Professional Documents
Culture Documents
الصارم المسلول ج2
الصارم المسلول ج2
الرسول
-صلى الله عليه وسلم-
لشيخ السلم أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية
الجزء الثاني
1
الفهرس
2
الفرق بين قذف أمهات المؤمنين وبين غيرهن من المؤمنات
33
ليس للحاكم الحكم بخلف علمه 37................................
توبة الزنديق 37.........................................................
دليل جواز قتل الزنديق والمنافق من غير استتابة38...........
الوجوه الدالة على جواز قتل المنافقين إذا ثبت بالبّينة39.....
لم يقتل النبي المنافقين لوجهين44...........................
خلصة ما تقدم46......................................................
طريق استدلل من قال يقتل الساب لكونه منافقا ً 48.........
التفريق بين المسلم والذمي في إقامة الحدود عليهما 51. . . .
أقسام الردة51..........................................................
تحقيق هذه الطريقة 51...............................................
فساد من يجعل الردة جنسا ً واحدا ً52...............................
الضرار بالمسلمين أشد من تغيير العتقاد 54..................
فــصــل 56.........................................................................................................
وجوب قتل الساب مسلما ً كان أو كافرا ً56..................................................................
سنة الرسول تدل على أن الساب يقتل وإن تاب 56............
طرق الستدلل على تحتم قتل الذمي والمسلم بالسب 56...
الطريقة الولى الستدلل بآية الحرابة 56.......................
بيان أن الساب من المحاربين لله ورسوله 58....................
ناقض العهد محارب للمسلمين ومحارب لله ورسوله 60.......
ناقض العهد قد يقتصر عليه وقد يزيد عليه 61...................
الساب عدو لله ولرسوله 61.........................................
سب النبي ينافي اعتقاد نبوته 62...............................
شتم الرسول فساد في الرض 64..............................
المحاربة نوعان باللسان واليد 64...................................
المحاربة ضد المسالمة 65............................................
محاربة الله ورسوله هي المغالبة على خلف ما أمر الله به
ورسوله 65..............................................................
قتل الساب لجل الذى والضرر وليس لمجرد الكفر 68........
أحوال المعاهد71..................................................... :
النفاق قسمان 72......................................................
ب إما حراب أو جناية 74......................................... الس ّ
ل ينعقد أمان مع سب النبي 75.....................................
أذى الرسول علة لوجوب القتل 75.................................
إهدار النبي دماء نسوة كن يهجونه 77.............................
3
أمر الرسول بقتل قوم كانوا يسبونه مع عفوه عن غيرهم 78
قصة ابن أبي سرح 79.................................................
ب حدّ يشبه القصاص فل يسقط 84........................... للس ّ
النصوص من أقوال الصحابة وأفعالهم 85.........................
للرسول حقوق زائدة على مجرد التصديق بنبوته 86............
أثر التوبة النصوح 93..................................................
كل ما أوجب القتل حقا ً لله تعالى كان فسادا ً في الرض 96..
هل يسقط السلم كل فرع من فروع الكفر؟ 96...............
الفرق بين قتل المرتد وقتل الساب 97...........................
هل السب مستلزم للكفر؟ 99.......................................
هل السب من فروع الكفر؟ 99......................................
قتل الساب حدّ للمحافظة على عرض الرسول 100.............
د؟ 101.......................................... هل لقذف المّيت ح ّ
الفرق بين سب الرسول وسب غيره 102.........................
سب الرسول يتعلق به حق الله وحق الرسول وأثر ذلك 103. .
ل يعصم السلم إل دم من يجب قبوله منه 104.................
النصوص لم تفّرق بين حال وحال 105.............................
هل بين المسلم والذمي فرق؟ 105................................
ب بالسلم 106.............................. ل تسقط عقوبة الس ّ
كل عقوبة وجبت على الذمي زيادة على الكفر ل تسقط
بالسلم 107............................................................
السبب الماضي يبقى موجبه بعد التوبة 107......................
سب النبي أذى يوجب القتل فل يسقط بالتوبة 108...........
سب الرسول أفظع جرما ً من التزوج بنسائه 110................
ساب النبي شانئ له فيجب أن يبتر 110...........................
الجواب عن حجج المخالفين 111....................................
ل يلزم من قبول التوبة سقوط الحدّ عنه 123....................
أوجه الفرق بين إسلم الحربي والمرتد وإسلم الساب 124. .
ب الله غالبا ً لب الرسول يكون على وجه الستخفاف وس ّ س ّ
يكون على هذا الوجه 136............................................
فــــصــــل142...................................................................................................
ة 142................................................................................... ضــِع الّتــوَبــ ِ
وا ِ مــ َ فــي َ
ل142...........................................: م ،فَن َ ُ
قو ُ َ وَذ َِلـ َ
جَراِئـ ِ
سـاِئـرِ الـ َ
ن َ
مـ ْ
عـلى الّتـوَبـةِ ِ ي َ مب ِْنـ ّ
ك َ
قاطع الطريق142................................................ توبة
المرتد 142........................................................ توبة
القاتل والقاذف 142............................................ توبة
الزاني ونحوه 142............................................... توبة
4
فـــصـــل 145.....................................................................................................
توبة الساب بعد ثبوته بالبينة 145.............................................................................
توبته بعد القرار بالسب 145........................................
َ
ة 147...................................................................................... سـأَلـ ُ
ة الــّراِبــَعــ ُ مـ ْال َ
ر147..............................فـ ِ جـّردِ ال ُ
كـ ْ مـ َ
ن ُ
ه وََبـْيـ َ
ق َبـْيـَنـ ُ
فـْر ِ مـذ ْ ُ
كـوِرَ ،وال َ ب ال َسـ ّ ن ال ّ ِفـي َبـَيـا ِ
السب كفر في الباطن وفي الظاهر 147.........................
الرد على من قال :ل يكفر إل الساب المستح ّ
ل 149............
الدليل على كفر الساب مطلقا ً 150................................
شبهتان للمرجئة و الجهمية 150....................................
فـــصـــــل156...................................................................................................
ب كفر 156............... نصوص العلماء التي تدل على أن الس ّ
الفرق بين السب والكفر 160.......................................
فصـــــــل161....................................................................................................
سب الذمي له ينقض العهد ويوجب القتل 161...................
سب المسلم له يوجب القتل 161...................................
فرق بين إظهار السب وكتمانه 162................................
الرد على التفرقة بين ما يعتقده وما ل يعتقده 164............
أنواع السب وحكم كل نوع منها 165...............................
فـصــــل 169......................................................................................................
حكم توبة الذمي من السب169......................................
فـصـــل 171.......................................................................................................
ب الله ت ََعاَلى171....................................................................................
س ّ
ن َ م ْ
ِفي َ
حكم من سب الله تعالى171.........................................
هل ُتقبل توبته171.....................................................
فـصــــل 177......................................................................................................
حكم الذمي إذا سب الله تعالى 177................................
المسألة الولى في حكم الذمي إذا سب الله 177..............
ه.....
وب َت ِ ِ
ل تَ ْ
و ِ و َ
قب ُ ْ ه َ
ذاَ ، ن َ
م ْ
ي ِ ة الذّ ّ
م ّ ست َِتاب َ ِ
ة /في ا ْ سأ َل َ ُ
ة الّثان ِي َ ُ م ْ
ال َ
178
أقوال العلماء في توبة الذمي 178.................................
سب الله على ثلثة منازل 179......................................
فـصــــل 182......................................................................................................
حقيقة السب 182......................................................
فـصــــل 183......................................................................................................
حكم من سب موصوفا ً أو مسمى باسم يقع على الله أو بعض
رسله183.................................................................
فصــــــل 185.....................................................................................................
سب النبياء كفر وردة أو محاربة 185..............................
فصــــــل 186.....................................................................................................
5
حكم ساب أزواج النبي186...........................................
حكم ساب عائشة 186.................................................
من سب غير عائشة من أمهات المؤمنين 186...................
فصـــــل 188......................................................................................................
ب أحدا ً من الصحابة 188................................حكم من س ّ
حرمة سب الصحابة 190..............................................
الدلة من السنة على عدم جواز سب الصحابة 193..............
دليل من ذهب إلى أن سابهم ل يقتل 195........................
استدلل من قال يكفر ساب الصحابي 195.......................
فصـــل 200........................................................................................................
م 200...................................................................................
ل فِي ْهِ ْ
قوْ ِ
ل ال َ
صي ْ ِ
فا ِ
ي تَ َ
فِ ْ
6
المسألة الثالثة
أنه يقتل ول يستتاب ،سواٌء كان مسلما ً أو كاِفرا ً
7
النصوص في قتل الساب بغير استتابة
ب النبي قتل ،وَلم س ّوقال القاضي في "خلفه" وابنه أبو الحسين :إذا َ
تقبل توبته ،مسلما ً كان أو كافرًا ،ويجعله ناقصا ً للعهد ،نص عليه أحمد.
ه يقتل ول َ
وذكر القاضي الّنصوص التي قدمناها عن المام أحمد في أن ّ ُ
يستتاب ،وقد وجب عليه ]القتل[ ،قال القاضي :لن حق النبي يتعلق به
ي
ي ،والعقوبة ،إذا تعلق بها /حقّ لله وحق لدم ّ حقان :حق لله ،وحقّ للدم ّ
لم تسقط بالتوبة كالحد في المحاربة ،فإنه لو تاب قبل القدرة لم يسقط
ن القصاص ،ويسقط حقّ الله. م َ
ي ِ
حقّ الدم ّ
ي :يجب لقذف النبي الحد ّ المغّلظ وهو وقال أبو المواهب العكبر ّ
ميا ً كان أو مسلمًا.
القتل ،تاب أو لم يتب ،ذ ّ
ب النبي ول تقبل ت آخرون من أصحابنا أنه يقتل سا ّ وكذلك ذكر جماعا ٌ
توبته ،سواٌء كان مسلما ً أو كافرًا ،ومرادهم بأنه ل تقبل توبته أن القتل ل
ب بالسلم وبغيره، يسقط عنه بالتوبة ،والتوبة اسم جامعٌ للرجوع عن الس ّ
ب بالسلم أو بالقلع عن َ
س ّ وا بها ،وأرادوا أنه لو رجع عن ال ّ فلذلك أت َ ْ
مة إن كان ذميا ً لم يسقط عنه القتل ،لن عامة هؤلء ب والعود إلى الذ ّ س ّ
ال ّ
لما ذكروا هذه المسألة قالوا خلفا ً لبي حنيفة والشافعي في قولهما :إن
مي ّا ً فقال أبوكان مسلما ً يستتاب ،فإن تاب وإل قتل كالمرتد ،وإن كان ذ ّ
حنيفة :ل ينتقض عهده واختلف أصحاب الشافعي فيه .فعلم أنهم أرادوا
د ،وقد صرحوا بالتوبة توبة المرتد وهي السلم ،ولنهم قد حكموا بأنه مرت ّ
بأن توبة المرتد أن يرجع إلى السلم ،وهذا ظاهٌر فيه فإن كل من ارتد
ي فإن ذم ّبقول فتوبته أن يرجع إلى السلم ،ويتوب من ذلك القول وأما ال ّ
توبته لها صورتان:
مةإحداهما :أن يقلع عن السب ،ويقول :ل أعود إليه وأنا أعود إلى الذ ّ ّ
والتزام موجب العهد.
ب.ة من الس ّ والثانية :أن يسلم فإن إسلمه توب ٌ
وكل الصورتين تدخل في كلم هؤلء الذين قالوا :ل تقبل توبته مسلما ً
كان أو كافرًا ،وإن كانت الصورة الثانية أدخل في كلمهم في الولى ،لكن
إذا لم يسقط عنه القتل بتوبة هي السلم ]فلن[ ل يسقط بتوبةٍ هي العود ُ
إلى الذمة أولى ،وإنما كانت أدخل لنه قد علم أن التوبة من المسلم إنما
هي السلم ،فكذلك من الكافر ،لذكرهم توبة الثنين بلفظ واحدٍ ولن
ل على أنه ل يسقط ي ،وقياسه على المحارب دلي ٌ ق /آدم ّتعليلهم بكونه ح ّ
بالسلم ،ولنهم قد صرحوا في مواضع يأتي بعضها أن التوبة من الكافر هنا
إسلمه.
وقد صرح بذلك جماعة غيرهم ،فقال القاضي الشريف أبو علي بن
أبي موسى في "الرشاد" وهو ممن يعتمد نقله :ومن سب رسول الله
مة قتل وإن أسلم. قتل ولم يستتب ،ومن سبه من أهل الذ ّ
8
وقال أبو علي بن البناء في "الخصال والقسام" له :ومن سب النبي
وجب قتله ،ول تقبل توبته ،وإن كان كافرا ً فأسلم فالصحيح من المذهب
ه يقتل أيضا ً ول يستتاب .قال :ومذهب مالك كمذهبنا. َ
أن ّ ُ
هل ة هؤلء لم يذكروا خلفا ً في وجوب قتل المسلم والكافر ،وأن ُ وعام ُ
يسقط بالتوبة من إسلم وغيره ،وهذه طريقة القاضي في ك ُُتبه المتأخرة
من"التعليق الجديد" وطريقة من وافقه وكان القاضي في "التعليق القديم"
وفي "الجامع الصغير" يقول :إن المسلم ُيقتل ول تقبل توبته ،وفي الكافر
إذا أسلم روايتان قال القاضي في "الجامع الصغير" الذي ضمنه مسائل
م النبي ُ قتل ولم تقبل توبته ،فإن كان كافرا ً ُ
بأ ّ التعليق القديم :ومن س ّ
فأسلم ففيه روايتان ،إحداهما :يقتل أيضًا ،والثانية :ل يقتل ويستتاب قياسا ً
على قوله في الساحر :إذا كان كافرا ً لم يقتل ،وإن كان مسلما ً قتل وكذلك
بن "التعليق القديم" مثل الشريف أبي جعفر قال :إذا س ّ م َل ِ من ن ََق َ
ذكر َ
م النبي روايتان، ُ م النبي قُت ِ َ ُ
بأ ّ مي إذا س ّ ل ولم تقبل توبته ،وفي الذ ّ أ ّ
لخرى :ل يقت ُ
ل. هما يقتل ،وا ُ ِإحدا ُ
ك ،وقال أكثرهم :تقبل توبته في الحالين. قال :وبهذا التفصيل قال مال ٌ
م النبي ُ
لنا أنه حد ّ وجب لقذف آدمي فل يسقط بالتوبة كقذف غير أ ّ
.
وكذلك قال أبو الخطاب في "رؤوس المسائل" :إذا قذف أم النبي
ل تقبل التوبة منه وفي الكافر إذا سبها ثم أسلم روايتان ،وقال أبو حنيفة
ي /:تقبل توبته في الحالين. والشافع ّ
ي فل يسقط بالتوبة ،دليله قذف غير أم لنا أنه حد ّ وجب لقذف آدم ّ
النبي .
ن مرادهم بالتوبة هنا من الكافر وإنما ذكرت عبارة هؤلء ليتبين أ ّ
ن المسلم إذا السلم ويظهر أن طريقتهم هي بعينها طريقة ابن البناء في أ ّ
م أسلم قتل أيضا ً في "الصحيح بث ّ ي إذا س ّ ن الذ ّ ّ
م ّ ب لم تقبل توبته ،وأ ّ س ّ
ب". من المذه ِ
فإن قيل :فقد قال القاضي في "خلفه" :فإن قيل :أليس قد قلتم لو
ل أن نقضه بمنع الجزية أو قتال نقض العهد بغير سب النبي مث ُ
المسلمين ،أو أذيتهم ـ ثم تاب قبلتم توبته ،وكان المام فيه بالخيار بين
ي إذا حصل أسيرا ً في أيدينا ،هل ّ قلتم في سب النبي أربعة أشياء ،كالحرب ّ
ت فل يسقط ف لمي ٍ ب النبي قذ ٌ إذا تاب منه كذلك؟ قيل :لن س ّ
ل على أن التوبة غير السلم، بالتوبة ،كما لو قذف ميتا ً وهذا من كلمه يد ّ
لنه لو نقض العهد بغير السب ثم أسلم لم يتخير المام فيه.
ُقلنا :ل فرق في التخيير بين الربعة قبل التوبة التي هي القلعُ وبعده
عند من يقول به ،وإنما أراد المخالف أن يقيس على صورة تشبه صورة
النزاع ،وهي الحكم فيه بعد التوبة إذا كان قبل التوبة قد ثبت جواز قتله.
9
توبة الذمي الناقض للعهد لها صورتان
ي الناقض للعهد لها صورتان: م ّعلى أن توبة الذ ّ ّ
ة من الكفر وتوابعه. إحداهما :أن يسلم ،فإن إسلمه توب ٌ
مةِ تائبا ً من الذنب الذي أحدثه حتى انتقض والثانية :أن يرجع إلى الذ ّ ّ
عهده فهذه توبة من نقض العهد ،فإذا تاب هذه التوبة وهو مقدور عليه جاز
للمام أن يقبل توبته حيث يكون حكمه حكم السير ،كما أن السير إذا
مة جاز أن يجاب إلى ذلك. طلب أن تعقد له الذ ّّ
فألزم المخالف القاضي على طريقته أن الناقض التائب من النقض
ة يمكن التخيير بعدها، ب إذا تاب توب ً سا ّيخير المام فيه ،فهل ّ خيرتموه في ال ّ
ب ويطلب عقد الذمة له ثانيًا؟ فلذلك قيل في هذه س ّ بأن يقلع عن ال ّ
ُ
الصورة :هل خير المام فيه بعد التوبة ،وإن كان في صورةٍ أخرى ل يمكن
التخيير بعد توبةٍ هي /السلم؟
ن الصحيح أنه ل يخير فيمن وقد تقدم ذكر ذلك ،وقد قدمنا أيضا ً أ ّ
ل ،وقد ظهر أن الرواية الخرى التي نقض العهد بما يضّر المسلمين بحا ٍ
صه على الفرق بين ة من ن ّ حكوها في الفرق بين المسلم والكافر مخرج ٌ
ي :ل
الساحر الكافر والساحر المسلم ،وذلك أنه قد قال في الساحر الذم ّ
يقتل ما هو عليه من الكفر أعظم ،واستدل بأن النبي لم يقتل لبيد ابن
أعصم لما سحره ،والساحر المسلم يقتل عنده ،لما جاء في ذلك عن النبي
وعمر وعثمان وابن عمر و حفصة رضي الله عنهم وغيرهم من
الحاديث.
ووجه التخريج :أن ما هو الكافر عليه من الشرك أعظم مما هو عليه
ة ،بخلف المسلم، ب والسحر إليه واحد ٌ من السب والسحر ،فنسبة الس ّ
ي فكذلك الساب الذمي دون المسلم، فإذا قتل الساحر المسلم دون الذم ّ
ب ينقض العهد ،فيجوز قتله لجل نقض العهد ،فإذا أسلم امتنع لكن الس ّ
قتله لنقض العهد ،وهو ل يقتل لخصوص السب كما ل يقتل لخصوص
السحر ،فيبقى دمه معصومًا.
ي عن المام أحمد نفسه فقال :قال وقد حكى هذه الرواية الخطاب ّ
مالك بن أنس" :من شتم النبي من اليهود والنصارى قتل إل أن يسلم
ة عن المام وكذلك قال أحمد بن حنبل" وحكى آخرون من أصحابنا رواي ً
ب كذلك أحمد أن المسلم تقبل توبته من السب ،بأن يسلم ويرجع عن الس ّ
ذكر أبو الخطاب في "الهداية" ومن احتذى حذوه من متأخري أصحابنا في
ل؟ ل بك ّ
ل حا ٍ ساب الله ورسوله من المسلمين :هل تقبل توبته أم يقت ُ
روايتان.
10
حكم الساب إذا تاب
فقد تلخص أن أصحابنا حكوا في الساب إذا تاب ثلث روايات:
ن :يقتل بكل حال ،وهي التي نصروها كلهم ،ودل عليها كلم المام إحداه ّ
أحمد في نفس هذه المسألة ،وأكثر محققيهم لم يذكروا سواها.
والثانية :تقبل توبته مطلقًا.
ي التيوالثالثة :تقبل توبة الكافر ول تقبل توبة المسلم ،وتوبة الذم ّ
تقبل إذا قلنا بها أن يسلم ،فأما إذا أقلع وطلب عقد الذمة له ثانيا ً لم يعصم
ة واحدةً كما تقدم. ذلك دمه /رواي ً
وذكر أبو عبدالله السامريّ أن من سب النبي من المسلمين فهل
تقبل توبته؟ على روايتين ،قال :ومن سبه من أهل الذمة قتل وإن أسلم،
ذكره ابن أبي موسى ،فعلى ظاهر كلمه يكون الخلف في المسلم دون
ة من الصحاب ،وليس المر كذلك، الذمي ،عكس الرواية التي حكاها جماع ٌ
فإن ابن أبي موسى قال :ومن سب النبي قتل ولم يستتب ،ومن سبه
من أهل الذمة قتل وإن أسلم ،فلم يذكر خلفا ً في شيٍء من ذلك كما دل
عليه المأثور عن المام أحمد ،وكتاب أبي عبدالله السامري تضمن نقل أبي
الخطاب ونقل ابن أبي موسى كما اقتضى شرطه أنه يضمنه عدة كتب
صغاٍر ،فلما ذكر ما حكاه أبو الخطاب من الروايتين في المسلم وما ذكره
ابن أبي موسى في الذمي إذا أسلم ظهر نوع خلل وإل فل ريب أنا إذا قبلنا
توبة المسلم بإسلمه ،فتوبة الذمي بإسلمه أولى ،فإن كل ما يفرض في
الكافر من غلظ السب فهو في المسلم وزيادة فإنهما يشتركان في أذى
النبي وينفرد سب المسلم بأنه يدل على زندقته وأن سابه منافقٌ ظهر
نفاقه ،بخلف الذمي فإن سبه مستند ٌ إلى اعتقاٍد ،وذلك العتقاد زال
بالسلم.
نعم ،قد يوجه ما ذكره السامريّ بأن يقال :السب قد يكون غلطا ً من
المسلم ل اعتقادًا ،فإذا تاب منه قبلت توبته ،إذ هو عثرة لسان وسوء أدب
ي سبه أذىً محض ل ريب فيه ،فإذا وجب الحد ّ عليه لم أو قلة علم ،وال ّ
ذم ّ
يسقط بإسلمه كسائر الحدود ،وقد ينزع هذا إلى قول من يقول :إن السب
ب عنه كما ل مرغو ٌ ل يكون كفرا ً في الباطن إل أن يكون استحل ً
ل ،وهو قو ٌ
سيأتي إن شاء الله تعالى.
واعلم أن أصحابنا ذكروا أنه ل تقبل توبته ،لن المام أحمد قال :ل
د ،ولهذا لما يستتاب ،ومن أصله أن كل من قبلت توبته فإنه يستتاب كالمرت ّ
ف ومن ارتد اختلفت الرواية عنه في الزنديق والساحر والكاهن والعرا ِ
وكان مسلم الصل ،هل يستتابون /أم ل؟ على روايتين ،فإن قلنا" :ل
ل وإن تابوا. يستتابون" يقتلون بك ّ
ل حا ٍ
11
وقد صرح في رواية عبدالله بأن من سب النبي قد وجب عليه
ن القتل لم يسقط م َ
القتل ول يستتاب ،فتبين أن القتل قد وجب ،وما وجب ِ
ل.
بحا ٍ
ة :يقتل ،قيل له :فإن أسلم؟ ي فجر بمسلم ٍ
يؤيد ُ هذا أنه قد قال في ذم ّ
قال :يقتل ،هذا قد وجب عليه ،فتبين أن السلم ل يسقط القتل الواجب،
ب أنه قد وجب عليه القتل.
وقد ذكر في السا ّ
وأيضًا ،فإنه أوجب على الزاني بمسلمةٍ بعد السلم القتل الذي وجب
عقوبة على الزنى بالمسلمة ،حتى إنه يقتله سواء كان حرا ً أو عبدا ً أو
ن ،كما قد نص عليه في مواضع ،ولم يسقط ذلك القتل ً
محصنا أو غير محص ٍ
بالسلم ويوجب عليه مجرد حد الزنى ،لنه أدخل على المسلمين من
الضرر والمعرة ما أوجب قتله ونقض عهده ،فإذا أسلم لم تزل عقوبة ذلك
الضرار عنه كما ل تزول عنه عقوبة قطعه للطريق لو أسلم ،ولم يجز أن
يقال :هو بعد السلم كمسلم فعل ذلك يفعل به ما يفعل بالمسلم ،لن
السلم يمنع ابتداء العقوبة ول يمنع دوامها ،لن الدوام أقوى ،كما لو قتل
مي ّا ً ثم أسلم قتل ولو قتله وهو مسل ٌ
م لم يقتل. ي ذِ ّذم ّ
12
ونصه هذا يدل على أن الذمي إذا قذف النبي أو سبه ثم أسلم
قتل بذلك ،ولم يقم عليه مجرد حد قذف واحد ٍ من الناس وهو ثمانون أو
سب واحد من الناس وهو التعزير،
كما أنه لم يوجب على من زنى بمسلمةٍ إذا أسلم حد الزنى وإنما أوجب
القتل الذي كان واجبًا ،وعلى الرواية التي خرجها القاضي في كتبه القديمة
ب ،فإن تاب وإل ُقتل. مي يستتاب من الس ّ ومن اتبعه فإن الذ ّ
وكذلك يستتاب المسلم على الرواية التي ذكرها أبو الخطاب وغيره
كما ُيستتاب الزنديق والساحر ،ولم أجد للستتابة في كلم المام أحمد
ل ،فأما استتابة المسلم فظاهرةٌ كاستتابة من ارتد بكلم تكلم به ،وأما أص ً
مة فل ي ،فأن يدعى إلى السلم ،فأما استتابته بالعود إلى الذ ّ استتابة الذم ّ
يكفي على المذهب ،لن قتله متعين.
م يخّير فيه"، ن الما َ
فأما على الوجه المضطرب الذي يقال فيه" :إ ِ ّ
فيشرع استتابته بالعود إلى الذمة ،لن إقراره بها جائٌز بعد هذا ،لكن ل
ة ،وإن أوجبنا الستتابة بالسلم على إحدى ة رواية واحد ً تجب هذه الستتاب ُ
الروايتين ،وأما على الرواية التي ذكرها الخطابي فإنه إذا أسلم الذمي
سقط عنه القتل مع أنه ل ُيستتاب ،كالسير الحربي وغيره من الكفار
يقتلون قبل الستتابة ،ولو أسلموا سقط عنهم القتل ،وهذا أوجه من قول
من يقول بالستتابة ،فإن الذمي إذا نقض /العهد جاز قتله لكونه كافرا ً
محاربًا ،وهذا ل تجب استتابته بالتفاق ،اللهم إل أن يكون على قول من
يوجب دعوة كل كافر قبل قتاله ،فإذا أسلم جاز أن يقال :عصم دمه
كالحربي الصلي ،بخلف المسلم فإنه إذا قبلت توبته فإنه يستتاب ،ومع
هذا فمن تقبل توبته فقد تجوز استتابته كما تجوز استتابة السير ،لنه من
جنس دعاء الكافر إلى السلم قبل قتله ،لكن ل يجب ،لكن المنصوص عن
أصحاب هذا القول أنه ل يقال له :أسلم ،ول ل ُتسلم ،لكن إن أسلم سقط
ل فتلخص من ذلك أنهما ل ُيستتابان في المنصوص المشهور فإن عنه القت ُ
تابا لم تقبل توبتهما في المشهور أيضًا.
ي أنه إذا أسلم سقط عنه القتل ،وإن لم ُيستتب. حكي عنه في الذ ّ ّ
م ّ و ُ
حكي عنه أن المسلم ُيستتاب وتقبل توبته وخرج عنه في الذمي أنه و ُ
د.
يستتاب وهو بعي ٌ
14
مذهب المام الشافعي في شاتم النبي
وأما مذهب الشافعي ـ رضي الله عنه ـ فلهم في ساب النبي وجهان:
أحدهما :هو كالمرتد إذا تاب سقط عنه القتل ،وهذا قول جماعةٍ منهم ،وهو
ي ،والثاني :أن حد من سبه الذي يحكيه أصحاب الخلف عن مذهب الشافع ّ
القتل ،فكما ل يسقط حد ّ القذف بالتوبة ل يسقط القتل الواجب بسب
النبي بالتوبة ،قالوا ذكر ذلك أبو بكرٍ الفارسي ،وادعى فيه الجماع،
ووافقه الشيخ أبو بكرٍ القفال ،وقال الصيدلني قول ً ثالثًا ،وهو أن الساب
بالقذف مثل ً يستوجب القتل للردة ل للسب ،فإن تاب زال القتل الذي هو
فب غير قذ ٍ دة ،وجلد ثمانين للقذف ،ولهذا الوجه لو كان الس ّ موجب /الر ّ
عُّزر بحسبه ،ثم منهم من ذكر هذا الخلف في المسلم إذا سب ثم أسلم
مي إذا سب ثم أسلم ،ومنهم من ذكر الخلف ولم يتعرض للكلم في الذ ّ
دد السلم بعد السب ،ومنهم من مي كالخلف في المسلم إذا ج ّ في الذ ّ
ذكر في الذمي إذا سب ثم أسلم أنه َيسقط عنه القتل وهو الذي حكاه
ل عموم كلم الشافعي في أصحاب الخلف عن مذهب الشافعي وعليه يد ّ
م" فإنه قال بعد أن ذكر نواقض العهد وذكر فيها سب النبي ُ
موضع من "ال ّ
َ ل أ َوْ فَعَ َ " :وَأ َي ُّهم َقا َ
ل إذا م ي ُْقت َ ْ م لَ ْسل َ َ
ه ن َْقضا ً ِللعَهْدِ وَأ ْ صْفت ُ ُ ما وَ َ شْيئا ً ِ
م ّ ل َ
َ
ن
مي َ سل ِ ِ م ْن ال ُ ن في دِي ْ ِ كو َن يَ ُ ل إل ّ أ ْ م ي ُْقت َ ْ ن فِعْل ً ل َ ْكا َذا َ كإ َ ل ،وَك َذ َل ِ َ ك قَوْ ً ن ذل ِ َ كا َ َ
َ
د ،وإن ن من فعله قتل حدا ً أو قصاصا ً فيقتل بحد أو قصاص ل نقض عه ٍ أ ّ
ب َ فعل مما وصفنا و ُ
ض لعهد الذمةِ فلم يسلم ولكنه قال" :أُتو ُ شرط أنه نق ٌ
عوقب ولم يقتل إل ّ ه" ُ ً صل ْ َ
ت أعْط ِي َْها أوْ عَ َُ ُ َ وأ ُ
جدِد ُ ُ حأ َ ٍ ُ لى ُ ْ ن ك ما َ ك ة
َ َ يزْ ج
ِ ال طي ِ ْ ع َ
أن يكون فعل فعل ً يوجب القصاص أو القود ،فأما ما دون هذا من الفعل أو
ل فيعاقب عليه ول يقتل ،قال :فإن فعل أو قال مما وصفنا القول فكل قو ٍ
طي ُ َ ُ شرط أنه يح ّ و ُ
سِلم أو أعْ ِ ل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول :أ ْ
ه فَْيئًا ،فقد ذكر أن من نقض العهد فإنه تقبل توبته إما ُ
مال ُ ُ خذ َ َ ل وَأ ِ ة قُت ِ َ جْزي َ َ ال ِ
بأن يسلم أو بأن يعود إلى الذمة.
وذكر الخطابي قال :قال مالك بن أنس :من شتم النبي من اليهود
والنصارى قتل ،إل أن يسلم ،وكذلك قال أحمد بن حنبل وقال الشافعي:
ة واحتج في ذلك بخبر كعب ي إذا سب النبي ،وتبرأ منه الذم ُ يقتل الذم ّ
بن الشرف وظاهر هذا النقل والستدلل يقتضي أن ل يكف عنه إذا أظهر
كى عنه شيئًا ،ولن ابن الشرف كان مظهرا ً للذمة مجيبا ً ح َ التوبة ،لنه لم ي ُ ْ
إلى إظهار التوبة لو قبلت منه.
16
س
دثت عن عكرمة مولى ابن عبا ٍ ح ّ ج ُ وقد حدثنا حجاج عن ابن جري ٍ
دوا شه ِ ُ م *و َ َ مان ِهِ ْ وما ً ك ََفُروا ب َعْد َ إي ْ َ ه قَ ْ دي الل ُ ف ي َهْ ِ في قول الله تعالى :ك َي ْ َ
وح بن السلت والحارث بن سو َ َ
ح َحقّ في أبي عامر بن النعمان ووَ ْ ل َ ن الّر ُ أ ّ
سويد بن الصامت في اثني عشر رجل ً رجعوا عن السلم ولحقوا بقريش،
ن ب َعْدِ م ْ وا ِ ن َتاب ُ ذي َ ثم كتبوا إلى أهليهم :هل لنا من توبة؟ فنزلت :إل ّ ال ّ ِ
ذ َِلك في الحارث بن سويد بن الصامت.
وقال :حدثنا عبدالرزاق أخبرنا جعفر عن حميدٍ عن مجاهد ٍ قال :جاء الحارث
بن سويدٍ فأسلم مع النبي ثم ك ََفر الحارث فرجع إلى قومه ،فأنزل الله
مان ِِهم ـ إلى قوله ـ: وما ً ك ََفُروا ب َعْد َ إي ْ َ ه قَ ْ دي الل ُ ف ي َهْ ِ فيه القرآن :ك َي ْ َ
ل :فحملها إليه رجل من قومه ،فقرأها عليه ،فقال مَ قا َ حي ْ ٌغَُفوٌر َر ِ
ت لصادقٌ وإن رسول الله لصدق منك ،وإن الحارث :والله إنك ما علم ُ
الله لصدق الثلثة قال :فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلمه.
وكذلك ذكر غير واحد ٍ من أهل العلم أنها نزلت في الحارث بن سويد
وجماعةٍ معه ارتدوا عن السلم وخرجوا من المدينة كهيئة البدأ ،ولحقوا
بمكة كفارا ً فأنزل الله فيهم هذه الية ،فندم الحارث وأرسل إلى قومه :أن
ة؟ ففعلوا ذلك ،فأنزل الله تعالى :إل ّ سلوا رسول الله :هل لي توب ٌ
ال ّذين تابوا من بعد ذ َل ِ َ َ
م فحملها إليه رجل من حي ٌ ه غَُفوٌر َر ِ ن الل َ حوا فإ ّ صل َ ُ ك وَأ ْ ِ ْ َْ ِ ِ َ َ ُ
ت لصدوق ،وإن رسول قومه فقرأها عليه ،فقال الحارث :إنك والله ما علم ُ
الله لصدق منك وإن الله ـ عز وجل ـ لصدق الثلثة ،فرجع الحارث إلى
المدينة وأسلم وحسن إسلمه.
فهذا رجل قد ارتد ولم يقتله النبي بعد عوده إلى السلم ولن الله
سول ِهِ ُ َ
كنُتم سبحانه قال في إخباره عن المنافقين :أِباللهِ َوآَيات ِهِ وََر ُ
من ْك ُ ْ
م طائ َِفةٍ ِ ن َ ف عَ ْ ن ن َعْ ُ م /إ ْ مان ِك ُ ْ م ب َعْد َ ِإي َ ن ل َ ت َعْت َذُِروا قَد ْ ك ََفْرت ُ ْ ست َهْزُِءو َ تَ ْ
ذب ،وإنما طائ َِفة فدل على أن الكافر بعد إيمانه قد ُيعفى عنه وقد ُيع ّ ب َ ن ُعَذ ّ ْ
ة.
ُيعفى عنه إذا تاب ،فعُِلم أن توبته مقبول ٌ
وذكر أهل التفسير أنهم كانوا جماعة ،وأن الذي تاب منهم رجل واحد يقال
حمّير ،وقال بعضهم :كان قد أنكر عليهم بعض ما سمع ولم له مخشي بن ُ
يمالئهم عليه ،وجعل يسير مجانبا ً لهم ،فلما نزلت هذه اليات برئ من
نفاقه ،وقال اللهم إني ل أزال أسمع آية تقر عيني بها تقشعر منها الجلود
ب منها القلوب ،اللهم فاجعل وفاتي قتل ً في سبيلك ،وذكروا القصة. ج ُ وت َ ِ
جاهِدِ الك ُْفاَر ي َ وفي الستدلل بهذا نظر ولن الله تعالى قالَ :يا أّيها الن ّب ِ ّ
ما َقاُلوا وَل ََقد ْ َقاُلوا ن ِباللهِ َ حل ُِفو َ م إلى قوله :ي َ ْ ظ عَل َي ْهِ ْ ن َواغْل ُ ْ مَنافِِقي َ َوال ُ
موا إل ّ أن ما ن ََق ُ م ي ََناُلوا وَ َ ما ل َ ْ موا ب َ َ م وَهَ ّ مه ِ ْ سل َ ِ ة الك ُْفرِ وَك ََفُروا ب َعْد َ إ ْ م َ ك َل ِ َ
من ي َت َوَّلوا ي ُعَذ ّب ْهُ ُ م َوإ ْ خْيرا ً ل َهُ ْ ك َ ن ي َُتوُبوا ي َ ُ ضل ِهِ َفإ ْْ ن فَ ْ م ْ ه ِ سول ُ ُه وََر ُ م الل ُ أغَْناهُ ُ
َ
ر.
صي ٍ ي َول ن َ ِ ن وَل ِ ّ م ْ ض ِ م ِفي الْر ِ مال َهُ ْ خَرةِ وَ َ ذابا ً أليما ً في الد ّن َْيا َوال ِ ه عَ َ الل ُ
17
وذلك دليل على قبول توبة من كفر بعد إسلمه ،وأنهم ل يعذبون في الدنيا
ول في الخرة عذابا ً أليمًا :بمفهوم الشرط ،ومن جهة التعليل ولسياق
م ،فعُِلم أن من تاب منهم لم يعذب بالقتل لن ب ألي ٌ الكلم ،والقتل عذا ٌ
الله سبحانه قال :من ك ََفر بالله من بعد إيمان ِه إل ّ م ُ
نمئ ِ ٌ مط ْ َ ه ُ ن أك ْرِهَ وَقَل ْب ُ ُ َ ْ َ ِ ِ ِ ْ َْ ِ ْ َ ِ َ ْ
بذا ٌ م عَ َ َ
ن اللهِ وَلهُ ْ م َ ب ِ ض ٌ درا فَعَلي ِْهم غَ ََ ً ص ْ
ح ِبالكْفرِ َُ شَر َ ن َ م ْ ن َ ن وَل َك ِ َ ْ ما ِ با ِل ِي ْ َ
م دي الَقوْ َ ه ل َ ي َهْ ِ ن الل َ خَرةِ وأ ّ حَياةَ الد ّن َْيا عََلى ال ِ حّبوا ال َ ست َ َ ما ْ ك ب ِأن ّهُ ُ م ذ َل ِ َ ظي ٌ عَ ِ
م
ك هُ ُ م وَُأول َئ ِ َ صارِهِ ْ
َ
م وَأب ْ َ معِهِ ْ س ْ م وَ َ ه عََلى قُل ُوُب ِهِ ْ ن ط َب َعَ الل ُ ذي َ ك ال ّ ِ ن أول َئ ِ َ كافِرِي ْ َ ال َ
الَغافُلون ل َ جر َ
جُروا ها َ ن َ ذي َ ك ل ِل ّ ِ ن َرب ّ َ م إِ ّ ن ثُ ّ سُرو َ خا ِ م ال َ خَرةِ هُ ُ م في ال ِ م أن ّهُ ْ َ َ َ َ ِ
م ،فتبين حي ْ ٌها ل َغَُفوٌر َر ِ ن ب َعْدِ َ م ْ ك ِ ن َرب ّ َ صب َُروا إ ِ ّ دوا وَ َ جاهَ ُ م َ ما فُت ُِنوا ث ُ ّ ن ب َعْدِ َ م ْ ِ
أن الذين هاجروا إلى دار السلم بعد أن فتنوا عن دينهم بالكفر بعد السلم
غفر له ذنبه مطلقا ً لم وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم ومن ُ
يعاقبه عليه في الدنيا ول في الخرة.
س من خَرج نا ٌ وقال سفيان /بن عيينه عن عمرو بن دينار عن عكرمةَ :
المسلمين ـ يعني مهاجرين ـ فأدركهم المشركون ففتنوهم ،فأعطوهم
ل آمنا بالله فَإ َ ُ ّ
ه
ذا أوْذِيَ ِفي الل ِ ن ي َُقو ُ َ ّ ِ ِ ِ م ْ س َ ن النا ِ م َ الفتنة فنزلت فيهم :وَ ِ
ن ب َعْدِ م ْ ن ك ََفَر ِباللهِ ِ م ْ ه الية ،ونزل فيهمَ : ب الل ِ ذا ِ س ك َعَ َ ة الّنا ِ ل فِت ْن َ َ جع َ َ َ
ه الية ثم إنهم خرجوا مرة أخرى فانقلبوا حتى أتوا المدينة فأنزل الله مان ِ ِ إي ْ َ
ما فُت ُِنوا إلى آخر الية ،ولنه ن ب َعْدِ َ م ْ جُروا ِ ها َ ن َ ذي َ ك ل ِل ّ ِ ن َرب ّ َ م إِ ّ فيهم :ث ُ ّ
ُ
تحب ِط َ ْ ك َ كافٌِر فَأول َئ ِ َ ت وَهُوَ َ م ْ ن ِدين ِهِ فَي َ ُ م عَ ْ من ْك ُ ْن ي َْرت َدِد ْ ِ م ْ سبحانه قال :وَ َ
ة فعُِلم أن من لم يمت وهو كافر من المرتدين ل خَر ِ م ِفي الد ّن َْيا َوال ِ مال ُهُ ْ أعْ َ
ل على قبول التوبة وصحة السلم فل يكون يكون خالدا ً في النار ،وذلك دلي ٌ
م
حُر ُ شهُُر ال ُ خ ال َ ْ سل َ َ ذا ان ْ َ تاركا ً لدينه ،فل يقتل ،ولعموم قوله تعالى :فَإ ِ َ
َ
كاةَ وا الّز َ صلةَ َوآت َ ُ موا ال ّ ن إلى قوله :فَِإن َتاُبوا وَأَقا ُ كي َ شرِ ِ م ْ َفاقْت ُُلوا ال ُ
م فإن هذا الخطاب عام في قتال كل مشرك وتخلية سبيله إذا سِبيل َهُ ْ خّلوا َ فَ َ
تاب من شركه وأقام الصلة وآتى الزكاة سواء كان مشركا ً أصليا ً أو
مشركا ً مرتدًا.
وأيضًا ،فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد ّ على عهد النبي ،
ولحق بمكة ،وافترى على الله ورسوله ،ثم إنه بعد ذلك بايعه النبي
وحقن دمه ،وكذلك الحارث بن سويد أخو الجلس بن سويد وكذلك جماعة
من أهل مكة أسلموا ثم ارتدوا ثم عادوا إلى السلم ،فحقنت دماؤهم،
وقصص هؤلء وغيرهم مشهورةٌ عند أهل العلم بالحديث والسيرة.
وأيضًا ،فالجماع من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ظاهٌر على ذلك ،فإن
النبي لما توفي ارتد أكثر العرب إل أهل مكة والمدينة والطائف واتبع
طليحة السدي ،فقاتلهم م منهم من تنّبأ ]فيهم[ مثل مسيلمة والعنسي و ُ قو ٌ
الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم ،حتى رجع أكثرهم إلى السلم،
18
فأقروهم على ذلك ،ولم يقتلوا واحدا ً ممن رجع إلى السلم ،ومن رؤوس
ق
من كان قد ارتد ورجع طليحة السدي المتنبي ،والشعث بن قيس ،وخل ٌ
د ،وهذه الرواية عن كثير ل يحصون ،والعلم بذلك ظاهٌر ل خفاء به على أح ٍ
ن مثل هذا ل يخفى عليه /ولعله أراد نوعا ً من الردة الحسن فيها نظٌر ،فإ ّ
كظهور الزندقة ونحوها ،أو قال ذلك في المرتد الذي ولد مسلمًا ،ونحو ذلك
مما قد شاع فيه الخلف.
ه" فنقول بموجبه فإنما يكون مبدل ً إذا ه فَْقت ُُلو ُ ل دِي ْن َ ُمن ب َد ّ َ وأما قوله َ " :
دين الحق فليس بمبدل، دام على ذلك واستمر عليه ،فأما إذا رجع إلى ال ّ
وكذلك إذا رجع إلى المسلمين فليس بتارك لدينه مفارق للجماعة ،بل هو
ل صدر م للجماعة ،وهذا بخلف القتل والزنى ،فإنه فع ٌ متمسك لدينه ،ملز ٌ
ق ]ول[ ن ول سار ٍ عنه ل يمكن دوامه عليه بحيث إذا تركه يقال إنه ليس بزا ٍ
قاتل فمتى ُوجد منه ترتب حدهُ عليه وإن عزم على أن ل يعود إليه لن
العزم على ترك العود ل يقطع مفسدة ما مضى من الفعل.
ة" قد يفسر بالمحارب قاطع ماعَ ِج َمَفارِقُ ل ِل ْ َ ك ل ِدِي ْن ِهِ ال ُ على أن قوله" :الّتارِ ُ
الطريق ،كذلك رواه أبو داود في سننه مفسرا ً عن عائشة ـ رضي الله عنها
َ
ه إل ّ الل ُ
ه ن ل َ إل َ شهَد ُ أ ْ م يَ ْ سل ِ ْ م ْ ئ ُ مر ٍ ما ِ ل دَ ُ ح ّـ قالت :قال رسول الله " ل ي َ ِ
َ
م،
ج ْ ه ي ُْر َن َفإن ّ ُ صا ٍ ح َل َزَنى ب َعْد َ إ ْ ث :رج ٌ دى ث َل َ ٍ ح َل اللهِ إل ّ بإ ْ سو ُ مدا ً َر ُ ح ّم َ ن ُ وأ ّ
ض ،أ َْو ن الر ِ م َ ب أوْ ي ُن َْفى ِ
َ
صل َ ُ
خرج محاربا ً لله ورسول ِه َفإنه يْقت ُ َ
ل أو ْ ي ُ ْ ِ ََ ُ ِ ّ ُ َ ل َ َ َ ُ َ ِ ج ٌوََر ُ
كه" :الّتارِ ُ ست َث َْنى هَُنا هُوَ المذكوُر ِفي قَوْل ِ ِ م ْ ذا ال ُ ل ب َِهاَ ،فه َ ل ن َْفسا ً فَُيقت ُ ي َْقت ُ ُ
ة" ولهذا وصفه بفراق الجماعة وإنما يكون هذا ماعَ ِ ج َمَفارِقُ ل ِل ْ َ ل ِدِي ْن ِهِ ال ُ
بالمحاربة.
منا أنه ل يحل دم من يشهد أن ل إله إل الله وأن يؤيد ذلك أن الحديثين تض ّ
محمدا ً رسول الله والمرتد لم يدخل في هذا العموم فل حاجة إلى
استثنائه ،وعلى هذا فيكون ترك دينه عبارة عن خروجه عن موجب الدين،
وُيفّرق بين ترك الدين وتبديله ،أو يكون المراد به من ارتد وحارب
ن ومقيس بن صبابة ممن ارتد وقتل وأخذ المال ،فإن هذا يقتل كالعَُرن ِي ّي ْ َ
بكل حال وإن تاب بعد القدرة علية ،ولهذا ـ والله أعلم ـ استثنى هؤلء
الثلثة الذين ُيقتلون بكل حال وإن أظهروا التوبة بعد القدرة ،ولو كان أريد
ة" فإن مجرد الخروج ماعَ ِ ج َ مَفارِقُ ل ِل ْ َ المرتد المجرد لما احتيج إلى قوله" :ال ُ
عن الدين يوجب القتل وإن لم /يفارق جماعة الناس ،فهذا وجه يحتمله
الحديث ]وهو[ ـ والله أعلم ـ مقصود هذا الحديث.
وأما قوله ل يقبل الله توبة عبد أشرك بعد إسلمه فقد رواه ابن ماجة من
حّتى مل ً َ مه ِ ع َ َ سل َ ِ ك ب َعْد َ إ ِ ْ شَر َ ك أَ ْ شرِ ٍ م ْ ن ُ م ْ ه ِ ل الل ُ هذا الوجه ،ولفظه" :ل َ ي َْقب َ ُ
ن" وهذا دليل على قبول إسلمه إذا رجع سِلمي َ م ْ ن إ َِلى ال ُ كي َ م ْ
شرِ ِ ي َُفارِقَ ال ُ
إلى المسلمين ،وبيان أن معنى الحديث أن توبته ل تقبل ما دام مقيما ً بين
ظهراني المشركين مكّثرا ً لسوادهم ،كحال الذين ُقتلوا ببدر ،ومعناه أن من
19
أظهر السلم ثم فتن عن دينه حتى ارتد فإنه ل تقبل توبته وعمله حتى
ن ن ال ّ ِ
ذي َ يهاجر إلى المسلمين ،وفي مثل هؤلء نزل قوله تعالى :إ ِ ّ
َ ة َ ملئ ِك َ ُ
م الية.
سه ِ ْ
مي أن ُْف ِ
ظال ِ ِ ت َوَّفاهُ ُ
م ال َ
ن ترك الدين وتبديله وفراق الجماعة يدوم ويستمر ،لنه تابع وأيضا ً فأ ّ
للعتقاد ،والعتقاد دائم ،فمتى قطعه وتركه عاد كما كان ولم يبق لما
د ،ول يجوز أن يطلق عليه القول بأنه مبدل ل ،ول فيه فسا ٌ م أص ً مضى حك ٌ
ن
للدين ،ول أنه تارك لدينه ،كما يطلق على الزاني والقاتل بأن هذا زا ٍ
وقاتل ،فإن الكافر بعد إسلمه ل يجوز أن يسمى كافرا ً عند الطلق ،ولن
حراب تبديل الدين وتركه في كونه موجبا ً للقتل بمنزلة الكفر الصلي وال ِ
في كونهما كذلك فإذا كان زوال الكفر بالسلم أو زوال المحاربة بالعهد
يقطع حكم الكفر فكذلك إذا زال تبديل الدين وتركه بالعود إلى الدين
وأخذه انقطع حكم ذلك التبديل والترك.
20
فـــصـــل
إذا تقرر ذلك فإن الذي عليه جماهير أهل العلم أن المرتد يستتاب ومذهب
بمالك وأحمد أنه يستتاب ،ويؤجل بعد الستتابة ثلثة أيام ،وهل ذلك واج ٌ
ة ،وهوب؟ على روايتين عنهما ،أشهرهما عنهما :أن الستتابة واجب ٌ أو مستح ٌ
قول إسحاق بن راهويه.
ة على قولين ،لكن ة أو مستحب ٌ
وكذلك مذهب الشافعي هل الستتابة واجب ٌ
عنده في أحد القولين يستتاب فإن تاب في الحال وإل قتل وهو قول ابن
المنذر والمزني وفي القول الخر يستتاب ثلثا ً كمذهب مالك وأحمد .وقال
ت.
الزهريّ وابن القاسم في رواية :يستتاب ثلث /مرا ٍ
ومذهب أبي حنيفة أنه ُيستتاب أيضًا ،فإن لم يتب وإل قتل ،والمشهور
ة ،وذكر الطحاويّ عنهم :ل يقتل المرتد حتى ن الستتابة مستحب ٌ عندهم أ ّ
يستتاب وعندهم ُيعَرض عليه السلم ،فإن أسلم وإل ُقتل مكانه ،إل أن
م.
جل ثلثة أيا ٍ َيطلب أن ُيؤجل) ،فإنه( ُيؤ ّ
جيت توبُته ،وكذلك معنى قول النخعي. جل ما ُر ِيُ :يؤ ّ
وقال الثور ّ
وذهب عبيد بن عمير وطاوس إلى أنه يقتل ،ول يستتاب لنه أمر بقتل
دل ديَنه والتارك لدينه المفارق للجماعة ،ولم يأمر باستتابته ،كما أمر المب ّ
الله سبحانه بقتال المشركين من غير استتابة مع أنهم لو تابوا لكففنا عنهم.
يؤيد ذلك أن المرتد ّ أغلظ كفرا ً من الكافر الصلي ،فإذا جاز قتل السير
الحربي من غير استتابة فَقتل المرتد ّ َأولى.
المقصد من الستتابة
سّر ذلك أنا ل نجيز قتل كافر حتى نستتيبه ،بأن يكون قد بلغته دعوة و ِ
ن قَْتل من لم تبلغه الدعوة غير جائز والمرتد ّ قد
محمد إلى السلم ،فإ ّ
من رأى ة َ
بلغته الدعوة ،فجاز قتله كالكافر الصلي الذي بلغته ،وهذا هو عل ُ
لالستتابة مستحبة ،فإن الكفار يستحب أن ندعوهم إلى السلم عند ك ّ
ب وإن كانت الدعوةُ قد بلغتهم ،فكذلك المرتد ّ ول يجب ذلك فيهما. حر ٍ
رض المرتد ّ من يخفى عليه جواز الرجوع إلى السلم ،فإن نعم لو فُ ِ
الستتابة هنا لبد منها.
ل على ذلك أيضا ً أن النبي أهدر يوم فتح مكة دم عبدالله بن سعد ويد ّ
طل ،وكانوا مرتدين، خ َ
بن أبي سرٍح ،ودم مقيس بن صبابة ،ودم عبدالله بن َ
ولم يستتبهم ،بل قتل ذانك الرجلن ،وتوقف عن مبايعة بن أبي سرح
هللعل بعض المسلمين يقتله ،فُعلم أن قتل المرتد جائٌز ما لم ُيسلم ،وأن ُ
ب.
ُيستتا ُ
21
وأيضًا ،فإن النبي عاقب العرنيين الذين كانوا في اللقاح ثم ارتدوا عن
السلم بما أوجب موتهم ولم يستتبهم ،ولنه فعل شيئا ً من السباب
المبيحة للدم فُقِتل قبل استتابته كالكافر الصلي وكالزاني وكقاطع الطريق
من قبلت توبته ومن لم تقبل ـ ُيقتل قبل ن كل هؤلء ـ َونحوهم ،فإ ّ
الستتابة ،ولن المرتد لو امتنع /بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون
المرتدون ذوي شوكةٍ يمتنعون بها عن حكم السلم فإنه ُيقتل قبل
الستتابة بل تردٍد ،فكذلك إذا كان في أيدينا.
24
فــصــل
ذكر أدلة القول بكفر الساب ومشروعية استتابته
25
ن) إلى قوله: منافِِقي َ جاهِدِ الك ُّفاَر وال ُ وأيضًا ،فقوله سبحانه وتعالىَ :
ذابا ً َأليما ً) الية فإنها ه عَ َ م الل ُ م َوإن ي َت َوَّلوا ي َعَذ ّب ْهُ ُخْيرا ً ل َهُ ْ ك َ َفإن ي َُتوُبوا ي َ ُ
ذب عذابا ً أليما ً في تدل على أن المنافق إذا كفر بعد إسلمه ثم تاب لم يع ّ
الدنيا ول في الخرة ،والقتل عذاب أليم ،فُعلم أنه ل ُيقتل.
وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنها نزلت في رجال من المنافقين
َ َ
ك؟ َفان ْط َل َ َ
ق حاب ُ َ
ص َت وَأ ْ مِني أن ْ َ شت ُ ُم تَ ْ عل َ أط َّلع أحدهم على النبي فقالَ " :
ة".ه هَذِهِ الي َ َ ل الل ُ ما َقاُلوا ،فَأ َن َْز َ ه َحل َُفوا ِبالل َه ،فَ َ حاب ِ ِ
ص َ
َ
جاَء ب ِأ ْجل فَ َ الّر ُ
وعن الضحاك قال :خرج المنافقون مع رسول الله إلى تبوك فكانوا /إذا
ل الله وأصحابه وطعنوا في الدين ،فنقل ما سّبوا رسو َ خل بعضهم ببعض َ
ما ه َ
ذا َ
قالوا حذيفة إلى رسول الله ،فقال النبي َ" :يا أهْ َ
ق َ ل الن َّفا ِ
م؟" فحلفوا لرسول الله ما قالوا شيئا ً من ذلك ،فأنزل ذي ب َل ََغني عَن ْك ُ ْال ّ ِ
الله هذه الية إكذابا ً لهم.
ة
ة إذا كانت توب ً )وأيضًا( ،فل ريب أن توبتهم فيما بينهم وبين الله )مقبول ٌ
ة وُيغفر لهم في ضمنها ما نالوهُ من عرض رسول الله بما أبدلوه صحيح ً
من اليمان به ،وما في ضمن اليمان به من محبته وتعظيمه وتعزيره
حت فيما بينهم ل ما رموه به وهذه التوبة ص ّ وتوقيره واعتقاد براءته من ك ّ
ه.ق الدميين لوج ٍ ة من حقو ِ وبين الله( وإن تضمنت التوب ُ
27
الـفـصـل الـثـانـي
ب
م َتــا َســّبـــه ُثــ ّ مــي إ َ
ذا َ ِفــي الــذ ّ ّ
وقد ذكرنا فيه ثلثة أقوال:
أحدهاُ :يقتل بكل حال ،وهو المشهور من مذهب المام أحمد ،ومذهب
ه لصحاب ]المام[ الشافعي. مالك إذا تاب بعد أخذه ،وهو وج ٌ
الثانيُ :يقتل إل أن يتوب بالسلم ،وهو ظاهر الرواية الخرى عن مالك
وأحمد.
والثالثُ :يقتل إل أن يتوب بالسلم أو بالعود إلى الذمة كما كان ،وعليه
يدل ظاهر عموم كلم الشافعي ،إل أن يتأول ،وعلى هذا فإنه يعاقب إذا
عاد إلى الذمة ول يقتل.
م ،فإنه يستدل بمثل ما ذكرناه في سُق ُ ن الَقت ْ َ
سل ِ
ه ِبال ْط عَن ْ ُ ل يَ ْ فمن قال :إ ّ
المسلم ،فإنه كله يدل على أن الكافر أيضا ً إذا أسلم سقط عنه موجب
ل على ذلك أيضا ً أن الصحابة ذكروا أنه إذا فعل ذلك فهو غادٌر السب ويد ّ
م أن من حارب ونقض العهد إذا أسلم ض للعهد ،ومعلو ٌ ب وأنه /ناق ٌ محار ٌ
عصم دمه وماله ،وقد كان كثيٌر من المشركين مثل ابن الّزب َعَْرى وكعب بن
زهير وأبي سفيان بن الحارث وغيرهم يهجون النبي بأنواع الهجاء ثم
أسلموا فعصم السلم دماءهم وأموالهم ،وهؤلء وإن كانوا محاربين لم
ل على أن حقوق الدميين التي يستحلها يكونوا من أهل العهد ،فهو دلي ٌ
الكافُر ،إذا فعلها ثم أسلم سقطت عنه كما تسقط عنه حقوق الله ،ولهذا
أجمع المسلمون إجماعا ً مستنده كتاب الله وسنة نبيه الظاهرة أن الكافر
الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بما كان أصابه من المسلمين من دم أو مال أو
عقد ُ الذمة لم ل ذلك ،و َ ح ّ عرض ،والذمي إذا سب رسول الله فإنه يعتقد ِ
من دماء يوجب عليه تحريم ذلك ،فإذا أسلم لم ُيؤخذ به ،بخلف ما يصيبه ِ
م ذلك عليه منا َ
ضهم ،فإن عقد الذمة يوجب تحري َ المسلمين وأموالهم وأعرا ِ
بف عن س ّ كما يوجب تحريم ذلك علينا منه ،وإن كان ل يوجب علينا الك ّ
ل بقصص هؤلء وإن دينهم والطعن فيهِ فهذا أقرب ما يتوجه به الستدل ُ
ل به خطأ. كان الستدل ُ
جواز قتععل مععن يععؤذي اللععه ورسععوله مععن الكفععار بععدون عععرض
السلم عليه
ل كافر أصلي ومن لم يستتبه /قال :هذا هو القياس المثلي في قتل ك ّ
أسير ،وقد ثبت ثبوتا ً ل يمكن دفعه أن النبي وخلفاءه الراشدين كانوا
ض للسلم عليهم وإن كانوا ناقضين ً
يقتلون كثيرا من السرى من غير عَْر ٍ
للعهد ،وذلك في قصة قريظة و خيبر ظاهٌر ل يختلف فيه اثنان من أهل
ل الله أخذهم أسرى بعد أن نقضوا العهد، العلم ِ بالسيرة ،فإن رسو َ
رض عليهم السلم ،وقد أمر بقتل ابن وضرب رقابهم من غير أن ي َعْ ِ
ض للسلم عليه ،وإنما قتله لنه كان يؤذي الله الشرف من غير عر ٍ
ورسوله ،وقد نقض العهد.
ومن قال إنه :إذا تاب بالعَوْدِ إلى الذمة قُِبلت توبته أو ُ
خّير المام فيه ،قال:
إنه في هذا الحال بمنزلة حربي قد بذل الجزية عن يدٍ وهو صاغٌر فيجب
الكف عنه.
31
حكم إسلم الحربي بعد أسره
ى لبد من التنبيه عليه ،وهو أن السير الحربي الصل لو واعلم أن هنا معن ً
أسلم فإن إسلمه ل يزيل عنه حكم السر ،بل أن يصير رقيقا ً للمسلمين
بمنزلة النساء والصبيان كأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد ،أو ُيخّير
المام فيه بين الثلثة غير القتل على القول الخر في المذهبين.
والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال:
ب النبي ن أصحا ِ م ْ ف رجلين ِ ل ،فأسرت ثقي ُ حل ََفاء ل ِب َْني عَِقي ْ ٍ ت ث َِقي ْ ُ
ف ُ "كان ْ َ
وأسر أصحاب رسول الله رجل ً من بني عقيل وأصابوا معه العضباء،
فَأتى عليه رسول الله وهو في الوثاق فقال :يا محمد ،فأتاه ،فقال :ما
شأنك؟ فقال :بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ يعني العضباء ،فقال:
أخذتك بجريرة حلفائك من ثقيف ،ثم أنصرف عنه ،فناداه) ،فقال( :يا محمد
]يا محمد[ وكان رسول الله رحيما ً رقيقًا ،فرجع إليه فقال :ما شأنك؟
قال :إني مسلم ،قال :لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلح ،ثم
د ،فأتاه فقال :ما شأنك؟ فقال :إني جائع انصرف ،فناداه :يا محمد ،يا محم ُ
ن فاسقني ،قال :هذه حاجتك ،ففدى بالرجَلين" ،فأخبر مآ ُ
فأطعمني ،وظ ْ
النبي أنه إذا أسلم بعد السر لم يفلح كل الفلح ،كما إذا أسلم قبل
ن ذلك السلم ل يوجب إطلقه. السر وأ ّ
وكذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أظهر السلم بعد السر،
بل أخبر أنه قد كان أسلم قبل ذلك ،فلم يطلقه النبي /حتى فدى نفسه،
والقياس يقتضي ذلك ،فإنه لو أسلم رقيقٌ للمسلمين لم يمنع ذلك دوام
م السير ل يمنع دوام أسره ،لنه نوع رق ومجوٌز رقه ،فكذلك إسل ُ
للسترقاق ،كما أن إسلمه ل يوجب أن يرد عليه ما أخذ من ماله قبل
السلم ،فإذا كان هذا حال من أسلم بعد أن ُأسر ممن هو حربي الصل
فهذا الناقض للعهد حاله أشد بل ريب .فإذا أسلم بعد أن نقض العهد وهو
في أيدينا لم يجز أن يقال :إنه يطلق ،بل حيث قلنا قد عصم دمه فإما أن
يصير رقيقا ً وللمام أن يبيعه بعد ذلك وثمنه لبيت المال ،أو أنه يتخير فيه
وز استرقاقهم وز استرقاق ناقض العهد ،ومن لم يج ّ وهذا قياس قول من يج ّ
فإنه يجعل هذا بمنزلة المرتد ويقول :إذا عاد إلى السلم لم ُيسترق ولم
ك أ َمر َ َ َ
ل الَفل َ ِ
ح" ت كُ ّ ك أفْل َ ْ
ح َ مل ِ ُ ْ َ
ت تَ ْ
ت وَأن ْ َ سل َ ْ
م َ ُيقتل ،ومعنى قوله " :ل َوْ أ ْ
دليل على أن من أسلم وهو ل يملك أمره لم يكن حاله كحال من أسلم
ل ،وفي هذا أيضا ً دليل على أنه وهو مالك أمره ،فل تجوز التسوية بينهما بحا ٍ
إذا بذل الجزية لم يجب إطلقه ،فإنه إذا لم يجب إطلقه بالسلم فببذل
الجزية أولى ،لكن ليس في الحديث ما ينفي استرقاقه.
32
فــصــل
الدلة على أن المسلم الساب يقتل بغير استتابة
والدليل على أن المسلم يقتل )إذا سب( من غير استتابة وإن أظهر التوبة
ه
ن الل َ ن ي ُؤْ ُ
ذو َ ذي َ ن ال ّ ِ بعد أخذه كما هو مذهب الجمهور قوله سبحانه :إ ِ ّ
مِهينا ً. َ
ذابا ً ُ خَرةِ وَأعَد ّ ل َهُ ْ
م عَ َ ه في الد ّن َْيا َوال ِ ه ل َعَن َهُ ُ
م الل ُ سول َ ُ
وََر ُ
الوجه الول
وقد تقدم أن هذا يقتضي قتله ،ويقتضي تحتم قتله ،وإن تاب بعد الخذ ،لنه
سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله ،والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات
فإذا كانت عقوبة أولئك ل تسقط إذا تابوا بعد الخذ فعقوبة هؤلء أولى
وأحرى ،لن عقوبة كليهما على الذى الذي قاله بلسانه ،ل على مجرد كفر
هو باق عليه.
الوجه الثاني
ما وأيضًا ،فإنه قال :ل َئ ِن ل َم ينته المنافُقون إلى قوله :مل ْعوِني َ
ن أي ْن َ َ
َ َ ُ َ ْ ْ ََْ ِ ُ َ ِ
ذوا وَقُت ُّلوا ت َْقِتيل ً ،وهو أمر يقتضي أن من لم ينته فإنه يؤخذ ويقتل، قُفوا أ ُ ِ
خ ُ ثُ ِ
فعُِلم أن النتهاء العاصم ما كان قبل الخذ.
الوجه الثالث
وأيضًا ،فإنه جعل ذلك تفسيرا ً للعن ،فعلم أن الملعون متى أخذ قتل إذا لم
ن فيدخل في الية.
يكن قد انتهى قبل الخذ ،وهذا ملعو ٌ
الوجه الخامس
وأيضا ً فسنة رسول الله دلت من غير وجهٍ على قتل الساب من غير
ة ،فإنه أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة ،وقد ذكرنا أن ذلك استتاب ٍ
يقتضي قتل الساب سواٌء أجرينا الحديث على ظاهره أو حملناه على من
كذب عليه كذبا ً يشينه وكذلك في حديث الشعبي أنه أمر بقتل الذي طعن
عليه في قسم مال العزى من غير استتابة.
وفي حديث أبي بكر لما استأذنه أبو برزة أن يقتل الرجل الذي شتمه من
سول الله "فعلم أنه كان له غير استتابة قال" :إنها لم تكن لحدٍ ب َعْد َ َر ُ
قتل من شتمه من غير استتابة ،وعمر ـ رضي الله عنه ـ قتل الذي لم
34
يرض بحكمهِ من غير استتابةٍ أص ً
ل ،فنزل القرآن بإقراره على ذلك ،وهو
من أدنى أنواع الستخفاف به ،فكيف بأعلها؟
الوجه السادس
وأيضا ً فإن عبدالله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه وافترى افتراءً
عابه به بعد أن أسلم أهدر دمه وامتنع عن مبايعته وقد تقدم تقرير الدللة
منه على أن الساب يقتل وإن أسلم ،وذكرنا أنه كان قد جاءه مسلما ً تائبا ً
د ،وقد جاء يريد
قد أسلم قبل أن يجيء إليه كما رويناه عن غير واح ٍ
ف عنه انتظار أن السلم ،وقد علم النبي أنه قد جاء يريد السلم ثم ك ّ
يقوم إليه رج ٌ
ل فيقتله.
ص أن مثل هذا المرتد الطاعن ل يجب قبول توبته بل يجوز قتله وإن وهذا ن ّ
جاء تائبا ً وإن تاب وقد قررنا هذا فيما مضى وبينا مــن وجــوهٍ أخــر أن الــذي
عصم دمه عفو رسول الله عنــه ل مجــرد إســلمه وأن بالســلم والتوبــة
امتحى الثم ،وبعفوِ النبي احتقن الدم ،والعفــو بطــل بمــوته إذ ليــس
للمة أن يعفوا عن حقه ،وامتناعه من بيعتــه حــتى يقــوم إليــه بعــض القــوم
ص في جواز قتله وإن جاء تائبًا.فيقتله ن ٌ
وأما عصمة دمه بعد ذلك فليــس دليل ً )لنــا( علــى /أن نعصــم دم مــن ســب
وتاب بعد أن قدرنا عليه ،لنا قد بّينا مـن غيـر وجـهٍ أن النــبي كـان يعفــو
عمن سبه ممن ل خلف بين المة فــي وجــوب قتلــه إذا فعــل ذلــك ،وتعــذر
ل علــى عفو النبي عنه ،وقد ذكرنا أيضا ً أن حديث عبدالله بــن خطــل يــد ّ
قتل الساب ،لنه كان مسلما ً فارتد ،وكان يهجوه فقتل من غير استتابة.
الوجه السابع
وأيضًا ،فما تقدم من حديث أنس المرفوع ،وأثر أبي بكرٍ في قتــل مــن آذاه
في أزواجه وسراريه من غير استتابة ،وما ذاك إل لجل أنــه نــوعٌ مــن الذى
م أن السب أشد أذى منه ،بدليل أن الســب يحــرم ولذلك حرمه الله ،ومعلو ٌ
ح الزواج ل يحــرم إل منــه و إنمــا ذاك مبالغــة فــيمنه ومن غيره ،ونكــا ُ
تحريم ما يؤذيه ووجوب قتل من يؤذيه أي أذى كان من غير استتابة.
الوجه الثامن
وأيضًا ،فإنه أمر بقتل النسوة اللتــي كــن يــؤذينه بألســنتهن بالهجــاء مــع
أمانه لعامة أهل البلد ومع أن قتــل المــرأة ل يجــوز إل أن تفعــل مــا يــوجب
القتل ولم يستتب واحدةً منهن حين قتــل مــن قتــل والكــافرة الحربيــة مــن
النساء ل تقتل إن لم تقاتل ،والمرتدة ل ُتقتل حتى تستتاب ،وهؤلء النســوة
قتلن من غير أن يقاتلن ولم يستتبن ،فعلم أن قتــل مــن فعــل مثــل فعلهــن
35
جائز بدون استتابة ،فــإن صــدور ذلــك عــن مســلمة أو معاهــدة أعظــم مــن
صدوره عن حربية.
وقد بسطنا بعض هذه الدللت فيما مضى بما أغنى عن إعـادته هنـا وذكرنـا
ب ذنب مقتطع عن عموم الكفر ،وهو من جنس س ّ أن السنة تدل على أن ال ّ
المحاربة والتوبة التي تحقن الدم دم المرتد إنما هي التوبة عن الكفــر فأمــا
إن ارتد بمحاربةٍ مثل سفك الدم ،وأخذ المال ،كما فعل العرنيون وكما فعل
صبابة حيـث قتـل النصـاري واسـتاق المـال ورجـع مرتـدًا ،فهـذا مقيس بن ُ
يتعين قتله كما قتــل النــبي مقيــس بــن صــبابة وكمــا قيــل لــه فــي مثــل
العرنيين" :إنما جزاؤُ ُ َ
وا" الية .فكذلك من تكلم بكلم مــن جنــس ن ي َُقت ّل ُ ْهم أ ْ َ َ ّ
المحادة والمحاربة لم يكن بمنزلة من ارتد فقط.
الوجه التاسع
وأيضًا ،ما اعتمده المام أحمد من أن أصــحاب رســول اللــه فرقــوا بيــن
الساب وبين المرتد المجرد ،فقتلوا الول من غير استتابة ،واستتابوا الثــاني
وأمروا باستتابته ،وذلك أنه قد ثبت أنهم /قتلوا ساّبه )ولــم يســتتيبوه وأنهــم
أمروا بقتل سابه وحرصوا على قتل ساّبه( وقد تقدم ذكر بعض ذلك مع أنــه
قد تقدم عنهم أنهم كانوا يستتيبون المرتد ويأمرون باســتتابته ،فثبــت بــذلك
أنهم كـانوا ل يقبلــون توبــة مــن ســبه مــن المسـلمين ،لن تــوبته لـو قبلـت
لشرعت استتابته كالمرتد فإنه على هــذا القــول نــوع مــن المرتــدين ،ومــن
خص المسلم بذلك قال :ل يدل ذلك على أن الكافر السـاب ل يسـقط عنـه
إسلمه القتل ،فإن الحربي يقتل من غيــر اســتتابة ،مــع أن إســلمه يســقط
عنه القتل إجماعًا ،ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة أنه أمر باستتابة الساب،
مــا َ
إل ما روي عن ابن عباس ،وفي إســناد الحــديث عنــه مقــال ولفظــه" :أي ّ َ
من ا َ َ
ي ل الل ـهِ وَهِ ـ َ س ـو ْ ِ لنب َِياِء فََقد ْ ك َـذ ّ َ
ب ب َِر ُ حدا ً ِ َ بأ َس ّ ب الله أو َ س ّ سل ِم ٍ َم ْ ُ
ذب بنبــوة ل" ،وهذا ـ والله أعلــم ـ ـ فيمــن ك ـ ّ جعَ وإل ّ قُت ِ َب ،فَِإن َر َست ََتا ُ
ة ،ي ُ ْ
رِد ّ ٌ
شخص من النبياء وسّبه بناًء على أنه ليس بنبي ،أل ترى إلــى قــوله" :فََق ـد ْ
ل اللهِ ،"ول ريب أن من كذب بنبوة بعض النبياء وســبه بنــاء سو ْ ِب ب َِر ُك َذ ّ َ
ذب ببعـض آيـات القـرآن ،فـإن هـذا على ذلك ثم تاب ُقبلت تـوبته ،كمـن كـ ّ
أظهر أمره فهو كالمرتد ،فأما مــن كــان يظهــر القــرار بنبــوة النــبي ثــم
أظهر سبه فهذا هو مسألتنا.
ة، يؤيد هذا أنا قد ُرّوينا عنه أنه كان يقول" :ليس لقاذف أزواج النبي توبــ ٌ
ة[ لحق رسول الله ،فعلم م أن ذلك ]رعاي ً ة" ومعلو ٌ وقاذف غيرهن له توب ٌ
أن مــن مــذهبه أن ســاب النــبي وقــاذفه ل توبــة لــه ،وأن وجــه الروايــة
الخرى عنه إن صحت ما ذكرناه أو نحوه.
الوجه العاشر
36
ل على فساد اعتقاده وأيضا ً فإن سبه أو شتمه ممن يظهر القرار بنبوته دلي ٌ
وكفره به ،بل هو دليل على الســتهانة بــه والســتخفاف بحرمتــه ،فــإن مــن
ب لكرامه وإجللــه ،لــم يتصــور منــه وقر اليمان به في قلبه ،واليمان موج ٌ
ذمه وسبه والتنقص به ،وقد كــان مــن أقبــح المنــافقين نفاقـا ً مــن يســتخف
جاِلس ـا ً ل الل ـهِ َ سو ُ ن َر ُ كا َ بشتم النبي كما ُروي عن ابن عباس قالَ "/ :
مص عَن ُْهــ ُن ت ََقل ّ َ كا َن قَد ْ َ مي ْ َ
سل ِ ِ م ْ ن ال ْ ُ
م َي ن ََفرٍ ِ سائ ِهِ فِ ْجرِ ن ِ َ ح َن ُ
ْ م ْ جَرةٍ ِ ح ْل ُ ي ظِ ّ فِ ْ
ل جـ ٌجــاءَ َر ُ موه" ،فَ َ ن فَل َ ت ُك َل ّ ُ طا ٍشي ْ َ ن َ ِ ن ي َن ْظ ُُر ب ِعَي ْسا ٌم إن ْ َ سي َأت ِي ْك ُ ْ لَ " : ل ،فََقا َ الظ ّ ّ
َ أ َْزَر ُ
ن"؟ ودعــاهم ن وَفُل َ ٌ ت وَُفل ٌ مِني أن ْـ َ ش ـت ُ ُ م تَ ْ ي فََقال" :عَل َ َ عاهُ الن ّب ِ ّ ق ،فَد َ َ
بأسمائهم ،فانطلق فجاء بهم ،فحلفوا له ،واعتذروا إليه ،فأنزل الله ـ تبــارك
م الية ،رواه أبو مسعودٍ ابــن الفــرات. وا عَن ْهُ ْ ض ْ ن ل َك ُ ْ
م ل ِت َْر َ حل ُِفوْ َ وتعالى ـ :ي َ ْ
هم اللـ ُ م ي َب ْعَث ُهُـ ُورواه الحاكم في صحيحه ،وقال :فــأنزل اللــه تعــالى :ي َـوْ َ
ه اليــة .وإذا ثبــت أنــه كـافٌر مســتهين بــه فإظهــار القــرار ن لَ ُ حل ُِفوْ َ مْيعا ً فَي َ ْ ج ِ
َ
برسالته بعد ذلك ل يدل على زوال ذلك الكفر والستهانة ،لن الظــاهر إنمــا
ل يكون دليل ً صحيحا ً معتمدا ً إذا لم يثبت أن البـاطن بخلفـه ،فـإذا قـام دليـ ٌ
على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلفه.
توبة الزنديق
فإذا علمت هذا فنقول :هــذا الرجــل قــد قــام الــدليل علــى فســاد عقيــدته،
وتكذيبه به ،واستهانته له ،فإظهاره القرار برسالته الن ليس فيه أكثر ممــا
كان يظهره قبل هذا ،وهــذا القــدر بطلــت دللتــه ،فل يجــوز العتمــاد عليــه،
وهذه نكتة مــن ل يقبــل توبــة الزنــديق ،وهــو مــذهب أهــل المدينــة ،ومالــك
وأصحابه والليث بن سعد ،وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفــة ،وهــو
إحدى الروايات عن أحمد ،نصرها كثيٌر مــن أصــحابه ،وعنهمــا أنــه يســتتاب،
وهو المشهور عن الشافعي.
وقال أبو يوسف آخرًا :أقت ُُله من غير اســتتابة ،لكــن إن تــاب قبــل أن أقتلــه
قبلت توبته ،وهذا أيضا ً الرواية الثالثة عن أحمد.
37
ل على ب قد تكرر منه السب ونحوه مما يد ّ وعلى هذا المأخذ فإذا كان السا ّ
الكفــر اعتضــد /الســبب بــدللت أخــر ،مــن الســتخفاف بحرمــات اللــه،
والستهانة بفرائض الله ،ونحو ذلك من دللت النفــاق ،والزندقــة كـان ذلــك
أبلغ ]في[ ثبوت زندقته وكفره ،وفي أن ل يقبــل منــه مجــرد مــا يظهــر مــن
السلم مع ثبوت هذه المور ،وما ينبغي أن يتوقف في قتل مثل هذا ،وفــي
أن ل يسقط عنه القتل بما ُيظهر من السـلم ،إذ توبـة هـذا بعـد أخـذه لـم
تجدد له حال ً لم تكن قبل ذلك ،فكيف تعطل الحدود بغيـر مـوجب؟ نعـم لـو
أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من القــوال والعمــال مــا يــدل علــى
ف بين أهــل ف عن ذلك لم يقتل في هذه الحال .وفيه خل ٌ حسن السلم وك ّ
هذا القول سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره.
]و[ على مثل هذا ومن هو أخف منه ممن لم يظهر نفاقه قــط تحمــل آيــات
لول تحمل آيات إقامة الحد. التوبة من النفاق ،وعلى ا َ
ي إذا أسلم قال :بهذا يظهر الفرق بينــه وبيــن ثم من أسقط القتل عن الذ ّ ّ
م ّ
الكافر إذا أسلم ،فإنه كان مظهــرا ً لــدين يبيــح س ـّبه أو ل يمنعــه مــن س ـّبه،
ب تعزيرهُ وتوقيره ،فكان ذلك دليل ً على صحة فأظهر دين السلم الذي يوج ُ
ة علــى انتقاله ،ولم يعارضه ما يخالفه ،فوجب العمل به ،وهذه الطريقة مبني ٌ
عدم قبول توبة الزنديق كما قررناه من ظهور دليل الكفر مــع عــدم ظهــور
دليل السلم ،وهو من القياس الجلي.
43
وذكر بعضهم أن رجل ً من المنافقين خاصـم رجل ً مـن اليهـود إلـى النـبي
فقضى رسول الله لليهودي ،فلما خرجا من عنده لزمــه المنــافق وقــال:
انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب ،فأقبل إلى عمر ،فقال اليهودي :اختصــمت
م ض بقضائه ،وزعــم أنــه مخاصـ ٌ د ،فقضى لي عليه فلم ير َ أنا وهذا إلى محم ٍ
إليك ،وتعلق بي ،فجئت معه فقال عمر للمنافق :أكــذلك؟ قــال نعــم ،فقــال
عمر لهماُ :رويداكما حــتى أخــرج إليكمــا فــدخل عمــر الــبيت فأخــذ الســيف
واشتمل عليه ثم خرج إليهما فضــرب بــه المنــافق حــتى بــرد ،فقــال :هكــذا
َ
ض بقضاء الله وقضاِء رسوله ،فنزل قــوله :أل َـ ْ
م ت َـَر أقضي بين من لم ير َ
ن الية ،وقال جبريل :إن عمر فّرق بيــن الحــق والباطــل، مو َن ي َْزعُ ُ إ َِلى ال ّ ِ
ذي َ
مي الفاروق ،وقد تقدمت هذه القصة مروية من وجهين. فس ّ
ة على أن قتــل المنــافق ]كــان[ جــائزا ً إذ لــول ذلــك ففي هذه الحاديث دلل ٌ
لنكر النبي على من استأذنه في قتل المنافق ولنكر على عمــر إذ قتــل
م بالسلم ولم يعلل من قتل من المنافقين ،ولخبر النبي أن الدم معصو ٌ
ذلك بكراهية غضب عشائر المنــافقين لهــم وأن يتحــدث النــاس أن محمــدا ً
يقتل أصحابه ،وأن يقول القائل /لما ظفر بأصحابه أقبــل يقتلهــم لن الــدم
إذا كان معصوما ً كان هذا الوصف عديم التأثير في عصمة دم المعصــوم ول
ف ل أثر له ويترك تعليله بالوصــف الــذي هــو منــاط يجوز تعليل الحكم بوص ٍ
ة
ل علــى القتــل مــن غيــر اســتتاب ٍل على القتل فهو دلي ـ ٌ الحكم ،وكما أنه دلي ٌ
على ما ل يخفى.
فإن قيل :فلم لم يقتلهم النبي مع علمه بنفاق بعضهم وقبل علنيتهم؟
خلصة ما تقدم
فحاصله أن الحد لم يقم على واحدٍ بعينه ،لعــدم ظهــوره بالحجــة الشــرعية
التي يعلمه بها الخاص والعام ،أو لعدم إمكان إقامته ،إل مع تنفير أقوام عن
الدخول في السلم ،وارتداد آخرين عنه ،وإظهار قوم ٍ مــن الحــرب والفتنــة
ق ق ،وهذان المعنيان حكمهما با ٍ ما يربي فساده على فساد )ترك( قتل مناف ٍ
إلى يومنا هذا ،إل في شيٍء واحدٍ وهو أنه ربما خــاف أن يظــن )الظــان(
ف اليوم. ض آخر مثل أغراض الملوك ،فهذا منت ٍ أنه يقتل أصحابه لغر ٍ
والذي يبين حقيقة الجواب الثاني أن النبي لما كان بمكة مستضــعفا ً هــو
وأصحابه عاجزين عن الجهاد أمرهــم اللــه بكــف أيــديهم والصــبر علــى أذى
المشركين ،فلما هاجروا إلى المدينة وصار له داُر عزٍ ومنعةٍ أمرهم بالجهــاد
وبالكف عمن سالمهم وكف يده عنهم ،لنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود
ل كافرٍ ومنافق لن ََفر عن الســلم أكــثر العــرب إذ رأو أن بعــض مــن على ك ّ
نكــافِرِي ْ َ دخل فيه يقتل ،وفي مثل هذه الحال نزل قوله تعالى :وَل َ ت ُط ِِع ال َ
كيل ً .وهــذه الســورة على اللــه وَك ََفــى ب ِــاللهِ وَ ِ ل َ م وَت َوَك ّ ْ ذاهُ ْن وَد َعْ أ َ َ مَنافِِقي َ
َوال ُ
نزلــت بالمدينــة بعــد الخنــدق ،فــأمره اللــه فــي تلــك الحــال أن يــترك أذى
الكافرين والمنافقين لــه ،فل يكــافئهم عليــه لمــا يتولــد فــي مكافــأتهم مــن
الفتنة ،ولم يزل المر كذلك حتى فتحت مكة ،ودخلت العرب في ديــن اللــه
قاطبة ،ثم أخذ النبي في غزو الروم ،وأنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ ســورة
ل ر /بالمعروف ،فكان كما ُ ج والم ِ مل شرائع الدين من الجهاد والح ّ براءة ،وك ّ
الدين حين نزل قوله تعالى :اليو َ
م قبــل الوفــاة بأقــل م ِدين َك ُ ْ ت ل َك ُ ْ مل ْ ُ
م أك ْ َ َ ْ َ
ر .ولما أنزل براءة أمره بنبــذ العهــود الــتي كــانت للمشــركين من ثلثة أشه ٍ
َ
م وهــذه ظ عَل َي ْهِـ ْ ن َواغْل ُـ ْ من َــافَِقي َ جاهِدِ الك ُّفــاَر وَ ال ُ ي َ وقال فيهاَ :يا أي َّها الن ّب ِ ّ
م هـ ْ ذا ُن وَد َعْ أ َ َ مَنـافِِقي َ ن َوال ُ كـافِرِي ْ َ طـِع ال َ ة لقـوله تعـالى :وَل َ ت ُ ِ )الية( ناسخ ٌ
د ،ولم يبق حــول ُ
وذلك أنه لم يبق حينئذٍ للمنافق من يعينه لو أقيم عليه الح ّ
المدينــة مــن الكفــار مــن يتحــدث بــأن محمــدا ً يقتــل أصــحابه ،فــأمره اللــه
ة
ل العلــم أن آيــة الحــزاب منســوخ ٌ بجهادهم والغلظ عليهم ،وقد ذكــر أه ـ ُ
ن ذي َ ن وَ ال ّـ ِ من َــافُِقو َ م َينت َـهِ ال ُ بهذه الية ونحوها ،وقال في الحزاب :ل َِئن ل َـ ْ
ك ِفيَها جاوُِرون َ َ م ل َ يُ َ م ثُ ّ ك ب ِهِ ْ دين َةِ ل َن ُغْرِي َن ّ َم ِن ِفي ال َ جُفو َ مْر ِ ض َوال ُ مَر ٌ م َِفي قُُلوب ِهِ ْ
46
ذواالية ،فُعلم أنهــم كــانوا يفعلــون أشــياء إذ خ ُقُفوا أ ُ ِ ما ث ُ ِ
إل ّ قَِليل ً مل ْعوِني َ
ن أين َ َ
َ َ ُ ِ
ذاك إن لم ينتهوا عنها ُقتلوا عليها في المستقبل لمــا أعــز اللــه دينــه ونصــر
ة أكــبر رسوله فحيث ما كان للمنافق ظهوٌر يخاف من إقامة الحد ّ عليه فتنــ ٌ
م كمــا أنــه حيــث عجزنــا عــن جهــاد الكفــار ذاهُ ْ من بقائه عملنا بآية :د َعْ أ َ َ
عملنا بآية الكف عنهم والصفح ،وحيث ما حصل القوة والعّز خوطبنا بقـوله:
مَنافَِقي َ
ن. جاهِدِ الك ُّفاَر وَ ال ُ َ
فهذا يبين أن المساك عــن قتــل مــن أظهــر نفــاقه بكتــاب اللــه علــى عهــد
رســول اللــه إذ ل نســخ بعــده ،ولــم ن َـد ِّع أن الحكــم تغي ّــر بعــده لتغيــر
ل لهــا ف فــي الشــريعة ،وتحويـ ٌ المصلحة من غير وحي نزل ،فإن هــذا تصــر ٌ
ز ،كما ى وقد زال ،وهو غير جائ ٍ بالرأي ،ودعوى أن الحكم المطلق كان لمعن ً
من قال :إن حكم المؤلفة انقطع ولم يأت على انقطاعه قد نسبوا ذلك إلى َ
سنةٍ سوى ادعاء تغير المصلحة. ب ول ُ بكتا ٍ
ويدل على المسألة ما روى أبو إدريس قالُ :أتي علي ـ رضــي اللــه عنــه ـ ـ
س من الزنادقة ارتدوا عن السلم ،فســألهم ،فجحــدوا ،فقــامت عليهــم بأنا ٍ
ل كــان نصــرانيا ً ُ
البينة العدول ،قال :فقتلهم ولم يستتبهم ،وقال :وأتي برج ـ ٍ
وأسلم ،ثم رجع عن السلم ،قــال :فســأله فــأقّر بمــا كــان منــه ،فاســتتابه،
فتركه فقيل له :كيف تستتيب هذا ولم تستتب أولئك؟ قال :إن هذا أقّر بمــا
كان منه ،وإن أولئك لم يقروا وجحدوا حتى قامت عليهم البينة ،فلــذلك لــم
أستتبهم ،رواه المام أحمد.
ل قــد تنصــر ،فاســتتابه، ُ
ي برجـ ٍ م عن أبي إدريس قــال :أتــي علـ ّ وروى الثر ُ
فأبى أن يتوب ،فقتله /وُأتي برهط يصلون القبلة وهم زنادقة ،وقــد قــامت
ن إل الســلم، عليهم بذلك الشهود العدول ،فجحــدوا ،وقــالوا :ليــس لنــا دي ـ ٌ
م استتبت هــذا النصــراني؟ اســتتبته فقتلهم ولم يستتبهم ،ثم قال :أتدرون ل ِ َ
لنه أظهر دينه ،وأما الزنادقة الذين قــامت عليهــم البينــة و جحــدوني فإنمــا
قتلتهم لنهم جحدوا وقامت عليهم البينة.
ق كتـم ن أن كـل زنـدي ٍ فهذا من أمير المؤمنين علي ـ رضي اللـه عنـه ــ بيــا ٌ
ة قتل ولم يســتتب ،وأن النــبي لــم زندقته وجحدها حتى قامت عليه البين ُ
يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة.
َ
ن مـ ْ
ن وَ ِ من َــافُِقو َ
ب ُ ن العْـَرا ِ م َم ِ حوْل َك ُ ْن َ م ْ م ّل على ذلك قوله تعالى :وَ ِ ويد ّ
صـاِلحا ً خل َ ُ َ
مل ً َ طـوا عَ َ م َن اعْت ََرُفـوا ِبـذ ُُنوب ِهِ ْ خـُرو َ ة إلى قـولهَ :وآ َ دين َ ِ
م ِ
ل ال َ أه ْ ِ
سّيئا ً فُعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين ،ولهذا الحــديث خَر َ َوآ َ
ة ،إنما قال المام أحمد في الرجل ُيشهد عليه بالبدعةِ فيجحد :ليست له توب ٌ
التوبة لمن اعترف ،فأما من جحدها فل توبة له.
قال القاضي أبو يعلى وغيره :وإذا اعترف بالزندقة ثم تاب ُقبلت توبته ،لنه
باعترافه يخـرج عــن حــد الزندقـة ،لن الزنـديق هـو الــذي يســتبطن الكفـر
47
)وينكره( ول يظهره ،فإذا اعترف به ثــم تــاب خــرج عــن حــده ،فلهــذا قبلنــا
توبته ولهذا لم يقبل علي ـ رضي الله عنه ـ توبة الزنادقة لما جحدوا.
ن مل ُــو َ ن ي َعْ َ ذي َ ة ل ِل ّـ ِ ت الت ّوْب َـ ُ سـ ِ ل على المسألة بقوله تعــالى :وَل َي ْ َ وقد ُيستد ّ
ت الية ،وروى المام أحمد بإسناده عن أبي العالية في قــوله تعــالى: سّيئا ِ ال ّ
بري ـ ٍ مــن قَ ِ ن ِ م ي َُتوُبو َ جَهال َةٍ ث ُ ّ سوَء ب ِ َ ن ال ّ مُلو َن ي َعْ َ ذي َة عََلى الّله ل ِل ّ ِ ما الت ّوْب َ ُ إ ِن ّ َ
ذا حت ّــى إ ِ َ ت َ س ـّيئا ِ ن ال ّ مُلو َ ن ي َعْ َ ذي َ ة ل ِل ّ ِ
ت الت ّوْب َ ُس ِ قال :هذه في أهل اليمان ،وَل َي ْ َ
َ
ن
ذي َ ن قال :هذه في أهل النفاق ،وَل َ ال ّ ِ ت ال َ ل إ ِّني ت ُب ْ ُ ت َقا َمو ْ ُ م ال َ حد َهُ ُ ضَر أ َ ح َ َ
م ك ُّفاٌر قال :هــذه فــي أهــل الشــرك ،هــذا مــع أنــه الــراوي عــن ن وَهُ ْ موُتو َ يَ ُ
لل عبـدٍ أصـاب ذنبـا ً فهـو جاهـ ٌ أصحاب محمدٍ فيما أظن أنهــم قـالوا :كـ ّ
ب. ل من تاب قبل الموت فقد تاب من قري ٍ ه ،وك ّ بالل ِ
ل على مـا قـال أن المنــافق إذا أخـذ لُيقتــل ورأى الســيف فقـد حضــره ُ ويد ّ
ذا م إِ َب عَل َي ْك ُـ ُ الموت ،بدليل دخول مثل هذا فــي عمــوم قــوله تعــالى :ك ُت ِـ َ
َ
ت م ـو ْ ُ م ال َ ح ـد َك ُ ُ ضَر أ َ ح َ ذا َ م إِ َ شَهاد َةُ ب َي ْن ِك ُ ْ ت وقوله تعالىَ : مو ْ ُ م ال َ حد َك ُ ُضَر أ َ ح َ َ
ة كمــا ذكــره ن فليست لــه توبـ ٌ ت ال َ وقد قال حين حضره الموت :إ ِّني ت ُب ْ ُ
الله /سبحانه ،نعم إن تاب توبة صحيحة فيما بينه وبين الله لــم يكــن ممــن
ن بل يكون ممن تاب من قريب ،لن الله سبحانه إنمــا ت ال َ قال :إ ِّني ت ُب ْ ُ
نفى التوبة عمن حضره الموت وتاب بلسانه فقــط ،ولهــذا قــال فــي الول:
ت" قبــل حضــور ن فمن قال" :إّني ت ُب ْـ ُ ت ال َ نوقال هنا :إ ِّني ت ُب ْ ُ م ي َُتوُبو َ ث ُ ّ
ه.ت توبت ُ ة بعد حضور أسباب الموت صح ْ ت ،أو تاب توبة صحيح ً المو ِ
أقسام الردة
ة شرع القتل على ة ،وردةٌ مغّلظ ٌ دة على قسمين :ردةٌ مجّرد ٌ وأيضًا ،فإن الر ّ
ب قتل صــاحبها ،والدلــة الدالــة ل على وجو ِ خصوصها ،وكلهما قد قام الدلي ُ
ل على القسم الول، م القسمين ،بل إنما تد ّ على سقوط القتل بالتوبة ل تع ّ
كما يظهر ذلك لمن تأمــل الدلـة علــى قبــول توبــة المرتــد ،فيبقــى القســم
ص ول إجمــاعٌ الثاني ،وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه ،ولــم يــأت ن ـ ّ
س متعــذٌر مــع وجــود الفــرق الجلــي ،فــانقطع بســقوط القتــل عنــه ،والقيــا ُ
ق.
اللحا ُ
51
فساد من يجعل الردة جنسا ً واحدا ً
وإنما بعض الناس يجعل برأيه الردة جنسا ً واحدا ً على تباين أنواعه ،ويقيس
ض ،فإذا لم يكن معه عموم نطقي يعم أنواع المرتدين لم يبق إل بعضها ببع ٍ
ف له تأثيٌر في الحكــم ،وقــد القياس ،وهو فاسد ٌ إذا فارق الفرع الصل بوص ٍ
ل على تأثيره نص الشارع وتنــبيهه ،والمناســبة المشــتملة علــى المصــلحة د ّ
ة. المعت َب ََر ِ
وتقرير هذا من ثلثة أوجه:
هدي اللـ ُ ف ي َهْـ ِ ل[ توبة المرتد مثل قوله تعــالى :ك َي ْـ َ أحدها :أن دلئل ]قَُبو ِ
قَوما ً ك ََفروا بعد إيمان ِهم إلى قوله :إل ال ّذين تابوا من بعد ذ َل ِ َ َ
حوا صــل َ ُ ك وَأ ْ ِ َْ ِ ِ َ َ ُ ِ َ ْ َ ِْ َ ِ ْ ُ ْ
ه ،ونحوهــا ليــس فيهــا إل توبــة مان ِ ِمن ب َعْدِ ِإي َ ن ك ََفَر ِباللهِ ِ م ْ وقوله تعالىَ :
من كفر بعد اليمان فقط ،دون مــن انضــم إلــى كفــره مزيــد أذى وإضــرار،
جـّرد الــردة فقــط، ة رسول اللــه إنمــا فيهــا قبــول توبـةِ مــن َ وكذلك سن ُ
جـّرد الـردة ة الخلفاء الراشـدين ،إنمـا تضـمنت قبـول توبـة مـن َ وكذلك سن ُ
وحارب بعد ارتداده كمحاربة الكافر الصلي على كفره ،فمن زعــم أن فــي
الصول ما يعم توبة كل مرتد سواء جــرد الــردة أو غلظهــا بــأي شــيء كـان
فقد أبطل ،وحينئذ فقد قامت الدلة على وجوب قتــل الســاب ،وأنــه مرتــد،
ولم تدل الصـول علـى أن مثلـه يسـقط عنـه القتـل ،فيجـب قتلـه بالـدليل
السالم عن المعاِرض.
م مــان ِهِ ْ وما ً ك ََفُروا ب َعْد َ إ ِي ْ َ ه قَ ْدي الل ُ ف ي َهْ ِ /الثاني :أن الله سبحانه قال :ك َي ْ َ
ن مي َ م الظ ّــال ِ ِ دي الَق ـوْ َ ه ل ي َهْ ـ ِ ت َوالل ـ ُ م الب َي ّن َــا ُ جآَءهُ ُ حقّ وَ َ ل َ سو َ ن الّر ُ دوا أ ّ شه ِ ُ وَ َ
ن ِفيَها َ َ َ م لَ ن عَل َ َ ُ َ *ُ
دي َ خال ِ ِن* َ مِعي َ ج َسأ ْ ِ ناّ وال
َ ِ ة ك ِ ئ ل م
َ ال َ و ِ ه الل ة
ُ َ نْ ع ْ ِ ه ْ ي ّ أ م
ْ ُ ه ؤ زا
َ ج
َ ك ِ ئ أل
مــن ب َعْـدِ ذ َل ِـكَ ن ت َــاُبوا ِ ذي َ ّ
ن * ِإل الـ ِ م ُينظـُرو َ َ َ
ب وَل هُـ ْ ذا ُ م العَـ َ ف عَن ْهُـ ُ خَفـ ُ ل َ يُ َ
َ
دوا دا ُ م اْز َ م ث ُـ ّ ن ك ََفـُروا ب َعْـد َ ِإي َ
مــان ِهِ ْ ذي َ ن ال ّـ ِ م * إِ ّ حيـ ٌ ه غَُفوٌر َر ِ ن الل َ حوا فَإ ِ ّ صل َ ُ وَأ ْ
ن فأخبر سبحانه أن مــن ازداد كفــرا ً ضاّلو َ م ال ّ ك هُ ُ م وَأ ُل َئ ِ َ ل ت َوْب َت ُهُ ْك ُْفرا ً َلن ت ُْقب َ َ
بعد إيمانه لن تقبل توبته ،وفّرق بين الكفر المزيد كفرا ً والكفر المجرد فــي
قبول التوبة من الثاني دون الول فمن زعم أن كل كفرٍ بعــد اليمــان تقبــل
منه التوبة فقد خالف نص القرآن.
وهذه الية إن كان قد قيــل فيهــا إن ازديــاد الكفــر المقــام عليــه إلــى حيــن
الموت ،وأن التوبة المنفية هي توبته عنــد الغرغــرة أو يــوم القيامــة ،فاليــة
أعم من ذلك.
وقد رأينا سنة رسول الله فرقت بين النــوعين ،فقبـل توبـة جماعـة مـن
صبابة يوم الفتح من غير اسـتتابة لمـا مْقَيس بن ُ المرتدين ،ثم إنه أمر بقتل ِ
ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ولم يتــب قبــل القــدرة عليــه ،وأمــر
خط َــل بقتل العرنيين لما ضموا ردتهم نحوا ً من ذلك ،وكذلك أمر بقتــل ابــن َ
لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم ،وأمر بقتل ابن أبي ســرح لمــا ضــم
إلى ردته الطعن عليه والفــتراء ،وإذا كــان الكتــاب والســنة قــد حكمــا فــي
52
المرتدين بحكمين ،ورأينــا أن مــن ضــر وآذى بــالردة أذىً يــوجب القتــل لــم
يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه ،وإن تاب مطلقــا دون مــن بــدل
دينه فقط لم يصح القــول بقبــول توبــة المرتــد مطلقـًا ،وكــان الســاب مــن
القسم الذي ل يجب أن تقبل توبته ،كما دلت عليه السنة في قصة ابن أبــي
سرح ،ولن السب إيذاء عظيم للمسلمين أعظم عليهم من المحاربــة باليــد
كما تقدم تقريره فيجب أن يتحتم عقوبة فــاعله ،ولن المرتــد المجــرد إنمــا
نقتله لمقامه على التبديل للدين فإذا عــاود الــدين الحــق زال المبيــح لــدمه
كما يزول المبيح لدم الكافر الصلي بإسلمه ،وهذا الســاب أتــى مــن الذى
لله ورسوله ـ بعــد المعاهــدة علــى تــرك ذلــك /بمــا أتــى بــه ،وهــو ل يقتــل
ع ،فصار قتله كقتل المحارب باليد. لمقامه عليه ،فإن ذلك ممتن ٌ
ة لله ورسوله بيد أو لسان فقد دلت السنة وبالجملة فمن كانت ردته محارب ً
المفسرة للكتاب أنه ممن كفر كفرا ً مزيدا ً ل تقبل توبته منه.
الوجه الثالث:
أن الردة قد تتجرد عن السب ،فل تتضمنه ،ول تستلزمه كما تتجرد عن قتل
ط فــي العــداوة وإبلغٌ فــي المسلمين وأخذ أموالهم ،إذ السب والشتم إفرا ٌ
سَفه الكافر ،وحرصه على فساد الدين وإضرار أهله، دة َ ش ّ
المحادة مصدره ِ
ولربما صدر عمن يعتقد النبوة والرسالة ،لكن لم يأت بموجب هذا العتقــاد
من التوقير والنقياد ،فصار بمنزلة إبليس ،حيث اعتقد ربوبيـة اللـه سـبحانه
ت بمــوجب ْ
ب( وقد أيقن أن الله أمره بالسجود ]ثم[ لم ي َأ ِ وتعالى بقولهَ) :ر ّ
هذا العتقاد من الستســلم والنقيــاد ،بــل اســتكبر وعانــد معانــدة معــارض
طاعن في حكمة المر.
ول فرق بين من يعتقد أن الله ربه ،وأن الله أمره بهذا المر ثم يقــول :إنــه
ب ول ســداٍد ،وبيــن مــن يعتقــد أن محمــدا ً ل يطيعه ،لن أمــره ليــس بصــوا ٍ
ب التباع في خــبره وأمــره ،ثــم يســبه أو يعيــب رسول الله وأنه صادقٌ واج ُ
أمره أو شيئا ً من أحواله ،أو ينتقصه انتقاصا ً ل يجــوز أن يســتحقه الرســول،
ل وعمــل فمـن اعتقـد الوحدانيـة فـي اللوهيــة للـه ــ وذلك أن اليمـان قـو ٌ
سبحانه وتعالى ـ والرسالة لعبده ورسوله ،ثم لم ي ُت ْب ِعْ هــذا العتقــاد مــوجبه
ل في القلب يظهر أثره علــى الجــوارح، من الجلل والكرام ـ والذي هو حا ّ
بل قارنه الستخفاف والتسفيه والزدراء بالقول أو بالفعل ـ كان وجود ذلك
العتقاد كعدمه ،وكان ذلك موجبا ً لفساد ذلك العتقاد ،ومزيل ً لمــا فيــه مــن
المنفعة والصلح ،إذ العتقادات اليمانية تزكي النفوس وتصلحها ،فمتى لــم
توجب زكاة النفس ول صلحا ً فما ذاك إل لنها لم ترســخ فــي القلــب ،ولــم
ة لقلــب ة ونعتا ً للنفس ،وإذا لم يكن علــم اليمــان المفــروض صــف ً صْر صف ً
تَ ِ
النسان لزمة لم ينفعه ،فإنه يكون بمنزلة حديث النفـس وخـواطر القلـب،
والنجاة ُ ل تحصل إل بيقين في القلب ،ولو أنه مثقال ذرة.
53
هذا فيما بينه وبين الله ,وأما في الظاهر فتجري الحكــام علــى مــا يظهــره
من القول والفعل.
ض /بهذا التنبيه على أن الستهزاء بالقلب والنتقــاص ينــافي اليمــان والغر ُ
الذي في القلــب منافــاة الضــد ضــده ،والســتهزاء باللســان ينــافي اليمــان
الظاهر باللسان كذلك.
والغرض بهذا التنبيه على أن السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظــاهرا ً
وباطنًا.
هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من أهل السنة والجماعة ،خلف ما يقوله بعض
الجهمية والمرجئة القائلين بأن اليمان هــو المعرفــة والقــول بل عمــل مــن
أعمال القلب من أنه إنمــا ينــافيه فــي الظــاهر ،وقــد يجــامعه فــي البــاطن،
وربما يكون لنا إن شاء الله تعالى عودةٌ إلى هذا الموضع.
والغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب ،فكــذلك الســب قــد يتجــرد
عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة ،كما تجرد كفر إبليــس عــن
قصد التكذيب بالربوبية ،وإن كان عدم هذا القصد ل ينفعه ،كما ل ينفــع مــن
قال :الكفر أن ل يقصد أن يكفر.
وإذا كان كذلك فالشارع إذا أمر بقبول توبة من قصد تبديل دينه الحق وغّير
اعتقاده وقوله ،فإنمــا ذاك لن المقتضــى للقتــل العتقــاد الطــارئ وإعــدام
العتقاد الول ،فـإذا عـاد ذلـك العتقـاد اليمـاني ،وزال هـذا الطـارئ ،كـان
ل ،لن بمنزلة الماء والعصــير :يتنجــس بتغيــره ،ثــم يــزول التغيــر فيعــود حل ً
الحكم إذا ثبت بعلةٍ يزول بزوالها وهذا الرجل لم يظهر مجرد تغير العتقــاد
حتى يعود معصوما ً بعوده إليه ،وليس هذا القــول مــن لــوازم تغيــر العتقــاد
حتى يكون حكمه كحكمه ،إذ قد يتغير العتقاد كثيرًا ،ول يكون أتى بأذى لله
ورسوله.
55
فــصــل
وجوب قتل الساب مسلما ً كان أو كافرا ً
قد تضمن هذا الدللة على وجوب قتل الساب من المسلمين وإن أسلم،
ي الذي إذا أسلم ،وقد تضمن الدللة
وتوجيه قول من فرق بينه وبين الذم ّ
على أن الذمي إذا عاد إلى الذمة لم يسقط عنه القتل بطريق الولى ،فإن
ن لدمه من عود الذمي إلى ذمته ،ولهذا عامة عود َ المسلم إلى السلم أحق ُ َ
العلماء الذين حقنوا دم هذا وأمثاله بالعود إلى السلم لم يقولوا مثل ذل َ
ك
ة. ي إذا عاد إلى الذ ّ ّ
م ِ في الذ ّ ّ
م ّ
57
خْزيٌ ِفي الد ّن َْيا) ،و الخزي ل يحصل إل بإقامة م ِ ك ل َهُ ْوأيضًا ،فإنه قال :ذ َل ِ َ
الحدود ل بتعطيلها.
وأيضًا ،فإنه لو كان هذا الجزاء إلى المام له إقامته وتركه بحسب المصلحة
مال َ م فََعاقُِبوا ب ِ ِ
مث ْ ِ عاقَب ْت ُ ُ
لندب إلى العفو كما في قوله تعالى :وَِإن َ
ص
صا ٌ ح قِ َ جُرو َ ن) وقولهَ :وال ُ ري َ
صاب ِ ِ م ل َهُوَ َ
خي ٌْر ِلل ّ صب َْرت ُ ْن َعوقِب ُْتم ب ِهِ وَل َئ ِ ْ ُ
َ َ
ة إ َِلى أهْل ِهِ إ َل ّ أ ْ
ن م ٌسل ّ َ م َ ه) وقوله :وَدِي َ ٌ
ة ُ صد ّقَ ب ِهِ فَهُوَ ك َّفاَرةٌ ل َ ُ ن تَ َم ْ فَ َ
صد ُّقوا). يَ ّ
وأيضًا ،فالدلة على وجوب إقامة الحدود على السلطان من السنة والجماع
ة ،ولم نعلم مخالفا ً في وجوب /جزاِء المحاربين ببعض ما ذكر الله ظاهر ٌ
في كتابة ،وإنما اختلفوا في هذه الحدود :هل يخير المام بينها بحسب
المصلحة أو لكل جرم ٍ جزاٌء محدود شرعًا؟ كما هو مشهوٌر ،فل حاجة إلى
ل عينا ً بما تقدم ب القت ُ ب الجزاِء ،لكن نقول جزاء السا ّ ب في وجو ِ الطنا ِ
من الدلئل الكثيرة ،ول يخير المام فيه بين القتل والقطع بالتفاق وإذا كان
جزاؤه القتل من هذه الحدود ـ وقد أخذ قبل التوبة ـ وجب إقامة الحد عليه
إذا كان من المحاربين بل تردٍد.
58
الميثاق ،وأفسدوا في الرض ،فخير الله رسوله أن يقتل إن شاء ،أو
يصلب ،أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلف.
ي :أن يهرب في الرض فل يقدر عليه ،فإن جاء /تائبا ً داخل ً في وأما النف ُ
السلم قُِبل منه ولم يؤاخذ بما عمل.
ل مسلم قتل أو أصاب حدا ّ أو مال ً لمسلم فلحق وقال الضحاك :أيما رج ٍ
بالمشركين فل توبة له حتى يرجع فيضع يده في يد المسلمين فيقر بما
أصاب قبل أن يهرب من دم ٍ أو غيره أقيم عليه أو أخذ منه.
ففي هذين الثرين أنها نزلت في قوم معاهدين من أهل الكتاب لما نقضوا
العهد وأفسدوا في الرض ،وكذلك في تفسير الكلبي.
عن أبي صالح عن ابن عباس ـ وإن كان ل يعتمد عليه إذا انفرد ـ أنها نزلت
في قوم موادعين ،وذلك أن رسول الله وادع هلل بن عويمر ـ وهو أبو
بردة السلمي ـ على أل يعينه ول يعين عليه ،ومن أتاه من المسلمين فهو
ج ،ومن مر بهلل ن أن يها َ
ن أن يهاج ،ومن أتى المسلمين منهم فهو آم ٌ آم ٌ
بن عويمر إلى رسول الله فهو آمن )أن يهاج(.
س من أسلم من قوم هلل م من بني كنانة يريدون السلم بنا ٍ قال :فمّر قو ٌ
بن عويمر ،ولم يكن هلل يومئذٍ شاهدًا ،فنهدوا إليهم ،فقتلوهم وأخذوا
أموالهم ،فبلغ ذلك رسول الله ،فنزل )عليه( جبريل بالقصة فيهم ،فقد
ذكر أنها نزلت في ]قوم[ معاهدين ،لكن من غير أهل الكتاب.
س ـ وهو قول الحسن ـ أنها نزلت في وروى عكرمة عن ابن عبا ٍ
المشركين ،ولعله أراد الذين نقضوا العهد كما قال هؤلء ،فإن الكافر
الصلي ل ينطبق عليه حكم الية.
ل في هذه الية من والذي يحقق أن ناقض العهد بما يضر المسلمين داخ ٌ
ل ُ
الثر ما قدمناه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى برج ٍ
شام( حتى وقعت ،فتجّللها، من أهل الذمة نخس بامرأةٍ من المسلمين )بال ّ
صلب ،فكان أول مصلوب في السلم .وقال :يا أيها فأمر به عمر فُقتل و ُ
الناس ،اتقوا الله في ذمة محمد ،ول تظلموهم ،فمن فعل هذا :فل ذمة
له ،وقد رواه عنه عوف بن مالك الشجعي وغيره كما تقدم.
وروى عبدالملك بن حبيب بإسناده عن عياض بن عبدالله الشعري .قال:
ج ،فوقعت من البغل ،فبدا بعض ل ،فنخس بها عل ٌ مّرت امرأةٌ تسير على بغ ٍ
عورتها ،فكتب بذلك أبو عبيدة /بن الجراح إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ،
فكتب إليه عمر أن اصلب العلج في ذلك المكان ،فإنا لم نعاهدهم على
هذا ،إنما عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
ة :يقتل ،هذا وقد قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مجوسي فجر بمسلم ٍ
قد نقض العهد ،وكذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضًا ،قد صلب عمر
ة ،هذا نقض العهد ،قيل له :ترى عليه الصلب رجل ً من اليهود فجر بمسلم ٍ
ل إلى حديث عمر ،كأنه لم يعب عليه. مع القتل؟ قال :إن ذهب رج ٌ
59
فهؤلء :أصحاب رسول الله :عمر ،وأبو عبيدة ،و عوف بن مالك ،ومن
كان في عصرهم من السابقين الولين قد استحلوا قتل هذا وصلبه .وبّين
عمر أنا لم نعاهدهم على مثل هذا الفساد ،وأن العهد انتقض بذلك ،فُعلم
ن( محاربة الله ورسوله م ْأنهم تأّولوا فيمن نقض العهد بمثل هذا أنه ) ِ
والسعي في الرض فسادًا ،واستحلوا لذلك قتله وصلبه ،وإل فالصلب مثله
ة.
ل يجوز إل لمن ذكره الله في كتاب ِ
د ،وسعيد ُ بن جبير وقد قال آخرون ـ منهم ابن عمر ،وأنس بن مالك ،ومجاه ٌ
وعبدالرحمن بن جبير ومكحول ،وَقتادة ،وغيرهم رضي الله عنهم أنها نزلت
في العرنيين الذين ارتدوا عن السلم ،وقتلوا راعي رسول الله و
استاقوا إبل رسول الله ،وحديث العرنيين مشهوٌر ،ول منافاة بين
الحديثين ،فإن سبب النزول قد يتعدد مع كون اللفظ عاما ً في مدلوله
ة في المسلم والمرتد والناقض، وكذلك كان عامة العلماء على أن الية عام ٌ
م حكمه الله في هذا المة على كما قال الوزاعي في هذه الية :هذا حك ٌ
من حارب مقيما ً على السلم أو مرتدا ً عنه ،و فيمن حارب من أهل الذمة.
ة عن علي وأبي موسى وأبي هريرة وغيرهم ـ رضي وقد جاءت آثاٌر صحيح ٌ
ت فيمن حارب المسلمين بقطع الله عنهم ـ تقتضي أن حكم هذه الية ثاب ٌ
الطريق ونحوه مقيما ً على إسلمه ،لهذا يستدل جمهور الفقهاء من
الصحابة والتابعين ومن بعدهم على حد قطع الطريق بهذه الية.
والمقصود هنا أن هذا الناقض للعهد والمرتد عن /السلم بما فيه الضرر
ل فيها كما ذكرنا دلئله عن الصحابة والتابعين ،وإن كان يدخل فيها داخ ٌ
ض للعهد بما فيه ضرٌر ب ناق ٌبعض من هو مقيم على السلم ،وهذا السا ّ
على المسلمين ،ومرتد ٌ بما فيه ضرٌر على المسلمين ،فيدخل في الية.
عني بها ناقضو العهد في الجملة أن النبي نفى ومما يدل على أنه قد ُ
بني قينقاع والنضير لما نقضوا العهد إلى أرض الحرب ،وقتل بني قريظة
وبعض أهل خيبر لما نقضوا العهد ،والصحابة قتلوا وصلبوا بعض من فعل ما
ض العهد من المور المضرة ،فحكم النبي وخلفائه في أصناف ناقض ينق ُ
العهد كحكم الله في هذه الية ـ مع صلحه لن يكون امتثال ً لمر الله ـ فيها
ل على أنهم مرادون منها. دلي ٌ
61
سي ُْروفي الحديث عن معاذ بن جبل قال :سمعت رسول الله يقول" :الي َ ِ
َ شْر ٌ
ة" فإذا كان حاَرب َ ِم َه َبال ُ دى أوْل َِياَء اللهِ فََقد ْ َباَرَز الل َ عا َن َ م ْ ك ،وَ َ ن الّرَياِء ِ م َ ِ
من عادى واحدا ً من الولياء قد بارز الله بالمحاربة ،فكيف من عادى صفوة
الله من أوليائه؟ فإنه يكون أشد ّ مبارزة له بالمحاربة ،وإذا كان محاربا ً لله
ب للرسول بطريق الولى ،فثبت أن لجل عداوته للرسول فهو محار ٌ
ب لله ورسوله. الساب للرسول محار ٌ
ب واحدا ً من أولياء الله غير النبياء فقد بارز الله فإن /قيل :فلو س ّ
بالمحاربة فإنه إذا سبه فقد عاداه كما ذكرتم ،وإذا عاداه فقد بارز الله
بالمحاربة ،كما نصه الحديث الصحيح ،ومع هذا فل يدخل في المحاربة
ل ،وذلك يوجب صرف المحاربة إلى المذكورة في الية ،فقد انتقض الدلي ُ
المحاربة باليد.
ه:
ل من وجو ٍ قيل :هذا باط ٌ
ل من سب غير النبياء يكون قد عاداهم ،إذ ل دليل يدل أحدها :أنه ليس ك ّ
نمِني َمؤ ْ ِ ن ال ُ ذو َ ن ي ُؤْ ُ ذي َعلى ذلك ،وقد قال )الله( سبحانه وتعالىَ :وال ّ ِ
مِبينا ً) بعد أن أطلق أنه مُلوا ب ُهَْتانا ً وَإ ِْثما ً ُ سُبوا فََقدِ ا ْ
حت َ َ ما اك ْت َ َ ت ب ِغَي ْرِ َ مؤ ْ ِ
مَنا ِ َوال ُ
من آذى الله ورسوله فقد لعنه )الله( في الدنيا والخرة ،فُعلم أن المؤمن َ
ذى بما اكتسب ويكون أذاه بحق كإقامة الحدود والنتصار في الشتيمة قد يؤ َ
ونحو ذلك ،مع كونه وليا ً لله ،وإذا كان واجبا ً في بعض الحيان أو جائزا ً لم
يكن مؤذيه في تلك الحال عدوا ً له ،لن المؤمن يجب عليه أن يوالي
مما وَل ِي ّك ُ ُالمؤمن ول يعاديه وإن عاقبه عقوبة شرعية كما قال تعالى :إ ِن ّ َ
نذي َ ه َوال ّ ِسول َ ُ ه وََر ٌ ل الل َ ن يتو ّ م ْمُنوا )وقال تعالى :وَ َ نآ َ ذي َ ه َوال ّ ِ
سول ُ ُه وََر ُ الل ُ
مُنوا).آ َ
62
علم أنه ولي فإنما يدل على أنه بارز ه( لو فرض أنه عادى وليا ً ُ الرابع) :أن ُ
ه /ورسوله ،والجزاء المذكور في الله بالمحاربة ،وليس فيه ذكر محاربةِ الل ِ
الية إنما هو لمن حارب الله ورسوله ،ومن سب الرسول فقد عاداه ،ومن
ل عليه الحديث ،فيكون محاِربا ً ه ،وقد حارب الله أيضا ً كما د ّ عاداه فقد حارب ُ
م المعّلق ه ،والحك ُ ص من محاربة الل ِ ة الله ورسولهِ أخ ّ لله ورسوله ،ومحارب ُ
ن[ محاربة الرسول تقتضي بالخص ل يدل على أنه معّلق بالعم ،وذلك ]أ ّ
ة
ي بعينه مشاق ٌ مشاقته على ما جاء به من الرسالة ،وليس في معاداةِ وَل ِ ّ
في الرسالة ،بخلف الطعن في الرسول.
الخامس :أن الجزاء في الية لمن حارب الله ورسوله وسعى في الرض
فسادا ً والطاعن في الرسول قد حارب الله ورسوله كما تقدم ،وقد سعى
في الرض فسادا ً كما سيأتي ،وهذا الساب للولي وإن كان قد حارب الله
فلم يسعَ في الرض فسادًا ،لن السعي في الرض فسادا ً إنما يكون
بإفساد ٍ عام لدين الناس أو دنياهم ،وهذا إنما يتحقق في الطعن في النبي
،ولهذا ل يجب على الناس اليمان بولية الولي ،ويجب عليهم اليمان
بنبوة النبي.
ب لله ورسوله فخروجه من السادس :أن ساب الولي لو فرض أنه محار ٌ
ل أوجبه ل يوجب أن يخرج هذا الساب للرسول ،لن اللفظ العام لدلي ٍ
م إذا خصت منه صورةٌ لم تخص الفرق بين العداوتين ظاهر ،والقول العا ّ
ل آخر. منه صورةٌ أخرى ل تساويها إل بدلي ٍ
السابع :أن حمله على المحاربة باليد متعذ ٌّر أيضا ً في حق الولي ،فإن من
عاداه بيده لم يوجب ذلك أن يدخل في حكم الية على الطلق ـ مثل أن
يضربه ونحو ذلك ـ فل فرق إذا ً في حقه بين المعاداة باليد واللسان ،بخلف
ن فإنه يمكن دخوله في النبي فإنه ل فرق بين أن يعاديه بيدٍ أو لسا ٍ
الية ،وذلك مقرر الستدلل كما تقدم.
ب للهِ ورسولهِ فهو أيضا ً ساٍع في الرض وإذا ثبت أن هذا الساب محار ٌ
فسادًا ،لن الفساد نوعان :فساد الدنيا من الدماء والموال والفروج،
ب الرسول ويقع في عرضه يسعى ليفسد على وفساد الدين ،والذي يس ّ
الناس دينهم ،ثم بواسطة ذلك يفسد عليهم دنياهم ،وسواٌء فرضنا أنه أفسد
ن ِفي سعَوْ َعلى أحد دينه أو لو يفسد /لنه سبحانه وتعالى إنما قال :وَي َ ْ
ال َ
ب )على( المفعول له ،أي :ويسعون في ص ٌسادا ً) قيل :إنه ن َ ْ ض فَ َِ ر
ْ
سد َ ِفيَها وِي ُهْل ِكَ ض ل ِي ُْف ِ َ ّ الرض للفساد ،كما قال :وَإ ِ َ
سَعى ِفي الْر ِ ذا ت َوَلى َ
ساد َ) والسعي هو العمل والفعل ،فمن ب الَف َ ح ّه ل َ يُ ِ ل َوالل ُ س َث َوالن ّ ْ
حْر َ ال َ
سعى ليفسد أمر الدين فقد سعى في الرض فسادا ً وإن خاب سعيه،
ب على المصدر أو على الحال ،تقديره :سعى في الرض وقيل :إنه نص ٌ
ن) أو كما يقال :جلس قعودًا، َ
دي َس ِ
مْف ِ ض ُ وا ِفي الْر ِ مفسدا ً كقوله :وَل َ ت َعْث َ ْ
ل من عمل عمل ً يوجب الفساد ،وإن لم يؤثر لعدم قبول وهذا يقال لك ّ
63
الناس له وتمكينهم إياه ،بمنزلة قاطع الطريق إذا لم يقتل أحدا ً ولم يأخذ
ط إذا لم يقم عليه ل ،على أن هذا العمل ل يخلو من فسادٍ في النفوس ق ّ ما ً
د.
الح ّ
المحاربة ضد المسالمة
سلم كل
ف المسالمة ،والمسالمة :أن ي َ ْ الوجه الخامس :أن المحاربة خل ُ
سلم من يده أو لسانه فليس من المتسالمين من آذى الخر ،فمن لم ت َ ْ
ب.
بمسالم لك ،بل هو محار ٌ
محاربة الله ورسوله هي المغالبععة علععى خلف مععا أمععر اللععه بععه
ورسوله
ة الله ورسوله هي المغالبة على خلف ما أمر الله م أن محارب َ ومعلو ٌ
ل ،فمن سب الله ورسوله لم ة لذات الله ورسوله محا ٌ ورسوله ،إذ المحارب ُ
سَلم منه ،بل طعنه في رسول الله يسالم الله ورسوله ،لن الرسول لم ي َ ْ
ة لله ورسوله على خلف ما أمر الله به على لسان رسوله ،وقد مغالب ٌ
أفسد في الرض كما تقدم ،فيدخل في الية.
وقد تقدم في المسألة الولى أن هذا الساب محاد ّ لله ورسوله مشاقّ لله
ل من شاق الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ،ولن تعالى ورسوله ،وك ّ
ق ،ومنه سمي المحارب المحاربة والمشاقة سواٌء ،فإن الحرب هو الش ّ
محاربا ً وأما كونه مفسدا ً في الرض فظاهٌر.
ض للعهد ،فقد دل على أنه محاربة واعلم أن كل ما دل على أن السب نق ٌ
لله ورسوله ،لن حقيقة نقض العهد أن يعود الذمي محاربًا ،فلو لم يكن
بالسب يعود محاربا ً لما كان /ناقضا ً للعهد ،وقد قدمنا في ذلك من الكلم ما
ل يليق إعادته لما فيه من الطالة فليراجع ما مضى في هذا الموضوع،
ل ،فإن يبقى أنه سعى في الرض فسادًا ،وهذا أوضح من أن يحتاج إلى دلي ٍ
إظهار كلمة الكفر والطعن في المرسلين والقدح في كتاب الله ودينه
ب بينه وبين خلقه ل يكون أشد ّ منه فسادًا ،وعامة الي في ورسله وكل سب ٍ
كتاب الله التي تنهى عن الفساد في الرض ،فإن من أكثر المراد بها
الطعن في النبياء ،كقوله سبحانه عن المنافقين الذين يخادعون الله
دوا ِفي م ل َ ت ُْف ِ
س ُ ل ل َهُ ْ ذا قِي ْ َوالذين آمنوا وما يخدعون إل أنفسهم :وَإ ِ َ
َ َ
ن )،دو َ س ُمْف ِ
م ال ُم هُ ُ ن) ،قال تعالى :أل َ إ ِن ّهُ ْ حو َ صل ِ ُم ْ ن ُ ح ُ ض َقاُلوا إ ِن ّ َ
ما ن َ ْ الْر َ
ض ب َعْد َ َ وإنما كان إفسادهم نفاَقهم وكفَرهم ،وقوله :وَل َ ت ُْف ِ
دوا ِفي الْر ِ س ُ
ساد َ). ب الَف َ ح ّ ه ل َ يُ ِ
حَها) ،وقوله سبحانهَ :والل ُ صل َ ِ
إِ ْ
ن) ،وإذا كان هذا لمحاربا ً َ
دي َ س ِمْف ِ ل ال ُ ح وَل َ ت َت ّب ِعْ َ
سب ِي ْ َ وقوله سبحانه :وَ أ ْ
صل ِ ْ
لله ورسوله ساعيا ً في الرض فسادا ً تناولته الية وشملته.
65
ومما يقرر الدللة من الية أن الناس فيها قسمان :منهم من يجعلها
مخصوصة بالكفار من مرتد وناقض عهدٍ ونحوها ،ومنهم من يجعلها عامة
في المسلم المقيم على إسلمه وفي غيره ،ول أعلم أحدا ً خصها بالمسلم
المقيم على إسلمه ،فتخصيصها به خلف الجماِع ،ثم الذين قالوا إنها
ن ة ،قال كثير منهم قتادة وغيره :قوله :إل ّ ال ّذين تابوا من قَب َ
لأ ْ ِ ْ ْ ِ ِ َ َ ُ ِ ٌ عام ٌ
ة ،فمن أصاب من المشركين شيئا ً م) هذا لهل الشرك خاص ً ت َْقدُِروا عَل َي ْهِ ْ
ب ،فأخذ مال ً أو أصاب دما ً ثم تاب من قبل أن من المسلمين ،وهو لهم حر ٌ
يقدر عليه أهدر عنه ما مضى ،لكن المسلم المقيم على إسلمه محاربته
ب .أما المرتد إنما هي باليد ،لن لسانه موافقٌ مسالم للمسلمين غير محار ٍ
ة ،وباللسان أخرى ،ومن زعم أن اللسان ه باليدِ تار ً والناقض للعهد ،فمحاربت ُ
ة فالدلة المتقدمة في أول المسألة ـ مع ما ذكرناه هنا ـ ل تقع به محارب ٌ
ة[ ،على أن الكلم في هذا المقام إنما هو بعد أن تقرر ه ]محارب ٌ تدل على أن ُ
ض للعهد. ة ونق ٌ ب محارب ٌ أن الس ّ
ة لنواٍع من المفسدين ،والدللة منها ظاهرةٌ ة جامع ٌ واعلم أن هذه الية آي ٌ
ة لمن تأملها ،ل أعلم شيئا ً يدفعها. قوي ٌ
نذي َ فإن قيل :مما يدل على أن المحاربة هنا باليد /فقط أنه قال :إل ّ ال ّ ِ
م) إنما يكون هذا فيمن يكون ممتنعًا ،والشاتم تابوا من قَب َ
ل أن ت َْقدُِروا عَل َي ْهِ ْ ْ ِ ِ َ ُ
ليس ممتنعًا.
ه:
قيل :الجواب من وجو ٍ
أحدها :أن المستثنى إذا كان ممتنعا ً لم يلزم أن يكون المستبقى ممتنعًا،
ب بيدٍ أو لسان ،ثم استثنى منهم الممتنع م كل محار ٍ لجواز أن تكون الية تع ّ
إذا تاب قبل القدرة ،فيبقى المقدور عليه مطلقًا ،والممتنع إذا تاب بعد
القدرة.
ل من جاء تائبا ً قبل أخذه فقد تاب قبل القدرة عليه. الثاني :أن ك ّ
ع ،وقرأ: سئل عطاء عن الرجل يجيء بالسرقة تائبًا ،قال :ليس عليه قط ٌ
إل ّ ال ّذين تابوا من قَب َ
ع، ل من لم يؤخذ فهو ممتن ٌ م) ،وك ّ ل أن ت َْقدُِروا عَل َي ْهِ ْ ْ ِ ِ ِ َ َ ُ
ة ،وذلك لن الرجل وإن كان مقيما ً لسيما إذا لم ُيؤخذ ولم تقم عليه حج ٌ
حر ،فليس كل من فعل جرما ً فيمكنه الستخفاء والهرب كما يمكن المص ِ
حر أسهل من طلب المقيم ،إذا كان كان مقدورا ً عليه ،بل يكون طلب المص ِ
ة ،بخلف المقيم في المصر ،وقد يكون مٌر ول غياب ٌ خ َ ل يواريه في الصحراء َ
ل من تاب قبل أن يؤخذ المقيم له من يمنعه من إقامة الحد عليه ،فك ّ
ويرفع إلى السلطان فقد تاب قبل القدرة عليه.
وأيضًا ،فإذا تاب قبل أن يعلم به ويثبت الحد ّ عليه ،فإن جاء بنفسه فقد تاب
قبل القدرة عليه ،لن قيام البينة ـ وهو في أيدينا ـ قدرةٌ عليه ،فإذا تاب
قبل هذين فقد تاب قبل القدرةِ قطعًا.
66
الثالث :أن المحارب باللسان كالمحارب باليد قد يكون ممتنعًا ،وقد يكون
ب باليد ،مستضَعفا ً بين قوم ٍ كثيرين ،وكما أن الذي يخاطر بنفسه المحار ُ
ل فكذلك الذي ُيظهر الشتم ونحوه من الضرر بين بقتال قوم كثيرين قلي ٌ
قوم كثيرين قليل .وكما أن الغالب أن القاطع بسيفه إنما يخرج على من
يستضعفه ،فكذلك الساب ونحوه إنما يفعل ذلك في الغالب مستخفيا ً مع
من ل يتمكن من أخذه ورفعه إلى السلطان والشهادة عليه.
ومما يقرر الدللة الستدلل بالية من وجهين آخرين:
أحدهما :أنها قد نزلت في قوم ٍ ممن كفر وحارب بعد سلمه باتفاق الناس،
م على إسلمه، فيما علمناه ،وإن كانت نزلت أيضا ً فيمن حارب وهو مقي ٌ
ب ـ إما بأن يقطع الطريق على /المسلمين ،أو يستكره ي إذا حار َفالذم ّ
ة على نفسها ،ونحو ذلك ـ يصير به محاربًا ،وعلى هذا إذا تاب بعد مسلم ً
القدرة عليه لم يسقط عنه القتل الواجب عليه ،وإن كان هذا قد اختلف
ب للرسول أولى ،ول يجوز أن يخص فيه ،فإن العمدة على الحجة ،فالسا ّ
بمن قاتل لخذ المال ،فإن الصحابة جعلوه محاربا ً بدون ذلك وكذلك سبب
ل ،ولو كانوا قتلوا النزول الذي ذكرناه ليس فيه أنهم قتلوا أحدا ً لخذ ما ٍ
أحدا ً لم يسقط القود عن قاتله إذا تاب قبل القدرة ،وكان قد قتله وله عه ٌ
د،
م.كما لو قتله وهو مسل ٌ
وأيضًا ،فقطع الطرق إما أن يكون نقضا ً للعهد ،أو يقام عليه ما يقام على
المسلم مع بقاء العهد ،فإن كان الول فل فرق بين قطع الطريق وغيره
من المور التي تضر المسلمين ،وحينئذ فمن نقض العهد بها لم يسقط حده
ـ وهو القتل ـ إذا تاب بعد القدرة ،وإن كان الثاني لم ينتقض عهد الذمي
بقطع الطريق ،وقد تقدم الدليل على فساده ،ثم إن الكلم هنا إنما هو
ح المنع بعد التسليم. تفريع عليه ،فل يص ّ
الثاني :أن الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القدرة وبعدها ،لن الحدود إذا
ارتفعت إلى السلطان وجبت ولم يمكن العفو عنها ول الشفاعة فيها بخلف
ما قبل الرفع ،ولن التوبة قبل القدرة عليه توبة اختياٍر ،والتوبة بعد القدرة
ة المم ق ،وتوب ُ
توبة إكراه واضطرار ،بمنزلةِ توبةِ فرعون حين أدركه الغر ُ
ت الن، المكذبة لما جاءها البأس ،وتوبة من حضره الموت فقال :أني تب ُ
ب.
فلم يعلم صحتها حتى يسقط الحد ّ الواج ُ
َ
ولن قبول التوبة بعد القدرة لو أسقطت الحد لتعطلت الحدود ،وانبثق سد ّ
الفساد ،فإن كل مفسد يتمكن إذا أخذ أن يتوب ،بخلف التوبة قبل القدرة،
ة قد شهدها الشارع ن مناسب ٌفإنها تقطع دابر الشر من غير فساٍد ،فهذه معا ٍ
بالعتبار في غير هذا الصل ،فتكون أوصافا ً مؤثرةً أو ملئمة فيعلل الحكم
بها ،وهي بعينها موجودةٌ في الساب ،فيجب أن ل يسقط القتل عنه بالتوبة
ة منه ،وكذلك توبة كل كافر ،قال ـ سبحانه بعد الخذ ،لن إسلمه توب ٌ
صل َةَ) في موضعين ،والحد ّ قد وجب بالرفع، َ
وتعالى ـ :فَِإن َتاُبوا وَأَقا ُ
موا ال ّ
67
ل للحد ،ول ينتقض هذا علينا وهذه توبة إكراه /واضطرار ،وفي قبولها تعطي ٌ
بتوبة الحربي الصلي ،فإنه لم يدخل في هذه الية ،ولنه إذا تاب بعد السر
لم يخل سبيله ،بل ُيسترق وُيستعبد ،وهو إحدى العقوبتين اللتين كان يعاَقب
ة ،فلم يسقط ة واحد ٌبإحداهما قبل السلم ،والساب لم يكن عليه إل عقوب ٌ
كقاطع الطريق ،والمرتد المجرد لم يسعَ في الرض فسادا ً فلم يدخل في
الية ،ول يرد نقضا ً من جهة المعنى ،لنا إنما نعرضه للسيف ليعود إلى
السلم ،وإنما نقتله لمقامه على تبديل الدين ،فإذا أظهر العادة إليه حصل
المقصود الذي يمكننا تحصيله ،وزال المحذور الذي يمكننا إزالته وإنما
تعطيل هذا الحد أن ُيترك على ردته غير مرفوٍع إلى المام ،ولم يقدح كونه
مكَرها ً بحق في غرضنا ،لنا إنما طلبنا منه أن يعود إلى السلم طوعا ً أو
كرهًا ،كما لو قاتلناه على الصلة أو الزكاة فبذلها طوعا ً أو كرها ً حصل
ب ونحوه من المؤذين إنما نقتلهم لما فعلوه من الذى مقصودنا ،والسا ّ
والضرر ،ل لمجرد كفرهم ،فإنا قد أعطيناهم العهد على كفرهم ،فإذا أسلم
بعد الخذ زال الكفر الذي لم يعاقب عليه بمجرده.
70
أحوال المعاهد:
خّلى سبيله ،لكن م َ أحدها :أن يستقيم لنا ،فنستقيم له كما استقام ،فيكون ُ
ليس أخا ً في الدين.
الحال الثانية :أن يتوب من الكفر ،ويقيم الصلة ،ويؤتي الزكاة ،فيصيُر أخا ً
في الدين ،ولهذا لم يقل هنا فخلوا سبيلهم كما قال في الية قبلها ،لن
ك[ في توبة المحارب ،وتوبته توجب تخلية سبيله ،وهنا الكلم الكلم ]هنا َ
خّلى ،وإنما توبته توجب أخوته في م َ في توبة المعاهد ،وقد كان سبيله ُ
ن).
مو َ ت ل َِقوْم ٍ ي َعْل َ ُ صل الَيا ِ الدين ،قال سبحانه :ون َُف ّ
وذلك أن المحارب إذا تاب وجب تخلية سبيله ،إذ حاجته إنما هي إلى ذلك
وجاز أن يكون قد تاب خوف السيف ،فيكون مسلما ً ل مؤمنًا ،فأخوته
بت ال َعَْرا ُ اليمانية تتوقف على ظهور دلئل اليمان كما قال تعالىَ :قال َ ِ
منا َ) والمعاهد إذا تاب فل ملجأ له إلى َ
سل َ ْ
ن ُقوُلوا أ ْ مُنوا وَل َك ِ ْ م ت ُؤْ ِ ل لَ ْ مّنا قُ ْ آ َ
التوبة /ظاهرًا ،فإنا لم نكرهه على التوبة ،ول يجوز إكراهه ،فتوبته دلي ٌ
ل
ة ،فيكون أخًا. على أنه تاب طائعًا ،فيكون مسلما ً مؤمنًا ،والمؤمنون إخو ٌ
الحال الثالثة :أن ينكث يمينه بعد عهده ويطعن في ديننا ،فأمر بقتاله ،وبّين
ن ،والمقصود من قتاله أن ينتهي عن النقض َ
ن ول إيما ٌ أنه ليس له أيما ٌ
والطعن ،ل عن الكفر فقط ،لنه قد كان معاهدا ً مع الكفر ،ولم يكن قتاله
جائزًا ،فعلم أن النتهاء من مثل هذا عن الكفر ليس هو المقصود بقتاله،
وإنما المقصود بقتاله :انتهاؤه عن ما يضر به المسلمين من نقض العهد
والطعن في الدين ،وذلك ل يحصل إل بقتل الواحد الممكن ،وقتال الطائفة
الممتنعة قتال ً يعذبون به ويخزون وينصر المؤمنون عليهم ،إذ تخصيص
ل على انتفائها في الحال الخرى. ل دلي ٌ التوبة بحا ٍ
ة ـ بعد أن أمر بما يوجب ة مستقل ٌ وذكره ـ سبحانه ـ التوبة بعد ذلك جمل ٌ
ل على أن توبة مثل هؤلء لبد تعذيبهم وخزيهم وشفاء الصدور منهم ـ دلي ٌ
معها من النتقام منهم بما فعالوا ،بخلف توبة الباقي على عهده ،فلو كان
ة عن النتقام ،وللزم ة خالي ً توبة المأخوذ بعد الخذ ُتسقط القتل لكانت توب ً
أن مثل هؤلء ل يعذبون ول يخزون ول ُتشفى الصدور منهم ،وهو خلف ما
ُأمر به في الية ،وصار هؤلء الذين نقضوا العهد وطعنوا في الدين كمن
ارتد وسفك الدماء ،فإن كان واحدا ً فلبد من قتله ،وإن عاد إلى السلم،
وإن كانوا ممتنعين قوتلوا ،فمن تاب بعد ذلك منهم لم يقتل ،والله سبحانه
أعلم.
ت سّيئا ِ ن ال ّ مُلو َ ن ي َعْ َ ذي َ ة ل ِل ّ ِ ت الت ّوْب َ ُ س ِ الطريقة الثالثة :قوله سبحانه :وَل َي ْ َ
ما َرأ َْوا ن) وقوله تعالى :فَل َ ّ ت ال َ ل إ ِّني ت ُب ْ ُ ت َقا َ مو ْ ُ
م ال َ حد َهُ ُ
َ
ضَر أ َ ح َ ذا َ حّتى إ ِ َ َ
ْ
م
ك َينَفعُهُ ْ م يَ ُ ن فَل َ ْ كي َشرِ ِ م ْ ما ك ُّنا ب ِهِ ُ حد َهُ وَك ََفْرَنا ب ِ َ مّنا ِباللهِ وَ ْ سَنا َقاُلوا آ َ ب َأ َ
َ إيمانهم ل ِما رأ َوا بأ ْسنا) ،وقوله تعالى :حتى إ َ َ
ه
ت أن ّ ُ من ُ لآ َ ه الغََرقُ َقا َ ذا أد َْرك َ ُ َ َ ّ ِ ِ َ ُُ ْ ّ َ ْ َ َ َ
تصي ْ َ ن وَقَد ْ عَ َ ن آل َ مي َ سل ِ ِ م ْ ن ال ُ م َل وَأَنا ِ سَراِئي َ ت ب ِهِ ب َُنو إ ِ ْ من َ ْ ذي آ َ ه إ ِل ّ ال ّ ِ ل إ ِل َ َ
71
ت فَن ََفعََها من َ ْ ت قَْري َ ٌ
ةآ َ ن) وقوله تعالى :فَل َوْل َ َ
كان َ ْ دي َ
س ِ
مْف ِ
ن ال ُ م َ ت ِكن َ ل وَ ُ قَب ْ ُ
م ُيوُنس) .وقد تقدم تقرير الدللة من هذه اليات في قتل مان َُها إ ِل ّ قَوْ َِإي َ
المنافق ،وذكرنا /الفرق بين توبة الحربي والمرتد المجّرد ،وتوبة المنافق
والمفسد من المعاهدين ونحوهما ،وفّرقنا بين التوبة التي تدرأ العذاب
والتوبة التي تنفع في المآب.
ه
م الل ُ ه ل َعَن َهُ ُ سول َ ُ
ه وََر ُ ن الل َذو َ ن ي ُؤْ ُذي َ ن ال ّ ِالطريقة الرابعة :قوله سبحانه :إ ّ
ة) اليات ،وقد قررنا فيما مضى أن هذه الية تدل على خَر ِِفي الد ّن َْيا َوال ِ
ل على قتل من أظهر الذى من قتل المؤذي من المسلمين مطلقًا ،وهي تد ّ
ة للتقتيل كما في تمام الكلم ،وقد أهل الذمة ،لن اللعنة المذكورة موجب ٌ
تقدم تقرير هذا.
جد َ
ن تَ ِ ه فَل َ ْ ن الل ُ ْ
من ي َلعَ ِ ه وَ َم الل ُ ن ل َعَن َهُ ُ
ذي َ وذكرنا أن قوله تعالى :أ ًوْل َئ ِ َ
ك ال ّ ِ
صيرا ً) نزلت في ابن الشرف لما طعن في دين السلم ،وقد كان عاهد ه نَ ِ لَ ُ
النبي ،فانتقض عهده بذلك ،وأخبر الله أنه ليس له نصير ،ليبين أن ل
ذمة له ،إذ الذمي له نصيٌر.
النفاق قسمان
والنفاق قسمان :نفاق المسلم استبطان الكفر ،ونفاق الذمي استبطان
ي بالمحاربة ،فمن عاهدنا على م المسلم بالكفر كتكلم الذم ّ ة ،وتكل ُ المحارب ِ
أن ل يؤذي الله ورسوله ثم نافق بأذى الله ورسوله فهو من منافقي
المعاهدين ،فمن لم ينته من هؤلء المنافقين أغرى الله نبيه بهم ،فل
ل ،ففي اليةل ،ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتي ًيجاورونه إل قلي ً
دللتان:
إحداهما :أن هذا ملعون ،والملعون هو الذي يؤخذ أين وجد وُيقتل ،فعلم أن
ن حال ً من الحوال كما استثنى في سائر الصور، م ،لنه لم يستث ِ قتله حت ٌ
ه ،والله ل يخلفولنه قال )قُّتلوا( وهذا وعد ٌ من الله لنبيه يتضمن نصر ُ
الميعاد ،فعلم أنه لبد من تقتيلهم إذا ُأخذوا ،ولو سقط عنهم القتل بإظهار
السلم لم يتحقق الوعد مطلقًا.
الثانية :أنه يجعل انتهاءهم النافع قبل الخذ والتقتيل ،كما جعل توبة
المحاربين النافعة لهم قبل القدرة عليهم ،فعلم أنهم إن انتهوا عن إظهار
النفاق من الذى ونحوه النفاق في العهد والنفاق في الدين وإل أغراه الله
بهم حتى ل يجاورونه في البلد ملعونين يؤخذون ويقتلون ،وهذا الطاعن
الساب لم ينته حتى أخذ ،فيجب تقتيله.
ُ
ة ،وهو أن الذي يؤذي المؤمنين من مسلم أو معاهدٍ إذا أخذ ة ثالث ٌ
وفيها دلل ٌ
أقيم عليه حد ّ ذلك الذى ،ولم تدرأه عنه التوبة الن /فالذي يؤذي الله
ن[ حاله أقبح في الدنيال على ]أ ّورسوله بطريق الولى ،لن الية تد ّ
والخرة.
72
الطريقة الخامسة :أن ساب النبي ُ يقتل حدا ً من الحدود ،ل لمجرد
ل وجب حدا ً ل لمجرد الكفر فإنه ل يسقط بالسلم. ل قت ٍ الكفر ،وك ّ
ي على مقدمتين: وهذا الدليل مبن ّ
إحداهما :أنه ُيقتل لخصوص سب رسول الله المستلزم للردة ونقض
العهد ،وإن كان ذلك متضمنا ً للقتل لعموم ما تضمنه من مجرد الردة
ومجرد نقض العهد في بعض المواضع ،والدليل على ذلك أنه قد تقدم أن
النبي أهدر دم المرأة الذمّية التي كانت تسبه عند العمى الذي كان
يأوي إليها ،ول يجوز أن يكون قتلها لمجرد نقض العهد ،لن المرأة الذمية
إذا انتقض عهدها فإنها ُتسترق ول يجوز قتلها ،ول يجوز قتل المرأة للكفر
ل ة على قتا ٍ معين ً الصلي إل أن تقاتل ،وهذه المرأة لم تكن تقاتل ،ولم تكن ُ
م أسرت صارت رقيقة ولم تقتل عند ل ثُ ّكما تقدم ،ثم إنها إذا كانت تقات ُ
ة
كثير من الفقهاء منهم الشافعي ـ رضي الله عنه ـ ،ل سيما إن كانت رقيق ً
ة لمسلم ،فثبت أن قتلها كان ن قتلها يمتنع لكونها امرأةً ولكونها رقيق ً فإ ّ
ل ،كما لو ة من الجنايات الموجبةِ للقت ِ ه جناي ٌ لخصوص السب للنبي ،وأن ُ
ة أو قطعت الطريق على المسلمين أو قتلت مسلمًا ،أو زنت المرأة الذمي ُ
ة ،بل هذا دلت دين الحق عند أكثر الفقهاء الذين يقتلون المرتد َ كما لو ب ّ
بسن ّةِ المأثورةِ الخاصةِ في ك ُت ُ ِ ل[ المرتدةِ من ال ّ غ ،لنه ليس ]َفي قَت ْ ِ أبل ُ
ة.
ن المشهورة مثل الحديث الذي في قتل السابةِ الذمي ّ ِ سن َ ِ ال ّ
يوضح ذلك أن بني قريظة نقضوا العهد ،ونزلوا على حكم سعد ابن معاذ،
فحكم فيهم بأن تقتل مقاتليهم ،وتسبى الذرية من النساء والصبيان ،فقال
َ
ة" ثم قتل النبي سب ْعَةِ أْرقِعَ ٍ
ق َ ن فَوْ ِ
م ْحك ْم ِ اللهِ ِم بِ ُ
ت فِي ْهِ ْ م َ حك َ ْي " :ل ََقد ْ َ النب ّ
ة ،ولم يقتل من النساء إل امرأةً واحدةً الرجال ،واسترق النساء والذري َ
ل من المسلمين ،/ففرق ى من فوق الحصن على رج ٍ كانت قد ألقت رح ً
بين الذرية التي لم يثبت في حقهم إل مجرد انتقاض العهد وبين الذرية
الذين نقضوا العهد بما يضر المسلمين ،وهذه المرأةُ الذمية لم ينتقض
عهدها بأنها لحقت بدار الحرب وامتنعت عن المسلمين ،وإنما نقضت العهد
صد ّ بأن ضّرت المسلمين ،وآذت الله ورسوله ،وسعت في الرض فسادا ً بال ّ
عن سبيل الله والطعن في دين الله ،كما فعلت المرأة الملقية للرحى،
ة حتى يقال: فُعلم أنها لم تقتل لمجرد انتقاض العهد ،وهي لم تكن مسلم ً
إنها ُقتلت للردة ،ول هي أيضا ً بمنزلة امرأةٍ قاتلت ثم ُأسرت حتى يقال:
ة بنفس السبي ل تقتل ،أو يقال :يجوز قتلها كما قتل الرجل ،إذا تصيُر رقيق ً
صم السلم الدم ،وبقيت رقيقة لوجهين: أسلمت عَ َ
معه للمشركين ول س ِ
أحدهما :أن هذا السب الذي كانت تقوله لم تكن ت ُ ْ
لعموم المسلمين حتى يقال :هو بمنزلة إعانة الكفار على القتال من كل
ه.
وج ٍ
73
ة مقدوٌر
الثاني :أنها لم تكن ممتنعة حين السب ،بل هي حين السب ممكن ٌ
عليها ،وحالها قبله وبعده سواٌء.
ُ
حَرابا ً لكنه لم يصدر من ممتنعةٍ أسرت بعد ذلك ،بل من ب وإن كان ِفالس ّ
م أن السب من امرأةٍ ملتزمةٍ للحكم ،بيننا وبينها العهد على الذمة ،ومعلو ٌ
المور المضرة للمسلمين ،وأنه من أبلغ الفساد في الرض ،لما فيه من ذل
باليمان وعز الكفر ،وإذا ثبت أنها لم ُتقتل للكفر ول لنقض العهد ول لحرا ٍ
أصلي متقدم ٍ على القدرة عليها ثبت أن قتلها حد ّ من الحدود ،والقتل
الواجب حدا ً ل لمجرد الكفر ل يسقط بالسلم كحد ّ الزاني والقاطع والقاتل
وغيرهم من المفسدين.
75
ة ،والذى لله ل على أنه عل ٌ فإن ذكر الوصف بعد الحكم /بحرف الفاء دلي ٌ
ب الردة. د ،ويوج ُ ض العه ِ ب نق َ ب القتل ،ويوج ُ ورسولهِ يوج ُ
يوضح ذلك أن أذى الله ورسوله لو كان إنما أوجب قتله لكونه كافرا ً غير
ذي عهد ٍ لوجب تعليل الحكم بالوصف العم ،فإن العم إذا كان مستقل ً
علم أنه ص ُ بالحكم كان الخص عديم التأثير ،فلما علل قتله بالوصف الخ ّ
مؤثٌر في المر بقتله ،ل سيما في كلم من ُأوتي جوامع الكلم ،وإذا كان
المؤثر في قتله أذى الله ورسوله وجب قتله وإن تاب ،كما ذكرناه فيمن
سب النبي من المسلمين ،فإن كلهما أوجب قتله أنه آذى الله ورسوله،
وهو مقّر للمسلمين بأن ل يفعل ذلك ،فلو كان عقوبة هذا المؤذي تسقط
سول َ ُ
ه ه وََر ُ ن الل َ ذو َ ن ي ُؤْ ُ ذي َ ن ال ّ ِ بالتوبة سقطت عنهما ،ولنه قال سبحانه :إ ِ ّ
مهِْينا ً) وقال في خصوص هذا َ
ذابا ً ُ م عَ َ خَرةِ وَأعَد ّ ل َهُ ْ ه ِفي الد ّن َْيا وَ ال ِ م الل ُ ل َعَن َهُ ُ
صيرا ً) ،وقد ه نَ ِ جد َ ل َ ُن تَ ِ ه فَل َ ْ ن الل ُ َ ع ن ي َل َْ م
َ َ و ه
ُ الل م
ُ ُ ه َ نَ عن لَ
َ ذيِ ك ال ّ
َ ِ ئالمؤذي :أ ُل َ
ِ
أسلفنا أن هذه اللعنة توجب القتل إذا أخذ ،ولنه سبحانه ذكر الذين يؤذون
سُبواما اك ْت َ َ ت ب ِغَي ْرِ َ مَنا ِ مؤ ْ ِن َوال ُ مِني َ مؤ ْ ِ ن ال ُ ذو َ ن ي ُؤْ ُ الله ورسوله ثم قالَ :وال ّ ِ
ذي َ
مِبينا ً) ،ول خلف علمناه أن الذين يؤذون المؤمنين مُلوا ب ُْهتانا ً وَإ ِْثما ً ُ فََقد ْ ا ْ
حت َ َ
والمؤمنات ل تسقط عقوبتهم بالتوبة ،فالذين يؤذون الله ورسوله أحق
وأولى ،لن القرآن قد بين أن هؤلء أسوأ حال ً في الدنيا والخرة ،فلو
أسقطنا عنهم العقوبة بالتوبة لكانوا أحسن حا ً
ل.
ة ،وهو أن يقول :هذا قد تغلظت عقوبته ة واحد ٌ وليس للمنازع هنا إل كلم ٌ
ل توبته من الكفر، بالقتل ،لنه نوعٌ من المرتدين ،وناقض العهد والكافُر تقب ُ
وتسقط عنه العقوبة ،بخلف المؤذي بالفسق.
ة على فيقال له :هذا لو كان الموجب لقتله إنما هو الكفر ،وقد دلت السن ُ
ص من عموم الكفر، )أن( الموجب لقتله إنما هو أذى الله ورسوله ،وهذا أخ ّ
وكما أن الزنى والسرقة والشرب وقطع الطريق أخص من عموم
سَبته المعصية ،والشارع رتب المر بالقتل على هذا الوصف الخص الذي /ن ِ ْ
ة أذى المؤمنين إلى سائر أنواع المعاصي، إلى سائر أنواع الكفر نسب ُ
فإلحاق هذا النوع بسائر النواع جمعٌ بين ما فّرق الله )بينه( ورسوله ،وهو
بمن القياس الفاسد كقياس الذين قالوا :إنما البيعُ مثل الربا ،وإنما الواج ُ
أن يوفر على كل نوع حظه من الحكم بحسب ما علقه به الشارع من
السماء والصفات المؤثرة الذي دل كلمه الحكيم على اعتبارها ،وتغلظ
عقوبته ابتداًء ل يوجب تخفيفها انتهاًء ،بل يوجب تغلظها مطلقا ً إذا كان
م عظيمًا ،وسائر الكفار لم تغلظ عقوبتهم ابتداًء ،ول انتهاًء مثل هذا، الجر ُ
فإنه يجوز إقرارهم بجزيةٍ واسترقاقهم في الجملة ،ويجوز الكف عنهم مع
القدرة لمصلحة ترتقب ،وهذا بخلف ذلك.
وأيضًا ،فإن الموجب لقتله إذا كان هو أذى الله ورسوله كان محاربا ً لله
ورسوله وساعيا ً في الرض فسادًا ،وقد أومأ النبي إلى ذلك في حديث
76
ابن الشرف كما تقدم وهذا الوصف قد رتب عليه من العقوبة ما لم يرتب
على غيره من أنواع الكفر ،وتحّتمت عقوبة صاحبه إل أن يتوب قبل القدرة.
77
أحدهما :أن النبي قد كان عاهد أهل مكة ،والظاهر أن عهده انتظم
ل على ذلك، الكف عن الذى باللسان ،فإن في كثيرٍ من الحديث ما يد ّ
ه نقضن العهد نقضا ً خاصا ً بهجائهن ،فكان للنبي وحينئذٍ فهؤلء اللواتي هجون ُ
ة.ة المسأل ِ
ن ،وهذهِ ترجم ُ قتلهن بذلك وإن ت ُب ْ َ
من هجاه إذا لم يتب متى قدر عليه ،وإن كان الثاني :أنه كان له أن /يقتل َ
حربي ًّا ،لكن سقط هذا بموته كما يسقط بموته العفو عن المسلم والذمي
الساب ،ويكون قد كان أمر الساب هو مخي ٌّر فيه مطلقا ً لكونه أعلم
ب ،وكان الحربي الساب بالمصلحة ،فإذا مات تحتم قتل من التزم أن ل يس ّ
كغيره من الحربيين إذا تاب.
ل ،والول جارٍ على القياس، ف ،فإنه إثبات حكم ٍ باحتما ٍ وهذا الوجه ضعي ٌ
ُ
ومن تأمل قصة الذين أهدرت دماؤهم عام الفتح علم أنهم كلهم كانوا
محاربين لله ورسوله ساعين في الرض فسادًا.
78
الذى وحده سبب يوجب القتل ل لكونه من جنس القتال لن النبي قد
آمن الذين قاتلوه بالنفس والموال من الرجال.
فأمان المرأة التي أتت بما يشبه القتال أولى لو كان جرمها من جنس
القتال ،ولن المرأة إذا قاتلت في غزوةٍ من الغزوات ثم غزا المسلمون
ن لم يجز قتلها عند أحد من غزوة وعلموا أنها لم تقاتل فيها بيدٍ ول لسا ٍ
المسلمين علمناه ،وهؤلء النسوة كان أذاهن متقدما ً على فتح مكة ،ولم
ن مستسلمات منقادات ن ،بل ك ّ يكن لهن في غزو الفتح معونة بيدٍ ول لسا ٍ
لو علمن أن إظهار السلم يعصم دماءهن لبادرن إلى إظهاره ،فهل يعتقد
أحد ٌ أن مثل هذا المرأة ُتقتل لكونها محاِربة خصوصا ً عند الشافعي فإن
منصوصه أن قتل المرأة والصبي إذا قاتل بمنزلة قتل الصائل من
المسلمين يقصد به دفعهما وإن أفضى إلى قتلهما ،فإذا انكفا بدون القتل
ك للقتال ونحو ذلك لم يجز قتلهما ،كما ل يجوز قتل الصائل. لسرٍ أو تر ٍ
ل من كان يؤذيه ويهجوه من النساء ،وقد تركن ذلك فإذا كان يأمر بقت ِ
واستسلمن وربما كن يوددن أن ي ُظ ِْهرن السلم إن كان عاصمًا ،وقد آمن
د، ب لحل دم ك ّ
ل أح ٍ ل موج ٌ ب مستق ّ المقاتلين كلهم ،علم أن السب سب ٌ
ة وعجٌز.وأن تركه ذِل ّ ٌ
ُيؤيد ذلك أن النبي آمن أهل مكة إل من قاتل ،إل هؤلء النفر فإنه أمر
بقتلهم قاَتلوا أو لم يقاِتلوا ،فعلم أن هؤلء النسوة ُقتلن لجل السب ،ل
لجل أنهن يقاتلن.
فجمع بين خرق العرض وسفك الدم ،فعلم أنه مما يؤخذ به وإن أسلم،
ولول أن قتله كان ممكنا ً بعد إسلمه لم يحتج إلى هذا النكار والعتذار.
ويؤيد ذلك أن النبي لم ينذر دم واحدٍ بعينهِ من بني بكرِ الناقضي العهدِ
إل هذا ،مع أنهم فعلوا تلك الفاعيل ،فعلم أن خرق عرضه كان أعظم من
د ،وقد تقدم الحديث بدللته ،وإنما نبهنا نقض العهد بالمقاتلة والمحاربةِ بالي ِ
ة على ما مضى. عليه هنا إحال ً
87
م َ جعَل َْنا َ
مْري َ َ ن َ سى ب ْ َ عي ْ َ
ةَ، يا ِ ب ب ُِقوّ ٍ خذِ الك َِتا َ حيى ُ ضَ، يا ي َ ْ ة ِفي الْر ِ خِليَف ً ك َ َ
ك وَعََلى َوال ِد َت ِ َ مِتي عَل َي ْ َ َ َ
ك. م اذ ْك ُْر ن ِعْ َ مْري َ َ ن َ سى ب ْ َ عي َ سَ، يا ِ ت ِللّنا ِ ت قُل ْ َ أأن ْ َ
ومن ذلك :أنه حّرم التقدم بين يديه بالكلم حتى يأذن ،وحّرم رفع الصوت
فوق صوته ،وأن يجهر له بالكلم كما يجهر الرجل للرجل ،وأخبر أن ذلك
ل على أنه قد يقتضي الكفر ،لن العمل ل سبب حبوط العمل ،فهذا يد ّ
يحبط إل به ،وأخبر أن الذين يغضون أصواتهم عنده هم الذين خلصت
قلوبهم للتقوى ،وأن الله يغفر لهم ويرحمهم ،وأخبر أن الذين ينادونه وهو
في منزله ل يعقلون ،لكونهم رفعوا أصواتهم عليه ،ولكونهم لم يصبروا
حتى يخرج ،ولكن أزعجوه إلى الخروج.
ح أن يعامل به بعضهم ومن ذلك :أنه حرم على المة أن يؤذوه بما هو مبا ٌ
ن ل َك ُ ْ
م كا َ ما َ ]ب َْعضًا[ تمييزا ً له ،مثل نكاح أزواجه من بعده ،فقال تعالى :وَ َ
َ َ َ َ
عن ْد َ ن ِ كا َ م َ ن ذ ّل ِك ُ ْن ب َعْدِهِ أَبدا ً إ ّ م ْه ِ ج ُحوا أْزَوا َ ل اللهِ وَل َ أن ت َن ْك ِ ُ سو َ ذوا َر ُ ن ت ُؤْ ُأ ْ
ظيما ً. اللهِ عَ ِ
ت في التحريم وأوجب على المة لجله احترام أزواجه ،وجعلهن أمها ٍ
م والحترام ،فقال سبحانه وتعالى :النبي أ َوَلى بالمؤْمِنين م َ
سه ِ ْ ن أن ُْف ِ ِ ُ ِ َ ِ ْ ِّ ّ ْ
م. وأ َزواج ُ
مَهات ُهُ ْ هأ ّ َ ْ َ ُ ُ
ع، ب واس ٌ وأما ما أوجبه من طاعته والنقياد لمره والتأسي بفعله فهذا با ٌ
لكن ذاك قد يقال :هو من لوازم الرسالة ،وإنما الغرض هنا أن ننبه على
بعض ما أوجبه الله من الحقوق الواجبة والمحرمة على المة مما يزيد على
لوازم الرسالة ،بحيث يجوز أن يبعث الله رسول ً ول يوجب له هذه الحقوق.
ومن كرامته المتعلقة /بالقول :أنه فرق بين أذاه وأذى المؤمنين فقال
َ
خَرةِ وَأعّد ّ ه ِفي الد ّن َْيا َوال ِ م الل ُ ه ل َعَن َهُ ُسول َ ُ ه وََر ُ ن الل َ ذو َ ن ي ُؤْ ُذي َ ن ال ّ ِ تعالى :إ َ ّ
سُبوا فََقد ْ ما اك ْت َ َ ت ب َغَي ْرِ َ مَنا ِ مؤ ْ ِن وال ُ مني َ مؤ ْ ِ
ن ال ُ ذو َ ن ي ُؤْ ُ ذي َ مِهينا ً َوال ّ ِ ذابا ً ُ م عَ َ ل َهُ ْ
مِبينا ً. مُلوا ب ُهَْتانا ً وَإ ِْثما ً ُ حت َ َا ْ
وقد تقدم في هذه الية ما يدل على أن حد من سبه القتل ،كما أن حد ّ من
د. سب غيره الجل ُ
ومن ذلك :أن الله رفع له ذكره فل يذكر الله ـ سبحانه ـ إل ذكر معه ،ول
ة ول تشهد ُ حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله ،وأوجب ذكره ح للمة خطب ٌ تص ّ
س السلم ،وفي الذان ة ،وفي الشهادتين اللتين هما أسا ُ في كل خطب ٍ
الذي هو شعار السلم ،وفي الصلة التي هي عماد الدين ،إلى غير ذلك
من المواضع.
هذا ،إلى خصائص له ُأخر يطول تعدادها.
م أن سابه ومنتقصه قد ناَقض اليمان به ،وناَقض وإذا كان كذلك فمعلو ٌ
تعزيره وتوقيره ،وناَقض رفع ذكره ،وناَقض الصلة عليه والتسليم ،وناَقض
تشريفه في الدعاء والخطاب ،بل قابل أفضل الخلق بما ل يقابل به إل شر
الخلق.
88
يوضح ذلك أن مجرد إعراضه عن اليمان به يبيح الدم مع عدم العهد،
وإعراضه عن هذه الحقوق الواجبة يبيح العقوبة ،فهذا بمجرد سكوته عن
ب والنتقاص م والس ّ تشريفه وتكريمه ،فإذا أتى بضد ذلك من الذ ّ
والستخفاف فل بد أن يوجب ذلك زيادةً على الذم والعقاب ،فإن مقادير
العقوبات على مقادير الجرائم ،أل ترى أن الرجل لو قتل رجل ً اعتباطا ً
لكان عقوبته القود ،وهو التسليم إلى ولي المقتول ،فإن انضم إلى ذلك
قتله لخذ المال مجاهرة صارت العقوبة تحتم القتل ،فإن انضم إلى ذلك
أخذ المال عوقب مع ذلك بالصلب ،وعوقب عند بعض العلماء أيضا ً بقطع
ة ل يوجب إل قطع اليد فقط، اليد والرجل حتمًا ،مع أن أخذ المال سرق ً
وكذلك لو قذف عبدا ً أو ذميا ً أو فاجرا ً لم يجب عليه إل التعزيُر ،فلو قذف
ع
م َ ب عََليهِ َ ج ُ ه ل َ يَ ِ
م ،فلو قيل :أن ّ ُ حرا ً مسلما ً عفيفا ً لوجب عليه الحد ّ التا ّ
ه، ذي ب َي ْن ََنا وَب َي ْن َ ُ ك العَهْد َ ال ِ ن ب ِهِ أ َوْ ت ََر َ
ما َلي َ
كا ِ ن ت ََر َ
م ْب عََلى َ
ج ُ ك إ ِل ّ َ
ما ي َ ِ ذ َل ِ َ
لسوى بين الساكت عن ذمه وسبه والمبالغ /في ذلك ،وهذا غير جائزٍ كما
أنه غير جائز التسوية بين الساكت عن مدحه والصلة عليه والمبالغ في
ة مع أنه مه وأذاه عقوب ً ذلك ،ولزم من ذلك أن ل يكون لخصوص سبه وذ ّ
ل قطعًا. من أعظم الجرائم ،وهذا باط ٌ
م أن ل عقوبة فوق القتل ،لم تبق الزيادة على ذلك إل تعين قتله و ومعلو ٌ
تحتمه تاب أو لم يتب كحد ّ قاطع الطريق ،إذ ل نعلم أحدا ً أوجب أن يجلد
ة لخصوص السب كانت لخصوص السب ،ثم يقتل للكفر إذا كانت العقوب ُ
ة ظاهرهٌ قد دل على صحتها دللت النصوص حدا ً من الحدود ،وهذه مناسب ٌ
ب موجبا ً للقتل ،والعلة إذا ثبتت بالنص أو باليماء لم السالفة من كون الس ّ
ل يقاس عليه الفرع ،وبهذا يظهر أنا لم نجعل خصوص السب تحتج إلى أص ٍ
موجبا ً للقتل إل بما دل عليه من الكتاب والسنة والثر ،ل لمجرد
الستحسان والستصلح كما زعمه من لم يحظ بمآخذ الحكام ،على أن
ت وهو: الصل الذي يقاس به هذا الفرع ثاب ٌ
الطريقة السابعة عشرة :وذلك أنا وجدنا الصول التي دل عليها الكتاب أو
السنة أو إجماع المة حكمت في المرتد وناقض العهد حكمين ،فمن لم
يصدر منه إل مجرد الردة أو مجرد نقض العهد ثم عاد إلى السلم عصم
دمه ،كما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله ،وقد تقدم ذكر بعض ما
يدل على ذلك في المرتد ،وهو في ناقض العهد أيضا ً موجود بقوله في
شاءُ وبأن ن يِ َ م ْك عََلى َ ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ م ْ ه ِ ب الل ُ م ي َت ُوْ ُبعض من نقض العهد :ث َ ّ
عدوا النبي قبل إسلم من أسلم من بني بكرٍ وكانوا قد نقضوا العهد وَ َ
ش الذين أعانوهم على قتال على خزاعة فقتلوهم ،وقبل إسلم قري ٍ
ه على أن مجرد إسلمهم المسلمين حتى انتقض عهدهم بذلك ،ودلت سنت ُ ُ
كان عاصما ً لدمائهم ،وكذلك في حصره لقريظة والنضير مذكور أنهم لو
ف عنهم وقد جاء نفر منهم مسلمين فعصموا دماءهم وأموالهم، أسلموا لك ّ
89
منهم ثعلبة بن سعية ،وأسد بن سعية ،وأسد ابن عبيد ،أسلموا في الليلة
حكم رسول الله وخبرهم مشهوٌر ،ومن التي نزل فيها بنو قريظة على ُ
عاد َ إلى السلم لم تسقط تغلظت ردته /أو نقضه بما يضّر المسلمين إذا َ
عنه العقوبة مطلقًا ،بل يقتل إذا كان جنس ما فعله موجبا ً للقتل ،أو يعاقب
ن جَزاُء ال ّ ِ
ذي َ بما دونه إن لم يكن كذلك ،كما دل عليه قوله تعالى :إ ِن ّ َ
ما َ
سادا ً الية ،وكما دلت عليه َ
ض فَ َ
ن ِفي الْر ِ سعَوْ َ سول َ ُ
ه وَي َ ْ ه وََر ُ
ن الل َ
حارُِبو َ
يُ َ
ل ،وقصة خط َ ٍح ،وابن زنيم ،وفي قصة ابن َ سنته في قصة ابن أبي سر ٍ
مْقَيس بن صبابة وقصة العرنيين وغيرهم ،وكما دلت عليه الصول ِ
ق أو قتل مسلم ٍ أو زنى أو المقررة ،فإن الرجل إذا اقترن بردته قطع طري ٍ
غير ذلك ثم رجع إلى السلم أخذت منه الحدود ،وكذلك لو اقترن بنقض
ة
عهده الضرار بالمسلمين ،من قطع طريق أو قتل مسلم ٍ أو زنى بمسلم ٍ
فإن الحدود تستوفى منه بعد السلم :إما الحد ّ الذي يجب على المسلم لو
فعل ذلك ،أو الحد ّ الذي كان واجبا ً قبل السلم ،وهذا الرجل الساب قد
وجد منه قدٌر زائد ٌ على مجرد نقض العهد كما قدمنا من الضرار الذي صار
به أغلظ جرما ً من مجرد نقض العهد ،أو فعل ما هو أعظم من أكثر المور
المضرة كما تقدم فصار بمنزلة من قرن بنقض عهده أذى المسلمين في
ض وأشد ،وإذا كان كذلك فإسلمه ل يزيل عنه عقوبة هذا ل أو عر ٍ دم ٍ أو ما ٍ
الضرار كما دلت عليه الصول في مثله ،وعقوبة هذا الضرار قد ثبت أنه
القتل بالنص ،والسلم الطارئ ل يمنع ابتداء هذه العقوبة ،فإن المسلم لو
ابتدأ بمثل هذا قُِتل قتل ً ل يسقط بالتوبة كما تقدم.
وإذا لم يمنع السلم ابتداءها فأن ل يمنع بقاءها ودوامها أولى وأحرى ،لن
الدوام والبقاء أقوى من البتداء والحدوث في الحسيات والعقليات
والحكميات.
أل ترى أن العِد ّةَ والحرام والردة تمنع ابتداء النكاح ،ول تمنع دوامه،
ق ،ول يمنع دوامه ،ويمنع ابتداء وجوب القود وحد والسلم يمنع ابتداء الر ّ
القذف على المسلم إذا قتل أو قذف ذميًا ،ول يمنع دوامه عليه إذا أسلم
بعد القتل والقذف.
ب أن يسقط القتل ولو فرض أن السلم يمنع ابتداء قتل هذا ،فل يج ُ
بإسلمه ،لن الدوام أقوى من البتداء ،وجاز أن يكون بمنزلة /القود وحد
ق
القذف ،فإن السلم يمنع ابتداءه دون دوامه ،لسيما والسب فيه ح ّ
ة بعموم المسلمين ،فهو مثل القتل في ة متعلق ٌ ت ،وفيه جناي ٌ لدمي مي ٍ
المحاربةِ ليس حقا ً لمعين ،وإذا كان كذلك وجب استيفاؤه كغيره من
المحاربين المفسدين.
يحقق ذلك أن الذمي إذا قطع الطريق وقتل مسلما ً فهو يعتقد في دينه
جواز قتل المسلم وأخذ ماله ،وإنما حرمه عليه العهد الذي بيننا وبينه ،كما
أنه يعتقد جواز السب في دينه .وإنما حرم عليه العهد ،وقطع الطريق قد
90
ض ،كما أن سب الرسول ً ُيفعل استحل ً
ل ،وقد ُيفعل استخفافا بالحرمةِ لغر ٍ
ض ،فهو مثله من كل ً قد يفعل )استحل ً
ل ،وقد يفعل( استخفافا بالحرمة لغر ٍ
ن) ،ومفسده ه ،إل أن مفسدة ذلك في الدنيا ،ومفسدةُ هذا في الدي ِ وج ٍ
الدين( أعظم من مفسدة الدنيا عند المؤمنين بالله ،العالمين به وبأمره،
فإذا أسلم قاطع الطريق فقد تجدد منه إظهاُر اعتقاد تحريم دم المسلم
بوماله ،مع جواز أن ل يفي بموجب هذا العتقاد ،وكذلك إذا أسلم السا ّ
عرض الرسول مع جواز أن ل يفي بموجب فقد تجدد إظهار اعتقاد تحريم ِ
هذا العتقاد ،فإذا كان هناك يجب قتله بعد إسلمه ،فكذلك يجب قتله هنا
بعد إسلمه ،ويجب أن يقال :إذا كان ذلك ل يسقط حده بالتوبة بعد القدرة
فكذلك هذا ل يسقط حده بالتوبة بعد القدرة.
د ،كما أن قاطع ب مفس ٌ من أنعم النظر لم يسترب في أن هذا محار ٌ و َ
د.
ب مفس ٌ الطريق محار ٌ
ب الله تعالى ،لن أحدا ً من البشر ل يسبه اعتقادا ً إل بما ول َيردِ على هذا س ّ
ة وولدًا ،فإنهم يعتقدون ل ،كزعم أهل التثليث أن له صاحب ً يراه تعظيما ً وإجل ً
أن هذا من تعظيمه والتقرب إليه ،ومن سبه ل على هذا الوجه فالقول فيه
كالقول فيمن سب الرسول على أحد القولين ـ وهو المختار كما سنقرره ـ
ص بذلك ،ول يكاد ُ أحد ٌ ة ول انتقا ٌ ه غضاض ٌ ومن فرق قال :إنه تعالى ل تلحق ُ
ب ونحو ذلك ،بخلف سب الرسول ،فإنه يفعل ذلك أصل ً إل يكون وقت غض ٍ
يسبه ـ انتقاصا ً له واستخفافا ً به ـ سّبا يصدر عن اعتقاد وقصد إهانة ،وهو
س تلحقه الغضاضة ويقصد بذلك ،وقد يسب تشفيا ً وغيظًا ،وربما من جن ٍ
حل منه في /النفوس حبائل ،ونفر عنه بذلك خلئق ،ول تزول نفرتهم عنه
بإظهار التوبة ،كما ل تزول مفسدة الزنى وقطع الطريق ونحو ذلك بإظهار
التوبة ،وكما ل يزول العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القاذف التوبة،
ب
فكانت عقوبة الكفر يندرج فيها ما يتبعه من سب الله سبحانه ،بخلف س ّ
الرسول.
فإن قيل :قد تكون زيادة العقوبة على عقوبة مجرد الناقض للعهد تحتم
ن عَْقد المان والهدنة قتله ما دام كافرًا ،بخلف غيره من الكافرين ،فإ ّ
ن عليهم والمفاداة بهم جائٌز في الجملة ،فإذا أتى والذمة واسترقاقهم والم ّ
ل دمه لنقض العهد أو لعدمه بالسب تعين قتله كما قررتموه ،وهكذا ح ّ مع ِ
الجواب عن المواضع التي قتل النبي فيها من سبه ،أو أمر بقتله ،أو أمر
أصحابه بذلك ،فإنها تدل على أن الساب يقتل وإن لم يقتل من هو مثله
من الكافرين.
ما قَّر غَي ُْرهُ ه ل َوْ قَّر ك َ َ
وكذلك قال النبي ليهود ٍ في قصة ابن الشرف" :إ ِن ّ ُ
ْ
ل ر ،وَل َ ْ
م ي َْفعَ ْ جاَنا َبال ّ
شع ْ ِ مّنا وَهَ َ
ل ِه َنا َ
لَ ،ولك ِن ّ ُ ما اغِْتي َل َرأي ِهِ َ ن هُوَ عََلى ِ
مث ْ ِ م ْ م ِّ
م إ ِل ّ َ َ
ف". سي ْ ُ
ن ال ّ كا َ من ْك ُ ْ
حد ٌ ِذا أ َ ه َ
91
وإذا كان كذلك فيكون القتل وجب لمرين :للكفر ،ولتغلظه بالسب ،كما
يجب قتل المرتد للكفر ولتغلظه بترك الدين الحق والخروج منه ،فمتى زال
الكفر زال الموجب للدم ،فلم يستقل بقاء أثر السب بإحلل الدم ،وتبع
الكفر في الزوال كما تبعه في الحصول ،فإنه فرعٌ للكفر ونوعٌ منه ،فإذا
زال الصل زالت جميع فروعه وأنواعه.
وهذا السؤال قد يمكن تقريره في سب من يدعي السلم ،بناءً على أن
ب[ فرعٌ للردة ونوعٌ منها ،وقد ل يمكن ،لنه لم يتجدد من هذا بعد ]الس ّ
ب ،بخلف الكافر. السب ما لم يكن موجودا ً حال الس ّ
ل على أن قتل الساب حد ّ من الحدود ،فإنه قد تقدم أنه قلنا :وهذا أيضا ً دلي ٌ
ن وليجب قتله إن كان معاهدًا ،ول يجوز استبقاؤه بعد السب بأما ٍ
استرقاق ،ولو كان إنما يقتل لكونه كافرا ً محاربا ً لجاز أمانه واسترقاقه
والمفاداة به ،فلما كان جزاؤه القتل عينا ً علم أن قتله حد من الحدود ،ليس
بمنزلة قتل سائر الكفار.
ومن تأمل الدلة الشرعية نصوصها /ومقاييسها ـ مما ذكرناه ومما لم
نذكره ـ ثم ظن بعد هذا أن قتل الساب لمجرد كونه كافرا ً غير معاهدٍ كقتل
السير ،فليس على بصيرةٍ من أمره ،ول ثقةٍ من رأيه.
وليس هذا من المسالك المحتملة ،بل من مسالك القطع ،فإن من تأمل
دللت الكتاب والسنة ،وما كان عليه سلف المة ،وما توجبه الصول
الشرعية علم قطعا ً أن للسب تأثيرا ً في سفح الدم زائدا ً على تأثير مجرد
د.
الكفر الخالي عن عه ٍ
ل بمجموع المرين ،بناًء على أن كفر الساب نوعٌ نعم قد يقال :هو مقتو ٌ
ظ ل يحتمل الستبقاء ككفر المرتد ،فيكون مقتول ً لكفره وسبه ،ويكون مغل ٌ
القتل حد ّا ً بمعنى أنه يجب إقامته .ثم يزول موجبه بالتوبة كقتل المرتد،
فهذا له مساغ ٌ فيما تقدم ما يضّعف هذا الوجه ،ومع هذا فإنه ل يقدح في
ب حدا ّ من الحدود وجب لما في خصوص ظهور سب كون قتل السا ّ
الرسول من المفسدة.
وإنما يبقى أن يقال :هذا الحد هل يسقط بالسلم أم ل؟
فنقول :جميع ما ذكرناه من الدللت وإن دلت على وجوب قتله بعد إظهار
ة على أن قتله حد ّ من الحدود ،وليس لمجرد الكفر ،وهي التوبة ،فهي دال ٌ
ة على هذا بطرق القطع ،لما ذكرناه من تفريق الكتاب والسنة والجماع دال ٌ
بين من اقتصر على الكفر الصلي أو الطارئ أو نقض العهد وبين من سب
الرسول من هؤلء ،وإذا لم يكن القتل لمجرد الكفر لم يبق إل أن يكون
حدّا ،وإذا ثبت أّنه يقتل لخصوص السب ،لكونه حدا ً من الحدود ـ ل لعموم
د ،أو لعموم كونه مرتدا ً ـ فيجب أن ل يسقط بالتوبة كونه كافرا ً غير ذي عه ٍ
والسلم ،لن السلم والتوبة ل يسقط شيئا ً من الحدود الواجبة قبل ذلك
ة بعد الثبوت والرفع إلى المام بالتفاق. إذا كانت التوب ُ
92
ل القرآن على أن حد ّ قاطع الطريق والزاني والسارق والقاذف ل وقد د ّ
يسقط بالتوبة بعد التمكن من إقامة الحد.
ودلت السنة علي مثل ذلك في الزاني وغيره ،ولم يختلف المسلمون فيما
علمنها أن المسلم إذا زنى أو سرق أو قطع الطريق أو شرب الخمر فُرفع
إلى السلطان وثبت عليه الحد ببينةٍ ثم تاب من ذلك أنه تجب /إقامة الحد
عليه ،إل أن يظن أحد ٌ في ذلك خلفا ً شاذ ّا ً ل يعتد ّ به ،فهذه حدود الله تعالى
ة سب لمسلم ٍ أو معاهدٍ ف أو عقوب ُ ص أو حد ّ قذ ٍ
وكذلك لو وجب عليه قصا ٌ
ثم تاب من ذلك لم تسقط عنه العقوبة ،وكذلك أيضا ً لم يختلفوا فيما
ص
ي لو وجب عليه حد قطع الطريق أو حد ّ السرقة أو قصا ٌ علمناه أن الذم ّ
ف أو تعزيٌر ثم أسلم وتاب من ذلك لم تسقط عنه عقوبة ذلك، أو حد ّ قذ ٍ
وكذلك أيضا ً لو زنى فإنه إذا وجب عليه حد ّ الزنى ثم أسلم لم يسقط عنه،
بل يقام عليه حد ّ الزنى عند من يقول بوجوبه قبل السلم ويقتل حتما ً عند
ى انتقض به عهده. المام أحمد إن كان زن ً
ب ما قبلها فيغفر للتائب ذنبه ب ما قبله والتوبة تج ّ
هذا مع أن السلم يج ّ
مع إقامة الحد عليه تطهيرا ً له وتنكيل ً للناس عن مثل تلك الجريمة،
جُر الملتزمين للسلم أو فتحصل بإقامة الحد المصلحة العامة ـ وهي َز ْ
الصغار عن فعل مثل ذلك الفساد ـ فإنه لو لم يقم الحد عند إظهار التوبة
ت إقامة حد ّ في الغالب ،فإنه ل يشاء المفسد في الرض إذا أخذ أن لم يتأ ّ
يظهر التوبة إل أظهرها ويوشك كل من هم بعظيمةٍ من العظائم من
ب.القوال والفعال أن يرتكبها ثم إذا أحيط به قال :إني تائ ٌ
م أن ذلك لو درأ الحد الواجب لتعطلت الحدود ،وظهر الفساد في ومعلو ٌ
البر والبحر ،ولم يكن في شرع العقوبات والحدود كبير مصلحة ،وهذا ظاهٌر
ل خفاء به.
المصلحة الولى
مصلحة زجر النفوس عن مثل تلك الجريمة ،وهي أهم المصلحتين ،فإن
الدنيا في الحقيقة ليست دار كمال الجزاء ،وإنما كمال /الجزاء في الخرة،
93
وإنما الغالب في العقوبات الشرعية الزجر و النكال ،وإن كان فيها مقاصد
ُأخر ،كما أن غالب مقصود العدة براءة الرحم ،وإن كان فيها مقاصد ُ ُأخر،
ة.
ل عقوبةٍ مشروع ٍولهذا كانت هذه المصلحة مقصودةً في ك ّ
المصلحة الثانية
والمصلحة الثانية :تطهير الجاني ،وتكفير خطيئته ،إن كان له عند الله خيٌر
ه ،والنتقام منه إن لم يكن كذلك ،وقد يكون زيادةً في ثوابه أو عقوبت ُ
ة في درجاته. ورفع ً
ونظير ذلك المصائب المقدرة في النفس والهل والمال ،فإنها تارةً تكون
ت ،وتارةً ن زيادةً في الثواب وعلوا ً في الدرجا ِ كفارةً وطهورًا ،وتارةً تكو ُ
تكون عقابا ً وانتقامًا.
ن سرا ً فإن الله يقبل توبته سرًا ،ويغفر له من غير لكن إذا أساء النسا ُ
إحواج له إلى أن يظهر ذنبه حتى يقام حدهُ عليه ،أما إذا أعلن الفساد
بحيث يراه الناس ويسمعونه حتى شهدوا به عند السلطان ،أو اعترف هو
به عند السلطان ،فإنه ل يطهره ـ مع التوبة بعد القدرة ـ إل إقامته عليه ،إل
أن في التوبةِ ـ إذا كان الحد لله ،وثبت بإقراره ـ خلفا ً سنذكره إن شاء الله
ن حد ّ فََقد ْ م ْ ي ِ ما ب َل َغَن ِ ْ م ،فِ َدود َ فِْيما ب َي ْن َك ُ ْ ح ُوا ال ُتعالى ،ولهذا قال " :ت ََعافَ ُ
ن
م ْ خي ٌْر ل ََها" ،وقالَ " : شفع إليه في السارقة" :ت َط َهّْر َ ب" وقال لما ُ ج َ وَ َ
َ
ن
م ِ ه" ،وقالَ " : مرِ ِه ِفي أ ْ ضاد ّ الل َدودِ اللهِ فََقد ْ َ ح ُمن ُ حد ّ ِن َ دو َه ُ شَفاعَت ُ ُ ت َ حال َ ْ َ
ه
حت َ ُصْف َ ن ي ُب ْدِ ل ََنا َم ْه َ ه ،فَإ ِن ّ ُست ْرِ الل ِ شيٍء فَل ْي َ ْ
ست َت ِْر ب ِ ِ ت بِ َذوَرا ِ ن هَذِهِ الَقا ُ م ْي ِ اب ْت ُل ِ ْ
ه". ب الل ِ م عَل َي ْهِ ك ََتا َ ن ُِق ْ
إذا تبين ذلك فنقول :هذا الذي أظهر سب رسول الله من مسلم ٍ أو
معاهدٍ قد أتى بهذه المفسدة التي تضمنت ـ مع الكفر ونقض العهد ـ أذى
الله ورسوله ،وانتهاك تلك الحرمة التي هي أفضل حرمة المخلوقين،
ض ل يساوي غيَره من العَْراض ،والطعن في صفات الله عْر ٍ والوقيعة في ِ
وأفعاله وفي دين الله وكتابه وجميع أنبياءه والمؤمنين من عباده ،فإن
ن في جميع النبياء كما قال سبحانه الطعن في واحدٍ من النبياء طع ٌ
ن في كل من آمن بنبينا من/ حّقا ً ،وطع ٌ ن َكافُِروْ َ م ال ُ ك هُ ُ وتعالى :أ ُوْل َئ ِ َ
النبياء والمؤمنين المتقدمين والمتأخرين ،وقد تقدم تقريُر هذا.
ثم هذه العظيمة صدرت ممن التزم بعقد إيمانه أو أمانهِ أنه ل يفعل ذلك،
)ول يأتيه كما صدر الّزنى والسرقة وقطع الطريق عمن التزم بعقد ِإيمانه
َأو َأمانهِ ل يفعل ذلك( فإذا وجبت عقوبته على تلك الجريمة لخصوصها كما
تقدم امتنع أن يسقط بما يظهره من التوبة كما تقدم أيضًا.
ثم هنا مسلكان:
دا لله كما أحدهما :ـ وهو مسلك طائفةٍ من أصحابنا وغيرهم ـ أن يقتل ح ّ
يقتل لقطع الطريق وللردة وللكفر ،لن السب لرسول قد تعلق به حق
94
ؤمن ،فإن أذاه ليس مقصورا ً على رسول الله فقط م ْ الله ،وحقّ ك ّ
ل ُ
كمن سب واحدا ً من عُْرض الناس ،بل هو أذىً لكل مؤمن كان ويكون ،بل
ل منهم أن يفتدي هذا العرض بنفسه هو عندهم من أبلغ أنواع الذى ،ويود ّ ك ُ ّ
وأهله وماله وعرضه ،كما تقدم ذكره عن الصحابة من أنهم كانوا يبذلون
دماءهم في صون عرضه ،وكان النبي يمدح من فعل ذلك سواٌء قتل أو
ب أعظم من قتل بعض غلب ويسميه ناصر الله ورسوله ،ولو لم يكن الس ّ
المسلمين لما جاز بذل الدم في درئه كما ل يجوز بذل الدم في صون
ت يخاطب أبا سفيان بن ن ابن ثاب ٍ عرض واحدٍ من الناس ،وقد قال حسا ُ
ث:الحار ِ
َ
ي
عن ْد َ اللهِ فِ ْ
وَ ِ ه
ت عَن ْ ُ مدا ً فَأ َ
جب ْ ُ ح ّ
م َت ُجو ْ َهَ َ
جَزاُء
ك ال َ ذا َ َ
َ
مدٍ
ح ّ
م َ
ض ُ
ل ِعِْر ِ ي
ضـ ْ عْر ِ ي وََوال ِد َهُ وَ ِ
ن أِبـ ْفَإ ِ ّ
من ْك ُ ْ
م وَِقاُء ِ
ة ،وبها ينالها كل ك للحرمة التي نالوا بها سعادة الدنيا والخر ِ وذلك أنه انتها ٌ
واحد ٍ سواهم ،وبها يقام دين الله ،ويرضى الله عن عباده ،ويحصل ما يحبه،
وينتفي ما يبغضه ،كما أن قاطع الطريق وإن قتل واحدا ً فإن مفسدة قطع
الطريق تعم جميع الناس ،فلم يفوض المر فيه إلى ولي المقتول.
نعم كان المر في حياة رسول الله مفوضا ً إليه فيمن /سبه :إن أحب
عفا عنه ،وإن أحب عاقبه ،وإن كان في سبه حقّ لله و لجميع المؤمنين،
لن الله سبحانه يجعل حقه في العقوبة تبعا ً لحق العبد كما ذكرناه في
ة لحق الرسول ،فإنه أولى بهم من أنفسهم، القصاص ،وحقوق الدميين تابع ٌ
ولن في ذلك تمكينه من أخذ العفو والمر بالعرف والعراض عن
ه من العفو والصلح الجاهلين الذي أمره الله تعالى به في كتابه ،وتمكين ُ
الذي يستحقّ به أن يكون أجره على الله ،وتمكينه من أن يدفع بالتي هي
أحسن السيئة كما أمر الله ،وتمكينه من استعطاف النفوس ،وتأليف
القلوب على اليمان ،و اجتماع الخلق عليه ،وتمكينه من ترك التنفير عن
ب من اليمان ،وما يحصل بذلك من المصلحة يغمر ما يحصل باستبقاء السا ّ
ضوا ب ل َن َْف ُ ظ الَقل ْ ِ ظا غَل ِي ْ َ ت فَ ّ المفسدة كما دل عليه قوله تعالى :وَل َوْ ك ُن ْ َ
َ
ر.
ِ م
م ِفي ال ْ شاوِْرهُ ْ ست َغِْفْر ل َهُ ْ
م وَ َ م َوا ْ ف عَن ْهُ ْ ك َفاعْ ُ حوْل ِ َ ن َ م ِْ
َ َ
ن
سأ ّ ث الّنا ُ حد ّ َن ي َت َ َوقد بين النبي نفس هذه الحكمة حيث قال" :أك َْرهُ أ ْ
ن َ ُ محمدا ً يْقت ُ َ
تأ ْ جو ْ ُ ي من الكرامةَ" :ر َ ه" وقال فيما عامل به ابن أب َ ّ حاب ِ ُ
ص َ لأ ْ َ ُ ُ َ ّ
َ
ك أل ْ ٌن ب ِذ َل ِ َ
ه" فحقق الله رجاءه ،ولو عاقب كل من آذاه م ِن قَوْ ِ م ْ ف ِ م َي ُؤْ ِ
بة ـ أن ذلك لما في النفس من ح ّ بالقتل لخامر القلوب ـ عقدا ً أو وسوس ً
الشرف ،وأنه من باب غضب الملوك وقتلهم على ذلك ،ولو لم يبح له
عقوبته لنتهك العرض ،واستبيحت الحرمة ،وانحل رباط الدين ،وضعفت
95
العقيدة في حرمة النبوة ،فجعل الله له المرين ،فلما انقلب إلى رضوان
ص من الخلق إليه استيفاء هذه العقوبةالله وكرامته ،لم يبق واحد ٌ مخصو ٌ
والعفو عنها ،والحق فيها ثابت لله سبحانه ولرسول الله ،ولعباده
المؤمنين ،وعلم كل ذي عقل أن المسلمين إنما يقتلونه لحفظ الدين،
وحفظ حمى الرسول ،ووقاية عرضه فقط ـ كما يقتلون قاطع الطريق
لمن الطرقات من المفسدين ،وكما يقطعون السارق لحفظ الموال ،كما
يقتلون المرتد صونا ً للداخلين في الدين عن الخروج عنه ـ ولم يبق هنا
توهم مقصود ٍ جزوي كما قد كان يتوهم في زمانه أن قتل الساب كذلك
وتقرير ذلك بالساب له من المسلمين ،فإنه قد كان له أن يعفو عنه مع أنه
لمة إل إراقة دمه ،فحاصله أن في حياته قد غُّلب في هذه الجناية ل يحل ل ُ
ة على الدين مطلقًا، حقه ليتمكن من الستيفاء والعفو ،وبعد موته فهي جناي ٌ
ليس لها من يمكنه العفو عنها ،فوجب استيفاؤها ،وهذا مسل ٌ
ك جيد ٌ لمن
تدبر غوره.
ثم هنا تقريران :
99
واٌء"
س َ سل َم ِ وَب َعْد َهُ َل ال ِ ْ ق قَب ْ َ ري ِ سارِقَ وََقاط ِعَ الط ّ ِ ن الّزاِني َوال ّ وقولهم" :إ ِ ّ
قلنا :هو مثل الساب ،لنه قبل السلم يعتقد استحلل دماء المسلمين
وأموالهم وأعراضهم لول العهد الذي بينهم وبينه ،وبعد السلم إما يعتقد
ه لول ه لعرض رسول الله يعتقد حل ّ ُ دين ،وكذلك انتهاك ُ تحريمها لجل ال ّ
دين ،ول فرق بين ما العهد الذي بيننا وبينه ،وب َْعد الدين إنما يمنعه منه ال ّ
يضر المسلمين في دينهم أو دنياهم.
َ سُق ُ َ ب قَت ْل ُه ل َ
ما" فنقول: حدِهِ َلأ َ ط ب َِزَوا ِ ن فَي َ ْ ِ ريِ م
ْ ل ا ل
ِ جْ ُ ج َ ما وَ َ وأما قولهم" :إن ّ َ
ف النوع الخر، ل منهما يوجب نوعا ً من القتل /يخال ُ بل اجتمع فيه سببان ك ّ
وإن كان أحدهما يستلزم الخر ،فالكفر يوجب القتل للكفر الصلي أو لكفر
ل لخصوصه حتى يندرج ب القت َ ب يوج ُ ة ،والس ّ م معروف ٌ ه أحكا ٌ الرتداد ،ول ُ
ب في حقّ مثل هذا ،حتى ل هو المغل ّ ُ ل الردة ،وهذا القت ُ فيه قتل الكفر وقت ُ
ل مع امتناع القتل بالكفر ه القت ُ و ،ول ُ ل والعف ُ ه القت ُ كان رسول الله ل ُ
ل بعد سقوط القتل بالكفر والرد ّةِ كما قدمناهُ من الدلئل ه القت ُ ة ،ول ُ
والرد ِ
خصوص السب ما يقتضي القتل لو ن ِفي ُ على ذلك أثرا ً ونظرًا ،وبيّنا أ ّ
ُفرض تجرده عن الكفر والردة ،فإذا انفصل عنه في أثناء الحال فسقط
ب ،وقد قدمنا في المسألة ب الس ّ موجب الكفرِ والرد ّةِ لم يسقط موج ُ
الثانية دلئل على ذلك.
ظ
ثم نقول :هب أنه وجب لجل المرين ،فالقتل الواجب لكفر متغل ٍ
ة فاعل ة فاعلهِ فوجب أن ل تسقط عقوب ُ بالضرار إذا زال ل تسقط عقوب ُ
ل. ة التي استحقها هي القت ُ هذا ،والعقوب ُ
وأيضًا ،فإن السلم الطارئ ل يمنعُ ما وجب من العقوبة ،وإن كان السلم
يمنع وجوبها ابتداًء كالقتل قودا ً وكحد ّ القذف ،فإنه إنما يجب بشرط كون
ميًا.
الفاعل ذمي ًّا ،ول يسقط بإسلمه بعد ذلك إذا كان المقتول والمقذوف ذ ّ
ب ابتداًء ،فأن ل يمنع قتله دواما ً وأيضًا ،فإن السلم ل يمنع قتل السا ّ
ب بطريق الولى ،فقوله" :اجتمع سببان فزا َ َ
ما" ممنوعٌ بل الموج ُ حد ُهُ َ لأ َ ْ َ َ َ َ ََ ِ ِ َ
ل هذا لم يزل. لقت ِ
د؟
هل لقذف المّيت ح ّ
بب للحد ،وقد ذهب أبو بكر بن جعفر صاح ُ إحداهما :أن قذف الميت موج ٌ
ن الحي وارثه لم ُيقذف ،وإنما ُقذف ت ،ل ّ ل إلى أنه ل حد ّ لقذف مي ٍ الخل ّ ِ
حد ّ القذف ل ُيستوفى إل بعد المطالبة ،وقد تعذرت منه ،والحد ل الميت ،و ّ
ة ،و الكثرون يثبتون الحد لقذف ت وهي منتفي ٌ يورث إل بمطالبةِ المي ِ
الميت ،لكن من الفقهاء من يقول :إنما يثبت إذا ضمن القدح في نسب
الحي ،وهو قول الحنفية وبعض أصحابنا ،وقيل عن الحنفية :ل يأخذ به إل
الوالد أو الولد ،ومن الفقهاء من يقول :يثبت مطلقًا ،ثم هل يرثه جميع
من سوى الزوجين لبقاء سبب الرث ،أو العصبة فقط الورثة ،أو َ
يب الشافع ّل في مذه ِة أقوا ٍ
ه؟ فيه ثلث ُ لمشاركتهم له في عمود نسب ِ
د.
وأحم َ
الثانية :أن حد قذف الميت ل ُيستوفى إل بطلب الورثة ،وذلك أنهم ل
يختلفون أنه ل يستوفى إل بمطالبةِ الورثة أو بعضهم ،ومتى عفوا سقط/
عند الكثرين.
فعلى هذا ينبغي أن يسقط الحد لقذف النبي لنه ل يورث ،ويكون
ف عند أكثر الفقهاء ،أو يقال:كقذف من ل وارث له ،وهذا ليس فيه حد قذ ٍ
ب بعض الهاشميين أو بعض القرشيين. ل يستوفى حتى ُيطال َ
ه:فنقول :الجواب من ثلثة أوج ٍ
101
الفرق بين سب الرسول وسب غيره
أحدها :أنا لم نجعل سب النبي وقذفه من )باب( حد ّ القذف الذي ل
ق ،فإن ذاك إنما هو إذا علم به ،وإنما هو من ُيستوفى حتى يطلبه المستح ّ
م المسبوب به، ل ،وقد تعذر عل ُ م باط ٌ ب والشتم الذي يعلم أنه حرا ٌ باب الس ّ
ب ،أو شهادة الزوِر ،أو ل بعض أعيان المة بالكفرِ أو الكذ ِ كما لو رمى رج ٌ
ب على ذلك ه سبا ً صريحًا ،فإنا ل نعلم مخالفا ً في أن هذا الرجل يعاق ُ سب ُ
ل الكريم ِ في ب على ما ينتهكه من المحارم انتصارا ً لذلك الرج ِ كما يعاق ُ
ة أو العلماَء أو الصالحين. ب الصحاب َ ن معصيةِ الله كمن يس ّ المة ،وزجرا ً عَ ْ
ب تلحقهم ن في دينهم ،وهو س ّ ب لجميع أمته وطع ٌ هس ّ الوجه الثاني :أن سب ّ ُ
ب
ب الجماعةِ الكثيرةِ بالزنى ،فإنه ُيعلم كذ ُ فس ّ ة وعاٌر ،بخل ِ به غضاض ٌ
عِله ،وهذا يوقع في بعض النفوس َريبًا ،وإذا كان قد آذى جميع المؤمنين فا ِ
أذى يوجب القتل ،وهو حقّ يجب عليهم المطالبة به من حيث وجب عليهم
ح في نسب الحي إذا إقامة الدين ،فيكون شبيها ً بقذف الميت الذي فيه قد ٌ
ه.
طالب به ،وذاك يتعين إقامت ُ
ر ،فإن ت على قول أبي بك ٍ وبهذا يظهر الفرق بينه وبين غيره من الموا ِ
ذلك الميت ل يتعدى ضرر قذفه في الصل إلى غيره ،فإذا تعذرت مطالبته
ب في الحقيقة إنما أمكن أن يقال :ل يستوفى حد قذفه ،وهنا ضرُر الس ّ
ل عصمتها وإهانة مستمسكها ،وإل فالرسول يعود إلى المة بفساد دينها وذ ّ
ـ صلوات الله عليه وسلمه ـ في نفسه ل يتضرر بذلك.
وبه يظهر الفرق بينه وبين غيره في أن حد قذف الغير إنما يثبت لورثته أو
لبعضهم ،وذلك لن العار هناك إنما يلحق الميت أو ورثته ،وهنا العاُر يلحق
جميع المة ل فرق في ذلك /بين الهاشميين وغيرهم ،بل أيّ المة كان أشد ّ
ه من هذا الذى حب ّا ً لله ورسولهِ وأشد ّ اتباعا ً له وتعزيرا ً وتوقيرا ً كان حظ ُ ُ
والضرر أعظم ،وهذا ظاهٌر ل خفاء به ،وإذا كان هذا ثابتا ً لجميع المة ،فإنه
مما يجب عليهم القيام به ،ول يجوز لهم العفوُ عنه بوجهٍ من الوجوه ،لنه
وجب لحق دينهم ،ل لحق دنياهم ،بخلف حد ّ قذف قريبهم فإنه وجب لحظ
نفوسهم ودنياهم ،فلهم أن يتركوه ،وهذا يتعلق بدينهم ،فالعفو عنه عفوٌ عن
دمتين المذكورتين. ب عن المق ّ حدود الله وعن انتهاك حرماته ،فظهر الجوا ُ
ح أن يقال :إن حق عرضه الوجه الثالث :أن النبي ل يوَرث ،فل يص ّ
ص به أهل بيته دون ص به أهل بيته ،دون غيرهم ،كما أن ماله ل يخت ّ يخت ّ
غيرهم ،بل أولى ،لن تعلق حق المة بعرضه أعظم من تعلق حقهم بماله،
م ،لن ذلك من تعزيره ل مسل ٍ ة باستيفاء حقهِ على ك ّ ب المطالب ُ وحينئذٍ فتج ُ
ض على كل مسلم. ونصره ،وذلك فر ٌ
م أو معاهد ٌ نبيا ً من النبياء ،فإن قَْتل ذلك الرجل ونظيُر ذلك أن َيقتل مسل ٌ
ن على المة ،ول يجوز أن يجعل حق دمه إلى من يكون وارثا ً له لو متعَي ّ ٌ ُ
ً َ َ
ب عفا على الدية أو مجانا ،ول يجوز ح ّ
نأ َ ب قََتل ،وإ ْ ح ّ
نأ َ كان يورث :إ ِ ْ
102
تقاعد المة عن قتل قاتله ،فإن ذلك أعظم من جميع أنواِع الفساد ،ول
يجوز أن يسقط حق دمه بتوبة القاتل أو إسلمه ،فإن المسلم أو المعاهد
مه
ض ّ لو ارتد ّ أو نقض العهد وقتل مسلما ً لوجب عليه القود ،ول يكون ما َ
ن أحدا ً يخالف في
إلى القتل من الردةِ ونقض العهد مخّففا ً لعقوبته ،وما أظ ّ
ض للعهد باتفاق العلماء ،وعرضه ي ردةٌ ونق ٌ
هذا مع أن مجرد قتل النب ّ
عرضه ة )دمه القتل بل الوقيعة في ِ ة ،فإن عقوبته القتل ،كما أن عقوب َ كدم ِ
أشد ضررا ً في الدين من قتله وسبب ذلك أن( دمه وعرضه ممنوعٌ من
المسلم بإسلمه ومن المعاهد بعهده ،فإذا انتهكا حرمته وجبت عليهما
ة لذلك.
العقوب ُ
104
ه أن يعفو ة ،وكان ل ُ
ومن ارتد ّ بسبهِ فقد كان له أن يقتله من غير استتاب ٍ
ه.عنه ،وبعد موتهٍ َتعّين قتل ُ
دم على النبي مع بقاِء دم ِ
ه وحديث ابن زنيم ٍ فإنه أسلم قبل أن ي َْق ُ
منذورا ً مباحا ً إلى أن عفا عنه النبي بعد أن ُروجع في ذل َ
ك.
ن كن قد ن إنما وجهه ـ والله أعلم ـ أنه ّ وكذلك النسوةُ اللتي أمر بقتله ّ
سببنه بعد المعاهدة فانتقض عهدهن بسّبه ،فُقتلت اثنتان ،والثالثة لم يعصم
م ،ولو كان دمها معصوما ً بالسلم لم يحتج دمها حتى اسُتؤمن لها بعد أيا ٍ
ة مبناها على أن من جاز قتله بعد أن أظهر أنه إلى المان ،وهذه الطريق ُ
ن لم
ن من لم يعصم دمه إل عفوٌ وأما ٌ جاء ليسلم جاز قتله بعد أن أسلم ،وإ ّ
م لدمه ،وإن كان قد تقدم ذكُر هذا لكن ذكرناه م هو العاص ُ يكن السل ُ
لخصوص هذا المأخذ.
105
ه ،بخلف المسلم فإن ب و صريح ُ يبين ذلك أنه ل يبيح دمه إل إظهاُر الس ّ
حّقق السلم والتوبة من ب ،فإذا َ ن ،وقد يجوُز أنه غُّلظ بالس ّدمه محقو ٌ
ملي المبيح محّققٌ والعاص ُ السب ثبت العاصم مع ضعف المبيح ،والذم ّ
يرفع ما وجب ،فيكون أقوى من هذا الوجه.
ب فقط ،بل لبد أن أل ترى أن المسلم لو كان منافقا ً لم يقتصر على الس ّ
ه
ف الذمي ،فإنه ل يطلب على كفر ِ ت مكفرةٌ غير ذلك ،بخل ِ تظهر منه كلما ٌ
َ
من أظ َْهر الدلةِ على دلي ٌ
ب ِ ه ،والس ّل ،وإنما يطلب على محاربته وإفساد ِ
ذلك كما تقدم.
112
وهي إنما /دلت على من جرد الردةَ مثل الحارث بن سويد ،ودلت على أن
ح يجوز قتله بعد التوبة والسلم. من غلظها كابن أبي سر ٍ
ل لكونه ك ََفر بعد إسلمه ،ولخصوص السب كما قَد ْ ه مقتو ٌ الوجه الثاني :أن ُ
ه ،فاندرج في عموم ِ الحديث مع كون السب مغّلظا ً لجرمه تقدم تقرير ُ
كدا ً لقتله. ومؤ ّ
ص منه تارك الصلة وغيرها من الفرائض عند من خ ّ م ،قد ُ ه عا ّ الثالث :أن ُ
ل الصائل بالسنة والجماع فلو ص منه َقتل الباغي وقت ُ خ ّ يقتله ول ي ُك َّفره ،و ُ
قيل "إن السب موجب للقتل بالدلة التي ذكرناها ،وهي َأخص من هذا
ث" لكان كلما ً صحيحًا. الحدي ِ
ب ثم أسلم فيقال له :هذا ي إذا س ّ ج بهذا الحديث في الذم ّ وأما من يحت ّ
ب قتله قبل السلم ،والنبي إنما يريد إباحة الدم بعد حقنه بالسلم، ج َ وَ َ
ولم يتعرض لمن وجب قتله ثم أسلم أي شيٍء حكمه ،ول يجوز أن ُيحمل
ل الدم بالسباب الموجودةِ قبل السلم حمل على ح ّ الحديث عليه ،فإنه إذا ُ
زم من ذلك أن يكون الحربي إذا قتل أو زنى ثم شهد شهادتي وبعده ل َ ِ
ل الحديث على هذا التقدير له، الحق أن ُيقتل بذلك القتل والزنى ،لشمو ِ
ه إل ل دم ُ ل من أسلم ل يح ّ ل قطعًا ،ول يجوز أن ُيحمل على أن ك ّ وهو باط ٌ
ل أو بإحدى الثلث إن صدر عنه بعد ذلك ،لنه يلزمه أن ل يقتل الذمي لقت ٍ
ى صدر منه قبل السلم ،فُعلم أن المراد أن المسلم الذي تلكم زن ً
م لو اندرج هذا بالشهادتين ُيعصم دمه ،ل يبيحه بعد هذا إل إحدى الثلث ،ث ُ ّ
في العموم لكان مخصوصا ً بما ذكرناه من أن قتله حد ّ من الحدود ،وذلك
ل من أسلم فإن السلم يعصم دمه فل ُيباح بعد ذلك إل بإحدى أن ك ّ
ص أو ت حد قصا ٍ ضى لمانٍع من ثبو ِ الثلث ،وقد يتخلف الحكم عن هذا المقت َ
ى أو نقض عهدٍ فيه ضرٌر وغير ذلك ،ومثل هذا كثير في العمومات. زن ً
ن من كفر بعد ل على أ ّ وأما الية على الوجهين الولين فنقول :إنما تد ّ
م له ،ونحن نقول بموجب ذلك ،أما م تاب وأصلح فإن الله غفوٌر رحي ٌ إيمانه ث ّ
م إلى الكفر انتهاك عرض الرسول والفتراء عليه أو قتله ،أو قََتل ض ّمن َ
ة
ل /الية على سقوط العقوب ِ ضه فل تد ّ واحدا ً من المسلمين أو انتهك ِ
عْر َ
ن
م ْ ن َتاُبوا ِ
ذي َعن هذا على ذلك ،والدليل على ذلك قوله سبحانه :إل ّ ال ّ ِ
بعد ذ َل ِ َ َ
ن التوبة عائدة ٌ إلى الذنب المذكور ،والذنب المذكور حوا فإ ّصل َ ُ
ك وَأ ْ َْ ِ
ة بخصوصها هو الكفر بعد اليمان وهذا أتى بزيادةٍ على الكفر توجب عقوب ً
ق" ر ،ومن قال" :هُوَ زِْندي ٌ كما تقدم ،والية لم تتعرض للتوبةِ من غير الكف ِ
من تاب وأصلح، ب ،ثم إن الية إنما استثنى فيها َ م أن هذا تا َ قال :أنا ل أعل ُ
ح ،وأنا ل أوخر العقوبة الواجبة عليه إلى ُ
وهذا الذي يرفع إلى المام لم يصل ْ
ب وأصلح قبل أن م تا َمن فعل ذلك ث ُ ّ م َ أن يظهر صلحه ،نعم الية قد تع ّ
ن َ ُيرفع إلى المام ،وهنا قد يقو ُ
ل كثيٌر من الفقهاء بسقوط العقوبة ،على أ ّ
ل توبته ،وهو من م ُتقب ُالية التي بعدها قد ُتشعر بأن المرتد قسمان :قس ٌ
113
من ك ََفر ثم ازداد كفرًا ،قال سبحانه ه ،وهو َ ل توبت ُ م ل تقب ُ ك ََفر فقط ،وقس ٌ
م
ل ت َوْب َت ُهُ ْ ن ت ُْقب َ َ دوا ك ُْفرا ً ل َ ْ دا ُم اْز َ م ثُ ّ مان ِهِ ْ ن ك ََفُروا ب َعْد َ إ ِي ْ َ ذي َ ن ال ّ ِوتعالى :إ ِ ّ
وهذه الية وإن كان قد تأولها أقوام على من ازداد كفرا ً إلى أن عاين
ل بعمومها على هذه المسألة فُيقال :من كفر بعد إيمانه الموت فقد ُيستد ّ
من استمر به ل ونحوه لم تقبل توبته ،خصوصا ً َ ب الرسو ِ وازداد كفرا ً بس ّ
ازدياد الكفر إلى أن ثبت عليه الحد ّ وأراد السلطان قتله ،فهذا قد يقال :إنه
ْ َ
سَنا ما َرأْوا ب َأ َ ازداد كفرا ً إلى أن رأى أسباب الموت ،وقد يقال فيه :فَل َ ّ
ْ َ
سَنا ما َرأْوا ب َأ َ م لَ ّ مان ُهُ ْ م إ ِي ْ َك ي َن َْفعُهُ ْ م يَ ُ حد َهُ إلى قوله :فَل َ ْ مّنا ِباللهِ وَ ْ َقاُلوا آ َ
ما قَد ْ م َ ن ي َن ْت َُهوا ي ُغَْفْر ل َهُ ْ ن ك ََفُروا إ ِ ْ ذي َ ل ل ِل ّ ِ وأما قوله سبحانه وتعالى :قُ ْ
ف فإنه يغفر لهم ما قد سلف من الثام ،أما من الحدودِ الواجبةِ على سل َ َ َ
ؤها بل تردٍد ،على أن سياق الكلم ِ مسلم ٍ مرتدٍ أو معاهدٍ فإنه يجب استيفا ُ
ي.ل[ أنه في الحرب ِ ّ ]ي َد ُ ّ
ن لَ ْ
م ثم نقول :النتهاء إنما هو الترك قبل القدرة كما في قوله تعالى :ل َئ ِ ْ
ذوا خ ُ قُفوا أ ُ ِ َ
ض إلى قوله :أي َْنما ث ُ ِ مَر ٌ م َ ن ِفي قُُلوب ِهِ ْ ذي َ ن َوال ّ ِ مَنافُِقو َ ي َن ْت َهِ ال ُ
وَقُت ُّلوا ت َْقِتيل ً فمن لم يتب حتى أخذ فلم ينته ،ويقال أيضًا :إنما تدل الية ُ
ة فر له سقطت /العقوب ُ ل من غُ ِ م ،وليس ك ّ سل ّ ٌ م َ على أنه ُيغفر لهم ،وهذا ُ
ة نصوحا ً غََفر الله له ولبد عنه في الدنيا ،فإن الزاني أو السارقَ لو تاب توب ً
ه" :الت ّوَْبة ه" كقول ِ ما قَب ْل َ ُ ب َ ج ّ م يَ ُسل ُ من إقامةِ الحدود عليه ،وقوله " :ال ْ
ة بعد القدرة ل ُتسقط الحد كما دل عليه م أن التوب َ ما قَب ْل ََها" ومعلو ٌ ب َ ج ّ تَ ُ
القرآن ،وذلك أن الحديث خرج جوابا ً لعمرو بن العاص لما قال للنبي :
ن َ
تأ ّ ما عَِلم َ عمرو أ َ أبايعك على أن ُيغفر لي ما تقدم من ذنبي ،فقال" :يا َ
َ َ
م
جَرةَ ت َهْدِ ُ ن الهِ ْ ن قَب ْل ََها ،وأ ّ كا َ ما َ م َ ة ت َهْدِ ُ ن الت ّوْب َ َ ه ،وَأ ّ ن قَب ْل َ ُ كا َ ما َ م َ م ي َهْدِ ُ سل َ ال ِ ْ
َ
م
عنى بذلك أّنه يهد ُ ه" فُعلم أّنه َ ن قَب ْل َ ُ كا َ ما َ م َ ج ي َهْدِ ُ ح ّ ن ال َ ن قَب ْل ََها ،وأ ّ كا َما َ َ
ب التي سأل عمروٌ مغفرتها ،ولم يجرِ للحدود ذكٌر ،وهي ل َتسقط آثام الذنو ِ
ه سق َ
ط ح أن ذنب َ ُ بهذه الشياء بالتفاق ،وقد بّين في حديث ابن أبي سر ٍ
رض أنه م ،وأن القتل إنما سقط عنه بعفو النبي كما تقدم ،ولو فُ ِ بالسل ِ
ف أن الحدود ل َتسقط عن الذمي بإسلمه ،وهذا منها كما م فل خل َ عا ّ
تقدم.
ةطائ َِف ً ب َ م ن ُعَذ ّ ْ من ْك ُ ْ طائ َِفةٍ ُ ن َ ف عَ ْ ن ن َعْ ُ وأما قوله سبحانه وتعالى :إ ِ ْ
ه:فالجواب عنها من وجو ٍ
ل على أن هذه الية نزلت فيمن سب النبي أحدها :أنه ليس في الية دلي ٌ
ق يسبه وشتمه ،وإنما فيها أنها نزلت في المنافقين ،وليس كل مناف ٍ
ويشتمه ،فإن الذي يشتمه من أعظم المنافقين وأقبحهم نفاقًا ،وقد ينافق
الرجل بأن ل يعتقد النبوة وهو ل يشتمه كحال كثير من الكفاِر ،ولو أن كل
ق بمنزلة من شتمه لكان كل مرتد ّ شاتمًا ،ولستحالت هذه المسألة، مناف ٍ
114
وليس المر كذلك ،فإن الشتم قدٌر زائد ٌ على النفاق والكفر على ما ل
ق
ده ويصطنع إليه المعروف خل ٌ يخفى ،وقد كان ممن هو كافٌر من يحبه ويو ّ
ف عنه أذاه من الكفار خلقٌ أكثر من أولئك وكان ممن كثيٌر ،وكان ممن يك ّ
يحاربه ول يشتمه خلقٌ آخرون ،بل الية تدل على أنها نزلت في منافقين
ن الن ِّبي ذو ُ ن ي ُؤْ ُ ذي َ م ال ّ ِ من ْهُ ْغير الذين يؤذونه ،فإنه سبحانه وتعالى قال :وَ ِ
إلى قوله :يحذ َر المنافُقو َ
ما ِفي قُُلوب ِهِ ْ
م م بِ َ م سورةٌ ت ُن َب ّئ ُهُ ْ ل عَل َي ْهِ ْ ن ت ُن َّز َ نأ ْ َ ُ َ ِ َ ْ ُ ِ
َ
ما ك ُّنا ن إ ِن ّ َ م ل َي َُقول ُ ّ سأل َت َهُ ْ ن َ ن وَل َئ ِ ْ حذ َُرو َ ما ت َ ْ ج َ خرِ ٌ م ْ ه ُن الل َ ست َهْزُِئوا إ ِ ّ لا ْ قُ ِ
َ
ست َهْزُِئون ل َ ت َعْت َذُِروا قَد ْ م تَ ْ سول ِهِ ك ُن ْت ُ ْ هَ /وآَيات ِهِ وََر ُ ل أ ِبالل ِ ب قُ ْ ض وَن َل ْعَ ُ خو ُ نَ ُ
م َ َ ب َ ن َ
كاُنوا ة ب ِأن ّهُ ْ طائ َِف ً م ن ُعَذ ّ ْ من ْك ُ ْ طائ َِفةٍ ِ ف عَ ْ ن ن َعْ ُ م إِ ْ مان ِك ُ ْ م ب َعْد َ ِإي َ ك ََفْرت ُ ْ
ب ،وإنما فيه ذكر استهزاٍء ومن الستهزاء ن ،فليس في هذا ذكُر س ّ رمي َ ج ِ م ْ ُ
ن سبا ول شتما للرسول. ً ً بالدين ما ل يتضم ُ
وفي هذا الوجه نظٌر كما تقدم في سبب نزولها ،إل أن يقال :تلك الكلمات
د. ليست من السب المختلف فيه ،وهذا ليس بجي ٍ
الوجه الثاني :أنهم قد ذكروا أن المعفو عنه هو الذي استمع أذاهم ولم
ي بن حمّير ،هو الذي تيب عليه ،وأما الذين تكلموا بالذى يتكلم وهو مخش ّ
فلم يعف عن أحدٍ منهم.
مؤاخذة بالذنب وإن لم يتب ك ال ُ يحقق هذا أن العفو المطلق إنما هو تر ُ
ن إ ِّنما مَعا ِ ج ْ م الت ََقى ال َ م ي َوْ َ من ْك ُ ْ وا ِ ن ت َوَل ّ ْ ذي َ ن ال ّ ِ صاحبه ،كقوله تعالى :إ ِ ّ
م ،والكفر ل ي ُعَْفى ه عَن ْهُ ْ سُبوا وَل ََقد ْ عََفا الل ُ ما ك َ َ ض َ ن ب ِب َعْ ِ طا ُ شي َ م ال ّ ست ََزل ّهُ ُ ا ْ
ة ل كافرةً ـ إما بسماع عنه ،فعلم أن الطائفة المعفو عنها كانت عاصي ً
الكفر دون إنكاره ،والجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله ،أو بكلم ٍ هو
ة على أنه لبد ب وليس هو كفرًا ،أو غير ذلك ـ وعلى هذا فتكون الية دال ً ذن ٌ
ل على أنه ل توبة لهم ،لن من أخبر ك المستهزئين ،وهو دلي ٌ من تعذيب أولئ َ
ة تمنع العذاب ،فيصلح أن ب وهو معين امتنع أن يتوب توب ً الله بأنه يعذ ّ ُ
يجعل هذا دليل ً في المسألة.
ة من ه ل بد ّ أن ُيعذب طائف ً الوجه الثالث :أنه ـ سبحانه وتعالى ـ أخَبر أن ُ
ل على أن العذاب واقعٌ بهم ل محالة، ة ،وهذا يد ّ هؤلء إن عفا عن طائف ٍ
وليس فيه ما يدل على وقوع العفو ،لن العفو معل ّقٌ بحرف الشرط ،فهو
ع،
ل ،وأما العذاب فهو واقعٌ بتقدير وقوع العفو ،وهو بتقدير عدمه أوق ُ محتم ٌ
فعلم أنه لبد من التعذيب :إما عامًا ،أو خاصا ً لهم ،ولو كانت توبتهم كلهم
ة لم يكن كذلك ،لنهم إذا تابوا لم يعذبوا ،وإذا ثبت أنهم ل بد مرجوةً صحيح ً
أن يعذبهم الله لم يجز القول بجواز قبول التوبة منهم وإنه يحرم تعذيبهم
ب من عنده أو بأيدي ب( بعذا ٍ ذي َ إذا أظهروها ،وسواٌء أراد بالتعذيب )الت ّعْ ِ
كفار/ المؤمنين ،لنه ـ سبحانه وتعالى ـ أمر نبيه فيما بعد بجهاد ال ُ
ه
ذبه الل ُ عذب بأيدي المؤمنين ،ومن كتمه ع ّ والمنافقين ،فكان من أظهره ُ
115
ع،ل على أن العفو واق ٌ ب من عنده ،وفي الجملة فليس في الية دلي ٌ بعذا ٍ
ف هنا. وهذا كا ٍ
ق
ل على قبول توبتهم فهو ح ّ الوجه الرابع :أنه إن كان في هذه الية دلي ٌ
وتكون هذه التوبة إذا تابوا قبل أن يثبت النفاقُ عند السلطان كما بين ذلك
ض اليتين، مَر ٌ ن ِفي قُُلوب ِِهم َ ذي َن َوال ّ ِ مَنافُِقو َ م ي َن ْت َهِ ال ُن لَ ْقوله تعالى :ل َئ ِ ْ
ل على أن من لم ينته حتى ُأخذ فإنه ُيقتل ،وعلى هذا فلعله والله فإنها دلي ٌ
م وهم الذين أسروا النفاق حتى تابوا من ْك ُ ْ
طائ َِفةٍ ِ ن َ ف عَ ْ ن ن َعْ ُ أعلم عنى :إ ِ ْ
ُ ب َ
بة على وجو ِ ة وهم الذين أظهروه حتى أخذوا ،فتكون دال ً طائ َِف ً منه ،ن ُعَذ ّ ْ
ب من أظهره. تعذي ِ
س :أن هذه الية تضمنت أن العفو عن المنافق إذا أظهر الوجه الخام ُ
جاهِدِ الك ّّفاَر
النفاق وتاب أو لم يتب فذلك منسوخ بقوله تعالىَ :
ه.ن كما أسلفناه وبيّنا ُ مَنافِِقي َ َوال ُ
ف ولم يقل يتب وسبب النزول يؤيد أن النفاق ن ن َعْ ُ ويؤيده أنه قال :إ ْ
ثبت عليهم ولم يعاقبهم النبي وذلك كان في غزوة تبوك قبل أن تنزل
براءة ،وفي عقبها نزلت سورة براءة فأمر فيها بنبذ العهود إلى المشركين
وجهاد الكفار والمنافقين) .ونهى فيها عن الصلةِ عليهم ،فلم ُيظهر أحد
بعدها ن َِفاقًا.
ن اليتين(. مَنافِِقي َ جاهِدِ الك ُّفاَر َوال ُ وأما َقوُلهَ :
ه: فالجواب عما احتج به منها من وجو ٍ
موا بما لم أحدها :أنه ـ سبحانه وتعالى ـ إنما ذكر أنهم قالوا كلمة الكفر وه ّ
ب ،ول يلزم من ب ،والكفر أعم من الس ّ ينالوا ،وليس في هذا ذكٌر للس ّ
ل على أنها ذكر من سبب نزولها ما يد ّ ت الخص ،لكن فيما ُ م ثبو ُ ثبوت الع ّ
نزلت فيمن سب ،فيبطل هذا.
الوجه الثاني :أنه ـ سبحانه وتعالى ـ إنما عََرض التوبة على الذين يحلفون
ل من أنكر أن يكون تكلم بكفرٍ وحلف على إنكاره، بالله ما قالوا ،وهذا حا ُ
َ
ب في يمينه ،وهذا كان شأن كثير ممن ي َْبلغ النبي م الله نبيه أنه كاذ ٌ فَأ ْ
عل َ
د ،إذه ،ومثل هذا ل ُيقام عليه ح ّ عنه الكلمة من النفاق ول تقوم عليه به بين ٌ
لم يثبت /عليه في الظاهر شيٌء ،والنبي إنما يحكم في الحدود ونحوها
بالظاهر ،والذي ذكروه في سبب نزولها من الوقائع كّلها إنما فيه أن النبي
س أو زيد ُ بن أرقم مخبر واحد ٌ إما حذيفة أو عامر بن قي ٍ أخبره بما قالوا
ي ُ
أو غير هؤلء ،أو أنه أوحي إليه بحالهم ،وفي بعض التفاسير أن المحك ّ
د ،اعترف بأنه قالها وتاب من ذلك من غير س بن سوي ٍ جل ّ ُ عنه هذه الكلمة ال ُ
ة على بّينةٍ قامت عليه فقبل رسول الله ذلك منه ،وهذا كله دللة واضح ٌ
ق ،وهذا ل ة من لم يثبت عليه نفا ٌ أن التوبة من مثل هذا مقبولة ،وهي توب ُ
خلف فيه إذا تاب فيما بينه وبين الله سرا ً كما نافق سرا ً أنه تقبل توبته،
ولو جاء مظهرا ً لنفاقه المتقدم ولتوبته منه من غير أن تقوم عليه بين ٌ
ة
116
ل المختار كما تقبل توبة من جاء مظهرا ً بالنفاق قبلت توبته أيضا ً على القو ِ
ى أو سرقةٍ لم يثبت عليه على الصحيح ،وأولى من ذلك ،وأما للتوبة من زن ً
لمن ثبت نفاقه بالبينة فليس في الية ول فيما ذكر من سبب نزولها ما يد ّ
على قبول توبته ،بل وليس في نفس الية ول فيما ذكر من سبب نزولها ما
ل على ظهور التوبة ،بل ل على قبول توبته ،بل ليس في نفس الية ما يد ّ يد ّ
يجوز أن ُيحمل على توبته فيما بينه وبين الله ،فإن ذلك نافعه وفاقا ً وإن
ش ً َ
موا ة أوْ ظ َل َ ُ ح َ ذا فَعَُلوا َفا ِ ن إَ َ ذي َ أقيم عليه الحد ّ كما قال سبحانهَ :وال ّ ِ
َ
ه وقال ب إ ِل ّ الل ُ ن ي َغِْفُر الذ ُّنو َ م ْ ست َغَْفُروا ل ِذ ُُنوب ِِهم وَ َ ه َفا ْ م ذ َك َُروا الل َ سه ُ ْأن ُْف َ
ه غَُفورا ً َ
جدِ الل َ ه يَ ِ ست َغِْفرِ الل َ م يَ ْ ه ثُ ّ س ُ م ن َْف َ وءا ً أوْ ي َظ ْل ِ ْ س ْ ل ُ م ْ ن ي َعْ َ م ْ تعالى :وَ َ
م ل َ ت َْقن َ ُ َ َ
من طوا ِ سه ِ ْ سَرُفوا عََلى أن ُْف ِ نأ ْ ذي َ عَباِدي ال ّ ِ حيما ً وقال تعالىَ :يا ِ َر ِ
َ َ
ه
ن الل َ موا أ ّ م ي َعْل َ ُ ميعا ً وقال تعالى :أل َ ْ ج ِ ب َ ه ي َغِْفُر الذ ُّنو َ ن الل َ مةِ اللهِ إ ِ ّ ح َ َر ْ
ب إلى غير ل الّتو ِ ب وََقاب ِ ِ غافِرِ الذ ّن ْ ِ ه وقال تعالىَ : عَبادِ ِ عن ِ ة َ ل الّتوب َ َ هُوَ ي َْقب َ ُ
من ب بالبينةِ ع ّ ذلك من اليات مع أن هذا ل يوجب أن يسقط الحد ّ الواج ُ
ة ،فلو قال من لم ب أو سرق ٍ ة للحد ّ أو ظلم نفسه بشر ٍ أتى فاحشة موجب ًً
س /في الية يسقط الحد ّ عن المنافق سواٌء ثبت نفاقه ببينةٍ أو إقراٍر" :ل َي ْ َ
غ.ل على سقوط الحد ّ عنه" لكان لقوله مسا ٌ ما يد ّ
ظن َواغْل ُ ْ مَنافِِقي َ جاهِدِ الك ُّفاَر َوال ُ الوجه الثالث :أنه قال سبحانه وتعالىَ :
نما قا َُلوا الية وهذا تقريٌر لجهادهم ،وبيا ٌ ن ِباللهِ َ حل ُِفو َ م إلى قوله :ي َ ْ عَل َي ْهِ ْ
لحكمته ،وإظهاٌر لحالهم المقتضي لجهادهم ،فإن ذكر الوصف المناسب بعد
ف لهم، ما َقاُلوا وص ٌ ن ِباللهِ َ حل ُِفو َ ة له ،وقوله :ي َ ْ ه عل ٌ ل على أن ُ الحكم يد ّ
ن كونهم يكذبون في أيمانهم وُيظهرون اليمان ب لجهادهم ،فإ ّ وهو مناس ٌ
دقون ص ّ ب للغلظ عليهم ،بحيث ل ُيقبل منهم ول ي ُ َ ويبطنون الكفر موج ٌ
فيما يظهرونه من اليمان ،بل ُينتهرون ويرد ّ ذلك عليهم.
ه ،إذ ل فرق ل على أنه ل يقبل ما يظهره من التوبةِ بعد أخذ ِ وهذا كله دلي ٌ
بين كذبه فيما يخبر به عن الماضي أنه لم يكفر وفيما يخبره من الحاضر
ب أن ل أنه ليس بكافر ،فإذا بّين ـ سبحانه وتعالى ـ من حالهم ما يوج ُ
يصدقوا وجب أن ل يصدق في إخباره أنه ليس بكافرٍ بعد ثبوت كفره ،بل
ن لكن كاذُِبو َ ن لَ َ مَنافِِقي َ ن ال ُ شهَد ُ إ ّ ه يَ ْ يجري عليه حكم قوله تعالىَ :والل ُ
ب عن بشرط أن ُيظهر كذبه فيها ،فأما بدون ذلك فإنا لم نؤمر أن ننّق َ
ن ي َُتوُبوا ي َ ُ
ك س ول َ نشقّ بطونهم ،وعلى هذا فقوله تعالى :فَإ ِ ْ ب النا ِ قلو ِ
م أي قبل ظهور النفاق وقيام البينة به عند الحاكم حتى يكون خْيرا ً ل َهُ ْ َ
ع
ت يمن ُ ل وق ٍ ل التوبةِ الظاهرةِ في ك ّ للجهاد موضعٌ وللتوبة موضعٌ وإل فقبو ُ
ة. الجهاد لهم بالكلي ِ
ه
م الل ُ وا ي ُعْذ ّب ْهُ ُ ن ي َت َوَل ّ ْ الوجه الرابع :أنه ـ سبحانه وتعالى ـ قال بعد ذلك :وَإ ِ ْ
ص
ن ن َت ََرب ّ ُ ح ُ سر ذلك في قوله تعالى :وَن َ ْ ة وف ّ خَر ِ ذابا ً أ َِليما ً ِفي الد ّن َْيا َوال ِ عَ َ
117
َ َ بك ُ َ
ل على أن هذه ديَنا ،وهذا يد ّعندِهِ أوْ ب ِأي ْ ِ
من ِ ب ِ ه ِبعذا ٍ م الل ُ صيب َك ُ ُن يُ ِ مأ ْ ِ ْ
التوبة قبل أن نتمكن من تعذيبهم بأيدينا ،لن من تولى عن التوبة حتى
شهد عليه به وُأخذ فقد تولى عن التوبة التي عرضها الله أظهر النفاق و ُ
ح
م فيصل ُ ب ألي ٌب أن يعذبه الله عذابا ً أليما ً في الدنيا ،والقتل عذا ٌ عليه ،فيج ُ
ذب به ،لن المتولي أبعد أحواله أن يكون ترك التوبة إلى أن يتركه أن ُيع ّ
ذب في الدنيا ،لن الناس ،لنه لو كان المراد به تركها إلى الموت لم ُيع ّ
ن التولي ترك التوبة وبينه وبين الموت عذاب الدنيا قد فات ،فلب ُد ّ أن يكو َ
ب فهو ه الله فيه كما ذكره سبحانه /فمن تاب بعد أن أخذ ليعذ ّ َ ل يعذب ُ ُ مه ٌ
ممن لم يتب قبل ذلك ،بل تولى ،فيستحقّ أن يعذبه الله عذابا ً أليما ً في
الدنيا والخرة ،ومن تأمل هذه الية والتي قبلها وجدهما دالتين على أن
التوبة بعد أخذه ل ترفع عذاب الله عنه.
ة من ة فيما بينه وبين الله وإن تضمنت التوب ُ وأما كون هذه التوبة مقبول ً
ل :ـ وإن كان حق هذا الجواب أن يؤخر إلى سول ،فنقول أو ً عْرض الر ُ ِ
المقدمة الثانية ـ :هذا القدر ل يمنع إقامة الحد عليه إذا رفع إلينا ثم أظهر
التوبة بعد ذلك ،كما أن الزاني والشارب وقاطع الطريق إذا تاب فيما بينه
طلعنا عليه ثم تاب فلبد ّ وبين الله قَْبل أن يرفع إلينا قبل الله توبته ،وإذا ا ّ
من إقامة الحد عليه ،ويكون ذلك من تمام توبته ،وجميع الجرائم من هذا
الباب.
س إذا استغفر لهم ودعا لهم قبل أن وقد يقال :إن المنتهك لعراض الّنا ِ
ي أن يغفر الله له ،على ما في ذلك من الخلف المشهور، ج َ يعلوا بذلك ُر ِ
ولو ثبت ذلك عليه عند السلطان ثم أظهر التوبة لم تسقط عقوبته ،وذلك
ة ،فإذا كان عليه أن الله سبحانه لبد ّ أن يجعل للمذنب طريقا ً إلى التوب ِ
خُرج منها جهده ،ويعوضهم عنها بما يمكنه ،ورحمة ت للخلق فعليه أن ي َ ْ تبعا ٌ
ن
الله من وراء ذلك ،ثم ذلك ل يمنع أن نقيم عليه الحد إذا ظهرنا عليه ،ونح ُ
ب. ذن ِ إنما نتكلم في التوبة المسقطة للحد ّ والعقوبة ،ل في التوبةِ الماحيةِ لل ّ
ب قد صدر عن اعتقادٍ يوجبه ،فهو ثم نقول ثانيًا :إن كان ما أتاه من الس ّ
بمنزلة ما يصدر من سائر المرتدين وناقضي العهد من سفك دماء
المسلمين وأخذ أموالهم وانتهاك أعراضهم ،فإنهم يعتقدون في المسلمين
ة نصوحا ً من ذلك العتقاد غُِفَر لهم ب إباحة ذلك ،ثم إذا تابوا توب ً اعتقادا ً يوج ُ
بموجبه المتعلق بحق الله وحق العباد كما ُيغفر للكافر الحربي موج ُ
ك[ اعتقاده إذا تاب منه ،مع أن المرتد أو الناقض متى فعل شيئا ً ]من ذل َ
ي،
ه ،وإن عاد إلى السلم ،سواٌء كان لله أو لدم ّ قبل المتناع أقيم عليه حد ّ ُ
ق ،وإن كان في زمن الردةِ ونقض ب وقطِع الطري ِ فيحد ّ على الزنى والشر ِ
ة على مْلك اليمين إذا قََهر مسلم ً ل ذلك /الفرج لكونه وطئه ب ِ العهد يعتقد ح ّ
نفسها ،ويعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم ،كما ُيؤخذ منه القود وحد
القذف وإن كان يعتقد حلهما ،ويضمن ما أتلفه من الموال وإن اعتقد حلها.
118
والحربي الصل ل يؤخذ بشيٍء من ذلك بعد السلم ،وكان الفرقُ أن ذاك
كان ملتزما ً بأيمانه و أمانه أن ل يفعل شيئا ً من ذلك ،فإذا فعله لم يعذر
بفعله ،بخلف الحربي الصل ،ولن في إقامة هذه الحدود عليه زجرا ً له عن
ف
ه ،بخل ِ فعل هذه الموبقات كما فيها زجٌر للمسلم المقيم ِ على إسلم ِ
الحربي الصل ،فإن ذلك ل يزجره ،بل هو منفٌر له عن السلم ،ولن
ع ،وهذان ممكنان. الحربي الصل ممتن ٌ
ي إذا زنى بعد السر أقيم عليه ن الحرب ّ
ص المام أحمد على أ ّ وكذلك قد ن ّ
د ،لنه صار في أيدينا ،كما أن الصحيح عنه وعن أكثر أهل العلم أن الح ّ
المرتد إذا امتنع لم تقم عليه الحدود لنه صار بمنزلة الحربي ،إذ الممتنع
يفعل هذه الشياء باعتقادٍ وقوةٍ من غير زاجرٍ له ،ففي إقامة الحدود عليهم
ب
ل الحر ِ بعد التوبةِ تنفيٌر وإغلقٌ لباب التوبةِ عليهم ،وهو بمنزلةِ تضمين أه ِ
سواء ،وليس هذا موضعُ استقصاء هذا ،وإنما نّبهنا عليه ،وإذا كان هذا هنا
ة
ض إذا آذيا الله ورسوله ثم تابا من ذلك بعد القدرةِ توب ً هكذا فالمرتد ّ والناق ُ
ق أو زنيا ً وََتاَبا بعد نصوحا كانا بمنزلتهما إذا حارَبا باليدِ في قطع الطري ِ
ً
أخذهما وُثبوت الحد ّ عليهما ،ول فرق بينهما وذلك لن الناقض للعهد قد كان
ه المجرد ُ عن عهدٍ يبيحها ه ،وإن كان دين ُ عهده يحّرم عليه هذه المور في دين ِ
له.
ة ،فاعتقاده إباحتها إذا لم وكذلك المرتد ّ قد كان يعتقد أن هذه المور محرم ٌ
يتصل به قوة ومنعة ليس عذرا ً له في أن يفعلها ،لما كان ملتزما ً له من
دين الحق ،ولما هو به من الضعف ،ولما في سقوط الحد ّ عنه من الفساد ال ّ
ب صادرا ً عن غير اعتقاٍد ،بل سبه مع اعتقاد نبوته أو سبه وإن كان الس ّ
ه اعتقاده أو بغير ما يوجبه اعتقاده ،فهذا من أعظم الناس بأكثر مما يوجب ُ ُ
شتم ه ،وهو بمنزلة من َ كفرا ً بمنزلة إبليس ،وهو من نوع العناد أو السف ِ
م.بعض المسلمين أو َقتلهم وهو يعتقد أن دماءهم وأعراضهم حرا ٌ
س في سقوط حد ّ المشتوم /بتوبةِ الشات ِم ِ قبل العلم به، وقد اختلف النا ُ
سواٌء كان نبي ّا ً أو غيره ،فمن اعتقد أن التوبة ل ُتسقط حقّ الدمي له أن
ه أن يقول: ة على الطلق ،ول ُ ن صحيح ٌ ة الشات ِم ِ في الباط ِ ِ يمنع هنا أن توب َ
م ،كسائر المؤمنين ن للنبي أن يطالب هذا بشتمه مع علمه بأنه حرا ٌ إ ّ
لهم أن يطالبوا شاتمهم وسابهم ،بل ذلك َأولى ،وهذا القول قويّ في
القياس ،وكثير من الظواهر تدل عليه.
ض الناس، ومن قال هذا من باب السب والغيبة ونحوهما مما يتعلق بأعرا ِ
ن حق ت للمشتوم من الدعاء والستغفار بما يز ُ وقد فات الستحلل ،فليأ ِ
عرضه ،ليكون ما يأخذه المظلوم من حسنات هذا بقدر ما دعا له واستغفر ِ
ب أو شتم ٍ فليكثر ةس ّ سلم له سائُر عمله ،فكذلك من صدرت منه كلم ُ في َ ْ
من الصلة والتسليم ،ويقابلها بضدها ،فمن قال :إن ذلك يوجب قبول
ت ي َذ ْهِب ْ َ
ن سَنا ِ
ح ً ن ال َ التوبةِ ظاهرا ً وباطنا ً أدخله في قوله تعالى :إ ِ ّ
119
ص" قال: صا ِ ن الِق َ م َحَها" ومن قال" :ل َب ُد ّ ِ م ُ ة تَ ْ
سن َ َ
ح َ
ة ال َسي ّئ َ َت" وَا َت ْب ِِع ال ّ
سي َّئا ِ
ال ّ
ر
ض في تقري ِ قد أعد ّ له من الحسنات ما يقوم بالقصاص ،وليس لنا غر ٌ
واحد ٍ من القولين هنا ،وإنما الغرض أن الحد ل يسقط بالتوبة ،لنه إن كان
ة ،وهي ل خَر ِ
ة لحقّ الرسول في ال ِ ة مسقط ٌ ة منه صحيح ٌ عن اعتقادٍ فالتوب ُ
تسقط الحد عنه في الدنيا كما تقدم ،وإن كانت من غير اعتقادٍ ففي
ف.
ل بالتوبةِ خل ٌ سقوط حق الرسو ِ
ط" فل كلم ،وإن قيل" :يسقط الحق ولم يسقط الحد سُق ُ فإن قيل" :ل َ ي َ ْ
كتوبة الول وأولى" فحاصله أن الكلم في مقامين:
ة نصوحا ً فيما بينه وبين الله هل أحدهما :أن هذه التوبة إذا كانت صحيح ً
ط" فل سُق ْم يَ ْف ،فإن قيل "ل َ ْ ل وخل ٌ يسقط معها حقّ المخلوق؟ وفيه تفصي ٌ
سُقط" فسقوط حقه بالتوبة كسقوط حقّ الله بالتوبة، كلم ،وإن قيل "ي ِ ْ
ة إذا كانت بعد القدِرة لم فتكون كالتوبةِ من سائرِ أنواع الفساد ،وتلك التوب ُ
ُتسقط شيئا ً من الحدود ،وإن محت الثم في الباطن.
ب ليس لمجردِ الردةِ ومجرِدِ عدم العهد ة هذا الكلم أن قتل السا ّ وحقيق ُ
ظ بالضرر ،ومثله ل ض مغل ّ ٍ حتى ُتقبل توبته كغيره ،بل لردةٍ مغلظةٍ ونق ٍ
َيسقط موجبه بالتوبة /لنه من محاربةِ اللهِ ورسولهِ والسعي في الرض
فسادًا ،أو هو من جنس الزنى والسرقة ،أو هو من جنس القتل والقذف،
ة.
ذكر من الحج ِ فهذه حقيقة الجواب وبه يتبين الخلل فيما ُ
ثم نبّينه مفصل ً فنقول :أما قولهم" :إن ما جاء به من اليمان )به( ماح لما
ب مجرد َ موجب اعتقادٍ ه" ،فنقول :إن كان الس ّ أتى به من هتك عرض ِ
ة من موجبه ،وأما من زاد على موجب العتقاد أو ة من العتقاد توب ٌ فالتوب ُ
ح أتى بضده ـ وهم أكثر السابين ـ فقد ل ي ُ َ ّ
سلم أن ما يأتي به من التوبة ما ٍ
سّلم ذلك فهو كالقسم الول، ة ،وإن ُ إل بعد عفوه ،بل يقال :له المطالب ُ
ة.وهذا القدر ل يسقط الحدود كما تقدم غير مر ٍ
وأما قولهم" :حقوق النبياء من حيث النبوة تابعة لحق اللهِ في الوجوب،
ب موجب اعتقاٍد ،وإل م إن كان الس ّ فتبعته في السقوط" فنقول :هذا مسل ٌ
ففيه الخلف ،وأما حقوق الله فل فرق في باب التوبة بين ما موجبه اعتقاد ٌ
أو غير اعتقاٍد ،فإن التائب من اعتقادِ الكفرِ و موجباته والتائب من الزنى
طسواٌء ،ومن لم يسوّ بينهما قال :ليست أعظم من حقّ الله إذا لم يسق ْ
ه ،ولكن المر إلى مستحقها :إن شاء جزى ،وإن شاء ن بسقوط ِ ِ في الباط ِ
عفا ،ولم ُيعلم بعد ما يختاره الله سبحانه ،قد أعلمنا أنه يغفر لكل من تاب.
س تلحقهم المضرةُ والمعرةُ بهذا ،ويتألمون ً
وأيضا ،فإن مستحقها من جن ٍ
ة
به ،فجعل المر إليهم ،والله ـ سبحانه وتعالى ـ إنما حقه راجعٌ إلى مصلح ِ
المكلف خاصة ،فإنه ل ينتفع بالطاعة ،ول يستضر بالمعصية ،فإذا عاود
المكّلف الخير فقد حصل ما أراده رّبه منه ،فلما كان النبياء ـ عليهم
السلم ـ فيهم نعت البشر ولهم نعت النبوة صار حقهم له نعت حقّ الله
120
در عن ص َ ونعت حق سائر العباد ،وإنما يكون حقهم مندرجا ً في حق الله إذا َ
اعتقاد ِ فإنهم لما وجب اليمان بنبوتهم صار كاليمان بوحدانية الله ،فإذا لم
يعتقد معتقد ٌ نبوتهم كان كافرًا ،كما إذا لم يقر بوحدانية الله ،وصار الكفر
ب موجب هذا/ بذلك كفرا ً برسالت الله ودينه وغير ذلك ،فإذا كان الس ّ
ة نصوحا ً العتقاد فقط مثل نفي الرسالة أو النبوة ونحو ذلك وتاب منه توب ً
ّ
ب أو ح في نس ٍ ُقبلت توبته كتوبة المثلث ،وإذا زاد على ذلك ـ مثل قد ٍ
ل أو ل وصف لمساوي الخلق أو فاحشةٍ أو غير ذلك مما يعلم هو أنه باط ٌ
يعتقد صحته أو كان مخالفا ً للعتقاد مثل أن يحسد أو يتكبر أو يغضب
ض أو حصول مكروهٍ مع اعتقاد النبوة فيسب ـ فهنا إذا تاب لم لفوات غر ٍ
يتجدد له اعتقاد ٌ أزال موجب السب ،إنما غّير نيته وقصده ،وهو قد آذاه بهذا
السب أذى يتألم به البشر ولم يكن معذورا ً بعدم اعتقاد النبوة فهو كحق
الله من حيث جنى على النبوة التي هي السبب الذي بين الله وبين خلقه
ل أذاه، فوجب قتله ،وهو كحق البشر من حيث إنه آذى آدميا ً يعتقد أنه ل يح ّ
فلذلك كان له أن يطالبه بحقّ أذاه وأن يأخذ من حسناته بقدر أذاه ،وليست
ن ذلك إل ما يضاد ّ السب من الصلة والتسليم ونحوهما ،وبهذا ة ت َزِ ُ
له حسن ٌ
ب صدر عن غير اعتقادٍ من الحقوق التي تجب يظهر أن التوبة من س ٍ
م هو حقّ متعل ّقٌ بالنبوةِ ل محالة ،فهذا قول هذا للبشر )على البشر( ث ّ
القائل ،وإن كنا لم نرجح واحدا ً من القولين.
ة لحقّ الله فمن الذي قال :إن حقوق الله تسقط ثم إذا كانت حقوقهم تابع ً
ة؟ فإنا قد بينا أن هؤلء تقام عليهم حدود عن المرتد ّ وناقض العهد بالتوب ِ
ة الردة المجردةِ والنقض المجرد، الله بعد التوبة ،وإنما تسقط بالتوبةِ عقوب ُ
وهذا ليس كذلك.
َ
ن
ن اليما َ ن به ،ويخبرهم أ ّ س إَلى اليما ِل يدعو النا َ ن الرسو َوأما قوله" :إ ّ
ه" ،فنقول :هذا جيد ٌ إذا كان يمحو الكفَر فيكون قد عفا لمن كفَر عن حق ِ
ب موجب العتقادِ فقط ،لنه هو الذي اقتضاه ودعاه إلى اليمان به، الس ّ
ه ،أما من زاد فإنه من أزال اعتقاد الكفر به باعتقاد اليمان به زال موجب ُ
على ذلك وسبه بعد أن آمن به أو عاهده فلم يلتزم أن يعفو عنه ،وقد كان
ل على له أن يعفو وله أن ل يعفو ،والتقديُر المذكوُر في السؤال إنما يد ّ
ه العتقاد ثم زال باعتقاد اليمان ،لنه هو الذي كان يدعو إليه ب أوجب ُ س ّ
الكفر وقد زال /باليمان ،وأما ما سوى ذلك فل فرق بينه وبين سب سائر
ب إن كان حربيا ً فل فرق بين سبه الناس من هذه الجهة ،وذلك أن السا ّ
للرسول أو لواحدٍ من الناس من هذه الجهة ،وإن كان مسلما ً أو ذميا ً فإذا
ب الرسول سب ّا ً ل يوجبه اعتقاده فهو كما لو سب غيره من الناس ،فإن س ّ
تجدد السلم منه كتجدد التوبة منه يزعه عن هذا الفعل وينهاه عنه وإن لم
يرفع موجبه ،فإن موجب هذا السب لم يكن الكفر به ،إذ كلمنا في سب
ة ونحو ذلك ،لكن إذا أسلم ل يوجبه الكفر به ،مثل فِْرية عليه يعلم أنها فري ٌ
121
ة تمنعه أن يفتري عليه ،كما أنه إذا تاب ب فقد عظم في قلبه عظم ً السا ّ
ة تمنعه من مواقعته ،وجاز أن من سب المسلم عظم الذنب في قلبه عظم ً
ب كان شيئا ً غير الكفر ،وقد ل يكون هذا السلم وازعًا ،لكون موجب الس ّ
ة عن موجب الذى، ف هذه التوب ُ يضعف هذا السلم عن دفعه كما تضع ُ
وفرقٌ بين ارتفاع المر بارتفاع سببه أو بوجود ضده ،فإن ما أوجبه العتقاد ُ
إذا زال العتقاد زال سببه ،فلم يخش عوده إل بعود السبب ،وما لم يوجبه
العتقاد من الفرية ونحوها على النبي وغيره يرفعها السلم والتوبة رفع
د ،إذ اعتقاد قبح هذا المر وسوء عاقبته والعزم الجازم على فعل الضد ّ للض ّ
ضده وتركه ينافي وقوعه ،لكن لو ضعف هذا الدافع عن مقاومة السبب
المقتضي عمل عمله ،فهذا يبين أنه ل فرق في الحقيقة بين أن يتوب من
ب لم يوجبه مجرد ُ الكفرِ باليمان به الموجب لعدم ِ ذلك السب وبين أن س ّ
ب.س ّ
ك ال ّ ب مسلم ٍ بالتوبة الموجبةِ ل ِعَد َم ِ ذل ِ َ من س ّ يتوب ِ
ر ،فزجر عنه ،وقيل له :هذا قد حرمه ض في أم ٍ ل له غر ٌ واعتبر هذا برج ٍ
ط الشهوة وقوة ُ الغضب لفوات النبي فل سبيل إليه ،فحمله فر ُ
ك في النبوة، المطلوب على أن لعن وقبح فيما بينه وبين الله مع أنه ل يش ّ
كيا ً من كلمته، ه وتاب وصلى على النبي ولم يزل با ِ م ُ
ثم إنه جدد إسل َ
ل أراد أن يأخذ مال مسلم ٍ بغير حق ،فمنعه منه ،فلعن وقّبح سرًا ،ثم ورج ٍ
ل ،ولم يزل خائفا ً من كلمته ،أليست إنه تاب من هذا واستغفر لذلك /الرج ِ
ة هذا يجب أن تكون ة هذا من كلمته كتوبة هذا من كلمته؟ وإن كانت توب ُ توب ُ
أعظم لعظم كلمته ،لكن نسبة هذه إلى هذه كنسبة هذه إلى هذه ،بخلف
ح من يعتقده كذابًا ،ثم يتبين له أنه كان ضال ً في ذلك من إنما يلعن ويقب ُ َ
ف ،فتاب ورجع من ذلك العتقاد توبة مثله، العتقاد ،وكان في مهواةِ التل ِ
فإنه يندرج فيه جميع ما أوجبه.
ل أن يعفو سئ َب مرتد ّ أو معاهدٍ ُ ومما يقّرُر هذا أن النبي كان إذا بلغه س ّ
ه على جواز قتله بعد إسلمه وتوبته ،ولو كان ه بعد السلم ،ودّلت سيرت ُ عن ُ
مجرد ُ التوبةِ ُيغفُر لهم بها ما في ضمنها مغفرةً تسقط الحد لم يجْز ذلك،
ه بعد التوبةِ كما يملكها غيره من ة على من سب ُ ك العقوب َ ن يمل ُ ه كا َ فُعلم أن ُ
المؤمنين.
ب فيما بينه وبين الله هل ُتسقط حقّ الرسول أم فهذا الكلم في توبةِ السا ّ
ن إظهارها ل ـ سواٌء أسقطت أم لم تسقط ـ ل يقتضي ذلك أ ّ ل حا ٍ ل؟ وبك ّ
ض العهد، د ،إل ّ أن يقال :هو مقتو ٌ مسق ٌ
ض نق ِ ة ،أو مح ِ ل لمحض الرد ِ ط للح ّ
ط للقتل. ل مسق ٌ ة وإسلم من جرد نقض العهد مقبو ٌ فإن توبة المرتد ّ مقبول ٌ
ض
ل لردةٍ مغلظةٍ ونق ٍ وقد قدمنا فيما مضى بالدلة القاطعة أن هذا مقتو ٌ
ب وسعى في الرض فسادًا. ظ ،بمنزلة من حار َ مغل ٍ
122
ة إذا تعلق بها حقان حقّ لله مي" قال :العقوب ُ ل حّقا ً لد َ ِ ثم من قال" :ي ُْقت َ ُ
ود ،وهذاي من الَق َ م ّ
ه ،وبقي حقّ الد ِ مي ثم تاب سقط حقّ الل ِ وحقّ لد ّ ِ
ي.
م ّالتائب إذا تاب سقط حق الله ،وبقي حقّ الد َ ِ
وى بين من س ّ ه" قال :هو بمنزلة المحارب ،وقد ي ُ َ حد ّا ً لل ِ
ومن قال" :ي ُْقَتل َ
ه تعالى. سب الله وبين من سب الرسول ،على ما سيأتي إن شاء الل ُ
وقولهم في المقدمة الثانية" :إذا أظهر التوبة وجب أن نقبلها منه" قلنا :هذا
ة مطلقًا ،وقد تقدم الكلم فيه. ي على أن هذه التوبة مقبول ٌ مبن ّ
ثم الجواب هنا من وجهين:
124
ه" أجرى عليه ـ ل ل َِزند َقَت ِ ِ
ه" ومن قال" :ي ُْقت َ ُ ب الل ِ
سا ّ ل َ وكذلك من قال" :ي ُْقت َ ُ
إذا قتل بعد إظهار السلم ـ أحكام الزندقة ،وهو قول كثير من المالكية،
ل كلم بعض أصحابنا ،وعلى ذلك ينبني الجواب عما احتج به من وعليه يد ّ
قبول النبي ظاهر السلم من المنافقين ،فإن الحجة إما أن تكون في
ة ،فهذا ل حجة فيه من أربعةِ أوجهٍ قد ل ظاهر السلم منهم في الجمل ِ قبو ِ
تقدم ذكرها.
أحدها :أن السلم إنما ُقبل منهم حيث لم يثبت عنهم خلفه ،وكانوا ينكرون
أنهم تكلموا بخلفه ،فأما أن البينة تقوم عند رسول الله على كفرِ رج ٍ
ل
ف عنه فهذا لم يقع قط إل أن يكون في بادئ المر. بعينه فيك ّ
الثاني :أنه كان في أول المر مأمورا ً أن يدع أذاهم ويصبر عليهم لمصلحة
جاهِدِ الك ُّفاَرالتأليف وخشية التنفير ،إلى أن نسخ ذلك بقوله تعالىَ :
ظ عَل َي ْهِ ْ
م. ن َواغْل ُ ْ مَنافِِقي َ
َوال ُ
ب كما الثالث :أنا نقول بموجبه ،فنقبل من هذا السلم ،ونقيم عليه حد ّ الس ّ
ب. لو أتى حدا ً غيره ،وهذا جواب من يصحح إسلمه ،ويقتله حد ّا ً لفساد الس ّ
الرابع :أن النبي لم يستتب أحدا ً منهم ويعّرضه على السيف ليتوب من
شهد مقالةٍ صدرت منه ،مع أن هذا مجمعٌ على وجوبه ،فإن الرجل منهم إذا ُ
عليه بالكفر والزندقة فإما أن ُيقتل عينا ً أو يستتاب ،فإن لم يتب وإل ُقتل.
ل ما قيل فيه أنه ل ،بل أق ّ وأما الكتفاء منه بمجرد الجحود ،فما أعلم به قائ ً
ُيكتفى منهم بالنطق بالشهادتين والتبّري من تلك المقالة ،فإذا لم تكن
علم أن ترك هذا الحكم لفوات شرطه ـ السيرةُ في المنافقين كانت هكذا ُ
وهو إما ثبوت النفاق ،أو العجز عن إقامة الحد ،أو مصلحة التأليف في حال
ن فُنسخ ذلك. الضعف ـ حتى َقويَ الدي ُ
وإن كان الحتجاج بقبول ظاهر السلم ممن سب فعنه جواب خامس ،وهو
أنه كان له أن يعفو عمن شتمه في حياته ،وليس هذا العفو لحدٍ من
الناس بعده.
ن لحل دمه ،وليس كل ب غادرا ً محاربا ً فهو بيا ٌ ة الصحابة السا ّ وأما /تسمي ُ
من نقض العهد وحارب سقط القتل عنه بإسلمه ،بدليل ما لو َقتل مسلمًا،
ب ة ،بل تسميته محاربا ً ـ مع كون الس ّ أو َقطع الطريق عليه أو زنى بمسلم ٍ
ه في حكم الية كما تقدم. ب دخول ُ فسادا ً ـ يوج ُ
وأما الذين هجوا رسول الله وسبوه ،ثم عفا عنهم ،فالجواب عن ذلك
كله قد تقدم في المسألة الولى لما ذكرنا قصصهم وبينا أن السب غُّلب
فيه حقّ الرسول ،إذا عَِلم فله أن يعفو وأن ينتقم وفي قصص هؤلء ما يد ّ
ل
على أن العقوبة إنما سقطت عنهم مع عفوه وصفحة لمن تأمل أحوالهم
معه ،والتفريق بينهم وبين من لم يهجه ولم يسبه.
ي ل يؤخذ بما أصابه من المسلمين وأيضًا ،فهؤلء كانوا محاربين ،والحرب ّ
ض ،والمسلم والمعاهد يؤخذ بذلك. ل أو عر ٍ من دم ٍ أو ما ٍ
125
ن لم يعتقد ْ ح ّ
ل ي وإ ْ ب كما يعتقدهُ الحرب ّ ل الس ّ ي يعتقد ُ ح ّ وقولهم" :الذم ّ
ط ،فإن عقد الذمة منعهم من الطعن في ديننا ،وأوجب ل" غل ٌ الد ّم ِ والما ِ
عليهم الكف عن أن يسبوا نبينا ،كما منعهم دماءنا وأموالنا وأبلغ ،فهو إن لم
يعقد تحريمه للدين فهو يعتقد تحريمه للعهد كاعتقادنا نحن في دمائهم
ب دينهم ف عن س ّ وأموالهم وأعراضهم ،ونحن لم نعاهدهم على أن نك ّ
الباطل وإظهار معايبهم ،بل عاهدناهم على أن نظهر في دارنا ما شئنا ،وأن
صغاُر؟
يلتزموا جريان أحكامنا عليهم ،وإل فأين ال ّ
يل الحرب ّ ل لكفرهِ وحراِبه كما يقت ُ ن ُيقت َ
ما أ ْ
ب إِ ّ
ي إذا س ّ وأما قولهم" :الذم ّ
ن الحدوِد" قلنا :هذا تقسيم منتشر ،بل يقتل لكفره م َ ل حدا ً ِ ب ،أ َوْ ُيقت َالسا ّ
وحرابه بعد الذمة ،وليس من حارب بعد الذمة بمنزله الحربي الصلي ،فإن
الذمي إذا قتل مسلما ً اجتمع عليه أنه نقض العهد وأنه وجب عليه الَق َ
ود،
ي الدم ُقتل لنقض العهد بهذا الفساد ،وكذلك سائر المور فلو عفا ول ّ
المضرةِ بالمسلمين ُيقتل بها الذمي إذا فعلها ،وليس حكمه فيها كحكم
الحربي الصلي إجماعًا ،وإذا ُقتل لحرابه وفساده بعد العهد فهو حد ّ من
الحدود ،فل تنافي بين الوصفين حتى ُيجعل أحدهما قسيمًا /للخر ،وقد بّينا
د ،بل حد ّا ً بالدلة الواضحة أن قتله ليس لمجرد كونه كافرا ً غير ذي عه ٍ
ة على سب نبينا الذي أوجبت عليه الذمة تركه والمساك عنه ،مع أن وعقوب ً
السب مستلزم لنقض العهد العاصم لدمه وأنه يصير بالسب محاربا ً غدرًا،
وليس هو كحد الزنى ونحوه مما ل مضرة علينا فيه ،وإنما أشبه الحدود به
ة.حد ّ المحارب ِ
ض ،وهذا القدُر ل َ
ب أكثر من انتهاك العر ِ س في الس ّ ما[ قولهم" :لي َ ]وَأ ّ
ة:
ب إل الجلد" إلى آخر الكلم ،عنه ثلثة أجوب ٍ يوج ُ
أحدها :أن هذا كلم في رأس المسألة ،فإنه ـ إذا لم يوجب إل الجلد،
ب بعض س ّة للجلد ل تنقض العهد ـ لم ينتقض العهد به ك َ َ والمور الموجب ُ
ل مخالفتها على وجوب قتل دمنا الدللت التي ل تح ّ المسلمين ،وقد ق ّ
ي إذا فعل ذلك ،وأنه ل عهد له يعصم دمه مع ذلك ،وبيّنا أن انتهاك الذم ّ
عْرض الرسول فإنه عْرض عموم المسلمين يوجب الجلد ،وأما انتهاك ِ ِ
عْرض يوجب القتل ،وقد صولح على المساك عن العِْرضين ،فمتى ان َْتهك ِ
الرسول فقد َأتى بما يوجب القتل مع التزامه أن ل يفعله ،فوجب أن يقتل،
عْرض غيره عْرض الرسول و ِ كما لو قطع الطريق أو زنى ،والتسوية بين ِ
في مقدار العقوبة من افسد القياس.
ض قد أوجب الله على جميع عْر ٌوالكلم في الفرق بينهما يعد ّ تكلفًا ،فإنه ِ
دحة والمحبة والتعظيم م ْالخلق أن يقابلوه من الصلة والسلم والثناء و ال ِ
والتعزير والتوقير والتواضع في الكلم والطاعة للمر ورعاية الحرمة في
ض
عْر ٌ أهل البيت والصحاب بما ل خفاء به على أحدٍ من علماِء المؤمنينِ ،
ة لقوم ٍ والناُر ه وعبادهُ المؤمنين ،به وجبت الجن ُ ن الله وكتاب ُ به قام دي ُ
126
ض قََرن الله ذكره عْر ٌ سِ ، ة خيَر أمةٍ أخرجت للنا ِ لخرين ،به كانت هذه الم ُ
ة
ة له ،وطاعته طاع ً بذكره وجمع بينه وبينه في كتابةٍ واحدة ،وجعل بيعته بيع ً
در قدرها ،أفيليق ـ لو لم له ،وأذاه أذى له ،إلى خصائص ل تحصى ول يق ّ
عْرض ة منتهك هذا العِْرض كعقوبة منتهك ِ ه كفرا ً ـ أن ُتجعل عقوب ُ يكن سب ُ
غيره؟
ولو فرضنا أن لله نبي ّا ً بعثه إلى أمةٍ ولم يوجب على أمةٍ أخرى أن يؤمنوا به
ه /عالما ً بنبوته إلى أولئك ،أفيجوز أن ل ولعن ُ سّبه رج ٌ عموما ً ول خصوصا ً ف َ
ب واحدا ً من المؤمنين سواٌء؟ هذا أفسد ة من س ّ يقال :إن عقوبته وعقوب َ
من قياس الذين قالوا :إنما البيع مثل الربا.
ك" قلنا :ل نسلم ،فإن العهد الذي بيننا وبينه حل ذل ِ َ ي ي َعْت َِقد ُ ِ
م ّقولهم" :الذ ّ ّ
حّرم عليه في دينه السب كما حّرم عليه دماءنا وأموالنا وأعراضنا ،فهو إذا
ة من العظائم التي لم نصالحه عليها، أظهر السب يدري أنه قد فعل عظيم ً
ثم إن كان يعلم أن عقوبة ذلك عندنا القتل ،وإل فل يجب ،لن مرتكب
الحدود يكفيه العلم بالتحريم كمن زنى أو سرق أو شرب أو قذف أو قطع
عوقب العقوبة المشروعة ،وإن كان الطريق ،فإنه إذا علم تحريم ذلك ُ
ع.
يظن أن ل عقوبة على ذلك أو أن عقوبته دون ما هو مشرو ٌ
ل ،أكثروأيضًا ،فإن دينهم ل يبيح لهم السب واللعنة للنبي وإن كان دينا ً باط ً
ما يعتقدون أنه ليس بنبي ،أو ليس عليهم اتباعه ،أما أن يعتقدوا أن لعنته
بة ،فكثيٌر منهم أو أكثرهم ل يعقدون ذلك ،على أ ن الس ّ وسبه جائز ٌ
نوعان :أحدهما :ما كفروا به واعتقدوه ،والثاني :ما لم يكفروا به ،فهذا
الثاني ل ريب أنهم ل يعتقدون حله.
ض العهد" فإنه إذا فعله ه انتق َك فإذا فعل ُ ك ذل َ ح على تر ِ وأما قولهم" :صول َ
انتقض عهده ،وعوقب على نفس تلك الجريمة ،وإل كان يستوي حال من
سرق وَقطع ل من َقتل و َ ترك العهد ولحق بدار الحرب من غير أذىً لنا ،وحا ُ
الطريق وشتم الرسول مع نقض العهد وهذا ل يجوز.
ي"
ل شرع ّ ي يفتقُر إلى دلي ٍ م شرع ّ ل حد ّا ً حك ٌ ن القت ِ وأما قولهم" :كو ُ
ة من الكتاب والسنةِ والثر والنظر ة الشرعي ُ ح ،وقد تقدمت الدل ُ فصحي ٌ
ب للقتل ،ولم يثبت الدالة على أن نفس السب ـ من حيث خصوصيته ـ موج ٌ
محضًا ،بل أثبتناه بالنصوص وآثار الصحابة، صْرفا ً واستصلحا ً َ ذلك استحسانا ً ِ
ل عليه الكتاب والسنة وإجماعُ ل عليه إيماُء الشارع وتنبيهه ،وبما د َ ّ وما د َ ّ
المةِ من الخصوصية لهذا السب والحرمة لهذا العِْرض التي يوجب أن ل
خّفة حرمته بخفة يصونه إل القتل ،لسيما إذا /قويَ الداعي على انتهاكه و ِ
صُغر في القلوب مقدار من هو أعظم العالمين قدرا ً إذا ساوى في عقابه ،و َ
مرا ً وتمضمض بذكره أعداُء الدين من كافرٍ غادٍر قدر الِعرض زيدا ً وعَ ْ
ة ظهرا ً لبطن أن محاسنها ب الشريع َ من قَل َ َ ر ،فهل يستريب َ ق ماك ٍ ومناف ٍ
توجب حفظ هذه الحرمة التي هي أعظم حرمات المخلوقين ،وحرمتها
127
متعلقة بحرمة رب العالمين بسفك دم واحد من الناس؟ مع قطع النضر
عن الكفر والرتداد فإنهما مفسدتان اتحادهما في معنى التعداد ولسنا الن
للكلم في المصالح المرسلة ،فإنا لم نحتج إليها في هذه المسألة لما فيها
من الدلة الخاصة الشرعية ،وإنما ننبه على عظم المصلحة في ذلك بيانا ً
سحكمة الشرع ،لن القلوب إلى ما فهمت حكمته أسرع انقيادًا ،والنفو ُ ل ِ
إلى ما تطّلع على مصلحته أعطش أكبادًا ،ثم لو لم يكن في المسألة ن ّ
ص
ول أثٌر لكان اجتهاد ُ الرأي يقضي بأن ُيجعل القتل عقوبة هذا الجرم
ة ،حتى لو ُفرض تجرده عن ذلك لكان لخصوصه ،ل لعموم كونه كفرا ً أو رد ً
موجبا ً للقتل أخذا ً له من قاعدة العقوبات في الشرع ،فإنه يجعل أعلى
العقوبات في مقابلة أرفع الجنايات ،وأوسطها في مقابلة أوسطها ،وأدناها
في مقابلة أدناها ،فهذه الجناية إذا انفردت تمتنع أن تجعل في مقابلة الذى
عْرض زيد وعمرو، فتقابل بالجلد أو الحبس تسوية بينها وبين الجناية على ِ
صٌر بأسباب الشرع أن هذا من أفسد أنواع فإنه ل يخفى على من له أدنى ب َ َ
صها ،وأما جعله في خُلوها من عقوبةٍ تخ ّ الجتهاد ،ومثله في الفساد ُ
طع يد الجارية السابة وقلع الوسط كما اعتقده المهاجر بن أبي أمية حتى قَ َ
ل أيضا ً كما أنكره عليه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لن ثنيتها فباط ٌ
ة على أشرف الحرمات ،ولنه ل مناسبة بينها وبين أوسط الجناية جناي ٌ
العقوبات من قطع عضوٍ من العضاء ،فتعّين أن ُتقابل بأعلى العقوبات وهو
القتل.
ب ع ،ثم استراب مستري ٌ ة السب ،وليس معنا فيها أثٌر ُيتب ُ ولو نزلت بنا نازل ُ
د[ من بصراء الفقهاء ،ومثل في أن الواجب إلحاقها بأعلى الجنايات لما ]عُ ّ
هذه المصلحة /ليست مرسلة بحيث أن ل يشهد لها الشرعُ بالعتبار ،فإذا
ص يلحق به ،ولبد من الحكم فيها ،فيجب أن ل خا ّ ُفرض أنه ليس لها أص ٌ
زم العمل حكم فيها بما هو أشبه بالصول الكلية ،وإذا لم ُيعمل بالمصلحة ل َ ِ يُ ْ
ب الفساد. بالمفسدة ،والله ل يح ّ
ول شك أن العلماء في الجملة ـ من أصحابنا وغيرهم ـ قد يختلفون في هذا
ص ،والمام أحمد قد س خا ّ
الضرب من المصالح إذا لم يكن فيها أثٌر ،ول قيا ٌ
يتوقف في بعض أفرادها مثل الجاسوس المسلم ونحوه إن جعلت من
س
أفرادها ،وربما عمل بها ،وربما تركها إذا لم يكن معه فيها أثٌر أو قيا ٌ
ص ،ومن تأمل تصاريف الفقهاء علم أنهم يضطرون إلى رعايتها إذا لم خا ّ
ف من أهل يخالف أصل ً من الصول ،ولم يخالف في اعتبارها إل طوائ ُ
الكلم والجدل من أصحابنا وغيرهم ،ولو أنهم خاضوا مخاض الفقهاء لعلموا
ج فيه شيٌء ،والكلم على أنه لبد من اعتبارها ،وذوق الفقه ممن ل َ ّ
ج َ
حواشيه من غير معرفة أعيان المسائل شيٌء آخر .وأهل الكلم والجدل
زمون غيرهم ما ل يقدرون على إنما يتكلمون في القسم الثاني ،في ُل ْ ِ
128
ت ة و عموما ٍ التزامه ،ويتكلمون في الفقه كلم من ل َيعرف إل أمورا ً كلي ً
ل يدركها من عرف أعيان المسائل. ص نظرٍ ودلئ ُ ة ،وللتفاصيل خصو ُ إحاطي ّ ً
وأثبتاه أيضا ً بالقياس الخاص ،وهو القياس على كل من ارتد ون ََقض العهد
صة بالقتل ،وبيّنا أن هذا أخ ّ ضّر المسلمين مضرة ً فيها العقوب ُ على وجه ي ُ
ة ،ومجردِ نقض العهد ،وأن الصول فّرقت بينهما. من مجرد الرد ِ
ل دمه بما فعله ،والدلة ح ّوأثبتناه أيضا ً بالنفي لحقن دمه ،وب َي ّّنا أن هذا َ
ى. ً
ض ل تتناوله لفظا ول معن ً العاصمة لمن أسلم من مرتد ّ وناق ٍ
ف ما عليه الفقهاء ،وهو قو ٌ
ل ح" خل ُ ب ل يص ّ س في السبا ِ وقولهم" :القيا ُ
ل قطعًا ،لكن ليس هذا موضعُ الستقصاء في ذلك. باط ٌ
سّلم هذا على ة نوِع الحكمةِ وقدرها متعذٌر" ،قلنا :ل ن ُ َ وقولهم" :معرف ُ
الطلق ،بل قد يمكن وقد يتعذر ،بل ربما علم قطعا ً أن /الفرع مشتم ٌ
ل
على الحكمة الموجودة في الصل وزيادة.
قولهم" :هو يخرج السبب عن أن يكون سببًا" ليس كذلك ،فإن سبب
السبب ل يمنعه أن يكون سببًا ،والضافة إلى السبب ل تقدح في الضافة
ي.إلى سبب السبب ،والعلم بها ضرور ّ
وأما قولهم" :ليس في الجنايات الموجبةِ للقتل حد ّا ً ما يجوز إلحاقُ السب
بها" ،قلنا :بل هو ملحق بالردة المقترنة بما يغلظها والنقض المقترن بما
ب أبلغ من الفساد الحاصل بتلك يغلظه ،وإن الفساد الحاصل في الس ّ
المور المغّلظة كما تقدم بيانه بشواهده من الصول الشرعية ،على أن هذا
ل في نفسه كما تقدم ثم إن س به ،بل هو أص ٌ ل يقا ُ ن عن أص ٍ الحكم مستغ ٍ
هذا الكلم يقابل بما هو أنور منه بيانًا ،وأبهر منه برهانًا ،وذلك أن القول
لل ل دلي َ
ب ـ بعد التفاق على حل دمه ـ قو ٌ ف عن هذا السا ّ بوجوب الك ّ
س له على بعض المرتدين وناقضي العهد مع ظهور الفرق عليه إل قيا ٌ
ه فاسدًا ،فإن ه كان قياس ُ بينهما ،ومن قاس الشيء على ما يخالفه ويفارقُ ُ
ب مع تباينهما في نوع الحكمة ب على س ٍ س لسب ٍ جَعل هذا سببا ً عاصما ً قيا ٌ َ
ض من ب[ الذي هو أعظم الجناية على العرا ِ س ّ وقدرها ،ثم إنه إخلء ]ِلل ّ
ج عن العقوبات ،ول عهد لنا بهذا ]ِفي[ الشرع ،فهو إثبات حكم ٍ خار ٍ
ل لكونه موجبا ً للقتل موجبا ً لكونه أهون من أعراض الناس القياس ،وجع ٌ
ج عن موجب في باب السقوط ،وهذا تعليقٌ على العلة ضد مقتضاها ،وخرو ٌ
ب سببا ً لتخفيفها في الصول ،فإن العقوبات ل يكون تغلظها في الوجو ِ
ة كانت أوط ،لكن إن كان جنسها مما يسقط سقطت ،خفيف ً السقوط ق ّ
ة
ة كانت أو غليظ ً ض المواضِع ،ولم تسقط خفيف ً ق اللهِ في بع ِ ة ،كحقو ِ غلظ ً
ق العباد.كحقو ِ
ثم إن القول باستتابة الساب قول يخالف كتاب الله ويخالف صريح سنة
رسول الله وسنة خلفائه وأصحابه ،والقول بأن لحق للرسول على
الساب إذا أسلم الذمي أو المسلم ول عقوبة له عليه قول يخالف
129
حكما ً المعروف من سيرة رسول الله ،ويخالف أصول الشريعة ،وي ُْثبتُ /
ل ول نظير إل أن ُيلحق بما ليس مثل ً له. ليس له أص ٌ
ب للقتل ،وإنما بيّنا أن ك ّ
ل الجواب الثاني :أنا لم ن َد ِّع أن مجرد السب موج ٌ
ض للعهد ،بما يضر فيقتل بمجموع المرين السب ة ونق ٌ ب فهو محارب ٌ س ّ
م التأثير ،فإن فساد َ ب عدي ُ ص الس ّ ونقض العهد ،ول يجوز أن يقال :خصو ُ
م قطعا ً بما ذكرناه من الدلة القاطعة على تأثيره ،وإذا كان كذلك هذا معلو ٌ
ظ للسبب فلم نثبته سببا ً خارجا ً عن السباب المعهودة وإنما هو مغل ّ ٌ
ل دمه ،ثم إن كان قد ح ّبل ِ المعروف وهو الكفر ،كما أن قتل النفس موج ٌ
قتله في المحاربة تغّلظ بتحّتم القتل ،وإل بقي المر فيه إلى الولياء،
ودًا ،ولطاع الطريق ل ُيقال فيه" :قُِتل قَ َ م أن المقتول من قُ ّ ومعلو ٌ
د ،وإنما ُيضاف القتل ِقصاصًا" حتى ترتب عليه أحكام من يجب عليه الَقوَ ُ
إلى خصوص جنايته،وهو القتل في المحاربة ،كذلك هنا الموجب هو
خصوص المحاربة.
ة ،أو لخصوص َ
ة مترددةٌ بين كون القتل لمجردِ المحارب ِ وقولهم" :الدل ُ
ص في أن السب مؤثٌر تأثيرا ً زائدا ً على مطلق تأثير ب" قلنا :هي نصو ٌ الس ّ
د ،فل يجوز إهمال خصوصه بعد اعتبار الشرع له ،وأن الكفر الخالي عن عه ٍ
يقال :إنما المؤثر مجرد ما في ضمنه وطيه من زوال العهد ،ولذلك وجب
قتل صاحبه عينا من غير تخيير كما قررنا دللته فيما مضى ،وإذا كان كذلك
ل على أن القتل المباح َيسقط بالسلم وإن كان فليس مع المخالف ما يد ّ
هذا من فروع الكفر ،كما أن الذمي إذا استحل دماء المسلمين وأموالهم
وأعراضهم فانتهكها لعتقاده أنهم كفاٌر وأن ذلك حلل له منهم ثم أسلم
فإنه يعاقب على ذلك :إما بالقتل إن كان فيها ما يوجب القتل ،أو بغيره،
ي يهوديًا ،أوي ـ مثل أن يقتل نصران ّ ي من ذم ّ وكذلك لو استحل ذلك ذم ّ
ل له ،أو يقذفه ،أو يسبه ـ فإنه يعاقب على يأخذ ماله لعتقاده أن ذلك حل ٌ
طع الطريق على قافلةٍ فيهم ذلك عقوبة مثله وإن أسلم ،وكذلك لو قَ َ
مسلمون ومعاهدون فَقَتل بعض أولئك المسلمين أو المعاهدين قُِتل لجل
ذلك حتما ً وانتقض /عهده وإن أسلم بعد ذلك ،وإن كان هذا من فروع
م
ه قبل العهد ولو فعله مسل ٌ ل انتقض عهده بأمرٍ يعتقد ُ حل ّ ُ الكفر ،فهذا رج ٌ
ل واحدٍ من الكفر مي ًّا ،وك ّ لم ُيقتل عند كثير من الفقهاء إذا كان المقتول ذ ّ
ومن القتل مؤثٌر في قتله وإن كان عهده إنما زال بهذا القتل ،فهذا نظير
السب ،ثم لو أسلم هذا لم يسقط عنه القتل بل يقتل إما حدا ً أو قصاصًا،
سواٌء كان ذلك القتل مما ُيقتل به المسلم ـ بأن يكون المقتول مسلما ً ـ أو
ل ُيقتل به بأن يكون المقتول ذميًا ،وعلى التقديرين ُيقتل هذا الرجل بعد
ل ،وقتله ذلك المعاهد من غير أهل دينه ،وإن إسلمه ،كقطعهِ الطريقَ مث ً
كان إنما فعل هذا مستحل ً له لكفره ،وهو قد تاب من ذلك الكفر ،فتكون
ة من فروعه ،وذلك لن هذا الفرع ليس من لوازم الكفر ،بل التوبة منه توب ً
130
م عليه في دينه لجل الذمة ،كما أن تلك الدماء والموال محرمة هو محّر ٌ
عليه لجل الذمة.
ومنشأ الغلط في هذا المسألة اعتقاد أن الذمي يستبيح هذا السب ،فإن
ط ،إذ ل فرق ـ بالنسبة إليه ـ بين إظهار الطعن في دين المسلمين هذا غل ٌ
د ،له عليه العه ُ حّرم ُ
وبين سفك دمائهم ،وأخذ أموالهم ،إذ الجميع إنما َ
ن المجّرُد ،فكيف لم يندرج أخذه لعِْرض بعض المة أو لعِْرض واحدٍ من الدي ُ
غير أهل دينه من أهل الذمة في ضمن التوبة من كفره مع أنه فرعه،
واندرج أخذه لعِْرض نبينا في ضمن التوبة من كفره؟
طسِق ُ ب أنه إنما ُيقتل للكفر والحراب فقوله" :السلم ي ُ ْ الجواب الثالث :هَ ْ
ق" غلط ،وذلك أّنا إنما اتفقنا على أنه ب ِبالت َّفا ِ حَرا ِ ت ل ِل ْك ُْفرِ َوال ِ ل الثا ّب ِ َ الَقت ْ َ
َيسقط القتل الثابت للكفر والحراب الصلي ،فإن ذلك إذا أسلم لم ُيؤخذ
ض للمسلمين ،أما الحراب ب في الجاهلية من دم أو مال أو عر ٍ بما أصا َ
من الذي وافق على أن القتل الثابت بجميع أنواعه يسقط الطارئ ،ف َ
بالسلم؟ نعم نوافق على ما إذا نقض العهد بما ل ضرر على المسلمين
َ
م[ ثم حارب وأفسد بقطع طريق أو زنى سل َ َفيه ثم أسلم ،أما إذا ]أ ْ
ل كما دل عليه ن في الدين فهذا يقتل بكل حا ٍ بمسلمةٍ أو قتل مسلم ٍ أو طع ٍ
الكتاب والسنة ،وهو ُيقتل في مواضع بالجماع كما إذا َقتل في المحاربة،
ل على أنه يقتل، معا ً عليه فهو كمح ّ
ل النزاِع ،والقرآن يد ّ وحيث لم يكن /مج َ
ة،لنه إنما استثنى من تاب قبل القدرة في الجملة ،فهذه المقدمة ممنوع ٌ
والتمييز بين أنواع الحراب يكشف اللبس.
وأما ما ذكروه من أن الكافر أو المسلم إذا سب فيما بينه وبين الله وقذف
النبياء ثم تاب قبل الله توبته ،ولم يطالبه النبي بموجب قذفه في الدنيا ول
ب قذف اليهود لمريم وابنها وقولهم في النبياء ج ّ في الخرة ،وأن السلم ي َ ُ
ه[
صّرح ]ب ِ ِ والرسل ،فهو كما قالوا ،ول ينبغي أن ُيستراب في مثل هذا ،وقد َ
بعض أصحابنا وغيرهم وقالوا :إنما الخلف في سقوط القتل عنه ،أما توبته
ة :فإن الله يقبل التوبة ]عن عباده[ من وإسلمه فيما بينه وبين الله فمقبول ٌ
الذنوب كّلها ،و عموم الحكم في توبة المسلم والذمي ،فأما توبة المسلم
فقد تقدم القول فيها ،وأما توبة الذمي من ذلك ،فإن كان ذلك السب ليس
ناقضا ً للعهد بأن يقوله سرا ً فتوبته منه كتوبة الحربي من جميع ما يقوله
ة الذمي من جميع ما ي ُِقّر عليه من الكفر ،فإن هذا لم يكن ويفعله وتوب ُ
ه( بعقد الذمة ,وليس كلمنا فيه ،وبه يخرج الجواب عما ذكروه، ممنوعا ً )من ْ ُ
ة على مغفرته بالسلم ليس هو السب الذي فإن السب الذي قامت الدل ُ
ينتقض به عهد الذمي إذا فعله ،وإنما فُّرق في الذمي بين الجهر بالسب
ن ول سّره من السب ل يمنعه منه إيما ٌ والسرار به بخلف المسلم لن ما ي ُ ِ
ن ،أل ترى أنه لو قذف واحدا ً من المسلمين سرا ً مستحل ً لذلك ثم أسلم أما ٌ
م أن الكافر الذي ل عهد معه ي ثم أسلم ،ومعلو ٌ كان كما لو قذفه وهو حرب ّ
131
يمنعه من شيٍء متى أسلم سقط عنه جميع الذنوب تبعا ً للكفر ،نعم لو أتى
ب بما يعتقده حراما ً في دينه ثم أسلم ففي سقوط حق المسبوب من الس ّ
هنا نظٌر ،ونظيرهُ أن يسب النبياء بما يعتقده محّرما ً في دينه ،وأما إن كان
ل كقتله السب ناقضا ً للعهد فإظهاره له مستحل ً له في الصل وغير مستح ّ
مستحل ،فالتوبة هنا تسقط حق الله في الباطن، المسلم مستحل ً أو غير ُ
ة
ي ففيه نظر ،والذي يقتضيه القياس أنه كتوب ِ وأما إسقاطها لحقّ الدم ّ
م :إن كان قد بلغ المشتوم فل بد من استحلله ،وإن لم يبلغه ففيه المسل ِ
محّرما ً عليه ،وقد انتهكه ،فهو ف مشهور /وذلك لنه حقّ آدمي يعتقده ُ خل ٌ
كما لو قتل المعاهد مسلما ً سّرا ً ثم أسلم وتاب ،أو أخذ له مال ً سّرا ً ثم
أسلم ،فإن إسلمه ل ُيسقط عنه حقّ الدمي الذي كان يعتقده محرما ً عليه
بالعهد ،ل ظاهرا ً ول باطنًا ،وهذا معنى قول من قال من أصحابنا" :إن توبته
ة" فإن الله يقبل التوبة من الذنوب كلها ،فإن الله فيما بينه وبين اللهِ مقبول ٌ
يقبل التوبة من حقوقه مطلقا ً وأما حقوق العباد فإن التوبة ل تبطل
ه الله عنها من حقوقهم ،بل إما أن يستوفيها صاحبها ممن ظلمه ،أو يعوض ُ
فضله العظيم.
ل شيٍء كان يستحله في كفره ُتسقط ة من ك ّ وجماعُ هذا المر أن التوب َ
حقوق الله وحقوق العباد ظاهرا ً وباطنًا ،لكن السب الذي نتكلم فيه هو
السب الذي ُيظهره الذمي ،وليس هذا مما كان يستحله كما لم يكن
يستحل دماءنا وأموالنا ،وإن كان ذلك مما يستحله لول العهد.
وقد تقدم ذكر هذا ،وبّينا أن العهد يحرم عليه في دينه كثيرا ً مما كان يعتقد ُهُ
ب الذي يعتقد صحته ،وأما ة المرتد من الس ّ حلل ً لول العهد ،ونظير هذا توب ُ
ي،م ّما لم يكن يستحله وهو إظهار السب ففيه حقان :حقّ لله ،وحقّ ِللد َ ِ
ي
فتوبته ُتسقط فيما بينه وبين الله حقه ،لكن ل يلزم أن تسقط حقّ الدم ّ
في الباطن ،فهذا الكلم على قبول التوبة فيما بينه وبين الله.
ه:وحينئذٍ فالجواب من وجو ٍ
أحدها :أن المواضع الذي ثبت فيه قبول توبته فيما بينه وبين الله من حق
الله وحق عباده ليس هو الموضع الذي ينتقض فيه عهده وُيقتل وإن تاب،
دعى أنه يسقط حق العباد في جميع الصور فهذا محل منٍع لما فيه فإن ا ّ
من الخلف ،فلبد من إقامة الدللة على ذلك ،والدلة المذكورة لم تتناول
السب الظاهر الذي ينتقض به العهد.
الوجه الثاني :أن صحة التوبة فيما بينه وبين الله ل ُتسقط حقوق العباد من
ف أو قطع طريق ل أو قذ ٍ
ن من تاب من قت ٍ العقوبة المشروعة في الدنيا ،فإ ّ
أو غير ذلك فيما بينه وبين الله فإن ذلك ل ُيسقط حقوق العباد من القود
ة/
ي ،فإن كانت التوب ُ ب فيه حقّ لدم ّوحد ّ القذف وضمان المال ،وهذا الس ّ
ُيغفر له بها ذنبه المتعّلق بحق الله وحق عبادهِ فإن ذلك ل يوجب سقوط
حقوق العباد من العقوبة.
132
لل حا ٍ الوجه الثالث :أن من يقول بقبول التوبة من ذلك في الباطن بك ّ
ة من جميع الذنوب ،حتى إنه يقول :إن توبة العبد فيما بينه وبين الله ممكن ٌ
جي لو سب سرا ً آحادا ً من الناس موتى ثم تاب واستغفر لهم بدل سبهم ل َُر ِ
ب النبياء أن َيغفر الله له ،ول ُيكلف الله نفسا ً إل وسعها ،فكذلك سا ّ
ق
والرسل لو لم ُتقبل توبته وتغفر زلته ل نسد ّ باب التوبة وقطع طري ُ
َ المغفرة والرحمة ،وقد قال تعالى :لما نهى عن الغيبة :أ َي ُ ِ
نمأ ْ حد ُك ُ ْ
بأ َ ح ّ
م فُعلم أن حي ٌ ب َر ِوا ٌ
ه تَ ّ
ن الل َه إِ ّ موهُ َوات ُّقوا الل َ مْيتا ً فَك َرِهْت ُ ُ م أَ ِ
خي ْهِ َ ح َ ل لَ ْ ي َأ ْك ُ َ
ل ،وإن كان الذي اغتيب ميتا ً أو غائبًا، ل حا ٍ ل إلى التوبة بك ّ المغتاب له سبي ٌ
ح الروايتين ليس عليه أن يستحله في الدنيا إذا لم يكن عَِلم، بل على أص ّ
فإن فساد ذلك أكثر من صلحه ،وفي الثر" :كفارةُ الغيبةِ أن تستغفر لمن
ت أما إذا كان سّيئا ِن ال ّ ت ي ُذ ْهِب ْ َ
سَنا ِح َن ال َه" وقد قال تعالى :إ ِ ّ اغتبت ُ
ح حتى يستح ّ
ل ب فقد يقول هنا :إن التوبة ل تص ّ ل حيا ً وقد بلغه الس ّ الرسو ُ
م ،وأبو سفيان بن ل عنه ،كما فعل أنس بن زني ٍ ل ويعفو الرسو ُ الرسو َ
الحارث ،و عبدالله بن أبي أمية ،و عبدالله بن سعد بن أبي سرح ،وابن
الّزب َعَْرى ،وإحدى القينتين ،وكعب بن زهير ،وغيرهم ،كما دلت عليه السيرةُ
لمن تدبرها ،وقد قال كعب بن زهير:
ل
سو ِ عند َ َر ُ والعفوُ ِ ل اللهِ أ َوْعَد َِني سو َ ن َر ُ
َ
تأ ّ أنِبئ ُ
ُ
مو ُ
ل الله ْ
مأ ُ ِ َ
ه"
وإنما يطلب العفو في شيٍء يجوز فيه العفو والنتقام ،وإنما يقال" :أوعَد َ ُ
حكم اليعاد باقيا ً بعد السلم ،وإل فلو كان اليعاد معلقا ً ببقائه على إذا كان ُ
د.
الكفر لم يبق إيعا ٌ
ل بماط حقّ الرسو ِ إذا تقّرر هذا فصحة التوبة فيما بينه وبين الله ،وسقو ُ
ل إذا ه من اليمان به الموجب لحقوقه ل يمنع أن يقيم عليه حد الرسو ِ أبدل ُ
ثبت عند السلطان ،وإن /أظهر التوبة بعد ذلك ،كالتوبة من جميع الكبائر
الموجبةِ للعقوبات المشروعة ،سواٌء كانت حقا ً لله أو حقا ً لدمي ،فإن توبة
ة ،مع أنه إذا ظهر عليه العبد فيما بينه وبين الله ـ بحسب المكان ـ صحيح ٌ
د ،وقد أسلفنا أن سب الرسول فيه حقّ لله وحقّ لدمي، أقيم عليه الح ّ
وأنه من كل الوجهين يجب استيفاؤه إذا رفع إلى السلطان وإن أظهر
ه.
ة بعد الشهادة علي ِ الجاني التوب َ
وأما ما ذكره من كون سب الرسول ليس بأعظم من سب الله ،وأن ما
ف فلجله ،ففي الجواب عنه طريقان: فيه من الشر ِ
ة
قط التوب ُ أحدهما :أنه ل فرق بين التائبين فإن ساب الله أيضا ً ُيقتل ،ول ُتس ِ
ل عنه ،إما لكونه دليل ً على الزندقة في اليمان والمان ،أو لكونه ليس القت َ
ض ،وإنما هو من باب الستخفاف بالله والستهانة ،ومثل هذا مجرد ردةٍ ونق ٍ
ل يسقط القتل عنه إذا تاب بعد الشهادة عليه كما ل يسقط القتل عنه إذا
133
انتهك محارمه ،فإن انتهاك حرمته أعظم من انتهاك محارمه ،وسيأتي إن
شاء الله تعالى ذكر ذلك ،ومن قاله من أصحابنا وغيرهم ،ومن أجاب بهذا
ل توبتهم ،لنه ل خلف في لم يورد عليه صحة إسلم النصراني ونحوه وقبو ِ
ل التوبةِ مطلقا ً إذا لم ُيظهروا قبول التوبة فيما بينه وبين الله وفي قبو ِ
ن ،ودعاؤهم ب وطع ٌ ف فيما إذا أظهر النصراني ما هو س ّ ب ،وإنما الخل ُ الس ّ
إلى التوبة ل يمنع إقامة الحدود عليهم إذا كانوا معاهدين كقوله سبحانه
م ي َُتوُبوا وكانت فتنتهم م لَ ْ ت ثُ ّ مَنا ِ مؤ ْ ِ ن َوال ُمِني َ مؤ ْ ِن فَت َُنوا ال ُ ذي َن ال ّ ِ وتعالى :إ ِ ّ
أنهم ألقوهم في النار حتى كفروا ،ولو فعل هذا معاهد ٌ بمسلم ٍ فإنه يقتل
وإن أسلم بالتفاق ،وإن كانت توبته فيما بينه وبين اللهِ مقبولة.
وأيضًا ،فإن مقالت الكفار التي يعتقدونها ليست من السب المذكور ،فإنهم
بيعتقدون هذا تعظيما ً لله ودينا ً له ،وإنما الكلم في السب الذي هو الس ّ
ب وغيره من الناس ،وفرقٌ بين من يتكلم في حقه بكلم ٍ يعتقدهُ عند السا ّ
ف به ،ولهذا تعظيما ً له ،وبين من يتكلم بكلم ٍ يعلم أنه استهزاٌء به واستخفا ٌ
ن بين المستحل ب والقذف ونحوه ّ فُّرق في القتل والزنى /والسرقة والشر ِ
لذلك المعذور وبين من يعلم التحريم.
ن الله هُوَ الد ّهُْر" وقوله فيما سّبوا الد ّهَْر ،فَإ ِ ّ وكذلك قول النبي " :ل َ ت َ ُ
ُ َ
مُر أقَل ّ ُ
ب دي ال ْ ب الد ّهَْر ،ب ِي َ ِ س ّ ن آدم ،ي َ ُ يروي عن ربه عز وجل" :ي ُؤِْذيني اب ْ ُ
ل َوالن َّهاَر" فإن من سب الدهر من الخلق لم يقصد سب الله سبحانه، الل ّي ْ َ
وإنما يقصد أن يسب من َفعل به ذلك الفعل مضيفا ً له إلى الدهر ،فيقع
م السب على الله ،لنه هو الفاعل في الحقيقة ،وسواٌء قلنا إن الدهر اس ٌ
م ،وإنما أسماِء الله تعالى كما قال نعيم بن حماد ِ أو قلنا إنه ليس باس ٍ من
ب َ
قوله" :أَنا الد ّهُُر" إي أنا الذي أفعل ما ينسبونه إلى الدهر ويوقعون الس ّ
ب الدهر ،ول عليه كما قاله أبو عبيدة و الكثرون ،ولهذا ل ي ُك َّفر من س ّ
ب المذكور في قوله تعالى: من ْط ِِقه ،والس ّ دب وي ُعَّزر لسوء َ يقتل ،لكن ي ُؤَ ّ
عل ْم ٍ قد دوا ً ب ِغَي ْرِ ِ ه عَ ْ سّبوا الل َ ن اللهِ فَي َ ُ دو ِ ن ُ م ْ ن ِ عو َ ن ي َد ْ ُ ذي َ سّبوا ال ّ َِول ت َ ُ
ب الكفاُر من يأمرهم بذلك قيل :إن المسلمين كانوا إذا سبوا آلهة الكفار س ّ
وإلههم الذين يعبدونه معرضين عن كونه ربهم وإلههم ،فيقع سبهم على
الله لنه إلهنا و معبودنا ،فيكونوا سابين لموصوف وهو الله سبحانه ولهذا
ب الدهر من بعض الوجوه، ه بس ّ عل ْم ٍ وهو شبي ٌ دوا ً ب ِغَي ْرِ ِ قال سبحانه :عَ ْ
ة :كان غلوا ً في الكفر ،قال قََتاد ُ دوا ً و ُ صّرحون بسب الله عَ ْ وقيل :كانوا ي ُ َ
م ،فأنزل الله: ب الكفاُر الله بغير عل ٍ المسلمون يسبون أصنام الكفارِ فيس ّ
عل ْم ٍ وقال ِ دوا ً ب ِغَي ْرِ ه عَ ْ سّبوا الل َ ن اللهِ فَي َ ُ دو ِ ن ُ م ْ ن ِ عو َ ن ي َد ْ ُ ذي َ سّبوا ال ّ َِول ت َ ُ
أيضًا :كان المسلمون يسبون أوثان الكفاِر ،فيردون ذلك عليهم ،فنهاهم
ة ل علم لهم بالله ،وذلك أنه في الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوما ً جهل ً
ة لعدوه إذا كان يعظمه أيضًا، ب الجاهل من يعظمه مراغم ً اللجاجةِ أن يس ّ
كما قال بعض الحمقى:
134
ك َْفرا ً ب ِك ُْفرٍ وإيمانا ً بإيما ِ
ن سّبوا عَت ِي َْقك ُ ْ
م سّبوا عَِليا ّ ك َ َ
ما َ ُ
ل بعض جهال م ُ ح ِوكما يقول بعض الجهال :مقابلة الفاسد بالفاسد وكما قد ت َ ْ
المسلمين الحمية على أن يسب عيسى إذا جاهره المحاربون بسب رسول
الله وهذا من الموجبات للقتل.
الطريقة الثانية :طريقة من فَّرق بين سب الله وسب رسوله ،وذلك من
ه:وجو ٍ
ض لله ،وذلك يسقط بالتوبة كالزنى والسرقة أحدها :أن سب الله حقّ مح ٌ
ب النبي فيه حقان :لله وللعبد ،فل يسقط ح ّ
ق وشرب الخمر ،وس ّ
ه.
ي بالتوبة كالقتل في المحاربة ،هذا فرق القاضي أبي يعلى في خلف ِ الدم ّ
س
ق ،وهو من جن ِ ه مخلو ٌ ب ،لن ُ ه المعّرةُ بالس ّ الثاني :أن النبي تلحق ُ
ب والشتم ،وكذلك يثابون ة بالس ّ الدميين الذين تلحقهم المعّرةُ والغضاض ُ
عوضا ً على ما ت الشاتم أو من عنده ِ على سبهم ،ويعطيهم الله من حسنا ِ
من سبه فقد انتقص حرمته ،والخالق أصابهم من المصيبة بالشتم ،ف َ
ق المنافع ه منزهٌ عن لحو ِ ة بذلك ،فإن ُ سبحانه ل تلحقه معرةٌ ول غضاض ٌ
م لَ ْ
ن عَباِدي إ ِن ّك ُ ْ ه َ" :يا ِ والمضاّر ،كما قال سبحانه فيما يرويه عنه رسول ُ
ب النبي ضّروِني ،وََلن ت َب ْل ُُغوا ن َْفِعي فَت َن َْفُعوِني" وإذا كان س ّ ضّري فَت َ ُ ت َب ْل ُُغوا ُ
م ،وربما كان سببا ً ضي ٌصه في النفوس ،وتلحقه بذلك معّرةٌ و َ قد ي ُؤَث ُّر انتقا ُ
شرعت العقوبة على خصوص للتنفير عنه ،وقلة هيبته ،وسقوط حرمتهُ ،
الفساد الحاصل بسبه ،فل تسقط بالتوبة كالعقوبة على جميع الجرائم ،وأما
ه بمنزلةِ الكافر والمرتد ،فمتى تاب زال س ُ
ضر نف َ ب الله سبحانه فإنه ي ّ سا ّ
ضرُر نفسه فل يقتل.
وهذا الفرق ذكره طوائف من المالكية والشافعية والحنابلة ،منهم القاضي
جّرِد" وأبو علي بن البناء، م َ عبدالوهاب بن نصر ،والقاضي أبو يعلى في "ال ُ
ب النبي حد ّ لل ِ
ه ه مع قولنا :إن س ّ ل ،وغيرهم ،وهو يتوج ُ وابن عقي ٍ
ة. كالزنى والسرق ِ
شرع عليه حد ّ يؤيد ُ ذلك أن القذف بالكفر أعظم من القذف بالزنى ،ثم لم ي ُ ْ
شرع على الرمي بالزنى ،وذلك لن المقذوف بالكفر ل يلحقه مقد ٌّر كما ُ
بالعار الذي /يلحقه بالرمي بالزنى ،لنه بما ُيظهر من اليمان ُيعلم كذ ُ
ة ،بخلف الزنى فإنه القاذف ،وبما ُيظهره من التوبة تزول عنه تلك المعّر ُ
عرف الناس ه في ُ ه ،ول تزول معّرت ُ سّر به ،ول يمكنه إظهار البراءة من ُ ست َ َ يُ ْ
ن وأهلهِ من المعرةِ ما حق بالدي ِ ب الرسول ي ُل ْ ِ ة ،فكذلك سا ّ عند إظهار التوب ِ
ب اللهِ ظاهرا ً معلوما ً لكل أحدٍ ه ،لكون المنافي لس ّ ب الل َ ل يلحقهم إذا س ّ
س. ك فيه ك ّّ علما ً يشتر ُ
ل النا ِ
135
ب اللععه غالب عا ً ل ب الرسول يكون على وجه السععتخفاف وس ع ّ س ّ
يكون على هذا الوجه
ب على وجه الستخفاف به والستهانة، س ّ الوجه الثالث :أن النبي إنما ي ُ َ
وللنفوس الكافرة والمنافقة إلى ذلك داٍع :من جهة الحسد على ما آتاه الله
ه ،ومن جهةِ النقهار تحت حكم دينه ه ،ومن جهةِ المخالفةِ في دين ِ من فضل ِ
ن إليها داٍع فل بد ّ من ه ،وكل مفسدةٍ يكو ُ ُ
ه ،ومن جهةِ المراغمة لمت ِ وشرع ِ
شرعت العقوبة عليه لم َيسقط بالتوبة شرع العقوبة عليها حدّا ،وكل ما ُ
كسائر الجرائم ،وأما سب الله سبحانه فإنه ل يقع في الغالب استخفافا ً
ة ،وإنما يقع تدينا ً واعتقادًا ،وليس للنفوس في الغالب داٍع إلى واستهان ً
ب إل عن اعتقاٍد ،يرونه تعظيما ً وتمجيدًا ،وإذا كان كذلك لم يحتج إيقاع الس ّ
ر ،فيقتل النسان عليه ر ،بل هو نوعٌ من الكف ِ خصوص السب إلى شرٍع زاج ٍ
ب.لردته وكفره ،إل أن يتو َ
ن لن مفسدة وهذا الوجه من نمط الذي قبله ،والفرق بينهما أن ذلك بيا ٌ
نالسب ل تزول بإظهار التوبة ،بخلف مفسدة سب الله تعالى ،والثاني بيا ٌ
بجر عليه لخصوصه كشر ِ ي فُيشرع الّز ْ ل إليه داٍع ط ََبع ّ ب الرسو ِ لن س ّ
خصوصه إلى حد ّ ي فل يحتاج ُ ب الله تعالى ليس إليه داٍع ط ََبع ّ الخمر ،وس ّ
زاجرٍ كشرب البول وأكل الميتة والدم.
ت لم ُيعلم أنه ي مي ٍ ب آدم ّ والوجه الرابع :أن سب النبي حد ّ وجب لس ّ
علم أنه ب الله تعالى ،فإنه قد ُ عفا عنه ،وذلك ل َيسقط بالتوبة ،بخلف س ّ
ه
مترد ّد ٌ في سقوط حد ّ ِ ل ُب الرسو ِ قد عفا عمن سبه إذا تاب ،وذلك أن س ّ
ب سائرِ الدميين ،فيجب إلحاقه بأشبه الصلين به، بالتوبةِ بين سب اللهِ وس ّ
ب الدمي إنما لم تسقط عقوبته /بالتوبة لن حقوق الدميين م أن س ّ ومعلو ٌ
ل تسقط بالتوبة ،لنهم ينتفعون باستيفاء حقوقهم ،ول ينتفعون بتوبة
ن له أن يأخذه ف فإ ّ ص أو قذ ٍ ن للدمي ْعليه حقّ قصا ٍ م ْ
التائب ،فإذا تاب َ
ض ،وحقّ الله قد علم سقوطه عْر ٍ ك ث َأرٍ وصيانة ِ منه لينتفع به اشتفاًء ود َْر َ
د ،فإذا رجعوا إلى ما بالتوبة ،لنه سبحانه إنما أوجب الحقوق لينتفع بها العبا ُ
ُ
ينفعهم حصل مقصود اليجاب ،وحينئذٍ فل ريب أن حرمة الرسول ألحقت
ن في دين الله وكتابه، ن فيه طع ٌ بحرمة الله من جهةِ التغليظ ،لن الطع َ
وهو من الخلق الذين ل تسقط حقوقهم بالتوبة ،لنهم َينتفعون باستيفاء
ل على ذلك من أن رسول الله الحقوق ممن هي عليه ،وقد ذكرنا ما د ّ
كان له أن ُيعاقب من آذاه وإن جاءه تائبًا ،وهو كما أنه ب َّلغ الرسالة
لينتفع بها العباد ُ فإذا تابوا ورجعوا إلى ما أمرهم به فقد حصل مقصوده،
فهو أيضا ً يتأّلم بأذاهم له ،فله أن يعاقب من آذاه تحصيل ً لمصلحة نفسه،
كما له أن يأكل ويشرب ،فإن تمكين البشر من استيفاِء حقهِ ممن بغى
مًا ،ثم إليه
سغ ّ عليه من جملة مصالح النسان ،ولول ذلك لماتت النفو ُ
م ،فيكون فاعل ً م ،فقد تترجح عندهُ مصلحة النتقا ِ خَيرةُ في العفوِ والنتقا ِ ال ِ
136
ز ،كما له أن يتزوج النساء ،وقد يترجح العفو ،والنبياءُ ـ ظ جائ ٍ لمر مباح وح ّ
ٍ
ً
ح عنده أحيانا النتقام ،وُيشد ّد ُ الله ج ُم ـ منهم من كان قد يتر ّ عليهم السل ُ
ن أشد من الصخر كنوٍح وموسى ،ومنهم من كان قلوبهم فيه حتى تكو َ
ن ألَين من اللبن يترجح عنده العفوُ فيلين الله قلوبهم فيه حتى تكو َ
زم إهداُر ه ،وإل ل َ ِ كإبراهيم وعيسى ،فإذا تعذر عفوه عن حّقهِ تعين استيفاؤُ ُ
ة.
حقهِ بالكلي ّ ِ
َ
قولهم" :إذا سقط المتبوع بالسلم فالتابع أولى".
قلنا :هو تابع من حيث تغّلظت عقوبته ،ل من حيث إن له حقا ً في الستيفاء
ل ينجبر بالتوبة.
قولهم" :ساب الواحد من الناس ل يختلف حاله بين ما قبل السلم وبعده،
ل". ب الرسو ِ بخلف سا ّ
عنه جوابان:
ه ،لنه يعتقد كفره/ ي للمسلم جائٌز عند ُ أحدهما :المنع فإن سب الذم ّ
رض ه عنده العهد الذي بيننا وبينه فل فرق بينهما ،وإن فُ ِ ه ،وإنما يحّرم ُ وضلل ُ
دين مثل الرمي بالزنى والفتراء عليه ونحو ج عن ال ّ ٍ ب خار الكلم في س ّ
ة ،ول ريب م ِ ُ
ذلك ،فل فرق في ذلك بين سب الرسول وسب الواحدِ من ال ّ
أن الكافر إذا أسلم صار أخا ً للمسلمين يؤذيه ما يؤذيهم وصار معتقدا ً
ق
ح لنتهاك أعراضهم ،ومع ذلك ل َيسقط ح ّ لحرمةِ أعراضهم ،وزال المبي ُ
ة.
المشتوم بإسلمه ،وقد تقدم هذا الوجه غير مر ٍ
الثاني :أن شاتم الواحد من الناس لو تاب وأظهر براءة المشتوم وأثنى
ده مع ذلك ،فل عليه ودعا له بعد رفعه إلى السلطان كان له أن يستوفي ح ّ
َفرق بينه وبين شاتم الرسول إذا أظهر اعتقاد رسالته وعلوّ منزلته ،وسبب
ة
ضاض ِ م من الغَ َ زيل ما لحق المشتو َ ذلك أن إظهار مثل هذه التوبة ل ي ُ ِ
حمل ذلك على خوف العقوبة ،وتبقى آثار السب الول ة ،بل قد ي َ ْ والمعّر ِ
ل لم يندمل جرحه. ل حا ٍ ة ،فإن لم يكن المشتوم من أخذ حقه بك ّ جارح ً
قولهم" :القتل حق الرسالة ،وَأما البشرية فإنما لها حقوق البشرية والتوب ُ
ة
ة".طع حق الرسال ِ تق ُ
ل في بشريته على سّلم ذلك ،بل هو من حيث هو بشر مفض ٌ قلنا :ل ن ُ َ
الدميين تفضيل ً يوجب قتل سابه ،ولو كان القتل إنما وجب لكونه قدحا ً في
ب موجبا ً النبوة لكان مثل غيره من أنواع الكفر ،ولم يكن خصوص الس ّ
ب موجب للقتل ل على أن خصوص الس ّ دمنا من الدلة ما يد ّ للقتل ،وقد ق ّ
ب للرسول وبين وى بين السا ّ س ّ
من َ وأنه ليس بمنزلة سائر أنواع الكفر ،و َ
ض عن تصديقه فقط في العقوبة فقد خالف الكتاب والسنة الظاهرة معْرِ ِ ال ُ
وى بين الشيئين المتباينين ،وكون س ّ
والجماع الماضي ،وخالف المعقول ،و َ
القاذف له لم يجب عليه مع القتل جلد ُ ثمانين أوضح دليل على أن القتل
ب
ب ،وإل كان قد اجتمع حقان :حقّ للهِ وهو تكذي ُ ص الس ّ ة لخصو ِ عقوب ٌ
137
ب الجلد َ على هذا ه فيوج ُ ل ،وحقّ لرسولهِ وهو سب ُ ب القت َ رسولهِ فيوج ُ
ن ،كما لو ارتد ّ دا ِ
الرأي فكان ينبغي قبل التوبة على هذا /أن يجتمع عليه الح ّ
وقذف مسلما ً )أو نقض العهد وقذف مسلمًا( وبعد التوبة ُيستوفى منه حد ّ
القذف ،فكان إنما للنبي أن يعاقب من سبه وجاء تائبا ً بالجلد فقط ،كما
أنه ليس للمام أن ُيعاقب قاطع الطريق إذا جاء تائبا ً إل بالَقودِ ونحوه مما
ي ،ولو سلمنا أن القتل حقّ الرسالة فقط فهو رِد ّةٌ ص حقّ الدم ّ هو خال ُ
ظ بما فيه ضرٌر ،كما لو اقترن بالنقض ض مغل ّ ٌ ة بما فيه ضرٌر أو نق ٌ مغّلظ ٌ
ق وزنى بمسلمةٍ وغير ذلك ،فإن القتل ب وفساد ٌ بالفعل من قطع طري ٍ حرا ٌ
م ،وهذا متحققٌ سواءٌ قلنا ه ،ومع هذا لم ُيسقط بالتوبةِ والسل ِ هنا حقّ لل ِ
ه.
ب الله يقتل بعد التوبة أو ل يقتل كما تقدم تقرير ُ إن سا ّ
ة". ل المتعلقُ بالرسال ِ قولهم" :إذا أسلم سقط القت ُ
وينا بينه وبين سب الله فظاهٌر ،وإن فّرقنا فإن س ّ ع ،أما إذا َ قلنا :هذا ممنو ٌ
ب لله ورسولهِ الساعي في الرض فسادًا، ه من باب فعل المحار ِ شب ْ ٌهذا ِ
سّلمنا سقوط الحق المتعّلق دع أمثاله كما تقدم ،وإن َ ة إلى َر ْ والحجة داعي ٌ
بالكفر بالرسالة ،لكن لم يسقط الحقّ المتعلق بشتم الرسول وسبه ،فإن
م لنا ن الذمي ملتز ٌ ة زائدة ٌ على نفس الرسول مع التزام تركها ،فإ ّ هذه جناي ٌ
أن ل ُيظهر السب ،وليس ملتزما ً لنا أن ل َيكفر به ،فكيف ُيجعل ما التزم
ة على تركه من جنس ما قد قررناه عليه؟ وجماعُ المر أن هذه الجناي َ
ن حرابا ً وفسادا ً أو ردةٌ تضمنت فسادا ً وحرابًا ،وسقو ُ
ط ض يتضم ُ الرسالةِ نق ٌ
ل هذا ممنوعٌ كما تقدم. القتل عن مث ِ
قولهم" :حق البشرية انغمر في حق الرسالة ،وحق الدمي انغمر في حق
ه". الل ِ
ة ،ولو كان كذلك لما جاز للنبي العفو عمن سبه، قلنا :هذه دعوى محض ٌ
ص السب أن ي ُْفَرد بذكر ول جاز عقوبته بعد مجيئه تائبًا ،ول احتيج خصو ُ
ل أحد ٍ أن سب الرسول أغلظ من الكفر به ،فلما جاءت العقوبة ،ل ِعِْلم ك ّ
علم أن ذلك لخاصةٍ في/ ل بالقتل ُ ب الرسو ِ الحاديث والثار في خصوص س ّ
ب وإن اندرج في عموم الكفر. الس ّ
د ،كما س موجو ٌ ط ،نعم العك ُ وأيضًا ،فحقّ العبدِ ل ينغمر في حقّ اللهِ قَ ّ
ف ،أما أن يندرج ود وحد ّ القذ ِ عصيانهِ للهِ في الَق َ ل على ِ ة القات ِ ِ ج عقوب ُ تندر ُ
ة واحدةً تعّلق بها حقان: جَنى جناي ً ن من َ ل ،فإ ّ حقّ العبد في حق اللهِ فباط ٌ
ي ،ثم سقط حقّ الله لم َيسقط حقّ الدمي ،سواٌء كان من لله ولدم ّ
ة كمن قََتل في قطع الطريق، ت متفرق ً جَنى جنايا ٍ س أو جنسين ،كما لو َ جن ٍ
ة ثم ود ولو سرق سرق ً ل لم َيسقط عنه الَق َ حّتم القت ِ سقط عنه ت َ َ فإنه إذا َ
م بإجماِع المسلمين ،حتى عند من سقط عنه القطعُ لم يسقط عنه الغُْر ُ
ة واحدةً فيها حقان جَنى جناي ً قال" :إن القطع والغرم ل يجتمعان" ،نعم إذا َ
س واحدٍ تداخل ،وإن كانا من ي :فإن كان موجب الحقين من جن ٍ لله ولدم ّ
138
ب فإنه يوجب ل المحار ِ ل قت ُ ل الو ِ ف ،مثا ُ ف معرو ٌ جنسين ففي التداخل خل ٌ
ي حقّ في ي ،والقتل ل يتعد ُّد ،فمتى ُقتل لم يبق للدم ّ القتل حقا ً لله وللدم ّ
تركته من الدية ،وإن كان له أن يأخذ الدية إذا َقتل عدة مقتولين فُيقتل
ببعضهم عند الشافعي وأحمد وغيرهما ،أما إن قلنا" :إن موجب العمد القود
َ
ن" ،فإنما ذاك حيث يمكن ن موجبه أحد شيئي ِ عينًا" فظاهٌر ،وإن قلنا" :إ ّ
ي استيفائه المام، العفو ،وهنا ل يمكن العفو ،فصار موجبه القود عينًا ،وَوَل ِ ّ
ب للقطع م ،ومثال الثاني :أخذ ُ المال سرقة وإتلفه ،فإنه موج ٌ لن وليته أع ّ
ب للغُْرم حّقا ً لدمي ،ولهذا قال الكوفيون :إن حد ّ الدمي ه ،وموج ٌ حدا ً لل ِ
ب ،وقال الكثرون :بل ي ُْغرم للدمي ماله ،وإن يدخل في القطع فل يج ُ
د ،فإن كانت لله ة لكل جناية ح ّ ت متفرق ً جنى جنايا ٍ ُقطعت يده ،وأما إذا َ
س وفيها القتل وهي من جنس واحد ٍ تداخلت بالتفاق ،وإن كانت من أجنا ٍ
تداخلت عند الجمهور ،ولم تتداخل عند الشافعي ،وإن كانت للدميين لم
ك تتداخل في القتل ،إل حد ّ القذف ،فهنا هذا تتداخل عند الجمهور ،وعند مال ٍ
ل:ن نقو ُ ي ،/ونح ُ ب ل ريب أنه تعلق بشتمه حقّ لله ،وحقّ لدم ّ الشاتم السا ّ
ي
من ُينازعنا إما أن يقول :اندرج حقّ الدم ّ ن موجب كل منهما القتل ،و َ إ ّ
ل :إن د ،فإذا ُقتل فل كلم إل عند من يقو ُ في حقّ الله أو موجبه الجل ُ
ه
د ،فإنه يجب أن يخرج على الخلف ،وأما إذا سقط حقّ الل ِ ه الجل ُ موجب َ ُ
بالتوبةِ فكيف يسقط حقّ العبد؟ فإنا ل نحفظ لهذا نظيرًا ،بل النظائُر
ل ول نظير ت حكم ٍ بل أص ٍ ه ،وإثبا ُ ل على خلف ِ ة تد ّ تخالفه كما ذكرناه ،والسن ُ
ه. ل على ُبطلن ِ ِ ل دلي ٌ صو ِ ز ،بل مخالفته لل ُ غير جائ ٍ
ة"؟ وقد ل" :إّنه يسقط بالتوب ِ م ُيقا ُ ض لله ،لكن ل ِ َ ب أن هذا حد ّ مح ٌ وأيضًا ،فَهَ ْ
ظ ،فما ت َغَّلظ منه بما يضر قدمنا أن الردة ونقض العهد نوعان :مجّرٌد ،ومغل ّ ٌ
ب من هذا ل وإن تاب ،وبّينا أن الس ّ ل حا ٍ المسلمين يجب قتل صاحبه بك ّ
النوع.
ه ،وفيه من الخلف ما ب الل ِ ب بس ّ حق هذا الس ّ وأيضًا ،فأقصى ما ُيقال أن ي ُل ْ َ
سيأتي ِذكُره ُ إن شاء الله تعالى.
ب الكافر فهو ـ وإن كان له ب المسلم وس ّ ذكر من الفرق بين س ّ وأما ما ُ
ض بما يد ّ
ل ه أيضا ً ـ فإنه معارِ ٌ ط توج ٌ ه ،كما للتسوية بينهما في السقو ِ توج ٌ
ن الكافر قد ثبت ل من المسلم ،وذلك أ ّ ل حا ٍ على أن الكافر أولى بالقتل بك ّ
د ،وإظهاره السب ل ريب أنه ه العه ُ صم ُالمبيح لدمه وهو الكفر ،وإنما عَ َ
ة في المسلمين ،فقد تحقق ة للهِ ورسولهِ وإفساد ٌ في الرض ونكاي ٌ محارب ٌ
الفساد من جهته ،وإظهاره التوبة بعد القدرة عليه ل يوثقُ بها كتوبةِ غيره
م منه من المحاربين لله ورسوله الساعين في الرض فسادًا ،بخلف من عُل ِ َ
السلم وصدرت منه الكلمة من السب مع إمكان أنها لم تصدر عن اعتقاٍد،
ن به بل خرجت سفها ً أو غلطًا ،فإذا عاد إلى السلم ـ مع أنه لم يزل يتدي ّ ُ
139
ب ن ذنبه أصغُر ،وتوبته أقر ُ ه ،ل ّ ل توبت ِ ه ـ كان أولى بقبو ِ لم ُيعلم منه خلف ُ
ة.إلى الصح ِ
ثم إنه ُيجاب عنه بأن إظهار المسلم تجديد ُ السلم ِ بمنزلةِ إظهارِ الذمي
السلم ،لن الذمي كان يزعه عن إظهار سبه ما أظهره من عقدِ المان
م الن إنما كما ي ََزع المسلم ما أظهره من عقد اليمان ،فإذا كان المسل ُ
ي إنما ُيظهُر ل على فسادهِ فكذلك الذم ّ ُيظهر /عَْقد إيمان قد ظهر ما يد ّ
م في أمانهِ يتهم في ه ،فإنه من يته ُ ل على فساد ِ ن قد ظهر ما يد ّ عقد َ أما ٍ
ن منافقا ً في اليمان كما كان منافقا ً في المان ،بل ربما كان ه ،ويكو ُ إيمان ِ
ل هذا الذي تاب بعد معاينة السيف أشد ّ على المسلمين من حاله قبل حا ُ
ه يشرك المسلمين في ظاهر ن فإن ّ ُ ر ،وال َ التوبة ،فإنه كان في ذلةِ الكف ِ
ل على زواله ،على خبثه الذي لم ُيظهر ما يد ّ العّز مع ما ظهر من نفاقه و ُ
ب أمٌر ظاهٌر أظهرهُ ولم َيظهر أن في تعليل سب ّهِ بالزندقة نظرًا ،فإن الس ّ
دث له ح َ ل على استبطانه إياهُ قبل ذلك ،ومن الجائز أن يكون قد َ منه ما يد ّ
ة.ما أو جب الرد ّ َ
ت على سوِء العقيدة فهنا نعم إن كان ممن تكرر ذلك منه أو له دلل ٌ
ة ،لكن يقال :نحن نقتله لمرين ،لكونه زنديقًا ،ولكونه ساب ًّا، ة ظاهر ٌ الزندق ُ
كما نقتل الذمي لكونه كافرا ً غير ذي عهد ،ولكونه ساب ًّا ،فإن الفرق بين
ي في الزندقةِ ل يمنع اجتماعهما في علةٍ أخرى تقتضي كون المسلم والذم ّ
ب اعتقادا ً صحيحا ً بعد ذلك ،بل قد ب موجبا ً للقتل ،وإن أحدث السا ّ الس ّ
ه وإن كان صحيح العتقادِ ل صاحب ُ ل ُقت َ ب إذا كان موجبا ً للقت ِ ن الس ّ ل :إ ّ يقا ُ
ب س ّ ف في إيجابهِ للجلدِ وك َ َ ن حال سبهِ كسبهِ للهِ تعالى وكالقذ ِ في الباط ِ
ر.
ش ِ جميع الب َ َ
وأما الفرق الثاني الذي مبناه على أن السب يوجب قتل المسلم حد ّا ً لن
ر ،فمضمونه ب الكاف ِ مفسدته ل تزول بسقوطهِ بتجديد السلم ،بخلف س ّ
ذن ْ
ب إذا أظهروا بعده السلم ،ون َأ َ خص لهل الذمة في إظهار الس ّ أّنا ن َُر ّ
لهم أن يشتموا ويسبوا ثم بعد ذلك يسلمون ،وما هذا إل بمثابة أن ُيقال:
ي بأنه إذا زنى بمسلمةٍ أو قطع الطريق ُأخذ فُقتل إل أن ُيسلم عْلم الذم ّ ِ
ي ََزعه عن هذه المفاسد ،إل أن يكون من يريد السلم ،وإذا أسلم فالسلم
ل منه ما يقوله/ ي ُيحتم ُ م أن معنى هذا أن الذم ّ ب ما كان قبله ،ومعلو ٌ ج ّيَ ُ
م
ويفعله من أنواع المحاربة والفساد إذا قصد أن ُيسلم بعده وأسلم ،ومعلو ٌ
ز ،فإن الكلمة الواحدة من سب رسول الله ل ُتحتمل أن هذا غير جائ ٍ
ف من الكفاِر ،وَلن يظهر دين الله ظهورا ً يمنعُ أحدا ً أن ينطق َ بإسلم ألو ٍ
كم وهو منته ٌ ب إلى الله ورسولهِ من أن يدخل فيه أقوا ٌ ن أح ّ فيه بطع ٍ
ل الذمةِ قد يكون زنديقا ً ل يبالي ب النبياء من أه ِ ن ،وكثير ممن يس ّ مستها ٌ
إلى أي دين انتسب ،فل ُيبالي أن َينال غرضه من السب ثم يظهر السلم
ه ،فإنه ما دام كالمنافق سواء ،ثم هذا يوجب الطمع منهم في إظهار عرض ِ
140
العدو يرجو أن يستبقي ولو بوجهٍ لم يزعه ذلك عن إظهار مقصوده في
ت ما ثم إن ثبت ذلك عليه ورفع إلى السلطان وأمر بقتله أظهر وق ٍ
ه بالكليةِ لم ُيجعل ل فسادٍ ُقصد إزالت ُه ،وك ّ
السلم ،وإل فقد حصل غرض ُ
ل إلى استبقائه بعد الخذ كالزنى والسرقة وقطع الطريق فإن لفاعله سبي ٌ
كان مقصود ُ الشارِع من تطهير الدارِ من ظهور كلمة الكفر والطعن في
ح ابتغى أن يكون الدين أبلغ من مقصوده من تطهيرها من وجودِ هذه القبائ ِ ِ
تحتم عقوبةِ من فعل ذلك أبلغ من تحتم عقوبةِ هؤلِء.
ل
ب الرسو ِ ه هذا الجواب أن تعلم أن ظهور الطعن في الدين من س ّ وفق ُ
ض وراء مجرد الكفر ،فل يكون حصول السلم ماحيا ً ونحوه فساد ٌ عري ٌ
لذلك الفساد.
ل ،فإنه ب" فباط ٌ
وأما الفرق الثالث قولهم" :إن الكافر لم يلتزم تحريم الس ّ
ب آحادٍ من المسلمين ب النبي وبين إظهاره لس ّ ل فرق بين إظهاره لس ّ
ك دمائهم وأخذ أموالهم ،فإنه لول العهد لم يكن فرقٌ عنده بيننا وبين سف ِ
م أنه يستحل ذلك وبين سائر من يخالفه في دينه من المحاربين له ،ومعلو ٌ
مّنا لجل العهد فإذا حّرما ً عليه في دينه ِم َ
كله منهم ،ثم إنه بالعهد صار بذلك ُ
فعل شيئا ً من ذلك ُأقيم عليه حد ّهُ وإن أسلم ،سواٌء انَتقض عهده بما يفعله
ب عليه الحد مع بقاء العهد كما لو سرق أو قذف أو لم ينتقض ،فتارةً يج ُ
مسلمًا ،وتارةً ينتقض عهده ول حد ّ عليه فيصير /بمنزلةِ المحاربين ،وتارةً
يجب عليه الحد ّ وينتقض عهده كما إذا سب الرسول أو زنى بمسلمةٍ أو
قطع الطريق على المسلمين ،فهنا يقتل وإن أسلم ،وعقوبة هذا النوع من
الجنايات القتل حتما ً كعقوبة القاتل في المحاربة من المسلمين جزاءً له
على ما فعل من الفساد الذي التزم بعقد اليمان أن ل يفعله مع كون مثل
ذلك الفساد موجبا ً للقتل و نكال ً لمثاله عن فعل مثل هذا إذا علموا أنه ل
ُيترك صاحبه حتى ُيقتل.
فهذا هو الجواب عما ذكر من الحجج للمخالف ،مع أن فيما تقدم من
كلمنا ما ُيغني عن الجواب لمن تبينت له المآخذ ،والله سبحانه وتعالى
أعلم.
141
فــــصــــل
ة
ضــِع الّتــوَبــ ِ
وا ِمــ َ
فــي َ
م ،فَن َُقو ُ
ل: جَراِئـ ِ
سـاِئـرِ الـ َن َ مـ ْعـَلى الّتـوَبـةِ ِ
ي َ
مب ِْنـ ّ وَذ َِلـ َ
ك َ
توبة المرتد
ه وأما من لم يوجد منه إل مجرد ُ الردة وقد أظهرها فذلك أيضا ً ُتقب ُ
ل توبت ُ
عند العامة إل ما ُيروى عن الحسن ومن قيل إنه وافقه.
143
ب إذا تاب من حق الله ،وقد قدمنا أنا إذا قلنا يسقط قال :وكذلك المحارِ ُ
طاع الطريق بالتوبة ،فإنه يكفي مجرد التوبة ،وهذا هو الحد عن غير قُ ّ
المشهور من المذهب ،كما يكفي ذلك في قطاع الطريق.
ن :أنه لبد من إصلح العمل مع التوبة وعلى هذا فقد قيل: ه ثا ٍ
وفيه وج ٌ
ة
ح نيته ،وليست مقدرةً بمد ٍ مضي مدةٍ يعلم بها صدق توبته وصل ُ يعتبر ُ
ة ،كما ي سن ٍ ض ّم ِ
ف ،وي َُتحّرج أن يعتبر ُ
ة ،لن التوقيت يفتقر إلى توقي ٍ معلوم ٍ
ي
ض ّ م ِ
ص عليه المام أحمد في توبةِ الداعي إلى البدعة أنه يعتبر فيه ُ ن ّ
صبيِغ ة ،اتباعا ً لما أمر به عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في قضيةِ َ سن ٍ
سل فإنه تاب عنده ثم نفاه إلى البصرة وأمر المسلمين بهجره ،فلما ع ْ بن ِ
ة
ول ولم يظهر منه إل خيٌر /أمر المسلمين بكلمه وهذه قضي ٌ ح ْ
حال ال َ
ة أكثر أصحابنا.
مشهورةٌ بين الصحابة ،هذه طريق ُ
وظاهر طريقة أبي بكر أنه ي َُفّرق بين التوبة قبل أن ي ُِقّر ـ بأن يجيء تائبا ً ـ
وبين أن ي ُِقّر ثم يتوب ،لن أحمد ـ رضي الله عنه ـ إنما أسقط الحد ّ عمن
جاء تائبا ً فأما إذا أقر ثم تاب فقد رجع أحمد عن القول بسقوط الحد.
وللشافعي أيضا ً في سقوط سائر الحدود غير حد المحارب بالتوبة قولن
أصحهما أنه يسقط لكن حد المحارب يسقط بإظهار التوبة قبل القدرة،
وحد غيره ل يسقط بالتوبة حتى يقترن بها الصلح في زمن يوثق بتوبته،
ة.
وقيل :مدة ذلك سن ً
وهكذا ذكر العراقيون من أصحابه ،وذكر بعض الخراسانيين أن في توبة
المحارب وغيره بعد الظفر قولين إذا اقترن بها الصلح ،واستشكلوا ذلك
صِلح العمل. خر حتى ي ُ ْفيما إذا أنشأ التوبة حيث ُأخذ لقامة الحد ،فإنه ل ُيؤ ّ
ك أنه ل يسقط بالتوبة ،وذكر بعضهم أن ذلك ومذهب أبي حنيفة ومال ٍ
د.
ع ،وإنما هو إجماعٌ في التوبة بعد ثبوت الح ّ إجما ٌ
144
فـــصـــل
توبة الساب بعد ثبوته بالبينة
إذا تلخص ذلك فمن سب الرسول ورفع إلى السلطان ،وثبت ذلك عليه
ل حدًا"بالبينة ،ثم أظهر التوبة ،لم يسقط عنه الحد ّ عند من يقول" :إنه ي ُْقت َ ُ
ة بعد أخذه والقدرة سواٌء تاب قبل أداء البينة أو بعد أداء البينة ،لن هذه توب ٌ
عليه ،فهو كما لو تاب قاطع الطريق والزاني والسارق في هذه الحال،
ة ،وهذا ل وكذلك لو تاب بعد أن أريد رفعه إلى السلطان والبينة بذلك ممكن ٌ
ه ُيقتل حد ًّا" كما قررناه. ريب فيه ،والذمي في ذلك كالمّلي إذا قيل" :إن ُ
145
وأما إن ُأخذ وثبت السب بإقراره ،ثم تاب أو جاء فأقر بالسب غير مظهر
ي على جواز رجوعه عن هذا القرار فإذا لم ُيقبل للتوبة ثم تاب ،فذلك مبن ّ
رجوعه ُأقيم عليه الحد ّ بل تردٍد ،وإن ُقبل رجوعه وأسقط الحد ّ عمن جاء
تائبا ً ففي سقوطه عن هذا الوجهان المتقدمان ،وإن أقيم الحد على من
معترفا ً أو أسلم
جاء تائبا ً فعلى هذا أولى ،والقول في الذمي إذا جاء مسلما ً ُ
بعد إقراره كذلك.
ضرَنا ذكره كما يسره /اللهح َ
فهذا ما يتعلق بالتوبة من السب ذكرنا ما َ
سبحانه وتعالى.
وقد حان أن نذكر المسألة الرابعة ،فنقول:
146
َ
ة
ة الــّراِبــَعــ ُ سـأَلـ ُ
مـ ْال َ
ر جـّردِ ال ُ
كـْفـ ِ مـ َ
ن ُ
ه وََبـْيـ َق َبـْيـَنـ ُ مـذ ْ ُ
كـوِرَ ،والَفـْر ِ ب ال َ
سـ ّ
ن ال ّ
ِفـي َبـَيـا ِ
كان يليق أ َن تذ ْك َر في أ َول الم َ
سأل َةِ
َ ْ ة ،وَقَد ْ َ َ َ ِ ْ ُ ْ ُ َ َ ِ ْ ّ ِ م ٍ
مَقد ّ َ
ن ت َْقدِي ْم ِ ُ ك ل َب ُد ّ ِ
م ْ ل ذل ِ َ
وَقَب ْ َ
سأل َةِ
م ْ
سّر ال َ
ف ِ ب أيضًا ،ل ِي ِن ْك َ ِ
ش َ س ٌمَنا ِ ها هَُنا ُ الْولى ،وَذِك ُْر َ
153
كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله ،ونبذا ً لكتاب /الله وراء ظهورهم
واتباعا ً لما تتلوه الشياطين.
ه:
وأما الشبهة الثانية فجوابها من ثلثة أوج ٍ
155
فـــصـــــل
156
وذكر بعض المالكية إجماع العلماء على أن من دعا على نبي من النبياء
ة.بالويل أو بشيٍء من المكروه أنه ُيقتل بل استتاب ٍ
وذكر القاضي عياض أجوبة جماعةٍ من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بل
استتابةٍ في قضايا متعددةٍ أفتى /في كل قضيةٍ بعضهم:
مّر بهم رجل قبيح الوجه منها" :رجل سمع قوما ً يتذاكرون صفة النبي إذ َ
خْلق ِ
ه ة( هذا المار في َ واللحية ،فقال :تريدون تعرفون صفته؟ )هي صف ُ
ه". حيت ِ ول ِ ْ
َ ل َقا َ
ود". ي كان أ ْ
س َ ل :الن ّب ِ ّ ج ٌ ومنهاَ" :ر ُ
ل الله" فقال :فعل الله برسول الله ل ،وحقّ رسو ِ ل لهَ " : ل قي َ ومنها" :رج ٌ
كذا ،قيل له :ما تقول يا عدو الله ،فقال أشد ّ من كلمه الول ،ثم قال :إنما
حل أردت برسول الله العقرب" قالوا :لن ادعاءه للتأويل في لفظ صرا ٍ
ن ،وهو غير معّزرٍ لرسول الله ول مّقرٍ له ،فوجبت إباح ُ
ة ُيقبل ،لنه امتها ٌ
دمه".
ش ُ َ شاٌر قا َ َ
ت فََقد ْجِهل ُ ت أو ْ َل :إن سأل ُ ي ،وََقا َ
ك إلى الّنب ّ ل :أد ّ َوا ْ ومنها" :عَ ّ
ل". جه ِ َ
ي وَ َ ل الن ّب ِ ّ سأ َ ََ
م
مناظرتهِ اليتي َ ي ويسميهِ في أثناء ُ ف بالنب ّ
ه كان يستخ ّ مت ََفّق ٌومنهاُ " :
ن حيدره ،ويزعم أن زهده لم يكن قصدًا ،ولو قدر على الط ّي َّبا ِ
ت وخت َ
لك َل ََها" ،وأشباه هذا.
ده العلماء سّبا وتنّقصًا ،يجب قتل قائله قال عياض" :فهذا الباب كله مما عَ ّ
ه".
لم يختلف في ذلك متقدمهم و متأخرهم ،وإن اختلفوا في حكم قتل ِ
د،
وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه أو برئ منه ،أو كذبه :إنه مرت ّ
ض لرسول الله بما فيه وكذلك قال أصحاب الشافعي :كل من تعّر َ
ي كفٌر ،وهل يتحتم فيه ح فإن الستهانة بالنب ّ ب الصري ِ
ة فهو كالس ّ
استهان ٌ
ص الشافعي على هذا المعنى. قتله أو يسقط بالتوبة؟ على وجهين ،وقد ن ّ
فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص به كفٌر
ح للدم ،وهو في استتابته على ما تقدم من الخلف ،ول فرق في ذلك مبي ٌ
بين أن يقصد عيبه )والزراء به أو ل يقصد عيبه( لكن المقصود شيءٌ آخر
ب تبعا ً له أو ل يقصد شيئا ً من ذلك ،بل يهزل ويمزح ،أو يفعل حصل الس ّ
غير ذلك.
فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان /القول نفسه سّبا ،فإن الرجل
ن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظ ّ
ب وتنقص له فقد النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ،ومن قال ما هو س ّ
آذى الله ورسوله ،وهو مأخوذ ٌ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في
نفسه أذىً وإن لم يقصد أذاهم ،ألم تسمع إلى الذين قالوا :إنما كنا نخوض
157
َ
ن ل َ ت َعْت َذُِروا ست َهْزُِئو َ م تَ ْ سول ِهِ ك ُن ْت ُ ْ ونلعب ،فقال الله تعالى :أِباللهِ َوآَيات ِهِ وََر ُ
م ب َعْد َ ِإيما َن ِك ُ ْ
م. قَد ْ ك ََفْرت ُ ْ
م من حكمه أو ث عن النبي أو حك ٌ كر له حدي ٌ وهذا مثل من يغضب فُيذ َ
ك لَ سّنه فيلعن ويقبح ونحو ذلك ،وقد قال تعالى :فَل َ وََرب ّ َ ُيدعى لما َ
ما
م ّ حَرجا ً َ م َ سه ِ ْ دوا ِفي أن ُْف ِ ج ُ م ل َ يَ ِ م ثُ ّجَر ب َي ْن َهُ ْ ش َ ما َ ك ِفي َ مو َ حك ِ ُحّتى ي ُ َ
ّ
ن َ مُنو َ ي ُؤْ ِ
سِليما ً فأقسم سبحانه بنفسه أنهم ل يؤمنون حتى موا ت َ ْ سل ّ ُ ت وَي ُ َ ضي ْ َ قَ َ
يحكموه ثم ل يجدون في نفوسهم حرجا ً من حكمه ،فمن شاجر غيره في
ج لذكر رسول الله حتى أفحش في منطقه فهو كافٌر بنص حَر َ أمرٍ و َ
التنزيل ،ول ُيعذر بأن مقصوده رد ّ الخصم ،فإن الرجل ل يؤمن حتى يكون
ب إليه من ب إليه ممن سواهما وحتى يكون الرسول أح ّ ه أح ّ ه ورسول ُ الل ُ
ولده ووالده والناس أجمعين.
ه" ،وقول ُ
ة ما أريد بها وجه الل ِ ومن هذا الباب قول القائل" :إن هذه لقسم ٌ
ك"، مت ِ َ ن َ َ
ن اْبن عَ ّ كا َ الخر" :اعدل فإنك لم تعدل" ،وقول ذلك النصاري" :أ ْ
فإن هذا كفٌر محض ،حيث زعم أن النبي إنما حكم للّزبير لنه ابن عمته،
ولذلك أنزل الله تعالى هذه الية ،وأقسم أنهم ل يؤمنون حتى ل يجدوا في
أنفسهم حرجا ً من حكمه ،وإنما عفا عنه النبي كما عفا عن الذي قال:
ُ
مك لَ ْ ل فَإ ِن ّ َ ه" ،وعن الذي قال" :اعْدِ ْ ه الل ِ ج ُ ما أِريد َ ب َِها وَ ْ ة َ م ٌ س َ ن هذِهِ ل َِق ْ "إ ّ
ل" ،وقد ذكرنا عن عمر رضي الله عنه أنه قتل رجل ً لم يرض بحكم ت َعْدِ ْ
النبي فنزل القرآن بموافقته فكيف بمن طعن في حكمه؟ وقد ذكر
ل ،وبعض أصحاب الشافعي ـ أن هذا ة من الفقهاء ـ منهم /ابن عقي ٍ طائف ٌ
كان عقوبته التعزيُر ،ثم منهم من قال :لم يعزره النبي لن التعزيَر غير
ب ،ومنهم من قال :عفا عنه لن الحق له ،ومنهم من قال :عاقبه بأن واج ٍ
أمر الّزبير أن يسقي ثم يحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ،وهذه كلها
أقوال َردِّية ول يستريب من تأمل في أن هذا كان يستحقّ القتل بعد نص
ن. س بمؤم ٍ ل حالهِ لي َ القرآن أن من هو بمث ِ
فإن قيل :ففي روايةٍ صحيحةٍ أنه كان من أهل بدٍر ،وفي الصحيحين عن
ل ب َد ْرٍ فََقا َ َ ها ّ ك ل َعَ ّما ي ُد ِْري َ
ل ى أه ْ ِ عل َ طلعَ َ ل الل َ علي عن النبي أنه قال" :وَ َ
م" ولو كان هذا القول كفرا ً للزم أن يغفر ت ل َك ُ ْ
م فََقد ْ غََفْر ُ شئت ُ ْ ما ِ مُلوا َ اعْ َ
ه ك ََفَر. ي :إن ّ ُ الكفر ،والكفُر ل يغفُر ،ول يقال عن بدر ّ
ب ،ولم يذكرها أكثر الرواة، فقيل :هذه الزيادةُ ذكرها أبو اليمان عن شعي ٍ
ب ،وهلل بن أمية أنهما من أهل م ،كما وقع في حديث كع ٍ فيمكن أنها وه ٌ
بدرٍ ول يختلف أهل المغازي والسير أنهما لم يشهدا بدرًا ،وكذلك لم يذكره
ابن إسحاق في روايته عن الزهري ،لكن الظاهر صحتها.
فنقول :ليس في الحديث أن هذه القصة كانت بعد بدٍر ،فلعلها كانت قبل
دث بالقصة بعد أن صار مي الرجل بدريا ً لن عبدالله بن الّزبير ح ّ س ّ بدٍر ،و ُ
َ َ
م
ص َ خا َ صارِ َ ن الن ْ َ م َ جل ً ِن َر ُ الرجل بدرّيا ،فعن عبدالله بن الّزبير عن أبيه "أ ّ
158
ل فقال خ َن ب َِها الن ّ ْ سُقو َ حّرةِ الِتي ي َ ْ ج ال َ شَرا ِ ل اللهِ ِ في ِ سو ِ عن ْد َ َر ُ الّزب َي َْر ِ
ل اللهِ فقال سّرح الماء يمّر ،فأبى عليه ،فاختصما عند رسو ِ النصاريَ :
َ
ك" فغضب جارِ َ ماَء إ َِلى َ ل ال َ س ِ م أْر ِ ق َيا ُزب َي ُْر ث ُ ّ س ِ رسول الله للزبير" :ا ْ
ون وجه النبي ثم النصاريّ ثم قال :يا رسول الله أن كان ابن عمتك ،فتل ّ
جد ُِر" فقال جعَ إ َِلى ال ُ حّتى ي َْر ِ ماَء َ س ال َ حب ِ ِ ما ْ ق َيا ُزب َي ُْر ث ُ ّ س ِقال للزبير "ا ْ
حّتى ن َ مُنو َ ك ل َ ي ُؤْ ِ ك َفل وََرب ّ َ ة نزلت في ذل َ ب هذه الي ُ الّزبير :والله لني أحس ُ
َ
ت
ضي ْ َما قَ َ م ّ حَرجا ً ِ م َ سه ِ ْدوا ِفي أن ُْف ِ ج ُ م ل َ يَ ِ م ثُ ّ جَر ب َي ْن َهُ ْش َ ما َ ك ِفي َ مو َ حك ِ ُ يُ َ
ّ
سِليما ً متفق عليه ،وفي رواية للبخاري /من حديث عروة قال: موا ت َ ْ سل ّ ُ وَي ُ َ
ل اللهِ قب َ
ل ن رسو ُ حين َئ ِذٍ للزبير حقه ـ وكا َ ل اللهِ ِ سو ُ عى َر ُ ست َوْ َ "َفا ْ
ه وللنصاري ،فلما أحفظ ي أراد َ فيهِ سعة ل ُ ك قد أشاَر على الّزبير برأ ٍ ذل َ
ل الله للزبير حقه في صريح النصاري رسول الله استوعى رسو ُ
ة قبل بدٍر ،لن النبي قضى في م" وهذا يقوي أن القصة متقدم ٌ الحك ِ
مْهزورٍ أن العلى ُيسقى ثم يحبس حتى يبلغ الماء إلى الكعبين ،فلو سيل َ
ة الّزبير بعد هذا القضاء لكان قد علم وجه الحكم فيه ،وهذا كانت قص ُ
ي ،لن الحاجة إلى الحكم القضاء الظاهر أنه متقدم من حين قدم النب ّ
فيه من حين قدم ،ولعل قصة الّزبير أوجبت هذا القضاء.
وأيضًا ،فإن هؤلء اليات قد ذكر غير واحدٍ أن أولها نزل لما أراد بع ُ
ض
المنافقين أن يحاكم يهوديا ً إلى ابن الشرف ،وهذا إنما كان قبل بدر ،لن
ابن الشرف ذهب عقب بدرٍ إلى مكة ،فلما رجع ُقتل ،فلم يستقر بعد بدٍر
م إليه ،وإن كانت القصة بعد بدرٍ فإن القائل لهذه بالمدينة استقرارا ً ي َُتحاك ُ
الكلمة يكون قد تاب واستغفر وقد عفا له النبي عن حقه ،فُغفر له
والمضمون لهل بدرٍ إنما هو المغفرة :إما بأن يستغفروا إن كان الذنب مما
ل ُيغفر إل بالستغفار أو لم يكن كذلك ،وإما بدون أن يستغفروا ،أل ترى أن
قدامة بن مظعون ـ وكان بدرّيا ـ تأول في خلفة عمر ما تأول في استحلل
ح
جَنا ٌ ت ُ حا ِ صال ِ َمُلوا ال َ مُنوا وَعَ ِ نآ َ ذي َ س عََلى ال ّ ِ الخمر من قوله تعالى :ل َي ْ َ
موا.ما ط َعِ ُ ِفي َ
حتى أجمع رأي عمر وأهل الشورى أن يستتاب هو وأصحابه ،فإن أقروا
جلدوا ،وإن لم ي ُِقّروا به كفروا ،ثم إنه تاب وكاد يبلس لعظم ذنبه بالتحريم ُ
ر ،فعلم في نفسه ،حتى أرسل إليه عمر ـ رضي الله عنه ـ بأول سورةِ غاف ٍ
ة ،وأنهم يغفر لهم وإن جاز أن أن المضمون للبدريين أن خاتمتهم حسن ٌ
ب ما قبلها. يصدر عنهم قبل ذلك ما عسى أن يصدر ،فإن التوبة تج ّ
ب للقتل فالذي يجب أن ب ـ تصريحا ً أو /تعريضا ً ـ موج ٌ وإذا ثبت أن كل س ّ
ة والكفر الذي تقبل منه ب الذي ل تقبل منه التوب ُ ُيعتنى به الفرق بين الس ّ
التوبة ،فنقول:
159
الفرق بين السب والكفر
هذا الحكم قد نيط في الكتاب والسنة باسم أذى الله ورسوله ،وفي بعض
ب ،وكذلك جاء في ألفاظ الصحابة والفقهاء ذكر الحاديث ذكر الشتم والس ّ
السب والشتم ،والسم إذا لم يكن له حد ّ في اللغة كاسم الرض والسماء
والبر والبحر والشمس والقمر ،ول في الشرع كاسم الصلة والزكاة والحج
حرز والبيعواليمان والكفر ،فإنه ُيرجعُ في حده إلى العُْرف كالقبض وال ِ
والرهن والك َِرى ونحوها فيجب أن يرجع في حد ّ الذى والشتم والسب إلى
العرف ،فما عده أهل العرف سبا ً أو انتقاصا ً أو عيبا ً أو طعنا ً ونحو ذلك فهو
من السب ،وما لم يكن كذلك وهو كفٌر به ،فيكون كفرا ً ليس بسب ،حكم
صاحبه حكم المرتد إن كان مظهرا ً له وإل فهو زندق ٌ
ة ،والمعَتبر أن يكون
سًبا وأذى للنبي وإن لم يكن سّبا وأذى لغيره فعلى هذا كل ما لو قيل
لغير النبي أوجب تعزيرا ً أو حد ّا ً بوجه من الوجوه فإنه من باب سب
النبي كالقذف واللعن وغيرهما من الصورة التي تقدم التنبيه عليها ،وأما
ما يختص بالقدح في النبوة فإن لم يتضمن إل مجرد ُ عدم التصديق بنبوته
ة مع عدم التصديق فهو ف و استهان ٌض ،إن كان فيه استخفا ٌ فهو كفٌر مح ٌ
ب.
من الس ّ
ة
ب أومن الرد ِ
وهنا مسائل اجتهادية يتردد الفقهاء هل هي من الس ّ
ب فإن استسر به صاحبه فهو زنديق المحضة ،ثم ما ثبت أنه ليس بس ّ
ض ،واستقصاء النواع والفرق بينها حكمه حكم الزندقة ،وإل فهو مرتد ّ مح ٌ
ليس هذا موضعه.
160
فصـــــــل
161
فرق بين إظهار السب وكتمانه
قال ابن عقيل" :فكما ُأخذ على المسلم أن ل يعتقد ذلك أخذ على الذمي
ُ
أن ل ُيظهره ،فإظهار هذا كإضمار ذاك ،وإضماره ل ضرر على السلم /ول
إزراء فيه ،وفي إظهاره ضرٌر وإزراٌء على السلم ،ولهذا ما بطن من
الجرائم ل نتبعها في حق المسلم ،ولو أظهروها أقمنا عليهم حد الله".
ل ما ينقض اليمان من الكلم، ل هذا القياس في ك ّ وطرد َ القاضي وابن عقي ٍ
ة ،ونحو ذلك ،أن مثل التثنية والتثليث ،كقول النصارى :إن الله ثالث ثلث ٍ
الذمي متى أظهر ما تعلمه من دينه من الشرك نقض العهد ،كما أنه إن
أظهر ما نعلمه بقوله في نبينا نقض العهد.
ل من ذكر قال القاضي :وقد نص أحمد على ذلك فقال في رواية حنبل" :ك ُ ّ
لب أه ِ شيئا ً ي ُعَّرض به الرب فعليه القتل ـ مسلما ً كان أو كافرا ً ـ هذا مذه ُ
المدينة".
ن وهو مّر بمؤذ ٍ د" :سمعت أبا عبدالله يسأل عن يهودي َ وقال جعفر بن محم ٍ
ب م ،فقد نص على قتل من كذ ّ َ ه شت ٌ ل ،لن ُ لُ :يقت ُ ت ،فقا َ ه :كذب َ يؤذن فقال ل ُ
َ
ن شهَد ُ أ ّ ه" أو"أ ْ ه إل ّ الل ُ ن ل َ إل َ المؤذن وهو يقول" :الله أكبُر" أو "أشهد ُ أ ْ
ه" وقد ذكرها الخلل والقاضي في سب الله ،بناًء على أنه ل الل ِسو ُ مدا ً َر ُح ّم َ ُ
م في تكذيبه فيما ه فيما يتعلق بذكر الرب سبحانه ،و الشبه أنه عا ّ ذب ُ كّ ّ
يتعلق بذكر الرب وذكر الرسول ،بل هو في هذا أولى ،لن اليهودي ل
ذب من ه أكب َُر" وإنما يك ّ ه" ول من قال "الل ُ يكذب من قال" :ل إله إل الل ُ
ل جمهور المالكيين ،قالوا" :إنه يقتل ل الله ،وهذا قو ُ قال :إن محمدا ً رسو ُ
ل سب ،سواٌء كانوا يستحلونه أول يستحلونه ،لنهم وإن استحلوه فإنا لم بك ّ
م من سبه كذلك ل تحصن ن السل ُ نعطهم العهد على إظهاره ،وكما ل يحص ُ
منه الذمة وهو قول أبي مصعب وطائفةٍ من المدنيين".
د": قال أبو مصعب في نصراني قال":والذي اصطفى عيسى على محم ٍ
َ ه ،أو عاش يوما ً وليل ً
جّر
ت من َ مْر ُ ة ،وأ َ ي فيه ،فضربته حتى قتلت ُ اختلف عَل َ ّ
ب". رح على مزبلةٍ فأكلته الكل ُ برجله وط ُ ِ
ل.خَلق محمدًا" قال :يقت ُ وقال أبو مصعب في نصراني قال" :عيسى َ
وأفتى سلف الندلسيين بقتل نصرانيةٍ استهلت بنفي الربوبية ،وبنوة عيسى
لله.
ل ،أو لم ينزل س ْ م /ي ُْر َ ي ،أو ل َ ْ س بن َب ِ ّوقال ابن القاسم فيمن سبه فقال" :ل َي ْ َ
وله" ونحو هذا :فُيقتل ،وإن قال" :إن محمدا ً ن ،وإنما هو شيٌء ت ََق ّ عليه قرآ ٌ
لم ُيرسل إلينا ،وإنما أرسل إليكم ،وإنما نبينا موسى أو عيسى" ونحو هذا:
ل شيء عليهم ،لن الله أقرهم على مثله".
ن
ي :ديننا خيٌر من دينكم ،إنما دينكم دي ُ قال ابن القاسم" :وإذا قال النصران ّ
الحمير" ونحو هذا من القبيح ،أو سمع المؤذن يقول "أشهد ُ أن محمدا ً
جع والسجن ب المو ِ ه" فقال :كذلك يعظكم الله ،ففي هذا الد ُ ل الل ِ رسو ُ
162
ل آخُر فيما سحنون ،وذكره عن أبيه ،ولهم قو ٌ الطويل ،وهذا قول محمد بن ُ
إذا سبه بالوجه الذي به كفروا أنه ل يقتل.
سحنون عن ابن القاسم" :من شتم النبياء من اليهود والنصارى بغير قال ُ
ضربت عنقه إل أن ُيسلم". الوجه الذي به كفروا ُ
سحنون في اليهوديّ يقول للمؤذن إذا تشهد "كذبت" :يعاقب العقوبة وقال ُ
ل.
ن الطوي ِالموجعة مع السج ِ
م.ه شت ٌ ل ،لن ُص المام أحمد في مثل هذه الصورةِ على القت ِ وقد تقدم ن ّ
يب الذي ينتقض به عهد ُ الذم ّ وكذلك اختلف أصحاب الشافعي في الس ّ
ل به إذا قلنا بذلك ،على الوجهين: ويقت ُ
ب لنبينا والقدح في ديننا إذا أظهروه ،وإن كانوا أحدهما :ينتقض بمطلق الس ّ
يعتقدون ذلك دينًا ،وهذا قول أكثرهم.
لوالثاني :أنهم إذا أظهروه ،وإن كانوا يعتقدون فيه دينا ً من أنه ليس برسو ٍ
والقرآن ليس بكلم الله فهو كإظهارهم قولهم في المسيح ومعتقدهم في
التثليث قالوا :وهذا ل ينقض العهد بل تردٍد ،بل يعّزرون على إظهاره .وأما
إن ذكروه بما ل يعتقدونه دينا ً كالطعن في نسبه فهو الذي قيل فيه :ينقض
العهد ،وهذا اختيار الصيدلني وأبي المعالي وغيرهما.
ة من فرق بين ما يعتقدونه فيه دينا ً وما ل يعتقدونه ـ كما اختاره بعض وحج ُ
ُ
المالكية وبعض الشافعية ـ أنهم قد أقِّروا على دينهم الذي يعتقدونه ،لكن
منعوا من إظهاره ،فإذا أظهروه كان كما لو أظهروا سائر المناكير التي هي
من دينهم كالخمر والخنزير والصليب ورفع الصوت بكتابهم ونحو ذلك /وهذا
إنما يستحقون عليه العقوبة و النكال بما دون القتل.
يؤيد ذلك إن إظهار معتقدهم في الرسول ليس بأعظم من إظهار معتقدهم
سّلم هؤلء أن إظهار معتقدهم ل يوجب القتل ،واستبعدوا أن في الله وقد ي ُ َ
ينتقض عهدهم بإظهار معتقدهم إذا لم يكن مذكورا ً في الشرط ،وهذا
بخلف ما إذا سبوه بما ل يعتقدونه دينًا ،فإنا لم نقرهم على ذلك ظاهرا ً ول
باطنًا ،وليس هو من دينهم فصار بمنزلة الزنى والسرقة وقطع الطريق،
خُلص بذلك من ب لقول الكوفيين وقد ظن من سلكه أنه َ وهذا القول مقار ٌ
سؤالهم .وليس المر كما اعتقد ،فإن الدلة التي ذكرناها من الكتاب
ب بما يعتقده فيه دينا ً وما ل والسنة والجماع والعتبار كلها تدل على الس ّ
لب للقتل ،ومن تأمل كل دلي ٍ يعتقده فيه دينًا ،وأن مطلق السب موج ٌ
ل على السب المعتَقد دينا ً كما تدل ف عليه أنها جميعا ً تد ّ خ َبانفراده لم ي َ ْ
ص في السب الذي ُيعتقد على السب الذي ل يعتقده دينًا ،ومنها ما هو ن ّ
دينًا ،بل أكثرها كذلك ،فإن الذين كانوا يهجونه من الكفار الذين أهدر
دماءهم لم يكونوا يهجونه إل بما يعتقدونه دينًا ،مثل نسبته إلى الكذب
م دينه ومن اتبعه ،وتنفير الناس عنه إلى غير ذلك من المور، والسحر ،وذ ّ
خُلقه أو أمانته أو وفائهِ أو صدقهِ في غير دعوى فأما الطعن في نسبه أو ُ
163
الرسالةِ فلم يكن أحد ٌ يتعرض لذلك في غالب المر ،ول يتمكن من ذلك،
ه ،وقد تقدم ذلك فل
م ول كافٌر لظهور كذب ِ
ول يصدقه أحد ٌ في ذلك ل مسل ٌ
ه.
ة إلى إعادت ِ
حاج َ
ه:
ت من وجو ٍ ثم نقول هنا هذا الفرق متهاف ٌ
164
حّقق اضطر المنازع إلى أحد أمرين :إما موافقة من قال وهذا البحث إذا ُ
ة الدهماء ب ،وإما موافق ُ من أهل الرأي إن العهد ل ينتقض بشيٍء من /الس ّ
ت. ب في انتقاض العهد واستحلل الدم فمتهاف ٌ لس ّ ض بك ّفي أن العهد ينتق ُ
ل ،ومن ثم إنه إذا فرق لم يمكنه إيجاب القتل ول نقض العهد بذلك أص ً
ادعى وجوب القتل بذلك وحده لم يمكنه أن يقيم عليه دلي ً
ل.
الثالث :أنا إذا لم نقتلهم بإظهار ما يعتقدونه دينا ً لم يمكنا أن نقتلهم بإظهار
ب ،فإنه ما من أحدٍ منهم يظهر شيئا ً من ذلك إل ويمكنه أن شيٍء من الس ّ
ن به ،وإن كان طعنا ً في النسب كما يتدينون يقول :إني معتقد ٌ لذلك متدي ٌ
بالقدح في عيسى وأمه ـ عليهما السلم ـ ويقولون على مريم بهتانا ً
ب :هل هي عظيمًا ،ثم إنهم فيما بينهم قد يختلفون في أشياء من أنواع الس ّ
ت ضالون ،فل يشاءون أن يأتوا م ب ُهْ ٌ
ة؟ وهم قو ٌ ة عندهم أو باطل ٌ صحيح ٌ
معْت ََقد َُنا" هو ُ ببهتان ونوٍع من الضلل الذي ل أوجع للقلوب منه ثم يقولون " ُ
إل فعلوه ،فحينئذٍ ل ُيقتلون حتى يَثبت أنهم ل يعتقدونه ِدينًا ،وهذا القدر هو
ف ،وبعضه ل ُيعلم إل من جهتهم ،وقول بعضهم في جت َِهادٍ َو( اختل ٍل )ا ْ مح ّ
ل ،ونحن وإن كنا نعرف أكثر عقائدهم فما ُتخفي صدورهم ض غير مقبو ٍ بع ٍ
حتم ضاةٌ إلى َ مْف َر ،فهذا الفرق َدد الكفر والبدع منهم غير مستنك َ ٍ ج ّ أكبر ،وت َ َ
ل أهل الرأي ،ومستندهم ما أبداه ل ،وهو لعمري قو ُ ب الرسو ِ القتل بس ّ
هؤلء ،وقد قدمنا الجواب عن ذلك ،وبينا أنا إنما أقررناهم على إخفاء
ن في ديننا ،وإن كانوا ل قولهم والمجاهرةِ بالطع ِ دينهم ،ل على إظهارِ باط ِ
يستحلون ذلك ،فإن المعاهدة على تركه صيرته حراما ً في دينهم كالمعاهدة
ف عن دمائنا وأموالنا ،وبّينا أن المجاهرة بكلمة الكفر في دار على الك ّ
ب،م من الس ّ د ،على أن الكفر أع ّ ب السيف بل أش ّ السلم كالمجاهرة بضر ِ
ب ،وهذا هو سر المسألة ،فل بد من بسطه، ل كافرا ً ول يس ّ ن الرج ُ فقد يكو ُ
فنقول:
165
ب ،فأما المسلم فُيقتل به فهذا كله إذا صدر من مسلم ٍ أو معاهدٍ فهو س ّ
ي فيقتل بذلك إذا أظهره. ل ،وأما الذم ّ بكل حا ٍ
ف من لحن القول فأما إن أظهر الدعاء للنبي وأبطن الدعاء عليه إيطانا ً ُيعر َ
م عليكم ـ إذا بحيث يفهمه بعض الناس دون البعض ـ مثل قوله :السا ُ
م ،ففيه قولن: أخرجه مخرج التحية وأظهر أنه يقول السل ُ
ل به ،وإنما كان عفو النبي عن اليهود ب الذي ُيقت ُ أحدهما :أنه من الس ّ
حّيوه بذلك حال ضعف السلم تأليفا ً عليه لما كان مأمورا ً بالعفو الذين َ
عنهم والصبر على أذاهم ،وهذا قول طائفةٍ من المالكية والشافعية
والحنبلية مثل القاضي عبدالوهاب والقاضي أبي يعلى وأبي إسحاق
من ب َ ل وغيرهم ،وممن ذهب إلى أن هذا س ّ الشيرازي وأبي الوفاء بن عقي ٍ
ط لنا قد بينا فيما ل ساق ٌ د ،وهذا قو ٌ قال لم يعلم أن هؤلء كانوا أهل عه ٍ
تقدم أن اليهود الذين بالمدينة كانوا معاهدين ،وقال آخرون :كان الحقّ له،
وله أن يعفو عنهم ،فأما بعده فل عفو.
ب الذي ينتقض العهد ،لنهم لم ُيظهروا والقول الثاني :أنه ليس من الس ّ
ل ،وحذفوا ب ولم يجهروا به ،وإنما أظهروا التحية والسلم لفظا ً وحا ً الس ّ
ه الكثرون ،ولهذا اللم حذفا ً خفيا ّ يفطن له بعض السامعين ،وقد ل يفطن ل ُ
ذا /سل ّموا فَإنما يُقو ُ َ
م، م عَل َي ْك ُ ْسا ُ
م :ال ّ حد ُهُ ْ لأ َ َ ُ ْ ِّ َ َ ْ ن الي َهُوْد َ إ ِ َ قال النبي " :إ ِ ّ
م" فجعل هذا شرعا ً باقيا ً في حياته وبعد موته حتى صارت فَُقوُْلوا :وَعَل َي ْك ُ ْ
سّلم عليهم سّلم :وعليكم أو عليكم ،وكذلك لما َ ي إذا َ ة أن يقال للذم ّ السن ُ
َ
م" ولو كان هذا من م عَل َي ْك ُ ْ سا ُ ل ال ّ ل؟ إنما َقا َ ما َقا َ ن َ اليهودي قال" :أت َد ُْروْ َ
سمع منه ذلك ولو ة اليهوديّ إذا ُ ب لوجب أن ُيشرع عقوب ُ ب الذي هو س ّ الس ّ
ه
علم أنه ل يجوز مؤاخذتهم بذلك ،وقد أخبر الل ُ بالجلد ،فلما لم ُيشرع ذلك ُ
ن ِفي ه وَي َُقوُْلو َ
ك ب ِهِ الل ُ حي ّ َ م يُ َما ل َ ْ ك بِ َحي ّوْ َك َ جاُءو َ ذا َ عنهم بقوله تعالى :وَإ ِ َ
َ
صيُرم ِ س ال َصل َوْن ََها فَب ِئ ْ َ م يَ ْ جهَن ّ َ م َ سب ُهُ ْ
ح ْ ل َ ما ن َُقوْ ُ ه بِ َ م َلول َ ي ُعَذ ّب َُنا الل ُ سه ِ ْ أن ُْف ِ
ل على أنه لم َيشرع على ذلك عذابا ً في فجعل عذاب الخرة حسبهم ،فَد َ ّ
الدنيا ،وهذا لنهم لو قُّرروا على ذلك لقالوا إنما قلنا السلم ،وإنما السمع
ولون علينا ،فكانوا في هذا مثل المنافقين الذين يظهرون يخطئ وأنتم تتق ّ
السلم وي ُعَْرفون في لحن القول ،وي ُعَْرفون بسيماهم ،فإنه ل يمكن
سيما ،فإن موجبات العقوبات ل بد أن تكون ظاهرة عقوبتهم باللحن و ال ّ
الظهور الذي يشترك فيه الناس ،وهذا القدر وإن كان كفرا ً من المسلم
فإنما يكون نقضا ً للعهد إذا أظهره الذمي ،وإتيانه به على هذا الوجه غاية ما
يكون من الكتمان والخفاء ،ونحن ل نعاقبهم على ما يسرونه ويخفونه من
ت من العلماء من المتقدمين ومن أصحابنا السب وغيره ،وهذا قول جماعا ٍ
سام ِ والمالكيين وغيرهم ،وممن اختار هذا القول من زعم أن هذا دعاٌء بال ّ
ل( وأما الذين قالوا: مل َ ٍ ت على أصح القولين أو دعاٌء بالسامةِ )و ِ وهو المو ُ
ض بالذى ل بالسب ،وهذا م على الخليقة قالوا :وهذا تعري ٌ ن الموت محتو ٌ إ ّ
166
دينف ،فإن الدعاء على الرسول والمؤمنين بالموت وترك ال ّ القول ضعي ٌ
ب ،كما أن الدعاء بالحياةِ والعافيةِ والصحةِ والثبات على الدين من أبلغ الس ّ
ة.
من أبلغ الكرام ِ
ده الناس شتما ً أو سّبا أو تنقصا ً فإنه يجب به النوع الثاني :الخبر ،فكل ما ع ّ
ب ،وقد يكون الرجل كافرا ً القتل /كما تقدم ،فإن الكفر ليس مستلزما ً للس ّ
ض الرجل ويعتقد ب ،والناس يعلمون علما ً عاما ً أن الرجل قد يبغ ُ ليس بسا ّ
ة وإن كانت المسبة ه ،وقد يضم إلى ذلك مسب ً فيه العقيدة القبيحة ول يسب ُ
ل ،وما ل يحتمل أن ة للمعتَقد ،فليس كل ما يحتمل عقدا ً يحتمل قو ً مطابق ً
ل سّبا وفي يقال سّرا يحتمل أن يقال جهرًا ،والكلمة الواحدة تكون في حا ٍ
ب ،فُعلم أن هذا يختلف باختلف القوال والحوال ،وإذا لم حال ليست بس ّ
ف في اللغةِ ول في الشرع فالمرجع فيه إلى عُْرف ب حد ّ معرو ٌ يكن للس ّ
الناس ،فما كان في الُعرف سبا ً للنبي فهو الذي يجب أن ينزل عليه كلم
ك أقسامًا ،فنقول: ن نذكُر من ذل َ الصحابة والعلماِء ،وما ل فل ،ونح ُ
ب كالتسمية ل شك أن إظهار النتقص والستهزاء به عند المسلمين س ّ
باسم الحمارِ أو الكلب ،أو وصفه بالمسكنة و الخزي والمهانة ،أو الخبار
بأنه في العذاب وأن عليه آثام الخلئق ونحو ذلك ،وكذلك إظهاُر التكذيب
ل ،وأنه ب مثل وصفه بأنه ساحٌر خادعٌ محتا ٌ على وجه الطعن في المكذ ّ ِ
ظم ذلك ن نَ َل ونحو ذلك ،فإ ْ يضر من اتبعه ،وأن ما جاء به كله زوٌر وباط ٌ
شعرا ً كان أبلغ في الشتم ،فإن الشعر يحفظ وُيروى وهو الهجاء ،وربما
س كثيرةٍ ـ مع العلم ببطلنه ـ أكثر من تأثير البراهين ،فإن يؤّثر في نفو ٍ
غُّني به بين مل ٍ من الناس فهو الذي /قد تفاقم أمره ،وأما إن أخبر عن
ن فيه ـ مثل أن يقول :أنا لست متبعه ،أو لست مصدقه، معتقده بغير طع ٍ
ه ،أو ل أرضى دينه ،ونحو ذلك ـ فإنما أخبر عن اعتقادٍ أو إرادةٍ لم أو ل أحب ُ
يتضمن انتقاصًا ،لن عدم التصديق والمحبة قد يصدر عن الجهل والعناد
دين أكثر مما يصدر عن العلم ف ال ّوالحسد والكبر وتقليد السلف وإل ْ ِ
بصفات النبي ،خلف ما إذا قال من كان ومن هو وأي كذا وكذا هو ونحو
ذلك ،وإذا قال :لم يكن رسول ً ول نبيًا ،ولم ينزل عليه شيٌء ،ونحو ذلك فهو
ه
من نسبته إلى الكذب ووصفه بأن ُ ب فقد تض ّ ب صريح ،وك ّ
ل تكذي ٍ تكذي ٌ
ق ،ومن حيث إن ب ،لكن بين قوله" :ليس بنبي" وقوله" :هو كذاب" فر ٌ ك ّ
ذا ٌ
ل الله، هذا إنما تضمن التكذيب بواسطة علمنا أنه كان يقول :إني رسو ُ
من ن ََفى عن غيره بعض صفاته نفيا ً مجردا ً كمن نفاها عنه ناسبا ً له وليس َ
ت بعضها ُيعد ّ سبا ً دي بعبارا ٍإلى الكذب في دعواها ،والمعنى الواحد قد يؤ ّ
وبعضها ل ُيعد ّ سّبا ،وقد ذكرنا أن المام أحمد نص على أن من قال
م ،وذلك لن ابتداءه بذلك للمؤذن معلنا ً بذلك ـ ت" فهو شات ٌ ن" :ك َذ َب ْ َ للمؤذ ِ
بحيث يسمعه المسلمون طاعنا ً في دينهم ،مكذبا ً للمة في تصديقها
م.
بالوحدانية والرسالة ـ ل ريب أنه شت ٌ
167
فإن قيل :ففي الحديث الصحيح الذي يرويه الرسول عن الله ـ تبارك
م،ن آد َ َ ك ،وكذ ّب َِني اب ُ ما ي َن ْب َِغي ل َ ُ
ه ذ َل ِ َ م ،وَ َن آد َ َ مِني اب ْ ُ وتعالى ـ أنه قالَ " :
شت َ َ
َ
ه
ما َتكذيب ُ ت وََلدًا ،وَأ ّ ه :إّني اتخذ ْ ُ ه إّياي فقول ُ ُ م ُ شت ْ ُ ما َ ك ،فأ ّه ذل َما ينبغي ل ُ و َ
ه :لن يعيدني كما بدأني" فقد قََرن بين التكذيب والشتم. إّيايَ فقول ُ
ت"/ذب َ فُيقال قوله" :لن يعيدني كما بدَأني" يفارق قول اليهودي للمؤذن "ك َ َ
من وجهين:
بأحدهما :أنه لم يصّرح بنسبته إلى الكذب ،ونحن لم نقل :إن كل تكذي ٍ
ل( كافرٍ شاتمًا ،وإنما قيل :إن العلن بمقابلة شتم ،إذ لو قيل ذلك لكان )ك ُ ّ
ة،
م لها في اعتقادِ النبو ِ ت" سب للمة وشت ٌ ذب َ "ك َ َ داعي الحق بقوله:
ة ،كما أن الذين هجوا من اتبع النبي على اتباعهم إياه ب للنبو ِ وهو س ّ
ر
ر( بنت مروان َوشعر كعب بن زهي ٍ شع ْ ِ ل) ِ كانوا سابين للنبي مث ُ
ن خبر ي لمضمو ِ ر" :لن يعيدني كما بدأني" فإنه نف ٌ وغيرهما ،وأما قول الكاف ِ
ر.
اللهِ بمنزلةِ سائرِ أنواِع الكف ِ
ث ل يقول :إن الله أخبر أنه سيعيدني ،ول ب بالبع ِ الثاني :أن الكافَر المكذ َ
ل أوف القائل للرسو ِ ه ،وإن كان تكذيبًا ،بخل ِ ب لل ِ يقول :إن هذا الكلم تكذي ٌ
ب، ن على المكذ ّ ِ ت" ،فإنه مقّر بأن هذا طع ٌ ذب َ ل" :ك َ َ لمن صدق الرسو َ
ل كلم ٍ تقدم ذكره في المسألة ص به ،وهذا ظاهٌر ،وك ّ ب له ،وانتقا ٌ وعي ٌ
حك ْ َ
م الولى من نظم ٍ ونحوه عَد ّهُ النبي سّبا حتى رتب على قائله ُ
ب أيضًا ،وكذلك ما كان في معناه ،وقد تقدم ذكر ذلك ب فإنه س ّ السا ّ
ن من َيعرف صر ،وإنما جماعُ ذلك أ ّ والكلم على أعيان الكلمات ل ينح ِ
ل والصطلحات ف الحوا ِ ف ذلك باختل ِ ب ،وقد يختل ُ ب فهو س ّ هس ّ س أن ُالنا ُ
ُ
والعادات وكيفية الكلم ِ ونحو ذلك ،وما اشتبه فيه المُر ألحق بنظيره
م.وشبهه ،والله سبحانه أعل ُ
168
فـصــــل
170
فـصـــل
ب الله ت ََعاَلى
س ّ
ن َ
م ْ
ِفي َ
175
ينتقض هذا بتوبة الكافر والمرتد ،لن العقوبة هناك إنما هي على العتقاد
الحاضر في الحال المستصحب من الماضي ،فل يصلح نقضا ً لوجهين:
أحدهما :أن عقوبة الساب لله ليست لذنب أستصحبه واستدامه ،فإنه بعد
انقضاء السب لم يستصحبه ولم يستدمه وعقوبة الكافر والمرتد إنما هي
صّر عليه مقيم على اعتقاده. م ِ
الكفر الذي هو ُ
الثاني :أن الكافر إنما ُيعاَقب على اعتقاد هو الن في قلبه ،وقوله وعمله
ل على ذلك العتقاد ،حتى لو فرض أن علمنا أن كلمة الكفر التي قالها دلي ٌ
خرجت من غير اعتقاد ٍ لموجبها لم نكّفره ـ بأن يكون جاهل ً بمعناها ،أو/
بمخطئا ً قد غلط وسبق لسانه إليها مع قصد خلفها ،ونحو ذلك ـ والسا ّ
إنما ُيعاَقب على انتهاكه لحرمة الله واستخفافه بحقه فُيقتل ،وإن علمنا أنه
ن بذلك، ستحسن السب لله ول َيعتقده دينًا ،إذ ليس أحد ٌ من البشر يدي ُ ل يَ ْ
ول ينتقض هذا أيضا ً بترك الصلة والزكاة ونحوهما ،فإنهم إنما ُيعاَقبون على
دوام الترك لهذه الفرائض ،فإذا فعلوها زال الترك ،وإن شئت أن تقول
الكافر والمرتد و تاركوا الفرائض يعاقبون على عدم فعل اليمان
ض امتنعت ن والفرائ ُ والفرائض ،أعني على دوام هذا العدم ،فإذا ُوجد اليما ُ
العقوبة لنقطاع العدم ،وهؤلء يعاَقبون على وجود القوال والفعال
الكبيرة ،ل على دوام وجودها ،فإذا ُوجدت مرةً لم يرتفع ذلك بالترك بعد
ذلك.
ة،ة ،وقد تقدم أن الردةَ نوعان :مجّرد ٌ ه وقو ٌ
ج ٌ
وبالجملة فهذا القول له ت َوَ ّ
ة ،وبسطنا هذا القول فيما تقدم في المسألة الثالثة ،ول خلف في ومغل ّظ َ ٌ
قبول التوبة فيما بينه وبين الله سبحانه وسقوط الثم بالتوبة النصوح.
ومن الناس من سلك في ساب الله تعالى مسلكا ً آخر ،وهو أنه جعله من
باب الزنديق كأحد المسلكين اللذين ذكرناهما في ساب الرسول لن وجود
ريرته ،لكن هذا س ِخبث َ ل على ُ السب منه ـ مع إظهاره للسلم ـ دلي ٌ
ب ل يتدين به ،فأما السب الذي ف ،فإن الكلم هنا إنما هو في س ّ ضعي ٌ
ي ُت َد َّين به ـ كالتثليث ،ودعوى الصاحبة والولد ـ فحكمه حكم أنواِع الكفر،
ت المكّفرةُ ـ مثل مقالةِ الجهمية ،والقدرية ،وغيرهم من وكذلك المقال ُ
صنوف البدع ـ.
جيعا ً حتى ي َْرَدعه عن َ
ب أدبا ً وَ ِ
وإذا قبلنا توبة من سب الله سبحانه فإنه ي ُؤّد ّ ُ
ك /في ل أصحاب مال ٍ العود إلى مثل ذلك ،هكذا ذكره بعض أصحابنا ،وهو قو ُ
د.
ل مرت ّ ك ّ
176
فـصــــل
ه
وب َت ِ ِ
ل تَ ْ
و ِ و َ
قب ُ ْ ه َ
ذاَ ، ن َ
م ْ
ي ِ ة الذّ ّ
م ّ ست َِتاب َ ِ
ة /في ا ْ سأ َل َ ُ
ة الّثان ِي َ ُ م ْ
ال َ
181
فـصــــل
حقيقة السب
ص،
ب الذي ذكرنا حكمه من المسلم هو :الكلم الذي يقصد به النتقا ُ الس ّ
ف
س على اختل ِ ل النا ِ ب في عقو ِ ف ،وهو ما يفهم منه الس ّ والستخفا ُ
ل عليه قوله تعالى :وَل َ ه ،وهو الذي د ّ ن ،والتقبيِح ،ونحو ِاعتقاداتهم ،كاللع ِ
عل ْم ٍ.
دوا ً ب ِغَي ْرِ ِ
ه عَ ْ ن اللهِ فَي َ ُ
سّبوا الل َ دو ِ
ن ُ
م ْ
ن ِ
عو َن ي َد ْ ُ سّبوا ال ّ ِ
ذي َ تَ ُ
فهذا أعظم ما ت َُفوه ُ به اللسنة ،فأما ما كان سب ّا ً في الحقيقة والحكم ،لكن
ص
ن أن ليس فيه انتقا ٌ من الناس من يعتقده دينًا ،ويراه صوابا ً وحّقا ،ويظ ّ ِ
م صاحبه إما حكم المرتد المظهر للردة ول تعييب ،فهذا نوعٌ من الكفر ،حك ُ
ه أو ل
م في الكلم ِ الذي يكفُر به صاحب ُ ن للنفاق ،والكل ُأو المنافق المبط ِ
ب منها الكفَر أو البدعة فقط وما ل العتقادات وما ُيوج ُ يكُفُر ،و تفصي ُ
ض أن ل يدخل هذا في اختلف فيه من ذلك ليس هذا موضعه ،وإنما الغر ُ
م.
ه أعل ُ ب الذي تكلمنا في استتابة صاحبه نفيا ً وإثباتا ً والل ُ قسم الس ّ
182
فـصــــل
184
فصــــــل
185
فصــــــل
187
فصـــــل
188
ب عثمــان، ُ
ل سـ ّ مـَر بــن عبــدالعزيز أت ِــي برجـ ٍ ن عُ َ قال الحارث بن عتبــة" :إ ّ
ت رجل ً ُ
ه ،قــال :وإن أبغض ـ َ فقال :مــا حملــك علــى أن ســببته؟ قــال :أبغضـ ُ
جِلد ثلثين سوطًا". سببته؟ قال :فأمر به ف ُ
ط،سانا ً قَ ّ َ
ب إن َ ضَر َ ن عبدالعزيز َ مَر ب ْ َ ت عُ َ ما َرأي ْ ُ ةَ " : وقال إبراهيم بن ميسر َ
واطًا" .رواهما الللكائي. ه أس َ ة فضرب ُ سانا ً شتم معاوي َ إل ّ إن َ
ه" :ل يقتل إل من سب النبي ، ل سب ّ ُ كتب في رج ٍ ه َ وقد تقدم عنه أن ُ
ولكن اجلده فوق َرأسه َأسواطًا ،ولول أني رجوت أن ذلك خير له لم
ل". َأفع ْ
ل ُ
ت برج ـ ٍ وروى المام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم الحوال قال" :أت ِي ْ ُ
ل: مــا قَــا َ م عَــاد َ ل ِ َ ل :ثـ ّ ط ،قــا َ ه عشــرةَ أســوا ٍ ن ،قــال :فضــربت ُ عثمــا َ ب ُ قد ْ س ّ
سوطًا". ن َ ه سبعي َ ه حتى ضربت ُ ُ سب ّ ُ ه عشرة ً أخرى ،قال :فلم يزل ي َ ُ فضربت ُ
ك" :من شتم النبي قتل، ك ،قال مال ٌ وهذا هو المشهوُر من مذهب مال ٍ
ب". ُ َ
ومن شتم أصحابه أد ّ َ
ض عثمان والبراءة شي ْعَةِ إلى ب ُغْ ِ ن ال ّ م َ ن غَل َ ِ م ْ ن حبيبَ " : وقال عبدالملك ب ُ
من ُ
د،ة عليهِ أش ّ ض أبي بكرٍ وعمَر فالعقوب ُ من زاد َ إلى ُبغ ِ ب أدبا ً شديدًا ،و َ ه أد ّ َ ُ
ي
ب الن ّب ِ ّ س ّ ت ،ول يبلغُ به القتل إل ّ في َ ه حتى يمو َ ل سجن ُ َ
ه ،وي ُطا ُ وُيكّرُر ضرب ُ ُ
."
وقال ابن المنذِر" :ل أعلم أحدا ً يوجب قتل من سب من بعد النبي ." َ
ة" :إن كــان ب الصــحاب ِ وقال القاضي /أبو يعلى :الذي عليه الفقهاُء فــي سـ ّ
سق ولم يكفر ،ســواء ك َّفرهــم أو مستحل ً لذلك كفر ،وإن لم يكن مستحل ً فَ َ
ط ََعن في دينهم مع إسلمهم".
ب ة مــن الفقهــاء مــن أهــل الكوفـةِ وغيرهــم بقتــل مــن سـ ّ وقد قطع طائفـ ٌ
ة .قال محمد ُ بن يوسف الفريابي ،وسئل عمــن شــتم الصحابة وَك ُْفرِ الّرافض ِ
أبا بكر ،قال" :كافر ،قيل :فُيصّلى عليه؟ قال :ل ،وسأله :كيف ُيصنع به وهو
يقول ل إله إل الله؟ قال :ل تمسوه بأيديكم ،ادفعوه بالخشب حــتى تــواروه
في حفرته".
لكلت ذبيحة وقال أحمد بن يونس" :لو أن يهوديا ً ذبح شاة وذبح رافضي َ
لنه مرتد عن السلم". اليهودي ،ولم آكل ذبيحة الرافضيَ ،
وكذلك قال أبو بكر بن هانئ" :ل ُتؤكل ذبيحة الروافض والقدريةِ كما ل
م
ن مقا َ ة الكتاّبي ،لن هؤلء ُيقامو َ ه ُتؤكل ذبيح ُ د ،مع أن ُ ة المرت ّ ل ذبيح ُ ُتؤك ُ
ة".ن على دينهم ،وُتؤخذ ُ منهم الجزي ُ د ،وأهل الذمةِ ي َُقّرو َ المرت ّ
ة" :ليس لرافضي ن أئمة الكوف ِ وكذلك قال عبدالله بن إدريس من أعيا ِ
م. َ
)شفعة لنه ل( شفعة إل لمسل ٍ
ل مــن ل لرجـ ٍ ن يقــو ُ ن الحسـ ِ ن ب َـ َ سـ َ ح َ ت ال َ مع ْ ُ سـ ِ قَ " : ل بن مــرزو ٍ وقال فضي ُ
ه ،ومــا أمتنـعُ مــن ذلــك إل بــالجواِر"، ة إلى الل ِ ك لقرب ٌ ة :واللهِ إن قَْتل َ الرافض ِ
189
ح ،قال :ل ،واللهِ ل هذا تمز ُ ت إنما تقو ُ ه قَد ْ عرف ُ ك الل ُ م َ ح ِوفي رواية قالَ" :ر َ
ه الجــد ،قــال :وســمعته يقــول :لئن أمكننــا اللــه منكــم ما هــو بــالمزح ولكنـ ُ
َ
م". جل َك ُ ْ كم وأْر ُ ن أيدي ُ لنقطع ّ
ي
ت من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من عل ّ صّرح جماعا ٌ و َ
وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كّفروا
هم. هم وسّبو ُ سقو ُ الصحابة وف ّ
ب فََقد ْ س ّ ن يَ ُ كا َ ن َ ي فَإ ِ ْ ض ّ مْقن ِِع" وَ "أما الّرافِ ِ وقال أبو بكرٍ عبدالعزيز في "ال ُ
ج". ك ََفَر فَل َ ي َُزوّ ُ
حه إن ســبهم س ـّبا يقــد ُ صره القاضي أبو يعلــى أنـ ُ ولفظ بعضهم وهو الذي ن َ َ
ب أبــا ح ـ مثــل أن يس ـ ّ في دينهم أو عدالتهم ك ََفر بذلك ،وإن كان سّبا ل يقد ُ
أحدهم أو يسبه سّبا يقصد به غيظه ونحو ذلك ـ لم يكفر".
ة"، م عثمان" :/هذه زندق ٌ ل يشت ُ ب في الرج ِ قال أحمد ُ في روايةِ أبي طال ٍ
وقال في رواية المروذي" :من شتم َأبا بكر وعمر وعائشة ما أراه على
السلم") .وقال في رواية حنبل :من شتم رجل ً من أصحاب النبي ما
أراه على السلم(.
قال القاضي أبو يعلى :فقــد أطلــق القــول فيــه أنــه يكفــر بسـّبه لحـدٍ مــن
ب عــن قتلــه وكمــال الحــد، ة ،وتوّقف في رواية عبــدالله وأبــي طــال ٍ الصحاب ِ
وإيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره.
َ
ه
ل سبهم بأن ّ ُ م" إذا استح ّ سل َ ِما أَراهُ عََلى ال ِ ْ قال :فيحتمل أن يحمل قولهَ " :
ل ذلك ،بل فََعل ُ
ه ن لم يستح ّ م ْ ل على َ ط القت ِ ل إسقا ُ ف ،ويحم ُ يكفُر بل خل ٍ
ماهَ " : ل أن يحمل قول ُ ل :ويحتم ُ مع اعتقادهِ لتحريمهِ كمن َيأِتي المعاصي ،قا َ
موا، ظل ُن في عدالتهم نحو قولهَ : ب يطع ُ م" على س ّ َ ل سْ ِ ل ا لى أ ََراهُ عَ َ
َ ِ
ط
ه في إسقا ِ ُ
ق ،ويحمل قول ُ سُقوا ،بعد النبي ،وأخذوا المر بغير ح ّ
ُ وفَ َ
ة
م ،وقل ُ ة عل ٍ ن في دينهم ،نحو قوله :كان فيهم قل ُ ب ل يطع ُ ل على س ّ القت ِ
ة للد ّن َْيا ،ونحو ذلك ،قال: ح ومحب ٌ معرفةٍ بالسياسة والشجاعة ،وكان فيهم ش ّ
ن في سابهم روايتان :إحداهما: مه على ظاهره فتكو ُ ل كل ُ ل أن ُيحم َ ويحتم ُ
ل القاضي وغيره ،حكوا في ق ،وعلى هذا استقّر قو ُ يكُفُر ،والثانية :يفس ُ
تكفيرهم روايتين.
َ
قال القاضي" :ومن قذف عائشة ـ رضي الله عنها ـ بما برأها الله منه كفر
ف". بل خل ٍ
م في فصلين ،أحدهما :في حكم ِ سبهم مطلقًا، ب الكل َ ن نرت ّ ُ ونح ُ
ب. والثاني :في تفصيل أحكام ِ السا ّ
حرمة سب الصحابة
ة.ب والسن ِ م بالكتا ِ ب أصحاب رسول الله حرا ٌ أما الول فس ّ
190
م ب َْعضا ً وأدنى أحوال ضك ُ ْ ب ب َعْ ُ ن الله سبحانه يقولَ( :ول ي َغْت َ ْ ل فل ّ أما الو ُ
نع ُ طا ِ ةَ) وال ّ مَز ٍ مَزةٍ ل ُ َ ل هُ َ ل ل ِك ُ ّ ب لهم أن يكون مغتابًا ،وقال تعالى( :وَي ْ ٌ السا ّ
ما ت ب ِغَي ْرِ َ مَنا ِ مؤ ْ ِ ن َوال ُ مِني َ مؤ ْ ِ ن ال ُ ذو َ ن ي ُؤْ ُ ذي َ ة( وقالَ( :وال ّ ِ مَز ٌ مَزة ل ُ َ عَل َي ْهِم ِ هُ َ
مِبينا ً وهم صدور المؤمنين فإنهم هم مُلوا ب ُهَْتانا ً وَإ ِْثما ً ُ حت َ َ سُبوا فََقد ْ ا ْ اك ْت َ َ
َ
ذكرت ،ولم مُنوا حيث ُ نآ َ ذي َ جهون بالخطاب في قوله تعالىَ( :يا أي َّها ال ّ ِ الموا َ
ى مطلقا ً بقوله رضي عنهم رض ً يكتسبوا ما يوجب أذاهم ،لن الله سبحانه
م/ َ ن ال َوُّلو َ
ن ات ّب َُعوهُ ْ ذي َ صارِ َوال ِ ن َوالن ْ َ ري َ ج ِ مَها ِ ن ال ُ م َ ن ِ ساب ُِقوْ َ تعالىَ( :وال ّ
ه فرضي عن السابقين من غير اشتراط ضوا عَن ْ ُ م وََر ُ ن رضي الله عَن ْهُ ْ سا ٍ ح َ ب ِإ ِ ْ
ن ،وقال تعالى( :ل ََقد ْ ض عن التابعين إل أن يّتبعوهم بإحسا ٍ ن ،ولم ير َ إحسا ٍ
ة ة والرضى من الله صف ٌ جَر ِ ش َ ت ال ّ ح َ ك تَ ْ ن إ ِذ ْ ي َُباي ُِعون َ َ مني َ مؤ ْ ِ ن ال ُ ه عَ ِ َرضي الل ُ
من ة ،فل يرضى إل عن عبدٍ علم أنه يوافيه على موجبات الرضى و َ قديم ٌ
ك سواءٌ كانت َرضي الله عنه لم يسخط عليه أبدًا ،وقوله تعالى( :إذ ْ ي َُباي ِعُوْن َ َ
ف لتعلق الرضى ظرفا ً محضا ً أو ظرفا ً فيها معنى التعليل فإن ذلك ظر ٌ
ى أيضا ً كما في تعلق العلم والمشيئة والقدرة وغير بهم ،فإنه يسمى رض ً
س الرضى ،وإنه ف يتعلقُ بنف ِ ذلك من صفات الله سبحانه ،وقيل :بل الظر ُ
يرضى عن المؤمن بعد أن يطيعه ،ويسخط عن الكافر بعد أن يعصيه،
ب من ابتع الرسول بعد اتباعه له ،وكذلك أمثال هذا ،وهذا قول جمهور ويح ّ
ف وأهل الحديث وكثير من أهل الكلم ،وهو الظهر ،وعلى هذا فقد السل ِ
ه[ عنهم هم من أهل الثواب ُ
بّين في مواضع أخر أن هؤلء الذين رضي ]الل ُ
في الخرة ،ويموتون على اليمان الذي به يستحقون ذلك ،كما في قوله
م َ ن ال َوُّلو َ
ن ات ّب َُعوهُ ْ ذي َ صارِ َوال ِ ن َوالن ْ َ ري َ ج َِ مَها ِ ن ال ُ م َ ن ِ ساب ُِقوْ َ تعالىَ( :وال ّ
َ
حت ََها الن َْهاُر جرِيْ ت َ ْ ت تَ ْ جّنا ٍ م َ ه وَأعَد ّ ل َهُ ْ ضوا عَن ْ ُ م وََر ُ ن رضي الله عَن ْهُ ْ سا ٍ ح َ ب ِإ ِ ْ
م. َ
ن فِي َْها أَبدا ً ذل ِ َ
ظي ُ ك الَفوُْز العَ ِ دي َ خال ِ ِ َ
ت َ وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال" :ل َ ي َد ْ ُ
ح َ حد ٌ َباي َعَ ت َ ْ خل الّناَر أ َ
ة". جَر ِ ش َ ال ّ
وأيضًا ،فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة وإن كان
رض الثناء عليه مع ْ ِ رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح ،فإنه يذكر ذلك في َ
ب لم يكن من أهل والمدح عليه ،فلو علم أنه ي ََتعّقب ذلك ما ُيسخط الَر ّ
ذلك.
َ
ة
ضي َ ً ك َرا ِ جِعي إ َِلى َرب ّ ِ ة اْر ِ مئ ِن ّ ُ مط ْ َ س ال ُ وهذا كما في قوله تعالىَ( :يا أي ّت َُها الن ّْف ُ
جن ِّتي ولنه سبحانه وتعالى قال( :ل ََقد ْ خِلي َ عَباِدي َواد ْ ُ خِلي ِفي ِ ة َفاد ْ ُ ضي ْ ً مْر ِ َ
ة
سَر ِ صارِ ال ّ ِ َ
ساعَةِ العُ ْ ن ات ّب َُعوهُ ِفي َ ذي َ ن َوالن ْ َ ري َ ج ِ مَها ِ ي َوال ُ على الّنب ّ ه َ ب الل ُ َتا َ
محي ٌ ف َر ِ م َرءو ٌ ه ب ِهِ ْ م إ ِن ّ ُب عَل َي ْهِ ْ م َتا َ م ثُ ّ من ْهُ ْ ق ِ ري ٍ ب فَ ِ كاد َ ي َزِي ْغُ قُُلو ُ ما َ ن ب َعْدِ َ م ْ ِ
داةِ َو م ِبالغَ َ ن َرب ّهُ ْ عو َ ن ي َد ْ ُ ذي َ مع َ ال ّ ِ ك َ س َ وقال سبحانه وتعالىَ( :واصب ِْر /ن َْف َ
َ
داُء ش ّ هأ ِ مع َ ُن َ ذي َ ل اللهِ َوال ّ ِ سو ُ مد ٌ َر ُ ح ّ م َ ه وقال تعالىُ ( : جه َ ُ ن وَ ْ دو َ ي ي ُرِي ْ ُ ش ّ العَ ِ
ضوانا ً ن اللهِ وَرِ ْ م َ ضل ً ِ ن فَ ْ جدا ً ي َب ْت َُغو َ س ّ كعا ً ُ م ُر ّ م ت ََراهُ ْ ماُء ب َي ْن َهُ ْ ح َ عََلى الك ُّفارِ ُر َ
191
ك جعل ْناك ُ ُ س ( و َ َ مة ٍ أ ُ ْ ُ
ة
م ً مأ ّ كذل ِ َ َ َ َ ْ ت لل ِّنا ِ ج ْ خرِ َ خي َْر أ ّ م َ الية ،وقال تعالى( :ك ُن ْت ُ ْ
ب ،وقال ـ جه بهذا الخطاب ،فهم مرادون بل ري ٍ سطا ً ،وهم أول من وُ ّ وَ َ
ّ
وان َِناخ َ ن َرب َّنا اغِْفْر ل ََنا وَل ِ ْ م ي َُقوُلو َ ن ب َعْد َهُ ْ م ْ جاُءوا ِ ن َ ذي َ سبحانه وتعالى ـَ( :وال ّ ِ
ف ك َرءو ٌ مُنوا َرب َّنا إ ِن ّ َ نآ َ ل ِفي قُُلوب َِنا ِغل ّ ل ِّلذي َ جع َ ْ ن َول ت َ ْ ما ِ لي َ سب َُقوَنا َبا ِ ن َ ذي َ ال ّ ِ
م فجعل سبحانه ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للمهاجرين حي ٌ َر ِ
والنصار والذين جاءوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين لله أن ل
يجعل في قلوبهم ِغل ً لهم ،فُعلم أن الستغفار لهم وطهارة القلب من الغِ ّ
ل
ه الله و يرضاه ،وُيثني على فاعله ،كما أنه قد أمر بذلك رسوله لهم أمٌر يحب ُ
َ
نمِني َ مؤ ْ ِ ك وَل ِل ْ ُ ست َغِْفْر ل ِذ َن ْب ِ َ ه َوا ْ ه إ ِل ّ الل ُ ه ل َ إ ِل َ َ م أن ّ ُ في قوله تعالىَ( :فاعْل َ ْ
ةة الشيء كراه ٌ م ومحب ُ ست َغِْفْر ل َهُ ْ م َوا ْ ف عَن ْهُ ْ ت ،وقال تعالىَ( :فاعْ ُ مَنا ِ مؤ ْ ِ َوال ُ
لضده ،فيكون الله ـ سبحانه وتعالى ـ يكره ُ السب لهم الذي هو ضد ّ
ة ،وهذا معنى قوله عائشة الستغفار والبغض لهم الذي هو ضد ّ الطهار ِ
َ ُ
م. م" رواه مسل ُ سّبوهُ ْ مدٍ فَ َ ح ّ م َ ب ُ حا ِ ص َ ست ِغَْفارِ ل ْ مُروا ِبال ِ ْ رضي الله عنها" :أ ِ
َ
ه قَد ْ ن الل َ مدٍ فَإ ِ ّ ح ّ م َ ب ُ حا َ ص َ سّبوا أ ْ س قال" :ل َ ت َ ُ َوعن مجاهدٍ عن ابن عبا ٍ
َ
ن" رواه المام أحمد. سي َْقت َت ُِلو َ م َ م أن ّهُ ْ م ،وَقَد ْ عَل ِ َ ست ِغَْفارِ ل َهُ ْ مَرَنا َبال ِ ْ أ َ
نمن ْزِل ََتا ِ ت َ ض ْ م َ ل ،فَ َ مَنازِ َ على َثلث َ س َ ص قال" :الّنا ُ وعن سعد بن أبي وقا ٍ
ن عليهِ أن تكونوا بهذه المنزلةِ التي دة ،فأحسن ما أنتم كائنو َ ح َ
ت َوا ِ وَب َِقي َ ْ
وانا ً فهؤلء َ
ض َن إلى قوله( :وَ رِ ْ ري َ ج ِ مَها ِ بقيت ،قال :ثم قرأ( :ل ِل ُْفَقَراِء ال ُ
ن قَب ْل ِهِ ْ
م م ْ ن ِ ما َ لي َ داَر َوا ِ ن ت َب َوُّءوا ال ّ ذي َ ة قد مضت (َوال ّ ِ المهاجرون ،وهذه منزل ٌ
ة قال :هؤلء ص ٌ صا َ خ َ م َ ن ب ِهِ ْ كا َ م إلى قوله( :وََلو َ جَر إ ِل َي ْهِ ْ ها َ ن َ م ْن َ حّبو َ يُ ِ
م إلى ن ب َعْدِهِ ْ م ْ جاءوا ِ ن َ ذي َ ة قد مضت ،ثم قرأَ( :وال ّ َ النصاُر ،وهذه منزل ٌ
ن/ م قد مضت هاتان ،وبقيت هذه المنزلة ،فأحسن ما أنتم كائنو َ حي ٌ قولهَ( :ر ِ
ل :أن تستغفروا لهم ،ولن عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت" ،يقو ُ
ه بعينهِ أو ]لعنته[ لم يجز الستغفار له ،كما ل يجوز الستغفاُر جاز سب ّ ُ من َ َ
َ
ست َغِْفُروا ن يَ ْ مُنوا أ ْ نآ َ ذي َ ي َوال ّ ِ ن ِللن ّب ِ ّ كا َ ما َ للمشركين لقوله تعالىَ ( :
َ َ ُ
حيم ج ِ ب ال َ حا ُ ص َ مأ ْ م أن ّهُ ْ ن ل َهُ ْ ما ت َب َي ّ َ ن ب َعْدِ َ م ْ كاُنوا أوِْلي قُْرَبى ِ ن وََلو َ كي َ شرِ ِ م ْ ل ِل ْ ُ
مين باسم المعصية ،لن ذلك مس ّ وكما ل يجوز أن يستغفر لجنس العاصين ُ
ل سبيل إليه ،ولنه شرع لنا أن نسأل الله أن ل يجعل في قلوبنا ِغل ّ للذين
له ،ولو كان الغِ ّ ب مع ُ ل الذي ل س ّ م من الغِ ّ ن أعظ ُ آمنوا ،والسب باللسا ِ
ه ،ولنه ب لهم جائزا ً لم يشرع لنا أن نسأله ترك ما ل يضّر فِْعل ُ عليهم والس ّ
ف السابقين بالهجرة والنصرة، ص َ ف مستحقي الفيء بهذه الصفة كما وَ َ ص َ وَ َ
ب جائزا ً لم يشترط في ط فيهم ،ولو كان الس ّ ة لهم وشر ٌ فُعلم أن ذلك صف ٌ
ت ،بل لو استحقاق الفيء ترك أمرٍ جائزٍ كما ل يشترط ترك سائر المباحا ِ
نق الفيِء )ل ِ ّ لم يكن الستغفاُر لهم واجبا ً لم يكن شرطا ً في استحقا ِ
ل على أن ب ،بل هذا دلي ٌ حَقاقَ الَفيء( ل يشترك فيه ما ليس بواج ٍ است ِ ْ
ل في عَْقد اّلدين وأصله. الستغفار لهم داخ ٌ
192
الدلة من السنة على عدم جواز سب الصحابة
ة ففي الصحيحين عن العمش عن أبي صالح عن أبي سعيدٍ وأما السن ُ
وال ّ َ َ
ذي حاِبي فَ َ ص َ سّبوا أ ْ رضي الله عنه ـ قال :قال رسول الله " :ل َ ت َ ُ
َ ما أ َد َْر َ نْفسي بيده ل َو أ َن أ َحدك ُم أ َنَفق مث ْ َ ُ
م وَل َ حدِهِ ْ مد ّ أ َ ك ُ هبا ً َ حدٍ ذ َ َ لأ ُ َِ ِ ِ ْ ّ َ َ ْ ْ َ ِ َ ِ
ه". صي َْف ُ نَ ِ
خال ِدِ ابن الوَِليدِ ن َ ن ب َي ْ َ كا َ وفي رواية لمسلم ،واستشهد بها البخاري ،قالَ ":
د ،فقال رسول اللهِ " :ل َ ه خال ٌ شيٌء ،فسب ّ ُ ف َ ن بن عَوْ ٍ ِ حم دالّر ْ ن عَب ْ ِ وَب َي ْ َ
َ ما أ َد َْر َ تسبوا أ َصحابي َفإن أ َحدك ُم َلو أ َنَفق مث ْ َ ُ
م وَل َ حدِهِ ْ مد ّ أ َ ك ُ هبا ً َ حدٍ ذ َ َ لأ ُ ْ َ َ ّ َ َ ْ ْ َ ِ َ ُ ّ
ه". صي َْف ُ نَ ِ
َ َ
حاِبي، ص َ عوا ِلي أ ْ حاِبي ،د َ ُ ص َ سّبوا أ ْ وفي روايةٍ للبرقاني في صحيحه" :ل َ ت َ ُ
َ َ ل يوم مث ْ َ ُ َ فَإ ً َ
ه". صي َْف ُم وَل َ ن َ ِ حدِهِ ْ مد ّ أ َ ك ُ ما أد َْر َ هبا ً َ حدٍ ذ َ َ لأ ُ م ل َوْ أن َْفقَ ك ُ ّ َ ْ ٍ ِ حد َك ُ ْ نأ َ ِ ّ
ب :اسم فاعل من صحبه يصحُبه ،وذلك ب ،والصاح ُ ب :جمعُ صاح ٍ والصحا ُ
ل :صحبته ساعة ،وصحبته شهرًا/ ل الصحابةِ و كثيرها ،لنه يقا ُ يقع على قلي ِ
ب قد قيل :هو الرفيقُ في جن ْ ِ ب ِبال َ ح ُ صا ِ ة ،قال الله تعالىَ( :وال ّ وصحبته سن ً
ة الزوجةِ قد ق وصحب َ ة الرفي ِ م أن صحب َ ة ،ومعلو ٌ ر ،وقيل :هو الزوج ُ السف ِ
ة فما فوقها ،وقد أوصى الله به إحسانا ً ما دام صاحبًا ،وفي تكون ساع ً
خي ُْر
ه ،وَ َ حب ِ ِ صا ِ َ الحديث عن النبي َ " :
م لِ َ خي ُْرهُ ْ عن ْد َ اللهِ َ ب ِ حا ِ ص َ خي ُْر ال ْ
ه" ،وقد دخل في ذلك قليل الصحبة و كثيرها، م لجارِ ِ خي ُْرهُ ْعن ْد َ اللهِ َ ن ِ جي َْرا ِ ال ِ
ل الجوار و كثيره ،وكذلك قال المام أحمد وغيره" :كل من صحب وقلي ُ
ة أو شهرا ً أو يوما ً أو رآه مؤمنا ً به فهو من أصحابه له من النبي سن ً
ك". صحبة بقدر ذل َ ال ّ
ن[ أن يسب أصحابه ،إذا كان من أصحابه فإن قيل :فَِلم نهى خالدا ً ]عَ ْ
َ ما أ َد َْر َ أيضًا؟ وقال" :ل َو أ َن أ َحدك ُم أ َنَفق مث ْ َ ُ
م وَل َ حدِهِ ْ مد ّ أ َ ك ُ هبا ً َ حدٍ ذ َ َ لأ ُ ْ ّ َ َ ْ ْ َ َ
ه". صي َْف ُ نَ ِ
ف ونظراءه هم من السابقين الولين الذين قلنا :لن عبد الرحمن بن عَوْ ٍ
ت كان خالد ٌ وأمثاله يعادونه فيه ،وأنفقوا أموالهم قبل الفتح صحبوه في وق ٍ
ة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا ،وكل ً وَعَد َ وقاتلوا ،وهم أعظم درج ً
د ،فََنهى شَركهم فيه خال ٌ الله الحسنى ،فقد انفردوا من الصحبة بما لم ي َ ْ
ظراءه ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل ،أن خالدا ً ون ُ َ
ط نسبته إلى من صحبه ك الذين صحبوه قبله ،ومن لم يصحبه ق ّ ب ُأولئ َ يس ّ
كنسبة خالدٍ إلى السابقين وأبعد.
َ
ب من اِنفرد عنه ل أحدٍ أن يس ّ ب لك ّ حاِبي" خطا ٌ ص َ
سّبوا أ ْ وقوله" :ل َ ت َ ُ
َ َ
م،س إ ِّني أت َي ْت ُك ُ ْ بصحبته ،وهذا كقوله في حديث أخرَ" :يا أي َّها الّنا ُ
ل الله إل َيك ُم ،فَُقل ْتم :ك َذ َبت ،وَقا َ َ
لت ،فَهَ َ صد َقْ َ رَ : ل أُبو ب َك ْ ٍ ْ َ َ ُ ْ
َ
ِ ِ ْ ْ سو ُ ت :إ ِّني َر ُ فَُقل ُ
َ
حبي"؟ أو كما قال بأبي هو صا ِ كوا ِلي َ م َتارِ ُ ل أن ْت ُ ْ حبي؟ فَهَ ْ صا ِ كوا ِلي َ م َتارِ ُ أن ْت ُ ْ
193
ل من فضلِء ر ،وذاك الرج ُ وأمي قال ذلك لما غامر بعض الصحابةِ أبا بك ٍ
أصحابه ،ولكن امتاز أبو بكر عنه بصحبةٍ انفرد بها عنه.
وعن محمد بن طلحة المدني عن عبدالرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم
خَتاَرِني، ها ْ ن الل َ بن ساعدة عن أبيه عن جده قال :قال رسول الله " :/إ ّ
َ َ َ
م فَعَل َي ْهِ سب ّهُ ْ ن َ م ْ صَهارًا ،فَ َ صارا ً وَأ ْ م وَُزَراَء وَأن ْ َ من ْهُ ْ ل ِلي ِ جع َ َ حابًاَ ، ص َ خَتاَر ِلي أ ْ َوا ْ
صْرفا ً وَل َ َ ل َعْن َ ُ
مة ِ َ م الِقيا َ ه ي َوْ َ من ْ َه ِ ل الل ُ ن ،ل َ ي َْقب َ ُ مِعي َ ج َسأ ْ ملئ ِك َةِ َوالّنا ِ ة اللهِ وَ ال َ
ل" وهذا محفوظ بهذا السناد. عَد ْ ً
وقد روى ابن ماجة بهذا السناد حديثًا ،وقال أبو حاتم ٍ في محمد" :هذا
ه" ومعنى هذا الكلم أنه على ان ِْفَرادِ ِ ج ب ِهِ َ حت َ ّه ،ول َ ي ُ ْ حدِي ْث ُ ُ ب َ ق .ي ُك ْت َ ُ صد ْ ُ ه ال ّحل ّ ُ م َ َ
ضده آخر مثله جاز أن ُيحتج به، يصلح للعتبار بحديثه والستشهاد به ،فإذا ع ّ
ول ُيحتج به على انفراده.
حاِبي ،ل َ ص َ ه ِفي أ ْ ل قال :قال رسول الله " :الله الل َ مغَّف ٍ وعن عبدالله بن ُ
َ َ ذوهُم غَرضا ً من بعدي ،م َ
م فََقد ْ ضه ُ ْ حب ِّني ،ومن أب ْغَ َ م فََقد ْ أ َ حب ّهُ ْ نأ َ َ ْ ِ ْ َْ ِ ْ َ خ ُ ت َت ّ ِ
ه نآ َ ذاِني فََقد آ َ من آ َ م فََقد ْ آ َ نآ َ َ
ذى الل َ م ْ ه ،وَ َ ذى الل َ ذاِني ،وَ َ ذاهُ ْ م ْْ ضِني ،وَ َ أب ْغَ َ
فَيوش ُ َ
ه" رواه الترمذيّ وغيره من حديث عبيدة بن أبي رائطة خذ َ ُ ن ي َأ ُ كأ ْ ُ ِ
ب ،ل نعرفه إل من هذا عن عبدالرحمن بن زيادٍ عنه ،وقال الترمذي" :غري ٌ
الوجه".
َ
حاِبي فََقد ْ ص َ بأ ْ س ّ ن َ م ْ س أيضًا ،ولفظهَ " : وُروي هذا المعنى من حديث أن ٍ
ه" رواه ابن البناِء. ب الل َ س ّ سب ِّني فََقد ْ َ ن َ م ْسب ِّني ،وَ َ َ
َ َ
حاِبي" ص َ بأ ْ س ّ ن َ م ْ ه َ ن الل ُ ح عن النبي قال" :لعَ َ وعن عطاء بن أبي ربا ٍ
ي :حدثنا محمد ُ بن خالدٍ عنه ،وقد ُروي عنه عن ابن رواه أبو أحمد الزبير ّ
عمر مرفوعا ً من وجهٍ آخر ،رواهما الللكائي.
لبة عن ابن مسعودٍ قال: ذم ،حدثني أبو قِ َ ح َ م :أنبأ أبو قَ ْ وقال علي بن عاص ٍ
س ُ َ َ س ُ َ
كوا" م ِ حاِبي فَأ ْ ص َ ذا ذ ُك َِر أ ْ كواَ ،وإ َ م ِ ذا ذ ُك َِر الَقد َُر فَأ ْ قال رسول الله " :إ َ
ي. رواه الللكائ ّ
م أبي بكر َ ولما جاء فيه من الوعيد قال إبراهيم النخعي" :كان يقالَ :
شت ْ ُ
شْتم أبي بكرٍ وعمر ر" ،وكذلك قال أبو إسحاق السبيعيَ " : وعمر من الكبائ ِ
ه ،"وإذا كان ن عَن ْ ُ ما ت ُن َْهو َ جت َن ُِبوا ك ََبائ َِر َ ن تَ ْ من الكبائر التي قال الله تعالى( :إ ِ ْ
ل معصيةٍ ليس شْتمهم بهذه المثابة فأقل ما فيه التعزيُر ،لنه مشروعٌ في ك ُ ّ َ
مظ ُْلومًا" وهذا مما َ َ
ظاِلما ً أوْ َ ك َ خا َ صْر أ َ ة ،وقد قال " :ان ْ ُ فيها حد ّ ول كفار ٌ
ل نعلم فيه خلفا ً بين أهل الفقه والعلم من /أصحاب النبي والتابعين
ب ن وسائر أهل السنة والجماعة ،فإنهم مجمعون على أن الواج َ لهم بإحسا ٍ
ضي عنهم ،واعتقاد ُ م عليهم ،و الّتر ّ ح ُ الثناُء عليهم ،والستغفار لهم ،والّتر ّ
ن َأساء فيهم القول. م ْ ة َ محبتهم وموالتهم ،وعقوب ُ
194
دليل من ذهب إلى أن سابهم ل يقتل
ر
ل بقصةِ أبي بك ٍ ل بشتم غير النبي ،فإنه يستد ّ ثم من قال :ل أقت ُ
المتقدمة ،وهو أن رجل ً أغلظ له ،وفي روايةٍ شتمه ،فقال له أبو برزة:
ه ،وقال :ليس هذا لحدٍ بعد النبي ،وبأنه كتب إلى المهاجر ه؟ فانتهر ُ أقتل ُ
بن أبي أمية :إن حد ّ النبياء ليس يشبه الحدود ،كما تقدم ،ولن الله تعالى
ن مؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين ،فجعل الول ملعونا ً في مي َّز ب َي ْ َ
مِبينا ً ،ومطلق مُلوا ب ُهَْتانا ً وَإ ِْثما ً ُ الدنيا والخرة ،وقال في الثاني( :فََقد ْ ا ْ
حت َ َ
ة،ب للعقوبةِ في الجمل ِ ب للقتل ،وإنما هو موج ٌ البهتان والثم ليس بموج ٍ
ة ،ول يلزم من العقوبة جواز القتل ،ولن النبي ة مطلق ٌ فتكون عليه عقوب ٌ
َ
ث :ك ُْف ٍ
ر دى ث َل َ ٍ ه إ ِل ّ بإ ِ ْ
ح َ ه إ ِل ّ الل َن ل َ ِإل َ شهَد ُ أ ْسل ِم ٍ ي َ ْ
َ
م ْ ئ ُ مرِ ٍ ما ْ ل دَ ُ ح ّ قال" :ل َ ي َ ِ
بعد إيمان ،أ َ
ل ب ََها" ومطلق ل ن َْفسا ً فَي ُْقت َ ُجل قَت َ َ ن ،أوْ َر ُ صا ٍح َ ى ب َعْد َ إ ْ ً زن
ِ ْ و َْ َ ِ َ ٍ
من كان على عهدِ النبي السب لغير النبياء ل يستلزم الكفر ،لن بعض َ
كان ربما سب بعضهم بعضًا ،ولم يكفر أحد ٌ بذلك ،ولن أشخاص الصحابة ل
ه
ح في اليمان باللهِ وملئكت ِ ب الواحدِ ل يقد ُ ن بهم بأعيانهم ،فس ّ ب اليما ُ يج ُ
ر.
وكتبهِ ورسلهِ واليوم ِ الخ ِ
199
فصـــل
م
ل فِي ْهِ ْ
ل الَقوْ ِ
صي ْ ِ
ي ت ََفا ِ
فِ ْ
ي وإّنمــا غلـ َ
ط َ
ه كــان هـوَ النــب ّ ه ،أو أن ّـ ُ ن علّيا إلـ ٌ ما من اقترن بسبهِ دعوى أ ّ أ ّ
فك في كفرِ مــن توق ـ َ ه ،بل ل ش ّ ك في كفرِ ِ ة ،فهذا ل ش ّ ل في الرسال ِ جبري ُ
ه.
في تكفيرِ ِ
ه
ت ،أو زعم أن ل ُ كتم ْ تو ُ ه آيا ٌ ص من ُ ن ن ُِق َ وكذلك من زعم منهم أن الُقْرآ َ
ة ،ونحوَ ذل َ ت باطنة تسق ُ ْ
ن
ؤلِء يسمو َ ك ،وه ُ ل المشروع َ ط العما َ ت َأوِي ْل َ ٍ
ف ِفي ك ُْفرِهِ ْ
م. خل َ َ ة ،وهؤلِء ل َ ِ م التناسخي ّ ُ ة ،ومنه ُ ة والباطني ُ مط َ ُ الَقَرا ِ
وأما من سبهم سب ّا ً ل يقدح في عدالتهم ول في دينهم ـ مثل وصف بعضهم
د ،ونحو ذلك ـ فهذا هو الذي م ،أو عدم ِ الزه ِ بالبخل ،أو الجبن ،أو قلةِ العل ِ
م بكفرهِ بمجردِ ذلك ،وعلى هذا يحم ُ
ل ب والتعزيَر ،ول ُيحك ُ يستحقّ التأدي َ
م من لم يكفرهم من العلماِء. كل ُ
ف فيهم ،لتردد المر بين لعن ل الخل ِ ح مطلقا ً فهذا مح ّ وأما من لعن وقب َ
الغيظ ولعن العتقاد.
وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله إل نفرا ً
سقوا عامتهم ،فهذا ل ريب أيضا ً قليل ً ل يبلغون بضعة عشر نفسًا ،أو أنهم ف ّ
ن في غير موضع :من الرضى عنهم ه القرآ ُ ب لما نص ُ ه مكذ ٌ ه ،فإ ِن ّ ُ في كفر ِ
ك في كفرِ مثل هذا فإن كفرهُ متعين ،فإن والثناء عليهم ،بل من يش ّ
ق ،وأن هذا المة ة الكتاب والسنةِ كفاٌر أو ُفسا ٌ ن نقل َ مضمون هذا المقالة أ ّ
ُ ُ
ل ،كان ن الو ُ س ،وخيرها هو القر ُ ت ِللّنا ِ ج ْ خرِ َ مة ٍ أ ْ خي َْر أ ّ م َ التي هي( :ك ُن ْت ُ ْ
م ،وأن سابقي ة شّر الم ِ ساًقا ،ومضمونها أن هذه الم َ عامتهم كفارا ً أو فُ ّ
م بالضطرار من دين السلم، م شرارها ،وكفُر هذا مما يعل ُ مة ِ ه ُ ْ هذِهِ ال ّ
ق،ه زندي ٌ ن أن ُ ة من ظهر عنه شيٌء من هذه القوال ،فإنه يتبي ّ ُ ولهذا تجد ُ عام َ
وات ََر مُثلت ،وَت َ َ ن بمذهبهم ،وقد ظهرت للهِ فيِهم َ ست َت ُِرو َما ي َ ْ ة إن ّ َ ة الّزَنادِقَ ُ م ُ وعا ّ
ت ،وجمعَ الُعلماءُ ما خ خنازيَر في المحيا والمما ِ ن وجوههم ُتمس ُ ل بأ ّ النق ُ
ح أبو عبدالله محمد ُ بن بلغهم في ذلك ،وممن صنف فيه الحافظ الصال ُ
ن َ
م َجاءَ فِي ْهِ ِ ما َ ب ،وَ َ حا ِ ص َ ب ال ْ س ّ ن َ عبدالواحد المقدسي كتابه في "الن ّْهي عَ ْ
ب". ال ِث ْم ِ َوالعَِقا ِ
مه ،ومنهم من ل يحك ُ ف الساب ّةِ من ل ريب في كفر ِ وبالجملة فمن أصنا ِ
ه ،وليس هذا موضعُ الستقصاء في ذلك ،وإنما ه ،ومنهم من يتردد ُ في ِ بكفر ِ
ذكرنا هذه المسائل لنها من تمام الكلم ِ في المسألةِ التي قصدنا لها.
ه واقتضاه سرهُ الل ُ سر من الكلم ِ في هذا الباب ،ذكرنا ما ي ّ فهذا ما تي ّ
ت ،والله سبحانه يجعله لوجهه خالصًا ،وينفع به ،ويستعملنا فيما يرضاهُ الوق ُ
ل.ل والعم ِ من القو ِ
200
ه،
حب ِ ِ
ص ْ
مدٍ وآل ِهِ وَ َ
ح ّ
م َ صّلى الله عََلى َ
سي ّدَِنا ُ ب العالمين] ،وَ َ والحمد ُ لله ر ّ
ن[. سل ِْيما ً إَلى ي َوْم ِ ال ّ
دي ِ سل ّ َ
م تَ ْ وَ َ
201