومهم من الشركي‪ ،‬وقد تساءل هؤلء‬
‫السلمون فيما بينهم ـ وهم ل يزالوا ف يثرب أو كانوا ف الطريق‪ :‬حت مت نترك رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم يطوف ويطرد ف جبال مكة وياف؟‬

‫فلما قدموا مكة جرت بينهم وبي النب صلى ال عليه وسلم اتصالت سرية أدت إل اتفاق الفريقي على‬
‫أن يتمعوا ف أوسط أيام التشريق ف الشعب الذي عند العقبة حيث المرة الول من من‪ ،‬وأن يتم‬
‫الجتماع ف سرية تامة ف ظلم الليل‪.‬‬

‫ولنترك أحد قادة النصار يصف لنا هذا الجتماع التاريي الذي حول مرى اليام ف صراع الوثنية‬
‫والسلم‪ .‬يقول كعب بن مالك النصاري رضي ال عنه‪:‬‬

‫خرجنا إل الج‪ ،‬وواعدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق‪ ،‬فلما فرغنا من‬
‫الج‪ ،‬وكانت الليلة الت واعدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم لا‪ ،‬ومعنا عبد ال بن عمرو بن حَرَام أبو‬
‫جابر‪ ،‬سيد من ساداتنا‪ ،‬وشريف من أشرافنا‪ ،‬أخذناه معنا ـ وكنا نكتم من معنا من قومنا من الشركي‬
‫أمرنا ـ فكلمناه وقلنا له‪ :‬يا أبا جابر‪ ،‬إنك سيد من ساداتنا‪ ،‬وشريف من أشرافنا‪ ،‬وإنا نرغب بك عما‬
‫أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدًا‪ .‬ث دعوناه إل السلم‪ ،‬وأخبناه بيعاد رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫إيانا العقبة‪ ،‬قال‪ :‬فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا‪.‬‬

‫قال كعب‪ :‬فنمنا تلك الليلة مع قومنا ف رحالنا حت إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا ليعاد رسول‬
‫شعْب عند العقبة‪ ،‬ونن ثلثة‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬نتسلل تسلل ال َقطَا‪ ،‬مستخفي‪ ،‬حت اجتمعنا ف ال ّ‬
‫وسبعون رجلًا‪ ،‬وامرأتان من نسائنا؛ نُسَيْبَة بنت كعب ـ أم عُمَارة ـ من بن مازن بن النجار‪،‬وأساء بنت‬
‫عمرو ـ أم منيع ـ من بن سلمة‪.‬‬

‫فاجتمعنا ف الشعب ننتظر رسول ال صلى ال عليه وسلم حت جاءنا‪ ،‬ومعه عمه‪ :‬العباس بن عبد الطلب‬
‫ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إل أنه أحب أن يضر أمر ابن أخيه‪ ،‬ويتوثق له‪ ،‬وكان أول متكلم‪.‬‬
‫بداية الحادثة وتشريح العباس لطورة السئولية‬

‫وبعد أن تكامل الجلس بدأت الحادثات لبرام التحالف الدين والعسكرى‪ ،‬وكان أول التكلمي هو‬
‫العباس بن عبد الطلب عم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬تكلم ليشرح لم ـ بكل صراحة ـ خطورة‬
‫السئولية الت ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف‪ .‬قال‪:‬‬

‫يا معشر الزرج ـ وكان العرب يسمون النصار خزرجـا‪ ،‬خزرجـها وأوسـها كليهما ـ إن ممدًا‬
‫منا حيث قد علمتم‪ ،‬وقد منعناه من قومنا من هو على مثل رأينا فيه‪،‬فهو ف عز من قومه ومنعة ف بلده‪.‬‬
‫وإنه قد أب إل النياز إليكم واللحوق بكم‪ ،‬فإن كنتم ترون أنكم وافون له با دعوتوه إليه‪ ،‬ومانعوه من‬
‫سلِمُوه وخاذلوه بعد الروج به إليكم فمن الن‬
‫خالفه‪ ،‬فأنتم وما تملتم من ذلك‪ .‬وإن كنتم ترون أنكم مُ ْ‬
‫فدعوه‪ .‬فإنه ف عز ومنعة من قومه وبلده‪.‬‬

‫قال كعب‪ :‬فقلنا له‪ :‬قد سعنا ما قلت‪ ،‬فتكلم يا رسول ال ‪ ،‬فخذ لنفسك ولربك ما أحببت‪.‬‬

‫وهذا الواب يدل على ما كانوا عليه من عزم صميم‪ ،‬وشجاعة مؤمنة‪ ،‬وإخلص كامل ف تمل هذه‬
‫السئولية العظيمة‪ ،‬وتمل عواقبها الطية‪.‬‬

‫وألقى رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد ذلك بيانه‪ ،‬ث تت البيعة‪.‬‬

‫بنود البيعة‬
‫وقد روى ذلك المام أحد عن جابر مفصلًا‪ .‬قال جابر‪ :‬قلنا‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬علم نبايعك؟ قال‪:‬‬

‫[على السمع والطاعة ف النشاط والكسل‪.‬‬

‫وعلى النفقة ف العسر واليسر‪.‬‬


‫وعلى المر بالعروف والنهي عن النكر‪.‬‬

‫وعلى أن تقوموا ف ال ‪ ،‬ل تأخذكم ف ال لومة لئم‪.‬‬

‫وعلى أن تنصرون إذا قدمت إليكم‪ ،‬وتنعون ما تنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم‪ ،‬ولكم النة]‪.‬‬

‫وف رواية كعب ـ الت رواها ابن إسحاق ـ البند الخي فقط من هذه البنود‪ ،‬ففيه‪ :‬قال كعب‪ :‬فتكلم‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فتل القرآن‪ ،‬ودعا إل ال ‪ ،‬ورغب ف السلم‪ ،‬ث قال‪[ :‬أبايعكم على‬
‫أن تنعون ما تنعون منه نسائكم وأبناءكم]‪ .‬فأخذ الباء ابن مَعْرُور بيده ث قال‪ :‬نعم‪ ،‬والذي بعثك بالق‬
‫نبيًا‪ ،‬لنمنعنك ما ننع أُزُرَنا منه‪ ،‬فبايعنا يا رسول ال ‪ ،‬فنحن وال أبناء الرب وأهل اْلحَ ْلقَة‪ ،‬ورثناها كابرًا‬
‫عن كابر‪.‬‬

‫قال‪ :‬فاعترض القول ـ والباء يكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ أبو اليثم بن التّيّهَان‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫رسول ال ‪ ،‬إن بيننا وبي الرجال حبالًا‪ ،‬وإنا قاطعوها ـ يعن اليهود ـ فهل عسيت إن نن فعلنا ذلك‪،‬‬
‫ث أظهرك ال إن ترجع إل قومك وتدعنا؟‬

‫قال‪ :‬فتبسم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ث قال‪[ :‬بل ال ّدمُ الدّمُ‪ ،‬وا َل ْدمُ الْ َه ْدمُ‪ ،‬أنا منكم وأنتم من‪،‬‬
‫أحارب من حاربتم‪ ،‬وأسال من سالتم]‪.‬‬

‫التأكيد من خطورة البيعة‬


‫وبعد أن تت الحادثة حول شروط البيعة‪ ،‬وأجعوا على الـشروع ف عقدها قام رجلن من الرعيل الول‬
‫من أسلموا ف مواسم سنت ‪ 11‬و ‪ 12‬من النبوة‪ ،‬قام أحدها تلو الخر؛ ليؤكدا للقوم خطورة‬
‫السئولية‪ ،‬حت ل يبايعوه إل على جلية من المر‪ ،‬وليعرفا مدى استعداد القوم للتضحية‪ ،‬ويتأكدا من‬
‫ذلك‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬لا اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نَضْلَة‪ :‬هل تدورن علم تبايعون هذا الرجل؟‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬إنكم تبايعونه على حرب الحر والسود من الناس‪ .‬فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهَكَتْ‬
‫أموالكم مصيبة‪ ،‬وأشرافكم قتل أسلمتموه‪ ،‬فمن الن‪ ،‬فهو وال إن فعلتم خزى الدنيا والخرة‪ .‬وإن كنتم‬
‫ترون أنكم وافون له با دعوتوه إليه على نَ ْهكَة الموال وقتل الشراف فخذوه‪ ،‬فهو وال خي الدنيا‬
‫والخـرة‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬فإنا نأخذه على مصيبة الموال وقتل الشراف‪ ،‬فما لنا بذلك يا رسول ال إن نن وفينا بذلك؟‬
‫قال‪[ :‬النة]‪ .‬قالوا‪ :‬ابسط يدك‪ ،‬فبسط يده فبايعوه‪.‬‬

‫وف رواية جابر [قال]‪ :‬فقمنا نبايعه‪،‬فأخذ بيده أسعد بن زرارة ـ وهو أصغر السبعي ـ فقال‪ :‬رويدا يا‬
‫أهل يثرب‪ ،‬إنا ل نضرب إليه أكباد البل إل ونن نعلم أنه رسول ال ‪ ،‬وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب‬
‫كافة‪ ،‬وقتل خياركم‪ ،‬وأن تعضكم السيوف‪ ،‬فإما أنتم تصبون على ذلك فخذوه‪ ،‬وأجركم على ال ‪،‬‬
‫وإما أنتم تافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند ال ‪.‬‬

‫عقد البيعة‬
‫وبعد إقرار بنود البيعة‪ ،‬وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالصافحة‪ ،‬قال جابر ـ بعد أن حكى‬
‫قول أسعد بن زرارة ـ قال‪ :‬فقالوا‪ :‬يا أسعد‪ ،‬أمِطْ عنا يدك‪ .‬فوال ل نذر هذه البيعة‪ ،‬ول نستقيلها‪.‬‬

‫وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية ف هذا السبيل وتأكد منه ـ وكان هو الداعية الكبي‬
‫مع مصعب بن عمي ـ فكان هو السابق إل هذه البيعة‪ .‬قال ابن إسحاق‪ :‬فبنو النجار يزعمون أن أبا‬
‫أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده‪ .‬وبعد ذلك بدأت البيعة العامة‪ ،‬قال جابر‪ :‬فقمنا إليه‬
‫رجلًا رجلًا فأخذ علينا البيعة‪ ،‬يعطينا بذلك النة‪.‬‬

‫وأما بيعة الرأتي اللتي شهدتا الوقعة فكانت قولًا‪ .‬ما صافح رسول ال صلى ال عليه وسلم امرأة أجنبية‬
‫قط‪.‬‬

‫اثنا عشر نقيبًا‬


‫وبعد أن تت البيعة طلب رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يتاروا اثن عشر زعيمًا يكونون نقباء على‬
‫قومهم‪ ،‬يكفلون السئولية عنهم ف تنفيذ بنود هذه البيعة‪ ،‬فقال للقوم‪ :‬أخرجوا إلّ منكم اثن عشر نقيبًا‬
‫ليكونوا على قومهم با فيهم‪.‬‬

‫فتم اختيارهم ف الال‪ ،‬وكانوا تسعة من الزرج وثلثة من الوس‪.‬وهاك أساءهم‪:‬‬

‫نقباء الزرج‬

‫‪1‬ـ أسعد بن زُرَارَة بن عدس‪.‬‬


‫‪2‬ـ سعد بن ال ّربِيع بن عمرو‪.‬‬
‫‪3‬ـ عبد ال بن رواحة بن ثعلبة‪.‬‬
‫‪4‬ـ رافع بن مالك بن ال َعجْلن‪.‬‬
‫صخْر‪.‬‬
‫‪5‬ـ الباء بن َمعْرُور بن َ‬
‫‪6‬ـ عبد ال بن عمرو بن حَرَام‪.‬‬
‫‪7‬ـ عبادة بن الصامت بن قيس‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ سعد بن عبادة بن ُدلَيْم‪.‬‬
‫‪9‬ـ النذر بن عمرو بن خُنَيْس‪.‬‬
‫نقباء الوس‬
‫ضيْر بن سِمَاك‪.‬‬
‫‪1‬ـ أُسَيْد بن حُ َ‬
‫‪2‬ـ سعد بن خَيْثَمَة بن الارث‪.‬‬
‫‪3‬ـ رفاعة بن عبد النذر بن زبي‪.‬‬

‫ولا ت اختيار هؤلء النقباء أخذ عليهم النب صلى ال عليه وسلم ميثاقًا آخر بصفتهم رؤساء مسئولي‪.‬‬

‫قال لم‪[ :‬أنتم على قومكم با فيهم كفلء‪ ،‬ككفالـة الواريي لعيسى ابن مري‪ ،‬وأنا كفيل على قومي]‬
‫ـ يعن السلمي ـ قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫شيطان يكتشف العاهدة‬
‫ولا ت إبرام العاهدة‪ ،‬وكان القوم على وشك الرفضاض‪ ،‬اكتشفها أحد الشياطي؛ وحيث إن هذا‬
‫الكتشاف جاء ف اللحظة الخية‪ ،‬ول يكن يكن إبلغ زعماء قريش هذا الب سرًا‪ ،‬ليباغتوا الجتمعي‬
‫وهم ف الشعب‪ ،‬قام ذلك الشيطان على مرتفع من الرض‪،‬وصاح بأنفذ صوت سع قط‪ :‬يا أهل الَبَاجب‬
‫ـ النازل ـ هل لكم ف ُمذَمّم والصباة معه؟ قد اجتمعوا على حربكم‪.‬‬

‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪[ :‬هذا أ َزبّ العقبة‪ ،‬أما وال يا عدو ال لتفرغن لك‪ .‬ث أمرهم أن‬
‫ينفضوا إل رحالم]‪.‬‬

‫استعداد النصار لضرب قريش‬


‫وعند ساع صوت هذا الشيطان قال العباس بن عبادة بن نضلة‪ :‬والذي بعثك بالق‪ ،‬إن شئت لنميلن على‬
‫أهل من غدًا باسيافنا‪.‬‬

‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪[ :‬ل نؤمر بذلك‪ ،‬ولكن ارجعوا إل رحالكم]‪ ،‬فرجعوا وناموا حت‬
‫أصبحوا‪.‬‬

‫قريش تقدم الحتجاج إل رؤساء يثرب‬


‫لا قـرع هذا الب آذان قريش وقعت فيهم ضجة‪ ،‬وساورتم القلقل والحزان؛ لنم كانوا على معرفة‬
‫تامة بعواقب مثل هذه البيعة ونتائجها بالنسبة إل أنفسهم وأموالم‪ ،‬فما أن أصبحوا حت توجه وفد كبي‬
‫من زعماء مكة وأكابر مرميها إل أهل يثرب؛ ليقدم احتجاجه الشديد على هذه العاهدة‪ ،‬قال الوفد‪:‬‬

‫[يا معشر الزرج‪ ،‬إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إل صاحبنا هذا تستخرجونه من بي أظهرنا‪ ،‬وتبايعونه على‬
‫حربنا‪ ،‬وإنه وال ما من حى من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الرب بيننا وبينهم منكم]‪.‬‬

‫ولا كان مشركو الزرج ل يعرفون شيئًا عن هذه البيعة؛ لنا تت ف سرية تامة ف ظلم الليل‪ ،‬انبعث‬
‫هؤلء الشركون يلفون بال ‪ :‬ما كان من شيء وما علمناه‪ ،‬حت أتوا عبد ال بن أب بن سلول‪ ،‬فجعل‬
‫يقول‪ :‬هذا باطل‪ ،‬وما كان هذا‪،‬وما كان قومى ليفتاتوا على بثل هذا‪ ،‬ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا‬
‫حت يؤامرون‪.‬‬

‫أما السلمون فنظر بعضهم إل بعض‪ ،‬ث لذوا بالصمت‪ ،‬فلم يتحدث أحد منهم بنفي أو إثبات‪.‬‬

‫ومال زعماء قريش إل تصديق الشركي‪ ،‬فرجعوا خائبي‪.‬‬

‫تأكد الب لدى قريش ومطاردة البايعي‬


‫عاد زعماء مكة وهم على شبه اليقي من كذب هذا الب‪ ،‬لكنهم ل يزالوا يَتََنطّسُونه ـ يكثرون البحث‬
‫عنه ويدققون النظر فيه ـ حت تأكد لديهم أن الب صحيح‪ ،‬والبيعة قد تت فعلًا‪ .‬وذلك بعد ما نفر‬
‫الجيج إل أوطانم‪ ،‬فسارع فرسانم بطاردة اليثربيي‪ ،‬ولكن بعد فوات الوان‪ ،‬إل أنم تكنوا من رؤية‬
‫سعد بن عبادة والنذر ابن عمرو فطاردوها‪ ،‬فأما النذر فأعجز القوم‪ ،‬وأما سعد فألقوا القبض عليه‪،‬‬
‫فربطوا يديه إل عنقه بنِسْع رَ ْحلِه‪ ،‬وجعلوا يضربونه ويرونه ويرون شعره حت أدخلوه مكة‪ ،‬فجاء الطعم‬
‫بن عدى والارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم؛ إذ كان سعد يي لما قوافلهما الارة بالدينة‪،‬‬
‫وتشاورت النصار حي فقدوه أن يكروا إليه‪ ،‬فإذا هو قد طلع عليهم‪ ،‬فوصل القوم جيعًا إل الدينة‪.‬‬

‫هذه هي بيعة العقبة الثانية ـ الت تعرف ببيعة العقبة الكبى ـ وقد تت ف جو تعلوه عواطف الب‬
‫والولء‪ ،‬والتناصر بي أشتات الؤمني‪ ،‬والثقة والشجاعة والستبسال ف هذا السبيل‪ .‬فمؤمن من أهل‬
‫يثرب ينو على أخيه الستضعف ف مكة‪ ،‬ويتعصب له‪،‬ويغضب من ظاله‪ ،‬وتيش ف حناياه مشاعر الود‬
‫لذا الخ الذي أحبه بالغيب ف ذات ال ‪.‬‬

‫ول تكن هذه الشاعر والعواطف نتيجة نزعة عابرة تزول على مر اليام‪ ،‬بل كان مصدرها هو اليان بال‬
‫وبرسوله وبكتابه‪ ،‬إيان ل يزول أمام أي قوة من قوات الظلم والعدوان‪ ،‬إيان إذا هبت ريه جاءت‬
‫بالعجائب ف العقيدة والعمل‪ ،‬وبذا اليان استطاع السلمون أن يسجلوا على أوراق الدهر أعمالًا‪،‬‬
‫ويتركوا عليها آثارًا خل عن نظائرها الغابر والاضر‪ ،‬وسوف يلو الستقبل‪.‬‬
‫طلئـع الجـرة‬

‫طلئـع الجـرة‬
‫ف دار الندوة [برلان قريش]‬
‫النقاش البلان والجاع على قرار غاشم بقتل النب صلى ال عليه وسلم‬

‫طلئـع الجـرة‬

‫وبعد أن تت بيعة العقبة الثانية ونح السلم ف تأسيس وطن له وسط صحراء توج بالكفر والهالة ـ‬
‫وهو أخطر كسب حصل عليه السلم منذ بداية دعوته ـ أذن رسول ال صلى ال عليه وسلم للمسلمي‬
‫بالجرة إل هذا الوطن‪.‬‬

‫ول يكن معن الجرة إل إهدار الصال‪ ،‬والتضحية بالموال‪ ،‬والنجاة بالشخص فحسب‪ ،‬مع الشعار بأنه‬
‫مستباح منهوب قد يهلك ف أوائل الطريق أو نايتها‪ ،‬وبأنه يسي نو مستقبل مبهم‪ ،‬ل يدرى ما يتمخض‬
‫عنه من قلقل وأحزان‪.‬‬

‫وبدأ السلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك‪ ،‬وأخذ الشركون يولون بينهم وبي خروجهم؛ لا كانوا‬
‫يسون به من الطر‪ ،‬وهاك ناذج من ذلك‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ كان من أول الهاجرين أبو سلمة ـ هاجر قبل العقبة الكبى بسنة على ما قاله ابن إسحاق ـ‬
‫وزوجته وابنه‪ ،‬فلما أجع على الروج قال له أصهاره‪ :‬هذه نفسك غلبتنا عليها‪ ،‬أرأيت صاحبتنا هذه؟‬
‫علم نتركك تسي با ف البلد؟ فأخذوا منه زوجته‪ ،‬وغضب آل أب سلمة لرجلهم‪،‬فقالوا‪ :‬ل نترك ابننا‬
‫معها إذ نزعتموها من صاحبنا‪ ،‬وتاذبوا الغلم بينهم فخلعوا يده‪ ،‬وذهبوا به‪ .‬وانطلق أبو سلمة وحده إل‬
‫الدينة‪.‬‬

‫وكانت أم سلمة رضي ال عنها و بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها ترج كل غداة بالبطح تبكى حت‬
‫تسى‪ ،‬ومضى على ذلك نو سنة‪ ،‬فرق لا أحد ذويها وقال‪ :‬أل ترجون هذه السكينة؟ فرقتم بينها وبي‬
‫زوجها وولدها‪ ،‬فقالوا لا‪ :‬القى بزوجك إن شئت‪ ،‬فاسترجعت ابنها من عصبته‪ ،‬وخرجت تريد الدينة‬
‫ـ رحلة تبلغ حوال خسمائة كيلو متر تر بي شواهق البال ومهالك الودية ـ وليس معها أحد من‬
‫خلق ال ‪ .‬حت إذا كانت بالتّ ْنعِيم لقيها عثمان بن طلحة بن أب طلحة‪ ،‬وبعد أن عرف حالا شيعها حت‬
‫أقدمها إل الدينة‪ ،‬فلما نظر إل قباء‪ ،‬قال‪ :‬زوجك ف هذه القرية فادخليها على بركة ال ‪ ،‬ث انصرف‬
‫راجعًا إل مكة‪.‬‬

‫صهَيْب بن سِنان الرومى بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما أراد الجرة قال له كفار‬
‫‪ 2‬ـ وهاجر ُ‬
‫قريش‪ :‬أتيتنا صعلوكًا حقيًا‪ ،‬فكثر مالك عندنا‪ ،‬وبلغت الذي بلغت‪ ،‬ث تريد أن ترج بالك ونفسك؟‬
‫وال ل يكون ذلك‪ .‬فقال لم صهيب‪ :‬أرأيتم إن جعلت لكم مال أتلون سبيلى؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فأن قد‬
‫جعلت لكم مال‪ ،‬فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪[ :‬ربح صهيب‪ ،‬ربح صهيب]‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ وتواعد عمر بن الطاب‪ ،‬وعَيّاش بن أب ربيعة‪ ،‬وهشام بن العاص بن وائل موضعًا اسه التّنَاضُب‬
‫فوق سَرِف يصبحون عنده‪ ،‬ث يهاجرون إل الدينة‪ ،‬فاجتمع عمر وعياش‪ ،‬وحبس عنهما هشام‪.‬‬

‫ولا قدما الدينة ونزل بقباء قدم أبو جهل وأخوه الارث إل عياش ـ وأم الثلثة واحدة‪ ،‬وهي أساء بنت‬
‫ُمخَرّبَة ـ فقال له‪ :‬إن أمك قد نذرت أل يس رأسها مشط‪ ،‬ول تستظل بشمس حت تراك‪ ،‬فَ َرقّ لا‪.‬‬
‫فقال له عمر‪ :‬يا عياش‪ ،‬إنه وال إن يريدك القوم إل ليفتنوك عن دينك فاحذرهم‪ ،‬فوال لو آذى أمك‬
‫القمل لمتشطت‪ ،‬ولو قد اشتد عليها حر مكة لستظلت‪ ،‬فأب عياش إل الروج معهما ليب قسم أمه‪،‬‬
‫فقال له عمر‪ :‬أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقت هذه‪ ،‬فإنا ناقة نيبة ذلول‪ ،‬فالزم ظهرها‪ ،‬فإن رابك من‬
‫القوم ريب فانج عليها‪.‬‬

‫فخرج عليها معهما‪ ،‬حت إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل‪ :‬يابن أمي‪ ،‬وال لقد استغلظت بعيي‬
‫هذا‪ ،‬أفل تعقبن على ناقتك هذه؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬فأناخ وأناخا ليتحول عليها‪ ،‬فلما استووا بالرض عدوا عليه‬
‫فأوثقاه وربطاه‪ ،‬ث دخل به مكة نارًا موثقًا‪ ،‬وقال‪ :‬يا أهل مكة‪ ،‬هكذا فافعلوا بسفهائكم‪ ،‬كما فعلنا‬
‫بسفيهنا هذا‪.‬‬
‫هذه ثلثة ناذج لا كان الشركون يفعلونه بن يريد الجرة إذا علموا ذلك‪ .‬ولكن على رغم ذلك خرج‬
‫الناس أرسالًا يتبع بعضهم بعضًا‪ .‬وبعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبى ل يبق بكة من السلمي‬
‫إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبو بكر وعلى ـ أقاما بأمره لما ـ وإل من احتبسه الشركون‬
‫كرهًا‪ ،‬وقد أعد رسول ال صلى ال عليه وسلم جهازه ينتظر مت يؤمر بالروج‪ ،‬وأعد أبو بكر جهازه‪.‬‬

‫روى البخاري عن عائشة قالت‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم للمسلمي‪[ :‬أن أريت دار‬
‫هجرتكم‪ ،‬ذات نل بي لبَتَيْن] ـ وها الرتان ـ فهاجر من هاجر قبل الدينة‪ ،‬ورجع عامة من كان‬
‫هاجر بأرض البشة إل الدينة‪ ،‬وتهز أبو بكر قبل الدينة‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪[ :‬على‬
‫ِرسْلِك‪ ،‬فأن أرجو أن يؤذن ل]‪ .‬فقال له أبو بكر‪ :‬وهل ترجو ذلك بأب أنت؟ قال‪[ :‬نعم]‪ ،‬فحبس أبو‬
‫بكر نفسه على رسول ال صلى ال عليه وسلم ليصحبه‪ ،‬وعلف راحلتي كانتا عنده ورق السّمَر ـ وهو‬
‫الَبَطُ ـ أربعة أشهر‪.‬‬

‫ف دار الندوة [برلان قريش]‬

‫ولا رأى الشركون أن أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم قد تهزوا وخرجوا‪ ،‬وحلوا وساقوا‬
‫الذرارى والطفال والموال إل الوس والزرج أصابتهم الكآبة والزن‪ ،‬وساورهم القلق والم بشكل ل‬
‫يسبق له مثيل‪ ،‬فقد تسد أمامهم خطر حقيقى عظيم‪ ،‬أخذ يهدد كيانم الوثن والقتصادي‪.‬‬

‫فقد كانوا يعلمون ما ف شخصية ممد صلى ال عليه وسلم من غاية قوة التأثي مع كمال القيادة‬
‫والرشاد‪ ،‬وما ف أصحابه من العزية والستقامة والفداء ف سبيله‪ ،‬ث ما ف قبائل الوس والزرج من‬
‫القوة والنعة‪ ،‬وما ف عقلء هاتي القبيلتي من عواطف السلم والصلح‪ ،‬والتداعي إل نبذ الحقاد‪،‬‬
‫ولسيما بعد أن ذاقوا مرارة الروب الهلية طيلة أعوام من الدهر‪.‬‬

‫كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الوقع الستراتيجي بالنسبة إل الحجة التجارية الت تر بساحل البحر‬
‫الحر من اليمن إل الشام‪ .‬وقد كان أهل مكة يتاجرون إل الشام بقدر ربع مليون دينار ذهب سنويًا‪،‬‬
‫سوى ما كان لهل الطائف وغيها‪ .‬ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار المن ف تلك‬
‫الطريق‪.‬‬
‫فل يفي ما كان لقريش من الطر البالغ ف تركز الدعوة السلمية ف يثرب‪ ،‬ومابة أهلها ضدهم‪.‬‬

‫شعر الشركون بتفاقم الطر الذي كان يهدد كيانم‪ ،‬فصاروا يبحثون عن أنح الوسائل لدفع هذا الطر‬
‫الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة السلم ممدصلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وف يوم الميس ‪ 26‬من شهر صفر سنة ‪ 14‬من النبوة‪ ،‬الوافق ‪ 12‬من شهر سبتمب سنة ‪622‬م ـ أي‬
‫بعد شهرين ونصف تقريبًا من بيعة العقبة الكبى ـ عقد برلان مكة [دار الندوة] ف أوائل النهارأخطر‬
‫اجتماع له ف تاريه‪ ،‬وتوافد إل هذا الجتماع جيع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسة تكفل‬
‫القضاء سريعًا على حامل لواء الدعوة السلمية؛ وتقطع تيار نورها عن الوجود نائيًا‪ .‬وكانت الوجوه‬
‫البارزة ف هذا الجتماع الطي من نواب قبائل قريش‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ أبو جهل بن هشام‪ ،‬عن قبيلة بن مزوم‪.‬‬

‫‪4 ،3 ،2‬ـ جبي بن ُم ْطعِم‪ ،‬و ُطعَيْمَة بن عدى‪ ،‬والارث بن عامر‪ ،‬عن بن نَوْفَل بن عبد مناف‪.‬‬

‫‪7 ،6 ،5‬ـ شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب‪ ،‬عن بن عبد شس بن عبد مناف‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ النّضْر بن الارث‪ ،‬عن بن عبد الدار‪.‬‬

‫‪11 ،10 ،9‬ـ أبو الَبخْتَرِى بن هشام‪ ،‬و َزمْعَة بن السود‪ ،‬وحَكِيم بن حِزَام‪ ،‬عن بن أسد بن عبد العزى‪.‬‬

‫‪13 ،12‬ـ نُبَيْه ومَُنبّه ابنا الجاج‪ ،‬عن بن سهم‪.‬‬

‫‪14‬ـ أمية بن خَلَف‪ ،‬عن بن جُمَح‪.‬‬


‫ولا جاءوا إل دار الندوة حسب اليعاد‪ ،‬اعترضهم إبليس ف هيئة شيخ جليل‪ ،‬عليه بَتّ له‪ ،‬ووقف على‬
‫الباب‪ ،‬فقالوا‪ :‬من الشيخ؟ قال‪ :‬شيخ من أهل ند سع بالذي اتعدت له فحضر معكم ليسمع ما تقولون‪،‬‬
‫وعسى أل يعدمكم منه رأيًا ونصحًا‪ .‬قالوا‪ :‬أجل‪ ،‬فادخل‪ ،‬فدخل معهم‪.‬‬

‫النقاش البلان والجاع على قرار غاشم بقتل النب صلى ال عليه وسلم‬

‫وبعد أن تكامل الجتماع بدأ عرض القتراحات واللول‪ ،‬ودار النقاش طويلًا‪ .‬قال أبو السود‪ :‬نرجه‬
‫من بي أظهرنا وننفيه من بلدنا‪ ،‬ول نبال أين ذهب‪ ،‬ول حيث وقع‪ ،‬فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما‬
‫كانت‪.‬‬

‫قال الشيخ النجدى‪ :‬ل وال ما هذا لكم برأي‪ ،‬أل تروا حسن حديثه‪ ،‬وحلوة منطقه‪ ،‬وغلبته على قلوب‬
‫الرجال با يأتى به؟ وال لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يل على حى من العرب‪ ،‬ث يسي بم إليكم ـ بعد أن‬
‫يتابعوه ـ حت يطأكم بم ف بلدكم‪ ،‬ث يفعل بكم ما أراد‪ ،‬دبروا فيه رأيًا غي هذا‪.‬‬

‫قال أبو البخترى‪ :‬احبسوه ف الديد وأغلقوا عليه بابًا‪ ،‬ث تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين‬
‫كانوا قبله ـ زهيًا والنابغة ـ ومن مضى منهم‪ ،‬من هذا الوت‪ ،‬حت يصيبه ما أصابم‪.‬‬

‫قال الشيخ النجدى‪ :‬ل وال ما هذا لكم برأي‪ ،‬وال لئن حبستموه ـ كما تقولون ـ ليخرجن أمره من‬
‫وراء الباب الذي أغلقتم دونه إل أصحابه‪ ،‬فلوشكوا أن يثبوا عليكم‪ ،‬فينعوه من أيديكم‪ ،‬ث يكاثروكم‬
‫به حت يغلبوكم على أمركم‪ ،‬ما هذا لكم برأي‪ ،‬فانظروا ف غيه‪.‬‬

‫وبعد أن رفض البلان هذين القتراحي‪ ،‬قدم إليه اقتراح آث وافق عليه جيع أعضائه‪ ،‬تقدم به كبي مرمى‬
‫مكة أبو جهل بن هشام‪ .‬قال أبو جهل‪ :‬وال إن ل فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد‪ .‬قالوا‪ :‬وما هو يا أبا‬
‫الكم؟ قال‪ :‬أرى أن نأخذ من كل قبيلة فت شابًا جليدًا نَسِيبا وَسِيطًا فينا‪ ،‬ث نعطى كل فت منهم سيفًا‬
‫صارمًا‪ ،‬ث يعمدوا إليه‪ ،‬فيضربوه با ضربة رجل واحد‪ ،‬فيقتلوه‪ ،‬فنستريح منه‪ ،‬فإنم إذا فعلوا ذلك تفرق‬
‫دمه ف القبائل جيعًا‪ ،‬فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جيعًا‪ ،‬فرضوا منا بالعَقْل‪ ،‬فعقلناه لم‪.‬‬
‫قال الشيخ النجدى‪ :‬القول ما قال الرجل‪ ،‬هذا الرأي الذي ل رأي غيه‪.‬‬

‫ووافق برلان مكة على هذا القتراح الث بالجاع‪ ،‬ورجع النواب إل بيوتم وقد صمموا على تنفيذ هذا‬
‫القرار فورًا‪.‬‬
‫هجـرة النبـي صلى ال عليه وسلم‬

‫بي تدبي قريش وتدبي ال سبحانه وتعال‬


‫تطويق منل الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم يغادر بيته‬
‫من الدار إل الغار‬
‫إذ ها ف الغار‬
‫ف الطريق إل الدينة‬
‫النول بقباء‬
‫الدخول ف الدينة‬

‫بي تدبي قريش وتدبي ال سبحانه وتعال‬

‫من طبيعة مثل هذا الجتماع السرية للغاية‪ ،‬وأل يبدو على السطح الظاهر أي حركة تالف اليوميات‪،‬‬
‫وتغاير العادات الستمرة‪ ،‬حت ل يشم أحد رائحة التآمر والطر‪ ،‬ول يدور ف خلد أحد أن هناك غموضًا‬
‫ينبئ عن الشر‪ ،‬وكان هذا مكرًا من قريش‪ ،‬ولكنهم ماكروا بذلك ال سبحانه وتعال‪ ،‬فخيبهم من حيث‬
‫ل يشعرون‪ .‬فقد نزل جبيل عليه السلم إل النب صلى ال عليه وسلم بوحى من ربه تبارك وتعال فأخبه‬
‫بؤامرة قريش‪ ،‬وأن ال قد أذن له ف الروج‪ ،‬وحدد له وقت الجرة‪ ،‬وبي له خطة الرد على قريش‬
‫فقال‪ :‬ل تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه‪.‬‬

‫وذهب النب صلى ال عليه وسلم ف الاجرة ـ حي يستريح الناس ف بيوتم ـ إل أب بكر رضي ال عنه‬
‫ليبم معه مراحل الجرة‪ ،‬قالت عائشة رضي ال عنها‪ :‬بينما نن جلوس ف بيت أب بكر ف نر الظهية‪،‬‬
‫قال قائل لب بكر‪ :‬هذا رسول ال صلى ال عليه وسلم متقنعًا‪ ،‬ف ساعة ل يكن يأتينا فيها‪ ،‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫فداء له أب وأمى‪ ،‬وال ما جاء به ف هذه الساعة إل أمر‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،.‬فاستأذن‪،‬فأذن له فدخل‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‬
‫لب بكر‪[ :‬أخرج مَنْ عندك]‪ .‬فقال أبو بكر‪ :‬إنا هم أهلك‪ ،‬بأب أنت يا رسول ال ‪ .‬قال‪[ :‬فأن قد أذن‬
‫ل ف الروج]‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬الصحبة بأب أنت يا رسول ال ؟ قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪[ :‬‬
‫نعم]‪.‬‬

‫ث أبرم معه خطة الجرة‪ ،‬ورجع إل بيته ينتظر مىء الليل‪ .‬وقد استمر ف أعماله اليومية حسب العتاد حت‬
‫ل يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة‪ ،‬أو لي أمر آخر اتقاء ما قررته قريش‪.‬‬

‫تطويق منل الرسول صلى ال عليه وسلم‬

‫أما أكابر مرمي قريش فقضوا نارهم ف العداد سرا لتنفيذ الطة الرسومة الت أبرمها برلان مكة [دار‬
‫الندوة] صباحًا‪ ،‬واختي لذلك أحد عشر رئيسًا من هؤلء الكابر‪ ،‬وهم‪:‬‬

‫‪1‬ـ أبو جهل بن هشام‪.‬‬


‫‪2‬ـ الَكَم بن أب العاص‪.‬‬
‫‪3‬ـ ُعقْبَة بن أب مُعَيْط‪.‬‬
‫‪4‬ـ النّضْر بن الارث‪.‬‬
‫‪5‬ـ أُمية بن خَلَف‪.‬‬
‫‪6‬ـ َز ْمعَة بن السود‪.‬‬
‫‪7‬ـ طُعَيْمة بن َع ِدىّ‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أبو لب‪.‬‬
‫‪9‬ـ أب بن خلف‪.‬‬
‫‪10‬ـ نُبَيْه بن الجاج‪.‬‬
‫‪11‬ـ أخوه مُنَبّه بن الجاج‪.‬‬

‫وكان من عادة رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ينام ف أوائل الليل بعد صلة العشاء‪ ،‬ويرج بعد‬
‫نصف الليل إل السجد الرام‪ ،‬يصلي فيه قيام الليل‪ ،‬فأمر عليًا رضي ال عنه تلك الليلة أن يضطجع على‬
‫فراشه‪ ،‬ويتسجى ببده الضرمي الخضر‪ ،‬وأخبه أنه ل يصيبه مكروه‪.‬‬

‫فلما كانت عتمة من الليل وساد الدوء‪ ،‬ونام عامة الناس جاء الذكورون إل بيته صلى ال عليه وسلم‬
‫سرًا‪ ،‬واجتمعوا على بابه يرصدونه‪ ،‬وهم يظنونه نائمًا حت إذا قام وخرج وثبوا عليه‪ ،‬ونفذوا ما قرروا‬
‫فيه‪.‬‬

‫وكانوا على ثقة ويقي جازم من ناح هذه الؤامرة الدنية‪ ،‬حت وقف أبو جهل وقفة الزهو واليلء‪ ،‬وقال‬
‫ماطبًا لصحابه الطوقي ف سخرية واستهزاء‪ :‬إن ممدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك‬
‫العرب والعجم‪ ،‬ث بعثتم من بعد موتكم‪ ،‬فجعلت لكم جنان كجنان الردن‪ ،‬وإن ل تفعلوا كان له فيكم‬
‫ذبح‪ ،‬ث بعثتم من بعد موتكم‪ ،‬ث جعلت لكم نار ترقون فيها‪.‬‬

‫وقد كان ميعاد تنفيذ تلك الؤامرة بعد منتصف الليل ف وقت خروجه صلى ال عليه وسلم من البيت‪،‬‬
‫فباتوا متيقظي ينتظرون ساعة الصفر‪ ،‬ولكن ال غالب على أمره‪ ،‬بيده ملكوت السموات والرض‪ ،‬يفعل‬
‫ما يشاء‪ ،‬وهو يي ول يـار عليه‪ ،‬فقـد فعـل مـا خاطب به الرسول صلى ال عليه وسلم فيما بعد‪:‬‬
‫ك الّذِينَ َكفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ َيقْتُلُوكَ أَوْ ُيخْرِجُوكَ َويَمْ ُكرُونَ َويَمْ ُكرُ ال ُ وَال ُ خَ ْي ُر الْمَاكِرِينَ}‬
‫{ َوإِذْ يَمْكُرُ ِب َ‬
‫[النفال‪.]30:‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يغادر بيته‬

‫وقد فشلت قريش ف خطتهم فشلًا ذريعًا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫من البيت‪ ،‬واخترق صفوفهم‪ ،‬وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رءوسهم‪ ،‬وقد أخذ ال أبصارهم‬
‫صرُونَ} [‬
‫شيْنَا ُهمْ فَ ُهمْ لَ يُبْ ِ‬
‫عنه فل يرونه‪ ،‬وهو يتلو‪َ { :‬و َجعَلْنَا مِن بَيْنِ َأْيدِي ِهمْ َسدّا َومِنْ َخ ْلفِ ِهمْ َسدّا َفأَغْ َ‬
‫يس‪ .]9:‬فلم يبق منهم رجل إل وقد وضع على رأسه ترابًا‪ ،‬ومضى إل بيت أب بكر‪ ،‬فخرجا من خوخة‬
‫ف دار أب بكر ليلًا حت لقا بغار ثَوْر ف اتاه اليمن‪.‬‬

‫وبقى الحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر‪ ،‬وقبيل حلولا تلت لم اليبة والفشل‪ ،‬فقد جاءهم رجل‬
‫من ل يكن معهم‪ ،‬ورآهم ببابه فقال‪ :‬ما تنتظرون؟ قالوا‪ :‬ممدًا‪ .‬قال‪ :‬خبتم وخسرت‪ ،‬قد وال مر بكم‪،‬‬
‫وذر على رءوسكم التراب‪ ،‬وانطلق لاجته‪ ،‬قالوا‪ :‬وال ما أبصرناه‪ ،‬وقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم‪.‬‬

‫ولكنهم تطلعوا من صي الباب فرأوا عليًا‪ ،‬فقالوا‪ :‬وال إن هذا لحمد نائمًا‪ ،‬عليه برده‪ ،‬فلم يبحوا كذلك‬
‫حت أصبحوا‪ .‬وقام علىّ عن الفراش‪ ،‬فسقط ف أيديهم‪ ،‬وسألوه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ل علم ل به‪.‬‬

‫من الدار إل الغار‬

‫غادر رسول ال صلى ال عليه وسلم بيته ف ليلة ‪ 27‬من شهر صفر سنة ‪ 14‬من النبوة‪ ،‬الوافق ‪12/13‬‬
‫سبتمب سنة ‪622‬م‪ .‬وأتى إل دار رفيقه ـ وأمنّ الناس عليه ف صحبته وماله ـ أب بكر رضي ال عنه‪ .‬ث‬
‫غادر منل الخي من باب خلفي؛ ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر‪.‬‬

‫جدّ ف الطلب‪ ،‬وأن الطريق الذي ستتجه إليه النظار‬


‫ولا كان النب صلى ال عليه وسلم يعلم أن قريشًا سََت ِ‬
‫لول وهلة هو طريق الدينة الرئيسى التجه شالًا‪ ،‬فسلك الطريق الذي يضاده تامًا‪ ،‬وهو الطريق الواقع‬
‫جنوب مكة‪ ،‬والتجه نو اليمن‪ ،‬سلك هذا الطريق نو خسة أميال حت بلغ إل جبل يعرف ببل ثَوْر وهو‬
‫جبل شامخ‪ ،‬وَعِر الطريق‪ ،‬صعب الرتقى‪ ،‬ذو أحجار كثية‪ ،‬فحفيت قدما رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وقيل‪ :‬بل كان يشى ف الطريق على أطراف قدميه كى يفي أثره فحفيت قدماه‪ ،‬وأيا ما كان فقد‬
‫حله أبو بكر حي بلغ إل البل‪ ،‬وطفق يشتد به حت انتهي به إل غار ف قمة البل عرف ف التاريخ بغار‬
‫ثور‪.‬‬

‫إذ ها ف الغار‬

‫ولا انتهيا إل الغار قال أبو بكر‪ :‬وال ل تدخله حت أدخل قبلك‪ ،‬فإن كان فيه شيء أصابن دونك‪،‬‬
‫فدخل فكسحه‪ ،‬ووجد ف جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به‪ ،‬وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه‪ ،‬ث قال‬
‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ادخل‪ ،‬فدخل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ووضع رأسه ف حجره‬
‫ونام‪ ،‬فلدغ أبو بكر ف رجله من الحر‪ ،‬ول يتحرك مافة أن ينتبه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فسقطت دموعه على وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪[ :‬ما لك يا أبا بكر؟] قال‪ :‬لدغت‪،‬‬
‫فداك أب وأمي‪ ،‬فتفل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فذهب ما يده‪.‬‬

‫وكَمُنَا ف الغار ثلث ليال‪ ،‬ليلة المعة وليلة السبت وليلة الحد‪ .‬وكان عبد ال بن أب بكر يبيت عندها‪.‬‬
‫سحَرٍ‪ ،‬فيصبح مع قريش بكة كبائت‪ ،‬فل‬
‫قالت عائشة‪ :‬وهو غلم شاب َثقِف َلقِن‪ ،‬فُي ْدلِج من عندها ب َ‬
‫يسمع أمرًا يكتادان به إل وعاه حت يأتيهما بب ذلك حي يتلط الظلم‪ ،‬و [كان] يرعى عليهما عامر بن‬
‫فُهَ ْيرَة مول أب بكر مِ ْنحَة من غنم‪ ،‬فييها عليهما حي تذهب ساعة من العشاء‪ ،‬فيبيتان ف ِرسْل ـ وهو‬
‫لب مِ ْنحَتِهما ورَضيفِهما ـ حت يَ ْنعِق با عامر بن فُهَيْرَة بغَلَس‪ ،‬يفعل ذلك ف كل ليلة من تلك الليال‬
‫الثلث‪ ،‬وكان عامر بن فهية يتبع بغنمه أثر عبد ال بن أب بكر بعد ذهابه إل مكة لُيعَفي عليه‪.‬‬

‫أما قريش فقد جن جنونا حينما تأكد لديها إفلت رسول ال صلى ال عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ‬
‫الؤامرة‪ .‬فأول ما فعلوا بذا الصدد أنم ضربوا عليًا‪ ،‬وسحبوه إل الكعبة‪ ،‬وحبسوه ساعة‪ ،‬علهم يظفرون‬
‫ببها‪.‬‬

‫ولا ل يصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إل بيت أب بكر وقرعوا بابه‪ ،‬فخرجت إليهم أساء بنت أب‬
‫بكر‪ ،‬فقالوا لا‪ :‬أين أبوك؟ قالت‪ :‬ل أدرى وال أين أب؟ فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحشًا خبيثًا ـ‬
‫فلطم خـدها لطمـة طـرح منها قرطها‪.‬‬

‫وقررت قريش ف جلسة طارئة مستعجلة استخدام جيع الوسائل الت يكن با القبض على الرجلي‪،‬‬
‫فوضعت جيع الطرق النافذة من مكة [ف جيع الهات] تت الراقبة السلحة الشديدة‪ ،‬كما قررت إعطاء‬
‫مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لن يعيدها إل قريش حيي أو ميتي‪ ،‬كائنًا من كان‪.‬‬

‫وحينئذ جدت الفرسان والشاة وقصاص الثر ف الطلب‪ ،‬وانتشروا ف البال والوديان‪ ،‬والوهاد‬
‫والضاب‪ ،‬لكن من دون جدوى وبغي عائدة‪.‬‬
‫وقد وصل الطاردون إل باب الغار‪ ،‬ولكن ال غالب على أمره‪ ،‬روى البخاري عن أنس عن أب بكر قال‪:‬‬
‫كنت مع النب صلى ال عليه وسلم ف الغار‪ ،‬فرفعت رأسى فإذا أنا بأقدام القوم‪ ،‬فقلت‪ :‬يا نب ال ‪ ،‬لو أن‬
‫بعضهم طأطأ بصره رآنا‪ .‬قال‪[ :‬اسكت يا أبا بكر‪ ،‬اثنان‪ ،‬ال ثالثهما]‪ ،‬وف لفظ‪[ :‬ما ظنك يا أبا بكر‬
‫باثني ال ثالثهما]‪.‬‬

‫وقد كانت معجزة أكرم ال با نبيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد رجع الطاردون حي ل يبق بينه وبينهم إل‬
‫خطوات معدودة‪.‬‬

‫ف الطريق إل الدينة‬

‫وحي خدت نار الطلب‪ ،‬وتوقفت أعمال دوريات التفتيش‪ ،‬وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار الطاردة‬
‫الثيثة ثلثة أيام بدون جدوى‪ ،‬تيأ رسول ال صلى ال عليه وسلم وصاحبه للخروج إل الدينة‪.‬‬

‫وكانا قد استأجرا عبد ال بن أُ َرْيقِط الليثى‪ ،‬وكان هاديًا خِرّيتًا ـ ماهرًا بالطريق ـ وكان على دين كفار‬
‫قريش‪ ،‬وأمناه على ذلك‪ ،‬وسلما إليه راحلتيهما‪ ،‬وواعداه غار ثَوْر بعد ثلث ليال براحلتيهما‪ ،‬فلما كانت‬
‫ليلة الثني ـ غرة ربيع الول سنة ‪1‬هـ ‪ 16 /‬سبتمب سنة ‪622‬م ـ جاءها عبد ال بن أريقط‬
‫بالراحلتي‪ ،‬وكان قد قال أبو بكر للنب صلى ال عليه وسلم عند مشاورته ف البيت‪ :‬بأب أنت يا رسول‬
‫ال ‪ ،‬خذ إحدى راحلت هاتي‪ ،‬وقرب إليه أفضلهما‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم بالثمن‪ .‬وأتتهما‬
‫سفْ َرتِهما‪ ،‬ونسيت أن تعل لا ِعصَامًا‪ ،‬فلما ارتل ذهبت لتعلق‬
‫أساء بنت أب بكر رضي ال عنها ب ُ‬
‫السفرة‪ ،‬فإذا ليس لا عصام‪ ،‬فشقت نطاقها باثني‪ ،‬فعلقت السفرة بواحد‪ ،‬وانتطقت بالخر فسميت‪:‬‬
‫ذات النطاقي‪.‬‬

‫ث ارتل رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبو بكر رضي ال عنه وارتل معهما عامر بن فُهَيْرة‪ ،‬وأخذ بم‬
‫الدليل ـ عبد ال بن أريقط ـ على طريق السواحل‪.‬‬

‫وأول ما سلك بم بعد الروج من الغار أنه أمعن ف اتاه النوب نو اليمن‪ ،‬ث اته غربًا نو الساحل‪،‬‬
‫حت إذا وصل إل طريق ل يألفه الناس‪ ،‬اته شالًا على مقربة من شاطئ البحر الحر‪ ،‬وسلك طريقًا ل يكن‬
‫يسلكه أحد إل نادرًا‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن إسحاق الواضع الت مر با رسول ال صلى ال عليه وسلم ف هذا الطريق‪ ،‬قال‪ :‬لا خرج‬
‫سفَان‪ ،‬ث‬
‫بما الدليل سلك بما أسفل مكة‪ ،‬ث مضى بما على الساحل حت عارض الطريق أسفل من عُ ْ‬
‫سلك بما على أسفل أمَج‪ ،‬ث استجاز بما حت عارض بما الطريق بعد أن أجاز ُق َدْيدًا‪ ،‬ث أجاز بما من‬
‫مكانه ذلك فسلك بما اْلخَرّار‪ ،‬ث سلك بما ثَنّية الْمَرّة‪ ،‬ث سلك بما ِل ْقفًا‪ ،‬ث أجاز بما َم ْدلَجَة ِلقْف‪ ،‬ث‬
‫استبطن بما َمدْلَجة ِمجَاج‪ ،‬ث سلك بما مَ ْرجِح ِمجَاح‪ ،‬ث تبطن بما مَرْجِح من ذى الغُضْ َويْن‪ ،‬ث بطن‬
‫جدَاجِد‪ ،‬ث على الجرد‪ ،‬ث سلك بما ذا سلم من بطن أعدا َمدَْلجَة ِتعْهِنَ‪،‬‬
‫ذى كَشْر‪ ،‬ث أخذ بما على اْل َ‬
‫ث على العَبَابيد‪ ،‬ث أجاز بما الفَاجَة‪ ،‬ث هبط بما اْلعَرْج‪ ،‬ث سلك بما ثنية العَائِر ـ عن يي َركُوبة ـ‬
‫حت هبط بما بطن ِرئْم‪ ،‬ث قدم بما على قُباء‪.‬‬

‫وهاك بعض ما وقع ف الطريق‬

‫‪1‬ـ روى البخاري عن أب بكر الصديق رضي ال عنه قال‪ :‬أسرينا ليلتنا ومن الغد حت قام قائم الظهية‬
‫وخل الطريق‪ ،‬ل ير فيه أحد‪ ،‬فرفعت لنا صخرة طويلة‪ ،‬لا ظل ل تأت عليها الشمس‪ ،‬فنلنا عنده‪،‬‬
‫وسويت للنب صلى ال عليه وسلم مكانًا بيدى‪ ،‬ينام عليه‪ ،‬وبسطت عليه فروة‪ ،‬وقلت‪ :‬ن يا رسول ال ‪،‬‬
‫وأنا أنفض لك ما حولك‪ ،‬فنام‪ ،‬وخرجت أنفض ما حوله‪ ،‬فإذا أنا براع مقبل بغنمه إل الصخرة‪ ،‬يريد منها‬
‫مثل الذي أردنا‪ ،‬فقلت له‪ :‬لن أنت يا غلم؟ فقال‪ :‬لرجل من أهل الدينة أو مكة‪ .‬قلت‪ :‬أف غنمك لب؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬أفتحلب؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬فأخذ شاة‪ ،‬فقلت‪ :‬انفض الضرع من التراب والشعر وال َقذَى‪،‬‬
‫فحلب ف قعب كُثْبة من لب‪ ،‬ومعى إداوة حلتها للنب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يرتوى منها‪ ،‬يشرب ويتوضأ‪،‬‬
‫فأتيت النب صلى ال عليه وسلم فكرهت أن أوقظه‪ ،‬فوافقته حي استيقظ‪ ،‬فصببت من الاء على اللب‬
‫حت برد أسفله‪ ،‬فقلت‪ :‬اشرب يا رسول ال ‪ ،‬فشرب حت رضيت‪ ،‬ث قال‪[ :‬أل يأن للرحيل؟] قلت‪:‬‬
‫بلى‪ ،‬قال‪ :‬فارتلنا‪.‬‬

‫‪2‬ـ وكان من دأب أب بكر رضي ال عنه أنه كان ردفًا للنب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان شيخًا يعرف‪،‬‬
‫ونب ال صلى ال عليه وسلم شاب ل يعرف‪ ،‬فيلقى الرجل أبا بكر فيقول‪ :‬من هذا الرجل الذي بي‬
‫يديك؟ فيقول‪ :‬هذا الرجل يهدين الطريق‪ ،‬فيحسب الاسب أنه يعن به الطريق‪ ،‬وإنا يعن سبيل الي‪.‬‬
‫شلّل من ناحية ُق َديْد على‬
‫‪3‬ـ وف اليوم الثان أو الثالث مر بيمت أم مَعْبَد الزاعية‪ ،‬وكان موقعهما بالُ َ‬
‫بعد نو ‪ 130‬كيلو مترًا من مكة‪ ،‬وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تتب بفناء اليمة‪ ،‬ث تطعم وتسقى‬
‫من مر با‪ ،‬فسألها‪ :‬هل عندها شيء؟ فقالت‪ :‬وال لو كان عندنا شيء ما أعوزكم‪ ،‬القِرَى والشاء عازب‪،‬‬
‫وكانت سََنةٌ شَهْباء‪.‬‬

‫فنظر رسول ال صلى ال عليه وسلم إل شاة ف كسر اليمة‪ ،‬فقال‪[ :‬ما هذه الشاة يا أم معبد؟] قالت‪:‬‬
‫شاة خلفها الهد عن الغنم‪ ،‬فقال‪[ :‬هل با من لب؟] قالت‪ :‬هي أجهد من ذلك‪ .‬فقال‪[ :‬أتأذني ل أن‬
‫أحلبها؟] قالت‪ :‬نعم بأب وأمي إن رأيت با حلبًا فاحلبها‪ .‬فمسح رسول ال صلى ال عليه وسلم بيده‬
‫ضرعها‪ ،‬وسى ال ودعا‪ ،‬فَتفَاجّتْ عليه و َد ّرتْ‪ ،‬فدعا بإناء لا يَ ْربِض الرهط‪ ،‬فحلب فيه حت علته الرغوة‪،‬‬
‫فسقاها‪ ،‬فشربت حت رويت‪ ،‬وسقى أصحابه حت رووا‪ ،‬ث شرب‪ ،‬وحلب فيه ثانيًا‪ ،‬حت مل الناء‪ ،‬ث‬
‫غادره عندها فارتلوا‪.‬‬

‫فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنا عجافا يتساوكن هزلًا‪ ،‬فلما رأي اللب عجب‪ ،‬فقال‪ :‬من‬
‫أين لك هذا؟ والشاة عازب‪ ،‬ول حلوبة ف البيت؟ فقالت‪ :‬ل وال إل أنه مر بنا رجل مبارك كان من‬
‫صفِيه ل يا أم‬
‫حديثه كيت وكيت‪ ،‬ومن حاله كذا وكذا‪ ،‬قال‪ :‬أن وال أراه صاحب قريش الذي تطلبه‪ِ ،‬‬
‫معبد‪ ،‬فوصفته بصفاته الكرية وصفًا بديعًا كأن السامع ينظر إليه وهو أمامه ـ وسننقله ف بيان صفاته‬
‫صلى ال عليه وسلم ف أواخر الكتاب ـ فقال أبو معبد‪ :‬وال هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره‬
‫ما ذكروا‪ ،‬لقد همت أن أصحبه‪ ،‬ولفعلن إن وجدت إل ذلك سبيلًا‪ .‬وأصبح صوت بكة عاليًا يسمعونه‬
‫ول يرون القائل‪:‬‬

‫جزى ال رب العرش خي جزائه ** رفيقي َحلّ خيمــت أم َمعْبَــدِ‬


‫هـمـا نزل بالبِـــرّ وارتل به ** وأفلح من أمسى رفيق ممــد‬
‫صىّ مــا زَوَى ال عنكــم ** به من فعال ل ُيحَاذى وسُــؤْدُد‬
‫فيا لقُ َ‬
‫لِيَ ْهنِ بن كعـب مكــان فَتاتِهــم ** ومقعدُهـا للمؤمنـي بَمْرصَـد‬
‫سَلُوا أختكم عن شاتـا وإنائهـا ** فإنكم إن تسألوا الشـاة تَشْـهَـــد‬

‫قالت أساء‪ :‬ما درينا أين توجه رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ أقبل رجل من الن من أسفل مكة‬
‫فأنشد هذه البيات‪ ،‬والناس يتبعونه ويسمعون صوته ول يرونه حت خرج من أعلها‪ .‬قالت‪ :‬فلما سعنا‬
‫قوله عرفنا حيث توجه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأن وجهه إل الدينة‪.‬‬

‫‪4‬ـ وتبعهما ف الطريق سُرَاقة بن مالك‪ .‬قال سراقة‪ :‬بينما أنا جالس ف ملس من مالس قومى بن مُدْل‪،‬‬
‫أقبل رجل منهم حت قام علينا ونن جلوس‪ ،‬فقال‪ :‬يا سراقة‪ ،‬أن رأيت آنفًا أسْوِدَة بالساحل‪ ،‬أراها ممدًا‬
‫وأصحابه‪ .‬قال سراقة‪ :‬فعرفت أنم هم‪ ،‬فقلت له‪ :‬إنم ليسوا بم‪ ،‬ولكنك رأيت فلنًا وفلنًا انطلقوا‬
‫بأعيننا‪ ،‬ث لبثت ف الجلس ساعة‪ ،‬ث قمت فدخلت‪ ،‬فأمرت جاريت أن ترج فرسى‪ ،‬وهي من وراء أكَمَة‪،‬‬
‫خطَطْتُ بزُ ّجهِ الرض‪ ،‬و َخفَضْتُ عاليه‪ ،‬حت‬
‫فتحبسها عَ َلىّ‪ ،‬وأخذت رمى‪ ،‬فخرجت به من ظهر البيت‪ ،‬ف َ‬
‫أتيت فرسى فركبتها‪ ،‬ف َر َفعْتُها تُقَرّب ب حت دنوت منهم‪ ،‬فعَثَ َرتْ ب فرسى فخررت عنها‪ ،‬فقمت‪،‬‬
‫فأهويت يدى إل كنانت‪ ،‬فاستخرجت منها الزلم‪ ،‬فاستقسمت با‪ ،‬أضُرّ ُهمْ أم ل؟ فخرج الذي أكره‪،‬‬
‫فركبت فرسي ـ وعصيت الزلم ـ تُقَ ّربُ ب‪ ،‬حت إذا سعت قراءة رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ‬
‫وهو ل يلتفت‪ ،‬وأبو بكر يكثر اللتفات ـ سَاخَتْ يدا فرسى ف الرض حت بلغتا الركبتي‪ ،‬فخررت‬
‫عنها‪ ،‬ث زجرتا فنهضت‪ ،‬فلم تَ َكدْ ترج يديها‪ ،‬فلما استوت قائمة إذا لثر يديها غبار ساطع ف السماء‬
‫مثل الدخان‪ ،‬فاستقسمت بالزلم‪ ،‬فخرج الذي أكره‪ ،‬فناديتهم بالمان‪ ،‬فوقفوا‪ ،‬فركبت فرسى حت‬
‫جئتهم‪ ،‬ووقع ف نفسى حي لقيت ما لقيت من البس عنهم أن سيظهر أمْرُ رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فقلت له‪ :‬إن قومك قد جعلوا فيك الدية‪ ،‬وأخبتم أخبار ما يريد الناس بم‪ ،‬وعرضت عليهم‬
‫الزاد والتاع فلم يَرْزَأن‪ ،‬ول يسألن إل أن قال‪[ :‬أَخْفِ عنا]‪ ،‬فسألته أن يكتب ل كتاب أمْنٍ‪ ،‬فأمر عامر‬
‫بن ُفهَيْرة‪ ،‬فكتب ل ف رقعة من أدم‪ ،‬ث مضى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وف رواية عن أب بكر قال‪ :‬ارتلنا والقوم يطلبوننا‪ ،‬فلم يدركنا منهم أحد غي سراقة بن مالك بن ُجعْشُم‪،‬‬
‫على فرس له‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا الطلب قد لقنا يا رسول ال ‪ ،‬فقال‪{ :‬لَ تَحْ َزنْ ِإنّ ال َ َمعَنَا} [التوبة‪.]40:‬‬

‫ورجع سراقة فوجد الناس ف الطلب فجعل يقول‪ :‬قد استبأت لكم الب‪ ،‬قد كفيتم ما ها هنا‪ .‬وكان أول‬
‫النهار جاهدًا عليهما‪ ،‬وآخره حارسًا لما‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ وف الطريق لقى النب صلى ال عليه وسلم بُريْدَة بن الُصَيْب السلمى ومعه نو ثاني بيتًا‪ ،‬فأسلم‬
‫وأسلموا‪ ،‬وصلى رسول ال صلى ال عليه وسلم العشاء الخرة فصلوا خلفه‪ ،‬وأقام بريدة بأرض قومه‬
‫حت قدم على رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد أُحُد‪.‬‬
‫وعن عبد ال بن بريدة أن النب صلى ال عليه وسلم كان يتفاءل ول يتطي‪ ،‬فركب بريدة ف سبعي راكبًا‬
‫من أهل بيته من بن سهم‪ ،‬فلقى النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال له‪[ :‬من أنت؟] قال‪ :‬من أسلم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫لب بكر‪ :‬سلمنا‪ ،‬ث قال‪[ :‬مِنْ بن مَنْ؟] قال‪ :‬من بن سهم‪ .‬قال‪[ :‬خرج سهمك]‬

‫‪6‬ـ ومر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأب أوْس تيم بن َحجَر أو بأب تيم أوس بن حجر السلمى‪،‬‬
‫لحْفَة و َهرْشَى ـ بالعرج ـ وكان قد أبطأ عليه بعض ظهره‪ ،‬فكان هو وأبو بكر على‬
‫بقحداوات بي ا ُ‬
‫جل واحد‪ ،‬فحمله أوس على فحل من إبله‪ ،‬وبعث معهما غلمًا له اسه مسعود‪ ،‬وقال‪ :‬اسلك بما حيث‬
‫تعلم من مارم الطريق ول تفارقهما‪ ،‬فسلك بما الطريق حت أدخلهما الدينة‪ ،‬ث رد رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم مسعودًا إل سيده‪ ،‬وأمره أن يأمر أوسًا أن يسم إبله ف أعناقها قيد الفرس‪ ،‬وهو حلقتان‪ ،‬ومد‬
‫بينهما مدًا‪ ،‬فهي ستهم‪ .‬ولا أتى الشركون يوم أحد أرسل أوس غلمه مسعود بن ُهنَ ْيدَة من العَرْج على‬
‫قدميه إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يبه بم‪ .‬ذكره ابن مَاكُول عن الطبى‪ ،‬وقد أسلم بعد قدوم‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة‪ ،‬وكان يسكن العرج‪.‬‬

‫‪7‬ـ وف الطريق ـ ف بطن ِرئْم ـ لقى رسول ال صلى ال عليه وسلم الزبي‪ ،‬وهو ف ركب من‬
‫السلمي‪ ،‬كانوا تارًا قافلي من الشام‪ ،‬فكسا الزبي رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بياضًا‪.‬‬

‫النول بقباء‬

‫وف يوم الثني ‪ 8‬ربيع الول سنة ‪ 14‬من النبوة ـ وهي السنة الول من الجرة ـ الوافق ‪23‬‬
‫سبتمب سنة ‪622‬م نزل رسول ال صلى ال عليه وسلم بقباء‪.‬‬

‫قال عروة بن الزبي‪ :‬سع السلمون بالدينة بخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم من مكة‪ ،‬فكانوا يغدون‬
‫كل غداة إل الَرّة‪ ،‬فينتظرونه حت يردهم حر الظهية‪ ،‬فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم‪ ،‬فلما أووا‬
‫إل بيوتم أَوْف رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لمر ينظر إليه‪ ،‬فبصر برسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وأصحابه مُبَيّضِي يزول بم السراب‪ ،‬فلم يلك اليهودى أن قال بأعلى صوته‪ :‬يا معاشر العرب‪ ،‬هذا‬
‫جدكم الذي تنتظرون‪ ،‬فثار السلمون إل السلح‪ .‬وتلقوا رسول ال صلى ال عليه وسلم بظهر الرة‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪ :‬وسُمِعت الوَجَْبةُ والتكبي ف بن عمرو بن عوف‪ ،‬وكب السلمون فرحًا بقدومه‪ ،‬وخرجوا‬
‫للقائه‪ ،‬فتلقوه وحيوه بتحية النبوة‪ ،‬فأحدقوا به مطيفي حوله‪ ،‬والسكينة تغشاه‪ ،‬والوحى ينل عليه‪َ { :‬فِإنّ‬
‫ال َ هُوَ مَ ْولَاهُ َوجِبْرِيلُ وَصَاِلحُ الْمُ ْؤمِنِيَ وَالْمَلَائِ َكةُ بَ ْعدَ َذِلكَ ظَهِيٌ} [التحري‪.]4:‬‬

‫قال عروة بن الزبي‪ :‬فتلقوا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فعدل بم ذات اليمي حت نزل بم ف بن‬
‫عمرو بن عوف‪ ،‬وذلك يوم الثني من شهر ربيع الول‪ .‬فقام أبو بكر للناس‪ ،‬وجلس رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم صامتًا‪ ،‬فطفق من جاء من النصار من ل ير رسول ال صلى ال عليه وسلم يىى ـ وف‬
‫نسخة‪ :‬يىء ـ أبا بكر‪ ،‬حت أصابت الشمس رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأقبل أبو بكر حت ظلل‬
‫عليه بردائه‪ ،‬فعرف الناس رسول ال صلى ال عليه وسلم عند ذلك‪.‬‬

‫وكانت الدينة كلها قد زحفت للستقبال‪ ،‬وكان يومًا مشهودًا ل تشهد الدينة مثله ف تاريها‪ ،‬وقد رأي‬
‫اليهود صدق بشارة حَ ْبقُوق النب‪ :‬إن ال جاء من التيمان‪ ،‬والقدوس من جبال فاران‪.‬‬

‫ونزل رسول ال صلى ال عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الدم‪ ،‬وقيل‪ :‬بل على سعد بن خَيَْثمَة‪ ،‬والول‬
‫أثبت‪.‬‬

‫ومكث على بن أب طالب رضي ال عنه بكة ثلثًا حت أدى عن رسول ال صلى ال عليه وسلم الودائع‬
‫الت كانت عنده للناس‪ ،‬ث هاجر ماشيًا على قدميه حت لقهما بقباء‪ ،‬ونزل على كلثوم بن ا َلدْم‪.‬‬

‫وأقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بقباء أربعة أيام‪ :‬الثني والثلثاء والربعاء والميس‪ .‬وأسس مسجد‬
‫قباء وصلى فيه‪ ،‬وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة‪ ،‬فلما كان اليوم الامس ـ يوم المعة ـ‬
‫ركب بأمر ال له‪ ،‬وأبو بكر ردفه‪ ،‬وأرسل إل بن النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم‪ ،‬فسار‬
‫نو الدينة وهم حوله‪ ،‬وأدركته المعة ف بن سال بن عوف‪ ،‬فجمع بم ف السجد الذي ف بطن الوادى‪،‬‬
‫وكانوا مائة رجل‪.‬‬

‫الدخول ف الدينة‬
‫ث سار النب صلى ال عليه وسلم بعد المعة حت دخل الدينة ـ ومن ذلك اليوم سيت بلدة يثرب بدينة‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويعب عنها بالدينة متصرًا ـ وكان يومًا مشهودًا أغر‪ ،‬فقد ارتت البيوت‬
‫والسكك بأصوات المد والتسبيح‪ ،‬وتغنت بنات النصار بغاية الفرح والسرور‪:‬‬

‫طـلـع الـبــدر علـينا **مـن ثـنيــات الـوداع‬


‫وجـب الشـكـر علـينا ** مـــا دعــا لـلـه داع‬
‫أيـهـا البـعـوث فـينا ** جـئـت بـالمـر الطاع‬

‫والنصار وإن ل يكونوا أصحاب ثروات طائلة إل أن كل واحد منهم كان يتمن أن ينل الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم عليه‪ ،‬فكان ل ير بدار من دور النصار إل أخذوا خطام راحلته‪ :‬هلم إل العدد والعدة‬
‫والسلح والنعة‪ ،‬فكان يقول لم‪[ :‬خلوا سبيلها فإنا مأمورة]‪ ،‬فلم تزل سائرة به حت وصلت إل موضع‬
‫السجد النبوى اليوم فبكت‪ ،‬ول ينل عنها حت نضت وسارت قليلًا‪ ،‬ث التفتت ورجعت فبكت ف‬
‫موضعها الول‪ ،‬فنل عنها‪ ،‬وذلك ف بن النجار ـ أخواله صلى ال عليه وسلم ـ وكان من توفيق ال‬
‫لا‪ ،‬فإنه أحب أن ينل على أخواله‪ ،‬يكرمهم بذلك‪ ،‬فجعل الناس يكلمون رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ف النول عليهم‪ ،‬وبادر أبو أيوب النصارى إل رحـله‪ ،‬فأدخله بيته‪،‬فجعل رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يقول‪[ :‬الرء مع رحله]‪ ،‬وجـاء أسعد بن زرارة فأخـذ بزمام راحلته‪ ،‬فكانت عنــده‪.‬‬

‫وف رواية أنس عند البخاري‪ ،‬قال نب ال صلى ال عليه وسلم‪[ :‬أي بيوت أهلنا أقرب؟] فقال أبو‬
‫أيوب‪ :‬أنا يا رسول ال ‪ ،‬هذه دارى‪ ،‬وهذا بأب‪ .‬قال‪[ :‬فانطلق فهيئ لنا مقيلًا]‪ ،‬قال‪ :‬قوما على بركة ال‬
‫‪.‬‬

‫وبعد أيام وصلت إليه زوجته سَ ْودَة‪ ،‬وبنتاه فاطمة وأم كلثوم‪ ،‬وأسامة بن زيد‪ ،‬وأم أين‪ ،‬وخرج معهم عبد‬
‫ال بن أب بكر بعيال أب بكر‪ ،‬ومنهم عائشة‪ ،‬وبقيت زينب عند أب العاص‪ ،‬ل يكنها من الروج حت‬
‫هاجرت بعد بدر‪.‬‬

‫قالت عائشة‪ :‬وقدمنا الدينة وهي أوبأ أرض ال ‪ ،‬فكان بُ ْطحَان يرى نَجْلًا‪ ،‬أي ماءً آجِنًا‪.‬‬

‫وقالت‪ :‬لا قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة وعك أبو بكر وبلل‪ ،‬فدخلت عليهما فقلت‪ :‬يا أبه‬
‫كيف تدك؟ ويا بلل كيف تدك؟ قالت‪ :‬فكان أبو بكر إذا أخذته الُمّى يقول‪:‬‬
‫كل امرئ مُصَّبحٌ ف أهله ** والوت أدن من ِشرَاك َنعْلِه‬

‫وكان بلل إذا أقلع عنه يرفع عقيته ويقول‪:‬‬

‫أل ليت ِشعْرِى هل أبيَتنّ ليلة ** بـوَادٍ وحـول إذْخِرٌ و َجلِيـلُ‬


‫وهل أردْن يومــا ميـاه ِمجَنّة ** وهل يَ ْبدُ َونْ ل شامة و َطفِيلُ‬

‫قالت عائشة‪ :‬فجئت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأخبته‪ ،‬فقال‪[ :‬ال م العن شيبة بن ربيعة‪ ،‬وعتبة‬
‫بن ربيعة‪ ،‬وأمية بن خلف‪ ،‬كما أخرجونا من أرضنا إل أرض الوباء]‪ .‬ث قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪[ :‬ال م حبب إلينا الدينة كحبنا مكة أو أشد‪ ،‬وصححها‪ ،‬وبارك ف صاعها ومدها‪ ،‬وانقل حاها‬
‫لحْفَة]‪.‬‬
‫فاجعلها با ُ‬

‫وقد استجاب ال دعاءه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأرى ف النام أن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من‬
‫الدينة حت نزلت بالَهَْيعَة‪ ،‬وهي الحفة‪ .‬وكان ذلك عبارة عن نقل وباء الدينة إل الحفة‪ ،‬وبذلك‬
‫استراح الهاجرون عما كانوا يعانونه من شدة مناخ الدينة‪.‬‬

‫إل هنا انتهي بيان قسم من حياته صلى ال عليه وسلم بعد النبوة‪ ،‬وهو العهد الكى‪ .‬وفيما يلى نقدم‬
‫بالياز عهده الدن صلى ال عليه وسلم‪ .‬وبال التوفيق‪.‬‬
‫العهد الدن عهد الدعوة والهاد والنجاح‬

‫مراحل الدعوة والهاد ف العهد الدن‬


‫سكان الدينة وأحوالم عند الجرة‬

‫مراحل الدعوة والهاد ف العهد الدن‬

‫يكن تقسيم العهد الدن إل ثلث مراحل‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ مرحلة تأسيس الجتمع السلمي‪ ،‬وتكي الدعوة السلمية‪ ،‬وقد أثيت ف هذه الرحلة القلقل‬
‫والفت من الداخل‪ ،‬وزحف فيها العداء من الارج؛ ليستأصلوا شأفة السلمي‪ ،‬ويقلعوا الدعوة من‬
‫جذورها‪ .‬وقد انتهت هذه الرحلة بتغلب السلمي وسيطرتم على الوقف مع عقد صلح الديبية ف ذى‬
‫القعدة سنة ست من الجرة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ مرحلة الصلح مع العدو الكب‪ ،‬والفراغ لدعوة ملوك الرض إل السلم‪ ،‬وللقضاء على أطراف‬
‫الؤامرات‪ .‬وقد انتهت هذه الرحلة بفتح مكة الكرمة ف رمضان سنة ثان من الجرة‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ مرحلة استقبال الوفود‪ ،‬ودخول الناس ف دين ال أفواجًا‪ .‬وقد امتدت هذه الرحلة إل وفاة‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم ف ربيع الول سنة إحدى عشرة من الجرة‪.‬‬

‫سكان الدينة وأحوالم عند الجرة‬

‫ل يكن معن الجرة التخلص والفرار من الفتنة فحسب‪ ،‬بل كانت الجرة تعن مع هذا تعاونًا على إقامة‬
‫متمع جديد ف بلد آمن‪ ،‬ولذلك أصبح فرضًا على كل مسلم يقدر على الجرة أن يهاجر ويسهم ف بناء‬
‫هذا الوطن الديد‪ ،‬ويبذل جهده ف تصينه ورفعة شأنه‪.‬‬
‫ولشك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان هو المام والقائد والادى ف بناء هذا الجتمع‪ ،‬وكانت‬
‫إليه أزمة المور بل نزاع‪.‬‬

‫والذين قابلهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الدينة كانوا على ثلثة أصناف‪ ،‬يتلف أحوال كل واحد‬
‫منها بالنسبة إل الخر اختلفًا واضحًا‪ ،‬وكان يواجه بالنسبة إل كل صنف منها مسائل عديدة غي السائل‬
‫الت كان يواجهها بالنسبة إل الخر‪.‬‬

‫وهذه الصناف الثلثة هي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ أصحابه الصفوة الكرام البرة رضي ال عنهم‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ الشركون الذين ل يؤمنوا بعد‪ ،‬وهم من صميم قبائل الدينة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ اليهــود‪.‬‬

‫أ ـ والسائل الت كان يواجهها بالنسبة إل أصحابه هو أن ظروف الدينة بالنسبة إليهم كانت تتلف تامًا‬
‫عن الظروف الت مروا با ف مكة‪ ،‬فهم ف مكة وإن كانت تمعهم كلمة جامعة وكانوا يستهدفون هدفًا‬
‫واحدًا‪ ،‬إل أنم كانوا متفرقي ف بيوتات شت‪ ،‬مقهورين أذلء مطرودين‪ ،‬ل يكن لم من المر شيء‪ ،‬وإنا‬
‫كان المر بيد أعدائهم ف الدين‪ ،‬فلم يكن هؤلء السلمون يستطيعون أن ينشئوا متمعًا إسلميًا جديدًا‬
‫بواده الت ل يستغن عنها أي متمع إنسإن ف العال؛ ولذلك نرى السور الكية تقتصر على تفصيل البادئ‬
‫السلمية‪ ،‬وعلى التشريعات الت يكن العمل با لكل فرد وحده‪ ،‬وعلى الترغيب ف الب والي ومكارم‬
‫الخلق والترهيب عن الرذائل والدنايا‪.‬‬

‫أما ف الدينة فكان أمر السلمي بأيديهم منذ أول يوم‪ ،‬ول يكن يسيطر عليهم أحد من الناس‪ ،‬وهذا يعن‬
‫أنم قد آن لم أن يواجهوا مسائل الضارة والعمران‪ ،‬والعيشة والقتصاد‪ ،‬والسياسة والكومة‪ ،‬والسلم‬
‫والرب‪ ،‬وأن تفصل لم مسائل اللل والرام‪ ،‬والعبادة والخلق‪ ،‬وما إل ذلك من شئون الياة‪.‬‬

‫أي آن للمسلمي أن يكونوا متمعًا إسلميًا يتلف ف جيع مراحل الياة عن الجتمع الاهلي‪ ،‬ويتاز عن‬
‫أي متمع يوجد ف العال النسان‪ ،‬ويكون مثلًا للدعوة السلمية الت عان لا السلمون ألوانًا من النكال‬
‫والعذاب طيلة عشر سنوات‪.‬‬

‫ول يفي أن تكوين أي متمع على هذا النمط ل يكن أن يستتب ف يوم واحد‪ ،‬أو شهر واحد‪ ،‬أو سنة‬
‫واحدة‪ ،‬بل لبد له من زمن طويل يتكامل فيه التشريع والتقني والتربية والتثقيف والتدريب والتنفيذ شيئًا‬
‫فشيئًا‪ ،‬وكان ال كفيلًا بذا التشريع‪ ،‬وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم قائمًا بتنفيذه والرشاد إليه‪،‬‬
‫وبتربية السلمي وتزكيتهم وفق ذلك {هُوَ اّلذِي بَعَثَ فِي اْلُأمّيّيَ رَسُولًا مّنْ ُهمْ يَتْلُو َعلَيْ ِهمْ آيَاِتهِ َويُ َزكّي ِهمْ‬
‫َوُيعَلّمُ ُه ُم الْكِتَابَ وَاْلحِكْ َمةَ} [المعة‪.]2 :‬‬

‫وكان الصحابة رضي ال عنهم مقبلي عليه بقلوبم‪،‬يتحلون بأحكامه‪،‬ويستبشرون با { َوإِذَا تُلِيَتْ َعلَيْ ِهمْ‬
‫آيَاُتهُ زَا َدتْ ُهمْ إِيَانًا} [النفال‪ .]2 :‬وليس تفصيل هذه السائل كلها من مباحث موضوعنا‪ ،‬فنقتصر منها‬
‫على قدر الاجة‪.‬‬

‫وكان هذا أعظم ما واجهه رسول ال صلى ال عليه وسلم بالنسبة للمسلمي‪ ،‬وهو الدف السى‬
‫والطلب النبيل القصود من الدعوة السلمية والرسالة الحمدية‪ ،‬ومعلوم أنه ليس بقضية طارئة تطلب‬
‫الستعجال‪ ،‬بل هي قضية أصيلة تتاج إل آجال‪ .‬نعم‪ ،‬كانت هناك قضايا طارئة تطلب الل العاجل‬
‫والكيم‪ ،‬أهها أن السلمي كانوا على قسمي‪:‬‬

‫قسم كانوا ف أرضهم وديارهم وأموالم‪ ،‬ل يهمهم من ذلك إل ما يهم الرجل وهو آمن ف سِ ْربِـه‪ ،‬وهم‬
‫النصار‪ ،‬وكان بينهم تنافر مستحكم وعداء مزمن منذ أمد بعيد‪.‬‬

‫وقسم آخر فاتم كل ذلك‪ ،‬ونوا بأنفسهم إل الدينة‪ ،‬وهم الهاجرون‪ ،‬فلم يكن لم ملجأ يأوون إليه‪ ،‬ول‬
‫عمل يكسبون به ما يسد حاجتهم‪ ،‬ول مال يبلغون به قَوَامًا من العيش‪ ،‬وكان عدد هؤلء اللجئي غي‬
‫قليل‪ ،‬ث كانوا يزيدون يومًا فيوما؛ إذ كان قد أوذن بالجرة لكل من آمن بال ورسوله‪ .‬ومعلوم أن الدينة‬
‫ل تكن على ثروة طائلة فتزعزع ميزانا القتصادى‪ ،‬وف هذه الساعة الرجة قامت القوات العادية‬
‫للسلم بشبه مقاطعة اقتصادية‪َ ،‬قلّت لجلها الستوردات وتفاقمت الظروف‪.‬‬

‫ب ـ أما القوم الثان ـ وهم الشركون من صميم قبائل الدينة ـ فلم تكن لم سيطرة على السلمي‪،‬‬
‫وكان منهم من يتخاله الشكوك ويتردد ف ترك دين الباء‪ ،‬ولكن ل يكن يبطن العداوة والكيد ضد‬
‫السلم والسلمي‪ ،‬ول تض عليهم مدة طويلة حت أسلموا وأخلصوا دينهم ل‪.‬‬

‫وكان فيهم من يبطن شديد الحن والعداوة ضد رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمي‪ ،‬ولكن ل يكن‬
‫يستطيع أن يناوئهم‪ ،‬بل كان مضطرًا إل إظهار الودّ والصفاء نظرًا إل الظروف‪ ،‬وعلى رأس هؤلء عبد‬
‫ال بن أب‪ ،‬فقد كانت الوس والزرج اجتمعوا على سيادته بعد حرب ُبعَاث ـ ول يكونوا اجتمعوا على‬
‫سيادة أحد قبله ـ وكانوا قد نظموا له الَرْز‪ ،‬ليَُتوّجُوه ويُ َملّكُوه‪ ،‬وكان على وشك أن يصي ملكًا على‬
‫أهل الدينة إذ بوغت بجىء رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وانصراف قومه عنه إليه‪ ،‬فكان يرى أنه‬
‫استلبه اللك‪ ،‬فكان يبطن شديد العداوة ضده‪ ،‬ولا رأي أن الظروف ل تساعده على شركه‪ ،‬وأنه سوف‬
‫يرم بقايا العز والشرف وما يترتب عليهما من منافع الياة الدنيا أظهر السلم بعد بدر‪ ،‬ولكن بقى‬
‫مستبطنًا الكفر‪ ،‬فكان ل يد مالًا يكيد فيه برسول ال صلى ال عليه وسلم وبالسلمي إل ويأتيه‪ ،‬وكان‬
‫أصحابه ـ من الرؤساء الذين حرموا الناصب الرجوة ف ملكه ـ يساهونه ويدعمونه ف تنفيذ خططه‪،‬‬
‫وربا كانوا يتخذون بعض الشباب وسذجة السلمي عميلًا لتنفيذ خطتهم من حيث ل يشعر‪.‬‬

‫جـ ـ أما القوم الثالث ـ وهم اليهود ـ فإنم كانوا قد انازوا إل الجاز زمن الضطهاد الشورى‬
‫والرومان كما أسلفنا‪ ،‬وكانوا ف القيقة عبانيي‪ ،‬ولكن بعد النسحاب إل الجاز اصطبغوا بالصبغة‬
‫العربية ف الزى واللغة والضارة‪ ،‬حت صارت أساؤهم وأساء قبائلهم عربية‪ ،‬وحت قامت بينهم وبي‬
‫العرب علقة الزواج والصهر‪ ،‬إل أنم احتفظوا بعصبيتهم النسية‪ ،‬ول يندموا ف العرب قطعًا‪ ،‬بل كانوا‬
‫يفتخرون بنسيتهم السرائيلية ـ اليهودية ـ وكانوا يتقرون العرب احتقارًا بالغًا وكانوا يرون أن أموال‬
‫العرب مباحة لم‪ ،‬يأكلونا كيف شاءوا‪ ،‬قال تعال‪َ { :‬ومِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن َت ْأمَنْهُ ِبقِنطَارٍ يُؤَ ّدهِ ِإلَيْكَ‬
‫َومِنْهُم مّنْ إِن َت ْأمَنْهُ ِبدِينَارٍ لّ يُؤَ ّدهِ ِإلَيْكَ إِلّ مَا ُدمْتَ عَلَ ْيهِ قَآئِمًا َذلِكَ ِبَأنّ ُهمْ قَالُواْ لَ ْيسَ عَلَيْنَا فِي ا ُلمّيّيَ‬
‫سَبِيلٌ} [آل عمران‪ .]75 :‬ول يكونوا متحمسي ف نشر دينهم‪ ،‬وإنا جل بضاعتهم الدينية هي‪ :‬الفأل‬
‫والسحر والنفث والرقية وأمثالا‪ ،‬وبذلك كانوا يرون أنفسهم أصحاب علم وفضل وقيادة روحانية‪.‬‬

‫وكانوا مَهَ َرةً ف فنون الكسب والعيشة‪ ،‬فكانت ف أيديهم تارة البوب والتمر والمر والثياب‪ ،‬كانوا‬
‫يستوردون الثياب والبوب والمر‪ ،‬ويصدرون التمر‪ ،‬وكانت لم أعمال من دون ذلك هم لا عاملون‪،‬‬
‫فكانوا يأخذون النافع من عامة العرب أضعافًا مضاعفة‪ ،‬ث ل يكونوا يقتصرون على ذلك‪ ،‬بل كانوا أكالي‬
‫للربا‪ ،‬يعطون القروض الطائلة لشيوخ العرب وساداتم؛ ليكسبوا با مدائح الشعراء والسمعة السنة بي‬
‫الناس بعد إنفاقها من غي جدوى ول طائلة‪ ،‬وكانوا يرتنون لا أرض هؤلء الرؤساء وزروعهم‬
‫وحوائطهم‪ ،‬ث ل يلبثون إل أعوامًا حت يتملكونا‪.‬‬

‫وكانوا أصحاب دسائس ومؤامرات وعتو وفساد؛ يلقون العداوة والشحناء بي القبائل العربية الجاورة‪،‬‬
‫ويغرون بعضها على بعض بكيد خفي ل تكن تشعره تلك القبائل‪ ،‬فكانت تتطاحن ف حروب‪ ،‬ول تكد‬
‫تنطفئ نيانا حت تتحرك أنامل اليهود مرة أخرى لتؤججها من جديد‪ .‬فإذا ت لم ذلك جلسوا على حياد‬
‫يرون نتائج هذا التحريض والغراء‪ ،‬ويستلذون با يل بؤلء الساكي ـ العرب ـ من التعاسة والبوار‪،‬‬
‫ويزودونم بقروض ثقيلة ربوية حت ل يجموا عن الرب لعسر النفقة‪ .‬وبذا التدبي كانوا يصلون على‬
‫فائدتي كبيتي‪ :‬ها الحتفاظ على كيانم اليهودى‪ ،‬وإنفاق سوق الربا؛ ليأكلوه أضعافًا مضاعفة‪،‬‬
‫ويكسبوا ثروات طائلة‪.‬‬

‫وكانت ف يثرب منهم ثلث قبائل مشهورة‪:‬‬

‫‪1‬ـ بنو قَيُْنقَاع ‪ :‬وكانوا حلفاء الزرج‪ ،‬وكانت ديارهم داخل الدينة‪.‬‬
‫‪2‬ـ بنو النّضِي‪ :‬وكانوا حلفاء الزرج‪ ،‬وكانت ديارهم بضواحى الدينة‪.‬‬
‫‪3‬ـ بنو قُ َريْظة‪ :‬وكانوا حلفاء الوس‪ ،‬وكانت ديارهم بضواحى الدينة‪.‬‬

‫وهذه القبائل هي الت كانت تثي الروب بي الوس والزرج منذ أمد بعيد‪ ،‬وقد ساهت بأنفسها ف‬
‫حرب ُبعَاث‪ ،‬كل مع حلفائها‪.‬‬

‫وطبعًا فإن اليهود ل يكن يرجى منهم أن ينظروا إل السلم إل بعي البغض والقد؛ فالرسول ل يكن من‬
‫أبناء جنسهم حت يُسَكّن َج ْأشَ عصبيتهم النسية الت كانت مسيطرة على نفسياتم وعقليتهم‪ ،‬ودعوة‬
‫السلم ل تكن إل دعوة صالة تؤلف بي أشتات القلوب‪ ،‬وتطفئ نار العداوة والبغضاء‪ ،‬وتدعو إل التزام‬
‫المانة ف كل الشئون‪ ،‬وإل التقيد بأكل اللل من طيب الموال‪ ،‬ومعن كل ذلك أن قبائل يثرب العربية‬
‫ستتآلف فيما بينها‪ ،‬وحينئذ لبد من أن تفلت من براثن اليهود‪ ،‬فيفشل نشاطهم التجارى‪ ،‬ويرمون أموال‬
‫الربا الذي كانت تدور عليه رحى ثروتم‪ ،‬بل يتمل أن تتيقظ تلك القبائل‪ ،‬فتدخل ف حسابا الموال‬
‫الربوية الت أخذتا اليهود‪ ،‬وتقوم بإرجاع أرضها وحوائطها الت أضاعتها إل اليهود ف تأدية الربا‪.‬‬

‫كان اليهود يدخلون كل ذلك ف حسابم منذ عرفوا أن دعوة السلم تاول الستقرار ف يثرب؛ ولذلك‬
‫كانوا يبطنون أشد العداوة ضد السلم‪ ،‬وضد رسول ال صلى ال عليه وسلم منذ أن دخل يثرب‪ ،‬وإن‬
‫كانوا ل يتجاسروا على إظهارها إل بعد حي‪.‬‬

‫ويظهر ذلك جليًا با رواه ابن إسحاق عن أم الؤمني صفية رضي ال عنها قال ابن إسحاق‪ :‬حدثت عن‬
‫صفية بنت حيي بن أخطب أنا قالت‪ :‬كنت أحَبّ ولد أب إليه‪ ،‬وإل عمي أب ياسر‪ ،‬ل ألقهما قط مع ولد‬
‫لما إل أخذإن دونه‪ .‬قالت‪ :‬فلما قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة ونزل قباء ف بن عمرو بن‬
‫عوف غدا عليه أب؛ حي بن أخطب‪ ،‬وعمى أبو ياسر بن أخطب مُغَلّسِي‪ ،‬قالت‪ :‬فلم يرجعا حت كانا مع‬
‫غروب الشمس‪ ،‬قالت‪ :‬فأتيا كَالّيْن كسلني ساقطي يشيان الُ َويْنَى‪ .‬قالت‪ :‬فهششت إليهما كما كنت‬
‫أصنع‪ ،‬فوال ما التفت إلّ واحد منهما‪ ،‬مع ما بما من الغم‪ .‬قالت‪ :‬وسعت عمى أبا ياسر‪ ،‬وهو يقول لب‬
‫حيي بن أخطب‪ :‬أهو هو؟ قال‪ :‬نعم وال‪ ،‬قال‪ :‬أتعرفه وتثبته؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فما ف نفسك منه؟ قال‪:‬‬
‫عداوته وال ما بقيت‪.‬‬

‫ويشهد بذلك أيضًا ما رواه البخاري ف إسلم عبد ال بن َسلَم رضي ال عنه فقد كان حبًا من فطاحل‬
‫علماء اليهود‪ ،‬ولا سع بقدم رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة ف بن النجار جاءه مستعجلًا‪ ،‬وألقى‬
‫إليه أسئلة ل يعلمها إل نب‪ ،‬ولا سع ردوده صلى ال عليه وسلم عليها آمن به ساعته ومكانه‪ ،‬ث قال له‪:‬‬
‫إن اليهود قوم بُ ْهتٌ‪ ،‬إن علموا بإسلمي قبل أن تسألم بَهَتُونِى عندك‪ ،‬فأرسل رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم فجاءت اليهود‪ ،‬ودخل عبد ال بن سلم البيت‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪[ :‬أي رجل‬
‫فيكم عبد ال بن سلم؟] قالوا‪ :‬أعلمنا وابن أعلمنا‪ ،‬وأخينا وابن أخينا ـ وف لفظ‪ :‬سيدنا وابن سيدنا‪.‬‬
‫وف لفظ آخر‪ :‬خينا وابن خينا‪ ،‬وأفضلنا وابن أفضلنا ـ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪[ :‬أفرأيتم‬
‫إن أسلم عبد ال؟] فقالوا‪ :‬أعاذه ال من ذلك [مرتي أو ثلثا]‪ ،‬فخرج إليهم عبد ال فقال‪ :‬أشهد أن ل‬
‫إله إل ال‪ ،‬وأشهد أن ممدًا رسول ال‪ ،‬قالوا‪ :‬شرّنا وابن شرّنا‪ ،‬ووقعوا فيه‪ .‬وف لفظ‪ :‬فقال‪ :‬يا معشر‬
‫اليهود‪ ،‬اتقوا ال‪ ،‬فوال الذي ل إله إل هو‪ ،‬إنكم لتعلمون أنه رسول ال‪ ،‬وأنه جاء بق‪ .‬فقالوا‪ :‬كذبت‪.‬‬

‫وهذه أول تربة تلقاها رسول ال صلى ال عليه وسلم من اليهود ف أول يوم دخل فيه الدينة‪.‬‬
‫وهذه هي الظروف والقضايا الداخلية الت واجهها الرسول صلى ال عليه وسلم حي نزل بالدينة‪.‬‬

‫أما من ناحية الارج فكان ييط با من يدين بدين قريش‪ ،‬وكانت قريش ألـد عـدو للسلم‬
‫والسلمي‪ ،‬جربت عليهم طوال عشرة أعوام ـ حينما كان السلمون تت أيديها ـ كل أساليب‬
‫الرهاب والتهديد والضايقة والتعذيب‪ ،‬والقاطعة والتجويع‪ ،‬وأذاقتهم التنكيلت والويلت‪ ،‬وشنت‬
‫عليهم حربًا نفسية مضنية مع دعاية واسعة منظمة‪ ،‬ولا هاجر السلمون إل الدينة صادرت أرضهم‬
‫وديارهم وأموالم‪ ،‬وحالت بينهم وبي أزواجهم وذرياتم‪ ،‬بل حبست وعذبت من قدرت عليه‪ ،‬ول تقتصر‬
‫على هذا‪ ،‬بل تآمرت على الفتك بصاحب الدعوة صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والقضاء عليه وعلى دعوته‪ ،‬ول‬
‫تَأْلُ جهدًا ف تنفيذ هذه الؤامرة‪ .‬فكان من الطبيعى جدًا‪ ،‬حينما نا السلمون منها إل أرض تبعد نو‬
‫خسمائة كيلو متر‪ ،‬أن تقوم بدورها السياسى والعسكرى‪ ،‬لا لا من الصدارة الدنيوية والزعامة الدينية بي‬
‫أوساط العرب بصفتها ساكنة الرم وماورة بيت ال وسدنته‪ ،‬وتغرى غيها من مشركي الزيرة ضد أهل‬
‫الدينة‪ ،‬وفعلًا قامت بذلك كله حت صارت الدينة مفوفة بالخطار‪ ،‬وف شبه مقاطعة شديدة قَلّتْ لجلها‬
‫الستوردات‪ ،‬ف حي كان عدد اللجئي إليها يزيد يومًا بعد يوم‪ ،‬وبذلك كانت [حالة الرب] قائمة بي‬
‫هؤلء الطغاة من أهل مكة ومن دان دينهم‪ ،‬وبي السلمي ف وطنهم الديد‪.‬‬

‫وكان من حق السلمي أن يصادروا أموال هؤلء الطغاة كما صودرت أموالم‪ ،‬وأن يديلوا عليهم من‬
‫التنكيلت بثل ما أدالوا با‪ ،‬وأن يقيموا ف سبيل حياتم العراقيل كما أقاموها ف سبيل حياة السلمي‪،‬‬
‫وأن يكيلوا لؤلء الطغاة صاعًا بصاع حت ل يدوا سبيلًا لبادة السلمي واستئصال خضرائهم‪.‬‬

‫وهذه هي القضايا والشاكل الارجية الت واجهها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعدما ورد الدينة‪،‬‬
‫وكان عليه أن يعالها بكمة بالغة حت يرج منها مكللًا بالنجاح‪.‬‬

‫وقد قام رسول ال صلى ال عليه وسلم بعالة كل القضايا أحسن قيام‪ ،‬بتوفيق من ال وتأييده‪ ،‬فعامل كل‬
‫قوم با كانوا يستحقونه من الرأفة والرحة أو الشدة والنكال‪،‬وذلك بانب قيامه بتزكية النفوس وتعليم‬
‫الكتاب والكمة‪ ،‬ول شك أن جانب التزكية والتعليم والرأفة والرحة كان غالبًا على جانب الشدة‬
‫والعنت ـ حت عاد المر إل السلم وأهله ف بضع سنوات‪ ،‬وسيجد القارئ كل ذلك جليًا ف‬
‫الصفحات التية‪.‬‬
‫الرحلة الول‬

‫بناء متمع جديد‬


‫بناء السجد النبوي‬
‫الؤاخاة بي السلمي‬
‫ميثاق التحالف السلمي‬
‫أثر العنويات ف الجتمع‬

‫بناء متمع جديد‬

‫قد أسلفنا أن نزول رسول ال صلى ال عليه وسلم بالدينة ف بن النجار كان يوم المعة [‪ 12‬ربيع‬
‫الول سنة ‪ 1‬هـ‪ /‬الوافق ‪ 27‬سبتمب سنة ‪622‬م]‪ ،‬وأنه نزل ف أرض أمام دار أب أيوب‪ ،‬وقال‪[ :‬‬
‫هاهنا النل إن شاء ال]‪ ،‬ث انتقل إل بيت أب أيوب رضي ال عنه‬

‫بناء السجد النبوي‬

‫وأول خطوة خطاها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد ذلك هو بناء السجد النبوي‪ ،‬واختار له الكان‬
‫الذي بركت فيه ناقته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاشتراه من غلمي يتيمي كانا يلكانه‪ ،‬وأسهم ف بنائه‬
‫بنفسه‪ ،‬فكان ينقل اللبِن والجارة ويقول‪:‬‬

‫[اللهم ل َع ْيشَ إل َع ْيشُ الخرة ** فا ْغفِرْ للنصار والُهَاجِرَة]‬

‫وكان يقول‪:‬‬

‫[هذا الِمَالُ ل ِحمَال خَيْبَر ** هــذا أبـــرّ َربّنَا وأطْـهَر]‬

‫وكان ذلك ما يزيد نشاط الصحابة ف العمل‪ ،‬حت إن أحدهم ليقول‪:‬‬

‫لئن َقعَــدْنا والنب َيعْمَل ** لـذاك مِــنّا العَمَــلُ الُضَلّل‬


‫وكانت ف ذلك الكان قبور للمشركي‪ ،‬وكان فيه خرب ونل وشجرة من غَرْقَد‪ ،‬فأمر رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم بقبور الشركي فنبشت‪ ،‬وبالَرِب فسويت‪ ،‬وبالنخل والشجرة فقطعت‪ ،‬وصفت ف قبلة‬
‫السجد‪ ،‬وكانت القبلة إل بيت القدس‪ ،‬وجعلت عضادتاه من حجارة‪ ،‬وأقيمت حيطانه من اللب والطي‪،‬‬
‫وجعل سقفه من جريد النخل‪ ،‬وعُمُده الذوع‪ ،‬وفرشت أرضه بالرمال والصباء‪ ،‬وجعلت له ثلثة‬
‫أبواب‪ ،‬وطوله ما يلى القبلة إل مؤخره مائة ذراع‪ ،‬والانبان مثل ذلك أو دونه‪ ،‬وكان أساسه قريبًا من‬
‫ثلثة أذرع‪.‬‬

‫وبن بانبه بيوتًا بالجر واللب‪ ،‬وسقفها بالريد والذوع‪ ،‬وهي حجرات أزواجه صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وبعد تكامل الجرات انتقل إليها من بيت أب أيوب‪.‬‬

‫ول يكن السجد موضعًا لداء الصلوات فحسب‪ ،‬بل كان جامعة يتلقى فيها السلمون تعاليم السلم‬
‫وتوجيهاته‪ ،‬ومنتدى تلتقى وتتآلف فيه العناصر القبلية الختلفة الت طالا نافرت بينها النعات الاهلية‬
‫وحروبا‪ ،‬وقاعدة لدارة جيع الشئون وبث النطلقات‪ ،‬وبرلان لعقد الجالس الستشارية والتنفيذية‪.‬‬

‫وكان مع هذا كله دارًا يسكن فيها عدد كبي من فقراء الهاجرين اللجئي الذين ل يكن لم هناك دار ول‬
‫مال ول أهل ول بنون‪.‬‬

‫وف أوائل الجرة شرع الذان‪ ،‬تلك النغمة العلوية الت تدوى ف الفاق‪ ،‬وتز أرجاء الوجود‪ ،‬تعلن كل‬
‫يوم خس مرات بأن ل إله إل ال وأن ممدًا رسول ال‪ ،‬وتنفي كل كبياء ف الكون وكل دين ف‬
‫الوجود‪ ،‬إل كبياء ال‪ ،‬والدين الذي جاء به عبده ممد رسول ال‪ .‬وقد تشرف برؤيته ف النام أحد‬
‫الصحابة الخيار عبد ال بن زيد بن عبد ربه رضي ال عنه فأقره النب صلى ال عليه وسلم وقد وافقت‬
‫رؤياه رؤيا عمر بن الطاب رضي ال عنه فأقره النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والقصة بكاملها مروية ف‬
‫كتب السنة والسية‪.‬‬

‫الؤاخاة بي السلمي‬

‫ث إن النب صلى ال عليه وسلم بانب قيامه ببناء السجد‪ :‬مركز التجمع والتآلف‪ ،‬قام بعمل آخر من‬
‫أروع ما يأثره التاريخ‪ ،‬وهو عمل الؤاخاة بي الهاجرين والنصار‪ ،‬قال ابن القيم‪ :‬ث أخي رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم بي الهاجرين والنصار ف دار أنس بن مالك‪ ،‬وكانوا تسعي رجلًا‪ ،‬نصفهم من الهاجرين‪،‬‬
‫ونصفهم من النصار‪ ،‬أخي بينهم على الواساة‪ ،‬ويتوارثون بعد الوت دون ذوى الرحام إل حي وقعة‬
‫بدر‪ ،‬فلما أنزل ال عز وجل‪َ { :‬وأُ ْولُواْ الَ ْرحَامِ َبعْضُ ُهمْ أَ ْولَى بَِب ْعضٍ} [النفال‪ ]75 :‬رد التوارث إل‬
‫الرحم دون عقد الخوة‪.‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إنه أخي بي الهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية‪ ...‬والثبت الول‪ ،‬والهاجرون كانوا‬
‫مستغني بأخوة السلم وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة فيما بينهم‪ ،‬بلف الهاجرين مع‬
‫النصار‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫ومعن هذا الخاء أن تذوب عصبيات الاهلية‪ ،‬وتسقط فوارق النسب واللون والوطن‪ ،‬فل يكون أساس‬
‫الولء والباء إل السلم‪.‬‬

‫وقد امتزجت عواطف اليثار والواساة والؤانسة وإسداء الي ف هذه الخوة‪ ،‬وملت الجتمع الديد‬
‫بأروع المثال‪.‬‬

‫روى البخاري‪ :‬أنم لا قدموا الدينة أخي رسول ال صلى ال عليه وسلم بي عبد الرحن وسعد ابن‬
‫الربيع‪ ،‬فقال لعبد الرحن‪ :‬إن أكثر النصار مالًا‪ ،‬فاقسم مال نصفي‪ ،‬ول امرأتان‪ ،‬فانظر أعجبهما إليك‬
‫فسمها ل‪ ،‬أطلقها‪ ،‬فإذا انقضت عدتا فتزوجها‪ ،‬قال‪ :‬بارك ال لك ف أهلك ومالك‪ ،‬وأين سوقكم؟‬
‫فدلوه على سوق بن قينقاع‪ ،‬فما انقلب إل ومعه فضل من أقِطٍ وسَمْنٍ‪ ،‬ث تابع الغدو‪ ،‬ث جاء يومًا وبه أثر‬
‫صفْرَة‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪[ :‬مَهَْيمْ؟] قال‪ :‬تزوجت‪ .‬قال‪[ :‬كم سقت إليها؟] قال‪ :‬نواة من‬
‫ُ‬
‫ذهب‪.‬‬

‫وروى عن أب هريرة قال‪ :‬قالت النصار للنب صلى ال عليه وسلم‪ :‬اقسم بيننا وبي إخواننا النخيل‪ .‬قال‪:‬‬
‫[ل]‪ ،‬فقالوا‪ :‬فتكفونا الؤنة ونشرككم ف الثمرة‪ .‬قالوا‪ :‬سعنا وأطعنا‪.‬‬

‫وهذا يدلنا على ما كان عليه النصار من الفاوة البالغة بإخوانم الهاجرين‪ ،‬ومن التضحية واليثار والود‬
‫والصفاء‪ ،‬وما كان عليه الهاجرون من تقدير هذا الكرم حق قدره‪ ،‬فلم يستغلوه ول ينالوا منه إل بقدر ما‬
‫يقيم أودهم‪.‬‬

‫وحقًا فقد كانت هذه الؤاخاة حكمةً فذةً‪ ،‬وسياسةً حكيمةً‪ ،‬وحلًا رشيدًا لكثي من الشاكل الت كان‬
‫يواجهها السلمون‪ ،‬والت أشرنا إليها‪.‬‬

‫ميثاق التحالف السلمي‬

‫وكما قام رسول ال صلى ال عليه وسلم بعقد هذه الؤاخاة بي الؤمني‪ ،‬قام بعقد معاهدة أزاح با ما كان‬
‫بينهم من حزازات ف الاهلية‪ ،‬وما كانوا عليه من نزعات قبلية جائرة‪ ،‬واستطاع بفضلها إياد وحدة‬
‫إسلمية شاملة‪ .‬وفيما يلى بنودها ملخصًا‪:‬‬

‫هذا كتاب من ممد النب صلى ال عليه وسلم بي الؤمني والسلمي من قريش ويثرب‪ ،‬ومن تبعهم فلحق‬
‫بم‪ ،‬وجاهد معهم‪:‬‬
‫‪1‬ـ إنم أمة واحدة من دون الناس‪.‬‬
‫‪2‬ـ الهاجرون من قريش على ِرْبعَتِهم يتعاقلون بينهم‪ ،‬وهم َيفْدُون عَانِيهم بالعروف والقسط بي‬
‫الؤمني‪ ،‬وكل قبيلة من النصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الول‪ ،‬وكل طائفة منهم تفدى عانيها‬
‫بالعروف والقسط بي الؤمني‪.‬‬
‫‪3‬ـ وإن الؤمني ل يتركون ُمفْرَحًا بينهم أن يعطوه بالعروف ف فداء أو عقل‪.‬‬
‫‪4‬ـ وإن الؤمني التقي على من بغى منهم‪ ،‬أو ابتغى دَسِيعة ظلم أو إث أو عدوان أو فساد بي الؤمني‪.‬‬
‫‪5‬ـ وإن أيديهم عليه جيعًا‪ ،‬ولو كان ولد أحدهم‪.‬‬
‫‪6‬ـ ول يقتل مؤمن مؤمنا ف كافر‪.‬‬
‫‪7‬ـ ول ينصر كافرًا على مؤمن‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ وإن ذمة ال واحدة يي عليهم أدناهم‪.‬‬
‫‪9‬ـ وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والسوة‪ ،‬غي مظلومي ول متناصرين عليهم‪.‬‬
‫‪10‬ـ وإن سلم الؤمني واحدة؛ ل يسال مؤمن دون مؤمن ف قتال ف سبيل ال إل على سواء وعدل‬
‫بينهم‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ وإن الؤمني يبء بعضهم على بعض با نال دماءهم ف سبيل ال‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ وإنه ل يي مشرك مالًا لقريش ول نفسًا‪ ،‬ول يول دونه على مؤمن‪.‬‬
‫‪ 13‬ـ وإنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به إل أن يرضى ول القتول‪.‬‬
‫‪ 14‬ـ وإن الؤمني عليه كافة‪ ،‬ول يل لم إل قيام عليه‪.‬‬
‫‪ 15‬ـ وإنه ل يل لؤمن أن ينصر مدثًا ول يؤويه‪ ،‬وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة ال وغضبه يوم‬
‫القيامة‪ ،‬ول يؤخذ منه صَرْف ول َعدْل‪.‬‬
‫‪ 16‬ـ وإنكم مهما اختلفـتم فيه من شيء‪ ،‬فإن مرده إل ال ـ عز وجل ـ وإل ممـد صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬

‫أثر العنويات ف الجتمع‬


‫بذه الكمة وبذا التدبي أرسى رسول ال صلى ال عليه وسلم قواعد متمع جديد‪ ،‬كانت صورته‬
‫الظاهرة بيانا وآثارًا للمعان الت كان يتمتع با أولئك الماد بفضل صحبة النب صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وكان النب صلى ال عليه وسلم يتعهدهم بالتعليم والتربية‪ ،‬وتزكية النفوس‪ ،‬والث على مكارم الخلق‪،‬‬
‫ويؤدبم بآداب الود والخاء والجد والشرف والعبادة والطاعة‪.‬‬

‫سأله رجل‪ :‬أي السلم خي؟ قال‪[ :‬تطعم الطعام‪ ،‬وتقرئ السلم على من عرفت ومن ل تعرف]‪.‬‬

‫قال عبد ال بن سلم‪ :‬لا قدم النب صلى ال عليه وسلم الدينة جئت‪ ،‬فلما تبينت وجهه‪ ،‬عرفت أن وجهه‬
‫ليس بوجه كذاب‪ ،‬فكان أول ما قال‪[ :‬يا أيها الناس‪ ،‬أفشوا السلم‪ ،‬وأطعموا الطعام‪ ،‬وصلوا الرحام‪،‬‬
‫وصلوا بالليل والناس نيام‪ ،‬تدخلوا النة بسلم]‬
‫وكان يقول‪[ :‬ل يدخل النة من ل يأمن جاره بوائقه]‬
‫ويقول‪[ :‬السلم من سلم السلمون من لسانه ويده]‬
‫ويقول‪[ :‬ل يؤمن أحدكم حت يب لخيه ما يب لنفسه]‬
‫ويقول‪[ :‬الؤمنون كرجل واحد‪ ،‬إن اشتكى عينه اشتكى كله‪ ،‬وإن اشتكى رأسه اشتكى كله]‪.‬‬
‫ويقول‪[ :‬الؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا] ويقول‪[ :‬ل تباغضوا‪ ،‬ول تاسدون‪ ،‬ول تدابروا‪،‬‬
‫وكونوا عباد ال إخوانا‪ ،‬ول يل لسلم أن يهجر أخاه فوق ثلثة أيام]‪ .‬ويقول‪[ :‬السلم أخو السلم ل‬
‫يظلمه ول يسلمه‪ ،‬ومن كان ف حاجة أخيه كان ال ف حاجته‪ ،‬ومن فرج عن مسلم كربة فرج ال عنه‬
‫كربة من كربات يوم القيامة‪ ،‬ومن ستر مسلما ستره ال يوم القيامة] ويقول‪[ :‬ارحوا من ف الرض‬
‫يرحكم من ف السماء]‪ .‬ويقول‪[ :‬ليس الؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إل جانبه]‪ .‬ويقول‪[ :‬سِباب‬
‫الؤمن فسوق‪ ،‬وقتاله كفر]‪ .‬وكان يعل إماطة الذى عن الطريق صدقة‪ ،‬ويعدها شعبة من شعب اليان ‪.‬‬
‫ويقول‪[ :‬الصدقة تطفئ الطايا كما يطفئ الاء النار]‪ .‬ويقول‪[ :‬أيا مسلم كسا مسلما ثوبا على عُرى‬
‫كساه ال من خُضر النة‪ ،‬وأيا مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه ال من ثار النة‪ ،‬وأيا مسلم سقى‬
‫مسلما على ظمأ سقاه ال من الرحيم الختوم] ويقول‪[ :‬اتقوا الناء ولو بشق ترة‪ ،‬فإن ل تد فبكلمة‬
‫طيبة]‪ .‬وبانب هذا كان يث حثا شديدا على الستعفاف عن السألة‪ ،‬ويذكر فضائل الصب والقناعة‪،‬‬
‫فكان يعد السألة كدوحا أو خدوشا أو خوشا ف وجه السائل اللهم إل إذا كان مضطرا‪ .‬كما كان يبي‬
‫لم ما ف العبادات من الفضائل والجر والثواب عند ال‪ ،‬وكان يربطهم بالوحي النازل عليه من الساء‬
‫ربطا مؤثقا‪ ،‬فكان يقرؤه عليهم ويقرؤونه‪ :‬لتكون هذه الدراسة إشعارا با عليهم من حقوق الدعوة‬
‫وتبعات الرسلة‪ ،‬فضلً عن ضرورة الفهم والتدبر‪ .‬وهكذا هذب تفكيهم‪ ،‬وربع معنوياتم‪ ،‬وأيقظ‬
‫مواهبهم‪ ،‬وزودهم بأعلى القيم والقدار‪ ،‬حت وصول إل أعلى قمة من الكمال عرفت ف تاريخ البشر‬
‫بعد النبياء‪ .‬يقول عبد ال بن مسعود رضى ال عنه‪ :‬من كان مستنا فليست بن قد مات‪ ،‬فإن الي ل‬
‫تؤمن عليه الفتنة‪ ،‬أولئك أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كانوا أفضل هذه المة؛ وأبرها قلوبا‪،‬‬
‫وأعمقها علما‪ ،‬وأقلها تكلفا‪ ،‬اختارهم ال لصحبة نبيه‪ ،‬ولقامة دينه‪ ،‬فاعرفوا لم فضلهم‪ ،‬وابتعوهم على‬
‫أثرهم‪ ،‬وتسكوا با استطعتم من أخلقهم وسيهم‪ ،‬فإنم كانوا على الدى الستقيم‪ .‬ث إن هذا الرسول‬
‫القائد العظم صلى ال عليه وسلم كان يتمتع من الصفات العنوية والظاهرة‪ ،‬ومن الكمالت الواهب‪،‬‬
‫والماد والفضائل‪ ،‬ومكارم الخلق وماسن العمال با جعتله توى إليه الفئدة‪ ،‬وتتفان عليه النفوس‪،‬‬
‫فما يتكلم بكلمة إل ويبادر صحابته رضي ال عنهم إل امتثالا‪ ،‬وما يصدر من إرشاد أو توجيه إل‬
‫ويتسابقون إل العمل به‪ .‬بثل هذا استطاع النب صلى ال عليه وسلم أن يبن ف الدينة متمعا جديدا‬
‫أروع وأشرف متمع عرفة التاريخ‪ ،‬وأن يضع لشاكل هذا الجتمع حلً تنفست له النسانية الصعداء‪ ،‬بعد‬
‫أن كانت قد تعبت ف غياهب الزمان ودياجي الظلمات‪ .‬وبثل هذه العنويات الشامة تكاملت عناصر‬
‫الجتمع الديد الذي واجه كل تيارات الزمان حت صرف وجهتها‪ ،‬وحول مرى التاريخ واليام‪.‬‬
‫معاهدة مع اليهود‬

‫بعد أن أرسى رسول ال صلى ال وعليه وسلم قواعد متمع جديد وأمة إسلمية حديدة‪ ،‬بإقامة الوحدة‬
‫العقدية والسياسية والنظامية بي السلمي‪ ،‬بدأ بتنظيم علقاته بغي السلمي‪ ،‬وكان قصده بذلك توفي‬
‫المن والسلم والسعادة الي للبشرية جعاء‪ ،‬مع تنظيم النطقة ف وفاق واحد‪ ،‬فسن ف ذلك قواني‬
‫السماح والتجاوز الت ل تعهد ف ذلك العال اللئ بالتعصب والغراض الفردية والعرقية‪.‬‬

‫وأقرب من كان ياور الدينة من غي السلمي هم اليهود ‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬وهم وإن كانوا يبطنون العداوة‬
‫للمسلمي‪ ،‬لكن ل يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد‪ ،‬فعقد معهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫معاهدة قرر لم فيها النصح والي‪ ،‬وترك لم فيها مطلق الرية ف الدين والال‪ ،‬ول يتجه إل سياسة‬
‫البعاد أو الصادرة والصام‪.‬‬
‫وفيما يلى أهم بنود هذه العاهدة‪:‬‬

‫بنود العاهدة‬
‫‪ -1‬إن يهود بن عوف أمة مع الؤمني‪ ،‬لليهود دينهم وللمسلمي دينهم مواليهم وأنفسهم‪ ،‬وكذلك لغي‬
‫بن عوف من اليهود‪.‬‬
‫‪-2‬وإن على اليهود نفقتهم‪ ،‬وعلى السلمي نفقتهم‪.‬‬
‫‪ -3‬وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة‪.‬‬
‫‪ -4‬وإن بينهم النصح والنصحية‪ ،‬والب دون الث‪.‬‬
‫‪ -5‬وإنه ل يأث امرؤ بليفه‪.‬‬
‫‪ -6‬وإن النصر للمظلوم‪.‬‬
‫‪ -7‬وإن اليهود ينفقون مع الؤمني ما داموا ماربي‪.‬‬
‫‪-8‬وإن يثرب حرام جوفها لهل هذه الصحيفة‪.‬‬
‫‪ -9‬وإنه ما كان بي أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار ياف فساده فإن مرده إل ال عز وجل‪،‬‬
‫وإل ممد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -10‬وإنه ل تار قريش ول من نصرها‪.‬‬
‫‪ -11‬وإن بينهم النصر على من َدهَم يثرب‪ ..‬على كل أناس حصتهم من جابنهم الذي قبلهم‪.‬‬
‫‪ -12‬وإنه ل يول هذا الكتاب دون ظال أو آث‪.‬‬
‫وبإبرام هذه العاهدة صارت الدينة وضواحيها دولة وفاقية‪ ،‬عاصمتها الدينة‪ ،‬ورئيسها ـ إن صح هذا‬
‫التعبي ـ رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والكلمة النافذة والسلطان الغالب فيها للمسلمي‪.‬‬
‫ولتوسيع منطقة المن والسلم عاهد النب صلى ال عليه وسلم قبائل أخرى ف الستقبل بثل هذه‬
‫العاهدة‪ ،‬حسب ما اقتضته الظروف‪ ،‬وسيأت ذكر شيء عنها‪.‬‬
‫الكفاح الدامي‬

‫استفزازات قريش واتصالم بعبد ال بن أب‬


‫إعلن عزية الصد عن السجد الرام‬
‫قريش تدد الهاجرين‬
‫الذان بالقتال‬
‫الغزوات والسيايا قبل بدر‬
‫وفيما يلى أحوال هذه السرايا بالياز‪:‬‬

‫استفزازات قريش واتصالم بعبد ال بن أب‬

‫تقدم ما أدل به كفار مكة من التنكيلت والويلت على السلمي ف مكة‪ ،‬ث ما أتوا به من الرائم الت‬
‫استحقوا لجلها الصادرة والقتال‪ ،‬عند الجرة‪ ،‬ث إنم ل يفيقوا من غيهم ول امتنعوا عن عدوانم بعدها‪،‬‬
‫بل زادهم غيظا أن فاتم السلمون ووجدوا مأمنا ومقرا بالدنية‪ ،‬فكتبوا إل عبد ال بن أب سلول‪ -‬وكان‬
‫إذ ذاك مشركا ‪ -‬بصفته رئيس النصار قبل الجرة ‪ -‬فمعلوا أنم كانوا قد اتفقوا عليه‪ ،‬وكادوا يعلونه‬
‫ملكا على أنفسهم لول أن هاجر رسول ال صلى ال عليه وسلم إليهم‪ ،‬وآمنوا به ‪ -‬كتبوا إليه وإل‬
‫أصحابه الشركي‪ ،‬يقولون لم ف كلمات باتة‪:‬‬

‫إنكم آويتم صاحبنا‪ ،‬وإنا نقسم بال لتقاتلنه أو لتخرجنه‪ ،‬أو لنسين إليكم بأجعنا حت نقتل مقاتلتكم‪،‬‬
‫ونستبيح نساءكم‪.‬‬

‫وبجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد ال بن أب ليمتثل أوامر إخوانه الشركي من أهل مكة ‪ -‬وقد كان‬
‫يقد على النب صلى ال عليه وسلم‪ :‬لا يراه أنه استبله ملكه‪ -‬يقول عبد الرحن بن كعب‪ :‬فلما بلغ ذلك‬
‫عبد ال بن أب ومن كان معه من عبدة الوثان اجتمعوا لقتال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما بلغ‬
‫ذلك النب صلى ال عليه وسلم لقيهم‪ ،‬فقال‪( :‬لقد بلغ وعيد قريش منكم البالغ‪ ،‬ما كانت تكيدكم بأكثر‬
‫ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم‪ ،‬تريدون أن تقالوا أبناءكم وإخوانكم)‪ ،‬فلما سعوا ذلك من النب صلى‬
‫ال عليه وسلم تفرقوا‪.‬‬

‫امتنع عبد ال بن أب بن سلول عن القتال إذ ذلك‪ ،‬لا رأي خورا أو رشدا ف أصحابه‪ ،‬ولكن يبدو من‬
‫تصرفاته أنه كان متواطئا مع قريش‪ ،‬فكان ل يد فرصة إل وينتهزها ليقاع الشر بي السلمي‬
‫والشركي‪ ،‬وكان يضم معه اليهود‪ ،‬ليعينوه على ذلك‪ ،‬ولكن تلك هي حكمة النب صلى ال عليه وسلم‬
‫الت كانت تطفئ نار شرهم حينا بعد حي‪.‬‬

‫إعلن عزية الصد عن السجد الرام‬

‫ث أن سعد بن معاذ انطلق إل مكة معتمرا‪ ،‬فنل على أمية بن خلف بكة‪ ،‬فقال لمية‪ :‬انظر ل ساعة خلوة‬
‫لعلي أن أطوف البيت‪ ،‬فخرج به قريبا من نصف النهار‪ ،‬فلقيهما أبو جهل‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا صفوان‪ ،‬من هذا‬
‫معك؟ فقال‪ :‬هذا سعد‪ ،‬فقال له أبو جهل‪ :‬أل أراك تطوف بكة آمنا وقد آويتم الصباة‪ ،‬وزعمتم أنكم‬
‫تنصرونم‪ ،‬وتعينونم‪ ،‬أما وال لول أنك مع أب صفوان ما رجعت إل أهلك سالا‪ ،‬فقال له سعد ‪ -‬ورفع‬
‫صوته عليه‪ :‬أما وال لئن منعتن هذا لمنعك ما هو أشد عليكم منه‪ :‬طريقك على أهل الدينة‪.‬‬

‫قريش تدد الهاجرين‬


‫وكأن قريشا كانت تعتزعلى شر أشد من هذا‪ ،‬وتفكر ف القيام بنفهسا للقضاء على السلمي‪ ،‬وخاصة‬
‫على النب صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ول يكن هذا مرد وهم أو خيال‪ ،‬فقد تأكد لدى رسول ال صلى ال عليه وسلم من مكائد قريش وإرادتا‬
‫على الشر ما كان لجله ل يبيت إل ساهرا‪ ،‬أو ف حرس من الصحابة‪ .‬روى الشيخان ف صحيحيهما عن‬
‫عائشة رضى ال عنها قالت‪ :‬سهر رسول ال صلى ال عليه وسلم مقدمه الدينة ليلة فقال‪( :‬ليت رجلً‬
‫صالا من أصحاب يرسن الليلة)‪ ،‬قالت‪ :‬فبينما نن كذلك سعنا خشخشة سلح‪ ،‬فقال‪( :‬من هذا ؟)‬
‫قال‪ :‬سعد بن أب وقاص‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬ما جاء بك؟) فقال‪ :‬وقع ف نفسي‬
‫خوف على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجئت أحرسه‪ ،‬فدعا له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ث‬
‫نام‪.‬‬
‫ول تكن هذه الراسة متصة ببعض الليال‪ ،‬بل كان ذلك أمرا مستمرا‪ ،‬فقد روى عن عائشة قالت‪ :‬كان‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يرس ليلً حت نزل‪{ :‬وَالُ يَعْصِ ُمكَ مِنَ النّاسِ} [الائدة‪ ،]67 :‬فأخرج‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم رأسه من القبة‪ ،‬فقال‪( :‬يا أيها الناس‪ ،‬انصرفوا عن فقد عصمن ال عز‬
‫وجل)‪.‬‬

‫ول يكن الطر مقتصرا على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل كان يدق بالسلمي كافة‪ ،‬فقد روى أب‬
‫بن كعب‪ ،‬قال‪ :‬لا قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه الدينة‪ ،‬وآوتم النصار رمتهم العرب‬
‫عن قوس واحدة‪ ،‬وكانوا ل يبيتون إل بالسلح‪ ،‬ول يصبحون إل فيه‪.‬‬

‫الذان بالقتال‬
‫ف هذه الظروف الطية الت كانت تدد كيان السلمي بالدينة‪ ،‬وتنبئ عن قريش أنم ل يفيقون عن‬
‫غيهم ول يتنعون عن تردهم بال‪ ،‬أنزل ال تعال الذن بالقتال للمسلمي ول يفرضه عليهم‪ ،‬قال تعال‪{ :‬‬
‫أُ ِذنَ لِ ّلذِينَ يُقَاتَلُونَ ِبأَنّ ُهمْ ظُ ِلمُوا َوِإ ّن الَ عَلَى نَصْرِ ِهمْ لَ َقدِيرٌ} [الج‪.]39 :‬‬

‫وأنزل معه آيات بي لم فيها أن هذا الذن إنا هو لزاحة الباطل وإقامة شعائر ال‪ ،‬قال تعال‪{ :‬الّذِينَ إِن‬
‫مّكّنّا ُهمْ فِي الْأَ ْرضِ أَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوُا ال ّزكَاةَ َوأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ َونَهَوْا عَنِ الْمُن َكرِ َولِ ّلهِ عَاقَِبةُ اْلُأمُورِ } [‬
‫الج‪.]41 :‬‬

‫وكان الذن مقتصرا على قتال قريش‪ ،‬ث تطور فيما بعد مع تغي الظروف حت وصل إل مرحلة الوجوب‪،‬‬
‫وجاوز قريشا إل غيهم‪ ،‬ول بأس أن نذكر تلك الراحل بإياز قبل أن ندخل ف ذكر الحداث‪:‬‬

‫‪ -1‬اعتبار مشركي قريش ماربي؛ لنم بدأوا بالعدوان‪ ،‬فحق للمسلمي أن يقاتلوهم ويصادروا أموالم‬
‫دون غيهم من بقية مشركي العرب‪.‬‬
‫‪ -2‬قتال كل من تال من مشركي العرب مع قريش واتد معهم‪ ،‬وكذلك كل من تفرد بالعتداء على‬
‫السلمي من غي قريش‪.‬‬
‫‪ -3‬قتال من خان أو تيز للمشركي من اليهود الذين كان لم عقد وميثاق مع رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ونبذ ميثاقهم إليهم على سواء‪.‬‬
‫‪ -4‬قتال من بادأ بعداوة السلمي من أهل الكتاب‪ ،‬كالنصارى‪ ،‬حت يعطوا الزية عن يد وهم صاغرون‪.‬‬

‫‪ -5‬الكف عمن دخل ف السلم‪ ،‬مشركا كان أو يهوديا أو نصرانيا أو غي ذلك‪ ،‬فل يتعرض لنفسه‬
‫وماله إل بق السلم‪ ،‬وحسابه على ال‪.‬‬

‫ولا نزل الذن بالقتال رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبسط سيطرته على الطريق الرئيس الذي‬
‫تسلكه قريش من مكة إل الشام ف تاراتم‪ ،‬واختار لذلك خطتي‪:‬‬

‫الول‪ :‬عقد معاهدات اللف أو عدم العتداء مع القبائل الت كانت ماورة لذا الطريق‪ ،‬أو كانت تقطن‬
‫ما بي هذا الطريق وما بي الدينة‪ ،‬وقد عقد صلى ال عليه وسلم معاهدة مع جهينة قبل الخذ ف النشاط‬
‫العسكري‪ ،‬وكانت مساكنهم على ثلث مراحل من الدينة‪ ،‬كما عقد معاهدات أخرى أثناء دورياته‬
‫العسكرية‪ ،‬وسيأت ذكرها‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬إرسال البعوث واحدة تلو الخرى إل هذا الطريق‪.‬‬

‫الغزوات والسيايا قبل بدر‬

‫ولتنفيذ هاتي الطتي بدأ بالتحركات العسكرية فعلً بعد نزول الذن بالقتال وكانت أشبه بالدوريات‬
‫الستطلعية‪ ،‬وكان الطلوب منها كما أشرنا‪:‬‬

‫الستكشاف والتعرف على الطرق الحيطة بالدينة‪ ،‬والسالك الؤدية إل مكة‪.‬‬


‫عقد العاهدات مع القبائل الت مساكنها على هذه الطرق‪.‬‬
‫إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربي حولا بأن السلمي أقوياء وأنم تلصوا من‬
‫ضعفهم القدي‪.‬‬
‫إنذار قريش عُقبَى طيشها‪ ،‬حت تفيق عن غَيها الذي ل يزال يتوغل ف أعماقها‪ ،‬وعلها تشعر بتفاقم الطر‬
‫على اقتصادها وأسباب معايشها فتجنح إل السلم‪ ،‬وتتنع عن إرادة قتال السلمي ف عقر دارهم‪ ،‬وعن‬
‫الصد عن سبيل ال‪ ،‬وعن تعذيب الستضعفي من الؤمني ف مكة‪ ،‬حت يصي السلمون أحرارا ف إبلغ‬
‫رسالة ال ف ربوع الزيرة‪.‬‬

‫وفيما يلى أحوال هذه السرايا بالياز‪:‬‬

‫‪ -1‬سرية سيف البحر‬


‫ف رمضان سنة ‪ 1‬هـ‪ ،‬الوافق مارس سنة ‪623‬م‪ ،‬أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم على هذه‬
‫السرية حزة بن عبد الطلب‪ ،‬وبعثه ف ثلثي رجلً من الهاجرين يعترضون عيا لقريش جاءت من الشام‪،‬‬
‫وفيها أبو جهل بن هشام ف ثلثائة رجل‪ ،‬فلبغوا سيف البحر من ناحية العيص‪ ،‬فالتقوا واصطفوا للقتال‪،‬‬
‫فمشى مدي بن عمرو الن ـ وكان حليفا للفريقي جيعا ـ بي هؤلء وهؤلء حت جحز بينهم فلم‬
‫يقتتلوا‪.‬‬

‫وكان لواء حزة أول لواء عقده رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان أبيض‪ ،‬وحله أبو مرثد كَناز بن‬
‫حصي الغَنَوي‪.‬‬

‫‪-2‬سرية رابغ‪:‬‬
‫ف شوال سنة ‪ 1‬من الجرة‪ ،‬الوافق أبريل سنة ‪632‬م‪ ،‬بعث لا رسول ال صلى ال عليه وسلم عبيدة‬
‫بن الارث بن الطلب ف ستي رجلً من الهاجرين‪ ،‬فلقى أبا سفيان ‪ -‬وهو ف مائتي ‪ -‬على بطن رابغ‪،‬‬
‫وقد ترامي الفريقان بالنبل‪ ،‬ول يقع قتال‪.‬‬

‫وف هذه السرية انضم رجلن من جيش مكة إل السلمي‪ ،‬وها القداد بن عمرو البهران‪ ،‬وعتبه بن‬
‫غزوان الارن‪ ،‬وكانا مسلمي خرجا مع الكفار ليكون ذلك وسيلة للوصول إل السلمي‪ ،‬وكان لواء‬
‫عبيدة أبيض‪ ،‬وحامله مسطح بن أثاثة بن الطلب بن عبد مناف‪.‬‬

‫‪ -3‬سرية الرار‬
‫ف ذي العقدة سنة ‪ 1‬هـ‪ ،‬الوافق مايو سنة ‪623‬م‪ ،‬بعث لا رسول ال صلى ال عليه وسلم سعد بن‬
‫أب وقاص ف عشرين رجل يعترضون عيا لقريش‪ ،‬وعهد إليه إل ياوز الرار‪ ،‬فخرجوا مشاة يكمنون‬
‫بالنهار‪ ،‬ويسيون بالليل‪ ،‬حت بلغوا الرار صبيحة خس‪ ،‬فوجدوا العي قد مرت بالمس‪.‬‬

‫كان لواء سعد رضى ال عنه أبيض‪ ،‬وحله القداد بن عمرو‪.‬‬

‫‪-4‬غزة البواء أو ودان‪:‬‬


‫ف صفر سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬الوافق أغسطس سنة ‪623‬م‪ ،‬خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم فيها بنفسه‬
‫ف سبعي رجلً من الهاجرين خاصة يعترض عيا لقريش‪ ،‬حت بلغ ودان‪ ،‬فلم يلق كيدا‪ ،‬واستخلف فيها‬
‫على الدينة سعد بن عبادة رضى ال عنه‪.‬‬

‫وف هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مشى الضمري‪ ،‬وكان سيد بن ضمرة ف زمانه‪ ،‬وهذا‬
‫نص العاهدة‪( :‬هذا كتاب من ممد رسول ال لبن ضمره‪ ،‬فإنم آمنون على أموالم وأنفسهم‪ ،‬وإن لم‬
‫النصر على من رامهم إل أن ياربوا دين ال ن ما بل بر صوفة وأن النب إذا دعاهم لنصره أجابوه)‪.‬‬

‫وهذه أول غزوة غزاها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكانت غيبته خس عشرة ليلة‪ ،‬وكان اللواء‬
‫أبيض وحامله حزة بن عبد الطلب‪.‬‬

‫‪ -5‬غزوة بواط‪:‬‬
‫ف شهر ربيع الول سنة ‪ 2‬هـ الوافق سبتمب سنة ‪623‬م‪ ،‬خرج فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ف مائتي من أصحابه‪ ،‬يعترض عيا لقريش فيها أمية بن خلف المحي ومائة رجل من قريش‪ ،‬وألفان‬
‫وخسمئة بعي‪ ،‬فبلغ بواطا من ناحية رضوى ول يلق كيدا‪.‬‬
‫واستخلف ف هذه الغزوة على الدينة سعد بن معاذ‪ ،‬واللواء كان أبيض‪ ،‬وحامله سعد بن أب وقاص رضى‬
‫ال عنه‪.‬‬
‫‪-6‬غزوة سفوان‬
‫ف شهر ربيع الول سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬الوافق سبتمب سنة ‪623‬م‪ ،‬أغار كرز بن جابر الفهري ف قوات خفيفة‬
‫من الشركي على مراعي الدينة‪ ،‬ونب بعض الواشي فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ف سبعي‬
‫رجلً من أصحابه لطارته‪ ،‬حت بلغ واديا يقال له‪ :‬سفوان من ناحية بدر‪ ،‬ولكنه ل يدرك كرزا وأصحابه‪،‬‬
‫فرجع من دون حرب‪ ،‬وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الول‪.‬‬
‫واستخلف ف هذه الغزوة على الدينة زيد بن حارثة‪ ،‬وكان اللواء أبيض‪ ،‬وحامله علي بن أب طالب‪.‬‬

‫‪ -7‬غزوة ذي العشية‪:‬‬
‫ف جادى الول‪ ،‬وجادى الخرة سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬الوافق نوفمب وديسمب سنة ‪623‬هـ‪ ،‬خرج فيها‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ف خسي ومائة ويقال‪ :‬ف مائتي‪ ،‬من الهاجرين‪ ،‬ول يكره أحدا على‬
‫الروج‪ ،‬وخرجوا على ثلثي بعيا يعتقبونا‪ ،‬يعترضون عيا لقريش‪ ،‬ذاهبة إل الشام‪ ،‬وقد جاء الب‬
‫بفصولا من مكة‪ ،‬فيها أموال لقريش فبلغ ذا العشية‪ ،‬فوجد العي قد فاتته بأيام‪ ،‬وهذه هي العي الت‬
‫خرج ف طلبها حي رجعت من الشام‪ ،‬فصارت سببا لغزوة بدر الكبى‪.‬‬

‫وكان خروجه صلى ال عليه وسلم ف أواخر جادى الول‪ ،‬ورجوعه ف أوائل جادى الخرة‪ ،‬على ما قاله‬
‫ابن إسحاق‪ ،‬ولعل هذه هو سبب اختلف أهل السي ف تعيي شهر هذه الغزوة‪.‬‬
‫وف هذه الغزوة عقد رسول ال صلى ال عليه وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بن مدل وحلفائهم من بن‬
‫ضمرة‪.‬‬
‫واستخلف على الدينة ف هذه الغزوة أبا سلمة بن عبد السد الخزومي‪ ،‬وكان اللواء أبيض‪ ،‬وحامله حزة‬
‫بن عبد اللطب رضي ال عنه‪.‬‬

‫‪ -8‬سرية نلة‪:‬‬
‫ف رجب سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬الوافق يناير سنة ‪624‬م‪ ،‬بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم كتب له كتابا‪،‬‬
‫وأمره أل ينظر فيه حت يسي يومي‪ ،‬ث ينظر فيه‪ .‬فسار عبد ال ث قرأ الكتاب بعد يومي‪ ،‬فإذا فيه‪( :‬إذا‬
‫نظرت ف كتاب هذا فامض حت تنل نلة بي مكلة والطائف‪ ،‬فترصد با عي قريش وتعلم لنا من‬
‫أخبارهم)‪ .‬فقال‪ :‬سعا وطاعة‪ ،‬وأخب أصحابه بذلك‪ ،‬وأنه ل يستكرههم‪ ،‬فمن أحب الشهادة فلينهض‪،‬‬
‫ومن كره الوت فليجع‪ ،‬وأما أنا فناهض‪ ،‬فنهضوا كلهم‪ ،‬غي أنه لا كان ف أثناء الطريق أضل سعد بن‬
‫أب وقاص وعتبة بن غزوان بعيا لما كانا يعتقبانه‪ ،‬فتخلفا ف طلبه‪.‬‬

‫وسار عبد ال بن جحش حت نزل بنخلة‪ ،‬فمرت عي لقريش تمل زبيبا وأدما وتارة‪ ،‬وفيها عمرو بن‬
‫الضرمي‪ ،‬وعثمان ونوفل ابنا عبد ال بن الغية‪ ،‬والكم ابن كيسان مول بن الغية‪ .‬فتشاور السلمون‬
‫وقالوا‪ :‬نن ف آخر يوم من رجب الشهر الرام‪ ،‬فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الرام‪ ،‬وإن تركناهم الليلة‬
‫دخلوا الرم‪ ،‬ث اجتمعوا على اللقاء‪ ،‬فرمى أحدهم عمرو بن الضرمي فقتله‪ ،‬وأسروا عثمان والكم‬
‫وأفلت نوفل‪ ،‬ث قدموا بالعي والسيين إل الدينة‪ ،‬وقد عزلوا من ذلك المس‪ ،‬وهو أو خس كان ف‬
‫السلم‪ ،‬وأول قتيل ف السلم‪ ،‬وأول أسيين ف السلم‪.‬‬

‫وأنكر رسول ال صلى ال عليه وسلم ما فعلوه‪ ،‬وقال‪( :‬ما أمرتكم بقتال ف الشهر الرام) وتوقف عن‬
‫التصرف ف العي والسيين‪.‬‬

‫ووجد الشركون فيما حدث فرصة لتام السلمي بأنم قد أحلوا ما حرم ال‪ ،‬وكثر ف ذلك القيل‬
‫والقال‪ ،‬حت نزل الوحي حاسا هذه القاويل وأن ما عليه الشروكون أكب وأعظم ما ارتكبه السلمون‪{ :‬‬
‫ج ِد الْحَرَامِ‬
‫سِ‬‫صدّ عَن َسبِيلِ الِ َو ُكفْرٌ بِهِ وَالْمَ ْ‬
‫سأَلُوَنكَ عَنِ الشّ ْه ِر الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَِبيٌ َو َ‬
‫يَ ْ‬
‫َوإِخْرَاجُ أَهْ ِلهِ مِ ْنهُ َأكْبَرُ عِندَ الِ وَاْلفِتَْنةُ أَكْبَرُ مِ َن الْقَتْلِ} [البقرة‪.]217 :‬‬

‫فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة الت افتعلها الشركون لثارة الريبة ف سية القاتلي السلمي ل مساغ‬
‫لا‪ ،‬فإن الرمات القدسة قد انتهكت كلها ف ماربة السلم‪ ،‬واضطهاد أهله‪ ،‬أل يكن السلمون مقيمي‬
‫بالبلد الرام حي تقرر سلب أموالم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لذه الرمات قداستها فجأة‪ ،‬فأصبح‬
‫انتهاكها معرة وشناعة؟ ل جرم أن الدعاية الت أخذ ينشرها الشركون دعاية تبتن على وقاحة ودعارة‪.‬‬

‫وبعد ذلك أطلق رسول ال صلى ال عليه وسلم سراح السيين‪, ،‬أدى دية القتول إل أوليائه‪.‬‬

‫تلكم السرايا والغزوات قبل بدر‪ ،‬ل ير ف احد منها سلب الموال وقتل الرجال إل بعد ما ارتكبه‬
‫الشركون ف قيادة كرز بن جابر الفهري‪ ،‬فالبداية إنا هي من الشركي مع ما كانوا قد أتوه قبل ذلك من‬
‫الفاعيل‪.‬‬
‫وبعد وقوع ما وقع ف سرية عبد ال بن جحش تقق خوف الشركي وتسد أمامهم الطر القيقي‪،‬‬
‫ووقعوا فيما كانوا يشون الوقوع فيه‪ ،‬وعلموا أن الدينة ف غاية من التيقظ والتربص‪ ،‬تترقب كل حركة‬
‫من حركاتم التجارية‪ ،‬وأن السلمي يستطيعون أن يزحفوا إل ثلثائة ميل تقريبا‪ ،‬ث يقلتوا ويأسروا‬
‫رجالم‪ ،‬ويأخذوا أموالم‪ ،‬ويرجعوا سالي غاني‪ ،‬وشعر هؤلء الشركون بأن تارتم إل الشام أمام خطر‬
‫دائم‪ ،‬لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم‪ ،‬ويأخذوا طريق الصلح والوادعة ‪ -‬كما فعلت جهينة وبنو ضمرة‬
‫ازدادوا حقدا وعيظا‪ ،‬وصمم صناديدهم وكباؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل‪ :‬من إبادة‬
‫السلمي ف عقر دارهم‪ ،‬وهذا هو الطيش الذي جاء بم إل بدر‪.‬‬

‫أما السلمون فقد فرض ال عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد ال بن جحش ف شهر شعبان سنة ‪ 2‬هـ‪،‬‬
‫وأنزل ف ذلك آيات بينات‪{ :‬وَقَاتِلُواْ فِي َسبِيلِ الِ اّلذِينَ يُقَاتِلُونَ ُكمْ وَلَ َتعْتَدُواْ ِإ ّن الَ لَ ُيحِبّ الْ ُمعَْتدِينَ‬
‫وَاقْتُلُو ُهمْ َحيْثُ ثَ ِقفْتُمُو ُهمْ َوأَخْرِجُوهُم مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُو ُكمْ وَاْلفِتَْنةُ أَ َشدّ مِ َن الْقَتْلِ وَلَ ُتقَاتِلُو ُهمْ عِندَ‬
‫ج ِد الْحَرَامِ حَتّى ُيقَاتِلُو ُكمْ فِيهِ َفإِن قَاتَلُو ُكمْ فَاقْتُلُو ُهمْ َك َذلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ َفِإ ِن انتَهَ ْواْ َفِإ ّن الَ َغفُورٌ‬
‫سِ‬‫الْمَ ْ‬
‫رّحِيمٌ وَقَاتِلُو ُهمْ حَتّى لَ تَكُونَ ِفتَْنةٌ َويَكُو َن الدّينُ لِ ّلهِ َفِإنِ انتَهَواْ َفلَ ُعدْوَانَ إِلّ َعلَى الظّالِمِيَ} [البقرة‪:‬‬
‫‪.]193 :190‬‬

‫ث ل يلبث أن أنزل ال تعال عليهم آيات من نوع آخر‪ ،‬يعلمهم فيها طريقة القتال‪ ،‬ويثهم عليه‪ ،‬ويبي لم‬
‫شدّوا الْوَثَاقَ َفِإمّا مَنّا بَ ْعدُ‬
‫ب الرّقَابِ حَتّى إِذَا أَْثخَنتُمُو ُهمْ فَ ُ‬
‫بعض أحكامه‪َ { :‬فإِذا لَقِيُتمُ اّلذِينَ كَفَرُوا فَضَ ْر َ‬
‫ض َع الْحَ ْربُ أَوْزَا َرهَا َذِلكَ َولَوْ يَشَاء الُ لَانتَصَرَ مِنْ ُهمْ َولَكِن لّيَبْ ُلوَ َبعْضَكُم بَِبعْضٍ وَاّلذِينَ‬
‫َوِإمّا ِفدَاء حَتّى تَ َ‬
‫قُِتلُوا فِي سَبِي ِل الِ َفلَن يُضِلّ أَعْمَالَ ُهمْ سَيَ ْهدِي ِهمْ َويُصْ ِلحُ بَالَ ُهمْ َوُيدْخِلُ ُهمُ اْلجَّنةَ عَرّفَهَا لَ ُهمْ يَا َأيّهَا اّلذِينَ‬
‫آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الَ يَنصُ ْر ُكمْ َويُثَبّتْ أَ ْقدَامَ ُكمْ } [ممد‪.]7 :4 :‬‬

‫ث ذم ال الذين طفقت أفئدتم ترجف وتفق حي سعوا المر بالقتال‪َ { :‬فإِذَا أُن ِزلَتْ سُو َرةٌ ّمحْكَ َمةٌ وَ ُذكِرَ‬
‫ت اّلذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّ َرضٌ يَنظُرُونَ ِإلَ ْيكَ نَظَرَ الْ َمغْشِيّ عَلَ ْيهِ مِنَ الْمَ ْوتِ} [ممد‪.]20 :‬‬
‫فِيهَا اْلقِتَالُ َرَأيْ َ‬

‫وإياب القتال والض عليه‪ ،‬والمر بالستعداد له هو عي ما كانت تقتضيه الحوال‪ ،‬ولو كان هناك قائد‬
‫يسب أغوار الظروف لمر جنده بالستعداد لميع الطورائ‪ ،‬فكيف بالرب العليم التعال‪ ،‬فالظروف كانت‬
‫تقتضى عراكا داميا بي الق والباطل‪ ،‬وكانت وقعة سرية عبد ال بن جحش ضربة قاسية على غية‬
‫الشركي وحيتهم‪ ،‬آلتهم وتركتهم يتقلبون على مثل المر‪.‬‬

‫وآيات المر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي‪ ،‬وأن النصر والغلبة فيه للمسلمي نائيا‪ ،‬انظر‬
‫كيف يأمر ال السلمي بإخراج الشركي من حيث أخرجوهم‪ ،‬وكيف يعلمهم أحكام الند التغلب ف‬
‫الساري والثخان ف الرض حت تضع الرب أوزارها‪ ،‬هذه كلها إشارة إل غلبة السلمي نائيا‪ .‬ولكن‬
‫ترك كل ذلك مستورا حت يأت كل رجل با فيه من التحمس ف سبيل ال‪.‬‬

‫وف هذه اليام ‪ -‬ف شعبان سنة ‪ 2‬هـ ‪ /‬فباير ‪624‬م ‪ -‬أمر ال تعال بتحويل القبلة من بيت القدس‬
‫إل السجد الرام‪ ،‬وأفاد ذلك أن الضعفاء والنافقي من اليهود الذين كانوا قد خلوا صفوف السلمي‬
‫لثارة البلبلة‪ ،‬انكشفوا عن السلمي ورجعوا إل ما كانوا عليه‪ ،‬وهكذا تطهرت صفوف السلمي عن‬
‫كثي من أهل الغدر واليانة‪.‬‬

‫ولعل ف تويل القبلة إشارة لطيفة إل بداية دور جديد ل ينتهي إل بعد احتلل السلمي هذه القبلة‪ ،‬أو‬
‫ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيد أعدائهم‪ ،‬وإن كانت بأيديهم فعل فلبد من تليصها يوما ما إن‬
‫كانوا على الق‪.‬‬

‫وبده الوامر والشارات زاد نشاط السلمي‪ ،‬واشتد شوقهم إل الهاد ف سبيل ال‪ ،‬ولقاء العدو ف‬
‫معركة فاصلة لعلء كلمة ال‪.‬‬
‫غزوة بدر الكبى أول معركة من معارك السلم الفاصلة‬

‫سبب الغزوة‬
‫مبلغ قوة اليش السلمي وتوزيع القيادات‬
‫النذير ف مكة‬
‫أهل مكة يتجهزون للغزو‬
‫قوام اليش الكي‬
‫مشكلة قبائل بن بكر‬
‫جيش مكة يتحرك‬
‫العي تفلت‬
‫َهمّ اليش الكي بالرجوع‪ ،‬ووقوع النشقاق فيه‬
‫موقف اليش السلمي ف ضيق وحرج‬
‫الجلس الستشاري‬
‫اليش السلمي يواصل سيه‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم يقوم بعملية الستكشاف‬
‫الصول على أهم العلومات عن اليش الكي‬
‫اليش السلمي يسبق إل أهم الراكز العسكرية‬
‫مقر القيادة‬
‫تعبئة اليش وقضاء الليل‬
‫اليش الكي ف عرصة القتال‪ ،‬ووقوع النشقاق فيه‬

‫سبب الغزوة‬

‫سبق ف ذكر غرزة العشية أن عيا لقريش أفلتت من النب صلى ال عليه وسلم ف ذهابا من مكة إل‬
‫الشام‪ ،‬فلما قرب رجوعها من الشام إل مكة بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم طلحة بن عبيد ال‬
‫وسعيد بن زيد إل الشمال ليقوما باكتشاف خبها‪ ،‬فوصل إل الوراء ومكثا حت مر بما أبو سفيان‬
‫بالعي‪ ،‬فأسرعا إل الدينة وأخبا رسول ال صلى ال عليه وسلم الب‪.‬‬

‫وكانت العي تمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها‪ :‬ألف بعي موقرة بأموال ل تقل عن خسي‬
‫ألف دينار ذهب‪ .‬ول يكن معها من الرب إل نو أربعي رجل‪.‬‬

‫إنا فرصة ذهبية للمسلمي ليصيبوا أهل مكة بضربة اقتصادية قاصمة‪ ،‬تتأل لا قلوبم على مر العصور‪،‬‬
‫لذلك أعلن رسول ال صلى ال عليه وسلم قائلً‪( :‬هذه عي قريش فيها أموالم‪ ،‬فاخرجوا إليها لعل ال‬
‫ينفلكموها)‪.‬‬

‫ول يعزم على أحد بالروج‪ ،‬بل ترك المر للرغبة الطلقة‪ ،‬لا أنه ل يكن يتوقع عند هذا النتداب أنه‬
‫سيصطدم بيش مكة ‪ -‬بدل العي‪ -‬هذا الصطدام العنيف ف بدر؛ ولذلك تلف كثي من الصحابة ف‬
‫الدينة‪ ،‬وهم يسبون أن مضى رسول ال صلى ال عليه وسلم ف هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه ف السرايا‬
‫والغزوات الاضية؛ ولذلك ل ينكر على أحد تلفه ف هذه الغروة‪.‬‬

‫مبلغ قوة اليش السلمي وتوزيع القيادات‬

‫واستعد رسول ال صلى ال عليه وسلم للخروج ومعه ثلثائة وبضعة عشر رجلً ـ ‪ ،313‬أو‬
‫‪ ،314‬أو ‪ 317‬رجلً ـ ‪ 82‬أو ‪ 83‬أو ‪ 86‬من الهاجرين و ‪ 61‬من الوس و ‪ 170‬من‬
‫الرزج‪ .‬ول يتفلوا لذا الروج احتفال بليغا‪ ،‬ول اتذوا أهبتهم كاملة‪ ،‬فلم يكن معهم إل فرس أو‬
‫فرسان‪ :‬فرس للزبي بن العوام‪ ،‬وفرس للمقداد بن السود الكندي‪ ،‬وكان معهم سبعون بعيا يعتقب‬
‫الرجلن والثلثة على بعي واحد‪ ،‬وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم وعلي ومرثد بن أب مرثد الغنوي‬
‫يعتقبون بعيا واحد‪.‬‬

‫واستخلف على الدينة وعلى الصلة ابن أم مكتوم‪ ،‬فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد النذر‪،‬‬
‫واستعمله على الدينة‪.‬‬
‫ودفع لواء القيادة العامة إل مصعب بن عمي القرشي العبدري‪ ،‬وكان هذا اللواء أبيض‪.‬‬

‫وقسم جيشه إل كتيبتي‪:‬‬

‫‪ -1‬كتيبة الهاجرين‪ :‬وأعطى رايتها علي بن أب طالب‪ ،‬ويقال لا‪ :‬العقاب‪.‬‬


‫‪ -2‬وكتبية النصار‪ :‬وأعطى رايتها سعد بن معاذ‪ .‬ـ وكانت الرايتان سوداوين ـ‪.‬‬

‫وجعل على قيادة اليمنة الزبي بن العوام‪ ،‬وعلى اليسرة القداد بن عمرو‪ -‬وكانا ها الفارسي الوحيدين‬
‫ف اليش ‪ -‬كما سبق ‪ -‬وجعل على الساقة قيس بن أب صعصعة‪ ،‬وظلت القيادة العامة ف يده صلى ال‬
‫عليه وسلم كقائد أعلى للجيش‪.‬‬

‫وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم ف هذا اليش غي التأهب‪ ،‬فخرج من نقب الدينة‪ ،‬ومضى على‬
‫الطريق الرئيسي الؤدي إل مكة‪ ،‬حت بلغ بئر الروحاء‪ ،‬فلما ارتل منها ترك طريق مكة إل اليسار‪،‬‬
‫وانرف ذات اليمي على النازية يريد بدرا فسلك ف ناحية منه حت جزع وديا يقال له‪ :‬رحقان بي النازية‬
‫وبي مضيق الصفراء‪ ،‬ث مر على الضيق ث انصب منه حت قرب من الصفراء‪ ،‬ومن هنالك بعث بسبس‬
‫بن عمرو الن وعدي بن أب الزغباء الهي إل بدر يتجسسان له أخبار العي‪.‬‬

‫النذير ف مكة‬

‫وأما خب العي فإن أبا سفيان ‪ -‬وهو السئول عنها ‪ -‬كان على غاية من اليطة والذر‪ ،‬فقد كان يعلم أن‬
‫طريق مكة مفوف بالخطار‪ ،‬وكان يتحسس الخبار ويسأل من لقى من الركبان‪ ،‬ول يلبث أن نقلت إليه‬
‫استخباراته بأن ممدا صلى ال عليه وسلم قد استنفر أصحابه ليوقع بالعي‪ ،‬وحينئذ استأجر أبو سفيان‬
‫ضمضم بن عمرو الغفاري إل مكة مستصرخا لقريش بالنفي إل عيهم؛ ليمنعوه من ممد صلى ال عليه‬
‫وسلم وأصحابه‪ ،‬وخرج ضمضم سريعا حت أتى مكة‪ ،‬فخرخ ببطن الوادي واقفا على بعيه‪ ،‬وقد جدع‬
‫أنفه وحول رحله‪ ،‬وشقق قميصه‪ ،‬وهو يقول‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬اللطيمة‪ ،‬اللطيمة أموالكم مع أب سفيان قد‬
‫عرض لا لا ممد ف أصحابه‪ ،‬ل أرى أن تدركوها‪ ،‬الغوث‪ ...‬الغوث‪.‬‬

‫أهل مكة يتجهزون للغزو‬


‫فتحفز الناس سراعًا وقالوا‪ :‬أيظن ممد وأصحابه أن تكون كعي ابن الضرمي؟ كل وال ليعلمن غي‬
‫ذلك‪ ،‬فكانوا بي رجلي‪ :‬إما خارج‪ ،‬وإما باعث مكانه رجلًا‪ ،‬وأوعبوا ف الروج فلم يتخلف من أشرافهم‬
‫أحد سوى أب لب‪ ،‬فإنه عوض عنه رجلًا كان له عليه دين‪ ،‬وحشدوا من حولم من قبائل العرب‪ ،‬ول‬
‫يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إل بن عدى فلم يرج منهم أحد‪.‬‬

‫قوام اليش الكي‬


‫وكان قوام هذا اليش نو ألف وثلثائة مقاتل ف بداية سيه‪ ،‬وكان معه مائة فرس وستمائة دِرْع‪ ،‬وجال‬
‫كثية ل يعرف عددها بالضبط‪ ،‬وكان قائده العام أبا جهل ابن هشام‪ ،‬وكان القائمون بتموينه تسعة رجال‬
‫من أشراف قريش‪ ،‬فكانوا ينحرون يومًا تسعًا ويومًا عشرًا من البل‪.‬‬

‫مشكلة قبائل بن بكر‬


‫ولا أجع هذا اليش على السي ذكرت قريش ما كان بينها وبي بن بكر من العداوة والرب‪ ،‬فخافوا أن‬
‫تضربم هذه القبائل من اللف‪ ،‬فيكونوا بي نارين‪ ،‬فكاد ذلك يثنيهم‪ ،‬ولكن حينئذ تبدى لم إبليس ف‬
‫صورة ُسرَاقة بن مالك بن ُجعْشُم الدلى ـ سيد بن كنانة ـ فقال لم‪ :‬أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة‬
‫من خلفكم بشيء تكرهونه‪.‬‬

‫جيش مكة يتحرك‬


‫صدّونَ عَن سَبِي ِل الِ} [النفال‪،]47:‬‬
‫وحينئذ خرجوا من ديارهم‪ ،‬كما قال ال‪{ :‬بَطَرًا َو ِرئَاء النّاسِ َويَ ُ‬
‫وأقبلوا ـ كما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ بدهم وحديدهم يادون ال ويادون رسوله {‬
‫وَ َغدَوْا َعلَى حَرْدٍ قَا ِدرِينَ} [ القلم‪ ،]25:‬وعلى حية وغضب وحنق على رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم وأصحابه؛ لرأة هؤلء على قوافلهم‪.‬‬

‫لحْفَة‪،‬‬
‫سفَان‪ ،‬ث ُق َدْيدًا‪ ،‬ث ا ُ‬
‫تركوا بسرعة فائقة نو الشمال ف اتاه بدر‪ ،‬وسلكوا ف طريقهم وادى ُع ْ‬
‫وهناك تلقوا رسالة جديدة من أب سفيان يقول لم فيها‪ :‬إنكم إنا خرجتم لتحرزوا عيكم ورجالكم‬
‫وأموالكم‪ ،‬وقد ناها ال فارجعوا‪.‬‬

‫العي تفلت‬
‫وكان من قصة أب سفيان أنه كان يسي على الطريق الرئيسى‪ ،‬ولكنه ل يزل حذرًا متيقظًا‪ ،‬وضاعف‬
‫ج ِدىّ بن عمرو‪ ،‬وسأله عن جيش الدينة‪،‬‬
‫حركاته الستكشافية‪ ،‬ولا اقترب من بدر تقدم عيه حت لقى َم ْ‬
‫فقال‪ :‬ما رأيت أحدًا أنكره إل إن قد رأيت راكبي قد أناخا إل هذا التل‪ ،‬ث استقيا ف شن لما‪ ،‬ث‬
‫انطلقا‪ ،‬فبادر أبو سفيان إل مناخهما‪ ،‬فأخذ من أبعار بعيها‪ ،‬ففته فإذا فيه النوى‪ ،‬فقال‪ :‬هذه وال علئف‬
‫يثرب‪ ،‬فرجع إل عيه سريعًا‪ ،‬وضرب وجهها مولًا اتاهها نو الساحل غربًا‪ ،‬تاركًا الطريق الرئيسى الذي‬
‫ير ببدر على اليسار‪ ،‬وبذا نا بالقافلة من الوقوع ف قبضة جيش الدينة‪ ،‬وأرسل رسالته إل جيش مكة‬
‫الت تلقاها ف الحفة‪.‬‬

‫َهمّ اليش الكي بالرجوع‪ ،‬ووقوع النشقاق فيه‬


‫ولا تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع‪ ،‬ولكن قام طاغية قريش أبو جهل ف كبياء وغطرسة قائلًا‪:‬‬
‫وال ل نرجع حت نرد بدرًا‪ ،‬فنقيم با ثلثًا‪ ،‬فننحر الَزُور‪ ،‬ونطعم الطعام‪ ،‬ونسقى المر‪ ،‬وتعزف لنا‬
‫القِيان‪ ،‬وتسمع بنا العرب وبسينا وجعنا‪ ،‬فل يـزالون يهابوننا أبدًا‪.‬‬

‫ولكن على رغم أب جهل ـ أشار الخْنَس بن َشرِيق بالرجوع فعصوه‪،‬فرجع هو وبنو زُهْرَة ـ وكان‬
‫حليفًا لم‪ ،‬ورئيسًا عليهم ف هذا النفي ـ فلم يشهد بدرًا زهرى واحد‪ ،‬وكانوا حوال ثلثائة‬
‫رجل‪،‬واغتبطت بنو زهرة َب ْعدُ برأي الخنس بن شريق‪ ،‬فلم يزل فيهم مطاعًا معظمًا‪.‬‬
‫وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل‪ ،‬وقال‪ :‬ل تفارقنا هذه العصابة حت نرجع‪.‬‬
‫فسار جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بن زهرة ـ وهو يقصد بدرًا ـ فواصل سيه حت نزل‬
‫قريبًا من بدر‪ ،‬وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادى بدر‪.‬‬

‫موقف اليش السلمي ف ضيق وحرج‬

‫أما استخبارات جيش الدينة فقد نقلت إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهو ل يزال ف الطريق‬
‫بوادي ذَفِرَان ـ خب العي والنفي‪ ،‬وتأكد لديه بعد التدبر ف تلك الخبار أنه ل يبق مال لجتناب اللقاء‬
‫الدامي‪ ،‬وأنه ل بد من إقدام يبن على الشجاعة والبسالة‪ ،‬والراءة‪ ،‬والسارة‪ ،‬فمما ل شك فيه أنه لو‬
‫ترك جيش مكة يوس خلل تلك النطقة يكون ذلك تدعيمًا لكانة قريش العسكرية‪ ،‬وامتدادًا لسلطانا‬
‫السياسي‪ ،‬وإضعافًا لكلمة السلمي وتوهينًا لا‪،‬بل ربا تبقى الركة السلمية بعد ذلك جسدًا ل روح‬
‫فيه‪ ،‬ويرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على السلم ف هذه النطقة‪.‬‬

‫ث هل هناك ضمان للمسلمي بامتناع جيش مكة عن مواصلة سيه نو الدينة‪ ،‬حت ينقل العركة إل‬
‫أسوارها‪ ،‬ويغزو السلمي ف عقر دارهم؟ كل! فلو حدث من جيش الدينة نكول ما‪ ،‬لكان له أسوأ الثر‬
‫على هيبة السلمي وسعتهم‪.‬‬

‫الجلس الستشاري‬

‫ونظرًا إل هذا التطور الطي الفاجيء عقد رسول ال صلى ال عليه وسلم ملسًا عسكريًا استشاريًا‬
‫أعلى‪ ،‬أشار فيه إل الوضع الراهن‪ ،‬وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه وقادته‪ .‬وحينئذ تزعزع قلوب فريق‬
‫من الناس‪،‬وخافوا اللقاء الدامى‪،‬وهم الذين قال ال فيهم‪{ :‬كَمَا أَخْ َر َجكَ َرّبكَ مِن بَيِْتكَ بِالْحَقّ َوِإنّ فَرِيقا‬
‫مّ َن الْمُ ْؤمِنِيَ لَكَا ِرهُونَ ُيجَادِلُوَنكَ فِي اْلحَقّ َب ْعدَمَا تَبَيّنَ َكأَنّمَا يُسَاقُونَ ِإلَى الْمَ ْوتِ وَ ُهمْ يَنظُرُونَ} [النفال‪:‬‬
‫‪ ،]6 ،5‬وأمــا قادة اليش فقـام أبو بكر الصديق فقال وأحسن‪،‬ث قام عمر بن الطاب فقال‬
‫وأحسن‪،‬ث قام القداد بن عمرو فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬امض لا أراك ال‪،‬فنحن معك‪،‬وال ل نقول لك كما‬
‫قالت بنو إسرائيل لوسى‪{ :‬فَاذْ َهبْ أَنتَ َو َربّكَ َفقَاتِل إِنّا هَاهُنَا قَا ِعدُونَ} [الائدة‪ ،]24:‬ولكن اذهب‬
‫أنت وربك فقاتل إنا معكما مقاتلون‪ ،‬فوالذي بعثك بالق لو سرت بنا إل بَرْك الغِمَاد لالدنا معك من‬
‫دونه حت تبلغه‪.‬‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم خيًا ودعا له به‪.‬‬
‫وهؤلء القادة الثلثة كانوا من الهاجرين‪ ،‬وهم أقلية ف اليش‪ ،‬فأحب رسول ال صلى ال عليه وسلم أن‬
‫يعرف رأي قادة النصار؛ لنم كانوا يثلون أغلبية اليش‪ ،‬ولن ثقل العركة سيدور على كواهلهم‪ ،‬مع‬
‫أن نصوص العقبة ل تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم‪ ،‬فقال بعد ساع كلم هؤلء القادة الثلثة‪( :‬‬
‫أشيوا علىّ أيها الناس) وإنا يريد النصار‪ ،‬وفطن إل ذلك قائد النصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ‪.‬‬
‫فقال‪ :‬وال‪ ،‬ولكأنك تريدنا يا رسول ال؟‬
‫قال‪( :‬أجل)‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد آمنا بك‪ ،‬فصدقناك‪ ،‬وشهدنا أن ما جئت به هو الق‪ ،‬وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا‬
‫على السمع والطاعة‪ ،‬فامض يا رسول ال لا أردت‪ ،‬فوالذي بعثك بالق لو استعرضت بنا هذا البحر‬
‫فخضته لضناه معك‪ ،‬ما تلف منا رجل واحد‪ ،‬وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا‪ ،‬إنا لصُبُر ف الرب‪،‬‬
‫صدّق ف اللقاء‪ ،‬ولعل ال يريك منا ما تَقَرّ به عينك‪ ،‬فسِرْ بنا على بركة ال‪.‬‬
‫ُ‬
‫وف رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬لعلك تشى أن تكون النصار ترى حقًا‬
‫عليها أل تنصرك إل ف ديارهم‪ ،‬وإن أقول عن النصار وأجيب عنهم‪ :‬فاظعن حيث شئت‪ ،‬وصِلْ حَبْل من‬
‫شئت‪ ،‬واقطع حبل من شئت‪ ،‬وخذ من أموالنا ما شئت‪ ،‬وأعطنا ما شئت‪ ،‬وما أخذت منا كان أحب إلينا‬
‫ما تركت‪ ،‬وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لمرك‪ ،‬فهو ال لئن سرت حت تبلغ البك من غِمْدان لنسين‬
‫معك‪ ،‬ووال لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لضناه معك‪.‬‬
‫فَسُرّ رسول ال صلى ال عليه وسلم بقول سعد‪ ،‬ونشطه ذلك‪ ،‬ث قال‪( :‬سيوا وأبشروا‪ ،‬فإن ال تعال قد‬
‫وعدن إحدى الطائفتي‪ ،‬وال لكإن الن أنظر إل مصارع القوم)‪.‬‬

‫اليش السلمي يواصل سيه‬


‫ث ارتل رسول ال صلى ال عليه وسلم من ذَفِرَان‪ ،‬فسلك على ثنايا يقال لا‪ :‬الصافر‪ ،‬ث انط منها إل‬
‫بلد يقال له‪ :‬ال ّدبّة‪ ،‬وترك الَنّان بيمي ـ وهو كَثِيب عظيم كالبل ـ ث نزل قريبًا من بدر‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يقوم بعملية الستكشاف‬


‫وهناك قام صلى ال عليه وسلم بنفسه بعملية الستكشاف مع رفيقه ف الغار أب بكر الصديق رضي ال‬
‫عنه وبينما ها يتجولن حول معسكر مكة إذا ها بشيخ من العرب‪ ،‬فسأله رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم عن قريش وعن ممد وأصحابه ـ سأل عن اليشي زيادة ف التكتم ـ ولكن الشيخ قال‪ :‬ل‬
‫أخبكما حت تبان من أنتما؟ فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إذا أخبتنا أخبناك)‪ ،‬قال‪ :‬أو‬
‫ذاك بذاك؟ قال‪( :‬نعم)‪.‬‬

‫قال الشيخ‪ :‬فإنه بلغن أن ممدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا‪ ،‬فإن كان صدق الذي أخبن فهم اليوم‬
‫بكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش الدينة‪ .‬وبلغن أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا‪ ،‬فإن كان‬
‫صدق الذي أخبن فهم اليوم بكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش مكة‪.‬‬

‫ولا فرغ من خبه قال‪ :‬من أنتما؟ فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬نن من ماء)‪ ،‬ث انصرف‬
‫عنه‪ ،‬وبقى الشيخ يتفوه‪ :‬ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟‬

‫الصول على أهم العلومات عن اليش الكي‬

‫وف مساء ذلك اليوم بعث صلى ال عليه وسلم استخباراته من جديد ليبحث عن أخبار العدو‪ ،‬وقام لذه‬
‫العملية ثلثة من قادة الهاجرين؛ على بن أب طالب والزبي بن العوام وسعد ابن أب وقاص ف نفر من‬
‫أصحابه‪ ،‬ذهبوا إل ماء بدر فوجدوا غلمي يستقيان ليش مكة‪ ،‬فألقوا عليهما القبض‪ ،‬وجاءوا بما إل‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم وهو ف الصلة‪ ،‬فاستخبها القوم‪ ،‬فقال‪ :‬نن سقاة قريش‪ ،‬بعثونا نسقيهم‬
‫من الاء‪ ،‬فكره القوم‪ ،‬ورجوا أن يكونا لب سفيان ـ لتزال ف نفوسهم بقايا أمل ف الستيلء على‬
‫القافلة ـ فضربوها ضربًا موجعًا حت اضطر الغلمان أن يقول‪ :‬نن لب سفيان فتركوها‪.‬‬

‫ولا فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم مـن الصلة قال لم كالعاتب‪( :‬إذا صدقاكم ضربتموها‪ ،‬وإذا‬
‫كذباكم تركتموها‪ ،‬صدقا وال‪ ،‬إنما لقريش)‪.‬‬

‫ث خاطب الغلمي قائلًا‪( :‬أخبإن عن قريش)‪ ،‬قال‪ :‬هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى‪،‬‬
‫فقال لما‪( :‬كم القوم؟) قال‪ :‬كثي‪ .‬قال‪( :‬ما عدتم؟) قال‪ :‬ل ندرى‪ ،‬قال‪( :‬كم ينحرون كل يوم؟) قال‪:‬‬
‫يومًا تسعًا ويومًا عشرًا‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬القوم فيما بي التسعمائة إل اللف)‪ ،‬ث‬
‫قال لما‪( :‬فمن فيهم من أشراف قريش؟) قال‪ :‬عتبة وشيبة ابنا ربيعة‪ ،‬وأبو الَبخْتَرىّ بن هشام‪ ،‬وحكيم بن‬
‫حِـزام‪ ،‬ونَوْفَل بن خويلد‪ ،‬والارث بن عامر‪ ،‬و ُطعَيْمَة بن عدى‪ ،‬والنضر بن الارث‪ ،‬وَز ْمعَة بن السود‪،‬‬
‫وأبو جهل بن هشام‪ ،‬وأميــة بن خلف ف رجال سياهم‪.‬‬
‫فأقبل رسول ال صلى ال عليه وسلم على الناس فقال‪( :‬هذه مكة قد ألقت إليكم أفلذ كبدها)‪.‬‬

‫نزول الطر‬

‫وأنزل ال عز وجل ف تلك الليلة مطرًا واحدًا‪ ،‬فكان على الشركي وابلًا شديدًا منعهم من التقدم‪ ،‬وكان‬
‫على السلمي طل طهرهم به‪ ،‬وأذهب عنهم رجس الشيطان‪ ،‬ووطأ به الرض‪ ،‬وصلب به الرمل‪ ،‬وثبت‬
‫القدام‪ ،‬ومهد به النل‪ ،‬وربط به على قلوبم‪.‬‬

‫اليش السلمي يسبق إل أهم الراكز العسكرية‬


‫وترك رسول ال صلى ال عليه وسلم بيشه ليسبق الشركي إل ماء بدر‪ ،‬ويول بينهم وبي الستيلء‬
‫عليه‪ ،‬فنل عشاء أدن ماء من مياه بدر‪ ،‬وهنا قام الُبَاب بن النذر كخبي عسكرى وقال‪ :‬يا رسول ال‪،‬‬
‫أرأيت هذا النل‪ ،‬أمنلًا أنزلكه ال‪ ،‬ليس لنا أن نتقدمه ول نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والرب والكيدة؟‬
‫قال‪( :‬بل هو الرأي والرب والكيدة)‪.‬‬

‫قال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن هذا ليس بنل‪ ،‬فانض بالناس حت نأتى أدن ماء من القوم ـ قريش ـ فننله‬
‫ونغوّر ـ أي ُنخَرّب ـ ما وراءه من القُلُب‪ ،‬ث نبن عليه حوضًا‪ ،‬فنمله ماء‪ ،‬ث نقاتل القوم‪ ،‬فنشرب ول‬
‫يشربون‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬لقد أشرت بالرأي)‪.‬‬

‫فنهض رسول ال صلى ال عليه وسلم باليش حت أتى أقرب ماء من العدو‪ ،‬فنل عليه شطر الليل‪ ،‬ث‬
‫صنعوا الياض وغوروا ما عداها من القلب‪.‬‬

‫مقر القيادة‬
‫وبعد أن ت نزول السلمي على الاء اقترح سعد بن معاذ على رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبن‬
‫السلمون مقرًا لقيادته؛ استعدادًا للطوارئ‪ ،‬وتقديرًا للهزية قبل النصر‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫يا نب ال‪ ،‬أل نبن لك عريشًا تكون فيه‪ ،‬ونعد عندك ركائبك‪ ،‬ث نلقى عدونا‪ ،‬فإن أعزنا ال وأظهرنا على‬
‫عدونا كان ذلك ما أحببنا‪ ،‬وإن كانت الخرى جلست على ركائبك فلحقت بِمَنْ وراءنا من قومنا‪ ،‬فقد‬
‫تلف عنك أقوام يا نب ال ما نن بأشد لك حبًا منهم‪ ،‬ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تلفوا عنك‪ ،‬ينعك‬
‫ال بم‪ ،‬يناصحونك وياهدون معك‪.‬‬

‫فأثن عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم خيًا ودعا له بي‪ ،‬وبن السلمون عَرِيشًا على تل مرتفع يقع ف‬
‫الشمال الشرقى ليدان القتال‪ ،‬ويشرف على ساحة العركة‪.‬‬

‫كما ت اختيار فرقة من شباب النصار بقيادة سعد بن معاذ يرسون رسول ال صلى ال عليه وسلم حول‬
‫مقر قيادته‪.‬‬

‫تعبئة اليش وقضاء الليل‬


‫ث عبأ رسول ال صلى ال عليه وسلم جيشه‪ .‬ومشى ف موضع العركة‪ ،‬وجعل يشي بيده‪( :‬هذا مصرع‬
‫فلن غدًا إن شاء ال‪ ،‬وهذا مصرع فلن غدا إن شاء ال)‪ .‬ث بات رسول ال صلى ال عليه وسلم يصلي‬
‫إل جذع شجرة هنالك‪ ،‬وبات السلمون ليلهم هادئي النفاس منيي الفاق‪ ،‬غمرت الثقة قلوبم‪،‬‬
‫وأخذوا من الراحة قسطهم؛ يأملون أن يروا بشائر ربم بعيونم صباحًا‪{ :‬إِذْ ُيغَشّي ُكمُ الّنعَاسَ َأمََنةً مّ ْنهُ‬
‫َويُنَزّلُ عَ َليْكُم مّن السّمَاء مَاء لُّيطَهّ َركُم ِبهِ َوُيذْهِبَ عَن ُكمْ رِجْزَ الشّ ْيطَانِ َولِيَ ْربِطَ عَلَى ُقلُوبِ ُكمْ َويُثَبّتَ ِبهِ‬
‫الَ ْقدَامَ} [النفال‪.]11:‬‬

‫كانت هذه الليلة ليلة المعة‪ ،‬السابعة عشرة من رمضان ف السنة الثانية من الجرة‪ ،‬وكان خروجه صلى‬
‫ال عليه وسلم ف ‪ 8‬أو ‪ 12‬من نفس الشهر‪.‬‬

‫اليش الكي ف عرصة القتال‪ ،‬ووقوع النشقاق فيه‬

‫أما قريش فقضت ليلتها هذه ف معسكرها بالعدوة القصوى‪ ،‬ولا أصبحت أقبلت ف كتائبها‪ ،‬ونزلت من‬
‫الكثيب إل وادي بدر‪ .‬وأقبل نفر منهم إل حوض رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪[ :‬دعوهم]‪ ،‬فما‬
‫شرب أحد منهم يومئذ إل قتل‪ ،‬سوى حكيم بن حزام‪ ،‬فإنه ل يقتل‪ ،‬وأسلم بعد ذلك‪ ،‬وحسن إسلمه‪،‬‬
‫وكان إذا اجتهد ف اليمي قال‪ :‬ل والذي نان من يوم بدر‪.‬‬

‫فلما اطمأنت قريش بعثت عُمَيْر بن وهب الُ َمحِى للتعرف على مدى قوة جيش الدينة‪ ،‬فدار عمي بفرسه‬
‫حول العسكر‪ ،‬ث رجع إليهم فقال‪ :‬ثلثائة رجل‪ ،‬يزيدون قليلًا أو ينقصون‪ ،‬ولكن أمهلون حت أنظر‬
‫أللقوم كمي أو مدد؟‬

‫فضرب ف الوادى حت أبعد‪ ،‬فلم ير شيئًا‪ ،‬فرجع إليهم فقال‪ :‬ما وجدت شيئًا‪ ،‬ولكن قد رأيت يا معشر‬
‫قريش البليا تمل النايا‪ ،‬نواضح يثرب تمل الوت الناقع‪ ،‬قوم ليس معهم منعة ول ملجأ إل سيوفهم‪،‬‬
‫وال ما أرى أن يقتل رجل منهم حت يقتل رجلًا منكم‪،‬فإذا أصابوا منكم أعدادكم فما خي العيش بعد‬
‫ذلك؟ فروا رأيكم‪.‬‬

‫وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أب جهل ـ الصمم على العركة ـ تدعو إل العودة باليش إل مكة‬
‫دونا قتال‪ ،‬فقد مشى حكيم بن حزام ف الناس‪ ،‬وأتى عتبة ابن ربيعة فقال‪ :‬يا أبا الوليد‪ ،‬إنك كبي قريش‬
‫وسيدها‪ ،‬والطاع فيها‪ ،‬فهل لك إل خي تذكر به إل آخر الدهر؟ قال‪ :‬وما ذاك يا حكيم؟ قال‪ :‬ترجع‬
‫بالناس‪ ،‬وتمل أمر حليفك عمرو بن الضرمى ـ القتول ف سرية نلة ـ فقال عتبة‪ :‬قد فعلت‪ .‬أنت‬
‫ضامن علىّ بذلك‪ .‬إنا هو حليفي‪ ،‬فعلى عقله [ديته] وما أصيب من ماله‪.‬‬

‫ث قال عتبة لكيم بن حزام‪ :‬فائت ابن الَ ْنظَلِّيةِ ـ أبا جهل‪ ،‬والنظلية أمه ـ فإن ل أخشى أن يشجر‬
‫أمر الناس غيه‪.‬‬

‫ث قام عتبة بن ربيعة خطيبًا فقال‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إنكم وال ما تصنعون بأن تلقوا ممدًا وأصحابه شيئًا‪،‬‬
‫وال لئن أصبتموه ليزال الرجل ينظر ف وجه رجل يكره النظر إليه‪ ،‬قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلًا‬
‫من عشيته‪ ،‬فارجعوا وخلوا بي ممد وبي سائر العرب‪ ،‬فإن أصابوه فذاك الذي أردت‪ ،‬وإن كان غي‬
‫ذلك أْلفَا ُكمْ ول َتعَرّضُوا منه ما تريدون‪.‬‬

‫وانطلق حكيم بن حزام إل أب جهل ـ وهو يهيئ درعًا له ـ قال‪ :‬يا أبا الكم‪ ،‬إن عتبة أرسلن بكذا‬
‫وكذا‪ ،‬فقال أبو جهل‪ :‬انتفخ وال َسحْ ُرهُ حي رأي ممدًا وأصحابه‪ ،‬كل وال ل نرجع حت يكم ال بيننا‬
‫وبي ممد‪ ،‬وما بعتبة ما قال‪ ،‬ولكنه قد رأي أن ممدًا وأصحابه أكلة جَزُور‪ ،‬وفيهم ابنه ـ وهو أبو‬
‫حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديًا وهاجر ـ فََتخَوّفَ ُكمْ عليه‪.‬‬

‫صفّر اسْتَه من انتفخ سحره‪ ،‬أنا أم هو؟‬


‫ولا بلغ عتبة قول أب جهل‪ :‬انتفخ وال سحره‪ ،‬قال عتبة‪ :‬سيعلم مُ َ‬
‫وتعجل أبو جهل‪ ،‬مافة أن تقوى هذه العارضة‪ ،‬فبعث على إثر هذه الحاورة إل عامر بن الضرمى ـ‬
‫أخي عمرو بن الضرمى القتول ف سرية عبد ال بن جحش ـ فقال‪ :‬هذا حليفك [أي عتبة] يريد أن‬
‫يرجع بالناس‪ ،‬وقد رأيت ثأرك بعينك‪ ،‬فقم فانْشُد ُخفْ َرتَك ‪ ،‬و َمقْتَلَ أخيك‪ ،‬فقام عامر فكشف عن استه‪،‬‬
‫وصرخ‪ :‬واعمراه‪ ،‬واعمراه‪ ،‬فحمى القوم‪ ،‬و َحقِبَ أمرهم‪ ،‬واستوثقوا على ما هم عليه من الشر‪ ،‬وأفسد‬
‫على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة‪ .‬وهكذا تغلب الطيش على الكمة‪ ،‬وذهبت هذه العارضة دون‬
‫جدوى‪.‬‬
‫اليشان يتراآن‬
‫ساعة الصفر وأول وقود العركة‬
‫البـــارزة‬
‫الجوم العام‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم يناشد ربه‬
‫نزول اللئكة‬
‫الجوم الضاد‬
‫إبليس ينسحب عن ميدان القتال‬
‫الزية الساحقة‬
‫صمود أب جهل‬
‫مصرع أب جهل‬
‫من روائع اليان ف هذه العركة‬

‫اليشان يتراآن‬

‫ولا طلع الشركون وتراءى المعان قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬اللهم هذه قريش قد أقبلت‬
‫بُيَلئها و َفخْرها ُتحَادّك وتكذب رسولك‪ ،‬اللهم فنصرك الذي وعدتن‪ ،‬اللهم أحِْنهُم [الغداة]) وقد قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ ورأى عتبة بن ربيعة ف القوم على جل له أحر‪( :‬إن يكن ف أحد من‬
‫القوم خي فعند صاحب المل الحر‪ ،‬إن يطيعوه يَرْ ُشدُوا)‪.‬‬

‫وعدل رسول ال صلى ال عليه وسلم صفوف السلمي‪ ،‬وبينما هو يعدلا وقع أمر عجيب‪ ،‬فقد كان ف‬
‫صلًا من الصف‪ ،‬فطعن ف بطنه بالقدح‪ ،‬وقال‪( :‬استو يا‬
‫يديه ِقدْح يعدل به‪ ،‬وكان سَوَاد بن غَ ِزيّة مُسْتَنْ ِ‬
‫سواد)‪ ،‬فقال سواد‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أوجعتن فأقدن‪ ،‬فكشف عن بطنه وقال‪( :‬استقد)‪ ،‬فاعتنقه سواد وقبل‬
‫بطنه‪ ،‬فقال‪( :‬ما حلك على هذا يا سواد؟) قال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬قد حضر ما ترى‪ ،‬فأردت أن يكون آخر‬
‫العهد بك أن يس جلدى جلدك‪ .‬فدعا له رسول ال صلى ال عليه وسلم بي‪.‬‬
‫ولا ت تعديل الصفوف أصدر أوامره إل جيشه بأل يبدأوا القتال حت يتلقوا منه الوامر الخية‪ ،‬ث أدل‬
‫إليهم بتوجيه خـاص ف أمـر الـرب‪ ،‬فقال‪( :‬إذا أكثبوكم ـ يعن اقتربوا منكم ـ فارموهم‪،‬‬
‫واستبقوا نبلكم‪ ،‬ول تسلوا السيوف حت يغشوكم) ث رجع إل العريش هو وأبو بكر خاصة‪،‬وقام سعد بن‬
‫معاذ بكتيبة الراسة على باب العريش‪.‬‬

‫أما الشركون فقد استفتح أبو جهل ف ذلك اليوم فقال‪ :‬اللهم أقطعنا للرحم‪ ،‬وآتانا با لنعرفه‪،‬فأحِنْه‬
‫الغداة‪،‬اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم‪ ،‬وف ذلك أنزل ال‪{ :‬إِن تَسَْتفِْتحُواْ َف َقدْ‬
‫جَاءكُ ُم الْفَ ْتحُ َوإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لّ ُكمْ َوإِن َتعُودُواْ نَ ُعدْ َولَن تُغْنِيَ عَن ُكمْ فِئَُت ُكمْ شَ ْيئًا َولَوْ كَثُ َرتْ َوأَ ّن الَ‬
‫مَ َع الْمُ ْؤمِنِيَ} [النفال‪]19:‬‬

‫ساعة الصفر وأول وقود العركة‬

‫وكان أول وقود العركة السود بن عبد السد الخزومى ـ وكان رجلًا شرسًا سيئ اللق ـ خرج قائلًا‪:‬‬
‫أعاهد ال لشربن من حوضهم أو لهدمنه أو لموتن دونه‪ .‬فلما خرج خرج إليه حزة بن عبد الطلب‬
‫رضي ال عنه فلما التقيا ضربه حزة فأطَنّ قدمه بنصف ساقه وهو دون الوض‪ ،‬فوقع على ظهره تشخب‬
‫رجله دمًا نو أصحابه‪ ،‬ث حبا إل الوض حت اقتحم فيه‪ ،‬يريد أن تب يينه‪ ،‬ولكن حزة ثن عليه بضربة‬
‫أخرى أتت عليه وهو داخل الوض‪.‬‬

‫البـــارزة‬

‫وكان هذا أول قتل أشعل نار العركة‪ ،‬فقد خرج بعده ثلثة من خية فرسان قريش كانوا من عائلة‬
‫واحدة‪ ،‬وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة‪ ،‬والوليد بن عتبة‪ ،‬فلما انفصلوا من الصف طلبوا البارزة‪ ،‬فخرج‬
‫إليهم ثلثة من شباب النصار عَوْف و ُمعَوّذ ابنا الارث ـ وأمهما عفراء ـ وعبد ال بن رواحة‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫من أنتم؟ قالوا‪ :‬رهط من النصار‪ .‬قالوا‪ :‬أكِفّاء كرام‪ ،‬ما لنا بكم حاجة‪ ،‬وإنا نريد بن عمنا‪ ،‬ث نادى‬
‫مناديهم‪ :‬يا ممد‪ ،‬أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬قم يا عبيدة بن‬
‫الارث‪ ،‬وقم يا حزة‪ ،‬وقم يا على)‪ ،‬فلما قاموا ودنوا منهم‪ ،‬قالوا‪ :‬من أنتم؟ فأخبوهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬أنتم أكفاء‬
‫كرام‪ ،‬فبارز عبيدة ـ وكان أسن القوم ـ عتبة بن ربيعة‪ ،‬وبارز حزة شيبة‪ ،‬وبارز على الوليد‪ .‬فأما حزة‬
‫وعلى فلم يهل قرنيهما أن قتلها‪ ،‬وأما عبيدة فاختلف بينه وبي قرنه ضربتان‪ ،‬فأثخن كل واحد منهما‬
‫ضمِنًا حت مات‬
‫صاحبه‪ ،‬ث كَرّ على وحزة على عتبة فقتله‪ ،‬واحتمل عبيدة وقد قطعت رجله‪ ،‬فلم يزل َ‬
‫بالصفراء‪،‬بعد أربعة أو خسة أيام من وقعة بدر‪ ،‬حينما كان السلمون ف طريقهم إل الدينة‪ .‬وكان على‬
‫يقسم بال أن هذه الية نــزلت فيهم‪َ { :‬هذَانِ َخصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي َربّ ِهمْ} الية [الج‪.]19:‬‬

‫الجوم العام‬
‫وكانت ناية هذه البارزة بداية سيئة بالنسبة للمشركي؛ إذ فقدوا ثلثة من خية فرسانم وقادتم دفعة‬
‫واحدة‪،‬فاستشاطوا غضبًا‪،‬وكروا على السلمي كرة رجل واحد‪.‬‬

‫وأما السلمون فبعد أن استنصروا ربم واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه تلقوا هجمات الشركي‬
‫التتالية‪ ،‬وهم مرابطون ف مواقعهم‪ ،‬واقفون موقف الدفاع‪ ،‬وقد ألقوا بالشركي خسائر فادحة‪ ،‬وهم‬
‫يقولون‪ :‬أحَد أحَد‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يناشد ربه‬

‫أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر‪،‬‬
‫ويقول‪( :‬اللهم أنز ل ما وعدتن‪ ،‬اللهم إن أنشدك عهدك ووعدك)‪ ،‬حت إذا َحمِ َى ال َوطِيسُ‪ ،‬واستدارت‬
‫رحى الرب بشدة واحتدم القتال‪ ،‬وبلغت العركة قمتها‪ ،‬قال‪( :‬اللهم إن تلك هذه العصابة اليوم ل‬
‫تعبد‪ ،‬اللهم إن شئت ل تعبد بعد اليوم أبدًا)‪ .‬وبالغ ف البتهال حت سقط رداؤه عن منكبيه‪ ،‬فرده عليه‬
‫الصديق‪ ،‬وقال‪ :‬حسبك يا رسول ال‪ ،‬ألحت على ربك‪.‬‬

‫وأوحى ال إل ملئكته‪{ :‬أَنّي مَعَ ُكمْ َفثَبّتُوْا الّذِينَ آ َمنُواْ َسُألْقِي فِي قُلُوبِ اّلذِينَ َكفَرُواْ الرّ ْعبَ} [النفال‪:‬‬
‫‪،]12‬وأوحى إل رسوله‪{ :‬أَنّي مُ ِمدّكُم ِبأَلْفٍ مّ َن الْمَلئِ َكةِ مُرْدِ ِفيَ} [النفال‪ ]9:‬ـ أي إنم ردف‬
‫لكم‪ ،‬أو يردف بعضهم بعضًا أرسالًا‪ ،‬ل يأتون دفعة واحدة‪.‬‬
‫نزول اللئكة‬

‫وأغفي رسول ال صلى ال عليه وسلم إغفاءة واحدة‪ ،‬ث رفع رأسه فقال‪( :‬أبشر يا أبا بكر‪ ،‬هذا جبيل‬
‫على ثَنَاياه النّ ْقعُ) [أي الغبار] وف رواية ابن إسحاق‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬أبشر يا أبا‬
‫بكر‪ ،‬أتاك نصر ال‪ ،‬هذا جبيل آخذ بعنان فرسه يقوده‪ ،‬وعلى ثناياه النقع)‪.‬‬

‫ث خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم من باب العريش وهو يثب ف الدرع ويقول‪{ :‬سَيُهْ َز ُم اْلجَمْعُ‬
‫َويُ َولّونَ الدّبُرَ} [القمر‪، ]45:‬ث أخذ َحفَْنةً من الَصْبَاء‪ ،‬فاستقبل با قريشًا وقال‪( :‬شاهت الوجوه)‬
‫ورمى با ف وجوههم‪ ،‬فما من الشركي من أحد إل أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة‪ ،‬وف‬
‫ذلك أنزل ال‪َ { :‬ومَا َرمَ ْيتَ إِذْ َرمَيْتَ َولَـكِنّ الَ َرمَى} [النفال‪.]17:‬‬

‫الجوم الضاد‬
‫وحينئذ أصدر إل جيشه أوامره الخية بالجمة الضادة فقال‪( :‬شدوا)‪ ،‬وحرضهم على القتال‪ ،‬قائلًا‪( :‬‬
‫والذي نفس ممد بيده‪ ،‬ل يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا متسبًا مقبلًا غي مدبر‪ ،‬إل أدخله ال النة)‪،‬‬
‫وقال وهو يضهم على القتال‪( :‬قوموا إل جنة عرضها السموات والرض)‪[ ،‬وحينئذ] قال عُمَيْر بن‬
‫الُمَام‪ :‬بَخْ َبخْ‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬ما يملك على قولك‪ :‬بخ بخ؟) قال‪ :‬ل‪ ،‬وال يا‬
‫رسول ال إل رجاء أن أكون من أهلها‪ ،‬قال‪( :‬فإنك من أهلها)‪ .‬فأخرج ترات من قَ َرنِه فجعل يأكل‬
‫منهن‪ ،‬ث قال‪ :‬لئن أنا حييت حت آكل تراتى هذه إنا لياة طويلة‪ ،‬فرمى با كان معه من التمر‪ ،‬ث قاتلهم‬
‫حت قتل‪.‬‬

‫وكذلك سأله عوف بن الارث ـ ابن عفراء ـ فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ما يضحك الرب من عبده؟ قال‪( :‬‬
‫غَمْسُه يده ف ال َعدُوّ حاسرًا)‪ ،‬فنع درعا كانت عليه فقذفها‪ ،‬ث أخذ سيفه فقاتل القوم حت قتل‪.‬‬

‫وحي أصدر رسول ال صلى ال عليه وسلم المر بالجوم الضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت‬
‫وفتر حاسه‪ ،‬فكان لذه الطة الكيمة أثر كبي ف تعزيز موقف السلمي‪ ،‬فإنم حينما تلقوا أمر الشد‬
‫والجوم ـ وقد كان نشاطهم الرب على شبابه ـ قاموا بجوم كاسح مرير‪ ،‬فجعلوا يقلبون الصفوف‪،‬‬
‫ويقطعون العناق‪ .‬وزادهم نشاطًا وحدة أن رأوا رسول ال صلى ال عليه وسلم يثب ف الدرع‪ ،‬وقد‬
‫تقدمهم فلم يكن أحد أقرب من الشركي منه‪ ،‬وهو يقول ف جزم وصراحة‪{ :‬سَيُ ْه َزمُ اْلجَ ْمعُ َويُ َولّونَ‬
‫الدّبُرَ} فقاتل السلمون أشد القتال ونصرتم اللئكة‪ .‬ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال‪ :‬كان يومئذ‬
‫يَ ْندُر رأس الرجل ل يدرى من ضربه‪ ،‬وتندر يد الرجل ل يدرى من ضربا‪ .‬وقال ابن عباس‪ :‬بينما رجل‬
‫من السلمي يشتد ف إثر رجل من الشركي أمامه إذ سع ضربة بالسوط فوقه‪ ،‬وصوت الفارس يقول‪:‬‬
‫أقدم حَيْزُوم‪ ،‬فنظر إل الشرك أمامه‪ ،‬فخر مستلقيًا‪ ،‬فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة‬
‫السوط‪ ،‬فا ْخضَرّ ذلك أجع‪ ،‬فجاء النصارى فحدث بذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪( :‬‬
‫صدقت‪ ،‬ذلك من مدد السماء الثالثة)‪.‬‬

‫وقال أبو داود الازن‪ :‬إن لتبع رجلًا من الشركي لضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي‪ ،‬فعرفت‬
‫أنه قد قتله غيى‪ ،‬وجاء رجل من النصار بالعباس بن عبد الطلب أسيًا‪،‬فقال العباس‪ :‬إن هذا وال ما‬
‫أسرن‪ ،‬لقد أسرن رجل أجلح‪ ،‬من أحسن الناس وجهًا على فرس أبْلَق‪ ،‬وما أراه ف القوم‪ ،‬فقال‬
‫النصاري‪ :‬أنا أسرته يا رسول ال‪ ،‬فقال‪( :‬اسكت فقد أيدك ال بلك كري)‪.‬‬

‫وقال علي‪ :‬قال ل رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم بدر‪ ،‬ولب بكر‪( :‬مع أحدكما جبيل ومع الخر‬
‫ميكائيل‪ ،‬وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال‪ ،‬أو يكون ف القتال)‪.‬‬

‫إبليس ينسحب عن ميدان القتال‬


‫ولا رأى إبليس ـ وكان قد جاء ف صورة سراقة بن مالك بن ُجعْشُم الدلي كما ذكرنا‪ ،‬ول يكن فارقهم‬
‫منذ ذلك الوقت ـ فلما رأي ما يفعل اللئكة بالشركي فر ونكص على عقبيه‪ ،‬وتشبث به الارث بن‬
‫هشام ـ وهو يظنه سراقة ـ فوكز ف صدر الارث فألقاه‪ ،‬ث خرج هاربًا‪ ،‬وقال له الشركون‪ :‬إل أين يا‬
‫ف الَ وَالُ َشدِيدُ‬
‫سراقة؟ أل تكن قلت‪ :‬إنك جار لنا‪ ،‬ل تفارقنا؟ فقال‪ِ{ :‬إنّي أَرَى مَا لَ تَرَ ْونَ ِإنّيَ أَخَا ُ‬
‫اْلعِقَابِ} [النفال‪ ،]48:‬ث فر حت ألقى نفسه ف البحر‪.‬‬

‫الزية الساحقة‬

‫وبدأت أمارات الفشل والضطراب ف صفوف الشركي‪ ،‬وجعلت تتهدم أمام حلت السلمي العنيفة‪،‬‬
‫واقتربت العركة من نايتها‪ ،‬وأخذت جوع الشركي ف الفرار والنسحاب البدد‪ ،‬وركب السلمون‬
‫ظهورهم يأسرون ويقتلون‪ ،‬حت تت عليهم الزية‪.‬‬

‫صمود أب جهل‬

‫أما الطاغية الكب أبو جهل‪ ،‬فإنه لا رأى أول أمارات الضطراب ف صفوفه حاول أن يصمد ف وجه هذا‬
‫السيل‪ ،‬فجعل يشجع جيشه ويقول لم ف شراسة ومكابرة‪ :‬ل يهزمنكم خذلن سراقة إياكم‪ ،‬فإنه كان‬
‫على ميعاد من ممد‪ ،‬ول يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد‪ ،‬فإنم قد عجلوا‪ ،‬فواللت والعزى ل نرجع‬
‫حت نقرنم بالبال‪ ،‬ول ألفي رجلًا منكم قتل منهم رجلًا‪ ،‬ولكن خذوهم أخذًا حت نعرفهم بسوء‬
‫صنيعهم‪.‬‬

‫ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة‪ ،‬فما لبث إل قليلًا حت أخذت الصفوف تتصدع أمام‬
‫تيارات هجوم السلمي‪ .‬نعم‪ ،‬بقى حوله عصابة من الشركي ضربت حوله سياجًا من السيوف‪ ،‬وغابات‬
‫من الرماح‪ ،‬ولكن عاصفة هجوم السلمي بددت هذا السياج‪ ،‬وأقلعت هذه الغابات‪ ،‬وحينئذ ظهر هذا‬
‫الطاغية‪ ،‬ورآه السلمون يول على فرسه‪ ،‬وكان الوت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدى غلمي أنصاريي‪.‬‬

‫مصرع أب جهل‬

‫قال عبد الرحن بن عوف رضي اله عنه إن لفي الصف يوم بدر إذ التفت‪ ،‬فإذا عن يين وعن يسارى‬
‫فتيان حديثا السن‪ ،‬فكأن ل آمن بكانما‪ ،‬إذ قال ل أحدها سرًا من صاحبه‪ :‬يا عم‪ ،‬أرن أبا جهل‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫يابن أخي‪ ،‬فما تصنع به؟ قال‪ :‬أخبت أنه يسب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬والذي نفسي بيده‬
‫لئن رأيته ل يفارق سوادي سواده حت يوت العجل منا‪ ،‬فتعجبت لذلك‪ .‬قال‪ :‬وغمزن الخر‪ ،‬فقال ل‬
‫مثلها‪ ،‬فلم أنشب أن نظرت إل أب جهل يول ف الناس‪ .‬فقلت‪ :‬أل تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألن‬
‫عنه‪ ،‬قال‪ :‬فابتدراه فضرباه حت قتله‪ ،‬ث انصرفا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فـقال‪( :‬أيكما‬
‫قتله؟) فقـال كـل واحد منهما‪ :‬أنا قتلته‪ ،‬قال‪( :‬هل مسحتما سيفيكما؟) فـقال‪ :‬ل‪ .‬فنـظر رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم إلــى السيفـي فقال‪( :‬كلكما قتله)‪ ،‬وقضى رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بسَلَبِه لعاذ بن عمرو بن الموح‪ ،‬والرجلن معاذ بن عمرو بن الموح و ُمعَوّذ ابن عفراء‪.‬‬

‫وقال ابن إسحاق‪ :‬قال معاذ بن عمرو بن الموح‪ :‬سعت القوم‪ ،‬وأبو جهل ف مثل الَرَجَة ـ والرجة‪:‬‬
‫الشجر اللتف‪ ،‬أو شجرة من الشجار ل يوصل إليها‪ ،‬شبه رماح الشركي وسيوفهم الت كانت حول أب‬
‫جهل لفظه بذه الشجرة ـ وهم يقولون‪ :‬أبو الكم ل يلص إليه‪ ،‬قال‪ :‬فلما سعتها جعلته من شان‬
‫فصمدت نوه‪ ،‬فلما أمكنن حلت عليه‪ ،‬فضربته ضربة أطَنّتْ قدمه ـ أطارتا ـ بنصف ساقه‪ ،‬فوال ما‬
‫ضخَة النوى حي يضرب با‪ .‬قال‪ :‬وضربن ابنه عكرمة‬
‫شبهتها حي طاحت إل بالنواة َتطِيحُ من تت مِرْ ِ‬
‫على عاتقي فطرح يدي‪ ،‬فتعلقت بلدة من جنب‪ ،‬وأجهضن القتال عنه‪ ،‬فلقد قاتلت عَا ّمةَ يومي وإن‬
‫لسحبها خلفي‪ ،‬فلما آذتن وضعت عليها قدمي‪ ،‬ث تَمَطّ ْيتُ با عليها حت طرحتها‪ ،‬ث مر بأب جهل ـ‬
‫وهو َعقِيٌ ـ ُمعَوّذ ابن عفراء فضربه حت أثبته‪ ،‬فتركه وبه َرمَق‪ ،‬وقاتل معوذ حت قتل‪.‬‬

‫ولا انتهت العركة قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬من ينظر ما صنع أبو جهل؟) فتفرق الناس ف‬
‫طلبه‪ ،‬فوجده عبد ال بن مسعود رضي ال عنه وبه آخر رمق‪ ،‬فوضع رجله على عنقه وأخذ ليته ليحتز‬
‫رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬هل أخزاك ال يا عدو ال؟ قال‪ :‬وباذا أخزان؟ أأعمد من رجل قتلتموه؟ أو هل فوق رجل‬
‫قتلتموه؟ وقال‪ :‬فلو غي أكّار قتلن‪ ،‬ث قال‪ :‬أخبن لن الدائرة اليوم؟ قال‪ :‬ل ورسوله‪ ،‬ث قال لبن‬
‫مسعود ـ وكان قد وضع رجله على عنقه‪ :‬لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُ َوْيعِىَ الغنم‪ ،‬وكان ابن مسعود‬
‫من رعاة الغنم ف مكة‪.‬‬

‫وبعد أن دار بينهما هذا الكلم احتز ابن مسعود رأسه‪ ،‬وجاء به إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هذا رأس عدو ال أب جهل‪ ،‬فقال‪( :‬ال الذي ل إله إل هو؟) فرددها ثلثًا‪ ،‬ث قال‪( :‬‬
‫ال أكب‪ ،‬المد ل الذي صدق وعده‪ ،‬ونصر عبده‪ ،‬وهزم الحزاب وحده‪ ،‬انطلق أرنيه)‪ ،‬فانطلقـنا‬
‫فــأريته إيـاه‪ ،‬فقال‪( :‬هذا فرعون هذه المة)‪.‬‬

‫من روائع اليان ف هذه العركة‬

‫لقد أسلفنا نوذجي رائعي من عمي بن المام وعوف بن الارث ـ ابن عفراء ـ وقد تلت ف هذه‬
‫العركة مناظر رائعة تبز فيها قوة العقيدة وثبات البدأ‪ ،‬ففي هذه العركة التقى الباء بالبناء‪ ،‬والخوة‬
‫بالخوة‪ ،‬خالفت بينهما البادئ ففصلت بينهما السيوف‪ ،‬والتقى القهور بقاهره فشفي منه غيظه‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النب صلى ال عليه وسلم قال لصحابه‪( :‬إن قد عرفت أن‬
‫رجالًا من بن هاشم وغيهم قد أخرجوا كرهًا‪ ،‬ل حاجة لم بقتالنا‪ ،‬فمن لقى أحدًا من بن هاشم فل‬
‫يقتله‪ ،‬ومن لقى أبا الَبخْتَ ِريّ بن هشام فل يقتله‪ ،‬ومن لقى العباس بن عبد الطلب فل يقتله‪ ،‬فإنه إنا أخرج‬
‫مستكرهًا)‪ ،‬فقال أبو حذيفة بن عتبة‪ :‬أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيتنا ونترك العباس‪ ،‬وال لئن لقيته‬
‫للمنه ـ أو للمنه ـ بالسيف‪ ،‬فبلغت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال لعمر بن الطاب‪( :‬يا أبا‬
‫حفص‪ ،‬أيضرب وجه عم رسول ال صلى ال عليه وسلم بالسيف)‪ ،‬فقال عمر‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬دعن‬
‫فلضرب عنقه بالسيف‪ ،‬فوال لقد نافق‪.‬‬

‫فكان أبو حذيفة يقول‪ :‬ما أنا بآمن من تلك الكلمة الت قلت يومئذ‪ ،‬ول أزال منها خائفًا إل أن تكفرها‬
‫عن الشهادة‪ .‬فقتل يوم اليمامة شهيدًا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وكان النهي عن قتل أب البختري؛ لنه كان أكف القوم عن رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو‬
‫بكة‪ ،‬وكان ل يؤذيه‪ ،‬ول يبلغ عنه شيء يكرهه‪ ،‬وكان من قام ف نقض صحيفة مقاطعة بن هاشم وبن‬
‫الطلب‪.‬‬
‫ى لقيه ف العركة ومعه زميل‬
‫جذّر بن زياد الَْبلَ ِو ّ‬
‫ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله‪ ،‬وذلك أن ا ُل َ‬
‫له‪ ،‬يقاتلن سويًا‪ ،‬فقال الجذر‪ :‬يا أبا البخترى إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد نانا عن قتلك‪،‬‬
‫فقال‪ :‬وزميلي؟ فقال الجذر‪ :‬ل وال ما نن بتاركي زميلك‪ ،‬فقال‪:‬وال إذن لموتن أنا وهو جيعًا‪ ،‬ث‬
‫اقتتل‪ ،‬فاضطر الجذر إل قتله‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ كان عبد الرحن بن عوف وأمية بن خلف صديقي ف الاهلية بكة‪ ،‬فلما كان يوم بدر مر به عبد‬
‫الرحن‪ ،‬وهو واقف مع ابنه على بن أمية‪ ،‬آخذًا بيده‪ ،‬ومع عبد الرحن أدراع قد استلبها‪ ،‬وهو يملها‪،‬‬
‫فلما رآه قال‪ :‬هل لك ف؟ فأنا خي من هذه الدراع الت معك‪ ،‬ما رأيت كاليوم قط‪ ،‬أما لكم حاجة ف‬
‫اللب؟ ـ يريد أن من أسرن افتديت منه بإبل كثية اللب ـ فطرح عبد الرحن الدراع‪ ،‬وأخذها يشى‬
‫بما‪ ،‬قال عبد الرحن‪ :‬قال ل أمية بن خلف‪ ،‬وأنا بينه وبي ابنه‪ :‬من الرجل منكم العلم بريشة النعامة ف‬
‫صدره؟ قلت‪ :‬ذاك حزة بن عبد الطلب‪ ،‬قال‪ :‬ذاك الذي فعل بنا الفاعيل‪.‬‬
‫قال عبد الرحن‪ :‬فوال إن لقودها إذ رآه بلل معي ـ وكان أمية هو الذي يعذب بللًا بكة ـ فقال‬
‫بلل‪ :‬رأس الكفر أمية بن خلف‪ ،‬ل نوت إن نا‪ .‬قلت‪ :‬أي بلل‪ ،‬أسيي‪ .‬قال‪ :‬ل نوت إن نا‪ .‬قلت‪:‬‬
‫أتسمع يابن السوداء‪ .‬قال‪ :‬ل نوت إن نا‪ .‬ث صرخ بأعلى صوته‪ :‬يا أنصار ال‪ ،‬رأس الكفر أمية بن‬
‫خلف‪ ،‬ل نوت إن نا‪ .‬قال‪ :‬فأحاطوا بنا حت جعلونا ف مثل الْمَسَكَة‪ ،‬وأنا أذب عنه‪ ،‬قال‪ :‬فأخلف رجل‬
‫السيف‪ ،‬فضرب رجل ابنه فوقع‪ ،‬وصاح أمية صيحة ما سعت مثلها قط‪ ،‬فقلت‪ :‬انج بنفسك‪ ،‬ول ناء‬
‫بك‪ ،‬فوال ما أغن عنك شيئًا‪ .‬قال‪ :‬فَهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حت فرغوا منهما‪ ،‬فكان عبد الرحن يقول‪ :‬يرحم‬
‫ال بللًا‪ ،‬ذهبت أدراعي‪ ،‬وفجعن بأسيي‪.‬‬
‫وروى البخاري عن عبد الرحن بن عوف قال‪ :‬كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يفظن ف صاغيت ـ أي‬
‫خاصت ومال ـ بكة‪ ،‬وأحفظه ف صاغيته بالدينة‪ ...‬فلما كان يوم بدر خرجت إل جبل لحرزه حي نام‬
‫الناس‪ ،‬فأبصره بلل‪ ،‬فخرج حت وقف على ملس النصار فقال‪ :‬أمية بن خلف‪ ،‬ل نوت إن نا أمية‪،‬‬
‫فخرج معه فريق من النصار ف آثارنا‪ ،‬فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لم ابنه ليشغلهم‪ ،‬فقتلوه‪ ،‬ث أبوا‬
‫حت يتبعونا‪ ،‬وكان رجلًا ثقيلًا‪ ،‬فلما أدركونا قلت له‪ :‬ابرك‪ ،‬فبك‪ ،‬فألقيت عليه نفسي لمنعه‪ ،‬فتخللوه‬
‫بالسيوف من تت حت قتلوه‪ ،‬وأصاب أحدهم رجلي بسيفه‪ .‬وكان عبد الرحن يرينا ذلك الثر ف ظهر‬
‫قدمه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ وقتل عمر بن الطاب رضي ال عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن الغية‪ ،‬ول يلتفت إل قرابته‬
‫منه‪ ،‬ولكن حي رجع إل الدينة قال للعباس عم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو ف السر‪ :‬يا عباس‬
‫أسلم‪ ،‬فوال أن تسلم أحب إل من أن يسلم الطاب‪ ،‬وما ذاك إل لا رأيت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يعجبه إسلمك‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ونادى أبو بكر الصديق رضي ال عنه ابنه عبد الرحن ـ وهو يومئذ مع الشركي ـ فقال‪ :‬أين‬
‫مال يا خبيث؟ فقال عبد الرحن‪:‬‬

‫ضلّل الشّيَبْ‬
‫لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شَ ّكةٍ ويَعْبُوب ** وصَا ِرمٍ يَقُْتلُ ُ‬

‫‪ 6‬ـ ولا وضع القوم أيديهم يأسرون‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم ف العريش‪ ،‬وسعد بن معاذ قائم‬
‫على بابه يرسه متوشحًا سيفه‪ ،‬رأي رسول ال صلى ال عليه وسلم ف وجه سعد بن معاذ الكراهية لا‬
‫يصنع الناس‪ ،‬فقال له‪ :‬وال لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ قال‪ :‬أجل وال يا رسول ال‪ ،‬كانت أول‬
‫وقعة أوقعها ال بأهل الشرك‪ ،‬فكان الثخان ف القتل بأهل الشرك أحب إلّ من استبقاء الرجال‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ وانقطع يومئذ سيف عُكّاشَة بن ِمحْصَن السدي‪ ،‬فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم فأعطاه ِج ْذلًا‬
‫من حطب‪ ،‬فقال‪( :‬قاتل بذا يا عكاشة)‪ ،‬فلما أخذه من رسول ال صلى ال عليه وسلم هزه‪ ،‬فعاد سيفًا ف‬
‫يده طويل القامة‪ ،‬شديد الت‪ ،‬أبيض الديدة‪ ،‬فقاتل به حت فتح ال تعال للمسلمي‪ ،‬وكان ذلك السيف‬
‫يسمى العَوْن‪ ،‬ث ل يزل عنده يشهد به الشاهد‪ ،‬حت قتل ف حروب الردة وهو عنده‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ وبعد انتهاء العركة مر مصعب بن عمي العبدري بأخيه أب عزيز بن عمي الذي خاض العركة ضد‬
‫السلمي‪،‬مر به وأحد النصار يشد يده‪ ،‬فقال مصعب للنصاري‪ :‬شد يديك به‪ ،‬فإن أمه ذات متاع‪ ،‬لعلها‬
‫تفديه منك‪ ،‬فقال أبو عزيز لخيه مصعب‪ :‬أهذه وصاتك ب؟ فقال مصعب‪ :‬إنه ـ أي النصاري ـ أخي‬
‫دونك‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ ولا أمر بإلقاء جيف الشركي ف القَلِيب‪ ،‬وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إل القليب‪ ،‬نظر رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ف وجه ابنه أب حذيفة‪ ،‬فإذا هو كئيب قد تغي‪ ،‬فقال‪( :‬يا أبا حذيفة‪ ،‬لعلك قد‬
‫دخلك من شأن أبيك شيء؟) فقال‪ :‬ل وال‪ ،‬يا رسول ال‪ ،‬ما شككت ف أب ول مصرعه‪ ،‬ولكنن كنت‬
‫أعرف من أب رأيًا وحلمًا وفضلًا‪ ،‬فكنت أرجو أن يهديه ذلك إل السلم‪ ،‬فلما رأيت ما أصابه‪ ،‬وذكرت‬
‫ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنن ذلك‪ .‬فدعا له رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بي‪ ،‬وقال له خيًا‪.‬‬
‫قتلى الفريقي‬
‫مكة تتلقى نبأ الزية‬
‫الدينة تتلقى أنباء النصر‬
‫اليش النبوي يتحرك نو الدينة‬
‫وفود التهنئة‬
‫قضية السارى‬
‫القرآن يتحدث حول موضوع العركة‬

‫قتلى الفريقي‬
‫انتهت العركة بزية ساحقة بالنسبة للمشركي‪ ،‬وبفتح مبي بالنسبة للمسلمي‪ ،‬وقد استشهد من السلمي‬
‫ف هذه العركة أربعة عشر رجلًا‪ ،‬ستة من الهاجرين وثانية من النصار‪.‬‬

‫أما الشركون فقد لقتهم خسائر فادحة‪ ،‬قتل منهم سبعون‪ ،‬وأسر سبعون‪ .‬وعامتهم القادة والزعماء‬
‫والصناديد‪.‬‬

‫ولا انقضت الرب أقبل رسول ال صلى ال عليه وسلم حت وقف على القتلى فقال‪( :‬بئس العشية كنتم‬
‫لنبيكم؛ كذبتمون وصدقن الناس‪ ،‬وخذلتمون ونصرن الناس‪ ،‬وأخرجتمون وآوان الناس)‪ ،‬ث أمر بم‬
‫فسحبوا إل قليب من قُلُب بدر‪.‬‬

‫وعن أب طلحة‪ :‬أن نب ال صلى ال عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش‪،‬‬
‫فقذفوا ف طَويّ من أطواء بدر خَبِيث ُمخْبث‪ .‬وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصَة ثلث ليال‪ ،‬فلما كان‬
‫ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها‪ ،‬ث مشى‪ ،‬واتبعه أصحابه‪ .‬حت قام على شفة ال ّركِىّ‪،‬‬
‫فجعل يناديهم بأسائهم وأساء آبائهم‪( ،‬يا فلن بن فلن‪ ،‬يا فلن بن فلن‪ ،‬أيسركم أنكم أطعتم ال‬
‫ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا‪ ،‬فهل وجدت ما وعد ربكم حقًا؟) فقال عمر‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ما‬
‫تكلم من أجساد ل أرواح لا؟ قال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬والذي نفس ممد بيده‪ ،‬ما أنتم بأسع لا‬
‫أقول منهم) وف رواية‪( :‬ما أنتم بأسع منهم‪ ،‬ولكن ل ييبون)‪.‬‬
‫مكة تتلقى نبأ الزية‬
‫فر الشركون من ساحة بدر ف صورة غي منظمة؛ تبعثروا ف الوديان والشعاب‪ ،‬واتهوا صوب مكة‬
‫مذعورين‪ ،‬ل يدرون كيف يدخلونا خجلًا‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬وكان أول من قدم بصاب قريش الَيْسُمَان بن عبد ال الزاعى‪ ،‬فقالوا‪ :‬ما وراءك؟‬
‫قال‪ :‬قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الكم بن هشام وأمية بن خلف‪ ،‬ف رجال من الزعماء‬
‫لجْر‪ :‬وال إن يعقل هذا‪ ،‬فاسألوه‬
‫ساهم‪ .‬فلما أخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد ف ا ِ‬
‫عن‪ .‬قالوا‪ :‬ما فعل صفوان بن أمية؟ قال‪ :‬ها هو ذا جالس ف الجر‪ ،‬وقد وال رأيت أباه وأخاه حي قتل‪.‬‬

‫وقال أبو رافع ـ مول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬كنت غلمًا للعباس وكان السلم قد دخلنا أهلَ‬
‫البيت‪ ،‬فأسلم العباس‪ ،‬وأسلمت أم الفضل‪ ،‬وأسلمت‪ ،‬وكان العباس يكتم إسلمه‪ ،‬وكان أبو لب قد‬
‫تلف عن بدر‪ ،‬فلما جاءه الب كبته ال وأخزاه‪ ،‬ووجدنا ف أنفسنا قوة وعزًا‪ ،‬وكنت رجلًا ضعيفًا أعمل‬
‫القداح‪ ،‬أنتها ف حجرة زمزم‪ ،‬فوال إن لالس فيها أنت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة‪ ،‬وقد سرنا‬
‫ما جاءنا من الب‪ ،‬إذ أقبل أبو لب ير رجليه بشر حت جلس على طُنُب الجرة‪ ،‬فكان ظهره إل ظهرى‪،‬‬
‫فبينما هو جالس إذ قال الناس‪ :‬هذا أبو سفيان بن الارث بن عبد الطلب قد قدم‪ ،‬فقال له أبو لب‪ :‬هلم‬
‫إلّ‪ ،‬فعندك لعمرى الب‪ ،‬قال‪ :‬فجلس إليه‪،‬والناس قيام عليه‪ .‬فقال‪ :‬يابن أخي‪ ،‬أخبن كيف كان أمر‬
‫الناس؟ قال‪ :‬ما هو إل أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا‪ ،‬يقتلوننا كيف شاءوا‪ ،‬ويأسروننا كيف شاءوا واي‬
‫ال مع ذلك ما لت الناس‪ ،‬لَقِينَا رجال بيض على خيل بُلْق بي السماء والرض‪ ،‬وال ما تُلِيق شيئًا‪ ،‬ول‬
‫يقوم لا شيء‪.‬‬

‫قال أبو رافع‪ :‬فرفعت طنب الجرة بيدى‪ ،‬ث قلت‪ :‬تلك وال اللئكة‪ .‬قال‪ :‬فرفع أبو لب يده‪ ،‬فضرب‬
‫با وجهي ضربة شديدة‪ ،‬فثاورته‪ ،‬فاحتملن فضرب ب الرض‪ ،‬ث برك علىّ يضربن‪ ،‬وكنت رجلًا ضعيفًا‬
‫فقامت أم الفضل إل عمود من عُمُد الجرة فأخذته‪ ،‬فضربته به ضربة فَ َلعَتْ ف رأسه شجة منكرة‪،‬‬
‫وقالت‪ :‬استضعفته أن غاب عنه سيده‪ ،‬فقام موليًا ذليلًا‪ ،‬فوال ما عاش إل سبع ليال حت رماه ال بالعدسة‬
‫[وهي قرحة تتشاءم با العرب] فقتلته‪ ،‬فتركه بنوه‪ ،‬وبقى ثلثة أيام ل تقرب جنازته‪ ،‬ول ياول دفنه‪،‬‬
‫فلما خافوا السبة ف تركه حفروا له‪ ،‬ث دفعوه بعود ف حفرته‪ ،‬وقذفوه بالجارة من بعيد حت واروه‪.‬‬

‫هكذا تلقت مكة أنباء الزية الساحقة ف ميدان بدر‪ ،‬وقد أثر ذلك فيهم أثرًا سيئًا جدًا‪ ،‬حت منعوا النياحة‬
‫على القتلى؛ لئل يشمت بم السلمون‪.‬‬

‫ومن الطرائف أن السود بن الطلب أصيب ثلثة من أبنائه يوم بدر‪ ،‬وكان يب أن يبكي عليهم‪ ،‬وكان‬
‫ضرير البصر‪ ،‬فسمع ليلًا صوت نائحة‪ ،‬فبعث غلمه‪ ،‬وقال‪ :‬انظر هل أحل الّنحْبُ؟ هل بكت قريش على‬
‫قتلها؟ لعلي أبكي على أب حكيمة ـ ابنه ـ فإن جوف قد احترق‪ ،‬فرجع الغلم وقال‪ :‬إنا هي امرأة‬
‫تبكى على بعي لا أضلته‪ ،‬فلم يتمالك السود نفسه وقال‪:‬‬

‫أتبكي أن يضل لا بعي ** وينعها من النوم السهود‬


‫فل تبكي على بكر ولكن ** على بدر تقاصرت الدود‬
‫على بدر سراة بن هصيص ** ومزوم ورهط أب الوليد‬
‫وبكى إن بكيت على عقيل ** وبكى حارثا أسد السود‬
‫وبكيهم ول تسمى جيعا ** وما لب حكيمة من نديد‬
‫أل قد ساد بعدهم رجال ** ولول يوم بدر ل يسودوا‬

‫الدينة تتلقى أنباء النصر‬

‫ولا ت الفتح للمسلمي أرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم بشيين إل أهل الدينة؛ ليعجل لم البشرى‪،‬‬
‫أرسل عبد ال بن رواحة بشيًا إل أهل العالية‪ ،‬وأرسل زيد بن حارثة بشيًا إل أهل السافلة‪.‬‬

‫وكان اليهود والنافقون قد أرجفوا ف الدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة‪ ،‬حت إنم أشاعوا خب مقتل النب‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولا رأي أحد النافقي زيد بن حارثة راكبًا القَصْوَاء ـ ناقة رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ـ قال‪ :‬لقد قتل ممد‪ ،‬وهذه ناقته نعرفها‪ ،‬وهذا زيد ل يدري ما يقول من الرعب‪ ،‬وجاء َفلّ‬

‫فلما بلغ الرسولن أحاط بما السلمون‪ ،‬وأخذوا يسمعون منهما الب‪ ،‬حت تأكد لديهم فتح السلميـن‪،‬‬
‫َفعَمّت البهجـة والسـرور‪ ،‬واهتزت أرجاء الدينة تليلًا وتكبيًا‪ ،‬وتقدم رءوس السلمي ـ الذين كانوا‬
‫بالدينة ـ إل طريق بدر‪ ،‬ليهنئوا رسول ال صلى ال عليه وسلم بذا الفتح البي‪.‬‬

‫قال أسامة بن زيد‪ :‬أتانا الب حي سوينا التراب على رقية بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم الت كانت‬
‫عند عثمان بن عفان‪ ،‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم خلفن عليها مع عثمان‪.‬‬

‫اليش النبوي يتحرك نو الدينة‬

‫أقام رسول ال صلى ال عليه وسلم ببدر بعد انتهاء العركة ثلثة أيام‪ ،‬وقبل رحيله من مكان العركة وقع‬
‫خلف بي اليش حول الغنائم‪ ،‬ولا اشتد هذا اللف أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأن يرد الميع‬
‫ما بأيديهم‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬ث نزل الوحى بل هذه الشكلة‪.‬‬

‫عن عبادة بن الصامت قال‪ :‬خرجنا مع النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فشهدت معه بدرًا‪ ،‬فالتقى الناس فهزم‬
‫ال العدو‪ ،‬فانطلقت طائفة ف آثارهم يطاردون ويقتلون‪ ،‬وأكبت طائفة على الغنم يرزونه ويمعونه‪،‬‬
‫وأحدقت طائفة برسول ال صلى ال عليه وسلم؛ ل يصيب العدو منه غِرّة‪ ،‬حت إذا كان الليل‪ ،‬وفاء‬
‫الناس بعضهم إل بعض‪ ،‬قال الذين جعوا الغنائم‪ :‬نن حويناها‪ ،‬وليس لحد فيها نصيب‪،‬وقال الذين‬
‫خرجوا ف طلب العدو‪ :‬لستم أحق با منا‪ ،‬نـن نـينا منـها العـدو وهزمناه‪ ،‬وقال الذين أحدقوا‬
‫سأَلُوَنكَ عَنِ‬
‫برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬خفنا أن يصيب العدو منه غرة‪ ،‬فاشتغلنا به‪ ،‬فأنزل ال‪{ :‬يَ ْ‬
‫ص ِلحُواْ ذَاتَ بِيِْن ُكمْ َوَأطِيعُوْا الَ َورَسُوَلهُ إِن كُنتُم مّ ْؤمِنِيَ} [‬
‫الَنفَالِ ُقلِ الَنفَالُ لِ ّلهِ وَالرّسُولِ فَاتّقُوْا الَ َوأَ ْ‬
‫النفال‪ .]1:‬فقسمها رسول ال صلى ال عليه وسلم بي السلمي‪.‬‬

‫وبعد أن أقام رسول ال صلى ال عليه وسلم ببدر ثلثة أيام ترك بيشه نو الدينة ومعه السارى من‬
‫الشركي‪ ،‬واحتمل معه النفل الذي أصيب من الشركي‪ ،‬وجعل عليه عبد ال بن كعب‪ ،‬فلما خرج من‬
‫مَضِيق الصفراء نزل على كَثِيب بي الضيق وبي النّا ِزيَة‪ ،‬وقسم هنالك الغنائم على السلمي على السواء‬
‫بعد أن أخذ منها المس‪.‬‬

‫وعندما وصل إل الصفراء أمر بقتل النضر بن الارث ـ وكان هو حامل لواء الشركي يوم بدر‪ ،‬وكان‬
‫من أكابر مرمى قريش‪ ،‬ومن أشد الناس كيدًا للسلم وإيذاء لرسول ال صلى ال عليه وسلم ـ فضرب‬
‫عنقه علي بن أب طالب‪.‬‬

‫ولـا وصل إل ِعرْق الظّبَْيةِ أمر بقتل ُعقْبَة بن أب ُمعَيْط ـ وقد أسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهو الذي كان ألقى سَل جَزُور على ظهر رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو‬
‫ف الصلة‪ ،‬وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله‪ ،‬لول اعتراض أب بكر رضي ال عنه ـ فلما أمر بقتله‬
‫قال‪ :‬من للصّبَْيةِ يا ممد؟ قال‪( :‬النار)‪ .‬فقتله عاصم ابن ثابت النصارى‪ ،‬ويقال‪ :‬علي بن أب طالب‪.‬‬

‫وكان قتل هذين الطاغيتي واجبًا نظرًا إل سوابقهما‪ ،‬فلم يكونا من السارى فحسب‪ ،‬بل كانا من مرمى‬
‫الرب بالصطلح الديث‪.‬‬

‫وفود التهنئة‬

‫ولا وصل صلى ال عليه وسلم إل الرّوْحَاء لقيه رءوس السلمي ـ الذين كانوا قد خرجوا للتهنئة‬
‫والستقبال حي سعوا بشارة الفتح من الرسولي ـ يهنئونه بالفتح‪ .‬وحينئذ قال لم سَلَمَة بن سلمة‪:‬ما‬
‫ص ْلعًا كالُْبدْن ال ُعقّ َلةِ‪ ،‬فنحرناها‪ ،‬فتبسم رسول ال صلى ال عليه‬
‫الذي تنئوننا به؟ فوال إن لَقِينا إل عجائز ُ‬
‫وسلم‪ ،‬ث قال‪( :‬يا بن أخي‪ ،‬أولئك الل)‪.‬‬

‫وقال أسيد بن حضي‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬المد ل الذي أظفرك‪ ،‬وأقر عينك‪ ،‬وال يا رسول ال ما كان تلفي‬
‫عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًا‪ ،‬ولكن ظننت أنا عي‪ ،‬ولو ظننت أنه عدو ما تلفت‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪( :‬صدقت)‪.‬‬

‫ث دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة مظفرًا منصورًا قد خافه كل عدو له بالدينة وحولا‪ ،‬فأسلم‬
‫بشر كثي من أهل الدينة‪ ،‬وحينئذ دخل عبد ال بن أب وأصحابه ف السلم ظاهرًا‪.‬‬

‫وقدم السارى بعد بلوغه الدينة بيوم‪ ،‬فقسمهم على أصحابه‪ ،‬وأوصى بم خيًا‪ .‬فكان الصحابة يأكلون‬
‫التمر‪ ،‬ويقدمون لسرائهم البز‪ ،‬عملًا بوصية رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫قضية السارى‬

‫ولا بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة استشار أصحابه ف السارى‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬يا رسول ال‪،‬‬
‫هؤلء بنو العم والعَشِية والخوان‪ ،‬وإن أرى أن تأخذ منهم الفدية‪ ،‬فيكون ما أخذناه قوة لنا على‬
‫الكفار‪ ،‬وعسى أن يهديهم ال‪ ،‬فيكونوا لنا عضدًا‪.‬‬

‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬ما ترى يابن الطاب؟) قال‪ :‬قلت‪ :‬وال ما أرى ما رأى أبو بكر‪،‬‬
‫ولكن أرى أن تكنن من فلن ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه‪ ،‬وتكن عليًا من َعقِيل بن أب طالب‬
‫فيضرب عنقه‪ ،‬وتكن حزة من فلن أخيه فيضرب عنقه‪ ،‬حت يعلم ال أنه ليست ف قلوبنا هوادة‬
‫للمشركي‪ .‬وهؤلء صناديدهم وأئمتهم وقادتم‪.‬‬

‫فهوى رسول ال صلى ال عليه وسلم ما قال أبو بكر‪ ،‬ول يهو ما قلت‪ ،‬وأخذ منهم الفداء‪ :‬فلما كان من‬
‫الغد قال عمر‪ :‬فغدوت إل النب صلى ال عليه وسلم وأب بكر وها يبكيان‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أخبن‬
‫ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت‪ ،‬وإن ل أجد بكاء تباكيت لبكائكما‪ ،‬فقال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬أبكى للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء‪ ،‬فقد عرض علىّ عذابم‬
‫أدن من هذه الشجرة) ـ شجرة قريبة‪.‬‬

‫وأنزل ال تعال‪{ :‬مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ َلهُ أَسْرَى َحتّى يُ ْثخِنَ فِي الَ ْرضِ تُرِيدُونَ عَ َرضَ ال ّدنْيَا وَالُ يُرِيدُ‬
‫الخِ َرةَ وَالُ َعزِيزٌ َحكِيمٌ لّوْلَ كِتَابٌ مّنَ الِ سَبَقَ لَمَسّ ُكمْ فِيمَا أَ َخ ْذُتمْ َعذَابٌ َعظِيمٌ} [النفال‪،67:‬‬
‫‪.]68‬‬

‫والكتاب الذي سبق من ال قيل‪ :‬هو قوله تعال‪َ { :‬فِإمّا مَنّا َبعْدُ َوإِمّا ِفدَاء} [ممد‪ .]4 :‬ففيه الذن بأخذ‬
‫الفدية من السارى؛ ولذلك ل يعذبوا‪ ،‬وإنا نزل العتاب لنم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا ف الرض‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬بل الية الذكورة نزلت فيما بعد‪ ،‬وإنا الكتاب الذي سبق من ال هو ما كان ف علم ال من إحلل‬
‫الغنائم لذه المة‪ ،‬أو من الغفرة والرحة لهل بدر‪.‬‬
‫وحيث إن المر كان قد استقر على رأي الصديق فقد أخذ منهم الفداء‪ ،‬وكان الفداء من أربعة آلف‬
‫درهم إل ثلثة آلف درهم إل ألف درهم‪ ،‬وكان أهل مكة يكتبون‪ ،‬وأهل الدينة ل يكتبون‪ ،‬فمن ل يكن‬
‫عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان الدينة يعلمهم‪ ،‬فإذا حذقوا فهو فداء‪.‬‬

‫ومنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم على عدة من السارى فأطلقهم بغي فداء‪ ،‬منهم‪ :‬الطلب ابن‬
‫حَ ْنطَب‪ ،‬وصَيْفي بن أب رفاعة‪ ،‬وأبو عزة الُ َمحِى‪ ،‬وهو الذي قتله أسيا ف أحد‪ ،‬وسيأت‪.‬‬

‫ومنّ على خََتنِه أب العاص بشرط أن يلى سبيل زينب‪ ،‬وكانت قد بعثت ف فدائه بال بعثت فيه بقلدة لا‬
‫كانت عند خدية‪ ،‬أدخلتها با على أب العاص‪ ،‬فلما رآها رسول ال صلى ال عليه وسلم رق لا رقة‬
‫شديدة‪ ،‬واستأذن أصحابه ف إطلق أب العاص ففعلوه‪ ،‬واشترط رسول ال صلى ال عليه وسلم على أب‬
‫العاص أن يلى سبيل زينب‪ ،‬فخلها فهاجرت‪ ،‬وبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم زيد بن حارثة‬
‫ورجلًا من النصار‪ ،‬فقال‪( :‬كونا ببطن يَأجَج حت تر بكما زينب فتصحباها)‪ ،‬فخرجا حت رجعا با‪.‬‬
‫وقصة هجرتا طويلة ومؤلة جدًا‪.‬‬

‫ص َقعًا‪ ،‬فقال عمر‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬انزع ثنيت سهيل بن‬
‫وكان ف السرى سهيل بن عمرو‪ ،‬وكان خطيبًا مِ ْ‬
‫عمرو َيدَْلعْ لسَانُه‪ ،‬فل يقوم خطيبًا عليك ف موطن أبدًا‪ ،‬بيد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رفض هذا‬
‫الطلب؛ احترازًا عن الُثْ َلةِ‪ ،‬وعن بطش ال يوم القيامة‪.‬‬

‫وخرج سعد بن النعمان معتمرًا فحبسه أبو سفيان‪ ،‬وكان ابنه عمرو بن أب سفيان ف السرى‪ ،‬فبعثوا به‬
‫إل أب سفيان فخلى سبيل سعد‪.‬‬

‫القرآن يتحدث حول موضوع العركة‬

‫وحول موضوع هذه العركة نزلت سورة النفال‪ ،‬وهذه السورة تعليق إلي ـ إن صح هذا التعبي ـ‬
‫على هذه العركة‪ ،‬يتلف كثيًا عن التعاليق الت ينطق با اللوك والقواد بعد الفتح‪.‬‬
‫إن ال تعال لفت أنظار السلمي ـ أولًا ـ إل بعض التقصيات الخلقية الت كانت قد بقيت فيهم‪،‬‬
‫وصدر بعضها منهم؛ ليسعوا ف تلية نفوسهم بأرفع مراتب الكمال‪ ،‬وف تزكيتها عن هذه التقصيات‪.‬‬

‫ث ثَنّى با كان ف هذا الفتح من تأييد ال وعونه ونصره بالغيب للمسلمي‪ .‬ذكر لم ذلك لئل يغتروا‬
‫بشجاعتهم وبسالتهم‪ ،‬فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبياء‪ ،‬بل ليتوكلوا على ال‪ ،‬ويطيعوه ويطيعوا رسوله‬
‫عليه الصلة والسلم‪.‬‬

‫ث بي لم الهداف والغراض النبيلة الت خاض الرسول صلى ال عليه وسلم لجلها هذه العركة الدامية‬
‫الرهيبة‪ ،‬ودلم على الصفات والخلق الت تتسبب ف الفتوح ف العارك‪.‬‬

‫ث خاطب الشركي والنافقي واليهود وأسارى العركة‪ ،‬ووعظهم موعظة بليغة‪ ،‬تديهم إل الستسلم‬
‫للحق واللتزام به‪.‬‬

‫ث خاطب السلمي حول موضوع الغنائم‪ ،‬وقنن لم مبادئ وأسس هذه السألة‪.‬‬

‫ث بي وشرع لم من قواني الرب والسلم ما كانت الاجة تس إليها بعد دخول الدعوة السلمية ف‬
‫هذه الرحلة‪ ،‬حت تتاز حروب السلمي عن حروب أهل الاهلية‪ ،‬ويتفوق السلمون ف الخلق والقيم‬
‫والثل‪ ،‬ويتأكد للدنيا أن السلم ليس مرد وجهة نظر‪ ،‬بل هو دين يثقف أهله عمليًا على السس‬
‫والبادئ الت يدعو إليها‪.‬‬

‫ث قرر بنودًا من قواني الدولة السلمية الت تقيم الفرق بي السلمي الذين يسكنون داخل حدودها‪،‬‬
‫والذين يسكنون خارجها‪.‬‬

‫وف السنة الثانية من الجرة فرض صيام رمضان‪ ،‬وفرضت زكاة الفطر‪ ،‬وبينت أنصبة الزكاة الخرى‪،‬‬
‫وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الخرى تفيفًا لكثي من الوزار الت كان يعانيها عدد‬
‫كبي من الهاجرين اللجئي الذين كانوا فقراء ل يستطيعون ضربًا ف الرض‪.‬‬
‫ومن أحسن الواقع وأروع الصدقات أن أول عيد تعيد به السلمون ف حياتم هو العيد الذي وقع ف‬
‫شوال سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬إثر الفتح البي الذي حصل لم ف غزوة بدر‪ .‬فما أروع هذا العيد السعيد الذي جاء‬
‫به ال بعد أن تَ ّوجَ هامتهم بتاج الفتح والعز‪ ،‬وما أروق منظر تلك الصلة الت صلوها بعد أن خرجوا من‬
‫بيوتم يرفعون أصواتم بالتكبي والتوحيد والتحميد‪ ،‬وقد فاضت قلوبم رغبة إل ال‪ ،‬وحنينًا إل رحته‬
‫ورضوانه بعد ما أولهم به من النعم‪،‬وأيدهم به من النصر‪ ،‬وقد ذكرهم بذلك قائلًا‪{ :‬وَا ْذكُرُواْ إِذْ أَنُتمْ‬
‫خطّفَ ُك ُم النّاسُ فَآوَا ُكمْ َوأَّي َدكُم بِنَصْ ِرهِ َورَزَ َقكُم مّنَ الطّيّبَاتِ‬
‫ض َعفُونَ فِي الَ ْرضِ َتخَافُونَ أَن يََت َ‬
‫قَلِيلٌ مّسْتَ ْ‬
‫لَعَلّ ُكمْ تَشْكُرُونَ} [النفال‪.]26:‬‬
‫النشاط العسكري بي بدر وأحد‬

‫إن معركة بدر كانت أول لقاء مسلح بي السلمي والشركي‪ ،‬وكانت معركة فاصلة أكسبت السلمي‬
‫نصرا حاسا شهد له العرب قاطبة‪ .‬والذين كانوا أشد استياء لنتائج هذه العركة هم أولئك الذين منوا‬
‫بسائر فادحة مباشرة؛ وهم الشركون‪ ،‬أو الذين كانوا يرون عزة السلمي وغلبتهم ضربا قاصما على‬
‫كيانم الدين والقتصادي‪ ،‬وهم اليهود‪ .‬فمنذ أن انتصر السلمون ف معركة بدر كان هذان الفريقان‬
‫يترقان غيظا وحنقًا على السلمي؛ {لََتجِ َدنّ أَ َش ّد النّاسِ َعدَا َوةً لّ ّلذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَاّلذِينَ أَشْ َركُواْ} [‬
‫الائدة‪ ،]82:‬وكانت ف الدينة بطانة للفريقي دخلوا ف السلم حي ل يبق مال لعزهم إل ف السلم‪،‬‬
‫وهم عبد ال بن أب وأصحابه‪ ،‬ول تكن هذه الفرقة الثالثة أقل غيظا من الوليي‪.‬‬
‫وكانت هناك فرقة رابعة‪ ،‬وهم البدو الضاربون حول الدينة‪ ،‬ل يكن يهمهم مسألة الكفر واليان‪ ،‬ولكنهم‬
‫كانوا أصحاب سلب ونب‪ ،‬فأخذهم القلق‪ ،‬واضطربوا لذا النتصار‪ ،‬وخافوا أن تقوم ف الدينة دولة‬
‫قوية تول بينهم وبي اكتساب قوتم عن طريق السلب والنهب‪ ،‬فجعلوا يقدون على السلمي وصاروا‬
‫لم أعداء‪.‬‬
‫وتبي بذا أن النتصار ف بدر كما كان سببا لشوكة السلمي وعزهم وكرامتهم كذلك كان سببا لقد‬
‫جهات متعددة‪ ،‬وكان من الطبيعي أن يتبع كل فريق ما يراه كفيلً ليصاله إل غايته‪.‬‬
‫فبينما كانت الدينة وما حولا تظاهر بالسلم‪ ،‬وتأخذ ف طريق الؤامرات والدسائس الفية كانت فرقة‬
‫من اليهود تعلن بالعداوة‪ ،‬وتكاشف عن القد والغيظ‪ ،‬وكانت مكة تدد بالضرب القاصم‪ ،‬وتعلن بأخذ‬
‫الثأر والنقمة‪ ،‬وتتم بالتعبئة العامة جهارا‪ ،‬وترسل إل السلمي بلسان حالا‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫ول بد من يوم أغرّ ُمحَجّل ** يطول استماعي بعده للنوادب‬

‫وفعلً فقد قادت غزوة قاصمة إل أسوار الدينة عرفت ف التاريخ بغزوة أحد‪ ،‬والت كان لا أثر سيئ على‬
‫سعة السلمي وهيبتهم‪.‬‬
‫وقد لعب السلمون دورا هاما للقضاء على هذه الخطار‪ ،‬تظهر فيه عبقرية قيادة النب صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وما كان عليه من غاية التيقظ حول هذه الخطار‪ ،‬وما كان عليه من حسن التخطيط للقضاء‬
‫عليها‪ ،‬ونذكر ف السطور التية صورة مصغرة منها‪:‬‬
‫غزوة بن ُسلَيم بال ُكدْر‬

‫أول ما نقلت استخبارات الدينة إل النب صلى ال عليه وسلم بعد بدر أن بن سليم وبن َغطَفَان تشد‬
‫قواتا لغزو الدينة‪ ،‬فباغتهم النب صلى ال عليه وسلم ف مائت راكب ف عقر دراهم‪ ،‬وبلغ إل منازلم ف‬
‫موضع يقال له‪ :‬ال ُكدْر‪ .‬ففر بنو سليم‪ ،‬وتركوا ف الوادي خسمائة بعي استول عليها جيش الدينة‪،‬‬
‫وقسمها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد إخراج المس فأصاب كل رجل بعيين‪ ،‬وأصاب غلما‬
‫يقال له‪( :‬يسار) فأعتقه‪.‬‬
‫وأقام النب صلى ال عليه وسلم ف ديارهم ثلثة أيام‪ ،‬ث رجع إل الدينة‪.‬‬
‫وكانت هذه الغزوة ف شوال سنة ‪ 2‬هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام‪ ،‬أوف الحرم للنصف منه‪،‬‬
‫واستخلف ف هذه الغزوة على الدينة سِبَاع بن عُرْ ُفطَة‪ .‬وقيل‪ :‬ابن أم مكتوم‪.‬‬

‫مؤامرة لغتيال النب صلى ال عليه وسلم‬

‫كان من أثر هزية الشركي ف وقعة بدر أن استشاطوا غضبا‪ ،‬وجعلت مكة تغلي كالِرْجَل ضد النب صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬حت تآمر بطلن من أبطالا أن يقضوا على مبدأ هذا اللف والشقاق ومثار هذا الذل‬
‫والوان ف زعمهم‪ ،‬وهو النب صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫جلس عمي بن وهب المحي مع صفوان بن أمية ف الِجْر بعد وقعة بدر بيسي ـ وكان عمي من‬
‫شياطي قريش من كان يؤذي النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه وهم بكة ـ وكان ابنه وهب بن عمي‬
‫ف أساري بدر‪ ،‬فذكر أصحاب القَلِيب ومصابم‪ ،‬فقال صفوان‪ :‬وال إن ف العيش بعدهم خي‪.‬‬
‫قال له عمي‪ :‬صدقت وال‪ ،‬أما وال لول َديْن على ليس له عندي قضاء‪ ،‬وعيال أخشي عليهم الضّيْعةَ‬
‫بعدي لركبتُ إل ممد حت أقتله‪ ،‬فإن ل قَِبلَ ُهمْ ِع ّلةً‪ ،‬ابن أسي ف أيديهم‪.‬‬
‫فاغتنمها صفوان وقال‪ :‬على دينك‪ ،‬أنا أقضيه عنك‪ ،‬وعيالك مع عيإل‪ ،‬أواسيهم ما بقوا‪ ،‬ل يسعن شيء‬
‫ويعجز عنهم‪.‬‬
‫فقال له عمي‪ :‬فاكتم عن شأن وشأنك‪ .‬قال‪ :‬أفعل‪.‬‬
‫حذَ له و ُسمّ‪ ،‬ث انطلق حت قدم به الدينة‪ ،‬فبينما هو على باب السجد ينيخ راحلته‬
‫شِ‬‫ث أمر عمي بسيفه ف ُ‬
‫رآه عمر بن الطاب ـ وهو ف نفر من السلمي يتحدثون ما أكرمهم ال به يوم بدر ـ فقال عمر‪ :‬هذا‬
‫الكلب عدو ال عمي ما جاء إل لشر‪ .‬ث دخل على النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا نب ال‪ ،‬هذا‬
‫عدو ال عمي قد جاء متوشحا سيفه‪ ،‬قال‪( :‬فأدخله علي)‪ ،‬فأقبل إل عمي فلَبَّبهُ بَمَالة سيفه‪ ،‬وقال لرجال‬
‫من النصار‪ :‬ادخلوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا البيث‪،‬‬
‫فإنه غي مأمون‪ ،‬ث دخل به‪ ،‬فلما رآه رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وعمر آخذ بمالة سيفه ف عنقه‬
‫ـ قال‪( :‬أرسله يا عمر‪ ،‬ادن يا عمي)‪ ،‬فدنا وقال‪ :‬أنْعِمُوا صباحا‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬قد‬
‫أكرمنا ال بتحية خي من تيتك يا عمي‪ ،‬بالسلم تية أهل النة)‪.‬‬
‫ث قال‪( :‬ما جاء بك يا عمي ؟) قال‪ :‬جئت لذا السي الذي ف أيديكم‪ ،‬فأحسنوا فيه‪.‬‬
‫قال‪( :‬فما بال السيف ف عنقك؟) قال‪:‬قبحها ال من سيوف‪ ،‬وهل أغنت عنا شيئا ؟‬
‫قال‪( :‬اصدقن‪ ،‬ما الذي جئت له ؟) قال‪ :‬ما جئت إل لذلك‪.‬‬
‫لجْر‪ ،‬فذكرتا أصحاب القليب من قريش‪ ،‬ث قلت‪ :‬لول دين‬
‫قال‪( :‬بل قعدتَ أنت وصفوان بن أمية ف ا ِ‬
‫علي وعيال عندي لرجت حت أقتل ممدا‪ ،‬فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلن‪ ،‬وال حائل‬
‫بينك وبي ذلك)‪.‬‬
‫قال عمي‪ :‬أشهد أنك رسول ال‪ ،‬قد كنا يا رسول ال نكذبك با كنت تأتينا به من خب السماء‪ ،‬وما ينل‬
‫عليك من الوحي‪ ،‬وهذا أمر ل يضره إل أنا وصفوان‪ ،‬فوال إن لعلم ما أتاك به إل ال‪ ،‬فالمد ل الذي‬
‫هدان للسلم‪ ،‬وساقن هذا الساق‪ ،‬ث تشهد شهادة الق‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬فقهوا‬
‫أخاكم ف دينه‪ ،‬وأقرئوه القرآن‪ ،‬وأطلقوا له أسيه)‪.‬‬
‫وأما صفوان فكان يقول‪ :‬أبشروا بوقعة تأتيكم الن ف أيام تنسيكم وقعة بدر‪ .‬وكان يسأل الركبان عن‬
‫عمي‪ ،‬حت أخبه راكب عن إسلمه فحلف صفوان أل يكلمه أبدًا‪ ،‬ول ينفعه بنفع أبدا‪.‬‬
‫ورجع عمي إل مكة وأقام با يدعو إل السلم‪ ،‬فأسلم على يديه ناس كثي‪.‬‬
‫غـزوة بن قينقـاع‬

‫غـزوة بن قينقـاع‬
‫نوذج من مكيدة اليهود‬
‫بنو قَيُنقَاع ينقضون العهد‬
‫الصار ث التسليم ث اللء‬
‫غزوة السّوِيق‬
‫غزوة ذي أمر‬
‫قتل كعب بن الشرف‬
‫غزوة بُحْران‬
‫سرية زيد بن حارثة‬

‫غـزوة بن قينقـاع‬

‫قدمنا بنود العاهدة الت عقدها رسول ال صلى ال عليه وسلم مع اليهود‪ ،‬وقد كان حريصا كل الرص‬
‫على تنفيذ ما جاء ف هذه العاهدة‪ ،‬وفعلً ل يأت من السلمي ما يالف حرفا واحدا من نصوصها‪ .‬ولكن‬
‫اليهود الذين ملوا تاريهم بالغدر واليانة ونكث العهود‪ ،‬ل يلبثوا أن تشوا مع طبائعهم القدية‪ ،‬وأخذوا‬
‫ف طريق الدس والؤامرة والتحريش وإثارة القلق والضطراب ف صفوف السلمي‪ .‬وهاك مثلً من ذلك‪:‬‬

‫نوذج من مكيدة اليهود‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬مر شاس بن قيس ـ وكان شيخا [يهوديا] قد عسا ‪ ،‬عظيم الكفر‪ ،‬شديد الضغن على‬
‫السلمي‪ ،‬شديد السد لم ـ على نفر من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم من الوس والزرج‬
‫ف ملس قد جعهم‪ ،‬يتحدثون فيه‪ ،‬فغاظه ما رأي من ألفتهم وجاعتهم وصلح ذات بينهم على السلم‪،‬‬
‫بعد الذي كان بينهم من العداوة ف الاهلية‪ ،‬فقال‪ :‬قد اجتمع مل بن قَيْ َلةَ بذه البلد‪ ،‬ل وال ما لنا معهم‬
‫إذا اجتمع ملؤهم با من قرار‪ ،‬فأمر فت شابا من يهود كان معه‪ ،‬فقال‪ :‬اعمد إليهم‪ ،‬فاجلس معهم‪ ،‬ث‬
‫اذكر يوم بُعَاث وما كان من قبله‪ ،‬وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الشعار‪ ،‬ففعل‪ ،‬فتكلم القوم‬
‫عند ذلك‪ ،‬وتنازعوا وتفاخروا حت تواثب رجلن من اليي على الركب فتقاول‪ ،‬ث قال أحدها لصاحبه‪:‬‬
‫إن شئتم رددناها الن َجذَعَة ـ يعن الستعداد لحياء الرب الهلية الت كانت بينهم ـ وغضب‬
‫الفريقان جيعا‪ ،‬وقالوا‪ :‬قد فعلنا‪ ،‬موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة‪ :‬الَرّة ـ السلح السلح‪ ،‬فخرجوا إليها‬
‫[وكادت تنشب الرب]‪.‬‬

‫فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه الهاجرين حت جاءهم‬
‫فقال‪( :‬يا معشر السلمي‪ ،‬ال ال‪ ،‬أبدعوي الاهلية وأنا بي أظهركم بعد أن هداكم ال للسلم‪،‬‬
‫وأكرمكم به‪ ،‬وقطع به عنكم أمر الاهلية‪ ،‬واستنقذكم به من الكفر وألف بي قلوبكم)‬
‫فعرف القوم أنا نزغة من الشيطان‪ ،‬وكيد من عدوهم‪ ،‬فبكوا‪ ،‬وعانق الرجال من الوس والزرج بعضهم‬
‫بعضا‪ ،‬ث انصرفوا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم سامعي مطيعي‪ ،‬قد أطفأ ال عنهم كيد عدو ال‬
‫شاس بن قيس‪.‬‬
‫هذا نوذج ما كان اليهود يفعلونه وياولونه من إثارة القلقل والفت ف السلمي‪ ،‬وإقامة العراقيل ف سبيل‬
‫الدعوة السلمية‪ ،‬وقد كانت لم خطط شت ف هذا السبيل‪ .‬فكانوا يبثون الدعايات الكاذبة‪ ،‬ويؤمنون‬
‫وجه النهار‪ ،‬ث يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك ف قلوب الضعفاء‪ ،‬وكانوا يضيقون سبل العيشة على‬
‫من آمن إن كان لم به ارتباط مإل‪ ،‬فإن كان لم عليه يتقاضونه صباح مساء‪ ،‬وإن كان له عليهم‬
‫يأكلونـه بالباطل‪ ،‬ويتنعون عن أدائه وكانوا يقولون‪ :‬إنا كان علينا قرضك حينما كنت على دين‬
‫آبائك‪ ،‬فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل‪.‬‬
‫كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر على رغم العاهدة الت عقدوها مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه يصبون على كل ذلك؛ حرصا على رشدهم‪ ،‬وعلى‬
‫بسط المن والسلم ف النطقة‪.‬‬

‫بنو قَيُنقَاع ينقضون العهد‬

‫لكنهم لا رأوا أن ال قد نصر الؤمني نصرا مؤزرا ف ميدان بدر‪ ،‬وأنم قد صارت لم عزة وشوكة وهيبة‬
‫ف قلوب القاصي والدان‪ .‬تيزت قدر غيظهم‪ ،‬وكاشفوا بالشر والعداوة‪ ،‬وجاهروا بالبغي والذي‪.‬‬
‫وكان أعظمهم حقدا وأكبهم شرا كعب بن الشرف ـ وسيأت ذكره ـ كما أن شر طائفة من طوائفهم‬
‫الثلث هم يهود بن قينقاع‪ ،‬كانوا يسكنون داخل الدينة ـ ف حي باسهم ـ وكانوا صاغة وحدادين‬
‫وصناع الظروف والوان‪ ،‬ولجل هذه الرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلت الرب‪ ،‬وكان‬
‫عدد القاتلي فيهم سبعمائة‪ ،‬وكانوا أشجع يهود الدينة‪ ،‬وكانوا أول من نكث العهد واليثاق من اليهود‪.‬‬
‫فلما فتح ال للمسلمي ف بدر اشتد طغيانم‪ ،‬وتوسعوا ف ترشاتم واستفزازاتم‪ ،‬فكانوا يثيون الشغب‪،‬‬
‫ويتعرضون بالسخرية‪ ،‬ويواجهون بالذي كل من ورد سوقهم من السلمي حت أخذوا يتعرضون‬
‫بنسائهم‪.‬‬
‫وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم‪ ،‬جعهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فوعظهم ودعاهم إل الرشد‬
‫والدي‪ ،‬وحـذرهم مغـبة البغـي والـعدوان‪ ،‬ولكنهم ازدادوا ف شرهم وغطرستهم‪.‬‬
‫روي أبو داود وغيه‪ ،‬عن ابن عباس رضي ال عنهما قال‪ :‬لا أصاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫قريشا يوم بدر‪ ،‬وقدم الدينة جع اليهود ف سوق بن قينقاع‪ .‬فقال‪( :‬يا معشر يهود‪ ،‬أسلموا قبل أن‬
‫يصيبكم مثل ما أصاب قريشا)‪ .‬قالوا‪:‬يا ممد‪ ،‬ل يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا‬
‫أغمارا ل يعرفون القتال‪ ،‬إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نن الناس‪ ،‬وأنك ل تلق مثلنا‪ ،‬فأنزل ال تعال‪{ :‬قُل‬
‫س الْمِهَادُ َقدْ كَانَ لَ ُكمْ آَيةٌ فِي فِئَتَيْنِ الَْتقَتَا فَِئةٌ تُقَاتِلُ فِي‬
‫لّ ّلذِينَ َكفَرُواْ سَُتغْلَبُونَ َوُتحْشَرُونَ ِإلَى َجهَّنمَ َوبِ ْئ َ‬
‫سَبِي ِل الِ َوأُخْرَى كَافِ َرةٌ يَرَ ْونَهُم مّثْلَيْ ِهمْ َرْأيَ اْلعَيْنِ وَالُ يُ َؤّيدُ بِنَصْ ِرهِ مَن يَشَاء ِإنّ فِي َذِلكَ َلعِبْ َرةً لّأُ ْولِي‬
‫ا َلبْصَارِ} [آل عمران ‪.]13 ،12‬‬
‫كان ف معن ما أجاب به بنو قينقاع هو العلن السافر عن الرب‪ ،‬ولكن كظم النب صلى ال عليه‬
‫وسلم غيظه‪ ،‬وصب السلمون‪ ،‬وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليإل واليام‪.‬‬

‫وازداد اليهود ـ من بن قينقاع ـ جراءة‪ ،‬فقلما لبثوا أن أثاروا ف الدينة قلقا واضطرابا‪ ،‬وسعوا إل‬
‫حتفهم بظلفهم‪ ،‬وسدوا على أنفسهم أبواب الياة‪.‬‬

‫روي ابن هشام عن أب عون‪ :‬أن امرأة من العرب قدمت بَلَبٍ لا‪ ،‬فباعته ف سوق بن قينقاع‪ ،‬وجلست‬
‫إل صائغ‪ ،‬فجعلوا يريدونا على كشف وجهها‪ ،‬فأبت‪َ ،‬فعَمَد الصائغ إل طرف ثوبا فعقده إل ظهرها ـ‬
‫وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت سوأتا فضحكوا با فصاحت‪ ،‬فوثب رجل من السلمي على الصائغ‬
‫فقتله ـ وكان يهوديا ـ فشدت اليهود على السلم فقتلوه‪ ،‬فاستصرخ أهل السلم السلمي على اليهود‪،‬‬
‫فوقع الشر بينهم وبي بن قينقاع‪.‬‬
‫الصار ث التسليم ث اللء‬

‫وحينئذ عِيلَ صب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاستخلف على الدينة أبا لُبَابة بن عبد النذر‪ ،‬وأعطي‬
‫لواء السلمي حزة بن عبد الطلب‪ ،‬وسار بنود ال إل بن قينقاع‪ ،‬ولا رأوه تصنوا ف حصونم‪،‬‬
‫فحاصرهم أشد الصار‪ ،‬وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬ودام الصار خس‬
‫عشرة ليلة إل هلل ذي القعدة‪ ،‬وقذف ال ف قلوبم الرعب ـ فهو إذا أرادوا خذلن قوم وهزيتهم‬
‫أنزله عليهم وقذفه ف قلوبم ـ فنلوا على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم ف رقابم وأموالم‬
‫ونسائهم وذريتهم‪ ،‬فأمر بم فكتفوا‪.‬‬
‫وحينئذ قام عبد ال بن أب بن سلول بدور نفاقه‪ ،‬فأل على رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يصدر‬
‫عنهم العفو‪ ،‬فقال‪ :‬يا ممد‪ ،‬أحسن فـي موإل ـ وكـان بنـو قينـقاع حلفـاء الزرج ـ فأبطأ عليه‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فكرر ابن أب مقالته فأعرض عنه‪ ،‬فأدخل يده ف جيب درعه‪ ،‬فقال له‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬أرسلن)‪ ،‬وغضب حت رأوا لوجهه ظُللً ‪ ،‬ث قال‪( :‬ويك‪ ،‬أرسلن)‪.‬‬
‫ولكن النافق مضى على إصراره وقال‪ :‬ل وال ل أرسلك حت تسن ف موال أربعمائة حاسر وثلثائة‬
‫دارع قد منعون من الحر والسود‪ ،‬تصدهم ف غداة واحدة ؟ إن وال امرؤ أخشي الدوائر‪.‬‬
‫وعامل رسول ال صلى ال عليه وسلم هذا النافق ـ الذي ل يكن مضي على إظهار إسلمه إل نو شهر‬
‫واحد فحسب ـ عامله بالسن‪ .‬فوهبهم له‪ ،‬وأمرهم أن يرجوا من الدينة ول ياوروه با‪ ،‬فخرجوا إل‬
‫أذْرُعَات الشام‪ ،‬فقل أن لبثوا فيها حت هلك أكثرهم‪.‬‬
‫وقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم منهم أموالم‪ ،‬فأخذ منها ثلث ِقسِي ودرعي وثلثة أسياف وثلثة‬
‫رماح‪ ،‬وخس غنائمهم‪ ،‬وكان الذي تول جع الغنائم ممد بن مسلمة‪.‬‬

‫غزوة السّوِيق‬

‫بينما كان صفوان بن أمية واليهود والنافقون يقومون بؤامراتم وعملياتم‪ ،‬كان أبو سفيان يفكر ف عمل‬
‫قليل الغارم ظاهر الثر‪ ،‬يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه‪ ،‬ويبز ما لديهم من قوة‪ ،‬وكان قد نذر أل يس‬
‫رأسه ماء من جنابة حت يغزو ممدا‪ ،‬فخرج ف مائت راكب ليبِرّ يينه‪ ،‬حت نزل بصدْر قَناة إل جبل يقال‬
‫له‪ :‬ثَيبٌ‪ ،‬من الدينة على بَرِيد أو نوه‪ ،‬ولكنه ل يرؤ على مهاجة الدينة جهارا‪ ،‬فقام بعمل هو أشبه‬
‫بأعمال القرصنة‪ ،‬فإنه دخل ف ضواحي الدينة ف الليل مستخفيا تت جنح الظلم‪ ،‬فأت حيي بن أخطب‪،‬‬
‫شكَم سيد بنِي النضي‪ ،‬وصاحب كنهم إذ ذاك‪،‬‬
‫فاستفتح بابه‪ ،‬فأب وخاف‪ ،‬فانصرف إل َسلّم بن مِ ْ‬
‫فاستأذن عليه فأذن‪َ ،‬فقَرَاه وسقاه المر‪ ،‬وَبطَن له من خب الناس‪ ،‬ث خرج أبو سفيان ف عقب ليلته حت‬
‫أت أصحابه‪ ،‬فبعث مفرزة منهم‪ ،‬فأغارت على ناحية من الدينة يقال لا‪[ :‬العُرَيض]‪ ،‬فقطعوا وأحرقوا‬
‫هناك أصْوَارًا من النخل‪ ،‬ووجدوا رجلً من النصار وحليفا له ف حرث لما فقتلوها‪ ،‬وفروا راجعي إل‬
‫مكة‪.‬‬
‫وبلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم الب‪ ،‬فسارع لطاردة أب سفيان وأصحابه‪ ،‬ولكنهم فروا ببالغ‬
‫السرعة‪ ،‬وطرحوا سويقا كثيا من أزوادهم وتويناتم‪ ،‬يتخففون به‪ ،‬فتمكنوا من الفلت‪ ،‬وبلغ رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم إل َقرْقَ َرةِ ال ُكدْر‪ ،‬ث انصرف راجعا‪ .‬وحل السلمون ما طرحه الكفار من‬
‫سويقهم‪ ،‬وسوا هذه الناوشة بغزوة السويق‪ .‬وقد وقعت ف ذي الجة سنة ‪ 2‬هـ بعد بدر بشهرين‪،‬‬
‫واستعمل على الدينة ف هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد النذر‪.‬‬

‫غزوة ذي أمر‬

‫وهي أكب حلة عسكرية قادها رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل معركة أحد‪ ،‬قادها ف الحرم سنة ‪3‬‬
‫هـ‪.‬‬
‫وسببها أن استخبارات الدينة نقلت إل رسول ال صلى ال عليه وسلم أن جعا كبيا من بن ثعلبة‬
‫ومارب تمعوا‪ ،‬يريدون الغارة على أطراف الدينة‪ ،‬فندب رسول ال صلى ال عليه وسلم السلمي‪،‬‬
‫وخرج ف أربعمائة وخسي مقاتلً ما بي راكب وراجل‪ ،‬واستخلف على الدينة عثمان بن عفان‪.‬‬
‫وف أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له‪ :‬جُبَار من بن ثعلبة‪ ،‬فأدخل على رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فدعاه إل السلم فأسلم‪ ،‬فضمه إل بلل‪ ،‬وصار دليلً ليش السلمي إل أرض العدو‪.‬‬
‫وتفرق العداء ف رءوس البال حي سعوا بقدوم جيش الدينة‪ .‬أما النب صلى ال عليه وسلم فقد وصل‬
‫بيشه إل مكان تمعهم‪ ،‬وهو الاء السمي [بذي أمر] فأقام هناك صفرا كله ـ من سنة ‪ 3‬هـ ـ أو‬
‫قريبا من ذلك‪ ،‬ليشعر العراب بقوة السلمي‪ ،‬ويستول عليهم الرعب والرهبة‪ ،‬ث رجح إل الدينة‪.‬‬

‫قتل كعب بن الشرف‬


‫كان كعب بن الشرف من أشد اليهود حنقا على السلم والسلمي‪ ،‬وإيذاء لرسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وتظاهرا بالدعـوة إل حربه‪.‬‬
‫كان من قبيلة طيئ ـ من بن نَبْهان ـ وأمه من بن النضي‪ ،‬وكان غنيا مترفا معروفا بماله ف العرب‪،‬‬
‫شاعرا من شعرائها‪ .‬وكان حصنه ف شرق جنوب الدينة خلف ديار بن النضي‪.‬‬
‫ولا بلغه أول خب عن انتصار السلمي‪ ،‬وقتل صناديد قريش ف بدر قال‪ :‬أحق هذا ؟ هؤلء أشراف‬
‫العرب‪ ،‬وملوك الناس‪ ،‬وال إن كان ممد أصاب هؤلء القوم لبطن الرض خي من ظهرها‪.‬‬
‫ولا تأكد لديه الب‪ ،‬انبعث عدو ال يهجو رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمي‪ ،‬ويدح عدوهم‬
‫ويرضهم عليهم‪ ،‬ول يرض بذا القدر حت ركب إل قريش‪ ،‬فنل على الطلب بن أب وَدَاعة السهمي‪،‬‬
‫وجعل ينشد الشعار يبكي فيها على أصحاب القَلِيب من قتلى الشركي‪ ،‬يثي بذلك حفائظهم‪ ،‬ويذكي‬
‫حقدهم على النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويدعوهم إل حربه‪ ،‬وعندما كان بكة سأله أبو سفيان‬
‫والشركون‪ :‬أديننا أحب إليك أم دين ممد وأصحابه؟ وأي الفريقي أهدي سبيلً؟ فقال‪ :‬أنتم أهدي منهم‬
‫سبيل‪ ،‬وأفضل‪ ،‬وف ذلك أنزل ال تعال‪{ :‬أََلمْ تَرَ ِإلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ يُ ْؤمِنُونَ بِاْلجِبْتِ‬
‫وَالطّاغُوتِ َوَيقُولُونَ لِ ّلذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلء أَ ْهدَى مِ َن اّلذِينَ آمَنُواْ سَبِيلً} [ النساء‪.]51 :‬‬
‫ث رجع كعب إل الدينة على تلك الال‪ ،‬وأخذ يشبب ف أشعاره بنساء الصحابة‪ ،‬ويؤذيهم بسلطة لسانه‬
‫أشد اليذاء‪.‬‬
‫وحينئذ قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬من لكعب بن الشرف ؟ فإنه آذى ال ورسوله)‪ ،‬فانتدب‬
‫له ممد بن مسلمة‪ ،‬وعَبّاد بن بشر‪ ،‬وأبو نائلة ـ واسه سِ ْلكَان بن سلمة‪ ،‬وهو أخو كعب من الرضاعة‬
‫ـ والارث بن أوس‪ ،‬وأبو عَبْس بن جب‪ ،‬وكان قائد هذه الفرزة ممد بن مسلمة‪.‬‬
‫وتفيد الروايات ف قتل كعب بن الشرف أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لا قال‪( :‬من لكعب بن‬
‫الشرف ؟ فإنه قد آذى ال ورسوله)‪ ،‬قام ممد بن مسلمة فقال‪ :‬أنا يا رسول ال‪ ،‬أتب أن أقتله ؟ قال‪( :‬‬
‫نعم)‪ .‬قال‪ :‬فائذن ل أن أقول شيئا‪ .‬قال‪( :‬قل)‪.‬‬
‫فأتاه ممد بن مسلمة‪ ،‬فقال‪ :‬إن هذا الرجل قد سألنا صدقة‪ ،‬وإنه قد عَنّانا‪.‬‬
‫قال كعب‪ :‬وال لَتَ َملّّنهُ‪.‬‬
‫قال ممد بن مسلمة‪ :‬فإنا قد اتبعناه‪ ،‬فل نب أن ندعه حت ننظر إل أي شيء يصي شأنه ؟ وقد أردنا أن‬
‫تسلفنا َوسْقـا أو َو ْسقَي‪.‬‬
‫قال كعب‪ :‬نعم‪ ،‬أرهنون‪.‬‬
‫قال ابن مسلمة‪ :‬أي شيء تريد ؟‬
‫قال‪ :‬أرهنون نساءكم‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف نرهنك نساءنا وأنت أجل العرب ؟‬
‫قال‪ :‬فترهنون أبناءكم‪.‬‬
‫سبّ أ َحدُهم فيقال‪ :‬رُهِن بوسق أو وسقي هذا عار علينا‪ .‬ولكنا نرهنك‬
‫قال‪ :‬كيف نرهنك أبناءنا فيُ َ‬
‫لمَة‪ ،‬يعن السلح‪.‬‬
‫اّل ْ‬
‫فواعده أن يأتيه‪.‬‬
‫وصنع أبو نائلة مثل ما صنع ممد بن مسلمة‪ ،‬فقد جاء كعبا فتناشد معه أطراف الشعار سويعة‪ ،‬ث قال‬
‫له‪ :‬ويك يا بن الشرف‪ ،‬إن قد جئت لاجة أريد ذكرها لك فاكتم عن‪.‬‬
‫قال كعب‪ :‬أفعل‪.‬‬
‫قال أبو نائلة‪ :‬كان قدوم هذا الرجل علينا بلء‪ ،‬عادتنا العرب‪ ،‬ورمتنا عن قَ ْوسٍ واحدة‪ ،‬وقطعتْ عنا‬
‫السبل‪ ،‬حت ضاع العيال‪ ،‬وجُ ِهدَت النفس‪ ،‬وأصبحنا قد ُج ِهدْنا وجُهِد عيالنا‪ ،‬ودار الوار على نو ما‬
‫دار مع ابن مسلمة‪.‬‬
‫وقال أبو نائلة أثناء حديثه‪ :‬إن معي أصحابا ل على مثل رأيي‪ ،‬وقد أردت أن آتيك بم‪ ،‬فتبيعهم وتسن‬
‫ف ذلك‪.‬‬
‫وقد نح ابن مسلمة وأبو نائلة ف هذا الوار إل ما قصد‪ ،‬فإن كعبا لن ينكر معهما السلح والصحاب‬
‫بعد هذا الوار‪.‬‬
‫وف ليلة ُمقْمِرَة ـ ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الول سنة ‪ 3‬هـ ـ اجتمعت هذه الفرزة إل رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فشيعهم إل بَقِيع الغَرْقَد‪ ،‬ث وجههم قائلً‪( :‬انطلقوا على اسم ال‪ ،‬اللهم أعنهم)‬
‫‪ ،‬ث رجع إل بيته‪ ،‬وطفق يصلى ويناجي ربه‪.‬‬
‫وانتهت الفرزة إل حصن كعب بن الشرف‪ ،‬فهتف به أبو نائلة‪ ،‬فقام لينل إليهم‪ ،‬فقالت له امرأته ـ‬
‫وكان حديث العهد با‪ :‬أين ترج هذه الساعة ؟ أسع صوتا كأنه يقطر منه الدم‪.‬‬
‫قال كعب‪ :‬إنا هو أخي ممد بن مسلمة‪ ،‬ورضيعي أبو نائلة‪ ،‬إن الكري لو دعي إل طعنة أجاب‪ ،‬ث خرج‬
‫إليهم وهو متطيب ينفح رأسه‪.‬‬
‫وقد كان أبو نائلة قال لصحـابـه‪ :‬إذا ما جاء فإن آخذ بشعره فأشه‪ ،‬فإذا رأيتمون استمكنت من‬
‫رأسه فدونكم فاضربوه‪ ،‬فلما نزل كعب إليهم تدث معهم ساعة‪ ،‬ث قال أبو نائلة‪ :‬هل لك يا بن الشرف‬
‫أن نتماشى إل ِشعْب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا ؟ قال‪ :‬إن شئتم‪ ،‬فخرجوا يتماشون‪ ،‬فقال أبو نائلة وهو‬
‫ف الطريق ‪ :‬ما رأيت كالليلة طيبا أعطر ‪ ،‬وزهي كعب با سع ‪ ،‬فقال‪ :‬عندي أعطر نساء العرب ‪ ،‬قال‬
‫أبو نائلة ‪ :‬أتأذن ل أن أشم رأسك ؟ قال‪ :‬نعم ‪ ،‬فأدخل يده ف رأسه فشمه وأشم أصحابه ‪.‬‬
‫ث مشى ساعـة ث قال ‪ :‬أعود ؟ قال كعب‪ :‬نعم ‪ ،‬فعاد لثلها ‪ .‬حت اطمأن ‪.‬‬
‫ث مشى ساعة ث قال‪ :‬أعود ؟ قال‪ :‬نعم ‪ ،‬فأدخل يده ف رأسه‪ ،‬فلما استمكن منه قال‪ :‬دونكم عدو ال ‪،‬‬
‫فاختلفت عليه أسيافهم‪ ،‬لكنها ل تغن شيئا‪ ،‬فأخذ ممد بن مسلمة ِمغْوَلً فوضعه ف ثُنِّتهِ‪ ،‬ث تامل عليه‬
‫حت بلغ عانته‪ ،‬فوقع عدو ال قتيلً‪ ،‬وكان قد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله‪ ،‬فلم يبق حصن إل‬
‫أوقدت عليه النيان‪.‬‬
‫ورجعت الفرزة وقد أصيب الارث بن أوس ب ُذبَاب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف الدم‪ ،‬فلما بلغت‬
‫الفرزة حَرّة العُرَيْض رأت أن الارث ليس معهم‪ ،‬فوقفت ساعة حت أتاهم يتبع آثارهم‪ ،‬فاحتملوه‪ ،‬حت‬
‫إذا بلغوا َبقِيع الغَرْقَد كبوا‪ ،‬وسع رسول ال صلى ال عليه وسلم تكبيهم‪ ،‬فعرف أنم قد قتلوه‪ ،‬فكب‪،‬‬
‫فلما انتهوا إليه قال‪( :‬أفلحت الوجوه)‪ ،‬قالوا‪ :‬ووجهك يا رسول ال‪ ،‬ورموا برأس الطاغية بي يديه‪،‬‬
‫فحمد ال على قتله‪ ،‬وتفل علي جرح الارث فبأ‪ ،‬ول يؤذ بعده‪.‬‬
‫ولا علمت اليهود بصرع طاغيتها كعب بن الشرف دب الرعب ف قلوبم العنيدة‪ ،‬وعلموا أن الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم لن يتوان ف استخدام القوة حي يري أن النصح ل يدي نفعا لن يريد العبث بالمن‬
‫وإثارة الضطرابات وعدم احترام الواثيق‪ ،‬فلم يركوا ساكنا لقتل طاغيتهم‪ ،‬بل لزموا الدوء‪ ،‬وتظاهروا‬
‫بإيفاء العهود‪ ،‬واستكانوا‪ ،‬وأسرعت الفاعي إل جحورها تتبئ فيها ‪.‬‬

‫وهكذا تفرغ الرسول صلى ال عليه وسلم ـ إل حي ـ لواجهة الخطار الت كان يتوقع حدوثها من‬
‫خارج الدينة‪ ،‬وأصبح السلمون وقد تفف عنهم كثي من التاعب الداخلية الت كانوا يتوجسونا‪،‬‬
‫ويشمون رائحتها بي آونة وأخري ‪.‬‬

‫غزوة بُحْران‬

‫وهي دورية قتال كبية‪ ،‬قوامها ثلثائة مقاتل‪ ،‬قادها الرسول صلى ال عليه وسلم ف شهر ربيع الخر‬
‫سنة ‪ 3‬هـ إل أرض يقال لا‪ :‬بران ـ وهي مَ ْعدِن بالجاز من ناحية الفُرْع ـ فأقام با شهر ربيع الخر‬
‫ث جادى الول ـ من السنة الثالثة من الجرة ـ ث رجع إل الدينة‪ ،‬ول يلق حربا‪.‬‬

‫سرية زيد بن حارثة‬


‫وهي آخر وأنح دورية للقتال قام با السلمون قبل أحد‪ ،‬وقعت ف جادي الخرة سنة ‪ 3‬هـ‪.‬‬

‫وتفصيلها‪ :‬أن قريشا بقيت بعد بدر يساورها القلق والضطراب‪ ،‬وجاء الصيف‪ ،‬واقترب موسم رحلتها‬
‫إل الشام‪ ،‬فأخذها َهمّ آخر‪.‬‬

‫قال صفوان بن أمية لقريش ـ وهو الذي نبته قريش ف هذا العام لقيادة تارتا إل الشام‪ :‬إن ممدا‬
‫وصحبه عَوّرُوا علينا متجرنا‪ ،‬فما ندري كيف نصنع بأصحابه‪ ،‬وهم ل يبحون الساحل ؟ وأهل الساحل‬
‫قد وادعهم ودخل عامتهم معه‪ ،‬فما ندري أين نسلك ؟ وإن أقمنا ف دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم‬
‫يكن لا من بقاء‪ .‬وإنا حياتنا بكة على التجارة إل الشام ف الصيف‪ ،‬وإل البشة ف الشتاء‪.‬‬

‫ودارت الناقشة حول هذا الوضوع‪ ،‬فقال السود بن عبد الطلب لصفوان‪ :‬تنكب الطريق على الساحل‬
‫وخذ طريق العراق ـ وهي طريق طويلة جدا تترق ندا إل الشام‪ ،‬وتر ف شرقي الدينة على بعد كبي‬
‫منها‪ ،‬وكانت قريش تهل هذه الطريق كل الهل ـ فأشار السود بن عبد الطلب على صفوان أن يتخذ‬
‫فُرَات بن َحيّان ـ من بن بكر بن وائل ـ دليلً له‪ ،‬ويكون رائده ف هذه الرحلة‪.‬‬

‫وخرجت عي قريش يقودها صفوان بن أمية‪ ،‬آخذة الطريق الديدة‪ ،‬إل أن أنباء هذه القافلة وخطة سيها‬
‫طارت إل الدينة‪ .‬وذلك أن َسلِيط بن النعمان ـ كان قد أسلم ـ اجتمع ف ملس شرب ـ وذلك قبل‬
‫تري المر ـ مع نعيم بن مسعود الشجعي ـ ول يكن أسلم إذ ذاك ـ فلما أخذت المر من نعيم‬
‫تدث بالتفصيل عن قضية العي وخطة سيها‪،‬فأسرع سليط إل النب صلى ال عليه وسلم يروي له‬
‫القصة‪.‬‬

‫وجهز رسول ال صلى ال عليه وسلم لوقته حلة قوامها مائة راكب ف قيادة زيد بن حارثة الكلب‪،‬‬
‫وأسرع زيد حت دهم القافلة بغتة ـ على حي غرة ـ وهي تنل على ماء ف أرض ند يقال له‪ :‬قَ ْردَة ـ‬
‫بالفتح فالسكون ـ فاستول عليها كلها‪ ،‬ول يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إل الفرار بدون‬
‫أي مقاومة‪.‬‬

‫وأسر السلمون دليل القافلة ـ فرات بن حيان‪ ،‬وقيل‪ :‬ورجلي غيه ـ وحلوا غنيمة كبية من الوان‬
‫والفضة كانت تملها القافلة‪ ،‬قدرت قيمتها بائة ألف‪ ،‬وقسم رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الغنيمة‬
‫على أفراد السرية بعد أخذ المس‪ ،‬وأسلم فرات بن حيان على يديه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وكانت مأساة شديدة ونكبة كبية أصابت قريشا بعد بدر‪ ،‬اشتد لا قلق قريش وزادتا ها وحزنا‪ .‬ول يبق‬
‫أمامها إل طريقان‪،‬إما أن تتنع عن غطرستها وكبيائها‪ ،‬وتأخذ طريق الوادعة والصالة مع السلمي‪ ،‬أو‬
‫تقوم برب شاملة تعيد لا مدها التليد‪ ،‬وعزها القدي‪ ،‬وتقضي على قوات السلمي بيث ل يبقي لم‬
‫سيطرة على هذا ول ذاك‪ ،‬وقد اختارت مكة الطريق الثانية‪ ،‬فازداد إصرارها على الطالبة بالثأر‪ ،‬والتهيؤ‬
‫للقاء السلمي ف تعبئة كاملة‪ ،‬وتصميمها على الغزو ف ديارهم‪ ،‬فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد‬
‫القوي لعركة أحد‪.‬‬
‫غـزوة أحـد‬

‫تعبئـة اليش الكي‬ ‫استعداد قريش لعركة ناقمة‬


‫مناورات سياسية من قبل قريش‬ ‫قوام جيش قريش وقيادته‬
‫جهود نسوة قريش ف التحميس‬ ‫جيش مكة يتحرك‬
‫أول وقود العركة‬ ‫استعداد السلمي للطوارئ‬
‫ثقل العركة حول اللواء وإبادة حلته‬ ‫اليش الكي إل أسوار الدينة‬
‫القتال ف بقية النقاط‬ ‫الجلس الستشاري لخذ خطة الدفاع‬
‫تكتيب اليش السلمي وخروجه إل ساحة القتال مصرع أسد ال حزة بن عبد الطلب‬
‫السيطرة على الوقف‬ ‫استعراض اليش‬
‫من أحضان الرأة إل مقارعة السيوف والدرقة‬ ‫البيت بي أحد والدينة‬
‫نصيب فصيلة الرماة ف العركة‬ ‫ترد عبد ال بن أب وأصحابه‬
‫الزية تنل بالشركي‬ ‫بقية اليش السلمي إل أحد‬
‫غلطة الرماة الفظيعة‬ ‫خطة الدفاع‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم ينفث روح البسالة ف خالد بن الوليد يقوم بطة تطويق اليش السلمي‬
‫اليش‬

‫استعداد قريش لعركة ناقمة‬


‫كانت مكة تترق غيظا على السلمي ما أصابا ف معركة بدر من مأساة الزية وقتل الصناديد‬
‫والشراف‪ ،‬وكانت تيش فيها نزعات النتقام وأخذ الثأر‪ ،‬حت إن قريشا كانوا قد منعوا البكاء على‬
‫قتلهم ف بدر‪ ،‬ومنعوا من الستعجال ف فداء الساري حت ل يتفطن السلمون مدي مأساتم وحزنم‪.‬‬

‫وعلى أثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم برب شاملة ضد السلمي تشفي غيظها وتروي غلة‬
‫حقدها‪ ،‬وأخذت ف الستعداد للخوض ف مثل هذه العركة‪.‬‬
‫وكان عكرمة بن أب جهل‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬وأبو سفيان بن حرب‪ ،‬وعبد ال بن أب ربيعة أكثر زعماء‬
‫قريش نشاطا وتمسا لوض العركة‪.‬‬

‫وأول ما فعلوه بذا الصدد أنم احتجزوا العي الت كان قد نا با أبو سفيان‪ ،‬والت كانت سببا لعركة‬
‫بدر‪ ،‬وقالوا للذين كانت فيها أموالم‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إن ممدا قد َوتَ َركُم وقتل خياركم‪ ،‬فأعينونا بذا‬
‫الال على حربه ؛ لعلنا أن ندرك منه ثأرا‪ ،‬فأجابوا لذلك‪ ،‬فباعوها‪ ،‬وكانت ألف بعي‪ ،‬والال خسي ألف‬
‫صدّواْ عَن سَبِيلِ الِ فَسَيُن ِفقُونَهَا ثُمّ‬
‫دينار‪ ،‬وف ذلك أنزل ال تعال‪ِ{ :‬إنّ اّلذِينَ َكفَرُواْ يُنفِقُونَ َأمْوَالَ ُهمْ لِيَ ُ‬
‫تَكُونُ َعلَيْ ِهمْ حَسْ َرةً ُثمّ ُيغْلَبُونَ} [النفال‪]36 :‬‬

‫ث فتحوا باب التطوع لكل من أحب الساهة ف غزو السلمي من الحابيش وكنانة وأهل تامة‪ ،‬وأخذوا‬
‫لذلك أنواعا من طرق التحريض‪ ،‬حت إن صفوان بن أمية أغري أبا عزة الشاعر ـ الذي كان قد أسر ف‬
‫بدر‪ ،‬فَمَنّ عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم وأطلق سراحه بغي فدية‪ ،‬وأخذ منه العهد بأل يقوم ضده‬
‫ـ أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد السلمي‪ ،‬وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حيا يغنيه‪ ،‬وإل‬
‫يكفل بناته‪ ،‬فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره الت كانت تذكي حفائظهم‪ ،‬كما اختاروا شاعرا آخر‬
‫ـ مُسَافع بن عبد مناف المحي ـ لنفس الهمة‪.‬‬

‫وكان أبو سفيان أشد تأليبا على السلمي بعدما رجع من غزوة السّوِيق خائبا ل ينل ما ف نفسه‪ ،‬بل أضاع‬
‫مقدارًا كبيا من تويناته ف هذه الغزوة‪.‬‬

‫وزاد الطينة بلة ـ أو زاد النار إذكاء‪ ،‬إن صح هذا التعبي ـ ما أصاب قريشا أخيا ف سرية زيد بن‬
‫حارثة من السارة الفادحة الت قصمت فقار اقتصادها‪ ،‬وزودها من الزن والم ما ل يقادر قدره‪ ،‬وحينئذ‬
‫زادت سرعة قريش ف استعدادها للخوض ف معركة تفصل بينهم وبي السلمي‪.‬‬

‫قوام جيش قريش وقيادته‬


‫ولا استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتا‪ ،‬واجتمع إليها من الشركي ثلثة آلف مقاتل من‬
‫قريش واللفاء والحابيش‪ ،‬ورأي قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء حت يكون ذلك أبلغ ف‬
‫استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتم وأعراضهم‪ ،‬وكان عدد هذه النسوة خس عشرة امرأة‪.‬‬

‫وكان سلح النقليات ف هذا اليش ثلثة آلف بعي‪ ،‬ومن سلح الفرسان مائتا فرس ‪ ،‬جنبوها طول‬
‫الطريق‪ ،‬وكان من سلح الوقاية سبعمائة درع‪ .‬وكانت القيادة العامة إل أب سفيان بن حرب‪ ،‬وقيادة‬
‫الفرسان إل خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أب جهل‪ .‬أما اللواء فكان إل بن عبد الدار‪.‬‬

‫جيش مكة يتحرك‬


‫ترك اليش الكي بعد هذا العداد التام نو الدينة‪ ،‬وكانت التارات القدية والغيظ الكامن يشعل‬
‫البغضاء ف القلوب‪ ،‬ويشف عما سوف يقع من قتال مرير‪ .‬الستخبارات النبوية تكشف‬

‫حركة العدو‬
‫وكان العباس بن عبد الطلب يرقب حركات قريش واستعداداتا العسكرية‪ ،‬فلما ترك هذا اليش بعث‬
‫العباس رسالة مستعجلة إل النب صلى ال عليه وسلم ضمنها جيع تفاصيل اليش‪.‬‬

‫وأسرع رسول العباس بإبلغ الرسالة‪ ،‬وجد ف السي حت إنه قطع الطريق بي مكة والدينة ـ الت تبلغ‬
‫مسافتها إل نو خسمائة كيلو متر ـ ف ثلثة أيام‪ ،‬وسلم الرسالة إل النب صلى ال عليه وسلم وهو ف‬
‫مسجد قباء‪.‬‬

‫قرأ الرسالة على النب صلى ال عليه وسلم أب بن كعب‪ ،‬فأمره بالكتمان‪ ،‬وعاد مسرعا إل الدينة‪ ،‬وتبادل‬
‫الرأي مع قادة الهاجرين والنصار‪.‬‬

‫استعداد السلمي للطوارئ‬


‫وظلت الدينة ف حالة استنفار عام ل يفارق رجالا السلح حت وهم ف الصلة‪ ،‬استعدادا للطوارئ‪.‬‬

‫وقامت مفرزة من النصار ـ فيهم سعد بن معاذ‪ ،‬وأسيد بن حضي‪ ،‬وسعد بن عبادة ـ براسة رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلح‪ .‬وقامت على مداخل الدينة وأنقابا‬
‫مفرزات ترسها ؛ خوفا من أن يؤخذوا على غرة‪.‬‬
‫وقامت دوريات من السلمي ـ لكتشاف تركات العدو ـ تتجول حول الطرق الت يتمل أن يسلكها‬
‫الشركون للغارة على السلمي‪.‬‬

‫اليش الكي إل أسوار الدينة‬


‫وتابع جيش مكة سيه على الطريق الغربية الرئيسية العتادة‪ ،‬ولا وصل إل البْوَاء اقترحت هند بنت عتبة‬
‫ـ زوج أب سفيان ـ بنبش قب أم رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬بَيدَ أن قادة اليش رفضوا هذا‬
‫الطلب‪،‬وحذروا من العواقب الوخيمة الت تلحقهم لو فتحو هذا الباب‪.‬‬

‫ث واصل جيش مكة سيه حت اقترب من الدينة‪ ،‬فسلك وادي العَقيق‪ ،‬ث انرف منه إل ذات اليمي حت‬
‫نزل قريبا ببل أحد‪ ،‬ف مكان يقال له‪ :‬عَينَيْن‪ ،‬ف بطن السّ ْبخَة من قناة على شفي الوادي ـ الذي يقع‬
‫شإل الدينة بنب أحـد‪ ،‬فعسكر هناك يوم المعة السادس من شهر شوال سنة ثلث من الجرة‪.‬‬

‫الجلس الستشاري لخذ خطة الدفاع‬


‫ونقلت استخبارات الدينة أخبار جيش مكة خبا بعد خب حت الب الخي عن معسكره‪ ،‬وحينئذ عقد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ملسا استشاريا عسكريا أعلى ‪ ،‬تبادل فيه الرأي لختيار الوقف‪،‬‬
‫وأخبهم عن رؤيا رآها‪ ،‬قال‪( :‬إن قد رأيت وال خيا‪ ،‬رأيت بقرا يذبح‪ ،‬ورأيت ف ُذبَاب سيفي ثُلْما‪،‬‬
‫ورأيت أن أدخلت يدي ف درع حصينة)‪ ،‬وتأوّل البقر بنفر من أصحابه يقتلون‪ ،‬وتأول الثلمة ف سيفه‬
‫برجل يصاب من أهل بيته‪ ،‬وتأول الدرع بالدينة‪.‬‬

‫ث قدم رأيه إل صحابته أل يرجوا من الدينة وأن يتحصنوا با‪،‬فإن أقام الشركون بعسكرهم أقاموا بِشَرّ‬
‫مُقَام وبغي جدوي‪ ،‬وإن دخلوا الدينة قاتلهم السلمون على أفواه الزقة‪ ،‬والنساء من فوق البيوت‪ ،‬وكان‬
‫هذا هو الرأي‪ .‬ووافقه على هذا الرأي عبد ال بن أب بن سلول ـ رأس النافقي ـ وكان قد حضر‬
‫الجلس بصفته أحد زعماء الزرج‪ .‬ويبدو أن موافقته لذا الرأي ل تكن لجل أن هذا هو الوقف‬
‫الصحيح من حيث الوجهة العسكرية‪ ،‬بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد‪ ،‬وشاء‬
‫ال أن يفتضح هو وأصحابه ـ لول مرة ـ أمام السلمي وينكشف عنهم الغطاء الذي كان كفرهم‬
‫ونفاقهم يكمن وراءه‪ ،‬ويتعرف السلمون ف أحرج ساعاتم على تلك الفاعي الت كانت تتحرك تت‬
‫ملبسهم وأكمامهم‪.‬‬

‫فقد بادر جاعة من فضلء الصحابة من فاته الروج يوم بدر ومن غيهم‪ ،‬فأشاروا على النب صلى ال‬
‫عليه وسلم بالروج‪ ،‬وألوا عليه ف ذلك حت قال قائلهم‪ :‬يا رسول ال‪،‬كنا نتمن هذا اليوم وندعو ال‪،‬‬
‫فقد ساقه إلينا وقرب السي‪ ،‬اخرج إل أعدائنا‪ ،‬ل يرون أنا جَبُنّا عنهم‪.‬‬

‫وكان ف مقدمة هؤلء التحمسي حزة بن عبد الطلب عم رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ الذي كان‬
‫قد أبلي أحسن بلء ف معركة بدر ـ فقد قال للنب صلى ال عليه وسلم ‪ :‬والذي أنزل عليك الكتاب ل‬
‫أطعم طعاما حت أجالدهم بسيفي خارج الدينة ‪.‬‬

‫وتنازل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن رأيه مراعاة لؤلء التحمسي‪ ،‬واستقر الرأي على الروج من‬
‫الدينة‪ ،‬واللقاء ف اليدان السافر‪.‬‬

‫تكتيب اليش السلمي وخروجه إل ساحة القتال‬


‫ث صلى النب صلى ال عليه وسلم بالناس يوم المعة‪ ،‬فوعظهم وأمرهم بالد والجتهاد‪ ،‬وأخب أن لم‬
‫النصر با صبوا‪ ،‬وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم‪ ،‬ففرح الناس بذلك‪ .‬ث صلى بالناس العصر‪ ،‬وقد حشدوا‬
‫وحضر أهل العَوَإل ‪ ،‬ث دخل بيته‪ ،‬ومعه صاحباه أبو بكر وعمر‪ ،‬فعمماه وألبساه‪ ،‬فتدجج بسلحه وظاهر‬
‫بي درعي [أي لبس درعا فوق درع] وتقلد السيف‪ ،‬ث خرج على الناس‪.‬‬

‫وكان الناس ينتظرون خروجه‪ ،‬وقد قال لم سعد بن معاذ وأسيد بن حضي‪ :‬استكرهتم رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم على الروج فردوا المر إليه‪،‬فندموا جيعا على ما صنعوا‪ ،‬فلما خرج قالوا له‪ :‬يا رسول‬
‫ال‪،‬ما كان لنا أن نالفك فاصنع ما شئت‪ ،‬إن أحببت أن تكث بالدينة فافعل‪ .‬فقال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪( :‬ما ينبغي لنب إذا لبس ْلمَتَه ـ وهي الدرع ـ أن يضعها حت يكم ال بينه وبي عدوه) ‪.‬‬

‫وقسم النب صلى ال عليه وسلم جيشه إل ثلث كتائب‪:‬‬


‫‪ .1‬كتيبة الهاجرين‪ ،‬وأعطي لواءها مصعب بن عمي العبدري‪.‬‬
‫‪ .2‬كتيبة الوس من النصار‪ ،‬وأعطي لواءها أسيد بن حضي‪.‬‬
‫‪ .3‬كتيبة الزرج من النصار‪ ،‬وأعطي لواءها الُبَاب بن النذر‪.‬‬

‫وكان اليش متألفا من ألف مقاتل فيهم مائة دارع‪ ،‬ول يكن فيهم من الفرسان أحد ‪،‬واستعمل على الدينة‬
‫ابن أم مكتوم على الصلة بن بقي ف الدينة‪،‬وآذن بالرحيل‪ ،‬فتحرك اليش نو الشمال‪ ،‬وخرج السعدان‬
‫أمام النب صلى ال عليه وسلم يعدوان دارعي‪.‬‬

‫ولا جاوز ثنية الوداع رأي كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد اليش‪ ،‬فسأل عنها‪ ،‬فأخب أنم اليهود‬
‫من حلفاء الزرج يرغبون الساهة ف القتال ضد الشركي‪ ،‬فسأل‪( :‬هل أسلموا ؟) فقالوا‪:‬ل‪ ،‬فأب أن‬
‫يستعي بأهل الكفر على أهل الشرك‪.‬‬

‫استعراض اليش‬
‫وعندما وصل إل مقام يقال له‪[ :‬الشيخان] استعرض جيشه‪ ،‬فرد من استصغره ول يره مطيقا للقتال‪،‬‬
‫وكان منهم عبد ال بن عمر بن الطاب وأسامة بن زيد‪ ،‬وأسيد بن ظُهَي‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وزيد بن أرقم‪،‬‬
‫وعَرَابَة بن أوْس‪ ،‬وعمرو بن حزم‪ ،‬وأبو سعيد الدري‪ ،‬وزيد بن حارثة النصاري‪ ،‬وسعد بن حَبّة‪ ،‬ويذكر‬
‫ف هؤلء الباء بن عازب‪ ،‬لكن حديثه ف البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم‪.‬‬

‫وأجاز رافع بن َخدِيج‪ ،‬و َسمُرَة بن جُ ْندَب على صغر سنهما‪ ،‬وذلك أن رافع بن خديج كان ماهرا ف رماية‬
‫النبل فأجازه‪ ،‬فقال سرة‪ :‬أنا أقوي من رافع‪،‬أنا أصرعه‪ ،‬فلما أخب رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك‬
‫أمرها أن يتصارعا أمامه فتصارعا‪ ،‬فصرع سرة رافعا‪ ،‬فأجازه أيضا‪.‬‬
‫البيت بي أحد والدينة‬
‫وف هذا الكان أدركهم الساء‪ ،‬فصلى الغرب‪ ،‬ث صلى العشاء‪ ،‬وبات هنالك‪ ،‬واختار خسي رجلً‬
‫لراسة العسكر يتجولون حوله‪ ،‬وكان قائدهم ممد بن مسلمة النصاري‪ ،‬بطل سرية كعب بن الشرف‪،‬‬
‫وتول َذكْوَان بن عبد قيس حراسة النب صلى ال عليه وسلم خاصة‪.‬‬

‫ترد عبد ال بن أب وأصحابه‬


‫وقبل طلوع الفجر بقليل أدل‪ ،‬حت إذا كان بالشّوْط صلى الفجر‪ ،‬وكان بقربة جدا من العدو‪ ،‬فقد كان‬
‫يراهم ويرونه‪ ،‬وهناك ترد عبد ال بن أب النافق‪ ،‬فانسحب بنحو ثلث العسكر ـ ثلثائة مقاتل ـ قائلً‪:‬‬
‫ما ندري علم نقتل أنفسنا ؟ ومتظاهرا بالحتجاج بأن الرسول صلى ال عليه وسلم ترك رأيه وأطاع‬
‫غيه‪.‬‬

‫ول شك أن سبب هذا النعزال ل يكن هو ما أبداه هذا النافق من رفض رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫رأيه‪ ،‬وإل ل يكن لسيه مع اليش النبوي إل هذا الكان معن‪ .‬ولو كان هذا هو السبب ل نعزل عن‬
‫اليش منذ بداية سيه‪ ،‬بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد ـ ف ذلك الظرف الدقيق ـ أن يدث‬
‫البلبلة والضطراب ف جيش السلمي على مرأي ومسمع من عدوهم‪،‬حت ينحاز عامة اليش عن النب‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتنهار معنويات من يبقي معه‪ ،‬بينما يتشجع العدو‪ ،‬وتعلو هته لرؤية هذا النظر‪،‬‬
‫فيكون ذلك أسرع إل القضاء على النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه الخلصي‪ ،‬ويصحو بعد ذلك الو‬
‫لعودة الرياسة إل هذا النافق وأصحابه‪.‬‬

‫وكاد النافق ينجح ف تقيق بعض ما كان يهدف إليه‪ ،‬فقد هت طائفتان ـ بنو حارثة من الوس‪ ،‬وبنو‬
‫سلمة من الزرج ـ أن تفشل‪ ،‬ولكن ال تولها‪ ،‬فثبتتا بعدما سري فيهما الضطراب‪ ،‬وهتا بالرجوع‬
‫شلَ وَالُ َولِيّهُمَا َوعَلَى الِ فَ ْليَتَ َوكّلِ‬
‫والنسحاب‪ ،‬وعنهما يقول ال تعال‪{ :‬إِذْ هَمّت طّآئِفَتَانِ مِن ُكمْ أَن َتفْ َ‬
‫الْمُ ْؤمِنُونَ} [آل عمران‪.]122 :‬‬

‫وحاول عبد ال بن حَرَام ـ والد جابر بن عبد ال ـ تذكي هؤلء النافقي بواجبهم ف هذا الظرف‬
‫الدقيق‪ ،‬فتبعهم وهو يوبهم ويضهم على الرجوع‪ ،‬ويقول‪ :‬تعالوا قاتلوا ف سبيل ال أو ادفعوا‪ ،‬قالوا‪ :‬لو‬
‫نعلم أنكم تقاتلون ل نرجع‪ ،‬فرجع عنهم عبد ال بن حرام قائلً‪ :‬أبعدكم ال أعداء ال‪ ،‬فسيغن ال عنكم‬
‫نبيه‪.‬‬

‫وف هؤلء النافقي يقول ال تعال ‪َ { :‬ولَْيعْ َل َم اّلذِينَ نَا َفقُواْ وَقِيلَ لَ ُهمْ َتعَالَ ْواْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الِ أَوِ ادْ َفعُواْ‬
‫قَالُواْ لَوْ نَعْ َلمُ قِتَالً ّلتّبَعْنَا ُكمْ ُهمْ لِ ْل ُكفْرِ يَ ْومَِئذٍ أَقْ َربُ مِنْ ُهمْ ِللِيَانِ يَقُولُونَ ِبأَفْوَاهِهِم مّا لَ ْيسَ فِي قُلُوبِ ِهمْ وَالُ‬
‫أَعْ َلمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران‪.]167 :‬‬
‫بقية اليش السلمي إل أحد‬
‫وبعد هذا التمرد والنسحاب قام النب صلى ال عليه وسلم ببقية اليش ـ وهم سبعمائة مقاتل ـ‬
‫ليواصل سيه نو العدو‪ ،‬وكان معسكر الشركي يول بينه وبي أحد ف مناطق كثية‪ ،‬فقال‪( :‬من رجل‬
‫يرج بنا على القوم من كَثَبٍ ـ أي من قريب ـ من طريق ل ير بنا عليهم ؟)‪.‬‬

‫فقال أبو خَيثَمةَ‪ :‬أنا يارسول ال‪ ،‬ث اختار طريقا قصيا إل أحد ير بَ ّرةِ بن حارثة وبزارعهم‪ ،‬تاركا‬
‫جيش الشركي إل الغرب‪.‬‬

‫ومر اليش ف هذا الطريق بائط مِرْبَع بن قَيظِي ـ وكان منافقا ضرير البصر ـ فلما أحس باليش قام‬
‫يثو التراب ف وجوه السلمي‪ ،‬ويقول‪ :‬ل أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول ال‪ .‬فابتدره القوم‬
‫ليقتلوه‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪( :‬ل تقتلوه‪ ،‬فهذا العْمَى أعمى القلب أعمى البصر)‪.‬‬

‫ونفذ رسول ال صلى ال عليه وسلم حت نزل الشعب من جبل أحد ف عدوة الوادي‪ ،‬فعسكر بيشه‬
‫مستقبلً الدينة‪ ،‬وجاعل ظهره إل هضاب جبل أحد‪ ،‬وعلى هذا صار جيش العدو فاصلً بي السلمي‬
‫وبي الدينة‪.‬‬

‫خطة الدفاع‬
‫وهناك عبأ رسول ال صلى ال عليه وسلم جيشه‪ ،‬وهيأهم صفوفا للقتال‪ ،‬فاختار منهم فصيلة من الرماة‬
‫الاهرين‪ ،‬قوامها خسون مقاتلً‪ ،‬وأعطي قيادتا لعبد ال بن جبي بن النعمان النصاري الوسي البدري‪،‬‬
‫وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الشمالية من وادي قناة ـ وعرف فيما بعد ببل الرماة ـ‬
‫جنوب شرق معسكر السلمي‪ ،‬على بعد حوال مائة وخسي مترا من مقر اليش السلمي‪.‬‬

‫والدف من ذلك هو ما أبداه رسول ال صلى ال عليه وسلم ف كلماته الت ألقاها إل هؤلء الرماة‪ ،‬فقد‬
‫قال لقائدهم‪( :‬انضح اليل عنا بالنبل‪ ،‬ل يأتونا من خلفنا‪ ،‬إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك‪ ،‬ل نؤتي‬
‫من قبلك) وقال للرماة‪( :‬احوا ظهورنا‪ ،‬فإن رأيتمونا نقتل فل تنصرونا‪ ،‬وإن رأيتمونا قد غنمنا فل‬
‫تشركونا)‪ ،‬وف رواية البخاري أنه قال‪( :‬إن رأيتمونا تطفنا الطي فل تبحوا مكانكم هذا حت أرسل‬
‫إليكم‪ ،‬وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فل تبحوا حت أرسل إليكم)‪.‬‬

‫بتعي هذه الفصيلة ف البل مع هذه الوامر العسكرية الشديدة سد رسول ال صلى ال عليه وسلم الثلمة‬
‫الوحيدة الت كان يكن لفرسان الشركي أن يتسللوا من ورائها إل صفوف السلمي‪ ،‬ويقوموا بركات‬
‫اللتفاف وعملية التطويق‪.‬‬

‫أما بقية اليش فجعل على اليمنة النذر بن عمرو‪ ،‬وجعل على اليسرة الزبي بن العوام‪ ،‬يسانده القداد بن‬
‫السود‪ ،‬وكان إل الزبي مهمة الصمود ف وجه فرسان خالد بن الوليد‪،‬وجعل ف مقدمة الصفوف نبة‬
‫متازة من شجعان السلمي ورجالتم الشهورين بالنجدة والبسالة‪ ،‬والذين يوزنون باللف ‪.‬‬

‫ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جدا‪ ،‬تتجلي فيها عبقرية قيادة النب صلى ال عليه وسلم لعسكرية‪ ،‬وأنه‬
‫ل يكن لي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا؛ فقد احتل أفضل موضع من‬
‫ميدان العركة‪ ،‬مع أنه نزل فيه بعد العدو‪ ،‬فإنه حي ظهره ويينه بارتفاعات البل‪ ،‬وحي ميسرته وظهره ـ‬
‫حي يتدم القتال ـ بسد الثلمة الوحيدة الت كانت توجد ف جانب اليش السلمي‪ ،‬واختار لعسكره‬
‫موضعا مرتفعا يتمي به ـ إذا نزلت الزية بالسلمي ـ ول يلتجئ إل الفرار‪ ،‬حت يتعرض للوقوع ف‬
‫قبضة العداء الطاردين وأسرهم‪ ،‬ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلل معسكره‬
‫وتقدموا إليه‪،‬وألأ أعداءه إل قبول موضع منخفض يصعب عليهم جدا أن يصلوا على شيء من فوائد‬
‫الفتح إن كانت الغلبة لم‪ ،‬ويصعب عليهم الفلت من السلمي الطاردين إن كانت الغلبة للمسلمي‪،‬‬
‫كما أنه عوض النقص العددي ف رجاله باختيار نبة متازة من أصحابه الشجعان البارزين‪.‬‬

‫وهكذا تت تعبئة اليش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة ‪3‬هـ‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم ينفث روح البسالة ف اليش‬


‫ونى الرسول صلى ال عليه وسلم الناس عن الخذ ف القتال حت يأمرهم‪ ،‬وظاهر بي درعي‪ ،‬وحرض‬
‫أصحابه على القتال‪ ،‬وحضهم على الصابرة واللد عند اللقاء‪ ،‬وأخذ ينفث روح الماسة والبسالة ف‬
‫أصحابه حت جرد سيفا باترا ونادي أصحابه‪( :‬من يأخذ هذا السيف بقه؟)‪ ،‬فقام إليه رجال ليأخذوه ـ‬
‫منهم على بن أب طالب‪ ،‬والزبي بن العوام‪ ،‬وعمر بن الطاب ـ حت قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَ َرشَة‪،‬‬
‫فقال‪ :‬وما حقه يا رسول ال ؟ قال‪( :‬أن تضرب به وجوه العدو حت ينحن)‪ .‬قال‪ :‬أنا آخذه بقه يا رسول‬
‫ال‪ ،‬فأعطاه إياه‪.‬‬

‫وكان أبو دجانة رجلً شجاعا يتال عند الرب‪ ،‬وكانت له عصابة حراء إذا اعتصب با علم الناس أنه‬
‫سيقاتل حت الوت‪ .‬فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة‪ ،‬وجعل يتبختر بي الصفي‪ ،‬وحينئذ قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إنا لشية يبغضها ال إل ف مثل هذا الوطن)‪.‬‬

‫تعبئـة اليش الكي‬


‫أما الشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف‪ ،‬فكانت القيادة العامة إل أب سفيان صخر بن حرب‬
‫الذي تركز ف قلب اليش‪ ،‬وجعلوا على اليمنة خالد بن الوليد ـ وكان إذ ذاك مشركا ـ وعلى‬
‫اليسرة عكرمة بن أب جهل‪ ،‬وعلى الشاة صفوان ابن أمية‪ ،‬وعلى رماة النبل عبد ال بن أب ربيعة‪.‬‬

‫أما اللواء فكان إل مفرزة من بن عبد الدار‪ ،‬وقد كان ذلك منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف‬
‫الناصب الت ورثوها من قصي بن كلب ـ كما أسلفنا ف أوائل الكتاب ـ وكان ل يكن لحد أن‬
‫ينازعهم ف ذلك؛ تقيدا بالتقاليد الت ورثوها كابرا عن كابر‪ ،‬بيد أن القائد العام ـ أبا سفيان ـ ذكرهم‬
‫با أصاب قريشا يوم بدر حي أسر حامل لوائهم النضر بن الارث‪ ،‬وقال لم ـ ليستفز غضبهم ويثي‬
‫حيتهم‪ :‬يا بن عبد الدار‪ ،‬قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم‪ ،‬وإنا يؤت الناس من قبل راياتم‪،‬‬
‫وإذا زالت زالوا‪ ،‬فإما أن تكفونا لواءنا‪ ،‬وإما أن تلوا بيننا وبينه فنكفيكموه‪.‬‬

‫ونح أبو سفيان ف هدفه‪ ،‬فقد غضب بنو عبد الدار لقول أب سفيان أشد الغضب‪ ،‬وهوا به وتواعدوه‬
‫وقالوا له‪ :‬نن نسلم إليك لواءنا ؟ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع‪ .‬وقد ثبتوا عند احتدام العركة حت‬
‫أبيدوا عن بكرة أبيهم‪.‬‬

‫مناورات سياسية من قبل قريش‬


‫وقبيل نشوب العركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والناع داخل صفوف السلمي‪ .‬فقد أرسل أبو سفيان‬
‫إل النصار يقول لم‪ :‬خلوا بيننا وبي ابن عمنا فننصرف عنكم‪ ، ،‬فل حاجة لنا إل قتالكم‪ .‬ولكن أين‬
‫هذه الحاولة أمام اليان الذي ل تقوم له البال‪ ،‬فقد رد عليه النصار ردا عنيفا‪ ،‬وأسعوه ما يكره‪.‬‬

‫واقتربت ساعة الصفر‪ ،‬وتدانت الفئتان‪ ،‬فقامت قريش بحاولة أخري لنفس الغرض‪ ،‬فقد خرج إل‬
‫النصار عميل خائن يسمي أبا عامر الفاسق ـ واسه عبد عمرو ابن صَيفِي‪ ،‬وكان يسمي الراهب‪ ،‬فسماه‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم الفاسق‪ ،‬وكان رأس الوس ف الاهلية‪ ،‬فلما جاء السلم شَرِق به‪،‬‬
‫وجاهر رسول ال صلى ال عليه وسلم بالعداوة‪ ،‬فخرج من الدينة وذهب إل قريش يؤلبهم على رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ويضهم على قتاله‪ ،‬ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه‪ ،‬ومالوا معه ـ فكان‬
‫أول من خرج إل السلمي ف الحابيش وعُ ْبدَان أهل مكة‪ .‬فنادي قومه وتعرف عليهم‪ ،‬وقال‪ :‬يا معشر‬
‫الوس‪ ،‬أنا أبو عامر‪ .‬فقالوا‪ :‬ل أنعم ال بك عينا يا فاسق‪ .‬فقال‪ :‬لقد أصاب قومي بعدي شر‪ .‬ـ ولا بدأ‬
‫القتال قاتلهم قتالً شديدا وراضخهم بالجارة‪.‬‬

‫وهكذا فشلت قريش ف ماولتها الثانية للتفريق بي صفوف أهل اليان‪ .‬ويدل عملهم هذا على ما كان‬
‫يسيطر عليهم من خوف السلمي وهيبتهم‪ ،‬مع كثرتم وتفوقهم ف العدد والعدة‪.‬‬

‫جهود نسوة قريش ف التحميس‬

‫وقامت نسوة قريش بنصيبهن من الشاركة ف العركة‪ ،‬تقودهن هند بنت عتبة زوجة أب سفيان‪ ،‬فكن‬
‫يتجولن ف الصفوف‪ ،‬ويضربن بالدفوف؛ يستنهضن الرجال‪ ،‬ويرضن على القتال‪ ،‬ويثرن حفائظ‬
‫البطال‪ ،‬ويركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال‪ ،‬فتارة ياطب أهل اللواء فيقلن‪:‬‬

‫َويْها بن عبد الــدار **‬


‫ويـها حُمَاة الدبـــار **‬
‫ضـربا بكـل بتـــــار **‬
‫وتارة يأززن قومهن على القتال وينشدن‪:‬‬

‫إن تُـقْبلُـوا ُنعَانـــق **‬


‫ونَفــ ِرشُ النمـــارق **‬
‫أو تُـ ْدبِـرُوا نُفـــارِق **‬
‫فــراق غيـر وَامـق **‬

‫أول وقود العركة‬


‫وتقارب المعان وتدانت الفئتان‪ ،‬وآنت مرحلة القتال‪ ،‬وكان أول وقود العركة حامل لواء الشركي‬
‫طلحة بن أب طلحة العبدري‪ ،‬وكان من أشجع فرسان قريش‪ ،‬يسميه السلمون كبش الكتيبة‪ .‬خرج وهو‬
‫راكب على جل يدعو إل البارزة‪ ،‬فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته‪ ،‬ولكن تقدم إليه الزبي ول يهله‪ ،‬بل‬
‫وثب إليه وثبة الليث حت صار معه على جله‪ ،‬ث اقتحم به الرض فألقاه عنه وذبه بسيفه‪.‬‬

‫ورأي النب صلى ال عليه وسلم هذا الصراع الرائع فكب‪ ،‬وكب السلمون وأثن على الزبي‪ ،‬وقال ف‬
‫حقه‪( :‬إن لكل نب حواريا‪ ،‬وحواري الزبي) ‪.‬‬

‫ثقل العركة حول اللواء وإبادة حلته‬


‫ث اندلعت نيان العركة‪ ،‬واشتد القتال بي الفريقي ف كل نقطة من نقاط اليدان‪ ،‬وكان ثقل العركة يدور‬
‫حول لواء الشركي‪ ،‬فقد تعاقب بنو عبد الدار لمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أب طلحة‪ ،‬فحمله‬
‫أخوه أبو شيبة عثمان بن أب طلحة‪ ،‬وتقدم للقتال وهو يقول‪:‬‬

‫ص ْعدَة أو تَ ْندَقّا‬
‫إنّ على أهْل اللوَاء حقــا ** أن ُتخْضَبَ ال ّ‬

‫فحمل عليه حزة بن عبد الطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه‪ ،‬حت وصلت إل سرته‪،‬‬
‫فبانت رئته‪.‬‬

‫ث رفع اللواء أبو سعد بن أب طلحة‪ ،‬فرماه سعد بن أب وقاص بسهم أصاب حنجرته‪ ،‬فُأ ْدلِ َع لسانُ ُه ومات‬
‫لينه‪ .‬وقيل‪ :‬بل خرج أبو سعد يدعو إل الباز‪ ،‬فتقدم إليه على بن أب طالب‪ ،‬فاختلفا ضربتي‪ ،‬فضربه‬
‫على فقتله‪.‬‬

‫ث رفع اللواء مُسَافع بن طلحة بن أب طلحة‪ ،‬فرماه عاصم بن ثابت بن أب ال ْفلَح بسهم فقتله‪ ،‬فحمل‬
‫اللواء بعده أخوه ِكلَب بن طلحة بن أب طلحة‪ ،‬فانقض عليه الزبي بن العوام وقاتله حت قتله‪ ،‬ث حل‬
‫للَس بن طلحة بن أب طلحة‪ ،‬فطعنه طلحة بن عبيد ال طعنة قضت على حياته‪ .‬وقيل‪ :‬بل‬
‫اللواء أخوها ا ُ‬
‫رماه عاصم بن ثابت بن أب الفلح بسهم فقضي عليه‪.‬‬

‫هؤلء ستة نفر من بيت واحد‪ ،‬بيت أب طلحة عبد ال بن عثمان بن عبد الدار‪ ،‬قتلوا جيعا حول لواء‬
‫الشركي‪ ،‬ث حله من بن عبد الدار أرطاة بن شُرَ ْحبِيل‪ ،‬فقتله على بن أب طالب‪ ،‬وقيل‪ :‬حزة بن عبد‬
‫الطلب‪ ،‬ث حله شُرَيح بن قارظ فقتله قُ ْزمَان ـ وكان منافقا قاتل مع السلمي حية‪ ،‬ل عن السلم ـ ث‬
‫حله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري‪ ،‬فقتله قزمان أيضا‪ ،‬ث حله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري‬
‫فقتله قزمان أيضا‪.‬‬

‫فهؤلء عشرة من بن عبد الدار ـ من حله اللواء ـ أبيدوا عن آخرهم‪ ،‬ول يبق منهم أحد يمل اللواء‪.‬‬
‫فتقدم غلم لـهم حبشي ـ اسه صُؤَاب ـ فحمل اللواء‪ ،‬وأبدي من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق‬
‫به مواليه من حلة اللواء الذين قتلوا قبله‪ ،‬فقد قاتل حت قطعت يداه‪ ،‬فبك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئل‬
‫يسقط‪ ،‬حت قتل وهو يقول‪ :‬اللهم هل أعزرت ؟ يعن هل أعذرت؟‪.‬‬

‫وبعد أن قتل هذا الغلم ـ صُؤاب ـ سقط اللواء على الرض‪ ،‬ول يبق أحد يمله‪ ،‬فبقي ساقطا‪.‬‬

‫القتال ف بقية النقاط‬


‫وبينما كان ثقل العركة يدور حول لواء الشركي كان القتال الرير يري ف سائر نقاط العركة‪ ،‬وكانت‬
‫روح اليان قد سادت صفوف السلمي‪ ،‬فانطلقوا خلل جنود الشرك انطلق الفيضان تتقطع أمامه‬
‫السدود‪ ،‬وهم يقولون‪[ :‬أمت‪ ،‬أمت] كان ذلك شعارا لم يوم أحد‪.‬‬

‫أقبل أبو دُجَانة معلما بعصابته المراء‪ ،‬آخذا بسيف رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مصمما على أداء‬
‫حقه‪ ،‬فقاتل حت أمعن ف الناس‪ ،‬وجعل ل يلقي مشركا إل قتله‪ ،‬وأخذ يهد صفوف الشركي هدّا‪.‬قال‬
‫الزبي بن العوام‪ :‬وجدت ف نفسي حي سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم السيف فمنعنيه‪ ،‬وأعطاه أبا‬
‫دجانة‪ ،‬وقلت ـ أي ف نفسي‪ :‬أنا ابن صفية عمته‪ ،‬ومن قريش‪ ،‬وقد قمت إليه‪ ،‬فسألته إياه قبله فآتاه إياه‬
‫وتركن‪ ،‬وال لنظرن ما يصنع ؟ فاتبعته‪ ،‬فأخرج عصابة له حراء فعصب با رأسه‪ ،‬فقالت النصار‪ :‬أخرج‬
‫أبو دجانة عصابة الوت‪ ،‬فخرج وهو يقول‪:‬‬

‫سفْح لدى الّنخِيل‬


‫أنا الذي عاهـدن خليلي ** ونـن بال ّ‬
‫أل أقوم الدّهْرَ ف الكَيول ** أضْ ِربْ بسَيف ال والرسول‬

‫فجعل ل يلقى أحدا إل قتله‪ ،‬وكان ف الشركي رجل ل يدع لنا جريا إل ذَفّفَ عليه‪ ،‬فجعل كل واحد‬
‫منهما يدنو من صاحبه‪ ،‬فدعوت ال أن يمع بينهما فالتقيا‪ ،‬فاختلفا ضربتي‪ ،‬فضرب الشرك أبا دجانة‬
‫فاتقاه بدرقته‪َ ،‬فعَضّتْ بسيفه‪ ،‬فضربه أبو دجانة فقتله ‪.‬‬

‫ث أمعن أبو دجانة ف هدّ الصفوف‪ ،‬حت خلص إل قائدة نسوة قريش‪ ،‬وهو ل يدري با‪ .‬قال أبو دجانة‪:‬‬
‫رأيت إنسانا يْمِش الناس خشا شديدا‪ ،‬فصمدت له‪ ،‬فلما حلت عليه السيف ولَ ْولَ‪ ،‬فإذا امرأة‪ ،‬فأكرمت‬
‫سيف رسول ال صلى ال عليه وسلم أن أضرب به امرأة‪.‬‬

‫وكانت تلك الرأة هي هند بنت عتبة‪ .‬قال الزبي بن العوام‪ :‬رأيت أبا دجانة قد حل السيف على مفرق‬
‫رأس هند بنت عتبة‪ ،‬ث عدل السيف عنها‪ ،‬فقلت‪:‬ال ورسوله أعلم ‪.‬‬

‫وقاتل حزة بن عبد الطلب قتال الليوث الهتاجة‪ ،‬فقد اندفع إل قلب جيش الشركي يغامر مغامرة منقطعة‬
‫النظي‪ ،‬ينكشف عنه البطال كما تتطاير الوراق أمام الرياح الوجاء‪ ،‬فبالضافة إل مشاركته الفعالة ف‬
‫إبادة حاملي لواء الشركي فعل الفاعيل بأبطالم الخرين‪ ،‬حت صرع وهو ف مقدمة البزين‪ ،‬ولكن ل‬
‫كما تصـرع البطال وجها لوجـه ف ميدان القتـال‪ ،‬وإنا كمـا يغتال الكرام ف حلك الظـلم‪.‬‬

‫مصرع أسد ال حزة بن عبد الطلب‬


‫يقول قاتل حزة وحْشِي بن حرب‪ :‬كنت غلما لبي بن ُم ْطعِم‪ ،‬وكان عمه ُطعَيمَة بن عدي قد أصيب يوم‬
‫بدر‪ ،‬فلما سارت قريش إل أحد قال ل جبي‪ :‬إنك إن قتلت حزة عم ممد بعمي فأنت عتيق‪ .‬قال‪:‬‬
‫فخرجت مع الناس ـ وكنت رجلً حبشيا أقذف بالربة قذف البشة‪ ،‬قلما أخطئ با شيئا ـ فلما التقي‬
‫الناس خرجت أنظر حزة وأتبصره‪ ،‬حت رأيته ف عرض الناس مثل المل الوْرَق‪ ،‬ي ُهدّ الناس هدّا ما يقوم‬
‫له شيء‪ .‬فوال إن لتيأ له أريده‪ ،‬فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو من إذ تقدمن إليه سِبَاع بن عبد‬
‫العزي‪ ،‬فلما رآه حزة قال له‪ :‬هلم إل يابن ُم َقطّعَة الُبظُور ـ وكانت أمه ختانة ـ قال‪ :‬فضربه ضربة كأنا‬
‫أخطأ رأسه ‪.‬‬

‫قال‪ :‬وهززت حربت حت إذا رضيت منها دفعتها إليه‪ ،‬فوقعت ف ثُنّتِه ـ أحشائه ـ حت خرجت من بي‬
‫رجليه‪ ،‬وذهب لينوء نوي َفغُ ِلبَ‪ ،‬وتركته وإياها حت مات‪ ،‬ث أتيته فأخذت حربت‪ ،‬ث رجعت إل‬
‫العسكر فقعدت فيه‪ ،‬ول يكن ل بغيه حاجة‪ ،‬وإنا قتلته لعتق‪ ،‬فلما قدمت مكة عتقت ‪.‬‬
‫السيطرة على الوقف‬
‫وبرغم هذه السارة الفادحة الت لقت السلمي بقتل أسد ال وأسد رسوله حزة بن عبد الطلب‪ ،‬ظل‬
‫السلمون مسيطرين على الوقف كله‪ .‬فقد قاتل يومئذ أبو بكر‪ ،‬وعمر بن الطاب‪ ،‬وعلى بن أب طالب‪،‬‬
‫والزبي بن العوام‪ ،‬ومصعب بن عمي‪ ،‬وطلحة بن عبيد ال‪ ،‬وعبد ال بن جحش‪ ،‬وسعد بن معاذ‪ ،‬وسعد‬
‫بن عبادة‪ ،‬وسعد بن الربيع‪ ،‬وأنس بن النضر وأمثالم قتالً فَلّ عزائم الشركي‪ ،‬وفتّ ف أعضادهم‪.‬‬

‫من أحضان الرأة إل مقارعة السيوف والدرقة‬


‫وكان من البطال الغامرين يومئذ حَ ْنظَلة الغَسِيل ـ وهو حنظلة بن أب عامر‪ ،‬وأبو عامر هذا هو الراهب‬
‫الذي سي بالفاسق‪ ،‬والذي مضي ذكره قريبا ـ كان حنظلة حديث عهد بالعُرْس‪ ،‬فلما سع هواتف‬
‫الرب وهو على امرأته انلع من أحضانا‪ ،‬وقام من فوره إل الهاد‪ ،‬فلما التقي بيش الشركي ف ساحة‬
‫القتال أخذ يشق الصفوف حت خلص إل قائد الشركي أب سفيان صخر بن حرب‪ ،‬وكاد يقضي عليه‬
‫لول أن أتاح ال له الشهادة‪ ،‬فقد شد على أب سفيان‪ ،‬فلما استعله وتكن منه رآه شداد بن السود‬
‫فضربه حت قتله‪.‬‬

‫نصيب فصيلة الرماة ف العركة‬


‫وكانت للفصيلة الت عينها الرسول صلى ال عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء ف إدارة دفة القتال‬
‫لصال اليش السلمي‪ ،‬فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق ثلث‬
‫مرات؛ ليحطموا جناح اليش السلمي اليسر‪ ،‬حت يتسربوا إل ظهور السلمي‪ ،‬فيحدثوا البلبلة‬
‫والرتباك ف صفوفهم وينلوا عليهم هزية ساحقة‪ ،‬ولكن هؤلء الرماة رشقوهم بالنبل حت فشلت‬
‫هجماتم الثلث‪.‬‬
‫الزية تنل بالشركي‬
‫هكذا دارت رحي الرب ال ّزبُون‪ ،‬وظل اليش السلمي الصغي مسيطرًا على الوقف كله حت خارت‬
‫عزائم أبطال الشركي‪ ،‬وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمي والشمال والمام واللف‪ ،‬كأن ثلثة آلف‬
‫مشرك يواجهون ثلثي ألف مسلم ل بضع مئات قلئل‪ ،‬وظهر السلمون ف أعلى صور الشجاعة واليقي‪.‬‬

‫وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم السلمي أحست بالعجز والور‪ ،‬وانكسرت هتها ـ‬
‫حت ل يترئ أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل صُؤاب فيحمله ليدور حوله القتال ـ‬
‫فأخذت ف النسحاب‪ ،‬ولأت إل الفرار‪ ،‬ونسيت ما كانت تتحدث به ف نفوسها من أخذ الثأر والوتر‬
‫والنتقام‪ ،‬وإعادة العز والجد والوقار‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬ث أنزل ال نصره على السلمي‪ ،‬وصدقهم وعده‪ ،‬فحسوهم بالسيوف حت كشفوهم‬
‫عن العسكر‪ ،‬وكانت الزية لشك فيها‪.‬‬

‫روى عبد ال بن الزبي عن أبيه أنه قال‪ :‬وال لقد رأيتن أنظر إل َخدَم ـ سوق ـ هند بنت عتبة‬
‫وصواحبها مشمرات هوارب‪ ،‬ما دون أخذهن قليل ول كثي‪ ...‬إل‪.‬‬

‫وف حديث الباء بن عازب عند البخاري ف الصحيح‪ :‬فلما لقيناهم هربوا حت رأيت النساء يشتددن ف‬
‫البل‪ ،‬يرفعن سوقهن قد بدت خلخيلهن ‪ .‬وتبع السلمون الشركي يضعون فيهم السلح وينتهبون‬
‫الغنائم‪.‬‬

‫غلطة الرماة الفظيعة‬


‫وبينما كان اليش السلمي الصغي يسجل مرة أخري نصرا ساحقا على أهل مكة ل يكن أقل روعة من‬
‫النصر الذي اكتسبه يوم بدر‪ ،‬وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تاما‪ ،‬وأدت إل‬
‫إلاق السائر الفادحة بالسلمي‪ ،‬وكادت تكون سببا ف مقتل النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد تركت‬
‫أسوأ أثر على سعتهم‪ ،‬وعلى اليبة الت كانوا يتمتعون با بعد بدر‪.‬‬
‫لقد أسلفنا نصوص الوامر الشديدة الت أصدرها رسول ال صلى ال عليه وسلم إل هؤلء الرماة‪،‬‬
‫بلزومهم موقفهم من البل ف كل حال من النصر أو الزية‪ ،‬ولكن على رغم هذه الوامر الشددة لا رأي‬
‫هؤلء الرماة أن السلمي ينتهبون غنائم العدو غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا‪ ،‬فقال بعضهم لبعض‪:‬‬
‫الغنيمة‪ ،‬الغنيمة‪ ،‬ظهر أصحابكم‪ ،‬فما تنتظرون ؟‬

‫أما قائدهم عبد ال بن جبي‪ ،‬فقد ذكرهم أوامر الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال‪ :‬أنسيتم ما قال لكم‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم؟‬

‫ولكن الغلبية الساحقة ل تلق لذا التذكي بالً‪ ،‬وقالت‪ :‬وال لنأتي الناس فلنصيب من الغنيمة ‪ .‬ثـم‬
‫غـادر أربعون رجلً أو أكثر هؤلء الرماة مواقعهم من البل‪ ،‬والتحقوا بسَوَاد اليش ليشاركـوه فـي‬
‫جع الغنائم‪ .‬وهكذا خلت ظهور السلمي‪ ،‬ول يبق فيها إل ابن جبي وتسعة أو أقل من أصحابه والتزموا‬
‫مواقفهم مصممي على البقاء حت يؤذن لم أو يبادوا‪.‬‬

‫خالد بن الوليد يقوم بطة تطويق اليش السلمي‬


‫وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية‪ ،‬فكرّ بسرعة خاطفة إل جبل الرماة ليدور من خلفه إل‬
‫مؤخرة اليش السلمي‪ ،‬فلم يلبث أن أباد عبد ال بن جبي وأصحابه إل البعض الذين لقوا بالسلمي‪،‬‬
‫ث انقض على السلمي من خلفهم‪ ،‬وصاح فرسانه صيحة عرف با الشركون النهزمون بالتطور الديد‬
‫فانقلبوا على السلمي‪ ،‬وأسرعت امرأة منهم ـ وهي عمرة بنت علقمة الارثية ـ فرفعت لواء الشركي‬
‫الطروح على التراب‪ ،‬فالتف حوله الشركون ولثوا به‪ ،‬وتنادي بعضهم بعضا‪ ،‬حت اجتمعوا على‬
‫السلمي‪ ،‬وثبتوا للقتال‪ ،‬وأحيط السلمون من المام واللف‪ ،‬ووقعوا بي ِشقّي الرحي‪.‬‬
‫مدى استعداد أبطال السلمي للقتال حت ناية‬ ‫موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق‬
‫العركة‬ ‫تبدد السلمي ف الوقف‬
‫بعد انتهاء الرسول صلى ال عليه وسلم إل الشعب‬ ‫احتدام القتال حول رسول ال‬
‫أحرج ساعة ف حياة الرسول صلى ال عليه وسلم شاتة أب سفيان بعد ناية العركة وحديثه مع عمر‬
‫جع الشهداء ودفنهم‬ ‫بداية تمع الصحابة حول الرسول صلى ال عليه‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم يثن على ربه عز وجل‬ ‫وسلم‬
‫ويدعوه‬ ‫تضاعف ضغط الشركي‬
‫الرجوع إل الدينة‪ ،‬ونوادر الب والتفان‬ ‫البطولت النادرة‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم ف الدينة‬ ‫إشاعة مقتل النب صلى ال عليه وسلم وأثره على‬
‫قتلى الفريقي‬ ‫العركة‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم يواصل العركة وينقذ حالة الطوارئ ف الدينة‬
‫غزوة حراء السد‬ ‫الوقف‬
‫القرآن يتحدث حول موضوع العركة‬ ‫مقتل أب بن خلف‬
‫الكم والغايات الحمودة ف هذه الغزوة‬ ‫طلحة ينهض بالنب صلى ال عليه وسلم‬
‫آخر هجوم قام به الشركون‬
‫تشويه الشهداء‬

‫موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق‬

‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم حينئذ ف مفرزة صغية ـ تسعة نفر من أصحابه ـ ف مؤخرة‬
‫السلمي ‪ ،‬كان يرقب مالدة السلمي ومطاردتم الشركي؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة‪ ،‬فكان‬
‫أمامه طريقان‪ :‬إما أن ينجو ـ بالسرعة ـ بنفسه وبأصحابه التسعة إل ملجأ مأمون‪ ،‬ويترك جيشه الطوق‬
‫إل مصيه القدور‪ ،‬وإما أن ياطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله‪ ،‬ويتخذ بم جبهة قوية يشق با‬
‫الطريق ليشه الطوق إل هضاب أحد‪.‬‬

‫وهناك تلت عبقرية الرسول صلى ال عليه وسلم وشجاعته النقطعة النظي‪ ،‬فقد رفع صوته ينادي‬
‫أصحابه‪( :‬إل عباد ال)‪ ،‬وهو يعرف أن الشركي سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه السلمون‪ ،‬ولكنه‬
‫ناداهم ودعاهم ماطرا بنفسه ف هذا الظرف الدقيق‪.‬‬

‫وفعلً فقد علم به الشركون فخلصوا إليه‪ ،‬قبل أن يصل إليه السلمون‪.‬‬

‫تبدد السلمي ف الوقف‬


‫أما السلمون فلما وقعوا ف التطويق طار صواب طائفة منهم‪ ،‬فلم تكن تمها إل أنفسها‪ ،‬فقد أخذت‬
‫طريق الفرار‪ ،‬وتركت ساحة القتال‪ ،‬وهي ل تدري ماذا وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إل الدينة‬
‫حت دخلها‪ ،‬وانطلق بعضهم إل ما فوق البل‪.‬‬

‫ورجعت طائفة أخري فاختلطت بالشركي‪ ،‬والتبس العسكران فلم يتميزا‪ ،‬فوقع القتل ف السلمي بعضهم‬
‫من بعض‪ .‬روي البخاري عن عائشة قالت‪ :‬لا كان يوم أحد هزم الشركون هزية بينة‪ ،‬فصاح إبليس‪ :‬أي‬
‫عباد ال أخراكم ـ أي احترزوا من ورائكم ـ فرجعت أولهم فاجتلدت هي وأخراهم‪ ،‬فبصر حذيفة‪،‬‬
‫فإذا هو بأبيه اليمان‪ ،‬فقال‪ :‬أي عباد ال أب أب‪ .‬قالت‪ :‬فوال ما احتجزوا عنه حت قتلوه‪ ،‬فقال حذيفة‪:‬‬
‫يغفر ال لكم‪ .‬قال عروة‪ :‬فوال ما زالت ف حذيفة بقية خي حت لق بال ‪.‬‬

‫وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد‪ ،‬وعمتها الفوضي‪ ،‬وتاه منها الكثيون؛ل يدرون أين‬
‫يتوجهون‪ ،‬وبينما هم كذلك إذ سعوا صائحا يصيح‪ :‬إن ممدا قد قتل‪ ،‬فطارت بقية صوابم‪ ،‬وانارت‬
‫الروح العنوية أو كادت تنهار ف نفوس كثي من أفرادها‪ ،‬فتوقف من توقف منهم عن القتال‪ ،‬وألقي‬
‫بأسلحته مستكينا‪ ،‬وفكر آخرون ف التصال بعبد ال بن أب ـ رأس النافقي ـ ليأخذ لم المان من أب‬
‫سفيان‪.‬ومر بؤلء أنس بن النضر‪ ،‬وقد ألقوا ما بأيديهم فقال‪ :‬ما تنتظرون ؟ فقالوا‪ :‬قتل رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬ما تصنعون بالياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ث قال‪ :‬اللهم إن أعتذر إليك ما صنع هؤلء‪ ،‬يعن السلمي‪ ،‬وأبرأ إليك ما صنع هؤلء‪ ،‬يعن‬
‫الشركي‪ ،‬ث تقدم فلقيه سعد بن معاذ‪ ،‬فقال‪ :‬أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس‪ :‬واها لريح النة يا سعد‪ ،‬إن‬
‫أجده دون أحد‪ ،‬ث مضي فقاتل القوم حت قتل‪ ،‬فما عرف حت عرفته أخته ـ بعد ناية العركة ـببنانه‪،‬‬
‫وبه بضع وثانون ما بي طعنة برمح‪ ،‬وضربة بسيف‪ ،‬ورمية بسهم ‪.‬‬
‫ونادى ثابت بن الدَ ْحدَاح قومه فقال‪ :‬يا معشر النصار‪ ،‬إن كان ممد قد قتل‪ ،‬فإن ال حي ل يوت‪،‬‬
‫قاتلوا على دينكم‪ ،‬فإن ال مظفركم وناصركم‪ .‬فنهض إليه نفر من النصار‪ ،‬فحمل بم على كتيبة فرسان‬
‫خالد فما زال يقاتلهم حت قتله خالد بالرمح‪ ،‬وقتل أصحابه ‪.‬‬

‫شحّطُ ف دمه‪ ،‬فقال‪ :‬يا فلن‪ ،‬أشعرت أن ممدا قد‬


‫ومر رجل من الهاجرين برجل من النصار‪ ،‬وهو يتَ َ‬
‫قتل ؟ فقال النصاري‪ :‬إن كان ممد قد قتل فقد بَلّغ‪ ،‬فقاتلوا عن دينكم ‪.‬‬

‫وبثل هذا الستبسال والتشجيع عادت إل جنود السلمي روحهم العنوية‪ ،‬ورجع إليهم رشدهم‬
‫وصوابم‪ ،‬فعدلوا عن فكرة الستسلم أو التصال بابن أب‪ ،‬وأخذوا سلحهم‪ ،‬يهاجون تيارات الشركي‪،‬‬
‫وهم ياولون شق الطريق إل مقر القيادة‪ ،‬وقد بلغهم أن خب مقتل النب صلى ال عليه وسلم كذب‬
‫ُمخْتَلَق‪ ،‬فزادهم ذلك قوة على قوتم‪ ،‬فنجحوا ف الفلت عن التطويق‪ ،‬وف التجمع حول مركز منيع‪،‬‬
‫بعد أن باشروا القتال الرير‪ ،‬وجالدوا بضراوة بالغة‪.‬‬

‫وكانت هناك طائفة ثالثة ل يكن يهمهم إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقد كرت هذه الطائفة إل‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعمل التطويق ف بدايته‪ ،‬وف مقدمة هؤلء أبو بكر الصديق‪ ،‬وعمر بن‬
‫الطاب‪ ،‬وعلي بن أب طالب وغيهم ـ رضي ال عنهم ـ كانوا ف مقدمة القاتلي‪ ،‬فلما أحسوا بالطر‬
‫على ذاته الشريفة ـ عليه الصلة والسلم والتحية ـ صاروا ف مقدمة الدافعي‪.‬‬

‫احتدام القتال حول رسول ال‬


‫وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق‪ ،‬وتطحن بي ِشقّي رَحَي الشركي‪ ،‬كان العراك متدما‬
‫حول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد ذكرنا أن الشركي لا بدءوا عمل التطويق ل يكن مع رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم إل تسعة نفر‪ ،‬فلما نادي السلمي‪( :‬هلموا إل‪ ،‬أنا رسول ال)‪ ،‬سع صوته‬
‫الشركون وعرفوه‪ ،‬فكروا إليه وهاجوه‪ ،‬ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش السلمي‪،‬‬
‫فجري بي الشركي وبي هؤلء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الب والتفان‬
‫والبسالة والبطولة‪.‬‬
‫روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أفرد يوم أحد ف سبعة من النصار‬
‫ورجلي من قريش‪ ،‬فلما رهقوه قال‪( :‬من يردهم عنا وله النة ؟ أو هو رفيقي ف النة ؟) فتقدم رجل من‬
‫النصار فقاتل حت قتل ث رهقوه أيضا فقال‪( :‬من يردهم عنا وله النة‪ ،‬أو هو رفيقي ف النة ؟) فتقدم‬
‫رجل من النصار فقاتل حت قتل‪ ،‬فلم يزل كذلك حت قتل السبعة‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫لصاحبيه ـ أي القرشيي‪( :‬ما أنصفنا أصحابنا) ‪.‬‬

‫وكان آخر هؤلء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السّكَن‪ ،‬قاتل حت أثبتته الراحة فسقط ‪.‬‬

‫أحرج ساعة ف حياة الرسول صلى ال عليه وسلم‬


‫وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول ف القرشيي فقط‪ ،‬ففي الصحيحي عن أب عثمان قال‪ :‬ل يبق مع‬
‫النب صلى ال عليه وسلم ف بعض تلك اليام الت يقاتل فيهن غي طلحة ابن عبيد ال وسعد ـ بن أب‬
‫وقاص ـ وكانت أحرج ساعة بالنسبة إل حياة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفرصة ذهبية بالنسبة إل‬
‫الشركي‪ ،‬ول يتوان الشركون ف انتهاز تلك الفرصة‪ ،‬فقد ركزوا حلتهم على النب صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وطمعوا ف القضاء عليه‪ ،‬رماه عتبة بن أب وقاص بالجارة فوقع لشقه‪ ،‬وأصيبت رباعيته اليمن السفلى‪،‬‬
‫شجّه ف جبهته‪ ،‬وجاء فارس عنيد هو عبد‬
‫وكُلِ َمتْ شفته السفلي‪ ،‬وتقدم إليه عبد ال بن شهاب الزهري فَ َ‬
‫ال بن قَمِئَة‪ ،‬فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لجلها أكثر من شهر إل أنه ل يتمكن من هتك‬
‫الدرعي‪ ،‬ث ضرب على وجنته صلى ال عليه وسلم ضربة أخري عنيفة كالول حت دخلت حلقتان من‬
‫حلق ا ِل ْغفَر ف وجْنَتِه‪ ،‬وقال‪ :‬خذها وأنا ابن قمئة‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يسح الدم‬
‫عن وجهة‪( :‬أقمأك ال) ‪.‬‬

‫سلُتُ الدم عنه ويقول‪( :‬‬


‫وف الصحيح أنه صلى ال عليه وسلم كسرت َربَاعِيَته‪ ،‬و ُشجّ ف رأسه‪ ،‬فجعل يَ ْ‬
‫كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم‪ ،‬وكسروا رباعيته‪ ،‬وهو يدعوهم إل ال)‪ ،‬فأنزل ال عز وجل‪{ :‬لَ ْيسَ‬
‫لَكَ مِنَ ا َلمْرِ َش ْيءٌ أَوْ يَتُوبَ َعلَيْ ِهمْ أَوْ يُ َعذّبَ ُهمْ َفإِنّ ُهمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران‪. ]128:‬‬

‫وف رواية الطبان أنه قال يومئذ‪( :‬اشتد غضب ال على قوم دموا وجه رسوله)‪ ،‬ث مكث ساعة ث قال‪( :‬‬
‫اللهم اغفر لقومي فإنم ل يعلمون) ‪ ،‬وف صحيح مسلم أنه قال‪(:‬رب اغفر لقومي فإنم ل يعلمون) ‪ ،‬وف‬
‫الشفاء للقاضي عياض أنه قال‪( :‬اللهم اهد قومي فإنم ل يعلمون)‪.‬‬
‫ول شك أن الشركي كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول ال صلى ال عليه وسلم إل أن القرشيي‬
‫سعد بن أب وقاص وطلحة بن عبيد ال قاما ببطولة نادرة‪ ،‬وقاتل ببسالة منقطعة النظي‪ ،‬حت ل يتركا ـ‬
‫وها اثنان فحسب ـ سبيل ً إل ناح الشركي ف هدفهم‪ ،‬وكانا من أمهر رماة العرب فتناضل حت‬
‫أجهضا مفرزة الشركي عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫فأما سعد بن أب وقاص‪ ،‬فقد نثل له رسول ال صلى ال عليه وسلم كنانته وقال‪(:‬ارم فداك أب وأمي) ‪.‬‬
‫ويدل على مدى كفاءته أن النب صلى ال عليه وسلم ل يمع أبويه لحد غي سعد‪.‬‬

‫وأما طلحة بن عبيد ال فقد روي النسائي عن جابر قصة َتجَمّع الشركي حول رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ومعه نفر من النصار‪ ،‬قال جابر‪ :‬فأدرك الشركون رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪( :‬من‬
‫للقوم ؟) فقال طلحة‪ :‬أنا‪ ،‬ث ذكر جابر تقدم النصار‪ ،‬وقتلهم واحدا بعد واحد‪ ،‬بنحو ما ذكرنا من رواية‬
‫مسلم‪ ،‬فلما قتل النصار كلهم تقدم طلحة‪ .‬قال جابر‪ :‬ث قاتل طلحة قتال الحد عشر حت ضربت يده‬
‫فقطعت أصابعه‪ ،‬فقال‪َ :‬حسّ‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬لو قلت‪ :‬بسم ال‪ ،‬لرفعتك اللئكة‬
‫والناس ينظرون)‪ ،‬قال‪ :‬ث رد ال الشركي ‪ .‬ووقع عند الاكم ف الكليل أنه جرح يوم أحد تسعا‬
‫وثلثي أو خسا وثلثي‪ ،‬وشلت إصبعه‪ ،‬أي السبابة والت تليها ‪.‬‬

‫وروي البخاري عن قيس بن أب حازم قال‪ :‬رأيت يد طلحة شلء‪ ،‬وقى با النب صلى ال عليه وسلم يوم‬
‫أحد‪.‬‬

‫وروي الترمذي وابن ماجه أن النب صلى ال عليه وسلم قال فيه يومئذ‪( :‬من أحب أن ينظر إل شهيد‬
‫يشي على وجه الرض فلينظر إل طلحة بن عبيد ال) ‪.‬‬

‫وروي أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت‪ :‬كان أبوبكر إذا ذكر يوم أحد قال‪ :‬ذلك اليوم كله لطلحة‪.‬‬

‫وقال فيه أبو بكر الصديق رضي ال عنه أيضا‪:‬‬


‫يا طلحة بن عبيد ال قد وَجََبتْ ** لك النان وبُوّئتَ الَهَا العِينَا‬

‫وف ذلك الظرف الدقيق والساعة الرجة أنزل ال نصره بالغيب‪ ،‬ففي الصحيحي عن سعد‪ ،‬قال‪ :‬رأيت‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم أحد‪ ،‬ومعه رجلن يقاتلن عنه‪ ،‬عليهما ثياب بيض كأشد القتال‪ ،‬ما‬
‫رأيتهما قبل ول بعد‪ .‬وف رواية‪ :‬يعن جبيل وميكائيل‪.‬‬

‫بداية تمع الصحابة حول الرسول صلى ال عليه وسلم‬

‫وقعت هذه كلها بسرعة هائلة ف لظات خاطفة‪ ،‬وإل فالصطفون الخيار من صحابته صلى ال عليه‬
‫وسلم ـ الذين كانوا ف مقدمة صفوف السلمي عند القتال ـ ل يكادوا يرون تغي الوقف‪ ،‬أو يسمعوا‬
‫صوته صلى ال عليه وسلم حت أسرعوا إليه ؛ لئل يصل إليه شيء يكرهونه‪ ،‬إل أنم وصلوا وقد لقي‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ما لقي من الراحات ـ وستة من النصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته‬
‫الراحات‪ ،‬وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجا من أجسادهم‬
‫وسلحهم‪ ،‬وبالغوا ف وقايته من ضربات العدو‪ ،‬ورد هجماته‪ .‬وكان أول من رجع إليه هو ثانيه ف الغار‬
‫أبو بكر الصديق رضي ال عنه‪.‬‬

‫روي ابن حبان ف صحيحه عن عائشة قالت‪ :‬قال أبو بكر الصديق‪ :‬لا كان يوم أحد انصرف الناس كلهم‬
‫عن النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكنت أول من فاء إل النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فرأيت بي يديه رجلً‬
‫يقاتل عنه ويميه‪ ،‬قلت‪ :‬كن طلحة‪ ،‬فداك أب وأمي‪ ،‬كن طلحة‪ ،‬فداك أب وأمي‪[ ،‬حيث فاتن ما فاتن‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬يكون رجل من قومي أحب إل] فلم أنشب أن أدركن أبو عبيدة بن الراح‪ ،‬وإذا هو يشتد كأنه‬
‫طي حت لقن‪ ،‬فدفعنا إل النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإذا طلحة بي يديه صريعا‪ ،‬فقال النب صلى ال‬
‫عليه وسلم‪( :‬دونكم أخـاكم فقـد أوجب)‪ ،‬وقد رمي النب صلى ال عليه وسلم ف وَجَْنِتهِ حت غابت‬
‫حلقتان من حلق ا ِل ْغفَر ف وجنته‪ ،‬فذهبت لنزعهما عن النب صلى ال عليه وسلم فقال أبو عبيدة‪:‬‬
‫نشدتك بال يا أبا بكر‪ ،‬إل تركتن‪ ،‬قال‪ :‬فأخذ بفيه فجعل ينَضّـضه كراهية أن يؤذي رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬ث استل السهم بفيه‪ ،‬فَن َدرَت ثنية أب عبيدة‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬ث ذهبت لخذ الخر‪ ،‬فقال‬
‫أبو عبيدة‪ :‬نشدتك بال يا أبا بكر‪ ،‬إل تركتن‪ ،‬قال‪:‬فأخذه فجعل ينضضه حت اسَْتلّه‪ ،‬فندرت ثنية أب‬
‫عبيدة الخري‪ ،‬ث قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(:‬دونكم أخاكم‪ ،‬فقد أوجب)‪ ،‬قال‪ :‬فأقبلنا على‬
‫طلحة نعاله‪ ،‬وقد أصابته بضع عشرة ضربة ‪ .‬وف تذيب تاريخ دمشق ‪ :‬فأتيناه ف بعض تلك الفار فإذا‬
‫به بضع وستون أو أقل أو أكثر‪ ،‬بي طعنة ورمية وضربة‪ ،‬وإذا قد قطعت إصبعه‪ ،‬فأصلحنا من شأنه‪.‬‬

‫وخلل هذه اللحظات الرجة اجتمع حول النب صلى ال عليه وسلم عصابة من أبطال السلمي منهم أبو‬
‫دُجَانة‪ ،‬ومصعب بن عمي‪ ،‬وعلى بن أب طالب ‪ ،‬وسهل بن حنيف‪ ،‬ومالك بن سنان والد أب سعيد‬
‫الدري‪ ،‬وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب الازنية‪ ،‬وقتادة ابن النعمان‪ ،‬وعمر بن الطاب‪ ،‬وحاطب بن أب‬
‫بلتعة‪ ،‬وأبو طلحة‪.‬‬

‫تضاعف ضغط الشركي‬


‫كما كان عدد الشركي يتضاعف كل آن‪ ،‬وبالطبع فقد اشتدت حلتم وزاد ضغطهم على السلمي‪،‬‬
‫حت سقط رسول ال صلى ال عليه وسلم ف حفرة من الفر الت كان أبو عامر الفاسق يكيد با‪،‬‬
‫جحِشَتْ ركبته‪ ،‬وأخذه على بيده‪ ،‬واحتضنه طلحة بن عبيد ال حت استوي قائما‪ ،‬وقال نافع بن جبي‪:‬‬
‫فُ‬
‫سعت رجلً من الهاجرين يقول‪ :‬شهدت أحدا فنظرت إل النبل يأت من كل ناحية‪ ،‬ورسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم وسطها‪ ،‬كل ذلك يصرف عنه‪ ،‬ولقد رأيت عبد ال بن شهاب الزهري يقول يومئذ‪ :‬دلون‬
‫على ممد‪ ،‬فل نوت إن نا‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم إل جنبه‪ ،‬ما معه أحد‪ ،‬ث جاوزه‪ ،‬فعاتبه ف‬
‫ذلك صفوان‪ ،‬فقال‪ :‬وال ما رأيته‪ ،‬أحلف بال إنه منا منوع‪ ،‬خرجنا أربعة‪ ،‬فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله‪،‬‬
‫فلم نلص إل ذلك ‪.‬‬

‫البطولت النادرة‬
‫وقام السلمون ببطولت نادرة وتضحيات رائعة‪ ،‬ل يعرف لا التاريخ نظيا‪ .‬كان أبو طلحة يسور نفسه‬
‫بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويرفع صدره ليقيه سهام العدو‪ .‬قال أنس‪ :‬لا كان يوم أحد‬
‫انزم الناس عن النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأبو طلحة بي يديه موب عليه بجفة له‪ ،‬وكان رجلً راميا‬
‫شديد النع‪ ،‬كسر يومئذ قوسي أو ثلثا‪ ،‬وكان الرجل ير معه َبعْبَة من النبل فيقول‪( :‬انثرها لب طلحة)‬
‫‪ ،‬قال‪ :‬ويشرف النب صلى ال عليه وسلم ينظر إل القوم‪ ،‬فيقول أبو طلحة‪ :‬بأب أنت وأمي ل تشرف‬
‫يصيبك سهم من سهام القوم‪َ ،‬نحْرِي دون نرك ‪.‬‬

‫وعنه أيضا قال‪ :‬كان أبو طلحة يتترس مع النب صلى ال عليه وسلم بترس واحد‪ ،‬وكان أبو طلحة حسن‬
‫ال ّرمْي‪ ،‬فكان إذا رمي تشرف النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فينظر إل موقع نبله‪.‬‬

‫وقام أبو دجانة أمام رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فَتَ ّرسَ عليه بظهره‪ .‬والنبل يقع عليه وهو ل يتحرك‪.‬‬

‫وتبع حاطب بن أب بلتعة عتبة بن أب وقاص ـ الذي كسر الرّباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حت طرح‬
‫رأسه‪ ،‬ث أخذ فرسه وسيفه‪ ،‬وكان سعد بن أب وقاص شديد الرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إل أنه‬
‫ل يظفر به‪ ،‬بل ظفر به حاطب‪.‬‬

‫وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة البطال‪ ،‬بايع رسول ال صلى ال عليه وسلم على الوت‪ ،‬ث قام بدور‬
‫فعال ف ذود الشركي‪.‬‬

‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه‪ ،‬فعن قتادة بن النعمان‪ :‬أن رسول ال رمي عن‬
‫قوسه حت اندقت سِيتُها ‪ ،‬فأخذها قتادة بن النعمان‪ ،‬فكانت عنده‪ ،‬وأصيبت يومئذ عينه حت وقعت على‬
‫وَجَْنتِه‪ ،‬فردها رسول ال صلى ال عليه وسلم بيده‪ ،‬فكانت أحسن عينيه وأ َحدّهُما‪.‬‬

‫وقاتل عبد الرحن بن عوف حت أصيب فوه يومئذ فهُِتمَ‪ ،‬وجرح عشرين جراحة أو أكثر‪ ،‬أصابه بعضها ف‬
‫رجله فعرج‪.‬‬

‫وامتص مالك بن سنان والد أب سعيد الدري الدم من وجنته صلى ال عليه وسلم حت أنقاه‪ ،‬فقال‪( :‬‬
‫ُمجّه)‪ ،‬فقال‪ :‬وال ل أمه‪ ،‬ث أدبر يقاتل‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬من أراد أن ينظر إل رجل من‬
‫أهل النة فلينظر إل هذا)‪ ،‬فقتل شهيدا‪.‬‬

‫وقاتلت أم عمارة فاعترضت لبن قَمِئَة ف أناس من السلمي‪ ،‬فضربا ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت‬
‫جرحا أجوف‪ ،‬وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها‪ ،‬لكن كانت عليه درعان فنجا‪ ،‬وبقيت أم‬
‫عمارة تقاتل حت أصابا اثنا عشر جرحا‪.‬‬

‫وقاتل مصعب بن عمي بضراوة بالغة‪ ،‬يدافع عن النب صلى ال عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه‪،‬‬
‫وكان اللواء بيده‪ ،‬فضربوه على يده اليمن حت قطعت‪ ،‬فأخذ اللواء بيده اليسري‪ ،‬وصمد ف وجوه‬
‫الكفار حت قطعت يده اليسري‪ ،‬ث برك عليه بصدره وعنقه حت قتل‪ ،‬وكان الذي قتله هو ابن قمئة‪ ،‬وهو‬
‫يظنه رسول ال ـ لشبهه به ـ فانصرف ابن قمئة إل الشركي‪ ،‬وصاح‪ :‬إن ممدا قد قتل ‪.‬‬

‫إشاعة مقتل النب صلى ال عليه وسلم وأثره على العركة‬


‫ول يض على هذا الصياح دقائق‪ ،‬حت شاع خب مقتل النب صلى ال عليه وسلم ف الشركي والسلمي‪.‬‬
‫وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثي من الصحابة الطوقي‪ ،‬الذين ل يكونوا مع رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وانارت معنوياتم‪ ،‬حت وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد‪ ،‬وعمتها الفوضي‬
‫والضطراب‪ ،‬إل أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات الشركي ؛ لظنهم أنم‬
‫نحوا ف غاية مرامهم‪ ،‬فاشتغل الكثي منهم بتمثيل قتلي السلمي‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يواصل العركة وينقذ الوقف‬


‫ولا قتل مصعب أعطي رسول ال اللواء على بن أب طالب‪ ،‬فقاتل قتا ًل شديدا‪ ،‬وقامت بقية الصحابة‬
‫الوجودين هناك ببطولتم النادرة‪ ،‬يقاتلون ويدافعون‪.‬‬

‫وحينئذ استطاع رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يشق الطريق إل جيشه الطوق‪ ،‬فأقبل إليهم فعرفه‬
‫كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته‪ :‬يا معشر السلمي أبشروا‪ ،‬هذا رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأشار إليه أن اصمت ـ وذلك لئل يعرف موضعه الشركون ـ إل أن هذا‬
‫الصوت بلغ إل آذان السلمي‪ ،‬فلذ إليه السلمون حت تمع حوله حوال ثلثي رجلً من الصحابة‪.‬‬

‫وبعد هذا التجمع أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم ف النسحاب النظم إل شعب البل‪ ،‬وهو يشق‬
‫الطريق بي الشركي الهاجي‪ ،‬واشتد الشركون ف هجومهم ؛ لعرقلة النسحاب إل أنم فشلوا أمام‬
‫بسالة ليوث السلم ‪.‬‬

‫تقدم عثمان بن عبد ال بن الغية ـ أحد فرسان الشركي ـ إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو‬
‫يقول‪ :‬ل نوت إن نا‪ .‬وقام رسول ال صلى ال عليه وسلم لواجهته‪ ،‬إل أن الفرس عثرت ف بعض‬
‫الفر‪ ،‬فنازله الارث بن الصّمّة‪ ،‬فضرب على رجله فأقعده‪ ،‬ث ذَفّفَ عليه وأخذ سلحه‪ ،‬والتحق برسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وعطف عبد ال بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الارث بن الصّمّة‪ ،‬فضرب بالسيف على‬
‫عاتقه فجرحه حت حله السلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل الغامر ذو العصابة المراء ـ على عبد‬
‫ال بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه‪.‬‬

‫وأثناء هذا القتال الرير كان السلمون يأخذهم النعاس أمنة من ال‪ ،‬كما تدث عنه القرآن‪ .‬قال أبو‬
‫طلحة‪ :‬كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حت سقط سيفي من يدي مرارا‪ ،‬يسقط وآخذه ويسقط‬
‫وآخذه ‪.‬‬

‫وبثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ ف انسحاب منظم ـ إل شعب البل‪ ،‬وشق لبقية اليش طريقا‬
‫إل هذا القام الأمون‪ ،‬فتلحق به ف البل‪ ،‬وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫مقتل أب بن خلف‬
‫قال ابن إسحاق‪ :‬فلما أسند رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الشعب أدركه أب بن خلف وهو يقول‪:‬‬
‫ت إن نا‪ .‬فقال القوم‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أيعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول ال صلى ال‬
‫أين ممد ؟ ل نو ُ‬
‫عليه وسلم‪(:‬دعوه)‪ ،‬فلما دنا منه تناول رسول ال صلى ال عليه وسلم الربة من الارث بن الصمة‪،‬‬
‫فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعي إذا انتفض‪ ،‬ث استقبله وأبصر‬
‫تَرْقُ َوتَه من فرجة بي سابغة الدرع والبيضة‪ ،‬فطعنه فيها طعنة تدأدأ ـ تدحرج ـ منها عن فرسه مرارا‪.‬‬
‫فلما رجع إل قريش وقد خدشه ف عنقه خدشا غي كبي‪ ،‬فاحتقن الدم‪ ،‬قال‪ :‬قتلن وال ممد‪ ،‬قالوا له‪:‬‬
‫ذهب وال فؤادك‪ ،‬وال إن بك من بأس‪ ،‬قال‪ :‬إنه قد كان قال ل بكة‪(:‬أنا أقتلك) ‪ ،‬فوال لو بصق على‬
‫لقتلن‪ .‬فمات عدو ال بسَرِف وهم قافلون به إل مكة‪.‬وف رواية أب السود عن عروة‪ ،‬وكذا ف رواية‬
‫سعيد بن السيب عن أبيه‪ :‬أنه كان يور خوار الثور‪ ،‬ويقول‪ :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لو كان الذي ب بأهل‬
‫ذي الجاز لاتوا جيعا ‪.‬‬
‫طلحة ينهض بالنب صلى ال عليه وسلم‬
‫وف أثناء انسحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم إل البل عرضت له صخرة من البل‪ ،‬فنهض إليها‬
‫ليعلوها فلم يستطع ؛ لنه كان قد َبدّنَ وظاهر بي الدرعي‪ ،‬وقد أصابه جرح شديد‪.‬فجلس تته طلحة بن‬
‫عبيد ال‪ ،‬فنهض به حت استوي عليها‪ ،‬وقال‪( :‬أوْجَبَ طلحةُ) ‪ ،‬أي‪:‬النة‪.‬‬

‫آخر هجوم قام به الشركون‬


‫ولا تكن رسول ال صلى ال عليه وسلم من مقر قيادته ف الشعب قام الشركون بآخر هجوم حاولوا به‬
‫النيل من السلمي‪ .‬قال ابن إسحاق‪ :‬بينا رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الشعب إذ علت عالية من‬
‫قريش البل ـ يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد ـ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬اللهم إنه‬
‫ل ينبغي لم أن يعلونا)‪ ،‬فقاتل عمر بن الطاب ورهط معه من الهاجرين حت أهبطوهم من البل ‪.‬‬

‫وف مغازي الموي‪ :‬أن الشركي صعدوا على البل‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لسعد‪(:‬‬
‫اجْنُبْ ُهمْ) ـ يقول‪ :‬ارددهم ـ فقال‪ :‬كيف أجْنُُب ُهمْ وحدي ؟ فقال ذلك ثلثا‪ ،‬فأخذ سعد سهما من‬
‫كنانته‪ ،‬فرمي به رجلً فقتله‪ ،‬قال‪ :‬ث أخذت سهمي أعرفه‪ ،‬فرميت به آخر‪ ،‬فقتلته‪ ،‬ث أخذته أعرفه فرميت‬
‫به آخر فقتلته‪ ،‬فهبطوا من مكانم‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا سهم مبارك‪ ،‬فجعلته ف كنانت‪ .‬فكان عند سعد حت مات‪،‬‬
‫ث كان عند بنيه ‪.‬‬

‫تشويه الشهداء‬
‫وكان هذا آخر هجوم قام به الشركون ضد النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولا ل يكونوا يعرفون من مصيه‬
‫شيئا ـ بل كانوا على شبه اليقي من قتله ـ رجعوا إل مقرهم‪ ،‬وأخذوا يتهيأون للرجوع إل مكة‪،‬‬
‫واشتغل من اشتغل منهم ـ وكذا اشتغلت نساؤهم ـ بقتلي السلمي‪ ،‬يثلون بم‪ ،‬ويقطعون الذان‬
‫والنوف والفروج‪ ،‬ويبقرون البطون‪ .‬وبقرت هند بنت عتبة كبد حزة فلكتها‪ ،‬فلم تستطع أن تسيغها‬
‫فلفظتها‪ ،‬واتذت من الذان والنوف َخدَما ـ خلخيل ـ وقلئد‪.‬‬

‫مدى استعداد أبطال السلمي للقتال حت ناية العركة‬


‫وف هذه الساعة الخية وقعت وقعتان تدلن على مدي استعداد أبطال السلمي للقتال‪ ،‬ومدي‬
‫استماتتهم ف سبيل ال‪:‬‬

‫‪ .1‬قال كعب بن مالك‪ :‬كنت فيمن خرج من السلمي‪ ،‬فلما رأيت تثيل الشركي بقتلي السلمي قمت‬
‫فتجاوزت‪ ،‬فإذا رجل من الشركي جع اللمة يوز السلمي وهو يقول‪ :‬استوسقوا كما استوسقت جزر‬
‫الغنم‪ .‬وإذا رجل من السلمي ينتظره وعليه لمته‪ ،‬فمضيت حت كنت من ورائه‪ ،‬ث قمت أقدر السلم‬
‫والكافر ببصري‪ ،‬فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة‪ ،‬فلم أزل أنتظرها حت التقيا‪ ،‬فضرب السلم الكافر‬
‫ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتي‪ ،‬ث كشف السلم عن وجهه‪ ،‬وقال‪ :‬كيف تري يا كعب ؟ أنا أبو دجانة‬
‫‪.‬‬

‫‪ .2‬جاءت نسوة من الؤمني إل ساحة القتال بعد ناية العركة‪ ،‬قال أنس‪ :‬لقد رأيت عائشة بنت أب بكر‬
‫وأم سليم‪ ،‬وإنما لشمرتان ـ أري َخدَم سوقهما ـ تَنْقُزَانِ القِ َربَ على متونما‪ ،‬تفرغانه ف أفواه القوم‪،‬‬
‫ث ترجعان فتملنا‪ ،‬ث تيئان فتفرغانه ف أفواه القوم ‪ .‬وقال عمر‪ :‬كانت [أم سَلِيط من نساء النصار]‬
‫تزفر لنا القرب يوم أحد ‪.‬‬

‫وكانت ف هؤلء النسوة أم أين‪ ،‬لا رأت فلول السلمي يريدون دخول الدينة‪ ،‬أخذت تثو التراب ف‬
‫وجوههم وتقول لبعضهم‪:‬هاك الغزل‪ ،‬وهلم سيفك‪ .‬ث سارعت إل ساحة القتال‪ ،‬فأخذت تسقي الرحي‪،‬‬
‫فرماها حِبّان ـ بالكسر ـ بن العَرَقَة بسهم‪ ،‬فوقعت وتكشفت‪ ،‬فأغرق عدو ال ف الضحك‪ ،‬فشق ذلك‬
‫على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فدفع إل سعد بن ب وقاص سهما ل نصل له‪ ،‬وقال‪(:‬ارم به)‪ ،‬فرمي‬
‫به سعد‪ ،‬فوقع السهم ف نر حبان‪ ،‬فوقع مستلقيا حت تكشف‪ ،‬فضحك رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫حت بدت نواجذه‪ ،‬ث قال‪(:‬استقاد لا سعد‪ ،‬أجاب ال دعوته) ‪.‬‬

‫بعد انتهاء الرسول صلى ال عليه وسلم إل الشعب‬


‫ولا استقر رسول ال صلى ال عليه وسلم ف مقره من الشّعب خرج على أب طالب حت مل َدرَقَته ماء‬
‫من الِهْرَاس ـ قيل‪ :‬هو صخرة منقورة تسع كثيا‪ .‬وقيل‪ :‬اسم ماء بأحد ـ فجاء به إل رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ليشرب منه‪ ،‬فوجد له ريا فعافه‪ ،‬فلم يشرب منه‪ ،‬وغسل عن وجهه الدم‪ ،‬وصب على‬
‫رأسه وهو يقول‪( :‬اشتد غضب ال على من َدمّى وجه نبيه) ‪.‬‬
‫وقال سهل‪ :‬وال إن لعرف من كان يغسل جرح رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن كان يسكب‬
‫الاء‪ ،‬وبا دُووِي ؟ كانت فاطمة ابنته تغسله‪ ،‬وعلى بن أب طالب يسكب الاء با ِلجَنّ‪ ،‬فلما رأت فاطمة أن‬
‫الاء ل يزيد الدم إل كثرة أخذت قطعة من حصي‪ ،‬فأحرقتها‪ ،‬فألصقتها فاستمسك الدم‪.‬‬

‫وجاء ممد بن مسلمة باء عذب سائغ ‪ ،‬فشرب منه النب صلى ال عليه وسلم ودعا له بي‪ .‬وصلى‬
‫الظهر قاعدا من أثر الراح ‪ ،‬وصلى السلمون خلفه قعودا‪.‬‬

‫شاتة أب سفيان بعد ناية العركة وحديثه مع عمر‬


‫ولا تكامل تيؤ الشركي للنـصراف أشـرف أبو سفـيان على البل‪ ،‬فـنادي أفيكم ممد؟ فلم‬
‫ييبوه‪ .‬فقال‪ :‬أفيكم ابن أب قحافة؟ فلم يبيبوه‪ .‬فقال‪ :‬أفيكم عمر بن الطاب؟ فلم ييبوه ـ وكان النب‬
‫صلى ال عليه وسلم منعهم من الجابة ـ ول يسأل إل عن هؤلء الثلثة لعلمه وعلم قومه أن قيام‬
‫السلم بم‪ .‬فقال‪ :‬أما هؤلء فقد كفيتموهم‪ ،‬فلم يلك عمر نفسه أن قال‪ :‬يا عدو ال‪ ،‬إن الذين ذكرتم‬
‫أحياء‪ ،‬وقد أبقي ال ما يسوءك‪ .‬فقال‪ :‬قد كان فيكم مثلة ل آمر با ول تسؤن‪.‬‬
‫ث قال‪ :‬أعْلِ هُبَل‪.‬‬
‫فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬أل تيبونه؟) فقالوا‪:‬فما نقول؟ قال‪( :‬قولوا‪ :‬ال أعلى وأجل)‪.‬‬
‫ث قال‪ :‬لنا العُزّى ول عزى لكم‪.‬‬
‫فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬أل تيبونه؟) قالوا‪ :‬ما نقول؟ قال‪( :‬قولوا‪:‬ال مولنا‪ ،‬ول مول لكم)‪.‬‬
‫ث قال أبو سفيان‪ :‬أنْعَمْتَ َفعَال ‪ ،‬يوم بيوم بدر‪ ،‬والرب ِسجَال‪.‬‬
‫فأجابه عمر‪ ،‬وقال‪ :‬لسواء‪ ،‬قتلنا ف النة‪ ،‬وقتلكم ف النار‪.‬‬
‫ث قال أبو سفيان‪ :‬هلم إل يا عمر‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬ائته فانظر ما شأنه؟) فجاءه‪،‬‬
‫فقال له أبو سفيان‪ :‬أنشدك ال يا عمر‪ ،‬أقتلنا ممدا؟ قال عمر‪ :‬اللهم ل‪ .‬وإنه ليستمع كلمك الن‪ .‬قال‪:‬‬
‫أنت أصدق عندي من ابن َقمِئَة وأبر‪.‬‬

‫مواعدة التلقي ف بدر‬


‫قال ابن إسحاق‪ :‬ولا انصرف أبو سفيان ومن معه نادي‪ :‬إن موعدكم بدر العام القابل‪.‬فقال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم لرجل من أصحابه‪( :‬قل‪ :‬نعم‪ ،‬هو بيننا وبينك موعد)‪.‬‬

‫التثبت من موقف الشركي‬


‫ث بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم على بن أب طالب‪ ،‬فقال‪( :‬اخرج ف آثار القوم فانظر ماذا‬
‫يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد َجنَبُوا اليل‪ ،‬وامَْتطُوا البل‪ ،‬فإنم يريدون مكة‪ ،‬وإن كانوا قد ركبوا‬
‫اليل وساقوا البل فإنم يريدون الدينة‪ .‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لئن أرادوها لسين إليهم فيها‪ ،‬ث‬
‫لناجزنم)‪ .‬قال على‪ :‬فخرجت ف آثارهم أنظر ماذا يصنعون‪ ،‬فجنبوا اليل وامتطوا البل‪ ،‬و َوجّهُوا إل‬
‫مكة ‪.‬‬

‫تفقد القتلى والرحى‬


‫وفرغ الناس لتفقد القتلي والرحي بعد منصرف قريش‪ .‬قال زيد بن ثابت‪ :‬بعثن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع‪ .‬فقال ل‪( :‬إن رأيته فأقرئه من السلم‪ ،‬وقل له‪ :‬يقول لك رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬كيف تدك؟) قال‪ :‬فجعلت أطوف بي القتلي‪ ،‬فأتيته وهو بآخر رمق‪ ،‬فيه‬
‫سبعون ضربة ؛ ما بي طعنة برمح‪ ،‬وضربة بسيف‪ ،‬ورمية بسهم‪ ،‬فقلت‪ :‬يا سعد‪ ،‬إن رسول ال يقرأ عليك‬
‫السلم‪ ،‬ويقول لك‪ :‬أخبن كيف تدك؟ فقال‪ :‬وعلى رسول ال صلى ال عليه وسلم السلم‪ ،‬قل له‪ ،‬يا‬
‫رسول ال‪ ،‬أجد ريح النة‪ ،‬وقل لقومي النصار‪ :‬ل عذر لكم عند ال إن خلص إل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم وفيكم عي تطرف‪ ،‬وفاضت نفسه من وقته ‪.‬‬

‫ووجدوا ف الرحي الُصَيِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسي‪ ،‬وكانوا من قبل يعرضون عليه السلم‬
‫فيأباه‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن هذا الصيم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لنكر لذا المر‪ ،‬ث سألوه‪ :‬ما الذي جاء بك‪،‬‬
‫أ َحدَبٌ على قومك‪ ،‬أم رغبة ف السلم؟ فقال‪ :‬بل رغبة ف السلم‪ ،‬آمنت بال ورسوله‪ ،‬ث قاتلت مع‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم حت أصابن ما ترون‪ ،‬ومات من وقته‪ ،‬فذكروه لرسول ال صلى ال عليه‬
‫صلّ ل صلة قط ‪.‬‬
‫وسلم‪ ،‬فقال‪( :‬هو من أهل النة)‪ .‬قال أبو هريرة‪ :‬ول يُ َ‬

‫ووجدوا ف الرحي قُ ْزمَان ـ وكان قد قاتل قتال البطال ؛ قتل وحده سبعة أو ثانية من الشركي ـ‬
‫وجدوه قد أثبتته الراحة‪ ،‬فاحتملوه إل دار بن َظفَر‪ ،‬وبشره السلمون فقال‪ :‬وال إن قاتلت إل عن‬
‫أحساب قومي‪ ،‬ولول ذلك ما قاتلت‪ ،‬فلما اشتد به الراح نر نفسه‪ .‬وكان رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يقول ـ إذا ذكر له‪( :‬إنه من أهل النار) ـ وهذا هو مصي القاتلي ف سبيل الوطنية أو ف أي‬
‫سبيل سوي إعلء كلمة ال‪ ،‬وإن قاتلوا تت لواء السلم‪ ،‬بل وف جيش الرسول والصحابة‪.‬‬
‫وعلى عكس من هذا كان ف القتلي رجل من يهود بن ثعلبة‪ ،‬قال لقومه‪ :‬يا معشر يهود‪ ،‬وال لقد علمتم‬
‫أن نصر ممد عليكم حق‪.‬قالوا‪:‬إن اليوم يوم السبت‪ .‬قال‪:‬ل سبت لكم‪.‬فأخذ سيفه وعدته‪ ،‬وقال‪ :‬إن‬
‫أصبت فمإل لحمد‪ .‬يصنع فيه ما شاء‪ ،‬ث غدا فقاتل حت قتل‪.‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬‬
‫ُمخَيِيق خي يهود)‪.‬‬

‫جع الشهداء ودفنهم‬


‫وأشرف رسول ال صلى ال عليه وسلم على الشهداء فقال‪( :‬أنا شهيد على هؤلء‪ ،‬إنه ما من جريح‬
‫يُجْرَح ف ال إل وال يبعثه يوم القيامة‪َ ،‬ي ْدمَي ُجرْحُه‪ ،‬اللون لون الدم‪ ،‬والريح ريح الِسْك) ‪.‬‬

‫وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلهم إل الدينة فأمر أن يردوهم‪ ،‬فيدفنوهم ف مضاجعهم وأل‬
‫يغسلوا‪ ،‬وأن يدفنوا كما هم بثيابم بعد نزع الديد واللود‪ .‬وكان يدفن الثني والثلثة ف القب الواحد‪،‬‬
‫ويمع بي الرجلي ف ثوب واحد‪ ،‬ويقول‪( :‬أيهم أكثر أَ ْخذًا للقرآن؟) فإذا أشاروا إل الرجل قدمه ف‬
‫اللحد‪ ،‬وقال‪( :‬أنا شهيد على هؤلء يوم القيامة) ‪ .‬ودفن عبد ال بن عمرو بن حرام وعمرو بن الموح‬
‫ف قب واحد لا كان بينهما من الحبة ‪.‬‬

‫وفقدوا نعش حنظلة‪ ،‬فتفقدوه فوجدوه ف ناحية فوق الرض يقطر منه الاء‪ ،‬فأخب رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أصحابه أن اللئكة تغسله‪ ،‬ث قال‪( :‬سلوا أهله ما شأنه؟) فسألوا امرأته‪ ،‬فأخبتم الب‪.‬ومن‬
‫هنا سي حنظلة‪ :‬غسيل اللئكة ‪.‬‬

‫ولا رأى ما بمزة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه‪ ،‬وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها‬
‫حزة‪ ،‬فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ابنها الزبي أن يصرفها‪ ،‬ل تري ما بأخيها‪ ،‬فقالت‪ :‬ول؟ وقد‬
‫بلغن أن قد مُثّلَ بأخي‪ ،‬وذلك ف ال‪ ،‬فما أرضانا با كان من ذلك‪ ،‬لحتسب ولصبن إن شاء ال‪ ،‬فأتته‬
‫فنظرت إليه‪ ،‬فصلت عليه ـ دعت له ـ واسترجعت واستغفرت له‪ .‬ث أمر رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم بدفنه مع عبد ال بن جحش ـ وكان ابن أخته‪ ،‬وأخاه من الرضاعة‪.‬‬

‫قال ابن مسعود‪ :‬ما رأينا رسول ال صلى ال عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حزة بن عبد‬
‫الطلب‪.‬وضعه ف القبلة‪ ،‬ث وقف على جنازته وانتحب حت نَشَع من البكاء ـ والنشع‪ :‬الشهيق‪.‬‬

‫وكان منظر الشهداء مريعا جدا يفتت الكباد‪ .‬قال خباب‪ :‬إن حزة ل يوجد له كفن إل بردة مَ ْلحَاء‪ ،‬إذا‬
‫جعلت على رأسه َقلَصَت عن قدميه‪ ،‬وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه‪ ،‬حت مدت على رأسه‪،‬‬
‫وجعل على قدميه الِ ْذخَر ‪.‬‬

‫وقال عبد الرحن بن عوف‪ :‬قتل مصعب بن عمي وهو خي من‪ ،‬كفن ف بردة إن غطي رأسه بدت‬
‫رجله‪ ،‬وإن غطي رجله بدا رأسه ‪ ،‬وروي مثل ذلك عن خباب‪ ،‬وفيه‪ :‬فقال لنا النب صلى ال عليه‬
‫وسلم‪( :‬غطوا با رأسه‪ ،‬واجعلوا على رجليه الذخر)‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يثن على ربه عز وجل ويدعوه‬


‫روي المام أحد‪ :‬لا كان يوم أحد وانكفأ الشركون‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬استووا حت‬
‫أثن على رب عز وجل)‪ ،‬فصاروا خلفه صفوفا‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫(اللهم لك المد كله‪ ،‬اللهم ل قابض لا بسطت‪ ،‬ول باسط لا قبضت‪ ،‬ول هادي لن أضللت‪ ،‬ول مضل‬
‫لن هديت‪ ،‬ول معطي لا منعت‪ ،‬ول مانع لا أعطيت‪ ،‬ول مقرب لا باعدت‪ ،‬ول مبعد لا قربت‪ .‬اللهم‬
‫ابسط علينا من بركاتك ورحتك وفضلك ورزقك)‪.‬‬

‫(اللهم إن أسألك النعيم القيم‪ ،‬الذي ل يُول ول يزول‪ .‬اللهم إن أسألك العون يوم العيلة‪ ،‬والمن يوم‬
‫الوف‪ .‬اللهم إن عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا‪ .‬اللهم حبب إلينا اليان وزينه ف قلوبنا‪،‬‬
‫وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬واجعلنا من الراشدين‪ .‬اللهم توفنا مسلمي‪ ،‬وأحينا مسلمي‪،‬‬
‫وألقنا بالصالي‪ ،‬غي خزايا ول مفتوني‪ .‬اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك‪ ،‬ويصدون عن‬
‫سبيلك‪ ،‬واجعل عليهم رجزك وعذابك‪ .‬اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب‪ ،‬إله الق)‪.‬‬

‫الرجوع إل الدينة‪ ،‬ونوادر الب والتفان‬


‫ولا فرغ رسول ال من دفن الشهداء والثناء على ال والتضرع إليه‪ ،‬انصرف راجعا إل الدينة‪ ،‬وقد‬
‫ظهرت له نوادر الب والتفان من الؤمنات الصادقات‪ ،‬كما ظهرت من الؤمني ف أثناء العركة‪.‬‬

‫لقيته ف الطريق حَمْنَة بنت جحش‪َ ،‬فُنعِي إليها أخوها عبد ال بن جحش فاسترجعت واستغفرت له‪ ،‬ث‬
‫نعي لا خالا حزة بن عبد الطلب‪ ،‬فاسترجعت واستغفرت‪ ،‬ث نعي لا زوجها مصعب بن عمي‪ ،‬فصاحت‬
‫وولوت‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن زوج الرأة منها لبِمَكان) ‪.‬‬

‫ومر بامرأة من بن دينار‪ ،‬وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد‪ ،‬فلما نعوا لا قالت‪ :‬فما فعل رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم؟ قالوا‪ :‬خيا يا أم فلن‪ ،‬هو بمد ال كما تبي‪ ،‬قالت‪ :‬أرونيه حت أنظر إليه‪ ،‬فأشي‬
‫إليها حت إذا رأته قالت‪ :‬كل مصيبة بعدك جَ َللٌ ـ تريد صغية‪.‬‬

‫وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو‪ ،‬وسعد آخذ بلجام فرسه‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أمي‪ ،‬فقال‪( :‬مرحبا‬
‫با)‪ ،‬ووقف لا‪ ،‬فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ‪ .‬فقالت‪ :‬أما إذ رأيتك سالا فقد اشتويت الصيبة ـ‬
‫أي استقللتها ـ ث دعا لهل من قتل بأحد‪ ،‬وقال‪( :‬يا أم سعد‪ ،‬أبشري وبشري أهلهم أن قتلهم ترافقوا‬
‫ف النة جيعا‪ ،‬وقد شفعوا ف أهلهم جيعا)‪ .‬قالت‪ :‬رضينا يا رسول ال‪ ،‬ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ث‬
‫قالت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ادع لن خلفوا منهم‪ ،‬فقال‪( :‬اللهم أذهب حزن قلوبم‪ ،‬واجب مصيبتهم‪ ،‬وأحسن‬
‫الَلفَ على من خُ ّلفُوا) ‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم ف الدينة‬


‫وانتهي رسول ال صلى ال عليه وسلم مساء ذلك اليوم ـ يوم السبت السابع من شهر شوال سنة‬
‫‪3‬هـ ـ إل الدينة‪ .‬فلما انتهي إل أهله ناول سيفه ابنته فاطمة‪ ،‬فقال‪( :‬اغسلي عن هذا دمه يا بنية‪،‬‬
‫فوال لقد صدقن اليوم)‪ ،‬وناولا على بن أب طالب سيفه‪ ،‬فقال‪ :‬وهذا أيضا فاغسلي عنه دمه‪ ،‬فوال لقد‬
‫صدقن اليوم‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬لئن كنت صدقت القتال‪ ،‬لقد صدق معك سهل بن‬
‫حُنَيف وأبو دُجَانة) ‪.‬‬

‫قتلى الفريقي‬
‫اتفقت جل الروايات على أن قتلي السلمي كانوا سبعي‪ ،‬وكانت الغلبية الساحقة من النصار؛ فقد قتل‬
‫منهم خسة وستون رجلً‪ ،‬واحد وأربعون من الزرج‪ ،‬وأربعة وعشرون من الوس‪ ،‬وقتل رجل من‬
‫اليهود‪ .‬وأما شهداء الهاجرين فكانوا أربعة فقط‪.‬‬

‫وأما قتلي الشركي فقد ذكر ابن إسحاق أنم اثنان وعشرون قتيلً‪ ،‬ولكن الحصاء الدقيق ـ بعد تعميق‬
‫النظر ف جيع تفاصيل العركة الت ذكرها أهل الغازي والسي‪ ،‬والت تتضمن ذكر قتلي الشركي ف‬
‫متلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلي الشركي سبعة وثلثون‪ ،‬ل اثنان وعشرون‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬

‫حالة الطوارئ ف الدينة‬


‫بات السلمون ف الدينة ـ ليلة الحد الثامن من شهر شوال سنة ‪ 3‬هـ بعد الرجوع من معركة أحد ـ‬
‫وهم ف حالة الطوارئ‪ ،‬باتوا ـ وقد أنكهم التعب‪ ،‬ونال منهم أي منال ـ يرسون أنقاب الدينة‬
‫ومداخلها‪ ،‬ويرسون قائدهم العلى رسول ال صلى ال عليه وسلم خاصة ؛ إذ كانت تتلحقهم‬
‫الشبهات من كل جانب‪.‬‬

‫غزوة حراء السد‬


‫وبات الرسول صلى ال عليه وسلم وهو يفكر ف الوقف‪ ،‬فقد كان ياف أن الشركي إن فكروا ف أنم ل‬
‫يستفيدوا شيئا من النصر والغلبة الت كسبوها ف ساحة القتال‪ ،‬فل بد من أن يندموا على ذلك‪ ،‬ويرجعوا‬
‫من الطريق لغزو الدينة مرة ثانية‪ ،‬فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة اليش الكي‪.‬‬

‫قال أهل الغازي ما حاصله‪ :‬إن النب صلى ال عليه وسلم نادي ف الناس‪ ،‬وندبم إل السي إل لقاء العدو‬
‫ـ وذلك صباح الغد من معركة أحد‪ ،‬أي يوم الحد الثامن من شهر شوال سنة ‪ 3‬هـ ـ وقال‪( :‬ل‬
‫يرج معنا إل من شهد القتال)‪ ،‬فقال له عبد ال بن أب‪ :‬أركب معك؟ قال‪( :‬ل)‪ ،‬واستجاب له السلمون‬
‫على ما بم من الرح الشديد‪ ،‬والوف الزيد‪ ،‬وقالوا‪ :‬سعا وطاعة‪ .‬واستأذنه جابر بن عبد ال‪ ،‬وقال‪ :‬يا‬
‫رسول ال‪ ،‬إن أحب أل تشهد مشهدا إل كنت معك‪ ،‬وإنا خلفن أب على بناته فائذن ل أسي معك‪،‬‬
‫فأذن له‪.‬‬

‫وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمون معه حت بلغوا حراء السد‪ ،‬على بعد ثانية أميال من‬
‫الدينة‪ ،‬فعسكروا هناك‪.‬‬
‫وهناك أقبل مَعْبَد بن أب معبد الزاعي إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فأسلم ـ ويقال‪ :‬بل كان على‬
‫شركه‪ ،‬ولكنه كان ناصحا لرسول ال صلى ال عليه وسلم لا كان بي خزاعة وبن هاشم من اللف ـ‬
‫فقال‪ :‬يا ممد‪ ،‬أما وال لقد عز علينا ما أصابك ف أصحابك‪ ،‬ولوددنا أن ال عافاك‪ .‬فأمره رسول ال‬
‫خذّلَه‪.‬‬
‫صلى ال عليه وسلم أن يلحق أبا سفيان فَُي َ‬

‫ول يكن ما خافه رسول ال صلى ال عليه وسلم من تفكي الشركي ف العودة إل الدينة إل حقا‪ ،‬فإنم لا‬
‫نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلثي ميلً من الدينة تلوموا فيما بينهم‪ ،‬قال بعضهم لبعض‪:‬ل تصنعوا‬
‫شيئا‪ ،‬أصبتم شوكتهم وحدهم‪ ،‬ث تركتموهم‪ ،‬وقد بقي منهم رءوس يمعون لكم‪ ،‬فارجعوا حت نستأصل‬
‫شأفتهم‪.‬‬

‫ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحيا من ل يكن يقدر قوة الفريقي ومعنوياتم تقديرا صحيحا ؛ ولذلك‬
‫خالفهم زعيم مسئول [صفوان بن أمية] قائلً‪ :‬يا قوم‪ ،‬لتفعلوا فإن أخاف أن يمع عليكم من تلف من‬
‫الروج ـ أي من السلمي ف غزوة أحد ـ فارجعوا والدولة لكم‪ ،‬فإن ل آمن إن رجعتم أن تكون‬
‫الدولة عليكم‪ .‬إل أن هذا الرأي رفض أمام رأي الغلبية الساحقة‪ ،‬وأجع جيش مكة على السي نو‬
‫الدينة‪ .‬ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بيشه من مقره لقه معبد بن أب معبد الزاعي ول يكن يعرف أبو‬
‫سفيان بإسلمه‪ ،‬فقال‪ :‬ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد ـ وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة‪ :‬ممد‬
‫قد خرج ف أصحابه‪ ،‬يطلبكم ف جع ل أر مثله قط‪ ،‬يتحرقون عليكم ترقا‪ ،‬قد اجتمع معه من كان تلف‬
‫عنه ف يومكم‪ ،‬وندموا على ما ضيعوا‪ ،‬فيهم من النق عليكم شيء ل أر مثله قط‪.‬‬

‫قال أبو سفيان‪ :‬ويك‪ ،‬ما تقول؟‬


‫قال‪ :‬وال ما أري أن ترتل حت تري نواصي اليل ـ أو ـ حت يطلع أول اليش من وراء هذه الكمة‪.‬‬

‫فقال أبو سفيان‪ :‬وال لقد أجعنا الكرة عليهم لنستأصلهم‪.‬‬


‫قال‪ :‬فل تفعل‪ ،‬فإن ناصح‪.‬‬

‫وحينئذ انارت عزائم اليش الكي وأخذه الفزع والرعب‪ ،‬فلم ير العافية إل ف مواصلة النسحاب‬
‫والرجوع إل مكة‪ ،‬بيد أن أبا سفيان قام برب أعصاب دعائية ضد اليش السلمي‪ ،‬لعله ينجح ف كف‬
‫هذا اليش عن مواصلة الطاردة‪ ،‬وطبعا فهو ينجح ف تنب لقائه‪ .‬فقد مر به ركب من عبد القيس يريد‬
‫الدينة‪ ،‬فقال‪ :‬هل أنتم مبلغون عن ممدا رسالة‪ ،‬وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إل مكة؟‬

‫قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأبلغوا ممدا أنا قد أجعنا الكرة ؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه‪.‬‬
‫فمر الركب برسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬وهم بمراء السد‪ ،‬فأخبهم بالذي قال له أبو‬
‫سفيان‪ ،‬وقالوا‪{ :‬إِ ّن النّاسَ َقدْ جَ َمعُواْ لَ ُكمْ فَاخْشَوْ ُهمْ فَزَادَ ُهمْ} ـ أي زاد السلمي قولم ذلك ـ {إِيَانا‬
‫سسْ ُهمْ سُوءٌ وَاتّبَعُواْ رِضْوَا َن الِ وَالُ ذُو‬
‫وَقَالُواْ حَسُْبنَا الُ َونِ ْع َم الْ َوكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِِنعْ َمةٍ مّ َن الِ وَ َفضْلٍ لّمْ يَمْ َ‬
‫ضلٍ َعظِيمٍ}[آل عمران‪.]174 ،173 :‬‬
‫فَ ْ‬

‫أقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بمراء السد ـ بعد مقدمه يوم الحد ـ الثني والثلثاء والربعاء‬
‫ـ ‪ 11 ،10 ،9‬شوال سنة ‪ 3‬هـ ـ ث رجع إل الدينة‪ ،‬وأخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل‬
‫الرجوع إل الدينة أبا عَزّة المحي ـ وهو الذي كان قد منّ عليه من أساري بدر ؛ لفقره وكثرة بناته‪،‬‬
‫على أل يظاهر عليه أحدا‪ ،‬ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النب صلى ال عليه وسلم‬
‫والسلمي‪ ،‬كما أسلفنا‪ ،‬وخرج لقاتلتهم ف أحد ـ فلما أخذه رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬يا‬
‫ممد‪ ،‬أقلن‪ ،‬وامنن على‪ ،‬ودعن لبنات‪ ،‬وأعطيك عهدا أل أعود لثل ما فعلت‪ ،‬فقال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪( :‬ل تسح عارضيك بكة بعدها وتقول‪ :‬خدعت ممدا مرتي‪ ،‬ل يلدغ الؤمن من جحر مرتي)‪ ،‬ث‬
‫أمر الزبي أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه‪.‬‬

‫كما حكم بالعدام ف جاسوس من جواسيس مكة‪ ،‬وهو معاوية بن الغية بن أب العاص جد عبد اللك بن‬
‫مروان لمه ؛ وذلك أنه لا رجع الشركون يوم أحد جاء معاوية هذا إل ابن عمه عثمان بن عفان رضي‬
‫ال عنه فاستأمن له عثمان رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلث قتله‪ .‬فلما‬
‫خلت الدينة من اليش السلمي أقام فيها أكثر من ثلث يتجسس لساب قريش‪ ،‬فلما رجع اليش‬
‫خرج معاوية هاربا‪ ،‬فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم زيد بن حارثة وعمار بن ياسر‪ ،‬فتعقباه حت قتله‬
‫‪.‬‬
‫وما ل شك فيه أن غزوة حراء السد ليست بغزوة مستقلة‪ ،‬وإنا هي جزء من غزوة أحد‪ ،‬وتتمة لا‬
‫وصفحة من صفحاتا‪.‬‬

‫تلك هي غزوة أحد بميع مراحلها وتفاصيلها‪ ،‬وطالا بث الباحثون حول مصي هذه الغزوة‪ ،‬هل كانت‬
‫هزية أم ل؟ والذي ل يشك فيه أن التفوق العسكري ف الصفحة الثانية من القتال كان للمشركي‪ ،‬وأنم‬
‫كانوا مسيطرين على ساحة القتال‪ ،‬وأن خسارة الرواح والنفوس كانت ف جانب السلمي أكثر وأفدح‪،‬‬
‫وأن طائفة من الؤمني انزمت قطعا‪ ،‬وأن دفة القتال جرت لصال اليش الكي‪ ،‬لكن هناك أمور تنعنا أن‬
‫نعب عن كل ذلك بالنصر والفتح‪.‬‬

‫فمما ل شك فيه أن اليش الكي ل يستطع احتلل معسكر السلمي‪ ،‬وأن القدار الكبي من اليش الدن‬
‫ل يلتجئ إل الفرار ـ مع الرتباك الشديد والفوضي العامة ـ بل قاوم بالبسالة حت تمع حول مقر‬
‫قيادته‪ ،‬وأن كفته ل تسقط إل حد أن يطارده اليش الكي‪ ،‬وأن أحدا من جيش الدينة ل يقع ف أسر‬
‫الكفار‪ ،‬وأن الكفار ل يصلوا على شيء من غنائم السلمي‪ ،‬وأن الكفار ل يقوموا إل الصفحة الثالثة من‬
‫القتال مع أن جيش السلمي ل يزل ف معسكره‪ ،‬وأنم ل يقيموا بساحة القتال يوما أو يومي أو ثلثة أيام‬
‫ـ كما هو دأب الفاتي ف ذلك الزمان ـ بل سارعوا إل النسحاب وترك ساحة القتال قبل أن يتركها‬
‫السلمون‪ ،‬ول يترئوا على الدخول ف الدينة لنهب الذراري والموال‪ ،‬مع أنا على بعد عدة خطوات‬
‫فحسب‪ ،‬وكانت مفتوحة وخالية تاما‪.‬‬

‫كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش ل يكن أكثر من أنم وجدوا فرصة نحوا فيها بإلاق السائر‬
‫الفادحة بالسلمي‪ ،‬مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة اليش السلمي بعد عمل التطويق ـ‬
‫وكثيا ما يلقي الفاتون بثل هذه السائر الت نالا السلمون ـ أما أن ذلك كان نصرا وفتحا فكل‬
‫وحاشا‪.‬‬

‫بل يؤكد لنا تعجيل أب سفيان ف النسحاب والنصراف أنه كان ياف على جيشه العرة والزية لو‬
‫جرت صفحة ثالثة من القتال‪ ،‬ويزداد ذلك تأكدا حي ننظر إل موقف أب سفيان من غزوة حراء السد‪.‬‬
‫وإذن فهذه الغزوة إنا كانت حربا غي منفصلة‪ ،‬أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والسارة‪ ،‬ث‬
‫حاد كل منها عن القتال من غي أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لحتلل العدو‪ ،‬وهذا هو معن‬
‫الرب غي النفصلة‪.‬‬

‫وإل هذا يشي قوله تعإل‪{ :‬وَلَ تَهِنُواْ فِي ابِْتغَاء اْلقَوْمِ إِن تَكُونُواْ َتأْلَمُونَ َفِإنّ ُهمْ َيأْلَمُونَ كَمَا تَ ْألَمونَ‬
‫َوتَرْجُونَ مِنَ الِ مَا لَ يَرْجُونَ} [النساء‪ ،]104 :‬فقد شبه أحد العسكرين بالخر ف التأل وإيقاع الل‪،‬‬
‫ما يفيد أن الوقفي كانا متماثلي‪ ،‬وأن الفريقي رجعا وكل غي غالب‪.‬‬

‫القرآن يتحدث حول موضوع العركة‬

‫ونزل القرآن يلقي ضوءا على جيع الراحل الهمة من هذه العركة مرحلة مرحلة‪ ،‬وصرح بالسباب الت‬
‫أدت إل هذه السارة الفادحة‪ ،‬وأبدي النواحي الضعيفة الت ل تزل موجودة ف طوائف أهل اليان‬
‫بالنسبة إل واجبهم ف مثل هذه الواقف الاسة‪ ،‬وبالنسبة إل الهداف النبيلة السامية الت أنشئت‬
‫للحصول عليها هذه المة‪ ،‬والت تتاز عن غيها بكونا خي أمة أخرجت للناس‪.‬‬

‫كما تدث القرآن عن موقف النافقي‪ ،‬ففضحهم وأبدي ما كان ف باطنهم من العداوة ل ولرسوله‪ ،‬مع‬
‫إزالة الشبهات والوساوس الت كانت تتلج ف قلوب ضعفاء السلمي‪ ،‬والت كان يثيها هؤلء النافقون‬
‫وإخوانم اليهود ـ أصحاب الدس والؤامرة ـ وقد أشار إل الكم والغايات الحمودة الت تخضت‬
‫عنها هذه العركة‪.‬‬

‫نزلت حول موضوع العركة ستون آية من سورة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل العركة‪:‬‬
‫{ َوإِذْ َغدَ ْوتَ مِنْ أَ ْه ِلكَ تُبَوّى ُء الْمُ ْؤمِنِيَ مَقَا ِعدَ لِ ْلقِتَالِ} [ آل عمران‪ ،] 121 :‬وتترك ف نايتها تعليقا‬
‫جامعا على نتائج هذه العركة وحكمتها‪ ،‬قال تعإل‪{ :‬مّا كَانَ الُ لَِيذَرَ الْمُ ْؤمِنِيَ َعلَى مَآ أَنُتمْ َعلَ ْيهِ َحتّىَ‬
‫يَمِي َز اْلخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ َومَا كَا َن الُ لُِيطْ ِلعَ ُكمْ َعلَى اْلغَيْبِ َولَكِ ّن الَ َيجْتَبِي مِن رّسُ ِلهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِالِ‬
‫وَ ُرسُ ِلهِ َوإِن تُ ْؤمِنُواْ َوتَّتقُواْ فَ َل ُكمْ أَجْرٌ َعظِيمٌ} [آل عمران‪.]179 :‬‬
‫الكم والغايات الحمودة ف هذه الغزوة‬
‫قد بسط ابن القيم الكلم على هذا الوضوع بسطا تاما ‪ .‬وقال ابن حجر‪ :‬قال العلماء‪ :‬وكان ف قصة‬
‫أحد وما أصيب به السلمون فيها من الفوائد والكم الربانية أشياء عظيمة‪ ،‬منها تعريف السلمي سوء‬
‫عاقبة العصية‪ ،‬وشؤم ارتكاب النهي؛ لا وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم أل يبحوا منه‪.‬‬

‫ومنها أن عادة الرسل أن تبتلي وتكون لا العاقبة‪ ،‬والكمة ف ذلك أنم لو انتصروا دائما دخل ف الؤمني‬
‫من ليس منهم‪ ،‬ول يتميز الصادق من غيه‪ ،‬ولو انكسروا دائما ل يصل القصود من البعثة‪ ،‬فاقتضت‬
‫الكمة المع بي المرين لتمييز الصادق من الكاذب‪ ،‬وذلك أن نفاق النافقي كان مفيا عن السلمي‪،‬‬
‫فلما جرت هذه القصة‪ ،‬وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريا‪ ،‬وعرف‬
‫السلمون أن لم عدوا ف دورهم‪ ،‬فاستعدوا لم وترزوا منهم‪.‬‬

‫ومنها أن ف تأخي النصر ف بعض الواطن هضـما للنفس‪ ،‬وكسرا لشـماختها‪ ،‬فلما ابتلي الؤمنـون‬
‫صـبوا‪ ،‬وجـزع النافقون‪.‬‬

‫ومنها أن ال هيأ لعباده الؤمني منازل ف دار كرامته ل تبلغها أعمالم‪ ،‬فقيض لم أسباب البتلء والحن‬
‫ليصلوا إليها‪.‬‬

‫ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الولياء فساقها إليهم‪.‬‬

‫ومنها أنه أراد إهلك أعدائه‪ ،‬فقيض لم السباب الت يستوجبون با ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانم ف‬
‫أذى أوليائه ‪ ،‬فمحص بذلك ذنوب الؤمني‪ ،‬ومق بذلك الكافرين‪.‬‬
‫السرايا والبعوث بي أحد والحزاب‬

‫سرية أب سلمة‬
‫بعث عبد ال بن أُنَيس‬
‫بعث الرّجِيع‬
‫مأساة بئر مَعُونة‬
‫غزوة بن النضي‬
‫غزوة ند‬
‫غزوة بدر الثانية‬
‫غزوة دُوَمة الندل‬

‫كان لأساة أحد أثر سيئ على سعة الؤمني‪ ،‬فقد ذهبت ريهم‪ ،‬وزالت هيبتهم عن النفوس‪ ،‬وزادت‬
‫التاعب الداخلية والارجية على الؤمني وأحاطت الخطار بالدينة من كل جانب‪ ،‬وكاشف اليهود‬
‫والنافقون والعراب بالعداء السافر‪ ،‬وهت كل طائفة منهم أن تنال من الؤمني‪ ،‬بل طمعت ف أن تقضي‬
‫عليهم وتستأصل شأفتهم‪.‬‬

‫فلم يض على هذه العركة شهران حت تيأت بنو أسد للغارة على الدينة‪ .‬ث قامت قبائل َعضَل وقَارَة ف‬
‫شهر صفر سنة ‪4‬هـ بكيدة تسببت ف قتل عشرة من الصحابة‪ ،‬وف نفس الشهر نفسه قام عامر بن‬
‫الطّفَيل العامري بتحريض بعض القبائل حت قتلوا سبعي من الصحابة‪ ،‬وتعرف هذه الوقعة بوقعة بئر‬
‫مَعُونَة‪ ،‬ول تزل بنو نضي خلل هذه الدة تاهر بالعداوة حت قامت ف ربيع الول سنة ‪ 4‬هـ بكيدة‬
‫تدف إل قتل النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وترأت بنو َغ َطفَان حت هت بالغزو على الدينة ف جادي‬
‫الول سنة ‪ 4‬هـ‪.‬‬

‫فريح السلمي الت كانت قد ذهبت ف معركة أحد تركت السلمي ـ إل حي ـ يهددون بالخطار‪،‬‬
‫ولكن تلك هي حكمة ممد صلى ال عليه وسلم الت صرفت وجوه التيارات‪ ،‬وأعادت للمسلمي هيبتهم‬
‫الفقودة‪ ،‬وأكسبتهم العلو والجد من جديد‪ .‬وأول ما أقدم عليه بذا الصدد هي حركة الطاردة الت قام‬
‫با إل حراء السد‪ ،‬فقد حفظ با قدرا من سعة جيشه‪ ،‬واستعاد با من مكانته شيئا مذكورا‪ ،‬ث قام‬
‫بناورات أعادت للمسلمي هيبتهم‪ ،‬بل زادت فيها‪ ،‬وف الصفحات التية شيء ما جري بي الطرفي‪.‬‬

‫سرية أب سلمة‬

‫أول من قام ضد السلمي بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزية‪ ،‬فقد نقلت استخبارات الدينة أن طلحة‬
‫وسلمة ابن خويلد قد سارا ف قومهما ومن أطاعهما يدعون بن أسد بن خزية إل حرب رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪.‬‬

‫فسارع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل بعث سرية قوامها مائة وخسون مقاتلً من الهاجرين‬
‫والنصار‪ ،‬وأمر عليهم أبا سلمة‪ ،‬وعقد له لواء‪ .‬وباغت أبو سلمة بن أسد بن خزية ف ديارهم قبل أن‬
‫يقوموا بغارتم‪ ،‬فتشتتوا ف المر‪ ،‬وأصاب السلمون إبل وشاء لم فاستاقوها‪ ،‬وعادوا إل الدينة سالي‬
‫غاني ل يلقوا حربا‪.‬‬

‫كان مبعث هذه السرية حي استهل هلل الحرم سنة ‪ 4‬هـ‪ .‬وعاد أبو سلمة وقد نفر عليه جرح كان‬
‫قد أصابه ف أحد‪ ،‬فلم يلبث حت مات‪.‬‬

‫بعث عبد ال بن ُأنَيس‬


‫وف اليوم الامس من نفس الشهر ـ الحرم سنة ‪ 4‬هـ ـ نقلت الستخبارات أن خالد بن سفيان‬
‫الذل يشد الموع لرب السلمي‪ ،‬فأرسل إليه النب صلى ال عليه وسلم عبد ال ابن أنيس ليقضي‬
‫عليه‪.‬‬
‫وظل عبد ال بن أنيس غائبا عن الدينة ثان عشرة ليلة‪ ،‬ث قدم يوم السبت لسبع بقي من الحرم‪ ،‬وقد‬
‫قتل خالدا وجاء برأسه‪ ،‬فوضعه بي يدي النب صلى ال عليه وسلم فأعطاه عصا وقال‪( :‬هذه آية بين‬
‫وبينك يوم القيامة)‪ ،‬فلما حضرته الوفاة أوصي أن تعل معه ف أكفانه‪.‬‬

‫بعث الرّجِيع‬
‫وف شهر صفر من نفس السنة ـ أي الرابعة من الجرة ـ قدم على رسول ال صلى ال عليه وسلم قوم‬
‫من َعضَل وقَارَة‪ ،‬وذكروا أن فيهم إسلما‪ ،‬وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين‪ ،‬ويقرئهم القرآن‪،‬‬
‫فبعث معهم ستة نفر ـ ف قول ابن إسحاق‪ ،‬وف رواية البخاري أنم كانوا عشرة ـ وأمر عليهم مَ ْرثَد بن‬
‫أب مَرْثَد الغَنَوِي ـ ف قول ابن إسحاق‪ ،‬وعند البخاري أنه عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن‬
‫الطاب ـ فذهبوا معهم‪ ،‬فلما كانوا بالرجيع ـ وهو ماء ُلذَيلِ بناحية الجاز بي رَابِغ و ُجدّة ـ‬
‫استصرخوا عليهم حيا من هذيل يقال لم‪ :‬بنو لَحْيَان‪ ،‬فتبعوهم بقريب من مائة رام‪ ،‬واقتصوا آثارهم حت‬
‫لقوهم‪ ،‬فأحاطوا بم ـ وكانوا قد لأوا إل َفدْفَد ـ وقالوا ‪ :‬لكم العهد واليثاق إن نزلتم إلينا أل نقتل‬
‫منكم رجلً‪ .‬فأما عاصم فأب من النول وقاتلهم ف أصحابه‪ ،‬فقتل منهم سبعة بالنبل‪ ،‬وبقي ُخبَيب وزيد‬
‫بن ال ّدثِّنةِ ورجل آخر‪ ،‬فأعطوهم العهد واليثاق مرة أخري‪ ،‬فنلوا إليهم ولكنهم غدروا بم وربطوهم‬
‫بأوتار قِسِيهم‪ ،‬فقال الرجل الثالث ‪ :‬هذا أول الغدر‪ ،‬وأب أن يصحبهم‪ ،‬فجرروه وعالوه على أن‬
‫يصحبهم فلم يفعل فقتلوه‪ ،‬وانطلقوا ببيب وزيد فباعوها بكة‪ ،‬وكانا قتل من رءوسهم يوم بدر‪ ،‬فأما‬
‫خبيب فمكث عندهم مسجونا‪ ،‬ث أجعوا على قتله‪ ،‬فخرجوا به من الرم إل التنعيم‪ ،‬فلما أجعوا على‬
‫صلبه قال ‪ :‬دعون حت أركع ركعتي‪ ،‬فتركوه فصلها‪ ،‬فلما سلم قال‪ :‬وال لول أن تقولوا‪ :‬إن ما ب‬
‫جزع لزدت‪ ،‬ث قال‪:‬اللهم أحْصِ ِهمْ َعدَدًا‪ ،‬واقتلهم بَدَدًا ‪ ،‬ول تُبْقِ منهم أحدا‪ ،‬ث قال‪ :‬فقال له أبو سفيان‪:‬‬
‫أيسرك أن ممدا عندنا نضرب عنقه‪ ،‬وأنك ف أهلك؟ فقال‪ :‬ل وال‪ ،‬ما يسرن أن ف أهلي وأن ممدا ف‬
‫مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه‪ .‬ث صلبوه ووكلوا به من يرس جثته‪ ،‬فجاء عمرو بن أمية‬
‫الضمري‪ ،‬فاحتمله بدعة ليلً‪ ،‬فذهب به فدفنه‪ ،‬وكان الذي تول قتل خبيب هو عقبة بن الارث‪ ،‬وكان‬
‫خبيب قد قتل أباه حارثا يوم بدر‪.‬‬

‫وف الصحيح أن خبيبا أول من سن الركعتي عند القتل‪ ،‬وأنه رئي وهو أسي يأكل ِق ْطفًا من العنب‪ ،‬وما‬
‫بكة ثرة‪.‬‬
‫وأما زيد بن ال ّدثِنّة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه‪.‬‬

‫وبعثت قريش إل عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه ـ وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم‬
‫بدر ـ فبعث ال عليه مثل الظّلّة من الدّبْر ـ الزنابي ـ فحمته من رسلهم‪ ،‬فلم يقدروا منه على شيء‪.‬‬
‫وكان عاصم أعطي ال عهدا أل يسه مشرك ول يس مشركا‪ .‬وكان عمر لا بلغه خبه يقول‪ :‬يفظ ال‬
‫العبد الؤمن بعد وفاته كما يفظه ف حياته ‪.‬‬

‫مأساة بئر مَعُونة‬


‫وف الشهر نفسه الذي وقعت فيه مأساة الرّجِيع وقعت مأساة أخري أشد وأفظع من الول‪ ،‬وهي الت‬
‫تعرف بوقعة بئر معونة‪.‬‬

‫وملخصها ‪ :‬أن أبا براء عامر بن مالك الدعو ُبلَعِب السِنّة قدم على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫الدينة‪ ،‬فدعاه إل السلم فلم يسلم ول يبعد‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬لو بعثت أصحابك إل أهل َنجْد‬
‫يدعونم إل دينك لرجوت أن ييبوهم‪ ،‬فقال‪( :‬إن أخاف عليهم أهل ند)‪ ،‬فقال أبو بَرَاء ‪ :‬أنا جَارٌ لم‪،‬‬
‫فبعث معه أربعي رجلً ـ ف قول ابن إسحاق‪ ،‬وف الصحيح أنم كانوا سبعي‪ ،‬والذي ف الصحيح هو‬
‫الصحيح ـ وأمر عليهم النذر بن عمرو أحد بن ساعدة اللقب با ُلعْنِقَ لِيمُوت ‪ ،‬وكانوا من خيار السلمي‬
‫وفضلئهم وساداتم وقرائهم‪ ،‬فساروا يتطبون بالنهار‪ ،‬يشترون به الطعام لهل الصفة‪ ،‬ويتدارسون‬
‫القرآن ويصلون بالليل‪ ،‬حت نزلوا بئر معونة ـ وهي أرض بي بن عامر و َحرّة بن ُسلَيْم ـ فنلوا هناك‪،‬‬
‫ث بعثوا حرام بن مِ ْلحَان أخا أم سليم بكتاب رسول ال صلى ال عليه وسلم إل عدو ال عامر بن‬
‫الطّفَيْل‪ ،‬فلم ينظر فيه‪ ،‬وأمر رجلً فطعنه بالربة من خلفه‪ ،‬فلما أنفذها فيه ورأى الدم‪ ،‬قال حرام ‪ :‬ال‬
‫أكب‪ ،‬فُ ْزتُ ورب الكعبة‪.‬‬

‫ث استنفر عدو ال لفوره بن عامر إل قتال الباقي‪ ،‬فلم ييبوه لجل جوار أب براء‪ ،‬فاستنفر بن سليم‪،‬‬
‫فأجابته عُصَيّة ورِعْل و َذكَوان‪ ،‬فجاءوا حت أحاطوا بأصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقاتلوا‬
‫حت قتلوا عن آخرهم إل كعب بن زيد بن النجار‪ ،‬فإنه ا ْرتُثّ من بي القتلي‪ ،‬فعاش حت قتل يوم الندق‪.‬‬
‫وكان عمرو بن أمية الضمري والنذر بن عقبة بن عامر ف سرح السلمي فرأيا الطي توم على موضع‬
‫الوقعة‪ ،‬فنل النذر‪ ،‬فقاتل الشركي حت قتل مع أصحابه‪ ،‬وأسر عمرو بن أمية الضمري‪ ،‬فلما أخب أنه‬
‫من مُضَر جَزّ عامر ناصيته‪ ،‬وأعتقه عن رقبة كانت على أمه‪.‬‬

‫ل معه أنباء الصاب الفادح‪ ،‬مصرع‬


‫ورجع عمرو بن أمية الضمري إل النب صلى ال عليه وسلم حام ً‬
‫سبعي من أفاضل السلمي‪ ،‬تذكر نكبتهم الكبية بنكبة أحد ؛ إل أن هؤلء ذهبوا ف قتال واضح ؛‬
‫وأولئك ذهبوا ف غدرة شائنة‪.‬‬

‫ولا كان عمرو بن أمية ف الطريق بالقَرْ َقرَة من صدر قناة‪ ،‬نزل ف ظل شجرة‪ ،‬وجاء رجلن من بن كلب‬
‫فنل معه‪ ،‬فلما ناما فتك بما عمرو‪ ،‬وهو يري أنه قد أصاب ثأر أصحابه‪ ،‬وإذا معهما عهد من رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ل يشعر به‪ ،‬فلما قدم أخب رسول ال صلى ال عليه وسلم با فعل‪ ،‬فقال ‪(:‬لقد قتلت‬
‫قتيلي ل ِديَنّهما)‪ ،‬وانشغل بمع ديتهما من السلمي ومن حلفائهم اليهود ‪ ،‬وهذا الذي صار سببا لغزوة‬
‫بن النضي‪ ،‬كما سيذكر‪.‬‬

‫وقد تأل النب صلى ال عليه وسلم لجل هذه الأساة‪ ،‬ولجل مأساة الرجيع اللتي وقعتا خلل أيام معدودة‬
‫‪ ،‬تألا شديدا‪ ،‬وتغلب عليه الزن والقلق ‪ ،‬حت دعا على هؤلء القوام والقبائل الت قامت بالغدر والفتك‬
‫ف أصحابه‪ .‬ففي الصحيح عن أنس قال ‪ :‬دعا النب صلى ال عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر‬
‫صتْ ال‬
‫معونة ثلثي صباحا‪ ،‬يدعو ف صلة الفجر على رِعْل و َذكْوَان وَلحْيَان وعُصَية‪ ،‬ويقول‪ُ (:‬عصَية عَ َ‬
‫ورسوله)‪ ،‬فأنزل ال تعال على نبيه قرآنا قرأناه حت نسخ بعد‪( :‬بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا‬
‫ورضينا عنه) فترك رسول ال صلى ال عليه وسلم قُنُوتَه ‪.‬‬

‫غزوة بن النضي‬
‫قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على السلم والسلمي إل أنم ل يكونوا أصحاب حرب وضرب‪ ،‬بل‬
‫كانوا أصحاب دس ومؤامرة‪ ،‬فكانوا ياهرون بالقد والعداوة‪ ،‬ويتارون أنواعا من اليل ؛ ليقاع‬
‫اليذاء بالسلمي دون أن يقوموا للقتال مع ما كان بينهم وبي السلمي من عهود ومواثيق‪ ،‬وأنم بعد‬
‫وقعة بن قينقاع وقتل كعب بن الشرف خافوا على أنفسهم فاستكانوا والتزموا الدوء والسكوت‪.‬‬
‫ولكنهم بعد وقعة أحد ترأوا‪ ،‬فكاشفوا بالعداوة والغدر‪ ،‬وأخذوا يتصلون بالنافقي وبالشركي من أهل‬
‫مكة سرا‪ ،‬ويعملون لصالهم ضد السلمي ‪.‬‬

‫وصب النب صلى ال عليه وسلم حت ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرّجِيع وبئر َمعُونة‪ ،‬حت قاموا‬
‫بؤامرة تدف القضاء على النب صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وبيان ذلك‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم خرج إليهم ف نفر من أصحابه‪ ،‬وكلمهم أن يعينوه ف دية الكلبيي‬
‫اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضّ ْمرِي ـ وكان ذلك يب عليهم حسب بنود العاهدة ـ فقالوا ‪ :‬نفعل يا‬
‫أبا القاسم‪ ،‬اجلس ها هنا حت نقضي حاجتك‪ .‬فجلس إل جنب جدار من بيوتم ينتظر وفاءهم با وعدوا‪،‬‬
‫وجلس معه أبو بكر وعمر وعلى وطائفة من أصحابه‪.‬‬

‫وخل اليهود بعضهم إل بعض‪ ،‬وسول لم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم‪ ،‬فتآمروا بقتله صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وقالوا ‪ :‬أيكم يأخذ هذه الرحي‪ ،‬ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه با؟‪ ...‬فقال أشقاهم‬
‫عمرو بن جحاش‪ :‬أنا‪ .‬فقال لم َسلّم بن مِشْكَم‪ :‬ل تفعلوا‪ ،‬فوال ليخبن با همتم به‪ ،‬وإنه لنقض للعهد‬
‫الذي بيننا وبينه‪ .‬ولكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم‪.‬‬

‫ونزل جبيل من عند رب العالي على رسوله صلى ال عليه وسلم يعلمه با هوا به‪ ،‬فنهض مسرعا‬
‫وتوجه إل الدينة‪ ،‬ولقه أصحابه فقالوا ‪ :‬نضت ول نشعر بك‪ ،‬فأخبهم با َهمّتْ به يهود‪.‬‬

‫وما لبث رسول ال صلى ال عليه وسلم أن بعث ممد بن مسلمة إل بن النضي يقول لم ‪( :‬اخرجوا من‬
‫الدينة ول تساكنون با‪ ،‬وقد أجلتكم عشرا‪ ،‬فمن وجدت بعد ذلك با ضربت عنقه)‪ .‬ول يد يهود‬
‫مناصا من الروج‪ ،‬فأقاموا أياما يتجهزون للرحيل‪ ،‬بيد أن رئيس النافقي ـ عبد ال بن أب ـ بعث إليهم‬
‫أن اثبتوا وتَمَّنعُوا‪ ،‬ول ترجوا من دياركم‪ ،‬فإن معي ألفي يدخلون معكم حصنكم‪ ،‬فيموتون دونكم {لَئِنْ‬
‫أُخْرِجُْتمْ لَنَخْ ُرجَنّ َمعَ ُكمْ َولَا ُنطِيعُ فِي ُكمْ أَ َحدًا َأبَدًا َوإِن قُوتِلُْتمْ لَنَنصُ َرنّ ُكمْ} [الشر‪ ]11:‬وتنصركم‬
‫قريظة وحلفاؤكم من غطفان‪.‬‬
‫وهناك عادت لليهود ثقتهم‪ ،‬واستقر رأيهم على الناوأة‪ ،‬وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس‬
‫النافقي‪ ،‬فبعث إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ :‬إنا ل نرج من ديارنا‪ ،‬فاصنع ما بدا لك‪.‬‬

‫ول شك أن الوقف كان حرجا بالنسبة للمسلمي‪ ،‬فإن اشتباكهم بصومهم ف هذه الفترة الحرجة من‬
‫تاريهم ل يكن مأمون العواقب‪ ،‬وقد رأوا كَلَب العرب عليهم وفتكهم الشنيع ببعوثهم‪ ،‬ث إن يهود بن‬
‫النضي كانوا على درجة من القوة تعل استسلمهم بعيد الحتمال‪ ،‬وتعل فرض القتال معهم مفوفا‬
‫بالكاره‪ ،‬إل أن الال الت جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية السلمي برائم الغتيال‬
‫والغدر الت أخذوا يتعرضون لا جاعات وأفرادا‪ ،‬وضاعفت نقمتهم على مقترفيها‪ ،‬ومن ث قرروا أن‬
‫يقاتلوا بن النضي ـ بعد ههم باغتيال الرسول صلى ال عليه وسلم ـ مهما تكن النتائج‪.‬‬

‫فلما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم جواب حيي بن أخطب كب وكب أصحابه‪ ،‬ث نض لناجزة‬
‫القوم‪ ،‬فاستعمل على الدينة ابن أم مكتوم‪ ،‬وسار إليهم‪ ،‬وعلى بن أب طالب يمل اللواء‪ ،‬فلما انتهي إليهم‬
‫فرض عليهم الصار‪.‬‬

‫والتجأ بنو النضي إل حصونم‪ ،‬فأقاموا عليها يرمون بالنبل والجارة‪ ،‬وكانت نيلهم وبساتينهم عونا لم‬
‫ف ذلك‪ ،‬فأمر بقطعها وتريقها‪ ،‬وف ذلك يقول حسان‪:‬‬

‫وهان على سَرَاةِ بن لُؤي ** حـريـق بالبُ َويْرَةِ مسـتطيـر‬

‫[البويرة ‪ :‬اسم لنخل بن النضي] وف ذلك أنزل ال تعال‪{ :‬مَا َقطَعْتُم مّن لّيَنةٍ أَوْ تَ َركْتُمُوهَا قَائِ َمةً َعلَى‬
‫أُصُولِهَا فَِبإِ ْذ ِن الِ} [الشر‪.]5 :‬‬

‫واعتزلتهم قريظة‪ ،‬وخانم عبد ال بن أب وحلفاؤهم من غطفان‪ ،‬فلم ياول أحد أن يسوق لم خيا‪ ،‬أو‬
‫يدفع عنهم شرا‪ ،‬ولذا شبه سبحانه وتعإل قصتهم‪ ،‬وجعل مثلهم‪{:‬كَمَثَلِ الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ لِ ْلإِنسَا ِن ا ْكفُرْ‬
‫فَ َلمّا َكفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مّنكَ} [الشر‪]16 :‬‬

‫ول يطل الصار ـ فقد دام ست ليال فقط‪ ،‬وقيل ‪ :‬خس عشرة ليلة ـ حت قذف ال ف قلوبم الرعب‪،‬‬
‫فاندحروا وتيأوا للستسلم وللقاء السلح‪ ،‬فأرسلوا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬نن نرج عن‬
‫الدينة‪ .‬فأنزلم على أن يرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم‪ ،‬وأن لم ما حلت البل إل السلح‪.‬‬

‫فنلوا على ذلك‪ ،‬وخربوا بيوتم بأيديهم‪ ،‬ليحملوا البواب والشبابيك‪ ،‬بل حت حل بعضهم الوتاد‬
‫وجذوع السقف‪ ،‬ث حلوا النساء والصبيان‪ ،‬وتملوا على ستمائة بعي‪ ،‬فترحل أكثرهم وأكابرهم كحيي‬
‫لقَيق إل خيب‪ ،‬وذهبت طائفة منهم إل الشام‪ ،‬وأسلم منهم رجلن فقط ‪ :‬يامِيُ‬
‫بن أخطب وسلّم بن أب ا ُ‬
‫بن عمرو وأبو سعد بن وهب‪ ،‬فأحرزا أموالما‪.‬‬

‫وقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم سلح بن النضي‪ ،‬واستول على أرضهم وديارهم وأموالم‪ ،‬فوجد‬
‫من السلح خسي درعا وخسي بيضة‪ ،‬وثلثائة وأربعي سيفا‪.‬‬

‫وكانت أموال بن النضي وأرضهم وديارهم خالصة لرسول ال صلى ال عليه وسلم ؛ يضعها حيث يشاء‪،‬‬
‫ول يَمّسْها لن ال أفاءها عليه‪ ،‬ول يوجِف السلمون عليها بِخَيلٍ ول رِكاب‪ ،‬فقسمها بي الهاجرين‬
‫الولي خاصة‪ ،‬إل أنه أعطي أبا دُجَانة وسهل بن حُنَيف النصاريي لفقرها‪ .‬وكان ينفق منها على أهله‬
‫نفقة سنة‪ ،‬ث يعل ما بقي ف السلح والكُرَاع عدة ف سبيل ال‪.‬‬

‫كانت غزوة بن النضي ف ربيع الول سنة ‪ 4‬من الجرة‪ ،‬أغسطس ‪625‬م‪ ،‬وأنزل ال ف هذه الغزوة‬
‫سورة الشر بأكملها‪ ،‬فوصف طرد اليهود‪ ،‬وفضح مسلك النافقي‪ ،‬وبي أحكام الفيء‪ ،‬وأثن على‬
‫الهاجرين والنصار‪ ،‬وبي جواز القطع والرق ف أرض العدو للمصال الربية‪ ،‬وأن ذلك ليس من الفساد‬
‫ف الرض‪ ،‬وأوصي الؤمني بالتزام التقوي والستعداد للخرة‪ ،‬ث ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسائه‬
‫وصفاته‪.‬‬

‫وكان ابن عباس يقول عن سورة الشر ‪ :‬قل ‪ :‬سورة النضي ‪.‬‬

‫هذه خلصة ما رواه ابن إسحاق وعامة أهل السي حول هذه الغزوة‪ .‬وقد روي أبو داود وعبد الرزاق‬
‫وغيها سببا آخر حول هذه الغزوة‪ ،‬وهو أنه لا كانت وقعة بدر فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إل‬
‫اليهود ‪ :‬إنكم أهل اللقة والصون‪ ،‬وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا‪ ،‬ول يول بيننا وبي‬
‫َخدَم نسائكم شيء ـ وهو اللخيل ـ فلما بلغ كتابم اليهود أجعت بنو النضي على الغدر‪ ،‬فأرسلوا‬
‫إل النب صلى ال عليه وسلم ‪ :‬اخرج إلينا ف ثلثي رجلً من أصحابك‪ ،‬ولنخرج ف ثلثي حبا‪ ،‬حت‬
‫صفٌ بيننا وبينكم‪ ،‬فيسمعوا منك‪ ،‬فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا‪ ،‬فخرج النب‬
‫نلتقي ف مكان كذا‪ ،‬نَ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم ف ثلثي من أصحابه‪ ،‬وخرج إليه ثلثون حبا من يهود‪ ،‬حت إذا برزوا ف براز من‬
‫الرض قال بعض اليهود لبعض ‪ :‬كيف تلصون إليه ومعه ثلثون رجلً من أصحابه‪ ،‬كلهم يب أن يوت‬
‫قبله‪ ،‬فأرسلوا إليه ‪ :‬كيف تفهم ونفهم ونن ستون رجلً ؟ اخرج ف ثلثة من أصحابك ويرج إليك ثلثة‬
‫من علمائنا‪ ،‬فليسمعوا منك‪ ،‬فإن آمنوا بك آمنا كلنا وصدقناك‪ ،‬فخرج النب صلى ال عليه وسلم ف ثلثة‬
‫نفر من أصحابه واشتملوا [أي اليهود] على الناجر‪ ،‬وأرادوا الفتك برسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فأرسلت امرأة ناصحة من بن النضي إل بن أخيها‪ ،‬وهو رجل مسلم من النصار‪ ،‬فأخبته خب ما أرادت‬
‫بنو النضي من الغدر برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأقبل أخوها سريعا حت أدرك النب صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فساره ببهم قبل أن يصل النب صلى ال عليه وسلم إليهم‪ ،‬فرجع النب صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فلما كان من الغد غدا عليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم‪ ،‬وقال لم ‪( :‬إنكم‬
‫لتأمنون عندي إل بعهد تعاهدون عليه)‪ ،‬فأبوا أن يعطوه عهدا‪ ،‬فقاتلهم يومهم ذلك هو والسلمون‪ ،‬ث‬
‫غدا الغد على بن قريظة باليل والكتائب‪ ،‬وترك بن النضي‪ ،‬ودعاهم إل أن يعاهدوه‪ ،‬فعاهدوه‪ ،‬فانصرف‬
‫عنهم‪ ،‬وغدا إل بن النضي بالكتائب‪ ،‬فقاتلهم حت نزلوا على اللء‪ ،‬وعلى أن لم ما أقلت البل إل‬
‫الَلْقة ـ واللْقة‪ :‬السلح ـ فجاءت بنو النضي واحتملوا ما أقلت إبل من أمتعتهم وأبواب بيوتم‬
‫وخشبها‪ ،‬فكانوا يربون بيوتم فيهدمونا‪ ،‬فيحملون ما وافقهم من خشبها‪ ،‬وكان جلؤهم ذلك أول‬
‫حشر الناس إل الشام ‪.‬‬

‫غزوة ند‬
‫وبذا النصر الذي أحرزه السلمون ـ ف غزوة بن النضي ـ دون قتال وتضحية توطد سلطانم ف‬
‫الدينة‪ ،‬وتاذل النافقون عن الهر بكيدهم‪ ،‬وأمكن للرسول صلى ال عليه وسلم أن يتفرغ لقمع‬
‫العراب الذين آذوا السلمي بعد أحد‪ ،‬وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالا ف نذالة وكفران‪،‬‬
‫وبلغت بم الرأة إل أن أرادوا القيام بر غزوة على الدينة‪.‬‬

‫فقبل أن يقوم النب صلى ال عليه وسلم بتأديب أولئك الغادرين‪ ،‬نقلت إليه استخبارات الدينة بتحشد‬
‫جوع البدو والعراب من بن ُمحَارِب وبن ثعلبة من َغطَفَان‪ ،‬فسارع النب صلى ال عليه وسلم إل‬
‫الروج‪ ،‬يوس فياف ند‪ ،‬ويلقي بذور الوف ف أفئدة أولئك البدو القساة؛ حت ل يعاودوا مناكرهم الت‬
‫ارتكبها إخوانم مع السلمي‪.‬‬

‫وأضحي العراب الذين مردوا على النهب والسطو ل يسمعون بقدم السلمي إل حذروا وتنعوا ف‬
‫رءوس البال‪ ،‬وهكذا أرهب السلمون هذه القبائل الغية‪ ،‬وخلطوا بشاعرهم الرعب‪ ،‬ث رجعوا إل‬
‫الدينة آمني‪.‬‬

‫وقد ذكر أهل الغازي والسي بذا الصدد غزوة معينة غزاها السلمون ف أرض ند ف شهر ربيع الثان أو‬
‫جادي الول سنة ‪ 4‬هـ‪ ،‬ويسمون هذه الغزوة بغزوة ذات الرّقَاع‪ .‬أما وقوع الغزوة خلل هذه الدة‬
‫فهو أمر تقتضيه ظروف الدينة‪ ،‬فإن موسم غزوة بدر الت كان قد تواعد با أبو سفيان حي انصرافه من‬
‫أحد‪ ،‬كان قد اقترب‪ .‬وإخلء الدينة‪ ،‬مع ترك البدو والعراب على تردهم وغطرستهم‪ ،‬والروج لثـل‬
‫هذا اللقاء الرهيب ل يكن من مصال سياسة الروب قطعا ‪ ،‬بل كان ل بد من خضد شوكتهم وكف‬
‫شرهم‪ ،‬قبل الروج لثل هذه الرب الكبية‪ ،‬الت كانوا يتوقعون وقوعها ف رحاب بدر ‪.‬‬

‫وأما أن تلك الغزوة الت قادها الرسول صلى ال عليه وسلم ف ربيع الخر أو جادى الول سنة ‪ 4‬هـ‬
‫هى غزوة ذات الرقاع فل يصح‪ ،‬فإن غزوة ذات الرقاع شهدها أبو هريرة وأبو موسى الشعرى رضي ال‬
‫عنهما‪ ،‬وكان إسلم أب هريرة قبل غزوة خيب بأيام‪ ،‬وكذلك أبو موسى الشعرى رضي ال عنه‪ ،‬واف‬
‫النب صلى ال عليه وسلم بيب‪ .‬وإذن فغزوة ذات الرقاع بعد خيب ‪ ،‬ويدل على تأخرها عن السنة الرابعة‬
‫أن النب صلى ال عليه وسلم صلى فيها صلة الوف‪ ،‬وكانت أول شرعية صلة الوف ف غزوة‬
‫سفَان‪ ،‬ول خلف أن غزوة عسفان كانت بعد الندق‪ ،‬وكانت غزوة الندق ف أواخر السنة الامسة‪.‬‬
‫عُ ْ‬

‫غزوة بدر الثانية‬


‫ولا خضد السلمون شوكة العراب‪ ،‬وكفكفوا شرهم‪ ،‬أخذوا يتجهزون للقاة عدوهم الكب‪ ،‬فقد‬
‫استدار العام وحضر الوعد الضروب مع قريش ـ ف غزوة أحد ـ وحق لحمد صلى ال عليه وسلم‬
‫وصحبه أن يرجوا ؛ ليواجهوا أبا سفيان وقومه‪ ،‬وأن يديروا رحى الرب كرة أخرى حت يستقر المر‬
‫لهدي الفريقي وأجدرها بالبقاء‪.‬‬

‫ففي شعبان سنة ‪4‬هـ يناير سنة ‪626‬م خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم لوعده ف ألف‬
‫وخسمائة‪ ،‬وكانت اليل عشرة أفراس‪ ،‬وحل لواءه على بن أب طالب‪ ،‬واستخلف على الدينة عبد ال بن‬
‫رواحة‪ ،‬وانتهي إل بدر‪ ،‬فأقام با ينتظر الشركي‪.‬‬

‫وأما أبو سفيان فخرج ف ألفي من مشركي مكة‪ ،‬ومعهم خسون فرسا‪ ،‬حت انتهي إل مَرّ الظّهْرَان على‬
‫بعد مرحلة من مكة فنل َبجَنّة ـ ماء ف تلك الناحية‪.‬‬

‫خرج أبو سفيان من مكة متثاقلً يفكر ف عقب القتال مع السلمي‪ ،‬وقد أخذه الرعب‪ ،‬واستولت على‬
‫مشاعره اليبة‪ ،‬فلما نزل بر الظهران خار عزمه‪ ،‬فاحتال للرجوع‪ ،‬وقال لصحابه‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إنه ل‬
‫يصلحكم إل عام خصب ترعون فيه الشجر‪ ،‬وتشربون فيه اللب‪ ،‬وإن عامكم هذا عام جدب‪ ،‬وإن راجع‬
‫فارجعوا‪.‬‬

‫ويبدو أن الوف واليبة كانت مستولية على مشاعر اليش أيضا‪ ،‬فقد رجع الناس ول يبدوا أي معارضة‬
‫لذا الرأي‪ ،‬ول أي إصرار وإلاح على مواصلة السي للقاء السلمي‪.‬‬

‫وأما السلمون فأقاموا ببدر ثانية أيام ينتظرون العدو‪ ،‬وباعوا ما معهم من التجارة فربوا بدرهم درهي‪،‬‬
‫ث رجعوا إل الدينة وقد انتقل زمام الفاجأة إل أيديهم‪ ،‬وتوطدت هيبتهم ف النفوس‪ ،‬وسادوا على‬
‫الوقف‪.‬‬

‫وتعرف هذه الغزوة ببدر الوعد‪ ،‬وبدر الثانية‪ ،‬وبدر الخرة‪ ،‬وبدر الصغرى‪.‬‬

‫غزوة دُوَمة الندل‬

‫عاد رسول ال صلى ال عليه وسلم من بدر‪ ،‬وقد ساد النطقة المن والسلم‪ ،‬واطمأنت دولته‪ ،‬فتفرغ‬
‫للتوجه إل أقصي حدود العرب حت تصي السيطرة للمسلمي على الوقف‪ ،‬ويعترف بذلك الوالون‬
‫والعادون‪.‬‬

‫مكث بعد بدر الصغري ف الدينة ستة أشهر‪ ،‬ث جاءت إليه الخبار بأن القبائل حول دومة الندل ـ‬
‫قريبا من الشام ـ تقطع الطريق هناك‪ ،‬وتنهب ما ير با وأنا قد حشدت جعا كبيا تريد أن تاجم‬
‫الدينة‪ ،‬فاستعمل رسول ال صلى ال عليه وسلم على الدينة ِسبَاع ابن عُرْ ُفطَة الغفاري‪ ،‬وخرج ف ألف‬
‫من السلمي لمس ليال بقي من ربيع الول سنة ‪5‬هـ‪ ،‬وأخذ رجلً من بن ُع ْذرَة دليلً للطريق يقال‬
‫له‪ :‬مذكور‪.‬‬

‫خرج يسي الليل ويكمن النهار حت يفاجئ أعداءهم وهم غارون‪ ،‬فلما دنا منهم إذا هم مغربون‪ ،‬فهجم‬
‫على ما شيتهم ورعائهم‪ ،‬فأصاب من أصاب‪ ،‬وهرب من هرب‪.‬‬

‫وأما أهل دومة الندل ففروا ف كل وجه‪ ،‬فلما نزل السلمون بساحتهم ل يدوا أحدا‪ ،‬وأقام رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم أياما‪ ،‬وبث السرايا وفرق اليوش‪ ،‬فلم يصب منهم أحدا‪ ،‬ث رجع إل الدينة‪،‬‬
‫ووادع ف تلك الغزوة عيينة بن حصن‪ .‬ودُومة بالضم‪ :‬موضع معروف بشارف الشام بينها وبي دمشق‬
‫خس ليال‪ ،‬وُبعْدُها من الدينة خس عشرة ليلة‪.‬‬

‫بذه الجراءات السريعة الاسة‪ ،‬وبذه الطط الكيمة الازمة نح النب صلى ال عليه وسلم ف بسط‬
‫المن‪ ،‬وتنفيذ السلم ف النطقة‪ ،‬والسيطرة على الوقف‪ ،‬وتويل مري اليام لصال السلمي‪ ،‬وتفيف‬
‫التاعب الداخلية والارجية الت كانت قد توالت عليهم وأحاطت بم من كل جانب‪ ،‬فقد سكت النافقون‬
‫واستكانوا‪ ،‬وت إجلء قبيلة من اليهود‪ ،‬وبقيت الخري تظاهر بإيفاء حق الوار‪ ،‬وبإيفاء العهود والواثيق‪،‬‬
‫واستكانت البدو والعراب‪ ،‬وحادت قريش عن مهاجة السلمي‪ ،‬ووجد السلمون فرصة لنشر السلم‬
‫وتبليغ رسالت رب العالي‪.‬‬
‫غزوة الحزاب‬

‫عاد المن والسلم‪ ،‬وهدأت الزيرة العربية بعد الروب والبعوث الت استغرقت أكثر من سنة كاملة‪ ،‬إل‬
‫أن اليهود ـ الذين كانوا قد ذاقوا ألوانا من الذلة والوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتم ودسائسهم‬
‫ـ ل يفيقوا من غيهم‪ ،‬ول يستكينوا‪ ،‬ول يتعظوا با أصابم من نتيجة الغدر والتآمر‪ .‬فهم بعد نفيهم إل‬
‫خيب ظلوا ينتظرون ما يل بالسلمي من خلل الناوشات الت كانت قائمة بي السلمي والوثنيي‪ ،‬ولا‬
‫تول مري اليام لصال السلمي‪ ،‬وتخضت الليإل واليام عن بسط نفوذهم‪ ،‬وتوطد سلطانم ـ ترق‬
‫هؤلء اليهود أي ترق‪.‬‬

‫وشرعوا ف التآمر من جديد على السلمي‪ ،‬وأخذوا يعدون العدة‪ ،‬لتصويب ضربة إل السلمي تكون قاتلة‬
‫ل حياة بعدها‪ .‬ولا ل يكونوا يدون ف أنفسهم جرأة على قتال السلمي مباشرة‪ ،‬خططوا لذا الغرض‬
‫خطة رهيبة‪.‬‬

‫خرج عشرون رجلً من زعماء اليهود وسادات بن النضي إل قريش بكة‪ ،‬يرضونم على غزو الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويوالونم عليه‪ ،‬ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لم‪ ،‬فأجابتهم قريش‪ ،‬وكانت قريش‬
‫قد أخلفت موعدها ف الروج إل بدر‪ ،‬فرأت ف ذلك إنقاذا لسمعتها والب بكلمتها‪.‬‬

‫ث خرج هذا الوفد إل َغ َطفَان‪ ،‬فدعاهم إل ما دعا إليه قريشا فاستجابوا لذلك‪ ،‬ث طاف الوفد ف قبائل‬
‫العرب يدعوهم إل ذلك فاستجاب له من استجاب‪ ،‬وهكذا نح ساسة اليهود وقادتم ف تأليب أحزاب‬
‫الكفر على النب صلى ال عليه وسلم والسلمي‪.‬‬

‫وعلى إثر ذلك خرجت من النوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تامة ـ وقائدهم أبو سفيان ـ ف‬
‫أربعة آلف‪ ،‬ووافاهم بنو سليم بَرّ الظّهْرَان‪ ،‬وخرجت من الشرق قبائل غطفان‪ :‬بنو فَزَارة‪ ،‬يقودهم عُيينَة‬
‫سعَر بن ُرحَي َلةِ‪ ،‬كما خرجت بنو‬
‫بن ِحصْن‪ ،‬وبنو مُرّة‪ ،‬يقودهم الارث بن عوف‪ ،‬وبنو أشجع‪ ،‬يقودهم مِ ْ‬
‫أسد وغيها‪.‬‬
‫واتهت هذه الحزاب وتركت نو الدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه‪.‬‬

‫وبعد أيام تمع حول الدينة جيش عَ َرمْرَم يبلغ عدده عشرة آلف مقاتل‪ ،‬جيش ربا يزيد عدده على جيع‬
‫من ف الدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ‪.‬‬

‫ولو بلغت هذه الحزاب والحزبة والنود الجندة إل أسوار الدينة بغتة لكانت أعظم خطرا على كيان‬
‫السلمي ما يقاس‪ ،‬وربا تبلغ إل استئصال الشأفة وإبادة الضراء‪ ،‬ولكن قيادة الدينة كانت قيادة متيقظة‪،‬‬
‫ل تزل واضعة أناملها على العروق النابضة‪ ،‬تتجسس الظروف‪ ،‬وتقدر ما يتمخض عن مراها‪ ،‬فلم تكد‬
‫تتحرك هذه اليوش عن مواضعها حت نقلت استخبارات الدينة إل قيادتا فيها بذا الزحف الطي‪.‬‬

‫وسارع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل عقد ملس استشاري أعلي‪ ،‬تناول فيه موضوع خطة الدفاع‬
‫عن كيان الدينة‪ ،‬وبعد مناقشات جرت بي القادة وأهل الشوري اتفقوا على قرار قدمه الصحاب النبيل‬
‫سلمان الفارسي ضي ال عنه‪.‬‬

‫قال سلمان‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَ ْندَقْنَا علينا‪ .‬وكانت خطة حكيمة ل تكن‬
‫تعرفها العرب قبل ذلك‪.‬‬

‫وأسرع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل تنفيذ هذه الظة‪ ،‬فوكل إل كل عشرة رجال أن يفروا من‬
‫الندق أربعي ذراعا‪ ،‬وقام السلمون بد ونشاط يفرون الندق‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم يثهم‬
‫ويساههم ف عملهم هذا‪ .‬ففي البخاري عن سهل بن سعد‪ ،‬قال‪ :‬كنا مع رسول ال ف الندق‪ ،‬وهم‬
‫يفرون‪ ،‬ونن ننقل التراب على أكتادنا‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬اللهم ل عَيشَ إل عيشُ‬
‫الخرة‪ ،‬فاغفر للمهاجرين والنصار)‪.‬‬

‫وعن أنس‪ :‬خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم إل الندق فإذا الهاجرين والنصار يفرون ف غداة‬
‫باردة‪ ،‬فلم يكن لم عبيد يعملون ذلك لم‪ ،‬فلما رأي ما بم من النصب والوع قال‪:‬‬

‫اللهم إن العيش عيش الخرة ** فاغفـر للنصـار والهـاجرة‬


‫فقالوا ميبي له‪:‬‬

‫نـن الذيـن بايعـوا ممـدا ** على الهـاد ما بقيـنا أبدا‬

‫وفيه عن الباء بن عازب قال‪ :‬رأيته صلى ال عليه وسلم ينقل من تراب الندق حت واري عن الغبار‬
‫جلدة بطنه‪ ،‬وكان كثي الشعر‪ ،‬فسمعته يرتز بكلمات ابن رواحة‪ ،‬وهو ينقل من التراب ويقول‪:‬‬

‫اللهم لول أنت ما اهتدينا ** ول تصـدقنـا ول صلينــا‬


‫فأنزلن سكينـة علينـا ** وثبت القـدام إن لقينــا‬
‫إن الل رغبوا علينـا ** وإن أرادوا فتـنـة أبينـــا‬

‫قال‪ :‬ث يد با صوته بآخرها‪ ،‬وف رواية‪:‬‬

‫إن الل قـد بغـوا علينـا ** وإن أرادوا فـتنـة أبينـا‬

‫كان السلمون يعملون بذا النشاط وهم يقاسون من شدة الوع ما يفتت الكباد‪ ،‬قال أنس‪ :‬كان أهل‬
‫الندق يؤتون بلء كفي من الشعي‪ ،‬فيصنع لم بإهَالَةٍ سنخة توضع بي يدي القوم‪ ،‬والقوم جياع‪ ،‬وهي‬
‫بشعة ف اللق ولا ريح‪.‬‬

‫وقال أبو طلحة‪ :‬شكونا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم الوع‪ ،‬فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر‪،‬‬
‫فرفع رسول ال صلى ال عليه وسلم عن حجرين‪.‬‬

‫وبذه الناسبة وقعت أثناء حفر الندق آيات من أعلم النبوة‪ ،‬رأي جابر بن عبد ال ف النب صلى ال‬
‫عليه وسلم خصا شديدًا فذبح بيمة‪ ،‬وطحنت امرأته صاعا من شعي‪ ،‬ث التمس من رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم سرا أن يأت ف نفر من أصحابه‪ ،‬فقام النب صلى ال عليه وسلم بميع أهل الندق‪ ،‬وهم ألف‪،‬‬
‫فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا‪ ،‬وبقيت بُ ْرمَة اللحم تغط به كما هي‪ ،‬وبقي العجي يبز كما هو‪.‬‬

‫وجاءت أخت النعمان بن بشي َبفْنَة من تر إل الندق ليتغدي به أبوه وخاله‪ ،‬فمرت برسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬فطلب منها التمر‪ ،‬وبدده فوق ثوب‪ ،‬ث دعا أهل الندق‪ ،‬فجعلوا يأكلون منه وجعل‬
‫التمر يزيد‪ ،‬حت صدر أهل الندق عنه‪ ،‬وإنه يسقط من أطراف الثواب‪.‬‬

‫وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابرقال‪ :‬إنا يوم خندق نفر‪ ،‬فعرضت ُكدْية شديدة‪ ،‬فجاءوا النب‬
‫صلى ال عليه وسلم فقالوا‪ :‬هذه كدية عرضت ف الندق‪ .‬فقال‪( :‬أنا نازل)‪ ،‬ث قام وبطنه معصوب بجر‬
‫ـ ولبثنا ثلثة ل نذوق ذواقا ـ فأخذ النب صلى ال عليه وسلم ا ِلعْوَل‪ ،‬فضرب فعاد كثيبا أهْيل أو أهْيم‬
‫‪ ،‬أي صار رملً ل يتماسك‪.‬‬

‫وقال الباء‪ :‬لا كان يوم الندق عرضت لنا ف بعض الندق صخرة ل تأخذ منها العاول‪ ،‬فاشتكينا ذلك‬
‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجاءة وأخذ العول فقال‪( :‬بسم ال)‪ ،‬ث ضرب ضربة‪ ،‬وقال‪( :‬ال أكب‪،‬‬
‫أعطيت مفاتيح الشام‪ ،‬وال إن لنظر قصورها المر الساعة)‪ ،‬ث ضرب الثانية فقطع آخر‪ ،‬فقال‪( :‬ال‬
‫أكب‪ ،‬أعطيت فارس‪ ،‬وال إن لبصر قصر الدائن البيض الن)‪ ،‬ث ضرب الثالثة‪ ،‬فقال‪( :‬بسم ال)‪،‬‬
‫فقطع بقية الجر‪ ،‬فقال‪( :‬ال أكب‪ ،‬أعطيت مفاتيح اليمن‪ ،‬وال إن لبصر أبواب صنعاء من مكان)‪.‬‬

‫وروي ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي ال عنه‪.‬‬

‫ولا كانت الدينة تيط با الرات والبال وبساتي من النخيل من كل جانب سوي الشمال‪ ،‬وكان النب‬
‫صلى ال عليه وسلم يعلم أن زحف مثل هذا اليش الكبي‪ ،‬ومهاجته الدينة ل يكن إل من جهة الشمال‪،‬‬
‫اتذ الندق ف هذا الانب‪.‬‬

‫وواصل السلمون عملهم ف حفره‪ ،‬فكانوا يفرونه طول النهار‪ ،‬ويرجعون إل أهليهم ف الساء‪ ،‬حت‬
‫تكامل الندق حسب الطة النشودة‪ ،‬قبل أن يصل اليش الوثن العرمرم إل أسوار الدينة‪.‬‬

‫وأقبلت قريش ف أربعة آلف‪ ،‬حت نزلت بجتمع السيال من رُومَة بي الُرْف وزَغَابَة‪ ،‬وأقبلت َغ َطفَان‬
‫ومن تبعهم من أهل ند ف ستة آلف حت نزلوا ب َذنَبِ َنقْمَي إل جانب أحد‪.‬‬

‫ص َدقَ الُ وَ َرسُولُهُ َومَا زَادَ ُهمْ ِإلّا إِيَانًا‬


‫{ َولَمّا َرأَى الْمُ ْؤمِنُو َن الْأَحْزَابَ قَالُوا َهذَا مَا وَ َع َدنَا الُ َورَسُولُهُ َو َ‬
‫َوتَسْلِيمًا} [الحزاب‪.]22 :‬‬

‫وأما النافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبم لرؤية هذا اليش { َوإِذْ َيقُو ُل الْمُنَا ِفقُونَ وَاّلذِينَ فِي‬
‫قُلُوبِهِم مّ َرضٌ مّا وَ َع َدنَا الُ َورَسُوُلهُ إِلّا ُغرُورًا}[ الحزاب‪.]12 :‬‬

‫وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ثلثة آلف من السلمي‪ ،‬فجعلوا ظهورهم إل جبل َسلْع‬
‫فتحصنوا به‪ ،‬والندق بينهم وبي الكفار‪.‬وكان شعارهم‪[ :‬حم ل ينصرون]‪ ،‬واستحلف على الدينة ابن‬
‫أم مكتوم‪ ،‬وأمر بالنساء والذراري فجعلوا ف آطام الدينة‪.‬‬

‫ولا أراد الشركون مهاجة السلمي واقتحام الدينة‪ ،‬وجدوا خندقا عريضا يول بينهم وبينها‪ ،‬فالتجأوا إل‬
‫فرض الصار على السلمي‪ ،‬بينما ل يكونوا مستعدين له حي خرجوا من ديارهم‪ ،‬إذ كانت هذه الطة ـ‬
‫كما قالوا ـ مكيدة ما عرفتها العرب‪ ،‬فلم يكونوا أدخلوها ف حسابم رأسا‪.‬‬

‫وأخذ الشركون يدورون حول الندق غضابا‪ ،‬يتحسسون نقطة ضعيفة ؛ لينحدروا منها‪ ،‬وأخذ السلمون‬
‫يتطلعون إل جولت الشركي‪ ،‬يرشقونم بالنبل‪ ،‬حت ل يترئوا على القتراب منه‪ ،‬ول يستطيعوا أن‬
‫يقتحموه‪ ،‬أو يهيلوا عليه التراب‪ ،‬ليبنوا به طريقا يكنهم من العبور‪.‬‬

‫وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الندق من غي جدوي ف ترقب نتائج الصار‪ ،‬فإن ذلك ل يكن‬
‫من شيمهم‪ ،‬فخرجت منها جاعة فيها عمرو بن عبد وُدّ وعكرمة بن أب جهل وضرار بن الطاب‬
‫وغيهم‪ ،‬فتيمموا مكانا ضيقا من الندق فاقتحموه‪ ،‬وجالت بم خيلهم ف السّبْخة بي الندق وسَلْع‪،‬‬
‫وخرج على بن أب طالب ف نفر من السلمي حت أخذوا عليهم الثغرة الت أقحموا منها خيلهم‪ ،‬ودعا‬
‫عمرو إل البارزة‪ ،‬فانتدب له على بن أب طالب‪ ،‬وقال كلمة حي لجلها ـ وكان من شجعان الشركي‬
‫وأبطالم ـ فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه‪ ،‬ث أقبل على علي‪ ،‬فتجاول وتصاول حت قتله علي‬
‫رضي ال عنه‪ ،‬وانزم الباقون حت اقتحموا الندق هاربي‪ ،‬وقد بلغ بم الرعب إل أن ترك عكرمة رمه‬
‫وهو منهزم عن عمرو‪.‬‬

‫وقد حاول الشركون ف بعض اليام ماولة بليغة لقتحام الندق‪ ،‬أو لبناء الطرق فيها‪ ،‬ولكن السلمي‬
‫كافحوا مكافحة ميدة‪ ،‬ورشقوهم بالنبل‪ ،‬وناضلوهم أشد النضال حت فشل الشركون ف ماولتهم‪.‬‬

‫ولجل الشتغال بثل هذه الكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫والسلمي‪ ،‬ففي الصحيحي عن جابر رضي ال عنه‪ :‬أن عمر بن الطاب جاء يوم الندق‪ ،‬فجعل يسب‬
‫كفار قريش‪ .‬فقال‪ :‬يا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ما كدت أن أصلي حت كادت الشمس أن تغرب‪،‬‬
‫فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬وأنا وال ما صليتها)‪ ،‬فنلنا مع النب صلى ال عليه وسلم ُب ْطحَان‪،‬‬
‫فتوضأ للصلة‪ ،‬وتوضأنا لا‪ ،‬فصلى العصر بعد ما غربت الشمس‪ ،‬ث صلي بعدها الغرب‪.‬‬

‫وقد استاء رسول ال صلى ال عليه وسلم لفوات هذه الصلة حت دعا على الشركي‪ ،‬ففي البخاري عن‬
‫على عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال يوم الندق‪( :‬مل ال عليهم بيوتم وقبورهم نارا‪ ،‬كما شغلونا‬
‫عن الصلة الوسطي حت غابت الشمس)‪.‬‬

‫وف مسند أحد والشافعي أنم حبسوه عن صلة الظهر والعصر والغرب والعشاء فصلهن جيعا‪ .‬قال‬
‫النووي‪ :‬وطريق المع بي هذه الروايات أن وقعة الندق بقيت أياما فكان هذا ف بعض اليام‪ ،‬وهذا ف‬
‫بعضها‪ .‬انتهي‪.‬‬

‫ومن هنا يؤخذ أن ماولة العبور من الشركي‪ ،‬والكافحة التواصلة من السلمي‪ ،‬دامت أياما‪ ،‬إل أن‬
‫الندق لا كان حائلً بي اليشي ل ير بينهما قتال مباشر أو حرب دامية‪ ،‬بل اقتصروا على الراماة‬
‫والناضلة‪.‬‬

‫وف هذه الراماة قتل رجال من اليشي‪ ،‬يعدون على الصابع‪ :‬ستة من السلمي‪ ،‬وعشرة من الشركي‪،‬‬
‫بينما كان قتل واحد أو اثني منهم بالسيف‪.‬‬

‫وف هذه الراماة رمي سعد بن معاذ رضي ال عنه بسهم فقطع منه ال ْكحَل‪ ،‬رماه رجل من قريش يقال له‪:‬‬
‫حَبّان بن العَرِقَة‪ ،‬فدعا سعد‪ :‬اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إل أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا‬
‫رسولك وأخرجوه‪ ،‬اللهم فإن أظن أنك قد وضعت الرب بيننا وبينهم‪ ،‬فإن كان بقي من حرب قريش‬
‫شيء فأبقن لم حت أجاهدهم فيك‪ ،‬وإن كنت وضعت الرب فافجرها واجعل موتت فيها‪ .‬وقال ف آخر‬
‫دعائه‪ :‬ول تتن حت تقر عين من بن قريظة‪.‬‬

‫وبينما كان السلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة العركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب ف‬
‫جحورها‪ ،‬تريد إيصال السم داخل أجسادهم‪ :‬انطلق كبي مرمي بن النضي حيي بن أخطب إل ديار بن‬
‫قريظة فأت كعب بن أسد القرظي ـ سيد بن قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم‪ ،‬وكان قد عاقد رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب‪ ،‬كما تقدم ـ فضرب عليه حيي الباب فأغلقه‬
‫كعب دونه‪ ،‬فما زال يكلمه حت فتح له بابه‪ ،‬فقال حيي‪ :‬إن قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طَامٍ‪،‬‬
‫جئتك بقريش على قادتا وسادتا‪ ،‬حت أنزلتهم بجمع السيال من رُومَة‪ ،‬وبغطفان على قادتا وسادتا‪،‬‬
‫حت أنزلتهم ب َذنَب َنقْمَي إل جانب أحد‪ ،‬قد عاهدون وعاقدون على أل يبحوا حت نستأصل ممدا ومن‬
‫معه‪.‬‬

‫فقال له كعب‪ :‬جئتن وال بذُلّ الدهر وبَهَامٍ قد هَرَاق ماؤه‪ ،‬فهو يرْعِد ويبْرِق‪ ،‬ليس فيه شيء‪ .‬ويك يا‬
‫حيي فدعن وما أنا عليه‪ ،‬فإن ل أر من ممد إل صدقا ووفاء‪.‬‬

‫فلم يزل حيي بكعب يفْتِلُه ف الذّ ْروَة والغَارِب‪ ،‬حت سح له على أن أعطاه عهدا من ال وميثاقا‪ :‬لئن‬
‫رجعت قريش وغطفان‪ ،‬ول يصيبوا ممدا أن أدخل معك ف حصنك‪ ،‬حت يصيبن ما أصابك‪ ،‬فنقض‬
‫كعب بن أسد عهده‪ ،‬وبرئ ما كان بينه وبي السلمي‪ ،‬ودخل مع الشركي ف الحاربة ضد السلمي‪.‬‬

‫وفعلً قامت يهود بن قريظة بعمليات الرب‪ .‬قال ابن إسحاق‪ :‬كانت صفية بنت عبد الطلب ف فارع‬
‫حصن حسان بن ثابت‪ ،‬وكان حسان فيه مع النساء والصبيان‪ ،‬قالت صفية‪ :‬فمر بنا رجل من يهود‪،‬‬
‫فجعل يطيف بالصن‪ ،‬وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمون ف غور عدوهم‪ ،‬ل‬
‫يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت‪ ،‬قالت‪ :‬فقلت‪ :‬يا حسان‪ ،‬إن هذا اليهودي كما تري يطيف‬
‫بالصن‪ ،‬وإن وال ما آمنه أن يدل على عورتنا مَنْ وراءنا مِنْ يهود‪ ،‬وقد شغل عنا رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬فانزل إليه فاقتله‪.‬‬

‫قال‪ :‬وال لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا‪ ،‬قالت‪ :‬فاحتجزت ث أخذت عمودا‪ ،‬ث نزلت من الصن إليه‪،‬‬
‫فضربته بالعمود حت قتلته‪ ،‬ث رجعت إل الصن وقلت‪ :‬يا حسان‪ ،‬انزل إليه فاسلبه‪ ،‬فإنه ل ينعن من‬
‫سبله إل أنه رجل‪ ،‬قال‪ :‬ما ل بسلبه من حاجة‪.‬‬

‫وقد كان لذا الفعل الجيد من عمة الرسول صلى ال عليه وسلم أثر عميق ف حفظ ذراري السلمي‬
‫ونسائهم‪ ،‬ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الطام والصون ف منعة من اليش السلمي ـ مع أنا كانت‬
‫خالية عنهم تاما ـ فلم يترئوا مرة ثانية للقيام بثل هذا العمل‪ ،‬إل أنم أخذوا يدون الغزاة الوثنيي‬
‫بالؤن‪ ،‬كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد السلمي‪ ،‬حت أخذ السلمون من مؤنم عشرين جلً‪.‬‬

‫وانتهي الب إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وإل السلمي فبادر إل تقيقه‪ ،‬حت يستجلي موقف‬
‫قريظة‪ ،‬فيواجهه با يب من الوجهة العسكرية‪ ،‬وبعث لتحقيق الب السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن‬
‫عبادة‪ ،‬وعبد ال بن رواحة وخَوّات بن جبي‪ ،‬وقال‪( :‬انطلقوا حت تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلء القوم أم‬
‫ل ؟ فإن كان حقا فالنوا ل لنا أعرفه‪ ،‬ول َتفُتّوا ف أعضاد الناس‪ ،‬وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به‬
‫للناس)‪ .‬فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون‪ ،‬فقد جاهروهم بالسب والعداوة‪ ،‬ونالوا من‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وقالوا‪ :‬من رسول ال ؟ ل عهد بيننا وبي ممد‪ ،‬ول عقد‪ .‬فانصرفوا عنهم‪ ،‬فلما أقبلوا على رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم لنوا له‪ ،‬وقالوا‪َ :‬عضَل وقَارَة ؛ أي إنم على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب‬
‫الرّجِيع‪.‬‬

‫وعلى رغم ماولتهم إخفاء القيقة تفطن الناس للية المر‪ ،‬فتجسد أمامهم خطر رهيب‪.‬‬

‫وقد كان أحرج موقف يقفه السلمون‪ ،‬فلم يكن يول بينهم وبي قريظة شيء ينعهم من ضربم من‬
‫اللف‪ ،‬بينما كان أمامهم جيش عرمرم ل يكونوا يستطيعون النصراف عنه‪ ،‬وكانت ذراريهم ونساؤهم‬
‫ت اْلأَبْصَارُ َوبَ َلغَتِ‬
‫بقربة من هؤلء الغادرين ف غي منعة وحفظ‪ ،‬وصاروا كما قال ال تعال‪َ { :‬وإِذْ زَاغَ ْ‬
‫ل الظّنُونَا ُهنَاِلكَ ابُْتلِ َي الْمُ ْؤمِنُونَ َو ُزلْ ِزلُوا ِزلْزَالًا َشدِيدًا}[ الحزاب‪،10:‬‬
‫ب الْحَنَاجِرَ َوَتظُنّونَ بِا ِ‬
‫اْلقُلُو ُ‬
‫‪]11‬‬
‫ونم النفاق من بعض النافقي حت قال‪ :‬كان ممد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر‪ ،‬وأحدنا اليوم ل‬
‫يأمن على نفسه أن يذهب إل الغائط‪ .‬وحت قال بعض آخر ف مل من رجال قومه‪ :‬إن بيوتنا عورة من‬
‫العدو‪ ،‬فائذن لنا أن نرج‪ ،‬فنرجع إل دارنا فإنا خارج الدينة‪ .‬وحت هت بنو سلمة بالفشل‪ ،‬وف هؤلء‬
‫أنزل ال تعال‪َ { :‬وإِذْ َيقُو ُل الْمُنَا ِفقُونَ وَاّلذِينَ فِي ُقلُوبِهِم مّ َرضٌ مّا وَ َع َدنَا الُ وَرَسُولُهُ ِإلّا غُرُورًا َوإِذْ قَالَت‬
‫طّاِئفَةٌ مّنْ ُهمْ يَا أَ ْهلَ يَثْ ِربَ لَا مُقَامَ لَ ُكمْ فَا ْر ِجعُوا َويَسَْتأْ ِذنُ فَرِيقٌ مّنْ ُهمُ النِّبيّ َيقُولُونَ ِإنّ بُيُوتَنَا عَ ْو َرةٌ َومَا ِهيَ‬
‫بِعَ ْو َرةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلّا فِرَارًا} [الحزاب‪.]13 ،12 :‬‬

‫أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فتقنع بثوبه حي أتاه َغدْر قريظة‪ ،‬فاضطجع ومكث طويلً حت اشتد‬
‫على الناس البلء‪ ،‬ث نض مبشرا يقول‪( :‬ال أكب‪ ،‬أبشروا يا معشر السلمي بفتح ال ونصره)‪ ،‬ث أخذ‬
‫يطط لجابة الظرف الراهن‪ ،‬وكجزء من هذه الطة كان يبعث الرس إل الدينة؛ لئل يؤت الذراري‬
‫والنساء على غرة‪ ،‬ولكن كان لبد من إقدام حاسم‪ ،‬يفضي إل تاذل الحزاب‪ ،‬وتقيـقا لــذا‬
‫الـدف أراد أن يصالـح عُيينَة بن حصن والارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثار الدينة‪ ،‬حت‬
‫ينصرفا بقومهما‪ ،‬ويلو السلمون للاق الزية الساحقة العاجلة بقريش الت اختبوا مدي قوتا وبأسها‬
‫مرارا‪ ،‬وجرت الراودة على ذلك‪ ،‬فاستشار السعدين ف ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن كان ال أمرك بذا‬
‫فسمعا وطاعة‪ ،‬وإن كان شيء تصنعه لنا فل حاجة لنا فيه‪ ،‬لقد كنا نن وهؤلء القوم على الشرك بال‬
‫وعبادة الوثان‪ ،‬وهم ل يطمعون أن يأكلوا منها ثرة إل قِرًي أو بيعا‪ ،‬فحي أكرمنا ال بالسلم وهدانا له‬
‫ص ّوبَ رأيهما وقال‪( :‬إنا هو شيء أصنعه لكم‬
‫وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ وال ل نعطيهم إل السيف‪ ،‬فَ َ‬
‫لا رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة)‪.‬‬

‫ث إن ال عز وجل ـ وله المد ـ صنع أمرا من عنده خذل به العدو وهزم جوعهم‪ ،‬و َفلّ حدهم‪ ،‬فكان‬
‫ما هيأ من ذلك أن رجلً من غطفان يقال له‪ :‬نعيم بن مسعود بن عامر الشجعي رضي ال عنه جاء رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن قد أسلمت‪ ،‬وإن قومي ل يعلموا بإسلمي‪ ،‬فمرن ما‬
‫شئت‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إنا أنت رجل واحد‪ ،‬فَخذّلْ عنا ما استطعت‪ ،‬فإن الرب‬
‫خدعة)‪ ،‬فذهب من فوره إل بن قريظة ـ وكان عشيا لم ف الاهلية ـ فدخل عليهم وقال‪ :‬قد عرفتم‬
‫ودي إياكم‪ ،‬وخاصة ما بين وبينكم‪ ،‬قالوا‪ :‬صدقت‪ .‬قال‪ :‬فإن قريشا ليسوا مثلكم‪ ،‬البلد بلدكم‪ ،‬فيه‬
‫أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم‪ ،‬ل تقدرون أن تتحولوا منه إل غيه‪ ،‬وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لرب‬
‫ممد وأصحابه‪ ،‬وقد ظاهرتوهم عليه‪ ،‬وبلدهم وأموالم ونساؤهم بغيه‪ ،‬فإن أصابوا فرصة انتهزوها‪ ،‬وإل‬
‫لقوا ببلدهم وتركوكم وممدا فانتقم منكم‪ ،‬قالوا‪ :‬فما العمل يا نعيم ؟ قال‪ :‬ل تقاتلوا معهم حت‬
‫يعطوكم رهائن‪ .‬قالوا‪ :‬لقد أشرت بالرأي‪.‬‬

‫ث مضي نعيم على وجهه إل قريش وقال لم‪ :‬تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬إن يهود‬
‫قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد ممد وأصحابه‪ ،‬وإنم قد راسلوه أنم يأخذون منكم رهائن‬
‫يدفعونا إليه‪ ،‬ث يوالونه عليكم‪ ،‬فإن سألوكم رهائن فل تعطوهم‪ ،‬ث ذهب إل غطفان‪ ،‬فقال لم مثل‬
‫ذلك‪.‬‬

‫فلما كانت ليلة السبت من شوال ـ سنة ‪5‬هـ ـ بعثوا إل يهود‪ :‬أنا لسنا بأرض مقام‪ ،‬وقد هلك‬
‫الكُرَاع والف ‪ ،‬فانضوا بنا حت نناجز ممدا‪ ،‬فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت‪ ،‬وقد علمتم ما‬
‫أصاب من قبلنا حي أحدثوا فيه‪ ،‬ومع هذا فإنا ل نقاتل معكم حت تبعثوا إلينا رهائن‪ ،‬فلما جاءتم رسلهم‬
‫بذلك قالت قريش وغطفان‪ :‬صدقكم وال نعيم‪ ،‬فبعثوا إل يهود إنا وال ل نرسل إليكم أحدا‪ ،‬فاخرجوا‬
‫معنا حت نناجز ممدا‪ ،‬فقالت قريظة‪ :‬صدقكم وال نعيم‪ .‬فتخاذل الفريقان‪ ،‬ودبت الفرقة بي صفوفهم‪،‬‬
‫وخارت عزائمهم‪.‬‬

‫وكان السلمون يدعون ال تعإل‪( :‬اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا)‪ ،‬ودعا رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم على الحزاب‪ ،‬فقال‪( :‬اللهم منل الكتاب‪ ،‬سريع الساب‪ ،‬اهزم الحزاب‪ ،‬اللهم اهزمهم‬
‫وزلزلم)‪.‬‬

‫وقد سع ال دعاء رسوله والسلمي‪ ،‬فبعد أن دبت الفرقة ف صفوف الشركي وسري بينهم التخاذل‬
‫أرسل ال عليهم جندا من الريح فجعلت تقوض خيامهم‪ ،‬ول تدع لم ِقدْرًا إل كفأتا‪ ،‬ول طُنُبًا إل قلعته‪،‬‬
‫ول يقر لم قرار‪ ،‬وأرسل جندا من اللئكة يزلزلونم‪ ،‬ويلقون ف قلوبم الرعب والوف‪.‬‬

‫وأرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم ف تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه ببهم‪،‬‬
‫فوجدهم على هذه الالة‪ ،‬وقد تيأوا للرحيل‪ ،‬فرجع إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأخبه برحيل‬
‫القوم‪ ،‬فأصبح رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد رد ال عدوه بغيظهم ل ينالوا خيا وكفاه ال قتالم‪،‬‬
‫فصدق وعده‪ ،‬وأعز جنده‪ ،‬ونصر عبده‪ ،‬وهزم الحزاب وحده‪ ،‬فرجع إل الدينة‪.‬‬
‫وكانت غزوة الندق سنة خس من الجرة ف شوال على أصح القولي‪ ،‬وأقام الشركون ماصرين رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم والسلمي شهرا أو نو شهر‪ .‬ويبدو بعد المع بي الصادر أن بداية فرض‬
‫الصار كانت ف شوال ونايته ف ذي القعدة‪ ،‬وعند ابن سعد أن انصراف رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫من الندق كان يوم الربعاء لسبع بقي من ذي القعدة‪.‬‬

‫إن معركة الحزاب ل تكن معركة خسائر‪ ،‬بل كانت معركة أعصاب‪ ،‬ل ير فيها قتال مرير‪ ،‬إل أنا كانت‬
‫من أحسم العارك ف تاريخ السلم‪ ،‬تخضت عن تاذل الشركي‪ ،‬وأفادت أن أية قوة من قوات العرب‬
‫ل تستطيع استئصال القوة الصغية الت تنمو ف الدينة ؛ لن العرب ل تكن تستطيع أن تأت بمع أقوي ما‬
‫أتت به ف الحزاب‪ ،‬ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم حي أجلي ال الحزاب‪( :‬الن نغزوهم‪،‬‬
‫ول يغزونا‪ ،‬نن نسي إليهم)‪.‬‬
‫غزوة بن قريظة‬

‫غزوة بن قريظة‬
‫لقَيْق‬
‫مقتل َسلّم بن أب ا ُ‬
‫سرية ممد بن مسلمة‬
‫غزوة بن َلحْيَان‬
‫متابعة البعوث والسرايا‬

‫غزوة بن قريظة‬

‫وف اليوم الذي رجع فيه رسول ال إل الدينة‪ ،‬جاءه جبيل \ عند الظهر‪ ،‬وهو يغتسل ف بيت أم سلمة‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أو قد وضعت السلح؟ فإن اللئكة ل تضع أسلحتهم‪ ،‬وما رجعت الن إل من طلب القوم‪ ،‬فانض‬
‫بن معك إل بن قريظة‪ ،‬فإن سائر أمامك أزلزل بم حصونم‪ ،‬وأقذف ف قلوبم الرعب‪ ،‬فسار جبيل ف‬
‫موكبه من اللئكة‪.‬‬

‫صلّيّ العصر إل‬


‫وأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم مؤذنا فأذن ف الناس‪ :‬من كان سامعا مطيعا فل ي َ‬
‫ببن قريظة‪ ،‬واستعمل على الدينة ابن أم مكتوم‪ ،‬وأعطي الراية على بن أب طالب‪ ،‬وقدّمه إل بن قريظة‪،‬‬
‫فسار على حت إذا دنا من حصونم سع منها مقالة قبيحة لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ف موكبه من الهاجرين والنصار‪ ،‬حت نزل على بئر من آبار‬
‫قريظة يقال لا‪ :‬بئر أنّا‪ .‬وبادر السلمون إل امتثال أمره‪ ،‬ونضوا من فورهم‪ ،‬وتركوا نو قريظة‪،‬‬
‫وأدركتهم العصر ف الطريق فقال بعضهم‪ :‬ل نصليها إل ف بن قريظة كما أمرنا‪ ،‬حت إن رجالً منهم‬
‫صلوا العصر بعد العشاء الخرة‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬ل يرد منا ذلك‪ ،‬وإنا أراد سرعة الروج‪ ،‬فصلوها ف‬
‫الطريق‪ ،‬فلم يعنف واحدة من الطائفتي‪.‬‬

‫هكذا ترك اليش السلمي نو بن قريظة أرسالً حت تلحقوا بالنب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهم ثلثة‬
‫آلف‪ ،‬واليل ثلثون فرسا‪ ،‬فنازلوا حصون بن قريظة‪ ،‬وفرضوا عليهم الصار‪.‬‬
‫ولا اشتد عليهم الصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلث خصال‪ :‬إما أن يسلموا ويدخلوا مع‬
‫ممد صلى ال عليه وسلم ف دينه‪ ،‬فيأمنوا على دمائهم وأموالم وأبنائهم ونسائهم ـ وقد قال لم‪ :‬وال‪،‬‬
‫لقد تبي لكم أنه لنب مرسل‪ ،‬وأنه الذي تدونه ف كتابكم ـ وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم‪،‬‬
‫ويرجوا إل النب صلى ال عليه وسلم بالسيوف مُصْلِتِي‪ ،‬يناجزونه حت يظفروا بم‪ ،‬أو يقتلوا عن‬
‫آخرهم‪ ،‬وإما أن يهجموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬ويكبسوهم يوم السبت ؛ لنم‬
‫قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه‪ ،‬فأبوا أن ييبوه إل واحدة من هذه الصال الثلث‪ ،‬وحينئذ قال سيدهم كعب‬
‫بن أسد ـ ف انزعاج وغضب‪ :‬ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما‪.‬‬

‫ول يبق لقريظة بعد رد هذه الصال الثلث إل أن ينلوا على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ولكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من السلمي‪ ،‬لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بم إذا نزلوا على‬
‫حكمه‪ ،‬فبعثوا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لُبَابة نستشيه‪ ،‬وكان حليفا لم‪،‬‬
‫وكانت أمواله وولده ف منطقتهم‪ ،‬فلما رأوه قام إليه الرجال‪ ،‬وجَ َهشَ النساء والصبيان يبكون ف وجهه‪،‬‬
‫فَ َرقّ لم‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا أبا لبابة‪ ،‬أتري أن ننل على حكم ممد؟ قال‪ :‬نعم ؛ وأشار بيده إل حلقه‪ ،‬يقول‪ :‬إنه‬
‫الذبح‪ ،‬ث علم من فوره أنه خان ال ورسوله فمضي على وجهه‪ ،‬ول يرجع إل رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم حت أت السجد النبوي بالدينة‪ ،‬فربط نفسه بسارية السجد‪ ،‬وحلف أل يله إل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم بيده‪ ،‬وأنه ل يدخل أرض بن قريظة أبدا‪ .‬فلما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم خبه ـ‬
‫وكان قد استبطأه ـ قال‪( :‬أما إنه لو جاءن لستغفرت له‪ ،‬أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من‬
‫مكانه حت يتوب ال عليه)‪.‬‬

‫وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النول على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولقد كان‬
‫باستطاعة اليهود أن يتحملوا الصار الطويل ؛ لتوفر الواد الغذائية والياه والبار ومناعة الصون؛ ولن‬
‫السلمي كانوا يقاسون البد القارس والوع الشديد وهم ف العراء‪ ،‬مع شدة التعب الذي اعتراهم ؛‬
‫لواصلة العمال الربية من قبل بداية معركة الحزاب‪ ،‬إل أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب‪ ،‬فقد‬
‫قذف ال ف قلوبم الرعب‪ ،‬وأخذت معنوياتم تنهار‪ ،‬وبلغ هذا النيار إل نايته أن تقدم علي بن أب‬
‫طالب والزبي بن العوام‪ ،‬وصاح علي‪ :‬يا كتيبة اليان‪ ،‬وال لذوقن ما ذاق حزة أو لفتحن حصنهم‪.‬‬

‫وحينئذ بادروا إل النول على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأمر رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم باعتقال الرجال‪ ،‬فوضعت القيود ف أيديهم تت إشراف ممد بن مسلمة النصاري‪ ،‬وجعلت‬
‫النساء والذراري بعزل عن الرجال ف ناحية‪ ،‬وقامت الوس إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا‪ :‬يا‬
‫رسول ال‪ ،‬قد فعلت ف بن قينقاع ما قد علمت‪ ،‬وهم حلفاء إخواننا الزرج‪ ،‬وهؤلء موالينا‪ ،‬فأحسن‬
‫فيهم‪ ،‬فقال‪( :‬أل ترضون أن يكم فيهم رجل منكم؟) قالوا‪ :‬بلي‪ .‬قال‪( :‬فذاك إل سعد بن معاذ)‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫قد رضينا‪.‬‬

‫فأرسل إل سعد بن معاذ‪ ،‬وكان ف الدينة ل يرج معهم للجرح الذي كان قد أصاب أ ْكحُلَه ف معركة‬
‫الحزاب‪ .‬فأُركب حارا‪ ،‬وجاء إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجعلوا يقولون‪ ،‬وهم كََنفَيْهِ‪ :‬يا سعد‪،‬‬
‫أجل ف مواليك‪ ،‬فأحسن فيهم‪ ،‬فإن رسول ال قد حكمك لتحسن فيهم‪ ،‬وهو ساكت ل يرجع إليهم‬
‫شيئا‪ ،‬فلما أكثروا عليه قال‪ :‬لقد آن لسعد أل تأخذه ف ال لومة لئم‪ ،‬فلما سعوا ذلك منه رجع بعضهم‬
‫إل الدينة فنعي إليهم القوم‪.‬‬

‫ولا انتهى سعد إل النب صلى ال عليه وسلم قال للصحابة‪( :‬قوموا إل سيدكم)‪ ،‬فلما أنزلوه قالوا‪ :‬يا‬
‫سعد‪ ،‬إن هؤلء قد نزلوا على حكمك‪ .‬قال‪ :‬وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬وعلى السلمي؟‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وعلى من هاهنا؟ وأعرض بوجهه وأشار إل ناحية رسول ال صلى ال عليه وسلم إجللً‬
‫له وتعظيمًا‪ .‬قال‪( :‬نعم‪ ،‬وعلي)‪ .‬قال‪ :‬فإن أحكم فيهم أن يقتل الرجال‪ ،‬وتسب الذرية‪ ،‬وتقسم الموال‪،‬‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬لقد حكمت فيهم بكم ال من فوق سبع سوات)‪.‬‬

‫وكان حكم سعد ف غاية العدل والنصاف‪ ،‬فإن بن قريظة‪ ،‬بالضافة إل ما ارتكبوا من الغدر الشنيع‪،‬‬
‫كانوا قد جعوا لبادة السلمي ألفا وخسمائة سيف‪ ،‬وألفي من الرماح‪ ،‬وثلثائة درع‪ ،‬وخسمائة ترس‪،‬‬
‫جفَة ‪ ،‬حصل عليها السلمون بعد فتح ديارهم‪.‬‬
‫و َح َ‬

‫وأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم فحبست بنو قريظة ف دار بنت الارث امرأة من بن النجار‪،‬‬
‫وحفرت لم خنادق ف سوق الدينة‪ ،‬ث أمر بم‪ ،‬فجعل يذهب بم إل النادق أرسالً أرسالً‪ ،‬وتضرب ف‬
‫تلك النادق أعناقهم‪ .‬فقال من كان بعد ف البس لرئيسهم كعب بن أسد‪ :‬ما تراه يصنع بنا؟ فقال‪ :‬أف‬
‫كل موطن ل تعقلون؟ أما ترون الداعي ل ينع؟ والذاهب منكم ل يرجع؟ هو وال القتل ـ وكانوا ما‬
‫بي الستمائة إل السبعمائة‪ ،‬فضربت أعناقهم‪.‬‬

‫وهكذا ت استئصال أفاعي الغدر واليانة‪ ،‬الذين كانوا قد نقضوا اليثاق الؤكد‪ ،‬وعاونوا الحزاب على‬
‫إبادة السلمي ف أحرج ساعة كانوا يرون با ف حياتم‪ ،‬وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مرمي‬
‫الروب الذين يستحقون الحاكمة والعدام‪.‬‬
‫وقتل مع هؤلء شيطان بن النضي‪ ،‬وأحد أكابر مرمي معركة الحزاب حيي بن أخطب والد صفية أم‬
‫الؤمني رضي ال عنها كان قد دخل مع بن قريظة ف حصنهم حي رجعت عنهم قريش وغطفان ؛ وفاء‬
‫لكعب بن أسد با كان عاهده عليه حينما جاء يثيه على الغدر واليانة أيام غزوة الحزاب‪ ،‬فلما أت به‬
‫ـ وعليه ُحلّة قد شقها من كل ناحية بقدر أنلة لئل يُسْلَبَها ـ مموعة يداه إل عنقه ببل‪ ،‬قال لرسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أما وال ما لت نفسي ف معاداتك‪ ،‬ولكن من يُغالب ال ُيغْلَب‪ .‬ث قال‪ :‬أيها‬
‫الناس‪ ،‬ل بأس بأمر ال‪ ،‬كتاب و َقدَر ومَ ْلحَمَة كتبها ال على بن إسرائيل‪ ،‬ث جلس‪ ،‬فضربت عنقه‪.‬‬

‫وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت قد طرحت الرحى على َخلّد بن ُس َويْد فقتلته‪ ،‬فقتلت لجل ذلك‪.‬‬

‫وكان قد أمر رسول ال بقتل من أنْبَتَ‪ ،‬وترك من ل ينبت‪ ،‬فكان من ل ينبت عطية القُ َرظِي‪ ،‬فترك حيا‬
‫فأسلم‪ ،‬وله صحبة‪.‬‬

‫واستوهب ثابت بن قيس‪ ،‬الزبي بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبي يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال له ثابت بن قيس‪ :‬قد وهبك رسول ال صلى ال عليه وسلم إل ‪ ،‬ووهب‬
‫ل مالك وأهلك فهم لك‪ .‬فقال الزبي بعد أن علم بقتل قومه‪ :‬سألتك بيدي عندك يا ثابت إل ألقتن‬
‫بالحبة‪ ،‬فضرب عنقه‪ ،‬وألقه بالحبة من اليهود‪ ،‬واستحيا ثابت من ولد الزبي بن باطا عبد الرحن بن‬
‫الزبي‪ ،‬فأسلم وله صحبة‪.‬‬

‫واستوهبت أم النذر سلمي بنت قيس النجارية رفاعة بن سوأل القرظي‪ ،‬فوهبه لا فاستحيته‪ ،‬فأسلم وله‬
‫صحبة‪.‬‬

‫وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النول‪ ،‬فحقنوا دماءهم وأموالم وذراريهم‪.‬‬

‫وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رجلً ل يدخل مع بن قريظة ف غدرهم برسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ـ فرآه ممد بن مسلمة قائد الرس النبوي‪ ،‬فخلي سبيله حي عرفه‪ ،‬فلم يعلم أين ذهب‪.‬‬

‫وقسم رسول ال صلى ال عليه وسلم أموال بن قريظة بعد أن أخرج منها المس‪ ،‬فأسهم للفارس ثلثة‬
‫أسهم؛ سهمان للفرس وسهم للفارس‪ ،‬وأسهم للراجل سهما واحدا‪ ،‬وبعث من السبايا إل ند تت‬
‫إشراف سعد بن زيد النصاري فابتاع با خيلً وسلحا‪.‬‬
‫واصطفى رسول ال صلى ال عليه وسلم لنفسه من نسائهم َريْحَانة بنت عمرو بن خُنَافة‪ ،‬فكانت عنده‬
‫حت توف عنها وهي ف ملكه‪ ،‬هذا ما قاله ابن إسحاق‪.‬وقــال الكلب‪ :‬إنه صلى ال عليه وسلم أعتقها‪،‬‬
‫وتزوجها سنة ‪ 6‬هـ‪ ،‬وماتت مرجعـه مـن حجة الـوداع‪ ،‬فدفنها بالبقيـع‪.‬‬

‫ولا ت أمر قريظة أجيبت دعوة العبد الصال سعد بن معاذ رضي ال عنه ـ الت قدمنا ذكرها ف غزوة‬
‫الحزاب ـ وكان النب صلى ال عليه وسلم قد ضرب له خيمة ف السجد ليعوده من قريب‪ ،‬فلما ت أمر‬
‫قريظة انتقضت جراحته‪ .‬قالت عائشة‪ :‬فانفجرت من لَبِّتهِ فلم يَرُعْ ُهمْ ـ وف السجد خيمة من بن غفار‬
‫ـ إل والدم يسيل إليهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا أهل اليمة‪ ،‬ما هذا الذي يأتينا من قبلكم‪ ،‬فإذا سعد يغذو جرحه دما‪،‬‬
‫فمات منها‪.‬‬

‫وف الصحيحي عن جابر أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬اهتز عرش الرحن لوت سعد بن معاذ)‬
‫‪ .‬وصحح الترمذي من حديث أنس قال‪ :‬لا حلت جنازة سعد بن معاذ قال النافقون‪ :‬ما أخف جنازته‪،‬‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن اللئكة كانت تمله)‪.‬‬

‫قتل ف حصار بن قريظة رجل واحد من السلمي‪ ،‬وهو خلد بن سُ َويْد الذي طرحت عليه الرحى امرأة‬
‫من قريظة‪ .‬ومات ف الصار أبو سِنان بن ِمحْصَن أخو عُكّاشَة‪.‬‬

‫وأما أبو لُبابة‪ ،‬فأقام مرتبطا بالذع ست ليال‪ ،‬تأتيه امرأته ف وقت كل صلة فتحله للصلة‪ ،‬ث يعود‬
‫فيتبط بالذع‪ ،‬ث نزلت توبته على رسول ال صلى ال عليه وسلم َسحَرًا وهو ف بيت أم سلمة‪ ،‬فقامت‬
‫على باب حجرتا‪ ،‬وقالت‪ :‬يا أبا لبابة‪ ،‬أبشر فقد تاب ال عليك‪ ،‬فثار الناس ليطلقوه‪ ،‬فأب أن يطلقه أحد‬
‫إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما مر النب صلى ال عليه وسلم خارجا إل صلة الصبح أطلقه‪.‬‬

‫وقعت هــذه الغــزوة فـي ذي القعدة سنـة ‪ 5‬هـ‪ ،‬ودام الصار خسا وعشريـن ليلة‪.‬‬

‫وأنزل ال تعإل ف غزوة الحزاب وبن قريظة آيات من سورة الحزاب‪ ،‬ذكر فيها أهم جزئيات الوقعة‪،‬‬
‫وبي حال الؤمني والنافقي‪ ،‬ث تذيل الحزاب‪ ،‬ونتائج الغدر من أهل الكتاب‪.‬‬
‫النشاط العسكري بعد هذه الغزوة‬

‫لقَيْق‬
‫مقتل َسلّم بن أب ا ُ‬

‫كان سلم بن أب القيق ـ وكنيته أبو رافع ـ من أكابر مرمي اليهود الذين حزبوا الحزاب ضد‬
‫السلمي‪ ،‬وأعانم بالؤن والموال الكثية ‪ ،‬وكان يؤذي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما فرغ‬
‫السلمون من أمر قريظة استأذنت الزرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ف قتله‪ .‬وكان قتل كعب بن‬
‫الشرف على أيدي رجال من الوس‪ ،‬فرغبت الزرج ف إحراز فضيلة مثل فضيلتهم‪ ،‬فلذلك أسرعوا إل‬
‫هذا الستئذان‪.‬‬

‫وأذن رسول ال ف قتله وني عن قتل النساء والصبيان‪ ،‬فخرجت مفرزة قوامها خسة رجال‪ ،‬كلهم من‬
‫بن سلمة من الزرج‪ ،‬قائدهم عبد ال بن عَتِيك‪.‬‬

‫خرجت هذه الفرزة‪ ،‬واتهت نو خيب ؛ إذ كان هناك حصن أب رافع‪ ،‬فلما دنوا منه‪ ،‬وقد غربت‬
‫الشمس‪ ،‬وراح الناس بسرحهم‪ ،‬قال عبد ال بن عتيك لصحابه‪ :‬اجلسوا مكانكم‪ ،‬فإن منطلق ومتلطف‬
‫للبواب‪ ،‬لعلى أن أدخل‪ ،‬فأقبل حت دنا من الباب‪ ،‬ث تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته‪ ،‬وقد دخل الناس‪،‬‬
‫فهتف به البواب‪ :‬يا عبد ال‪ ،‬إن كنت تريد أن تدخل فادخل‪ ،‬فإن أريد أن أغلق الباب‪.‬‬

‫قال عبد ال بن َعتِيك‪ :‬فدخلت فكمنت‪ ،‬فلما دخل الناس أغلق الباب‪ ،‬ث علق الغاليق على وَدّ‪ .‬قال‪:‬‬
‫فقمت إل القاليد فأخذتا‪ ،‬ففتحت الباب‪ ،‬وكان أبو رافع يسمر عنده‪ ،‬وكان ف علل له‪ ،‬فلما ذهب‬
‫عنه أهل سره صعدت إليه‪ ،‬فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت على من داخل‪ .‬قلت‪ :‬إن القوم لو نَذِروا ب‬
‫ل يلصوا إل حت أقتله‪ ،‬فانتهيت إليه‪ ،‬فإذا هو ف بيت مظلم وسط عياله‪ ،‬ل أدري أين هو من البيت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أبا رافع‪ ،‬قال‪ :‬من هذا؟ فأهويت نو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش‪ ،‬فما أغنيت شيئا‪،‬‬
‫وصاح‪ ،‬فخرجت من البيت‪ ،‬فأمكث غي بعيد‪ ،‬ث دخلت إليه‪ ،‬فقلت‪ :‬ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال‪:‬‬
‫لمك الويل‪ ،‬إن رجلً ف البيت ضربن قبل بالسيف‪ .‬قال‪ :‬فأضربه ضربة أثخنته ول أقتله‪ .‬ث وضعت‬
‫ضَبِيب السيف ف بطنه حت أخذ ف ظهره‪ ،‬فعرفت أن قتلته‪ ،‬فجعلت أفتح البواب بابا بابا‪ ،‬حت انتهيت‬
‫إل درجة له‪ ،‬فوضعت رجلي‪ ،‬وأنا أري أن قد انتهيت إل الرض‪ ،‬فوقعت ف ليلة مقمرة‪ ،‬فانكسرت‬
‫ساقي‪ ،‬فعصبتها بعمامة‪ ،‬ث انطلقت حت جلست على الباب‪ .‬فقلت‪ :‬ل أخرج الليلة حت أعلم أقتلته؟‬
‫فلما صاح الديك قام الناعي على السور‪ ،‬فقال‪ :‬أنعي أبا رافع تاجر أهل الجاز‪ ،‬فانطلقت إل أصحاب‬
‫فقلت‪ :‬النجاء‪ ،‬فقد قتل ال أبا رافع‪ .‬فانتهيت إل النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فحدثته فقال‪( :‬ابسط‬
‫رجلك)‪ ،‬فبسطت رجلي فمسحها فكأنا ل أشتكها‪.‬‬

‫هذه رواية البخاري‪ ،‬وعند ابن إسحاق أن جيع النفر دخلوا على أب رافع واشتركوا ف قتله‪ ،‬وأن الذي‬
‫تامل عليه بالسيف حت قتله هو عبد ال بن أنيس‪ ،‬وفيه‪ :‬أنم لا قتلوه ليلً‪ ،‬وانكسرت ساق عبد ال بن‬
‫عتيك حلوه‪ ،‬وأتوا مَنْهَرًا من عيونم فدخلوا فيه‪ ،‬وأوقد اليهود النيان واشتدوا ف كل وجه‪ ،‬حت إذا‬
‫يئسوا رجعوا إل صاحبهم‪ ،‬وأنم حي رجعوا احتملوا عبد ال بن عتيك حت قدموا على رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪.‬‬

‫كان مبعث هذه السرية ف ذي القعدة أو ذي الجة سنة ‪ 5‬هـ‪.‬‬

‫ولا فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم من الحزاب وقريظة أخذ يوجه حلت تأديبية إل القبائل‬
‫والعراب‪ ،‬الذين ل يكونوا يستكينون للمن والسلم إل بالقوة القاهرة‪.‬‬

‫سرية ممد بن مسلمة‬

‫وكانت أول سرية بعد الفراغ من الحزاب وقريظة‪ ،‬وكان عدد قوات هذه السرية ثلثي راكبا‪.‬‬

‫تركت هذه السرية إل القرطاء بناحية ضَ ِريّة بالبَكَرات من أرض ند‪ ،‬وبي ضرية والدينة سبع ليال‪،‬‬
‫تركت لعشر ليال خلون من الحرم سنة ‪ 6‬هـ إل بطن بن بكر بن كلب‪ .‬فلما أغارت عليهم هربوا‪،‬‬
‫فاستاق السلمون نعما وشاء‪ ،‬وقدموا الدينة لليلة بقيت من الحرم ومعهم ثُمَامَة بن أثال النفي سيد بن‬
‫حنيفة‪ ،‬كان قد خرج متنكرا لغتيال النب صلى ال عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب ‪ ،‬فأخذه السلمون‪،‬‬
‫فلما جاءوا به ربطوه بسارية من سواري السجد‪ ،‬فخرج إليه النب صلى ال عليه وسلم فقال‪( :‬ما ذا‬
‫عندك يا ثامة؟) فقال‪ :‬عندي خي يا ممد‪ ،‬إن تقتل تقتل ذا دم‪ ،‬وإن تنعم تنعم على شاكر‪ ،‬وإن كنت‬
‫تريد الال فَسَلْ تعط منه ماشئت‪ ،‬فتركه‪ ،‬ث مرّ به مرة أخري ؛ فقال له مثل ذلك‪ ،‬فرد عليه كما رد عليه‬
‫أولً ‪ ،‬ث مر مرة ثالثة فقال ـ بعد ما دار بينهما الكلم السابق‪( :‬أطلقوا ثامة)‪ ،‬فأطلقوه‪ ،‬فذهب إل نل‬
‫قريب من السجد فاغتسل‪ ،‬ث جاءه فأسلم‪ ،‬وقال‪ :‬وال‪ ،‬ما كان على وجه الرض وجه أبغض إل من‬
‫وجهك‪ ،‬فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إل‪ ،‬وال ما كان على وجه الرض دين أبغض إل من دينك‪،‬‬
‫فقد أصبح دينك أحب الديان إل‪ ،‬وإن خيلك أخذتن وأنا أريد العمرة‪ ،‬فبشره رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وأمره أن يعتمر‪ ،‬فلما قدم على قريش قالوا‪ :‬صبأت يا ثامة‪ ،‬قال‪ :‬ل وال‪ ،‬ولكن أسلمت مع‬
‫ممد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول وال ل يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حت يأذن فيها رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬وكانت يامة ريف مكة‪ ،‬فانصرف إل بلده‪ ،‬ومنع المل إل مكة‪ ،‬حت جهدت قريش‪،‬‬
‫وكتبوا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إل ثامـة يلي إليـه حل‬
‫الطعـام‪ ،‬ففعـل رسـول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫غزوة بن َلحْيَان‬

‫بنو ليان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم بالرّجِيع‪ ،‬وتسببوا‬
‫ف إعدامهم‪ ،‬ولكن لا كانت ديارهم متوغلة ف الجاز إل حدود مكة‪ .‬والتارات الشديدة قائمة بي‬
‫السلمي وقريش والعراب‪ ،‬ل يكن يري رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يتوغل ف البلد بقربة من‬
‫العدو الكب‪ ،‬فلما تاذلت الحزاب‪ ،‬واستوهنت عزائمهم‪ ،‬واستكانوا للظروف الراهنة إل حد ما‪ ،‬رأي‬
‫أن الوقت قد آن لن يأخذ من بن ليان ثأر أصحابه القتولي بالرجيع‪ ،‬فخرج إليهم ف ربيع الول أو‬
‫جادي الول سنة ‪ 6‬هـ ف مائتي من أصحابه‪ ،‬واستخلف على الدينة ابن أم مكتوم‪ ،‬وأظهر أنه يريد‬
‫سفَان ـ حيث كان مصاب أصحابه‪،‬‬
‫الشام‪ ،‬ث أسرع السي حت انتهي إل بطن غُرَان ـ واد بي أ َمجَ و ُع ْ‬
‫فترحم عليهم ودعا لم‪ ،‬وسعت به بنو ليان فهربوا ف رءوس البال‪ ،‬فلم يقدر منهم على أحد‪ ،‬فأقام‬
‫يومي بأرضهم‪ ،‬وبعث السرايا‪ ،‬فلم يقدروا عليهم‪ ،‬فسار إل عسفان‪ ،‬فبعث عشرة فوارس إل كُرَاع‬
‫الغَمِيم لتسمع به قريش‪ ،‬ث رجع إل الدينة‪ .‬وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة‪.‬‬

‫متابعة البعوث والسرايا‬

‫ث تابع رسول ال صلى ال عليه وسلم ف إرسال البعوث والسرايا‪ ،‬وهاك صورة مصغرة منها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ سرية عُكّاشَة بن ِمحْصَن إل الغَمْر ف ربيع الول أو الخر سنة ‪6‬هـ‪ .‬خرج عكاشة ف أربعي‬
‫رجلً إل الغمْر‪ ،‬ماء لبن أسد‪ ،‬ففر القوم‪ ،‬وأصاب السلمون مائت بعي ساقوها إل الدينة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ سرية ممد بن مَسْ َلمَة إل ذي القَصّة ف ربيع الول أو الخر سنة ‪ 6‬هـ‪ .‬خرج ابن مسلمة ف‬
‫عشرة رجال إل ذي القصة ف ديار بن ثعلبة‪ ،‬فكمن القوم لم ـ وهم مائة ـ فلما ناموا قتلوهم إل ابن‬
‫مسلمة فإنه أفلت منهم جريا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ سرية أب عبيدة بن الراح إل ذي القصة ف ربيع الخر سنة ‪ 6‬هـ‪ ،‬وقد بعثه النب صلى ال عليه‬
‫وسلم على إثر مقتل أصحاب ممد بن مسلمة‪ ،‬فخرج ومعه أربعون رجلً إل مصارعهم‪ ،‬فساروا ليلتهم‬
‫مشاة‪ ،‬ووافوا بن ثعلبة مع الصبح فأغاروا عليهم‪ ،‬فأعجزوهم هربا ف البال‪ ،‬وأصابوا رجلً واحدا‬
‫فأسلم‪ ،‬وغنموا َنعَما وشاء‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ سرية زيد بن حارثة إل الَمُوم ف ربيع الخر سنة ‪6‬هـ ـ والموم ماء لبن سليم ف مَرّ الظّهْرَان‬
‫ـ خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مُ َزيْنَة يقال لا‪ :‬حليمة‪ ،‬فدلتهم على ملة من بن سليم أصابوا فيها‬
‫نعما وشاء وأسري‪ ،‬فلما قفل زيد با أصاب وهب رسول ال صلى ال عليه وسلم للمزينية نفسها‬
‫وزوجها‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ سرية زيد إل العِيص ف جادي الول سنة ‪ 6‬هـ ف سبعي ومائة راكب‪ ،‬وفيها أخذت أموال عي‬
‫لقريش كان قائدها أبو العاص خَتَن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬وأفلت أبو العاص‪ ،‬فأت زينب‬
‫فاستجار با‪ ،‬وسألا أن تطلب من رسول ال صلى ال عليه وسلم رد أموال العي عليه ففعلت‪ ،‬وأشار‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم على الناس برد الموال من غي أن يكرههم‪ ،‬فردوا الكثي والقليل‬
‫والكبي والصغي حت رجع أبو العاص إل مكة‪ ،‬وأدي الودائع إل أهلها‪ ،‬ث أسلم وهاجر‪ ،‬فرد عليه رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم زينب بالنكاح الول بعد ثلث سني ونيف‪ ،‬كما ثبت ف الديث الصحيح‬
‫ردهــا بالنـكاح الول ؛ لن آيــة تري السلمات على الكفار ل تكن نزلت إذ ذاك‪ ،‬وأما ما ورد‬
‫من الديث من أنه رد عليه بنكاح جديد‪ ،‬أو رد عليه بعد ست سني فل يصح معن‪ ،‬كما أنـــه‬
‫ليـس بصحـيح سندا‪ .‬والعجب من يتمسكون بذا الديث الضعيف فإنم يقولون‪ :‬إن أبا العاص أسلم‬
‫ف أواخر سنة ثان قبيل الفتح‪ .‬ث يناقضون أنفسهم‪ ،‬فيقولون‪ :‬إن زينب ماتت ف أوائل سنة ثان‪ ،‬وقد‬
‫بسطنا الكلم شيئا ف تعليقنا على بلوغ الرام‪ .‬وجنح موسي بن عقبة إل أن هذا الادث وقع ف سنة‬
‫‪7‬هـ من قبل أب بصي وأصحابه‪ ،‬ولكن ذلك ل يطابق الديث الصحيح ول الضعيف‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ سرية زيد أيضا إل الطّرِف أو الطّرِق ف جادي الخر سنة ‪ 6‬هـ‪ .‬خرج زيد ف خسة عشر رجلً‬
‫إل بن ثعلبة فهربت العراب‪ ،‬وخافوا أن يكون رسول ال صلى ال عليه وسلم سار إليهم‪ ،‬فأصاب من‬
‫نَعَمِهِم عشرين بعيا‪ ،‬وغاب أربع ليال‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ سرية زيد أيضا إل وادي القري ف رجب سنة ‪ 6‬هـ‪ .‬خرج زيد ف اثن عشر رجلً إل وادي‬
‫القري؛ لستكشاف حركات العدو إن كانت هناك‪ ،‬فهجم عليهم سكان وادي القري ؛ فقتلوا تسعة‪،‬‬
‫وأفلتت ثلثة فيهم زيد بن حارثة‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ سرية الَبَط ـ تذكر هذه السرية ف رجب سنة ‪ 8‬هـ‪ ،‬ولكن السياق يدل على أنا كانت قبل‬
‫الديبية ـ قال جابر‪ :‬بعثنا النب صلى ال عليه وسلم ف ثلثائة راكب‪ ،‬أمينا أبو عبيدة بن الراح‪،‬‬
‫نرصد عيا لقريش‪ ،‬فأصابنا جوع شديد حت أكلنا البط‪ ،‬فسمي جيش البط‪ ،‬فنحر رجل ثلث جزائر‪،‬‬
‫ث نر ثلث جزائر‪ ،‬ث نر ثلث جزائر‪ ،‬ث إن أبا عبيدة ناه‪ ،‬فألقي إلينا البحر دابة يقال لا‪ :‬العَنْبَر‪ ،‬فأكلنا‬
‫منه نصف شهر‪ ،‬وادّهَنّا منه حت ثابت منه أجسامنا‪ ،‬وصلحت‪ ،‬وأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلعه‪ ،‬فنظر‬
‫إل أطول رجل ف اليش وأطول جل‪ ،‬فحمل عليه‪ ،‬ومر تته‪ ،‬وتزودنا من لمة وَشَائِق‪ ،‬فلما قدمنا‬
‫الدينة‪ ،‬أتينا رسول ال صلى ال عليه وسلم فذكرنا له ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬هو رزق أخرجه ال لكم‪ ،‬فهل معكم‬
‫من لمة شيء تطعمونا؟) فأرسلنا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم منه‪.‬‬

‫وإنا قلنا‪ :‬إن سياق هذه السرية يدل على أنا كانت قبل الديبية؛ لن السلمي ل يكونوا يتعرضون لعي‬
‫قريش بعد صلح الديبية‪.‬‬
‫غزوة بن الُصطلق أو غزوة الريسيع ف شعبان سنة ‪ 5‬أو ‪ 6‬هـ‬

‫غزوة بن الُصطلق أو غزوة الريسيع‬


‫دور النافقي قبل غزوة بن الصطلق‬
‫دور النافقي ف غزوة بن الصطلق‬

‫غزوة بن الُصطلق أو غزوة الريسيع‬

‫وهذه الغزوة وإن ل تكن طويلة الذيل‪ ،‬عريضة الطراف من حيث الوجهة العسكريـة‪ ،‬إل أنا وقعـت‬
‫فيـها وقـائـع أحدثـت البلبلـة والضطـراب فـي الجتمـع السلمي‪ ،‬وتخضت عن افتضاح‬
‫النافقي‪ ،‬والتشريعات التعزيرية الت أعطت الجتمع السلمي صورة خاصة من النبل والكرامة وطهارة‬
‫النفوس‪ .‬ونسرد الغزوة أولً‪ ،‬ث نذكر تلك الوقائع‪.‬‬

‫كانت هذه الغزوة ف شعبان سنة خس عند عامة أهل الغازي‪ ،‬وسنة ست على قول ابن إسحاق‪.‬‬

‫وسببها أنه بلغه صلى ال عليه وسلم أن رئيس بن الصطلق الارث بن أب ضِرَار سار ف قومه ومن قدر‬
‫عليه من العرب يريدون حرب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فبعث بُ َرْيدَة بن الصيب السلمي لتحقيق‬
‫الب‪ ،‬فأتاهم‪ ،‬ولقي الارث بن أب ضرار وكلمه‪ ،‬ورجع إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخبه الب‪.‬‬

‫وبعد أن تأكد لديه صلى ال عليه وسلم صحة الب ندب الصحابة‪ ،‬وأسرع ف الروج‪ ،‬وكان خروجه‬
‫لليلتي خلتا من شعبان‪ ،‬وخرج معه جاعة من النافقي ل يرجوا ف غزاة قبلها‪ ،‬واستعمل على الدينة زيد‬
‫بن حارثة‪ ،‬وقيل‪ :‬أبا ذر‪ ،‬وقيل‪ :‬نُمَيْلَة بن عبد ال الليثي‪ ،‬وكان الارث بن أب ضرار قد وجه عينًا ؛ ليأتيه‬
‫بب اليش السلمي‪ ،‬فألقي السلمون عليه القبض وقتلوه‪.‬‬

‫ولا بلغ الارث بن أب ضرار ومن معه مسي رسول ال صلى ال عليه وسلم وقتله عينه‪ ،‬خافوا خوفا‬
‫شديدا وتفرق عنهم من كان معهم من العرب‪ ،‬وانتهي رسول ال صلى ال عليه وسلم إل الُ َريْسِيع ـ‬
‫صفّ رسول ال‬
‫بالضم فالفتح مصغرا‪ ،‬اسم لاء من مياههم ف ناحية ُق َديْد إل الساحل ـ فتهيأوا للقتال‪ .‬وَ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم أصحابه‪ ،‬وراية الهاجرين مع أب بكر الصديق‪ ،‬وراية النصار مع سعد بن عبادة‪،‬‬
‫فتراموا بالنبل ساعة‪ ،‬ث أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم فحملوا حلة رجل واحد‪ ،‬فكانت النصرة‬
‫وانزم الشركون‪ ،‬وقتل من قتل‪ ،‬وسب رسول ال صلى ال عليه وسلم النساء والذراري والنعم والشاء‪،‬‬
‫ول يقتل من السلمي إل رجل واحد‪ ،‬قتله رجل من النصار ظنا منه أنه من العدو‪.‬‬

‫كذا قال أهل الغازي والسي‪ ،‬قال ابن القيم‪ :‬هو وَهْم‪ ،‬فإنه ل يكن بينهم قتال‪ ،‬وإنا أغار عليهم على الاء‬
‫فسب ذراريهم وأموالم‪ ،‬كما ف الصحيح أغار رسول صلى ال عليه وسلم على بن الصطلق وهم‬
‫غارون‪ ،‬وذكر الديث‪ .‬انتهي‪.‬‬

‫وكان من جلة السب‪ :‬جُ َويْ ِريَة بنت الارث سيد القوم‪ ،‬وقعت ف سهم ثابت ابن قيس‪ ،‬فكاتبها‪ ،‬فـأدي‬
‫عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم وتزوجهـا‪ ،‬فأعـتق السلـمون بسبـب هـذا التزويـج‬
‫مـائـة أهـل بيـت مـن بنـي الصطلق قـد أسلمـوا‪ ،‬وقـالـوا‪ :‬أصهـار رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬

‫وأما الوقائع الت حدثت ف هذه الغزوة‪ ،‬فلجل أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد ال بن أب وأصحابه‪،‬‬
‫نري أن نورد أولً شيئا من أفعالم ف الجتمع السلمي‪.‬‬

‫دور النافقي قبل غزوة بن الصطلق‬

‫قدمنا مرارا أن عبد ال بن أب كان َيحْنَقُ على السلم والسلمي‪ ،‬ولسيما على رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم َحَنقًا شديدا ؛ لن الوس والزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته‪ ،‬وكانوا ينظمون له الَ َرزَ ليتوجوه‬
‫إذ دخل فيهم السلم‪ ،‬فصرفهم عن ابن أب‪ ،‬فكان يري أن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو الذي‬
‫استلبه ملكه‪.‬‬

‫وقد ظهر حنقه هذا وترقه منذ بداية الجرة قبل أن يتظاهر بالسلم‪ ،‬وبعد أن تظاهر به‪ .‬ركب رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم مرة على حار ليعود سعد بن عبادة‪ ،‬فمر بجلس فيه عبد ال بن أب فخَمّرَ ابن أب‬
‫أنفه‪ ،‬وقال‪ :‬ل تُغَبّرُوا علينا‪ .‬ولا تل رسول ال صلى ال عليه وسلم على الجلس القرآن‪ ،‬قال‪ :‬اجلس ف‬
‫بيتك‪ ،‬ول تؤذنا ف مالسنا‪.‬‬
‫وهذا قبل أن يتظاهر بالسلم‪ ،‬ولا تظاهر به بعد بدر ل يزل إل عدوًا ل ولرسوله وللمؤمني‪ ،‬ول يكن‬
‫يفكر إل ف تشتيت الجتمع السلمي وتوهي كلمة السلم‪ .‬وكان يوإل أعداءه‪ ،‬وقد تدخل ف أمر بن‬
‫قينقاع كما ذكرنا‪ ،‬وكذلك جاء ف غزوة أحد من الشر والغدر والتفريق بي السلمي‪ ،‬وإثارة الرتباك‬
‫والفوضي ف صفوفهم با مضي‪.‬‬

‫وكان من شدة مكر هذا النافق وخداعه بالؤمني أنه كان بعد التظاهر بالسلم‪ ،‬يقوم كل جعة حي يلس‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم للخطبة‪ ،‬فيقول‪ :‬هذا رسول ال صلى ال عليه وسلم بي أظهركم‪،‬‬
‫أكرمكم ال وأعزكم به‪ ،‬فانصروه وعزروه‪ ،‬واسعـوا لــه وأطيعوا‪ ،‬ث يلس‪ ،‬فيقوم رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ويطب‪ .‬وكان من وقاحة هذا النافق أنه قام ف يوم المعة الت بعد أحد ـ مع ما ارتكبه‬
‫من الشر والغدر الشنيع ـ قام ليقول ما كان يقوله من قبل‪ ،‬فأخذ السلمون بثيابه من نواحيه‪ ،‬وقالوا له‪:‬‬
‫اجلس أي عدو ال‪ ،‬لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت‪ ،‬فخرج يتخطي رقاب الناس‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫وال لكأنا قلت بُجْرًا أن قمت أشدد أمره‪ ،‬فلقيه رجل من النصار بباب السجد‪ ...‬فقال‪ :‬ويلك‪ ،‬ارجع‬
‫يستغفر لك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬وال ما أبتغي أن يستغفر ل‪.‬‬

‫وكانت له اتصالت ببن النضي يؤامر معهم ضد السلمي حت قال لم‪{ :‬لَئِنْ أُخْرِجُْتمْ لََنخْرُجَنّ مَعَ ُكمْ َولَا‬
‫ص َرنّ ُكمْ} [ الشر‪.]11 :‬‬
‫نُطِيعُ فِي ُكمْ أَ َحدًا أََبدًا َوإِن قُوتِلُْتمْ لَنَن ُ‬

‫وكذلك فعل هو وأصحابه ف غزوة الحزاب من إثارة القلق والضطراب وإلقاء الرعب والدهشة ف‬
‫قلوب الؤمني ما قصه ال تعال ف سورة الحزاب‪َ { :‬وإِذْ يَقُولُ الْمُنَا ِفقُونَ وَاّلذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّ َرضٌ مّا‬
‫ت الْأَ ْحزَابُ يَوَدّوا لَوْ أَنّهُم‬
‫وَ َع َدنَا ال ّلهُ َورَسُولُهُ ِإلّا غُرُورًا} إل قوله‪َ { :‬يحْسَبُو َن اْلأَحْزَابَ َلمْ َيذْهَبُوا َوإِن َيأْ ِ‬
‫سَألُونَ عَنْ أَنبَائِ ُكمْ َولَوْ كَانُوا فِيكُم مّا قَاتَلُوا إِلّا قَلِيلًا} [الحزاب‪.]20 :12 :‬‬
‫بَادُونَ فِي اْلأَعْرَابِ يَ ْ‬

‫بيد أن جيع أعداء السلم من اليهود والنافقي والشركي كانوا يعرفون جيدا أن سبب غلبة السلم ليس‬
‫هو التفوق الادي وكثرة السلح واليوش والعدد‪ ،‬وإنا السبب هي القيم والخلق والثل الت يتمتع با‬
‫الجتمع السلمي وكل من يت بصلة إل هذا الدين‪ ،‬وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيض إنا هو رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم الذي هو الثل العلى ـ إل حد العجاز ـ لذه القيم‪ ،‬كما عرفوا بعد إدارة‬
‫دفة الروب طيلة خس سني‪ ،‬أن القضاء على هذا الدين وأهله ل يكن عن طريق استخدام السلح‪،‬‬
‫فقرروا أن يشنوا حربا دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الخلق والتقاليد‪ ،‬وأن يعلوا شخصية الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم أول هدف لذه الدعاية الكاذبة الاطئة‪ .‬ولا كان النافقون هم الطابور الامس ف‬
‫صفوف السلمي‪ ،‬ولكونم سكان الدينة‪ ،‬كان يكن لم التصال بالسلمي واستفزاز مشاعرهم كل حي‪.‬‬
‫تمل فريضة الدعاية هؤلء النافقون‪ ،‬وعلى رأسهم ابن أب‪.‬‬

‫وقد ظهرت خطتهم هذه جلية حينما تزوج رسول ال صلى ال عليه وسلم بأم الؤمني زينب بنت‬
‫جحش‪ ،‬بعد أن طلقها زيد بن حارثة‪ ،‬فقد كان من تقاليد العرب أنم كانوا يعتبون التبن مثل البن‬
‫الصلب‪ ،‬فكانوا يعتقدون حرمة حليلة التبن على الرجل الذي تبناه‪ ،‬فلما تزوج النب صلى ال عليه وسلم‬
‫بزينب وجد النافقون ثُلْمَتَيْن ـ حسب زعمهم ـ لثارة الشاغب ضد النب صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫الول‪ :‬أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة‪ ،‬والقرآن ل يكن أذن ف الزواج بأكثر من أربع نسوة‪ ،‬فكيف‬
‫صح له هذا الزواج؟‬

‫الثانية‪ :‬أن زينب كانت زوجة ابنه ـ مُتَبَنّاه ـ فالزواج با من أكب الكبائر‪ ،‬حسب تقاليد العرب‪.‬‬
‫وأكثروا من الدعاية ف هذا السبيل‪ ،‬واختلقوا قصصا وأساطي‪ ،‬قالوا‪ :‬إن ممدا رآها بغتة‪ ،‬فتأثر بسنها‬
‫وشغفته حبا‪ ،‬وعلقت بقلبه‪ ،‬وعلم بذلك ابنه زيد فخلي سبيلها لحمد‪ ،‬وقد نشروا هذه الدعاية الختلقة‬
‫نشرا بقيت آثاره ف كتب التفسي والديث إل هذا الزمان‪ ،‬وقد أثرت تلك الدعاية أثرا قويا ف صفوف‬
‫الضعفاء حت نزل القرآن باليات البينات فيها شفاء لا ف الصدور‪ ،‬وينبئ عن سعة نشر هذه الدعاية أن‬
‫ال استفتح سورة الحزاب بقوله‪{ :‬يا َأيّهَا النِّب ّي اتّقِ ال ّلهَ َولَا تُ ِطعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِيَ ِإنّ ال ّلهَ كَانَ عَلِيمًا‬
‫حَكِي ًماَ} [الحزاب‪.]1 :‬‬

‫وهذه إشارات عابرة‪ ،‬وصور مصغرة لا اقترفه النافقون قبل غزوة بن الصطلق‪ ،‬وكان النب صلى ال عليه‬
‫وسلم يكابد كل ذلك بالصب واللي والتلطف‪ ،‬وكان عامة السلمي يترزون عن شرهم‪ ،‬أو يتحملونه‬
‫بالصب ؛ إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخري حسب قوله تعال‪{ :‬أَوَلَ يَرَ ْونَ أَنّ ُهمْ ُيفْتَنُونَ فِي‬
‫كُلّ عَامٍ مّ ّرةً أَوْ مَرّتَ ْينِ ُثمّ لَ يَتُوبُونَ وَلَ ُهمْ َيذّكّرُونَ} [التوبة ‪.]126:‬‬

‫دور النافقي ف غزوة بن الصطلق‬

‫ولا كانت غزوة بن الصطلق وخرج فيها النافقون مثلوا قوله تعال‪{ :‬لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُو ُكمْ إِلّ‬
‫للَ ُكمْ يَ ْبغُونَ ُكمُ اْلفِتَْنةَ} [التوبة‪ ]47 :‬فقد وجدوا متنفسي للتنفس بالشر‪ ،‬فأثاروا‬
‫ضعُواْ ِخ َ‬
‫خَبَالً و َلوْ َ‬
‫الرتباك الشديد ف صفوف السلمي‪ ،‬والدعاية الشنيعة ضد النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهاك بعض‬
‫التفصيل عنها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ قول النافقي‪[ :‬لئن رجعنا إل الدينة ليخرجن العز منها الذل]‬

‫كان رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الفراغ من الغزوة مقيما على الُ َريْسِيع‪ ،‬ووردت واردة الناس‪،‬‬
‫ومع عمر بن الطاب أجي يقال له‪ :‬جَ ْهجَاه الغفاري‪ ،‬فازدحم هو وسِنَان بن َوبَر الهن على الاء فاقتتل‪،‬‬
‫فصرخ الهن‪ :‬يا معشر النصار‪ ،‬وصرخ جهجاه‪ :‬يا معشر الهاجرين‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪( :‬أبدعوي الاهلية وأنا بي أظهركم؟ دعوها فإنا مُنْتِنَة)‪ ،‬وبلغ ذلك عبد ال بن أب بن سلول‬
‫فغضب ـ وعنده رهط من قومه‪ ،‬فيهم زيد بن أرقم غلم حدث ـ وقال‪ :‬أو قد فعلوها‪ ،‬قد نافرونا‬
‫وكاثرونا ف بلدنا‪ ،‬وال ما نن وهم إل كما قال الول‪ :‬سَمّنْ كَلَْبكَ يَأكُ ْلكَ‪ ،‬أما وال لئن رجعنا إل‬
‫الدينة ليخرجن العز منها الذل‪ ،‬ث أقبل على من حضره فقال لم‪ :‬هذا ما فعلتم بأنفسكم‪ ،‬أحللتموهم‬
‫بلدكم‪ ،‬وقاستموهم أموالكم‪ ،‬أما وال لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إل غي داركم‪.‬‬

‫فأخب زيد بن أرقم عمه بالب‪ ،‬فأخب عمه رسول ال صلى ال عليه وسلم وعنده عمر‪ ،‬فقال عمر‪ :‬مُرْ‬
‫عَبّاد بن بشر فليقتله‪ .‬فقال‪( :‬فكيف يا عمر إذا تدث الناس أن ممدا يقتل أصحابه؟ ل ولكن أَ ّذنْ‬
‫بالرحيل)‪ ،‬وذلك ف ساعة ل يكن يرتل فيها‪ ،‬فارتل الناس‪ ،‬فلقيه أسيد بن حضي فحياه‪ ،‬وقال‪ :‬لقد‬
‫رحت ف ساعة منكرة؟ فقال له‪( :‬أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟) يريد ابن أب‪ ،‬فقال‪ :‬وما قال؟ قال‪( :‬‬
‫زعم أنه إن رجع إل الدينة ليخرجن العز منها الذل)‪ ،‬قال‪ :‬فأنت يا رسول ال‪ ،‬ترجه منها إن شئت‪،‬‬
‫هو وال الذليل وأنت العزيز‪ ،‬ث قال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ارفق به‪ ،‬فوال لقد جاءنا ال بك‪ ،‬وإن قومه لينظمون‬
‫له الَرَز ليتوجوه‪ ،‬فإنه يري أنك استلبته ملكا‪.‬‬

‫صدْر يومهم ذلك حت آذتم الشمس‪ ،‬ث‬


‫ث مشي بالناس يومهم ذلك حت أمسي‪ ،‬وليلتهم حت أصبح‪ ،‬و َ‬
‫نزل بالناس‪ ،‬فلم يلبثوا أن وجدوا مَـسّ الرض فوقعوا نياما‪ .‬فعل ذلك ليشغل الناس عن الديث‪.‬‬

‫أما ابن أب فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الب جاء إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وحلف بال ما‬
‫قلت ما قال‪ ،‬ول تكلمت به‪ ،‬فقال من حضر من النصار‪ :‬يا رسول ال عسي أن يكون الغلم قد أوهم ف‬
‫حديثه‪ ،‬ول يفظ ما قال الرجل‪ .‬فصدقه‪ ،‬قال زيد‪ :‬فأصابن َهمّ ل يصبن مثله قط‪ ،‬فجلست ف بيت‪ ،‬فأنزل‬
‫ال‪{ :‬إِذَا جَاءكَ الْمُنَا ِفقُونَ} إل قوله‪ُ { :‬همُ اّلذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا َعلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ ال ّلهِ َحتّى يَنفَضّوا}‬
‫إل {لَُيخْرِ َج ّن اْلأَعَزّ مِنْهَا الْأَ َذلّ} [النافقون‪ 1 :‬ـ ‪ ،]8‬فأرسل إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫فقرأها علي‪ .‬ث قال‪( :‬إن ال قد صدقك)‪.‬‬

‫وكان ابن هذا النافق ـ وهو عبد ال بن عبد ال بن أب ـ رجلً صالا من الصحابة الخيار‪ ،‬فتبأ من‬
‫أبيه‪ ،‬ووقف له على باب الدينة‪ ،‬واستل سيفه‪ ،‬فلما جاء ابن أب قال له‪ :‬وال ل توز من هاهنا حت يأذن‬
‫لك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإنه العزيز وأنت الذليل‪ ،‬فلما جاء النب صلى ال عليه وسلم أذن له‬
‫فخلي سبيله‪ ،‬وكان قد قال عبد ال ابن عبد ال بن أب‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن أردت قتله فمرن بذلك‪ ،‬فأنا‬
‫وال أحل إليك رأسه‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ حديث الفك‬

‫وف هذه الغزوة كانت قصة الفك‪ ،‬وملخصها‪ :‬أن عائشة رضي ال عنها كانت قد خرج با رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم معه ف هذه الغزوة بقرعة أصابتها‪ ،‬وكانت تلك عادته مع نسائه‪ ،‬فلما رجعوا من‬
‫الغزوة نزلوا ف بعض النازل‪ ،‬فخرجت عائشة لاجتها‪ ،‬ففقدت عقدا لختها كانت أعارتا إياه‪ ،‬فرجعت‬
‫تلتمسه ف الوضع الذي فقدته فيه ف وقتها‪ ،‬فجاء النفر الذين كانوا يرحلون َهوْدَجَها فظنوها فيه فحملوا‬
‫الودج‪ ،‬ول ينكرون ِخفّتَه؛ لنا رضي ال عنها كانت فَتِّيةَ السن ل َيغْشَهَا اللحم الذي كان يثقلها‪ ،‬وأيضا‬
‫فإن النفر لا تساعدوا على حل الودج ل ينكروا خفته‪ ،‬ولو كان الذي حله واحدا أو اثني ل يف عليهما‬
‫الال‪ ،‬فرجعت عائشة إل منازلم‪ ،‬وقد أصابت العقد‪ ،‬فإذا ليس به داع ول ميب‪ ،‬فقعدت ف النل‪،‬‬
‫وظنت أنم سيفقدونا فيجعون ف طلبها‪ ،‬وال غالب على أمره‪ ،‬يدبر المر من فوق عرشه كما يشاء‪،‬‬
‫فغلبتها عيناها‪ ،‬فنامت‪ ،‬فلم تستيقظ إل بقول صفوان بن ا ُلعَطّل‪ :‬إنا ل وإنا إليه راجعون‪ ،‬زوجة رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم؟ وكان صفوان قد َعرَس ف أخريات اليش ؛ لنه كان كثي النوم‪ ،‬فلما رآها عرفها‪،‬‬
‫وكان يراها قبل نزول الجاب‪ ،‬فاسترجع وأناخ راحلته‪ ،‬فقربا إليها‪ ،‬فركبتها‪ ،‬وما كلمها كلمة واحدة‪،‬‬
‫ول تسمع منه إل استرجاعه‪ ،‬ث سار با يقودها‪ ،‬حت قدم با‪ ،‬وقد نزل اليش ف نر الظهية‪ ،‬فلما رأي‬
‫ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته‪ ،‬وما يليق به‪ ،‬ووجد البيث عدو ال ابن أب متنفسا‪ ،‬فتنفس من‬
‫كرب النفاق والسد الذي بي ضلوعه‪ ،‬فجعل يستحكي الفك‪ ،‬ويستوشيه‪ ،‬ويشيعه‪ ،‬ويذيعه‪ ،‬ويمعه‬
‫ويفرقه‪ ،‬وكان أصحابه يتقربون به إليه‪ ،‬فلما قدموا الدينة أفاض أهل الفك ف الديث‪ ،‬ورسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ساكت ليتكلم‪ ،‬ث استشار أصحابه ـ لا استلبث الوحي طويلً ـ ف فراقها‪ ،‬فأشار عليه‬
‫علي رضي ال عنه أن يفارقها‪ ،‬ويأخذ غيها‪ ،‬تلويا لتصريا‪ ،‬وأشار عليه أسامة وغيه بإمساكها‪ ،‬وأل‬
‫يلتفت إل كلم العداء‪ .‬فقام على النب يستعذر من عبد ال ابن أب‪ ،‬فأظهر أسيد بن حضي سيد الوس‬
‫رغبته ف قتله فأخذت سعد بن عبادة ـ سيد الزرج‪ ،‬وهي قبيلة ابن أب ـ المية القبلية‪ ،‬فجري بينهما‬
‫كلم تثاور له اليان‪ ،‬فخفضهم رسول ال صلى ال عليه وسلم حت سكتوا وسكت‪.‬‬

‫أما عائشة فلما رجعت مرضت شهرا‪ ،‬وهي لتعلم عن حديث الفك شيئا‪ ،‬سوي أنا كانت ل تعرف من‬
‫سطَح‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حي تشتكي‪ ،‬فلما نَقِ َهتْ خرجت مع أم مِ ْ‬
‫إل البَرَاز ليلً‪ ،‬فعثرت أم مسطح ف مِ ْرطِها‪ ،‬فدعت على ابنها‪ ،‬فاستنكرت ذلك عائشة منها‪ ،‬فأخبتا‬
‫الب‪ ،‬فرجعت عائشة واستأذنت رسول ال صلى ال عليه وسلم ؛ لتأت أبويها وتستيقن الب‪ ،‬ث أتتهما‬
‫بعد الذن حت عرفت جلية المر‪ ،‬فجعلت تبكي‪ ،‬فبكت ليلتي ويوما‪ ،‬ل تكن تكتحل بنوم‪ ،‬ول يرقأ لا‬
‫دمع‪ ،‬حت ظنت أن البكاء فالق كبدها‪ ،‬وجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ذلك‪ ،‬فتشهد وقال‪( :‬أما‬
‫بعد يا عائشة‪ ،‬فإنه قد بلغن عنك كذا وكذا‪ ،‬فإن كنت بريئة فسيبئك ال‪ ،‬وإن كنت ألمت بذنب‬
‫فاستغفري ال وتوب إليه‪ ،‬فإن العبد إذا اعترف بذنبه‪ ،‬ث تاب إل ال تاب ال عليه)‪.‬‬

‫وحينئذ َقلَص دمعها‪ ،‬وقالت لكل من أبويها أن ييبا‪ ،‬فلم يدريا ما يقولن‪ .‬فقالت‪ :‬وال لقد علمت لقد‬
‫سعتم هذا الديث حت استقر ف أنفسكم‪ ،‬وصدقتم به‪ ،‬فلئن قلت لكم‪ :‬إن بريئة ـ وال يعلم أن بريئة‬
‫صدّقنّي‪ ،‬وال ما أجد ل‬
‫ـ ل تصدقونن بذلك‪ ،‬ولئن اعترفت لكم بأمر ـ وال يعلم أن منه بريئة ـ لتُ َ‬
‫صفُونَ} [يوسف‪.]18 :‬‬
‫ولكم مثلً إل قول أب يوسف‪ ،‬قال‪َ { :‬فصَبْرٌ جَمِيلٌ وَال ّل ُه الْمُسَْتعَانُ َعلَى مَا تَ ِ‬

‫ث تولت واضطجعت‪ ،‬ونزل الوحي ساعته‪ ،‬فَسُرّي عن رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يضحك‪.‬‬
‫فكانت أول كلمة تكلم با‪( :‬يا عائشة‪ ،‬أما ال فقد برأك)‪ ،‬فقالت لا أمها‪ :‬قومي إليه‪ ..‬فقالت عائشة ـ‬
‫إدللً بباءة ساحتها‪ ،‬وثقة بحبة رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وال ل أقوم إليه‪ ،‬ول أحد إل ال‪.‬‬

‫والذي أنزله ال بشأن الفك هو قوله تعال‪{ :‬إِنّ اّلذِينَ جَاؤُوا بِالْإِ ْفكِ ُعصَْبةٌ مّن ُكمْ‪ [ }...‬النور‪:11 :‬‬
‫‪ .]20‬العشر اليات‪.‬‬

‫سطَح بن أثاثة‪ ،‬وحسان بن ثابت‪ ،‬وحَمْنَة بنت جحش‪ ،‬جلدوا ثاني ثاني‪ ،‬ول‬
‫و ُجلِد من أهل الفك مِ ْ‬
‫حدّ البيث عبد ال بن أب مع أنه رأس أهل الفك‪ ،‬والذي تول كبه ؛ إما لن الدود تفيف لهلها‪،‬‬
‫يُ َ‬
‫وقد وعده ال بالعذاب العظيم ف الخرة‪ ،‬وإما للمصلحة الت ترك لجلها قتله‪.‬‬

‫وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والرتياب والقلق والضطراب عن جو الدينة‪ ،‬وافتضح رأس‬
‫النافقي افتضاحا ل يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك‪ ،‬قال ابن إسحاق‪ :‬وجعل بعد ذلك إذا أحدث الدث‬
‫كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لعمر‪( :‬كيف ترى‬
‫يا عمر؟ أما وال لوقتلته يوم قلت ل‪ :‬اقتله‪ ،‬لرعدت له آنف‪ ،‬ولو أمرتا اليوم بقتله لقتلته)‪ .‬قال عمر‪:‬‬
‫قد وال علمتُ‪ ،‬لمْر رسول ال صلى ال عليه وسلم أعظم بركة من أمري‪.‬‬
‫البعوث والسرايا بعد غزوة الُ َريْسِيع‬

‫‪ 1‬ـ سرية عبد الرحن بن عوف إل ديار بن كلب بدَ ْومَة الَ ْندَل‪ ،‬ف شعبان سنة ‪ 6‬هـ‪ .‬أقعده رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم بي يديه وعممه بيده‪ ،‬وأوصاه بأحسن المور ف الرب‪ ،‬وقال له‪( :‬إن أطاعوك‬
‫فتزوج ابنة ملكهم)‪ ،‬فمكث عبد الرحن بن عوف ثلثة أيام يدعوهم إل السلم‪ ،‬فأسلم القوم وتزوج‬
‫عبد الرحن تُمَاضِر بنت الصبغ‪ ،‬وهي أم أب سلمة‪ ،‬وكان أبوها رأسهم وملكهم‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ سرية على بن أب طالب إل بن سعد بن بكر ب َفدَك‪ ،‬ف شعبان سنة ‪ 6‬هـ‪ .‬وذلك أنه بلغ رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم أن با جعا يريدون أن يدوا اليهود‪ .‬فبعث إليهم عليا ف مائت رجل‪ ،‬وكان يسي‬
‫الليل ويكمن النهار‪ ،‬فأصاب عينا لم‪ ،‬فأقر أنم بعثوه إل خيب يعرضون عليهم نصرتم على أن يعلوا لم‬
‫تر خيب‪ .‬ودل العي على موضع تمع بن سعد‪ ،‬فأغار عليهم علي‪ ،‬فأخذ خسمائة بعي وألفي شاة‪،‬‬
‫وهربت بنو سعد بالظّعنُ‪ ،‬وكان رئيسهم َوبَر بن ُعلَيْم‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ سرية أب بكر الصديق أو زيد بن حارثة إل وادي القري‪ ،‬ف رمضان سنة ‪6‬هـ‪ .‬كان بطن من‬
‫فَزَارة يريد اغتيال النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا بكر الصديق‪ .‬قال‬
‫َسلَمَة بن الكْوَع‪ :‬وخرجت معه حت إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة‪ ،‬فوردنا الاء‪ ،‬فقتل أبو بكر من‬
‫قتل‪ ،‬ورأيت طائفة وفيهم الذراري‪ ،‬فخشيت أن يسبقون إل البل فأدركتهم‪ ،‬ورميت بسهم بينهم وبي‬
‫شعٌ من أدِي‪ ،‬معها ابنتها من أحسن‬
‫البل‪ ،‬فلما رأوا السهم وقفوا‪ ،‬وفيهم امرأة هي أم قِرْفَة‪ ،‬عليها قَ ْ‬
‫العرب‪ ،‬فجئت بم أسوقهم إل أب بكر‪ ،‬فنفلن أبو بكر ابنتها‪ ،‬فلم أكشف لا ثوبا‪ ،‬وقد سأله رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم بنت أم قِرْفَة‪ ،‬فبعث با إل مكة‪ ،‬وفدي با أسري من السلمي هناك‪.‬‬

‫وكانت أم قرفة شيطانة تاول اغتيال النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وجهزت ثلثي فارسا من أهل بيتها‬
‫لذلك‪ ،‬فلقت جزاءها‪ ،‬وقتل الثلثون‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ سرية كُرْز بن جابر الفهري إل العُرَنِيّي‪ ،‬ف شوال سنة ‪ 6‬هـ‪ ،‬وذلك أن رهطا من عُكَل و ُعرَينَة‬
‫أظهروا السلم‪ ،‬وأقاموا بالدينة فاستوخوها‪ ،‬فبعثهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ذود ف الراعي‪،‬‬
‫وأمرهم أن يشربوا من ألبانا وأبوالا‪ ،‬فلما صحوا قتلوا راعي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬واستاقوا‬
‫البل‪ ،‬وكفروا بعد إسلمهم‪ ،‬فبعث ف طلبهم كرزا الفهري ف عشرين من الصحابة‪ ،‬ودعا على العرنيي‪:‬‬
‫(اللّهم أعم عليهم الطريق‪ ،‬واجعلها عليهم أضيق من مَسَك)‪ ،‬فعمي ال عليهم السبيل فأدركوا‪ ،‬فقطعت‬
‫أيديهم وأرجلهم‪ ،‬وسَ ُملَتْ أعينهم‪ ،‬جزاء وقصاصا با فعلوا‪ ،‬ث تركوا ف ناحية الرة حت ماتوا ‪،‬‬
‫وحديثهم ف الصحيح عن أنس‪.‬‬

‫ويذكر أهل السي بعد ذلك سرية عمرو بن أمية الضّ ْمرِي مع سلمة بن أب سلمة‪ ،‬ف شوال سنة ‪ 6‬هـ‪.‬‬
‫أنه ذهب إل مكة لغتيال أب سفيان ؛ لن أبا سفيان كان أرسل أعرابيا لغتيال النب صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬بيد أن البعوثي ل ينجحا ف الغتيال‪ ،‬لهذا‪ ،‬ول ذاك‪ .‬ويذكرون أن عمرا قتل ف الطريق ثلثة‬
‫رجال‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن عمرا أخذ جثة الشهيد خَُبيْب ف هذا السفر‪ ،‬والعروف أن خبيبا استشهد بعد‬
‫الرّجِيع بأيام أو أشهر‪ ،‬ووقعة الرجيع كانت ف صفر سنة ‪ 4‬هـ‪ ،‬فل أدري هل اختلط السفران على‬
‫أهل السي‪ ،‬أو كان المران ف سفر واحد ف السنة الرابعة‪ ،‬وقد أنكر العلمة النصورفوري أن تكون هذه‬
‫السرية سرية حرب أو مناوشة‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫هذه هي السرايا والغزوات بعد الحزاب‪ ،‬وبن قريظة‪ ،‬ل ير ف واحدة منها قتال مرير‪ ،‬وإنا وقعت فيما‬
‫وقعت مصادمة خفيفة‪ ،‬فليست هذه البعوث إل دوريات استطلعية‪ ،‬أو تركات تأديبية ؛ لرهاب‬
‫العراب والعداء الذين ل يستكينوا بعد‪ .‬ويظهر بعد التأمل ف الظروف أن مري اليام كان قد أخذ ف‬
‫التطور بعد غزوة الحزاب‪ ،‬وأن أعداء السلم كانت معنوياتم ف انيار متواصل‪ ،‬ول يكن بقي لم أمل‬
‫ف ناح كسر الدعوة السلمية وخَضْد شوكتها‪ ،‬إل أن هذا التطور ظهر جليا بصلح الديبية‪ ،‬فلم تكن‬
‫الدنة إل العتراف بقوة السلم‪ ،‬والتسجيل على بقائها ف ربوع الزيرة العربية‪.‬‬
‫عمرة الديبية ف ذي القعدة سنة ‪ 6‬هـ‬

‫إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان‬ ‫سبب عمرة الديبية‬


‫إبرام الصلح وبنوده‬ ‫استنفار السلمي‬
‫رد أب جندل‬ ‫السلمون يتحركون إل مكة‬
‫حلّ عن العمرة‬
‫الّنحْر والَلْق لل ِ‬ ‫ماولة قريش صد السلمي عن البيت‬
‫الباء عن رد الهاجرات‬ ‫تبديل الطريق وماولة اجتناب اللقاء الدامي‬
‫ماذا يتمخض عن بنود العاهدة‬ ‫ُبدَيْل يتوسط بي رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫حزن السلمي ومناقشة عمر النب صلى ال عليه‬ ‫وقريش‬
‫وسلم‬ ‫رسل قريش‬
‫انلت أزمة الستضعفي‬ ‫هو الذي كف أيديهم عنكم‬
‫إسلم أبطال من قريش‬ ‫عثمان بن عفان سفيا إل قريش‬

‫سبب عمرة الديبية‬

‫ولا تطورت الظروف ف الزيزة العربية إل حد كبي لصال السلمي‪ ،‬أخذت طلئع الفتح العظم وناح‬
‫الدعوة السلمية تبدو شيئا فشيئا‪ ،‬وبدأت التمهيدات لقرار حق السلمي ف أداء عبادتم ف السجد‬
‫الرام‪ ،‬الذي كان قد صد عنه الشركون منذ ستة أعوام‪.‬‬

‫أري رسول ال صلى ال عليه وسلم ف النام‪ ،‬وهو بالدينة‪ ،‬أنه دخل هو وأصحابه السجد الرام‪ ،‬وأخذ‬
‫مفتاح الكعبة‪ ،‬وطافوا واعتمروا‪ ،‬وحلق بعضهم وقصر بعضهم‪ ،‬فأخب بذلك أصحابه ففرحوا‪ ،‬وحسبوا‬
‫أنم داخلو مكة عامهم ذلك‪ ،‬وأخب أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر‪.‬‬

‫استنفار السلمي‬

‫واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه‪ ،‬فأبطأ كثي من العراب‪ ،‬أما هو فغسل ثيابه‪،‬‬
‫وركب ناقته القَصْواء‪ ،‬واستخلف على الدينة ابن أم مكتوم أو نُمَ ْيلَة الليثي‪ .‬وخرج منها يوم الثني غرة‬
‫ذي القعدة سنة ‪ 6‬هـ‪ ،‬ومعه زوجته أم سلمة‪ ،‬ف ألف وأربعمائة‪ ،‬ويقال‪ :‬ألف وخسمائة‪ ،‬ول يرج معه‬
‫بسلح‪ ،‬إل سلح السافر‪ :‬السيوف ف القُرُب‪.‬‬

‫السلمون يتحركون إل مكة‬

‫وترك ف اتاه مكة‪ ،‬فلما كان بذي الُلَ ْيفَة قَلّد الدي وأ ْشعَرَه‪ ،‬وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه‪،‬‬
‫سفَان أتاه عينه‪ ،‬فقال‪ :‬إن‬
‫وبعث بي يديه عينا له من خزاعة يبه عن قريش‪ ،‬حت إذا كان قريبا من ُع ْ‬
‫تركت كعب بن لؤي قد جعوا لك الحابيش ‪ ،‬وجعوا لك جوعا‪ ،‬وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت‪،‬‬
‫واستشار النب صلى ال عليه وسلم أصحابه‪ ،‬وقال‪( :‬أترون نيل إل ذراري هؤلء الذين أعانوهم‬
‫فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين مزوني‪ ،‬وإن نوا يكن عنق قطعها ال‪ ،‬أم تريدون أن نؤم هذا البيت‬
‫فمن صدنا عنه قاتلناه؟) فقال أبو بكر‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ ،‬إنا جئنا معتمرين‪ ،‬ول نئ لقتال أحد‪ ،‬ولكن من‬
‫حال بيننا وبي البيت قاتلناه‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬فروحوا)‪ ،‬فراحوا‪.‬‬

‫ماولة قريش صد السلمي عن البيت‬

‫وكانت قريش لا سعت بروج النب صلى ال عليه وسلم عقدت ملسا استشاريا قررت فيه صد السلمي‬
‫عن البيت كيفما يكن‪ ،‬فبعد أن أعرض رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الحابيش‪ ،‬نقل إليه رجل من‬
‫بن كعب أن قريشا نازلة بذي طُوَي‪ ،‬وأن مائت فارس ف قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم ف‬
‫الطريق الرئيسي الذي يوصل إل مكة‪ .‬وقد حاول خالد صد السلمي‪ ،‬فقام بفرسانه إزاءهم يتراءي‬
‫اليشان‪ .‬ورأي خالد السلمي ف صلة الظهر يركعون ويسجدون‪ ،‬فقال‪ :‬لقد كانوا على غرة‪ ،‬لو كنا‬
‫حلنا عليهم لصبنا منهم‪ ،‬ث قرر أن ييل على السلمي ـ وهم ف صلة العصر ـ ميلة واحدة‪ ،‬ولكن ال‬
‫أنزل حكم صلة الوف‪ ،‬ففاتت الفرصة خالدا‪.‬‬

‫تبديل الطريق وماولة اجتناب اللقاء الدامي‬

‫وأخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم طريقا َوعْرًا بي شعاب‪ ،‬وسلك بم ذات اليمي بي ظهري الَمْض‬
‫ف طريق ترجه على ثنية الُرَار مهبط الديبية من أسفل مكة‪ ،‬وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إل‬
‫الرم مارا بالتنعيم‪ ،‬تركه إل اليسار‪ ،‬فلما رأي خالد قَتَرَة اليش السلمي قد خالفوا عن طريقه انطلق‬
‫يركض نذيرا لقريش‪.‬‬

‫وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم حت إذا كان بثنية الرار بركت راحلته‪ ،‬فقال الناس‪َ :‬حلْ حَلْ‪،‬‬
‫فألَحّتْ ‪ ،‬فقالوا‪ :‬خلت القصواء‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬ما خلت القصواء‪ ،‬وما ذاك لا‬
‫بلق‪ ،‬ولكن حبسها حابس الفيل)‪ ،‬ث قال‪( :‬والذي نفسي بيده ل يسألون خطة يعظمون فيها حرمات ال‬
‫إل أعطيتهم إياها)‪ ،‬ث زجرها فوثبت به‪ ،‬فعدل حت نزل بأقصي الديبية‪ ،‬على ثَمَد قليل الاء‪ ،‬إنا يتبضه‬
‫الناس تبضا‪ ،‬فلم يلبث أن نزحوه‪ .‬فشكوا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم العطش‪ ،‬فانتزع سهما من‬
‫كنانته‪ ،‬ث أمرهم أن يعلوه فيه‪ ،‬فوال ما زال ييش لم بالري حت صدروا‪.‬‬

‫بُ َديْل يتوسط بي رسول ال صلى ال عليه وسلم وقريش‬

‫ولا اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاء بديل بن وَرْقَاء الزاعي ف نفر من خزاعة‪ ،‬وكانت خزاعة‬
‫عَيْبَة نُصْح لرسول ال صلى ال عليه وسلم من أهل تُهَامَة‪ ،‬فقال‪ :‬إن تركت كعب ابن لؤي‪ ،‬نزلوا أعداد‬
‫مياه الديبية‪ ،‬معهم العُوذ الطَافِيل ‪ ،‬وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت‪ .‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪( :‬إنا ل نئ لقتال أحد‪ ،‬ولكنا جئنا معتمرين‪ ،‬وإن قريشا قد نكتهم الرب وأضرت بم‪ ،‬فإن شاءوا‬
‫ماددتم‪ ،‬ويلوا بين وبي الناس‪ ،‬وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا‪ ،‬وإل فقد جَمّوا ‪ ،‬وإن‬
‫هم أبوا إل القتال فوالذي نفسي بيده لقاتلنهم على أمري هذا حت تنفرد سالفت‪ ،‬أو لينفذن ال أمره)‪.‬‬

‫قال بديل‪ :‬سأبلغهم ما تقول‪ ،‬فانطلق حت أت قريشا‪ ،‬فقال‪ :‬إن قد جئتكم من عند هذا الرجل‪ ،‬وسعته‬
‫يقول قول‪ ،‬فإن شئتم عرضته عليكم‪.‬‬

‫فقال سفهاؤهم‪ :‬ل حاجة لنا أن تدثنا عنه بشيء‪ .‬وقال ذوو الرأي منهم‪ :‬هات ما سعته‪ .‬قال‪ :‬سعته‬
‫يقول كذا وكذا‪ ،‬فبعثت قريش مِكْرَز بن حفص‪ ،‬فلما رآه رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬هذا رجل‬
‫غادر‪ ،‬فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه‪ ،‬فرجع إل قريش وأخبهم‪.‬‬

‫رسل قريش‬
‫ث قال رجل من كنانة ـ اسه الُلَيْس بن علقمة‪ :‬دعون آته‪ .‬فقالوا‪ :‬ائته‪ ،‬فلما أشرف على النب صلى ال‬
‫عليه وسلم وأصحابه قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬هذا فلن‪ ،‬وهو من قوم يعظمون البدن‪،‬‬
‫فابعثوها)‪ ،‬فبعثوها له‪ ،‬واستقبله القوم يلبون‪ ،‬فلما رأي ذلك‪ .‬قال‪ :‬سبحان ال ما ينبغي لؤلء أن يصدوا‬
‫عن البيت‪ ،‬فرجع إل أصحابه‪ ،‬فقال‪ :‬رأيت البدن قد قلدت وأشعرت‪ ،‬وما أري أن يصدوا‪ ،‬وجري بينه‬
‫وبي قريش كلم أحفظه‪.‬‬

‫فقال عروة بن مسعود الثقفي‪ :‬إن هذا قد عرض عليكم خطة ُرشْد فاقبلوها‪ ،‬ودعون آته‪ ،‬فأتاه‪ ،‬فجعل‬
‫يكلمه‪ ،‬فقال له النب صلى ال عليه وسلم نوا من قوله لبديل‪ .‬فقال له عروة عند ذلك‪ :‬أي ممد أرأيت‬
‫لو استأصلت قومك‪ ،‬هل سعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك‪ ،‬وإن تكن الخري فوال إن ل أري‬
‫وجوها‪ ،‬وإن أري أوباشا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك‪ ،‬قال له أبو بكر‪ :‬امصص َبظْر اللت‪ ،‬أنن‬
‫نفر عنه؟ قال‪ :‬من ذا؟ قالوا‪ :‬أبو بكر‪ ،‬قال‪ :‬أما والذي نفسي بيده لول يد كانت عندي ل أجْزِكَ با‬
‫لجبتك‪ .‬وجعل يكلم النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكلما كلمه أخذ بلحيته‪ ،‬والغية بن شعبة عند رأس‬
‫النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومعه السيف وعليه ا ِل ْغفَرُ‪ ،‬فكلما أهوي عروة إل لية النب صلى ال عليه‬
‫وسلم ضرب يده بنعل السيف‪ ،‬وقال‪ :‬أخر يدك عن لية رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فرفع عروة‬
‫رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬من ذا؟ قالوا‪ :‬الغية بن شعبة‪ ،‬فقال‪ :‬أي ُعذَر‪ ،‬أو لستُ أسعي ف َغدْ َرتِك؟ وكان الغية‬
‫صحِبَ قوما ف الاهلية فقتلهم وأخذ أموالم‪ ،‬ث جاء فأسلم‪ ،‬فقال النبـي صلى ال عليه وسلم‪( :‬أما‬
‫َ‬
‫السلم فأقبلُ‪ ،‬وأما الال فلست منـه فـي شيء) (وكان الغية ابن أخي عروة)‪.‬‬

‫ث إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم وتعظيمهم له‪ ،‬فرجع إل أصحابه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أي قوم‪ ،‬وال لقد وفدت على اللوك‪ ،‬على قيصر وكسري والنجاشي‪ ،‬وال ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه‬
‫ما يعظم أصحاب ممد ممدا‪ ،‬وال إن تََنخّمَ نامة إل وقعت ف كف رجل منهم‪ ،‬فدلك با وجهه وجلده‪،‬‬
‫وإذا أمرهم ابتدروا أمره‪ ،‬وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه‪ ،‬وإذا تكلم خفضوا أصواتم عنده‪ ،‬وما‬
‫حدّون إليه النظر تعظيما له‪ ،‬وقد عرض عليكم خطة ُر ْشدٍ فاقبلوها‪.‬‬
‫يُ ِ‬

‫هو الذي كف أيديهم عنكم‬

‫ولا رأي شباب قريش الطائشون‪ ،‬الطامون إل الرب‪ ،‬رغبة زعمائهم ف الصلح فكروا ف خطة تول‬
‫بينهم وبي الصلح‪ ،‬فقرروا أن يرجوا ليلً‪ ،‬ويتسللوا إل معسكر السلمي‪ ،‬ويدثوا أحداثا تشعل نار‬
‫الرب‪ ،‬وفعلً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار‪ ،‬فقد خرج سبعون أو ثانون منهم ليلً فهبطوا من جبل التنعيم‪،‬‬
‫وحاولوا التسلل إل معسكر السلمي‪ ،‬غي أن ممد بن مسلمة قائد الرس اعتقلهم جيعا‪.‬‬

‫ورغبة فـــي الصلــح أطلـق سراحهم النب صلى ال عليه وسلم وعفا عنـهم‪ ،‬وف ذلك أنزل‬
‫ال‪{ :‬وَ ُه َو الّذِي كَفّ أَْيدِيَ ُهمْ عَن ُكمْ َوَأْيدِيَ ُكمْ َعنْهُم بَِبطْنِ مَ ّكةَ مِن بَ ْعدِ َأنْ َأظْفَ َر ُكمْ عَ َليْ ِهمْ} [الفتح‪]24 :‬‬

‫عثمان بن عفان سفيا إل قريش‬

‫وحينئذ أراد رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبعث سفيا يؤكد لدي قريش موقفه وهدفه من هذا‬
‫السفر‪ ،‬فدعا عمر بن الطاب ليسله إليهم‪ ،‬فاعتذر قائلً‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ليس ل أحد بكة من بن عدي‬
‫بن كعب يغضب ل إن أوذيت‪ ،‬فأرسل عثمان بن عفان‪ ،‬فإن عشيته با‪ ،‬وإنه مبلغ ما أردت‪ ،‬فدعاه‪،‬‬
‫وأرسله إل قريش‪ ،‬وقال‪ :‬أخبهم أنا ل نأت لقتال‪ ،‬وإنا جئنا عمارا‪ ،‬وادعهم إل السلم‪ ،‬وأمره أن يأت‬
‫رجالً بكة مؤمني‪ ،‬ونساء مؤمنات‪ ،‬فيبشرهم بالفتح‪ ،‬ويبهم أن ال عز وجل مظهر دينه بكة‪ ،‬حت ل‬
‫يستخفي فيها أحد باليان‪.‬‬

‫فانطلق عثمان حت مر على قريش بِبَ ْلدَح‪ ،‬فقالوا‪ :‬أين تريد؟ فقال‪ :‬بعثن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بكذا وكذا‪ ،‬قالوا‪ :‬قد سعنا ما تقول‪ ،‬فانفذ لاجتك‪ ،‬وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص‪ ،‬فرحب به ث‬
‫أسرج فرسه‪ ،‬فحمل عثمان على الفرس‪ ،‬وأجاره وأردفه حت جاء مكة‪ ،‬وبلغ الرسالة إل زعماء قريش‪،‬‬
‫فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت‪ ،‬فرفض هذا العرض‪ ،‬وأب أن يطوف حت يطوف رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان‬

‫واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم ف الوضع الراهن‪ ،‬ويبموا أمرهم‪ ،‬ث‬
‫يردوا عثمان بواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال الحتباس‪ ،‬فشاع بي السلمي أن عثمان قتل‪ ،‬فقال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم لا بلغته الشاعة‪( :‬ل نبح حت نناجز القوم)‪ ،‬ث دعا أصحابه إل البيعة‪،‬‬
‫فثاروا إليه يبايعونه على أل يفروا‪ ،‬وبايعته جاعة على الوت‪ ،‬وأول من بايعه أبو سنان السدي‪ ،‬وبايعه‬
‫سلمة بن الكوع على الوت ثلث مرات‪ ،‬ف أول الناس ووسطهم وآخرهم‪ ،‬وأخذ رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم بيد نفسه وقال‪( :‬هذه عن عثمان)‪ .‬ولا تت البيعة جاء عثمان فبايعه‪ ،‬ول يتخلف عن هذه‬
‫البيعة إل رجل من النافقي يقال له‪َ :‬جدّ بن قَيْس‪.‬‬

‫أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه البيعة تت شجرة‪ ،‬وكان عمر آخذا بيده‪ ،‬و َمعْقِل بن يَسَار‬
‫آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهذه هي بيعة الرضوان الت أنزل ال‬
‫شجَ َرةِ}الية [الفتح‪]18 :‬‬
‫فيها‪{ :‬لَ َقدْ رَضِيَ ال ّلهُ عَنِ الْمُ ْؤمِنِيَ إِذْ يُبَاِيعُونَكَ َتحْتَ ال ّ‬

‫إبرام الصلح وبنوده‬

‫وعرفت قريش ضيق الوقف‪ ،‬فأسرعت إل بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح‪ ،‬وأكدت له أل يكون ف‬
‫الصلح إل أن يرجع عنا عامه هذا‪ ،‬ل تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا‪ ،‬فأتاه سهيل بن‬
‫عمرو‪ ،‬فلما رآه \ قال‪( :‬قد سهل لكم أمركم)‪ ،‬أراد القوم الصلح حي بعثوا هذا الرجل‪ ،‬فجاء سهيل‬
‫فتكلم طويلً‪ ،‬ث اتفقا على قواعد الصلح‪ ،‬وهي هذه‪:‬‬

‫‪ .1‬الرسول صلى ال عليه وسلم يرجع من عامه‪ ،‬فل يدخل مكة‪ ،‬وإذا كان العام القابل دخلها السلمون‬
‫فأقاموا با ثلثا‪ ،‬معهم سلح الراكب‪ ،‬السيوف ف القُرُب‪ ،‬ول يتعرض لم بأي نوع من أنواع التعرض‪.‬‬

‫‪ .2‬وضع الرب بي الطرفي عشر سني‪ ،‬يأمن فيها الناس‪ ،‬ويكف بعضهم عن بعض‪.‬‬

‫‪ .3‬من أحب أن يدخل ف عقد ممد وعهده دخل فيه‪ ،‬ومن أحب أن يدخل ف عقد قريش وعهدهم‬
‫دخل فيه‪ ،‬وتعتب القبيلة الت تنضم إل أي الفريقي جزءا من ذلك الفريق‪ ،‬فأي عدوان تتعرض له أي من‬
‫هذه القبائل يعتب عدوانا على ذلك الفريق‪.‬‬

‫‪ .4‬من أت ممدا من قريش من غي إذن وليه ـ أي هاربا منهم ـ رده عليهم‪ ،‬ومن جاء قريشا من مع‬
‫ممد ـ أي هاربا منه ـ ل يرد عليه‪.‬‬

‫ث دعا عليا ليكتب الكتاب‪ ،‬فأملي عليه‪( :‬بسم ال الرحن الرحيم) فقال سهيل‪ :‬أما الرحن فوال ل ندري‬
‫ما هو؟ ولكن اكتب‪ :‬باسك اللّهم‪ .‬فأمر النب صلى ال عليه وسلم بذلك‪ .‬ث أملي‪( :‬هذا ما صال عليه‬
‫ممد رسول ال) فقال سهيل‪ :‬لو نعلم أنك رسول ال ما صددناك عن البيت‪ ،‬ول قاتلناك‪ ،‬ولكن اكتب‪:‬‬
‫ممد بن عبد ال فقال‪( :‬إن رسول ال وإن كذبتمون)‪ ،‬وأمر عليا أن يكتب‪ :‬ممد بن عبد ال‪ ،‬ويحو‬
‫لفظ رسول ال‪ ،‬فأب على أن يحو هذا اللفظ‪ .‬فمحاه صلى ال عليه وسلم بيده‪ ،‬ث تت كتابة الصحيفة‪،‬‬
‫ولا ت الصلح دخلت خزاعة ف عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وكانوا حليف بن هاشم منذ عهد‬
‫عبد الطلب‪ ،‬كما قدمنا ف أوائل الكتاب‪ ،‬فكان دخولم ف هذا العهد تأكيدا لذلك اللف القدي ـ‬
‫ودخلت بنو بكر ف عهد قريش‪.‬‬

‫رد أب جندل‬

‫وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَ ْندَل بن سهيل يَرْسُفُ ف قيوده‪ ،‬قد خرج من أسفل مكة حت رمي‬
‫بنفسه بي ظهور السلمي‪ ،‬فقال سهيل‪ :‬هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النب صلى ال عليه‬
‫وسلم‪( :‬إنا ل نقض الكتاب بعد)‪.‬‬

‫فقال‪ :‬فوال إذا ل أقاضيك على شيء أبدا‪ .‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬فأجزه ل)‪ .‬قال‪ :‬ما أنا‬
‫بجيزه لك‪ .‬قال‪( :‬بلى فافعل)‪ ،‬قال‪ :‬ما أنا بفاعل‪ .‬وقد ضرب سهيل أبا جندل ف وجهه‪ ،‬وأخذ بتلبيبه‬
‫وجره ؛ ليده إل الشركي‪ ،‬وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته‪ :‬يا معشر السلمي‪ ،‬أأرد إل الشركي‬
‫يفتنون ف دين؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬يا أبا جندل‪ ،‬اصب واحتسب‪ ،‬فإن ال جاعل لك‬
‫ولن معك من الستضعفي فرجا ومرجا‪ ،‬إنا قد عقدنا بيننا وبي القوم صلحا‪ ،‬وأعطيناهم على ذلك‪،‬‬
‫وأعطونا عهد ال فل نغدر بم)‪.‬‬

‫فوثب عمر بن الطاب رضي ال عنه مع أب جندل يشي إل جنبه ويقول‪ :‬اصب يا أبا جندل‪ ،‬فإنا هم‬
‫الشركون‪ ،‬وإنا دم أحدهم دم كلب‪ ،‬ويدن قائم السيف منه‪ ،‬يقول عمر‪ :‬رجوت أن يأخذ السيف‬
‫فيضرب به أباه‪ ،‬فضن الرجل بأبيه‪ ،‬ونفذت القضية‪.‬‬

‫الّنحْر والَلْق للحِلّ عن العمرة‬

‫ولا فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم من قضية الكتاب قال‪( :‬قوموا فانروا)‪ ،‬فوال ما قام منهم أحد‬
‫حت قال ثلث مرات‪ ،‬فلما ل يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة‪ ،‬فذكر لا ما لقي من الناس‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫يا رسول ال‪ ،‬أتب ذلك؟ اخرج‪ ،‬ث ل تكلم أحدا كلمة حت تنحر بدنك‪ ،‬وتدعو حالقك فيحلقك‪ ،‬فقام‬
‫فخرج فلم يكلم أحدا منهم حت فعل ذلك‪ ،‬نر ُب ْدنَه‪ ،‬ودعا حالقه فحلقه‪ ،‬فلما رأي الناس ذلك قاموا‬
‫فنحروا‪ ،‬وجعل بعضهم يلق بعضا‪ ،‬حت كاد بعضهم يقتل بعضا غما‪ ،‬وكانوا نروا البدنة عن سبعة‪،‬‬
‫والبقرة عن سبعة‪ ،‬ونر رسول ال صلى ال عليه وسلم جلً كان لب جهل‪ ،‬كان ف أنفه بُ َرةٌ من فضة‪،‬‬
‫ليغيظ به الشركي‪ ،‬ودعا رسول ال صلى ال عليه وسلم للمحلقي ثلثا بالغفرة وللمقصرين مرة‪ .‬وف‬
‫هذا السفر أنزل ال فدية الذي لن حلق رأسه‪ ،‬بالصيام‪ ،‬أو الصدقة‪ ،‬أو النسك‪ ،‬ف شأن كعب بن ُعجْرَة‪.‬‬

‫الباء عن رد الهاجرات‬

‫ث جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي ت ف الديبية‪ ،‬فرفض طلبهم هذا ؛‬
‫بدليل أن الكلمة الت كتبت ف العاهدة بصدد هذا البند هي‪( :‬وعلى أنه ل يأتيك منا رجل‪ ،‬وإن كان على‬
‫دينك إل رددته علينا) ‪ ،‬فلم تدخل النساء ف العقد رأسا‪ .‬وأنزل ال ف ذلك‪{ :‬يَا َأيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا إِذَا‬
‫ص ِم الْكَوَافِرِ} [المتحنة‪ ]10 :‬فكان رسول ال‬
‫جَاءكُ ُم الْمُ ْؤمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامَْتحِنُو ُهنّ}‪ ،‬حت بلغ {ِبعِ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم يتحنهن بقوله تعال‪{ :‬إِذَا جَاءكَ الْمُ ْؤمِنَاتُ يُبَاِيعْنَكَ َعلَى أَن لّا يُشْ ِركْنَ بِال ّلهِ شَيْئًا‪}...‬‬
‫إل [المتحنة‪ ،]12 :‬فمن أقرت بذه الشروط قال لا‪( :‬قد بايعتك)‪ ،‬ث ل يكن يردهن‪.‬‬

‫وطلق السلمون زوجاتم الكافرات بذا الكم‪ .‬فطلق عمر يومئذ امرأتي كانتا له ف الشرك‪ ،‬تزوج‬
‫بإحداها معاوية‪ ،‬وبالخري صفوان بن أمية‪.‬‬

‫ماذا يتمخض عن بنود العاهدة‬

‫هذا هو صلح الديبية‪ ،‬ومن سب أغوار بنوده مع خلفياته ل يشك أنه فتح عظيم للمسلمي‪ ،‬فقريش ل‬
‫تكن تعترف بالسلمي أي اعتراف‪ ،‬بل كانت تـدف استئصـال شأفتهم‪ ،‬وتنتظر أن تشهد يوما ما‬
‫نايتهم‪ ،‬وكانت تاول بأقصي قوتا اليلولة بي الدعوة السلمية وبي الناس‪ ،‬بصفتها مثلة الزعامة الدينية‬
‫والصدارة الدنيوية ف جزيرة العرب‪ ،‬ومرد النوح إل الصلح اعتراف بقوة السلمي‪ ،‬وأن قريشا ل تقدر‬
‫على مقاومتهم‪ ،‬ث البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشا نسيت صدارتا الدنيوية وزعامتها الدينية‪ ،‬وأنا‬
‫لتمها الن إل نفسها‪ ،‬أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت ف السلم بأجعها‪ ،‬فليهم ذلك‬
‫قريشا‪ ،‬ول تتدخل ف ذلك بأي نوع من أنواع التدخل‪ .‬أليس هذا فشلً ذريعا بالنسبة إل قريش؟ وفتحا‬
‫مبينا بالنسبة إل السلمي؟ إن الروب الدامية الت جرت بي السلمي وبي أعدائهم ل تكن أهدافها ـ‬
‫بالنسبة إل السلمي ـ مصادرة الموال وإبادة الرواح‪ ،‬وإفناء الناس‪ ،‬أو إكراه العدو على اعتناق‬
‫السلم‪ ،‬وإنا كان الدف الوحيد الذي يهدفه السلمون من هذه الروب هو الــرية الكاملة للناس‬
‫فـي العــقيدة والــدين {فَمَن شَاء َفلْيُ ْؤمِن َومَن شَاء فَلَْي ْكفُر} [الكهف‪ .]29 :‬ل يول بينهم‬
‫وبي ما يريدون أي قوة من القوات‪ ،‬وقدحصل هذا الدف بميع أجزائه ولوازمه‪ ،‬وبطريق ربا ل يصل‬
‫بثله ف الروب مع الفتح البي‪ ،‬وقد كسب السلمون لجل هذه الرية ناحا كبيا ف الدعوة‪ ،‬فبينما‬
‫كان عدد السلمي ل يزيد على ثلثة آلف قبل الدنة صار عدد اليش السلمي ف سنتي عند فتح مكة‬
‫عشرة آلف‪.‬‬

‫أما البند الثان فهو جزء ثان لذا الفتح البي‪ ،‬فالسلمون ل يكونوا بادئي بالروب‪ ،‬وإنا بدأتا قريش‪،‬‬
‫يقول ال تعال‪{ :‬وَهُم بَدَؤُو ُكمْ أَوّلَ مَ ّرةٍ} [التوبة‪ ،]13 :‬أما السلمون فلم يكن القصود من دورياتم‬
‫العسكرية إل أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل ال‪ ،‬وتعمل معهم بالساواة‪ ،‬كل من الفريقي‬
‫يعمل على شاكلته‪ ،‬فالعقد بوضع الرب عشر سني حد لذه الغطرسة والصد‪ ،‬ودليل على فشل من بدأ‬
‫بالرب وعلى ضعفه وانياره‪.‬‬

‫أما البند الول فهو حد لصد قريش عن السجد الرام‪ ،‬فهو أيضا فشل لقريش‪ ،‬وليس فيه ما يشفي‬
‫قريشا سوي أنا نحت ف الصد لذلك العام الواحد فقط‪.‬‬

‫أعطت قريش هذه اللل الثلث للمسلمي‪ ،‬وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط‪ ،‬وهي ما ف البند‬
‫الرابــع‪ ،‬ولـكن تلك اللة تافهة جدا‪ ،‬ليس فيها شيء يضر بالسلمي‪ ،‬فمعلوم أن السلم ما دام‬
‫مسلما ل يفر عن ال ورسوله‪ ،‬وعن مدينة السلم‪ ،‬ول يفر إل إذا ارتد عن السلم ظاهرا أو باطنا‪ ،‬فإذا‬
‫ارتد فل حاجة إليه للمسلمي‪ ،‬وانفصاله من الجتمع السلمي خي من بقائه فيه‪ ،‬وهذا الذي أشار إليه‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله‪( :‬إنه من ذهب منا إليهم فأبعده ال)‪ .‬وأما من أسلم من أهل مكة‬
‫فهو وإن ل يبق للجوئه إل الدينة سبيل لكن أرض ال واسعة‪ ،‬أل تكن البشة واسعة للمسلمي حينما ل‬
‫يكن يعرف أهل الدينة عن السلم شيئا؟ وهذا الذي أشار إليه النب بقوله‪( :‬ومن جاءنا منهم سيجعل ال‬
‫له فرجا ومرجا)‪.‬‬

‫والخذ بثل هذا الحتفاظ‪ ،‬وإن كان مظهر العتزاز لقريش‪ ،‬لكنه ف القيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش‬
‫وهلعهم و َخوَرِهم‪ ،‬وعن شدة خوفهم على كيانم الوثن‪ ،‬وكأنم كانوا قد أحسوا أن كيانم اليوم على‬
‫شفا جُرُف هار ل بد له من الخذ بثل هذا الحتفاظ‪ .‬وما سح به النب صلى ال عليه وسلم من أنه ل‬
‫يسترد من فرّ إل قريش من السلمي‪ ،‬فليس هذا إل دليلً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال‬
‫العتماد‪ ،‬ول ياف عليه من مثل هذا الشرط‪.‬‬

‫حزن السلمي ومناقشة عمر النب صلى ال عليه وسلم‬

‫هذه هي حقيقة بنود هذ الصلح‪ ،‬لكن هناك ظاهرتان عمت لجلهما السلمي كآبة وحزن شديد‪.‬‬

‫الول‪ :‬أنه كان قد أخبهم أنا سنأت البيت فنطوف به‪ ،‬فما له يرجع ول يطف به؟‬

‫الثانية‪ :‬أنه رسول ال صلى ال عليه وسلم وعلى الق‪ ،‬وال وعد إظهار دينه‪ ،‬فما له قبل ضغط قريش‪،‬‬
‫وأعطي ال ّدنِّيةَ ف الصلح؟‬

‫كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون‪ ،‬وصارت مشاعر السلمي لجلهما‬
‫جرية‪ ،‬بيث غلب الم والزن على التفكي ف عواقب بنود الصلح‪.‬ولعل أعظمهم حزنا كان عمر بن‬
‫الطاب‪ ،‬فقد جاء إل النب صلى ال عليه وسلم وقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ألسنا على حق وهم على باطل؟‬
‫قـال‪( :‬بلى)‪ .‬قـال‪ :‬أليس قتلنا ف النة وقتلهم ف النار؟ قال‪( :‬بلي)‪ .‬قال‪ :‬ففيم نعطي الدنية ف ديننا‪،‬‬
‫ونرجع ولا يكم ال بيننا وبينهم؟ قال‪( :‬يا ابن الطاب‪ ،‬إن رسول ال ولست أعصيه‪ ،‬وهو ناصري ولن‬
‫يضيعن أبدا)‪ .‬قال‪ :‬أوليس كنت تدثنا أنا سنأت البيت فنطوف به؟ قال‪( :‬بلي‪ ،‬فأخبتك أنا نأتيه العام؟)‬
‫قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪( :‬فإنك آتيه ومطوف به)‪.‬‬

‫ث انطلق عمر متغيظا فأت أبا بكر‪ ،‬فقال له كما قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ورد عليه أبو بكر‪،‬‬
‫كما رد عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم سواء‪ ،‬وزاد‪ :‬فاستمسك بغَ ْرزِه حت توت‪ ،‬فوال إنه لعلى‬
‫الق‪.‬‬

‫ث نزلت‪ِ{ :‬إنّا فََتحْنَا َلكَ فَ ْتحًا مّبِينًا‪ }...‬إل [سورة الفتح‪ ،]1:‬فأرسل رسول ال إل عمر فأقرأه إياه‪.‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أو فتح هو؟ قال‪( :‬نعم)‪ .‬فطابت نفسه ورجع‪.‬‬

‫ث ندم عمر على ما فرط منه ندما شديدا‪ ،‬قال عمر‪ :‬فعملت لذلك أعمالً‪ ،‬مازلت أتصدق وأصوم‬
‫وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ‪ ،‬مافة كلمي الذي تكلمت به‪ ،‬حت رجوت أن يكون خيا‪.‬‬
‫انلت أزمة الستضعفي‬

‫ولا رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل الدينة‪ ،‬واطمأن با‪ ،‬انفلت رجل من السلمي‪ ،‬من كان‬
‫يعذب ف مكة‪ ،‬وهو أبو بَصِي‪ ،‬رجل من ثقيف حليف لقريش‪ ،‬فأرسلوا ف طلبه رجلي‪ ،‬وقالوا للنب صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ :‬العهد الذي جعلت لنا‪ .‬فدفعه النب صلى ال عليه وسلم إل الرجلي‪ ،‬فخرجا به حت بلغا‬
‫ذا الُلَ ْيفَة‪ ،‬فنلوا يأكلون من تر لم‪ ،‬فقال أبو بصي لحد الرجلي‪ :‬وال إن لري سيفك هذا يا فلن‬
‫جيدا‪ ،‬فاستله الخر فقال‪ :‬أجل‪ ،‬وال إنه ليد‪ ،‬لقد جَ ّربْتُ به ث جَ ّربْتُ‪ .‬فقال أبو بصي‪ :‬أرن أنظر إليه‪،‬‬
‫فأمكنه منه‪ ،‬فضربه حت برد‪.‬‬

‫وفر الخر حت أت الدينة‪ ،‬فدخل السجد يعدو‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم حي رآه‪( :‬لقد رأى‬
‫هذا ذعرا)‪ ،‬فلما انتهي إل النب صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬قُتِل صاحب‪ ،‬وإن لقتول‪ ،‬فجاء أبو بصي‬
‫وقال‪ :‬يا نب ال‪ ،‬قد وال أوْفَي ال ذمتك‪ ،‬قد رددتن إليهم‪ ،‬ث أنان ال منهم‪ ،‬قال رسول ال صلى ال‬
‫سعَر َح ْربٍ لو كان له أحد)‪ ،‬فلما سع ذلك عرف أنه سيده إليهم‪ ،‬فخرج حت‬
‫عليه وسلم‪( :‬ويل أمه‪ ،‬مِ ْ‬
‫أت سِيفَ البحر‪ ،‬وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل‪ ،‬فلحق بأب بصي‪ ،‬فجعل ل يرج من قريش رجل قد‬
‫أسلم إل لق بأب بصي‪ ،‬حت اجتمعت منهم عصابة‪ .‬فو ال ما يسمعون بعي خرجت لقريش إل الشام إل‬
‫اعترضوا لا‪ ،‬فقتلوهم وأخذوا أموالم‪ .‬فأرسلت قريش إل النب صلى ال عليه وسلم تناشده ال والرحم‬
‫لا أرسل‪ ،‬فمن أتاه فهو آمن‪ ،‬فأرسل النب صلى ال عليه وسلم إليهم‪ ،‬فقدموا عليه الدينة‪.‬‬

‫إسلم أبطال من قريش‬

‫وف سنة ‪ 7‬من الجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة‪ ،‬ولا‬
‫حضروا عند النبـي صلى ال عليه وسلم قـال‪( :‬إن مكـة قد ألقت إلينا أفلذ كبدها)‪.‬‬
‫الرحلة الثانية‪ :‬طور جديد‬

‫مكاتبة اللوك والمراء‬


‫الكتاب إل النجاشي ملك البشة‬
‫الكتاب إل القوقس ملك مصر‬
‫الكتاب إل كسرى ملك فارس‬
‫الكتاب إل قيصر ملك الروم‬
‫الكتاب إل النذر بن سَاوِي‬
‫الكتاب إل هَ ْوذَة بن على صاحب اليمامة‬
‫الكتاب إل الارث بن أب شَمِر الغسان صاحب دمشق‬
‫الكتاب إل ملك عُمَان‬

‫إن صلح الديبية كان بداية طور جديد ف حياة السلم والسلمي‪ ،‬فقد كانت قريش أقوي قوة وأعندها‬
‫وألدها ف عداء السلم‪ ،‬وبانسحابا عن ميدان الرب إل رحاب المن والسلم انكسر أقوي جناح من‬
‫أجنحة الحزاب الثلثة ـ قريش و َغطَفَان واليهود ـ ولا كانت قريش مثلة للوثنية‪ ،‬وزعيمتهم ف ربوع‬
‫جزيرة العرب انفضت حدة مشاعر الوثنيي‪ ،‬وانارت نزعاتا العدائية إل حد كبي‪ ،‬ولذلك ل نري‬
‫لغطفان استفزازا كبيا بعد هذه الدنة‪ ،‬وجل ما جاء منهم إنا جاء من قبل إغراء اليهود‪.‬‬

‫أما اليهود فكانوا قد جعلوا خيب بعد جلئهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر‪ ،‬وكانت شياطينهم تبيض‬
‫هناك وتفرخ‪ ،‬وتؤجج نار الفتنة‪ ،‬وتغري العراب الضاربة حول الدينة‪ ،‬وتبيت للقضاء على النب صلى‬
‫ال عليه وسلم والسلمي‪ ،‬أو للاق السائر الفادحة بم‪ ،‬ولذلك كان أول إقدام حاسم من النب صلى‬
‫ال عليه وسلم بعد هذا الصلح هو شن الرب الفاصلة على هذا الوكر‪.‬‬

‫ث إن هذه الرحلة الت بدأت بعد الصلح أعطت السلمي فرصة كبية لنشر الدعوة السلمية وإبلغها‪،‬‬
‫وقد تضاعف نشاط السلمي ف هذا الجال‪ ،‬وبرز نشاطهم ف هذا الوجه على نشاطهم العسكري ؛‬
‫ولذلك نري أن نقسم هذه الرحلة إل قسمي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ النشاط ف مال الدعوة‪ ،‬أو مكاتبة اللوك والمراء‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ النشاط العسكري‪.‬‬

‫وقبل أن نتابع النشاط العسكري ف هذه الرحلة‪ ،‬نتناول موضوع مكاتبة اللوك والمراء ؛ إذ الدعوة‬
‫السلمية هي القدمة طبعا‪ ،‬بل ذلك هو الدف الذي عان له السلمون ما عانوه من الصائب واللم‪،‬‬
‫والروب والفت‪ ،‬والقلقل والضطرابات‪.‬‬

‫مكاتبة اللوك والمراء‬

‫ف أواخر السنة السادسة حي رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم من الديبية كتب إل اللوك يدعوهم‬
‫إل السلم‪.‬‬

‫ولا أراد أن يكتب إل هؤلء اللوك قيل له‪ :‬إنم ل يقرءون كتابا إل وعليه خات‪ ،‬فاتذ النب صلى ال عليه‬
‫وسلم خاتا من فضة‪ ،‬نقشه‪ :‬ممد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان هذا النقش ثلثة أسطر‪ :‬ممد‬
‫سطر‪ ،‬ورسول سطر‪ ،‬وال سطر‪ ،‬هــكذا‪.‬‬

‫واختار من أصحابه رسلً لم معرفة وخبة‪ ،‬وأرسلهم إل اللوك‪ ،‬وقد جزم العلمة النصورفوري أن النب‬
‫صلى ال عليه وسلم أرسل هؤلء الرسل غرة الحرم سنة سبع من الجرة قبل الروج إل خيب بأيام‪.‬‬
‫وفيما يلي نصوص هذه الكتب‪ ،‬وبعض ما تخضت عنه‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ الكتاب إل النجاشي ملك البشة‪:‬‬

‫صحَمَة بن الْبجَر‪ ،‬كتب إليه النب صلى ال عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضّمْرِي‬
‫وهذا النجاشي اسه أ ْ‬
‫ف آخر سنة ست أو ف الحرم سنة سبع من الجرة‪ .‬وقد ذكر الطبي نص الكتاب‪ ،‬ولكن النظر الدقيق‬
‫ف ذلك النص‪ ،‬يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلى ال عليه وسلم بعد الديبية‪ ،‬بل لعله نص‬
‫كتاب بعثه مع جعفر حي خرج هو وأصحابه مهاجرين إل البشة ف العهد الكي‪ ،‬فقد ورد ف آخر‬
‫الكتاب ذكر هؤلء الهاجرين بذا اللفظ‪( :‬وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرا ومعه نفر من السلمي‪ ،‬فإذا‬
‫جاءك فأقرهم ودع التجب)‪.‬‬
‫وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النب صلى ال عليه وسلم إل النجاشي‪ ،‬وهو هذا‪:‬‬

‫(بسم ال الرحن الرحيم‪ .‬هذا كتاب من ممد رسول ال إل النجاشي‪ ،‬الصحم عظيم البشة‪ ،‬سلم على‬
‫من اتبع الدي‪ ،‬وآمن بال ورسوله‪ ،‬وشهد أن ل إله إلال وحده ل شريك له‪ ،‬ل يتخذ صاحبه ول ولدا‪،‬‬
‫وأن ممدًا عبده ورسوله‪ ،‬وأدعوك بدعاية السلم‪ ،‬فإن أنا رسوله فأسلم تسلم‪{ ،‬يَا أَهْلَ الْكِتَابِ َتعَالَ ْواْ‬
‫خذَ َبعْضُنَا بَعْضا أَ ْربَابًا مّن دُونِ ال ّلهِ‬
‫إِلَى كَلَ َمةٍ َسوَاء بَيْنَنَا َوبَيْنَ ُكمْ أَلّ َنعُْبدَ إِلّ ال ّلهَ وَلَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا َولَ يَّت ِ‬
‫سلِمُونَ} فإن أبيت فعليك إث النصارى من قومك)‪.‬‬
‫َفإِن تَ َولّوْاْ َفقُولُواْ اشْ َهدُواْ ِبأَنّا مُ ْ‬

‫وقد أورد الحقق الكبي الدكتور حيد ال ـ باريس ـ نص كتاب قد عثر عليه ف الاضي القريب ـ بثل‬
‫ما أورده ابن القيم مع الختلف ف كلمة فقط ـ وبذل الدكتور ف تقيق ذلك النص جهدا بليغا‪،‬‬
‫واستعان ف ذلك كثيا باكتشافات العصر الديث‪ ،‬وأورد صورته ف الكتاب وهو هكذا‪:‬‬

‫(بسم ال الرحن الرحيم‪ .‬من ممد رسول ال إل النجاشي عظيم البشة‪ ،‬سلم على من اتبع الدى‪ ،‬أما‬
‫بعد‪:‬‬

‫فإن أحد إليك ال الذي ل إله إل هو اللك القدوس السلم الؤمن الهيمن‪ ،‬وأشهد أن عيسي بن مري‬
‫روح ال وكلمته ألقاها إل مري البتول الطيبة الصينة‪ ،‬فحملت بعيسي من روحه ونفخه‪ ،‬كما خلق آدم‬
‫بيده‪ ،‬وإن أدعو إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬والوالة على طاعته‪ ،‬وأن تتبعن‪ ،‬وتؤمن بالذي جاءن‪ ،‬فإن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإن أدعوك وجنودك إل ال عز وجل‪ ،‬وقد بلغت ونصحت‪ ،‬فاقبل‬
‫نصيحت‪ ،‬والسلم على من اتبع الدى)‪.‬‬

‫وأكد الدكتور الحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النب صلى ال عليه وسلم إل النجاشي بعد‬
‫الديبية‪ ،‬أما صحة هذا النص فل شك فيها بعد النظر ف الدلئل‪ ،‬وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب‬
‫بعد الديبية فل دليل عليه‪ ،‬والذي أورد البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب الت كتبها النب صلى ال‬
‫عليه وسلم إل ملوك وأمراء النصاري بعد الديبية‪ ،‬فإن فيه الية الكرية‪ { :‬يَا أَ ْه َل الْكِتَابِ تَعَالَ ْواْ ِإلَى‬
‫كَلَ َمةٍ‪ }...‬إل‪ ،‬كما كان دأبه ف تلك الكتب‪ ،‬وقد ورد فيه اسم الصحمة صريا‪ ،‬وأما النص الذي أورده‬
‫الدكتور حيد ال‪ ،‬فالغلب عندي أنه نص الكتاب الذي كتبه النب صلى ال عليه وسلم بعد موت‬
‫أصحمة إل خليفته‪ ،‬ولعل هذا هو السبب ف ترك السم‪.‬‬
‫وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي الشهادات الداخلية الت تؤديها نصوص هذه الكتب‪.‬‬
‫والعجب من الدكتور حيد ال أنه جزم بأن النص الذي أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب‬
‫الذي كتبه النب صلى ال عليه وسلم بعد موت أصحمة إل خليفته مع أن اسم أصحمة وارد ف هذا النص‬
‫صريا‪ ،‬والعلم عند ال‪.‬‬

‫ولا بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النب صلى ال عليه وسلم إل النجاشي أخذه النجاشي‪ ،‬ووضعه‬
‫على عينه‪ ،‬ونزل عن سريره على الرض‪ ،‬وأسلم على يد جعفر بن أب طالب‪ ،‬وكتب إل النب صلى ال‬
‫عليه وسلم بذلك‪ ،‬وهاك نصه‪:‬‬

‫[بسم ال الرحن الرحيم‪ .‬إل ممد رسول ال من النجاشي أصحمة‪ ،‬سلم عليك يا نب ال من ال ورحة‬
‫ال وبركاته‪ ،‬ال الذي ل إله إل هو‪ ،‬أما بعد‪:‬‬

‫فقد بلغن كتابك يا رسول ال فيما ذكرت من أمر عيسي‪ ،‬فورب السماء والرض إن عيسي ل يزيد على‬
‫ما ذكرت تُفْرُوقا‪ ،‬إنه كما قلت‪ ،‬وقد عرفنا ما بعثت به إلينا‪ ،‬وقد قرينا ابن عمك وأصحابك‪ ،‬فأشهد أنك‬
‫رسول ال صادقا مصدقا‪ ،‬وقد بايعتك‪ ،‬وبايعت ابن عمك‪ ،‬وأسلمت على يديه ل رب العالي)‪.‬‬

‫وكان النب صلى ال عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفرا ومن معه من مهاجري البشة‪،‬‬
‫فأرسلهم ف سفينتي مع عمرو بن أمية الضمري‪ ،‬فقدم بم على النب صلى ال عليه وسلم وهو بيب‪.‬‬

‫وتوف النجاشي هذا ف رجب سنة تسع من الجرة بعد تبوك‪ ،‬ونعاه النب صلى ال عليه وسلم يوم وفاته‪،‬‬
‫وصلي عليه صلة الغائب‪ ،‬ولا مات وتلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النب صلى ال عليه وسلم‬
‫كتابا آخر‪ ،‬ول يدري هل أسلم أم ل؟‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الكتاب إل القوقس ملك مصر‪:‬‬

‫وكتــب النبــي صلى ال عليه وسلم إل جُ َريْج بـن مَتّي اللقب با ُلقَوْقِس ملك مصر‬
‫والسكندرية‪:‬‬

‫(بسم ال الرحن الرحيم من ممد عبد ال ورسوله إل القوقس عظيم القبط‪ ،‬سلم على من اتبع الدى‪،‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فإن أدعوك بدعاية السلم‪ ،‬أسلم تسلم‪ ،‬وأسلم يؤتك ال أجرك مرتي‪ ،‬فإن توليت فإن عليك‬
‫إث أهل القبــط‪{ ،‬يَا أَ ْه َل الْكِتَابِ تَعَالَ ْواْ ِإلَى كَلَ َمةٍ سَوَاء بَيْنَنَا َوبَيْنَ ُكمْ أَلّ نَعُْبدَ إِلّ ال ّلهَ َولَ نُشْ ِركَ ِبهِ شَيْئًا‬
‫وَلَ يَّتخِذَ َبعْضُنَا َبعْضا أَ ْربَابًا مّن دُونِ ال ّلهِ َفإِن تَ َولّ ْواْ َفقُولُواْ اشْ َهدُواْ بَِأنّا مُسْلِمُونَ})‬

‫واختار لمل هذا الكتاب حاطب بن أب بَلَْتعَة‪ .‬فلما دخل حاطب على القوقس قال له‪ :‬إنه كان قبلك‬
‫رجل يزعم أنه الرب العلى‪ ،‬فأخذه ال نكال الخرة والول‪ ،‬فانتقم به ث انتقم منه‪ ،‬فاعتب بغيك‪ ،‬ول‬
‫يعتب غيك بك‪.‬‬

‫فقال القوقس‪ :‬إن لنا دينا لن ندعه إل لا هو خي منه‪.‬‬

‫فقال حاطب‪ :‬ندعوك إل دين السلم الكاف به ال َف ْقدَ ما سِواه‪ ،‬إن هذا النب دعا الناس فكان أشدهم‬
‫عليه قريش‪ ،‬وأعداهم له اليهود‪ ،‬وأقربم منه النصاري‪ ،‬ولعمري ما بشارة موسي بعيسي إل كبشارة‬
‫عيسي بحمد‪ ،‬وما دعاؤنا إياك إل القرآن إل كدعائك أهل التوراة إل النيل‪ ،‬فكل نب أدرك قوما فهم‬
‫أمته‪ ،‬فالق عليهم أن يطيعوه‪ ،‬وأنت من أدركه هذا النب‪ ،‬ولسنا ننهاك عن دين السيح‪ ،‬ولكنا نأمرك به‪.‬‬

‫فقال القوقس‪ :‬إن قد نظرت ف أمر هذا النب‪ ،‬فوجدته ل يأمر بزهود فيه‪ .‬ول ينهي عن مرغوب فيه‪ ،‬ول‬
‫أجده بالساحر الضال‪ ،‬ول الكاهن الكاذب‪ ،‬ووجدت معه آية النبوة بإخراج البء والخبار بالنجوي‪،‬‬
‫وسأنظر‪.‬‬

‫وأخذ كتاب النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجعله ف حُقّ من عاج‪ ،‬وختم عليه‪ ،‬ودفعه إل جارية له‪ ،‬ث دعا‬
‫كاتبا له يكتب بالعربية‪ ،‬فكتب إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫(بسم ال الرحن الرحيم‪ .‬لحمد بن عبد ال من القوقس عظيم القبط‪ ،‬سلم عليك‪ ،‬أما بعد‪:‬‬

‫فقد قرأت كتابك‪ ،‬وفهمت ما ذكرت فيه‪ ،‬وما تدعو إليه‪ ،‬وقد علمت أن نبيا بقي‪ ،‬وكنت أظن أنه يرج‬
‫بالشام‪ ،‬وقد أكرمت رسولك‪ ،‬وبعثت إليك باريتي‪ ،‬لما مكان ف القبط عظيم‪ ،‬وبكسوة‪ ،‬وأهديت بغلة‬
‫لتركبها‪ ،‬والسلم عليك)‪.‬‬

‫ول يزد على هذا ول يسلم‪ ،‬والاريتان مارية‪ ،‬وسيين‪ ،‬والبغلة ُدْلدُل‪ ،‬بقيت إل زمن معاوية ‪ ،‬واتذ النب‬
‫صلى ال عليه وسلم مارية سرية له‪ ،‬وهي الت ولدت له إبراهيم‪ .‬وأما سيين فأعطاها لسان بن ثابت‬
‫النصاري‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الكتاب إل كسرى ملك فارس‪:‬‬

‫وكتب النب صلى ال عليه وسلم إل كسرى ملك فارس‪:‬‬

‫(بسم ال الرحن الرحيم‪ .‬من ممد رسول ال إل كسرى عظيم فـارس‪ ،‬سـلم على من اتبع الدي‪،‬‬
‫وآمن بال ورسوله‪ ،‬وشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأن ممدا عبده ورسوله‪ ،‬وأدعوك بدعاية‬
‫ال‪ ،‬فإن أنا رسول ال إل الناس كافة‪ ،‬لينذر من كان حيا ويق القول على الكافرين‪ ،‬فأسلم تسلم‪ ،‬فإن‬
‫أبيت فإن إث الجوس عليك)‪.‬‬

‫واختار لمل هذا الكتاب عبد ال بن حذافة السهمي‪ ،‬فدفعه السهمي إل عظيم البحرين‪ ،‬ول ندري هل‬
‫بعث به عظيم البحرين رجلً من رجالته‪ ،‬أم بعث عبد ال السهمي‪ ،‬وأيّا ما كان فلما قرئ الكتاب على‬
‫كسرى مزقه‪ ،‬وقال ف غطرسة‪ :‬عبد حقي من رعيت يكتب اسه قبلي‪ ،‬ولا بلغ ذلك رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم قال‪( :‬مزق ال ملكه)‪ ،‬وقد كان كما قال‪ ،‬فقد كتب كسرى إل بَاذَان عامله على اليمن‪:‬‬
‫ابعث إل هذا الرجل الذي بالجاز رجلي من عندك جلدين فليأتيان به‪ .‬فاختار باذان رجلي من عنده‪،‬‬
‫أحدها‪ :‬قهرمانه بانويه‪ ،‬وكان حاسبا كاتبا بكتاب فارس‪ .‬وثانيهما‪ :‬خرخسرو من الفرس ‪ ،‬وبعثهما‬
‫بكتاب إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يأمر أن ينصرف معهما إل كسري‪ ،‬فلما قدما الدينة‪ ،‬وقابل‬
‫النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال أحدها‪ :‬إن شاهنشاه [ملك اللوك] كسرى قد كتب إل اللك باذان‬
‫يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه بك‪ ،‬وبعثن إليك لتنطلق معي‪ ،‬وقال قولً توعده فيه‪ ،‬فأمرها النب صلى‬
‫ال عليه وسلم أن يلقياه غدا‪.‬‬

‫وف ذلك الوقت كانت قد قامت ثورة كبية ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لقت جنوده هزية منكرة‬
‫أمام جنود قيصر‪ ،‬فقد قام شيويه بن كسرى على أبيه فقتله‪ ،‬وأخذ اللك لنفسه‪ ،‬وكان ذلك ف ليلة‬
‫الثلثاء لعشر مضي من جادي الول سنة سبع ‪ ،‬وعلم رسول ال صلى ال عليه وسلم الب من الوحي‪،‬‬
‫فلما غدوا عليه أخبها بذلك‪ .‬فقال‪ :‬هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر‪ ،‬أفنكتب هذا‬
‫عنك‪ ،‬ونبه اللك‪ .‬قال‪( :‬نعم أخباه ذلك عن‪ ،‬وقول له‪ :‬إن دين وسلطان سيبلغ ما بلغ كسرى !‬
‫وينتهي إل منتهي الف والافر‪ ،‬وقول له‪ :‬إن أسلمت أعطيتك ما تت يدك‪ ،‬وملكتك على قومك من‬
‫البناء)‪ ،‬فخرجا من عنده حت قدما على باذان فأخباه الب‪ ،‬وبعد قليل جاء كتاب بقتل شيويه لبيه‪،‬‬
‫وقال له شيويه ف كتابه‪ :‬انظر الرجل الذي كان كتب فيه أب إليك‪ ،‬فل تجه حت يأتيك أمري‪.‬‬

‫وكان ذلك سببا ف إسلم باذان ومن معه من أهل فارس باليمن‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الكتاب إل قيصر ملك الروم‪:‬‬

‫روى البخاري ـ ضمن حديث طويل ـ نص الكتاب الذي كتبه النب صلى ال عليه وسلم إل ملك‬
‫الروم هرقل‪ ،‬وهو هذا‪:‬‬

‫(بسم ال الرحن الرحيم‪ .‬من ممد عبد ال ورسوله إل هرقل عظيم الروم‪ ،‬سلم على من اتبع الدي‪،‬‬
‫أسلم تسلم‪ ،‬أسلم يؤتك ال أجرك مرتي‪ ،‬فإن توليت فإن عليك إث الريسيي { يَا أَ ْه َل الْكِتَابِ تَعَالَ ْواْ ِإلَى‬
‫خذَ َبعْضُنَا َبعْضا أَ ْربَابًا مّن دُونِ ال ّلهِ َفإِن‬
‫كَلَ َمةٍ َسوَاء بَيْنَنَا َوبَيْنَ ُكمْ أَلّ نَعُْبدَ إِلّ ال ّلهَ َولَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَ يَّت ِ‬
‫تَوَلّ ْواْ َفقُولُواْ اشْ َهدُواْ ِبأَنّا مُسْ ِلمُونَ}) [آل عمران‪.]64:‬‬

‫واختار لمل هذا الكتاب َدحْيَة بن خليفة الكلب‪ ،‬وأمره أن يدفعه إل عظيم بصري‪ ،‬ليدفعه إل قيصر‪،‬‬
‫وقد روي البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبه أن هرقل أرسل إليه ف ركب من قريش‪،‬‬
‫كانوا تارا بالشام‪ ،‬ف الدة الت كان رسول ال صلى ال عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش‪،‬‬
‫فأتوه وهم بإيلياء ‪ ،‬فدعاهم ف ملسه وحوله عظماء الروم‪ ،‬ث دعاهم ودعا ترجانه فقال‪ :‬أيكم أقرب نسبا‬
‫بذا الرجل الذي يزعم أنه نب؟ قال أبو سفيان‪ :‬فقلت‪ :‬أنا أقربم نسبا‪ ،‬فقال‪ :‬أدنوه من‪ ،‬وقربوا أصحابه‪،‬‬
‫فاجعلوهم عند ظهره‪ ،‬ث قال لترجانه‪ :‬إن سائل هذا عن هذا الرجل‪ ،‬فإن كذبن فكذبوه‪ ،‬فو ال لول‬
‫الياء من أن يأثروا على كذبا لكذبت عليه‪.‬‬

‫ث قال‪ :‬أول ما سألن عنه أن قال‪ :‬كيف نسبه فيكم؟ فقلت‪ :‬هو فينا ذو نسب‪ ،‬قال‪ :‬فهل قال هذا القول‬
‫منكم أحد قط قبله؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فأشراف الناس اتبعوه أم‬
‫ضعفاؤهم؟ قلت‪ :‬بل ضعفاؤهم‪ .‬قال‪ :‬أيزيدون أم ينقصون؟ قلت‪ :‬بل يزيدون‪ .‬قال‪ :‬فهل يرتد أحد منهم‬
‫سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه‪ :‬قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت‪ :‬ل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يغدر؟ قلت‪ :‬ل‪ ،‬ونن منه ف مدة ل ندري ما هو فاعل فيها ـ قال‪ :‬ول تكنن كلمة أدخل فيها‬
‫شيئا غي هذه الكلمة ـ قال‪ :‬فهل قاتلتموه؟ قلت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت‪ :‬الرب بيننا‬
‫وبينه سجال‪ ،‬ينال منا وننال منه‪ .‬قال‪ :‬ماذا يأمركم؟ قلت‪ :‬يقول‪( :‬اعبدوا ال وحده‪ ،‬ول تشركوا به‬
‫شيئا‪ ،‬واتركوا ما يقول آباؤكم)‪ ،‬ويأمرنا بالصلة والصدق والعفاف والصلة‪.‬‬

‫فقال للترجان‪ :‬قل له‪ :‬سألتك عن نسبه‪ ،‬فذكرت أنه فيكم ذو نسب‪ ،‬وكذلك الرسل تبعث ف نسب من‬
‫قومها‪ .‬وسألتك‪ :‬هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن ل‪ .‬قلت‪ :‬لو كان أحد قال هذا القول‬
‫قبله لقلت‪ :‬رجل يأتسي بقول قيل قبله‪ .‬وسألتك‪ :‬هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن ل‪ .‬فقلت‪ :‬فلو‬
‫كان من آبائه من ملك قلت‪ :‬رجل يطلب ملك أبيه‪ .‬وسألتك‪ :‬هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما‬
‫قال؟ فذكرت أن ل‪ ،‬فقد أعرف أنه ل يكن ليذر الكذب على الناس‪ ،‬ويكذب على ال‪ .‬وسألتك‪ :‬أشراف‬
‫الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه‪ ،‬وهم أتباع الرسل‪ .‬وسألتك‪ :‬أيزيدون أم‬
‫ينقصون؟ فذكرت أنم يزيدون‪ ،‬وكذلك أمر اليان حت يتم‪ .‬وسألتك‪ :‬أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن‬
‫يدخل فيه؟ فذكرت أن ل‪ ،‬وكذلك اليان حي تالط بشاشته القلوب‪ .‬وسألتك‪ :‬هل يغدر؟ فذكرت أن‬
‫ل‪ ،‬وكذلك الرسل ل تغدر‪.‬وسألتك‪ :‬باذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا ال‪ ،‬ول تشركوا به شيئا‬
‫وينهاكم عن عبادة الوثان‪ ،‬ويأمركم بالصلة والصدق والعفاف‪ ،‬فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع‬
‫قدمي هاتي‪ ،‬وقد كنت أعلم أنه خارج‪ ،‬ول أكن أظنه أنه منكم‪ ،‬فلو أن أعلم أن أخلص إليه لتجشمت‬
‫لقاءه‪ ،‬ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه‪.‬‬

‫ث دعا بكتاب رسول ال صلى ال عليه وسلم فقرأ‪ ،‬فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الصوات عنده‬
‫وكثر اللغط‪ ،‬وأمر بنا فأخرجنا‪ ،‬قال‪ :‬فقلت لصحاب حي أخرجنا‪ :‬لقد أمِ َر أمْرُ ابن أب كَبْشَة‪ ،‬إنه ليخافه‬
‫ملك بن الصفر ‪ ،‬فما زلت موقنا بأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه سيظهر حت أدخل ال على‬
‫السلم‪.‬‬

‫هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على قيصر‪ ،‬وقد كان من أثره عليه أنه أجاز دحية بن خليفة‬
‫سمَي ف الطريق لقيه‬
‫الكلب‪ ،‬حامل كتاب الرسول صلى ال عليه وسلم بال وكسوة‪ ،‬ولا كان دحية بِ ْ‬
‫ناس من ُجذَام‪ ،‬فقطعوها عليه‪ ،‬فلم يتركوا معه شيئا‪ ،‬فجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل أن يدخل‬
‫بيته‪ ،‬فأخبه‪ ،‬فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم زيد بن حارثة إل حسمي‪ ،‬وهي وراء وادي القري‪،‬‬
‫ف خسمائة رجل‪ ،‬فشن زيد الغارة على جذام‪ ،‬فقتل فيهم قتلً ذريعا‪ ،‬واستاق َنعَمهم ونساءهم‪ ،‬فأخذ من‬
‫النعم ألف بعي‪ ،‬ومن الشاء خسة آلف‪ ،‬والسب مائة من النساء والصبيان‪.‬‬

‫وكان بي النب صلى ال عليه وسلم وبي قبيلة جذام موادعة‪ ،‬فأسرع زيد بن رِفَاعة الذامي أحد زعماء‬
‫هذه القبيلة بتقدي الحتجاج إل النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان قد أسلم هو ورجال من قومه‪ ،‬ونصروا‬
‫دحية حي قطع عليه الطريق فقبل النب صلى ال عليه وسلم احتجاجه‪ ،‬وأمر برد الغنائم والسب‪.‬‬

‫وعامة أهل الغازي يذكرون هذه السرية قبل الديبية‪ ،‬وهو خطأ واضح‪ ،‬فإن بعث الكتـاب إل قيـصر‬
‫كـان بعد الديبية ؛ ولذا قال ابن القيم‪ :‬هذا بعد الديبية بل شك‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ الكتاب إل النذر بن سَاوِي‪:‬‬

‫وكتب النب صلى ال عليه وسلم إل النذر بن ساوي حاكم البحرين كتابا يدعوه فيه إل السلم‪ ،‬وبعث‬
‫إليه العلء بن الضرمي بذلك الكتاب‪ ،‬فكتب النذر إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫[أما بعد‪ ،‬يا رسول ال‪ ،‬فإن قرأت كتابك على أهل البحرين‪ ،‬فمنهم من أحب السلم وأعجبه‪ ،‬ودخل‬
‫فيه‪ ،‬ومنهم من كرهه‪ ،‬وبأرضي موس ويهود‪ ،‬فأحدث إل ف ذلك أمرك]‪.‬‬

‫فكتب إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫(بسم ال الرحن الرحيم‪ .‬من ممد رسول ال إل النذر بن ساوي‪ ،‬سلم عليك‪ ،‬فإن أحد إليك ال الذي‬
‫ل إله إل هو‪ ،‬وأشهد أن ممدا عبده ورسوله‪ ،‬أما بعد‪ ،‬فإن أذكرك ال عز وجل‪ ،‬فإنه من ينصح فإنا‬
‫ينصح لنفسه‪ ،‬وإنه من يطيع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعن‪ ،‬ومن نصح لم فقد نصح ل‪ ،‬وإن رسلي قد‬
‫أثنوا عليك خيا‪ ،‬وإن قد شفعتك ف قومك‪ ،‬فاترك للمسلمي ما أسلموا عليه‪ ،‬وعفوت عن أهل الذنوب‪،‬‬
‫فاقبل منهم‪ ،‬وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك‪ .‬ومن أقام على يهودية أو موسية فعليه الزية)‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ الكتاب إل هَوْذَة بن على صاحب اليمامة‪:‬‬

‫وكتب النب صلى ال عليه وسلم إل هوذة بن على صاحب اليمامة‪:‬‬

‫(بسم ال الرحن الرحيم‪ .‬من ممد رسول ال إل هوذة بن علي‪ ،‬سلم على من اتبع الدى‪ ،‬واعلم أن‬
‫دين سيظهر إل منتهي الف والافر‪ ،‬فأسلم تسلم‪ ،‬وأجعل لك ما تت يديك)‪.‬‬

‫واختار لمل هذا الكتاب َسلِيط بن عمرو العامري‪ ،‬فلما قدم سليط على هوذة بذا الكتاب متوما أنزله‬
‫وحياه‪ ،‬وقرأ عليه الكتاب‪ ،‬فرد عليه ردا دون رد‪ ،‬وكتب إل النب صلى ال عليه وسلم‪[ :‬ما أحسن ما‬
‫تدعو إليه وأجله‪ ،‬والعرب تاب مكان‪ ،‬فاجعل ل بعض المر أتبعك)‪ ،‬وأجاز سليطا بائزة‪ ،‬وكساه أثوابا‬
‫من نسج هجر‪.‬‬

‫فقدم بذلك كله على النب صلى ال عليه وسلم فأخبه‪ ،‬وقرأ النب صلى ال عليه وسلم كتابه فقال‪( :‬لو‬
‫سألن قطعة من الرض ما فعلت‪ ،‬باد‪ ،‬وباد ما ف يديه)‪ .‬فلما انصرف رسول ال من الفتح جاءه جبيل‬
‫عليه السلم بأن هوذة مات‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬أما إن اليمامة سيخرج با كذاب يتنب‪،‬‬
‫يقتل بعدي)‪ ،‬فقال قائل‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬من يقتله؟ فقال‪( :‬أنت وأصحابك)‪ ،‬فكان كذلك؟‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ الكتاب إل الارث بن أب شَمِر الغسان صاحب دمشق‪:‬‬

‫كتب إليه النب صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫(بسم ال الرحن الرحيم‪ .‬من ممد رسول ال إل الارث بن أب شر‪ ،‬سلم على من اتبع الدى‪ ،‬وآمن‬
‫بال وصدق‪ ،‬وإن أدعوك إل أن تؤمن بال وحده ل شريك له‪ ،‬يبقي لك ملكك)‪.‬‬

‫واختار لمل هذا الكتاب شجاع بن وهب من بن أسد بن خزية‪ ،‬ولا أبلغه الكتاب رمي به وقال‪[ :‬من‬
‫ينع ملكي من؟ أنا سائر إليه]‪ ،‬ول يسلم‪ .‬واستأذن قيصر ف حرب رسول ال صلى ال عليه وسلم فثناه‬
‫عن عزمه‪ ،‬فأجاز الارث شجاع بن وهب بالكسوة والنفقة‪ ،‬ورده بالسن‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ الكتاب إل ملك عُمَان‪:‬‬

‫وكتب النب صلى ال عليه وسلم كـتابا إل ملـك عمان جَ ْيفَر وأخيه عبد ابن الُلَ ْندَي‪ ،‬ونصه‪:‬‬

‫(بسم ال الرحن الرحيم‪ .‬من ممد رسول ال إل جيفر وعبد ابن اللندي‪ ،‬سلم على من اتبع الدي‪ ،‬أما‬
‫بعد‪:‬‬

‫فإن أدعوكما بدعاية السلم‪ ،‬أسلما تسلما‪ ،‬فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم إل الناس كافة‪ ،‬لنذر‬
‫من كان حيا ويق القول على الكافرين‪ ،‬فإنكما إن أقررتا بالسلم وليتكما‪ ،‬وإن أبيتما [أن تقرا‬
‫بالسلم] فإن ملككما زائل‪ ،‬وخيلي تل بساحتكما‪ ،‬وتظهر نبوت على ملككما)‪.‬‬

‫واختار لمل هذا الكتاب عمرو بن العاص رضي ال عنه قال عمرو‪ :‬فخرجت حت انتهيت إل عمان‪،‬‬
‫فلما قدمتها عمدت إل عبد ـ وكان أحلم الرجلي‪ ،‬وأسهلهما خلقا ـ فقلت‪ :‬إن رسول رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم إليك وإل أخيك‪ ،‬فقال‪ :‬أخي القدم على بالسن واللك‪ ،‬وأنا أوصلك إليه حت يقرأ‬
‫كتابك‪ ،‬ث قال‪ :‬وما تدعو إليه؟ قلت‪ :‬أدعو إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وتلع ما عبد من دونه‪ ،‬وتشهد‬
‫أن ممدا عبده ورسوله‪ .‬قال‪ :‬يا عمرو‪ ،‬إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة‪ .‬قلت‪:‬‬
‫مات ول يؤمن بحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ووددت أنه كان أسلم وصدق به‪ ،‬وقد كنت أنا على مثل‬
‫رأيه حت هدان ال للسلم‪ .‬قال‪ :‬فمت تبعته؟ قلت‪ :‬قريبا‪ .‬فسألن أين كان إسلمك؟ قلت‪ :‬عند‬
‫النجاشي‪ ،‬وأخبته أن النجاشي قد أسلم‪ .‬قال‪ :‬وكيف صنع قومه بلكه؟ فقلت‪ :‬أقروه واتبعوه‪ .‬قال‪:‬‬
‫والساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬انظر يا عمرو ما تقول‪ ،‬إنه ليس من خصلة ف رجل أفضح له‬
‫من الكذب‪ .‬قلت‪ :‬ما كذبت‪ ،‬وما نستحله ف ديننا‪ ،‬ث قال‪ :‬ما أرى هرقل علم بإسلم النجاشي‪.‬قلت‪:‬‬
‫بلي‪ ،‬قال‪ :‬فبأي شيء علمت ذلك؟ قلت‪ :‬كان النجاشي يرج له خرجا‪ ،‬فلما أسلم وصدق بحمد صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬ل وال لو سألن درها واحدا ما أعطيته‪ ،‬فبلغ هرقل قوله‪ ،‬فقال له اليَنّاق أخوه‪:‬‬
‫أتدع عبدك ل يرج لك خرجا‪ ،‬ويدين بدين غيك دينا مدثا؟ قال هرقل‪ :‬رجل رغب ف دين‪ ،‬فاختاره‬
‫لنفسه‪ ،‬ما أصنع به؟ وال لول الضن بلكي لصنعت كما صنع‪ .‬قال‪ :‬انظر ما تقول يا عمرو؟ قلت‪ :‬وال‬
‫صدقتك‪.‬‬

‫قال عبد‪ :‬فأخبن ما الذي يأمر به وينهي عنه؟ قلت‪ :‬يأمر بطاعة ال عز وجل وينهي عن معصيته‪ ،‬ويأمر‬
‫بالب وصلة الرحم‪ ،‬وينهي عن الظلم والعدوان‪ ،‬وعن الزنا‪ ،‬وعن المر‪ ،‬وعن عبادة الجر والوثن‬
‫والصليب‪ .‬قال‪ :‬ما أحسن هذا الذي يدعو إليه‪ ،‬لو كان أخي يتابعن عليه لركبنا حت نؤمن بحمد صلى‬
‫ال عليه وسلم ونصدق به‪ ،‬ولكن أخي أضن بلكه من أن يدعه ويصي ذنبا‪ .‬قلت‪ :‬إنه إن أسلم مَلّ َكهُ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم على قومه‪ ،‬فأخذ الصدقة من غنيهم فيدها على فقيهم‪ .‬قال‪ :‬إن هذا‬
‫للق حسن‪ .‬وما الصدقة؟ فأخبته با فرض رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الصدقات ف الموال‪ ،‬حت‬
‫انتهيت إل البل‪ .‬قال‪ :‬يا عمرو‪ ،‬وتؤخذ من سوائم مواشينا الت ترعي الشجر وترد الياه؟ فقلت‪ :‬نعم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬وال ما أري قومي ف بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون لذا‪.‬‬

‫قال‪ :‬فمكثت ببابه أياما‪ ،‬وهو يصل إل أخيه فيخبه كل خبي‪ ،‬ث إنه دعان يوما فدخلت عليه‪ ،‬فأخذ‬
‫أعوانه بضبعي فقال‪ :‬دعوه‪ ،‬فأرسلت فذهبت لجلس‪ ،‬فأبوا أن يدعون أجلس‪ ،‬فنظرت إليه فقال‪ :‬تكلم‬
‫باجتك‪ ،‬فدفعت إليه الكتاب متوما‪ ،‬ففض خاته‪ ،‬وقرأ حت انتهي إل آخره‪ ،‬ث دفعه إل أخيه فقرأه مثل‬
‫قراءته‪ ،‬إل أن رأيت أخاه أرق منه‪ ،‬قال‪ :‬أل تبن عن قريش كيف صنعت؟ فقلت‪ :‬تبعوه‪ ،‬إما راغب ف‬
‫الدين‪ ،‬وإما مقهور بالسيف‪ .‬قال‪ :‬ومن معه؟ قلت‪ :‬الناس قد رغبوا ف السلم واختاروه على غيه‪،‬‬
‫وعرفوا بعقولم مع هدي ال إياهم أنم كانوا ف ضلل‪ ،‬فما أعلم أحدا بقي غيك ف هذه الَرجَة‪ ،‬وأنت‬
‫إن ل تسلم اليوم وتبعته توطئك اليل وتبيد خضراءك‪ ،‬فأسلم تسلم‪ ،‬ويستعملك على قومك‪ ،‬ول تدخل‬
‫عليك اليل والرجال‪ ،‬قال‪ :‬دعن يومي هذا‪ ،‬وارجع إل غدا‪.‬‬

‫ضنّ بلكه‪ ،‬حت إذا كان الغد أتيت إليه‪ ،‬فأب‬


‫فرجعت إل أخيه فقال‪ :‬يا عمرو‪ ،‬إن لرجو أن يسلم إن ل يَ ِ‬
‫أن يأذن ل‪ .‬فانصرفت إل أخيه‪ ،‬فأخبته أن ل أصل إليه‪ ،‬فأوصلن إليه‪ ،‬فقال‪ :‬إن فكرت فيما دعوتن‬
‫إليه‪ ،‬فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلً ما ف يدي‪ ،‬وهو لتبلغ خيله هاهنا‪ ،‬وإن بلغت خيله لقيت‬
‫قتالً ليس كقتال من لقي‪ .‬قلت‪ :‬أنا خارج غدا‪ ،‬فلما أيقن بخرجي خل به أخوه فقال‪ :‬ما نن فيما ظهر‬
‫عليه‪ ،‬وكل من أرسل إليه قد أجابه‪ ،‬فأصبح فأرسل إل‪ ،‬فأجاب إل السلم هو وأخوه جيعا‪ ،‬وصدقا النب‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وخليا بين وبي الصدقة‪ ،‬وبي الكم فيما بينهم‪ ،‬وكانا ل عونا على من خالفن‪.‬‬

‫وسياق هذه القصة تدل على أن إرسال الكتاب إليهما تأخر كثيا عن كتب بقية اللوك‪ ،‬والغلب أنه كان‬
‫بعد الفتح‪.‬‬

‫وبذه الكتب كان النب صلى ال عليه وسلم قد أبلغ دعوته إل أكثر ملوك الرض‪ ،‬فمنهم من آمن به‬
‫ومنهم من كـفر‪ ،‬ولكن شغل فكره هؤلء الكافرين‪ ،‬وعرف لديهم باسه ودينه‬
‫النشاط العسكري بعد صلح الديبية‬

‫غزوة الغابة أو غزوة ذي قَرَد‬


‫غزوة خيب ووادي القُري (ف الحرم سنة ‪ 7‬هـ)‬
‫سرية أبَان بن سعيد‬
‫بقية السرايا والغزوات ف السنة السابعة‬

‫غزوة الغابة أو غزوة ذي قَرَد‬

‫هذه الغزوة حركــة مطـاردة ضد فصيلة من بن َفزَارة قامت بعمل القرصنة ف ِلقَاحِ رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وهي أول غزوة غزاها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الديبية‪ ،‬وقبل خيب‪ .‬ذكر البخاري ف ترجة‬
‫باب أنا كانت قبل خيب بثلث‪ ،‬وروي ذلك مسلم مسندا من حديث سلمة ابن الكوع‪ .‬وذكر المهور‬
‫من أهل الغازي أنا كانت قبل الديبية‪ ،‬وما ف الصحيح أصح ما ذكره أهل الغازي‪.‬‬

‫وخلصة الروايات عن سلمة بن الكوع بطل هذه الغزوة أنه قال‪ :‬بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بظهره مع غلمه َربَاح‪ ،‬وأنا معه بفرس أب طلحة‪ ،‬فلما أصبحنا إذا عبد الرحن الفزاري قد أغار على‬
‫الظهر‪ ،‬فاستاقه أجع‪ ،‬وقتل راعيه‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رباح‪ ،‬خذ هذا الفرس فأبلغه أبا طلحة‪ ،‬وأخب رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ث قمت على أكَمَة‪ ،‬واستتقبلت الدينة‪ ،‬فناديت ثلثا‪ :‬يا صباحاه‪ ،‬ث خرجت ف‬
‫آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتز‪ ،‬أقول‪:‬‬

‫[ ُخذْها] أنا ابنُ الكْـوَع ** واليـومُ يـومُ الرّضّع‬

‫فو ال ما زلت أرميهم وأعقر بم‪ ،‬فإذا رجع إل فارس جلست ف أصل الشجر‪ ،‬ث رميته فتعفرت به‪ ،‬حت‬
‫إذا دخلوا ف تضايق البل علوته‪ ،‬فجعلت أرديهم بالجارة‪ ،‬فما زلت كذلك أتبعهم حت ما خلق ال‬
‫تعال من بعي من ظهر رسول ال صلى ال عليه وسلم إل خلفته وراء ظهري‪ ،‬وخلوا بين وبينه‪ ،‬ث‬
‫اتبعتهم أرميهم‪ ،‬حت ألقوا أكثر من ثلثي بردة‪ ،‬وثلثي رما يستخفون‪ ،‬ول يطرحون شيئا إل جعلت‬
‫عليه آراما من الجارة‪ ،‬يعرفها رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ .‬حت أتوا متضايقا من ثَنِّيةٍ‪،‬‬
‫فجلسوا يتغدون‪ ،‬وجلست على رأس قَرْن‪ ،‬فصعد إل منهم أربعة ف البل‪ ،‬قلت‪ :‬هل تعرفونن؟ أنا سلمة‬
‫بن الكوع‪ ،‬ل أطلب رجلً منكم إل أدركته‪ ،‬ول يطلبن فيدركن‪ ،‬فرجعوا‪ .‬فما برحت مكان حت رأيت‬
‫فوارس رسول ال صلى ال عليه وسلم يتخللون الشجر‪ ،‬فإذا أولم أخرم‪ ،‬وعلى أثره أبو قتادة‪ ،‬وعلى‬
‫أثره القداد بن السود‪ ،‬فالتقي عبد الرحن وأخرم‪ ،‬فعقر بعبد الرحن فرسه‪ ،‬وطعنه عبد الرحن فقتله‪،‬‬
‫وتول على فرسه‪ ،‬ولق أبو قتادة بعبد الرحن فطعنه فقتله‪ ،‬وول القوم مدبرين‪ ،‬فتبعتهم أعدو على‬
‫رجلي‪ ،‬حت يعدلوا قبل غروب الشمس إل شعب فيه ماء يقال له‪ :‬ذو قَرَد‪ ،‬ليشربوا منه‪ ،‬وهم عطاش‪،‬‬
‫فأجليتهم عنه‪ ،‬فما ذاقوا قطرة منه‪ ،‬ولقن رسول ال صلى ال عليه وسلم واليل عشاء‪ ،‬فقلت‪ :‬يا‬
‫رسول ال‪ ،‬إن القوم عطاش‪ ،‬فلو بعثتن ف مائة رجل استنقذت ما عندهم من السّرْح‪ ،‬وأخذت بأعناق‬
‫القوم‪ ،‬فقال‪( :‬يا بن الكوع‪ .‬ملكت فأسجح)‪ ،‬ث قال‪( :‬إنم ليقرون الن ف غطفان)‪.‬‬

‫وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬خي فرساننا اليوم أبو قتادة‪ ،‬وخي رجالتنا سلمة)‪ .‬وأعطان‬
‫سهمي‪ ،‬سهم الراجل وسهم الفارس‪ ،‬وأردفن وراءه على العَضْبَاء راجعي إل الدينة‪.‬‬

‫استعمل رسول ال صلى ال عليه وسلم على الدينة ف هذه الغزوة ابن أم مكتوم‪ ،‬وعقد اللواء للمقداد بن‬
‫عمرو‪.‬‬

‫غزوة خيب ووادي القُري (ف الحرم سنة ‪ 7‬هـ)‬

‫كانت خيب مدينة كبية ذات حصون ومزارع على بعد ثاني ميل من الدينة ف جهة الشمال‪ ،‬وهي‬
‫الن قرية ف مناخها بعض الوخامة‪.‬‬

‫سبب الغزوة‬

‫ولا اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم من أقوي أجنحة الحزاب الثلثة‪ ،‬وهو قريش‪ ،‬وأمن منه تاما‬
‫بعد صلح الديبية أراد أن ياسب الناحي الباقيي ـ اليهود وقبائل ند ـ حت يتم المن والسلم‪،‬‬
‫ويسود الدوء ف النطقة‪ ،‬ويفرغ السلمون من الصراع الدامي التواصل إل تبليغ رسالة ال والدعوة إليه‪.‬‬
‫ولا كانت خيب هي وكرة الدس والتآمر ومركز الستفزازات العسكرية‪ ،‬ومعدن التحرشات وإثارة‬
‫الروب‪ ،‬كانت هي الديرة بالتفات السلمي أول‪.‬‬

‫أما كون خيب بذه الصفة‪ ،‬فل ننسي أن أهل خيب هم الذين حزبوا الحزاب ضد السلمي‪ ،‬وأثاروا بن‬
‫قريظة على الغدر واليانة‪ ،‬ث أخذوا ف التصالت بالنافقي ـ الطابور الامس ف الجتمع السلمي ـ‬
‫وبغطفان وأعراب البادية ـ الناح الثالث من الحزاب ـ وكانوا هم أنفسهم يتهيأون للقتال‪ ،‬فألقوا‬
‫السلمي بإجراءاتم هذه ف من متوصلة‪ ،‬حت وضعوا خطة لغتيال النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإزاء‬
‫ذلك اضطر السلمون إل بعوث متواصلة‪ ،‬وإل الفتك برأس هؤلء التآمرين‪ ،‬مثل سلم بن أب الُقَيْق‪،‬‬
‫وأسِي بن زارم‪ ،‬ولكن الواجب على السلمي إزاء هؤلء اليهود كان أكب من ذلك‪ ،‬وإنا أبطأوا ف القيام‬
‫بذا الواجب ؛ لن قوة أكب وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت مابة للمسلمي‪ ،‬فلما‬
‫انتهت هذه الجابة صفا الو لحاسبة هؤلء الجرمي‪ ،‬واقترب لم يوم الساب‪.‬‬

‫الروج إل خيب‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬أقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بالدينة حي رجع من الديبية ذا الجة وبعض‬
‫الحرم‪ ،‬ث خرج ف بقية الحرم إل خيب‪.‬‬

‫يةً َتأْ ُخذُونَهَا َفعَجّلَ‬


‫قال الفسرون‪ :‬إن خيب كانت وعدا وعدها ال تعال بقوله‪َ { :‬و َع َدكُمُ ال ّلهُ َمغَاِنمَ كَثِ َ‬
‫لَ ُكمْ َه ِذهِ} [الفتح‪ ]20 :‬يعن صلح الديبية‪ ،‬وبالغان الكثية خيب‪.‬‬

‫عدد اليش السلمي‬

‫ولا كان النافقون وضعفاء اليان تلفوا عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ف غزوة الديبية أمر ال‬
‫تعال نبيه صلى ال عليه وسلم فيهم قائلً‪{ :‬سََيقُو ُل الْ ُمخَ ّلفُونَ إِذَا انطَ َلقُْتمْ إِلَى مَغَاِنمَ لَِتأْ ُخذُوهَا ذَرُونَا‬
‫سدُونَنَا بَلْ‬
‫نَتِّبعْ ُكمْ يُرِيدُونَ أَن يَُبدّلُوا كَلَامَ ال ّلهِ قُل لّن تَتِّبعُونَا كَ َذلِ ُكمْ قَالَ ال ّلهُ مِن قَ ْبلُ َفسََيقُولُونَ بَلْ َتحْ ُ‬
‫كَانُوا لَا يَ ْفقَهُونَ إِلّا َقلِيلًا} [الفتح‪.]15 :‬‬

‫فلما أراد رسول ال صلى ال عليه وسلم الروج إل خيب أعلن أل يرج معه إل راغب ف الهاد‪ ،‬فلم‬
‫يرج إل أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة‪.‬‬
‫واستعمل على الدينة سِبَاع بن ُعرْ ُف َطةَ الغفاري‪ ،‬وقال ابن إسحاق‪ :‬نُمَيْلَة بن عبد ال الليثي‪ ،‬والول أصح‬
‫عند الحققي‪.‬‬

‫وبعد خروجه صلى ال عليه وسلم قدم أبو هريرة الدينة مسلما‪ ،‬فواف سباع بن عرفطة ف صلة الصبح‪،‬‬
‫فلما فرغ من صلته أت سباعا فزوده‪ ،‬حت قدم على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكلم السلمي‬
‫فأشركوه وأصحابه ف سهمانم‪.‬‬

‫اتصال النافقي باليهود‬

‫وقد قام النافقون يعملون لليهود‪ ،‬فقد أرسل رأس النافقي عبد ال بن أب إل يهود خيب‪ :‬إن ممدا قصد‬
‫قصدكم‪ ،‬وتوجه إليكم‪ ،‬فخذوا حذركم‪ ،‬ول تافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثية‪ ،‬وقوم ممد شرذمة‬
‫قليلون‪ ،‬عزّل‪ ،‬ل سلح معهم إل قليل‪ ،‬فلما علم ذلك أهل خيب‪ ،‬أرسلوا كنانة بن أب القيق وهَ ْوذَة بن‬
‫قيس إل غطفان يستمدونم ؛ لنم كانوا حلفاء يهود خيب‪ ،‬ومظاهرين لم على السلمي‪ ،‬وشرطوا لم‬
‫نصف ثار خيب إن هم غلبوا السلمي‪.‬‬

‫الطريق إل خيب‬

‫وسلك رسول صلى ال عليه وسلم ف اتاهه نو خيب جـبل عــصر ـ بالكسر‪ ،‬وقيل‪ :‬بالتحريك ـ‬
‫ث على الصهباء‪ ،‬ث نزل على واد يقال له‪ :‬الرجيع‪ ،‬وكان بينه وبي غطفان مسية يوم وليلة‪ ،‬فتهيأت‬
‫غطفان وتوجهوا إل خيب‪ ،‬لمداد اليهود‪ ،‬فلما كانوا ببعض الطريق سعوا من خلفهم حسا ولغطا‪ ،‬فظنوا‬
‫أن السلمي أغاروا على أهاليهم وأموالم فرجعوا‪ ،‬وخلوا بي رسول ال صلى ال عليه وسلم وبي خيب‪.‬‬

‫ث دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم الدليلي اللذين كانا يسلكان باليش ـ وكان اسم أحدها‪ُ :‬حسَيْل‬
‫ـ ليدله على الطريق الحسن‪ ،‬حت يدخل خيب من جهة الشمال ـ أي جهة الشام ـ فيحول بي‬
‫اليهود وبي طريق فرارهم إل الشام‪ ،‬كما يول بينهم وبي غطفان‪.‬‬

‫قال أحدها‪ :‬أنا أدلك يا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأقبل حت انتهي إل مفرق الطرق التعددة‬
‫وقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هذه طرق يكن الوصول من كل منها إل القصد‪ ،‬فأمر أن يسمها له واحدا واحدا‪.‬‬
‫قال‪ :‬اسم واحد منها حزن‪ ،‬فأب النب صلى ال عليه وسلم من سلوكه‪ ،‬قال‪ :‬اسم الخر شاش‪ ،‬فامتنع منه‬
‫أيضا‪ ،‬وقال‪ :‬اسم الخر حاطب‪ ،‬فامتنع منه أيضا‪ ،‬قال حسيل‪ :‬فما بقي إل واحد‪ .‬قال عمر‪ :‬ما اسه؟‬
‫قال‪ :‬مَرْحَب‪ ،‬فاختار النب صلى ال عليه وسلم سلوكه‪.‬‬
‫بعض ما وقع ف الطريق‬

‫‪ 1‬ـ عن سلمة بن الكوع قال‪ :‬خرجنا مع النب صلى ال عليه وسلم إل خيب فسرنا ليلً‪ ،‬فقال رجل‬
‫من القوم لعامر‪ :‬يا عامر‪ ،‬أل تسمعنا من هنيهاتك؟ ـ وكان عامر رجلً شاعرا ـ فنل يدو بالقوم‪،‬‬
‫يقول‪:‬‬

‫اللهم لول أنت ما اهتديـنا ** ول تَصدّقْنا ول صَلّيـنـا‬

‫فاغـفر ِفدَا ًء لك ما اقَْتفَيْنا ** وَثبّت القدام إن لقينـا‬

‫وألْـقِيْ سكـينة عــلينا ** إنا إذا صِــيحَ بنا أبينــا‬

‫وبالصياح َع ّولُوا عــلينا **‬

‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬من هذا السائق) قــالوا‪ :‬عــامر بــن الكوع‪ ،‬قال‪( :‬‬
‫يرحه ال)‪ :‬قال رجل من القوم‪ :‬وجبت يا نب ال‪ ،‬لول أمتعتنا به‪.‬‬

‫وكانوا يعرفون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يستغفر لنسان يصه إل استشهد ‪ ،‬وقد وقع ذلك‬
‫ف حرب خيب‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ وبالصهباء من أدن خيب صلي النب صلى ال عليه وسلم العصر‪ ،‬ث دعا بالزواد‪ ،‬فلم يؤت إل‬
‫بالسّوِيق‪ ،‬فأمر به فثري‪ ،‬فأكل وأكل الناس‪ ،‬ث قام إل الغرب‪ ،‬فمضمض‪ ،‬ومضمض الناس‪ ،‬ث صلي ول‬
‫يتوضأ ‪ ،‬ث صلي العشاء‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ ولا دنا من خيب وأشرف عليها قال‪( :‬قفوا)‪ ،‬فوقــف اليش‪ ،‬فــقال‪( :‬اللهم رب السموات‬
‫السبع وما أظللن‪ ،‬ورب الرضي السبع وما أقللن‪ ،‬ورب الشياطي وما أضللن‪ ،‬ورب الرياح وما أذرين‪،‬‬
‫فإنا نسألك خي هذه القرية‪ ،‬وخي أهلها‪ ،‬وخي ما فيها‪ ،‬ونعوذ بك من شر هذه القرية‪ ،‬وشر أهلها‪ ،‬وشر‬
‫ما فيها‪ ،‬أقدموا‪ ،‬بسم ال)‪.‬‬

‫اليش السلمي إل أسوار خيب‬

‫وبات السلمون الليلة الخية الت بدأ ف صباحها القتال قريبًا من خيب‪ ،‬ول تشعر بم اليهود‪ ،‬وكان النب‬
‫صلى ال عليه وسلم إذا أت قومًا بليل ل يقربم حت يصبح‪ ،‬فلما أصبح صلي الفجر بغَلَس‪ ،‬وركب‬
‫السلمون‪ ،‬فخرج أهل خيب بساحيهم ومكاتلهم‪ ،‬ول يشعرون‪ ،‬بل خرجوا لرضهم‪ ،‬فلما رأوا اليش‬
‫قالوا‪ :‬ممد‪ ،‬وال ممد والَمِيس ‪ ،‬ث رجعوا هاربي إل مدينتهم‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬ال‬
‫أكب‪ ،‬خربت خيب‪ ،‬ال أكب‪ ،‬خربت خيب‪ ،‬إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح النذرين)‪.‬‬

‫حصون خيب‬

‫وكانت خيب منقسمة إل شطرين‪ ،‬شطر فيها خسة حصون‪:‬‬

‫صعْب بن معاذ‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ حصن ناعم‪ 2 .‬ـ حصن ال ّ‬

‫‪ 3‬ـ حصن قلعة الزبي‪ 4 .‬ـ حصن أب‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ حصن النّزَار‪.‬‬

‫والصون الثلثة الول منها كانت تقع ف منطقة يقال لا‪( :‬النطاة) وأما الصنان الخران فيقعان ف‬
‫منطقة تسمي بالشّقّ‪.‬‬

‫أما الشطر الثان‪ ،‬ويعرف بالكتيبة‪ ،‬ففيه ثلثة حصون فقط‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ حصن القَمُوص [وكان حصن بن أب القيق من بن النضي]‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ حصن ال َوطِيح‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ حصن السّلل‪.‬‬

‫وف خيب حصون وقلع غي هذه الثمانية‪ ،‬إل أنا كانت صغية‪ ،‬ل تبلغ إل درجة هذه القلع ف مناعتها‬
‫وقوتا‪.‬‬

‫والقتال الرير إنا دار ف الشطر الول منها‪ ،‬أما الشطر الثان فحصونا الثلثة مع كثرة الحاربي فيها‬
‫سلمت دونا قتال‪.‬‬

‫معسكر اليش السلمي‬


‫وتقدم رسول ال صلى ال عليه وسلم حت اختار لعسكره منلً‪ ،‬فأتاه حُبَاب بن النذر‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول‬
‫ال‪ ،‬أرأيت هذا النل أنزلكه ال‪ ،‬أم هو الرأي ف الرب؟ قال‪( :‬بل هو الرأي) فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن‬
‫هذا النل قريب جدًا من حصن نَطَاة‪ ،‬وجيع مقاتلي خيب فيها‪ ،‬وهم يدرون أحوالنا‪ ،‬ونن ل ندري‬
‫أحوالم‪ ،‬وسهامهم تصل إلينا‪ ،‬وسهامنا ل تصل إليهم‪ ،‬ول نأمن من بياتم‪ ،‬وأيضًا هذا بي النخلت‪،‬‬
‫ومكان غائر‪ ،‬وأرض وخيمة‪ ،‬لو أمرت بكان خال عن هذه الفاسد نتخذه معسكرًا‪ ،‬قال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪( :‬الرأي ما أشرت)‪ ،‬ث تول إل مكان آخر‪.‬‬

‫التهيؤ للقتال وبشارة الفتح‬

‫ولا كانت ليلة الدخول ـ وقيل‪ :‬بل بعد عدة ماولت وماربات ـ قال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬‬
‫لعطي الراية غدًا رجلً يب ال ورسوله ويبه ال ورسوله‪[ ،‬يفتح ال على يديه ]) فلما أصبح الناس‬
‫غدوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كلهم يرجو أن يعطاها‪ ،‬فقال‪( :‬أين علي بن أب طالب؟)‬
‫فقالوا‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هو يشتكي عينيه‪ ،‬قال‪( :‬فأرسلوا إليه)‪ ،‬فأت به فبصق رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ف عينيه‪ ،‬ودعا له‪ ،‬فبئ‪ ،‬كأن ل يكن به وجع‪ ،‬فأعطاه الراية‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أقاتلهم حت‬
‫يكونوا مثلنا‪ ،‬قال‪( :‬انفذ على رسلك‪ ،‬حت تنل بساحتهم‪ ،‬ث ادعهم إل السلم‪ ،‬وأخبهم با يب‬
‫عليهم من حق ال فيه‪ ،‬فوال‪ ،‬لن يهدي ال بك رجل واحدًا خي لك من أن يكون لك حر النعم)‪.‬‬

‫بدء العركة وفتح حصن ناعم‬

‫أما اليهود فإنم لا رأوا اليش وفروا إل مدينتهم تصنوا ف حصونم‪ ،‬وكان من الطبيعي أن يستعدوا‬
‫للقتال‪.‬‬

‫وأول حصن هاجه السلمون من حصونم الثمانية هو حصن ناعم‪.‬‬

‫وكان خط الدفاع الول لليهود لكانه الستراتيجي‪ ،‬وكان هذا الصن هو حصن مرحب البطل اليهودي‬
‫الذي كان يعد باللف‪.‬‬

‫خرج علي بن أب طالب رضي ال عنه بالسلمي إل هذا الصن‪ ،‬ودعا اليهود إل السلم‪ ،‬فرفضوا هذه‬
‫الدعوة‪ ،‬وبرزوا إل السلمي ومعهم ملكهم مرحب‪ ،‬فلما خرج إل ميدان القتال دعا إل البارزة‪ ،‬قال‬
‫سلمة بن الكوع‪ :‬فلما أتينا خيب خرج ملكهم مرحب يطر بسيفه يقول‪:‬‬
‫قد َعلِمتْ خيب أن مَرْحَب ** شَاكِي السلح بطل ُمجَرّب‬

‫إذا الروب أقبلتْ تَلَهّب **‬

‫فبز له عمي عامر فقال‪:‬‬

‫قد علمت خيب أن عامر ** شاكي السلح بطل ُمغَامِر‬

‫فاختلفا ضربتي‪ ،‬فوقع سيف مرحب ف ترس عمي عامر‪ ،‬وذهب عامر يسفل له‪ ،‬وكان سيفه قصيًا‪،‬‬
‫فتناول به ساق اليهودي ليضربه‪ ،‬فيجع ُذبَاب سيفه فأصاب عي ركبته فمات منه‪ ،‬وقال فيه النب صلى‬
‫ال عليه وسلم‪( :‬إن له لجرين ـ وجع بي إصبعيه ـ إنه لَا ِهدٌ ُمجَاهِد‪ ،‬قَلّ عرب مَشَي با مِثْلَه)‪.‬‬

‫ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إل الباز مرة أخري وجعل يرتز بقوله‪:‬‬

‫قد علمت خيب أن مرحب‪ ...‬إل‪ ،‬فبز له على بن أب طالب‪ .‬قال سلمة ابن الكوع‪ :‬فقال علي‪:‬‬

‫أنا الذي ستن أمي َح ْيدَ َرهْ ** كلَيْثِ غابات كَرِيه الَ ْنظَ َرهْ‬

‫أُوفِيهم بالصّاع كَيْل السّ ْندَ َرهْ **‬

‫فضرب رأس مرحب فقتله‪ ،‬ث كان الفتح على يديه‪.‬‬

‫ولا دنا علي رضي ال عنه من حصونم اطلع يهودي من رأس الصن‪ ،‬وقال‪ :‬من أنت؟ فقال‪ :‬أنا علي بن‬
‫أب طالب‪ ،‬فقال اليهودي‪ :‬علوت وما أنزل على موسى‪.‬‬

‫ث خرج ياسر أخو مرحب‪ ،‬وهو يقول‪ :‬من يبارز؟ فبز إليه الزبي‪ ،‬فقالت صفية أمه‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬يقتل‬
‫ابن‪ ،‬قال‪( :‬بل ابنك يقتله)‪ ،‬فقتله الزبي‪.‬‬

‫ودار القتال الرير حول حصن ناعم‪ ،‬قتل فيه عدة سراة من اليهود‪ ،‬انارت لجله مقاومة اليهود‪ ،‬وعجزوا‬
‫عن صد هجوم السلمي‪ ،‬ويؤخذ من الصادر أن هذا القتال دام أيامًا لقي السلمون فيها مقاومة شديدة‪،‬‬
‫صعْب‪ ،‬واقتحم السلمون‬
‫إل أن اليهود يئسوا من مقاومة السلمي‪ ،‬فتسللوا من هذا الصن إل حصن ال ّ‬
‫حصن ناعم‪.‬‬
‫فتح حصن الصعب بن معاذ‬

‫وكان حصن الصعب الصن الثان من حيث القوة والناعة بعد حصن ناعم‪ ،‬قام السلمون بالجوم عليه‬
‫تت قيادة الباب بن النذر النصاري‪ ،‬ففرضوا عليه الصار ثلثة أيام‪ ،‬وف اليوم الثالث‪ ،‬دعا رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم لفتح هذا الصن دعوة خاصة‪.‬‬

‫روي ابن إسحاق أن بن سهم من أسلم أتوا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالوا‪ :‬لقد جهدنا‪ ،‬وما‬
‫بأيدينا من شيء‪ ،‬فقال‪( :‬اللهم إنك قد عرفت حالم‪ ،‬وأن ليست بم قوة‪ ،‬وأن ليس بيدي شيء أعطيهم‬
‫إياه‪ ،‬فافتح عليهم أعظم حصونا عنهم غَنَاء‪ ،‬وأكثرها طعامًا و َو َدكًا)‪ .‬فغدا الناس ففتح ال عز وجل‬
‫حصن الصعب بن معاذ‪ ،‬وما بيب حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه‪.‬‬

‫ولا ندب النب صلى ال عليه وسلم السلمي بعد دعائه لهاجة هذا الصن كان بنو أسلم هم القادي ف‬
‫الهاجة‪ ،‬ودار الباز والقتال أمام الصن‪ ،‬ث فتح الصن ف ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس‪ ،‬ووجد فيه‬
‫السلمون بعض النجنيقات والدبابات‪.‬‬

‫ولجل هذه الجاعة الشديدة الت ورد ذكرها ف رواية ابن إسحاق‪ ،‬كان رجال من اليش قد ذبوا‬
‫المي‪ ،‬ونصبوا القدور على النيان‪ ،‬فلما علم رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك ني عن لوم المر‬
‫النسية‪.‬‬

‫فتح قلعة الزبي‬

‫وبعد فتح حصن ناعم والصعب تول اليهود من كل حصون الّنطَاة إل قلعة الزبي‪ ،‬وهو حصن منيع ف‬
‫رأس ُق ّلةٍ ‪ ،‬ل تقدر عليه اليل والرجال لصعوبته وامتناعه‪ ،‬ففرض عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫الصار‪ ،‬وأقام ماصرًا ثلثة أيام‪ ،‬فجاء رجل من اليهود‪ ،‬وقال‪ :‬يا أبا القاسم‪ ،‬إنك لو أقمت شهرًا ما‬
‫بالوا‪ ،‬إن لم شرابًا وعيونًا تت الرض‪ ،‬يرجون بالليل ويشربون منها‪ ،‬ث يرجعون إل قلعتهم فيمتنعون‬
‫منك‪ ،‬فإن قطعت مشربم عليهم أصحروا لك‪ .‬فقطع ماءهم عليهم‪ ،‬فخرجوا فقاتلوا أشد القتال‪ ،‬قتل فيه‬
‫نفر من السلمي‪ ،‬وأصيب نو العشرة من اليهود‪ ،‬وافتتحه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫فتح قلعة أب‬


‫وبعد فتح قلعة الزبي انتقل اليهود إل قلعة أب وتصنوا فيه‪ ،‬وفرض السلمون عليهم الصار‪ ،‬وقام بطلن‬
‫من اليهود واحد بعد الخر بطلب البارزة‪ ،‬وقد قتلهما أبطال السلمي‪ ،‬وكان الذي قتل البارز الثان هو‬
‫البطل الشهور أبو دُجَانة سِمَاك بن َخرَشَة النصاري صاحب العصابة المراء‪ .‬وقد أسرع أبو دجانة بعد‬
‫قتله إل اقتحام القلعة‪ ،‬واقتحم معه اليش السلمي‪ ،‬وجري قتال مرير ساعة داخل الصن‪ ،‬ث تسلل‬
‫اليهود من القلعة‪ ،‬وتولوا إل حصن النار آخر حصن ف الشطر الول‪.‬‬

‫فتح حصن النّزَار‬

‫كان هذا الصن أمنع حصون هذا الشطر‪ ،‬وكان اليهود على شبه اليقي بأن السلمي ل يستطيعون اقتحام‬
‫هذه القلعة‪ ،‬وإن بذلوا قصاري جهدهم ف هذا السبيل‪ ،‬ولذلك أقاموا ف هذه القلعة مع الذراري والنساء‪،‬‬
‫بينما كانوا قد أخلوا منها القلع الربعة السابقة‪.‬‬

‫وفرض السلمون على هذا الصن أشد الصار‪ ،‬وصاروا يضغطون عليهم بعنف‪ ،‬ولكون الصن يقع على‬
‫جبل مرتفع منيع ل يكونوا يدون سبيل للقتحام فيه‪ .‬أما اليهود فلم يترئوا للخروج من الصن‪،‬‬
‫وللشتباك مع قوات السلمي‪ ،‬ولكنهم قاوموا السلمي مقاومة عنيدة برشق النبال‪ ،‬وبإلقاء الجارة‪.‬‬

‫وعندما استعصى حصن النار على قوات السلمي‪ ،‬أمر النب صلى ال عليه وسلم بنصب آلت النجنيق‪،‬‬
‫ويبدو أن السلمي قذفوا به القذائف‪ ،‬فأوقعوا اللل ف جدران الصن‪ ،‬واقتحموه‪ ،‬ودار قتال مرير ف‬
‫داخل الصن انزم أمامه اليهود هزية منكرة‪ ،‬وذلك لنم ل يتمكنوا من التسلل من هذا الصن كما‬
‫تسللوا من الصون الخري‪ ،‬بل فروا من هذا الصن تاركي للمسلمي نساءهم وذراريهم‪.‬‬

‫وبعد فتح هذا الصن النيع ت فتح الشطر الول من خيب‪ ،‬وهي ناحية الّنطَاة والشّقّ‪ ،‬وكانت ف هذه‬
‫الناحية حصون صغية أخري إل أن اليهود بجرد فتح هذا الصن النيع أخلوا هذه الصون‪ ،‬وهربوا إل‬
‫الشطر الثان من بلدة خيب‪.‬‬

‫فتح الشطر الثان من خيب‬

‫ولا أت رسول ال صلى ال عليه وسلم فتح ناحية النطاة والشق‪ ،‬تول إل أهل الكتيبة الت با حصن‬
‫لقَيْق من بن النضي‪ ،‬وحصن ال َوطِيح والسّلل‪ ،‬وجاءهم كل فَلّ كان انزم من‬
‫القَمُوص‪ :‬حصن بن أب ا ُ‬
‫النطاة والشق‪ ،‬وتصن هؤلء أشد التحصن‪.‬‬
‫واختلف أهل الغازي هل جري هناك قتال ف أي حصن من حصونا الثلثة أم ل؟ فسياق ابن إسحاق‬
‫صريح ف جريان القتال لفتح حصن القموص‪ ،‬بل يؤخذ من سياقه أن هذا الصن ت فتحه بالقتال فقط من‬
‫غي أن يري هناك مفاوضة للستسلم‪.‬‬

‫أما الواقدي‪ ،‬فيصرح تام التصريح أن قلع هذا الشطر الثلث إنا أخذت بعد الفاوضة‪ ،‬ويكن أن تكون‬
‫الفاوضة قد جرت لستلم حصن القموص بعد إدارة القتال‪ ،‬وأما الصنان الخران فقد سلما إل‬
‫السلمي دونا قتال‪.‬‬

‫ومهما كان‪ ،‬فلما أت رسول ال صلى ال عليه وسلم إل هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد‬
‫الصار‪ ،‬ودام الصار أربعة عشر يومًا‪ ،‬واليهود ل يرجون من حصونم‪ ،‬حت همّ رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أن ينصب عليهم النجنيق‪ ،‬فلما أيقنوا باللكة سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم الصلح‪.‬‬

‫الفاوضة‬

‫وأرسل ابن أب الُقَيْق إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنزل فأكلمك؟ قال‪( :‬نعم)‪ ،‬فنل‪ ،‬وصال على‬
‫حقن دماء مَنْ ف حصونم من القاتلة‪ ،‬وترك الذرية لم‪ ،‬ويرجون من خيب وأرضها بذراريهم‪ ،‬ويلون‬
‫بي رسول ال صلى ال عليه وسلم وبي ما كان لم من مال وأرض‪ ،‬وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي‬
‫الذهب والفضة ـ والكُرَاع واْلحَ ْلقَة إل ثوبًا على ظهر إنسان ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬‬
‫وبرئت منكم ذمة ال وذمة رسوله إن كتمتمون شيئا)‪ ،‬فصالوه على ذلك ‪ ،‬وبعد هذه الصالة ت تسليم‬
‫الصون إل السلمي‪ ،‬وبذلك ت فتح خيب‪.‬‬

‫قتل ابن أب القيق لنقض العهد‬

‫وعلى رغم هذه العاهدة غيب ابنا أب القيق مال كثيا‪ ،‬غيبا مَسْكًا فيه مال وحُلُي ليي بن أخطب‪ ،‬كان‬
‫احتمله معه إل خيب حي أجليت النضي‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬وأت رسول ال صلى ال عليه وسلم بكِنَانة الربيع‪ ،‬وكان عنده كن بن النضي‪ ،‬فسأله‬
‫عنه‪ ،‬فجحد أن يكون يعرف مكانه‪ ،‬فأت رجل من اليهود فقال‪ :‬إن رأيت كنانة يطيف بذه الربة كل‬
‫غداة‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لكنانة‪( :‬أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟) قال‪ :‬نعم‪ ،‬فأمر‬
‫بالربة‪ ،‬فحفرت‪ ،‬فأخرج منها بعض كنهم‪ ،‬ث سأله عما بقي‪ ،‬فأب أن يؤديه‪ .‬فدفعه إل الزبي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫عذبه حت نستأصل ما عنده‪ ،‬فكان الزبي يقدح بزند ف صدره حت أشرف على نفسه‪ ،‬ث دفعه رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم إل ممد بن مسلمة‪ ،‬فضرب عنقه بحمود بن مسلمة ـ وكان ممود قتل تت‬
‫جدار حصن ناعم‪ ،‬ألقي عليه الرحي‪ ،‬وهو يستظل بالدار فمات ـ‪.‬‬

‫وذكر ابن القيم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أمر بقتل ابن أب القيق‪ ،‬وكان الذي اعترف عليهما‬
‫بإخفاء الال هو ابن عم كنانة‪.‬‬

‫وسب رسول ال صلى ال عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب‪ ،‬وكانت تت كنانة بن أب القيق‪،‬‬
‫وكانت عروسًا حديثة عهد بالدخول‪.‬‬

‫قسمة الغنائم‬

‫وأراد رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يلي اليهود من خيب‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا ممد‪ ،‬دعنا نكون ف هذه‬
‫الرض‪ ،‬نصلحها‪ ،‬ونقوم عليها‪ ،‬فنحن أعلم با منكم‪ ،‬ول يكن لرسول ال صلى ال عليه وسلم ول‬
‫لصحابه غلمان يقومون عليها‪ ،‬وكانوا ل يفرغون حت يقوموا عليها‪ ،‬فأعطاهم خيب على أن لم الشطر‬
‫من كل زرع‪ ،‬ومن كل ثر‪ ،‬ما بدا لرسول ال صلى ال عليه وسلم أن يقرهم‪ ،‬وكان عبد ال بن رواحة‬
‫يرصه عليهم‪.‬‬

‫وقسم أرض خيب على ستة وثلثي سهمًا‪ ،‬جع كل سهم مائة سهم‪ ،‬فكانت ثلثة آلف وستمائة سهم‪،‬‬
‫فكان لرسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمي النصف من ذلك وهو ألف وثانائة سهم‪ ،‬لرسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم سهم كسهم أحد السلمي‪ ،‬وعزل النصف الخر‪ ،‬وهو ألف وثانائة سهم‪ ،‬لنوائبه‬
‫وما يتنل به من أمور السلمي‪ ،‬وإنا قسمت على ألف وثانائة سهم لنا كانت طعمة من ال لهل‬
‫الديبية من شهد منهم ومن غاب‪ ،‬وكانوا ألفا وأربعمائة‪ ،‬وكان معهم مائتا فرس‪ ،‬لكل فرس سهمان‪،‬‬
‫فقسمت على ألف وثانائة سهم‪ ،‬فصار للفارس ثلثة أسهم‪ ،‬وللراجل سهم واحد‪.‬‬

‫ويدل على كثرة مغان خيب ما رواه البخاري عن ابن عمر قال‪ :‬ما شبعنا حت فتحنا خيب‪ ،‬وما رواه عن‬
‫عائشة قالت‪ :‬لا فتحت خيب قلنا‪ :‬الن نشبع من التمر ‪ ،‬ولا رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل‬
‫الدينة رد الهاجرون إل النصار منائحهم الت كانوا منحوهم إياها من النخيل حي صار لم بيب مال‬
‫ونيل‪.‬‬

‫قدوم جعفر بن أب طالب والشعريي‬


‫وف هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أب طالب وأصحابه‪ ،‬ومعهم الشعريون أبو موسى وأصحابه‪.‬‬

‫قال أبو موسي‪ :‬بلغنا مرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ونن باليمن‪ ،‬فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا‬
‫وأخوان ل ـ ف بضع وخسي رجلً من قومي‪ ،‬ركبنا سفينة‪ ،‬فألقتنا سفينتنا إل النجاشي بالبشة‪ ،‬فوافقنا‬
‫جعفرًا وأصحابه عنده‪ ،‬فقال‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالقامة‪ ،‬فأقيموا معنا‪ ،‬فأقمنا‬
‫معه حت قدمنا فوافقنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حي فتح خيب‪ ،‬فأسهم لنا‪ ،‬وما قسم لحد غاب‬
‫عن فتح خيب شيئا إل لن شهد معه‪ ،‬إل لصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه‪ ،‬قسم لم معهم‪.‬‬

‫ولا قدم جعفر على النب صلى ال عليه وسلم تلقاه وقَبّلَ ما بي عينيه وقال‪( :‬وال ما أدري بأيهما أفرح؟‬
‫بفتح خيب أم بقدوم جعفر)‪.‬‬

‫وكان قدوم هؤلء على أثر بعث الرسول صلى ال عليه وسلم إل النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب‬
‫توجيههم إليه‪ ،‬فأرسلهم النجاشي على مركبي‪ ،‬وكانوا ستة عشر رجلً‪ ،‬معهم من بقي من نسائهم‬
‫وأولدهم‪ ،‬وبقيتهم جاءوا إل الدينة قبل ذلك‪.‬‬

‫الزواج بصفية‬

‫ذكرنا أن صفية جعلت ف السبايا حي قتل زوجها كِنَانة بن أب القيق لغدره‪ ،‬ولا جع السب جاء دحية‬
‫بن خليفة الكلب‪ ،‬فقال‪ :‬يا نب ال‪ ،‬أعطن جارية من السب‪ ،‬فقال‪ :‬اذهب فخذ جارية‪ ،‬فأخذ صفية بنت‬
‫حيي‪ ،‬فجاء رجل إل النب صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬يا نب ال‪ ،‬أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة‬
‫قريظة وبن النضي‪ ،‬ل تصلح إل لك‪ ،‬قال‪( :‬ادعوه با)‪ .‬فجاء با‪ ،‬فلما نظر إليها النب صلى ال عليه‬
‫وسلم قال‪( :‬خذ جارية من السب غيها)‪ ،‬وعرض عليها النب صلى ال عليه وسلم السلم فأسلمت‪،‬‬
‫فأعتقها وتزوجها‪ ،‬وجعل عتقها صداقها‪ ،‬حت إذا كان بسد الصهباء راجعًا إل الدينة حلت‪ ،‬فجهزتا له أم‬
‫سليم‪ ،‬فأهدتا له من الليل‪ ،‬فأصبح عروسًا با‪ ،‬وأول عليها بيس من التمر والسمن والسّوِيق‪ ،‬وأقام عليها‬
‫ثلثة أيام ف الطريق يبن با‪.‬‬

‫ورأى بوجهها خضرة‪ ،‬فقال‪( :‬ما هذا؟) قالت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من‬
‫مكانه‪ ،‬وسقط ف حجري‪ ،‬ول وال ما أذكر من شأنك شيئا‪ ،‬فقصصتها على زوجي‪ ،‬فلطم وجهي‪ .‬فقال‪:‬‬
‫تني هذا اللك الذي بالدينة‪.‬‬

‫أمر الشاة السمومة‬


‫ولا اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم بيب بعد فتحها أهدت له زينب بنت الارث‪ ،‬امرأة َسلّم بن‬
‫صلِّيةً‪ ،‬وقد سألت أي عضو أحب إل رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فقيل لا‪ :‬الذراع‪،‬‬
‫مِشْكَم‪ ،‬شاة مَ ْ‬
‫فأكثرت فيها من السم‪ ،‬ث ست سائر الشاة‪ ،‬ث جاءت با‪ ،‬فلما وضعتها بي يدي رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم تناول الذراع‪َ ،‬فلَكَ منها مضغة فلم يسغها‪ ،‬ولفظها‪ ،‬ث قال‪( :‬إن هذا العظم ليخبن أنه‬
‫مسموم)‪ ،‬ث دعا با فاعترفت‪ ،‬فقال‪( :‬ما حلك على ذلك؟) قالت‪ :‬قلت‪ :‬إن كان ملكًا استرحت منه‪،‬‬
‫وإن كان نبيًا فسيخب‪ ،‬فتجاوز عنها‪.‬‬

‫وكان معه بِشْر بن الباء بن َمعْرُور‪ ،‬أخذ منها أكلة فأساغها‪ ،‬فمات منها‪.‬‬

‫واختلفت الروايات ف التجاوز عن الرأة وقتلها‪ ،‬وجعوا بأنه تاوز عنها أول‪ ،‬فلما مات بشر قتلها‬
‫قصاصا‪.‬‬

‫قتلى الفريقي ف معارك خيب‬

‫وجلة من استشهد من السلمي ف معارك خيب ستة عشر رجلً‪ ،‬أربعة من قريش وواحد من أ ْشجَع‪،‬‬
‫وواحد من أسْلَم‪ ،‬وواحد من أهل خيب والباقون من النصار‪.‬‬

‫ويقال‪ :‬إن شهداء السلمي ف هذه العارك ‪ 81‬رجلً‪.‬‬

‫وذكر العلمة النصورفوري ‪ 91‬رجلً‪ ،‬ث قال‪ :‬إن وجدت بعد التفحص ‪ 32‬اسا‪ ،‬واحد منها ف‬
‫الطبي فقط‪ ،‬وواحد عند الواقدي فقط‪ ،‬وواحد مات لجل أكل الشاة السمومة‪ ،‬وواحد اختلفوا هل‬
‫قتل ف بدر أو خيب‪ ،‬والصحيح أنه قتل ف بدر‪.‬‬

‫أما قتلي اليهود فعددهم ثلثة وتسعون قتيلً‪.‬‬

‫فَـدَك‬

‫ولا بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم إل خيب‪ ،‬بعث ُمحَيّصَة بن مسعود إل يهود َفدَك‪ ،‬ليدعوهم إل‬
‫السلم‪ ،‬فأبطأوا عليه‪ ،‬فلما فتح ال خيب قذف الرعب ف قلوبم‪ ،‬فبعثوا إل رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يصالونه على النصف من فدك بثل ما عامل عليه أهل خيب‪ ،‬فقبل ذلك منهم‪ ،‬فكانت فدك‬
‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم خالصة؛ لنه ل يُوجِف عليه السلمون بيل ول ركاب‪.‬‬
‫وادي القُرَي‬

‫ولا فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم من خيب‪ ،‬انصرف إل وادي القري‪ ،‬وكان با جاعة من اليهود‪،‬‬
‫وانضاف إليهم جاعة من العرب‪.‬‬

‫فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي‪ ،‬وهم على تعبئة‪ ،‬فقتل ِمدْعَم ـ عَ ْبدٌ لرسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ـ فقال الناس‪ :‬هنيئا له النة‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬كل‪ ،‬والذي نفسي بيده‪ ،‬إن الشّمْلَة الت‬
‫أخذها يوم خيب من الغان‪ ،‬ل تصبها القاسم‪ ،‬لتشتعل عليه نارًا)‪ ،‬فلما سع بذلك الناس جاء رجل إل النب‬
‫شرَاك أو شراكي‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬شراك من نار أو شراكان من‬
‫صلى ال عليه وسلم ب ِ‬
‫نار)‪.‬‬

‫صفّهم‪ ،‬ودفع لواءه إل سعد بن عبادة‪ ،‬وراية إل‬


‫ث عَبّأ رسول ال صلى ال عليه وسلم أصحابه للقتال‪ ،‬و َ‬
‫الُبَاب بن النذر‪ ،‬وراية إل سهل بن حُنَيْف‪ ،‬وراية إل عباد بن بشر‪ ،‬ث دعاهم إل السلم فأبوا‪ ،‬وبرز‬
‫رجل منهم‪ ،‬فبز إليه الزبي بن العوام فقتله‪ ،‬ث برز آخر فقتله‪ ،‬ث برز آخر فبز إليه علي بن أب طالب‬
‫رضي ال عنه فقتله‪ ،‬حت قتل منهم أحد عشر رجلً‪ ،‬كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إل السلم‪.‬‬

‫وكانت الصلة تضر هذا اليوم‪ ،‬فيصلي بأصحابه‪ ،‬ث يعود‪ ،‬فيدعوهم إل السلم وإل ال ورسوله‪،‬‬
‫فقاتلهم حت أمسوا‪ ،‬وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حت أعطوا ما بأيديهم‪ ،‬وفتحها عنوة‪،‬‬
‫ل أموالم‪ ،‬وأصابوا أثاثا ومتاعًا كثيًا‪.‬‬
‫وغَنّ َمهُ ا ُ‬

‫وأقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بوادي القري أربعة أيام‪ .‬وقسم على أصحابه ما أصاب با‪ ،‬وترك‬
‫الرض والنخل بأيدي اليهود‪ ،‬وعاملهم عليها ـ كما عامل أهل خيبـ‪.‬‬

‫تَيْمَـــاء‬

‫ولا بلغ يهود تيماء خب استسلم أهل خيب ث َفدَك ووادي القُرَي‪ ،‬ل يبدوا أي مقاومة ضد السلمي‪ ،‬بل‬
‫بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح‪ ،‬فقبل ذلك منهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأقاموا‬
‫بأموالم‪ .‬وكتب لم بذلك كتابا وهاك نصه‪ :‬هذا كتاب ممد رسول ال لبن عاديا‪ ،‬أن لم الذمة‪ ،‬وعليهم‬
‫الزية‪ ،‬ول عداء ول جلء‪ ،‬الليل مد‪ ،‬والنهار شد‪ ،‬وكتب خالد بن سعيد‪.‬‬
‫العودة إل الدينة‬

‫ث أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم ف العودة إل الدينة‪ ،‬وف الطريق أشرف الناس على واد فرفعوا‬
‫أصواتم بالتكبي‪( :‬ال أكب‪ ،‬ال أكب‪ ،‬ل إله إل ال) فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬أربعوا على‬
‫صمّ ول غائبا‪ ،‬إنكم تدعون سيعا قريبا)‪.‬‬
‫أنفسكم‪ ،‬إنكم ل تدعون أ َ‬

‫وف مرجعه ذلك سار النب صلى ال عليه وسلم ليلة‪ ،‬ث نام ف آخر الليل ببعض الطريق‪ ،‬وقال لبلل‪( :‬‬
‫اكل لنا الليل)‪ ،‬فغلبت بللً عيناه‪ ،‬وهو مستند إل راحلته‪ ،‬فلم يستيقظ أحد‪ ،‬حت ضربتهم الشمس‪،‬‬
‫وأول من استيقظ بعد ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ث خرج من ذلك الوادي‪ ،‬وتقدم‪ ،‬ث صلي‬
‫الفجر بالناس‪ ،‬وقيل‪ :‬إن هذه القصة ف غي هذا السفر‪.‬‬

‫وبعد النظر ف تفصيل معارك خيب‪ ،‬يبدو أن رجوع النب صلى ال عليه وسلم كان ف أواخر صفر أو ف‬
‫ربيع الول سنة ‪ 7‬هـ‪.‬‬

‫سرية أبَان بن سعيد‬

‫كان النب صلى ال عليه وسلم يعرف أكثر من كل قائد عسكري أن إخلء الدينة تاما بعد انقضاء‬
‫الشهر الرم ليس من الزم قطعًا‪ ،‬بينما العراب ضاربة حولا‪ ،‬تطلب غرة السلمي للقيام بالنهب‬
‫والسلب وأعمال القرصنة ؛ ولذلك أرسل سرية إل ند لرهاب العراب تت قيادة أبان بن سعيد‪ ،‬بينما‬
‫كان هو إل خيب‪ ،‬وقد رجع أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجبًا عليه‪ ،‬فواف النب صلى ال عليه وسلم‬
‫بيب‪ ،‬وقد افتتحها‪.‬‬

‫والغلب أن هذه السرية كانت ف صفر سنة ‪7‬هـ‪ ،‬وقد ورد ذكرها ف البخاري‪ .‬قال ابن حجر‪ :‬ل‬
‫أعرف حال هذه السرية‪.‬‬

‫بقية السرايا والغزوات ف السنة السابعة‬

‫غزوة ذات الرّقَاع‬


‫ولا فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم من كسر جناحي قويي من أجنحة الحزاب الثلثة تفرغ تامًا‬
‫لللتفات إل الناح الثالث‪ ،‬أي إل العراب القساة الضاربي ف فياف ند‪ ،‬والذين ما زالوا يقومون‬
‫بأعمال النهب والسلب بي آونة وأخري‪.‬‬

‫ولا كان هؤلء البدو ل تمعهم بلدة أو مدينة‪ ،‬ول يكونوا يقطنون الصون والقلع‪ ،‬كانت الصعوبة ف‬
‫فرض السيطرة عليهم وإخاد نار شرهم تامًا تزداد بكثي عما كانت بالنسبة إل أهل مكة وخيب ؛ ولذلك‬
‫ل تكن تدي فيهم إل حلت التأديب والرهاب‪ ،‬وقام السلمون بثل هذه الملت مرة بعد أخري‪.‬‬

‫ولفرض الشوكة ـ أو لجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للغارة على أطراف الدينة ـ قام رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم بملة تأديبية عرفت بغزوة ذات الرقاع‪.‬‬

‫وعامة أهل الغازي يذكرون هذه الغزوة ف السنة الرابعة‪ ،‬ولكن حضور أب موسي الشعري وأب هريرة‬
‫رضي ال عنهما ف هذه الغزوة يدل على وقوعها بعد خيب‪ ،‬والغلب أنا وقعت ف شهر ربيع الول سنة‬
‫‪ 7‬هـ‪.‬‬

‫وملخص ما ذكره أهل السي حول هذه الغزوة‪ :‬أن النب صلى ال عليه وسلم سع باجتماع بن أنار أو‬
‫بن ثعلبة وبن مُحَارِب من غطفان‪ ،‬فأسرع بالروج إليهم ف أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه‪ ،‬واستعمل‬
‫على الدينة أبا ذر أو عثمان بن عفان رضي ال عنهما‪ ،‬وسار فتوغل ف بلدهم حت وصل إل موضع يقال‬
‫له‪ :‬نل‪ ،‬على بعد يومي من الدينة‪ ،‬ولقي جعا من غطفان‪ ،‬فتقاربوا وأخاف بعضهم بعضا ول يكن بينهم‬
‫قتال‪ ،‬إل أنه صلي بم يومئذ صلة الوف‪.‬وف رواية البخاري‪ :‬وأقيمت الصلة فصلي بطائفة ركعتي‪ ،‬ث‬
‫تأخروا‪ ،‬وصلي بالطائفة الخري ركعتي‪ ،‬وكان للنب صلى ال عليه وسلم أربع‪ ،‬وللقوم ركعتان‪.‬‬

‫وف البخاري عن أب موسي الشعري رضي ال عنهم قال‪ :‬خرجنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ونن ستة نفر بيننا بعي نعتقبه‪ ،‬فنقبت أقدامنا‪ ،‬ونقبت قدماي‪ ،‬وسقطت أظفاري‪ ،‬فكنا نلف على أرجلنا‬
‫الرق‪ ،‬فسميت ذات الرقاع‪ ،‬لا كنا نعصب الرق على أرجلنا‪.‬‬

‫وفيه عن جابر‪ :‬كنا مع النب صلى ال عليه وسلم بذات الرقاع‪ ،‬فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنب‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فنل رسول ال صلى ال عليه وسلم فتفرق الناس ف العضاة‪ ،‬يستظلون بالشجر‪،‬‬
‫ونزل رسول ال صلى ال عليه وسلم تت شجرة فعلق با سيفه‪ .‬قال جابر‪ :‬فنمنا نومة‪ ،‬فجاء رجل من‬
‫الشركي‪ :‬فاخترط سيف رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬أتافن؟ قال‪( :‬ل)‪ ،‬قال‪ :‬فمن ينعك‬
‫من؟ قال‪( :‬ال)‪ .‬قال جابر‪ :‬فإذا رسول ال صلى ال عليه وسلم يدعونا‪ ،‬فجئنا‪ ،‬فإذا عنده أعراب جالس‪.‬‬
‫صلْتًا‪.‬‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم‪ ،‬فاستيقظت وهو ف يده َ‬
‫فقال ل‪ :‬من ينعك من؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬فها هو ذا جالس)‪ ،‬ث ل يعاتبه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وف‬
‫رواية أب عوانة‪ :‬فسقط السيف من يده‪ ،‬فأخذه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪( :‬من ينعك من؟)‬
‫قال‪ :‬كـن خـي آخـذ‪ ،‬قال‪( :‬تشهد أن ل إله إل ال وأن رسول ال؟) قال العراب‪ :‬أعاهدك على أل‬
‫أقاتلك‪ ،‬ول أكون مع قوم يقاتلونك‪ ،‬قال‪ :‬فخلي سبيله‪ ،‬فجاء إل قومه‪ ،‬فقال‪ :‬جئتكم من عند خي‬
‫الناس‪.‬‬

‫وف رواية البخاري‪ :‬قال مسدد عن أب عوانة عن أب بشر‪ :‬اسم الرجل غَوْرَث ابن الارث‪.‬قال ابن‬
‫حجر‪ :‬ووقع عند الواقدي ف سبب هذه القصة‪ :‬أن اسم العراب دُعْثُور‪ ،‬وأنه أسلم‪ ،‬لكن ظاهر كلمه‬
‫أنما قصتان ف غزوتي‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫وف مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من الشركي‪ ،‬فنذر زوجها أل يرجع حت يهريق دما ف أصحاب‬
‫ممد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجاء ليلً‪ ،‬وقد أرصد رسول ال صلى ال عليه وسلم رجلي َربِيئة للمسلمي‬
‫من العدو‪ ،‬وها عباد بن بشر وعمار بن ياسر‪ ،‬فضرب عبادا‪ ،‬وهو قائم يصلي‪ ،‬بسهم فنعه‪ ،‬ول يبطل‬
‫صلته‪ ،‬حت رشقه بثلثة أسهم‪ ،‬فلم ينصرف منها حت سلم‪ ،‬فأيقظ صاحبه‪ ،‬فقال‪ :‬سبحان ال! هل‬
‫نبهتن‪ ،‬فقال‪ :‬إن كنت ف سورة فكرهت أن أقطعها‪.‬‬

‫كان لذه الغزوة أثر ف قذف الرعب ف قلوب العراب القساة‪ ،‬وإذا نظرنا إل تفاصيل السرايا بعدالغزوة‬
‫نري أن هذه القبائل من غطفان ل تترئ أن ترفع رأسها بعد هذه الغزوة‪ ،‬بل استكانت شيئا فشيئا حت‬
‫استسلمت‪ ،‬بل وأسلمت‪ ،‬حت نري عدة قبائل من هذه العراب تقوم مع السلمي ف فتح مكة‪ ،‬وتغزو‬
‫حُنَيْنا‪ ،‬وتأخذ من غنائمها‪ ،‬ويبعث إليها الصدقون فتعطي صدقاتا بعد الرجوع من غزوة الفتح‪ ،‬فبهذا ت‬
‫كسر الجنحة الثلثة الت كانت مثلة ف الحزاب‪ ،‬وساد النطقة المن والسلم‪ ،‬واستطاع السلمون بعد‬
‫ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت ف بعض الناطق من بعض القبائل‪ ،‬بل بعد هذه الغزوة‬
‫بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والمالك الكبية ؛ لن الظروف ف داخل البلد كانت قد تطورت لصال‬
‫السلم والسلمي‪.‬‬

‫وبعد الرجوع من هذه الغزوة أقام رسول ال صلى ال عليه وسلم إل شوال سنة ‪ 7‬هـ‪.‬‬

‫وبعث ف خلل ذلك عدة سرايا‪ .‬وهاك بعض تفصيلها‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ سرية غالب بن عبد ال الليثي إل بن الُلَوّح بُقدَيْد‪ ،‬ف صفر أو ربيع الول سنة ‪ 7‬هـ‪ .‬كان بنو‬
‫اللوح قد قتلوا أصحاب بشي بن سُ َويْد‪ ،‬فبعثت هذه السرية لخذ الثأر‪ ،‬فشنوا الغارة ف الليل فقتلوا من‬
‫قتلوا‪ ،‬وساقوا النعم‪ ،‬وطاردهم جيش كبي من العدو‪ ،‬حت إذا قرب من السلمي نزل مطر‪ ،‬فجاء سيل‬
‫عظيم حال بي الفريقي‪ .‬ونح السلمون ف بقية النسحاب‪.‬‬

‫سمَي‪ ،‬ف جادي الثانية سنة ‪ 7‬هـ‪ ،‬وقد مضي ذكرها ف مكاتبة اللوك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ سرية حِ ْ‬

‫‪ 3‬ـ سرية عمر بن الطاب إل تُ َربَة‪ ،‬ف شعبان سنة ‪ 7‬هـ‪ ،‬ومعه ثلثون رجلً‪ .‬كانوا يسيون الليل‬
‫ويستخفون ف النهار‪ ،‬وأت الب إل هوازن فهربوا‪ ،‬وجاء عمر إل مالم فلم يلق أحدا‪ ،‬فانصرف راجعا‬
‫إل الدينة‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ سرية بشي بن سعد النصاري إل بن مرة بناحية َفدَك‪ ،‬ف شعبان سنة ‪7‬هـ ف ثلثي رجلً‪ .‬خرج‬
‫إليهم واستاق الشاء والنعم‪ ،‬ث رجع فأدركه الطلب عند الليل‪ ،‬فرموهم بالنبل حت فن نبل بشي‬
‫وأصحابه‪ ،‬فقتلوا جيعا إل بشي‪ ،‬فإنه ا ْرتُثّ إل فدك‪ ،‬فأقام عند يهود حت برأت جراحه‪ ،‬فرجع إل‬
‫الدينة‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ سرية غالب بن عبد ال الليثي‪ ،‬ف رمضان سنة ‪ 7‬هـ إل بن عُوَال وبن عبد ابن ثعلبة بالَ ْي َفعَة‪،‬‬
‫وقيل إل الُرَقَات من جُهَيْنَة‪ ،‬ف مائة وثلثي رجلً‪ ،‬فهجموا عليهم جيعا‪ ،‬وقتلوا من أشرف لم‪ ،‬واستاقوا‬
‫نعما وشاء‪ ،‬وف هذه السرية قتل أسامةُ بن زيد نَهِيكَ بن مِرْدَاس بعد أن قال‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬فلما قدموا‬
‫وأخب النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كب عليه وقال‪( :‬أقتلته بعد ما قال‪ :‬ل إله إل ال؟) فقال‪ :‬إنا قالا‬
‫متعوذا قال‪( :‬فهل شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟)‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ سرية عبد ال بن رواحة إل خيب‪ ،‬ف شوال سنة ‪ 7‬هـ ف ثلثي راكبًا‪ .‬وذلك أن أسِي أو بشي‬
‫بن زارم كان يمع غطفان لغزو السلمي‪ ،‬فأخرجوا أسيًا ف ثلثي من أصحابه‪ ،‬وأطمعوه أن الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم يستعمله على خيب‪ ،‬فلما كانوا بقَرْقَرَة نِيَار وقع بي الفريقي سوء ظن أفضي إل قتل‬
‫أسي وأصحابه الثلثي‪ .‬ذكر الواقدي هذه السرية ف شوال سنة ست قبل خيب بأشهر‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ سرية بشي بن سعد النصاري إل ين وجَبار [بالفتح‪ ،‬أرض لغطفان‪ ،‬وقيل‪ :‬لفَزَارَة و ُع ْذرَة]‪ ،‬ف‬
‫شوال سنة ‪ 7‬هـ ف ثلثائة من السلمي‪ ،‬للقاء جع كبي تمعوا للغارة على أطراف الدينة‪ ،‬فساروا‬
‫الليل وكمنوا النهار‪ ،‬فلما بلغهم مسي بشي هربوا‪ ،‬وأصاب بشي نعما كثية‪ ،‬وأسر رجلي‪ ،‬فقدم بما‬
‫الدينة إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فأسلما‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ سرية أب َحدْرَد السلمي إل الغابة‪ ،‬ذكرها ابن القيم ف سرايا السنة السابعة قبل عمرة القضاء‪،‬‬
‫وملخصها‪ :‬أن رجل من جُشَم بن معاوية أقبل ف عدد كبي إل الغابة‪ ،‬يريد أن يمع قيسًا على ماربة‬
‫السلمي‪ .‬فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا حدرد مع رجلي ليأتوا منه بب وعلم‪ ،‬فوصلوا إل‬
‫القوم مع غروب الشمس‪ ،‬فكمن أبو حدرد ف ناحية‪ ،‬وصاحباه ف ناحية أخري‪ ،‬وأبطأ على القوم راعيهم‬
‫حت ذهبت فحمة العشاء‪ ،‬فقام رئيس القوم وحده‪ ،‬فلما مر بأب حدرد رماه بسهم ف فؤاده فسقط ول‬
‫يتكلم‪ ،‬فاحتز أبو حدرد رأسه‪ ،‬وشد ف ناحية العسكر‪ ،‬وكب‪ ،‬وكب صاحباه وشدا‪ ،‬فما كان من القوم إل‬
‫الفرار‪ ،‬واستاق السلمون الثلثة الكثي من البل والغنم‪.‬‬
‫عمرة القضاء‬

‫قال الاكم‪ :‬تواترت الخبار أنه صلى ال عليه وسلم لا هَلّ ذو القعدة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء‬
‫عمرتم‪ ،‬وأل يتخلف منهم أحد شهد الديبية‪ ،‬فخرجوا إل من استشهد‪ ،‬وخرج معه آخرون معتمرين‪،‬‬
‫فكانت عدتم ألفي سوي النساء والصبيان‪ .‬ا هـ‪.‬‬

‫واستخلف على الدينة عُوَيف بن الضْبَط الدّيلي‪ ،‬أو أبا رُهْم الغفاري‪ ،‬وساق ستي بدنة‪ ،‬وجعل عليها‬
‫ناجية بن جُ ْندُب السلمي‪ ،‬وأحرم للعمرة من ذي الُلَ ْيفَة‪ ،‬ولب‪ ،‬ولب السلمون معه‪ ،‬وخرج مستعدا‬
‫بالسلح والقاتلة‪ ،‬خشية أن يقع من قريش غدر‪ ،‬فلما بلغ يَأجُج وضع الداة كلها‪ :‬الَجَف وا ِلجَانّ‬
‫والنّبْل والرّماح‪ ،‬وخلف عليها أوس بن خَ ْولِي النصاري ف مائت رجل‪ ،‬ودخل بسلح الراكب‪ :‬السيوف‬
‫ف القُرُب‪.‬‬

‫وكان رسول اللهصلى ال عليه وسلم عند الدخول راكبا على ناقته القَصْواء‪ ،‬والسلمون متوشحون‬
‫السيوف‪ ،‬مدقون برسول ال صلى ال عليه وسلم يلبون‪.‬‬

‫وخـرج الشركـون إل جبل ُقعَ ْي ِقعَان ـ البل الذي ف شال الكعبة ـ ليوا السلمي‪ ،‬وقد قالوا فيما‬
‫بينهم‪ :‬إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حي يثرب‪ ،‬فأمر النب صلى ال عليه وسلم أصحابه أن يرملوا‬
‫الشواط الثلثة‪ ،‬وأن يشوا ما بي الركني‪ .‬ول ينعه أن يأمرهم أن يرملوا الشواط كلها إل البقاء‬
‫عليهم‪ ،‬وإنا أمرهم بذلك ليي الشركي قوته كما أمرهم بالضطباع‪ ،‬أي أن يكشفوا الناكب اليمن‪،‬‬
‫ويضعوا طرف الرداء على اليسري‪.‬‬

‫ودخل رسول ال صلى ال عليه وسلم مكة من الثنية الت تطلعه على الَجُون ـ وقد صف الشركون‬
‫حجَنِه‪ ،‬ث طاف‪ ،‬وطاف السلمون‪ ،‬وعبد ال بن رواحة‬
‫ينظرون إليه ـ فلم يزل يلب حت استلم الركن ِب ْ‬
‫بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم يرتز متوشحا بالسيف‪:‬‬

‫وف حديث أنس فقال عمر‪ :‬يا ابن رواحة‪ ،‬بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وف حرم ال تقول‬
‫الشعر؟ فقال له النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬خَلّ عنه يا عمر‪ ،‬فلهو أسرع فيهم من نضح النبل)‪.‬‬
‫و َر َملَ رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمون ثلثة أشواط‪ ،‬فلما رآهم الشركون قالوا‪ :‬هؤلء الذين‬
‫زعمتم أن المي قد وهنتهم‪ ،‬هؤلء أجلد من كذا وكذا‪.‬‬

‫ولا فرغ من الطواف سعي بي الصفا والروة‪ ،‬فلما فرغ من السعي‪ ،‬وقد وقف الدي عند الروة‪ ،‬قال‪( :‬‬
‫هذا النحر‪ ،‬وكل فجاج مكة منحر)‪ ،‬فنحر عند الروة‪ ،‬وحلق هناك‪ ،‬وكذلك فعل السلمون‪ ،‬ث بعث ناسا‬
‫إل يَأْجُج‪ ،‬ليقيموا على السلح‪ ،‬ويأت الخرون فيقضون نسكهم ففعلوا‪.‬‬

‫وأقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بكة ثلثا‪ ،‬فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا عليا فقالوا‪ :‬قل‬
‫لصاحبك‪ :‬اخرج عنا فقد مضي الجل‪ ،‬فخرج النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ونزل بسَرِف فأقام با‪.‬‬

‫ولا أراد الروج من مكة تبعتهم ابنة حزة‪ ،‬تنادى‪ ،‬يا عم يا عم‪ ،‬فتناولا علي‪ ،‬واختصم فيها على وجعفر‬
‫وزيد‪ ،‬فقضي النب صلى ال عليه وسلم لعفر ؛ لن خالتها كانت تته‪.‬‬

‫وف هذه العمرة تزوج النب صلى ال عليه وسلم بيمونة بنت الارث العامرية‪ ،‬وكان رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم قبل الدخول ف مكة بعث جعفر بن أب طالب بي يديه إل ميمونة‪ ،‬فجعلت أمرها إل العباس‪،‬‬
‫وكانت أختها أم الفضل تته‪ ،‬فزوجها إياه‪ ،‬فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حي‬
‫يشي‪ ،‬فبن با بسرف‪.‬‬

‫لدَيْبِيَة‪ ،‬أو لنا وقعت حسب‬


‫وسيت هذه العمرة بعمرة القضاء ؛ إما لنا كانت قضاء عن عمرة ا ُ‬
‫القاضاة ـ أي الصالة ـ الت وقعت ف الديبية‪ ،‬والوجه الثان رجحه الحققون‪ ،‬وهذه العمرة تسمي‬
‫بأربعة أساء‪ :‬القضاء‪ ،‬والقَضِيّة‪ ،‬والقصاص‪ ،‬والصّلح‪.‬‬

‫وقــد أرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الرجـوع مـن هذه العمرة عدة سرايا‪ ،‬وهي كما‬
‫يلي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ سرية ابن أب العوجاء‪ ،‬ف ذي الجة سنة ‪ 7‬هـ ف خسي رجلً‪ .‬بعثه رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم إل بن سُلَيْم ؛ ليدعوهم إل السلم‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل حاجة لنا إل ما دعوتنا‪ ،‬ث قاتلوا قتالً شديدا‪.‬‬
‫جرح فيه أبو العوجاء‪ ،‬وأسر رجلن من العدو‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ سرية غالب بن عبد ال إل مصاب أصحاب بشي بن سعد ب َفدَك‪ ،‬ف صفر سنة ‪ 8‬هـ‪ .‬بعث ف‬
‫مائت رجل‪ ،‬فأصابوا من العدو نعما‪ ،‬وقتلوا منهم قتلي‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ سرية ذات أطلح ف ربيع الول سنة ‪ 8‬هـ‪ .‬كانت بنو ُقضَاعَة قد حشدت جوعا كبية للغارة‬
‫على السلمي‪ ،‬فبعث إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم كعب بن عمي النصاري ف خسة عشر‬
‫رجلً‪ ،‬فلقوا العدو‪ ،‬فدعوهم إل السلم‪ ،‬فلم يستجيبوا لـم‪ ،‬وأرشقوهم بالنبل حت استشهد كلهم إل‬
‫رجل واحد‪ ،‬فقد ا ْرتُثّ من بي القتلي‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ سرية ذات عِرْق إل بن هوازن‪ ،‬ف ربيع الول سنة ‪ 8‬هـ‪ .‬كانت بنو هوازن قد أمدت العداء‬
‫مرة بعد أخري فأرسل إليها ُشجَاع بن وهب السدي ف خسة وعشرين رجلً‪ ،‬فاستاقوا َنعَما من العدو‪،‬‬
‫ول يلقوا كيدا‪.‬‬
‫معركة مؤتة‬

‫وهذه العركة أكب لقاء مُ ْثخِن‪ ،‬وأعظم حرب دامية خاضها السلمون ف حياة رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وهي مقدمة وتهيد لفتوح بلدان النصاري‪ ،‬وقعت ف جادي الول سنة ‪ 8‬هـ‪ ،‬وفق أغسطس أو‬
‫سبتمب سنة ‪ 926‬م‪.‬‬

‫ومؤتة (بالضم فالسكون) هي قرية بأدن بلقاء الشام‪ ،‬بينها وبي بيت القدس مرحلتان‪.‬‬

‫سبب العركة‬

‫وسبب هذه العركة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعث الارث بن عمي الزدي بكتابه إل عظيم‬
‫بُصْرَي‪ .‬فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغسان ـ وكان عاملً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر‬
‫ـ فأوثقه رباطا‪ ،‬ث قدمه‪ ،‬فضرب عنقه‪.‬‬

‫وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الرائم‪ ،‬يساوي بل يزيد على إعلن حالة الرب‪ ،‬فاشتد ذلك على‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم حي نقلت إليه الخبار‪ ،‬فجهز إليهم جيشا قوامه ثلثة آلف مقاتل ‪ ،‬وهو‬
‫أكب جيش إسلمي ل يتمع قبل ذلك إل ف غزوة الحزاب‪.‬‬

‫أمراء اليش ووصية رسول ال صلى ال عليه وسلم إليهم‬

‫أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة‪ ،‬وقال‪( :‬إن قتل زيد فجعفر‪ ،‬وإن قتل‬
‫جعفر فعبد ال بن رواحة) ‪ ،‬وعقد لم لواء أبيض‪ ،‬ودفعه إل زيد بن حارثة‪.‬‬

‫وأوصاهم أن يأتوا مقتل الارث بن عمي‪ ،‬وأن يدعوا مَنْ هناك إل السلم‪ ،‬فإن أجابوا وإل استعانوا بال‬
‫عليهم‪ ،‬وقاتلوهم‪ ،‬وقال لم‪( :‬اغزوا بسم ال‪ ،‬ف سبيل ال‪ ،‬مَنْ كفر بال‪ ،‬ل تغدروا‪ ،‬ول تغلوا‪ ،‬ول‬
‫تقتلوا وليدا ول امرأة‪ ،‬ول كبيا فانيا‪ ،‬ول منعزلً بصومعة‪ ،‬ول تقطعوا نلً ول شجرة‪ ،‬ول تدموا بناء)‪.‬‬

‫توديع اليش السلمي وبكاء عبد ال بن رواحة‬


‫ولا تيأ اليش السلمي للخروج حضر الناس‪ ،‬وودعوا أمراء رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسلموا‬
‫عليهم‪ ،‬وحينئذ بكي أحد أمراء اليش ـ عبد ال بن رواحة ـ فقالوا‪ :‬ما يبكيك؟ فقال‪ :‬أما وال ما ب‬
‫حب الدنيا‪ ،‬ول صبابة بكم‪ ،‬ولكن سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرأ آية من كتاب ال يذكر‬
‫فيها النار‪َ {:‬وإِن مّن ُكمْ ِإلّا وَارِدُهَا كَانَ َعلَى َرّبكَ حَ ْتمًا مّقْضِيّا} [مري‪ ،]71:‬فلست أدري كيف ل‬
‫بالصدور بعد الورود؟ فقال السلمون‪ :‬صحبكم ال بالسلمة‪ ،‬ودفع عنكم‪ ،‬وردكم إلينا صالي غاني‪،‬‬
‫فقال عبد ال بن رواحة‪:‬‬

‫لكنن أسأل الرحن مغفــرة ** وضربة ذات فرع تقذف الزبدا‬

‫أو طعنة بيدي حران مـهزة ** بربة تنفذ الحشـاء والكبدا‬

‫حت يقال إذا مروا على جدثي ** أرشده ال من غاز وقد رشدا‬

‫ث خرج القوم‪ ،‬وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم مشيعا لم حت بلغ ثنية الوداع‪ ،‬فوقف وودّعهم‪.‬‬

‫ترك اليش السلمي‪ ،‬ومباغتته حالة رهيبة‬

‫وترك اليش السلمي ف اتاه الشمال حت نزل َمعَان‪ ،‬من أرض الشام‪ ،‬ما يلي الجاز الشمإل‪ ،‬وحينئذ‬
‫نقلت إليهم الستخبارات بأن هرقل نازل بآب من أرض البلقاء ف مائة ألف من الروم‪ ،‬وانضم إليهم من‬
‫لَخْم و ُجذَام وبَ ْلقَيْن وبَهْرَاء وبَلِي مائة ألف‪.‬‬

‫الجلس الستشاري َبعَان‬


‫ل يكن السلمون أدخلوا ف حسابم لقاء مثل هذا اليش العرمرم ـ الذي بوغتوا به ف هذه الرض‬
‫البعيدة ـ وهل يهجم جيش صغي‪ ،‬قوامه ثلثة آلف مقاتل فحسب‪ ،‬على جيش كبي عرمرم مثل البحر‬
‫الضم‪ ،‬قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار السلمون‪ ،‬وأقاموا ف مَعَان ليلتي يفكرون ف أمرهم‪ ،‬وينظرون‬
‫ويتشاورون‪ ،‬ث قالوا‪ :‬نكتب إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فنخبه بعدد عدونا‪ ،‬فإما أن يدنا‬
‫بالرجال‪ ،‬وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له‪.‬‬

‫ولكن عبد ال بن رواحة عارض هذا الرأي‪ ،‬وشجع الناس‪ ،‬قائلً‪ :‬يا قوم‪ ،‬وال إن الت تكرهون لَلّتِي‬
‫خرجتم تطلبون‪ :‬الشهادة‪ ،‬وما نقاتل الناس بعدد ول قوة ول كثرة‪ ،‬ما نقاتلهم إل بذا الدين الذي أكرمنا‬
‫ال به‪ ،‬فانطلقوا‪ ،‬فإنا هي إحدي السنيي‪ ،‬إما ظهور وإما شهادة‪ .‬وأخيا استقر الرأي على ما دعا إليه‬
‫عبد ال بن رواحة‪.‬‬

‫اليش السلمي يتحرك نو العدو‬


‫وحينئذ بعد أن قضي اليش السلمي ليلتي ف معان‪ ،‬تركوا إل أرض العدو‪ ،‬حت لقيتهم جوع هرقل‬
‫بقرية من قرى البلقاء يقال لا‪َ[ :‬شَارِف] ث دنا العدو‪ ،‬واناز السلمون إل مؤتة‪ ،‬فعسكروا هناك‪ ،‬وتعبأوا‬
‫للقتال‪ ،‬فجعلوا على ميمنتهم ُقطْبَة بن قتادة ال ُعذْرِي‪ ،‬وعلى اليسرة عبادة بن مالك النصاري‪.‬‬

‫بداية القتال‪ ،‬وتناوب القواد‬


‫وهناك ف مؤتة التقي الفريقان‪ ،‬وبدأ القتال الرير‪ ،‬ثلثة آلف رجل يواجهون هجمات مائت ألف مقاتل‪.‬‬
‫معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والية‪ ،‬ولكن إذا هبت ريح اليان جاءت بالعجائب‪.‬‬

‫أخذ الراية زيد بن حارثة ـ ِحبّ رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وجعل يقاتل بضراوة بالغة‪ ،‬وبسالة‬
‫ل يوجد لا نظي إل ف أمثاله من أبطال السلم‪ ،‬فلم يزل يقاتل ويقاتل حت شاط ف رماح القوم‪ ،‬وخر‬
‫صريعا‪.‬‬

‫وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أب طالب‪ ،‬وطفق يقاتل قتالً منقطع النظي‪ ،‬حت إذا أرهقه القتال اقتحم عن‬
‫فرسه الشقراء فعقرها‪ ،‬ث قاتل حت قطعت يينه‪ ،‬فأخذ الراية بشماله‪ ،‬ول يزل با حت قطعت شاله‪،‬‬
‫فاحتضنها بعضديه‪ ،‬فلم يزل رافعا إياها حت قتل‪ .‬يقال‪ :‬إن روميا ضربه ضربةً قطعته نصفي‪ ،‬وأثابه ال‬
‫بناحيه جناحي ف النة‪ ،‬يطي بما حيث يشاء ؛ ولذلك سي بعفر الطيار‪ ،‬وبعفر ذي الناحي‪.‬‬

‫روى البخاري عن نافع؛ أن ابن عمر أخبه‪ :‬أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهو قتيل‪ ،‬فعددت به خسي بي‬
‫طعنة وضربة‪ ،‬ليس منها شيء ف دبره‪ ،‬يعن ظهره‪.‬‬

‫وف رواية أخري قال ابن عمر‪ :‬كنت فيهم ف تلك الغزوة‪ ،‬فالتمسنا جعفر بن أب طالب فوجدناه ف‬
‫القتلي‪ ،‬ووجدنا ما ف جسده بضعا وتسعي من طعنة ورمية‪ .‬وف رواية العمري عن نافع زيادة‪[ :‬فوجدنا‬
‫ذلك فيما أقبل من جسده]‪.‬‬

‫ولا قتل جعفر بعد أن قاتل بثل هذه الضراوة والبسالة‪ ،‬أخذ الراية عبد ال بن رواحة‪ ،‬وتقدم با‪ ،‬وهو‬
‫على فرسه‪ ،‬فجعل يستنل نفسه‪ ،‬ويتردد بعض التردد‪ ،‬حت حاد حيدة ث قال‪:‬‬
‫ث نزل‪ ،‬فأتاه ابن عم له بعَرْق من لم فقال‪ :‬شد بذا صلبك‪ ،‬فإنك قد لقيت ف أيامك هذه ما لقيت‪،‬‬
‫فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسَة‪ ،‬ث ألقاه من يده‪ ،‬ث أخذ سيفه فتقدم‪ ،‬فقاتل حت قتل‪.‬‬

‫الراية إل سيف من سيوف ال‬

‫وحينئذ تقدم رجل من بن َعجْلن ـ اسه ثابت بن أقرم ـ فأخذ الراية وقال‪ :‬يا معشر السلمي‪،‬‬
‫اصطلحوا على رجل منكم‪ ،‬قالوا‪ :‬أنت‪ .‬قال‪ :‬ما أنا بفاعل‪ ،‬فاصطلح الناس على خالد بن الوليد‪ ،‬فلما‬
‫أخذ الراية قاتل قتالً مريرا‪ ،‬فقد روي البخاري عن خالد بن الوليد قال‪ :‬لقد انقطعت ف يدي يوم مؤتة‬
‫تسعة أسياف‪ ،‬فما بقي ف يدي إل صفيحة يانية‪ .‬وف لفظ آخر‪ :‬لقد دق ف يدي يوم مؤتة تسعة أسياف‪،‬‬
‫وصبت ف يدي صفيحة ل يانية‪.‬‬

‫وقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم مؤتة ـ مبا بالوحي‪ ،‬قبل أن يأت إل الناس الب من ساحة‬
‫القتال‪( :‬أخذ الراية زيد فأصيب‪ ،‬ث أخذ جعفر فأصيب‪ ،‬ث أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ‬
‫حت أخذ الراية سيف من سيوف ال‪ ،‬حت فتح ال عليهم)‪.‬‬

‫ناية العركة‬
‫ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة الريرتي‪ ،‬كان مستغربا جدا أن ينجح هذا اليش الصغي ف‬
‫الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم‪ .‬ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته‬
‫ونبوغه ف تليص السلمي ما ورطوا أنفسهم فيه‪.‬‬

‫واختلفت الروايات كثيا فيما آل إليه أمر هذه العركة أخيا‪ .‬ويظهر بعد النظر ف جيع الروايات أن‬
‫خالد بن الوليد نح ف الصمود أمام جيش الرومان طول النهار‪ ،‬ف أول يوم من القتال‪ .‬وكان يشعر‬
‫بسيس الاجة إل مكيدة حربية تلقي الرعب ف قلوب الرومان حت ينجح ف النياز بالسلمي من غي‬
‫أن يقوم الرومان بركات الطاردة‪ .‬فقد كـان يعرف جيدا أن الفلت من براثنهم صعب جدا لو‬
‫انكشف السلمون‪ ،‬وقام الرومان بالطاردة‪.‬‬

‫فلما أصبح اليوم الثان غي أوضاع اليش‪ ،‬وعبأه من جديد‪ ،‬فجعل مقدمته ساقه‪ ،‬وميمنته ميسرة‪ ،‬وعلى‬
‫العكس‪ ،‬فلما رآهم العداء أنكروا حالم‪ ،‬وقالوا‪ :‬جاءهم مدد‪ ،‬فرعبوا‪ ،‬وصار خالد ـ بعد أن تراءي‬
‫اليشان‪ ،‬وتناوشا ساعة ـ يتأخر بالسلمي قليلً قليلً‪ ،‬مع حفظ نظام جيشه‪ ،‬ول يتبعهم الرومان ظنا‬
‫منهم أن السلمي يدعونم‪ ،‬وياولون القيام بكيدة ترمي بم ف الصحراء‪.‬‬
‫وهكذا اناز العدو إل بلده‪ ،‬ول يفكر ف القيام بطاردة السلمي ونح السلمون ف النياز سالي‪ ،‬حت‬
‫عادوا إل الدينة‪.‬‬

‫قتلى الفريقي‬

‫واستشهد يومئذ من السلمي اثنا عشر رجلً‪ ،‬أما الرومان‪ ،‬فلم يعرف عدد قتلهم‪ ،‬غي أن تفصيل‬
‫العركة يدل على كثرتم‪.‬‬

‫أثر العركة‬

‫وهذه العركة وإن ل يصل السلمون با على الثأر‪ ،‬الذي عانوا مرارتا لجله‪ ،‬لكنها كانت كبية الثر‬
‫لسمعة السلمي‪ ،‬إنا ألقت العرب كلها ف الدهشة والية‪ ،‬فقد كانت الرومان أكب وأعظم قوة على‬
‫وجه الرض‪ ،‬وكانت العرب تظن أن معن جلدها هو القضاء على النفس وطلب التف بالظّلْف‪ ،‬فكان‬
‫لقاء هذا اليش الصغي ـ ثلثة آلف مقاتل ـ مع ذلك اليش الضخم العرمرم الكبي ـ مائتا ألف‬
‫مقاتل ـ ث الرجوع عن الغزو من غي أن تلحق به خسارة تذكر‪ .‬كان كل ذلك من عجائب الدهر‪،‬‬
‫وكان يؤكد أن السلمي من طراز آخر غي ما ألفته العرب وعرفته‪ ،‬وأنم مؤيدون ومنصورون من عند‬
‫ال‪ ،‬وأن صاحبهم رسول ال حقا‪ .‬ولذلك نري القبائل اللدودة الت كانت ل تزال تثور على السلمي‬
‫جنحت بعد هذه العركة إل السلم‪ ،‬فأسلمت بنو سُ َليْم وأ ْشجَع و َغ َطفَان و ُذبْيَان وفَزَارَة وغيها‪.‬‬

‫وكانت هذه العركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان‪ ،‬فكانت توطئة وتهيدا لفتوح البلدان الرومانية‪،‬‬
‫واحتلل السلمي الراضي البعيدة النائية‪.‬‬

‫سرية ذات السّلسِل‬

‫ولا علم رسول ال صلى ال عليه وسلم بوقف القبائل العربية ـ الت تقطن مشارف الشام ـ ف معركة‬
‫مؤتة من اجتماعهم إل الرومان ضد السلمي‪ ،‬شعر بسيس الاجة إل القيام بكمة بالغة توقع الفرقة بينها‬
‫وبي الرومان‪ ،‬وتكون سببا للئتلف بينها وبي السلمي‪ ،‬حت ل تتحشد مثل هذه الموع الكبية مرة‬
‫أخري‪.‬‬
‫واختار لتنفيذ هذه الطة عمرو بن العاص ؛ لن أم أبيه كانت امرأة من بَلِي‪ .‬فبعثه إليهم ف جادي الخرة‬
‫سنة ‪ 8‬هـ على إثر معركة مؤتة ؛ ليستألفهم‪ ،‬ويقال‪ :‬بل نقلت الستخبارات أن جعا من قُضَاعَة قد‬
‫تمعوا‪ ،‬يريدون أن يدنوا من أطراف الدينة‪ ،‬فبعثه إليه‪ ،‬ويكن أن يكون السببان اجتمعا معا‪.‬‬

‫وعقد رسول ال صلى ال عليه وسلم لعمرو بن العاص لواء أبيض‪ ،‬وجعل معه راية سوداء‪ ،‬وبعثه ف‬
‫ثلثائة من سراة الهاجرين والنصار‪ ،‬ومعهم ثلثون فرسا‪ ،‬وأمره أن يستعي بن مر به من بَلِي و ُعذْ َرةَ‬
‫وبَ ْلقَيْنِ‪ .‬فسار الليل وَك َمنَ النهار‪ ،‬فلما قرب من القوم بلغه أن لم جعا كثيا‪ ،‬فبعث رافع بن مَكِيثٍ‬
‫الُهَنِي إل رسول ال صلى ال عليه وسلم يستمده‪ ،‬فبعث إليه أبا عبيدة بن الراح ف مائتي‪ ،‬وعقد له‬
‫لواء‪ ،‬وبعث له سراة الهاجرين والنصار ـ فيهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يلحق بعمرو‪ ،‬وأن يكونا‬
‫جيعا ول يتلفا‪ .‬فلما لق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬إنا قدمت على مددا‪ ،‬وأنا المي‪،‬‬
‫فأطاعه أبو عبيدة‪ ،‬فكان عمرو يصلي بالناس‪.‬‬

‫وسار حت وطئ بلد ُقضَاعَة‪ ،‬فدوخها حت أت أقصي بلدهم‪ ،‬ولقي ف آخر ذلك جعا‪ ،‬فحمل عليهم‬
‫السلمون فهربوا ف البلد وتفرقوا‪.‬‬

‫وبعث عوف بن مالك الشجعي بريدا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأخبه بقفولم وسلمتهم‪ ،‬وما‬
‫كان ف غزاتم‪.‬‬

‫وذات السلسل [بضم السي الول وفتحها‪ :‬لغتان] بقعة وراء وادي القُرَي‪ ،‬بينها وبي الدينة عشرة‬
‫أيام‪ .‬وذكر ابن إسحاق أن السلمي نزلوا على ماء بأرض ُجذَام يقال له‪ :‬السلسل‪ ،‬فسمي ذات‬
‫السلسل‪.‬‬

‫سرية أب قتادة إل خضرة‬

‫ضرَة ـ وهي‬
‫كانت هذه السرية ف شعبان سنة ‪ 8‬هـ ؛ وذلك لن بن َغ َطفَان كانوا يتحشدون ف خَ ِ‬
‫أرض ُمحَارِب بَنجْد ـ فبعث إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا قتادة ف خسة عشر رجلً‪ ،‬فقتل‬
‫منهم‪ ،‬وسَبَي وغنم‪ ،‬وكانت غيبته خس عشرة ليلة‪.‬‬
‫غزوة فتح مكة‬

‫قال ابن القيم‪ :‬هو الفتح العظم الذي أعز ال به دينه ورسوله وجنده وحزبه المـي‪ ،‬واستنقذ به‬
‫بلــده وبيته الذي جعله هدي للعالي‪ ،‬من أيدي الكفار والشركي‪ ،‬وهو الفتح الذي استبشر بـه‬
‫أهـل السمـاء‪ ،‬وضـربت أطناب عِزّه على مناكب الوزاء‪ ،‬ودخل الناس به فــي ديــن ال‬
‫أفواجـا‪ ،‬وأشرق به وجه الرض ضياء وابتهاجا ا‪ .‬هـ‪.‬‬

‫سبب الغزوة‬

‫قدمنا ف وقعة الديبية أن بندا من بنود هذه العاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل ف عقد ممد صلى ال‬
‫عليه وسلم وعهده دخل فيه‪ ،‬ومن أحب أن يدخل ف عقد قريش وعهدهم دخل فيه‪ ،‬وأن القبيلة الت‬
‫تنضم إل أي الفريقي تعتب جزءا من ذلك الفريق‪ ،‬فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتب‬
‫عدوانا على ذلك الفريق‪.‬‬

‫وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة ف عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودخلت بنو بكر ف عهد‬
‫قريش‪ ،‬وصارت كل من القبيلتي ف أمن من الخري‪ ،‬وقد كانت بي القبيلتي عداوة وتوترات ف‬
‫الاهلية‪ ،‬فلما جاء السلم‪ ،‬ووقعت هذه الدنة‪ ،‬وأمن كل فريق من الخر ـ اغتنمها بنو بكر‪ ،‬وأرادوا‬
‫أن يصيبوا من خزاعة الثأر القدي‪ ،‬فخرج نَوْفَل بن معاوية الدّيلي ف جاعة من بن بكر ف شهر شعبان سنة‬
‫‪ 8‬هـ‪ ،‬فأغاروا على خزاعة ليلً‪ ،‬وهم على ماء يقال له‪[ :‬ال َوتِي] فأصابوا منهم رجالً‪ ،‬وتناوشوا‬
‫واقتتلوا‪ ،‬وأعانت قريش بن بكر بالسلح‪ ،‬وقاتل معهم رجال من قريش مستغلي ظلمة الليل‪ ،‬حت حازوا‬
‫خزاعة إل الرم‪ ،‬فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر‪ :‬يا نوفل‪ ،‬إنا قد دخلنا الرم‪ ،‬إلك إلك‪ ،‬فقال كلمة‬
‫عظيمة‪ :‬ل إله اليوم يا بن بكر‪ ،‬أصيبوا ثأركم‪ .‬فلعمري إنكم لتَسرِقُون ف الرم‪ ،‬أفل تصيبون ثأركم فيه؟‬

‫ولا دخلت خزاعة مكة لأوا إل دار ُبدَيْل بن وَرْقَاء الزاعي‪ ،‬وإل دار مول لم يقال له‪ :‬رافع‪.‬‬

‫وأسرع عمرو بن سال الزاعي‪ ،‬فخرج حت قدم على رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة‪ ،‬فوقف عليه‪،‬‬
‫وهو جالس ف السجد بي ظهران الناس فقال‪:‬‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬نصرت يا عمرو بن سال)‪ ،‬ث عرضت له سحابة من السماء‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(إن هذه السحابة لتستهل بنصر بن كعب)‪.‬‬

‫ث خرج بُ َديْل بن َورْقَاء الزاعي ف نفر من خُزَاعَة‪ ،‬حت قدموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫الدينة‪ ،‬فأخبوه بن أصيب منهم‪ ،‬وبظاهرة قريش بن بكر عليهم‪ ،‬ث رجعوا إل مكة‪.‬‬

‫أبو سفيان يرج إل الدينة ليجدد الصلح‬

‫ول شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدرا مضا ونقضا صريا للميثاق‪ ،‬ل يكن له أي مبر‪،‬‬
‫ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها‪ ،‬وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة‪ ،‬فعقدت ملسا استشاريا‪،‬‬
‫وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان مثلً لا ليقوم بتجديد الصلح‪.‬‬

‫وقد أخب رسول ال صلى ال عليه وسلم أصحابه با ستفعله قريش إزاء غدرتم‪ .‬قال‪( :‬كأنكم بأب سفيان‬
‫قد جاءكم ليشد ال َعقْدَ‪ ،‬ويزيد ف الدة)‪.‬‬

‫سفَان ـ وهو راجع من الدينة إل‬


‫وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُ ْ‬
‫مكة ـ فقال‪ :‬من أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أت النب صلى ال عليه وسلم ـ فقال‪ :‬سرت ف‬
‫خزاعة ف هذا الساحل وف بطن هذا الوادي‪ .‬قال‪ :‬أو ما جئت ممدا؟ قال‪ :‬ل‪.‬‬

‫فلما راح بديل إل مكة قال أبو سفيان‪ :‬لئن كان جاء الدينة لقد علف با النوي‪ ،‬فأت مبك راحلته‪ ،‬فأخذ‬
‫من بعرها‪ ،‬ففته‪ ،‬فرأي فيها النوي‪ ،‬فقال‪ :‬أحلف بال لقد جاء بديل ممدا‪.‬‬

‫وقدم أبو سفيان الدينة‪ ،‬فدخل على ابنته أم حبيبة‪ ،‬فلما ذهب ليجلس على فراش رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم طوته عنه‪ ،‬فقال‪ :‬يا بنية‪ ،‬أرغبت ب عن هذا الفراش‪ ،‬أم رغبت به عن؟ قالت‪ :‬بل هو فراش‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأنت رجل مشرك نس‪ .‬فقال‪ :‬وال لقد أصابك بعدي شر‪.‬‬

‫ث خرج حت أت رسول ال صلى ال عليه وسلم فكلمه‪ ،‬فلم يرد عليه شيئا‪ ،‬ث ذهب إل أب بكر فكلمه‬
‫أن يكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬ما أنا بفاعل‪ .‬ث أت عمر بن الطاب فكلمه‪ ،‬فقال‪ :‬أأنا‬
‫أشفع لكم إل رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فوال لو ل أجد إل الذّرّ لاهدتكم به‪ ،‬ث جاء فدخل على‬
‫على بن أب طالب‪ ،‬وعنده فاطمة‪ ،‬وحسن‪ ،‬غلم يدب بي يديهما‪ ،‬فقال‪ :‬يا علي‪ ،‬إنك أمس القوم ب‬
‫رحا‪ ،‬وإن قد جئت ف حاجة‪ ،‬فل أرجعن كما جئت خائبا‪ ،‬اشفع ل إل ممد‪ ،‬فقال‪ :‬ويك يا أبا سفيان‪،‬‬
‫لقد عزم رسول ال صلى ال عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه‪ .‬فالتفت إل فاطمة‪ ،‬فقال‪ :‬هل‬
‫لك أن تأمري ابنك هذا فيجي بي الناس‪ ،‬فيكون سيد العرب إل آخر الدهر؟ قالت‪ :‬وال ما يبلغ ابن‬
‫ذاك أن يي بي الناس‪ ،‬وما يي أحد على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عين أب سفيان‪ ،‬فقال لعلى بن أب طالب ف هلع وانزعاج ويأس وقنوط‪ :‬يا أبا‬
‫السن‪ ،‬إن أري المور قد اشتدت علي‪ ،‬فانصحن‪ ،‬قال‪ :‬وال ما أعلم لك شيئا يغن عنك‪ .‬ولكنك سيد‬
‫بن كنانة‪ ،‬فقم فأجر بي الناس‪ ،‬ث اْلحَقْ بأرضك‪ .‬قال‪ :‬أو تري ذلك مغنيا عن شيئا؟ قال‪ :‬ل وال ما‬
‫أظنه‪ ،‬ولكن ل أجد لك غي ذلك‪ .‬فقام أبو سفيان ف السجد‪ ،‬فقال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬إن قد أجرت بي الناس‪،‬‬
‫ث ركب بعيه‪ ،‬وانطلق‪.‬‬

‫ولا قدم على قريش‪ ،‬قالوا‪ :‬ما وراءك؟ قال‪ :‬جئت ممدا فكلمته‪ ،‬فوال ما رد على شيئا‪ ،‬ث جئت ابن أب‬
‫قحافة فلم أجد فيه خيا‪ ،‬ث جئت عمر بن الطاب‪ ،‬فوجدته أدن العدو‪ ،‬ث جئت عليا فوجدته ألي القوم‪،‬‬
‫قد أشار على بشيء صنعته‪ ،‬فوال ما أدري هل يغن عن شيئا أم ل؟ قالوا‪ :‬وب أمرك؟ قال‪ :‬أمرن أن أجي‬
‫بي الناس‪ ،‬ففعلت‪ ،‬قالوا‪ :‬فهل أجاز ذلك ممد؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قالوا‪ :‬ويلك‪ ،‬إن زاد الرجل على أن لعب بك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل وال ما وجدت غي ذلك‪.‬‬

‫التهيؤ للغزوة وماولة الخفاء‬

‫يؤخذ من رواية الطبان أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل أن يأت إليه خب نقض‬
‫اليثاق بثلثة أيام ـ أن تهزه‪ ،‬ول يعلم أحد‪ ،‬فدخل عليها أبو بكر‪ ،‬فقال‪ :‬يابنية‪ ،‬ما هذا الهاز؟ قالت‪:‬‬
‫وال ما أدري‪ .‬فقال‪ :‬وال ما هذا زمان غزو بن الصفر‪ ،‬فأين يريد رسول ال؟ قالت‪ :‬وال ل علم ل‪،‬‬
‫وف صباح الثالثة جاء عمرو بن سال الزاعي ف أربعي راكبا‪ ،‬وارتز‪ :‬يا رب إن ناشد ممدا‪ ...‬البيات‪.‬‬
‫فعلم الناس بنقض اليثاق‪ ،‬وبعد عمرو جاء بديل‪ ،‬ث أبو سفيان‪ ،‬وتأكد عند الناس الب‪ ،‬فأمرهم رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم بالهاز‪ ،‬وأعلمهم أنه سائر إل مكة‪ ،‬وقال‪( :‬اللّهم خذ العيون والخبار عن‬
‫قريش حت نبغتها ف بلدها)‪.‬‬

‫وزيادة ف الخفاء والتعمية بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم سرية قوامها ثانية رجال‪ ،‬تت قيادة أب‬
‫قتادة بن ِرْبعِي‪ ،‬إل بطن إضَم‪ ،‬فيما بي ذي َخشَب وذي الروة‪ ،‬على ثلثة بُرُد من الدينة‪ ،‬ف أول شهر‬
‫رمضان سنة ‪ 8‬هـ ؛ ليظن الظان أنه صلى ال عليه وسلم يتوجه إل تلك الناحية‪ ،‬ولتذهب بذلك‬
‫الخبار‪ ،‬وواصلت هذه السرية سيها‪ ،‬حت إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم خرج إل مكة‪ ،‬فسارت إليه حت لقته‪.‬‬

‫وكتب حاطب بن أب بَلَْتعَة إل قريش كتابا يبهم بسي رسول ال صلى ال عليه وسلم إليهم‪ ،‬ث أعطاه‬
‫امرأة‪ ،‬وجعل لا ُج ْعلً على أن تبلغه قريشا‪ ،‬فجعلته ف قرون رأسها‪ ،‬ث خرجت به‪ ،‬وأت رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم الب من السماء با صنع حاطب‪ ،‬فبعث عليا والقداد والزبي بن العوام وأبا مَ ْرثَد الغَنَوِي‬
‫ضةَ خَاخ‪ ،‬فإن با ظعينة معها كتاب إل قريش)‪ ،‬فانطلقوا تعادي بم خيلهم‬
‫فقال‪( :‬انطلقوا حت تأتوا رَ ْو َ‬
‫حت وجدوا الرأة بذلك الكان‪ ،‬فاستنـزلوها‪ ،‬وقالوا‪ :‬معك كتاب؟ فقالت‪ :‬ما معي كتاب‪ ،‬ففتشوا‬
‫رحلها فلم يدوا شيئا‪ .‬فقال لا علي‪ :‬أحلف بال‪ ،‬ما كذب رسول ال صلى ال عليه وسلم ول كذبنا‪،‬‬
‫وال لتخرجن الكتاب أو لنجردنك‪ .‬فلما رأت الد منه قالت‪ :‬أعرض‪ ،‬فأعرض‪ ،‬فحلت قرون رأسها‪،‬‬
‫فاستخرجت الكتاب منها‪ ،‬فدفعته إليهم‪ ،‬فأتوا به رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإذا فيه‪( :‬من حاطب‬
‫بن أب بلتعة إل قريش) يبهم بسي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فدعا رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم حاطبا‪ ،‬فقال‪( :‬ما هذا يا حطب؟) فقال‪ :‬ل تَ ْعجَلْ على يا رسول ال‪ .‬وال إن لؤمن بال ورسوله‪،‬‬
‫وما ارتددت ول بدلت‪ ،‬ولكن كنت امرأ مُلْصَقـا ف قريش ؛ لست من أْنفَسِهم‪ ،‬ول فيهم أهل وعشية‬
‫وولد‪ ،‬وليس ل فيهم قرابة يمونم‪ ،‬وكان من معك له قرابات يمونم‪ ،‬فأحببت إذ فاتن ذلك أن أتذ‬
‫عندهم يدا يمون با قرابت‪ .‬فقال عمر بن الطاب‪ :‬دعن يا رسول ال أضرب عنقه‪ ،‬فإنه قد خان ال‬
‫ورسوله‪ ،‬وقد نافق‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إنه قد شهد بدرا‪ ،‬وما يدريك يا عمر لعل ال‬
‫قد اطلع على أهل بدر فقال‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)‪ ،‬فذَ َرفَتْ عينا عمر‪ ،‬وقال‪ :‬ال ورسوله‬
‫أعلم‪.‬‬

‫وهكذا أخذ ال العيون‪ ،‬فلم يبلغ إل قريش أي خب من أخبار تهز السلمي وتيئهم للزحف والقتال‪.‬‬

‫اليش السلمي يتحرك نو مكة‬

‫ولعشر خلون من شهر رمضان البارك ‪ 8‬هـ‪ ،‬غادر رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة متجها إل‬
‫مكــة‪ ،‬ف عشرة ألف من الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬واستخـلف على الدينة أبا رُهْم الغفاري‪.‬‬

‫حفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد الطلب‪ ،‬وكان قد خرج بأهله وعياله‬
‫ولا كان بالُ ْ‬
‫مسلما مهاجرا‪ ،‬ث لا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم بالبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الارث‬
‫وابن عمته عبد ال بن أب أمية‪ ،‬فأعرض عنهما‪ ،‬لا كان يلقاه منهما من شدة الذي والجو‪ ،‬فقالت له أم‬
‫سلمة‪ :‬ل يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك‪ .‬وقال على لب سفيان بن الارث‪ :‬ائت رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم من قبل وجهه‪ ،‬فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف‪{ :‬قَالُواْ تَال ّلهِ َل َقدْ آثَرَكَ ال ّلهُ‬
‫عَ َليْنَا َوإِن كُنّا َلخَاطِئِيَ} [يوسف‪ ،]91:‬فإنه ل يرضي أن يكون أحد أحسن منه قولً‪ .‬ففعل ذلك أبو‬
‫سفيان‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪{ :‬قَالَ لَ تَثْرَيبَ َعلَيْ ُك ُم الْيَ ْومَ يَ ْغفِرُ ال ّلهُ لَ ُكمْ وَ ُهوَ أَرْ َحمُ‬
‫الرّاحِمِيَ} [يوسف‪ ،]92:‬فأنشده أبو سفيان أبياتا منها‪:‬‬

‫فضرب رسول ال صلى ال عليه وسلم صدره وقال‪( :‬أنتَ طَرّ ْدتَنِي كل مُطَرّد؟)‪.‬‬

‫اليش السلمي ينل بَرّ الظّهْرَان‬

‫وواصل رسول ال صلى ال عليه وسلم سيه وهو صائم‪ ،‬والناس صيام‪ ،‬حت بلغ ال ُكدَيْد ـ وهو ماء بي‬
‫سفَان و ُق َديْد ـ فأفطر‪ ،‬وأفطر الناس معه‪ .‬ث واصل سيه حت نزل بر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله‬
‫عُ ْ‬
‫عشاء‪ ،‬فأمر اليش‪ ،‬فأوقدوا النيان‪ ،‬فأوقدت عشرة آلف نار‪ ،‬وجعل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫على الرس عمر بن الطاب رضي ال عنه‬

‫أبو سفيان بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫وركب العباس ـ بعد نزول السلمي بر الظهران ـ بغلة رسول ال صلى ال عليه وسلم البيضاء‪،‬‬
‫وخرج يلتمس‪ ،‬لعله يد بعض الَطّابة أو أحدا يب قريشا ليخرجوا يستأمنون رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قبل أن يدخلها‪.‬‬

‫وكان ال قد عمي الخبار عن قريش‪ ،‬فهم على َوجَلٍ وترقب‪ ،‬وكان أبو سفيان يرج يتجسس الخبار‪،‬‬
‫فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام‪ ،‬وبديل بن ورقاء يتجسسون الخبار‪.‬‬

‫قال العباس‪ :‬وال إن لسي عليها ـ أي على بغلة رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ إذ سعت كلم أب‬
‫سفيان وبديل بن ورقاء‪ ،‬وها يتراجعان‪ ،‬وأبو سفيان يقول‪ :‬ما رأيت كالليلة نيانا قط ول عسكرا‪ .‬قال‪:‬‬
‫يقول بديل‪ :‬هذه وال خزاعة‪ ،‬حَمَشَتْها الرب‪ ،‬فيقول أبو سفيان‪ :‬خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه‬
‫نيانا وعسكرها‪.‬‬

‫قال العباس‪ :‬فعرفت صوته‪ ،‬فقلت‪ :‬أبا َح ْنظَلَة؟ فعرف صوت‪ ،‬فقال‪ :‬أبا الفضل؟ قلت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬مالك؟‬
‫فداك أب وأمي‪ .‬قلت‪ :‬هذا رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الناس‪ ،‬واصباح قريش وال‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما اليلة فداك أب وأمي؟‪ ،‬قلت‪ :‬وال لئن ظفر بك ليضربن عنقك‪ ،‬فاركب ف عجز هذه البغلة‪،‬‬
‫حت آت بك رسول ال صلى ال عليه وسلم فأستأمنه لك‪ ،‬فركب خلفي‪ ،‬ورجع صاحباه‪.‬‬

‫قال‪ :‬فجئت به‪ ،‬فكلما مررت به على نار من نيان السلمي‪ ،‬قالوا‪ :‬من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم وأنا عليها قالوا‪ :‬عم رسول ال صلى ال عليه وسلم على بغلته‪ .‬حت مررت بنار‬
‫عمر بن الطاب فقال‪ :‬من هذا؟ وقام إل‪ ،‬فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال‪ :‬أبو سفيان‪ ،‬عدو‬
‫ال؟ المد ل الذي أمكن منك بغي عقد ول عهد‪ ،‬ث خرج يشتد نو رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ت البغلة فسبقت‪ ،‬فاقتحمت عن البغلة‪ ،‬فدخلت على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودخل عليه‬
‫وركض ُ‬
‫عمر‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هذا أبو سفيان فدعن أضرب عنقه‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن قد أجرته‪ ،‬ث‬
‫جلست إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخذت برأسه‪ ،‬فقلت‪ :‬وال ل يناجيه الليلة أحد دون‪ ،‬فلما‬
‫أكثر عمر ف شأنه قلت‪ :‬مهلً يا عمر‪ ،‬فوال لو كان من رجال بن عدي بن كعب ما قلت مثل هذا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫مهلً يا عباس‪ ،‬فوال لسلمك كان أحب إل من إسلم الطاب‪ ،‬لو أسلم‪ ،‬وما ب إل أن قد عرفت أن‬
‫إسلمك كان أحب إل رسول ال صلى ال عليه وسلم من إسلم الطاب‪.‬‬

‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬اذهب به يا عباس إل رحلك‪ ،‬فإذا أصبحت فأتن به)‪ ،‬فذهبت‪،‬‬
‫فلما أصبحت غدوت به إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما رآه قال‪( :‬ويك يا أبا سفيان‪ ،‬أل يأن‬
‫لك أن تعلم أن ل إله إل ال؟) قال‪ :‬بأب أنت وأمي‪ ،‬ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو‬
‫كان مع ال إله غيه لقد أغن عن شيئا بعد‪.‬‬

‫قال‪( :‬ويك يا أبا سفيان‪ ،‬أل يأن لك أن تعلم أن رسول ال؟)‪ ،‬قال‪ :‬بأب أنت وأمي‪ ،‬ما أحلمك وأكرمك‬
‫وأوصلك‪ :‬أما هذه فإن ف النفس حت الن منها شيء‪ .‬فقال له العباس‪ :‬ويك أسلم‪ ،‬واشهد أن ل إله إل‬
‫ال‪ ،‬وأن ممدا رسول ال‪ ،‬قبل أن تضرب عنقك‪ ،‬فأسلم وشهد شهادة الق‪.‬‬

‫قال العباس‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن أبا سفيان رجل يب الفخر فاجعل له شيئا‪ .‬قال‪( :‬نعم‪ ،‬من دخل دار أب‬
‫سفيان فهو آمن‪ ،‬ومن أغلق عليه بابه فهو آمن‪ ،‬ومن دخل السجد الرام فهو آمن)‪.‬‬

‫اليش السلمي يغادر مر الظهران إل مكة‬


‫وف هذا الصباح ـ صباح يوم الثلثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة ‪ 8‬هـ ـ غادر رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم مر الظهران إل مكة‪ ،‬وأمر العباس أن يبس أبا سفيان بضيق الوادي عند َخ ْطمِ‬
‫البل‪ ،‬حت تر به جنود ال فياها‪ ،‬ففعل‪ ،‬فمرت القبائل على راياتا‪ ،‬كلما مرت به قبيلة قال‪ :‬يا عباس‪،‬‬
‫من هذه؟ فيقول ـ مثل ـ سليم‪ ،‬فيقول‪ :‬مإل ولِسُ َليْم؟ ث تر به القبيلة فيقول‪ :‬يا عباس‪ ،‬من هؤلء؟‬
‫فيقول‪ :‬مُ َزيْنَة‪ ،‬فيقول‪ :‬ما ل ولزينة؟ حت نفذت القبائل‪ ،‬ما تر به قبيلة إل سأل العباس عنها‪ ،‬فإذا أخبه‬
‫قال‪ :‬مال ولبن فلن؟ حت مر به رسول ال صلى ال عليه وسلم ف كتيبته الضراء‪ ،‬فيها الهاجرون‬
‫لدَق من الديد‪ ،‬قال‪ :‬سبحان ال! يا عباس‪ ،‬من هؤلء؟ قال‪ :‬هذا رسول‬
‫والنصار‪ ،‬ل يري منهم إل ا َ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ف الهاجرين والنصار‪ ،‬قال‪ :‬ما لحد بؤلء قِبَلٌ ول طاقة‪ .‬ث قال‪ :‬وال يا أبا‬
‫الفضل‪ ،‬لقد أصبح مُ ْلكُ ابن أخيك اليوم عظيما‪ .‬قال العباس‪ :‬يا أبا سفيان‪ ،‬إنا النبوة‪ ،‬قال‪ :‬فنعم إذن‪.‬‬

‫وكانت راية النصار مع سعد بن عبادة‪ ،‬فلما مر بأب سفيان قال له‪ :‬اليوم يوم اللحمة‪ ،‬اليوم تُسَْتحَلّ‬
‫الُرْمَة‪ ،‬اليـوم أذل ال قـريشا‪ .‬فلما حـاذي رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا سفيان قال‪ :‬يا رسول‬
‫ال‪ ،‬أل تسمع ما قال سعد؟ قال‪( :‬وما قال؟) فقال‪ :‬قال كذا وكذا‪ .‬فقال عثمان وعبد الرحن بن عوف‪:‬‬
‫يا رسول ال‪ ،‬ما نأمن أن يكون له ف قريش صولة‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬بل اليوم يوم‬
‫تُ َعظّم فيه الكعبة‪ ،‬اليوم يوم أعز ال فيه قريشا) ث أرسل إل سعد فنع منه اللواء‪ ،‬ودفعه إل ابنه قيس‪،‬‬
‫ورأي أن اللواء ل يرج عن سعد‪ .‬وقيل‪ :‬بل دفعه إل الزبي‪.‬‬

‫قريش تباغت زحف اليش السلمي‬

‫ولا مر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأب سفيان ومضي قال له العباس‪ :‬النجاء إل قومك‪ .‬فأسرع أبو‬
‫سفيان حت دخل مكة‪ ،‬وصرخ بأعلى صوته‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬هذا ممد‪ ،‬قد جاءكم فيما ل قبل لكم به‪.‬‬
‫فمن دخل دار أب سفيان فهو آمن‪ .‬فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت‪ :‬اقتلوا‬
‫الَمِيت الدسم الخش الساقي‪ ،‬قُّبحَ من طَلِيعَة قوم‪.‬‬

‫قال أبو سفيان‪ :‬ويلكم‪ ،‬لتغرنكم هذه من أنفسكم‪ ،‬فإنه قد جاءكم با ل قبل لكم به‪ ،‬فمن دخل دار أب‬
‫سفيان فهو آمن‪ .‬قالوا‪ :‬قاتلك ال‪ ،‬وما تغن عنا دارك؟ قال‪ :‬ومن أغلق عليه بابه فهو آمن‪ ،‬ومن دخل‬
‫السجد فهو آمن‪ .‬فتفرق الناس إل دورهم وإل السجد‪ ،‬ووبشوا أوباشا لم‪ ،‬وقالوا‪ :‬نقدم هؤلء‪ ،‬فإن‬
‫كان لقريش شيء كنا معهم‪ ،‬وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا‪ .‬فتجمع سفهاء قريش وأ ِخفّاؤها مع عكرمة‬
‫بن أب جهل‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬وسهيل بن عمرو بالَ ْن َدمَة ليقاتلوا السلمي‪ .‬وكان فيهم رجل من بن بكر‬
‫ـ حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلحا‪ ،‬فقالت له امرأته‪ :‬لاذا تعد ما أري؟ قال‪ :‬لحمد‬
‫وأصحابه‪ .‬قالت‪ :‬وال ما يقوم لحمد وأصحابه شيء‪ .‬قال‪ :‬إن وال لرجو أن أخدمك بعضهم‪ ،‬ث قال‪:‬‬

‫إن يقبلوا اليوم فمال عِلّه ** هــذا ســلح كامــل وألّه‬

‫وذو غِرَا َريْن سريع السّلّة **‬

‫فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا ف الندمة‪.‬‬

‫اليش السلمي بذي طُوَى‬

‫أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فمضي حت انتهي إل ذي طوي ـ وكان يضع رأسه تواضعا ل حي‬
‫رأي ما أكرمه ال به من الفتح‪ ،‬حت أن شعر ليته ليكاد يس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه‪ ،‬وكان‬
‫خالد بن الوليد على ا ُلجَنّبَةِ اليمن ـ وفيها أسْ َلمُ وسُلَيْم و ِغفَار و ُم َزيْنَة وجُهَيْنَة وقبائل من قبائل العرب ـ‬
‫فأمره أن يدخل مكة من أسفلها‪ ،‬وقال‪( :‬إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا‪ ،‬حت توافون‬
‫على الصفا)‪.‬‬

‫وكان الزبي بن العوام على ا ُلجَنَّبةِ اليسري‪ ،‬وكان معه راية رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأمره أن‬
‫لجُون‪ ،‬ول يبح حت يأتيه‪.‬‬
‫يدخل مكة من أعلها ـ من َكدَاء ـ وأن يغرز رايته با َ‬

‫وكان أبو عبيدة على الرجالة والُسّر ـ وهم الذي لسلح معهم ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حت‬
‫ينصب لكة بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫اليش السلمي يدخل مكة‬

‫وتركت كل كتيبة من اليش السلمي على الطريق الت كلفت الدخول منها‪.‬‬

‫فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من الشركي إل أناموه‪ .‬وقتل من أصحابه من السلمي كُرْز بن جابر‬
‫الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة‪ .‬كانا قد شذا عن اليش‪ ،‬فسلكا طريقا غي طريقه فقتل جيعا‪ ،‬وأما‬
‫سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالَنْ َدمَة فناوشوهم شيئا من قتال‪ ،‬فأصابوا من الشركي اثن عشر‬
‫رجلً‪ ،‬فانزم الشركون‪ ،‬وانزم حِمَاس بن قيس ـ الذي كان يعد السلح لقتال السلمي ـ حت دخل‬
‫بيته‪ ،‬فقال لمرأته‪ :‬أغلقي على باب‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬وأين ما كنت تقول؟ فقال‪:‬‬

‫وأقبل خالد يوس مكة حت واف رسول ال صلى ال عليه وسلم على الصفا‪.‬‬

‫لجُون عند مسجد الفتح‪ ،‬وضرب له‬


‫وأما الزبي فتقدم حت نصب راية رسول ال صلى ال عليه وسلم با َ‬
‫هناك قبة‪ ،‬فلم يبح حت جاءه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يدخل السجد الرام ويطهره من الصنام‬

‫ث نض رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والهاجرون والنصار بي يديه وخلفه وحوله‪ ،‬حت دخل‬
‫السجد‪ ،‬فأقبل إل الجر السود‪ ،‬فاستلمه‪ ،‬ث طاف بالبيت‪ ،‬وف يده قوس‪ ،‬وحول البيت ثلثائة وستون‬
‫صنما‪ ،‬فجعل يطعنها بالقوس‪ ،‬ويقول‪{ :‬جَاء اْلحَقّ َوزَ َه َق الْبَاطِلُ إِ ّن الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[السراء‪،]81:‬‬
‫ئ الْبَاطِلُ َومَا يُعِيدُ} [سبأ‪ ]49:‬والصنام تتساقط على وجوهها‪.‬‬
‫{قُلْ جَاء اْلحَقّ َومَا يُ ْب ِد ُ‬

‫وكان طوافه على راحلته‪ ،‬ول يكن مرما يومئذ‪ ،‬فاقتصر على الطواف‪ ،‬فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة‪،‬‬
‫فأخذ منه مفتاح الكعبة‪ ،‬فأمر با ففتحت فدخلها‪ ،‬فرأي فيها الصور‪ ،‬ورأي فيها صورة إبراهيم‪ ،‬وإساعيل‬
‫ـ عليهما السلم ـ يستقسمان بالزلم‪ ،‬فقال‪( :‬قاتلهم ال‪ ،‬وال ما استقسما با قط)‪ .‬ورأي ف الكعبة‬
‫حامة من عيدان‪ ،‬فكسرها بيده‪ ،‬وأمر بالصور فمحيت‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يصلي ف الكعبة ث يطب أمام قريش‬

‫ث أغلق عليه الباب‪ ،‬وعلى أسامة وبلل‪ ،‬فاستقبل الدار الذي يقابل الباب حت إذا كان بينه وبينه ثلثة‬
‫أذرع وقف‪ ،‬وجعل عمودين عن يساره‪ ،‬وعمودا عن يينه‪ ،‬وثلثة أعمدة وراءه ـ وكان البيت يومئذ‬
‫على ستة أعمدة ـ ث صلي هناك‪ .‬ث دار ف البيت‪ ،‬وكب ف نواحيه‪ ،‬ووحد ال‪ ،‬ث فتح الباب‪ ،‬وقريش‬
‫قد ملت السجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضادت الباب وهم تته‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫(ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬صدق وعده‪ ،‬ونصر عبده‪ ،‬وهزم الحزاب وحده‪ ،‬أل كل مأثُرَة أو‬
‫مال أو دم فهو تت قدمي هاتي‪ ،‬إل ِسدَانَة البيت وسِقاية الاج‪ ،‬ألوقتيل الطأ شبه العمد ـ السوط‬
‫والعصا ـ ففيه الدية مغلظة‪ ،‬مائة من البل أربعون منها ف بطونا أولد‪.‬‬
‫يا معشر قريش إن ال قد أذهب عنكم نوة الاهلية وتعظمها بالباء‪ ،‬الناس من آدم‪ ،‬وآدم من تراب ث‬
‫تل هذه الية‪{ :‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم‬
‫عند ال أتقاكم إن ال عليم خبي}‪.‬‬

‫ل تثريب عليكم اليوم‬

‫ث قال‪( :‬يا معشر قريش ما ترون أن فاعل بكم؟) قالوا‪ :‬خيًا‪ ،‬أخ كري وابن أخ كري‪ ،‬قال‪( :‬فإن أقول‬
‫لكم كما قال يوسف لخوته‪{ :‬لَ تَثْرَيبَ عَلَ ْي ُكمُ} اذهبوا فأنتم الطلقاء)‪.‬‬

‫مفتاح البيت إل أهله‬

‫ث جلس رسول ال صلى ال عليه وسلم ف السجد فقام إليه علي رضي ال عنه ومفتاح الكعبة ف يده‬
‫فقال‪ :‬اجع لنا الجابة مع السقاية‪ ،‬صلى ال عليك ـ وف رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬أين عثمان بن طلحة؟)‪ .‬فدعي له‪ ،‬فقال له‪( :‬هاك مفتاحك يا عثمان‪،‬‬
‫اليوم يوم بر ووفاء)‪ ،‬وف رواية ابن سعد ف الطبقات أنه قال له حي دفع الفتاح إليه‪( :‬خذوها خالدة‬
‫تالدة‪ ،‬ل ينعها منكم إل ظال‪ ،‬يا عثمان إن ال استأمنكم على بيته‪ ،‬فكلوا ما يصل إليكم من هذا البيت‬
‫بالعروف)‪.‬‬

‫بلل يؤذن على الكعبة‬

‫وحانت الصلة‪ ،‬فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بلل أن يصعد فيؤذن على الكعبة‪ ،‬وأبو سفيان بن‬
‫حرب‪ ،‬وعتاب بن أسيد‪ ،‬والارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة‪ ،‬فقال عتاب‪ :‬لقد أكرم ال أسيدا أل‬
‫يكون سع هذا‪ ،‬فيسمع منه ما يغيظه‪ .‬فقال الارث‪ :‬أما وال لو أعلم أنه حق لتبعته‪ .‬فقال أبو سفيان‪ :‬أما‬
‫وال ل أقول شيئًا‪ ،‬لو تكلمت لخبت عن هذه الصباء‪ .‬فخرج عليهم النب صلى ال عليه وسلم فقال‬
‫لم‪( :‬لقد علمت الذي قلتم) ث ذكر ذلك لم‪.‬‬

‫فقال الارث وعتاب‪ :‬نشهد أنك رسول ال‪ ،‬وال ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبك‪.‬‬

‫صلة الفتح أو صلة الشكر‬

‫ودخل رسول ال صلى ال عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أب طالب‪ ،‬فاغتسل وصلى ثان ركعات ف‬
‫بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صلة الضحى‪ ،‬وإنا هذه صلة الفتح‪ ،‬وأجارت أم هانئ حوين‬
‫لا‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)‪ ،‬وقد كان أخوها علي بن أب‬
‫طالب أراد أن يقتلهما‪ ،‬فأغلقت عليهما باب بيتها‪ ،‬وسألت النب صلى ال عليه وسلم فقال لا ذلك‪.‬‬

‫إهدار دم رجال من أكابر الجرمي‬

‫وأهدر رسول ال صلى ال عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر الجرمي‪ ،‬وأمر بقتلهم وإن وجدوا‬
‫تت أستار الكعبة‪ ،‬وهم عبد العزى بن خطل‪ ،‬وعبدال بن سعد بن أب سرح‪ ،‬وعكرمة بن أب جهل‪،‬‬
‫والارث بن نفيل بن وهب‪ ،‬ومقيس بن صبابة‪ ،‬وهبار بن السود‪ ،‬وقينتان كانتا لبن الخطل‪ ،‬كانت‬
‫تغنيان بجو النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسارة مولة لبعض بن عبد الطلب‪ ،‬وهي الت وجد معها كتاب‬
‫حاطب‪.‬‬

‫فأما ابن أب سرح فجاء به عثمان إل النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وشفع فيه‪ ،‬فحقن دمه‪ ،‬وقبل إسلمه بعد‬
‫أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله‪ ،‬وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر‪ ،‬ث ارتد ورجع‬
‫إل مكة‪.‬‬

‫وأما عكرمة بن أب جهل‪ ،‬ففر إل اليمن‪ ،‬فاستأمنت له امرأته‪ ،‬فأمنه النب صلى ال عليه وسلم فتبعته‪،‬‬
‫فرجع معها وأسلم وحسن إسلمه‪.‬‬

‫وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة‪ ،‬فجاء رجل إل النب صلى ال عليه وسلم وأخبه‪ ،‬فقال‪( :‬‬
‫اقتله) فقتله‪.‬‬

‫وأما مقيس بن صبابة فقتله نيلة بن عبدال‪ ،‬وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك‪ ،‬ث عدا على رجل من‬
‫النصار فقتله‪ ،‬ث ارتد ولق بالشركي‪.‬‬

‫وأما الارث فكان شديد الذى لرسول ال بكة‪ ،‬فقتله علي‪.‬‬

‫وأما هبار بن السود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم حي هاجرت‪،‬‬
‫فنخس با حت سقطت على صخرة وأسقطت جنينها‪ ،‬ففر هبار يوم مكة ث أسلم وحسن إسلمه‪.‬‬

‫وأما القينتان فقتلت إحداها‪ ،‬واستؤمن للخرى فأسلمت‪ ،‬كما استؤمن لسارة وأسلمت‪.‬‬
‫قال ابن حجر‪ :‬وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الارث بن طلطل الزاعي‪ ،‬قتله على‪ .‬وذكر الاكم‬
‫أيضا من أهدر دمه كعب بن زهي‪ ،‬وقصته مشهورة‪ ،‬وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح‪ ،‬ووحشي بن‬
‫حرب‪ ،‬وهند بنت عتبة امرأه أب سفيان‪ ،‬وقد أسلمت‪ ،‬وأرنب موله ابن خطل أيضا قتلت‪ ،‬وأم سعد‬
‫قتلت‪ ،‬فيما ذكر ابن إسحاق‪ ،‬فكملت العدة ثامنية رجال وست نسوة‪ ،‬ويتمل أن تكون أرنب وأم سعد‬
‫القينتان‪ ،‬أختلف ف اسهما أو باعتبار الكنية واللقب‪.‬‬

‫إسلم صفوان بن أمية‪ ،‬وفضالة بن عمي‬

‫ل يكن صفوان من أهدر دمه‪ ،‬لكنه بصفته زعيما كبيا من زعماء قريش خاف على نفسه وفر‪ ،‬فاستأمن‬
‫له عمي بن وهب المحي رسول ال صلى ال عليه وسلم فأمنه‪ ،‬وأعطاه عمامته الت دخل با مكة‪،‬‬
‫فلحقة عمي وهو يريد أن يركب البحر من جدة إل اليمن فرده‪ ،‬فقال لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫اجعلن باليار شهرين‪ .‬قال (أنت باليار أربعة أشهر) ث أسلم صفوان‪ ،‬وقد كانت امرأته أسلمت قبله‪،‬‬
‫فأقرها على النكاح الول‪.‬‬

‫وكان فضالة رجلً جريئا جاء إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو ف الطواف؛ ليقتله‪ ،‬فأخب الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم با ف نفسه فأسلم‪.‬‬

‫خطبة الرسول صلى ال عليه وسلم الثان من الفتح‪:‬‬

‫ولا كان الغد من يوم الفتح قام رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الناس خطيبا‪ ،‬فحمد ال‪ ،‬وأثن عليه‪،‬‬
‫ومده با هو أهله‪ ،‬ث قال‪( :‬أيها الناس‪ ،‬إن ال حرم مكة يوم خلق السموات والرض‪ ،‬فهي حرام برمة‬
‫ال إل يوم القيامة‪ ،‬فل يل لمرئ يؤمن بال واليوم الخر أن يسفك فيها دما‪ ،‬أو يعضد با شجرة‪ ،‬فإن‬
‫أحد ترخص لقتال رسول ال صلى ال عليه وسلم فقولوا‪ :‬إن ال أذن لرسولة ول يأذن لكم‪ ،‬وإنا حلت‬
‫ل ساعة من نار‪ ،‬وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالمس‪ ،‬فليبلغ الشاهد الغائب)‪.‬‬

‫وف رواية‪( :‬ل يعضد شوكه‪ ،‬ول ينفر صيده ول تلتقط ساقطته إل من عرفها‪ ،‬ول يتلى خله)‪ ،‬فقال‬
‫العباس‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إل الذخر‪ ،‬فإنه لقينهم وبيوتم‪ ،‬فقال‪( :‬إل الذخر)‪.‬‬

‫وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجل من بن ليث بقتيل لم ف الاهلية‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بذا الصدد‪( :‬يا معشر خزاعة‪ ،‬ارفعو أيديكم عن القتل‪ ،‬فلقد كثر القتل إن نفع‪ ،‬ولقد قتلتم قتيال لدينه‪،‬‬
‫فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بي النظرين‪ ،‬إن شاءوا فدم قاتله‪ ،‬وإن شاءوا فعقله)‪.‬‬
‫وف رواية‪ :‬فقام رجل من أهل اليمن يقال له‪ :‬شاه فقال‪ :‬اكتب ل يا رسول ال‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪( :‬اكتبو لب شاه)‪.‬‬

‫توف النصار من بقاء الرسول صلى ال عليه وسلم ف مكة‬

‫ولا ت فتح مكة على الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وهي بلده ووطنه ومولده ‪ -‬قال النصار فيما‬
‫بينهم‪ :‬أترون رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ فتح ال عليه أرضه وبلده أن يقيم با ‪ -‬وهو يدعو على‬
‫الصفا رافعا يديه ‪ -‬فلما فرغ من دعائة قال‪( :‬ماذا قلتم؟) قالوا‪ :‬ل شيء يا رسول ال‪ ،‬فلم يزل بم حت‬
‫أخبوه‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬معاذ ال‪ ،‬الحيا مياكم‪ ،‬والمات ماتكم)‪.‬‬

‫أخذ البيعة‬

‫وحي فتح ال مكة على رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمي‪ ،‬تبي لهل مكة الق‪ ،‬وعلموا أن ل‬
‫سبيل إل النجاح إل السلم‪ ،‬فأذعنوا له‪ ،‬واجتمعوا للبيعة‪ ،‬فجلس رسول ال صلى ال عليه وسلم على‬
‫الصفا يبايع الناس‪ ،‬وعمر بن الطاب أسفل منه‪ ،‬يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما‬
‫استطاعوا‪.‬‬

‫وف الدارك‪ :‬روى أن النب صلى ال عليه وسلم لا فرغ من بيعة الرجال أخذ ف بيعة النساء‪ ،‬وهو على‬
‫الصفا‪ ،‬وعمر قاعد أسفل منه‪ ،‬يبايعهن بأمره‪ ،‬ويبلغهن عنه‪ ،‬فجاءت هند بنت عتبة امرأة أب سفيان‬
‫متنكرة‪ ،‬خوفا من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يعرفها؛ لا صنعت بمزة‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم (أبايعكن على أل تشركن بال شيئا)‪ ،‬فبايع عمر النساء على أل يشركن بال شيئا فقال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬ول تسرقن) فقالت هند‪ :‬إن أبا سفيان رجل شحيح‪ ،‬فإن أنا أصبت من ماله‬
‫هنات؟ فقال أبو سفيان‪ :‬وما أصبت فهو لك حلل‪ ،‬فضحك رسول ال صلى ال عليه وسلم وعرفها‪،‬‬
‫فقال‪( :‬وإنك لند؟) قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فاعف عما سلف يا نب ال‪ ،‬عفا ال عنك‪.‬‬

‫فقال‪( :‬ول يزني)‪ .‬فقالت‪ :‬أو تزن الرة؟‬

‫فقال‪( :‬ول يقتلن أولدهن)‪ .‬فقالت‪ :‬ربيناهم صغارا‪ ،‬وقتلناهم كبارا‪ ،‬فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها‬
‫حنظلة بن أب سفيان قد قتل يوم بدرـ فضحك عمر حت استلقى فتبسم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫قال‪( :‬ول يأتي ببهتان) فقالت‪ :‬وال إن البهتان لمر قبيح وما تأمرنا إل بالرشد ومكارم الخلق‪.‬‬
‫فقال‪( :‬ول يعصينك ف معروف) فقالت‪ :‬وال ما جلسنا ملسنا هذا وف أنفسنا أن نعصيك‪.‬‬

‫ولا رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول‪ :‬كنا منك ف غرور‪.‬‬

‫وف الصحيح‪ :‬جاءت هند بنت عتبة فقالت‪ :‬يا رسول ال ما كان على ظهر الرض من أهل خباء أحب‬
‫إل أن يذلوا من أهل خبائك‪ ،‬ث ما أصبح اليوم على ظهر الرض أهل خباء أحب إل أن يغزوا من أهل‬
‫خبائك‪ .‬قال‪( :‬وأيضا‪ ،‬والذي نفسي بيده) قالت‪ :‬يا رسول ال‪،‬له إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي‬
‫حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال‪( :‬ل أره إل بالعروف)‪.‬‬

‫إقامته صلى ال عليه وسلم بكة وعمله فيها‬

‫وأقام رسول ال صلى ال عليه وسلم بكة تسعة عشر يومًا يدد معال السلم‪ ،‬ويرشد الناس إل الدى‬
‫والتقى‪ ،‬وخلل هذه اليام أمر أبا أسيد الزاعي‪ ،‬فجدد أنصاب الرم‪ ،‬وبث سراياه للدعوة إل السلم‪،‬‬
‫ولكسر الوثان الت كانت حول مكة‪ ،‬فكسرت كلها‪ ،‬ونادى مناديه بكة‪ :‬من كان يؤمن بال واليوم‬
‫الخر فل يدع ف بيته صنما إل كسره‪.‬‬

‫السرايا والبعوث‬

‫‪1‬ـ ولا اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الفتح بعث خالد بن الوليد إل العزى لمس ليال‬
‫بقي من شهر رمضان ـ سنة ‪ 8‬هـ ـ ليهدمها وكانت بنخلة‪ ،‬وكانت لقريش وجيع بن كنانة وهي‬
‫أعظم أصنامهم‪ .‬وكان سدنتها بن شيبان‪ ،‬فخرج إليها خالد ف ثلثي فارسًا حت انتهى إليها‪ ،‬فهدمها‪ .‬ولا‬
‫رجع إليها سأله رسول ال صلى ال عليه وسلم (هل رأيت شيئا؟) قال ‪ :‬ل قال‪( :‬فإنك ل تدمها فارجع‬
‫إليها فاهدمها) فرجع خالد متغيظًا قد جرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس فجعل‬
‫السادن يصيح با‪ ،‬فضربا خالد فجزلا باثنتي‪ ،‬ث رجع إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخبه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(نعم‪ ،‬تلك العزى‪ ،‬وقد أيست أن تعبد ف بلدكم أبدا)‪.‬‬

‫‪2‬ـ ث بعث عمرو بن العاص ف نفس الشهر إل سواع ليهدمه وهو صنم لذيل برهاط‪ ،‬على قرابة‬
‫‪ 150‬كيلوا مترا شال شرقي مكة‪ ،‬فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن‪ :‬ما تريد؟ قال‪ :‬أمرن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم أن أهدمه قال‪ :‬ل تقدر على ذلك قال‪ :‬ل ؟ قال تنع قال‪ :‬حت الن أنت على‬
‫الباطل؟ ويك فهل يسمع أو يبصر؟ ث دنا فكسره‪ ،‬وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته فلم يدوا فيه شيئا‪،‬‬
‫ث قال للسادن‪ :‬كيف رأيت؟ قال‪ :‬أسلمت ل‪.‬‬
‫‪3‬ـ وف الشهر نفسه بعث سعد بن زيد بن الشهلي ف عشرين فارسًا إل مناة وكانت بالشلل عند قديد‬
‫للوس والزرج وغسان وغيهم‪ ،‬فلما انتهى سعد إليها قال له سادنا‪ :‬ما تريد؟ قال‪ :‬هدم مناة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنت وذاك‪ ،‬فأقبل إليها سعد‪ ،‬وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس‪ ،‬تدعو بالويل‪ ،‬وتضرب صدرها‪،‬‬
‫فقال لا السادن‪ :‬مناة دونك بعض عصاتك‪ .‬فضربا سعد فقتلها‪ ،‬وأقبل إل الصنم فهدمه وكسره‪ ،‬ول‬
‫يدوا ف خزانته شيئًا‪.‬‬

‫‪4‬ـ ولا رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول ال صلى ال عليه وسلم ف شوال من نفس‬
‫السنة ـ ‪8‬هـ ـ إل بن جذية داعيا إل السلم ل مقاتل فخرج ف ثلثائة وخسي رجل من‬
‫الهاجرين والنصار وبن سليم‪ ،‬فانتهى إليهم فدعاهم إل السلم فلم يسنوا أن يقولوا‪ :‬أسلمنا‪ ،‬فجعلوا‬
‫يقولون‪ :‬صبأنا‪ ،‬صبأنا‪ .‬فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم ودفع إل كل رجل من كان معه أسيًا‪ ،‬فأمر يومًا أن‬
‫يقتل كل رجل أسيه فأب ابن عمر وأصحابه حت قدموا على النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فذكروا له‪،‬‬
‫فرفع صلى ال عليه وسلم يديه وقال ‪( :‬اللهم إن أبرأ إليك ما صنع خالدًا) مرتي‪.‬‬

‫وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون الهاجرين والنصار وبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫عليًا فودى لم قتلهم وما ذهب منهم وكان بي خالد وعبد الرحن بن عوف كلم وشر ف ذلك فبلغ‬
‫النب صلى ال عليه وسلم فقال‪( :‬مهل يا خالد‪ ،‬دع عنك أصحاب‪ ،‬فوال لو كان أحد ذهبا‪ ،‬ث أنفقته ف‬
‫سبيل ال ما أدركت غدوة رجل من أصحاب ول روحته)‪.‬‬

‫تلك هي غزوة فتح مكة‪ ،‬وهي العركة الفاصلة والفتح العظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باتًا‪،‬‬
‫ول يترك لبقائها مال ول مبرا ف ربوع الزيرة العربية‪ ،‬فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه‬
‫العراك والصطدام الذي كان دائرًا بي السلمي والوثنيي وكانت تلك القبائل تعرف جيدا أن الرم ل‬
‫يسيطر عليه إل من كان على الق وكان قد تأكد لديهم هذا العتقاد الازم أي تأكد قبل نصف القرن‬
‫حي قصد أصحاب الفيل هذا البيت فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول‪.‬‬

‫وكان صلح الديبية مقدمة وتوطئة بي يدي هذا الفتح العظيم‪ ،‬أمن الناس به وكلم بعضهم بعضًا‪ ،‬وناظره‬
‫ف السلم‪ ،‬وتكن من اختفى من السلمي بكة من إظهار دينه والدعوة إليه والناظرة عليه‪ ،‬ودخل بسببه‬
‫كثي ف السلم‪ ،‬حت إن عدد اليش السلمي الذي ل يزد ف الغزوات السالفة على ثلث آلف إذا هو‬
‫يزخر ف هذه الغزوة ف عشرة آلف‪.‬‬
‫وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعي الناس وأزالت عنها آخر الستور الت كانت تول بينها وبي السلم‬
‫وبذا الفتح سيطر السلمون على الوقف السياسي والدين كليهما معا ف طول جزيرة العرب وعرضها‪،‬‬
‫فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية‪.‬‬

‫فالطور الذي كان قد بدأ بعد صلح الديبية لصال السلمي قد ت وكمل بذا الفتح البي‪ ،‬وبدأ بعد ذلك‬
‫طور آخر كان لصال السلمي تامًا‪ ،‬وكان لم فيه السيطرة على الوقف تامًا‪ .‬ول يبق لقوام العرب إل‬
‫أن يفدوا إل رسول ال صلى ال عليه وسلم فيعتنقوا السلم ويملوا دعوته إل العال‪ ،‬وقد ت استعدادهم‬
‫لذلك ف سنتي آتيتي‪.‬‬
‫الرحلة الثالثة‬

‫وهي آخر مرحلة من مراحل حياة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ .‬تثل النتائج الت أثرتا دعوته السلمية‬
‫بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلقل وفت واضطرابات ومعارك وحروب دامية واجهتها طيلة بضعة‬
‫وعشرين عامًا‪.‬‬

‫وكان فتح مكة هو أعظم فتح حصل عليه السلمون ف هذه العوام‪ ،‬تغي لجله مرى اليام‪ ،‬وتول به‬
‫جو العرب‪ ،‬فقد كان الفتح حدًا فاصل بي السابقة عليه وبي ما بعده‪ ،‬فإن قريشًا كانت ف نظر العرب‬
‫حاة الدين وأنصاره‪ ،‬والعرب ف ذلك تبع لم‪ ،‬فخضوع قريش يعتب القضاء الخي على الدين الوثن ف‬
‫جزيرة العرب‪.‬‬

‫ويكن أن نقسم هذه الرحلة إل صفحتي‪:‬‬

‫‪1‬ـ صفحة الجاهدة والقتال‪.‬‬

‫‪2‬ـ صفحة تسابق الشعوب والقبائل إل اعتناق السلم‪.‬‬

‫وهاتان الصفحتان متلصقتان تناوبتا ف هذه الرحلة‪ ،‬ووقعت كل واحدة منهما خلل الخرى إل أنا‬
‫اخترنا ف الترتيب الوضعي أن نأت على ذكر كل من الصفحتي متميزة عن الخرى‪ ،‬ونظرًا إل صفحة‬
‫القتال ألصق با مضى‪ ،‬وأكثر مناسبة من الخرى قدمناها ف الترتيب‪.‬‬

‫ولا أجع القائد العام ـ مالك بن عوف ـ السي إل حرب السلمي‪ ،‬ساق مع الناس أموالم ونساءهم‬
‫وأبناءهم‪ ،‬فسار حت نزل بأ ْوطَاس ـ وهو واد ف دار هَوَازِن بالقرب من حُنَيْن‪ ،‬لكن وادي أوطاس غي‬
‫وادي حني‪ ،‬وحني واد إل جنب ذي الجَاز‪ ،‬بينه وبي مكة بضعة عشر ميلً من جهة عرفات‪.‬‬

‫ُمجَرّب الروب ُيغَلّط رأي القائد‬


‫ولا نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس‪ ،‬وفيهم دُ َرْيدُ بن الصّ ّمةِ ـ وهو شيخ كبي‪ ،‬ليس فيه إل رأيه ومعرفته‬
‫بالرب وكان شجاعا مربا ـ قال دريد‪ :‬بأي واد أنتم؟ قالوا‪ :‬بأوطاس‪ ،‬قال‪ :‬نعم َمجَالُ اليل‪ ،‬ل َح ْزنٌ‬
‫ضَرسٌ ‪ ،‬ول سَ ْهلٌ دَهِس‪ ،‬مإل أسع رُغَاء البعي‪ ،‬ونُهَاق المي‪ ،‬وبُكَاء الصب‪ ،‬وثُغَاء الشاء؟ قالوا‪ :‬ساق‬
‫مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالم وأبناءهم‪ ،‬فدعا مالكا وسأله عما حله على ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬أردت‬
‫أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم‪ ،‬فقال‪ :‬راعي ضأن واللّه‪ ،‬وهل يرد النهزم شيء؟ إنا إن‬
‫ضحْتَ ف أهلك ومالك‪ ،‬ث سأل عن بعض‬
‫كانت لك ل ينفعك إل رجل بسيفه ورمه‪ ،‬وإن كانت عليك فُ ِ‬
‫البطون والرؤساء‪ ،‬ث قال‪ :‬يا مالك‪ ،‬إنك ل تصنع بتقدي بَيْضَة هوازن إل نور اليل شيئا‪ ،‬ارفعهم إل‬
‫متنع بلدهم وعلياء قومهم‪ ،‬ث الْقَ الصّبَاة على متون اليل‪ ،‬فإن كانت لك لق بك من وراءك‪ ،‬وإن‬
‫كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزتَ أهلك ومالك‪.‬‬

‫ولكن مالكا ـ القائد العام ـ رفض هذا الطلب قائلً‪ :‬واللّه ل أفعل‪ ،‬إنك قد كبت وكب عقلك‪ ،‬واللّه‬
‫لتطيعن هوازن أو لتّكِئَنّ على هذا السيف حت يرج من ظهري‪ ،‬وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو‬
‫رأي‪ ،‬فقالوا‪ :‬أطعناك‪ .‬فقال دريد‪ :‬هذا يوم ل أشهده ول َيفُتْنِي‪:‬‬

‫ضعْ‬
‫يا ليتنـي فيها جـ َذعْ ** أخُبّ فيها وأ َ‬

‫ص َدعْ‬
‫أقود و ْطفَاءَ ال ّزمَــعْ ** كأنا شـاة َ‬

‫سلح استكشاف العدو‬

‫وجاءت إل مالك عيون كان قد بعثهم للستكشاف عن السلمي‪ ،‬جاءت هذه العيون وقد تفرقت‬
‫أوصالم‪ ،‬قال‪ :‬ويلكم‪ ،‬ما شأنكم؟ قالوا‪ :‬رأينا رجالً بيضا على خيل بُلْق‪ ،‬وال ما تاسكنا أن أصابنا ما‬
‫تري‪.‬‬

‫سلح استكشاف رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬

‫ونقلت الخبار إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بسي العدو‪ ،‬فبعث أبا َحدْرَد السلمي‪ ،‬وأمره أن‬
‫يدخل ف الناس‪ ،‬فيقيم فيهم حت يعلم علمهم‪ ،‬ث يأتيه ببهم‪ ،‬ففعل‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يغادر مكة إل حني‬


‫وف يوم السبت ـ السادس من شهر شوال سنة ‪ 8‬هـ ـ غادر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم مكةـ‬
‫وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله ف مكة ـ خرج ف اثن عشر ألفا من السلمي ؛ عشرة‬
‫آلف من كانوا خرجوا معه لفتح مكة‪ ،‬وألفان من أهل مكة‪ .‬وأكثرهم حديثو عهد بالسلم واستعار من‬
‫صفوان بن أمية مائة درع بأداتا‪ ،‬واستعمل على مكة عَتّاب بن أسيد‪.‬‬

‫ولا كان عشية جاء فارس‪ ،‬فقال‪ :‬إن طلعت جبل كذا وكذا‪ ،‬فإذا أنا بوازن على بكرة آبائهم بِ ُظعُنِهم‬
‫وَنعَمِهم وشائهم اجتمعوا إل حني‪ ،‬فتبسم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وقال‪( :‬تلك غنيمة السلمي‬
‫غدًا إن شاء اللّه)‪ ،‬وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أب مَ ْرثَد الغَنَوي‪.‬‬

‫وف طريقهم إل حني رأوا ِسدْرَة عظيمة خضراء يقال لا‪ :‬ذات أنْوَاط‪ ،‬كانت العرب تعلق عليها‬
‫أسلحتهم‪ ،‬ويذبون عندها ويعكفون‪ ،‬فقال بعض أهل اليش لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ :‬اجعل لنا‬
‫ذات أنواط‪ ،‬كما لم ذات أنواط‪ .‬فقال‪( :‬اللّه أكب‪ ،‬قلتم والذي نفس ممد بيده كما قال قوم موسي‪:‬‬
‫اجعل لنا إلا كما لم آلة‪ ،‬قال‪ :‬إنكم قوم تهلون‪ ،‬إنا السّنَنُ‪ ،‬لتركب سََننَ من كان قبلكم)‪.‬‬

‫وقد كان بعضهم قال نظرا إل كثرة اليش‪ :‬لن ُنغْلَبَ اليوم‪ ،‬وكان قد شق ذلك على رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم‪:‬‬

‫ت بالرماة والهاجي‬
‫اليش السلمي يُباغَ ْ‬
‫انتهي اليش السلمي إل حني‪ ،‬الليلة الت بي الثلثاء والربعاء لعشر خلون من شوال‪ ،‬وكان مالك بن‬
‫عوف قد سبقهم‪ ،‬فأدخل جيشه بالليل ف ذلك الوادي‪ ،‬وفرق كُمَنَاءه ف الطرق والداخل والشعاب‬
‫والخباء والضايق‪ ،‬وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا السلمي أول ما طلعوا‪ ،‬ث يشدوا شدة رجل واحد‪.‬‬

‫سحَر عبأ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم جيشه‪ ،‬وعقد اللوية والرايات‪ ،‬وفرقها على الناس‪ ،‬وف‬
‫وبال ّ‬
‫عَمَاية الصبح استقبل السلمون وادي حني‪ ،‬وشرعوا ينحدرون فيه‪ ،‬وهم ل يدرون بوجود كمناء العدو‬
‫ف مضايق هذا الوادي‪ ،‬فبينا هم ينحطون إذا تطر عليهم النبال‪ ،‬وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة‬
‫رجل واحد‪ ،‬فانشمر السلمون راجعي‪ ،‬ل يلوي أحد على أحد‪ ،‬وكانت هزية منكرة‪ ،‬حت قال أبو‬
‫سفيان بن حرب‪ ،‬وهو حديث عهد بالسلم‪ :‬ل تنتهي هزيتهم دون البحر ـ الحر ـ وصرخ جَبَ َلةُ أو‬
‫سحْر اليوم‪.‬‬
‫كَ َل َدةُ بن الَنْبَل‪ :‬أل بطل ال ّ‬
‫واناز رسول اللّه صلى ال عليه وسلم جهة اليمي وهو يقول‪( :‬هَ ُلمّوا إل أيها الناس‪ ،‬أنا رسول ال‪ ،‬أنا‬
‫ممد بن عبد اللّه) ول يبق معه ف موقفه إل عدد قليل من الهاجرين والنصار‪ .‬تسعة على قول ابن‬
‫إسحاق‪ ،‬واثنا عشر على قول النووي‪ ،‬والصحيح ما رواه أحد والاكم ف الستدرك من حديث ابن‬
‫مسعود‪ ،‬قال‪ :‬كنت مع النب صلى ال عليه وسلم يوم حني‪ ،‬فول عنه الناس وثبت معه ثانون رجلًمن‬
‫الهاجرين والنصار‪ ،‬فكنا على أقدامنا ول نُ َولّهم ال ّدبُر‪ ،‬وروي الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن‬
‫قال‪ :‬لقد رأيتنا يوم حني وإن الناس لولي‪ ،‬وما مع رسول اللّه صلى ال عليه وسلممائة رجل‪.‬‬

‫وحينئذ ظهرت شجاعة النب صلى ال عليه وسلم الت ل نظي لا‪ ،‬فقد طفق يركض بغلته قبل الكفار وهو‬
‫يقول‪:‬‬

‫(أنــا النب ل َك ِذبْ ** أنا ابن عبد الطلب)‬

‫بيد أن أبا سفيان بن الارث كان آخذا بلجام بغلته‪ ،‬والعباس بركابه‪ ،‬يكفانا أل تسرع‪ ،‬ث نزل رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم فاستنصر ربه قائلً‪( :‬اللّهم أنزل نصرك)‪.‬‬

‫رجوع السلمي واحتدام العركة‬


‫وأمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عمه العباس ـ وكان جَ ِهيَر الصوت ـ أن ينادي الصحابة‪ ،‬قال‬
‫العباس‪ :‬فقلت بأعلى صوت‪ :‬أين أصحاب السّمُرَة؟ قال‪ :‬فوال لكأن َع ْطفَتَهُم حي سعوا صوت َع ْطفَة‬
‫البقر على أولدها‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا لبيك‪ ،‬يا لبيك‪ .‬ويذهب الرجل ليثن بعيه فل يقدر عليه‪ ،‬فيأخذ درعه‪،‬‬
‫فيقذفها ف عنقه‪ ،‬ويأخذ سيفه وترسه‪ ،‬ويقتحم عن بعيه‪ ،‬ويلي سبيله‪ ،‬فيؤم الصوت‪ ،‬حت إذا اجتمع إليه‬
‫منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا‪.‬‬

‫وصرفت الدعوة إل النصار‪ :‬يا معشر النصار‪ ،‬يا معشر النصار‪ ،‬ث قصرت الدعوة ف بن الارث بن‬
‫الزرج‪ ،‬وتلحقت كتائب السلمي واحدة تلو الخري كما كانوا تركوا الوقعة‪ ،‬وتالد الفريقان مالدة‬
‫شديدة‪ ،‬ونظر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إل ساحة القتال‪ ،‬وقد استحر واحتدم‪ ،‬فقال‪( :‬الن حَمِي‬
‫ال َوطِيسُ)‪ .‬ث أخذ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قبضة من تراب الرض‪ ،‬فرمي با ف وجوه القوم‬
‫وقال‪( :‬شاهت الوجوه)‪ ،‬فما خلق اللّه إنسانا إل ملعينيه ترابا من تلك القبضة‪ ،‬فلم يزل َحدّهُم كَلِيلً‬
‫وأمرهم ُمدْبِرًا‪.‬‬
‫انكسار حدة العدو وهزيته الساحقة‬
‫وما هي إل ساعات قلئل ـ بعد رمي القبضة ـ حت انزم العدو هزية منكرة‪ ،‬وقتل من ثَقِيف وحدهم‬
‫نو السبعي‪ ،‬وحاز السلمون ما كان مع العدو من مال وسلح و ُظعُن‪.‬‬

‫وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعال ف قوله‪َ { :‬ويَ ْومَ حُنَيْنٍ إِذْ أَ ْعجَبَتْ ُكمْ كَ ْث َرتُ ُكمْ فَ َلمْ تُغْنِ عَن ُكمْ‬
‫شَيْئًا وَضَا َقتْ َعلَيْ ُكمُ الَ ْرضُ بِمَا َرحُبَتْ ُثمّ َولّيْتُم ّمدْبِرِينَ ثُمّ َأنَزلَ ال ّلهُ َسكِينََتهُ َعلَى َرسُولِهِ وَعَلَى الْمُ ْؤمِنِيَ‬
‫َوأَن َزلَ ُجنُودًا ّلمْ تَرَوْهَا وَع ّذبَ اّلذِينَ كَفَرُواْ وَ َذِلكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [التوبة‪]26 ،25:‬‬

‫حركة الطاردة‬
‫ولا انزم العدو صارت طائفة منهم إل الطائف‪ ،‬وطائفة إل َنخْلَة‪ ،‬وطائفة إل أوْطاس‪ ،‬فأرسل النب صلى‬
‫ش الفريقان القتال قليلً ‪،‬‬
‫ال عليه وسلم إل أوطاس طائفة من الطاردين يقودهم أبو عامرالشعري‪ ،‬فَتَنَا َو َ‬
‫ث انزم جيش الشركي‪ ،‬وف هذه الناوشة قتل القائد أبو عامر الشعري‪.‬‬

‫وطاردت طائفة أخري من فرسان السلمي فلول الشركي الذين سلكوا نلة‪ ،‬فأدركت ُد َرْيدَ بن الصّمّة‬
‫فقتله ربيعة بن رُفَيْع‪.‬‬

‫وأما معظم فلول الشركي الذين لأوا إل الطائف‪ ،‬فتوجه إليهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بنفسه‬
‫بعد أن جع الغنائم‪.‬‬

‫الغنائم‬
‫وكانت الغنائم‪ :‬السب ستة آلف رأس‪ ،‬والبل أربعة وعشرون ألفا ‪ ،‬والغنم أكثر من أربعي ألف شاة‪،‬‬
‫لعْرَانَة‪ ،‬وجعل عليها‬
‫وأربعة آلف أوقية فضة‪ ،‬أمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بمعها‪ ،‬ث حبسها با ِ‬
‫مسعود بن عمرو الغفاري‪ ،‬ول يقسمها حت فرغ من غزوة الطائف‪.‬‬

‫وكانت ف السب الشيماء بنت الارث السعدية ؛ أخت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من الرضاعة‪،‬‬
‫فلما جيء با إل رسول ال صلى ال عليه وسلم عرفت له نفسها‪ ،‬فعرفها بعلمة فأكرمها‪ ،‬وبسط لا‬
‫رداءه‪ ،‬وأجلسها عليه‪ ،‬ث منّ عليها‪ ،‬وردّها إل قومها‪.‬‬
‫غزوة الطائف‬
‫وهذه الغزوة ف القيقة امتداد لغزوة حني‪ ،‬وذلك أن معظم فلول َهوَازن وَثقِيف دخلوا الطائف مع القائد‬
‫العام ـ مالك بن عوف النّصْرِي ـ وتصنوا با‪ ،‬فسار إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد فراغه‬
‫من حني وجع الغنائم بالعرانة‪ ،‬ف الشهر نفسه ـ شوال سنة ‪ 8‬هـ‪.‬‬

‫وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة ف ألف رجل‪ ،‬ث سلك رسول اللهصلى ال عليه وسلم إل‬
‫الطائف‪ ،‬فمر ف طريقه على نلة اليمانية‪ ،‬ث على قَ ْرنِ النازل‪ ،‬ث على لِّيةَ‪ ،‬وكان هناك حصن لالك بن‬
‫عوف فأمر بدمه‪ ،‬ث واصل سيه حت انتهي إل الطائف فنل قريبا من حصنه‪ ،‬وعسكر هناك‪ ،‬وفرض‬
‫الصار على أهل الصن‪.‬‬

‫ودام الصار مدة غي قليلة‪ ،‬ففي رواية أنس عند مسلم‪ :‬أن مدة حصارهم كانت أربعي يوما‪ ،‬وعند أهل‬
‫السي خلف ف ذلك‪ ،‬فقيل‪ :‬عشرين يوما‪ ،‬وقيل‪ :‬بضعة عشر‪ ،‬وقيل‪ :‬ثانية عشر‪ ،‬وقيل‪ :‬خسة عشر‪.‬‬

‫ووقعت ف هذه الدة مراماة‪ ،‬ومقاذفات‪ ،‬فالسلمون أول ما فرضوا الصار رماهم أهل الصن رميا‬
‫شديدا‪ ،‬كأنه ِرجْل جراد‪ ،‬حت أصيب ناس من السلمي براحة‪ ،‬وقتل منهم اثنا عشر رجلً‪ ،‬واضطروا إل‬
‫الرتفاع عن معسكرهم إل مسجد الطائف اليوم‪ ،‬فعسكروا هناك‪.‬‬

‫ونصب النب صلى ال عليه وسلم النجنيق على أهل الطائف‪ ،‬وقذف به القذائف‪ ،‬حت وقعت شدخة ف‬
‫جدار الصن‪ ،‬فدخل نفر من السلمي تت دبابة‪.‬‬

‫ودخلوا با إل الدار ليحرقوه‪ ،‬فأرسل عليهم العدو سكك الديد مماة بالنار‪ .‬فخرجوا من تتها‪،‬‬
‫فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالً‪.‬‬

‫وأمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ـ كجزء من سياسة الرب للاء العدو إل الستسلم ـ أمر‬
‫بقطع العناب وتريقها‪ ،‬فقطعها السلمون قطعا ذريعا‪ ،‬فسألته ثقيف أن يدعها للّه والرحم‪ ،‬فتركها للّه‬
‫والرحم‪.‬‬

‫ونادى مناديه صلى ال عليه وسلم‪ :‬أيا عبد نزل من الصن وخرج إلينا فهو حر‪ ،‬فخرج إليهم ثلثة‬
‫وعشرون رجلً ‪ ،‬فيهم أبو بكرة ـ تسور حصن الطائف‪ ،‬وتدل منه ببكرة مستديرة يستقى عليها‪ ،‬فكناه‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم [أبا بكرة] ـ فأعتقهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودفع كل رجل‬
‫منهم إل رجل من السلمي يونه‪ ،‬فشق ذلك على أهل الصن مشقة شديدة‪.‬‬
‫ولا طال الصار واستعصي الصن‪ ،‬وأصيب السلمون با أصيب من رشق النبال وبسكك الديد الحماة‬
‫ـ وكان أهل الصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لصار سنة ـ استشار رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫نَوْفَل بن معاوية الدّيلي فقال‪ :‬هم ثعلب ف جحر‪ ،‬إن أقمت عليه أخذته وإن تركته ل يضرك‪ ،‬وحينئذ عزم‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم على رفع الصار والرحيل‪ ،‬فأمر عمر بن الطاب فأذن ف الناس‪ ،‬إنا‬
‫قافلون غدا إن شاء اللّه‪ ،‬فثقل عليهم وقالوا‪ :‬نذهب ول نفتحه؟ فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪( :‬‬
‫اغدوا على القتال)‪ ،‬فغدوا فأصابم جراح‪ ،‬فقال‪( :‬إنا قافلون غدا إن شاء اللّه) فسروا بذلك وأذعنوا‪،‬‬
‫وجعلوا يرحلون‪ ،‬ورسول اللّه صلى ال عليه وسلم يضحك‪.‬‬

‫ولا ارتلوا واستقلوا قال‪ :‬قولوا‪( :‬آيبون تائبون عابدون‪ ،‬لربنا حامدون)‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬يا رسول اللّه‪ ،‬ادع على ثقيف‪ ،‬فقال‪( :‬اللّهم اهد ثقيفا‪ ،‬وائت بم)‪.‬‬

‫لعْرَانَة‬
‫قسمة الغنائم با ِ‬

‫ولا عاد رسول اللْه صلى ال عليه وسلم بعد رفع الصار عن الطائف مكث بالعرانة بضع عشرة ليلة ل‬
‫يقسم الغنائم‪ ،‬ويتأن با‪ ،‬يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبي فيحرزوا ما فقدوا‪ ،‬ولكنه ل يئه أحد‪ ،‬فبدأ‬
‫بقسمة الال‪ ،‬ليسكت التطلعي من رؤساء القبائل وأشراف مكة‪ ،‬فكان الؤلفة قلوبم أول من أعطي‬
‫وحظي بالنصبة الزلة‪.‬‬

‫أعطي أبا سفيان بن حرب أربعي أوقية ومائة من البل‪ ،‬فقال‪ :‬ابن يزيد؟ فأعطاه مثلها‪ ،‬فقال‪ :‬ابن معاوية؟‬
‫فأعطاه مثلها‪ ،‬وأعطي حكيم بن حزام مائة من البل‪ ،‬ث سأله مائة أخري‪ ،‬فأعطاه إياها‪ .‬وأعطي صفوان بن‬
‫أمية مائة من البل‪ ،‬ث مائة ث مائة ـ كذا ف الشفاء ـ وأعطي الارث بن الارث بن كَ َلدَة مائة من‬
‫البل‪ ،‬وكذلك أعطي رجال من رؤساء قريش وغيها مائة مائة من البل وأعطي آخرين خسي خسي‬
‫وأربعي أربعي‪ ،‬حت شاع ف الناس أن ممدا يعطي عطاءً‪ ،‬ما ياف الفقر‪ ،‬فازدحت عليه العراب يطلبون‬
‫الال حت اضطروه إل شجرة‪ ،‬فانتزعت رداءه فقال‪( :‬أيها الناس‪ ،‬ردوا علي ردائي‪ ،‬فو الذي نفسي بيده‬
‫لو كان عندي عدد شجر تامة نعما لقسمته عليكم‪ ،‬ث ما ألفيتمون بيلً ول جبانا ول كذابا)‪.‬‬

‫ث قام إل جنب بعيه فأخذ من سنامه وبرة‪ ،‬فجعلها بي إصبعه‪ ،‬ث رفعها‪ ،‬فقال‪( :‬أيها الناس‪ ،‬واللّه مال‬
‫من فيئكم ول هذه الوبرة إل المس‪ ،‬والمس مردود عليكم)‪.‬‬
‫وبعد إعطاء الؤلفة قلوبم أمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس‪ ،‬ث‬
‫فرضها على الناس‪ ،‬فكانت سهامهم لكل رجل إما أربعا من البل‪ ،‬وإما أربعي شاة‪ ،‬فإن كان فارسا أخذ‬
‫اثن عشر بعيا أو عشرين ومائة شاة‪.‬‬

‫جدُ على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬


‫النصار َت ِ‬
‫كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة‪ ،‬لكنها ل تُفْهَم أول المر‪ ،‬فُأطْلِقتْ ألسنة شت بالعتراض‪.‬‬

‫روى ابن إسحاق عن أب سعيد الدري قال‪ :‬لا أعطي رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ما أعطي من تلك‬
‫العطايا ف قريش وف قبائل العرب‪ ،‬ول يكن ف النصار منها شيء‪َ ،‬و َجدَ هذا الي من النصار ف أنفسهم‬
‫حت كثرت فيهم القَاَلةُ‪ ،‬حت قال قائلهم‪ :‬لقي واللّه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قومه‪ ،‬فدخل عليه‬
‫سعد بن عبادة فقال‪ :‬يا رسول اللّه‪ ،‬إن هذا الي من النصار قد وَ َجدُوا عليك ف أنفسهم لا صنعت ف‬
‫هذا الفيء الذي أصبت‪ ،‬قسمت ف قومك‪ ،‬وأعطيت عطايا عظاما ف قبائل العرب‪ ،‬ول يك ف هذا الي‬
‫من النصار منها شيء‪.‬قال‪( :‬فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال‪ :‬يا رسول اللّه‪ ،‬ما أنا إل من قومي‪ .‬قال‪( :‬‬
‫فاجع ل قومك ف هذه الظية)‪ .‬فخرج سعد فجمع النصار ف تلك الظية‪ ،‬فجاء رجال من الهاجرين‬
‫فتركهم فدخلوا‪ .‬وجاء آخرون فردهم‪ ،‬فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال‪ :‬لقد اجتمع لك هذا الي من‬
‫النصار‪ ،‬فأتاهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فحمد اللّه‪ ،‬وأثن عليه‪ ،‬ث قال‪( :‬يا معشر النصار‪ ،‬ما‬
‫قَالَهٌ بلغتن عنكم‪ ،‬وَ ِج َدةٌ وجدتوها على ف أنفسكم؟ أل آتكم ضللً فهداكم اللّه؟ وعالة فأغناكم اللّه؟‬
‫وأعداء فألف اللّه بي قلوبكم؟) قالـوا‪ :‬بلـي‪ ،‬اللّه ورسولـه أمَنّ وأفْضَلُ‪.‬‬

‫ث قال‪( :‬أل تيبون يا معشر النصار؟) قالوا‪ :‬باذا نيبك يا رسول اللّه؟ للّه ورسوله الن والفضل‪ .‬قال‪( :‬‬
‫صدّقُْتمْ‪ :‬أتيتنا مُ َك ّذبًا فصدقناك‪ ،‬ومذولً فنصرناك‪ ،‬وطريدا فآويناك‪،‬‬
‫صدَقُْتمْ ول ُ‬
‫أما واللّه لو شئتم لقلتم‪ ،‬ف َ‬
‫وعائلً فآ َسيْنَاك)‪.‬‬

‫سلِمُوا‪ ،‬و َوكَلْتُكم إل‬


‫(أوَ َج ْدُتمْ يا معشر النصار ف أنفسكم ف َلعَاعَةٍ من الدنيا تَألفّتُ با قوما ليُ ْ‬
‫إسلمكم؟ أل ترضون يا معشر النصار أن يذهب الناس بالشاة والبعي‪ ،‬وترجعوا برسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم إل رحالكم؟ فوالذي نفس ممد بيده‪ ،‬لول الجرة لكنت امرأ من النصار‪ ،‬ولو سلك الناس‬
‫ِشعْبًا‪ ،‬وسلكت النصار شعبا لسلكت شعب النصار‪ ،‬اللّهم ارحم النصار‪ ،‬وأبناء النصار‪ ،‬وأبناء أبناء‬
‫النصار)‪.‬‬
‫فبكي القوم حت أ ْخضَلُوا ِلحَاهُم وقالوا‪ :‬رضينا برسول اللّه صلى ال عليه وسلم قَسْمًا وحظا‪ ،‬ث انصرف‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتفرقوا‪.‬‬

‫قدوم وفد هوازن‬

‫وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلما‪ ،‬وهم أربعة عشر رجلً ورأسهم زهي ابن صُرَد‪ ،‬وفيهم أبو‬
‫بُرْقَان عم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من الرضاعة‪ ،‬فأسلموا وبايعوا ث قالوا‪ :‬يا رسول اللّه‪ ،‬إن فيمن‬
‫أصبتم المهات والخوات‪ ،‬والعمات والالت‪ ،‬وهن مازي القوام‪:‬‬

‫فامنن علينا رسول اللّه ف كـرم ** فإنـك الرء نرجـوه وننتظر‬

‫امنن على نسوة قد كنت ترضعها ** إذ فوك تلؤه من مضها الدرر‬

‫وذلك ف أبيات‪ .‬فقال‪( :‬إن معي من ترون‪ ،‬وإن أحب الديث إل أصدقه‪ ،‬فأبناؤكم ونساؤكم أحب‬
‫إليكم أم أموالكم؟) قالوا‪ :‬ما كنا نعدل بالحساب شيئا‪ .‬فقال‪( :‬إذا صليت الغداة ـ أي صلة الظهر ـ‬
‫فقوموا فقولوا‪ :‬إنا نستشفع برسول اللّه صلى ال عليه وسلم إل الؤمني‪ ،‬ونستشفع بالؤمني إل رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم أن يرد إلينا سبينا)‪ ،‬فلما صلي الغداة قاموا فقالوا ذلك‪ .‬فقال رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم‪( :‬أما ما كان ل ولبن عبد الطلب فهو لكم‪ ،‬وسأسأل لكم الناس)‪ ،‬فقال الهاجرون‬
‫والنصار‪ :‬ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال القْرَع بن حابس‪ :‬أما أنا وبنو تيم فل‪.‬‬
‫وقال عُيَيْنَة بن ِحصْن‪ :‬أما أنا وبنو فَزَارَة فل‪.‬وقال العباس بن مِرْدَاس‪ :‬أما أنا وبنو سُلَيْم فل‪ .‬فقالت بنو‬
‫سليم‪ :‬ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال العباس بن مرداس‪ :‬وهنتمون‪.‬‬

‫فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن هؤلء القوم قد جاءوا مسلمي‪ ،‬وقد كنت استأنيت سَبَْي ُهمْ‪،‬‬
‫وقد خيتم فلم يعدلوا بالبناء والنساء شيئا‪ ،‬فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل‬
‫ذلك‪ ،‬ومن أحب أن يستمسك بقه فليد عليهم‪ ،‬وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء اللّه‬
‫علينا)‪ ،‬فقال الناس‪ :‬قد طيبنا لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال‪( :‬إنا ل نعرف من رضي منكم من ل‬
‫يرض‪ ،‬فارجعوا حت يرفع إلينا عُرَفَاؤكم أمركم)‪ ،‬فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم‪ ،‬ل يتخلف منهم أحد‬
‫غي عيينة بن حصن‪ ،‬فإنه أب أن يرد عجوزا صارت ف يديه منهم‪ ،‬ث ردها بعد ذلك‪ ،‬وكسا رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم السب قبطية قبطية‪.‬‬

‫العمرة والنصراف إل الدينة‬

‫ولا فرغ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من قسمة الغنائم ف الِعْرَانة أهلّ معتمرا منها‪ ،‬فأدي العمرة‪،‬‬
‫وانصرف بعد ذلك راجعا إل الدينة بعد أن ول على مكة عَتّاب بن أسيد‪ ،‬وكان رجوعه إل الدينة‬
‫ودخوله فيها لست ليال بقيت من ذي القعدة سنة ‪ 8‬هـ‪.‬‬
‫البعوث والسرايا بعد الرجوع من غزوة الفتح‬

‫وبعد الرجوع من هذا السفر الطويل الناجح أقام رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالدينة يستقبل الوفود‪،‬‬
‫ويبعث العمال‪ ،‬ويبث الدعاة‪ ،‬ويَكْبِتُ من بقي فيه الستكبار عن الدخول ف دين اللّه‪ ،‬والستسلم للمر‬
‫الواقع الذي شاهدته العرب‪ .‬وهاك صورة مصغرة من ذلك‪.‬‬

‫الصدقون‬

‫قد عرفنا ما تقدم أن رجوع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إل الدينة كان ف أواخر أيام السنة الثامنة‪،‬‬
‫صدّقي إل‬
‫فما هو إل أن استهل هلل الحرم من سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬وبعث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم الُ َ‬
‫القبائل‪ ،‬وهذه هي قائمتهم‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ عُيَيَْنةُ بن حصن إل بن تيم‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ يزيد بن الُصَيْن إل أسْلَم و ِغفَار‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ عَبّاد بن بشي الشهلي إل ُسلَيْم ومُ َزيَْنةَ‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ رافع بن مَكِيث إل جُهَيْنَة‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ عمرو بن العاص إل بن َفزَارَة‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ الضحاك بن سفيان إل بن كلب‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ بشي بن سفيان إل بن كعب‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ ابن اللّتِْبيّة الزدي إل بن ُذبْيَان‪.‬‬

‫‪ 9‬ـ الهاجر بن أب أمية إل صنعاء ـ وخرج عليه السود العنسي وهو با‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ زياد بن لبيد إل حضرموت‪.‬‬


‫‪ 11‬ـ عدي بن حات إل طيئ وبن أسد‪.‬‬

‫‪ 12‬ـ مالك بن نُ َويْرَة إل بن حَ ْنظَلَة‪.‬‬

‫‪13‬ـ الزّبْرِقَان بن بدر إل بن سعد ـ إل قسم منهم‪.‬‬

‫‪ 14‬ـ قيس بن عاصم إل بن سعد ـ إل قسم آخر منهم‪.‬‬

‫‪ 15‬ـ العلء بن الضرمي إل البحرين‪.‬‬

‫‪ 16‬ـ علي بن أب طالب إل نران ـ لمع الصدقة والزية كليهما‪.‬‬

‫وليس هؤلء العمال كلهم بعثوا ف الحرم سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬بل تأخر بعث عدة منهم إل اعتناق السلم من‬
‫تلك القبائل الت بعثوا إليها‪ .‬نعم كانت بداية بعث العمال بذا الهتمام البالغ ف الحرم سنة ‪ 9‬هـ‪،‬‬
‫وهذا يدل على مدي ناح الدعوة السلمية بعد صلح الديبية‪ ،‬وأما بعد فتح مكة فقد دخل الناس ف‬
‫دين اللّه أفواجا‪.‬‬

‫السرايا‬

‫وكما بعث الصدقون إل القبائل‪ ،‬مَسّتِ الاجة إل بعث عدة من السرايا مع سيادة المن على عامة‬
‫مناطق الزيرة‪ ،‬وهاك لوحة تلك السرايا‪:‬‬

‫‪1‬ـ سرية عيينة بن حصن الفزاري ـ ف الحرم سنة ‪ 9‬هـ ـ إل بن تيم‪ ،‬ف خسي فارسا‪ ،‬ل يكن‬
‫فيهم مهاجري ول أنصاري‪ ،‬وسببها‪ :‬أن بن تيم كانوا قد أغروا القبائل‪ ،‬ومنعوهم عن أداء الزية‪.‬‬

‫وخرج عيينة بن حصن يسي الليل‪ ،‬ويكمن النهار‪ ،‬حت هجم عليهم ف الصحراء فول القوم مدبرين‪،‬‬
‫وأخذ منهم أحد عشر رجلً وإحدي وعشرين امرأة وثلثي صبيا‪ ،‬وساقهم إل الدينة‪ ،‬فأنزلوا ف دار َرمْلَة‬
‫بنت الارث‪.‬‬

‫وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم‪ ،‬فجاءوا إل باب النب صلى ال عليه وسلم فنادوا‪ :‬يا ممد‪ ،‬اخرج إلينا‪،‬‬
‫فخرج‪ ،‬فتعلقوا به‪ ،‬وجعلوا يكلمونه‪ ،‬فوقف معهم‪ ،‬ث مضي حت صلي الظهر‪ ،‬ث جلس ف صحن‬
‫السجد‪ ،‬فأظهروا رغبتهم ف الفاخرة والباهاة‪ ،‬وقدموا خطيبهم ُعطَارِد بن حاجب فتكلم‪ ،‬فأمر رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ثابت بن قيس بن شَمّاس ـ خطيب السلم ـ فأجابم‪ ،‬ث قدموا شاعرهم الزبرقان‬
‫بن بدر‪ ،‬فأنشد مفاخرا‪ ،‬فأجابه شاعر السلم حسان بن ثابت على البديهة‪.‬‬

‫ولا فرغ الطيبان والشاعران قال القرع بن حابس‪ :‬خطيبه أخطب من خطيبنا‪ ،‬وشاعره أشعر من‬
‫شاعرنا‪ ،‬وأصواتم أعلى من أصواتنا‪ ،‬وأقوالم أعلى من أقوالنا‪ ،‬ث أسلموا‪ ،‬فأجازهم رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فأحسن جوائزهم‪ ،‬ورد عليهم نساءهم وأبناءهم‪.‬‬

‫‪2‬ـ سرية ُقطْبَة بن عامر إل حي من خَ ْثعَم بناحية تَبَالَة‪ ،‬بالقرب من تُرَبَة ف صفر سنة ‪ 9‬هـ‪ .‬خرج‬
‫قطبة ف عشرين رجلً على عشرة أبعرة يعتقبونا‪ ،‬فشن الغارة‪ ،‬فاقتتلوا قتالً شديدا حت كثر الرحى ف‬
‫الفريقي جيعا‪ ،‬وقتل قطبة مع من قتل‪ ،‬وساق السلمون النّعَم والنساء والشاء إل الدينة‪.‬‬

‫‪3‬ـ سرية الضحاك بن سفيان الكلب إل بن ِكلَب ف ربيع الول سنة ‪9‬هـ‪ .‬بعثت هذه السرية إل‬
‫بن كلب ؛ لدعوتم إل السلم‪ ،‬فأبوا وقاتلوا‪ ،‬فهزمهم السلمون‪ ،‬وقتلوا منهم رجلً‪.‬‬

‫‪4‬ـ سرية علقمة بن ُمجَزّرِ ا ُلدْلِجي إل سواحل ُجدّة ف شهر ربيع الخر سنة ‪9‬هـ ف ثلثائة‪.‬بعثهم إل‬
‫رجال من البشة‪ ،‬كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جدة للقيام بأعمال القَ ْرصَنَة ضد أهل مكة‪،‬‬
‫فخاض علقمة البحر حت انتهي إل جزيرة‪ ،‬فلما سعوا بسي السلمي إليهم هربوا‪.‬‬

‫‪5‬ـ سرية على بن أب طالب إل صنم لطيئ يقال له‪ :‬الفُلْس ـ ليهدمه ـ ف شهر ربيع الول سنة ‪9‬‬
‫هـ‪ .‬بعثه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ف خسي ومائة‪ ،‬على مائة بعي وخسي فرسا‪ ،‬ومعه راية‬
‫سوداء ولواء أبيض‪ ،‬فشنوا الغارة على ملة آل حات مع الفجر‪ ،‬فهدموه وملوا أيديهم من السب والنعم‬
‫والشاء‪ ،‬وف السب أخت عدي بن حات‪ ،‬وهرب عدي إل الشام‪ ،‬ووجد السلمون ف خزانة الفلس ثلثة‬
‫أسياف وثلثة أدرع‪ ،‬وف الطريق قسموا الغنائم‪ ،‬وعزلوا الصفي لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ .‬ول‬
‫يقسموا آل حات‪.‬‬

‫ولا جـاءوا إل الدينة استعطفت أخـت عـدي بـن حات رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قائلـة‪ :‬يا‬
‫رسول اللّه‪ ،‬غاب الوافد‪ ،‬وانقطع الوالد‪ ،‬وأنا عجوز كبية‪ ،‬ما ب من خدمة‪ ،‬فمُنّ على‪ ،‬منّ اللّه عليك‪.‬‬
‫قال‪( :‬من وافدك؟) قالت‪ :‬عدي بن حات‪ .،‬قال‪( :‬الذي فر من اللّه ورسوله؟) ث مضي‪ ،‬فلما كان الغد‬
‫قالت مثل ذلك‪ ،‬وقال لا مثل ما قال أمس‪ .‬فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك‪ ،‬فمن عليها‪ ،‬وكان إل‬
‫جنبه رجل ـ تري أنه على ـ فقال لا‪ :‬سليه الِمْلن فسألته فأمر لا به‪.‬‬

‫ورجعت أخت عدي بن حات إل أخيها عدي بالشام‪ ،‬فلما لقيته قالت عن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ :‬لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها‪ ،‬ائته راغبا أو راهبا‪ ،‬فجاءه عدي بغيأمان ول كتاب‪ .‬فأت به‬
‫إل داره‪ ،‬فلما جلس بي يديه حد اللّه وأثن عليه‪ ،‬ث قال‪ :‬ما ُيفِرّكَ؟ أُيفِرّك أن تقول‪( :‬ل إله إل اللّه؟ فهل‬
‫تعلم من إله سوى اللّه؟) قال‪ :‬ل‪ .‬ث تكلم ساعة ث قال‪( :‬إنا تفر أن يقال‪ :‬اللّه أكب‪ ،‬فهل تعلم شيئا أكب‬
‫من ال؟) قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪( :‬فإن اليهود مغضوب عليهم‪ ،‬وإن النصاري ضالون)‪ .‬قال‪ :‬فإن حَنِيف مسلم‪،‬‬
‫فانبسط وجهه فرحا‪ ،‬وأمر به فنل عند رجل من النصار‪ ،‬وجعل يأت النب صلى ال عليه وسلم طرف‬
‫النهار‪.‬‬

‫وف رواية ابن إسحاق عن عدي‪ :‬أن النب صلى ال عليه وسلم لا أجلسه بي يديه ف داره قال له‪( :‬إيه يا‬
‫عدي بن حات‪ ،‬أل تكن َركُوسِيّا؟) قال‪ :‬قلت‪ :‬بلي‪ ،‬قال‪( :‬أو ل تكن تسي ف قومك بالِ ْربَاع؟)‪.‬قال‪ :‬قلت‪:‬‬
‫بلي‪ .‬قال‪( :‬فإن ذلك ل يل لك ف دينك)‪ .‬قال‪ :‬قلت أجل واللّه‪ .‬قال‪ :‬وعرفت أنه نب مرسل‪ ،‬يعرف ما‬
‫يُجْهَل‪.‬‬

‫وف رواية لحد‪ :‬أن النب صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬يا عدي‪ ،‬أسلم تسلم)‪ .‬فقلت‪ :‬إن من أهل دين‪.‬‬
‫قال‪( :‬أنا أعلم بدينك منك)‪ .‬فقلت‪ :‬أنت أعلم بدين من؟ قال‪( :‬نعم‪ ،‬ألست من الركوسية‪ ،‬وأنت تأكل‬
‫مرباع قومك؟) فقلت‪ :‬بلي‪ ،‬قال‪( :‬فإن هذا ل يل لك ف دينك)‪ .‬قال‪ :‬فلم يعد أن قالا فتواضعت لا‪.‬‬

‫وروي البخاري عن عدي قال‪ :‬بينا أنا عند النب صلى ال عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة‪ ،‬ث‬
‫أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل‪ ،‬فقال‪( :‬يا عدي‪ ،‬هل رأيت الية؟ فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة‬
‫ترتل من الية حت تطوف بالكعبة‪ ،‬ل تاف أحدا إل اللّه‪ ،‬ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسري‪،‬‬
‫ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يرج ملء كفه من ذهب أو فضة‪ ،‬ويطلب من يقبله فل يد أحدا يقبله‬
‫منه‪ )...‬الديث وف آخره‪ :‬قال عدي‪ :‬فرأيت الظعينة ترتل من الية حت تطوف بالكعبة ل تاف إل‬
‫اللّه‪ .‬وكنت فيمن افتتح كنوز كسري بن هرمز‪ ،‬ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النب أبو القاسم‬
‫صلى ال عليه وسلم‪( :‬يرج ملء كفه)‪.‬‬
‫غـــزوة تبـــوك ف رجب سنة ‪9‬هـ‬

‫إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بي الق والباطل‪ ،‬ل يبق بعدها مال للريبة والظن ف رسالة ممد‬
‫صلى ال عليه وسلم عند العرب‪ ،‬ولذلك انقلب الجري تاما‪ ،‬ودخل الناس ف دين اللّه أفواجا ـ كما‬
‫سيظهر ذلك ما نقدمه ف فصل الوفود‪ ،‬ومن العدد الذي حضر ف حجة الوداع ـ وانتهت التاعب‬
‫الداخلية‪ ،‬واستراح السلمون لتعليم شرائع الّّ‪ ،‬وبث دعوة السلم‪.‬‬

‫سبب الغزوة‬

‫إل أنه كانت هناك قوة تعرضت للمسلمي من غي مبر‪ ،‬وهي قوة الرومان ـ أكب قوة عسكرية ظهرت‬
‫على وجه الرض ف ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفي رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم ـ الارث بن عمي الزدي ـ على يدي شُ َرحْبِيل بن عمرو الغسان‪ ،‬حينما‬
‫كان السفي يمل رسالة النب صلى ال عليه وسلم إل عظيم بُصْرَي‪ ،‬وأن النب صلى ال عليه وسلم‬
‫أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة الت اصطدمت بالرومان اصطداما عنيفا ف مؤتة‪ ،‬ول تنجح ف أخذ‬
‫الثأر من أولئك الظالي التغطرسي‪ ،‬إل أنا تركت أروع أثر ف نفوس العرب‪ ،‬قريبهم وبعيدهم‪.‬‬

‫ول يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لعركة مؤتة من الثر الكبي لصال السلمي‪ ،‬وعما كان يطمح إليه‬
‫بعد ذلك كثي من قبائل العرب من استقللم عن قيصر‪ ،‬ومواطأتم للمسلمي‪ ،‬إن هذا كان خطرا يتقدم‬
‫ويطو إل حدوده خطوة بعد خطوة‪ ،‬ويهدد الثغور الشامية الت تاور العرب‪ ،‬فكان يري أن القضاء يب‬
‫على قوة السلمي قبل أن تتجسد ف صورة خطر عظيم ل يكن القضاء عليها‪ ،‬وقبل أن تثي القلقل‬
‫والثورات ف الناطق العربية الجاورة للرومان‪.‬‬

‫ونظرا إل هذه الصال‪ ،‬ل يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حت أخذ يهيئ اليش مـن الرومـان‬
‫والعرب التابعة لم من آل غسان وغيهم‪ ،‬وبدأ يهز لعركة دامية فاصلة‪.‬‬

‫الخبار العامة عن استعداد الرومان وغَسّان‬

‫وكانت النباء تترامي إل الدينة بإعداد الرومان ؛ للقيام بغزوة حاسة ضد السلمي‪ ،‬حت كان الوف‬
‫يتسورهم كل حي‪ ،‬ل يسمعون صوتا غي معتاد إل ويظنونه زحف الرومان‪.‬ويظهر ذلك جليا ما وقع‬
‫لعمر بن الطاب‪ ،‬فقد كان النب صلى ال عليه وسلم إل من نسائه شهرا ف هذه السنة ـ ‪9‬هـ ـ‬
‫وكان هجرهن واعتزل عنهن ف مشربة له ‪ ،‬ول يفطن الصحابة إل حقيقة المر ف بدايته‪ ،‬فظنوا أن النب‬
‫صلى ال عليه وسلم طلقهن‪ ،‬فسري فيهم الم والزن والقلق‪ .‬يقول عمر بن الطاب ـ وهو يروي هذه‬
‫القصة‪ :‬وكان ل صاحب من النصار إذا غبت أتان بالب‪ ،‬وإذا غاب كنت آتية أنا بالب ـ وكانا‬
‫يسكنان ف عوال الدينة‪ ،‬يتناوبان إل النب صلى ال عليه وسلم ـ ونن نتخوف ملكا من ملوك غسان‬
‫ذكر لنا أنه يريد أن يسي إلينا‪ ،‬فقد امتلت صدورنا منه‪ ،‬فإذا صاحب النصاري يدق الباب‪ ،‬فقال‪ :‬افتح‪،‬‬
‫افتح‪ ،‬فقلت‪ :‬جاء الغسان؟ فقال‪ :‬بل أشد من ذلك‪ ،‬اعتزل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أزواجه‪...‬‬
‫الديث‪.‬‬

‫وف لفظ آخر ـ أنه قال ـ‪ :‬وكنا تدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا‪ ،‬فنل صاحب يوم نَ ْوبَِتهِ‪ ،‬فرجع‬
‫عشاء‪ ،‬فضرب باب ضربا شديدا وقال‪ :‬أنائم هو؟ ففزعت‪ ،‬فخرجت إليه‪ ،‬وقال‪ :‬حدث أمر عظيم‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال‪ :‬ل بل أعظم منه وأطول‪ ،‬طلق رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫نساءه‪ ...‬الديث‪.‬‬

‫وهذا يدل على خطورة الوقف‪ ،‬الذي كان يواجهه السلمون بالنسبة إل الرومان‪ ،‬ويزيد ذلك تأكدا ما‬
‫فعله النافقون حينما نقلت إل الدينة أخبار إعداد الرومان‪ ،‬فبغم ما رآه هؤلء النافقون من ناح رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم ف كل اليادين‪ ،‬وأنه ل يوجل من سلطان على ظهر الرض‪ ،‬بل يذيب كل ما‬
‫يعترض ف طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ طفق هؤلء النافقون يأملون ف تقق ما كانوا يفونه ف‬
‫صدورهم‪ ،‬وما كانوا يتربصونه من الشر بالسلم وأهله‪ .‬ونظرا إل قرب تقق آمالم أنشأوا وكرة للدس‬
‫والتآمر‪ ،‬ف صورة مسجد‪ ،‬وهو مسجد الضّرَار‪ ،‬أسسوه كفرا وتفريقا بي الؤمني وإرصادا لن حارب‬
‫اللّه ورسوله‪ ،‬وعرضوا على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن يصلي فيه‪ ،‬وإنا مرامهم بذلك أن يدعوا‬
‫الؤمني فل يفطنوا ما يؤت به ف هذا السجد من الدس والؤامرة ضدهم‪ ،‬ول يلتفتوا إل من يرده ويصدر‬
‫عنه‪ ،‬فيصي وكرة مأمونة لؤلء النافقي ولرفقائهم ف الارج‪ ،‬ولكن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أخر‬
‫الصلة فيه ـ إل قفوله من الغزوة ـ لشغله بالهاز‪ ،‬ففشلوا ف مرامهم وفضحهم اللّه‪ ،‬حت قام الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم بدم السجد بعد القفول من الغزو‪ ،‬بدل أن يصلي فيه‪.‬‬

‫الخبار الاصة عن استعداد الرومان وغسان‬


‫كانت هذه هي الحوال والخبار الت يواجهها ويتلقاها السلمون‪ ،‬إذ بلغهم من النباط الذين قدموا‬
‫بالزيت من الشام إل الدينة أن هرقل قد هيأ جيشا عرمرما قوامه أربعون ألف مقاتل‪ ،‬وأعطي قيادته لعظيم‬
‫خمٍ و ُجذَامٍ وغيها من متنصرة العرب‪ ،‬وأن مقدمتهم بلغت‬
‫من عظماء الروم‪ ،‬وأنه أجلب معهم قبائل َل ْ‬
‫إل البلقاء‪ ،‬وبذلك تثل أمام السلمي خطر كبي‪.‬‬

‫زيادة خطورة الوقف‬

‫والذي كان يزيد خطورة الوقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد‪ ،‬وكان الناس ف عسرة وجدب من‬
‫البلء وقلة من الظهر‪ ،‬وكانت الثمار قد طابت‪ ،‬فكانوا يبون القام ف ثارهم وظللم‪ ،‬ويكرهون‬
‫الشخوص على الال من الزمان الذي هم فيه‪ ،‬ومع هذا كله كانت السافة بعيدة‪ ،‬والطريق وعرة صعبة‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يقرر القيام بإقدام حاسم‬

‫ولكن الرسول صلى ال عليه وسلم كان ينظر إل الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله‪،‬‬
‫إنه كان يري أنه لو توان وتكاسل عن غزو الرومان ف هذه الظروف الاسة‪ ،‬وترك الرومان لتجوس‬
‫خلل الناطق الت كانت تت سيطرة السلم ونفوذه‪ ،‬وتزحف إل الدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة‬
‫السلمية وعلى سعة السلمي العسكرية‪ ،‬فالاهلية الت تلفظ نفسها الخي بعد ما لقيت من الضربة‬
‫القاصمة ف حني ستحيا مرة أخري‪ ،‬والنافقون الذين يتربصون الدوائر بالسلمي‪ ،‬ويتصلون بلك الرومان‬
‫بواسطة أب عامر الفاسق سيبعجون بطون السلمي بناجرهم من اللف‪ ،‬ف حي تجم الرومان بملة‬
‫ضارية ضد السلمي من المام‪ ،‬وهكذا يفق كثي من الهود الت بذلا هو أصحابه ف نشر السلم‪،‬‬
‫وتذهب الكاسب الت حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة‪ ...‬تذهب هذه‬
‫الكاسب بغي جدوي‪.‬‬

‫كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يعرف كل ذلك جيدا‪ ،‬ولذلك قرر القيام ـ مع ما كان فيه من‬
‫العسرة والشدة ـ بغزوة فاصلة يوضها السلمون ضد الرومان ف حدودهم‪ ،‬ول يهلونم حت يزحفوا‬
‫إل دار السلم‪.‬‬

‫العلن بالتهيؤ لقتال الرومان‬


‫ولا قرر الرسول صلى ال عليه وسلم الوقف أعلن ف الصحابة أن يتجهزوا للقتال‪ ،‬وبعث إل القبائل من‬
‫العرب وإل أهل مكة يستنفرهم‪ .‬وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إل َورّي بغيها‪ ،‬ولكنه نظرا إل خطورة‬
‫الوقف وإل شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان‪ ،‬وجلي للناس أمرهم ؛ ليتأهبوا أهبة كاملة‪ ،‬وحضهم‬
‫على الهاد‪ ،‬ونزلت قطعة من سورة براءة تثيهم على اللد‪ ،‬وتثهم على القتال‪ ،‬ورغبهم رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم ف بذل الصدقات‪ ،‬وإنفاق كرائم الموال ف سبيل اللّه‪.‬‬

‫السلمون يتسابقون إل التجهز للغزو‬

‫ول يكن من السلمي أن سعوا صوت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يدعو إل قتال الروم إل وتسابقوا‬
‫إل امتثاله‪ ،‬فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة‪ ،‬وأخذت القبائل والبطون تبط إل الدينة من كل صوب‬
‫وناحية‪ ،‬ول يرض أحد من السلمي أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إل الذين ف قلوبم مرض وإل ثلثة نفر‬
‫ـ حت كان ييء أهل الاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ؛ ليخرجوا إل قتال‬
‫جدُواْ مَا يُنفِقُونَ}‬
‫الروم‪ ،‬فإذا قال لم‪{ :‬لَ أَ ِجدُ مَا أَحْ ِملُ ُكمْ عَلَ ْيهِ تَ َولّواْ ّوأَعْيُنُ ُهمْ تَفِيضُ مِنَ الدّ ْمعِ َح َزنًا أَلّ يَ ِ‬
‫[التوبة‪.]92:‬‬

‫كما تسابق السلمون ف إنفاق الموال وبذل الصدقات‪ ،‬كان عثمان بن عفان قد جهز عيا للشام‪ ،‬مائتا‬
‫بعي بأقتابا وأحلسها‪ ،‬ومائتا أوقية‪ ،‬فتصدق با‪ ،‬ث تصدق بائة بعي بأحلسها وأقتابا‪ ،‬ث جاء بألف دينار‬
‫فنثرها ف حجره صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقلبها ويقول‪( :‬ما ضَرّ‬
‫عثمان ما عمل بعد اليوم) ‪ ،‬ث تصدق وتصدق حت بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعي ومائة فرس سوى‬
‫النقود‪.‬‬

‫وجاء عبد الرحن بن عوف بائت أوقية فضة‪ ،‬وجاء أبو بكر باله كلّه ول يترك لهله إل اللّه ورسوله ـ‬
‫وكانت أربعة آلف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته‪ .‬وجاء عمر بنصف ماله‪ ،‬وجاء العباس بال كثي‪،‬‬
‫وجاء طلحة وسعد بن عبادة وممد بن مسلمة‪ ،‬كلهم جاءوا بال‪ .‬وجاء عاصم بن عدي بتسعي وَ ْسقًا من‬
‫التمر‪ ،‬وتتابع الناس بصدقاتم قليلها وكثيها‪ ،‬حت كان منهم من أنفق ُمدّا أو مدين ل يكن يستطيع‬
‫غيها‪ .‬وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلخل وقُرْط وخوات‪.‬‬

‫صدَقَاتِ‬
‫ول يسك أحد يده‪ ،‬ول يبخل باله إل النافقون {الّذِينَ يَ ْلمِزُو َن الْ ُمطّوّعِيَ مِنَ الْمُ ْؤمِنِيَ فِي ال ّ‬
‫سخَرُونَ مِنْ ُهمْ}[التوبة‪.]79 :‬‬
‫وَاّلذِينَ لَ َيجِدُونَ إِلّ جُ ْهدَ ُهمْ فَيَ ْ‬
‫اليش السلمي إل تبوك‬

‫وهكذا تهز اليش‪ ،‬فاستعمل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم على الدينة ممد بن مسلمة النصاري‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬سِبَاع بن عُرْ ُف َطةَ‪ ،‬وخلف على أهله على بن أب طالب‪ ،‬وأمره بالقامة فيهم‪ ،‬وغَ َمصَ عليه النافقون‪،‬‬
‫فخرج فلحق برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فرده إل الدينة وقال‪( :‬أل ترضى أن تكون من بنلة‬
‫هارون من موسي‪ ،‬إل أنه ل نب بعدي)‪.‬‬

‫وترك رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يوم الميس نو الشمال يريد تبوك‪ ،‬ولكن اليش كان كبيا ـ‬
‫ثلثون ألف مقاتل‪ ،‬ل يرج السلمون ف مثل هذا المع الكبي قبله قط ـ فلم يستطع السلمون مع ما‬
‫بذلوه من الموال أن يهزوه تهيزا كاملً‪ ،‬بل كانت ف اليش قلة شديدة بالنسبة إل الزاد والراكب‪،‬‬
‫فكان ثانية عشر رجلً يعتقبون بعيا واحدا‪ ،‬وربا أكلوا أوراق الشجار حت تورمت شفاههم‪ ،‬واضطروا‬
‫إل ذبح البعي ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما ف كرشه من الاء‪ ،‬ولذلك سي هذا اليش جيش العُسْ َرةِ‪.‬‬

‫لجْر ـ ديار ثود الذين جابوا الصخر بالواد‪ ،‬أي وادي القُرَى‬
‫ومر اليش السلمي ف طريقه إل تبوك با ِ‬
‫ـ فاستقي الناس من بئرها‪ ،‬فلما راحوا قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪( :‬ل تشربوا من مائها ول‬
‫تتوضأوا منه للصلة‪ ،‬وما كان من عجي عجنتموه فاعلفوه البل‪ ،‬ول تأكلوا منه شيئا)‪ ،‬وأمرهم أن‬
‫يستقوا من البئر الت كانت تردها ناقة صال رسول ال‪.‬‬

‫وف الصحيحي عن ابن عمر قال‪ :‬لا مر النب صلى ال عليه وسلم بالجر قال‪( :‬ل تدخلوا مساكن الذين‬
‫ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابم إل أن تكونوا باكي)‪ ،‬ث قَنعَ رأسه وأسرع بالسي حت جاز الوادي‪.‬‬

‫واشتدت ف الطريق حاجة اليش إل الاء حت شكوا إل رسول اللّه‪ ،‬فدعا اللّه‪ ،‬فأرسل اللّه سحابة‬
‫فأمطرت حت ارتوي الناس‪ ،‬واحتملوا حاجاتم من الاء‪.‬‬

‫ضحَي‬
‫ولا قرب من تبوك قال‪( :‬إنكم ستأتون غدا إن شاء اللّه تعال عي تبوك‪ ،‬وإنكم لن تأتوها حت يَ ْ‬
‫النهار‪ ،‬فمن جاءها فل يس من مائها شيئا حت آت)‪ ،‬قال معاذ‪ :‬فجئنا وقد سبق إليها رجلن‪ ،‬والعي تَِبضّ‬
‫بشيء من مائها‪ ،‬فسألما رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪( :‬هل مسستما من مائها شيئا؟) قال‪ :‬نعم‪ .‬وقال‬
‫لما ما شاء اللّه أن يقول‪ .‬ث غرف من العي قليلً قليلً حت اجتمع الْوَ َشلُ ‪ ،‬ث غسل رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم فيه وجهه ويده‪ ،‬ث أعاده فيها فجرت العي باء كثي‪ ،‬فاستقي الناس‪ ،‬ث قال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪( :‬يوشك يا معاذ‪ ،‬إن طالت بك حياة أن تري ماهاهنا قد ملئ جنانا)‪.‬‬
‫وف الطريق أو لا بلغ تبوك ـ على اختلف الروايات ـ قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪( :‬تب‬
‫عليكم الليلة ريح شديدة‪ ،‬فل يقم أحد منكم‪ ،‬فمن كان له بعي فليشد ِعقَالَه)‪ ،‬فهبت ريح شديدة‪ ،‬فقام‬
‫رجل فحملته الريح حت ألقته ببلي طيئ‪.‬‬

‫وكان دأب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ف الطريق أنه كان يمع بي الظهر والعصر‪ ،‬وبي الغرب‬
‫والعشاء جع التقدي وجع التأخيكليهما‪.‬‬

‫اليش السلمي بتبوك‬

‫نزل اليش السلمي بتبوك‪ ،‬فعسكر هناك‪ ،‬وهو مستعد للقاء العدو‪ ،‬وقام رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم فيهم خطيبا‪ ،‬فخطب خطبة بليغة‪ ،‬أت بوامع الكلم‪ ،‬وحض على خي الدنيا والخرة‪ ،‬وحذر وأنذر‪،‬‬
‫وبشر وأبشر‪ ،‬حت رفع معنوياتم‪ ،‬وجب با ما كان فيهم من النقص واللل من حيث قلة الزاد والادة‬
‫والؤنة‪ .‬وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سعوا بزحف رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أخذهم الرعب‪ ،‬فلم‬
‫يترئوا على التقدم واللقاء‪ ،‬بل تفرقوا ف البلد ف داخل حدودهم‪ ،‬فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إل‬
‫سعة السلمي العسكرية‪ ،‬ف داخل الزيرة وأرجائها النائية‪ ،‬وحصل بذلك السلمون على مكاسب سياسية‬
‫كبية خطية‪ ،‬لعلهم ل يكونوا يصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بي اليشي‪.‬‬

‫جاء ُيحَنّةُ بن ُر ْؤبَةَ صاحب أيْ َلةَ‪ ،‬فصال الرسول صلى ال عليه وسلم وأعطاه الزية‪ ،‬وأتاه أهل َج ْربَاء‬
‫وأهل أذْرُح‪ ،‬فأعطوه الزية‪ ،‬وكتب لم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كتابا فهو عندهم‪ ،‬وصاله أهل‬
‫مِينَاء على ربع ثارها‪ ،‬وكتب لصاحب أيلة‪( :‬بسم اللّه الرحن الرحيم‪ ،‬هذه أمنة من اللّه وممد النب‬
‫رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة‪ ،‬سفنهم وسياراتم ف الب والبحر لم ذمة اللّه وذمة ممد النب‪ ،‬ومن‬
‫كان معه من أهل الشام وأهل البحر‪ ،‬فمن أحدث منهم حدثا‪ ،‬فإنه ل يول ماله دون نفسه‪ ،‬وإنه طيب لن‬
‫أخذه من الناس‪ ،‬وأنه ل يل أن ينعوا ماء يردونه‪ ،‬ول طريقا يريدونه من بر أو بر)‪.‬‬

‫وبعث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم خالد بن الوليد إل أُكَ ْيدِرِ دُومَة الَ ْندَل ف أربعمائة وعشرين‬
‫فارسا‪ ،‬وقال له‪( :‬إنك ستجده يصيد البقر)‪ ،‬فأتاه خالد‪ ،‬فلما كان من حصنه بنظر العي‪ ،‬خرجت بقرة‪،‬‬
‫تك بقرونا باب القصر‪ ،‬فخرج أكيدر لصيدها ـ وكانت ليلة مقمرة ـ فتلقاه خالد ف خيله‪ ،‬فأخذه‬
‫وجاء به إل رسول اللّهصلى ال عليه وسلم‪ ،‬فحقن دمه‪ ،‬وصاله على ألفي بعي‪ ،‬وثانائة رأس وأربعمائة‬
‫درع‪ ،‬وأربعمائة رمح‪ ،‬وأقر بإعطاء الزية‪ ،‬فقاضاه مع ُيحَنّة على قضية دُومَة وتبوك وأيْ َلةَ َوتَيْماء‪.‬‬
‫وأيقنت القبائل الت كانت تعمل لساب الرومان أن اعتمادها على سادتا القدمي قد فات أوانه‪،‬‬
‫فانقلبت لصال السلمي‪ ،‬وهكذا توسعت حدود الدولة السلمية‪ ،‬حت لقت حدود الرومان مباشرة‪،‬‬
‫وشهد عملء الرومان نايتهم إل حد كبي‪.‬‬

‫الرجوع إل الدينة‬

‫ورجع اليش السلمي من تبوك مظفرين منصورين‪ ،‬ل ينالوا كيدا‪ ،‬وكفي ال الؤمني القتال‪ ،‬وف الطريق‬
‫عند عقبة حاول اثنا عشر رجلً من النافقي الفتك بالنب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذلك أنه حينما كان ير‬
‫بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته‪ ،‬وحذيفة ابن اليمان يسوقها‪ ،‬وأخذ الناس ببطن الوادي‪،‬‬
‫فانتهز أولئك النافقون هذه الفرصة‪ .‬فبينما رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وصاحباه يسيان إذ سعوا‬
‫حجَن كان‬
‫وكزة القوم من ورائهم‪ ،‬قد غشوه وهم ملتثمون‪ ،‬فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم ِب ْ‬
‫معه ‪ ،‬فأرعبهم اللّه‪ ،‬فأسرعوا ف الفرار حت لقوا بالقوم‪ ،‬وأخب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫بأسائهم‪ ،‬وبا هوا به‪ ،‬فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سـر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وف‬
‫ذلك يقول اللّه تعال‪{ :‬وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة‪.]74:‬‬

‫ولا لحت للنب صلى ال عليه وسلم معال الدينة من بعيد قال‪( :‬هذه طَابَةُ‪ ،‬وهذا أ ُحدٌ‪ ،‬جبل يبنا ونبه)‪،‬‬
‫وتسامع الناس بقدمه‪ ،‬فخرج النساء والصبيان والولئد يقابلن اليش بفاوة بالغة ويقلن‪:‬‬

‫طلع البـدر علينا ** من ثنيات الوداع‬

‫وجب الشكر علينا ** ما دعا للع داع‬

‫وكانت عودته صلى ال عليه وسلم من تبوك ودخوله ف الدينة ف رجب سنة ‪9‬هـ ‪ ،‬واستغرقت هذه‬
‫الغزوة خسي يوما‪ ،‬أقام منها عشرين يوما ف تبوك‪ ،‬والبواقي قضاها ف الطريق جيئة وذهوبًا‪ .‬وكانت هذه‬
‫الغزوة آخر غزواته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ا ُلخَلّفون‬

‫وكانت هذه الغزوة ـ لظروفها الاصة با ـ اختبارا شديدا من اللّه‪ ،‬امتاز به الؤمنون من غيهم‪ ،‬كما‬
‫هي سنته تعال ف مثل هذه الواطن‪ ،‬حيث يقول‪{ :‬مّا كَانَ ال ّلهُ لَِيذَ َر الْمُ ْؤمِنِيَ َعلَى مَآ أَنتُمْ عَلَ ْيهِ حَتّىَ يَمِيزَ‬
‫اْلخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ}[ آل عمران‪ .]179:‬فقد خرج لذه الغزوة كل من كان مؤمنا صادقا‪ ،‬حت صار‬
‫التخلف أمارة على نفاق الرجل‪ ،‬فكان الرجل إذا تلف وذكروه لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال‬
‫لم‪( :‬دعوه‪ ،‬فإن يكن فيه خي فسيلحقه اللّه بكم‪ ،‬وإن يكن غي ذلك فقد أراحكم منه)‪ ،‬فلم يتخلف إل‬
‫من حبسهم العذر‪ ،‬أو الذين كذبوا اللّه ورسوله من النافقي‪ ،‬الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذبا‪،‬‬
‫أو قعدوا ول يستأذنوا رأسا‪ .‬نعم كان هناك ثلثة نفر من الؤمني الصادقي تلفوا من غي مبر‪ ،‬وهم‬
‫الذين أبلهم اللّه‪ ،‬ث تاب عليهم‪.‬‬

‫ولا دخل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم الدينة بدأ بالسجد‪ ،‬فصلي فيه ركعتي‪ ،‬ث جلس للناس‪ ،‬فأما‬
‫النافقون ـ وهم بضعة وثانون رجلً ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شت من العذار‪ ،‬وطفقوا يلفون له‪،‬‬
‫فقبل منهم علنيتهم‪ ،‬وبايعهم‪ ،‬واستغفر لم‪ ،‬ووكل سرائرهم إل اللّه‪.‬‬

‫وأما النفر الثلثة من الؤمني الصادقي ـ وهم كعب بن مالك‪ ،‬ومُرَارَة بن الربيع‪ ،‬وهلل بن أمية ـ‬
‫فاختاروا الصدق‪ ،‬فأمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم الصحابة أل يكلموا هؤلء الثلثة‪ ،‬وجرت ضد‬
‫هؤلء الثلثة مقاطعة شديدة‪ ،‬وتغي لم الناس‪ ،‬حت تنكرت لم الرض‪ ،‬وضاقت عليهم با رحبت‪،‬‬
‫وضاقت عليهم أنفسهم‪ ،‬وبلغت بم الشدة إل أنم بعد أن قضوا أربعي ليلة من بداية القاطعة أمروا أن‬
‫لثَ ِة الّذِينَ خُ ّلفُواْ‬
‫يعتزلوا نساءهم‪ ،‬حت تت على مقاطعتهم خسون ليلة‪ ،‬ث أنزل اللّه توبتهم‪{ :‬وَ َعلَى الّث َ‬
‫جأَ مِنَ ال ّلهِ إِلّ ِإلَ ْيهِ ثُمّ‬
‫حَتّى إِذَا ضَا َقتْ َعلَيْ ِهمُ ا َل ْرضُ بِمَا َرحُبَتْ وَضَا َقتْ عَلَيْ ِهمْ أَنفُسُ ُهمْ َوظَنّواْ أَن لّ مَ ْل َ‬
‫ب الرّحِيمُ} [التوبة‪.]118:‬‬
‫تَابَ َعلَيْ ِهمْ لِيَتُوبُواْ ِإنّ ال ّلهَ هُ َو التّوّا ُ‬

‫وفرح السلمون‪ ،‬وفرح الثلثة فرحا ل يقاس مداه وغايته‪ ،‬فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا‬
‫وتصدقوا‪ ،‬وكان أسعد يوم من أيام حياتم‪.‬‬

‫ض َعفَاء َولَ َعلَى الْمَرْضَى وَلَ عَلَى اّلذِينَ لَ‬


‫وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعال فيهم‪{ :‬لّ ْيسَ َعلَى ال ّ‬
‫صحُواْ لِ ّلهِ وَ َرسُوِلهِ} [التوبة‪ .]91 :‬وقال فيهم رسول اللّه حي دنا من‬
‫جدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَ َرجٌ إِذَا نَ َ‬
‫يَ ِ‬
‫الدينة‪( :‬إن بالدينة رجالً ما سرت مَسِيا‪ ،‬ول قطعتم واديا إل كانوا معكم‪ ،‬حبسهم ال ُعذْرُ)‪ ،‬قـالوا‪ :‬يا‬
‫رسول اللّه‪ ،‬وهــم بالدينة؟ قال‪( :‬وهم بالدينة)‪.‬‬

‫أثر الغزوة‬
‫وكان لذه الغزوة أعظم أثر ف بسط نفوذ السلمي وتقويته على جزيرة العرب‪ ،‬فقد تبي للناس أنه ليس‬
‫لي قوة من القوات أن تعيش ف العرب سوي قوة السلم‪ ،‬وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك ف‬
‫قلوب بقايا الاهليي والنافقي الذين كانوا يتربصون الدوائر بالسلمي‪ ،‬وكانوا قد عقدوا آمالم‬
‫بالرومان‪ ،‬فقد استكانوا بعد هذه الغزوة‪ ،‬واستسلموا للمر الواقع‪ ،‬الذي ل يدوا عنه ميدا ول مناصا‪.‬‬

‫ولذلك ل يبق للمنافقي أن يعاملهم السلمون بالرفق واللي‪ ،‬وقد أمر اللّه بالتشديد عليهم‪ ،‬حت ني عن‬
‫قبول صدقاتم‪ ،‬وعن الصلة عليهم‪ ،‬والستغفار لم والقيام على قبهم‪ ،‬وأمر بدم وكرة دسهم وتآمرهم‬
‫الت بنوها باسم السجد‪ ،‬وأنزل فيهم آيات افتضحوا با افتضاحا تاما‪ ،‬ل يبق ف معرفتهم بعدها أي خفاء‪،‬‬
‫كأن اليات قد نصت على أسائهم لن يسكن بالدينة‪.‬‬

‫ويعرف مدي أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت ف التوافد إل رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم بعد غزوة فتح مكة‪ ،‬بل وما قبلها‪ ،‬إل أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إل القمة بعد هذه الغزوة‪.‬‬

‫نزول القرآن حول موضوع الغزوة‬

‫نزلت آيات كثية من سورة براءة حول موضوع الغزوة‪ ،‬نزل بعضها قبل الروج‪ ،‬وبعضها بعد الروج‬
‫ـ وهو ف السفر ـ وبعض آخر منها بعد الرجوع إل الدينة‪ ،‬وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة‪،‬‬
‫وفضح النافقي‪ ،‬وفضل الجاهدين والخلصي‪ ،‬وقبول التوبة من الؤمني الصادقي‪ ،‬الارجي منهم ف‬
‫الغزوة والتخلفي‪ ،‬إل غي ذلك من المور‪.‬‬

‫بعض الوقائع الهمة ف هذه السنة‬

‫وف هذه السنة وقعت عدة وقائع لا أهية ف التاريخ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ بعد قدوم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من تبوك وقع اللعان بي عُ َويْمِر ال َعجْلن وامرأته‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ رجت الرأة الغامدية‪ ،‬الت جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة‪ ،‬رجت بعدما فطمت ابنها‪.‬‬

‫صحَمَة‪ ،‬ملك البشة‪ ،‬ف رجب‪ ،‬وصلي عليه رسول ال صلة الغائب ف الدينة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ توف النجاشي أ ْ‬

‫‪ 4‬ـ توفيت أم كلثوم بنت النب صلى ال عليه وسلم ف شعبان‪ ،‬فحزن عليها حزنا شديدا‪ ،‬وقال‬
‫لعثمان‪( :‬لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها)‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ مات رأس النافقي عبد اللّه بن أب بن سَلُول بعد مرجع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من تبوك‪،‬‬
‫فاستغفر له رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وصلي عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصلة عليه‪ ،‬وقد‬
‫نزل القرآن بعد ذلك بوافقة عمر‪.‬‬
‫حج أب بكر رضي ال عنه‬
‫نظرة على الغزوات‬
‫الناس يدخلون ف دين اللّه أفواجا‬
‫الـوفـــود‬

‫حج أب بكر رضي ال عنه‬

‫وف ذي القعدة أو ذي الجــة من نفس السنة ـ ‪ 9‬هـ ـ بعث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫أبــا بكر الصديق رضي ال عنه أميا على الج‪ ،‬ليقيم بالسلمي الناسك‪.‬‬

‫ث نزلت أوائل سورة براءة بنقض الواثيق ونبذها على سواء‪ ،‬فبعث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم على‬
‫بن أب طالب ليؤدي عنه ذلك‪ ،‬وذلك تشيا منه على عادة العرب ف عهود الدماء والموال‪ ،‬فالتقي على‬
‫ضجْنَان‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬أمي أو مأمور؟ قال علي‪ :‬ل‪ ،‬بل مأمور‪ .‬ث مضيا‪ ،‬وأقام أبو‬
‫بأب بكر بالعَرْج أو ب َ‬
‫بكر للناس حجهم‪ ،‬حت إذا كان يوم النحر‪ ،‬قام على بن أب طالب عند المرة‪ ،‬فأذن ف الناس بالذي‬
‫أمره رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ونبذ إل كل ذي عهد عهده‪ ،‬وأجل لم أربعة شهور‪ ،‬وكذلك أجل‬
‫أربعة أشهر لن ل يكن له عهد‪ ،‬وأما الذين ل ينقصوا السلمي شيئا‪ ،‬ول يظاهروا عليهم أحدا فأبقي‬
‫عهدهم إل مدتم‪.‬‬

‫وبعث أبو بكر رضي ال عنه رجالً ينادون ف الناس‪ :‬أل ل يج بعد هذا العام مشرك‪ ،‬ول يطوف بالبيت‬
‫عُ ْريَان‪.‬‬

‫وكان هذا النداء بثابة إعلن ناية الوثنية ف جزيرة العرب‪ ،‬وأنا ل تُ ْبدِئُ ول ُتعِيدُ بعد هذا العام‪.‬‬

‫نظرة على الغزوات‬

‫إذا نظرنا إل غزوات النب صلى ال عليه وسلم وبعوثه وسراياه‪ ،‬ل يكن لنا ول لحد من ينظر ف‬
‫أوضاع الروب وآثارها وخلفياتا ـ ل يكن لنا إل أن نقول‪:‬‬
‫إن النب صلى ال عليه وسلم كان أكب قائد عسكري ف الدنيا‪ ،‬وأشدهم وأعمقهم فراسة وتيقظا‪ ،‬إنه‬
‫صاحب عبقرية فذة ف هذا الوصف‪ ،‬كما كان سيد الرسل وأعظمهم ف صفة النبوة والرسالة‪ ،‬فلم يض‬
‫معركة من العارك إل ف الظرف ومن الهة اللذين يقتضيهما الزم والشجاعة والتدبي‪ ،‬ولذلك ل يفشل‬
‫ف أي معركة من العارك الت خاضها لغلطة ف الكمة وما إليها من تعبئة اليش وتعيينه على الراكز‬
‫الستراتيجية‪ ،‬واحتلل أفضل الواضع وأوثقها للمجابة‪ ،‬واختيار أفضل خطة لدارة دفة القتال‪ ،‬بل أثبت‬
‫ف كل ذلك أن له نوعا آخر من القيادة غي ما عرفتها الدنيا ف القواد‪ .‬ول يقع ما وقع ف أُحد وحني إل‬
‫من بعض الضعف ف أفراد اليش ـ ف حني ـ أو من جهة معصيتهم أوامره وتركهم التقيد واللتزام‬
‫بالكمة والطة اللتي كان أوجبهما عليهم من حيث الوجهه العسكرية‪.‬‬

‫وقد تلت عبقريته صلى ال عليه وسلم ف هاتي الغزوتي عند هزية السلمي‪ ،‬فقد ثبت مابا للعدو‪،‬‬
‫واستطاع بكمته الفذة أن ييبهم ف أهدافهم ـ كما فعل ف أحد ـ أو يغي مري الرب حت يبدل‬
‫الزية انتصارا ـ كما ف حني ـ مع أن مثل هذا التطور الطي‪ ،‬ومثل هذه الزية الساحقة تأخذان‬
‫بشاعر القواد‪ ،‬وتتركان على أعصابم أسوأ أثر‪ ،‬ل يبقي لم بعد ذلك إل هم النجاة بأنفسهم‪.‬‬

‫هذه من ناحية القيادة العسكرية الالصة‪ ،‬أما من نواح أخري‪ ،‬فإنه استطاع بذه الغزوات فرض المن‬
‫وبسط السلم‪ ،‬وإطفاء نار الفتنة‪ ،‬وكسر شوكة العداء ف صراع السلم والوثنية‪ ،‬وإلائهم إل‬
‫الصالة‪ ،‬وتلية السبيل لنشر الدعوة‪ ،‬كما استطاع أن يتعرف على الخلصي من أصحابه من هو يبطن‬
‫النفاق‪ ،‬ويضمر نوازع الغدر واليانة‪.‬‬

‫وقد أنشأ طائفة كبية من القواد‪ ،‬الذين لقوا بعده الفرس والرومان ف ميادين العراق والشام‪ ،‬ففاقوهم ف‬
‫تطيط الروب وإدارة دفة القتال‪ ،‬حت استطاعوا إجلءهم من أرضهم وديارهم وأموالم من جنات‬
‫وعيون وزروع ومقام كري ونعمة كانوا فيها فاكيهن‪.‬‬

‫كما استطاع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بفضل هذه الغزوات أن يوفر السكن والرض والرف‬
‫والشاغل للمسلمي‪ ،‬حت تَفَصّي من كثي من مشاكل اللجئي الذين ل يكن لم مال ول دار‪ ،‬وهيأ‬
‫السلح والكُرَاع والعدة والنفقات‪ ،‬حصل على كل ذلك من غي أن يقوم بثقال ذرة من الظلم والطغيان‬
‫والبغي والعدوان على عباد اللّه‪.‬‬

‫وقد غي أغراض الروب وأهدافها الت كانت تضطرم نار الرب لجلها ف الاهلية‪ ،‬فبينما كانت الرب‬
‫عبارة عن النهب والسلب والقتل والغارة والظلم والبغي والعدوان‪ ،‬وأخذ الثأر‪ ،‬والفوز بالوَتَر‪ ،‬وكبت‬
‫الضعيف‪ ،‬وتريب العمران‪ ،‬وتدمي البنيان‪ ،‬وهتك حرمات النساء‪ ،‬والقسوة بالضعاف والولئد‬
‫والصبيان‪ ،‬وإهلك الرث والنسل‪ ،‬والعبث والفساد ف الرض ـ ف الاهلية ـ إذ صارت هذه الرب‬
‫ـ ف السلم ـ جهادا ف تقيق أهداف نبيلة ‪ ،‬وأغراض سامية‪ ،‬وغايات ممودة‪ ،‬يعتز با الجتمع‬
‫النسان ف كل زمان ومكان‪ ،‬فقد صارت الرب جهادا ف تليص النسان من نظام القهر والعدوان‪ ،‬إل‬
‫نظام العدالة والنّصَف‪ ،‬من نظام يأكل فيه القوي الضعيف‪ ،‬إل نظام يصي فيه القوي ضعيفا حت يؤخذ‬
‫ض َعفِيَ مِ َن الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِْلدَا ِن الّذِينَ َيقُولُونَ َربّنَا أَخْرِ ْجنَا‬
‫منه‪ ،‬وصارت جهادا ف تليص {وَالْمُسْتَ ْ‬
‫مِنْ هَـ ِذهِ اْلقَ ْريَةِ الظّالِمِ أَ ْهلُهَا وَا ْجعَل لّنَا مِن ّلدُنكَ َولِيّا وَا ْجعَل لّنَا مِن ّلدُنكَ نَصِيًا} [النساء‪.]75:‬‬
‫وصارت جهادا ف تطهي أرض اللّه من الغدر واليانة والث والعدوان‪ ،‬إل بسط المن والسلمة والرأفة‬
‫والرحة ومراعاة القوق والروءة‪.‬‬

‫كما شرع للحروب قواعد شريفة ألزم التقيد با على جنوده وقوادها‪ ،‬ول يسمح لم الروج عنها بال‪.‬‬
‫روي سليمان بن بريدة عن أبيه قال‪ :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إذا أمر أميا على جيش أو‬
‫سرية أوصاه ف خاصته بتقوي اللّه عز وجل‪ ،‬ومن معه من السلمي خيا‪ ،‬ث قال‪( :‬اغزوا بسم اللّه‪ ،‬ف‬
‫سبيل اللّه‪ ،‬قاتلوا من كفر باللّه‪ ،‬اغزوا‪ ،‬فل تغلوا‪ ،‬ولتغدروا‪ ،‬ول تثلوا‪ ،‬ول تقتلوا وليدا‪ )...‬الديث‪.‬‬
‫وكان يأمر بالتيسي ويقول‪( :‬يسروا ول تعسروا‪ ،‬وسكنوا ول تنفروا)‪.‬‬

‫وكان إذا جاء قوما بِلَيْل ل ُيغِرْ عليهم حت يُصبِح‪ ،‬وني أشد النهي عن التحريق ف النار‪ ،‬وني عن قتل‬
‫الصب‪ ،‬وقتل النساء وضربن‪ ،‬وني عن النهب حت قال‪( :‬إن النّهْبَى ليست بأحل من اليتة)‪ ،‬وني عن‬
‫إهلك الرث والنسل وقطع الشجار إل إذا اشتدت إليها الاجة‪ ،‬ول يبقي سواه سبيل‪ .‬وقال عند فتح‬
‫مكة‪( :‬ل تهزن على جريح‪ ،‬ول تتبعن مدبرا‪ ،‬ول تقتلن أسيا)‪ ،‬وأمضى السنة بأن السفي ل يقتل‪،‬‬
‫وشدد ف النهي عن قتل العاهدين حت قال‪( :‬من قتل معاهدا ل يُ ِرحْ رائحة النة‪ ،‬وإن ريها لتوجد من‬
‫مسية أربعي عاما)‪ ،‬إل غي ذلك من القواعد النبيلة الت طهرت الروب من أدران الاهلية حت جعلتها‬
‫جهادا مقدسا‪.‬‬

‫الناس يدخلون ف دين اللّه أفواجا‬

‫كانت غزوة فتح مكة ـ كما قلنا ـ معركة فاصلة‪ ،‬قضت على الوثنية قضاء باتا‪ ،‬عرفت العرب لجلها‬
‫الق من الباطل‪ ،‬وزالت عنهم الشبهات‪ ،‬فتسارعوا إل اعتناق السلم‪ .‬قال عمرو بن سلمة‪ :‬كنا باء مر‬
‫الناس‪ ،‬وكان ير بنا الركبان فنسألم‪ :‬ماللناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ ـ أي النب صلى ال عليه‬
‫وسلم ـ فيقولون‪ :‬يزعم أن اللّه أرسله‪ ،‬أوحي إليه‪ ،‬أوحي اللّه كذا‪ ،‬فكنت أحفظ ذاك الكلم‪ ،‬فكأنا يقر‬
‫ف صدري‪ ،‬وكانت العرب تلوم بإسلمهم الفتح‪ ،‬فيقولون‪ :‬اتركوه وقومه‪ ،‬فإنه إن ظهر عليهم فهو نب‬
‫صادق‪ .‬فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلمهم‪ ،‬وبدر أب قومي بإسلمهم‪ ،‬فلما قدم قال‪:‬‬
‫جئتكم واللّه من عند النب صلى ال عليه وسلم حقا‪ .‬فقال‪ :‬صلوا صلة كذا ف حي كذا‪ ،‬وصلة كذا ف‬
‫حي كذا‪ ،‬فإذا حضرت الصلة فليؤذن أحدكم‪ ،‬وليؤمكم أكثركم قرآنا‪ ...‬الديث‪.‬‬

‫وهذا الديث يدل مدي أثر فتح مكة ف تطوير الظروف‪ ،‬وتعزيز السلم‪ ،‬وتعيي الوقف للعرب‪،‬‬
‫واستسلمهم للسلم‪ ،‬وتأكد ذلك أي تأكد بعد غزوة تبوك‪ ،‬ولذلك نري الوفود تقصد الدينة تتري ف‬
‫هذين العامي ـ التاسع والعاشر ـ ونري الناس يدخلون ف دين اللّه أفواجا‪ ،‬حت إن اليش السلمي‬
‫الذي كان قوامه عشرة آلف مقاتل ف غزوة الفتح‪ ،‬إذا هو يزخر ف ثلثي ألف مقاتل ف غزوة تبوك قبل‬
‫أن يضي على فتح مكة عام كامل‪ ،‬ث نري ف حجة الوداع برا من رجال السلم ـ مائة ألف من الناس‬
‫أو مائة ألف وأربعة وأربعون ألفا منهم ـ يوج حول رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالتلبية والتكبي‬
‫والتسبيح والتحميد‪ ،‬تدوي له الفاق‪ ،‬وترتج له الرجاء‪.‬‬

‫الـوفـــود‬

‫والوفود الت سردها أهل الغازي يزيد عددها على سبعي وفدا‪ ،‬ول يكن لنا استقصاءها‪ ،‬وليس كبي‬
‫فائدة ف بسط تفاصيلها‪ ،‬وإنا نذكر منها إجالً ماله روعة أو أهية ف التاريخ‪ ،‬وليكن على ذكر من‬
‫القارئ أن وفادة عامة القبائل وإن كانت بعد الفتح‪ ،‬ولكن هناك قبائل توافدت قبله أيضا‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ وفد عبد القيس‪:‬‬


‫كانت لذه القبيلة وفادتان‪ :‬الول سنة خس من الجرة أو قبل ذلك‪ .‬كان رجل منهم يقال له مُ ْن ِقذُ بن‬
‫حيان‪ ،‬يَرِ ُد الدينة بالتجارة‪ ،‬فلما جاء الدينة بتجارته بعد مقدم النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعلم السلم‬
‫أسلم‪ ،‬وذهب بكتاب من النب صلى ال عليه وسلم إل قومه فأسلموا‪ ،‬فتوافدوا إليه ف شهر حرام ف‬
‫ثلثة أو أربعة عشر رجلً‪ ،‬وفيها سألوا عن اليان وعن الشربة‪ ،‬وكان كبيهم الشج العصري الذي قال‬
‫فيه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن فيك خصلتي يبهما اللّه‪ :‬اللم والناة)‪.‬‬
‫والوفادة الثانية كانت ف سنة الوفود‪ ،‬وكان عددهم فيها أربعي رجلً‪ ،‬وكان فيهم الارود بن العلء‬
‫العبدي‪ ،‬وكان نصرانيا فأسلم وحسن إسلمه‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ وفد َدوْس‪:‬‬


‫كانت وفادة هذه القبيلة ف أوائل سنة سبع‪ ،‬ورسول اللّه صلى ال عليه وسلم بيب ‪ ،‬وقد قدمنا حديث‬
‫إسلم الطّفَيْل بن عمرو الدوسي‪ ،‬وأنه أسلم ورسول اللّه صلى ال عليه وسلم بكة‪ ،‬ث رجع إل قومه‪،‬‬
‫فلم يزل يدعوهم إل السلم‪ ،‬ويبطئون عليه حت يئس منهم‪ ،‬ورجع إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فطلب منه أن يدعو على دوس‪ ،‬فقال‪( :‬اللهم اهد دوسا)‪ .‬ث أسلم هؤلء‪ ،‬فوفد الطفيل بسبعي أو ثاني‬
‫بيتا من قومه إل الدينة ف أوائل سنة سبع‪ ،‬ورسول اللّه صلى ال عليه وسلم بيب‪ ،‬فلحق به‪.‬‬

‫لذَامي‪:‬‬
‫‪ 3‬ـ رسول فَرْوَة بن عمرو ا ُ‬
‫كان فروة قائدا عربيا من قواد الرومان‪ ،‬عاملً لم على من يليهم من العرب‪ ،‬وكان منله َمعَان وما حوله‬
‫من أرض الشام‪ ،‬أسلم بعد ما رأي من جلد السلمي وشجاعتهم‪ ،‬وصدقهم اللقاء ف معركة مؤتة سنة ‪8‬‬
‫هـ‪ ،‬ولا أسلم بعث إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رسولً بإسلمه‪ ،‬وأهدي له بغلة بيضاء‪ ،‬ولا علم‬
‫الروم بإسلمه أخذوه فحبسوه‪ ،‬ث خيوه بي الردة والوت‪ ،‬فاختار الوت على الردة‪ ،‬فصلبوه بفلسطي‬
‫على ماء يقال له‪ :‬عفراء‪ ،‬وضربوا عنقه‪.‬‬

‫صدَاء‪:‬‬
‫‪ 4‬ـ وفد ُ‬
‫لعْرَانة سنة ‪ 8‬هـ ‪ ،‬وذلك أن‬
‫جاء هذا الوفد عقب انصراف رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من ا ِ‬
‫رسول اللّّه صلى ال عليه وسلم هيأ بعثا من أربعمائة من السلمي‪ ،‬وأمرهم أن يطأوا ناحية من اليمن فيها‬
‫صدْرِ قَنَاة علم به زياد بن الارث الصدائي‪ ،‬فجاء إل رسول اللّه‬
‫صدَاء‪ ،‬وبينما ذلك البعث معسكر ب َ‬
‫ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬جئتك وافدا على مَنْ ورائي‪ ،‬فاردد اليش وأنا لك بقومي‪ ،‬فرد اليش من‬
‫صدر قناة‪ ،‬وجاء الصدائي إل قومه فرغبهم ف القدوم على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقدم عليه‬
‫خسة عشر رجلً منهم‪ ،‬وبايعوه على السلم‪ ،‬ث رجعوا إل قومهم‪ ،‬فدعوهم ففشا فيهم السلم‪ ،‬فواف‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم منهم مائة رجل ف حجة الوداع‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ قدوم كعب بن زهي بن أب سلمى‪:‬‬


‫كان من بيت الشعراء‪ ،‬ومن أشعر العرب‪ ،‬وكان يهجو النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما انصرف رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم من غزوة الطائف سنة ‪8‬هـ ‪ ،‬كتب إل كعب بن زهي أخوه بُجَيْر بن زهي أن‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قتل رجالً بكة من كانوا يهجونه ويؤذونه‪ ،‬ومن بقي من شعراء قريش‬
‫هربوا ف كل وجه‪ ،‬فإن كانت لك ف نفسك حاجة َفطِرْ إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإنه ل يقتل‬
‫أحدا جاء تائبا‪ ،‬وإل فانج إل ناتك‪ ،‬ث جري بي الخوين مراسلت ضاقت لجلها الرض على كعب‪،‬‬
‫وأشفق على نفسه‪ ،‬فجاء الدينة‪ ،‬ونزل على رجل من جُهَيَْنةَ‪ ،‬وصلي معه الصبح‪ ،‬فلما انصرف أشار عليه‬
‫الهن‪ ،‬فقام إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم حت جلس إليه‪ ،‬فوضع يده ف يده‪ ،‬وكان رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم ل يعرفه فقال‪ :‬يا رسول اللّه‪ ،‬إن كعب بن زهي قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما‪،‬‬
‫فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال‪( :‬نعم)‪ .‬قال‪ :‬أنا كعب بن زهي‪ ،‬فوثب عليه رجل من النصار‬
‫يستأذن ضرب عنقه‪ ،‬فقال‪( :‬دعه عنك‪ ،‬فإنه قد جاء تائبا نازعا عما كان عليه)‪.‬‬

‫وحينئذ أنشد كعب قصيدته الشهورة الت أولا‪:‬‬

‫بانت سعاد فقلب اليوم مَتْبُول ** مُتَّيمٌ إثْرَهَا‪ ،‬ل ُي ْفدَ‪ ،‬مَكْبُول‬

‫قال فيها ـ وهو يعتذر إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويدحه‪:‬‬

‫نبئت أن رسول ال أوعدن ** والعفو عند رسول ال مأمول‬

‫مهل هداك الذي أعطاك نافلة الـ ** قرآن فيها مواعيظ وتفصيل‬

‫ل تأخذن بأقوال الوشاة ول ** أذنب‪ ،‬ولو كثرت فّ القاويل‬

‫لقد أقوم مقاما ما لو يقوم به ** أرى وأسع ما لو يسمع الفيل‬

‫لظل يرعد إل أن يكون له ** من الرسول بإذن ال تنويل‬

‫حت وضعت يين ما أنازعه ** ف كف ذي نقمات قيله القيل‬

‫فلهو أخوف عندي إذ أكلمه ** وقيل‪ :‬إنك منسوب ومسئول‬

‫من ضيغم بضراء الرض مدرة ** ف بطن عثر غيل دونه غيل‬

‫إن الرسول لنور يستضاء به ** مهند من سيوف ال مسلول‬


‫ث مدح الهاجرين من قريش؛ لنم ل يكن تكلم منهم رجل ف كعب حي جاء إل بي‪ ،‬وعرض ف أثناء‬
‫مدحهم على النصار لسئذان رجل منهم ف ضرب عنقه‪ ،‬قال‪:‬‬

‫يشون مَشْي المال الزّ ْهرِ يعصمهم ** ضَ ْربٌ إذا َعرّد السّودُ التّنَابِيل‬

‫فلما أسلم وحسن إسلمه مدح النصار ف قصيدة له‪ ،‬وتدارك ما كان قد فرط منه ف شأنم‪ ،‬قال ف تلك‬
‫القصيدة‪:‬‬

‫من سره كَ َرمُ الــياة فل يَ َزلْ ** ف مِقَْنبٍ من صالي النصار‬

‫ورثوا الكارم كابرا عن كـابر ** إن الـيار هـم بنـو الخيار‬

‫‪ 6‬ـ وفد ُع ْذرَة‪:‬‬


‫قدم هذا الوفد ف صفر سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬وهم اثنا عشر رجلً فيهم حزة بن النعمان‪ ،‬قال متكلمهم حي سئلوا‬
‫(من القوم؟)‪ :‬نن بنو ُعذْرَة‪ ،‬إخوة ُقصَي لمه‪ ،‬نن الذين عضدوا قصيا‪ ،‬وأزاحوا من بطن مكة خزاعة‬
‫وبن بكر‪ ،‬لنا قرابات وأرحام‪ ،‬فرحب بم النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبشرهم بفتح الشام‪ ،‬وناهم عن‬
‫سؤال الكاهنة‪ ،‬وعن الذبائح الت كانوا يذبونا‪ .‬أسلموا وأقاموا أياما ث رجعوا‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ وفد بَلِي‪:‬‬


‫قدم ف ربيع الول سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬وأسلم وأقام بالدينة ثلثا‪ ،‬وقد سأل رئيسهم أبو الضّبَيْب عن الضيافة‬
‫هل فيها أجر؟ فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪( :‬نعم‪ ،‬وكل معروف صنعته إل غن أو فقي فهو‬
‫صدقة)‪ ،‬وسأل عن وقت الضيافة‪ ،‬فقال‪( :‬ثلثة أيام)‪ ،‬وسأل عن ضالة الغنم‪ ،‬فقال‪( :‬هي لك أو لخيك‬
‫أو للذنب)‪ ،‬وسأل عن ضالة البعي‪ .‬فقال‪( :‬مالك وله؟ دعه حت يده صاحبه)‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ وفد ثقيف‪:‬‬


‫كانت وفادتم ف رمضان سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬وقصة إسلمهم أن رئيسهم عروة بن مسعود الثقفي جاء إل‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بعد مرجعه من غزوة الطائف ف ذي القعدة سنة ‪ 8‬هـ قبل أن يصل إل‬
‫الدينة‪ ،‬فأسلم عروة‪ ،‬ورجع إل قومه‪ ،‬ودعاهم إل السلم ـ وهو يظن أنم يطيعونه ؛ لنه كان سيدا‬
‫مطاعا ف قومه‪ ،‬وكان أحب إليهم من أبكارهم ـ فلما دعاهم إل السلم رموه بالنبل من كل وجه حت‬
‫قتلوه‪ ،‬ث أقاموا بعد قتله أشهرا‪ ،‬ث ائتمروا بينهم‪ ،‬ورأوا أنه ل طاقة لم برب مَنْ حولم من العرب ـ‬
‫الذين كانوا قد بايعوا وأسلموا ـ فأجعوا أن يرسلوا رجلً إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكلموا‬
‫عَبْد يالِيل بن عمرو‪ ،‬وعرضوا عليه ذلك فأب‪ ،‬وخاف أن يصنعوا به إذا رجع مثل ما صنعوا بعروة‪ .‬وقال‪:‬‬
‫لست فاعلً حت ترسلوا معي رجالً‪ ،‬فبعثوا معه رجلي من الحلف وثلثة من بن مالك‪ ،‬فصاروا ستة‬
‫فيهم عثمان بن أب العاص الثقفي‪ ،‬وكان أحدثهم سنا‪.‬‬

‫فلما قدموا على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ضرب عليهم قبة ف ناحية السجد‪ ،‬لكي يسمعوا‬
‫القرآن‪ ،‬ويروا الناس إذا صلوا‪ ،‬ومكثوا يتلفون إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو يدعوهم إل‬
‫السلم‪ ،‬حت سأل رئيسهم أن يكتب لم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قضية صلح بينه وبي ثقيف‪،‬‬
‫يأذن لم فيه بالزنا وشرب المور وأكل الربا‪ ،‬ويترك لم طاغيتهم اللت‪ ،‬وأن يعفيهم من الصلة‪ ،‬وأل‬
‫يكسروا أصنامهم بأيديهم‪ ،‬فأب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن يقبل شيئا من ذلك‪ ،‬فخلوا وتشاوروا‬
‫فلم يدوا ميصا عن الستسلم لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاستسلموا وأسلموا‪ ،‬واشترطوا أن‬
‫يتول رسول اللّه صلى ال عليه وسلم هدم اللت‪ ،‬وأن ثقيفا ل يهدمونا بأيديهم أبدا‪ .‬فقبل ذلك‪ ،‬وكتب‬
‫لم كتابا‪ ،‬وأمر عليهم عثمان بن أب العاص الثقفي ؛ لنه كان أحرصهم على التفقه ف السلم وتعلم‬
‫الدين والقرآن‪ .‬وذلك أن الوفد كانوا كل يوم يغدون إل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويلفون‬
‫عثمان بن أب العاص ف رحالم‪ ،‬فإذا رجعوا وقالوا بالاجرة عمد عثمان بن أب العاص إل رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم فاستقرأه القرآن‪ ،‬وسأله عن الدين‪ ،‬وإذا وجده نائما عمد إل أب بكر لنفس الغرض‬
‫(وكان من أعظم الناس بركة لقومه ف زمن الردة‪ ،‬فإن ثقيفا لا عزمت على الردة قال لم‪ :‬يا معشر‬
‫ثقيف‪ ،‬كنتم آخر الناس إسلما‪ ،‬فل تكونوا أول الناس ردة‪ ،‬فامتنعوا عن الردة‪ ،‬وثبتوا على السلم)‪.‬‬

‫ورجع الوفد إل قومه فكتمهم القيقة‪ ،‬وخوفهم بالرب والقتال‪ ،‬وأظهر الزن والكآبة‪ ،‬وأن رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم سألم السلم وترك الزنا والمر والربا وغيها وإل يقاتلهم‪ .‬فأخذت ثقيفا نوة‬
‫الاهلية‪ ،‬فمكثوا يومي أو ثلثة يريدون القتال‪ ،‬ث ألقي اللّه ف قلوبم الرعب‪ ،‬وقالوا للوفد‪ :‬ارجعوا إليه‬
‫فأعطوه ما سأل‪ .‬وحينئذ أبدي الوفد حقيقة المر‪ ،‬وأظهروا ما صالوا عليه‪ ،‬فأسلمت ثقيف‪.‬‬

‫وبعث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رجالً لدم اللت‪ ،‬أمر عليهم خالد بن الوليد‪ ،‬فقام الغية ابن‬
‫شعبة‪ ،‬فأخذ الكُرْزِين وقال لصحابه‪ :‬واللّه لضحكنكم من ثقيف‪ ،‬فضرب بالكرزين‪ ،‬ث سقط يركض‪،‬‬
‫فارتج أهل الطائف‪ ،‬وقالوا‪ :‬أبعد اللّه الغية‪ ،‬قتلته ال ّربّةُ‪ ،‬فوثب الغية فقال‪ :‬قبحكم اللّه‪ ،‬إنا هي لُكَاع‬
‫حجارة و َمدَر‪ ،‬ث ضرب الباب فكسره‪ ،‬ث عل أعلى سورها‪ ،‬وعل الرجال فهدموها وسووها بالرض‬
‫حت حفروا أساسها‪ ،‬وأخرجوا حليها ولباسها‪ ،‬فبهتت ثقيف‪ ،‬ورجع خالد مع مفرزته إل رسول اللّْه صلى‬
‫ال عليه وسلم بليها وكسوتا‪ ،‬فقسمها رسول ال صلى ال عليه وسلم من يومه‪ ،‬وحد ال على نصرة‬
‫نبيه وإعزاز دينه‪.‬‬

‫‪ 9‬ـ رسالة ملوك اليمن‪:‬‬


‫وبعد مرجع النب صلى ال عليه وسلم من تبوك قدم كتاب ملوك حِمْيَر‪ ،‬وهم الارث بن عبد كُلل‪،‬‬
‫ونعيم بن عبد كلل‪ ،‬والنعمان‪ ،‬وقَيْلُ ذي رُعَيْن و َه ْمدَان و ُمعَافِر‪ ،‬ورسولم إليه صلى ال عليه وسلم‬
‫مالك بن مرة الرّهَاوي‪ ،‬بعثوه بإسلمهم ومفارقتهم الشرك وأهله‪ ،‬وكتب إليهم رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم كتابا بَيّنَ فيه ما للمؤمني وما عليهم‪ ،‬وأعطي فيه العاهدين ذمة اللّه وذمة رسوله إذا أعطوا ما‬
‫عليهم من الزية وبعث إليهم رجالً من أصحابه أميهم معاذ بن جبل‪ ،‬وجعله على الكورة العلياء من‬
‫جهة َعدَن بي السّكُون والسّكَاسِك‪ ،‬وكان قاضيا وحاكما ف الروب‪ ،‬وعاملً على أخذ الصدقة‬
‫والزية‪ ،‬ويصلي بم الصلوات المس‪ ،‬وبعث أبا موسي الشعري رضي ال عنه على الكورة السفلي‪:‬‬
‫ُزبَيْد ومأرب وَ َزمَع والساحل‪ ،‬وقال‪( :‬يسرا ول تعسرا‪ ،‬وبشرا ول تنفرا‪ ،‬وتطاوعا ول تتلفا)‪ .‬وقد مكث‬
‫معاذ باليمن حت توف رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ .‬أما أبو موسي الشعري رضي ال عنه فقدم عليه‬
‫صلى ال عليه وسلم ف حجة الوداع‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ وفد هدان‪:‬‬


‫قدموا سنة ‪9‬هـ بعد مرجعه صلى ال عليه وسلم من تبوك‪ ،‬فكتب لم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫كتابا أقطعهم فيه ما سألوه‪ ،‬وأمر عليهم مالك بن النّمَطَ‪ ،‬واستعمله على من أسلم من قومه‪ ،‬وبعث إل‬
‫سائرهم خالد بن الوليد يدعوهم إل السلم‪ ،‬فأقام ستة أشهر يدعوهم فلم ييبوه‪ ،‬ث بعث على بن أب‬
‫طالب‪ ،‬وأمره أن يَ ْقفُ َل خالدا‪ ،‬فجاء على إل هدان‪ ،‬وقرأ عليهم كتابا من رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ودعاهم إل السلم فأسلموا جيعا‪ ،‬وكتب على ببشارة إسلمهم إل رسول صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فلما قرأ الكتاب خر ساجدا‪ ،‬ث رفع رأسه فقال‪( :‬السلم على هدان‪ ،‬السلم على هدان)‪.‬‬

‫‪ 11‬ـ وفد بن فَزَارَة‪:‬‬


‫قدم هذا الوفد سنة ‪9‬هـ بعد مرجعه صلى ال عليه وسلم من تبوك‪ ،‬قدم ف بضعة عشر رجلً جاءوا‬
‫مقرين بالسلم‪ ،‬وشكوا جدب بلدهم‪ ،‬فصعد رسول ال صلى ال عليه وسلم النب‪ ،‬فرفع يديه‬
‫واستسقي‪ ،‬وقال‪( :‬اللهم اسق بلدك وبائمك‪ ،‬وانشر رحتك‪ ،‬وأحْي بلدك اليت‪ ،‬اللهم اسقنا غَيْثا ُمغِيثا‪،‬‬
‫مريئًا مَرِيعا‪ ،‬طَبَقا واسعا‪ ،‬عاجلً غي آجل‪ ،‬نافعا غي ضار‪ ،‬اللّهم سقيا رحة‪ ،‬ل سقيا عذاب‪ ،‬ول َهدْم ول‬
‫غَرَق ول َمحْق‪ ،‬اللّهم اسقنا الغيث‪ ،‬وانصرنا على العداء)‪.‬‬
‫‪12‬ـ وفد نران‪:‬‬
‫[نران] بفتح النون وسكون اليم‪ :‬بلد كبي على سبع مراحل من مكة إل جهة اليمن‪ ،‬كان يشتمل على‬
‫ثلث وسبعي قرية‪ ،‬مسية يوم للراكب السريع ‪ ،‬وكان يؤلف مائة ألف مقاتل كانوا يدينون بالنصرانية‪.‬‬

‫وكانت وفادة أهل نران سنة ‪9‬هـ‪ ،‬وقوام الوفد ستون رجلً منهم أربعة وعشرون من الشراف‪ ،‬فيهم‬
‫ثلثة كانت إليهم زعامة أهل نران‪ .‬أحدهمْ‪ :‬العَاقِب‪ ،‬كانت إليه المارة والكومة‪ ،‬واسه عبد السيح‪.‬‬
‫والثان‪ :‬السيد‪ ،‬كانت تت إشرافه المور الثقافية والسياسية‪ ،‬واسه اليْهَم أو شُ َرحِْبيل‪ .‬والثالث‪:‬‬
‫السْقف‪ ،‬وكانت إليه الزعامة الدينية‪ ،‬والقيادة الروحانية‪ ،‬واسه أبو حارثة بن علقمة‪.‬‬

‫ولا نزل الوفد بالدينة‪ ،‬ولقي النب صلى ال عليه وسلم سألم وسألوه‪ ،‬ث دعاهم إل السلم‪ ،‬وتل عليهم‬
‫القرآن فامتنعوا‪ ،‬وسألوه عما يقول ف عيسي عليه السلم‪ ،‬فمكث رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يومه‬
‫ذلك حت نزل عليه‪{ :‬إِنّ مََثلَ عِيسَى عِندَ ال ّلهِ كَمَثَلِ آ َدمَ خَ َل َقهُ مِن تُرَابٍ ِثمّ قَالَ َلهُ كُن فَيَكُونُ اْلحَقّ مِن‬
‫ّرّبكَ َفلَ تَكُن مّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآ ّجكَ فِيهِ مِن بَ ْعدِ مَا جَاءكَ مِنَ اْلعِ ْلمِ َفقُلْ َتعَالَ ْواْ نَ ْدعُ َأبْنَاءنَا َوأَبْنَاء ُكمْ‬
‫جعَل ّلعْنَةُ ال ّلهِ َعلَى الْكَا ِذبِيَ} [آل عمران‪61 :59:‬‬
‫َونِسَاءنَا َونِسَاء ُكمْ َوأَنفُسَنَا وأَنفُسَ ُكمْ ثُمّ نَبْتَ ِهلْ فََن ْ‬
‫]‪.‬‬

‫ولا أصبح رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أخبهم بقوله ف عيسي ابن مري ف ضوء هذه الية الكرية‪،‬‬
‫وتركهم ذلك اليوم ؛ ليفكروا ف أمرهم‪ ،‬فأبوا أن يقروا با قال ف عيسي‪ .‬فلما أصبحوا وقد أبوا عن‬
‫قبول ما عرض عليهم من قوله ف عيسي‪ ،‬وأبوا عن السلم دعاهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إل‬
‫الباهلة‪ ،‬وأقبل مشتملً على السن والسي ف خَمِيل له‪ ،‬وفاطمة تشي عند ظهره‪ ،‬فلما رأوا منه الد‬
‫والتهيؤ خلوا وتشاوروا‪ ،‬فقال كل من العاقب والسيد للخر‪ :‬ل تفعل‪ ،‬فو اللّه لئن كان نبيا َفلَعََننَا ل‬
‫نفلح نن ول عقبنا من بعدنا ‪ ،‬فل يبقي على وجه الرض منا شعرة ول ُظفْر إل هلك‪ ،‬ث اجتمع رأيهم‬
‫على تكيم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ف أمرهم‪ ،‬فجاءوا وقالوا‪ :‬إنا نعطيك ما سألتنا‪ .‬فقبل رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم منهم الزية‪ ،‬وصالهم على ألفي ُحلّة‪ :‬ألف ف رجب‪ ،‬وألف ف صفر‪ ،‬ومع كل‬
‫حلة أوقية‪ ،‬وأعطاهم ذمة اللّه وذمة رسوله‪ .‬وترك لم الرية الكاملة ف دينهم‪ ،‬وكتب لم بذلك كتابا‪،‬‬
‫وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلً أمينا‪ ،‬فبعث عليهم أمي هذه المة أبا عبيدة بن الراح؛ ليقبض مال‬
‫الصلح‪.‬‬
‫ث طفق السلم يفشو فيهم‪ ،‬فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعد ما رجعا إل نران‪ ،‬وأن النب صلى‬
‫ال عليه وسلم بعث إليهم عليّا ؛ ليأتيه بصدقاتم وجزيتهم‪ ،‬ومعلوم أن الصدقة إنا تؤخذ من السلمي‪.‬‬

‫‪ 13‬ـ وفد بن حنيفة‪:‬‬


‫كانت وفادتم سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬وكانوا سبعة عشر رجلً فيهم مُسَيْلِمة الكذاب ـ وهو مُسَ ْيلِمة بن ثُمَامَة بن‬
‫كبي بن حبيب بن الارث من بن حنيفة ـ نزل هذا الوفد ف بيت رجل من النصار‪ ،‬ث جاءوا إل النب‬
‫صلى ال عليه وسلم فأسلموا‪ ،‬واختلفت الروايات ف مسيلمة الكذاب‪ ،‬ويظهر بعد النظر ف جيعها أن‬
‫مسيلمة صدر منه الستنكاف والنفة والستكبار والطموح إل المارة‪ ،‬وأنه ل يضر مع سائر الوفد إل‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأن النب صلى ال عليه وسلم أراد استئلفه بالحسان بالقول والفعل‬
‫أول‪ ،‬فلما رأي أن ذلك ل يدي فيه نفعا تفرس فيه الشر‪.‬‬

‫وكان النب صلى ال عليه وسلم قد أري قبل ذلك ف النام أنه أت بزائن الرض‪ ،‬فوقع ف يديه سواران‬
‫من ذهب‪ ،‬فكبا عليه وأهاه‪ ،‬فأوحي إليه أن انفخهما فنفخهما فذهبا‪ ،‬فأ ّولَهُمَا كذابي يرجان من بعده‪،‬‬
‫فلما صدر من مسيلمة ما صدر من الستنكاف ـ وقد كان يقول‪ :‬إن جعل ل ممد المر من بعده تبعته‬
‫ـ جاءه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وف يده قطعة من جريد‪ ،‬ومعه خطيبه ثابت بن قيس بن شَمّاس‪،‬‬
‫حت وقف على مسيلمة ف أصحابه‪ ،‬فكلمه‪ ،‬فقال له مسيلمة‪ :‬إن شئت خلينا بينك وبي المر‪ ،‬ث جعلته‬
‫لنا بعدك‪ ،‬فقال‪( :‬لو سألتن هذه القطعة ما أعطيتكها‪ ،‬ولن تعدو أمر اللّه فيك‪ ،‬ولئن أدبرتَ ليعقرنك اللّه‪،‬‬
‫واللّه إن لراك الذي أرِيتُ فيه ما رأيتُ‪ ،‬وهذا ثابت ييبك عن)‪ ،‬ث انصرف‪.‬‬

‫وأخيا وقع ما تَفَ ّرسَ فيه النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن مسيلمة لا رجع إل اليَمَامة بقي يفكر ف أمره‪،‬‬
‫حت ادعي أنه أشرك ف المر مع النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فادعي النبوة‪ ،‬وجعل يسجع السجعات‪،‬‬
‫وأحل لقومه المر والزنا‪ ،‬وهو مع ذلك يشهد لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنه نب‪ ،‬وافتت به قومه‬
‫فتبعوه وأصفقوا معه‪ ،‬حت تفاقم أمره‪ ،‬فكان يقال له‪ :‬رحان اليمامة لعظم قدره فيهم‪ ،‬وكتب إل رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم كتابا قال فيه‪ :‬إن أشركت ف المر معك‪ ،‬وإن لنا نصف المر‪ ،‬ولقريش نصف‬
‫المر‪ ،‬فرد عليه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بكتاب قال فيه‪( :‬إن الرض للّه يورثها من يشاء من‬
‫عباده‪ ،‬والعاقبة للمتقي)‪.‬‬
‫وعن ابن مسعود‪ :‬جاء ابن النّوّاحَة‪ ،‬وابن ُأثَال رسول مسيلمة إل النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال لما‪( :‬‬
‫أتشهدان أن رسول اللّّه؟) فقال‪ :‬نشهد أن مسيلمة رسول اللّه‪ .‬فقال النب صلى ال عليه وسلم‪( :‬آمنت‬
‫باللّه ورسوله‪ ،‬لو كنت قاتلً رسولً لقتلتكما)‪.‬‬

‫كان ادعاء مسيلمة النبوة سنة عشر‪ ،‬وقتل ف حرب اليمامة ف عهد أب بكر الصديق رضي ال عنه ف‬
‫ربيع الول سنة ‪21‬هـ‪ ،‬قتله وَ ْحشِي قاتل حزة‪.‬وأما التنبئ الثان‪ ،‬وهو السود العَنْسِي الذي كان‬
‫باليمن‪ ،‬فقتله فَيْرُوز‪ ،‬واحتز رأسه قبل وفاة النب صلى ال عليه وسلم بيوم وليلة‪ ،‬فأتاه الوحي فأخب به‬
‫أصحابه‪ ،‬ث جاء الب من اليمن إل أب بكر رضي ال عنه‪.‬‬

‫صعَة‪:‬‬
‫صعْ َ‬
‫‪14‬ـ وفد بن عامر بن َ‬
‫كان فيهم عامر بن ال ّطفَيْل عدو اللّه وأ ْربَد بن قيس ـ أخو لَبِيد لمه ـ وخالد بن جعفر‪ ،‬وجَبّار بن‬
‫أسلم‪ ،‬وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم‪ ،‬وكان عامر هو الذي غدر بأصحاب بئر َمعُونة‪ ،‬فلما أراد هذا‬
‫الوفد أن يقدم الدينة تآمر عامر وأربد‪ ،‬واتفقا على الفتك بالنب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما جاء الوفد‬
‫جعل عامر يكلم النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودار أربد خلفه‪ ،‬واخترط سيفه شبا‪ ،‬ث حبس اللّه يده فلم‬
‫يقدر على سله‪ ،‬وعصم اللّه نبيه‪ ،‬ودعا عليهما النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما رجعا أرسل اللّه على أربد‬
‫وجله صاعقة فأحرقته‪ ،‬وأما عامر فنل على امرأة سَلُولِيّةٍ‪ ،‬فأصيب ب ُغ ّدةٍ ف عنقه فمات وهو يقول‪ :‬أغدة‬
‫كغدة البعي‪ ،‬وموتا ف بيت السلولية‪.‬‬

‫وف صحيح البخاري‪ :‬أن عامرا أت النب صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬أُخَيّ ُركَ بي خصال ثلث‪ :‬يكون لك‬
‫أهل السّ ْهلِ ول أهل ا َلدَرَ‪ ،‬أو أكون خليفتك من بعدك‪ ،‬أو أغزوك بغَ َطفَان بألف أشقر وألف شقراء‪،‬‬
‫فطعن ف بيت امرأة‪ ،‬فقال‪ :‬أغدة كغدة البعي‪ ،‬ف بيت امرأة من بن فلن ! ايتون بفرسي‪ ،‬فركب‪ ،‬فمات‬
‫على فرسه‪.‬‬

‫‪15‬ـ وفد تُجِيب‪:‬‬


‫قدم هذا الوفد بصدقات قومه ما فضل عن فقرائهم‪ ،‬وكان الوفد ثلثة عشر رجلً‪ ،‬وكانوا يسألون عن‬
‫القرآن والسنن يتعلمونا‪ ،‬وسألوا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أشياء فكتب لم با‪ ،‬ول يطيلوا اللبث‪،‬‬
‫ولا أجازهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بعثوا إليه غلما كانوا خلفوه ف رحالم‪ ،‬فجاء الغلم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫واللّه ما أعْ َملَنِي من بلدي إل أن تسأل اللّه عز وجل أن يغفر ل ويرحن‪ ،‬وأن يعل غناي ف قلب‪ ،‬فدعا‬
‫له بذلك‪ .‬فكان أقنع الناس‪ ،‬وثبت ف الردة على السلم‪ ،‬وذكر قومه ووعظهم فثبتوا عليه‪ ،‬والتقي أهل‬
‫الوفد بالنب صلى ال عليه وسلم مرة أخري ف حجة الوداع سنة ‪ 01‬هـ‪.‬‬

‫‪16‬ـ وفد طيّـئ‪:‬‬


‫قدم هذا الوفد وفيهم َزْيدُ الَيْلِ ‪ ،‬فلما كلموا النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعرض عليهم السلم أسلموا‬
‫وحسن إسلمهم‪ ،‬وقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عن زيد‪( :‬ما ذكر ل رجل من العرب بفضل‪ ،‬ث‬
‫جاءن إل رأيته دون ما يقال فيه ‪ ،‬إل زيد اليل‪ ،‬فإنه ل يبلغ كل ما فيه)‪ ،‬وساه زيد الي‪.‬‬

‫وهكذا تتابعت الوفود إل الدينة ف سنت تسع وعشر‪ ،‬وقد ذكر أهل الغازي والسي منها وفود أهل‬
‫اليمن‪ ،‬والزْد وبن سعد ُه َذيْم من ُقضَاعَة‪ ،‬وبن عامر بن قَيْس‪ ،‬وبن أسد‪ ،‬وبَ ْهرَاء وخَوْلن و ُمحَارِب وبن‬
‫الارث بن كعب وغَامِد وبن الُنَْتفِق‪ ،‬وسَلمان‪ ،‬وبن عَبْس‪ ،‬ومُ َزيْنَة‪ ،‬ومُرَاد‪ ،‬و ُزبَيْد‪ ،‬وكِ ْندَة‪ ،‬وذي مُرّة‪،‬‬
‫وغَسّان‪ ،‬وبن عِيش‪ ،‬وَنخْع ـ وهو آخر الوفود‪ ،‬توافـد فـي منتصف مـرم سنة ‪11‬هـ ف مائت‬
‫رجـل ـ وكانت وفادة الغلبية من هذه الوفود سنة ‪ 9‬و ‪ 01‬هـ‪ ،‬وقد تأخرت وفادة بعضها إل سنة‬
‫‪ 11‬هـ‪.‬‬

‫وتَتَابُع هذه الوفود يدل على مدي ما نالت الدعوة السلمية من القبول التام‪ ،‬وبسط السيطرة والنفوذ‬
‫على أناء جزيرة العرب وأرجائها‪ ،‬وأن العرب كانت تنظر إل الدينة بنظر التقدير والجلل‪ ،‬حت ل تكن‬
‫تري ميصا عن الستسلم أمامها‪ ،‬فقد صارت الدينة عاصمة لزيرة العرب‪ ،‬ل يكن صرف النظر عنها‪،‬‬
‫إل أننا ل يكن لنا القول بأن الدين قد تكن من أنفس هؤلء بأسرهم ؛ لنه كان وسطهم كثي من‬
‫العراب الفاة الذين أسلموا تبعا لسادتم‪ ،‬ول تكن أنفسهم قد خلصت بعد عما تأصل فيها من اليل إل‬
‫الغارات‪ ،‬ول تكن تعاليم السلم قد هذبت أنفسهم تام التهذيب‪.‬‬

‫وقد وصف القرآن بعضهم بقوله ف سورة التوبة‪{ :‬الَعْرَابُ أَ َشدّ ُكفْرًا َونِفَاقًا َوأَ ْجدَرُ أَلّ َيعْلَمُواْ ُحدُودَ مَا‬
‫أَنزَلَ ال ّلهُ عَلَى َرسُوِلهِ وَال ّلهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ َومِنَ الَ ْعرَابِ مَن يَّتخِذُ مَا يُنفِقُ َمغْ َرمًا َويَتَ َربّصُ بِ ُك ُم الدّوَائِرَ‬
‫عَ َليْ ِهمْ دَآئِ َرةُ السّ ْوءِ وَال ّلهُ َسمِيعٌ َعلِيمٌ} [التوبة‪]98 ،97:‬‬

‫خذُ مَا يُنفِقُ ُق ُربَاتٍ عِندَ ال ّلهِ‬


‫وأثن على آخرين منهم فقال‪َ { :‬ومِنَ الَعْرَابِ مَن يُ ْؤمِنُ بِال ّلهِ وَالْيَ ْومِ ال ِخرِ َويَّت ِ‬
‫صلَوَاتِ الرّسُولِ أَل إِنّهَا ُق ْربَةٌ لّ ُهمْ سَُيدْخِ ُل ُهمُ ال ّلهُ فِي رَحْ َمِتهِ إِنّ ال ّلهَ َغفُورٌ رّحِيمٌ} [ التوبة‪.]99:‬‬
‫وَ َ‬
‫أما الاضرون منهم ف مكة والدينة وثقيف‪ ،‬وكثي من اليمن والبحرين‪ ،‬فقد كان السلم فيهم قويا‪،‬‬
‫ومنهم كبار الصحابة وسادات السلمي‪.‬‬
‫ناح الدعوة وأثرها‬
‫حجـة الــوداع‬
‫آخر البعوث‬

‫ناح الدعوة وأثرها‬

‫وقبل أن نتقدم خطوة أخري إل مطالعة أواخر أيام حياة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ينبغي لنا أن نلقي‬
‫نظرة إجالية على العمل اللل الذي هو فذلكة حياته‪ ،‬والذي امتاز به عن سائر النبياء والرسلي‪ ،‬حت‬
‫توج اللّّه هامته بسيادة الولي والخرين‪.‬‬

‫إنه صلى ال عليه وسلم قيل له‪{ :‬يَا َأيّهَا الْمُ ّزمّلُ ُقمِ اللّ ْيلَ ِإلّا َقلِيلًا} اليات [الزمل‪ .]2 ،1:‬و{ يَا َأيّهَا‬
‫الْ ُم ّدثّرُ ُقمْ َفأَنذِرْ} [الدثر‪ ]2 ،1:‬اليات‪ ،‬فقام وظل قائما أكثر من عشرين عاما يمل على عاتقه عبء‬
‫المانة الكبي ف هذه الرض‪ ،‬عبء البشرية كلها وعبء العقيدة كلها‪ ،‬وعبء الكفاح والهاد ف‬
‫ميادين شت‪.‬‬

‫حل عبء الكفاح والهاد ف ميادين الضمي البشري الغارق ف أوهام الاهلية وتصوراتا‪ ،‬الثقل بأثقال‬
‫الرض وجواذبا‪ ،‬الكبل بأوهاق الشهوات وأغللا‪ .‬حت إذا خلص هذا الضمي ف بعض صحابته ما يثقله‬
‫من ركام الاهلية والياة الرضية‪ ،‬بدأ معركة أخري ف ميدان آخر‪ ،‬بل معارك متلحقة‪ ...‬مع أعداء‬
‫دعوة اللّه التألبي عليها‪ ،‬وعلى الؤمني با‪ ،‬الريصي على قتل هذه الغرسة الزكية ف منبتها‪ ،‬قبل أن تنمو‬
‫وتد جذورها ف التربـة‪ ،‬وفروعها ف الفضاء‪ ،‬وتظلل مساحات أخرى‪ ...‬ول يكد يفرغ من معارك‬
‫الزيرة العربية حت كانت الروم تعد لذه المة الديدة‪ ،‬وتتهيأ للبطش با على ُتخُومِها الشمالية‪.‬‬

‫وف أثناء هذا كله ل تكن العركة الول ـ معركة الضمي ـ قد انتهت‪ ،‬فهي معركة خالدة‪ ،‬الشيطان‬
‫صاحبها‪ ،‬وهو ل يَنِي لظة عن مزاولة نشاطه ف أعماق الضمي النسان‪ ،‬وممد صلى ال عليه وسلم قائم‬
‫على دعوة اللّه هناك‪ ،‬وعلى العركة الدائبة ف ميادينها التفرقة‪ ،‬ف شظف من العيش‪ ،‬والدنيا مقبلة عليه‬
‫وف جهد و َكدّ‪ ،‬والؤمنون يستروحون من حوله ظلل المن والراحة‪ ،‬وف نُصُب دائم ل ينقطع‪ ،‬وف صب‬
‫جيل على هذا كله‪ ،‬وف قيام الليل‪ ،‬وف عبادة لربه وترتيل لقرآنه‪ ،‬وتَبَتّل إليه كما أمره أن يفعل‪.‬‬
‫وهكذا عاش ف العركة الدائبة الستمرة أكثر من عشرين عاما‪ ،‬ل يلهيه شأن عن شأن ف خلل هذا‬
‫المد‪ ،‬حت نحت الدعوة السلمية على نطاق واسع تتحي له العقول‪ ،‬فقد دانت لا الزيرة العربية‪،‬‬
‫وزالت غبة الاهلية عن آفاقها‪ ،‬وصحت العقول العليلة حت تركت الصنام بل كسرت‪ ،‬أخذ الو يرتج‬
‫بأصوات التوحيد‪ ،‬وسع الذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلل الصحراء الت أحياها اليان الديد‪،‬‬
‫وانطلق القراء شالً وجنوبا‪ ،‬يتلون آيات الكتاب‪ ،‬ويقيمون أحكام اللّه‪.‬‬

‫وتوحدت الشعوب والقبائل التناثرة‪ ،‬وخرج النسان من عبادة العباد إل عبادة اللّه‪ ،‬فليس هناك قاهر‬
‫ومقهور‪ ،‬وسادات وعبيد‪ ،‬وحكام ومكومون‪ ،‬وظال ومظلوم‪ ،‬وإنا الناس كلهم عباد اللّه‪ ،‬إخوان‬
‫متحابون‪ ،‬متمثلون لحكامه‪ ،‬أذهب اللّه عنهم عُبّّيةَ الاهلية ونوتا وتعاظمها بالباء‪ ،‬ول يبق هناك فضل‬
‫لعرب على عجمي‪ ،‬ول لعجمي على عرب‪ ،‬ول لحر على أسود إل بالتقوي‪ ،‬الناس كلهم بنو آدم‪ ،‬وآدم‬
‫من تراب‪.‬‬

‫وهكذا تققت ـ بفضل هذه الدعوة ـ الوحدة العربية‪ ،‬والوحدة النسانية‪ ،‬والعدالة الجتماعية‪،‬‬
‫والسعادة البشرية ف قضاياها ومشاكلها الدنيوية‪ ،‬وف مسائلها الخروية‪ ،‬فتقلب مري اليام‪ ،‬وتغي وجه‬
‫الرض‪ ،‬وانعدل خط التاريخ‪ ،‬تبدلت العقلية‪.‬‬

‫إن العال كانت تسيطر عليه روح الاهلية ـ قبل هذه الدعوة ـ ويتعفن ضميه‪ ،‬وتأسن روحه‪ ،‬وتتل فيه‬
‫القيم والقاييس‪ ،‬ويسوده الظلم والعبودية‪ ،‬وتتاحه موجة من الترف الفاجر والرمان التاعس‪ ،‬وتغشاه‬
‫غاشية الكفر والضلل والظلم‪ ،‬على الرغم من الديانات السماوية‪ ،‬الت كانت قد أدركها التحريف‪،‬‬
‫وسري فيها الضعف‪ ،‬وفقدت سيطرتا على النفوس‪ ،‬واستحالت طقوسا جامدة‪ ،‬ل حياة فيها ول روح‪.‬‬

‫فلما قامت هذه الدعوة بدورها ف حياة البشرية‪ ،‬خلصت روح البشر من الوهم والرافة‪ ،‬ومن العبودية‬
‫والرق‪ ،‬ومن الفساد والتعفن‪ ،‬ومن القذارة والنلل‪ ،‬وخلصت الجتمع النسان من الظلم والطغيان‪،‬‬
‫ومن التفكك والنيار‪ ،‬ومن فوارق الطبقات‪ ،‬واستبداد الكام‪ ،‬واستذلل الكهان‪ ،‬وقامت ببناء العال‬
‫على أسس من العفة والنظافة‪ ،‬واليابية والبناء‪ ،‬والرية والتجدد‪ ،‬ومن العرفة واليقي‪ ،‬والثقة واليان‪،‬‬
‫والعدالة والكرامة‪ ،‬ومن العمل الدائب لتنمية الياة‪ ،‬وترقية الياة‪ ،‬وإعطاء كل ذي حق حقه ف الياة‪.‬‬

‫وبفضل هذه التطورات شاهدت الزيرة العربية نضة مباركة ل تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران‪ ،‬ول‬
‫يتألق تاريها تألقه ف هذه اليام الفريدة من عمرها‪.‬‬
‫حجـة الــوداع‬

‫تت أعمال الدعوة‪ ،‬وإبلغ الرسالة‪ ،‬وبناء متمع جديد على أساس إثبات اللوهية للّه‪ ،‬ونفيها عن غيه‪،‬‬
‫وعلى أساس رسالة ممد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكأن هاتفا خفيا انبعث ف قلب رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬يشعره أن مقامه ف الدنيا قد أوشك على النهاية‪ ،‬حت إنه حي بعث معاذا على اليمن سنة‬
‫‪01‬هـ قال له ـ فيما قال‪( :‬يا معاذ‪ ،‬إنك عسي أل تلقان بعد عامي هذا‪ ،‬ولعلك أن تر بسجدي هذا‬
‫وقبي)‪ ،‬فبكي معاذا خشعا لفراق رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وشاء اللّه أن يري رسوله صلى ال عليه وسلم ثار دعوته‪ ،‬الت عان ف سبيلها ألوانا من التاعب بضعا‬
‫وعشرين عاما‪ ،‬فيجتمع ف أطراف مكة بأفراد قبائل العرب ومثليها‪ ،‬فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه‪،‬‬
‫ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدي المانة‪ ،‬وبلغ الرسالة‪ ،‬ونصح المة‪.‬‬

‫أعلن النب صلى ال عليه وسلم بقصده لذه الجة البورة الشهودة‪ ،‬فقدم الدينة بشر كثي كلهم يلتمس‬
‫أن يأت برسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ .‬وف يوم السبت لمس بقي من ذي القعدة تيأ النب صلى ال‬
‫عليه وسلم للرحيل ‪ ،‬فتَ َرجّل وادّهَنَ ولبس إزاره ورداءه و َقلّد ُبدْنَه‪ ،‬وانطلق بعد الظهر‪ ،‬حت بلغ ذا‬
‫الُلَ ْيفَة قبل أن يصلي العصر‪ ،‬فصلها ركعتي‪ ،‬وبات هناك حت أصبح‪ .‬فلما أصبح قال لصحابه‪( :‬أتان‬
‫صلّ ف هذا الوادي البارك وقل‪ :‬عمرة ف حجة)‪.‬‬
‫الليلة آت من رب فقال‪َ :‬‬

‫وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لحرامه‪ ،‬ث طيبته عائشة بيدها بذَ ِريَرة وطيب فيه مِسْك‪ ،‬ف بدنه ورأسه‪،‬‬
‫حت كان وبَِيصُ الطيب يري ف مفارقه وليته‪ ،‬ث استدامه ول يغسله‪ ،‬ث لبس إزاره ورداءه‪ ،‬ث صلي‬
‫صلّه‪ ،‬وقَرَن بينهما‪ ،‬ث خرج‪ ،‬فركب القَصْوَاءَ‪ ،‬فأهَلّ أيضا‪ ،‬ث‬
‫الظهر ركعتي‪ ،‬ث أهل بالج والعمرة ف مُ َ‬
‫أهَلّ لا استقلت به على البَ ْيدَاء‪.‬‬

‫ث واصل سيه حت قرب من مكة‪ ،‬فبات بذي طُوَي‪ ،‬ث دخل مكة بعد أن صلي الفجر واغتسل من‬
‫صباح يوم الحد لربع ليال خلون من ذي الجة سنة ‪01‬هـ ـ وقد قضي ف الطريق ثان ليال‪ ،‬وهي‬
‫السافة الوسطي ـ فلما دخل السجد الرام طاف بالبيت‪ ،‬وسعي بي الصفا والروة‪ ،‬ول َيحِلّ ؛لنه كان‬
‫لجُون‪ ،‬وأقام هناك‪ ،‬ول يعد إل الطواف غي طواف‬
‫قارنا قد ساق معه الدي‪ ،‬فنل بأعلى مكة عند ا َ‬
‫الج‪.‬‬
‫وأمر من ل يكن معه َهدْي من أصحابه أن يعلوا إحرامهم عمرة‪ ،‬فيطوفوا بالبيت وبي الصفا الروة‪ ،‬ث‬
‫يلوا حللً تاما‪ ،‬فترددوا‪ ،‬فقال‪( :‬لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت‪ ،‬ولول أن معي الدي‬
‫لحللت)‪ ،‬فحل من ل يكن معه هدي‪ ،‬وسعوا وأطاعوا‪.‬‬

‫وف اليوم الثامن من ذي الجة ـ وهو يوم التّرْ ِويَة ـ توجه إل من‪ ،‬فصلي با الظهر والعصر والغرب‬
‫والعشاء والفجر ـ خس صلوات ـ ث مكث قليلً حت طلعت الشمس‪ ،‬فأجاز حت أت عرفة‪ ،‬فوجد‬
‫القبة قد ضربت له بَنَمِرَة‪ ،‬فنل با‪ ،‬حت إذا زالت الشمس أمر بالقَصْوَاء فرحلت له‪ ،‬فأت بطن الوادي‪،‬‬
‫وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفا من الناس‪ ،‬فقام فيهم خطيبا‪ ،‬وألقى‬
‫هذه الطبة الامعة‪:‬‬

‫(أيها الناس‪ ،‬اسعوا قول‪ ،‬فإن ل أدري لعلى ل ألقاكم بعد عامي هذا بذا الوقف أبدا)‪.‬‬

‫(إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا‪ ،‬ف شهركم هذا‪ ،‬ف بلدكم هذا‪ .‬أل كل شيء‬
‫من أمر الاهلية تت قدمي موضوع‪ ،‬ودماء الاهلية موضوعة‪ ،‬وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة‬
‫بن الارث ـ وكان مسترضعا ف بن سعد فقتلته ُه َذيْل ـ وربا الاهلية موضوع‪ ،‬وأول ربا أضع من‬
‫ربانا ربا عباس بن عبد الطلب‪ ،‬فإنه موضوع كله)‪.‬‬

‫(فاتقوا اللّه ف النساء‪ ،‬فإنكم أخذتوهن بأمانة اللّه‪ ،‬واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه‪ ،‬ولكم عليهن أل‬
‫يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه‪ ،‬فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غي مُبَرّح‪ ،‬ولن عليكم رزقهن وكسوتن‬
‫بالعروف)‪.‬‬

‫(وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به‪ ،‬كتاب اللّه)‪.‬‬

‫(أيها الناس‪ ،‬إنه ل نب بعدي‪ ،‬ول أمة بعدكم‪ ،‬أل فاعبدوا ربكم‪ ،‬وصلوا خسكم‪ ،‬وصوموا شهركم‪،‬‬
‫وأدوا زكاة أموالكم‪ ،‬طيبة با أنفسكم‪ ،‬وتجون بيت ربكم‪ ،‬وأطيعوا أولت أمركم‪ ،‬تدخلوا جنة ربكم)‪.‬‬

‫(وأنتم تسألون عن‪ ،‬فما أنتم قائلون؟) قالوا‪ :‬نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت‪.‬‬

‫فقال بأصبعه السبابة يرفعها إل السماء‪ ،‬وينكتها إل الناس‪( :‬اللهم اشهد) ثلث مرات‪.‬‬

‫وكان الذي يصرخ ف الناس بقول رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ـ وهو بعرفة ـ ربيعة بن أمية ابن‬
‫َخلَف‪.‬‬
‫وبعد أن فرغ النب صلى ال عليه وسلم من إلقاء الطبة نزل عليه قوله تعال‪{ :‬الْيَ ْومَ َأكْمَلْتُ لَ ُكمْ دِينَ ُكمْ‬
‫َوأَتْمَ ْمتُ َعلَيْ ُكمْ نِعْمَتِي َورَضِيتُ لَ ُكمُ ا ِل ْسلَمَ دِينًا} [الائدة‪ ،]3 :‬ولا نزلت بكي عمر‪ ،‬فقال له النب‬
‫صلى ال عليه وسلم‪( :‬ما يبكيك؟) قال‪ :‬أبكان أنا كنا ف زيادة من ديننا‪ ،‬فأما إذا كمل فإنه ل يكمل شيء‬
‫قط إل نقص‪ ،‬فقال‪( :‬صدقت)‪.‬‬

‫وبعد الطبة أذن بلل ث أقام‪ ،‬فصلى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالناس الظهر‪ ،‬ث أقام فصلي‬
‫صخَرَات ‪ ،‬وجعل‬
‫العصر‪ ،‬ول يصل بينهما شيئا‪ ،‬ث ركب حت أت الوقف‪ ،‬فجعل بطن ناقته القصواء إل ال ّ‬
‫حَبْل الشاة بي يديه‪ ،‬واستقبل القبلة‪ ،‬فلم يزل واقفا حت غربت الشمس‪ ،‬وذهبت الصفرة قليلً حت‬
‫غاب القُرْص‪.‬‬

‫وأردف أسامة‪ ،‬ودفع حت أت الُزْ َدِلفَة‪ ،‬فصلي با الغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتي ول يسبح بينهما‬
‫شيئا‪ ،‬ث اضطجع حت طلع الفجر‪ ،‬فصلي الفجر حي تبي له الصبح بأذان وإقامة‪ ،‬ث ركب القصواء حت‬
‫شعَرَ الرام‪ ،‬فاستقبل القبلة‪ ،‬فدعاه‪ ،‬وكبه‪ ،‬وهلّله‪ ،‬ووحده‪ ،‬فلم يزل واقفا حت أ ْسفَر ِجدّا‪.‬‬
‫أت الَ ْ‬

‫َفدَفَع ـ من الزدلفة إل من ـ قبل أن تطلع الشمس‪ ،‬وأردف الفضل بن عباس حت أت َبطْنَ ُمحَسّرٍ‪،‬‬
‫َفحَرّك قليلً‪ ،‬ث سلك الطريق الوسطي الت ترج على المرة الكبي‪ ،‬حت أت المرة الت عند الشجرة‬
‫ـ وهي المرة الكبي نفسها‪ ،‬كانت عندها شجرة ف ذلك الزمان‪ ،‬وتسمي بمرة ال َعقَبَة وبالمرة الول‬
‫لذْف‪ ،‬رمي من بطن الوادي‪ ،‬ث انصرف‬
‫ـ فرماها بسبع حصيات‪ ،‬يكب مع كل حصاة منها مثل حصي ا َ‬
‫إل النحر‪ ،‬فنحر ثلثا وستي بدنة بيده‪ ،‬ث أعطي عليا فنحر ما َغبَرَ ـ وهي سبع وثلثون بدنة‪ ،‬تام الائة‬
‫ـ وأشركه ف هديه‪ ،‬ث أمر من كل بدنة ببضعة‪ ،‬فجعلت ف ِقدْر‪ ،‬فطبخت‪ ،‬فأكل من لمها‪ ،‬وشربا من‬
‫مَرَقِها‪.‬‬

‫ث ركب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأفاض إل البيت‪ ،‬فصلي بكة الظهر‪ ،‬فأت على بن الطلب‬
‫سقُون على زمزم‪ ،‬فقال‪( :‬انزعوا بن عبد الطلب‪ ،‬فلول أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنعت معكم)‪،‬‬
‫يَ ْ‬
‫فناولوه دلوا فشرب منه‪.‬‬

‫وخطب النب صلى ال عليه وسلم يوم النحر ـ عاشر ذي الجة ـ أيضا حي ارتفع الضحي‪ ،‬وهو على‬
‫بغلة شَهْبَاء‪ ،‬وعلى يعب عنه‪ ،‬والناس بي قائم وقاعد ‪ ،‬وأعاد ف خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس‪ ،‬فقد‬
‫روي الشيخان عن أب بكرة قال‪ :‬خطبنا النب صلى ال عليه وسلم يوم النحر‪ ،‬قال‪( :‬إن الزمان قد استدار‬
‫كهيئته يوم خلق ال السموات والرض‪ ،‬السنة اثنا عشر شهرا‪ ،‬منها أربعة حرم‪ ،‬ثلث متواليات‪ ،‬ذو‬
‫القعدة وذو الجة والحرم‪ ،‬ورجب مُضَر الذي بي جادي وشعبان)‪.‬‬

‫وقال‪( :‬أي شهر هذا؟) قلنا‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ ،‬فسكت حت ظننا أنه سيسميه بغي اسه‪ ،‬قال‪( :‬أليس ذا‬
‫الجة؟) قلنا‪ :‬بلي؟ قال‪( :‬أي بلد هذا؟) قلنا‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ ،‬فسكت حت ظننا أنه سيسميه بغي اسه‪،‬‬
‫قال‪( :‬أليست البلدة؟) قلنا‪ :‬بلي‪ .‬قال‪( :‬فأي يوم هذا؟) قلنا‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ .‬فسكت حت ظننا أنه‬
‫سيسمية بغي اسه‪ ،‬قال‪( :‬أليس يوم النحر؟) قلنا‪ :‬بلي‪ .‬قال‪( :‬فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم‬
‫حرام كحرمة يومكم هذا‪ ،‬ف بلدكم هذا‪ ،‬ف شهركم هذا)‪.‬‬

‫(وستلقون ربكم‪ ،‬فيسألكم عن أعمالكم‪ ،‬أل فل ترجعوا بعدي ضللً يضرب بعضكم رقاب بعض)‪.‬‬

‫(أل هل بلغت؟) قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪( :‬اللهم اشهد‪ ،‬فليبلغ الشاهد الغائب‪ ،‬فَ ُربّ مُبَلّغ أوعي من سامع)‪.‬‬

‫وف رواية أنه قال ف تلك الطبة‪( :‬أل ل ين جَانٍ إل على نفسه‪ ،‬أل ل ين جان على ولده‪ ،‬ول مولود‬
‫على والده‪ ،‬أل إن الشيطان قد يئس أن ُيعْبَد ف بلدكم هذا أبدا‪ ،‬ولكن ستكون له طاعة فيما تتقرون من‬
‫أعمالكم‪ ،‬فسيضى به)‪.‬‬

‫وأقام أيام التشريق بن يؤدي الناسك ويعلم الشرائع‪ ،‬ويذكر ال‪ ،‬ويقيم سنن الدي من ملة إبراهيم‪،‬‬
‫ويحو آثار الشرك ومعالها‪.‬‬

‫وقد خطب ف بعض أيام التشريق أيضا‪ ،‬فقد روي أبو داود بإسناد حسن عن سَرّاءِ بنت نَبْهَانَ قالت‪:‬‬
‫خطبنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم الرءوس‪ ،‬فقال‪( :‬أليس هذا أوسط أيام التشريق)‪ .‬وكانت‬
‫خطبته ف هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر‪ ،‬ووقعت هذه الطبة عقب نزول سورة النصر‪.‬‬

‫وف يوم النّفْر الثان ـ الثالث عشر من ذي الجة ـ نفر النب صلى ال عليه وسلم من من‪ ،‬فنل بِيف‬
‫بن كِنَانة من البْطَح‪ ،‬وأقام هناك بقية يومه ذلك‪ ،‬وليلته‪ ،‬وصلي هناك الظهر والعصر والغرب والعشاء‪،‬‬
‫ث رقد رقدة‪ ،‬ث ركب إل البيت‪ ،‬فطاف به طواف الوداع‪ ،‬وأمر به الناس‪.‬‬

‫ولا قضي مناسكه حث الركاب إل الدينة الطهرة‪ ،‬ل ليأخذ حظا من الراحة‪ ،‬بل ليستأنف الكفاح‬
‫والكدح ل وف سبيل ال‪.‬‬
‫آخر البعوث‬

‫كانت كبياء دولة الرم قد جعلتها تأب حق الياة على من آمن بال ورسوله‪ ،‬وحلها على أن تقتل من‬
‫لذَامِي‪ ،‬الذي كان واليا على َمعَان من قبل‬
‫أتباعها من يدخل ف السلم‪ ،‬كما فعلت بفَرْوَة بن عمرو ا ُ‬
‫الروم‪.‬‬

‫ونظرا إل هذه الراءة والغطرسة‪ ،‬أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم يهز جيشا كبيا ف صفر سنة‬
‫‪11‬هـ‪ ،‬وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة‪ ،‬وأمره أن يوطئ اليل ُتخُوم البلقاء والداروم من أرض‬
‫فلسطي‪ ،‬يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إل قلوب العرب الضاربي على الدود‪ ،‬حت ل يسب‬
‫أحد أن بطش الكنيسة ل معقب له‪ ،‬وأن الدخول ف السلم ير على أصحابه التوف فحسب‪.‬‬

‫وتكلم الناس ف قائد اليش لداثة سنه‪ ،‬واستبطأوا ف بعثه‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن‬
‫تطعنوا ف إمارته‪ ،‬فقد كنتم تطعنون ف إمارة أبيه من قبل‪ ،‬واي ال‪ ،‬إن كان لليقا للمارة‪ ،‬وإن كان من‬
‫أحب الناس إل‪ ،‬و إن هذا من أحب الناس إل بعده)‪.‬‬

‫وانتدب الناس يلتفون حول أسامة‪ ،‬وينتظمون ف جيشة‪ ،‬حت خرجوا ونزلوا الُرْف‪ ،‬على فَرْسَخ من‬
‫الدينة‪ ،‬إل أن الخبار القلقة عن مرض رسول ال صلى ال عليه وسلم ألزمتهم التريث‪ ،‬حت يعرفوا ما‬
‫يقضي ال به‪ ،‬وقد قضي ال أن يكون هذا أول بعث ينفذ ف خلفة أب بكر الصديق‪.‬‬
‫إل الرفيق العلي‬

‫طلئع التوديع‬

‫ولا تكاملت الدعوة وسيطر السلم على الوقف‪ ،‬أخذت طلئع التوديع للحياة والحياء تطلع من‬
‫مشاعره صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتتضح بعباراته وأفعاله‪.‬‬

‫إنه اعتكف ف رمضان من السنة العاشرة عشرين يوما‪ ،‬بينما كان ل يعتكف إل عشرة أيام فحسب‪،‬‬
‫وتدارسه جبيل القرآن مرتي‪ ،‬وقال ف حجة الوداع‪( :‬إن ل أدري لعلى ل ألقاكم بعد عامي هذا بذا‬
‫الوقف أبدا)‪ ،‬وقال وهو عند جرة العقبة‪( :‬خذوا عن مناسككم‪ ،‬فلعلي ل أحج بعد عامي هذا)‪ ،‬وأنزلت‬
‫عليه سورة النصر ف أوسط أيام التشريق‪ ،‬فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه‪.‬‬

‫وف أوائل صفر سنة ‪ 11‬هـ خرج النب صلى ال عليه وسلم إل أحد‪ ،‬فصلي على الشهداء كالودع‬
‫للحياء والموات‪ ،‬ث انصرف إل النب فقال‪( :‬إن فرط لكم‪ ،‬وأنا شهيد عليكم‪ ،‬وإن وال لنظر إل‬
‫حوضي الن‪ ،‬وإن أعطيت مفاتيح خزائن الرض‪ ،‬أو مفاتيح الرض‪ ،‬وإن وال ما أخاف عليكم أن‬
‫تشركوا بعدي‪ ،‬ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها)‪.‬‬

‫وخرج ليلة ـ ف منتصفها ـ إل البَقِيع‪ ،‬فاستغفر لم‪ ،‬وقــال‪( :‬السلم عليكـم يـا أهل القابر‪،‬‬
‫لِيَهْنَ لكم ما أصبحتم فيه با أصبح الناس فيه‪ ،‬أقبلت الفت كقطع الليل الظلم‪ ،‬يتبع آخرها أولا‪ ،‬والخرة‬
‫شر من الول)‪ ،‬وبشرهم قائلً‪( :‬إنا بكم للحقون)‪.‬‬

‫بـدايـة الـرض‬

‫وف اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة ‪11‬هـ ـ وكان يوم الثني ـ شهد رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم جنازة ف البقيع‪ ،‬فلما رجع‪ ،‬وهو ف الطريق أخذه صداع ف رأسه‪ ،‬واتقدت الرارة‪،‬‬
‫حت إنم كانوا يدون َسوْ َرتَها فوق العِصَابة الت تعصب با رأسه‪.‬‬

‫وقد صلي النب صلى ال عليه وسلم بالناس وهو مريض ‪ 11‬يوما‪ ،‬وجيع أيام الرض كانت ‪ ،31‬أو‬
‫‪ 41‬يوما‪.‬‬
‫السبوع الخي‬

‫وثقل برسول ال صلى ال عليه وسلم الرض‪ ،‬فجعل يسأل أزواجه‪( :‬أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟) ففهمن‬
‫مراده‪ ،‬فأذن له يكون حيث شاء‪ ،‬فانتقل إل بيت عائشة يشي بي الفضل بن عباس وعلى بن أب طالب‪،‬‬
‫عاصبا رأسه‪ ،‬تط قدماه حت دخل بيتها‪ ،‬فقضي عندها آخر أسبوع من حياته‪.‬‬

‫وكانت عائشة تقرأ بالعوذات والدعية الت حفظتها من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكانت تنفث‬
‫على نفسه‪ ،‬وتسحه بيده رجاء البكة‪.‬‬

‫قبل الوفاة بمسة أيام‬

‫ويوم الربعاء قبل خسة أيام من الوفاة‪ ،‬اتقدت حرارة العلة ف بدنه‪ ،‬فاشتد به الوجع وغمي‪ ،‬فقال‪( :‬‬
‫هريقوا علي سبع قِرَب من آبار شت‪ ،‬حت أخرج إل الناس‪ ،‬فأعهد إليهم)‪ ،‬فأقعدوه ف ِمخَضَبٍ ‪ ،‬وصبوا‬
‫عليه الاء حت طفق يقول‪( :‬حسبكم‪ ،‬حسبكم)‪.‬‬

‫وعند ذلك أحس بفة‪ ،‬فدخل السجد متعطفا ملحفة على منكبيه‪ ،‬قد عصب رأسه بعصابة دسة حت‬
‫جلس على النب‪ ،‬وكان آخر ملس جلسه‪ ،‬فحمد ال وأثن عليه‪ ،‬ث قال‪( :‬أيها الناس‪ ،‬إل)‪ ،‬فثابوا إليه‪،‬‬
‫فقال ـ فيما قال‪( :‬لعنة ال على اليهود والنصارى‪ ،‬اتذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وف رواية‪( :‬قاتل ال‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬اتذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وقال‪( :‬ل تتخذوا قبي وثنا يعبد)‪.‬‬

‫وعرض نفسه للقصاص قائلً‪( :‬من كنت جلدت له ظَهْرًا فهذا ظهري فليستقد منه‪ ،‬ومن كنت شتمت له‬
‫عِرْضا فهذا عرضي فليستقد منه)‪.‬‬

‫ث نزل فصلى الظهر‪ ،‬ث رجع فجلس على النب‪ ،‬وعاد لقالته الول ف الشحناء وغيها‪ .‬فقال رجل‪ :‬إن ل‬
‫عندك ثلثة دراهم‪ ،‬فقال‪( :‬أعطه يا فضل)‪ ،‬ث أوصي بالنصار قائلً‪:‬‬

‫(أوصيكم بالنصار‪ ،‬فإنم كِ ْرشِي وعَيْبَتِي‪ ،‬وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لم‪ ،‬فاقبلوا من ُمحْسِنهم‪،‬‬
‫وتاوزوا عن مسيئهم)‪ ،‬وف رواية أنه قال‪( :‬إن الناس يكثرون‪ ،‬وَتقِلّ النصار حت يكونوا كاللح ف‬
‫الطعام‪ ،‬فمن ول منكم أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه فليقبل من مسنهم‪ ،‬ويتجاوز عن مسيئهم)‪.‬‬

‫ث قال‪( :‬إن عبدا خيه ال بي أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء‪ ،‬وبي ما عنده‪ ،‬فاختار ما عنده)‪ .‬قال أبو‬
‫سعيد الدري‪ :‬فبكي أبو بكر‪ .‬قال‪ :‬فديناك بآبائنا وأمهاتنا‪ ،‬فعجبنا له‪ ،‬فقال الناس‪ :‬انظروا إل هذا‬
‫الشيخ‪ ،‬يب رسول ال صلى ال عليه وسلم عن عبد خيه ال بي أن يؤتيه من زهرة الدنيا‪ ،‬وبي ما عنده‪،‬‬
‫وهو يقول‪ :‬فديناك بآبائنا وأمهاتنا‪ .‬فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم هو الخي‪ ،‬وكان أبو بكر‬
‫أعلمنا‪.‬‬

‫ث قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن من أم ّن الناس على ف صحبته وماله أبو بكر‪ ،‬ولو كنت‬
‫متخذا خليلً غي رب ل تذت أبا بكر خليلً‪ ،‬ولكن أخوة السلم ومودته‪ ،‬ل يبقي ف السجد باب إل‬
‫سد‪ ،‬إل باب أب بكر)‪.‬‬

‫قبل أربعة أيام‬

‫ويوم الميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال ـ وقد اشتد به الوجع‪( :‬هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده)‬
‫ـ وف البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر‪ :‬قد غلب عليه الوجع‪ ،‬وعندكم القرآن‪ ،‬حسبكم كتاب ال‪،‬‬
‫فاختلف أهل البيت واختصموا‪ ،‬فمنهم من يقول‪ :‬قربوا يكتب لكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ومنهم من يقول ما قال عمر‪ ،‬فلما أكثروا اللغط والختلف قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬قوموا‬
‫عن)‪.‬‬

‫وأوصى ذلك اليوم بثلث‪ :‬أوصي بإخراج اليهود والنصاري والشركي من جزيرة العرب‪ ،‬وأوصي‬
‫بإجازة الوفود بنحو ما كان ييزهم‪ ،‬أما الثالث فنسيه الراوي‪ .‬ولعله الوصية بالعتصام بالكتاب والسنة‪،‬‬
‫أو تنفيذ جيش أسامة‪ ،‬أو هي‪( :‬الصلة وما ملكت أيانكم)‪.‬‬

‫والنب صلى ال عليه وسلم مع ما كان به من شدة الرض كان يصلي بالناس جيع صلواته حت ذلك اليوم‬
‫ـ يوم الميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلي بالناس ذلك اليوم صلة الغرب‪ ،‬فقرأ فيها بالرسلت‬
‫عرفا‪.‬‬

‫وعند العشاء زاد ثقل الرض‪ ،‬بيث ل يستطع الروج إل السجد‪ .‬قالت عائشة‪ :‬فقال النب صلى ال عليه‬
‫صلّى الناس؟) قلنا‪ :‬ل يا رسول ال‪ ،‬وهم ينتظرونك‪ .‬قال‪( :‬ضعوا ل ماء ف ا ِلخْضَب)‪ ،‬ففعلنا‪،‬‬
‫وسلم‪( :‬أ َ‬
‫فاغتسل‪ ،‬فذهب لينوء فأغمي عليه‪ .‬ث أفاق‪ ،‬فقال‪( :‬أصلى الناس؟) ـ ووقع ثانيا وثالثا ما وقع ف الرة‬
‫الول من الغتسال ث الغماء حينما أراد أن ينوء ـ فأرسل إل أب بكر أن يصلي بالناس‪ ،‬فصلي أبو‬
‫بكر تلك اليام ‪ 17‬صلة ف حياته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهي صلة العشاء من يوم الميس‪ ،‬وصلة‬
‫الفجر من يوم الثني‪ ،‬وخس عشرة صلة فيما بينها‪.‬‬
‫وراجعت عائشة النب صلى ال عليه وسلم ثلث أو أربع مرات ؛ ليصرف المامة عن أب بكر حت ل‬
‫يتشاءم به الناس ‪ ،‬فأب وقال‪( :‬إنكن لنت صواحب يوسف‪ ،‬مروا أبا بكر فليصل بالناس)‪.‬‬

‫قبل ثلثة أيام‬

‫قال جابر‪ :‬سعت النب صلى ال عليه وسلم قبل موته بثلث وهو يقول‪( :‬أل ل يوت أحد منكم إل وهو‬
‫يسن الظـن بال)‪.‬‬

‫قبل يوم أو يومي‬

‫ويوم السبت أو الحد وجد النب صلى ال عليه وسلم ف نفسه خفة‪ ،‬فخرج بي رجلي لصلة الظهر‪،‬‬
‫وأبو بكر يصلي بالناس‪ ،‬فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر‪ ،‬فأومأ إليه بأل يتأخر‪ ،‬قال‪( :‬أجلسان إل جنبه)‪،‬‬
‫فأجلساه إل يسار أب بكر‪ ،‬فكان أبو بكر يقتدي بصلة رسول ال صلى ال عليه وسلم ويسمع الناس‬
‫التكبي‪.‬‬

‫قبل يوم‬

‫وقبل يوم من الوفاة ـ يوم الحد ـ أعتق النب صلى ال عليه وسلم غلمانه‪ ،‬وتصدق بستة أو سبعة‬
‫دناني كانت عنده ‪ ،‬ووهب للمسلمي أسلحته‪ ،‬وف الليل أرسلت عائشة بصباحها امرأة من النساء‬
‫وقالت‪ :‬أقطري لنا ف مصباحنا من ُعكّتِك السمن ‪ ،‬وكانت درعه صلى ال عليه وسلم مرهونة عند‬
‫يهودي بثلثي صاعا من الشعي‪.‬‬

‫آخر يوم من الياة‬

‫روي أنس بن مالك‪ :‬أن السلمي بينا هم ف صلة الفجـر من يوم الثني ـ وأبو بكر يصلي بم ـ ل‬
‫يفجأهم إل رسول ال صلى ال عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم‪ ،‬وهم ف صفوف‬
‫الصلة‪ ،‬ث تبسم يضحك‪ ،‬فنكص أبو بكر على عقبيه ؛ ليصل الصف‪ ،‬وظن أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يريد أن يرج إل الصلة‪ .‬فقال أنس‪ :‬و َهمّ السلمون أن يفتتنوا ف صلتم‪َ ،‬فرَحًا برسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬فأشار إليهم بيده رسول ال صلى ال عليه وسلم أن أتوا صلتكم‪ ،‬ث دخل الجرة‬
‫وأرخي الستر‪.‬‬
‫ث ل يأت على رسول ال صلى ال عليه وسلم وقت صلة أخرى‪.‬‬

‫ولا ارتفع الضحى‪ ،‬دعا النب صلى ال عليه وسلم فاطمة فسَارّها بشيء فبكت‪ ،‬ث دعاها‪ ،‬فسارها بشيء‬
‫فضحكت‪ ،‬قالت عائشة‪ :‬فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت‪ :‬سارن النب صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫يقبض ف وجعه الذي توف فيه‪ ،‬فبكيت‪ ،‬ث سارن فأخبن أن أول أهله يتبعه فضحكت‪.‬‬

‫وبشر النب صلى ال عليه وسلم فاطمة بأنا سيدة نساء العالي‪.‬‬

‫ورأت فاطمة ما برسول ال صلى ال عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه‪.‬‬

‫فقالت‪ :‬وا كرب أباه‪ .‬فقال لا‪( :‬ليس على أبيك كرب بعد اليوم)‪.‬‬

‫ودعا السن والسي فقبلهما‪ ،‬وأوصي بما خيا‪ ،‬ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن‪.‬‬

‫وطفق الوجع يشتد ويزيد‪ ،‬وقد ظهر أثر السم الذي أكله بيب حت كان يقول‪( :‬يا عائشة‪ ،‬ما أزال أجد‬
‫أل الطعام الذي أكلت بيب‪ ،‬فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَرِي من ذلك السم)‪.‬‬

‫وقد طرح خَمِيصَة له على وجهه‪ ،‬فإذا اغتم با كشفها عن وجهه‪ ،‬فقال وهو كذلك ـ وكان هذا آخر ما‬
‫تكلم وأوصي به الناس‪( :‬لعنة ال على اليهود والنصارى‪ ،‬اتذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ يذر ما صنعوا‬
‫ـ ل يبقي دينان بأرض العرب)‪.‬‬

‫وأوصى الناس فقال‪( :‬الصلة‪ ،‬الصلة‪ ،‬وما ملكت أيانكم)‪ ،‬كــرر ذلك مــرارا‪.‬‬

‫الحتضار‬

‫وبدأ الختصار فأسندته عائشة إليها‪ ،‬وكانت تقول‪ :‬إن من نعم ال على أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم توف ف بيت وف يومي وبي َسحْرِي وَنحْرِي‪ ،‬وأن ال جع بي ريقي وريقه عند موته‪ .‬دخل عبد‬
‫الرحن ـ بن أب بكر ـ وبيده السواك‪ ،‬وأنا مسندة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فرأيته ينظر إليه‪،‬‬
‫وعرفت أنه يب السواك‪ ،‬فقلت‪ :‬آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم‪ .‬فتناولته فاشتد عليه‪ ،‬وقلت‪ :‬ألينه لك؟‬
‫فأشار برأسه أن نعم‪ .‬فلينته‪ ،‬فأمره ـ وف رواية أنه است به كأحسن ما كان مستنا ـ وبي يديه َركْوَة‬
‫فيها ماء‪ ،‬فجعل يدخل يديه ف الاء فيمسح به وجهه‪ ،‬يقول‪( :‬ل إله إل ال‪ ،‬إن للموت سكرات‪)...‬‬
‫الديث‪.‬‬
‫وما عدا أن فرغ من السواك حت رفع يده أو أصبعه‪ ،‬وشخص بصره نو السقف‪ ،‬وتركت شفتاه‪،‬‬
‫فأصغت إليه عائشة وهو يقول‪( :‬مع الذين أنعمت عليهم من النبيي والصديقي والشهداء والصالي‪،‬‬
‫اللهم اغفر ل وارحن‪ ،‬وألقن بالرفيق العلي‪ .‬اللهم‪ ،‬الرفيق العلي)‪.‬‬

‫كرر الكلمة الخية ثلثا‪ ،‬ومالت يده ولق بالرفيق العلي‪ .‬إنا ل وإنا إليه راجعون‪.‬‬

‫وقع هذا الادث حي اشتدت الضحي من يوم الثني ‪ 12‬ربيع الول سنة ‪11‬هـ‪ ،‬وقد ت له صلى‬
‫ال عليه وسلم ثلث وستون سنة وزادت أربعة أيام‪.‬‬

‫تفاقم الحزان على الصحابة‬

‫وتسرب النبأ الفادح‪ ،‬وأظلمت على أهل الدينة أرجاؤها وآفاقها‪ .‬قال أنس‪ :‬ما رأيت يوما قط كان‬
‫أحسن ول أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وما رأيت يوما كان أقبح ول‬
‫أظلم من يوم مات فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ولا مات قالت فاطمة‪ :‬يا أبتاه‪ ،‬أجاب ربا دعاه‪ .‬يا أبتاه‪ ،‬مَنْ جنة الفردوس مأواه‪ .‬يا أبتاه‪ ،‬إل جبيل‬
‫ننعاه‪.‬‬

‫موقف عمر‬

‫ووقف عمر بن الطاب يقول‪ :‬إن رجالً من النافقي يزعمون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم توف‪،‬‬
‫وإن رسول ال صلى ال عليه وسلم ما مات‪ ،‬لكن ذهب إل ربه كما ذهب موسي بن عمران‪ ،‬فغاب عن‬
‫قومه أربعي ليلة‪ ،‬ث رجع إليهم بعد أن قيل‪ :‬قد مات‪.‬‬

‫ووال‪ ،‬ليجعن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات‪.‬‬

‫موقف أب بكر‬

‫وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسّنْح حت نزل‪ ،‬فدخل السجد‪ ،‬فلم يكلم الناس‪ ،‬حت دخل على‬
‫عائشة فتيمم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو مغشي بثوب ِحبَرَة‪ ،‬فكشف عن وجهه ث أكب عليه‪،‬‬
‫فقبله وبكي‪ ،‬ث قال‪ :‬بأب أنت وأمي‪ ،‬ل يمع ال عليك موتتي‪ ،‬أما الوتة الت كتبت عليك فقد مِتّهَا‪.‬‬
‫ث خرج أبو بكر‪ ،‬وعمر يكلم الناس‪ ،‬فقال‪ :‬اجلس يا عمر‪ ،‬فأب عمر أن يلس‪ ،‬فتشهد أبو بكر‪ ،‬فأقبل‬
‫الناس إليه‪ ،‬وتركوا عمر‪ ،‬فقال أبو بكر‪:‬‬

‫أما بعد‪ ،‬من كان منكم يعبد ممدا صلى ال عليه وسلم فإن ممدا قد مات‪ ،‬ومن كان منكم يعبد ال فإن‬
‫ال حي ل يوت‪ ،‬قال ال‪َ { :‬ومَا ُمحَ ّمدٌ إِلّ رَسُولٌ َقدْ خَ َلتْ مِن قَ ْب ِلهِ الرّ ُسلُ أَ َفإِن مّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبُْتمْ عَلَى‬
‫أَعْقَابِ ُكمْ َومَن يَنقَ ِلبْ َعلَىَ َعقِبَ ْيهِ َفلَن يَضُرّ ال ّلهَ شَيْئًا وَسََيجْزِي ال ّلهُ الشّاكِرِينَ} [آل عمران‪.]144:‬‬

‫قال ابن عباس‪ :‬وال لكأن الناس ل يعلموا أن ال أنزل هذه الية حت تلها أبو بكر‪ ،‬فتلقاها منه الناس‬
‫كلهم‪ ،‬فما أسع بشرا من الناس إل يتلوها‪.‬‬

‫قال ابن السيب‪ :‬قال عمر‪ :‬وال‪ ،‬ما هو إل أن سعت أبا بكر تلها‪ ،‬فعرفت أنه الق‪ ،‬فعقرت حت ما‬
‫تُقُلّن رجلي‪ ،‬وحت أهويت إل الرض حي سعته تلها‪ ،‬علمت أن النب صلى ال عليه وسلم قد مات‪.‬‬

‫التجهيز وتوديع السد الشريف إل الرض‬

‫ووقع اللف ف أمراللفة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجرت مناقشات ومادلت‬
‫وحوار وردود بي الهاجرين والنصار ف َسقِيفة بن ساعدة‪ ،‬وأخيًا اتفقوا على خلفة أب بكر رضي ال‬
‫عنه‪ ،‬ومضي ف ذلك بقية يوم الثني حت دخل الليل‪ ،‬وشغل الناس عن جهاز رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم حت كان آخر الليل ـ ليلة الثلثاء ـ مع الصبح‪ ،‬وبقي جسده البارك على فراشه مغشي بثوب‬
‫حِبَرَة‪ ،‬قد أغلق دونه الباب أهله‪.‬‬

‫ويوم الثلثاء غسلوا رسول ال صلى ال عليه وسلم من غي أن يردوه من ثيابه‪ ،‬وكان القائمون بالغسل‪:‬‬
‫العباس وعليّا‪ ،‬والفضل وقُثَم ابن العباس‪ ،‬و ُشقْرَان مول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأسامة بن زيد‪،‬‬
‫وأوس بن خَوْل‪ ،‬فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه‪ ،‬وأسامة وشقران يصبان الاء‪ ،‬وعلى يغسله‪ ،‬وأوس‬
‫أسنده إل صدره‪.‬‬

‫وقد غسل ثلث غسلت باء و ِسدْر‪ ،‬وغسل من بئر يقال لا‪ :‬الغَرْس لسعد بن خَيْثَمَة بقُبَاء وكان يشرب‬
‫منها‪.‬‬

‫ث كفنوه ف ثلثة أثواب يانية بيض َسحُولِيّة من كُرْسُف‪ ،‬ليس فيها قميص ول عمامة‪ .‬أدرجوه فيها‬
‫إدراجًا‪.‬‬
‫واختلفوا ف موضع دفنه‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬إن سعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول‪( :‬ما قبض نب‬
‫إل دفن حيث يـقبض)‪ ،‬فرفع أبو طلحة فراشه الذي توف عليه‪ ،‬فحفر تته‪ ،‬وجعل القب لدا‪.‬‬

‫ودخل الناس الجرة أرسالً‪ ،‬عشرة فعشرة‪ ،‬يصلون على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أفذاذا‪ ،‬ل‬
‫يؤمهم أحد‪ ،‬وصلي عليه أولً أهل عشيته‪ ،‬ث الهاجرون‪ ،‬ث النصار‪ ،‬ث الصبيان‪ ،‬ث النساء‪ ،‬أو النساء ث‬
‫الصبيان‪.‬‬

‫ومضى ف ذلك يوم الثلثاء كاملً‪ ،‬ومعظم ليلة الربعاء‪ ،‬قالت عائشة‪ :‬ما علمنا بدفن رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم حت سعنا صوت السَاحِي من جوف الليل ـ وف رواية‪ :‬من آخر الليل ـ ليلة الربعاء‪.‬‬
‫البيت النبوي‬

‫‪ -1‬كان البيت النبوي ف مكة قبل الجرة يتألف منه عليه الصلة والسلم‪ ،‬ومن زوجته خدية بنت‬
‫خويلد‪ ،‬تزوجها وهو ف خس وعشرين من سنه‪ ،‬وهي ف الربعي‪ ،‬وهي أول من تزوجه من النساء‪ ،‬ول‬
‫يتزوج عليها غيها‪ ،‬وكان له منها أبناء وبنات‪ ،‬أما البناء ‪ ،‬فلم يعش منهم أحد ‪ ،‬وأما البنات فهن ‪:‬‬
‫زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة‪ ،‬فأما زينب فتزوجها قبل الجرة ابن خالتها‪ ,‬أبوالعاص بن الربيع‪ ،‬وأما‬
‫رقية وأم كلثوم فقد تزوجهما عثمان بن عفان رضي ال عنه الواحدة بعد الخرى‪ ،‬وأما فاطمة فتزوجها‬
‫على بن أب طالب بي بدر وأحد‪ ،‬ومنها كان السن والسي وزينب وأم كلثوم‪.‬‬

‫ومعلوم أن النب صلى ال عليه وسلم كان يتاز عن أمته بل التزوج بأكثر من أربع زوجات لغراض‬
‫كثية‪ ،‬فكان عدد من عقد عليهن ثلثة عشرة امرأه‪ ،‬منهن تسع مات عنهن‪ ،‬واثنتان توفيتا ف حياته‪،‬‬
‫إحداها خدية‪ ،‬والخرى أم الساكي زينب بنت خرية‪ ،‬واثنتان ل يدخل بما‪ ،‬وها هي أساؤهن وشيء‬
‫عنهن‪.‬‬

‫‪ -2‬سودة بنت زمعة‪ ،‬تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف شوال سنة عشر من النبوة‪ ،‬بعد وفاة‬
‫خدية بنحو شهر‪ ،‬وكانت قبله عند ابن عم لا يقال له‪ :‬السكران بن عمرو‪ ،‬فمات عنها‪ .‬توفيت بالدينة‬
‫ف شوال سنة ‪54‬هـ ‪.‬‬

‫‪3‬ـ عائشة بنت أب بكر الصديق‪ ،‬تزوجها ف شوال سنة إحدى عشرة من النبوة‪ ،‬بعد زواجه بسودة‬
‫بسنة‪ ،‬وقبل الجرة بسنتي وخسة أشهر‪ ،‬تزوجها وهي بنت ست سني‪ ،‬وبن با ف شوال بعد الجرة‬
‫بسبعة أشهر ف الدينة‪ ،‬وهي بنت تسع سني‪ ،‬وكانت بكرا ول يتزوج بكرا غيها‪ ،‬وكانت أحب اللق‬
‫إليه‪ ،‬وأفقه نساء المة‪ ،‬وأعلمهن على الطلق‪ ،‬فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ‪.‬‬
‫توفيت ف ‪17‬رمضان سنة ‪57‬هـ أو ‪ 58‬هـ ودفنت بالبقيع‪.‬‬

‫‪ -4‬حفصة بنت عمر بن الطاب‪ ،‬تأيت من زوجها خنيس بن خذافة السهمي بي بدر وأحد ‪،‬فلما حلت‬
‫تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف شعبان سنة ‪3‬هـ توفيت ف شعبان سنة ‪45‬هـ بالدينة ‪،‬ولا‬
‫ستون سنة‪،‬ودفنت بالبقيع‪.‬‬

‫‪ -5‬زينب بنت خزية من بن هلل بن عامر بن صعصة‪ ،‬وكانت تسمى أم الساكي‪ ،‬لرحتها أياهم‬
‫ورقتها عليهم‪ ،‬كانت تت عبد ال بن جحش‪ ،‬فاستشهد ف أحد‪ ،‬فتزوجها رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم سنة ‪ 4‬هـ ‪ .‬ماتت بعد الزواج بنحو ثلثة أشهرف ربيع الخر سنة ‪4‬هـ ‪ ،‬فصلى عليها النب‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودفنت بالبقيع‪.‬‬

‫‪ -6‬أم سلمة هند بنت أب أمية‪ ،‬كانت تت أب سلمة‪،‬وله منها أولد‪ ،‬فمات عنها ف جادى الخر سنة‬
‫‪ 4‬هـ‪ ،‬فتزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ليال بقي من شوال السنة نفسها‪ ،‬وكانت من افقه‬
‫النساء وأعقلهن‪ .‬توفيت سنة ‪59‬هـ‪ ،‬وقيل‪62 :‬هـ ودفنت بالبقيع‪ ،‬ولا ‪ 84‬سنة‪.‬‬

‫‪ -7‬زينب بنت جحش بن رباب من بن أسد بن خزية‪ ،‬وهي بنت عمة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫كانت تت زيد بن حارثة ‪ -‬الذي كان يعتب ابنا للنب صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فطلقها زيد‪ ،‬فلما انقضت‬
‫العدة أنزل ال تعال يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم {فَ َلمّا قَضَى َزيْدٌ مّنْهَا َوطَرًا َزوّجْنَاكَهَا} [‬
‫الحزاب‪ ،]37 :‬وفيها نزلت من سورة الحزاب آيات فصلت قضية التبن ‪ -‬وسنأت على ذكرها ‪-‬‬
‫تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ذي القعدة سنة خس من الجرة‪ .‬وقيل‪ :‬سنة ‪4‬هـ‪ ،‬وكانت‬
‫أعبد النساء وأعظمهن صدقة‪ ،‬توفيت سنة ‪20‬هـ ولا ‪ 53‬سنة‪ .‬وكانت أول أمهات الؤمني وفاة بعد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬صلى عليها عمر بن الطاب‪ ،‬ودفنت بالبقيع‪.‬‬

‫‪ -8‬جويرية بنت الارث سيد بن الصطلق من خزاعة‪ ،‬كانت ف سب بن الصطلق ف سهم ثابت بن‬
‫قيس بن شاس‪ ،‬فكاتبها‪ ،‬فقضى رسول ال صلى ال عليه وسلم كتابتها‪ ،‬وتزوجها ف شعبان سنة ‪ 6‬هـ‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬سنة ‪5‬هـ‪ ،‬فأعتق السلمون مائة أهل بيت من بن الصطلق‪ ،‬وقالوا أصهار رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فكانت أعظم النساء بركة على قومها‪ .‬توفيت ف ربيع الول سنة ‪56‬هـ‪ ،‬وقيل‪55 :‬‬
‫هـ‪ .‬ولا ‪ 65‬سنة‪.‬‬

‫‪ -9‬أم حبيبة رملة بنت أب سفيان‪ ،‬كانت تت عبيد ال بن جحش‪ ،‬فولدت له حبيبة فكنيت با‪،‬‬
‫وهاجرت معه إل البشة‪ ،‬فارتد عبيد ال وتنصر‪ ،‬وتوف هناك‪ ،‬وثبتت أم حبيبة على دينها وهجرتا‪ ،‬فلما‬
‫بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم عمرو بن أميه الضمري بكتابه إل النجاشي ف الحرم سنة ‪ 7‬هـ‪.‬‬
‫خطب عليه أم حبيبة فزوجها إياه وأصدقها من عنده أربعمائة دينار‪ ،‬وبعث با مع شرحبيل بن حسنة‪.‬‬
‫فابتن با النب صلى ال عليه وسلم بعد رجوعه من خيب‪ .‬توفيت سنة ‪ 42‬هـ‪ ،‬أو ‪44‬هـ‪ ،‬أو‬
‫‪50‬هـ‪.‬‬

‫‪ -10‬صفية بنت حيي بن أخطب سيد بن النضي من بن إسرائيل‪ ،‬كانت من سب خيب‪ ،‬فاصطفاها‬
‫رسول ال صلى ال وعليه وسلم لنفسه‪ ،‬وعرض عليها السلم فأسلمت‪ ،‬فأعتقها وتزوجها بعد فتح خيب‬
‫سنة ‪7‬هـ‪ ،‬وابتن با بسد الصهباء على بعد ‪ 12‬ميل من خيب ف طريقه إل الدينة‪ .‬توفيت سنة ‪50‬‬
‫هـ وقيل‪52 :‬هـ‪ ،‬وقيل ‪ 36‬هـ ودفنت بالبقيع‪.‬‬

‫‪ -11‬ميمونة بنت الارث‪ ،‬أخت أم الفضل لبابة بنت الارث‪ ،‬تزوجها ف ذي القعدة سنة ‪ 7‬هـ‪ ،‬ف‬
‫عمرة القضاء‪ ،‬بعد أن حل منها على الصحيح‪.‬‬

‫وابتن با بسرف على بعد ‪ 9‬أميال من مكة‪ ،‬وقد توفيت بسرف سنة ‪ 61‬هـ‪ ،‬وقيل‪ ،63 :‬وقيل‪:‬‬
‫‪ 38‬هـ ودفنت هناك‪ ،‬ول يزال موضع قبها معروفا‪.‬‬

‫فهؤلء إحدى عشرة سيدة تزوج بن الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبن بن وتوفيت منهن اثنتان ‪-‬‬
‫خدية وزينب أم الساكي ‪ -‬ف حياته‪ ،‬وتوف هو عن التسع البواقي‪.‬‬

‫وأما الثنتان اللتان ل يب بما‪ ،‬فواحدة من بن كلب‪ ،‬وأخرى من كندة‪ ،‬وهي العروفة بالونبة‪ ،‬وهناك‬
‫خلفات لحاجة إل بسطها‪.‬‬

‫وأما السراري فالعروف أنه تسرى باثنتي إحداها مارية القبطية‪ ،‬أهداها له القوقس‪ ،‬فأولدها ابنه إبراهيم‪،‬‬
‫الذي توف صغيا بالدينة ف حياته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ف ‪ / 28‬أو ‪ 29‬من شهر شوال سنة ‪10‬‬
‫هـ وفق ‪ 27‬يناير سنة ‪632‬م‪.‬‬

‫والسرية الثانية هي ريانة بنت زيد النضرية أو القرظية‪ ،‬كانت من سبايا قريظة‪ ،‬فاصطفاها لنفسه‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫بل هي من أزواجه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أعتقها فتزوجها‪ .‬والقول الول رجحه ابن القيم‪ .‬وزاد أبو عبيدة‬
‫اثنتي أخريي‪ ،‬جيلة أصابا ف بعض السب‪ ،‬وجارية وهبتها له زينب بنت جحش‪.‬‬

‫ومن نظر إل حياة الرسول صلى ال عليه وسلم عرف جيدا أن زواجه بذا العدد الكثي من النساء ف‬
‫أواخر عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلثي عاما من ريعان شبابه وأجود أيامه مقتصرا على وجة واحدة‬
‫شبه عجوز ‪ -‬خدية ث سودة ‪ -‬عرف أن هذا الزواج ل يكن لجل أنه وجد بغته ف نفسه قوة عارمة من‬
‫الشبق‪ ،‬ل يصب معها إل بثل هذا العدد الكثي من النساء؛ بل كانت هناك أغراض أخرى أجل وأعظم من‬
‫الغرض الذي يققه عامة الزواج‪.‬‬

‫فاتاه الرسول صلى ال عليه وصلى إل مصاهرة أب بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة ‪ -‬وكذلك‬
‫تزوجيه ابنته فاطمة بعلي بن أب طالب‪ ،‬وتزويه ابنتيه رقية ث أم كلثوم بعثمان بن عفان ‪ -‬يشي إل أنه‬
‫يبغي من وراء ذلك توثيق الصلة بالرجال الربعة‪ ،‬الذي عرف بلءهم وفداءهم للسلم ف الزمات الت‬
‫مرت به‪ ،‬وشاء ال أن يتازها بسلم‪.‬‬

‫وكان من تقاليد العرب الحترام للمصاهرة‪ ،‬فقد كان الصهر عندهم بابا من أبواب التقرب بي البطون‬
‫الختلفة‪ ،‬وكانوا يرون مناوأة وماربة الصهار سبة وعارا على أنفسهم‪ ،‬فأراد رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم بزواج عدة من أمهات الؤمني أن يكسر سورة عداء القبائل للسلم‪ ،‬ويطفئ حدة بغضائها‪ ،‬كانت‬
‫أم سلمة من بن مزوم ‪ -‬حي أب جهل وخالد بن الوليد ‪ -‬فلما تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ل‬
‫يقف خالد من السلمي موقفه الشديد بأحد‪ ،‬بل أسلم بعد مدة غي طويلة طائعا راغبا‪ ،‬وكذلك أبو سفيان‬
‫ل يواجه رسول ال صلى ال عليه وسلم بأي ماربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة‪ ،‬وكذلك ل نرى من قبيلت‬
‫بن الصطلق وبن النضي أي استفزاز وعداء بعد زواجه بويرية وصفية؛ بل كانت جويرية أعظم النساء‬
‫بركة على قومها‪ ،‬فقد أطلق الصحابة أسر مائة بيت من قومها حي تزوجها رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وقالوا‪ :‬أصهار رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬ول يفي ما لدا الن من الثر البالغ ف النفوس‪.‬‬

‫وأكب من كل ذلك وأعظم أن النب صلى ال عليه وسلم كان مأمورا بتزكية وتثقيف قوم ل يكونوا‬
‫يعرفون شيئا من آداب الثقافة والضارة والتقيد بلوازم الدينة‪ ،‬والساهة ف بناء الجتمع وتعزيزه‪.‬‬

‫والبادئ الت كانت أسسا لبناء الجتمع السلمي‪ ،‬ل تكن تسمح للرجال أن يتلطوا بالنساء‪ ،‬فلم يكن‬
‫يكن تثقيفهن مباشرة مع الراعاة لذه البادئ‪ ،‬مع أن مسيس الاجة إل تثفيفهن مباشرة ل يكن أهون‬
‫وأقل من الرجال‪ ،‬بل كان أشد وأقوى‪.‬‬

‫وإذن فلم يكن للنب صلى ال عليه وسلم سبيل إل أن يتار من النساء الختلفة العمار والواهب ما يكفي‬
‫لذا الغرض‪ ،‬فيزكيهن ويربيهن‪ ،‬ويعلمهن الشرائع والحكام‪ ،‬ويثقفهن بثقافة السلم حت يعدهن؛ لتربية‬
‫البدويات والضريات‪ ،‬العجائر منهن والشابات‪ ،‬فيكفي مؤنة التبليغ ف النساء‪.‬‬

‫وقد كان لمهات الؤمني فضل كبي ف نقل أحواله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬النلية للناس‪ ،‬خصوصا‬
‫من طالت حياته منهن كعائشة‪ ،‬فإنا روت كثيا من افعاله وأقواله‪.‬‬

‫وهناك نكاح واحد كان لنقض تقليد جاهلي متأصل‪ ،‬وهي قاعدة التبن‪ .‬وكان للمتبن عند العرب ف‬
‫الاهلية جيع الرمات والقوق الت كانت للبن القيقي سواء بسواء‪ .‬وكانت قد تاصلت تلك القاعدة‬
‫ف القلوب‪ ،‬بيث ل يكن موها سهلً‪ ،‬لكن كانت تلك القاعدة تعارض معارضة شديدة للسس والبادئ‬
‫الت قررها السلم ف النكاح والطلق والياث وغي ذلك من العاملت‪ ،‬وكانت تلك القاعدة تلب‬
‫كثيا من الفاسد والفواحش الت جاء السلم؛ ليمحوها عن الجتمع‪.‬‬

‫وقدر ال أن يكون هدم تلك القاعدة على يد رسول ال صلى ال عليه وسلم وبذاته الشريفة‪ ،‬وكانت ابنة‬
‫عمته زينب بنت جحش‪ ،‬وكانت تت زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن ممد‪ ،‬ول يكن بينهما‬
‫توافق‪ ،‬حت هم زيد بطلقها‪ ،‬وفاتح بذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد عرف الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم ـ إما بإشارات الظروف‪ ،‬وإما بإخبار ال عز وجل إياه ـ أن زيدا إن طلقها فسيؤمر هو‬
‫صلى ال عليه وسلم أن يتزوجها بعد انقضاء عدتا‪ ،‬وكان ذلك ف ظروف حرجة من تألب الشركي على‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم والسلمي‪ ،‬وكان ياف ـ إذا وقع هذا الزواج ـ دعاية النافقي‬
‫والشركي واليهود‪ ،‬وما يثيونه من الوساوس والرافات ضده‪ ،‬وما يكون له من الثر السيئ ف نفوس‬
‫ضعفاء السلمي‪ ،‬فلما فاتح زيد رسول ال صلى ال عليه وسلم بإرادته طلق زينب أمره بأن يسكها ول‬
‫يطلقها‪ ،‬وذلك لئل تئ له مرحلة هذا الزواج ف تلك الظروف الصعبة‪.‬‬

‫ول يرض ال من رسوله صلى ال عليه وسلم‪،‬هذا التردد والوف حت عاتبه ال عليه بقوله‪َ { :‬وإِذْ َتقُولُ‬
‫سكَ مَا ال ّلهُ مُ ْبدِيهِ‬
‫خفِي فِي َنفْ ِ‬
‫سكْ عَلَ ْيكَ زَوْ َجكَ وَاتّقِ ال ّلهَ َوُت ْ‬
‫لِ ّلذِي أَْنعَمَ ال ّلهُ َعلَ ْيهِ َوَأنْعَمْتَ َعلَ ْيهِ أَمْ ِ‬
‫َوَتخْشَى النّاسَ وَال ّلهُ أَ َحقّ أَن َتخْشَاهُ} [الحزاب‪.]37 :‬‬

‫وأخيا طلقها زيد‪ ،‬وتزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف أيام فرض الصار على بن قريظة بعد أن‬
‫انقضت عدتا‪ .‬وكان ال قد أوجب عليه هذا النكاح‪ ،‬ول يترك له خيارا ول مال‪ ،‬حت تول ال ذلك‬
‫النكاح بنفسه يقول‪َ { :‬فلَمّا َقضَى َزْيدٌ مّنْهَا َوطَرًا زَوّ ْجنَاكَهَا لِ َكيْ لَا يَكُونَ َعلَى الْمُ ْؤمِنِيَ حَ َرجٌ فِي أَ ْزوَاجِ‬
‫أَدْعِيَائِ ِهمْ إِذَا َقضَوْا مِنْهُنّ َوطَرًا} [الحزاب‪ ،]37 :‬وذلك ليهدم قاعدة التبن فعلً كما هدمها قول‪{ :‬‬
‫سطُ عِندَ اللّهِ} [الحزاب‪{ ،]5 :‬مّا كَانَ ُمحَ ّمدٌ أَبَا أَ َحدٍ مّن رّجَالِ ُكمْ َولَكِن رّسُولَ‬
‫ادْعُو ُهمْ لِآبَائِ ِهمْ هُوَ أَقْ َ‬
‫ال ّلهِ وَخَاتَ َم النّبِيّيَ} [الحزاب‪.]40 :‬‬

‫وكم التقاليد التأصلة الافة ل يكن هدمها أو تعديلها لجرد القول‪ ،‬بل لبد له من مقارنة فعل صاحب‬
‫الدعوة‪ ،‬ويتضح ذلك با صدر من السلمي ف عمرة الديبية‪ ،‬كان هناك أولئك السلمون الذين رآهم‬
‫عروة بن مسعود الثقفي‪ ،‬ل يقع من النب صلى ال عليه وسلم نامة إل ف يد أحدهم‪ ،‬ورآهم يتبادرون‬
‫إل وضوئه حت كادوا يقتتلون عليه‪ ،‬نعم كان أولئك الذين تسابقوا إل البيعة على الوت أو على عدم‬
‫الفرار تت الشجرة‪ ،‬والذين كان فيهم مثل أبو بكر وعمر‪ ،‬لا أمر النب صلى ال عليه وسم أولئك‬
‫الصحابة التفاني ف ذاته ‪ -‬بعد عقد الصلح ‪ -‬أن يقوموا فينحروا هديهم ل يقم لمتثال أمره أحد‪ ،‬حت‬
‫أخذه القلق والضطراب‪ ،‬ولكن لا أشارت عليه أم سلمة أن يقوم إل هديه فينحر‪ ،‬ول يكلم أحدا ففعل‪،‬‬
‫تبادر الصحابة إل اتباعه ف فعله‪ ،‬فتسابقوا إل نر جزورهم‪ .‬وبذا الادث يتضح جليا ما هو الفرق بي‬
‫أثري القول والفعل لدم قاعدة راسخة‪.‬‬

‫وقد أثر النافقون وساوس كثية‪ ،‬وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح‪ ،‬أثر بعضها ف ضعفاء‬
‫السلمي‪ ،‬ل سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول يكن يعرف السلمون حل‬
‫الزواج بأكثر من أربع نسوة وأن زيدا كان يعتب ابنا للنب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والزواج بزوجة البن‬
‫كان من أغلظ الفواحش‪ ،‬وقد أنزل ال ف سورة الحزاب حول الوضوعي ما شفى وكفى‪ ،‬وعلم‬
‫الصحابة أن التبن ليس له أثر عند السلم‪ ،‬وأن ال تعال وسع لرسوله صلى ال عليه وسلم ف الزواج‬
‫مال يوسع لغيه‪ ،‬لغراضهة النبيلة المتازة‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬وكانت عشرته صلى ال عليه وسلم مع أمهات الؤمني ف غاية الشرف والنبل والسمو والسن‪،‬‬
‫كما كن ف أعلى درجة من الشرف والقناعة والصب والتواضع والدمة والقيام بقوق الزواج‪ ,‬مع أنه‬
‫كان ف شظف من العيش ل يطيقه أحد‪ .‬قال أنس‪ :‬ما أعلم النب صلى ال عليه وسلم رأى رغيفا مرفقا‬
‫حت لق بال‪ ،‬ول رأى شاة سيطا بعينه قط‪ .‬وقالت عائشة‪ :‬إن كنا لننظر إل اللل ثلثة أهلة ف شهرين‪،‬‬
‫وما أوقدت ف أبيات رسول ال صلى ال عليه وسلم نار‪ .‬فقال لا عروة‪ :‬ما كان يعيشكم؟ قالت‪:‬‬
‫السودان؛ التمر والاء‪ .‬والخبار بذا الصدد كثية‪.‬‬

‫ومع هذا الشظف والضيق ل يصدر منهن ما يوجب العتاب إل مرة واحدة ‪ -‬حسب مقتضى البشرية‪،‬‬
‫وليكون سببا لتشريع الحكام ‪ -‬فأنزل ال آية التخيي {أَيّهَا النّبِيّ قُل لّأَ ْزوَاجِكَ إِن كُنُتنّ تُرِ ْد َن الْحَيَاةَ‬
‫الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فََتعَالَيْنَ أُمَّتعْكُنّ َوأُسَرّ ْحكُنّ سَرَاحًا جَمِيلًا َوإِن كُنتُنّ تُرِ ْدنَ ال ّلهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآ ِخ َرةَ َفِإنّ‬
‫سنَاتِ مِنكُنّ أَ ْجرًا َعظِيمً} [الحزاب‪ ]29 ،28 :‬وكان من شرفهن ونبلهن أنن آثرن‬
‫ال ّلهَ أَ َعدّ لِلْ ُمحْ ِ‬
‫ال ورسوله‪ ،‬ول تل واحدة منهن إل اختيار الدنيا‪.‬‬

‫وكذلك ل يقع منهن ما يقع بي الضرائر ـ مع كثرتن ـ إل شيء يسي من بعضهن حسب اقتضاء‬
‫البشرية‪ ،‬ث عاتب ال عليه فلم يعدن له مرة أخرى وهو الذي ذكره ال ف سورة التحري بقوله {يَا أَيّهَا‬
‫النّبِيّ ِلمَ تُحَ ّرمُ مَا أَحَلّ ال ّلهُ َلكَ} إل تام الية الامسة‪.‬‬
‫وأخيا أرى أنه ل حاجة إل البحث ف موضوع مبدأ تعدد الزوجات‪ ،‬فمن نظر ف حياة سكان اوروبا‬
‫الذين يصدر منهم النكي الشديد على هذا البدأ‪ ،‬ونظر إل مايقاسون من الشقاوة والرارة‪ ،‬وما يأتون من‬
‫الفضائح والرائم الشنيعة‪ ،‬وما يواجهون من البليا والقلقل لنرافهم عن هذا البدأ كفى له ذلك عن‬
‫البحث والستدلل‪ ،‬فحياتم أصدق شاهد على عدالة هذا البدأ‪ ،‬وإن ف ذلك لعبة لول البصار‪.‬‬
‫الصفات والخلق‬

‫كان النب صلى ال عليه وسلم يتاز من جال خَلْقه وكمال خُلُقه با ل ييط بوصفه البيان‪ ،‬وكان من أثره‬
‫أن القلوب فاضت بإجلله‪ ،‬والرجال تفانوا ف حياطته وإكباره‪ ،‬با ل تعرف الدنيا لرجل غيه‪ ،‬فالذين‬
‫عاشروه أحبوه إل حد اليام‪ ،‬ول يبالوا أن تندق أعناقهم ول يدش له ُظفْر‪ ،‬وما أحبوه كذلك إل لن‬
‫أنصبته من الكمال الذي يبب عادة ل يرزق بثلها بشر‪ .‬وفيما يلي نورد ملخص الروايات ف بيان جاله‬
‫وكماله مع اعتراف العجز عن الحاطة‪.‬‬

‫جال الَلْق‬

‫قالت أم مَعَْبدٍ الزاعية عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهي تصفه لزوجها‪ ،‬حي مر بيمتها‬
‫صعْلَة‪ ،‬وسِيم قَسِيم‪ ،‬ف عينيه‬
‫مهاجرا‪ :‬ظاهر الوَضَاءة‪ ،‬أبْ َلجُ الوجه‪ ،‬حسن الُلُق‪ ،‬ل تعبه ُثجْلَة‪ ،‬ول تُ ْزرِ به َ‬
‫دَعَج‪ ،‬وف أشفاره َوطَف‪ ،‬وف صوته صَهَل‪ ،‬وف عنقه َسطَع‪ ،‬أحْوَر‪ ،‬أكْحَل‪ ،‬أ َزجّ‪ ،‬أقْرَن‪ ،‬شديد سواد‬
‫الشعر‪ ،‬إذا صمت عله الوقار‪ ،‬وإن تكلم عله البَهَاء‪ ،‬أجل الناس وأباهم من بعيد‪ ،‬وأحسنه وأحله من‬
‫قريب‪ ،‬حلو النطق‪ ،‬فَضْل‪ ،‬ل نَزْر ول َهذَر‪ ،‬كأن منطقه َخرَزَات نظمن يَتَحدّرن‪َ ،‬رْبعَة‪ ،‬ل تقحمه عي من‬
‫صنَيْن‪ ،‬فهو أْنظَر الثلثة منظرا‪ ،‬وأحسنهم قدْرًا‪ ،‬له رفقاء يفون‬
‫قِصَر‪ ،‬ول تشنؤه من طول‪ُ ،‬غصْن بي غُ ْ‬
‫حفُود‪َ ،‬محْشُود‪ ،‬ل عَابِس ول ُمفَنّد‪.‬‬
‫به‪ ،‬إذا قال استمعوا لقوله‪ ،‬وإذا أمر تبادروا إل أمره‪َ ،‬م ْ‬

‫وقال على بن أب طالب ـ وهو ينعت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ل يكن بالطويل الُ َمغّطِ‪ ،‬ول‬
‫لعْد ال َقطِطِ‪ ،‬ول بالسّبْط‪ ،‬رَ ِجلً‪ ،‬ول يكن با ُلطَهّم‪ ،‬ول‬
‫القصي التردد‪ ،‬وكان َربْعَة من القوم‪ ،‬ول يكن با َ‬
‫بالُ َكلْثَم‪ ،‬وكان ف الوجه تدوير‪ ،‬وكان أبيض مُشْ َربًا‪ ،‬أدْعَج العيني‪ ،‬أ ْهدَب ال ْشفَار‪ ،‬جَلِيل الُشَاش‬
‫والكََتدِ‪ ،‬دقيق السْ ُربَة‪ ،‬أجْرَد‪ ،‬شَ ْثنُ الكفي والقدمي‪ ،‬إذا مشي َتقَلّع كأنا يشي ف صَبَب‪ ،‬وإذا التفت‬
‫التفت معا‪ ،‬بي كتفيه خات النبوة‪ ،‬وهو خات النبيي‪ ،‬أجود الناس كفا‪ ،‬وأجرأ الناس صدرا‪ ،‬وأصدق‬
‫الناس لَ ْهجَة‪ ،‬وأوف الناس ذمة‪ ،‬وألينهم عَريكَة‪ ،‬وأكرمهم عشرة‪ ،‬من رآه بديهة هابه‪ ،‬ومن خالطه معرفة‬
‫أحبه‪ ،‬يقول ناعته‪ :‬ل أر قبله ول بعده مثله‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫س ُربَة‪ ،‬إذا مشي تَ َكفّأ تَ َكفّيًا كأنا يَ ْنحَطّ‬


‫ضخْم الرأس‪ ،‬ضخم الكَرَادِيس‪ ،‬طويل الَ ْ‬
‫وف رواية عنه‪ :‬أنه كان َ‬
‫من صَبَب‪.‬‬
‫وقال جابر بن سَمُرة‪ :‬كان ضَلِيع الفم‪ ،‬أشْكَل العيني‪ ،‬مَنْهُوس العقبي‪.‬‬

‫صدًا‪.‬‬
‫وقال أبو الطفيل‪ :‬كان أبيض‪ ،‬مَلِيح الوجه‪ ،‬مُقَ ّ‬

‫ط الكفي‪ .‬وقال‪ :‬كان أزْهَر اللون‪ ،‬ليس بأبيض أمْهَقَ‪ ،‬ول آدَم‪ ،‬قُبض وليس‬
‫سَ‬‫وقال أنس بن مالك‪ :‬كان بِ ْ‬
‫ف رأسه وليته عشرون شعرة بيضاء‪.‬‬

‫صدْغَيْه‪ ،‬وفـي رواية‪ :‬وف الرأس نَ ْبذٌ‪.‬‬


‫وقال‪ :‬إنا كان شيء ـ أي من الشيب ـ ف ُ‬

‫وقال أبو ُجحَيْفة‪ :‬رأيت بياضا تت شفته السفلي‪ ،‬العَ ْنفَقَة‪.‬‬

‫وقال عبد ال بن بُسْر‪ :‬كان ف عنفقته شعرات بيض‪.‬‬

‫وقال الباء‪ :‬كان مَ ْربُوعًا‪ ،‬بَعِيدَ ما بي الَ ْنكِبَيْن‪ ،‬له َشعْر يبلغ َشحْمَة أذنيه‪ ،‬رأيته ف حُلّة حراء‪ ،‬ل أر شيئا‬
‫قط أحسن منه‪.‬‬

‫سدِل شعره أولً لبه موافقة أهل الكتاب‪ ،‬ث فَرَق رأسه بعد‪.‬‬
‫وكان يُ ْ‬

‫قال الباء‪ :‬كان أحسن الناس وجهًا‪ ،‬وأحسنهم خُ ُلقًا‪.‬‬

‫وسئل‪ :‬أكان وجه النب صلى ال عليه وسلم مثل السيف؟ قال‪ :‬ل بل مثل القمر‪ .‬وف رواية‪ :‬كان وجهه‬
‫مستديرا‪.‬‬

‫وقالت ال ّربَيّع بنت ُمعَوّذ‪ :‬لو رأيته رأيت الشمس طالعة‪.‬‬

‫ضحِيَانٍ‪ ،‬فجعلت أنظر إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وإل القمر‬


‫وقال جابر بن سَمُرَة‪ :‬رأيته ف ليلة إ ْ‬
‫ـ وعليه حلة حراء ـ فإذا هو أحسن عندي من القمر‪.‬‬

‫وقال أبو هريرة‪ :‬ما رأيت شيئا أحسن من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كأن الشمس تري ف وجهه‪،‬‬
‫وما رأيت أحدا أسرع ف مشيه من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كأنا الرض ُتطْوَي له‪ ،‬وإنا لنجهد‬
‫أنفسنا‪ ،‬وإنه لغي مكترث‪.‬‬

‫وقال كعب بن مالك‪ :‬كان إذا سُرّ استنار وجهه‪ ،‬حت كأنه قطعة قمر‪.‬‬
‫صفُ نعلً‪ ،‬وهي تغزل غزلً‪ ،‬فجعلت تبق أسارير وجهه‪،‬‬
‫وعرق مرة وهو عند عائشة رضي ال عنها يَخْ ِ‬
‫فلما رأته بُهَِتتْ وقالت‪ :‬وال لو رآك أبو كَبِي ا ُلذَل لعلم أنك أحق بشعره من غيك‪:‬‬

‫وإذا نظرت إل أسرة وجهه ** برقت كبق العارض التهلل‬

‫وكان أبو بكر إذا رآه يقول‪:‬‬

‫أمي مصطفى بالي يدعو ** كضوء البدر زايله الظلم‬

‫وكان عمر ينشد قول زهي ف هَرِم بن سِنَان‪:‬‬

‫لو كنت من شيء سوى البشر ** كنت الضيء لليلة البدر‬

‫ث يقول‪ :‬كذلك كان رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ب الرمان‪.‬‬
‫وكان إذا غضب احر وجهه‪ ،‬حت كأنا فقئ ف وجنتيه َح ّ‬

‫وقال جابر بن سَمُرَة‪ :‬كان ف ساقيه حُمُوشة‪ ،‬وكان ل يضحك إل تَبَسّما‪ .‬وكنت إذا نظرت إليه قلت‪:‬‬
‫أ ْكحَل العيني‪ ،‬وليس بأكحل‪.‬‬

‫وقال عمر بن الطاب‪ :‬وكان من أحسن الناس َثغْرا‪.‬‬

‫قال ابن عباس‪ :‬كان أفْ َلجَ الثنيتي‪ ،‬إذا تكلم رؤي كالنور يرج من بي ثناياه‪.‬‬

‫وأما ُعنُقه فكأنه جِيدُ ُدمَْيةٍ ف صفاء الفضة‪ ،‬وكان ف أَ ْشفَاره َعطَف‪ ،‬وف ليته كثافة‪ ،‬وكان واسع البي‪،‬‬
‫ل ّديْن‪ ،‬من لُبّتِه إل سُ ّرتِه شعر يري كالقضيب‪،‬‬
‫أ َزجّ الواجب ف غي قرن بينهما‪ ،‬أقْنَي العِ ْرنِي‪ ،‬سَهْل ا َ‬
‫ليس ف بطنه ول صدره شعر غيه‪ ،‬أ ْشعَر الذراعي والنكبي‪ ،‬سَوَاءُ البطن والصدر‪ ،‬مَسِيح الصدر‬
‫عريضه‪ ،‬طويل الزّنْد‪َ ،‬رحْب الراحة‪ ،‬سَبْط القَصَب‪ ،‬خُمْصَان ال ْخمَصَيْن‪ ،‬سَائِل الطراف‪ ،‬إذا زَالَ زَالَ‬
‫قَلْعا‪ ،‬يطو تَ َكفّيا ويشي هَوْنا‪.‬‬

‫وقال أنس‪ :‬ما مسست حريرا ول ديباجا ألي من كف النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول شمت ريا قط أو‬
‫عَرْفا قط‪ ،‬وف رواية‪ :‬ما شمت عنبا قط ول مِسْكا ول شيئا أطيب من ريح أو عرف رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫وقال أبو ُجحَيْفة‪ :‬أخذت بيده‪ ،‬فوضعتها على وجهي‪ ،‬فإذا هي أبرد من الثلج‪ ،‬وأطيب رائحة من السك‪.‬‬

‫وقال جابر بن سرة ـ وكان صبيا‪ :‬مسح َخدّي فوجدت ليده بردا أو ريا كأنا أخرجها من جُوَنةِ َعطّار‪.‬‬

‫وقال أنس‪ :‬كأن عرقه اللؤلؤ‪ .‬وقالت أم سليم‪ :‬هو من أطيب الطيب‪.‬‬

‫وقال جابر‪ :‬ل يسلك طريقا فيتبعه أحد إل عرف أنه قد سلكه من طيب عَرْفِه‪ .‬أو قال‪ :‬من ريح عرقه‪.‬‬

‫وكان بي كتفيه خات النبوة مثل بيضة المامة‪ ،‬يشبه جسده‪ ،‬وكان عند نَاغِض كتفه اليسري جُمْعا‪ ،‬عليه‬
‫خِيَلن كأمثال الثّآلِيل‪.‬‬

‫كمال النفس ومكارم الخلق‬

‫كان النب صلى ال عليه وسلم يتاز بفصاحة اللسان‪ ،‬وبلغة القول‪ ،‬وكان من ذلك بالحل الفضل‪،‬‬
‫والوضع الذي ل يهل‪ ،‬سلمة طبع‪ ،‬ونصاعة لفظ‪ ،‬وجزالة قول‪ ،‬وصحة معان‪ ،‬وقلة تكلف‪ ،‬أوت جوامع‬
‫الكلم‪ ،‬وخص ببدائع الكم‪ ،‬وعلم ألسنة العرب‪ ،‬ياطب كل قبيلة بلسانا‪ ،‬وياورها بلغتها‪ ،‬اجتمعت له‬
‫قوة عارضة البادية وجزالتها‪ ،‬ونصاعة ألفاظ الاضرة ورونق كلمها‪ ،‬إل التأييد اللي الذي مدده الوحي‪.‬‬

‫وكان اللم والحتمال‪ ،‬والعفو عند القدرة‪ ،‬والصب على الكاره‪ ،‬صفاتٌ أدبه ال با‪ ،‬وكل حليم قد‬
‫عرفت منه زلة‪ ،‬وحفظت عنه َهفْوَة‪ ،‬ولكنه صلى ال عليه وسلم ل يزد مع كثرة الذي إل صبا‪ ،‬وعلى‬
‫إسراف الاهل إل حلما‪ ،‬وقالت عائشة‪ :‬ما خي رسول ال صلى ال عليه وسلم بي أمرين إل اختار‬
‫أيسرها ما ل يكن إثا‪ ،‬فإن كان إثا كان أبعد الناس عنه‪ ،‬وما انتقم لنفسه إل أن تنتهك حرمة ال فينتقم‬
‫ل با‪ .‬وكان أبعد الناس غضبا‪ ،‬وأسرعهم رضا‪.‬‬

‫وكان من صفة الود والكرم على مال يقادر قدره‪ ،‬كان يعطي عطاء من ل ياف الفقر‪ ،‬قال ابن عباس‪:‬‬
‫كان النب صلى ال عليه وسلم أجود الناس‪ ،‬وأجود ما يكون ف رمضان حي يلقاه جبيل‪ ،‬وكان جبيل‬
‫يلقاه ف كل ليلة من رمضان‪ ،‬فيدارسه القرآن‪ ،‬فلرسول ال صلى ال عليه وسلم أجود بالي من الريح‬
‫الرسلة‪ .‬وقال جابر‪ :‬ما سئل شيئا قط فقال‪ :‬ل‪.‬‬

‫وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالكان الذي ل يهل‪ ،‬كان أشجع الناس‪ ،‬حضر الواقف الصعبة‪ ،‬وفر‬
‫عنه الكماة والبطال غي مرة‪ ،‬وهو ثابت ل يبح‪ ،‬ومقبل ل يدبر‪ ،‬ول يتزحزح‪ ،‬وما شجاع إل وقد‬
‫أحصيت له فَرّة‪ ،‬وحفظت عنه جولة سواه‪ ،‬قال علي‪ :‬كنا إذا حي البأس واحرت الَ َدقُ‪ ،‬اتقينا برسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إل العدو منه‪ .‬قال أنس‪ :‬فزع أهل الدينة ذات ليلة‪،‬‬
‫فانطلق ناس قَِبلَ الصوت‪ ،‬فتلقاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم راجعا‪ ،‬وقد سبقهم إل الصوت‪ ،‬وهو‬
‫على فرس لب طلحة عُرْي‪ ،‬ف عنقه السيف‪ ،‬وهو يقول‪( :‬ل تُرَاعوا‪ ،‬ل تُرَاعوا)‪.‬‬

‫وكان أشد الناس حياء وإغضاء‪ ،‬قال أبو سعيد الدري‪ :‬كان أشد حياء من العذراء ف ِخدْرها‪ ،‬وإذا كره‬
‫شيئا عرف ف وجهة‪ .‬وكان ل يثبت نظره ف وجه أحد‪ ،‬خافض الطرف‪ .‬نظره إل الرض أطول من نظره‬
‫إل السماء‪ ،‬جُلّ نظره اللحظة‪ ،‬ل يشافه أحدا با يكره حياء وكرم نفس‪ ،‬وكان ل يسمي رجلً بلغ عنه‬
‫شيء يكرهه‪ ،‬بل يقول‪( .‬ما بال أقوام يصنعون كذا)‪.‬‬

‫وكان أحق الناس بقول الفرزدق‪:‬‬

‫يغضي حياء ويغضي من مهابته ** فــل يكلـم إل حيـن يبتسـم‬

‫وكان أعدل الناس‪ ،‬وأعفهم‪ ،‬وأصدقهم لجة‪ ،‬وأعظمهم أمانة‪ ،‬اعترف له بذلك ماوروه وأعداؤه‪ ،‬وكان‬
‫يسمي قبل نبوته المي‪ ،‬ويُتَحاكم إليه ف الاهلية قبل السلم‪ ،‬روي الترمذي عن على أن أبا جهل قال‬
‫له‪ :‬إنا ل نكذبك‪ ،‬ولكن نكذب با جئت به‪ ،‬فأنزل ال تعال فيهم‪َ { :‬فِإنّ ُهمْ لَ يُ َك ّذبُونَكَ َولَكِ ّن الظّالِمِيَ‬
‫حدُونَ} [النعام‪ .]33:‬وسأل هرقل أبا سفيان‪ ،‬هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما‬
‫جَ‬‫بِآيَاتِ ال ّلهِ َي ْ‬
‫قال؟ قال‪ :‬ل‪.‬‬

‫وكان أشد الناس تواضعا‪ ،‬وأبعدهم عن الكب‪ ،‬ينع عن القيام له كما يقومون للملوك‪ ،‬وكان يعود‬
‫الساكي‪ ،‬ويالس الفقراء‪ ،‬وييب دعوة العبد‪ ،‬ويلس ف أصحابه كأحدهم‪ ،‬قالت عائشة‪ :‬كان يصف‬
‫نعله‪ ،‬وييط ثوبه‪ ،‬ويعمل بيده كما يعمل أحدكم ف بيته‪ ،‬وكان بشرا من البشر يَفْلِي ثوبه‪ ،‬ويلب شاته‪،‬‬
‫ويدم نفسه‪.‬‬

‫وكان أوف الناس بالعهود‪ ،‬وأوصلهم للرحم‪ ،‬وأعظمهم شفقة ورأفة ورحة بالناس‪ ،‬أحسن الناس عشرة‬
‫وأدبا‪ ،‬وأبسط الناس خلقا‪ ،‬أبعد الناس من سوء الخلق‪ ،‬ل يكن فاحشا‪ ،‬ول متفحشا‪ ،‬ول لعانا‪ ،‬ول‬
‫صخابا ف السواق‪ ،‬ول يزي بالسيئة السيئة‪ ،‬ولكن يعفو ويصفح‪ ،‬وكان ل يدع أحدا يشي خلفه‪،‬‬
‫وكان ل يترفع على عبيده وإمائه ف مأكل ول ملبس‪ ،‬ويدم من َخ َدمَه‪ ،‬ول يقل لادمه أف قط‪ ،‬ول يعاتبه‬
‫على فعل شيء أو تركه‪ ،‬وكان يب الساكي ويالسهم‪ ،‬ويشهد جنائزهم‪ ،‬ول يقر فقيا لفقره‪ .‬كان ف‬
‫بعض أسفارة فأمر بإصلح شاة‪ ،‬فقال رجل‪ :‬على ذبها‪ ،‬وقال آخر‪ :‬على سلخها‪ ،‬وقال آخر على‬
‫طبخها‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪( :‬وعلي جع الطب)‪ ،‬فقالوا‪ :‬نن نكفيك‪ .‬فقال‪( :‬قد علمت أنكم‬
‫تكفون ولكن أكره أن أتيز عليكم‪ ،‬فإن ال يكره من عبده أن يراه متميزا بي أصحابه)‪ ،‬وقام وجع‬
‫الطب‪.‬‬

‫ولنترك هند بن أب هالة يصف لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ؛ قال هند فيما قال‪ :‬كان رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم متواصل الحزان‪ ،‬دائم الفكرة‪ ،‬ليست له راحة‪ ،‬ول يتكلم ف غي حاجة‪ ،‬طويل‬
‫السكوت‪ ،‬يفتتح الكلم ويتمه بأشداقه ـ ل بأطراف فمه ـ ويتكلم بوامع الكلم‪ ،‬فصلً‪ ،‬ل فضول فيه‬
‫ول تقصي‪ ،‬دمثا ليس بالاف ول بالهي‪ ،‬يعظم النعمة وإن دقت‪ ،‬ليذم شيئا‪ ،‬ول يكن يذم ذواقا ـ ما‬
‫يطعم ـ ول يدحه‪ ،‬ول يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حت ينتصر له‪ ،‬ل يغضب لنفسه‪ ،‬ول ينتصر‬
‫لا ـ ساحة ـ وإذا أشار أشار بكفه كلها‪ ،‬وإذا تعجب قلبها‪ ،‬وإذا غضب أعرض وأشاح‪ ،‬وإذا فرح‬
‫غض طرفه‪ ،‬جل ضحكه التبسم‪ ،‬ويفتر عن مثل حب الغمام‪.‬‬

‫وكان يزن لسانه إل عما يعنيه‪ ،‬يؤلف أصحابه ول يفرقهم‪ ،‬يكرم كري كل قوم‪ ،‬ويوليه عليهم‪ ،‬ويذر‬
‫الناس‪ ،‬ويترس منهم من غي أن يطوي عن أحد منهم بشره‪.‬‬

‫يتفقد أصحابه‪ ،‬ويسأل الناس عما ف الناس‪ ،‬ويسن السن ويصوبه‪ ،‬ويقبح القبيح ويوهنه‪ ،‬معتدل المر‪،‬‬
‫غي متلف‪ ،‬ل يغفل مافة أن يغفلوا أو يلوا‪ ،‬لكل حال عنده عتاد‪ ،‬ل يقصر عن الق‪ ،‬ول ياوزه إل‬
‫غيه‪.‬‬

‫الذين يلونه من الناس خيارهم‪ ،‬وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة‪ ،‬وأعظمهم عنده منلة أحسنهم مواساة‬
‫ومؤازرة‪.‬‬

‫كان ل يلس ول يقوم إل على ذكر‪ ،‬ول يوطن الماكن ـ ل ييز لنفسه مكانا ـ إذا انتهي إل القوم‬
‫جلس حيث ينتهي به الجلس‪ ،‬ويأمر بذلك‪ ،‬ويعطي كل جلسائه نصيبه حت ل يسب جليسه أن أحدا‬
‫أكرم عليه منه ‪ ،‬من جالسه أو قاومه لاجة صابره حت يكون هو النصرف عنه‪ ،‬ومن سأله حاجة ل يرده‬
‫إل با أو بيسور من القول‪ ،‬وقد وسع الناس بسطه وخلقه‪ ،‬فصار لم أبا‪ ،‬وصاروا عنده ف الق متقاربي‪،‬‬
‫يتفاضلون عنده بالتقوي‪ ،‬ملسه ملس حلم وحياء وصب وأمانة‪ ،‬ل ترفع فيه الصوات‪ ،‬ول تؤبن فيه‬
‫الرم ـ ل تشي فلتاته ـ يتعاطفون بالتقوي‪ ،‬يوقرون الكبي‪ ،‬ويرحون الصغي‪ ،‬ويرفدون ذا الاجة‪،‬‬
‫ويؤنسون الغريب‪.‬‬
‫صخّاب‪ ،‬ول فحاش‪ ،‬ول عتاب‪،‬‬
‫كان دائم البشر‪ ،‬سهل اللق‪ ،‬لي الانب‪ ،‬ليس بفظ‪ ،‬ول غليظ‪ ،‬ول َ‬
‫ول مداح‪ ،‬يتغافل عما ل يشتهي‪ ،‬ول يقنط منه‪ .‬قد ترك نفسه من ثلث‪ :‬الرياء‪ ،‬والكثار‪ ،‬وما ل يعنيه‪،‬‬
‫وترك الناس من ثلث‪ :‬ل يذم أحدا‪ ،‬ول يعيه‪ ،‬ول يطلب عورته‪ ،‬ول يتكلم إل فيما يرجو ثوابه‪ ،‬إذا‬
‫تكلم أطرق جلساؤه‪ ،‬كأنا على رءوسهم الطي‪ ،‬وإذا سكت تكلموا‪ .‬ل يتنازعون عنده الديث‪ ،‬من‬
‫تكلم عنده أنصتوا له حت يفرغ‪ ،‬حديثهم حديث أولم‪ ،‬يضحك ما يضحكون منه‪ ،‬ويعجب ما يعجبون‬
‫منه‪ ،‬ويصب للغريب على الفوة ف النطق‪ ،‬يقول‪ :‬إذا رأيتم صاحب الاجة يطلبها فأرفدوه‪ ،‬ول يطلب‬
‫الثناء إل من مكافئ‪.‬‬

‫وقال خارجة بن زيد‪ :‬كان النب صلى ال عليه وسلم أوقر الناس ف ملسه‪ ،‬ل يكاد يرج شيئا من‬
‫أطرافه‪ ،‬وكان كثي السكوت‪ ،‬ل يتكلم ف غي حاجة‪ ،‬يعرض عمن تكلم بغي جيل‪ ،‬كان ضحكه تبسما‪،‬‬
‫وكلمه فصل ل فضول ول تقصي‪ ،‬وكان ضحك أصحابه عنده التبسم توقيا له واقتداء به‪.‬‬

‫وعلى الملة‪ ،‬فقد كان النب صلى ال عليه وسلم ملي بصفات الكمال النقطعة النظي‪ ،‬أدبه ربه فأحسن‬
‫تأديبه‪ ،‬حت خاطبه مثنيا عليه فقال‪َ { :‬وِإّنكَ لَعَلى ُخلُقٍ َعظِيمٍ} [القلم‪ ،]4 :‬وكانت هذه اللل ما قرب‬
‫إليه النفوس‪ ،‬وحببه إل القلوب‪ ،‬وصيه قائدا توي إليه الفئدة‪ ،‬وألن من شكيمة قومه بعد الباء‪ ،‬حت‬
‫دخلوا ف دين ال أفواجا‪.‬‬

‫وهذه اللل الت أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته‪ ،‬أما حقيقة ما كان عليه‬
‫من الماد والشمائل فأمر ل يدرك كنهه‪ ،‬ول يسب غوره‪ ،‬ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر ف الوجود‬
‫بلغ أعلى قمة من الكمال‪ ،‬استضاء بنور ربه‪ ،‬حت صار خلقه القرآن؟‬

‫اللهم صل على ممد وعلى آل ممد‪ ،‬كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‪ ،‬إنّك حَميد ميد‪.‬‬

‫اللهم بارك على ممد وعلى آل ممد‪ ،‬كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حيد ميد‪.‬‬

You might also like