You are on page 1of 224

‫مجموع فتاوى ابن تيمية – ‪ – 10‬المجلد العاشر‬

‫)الداب والتصوف(‬
‫شيخ السلم تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني‬

‫في أعمال القلوب‬ ‫كلمات‬ ‫•‬


‫القائلون بالتخليد‬ ‫‪o‬‬
‫َفصـــل في العمال الباطنة‬ ‫‪o‬‬
‫َفصــل في محبة الله ورسوله‬ ‫‪o‬‬
‫صــل استلزام الخوف والرجاء للمحبة‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫صــل في مرض القلوب وشفائها‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫فصل‪ :‬مرض القلب نوع فساد‬ ‫‪o‬‬
‫صــل‪ :‬الحسد من أمراض القلوب‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫صــل‪ :‬أضرار البخل والحسد وغيرهما من أمراض القلوب‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫فصــل‪ :‬في مرض القلوب وشفائها‬ ‫‪o‬‬
‫ه ـ عن العبادة وفروعها‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ل الشيخ ـ َرح َ‬ ‫سئ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫صــل‪ :‬التفاضل في حقيقة اليمان‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫مخالفات السالكين في دعوى حب الله‬ ‫‪‬‬
‫معوقات تحقيق النفوس لمحبة الله‬ ‫‪‬‬
‫كبار الولياء لم يقعوا في الفناء‬ ‫‪‬‬
‫سلم عن دعوة ذي النون‬ ‫شي ْ ُ‬
‫خ ال ِ ْ‬ ‫ل َ‬‫سئ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫صــل‪ :‬الضر ل يكشفه إل الله‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫التوحيد والشراك يكون في أقوال القلب وأعماله‬ ‫‪‬‬
‫محبة أبي طالب للنبي محبة قرابة ورئاسة‬ ‫‪‬‬
‫غلط من فضل الملئكة على النبياء والصالحين‬ ‫‪‬‬
‫التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها‬ ‫‪‬‬
‫صـــل في موجبات المغفرة‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫هل العتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة؟‬ ‫‪‬‬
‫ج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق؟‬ ‫فَر َ‬
‫ما السبب في أن ال َ‬ ‫‪‬‬
‫صــل في تفسير الفناء الصوفي‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫صـــل في التكليف الشرعي‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫َفصــل في وقوع البدع في أواخر خلفة الخلفاء الراشدين‬ ‫‪o‬‬
‫صــل في خلط متقدمي المتكلمين والمتصوفة كلمهم بأصول الكتاب‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫والسنة‬
‫أصل النسبة في الصوفية‬ ‫‪‬‬
‫صــل في قولهم‪ :‬فلن يسلم إليه حاله‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫فصـــل في العبادات و الفرق بين شرعيها وبدعيها‬ ‫‪o‬‬
‫أصول العبادات الدينية‬ ‫‪‬‬
‫صـــل في الخلوات‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫صــل في حتمية اقتدائنا بالنبياء‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫َفصــل في أهل العبادات البدعية‬ ‫‪o‬‬
‫سـلم‪ :‬ما عمل أهل الجنة؟ وما عمل أهل النار؟‬ ‫خ ال ِ ْ‬ ‫شْيـ ُ‬ ‫سئـ َ‬
‫ل َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫صــل في هل الفضل للسالك العزلة أو الخلطة؟‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫من مستلزمات العقل والبلوغ‬ ‫‪‬‬
‫صل في أحب العمال إلى الله‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫قول‪ :‬الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلئق‬ ‫من ي َ ُ‬ ‫لع ّ‬‫سئ ِ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫‪o‬‬
‫حتمية امتثال المؤمن لمر الله ونهيه وقدره‬ ‫‪‬‬
‫الرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا الّله‬ ‫‪‬‬
‫الرسل جميًعا بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها‬ ‫‪‬‬
‫من حقيقة دين السلم‬ ‫‪‬‬
‫صـــل في طريق العلم والعمل‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫صـــل في كيف يكون السالك وعاء لعلم الله؟‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫صـــل في شرح طريق الشيخ عبد القادر وشيخه الدباس‬ ‫ف ْ‬ ‫َ‬ ‫‪o‬‬
‫صـــل في ضرورة مخالفة الهوى في حال الولية‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪o‬‬
‫احتمالية خفاء المر والنهي على السالك‬ ‫‪‬‬
‫صـــل في العبادة والستعانة والطاعة والمعصية‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪o‬‬
‫ل عن ]إحياء علوم الدين[ و ]قوت القلوب[‪ . ..‬إلخ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫صـــل في ذكر الله ودعائه‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪o‬‬
‫َفصــل في الصراط المستقيم‬ ‫‪o‬‬
‫صل في جاذبية الحب‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪o‬‬
‫صـل في جماع الزهد والورع‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫صـــل في قول بعض الناس‪ :‬الثواب على قدر المشقة‬ ‫ف ْ‬ ‫َ‬ ‫‪o‬‬
‫صل في تزكية النفس‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪o‬‬
‫سـلم عن رجل تفقه وعلم هل له أن يقطع الرحم ويسير في‬ ‫شْيـخ ال ِ ْ‬ ‫َ‬
‫سئ ِل َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫الرض؟‬
‫خ السلم عن مقامات اليقين‬ ‫شي ْ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫سئل شيخ السلم أن يوصي وصية جامعة لبي القاسم المغربي‬ ‫‪o‬‬
‫سئل شيخ السلم عن الصبر الجميل‪ ،‬والصفح الجميل‪ ،‬والهجر الجميل‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫خ السـلم عما ذكر الستاذ القشيري في ) باب الرضا(‬ ‫شي ْ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫سئ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪o‬‬
‫سئل شيخ السلم فيمن عزم على فعل محرم هل يأثم بمجرد العزم؟‬ ‫‪o‬‬
‫م والعامل‬‫ّ‬ ‫الها‬ ‫بين‬ ‫التفريق‬ ‫بها‬ ‫التي‬ ‫الحاديث‬ ‫في‬ ‫صل‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪o‬‬
‫مسألة هل توبة العاجز عن الفعل تصح؟‬ ‫‪‬‬
‫ن َتيمية ـ قدس ال روحه‪:‬‬
‫حَمُد ب ُ‬
‫سلم َأ ْ‬
‫شيخُ الِ ْ‬
‫ل َ‬
‫َقا َ‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫ل وحده‪ ،‬والصلة والسلم على من ل نبي بعده‪.‬‬


‫الحمد ّ‬

‫ل فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل‬ ‫ل من شرور أنفسنا‪ ،‬ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده ا ّ‬
‫ل نستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ با ّ‬
‫الحمد ّ‬
‫ل عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬ونشهد أن محمًدا عبده ورسوله ـ صلى ا ّ‬ ‫فل هادي له‪ ،‬ونشهد أن ل إله إل ا ّ‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب ـ التي قد تسمى ]المقامات والحوال[ـ وهي من أصول اليمان‪ ،‬وقواعد‬
‫ل‪ ،‬وإخلص الدين له‪ ،‬والشكر له‪ ،‬والصبر على حكمه‪ ،‬والخوف‬‫ل ورسوله‪ ،‬والتوكل على ا ّ‬‫الدين‪ ،‬مثل ‪ /‬محبة ا ّ‬
‫ل حقه من أهل اليمان‪ ،‬واستكتبها وكل منا عجلن‪.‬‬
‫منه‪ ،‬والرجاء له‪ ،‬وما يتبع ذلك‪ .‬اقتضى ذلك بعض من أوجب ا ّ‬

‫فأقول‪ :‬هذه العمال جميعها واجبة على جميع الخلق ـ المأمورين في الصل ـ باتفاق أئمة الدين‪ ،‬والناس فيها على‬
‫ثلث درجات كما هم في أعمال البدان على ثلث درجات‪ :‬ظالم لنفسه‪ ،‬ومقتصد‪ ،‬وسابق بالخيرات‪.‬‬

‫فالظالم لنفسه‪ :‬العاصي بترك مأمور أو فعل محظور‪.‬‬

‫والمقتصد‪ :‬المؤدي الواجبات والتارك المحــرمات‪.‬‬

‫والسابق بالخيرات‪ :‬المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب‪ ،‬والتارك للمحرم والمكروه‪ .‬وإن كان كل من‬
‫ل يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإما بحسنات‬ ‫المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه‪ :‬إما بتوبة ـ وا ّ‬
‫ل الذين ذكرهم في‬ ‫ماحية‪ ،‬وإما بمصائب مكفرة‪ ،‬وإما بغير ذلك‪ .‬وكل من الصنفين‪ :‬المقتصدين والسابقين من أولياء ا ّ‬
‫ل‪:‬‬
‫ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن‪ .‬اّلِذيَن آَمُنوا َوَكاُنوا َيّتُقوَن{ ]يونس‪ .[63 ،62 :‬فحد أولياء ا ّ‬
‫خْو ٌ‬
‫ل َ‬
‫ل َ‬
‫ن َأْوِلَياَء ا ِّ‬ ‫كتابه بقوله‪َ} :‬أ َ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫هم المؤمنون المتقون‪ ،‬ولكن ذلك ينقسم إلى عام وهم‪ :‬المقتصدون‪ / ،‬وخاص وهم‪ :‬السابقون‪ ،‬وإن كان السابقون هم‬
‫أعلى درجات كالنبياء والصديقين‪.‬‬

‫وقد ذكر النبي صلى ال عليه وسلم القسمين في الحديث الذي رواه البخـاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الّ‬
‫ل‪ :‬من عادى لي ولًيا فقد بارزني بالمحاربة‪ ،‬وما تقرب‬ ‫عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وآله وسلم ـ أنه قال‪) :‬يقول ا ّ‬
‫ى بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي‬
‫ى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه‪ ،‬ول يزال عبدي يتقرب إل ّ‬ ‫إل ّ‬
‫يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ ،‬فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش‬
‫وبي يمشي‪ ،‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ ،‬وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس‬
‫عبدي المؤمن‪ ،‬يكره الموت وأكره مساءته ولبد له منه(‪.‬‬

‫ل بقدر إيمانه وتقواه‪ ،‬كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره‪ ،‬إذ‬‫وأما الظالم لنفسه من أهل اليمان‪ ،‬فمعه من ولية ا ّ‬
‫الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب‪ ،‬والسيئات المقتضية للعقاب‪ ،‬حتى يمكن أن يثاب ويعاقب‪،‬‬
‫ل ـ صلى ال عليه وآله وسلم ـ وأئمة السلم وأهل السنة والجماعة الذين يقولون‪:‬‬‫وهذا قول جميع أصحاب رسول ا ّ‬
‫إنه ل يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان‪.‬‬

‫وأما القائلون بالتخليد‪ ،‬كالخوارج والمعتزلة القائلين‪ :‬إنه ل يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة‪ ،‬وأنه ل شفاعة‬
‫للرسول ول لغيره في أهل الكبائر‪ ،‬ل قبل دخول النار ول بعده‪ ،‬فعندهم ل يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب‪،‬‬
‫وحسنات وسيئات‪ ،‬بل من أثيب ل يعاقب‪ ،‬ومن عوقب لم يثب‪ .‬ودلئل هذا الصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف‬
‫المة كثير ليس هذا موضعه‪ ،‬وقد بسطناه في مواضعه‪.‬‬
‫وينبني على هذا أمور كثيرة؛ ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلبد أن يكون معه من هذه العمال بقدر إيمانه‪ ،‬وإن‬
‫ل كان يسمى حماًرا‬‫ل عنه ـ أن رج ً‬
‫كان له ذنوب‪ ،‬كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ‬
‫وكان يضحك النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬وكان يشرب الخمر‪ ،‬ويجلده النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأتى به مرة فقال‬
‫ل ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال له النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل تلعنه فإنه‬
‫رجل‪ :‬لعنه ا ّ‬
‫ل ورسوله(‪.‬‬ ‫يحب ا ّ‬

‫ل ورسوله أوثق عرى اليمان‪ ،‬كما أن العابد‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬وحب ا ّ‬ ‫فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محًبا ّ‬
‫ل ورسوله من ذلك الوجه‪ ،‬كما استفاض في الصحاح‬ ‫طا عليه عند ا ّ‬
‫الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخو ً‬
‫وغيرها من حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي ـ صلى ال عليه وعلى‬
‫آله وسلم ـ أنه ذكر الخوارج فقال‪) :‬يحقر ‪ /‬أحدكم صلته مع صلتهم‪ ،‬وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم‪،‬‬
‫يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم‪ ،‬يمرقون من السلم كما يمرق السهم من الّرِمّية‪ ،‬أينما لقيتموهم فاقتلوهم‪ ،‬فإن‬
‫ل لمن قتلهم يوم القيامة‪ ،‬لئن أدركتهم لقتلنهم قتل عاد(‪.‬‬
‫في قتلهم أجًرا عند ا ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب بأمر النبي صلى ال‬
‫وهؤلء قاتلهم أصحاب رسول ا ّ‬
‫عليه وسلم‪ .‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم فيهم في الحديث الصحيح‪) :‬تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين‬
‫يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق(‪.‬‬

‫ولهذا قال أئمة السلم‪ ،‬كسفيان الثوري وغيره‪ :‬إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لن البدعة ل يتاب منها‪،‬‬
‫ل ول رسوله قد‬‫والمعصية يتاب منها‪ .‬ومعنى قولهم‪ :‬إن البدعة ل يتاب منها‪ :‬أن المبتدع الذي يتخذ ديًنا لم يشرعه ا ّ‬
‫زين له سوء عمله فرآه حسًنا‪ ،‬فهو ل يتوب ما دام يراه حسًنا؛ لن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه‪ ،‬أو بأنه‬
‫ترك حسًنا مأموًرا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله‪ .‬فما دام يرى فعله حسًنا وهو سيئ في نفس المر فإنه ل‬
‫يتوب‪.‬‬

‫ل ويرشده حتى يتبين له الحق‪ ،‬كما هدى ـ سبحانه وتعالى ـ من هدى من‬ ‫ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه ا ّ‬
‫الكفار والمنافقين وطوائف من أهل ‪ /‬البدع والضلل‪ ،‬وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه‪ ،‬فمن عمل بما علم‬
‫ن اْهَتَدْوا َزاَدُهْم ُهًدى َوآَتاُهْم َتْقواُهْم{ ]محمد‪ ،[17 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلْو َأّنُهْم‬ ‫ل علم ما لم يعلم كما قال تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬ ‫أورثه ا ّ‬
‫طا ُمْسَتِقيًما{ ]النساء‪66 :‬ـ‬ ‫صَرا ً‬ ‫ظيًما‪َ .‬وَلَهَدْيَناُهْم ِ‬ ‫عِ‬ ‫جًرا َ‬ ‫ن َلُدّنا َأ ْ‬
‫لَتْيَناُهْم ِم ْ‬
‫شّد َتْثِبيًتا‪َ .‬وِإًذا َ‬
‫خْيًرا َلُهْم َوَأ َ‬
‫ن َ‬ ‫ن ِبِه َلَكا َ‬
‫ظو َ‬ ‫عُ‬‫َفَعُلوا َما ُيو َ‬
‫ن ِبِه َوَيْغِفْر َلُكْم َوا ُّ‬
‫ل‬ ‫شو َ‬ ‫ل َلُكْم ُنوًرا َتْم ُ‬
‫جَع ْ‬‫حَمِتِه َوَي ْ‬
‫ن َر ْ‬‫ن ِم ْ‬‫سوِلِه ُيْؤِتُكْم ِكْفَلْي ِ‬‫ل َوآِمُنوا ِبَر ُ‬ ‫ن آَمُنوا اّتُقوا ا َّ‬ ‫‪ ،[68‬وقال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ت ِإَلى الّنوِر{ ]البقرة‪ ،[257 :‬وقال‬ ‫ظُلَما ِ‬‫ن ال ّ‬
‫جُهْم ِم ْ‬ ‫خِر ُ‬ ‫ن آَمُنوا ُي ْ‬ ‫ي اّلِذي َ‬ ‫حيٌم{ ]الحديد‪ ،[28 :‬وقال تعالى‪} :‬ا ُّ‬
‫ل َوِل ّ‬ ‫غُفوٌر َر ِ‬ ‫َ‬
‫ت ِإَلى الّنوِر ِبِإْذِنِه‬
‫ظُلَما ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫جُهْم ِم ْ‬ ‫خِر ُ‬‫لِم َوُي ْ‬‫سَ‬ ‫ل ال ّ‬
‫سُب َ‬
‫ضَواَنُه ُ‬ ‫ن اّتَبَع ِر ْ‬ ‫ل َم ْ‬‫ن‪َ .‬يْهِدي ِبِه ا ُّ‬ ‫ب ُمِبي ٌ‬ ‫ل ُنوٌر َوِكَتا ٌ‬ ‫ن ا ِّ‬ ‫تعالى‪َ} :‬قْد َ‬
‫جاَءُكْم ِم ْ‬
‫ط ُمْسَتِقيٍم{ ]المائدة‪ .[16 ،15 :‬وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫َوَيْهِديِهْم ِإَلى ِ‬

‫وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبًعا لهواه‪ ،‬فإن ذلك يورثه الجهل والضلل حتى يعمى قلبه عن الحق‬
‫ن{]الصف‪ ،[5 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬في ُقُلوِبِهْم‬ ‫سِقي َ‬‫ل َيْهِدي اْلَقْوَم اْلَفا ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ل ُقُلوَبُهْم َوا ُّ‬
‫غ ا ُّ‬ ‫الواضح‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬فَلّما َزا ُ‬
‫غوا َأَزا َ‬
‫عْنَد‬‫ت ِ‬ ‫لَيا ُ‬‫ل ِإّنَما ا ْ‬
‫ن ِبَها ُق ْ‬
‫جاَءْتُهْم آَيٌة َلُيْؤِمُن ّ‬
‫ن َ‬
‫جْهَد َأْيَماِنِهْم َلِئ ْ‬
‫ل َ‬ ‫سُموا ِبا ِّ‬‫ضا{]البقرة‪ ،[10 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَأْق َ‬ ‫ل َمَر ً‬
‫ض َفَزاَدُهْم ا ُّ‬
‫َمَر ٌ‬
‫ن{‬
‫طْغَياِنِهْم َيْعَمُهو َ‬
‫ل َمّرٍة َوَنَذُرُهْم ِفي ُ‬
‫صاَرُهْم َكَما َلْم ُيْؤِمُنوا ِبِه َأّو َ‬
‫ب َأْفِئَدَتُهْم َوَأْب َ‬
‫ن‪َ .‬وُنَقّل ُ‬
‫ل ُيْؤِمُنو َ‬
‫ت َ‬
‫جاَء ْ‬
‫شِعُرُكْم َأّنَها ِإَذا َ‬
‫ل َوَما ُي ْ‬
‫ا ِّ‬
‫]النعام‪ .[110 ،109 :‬وهذا استفهام نفي وإنكار‪ ،‬أي‪ :‬وما يدريكم أنها إذا جاءت ل يؤمنون‪ ،‬وإنا نقلب أفئدَتهم‬
‫وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ ]إنها[ بالكسر تكون ‪ /‬جزًما بأنها إذا جاءت ل يؤمنون‬
‫ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ ولهذا قال من قال من السلف كسعيد ابن جبير‪ :‬إن من ثواب‬
‫الحسنة الحسنة بعدها‪ ،‬وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها‪.‬‬

‫ل عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬عليكم بالصدق‪،‬‬


‫وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي ا ّ‬
‫فإن الصدق يهدي إلى البر‪ ،‬وإن البر يهدي إلى الجنة‪ ،‬ول يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند ا ّ‬
‫ل‬
‫صديًقا‪ .‬وإياكم والكذب‪ ،‬فإن الكذب يهدي إلى الفجور‪ ،‬وإن الفجور يهدي إلى النار‪ ،‬ول يزال الرجل يكذب‪ ،‬ويتحرى‬
‫ل كّذاًبا(‪ ،‬فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن الصدق أصل يستلزم البر‪ ،‬وأن الكذب يستلزم‬
‫الكذب حتى يكتب عند ا ّ‬
‫الفجور‪.‬‬
‫وقد قال تعالى‪ِ} :‬إّن اَْلْبَراَر َلِفي َنِعيٍم‪َ .‬وِإّن اْلُفّجاَر َلِفي َجِحيٍم{]النفطار‪[14 ،13 :‬؛ ولهذا كان بعض المشائخ إذا أمر‬
‫بعض متبعيه بالتوبة وأحب أل ينفره ول يشعب قلبه أمره بالصدق؛ ولهذا كان يكثر في كلم مشائخ الدين وأئمته ذكر‬
‫لْرض‪ ،‬وما وضع‬ ‫ل في ا َ‬
‫الصدق والخلص حتى يقولوا‪ :‬قل لمن ل يصدق‪ :‬ل يتبعني‪ .‬ويقولون‪ :‬الصدق سيف ا ّ‬
‫ل عبٌد إل صنع له‪ .‬وأمثال هذا كثير‪.‬‬
‫على شيء إل قطعه‪ ،‬ويقول يوسف بن أسباط وغيره‪ :‬ما صدق ا ّ‬

‫والصدق والخلص هما في الحقيقة تحقيق اليمان والسلم‪ ،‬فإن ‪ /‬المظهرين للسلم ينقسمون إلى‪ :‬مؤمن ومنافق‪،‬‬
‫ل حقيقة‬ ‫والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق‪ ،‬فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر ا ّ‬
‫سَلْمَنا{إلى قوله‪ِ} :‬إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ن‬ ‫ن ُقوُلوا َأ ْ‬
‫ل َلْم ُتْؤِمُنوا َوَلِك ْ‬ ‫ب آَمّنا ُق ْ‬‫عَرا ُ‬ ‫لْ‬ ‫اليمان نعته بالصدق كما في قوله تعالى‪َ} :‬قاَل ْ‬
‫ت ا َْ‬
‫صاِدُقوَن{ ]الحجرات‪،[15 ،14 :‬‬ ‫ك ُهْم ال ّ‬‫ل ُأْوَلِئ َ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬ ‫سِهْم ِفي َ‬ ‫جاَهُدوا ِبَأْمَواِلِهْم َوَأنُف ِ‬‫سوِلِه ُثّم َلْم َيْرَتاُبوا َو َ‬
‫ل َوَر ُ‬ ‫ن آَمُنوا ِبا ِّ‬
‫اّلِذي َ‬
‫سوَلُه ُأْوَلِئكَ‬
‫ل َوَر ُ‬ ‫ن ا َّ‬‫صُرو َ‬
‫ضَواًنا َوَيْن ُ‬
‫ل َوِر ْ‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ل ِم ْ‬
‫ضً‬ ‫ن َف ْ‬ ‫ن ِدياِرِهْم َوَأْمَواِلِهْم َيْبَتُغو َ‬ ‫جوا ِم ْ‬ ‫خِر ُ‬‫ن ُأ ْ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫جِري َ‬‫وقال تعالى‪ِ} :‬لْلُفَقَراِء اْلُمَها ِ‬
‫صاِدُقوَن{ ]الحشر‪.[8 :‬‬ ‫ُهْم ال ّ‬

‫فأخبر أن الصادقين في دعوى اليمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة‪ ،‬وجاهدوا في سبيله بأموالهم‬
‫ن‬
‫ن َلَما آَتْيُتُكْم ِم ْ‬
‫ق الّنِبّيي َ‬
‫ل ِميَثا َ‬ ‫وأنفسهم‪ ،‬وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الولين والخرين كما قال تعالى‪َ} :‬وِإْذ َأ َ‬
‫خَذ ا ُّ‬
‫صِري َقاُلوا َأْقَرْرَنا َقا َ‬
‫ل‬ ‫عَلى َذِلُكْم ِإ ْ‬
‫خْذُتْم َ‬
‫ل َأَأْقَرْرُتْم َوَأ َ‬
‫صُرّنُه َقا َ‬
‫ن ِبِه َوَلَتْن ُ‬
‫ق ِلَما َمَعُكْم َلُتْؤِمُن ّ‬
‫صّد ٌ‬
‫ل ُم َ‬
‫سو ٌ‬
‫جاَءُكْم َر ُ‬
‫حْكَمٍة ُثّم َ‬
‫ب َو ِ‬
‫ِكَتا ٍ‬
‫ل نبًيا إل أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد‬ ‫َفاْشَهُدوا َوَأَنا َمَعُكْم ِمْن الّشاِهِديَن{]آل عمران‪ ،[81 :‬قال ابن عباس‪ :‬ما بعث ا ّ‬
‫وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه‪ ،‬وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه‪.‬‬

‫شِديٌد َوَمَناِفُع‬
‫حِديَد ِفيِه َبْأسٌ َ‬
‫ط َوَأْنَزْلَنا اْل َ‬
‫سِ‬‫س ِباْلِق ْ‬
‫ن ِلَيُقوَم الّنا ُ‬
‫ب َواْلِميَزا َ‬
‫ت َوَأْنَزْلَنا َمَعُهْم اْلِكَتا َ‬
‫سَلَنا ِباْلَبّيَنا ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬لَقْد َأْر َ‬
‫سْلَنا ُر ُ‬
‫ي َعِزيٌز{]الحديد‪ ،[25 :‬فذكر ـ تعالى ـ أنه أنزل الكتاب والميزان‪ ،‬وأنه‬ ‫ل َقِو ّ‬ ‫ن ا َّ‬ ‫ب ِإ ّ‬‫سَلُه ِباْلَغْي ِ‬
‫صُرُه َوُر ُ‬‫ن َيْن ُ‬ ‫ل َم ْ‬ ‫س وَِلَيْعَلَم ا ُّ‬
‫ِللّنا ِ‬
‫ل من ينصره ورسله؛ ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي‪ ،‬وسيف ينصر‪،‬‬ ‫أنزل الحديد لجل القيام بالقسط؛ وليعلم ا ّ‬
‫وكفى بربك هادًيا ونصيًرا‪ .‬والكتاب والحديد وإن اشتركا في النزال فل يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل‬
‫حِكيِم{ ]الزمر‪ ،[1 :‬وقال تعالى‪} :‬الر‬ ‫ل اْلَعِزيِز اْل َ‬‫ن ا ِّ‬
‫ب ِم ْ‬ ‫ل‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬تْنِزي ُ‬
‫ل اْلِكَتا ِ‬ ‫الخر حيث نزل الكتاب من ا ّ‬
‫ك َلُتَلّقى اْلُقْرآَن ِمْن َلُدْن َحِكيٍم َعِليٍم{ ]النمل‪:‬‬
‫خِبيٍر{ ]هود‪ ،[1 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإّن َ‬ ‫حِكيٍم َ‬
‫ن َ‬
‫ن َلُد ْ‬
‫ت ِم ْ‬
‫صَل ْ‬
‫ت آَياُتُه ُثّم ُف ّ‬
‫حِكَم ْ‬
‫ب ُأ ْ‬
‫ِكَتا ٌ‬
‫‪ ،[6‬والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها‪.‬‬

‫شِرقِ‬ ‫ل اْلَم ْ‬‫جوهَُكْم ِقَب َ‬ ‫ن ُتَوّلوا ُو ُ‬ ‫س اْلِبّر َأ ْ‬‫وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالى‪َ} :‬لْي َ‬
‫ن{‬ ‫ك ُهْم اْلُمّتُقو َ‬ ‫صَدُقوا َوُأْوَلِئ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ك اّلِذي َ‬ ‫ن{إلى قوله‪ُ} :‬أْوَلِئ َ‬ ‫ب َوالّنِبّيي َ‬
‫لِئَكِة َواْلِكَتا ِ‬
‫خِر َواْلَم َ‬
‫لِ‬‫ل َواْلَيْوِم ا ْ‬
‫ن ِبا ِّ‬ ‫ن آَم َ‬‫ن اْلِبّر َم ْ‬
‫ب َوَلِك ّ‬
‫َواْلَمْغِر ِ‬
‫]البقرة‪ ،[177 :‬وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالى‪ِ} :‬في ُقُلوِبِهْم َمَرضٌ َفَزاَدُهْم ا ُّ‬
‫ل‬
‫ل َيْعلَُم‬‫ل َوا ُّ‬‫ل ا ِّ‬ ‫سو ُ‬ ‫ك َلَر ُ‬ ‫شَهُد ِإّن َ‬
‫ن َقاُلوا َن ْ‬ ‫ك اْلُمَناِفُقو َ‬
‫جاَء َ‬‫ن{ ]البقرة‪ ،[10 :‬وقوله تعالى‪ِ} :‬إَذا َ‬ ‫ب َأِليٌم ِبَما َكاُنوا َيْكِذُبو َ‬ ‫عَذا ٌ‬‫ضا َوَلُهْم َ‬ ‫َمَر ً‬
‫خَلُفوا‬ ‫عَقَبُهْم ِنَفاًقا ِفي ُقُلوِبِهْم ِإَلى َيْوِم َيْلَقْوَنُه ِبَما َأ ْ‬‫ن{ ]المنافقون‪ ،[1 :‬وقوله تعالى‪َ} :‬فَأ ْ‬ ‫ن َلَكاِذُبو َ‬‫ن اْلُمَناِفِقي َ‬
‫شَهُد ِإ ّ‬
‫ل َي ْ‬
‫سوُلُه َوا ُّ‬‫ك َلَر ُ‬
‫ِإّن َ‬
‫ل َما َوَعُدوُه َوِبَما َكاُنوا َيْكِذُبوَن{ ]التوبة‪ .[77 :‬ونحو ذلك في القرآن كثير‪.‬‬ ‫ا َّ‬

‫ومما ينبغي أن يعرف‪ :‬أن الصدق والتصديق يكون في القوال وفي ‪ /‬العمال‪ ،‬كقول النبي صلى ال عليه وسلم في‬
‫الحـديث الصحـيح‪) :‬كتب على ابـن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك ل محالة‪ ،‬فالعينان تزنيان وزناهما النظر‪،‬‬
‫والذنان تزنيان وزناهما السمع‪ ،‬واليدان تزنيان وزناهما البطش‪ ،‬والرجلن تزنيان وزناهما المشي‪ ،‬والقلب يتمنى‬
‫ويشتهي‪ ،‬والفرج يصدق ذلك أو يكذبه(‪ .‬ويقال‪ :‬حملوا على العدو حملة صادقة إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة‪،‬‬
‫ويقال فلن صادق الحب والمودة ونحو ذلك‪ .‬ولهذا يريدون بالصادق‪ :‬الصادق في إرادته وقصده وطلبه‪ ،‬وهو‬
‫الصادق في عمله‪ ،‬ويريدون الصادق في خبره وكلمه‪ ،‬والمنافق ضد المؤمن الصادق‪ ،‬وهو الذي يكون كاذًبا في‬
‫لِة‬
‫صَ‬‫عُهْم َوِإَذا َقاُموا ِإَلى ال ّ‬
‫خاِد ُ‬
‫ل َوُهَو َ‬
‫ن ا َّ‬
‫عو َ‬
‫خاِد ُ‬
‫ن ُي َ‬ ‫ل تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اْلُمَناِفِقي َ‬ ‫خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله‪ .‬قال ا ّ‬
‫س{ اليتين ]النساء‪.[143 ،142 :‬‬ ‫ن الّنا َ‬
‫ساَلى ُيَراُءو َ‬
‫َقاُموا ُك َ‬

‫ل ِفيِه‬
‫جً‬‫ل َر ُ‬
‫ل َمَث ً‬
‫ب ا ُّ‬ ‫ل ل لغيره‪ ،‬كما قال تعالى‪َ } :‬‬
‫ضَر َ‬ ‫وأما الخلص فهو حقيقة السلم‪ ،‬إذ السلم هو‪ :‬الستسلم ّ‬
‫ل فقد استكبر‪ ،‬ومن استسلم ّ‬
‫ل‬ ‫ل َسَلًما ِلَرُجٍل َهْل َيْسَتِوَياِن{ الية ]الزمر‪ .[29 :‬فمن لم يستسلم ّ‬
‫جً‬‫ن َوَر ُ‬
‫سو َ‬
‫شاِك ُ‬
‫شَرَكاُء ُمَت َ‬
‫ُ‬
‫ولغيرة فقد أشرك‪ ،‬وكل من الكبر والشرك ضد السلم‪ ،‬والسلم ضد الشرك والكبر‪ .‬ويستعمل لزًما ومتعدًيا كما‬
‫سٌ‬
‫ن‬ ‫حِ‬
‫ل َوُهَو ُم ْ‬
‫جَهُه ِّ‬
‫سَلَم َو ْ‬ ‫ن{ ]البقرة‪ ،[131 :‬وقال تعالى‪َ} :‬بَلى َم ْ‬
‫ن َأ ْ‬ ‫ب اْلَعاَلِمي َ‬
‫ت ِلَر ّ‬
‫سَلْم ُ‬
‫ل َأ ْ‬
‫سِلْم َقا َ‬ ‫قال تعالى‪ِ} :‬إْذ َقا َ‬
‫ل َلُه َرّبُه َأ ْ‬
‫ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن{ ]البقرة‪ .[112 :‬وأمثال ذلك في القرآن كثير‪.‬‬ ‫خْو ٌ‬ ‫ل َ‬ ‫عْنَد َرّبِه َو َ‬
‫جُرُه ِ‬
‫َفَلُه َأ ْ‬
‫ل وحده وترك عبادة ما سواه‪ ،‬وهو السلم‬ ‫ل[‪ ،‬وهي متضمنة عبادة ا ّ‬ ‫‪/‬ولهذا كان رأس السلم ]شهادة أن ل إله إل ا ّ‬
‫ل ِمْنُه َوُهَو ِفي‬‫ن ُيْقَب َ‬‫لِم ِديًنا َفَل ْ‬‫سَ‬‫لْ‬ ‫غْيَر ا ِْ‬ ‫ل من الولين والخرين دينا سواه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َيْبَتِغ َ‬ ‫العام الذي ل يقبل ا ّ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫ط َ‬
‫سِ‬ ‫لِئَكُة َوُأْوُلوا اْلِعْلِم َقاِئًما ِباْلِق ْ‬
‫ل ُهَو َواْلَم َ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل َأّنُه َ‬ ‫ن{]آل عمران‪ ،[85 :‬وقال تعالى‪َ } :‬‬
‫شِهَد ا ُّ‬ ‫سِري َ‬‫خا ِ‬‫ن اْل َ‬
‫خَرِة ِم ْ‬
‫لِ‬ ‫اْ‬
‫لُم{]آل عمران‪.[19 ،18 :‬‬ ‫سَ‬‫لْ‬
‫ل ا ِْ‬
‫عْنَد ا ِّ‬
‫ن ِ‬
‫ن الّدي َ‬
‫حِكيُم‪ِ .‬إ ّ‬
‫ُهَو اْلَعِزيُز اْل َ‬

‫وهذا الذي ذكرناه‪ ،‬مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة‪ :‬هو المور الباطنة من العلوم والعمال‪ ،‬وأن العمال‬
‫علنية‪،‬‬‫الظاهرة ل تنفع بدونها‪ .‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده‪) :‬السلم َ‬
‫واليمان في القلب(؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪) :‬الحلل َبّين‪ ،‬والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات ل يعلمهن كثير من الناس‪ ،‬فمن اتقى‬
‫ضه وِدينِه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع‬ ‫الشبهات فقد استبرأ لِعْر ِ‬
‫ل محارمه‪ ،‬أل وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد‬ ‫فيه‪ ،‬أل وإن لكل ملك حمى‪ ،‬أل وإن حمى ا ّ‬
‫وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد‪ ،‬أل وهي القلب(‪ ،‬وعن أبي هريرة قال‪ :‬القلب ملك والعضاء جنوده‪ ،‬فإذا طاب‬
‫الملك طابت جنوده‪ ،‬وإذا خبث الملك خبثت جنوده‪.‬‬

‫َفصـــل‬

‫ل والخلص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك‪ ،‬كلها مأمور بها في حق‬ ‫وهذه العمال الباطنة‪ ،‬كمحبة ا ّ‬
‫الخاصة والعامة ل يكون تركها محموًدا في حال أحد‪ ،‬وإن ارتقى مقامه‪.‬‬

‫ل به ول رسوله‪ ،‬بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين‪ ،‬كقوله تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َتِهُنوا‬ ‫وأما ]الحزن[ فلم يأمر ا ّ‬
‫ن{‬ ‫ق ِمّما َيْمُكُرو َ‬
‫ضْي ٍ‬
‫ك ِفي َ‬ ‫ل َت ُ‬
‫عَلْيِهْم َو َ‬
‫ن َ‬
‫حَز ْ‬ ‫ن{ ]آل عمران‪ ،[139 :‬وقوله‪َ} :‬و َ‬
‫ل َت ْ‬ ‫ن ُكْنُتْم ُمْؤِمِني َ‬
‫ن ِإ ْ‬
‫عَلْو َ‬
‫لْ‬‫حَزُنوا َوَأْنُتْم ا َْ‬
‫ل َت ْ‬
‫َو َ‬
‫ك َقْوُلُهْم{ ]يونس‪،[56 :‬‬ ‫حُزْن َ‬ ‫ل َمَعَنا{ ]التوبة‪ ،[40 :‬وقوله‪َ} :‬و َ‬
‫ل َي ْ‬ ‫ن ا َّ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫حَز ْ‬
‫ل َت ْ‬
‫حِبِه َ‬
‫صا ِ‬
‫ل ِل َ‬ ‫]النحل‪ ،[127 :‬وقوله‪ِ} :‬إْذ َيُقو ُ‬
‫ل َتْأَسْوا َعَلى َما َفاَتُكْم َوَل َتْفَرُحوا ِبَما آَتاُكْم{ ]الحديد‪ .[23 :‬وأمثال ذلك كثير‪.‬‬ ‫وقوله‪ِ} :‬لَكْي َ‬

‫ل به‪ ،‬نعم! ل يأثم صاحبه إذا لم‬ ‫وذلك ؛لنه ل يجلب منفعة ول يدفع مضرة فل فائدة فيه‪ ،‬وما ل فائدة فيه ل يأمر ا ّ‬
‫ل ل يؤاخذ على دمع العين‬ ‫يقترن بحزنه محرم‪ ،‬كما يحزن على المصائب‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن ا ّ‬
‫ول على حزن القلب‪ ،‬ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم( وأشار بيده إلى لسانه‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪) :‬تدمع العين‪،‬‬
‫عْيَناُه‬
‫ت َ‬
‫ض ْ‬
‫سفَ َواْبَي ّ‬
‫عَلى ُيو ُ‬
‫سَفى َ‬
‫ل َياَأ َ‬ ‫ويحزن القلب‪/ ،‬ول نقول إل ما يرضى الرب(‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪َ} :‬وَتَوّلى َ‬
‫عْنُهْم َوَقا َ‬
‫ظيٌم{]يوسف‪.[84 :‬‬‫ن َفُهَو َك ِ‬
‫حْز ِ‬
‫ن اْل ُ‬
‫ِم َ‬

‫وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه‪ ،‬فيكون محموًدا من تلك الجهة ل من جهة الحزن‪ ،‬كالحزين‬
‫على مصيبة في دينه‪ ،‬وعلى مصائب المسلمين عموًما‪ .‬فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير‪ ،‬وبغض الشر‪،‬‬
‫وتوابع ذلك‪ ،‬ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى‬
‫عنه‪ ،‬وإل كان حسب صاحبه رفع الثم عنه من جهة الحزن‪.‬‬

‫ل ورسوله به‪ ،‬كان مذموًما عليه من تلك الجهة‪ ،‬وإن‬


‫وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر ا ّ‬
‫كان محموًدا من جهة أخرى‪.‬‬

‫ل‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والخلص له ونحو ذلك‪ ،‬فهذه كلها خير محض‪ ،‬وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد‬ ‫وأما المحبة ّ‬
‫من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪ .‬ومن قال‪ :‬إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك‬
‫إن أراد خروج الخاصة عنها‪ ،‬فإن هذه ل يخرج عنها مؤمن قط‪ ،‬وإنما يخرج عنها كافر أو منافق‪ .‬وقد تكلم بعضهم‬
‫في ذلك بكلم‪ ،‬بينا غلطه فيه وأنه تقصير في تحقيق هذه المقامات بكلم مبسوط وليس هذا موضعه‪.‬‬

‫‪/‬ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى‪ :‬خصوص وعموم‪ ،‬فللخاصة خاصها‪ ،‬وللعامة عامها‪ .‬مثال ذلك أن هؤلء‬
‫قالوا‪ :‬إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت‪ ،‬والخاص ل يناضل عن نفسه‪ .‬وقالوا‪ :‬المتوكل يطلب بتوكله‬
‫أمًرا من المور‪ ،‬والعارف يشهد المور بفروعها منها فل يطلب شيًئا‪ .‬فيقال‪ :‬أما الول فإن التوكل أعم من التوكل‬
‫ل في صلح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم المور إليه؛ ولهذا‬ ‫في مصالح الدنيا‪ ،‬فإن المتوكل يتوكل على ا ّ‬
‫ك َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة‪ ،[5 :‬كما في قوله تعالى‪َ} :‬فاْعُبْدُه َوَتَوّكْل َعَلْيِه{ ]هود‪:‬‬ ‫يناجي ربه في كل صلة بقوله‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬
‫ت َوِإَلْيِه‬
‫عَلْيِه َتَوّكْل ُ‬
‫ل ُهَو َ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬ ‫ب{ ]هود‪ ،88 :‬الشورى‪ ،[10 :‬وقوله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ُهَو َرّبي َ‬ ‫ت َوِإَلْيِه ُأِني ُ‬ ‫‪ ،[123‬وقوله‪َ } :‬‬
‫عَلْيِه َتَوّكْل ُ‬
‫ب{]الرعد‪.[30 :‬‬ ‫َمَتا ِ‬

‫فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لن هذين يجمعان الدين كله؛ ولهذا قال من قال من السلف‪ :‬إن ا ّ‬
‫ل‬
‫جمع الكتب المنزلة في القرآن‪ ،‬وجمع علم القرآن في المفصل‪ ،‬وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب‪ ،‬وجمع علم‬
‫ك َنْسَتِعيُن{‪.‬‬ ‫فاتحة الكتاب في قوله‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬

‫وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد‪ ،‬كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي‬
‫ل سبحانه‪ :‬قسمت الصلة بيني وبين عبدي نصفين‪ ،‬نصفها لي ونصفها لعبدي‪،‬‬ ‫صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬يقول ا ّ‬
‫ل‪ :‬حمدني عبدي‪.‬‬ ‫ل رب العالمين‪ ،‬يقول ا ّ‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬يقول العبد‪ :‬الحمد ّ‬ ‫ولعبدي ما سأل( قال رسول ا ّ‬
‫ل‪ :‬مجدني عبدي‪ .‬يقول‬ ‫ل‪ :‬أثنى على عبدي‪ .‬يقول العبد‪ :‬مالك يوم الدين‪ ،‬يقول ا ّ‬ ‫يقول العبد‪ :‬الرحمن ‪ /‬الرحيم‪ ،‬يقول ا ّ‬
‫ل‪ :‬فهذه الية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل‪ .‬يقول العبد‪ :‬اهدنا‬ ‫العبد‪ :‬إياك نعبد وإياك نستعين‪ ،‬يقول ا ّ‬
‫ل‪ :‬فهؤلء لعبدي ولعبدي‬ ‫الصراط المستقيم‪ ،‬صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ول الضالين‪ ،‬يقول ا ّ‬
‫ما سأل(‪ .‬فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير‪ ،‬والعبد له نصف الدعاء والطلب‪ .‬وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه‪،‬‬
‫وما للعبد‪ ،‬فإياك نعبد للرب‪ ،‬وإىاك نستعين للعبد‪.‬‬

‫ل عنه ـ قال‪ :‬كنت رديًفا للنبي صلى ال عليه وسلم على حمار فقال‪) :‬يا معاذ‪،‬‬ ‫وفي الصحيحين عن معاذ ـ رضي ا ّ‬
‫ل ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪) :‬حق ال على العباد أن يعبدوه ول يشركوا به شيئا‪،‬‬ ‫ل على العباد؟( قلت‪ :‬ا ّ‬‫أتدري ما حق ا ّ‬
‫ل ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪) :‬حقهم عليه أل يعذبهم(‪ .‬والعبادة هي الغاية‬ ‫ل إذا فعلوا ذلك؟( قلت‪ :‬ا ّ‬‫أتدري ما حق العباد على ا ّ‬
‫ل ِلَيْعُبُدوِني{‬
‫س ِإ ّ‬
‫لن َ‬
‫ن َوا ِْ‬
‫جّ‬‫ت اْل ِ‬ ‫ل ومحبته ورضاه كما قال تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬ ‫ل لها العباد من جهة أمر ا ّ‬‫التي خلق ا ّ‬
‫ل ونهايته‪،‬‬
‫ل ونهايته‪ ،‬وكمال الذل ّ‬ ‫]الذاريات‪ ،[56 :‬وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب‪ ،‬وهي اسم يجمع كمال الحب ّ‬
‫فالحب الخلي عن ذل‪ ،‬والذل الخلي عن حب ل يكون عبادة‪ ،‬وإنما العبادة ما يجمع كمال المرين؛ولهذا كانت العبادة‬
‫ل غني عن العالمين‪ ،‬فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها؛ولهذا‬ ‫ل‪ ،‬وهي وإن كانت منفعتها للعبد وا ّ‬ ‫لتصلح إل ّ‬
‫سا منها ثم‬
‫حا بتوبة العبد من ‪ /‬الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في أرض دوية مهلكة إذا نام آي ً‬ ‫ل أشد فر ً‬
‫كان ا ّ‬
‫حا بتوبة عبده من هذا براحلته‪ ،‬وهذا يتعلق به أمور جليلة قد بسطناها وشرحناها في‬ ‫ل أشد فر ً‬
‫استيقظ فوجدها‪ ،‬فا ّ‬
‫غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والتوكل والستعانة للعبد؛ لنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة‪ ،‬فالستعانة كالدعاء‬
‫ل عز وجل‪ :‬يا بن آدم‪،‬‬‫والمسألة‪ .‬وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪] :‬يقول ا ّ‬
‫إنما هي أربع‪ :‬واحدة لي‪ ،‬وواحدة لك‪ ،‬وواحدة بيني وبينك‪ ،‬وواحدة بينك وبين خلقي‪ .‬فأما التي لي فتعبدني ل تشرك‬
‫ى الجابة‪،‬‬‫بي شيئا‪ ،‬وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه‪ ،‬وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعل ّ‬
‫وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك(‪.‬‬

‫لـ‬
‫ل وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا ابتداء‪ ،‬فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملئًما له‪ ،‬وا ّ‬
‫وكون هذا ّ‬
‫تعالى ـ يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه‪ ،‬ويحب الوسيلة تبًعا لذلك‪ ،‬وإل فكل مأمور به فمنفعته عائدة‬
‫ل ويرضاه‪ ،‬وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل ل يطلب‬ ‫على العبد‪ ،‬وكل ذلك يحبه ا ّ‬
‫به إل حظوظ الدنيا‪ ،‬وهو غلط بل التوكل في المور الدينية أعظم‪.‬‬

‫ل ويأمر‬
‫ضا‪ ،‬التوكل من المور الدينية التي ل تتم الواجبات والمستحبات إل بها‪ ،‬والزاهد فيها زاهد فيما يحبه ا ّ‬
‫‪/‬وأي ً‬
‫به ويرضاه‪.‬‬

‫والزهد المشروع هو‪ :‬ترك الرغبة فيما ل ينفع في الدار الخرة‪ ،‬وهو فضول المباح التي ل يستعان بها على طاعة‬
‫ل‪ ،‬كما أن الورع المشروع هو‪ :‬ترك ما قد يضر في الدار الخرة‪ ،‬وهو ترك المحرمات والشبهات التي ليستلزم‬ ‫ا ّ‬
‫تركها ترك ما فعله أرجح منها‪ ،‬كالواجبات‪ .‬فأما ما ينفع في الدار الخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار‬
‫ل َلُكْم َو َ‬
‫ل‬ ‫ل ا ُّ‬
‫حّ‬
‫ت َما َأ َ‬
‫طّيَبا ِ‬
‫حّرُموا َ‬
‫ل ُت َ‬ ‫الخرة‪ ،‬فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َ‬
‫ب اْلُمْعَتِديَن{]المائدة‪ ،[87 :‬كما أن الشتغال بفضول المباحات‪ ،‬هو ضد الزهد المشروع‪ ،‬فإن اشتغل‬
‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫َتْعَتُدوا ِإ ّ‬
‫صا عن درجة المقربين إلى درجة المقتصدين‪.‬‬
‫بها عن فعل واجب أو فعل محرم كان عاصًيا‪ ،‬وإل كان منقو ً‬

‫ل مرضًيا له مأموًرا به دائما ل يكون‬


‫ل مرضي له مأمور به دائًما‪ ،‬وما كان محبوًبا ّ‬
‫ضا‪ ،‬فإن التوكل هو محبوب ّ‬
‫وأي ً‬
‫من فعل المقتصدين دون المقربين‪ ،‬فهذه ثلثة أجوبة عن قولهم‪ :‬المتوكل يطلب حظوظه‪.‬‬

‫وأما قولهم‪ :‬إن المور قد فرغ منها‪ ،‬فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه ل حاجة إليه؛ لن المطلوب إن كان‬
‫ل‪.‬‬
‫عا وعق ً‬
‫مقدًرا فل حاجة إليه‪ ،‬وإن لم يكن ‪ /‬مقدًرا لم ينفع الدعاء‪ ،‬وهذا القول من أفسد القوال شر ً‬

‫وكذلك قول من قال‪ :‬التوكل والدعاء ل يجلب به منفعة ول يدفع به مضرة‪ ،‬وإنما هو عبادة محضة‪ ،‬وإن حقيقة‬
‫ضا‪ ،‬وكذلك قول من قال‪:‬‬
‫التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض‪ ،‬وهذا وإن كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أي ً‬
‫إن الدعاء إنما هو عبادة محضة‪.‬‬

‫فهذه القوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد‪ :‬وهو أن هؤلء ظنوا أن كون المور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على‬
‫ل سبحانه يقدر المور ويقضيها بالسباب التي جعلها معلقة‬
‫ضا ـ تكون من العبد‪ ،‬ولم يعلموا أن ا ّ‬
‫أسباب مقدرة ـ أي ً‬
‫بها من أفعال العباد‪ ،‬وغير أفعالهم؛ ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل العمال بالكلية‪.‬‬

‫وقد سئل النبي صلى ال عليه وسلم عن هذا الصل مرات‪ ،‬فأجاب عنه كما أخرجا في الصحيحين عن عمران بن‬
‫عِلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال‪) :‬نعم(‪ .‬قالوا‪ :‬ففيم‬ ‫ل‪ ،‬أ ُ‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم‪ :‬يا رسول ا ّ‬ ‫حصين قال‪ :‬قيل لرسول ا ّ‬
‫ل صلى‬ ‫العمل؟ قال‪) :‬كل ميسر لما خلق له(‪ .‬وفي الصحيحين عن على بن أبي طالب قال‪ :‬كنا في جنازة فيها رسول ا ّ‬
‫ال عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الرض‪ ،‬ثم رفع رأسه وقال‪) :‬ما من نفس منفوسة‬
‫ل‪ ،‬أفل‬ ‫إل وقد كتب مكانها من النار أو الجنة‪ ،‬إل وقد كتبت شقية أو سعيدة(‪ .‬قال‪ / :‬فقال رجل من القوم‪ :‬يا نبي ا ّ‬
‫نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة‪ ،‬ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى‬
‫الشقاوة‪ .‬قال‪] :‬اعملوا فكل ميسر لما خلق له‪ .‬أما أهل السعادة فييسرون للسعادة‪ ،‬وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة[‪،‬‬
‫سَتْغَنى‪.‬‬
‫ل َوا ْ‬
‫خَ‬‫ن َب ِ‬
‫سَرى‪َ .‬وَأّما َم ْ‬
‫سُرهُ ِلْلُي ْ‬
‫سُنَي ّ‬
‫سَنى‪َ .‬ف َ‬
‫حْ‬‫ق ِباْل ُ‬
‫صّد َ‬
‫طى َواّتَقى‪َ .‬و َ‬
‫عَ‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم‪َ}] :‬فَأّما َم ْ‬
‫ن َأ ْ‬ ‫ثم قال نبي ا ّ‬
‫ب ِباْلُحْسَنى‪َ .‬فَسُنَيّسُرُه ِلْلُعْسَرى{( ]الليل‪ 5 :‬ـ ‪ ،[10‬أخرجه الجماعة في الصحاح والسنن والمسانيد‪.‬‬ ‫َوَكّذ َ‬

‫ل‪ ،‬أرأيت أدوية نتداوى بها‪ ،‬ورقى نسترقى بها‬


‫وروى الترمذي أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل فقيل‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ل(‪.‬‬
‫ل شيًئا؟ فقال‪) :‬هي من قدر ا ّ‬
‫وتقى نتقيها هل ترد من قدر ا ّ‬

‫وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى ال عليه وسلم في عدة أحاديث‪.‬‬

‫فبين صلى ال عليه وسلم أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي ل ينافى أن تكون سعادة هذا بالعمال الصالحة‪،‬‬
‫وشقاوة هذا بالعمال السيئة‪ ،‬فإنه سبحانه يعلم المور على ما هي عليه‪ ،‬وكذلك يكتبها‪ ،‬فهو يعلم أن السعيد يسعد‬
‫بالعمال الصالحة‪ ،‬والشقي يشقى بالعمال السيئة‪ ،‬فمن كان سعيًدا ييسر للعمال الصالحة التي تقتضي السعادة‪،‬‬
‫ومن كان شقًيا ييسر للعمال السيئة ‪ /‬التي تقتضى الشقاوة‪ ،‬وكلهما ميسر لما خلق له‪ ،‬وهو ما يصير إليه من مشيئة‬
‫ك َوِلَذِل َ‬
‫ك‬ ‫حَم َرّب َ‬
‫ن َر ِ‬
‫ل َم ْ‬
‫ن‪ِ .‬إ ّ‬
‫خَتِلِفي َ‬
‫ن ُم ْ‬ ‫ل ـ سبحانه ـ في كتابه في قوله تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َيَزاُلو َ‬ ‫ل العامة الكونية التي ذكرها ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫َخَلَقُهْم{]هود‪.[119 ،118 :‬‬

‫جّ‬
‫ن‬ ‫ت اْل ِ‬ ‫ل ورضاه وهو إرادته الدينية التي أمروا بموجبها فذلك مذكور في قوله‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬ ‫وأما ما خلقوا له من محبة ا ّ‬
‫س ِإّل ِلَيْعُبُدوِن{]الذاريات‪.[56 :‬‬
‫لن َ‬
‫َوا ِْ‬

‫ل ـ سبحانه ـ قد بين في كتابه في كل واحدة‪ :‬من ]الكلمات[ و]المر[ و]الرادة[ و]الذن[ و ]الكتاب[ و ]الحكم[ و‬
‫وا ّ‬
‫ل ورضاه وأمره الشرعي‪ ،‬وما هو كوني موافق لمشيئته‬ ‫]القضاء[ و ]التحريم[ ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة ا ّ‬
‫الكونية‪.‬‬
‫ن َوِإيَتاِء ِذي اْلُقْرَبى{ ]النحل‪ ،[90 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل‬ ‫سا ِ‬‫حَ‬‫لْ‬ ‫ل َوا ِ‬‫ل َيْأُمُر ِباْلَعْد ِ‬‫ن ا َّ‬‫مثال ذلك أنه قال في المر الديني‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ل َلُه ُك ْ‬
‫ن‬ ‫ن َيُقو َ‬ ‫ت ِإَلى َأْهِلَها{ ]النساء‪ ،[58 :‬ونحو ذلك‪ .‬وقال في الكوني‪ِ} :‬إّنَما َأْمُرُه ِإَذا َأَراَد َ‬
‫شْيًئا َأ ْ‬ ‫لَماَنا ِ‬
‫ن ُتَؤّدوا ا َْ‬
‫َيْأُمُرُكْم َأ ْ‬
‫ق َعَلْيَها اْلَقْوُل{ ]السراء‪ [16 :‬على‬ ‫حّ‬ ‫سُقوا ِفيَها َف َ‬
‫ك َقْرَيًة َأَمْرَنا ُمْتَرِفيَها َفَف َ‬
‫ن ُنْهِل َ‬‫ن{ ]يس‪ ،[82 :‬وكذلك قوله‪َ} :‬وِإَذا َأَرْدَنا َأ ْ‬ ‫َفَيُكو ُ‬
‫إحدى القوال في هذه الية‪.‬‬

‫ن‬
‫ن ِم ْ‬‫ن اّلِذي َ‬ ‫سَن َ‬
‫ن َلُكْم َوَيْهِدَيُكْم ُ‬ ‫سَر{ ]البقرة‪ُ}/ ،[185 :‬يِريُد ا ُّ‬
‫ل ِلُيَبّي َ‬ ‫ل ُيِريُد ِبُكْم اْلُع ْ‬‫سَر َو َ‬ ‫وقال فى الرادة الدينية‪ُ} :‬يِريُد ا ُّ‬
‫ل ِبُكْم اْلُي ْ‬
‫طّهَرُكْم{]المائدة‪،[6 :‬‬ ‫ن ُيِريُد ِلُي َ‬ ‫ج َوَلِك ْ‬
‫حَر ٍ‬
‫ن َ‬
‫عَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ل َ‬
‫جَع َ‬ ‫حِكيٌم{ ]النساء‪َ} ،[26 :‬ما ُيِريُد ا ُّ‬
‫ل ِلَي ْ‬ ‫عِليٌم َ‬‫ل َ‬ ‫عَلْيُكْم َوا ُّ‬
‫ب َ‬ ‫َقْبِلُكْم َوَيُتو َ‬
‫ن َيهِدَيُه‬‫ل َأ ْ‬ ‫ل َما ُيِريُد{ ]البقرة‪ ،[253 :‬وقال‪َ} :‬فَم ْ‬
‫ن ُيِرْد ا ُّ‬ ‫ل َيْفَع ُ‬‫ن ا َّ‬ ‫ل َما اْقَتَتُلوا َوَلِك ّ‬ ‫شاَء ا ُّ‬ ‫وقال في الرادة الكونية‪َ} :‬وَلْو َ‬
‫صّعُد ِفي الّسَماِء{]النعام‪ ،[125 :‬وقال نوح عليه‬ ‫جا َكَأّنَما َي ّ‬‫حَر ً‬ ‫ضّيًقا َ‬ ‫صْدَرُه َ‬ ‫ل َ‬ ‫جَع ْ‬‫ضّلُه َي ْ‬‫ن ُي ِ‬‫ن ُيِرْد َأ ْ‬
‫لِم َوَم ْ‬ ‫سَ‬‫لْ‬ ‫صْدَرُه ِل ِْ‬
‫ح َ‬ ‫شَر ْ‬‫َي ْ‬
‫ل ُيِريُد َأن ُيْغِوَيكُْم{]هود‪ ،[34 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إّنَما َأْمُرُه ِإَذا َأَراَد‬ ‫نا ّ‬ ‫ح َلُكْم ِإن َكا َ‬ ‫صَ‬ ‫ن َأن َ‬ ‫ت َأ ْ‬
‫ن َأَرد ّ‬ ‫حي ِإ ْ‬ ‫صِ‬ ‫ل َينَفُعُكْم ُن ْ‬ ‫السلم‪َ} :‬و َ‬
‫َشْيًئا َأنْ َيُقوَل َلُه ُكْن َفَيُكوُن{ ]يس‪.[28 :‬‬

‫ي اْلَفاِسِقيَن{ ]الحشر‪،[5 :‬‬


‫خِز َ‬
‫ل َوِلُي ْ‬
‫ن ا ِّ‬
‫صوِلَها َفِبِإْذ ِ‬
‫عَلى ُأ ُ‬
‫ن ِليَنٍة َأْو َتَرْكُتُموَها َقاِئَمًة َ‬ ‫وقال تعالى في الذن الديني‪َ} :‬ما َق َ‬
‫طْعُتْم ِم ْ‬
‫ل{ ]البقرة‪.[102 :‬‬ ‫ن ا ِّ‬‫ل ِبِإْذ ِ‬
‫حٍد ِإ ّ‬
‫ن َأ َ‬
‫ن ِبِه ِم ْ‬
‫ضاّري َ‬ ‫وقال تعالى في الكوني‪َ} :‬وَما ُهْم ِب َ‬

‫ك َأّل َتْعُبُدوا ِإّل ِإّياُه{ ]السراء‪ [23 :‬أي‪ :‬أمر‪ ،‬وقال تعالى في الكوني‪:‬‬ ‫وقال تعالى في القضاء الديني‪َ} :‬وَق َ‬
‫ضى َرّب َ‬
‫ت ِفي َيْوَمْيِن{ ]فصلت‪.[12 :‬‬ ‫سَماَوا ٍ‬
‫سْبَع َ‬
‫ن َ‬
‫ضاُه ّ‬
‫}َفَق َ‬

‫حُكُم َما ُيِريُد{‬


‫ل َي ْ‬
‫ن ا َّ‬
‫حُرٌم ِإ ّ‬
‫صْيِد َوَأْنُتْم ُ‬
‫حّلي ال ّ‬
‫عَلْيُكْم غَْيَر ُم ِ‬
‫ل َما ُيْتَلى َ‬
‫لْنَعاِم ِإ ّ‬
‫ت َلُكْم َبِهيَمُة ا َْ‬ ‫وقال تعالى في الحكم الديني‪ُ} :‬أ ِ‬
‫حّل ْ‬
‫حُكُم َبْيَنُكْم{ ]الممتحنة‪ ،[10 :‬وقال تعالى في الكوني عن ابن يعقوب‪َ} :‬فَل ْ‬
‫ن‬ ‫ل َي ْ‬‫حْكُم ا ِّ‬‫]المائدة‪ ،[1 :‬وقال تعالى‪َ} :‬ذِلُكْم ُ‬
‫حّ‬
‫ق‬ ‫حُكْم ِباْل َ‬
‫ل َربّ ا ْ‬ ‫ل ِلي َوُهَو َخْيُر اْلَحاِكِميَن{ ]يوسف‪ / ،[80 :‬وقال تعالى‪َ} :‬قا َ‬ ‫حُكَم ا ُّ‬
‫ن ِلي َأِبي َأْو َي ْ‬
‫حّتى َيْأَذ َ‬
‫ض َ‬
‫ح الَْْر َ‬
‫َأْبَر َ‬
‫ن{ ]النبياء‪.[112 :‬‬
‫صُفو َ‬
‫عَلى َما َت ِ‬
‫ن َ‬
‫سَتَعا ُ‬
‫ن اْلُم ْ‬
‫حَما ُ‬
‫َوَرّبَنا الّر ْ‬

‫عَلْيُكْم ُأّمَهاُتُكْم َوَبَناُتُكْم{‬‫ت َ‬‫حّرَم ْ‬‫خنِزيِر{ ]المائدة‪ُ } ،[3 :‬‬ ‫حُم اْل ِ‬
‫عَلْيُكْم اْلَمْيَتُة َوالّدُم َوَل ْ‬
‫ت َ‬ ‫وقال تعالى في التحريم الديني‪ُ } :‬‬
‫حّرَم ْ‬
‫ض{ ]المائدة‪.[26 :‬‬ ‫لْر ِ‬ ‫ن ِفي ا َْ‬‫سَنًة َيِتيُهو َ‬
‫ن َ‬
‫عَلْيهِْم َأْرَبِعي َ‬
‫حّرَمٌة َ‬‫الية ]النساء‪ .[23 :‬وقال تعالى في التحريم الكوني‪َ} :‬فِإّنَها ُم َ‬

‫ق َمْعُلوٌم‪ِ .‬للّساِئِل َواْلَمْحُروِم{ ]المعارج‪ ،[25 ،24 :‬وقال تعالى في الكلمات الدينية‪:‬‬ ‫حّ‬ ‫ن ِفي َأْمَواِلِهْم َ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫سَراِئي َ‬
‫ل‬ ‫عَلى َبِني ِإ ْ‬
‫سَنى َ‬
‫حْ‬
‫ك اْل ُ‬ ‫ن{ ]البقرة‪ ،[124 :‬وقال تعالى في الكونية‪َ} :‬وَتّم ْ‬
‫ت َكِلَمُة َرّب َ‬ ‫ت َفَأَتّمُه ّ‬
‫}َوِإْذ اْبَتَلى ِإْبَراِهيَم َرّبُه ِبَكِلَما ٍ‬
‫صَبُروا{ ]العراف‪ ،[137 :‬ومنه قوله صلى ال عليه وسلم المستفيض عنه من وجوه في الصحاح والسنن‬ ‫ِبَما َ‬
‫ل التامات التي ل يجاوزهن َبّر ول فاجر(‪ .‬ومن المعلوم أن هذا‬ ‫والمسانيد أنه كان يقول في استعاذته‪) :‬أعوذ بكلمات ا ّ‬
‫هو الكوني الذي ل يخرج منه شىء‪ ،‬عن مشيئته وتكوينه‪ .‬وأما الكلمات الدينية فقد خالفها الفجار بمعصيته‪.‬‬

‫والمقصود هنا أنه صلى ال عليه وسلم بين أن العواقب التي خلق لها الناس من سعادة وشقاوة ييسرون لها بالعمال‬
‫التي يصيرون بها إلى ذلك‪ ،‬كما أن سائر المخلوقات كذلك‪ ،‬فهو ـ سبحانه ـ يخلق الولد وسائر الحيوان في الرحام بما‬
‫يقدره من اجتماع البوين على النكاح‪ ،‬واجتماع المائين في الرحم‪ ،‬فلو قال النسان‪ :‬أنا أتوكل ول أطأ زوجتي‪ ،‬فإن‬
‫كان قد ‪ /‬قضى لي بولد وجد وإل لم يوجد ول حاجة إلى وطء‪ ،‬كان أحمق بخلف ما إذا وطئ وعزل الماء فإن عزل‬
‫ل‪ ،‬إذ قد يسبق الماء بغير اختياره‪.‬‬
‫الماء ل يمنع انعقاد الولد إذا شاء ا ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم في غزوة‬ ‫ومن هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬قال‪ :‬خرجنا مع رسول ا ّ‬
‫بني المصطلق‪ ،‬فأصبنا سبًيا من العرب‪ ،‬فاشتهينا النساء‪ ،‬واشتدت علىنا العزبة‪ ،‬وأحببنا العزل‪ ،‬فسألنا عن ذلك‬
‫ل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة(‪ ،‬وفي‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬فقال ما علىكم أل تفعلوا‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫رسول ا ّ‬
‫ل أتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل‪،‬‬ ‫صحيح مسلم عن جابر‪ :‬أن رج ً‬
‫وأنا أطوف عليها‪ ،‬وأكره أن تحمل‪ ،‬فقال‪) :‬اعزل عنها إن شئت‪ ،‬فإنه سيأتيها ما قدر لها(‪.‬‬

‫ل ـ سبحانه ـ قادر على ما قد فعله من خلق النسان من غير أبوين كما خلق آدم‪ ،‬ومن خلقه من أب فقط‬
‫وهذا مع أن ا ّ‬
‫كما خلق حواء من ضلع آدم القصير‪ ،‬ومن خلقه من أم فقط كما خلق المسيح ابن مريم ـ عليه السلم‪ ،‬لكن خلق ذلك‬
‫بأسباب أخرى غير معتادة‪.‬‬
‫وهذا الموضع‪ ،‬وإن كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع‪ ،‬فقد وقع في كثير من دقه كثير من المشائخ‬
‫المعظمين يسترسل أحدهم مع القدر ‪ /‬غير محقق لما أمر به ونهى عنه‪ ،‬ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل‪،‬‬
‫ل كالميت بين يدي الغاسل يتضمن‬ ‫والجري مع الحقيقة القدرية‪ ،‬ويحسب أن قول القائل‪ :‬ينبغي للعبد أن يكون مع ا ّ‬
‫ترك العمل بالمر والنهي حتى يترك ما أمر به‪ ،‬ويفعل ما نهى عنه وحتى يضعف عنده النور والفرقان الذي يفرق به‬
‫ل بينه كما قال تعالى‪َ} :‬أْم‬ ‫ل به وأحبه ورضيه‪ ،‬وبين ما نهى عنه وأبغضه وسخطه فيسوي بين ما فرق ا ّ‬ ‫بين ما أمر ا ّ‬
‫ت َسَواًء َمْحَياُهْم َوَمَماُتُهْم َساَء َما َيْحُكُموَن{]الجاثية‪،[21 :‬‬ ‫حا ِ‬ ‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫ن آَمُنوا َو َ‬ ‫جَعَلُهْم َكاّلِذي َ‬‫ن َن ْ‬‫ت َأ ْ‬
‫سّيَئا ِ‬‫حوا ال ّ‬ ‫جَتَر ُ‬ ‫نا ْ‬ ‫ب اّلِذي َ‬
‫س َ‬‫حِ‬ ‫َ‬
‫ن آَمُنوا‬ ‫ن{ ]القلم‪ [36 ،35 :‬وقال تعالى‪َ} :‬أْم َن ْ‬
‫جَعلُ اّلِذي َ‬ ‫حُكُمو َ‬ ‫ف َت ْ‬‫ن‪َ .‬ما َلُكْم َكْي َ‬ ‫جِرِمي َ‬ ‫ن َكاْلُم ْ‬ ‫سِلِمي َ‬
‫ل اْلُم ْ‬
‫جَع ُ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬أَفَن ْ‬
‫ن َيْعَلُمو َ‬
‫ن‬ ‫سَتِوي اّلِذي َ‬ ‫ل َي ْ‬ ‫جاِر{ ]ص‪ ،[28 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َه ْ‬ ‫ن َكاْلُف ّ‬‫ل اْلُمّتِقي َ‬
‫جَع ُ‬
‫ض َأْم َن ْ‬
‫لْر ِ‬ ‫ن ِفي ا َْ‬ ‫سِدي َ‬
‫ت َكاْلُمْف ِ‬ ‫حا ِ‬ ‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫َو َ‬
‫حُروُر‪َ .‬وَما‬ ‫ل اْل َ‬
‫ل َو َ‬ ‫ظّ‬‫ل ال ّ‬‫ل الّنوُر‪َ .‬و َ‬
‫ت َو َ‬
‫ظُلَما ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫صيُر‪َ .‬و َ‬
‫عَمى َواْلَب ِ‬ ‫لْ‬‫سَتِوي ا َْ‬ ‫ن{]الزمر‪ ،[9 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما َي ْ‬ ‫ل َيْعَلُمو َ‬ ‫ن َ‬ ‫َواّلِذي َ‬
‫ت ِبُمْسِمٍع َمْن ِفي اْلُقُبوِر{ ]فاطر‪ ،[19-22 :‬وأمثال ذلك‪.‬‬ ‫شاُء َوَما َأْن َ‬ ‫ن َي َ‬
‫سِمُع َم ْ‬ ‫ل ُي ْ‬‫ن ا َّ‬‫ت ِإ ّ‬‫لْمَوا ُ‬‫ل ا َْ‬ ‫حَياُء َو َ‬ ‫لْ‬ ‫سَتِوي ا َْ‬ ‫َي ْ‬

‫حتى يفضي المر بغلتهم إلى عدم التمييز بين المر بالمأمور النبوي اللهي الفرقاني الشرعي الذي دل عليه الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وبين ما يكون في الوجود من الحوال التي تجري على أيدي الكفار والفجار‪ ،‬فيشهدون وجه الجمع من جهة‬
‫ل وقدره وربوبيته وإرادته العامة‪ / ،‬وأنه داخل في ملكه‪ ،‬ول يشهدون وجه الفرق الذي فرق ا ّ‬
‫ل‬ ‫كون الجميع بقضاء ا ّ‬
‫به بين أوليائه وأعدائه‪ ،‬والبرار والفجار‪ ،‬والمؤمنين والكافرين‪ ،‬وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الديني‪ ،‬وأهل‬
‫المعصية الذين عصوا هذا المر‪ ،‬ويستشهدون في ذلك بكلمات مجملة نقلت عن بعض الشياخ‪ ،‬أو ببعض غلطات‬
‫بعضهم‪.‬‬

‫ل‪ ،‬السالكين سبيل الرادة ؛ إرادة الذين يريدون‬ ‫وهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب العتناء به على أهل طريق ا ّ‬
‫ل‪ ،‬حتى‬ ‫وجهه‪ ،‬فإنه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان ما ل يعلمه إل ا ّ‬
‫يصيروا معاونين على البغي والعدوان للمسلطين في الرض من أهل الظلم والعلو‪ ،‬كالذين يتوجهون بقلوبهم في‬
‫معاونة من يهوونه من أهل العلو في الرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم أحوال أثروا بها في ذلك كانوا بذلك‬
‫حا‪ ،‬وإن كانت‬ ‫ل ـ فإن القلوب لها من التأثير أعظم مما للبدان‪ ،‬لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صال ً‬ ‫من أولياء ا ّ‬
‫ل أخرى‪ ،‬وقد تكلم الفقهاء على وجوب‬ ‫ل تارة‪ ،‬ومكروًها ّ‬ ‫فاسدة كان تأثيرها فاسًدا‪ ،‬فالحوال يكون تأثيرها محبوًبا ّ‬
‫القود على من يقتل غيره في الباطن حيث يجب القود في ذلك ـ ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم المر الكوني‪ ،‬ويعدون‬
‫ل له‪ ،‬ول يعلمون أنه في الحقيقة‬ ‫مجرد خرق العادة لحدهم بكشف يكشف له أو بتأثير يوافق إرادته هو كرامة من ا ّ‬
‫ل لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه‪ ،‬وهو طاعته‬ ‫إهانة‪ ،‬وأن الكرامة لزوم الستقامة‪ ،‬وأن ‪/‬ا ّ‬
‫عَلْيِهْم‬
‫ف َ‬
‫خْو ٌ‬
‫ل َ‬
‫ل َ‬‫ن َأْوِلَياَء ا ِّ‬ ‫ل فيهم‪َ} :‬أ َ‬
‫ل ِإ ّ‬ ‫ل الذين قال ا ّ‬
‫وطاعة رسوله وموالة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلء هم أولياء ا ّ‬
‫َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن{]يونس‪.[62 :‬‬

‫فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين‪ ،‬وإن كانوا موافقين فيما أوجبه وأحبه فهم من المقربين‪،‬‬
‫ل به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها‪ ،‬أو‬‫مع أن كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجًبا‪ ،‬وأما ما يبتلى ا ّ‬
‫بالضراء فليس ذلك لجل كرامة العبد على ربه ول هوانه عليه‪ ،‬بل قد يسعد بها قوم إذا أطاعوه في ذلك‪ ،‬وقد يشقى‬
‫بها قوم إذا عصوه في ذلك‪.‬‬

‫ل َرّبي‬
‫عَلْيِه ِرْزَقُه َفَيُقو ُ‬
‫لُه َفَقَدَر َ‬
‫ل َرّبي َأْكَرَمِني‪َ .‬وَأّما ِإَذا َما اْبَت َ‬
‫لُه َرّبُه َفَأْكَرَمُه َوَنّعَمُه َفَيُقو ُ‬
‫ن ِإَذا َما اْبَت َ‬
‫سا ُ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬فَأّما ا ِْ‬
‫لن َ‬ ‫قال ا ّ‬
‫ل{ ]الفجر‪[15-17 :‬؛ ولهذا كان الناس في هذه المور على ثلثة أقسام‪:‬‬ ‫َأَهاَنِني‪َ .‬ك ّ‬

‫ل‪.‬‬
‫قسم ترتفع درجاتهم بخرق العادة إذا استعملوها في طاعة ا ّ‬

‫ل كبلعام وغيره‪.‬‬
‫ل إذا استعملوها في معصية ا ّ‬
‫وقوم يتعرضون بها لعذاب ا ّ‬

‫وقوم تكون في حقهم بمنزلة المباحات‪.‬‬

‫ل‪ ،‬أو‬
‫‪/‬والقسم الول‪ :‬هم المؤمنون حًقا المتبعون لنبيهم سيد ولد آدم الذي إنما كانت خوارقه لحجة يقيم بها دين ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم عن السترسال‬ ‫ل‪ .‬ولكثرة الغلط في هذا الصل نهى رسول ا ّ‬ ‫لحاجة يستعين بها على طاعة ا ّ‬
‫مع القدر بدون الحرص على فعل المأمور الذي ينفع العبد‪ ،‬فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول‬
‫ل من المؤمن الضعيف‪ ،‬وفي كل خير‪ ،‬احرص على ما‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬المؤمن القوي خير وأحب إلى ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫ل وما شاء‬
‫ل ول تعجزن‪ ،‬وإن أصابك شيء فل تقل‪ :‬لو أني فعلت كان كذا وكذا‪ ،‬ولكن قل‪ :‬قدر ا ّ‬ ‫ينفعك واستعن با ّ‬
‫فعل‪ ،‬فإن لو تفتح عمل الشيطان(‪.‬‬

‫وفي سنن أبي داود‪ :‬إن رجلين اختصما إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقضى على أحدهما‪ ،‬فقال المقضي عليه‪:‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن ال يلوم على العجز‪ ،‬ولكن علىك بالكيس‪ ،‬فإذا‬ ‫ل ونعم الوكيل‪ .‬فقال رسول ا ّ‬‫حسبي ا ّ‬
‫ل ونعم الوكيل(‪ .‬فأمر النبي صلى ال عليه وسلم المؤمن أن يحرص على ما ينفعه وأن‬ ‫غلبك أمر فقل‪ :‬حسبي ا ّ‬
‫عَلْيِه{‬
‫ل َ‬ ‫ن{ ]الفاتحة‪ ،[5 :‬وقوله تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫عُبْدُه َوَتَوّك ْ‬ ‫سَتِعي ُ‬
‫ك َن ْ‬ ‫ل‪ ،‬وهذا مطابق لقوله تعالى‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬ ‫يستعين با ّ‬
‫ل ول شىء أنفع له من‬ ‫ل وعبادته؛ إذ النافع له هو طاعة ا ّ‬ ‫]هود‪ .[123 :‬فإن الحرص على ما ينفع العبد هو طاعة ا ّ‬
‫ذلك‪ ،‬وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة وإن كان من جنس المباح‪.‬‬

‫ل إل ازددت بها‬ ‫قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لسعد‪) :‬إنك لن ‪ /‬تنفق نفقة تبتغي بها وجه ا ّ‬
‫ل يلوم على العجز الذي هو‬ ‫ي امرأتك(‪ ،‬فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن ا ّ‬ ‫درجة ورفعة‪ ،‬حتى اللقمة تضعها فى ف ّ‬
‫ضد الكيس‪ ،‬وهو التفريط فيما يؤمر بفعله‪ ،‬فإن ذلك ينافى القدرة المقارنة للفعل‪ .‬وإن كان ل ينافى القدرة المتقدمة‬
‫التي هي مناط المر والنهي‪.‬‬

‫ل تعالى في قوله‪َ} :‬ما َكاُنوا‬ ‫فإن الستطاعة التي توجب الفعل تكون مقارنة له‪ ،‬ول تصلح إل لمقدورها‪ ،‬كما ذكرها ا ّ‬
‫طيُعوَن َسْمًعا{ ]الكهف‪ .[101 :‬وأما الستطاعة التي يتعلق بها‬ ‫سَت ِ‬ ‫سْمَع{ ]هود‪ ،[20 :‬وفي قوله‪َ} :‬وَكاُنوا َ‬
‫ل َي ْ‬ ‫ن ال ّ‬
‫طيُعو َ‬
‫سَت ِ‬
‫َي ْ‬
‫ل{‬
‫سِبي ً‬
‫ع ِإَلْيِه َ‬
‫طا َ‬
‫سَت َ‬
‫نا ْ‬
‫ت َم ْ‬
‫ج اْلَبْي ِ‬
‫حّ‬‫س ِ‬
‫عَلى الّنا ِ‬ ‫المر والنهي فتلك قد يقترن بها الفعل وقد ل يقترن كما في قوله تعالى‪َ} :‬و ِّ‬
‫ل َ‬
‫]آل عمران‪ ،[97 :‬وقول النبي صلى ال عليه وسلم لعمران بن حصين‪) :‬صل قائما فإن لم تستطع فقاعًدا‪ ،‬فإن لم‬
‫تستطع فعلى جنب(‪.‬‬

‫فهذا الموضع قد انقسم الناس فيه إلى أربعة أقسام‪:‬‬

‫قـوم ينظـرون إلـى جانـب المـر والنهـي والعبـادة والطاعـة شاهديـن للهية الرب ـ سبحانه ـ الذي أمروا أن يعبدوه‪،‬‬
‫ول ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والستعانة‪ ،‬وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة‪ ،‬فهم مع حسن‬
‫ل ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلن؛ لن الستعانة بالّ والتوكل عليه‬ ‫قصدهم وتعظيمهم لحرمات ا ّ‬
‫واللجأ إلىه والدعاء له هي التي تقوى العبد وتيسر عليه المور‪.‬‬

‫ل بن عمرو؛ أن‬ ‫ل‪ .‬وفي الصحيحين عن عبد ا ّ‬ ‫‪/‬ولهذا قال بعض السلف‪ :‬من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم صفته في التوراة‪) :‬إنا أرسلناك شاهًدا ومبشًرا ونذيًرا وحرًزا للميين‪ ،‬أنت عبدي‬ ‫رسول ا ّ‬
‫خاب بالسواق‪ ،‬ول يجزى بالسيئة السيئة‪ ،‬ولكن يجزى بالسيئة‬ ‫ورسولي‪ ،‬سميتك المتوكل‪ ،‬ليس بفظ ول غليظ ول ص ّ‬
‫غْلًفا بأن يقولوا‬
‫صّما وقلوًبا ُ‬
‫الحسنة‪ ،‬ويعفو ويغفر‪ ،‬ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء‪ ،‬فأفتح به أعيًنا عميا وآذاًنا ُ‬
‫ل(‪.‬‬
‫ل إله إل ا ّ‬

‫ل‪ .‬وقد ثبت في الصحيحين عن‬ ‫ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم‪ :‬ل حول ول قوة إل با ّ‬
‫ل َفُهَو َحْسُبُه{ ]الطلق‪ ،[3 :‬وقال‬ ‫عَلى ا ِّ‬
‫ل َ‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إنها كنز من كنوز الجنة(‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َيَتَوّك ْ‬
‫ل{ إلى قوله‪:‬‬
‫ل َوِنْعَم اْلَوِكي ُ‬
‫سُبَنا ا ُّ‬‫حْ‬‫شْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا َوَقاُلوا َ‬
‫خَ‬
‫جَمُعوا َلُكْم َفا ْ‬
‫س َقْد َ‬
‫ن الّنا َ‬‫س ِإ ّ‬‫ل َلُهْم الّنا ُ‬
‫ن َقا َ‬
‫تعالى‪ :‬اّلِذي َ‬
‫ل َتَخاُفوُهْم َوَخاُفوِني ِإْن ُكْنُتْم ُمْؤِمِنيَن{ ]آل عمران‪ ،[173-175 :‬وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ـ رضي ا ّ‬
‫ل‬ ‫}َف َ‬
‫ل َوِنْعَم اْلَوِكيُل{ قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار‪ ،‬وقالها محمد صلى ال عليه‬ ‫سُبَنا ا ُّ‬
‫حْ‬‫عنه ـ في قوله‪َ} :‬وَقاُلوا َ‬
‫وسلم حين قال لهم الناس‪ :‬إن الناس قد جمعوا لكم(‪.‬‬

‫وقسم ثان‪ :‬يشهدون ربوبية الحق وافتقارهم إلىه ويستعينون به‪ ،‬لكن على أهوائهم وأذواقهم‪ ،‬غير ناظرين إلى حقيقة‬
‫أمره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته‪ ،‬وهذا حال كثير من المفتقرة والمتصوفة ؛ ولهذا كثيًرا ‪ /‬ما يعملون على‬
‫الحوال التي يتصرفون بها في الوجود‪ ،‬ول يقصدون ما يرضى الرب ويحبه‪ ،‬وكثيًرا ما يغلطون‪ ،‬فيظنون أن‬
‫معصيته هي مرضاته‪ ،‬فيعودون إلى تعطيل المر والنهي ويسمون هذا حقيقة‪ ،‬ويظنون أن هذه الحقيقة القدرية يجب‬
‫السترسال معها دون مراعاة الحقيقة المرية الدينية التي هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهًرا‬
‫وباطًنا‪.‬‬

‫وهؤلء كثيًرا ما يسلبون أحوالهم‪ ،‬وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق‪ ،‬بل كثير منهم يرتد عن السلم؛ لن‬
‫ل ونهيه فليس من المتقين‪ ،‬فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه‪ ،‬تارة‬ ‫العاقبة للتقوى‪ ،‬ومن لم يقف عند أمر ا ّ‬
‫في بدعة يظنونها شرعة‪ ،‬وتارة في الحتجاج بالقدر على المر‪ ،‬والّ ـ تعالى ـ لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة‬
‫عَلْيَها آَباَءَنا َوا ُّ‬
‫ل‬ ‫جْدَنا َ‬
‫شًة َقاُلوا َو َ‬
‫حَ‬ ‫النعام والعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالى‪َ} :‬وِإَذا َفَعُلوا َفا ِ‬
‫ل‪ ،‬وأن شرعوا ما لم‬ ‫ل َل َيْأُمُر ِباْلَفْحَشاِء{ ]العراف‪ ،[28 :‬وقد ذمهم على أن حرموا ما لم يحرمه ا ّ‬ ‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫َأَمَرَنا ِبَها ُق ْ‬
‫حّرْمَنا ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ل َ‬ ‫ل آَباُؤَنا َو َ‬
‫شَرْكَنا َو َ‬‫ل َما َأ ْ‬‫شاَء ا ُّ‬‫شَرُكوا َلْو َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫ل‪ ،‬وذكر احتجاجهم بالقدر في قوله تعالى‪َ } :‬‬
‫سَيُقو ُ‬ ‫يشرعه ا ّ‬
‫يٍء{ ]النعام‪ ،[148 :‬ونظيرها في النحل ويس والزخرف‪ .‬وهؤلء يكون فيهم شبه من هذا وهذا‪.‬‬ ‫ش ْ‬‫َ‬

‫ل واستعانته به فهؤلء شر القسام‪.‬‬


‫وأما القسم الثالث‪ :‬وهو من أعرض عن عبادة ا ّ‬

‫ل‬ ‫ن{ ]الفاتحة‪ [5 :‬وقوله‪َ} :‬فا ْ‬


‫عُبْدُه َوَتَوّك ْ‬ ‫سَتِعي ُ‬
‫ك َن ْ‬ ‫‪/‬والقسم الرابع‪ :‬هو القسم المحمود وهو حال الذين حققوا }ِإّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوإِّيا َ‬
‫َعَلْيِه{]هود‪ [123 :‬فاستعانوا به على طاعته‪ .‬وشهدوا أنه إلههم الذي ليجوز أن يعبد إل إياه بطاعته وطاعة رسوله‪،‬‬
‫س ْ‬
‫ك‬ ‫ك َلَها َوَما ُيْم ِ‬‫سَ‬‫ل ُمْم ِ‬‫حَمٍة َف َ‬‫ن َر ْ‬‫س ِم ْ‬‫ل ِللّنا ِ‬
‫ح ا ُّ‬‫شِفيٌع{ ]النعام‪ ،[51 :‬وأنه }َما َيْفَت ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ي َو َ‬ ‫ن ُدوِنِه َوِل ّ‬ ‫وإنه ربهم الذي }َلْي َ‬
‫س َلُهْم ِم ْ‬
‫ضِلِه{]يونس‪:‬‬ ‫ل َراّد ِلَف ْ‬ ‫خْيٍر َف َ‬
‫ك ِب َ‬
‫ن ُيِرْد َ‬‫ل ُهَو َوِإ ْ‬ ‫ف َلُه ِإ ّ‬
‫ش َ‬ ‫ل َكا ِ‬‫ضّر َف َ‬
‫ل ِب ُ‬‫ك ا ُّ‬
‫سَ‬‫سْ‬ ‫ن َيْم َ‬‫ن َبْعِدِه{]فاطر‪َ} ،[2 :‬وِإ ْ‬ ‫ل َلُه ِم ْ‬
‫سَ‬‫ل ُمْر ِ‬
‫َف َ‬
‫حَمِتِه{‬
‫ت َر ْ‬ ‫سَكا ُ‬‫ن ُمْم ِ‬‫ل ُه ّ‬‫حَمٍة َه ْ‬‫ضّرهِ َأْو َأَراَدِني ِبَر ْ‬‫ت ُ‬ ‫شَفا ُ‬ ‫ن َكا ِ‬‫ل ُه ّ‬
‫ضّر َه ْ‬ ‫ل ِب ُ‬
‫ن َأَراَدِني ا ُّ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ن ا ِّ‬ ‫ن ُدو ِ‬‫ن ِم ْ‬‫عو َ‬ ‫‪ُ} ،[107‬ق ْ‬
‫ل َأَفَرَأْيُتْم َما َتْد ُ‬
‫]الزمر‪.[38 :‬‬

‫ولهذا قال طائفة من العلماء‪ :‬اللتفات إلى السباب شرك في التوحيد‪ ،‬ومحو السباب أن تكون أسباب نقص في‬
‫العقل‪ ،‬والعراض عن السباب بالكلية قدح في الشرع‪ ،‬وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد‬
‫والعقل والشرع‪.‬‬

‫طا شديًدا‪ ،‬وإن كان من أعيان المشائخ ـ‬ ‫فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق‪ ،‬فقد غلط غل ً‬
‫كصاحب ]علل المقامات[ وهو من أجل المشائخ‪ ،‬وأخذ ذلك عنه صاحب ]محاسن المجالس[ ـ وظهر ضعف حجة‬
‫من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط‪ ،‬وظنه أنه ل فائدة له في تحصيل المقصود‪ ،‬وهذه حال من جعل‬
‫الدعاء كذلك‪ ،‬وذلك بمنزلة من جعل العمال المأمور بها كذلك‪ ،‬كمن اشتغل بالتوكل عما يجب عليه من ‪ /‬السباب‬
‫التي هي عبادة وطاعة مأمور بهـا‪ ،‬فإن غلـط هـذا في ترك السباب المأمور بها التي هي داخـلة في قوله تعـالى‪:‬‬
‫عَلْيِه{‬
‫ل َ‬ ‫عَلْيِه{ كغلط الول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل في قوله تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫عُبْدهُ َوَتَوّك ْ‬ ‫ل َ‬
‫عُبْدُه َوَتَوّك ْ‬
‫}َفا ْ‬
‫]هود‪.[123 :‬‬

‫ل ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة‪ ،‬وإن كان في حصول مستحبات‬ ‫لكن يقال‪ :‬من كان توكله على ا ّ‬
‫وواجبات فهو من الخاصة‪ ،‬كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه‪ ،‬ومن أعرض عن‬
‫ل ورسوله‪ ،‬بل خارج عن حقيقة اليمان‪ ،‬فكيف يكون هذا المقام للخاصة‪ ،‬قال الّ تعالى‪َ} :‬وَقا َ‬
‫ل‬ ‫التوكل فهو عاص ّ‬
‫ب َلُكْم َوِإ ْ‬
‫ن‬ ‫غاِل َ‬
‫ل َ‬‫ل َف َ‬
‫صْرُكْم ا ُّ‬ ‫ن{ ]يونس‪ ،[84 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ْ‬
‫ن َيْن ُ‬ ‫سِلِمي َ‬
‫ن ُكْنُتْم ُم ْ‬‫ل َفَعَلْيِه َتَوّكُلوا ِإ ْ‬‫ن ُكْنُتْم آَمْنُتْم ِبا ِّ‬
‫سى َياَقْوِم ِإ ْ‬ ‫ُمو َ‬
‫ل َفْلَيَتَوّكْل اْلُمْؤِمُنوَن{ ]إبراهيم‪،[11 :‬‬ ‫ن َبْعِدِه{ ]آل عمران‪ ،[160 :‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫عَلى ا ِّ‬ ‫صُرُكْم ِم ْ‬ ‫ن َذا اّلِذي َيْن ُ‬ ‫خُذْلُكْم َفَم ْ‬
‫َي ْ‬
‫عَلْيِه َيَتَوّك ُ‬
‫ل‬ ‫ل َ‬
‫سِبي ا ُّ‬
‫حْ‬‫ل َ‬ ‫ضّرِه{إلى قوله‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫ت ُ‬ ‫شَفا ُ‬
‫ن َكا ِ‬
‫ل ُه ّ‬
‫ضّر َه ْ‬
‫ل ِب ُ‬
‫ن َأَراَدِني ا ُّ‬
‫ل ِإ ْ‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬ ‫ن ِم ْ‬‫عو َ‬ ‫وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َأَفَرَأْيُتْم َما َتْد ُ‬
‫اْلُمَتَوّكُلوَن{ ]الزمر‪.[38 :‬‬

‫ل{ في جلب المنفعة تارة‪ ،‬وفي دفع المضرة أخرى‪ .‬فالولى في قوله تعالى‪َ} :‬وَلوْ‬ ‫سِبي ا ُّ‬ ‫حْ‬ ‫ل هذه الكلمة } َ‬ ‫وقد ذكر ا ّ‬
‫سوُلُه{ الية ]التوبة‪ .[59 :‬والثانية في قوله‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫ضِلِه َوَر ُ‬
‫ن َف ْ‬‫ل ِم ْ‬
‫سُيْؤِتيَنا ا ُّ‬
‫ل َ‬‫سُبَنا ا ُّ‬
‫حْ‬
‫سوُلُه َوَقاُلوا َ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ‬‫َأّنُهْم َر ُ‬
‫لُ َوِنْعَم اْلَوِكيُل{ ]آل عمران‪ ،[173 :‬وفي قوله‬ ‫سُبَنا ا ّ‬
‫حْ‬‫شْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا َوَقاُلوا َ‬‫خَ‬
‫جَمُعوا َلُكْم َفا ْ‬ ‫س َقْد َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫س ِإ ّ‬
‫ل َلُهْم الّنا ُ‬
‫َقا َ‬
‫ل‬ ‫صِرِه{ ]النفال‪ ،[26 :‬وقوله‪َ} :‬وَلْو َأّنُهْم َر ُ‬
‫ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ‬ ‫ك ِبَن ْ‬
‫ل ُهَو اّلِذي َأّيَد َ‬ ‫ك ا ُّ‬
‫سَب َ‬
‫حْ‬‫ن َ‬ ‫ك َفِإ ّ‬
‫عو َ‬ ‫خَد ُ‬‫ن َي ْ‬‫ن ُيِريُدوا َأ ْ‬‫تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ضِلِه َوَرُسوُلُه{‪ ،‬يتضمن بالرضا والتوكل‪.‬‬ ‫ن َف ْ‬‫ل ِم ْ‬‫سُيْؤِتيَنا ا ُّ‬
‫ل َ‬ ‫سُبَنا ا ُّ‬
‫حْ‬‫سوُلُه َوَقاُلوا َ‬ ‫َوَر ُ‬
‫والرضا والتوكل يكتنفان المقدور‪ ،‬فالتوكل قبل وقوعه‪ ،‬والرضا بعد وقوعه؛ ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫يقول في الصلة‪) :‬الّلهم‪ ،‬بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيًرا لي‪ ،‬وتوفني إذا كانت الوفاة‬
‫خيًرا لي‪ ،‬الّلهم‪ ،‬إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة‪ ،‬وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا‪ ،‬وأسألك القصد في‬
‫الفقر والغنى‪ ،‬وأسألك نعيًما ل ينفد‪ ،‬وأسألك قرة عين ل تنقطع‪ ،‬الّلهم‪ ،‬إني أسألك الرضا بعد القضاء‪ ،‬وأسألك بْرد‬
‫العيش بعد الموت‪ ،‬وأسألك لذة النظر إلى وجهك‪ ،‬وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ول فتنة مضلة‪،‬‬
‫الّلهم‪ ،‬زينا بزينة اليمان‪ ،‬واجعلنا هداة مهتدين( رواه أحمد والنسائي من حديث عمار بن ياسر‪.‬‬

‫وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لحقيقة الرضا؛ ولهذا كان طائفة من المشائخ يعزمون على الرضا‬
‫قبل وقوع البلء‪ ،‬فإذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره كما قال تعالى‪َ} :‬وَلقَْد ُكْنُتْم تَمّنْون‬
‫ل َتْفَعُلو َ‬
‫ن‬ ‫ن َما َ‬ ‫ن{ ]آل عمران‪ ،[143 :‬وقال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن َآَمُنوا ِلَم َتُقوُلو َ‬ ‫ظُرو َ‬ ‫ن َتْلَقْوُه َفَقْد َرَأْيُتُموُه َوَأْنُتْم َتْن ُ‬‫ل َأ ْ‬
‫ن َقْب ِ‬
‫ت ِم ْ‬‫اْلَمْو َ‬
‫ص{ ]الصف‪[2-4 :‬‬ ‫صو ٌ‬ ‫ن َمْر ُ‬ ‫صّفا َكَأّنُهْم ُبنَيا ٌ‬
‫سِبيِلهِ َ‬
‫ن ِفي َ‬
‫ن ُيَقاِتُلو َ‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬
‫ن ا َّ‬
‫ن ‪ِ .‬إ ّ‬ ‫ل َتْفَعُلو َ‬‫ن َتُقوُلوا َما َ‬ ‫ل َأ ْ‬ ‫عْنَد ا ِّ‬‫‪َ .‬كُبَر مَْقًتا ِ‬
‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ آية الجهاد‪ ،‬فكرهه‬ ‫ل لعملناه‪ ،‬فأنزل ا ّ‬ ‫نزلت هذه الية لما قالوا‪ :‬لو علمنا أي العمال أحب إلى ا ّ‬
‫من كرهه‪.‬‬

‫ولهذا كره للمرء أن يتعرض للبلء‪ ،‬بأن يوجب على نفسه ما ل يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك‪ ،‬أو‬
‫يطلب ولية‪ ،‬أو يقدم على بلد فيه طاعون‪ .‬كما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫نهى عن النذر‪ ،‬وقال‪) :‬إنه ل يأتي بخير‪ ،‬وإنما يستخرج به من البخيل(‪ ،‬وثبت عنه في الصحيحين أنه قال لعبد‬
‫عْنت‬‫ت إلىها‪ ،‬وإن أعطيتها من غير مسألة أ ِ‬
‫سُمَرة‪) :‬ل تسأل المارة‪ ،‬فإنك إن أعطيتها عن مسألة وِكْل َ‬ ‫الرحمن بن َ‬
‫عليها‪ ،‬وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيًرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك(‪ .‬وثبت عنه في الصحيحين‬
‫أنه قال في الطاعون‪) :‬إذا سمعتم به بأرض فل تقدموا عليه‪ ،‬وإذا وقع بأرض وأنتم بها فل تخرجوا فراًرا منه(‪،‬‬
‫ل العافية‪ ،‬ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا‪ ،‬واعلموا أن‬‫وثبت عنه في الصحيحين أنه قال‪) :‬ل تتمنوا لقاء العدو واسألوا ا ّ‬
‫الجنة تحت ظلل السيوف( وأمثال ذلك مما يقتضي أن النسان ل ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء ويحرم‬
‫ل عهوًدا على أمور‪ ،‬وغالب هؤلء يبتلون بنقض العهود‪.‬‬ ‫عليه أشياء فيبخل بالوفاء‪ ،‬كما يفعل كثير ممن يعاهد ا ّ‬

‫ويقتضي أن النسان إذا ابتلى فعليه أن يصبر ويثبت ول ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات‪.‬‬
‫ولبد في جميع ذلك من ‪ /‬الصبر؛ ولهذا كان الصبر واجًبا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات‪ ،‬وترك المحظورات‪.‬‬
‫ل عنه‪.‬‬
‫ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها‪ ،‬والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى ا ّ‬

‫لِة‬
‫صَ‬‫صْبِر َوال ّ‬ ‫ل الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضًعا‪ ،‬وقرنه بالصلة في قوله تعالى‪َ} :‬وا ْ‬
‫سَتِعيُنوا ِبال ّ‬ ‫وقد ذكر ا ّ‬
‫صاِبِريَن{ ]البقرة‪ ،[153 :‬وقوله‪:‬‬ ‫ل َمَع ال ّ‬ ‫ن ا َّ‬‫لِة ِإ ّ‬
‫صَ‬‫صْبِر َوال ّ‬ ‫سَتِعيُنوا ِبال ّ‬‫ن{ ]البقرة‪} ،[45 :‬ا ْ‬ ‫شِعي َ‬
‫خا ِ‬‫عَلى اْل َ‬ ‫ل َ‬‫َوِإّنَها َلَكِبيَرٌة ِإ ّ‬
‫ن{ ]هود‪َ} [115 ،114 :‬فا ْ‬
‫صِبْر‬ ‫سِني َ‬
‫حِ‬ ‫جَر اْلُم ْ‬
‫ضيُع َأ ْ‬
‫ل ُي ِ‬ ‫ل َ‬‫ن ا َّ‬ ‫ل{إلى قوله‪َ} :‬وا ْ‬
‫صِبْر َفِإ ّ‬ ‫ن الّلْي ِ‬
‫طَرِفي الّنَهاِر َوُزَلًفا ِم ْ‬ ‫لَة َ‬‫صَ‬ ‫}َوَأِقْم ال ّ‬
‫ك{الية‬ ‫سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ‬
‫ق َوا ْ‬
‫حّ‬‫ل َ‬ ‫عَد ا ِّ‬
‫ن َو ْ‬ ‫غُروِبَها{ ]طه‪َ} ،[130 :‬فا ْ‬
‫صِبْر ِإ ّ‬ ‫ل ُ‬ ‫س َوَقْب َ‬
‫شْم ِ‬
‫ع ال ّ‬
‫طُلو ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫ك َقْب َ‬
‫حْمِد َرّب َ‬
‫ح ِب َ‬‫سّب ْ‬
‫ن َو َ‬
‫عَلى َما َيُقوُلو َ‬ ‫َ‬
‫]غافر‪.[55 :‬‬

‫صَبُروا َوَكاُنوا ِبآَياِتَنا‬


‫ن ِبَأْمِرَنا َلّما َ‬ ‫ل الَمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله‪َ} :‬و َ‬
‫جَعْلَنا ِمْنُهْم َأِئّمًة َيْهُدو َ‬ ‫جع َ‬
‫وَ‬
‫ُيوِقُنوَن{ ]السجدة‪ ،[24 :‬فإن الدين كله علم بالحق وعمل به‪ ،‬والعمل به لبد فيه من الصبر‪ ،‬بل وطلب علمه يحتاج‬
‫ل عبادة‪ ،‬ومعرفته خشية‪ ،‬والبحث عنه‬ ‫ل عنه‪ :‬علىكم بالعلم فإن طلبه ّ‬‫إلى الصبر‪ .‬كما قال معاذ بن جبل ـ رضي ا ّ‬
‫ل بالعلم‬
‫ل ويوحد‪ ،‬يرفع ا ّ‬
‫ل ويعبد‪ ،‬وبه يمجد ا ّ‬
‫جهاد‪ ،‬وتعلىمه لمن ل يعلمه صدقة‪ ،‬ومذاكرته تسبيح‪ ،‬به يعرف ا ّ‬
‫أقواًما يجعلهم للناس قادة وأئمة يهتدون بهم‪ ،‬وينتهون إلى رأيهم‪.‬‬

‫ل‬
‫سٍر ‪ِ .‬إ ّ‬
‫خْ‬‫ن َلِفي ُ‬ ‫سا َ‬ ‫لن َ‬‫ن ا ِْ‬ ‫فجعل البحث عن العلم من الجهاد‪ ،‬ولبد في الجهاد من الصبر؛ ولهذا ‪ /‬قال تعالى‪َ} :‬واْلَع ْ‬
‫صِر‪ِ .‬إ ّ‬
‫صْبِر{ ]سورة العصر[‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬واْذُكْر ِ‬
‫عَباَدَنا إْبَراِهيَم‬ ‫صْوا ِبال ّ‬
‫ق َوَتَوا َ‬
‫حّ‬‫صْوا ِباْل َ‬‫ت َوَتَوا َ‬
‫حا ِ‬
‫صاِل َ‬‫عِمُلوا ال ّ‬
‫ن آمَُنوا َو َ‬
‫اّلِذي َ‬
‫صاِر{ ]ص‪.[45 :‬‬ ‫لْب َ‬
‫لْيِدي َوا َْ‬
‫ب ُأْوِلي ا َْ‬
‫ق َوَيْعُقو َ‬
‫حا َ‬
‫سَ‬
‫َوِإ ْ‬

‫فالعلم النافع هو أصل الهدى‪ ،‬والعمل بالحق هو الرشاد‪ ،‬وضد الول الضلل‪ ،‬وضد الثاني الغي‪ ،‬فالضلل العمل‬
‫صاِحُبُكْم َوَما َغَوى{ ]النجم‪ ،[2 ،1 :‬فل ينال الهدى‬
‫ل َ‬
‫ضّ‬ ‫بغير علم‪ ،‬والغي اتباع الهوى‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬والّن ْ‬
‫جِم ِإَذا َهَوى ‪َ .‬ما َ‬
‫إل بالعلم‪ ،‬ول ينال الرشاد إل بالصبر‪ ،‬ولهذا قال على‪ :‬أل إن الصبر من اليمان بمنزلة الرأس من الجسد ـ فإذا‬
‫انقطع الرأس بان الجسد ـ ثم رفع صوته فقال‪ :‬أل ل إيمان لمن ل صبر له‪.‬‬

‫وأما الرضا‪ ،‬فقد تنازع العلماء والمشائخ من أصحاب المام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء‪ :‬هل هو واجب أو‬
‫مستحب ؟ على قولين‪ :‬فعلى الول يكون من أعمال المقتصدين‪ ،‬وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين‪ .‬قال عمـر‬
‫بن عبـد العزيز‪ :‬الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن‪ .‬وقد روى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لبن‬
‫ل بالرضا مع اليقين فافعل‪ ،‬فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيًرا كثيًرا"‪.‬‬
‫عباس‪ " :‬إن استطعت أن تعمل ّ‬

‫‪/‬ولهذا لم يجئ في القرآن إل مدح الراضين ل إيجاب ذلك وهذا في الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب‪،‬‬
‫س{]البقرة‪ ،[177 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ن اْلَبْأ ِ‬
‫حي َ‬
‫ضّراِء َو ِ‬
‫ساِء َوال ّ‬ ‫ن ِفي اْلَبْأ َ‬‫صاِبِري َ‬ ‫كالمرض والفقر والزلزال‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وال ّ‬
‫ضّراُء َوُزْلِزُلوا{ ]البقرة‪ ،[214 :‬فالبأساء في‬‫ساُء َوال ّ‬
‫سْتُهْم اْلَبْأ َ‬‫ن َقْبِلُكْم َم ّ‬
‫خَلْوا ِم ْ‬
‫ن َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫جّنَة َوَلّما َيْأِتُكْم َمَث ُ‬
‫خُلوا اْل َ‬
‫ن َتْد ُ‬
‫حسِْبُتْم َأ ْ‬
‫}َأْم َ‬
‫الموال‪ ،‬والضراء في البدان‪ ،‬والزلزال في القلوب‪.‬‬

‫ل به‪ ،‬فأصله واجب‪ ،‬وهو من اليمان كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪:‬‬ ‫وأما الرضا بما أمر ا ّ‬
‫لـ‬
‫ل رًبا‪ ،‬وبالسلم ديًنا‪ ،‬وبمحمد نبًيا(‪ ،‬وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء ا ّ‬ ‫)ذاق طعم اليمان من رضى با ّ‬
‫سّلُموا‬
‫ت َوُي َ‬ ‫ضْي َ‬‫جا ِمّما َق َ‬
‫حَر ً‬
‫سِهْم َ‬
‫جُدوا ِفي َأنُف ِ‬
‫ل َي ِ‬
‫جَر َبْيَنُهْم ُثّم َ‬‫شَ‬ ‫ك ِفيَما َ‬ ‫حّكُمو َ‬ ‫حّتى ُي َ‬
‫ن َ‬ ‫ل ُيْؤِمُنو َ‬
‫ك َ‬ ‫ل َوَرّب َ‬‫تعالى ـ قال تعالى‪َ} :‬ف َ‬
‫ل{ الية ]التوبة‪ ،[59 :‬وقال‬ ‫سُبَنا ا ُّ‬
‫حْ‬
‫سوُلُه َوَقاُلوا َ‬
‫ل َوَر ُ‬ ‫ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ‬ ‫سِليًما{]النساء‪ ،[65 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلْو َأّنُهْم َر ُ‬ ‫َت ْ‬
‫ل ِمْنُهْم‬ ‫عَماَلُهْم{ ]محمد‪ ،[28 :‬وقال تعالى‪َ} :‬مَنَعُهْم َأ ْ‬
‫ن ُتْقَب َ‬ ‫ط َأ ْ‬
‫حَب َ‬
‫ضَواَنُه َفَأ ْ‬
‫ل َوَكِرُهوا ِر ْ‬ ‫ط ا َّ‬
‫خَ‬ ‫سَ‬ ‫تعالى‪َ} :‬ذِل َ‬
‫ك ِبَأّنُهْم اّتَبُعوا َما َأ ْ‬
‫لَة ِإّل َوُهْم ُكَساَلى َوَل ُينِفُقوَن ِإّل َوُهْم َكاِرُهوَن{]التوبة‪.[54 :‬‬ ‫صَ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ل َيْأُتو َ‬
‫سوِلِه َو َ‬‫ل َوِبَر ُ‬‫ل َأّنُهْم َكَفُروا ِبا ِّ‬‫َنَفَقاُتُهْم ِإ ّ‬

‫ومن النوع الول‪ :‬ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن سعد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪_ :‬من سعادة ابن‬
‫ل له(‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وسخطه بما يقسم ا ّ‬
‫ل له‪ ،‬ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته ّ‬
‫ل‪ ،‬ورضاه بما قسم ا ّ‬
‫آدم استخارته ‪ّ /‬‬

‫وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬فأكثر العلماء يقولون‪ :‬ل يشرع الرضا بها‪ ،‬كما ل تشرع‬
‫ساَد{‬
‫ب اْلَف َ‬
‫ح ّ‬‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬‫ل ـ سبحانه ـ ل يرضاها ول يحبها‪ ،‬وإن كان قد قدرها وقضاها كما قال سبحانه‪َ} :‬وا ُّ‬ ‫محبتها‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫ضى ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ل َيْر َ‬‫ن َما َ‬ ‫ضى ِلِعَباِدِه اْلُكْفَر{]الزمر‪ ،[7 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وُهَو َمَعُهْم ِإْذ ُيَبّيُتو َ‬ ‫]البقرة‪ ،[205 :‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َيْر َ‬
‫عَماَلُهْم{‬
‫ط َأ ْ‬
‫حَب َ‬
‫ضَواَنُه َفَأ ْ‬
‫ل َوَكِرُهوا ِر ْ‬ ‫ط ا َّ‬
‫خَ‬‫سَ‬ ‫ل{ ]النساء‪ ،[108 :‬بل يسخطها كما قال تعالى‪َ} :‬ذِل َ‬
‫ك ِبَأّنُهْم اّتَبُعوا َما َأ ْ‬ ‫اْلَقْو ِ‬
‫]محمد‪.[28 :‬‬

‫ل وكسًبا‪ .‬وهذا‬
‫ل خلًقا‪ ،‬وتسخط من جهة كونها مضافة إلى العبد فع ً‬
‫وقالت طائفة‪ :‬ترضى من جهة كونها مضافة إلى ا ّ‬
‫القول ل ينافي الذي قبله‪ ،‬بل هما يعودان إلى أصل واحد‪ .‬وهو ـ سبحانه ـ إنما قدر الشياء لحكمة‪ ،‬فهي باعتبار تلك‬
‫الحكمة محبوبة مرضية‪ ،‬وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة؛ إذ الشىء الواحد يجتمع فيه وصفان يحب من‬
‫أحدهما ويكره من الخر‪ ،‬كما في الحديث الصحيح‪) :‬ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي‬
‫المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولبد له منه(‪.‬‬

‫ل وفعله ل بالمقضي الذي ‪ /‬هو مفعوله‪ ،‬فهو خروج منه عن مقصود‬ ‫وأما من قال بالرضا بالقضاء الذي هو وصف ا ّ‬
‫الكلم‪ ،‬فإن الكلم ليس في الرضا فيما يقوم بذات الرب ـ تعالى ـ من صفاته وأفعاله‪ ،‬وإنما الكلم في الرضا‬
‫بمفعولته‪ .‬والكلم فيما يتعلق بهذا قد بيناه في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والرضا وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد‪ ،‬حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا؛ولهذا جاء في الكتاب‬
‫ل على كل حال‪ ،‬وذلك يتضمن الرضا بقضائه‪ ،‬وفي الحديث‪) :‬أول من يدعى إلى الجنة‪ :‬الحمادون‬ ‫والسنة حمد ا ّ‬
‫ل في السراء والضراء(‪ ،‬وروى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان إذا أتاه المر يسره قال‪:‬‬ ‫الذين يحمدون ا ّ‬
‫ل على كل حال(‪ .‬وفي مسند المام‬ ‫ل الذي بنعمته تتم الصالحات(‪ ،‬وإذا أتاه المر الذي يسوؤه قال‪) :‬الحمد ّ‬‫)الحمد ّ‬
‫ل لملئكته‪ :‬أقبضتم ولد‬
‫أحمد عن أبي موسى الشعري عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إذا قبض ولد العبد يقول ا ّ‬
‫عبدي؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيقول‪ :‬أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيقول‪ :‬ماذا قال عبدي ؟ فيقولون‪ :‬حمدك واسترجع‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬ابنوا لعبدي بيًتا في الجنة‪ ،‬وسموه بيت الحمد(‪ ،‬ونبينا محمد صلى ال عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد‪،‬‬
‫ل على السراء والضراء‪ .‬والحمد على الضراء يوجبه مشهدان‪:‬‬ ‫وأمته هم الحمادون الذين يحمدون ا ّ‬
‫ل ـ سبحانه ـ مستوجب لذلك‪ ،‬مستحق له لنفسه‪ ،‬فإنه أحسن كل شيء خلقه‪ ،‬وأتقن كل شيء‪،‬‬
‫أحدهما‪ :‬علم العبد بأن ا ّ‬
‫وهو العلىم الحكيم‪ ،‬الخبير الرحيم‪.‬‬

‫ل لعبده المؤمن‪ ،‬خير من اختياره لنفسه‪ ،‬كما روى مسلم في صحيحه‪ ،‬وغيره عن النبي‬ ‫‪/‬والثاني‪ :‬علمه بأن اختيار ا ّ‬
‫ل للمؤمن قضاء إل كان خيًرا له‪ ،‬وليس ذلك لحد إل‬‫صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬والذي نفسي بيده ل يقضي ا ّ‬
‫للمؤمن‪ ،‬إن أصابته سراء شكر فكان خيًرا له‪ ،‬وإن أصابته ضراء صبر فكان خيًرا له(‪.‬‬

‫ل للمؤمن الذي يصبر على البلء ويشكر على السراء فهو‬


‫فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن كل قضاء يقضيه ا ّ‬
‫صّباٍر َشُكوٍر{ ]إبراهيم‪ ،5 :‬لقمان‪ ،31 :‬سبأ‪ ،19 :‬الشورى‪ [33 :‬وذكرهما‬
‫ل َ‬
‫ت ِلُك ّ‬
‫لَيا ٍ‬
‫ك َ‬ ‫خير له‪ .‬قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِفي َذِل َ‬
‫في أربعة مواضع من كتابه‪.‬‬

‫فأما من ل يصبر على البلء‪ ،‬ول يشكر على الرخاء‪ ،‬فل يلزم أن يكون القضاء خيًرا له؛ ولهذا أجيب من أورد هذا‬
‫على ما يقضي على المؤمن من المعاصي بجوابين‪:‬‬

‫ل{ أي‪ :‬من‬ ‫نا ّ‬ ‫سَنٍة َفِم َ‬


‫حَ‬‫ن َ‬ ‫ك ِم ْ‬
‫صاَب َ‬ ‫أحدهما‪ :‬أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد ل ما فعله العبد‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ّ} :‬ما َأ َ‬
‫ت َلَعّلُهْم‬
‫سّيَئا ِ‬
‫ت َوال ّ‬ ‫سَنا ِ‬‫حَ‬‫ك{]النساء‪ [79 :‬أي‪ :‬من ضراء‪ ،‬وكقوله تعالى‪َ} :‬وَبَلْوَناُهْم ِباْل َ‬ ‫سَ‬‫ن َنْف ِ‬
‫سّيَئٍة َفِم ْ‬
‫ن َ‬‫ك ِم ْ‬ ‫سراء‪َ} ،‬وَما َأ َ‬
‫صاَب َ‬
‫َيْرِجُعوَن{ ]العراف‪ [168 :‬أي‪ :‬بالسراء والضراء‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَنْبُلوُكْم ِبالّشّر َواْلَخْيِر ِفْتَنًة{ ]النبياء‪ ،[35 :‬وقال‬
‫صْبُكْم َسّيَئٌة َيْفَرُحوا ِبَها{ ]آل عمران‪ ،[120 :‬فالحسنات والسيئات يراد بها المسار‬ ‫ن ُت ِ‬
‫سْؤُهْم َوِإ ْ‬‫سَنٌة َت ُ‬
‫حَ‬‫سُكْم َ‬‫سْ‬ ‫تعالى‪ِ} :‬إ ْ‬
‫ن َتْم َ‬
‫والمضار‪ ،‬ويراد بها الطاعات والمعاصي‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وقد ترتفع‬ ‫والجواب الثاني‪ :‬أن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور‪ .‬والذنوب تنقص اليمان‪ ،‬فإذا تاب العبد أحبه ا ّ‬
‫درجته بالتوبة‪ .‬قال بعض السلف‪ :‬كان داود بعد التوبة خيًرا منه قبل الخطيئة‪ ،‬فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد‬
‫بن جبير‪ :‬إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار‪ ،‬وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة‪ .‬وذلك أنه يعمل الحسنة‬
‫ل ويتوب إلىه منها‪ .‬وقـد ثبـت في‬ ‫فتكون نصب عينه ويعجب بها‪ ،‬ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر ا ّ‬
‫الصحيـح عـن النبـي صلى ال عليه وسلم أنـه قـال‪) :‬العمـال بالخواتيم(‪ .‬والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع‬
‫عنه بعشرة أسباب‪:‬‬

‫ل عليه‪ ،‬فإن التائب من الذنب كمن ل ذنب له‪ ،‬أو يستغفر فيغفر له‪ ،‬أو يعمل حسنات تمحوها‪ ،‬فإن‬ ‫أن يتوب فيتوب ا ّ‬
‫الحسنات يذهبن السيئات‪ ،‬أو يدعوا له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حًيا وميًتا‪ ،‬أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما‬
‫ل به‪ ،‬أو يشفع فيه نبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أو يبتليه الّ ـ تعالى ـ في الدنيا بمصائب تكفر عنه‪ ،‬أو‬
‫ينفعه ا ّ‬
‫يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه‪ ،‬أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه‪ ،‬أو يرحمه أرحم‬
‫الراحمين‪.‬‬

‫‪/‬فمن أخطأته هذه العشرة‪ ،‬فل يلومن إل نفسه‪ ،‬كما قال ـ تعالى ـ فيما يروي عنه رسوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬يا‬
‫ل‪ ،‬ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل‬
‫عبادي‪ ،‬إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها‪ ،‬فمن وجد خيًرا فليحمد ا ّ‬
‫نفسه(‪.‬‬

‫ل وعلم أن من سعادة ابن آدم‬


‫فإذا كان المؤمن يعلم أن القضاء خير له إذا كان صباًرا شكوًرا‪ ،‬أو كان قد استخار ا ّ‬
‫ل عنه ـ‬ ‫ل له‪ ،‬كان قد رضى بما هو خيرله‪ ،‬وفي الحديث الصحيح عن على ـ رضي ا ّ‬ ‫ل ورضاه بما قسم ا ّ‬
‫استخارته ّ‬
‫ل يقضي بالقضاء‪ ،‬فمن رضى فله الرضا‪ ،‬ومن سخط فله السخط(‪ .‬ففي هذا الحديث الرضا والستخارة‪،‬‬ ‫قال‪) :‬إن ا ّ‬
‫فالرضا بعد القضاء والستخارة قبل القضاء‪ ،‬وهذا أكمل من الضراء والصبر؛ فلهذا ذكر في ذاك الرضا‪ ،‬وفي هذا‬
‫الصبر‪.‬‬

‫ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيًرا له‪ ،‬فكيف مع الرضا؟ ولهذا جاء في الحديث‪) :‬المصاب من حرم الثواب( في‬
‫ل يقول‪ :‬يا آل بيت رسول ا ّ‬
‫ل‬ ‫الثر الذي رواه الشافعي في مسنده‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم لما مات سمعوا قائ ً‬
‫ل فثقوا‪ ،‬وإياه‬
‫ل عزاء من كل مصيبة‪ ،‬وخلًفا من كل هالك‪ ،‬ودرًكا من كل فائت‪ ،‬فبا ّ‬ ‫صلى ال عليه وسلم إن في ا ّ‬
‫فارجوا‪ ،‬فإن المصاب من حرم الثواب ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط‪ ،‬مع أنه ل فائدة فيه‪ ،‬فقد يكون فيه‬
‫ل‪.‬‬
‫مضرة لكنه يعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه ا ّ‬

‫‪/‬لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب‪ ،‬وذلك ل ينافى الرضا‪ ،‬بخلف البكاء عليه لفوات حظه‬
‫ل في قلوب‬‫منه‪ ،‬وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى ال عليه وسلم لما بكى على الميت وقال‪) :‬إن هذه رحمة جعلها ا ّ‬
‫ل من عباده الرحـماء(‪ ،‬فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه ل لرحمة الميت‪ ،‬فإن الفضيل بن‬ ‫عباده‪ ،‬وإنما يرحم ا ّ‬
‫ل به‪ ،‬حاله حال حسن‬ ‫ل قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى ا ّ‬ ‫عياض لما مات ابنه على فضحـك وقال‪ :‬رأيت أن ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ كحال النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫بالنسبة إلى أهل الجزع‪ .‬وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد ا ّ‬
‫صْوا ِباْلَمْرَحَمِة{ ]البلد‪ ،[17 :‬فذكر ـ سبحانه ـ‬
‫صْبِر َوَتَوا َ‬
‫صْوا ِبال ّ‬
‫ن آَمُنوا َوَتَوا َ‬
‫ن اّلِذي َ‬ ‫فهذا أكمل‪ .‬كـما قال تعالى‪ُ} :‬ثّم َكا َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫التواصي بالصبر والمرحمة‪.‬‬

‫والناس أربعة أقسام‪ :‬منهم من يكون فيه صبر بقسوة‪ .‬ومنهم مـن يكـون فيه رحمة بجزع‪ .‬ومنهم من يكون فيه القسوة‬
‫والجزع‪ .‬والمؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه ويرحم الناس‪.‬‬

‫ل من توابع المحبة له‪ ،‬وهذا إنما يتوجه على المأخذ الول‬ ‫وقد ظن طائفة من المصنفين في هذا الباب أن الرضا عن ا ّ‬
‫وهو الرضا عنه لستحقاقه ذلك بنفسه‪ ،‬مع قطع العبد النظر عن حظه‪ ،‬بخلف المأخذ الثاني وهو‪ :‬الرضا لعلمه بأن‬
‫المقضي خير له‪ ،‬ثم إن المحبة متعلقة به والرضا متعلق بقضائه‪ ،‬لكن قد يقال في تقرير ما قال هذا المصنف ونحوه‪.‬‬
‫إن المحبة ل نوعان‪ / :‬محبة له نفسه‪ ،‬ومحبة له لما فيه من الحسان‪ ،‬وكذلك الحمد له نوعان‪ :‬حمد له على ما‬
‫يستحقه نفسه‪ ،‬وحمد على إحسانه إلى عبده‪ ،‬فالنوعان للرضا كالنوعين للمحبة‪.‬‬

‫وأما الرضا به وبدينه وبرسوله‪ ،‬فذلك من حظ المحبة‪ ،‬ولهذا ذكر النبي صلى ال عليه وسلم ذوق طعم اليمان‪ ،‬كما‬
‫ذكر في المحبة وجود حلوة اليمان‪ .‬وهذان الحديثان الصحيحان هما أصل فيما يذكر من الوجد والذوق اليماني‬
‫الشرعي‪ ،‬دون الضللي البدعي‪ .‬ففي صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ذاق طعم اليمان من‬
‫ل ربا وبالسلم دينا وبمحمد نبيا(‪ ،‬وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ثلث من كن‬ ‫رضي با ّ‬
‫ل‪ ،‬ومن‬‫ل ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ‬ ‫فيه وجد بهن حلوة اليمان‪ :‬أن يكون ا ّ‬
‫ل منه‪ ،‬كما يكره أن يلقى في النار(‪ .‬وهذا مما يبين من الكلم على المحبة‬
‫كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ‬
‫فنقول‪:‬‬

‫َفصــل‬

‫ل ورسوله من أعظم واجبات اليمان وأكبر أصوله وأجل قواعده‪ ،‬بل هي أصل كل عمل من‬ ‫ل؛ بل محبة ا ّ‬
‫محبة ا ّ‬
‫أعمال اليمان والدين‪ ،‬كما أن ‪ /‬التصديق به أصل كل قول من أقوال اليمان والدين‪ ،‬فإن كل حركة في الوجود إنما‬
‫تصدر عن محبة‪ :‬إما عن محبة محمودة‪ ،‬أو عن محبة مذمومة‪ ،‬كما قد بسطنا ذلك في قاعدة المحبة من القواعد‬
‫الكبار‪.‬‬

‫ل ـ سبحانه‬‫فجميع العمال اليمانية الدينية ل تصدر إل عن المحبة المحمودة‪ .‬وأصل المحبة المحمودة هي محبة ا ّ‬
‫حا‪ ،‬بل جميع العمال اليمانية الدينية ل‬
‫ل صال ً‬
‫ل ل يكون عم ً‬‫وتعالى ـ إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ ل يقبل من العمل إل ما أريد به وجهه‪ ،‬كما ثبت في الصحيح عن النبي‬ ‫ل‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫تصدر إل عن محبة ا ّ‬
‫ل فأشرك فيه غيري فأنا‬ ‫ل تعالى‪ :‬أنا أغنى الشركاء عن الشرك‪ ،‬فمن عمل عم ً‬ ‫صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬يقول ا ّ‬
‫منه بريء وهو كله للذي أشرك(‪ ،‬وثبت في الصحيح حديث الثلثة الذين هم أول من تسعر بهم النار‪ :‬القارئ‬
‫المرائي‪ ،‬والمجاهد المرائي‪ ،‬والمتصدق المرائي‪.‬‬

‫ل سواه‪ ،‬وهو الذي بعث به الولين والخرين من الرسل‪ ،‬وأنزل به‬‫ل هو الدين الذي ل يقبل ا ّ‬
‫بل إخلص الدين ّ‬
‫جميع الكتب‪ ،‬واتفق عليه أئمة أهل اليمان‪ ،‬وهذا هو خلصة الدعوة النبوية‪ ،‬وهو قطب القرآن الذي تدور عليه‬
‫رحاه‪.‬‬
‫ص{‬ ‫خاِل ُ‬ ‫ن اْل َ‬
‫ل الّدي ُ‬ ‫ل ِّ‬ ‫ن ‪َ .‬أ َ‬‫صا َلُه الّدي َ‬
‫خِل ً‬‫ل ُم ْ‬‫عُبْد ا َّ‬
‫ق َفا ْ‬‫حّ‬ ‫ب ِباْل َ‬‫ك اْلِكَتا َ‬‫حِكيِم ‪ِ .‬إّنا َأنَزْلَنا ِإَلْي َ‬‫ل اْلَعِزيِز اْل َ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ب ِم ْ‬‫ل اْلِكَتا ِ‬‫قال تعالى‪َ} :‬تْنِزي ُ‬
‫لْ‬
‫ن‬ ‫ت َِ‬‫ن ‪َ .‬وُأِمْر ُ‬ ‫صا َلُه الّدي َ‬
‫خِل ً‬‫ل ُم ْ‬‫عُبَد ا َّ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ت َأ ْ‬
‫ل ِإّني ُأِمْر ُ‬ ‫]الزمر‪1 :‬ـ ‪ ،[3‬والسورة كلها عامتها في هذا المعنى‪ ،‬كقوله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫س ا ُّ‬
‫ل‬ ‫صا َلُه ِديِني{ ]الزمر‪ ،[14 :‬إلى قوله‪َ} :‬أَلْي َ‬ ‫خِل ً‬ ‫عُبُد ُم ْ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ل ا َّ‬ ‫ن{ ]الزمر‪ [12 ،11 :‬إلى قوله‪ُ} / :‬ق ْ‬ ‫سِلِمي َ‬
‫ل اْلُم ْ‬‫ن َأوّ َ‬‫َأُكو َ‬
‫ل ُه ّ‬
‫ن‬ ‫ضّر َه ْ‬‫ل ِب ُ‬ ‫ن َأَراَدِني ا ُّ‬‫ل ِإ ْ‬
‫ن ا ِّ‬‫ن ُدو ِ‬ ‫ن ِم ْ‬‫عو َ‬ ‫ن ُدوِنِه{ ]الزمر‪ [36 :‬إلى قوله‪َ} :‬أَفَرَأْيُتْم َما َتْد ُ‬ ‫ن ِم ْ‬‫ك ِباّلِذي َ‬
‫خّوُفوَن َ‬ ‫عْبَدُه َوُي َ‬
‫ف َ‬ ‫ِبَكا ٍ‬
‫ل ِّ‬
‫ل‬ ‫ن ‪ُ .‬ق ْ‬‫شْيًئا َولَ َيْعِقُلو َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل َيْمِلُكو َ‬‫ل َأَوَلْو َكاُنوا َ‬ ‫شَفَعاَء ُق ْ‬‫ل ُ‬ ‫ن ا ِّ‬‫ن ُدو ِ‬ ‫خُذوا ِم ْ‬ ‫ضّرِه{ الية ]الزمر‪ [38 :‬إلى قوله‪َ} :‬أْم اّت َ‬ ‫ت ُ‬ ‫شَفا ُ‬ ‫َكا ِ‬
‫خَرِة َوِإَذا ُذِكَر‬‫لِ‬ ‫ن ِبا ْ‬ ‫ل ُيْؤِمُنو َ‬
‫ن َ‬ ‫ب اّلِذي َ‬
‫ت ُقُلو ُ‬ ‫شَمَأّز ْ‬ ‫حدَهُ ا ْ‬‫ل َو ْ‬ ‫ن ‪َ .‬وِإَذا ُذِكَر ا ُّ‬ ‫جُعو َ‬ ‫ض ُثّم ِإَلْيِه ُتْر َ‬
‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َْ‬‫سَماَوا ِ‬‫ك ال ّ‬ ‫جِميًعا َلُه ُمْل ُ‬ ‫عُة َ‬ ‫شَفا َ‬‫ال ّ‬
‫ل َتْأُمُروَنِني َأْعُبُد َأّيَها اْلَجاِهُلوَن{]الزمر‪[64 :‬‬ ‫ل َأَفَغْيَر ا ِّ‬ ‫ن{ ]الزمر‪ 43 :‬ـ ‪ [45‬إلى قولـه‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫شُرو َ‬ ‫سَتْب ِ‬
‫ن ِمنْ ُدوِنِه ِإَذا ُهْم َي ْ‬ ‫اّلِذي َ‬
‫ل َفاْعُبْد َوُكْن ِمْن الّشاِكِريَن{ ]الزمر‪.[66 :‬‬ ‫إلى قوله‪َ} :‬ب ْ‬
‫ل ا َّ‬

‫صيَن{ ]ص‪،82 :‬‬ ‫خَل ِ‬ ‫ك ِمْنُهْم اْلُم ْ‬


‫عَباَد َ‬
‫ل ِ‬‫ن ‪ِ .‬إ ّ‬
‫جَمِعي َ‬‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬
‫لْ‬ ‫ك َُ‬‫وقال تعالى فيما قصه من قصة آدم وإبليس أنه قال‪َ} :‬فِبِعّزِت َ‬
‫طا ٌ‬
‫ن‬ ‫سْل َ‬
‫س َلُه ُ‬ ‫ن{ ]الحجر‪ ،[42 :‬وقال‪ِ} :‬إّنُه َلْي َ‬ ‫ن اْلَغاِوي َ‬ ‫ك ِم ْ‬‫ن اّتَبَع َ‬
‫ل َم ْ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫طا ٌ‬
‫سْل َ‬
‫عَلْيِهْم ُ‬
‫ك َ‬
‫س َل َ‬
‫عَباِدي َلْي َ‬ ‫ن ِ‬ ‫‪ ،[83‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫طاُنُه َعَلى اّلِذيَن َيَتَوّلْوَنُه َواّلِذيَن ُهْم ِبِه ُمْشِرُكوَن{ ]النحل‪ ،[100 ،99 :‬فبين أن‬ ‫سْل َ‬
‫ن ‪ِ .‬إّنَما ُ‬
‫عَلى َرّبِهْم َيَتَوّكُلو َ‬
‫ن آَمُنوا َو َ‬‫عَلى اّلِذي َ‬
‫َ‬
‫شاَء ِإّنُه‬
‫حَ‬ ‫سوَء َواْلَف ْ‬ ‫عْنُه ال ّ‬‫ف َ‬ ‫صِر َ‬ ‫سلطان الشيطان وإغواءه إنما هو لغير المخلصين؛ ولهذا قال في قصة يوسف‪َ} :‬كَذِل َ‬
‫ك ِلَن ْ‬
‫ن َتِبَع َ‬
‫ك‬ ‫ك َوِمّم ْ‬ ‫جَهّنَم ِمْن َ‬
‫ن َ‬ ‫لّ‬ ‫لْم َ‬ ‫ن{]يوسف‪ ،[24 :‬وأتباع الشيطان هم أصحاب النار‪ ،‬كما قال تعالى‪َ } :‬‬ ‫صي َ‬‫خَل ِ‬
‫عَباِدَنا اْلُم ْ‬
‫ن ِ‬
‫ِم ْ‬
‫ِمْنُهْم َأْجَمِعيَن{ ]ص‪.[85 :‬‬

‫ك ِلَمْن َيَشاُء{ ]النساء‪ [48 :‬وهذه الية في حق من لم يتب؛‬ ‫ن َذِل َ‬‫ك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ‬
‫شَر َ‬
‫ن ُي ْ‬
‫ل َيْغِفُر َأ ْ‬
‫ل َ‬ ‫وقد قال سبحانه‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ولهذا خصص الشرك‪ ،‬وقيد ما ‪ /‬سواه بالمشيئة‪ ،‬فأخبر أنه ل يغفر الشرك لمن لم يتب منه‪ ،‬وما دونه يغفره لمن‬
‫ب َجِميًعا{]الزمر‪ [53 :‬فتلك‬
‫ل َيْغِفُر الّذُنو َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫حمَِة ا ِّ‬
‫ن َر ْ‬
‫طوا ِم ْ‬
‫ل َتْقَن ُ‬
‫سِهْم َ‬‫عَلى َأْنُف ِ‬
‫سَرُفوا َ‬‫ن َأ ْ‬
‫عَباِدي اّلِذي َ‬ ‫يشاء‪ .‬وأما قوله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َيا ِ‬
‫في حق التائبين؛ ولهذا عم وأطلق‪ ،‬وسياق الية يبين ذلك مع سبب نزولها‪.‬‬

‫وقد أخبر ـ سبحانه ـ أن الولين والخرين إنما أمروا بذلك في غير موضع كالسورة التي قرأها النبي صلى ال عليه‬
‫ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ‬
‫ب‬ ‫ل ـ تعالى ـ أن يقرأ عليه قراءة إبلغ وإسماع بخصوصه فقال‪َ} :‬وَما َتَفّر َ‬
‫ق اّلِذي َ‬ ‫ي لما أمره ا ّ‬ ‫وسلم على ُأَب ّ‬
‫صيَن َلُه الّديَن ُحَنَفاَء{الية ]البينة‪.[5 ،4 :‬‬
‫خِل ِ‬
‫ل ُم ْ‬
‫ل ِلَيْعُبُدوا ا َّ‬
‫جاَءْتُهْم اْلَبّيَنُة ‪َ .‬وَما ُأِمُروا ِإ ّ‬
‫ن َبْعِد َما َ‬
‫ل ِم ْ‬
‫ِإ ّ‬

‫حي ِإَلْيِه َأّنهُ‬


‫ل ُنو ِ‬ ‫ل ِإ ّ‬
‫سو ٍ‬‫ن َر ُ‬
‫ك ِم ْ‬‫ن َقْبِل َ‬
‫سْلَنا ِم ْ‬‫ل تعالى‪َ} :‬وَما َأْر َ‬ ‫ل‪ ،‬وبذلك بعث جميع الرسل‪ .‬قال ا ّ‬ ‫وهذا حقيقة قول ل إله إل ا ّ‬
‫ن{‬ ‫ن آِلَهًة ُيْعَبُدو َ‬
‫حَما ِ‬
‫ن الّر ْ‬‫ن ُدو ِ‬ ‫جَعْلَنا ِم ْ‬‫سِلَنا َأ َ‬
‫ن ُر ُ‬‫ك ِم ْ‬‫ن َقْبِل َ‬
‫سْلَنا ِم ْ‬
‫ن َأْر َ‬
‫ل َم ْ‬ ‫عُبُدوِني{ ]النبياء‪ ،[25 :‬وقال‪َ} :‬وا ْ‬
‫سَأ ْ‬ ‫ل ِإَلَه ِإلّ َأَنا َفا ْ‬
‫َ‬
‫ت{ ]النحل‪.[36 :‬‬ ‫غو َ‬ ‫طا ُ‬ ‫جَتِنُبوا ال ّ‬ ‫ل َوا ْ‬
‫عُبُدوا ا َّ‬ ‫ن ُا ْ‬
‫ل َأ ْ‬‫سو ً‬ ‫]الزخرف‪ ،[45 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َبَعْثَنا ِفي ُك ّ‬
‫ل ُأّمٍة َر ُ‬

‫ل َما َلُكْم ِمْن ِإَلٍه َغْيُرُه{ ]العراف‪:‬‬ ‫عُبُدوا ا َّ‬‫وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الصل كما قال نوح ـ عليه السلم‪} :‬ا ْ‬
‫ل َما َلُكْم ِمْن ِإَلٍه َغْيُرُه{ل سيما أفضل ‪/‬‬ ‫‪ ،[59‬وكذلك هود وصالح وشعيب ـ عليهم السلم ـ وغيرهم كل يقول‪} :‬ا ْ‬
‫عُبُدوا ا َّ‬
‫ل بهما وأيدهما فيه‬ ‫ل‪ :‬إبراهيم ومحمًدا ـ عليهما السلم ـ فإن هذا الصل بينه ا ّ‬ ‫ل كلهما خلي ً‬ ‫الرسل الذين اتخذ ا ّ‬
‫س ِإَماًما{ ]البقرة‪ ،[124 :‬وفي ذريته جعل النبوة‬ ‫ك ِللّنا ِ‬
‫عُل َ‬ ‫ل فيه‪ِ} :‬إّني َ‬
‫جا ِ‬ ‫ونشره بهما‪ ،‬فإبراهيم هو المام الذي قال ا ّ‬
‫لِبيِه َوَقْوِمِه‬ ‫ل عليهم‪ ،‬قال سبحانه‪َ} :‬وِإْذ َقا َ‬
‫ل ِإْبَراِهيُم َِ‬ ‫والكتاب والرسل‪ ،‬فأهل هذه النبوة والرسالة هم من آله الذين بارك ا ّ‬
‫طَرِني َفِإّنُه َسَيْهِديِني ‪َ .‬وَجَعَلَها َكِلَمًة َباِقَيًة ِفي َعِقِبِه َلَعّلُهْم َيْرِجُعوَن{ ]الزخرف‪.[28 - 26 :‬‬
‫ل اّلِذي َف َ‬
‫ن ‪ِ .‬إ ّ‬
‫ِإّنِني َبَراٌء ِمّما َتْعُبُدو َ‬

‫ل وهي البراءة من كل معبود إل من الخالق الذي فطرنا كما قال صاحب يس‪َ} :‬وَما‬ ‫فهذه الكلمة هي كلمة الخلص ّ‬
‫ل‬
‫شْيًئا َو َ‬‫عُتُهْم َ‬‫عّني شََفا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل ُتْغ ِ‬ ‫ضّر َ‬ ‫ن ِب ُ‬ ‫حَما ُ‬ ‫ن ُيِرْدِني الّر ْ‬ ‫ن ُدوِنِه آِلَهًة ِإ ْ‬ ‫خُذ ِم ْ‬ ‫ن ‪َ .‬أَأّت ِ‬‫جُعو َ‬ ‫طَرِني َوِإَلْيِه ُتْر َ‬ ‫عُبُد اّلِذي َف َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ِلي َ‬
‫ن{ ]يس‪22 :‬ـ ‪ ،[24‬وقال تعالى في قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلل من اتخذ‬ ‫ل ُمِبي ٍ‬
‫لٍ‬ ‫ضَ‬ ‫ُينِقُذوِني ‪ِ .‬إّني ِإًذا َلِفي َ‬
‫طَر‬‫جِهي ِلّلِذي َف َ‬ ‫ت َو ْ‬‫جْه ُ‬ ‫ن ‪ِ .‬إّني َو ّ‬ ‫شِرُكو َ‬ ‫ل َياَقْوِم ِإّني َبِريٌء ِمّما ُت ْ‬ ‫ت َقا َ‬ ‫ل‪ ،‬قال‪َ} :‬فَلّما َأَفَل ْ‬ ‫بعض الكواكب رًبا يعبده من دون ا ّ‬
‫طاًنا{ ]النعام‪:‬‬ ‫سْل َ‬
‫عَلْيُكْم ُ‬
‫ل ِبِه َ‬ ‫ل َما َلْم ُيَنّز ْ‬
‫شَرْكُتْم ِبا ِّ‬‫ن َأّنكُْم َأ ْ‬
‫خاُفو َ‬ ‫ن{ إلى قوله‪َ} :‬و َ‬
‫ل َت َ‬ ‫شِرِكي َ‬‫ن اْلُم ْ‬‫حِنيًفا َوَما َأَنا ِم ْ‬
‫ض َ‬‫لْر َ‬‫ت َوا َْ‬‫سَماَوا ِ‬
‫ال ّ‬
‫ل َر ّ‬
‫ب‬ ‫عُدّو ِلي ِإ ّ‬‫ن ‪َ .‬فِإّنُهْم َ‬
‫لْقَدُمو َ‬ ‫ن ‪َ .‬أْنُتْم َوآَباُؤُكْم ا َْ‬‫ل َأَفَرَأْيُتْم َما ُكْنُتْم َتْعُبُدو َ‬‫‪ ،[78-81‬وقال إبراهيم الخليل ـ عليه السلم‪َ} :‬قا َ‬
‫ت َفُهَو َيْشِفيِني ‪َ .‬واّلِذي ُيِميُتِني ُثّم ُيْحِييِن{ ]الشعراء‪:‬‬ ‫ض ُ‬‫سِقيِني ‪َ .‬وِإَذا َمِر ْ‬ ‫طِعُمِني َوَي ْ‬ ‫خَلَقِني َفُهَو َيْهِديِني ‪َ .‬واّلِذي ُهَو ُي ْ‬ ‫اْلَعاَلِمينَ ‪ .‬اّلِذي َ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ل‬ ‫ن ُدو ِ‬ ‫ن ِم ْ‬
‫ن َمَعُه ِإْذ َقاُلوا ِلَقْوِمِهْم ِإّنا ُبَرآُء ِمْنُكْم َوِمّما َتْعُبُدو َ‬‫سَنٌة ِفي ِإْبَراِهيَم َواّلِذي َ‬ ‫حَ‬ ‫سَوٌة َ‬ ‫‪ ،[75-81‬وقال تعالى‪َ} :‬قْد َكاَن ْ‬
‫ت َلُكْم ُأ ْ‬
‫َكَفْرَنا ِبكُْم{ الية ]الممتحنة‪.[4 :‬‬
‫ل دين التوحيد‪ ،‬وقمع به المشركين من كان مشرًكا في‬‫ل به الدين الخالص ّ‬
‫ونبينا صلى ال عليه وسلم هو الذي أقام ا ّ‬
‫الصل‪ ،‬ومن الذين كفروا من أهل الكتب‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم فيما رواه المام أحمد وغيره‪) :‬بعثت بالسيف‬
‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬وجعل رزقي تحت ظل رمحي‪ ،‬وجعل الذلة والصغار على من‬ ‫بين يدي الساعة حتى يعبد ا ّ‬
‫ل عليه من اليات المتضمنة للتوحيد‪.‬‬
‫خالف أمري‪ ،‬ومن تشبه بقوم فهو منهم(‪ ،‬وقد تقدم بعض ما أنزل ا ّ‬

‫ن‪.‬‬‫سَتْكِبُرو َ‬ ‫ل َي ْ‬
‫ل ِإَلَه ِإلّ ا ُّ‬
‫ل َلُهْم َ‬ ‫حٌد{ إلى قوله‪ِ} :‬إّنُهْم َكاُنوا ِإَذا ِقي َ‬ ‫ن ِإَلَهُكْم َلَوا ِ‬‫صّفا{ إلى قوله‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫ت َ‬ ‫صاّفا ِ‬‫ضا‪َ} :‬وال ّ‬ ‫وقال تعالى أي ً‬
‫ق َمْعُلوٌم ‪َ .‬فَواِكُه َوُهْم‬ ‫ك َلُهْم ِرْز ٌ‬ ‫ن{ إلى قوله‪ُ} :‬أْوَلِئ َ‬ ‫سِلي َ‬
‫ق اْلُمْر َ‬ ‫صّد َ‬‫ق َو َ‬ ‫حّ‬ ‫جاَء ِباْل َ‬
‫ل َ‬‫نُ‪َ .‬ب ْ‬
‫جُنو ٍ‬ ‫عٍر َم ْ‬‫شا ِ‬‫ن َأِئّنا َلَتاِرُكوا آِلَهِتَنا ِل َ‬
‫َوَيُقوُلو َ‬
‫عَباَد‬
‫ل ِ‬ ‫ن ‪ِ .‬إ ّ‬‫صُفو َ‬‫عّما َي ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ا ِّ‬ ‫حا َ‬
‫سْب َ‬‫ل‪ ،‬إلى قوله‪ُ } :‬‬ ‫ُمْكَرُموَن{ إلى ما ذكره من قصص النبياء في التوحيد وإخلص الدين ّ‬
‫صيًرا ‪ِ .‬إ ّ‬
‫ل‬ ‫جَد َلُهْم َن ِ‬‫ن َت ِ‬ ‫ن الّناِر َوَل ْ‬ ‫ل ِم ْ‬ ‫سَف ِ‬
‫لْ‬‫ك ا َْ‬
‫ن ِفي الّدْر ِ‬ ‫ن{ ]الصافات‪ 159 :‬ـ ‪ ،[160‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اْلُمَناِفِقي َ‬ ‫صي َ‬ ‫ل اْلُمخَْل ِ‬‫ا ِّ‬
‫ظيًما{ ]النساء‪:‬‬ ‫عِ‬ ‫جًرا َ‬ ‫ن َأ ْ‬ ‫ل اْلُمْؤِمِني َ‬‫ت ا ُّ‬‫ف ُيْؤ ِ‬‫سْو َ‬‫ن َو َ‬
‫ك َمَع اْلُمْؤِمِني َ‬ ‫ل َفُأْوَلِئ َ‬
‫صوا ِديَنُهْم ِّ‬‫خَل ُ‬‫ل َوَأ ْ‬‫صُموا ِبا ِّ‬‫عَت َ‬ ‫حوا َوا ْ‬ ‫صَل ُ‬
‫ن َتاُبوا َوَأ ْ‬ ‫اّلِذي َ‬
‫‪.[146 ،145‬‬

‫وفي الجملة فهذا الصل في سورة النعام‪ ،‬والعراف‪ ،‬والنور‪ ،‬وآل طسم‪ / ،‬وآل حم‪ ،‬وآل الر‪ ،‬وسور المفصل وغير‬
‫ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر‪ ،‬فهو أصل الصول وقاعدة الدين حتى في سورتي‬
‫ل َأَحٌد{ وهاتان السورتان كان النبي صلى ال عليه وسلم يقرأ‬ ‫ن{ و}ُق ْ‬
‫ل ُهَو ا ُّ‬ ‫الكافرون والخلص‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َياَأّيَها اْلَكاِفُرو َِ‬
‫بهما في صلة التطوع كركعتي الطواف‪ ،‬وسنة الفجر‪ ،‬وهما متضمنتان للتوحيد‪.‬‬

‫ل بالقصد والرادة‪ ،‬وهو الذي‬‫فأما }قُْل َياَأّيَها اْلَكاِفُروَِن{‪ :‬فهي متضمنة للتوحيد العملي الرادي‪ ،‬وهو إخلص الدين ّ‬
‫ل َأَحٌد{‪ :‬فمتضمنة للتوحيد القولي العملي كما ثبت في الصحيحين‬ ‫يتكلم به مشائخ التصوف غالًبا‪ ،‬وأما سورة }ُق ْ‬
‫ل ُهَو ا ُّ‬
‫ل أحد في صلته‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬سلوه لم يفعل ذلك؟(‬ ‫ل كان يقرأ‪ :‬قل هو ا ّ‬
‫عن عائشة أن رج ً‬
‫ل يحبه(‪.‬‬
‫فقال‪ :‬لنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها‪ ،‬فقال‪) :‬أخبروه أن ا ّ‬

‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ الذي ينفي قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل‪ ،‬ما‬
‫ولهذا تضمنت هذه السورة من وصف ا ّ‬
‫صارت به هي الصل المعتمد في مسائل الذات كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع‪ .‬وذكرنا اعتماد الئمة عليها‬
‫مع ما تضمنته من تفسير الحد الصمد‪ ،‬كما جاء تفسيره عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين‪ ،‬وما دل‬
‫على ذلك من الدلئل‪.‬‬

‫طا بالخر‪ .‬فل يوجد أحد‬ ‫ل وإن ‪ /‬كان أحد النوعين مرتب ً‬
‫لكن المقصود هنا هو‪ :‬التوحيد العملي‪ ،‬وهو إخلص الدين ّ‬
‫من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إل وفيه نوع من الشرك العملي؛ إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين‬
‫ل وبين خلقه‪ ،‬أو بينه وبين المعدومات كما يسوى المعطلة بينه وبين المعدومات في الصفات السلبية التي ل تستلزم‬ ‫ا ّ‬
‫حا ول ثبوت كمال‪ ،‬أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات في صفات النقص‪ ،‬وكما يسوون إذا أثبتوا هم‬ ‫مد ً‬
‫ومن ضاهاهم من الممثلة بينه وبين المخلوقات في حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدلون بربهم‪ ،‬ويجعلون له أنداًدا‬
‫ويسوون المخلوقات برب العالمين‪.‬‬

‫ل بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص‬


‫واليهود كثيًرا ما يعدلون الخالق بالمخلوق‪ ،‬ويمثلونه به حتى يصفوا ا ّ‬
‫التي يجب تنزيهه عنها وهي من صفات خلقه‪ ،‬والنصارى كثيًرا ما يعدلون المخلوق بالخالق حتى يجعلوا في‬
‫المخلوقات من نعوت الربوبية‪ ،‬وصفات اللهية‪ ،‬ويجوزون له مـا ل يصلح إل للخالق سبحانه وتعالى عما يقول‬
‫الظالمون علًوا كبيًرا‪.‬‬

‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم‪ ،‬صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين‬‫وا ّ‬
‫والشهداء والصالحين‪ ،‬غيرالمغضوب عليهم ول الضالين‪ .‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬اليهود مغضوب‬
‫عليهم‪ ،‬والنصارى ضالون(‪ .‬وفي هذه المة من فيه شبه من هؤلء وهؤلء كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ل‪ ،‬اليهود‬
‫ب لدخلتموه(‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ض ّ‬
‫حر َ‬
‫جْ‬‫)لتتبعن سنن من كان قبلكم‪ ،‬حذو الُقّذة بالقذة‪ ،‬حتى لو ‪ /‬دخلوا ُ‬
‫والنصارى؟ قال‪) :‬فمن؟( والحديث في الصحيحين‪.‬‬

‫ل وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته‪ ،‬وهذا‬ ‫ل‪ ،‬وهو إرادة ا ّ‬‫فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلص الدين ّ‬
‫س ِإّل ِلَيْعُبُدوِن{ ]الذاريات‪:‬‬
‫لن َ‬
‫ن َوا ِْ‬
‫جّ‬‫ت اْل ِ‬ ‫كمال المحبة‪ ،‬لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقوله‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬
‫س اْعُبُدوا َرّبُكْم اّلِذي َخَلَقُكْم َواّلِذيَن ِمْن َقْبِلُكْم{]البقرة‪ [21 :‬وأمثال هذا‪ ،‬والعبادة تتضمن كمال‬ ‫‪ ،[56‬وقوله‪َ} :‬ياَأّيَها الّنا ُ‬
‫الحب ونهايته‪ ،‬وكمال الذل ونهايته‪ ،‬فالمحبوب الذي ل يعظم ول يذل له ل يكون معبوًدا‪ ،‬والمعظم الذي ل يحب‪ ،‬ل‬
‫ل{ ]البقرة‪:‬‬‫حّبا ِّ‬ ‫شّد ُ‬‫ن آَمُنوا َأ َ‬‫ل َواّلِذي َ‬‫ب ا ِّ‬
‫ح ّ‬ ‫حّبوَنُهْم َك ُ‬‫ل َأنَداًدا ُي ِ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬
‫خُذ ِم ْ‬
‫ن َيّت ِ‬
‫س َم ْ‬‫ن الّنا ِ‬‫يكون معبوًدا؛ ولهذا قال تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ل‪،‬‬
‫‪ [165‬فبين ـ سبحانه ـ أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الّ أنداًدا‪ ،‬وإن كانوا يحبونهم كما يحبون ا ّ‬
‫ل‪ ،‬والحب يتبع العلم؛ ولن المؤمنين جعلوا جميع‬ ‫ل ولوثانهم‪ ،‬لن المؤمنين أعلم با ّ‬ ‫ل منهم ّ‬ ‫فالذين آمنوا أشد حًبا ّ‬
‫ل وحده‪ ،‬وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين النداد في الحب‪ ،‬ومعلوم أن ذلك أكمل‪ .‬قال‬ ‫حبهم ّ‬
‫ن{‬
‫ل َأْكَثُرُهْم لَ َيْعَلُمو َ‬
‫ل َب ْ‬
‫حْمُد ِّ‬ ‫ل اْل َ‬
‫ن َمَث ً‬‫سَتِوَيا ِ‬
‫ل َي ْ‬
‫ل َه ْ‬ ‫جٍ‬‫سَلًما ِلَر ُ‬
‫ل َ‬
‫جً‬ ‫ن َوَر ُ‬‫سو َ‬ ‫شاِك ُ‬
‫شَرَكاُء ُمَت َ‬
‫ل ِفيِه ُ‬
‫جً‬‫ل َر ُ‬
‫ل َمَث ً‬
‫ب ا ُّ‬ ‫تعالى‪َ } :‬‬
‫ضَر َ‬
‫]الزمر‪.[29 :‬‬

‫ل ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين‪ ،‬وإن كان ذلك من محبة‬‫واسم المحبة فيه إطلق وعموم‪ ،‬فإن المؤمن يحب ا ّ‬
‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ مذكورة بما يختص به ـ‬
‫ل ‪ /‬ل يستحقها غيره؛ ولهذا جاءت محبة ا ّ‬‫ل‪ ،‬وإن كانت المحبة التي ّ‬ ‫ا ّ‬
‫ل ـ سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫سبحانه ـ من العبادة والنابة إليه والتبتل له‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬فكل هذه السماء تتضمن محبة ا ّ‬

‫ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين‪ ،‬فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫ل(‪ .‬فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل‬ ‫قال‪ ) :‬رأس المر السلم‪ ،‬وعموده الصلة‪ ،‬وذروة سنامه الجهاد في سبيل ا ّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ل‬ ‫جاَهَد ِفي َ‬
‫خِر َو َ‬
‫لِ‬
‫ل َواْلَيْوِم ا ْ‬
‫ن ِبا ِّ‬
‫ن آَم َ‬
‫حَراِم َكَم ْ‬
‫جِد اْل َ‬
‫سِ‬‫عَماَرَة اْلَم ْ‬
‫ج َو ِ‬
‫حا ّ‬
‫سَقاَيَة اْل َ‬ ‫وهو أعله وأشرفه‪ .‬وقد قال تعالى‪َ} :‬أ َ‬
‫جَعْلُتْم ِ‬
‫ظيٌم{ ]التوبة‪19 :‬ـ ‪ ،[22‬والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة‪.‬‬ ‫عِ‬ ‫جٌر َ‬‫ل{ إلى قوله‪َ} :‬أ ْ‬
‫عْنَد ا ِّ‬
‫ن ِ‬
‫ل َيسَْتُوو َ‬
‫ل َ‬
‫ا ِّ‬

‫خَواُنُكمْ‬
‫ن آَباُؤُكْم َوَأْبَناُؤُكْم َوِإ ْ‬‫ن َكا َ‬ ‫وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد‪ ،‬والجهاد دليل المحبة الكاملة‪ .‬قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫عْ‬
‫ن‬ ‫ن َيْرَتّد ِمْنُكْم َ‬
‫ن آَمُنوا َم ْ‬ ‫شيَرُتُكْم{ الية ]التوبة‪ ،[24 :‬وقال تعالى في صفة المحبين المحبوبين‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬ ‫عِ‬ ‫َوَأْزَواجُُكْم َو َ‬
‫لِئٍم{‬‫ن َلْوَمَة َ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫ل َي َ‬‫ل َو َ‬‫ل ا ِّ‬‫سِبي ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫جاِهُدو َ‬
‫ن ُي َ‬
‫عَلى اْلَكاِفِري َ‬
‫عّزٍة َ‬
‫ن َأ ِ‬
‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬
‫حّبوَنُه َأِذّلٍة َ‬
‫حّبُهْم َوُي ِ‬
‫ل ِبَقْوٍم ُي ِ‬
‫ف َيْأِتي ا ُّ‬
‫سْو َ‬‫ِديِنِه َف َ‬
‫]المائدة‪ [54 :‬فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين‪ ،‬وإنهم يجاهدون في سبيل‬
‫ل‪ ،‬ول يخافون لومة لئم‪.‬‬
‫ا ّ‬

‫‪/‬فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لن المحب يحب ما يحب محبوبه‪ ،‬ويبغض ما يبغض محبوبه‪ ،‬ويوالي من يواليه‬
‫ويعادي من يعاديه‪ ،‬ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه‪ ،‬ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه‪ ،‬فهو موافق له في‬
‫ذلك‪ .‬وهؤلء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب‬
‫له‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلل‪) :‬لعلك أغضبتهم لن كنت أغضبتهم‬
‫ل لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن‬
‫لقد أغضبت ربك(‪ .‬فقال لهم‪ :‬يا إخوتي‪ ،‬هل أغضبتكم؟ قالوا‪ :‬ل‪ ،‬يغفر ا ّ‬
‫ل مأخذها‪ ،‬فقال لهم أبو بكر‪ :‬أتقولون هذا لسيد قريش ؟ وذكر أبو بكر ذلك‬ ‫حرب فقالوا‪ :‬ما أخذت السيوف من عدو ا ّ‬
‫ل؛ لكمال ما عندهم من الموالة ّ‬
‫ل‬ ‫للنبي صلى ال عليه وسلم فقال له ما تقدم؛ لن أولئك إنما قالوا ذلك غضًبا ّ‬
‫ل ورسوله‪.‬‬‫ورسوله‪ ،‬والمعاداة لعداء ا ّ‬

‫ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه‪) :‬ل يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل‬
‫حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي‬
‫بها‪ ،‬فبي يسمع‪ ،‬وبي يبصر‪ ،‬وبي يبطش‪ ،‬وبي يمشي ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ ،‬وما ترددت عن‬
‫شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته‪ ،‬ولبد له منه( فبين ـ سبحانه ـ أنه‬
‫يتردد لن التردد تعارض إرادتين‪ ،‬وهو ـ سبحانه ـ يحب ما يحب عبده ‪ /‬ويكره ما يكرهه‪ ،‬وهو يكره الموت فهو‬
‫يكرهه‪ ،‬كما قال‪) :‬وأنا أكره مساءته(‪ ،‬وهو ـ سبحانه ـ قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت‪ .‬فسمى ذلك تردًدا‪ ،‬ثم بين‬
‫أنه لبد من وقوع ذلك‪.‬‬

‫وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه‪ .‬وقد يقال له‪ :‬اتحاد نوعي‬
‫وصفي‪ ،‬وليس ذلك اتحاد الذاتين فإن ذلك محال ممتنع‪ ،‬والقائل به كافر‪ ،‬وهو قول النصارى والغالية من الرافضة‬
‫والنساك كالحلجية ونحوهم‪ ،‬وهو التحاد المقيد في شيء بعينه‪.‬‬

‫وأما التحاد المطلق ـ الذي هو قول أهل وحدة الوجود الذين يزعمون أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق ـ فهذا‬
‫تعطيل للصانع وجحود له‪ ،‬وهو جامع لكل شرك‪ ،‬فكما أن التحاد نوعان‪ ،‬فكذلك الحلول نوعان‪ :‬قوم يقولون‪:‬‬
‫ل في‬
‫بالحلول المقيد في بعض الشخاص‪ ،‬وقوم يقولون‪ :‬بحلوله في كل شيء‪ ،‬وهم الجهمية الذين يقولون‪ :‬إن ذات ا ّ‬
‫كل مكان‪.‬‬

‫وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء في المحبة أن يغيب بمحبوبه عن نفسه وحبه‪ ،‬ويغيب بمذكوره عن ذكره‪،‬‬
‫وبمعروفه عن معرفته‪ ،‬وبموجوده عن وجوده‪ ،‬حتى ل يشهد إل محبوبه فيظن في زوال تمييزه ونقص عقله وسكره‬
‫أنه هو محبوبه‪ .‬كما قيل‪ :‬إن محبوًبا وقع في اليم فألقى المحب نفسه خلفه‪ ،‬فقال‪ / :‬أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك ؟‬
‫فقال‪ ،‬غبت بك عني‪ ،‬فظننت أنك أني‪ ،‬فل ريب أن هذا خطأ وضلل‪.‬‬

‫لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذوًرا في زوال عقله‪،‬‬
‫فل يكون مؤاخًذا بما يصدر منه من الكلم في هذه الحال التي زال فيها عقله بغير سبب محظور‪ ،‬كما قيل في عقلء‬
‫ل‪ ،‬فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم‪ ،‬وأسقط ما فرض بما سلب‪.‬‬‫ل وأحوا ً‬
‫ل عقو ً‬
‫المجانين‪ :‬إنهم قوم آتاهم ا ّ‬

‫وأما إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظوًرا لم يكن السكران معذوًرا‪ ،‬وإن كان ل يحكم بكفره في أصح القولين‪،‬‬
‫كما ل يقع طلقه في أصح القولين‪ ،‬وإن كان النزاع في الحكم مشهوًرا‪ .‬وقد بسطنا الكلم في هذا‪ ،‬وفيمن يسلم له‬
‫حاله ومن ل يسلم في قاعدة ذلك‪.‬‬

‫وبكل حال‪ ،‬فالفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا حال ناقص‪ ،‬وإن كان صاحبه غير مكلف؛ ولهذا لم يرد مثل هذا‬
‫عن الصحابة الذين هم أفضل هذه المة ول عن نبينا محمد صلى ال عليه وسلم وهو أفضل الرسل‪ ،‬وإن كان لهؤلء‬
‫في صعق موسى نوع تعلق‪ ،‬وإنما حدث زوال العقل عند الواردات اللهية على بعض التابعين ومن بعدهم‪ ،‬وإن‬
‫كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه ووليته وعداوته‪ ،‬فمن المعلوم أن من‪ /‬أحب الّ‬
‫ن ُيَقاِتُلو َ‬
‫ن‬ ‫ب اّلِذي َ‬
‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬ ‫المحبة الواجبة فلبد أن يبغض أعداءه‪ ،‬ول بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ص{ ]الصف‪.[4 :‬‬ ‫صو ٌ‬
‫ن َمْر ُ‬
‫صّفا َكَأّنُهْم ُبنَيا ٌ‬
‫سِبيِلِه َ‬
‫ِفي َ‬

‫والمحب التام ل يؤثر فيه لوم اللئم وعذل العاذل‪ ،‬بل ذلك يغريه بملزمة المحبة‪ ،‬كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك‪،‬‬
‫ل ويرضاه من جهاد أعدائه‪ ،‬فإن‬ ‫وهؤلء هم أهل الملم المحمود وهم الذين ل يخافون من يلومهم على ما يحب ا ّ‬
‫ل أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق‪ ،‬وليس من المحمود الصبر‬ ‫الملم على ذلك كثير‪ .‬وأما الملم على فعل ما يكرهه ا ّ‬
‫على هذا الملم‪ ،‬بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل‪ .‬وبهذا يحصل الفرق بين ]الملمية[ الذين يفعلون‬
‫ل ورسوله ويصبرون‬ ‫ل ورسوله ول يخافون لومة لئم في ذلك‪ ،‬وبين ]الملمية[ الذين يفعلون ما يبغضه ا ّ‬ ‫ما يحبه ا ّ‬
‫على الملم في ذلك‪.‬‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني‪ ،‬فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها‪ ،‬فإن الراجي الطامع‬
‫ن َيْبَتُغو َ‬
‫ن‬ ‫عو َ‬‫ن َيْد ُ‬ ‫إنما يطمع فيما يحبه ل فيما يبغضه‪ .‬والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب‪ .‬قال تعالى‪ُ} :‬أْوَلِئ َ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫جُروا‬ ‫ن َها َ‬
‫ن آَمُنوا َواّلِذي َ‬ ‫عَذاَبُه{الية ]السراء‪ ،[57 :‬وقال‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬ ‫ن َ‬
‫خاُفو َ‬
‫حَمَتُه َوَي َ‬
‫ن َر ْ‬‫جو َ‬‫ب َوَيْر ُ‬
‫سيَلَة َأّيُهْم َأْقَر ُ‬
‫ِإَلى َرّبهِْم اْلَو ِ‬
‫ل{ ]البقرة‪.[218 :‬‬ ‫حَمَة ا ِّ‬
‫ن َر ْ‬‫جو َ‬‫ك َيْر ُ‬
‫ل ُأْوَلِئ َ‬
‫ل ا ِّ‬‫سِبي ِ‬
‫جاَهُدوا ِفي َ‬ ‫َو َ‬

‫ورحمته اسم جامع لكل خير‪ .‬وعذابه اسم جامع لكل شر‪ .‬ودار الرحمة الخالصة هي الجنة‪ ،‬ودار العذاب الخالص هي‬
‫النار‪ ،‬وأما الدنيا فدار امتزاج‪ ،‬فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنة فالجنة اسم جامع لكل نعيم‪ ،‬وأعله النظر إلى وجه‬
‫ل‪ ،‬كما في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إذا دخل‬ ‫ا ّ‬
‫ل موعًدا يريد أن ينجزكموه‪ .‬فيقولون‪ :‬ما هو؟ ألم يبيض‬
‫أهل الجنة الجنة نادى مناد‪ :‬يا أهل الجنة‪ ،‬إن لكم عند ا ّ‬
‫وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار؟( قال‪) :‬فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيًئا‬
‫أحب إليهم من النظر إليه( وهو الزيادة‪.‬‬

‫ومن هنا يتبين زوال الشتباه في قول من قال‪ :‬ما عبدتك شوًقا إلى جنتك ول خوًفا من نارك‪ ،‬وإنما عبدتك شوًقا إلى‬
‫رؤيتك‪ ،‬فإن هذا القائل ظن هو ومن تابعه أن الجنة ليدخل في مسماها إل الكل والشرب واللباس والنكاح والسماع‬
‫ل من الجهمية‪ ،‬أو من يقربها ويزعم أنه‬‫ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات‪ ،‬كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية ا ّ‬
‫ل‪ ،‬كما يقوله طائفة من المتفقهة‪ .‬فهؤلء متفقون على أن مسمى الجنة والخرة ‪ /‬ل يدخل فيه إل‬ ‫ل تمتع بنفس رؤية ا ّ‬
‫خَرَة{‬ ‫لِ‬ ‫ن ُيِريُد ا ْ‬ ‫التمتع بالمخلوقات؛ ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله‪ِ} :‬مْنُكْم َم ْ‬
‫ن ُيِريُد الّدْنَيا َوِمْنُكْم َم ْ‬
‫ن َلُهْم‬
‫سُهْم َوَأْمَواَلُهْم ِبَأ ّ‬
‫ن َأنُف َ‬
‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬‫شَتَرى ِم ْ‬ ‫لا ْ‬ ‫ل‪ ،‬وقال آخر في قوله تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬ ‫]آل عمران‪ [152 :‬قال فأين من يريد ا ّ‬
‫اْلَجّنَة{ ]التوبة‪ [111 :‬قال‪ :‬إذا كانت النفوس والموال بالجنة فأين النظر إليه‪ ،‬وكل هذا لظنهم أن الجنة ل يدخل فيها‬
‫النظر‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وهو من النعيم الذي ينالونه في‬


‫والتحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم‪ ،‬وأعلى ما فيها النظر إلى وجه ا ّ‬
‫الجنة‪ ،‬كما أخبرت به النصوص‪ .‬وكذلك أهل النار فإنهم محجوبون عن ربهم‪ ،‬ويدخلون النار‪ ،‬مع أن قائل هذا القول‬
‫إذا كان عارًفا بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق ناًرا أو لو لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب إليك‬
‫والنظر إليك‪ ،‬ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق‪.‬‬

‫وأما عمل الحي بغير حب ول إرادة أصل‪ ،‬فهذا ممتنع وإن تخيله بعض الغالطين من النساك‪ ،‬وظن أن كمال العبد أل‬
‫تبقى له إرادة أصل؛ فذاك لنه تكلم في حال الفناء والفاني ـ الذي يشتغل بمحبوبه ـ له إرادة ومحبة ولكن ل يشعر‬
‫بها‪ ،‬فوجود المحبة شيء‪ ،‬والرادة شيء‪ ،‬والشعور بها شيء آخر‪ .‬فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط‪ ،‬فالعبد‬
‫ل يتصور أن يتحرك قط إل عن حب وبغض وإرادة؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬أصدق السماء حارث‬
‫ل ما يدعوه‬ ‫وهمام(‪ .‬فكل إنسان له حرث وهو العمل‪ ،‬وله هم وهو أصل ‪/‬الرادة‪ ،‬ولكن تارة يقوم بالقلب من محبة ا ّ‬
‫ل عنه‪ :‬نعم العبد صهيب‪ ،‬لو لم‬ ‫إلى طاعته‪ ،‬ومن إجلله والحياء منه ما ينهاه عن معصيته‪ ،‬كما قال عمر ـ رضي ا ّ‬
‫ل يمنعه من معصيته‪.‬‬‫ل لم يعصه أي‪ :‬هو لم يعصه ولو لم يخفه‪ ،‬فكيف إذا خافه‪ ،‬فإن إجلله وإكرامه ّ‬ ‫يخف ا ّ‬

‫فالراجي الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه‪ ،‬والتنعم بتجليه له‪ ،‬فمعلوم أن هذا من توابع‬
‫محبته له‪ ،‬فالمحبة هي التي أوجبت محبة التجلي والخوف من الحتجاب‪ ،‬وإن تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق‬
‫ل وجدها أحلى من كل محبة؛‬ ‫ل المستلزمة محبته‪ ،‬ثم إذا وجد حلوة محبة ا ّ‬
‫والتنعم به‪ ،‬فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة ا ّ‬
‫ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء‪ ،‬كما في الحديث‪) :‬إن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون‬
‫ل التي‬
‫ل ومحبته‪ .‬فالخوف من التعذب بمخلوق والرجاء له يسوقه إلى محبة ا ّ‬ ‫الّنَفس( وهو يبين غاية تنعمهم بذكر ا ّ‬
‫هي الصل‪.‬‬

‫وهذا كله ينبني على أصل المحبة‪ ،‬فيقال‪ :‬قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين‪ ،‬كما في قوله‪َ} :‬واّلِذينَ‬
‫سوِلِه‬
‫ل َوَر ُ‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ب ِإَلْيُكْم ِم ْ‬ ‫حّبوَنُه{ ]المائدة‪ ،[54 :‬وقوله تعالى‪َ} :‬أ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ل{ ]البقرة‪ ،[165 :‬وقوله تعالى‪ُ} :‬ي ِ‬
‫حّبُهْم َوُي ِ‬ ‫حّبا ِّ‬
‫آَمُنوا َأشَّد ُ‬
‫َوِجَهاٍد ِفي َسِبيِلِه{ ]التوبة‪ [24 :‬وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة‬
‫ل‪ ،‬وأن يكره أن يرجع في الكفر‬
‫ل ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأن يحب المرء ل يحبه إل ّ‬ ‫اليمان‪ :‬أن يكون ا ّ‬
‫ل منه كما يكره أن يلقى في النار(‪.‬‬
‫بعد إذ أنقذه ا ّ‬

‫ل َوَرُسوِلِه{‪ ،‬وكما في‬


‫ن ا ِّ‬
‫ب ِإَلْيُكْم ِم ْ‬ ‫ل كما في قوله تعالى‪َ} :‬أ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم وجبت لمحبة ا ّ‬
‫‪/‬بل محبة رسول ا ّ‬
‫الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده‬
‫ى من‬
‫ل لنت أحب إل ّ‬ ‫ل يا رسول ا ّ‬ ‫ووالده والناس أجمعين(‪ ،‬وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال‪ :‬وا ّ‬
‫ى من نفسي‪،‬‬ ‫ل لنت أحب إل ّ‬ ‫كل شيء إل من نفسي‪ ،‬فقال‪) :‬ل يا عمر‪ ،‬حتى أكون أحب إليك من نفسك(‪ ،‬فقال‪ :‬وا ّ‬
‫قال‪) :‬الن يا عمر(‪.‬‬

‫وكذلك محبة صحابته وقرابته‪ ،‬كما في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬آية اليمان حب النصار‪،‬‬
‫ل عنه‪:‬‬
‫ل واليوم الخر(‪ ،‬وقال على ـ رضي ا ّ‬ ‫وآية النفاق بغض النصار(‪ ،‬وقال‪) :‬ل يبغض النصار رجل يؤمن با ّ‬
‫ى أنه ل يحبني إل مؤمن‪ ،‬ول يبغضني إل منافق‪ .‬وفي السنن أنه قال للعباس‪) :‬والذي نفسي‬
‫إنه لعهد النبي المي إل ّ‬
‫عا أنه قال‪:‬‬
‫ل ولقرابتي( يعني‪ :‬بني هاشم‪ ،‬وقد روى حديث عن ابن عباس مرفو ً‬‫بيده‪ ،‬ل يدخلون الجنة حتى يحبوكم ّ‬
‫ل‪ ،‬وأحبوا أهل بيتي لجلي(‪.‬‬
‫ل لما يغذوكم به من نعمه‪ ،‬وأحبوني بحب ا ّ‬
‫)أحبوا ا ّ‬

‫حّبوَنُه{‬ ‫ل{ ]النساء‪ ،[125 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ي ِ‬


‫حّبُهْم َوُي ِ‬ ‫خِلي ً‬
‫ل ِإْبَراِهيَم َ‬ ‫وأما محبة الرب ـ سبحانه ـ لعبده فقال تعالى‪َ} :‬واّت َ‬
‫خَذ ا ُّ‬
‫طيَن{]الحجرات‪:‬‬ ‫سِ‬ ‫ب اْلُمْق ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬‫ن ا َّ‬
‫طوا ِإ ّ‬‫سُ‬ ‫ن{]البقرة‪َ} ،[195 :‬وَأْق ِ‬ ‫سِني َ‬ ‫حِ‬
‫ب اْلُم ْ‬‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬
‫ن ا َّ‬
‫سُنوا ِإ ّ‬
‫حِ‬ ‫]المائدة‪ ،[54 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَأ ْ‬
‫ن{‬ ‫ب اْلُمّتِقي َ‬
‫ح ّ‬‫ل ُي ِ‬
‫ن ا َّ‬‫سَتِقيُموا َلُهْم ِإ ّ‬ ‫ن{]التوبة‪َ} ،[4 :‬فَما ا ْ‬
‫سَتَقاُموا َلُكْم َفا ْ‬ ‫ب اْلُمّتِقي َ‬
‫ح ّ‬‫ل ُي ِ‬
‫ن ا َّ‬ ‫‪} ،[9‬فََأِتّموا ِإَلْيِهْم َ‬
‫عْهَدُهْم ِإَلى ُمّدِتِهْم ِإ ّ‬
‫ن‬ ‫ص{ ]الصف‪َ} ،[4 :‬بَلى َم ْ‬
‫ن َأْوَفى ِبَعْهِدِه َواّتَقى َفِإ ّ‬ ‫صو ٌ‬
‫ن َمْر ُ‬
‫صّفا َكَأّنُهْم ُبنَيا ٌ‬
‫سِبيِلِه َ‬
‫ن ِفي َ‬
‫ن ُيَقاِتُلو َ‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬ ‫]التوبة‪ِ} ،[7 :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ب اْلُمّتِقيَن{ ]آل عمران‪.[76 :‬‬ ‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬
‫ا َّ‬

‫ل من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة‪ ،‬وكذلك حبه لهلها وهم‬
‫وأما العمال التي يحبها ا ّ‬
‫ل المتقون‪.‬‬
‫المؤمنون أولياء ا ّ‬

‫وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة‪ ،‬والذي عليه سلف المة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ‬
‫ل ـ سبحانه ـ محبوب لذاته محبة حقيقية‪ ،‬بل هي أكمل محبة‪ ،‬فإنها كما قال‬
‫الدين المتبعون‪ ،‬وأئمة التصوف إن ا ّ‬
‫ل{ ]البقرة‪ [165 :‬وكذلك هو ـ سبحانه ـ يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية‪.‬‬‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬ ‫تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬

‫وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين‪ ،‬زعًما منهم أن المحبة ل تكون إل لمناسبة بين المحب والمحبوب‪ ،‬وأنه‬
‫ل مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة‪ ،‬وكان أول من ابتدع هذا في السلم هو الجعد بن درهم في أوائل المائة‬
‫ل القسري أمير العراق والمشرق بواسط‪ .‬خطب الناس يوم الضحى فقال‪ :‬أيها‬ ‫الثانية فضحى به خالد بن عبد ا ّ‬
‫ل ولم يكلم ‪/‬‬
‫ل لم يتخذ إبراهيم خلي ً‬
‫ح بالجعد بن درهم‪ ،‬إنه زعم أن ا ّ‬
‫ضّ‬‫ل ضحاياكم‪ ،‬فإني ُم َ‬‫حوا تقبل ا ّ‬
‫ضّ‬‫الناس‪َ ،‬‬
‫موسي تكليًما‪ ،‬ثم نزل فذبحه‪ ،‬وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه‪ ،‬وإليه أضيف‬
‫قول الجهمية‪ ،‬فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها‪ ،‬ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد‪ ،‬وظهر قولهم‬
‫أثناء خلفة المأمون‪ ،‬حتى امتحن أئمة السلم ودعوا إلى الموافقة لهم على ذلك‪.‬‬

‫وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن‬
‫ل‪ ،‬وهؤلء هم أعداء إبراهيم الخليل ـ عليه السلم ـ وهم يعبدون الكواكب ويبنون‬ ‫الرب ليس له صفة ثبوتية أص ً‬
‫ل‪ ،‬وموسى كليما‪ ،‬لن الخلة هي‬‫الهياكل للعقول والنجوم وغيرها‪ ،‬وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خلي ً‬
‫كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل‪:‬‬

‫قد تخللت مسلك الروح مني ** وبذا سمى الخليل خلي ً‬


‫ل‬

‫ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬لو كنت متخًذا من أهل‬
‫ل( يعني‪ :‬نفسه‪ ،‬وفي رواية‪) :‬إني أبرأ إلى كل خليل من‬ ‫ل‪ ،‬ولكن صاحبكم خليل ا ّ‬ ‫ل لتخذت أبا بكر خلي ً‬‫الرض خلي ً‬
‫ل كما اتخذ‬
‫ل اتخذني خلي ً‬
‫ل(‪ ،‬وفي رواية‪) :‬إن ا ّ‬
‫ل لتخذت أبا بكر خلي ً‬‫خلته‪ ،‬ولو كنت متخًذا من أهل الرض خلي ً‬
‫ل‪ ،‬وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق‬ ‫ل(‪ ،‬فبين صلى ال عليه وسلم أنه ل يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خلي ً‬ ‫إبراهيم ‪/‬خلي ً‬
‫صا كما قال‬‫ل عنه‪ .‬مع أنه صلى ال عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخا ً‬ ‫الناس بها أبو بكر الصديق ـ رضي ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكذلك ابنه‬ ‫ل إني لحبك( وكذلك قوله للنصار‪ .‬وكان زيد بن حارثة حب رسول ا ّ‬ ‫لمعاذ‪) :‬وا ّ‬
‫أسامة حبه‪ ،‬وأمثال ذلك‪ .‬وقال له عمرو بن العاص‪ :‬أي الناس أحب إليك ؟ قال‪) :‬عائشة(‪ .‬قال‪ :‬فمن الرجال؟ قال‪:‬‬
‫ل عنها‪) :‬أل تحبين ما أحب؟( قالت‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪) :‬فأحبي عائشة(‪ .‬وقال للحسن‪:‬‬ ‫)أبوها(‪ ،‬وقال لفاطمة ابنته ـ رضي ا ّ‬
‫)اللهم إني أحبه فأحبه‪ ،‬وأحب من يحبه( وأمثال هذا كثير‪.‬‬

‫فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال‪) :‬إني أبرأ إلى كل خليل من خلته‪ ،‬ولو كنت متخًذا من أهل الرض خليل لتخذت‬
‫ل(‪ ،‬فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هي من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها‬ ‫أبا بكر خلي ً‬
‫محبوًبا لذاته ل لشيء آخر؛ إذ المحبوب لشيء غيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير‪ ،‬ومن كمالها ل تقبل الشركة‬
‫والمزاحمة لتخللها المحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب‪.‬‬

‫فالخلة تنافى المزاحمة‪ ،‬وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوًبا لذاته ‪ /‬محبة ل يزاحمه فيها غيره‪ ،‬وهذه محبة ل‬
‫ل‪ ،‬فل يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة‪ ،‬وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره ـ إذا كان‬ ‫تصلح إل ّ‬
‫ل تعالى‪.‬‬
‫محبوًبا بحق ـ فإنما يحب لجله‪ ،‬وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة‪ ،‬فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إل ما كان ّ‬
‫ضا إن أنكر محبته‬‫ل محبوًبا لذاته ينكر مخاللته‪ .‬وكذلك أي ً‬
‫وإذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكون ا ّ‬
‫ل بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد‪.‬‬ ‫لحد من عباده فهو ينكر أن يتخذه خلي ً‬
‫وكذلك تكليمه لموسى أنكروه؛ لنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الفعال‪ ،‬فكما ينكرون أن يتصف‬
‫ن‬
‫ن ِم ْ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫بحياة أو قدرة أو علم أو أن يستوى أو أن يجيء فكذلك ينكرون أن يتكلم أو يكلم‪ ،‬فهذا حقيقة قولهم‪َ} .‬كَذِل َ‬
‫ك َقا َ‬
‫ت ُقُلوُبُهْم{ ]البقرة‪.[118 :‬‬
‫شاَبَه ْ‬
‫ل َقْوِلِهْم َت َ‬
‫َقْبِلِهْم ِمْث َ‬

‫ل ويحرفون‬‫لكن لما كان السلم ظاهًرا والقرآن متلوا‪ ،‬ل يمكن جحده لمن أظهر السلم‪ ،‬أخذوا يلحدون في أسماء ا ّ‬
‫الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب إليه‪ ،‬وهذا جهل عظيم؛ فإن محبة المتقرب‬
‫إلى المتقرب إليه تابع لمحبته وفرع عليه‪ ،‬فمن ل يحب الشيء ل يمكن أن يحب التقرب إليه؛ إذ التقرب وسيلة‪،‬‬
‫ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود‪ ،‬فيمتنع أن تكون الوسيلة إلى الشيء المحبوب هي المحبوب دون الشيء المقصود‬
‫بالوسيلة‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك العبادة والطاعة‪ ،‬إذا قيل في المطاع المعبود‪ :‬إن هذا يحب طاعته وعبادته‪ ،‬فإن محبته ذلك تبع لمحبته‪ ،‬وإل‬
‫ضا‬
‫فمن ل يحب ل يحب طاعته وعبادته‪ ،‬ومن كان ل يعمل لغيره إل لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فإنه يكون معاو ً‬
‫له أو مفتدًيا منه ل يكون محًبا له‪ .‬ول يقال إن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته‪ ،‬فإن محبة المقصود وإن‬
‫استلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة‪ ،‬فإن ذلك يقتضى أن يعبر بلفظين‪ :‬محبة العوض والسلمة عن محبة‬
‫ل فل تعلق لها بمجرد محبة العوض‪ ،‬أل ترى أن من استأجر أجيًرا بعوض ل يقال‪ :‬إن الجير‬ ‫العمل‪ .‬أما محبة ا ّ‬
‫يحبه بمجرد ذلك‪ .‬بل قد يستأجر الرجل من ل يحبه بحال بل من يبغضه‪ ،‬وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب‬
‫ل به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع أل يكون‬
‫ضا له‪ .‬فعلم أن ما وصف ا ّ‬
‫معذب ل يقال‪ :‬إنه يحبه بل يكون مبغ ً‬
‫معناه إل مجرد محبة العمل الذي ينالون به بعض الغراض المخلوقة من غير أن يكون ربهم محبوًبا أصل‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فلفظ العبادة متضمن للمحبة مع الذل كما تقدم؛ ولهذا كانت محبة القلب للبشر على طبقات‪:‬‬
‫وأي ً‬

‫أحدها‪ :‬العلقة‪ :‬وهو تعلق القلب بالمحبوب‪ ،‬ثم الصبابة‪ :‬وهو انصباب القلب إليه‪ ،‬ثم الغرام‪ :‬وهو الحب اللزم‪ ،‬ثم‬
‫ل فإن المحب يبقى ذاكًرا‬
‫ل عبد ا ّ‬
‫العشق وآخر ‪ /‬المراتب هو التتيم‪ :‬وهو التعبد للمحبوب‪ ،‬والمتيم المعبود‪ ،‬وتيم ا ّ‬
‫ل لمحبوبه‪.‬‬‫معبًدا مذل ً‬

‫ضا‪ ،‬وما أشبه ذلك من السماء‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬


‫ضا‪ ،‬فاسم النابة إليه يقتضى المحبة أي ً‬
‫وأي ً‬

‫ضا‪ ،‬فلو كان هذا الذي قالوه حًقا من كون ذلك مجاًزا لما فيه من الحذف والضمار‪ ،‬فالمجاز ل يطلق إل بقرينة‬ ‫وأي ً‬
‫ل محبوًبا‪ ،‬وأل يكون المحبوب إل العمال‬ ‫ل وسنة رسوله ما ينفي أن يكون ا ّ‬ ‫تبين المراد‪ .‬ومعلوم أن ليس في كتاب ا ّ‬
‫ضا‪ :‬فمن علمات المجاز صحة إطلق نفيه‪ ،‬فيجب‬ ‫ضا‪ .‬وأي ً‬
‫ل في الدللة المتصلة ول المنفصلة بل ول في العقل أي ً‬
‫ل‪ ،‬ولم‬
‫ب‪ ،‬كما أطلق إمامهم الجعد ابن درهم أن ال لم يتخذ إبراهيم خلي ً‬‫ح ّ‬
‫ب ول ُي َ‬‫ح ّ‬
‫ل ل ُي ِ‬
‫أن يصح إطلق القول بأن ا ّ‬
‫يكلم موسى تكليًما‪ ،‬ومعلوم أن هذا ممتنع بإجماع المسلمين‪ ،‬فعلم دللة الجماع على أن هذا ليس مجاًزا‪ ،‬بل هي‬
‫حقيقة‪.‬‬

‫ل َوَرُسوِلِه َوِجَهاٍد ِفي َسِبيِلِه{]التوبة‪،[24 :‬‬


‫ن ا ِّ‬
‫ب ِإَلْيُكْم ِم ْ‬‫ح ّ‬‫ضا‪ ،‬فقد فرق بين محبته ومحبة العمل له في قوله تعالى‪َ} :‬أ َ‬ ‫و أي ً‬
‫ل َوَرُسوِلِه{ فلو كان المراد بمحبته ليس إل محبة‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ب ِإَلْيُكْم ِم ْ‬ ‫كما فرق بين محبته ومحبة رسوله في قوله تعالى‪َ} :‬أ َ‬
‫ح ّ‬
‫العمل لكان هذا تكريًرا‪ ،‬أو من باب عطف الخاص على العام‪ ،‬وكلهما على خلف ظاهر الكلم الذي ل يجوز‬
‫المصير إليه إل بدللة تبين المراد‪ .‬وكما أن ‪ /‬محبته ل يجوز أن تفسر بمجرد محبة رسوله‪ ،‬فكذلك ل يجوز تفسيرها‬
‫بمجرد محبة العمل له‪ ،‬وإن كانت محبته تستلزم محبة رسوله ومحبة العمل له‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فالتعبير بمحبة الشيء عن مجرد محبة طاعته ل عن محبة نفسه أمر ل يعرف في اللغة ل حقيقة ول مجاًزا‪،‬‬ ‫وأي ً‬
‫فحمل الكلم عليه تحريف محض أيضا‪ .‬وقد قررنا في مواضع من القواعد الكبار أنه ل يجوز أن يكون غير ا ّ‬
‫ل‬
‫ل‪ ،‬ول إله إل هو المعبود‪ ،‬الذي‬
‫ل موجوًدا بذاته‪ ،‬بل ل رب إل ا ّ‬
‫محبوًبا مراًدا لذاته كما ل يجوز أن يكون غير ا ّ‬
‫يستحق أن يحب لذاته ويعظم لذاته‪ ،‬كمال المحبة والتعظيم‪.‬‬

‫وكل مولود يولد على الفطرة فإنه ـ سبحانه ـ فطر القـلوب على أنه ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه‬
‫ل وحده‪ ،‬وإن كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور ومسموع وملموس يجد من نفسه‬ ‫وتنتهى إليه إل ا ّ‬
‫أن قلبه يطلب شيًئا سواه‪ ،‬ويحب أمًرا غيره يتألهه ويصمد إليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من هذه الجناس؛ ولهذا‬
‫ب{]الرعد‪ ،[28 :‬وفي الحديث الصحيح عن عياض بن حمار عن‬ ‫ن اْلُقُلو ُ‬
‫طَمِئ ّ‬
‫ل َت ْ‬ ‫ل تعالى في كتابه‪َ} :‬أ َ‬
‫ل ِبِذْكِر ا ِّ‬ ‫قال ا ّ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم عن ال تعالى قال‪) :‬إني خلقت عبادي حنفاَء فاجتالتهم الشياطين‪ ،‬وحرمت عليهم ما أحللت‬
‫لهم‪ ،‬وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا(‪ ،‬كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم أنه قال‪) :‬كل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه‪ ،‬كما تنتج ‪ /‬البهيمة بهيمة جمعاء‪،‬‬
‫ل َذِل َ‬
‫ك‬ ‫ق ا ِّ‬
‫خْل ِ‬
‫ل ِل َ‬
‫ل َتْبِدي َ‬
‫عَلْيَها َ‬
‫س َ‬
‫طَر الّنا َ‬
‫ل اّلِتي َف َ‬ ‫هل تحسون فيها من جدعاء(‪ ،‬ثم يقول أبو هريرة‪ :‬اقرؤوا إن شئتم‪ِ} :‬ف ْ‬
‫طَرةَ ا ِّ‬
‫الّديُن اْلَقّيُم{ ]الروم‪.[30 :‬‬

‫ل هو المستحق له على الكمال‪ ،‬وكل ما في غيره من‬ ‫ضا‪ ،‬فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فا ّ‬ ‫وأي ً‬
‫محبوب فهو منه ـ سبحانه وتعالى ـ فهو المستحق لن يحب على الحقيقة والكمال‪ .‬وإنكار محبة العبد لربه هو في‬
‫الحقيقة إنكار لكونه إلًها معبوًدا‪ ،‬كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه رًبا خالًقا‬
‫فصار إنكارها مستلزًما لنكار كونه رب العالمين‪ ،‬ولكونه إله العالمين‪ .‬وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود‪.‬‬

‫ل عليهما وسلمه ـ أن أعظم‬ ‫ولهذا اتفقت المتان قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى ـ صلوات ا ّ‬
‫ل بكل قلبك وعقلك وقصدك‪ ،‬وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم التي هي أصل شريعة التوراة‬ ‫الوصايا أن تحب ا ّ‬
‫والنجيل والقرآن‪ ،‬وإنكار ذلك هو مأخوذ عن المشركين والصابئين أعداء إبراهيم الخليل‪ ،‬ومن وافقهم على ذلك من‬
‫متفلسف ومتكلم ومتفقه ومبتدع أخذه عن هؤلء‪ ،‬وظهر ذلك في القرامطة الباطنية من السماعيلية؛ ولهذا قال الخليل‬
‫ن{‬‫ب اْلَعاَلِمي َ‬
‫عُدّو ِلي ِإلّ َر ّ‬‫ن ‪َ .‬فِإّنُهْم َ‬
‫لْقَدُمو َ‬ ‫ل وسلمه عليه ‪َ} :‬أَفَرَأْيُتْم َما ُكْنُتْم َتْعُبُدو َ‬
‫ن ‪َ .‬أْنُتْم َوآَباُؤُكْم ا َْ‬ ‫إمام الحنفاء ـ صلوات ا ّ‬
‫ن َأَتى‬
‫ل َم ْ‬‫ن ‪ِ .‬إ ّ‬
‫ل َبُنو َ‬
‫ل َو َ‬ ‫ن{ ]النعام‪ ،[76 :‬وقال تعالى‪َ} :‬يْوَم َ‬
‫ل َيْنَفُع َما ٌ‬ ‫لِفِلي َ‬ ‫با ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ضا‪َ } :‬‬
‫ل ُأ ِ‬ ‫]الشعراء‪75 :‬ـ ‪ ، [77‬وقال أي ً‬
‫ب َسِليٍم{ ]الشعراء‪ [89 ،88 :‬وهو السليم من الشرك‪.‬‬ ‫ل ِبَقْل ٍ‬
‫ا َّ‬

‫وأما قولهم‪ :‬إنه ل مناسبة بين المحدث والقديم توجب محبته له وتمتعه بالنظر إليه‪ .‬فهذا الكلم مجمل‪ ،‬فإن أرادوا‬
‫بالمناسبة أنه ليس بينهما توالد فهذا حق‪ ،‬وإن أرادوا أنه ليس بينهما من المناسبة ما بين الناكح والمنكوح والكل‬
‫ضا حق‪ ،‬وإن أرادوا أنه ل مناسبة بينهما توجب أن يكون أحدهما محًبا عابًدا والخر‬‫والمأكول أو نحو ذلك فهذا أي ً‬
‫معبوًدا محبوًبا فهذا هو رأس المسألة‪ ،‬فالحتجاج به مصادرة على المطلوب‪ ،‬ويكفي في ذلك المنع‪.‬‬

‫ثم يقال‪ :‬بل ل مناسبة تقتضي المحبة الكاملة إل المناسبة التي بين المخلوق والخالق‪ ،‬الذي ل إله غيره‪ ،‬الذي هو في‬
‫ل معبوًدا في‬
‫السماء إله وفي الرض إله‪ ،‬وله المثل العلى في السموات والرض‪ .‬وحقيقة قول هؤلء جحد كون ا ّ‬
‫ل محًبا في الحقيقة‪،‬‬
‫الحقيقة؛ ولهذا وافق على هذه المسألة طوائف من الصوفية المتكلمين الذين ينكرون أن يكون ا ّ‬
‫فأقروا بكونه محبوًبا ومنعوا كونه محًبا؛ لنهم تصوفوا مع ما كانوا عليه من قول أولئك المتكلمة‪ ،‬فأخذوا عن‬
‫الصوفية مذهبهم في المحبة وإن كانوا قد يخلطون فيه‪ ،‬وأصل إنكارها إنما هو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية‪،‬‬
‫فأما محبة الرب عبده فهم لها أشد إنكاًرا‪ .‬ومنكروها قسمان‪:‬‬

‫‪/‬قسم يتأولونها بنفس المفعولت التي يحبها العبد فيجعلون محبته نفس خلقه‪.‬‬

‫وقسم يجعلونها نفس إرادته لتلك المفعولت‪ .‬وقد بسطنا الكلم في ذلك في قواعد الصفات والقدر وليس هذا موضعها‪.‬‬

‫ل يحب ويرضى ما أمر بفعله من واجب‬ ‫ومن المعلوم أنه قد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف المة على أن ا ّ‬
‫ومستحب‪ ،‬وإن لم يكن ذلك موجوًدا‪ ،‬وعلى أنه قد يريد وجود أمور يبغضها ويسخطها من العيان والفعال كالفسق‬
‫ضى ِلِعَباِدهِ اْلُكْفَر{ ]الزمر‪.[7 :‬‬ ‫ساَد{ ]البقرة‪ ، [205 :‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َيْر َ‬ ‫ب اْلَف َ‬
‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬وا ُّ‬
‫ل َ‬ ‫والكفر‪ ،‬وقد قال ا ّ‬

‫والمقصود هنا إنما هو ذكر محبة العباد للههم‪.‬‬

‫وقد تبين أن ذلك هو أصل أعمال اليمان‪ ،‬ولم يتبين بين أحد من سلف المة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان نزاع‬
‫ل أن تحرك به من أنواع العبادات الشرعية‪ ،‬كالعرفان اليماني‬ ‫في ذلك‪ ،‬وكانوا يحركون هذه المحبة بما شرع ا ّ‬
‫ب َوَل اِْليَماُن{إلى آخر السورة‬
‫ن َأْمِرَنا َما ُكْنتَ َتْدِري َما اْلِكَتا ُ‬
‫حا ِم ْ‬
‫ك ُرو ً‬‫حْيَنا ِإَلْي َ‬ ‫والسماع الفرقاني‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وَكَذِل َ‬
‫ك َأْو َ‬
‫]الشورى‪.[53 ،52 :‬‬
‫‪/‬ثم إنه لما طال المد صار في طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكر هذه المحبة‪.‬‬

‫وصار في بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير‪ ،‬وسماع المكاء والتصدية‪،‬‬
‫فيسمعون من القوال والشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذي يحرك من كل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح‬
‫لمحب الوثان والصلبان والخوان والوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن‪ ،‬ولكن كان الذين‬
‫يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكان والمكان والخلن‪ ،‬وربما اشترطوا له الشيخ الذي يحرس من الشيطان‪،‬‬
‫ثم توسع في ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه إلى أنواع من المعاصي‪ ،‬بل إلى أنواع من الفسوق‪ ،‬بل خرج فيه طوائف‬
‫إلى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الشعار التي فيها الكفر واللحاد‪ ،‬مما هو من أعظم أنواع الفساد‪،‬‬
‫وينتج ذلك لهم من الحوال بحسبه‪ ،‬كما تنتج لعباد المشركين وأهل الكتاب عباداتهم بحسبها‪.‬‬

‫ل‪ :‬من تكلف السماع فتن به‪ ،‬ومن صادفه السماع استراح به‪،‬‬ ‫والذي عليه محققو المشائخ أنه كما قال الجنيد ـ رحمه ا ّ‬
‫ومعنى ذلك أنه ل يشرع الجتماع لهذا السماع المحدث‪ ،‬ول يؤمر به‪ ،‬ول يتخذ ذلك ديًنا‪ ،‬وقربة‪ ،‬فإن القرب‬
‫ل ول دين إل ما شرعه‬ ‫ل وسلمه عليهم ـ فكما أنه ل حرام إل ما حرمه ا ّ‬ ‫والعبادات إنما تؤخذ عن الرسل ـ صلوات ا ّ‬
‫ن ُكْنُتْم‬ ‫ل{ ]الشورى‪[21 :‬؛ ولهذا قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬ ‫ن ِبِه ا ُّ‬
‫ن َما َلْم َيْأَذ ْ‬
‫ن الّدي ِ‬
‫عوا َلُهْم ِم ْ‬
‫شَر ُ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬أْم َلُهْم ُ‬
‫شَرَكاُء َ‬ ‫ل‪ .‬قال ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫ل موجبة لمتابعة رسوله‪ ،‬وجعل‬ ‫ل َوَيْغِفْر َلُكْم ُذُنوَبُكْم{ ]آل عمران‪ ،[31 :‬فجعل محبتهم ّ‬ ‫حِبْبُكْم ا ُّ‬
‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬
‫ن ا َّ‬
‫حّبو َ‬
‫ُت ِ‬
‫ل عنه‪ :‬عليكم بالسبيل والسنة‪ ،‬فإنه ما من عبد على‬ ‫ل لهم‪ ،‬قال أبي بن كعب ـ رضي ا ّ‬ ‫متابعة رسوله موجبة لمحبة ا ّ‬
‫ل إل تحاتت عنه خطاياه‪ ،‬كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة‪ ،‬وما‬ ‫ل فاقشعر جلده من مخافة ا ّ‬ ‫السبيل والسنة ذكر ا ّ‬
‫ل خالًيا ففاضت عيناه من خشية الّ إل لم تمسه النار أبًدا‪ ،‬وإن اقتصاًدا في سبيل‬ ‫من عبد على السبيل والسنة ذكر ا ّ‬
‫وسنة خير من اجتهاد في خلف سبيل وسنة‪ ،‬فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصاًدا واجتهاًدا على منهاج النبياء‬
‫وسنتهم‪ ،‬وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫فلو كان هذا مما يؤمر به ويستحب وتصلح به القلوب للمعبود المحبوب‪ ،‬لكان ذلك مما دلت الدلة الشرعية عليه‪.‬‬
‫ومن المعلوم أنه لم يكن في القرون الثلثة المفضلة التي قال فيها النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬خير القرون قرني الذي‬
‫بعثت فيه‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم( ل في الحجاز‪ ،‬ول في الشام‪ ،‬ول في اليمن‪ ،‬ول في العراق‪ ،‬ول في‬
‫خَراسان أحد من أهل الخير والدين يجتمع على السماع المبتدع لصلح القلوب؛ ولهذا كرهه الئمة‬ ‫مصر‪ ،‬ول في ُ‬
‫كالمام أحمد وغيره‪ ،‬حتى عده الشافعي من أحداث الزنادقة حين قال‪ :‬خلفت ببغداد شيًئا أحدثه الزنادقة يسمونه‬
‫التغبير ‪ ،‬يصدون به الناس عن القرآن‪.‬‬

‫‪/‬وأما ما لم يقصده النسان من الستماع‪ ،‬فل يترتب عليه ل نهي ول ذم باتفاق الئمة؛ ولهذا إنما يترتب الذم والمدح‬
‫على الستماع ل على السماع‪ ،‬فالمستمع للقرآن يثاب عليه والسامع له من غير قصد وإرادة ل يثاب على ذلك؛إذ‬
‫العمال بالنيات‪ ،‬وكذلك ما ينهى عن استماعه من الملهي لو سمعه السامع بدون قصده لم يضره ذلك‪ ،‬فلو سمع‬
‫السامع بيًتا يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود وأزعج قاطنه المحبوب أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما‬
‫ل وترك‬‫ل ورسوله إلى محبته التي تتضمن فعل ما يحبه ا ّ‬ ‫ينهى عنه‪ ،‬وكان المحمود الحسن حركة قلبه التي يحبها ا ّ‬
‫ل يقول‪:‬‬
‫ل‪ ،‬كالذي اجتاز بيًتا فسمع قائ ً‬
‫ما يكرهه ا ّ‬

‫كل يوم تتلون ** غير هذا بك أجمل‬

‫فأخذ منه إشارة تناسب حاله‪ ،‬فإن الشارات من باب القياس والعتبار وضرب المثال‪.‬‬

‫ومسألة ]السماع[ كبيرة منتشرة قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن المقاصد المطلوبة للمريدين تحصل بالسماع اليماني القرآني النبوي الديني الشرعي الذي هو‬
‫عَلْيِهْم ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ل َ‬ ‫ن َأْنَعَم ا ُّ‬ ‫ل تعالى‪ُ} :‬أْوَلِئ َ‬
‫ك اّلِذي َ‬ ‫سماع النبيين‪ ،‬وسماع العالمين‪ ،‬وسماع العارفين‪ ،‬وسماع المؤمنين‪ .‬قال ا ّ‬
‫ن ُأوُتوا‬ ‫جًدا َوُبِكّيا{ ]مريم‪ ،[58 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬ ‫سّ‬ ‫خّروا ُ‬‫ن َ‬‫حَما ِ‬‫ت الّر ْ‬ ‫ن ُذّرّيِة آَدَم{إلى قوله‪ِ} :‬إَذا ُتْتَلى َ‬
‫عَلْيِهْم آَيا ُ‬ ‫ن مِ ْ‬‫الّنِبّيي َ‬
‫لْذَقاِن ُسّجًدا{ إلى قوله‪َ} :‬وَيِزيُدُهْم ُخُشوًعا{ ]السراء‪107 :‬ــ ‪ ،[109‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ن ِل َْ‬
‫خّرو َ‬‫عَلْيِهْم َي ِ‬
‫ن َقْبِلِه ِإَذا ُيْتَلى َ‬
‫اْلِعْلَم ِم ْ‬
‫ق{ ]المائدة‪ ،[83 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إّنَما‬ ‫حّ‬
‫ن اْل َ‬
‫عَرُفوا ِم ْ‬
‫ن الّدْمِع ِمّما َ‬
‫ض ِم ْ‬
‫عُيَنُهْم َتِفي ُ‬
‫ل َتَرى َأ ْ‬ ‫سو ِ‬
‫ل ِإَلى الّر ُ‬ ‫سِمُعوا َما ُأنِز َ‬ ‫}َوِإَذا َ‬
‫ت َعَلْيِهْم آياُتُه َزاَدْتُهْم ِإيَماًَنا َوَعَلى َرّبِهْم َيَتَوّكُلوَن{ ]النفال‪ ،[2 :‬وقال تعالى‪:‬‬
‫ت ُقُلوُبُهْم َوِإَذا ُتِلَي ْ‬
‫جَل ْ‬ ‫ل َو ِ‬‫ن ِإَذا ُذِكَر ا ُّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ي َتْقَشِعّر ِمْنُه ُجُلوُد اّلِذيَن َيْخَشْوَن َرّبُهْم{ الية ]الزمر‪.[23 :‬‬ ‫شاِبًها َمَثاِن َ‬‫ث ِكَتاًبا ُمَت َ‬
‫حِدي ِ‬ ‫ن اْل َ‬
‫سَ‬‫حَ‬ ‫ل َأ ْ‬
‫ل َنّز َ‬
‫}ا ُّ‬

‫عنْ‬
‫ل َ‬ ‫ضّ‬ ‫ث ِلُي ِ‬
‫حِدي ِ‬ ‫شَتِري َلْهَو اْل َ‬ ‫ن َي ْ‬‫س َم ْ‬‫ن الّنا ِ‬‫وكما مدح المقبلين على هذا السماع فقد ذم المعرضين عنه في مثل قوله‪َ} :‬وِم ْ‬
‫شْرُه ِبَعَذا ٍ‬
‫ب‬ ‫ن ِفي ُأُذَنْيِه َوْقًرا َفَب ّ‬
‫سَمْعَها َكَأ ّ‬
‫ن َلْم َي ْ‬‫سَتْكِبًرا َكَأ ْ‬ ‫خَذَها ُهُزًوا{ إلى قوله‪َ} :‬وِإَذا ُتْتَلى َ‬
‫عَلْيِه آَياُتَنا َوّلى ُم ْ‬ ‫عْلٍم َوَيّت ِ‬
‫ل ِبَغْيِر ِ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫َ‬
‫صّما َوُعْمَياًنا{ ]الفرقان‪ ،[73 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫عَلْيَها ُ‬ ‫خّروا َ‬ ‫ت َرّبِهْم َلْم َي ِ‬
‫ن ِإَذا ُذّكُروا ِبآَيا ِ‬ ‫َأِليٍم{]لقمان‪ ،[7 ،6 :‬وقال تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ت ِمْن َقْسَوَرٍة{]المدثر‪ 49 :‬ـ ‪.[51‬‬ ‫سَتْنِفَرٌة ‪َ .‬فّر ْ‬
‫حُمٌر ُم ْ‬ ‫ضينَ‪َ .‬كَأّنُهْم ُ‬
‫ن الّتْذِكَرِة ُمْعِر ِ‬
‫عْ‬ ‫}َفَما َلُهْم َ‬

‫ل ِفيِهْم َخْيًرا َلْسَمَعُهْم{ الية ]النفال‪،[23 ،22 :‬‬


‫عِلَم ا ُّ‬
‫ن ‪َ .‬وَلْو َ‬ ‫ل َيْعِقُلو َ‬
‫ن َ‬ ‫صّم اْلُبْكُم اّلِذي َ‬
‫ل ال ّ‬‫عْنَد ا ِّ‬
‫ب ِ‬ ‫شّر الّدَوا ّ‬ ‫ن َ‬ ‫وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫عْ‬
‫ن‬ ‫ن{]فصلت‪ ،[26 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فَما َلُهْم َ‬ ‫ن َواْلَغْوا ِفيِه َلَعّلُكْم َتْغِلُبو َ‬
‫سَمُعوا ِلَهَذا اْلُقْرآ ِ‬
‫ل َت ْ‬‫ن َكَفُروا َ‬ ‫ل اّلِذي َ‬‫وقال تعالى‪َ} :‬وَقا َ‬
‫ت ِمْن َقْسَوَرٍة{ ]المدثر‪ 49 :‬ـ ‪ [51‬ومثل هذا كثير في القرآن‪.‬‬ ‫سَتْنِفَرٌة ‪َ .‬فّر ْ‬
‫حُمٌر ُم ْ‬
‫ضينَ‪َ .‬كَأّنُهْم ُ‬ ‫الّتْذِكَرِة ُمْعِر ِ‬

‫وهذا كان سماع سلف المة وأكابر مشائخها وأئمتها كالصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشائخ كإبراهيم بن أدهم‪،‬‬
‫والفضيل بن عياض‪ ،‬وأبي سليمان الداراني‪ ،‬ومعروف الكرخي‪ ،‬ويوسف بن أسباط‪ ،‬وحذيفة المرعشي‪ ،‬وأمثال‬
‫هؤلء‪.‬‬

‫ل عنه ـ يقول لبي موسى الشعري‪ :‬يا أبا موسى‪ ،‬ذكرنا ربنا‪ ،‬فيقرأ وهم يسمعون‬ ‫وكان عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ‬
‫ويبكون‪ .‬وكان أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحًدا منهم أن يقرأ القرآن والباقي يستمعون‪،‬‬
‫وقد ثبت في الصحيح‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم مر بأبي موسى الشعري وهو يقرأ‪ ،‬فجعل يستمع لقراءته وقال‪:‬‬
‫)لقد أوتي هذا مزماًرا من مزامير آل داود(‪ ،‬وقال‪) :‬مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك(‪ ،‬فقال‪ :‬لو‬
‫علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا‪ ،‬أي‪ :‬لحسنته لك تحسيًنا‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪) :‬زينوا القرآن بأصواتكم(‪،‬‬
‫عا ـ كقوله‪:‬‬
‫ل أشد أذًنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته( ـ أذنا أي‪ :‬استما ً‬ ‫وقال‪ّ ) :‬‬
‫ل لشيء ما أذن لنبي حسن‬ ‫ت{ ]النشقاق‪ [2 :‬أي‪ :‬استمعت‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪) :‬ما أذن ا ّ‬ ‫حّق ْ‬
‫ت ِلَرّبَها َو ُ‬
‫}َوَأِذَن ْ‬
‫الصوت‪ ،‬يتغنى بالقرآن يجهر به(‪ ،‬وقال‪) :‬ليس منا من لم يتغن بالقرآن(‪.‬‬

‫‪/‬ولهذا السماع من المواجيد العظيمة‪ ،‬والذواق الكريمة‪ ،‬ومزيد المعارف والحوال الجسيمة ما ل يتسع له خطاب‪،‬‬
‫ول يحويه كتاب‪ ،‬كما أن في تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم واليمان ما ل يحيط به بيان‪.‬‬

‫ل{ ]آل عمران‪،[31 :‬‬ ‫حِبْبُكْم ا ُّ‬


‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬
‫ن ا َّ‬
‫حّبو َ‬
‫ن ُكْنُتْم ُت ِ‬ ‫ل ـ سبحانه ـ قال في كتابه‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬ ‫ومما ينبغي التفطن له أن ا ّ‬
‫ن ُكْنُتْم‬ ‫ل هذه الية‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬ ‫ل فأنزل ا ّ‬ ‫قال طائفة من السلف‪ :‬ادعي قوم على عهد النبي صلى ال عليه وسلم أنهم يحبون ا ّ‬
‫ل{ الية ‪ ،‬فبين ـ سبحانه ـ أن محبته توجب اتباع الرسول‪ ،‬وأن اتباع الرسول يوجب محبة‬ ‫حِبْبُكْم ا ُّ‬
‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬
‫ن ا َّ‬
‫حّبو َ‬
‫ُت ِ‬
‫ل‪ ،‬فإن هذا الباب تكثر فيه الدعاوى والشتباه؛ ولهذا يروي‬ ‫ل بها أهل دعوى محبة ا ّ‬ ‫ل للعبد‪ ،‬وهذه محبة امتحن ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫عن ذي النون المصري أنهم تكلموا في مسألة المحبة عنده فقال‪ :‬اسكتوا عن هذه المسألة لئل تسمعها النفوس فتدعيها‪.‬‬

‫ل بالخوف وحده فهو حروري‪ ،‬ومن عبده بالرجاء‬ ‫ل بالحب وحده فهو زنديق‪ ،‬ومن عبد ا ّ‬ ‫وقال بعضهم‪ :‬من عبد ا ّ‬
‫وحده فهو مرجئ‪ ،‬ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد‪ ،‬وذلك؛ لن الحب المجرد تنبسط النفوس فيه‬
‫ل َوَأِحّباُؤُه{ ]المائدة‪:‬‬
‫ن َأْبَناُء ا ِّ‬
‫حُ‬‫ل حتى قالت اليهود والنصارى‪َ} :‬ن ْ‬ ‫حتى تتوسع في أهوائها‪ ،‬إذا لم يزعها وازع الخشية ّ‬
‫‪ ،[18‬ويوجد في مدعي المحبة من مخالفة الشريعة ما ل يوجد في أهل الخشية؛ ولهذا قرن الخشية بها في قوله‪/ :‬‬
‫ك َيْوُم اْلُخُلوِد{]ق‪32 :‬ـ ‪.[34‬‬ ‫لٍم َذِل َ‬
‫سَ‬‫خُلوَها ِب َ‬
‫ب ‪ .‬اْد ُ‬
‫ب ُمِني ٍ‬
‫جاَء ِبَقْل ٍ‬
‫ب َو َ‬
‫ن ِباْلَغْي ِ‬
‫حَما َ‬
‫ي الّر ْ‬
‫شَ‬‫خِ‬
‫ن َ‬
‫ظ‪َ .‬م ْ‬
‫حِفي ٍ‬
‫ب َ‬‫ل َأّوا ٍ‬
‫ن ِلُك ّ‬
‫عُدو َ‬
‫}َهَذا َما ُتو َ‬

‫وكان المشائخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير‬
‫خشية؛ لما في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة‪ ،‬وما وقع في هؤلء من فساد العتقاد‪ ،‬والعمال‬
‫أوجب إنكار طوائف لصل طريقة المتصوفة بالكلية‪ ،‬حتى صار المنحرفون صنفين ‪:‬‬

‫صنف يقر بحقها وباطلها‪.‬‬

‫وصنف ينكر حقها وباطلها‪ ،‬كما عليه طوائف من أهل الكلم والفقه‪.‬‬
‫والصواب إنما هو القرار بما فيها ‪ ،‬وفي غيرها من موافقة الكتاب‪ ،‬والسنة ‪ ،‬والنكار لما فيها وفي غيرها من‬
‫مخالفة الكتاب والسنة‪.‬‬

‫ل َوَيْغِفْر َلُكْم ُذُنوَبُكْم{‪ ،‬فاتباع سنة رسوله صلى ال عليه وسلم‬


‫حِبْبُكْم ا ُّ‬
‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬
‫ن ا َّ‬
‫حّبو َ‬
‫ن ُكْنُتْم ُت ِ‬ ‫وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ل‪ ،‬كما أن الجهاد في سبيله‪ ،‬وموالة أوليائه‪ ،‬ومعاداة أعدائه هو حقيقتها‪،‬‬ ‫وشريعته باطًنا وظاهًرا هي موجب محبة ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وأبغض ّ‬ ‫ل(‪ / ،‬وفي الحديث‪) :‬من أحب ّ‬ ‫ل‪ ،‬والبغض في ا ّ‬ ‫كما في الحديث‪) :‬أوثق عرى اليمان الحب في ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فقد استكمل اليمان(‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬ومنع ّ‬ ‫وأعطى ّ‬

‫وكثير ممن يدعي المحبة هو أبعد من غيره عن اتباع السنة‪ ،‬وعن المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬والجهاد في‬
‫ل ليس فيه غيره‪ ،‬ول‬ ‫ل‪ ،‬ويدعي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره؛ لزعمه أن طريق المحبة ّ‬ ‫سبيل ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ يوم القيامة‪) :‬أين‬
‫ل‪ ،‬وهذا خلف ما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا في الحديث المأثور‪ ،‬يقول ا ّ‬
‫غضب ّ‬
‫ل تنبيه على ما في‬‫المتحابون بجللي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم ل ظل إل ظلي(‪ ،‬فقوله‪ :‬أين المتحابون بجلل ا ّ‬
‫ل وتعظيمه مع التحاب فيه‪ ،‬وبذلك يكونون حافظين لحدوده‪ ،‬دون الذين ل يحفظون حدوده لضعف‬ ‫قلوبهم من إجلل ا ّ‬
‫اليمان في قلوبهم‪ ،‬وهؤلء الذين جاء فيهم الحديث‪) :‬حقت محبتي للمتحابين في‪ ،‬وحقت محبتي للمتجالسين في‪،‬‬
‫ل كثيرة‪.‬‬
‫وحقت محبتي للمتزاورين في‪ ،‬وحقت محبتي للمتباذلين في(‪ ،‬والحاديث في المتحابين في ا ّ‬

‫ل في ظله يوم‬ ‫ل عنه‪) :‬سبعة يظلهم ا ّ‬


‫وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه‪،‬‬‫ل ظل إل ظله‪ ،‬إمام عادل‪ ،‬وشاب نشأ في عبادة ا ّ‬
‫ل اجتمعا وتفرقا عليه‪ .‬ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم شماله ما تنفق يمينه‪ ،‬ورجل‬ ‫ورجلن تحابا في ا ّ‬
‫ل خالًيا ففاضت عيناه‪ ،‬ورجل دعته امرأة ‪ /‬ذات منصب وجمال فقال‪ :‬إني أخاف ال رب العالمين(‪.‬‬ ‫ذكر ا ّ‬

‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ ولها أصلن‪:‬‬


‫وأصل المحبة‪ :‬هو معرفة ا ّ‬

‫أحدهما‪ :‬وهو الذي يقال له‪ :‬محبة العامة؛ لجل إحسانه إلى عباده‪ ،‬وهذه المحبة على هذا الصل ل ينكرها أحد‪ ،‬فإن‬
‫القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها‪ ،‬وبغض من أساء إليها‪ ،‬والّ ـ سبحانه ـ هو المنعم المحسن إلى عبده‬
‫بالحقيقة‪ ،‬فإنه المتفضل بجميع النعم‪ ،‬وإن جرت بواسطة‪ ،‬إذ هو ميسر الوسائط؛ ومسبب السباب‪ ،‬ولكن هذه المحبة‬
‫ل نفسه‪ ،‬فما أحب العبد في الحقيقة إل نفسه‪ ،‬وكذلك كل من أحب شيًئا لجل‬ ‫في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة ا ّ‬
‫إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إل نفسه‪ .‬وهذا ليس بمذموم بل محمود‪.‬‬

‫ل‪،‬‬
‫ل لما يغذوكم به من نعمه‪ ،‬وأحبوني لحب ا ّ‬‫وهذه المحبة هي المشار إليها بقوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬أحبوا ا ّ‬
‫ل ما يستوجب أنه يحبه إل إحسانه إليه‪،‬‬
‫وأحبوا أهلي بحبي(‪ ،‬والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة ا ّ‬
‫ل على نوعين‪:‬‬‫وهذا كما قالوا‪ :‬إن الحمد ّ‬

‫حمد هو شكر‪ ،‬وذلك ل يكون إل على نعمته‪.‬‬

‫وحمد هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه ـ سبحانه ـ ‪ /‬فكذلك الحب‪ ،‬فإن الصل الثاني فيه هو‬
‫ل ما يستحق أن يحب لجله‪ ،‬وما من وجه من الوجوه التي يعرف‬ ‫محبته لما هو له أهل‪ ،‬وهذا حب من عرف من ا ّ‬
‫ل بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إل وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولته؛ إذ كل نعمة‬ ‫ا ّ‬
‫منه فضل‪ ،‬وكل نقمة منه عدل؛ ولهذا استحق أن يكون محموًدا على كل حال‪ ،‬ويستحق أن يحمد على السراء‪،‬‬
‫والضراء‪ ،‬وهذا أعلى وأكمل‪ ،‬وهذا حب الخاصة‪.‬‬

‫وهؤلء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم‪ ،‬ويتلذذون بذكره ومناجاته‪ ،‬ويكون ذلك لهم أعظم من الماء‬
‫للسمك‪ ،‬حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من اللم ما ل يطيقون‪ ،‬وهم السابقون كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة‬
‫ل عنه ـ قال‪ :‬مر النبي صلى ال عليه وسلم بجبل يقال له‪ :‬جمدان‪ ،‬فقال‪) :‬سيروا هذا جمدان‪ ،‬سبق‬ ‫ـ رضي ا ّ‬
‫ل كثيًرا والذاكرات(‪ ،‬وفي رواية أخرى قال‪:‬‬ ‫ل‪ ،‬من المفردون؟ قال‪) :‬الذاكرون ا ّ‬ ‫المفردون(‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ل يضع الذكر عنهم أثقالهم‪ ،‬فيأتون ال يوم القيامة خفاًفا( والمستهتر بذكر ال يتولع به ينعم به‬
‫)المستهترون بذكر ا ّ‬
‫كلف ل يفتر منه‪.‬‬
‫ل عنهما ـ قال‪ :‬قال موسى‪ :‬يا رب‪ ،‬أي عبادك أحب‬ ‫وفي حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس ـ رضي ا ّ‬
‫إليك؟ قال‪ :‬الذي يذكرني ول ينساني‪ ،‬قال‪ :‬أي عبادك أعلم؟ قال‪ :‬الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدله على‬
‫‪ /‬هدى أو ترده عن ردى‪ ،‬قال أي عبادك أحكم؟ قال‪ :‬الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما‬
‫يحكم لنفسه)‪ .(3‬فذكر في هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ ما يظن في محبة غيره مما هو من جنس‬‫ومما ينبغي التفطن له أنه ل يجوز أن يظن في باب محبة ا ّ‬
‫التجني‪ ،‬والهجر‪ ،‬والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك‪ ،‬مما قد يغلط فيه طوائف من الناس‪ ،‬حتى يتمثلون في حبه بجنس ما‬
‫يتمثلون به في حب من يصد ويقطع بغير ذنب‪ ،‬أو يبعد من يتقرب إليه‪ ،‬وإن غلط في ذلك من غلط من المصنفين في‬
‫ل الحجة البالغة‪.‬‬
‫ل‪ ،‬بل ّ‬
‫رسائلهم حتى يكون مضمون كلمهم إقامة الحجة على ا ّ‬

‫ل تعالى‪ :‬من ذكرني في‬ ‫وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪) :‬يقول ا ّ‬
‫عا‪ ،‬ومن‬
‫نفسه ذكرته في نفسي‪ ،‬ومن ذكرني في مل ذكرته في مل خير منه‪ ،‬ومن تقرب إلى شبًرا تقربت إليه ذرا ً‬
‫ل تعالى‪) :‬أهل ذكري‬‫عا‪ ،‬ومن أتاني يمشي أتيته هرولة(‪ .‬وفي بعض الثار يقول ا ّ‬ ‫عا تقربت إليه با ً‬
‫تقرب إلى ذرا ً‬
‫أهل مجالستي‪ ،‬وأهل شكري أهل زيادتي‪ ،‬وأهل طاعتي أهل كرامتي‪ ،‬وأهل معصيتي ل أؤيسهم من رحمتي‪ ،‬وإن‬
‫ل يحب التوابين ـ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم‪ ،‬أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب(‪.‬‬ ‫تابوا فأنا حبيبهم ـ لن ا ّ‬

‫ضًما{ ]طه‪ ،[112 :‬قالوا‪ :‬الظلم‪ :‬أن يحمل‬ ‫ل َه ْ‬


‫ظْلًما َو َ‬
‫ف ُ‬
‫خا ُ‬
‫ل َي َ‬
‫ن َف َ‬
‫ت َوُهَو ُمْؤِم ٌ‬
‫حا ِ‬
‫صاِل َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ل ِم ْ‬ ‫‪/‬وقد قال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َيْعَم ْ‬
‫ظِلُموَن{ ]النحل‪:‬‬
‫سُهْم َي ْ‬
‫ن َكاُنوا َأنُف َ‬ ‫عليه سيئات غيره‪ ،‬والهضم‪ :‬أن ينقص من حسنات نفسه‪ .‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ‬
‫ل تعالى‪ :‬يا‬
‫ل عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬يقول ا ّ‬ ‫‪ ،[118‬وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر ـ رضي ا ّ‬
‫عبادي‪ ،‬إني حرمت الظلم على نفسي‪ ،‬وجعلته بينكم محرًما فل تظالموا‪ ،‬ياعبادي‪ ،‬كلكم ضال إل من هديته‪،‬‬
‫فاستهدوني أهدكم‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬كلكم جائع إل من أطعمته‪ ،‬فاستطعموني أطعمكم‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬كلكم عار إل من كسوته‬
‫فاستكسوني أكسكم‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ول أبالي فاستغفروني أغفر لكم‪،‬‬
‫ياعبادي‪ ،‬إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني‪ ،‬ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم‬
‫كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم‪ ،‬ما زاد ذلك في ملكي شيئا‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم‪،‬‬
‫كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيًئا‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم‬
‫اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إل كما ينقص المخيط إذا‬
‫ل‪ ،‬ومن وجد غير‬ ‫غمس في البحر‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها‪ ،‬فمن وجد خيًرا فليحمد ا ّ‬
‫ن إل نفسه(‪.‬‬ ‫ذلك فل يلوم ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬سيد‬ ‫ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس قال‪ :‬قال ‪ /‬رسول ا ّ‬
‫ل أنت‪ ،‬خلقتني وأنا عبدك‪ ،‬وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت‪،‬‬ ‫الستغفار أن يقول العبد‪ :‬اللهم أنت ربي ل إله إل ا ّ‬
‫أعوذ بك من شر ما صنعت‪ ،‬أبوء لك بنعمتك على‪ ،‬وأبوء بذنبي فاغفرلي‪ ،‬فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت‪ .‬من قالها إذا‬
‫أصبح موقًنا بها فمات في يومه دخل الجنة‪ ،‬ومن قالها إذا أمسى موقًنا بها فمات من ليلته دخل الجنة(‪.‬‬

‫ل يحتاج فيها إلى شكر‪ ،‬وذنب منه يحتاج فيه إلى الستغفار‪ ،‬وكل من هذين من المور‬ ‫فالعبد دائما بين نعمة من ا ّ‬
‫جا إلى التوبة والستغفار‪.‬‬
‫ل وآلئه‪ ،‬ول يزال محتا ً‬
‫اللزمة للعبد دائًما‪ ،‬فإنه ل يزال يتقلب في نعم ا ّ‬

‫ولهذا كان سيد ولد آدم‪ ،‬وإمام المتقين محمد صلى ال عليه وسلم يستغفر في جميع الحوال‪ .‬وقال صلى ال عليه‬
‫ل‪ ،‬وأتوب إليه في اليوم‬
‫وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري‪) :‬أيها الناس‪ ،‬توبوا إلى ربكم‪ ،‬فإني لستغفر ا ّ‬
‫ل في اليوم مائة مرة(‪ ،‬وقال‬‫أكثر من سبعين مرة(‪ ،‬وفي صحيح مسلم أنه قال‪) :‬إنه ليغان على قلبي‪ ،‬وإني لستغفر ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم في المجلس الواحد يقول‪) :‬رب اغفر لي وتب على‪ ،‬إنك‬ ‫ل بن عمر‪ :‬كنا نعد لرسول ا ّ‬‫عبد ا ّ‬
‫أنت التواب الغفور‪ ،‬مائة مرة(‪.‬‬

‫‪/‬ولهذا شرع الستغفار في خواتيم العمال‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬واْلُمْسَتْغِفِريَن ِباَْلْسَحاِر{ ]آل عمران‪ ،[17 :‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫أحيوا الليل بالصلة فلما كان وقت السحر‪ ،‬أمروا بالستغفار‪ ،‬وفي الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا‬
‫انصرف من صلته استغفر ثلثا‪ ،‬وقال‪) :‬اللهم أنت السلم‪ ،‬ومنك السلم‪ ،‬تباركت ياذا الجلل والكرام( ‪ ،‬وقال‬
‫ل َغُفوٌر َرِحيٌم{]البقرة‪،198 :‬‬
‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬ ‫حَراِم{ إلى قوله‪َ} :‬وا ْ‬
‫سَتْغِفُروا ا َّ‬ ‫شَعِر اْل َ‬
‫عنَد اْلَم ْ‬
‫ل ِ‬
‫ت َفاْذُكُروْا ا ّ‬
‫عَرَفا ٍ‬
‫ن َ‬ ‫تعالى‪َ} :‬فِإَذا َأَف ْ‬
‫ضُتم ّم ْ‬
‫ل به مما لم يصل إليه أحد‬ ‫ل حق جهاده‪ ،‬وأتى بما أمر ا ّ‬ ‫ل نبيه بعد أن بلغ الرسالة‪ ،‬وجاهد في ا ّ‬ ‫‪ ،[199‬وقد أمر ا ّ‬
‫ن َتّواًبا{‬
‫سَتْغِفْرُه ِإّنُه َكا َ‬
‫ك َوا ْ‬
‫حْمِد َرّب َ‬
‫ح ِب َ‬
‫سّب ْ‬
‫جا ‪َ .‬ف َ‬
‫ل َأْفَوا ً‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ِفي ِدي ِ‬
‫خُلو َ‬
‫س َيْد ُ‬
‫ت الّنا َ‬
‫ح ‪َ .‬وَرَأْي َ‬
‫ل َواْلَفْت ُ‬
‫صُر ا ِّ‬ ‫غيره ‪ ،‬فقال تعالى‪َ } :‬‬
‫جاَء َن ْ‬
‫]سورة النصر[‪.‬‬

‫خِبيٍر ‪َ .‬أ ّ‬
‫ل‬ ‫حِكيٍم َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن َلُد ْ‬‫ت ِم ْ‬‫صَل ْ‬ ‫ت آَياُتُه ُثّم ُف ّ‬
‫حِكَم ْ‬ ‫ب ُأ ْ‬‫ل تعالى‪} :‬الر ِكَتا ٌ‬ ‫ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والستغفار‪ ،‬كما قال ا ّ‬
‫ل ِإّنِني َلُكْم ِمْنُه َنِذيٌر َوَبِشيٌر ‪َ .‬وَأْن اْسَتْغِفُروا َرّبُكْم ُثّم ُتوُبوا ِإَلْيِه ُيَمّتعُْكْم َمَتاًعا َحَسًنا{ الية ]هود‪1 :‬ـ ‪ ،[3‬وقـال‬
‫ل ا َّ‬
‫َتْعُبُدوا ِإ ّ‬
‫ت{‬
‫ن َواْلُمْؤِمَنا ِ‬
‫ك َوِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ‬
‫ل َوا ْ‬
‫ل ا ُّ‬‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬ ‫سَتْغِفُروُه{ ]فصلت‪ ،[6 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫عَلْم َأّنُه َ‬ ‫تعالـى‪َ} :‬فا ْ‬
‫سَتِقيُموا ِإَلْيِه َوا ْ‬
‫]محمد‪.[19 :‬‬

‫ل والستغفار( وقد قال يونس‪:‬‬ ‫ولهذا جاء في الحديث ‪) :‬يقول الشيطان ‪ :‬أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بل إله إل ا ّ‬
‫ظاِلِميَن{ ]النبياء‪ ،[87 :‬وكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا ركب دابته يحمد ا ّ‬
‫ل‬ ‫ن ال ّ‬
‫ت ِم ْ‬
‫ك ِإّني ُكن ُ‬
‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ت ُ‬
‫ل َأْن َ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫}َ‬
‫ثم يكبر ثلثا ويقول‪) :‬ل إله إل أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي( ‪ ،‬وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس‪:‬‬
‫ل على محمد وسلم‪.‬‬‫ل أعلم‪ ،‬وصلى ا ّ‬ ‫)سبحانك الّلهم وبحمدك ‪ ،‬أشهد أن ل إله إل أنت‪ ،‬أستغفرك وأتوب إليك(‪ .‬وا ّ‬

‫ل تعالى ‪:‬‬
‫‪/‬وقال شيخ السلم تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه ا ّ‬

‫ل فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل‬ ‫ل من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهد ا ّ‬
‫ل‪ ،‬نستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ با ّ‬ ‫الحمد ّ‬
‫ل عليه وعلى آله‬
‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمًدا عبده ور سوله‪ ،‬صلى ا ّ‬ ‫فل هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ا ّ‬
‫وأصحابه وسلم تسليًما‪.‬‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫شَفاِئَها‬
‫ب َو ِ‬
‫ض القُلو ِ‬
‫في َمَر ِ‬

‫ن ِفْتَنًة‬
‫طا ُ‬‫شْي َ‬‫ل َما ُيْلِقي ال ّ‬‫جَع َ‬ ‫ضا{ ]البقرة‪ ،[10 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬لَي ْ‬ ‫ل َمَر ً‬ ‫ض َفَزاَدُهْم ا ُّ‬‫قال ال تعالى عن المنافقين‪ِ} :‬في ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬
‫ن ِفي‬‫جُفو َ‬ ‫ض َواْلُمْر ِ‬‫ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬ ‫ن َواّلِذي َ‬ ‫سَيِة ُقُلوُبُهْم{ ]الحج‪ / ،[53 :‬وقال‪َ} :‬لِئ ْ‬
‫ن َلْم َيْنَتِه اْلُمَناِفُقو َ‬ ‫ض َواْلَقا ِ‬‫ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬ ‫ِلّلِذي َ‬
‫ن َوِلَيُقو َ‬
‫ل‬ ‫ب َواْلُمْؤِمُنو َ‬‫ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ‬ ‫ب اّلِذي َ‬ ‫ل{ ]الحزاب‪ ،[60 :‬وقال‪َ} :‬و َ‬
‫ل َيْرَتا َ‬ ‫ل َقِلي ً‬‫ك ِفيَها ِإ ّ‬‫جاِوُروَن َ‬ ‫ل ُي َ‬‫ك ِبِهْم ُثّم َ‬
‫اْلَمِديَنِة َلُنْغِرَيّن َ‬
‫شَفاٌء ِلَما‬‫ن َرّبُكْم َو ِ‬ ‫ظٌة ِم ْ‬‫عَ‬ ‫جاَءْتُكْم َمْو ِ‬‫ل{ ]المدثر‪ ،[31 :‬وقال تعالى‪َ} :‬قْد َ‬ ‫ل ِبَهَذا َمَث ً‬
‫ن َماَذا َأَراَد ا ُّ‬‫ض َواْلَكاِفُرو َ‬ ‫ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬ ‫اّلِذي َ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ن‬ ‫ل َيِزيُد ال ّ‬ ‫ن َو َ‬‫حَمٌة ِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫شَفاٌء َوَر ْ‬‫ن َما ُهَو ِ‬ ‫ن اْلُقْرآ ِ‬ ‫ل ِم ْ‬ ‫ن{ ]يونس‪ ،[57 :‬وقال‪َ} :‬وُنَنّز ُ‬ ‫حَمٌة ِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫صُدوِر َوُهًدى َوَر ْ‬ ‫ِفي ال ّ‬
‫ظ ُقُلوِبِهْم{ ]التوبة‪.[15 ،14 :‬‬ ‫غْي َ‬ ‫ن ‪َ .‬وُيْذِهبْ َ‬ ‫صُدوَر َقْوٍم ُمْؤِمِني َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫ساًرا{‪] ،‬السراء‪ ،[82 :‬وقال‪َ} :‬وَي ْ‬ ‫خَ‬ ‫ل َ‬ ‫ِإ ّ‬

‫ومرض البدن خلف صحته وصلحه‪ ،‬وهو فساد يكون فيه يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية‪ ،‬فإدراكه إما أن يذهب‬
‫كالعمى والصمم‪ ،‬وإما أن يدرك الشياء على خلف ما هي عليه كما يدرك الحلو مًرا‪ ،‬وكما يخيل إليه أشياء ل حقيقة‬
‫لها في الخارج‪.‬‬

‫وأما فساد حركته الطبيعية‪ ،‬فمثل أن تضعف قوته عن الهضم‪ ،‬أو مثل أن يبغض الغذية التي يحتاج إليها‪ ،‬ويحب‬
‫الشياء التي تضره‪ ،‬ويحصل له من اللم بحسب ذلك‪ ،‬ولكن مع ذلك المرض لم يمت ولم يهلك‪ ،‬بل فيه نوع قوة‬
‫على إدراك الحركة الرادية في الجملة‪ ،‬فيتولد من ذلك ألم يحصل في البدن إما بسبب فساد الكمية‪ ،‬أو الكيفية‪.‬‬

‫فالول‪ :‬إما نقص المادة فيحتاج إلى غذاء‪ ،‬وإما بسبب زيادتها‪ / ،‬فيحتاج إلى استفراغ‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬كقوة في الحرارة والبرودة خارج عن العتدال‪ ،‬فيداوى‪.‬‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫وكذلك مرض القلب‪ ،‬هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره‪ ،‬وإرادته‪ ،‬فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى ل‬
‫يرى الحق‪ ،‬أو يراه على خلف ما هو عليه‪ ،‬وإرادته بحيث يبغض الحق النافع‪ ،‬ويحب الباطل الضار‪ ،‬فلهذا يفسر‬
‫ض{ ]البقرة‪ [10 :‬أي‪ :‬شك‪ ،‬وتارة يفسر‬
‫المرض تارة بالشك والريب‪ .‬كما فسر مجاهد وقتادة قوله‪ِ} :‬في ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬
‫ض{ ]الحزاب‪.[32 :‬‬ ‫بشهوة الزنا كما فسر به قوله‪َ} :‬فَي ْ‬
‫طَمَع اّلِذي ِفي َقْلِبِه َمَر ٌ‬

‫ولهذا صنف الخرائطي كتاب ]اعتلل القلوب[ أي مرضها‪ ،‬وأراد به مرضها بالشهوة‪ ،‬والمريض يؤذيه ما ل يؤذي‬
‫الصحيح‪ ،‬فيضره يسير الحر والبرد والعمل ونحو ذلك‪ ،‬من المور التي ل يقوى عليها لضعفه بالمرض‪.‬‬

‫والمرض في الجملة يضعف المريض بجعل قوته ضعيفة ل تطيق ما يطيقه ‪ /‬القوي‪ ،‬والصحة تحفظ بالمثل‪ ،‬وتزال‬
‫بالضد‪ ،‬والمرض يقوى بمثل سببه‪ ،‬ويزول بضده‪ ،‬فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه‪ ،‬وزاد ضعف‬
‫قوته‪ ،‬حتى ربما يهلك‪ ،‬وإن حصل له ما يقوي القوة ويزيل المرض‪ ،‬كان بالعكس‪.‬‬

‫صُدورَ‬
‫ف ُ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬وَي ْ‬
‫ش ِ‬ ‫ومرض القلب ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك‪ ،‬فإن ذلك يؤلم القلب‪ .‬قال ا ّ‬
‫ظ ُقُلوِبِهْم{ ]التوبة‪ ،[15 ،14 :‬فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من اللم‪ ،‬ويقال‪ :‬فلن شفى‬‫غْي َ‬
‫ب َ‬
‫ن ‪َ .‬وُيْذِه ْ‬
‫َقْوٍم ُمْؤمِِني َ‬
‫غيظه‪ ،‬وفي القود استشفاء أولياء المقتول‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬فهذا شفاء من الغم والغيظ والحزن‪ ،‬وكل هذه آلم تحصل في‬
‫النفس‪.‬‬

‫ي السؤال(‪.‬‬
‫وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬هل سألوا إذا لم يعلموا‪ ،‬فإنما شفاء الِع ّ‬
‫والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه‪ ،‬حتى يحصل له العلم واليقين‪ ،‬ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق‪ :‬قد‬
‫شفاني بالجواب‪.‬‬

‫والمرض دون الموت‪ ،‬فالقلب يموت بالجهل المطلق‪ ،‬ويمرض بنوع من الجهل‪ ،‬فله موت ومرض‪ ،‬وحياة وشفاء‪،‬‬
‫وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه؛ فلهذا مرض القلب إذا ورد عليه شبهة‬
‫ل َما ُيْلِقي‬ ‫أو شهوة قوت مرضه‪ ،‬وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من ‪ /‬أسباب صلحه وشفائه‪ .‬قال تعالى‪ِ} :‬لَي ْ‬
‫جَع َ‬
‫ض{ ]الحج‪[53 :‬؛ لن ذلك أورث شبهة عندهم‪ ،‬والقاسية قلوبهم ليبسها فأولئك قلوبهم‬ ‫ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬
‫ن ِفْتَنًة ِلّلِذي َ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫ال ّ‬
‫ضعيفة بالمرض‪ ،‬فصار ما ألقى الشيطان فتنة لهم‪ ،‬وهؤلء كانت قلوبهم قاسية عن اليمان‪ ،‬فصار فتنة لهم‪.‬‬

‫ن ِفي‬ ‫ن ِفي اْلَمِديَنِة{ ]الحزاب‪ ،[60 :‬كما قال‪َ} :‬وِلَيُقو َ‬


‫ل اّلِذي َ‬ ‫جُفو َ‬‫ض َواْلُمْر ِ‬
‫ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬
‫ن َواّلِذي َ‬ ‫وقال‪َ} :‬لِئ ْ‬
‫ن َلْم َيْنَتِه اْلُمَناِفُقو َ‬
‫ض{ ]المدثر‪ ،[31 :‬لم تمت قلوبهم كموت الكفار والمنافقين‪ ،‬و ليست صحيحة صالحة كصالح قلوب‬ ‫ُقُلوِبِهْم مََر ٌ‬
‫ض{ ]الحزاب‪ ،[32 :‬وهو مرض الشهوة‪،‬‬ ‫المؤمنين‪ ،‬بل فيها مرض شبهة وشهوات‪ ،‬وكذلك }َفَي ْ‬
‫طَمَع اّلِذي ِفي َقْلِبِه َمَر ٌ‬
‫فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها‪ ،‬بخلف القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما‬
‫يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه‪ ،‬فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض‪.‬‬

‫والقرآن شفاء لما في الصدور‪ ،‬ومن في قلبه أمراض الشبهات‪ ،‬والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل‪،‬‬
‫فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم‪ ،‬والتصور والدراك بحيث يرى الشياء على ما هي عليه‪ ،‬وفيه من الحكمة‬
‫والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب‪ ،‬والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلح القلب‪ ،‬فيرغب القلب فيما ينفعه‬
‫ضا للرشاد‪.‬‬
‫ضا للغي‪ ،‬بعد أن كان مريًدا للغي مبغ ً‬
‫ويرغب عما يضره‪ ،‬فيبقى القلب محًبا للرشاد مبغ ً‬

‫‪/‬فالقرآن مزيل للمراض الموجبة للرادات الفاسدة‪ ،‬حتى يصلح القلب فتصلح إرادته‪ ،‬ويعود إلى فطرته التي فطر‬
‫عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي‪ ،‬ويغتذى القلب من اليمان‪ ،‬والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذى البدن بما‬
‫ينميه ويقومه‪ ،‬فإن زكاة القلب مثل نماء البدن‪.‬‬

‫والزكاة في اللغة‪ :‬النماء والزيادة في الصلح‪ ،‬يقال‪ :‬زكا الشيء‪ :‬إذا نما في الصلح‪ ،‬فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو‬
‫ويزيد حتى يكمل ويصلح‪ ،‬كما يحتاج البدن أن يربى بالغذية المصلحة له‪ ،‬ولبد مع ذلك من منع ما يضره‪ ،‬فل ينمو‬
‫البدن إل بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره‪ ،‬كذلك القلب ل يزكو فينمو ويتم صلحه إل بحصول ما ينفعه ودفع ما‬
‫يضره‪ ،‬وكذلك الزرع ل يزكو إل بهذا‪.‬‬

‫والصدقة لما كانت تطفئ الخطيئة‪ ،‬كما يطفئ الماء النار‪ ،‬صار القلب يزكو بها‪ ،‬وزكاته معنى زائد على طهارته من‬
‫طّهُرُهْم َوُتَزّكيِهْم ِبَها{ ]التوبة‪.[103 :‬‬
‫صَدَقًة ُت َ‬
‫ن َأْمَواِلِهْم َ‬ ‫ل تعالى‪ُ } :‬‬
‫خْذ ِم ْ‬ ‫الذنب‪ .‬قال ا ّ‬
‫وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب‪.‬‬

‫سٌد‪ ،‬والشجر‬‫ل فى المر ُمْف ِ‬


‫خٌ‬
‫ل‪َ :‬د َ‬
‫ل[ الّدغ ُ‬
‫وكذلك ترك المعاصي‪ ،‬فإنها بمنزلة الخلط الرديئة في البدن‪ ،‬ومثل الدغ ّ‬
‫الكثير الملتف] في الزرع‪ ،‬فإذا استفرغ البدن من الخلط الرديئة كاستخراج الدم الزائد تخلصت القوة الطبيعية‬
‫حا‬
‫ل صال ً‬‫غا من تخليطاته‪ ،‬حيث خلط عمـ ً‬ ‫واستراحت فينمو البدن‪ ،‬وكـذلك القلب إذا ‪ /‬تاب من الذنوب كان استفرا ً‬
‫وآخر سيًئا‪ ،‬فإذا تاب من الذنوب تخلـصت قوة القلب وإرادته للعمال الصالحة‪ ،‬واستراح القلب من تلك الحوادث‬
‫الفاسدة التي كانت فيه‪.‬‬

‫فزكاة القلب بحيث ينمو ويكمل‪.‬‬

‫جُعوا‬‫ل َلُكْم اْر ِ‬ ‫حٍد َأَبًدا{ ]النور‪ ،[21 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن ِقي َ‬ ‫ن َأ َ‬
‫حَمُتُه َما َزَكى ِمْنُكْم ِم ْ‬ ‫عَلْيُكْم َوَر ْ‬
‫ل َ‬‫ل ا ِّ‬‫ضُ‬ ‫قال تعالى‪َ} :‬وَلْو َ‬
‫ل َف ْ‬
‫خِبيرٌ‬
‫ل َ‬‫ن ا َّ‬‫ك َأْزَكى َلُهْم ِإ ّ‬ ‫جُهْم َذِل َ‬
‫ظوا ُفُرو َ‬
‫حَف ُ‬
‫صاِرِهْم َوَي ْ‬
‫ن َأْب َ‬
‫ضوا ِم ْ‬ ‫ن َيُغ ّ‬ ‫جُعوا ُهَو َأْزَكى َلُكْم{ ]النور‪ ،[28 :‬وقال‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِلْلُمْؤِمِني َ‬ ‫َفاْر ِ‬
‫صّلى{]العلى‪ ،[15 ،14 :‬وقال تعالى‪َ} :‬قْد‬ ‫سَم َرّبِه َف َ‬
‫ن َتَزّكى‪َ .‬وَذَكَر ا ْ‬ ‫ح َم ْ‬ ‫ن{ ]النور‪ ،[30 :‬وقال تعالى‪َ} :‬قْد َأْفَل َ‬ ‫صَنُعو َ‬‫ِبَما َي ْ‬
‫ك َلَعّلُه َيّزّكى{ ]عبس‪ ،[3 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ساَها{ ]الشمس‪ ،[10 ،9 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما ُيْدِري َ‬ ‫ن َد ّ‬‫ب َم ْ‬
‫خا َ‬
‫ن َزّكاَها‪َ .‬وَقْد َ‬ ‫ح َم ْ‬
‫َأْفَل َ‬
‫ك َفَتْخَشى{]النازعات‪ ،[19 ،18 :‬فالتزكية وإن كان أصلها النماء‪ ،‬والبركة‬ ‫ك ِإَلى َرّب َ‬‫ن َتَزّكى‪َ .‬وَأْهِدَي َ‬
‫ك ِإَلى َأ ْ‬
‫ل َل َ‬
‫ل َه ْ‬‫}َفُق ْ‬
‫وزيادة الخير‪ ،‬فإنما تحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمع هذا وهذا‪.‬‬

‫وقال‪َ} :‬وَوْيٌل ِلْلُمْشِرِكيَن‪ .‬اّلِذيَن َل ُيْؤُتوَن الّزَكاَة{ ]فصلت‪ ،[7 ،6 :‬وهي التوحيد واليمان الذي به يزكو القلب‪ ،‬فإنه‬
‫ل‪ .‬وهذا أصل ما‬ ‫يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب‪ ،‬وإثبات إلهية الحق في القلب‪ ،‬وهو حقيقة ل إله إل ا ّ‬
‫تزكو به القلوب‪.‬‬

‫والتزكية‪ :‬جعل الشيء زكًيا‪ ،‬إما في ذاته‪ ،‬وإما في العتقاد والخبر‪ / ،‬كما يقال‪ :‬عدلته إذا جعلته عدل في نفسه‪ ،‬أو‬
‫سُكْم{ ]النجم‪ ،[32 :‬أي‪ :‬تخبروا بزكاتها‪ ،‬وهذا غير قوله‪َ} :‬قْد َأْفَل َ‬
‫ح َم ْ‬
‫ن‬ ‫في اعتقاد الناس‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬ف َ‬
‫ل ُتَزّكوا َأنُف َ‬
‫َزّكاَها{ ]الشمس‪[9 :‬؛ ولهذا قال‪ُ} :‬هَو َأْعَلُم ِبَمْن اّتَقى{ ]النجم‪ ،[32 :‬وكان اسم زينب برة‪ ،‬فقيل تزكى نفسها‪ ،‬فسماها‬
‫ل صلى ال عليه وسلم زينب‪.‬‬ ‫رسول ا ّ‬

‫ل ُيَزّكي َمْن َيَشاُء{ ]النساء‪ ،[49 :‬أي‪ :‬يجعله زاكًيا‪ ،‬ويخبر بزكاته كما‬
‫ل ا ُّ‬
‫سُهْم َب ْ‬
‫ن َأنُف َ‬ ‫وأما قوله‪َ} :‬أَلْم َتَر ِإَلى اّلِذي َ‬
‫ن ُيَزّكو َ‬
‫يزكي المزكي الشهود فيخبر بعدلهم‪.‬‬

‫والعدل هو‪ :‬العتدال‪ ،‬والعتدال هو صلح القلب‪ ،‬كما أن الظلم فساده؛ ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالًما‬
‫لنفسه‪ ،‬والظلم خلف العدل‪ ،‬فلم يعدل على نفسه‪ ،‬بل ظلمها‪ ،‬فصلح القلب في العدل‪ ،‬وفساده في الظلم‪ ،‬وإذا ظلم‬
‫العبد نفسه فهو الظالم وهو المظلوم‪ ،‬كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه‪ ،‬فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل‬
‫ت{ ]البقرة‪.[286 :‬‬
‫سَب ْ‬
‫عَلْيَها َما اْكَت َ‬
‫ت َو َ‬ ‫من خير وشر‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬لَها َما َك َ‬
‫سَب ْ‬

‫والعمل له أثر في القلب من نفع وضر وصلح قبل أثره في الخارج‪ ،‬فصلحها عدل لها وفسادها ظلم لها‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫سأُْتْم َفَلَها{‬
‫ن َأ َ‬
‫سُكْم َوِإ ْ‬
‫لنُف ِ‬
‫سنُتْم َِ‬
‫حَ‬‫سنُتْم َأ ْ‬
‫حَ‬ ‫ساَء َفَعَلْيَها{ ]فصلت‪ ،[46 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ْ‬
‫ن َأ ْ‬ ‫ن َأ َ‬
‫سِه َوَم ْ‬
‫حا َفِلَنْف ِ‬
‫صاِل ً‬
‫ل َ‬
‫عمِ َ‬
‫ن َ‬
‫}َم ْ‬
‫]السراء‪ ،[7 :‬قال بعض السلف‪ :‬إن للحسنة لنوًرا في القلب‪ ،‬وقوة في البدن‪ ،‬وضياء في الوجه‪ ،‬وسعة في الرزق‪،‬‬
‫ضا‬
‫صا في الرزق‪ ،‬وبغ ً‬ ‫ومحبة في قلوب الخلق‪ ،‬وإن للسيئة لظلمة في ‪ /‬القلب‪ ،‬وسواًدا في الوجه ووهًنا في البدن‪ ،‬ونق ً‬
‫في قلوب الخلق‪.‬‬

‫ت َرِهيَنٌة{ ]المدثر‪ ،[38 :‬وقال‪:‬‬


‫سَب ْ‬
‫س ِبَما َك َ‬ ‫ن{ ]الطور‪ ،[21 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ك ّ‬
‫ل َنْف ٍ‬ ‫ب َرِهي ٌ‬
‫س َ‬
‫ئ ِبَما َك َ‬ ‫وقال تعالى‪ُ} :‬ك ّ‬
‫ل اْمِر ٍ‬
‫سُلوا ِبَما‬
‫ن ُأْب ِ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫خْذ ِمْنَها ُأْوَلِئ َ‬
‫ل ُيْؤ َ‬
‫ل َ‬
‫عْد ٍ‬
‫ل َ‬
‫ل ُك ّ‬
‫ن َتعِْد ْ‬
‫شِفيٌع َوِإ ْ‬
‫ل َ‬
‫ي َو َ‬
‫ل َوِل ّ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬
‫س َلَها ِم ْ‬
‫ت َلْي َ‬
‫سَب ْ‬
‫س ِبَما َك َ‬
‫ل َنْف ٌ‬
‫سَ‬‫ن ُتْب َ‬
‫}َوَذّكْر ِبِه َأ ْ‬
‫َكَسُبوا{]النعام‪ ،[70 :‬وتبسل أي‪ :‬ترتهن وتحبس وتؤسر؛ كما أن الجسد إذا صح من مرضه قيل قد اعتدل مزاجه‪،‬‬
‫والمرض إنما هو بإخراج المزاج‪ ،‬مع أن العتدال المحض السالم من الخلط ل سبيل إليه‪ ،‬لكن المثل‪ ،‬فالمثل‪،‬‬
‫فهكذا صحة القلب وصلحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم والنحراف‪ ،‬والعدل المحض في كل شيء متعذر‬
‫ل‪ ،‬ولكن المثل فالمثل؛ ولهذا يقال‪ :‬هذا أمثل‪ ،‬ويقال للطريقة السلفية‪ :‬الطريقة المثلى‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬وَل ْ‬
‫ن‬ ‫علًما وعم ً‬
‫سا ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫ف َنْف ً‬
‫ط لَ ُنَكّل ُ‬
‫سِ‬‫ن ِباْلِق ْ‬ ‫صُتْم{ ] النساء‪ ،[129 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَأْوُفوا اْلَكْي َ‬
‫ل َواْلِميَزا َ‬ ‫حَر ْ‬
‫ساِء َوَلْو َ‬
‫ن الّن َ‬
‫ن َتْعِدُلوا َبْي َ‬
‫طيُعوا َأ ْ‬
‫سَت ِ‬
‫َت ْ‬
‫ُوْسَعَها{ ]النعام‪.[152 :‬‬

‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬ثم العدل‬


‫ل ـ تعالى ـ بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط‪ ،‬وأعظم القسط عبادة ا ّ‬
‫وا ّ‬
‫على الناس في حقوقهم‪ ،‬ثم العدل على النفس‪.‬‬

‫‪/‬والظلم ثلثة أنواع‪ ،‬والظلم كله من أمراض القلوب‪ ،‬والعدل صحتها وصلحها‪ .‬قال أحمد بن حنبل لبعض الناس‪ :‬لو‬
‫صححت لم تخف أحًدا‪ ،‬أي خوفك من المخلوق هو من مرض فيك‪ ،‬كمرض الشرك والذنوب‪.‬‬

‫ن َمَثُلُه‬
‫س َكَم ْ‬
‫شي ِبِه ِفي الّنا ِ‬
‫جَعْلَنا َلُه ُنوًرا َيْم ِ‬
‫حَيْيَناهُ َو َ‬
‫ن َمْيًتا فََأ ْ‬ ‫وأصل صلح القلب هو حياته واستنارته‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬أَوَم ْ‬
‫ن َكا َ‬
‫س ِبَخاِرٍج ِمْنَها{ ]النعام‪.[122 :‬‬
‫ت َلْي َ‬
‫ظُلَما ِ‬
‫ِفي ال ّ‬

‫عَلى‬
‫ل َ‬ ‫ق اْلَقْو ُ‬
‫حّ‬‫حّيا َوَي ِ‬
‫ن َ‬ ‫ل حياة القلوب‪ ،‬ونورها‪ ،‬وموتها‪ ،‬وظلمتها في غير موضع كقوله‪ِ} :‬لُيْنِذَر َم ْ‬
‫ن َكا َ‬ ‫لذلك ذكر ا ّ‬
‫ل‬
‫ن ا َّ‬ ‫حِييُكْم{‪ ،‬ثم قال‪َ} :‬وا ْ‬
‫عَلُموا َأ ّ‬ ‫عاُكْم ِلَما ُي ْ‬
‫ل ِإَذا َد َ‬
‫سو ِ‬‫ل َوِللّر ُ‬
‫جيُبوا ِّ‬
‫سَت ِ‬ ‫ن{ ]يس‪ ،[70 :‬وقوله تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا ا ْ‬ ‫اْلَكاِفِري َ‬
‫ي{‬ ‫حّ‬‫ن اْل َ‬
‫ت ِم ْ‬ ‫ج اْلَمّي َ‬
‫خِر ُ‬
‫ت َوُي ْ‬
‫ن اْلَمّي ِ‬
‫ي ِم ْ‬‫حّ‬‫ج اْل َ‬
‫خِر ُ‬ ‫ن{ ]النفال‪ ،[24 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ي ْ‬ ‫شُرو َ‬
‫حَ‬
‫ن اْلَمْرِء َوَقْلِبِه َوَأّنُه ِإَلْيِه ُت ْ‬
‫ل َبْي َ‬
‫حو ُ‬‫َي ُ‬
‫]الروم‪ ،[19 :‬ومن أنواعه أنه يخرج المؤمن من الكافر‪ ،‬والكافر من المؤمن‪ .‬وفي الحديث الصحيح‪) :‬مثل البيت‬
‫ضا‪) :‬اجعلوا من صلتكم في‬
‫ل فيه‪ ،‬مثل الحي والميت(‪ ،‬وفي الصحيح أي ً‬ ‫ل فيه والبيت الذي ل يذكر ا ّ‬
‫الذي يذكر ا ّ‬
‫بيوتكم ول تتخذوها قبوًرا(‪.‬‬

‫ت{ ]النعام‪ ،[39 :‬وذكر ـ سبحانه ـ آية النور وآية الظلمة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ظُلَما ِ‬
‫صّم َوُبْكٌم ِفي ال ّ‬ ‫وقد قال تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن َكّذُبوا ِبآَياِتَنا ُ‬
‫جَرٍة‬
‫شَ‬‫ن َ‬ ‫ي ُيوَقُد ِم ْ‬
‫ب ُدّر ّ‬ ‫جُة َكَأّنَها َكْوَك ٌ‬
‫جا َ‬
‫جٍة الّز َ‬
‫جا َ‬‫ح ِفي ُز َ‬ ‫صَبا ُ‬
‫ح اْلِم ْ‬ ‫صَبا ٌ‬
‫شَكاٍة ِفيَها ِم ْ‬ ‫ل ُنوِرِه َكِم ْ‬ ‫ض َمَث ُ‬
‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬‫ل ُنوُر ال ّ‬ ‫}ا ُّ‬
‫ضيُء َوَلْو َلْم َتْمَسْسُه َناٌر ُنوٌر َعَلى ُنوٍر{]النور‪ ،[35 :‬فهذا مثل نور اليمان‬ ‫غْرِبّيٍة َيَكاُد َزْيُتَها ُي ِ‬ ‫ل َ‬‫شْرِقّيٍة َو َ‬‫ل َ‬
‫ُمَباَرَكٍة َزْيُتوِنٍة َ‬
‫عْنَدُه‬
‫ل ِ‬
‫جَد ا َّ‬
‫شْيًئا َوَو َ‬
‫جْدُه َ‬
‫جاَءهُ َلْم َي ِ‬
‫حّتى ِإَذا َ‬ ‫ن َماًء َ‬
‫ظْمآ ُ‬‫سُبُه ال ّ‬
‫حَ‬ ‫ب ِبِقيَعٍة َي ْ‬
‫سَرا ٍ‬ ‫عَماُلُهْم َك َ‬
‫ن َكَفُروا َأ ْ‬ ‫في قلوب المؤمنين‪ ،‬ثم قال‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ض ِإَذا‬‫ق َبْع ٍ‬‫ضَها َفْو َ‬‫ت َبْع ُ‬‫ظُلَما ٌ‬‫ب ُ‬ ‫حا ٌ‬
‫سَ‬
‫ن َفْوِقِه َ‬ ‫ج ِم ْ‬
‫ن َفْوِقِه َمْو ٌ‬
‫ج ِم ْ‬‫شاُه َمْو ٌ‬ ‫ي َيْغ َ‬
‫جّ‬ ‫حٍر ُل ّ‬
‫ت ِفي َب ْ‬‫ظُلَما ٍ‬ ‫ب‪َ .‬أْو َك ُ‬ ‫سا ِ‬ ‫حَ‬ ‫سِريُع اْل ِ‬‫ل َ‬
‫ساَبُه َوا ُّ‬ ‫َفَوّفاُه حِ َ‬
‫ل َلُه ُنوًرا َفَما َلُه ِمْن ُنوٍر{]النور‪.[40 ،39 :‬‬ ‫ل ا ُّ‬ ‫جَع ْ‬‫ن َلْم َي ْ‬
‫ج َيَدُه َلْم َيَكْد َيَراَها َوَم ْ‬
‫خَر َ‬‫َأ ْ‬

‫فالول‪ :‬مثل العتقادات الفاسدة‪ ،‬والعمال التابعة لها‪ ،‬يحسبها صاحبها شيًئا ينفعه فإذا جاءها لم يجدها شيًئا ينفعه‪،‬‬
‫ل حسابه على تلك العمال‪.‬‬ ‫فوفاه ا ّ‬

‫والثاني‪ :‬مثل للجهل البسيط‪ ،‬وعدم اليمان والعلم‪ ،‬فإن صاحبها في ظلمات بعضها فوق بعض ل يبصر شيًئا‪ ،‬فإن‬
‫البصر إنما هو بنور اليمان والعلم‪.‬‬

‫ن{ ]العراف‪ ،[201 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد‬ ‫صُرو َ‬ ‫ن َتَذّكُروا َفِإَذا ُهْم ُمْب ِ‬ ‫طا ِ‬ ‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ف ِم ْ‬
‫طاِئ ٌ‬
‫سُهْم َ‬‫ن اّتَقْوا ِإَذا َم ّ‬ ‫قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ل به ما‬ ‫ت ِبِه َوَهّم ِبَها َلْوَل َأْن َرَأى ُبْرَهاَن َرّبِه{ ]يوسف‪ ،[24 :‬وهو برهان اليمان الذي حصل في قلبه‪ ،‬فصرف ا ّ‬ ‫َهّم ْ‬
‫ج الّنا َ‬
‫س‬ ‫خِر َ‬‫را‪ ،‬ولم يفعل سيئة‪ .‬وقال تعالى‪ِ} :‬لُت ْ‬ ‫كان هم به‪ ،‬وكتب له حسنة كاملة ولم يكتب ‪ /‬عليه خطيئة إذا فعل خي ً‬
‫ن َكَفُروا َأْوِلَياُؤُهْم‬
‫ت ِإَلى الّنوِر َواّلِذي َ‬‫ظُلَما ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫جُهمْ ِم ْ‬ ‫خِر ُ‬‫ن آَمُنوا ُي ْ‬
‫ي اّلِذي َ‬
‫ل َوِل ّ‬‫ت ِإَلى الّنوِر{ ]إبراهيم‪ ،[1 :‬وقال‪} :‬ا ُّ‬ ‫ظُلَما ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ِم ْ‬
‫ن‬
‫ن ِم ْ‬ ‫سوِلِه ُيْؤِتُكْم ِكْفَلْي ِ‬
‫ل َوآِمُنوا ِبَر ُ‬ ‫ت{ ]البقرة‪ ،[257 :‬وقال‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا اّتُقوا ا َّ‬ ‫ظُلَما ِ‬
‫ن الّنوِر ِإَلى ال ّ‬ ‫جوَنُهْم ِم ْ‬ ‫خِر ُ‬
‫ت ُي ْ‬
‫غو ُ‬ ‫طا ُ‬
‫ال ّ‬
‫َرْحَمِتِه َوَيْجَعْل َلُكْم ُنوًرا َتْمُشوَن ِبِه{]الحديد‪.[28 :‬‬

‫ل بالنار التي بها النور وما‬


‫ل بالماء الذي به الحياة وما يقترن به من الزبد‪ ،‬ومث ً‬
‫ل لليمان مثلين‪ ،‬مث ً‬
‫ولهذا ضرب ا ّ‬
‫يقترن بما يوقد عليه من الزبد‪.‬‬

‫ل َزَبًدا َراِبًيا َوِمّما ُيوِقُدونَ‬ ‫سْي ُ‬‫ل ال ّ‬


‫حَتَم َ‬
‫ت َأْوِدَيٌة ِبَقَدِرَها َفا ْ‬ ‫ساَل ْ‬‫سَماِء َماًء َف َ‬ ‫ن ال ّ‬‫ل ِم ْ‬‫ل للنفاق مثلين قال تعالى‪َ} :‬أنَز َ‬ ‫وكذلك ضرب ا ّ‬
‫ث ِفي‬ ‫س َفَيْمُك ُ‬
‫جَفاًء َوَأّما َما َينَفُع الّنا َ‬‫ب ُ‬ ‫ل َفَأّما الّزَبُد َفَيْذَه ُ‬ ‫طَ‬ ‫ق َواْلَبا ِ‬‫حّ‬ ‫ل اْل َ‬
‫ب ا ُّ‬
‫ضِر ُ‬ ‫ك َي ْ‬
‫ع َزَبٌد ِمْثُلُه َكَذِل َ‬
‫حْلَيٍة َأْو َمَتا ٍ‬
‫عَلْيِه ِفي الّناِر اْبِتَغاَء ِ‬ ‫َ‬
‫ت َما‬‫ضاَء ْ‬‫سَتْوَقَد َناًرا َفَلّما َأ َ‬
‫ل اّلِذي ا ْ‬ ‫ل{]الرعد‪ ،[17 :‬وقال تعالى في المنافقين‪َ} :‬مَثُلُهْم َكَمَث ِ‬ ‫لْمَثا َ‬
‫ل ا َْ‬
‫ب ا ُّ‬ ‫ضِر ُ‬‫ك َي ْ‬ ‫ض َكَذِل َ‬‫لْر ِ‬ ‫ا َْ‬
‫عٌد‬
‫ت َوَر ْ‬‫ظُلَما ٌ‬
‫سَماِء ِفيِه ُ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ب ِم ْ‬
‫صّي ٍ‬‫ن‪َ .‬أْو َك َ‬ ‫جُعو َ‬ ‫ل َيْر ِ‬
‫ي َفُهْم َ‬ ‫عْم ٌ‬‫صّم ُبْكٌم ُ‬‫ن‪ُ .‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫ل ُيْب ِ‬‫ت َ‬ ‫ظُلَما ٍ‬ ‫ل ِبُنوِرِهْم َوَتَرَكُهْم ِفي ُ‬ ‫ب ا ُّ‬ ‫حْوَلُه َذَه َ‬ ‫َ‬
‫ضاَء َلُهْم‬
‫صاَرُهْم ُكّلَما َأ َ‬‫ف َأْب َ‬ ‫ط ُ‬ ‫خَ‬‫ق َي ْ‬
‫ن‪َ .‬يَكاُد اْلَبْر ُ‬ ‫ط ِباْلَكاِفِري َ‬‫حي ٌ‬ ‫ل ُم ِ‬
‫ت َوا ُّ‬‫حَذَر اْلَمْو ِ‬ ‫ق َ‬‫عِ‬‫صَوا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫صاِبَعُهْم ِفي آَذاِنِهْم ِم ْ‬‫ن َأ َ‬ ‫جَعُلو َ‬ ‫ق َي ْ‬
‫َوَبْر ٌ‬
‫يٍء َقِديٌر{ ]البقرة‪17 :‬ـ ‪.[20‬‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫عَلى ُك ّ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬ ‫صاِرِهْم ِإ ّ‬‫سْمِعِهْم َوَأْب َ‬‫ب ِب َ‬
‫ل َلَذَه َ‬
‫شاَء ا ُّ‬ ‫عَلْيِهْم َقاُموا َوَلْو َ‬ ‫ظَلَم َ‬
‫شْوا ِفيِه َوِإَذا َأ ْ‬‫َم َ‬
‫ل‪ ،‬والمثل المائي كالمثل النازل من السماء‪ ،‬وفيه ظلمات‬
‫ل كالذي أوقد النار كلما أضاءت أطفأها ا ّ‬
‫‪/‬فضرب لهم مث ً‬
‫ورعد وبرق يرى‪ .‬ولبسط الكلم في هذه المثال موضع آخر‪.‬‬

‫وإنما المقصود هنا ذكر حياة القلوب وإنارتها‪ ،‬وفي الدعاء المأثور‪) :‬اجعل القرآن ربيع قلوبنا‪ ،‬ونور صدورنا(‪،‬‬
‫والربيع‪ :‬هو المطر الذي ينزل من السماء فينبت به النبات‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن مما ينبت الربيع ما‬
‫طا أو ُيِلّم(‪ .‬والفصل الذي ينزل فيه أول المطر تسميه العرب الربيع‪ ،‬لنزول المطر الذي ينبت الربيع فيه‪،‬‬
‫َيْقتل حََب ً‬
‫وغيرهم يسمى الربيع الفصل الذي يلي الشتاء‪ ،‬فإن فيه تخرج الزهار التي تخلق منها الثمار‪ ،‬وتنبت الوراق على‬
‫الشجار‪.‬‬

‫والقلب الحي المنور؛ فإنه لما فيه من النور يسمع ويبصر ويعقل‪ ،‬والقلب الميت فإنه ل يسمع ول يبصر‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫صّم ُبْكٌم ُعْميٌ َفُهْم َل َيْعِقُلوَن{ ]البقرة‪ ،[171 :‬وقال تعالى‪:‬‬
‫عاًء َوِنَداًء ُ‬
‫ل ُد َ‬
‫سَمُع ِإ ّ‬
‫ل َي ْ‬
‫ق ِبَما َ‬
‫ل اّلِذي َيْنِع ُ‬
‫ن َكَفُروا َكَمَث ِ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫}َوَمَث ُ‬
‫ن{‬
‫صُرو َ‬ ‫ل ُيْب ِ‬‫ي َوَلْو َكاُنوا َ‬ ‫ت َتْهِدي اْلُعْم َ‬‫ك َأَفَأْن َ‬
‫ظُر ِإَلْي َ‬‫ن َيْن ُ‬
‫ن‪َ .‬وِمْنُهْم َم ْ‬‫ل َيْعِقُلو َ‬‫صّم َوَلْو َكاُنوا َ‬ ‫سِمُع ال ّ‬‫ت ُت ْ‬
‫ك َأَفَأْن َ‬
‫ن ِإَلْي َ‬
‫سَتِمُعو َ‬
‫ن َي ْ‬
‫}َوِمْنُهْم َم ْ‬
‫ل‬
‫ل آَيٍة َ‬
‫ن َيَرْوا ُك ّ‬
‫ن َيْفَقُهوهُ َوِفي آَذاِنِهْم َوْقًرا َوِإ ْ‬
‫عَلى ُقُلوِبِهْم َأِكّنًة َأ ْ‬‫جَعْلَنا َ‬
‫ك َو َ‬ ‫سَتِمُع ِإَلْي َ‬ ‫]يونس‪ ،[43 ،42 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِمْنُهْم َم ْ‬
‫ن َي ْ‬
‫طيُر اَْلّوِليَن{ اليات ]النعام‪.[25 :‬‬ ‫سا ِ‬‫ل َأ َ‬
‫ن َهَذا ِإ ّ‬‫ن َكَفُروا ِإ ْ‬ ‫ل اّلِذي َ‬
‫ك َيُقو ُ‬
‫جاِدُلوَن َ‬
‫ك ُي َ‬‫جاُءو َ‬ ‫حّتى ِإَذا َ‬‫ُيْؤِمُنوا ِبَها َ‬

‫فأخبر أنهم ل يفقهون بقلوبهم ول يسمعون بآذانهم ول يؤمنون بما رأوه من النار‪ ،‬كما أخبر عنهم حيث قالوا‪ُ} :‬قُلوُبَنا‬
‫ب{ ]فصلت‪ .[5 :‬فذكروا الموانع على القلوب والسمع‬ ‫جا ٌ‬
‫حَ‬‫ك ِ‬
‫ن َبْيِنَنا َوَبْيِن َ‬
‫عوَنا ِإَلْيِه َوِفي آَذاِنَنا َوْقٌر َوِم ْ‬
‫ِفي َأِكّنةٍ ِمّما َتْد ُ‬
‫والبصار‪ ،‬وأبدانهم حية تسمع الصوات وترى الشخاص؛ لكن حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البهائم‪،‬‬
‫عاًء‬
‫ل ُد َ‬
‫سَمُع ِإ ّ‬
‫ل َي ْ‬
‫ق ِبَما َ‬
‫ل اّلِذي َيْنِع ُ‬
‫ن َكَفُروا َكَمَث ِ‬ ‫لها سمع وبصر وهي تأكل وتشرب وتنكح‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ} :‬وَمَث ُ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫َوِنَداًء{‪.‬‬

‫ن ّأكّثّرهًم ّيسّمعونّ‬ ‫سب ّأ ّ‬‫فشبههم بالغنم الذي ينعق بها الراعي وهي ل تسمع إل نداء‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪ّ} :‬أم ّتح ّ‬
‫س َلُهْم‬
‫لن ِ‬‫ن َوا ِْ‬
‫جّ‬‫ن اْل ِ‬ ‫ل { ]الفرقان‪ ،[44 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َذَرْأَنا ِل َ‬
‫جَهّنَم َكِثيًرا ِم ْ‬ ‫سبي ْ‬ ‫ل ّ‬‫ضَ‬‫لنّعام ّبل ٍهًم ّأ ّ‬ ‫ل ّكا ّ‬ ‫ن ٍهًم إ ّ‬
‫نإً‬ ‫ّأو ّيعٌقٍلو ّ‬
‫ضّل{]العراف‪.[179 :‬‬ ‫ل ُهْم َأ َ‬ ‫لْنَعاِم َب ْ‬
‫ك َكا َْ‬
‫ن ِبَها ُأْوَلِئ َ‬
‫سَمُعو َ‬
‫ل َي ْ‬
‫ن َ‬
‫ن ِبَها َوَلُهْم آَذا ٌ‬‫صُرو َ‬
‫ل ُيْب ِ‬‫ن َ‬
‫عُي ٌ‬
‫ن ِبَها َوَلُهْم َأ ْ‬
‫ل َيْفَقُهو َ‬
‫ب َ‬ ‫ُقُلو ٌ‬

‫عًدا َأْو َقاِئًما َفَلّما‬


‫جْنِبِه َأْو َقا ِ‬
‫عاَنا ِل َ‬
‫ضّر َد َ‬
‫ن ال ّ‬
‫سا َ‬ ‫‪/‬فطائفة من المفسرين تقول في هذه اليات وما أشبهها كقوله‪َ} :‬وِإَذا َمسّ ا ِْ‬
‫لْن َ‬
‫ل في عيوب النسان وذمها‪ ،‬فيقول‬ ‫ضّر َمّسُه{ ]يونس‪ ،[12 :‬وأمثالها مما ذكر ا ّ‬ ‫عَنا ِإَلى ُ‬
‫ن َلْم َيْد ُ‬
‫ضّرُه َمّر َكَأ ْ‬
‫عْنُه ُ‬
‫شْفَنا َ‬
‫َك َ‬
‫هؤلء‪ :‬هذه الية في الكفار‪ ،‬والمراد بالنسان هنا الكافر‪ ،‬فيبقى من يسمع ذلك يظن أنه ليس لمن يظهر السلم في‬
‫هذا الذم والوعيد نصيب‪ ،‬بل يذهب وهمه إلى من كان مظهًرا للشرك من العرب‪ ،‬أو إلى من يعرفهم من مظهري‬
‫ل ليهتدي بها عباده‪.‬‬
‫الكفر‪ ،‬كاليهود والنصارى ومشركي الترك والهند‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فل ينتفع بهذه اليات التي أنزلها ا ّ‬

‫ل‪ :‬المظهرون للسلم فيهم مؤمن ومنافق‪ ،‬والمنافقون كثيرون في كل زمان‪ ،‬والمنافقون في الدرك السفل‬
‫فيقال‪ :‬أو ً‬
‫من النار‪.‬‬

‫ويقال‪ :‬ثانًيا‪ :‬النسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر‪ ،‬وإن كان معه إيمان‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في‬
‫صا‪ ،‬ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق‬ ‫الحديث المتفق عليه‪) :‬أربع من كن فيه كان منافًقا خال ً‬
‫حتى يدعها‪ :‬إذا حدث كذب‪ ،‬وإذا اؤتمن خان‪ ،‬وإذا عاهد غدر‪ ،‬وإذا خاصم فجر(‪ .‬فأخبر أنه من كانت فيه خصلة‬
‫منهن كانت فيه خصلة من النفاق‪.‬‬

‫ل عنه‬‫ل عنه ـ‪) :‬إنك امرؤ فيك جاهلية(‪ .‬وأبو ذر ـ رضي ا ّ‬ ‫‪/‬وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال لبي ذر ـ رضي ا ّ‬
‫ـ من أصدق الناس إيماًنا‪ ،‬وقال في الحديث الصحيح‪) :‬أربع في أمتي من أمر الجاهلية‪ :‬الفخر بالحساب‪ ،‬والطعن في‬
‫النساب‪ ،‬والنياحة‪ ،‬والستسقاء بالنجوم(‪ ،‬وقال في الحديث الصحيح‪) :‬لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة‪،‬‬
‫ضا في الحديث الصحيح‪:‬‬ ‫حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه(‪ .‬قالوا‪ :‬اليهود والنصارى؟ ! قال‪) :‬فمن ؟!(‪ .‬وقال أي ً‬
‫عا بذراع" قالوا‪ :‬فارس والروم؟! قال‪) :‬ومن الناس إل هؤلء(‪.‬‬ ‫"لتأخذن أمتي ما أخذت المم قبلها‪ ،‬شبًرا بشبر‪ ،‬وذرا ً‬

‫وقال ابن أبي ُمَلْيَكة‪ :‬أدركت ثلثين من أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه‪ ،‬وعن علي ـ‬
‫ل عنهما ـ قال‪ :‬القلوب أربعة‪ :‬قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن‪ ،‬وقلب أغلف فذاك‬
‫أو حذيفة ـ رضي ا ّ‬
‫قلب الكافر‪ ،‬وقلب منكوس‪ ،‬فذاك قلب المنافق‪ ،‬وقلب فيه مادتان‪ :‬مادة تمده اليمان‪ ،‬ومادة تمده النفاق‪ ،‬فأولئك قوم‬
‫حا وآخر سيًئا‪.‬‬
‫ل صال ً‬
‫خلطوا عم ً‬

‫ل في اليمان من مدح شعب اليمان وذم شعب الكفر‪ ،‬وهذا كما يقول‬ ‫وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر ا ّ‬
‫ط اْلُمْسَتِقيَم{ ]الفاتحة‪ .[6 :‬فيقولون‪ :‬المؤمن قد هدى إلى الصراط المستقيم‪ ،‬فأي ‪ /‬فائدة‬ ‫بعضهم في قوله‪} :‬اْهِدَنا ال ّ‬
‫صَرا َ‬
‫في طلب الهدى؟! ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم‪ :‬نم حتى آتيك‪ ،‬أو يقول‬
‫بعضهم‪ :‬ألزم قلوبنا الهدى‪ ،‬فحذف الملزوم‪ ،‬ويقول بعضهم‪ :‬زدني هدى‪ ،‬وإنما يوردون هذا السؤال؛ لعدم تصورهم‬
‫ل عنه في جميع‬ ‫ل به‪ ،‬وترك ما نهى ا ّ‬‫الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه‪ ،‬فإن المراد به العمل بما أمر ا ّ‬
‫المور‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وأن القرآن حق على سبيل الجمال‪ ،‬فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما‬ ‫والنسان وإن كان أقر بأن محمًدا رسول ا ّ‬
‫ينفعه ويضره‪ ،‬وما أمر به‪ ،‬وما نهى عنه في تفاصيل المور وجزئياتها لم يعرفه‪ ،‬وما عرفه فكثير منه لم يعمل‬
‫بعلمه‪ ،‬ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونهي في القرآن والسنة‪ ،‬فالقرآن والسنة إنما تذكر فيهما المور العامة الكلية‪ ،‬ل‬
‫يمكن غير ذلك ل تذكر ما يخص به كل عبد؛ ولهذا أمر النسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم‪.‬‬

‫ل‪ ،‬ويتناول التعريف بما‬ ‫والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله‪ ،‬يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفص ً‬
‫يدخل في أوامره الكليات‪ ،‬ويتناول إلهام العمل بعلمه‪ ،‬فإن مجرد العلم بالحق ل يحصل به الهتداء إن لم يعمل بعلمه‪،‬‬
‫ك َوَيْهِدَي َ‬
‫ك‬ ‫عَلْي َ‬
‫خَر َوُيِتّم ِنْعَمَتُه َ‬
‫ك َوَما َتَأ ّ‬‫ن َذْنِب َ‬
‫ل َما َتَقّدَم ِم ْ‬
‫ك ا ُّ‬ ‫حا ُمِبيًنا ‪ِ .‬لَيْغِفَر َل َ‬
‫ك َفْت ً‬ ‫ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية‪ِ} :‬إّنا َفَت ْ‬
‫حَنا َل َ‬
‫سَتِقيَم{‬
‫ط اْلُم ْ‬
‫صَرا َ‬‫ن ‪َ .‬وَهَدْيَناُهَما ال ّ‬ ‫سَتِبي َ‬
‫ب اْلُم ْ‬‫سَتِقيًما{ ]الفتح‪ ،[2 ،1 :‬وقال في حق موسى وهارون‪َ} :‬وآَتْيَناُهَما اْلِكَتا َ‬ ‫طا ُم ْ‬
‫صَرا ً‬
‫ِ‬
‫]الصافات‪.[118 ،117 :‬‬

‫ل من المور الخبرية والعلمية العتقادية والعملية‪ ،‬مع أنهم كلهم متفقون على أن‬ ‫والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء ا ّ‬
‫محمًدا حق‪ ،‬والقرآن حق‪ ،‬فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا‪ ،‬ثم الذين‬
‫ل به أكثرهم يعصونه ول يحتذون حذوه‪ ،‬فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك العمال؛ لفعلوا ما‬ ‫علموا ما أمر ا ّ‬
‫ل المتقين كان من أعظم‬ ‫ل من هذه المة حتى صاروا من أولياء ا ّ‬ ‫أمروا به وتركوا ما نهو عنه‪ ،‬والذين هداهم ا ّ‬
‫ل دائًما في أن يهديهم الصراط‬ ‫ل بهذا الدعاء في كل صلة‪ ،‬مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى ا ّ‬ ‫أسباب ذلك دعاؤهم ا ّ‬
‫المستقيم‪.‬‬

‫ل التستري‪ :‬ليس بين العبد وبين ربه‬


‫ل المتقين‪.‬قال سهل بن عبد ا ّ‬
‫فبدوام هذا الدعاء والفتقار صاروا من أولياء ا ّ‬
‫طريق أقرب إليه من الفتقار‪ ،‬وما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل‬
‫وهذا حقيقة قول من يقول‪ :‬ثبتنا واهدنا لزوم الصراط‪.‬‬

‫وقول من قال‪ :‬زدنا هدى‪ ،‬يتناول ما تقدم‪ ،‬لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم‪ ،‬فإن العمل في‬
‫المستقبل بالعلم لم يحصل بعد‪ ،‬ول يكون مهتدًيا حتى يعمل في المستقبل بالعلم‪ ،‬وقد ل يحصل العلم في ‪ /‬المستقبل بل‬
‫ل عليهم‬
‫يزول عن القلب‪ ،‬وإن حصل فقد ل يحصل العمل‪ ،‬فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه ا ّ‬
‫في كل صلة‪ ،‬فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه‪ ،‬وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة‪ ،‬وا ّ‬

‫واعلم أن حياة القلب وحياة غيره ليست مجرد الحس والحركة الرادية‪ ،‬أو مجرد العلم والقدرة كما يظن ذلك طائفة‬
‫ل وقدرته‪ ،‬كأبي الحسين البصري‪ ،‬قالوا‪ :‬إن حياته أنه بحيث يعلم ويقدر‪ ،‬بل الحياة صفة قائمة‬
‫من النظار في علم ا ّ‬
‫ضا مستلزمة لذلك‪ ،‬فكل حي له‬ ‫بالموصوف‪ ،‬وهي شرط في العلم والرادة والقدرة على الفعال الختيارية‪ ،‬وهي أي ً‬
‫شعور وإرادة وعمل اختياري بقدرة‪ ،‬وكل ما له علم وإرادة وعمل اختياري فهو حي‪.‬‬

‫والحياء مشتق من الحياة‪ ،‬فإن القلب الحي يكون صاحبه حيا فيه حياء يمنعه عن القبائح‪ ،‬فإن حياة القلب هي المانعة‬
‫من القبائح التي تفسد القلب؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬الحياء من اليمان(‪ ،‬وقال‪) :‬الحياء والعي شعبتان‬
‫من اليمان‪ .‬والبذاء والبيان شعبتان من النفاق(‪.‬‬
‫حا‪ ،‬والوقاحة الصلبة وهو اليبس المخالف‬
‫فإن الحي يدفع ما يؤذيه‪ ،‬بخلف الميت الذي ل حياة فيه فإنه يسمى وق ً‬
‫سا صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه‪ ،‬وامتناعه من القبح كالرض ‪/‬‬ ‫حا ياب ً‬
‫لرطوبة الحياة‪ ،‬فإذا كان وق ً‬
‫اليابسة ل يؤثر فيها وطء القدام‪ ،‬بخلف الرض الخضرة‪.‬‬

‫ولهذا كان الحي يظهر عليه التأثر بالقبح‪ ،‬وله إرادة تمنعه عن فعل القبح‪ ،‬بخلف الوقـح الذي ليس بحي فل حياء معه‬
‫ول إيمان يزجره عن ذلك‪ .‬فالقلـب إذا كان حًيا فمات النسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقها للبدن‪ ،‬ليست‬
‫هي في نفسها ميتة بمعنى زوال حياتها عنها‪.‬‬

‫ن ُقِتُلوا‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫سَب ّ‬
‫حَ‬ ‫حَياٌء{ ]البقرة‪ ،[154 :‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َت ْ‬ ‫ل َأ ْ‬
‫ت َب ْ‬
‫ل َأْمَوا ٌ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ل ِفي َ‬
‫ن ُيْقَت ُ‬ ‫ولهذا قال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َتُقوُلوا ِلَم ْ‬
‫ت{ ]آل عمران‪:‬‬ ‫س َذاِئَقُة اْلَمْو ِ‬ ‫حَياٌء{ ]آل عمران‪ [169 :‬مع أنهم موتى دخلون في قوله‪ُ} :‬ك ّ‬
‫ل َنْف ٍ‬ ‫ل َأ ْ‬
‫ل َأْمَواًتا َب ْ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ِفي َ‬
‫ت َوِإّنُهْم َمّيُتوَن{ ]الزمر‪ ،[30 :‬وقوله‪َ} :‬وُهَو اّلِذي َأْحَياُكْم ُثّم ُيِميُتُكْم ُثّم ُيْحِييُكْم{ ]الحج‪،[66 :‬‬ ‫ك َمّي ٌ‬‫‪ ،[185‬وفي قوله‪ِ} :‬إّن َ‬
‫فالموت المثبت غير الموت المنفي‪ .‬المثبت‪ :‬هو فراق الروح البدن‪ ،‬والمنفي‪ :‬زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن‪.‬‬

‫ل تعالى‪} :‬ا ُّ‬


‫ل َيَتَوّفى‬ ‫وهذا كما أن النوم أخو الموت‪ ،‬فيسمى وفاة ويسمى موًتا‪ ،‬وإن كانت الحياة موجودة فيهما‪ .‬قال ا ّ‬
‫ت َوُيْرِسُل اُْلْخَرى ِإَلى َأَجٍل ُمَسّمى{ ]الزمر‪.[42 :‬‬
‫عَلْيَها اْلَمْو َ‬
‫ضى َ‬
‫ك اّلِتي َق َ‬
‫سُ‬
‫ت ِفي َمَناِمَها َفُيْم ِ‬
‫ن َمْوِتَها َواّلِتي َلْم َتُم ْ‬
‫حي َ‬
‫س ِ‬
‫لْنُف َ‬
‫ا َْ‬
‫وكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا استيقظ من منامه يقول‪) :‬الحمد لّ الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور(‪ ،‬وفي‬
‫ل الذي رد على روحي‪ ،‬وعافاني في جسدي‪ ،‬وأذن لي بذكره‪ ،‬وفضلني على كثير ممن خلق‬ ‫حديث آخر‪) / :‬الحمد ّ‬
‫ل(‪ ،‬وإذا أوى إلى فراشه يقول‪) :‬اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها‪ ،‬لك مماتها ومحياها‪ ،‬إن أمسكتها فارحمها‪،‬‬ ‫تفضي ً‬
‫وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين(‪ ،‬ويقول‪) :‬باسمك الّلهم أموت وأحيا(‪.‬‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫ومن أمراض القلوب الحسد‪ ،‬كما قال بعضهم في حده‪ :‬إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الغنياء‪ ،‬فل يجوز أن‬
‫يكون الفاضل حسوًدا؛ لن الفاضل يجري على ما هو الجميل‪ ،‬وقد قال طائفة من الناس‪ :‬إنه تمنى زوال النعمة عن‬
‫المحسود‪ ،‬وإن لم يصر للحاسد مثلها‪ ،‬بخلف الغبطة‪ :‬فإنه تمنى مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط‪.‬‬

‫والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬كراهة للنعمة عليه مطلًقا‪ ،‬فهذا هو الحسد المذموم‪ ،‬وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه‪،‬‬
‫ضا في قلبه‪ ،‬ويلتذ بزوال النعمة عنه‪ ،‬وإن لم يحصل له نفع بزوالها‪ ،‬لكن نفعه ‪ /‬زوال اللم الذي كان‬
‫فيكون ذلك مر ً‬
‫في نفسه‪ ،‬ولكن ذلك اللم لم يزل إل بمباشرة منه‪ ،‬وهو راحة‪ ،‬وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه‬
‫ل على عبده مرض‪ .‬فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود وأعظم منها‪ ،‬وقد‬ ‫والمرض باق؛ فإن بغضه لنعمة ا ّ‬
‫يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود‪.‬‬

‫والحاسد ليس له غرض في شيء معين‪ ،‬لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع؛ ولهذا قال من قال‪ :‬إنه تمنى زوال‬
‫النعمة‪ ،‬فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه‪.‬‬

‫والنوع الثاني‪ :‬أن يكره فضل ذلك الشخص عليه‪ ،‬فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه‪ ،‬فهذا حسد وهو الذي سموه‬
‫الغبطة‪ ،‬وقد سماه النبي صلى ال عليه وسلم حسًدا في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر ـ رضي‬
‫ل مال فسلطه‬ ‫ل الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها‪ ،‬ورجل آتاه ا ّ‬ ‫ل عنهما ـ أنه قال‪) :‬ل حسد إل في اثنتين‪ :‬رجل أتاه ا ّ‬‫ا ّ‬
‫ل القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار‪،‬‬
‫على هلكته في الحق( هذا لفظ ابن مسعود‪ ،‬ولفظ ابن عمر‪) :‬رجل آتاه ا ّ‬
‫ل مالً فهو ينفق منه في الحق آناء الليل والنهار( رواه البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه‪) :‬ل حسد‬ ‫ورجل آتاه ا ّ‬
‫ل القرآن فهو يتلوه الليل والنهار‪ ،‬فسمعه رجل فقال‪ :‬ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا‪/ ،‬‬ ‫إل في اثنين‪ :‬رجل آتاه ا ّ‬
‫ل مال فهو يهلكه في الحق‪ .‬فقال رجل‪ :‬ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا‬ ‫فعملت فيه مثل ما يعمل هذا‪ ،‬ورجل آتاه ا ّ‬
‫فعملت فيه مثل ما يعمل هذا(‪ .‬فهذا الحسد الذي نهى عنه النبي صلى ال عليه وسلم إل في موضعين هو الذي سماه‬
‫أولئك الغبطة‪ ،‬وهو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه‪.‬‬
‫ل عليه؟ قيل‪ :‬مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهته‬‫فإن قيل‪ :‬إًذا لم سمي حسًدا وإنما أحب أن ينعم ا ّ‬
‫أن يتفضل عليه‪ ،‬ولول وجود ذلك الغير لم يحب ذلك‪ ،‬فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسًدا؛‬
‫ل عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس‪ ،‬فهذا ليس عنده من الحسد‬
‫لنه كراهة تتبعها محبة‪ ،‬وأما من أحب أن ينعم ا ّ‬
‫شيء‪.‬‬

‫ولهذا يبتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني‪ ،‬وقد تسمى المنافسة‪ ،‬فيتنافس الثنان في المر المحبوب المطلوب‪ ،‬كلهما‬
‫يطلب أن يأخذه‪ ،‬وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الخر‪ ،‬كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الخر‪،‬‬
‫ن ‪َ .‬تْعِر ُ‬
‫ف‬ ‫ظُرو َ‬
‫ك َين ُ‬
‫لَراِئ ِ‬
‫عَلى ا َْ‬
‫لْبَراَر َلِفي َنِعيٍم ‪َ .‬‬ ‫والتنافس ليس مذموًما مطلًقا‪ ،‬بل هو محمود في الخير‪ ،‬قال تعالى‪} :‬إِ ّ‬
‫ن ا َْ‬
‫س اْلُمَتَناِفُسوَن{ ]المطففين‪22 :‬ـ ‪.[26‬‬ ‫ك فَْلَيَتَناَف ْ‬
‫ك َوِفي َذِل َ‬
‫سٌ‬
‫خَتاُمُه ِم ْ‬
‫خُتوٍم ‪ِ .‬‬
‫ق َم ْ‬
‫حي ٍ‬
‫ن َر ِ‬
‫ن ِم ْ‬
‫سَقْو َ‬
‫ضَرَة الّنِعيِم ‪ُ .‬ي ْ‬
‫جوِهِهْم َن ْ‬
‫ِفي ُو ُ‬

‫فأمر المنافس أن ينافس في هذا النعيم‪ ،‬ل ينافس في نعيم الدنيا ‪ /‬الزائل‪ ،‬وهذا موافق لحديث النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم فإنه نهى عن الحسد إل فيمن أوتي العلم فهو يعمل به ويعلمه‪ ،‬ومن أوتي المال فهو ينفقه‪ ،‬فأما من أوتي علًما‬
‫ل فهذا ل يحسد ول يتمنى مثل حاله‪ ،‬فإنه ليس في خير‬ ‫ولم يعمل به ولم يعلمه‪ ،‬أو أوتي مال ولم ينفقه في طاعة ا ّ‬
‫يرغب فيه‪ ،‬بل هو معرض للعذاب‪ ،‬ومن ولي ولية فيأتيها بعلم وعدل‪ ،‬أدى المانات إلى أهلها‪ ،‬وحكم بين الناس‬
‫ل‪.‬‬
‫بالكتاب والسنة‪ ،‬فهذا درجته عظيمة‪ ،‬لكن هذا في جهاد عظيم‪ ،‬كذلك المجاهد في سبيل ا ّ‬

‫ل أفضل من الذي ينفق المال‪،‬‬


‫والنفوس ل تحسد من هو في تعب عظيم؛ فلهذا لم يذكره‪ ،‬وإن كان المجاهد في سبيل ا ّ‬
‫بخلف المنفق والمعلم فإن هذين ليس لهم في العادة عدو من خارج‪ ،‬فإن قدر أنهما لهما عدو يجاهدانه‪ ،‬فذلك أفضل‬
‫لدرجتهما‪ ،‬وكذلك لم يذكر النبي صلى ال عليه وسلم المصلي والصائم والحاج؛ لن هذه العمال ل يحصل منها في‬
‫العادة من نفع الناس الذي يعظمون به الشخص‪ ،‬ويسودونه ما يحصل بالتعليم والنفاق‪.‬‬

‫والحسد في الصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة‪ ،‬وإل فالعامل ل يحسد في العادة‪ ،‬ولو كان تنعمه‬
‫بالكل والشرب والنكاح أكثر من غيره‪ ،‬بخلف هذين النوعين فإنهما يحسدان كثيًرا؛ ولهذا يوجد بين أهل ‪ /‬العلم‬
‫الذين لهم أتباع من الحسد ما ل يوجد فيمن ليس كذلك‪ ،‬وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله‪ ،‬فهذا ينفع الناس بقوت‬
‫القلوب وهذا ينفعهم بقوت البدان‪ ،‬والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا‪.‬‬

‫ن َرَزْقَناهُ‬‫يٍء َوَم ْ‬ ‫ش ْ‬‫عَلى َ‬ ‫ل َيْقِدُر َ‬‫عْبًدا َمْمُلوًكا َ‬


‫ل َ‬‫ل َمَث ً‬ ‫ب ا ُّ‬
‫ضَر َ‬ ‫ل بهذا فقال‪َ } :‬‬ ‫ل بهذا‪ ،‬ومث ً‬ ‫ل ـ سبحانه ـ مثلين‪ :‬مث ً‬ ‫ولهذا ضرب ا ّ‬
‫ل َيْقِدرُ‬‫حُدُهَما َأْبَكُم َ‬
‫ن َأ َ‬
‫جَلْي ِ‬
‫ل َر ُ‬‫ل َمَث ً‬
‫ب ا ُّ‬
‫ضَر َ‬‫ن ‪َ .‬و َ‬ ‫ل َيْعَلُمو َ‬ ‫ل َأْكَثُرُهْم َ‬
‫ل َب ْ‬
‫حْمُد ِّ‬ ‫ن اْل َ‬
‫سَتُوو َ‬
‫ل َي ْ‬‫جْهًرا َه ْ‬
‫سّرا َو َ‬ ‫ق ِمْنُه ِ‬
‫سًنا َفُهَو ُينِف ُ‬
‫حَ‬‫ِمّنا ِرْزًقا َ‬
‫ط ُمْسَتِقيٍم{ ]النحل‪،75 :‬‬ ‫صَرا ٍ‬‫عَلى ِ‬ ‫ل َوُهَو َ‬‫ن َيْأُمُر ِباْلَعْد ِ‬
‫سَتِوي ُهَو َوَم ْ‬ ‫ل َي ْ‬
‫خْيٍر َه ْ‬‫ت ِب َ‬
‫ل َيْأ ِ‬
‫جّه َ‬‫لُه َأْيَنَما ُيَو ّ‬
‫عَلى َمْو َ‬‫ل َ‬ ‫يٍء َوُهَو َك ّ‬
‫ش ْ‬‫عَلى َ‬ ‫َ‬
‫‪.[76‬‬

‫ل ـ سبحانه ـ لنفسه المقدسة‪ ،‬ولما يعبد من دونه‪ ،‬فإن الوثان ل تقدر ل على عمل ينفع‪ ،‬ول على‬ ‫والمثلن ضربهما ا ّ‬
‫كلم ينفع‪ ،‬فإذا قدر عبد مملوك ل يقدر على شيء‪ ،‬وآخر قد رزقه الّ رزًقا حسًنا فهو ينفق منه سًرا وجهًرا هل‬
‫يستوى هذا المملوك العاجز عن الحسان وهذا القادر على الحسان المحسن إلى الناس سًرا وجهًرا‪ .‬وهو ـ سبحانه ـ‬
‫قادر على الحسان إلى عباده‪ ،‬وهو محسن إليهم دائما‪ ،‬فكيف يشبه به العاجز المملوك الذي ل يقدر على شيء حتى‬
‫ل مالً فهو ينفق منه آناء الليل والنهار‪.‬‬
‫يشرك به معه‪ ،‬وهذا مثل الذي أعطاه ا ّ‬

‫ل على موله أينما‬


‫‪/‬والمثل الثاني إذا قدر شخصان أحدهما أبكم ل يعقل ول يتكلم ول يقدر على شىء‪ ،‬وهو مع هذا َك ّ‬
‫ل على من يتولى أمره‪ ،‬وآخر عالم عادل يأمر بالعدل‪ ،‬ويعمل‬ ‫يوجهه ل يأت بخير‪ ،‬فليس فيه من نفع قط‪ ،‬بل هو َك ّ‬
‫ل الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها الناس‪.‬‬
‫بالعدل‪ ،‬فهو على صراط مستقيم‪ ،‬وهذا نظير الذي أعطاه ا ّ‬

‫ل لنفسه‪ ،‬فإنه ـ سبحانه ـ عالم عادل قادر يأمر بالعدل‪ ،‬وهو قائم بالقسط على صراط مستقيم‪ .‬كما‬ ‫وقد ضرب ذلك مث ً‬
‫ط َل ِإَلَه ِإّل ُهَو اْلَعِزيُز اْلَحِكيُم{ ]آل عمران‪ ،[18 :‬وقال‬
‫سِ‬‫لِئَكُة َوُأْوُلوا اْلِعْلِم َقاِئًما ِباْلِق ْ‬
‫ل ُهَو َواْلَم َ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل َأّنُه َ‬ ‫قال تعالى‪َ } :‬‬
‫شِهَد ا ُّ‬
‫ط ُمْسَتِقيٍم{ ]هود‪.[56 :‬‬ ‫صَرا ٍ‬
‫عَلى ِ‬ ‫هود‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن َرّبي َ‬

‫ل يعلم الناس وأخوه يطعم الناس‪ ،‬فكانوا يعظمون على ذلك‪ ،‬ورأى‬
‫ولهذا كان الناس يعظمون دار العباس‪ ،‬كان عبد ا ّ‬
‫معاوية الناس يسألون ابن عمر عن المناسك وهو يفتيهم فقال‪ :‬هذا والّ الشرف‪ ،‬أو نحو ذلك‪.‬‬
‫ل عنه ـ النفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن‬ ‫ل عنه ـ نافس أبا بكر ـ رضي ا ّ‬‫هذا وعمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ‬
‫ل عندي‪ ،‬فقلت اليوم‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم أن نتصدق‪ ،‬فوافق ذلك ما ً‬ ‫ل عنه ـ قال‪ :‬أمرنا رسول ا ّ‬
‫الخطاب ـ رضي ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬ما أبقيت‬ ‫أسبق أبا بكر أن سبقته يوًما‪ .‬قال فجئت بنصف مالي‪ ،‬قال‪ :‬فقال لي رسول ‪ /‬ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬ما أبقيت‬ ‫ل عنه ـ بكل ما عنده‪ ،‬فقال له رسول ا ّ‬
‫لهلك؟( قلت‪ :‬مثله‪ ،‬وأتى أبو بكر ـ رضي ا ّ‬
‫ل ورسوله فقلت‪ :‬ل أسابقك إلى شيء أبًدا‪.‬‬‫لهلك؟( قال‪ :‬أبقيت لهم ا ّ‬

‫ل عنه ـ أفضل منه وهو أنه خال من‬


‫فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة‪ ،‬لكن حال الصديق ـ رضي ا ّ‬
‫المنافسة مطلًقا ل ينظر إلى حال غيره‪.‬‬

‫وكذلك موسى صلى ال عليه وسلم في حديث المعراج حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى ال عليه وسلم حتى بكى‬
‫لما تجاوزه النبي صلى ال عليه وسلم فقيل له‪ :‬ما يبكيك‪ :‬فقال‪) :‬أبكي‪ ،‬لن غلًما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته‬
‫أكثر ممن يدخلها من أمتي(‪ ،‬أخرجاه في الصحيحين‪ ،‬وروى في بعض اللفاظ المروية غير الصحيح‪) :‬مررنا على‬
‫رجل وهو يقول ويرفع صوته‪ :‬أكرمته وفضلته‪ ،‬قال‪ :‬فرفعناه إليه فسلمنا عليه فرد السلم‪ ،‬فقال‪ :‬من هذا معك يا‬
‫جبريل ؟ قال‪ :‬هذا أحمد‪ ،‬قال‪ :‬مرحًبا بالنبي المي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لمته‪ ،‬قال‪ :‬ثم اندفعنا فقلت‪ :‬من هذا يا‬
‫جبريل ؟ قال‪ :‬هذا موسى بن عمران‪ ،‬قلت‪ :‬ومن يعاتب ؟ قال‪ :‬يعاتب ربه فيك‪ ،‬قلت‪ :‬ويرفع صوته على ربه؟! قال‪:‬‬
‫ل ـ عز وجل ـ قد عرف صدقه(‪.‬‬ ‫إن ا ّ‬

‫ل عنه ـ كان مشبًها بموسى‪ ،‬ونبينا حاله أفضل من حال موسى‪ ،‬فإنه لم يكن عنده شيء من ذلك‪.‬‬
‫‪/‬وعمر ـ رضي ا ّ‬

‫وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه‪ ،‬كانوا سالمين من جميع هذه المور‪ ،‬فكانوا أرفع درجة ممن‬
‫ل عنه ـ أن يكون أمين هذه المة‪ ،‬فإن‬‫حا؛ ولهذا استحق أبو عبيدة ـ رضي ا ّ‬
‫عنده منافسة وغبطة‪ ،‬وإن كان ذلك مبا ً‬
‫المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه‪ ،‬كان أحق بالمانة ممن يخاف مزاحمته؛ ولهذا‬
‫يؤتمن على النساء والصبيان الخصيان‪ ،‬ويؤتمن على الولية الصغرى من يعرف أنه ل يزاحم على الكبرى‪ ،‬ويؤتمن‬
‫على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيء منه‪ ،‬وإذا أؤتمن من في نفسه خيانة شبه بالذئب المؤتمن على‬
‫الغنم‪ ،‬فل يقدر أن يؤدي المانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه‪.‬‬

‫ل صلى‬ ‫سا عند رسول ا ّ‬ ‫ل عنه ـ قال‪ :‬كنا يوًما جلو ً‬‫وفي الحديث الذي رواه المام أحمد في مسنده عن أنس ـ رضي ا ّ‬
‫ال عليه وسلم فقال‪) :‬يطلع عليكم الن من هذا الفج رجل من أهل الجنة(‪ ،‬قال‪ :‬فطلع رجل من النصار تنطف لحيته‬
‫من وضوء‪ ،‬قد علق نعليه في يده الشمال‪ ،‬فسلم‪ ،‬فلما كان الغد قال النبي صلى ال عليه وسلم مثل ذلك‪ ،‬فطلع ذلك‬
‫الرجل على مثل حاله‪ ،‬فلما كان اليوم الثالث‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم مقالته فطلع ذلك الرجل على مثل حاله‪،‬‬
‫ل عنه ـ فقال‪ :‬إني لحيت أبى‪،‬‬ ‫ل بن عمرو بن العاص ـ رضي ‪/‬ا ّ‬ ‫فلما قام النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬اتبعه عبد ا ّ‬
‫فأقسمت أل أدخل عليه ثلًثا‪ ،‬فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلث فعلت‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال أنس ـ رضي ا ّ‬
‫ل‬
‫ل يحدث أنه بات عنده ثلث ليال‪ ،‬فلم يره يقوم من الليل شيًئا‪ ،‬غير أنه إذا تعار انقلب على فراشه‬ ‫عنه ـ‪ :‬فكان عبد ا ّ‬
‫ل‪ :‬غير أني لم أسمعه يقول إل خيًرا‪ ،‬فلما فرغنا‬ ‫ل ـ عز وجل ـ وكبر حتى يقوم إلى صلة الفجر‪ ،‬فقال عبد ا ّ‬ ‫ذكر ا ّ‬
‫ل لم يكن بيني وبين والدي غضب ول هجرة‪ ،‬ولكن سمعت رسول ا ّ‬
‫ل‬ ‫من الثلث وكدت أن أحقر عمله قلت‪ :‬يا عبد ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم يقول ثلث مرات‪) :‬يطلع عليكم رجل من أهل الجنة(‪ ،‬فطلعت أنت الثلث مرات‪ ،‬فأردت أن‬
‫ل صلى ال عليه‬ ‫آوى إليك لنظر ما عملك‪ ،‬فأقتدى بذلك‪ ،‬فلم أَرك تعمل كثير عمل‪ ،‬فما الذي بلغ بك ما قال رسول ا ّ‬
‫شا ول حسًدا على خير أعطاه‬ ‫وسلم ؟ قال‪ :‬ما هو إل ما رأيت‪ ،‬غير أنني ل أجد على أحد من المسلمين في نفسي غ ً‬
‫ل ابن عمرو له‪ :‬هذه التي بلغت بك‪ ،‬وهي‬ ‫ل‪ :‬هذه التي بلغت بك وهي التي ل نطيق‪ .‬فقول عبد ا ّ‬ ‫ل إياه‪ .‬قال عبد ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫التي ل نطيق‪ ،‬يشير إلى خلوه وسلمته من جميع أنواع الحسد‪.‬‬

‫ن ِبِهْم‬
‫سِهْم َوَلْو َكا َ‬
‫عَلى َأْنُف ِ‬
‫ن َ‬
‫جًة ِمّما ُأوُتوا َوُيْؤِثُرو َ‬
‫حا َ‬
‫صُدوِرِهْم َ‬
‫ن ِفي ُ‬
‫جُدو َ‬ ‫ل ـ تعالى ـ على النصار فقال‪َ} :‬و َ‬
‫ل َي ِ‬ ‫وبهذا أثنى ا ّ‬
‫صٌة{ ]الحشر‪ ،[9 :‬أي‪ :‬مما أوتي إخوانهم المهاجرون‪ ،‬قال المفسرون‪ :‬ل يجدون في صدورهم حاجة أي‪ :‬حسًدا‬ ‫صا َ‬‫خ َ‬
‫َ‬
‫ظا مما أوتي المهاجرون‪ ،‬ثم قال بعضهم‪ :‬من مال الفيء‪ ،‬وقيل‪ :‬من الفضل والتقدم‪ / ،‬فهم ل يجدون حاجة مما‬‫وغي ً‬
‫أتوا من المال ول من الجاه‪ ،‬والحسد يقع على هذا‪.‬‬
‫ل ورسوله أحب الخرون‬ ‫وكان بين الوس والخزرج منافسة على الدين‪ ،‬فكان هؤلء إذا فعلوا ما يفضلون به عند ا ّ‬
‫س اْلُمَتَناِفُسوَن{ ]المطففين‪:‬‬
‫ك َفْلَيَتَناَف ْ‬
‫ك َوِفي َذِل َ‬
‫سٌ‬ ‫ل كما قال‪ِ } :‬‬
‫خَتاُمُه ِم ْ‬ ‫أن يفعلوا نظير ذلك‪ ،‬فهو منافسة فيما يقربهم إلى ا ّ‬
‫‪.[26‬‬

‫سًدا ِم ْ‬
‫ن‬ ‫حَ‬‫ن َبْعِد ِإيَماِنُكْم ُكّفاًرا َ‬
‫ب َلْو َيُرّدوَنُكْم ِم ْ‬
‫ل اْلِكَتا ِ‬ ‫وأما الحسد المذموم كله‪ ،‬فقد قال تعالى في حق اليهود ‪َ} :‬وّد َكِثيٌر ِم ْ‬
‫ن َأْه ِ‬
‫ق{ ]البقرة‪ ،[109 :‬يودون‪ :‬أي‪ :‬يتمنون ارتدادكم حسًدا‪ ،‬فجعل الحسد هو الموجب‬ ‫حّ‬
‫ن َلُهْم اْل َ‬
‫ن َبْعِد َما َتَبّي َ‬
‫سِهْم ِم ْ‬
‫عْنِد َأنُف ِ‬
‫ِ‬
‫لذلك الود من بعد ما تبين لهم الحق؛ لنهم لما رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل‪ ،‬بل ما لم يحصل لهم مثله‬
‫حْكَمَة‬‫ب َواْل ِ‬
‫ل ِإْبَراِهيَم اْلِكَتا َ‬
‫ضِلِه َفَقْد آَتْيَنا آ َ‬
‫ن َف ْ‬
‫ل ِم ْ‬
‫عَلى َما آَتاُهْم ا ُّ‬ ‫س َ‬‫ن الّنا َ‬‫سُدو َ‬‫حُ‬‫حسدوكم‪ ،‬وكذلك في الية الخرى‪َ} :‬أْم َي ْ‬
‫عوُذ‬ ‫سِعيًرا{ ]النساء‪ ،[55 ،54 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َأ ُ‬ ‫جَهّنَم َ‬‫عْنُه َوَكَفى ِب َ‬‫صّد َ‬
‫ن َ‬ ‫ن ِبِه َوِمْنُهْم َم ْ‬
‫ن آَم َ‬‫ظيًما‪َ .‬فِمْنُهْم َم ْ‬
‫عِ‬‫َوآَتْيَناُهْم ُمْلًكا َ‬
‫ت ِفي الُْعَقِد‪َ .‬وِمْن َشّر َحاِسٍد ِإَذا َحَسَد{ ] سورة الفلق [‪.‬‬ ‫شّر الّنّفاَثا ِ‬‫ن َ‬‫ب‪َ .‬وِم ْ‬
‫ق ِإَذا َوَق َ‬
‫سٍ‬ ‫غا ِ‬‫شّر َ‬‫ن َ‬ ‫ق‪َ .‬وِم ْ‬‫خَل َ‬
‫شّر َما َ‬ ‫ن َ‬‫ق‪ِ .‬م ْ‬
‫ب اْلَفَل ِ‬
‫ِبَر ّ‬

‫وقد ذكر طائفة من المفسرين أنها نزلت بسبب حسد اليهود للنبي صلى ال عليه وسلم حتى سحروه‪ :‬سحره لَبِيد بن‬
‫ل عليه بها ظالم معتد‪ ،‬والكاره لتفضيله المحب لمماثلته‬
‫العصم اليهودي‪ ،‬فالحاسد ‪ /‬المبغض للنعمة على من أنعم ا ّ‬
‫ل فهذا ل بأس به‪ ،‬وإعراض‬ ‫ل‪ ،‬فإذا أحب أن يعطي مثل ما أعطى مما يقربه إلى ا ّ‬ ‫منهى عن ذلك إل فيما يقربه إلى ا ّ‬
‫قلبه عن هذا بحيث ل ينظر إلى حال الغير أفضل‪.‬‬

‫ثم هذا الحسد‪ ،‬إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالًما معتدًيا مستحًقا للعقوبة إل أن يتوب‪ ،‬وكان المحسود مظلوًما‬
‫ب َلْو‬
‫ل اْلِكَتا ِ‬ ‫را بالصبر والتقوى‪ ،‬فيصبر على أذى الحاسد ويعفو ويصفح عنه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وّد َكِثيٌر ِم ْ‬
‫ن َأْه ِ‬ ‫مأمو ً‬
‫ل ِبَأْمِرِه{ ]البقرة‪:‬‬ ‫ي ا ُّ‬ ‫حّتى َيْأِت َ‬
‫حوا َ‬ ‫صَف ُ‬
‫عُفوا َوا ْ‬ ‫ق َفا ْ‬
‫حّ‬‫ن َلُهْم اْل َ‬
‫ن َبْعِد َما َتَبّي َ‬
‫سِهْم ِم ْ‬
‫عْنِد َأنُف ِ‬
‫ن ِ‬
‫سًدا ِم ْ‬
‫حَ‬
‫ن َبْعِد ِإيَماِنُكْم ُكّفاًرا َ‬
‫َيُرّدوَنُكْم ِم ْ‬
‫ن‬
‫ل ّمِبي ٍ‬
‫لٍ‬ ‫ضَ‬ ‫ن َأَباَنا َلِفي َ‬ ‫صَبٌة ِإ ّ‬
‫ع ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫حُ‬
‫ب ِإَلى َأِبيَنا ِمّنا َوَن ْ‬
‫خوُه َأحَ ّ‬‫ف َوَأ ُ‬ ‫س ُ‬‫‪ ،[109‬وقد ابتلى يوسف بحسد إخوته له حيث قالوا‪َ} :‬لُيو ُ‬
‫ك َفَيِكيُدوْا َلكَ‬
‫خَوِت َ‬‫عَلى ِإ ْ‬‫ك َ‬ ‫ص ُرْؤَيا َ‬ ‫ص ْ‬ ‫ل َتْق ُ‬‫{ ]يوسف‪ ،[8 :‬فحسدوهما على تفضيل الب لهما؛ ولهذا قال يعقوب ليوسف‪َ } :‬‬
‫لنَساِن َعُدّو ّمِبيٌن { ]يوسف‪.[5 :‬‬ ‫ن ِل ِ‬‫طا َ‬‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬‫َكْيًدا ِإ ّ‬

‫ثم إنهم ظلموه بتكلمهم في قتله وإلقائه في الجب وبيعه رقيًقا لمن ذهب به إلى بلد الكفر فصار مملوًكا لقوم كفار‪ ،‬ثم‬
‫إن يوسف ابتلى بعد أن ظلم بمن يدعوه إلى الفاحشة ويراود عليها‪ ،‬ويستعين عليه بمن يعينه على ذلك فاستعصم‪،‬‬
‫ل‪ ،‬فكان مظلوًما من جهة من أحبه لهواه‪ ،‬وغرضه‬ ‫واختار السجن على الفاحشة‪ ،‬وآثر عذاب ‪ /‬الدنيا على سخط ا ّ‬
‫الفاسد‪.‬‬

‫فهذه المحبة أحبته لهوي محبوبها شفاؤها وشفاؤه إن وافقها‪ ،‬وأولئك المبغضون أبغضوه بغضة أوجبت أن يصير‬
‫ملقى في الجب‪ ،‬ثم أسيًرا مملوًكا بغير اختياره‪ ،‬فأولئك أخرجوه من إطلق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير‬
‫سا مسجوًنا باختياره‪ ،‬فكانت هذه أعـظم في محنته‪ ،‬وكان صبره‬ ‫اختياره‪ ،‬وهـذه ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبو ً‬
‫هنا صبًرا اختيارًيا اقترن به التقوى‪ ،‬بخلف صبره على ظلمهم فإن ذلك كان من باب المصائب التي من لم يصبر‬
‫ضيُع‬
‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫صِبْر َفِإ ّ‬
‫ق َوَي ْ‬ ‫عليها صبر الكرام سل سلو البهائم‪ ،‬والصبر الثاني أفضل الصبرين؛ ولهذا قال‪ِ} :‬إّنُه َم ْ‬
‫ن َيّت ِ‬
‫َأْجَر اْلمُْحِسِنيَن{ ]يوسف‪.[90 :‬‬

‫وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه‪ ،‬وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان‪ ،‬وإن لم يفعل أوذي وعوقب‪ ،‬فاختار‬
‫الذى والعقوبة على فراق دينه‪ :‬إما الحبس‪ ،‬وإما الخروج من بلده‪ ،‬كما جرى للمهاجرين‪ ،‬حيث اختاروا فراق‬
‫الوطان على فراق الدين‪ ،‬وكانوا يعذبون ويؤذون‪.‬‬

‫وقد أوذي النبي صلى ال عليه وسلم بأنواع من الذى فكان يصبر عليها صبًرا اختيارًيا‪ ،‬فإنه إنما يؤذى لئل يفعل ما‬
‫يفعله ‪ /‬باختياره‪ ،‬وكان هذا أعظم من صبر يوسف؛ لن يوسف إنما طلب منه الفاحشة وإنما عوقب إذا لم يفعل‬
‫بالحبس‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه طلب منهم الكفر وإذا لم يفعلوا طلبت عقوبتهم بالقتل فما دونه‪ .‬وأهون‬
‫ما عوقب به الحبس‪ ،‬فإن المشركين حبسوه وبني هاشم بالشعب مدة‪ ،‬ثم لما مات أبو طالب اشتدوا عليه‪ ،‬فلما بايعت‬
‫النصار وعرفوا بذلك صاروا يقصدون منعه من الخروج ويحبسونه هو وأصحابه عن ذلك ولم يكن أحد يهاجر إل‬
‫سًرا‪ ،‬إل عمر بن الخطاب ونحوه‪ ،‬فكانوا قد ألجؤوهم إلى الخروج من ديارهم ومع هذا منعوا من منعوه منهم عن‬
‫ذلك وحبسوه‪.‬‬
‫ل ورسوله‪ ،‬لم يكن من المصائب السماوية التي‬ ‫فكان ما حصل للمؤمنين من الذى والمصائب هو باختيارهم طاعة ّ‬
‫تجرى بدون اختيار العبد من جنس حبس يوسف‪ ،‬ل من جنس التفريق بينه وبين أبيه‪ ،‬وهذا أشرف النوعين‪ ،‬وأهلها‬
‫أعظم درجة ـ وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب بمصائبه ـ فإن هذا أصيب‬
‫ظَمٌأ‬
‫صيُبُهْم َ‬
‫ل ُي ِ‬ ‫ل يثاب على نفس المصائب ويكتب له بها عمل صالح‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬ذِل َ‬
‫ك ِبَأّنُهْم َ‬ ‫وأوذي باختياره طاعة ّ‬
‫ل َ‬
‫ل‬ ‫ن ا َّ‬
‫ح ِإ ّ‬
‫صاِل ٌ‬
‫ل َ‬
‫عَم ٌ‬
‫ب َلُهْم ِبِه َ‬
‫ل ُكِت َ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫عُدّو َنْي ً‬
‫ن َ‬
‫ل َيَناُلونَ ِم ْ‬
‫ظ اْلُكّفاَر َو َ‬
‫طًئا َيِغي ُ‬
‫ن َمْو ِ‬
‫طُئو َ‬
‫ل َي َ‬
‫ل َو َ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫صٌة ِفي َ‬
‫خَم َ‬
‫ل َم ْ‬
‫ب َو َ‬
‫ص ٌ‬
‫ل َن َ‬‫َو َ‬
‫ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]التوبة‪.[120 :‬‬ ‫ُي ِ‬

‫‪/‬بخلف المصائب التي تجرى بل اختيار العبد‪ ،‬كالمرض وموت العزيز عليه وأخذ اللصوص ماله‪ ،‬فإن تلك إنما‬
‫يثاب على الصبر عليها ل على نفس ما يحدث من المصيبة‪ ،‬لكن المصيبة يكفر بها خطاياه‪ ،‬فإن الثواب إنما يكون‬
‫على العمال الختيارية‪ ،‬وما يتولد عنها‪.‬‬

‫ل ورسوله‪ ،‬ويحدث لهم بسبب ذلك حرج‪ ،‬أو مرض‪ ،‬أو حبس‪ ،‬أو فراق وطن‬ ‫والذين يؤذون على اليمان‪ ،‬وطاعة ا ّ‬
‫وذهاب مال وأهل‪ ،‬أو ضرب أو شتم أو نقص رياسة ومال هم في ذلك علي طريقة النبياء وأتباعهم كالمهاجرين‬
‫الولين‪ ،‬فهؤلء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لهم به عمل صالح‪ ،‬كما يثاب المجاهد على ما يصيبه من الجوع‬
‫ل فعله يقوم به لكنها متسببة عن فعله‬
‫والعطش والتعب وعلى غيظه الكفار‪ ،‬وإن كانت هذه الثار ليست عم ً‬
‫الختياري‪ ،‬وهي التي يقال لها متولدة‪.‬‬

‫ل أو ل فاعل لها‪ ،‬والصحيح أنها مشتركة بين فاعل السبب‪،‬‬


‫وقد اختلف الناس‪ :‬هل يقال‪ :‬إنها فعل لفاعل السبب‪ ،‬أو ّ‬
‫وسائر السباب؛ولهذا كتب له بها عمل صالح‪.‬‬

‫والمقصود أن الحسد مرض من أمراض النفس‪ ،‬وهو مرض غالب فل يخلص منه إل قليل من الناس؛ ولهذا يقال‪ :‬ما‬
‫خل ‪ /‬جسد من حسد‪ ،‬لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه‪ ،‬وقد قيل للحسن البصري‪ :‬أيحسد المؤمن؟ فقال‪ :‬ما أنساك إخوة‬
‫يوسف ل أبا لك! ولكن عمه في صدرك‪ ،‬فإنه ل يضرك ما لم تعد به يًدا ولساًنا‪.‬‬

‫فمن وجد في نفسه حسًدا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر‪ ،‬فيكره ذلك من نفسه‪ ،‬وكثير من الناس الذين‬
‫ضا ل يقومون بما يجب من حقه‪ ،‬بل إذا ذمه‬
‫عندهم دين ل يعتدون على المحسود‪ ،‬فل يعينون من ظلمه‪ ،‬ولكنهم أي ً‬
‫أحد لم يوافقوه على ذمه ول يذكرون محامده‪ ،‬وكذلك لو مدحه أحد لسكتوا‪ ،‬وهؤلء مدينون في ترك المأمور في حقه‬
‫ضا في مواضع‪ ،‬ول ينصرون‬ ‫مفرطون في ذلك‪ ،‬ل معتدون عليه‪ ،‬وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فل ينصفون أي ً‬
‫على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود‪ ،‬وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب‪.‬‬

‫ل بتقواه؛ كما جرى لزينب بنت جحش ـ رضي الّ عنها ـ فإنها‬‫ل وصبر فلم يدخل في الظالمين‪ ،‬نفعه ا ّ‬
‫ومن اتقى ا ّ‬
‫كانت هي التي تسامى عائشة من أزواج النبي صلى ال عليه وسلم وحسد النساء بعضهن لبعض كثير غالب‪ ،‬ل سيما‬
‫المتزوجات بزوج واحد‪ ،‬فإن المرأة تغار على زوجها لحظها منه‪ ،‬فإنه بسبب المشاركة يفوت بعض حظها‪.‬‬

‫طا من ذلك وفات الخر‪ ،‬ويكون بين‬ ‫‪/‬وهكذا الحسد يقع كثيًرا بين المتشاركين في رئاسة أو مال‪ ،‬إذا أخذ بعضهم قس ً‬
‫النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الخر عليه‪ ،‬كحسد إخوة يوسف‪ ،‬وكحسد ابني آدم أحدهما لخيه‪ ،‬فإنه حسده لكون‬
‫ل من اليمان والتقوى ـ كحسد اليهود للمسلمين ـ‬
‫ل تقبل قربانه‪ ،‬ولم يتقبل قربان هذا‪ ،‬فحسده على ما فضله ا ّ‬
‫أن ا ّ‬
‫ل به ثلثة‪ :‬الحرص‪ ،‬والكبر‪ ،‬والحسد‪ ،‬فالحرص من آدم‪ ،‬والكبر من‬ ‫وقتله على ذلك؛ ولهذا قيل‪ :‬أول ذنب عصى ا ّ‬
‫إبليس‪ ،‬والحسد من قابيل حيث قتل هابيل‪.‬‬

‫طيرة‪ ،‬وسأحدثكم بما يخرج من ذلك‪ :‬إذا حسدت فل‬‫وفي الحديث‪) :‬ثلث ل ينجو منهن أحد‪ :‬الحسد‪ ،‬والظن‪ ،‬وال ّ‬
‫تبغض‪ ،‬وإذا ظننت فل تحقق‪ ،‬وإذا تطيرت فامض( رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة‪.‬‬

‫وفي السنن عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬دب إليكم داء المم قبلكم‪ :‬الحسد‪ ،‬والبغضاء وهي الحالقة‪ ،‬ل أقول‪ :‬تحلق‬
‫الشعر‪ ،‬ولكن تحلق الدين( فسماه داء‪ ،‬كما سمى البخل داء في قوله‪) :‬وأي داء أدوأ من البخل؟!( فعلم أن هذا مرض‪،‬‬
‫وقد جاء في حديث آخر‪) :‬أعوذ بك من منكرات الخلق والهواء‪ ،‬والدواء( فعطف الدواء على الخلق والهواء‪.‬‬
‫ظيٍم{ ]القلم‪ ،[4 :‬قال ابن عباس‪ ،‬وابن عيينة‪،‬‬
‫عِ‬‫ق َ‬
‫خُل ٍ‬ ‫جّية‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وِإّن َ‬
‫ك َلَعلى ُ‬ ‫سِ‬‫‪/‬فإن الخلق ما صار عادة للنفس‪ ،‬و َ‬
‫ل عنهم ـ على دين عظيم‪ ،‬وفي لفظ عن ابن عباس‪ :‬على دين السلم‪ ،‬وكذلك قالت عائشة‬ ‫وأحمد بن حنبل ـ رضي ا ّ‬
‫ل عنها ـ‪ :‬كان خلقه القرآن‪ .‬وكذلك قال الحسن البصري‪ :‬أدب القرآن هو الخلق العظيم‪.‬‬ ‫ـ رضي ا ّ‬

‫ضا‪ ،‬والداء هو المرض‪ ،‬وهو تألم القلب والفساد فيه‪ ،‬وقرن في الحديث الول الحسد‬ ‫وأما الهوى‪ ،‬فقد يكون عار ً‬
‫ل على ذلك الغير‪ ،‬ثم ينتقل إلى بغضه‪ ،‬فإن بغض اللزم يقتضى بغض‬ ‫بالبغضاء؛ لن الحاسد يكره أولً فضل ا ّ‬
‫ل إذا كانت لزمة وهو يحب زوالها‪ ،‬وهي ل تزول إل بزواله أبغضه وأحب عدمه‪ ،‬والحسد‬ ‫الملزوم‪ ،‬فإن نعمة ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ عمن قبلنا‪ :‬أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم‪ ،‬فلم يكن اختلفهم لعدم‬
‫يوجب البغي‪ ،‬كما أخبر ا ّ‬
‫العلم‪ ،‬بل علموا الحق ولكن بغى بعضهم على بعض‪ ،‬كما يبغى الحاسد على المحسود‪.‬‬

‫ل عنه ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬ل تحاسدوا‪ ،‬ول تباغضوا‪،‬‬ ‫وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ـ رضي ا ّ‬
‫ل إخواًنا‪ ،‬ول يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلث ليال‪ ،‬يلتقيان فيصّد هذا‬‫ول تدابروا‪ ،‬ول تقاطعوا‪ ،‬وكونوا عباد ا ّ‬
‫ويصد هذا‪ ،‬وخيرهما الذي يبدأ بالسلم(‪ ،‬وقد قال صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس‬
‫ضا‪) :‬والذي ‪/‬نفسي بيده‪ ،‬ل يؤمن أحدكم حتي يحب لخيه ما يحب لنفسه(‪.‬‬ ‫أي ً‬

‫ن ا ِّ‬
‫ل‬ ‫ل ِم َ‬
‫ضٌ‬‫صاَبُكْم َف ْ‬
‫ن َأ َ‬
‫شِهيًدا‪َ .‬وَلِئ ْ‬
‫ن َمَعُهْم َ‬
‫ي ِإْذ َلْم َأُك ْ‬
‫عَل ّ‬
‫ل َ‬
‫ل َقْد َأْنَعَم ا ُّ‬
‫صيَبٌة َقا َ‬
‫صاَبْتُكْم ُم ِ‬
‫ن َأ َ‬
‫ن َفِإ ْ‬
‫طَئ ّ‬
‫ن َلُيَب ّ‬
‫ن ِمْنُكْم َلَم ْ‬‫وقد قال تعالى‪َ} :‬وِإ ّ‬
‫ظيًما{ ]النساء‪.[73 ،72 :‬‬ ‫عِ‬ ‫ت َمَعُهْم َفَأُفوَز َفْوًزا َ‬‫ن َبْيَنُكْم َوَبْيَنُه َمَوّدٌة َياَلْيَتِني ُكن ُ‬
‫ن َلْم َتُك ْ‬
‫ن َكَأ ْ‬
‫َلَيُقوَل ّ‬

‫فهؤلء المبطئون لم يحبوا لخوانهم المؤمنين ما يحبون لنفسهم‪ ،‬بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا باختصاصهم‪ ،‬وإن‬
‫أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها‪ ،‬بل أحبوا أن يكون لهم منها حظ‪ ،‬فهم ل يفرحون إل بدنيا تحصل لهم‪ ،‬أو شر دنيوي‬
‫ل ورسوله والدار الخرة‪ ،‬ولو كانوا كذلك لحبوا إخوانهم‪ ،‬وأحبوا ما وصل‬‫ينصرف عنهم‪ ،‬إذا كانوا ل يحبون ا ّ‬
‫إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة‪ ،‬ومن لم يسره ما يسر المؤمنين‪ ،‬ويسوؤه ما يسوء المؤمنين فليس‬
‫منهم‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫ففي الصحيحين عن عامر قال‪ :‬سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول‪ :‬سمعت رسول ا ّ‬
‫)مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد‪ ،‬إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالحُّمى‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫ل عنه ـ قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬
‫سَهر(‪ ،‬وفي الصحيحين عن أبي موسى الشعري ـ رضي ا ّ‬ ‫وال ّ‬
‫)المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا( وشبك بين أصابعه‪.‬‬

‫والشح مرض‪ ،‬والبخل مرض‪ ،‬والحسد شر من البخل‪ ،‬كما في الحديث ‪ /‬الذي رواه أبو داود عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم أنه قال‪) :‬الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب‪ ،‬والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار( وذلك أن‬
‫ل على عباده‪ ،‬وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه وحسد‬ ‫البخيل يمنع نفسه‪ ،‬والحسود يكره نعمة ا ّ‬
‫لنظرائه‪ ،‬وقد يكون فيه بخل بل حسد لغيره والشح أصل ذلك‪.‬‬

‫ك ُهْم اْلُمْفِلُحوَن{ ] الحشر‪ ،[9 :‬وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫سِه َفُأْوَلِئ َ‬
‫ح َنْف ِ‬
‫شّ‬
‫ق ُ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن ُيو َ‬
‫قال‪) :‬إياكم والشح‪ ،‬فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا‪ ،‬وأمرهم بالظلم فظلموا‪ ،‬وأمرهم بالقطيعة فقطعوا(‪،‬‬
‫وكان عبد الرحمن بن عوف يكثر من الدعاء في طوافه يقول‪ :‬الّلهم قني شح نفسي‪ ،‬فقال له رجل‪ :‬ما أكثر ما تدعو‬
‫بهذا‪ .‬فقال‪ :‬إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة‪ .‬والحسد يوجب الظلم‪.‬‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها‪ ،‬بل وحبها لما يضرها؛ ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب‪،‬‬
‫وأما مرض الشهوة‪ ،‬والعشق فهو حب النفس لما يضرها‪ ،‬وقد يقترن به بغضها لما ينفعها‪ ،‬والعشق مرض نفساني‪،‬‬
‫ضا في الجسم‪ ،‬إما من أمراض ‪ /‬الدماغ كالماليخوليا؛ ولهذا قيل فيه‪ :‬هو مرض‬
‫وإذا قوى أثر في البدن فصار مر ً‬
‫وسواسي شبيه بالماليخوليا‪ ،‬وأما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك‪.‬‬
‫والمقصود هنا مرض القلب؛ فإنه أصل محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهى ما يضره‪ .‬وإذا لم يطعم‬
‫ذلك تألم‪ ،‬وإن أطعم ذلك قوى به المرض وزاد‪.‬‬

‫عا‪ ،‬بل ويضره التفكر فيه والتخيل له وهو يشتهي‬


‫كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدة وملمسة وسما ً‬
‫ذلك‪ ،‬فإن منع من مشتهاه تألم وتعذب‪ ،‬وإن أعطى مشتهاه قوي مرضه‪ ،‬وكان سبًبا لزيادة اللم‪.‬‬

‫ل يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب(‪ ،‬وفي مناجاة موسى‬ ‫وفي الحديث‪) :‬إن ا ّ‬
‫المأثورة عن وهب التي رواها المام أحمد في كتاب [الزهد] يقول الّ تعالى‪) :‬إني لذود أوليائي عن نعيم الدنيا‬
‫ورخائها‪ ،‬كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة‪ ،‬وإني لجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق‬
‫إبله عن مبارك الغرة‪ ،‬وما ذلك لهوانهم علي‪ ،‬ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالًما موفًرا لم تكلمه الدنيا ولم‬
‫يطفئه الهوى(‪ .‬وإنما شفاء المريض بزوال مرضه‪ ،‬بل بزوال ذلك الحب المذموم من قلبه‪.‬‬

‫والناس في العشق على قولين‪:‬‬

‫‪/‬قيل‪ :‬إنه من باب الرادات‪ ،‬وهذا هو المشهور‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬من باب التصورات‪ ،‬وإنه فساد في التخييل‪ ،‬حيث يتصور المعشوق على ما هو به‪ ،‬قال هؤلء‪ :‬ولهذا ل‬
‫ل فاسًدا‪.‬‬
‫ل بالعشق‪ ،‬ول أنه يعشق؛ لنه منزه عن ذلك‪ ،‬ول يحمد من يتخيل فيه خيا ً‬
‫يوصف ا ّ‬

‫ل يحب ويحب‪ ،‬وروى في أثر عن عبد الواحد بن‬


‫وأما الولون فمنهم من قال‪ :‬يوصف بالعشق فإنه المحبة التامة‪ ،‬وا ّ‬
‫ي يعشقني وأعشقه‪ .‬وهذا قول بعض الصوفية‪.‬‬ ‫زيد أنه قال‪ :‬ل يزال عبدي يتقرب إل َ‬

‫لـ‬
‫ل؛ لن العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي‪ ،‬وا ّ‬
‫والجمهور ل يطلقون هذا اللفظ في حق ا ّ‬
‫تعالى ـ محبته ل نهاية لها‪ ،‬فليست تنتهي إلى حد ل تنبغي مجاوزته‪.‬‬

‫قال هؤلء‪ :‬والعشق مذموم مطلًقا ل يمدح ل في محبة الخالق‪ ،‬ول المخلوق؛ لنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد‬
‫ضا فإن لفظ العشق إنما يستعمل في العرف في محبة النسان لمرأة أو صبي‪ ،‬ل يستعمل في محبة‬ ‫المحمود‪ ،‬وأي ً‬
‫كمحبة الهل والمال والوطن والجاه‪ ،‬ومحبة النبياء والصالحين‪ ،‬وهو مقرون كثيًرا بالفعل المحرم‪ :‬إما بمحبة امرأة‬
‫أجنبية أو صبي‪ ،‬يقترن به النظر المحرم‪ ،‬واللمس المحرم‪ ،‬وغير ذلك من الفعال المحرمة‪.‬‬

‫‪/‬وأما محبة الرجل لمرأته أو سريته محبة تخرجه عن العدل بحيث يفعل لجلها ما ل يحل‪ ،‬ويترك ما يجب‪ ،‬كما هو‬
‫الواقع كثيًرا‪ ،‬حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة‪ ،‬لمحبته الجديدة‪ ،‬وحتى يفعل من مطالبها المذمومة ما يضره في دينه‬
‫ل‪ ،‬أو يسرف في‬ ‫ودنياه‪ ،‬مثل أن يخصها بميراث ل تستحقه‪ ،‬أو يعطي أهلها من الولية والمال ما يتعدى به حدود ا ّ‬
‫النفاق عليها‪ ،‬أو يملكها من أمور محرمة تضره في دينه ودنياه‪ ،‬وهذا في عشق من يباح له وطؤها‪.‬‬

‫فكيف عشق الجنبية والّذكران من العالمين؟ ففيه من الفساد ما ل يحصيه إل رب العباد‪ ،‬وهو من المراض التي‬
‫ض{‬
‫طَمَع اّلِذي ِفي َقْلِبِه َمَر ٌ‬
‫ل َفَي ْ‬
‫ن ِباْلَقْو ِ‬
‫ضْع َ‬
‫خ َ‬ ‫تفسد دين صاحبها وعرضه‪ ،‬ثم قد تفسد عقله ثم جسمه‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬ف َ‬
‫ل َت ْ‬
‫]الحزاب‪.[32 :‬‬

‫ومن في قلبه مرض الشهوة‪ ،‬وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض‪ ،‬والطمع الذي يقوى الرادة‬
‫سا من المطلوب‪ ،‬فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الرادة‬
‫والطلب‪ ،‬ويقوي المرض بذلك‪ ،‬بخلف ما إذا كان آي ً‬
‫ل‪ ،‬بل يكون حديث‬
‫فيضعف الحب‪ ،‬فإن النسان ل يريد أن يطلب ما هو آيس منه‪ ،‬فل يكون مع الرادة عمل أص ً‬
‫نفس إل أن يقترن بذلك كلم أو نظر‪ ،‬ونحو ذلك فيأثم بذلك‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وقد روى في الحديث‪) :‬أن من عشق فعف وكتم وصبر‬‫‪/‬فأما إذا ابتلى بالعشق وعف وصبر‪ ،‬فإنه يثاب على تقواه ّ‬
‫ثم مات كان شهيًدا( وهومعروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا‪ ،‬و فيه نظر ول يحتج‬
‫بهذا‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى ل يكون في‬
‫لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظًرا وقولً وعم ً‬
‫ل‪ ،‬وعن‬
‫ذلك كلم محرم‪ ،‬إما شكوى إلى المخلوق وإما إظهار فاحشة‪ ،‬وإما نوع طلب للمعشوق‪ ،‬وصبر على طاعة ا ّ‬
‫معصيته‪ ،‬وعلى ما في قلبه من ألم العشق‪ ،‬كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة‪ ،‬فإن هذا يكون ممـن اتقـى ا ّ‬
‫ل‬
‫ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]يوسف‪.[90 :‬‬
‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫صِبْر َفِإ ّ‬
‫ق َوَي ْ‬ ‫وصبـر‪ِ} ،‬إّنُه َم ْ‬
‫ن َيّت ِ‬

‫ل كان‬
‫ل فينهاها خشية من ا ّ‬
‫وهكذا مرض الحسد وغيره من أمراض النفوس‪ ،‬وإذا كانت النفس تطلب ما يبغضه ا ّ‬
‫ي اْلَمْأَوى{ ]النازعات‪.[41 ،40 :‬‬
‫جّنَة ِه َ‬
‫ن اْل َ‬
‫ن اْلَهَوى ‪َ .‬فِإ ّ‬
‫عْ‬‫س َ‬
‫ف َمَقاَم َرّبِه َوَنَهى الّنْف َ‬
‫خا َ‬ ‫ممن دخل في قوله‪َ} :‬وَأّما َم ْ‬
‫ن َ‬

‫فالنفس إذا أحبت شيًئا سعت في حصوله بما يمكن‪ ،‬حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية‪ ،‬فمن‬
‫صا لحسده له فيؤذي من له به‬‫ضا مذموًما وفعل ذلك كان آثًما‪ ،‬مثل أن يبغض شخ ً‬
‫أحب محبة مذمومة أو أبغض بغ ً‬
‫تعلق‪ ،‬إما بمنع حقوقهم‪ ،‬أو بعدوان عليهم‪ .‬أو لمحبة له ‪ /‬لهواه معه فيفعل لجله ما هو محرم‪ ،‬أو ما هو مأمور به ّ‬
‫ل‬
‫ل‪ ،‬وهذه أمراض كثيرة في النفوس‪ ،‬والنسان قد يبغض شيًئا فيبغض لجله أموًرا كثيرة بمجرد‬ ‫فيفعله لجل هواه ل ّ‬
‫الوهم والخيال‪.‬‬

‫وكذلك يحب شيًئا فيحب لجله أموًرا كثيرة‪ ،‬لجل الوهم والخيال‪ ،‬كما قال شاعرهم‪:‬‬

‫أحب لحبها السودان حتى ** أحب لحبها سود الكلب‬

‫فقد أحب سوداء‪ ،‬فأحب جنس السواد‪ ،‬حتى في الكلب‪ ،‬وهذا كله مرض في القلب في تصوره وإرادته‪.‬‬

‫فنسأل ال ـ تعالى ـ أن يعافى قلوبنا من كل داء‪ ،‬ونعوذ بال من منكرات الخلق والهواء والدواء‪.‬‬

‫ل عليها عباده كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫ل ـ تعالى ـ وهذه الفطرة التي فطر ا ّ‬
‫والقلب إنما خلق لجل حب ا ّ‬
‫)كل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‪ ،‬كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء‪ ،‬هل تحسون‬
‫خْل ِ‬
‫ق‬ ‫ل ِل َ‬
‫ل َتْبِدي َ‬
‫عَلْيَها َ‬
‫س َ‬
‫طَر الّنا َ‬
‫ل اّلِتي َف َ‬ ‫ل عنه ـ أقرؤوا إن شئتم‪ِ} :‬ف ْ‬
‫طَرةَ ا ِّ‬ ‫فيها من جدعاء( ثم يقول أبو هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫ل{ ]الروم‪ ،[30 :‬أخرجه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫ا ِّ‬

‫ل محًبا له‬
‫ل ـ سبحانه ـ فطر عباده على محبته وعبادته وحده‪ ،‬فإذا تركت الفطرة بل فساد كان القلب عارًفا با ّ‬ ‫‪/‬فا ّ‬
‫عابًدا له وحده‪ ،‬لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‪ ،‬وهذه كلها تغير فطرته التي‬
‫ل وقدره ـ كما يغير البدن بالجدع ـ ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر الّ ـ تعالى ـ لها‬
‫فطره عليها‪ ،‬وإن كانت بقضاء ا ّ‬
‫من يسعى في إعادتها إلى الفطرة‪.‬‬

‫ل عليهم وسلم ـ بعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها ل لتغيير الفطرة وتحويلها‪ ،‬وإذا كان القلب محًبا لّ‬
‫والرسل ـ صلى ا ّ‬
‫ل أن يبتلى بالعشق‪ ،‬وحيث ابتلى بالعشق فلنقص محبته ّ‬
‫ل‬ ‫صا له الدين‪ ،‬لم يبتل بحب غيره أصل‪ ،‬فض ً‬ ‫وحده مخل ً‬
‫وحده‪.‬‬

‫شاَء ِإّنُه ِم ْ‬
‫ن‬ ‫حَ‬‫سوَء َواْلَف ْ‬
‫عْنُه ال ّ‬
‫ف َ‬
‫صِر َ‬ ‫صا له الدين لم يبتل بذلك‪ ،‬بل قال تعالى‪َ} :‬كَذِل َ‬
‫ك ِلَن ْ‬ ‫ل مخل ً‬
‫ولهذا لما كان يوسف محًبا ّ‬
‫صيَن{ ]يوسف‪ .[24 :‬وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها؛ فلهذا ابتليت بالعشق‪ ،‬وما يبتلى‬ ‫خَل ِ‬
‫عَباِدَنا اْلُم ْ‬
‫ِ‬
‫ل الخائف منه فيه صارفان يصرفانه عن العشق‪:‬‬
‫بالعشق أحد إل لنقص توحيده وإيمانه‪ ،‬وإل فالقلب المنيب إلى ا ّ‬

‫ل محبة مخلوق تزاحمه‪.‬‬


‫ل؛ ومحبته له‪ ،‬فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء‪ ،‬فل تبقى مع محبة ا ّ‬
‫أحدهما‪ :‬إنابته إلى ا ّ‬

‫ل‪ ،‬فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه‪ ،‬وكل من أحب شيًئا بعشق أو غير عشق فإنه يصرف‬ ‫‪/‬والثاني‪ :‬خوفه من ا ّ‬
‫عن محبته بمحبة ما هو أحب إليه منه‪ ،‬إذا كان يزاحمه‪ ،‬وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض‬
‫ل أحب إلى العبد من كل شيء‪ ،‬وأخوف عنده من كل شيء‪ ،‬لم يحصل معه عشق‬ ‫إليه من ترك ذاك الحب‪ ،‬فإذا كان ا ّ‬
‫ول مزاحمة إل عند غفلة أو عند ضعف هذا الحب والخوف‪ ،‬بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات‪ ،‬فإن‬
‫ل وخوًفا منه وترك المعصية حًبا له وخوًفا‬‫اليمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية‪ ،‬فكلما فعل العبد الطاعة محبة ّ‬
‫منه قوى حبه له وخوفه منه‪ ،‬فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره‪.‬‬
‫وهكذا أمراض البدان‪ :‬فإن الصحة تحفظ بالمثل‪ ،‬والمرض يدفع بالضد‪ ،‬فصحة القلب باليمان تحفظ بالمثل‪ ،‬وهو ما‬
‫عا وموقوًفا‪) :‬إن‬
‫يورث القلب إيماًنا من العلم النافع والعمل الصالح‪ ،‬فتلك أغذية له‪ ،‬كما في حديث ابن مسعود مرفو ً‬
‫ل لعباده‪[ .. .‬بياض‬
‫ل هي القرآن(‪ .‬والدب‪ :‬المضيف فهو ضيافة ا ّ‬ ‫كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته‪ ،‬وإن مأدبة ا ّ‬
‫بالصل]‪.‬‬

‫مثل آخر‪ :‬الليل وأوقات الذان والقامة وفي سجوده‪ ،‬وفي أدبار الصلوات‪ ،‬ويضم إلى ذلك الستغفار‪ ،‬فإنه من‬
‫عا حسًنا إلى أجل مسمى‪.‬‬
‫ل ثم تاب إليه متعه متا ً‬
‫استغفر ا ّ‬

‫‪/‬وليتخذ ورًدا من الذكار في النهار‪ ،‬ووقت النوم‪ ،‬وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف‪ ،‬فإنه ل يلبث‬
‫ل بروح منه‪ .‬ويكتب اليمان في قلبه‪.‬‬ ‫أن يؤيده ا ّ‬

‫وليحرص على إكمال الفرائـض مـن الصلـوات الخمـس باطنـة وظاهـرة فإنهـا عمـود الدين‪ ،‬وليكن هجيراه ل حول‬
‫ل‪ ،‬فإنها بها تحمل الثقال‪ ،‬وتكابد الهوال‪ ،‬وينال رفيع الحوال‪.‬‬
‫ول قوة إل با ّ‬

‫ول يسأم من الدعاء والطلب‪ ،‬فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل‪ ،‬فيقول‪ :‬قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي‪ ،‬وليعلم أن‬
‫النصر مع الصبر‪ ،‬وأن الفرج مع الكرب‪ ،‬وأن مع العسر يسًرا‪ ،‬ولم ينل أحد شيًئا من ختم الخير نبي فمن دونه إل‬
‫بالصبر‪.‬‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬وله الحمد والمنة على السلم والسنة‪ ،‬حمًدا يكافئ نعمه الظاهرة والباطنة‪ ،‬وكما ينبغي‬
‫والحمد ّ‬
‫لكرم وجهه وعز جلله‪.‬‬

‫ل على سيدنا محمد‪ ،‬وعلى آله وأصحابه‪ ،‬وأزواجه أمهات المؤمنين‪ ،‬والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين‪،‬‬ ‫وصلى ا ّ‬
‫وسلم تسليًما كثيًرا‪.‬‬

‫ضا‪:‬‬
‫ل ـ َأْي ً‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫سـلِم ـ َر ِ‬
‫لْ‬‫خا ِ‬
‫شْيـ ُ‬
‫ل َ‬
‫‪َ/‬وَقـا َ‬

‫ل على نبينا محمد وصحبه وسلم‪.‬‬


‫ل رب العالمين‪ ،‬وصلى ا ّ‬
‫الحمد ّ‬

‫فصــل‬

‫في مرض القلوب وشفائها‬

‫ل ـ سبحانه ـ عدله وسواه‬


‫قد ذكرنا في غير موضع‪ :‬أن صلح حال النسان في العدل‪ ،‬كما أن فساده في الظلم‪ .‬وأن ا ّ‬
‫لما خلقه‪ ،‬وصحة جسمه وعافيته من اعتدال أخلطه وأعضائه ومرض ذلك النحراف والميل‪.‬‬

‫وكذلك استقامة القلب‪ ،‬واعتداله‪ ،‬واقتصاده‪ ،‬وصحته‪ ،‬وعافيته‪ ،‬وصلحه متلزمة‪.‬‬

‫ل مرض القلوب وشفاءها في مواضع من كتابه وجاء ذلك في سنة رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كقوله ـ‬ ‫‪/‬وقد ذكر ا ّ‬
‫عو َ‬
‫ن‬ ‫ساِر ُ‬‫ض ُي َ‬ ‫ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬ ‫ضا{ ]البقرة‪ ،[10 :‬وقال‪َ} :‬فَتَرى اّلِذي َ‬ ‫ل َمَر ً‬ ‫ض َفَزاَدُهْم ا ُّ‬ ‫تعالى ـ عن المنافقين‪ِ} :‬في ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬
‫جاَءْتُكْم‬‫ظ ُقُلوِبِهْم{ ]التوبة‪ ،[15 ،14 :‬وقال‪َ} :‬قْد َ‬ ‫غْي َ‬
‫ب َ‬ ‫ن ‪َ .‬وُيْذِه ْ‬
‫صُدوَر َقْوٍم ُمْؤِمِني َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫ِفيِهم{ ]المائدة‪ ،[52 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَي ْ‬
‫ن{‬ ‫حَمٌة ِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫شَفاٌء َوَر ْ‬‫ن َما ُهَو ِ‬ ‫ن اْلُقْرآ ِ‬ ‫صُدوِر{ ]يونس‪ ،[57 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وُنَنّز ُ‬
‫ل ِم ْ‬ ‫شَفاٌء ِلَما ِفي ال ّ‬
‫ن َرّبُكْم َو ِ‬
‫ظٌة ِم ْ‬
‫عَ‬‫َمْو ِ‬
‫طَمَع‬‫ل َفَي ْ‬‫ن ِباْلَقْو ِ‬
‫ضْع َ‬
‫خ َ‬ ‫شَفاٌء{ ]فصلت‪ ،[44 :‬وقال تعالى‪َ} :‬ف َ‬
‫ل َت ْ‬ ‫ن آَمُنوا ُهًدى َو ِ‬ ‫]السراء‪ ،[82 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ُهَو ِلّلِذي َ‬
‫ن ِفي اْلَمِديَنِة َلُنْغِرَيّن َ‬
‫ك‬ ‫جُفو َ‬‫ض َواْلُمْر ِ‬‫ن َواّلِذينَ ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬ ‫ن َلْم َيْنَتِه اْلُمَناِفُقو َ‬‫ض{ ]الحزاب‪ ،[32 :‬وقال‪َ} :‬لِئ ْ‬ ‫اّلِذي ِفي َقْلِبِه َمَر ٌ‬
‫ل َوَرُسوُلُه ِإّل ُغُروًرا{ ]الحزاب‪:‬‬ ‫عَدَنا ا ُّ‬
‫ض َما َو َ‬‫ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬ ‫ن َواّلِذي َ‬ ‫ِبِهْم{ ]الحزاب‪ ،[60 :‬وقال‪َ} :‬وِإْذ َيُقو ُ‬
‫ل اْلُمَناِفُقو َ‬
‫‪.[12‬‬
‫ي السؤال(‪ ،‬وقال الرشيد‪ :‬الن شفيتني يا‬
‫وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬هل سألوا إذ لم يعلموا‪ ،‬فإنما شفاء الِع ّ‬
‫ل‪ ،‬وإذا شك في تفسير شيء سأل رج ً‬
‫ل‬ ‫مالك‪ ،‬وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود‪ :‬أن أحًدا ل يزال بخير ما اتقى ا ّ‬
‫فشفاه‪ ،‬وأوشك أل يجده والذي ل إله إل هو‪.‬‬

‫ل من مرض القلوب وشفائها بمنزلة ما ذكر من موتها ‪ /‬وحياتها وسمعها وبصرها وعقلها وصممها‬‫وما ذكر ا ّ‬
‫وبكمها وعماها‪.‬‬

‫لكن المقصود معرفة مرض القلب فنقول‪ :‬المرض نوعان‪:‬‬

‫فساد الحس‪.‬‬

‫وفساد الحركة الطبيعية وما يتصل بها من الرادية‪.‬‬

‫وكل منهما يحصل بفقده ألم وعذاب‪ ،‬فكما أنه مع صحة الحس والحركة الرادية والطبيعية تحصل اللذة والنعمة‪،‬‬
‫ل به على عباده‪ ،‬مما يكون فيه لذة‬
‫فكذلك بفسادها يحصل اللم والعذاب؛ ولهذا كانت النعمة من النعيم‪ ،‬وهو ما ينعم ا ّ‬
‫ونعيم‪ ،‬وقال‪ُ} :‬ثّم َلُتْسَأُلّن َيْوَمِئٍذ َعْن الّنِعيِم{ ]التكاثر‪ ،[8 :‬أي‪ :‬عن شكره‪.‬‬

‫فسبب اللذة إحساس الملئم‪ ،‬وسبب اللم إحساس المنافي‪ ،‬ليس اللذة واللم نفس الحساس والدراك‪ ،‬وإنما هو نتيجته‬
‫وثمرته ومقصوده وغايته‪ ،‬فالمرض فيه ألم لبد منه وإن كان قد يسكن أحياًنا لمعارض راجح‪ ،‬فالمقتضى له قائم‬
‫يهيج بأدنى سبب‪ ،‬فلبد في المرض من وجود سبب اللم‪ ،‬وإنما يزول اللم بوجود المعارض الراجح‪.‬‬

‫ولذة القلب وألمه أعظم من لذة الجسم وألمه‪ ،‬أعني ألمه ولذته النفسانيتان‪ / ،‬وإن كان قد يحصل فيه من اللم من جنس‬
‫ما يحصل في سائر البدن بسبب مرض الجسم‪ ،‬فذلك شيء آخر‪.‬‬

‫فلذلك كان مرض القلب وشفاؤه‪ ،‬أعظم من مرض الجسم وشفائه‪ ،‬فتارة يكون من جملة الشبهات‪ .‬كما قال‪َ} :‬فَي ْ‬
‫طَمَع‬
‫ض{‪ ،‬وكما صنف الخرائطي كتاب ]اعتلل القلوب بالهواء[ ففي قلوب المنافقين‪ :‬المرض من هذا‬ ‫اّلِذي ِفي َقْلِبِه َمَر ٌ‬
‫الوجه‪ ،‬ومن هذا الوجه‪ :‬من جهة فساد العتقادات‪ ،‬وفساد الرادات‪.‬‬

‫والمظلوم في قلبه مرض وهو اللم الحاصل بسبب ظلم الغير له‪ ،‬فإذا استوفى حقه اشتفى قلبه‪ .‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ظ ُقُلوِبِهْم{ ]التوبة‪ ،[15 ،14 :‬فإن غيظ القلب إنما هو لدفع الذي واللم عنه‪ ،‬فإذا‬
‫غْي َ‬
‫ب َ‬
‫ن ‪َ .‬وُيْذِه ْ‬
‫صُدوَر َقْوٍم ُمْؤِمِني َ‬
‫شفِ ُ‬
‫}َوَي ْ‬
‫اندفع عنه الذى واستوفى حقه زال غيظه‪.‬‬

‫ضا مؤلًما له يفوته من المصالح‬


‫فكما أن للنسان إذا صار ل يسمع بأذنه وليبصر بعينه ول ينطق بلسانه كان ذلك مر ً‬
‫ويحصل له من المضار‪ ،‬فكذلك إذا لم يسمع ولم يبصر ولم يعلم بقلبه الحق من الباطل‪ ،‬ولم يميز بين الخير والشر‪،‬‬
‫والغي والرشاد‪ ،‬كان ذلك من أعظم أمراض قلبه وألمه‪ ،‬وكما أنه إذا اشتهى ما يضره مثل الطعام الكثير في الشهوة‬
‫ضا‪ ،‬فإنه يتألم حتى يزول ألمه‪ /‬بهذا الكل الذي يوجد ألًما أكثر من‬
‫الكلية‪ ،‬ومثل أكل الطين ونحوه كان ذلك مر ً‬
‫الول‪ ،‬فهو يتألم إن أكل‪ ،‬ويتألم إن لم يأكل‪.‬‬

‫فكذلك إذا بلي بحب من ل ينفعه العشق‪ ،‬ونحوه سواء كان لصورة أو لرئاسة أو لمال ونحو ذلك‪ ،‬فإن لم يحصل‬
‫ضا وألًما وسقًما‪ ،‬ولذلك كما أن المريض‬ ‫محبوبه ومطلوبه فهو متألم ومريض سقيم‪ ،‬وإن حصل محبوبه فهو أشد مر ً‬
‫ل‪ ،‬وكان دوامه على ذلك يوجب من اللم‬ ‫إذا كان يبغض ما يحتاج إليه من الطعام والشراب‪ ،‬كان ذلك اللم حاص ً‬
‫أكثر من ذلك حتى يقتله‪ ،‬حتى يزول ما يوجب بغضه لما ينفعه ويحتاج إليه‪ ،‬فهو متألم في الحال‪ ،‬وتألمه فيما بعد ـ إن‬
‫ل ـ أعظم وأكبر‪.‬‬
‫لم يعافِه ا ّ‬

‫ل على المحسود‪ ،‬كبغض المريض لكل الصحاء لطعمتهم وأشربتهم‪ ،‬حتى ل يقدر أن يراهم‬ ‫فبغض الحاسد لنعمة ا ّ‬
‫يأكلون‪ ،‬ونفرته عن أن يقوم بحقه كنفرة المريض عما يصلح له من طعام وشراب‪ ،‬فالحب والبغض الخارج عن‬
‫العتدال والصحة في النفس كالشهوة والنفرة الخارج عن العتدال والصحة في الجسم‪ ،‬وعمى القلب وبكمه أن‬
‫يبصر الحقائق ويميز ما ينفعه ويضره‪ ،‬كعمى الجسم‪ ،‬وخرسه عن أن يبصر المور المرتبة‪ ،‬ويتكلم بها ويميز بين‬
‫ما ينفعه ويضره‪.‬‬

‫وكما أن الضرير إذا أبصر وجد أن الراحة والعافية والسرور أمًرا ‪ /‬عظيًما‪ .‬فبصر القلب ورؤيته الحقائق بينه وبين‬
‫ل‪ ،‬وإنما الغرض هنا تشبيه أحد المرضين بالخر‪ ،‬فطب الديان يحتذى‬ ‫بصر الرأس من التفاوت ما ل يحصيه إل ا ّ‬
‫حذو طب البدان‪.‬‬

‫ل أنزل كتابه شفاء لما في‬


‫وقد كتب سليمان إلى أبي الدرداء‪ :‬أما بعد‪ :‬فقد بلغني أنك قعدت طبيًبا‪ ،‬فإياك أن تقتل‪ ،‬وا ّ‬
‫ظاِلِميَن ِإّل َخَساًرا{ ]السراء‪ ،[82 :‬ذلك‬
‫ل َيِزيُد ال ّ‬
‫ن َو َ‬
‫حَمٌة ِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫شَفاٌء َوَر ْ‬
‫ن َما ُهَو ِ‬
‫ن اْلُقْرآ ِ‬ ‫الصدور‪ .‬وقال تعالى‪َ} :‬وُنَنّز ُ‬
‫ل ِم ْ‬
‫أن الشفاء إنما يحصل لمن يتعمد الدواء‪ ،‬وهم المؤمنون وضعوا دواء القرآن على داء قلوبهم‪.‬‬

‫فمرض الجسم يكون بخروج الشهوة‪ ،‬والنفرة الطبيعية عن العتدال‪ ،‬أما شهوة ما ل يحصل أو يفقد الشهوة النافعة‬
‫وينفر به عما يصلح ويفقد النفرة عما يضر‪ ،‬ويكون بضعف قوة الدراك والحركة‪ ،‬كذلك مرض القلب يكون بالحب‬
‫ل{‬‫ن ا ِّ‬
‫ن اّتَبَع َهَواُه ِبَغْيِر ُهًدى ِم ْ‬
‫ل ِمّم ْ‬
‫ضّ‬ ‫ل فيها‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َأ َ‬ ‫والبغض الخارجين عن العتدال‪ ،‬وهي الهواء التي قال ا ّ‬
‫ظَلُموا َأْهَواَءُهْم ِبَغْيِر ِعْلٍم{ ]الروم‪.[29 :‬‬
‫ن َ‬ ‫]القصص‪ ،[50 :‬وقال‪َ} :‬ب ْ‬
‫ل اّتَبَع اّلِذي َ‬

‫جا عن العتدال إذا فعل ما يشتهيه الجسم بل قول الطبيب‪ ،‬ويكون لضعف إدراك القلب وقوته‬ ‫كما يكون الجسد خار ً‬
‫حتى ل يستطيع أن يعلم ويريد ما ينفعه ويصلح له‪ ،‬وكما أن المرضى الجهال قد يتناولون ما يشتهون‪ ،‬فل ‪ /‬يحتمون‬
‫ول يصبرون على الدوية الكريهة لما في ذلك من تعجيل نوع من الراحة واللذة‪ ،‬ولكن ذلك يعقبهم من اللم ما يعظم‬
‫قدره‪ ،‬أو يعجل الهلك‪.‬‬

‫فكذلك بنو آدم هم جهال ظلموا أنفسهم‪ ،‬يستعجل أحدهم ما ترغبه لذته ويترك ما تكرهه نفسه‪ ،‬مما هو ل يصلح له‪،‬‬
‫فيعقبهم ذلك من اللم والعقوبات‪ ،‬إما في الدنيا وإما في الخرة ما فيه عظم العذاب والهلك العظم‪.‬‬

‫والتقوى‪ :‬هي الحتماء عما يضره بفعل ما ينفعه‪ ،‬فإن الحتماء عن الضار يستلزم استعمال النافع‪ ،‬وأما استعمال‬
‫ضا استعمالً لضار‪ ،‬فل يكون صاحبه من المتقين‪.‬‬
‫النافع فقد يكون معه أي ً‬

‫وأما ترك استعمال الضار والنافع فهذا ل يكون؛ فإن العبد إذا عجز عن تناول الغذاء كان مغتذًيا بما معه من المواد‬
‫التي تضره حتى يهلك؛ ولهذا كانت العاقبة للتقوى‪ ،‬وللمتقين؛ لنهم المحتمون عما يضرهم فعاقبتهم السلم‬
‫والكرامة‪ ،‬وإن وجدوا ألًما في البتداء لتناول الدواء والحتماء‪ ،‬كفعل العمال الصالحة المكروهة‪ .‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ب َعَلْيُكْم اْلِقَتاُل َوُهَو ُكْرٌه َلُكْم َوَعسى َأْن َتْكَرُهوا َشْيًئا َوُهَو َخْيٌر َلُكْم َوَعَسى َأْن ُتِحّبوا َشْيًئا َوُهَو َشّر َلُكْم{ ]البقرة‪.[216 :‬‬
‫}ُكِت َ‬

‫ي اْلَمْأَوى{‬
‫جّنَة ِه َ‬
‫ن اْل َ‬
‫ن اْلَهَوى ‪َ .‬فِإ ّ‬
‫عْ‬
‫س َ‬
‫ف َمَقاَم َرّبِه َوَنَهى الّنْف َ‬
‫خا َ‬ ‫ولكثرة العمال الباطلة المشتهاة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَأّما َم ْ‬
‫ن َ‬
‫ت الّشْوَكِة َتُكوُن َلُكْم{ ]النفال‪ ،[7 :‬فأما من لم يحتم فإن ذلك سبب‬ ‫غْيَر َذا ِ‬
‫ن َ‬ ‫]النازعات‪ .[41 ،40 :‬وكما قال‪َ} :‬وَتَوّدو َ‬
‫ن َأ ّ‬
‫لضرره في العاقبة‪ ،‬ومن تناول ما ينفعه مع يسير من التخليط‪ ،‬فهو أصلح ممن احتمى حمية كاملة ولم يتناول الشياء‬
‫سًرا‪ ،‬فإن الحمية التامة بل اغتذاء تمرض‪ ،‬فهكذا من ترك السيئات ولم يفعل الحسنات‪.‬‬

‫وقد قدمنا في قاعدة كبيرة أن جنس الحسنات أنفع من جنس ترك السيئات‪ ،‬كما أن جنس الغتذاء من جنس الحتماء‪،‬‬
‫وبينا أن هذا مقصود لنفسه وذلك مقصود لغيره بالنضمام إلى غيره‪ ،‬وكما أن الواجب الحتماء عن سبب المرض‬
‫قبل حصوله‪ ،‬وإزالته بعد حصوله‪ ،‬فهكذا أمراض القلب يحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداء وإلى إعادتها ـ بأن‬
‫عرض له المرض ـ دواًما‪ ،‬والصحة تحفظ بالمثل‪ ،‬والمرض يزول بالضد‪ ،‬فصحة القلب تحفظ باستعمال أمثال ما‬
‫فيها‪ ،‬أو هو ما يقوي العلم واليمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة‪ ،‬وتزول بالضد‪ ،‬فتزال الشبهات بالبينات‪،‬‬
‫وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق‪.‬‬

‫ولهذا قال يحيى بن عمار‪ :‬العلوم خمسة‪ :‬فعلم هو حياة الدنيا‪ ،‬وهو علم التوحيد‪ ،‬وعلم هو غذاء الدين‪ ،‬وهو علم‬
‫التذكر بمعاني القرآن والحديث‪ ،‬وعلم هو دواء الدين‪ ،‬وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من‪ /‬يشفيه‬
‫منها‪ ،‬كما قال ابن مسعود‪ :‬وعلم هو داء الدين وهو الكلم المحدث‪ ،‬وعلم هو هلك الدين‪ ،‬وهو علم السحر ونحوه‪.‬‬
‫فحفظ الصحة بالمثل‪ ،‬وإزالة المرض بالضد‪ ،‬في مرض الجسم الطبيعي‪ ،‬ومرض القلب النفساني الديني الشرعي‪.‬‬
‫سانه‪ ،‬كما تنتج البهيمة‬ ‫جَ‬ ‫صَرانه أو ُيَم ّ‬ ‫قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬كل مولود يولد على الفطرة فأبواه ُيَهّوَداِنه أو ُيَن ّ‬
‫عَلْيَها{‬ ‫س َ‬
‫طَر الّنا َ‬ ‫ل اّلِتي َف َ‬‫طَرةَ ا ِّ‬ ‫بهيمة جمعاء‪ ،‬هل تحسون فيها من جدعاء( ثم يقول أبو هريرة‪ :‬اقرؤوا إن شئتم‪ِ} :‬ف ْ‬
‫خْل َ‬
‫ق‬ ‫ن‪َ .‬وُهَو اّلِذي َيْبَدُأ اْل َ‬‫ل َلُه َقاِنُتو َ‬‫ض ُك ّ‬‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َْ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫ن ِفي ال ّ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬وَلُه َم ْ‬ ‫]الروم‪ ،[30 :‬أخرجاه في الصحيـحين‪ .‬قال ا ّ‬
‫ظَلُموا َأْهَواَءُهْم ِبَغْيِر ِعْلٍم{ إلى‬ ‫ن َ‬ ‫ل اّتَبَع اّلِذي َ‬‫ض{ إلى قوله‪َ} :‬ب ْ‬ ‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬‫عَلى ِفي ال ّ‬ ‫لْ‬‫ل ا َْ‬
‫عَلْيِه َوَلُه اْلَمَث ُ‬
‫ن َ‬‫ُثّم ُيِعيُدُه َوُهَو َأْهَو ُ‬
‫ن{‬ ‫ل َيْعَلُمو َ‬‫ن َأْكَثَر الّناسِ َ‬ ‫ن اْلَقّيُم َوَلِك ّ‬
‫ك الّدي ُ‬ ‫ل َذِل َ‬
‫ق ا ِّ‬
‫خْل ِ‬
‫ل ِل َ‬
‫ل َتْبِدي َ‬
‫عَلْيَها َ‬
‫س َ‬‫طَر الّنا َ‬‫ل اّلِتي َف َ‬
‫طَرَة ا ِّ‬
‫حِنيًفا ِف ْ‬‫ن َ‬ ‫ك ِللّدي ِ‬ ‫قوله‪َ} :‬فَأِقْم َو ْ‬
‫جَه َ‬
‫]الروم‪26 :‬ـ ‪.[30‬‬

‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية‬ ‫فأخبر أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيًفا‪ ،‬وهو عبادة ا ّ‬
‫المستقيمة المعتدلة للقلب‪ ،‬وتركها ظلم عظيم اتبع أهله أهواءهم بغير علم‪ ،‬ولبد لهذه الفطرة والخلقة ـ وهي صحة‬
‫ل؛ ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكملة‬
‫الخلقة ـ من قوت وغذاء يمدها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علًما وعم ً‬
‫ل كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في حديث ابن مسعود‪) :‬إن كل آدب يحب أن‬ ‫بالشريعة المنزلة‪ ،‬وهي مأدبة ا ّ‬
‫ل من السماء‪ ،‬كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫ل هي القرآن(‪ ،‬ومثله كماء أنزله ا ّ‬‫‪/‬تؤتي مأدبته‪ ،‬وإن مأدبة ا ّ‬
‫ل كتابه شفاء لما في‬
‫والمحرفون للفطرة المغيرون للقلب عن استقامته‪ ،‬هم ممرضون القلوب مسقمون لها‪ ،‬وقد أنزل ا ّ‬
‫الصدور‪.‬‬

‫وما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب هي بمنزلة ما تصيب الجسم من اللم‪ ،‬يصح بها الجسم وتزول أخلطه‬
‫الفاسدة‪ .‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ما يصيب المؤمن من وصب ول نصب ول هم ول حزن ول غم ول‬
‫ل بها خطاياه(‪ ،‬وذلك تحقيق لقوله‪َ} :‬مْن َيْعَمْل ُسوًءا ُيْجَز ِبِه{ ]النساء‪.[123 :‬‬
‫أذى‪ ،‬حتى الشوكة يشاكها‪ ،‬إل كفر ا ّ‬

‫ل‪ .‬كالذي‬‫حا‪ ،‬وإل احتاج أن يطهر منها في الخرة فيعذبه ا ّ‬


‫ومن لم يطهر في هذه الدنيا من هذه المراض فيؤب صحي ً‬
‫اجتمعت فيه أخلطه‪ ،‬ولم يستعمل الدوية لتخفيفها عنه فتجتمع حتى يكون هلكه بها؛ ولهذا جاء في الثر‪) :‬إذا قالوا‬
‫ل‪ :‬كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟!(‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬المرض‬ ‫للمريض‪ :‬الّلهم ارحمه‪ ،‬يقول ا ّ‬
‫حطة‪ ،‬يحط الخطايا عن صاحبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها(‪.‬‬

‫جْنب‪ ،‬وكذلك‬
‫وكما أن أمراض الجسم ما إذا مات النسان منه كان شهيًدا‪ .‬كالمطعون والمبطون وصاحب ذات ال َ‬
‫الميت بغرق‪ ،‬أو حرق‪ ،‬أو هدم‪ ،‬فمن ‪ /‬أمراض النفس‪ ،‬ما إذا اتقى العبد ربه فيه وصبر عليه حتى مات كان شهيًدا‪،‬‬
‫ل ويصبر للقتال حتى يقتل‪ ،‬فإن البخل والجبن من أمراض النفوس إن أطاعه أوجب له اللم‪،‬‬ ‫كالجبان الذي يتقى ا ّ‬
‫وإن عصاه تألم كأمراض الجسم‪.‬‬

‫وكذلك العشق‪ ،‬فقد روى‪) :‬من عشق فعف وكتم وصبر‪ ،‬ثم مات مات شهيًدا( فإنه مرض في النفس‪ ،‬يدعو إلى ما‬
‫ضا‪ ،‬وإن‬
‫يضر النفس‪ ،‬كما يدعو المريض إلى تناول ما يضر‪ .‬فإن أطاع هواه عظم عذابه في الخرة وفي الدنيا أي ً‬
‫عصى الهوى بالعفة والكتمان صار في نفسه من اللم والسقم ما فيها‪ ،‬فإذا مات من ذلك المرض كان شهيًدا‪ ،‬هذا‬
‫يدعوه إلى النار فيمنعه كالجبان تمنعه نفسه عن الجنة فيقدمها‪.‬‬

‫ل للمؤمن قضاء إل‬


‫فهذه المراض إذا كان معها إيمان وتقوى كانت كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل يقضي ا ّ‬
‫كان خيًرا له إن أصابته سراء فشكر‪ ،‬كان خيًرا له‪ ،‬وإن أصابته ضراء فصبر كان خيًرا له(‪.‬‬

‫ل على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين‪ ،‬وسلم تسليًما‪.‬‬


‫ل رب العالمين‪ ،‬وصلى ا ّ‬
‫والحمد ّ‬

‫س اْعُبُدوا َرّبُكْم{ ]البقرة‪ ،[21 :‬فما العبادة وفروعها؟ وهل‬


‫ل ـ عن قوله عز وجل‪َ} :‬ياَأّيَها الّنا ُ‬‫ل الشيخ ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬
‫مجموع الدين داخل فيها أم ل؟ وما حقيقة العبودية؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والخرة أم فوقها شيء من‬
‫المقامات؟ وليبسطوا لنا القول في ذلك‪.‬‬

‫فأجاب‪:‬‬
‫ل ويرضاه‪ ،‬من القوال والعمال الباطنة والظاهرة‪،‬‬ ‫ل رب العالمين‪ ،‬العبادة‪ :‬هي اسم جامع لكل ما يحبه ا ّ‬
‫الحمد ّ‬
‫كالصلة والزكاة‪ ،‬والصيام‪ ،‬والحج‪ ،‬وصدق الحديث‪ ،‬وأداء المانة‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬وصلة الرحام‪ ،‬والوفاء بالعهود‪،‬‬
‫والمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬والجهاد للكفار والمنافقين‪ ،‬والحسان إلى الجار واليتيم‪ ،‬والمسكين وابن‬
‫السبيل‪ ،‬والمملوك من الدميين والبهائم‪ ،‬والدعاء والذكر والقراءة‪ ،‬وأمثال ذلك من العبادة‪.‬‬

‫ل والنابة إليه‪ ،‬وإخلص الدين له‪ ،‬والصبر لحكمه‪ ،‬والشكر لنعمه‪ ،‬والرضا‬
‫ل ورسوله‪ ،‬وخشية ا ّ‬‫وكذلك حب ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫بقضائه‪ ،‬والتوكل عليه‪ / ،‬والرجاء لرحمته‪ ،‬والخوف لعذابه‪ ،‬وأمثال ذلك هي من العبادة ّ‬

‫لنسَ‬
‫ن َوا ِْ‬
‫جّ‬‫ت اْل ِ‬ ‫ل هي الغاية المحبوبة له والمرضية له‪ ،‬التي خلق الخلق لها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬ ‫وذلك أن العبادة ّ‬
‫غْيُرُه{‬
‫ن ِإَلٍه َ‬
‫ل َما َلُكْم ِم ْ‬ ‫ن{ ]الذاريات‪ ،[56 :‬وبها أرسل جميع الرسل‪ ،‬كما قال نوح لقومه‪} :‬ا ْ‬
‫عُبُدوا ا َّ‬ ‫ل ِلَيْعُبُدو ِ‬
‫ِإ ّ‬
‫]المؤمنون‪ ،[23 :‬وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم‪.‬‬

‫لَلُة{‬
‫ضَ‬ ‫عَلْيِه ال ّ‬
‫ت َ‬‫حّق ْ‬
‫ن َ‬ ‫ل َوِمْنُهْم َم ْ‬
‫ن َهَدى ا ُّ‬
‫غوتَ َفِمْنُهْم َم ْ‬
‫طا ُ‬
‫جَتِنُبوا ال ّ‬
‫ل َوا ْ‬
‫عُبُدوا ا َّ‬
‫ن ُا ْ‬‫ل َأ ْ‬
‫سو ً‬ ‫ل ُأّمٍة َر ُ‬‫وقال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َبَعْثَنا ِفي ُك ّ‬
‫ك ِمْن َرُسوٍل ِإّل ُنوِحي ِإَلْيِه َأّنُه َل ِإَلَه ِإّل َأَنا َفاْعُبُدوِن{ ]النبياء‪ ،[25 :‬وقال‬ ‫ن َقْبِل َ‬ ‫]النحل‪ ،[36 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما َأْر َ‬
‫سْلَنا ِم ْ‬
‫ل ُكُلوا ِم ْ‬
‫ن‬ ‫سُ‬ ‫ن{ ]النبياء‪ ،[92 :‬كما قال في الية الخرى‪َ} :‬ياَأّيَها الّر ُ‬ ‫عُبُدو ِ‬ ‫حَدًة َوَأَنا َرّبُكْم َفا ْ‬
‫ن َهِذِه ُأّمُتُكْم ُأّمًة َوا ِ‬‫تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫عِليٌم{ ]المؤمنون‪ .[51 :‬وجعل ذلك لزمًا لرسوله إلى الموت كما قال‪َ} :‬وا ْ‬
‫عُبْد‬ ‫ن َ‬ ‫حا ِإّني ِبَما َتْعَمُلو َ‬‫صاِل ً‬
‫عَمُلوا َ‬ ‫ت َوا ْ‬‫طّيَبا ِ‬
‫ال ّ‬
‫ك اْلَيِقيُن{ ]الحجر‪.[99 :‬‬ ‫حّتى َيْأِتَي َ‬
‫ك َ‬‫َرّب َ‬

‫عَباَدِتِه َولَ‬‫ن ِ‬ ‫عْ‬ ‫ن َ‬


‫سَتْكِبُرو َ‬‫ل َي ْ‬‫عْنَدهُ َ‬
‫ن ِ‬ ‫ض َوَم ْ‬‫لْر ِ‬
‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬ ‫وبذلك وصف ملئكته وأنبياءه‪ ،‬فقال تعالى‪َ} :‬وَلُه َم ْ‬
‫ن ِفي ال ّ‬
‫عَباَدِتِه‬
‫ن ِ‬
‫عْ‬‫ن َ‬ ‫سَتْكِبُرو َ‬ ‫ل َي ْ‬
‫ك َ‬‫عْنَد َرّب َ‬
‫ن ِ‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫ن{ ]النبياء‪ ،[20 ،19 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫ل َيْفُتُرو ّ‬
‫ل َوالّنَهاَر َ‬
‫ن الّلْي َ‬
‫حو َ‬
‫سّب ُ‬
‫ن‪ُ .‬ي َ‬ ‫سُرو َ‬‫حِ‬‫سَت ْ‬
‫َي ْ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫ب َلُكْم ِإ ّ‬
‫ج ْ‬
‫سَت ِ‬
‫عوِني َأ ْ‬ ‫ل َرّبُكْم اْد ُ‬‫ن{ ]العراف‪ ،[206 :‬وذم المستكبرين عنها بقوله‪َ} :‬وَقا َ‬ ‫جُدو َ‬
‫سُ‬‫حوَنُه َوَلُه َي ْ‬
‫سّب ُ‬
‫َوُي َ‬
‫َيْسَتْكِبُروَن َعْن ِعَباَدِتي َسَيْدُخُلوَن َجَهّنَم َداِخِريَن{ ]غافر‪.[60 :‬‬

‫جيًرا{ ]النسان‪ ،[6 :‬وقال‪َ} :‬و ِ‬


‫عَبادُ‬ ‫جُروَنَها َتْف ِ‬
‫ل ُيفَ ّ‬
‫عَباُد ا ِّ‬
‫ب ِبَها ِ‬
‫شَر ُ‬ ‫ونعت صفوة خلقه بالعبودية له‪ ،‬فقال تعالى‪َ } :‬‬
‫عْيًنا َي ْ‬
‫ن َلُهْم ِفي‬‫لَزّيَن ّ‬
‫غَوْيَتِني َُ‬
‫ب ِبَما َأ ْ‬ ‫ض َهْوًنا{ اليات ]الفرقان‪ ،[63 :‬ولما قال الشيطان‪َ} :‬قا َ‬
‫ل َر ّ‬ ‫لْر ِ‬ ‫عَلى ا َْ‬‫ن َ‬‫شو َ‬ ‫ن َيْم ُ‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫حَما ِ‬
‫الّر ْ‬
‫طا ٌ‬
‫ن‬ ‫سْل َ‬
‫عَلْيِهْم ُ‬
‫ك َ‬ ‫س َل َ‬
‫عَباِدي َلْي َ‬‫ن ِ‬ ‫ل تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫صيَن{ ]الحجر‪ ،[40 ،39 :‬قال ا ّ‬ ‫خَل ِ‬
‫ك ِمْنُهْم اْلُم ْ‬
‫عَباَد َ‬
‫ل ِ‬
‫ن‪ِ .‬إ ّ‬
‫جَمِعي َ‬
‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬
‫لْ‬ ‫ض َو َُ‬‫لْر ِ‬ ‫ا َْ‬
‫ك ِمْن اْلَغاِويَن{ ]الحجر‪.[42 :‬‬ ‫ن اّتَبَع َ‬‫ل َم ْ‬‫ِإ ّ‬

‫ن{‬
‫ل َوُهْم ِبَأْمِرِه َيْعَمُلو َ‬ ‫سِبُقوَنُه ِباْلَقْو ِ‬
‫ل َي ْ‬
‫ن‪َ .‬‬‫عَباٌد ُمْكَرُمو َ‬ ‫ل ِ‬‫حاَنُه َب ْ‬
‫سْب َ‬
‫ن َوَلًدا ُ‬‫حَما ُ‬‫خَذ الّر ْ‬‫وقال في وصف الملئكة بذلك‪َ} :‬وَقاُلوا اّت َ‬
‫شْيًئا ِإّدا‪َ .‬تَكاُد‬
‫جْئُتْم َ‬
‫ن َوَلًدا‪َ .‬لَقْد ِ‬‫حَم ُ‬ ‫ن{]النبياء‪26 :‬ـ ‪ ،[28‬وقال تعالى‪َ} :‬وَقاُلوا اّت َ‬
‫خَذ الّر ْ‬ ‫شِفُقو َ‬‫شَيِتِه ُم ْ‬
‫خْ‬
‫ن َ‬ ‫إلى قوله‪َ} :‬وُهْم ِم ْ‬
‫ن ِفي‬‫ل َم ْ‬‫ن ُك ّ‬ ‫خَذ َوَلًدا‪ِ .‬إ ْ‬
‫ن َيّت ِ‬
‫ن َأ ْ‬‫حَم ِ‬‫ن َوَلًدا‪َ .‬وَما َيْنَبِغي ِللّر ْ‬‫حَم ِ‬‫عْوا ِللّر ْ‬
‫ن َد َ‬‫ل َهّدا‪َ .‬أ ْ‬‫جَبا ُ‬
‫خّر اْل ِ‬ ‫ض َوَت ِ‬ ‫لْر ُ‬ ‫ق ا َْ‬‫شّ‬‫ن ِمْنُه َوَتن َ‬‫طْر َ‬‫ت َيَتَف ّ‬
‫سَماَوا ُ‬
‫ال ّ‬
‫صاُهْم َوَعّدُهْم َعّدا‪َ .‬وُكّلُهْم آِتيهِ َيْوَم اْلِقَياَمِة َفْرًدا{ ]مريم‪ 88 :‬ـ ‪.[95‬‬ ‫ح َ‬ ‫عْبًدا‪َ .‬لَقْد َأ ْ‬
‫ن َ‬
‫حَم ِ‬ ‫ل آِتي الّر ْ‬ ‫ض ِإ ّ‬‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َْ‬‫سَماَوا ِ‬
‫ال ّ‬

‫ل{‬
‫سَراِئي َ‬
‫ل ِلَبِني ِإ ْ‬
‫جَعْلَناُه َمَث ً‬
‫عَلْيِه َو َ‬
‫عْبٌد َأْنَعْمَنا َ‬
‫ل َ‬ ‫للوهية والنبوة‪ِ} :‬إ ْ‬
‫ن ُهَو ِإ ّ‬ ‫وقال تعالى عن المسيح ـ الذي أدعيت فيه ا ُ‬
‫]الزخرف‪[59 :‬؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪) :‬ل تطروني كما أطرت النصارى‬
‫ل ورسوله(‪.‬‬‫عيسى ‪ /‬ابن مريم‪ ،‬فإنما أنا عبد فقولوا‪ :‬عبد ا ّ‬

‫ل{]السراء‪ ،[1 :‬وقال في‬ ‫سَرى ِبَعْبِدِه َلْي ً‬


‫ن اّلِذي َأ ْ‬
‫حا َ‬ ‫ل بالعبودية في أكمل أحواله فقال في السراء‪ُ } :‬‬
‫سْب َ‬ ‫وقد نعته ا ّ‬
‫عَلْيِه ِلَبًدا{‬
‫ن َ‬
‫عوهُ َكاُدوا َيُكوُنو َ‬
‫ل َيْد ُ‬
‫عْبُد ا ِّ‬‫حى{ ]النجم‪ ،[10 :‬وقال في الدعوة‪َ} :‬وَأّنُه َلّما َقاَم َ‬ ‫عْبِدِه َما َأْو َ‬ ‫اليحاء‪َ} :‬فَأْو َ‬
‫حى ِإَلى َ‬
‫ب ِمّما َنّزْلَنا َعَلى َعْبِدَنا فَْأُتوا ِبُسوَرٍة ِمْن ِمْثِلِه{]البقرة‪ ،[23 :‬فالدين كله‬ ‫]الجن‪ ،[19 :‬وقال في التحدي‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن ُكنُتْم ِفي َرْي ٍ‬
‫داخل في العبادة‪.‬‬

‫وقد ثبت في الصحيح‪ :‬أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن السلم قال‪:‬‬
‫ل‪ ،‬وتقيم الصلة‪ ،‬وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان‪ ،‬وتحج البيت إن‬ ‫ل وأن محمًدا رسول ا ّ‬
‫)أن تشهد أن ل إله إل ا ّ‬
‫ل وملئكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت‪ ،‬وتؤمن‬ ‫ل(‪ .‬قال‪ :‬فما اليمان ؟ قال‪) :‬أن تؤمن با ّ‬
‫استطعت إليه سبي ً‬
‫ل كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك)‪ .‬ثم قال‪ :‬في آخر‬‫بالقدرخيره وشره(‪ .‬قال‪ :‬فما الحسان؟ قال )أن تعبد ا ّ‬
‫الحديث‪( :‬هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم( فجعل هذا كله من الدين‪.‬‬
‫ل أي‪ :‬يعبد ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل‪ ،‬ويدين ّ‬
‫والدين يتضمن معنى الخضوع والذل‪ .‬يقال‪ :‬دنته فدان‪ ،‬أي‪ :‬ذللته فذل‪ ،‬ويقال‪ :‬يدين ا ّ‬
‫ل عبادته وطاعته والخضوع له‪.‬‬ ‫ويطيعه ويخضع له‪ ،‬فدين ا ّ‬

‫ل قد وطئته القدام‪.‬‬
‫ضا ـ يقال‪ :‬طريق معبد إذا كان مذل ً‬
‫‪/‬والعبادة أصل معناها‪ :‬الذل ـ أي ً‬

‫ل بغاية المحبة له‪ ،‬فإن آخر مراتب‬


‫لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب‪ ،‬فهي تتضمن غاية الذل ّ‬
‫الحب هو التتيم‪ ،‬وأوله العلقة لتعلق القلب بالمحبوب‪ ،‬ثم الصبابة لنصباب القلب إليه‪ ،‬ثم الغرام وهو الحب اللزم‬
‫ل‪ ،‬فالمتيم المعبد لمحبوبه‪.‬‬
‫ل‪ ،‬أي‪ :‬عبد ا ّ‬
‫للقلب‪ ،‬ثم العشق وآخرها التتيم يقال‪ :‬تيم ا ّ‬

‫ومن خضع لنسان مع بغضه له ل يكون عابدًا له‪ ،‬ولو أحب شيًئا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له‪ ،‬كما قد يحب ولده‬
‫ل أحب إلى العبد من كل شىء‪ ،‬وأن يكون‬ ‫ل ـ تعالى ـ بل يجب أن يكون ا ّ‬‫وصديقه؛ ولهذا ل يكفي أحدهما في عبادة ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ل أعظم عنده من كل شىء‪ ،‬بل ل يستحق المحبة والذل التام إل ا ّ‬ ‫ا ّ‬

‫ن آَباُؤُكْم‬ ‫ن َكا َ‬ ‫ل ِإ ْ‬‫ل تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫ل‪ ،‬قال ا ّ‬ ‫ل كان تعظيمه باط ً‬ ‫ل فمحبته فاسدة‪ ،‬وما عظم بغير أمر ا ّ‬ ‫وكل ما أحب لغير ا ّ‬
‫سوِلِه‬
‫ل َوَر ُ‬ ‫ن ا ِّ‬ ‫ب ِإَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ح ّ‬
‫ضْوَنَها َأ َ‬
‫ن َتْر َ‬
‫ساِك ُ‬
‫ساَدَها َوَم َ‬
‫ن كَ َ‬
‫شْو َ‬
‫خَ‬‫جاَرٌة َت ْ‬
‫ل اْقَتَرْفُتُموَها َوِت َ‬
‫شيَرُتُكْم َوَأْمَوا ٌ‬‫عِ‬ ‫جُكْم َو َ‬
‫خَواُنُكْم َوَأْزَوا ُ‬
‫َوَأْبَناُؤُكْم َوِإ ْ‬
‫ل ورسوله‪ ،‬كالطاعة‪ ،‬فإن الطاعة ّ‬
‫ل‬ ‫ل ِبَأْمِرِه{]التوبة‪ ،[24 :‬فجنس المحبة تكون ّ‬ ‫ي ا ُّ‬‫حّتى َيْأِت َ‬‫صوا َ‬ ‫سِبيِلِه َفَتَرّب ُ‬
‫جَهاٍد ِفي َ‬ ‫َو ِ‬
‫ل ورسوله‪َ} :‬وَلْو َأّنُهْم‬ ‫ضوُه{ ]التوبة‪ ،[62 :‬واليتاء ّ‬ ‫ن ُيْر ُ‬ ‫ق َأ ْ‬
‫حّ‬‫سوُلُه َأ َ‬
‫ل َوَر ُ‬ ‫ل ورسـوله‪َ} :‬وا ُّ‬ ‫ورسـوله ‪ /‬والرضـاء ّ‬
‫ل َوَرُسوُلُه{ ]التوبة‪.[59 :‬‬ ‫ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ‬ ‫َر ُ‬

‫ل اْلِكَتابِ‬‫ل َياَأْه َ‬‫ل وحده‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫وأما العبادة وما يناسبها من التوكل‪ ،‬والخوف‪ ،‬ونحو ذلك فل يكون إل ّ‬
‫ن َتَوّلْوا َفُقوُلوا‬‫ل َفِإ ْ‬
‫ن ا ِّ‬‫ن ُدو ِ‬ ‫ضا َأْرَباًبا ِم ْ‬
‫ضَنا َبْع ً‬‫خَذ َبْع ُ‬‫ل َيّت ِ‬
‫شْيًئا َو َ‬
‫ك ِبِه َ‬
‫شِر َ‬
‫ل ُن ْ‬
‫ل َو َ‬ ‫ل ا َّ‬‫ل َنْعُبَد ِإ ّ‬
‫سَواٍء َبْيَنَنا َوَبْيَنُكْم َأ ّ‬
‫َتَعاَلْوا ِإَلى َكِلَمٍة َ‬
‫ل ِم ْ‬
‫ن‬ ‫سُيْؤِتيَنا ا ُّ‬
‫ل َ‬ ‫سُبَنا ا ُّ‬‫حْ‬ ‫سوُلُه َوَقاُلوا َ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ‬‫ن{ ]آل عمران‪ ،[ 64 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلْو َأّنُهْم َر ُ‬ ‫سِلُمو َ‬
‫شَهُدوا ِبَأّنا ُم ْ‬
‫اْ‬
‫عْنُه‬
‫خُذوُه َوَما َنَهاُكْم َ‬ ‫ل َف ُ‬
‫سو ُ‬ ‫ل والرسول كقوله‪َ} :‬وَما آَتاُكْم الّر ُ‬ ‫ل َراِغُبوَن{]التوبة‪ ،[59 :‬فاليتاء ّ‬ ‫سوُلُه ِإّنا ِإَلى ا ِّ‬ ‫ضِلِه َوَر ُ‬‫َف ْ‬
‫جَمُعوا‬ ‫س َقْد َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫س ِإ ّ‬
‫ل َلُهْم الّنا ُ‬ ‫ل وحده‪ ،‬كما قال تعالى‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن َقا َ‬ ‫َفاْنَتُهوا{ ]الحشر‪ ،[7 :‬وأما الحسب وهو الكافي فهو ا ّ‬
‫ن اّتَبَع َ‬
‫ك‬ ‫ل َوَم ْ‬ ‫ك ا ُّ‬
‫سُب َ‬ ‫حْ‬ ‫ي َ‬ ‫ل{ ]آل عمران‪ ،[173 :‬وقال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها الّنِب ّ‬ ‫ل َوِنْعَم اْلَوِكي ُ‬
‫سُبَنا ا ُّ‬‫حْ‬ ‫شْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا َوَقاُلوا َ‬ ‫َلُكْم َفاخْ َ‬
‫ل‪.‬‬
‫ِمْن اْلُمْؤِمِنيَن{ ]النفال‪ ،[64 :‬أي‪ :‬حسبك وحسب من اتبعك ا ّ‬

‫طا فاحشًا‪ ،‬كما قد بسطناه في غير هذا الموضع‪ ،‬وقال‬


‫ل والمؤمنون معه‪ ،‬فقد غلط غل ً‬
‫ومن ظن أن المعنى حسبك ا ّ‬
‫ف َعْبَدُه{ ]الزمر‪.[36 :‬‬
‫ل ِبَكا ٍ‬ ‫تعالى‪َ} :‬أَلْي َ‬
‫س ا ُّ‬

‫ل‪،‬‬
‫ل فذل ودبره ‪ /‬وصرفه‪ ،‬وبهذا العتبار المخلوقون كلهم عباد ا ّ‬ ‫وتحرير ذلك‪ :‬أن العبد يراد به المعبد الذي عبده ا ّ‬
‫من البرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار‪ ،‬إذ هو ربهم كلهم ومليكهم‪ ،‬ل يخرجون عن مشيئته‬
‫وقدرته‪ ،‬وكلماته التامات التي ل يجاوزهن بر ول فاجر‪ ،‬فما شاء كان وإن لم يشاؤوا‪ .‬وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن‪،‬‬
‫طْوًعا َوَكْرًها َوِإَلْيِه ُيْرَجُعوَن{ ]آل عمران‪.[83 :‬‬
‫ض َ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ن ِفي ال ّ‬
‫سَلَم َم ْ‬
‫ن َوَلُه َأ ْ‬
‫ل َيْبُغو َ‬ ‫كما قال تعالى‪َ} :‬أَفَغْيَر ِدي ِ‬
‫ن ا ِّ‬

‫فهو ـ سبحانه ـ رب العالمين وخالقهم‪ ،‬ورازقهم‪ ،‬ومحييهم‪ ،‬ومميتهم‪ ،‬ومقلب قلوبهم‪ ،‬ومصرف أمورهم‪ ،‬ل رب لهم‬
‫غيره‪ ،‬ول مالك لهم سواه‪ ،‬ول خالق إل هو سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه‪ ،‬وسواء علموا ذلك أو جهلوه‪ ،‬لكن أهل‬
‫ل بذلك‪ ،‬أو جاحدًا له مستكبرًا على ربه ل يقر ول يخضع‬
‫اليمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به‪ ،‬بخلف من كان جاه ً‬
‫ل ربه وخالقه‪.‬‬
‫له‪ ،‬مع علمه بأن ا ّ‬

‫حُدوا ِبَها‬
‫جَ‬‫فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الستكبار عن قبوله والجحد له كان عذابًا على صاحبه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ب َيْعِرُفوَنُه َكَما‬
‫ن آَتْيَناُهْم اْلِكَتا َ‬‫ن{ ]النمل‪ ،[14 :‬وقال تعالى‪} :‬اّلِذي َ‬‫سِدي َ‬
‫عاِقَبُة اْلُمْف ِ‬
‫ن َ‬
‫ف َكا َ‬‫ظْر َكْي َ‬‫عُلّوا َفان ُ‬ ‫ظْلًما َو ُ‬
‫سُهْم ُ‬ ‫سَتْيَقَنْتَها َأْنُف ُ‬
‫َوا ْ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ن‬ ‫ن ال ّ‬‫ك َوَلِك ّ‬
‫ل ُيَكّذُبوَن َ‬ ‫ن{]البقرة‪ ،[146 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فِإّنُهْم َ‬ ‫ق َوُهْم َيْعَلُمو َ‬‫حّ‬‫ن اْل َ‬
‫ن َفِريًقا ِمْنُهْم َلَيْكُتُمو َ‬
‫ن َأْبَناَءُهْم َوِإ ّ‬‫َيْعِرُفو َ‬
‫ل َيْجَحُدوَن{ ]النعام‪.[33 :‬‬ ‫ت ا ِّ‬ ‫ِبآَيا ِ‬

‫ل‪ ،‬وهذا العبد‬


‫ل ربه وخالقه‪ ،‬وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية ا ّ‬
‫‪/‬فإن اعترف العبد أن ا ّ‬
‫يسأل ربه‪ ،‬فيتضرع إليه ويتوكل عليه‪ ،‬لكن قد يطيع أمره‪ ،‬وقد يعصيه‪ ،‬وقد يعبده مع ذلك‪ ،‬وقد يعبد الشيطان‬
‫والصنام‪.‬‬
‫ومثل هذه العبودية ل تفرق بين أهل الجنة والنار‪ ،‬وليصير بها الرجل مؤمنًا‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَما ُيْؤِم ُ‬
‫ن َأْكَثُرُهْم ِبا ِّ‬
‫ل‬
‫ل خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫ِإّل َوُهْم ُمْشِرُكوَن{ ]يوسف‪ ،[106 :‬فإن المشركين كانوا يقرون أن ا ّ‬
‫ن‬
‫ن ِفيَها ِإ ْ‬‫ض َوَم ْ‬ ‫ن الَْْر ُ‬ ‫ل{ ]لقمان‪ ،25 :‬الزمر‪ ،[38 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِلَم ْ‬ ‫ن ا ُّ‬
‫ض َلَيُقوُل ّ‬
‫لْر َ‬
‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬ ‫ق ال ّ‬
‫خَل َ‬
‫ن َ‬
‫سَأْلَتُهْم َم ْ‬
‫ن َ‬
‫}َوَلِئ ْ‬
‫ل َتّتُقوَن{إلى قوله‪ُ} :‬قْل َفَأّنا ُتْسَحُروَن{ ]المؤمنون‪ 84 :‬ـ ‪.[89‬‬ ‫ل َأَف َ‬
‫ل ُق ْ‬
‫ن ِّ‬‫سَيُقوُلو َ‬
‫ن‪َ .‬‬‫ُكنُتْم َتْعَلُمو َ‬

‫وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها‪ ،‬يشهد هذه الحقيقة وهي الحقيقة الكونية‪ ،‬التي يشترك فيها وفي شهودها‬
‫ظْرِني‬‫ب َفَأْن ِ‬
‫ل َر ّ‬ ‫ومعرفتها المؤمن‪ ،‬والكافر‪ ،‬والبر‪ ،‬والفاجر‪ ،‬وإبليس معترف بهذه الحقيقة‪ ،‬وأهل النار ‪.‬قال إبليس‪َ} :‬قا َ‬
‫ض َوَُلْغِوَيّنُهْم َأْجَمِعيَن{]الحجر‪،[39 :‬‬ ‫لْر ِ‬ ‫ن َلُهْم ِفي ا َْ‬ ‫لَزّيَن ّ‬
‫غَوْيَتِني َُ‬‫ب ِبَما َأ ْ‬ ‫ن{]الحجر‪ ،[36 :‬وقال‪َ} :‬قا َ‬
‫ل َر ّ‬ ‫ِإَلى َيْوِم ُيْبَعُثو َ‬
‫ي{ ]السراء‪ ،[62 :‬وأمثال هذا من‬ ‫عَل ّ‬
‫ت َ‬
‫ك َهَذا اّلِذي كَّرْم َ‬ ‫ن{ ]ص‪ ،[82 :‬وقال‪َ} :‬أَرَأْيَت َ‬ ‫جَمِعي َ‬
‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬
‫لْ‬ ‫وقال‪َ} :‬فِبِعّزِت َ‬
‫ك َُ‬
‫شْقَوُتَنا َوُكّنا َقْوًما‬
‫عَلْيَنا ِ‬
‫ت َ‬ ‫ل ربه وخالقه وخالق غيره‪ ،‬وكذلك أهل النار قالوا‪َ} :‬قاُلوا َرّبَنا َ‬
‫غَلَب ْ‬ ‫الخطاب الذي يقر فيه بأن ا ّ‬
‫ق َقاُلوا َبَلى َوَرّبَنا{ ]النعام‪.[30 :‬‬ ‫حّ‬‫س َهَذا ِباْل َ‬‫ل َأَلْي َ‬
‫عَلى َرّبِهْم َقا َ‬ ‫ن{ ]المؤمنون‪ ،[106 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلْو َتَرى ِإْذ ُوِقُفوا َ‬ ‫ضاّلي َ‬
‫َ‬

‫فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها‪ ،‬ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وأهل‬ ‫وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار‪ ،‬وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء ا ّ‬
‫المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم المر والنهي الشرعيان‪ ،‬كان من أشر أهل الكفر واللحاد‪.‬‬

‫ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم المر لمشاهدة الرادة‪ ،‬ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين بالّ‬
‫ل ل يعبد إل إياه‪ ،‬فيطيع‬
‫ورسوله‪ .‬حتى يدخل في النوع الثاني‪ ،‬من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابدًا ّ‬
‫أمره وأمر رسله‪ ،‬ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين‪ ،‬ويعادي أعداءه‪ ،‬وهذه العبادة متعلقة بإلهيته؛ ولهذا كان عنوان‬
‫ل بخلف من يقر بربوبيته ول يعبده‪ ،‬أو يعبد معه إلًها آخر‪ ،‬فالله الذي يألهه القلب بكمال الحب‬ ‫التوحيد ل إله إل ا ّ‬
‫ل ويرضاها‪ ،‬وبها وصف‬ ‫والتعظيم والجلل والكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك‪ ،‬وهذه العبادة هي التي يحبها ا ّ‬
‫المصطفين من عباده‪ ،‬وبها بعث رسله‪.‬‬

‫وأما العبد‪ ،‬بمعنى المعبد‪ ،‬سواء أقر بذلك أو أنكره‪ ،‬فتلك يشترك ‪ /‬فيها المؤمن والكافر‪ .‬وبالفرق بين هذيـن النوعين‬
‫ل ودينه وأمره الشرعي‪ ،‬التي يحبها ويرضاها‪ ،‬ويوالى أهلها‪،‬‬ ‫يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة ا ّ‬
‫ويكرمهم بجنته‪ ،‬وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر‪ ،‬والبر والفاجر التي من اكتفى بها‪ ،‬ولم يتبع‬
‫الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين‪ ،‬والكافرين برب العالمين‪ ،‬ومن اكتفى بها في بعض المور دون بعض‪،‬‬
‫ل‪ ،‬بحسب ما نقص من الحقائق الدينية‪.‬‬ ‫أو في مقام أو حال نقص من إيمانه ووليته ّ‬

‫وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون‪ ،‬وكثر فيه الشتباه على السالكين‪ ،‬حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين‬
‫ل الذي يعلم السر والعلن‪ ،‬وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر ـ‬ ‫التحقيق‪ ،‬والتوحيد‪ ،‬والعرفان ما ل يحصيهم إل ا ّ‬
‫ل ـ فيما ذكر عنه‪ ،‬فبين أن كثيرًا من الرجال‪ ،‬إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إل أنا فإني انفتحت لي‬
‫رحمه ا ّ‬
‫فيه روزنة‪ ،‬فنازعت أقدار الحق بالحق للحق‪ ،‬والرجل من يكون منازعًا للقدر‪ ،‬ل من يكون موافقًا للقدر‪.‬‬

‫ل به ورسوله‪ ،‬لكن كثيرًا من الرجال غلطوا‪ ،‬فإنهم قد يشهدون ما‬ ‫ل ـ هو الذي أمر ا ّ‬ ‫والذي ذكره الشيخ ـ رحمه ا ّ‬
‫يقدر على أحدهم من المعاصي والذنوب‪ ،‬أو ما يقدر على الناس من ذلك‪ ،‬بل من الكفر‪ ،‬ويشهدون أن هذا جار بمشيئة‬
‫ل‪ ،‬وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته‪ / ،‬فيظنون الستسلم لذلك وموافقته والرضا به‪ ،‬ونحو‬ ‫ا ّ‬
‫يٍء{‬
‫ش ْ‬
‫ن َ‬
‫حّرْمَنا ِم ْ‬
‫ل َ‬
‫ل آَباُؤَنا َو َ‬
‫شَرْكَنا َو َ‬
‫ل َما َأ ْ‬ ‫ذلك‪ ،‬دينًا وطريقًا وعبادة‪ ،‬فيضاهون المشركين الذين قالوا‪َ} :‬لْو َ‬
‫شاَء ا ُّ‬
‫طَعَمُه{ ]يس‪ ،[47 :‬وقالوا‪َ} :‬لْو َشاَء الّرْحَماُن َما َعَبْدَناُهْم{ ]الزخرف‪:‬‬ ‫ل َأ ْ‬
‫شاُء ا ُّ‬
‫ن َلْو َي َ‬ ‫]النعام‪ ،[148 :‬وقالوا‪َ} :‬أُن ْ‬
‫طِعُم َم ْ‬
‫‪.[20‬‬

‫ولو هدوا؛ لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب‪ ،‬التي تصيبنا‪ ،‬كالفقر والمرض‬
‫ل َيْهِد َقْلَبُه{ ]التغابن‪ .[11 :‬وقال بعض السلف‪ :‬هو‬ ‫ن ِبا ِّ‬
‫ن ُيْؤِم ْ‬
‫ل َوَم ْ‬ ‫ن ا ِّ‬‫ل ِبِإْذ ِ‬
‫صيَبٍة ِإ ّ‬
‫ن ُم ِ‬ ‫ب ِم ْ‬‫صا َ‬ ‫والخوف‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬ما َأ َ‬
‫ل ِفي‬
‫ض َو َ‬
‫لْر ِ‬
‫صيَبٍة ِفي ا َْ‬
‫ن ُم ِ‬
‫ب ِم ْ‬ ‫ل فيرضى ويسلم‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬ما َأ َ‬
‫صا َ‬ ‫الرجل تصيبه المصيبة‪ ،‬فيعلم أنها من عند ا ّ‬
‫ل َتْأَسْوا َعَلى َما َفاَتُكْم َوَل َتْفَرُحوا ِبَما آَتاُكْم{ ]الحديد‪.[23 ،22 :‬‬‫سيٌر‪ِ .‬لَكْي َ‬ ‫ل َي ِ‬
‫عَلى ا ِّ‬ ‫ك َ‬ ‫ن َذِل َ‬
‫ن َنْبَرَأَها ِإ ّ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ن َقْب ِ‬
‫ب ِم ْ‬
‫ل ِفي ِكَتا ٍ‬
‫سُكْم ِإ ّ‬
‫َأْنُف ِ‬
‫وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬احتج آدم وموسى‪ ،‬فقال موسى‪ :‬أنت آدم الذي خلقك الّ‬
‫بيده‪ ،‬ونفخ فيك من روحه‪ ،‬وأسجد لك ملئكته‪ ،‬وعلمك أسماء كل شيء‪ ،‬فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم‪:‬‬
‫ل برسالته وبكلمه‪ ،‬فهل وجدت ذلك مكتوبًا علي قبل أن أخلق ؟قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فحج آدم‬
‫أنت موسى الذي اصطفاك ا ّ‬
‫موسى(‪.‬‬

‫‪/‬وآدم ـ عليه السلم ـ لم يحتج على موسى بالقدر‪ ،‬ظًنا أن المذنب يحتج بالقدر‪ ،‬فإن هذا ل يقوله مسلم ول عاقل‪ ،‬ولو‬
‫كان هذا عذرًا لكان عذرا لبليس‪ ،‬وقوم نوح‪ ،‬وقوم هود‪ ،‬وكل كافر‪ ،‬ول موسى لم آدم أيضًا؛ لجل الذنب‪ ،‬فإن آدم‬
‫قد تاب إلى ربه‪ ،‬فاجتباه وهدى‪ ،‬ولكن لمه؛ لجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة؛ ولهذا قال‪ :‬فلماذا أخرجتنا ونفسك‬
‫من الجنة؟ فأجابه آدم أن هذا كان مكتوًبا قبل أن أخلق‪ ،‬فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدرًا‪ ،‬وما قدر من‬
‫ل ربًا‪.‬‬
‫المصائب يجب الستسلم له‪ ،‬فإنه من تمام الرضا با ّ‬

‫وأما الذنوب‪ ،‬فليس للعبد أن يذنب‪ ،‬وإذا أذنب‪ ،‬فعليه أن يستغفر ويتوب‪ ،‬فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب‪.‬‬
‫شْيًئا{‬‫ل َيضُّرُكْم َكْيُدُهْم َ‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا َ‬ ‫ك{ ]غافر‪ ،[55 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن َت ْ‬ ‫سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ‬
‫ق َوا ْ‬
‫حّ‬‫ل َ‬ ‫عَد ا ِّ‬
‫ن َو ْ‬ ‫قال تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫صِبْر ِإ ّ‬
‫لُموِر{ ]آل عمران‪ ،[186 :‬وقال يوسف‪ِ} :‬إّنُه َم ْ‬
‫ن َيّتقِ‬ ‫عْزِم ا ُْ‬
‫ن َ‬
‫ك ِم ْ‬
‫ن َذِل َ‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا َفِإ ّ‬ ‫]آل عمران‪ ،[120 :‬وقال‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن َت ْ‬
‫ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]يوسف‪.[90 :‬‬ ‫ل ُي ِ‬‫ل َ‬‫ن ا َّ‬
‫صِبْر َفِإ ّ‬
‫َوَي ْ‬

‫وكذلك ذنوب العباد‪ ،‬يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف‪ ،‬وينهى عن المنكر ـ بحسب قدرته ـ ويجاهد في سبيل‬
‫ل‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها‬ ‫ل‪ ،‬ويبغض في ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬ويحب في ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬ويعادي أعداء ا ّ‬ ‫ل الكفار والمنافقين‪ ،‬ويوالى أولياء ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫ن َمَعُه ِإْذ‬
‫سَنٌة ِفي ِإْبَراِهيَم َواّلِذي َ‬
‫حَ‬‫سَوٌة َ‬ ‫ن ِإَلْيِهْم ِباْلَمَوّدِة{ إلى قوله‪َ} :‬قْد َكاَن ْ‬
‫ت َلُكْم ُأ ْ‬ ‫عُدّوُكْم َأْوِلَياَء ُتْلُقو َ‬
‫عُدّوي َو َ‬
‫خُذوا َ‬
‫ل َتّت ِ‬
‫ن آَمُنوا َ‬
‫اّلِذي َ‬
‫حَدُه{‬‫ل َو ْ‬‫حّتى ُتْؤِمُنوا ِبا ِّ‬ ‫ضاُء َأَبًدا َ‬ ‫ل َكَفْرَنا ِبُكْم َوَبَدا َبْيَنَنا َوَبْيَنُكمْ اْلَعَداَوةُ َواْلَبْغ َ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬ ‫ن ِم ْ‬‫َقاُلوا ِلَقوِْمِهْم ِإّنا ُبَرآُء ِمْنُكْم َوِمّما َتْعُبُدو َ‬
‫سوَلُه{ إلى قوله‪ُ} :‬أْوَلِئ َ‬
‫ك َكَتبَ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫حاّد ا َّ‬ ‫ن َ‬‫ن َم ْ‬ ‫خِر ُيَواّدو َ‬ ‫لِ‬‫ل َواْلَيْوِم ا ْ‬ ‫ن ِبا ِّ‬
‫جُد َقْوًما ُيْؤِمُنو َ‬ ‫]الممتحنة‪1 :‬ـ ‪ ،[4‬وقال تعالى‪َ } :‬‬
‫ل َت ِ‬
‫ن{ ]القلم‪ ،[53 :‬وقال‪َ} :‬أْم‬ ‫جِرِمي َ‬ ‫ن َكاْلُم ْ‬‫سِلِمي َ‬
‫ل اْلُم ْ‬
‫جَع ُ‬ ‫ح ِمْنُه{ ]المجادلة‪ ،[22 :‬وقال تعالى‪َ} :‬أَفَن ْ‬ ‫ن َوَأّيَدُهْم ِبُرو ٍ‬ ‫ليَما َ‬‫ِفي ُقُلوِبِهْم ا ِْ‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫س َ‬‫حِ‬ ‫جاِر{ ]ص‪ ،[28 :‬وقال تعالى‪َ} :‬أْم َ‬ ‫ن َكاْلُف ّ‬‫ل اْلُمّتِقي َ‬ ‫جَع ُ‬‫ض َأْم َن ْ‬‫لْر ِ‬ ‫ن ِفي ا َْ‬ ‫سِدي َ‬‫ت َكاْلُمْف ِ‬‫حا ِ‬‫صاِل َ‬ ‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫ن آَمُنوا َو َ‬ ‫ل اّلِذي َ‬
‫جَع ُ‬‫َن ْ‬
‫ت َسَواًء َمْحَياُهْم َوَمَماُتُهْم َساَء َما َيْحُكُموَن{ ]الجاثية‪ ،[21 :‬وقال‬ ‫حا ِ‬‫صاِل َ‬‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫ن آَمُنوا َو َ‬ ‫جَعَلُهْم َكاّلِذي َ‬‫ن َن ْ‬‫ت َأ ْ‬‫سّيَئا ِ‬‫حوا ال ّ‬ ‫جَتَر ُ‬
‫اْ‬
‫ت{]فاطر‪:‬‬ ‫لْمَوا ُ‬ ‫ل ا َْ‬‫حَياُء َو َ‬
‫لْ‬ ‫سَتِوي ا َْ‬ ‫حُروُر‪َ .‬وَما َي ْ‬ ‫ل اْل َ‬ ‫ل َو َ‬ ‫ظّ‬‫ل ال ّ‬ ‫ل الّنوُر‪َ .‬و َ‬ ‫ت َو َ‬ ‫ظُلَما ُ‬‫ل ال ّ‬‫صيُر‪َ .‬و َ‬ ‫عَمى َواْلَب ِ‬ ‫لْ‬ ‫سَتِوي ا َْ‬ ‫تعالى‪َ} :‬وَما َي ْ‬
‫ل{ ]الزمر‪،[29 :‬‬ ‫ن َمَث ً‬
‫سَتِوَيا ِ‬
‫ل َي ْ‬‫ل َه ْ‬ ‫جٍ‬ ‫سَلًما ِلَر ُ‬
‫ل َ‬ ‫جً‬ ‫ن َوَر ُ‬ ‫سو َ‬ ‫شاِك ُ‬ ‫شَرَكاُء ُمَت َ‬ ‫ل ِفيِه ُ‬‫جً‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ل َمَث ً‬ ‫ب ا ُّ‬
‫ضَر َ‬ ‫‪19‬ـ ‪ ،[22‬وقال تعالى‪َ } :‬‬
‫جَلْي ِ‬
‫ن‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ل َمَث ً‬ ‫ب ا ُّ‬‫ضَر َ‬ ‫ن‪َ .‬و َ‬ ‫ل َيْعَلُمو َ‬ ‫ل َأْكَثُرُهْم َ‬ ‫يٍء{ إلى قوله‪َ} :‬ب ْ‬ ‫ش ْ‬
‫عَلى َ‬ ‫ل َيْقِدُر َ‬
‫عْبًدا َمْمُلوًكا َ‬ ‫ل َ‬ ‫ل َمَث ً‬‫ب ا ُّ‬ ‫ضَر َ‬ ‫وقال تعالى‪َ } :‬‬
‫حا ُ‬
‫ب‬ ‫صَ‬‫سَتِوي َأ ْ‬ ‫ل َي ْ‬ ‫سَتِقيٍم{]النحل‪ ،[76 ،75 :‬وقال تعالى‪َ } :‬‬ ‫ط ُم ْ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫عَلى ِ‬ ‫يٍء{ إلى قوله‪َ} :‬وُهَو َ‬ ‫ش ْ‬
‫عَلى َ‬ ‫ل َيْقِدُر َ‬ ‫حُدُهَما َأْبَكُم َ‬‫َأ َ‬
‫ب اْلَجّنِة ُهْم اْلَفاِئُزوَن{ ]الحشر‪.[20 :‬‬ ‫حا ُ‬ ‫صَ‬ ‫جّنِة َأ ْ‬ ‫ب اْل َ‬‫حا ُ‬ ‫صَ‬‫الّناِر َوَأ ْ‬

‫ل فيه بين أهل الحق‪ ،‬والباطل‪ ،‬وأهل الطاعة‪ ،‬وأهل ‪/‬المعصية‪ ،‬وأهل البر‪ ،‬وأهل الفجور‪،‬‬
‫ونظائر ذلك‪ ،‬مما يفرق ا ّ‬
‫وأهل الهدى‪ ،‬والضلل‪ ،‬وأهل الغي‪ ،‬والرشاد‪ ،‬وأهل الصدق والكذب‪.‬‬

‫ل بينها غاية التفريق‪ ،‬حتى يؤول‬ ‫فمن شهد الحقيقة الكونية‪ ،‬دون الدينية سوى بين هذه الجناس المختلفة التي فرق ا ّ‬
‫ن{‬
‫ب اْلَعاَلِمي َ‬
‫سّويُكْم ِبَر ّ‬
‫ن‪ِ .‬إْذ ُن َ‬
‫ل ُمِبي ٍ‬
‫لٍ‬
‫ضَ‬‫ن ُكّنا َلِفي َ‬ ‫ل بالصنام‪ ،‬كما قال تعالى عنهم‪َ} :‬تا ِّ‬
‫ل ِإ ْ‬ ‫به المر إلى أن يسوى ا ّ‬
‫ل بكل موجود‪ ،‬وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقًا‬ ‫]الشعراء‪ [98 ،97 :‬بل قد آل المر بهؤلء إلى أن سووا ا ّ‬
‫لكل موجود‪ ،‬إذ جعلوه هو وجود المخلوقات‪ ،‬وهذا من أعظم الكفر واللحاد برب العباد‪.‬‬

‫وهؤلء يصل بهم الكفر إلى أنهم ل يشهدون أنهم عباد ل بمعنى أنهم معبدون‪ ،‬ول بمعنى أنهم عابدون‪ ،‬إذ يشهدون‬
‫أنفسهم هي الحق‪ ،‬كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب [الفصوص]‪ ،‬وأمثاله من الملحدين المفترين‪ ،‬كابن‬
‫سبعين وأمثاله‪ ،‬ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون‪ ،‬وهذا ليس بشهود الحقيقة‪ ،‬ل كونية ول دينية‪ ،‬بل هو ضلل‬
‫وعمى عن شهود الحقيقة الكونية‪ ،‬حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق‪ ،‬وجعلوا كل وصف مذموم‪ ،‬وممدوح‬
‫نعًتا للخالق والمخلوق‪ ،‬إذ وجود هذا‪ ،‬هو وجود هذا عندهم‪.‬‬

‫ل ورسوله‪ ،‬عوامهم وخواصهم‪ ،‬الذين هم أهل الكتاب‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن لّ‬ ‫‪/‬وأما المؤمنون با ّ‬
‫ل رب كل‬ ‫ل‪ ،‬وخاصته(‪.‬فهؤلء يعلمون أن ا ّ‬‫ل ؟ قال‪) :‬أهل القرآن هم أهل ا ّ‬
‫أهلين من الناس( قيل‪ :‬من هم يا رسول ا ّ‬
‫ل فيه ول متحدًا به ول وجوده وجوده‪.‬‬
‫شيء ومليكه وخالقه‪ ،‬وأن الخالق ـ سبحانه ـ مباين للمخلوق‪ ،‬ليس هو حا ً‬
‫ل بأن قالوا بالحلول والتحاد بالمسيح خاصة‪ ،‬فكيف من جعل ذلك عاًما في كل مخلوق؟‪.‬‬
‫والنصارى‪ ،‬كفرهم ا ّ‬

‫ل أمر بطاعته‪ ،‬وطاعة رسوله‪ ،‬ونهى عن معصيته‪ ،‬ومعصية رسوله‪ ،‬وأنه ل يحب الفساد‪،‬‬ ‫ويعلمون مع ذلك أن ا ّ‬
‫ول يرضى لعباده الكفر‪ ،‬وإن على الخلق أن يعبدوه‪ ،‬فيطيعوا أمره ويستعينوا به على ذلك‪ ،‬كما قال‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّياكَ‬
‫َنْسَتِعيُن{]الفاتحة‪.[5 :‬‬

‫ومن عبادته وطاعته‪ :‬المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر ـ بحسب المكان ـ والجهاد في سبيله‪ ،‬لهل الكفر‬
‫والنفاق‪ .‬فيجتهدون في إقامة دينه‪ ،‬مستعينين به‪ ،‬دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات‪ ،‬دافعين بذلك ما قد يخاف‬
‫من ذلك‪ ،‬كما يزيل النسان الجوع الحاضر بالكل‪ ،‬ويدفع به الجوع المستقبل‪ ،‬وكذلك‪ ،‬إذا آن أوان البرد ‪ /‬دفعه‬
‫ل‪ ،‬أرأيت أدوية نتداوى‬‫باللباس‪ ،‬وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه‪ .‬كما قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ل(‪ .‬وفي الحديث‪) :‬إن الدعاء‬ ‫ل شيًئا؟ فقال‪) :‬هي من قدر ا ّ‬
‫بها‪ ،‬ورقى نسترقى بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر ا ّ‬
‫ل وكل ذلك من العبادة‪.‬‬‫ل ورسوله العابدين ّ‬‫والبلء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والرض(‪ .‬فهذا حال المؤمنين با ّ‬

‫وهؤلء الذين يشهدون الحقيقة الكونية‪ ،‬وهي ربوبيته ـ تعالى ـ لكل شيء‪ ،‬ويجعلون ذلك مانعًا من اتباع أمره الديني‬
‫الشرعي على مراتب في الضلل‪.‬‬

‫فغلتهم يجعلون ذلك مطلًقا عامًا‪ ،‬فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة‪ ،‬وقول هؤلء شر من قول اليهود‬
‫يٍء{]النعام‪:‬‬
‫ش ْ‬
‫ن َ‬
‫حّرْمَنا ِم ْ‬
‫ل َ‬
‫ل آَباُؤَنا َو َ‬
‫شَرْكَنا َو َ‬
‫ل َما َأ ْ‬ ‫والنصارى‪ ،‬وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا‪َ} :‬لْو َ‬
‫شاَء ا ُّ‬
‫‪ ،[148‬وقالوا‪َ} :‬لْو َشاَء الّرْحَماُن َما َعَبْدَناُهْم{ ]الزخرف‪.[20 :‬‬

‫وهؤلء من أعظم أهل الرض تناقضًا‪ ،‬بل كل من احتج بالقدر‪ ،‬فإنه متناقض‪ ،‬فإنه ل يمكن أن يقر كل آدمي على ما‬
‫فعل‪ ،‬فلبد إذا ظلمه ظالم‪ ،‬أو ظلم الناس ظالم‪ ،‬وسعى في الرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج‬
‫ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من ‪ /‬أنواع الضرر التي ل قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر‪ ،‬وأن يعاقب الظالم بما‬
‫يكف عدوان أمثاله‪ .‬فيقال له‪ :‬إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك‪ ،‬وإن لم يكن حجة بطل أصل‬
‫قولك‪ :‬حجة‪ .‬وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية ليطردون هذا القول ول يلتزمونه‪ ،‬وإنما هم بحسب‬
‫آرائهم وأهوائهم‪ ،‬كما قال فيهم بعض العلماء‪ :‬أنت عند الطاعة قدري‪ ،‬وعند المعصية جبري‪ ،‬أي مذهب وافق هواك‬
‫تمذهبت به‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وأثبت له صنعًا‪ ،‬أما‬


‫ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة‪ ،‬فيزعمون أن المر والنهي لزم لمن شهد لنفسه فع ً‬
‫ل هو المتصرف فيه‪ ،‬كما تحرك سائر المتحركات‪ ،‬فإنه‬ ‫من شهد أن أفعاله مخلوقة‪ ،‬أو أنه مجبور على ذلك‪ ،‬وأن ا ّ‬
‫يرتفع عنه المر والنهي‪ ،‬والوعد والوعيد ‪.‬‬

‫وقد يقولون‪ :‬من شهد الرادة‪ ،‬سقط عنه التكليف‪ ،‬ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الرادة‪،‬‬
‫ل خالق أفعال العباد‪ ،‬وأنه يدبر‬
‫فهؤلء ل يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية‪ ،‬فشهدوا أن ا ّ‬
‫جميع الكائنات‪ ،‬وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علمًا‪ ،‬وبين من يراه شهودًا‪ ،‬فل يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك‬
‫ل‪ ،‬وهؤلء ل يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعًا من‬ ‫ل أص ً‬‫ويعلمه فقط‪ ،‬ولكن عمن ‪ /‬يشهده‪ ،‬فل يرى لنفسه فع ً‬
‫التكليف على هذا الوجه‪.‬‬

‫وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد ‪.‬‬

‫وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم‪ ،‬عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلفه‪ ،‬كما ضاق نطاق المعتزلة‪ ،‬ونحوهم من‬
‫ل العامة وخلقه‬
‫القدرية عن ذلك‪ .‬ثم المعتزلة أثبتت المر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة ا ّ‬
‫لفعال العباد‪ ،‬وهؤلء أثبتوا القضاء والقدر‪ ،‬ونفوا المر والنهي‪ ،‬في حق من شهد القدر‪ ،‬إذ لم يمكنهم نفي ذلك‬
‫مطلًقا‪ .‬وقول هؤلء شر من قول المعتزلة؛ ولهذا لم يكن في السلف من هؤلء أحد‪ ،‬وهؤلء يجعلون المر والنهي‬
‫للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية؛ ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه المر‬
‫والنهي‪ ،‬وصار من الخاصة‪.‬‬
‫ك اْلَيِقيُن{]الحجر‪ ،[99 :‬وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة‪،‬‬
‫حّتى َيْأِتَي َ‬
‫ك َ‬ ‫وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى‪َ} :‬وا ْ‬
‫عُبْد َرّب َ‬
‫وقول هؤلء كفر صريح‪ .‬وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر‪ ،‬فإنه قد علم بالضطرار من دين السلم‪ ،‬أن المر‬
‫والنهي لزم لكل عبد ما دام عقله حاضرًا إلى ‪ /‬أن يموت‪ ،‬ل يسقط عنه المر والنهي‪ ،‬ل بشهوده القدر‪ ،‬ول بغير‬
‫ذلك‪ ،‬فمن لم يعرف ذلك عرفه‪ ،‬وبين له فإن أصر على اعتقاد سقوط المر والنهي فإنه يقتل‪ .‬وقد كثرت مثل هذه‬
‫المقالت في المستأخرين‪.‬‬

‫وأما المستقدمون من هذه المة‪ ،‬فلم تكن هذه المقالت معروفة فيهم‪.‬‬

‫ل ورسوله‪ ،‬ومعاداة له‪ ،‬وصد عن سبيله‪ ،‬ومشاقة له‪ ،‬وتكذيب لرسله‪ ،‬ومضادة له في‬
‫وهذه المقالت هي محادة ّ‬
‫حكمه‪ ،‬وإن كان من يقول هذه المقالت قد يجهل ذلك ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول‪ ،‬وطريق أولياء‬
‫ل المحققين‪ ،‬فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلة ل تجب عليه؛ لستغنائه عنها بما حصل له من الحوال‬
‫ا ّ‬
‫القلبية‪ ،‬أو أن الخمر حلل له؛ لكونه من الخواص الذين ل يضرهم شرب الخمر‪ ،‬أو أن الفاحشة حلل له؛ لنه صار‬
‫كالبحر ل تكدره الذنوب‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وبين الحتجاج بالقدر على‬ ‫ول ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع ا ّ‬
‫ل‪ .‬فهؤلء الصناف ‪ /‬فيهم شبه من المشركين‪ ،‬إما أن يبتدعوا‪ ،‬وإما أن يحتجوا بالقدر‪ ،‬وإما أن يجمعوا‬ ‫مخالفة أمر ا ّ‬
‫ل َيْأُمُر‬
‫ل َ‬‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ل َأَمَرَنا ِبَها ُق ْ‬
‫عَلْيَها آَباَءَنا َوا ُّ‬
‫جدَْنا َ‬
‫شًة َقاُلوا َو َ‬
‫حَ‬‫بين المرين‪ .‬كما قال تعالى عن المشركين‪َ} :‬وِإَذا َفَعُلوا َفا ِ‬
‫ل َما‬ ‫شاَء ا ُّ‬
‫شَرُكوا َلْو َ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫ن{ ] العراف‪ ،[ 28 :‬وكما قال تعالى عنهم‪َ } :‬‬
‫سَيُقو ُ‬ ‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫ل َما َ‬ ‫عَلى ا ِّ‬
‫ن َ‬‫شاِء َأَتُقوُلو َ‬
‫حَ‬ ‫ِباْلَف ْ‬
‫يٍء{ ] النعام‪.[148 :‬‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫حّرْمَنا ِم ْ‬
‫ل َ‬‫ل آَباُؤَنا َو َ‬
‫شَرْكَنا َو َ‬‫َأ ْ‬

‫ل بمثل قوله تعالى‪:‬‬


‫وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام‪ ،‬والعبادة التي لم يشرعها ا ّ‬
‫عَلْيَها اْفِتَراءً‬
‫ل َ‬ ‫سَم ا ِّ‬ ‫نا ْ‬ ‫ل َيْذُكُرو َ‬‫ظُهوُرَها َوَأْنَعاٌم َ‬ ‫ت ُ‬‫حّرَم ْ‬ ‫عِمِهْم َوَأْنَعاٌم ُ‬‫شاُء ِبَز ْ‬‫ن َن َ‬‫ل َم ْ‬‫طَعُمَها ِإ ّ‬ ‫ل َي ْ‬
‫جٌر َ‬ ‫حْ‬‫ث ِ‬ ‫حْر ٌ‬ ‫}َوَقاُلوا َهِذِه َأْنَعاٌم َو َ‬
‫ن َكَما‬ ‫طا ُ‬ ‫شْي َ‬ ‫عَلْيِه{ إلى آخر السورة ]النعام‪ ،[138-165 :‬وكذلك في سورة العراف في قوله‪َ} :‬ياَبِني آَدَم َ‬
‫ل َيْفِتَنّنُكْم ال ّ‬ ‫َ‬
‫ل َل َيْأُمُر ِباْلَفْحَشاِء{إلى‬ ‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ل َأَمَرَنا ِبَها ُق ْ‬
‫عَلْيَها آَباَءَنا َوا ُّ‬
‫جْدَنا َ‬
‫شًة َقاُلوا َو َ‬ ‫حَ‬ ‫جّنِة{ إلى قوله‪َ} :‬وِإَذا َفَعُلوا َفا ِ‬ ‫ن اْل َ‬‫ج َأَبَوْيُكْم ِم ْ‬
‫خَر َ‬ ‫َأ ْ‬
‫ن‪ُ .‬ق ْ‬
‫ل‬ ‫سِرِفي َ‬ ‫ب اْلُم ْ‬‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬ ‫سِرُفوا ِإّنُه َ‬‫ل ُت ْ‬
‫شَرُبوا َو َ‬ ‫جٍد{ إلى قوله‪َ} :‬وُكُلوا َوا ْ‬ ‫سِ‬‫ل َم ْ‬‫عْنَد ُك ّ‬‫جوَهُكْم ِ‬ ‫ط َوَأِقيُموا ُو ُ‬ ‫سِ‬ ‫ل َأَمَر َرّبي ِباْلِق ْ‬ ‫قوله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫لْثَم‬
‫ن َوا ِْ‬ ‫طَ‬ ‫ظَهَر ِمْنَها َوَما َب َ‬ ‫ش َما َ‬ ‫ح َ‬ ‫حّرَم َرّبي اْلَفَوا ِ‬ ‫ل ِإّنَما َ‬‫ق{ إلى قوله‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫ن الّرْز ِ‬ ‫ت ِم ْ‬ ‫طّيَبا ِ‬‫ج ِلِعَباِدِه َوال ّ‬
‫خَر َ‬‫ل اّلِتي َأ ْ‬ ‫حّرَم ِزيَنَة ا ِّ‬ ‫ن َ‬ ‫َم ْ‬
‫ل َما َل َتْعَلُموَن{ ]العراف‪27 :‬ـ ‪.[33‬‬ ‫عَلى ا ِّ‬‫ن َتُقوُلوا َ‬ ‫طاًنا َوَأ ْ‬
‫سْل َ‬
‫ل ِبِه ُ‬ ‫ل َما َلْم ُيَنّز ْ‬‫شِرُكوا ِبا ِّ‬‫ن ُت ْ‬‫ق َوَأ ْ‬‫حّ‬ ‫ي ِبَغْيِر اْل َ‬‫َواْلَبْغ َ‬

‫‪/‬وهؤلء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة‪ ،‬كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة‪ .‬وطريق الحقيقة عندهم هو‬
‫السلوك الذي ل يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه‪ ،‬ولكن بما يراه ويذوقه ويجده‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وهؤلء ل يحتجون‬
‫بالقدر مطلًقا‪ ،‬بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم‪ ،‬وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة‪ ،‬وأمرهم باتباعها‪ ،‬دون اتباع أمر‬
‫ل ورسوله‪ ،‬نظير بدع أهل الكلم من الجهمية‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬الذين يجعلون ما ابتدعوه من القوال المخالفة للكتاب‬ ‫ا ّ‬
‫والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها‪ ،‬دون ما دلت عليه السمعيات‪ .‬ثم الكتاب والسنة‪ ،‬إما أن يحرفوه عن مواضعه‪،‬‬
‫ل‪ ،‬مع اعتقادهم نقيض‬ ‫وإما أن يعرضوا عنه بالكلية‪ ،‬فل يتدبرونه ول يعقلونه‪ ،‬بل يقولون‪ :‬نفوض معناه إلى ا ّ‬
‫مدلوله‪ .‬وإذا حقق على هؤلء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة‪ ،‬وجدت جهليات واعتقادات فاسدة‪.‬‬

‫ل‪ ،‬المخالفة للكتاب والسنة‪ ،‬وجدت من الهواء التي‬


‫وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء ا ّ‬
‫ل ل أولياؤه‪.‬‬
‫يتبعها أعداء ا ّ‬

‫ل‪ ،‬فإن‬
‫ل‪ ،‬واختياره الهوي على اتباع أمر ا ّ‬
‫وأصل ضلل من ضل‪ ،‬هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند ا ّ‬
‫الذوق والوجد ونحو ذلك‪ ،‬هو بحسب ما يحبه العبد‪ ،‬فكل محب له ذوق‪ ،‬ووجد بحسب محبته‪ .‬فأهل اليمان لهم من‬
‫الذوق والوجد مثل ما بينه النبي صلى ال عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح‪) :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة‬
‫ل‪ ،‬ومن كان يكره أن يرجع‬ ‫ل ورسوله أحب إليه مما ‪ /‬سواهما‪ ،‬ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ‬ ‫اليمان‪ :‬من كان ا ّ‬
‫ل منه‪ ،‬كما يكره أن يلقى في النار(‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪) :‬ذاق طعم‬ ‫في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ‬
‫ل ربًا‪ ،‬وبالسلم دينًا‪ ،‬وبمحمد نبيًا(‪.‬‬
‫اليمان من رضى با ّ‬
‫وأما أهل الكفر والبدع والشهوات‪ ،‬فكل بحسبه‪ ،‬قيل لسفيان بن عيينة‪ :‬ما بال أهل الهواء لهم محبة شديدة لهوائهم؟!‬
‫فقال‪ :‬أنسيت قوله تعالى‪َ} :‬وُأْشِرُبوا ِفي ُقُلوِبِهْم اْلِعْجَل ِبُكْفِرِهْم{ ]البقرة‪[93 :‬؟!‪ ،‬أو نحو هذا من الكلم‪ .‬فعباد الصنام‬
‫ل{ ]البقرة‪:‬‬
‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬
‫ل َواّلِذي َ‬
‫ب ا ِّ‬
‫ح ّ‬‫حّبوَنُهْم َك ُ‬‫ل َأنَداًدا ُي ِ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬‫خُذ ِم ْ‬‫ن َيّت ِ‬
‫س َم ْ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫يحبون آلهتهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ل{ ]القصص‪،[50 :‬‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ن اّتَبَع َهَواُه ِبَغْيِر ُهًدى ِم ْ‬‫ل ِممّ ْ‬‫ضّ‬ ‫ن َأ َ‬ ‫ن َأْهَواَءُهْم َوَم ْ‬
‫عَلْم َأّنَما َيّتِبُعو َ‬
‫ك َفا ْ‬
‫جيُبوا َل َ‬
‫سَت ِ‬ ‫‪ ،[165‬وقال‪َ} :‬فِإ ْ‬
‫ن َلْم َي ْ‬
‫س َوَلَقْد َجاَءُهْم ِمْن َرّبِهْم اْلُهَدى{ ]النجم‪[23 :‬؛ ولهذا يميل هؤلء إلى سماع‬ ‫لْنُف ُ‬ ‫ن َوَما َتْهَوى ا َْ‬‫ظّ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫ن ِإ ّ‬ ‫وقال‪ِ} :‬إ ْ‬
‫ن َيّتِبُعو َ‬
‫الشعر والصوات التي تهيج المحبة المطلقة‪ ،‬التي ل تختص بأهل اليمان‪ ،‬بل يشترك فيها محب الرحمن‪ ،‬ومحب‬
‫الوثان‪ ،‬ومحب الصلبان‪ ،‬ومحب الوطان‪ ،‬ومحب الخوان‪ ،‬ومحب المردان‪ ،‬ومحب النسوان‪ .‬وهؤلء الذين يتبعون‬
‫أذواقهم‪ ،‬ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة‪ ،‬وما كان عليه سلف المة‪.‬‬

‫ل‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ} :‬ثّم‬ ‫فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته‪ ،‬وطاعة رسوله ل يكون متبعًا لدين‪ ،‬شرعه ا ّ‬
‫ي‬ ‫شْيًئا{ إلى قوله‪َ} :‬وا ُّ‬
‫ل َوِل ّ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ا ِّ‬ ‫ك ِم ْ‬
‫عن َ‬
‫ن ُيْغُنوا َ‬
‫ن ‪ِ .‬إّنُهْم َل ْ‬
‫ل َيْعَلُمو َ‬
‫ن َ‬
‫ل َتّتِبْع َأْهَواَء اّلِذي َ‬
‫لْمِر َفاّتِبْعَها َو َ‬
‫ن ا َْ‬
‫شِريَعٍة ِم ْ‬
‫عَلى َ‬ ‫ك َ‬ ‫جَعْلَنا َ‬‫َ‬
‫ن َما‬‫ن الّدي ِ‬
‫عوا َلُهْم ِم ْ‬
‫شَر ُ‬ ‫ل‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬أْم َلُهْم ُ‬
‫شَرَكاُء َ‬ ‫اْلُمّتِقيَن{ ] الجاثية‪ ،[18 ،17 :‬بل يكون متبعًا لهواه بغير هدى من ا ّ‬
‫ل‪،‬‬‫ل{ ]الشورى‪ ،[21 :‬وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه ا ّ‬ ‫ن ِبِه ا ُّ‬
‫َلْم َيْأَذ ْ‬
‫ل به عن المشركين‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬
‫وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة‪ ،‬كما أخبر ا ّ‬

‫ومن هؤلء طائفة هم أعلهم قدرًا‪ ،‬وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة‪ ،‬واجتناب المحرمات‬
‫المشهورة‪ ،‬لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من السباب التي هي عبادة‪ ،‬ظانين أن العارف إذا شهد ] القدر[‬
‫أعرض عن ذلك‪ ،‬مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء‪ ،‬ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة‪ ،‬بناء على أن من‬
‫ل قدر الشياء بأسبابها كما قدر السعادة‬‫شهد القدر علم أن ما قدر سيكون‪ ،‬فل حاجة إلى ذلك‪ ،‬وهذا غلط عظيم‪ .‬فإن ا ّ‬
‫ل خلق للجنة أهل‪ ،‬خلقها لهم وهم في أصلب آبائهم‪،‬‬ ‫والشقاوة بأسبابها‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن ا ّ‬
‫ل كتب المقادير فقالوا‪ :‬يا رسول‬‫وبعمل أهل الجنة يعملون(‪ ،‬وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم لما أخبرهم بأن ا ّ‬
‫ل‪ ،‬أفل ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال‪) :‬ل‪ ،‬اعملوا فكل ميسر لما خلق له‪ ،‬أما من كان من أهل السعادة‪،‬‬ ‫ا ّ‬
‫فسييسر لعمل أهل السعادة‪ ،‬وأما من كان من أهل الشقاوة‪ ،‬فسييسر لعمل أهل الشقاوة(‪.‬‬

‫ل به عباده من السباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالى‪َ} :‬فاْعُبْدهُ َوَتَوّكْل َعَلْيِه{ ]هود‪:‬‬ ‫‪/‬فما أمر ا ّ‬
‫ب{ ]الرعد‪ ،[30 :‬وقول شعيب ـ عليه السلم ـ‪َ } :‬‬
‫عَلْيِه‬ ‫ت َوِإَلْيِه َمَتا ِ‬
‫عَلْيِه َتَوّكْل ُ‬
‫ل ُهَو َ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬ ‫‪ ،[123‬وفي قوله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ُهَو َرّبي َ‬
‫ب{ ]هود‪.[88 :‬‬ ‫ت َوِإَلْيِه ُأِني ُ‬
‫َتَوّكْل ُ‬

‫ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من العمال دون الواجبات‪ ،‬فتنقص بقدر ذلك‪.‬‬

‫ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة‪ ،‬أو استجابة دعوة مخالفة العادة العامة‪ ،‬ونحو ذلك‪،‬‬
‫فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة‪ ،‬والشكر‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ل الذي بعث به‬‫فهذه المور ونحوها كثيرًا ما تعرض لهل السلوك والتوجه‪ ،‬وإنما ينجو العبد منها بملزمة أمر ا ّ‬
‫رسوله في كل وقت‪ .‬كما قال الزهري‪ :‬كان من مضى من سلفنا يقولون‪ :‬العتصام بالسنة نجاة‪ .‬وذلك أن السنة ـ كما‬
‫ل ـ مثل سفينة نوح من ركبها نجا‪ ،‬ومن تخلف عنها غرق‪.‬‬ ‫قال مالك رحمه ا ّ‬

‫والعبادة‪ ،‬والطاعة‪ ،‬والستقامة‪ ،‬ولزوم الصراط المستقيم‪ ،‬ونحو ذلك من السماء مقصودها واحد‪ ،‬ولها أصلن‪:‬‬

‫ل‪.‬‬
‫‪/‬أحدهما‪ :‬أل يعبد إل ا ّ‬

‫حا َولَ‬
‫صاِل ً‬
‫ل َ‬ ‫عَم ً‬ ‫ل َ‬ ‫جوا ِلَقاَء َرّبِه َفْلَيْعَم ْ‬‫ن َيْر ُ‬
‫ن َكا َ‬‫والثاني‪ :‬أن يعبد بما أمر وشرع ل بغير ذلك من البدع‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬فَم ْ‬
‫عَلْيِهْم‬
‫ف َ‬‫خْو ٌ‬ ‫ل َ‬
‫عْنَد َرّبِه َو َ‬ ‫جُرُه ِ‬ ‫ن َفَلُه َأ ْ‬
‫سٌ‬‫حِ‬‫ل َوُهَو ُم ْ‬‫جَهُه ِّ‬ ‫سَلَم َو ْ‬ ‫حًدا{ ]الكهف‪ ،[110 :‬وقال تعالى‪َ} :‬بَلى َم ْ‬
‫ن َأ ْ‬ ‫ك ِبِعَباَدِة َرّبِه َأ َ‬
‫شِر ْ‬ ‫ُي ْ‬
‫خَذ‬‫حِنيًفا َواّت َ‬
‫ن َواّتَبَع ِمّلَة ِإْبَراِهيَم َ‬‫سٌ‬ ‫حِ‬ ‫ل َوُهَو ُم ْ‬‫جَهُه ِّ‬‫سَلمَ َو ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ن ِديًنا ِمّم ْ‬
‫سُ‬
‫حَ‬ ‫ن{ ]البقرة‪ ،[112 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َأ ْ‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫ل ُهْم َي ْ‬‫َو َ‬
‫ل{ ]النساء‪ ،[125 :‬فالعمل الصالح هو الحسان وهو فعل الحسنات‪ .‬والحسنات‪ ،‬هي ما أحبه ا ّ‬
‫ل‬ ‫خِلي ً‬‫ل ِإْبَراِهيَم َ‬ ‫ا ُّ‬
‫ورسوله‪ ،‬وهو ما أمر به أمر إىجاب‪ ،‬أو استحباب‪ ،‬فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫ل‬
‫ليحبها ول رسوله‪ ،‬فل تكون من الحسنات‪ ،‬ول من العمل الصالح‪ ،‬كما أن من يعمل ما ليجوز كالفواحش‪ ،‬والظلم‬
‫ليس من الحسنات‪ ،‬ول من العمل الصالح‪.‬‬

‫ل وحده‪ ،‬وكان عمر بن الخطاب‬ ‫ل{‪ ،‬فهو إخلص الدين ّ‬ ‫جَهُه ِّ‬ ‫حًدا{ وقوله‪َ} :‬أ ْ‬
‫سَلَم َو ْ‬ ‫ك ِبِعَباَدِة َرّبِه َأ َ‬
‫شِر ْ‬ ‫وأما قوله‪َ} :‬و َ‬
‫ل ُي ْ‬
‫يقول‪ :‬اللهم اجعل عملي كله صالحًا‪ ،‬واجعله لوجهك خالصًا‪ ،‬ول تجعل لحد فيه شيئًا‪.‬‬

‫ل{ ]هود‪ ،7 :‬الملك‪ ،[2 :‬قال‪ :‬أخلصه‪ ،‬وأصوبه‪ .‬قالوا‪ :‬يا أبا‬ ‫عَم ً‬
‫ن َ‬
‫سُ‬‫وقال الفضيل بن عياض في قوله‪ِ} :‬لَيْبُلَوُكْم َأّيُكْم َأ ْ‬
‫حَ‬
‫على‪ ،‬ما أخلصه وأصوبه؟ قال‪ / :‬إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل‪ ،‬وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا‬
‫ل‪ ،‬والصواب أن يكون على السنة‪.‬‬ ‫لم يقبل‪ ،‬حتى يكون خالصًا صوابًا‪ ،‬والخالص أن يكون ّ‬

‫ن{‬
‫سَتِعي ُ‬
‫ك َن ْ‬ ‫ل في اسم العبادة‪ ،‬فلماذا عطف عليها غيرها‪ ،‬كقوله‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬ ‫ل داخ ً‬‫فإن قيل‪ :‬فإذا كان جميع ما يحبه ا ّ‬
‫طيُعوِني{ ]نوح‪،[3 :‬‬ ‫ل َواّتُقوهُ َوَأ ِ‬
‫عُبُدوا ا َّ‬ ‫عَلْيِه{ ]هود‪ ،[123 :‬وقال نوح‪َ} :‬أ ْ‬
‫نا ْ‬ ‫ل َ‬ ‫]الفاتحة‪ ،[5 :‬وقوله‪َ} :‬فا ْ‬
‫عُبْدُه َوَتَوّك ْ‬
‫لَة َتْنَهى َعْن اْلَفْحَشاِء َواْلُمْنَكِر{ ]العنكبوت‪:‬‬ ‫صَ‬‫ن ال ّ‬‫وكذلك قول غيره من الرسل‪ .‬قيل‪ :‬هذا له نظائر‪ ،‬كما في قوله‪ِ} :‬إ ّ‬
‫شاِء َواْلُمنَكِر‬ ‫حَ‬ ‫ن اْلَف ْ‬
‫عْ‬
‫ن َوِإيَتاِء ِذي اْلُقْرَبى َوَيْنَهى َ‬
‫سا ِ‬
‫حَ‬ ‫لْ‬‫ل َوا ِ‬
‫ل َيْأُمُر ِباْلَعْد ِ‬ ‫‪ ،[45‬والفحشاء من المنكر‪ ،‬وكذلك قوله‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ي{ ]النحل‪ ،[90 :‬وإيتاء ذي القربى هو من العدل والحسان‪ ،‬كما أن الفحشاء والبغي من المنكر‪ ،‬وكذلك قوله‪:‬‬ ‫َواْلَبْغ ِ‬
‫لَة{ ]العراف‪ ،[170 :‬وإقامة الصلة من أعظم التمسك بالكتاب‪ ،‬وكذلك قوله‪:‬‬ ‫صَ‬ ‫ب َوَأَقاُموا ال ّ‬ ‫ن ِباْلِكَتا ِ‬
‫سُكو َ‬‫ن ُيَم ّ‬
‫}َواّلِذي َ‬
‫ت َوَيْدُعوَنَنا َرَغًبا َوَرَهًبا{ ]النبياء‪ ،[90 :‬ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات‪ ،‬وأمثال ذلك‬ ‫خْيَرا ِ‬ ‫ن ِفي اْل َ‬‫عو َ‬ ‫ساِر ُ‬
‫}ِإّنُهْم َكاُنوا ُي َ‬
‫في القرآن كثير‪.‬‬

‫صا له بالذكر ؛ لكونه مطلوبًا بالمعنى العام‪،‬‬ ‫وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الخر‪ ،‬فيعطف عليه تخصي ً‬
‫والمعنى الخاص‪ ،‬وتارة تكون دللة السم تتنوع بحال النفراد والقتران‪ ،‬فإذا أفرد عم‪ ،‬وإذا قرن بغيره خص‪ ،‬كاسم‬
‫ل{ ]البقرة‪ ،[273 :‬وقوله‪َ} :‬فَكّفاَرُتُه‬ ‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫صُروا ِفي َ‬
‫ح ِ‬ ‫الفقير‪ ،‬والمسكين لما ‪/‬أفرد أحدهما في مثل قوله‪ِ} :‬للُفَقَراِء اّلِذي َ‬
‫ن ُأ ْ‬
‫ن{‬‫ساِكي ِ‬
‫ت ِلْلُفَقَراِء َواْلَم َ‬ ‫ن{ ]المائدة‪ ،[89 :‬دخل فيه الخر‪ ،‬ولما قرن بينهما في قوله‪ِ} :‬إّنَما ال ّ‬
‫صَدَقا ُ‬ ‫ساِكي َ‬
‫شَرِة َم َ‬
‫طَعاُم عَ َ‬
‫ِإ ْ‬
‫]التوبة‪ [60 :‬صارا نوعين‪.‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إن الخاص المعطوف على العام ليدخل في العام حال القتران‪ ،‬بل يكون من هذا الباب‪ .‬والتحقيق أن هذا‬
‫ن‬ ‫ل{ ]البقرة‪ ،[98 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإْذ َأ َ‬
‫خْذَنا ِم ْ‬ ‫ل َوِميَكا َ‬
‫جْبِري َ‬
‫سِلِه َو ِ‬
‫لِئَكِتِه َوُر ُ‬
‫ل َوَم َ‬
‫عُدّوا ِّ‬
‫ن َ‬ ‫ليس لزمًا‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬م ْ‬
‫ن َكا َ‬
‫ك َوِمْن ُنوٍح َوِإْبَراِهيَم َوُموَسى َوِعيَسى اْبِن َمْرَيَم{ ]الحزاب‪.[7 :‬‬ ‫ن ِميَثاَقُهْم َوِمْن َ‬
‫الّنِبّيي َ‬

‫وذكر الخاص مع العام يكون‪ ،‬لسباب متنوعة‪ ،‬تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام‪ ،‬كما في نوح وإبراهيم‬
‫ن ِباْلَغْي ِ‬
‫ب‬ ‫ن ُيْؤِمُنو َ‬ ‫وموسى وعيسى‪ ،‬وتارة؛ لكون العام فيه إطلق قد ل يفهم منه العموم‪ ،‬كما في قوله‪ُ} :‬هًدى ِلْلُمّتِقي َ‬
‫ن‪ .‬اّلِذي َ‬
‫ك{ ]البقرة‪2 :‬ـ ‪ ،[4‬فقوله‪ :‬يؤمنون‬ ‫ن َقْبِل َ‬
‫ل ِم ْ‬
‫ك َوَما ُأْنِز َ‬
‫ل ِإَلْي َ‬
‫ن ِبَما ُأْنِز َ‬
‫ن ُيْؤِمُنو َ‬
‫ن‪َ .‬واّلِذي َ‬
‫لَة َوِمّما َرَزْقَناُهْم ُينِفُقو َ‬
‫صَ‬‫ن ال ّ‬
‫َوُيِقيُمو َ‬
‫بالغيب يتناول الغيب الذي يجب اليمان به‪ ،‬لكن فيه إجمال‪ ،‬فليس فيه دللة على أن من الغيب‪ ،‬ما أنزل إليك‪ ،‬وما‬
‫أنزل من قبلك‪.‬وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب‪ ،‬وبالخبار بالغيب‪ ،‬وهو ما أنزل إليك‪ ،‬وما‬
‫أنزل من قبلك‪.‬‬

‫سُكونَ‬ ‫ن ُيَم ّ‬‫لَة{ ]العنكبوت‪ ،[45 :‬وقوله‪َ} :‬واّلِذي َ‬ ‫صَ‬‫ب َوَأِقْم ال ّ‬‫ن اْلِكَتا ِ‬ ‫ك ِم ْ‬ ‫ي ِإَلْي َ‬
‫حَ‬ ‫‪/‬ومن هذا الباب قوله تعالى‪} :‬اْت ُ‬
‫ل َما ُأو ِ‬
‫لَة{ ]العراف‪ ،[170 :‬وتلوة الكتاب‪ ،‬هي اتباعه‪ ،‬كما قال ابن مسعود في قوله تعالى‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫صَ‬‫ب َوَأَقاُموا ال ّ‬ ‫ِباْلِكَتا ِ‬
‫لَوِتِه{ ]البقرة‪ ،[121 :‬قال‪ :‬يحللون حلله ويحرمون حرامه‪ ،‬ويؤمنون بمتشابهه ويعملون‬ ‫ق ِت َ‬
‫حّ‬‫ب َيْتُلوَنُه َ‬
‫آَتْيَناُهْم اْلِكَتا َ‬
‫ل‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل َ‬ ‫بمحكمه‪ ،‬فاتباع الكتاب يتناول الصلة وغيرها‪ ،‬لكن خصها بالذكر لمزيتها‪ .‬وكذلك قوله لموسى‪ِ} :‬إّنِني َأَنا ا ُّ‬
‫ل َوُقوُلوا‬ ‫لَة ِلِذْكِري{ ]طه‪ ،[14 :‬وإقامة الصلة لذكره من أجل عبادته‪ ،‬وكذلك قوله تعالى‪} :‬اّتُقوا ا َّ‬ ‫صَ‬‫عُبْدِني َوَأِقْم ال ّ‬ ‫َأَنا َفا ْ‬
‫ن{‬‫صاِدِقي َ‬ ‫ل َوُكوُنوا َمَع ال ّ‬ ‫سيَلَة{ ]المائدة‪ ،[35 :‬وقوله‪} :‬اّتُقوا ا َّ‬
‫ل َواْبَتُغوا ِإَلْيِه اْلَو ِ‬‫سِديًدا{ ]الحزاب‪ ،[70 :‬وقوله‪} :‬اّتُقوا ا َّ‬ ‫ل َ‬ ‫َقْو ً‬
‫ل‪ ،‬وكذلك قوله‪َ} :‬فاْعُبْدُه َوَتَوّكْل َعَلْيِه{ ]هود‪ ،[123 :‬فإن‬ ‫]التوبة‪ ،[119 :‬فإن هذه المور هي أيضًا من تمام تقوى ا ّ‬
‫ل‪ ،‬لكن خصت بالذكر‪ ،‬ليقصدها المتعبد بخصوصها‪ ،‬فإنها هي العون على سائر‬ ‫التوكل والستعانة هي من عبادة ا ّ‬
‫أنواع العبادة إذ هو ـ سبحانه ـ ل يعبد إل بمعونته‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته‪،‬‬ ‫إذا تبين هذا‪ ،‬فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته ّ‬
‫ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه‪ .‬أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق‬
‫وأضلهم‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وَقاُلوا اّتَخَذ الّرْحَماُن َوَلًدا ُسْبَحاَنُه َبْل ِعَباٌد ُمْكَرُموَن‪َ .‬ل َيْسِبُقوَنُه ِباْلَقْوِل َوُهْم ِبَأْمِرِه َيْعَمُلوَن{ ‪ /‬إلى قوله‪:‬‬
‫ل‬ ‫شْيًئا ِإّدا{ إلى قوله‪ِ} :‬إ ْ‬
‫ن ُك ّ‬ ‫جْئُتْم َ‬‫ن َوَلًدا‪َ .‬لَقْد ِ‬
‫حَما ُ‬‫خذَ الّر ْ‬‫ن{ ]النبياء‪26 :‬ـ ‪ ،[28‬وقال تعالى‪َ} :‬وَقاُلوا اّت َ‬ ‫شِفُقو َ‬‫شَيِتِه ُم ْ‬‫خْ‬‫ن َ‬ ‫}َوُهْم ِم ْ‬
‫صاُهْم َوَعّدُهْم َعّدا‪َ .‬وُكّلُهْم آِتيِه َيْوَم اْلِقَياَمِة َفْرًدا{ ]مريم‪ 88 :‬ـ ‪،[95‬‬ ‫ح َ‬ ‫عْبًدا‪َ .‬لَقْد َأ ْ‬
‫ن َ‬ ‫حَما ِ‬ ‫ل آِتي الّر ْ‬ ‫ض ِإ ّ‬
‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َْ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫ن ِفي ال ّ‬ ‫َم ْ‬
‫ن ِفي‬‫ل{ ]الزخرف‪ ،[59 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلُه َم ْ‬ ‫سَراِئي َ‬
‫ل ِلَبِني ِإ ْ‬‫جَعْلَناُه َمَث ً‬
‫عَلْيِه َو َ‬ ‫عْبٌد َأْنَعْمَنا َ‬
‫ل َ‬ ‫ن ُهَو ِإ ّ‬ ‫وقال تعالى في المسيح‪ِ} :‬إ ْ‬
‫ض َوَمْن ِعْنَدُه َل َيْسَتْكِبُروَن َعْن ِعَباَدِتِه َوَل َيْسَتْحِسُروَن‪ُ .‬يَسّبُحوَن الّلْيَل َوالّنَهاَر َل َيْفُتُروَن{ ]النبياء‪،[20 ،19 :‬‬ ‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َْ‬‫سَماَوا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫شُرُهْم ِإَلْيِه‬
‫حُ‬ ‫سَي ْ‬
‫سَتْكِبْر َف َ‬
‫عَباَدِتِه َوَي ْ‬
‫ن ِ‬‫عْ‬‫ف َ‬ ‫سَتنِك ْ‬
‫ن َي ْ‬
‫ن َومَ ْ‬ ‫لِئَكُة اْلُمَقّرُبو َ‬
‫ل اْلَم َ‬ ‫ل َو َ‬ ‫عْبًدا ِّ‬ ‫ن َ‬‫ن َيُكو َ‬ ‫ح َأ ْ‬‫سي ُ‬‫ف اْلَم ِ‬
‫سَتنِك َ‬ ‫ن َي ْ‬‫وقال تعالى‪َ} :‬ل ْ‬
‫عوِني‬ ‫صيًرا{ ]النساء‪ ،[173 ،172 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَقالَ َرّبُكْم اْد ُ‬ ‫ل َن ِ‬ ‫ل َوِلّيا َو َ‬ ‫ن ا ِّ‬‫ن ُدو ِ‬ ‫ن َلُهْم ِم ْ‬
‫جُدو َ‬ ‫جِميًعا{ إلى قوله‪َ} :‬و َ‬
‫ل َي ِ‬ ‫َ‬
‫ل َوالّنَهاُر‬ ‫ن{ ]غافر‪ ،[60 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ن آَياِتِه الّلْي ُ‬ ‫خِري َ‬ ‫جَهّنَم َدا ِ‬‫ن َ‬ ‫خُلو َ‬ ‫سَيْد ُ‬‫عَباَدِتي َ‬ ‫ن ِ‬ ‫عْ‬ ‫ن َ‬ ‫سَتْكِبُرو َ‬‫ن َي ْ‬‫ن اّلِذي َ‬‫ب َلُكْم ِإ ّ‬‫ج ْ‬‫سَت ِ‬
‫َأ ْ‬
‫حونَ‬‫سّب ُ‬
‫ك ُي َ‬
‫عْنَد َرّب َ‬
‫ن ِ‬
‫سَتْكَبُروا َفاّلِذي َ‬
‫نا ْ‬‫ن‪َ .‬فِإ ْ‬
‫ن ُكْنُتمْ ِإّياهُ َتْعُبُدو َ‬
‫ن ِإ ْ‬
‫خَلَقُه ّ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫جُدوا ِّ‬
‫سُ‬
‫ل ِلْلَقَمِر َوا ْ‬
‫س َو َ‬
‫شْم ِ‬
‫جُدوا ِلل ّ‬‫سُ‬‫ل َت ْ‬
‫س َواْلَقَمُر َ‬
‫شْم ُ‬ ‫َوال ّ‬
‫خيَفًة{ إلى قوله‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن‬ ‫عا َو ِ‬ ‫ضّر ً‬‫ك َت َ‬‫سَ‬ ‫ك ِفي َنْف ِ‬‫ن{ ]فصلت‪ ،[38 ،37 :‬وقال تعالى‪َ} :‬واْذُكْر َرّب َ‬ ‫سَأُمو َ‬‫ل َي ْ‬
‫ل َوالّنَهاِر َوُهْم َ‬‫َلُه ِبالّلْي ِ‬
‫ك َل َيْسَتْكِبُروَن َعْن ِعَباَدِتِه َوُيَسّبُحوَنُه َوَلُه َيْسُجُدوَن{ ]العراف‪.[206 ،205 :‬‬ ‫ن عِْنَد َرّب َ‬ ‫اّلِذي َ‬

‫وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة‪ ،‬وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن‪ ،‬وقد أخبر أنه أرسل‬
‫ك ِمْن َرُسوٍل ِإّل ُنوِحي ِإَلْيِه َأّنُه َل ِإَلَه ِإّل َأَنا َفاْعُبُدوِني{ ]النبياء‪،[25 :‬‬ ‫ن َقْبِل َ‬ ‫جميع الرسل بذلك‪ /.‬فقال تعالى‪َ} :‬وَما َأْر َ‬
‫سْلَنا ِم ْ‬
‫عَباِدي‬‫ت{ ]النحل‪ ،[36 :‬وقال تعالى لبني إسرائيل‪َ} :‬يا ِ‬ ‫غو َ‬‫طا ُ‬
‫جَتِنُبوا ال ّ‬
‫ل َوا ْ‬‫عُبُدوا ا َّ‬ ‫ن ُا ْ‬
‫ل َأ ْ‬
‫سو ً‬ ‫ل ُأّمٍة َر ُ‬ ‫وقال‪َ} :‬وَلَقْد َبَعْثَنا ِفي ُك ّ‬
‫عُبُدوا‬
‫سا ْ‬‫ي َفاّتُقوِني{ ]البقرة‪ ،[41 :‬وقال‪َ} :‬ياَأّيَها الّنا ُ‬ ‫عُبُدوِني{ ]العنكبوت‪َ} ،[56 :‬وِإّيا َ‬ ‫ي َفا ْ‬‫سَعٌة َفِإّيا َ‬ ‫ضي َوا ِ‬ ‫ن َأْر ِ‬ ‫ن آمَُنوا ِإ ّ‬
‫اّلِذي َ‬
‫س ِإّل ِلَيْعُبُدوِني{ ]الذاريات‪،[56 :‬‬ ‫لن َ‬ ‫ن َوا ِْ‬
‫جّ‬ ‫ت اْل ِ‬ ‫ن{ ]البقرة‪ ،[21 :‬وقال‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬ ‫ن َقْبِلُكْم َلَعّلُكْم َتّتُقو َ‬
‫ن ِم ْ‬‫خَلَقُكْم َواّلِذي َ‬
‫َرّبُكْم اّلِذي َ‬
‫ب‬
‫عَذا َ‬‫ت َرّبي َ‬‫عصَْي ُ‬ ‫ن َ‬‫ف ِإ ْ‬
‫خا ُ‬
‫ل ِإّني َأ َ‬
‫ن‪ُ .‬ق ْ‬‫سِلِمي َ‬
‫ل اْلُم ْ‬
‫ن َأّو َ‬
‫ن َأُكو َ‬ ‫لْ‬‫ت َِ‬
‫ن‪َ .‬وُأِمْر ُ‬
‫صا َلُه الّدي َ‬
‫خِل ً‬ ‫ل ُم ْ‬‫عُبَد ا َّ‬‫ن َأ ْ‬‫ت َأ ْ‬ ‫ل ِإّني ُأِمْر ُ‬ ‫وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫صا َلُه ِديِني‪َ .‬فاْعُبُدوا َما ِشْئُتْم ِمْن ُدوِنِه{ ]الزمر‪11 :‬ـ ‪.[15‬‬ ‫خِل ً‬‫عُبُد ُم ْ‬
‫ل َأ ْ‬‫ل ا َّ‬
‫ظيٍم‪ُ .‬ق ْ‬‫عِ‬‫َيْوٍم َ‬

‫ل َما َلُكْم ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ل‪ ،‬كقول نوح ومن بعده عليهم السلم‪} :‬ا ْ‬
‫عُبُدوا ا َّ‬ ‫وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة ا ّ‬
‫ِإَلٍه َغْيُرُه{ ]المؤمنون‪ ،[23 :‬وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬بعثت بالسيف بين يدي‬
‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬وجعل رزقي تحت ظل رمحي‪ ،‬وجعل الذلة والصغار على من خالف‬
‫الساعة حتى يعبد ا ّ‬
‫أمري(‪.‬‬

‫ل‬
‫نّ‪ِ .‬إ ّ‬ ‫جَمِعي َ‬‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬
‫لْ‬ ‫ض َو َُ‬ ‫لْر ِ‬ ‫ن َلُهْم ِفي ا َْ‬ ‫لَزّيَن ّ‬‫غَوْيَتِني َُ‬‫وقد بين أن عباده هم الذين ينجون من السيئات‪ ،‬قال الشيطان‪ِ} :‬بَما َأ ْ‬
‫ن{‬ ‫ن اْلَغاِوي َ‬ ‫ك ِم ْ‬ ‫ن اّتَبَع َ‬
‫ل َم ْ‬ ‫ن ِإ ّ‬‫طا ٌ‬‫سْل َ‬‫عَلْيِهْم ُ‬‫ك َ‬‫س َل َ‬‫عَباِدي َلْي َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن{ ]الحجر‪ ،[40 ،39 :‬قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫صي َ‬‫خَل ِ‬ ‫ك ِمْنُهْم اْلُم ْ‬‫عَباَد َ‬ ‫ِ‬
‫صيَن{ ]ص‪ ،[83 ،82 :‬وقال في حق يوسف‪:‬‬ ‫خَل ِ‬ ‫ك ِمْنُهْم اْلُم ْ‬‫عَباَد َ‬‫ل ِ‬‫ن‪ِ .‬إ ّ‬ ‫جَمِعي َ‬‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬‫لْ‬ ‫ك َُ‬ ‫ل َفِبِعّزِت َ‬ ‫]الحجر‪ ،[42 :‬وقال‪َ} :‬قا َ‬
‫عَباَد ا ِّ‬
‫ل‬ ‫ل ِ‬ ‫ن‪ِ .‬إ ّ‬‫صُفو َ‬ ‫عّما َي ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ا ِّ‬ ‫حا َ‬ ‫ن{ ]يوسف‪ ،[24 :‬وقال‪ُ } :‬‬
‫سْب َ‬ ‫صي َ‬
‫خَل ِ‬ ‫عَباِدَنا اْلُم ْ‬
‫ن ِ‬ ‫شاَء ِإّنُه ِم ْ‬‫حَ‬ ‫سوَء َواْلَف ْ‬ ‫عْنُه ال ّ‬
‫ف َ‬ ‫صِر َ‬ ‫ك ِلَن ْ‬ ‫}َكَذِل َ‬
‫ن‬
‫عَلى اّلِذي َ‬ ‫طاُنُه َ‬ ‫سْل َ‬
‫ن‪ِ .‬إّنَما ُ‬ ‫عَلى َرّبِهْم َيَتَوّكُلو َ‬ ‫ن آَمُنوا َو َ‬ ‫عَلى اّلِذي َ‬‫ن َ‬ ‫طا ٌ‬‫سْل َ‬‫س َلُه ُ‬‫ن{ ]الصافات‪ ،[160 ،159 :‬وقال‪ِ} :‬إّنُه َلْي َ‬ ‫صي َ‬ ‫خَل ِ‬‫اْلُم ْ‬
‫عَباَدَنا إْبَراِهيَم‬‫ن{ ] النحل‪ ،[100 ،99 :‬وبها نعت كل من اصطفي من خلقه‪ ،‬كقوله‪َ} :‬واْذُكْر ِ‬ ‫شِرُكو َ‬ ‫ن ُهْم ِبِه ُم ْ‬‫َيَتَوّلْوَنُه َواّلِذي َ‬
‫طَفْيَن اَْلْخَياِر{ ]ص‪45 :‬ـ‬ ‫صَ‬ ‫ن اْلُم ْ‬ ‫عْنَدَنا َلِم ْ‬
‫صٍة ِذْكَرى الّداِر‪َ .‬وِإّنُهْم ِ‬ ‫خاِل َ‬ ‫صَناُهْم ِب َ‬
‫خَل ْ‬ ‫صاِر‪ِ .‬إّنا َأ ْ‬ ‫لْب َ‬ ‫لْيِدي َوا َْ‬ ‫ب ُأْوِلي ا َْ‬ ‫ق َوَيْعُقو َ‬ ‫حا َ‬‫سَ‬ ‫َوِإ ْ‬
‫ب{ ]ص‪،[30 :‬‬ ‫ب{ ]ص‪ ،[17 :‬وقال عن سليمان‪ِ} :‬نْعَم اْلَعْبُد ِإّنُه َأّوا ٌ‬ ‫لْيِد ِإّنُه َأّوا ٌ‬‫عْبَدَنا َداُووَد َذا ا َْ‬ ‫‪ ،[47‬وقوله‪َ} :‬واْذُكْر َ‬
‫ب ِإْذ َناَدى َرّبُه{ ]ص‪ ،[41 :‬وقال عن نوح عليه السلم‪:‬‬ ‫عْبَدَنا َأّيو َ‬‫وعن أيوب‪ِ} :‬نْعَم اْلَعْبُد{ ]ص‪ ،[44 :‬وقال‪َ} :‬واْذُكْر َ‬
‫حَراِم ِإَلى‬‫جِد اْل َ‬ ‫سِ‬‫ن اْلَم ْ‬ ‫ل ِم ْ‬ ‫سَرى ِبَعْبِدهِ َلْي ً‬ ‫ن اّلِذي َأ ْ‬ ‫حا َ‬ ‫شُكوًرا{ ]السراء‪ ،[3 :‬وقال‪ُ } :‬‬
‫سْب َ‬ ‫عْبًدا َ‬‫ن َ‬ ‫ح ِإّنُه َكا َ‬ ‫حَمْلَنا َمَع ُنو ٍ‬‫ن َ‬ ‫}ُذّرّيَة مَ ْ‬
‫عَلى‬ ‫ب ِمّما َنّزْلَنا َ‬ ‫ن ُكنُتْم ِفي َرْي ٍ‬ ‫عوُه{ ]الجن‪ ،[19 :‬وقال‪َ} :‬وِإ ْ‬ ‫ل َيْد ُ‬ ‫صى{ ]السراء‪ ،[1 :‬وقال }َوَأّنُه َلّما َقاَم َ‬
‫عْبُد ا ِّ‬ ‫لْق َ‬ ‫جِد ا َْ‬‫سِ‬ ‫اْلَم ْ‬
‫ل{ ]النسان‪،[6 :‬‬ ‫عَباُد ا ِّ‬‫ب ِبَها ِ‬ ‫شَر ُ‬ ‫عْيًنا َي ْ‬‫حى{ ]النجم‪ ،[10 :‬وقال‪َ } :‬‬ ‫عْبِدِه َما َأْو َ‬‫حى ِإَلى َ‬ ‫عْبِدَنا{ ]البقرة‪ ،[23 :‬وقال‪َ} :‬فَأْو َ‬ ‫َ‬
‫ض َهْوًنا{ ]الفرقان‪ ،[63 :‬ومثل هذا كثير متعدد في القرآن ‪.‬‬ ‫لْر ِ‬ ‫عَلى ا َْ‬ ‫ن َ‬ ‫شو َ‬ ‫ن َيْم ُ‬‫ن اّلِذي َ‬‫حَما ِ‬
‫عَباُد الّر ْ‬ ‫وقال‪َ} :‬و ِ‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫ل عظيًما‪ ،‬وهو تفاضلهم في حقيقة اليمان‪ ،‬وهم ينقسمون فيه‪،‬‬ ‫إذا تبين ذلك‪ ،‬فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاض ً‬
‫إلى عام‪ ،‬وخاص ؛ ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ؛ ولهذا كان الشرك في هذه المة أخفى من‬
‫دبيب النمل‪ .‬وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪َ) :‬تِعسَ عبد الدرهم‪ ،‬تعس عبد الدينار‪ ،‬تعس عبد‬
‫القطيفة‪ ،‬تعس عبد الخميصة‪ ،‬تعس وانتكس‪ ،‬وإذا شيك فل انتقش‪ ،‬إن أعطى رضي‪ ،‬وإن منع سخط(‪.‬‬
‫فسماه النبي صلى ال عليه وسلم عبد الدرهم‪ ،‬وعبد الدينار‪ ،‬وعبد القطيفة‪ ،‬وعبد الخميصة‪ .‬وذكر ما فيه دعاء وخبر‪،‬‬
‫وهو قوله‪" :‬تعس وانتكس‪ ،‬وإذا شيك فل انتقش"‪ ،‬والنقش‪ :‬إخراج الشوكة من الرجل‪ ،‬والمنقاش ما يخرج به الشوكة‪،‬‬
‫وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه‪ ،‬ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس‪ ،‬فل نال المطلوب ول خلص من المكروه‪،‬‬
‫وهذه حال من عبد المال‪ ،‬وقد وصف ذلك بأنه )إذا أعطى رضى‪ ،‬وإذا منع سخط(‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وِمْنُهْم َم ْ‬
‫ن َيْلِمُزكَ‬
‫ل وسخطهم لغير‬ ‫طوَن{ ]التوبة‪ ،[58 :‬فرضاهم لغير ا ّ‬
‫خُ‬‫سَ‬
‫طْوا ِمْنَها ِإَذا ُهْم َي ْ‬
‫ن َلْم ُيْع َ‬
‫ضوا َوِإ ْ‬
‫طوا ِمْنَها َر ُ‬
‫عُ‬‫ن ُأ ْ‬
‫ت َفِإ ْ‬
‫صَدَقا ِ‬
‫ِفي ال ّ‬
‫ل‪ ،‬وهكذا حال من كان متعلًقا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي‪ ،‬وإن لم يحصل له‬ ‫ا ّ‬
‫سخط‪ ،‬فهذا عبد ما يهواه من ذلك‪ ،‬وهو رقيق له‪ ،‬إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته‪ ،‬فما استرق‬
‫القلب‪ ،‬واستعبده فهو عبده‪ ،‬ولهذا يقال‪:‬‬

‫العبـد حـر مـا قنـع ** والحر عبد ما طمع‬

‫وقال القائل‪:‬‬

‫أطعت مطامعي فاستعبدتني ** ولو أنى قنعت لكنت حًرا‬

‫ويقال‪ :‬الطمع غل في العنق‪ ،‬قيد في الرجل‪ ،‬فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل‪ .‬ويروي عن عمر بن‬
‫ل عنه ـ أنه قال‪ :‬الطمع فقر‪ ،‬واليأس غني‪ ،‬وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه‪ .‬وهذا أمر‬ ‫الخطاب ـ رضي ا ّ‬
‫يجده النسان من نفسه‪ ،‬فإن المر الذي ييأس منه ل يطلبه‪ ،‬ول يطمع به‪ ،‬ول يبقى قلبه فقيًرا إليه‪ ،‬ول إلى من يفعله‪،‬‬
‫وأما إذا طمع في أمر من المور‪ ،‬ورجاه تعلق قلبه به‪ ،‬فصار فقيًرا إلى حصوله‪ ،‬وإلى من يظن أنه سبب في‬
‫عُبُدوُه‬
‫ق َوا ْ‬
‫ل الّرْز َ‬ ‫حصوله‪ ،‬وهذا في المال والجاه‪ ،‬والصور وغير ذلك‪ .‬قال الخليل صلى ال عليه وسلم‪َ} :‬فاْبَتُغوا ِ‬
‫عْنَد ا ِّ‬
‫َواْشُكُروا َلُه ِإَلْيِه ُتْرَجُعوَن{]العنكبوت ‪.[17‬‬

‫ل‪ ،‬فقيًرا إليه‪ ،‬وإن طلبه من‬


‫‪/‬فالعبد لبد له من رزق‪ ،‬وهو محتاج إلى ذلك‪ ،‬فإذا طلب رزقه من الّ صار عبًدا ّ‬
‫مخلوق صار عبًدا لذلك المخلوق فقيًرا إليه‪.‬‬

‫ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الصل‪ ،‬وإنما أبيحت للضرورة‪ .‬وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح‬
‫عة‬
‫والسنن والمسانيد‪ .‬كقوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه ُمز َ‬
‫حا في وجهه(‪ ،‬وقوله‪:‬‬‫شا‪ ،‬أو كدو ً‬
‫خمو ً‬
‫شا أو ُ‬‫خدو ً‬
‫لحم(‪ ،‬وقوله‪) :‬من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة ُ‬
‫ضا‪) :‬لن يأخذ‬
‫)ل تحل المسألة إل لذي غرم مفظع‪ ،‬أو دم موجع‪ ،‬أو فقر مدقع(‪ ،‬هذا المعنى في الصحيح‪ .‬وفيه أي ً‬
‫أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه‪ ،‬أو منعوه(‪ ،‬وقال‪) :‬ما أتاك من هذا المال وأنت غير‬
‫سائل‪ ،‬ول مشرف فخذه‪ ،‬وما ل فلتتبعه نفسك( فكره أخـذه من سؤال اللسان واستشراف القلب‪ ،‬وقال في الحديث‬
‫ل‪ ،‬وما أعطى أحد عطاء خيًرا وأوسع‬ ‫ل‪ ،‬ومن يتصبر يصبره ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬ومن يستعفف يعفه ا ّ‬
‫الصحيح‪) :‬من يستغن يغنه ا ّ‬
‫من الصبر( وأوصى خواص أصحابه أل يسألوا الناس شيًئا وفي المسند‪ :‬إن أبا بكر كان يسقط السوط من يده‪ ،‬فل‬
‫يقول لحد ناولني إياه‪ ،‬ويقول‪ :‬إن خليلي أمرني أل أسأل الناس شيًئا‪ .‬وفي صحيح مسلم وغيره‪ ،‬عن عوف ابن مالك‪:‬‬
‫أن ‪/‬النبي صلى ال عليه وسلم بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية‪) :‬أل تسألوا الناس شيًئا(‪ ،‬فكان بعض أولئك‬
‫النفر يسقط السوط من يد أحدهم‪ ،‬ول يقول لحد‪ :‬ناولني إياه‪.‬‬

‫وقد دلت النصوص على المر بمسألة الخالق‪ ،‬والنهي عن مسألة المخلوق‪ ،‬في غير موضع‪ .‬كقوله تعالى‪َ} :‬فِإَذا‬
‫ك َفاْرَغب{ ]الشرح‪ ،[8 ،7 :‬وقول النبي صلى ال عليه وسلم لبن عباس‪) :‬إذا سألت فاسأل‬ ‫ب ‪َ .‬وِإَلى َرّب َ‬
‫ص ْ‬
‫ت َفان َ‬
‫غ َ‬
‫َفَر ْ‬
‫ق{ ]العنكبوت‪ ،[17 :‬ولم يقل‪ :‬فابتغوا الرزق‬
‫ل الّرْز َ‬ ‫ل(‪ ،‬ومنه قول الخليل‪َ} :‬فاْبَتُغوا ِ‬
‫عْنَد ا ِّ‬ ‫ل‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن با ّ‬ ‫ا ّ‬
‫ل‪ .‬وقد قال تعالى‪:‬‬ ‫ل؛ لن تقديم الظرف يشعر بالختصاص والحصر‪ ،‬كأنه قال‪ :‬ل تبتغوا الرزق إل عند ا ّ‬ ‫عند ا ّ‬
‫ضِلِه{ ]النساء‪ ،[32 :‬والنسان لبد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه‪ ،‬ودفع ما يضره‪،‬‬ ‫ن َف ْ‬‫ل ِم ْ‬
‫سَأُلوا ا َّ‬
‫}َوا ْ‬
‫ل‪ ،‬وإليه يشتكي‪ ،‬كما قال يعقوب ـ عليه السلم ـ‪َ} :‬قا َ‬
‫ل ِإّنَما‬ ‫ل‪ ،‬فله أن يسأل ا ّ‬
‫وكل المرين شرع له أن يكون دعاؤه ّ‬
‫ل{ ]يوسف‪.[86 :‬‬‫حْزِني ِإَلى ا ِّ‬
‫شُكو َبّثي َو ُ‬ ‫َأ ْ‬

‫ل ـ تعالى ـ ذكر في القرآن الهجر الجميل‪ ،‬والصفح الجميل‪ ،‬والصبر الجميل‪.‬‬


‫وا ّ‬
‫وقد قيل‪ :‬إن الهجر الجميل‪ ،‬هو هجر بل أذى‪ .‬والصفح الجميل صفح بل معاتبة‪ .‬والصبر الجميل‪ ،‬صبر بغير شكوى‬
‫سا كان يكره أنين ‪ /‬المريض‪ ،‬ويقول‪ :‬إنه شكوى فما‬
‫إلى المخلوق؛ ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاو ً‬
‫ن أحمد حتى مات ‪.‬‬‫أّ‬

‫ل{ ]يوسف‪ ،[83 :‬وقال‪َ} :‬قا َ‬


‫ل ِإّنَما‬ ‫جِمي ٌ‬ ‫وأما الشكوى إلى الخالق‪ ،‬فل تنافى الصبر الجميل‪ ،‬فإن يعقوب قال‪َ} :‬ف َ‬
‫صْبٌر َ‬
‫ل عنه ـ يقرأ في الفجر بسورة يونس‪ ،‬و يوسف‪ ،‬والنحل‪،‬‬ ‫ل{‪ ،‬وكان عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ‬ ‫حْزِني ِإَلى ا ّ‬
‫شُكو َبّثي َو ُ‬
‫َأ ْ‬
‫فمر بهذه الية في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف‪ ،‬ومن دعاء موسى‪) :‬الّلهم لك الحمد‪ ،‬وإليك‬
‫المشتكى‪ ،‬وأنت المستعان‪ ،‬وبك المستغاث‪ ،‬وعليك التكلن‪ ،‬ول حول ول قوة إل بك(‪ .‬وفي الدعاء الذي دعا به النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ؛ لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا‪) :‬الّلهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي‪ ،‬وهواني على‬
‫الناس‪ ،‬أنت رب المستضعفين وأنت ربي‪ .‬الّلهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني‪ ،‬أم إلى عدو ملكته أمري‪ ،‬إن لم‬
‫يكن بك غضب على فل أبالي‪ ،‬غير أن عافيتك أوسع لي‪ ،‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات‪ ،‬وصلح عليه‬
‫أمر الدنيا والخرة‪ ،‬أن ينزل بي سخطك‪ ،‬أو يحل على غضبك‪ ،‬لك العتبى حتى ترضى‪ ،‬فل حول ول قوة إل بك ـ‬
‫وفي بعض الروايات ـ ول حول ول قوة إل بك(‪.‬‬

‫ل ورحمته‪ ،‬ورجائه لقضاء حاجته‪ ،‬ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما‬ ‫وكلما قوى طمع العبد في فضل ا ّ‬
‫سواه‪ ،‬فكما أن طمعه في ‪ /‬المخلوق يوجب عبوديته له‪ ،‬فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه‪ .‬كما قيل‪ :‬استغن عمن شئت‬
‫تكن نظيره‪ ،‬وأفضل على من شئت تكن أميره‪ ،‬واحتج إلى من شئت تكن أسيره‪ .‬فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له‬
‫ل‪ ،‬لسيما‬ ‫ل‪ ،‬والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية ّ‬ ‫يوجب عبوديته له‪ ،‬وإعراض قلبه عن الطلب من غير ا ّ‬
‫من كان يرجو المخلوق ول يرجو الخالق‪ ،‬بحيث يكون قلبه معتمًدا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه‪ ،‬وإما‬
‫على أهله وأصدقائه‪ ،‬وإما على أمواله وذخائره‪ ،‬وإما على ساداته وكبرائه‪ ،‬كمالكه وملكه‪ ،‬وشيخه ومخدومه‬
‫عَباِدِه‬
‫ب ِ‬
‫حْمِدِه َوَكَفى ِبِه ِبُذُنو ِ‬
‫ح ِب َ‬
‫سّب ْ‬
‫ت َو َ‬
‫ل َيُمو ُ‬
‫ي اّلِذي َ‬
‫حّ‬‫عَلى اْل َ‬
‫ل َ‬‫وغيرهم‪ ،‬ممن هو قد مات أو يموت‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وَتَوّك ْ‬
‫َخِبيًرا{ ]الفرقان‪.[58 :‬‬

‫وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه‪ ،‬أو يرزقوه‪ ،‬أو أن يهدوه خضع قلبه لهم‪ ،‬وصار فيه من العبودية لهم بقدر‬
‫ذلك‪ ،‬وإن كان في الظاهر أميًرا لهم مدبًرا لهم متصرًفا بهم‪ ،‬فالعاقل ينظر إلى الحقائق ل إلى الظواهر‪ ،‬فالرجل إذا‬
‫تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيًرا لها‪ ،‬تحكم فيه وتتصرف بما تريد‪ ،‬وهو في الظاهر سيدها؛ لنه‬
‫زوجها‪ .‬وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها ل سيما إذا درت بفقره إليها‪ ،‬وعشقه لها‪ ،‬وأنه ل يعتاض عنها بغيرها‪،‬‬
‫فإنها حينئذ تحكم فيه بحـكم السيد القاهـر الظـالم في عبده المقهور‪ ،‬الذي ل يستطيع الخلص ‪ /‬منه‪ ،‬بل أعظم‪ ،‬فإن‬
‫أسر القلب أعظم من أسر البدن‪ ،‬واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن‪ ،‬فإن من استعبد بدنه واسترق ل يبالي‪ ،‬إذا‬
‫حا من ذلك مطمئًنا‪ ،‬بل يمكنه الحتىال في الخلص‪ .‬وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيًقا‬ ‫كان قلبه مستري ً‬
‫ل فهذا هو الذل‪ ،‬والسر المحض‪ ،‬والعبودية لما استعبد القلب‪.‬‬ ‫مستعبًدا‪ ،‬متيًما لغير ا ّ‬

‫وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب‪ ،‬فإن المسلم لو أسره كافر‪ ،‬أو استرقه فاجر بغيرحق لم‬
‫ل وحق مواليه له أجران‪ ،‬ولو‬ ‫يضره ذلك إذا كان قائًما بما يقدر عليه من الواجبات‪ ،‬ومن استعبد بحق‪ ،‬إذا أدى حق ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن باليمان‪ ،‬لم يضره ذلك‪ ،‬وأما من استعبد قلبه‪ ،‬فصار عبًدا لغير ا ّ‬
‫فهذا يضره ذلك‪ ،‬ولو كان في الظاهر ملك الناس‪.‬‬

‫فالحرية حرية القلب‪ ،‬والعبودية عبودية القلب‪ ،‬كما أن الغنى غنى النفس‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ليس الغنى‬
‫عن كثرة العرض‪ ،‬وإنما الغنى غنى النفس(‪ ،‬وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة‪ ،‬فأما من استعبد قلبه‬
‫صورة محرمة‪ ،‬امرأة أو صبي‪ ،‬فهذا هو العذاب الذي ل يدان فيه‪ .‬وهؤلء من أعظم الناس عذاًبا وأقلهم ثواًبا‪ ،‬فإن‬
‫العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلًقا بها‪ ،‬مستعبًدا لها اجتمع له من ‪ /‬أنواع الشر والفساد‪ ،‬ما ل يحصيه إل رب العباد‪،‬‬
‫ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى‪ ،‬فدوام تعلق القلب بها بل فعل الفاحشة أشد ضرًرا عليه‪ ،‬ممن يفعل ذنًبا ثم يتوب‬
‫منه ويزول أثره من قلبه‪ ،‬وهؤلء يشبهون بالسكارى والمجانين‪ .‬كما قيل‪:‬‬

‫سكران سكر هوى وسكر مدامـــة ** ومتى إفاقة من بـــه سكران‬

‫وقيل‪:‬‬
‫قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانـــــين‬

‫العشق ل يستفيق الدهر صاحبــه ** وإنما يصرع المجنون في الحـين‬

‫ل‪ ،‬والخلص له لم يكن عنده‬ ‫ل‪ ،‬فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة ا ّ‬
‫ومن أعظم أسباب هذا البلء‪ :‬إعراض القلب عن ا ّ‬
‫شيء قط أحلى من ذلك‪ ،‬ول ألذ ول أطيب‪ ،‬والنسان ل يترك محبوًبا إل بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه‪ ،‬أو خوًفا‬
‫من مكروه‪ ،‬فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح‪ ،‬أو بالخوف من الضرر‪.‬‬

‫ل يصرف‬
‫صيَن{ ]يوسف‪ .[42 :‬فا ّ‬
‫خَل ِ‬
‫عَباِدَنا اْلُم ْ‬
‫ن ِ‬
‫شاَء ِإّنُه مِ ْ‬
‫حَ‬‫سوَء َواْلَف ْ‬
‫عْنُه ال ّ‬
‫ف َ‬
‫صِر َ‬ ‫‪/‬قال ـ تعالى ـ في حق يوسف‪َ} :‬كَذِل َ‬
‫ك ِلَن ْ‬
‫ل‪.‬‬
‫عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها‪ ،‬ويصرف عنه الفحشاء بإخلصه ّ‬

‫ل والخلص له‪ ،‬تغلبه نفسه على اتباع هواها‪ ،‬فإذا ذاق طعـم الخـلص‬ ‫ولهذا يكون قبل أن يذوق حلوة العبودية ّ‬
‫ل َأْكَبُر{ ]العنكبوت‪:‬‬
‫شاِء َواْلُمْنَكِر َوَلِذْكُر ا ِّ‬
‫حَ‬‫ن اْلَف ْ‬
‫عْ‬
‫لَة َتْنَهى َ‬
‫صَ‬ ‫وقوى في قلبه انقهر له هـواه بل علج‪ .‬قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ال ّ‬
‫ل‪ ،‬وحصول هذا‬ ‫‪ ،[45‬فإن الصلة فيها دفع للمكروه‪ ،‬وهو الفحشاء والمنكر‪ ،‬وفيها تحصيل المحبوب‪ ،‬وهو ذكر ا ّ‬
‫ل مقصودة لذاتها‪ .‬وأما اندفاع الشر عنه‪ ،‬فهو‬ ‫ل‪ ،‬وعبادة القلب ّ‬ ‫ل عبادة ّ‬‫المحبوب أكبر من دفع المكروه‪ ،‬فإن ذكر ا ّ‬
‫مقصود لغيره على سبيل التبع‪.‬‬

‫والقلب خلق يحب الحق‪ ،‬ويريده‪ ،‬ويطلبه‪ .‬فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك‪ ،‬فإنه يفسد القلب‪ ،‬كما يفسد‬
‫ب َمن َدّساَها{ ]الشمس‪ ،[10 ،9 :‬وقال‬ ‫خا َ‬ ‫الزرع‪ ،‬بما ينبت فيه من الدغل؛ ولهذا قال تعالى‪َ} :‬قْد َأْفَل َ‬
‫ح َمن َزّكاَها‪َ .‬وَقْد َ‬
‫ظوا‬
‫حَف ُ‬
‫صاِرِهْم َوَي ْ‬
‫ن َأْب َ‬
‫ضوا ِم ْ‬
‫ن َيُغ ّ‬ ‫صّلى{ ]العلى‪ ،[15 ،14 :‬وقال‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِلْلُمْؤِمِني َ‬ ‫سَم َرّبِه َف َ‬
‫ن َتَزّكى ‪َ .‬وَذَكَر ا ْ‬ ‫تعالى‪َ} :‬قْد َأْفَل َ‬
‫ح َم ْ‬
‫ل َعَلْيكُْم َوَرْحَمُتُه َما َزَكا ِمْنُكْم ِمْن َأَحٍد َأَبًدا{ ]النور‪،[21 :‬‬ ‫ل ا ِّ‬
‫ضُ‬ ‫ك َأْزَكى َلُهْم{ ]النور‪ ،[30 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلْو َ‬
‫ل َف ْ‬ ‫جُهْم َذِل َ‬
‫ُفُرو َ‬
‫فجعل ـ سبحانه ـ غض البصر‪ ،‬وحفظ الفرج هو أزكى ‪ /‬للنفس‪ ،‬وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس‪ ،‬وزكاة‬
‫النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش‪ ،‬والظلم‪ ،‬والشرك‪ ،‬والكذب‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫وكذلك طالب الرئاسة‪ ،‬والعلو في الرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها‪ ،‬ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم‪،‬‬
‫فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الموال والوليات ويعفو عنهم ليطيعوه‪ ،‬ويعينوه‪ ،‬فهو في الظاهر رئيس‬
‫ل‪ ،‬وإذا كان‬
‫مطاع‪ ،‬وفي الحقيقة عبد مطيع لهم‪ ،‬والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للخر‪ ،‬وكلهما تارك لحقيقة عبادة ا ّ‬
‫تعاونهما على العلو في الرض بغير الحق‪ ،‬كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق‪ ،‬فكل واحد من‬
‫الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الخر‪.‬‬

‫ضا ـ طالب المال ؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه‪ ،‬وهذه المور نوعان‪:‬‬
‫وهكذا ـ أي ً‬

‫ل ويرغب‬‫منها‪ :‬ما يحتاج العبد إليه‪ ،‬كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬فهذا يطلبه من ا ّ‬
‫إليه فيه‪ ،‬فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه‪ ،‬وبساطه الذي يجلس عليه‪ ،‬بل بمنزلة‬
‫عا‪.‬‬
‫عا‪ ،‬وإذا مسه الخير منو ً‬
‫عا ‪ /‬إذا مسه الشر جزو ً‬
‫الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده‪ ،‬فيكون هلو ً‬

‫ومنها‪ :‬ما ل يحتاج العبد إليه‪ ،‬فهذه ل ينبغي له أن يعلق قلبه بها‪ ،‬فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبًدا لها‪ ،‬وربما صار‬
‫ل‪ ،‬وشعبة‬‫ل‪ ،‬ول حقيقة التوكل عليه‪ ،‬بل فيه شعبة من العبادة لغير ا ّ‬‫ل‪ ،‬فل يبقى معه حقيقة العبادة ّ‬ ‫معتمًدا على غير ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وهذا من أحق الناس بقوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬تعس عبد الدرهم‪ ،‬تعس عبد الدينار‪ ،‬تعس‬ ‫من التوكل على غير ا ّ‬
‫ل إذا أعطاه إياها رضي‪ ،‬وإذا‬ ‫ل‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫عبد القطيفة‪ ،‬تعس عبد الخميصة(‪ ،‬وهذا هو عبد هذه المور‪ ،‬فلو طلبها من ا ّ‬
‫ل ورسوله‪،‬‬‫ل‪ ،‬ويحب ما أحبه ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬ويسخطه ما يسخط ا ّ‬ ‫ل من يرضيه ما يرضي ا ّ‬ ‫منعه إياها سخط‪ ،‬وإنما عبد ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ويعادي أعداء الّ ـ تعالى ـ وهذا هو الذي استكمل اليمان‪ .‬كما‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬ويوالي أولياء ا ّ‬ ‫ويبغض ما أبغضه ا ّ‬
‫عَرى اليمان‪ :‬الحب‬ ‫ل فقد استكمل اليمان( وقال‪) :‬أوثق ُ‬ ‫ل‪ ،‬ومنع ّ‬‫ل‪ ،‬وأعطى ّ‬ ‫ل‪ ،‬وأبغض ّ‬ ‫في الحديث‪) :‬من أحب ّ‬
‫ل(‪.‬‬
‫ل‪ ،‬والبغض في ا ّ‬‫في ا ّ‬

‫ل ورسوله أحب إليه مما‬ ‫وفي الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم‪) :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان‪ :‬من كان ا ّ‬
‫ل منه‪ ،‬كما يكره أن‬
‫ل‪ ،‬ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ‬
‫سواهما‪ ،‬ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ‬
‫لل‬ ‫ل ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأحب المخلوق ّ‬ ‫يلقى في النار( فهذا وافق ربه فيما يحبه وما ‪ /‬يكرهه فكان ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫ل‪ ،‬فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب‪ ،‬فإذا أحب أنبياء ا ّ‬ ‫لغرض آخر‪ ،‬فكان هذا من تمام حبه ّ‬
‫ل ِبَقْوٍم‬
‫ف َيْأِتي ا ُّ‬ ‫ل؛ لجل قيامهم بمحبوبات الحق ل لشيء آخر‪ ،‬فقد أحبهم لّ ل لغيره‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ} :‬ف َ‬
‫سْو َ‬ ‫وأولياء ا ّ‬
‫ُيِحّبُهْم وَُيِحّبوَنُه َأِذّلٍة َعَلى اْلُمْؤِمِنيَن َأِعّزٍة َعَلى اْلَكاِفِريَن{ ]المائدة‪. [54 :‬‬

‫ل‪ ،‬وينهى‬
‫ل{ ]آل عمران‪ ،[31 :‬فإن الرسول يأمر بما يحب ا ّ‬ ‫حِبْبُكْم ا ُّ‬
‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬
‫ن ا َّ‬
‫حّبو َ‬
‫ن ُكْنُتْم ُت ِ‬ ‫ولهذا قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ل لزم أن يتبع الرسول‪،‬‬ ‫ل التصديق به‪ ،‬فمن كان محًبا ّ‬
‫ل‪ ،‬ويخبر بما يحب ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬ويفعل ما يحبه ا ّ‬ ‫عما يبغضه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فجعل ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل‪ .‬فيحبه ا ّ‬
‫فيصدقه فيما أخبر‪ ،‬ويطيعه فيما أمر‪ ،‬ويتأسى به فيما فعل‪ ،‬ومن فعل هذا‪ ،‬فقد فعل ما يحبه ا ّ‬
‫لهل محبته علمتين‪ :‬اتباع الرسول‪ ،‬والجهاد في سبيله‪.‬‬

‫ل من‬‫ل من اليمان‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬ومن دفع ما يبغضه ا ّ‬ ‫وذلك؛ لن الجهاد حقيقته الجتهاد في حصول ما يحبه ا ّ‬
‫شيَرُتُكْم{ إلى قوله‪َ } :‬‬
‫حّتى‬ ‫عِ‬
‫جُكْم َو َ‬
‫خَواُنُكْم َوَأْزَوا ُ‬
‫ن آَباُؤُكْم َوَأْبَناُؤُكْم َوِإ ْ‬
‫ن َكا َ‬ ‫الكفر والفسوق والعصيان‪ .‬وقد قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ل ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد‪ .‬بل‬ ‫ل ِبَأْمِرِه{ ]التوبة‪ ،[24 :‬فتوعد من كان أهله وماله‪ ،‬أحب إليه من ا ّ‬ ‫ي ا ُّ‬
‫َيْأِت َ‬
‫قد ثبت عنه في الصحيح‪ ،‬أنه قال‪) :‬والذي نفسي بيده ل يؤمن ‪ /‬أحدكم حتى أكون أحب إليه‪ ،‬من ولده‪ ،‬ووالده‪،‬‬
‫ل لنت أحب إلى من كل شيء إل‬ ‫ل!‪ ،‬وا ّ‬ ‫والناس أجمعين(‪ ،‬وفي الصحيح أن عمر ابن الخطاب قال له‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ل‪ ،‬لنت أحب إلى من نفسي‪ ،‬فقال‪) :‬الن يا‬ ‫من نفسي‪ ،‬فقال‪) :‬ل يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك(‪ .‬فقال‪ :‬فوا ّ‬
‫عمر(‪.‬‬

‫ل يحب اليمان‬ ‫فحقيقة المحبة ل تتم إل بموالة المحبوب‪ ،‬وهو موافقته في حب ما يحب‪ ،‬وبغض ما يبغض‪ ،‬وا ّ‬
‫والتقوى‪ ،‬ويبغض الكفر والفسوق والعصيان‪ .‬ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب‪ ،‬فكلما قويت المحبة في القلب طلب‬
‫القلب فعل المحبوبات‪ ،‬فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات‪ .‬فإذا كان العبد قادًرا‬
‫عليها حصلها‪ .‬وإن كان عاجًزا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل كما قال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪) :‬من دعا إلى هدى كان له من الجر مثل أجور من اتبعه‪ ،‬من غير أن ينقص من أجورهم شيًئا‪ ،‬ومن دعا إلى‬
‫ل ما‬
‫ضللة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيًئا(‪ .‬وقال‪) :‬إن بالمدينة لرجا ً‬
‫سرتم مسيًرا ول قطعتم وادًيا‪ ،‬إل كانوا معكم(‪.‬قالوا‪ :‬وهم بالمدينة‪.‬قال‪) :‬وهم بالمدينة‪ ،‬حبسهم العذر(‪.‬‬

‫والجهاد‪ ،‬هو بذل الوسع‪ ،‬وهو القدرة في حصول محبوب الحق‪ / ،‬ودفع ما يكرهه الحق‪ ،‬فإذا ترك العبد ما يقدر عليه‬
‫ل ورسوله في قلبه‪ ،‬ومعلوم أن المحبوبات ل تنال غالًبا إل باحتمال‬
‫ل على ضعف محبة ا ّ‬ ‫من الجهاد‪ ،‬كان دلي ً‬
‫المكروهات‪ ،‬سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة‪ ،‬فالمحبون للمال والرئاسة والصور‪ ،‬ل ينالون مطالبهم إل بضرر‬
‫ل ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من‬ ‫يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والخرة‪ ،‬فالمحب ّ‬
‫ل إذا كان ما يسلكه أولئك هو‬
‫ل مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم ّ‬ ‫المحبين لغير ا ّ‬
‫الطريق الذي يشير به العقل‪.‬‬

‫ن آَمُنوا‬
‫ل َواّلِذي َ‬
‫ب ا ِّ‬
‫ح ّ‬
‫حّبوَنُهْم َك ُ‬
‫ل َأنَداًدا ُي ِ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬
‫ن َيّتخُِذ ِم ْ‬
‫س َم ْ‬ ‫ل‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫ومن المعلوم أن المؤمن أشد حًبا ّ‬
‫ل{]البقرة‪ ،[165 :‬نعم! قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريًقا ل يحصل بها المطلوب‪ ،‬فمثل‬ ‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬
‫َأ َ‬
‫هذه الطريق ل تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة‪ ،‬فكيف إذا كانت المحبة فاسدة‪ ،‬والطريق غير موصل! كما‬
‫يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضرًرا‪ ،‬ول تحصل لهم مطلوًبا‪ ،‬وإنما‬
‫المقصود الطرق التي يسلكها العقل؛ لحصول مطلوبه‪.‬‬

‫ل إزداد له عبودية‪ ،‬وكلما ازداد له عبودية ازداد له حًبا وحرية عما سواه‪،‬‬
‫وإذا تبين هذا‪ ،‬فكلما ازداد القلب حًبا ّ‬
‫ل من وجهين‪ :‬من جهة العبادة‪ ،‬وهي العلة الغائية‪ ،‬ومن جهة الستعانة والتوكل‪ ،‬وهي‬ ‫والقلب فقير بالذات ‪ /‬إلى ا ّ‬
‫العلة الفاعلىة‪ ،‬فالقلب ل يصلح‪ ،‬ول يفلح‪ ،‬ول يلتذ‪ ،‬وليسر‪ ،‬ول يطيب‪ ،‬وليسكن‪ ،‬ول يطمئن‪ ،‬إل بعبادة ربه‪،‬‬
‫وحبه والنابة إليه‪ .‬ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن‪ ،‬ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه‪ ،‬ومن‬
‫حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه‪ ،‬وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فهو دائًما مفتقر إلى حقيقة }ِإّيا َ‬


‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬
‫ك‬ ‫ل له‪ ،‬ليقدر على تحصيل ذلك له إل ا ّ‬
‫وهذا ل يحصل له إل بإعانة ا ّ‬
‫ل بحيث‬ ‫َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة‪ ،[5 :‬فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده‪ ،‬ولم يحصل له عبادته ّ‬
‫يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الول‪ ،‬وكل ما سواه إنما يحبه لجله‪ ،‬ل يحب شيًئا‬
‫ل‪ ،‬ول حقق التوحيد والعبودية والمحبة‪ ،‬وكان‬
‫ل‪ ،‬فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة‪ ،‬ل إله إل ا ّ‬
‫لذاته إل ا ّ‬
‫فيه من النقص والعيب‪ ،‬بل من اللم والحسرة والعذاب بحسب ذلك‪.‬‬

‫ل عليه مفتقًرا إليه في حصوله لم يحصل له‪ ،‬فإنه ما شاء ا ّ‬


‫ل‬ ‫ل متوك ً‬
‫ولو سعى في هذا المطلوب‪ ،‬ولم يكن مستعيًنا با ّ‬
‫ل من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود‪ ،‬ومن ‪ /‬حيث هو‬ ‫كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬فهو مفتقر إلى ا ّ‬
‫المسؤول المستعان به المتوكل عليه‪ ،‬فهو إلهه ل إله له غيره‪ ،‬وهو ربه ل رب له سواه‪.‬‬

‫ل أنه يعينه كان عبًدا لما أحبه‪،‬‬


‫ل‪ ،‬لذاته‪ ،‬أو يلتفت إلى غير ا ّ‬
‫ل إل بهذين‪ ،‬فمتى كان يحب غير ا ّ‬‫ول تتم عبوديته ّ‬
‫ل‪ ،‬وكلما أحب سواه فإنما أحبه له‪ ،‬ولم يرج قط‬ ‫وعبًدا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه‪ .‬وإذا لم يحب لذاته إل ا ّ‬
‫ل هو الذي خلقها وقدرها‪ ،‬وأن‬ ‫ل‪ ،‬وإذا فعل ما فعل من السباب‪ ،‬أو حصل ما حصل منها كان مشاهًدا أن ا ّ‬ ‫شيًئا إل ا ّ‬
‫ل بحسب‬‫ل ربه ومليكه وخالقه‪ ،‬وهو مفتقر إليه كان قد حصل له من تمام عبوديته ّ‬ ‫كل ما في السموات والرض فا ّ‬
‫ما قسم له من ذلك‪.‬‬

‫ل‪.‬‬
‫والناس في هذا على درجات متفاوتة ل يحصى طرفيها إل ا ّ‬

‫ل من هذا الوجه‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وأقواهم‪ ،‬وأهداهم‪ ،‬أتمهم عبودية ّ‬
‫فأكمل الخلق‪ ،‬وأفضلهم‪ ،‬وأعلهم‪ ،‬وأقربهم إلى ا ّ‬

‫ل ل لغيـره‪ ،‬فالمستسلم له‬


‫وهذا هو حقيقة دين السلم الذي أرسل به رسله‪ ،‬وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم العبد ّ‬
‫ولغيره مشرك‪ ،‬والممتنع عن الستسلم لـه مستكبر‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬أن الجنة‬
‫ليدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر‪ ،‬كما أن ‪ /‬النار ل يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان(‪ ،‬فجعل الكبر‬
‫ل لليمان‪ ،‬فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية‪ ،‬كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬يقول‬ ‫مقاب ً‬
‫ل العظمة إزاري‪ ،‬والكبرياء ردائي‪ ،‬فمن نازعني واحًدا منهما عذبته( فالعظمة‪ ،‬والكبرياء من خصائص الربوبية‪،‬‬ ‫ا ّ‬
‫والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرداء‪ ،‬كما جعل العظمة بمنزلة الزار‪.‬‬

‫ولهذا كان شعار الصلوات والذان والعياد‪ ،‬هو التكبير‪ ،‬وكان مستحًبا في المكنة العالية‪ ،‬كالصفا والمروة‪ ،‬وإذا‬
‫عل النسان شرًفا أو ركب دابة ونحو ذلك‪ ،‬وبه يطفأ الحريق وإن عظم‪ ،‬وعند الذان يهرب الشيطان‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫ب َلُكْم ِإّن اّلِذيَن َيْسَتْكِبُروَن َعْن ِعَباَدِتي َسَيْدُخُلوَن َجَهّنَم َداِخِريَن{ ]غافر‪.[60 :‬‬
‫ج ْ‬
‫سَت ِ‬
‫عوِني َأ ْ‬
‫ل َرّبُكْم اْد ُ‬
‫}َوَقا َ‬

‫ل لبد أن يعبد غيره‪ ،‬فإن النسان حساس يتحرك بالرادة‪ .‬وقد ثبت في الصحيح عن‬ ‫وكل من استكبر عن عبادة ا ّ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬أصدق السماء حارث وهمام( فالحارث الكاسب الفاعل‪ ،‬والهمام فعال من الهم‪،‬‬
‫والهم أول الرادة‪ ،‬فالنسان له إرادة دائًما‪ ،‬وكل إرادة‪ ،‬فلبد لها من مراد تنتهي إليه‪ ،‬فلبد لكل عبـد من مـراد‬
‫ل معبوده ومنتهى حبه‪ ،‬وإرادته بل استكبر عن ذلك فلبد أن يكون له‬ ‫محـبوب هو منتهى حبه وإرادته‪ ،‬فمن لم يكن ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فيكون عبًدا لذلك المراد المحبوب‪ ،‬إما المال‪ ،‬وإما الجاه‪ ،‬وإما الصور‪ ،‬وإما ما‬
‫مراد محبوب ‪ /‬يستعبده غير ا ّ‬
‫ل‪ ،‬كالشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والكواكب‪ ،‬والوثان‪ ،‬وقبور النبياء‪ ،‬والصالحين‪ ،‬أو من الملئكة‪،‬‬ ‫يتخذه إلًها من دون ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫والنبياء الذين يتخذهم أرباًبا‪ ،‬أو غير ذلك مما عبد من دون ا ّ‬

‫ل يكون مشرًكا‪ ،‬وكل مستكبر‪ ،‬فهو مشرك؛ ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكباًرا عن‬ ‫وإذا كان عبًدا لغير ا ّ‬
‫حٌر‬‫سا ِ‬‫ن َفَقاُلوا َ‬‫ن َوَقاُرو َ‬ ‫ن َوَهاَما َ‬‫عْو َ‬
‫ن ‪ِ .‬إَلى ِفْر َ‬ ‫ن مُِبي ٍ‬‫طا ٍ‬
‫سْل َ‬‫سى ِبآَياِتَنا َو ُ‬ ‫سْلَنا ُمو َ‬‫ل‪ ،‬وكان مشرًكا ‪.‬قال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َأْر َ‬ ‫عبادة ا ّ‬
‫عَلى‬
‫ل َ‬ ‫ب{ إلى قوله‪َ} :‬كَذِلكَ َي ْ‬
‫طَبُع ا ُّ‬ ‫سا ِ‬‫حَ‬‫ن ِبَيْوِم اْل ِ‬
‫ل ُيْؤِم ُ‬‫ل ُمَتَكّبٍر َ‬ ‫ن ُك ّ‬ ‫ت ِبَرّبي َوَرّبُكْم ِم ْ‬ ‫عْذ ُ‬
‫سى ِإّني ُ‬ ‫ب{‪ ،‬إلى قوله‪َ} :‬وَقا َ‬
‫ل ُمو َ‬ ‫َكّذا ٌ‬
‫سَتْكَبُروا ِفي‬ ‫ت َفا ْ‬
‫سى ِباْلَبّيَنا ِ‬‫جاَءُهْم ُمو َ‬‫ن َوَلَقْد َ‬‫ن َوَهاَما َ‬ ‫عْو َ‬ ‫جّباٍر{ ]غافر‪23 :‬ـ ‪ ،[35‬وقال تعالى‪َ} :‬وَقاُرو َ‬
‫ن َوِفْر َ‬ ‫ب ُمَتَكّبٍر َ‬ ‫ل َقْل ِ‬ ‫ُك ّ‬
‫طاِئَفًة‬‫ف َ‬‫ضِع ُ‬ ‫سَت ْ‬‫شَيًعا َي ْ‬‫ل َأْهَلَها ِ‬
‫جَع َ‬
‫ض َو َ‬
‫لْر ِ‬ ‫ل ِفي ا َْ‬ ‫عَ‬ ‫ن َ‬ ‫عْو َ‬ ‫ن{ ]العنكبوت‪ ،[39 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِفْر َ‬ ‫ساِبِقي َ‬
‫ض َوَما َكاُنوا َ‬ ‫لْر ِ‬ ‫ا َْ‬
‫ي ِنَساَءُهْم{إلى قوله‪ِ} :‬إّنُه َكاَن ِمْن اْلُمْفِسِديَن{ ]القصص‪.[4 :‬‬ ‫حِ‬‫سَت ْ‬‫ح َأْبَناَءُهْم َوَي ْ‬
‫ِمْنُهْم ُيَذّب ُ‬

‫ومثل هذا في القرآن كثير‪.‬‬


‫ك{‬
‫ك َوآِلَهَت َ‬
‫ض َوَيَذَر َ‬
‫لْر ِ‬
‫سُدوا ِفي ا َْ‬
‫سى َوَقْوَمُه ِلُيْف ِ‬
‫ن َأَتَذُر ُمو َ‬
‫عْو َ‬
‫ن َقْوِم ِفْر َ‬
‫ل ِم ْ‬ ‫وقد وصف فرعون بالشرك في قوله‪َ} :‬وَقا َ‬
‫ل اْلَم َُ‬
‫]العراف‪.[127 :‬‬

‫ل؛ لنه كلما استكبر‬


‫ل كان أعظم إشراكا با ّ‬
‫‪/‬بل الستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباًرا عن عبادة ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود‪ ،‬مقصود القلب بالقصد الول‪ ،‬فيكون‬ ‫عن عبادة ا ّ‬
‫مشرًكا بما استعبده من ذلك‪.‬‬

‫ل هو موله الذي ل يعبد إل إياه‪ ،‬ول يستعين إل به‪ ،‬ول‬ ‫ولن يستغنى القلب عن جميع المخلوقات إل بأن يكون ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫يتوكل إل عليه‪ ،‬ول يفرح إل بما يحبه ويرضاه‪ ،‬ول يكره إل ما يبغضه الرب ويكرهه‪ ،‬ول يوالي إل من واله ا ّ‬
‫ل‪ .‬فكلما قوى‬
‫ل‪ ،‬ول يمنع إل ّ‬
‫ل‪ ،‬ول يعطي إل ّ‬ ‫ل‪ ،‬وليبغض شيًئا إل ّ‬ ‫ل‪ ،‬ول يحب إل ا ّ‬‫ول يعادي إل من عاداه ا ّ‬
‫ل يبرئه من الكبر والشرك‪.‬‬‫ل كملت عبوديته‪ ،‬واستغناؤه عن المخلوقات‪ ،‬وبكمال عبوديته ّ‬ ‫إخلص دينه ّ‬

‫حَباَرهُْم َوُرْهَباَنُهْم َأْرَباًبا‬ ‫والشرك غالب على النصارى‪ ،‬والكبر غالب على اليهود‪ ،‬قال ـ تعالى ـ في النصارى‪} :‬اّت َ‬
‫خُذوا َأ ْ‬
‫ل َواْلَمِسيَح اْبَن َمْرَيَم َوَما ُأِمُروا ِإّل ِلَيْعُبُدوا ِإَلًها َواِحًدا َل ِإَلَه ِإّل ُهَو سُْبَحاَنُه َعّما ُيْشِرُكوَن{ ]التوبة‪ ،[31 :‬وقال في‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬
‫ِم ْ‬
‫صِر ُ‬
‫ف‬ ‫سَأ ْ‬ ‫ن{ ]البقرة‪ ،[87 :‬وقال تعالى‪َ } :‬‬ ‫سَتْكَبْرُتْم َفَفِريًقا َكّذْبُتْم َوَفِريًقا َتْقُتُلو َ‬
‫سُكْم ا ْ‬
‫ل َتْهَوى َأنُف ُ‬ ‫ل ِبَما َ‬‫سو ٌ‬ ‫اليهود‪َ} :‬أَفُكّلَما َ‬
‫جاَءُكْم َر ُ‬
‫ن َيَرْوا‬‫ل َوِإ ْ‬‫سِبي ً‬
‫خُذوهُ َ‬‫ل َيّت ِ‬
‫شِد َ‬‫ل الّر ْ‬
‫سِبي َ‬
‫ن َيَرْوا َ‬
‫ل ُيْؤِمُنوا ِبَها َوِإ ْ‬ ‫ل آَيٍة َ‬ ‫ن َيَرْوا ُك ّ‬ ‫ق َوِإ ْ‬
‫حّ‬ ‫ض ِبَغْيِر اْل َ‬
‫لْر ِ‬ ‫ن ِفي ا َْ‬
‫ن َيَتَكّبُرو َ‬
‫ن آَياِتي اّلِذي َ‬‫عْ‬ ‫َ‬
‫ل{ ]العراف‪.[146 :‬‬ ‫سِبي ً‬
‫خُذوُه َ‬ ‫ي َيّت ِ‬‫ل الَغ ّ‬
‫سِبي َ‬
‫َ‬

‫ل َيْغِفُر َأنْ‬‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬ ‫ل‪ ،‬قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫ولما كان الكبر مستلزًما للشرك‪ ،‬والشرك ضد السلم‪ ،‬وهو الذنب الذي ل يغفره ا ّ‬
‫شَر َ‬
‫ك‬ ‫ن ُي ْ‬
‫ل َيْغِفُر َأ ْ‬‫ل َ‬ ‫ظيًما{ ]النساء‪ ،[48 :‬وقال‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬ ‫عِ‬ ‫ل َفَقْد اْفَتَرى ِإْثًما َ‬ ‫ك ِبا ِّ‬‫شِر ْ‬ ‫ن ُي ْ‬‫شاُء َوَم ْ‬ ‫ن َي َ‬‫ك ِلَم ْ‬‫ن َذِل َ‬‫ك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ‬ ‫شَر َ‬ ‫ُي ْ‬
‫لًل َبِعيًدا{ ]النساء‪ ،[116 :‬كان النبياء جميعهم مبعوثين بدين‬ ‫ضَ‬ ‫ل َ‬ ‫ضّ‬ ‫ل َفَقْد َ‬ ‫ك ِبا ِّ‬‫شِر ْ‬ ‫ن ُي ْ‬‫شاُء َوَم ْ‬ ‫ن َي َ‬ ‫ك ِلَم ْ‬‫ن َذِل َ‬‫ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ‬
‫جٍر ِإ ْ‬
‫ن‬ ‫ن َأ ْ‬
‫سَأْلُتُكْم ِم ْ‬ ‫ل غيره‪ ،‬ل من الولين ول من الخرين‪ .‬قال نوح‪َ} :‬فِإ ْ‬
‫ن َتَوّلْيُتْم َفَما َ‬ ‫السلم‪ ،‬فهو الدين الذي ل يقبل ا ّ‬
‫ن‬
‫ل َم ْ‬ ‫ن ِمّلِة ِإْبَراِهيَم ِإ ّ‬ ‫عْ‬‫ب َ‬ ‫غ ُ‬ ‫ن{ ]يونس‪ ،[72 :‬وقال في حق إبراهيم‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َيْر َ‬ ‫سِلِمي َ‬
‫ن اْلُم ْ‬‫ن ِم ْ‬ ‫ن َأُكو َ‬ ‫ت َأ ْ‬‫ل َوُأِمْر ُ‬ ‫عَلى ا ِّ‬ ‫ل َ‬ ‫جِري ِإ ّ‬ ‫َأ ْ‬
‫ن{ إلى قوله‪َ} :‬ف َ‬
‫ل‬ ‫ب اْلَعاَلِمي َ‬
‫ت ِلَر ّ‬ ‫سَلْم ُ‬
‫ل َأ ْ‬
‫سِلْم َقا َ‬
‫ل َلُه َرّبُه َأ ْ‬
‫ن ‪ِ .‬إْذ َقا َ‬‫حي َ‬‫صاِل ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫خَرِة َلِم ْ‬ ‫لِ‬‫طَفْيَناُه ِفي الّدْنَيا َوِإّنُه ِفي ا ْ‬ ‫صَ‬ ‫سِفَه َنْفسَُه َوَلَقْد ا ْ‬‫َ‬
‫صاِلِحيَن{ ]يوسف‪ ،[101 :‬وقال‬ ‫حْقِني ِبال ّ‬ ‫ن{ ]البقرة‪ ،[130-132 :‬وقال يوسف‪َ} :‬تَوّفِني ُمسِْلًما َوَأْل ِ‬ ‫سِلُمو َ‬ ‫ل َوَأْنُتْم ُم ْ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫َتُموُت ّ‬
‫ل َتَوّكْلَنا{ ]يونس‪ ،[85 ،84 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إّنا‬ ‫عَلى ا ِّ‬‫ن‪َ .‬فَقاُلوا َ‬ ‫سِلِمي َ‬ ‫ن ُكْنُتْم ُم ْ‬ ‫ل َفَعَلْيِه َتَوّكُلوا ِإ ْ‬‫ن ُكْنُتْم آَمْنُتْم ِبا ِّ‬‫موسى‪َ} :‬ياَقْوِم ِإ ْ‬
‫سي‬ ‫ت َنْف ِ‬
‫ظَلْم ُ‬‫ب ِإّني َ‬ ‫ن َهاُدوا{ ]المائدة‪ ،[44 :‬وقالت بلقيس‪َ} :‬ر ّ‬ ‫سَلُموا ِلّلِذي َ‬‫ن َأ ْ‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫حُكُم ِبَها الّنِبّيو َ‬ ‫َأنَزْلَنا الّتْوَراَة ِفيَها ُهًدى َوُنوٌر َي ْ‬
‫شَهْد‬ ‫سوِلي َقاُلوا آَمّنا َوا ْ‬ ‫ن آِمُنوا ِبي َوِبَر ُ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫حَواِرّيي َ‬ ‫ت ِإَلى اْل َ‬‫حْي ُ‬‫ن{ ]النمل‪ ،[44 :‬وقال‪َ} / :‬وِإْذ َأْو َ‬ ‫ب اْلَعاَلِمي َ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫ن ِّ‬ ‫سَلْيَما َ‬
‫ت َمَع ُ‬ ‫سَلْم ُ‬‫َوَأ ْ‬
‫ن‬
‫لِم ِديًنا َفَل ْ‬ ‫سَ‬ ‫لْ‬ ‫غْيَر ا ِْ‬‫ن َيْبَتِغ َ‬‫لُم{]آل عمران‪ ،[19 :‬وقال‪َ} :‬وَم ْ‬ ‫سَ‬‫لْ‬‫ل ا ِْ‬ ‫عْنَد ا ِّ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن الّدي َ‬ ‫ن{ ]المائدة‪ ،[111 :‬وقال‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫ِبَأّنَنا ُمسِْلُمو َ‬
‫ُيْقَبَل ِمْنُه{ ]آل عمران‪. [85 :‬‬

‫طْوًعا َوَكْرًها{ ]آل عمران‪ ،[83 :‬فذكر إسلم‬


‫ض َ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ن ِفي ال ّ‬
‫سَلَم َم ْ‬
‫ن َوَلُه َأ ْ‬
‫ل َيْبُغو َ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬أَفَغْيَر ِدي ِ‬
‫ن ا ِّ‬
‫عا وكرًها؛ لن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام‪ ،‬سواء أقر المقر بذلك أو أنكره‪ ،‬وهم مدينون‬ ‫الكائنات طو ً‬
‫عا وكرًها‪ ،‬ليس لحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه‪ ،‬ول حول ول قوة‬ ‫مدبرون؛ فهم مسلمون له طو ً‬
‫إل به‪ ،‬وهو رب العالمين‪ ،‬ومليكهم يصرفهم كيف يشاء‪ ،‬وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم‪ ،‬وكل ما سواه فهو‬
‫مربوب‪ ،‬مصنوع‪ ،‬مفطور‪ ،‬فقير‪ ،‬محتاج‪ ،‬معبد‪ ،‬مقهور‪ ،‬وهو الواحد القهار‪ ،‬الخالق البارئ المصور‪.‬‬

‫وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب‪ ،‬فهو خالق السبب والمقدر له‪ ،‬وهو مفتقر إليه كافتقار هذا‪ ،‬وليس في‬
‫المخلوقات سبب مستقل بفعل ول دفع ضرر‪ ،‬بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه‪ ،‬وإلى ما يدفع عنه‬
‫الضد الذي يعارضه‪ ،‬ويمانعه‪.‬‬

‫ل َأَفَرَأْيُتْم‬‫وهو ـ سبحانه ـ وحده الغني عن كل ما سواه‪ ،‬ليس له شريك يعاونه ول ضد يناوئه ويعارضه‪ .‬قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫عَلْيِه‬
‫ل َ‬‫سِبي ا ُّ‬ ‫حْ‬ ‫ل َ‬ ‫حَمِتِه ُق ْ‬
‫ت َر ْ‬ ‫سَكا ُ‬ ‫ن ُمْم ِ‬
‫ل ُه ّ‬ ‫حَمٍة َه ْ‬
‫ضّرِه َأْو َأَراَدِني ِبَر ْ‬ ‫ت ُ‬ ‫شَفا ُ‬ ‫ن َكا ِ‬‫ل ُه ّ‬ ‫ضّر َه ْ‬ ‫ل ِب ُ‬ ‫ن َأَراَدِني ا ُّ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ن ا ِّ‬‫ن ُدو ِ‬ ‫ن ِم ْ‬ ‫عو َ‬ ‫َما َتْد ُ‬
‫عَلى ُك ّ‬
‫ل‬ ‫خْيٍر َفُهَو َ‬ ‫ك ِب َ‬‫سَ‬ ‫سْ‬ ‫ن َيْم َ‬
‫ل ُهَو َوِإ ْ‬‫ف َلُه ِإ ّ‬
‫ش َ‬‫ل َكا ِ‬ ‫ضّر َف َ‬ ‫ل ِب ُ‬
‫ك ا ُّ‬ ‫سَ‬ ‫سْ‬ ‫ن َيْم َ‬‫ن{ ]الزمر‪ ،[38 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬ ‫ل اْلُمَتَوّكُلو َ‬
‫َيَتَوّك ُ‬
‫ت‬
‫سَماَوا ِ‬ ‫طَر ال ّ‬ ‫جِهي ِلّلِذي َف َ‬ ‫ت َو ْ‬ ‫جْه ُ‬‫ن ‪ِ .‬إّني َو ّ‬ ‫شِرُكو َ‬ ‫يٍء َقِديٌر{ ]النعام‪ ،[17 :‬وقال تعالى عن الخليل‪َ} :‬ياَقْوِم ِإّني َبِريٌء ِمّما ُت ْ‬ ‫ش ْ‬‫َ‬
‫شاَء َرّبي‬ ‫ن َي َ‬
‫ل َأ ْ‬‫ن ِبِه ِإ ّ‬‫شِرُكو َ‬ ‫ف َما ُت ْ‬‫خا ُ‬ ‫ل َأ َ‬
‫ل َوَقْد َهَداِني َو َ‬ ‫جوِني ِفي ا ِّ‬ ‫حا ّ‬ ‫ل َأُت َ‬
‫جُه َقْوُمُه َقا َ‬‫حا ّ‬ ‫ن ‪َ .‬و َ‬ ‫شِرِكي َ‬
‫ن اْلُم ْ‬
‫حِنيًفا َوَما َأَنا ِم ْ‬
‫ض َ‬ ‫لْر َ‬ ‫َوا َْ‬
‫ك َلُهْم اَْلْمُن َوُهْم ُمْهَتُدوَن{ ]النعام‪. [78-82 :‬‬ ‫ظْلٍم ُأْوَلِئ َ‬
‫سوا ِإيَماَنُهْم ِب ُ‬ ‫شْيًئا{ إلى قوله تعالى‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َوَلْم َيْلِب ُ‬ ‫َ‬
‫ل عنه ـ‪ :‬إن هذه الية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى ال‬ ‫وفي الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي ا ّ‬
‫ل‪ ،‬أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال‪) :‬إنما هو الشرك‪ ،‬ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‪:‬‬
‫عليه وسلم وقالوا‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ظيٌم{( ]لقمان‪.[13 :‬‬‫عِ‬‫ظْلٌم َ‬
‫ك َل ُ‬
‫ن الشّْر َ‬
‫}ِإ ّ‬

‫ل تعالى‪َ} :‬وِإْذ اْبَتَلى‬


‫وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين‪ ،‬حيث بعث وقد طبق الرض دين المشركين‪ ،‬قال ا ّ‬
‫ظاِلِميَن{ ]البقرة‪ ،[124 :‬فبين أن‬ ‫عْهِدي ال ّ‬
‫ل َ‬
‫ل َيَنا ُ‬
‫ل َ‬
‫ن ُذّرّيِتي َقا َ‬
‫ل َوِم ْ‬
‫س ِإَماًما َقا َ‬
‫ك ِللّنا ِ‬
‫عُل َ‬
‫جا ِ‬
‫ل ِإّني َ‬
‫ن َقا َ‬
‫ت َفَأَتّمُه ّ‬
‫ِإْبَراِهيَم َرّبُه ِبَكِلَما ٍ‬
‫ل ـ سبحانه ـ أن يكون الظالم إماًما‪ ،‬وأعظم الظلم الشرك‪.‬‬
‫عهده بالمامة ل يتناول الظالم‪ ،‬فلم يأمر ا ّ‬

‫ل َحِنيًفا َوَلْم َيُكْن ِمَن اْلُمْشِرِكيَن{ ]النحل‪ ،[120 :‬والمة‪ :‬هو معلم الخير الذي يؤتم‬
‫ن ُأّمًة َقاِنًتا ِّ‬ ‫‪/‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِإْبَراِهيَم َكا َ‬
‫به‪ ،‬كما أن القدوة الذي يقتدى به‪.‬‬

‫ن اّتِبْع ِمّلَة‬ ‫ل ـ تعالى ـ جعل في ذريته النبوة والكتاب‪ ،‬وإنما بعث النبياء بعده بملته قال تعالى‪ُ} :‬ثّم َأْو َ‬
‫حْيَنا ِإَلْيكَ َأ ْ‬ ‫وا ّ‬
‫ن اّتَبُعوُه َوَهَذا الّنِب ّ‬
‫ي‬ ‫ن َأْوَلى الّناسِ ِبِإْبَراِهيَم َلّلِذي َ‬ ‫ِإْبَراِهيَم َحِنيًفا َوَما َكاَن ِمْن اْلُمْشِرِكيَن{ ]النحل‪ ،[123 :‬وقال تعالى‪ِ :‬إ ّ‬
‫حِنيًفا‬
‫ن َ‬ ‫ن َكا َ‬ ‫صَراِنّيا َوَلِك ْ‬ ‫ل َن ْ‬ ‫ن{ ]آل عمران‪ ،[68 :‬وقال تعالى‪َ} :‬ما َكا َ‬
‫ن ِإْبَراِهيُم َيُهوِدّيا َو َ‬ ‫ي اْلُمْؤِمِني َ‬‫ل َوِل ّ‬‫ن آَمُنوا َوا ُّ‬ ‫َواّلِذي َ‬
‫حِنيًفا‬
‫ل ِمّلَة ِإْبَراِهيَم َ‬ ‫ل َب ْ‬‫صاَرى َتْهَتُدوا ُق ْ‬ ‫ن{ ]آل عمران‪ ،[67 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَقاُلوا ُكوُنوا ُهوًدا َأْو َن َ‬ ‫شِرِكي َ‬‫ن اْلُم ْ‬‫ن ِم ْ‬‫سِلًما َوَما َكا َ‬
‫ُم ْ‬
‫ط{ إلى قوله‪:‬‬ ‫سَبا ِ‬‫لْ‬ ‫ب َوا َْ‬‫ق َوَيْعُقو َ‬ ‫حا َ‬
‫سَ‬‫ل َوِإ ْ‬‫عي َ‬‫سَما ِ‬
‫ل ِإَلى ِإْبَراِهيَم َوِإ ْ‬
‫ل ِإَلْيَنا َوَما ُأنِز َ‬
‫ل َوَما ُأنِز َ‬
‫ن ‪ُ .‬قوُلوا آَمّنا ِبا ِّ‬‫شِرِكي َ‬ ‫ن اْلُم ْ‬
‫ن ِم ْ‬
‫َوَما َكا َ‬
‫}َوَنْحنُ َلُه ُمْسِلُموَن{ ]البقرة‪.[136 ،135 :‬‬

‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إن إبراهيم خير البرية‪ ،‬فهو أفضل النبياء بعد النبي صلى ال‬
‫ل تعالى‪ .‬وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم من غير وجه أنه قال‪) :‬إن ا ّ‬
‫ل‬ ‫عليه وسلم وهو خليل ا ّ‬
‫ل لتخذت أبا بكر خليل‪ ،‬ولكن‬ ‫ل(‪ ،‬وقال‪) :‬لو كنت متخًذا من أهل الرض خلي ً‬ ‫ل كما اتخذ إبراهيم خلي ً‬
‫اتخذني خلي ً‬
‫خة أبي بكر(‪ ،‬وقال‪) :‬إن من‬
‫خْو َ‬
‫ت إل َ‬‫سّد ْ‬
‫خة إل ُ‬
‫خْو َ‬
‫ل( ـ يعني نفسه ـ وقال‪) :‬ل يبقين ‪ /‬في المسجد َ‬
‫صاحبكم خليل ا ّ‬
‫كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد‪ ،‬أل فل تتخذوا القبور مساجد‪ ،‬فإني أنهاكم عن ذلك( وكل هذا في الصحيح‬
‫‪.‬وفيه أنه قال‪ :‬ذلك قبل موته بأيام‪ ،‬وذلك من تمام رسالته‪.‬‬

‫ل خلًفا للجهمية‪.‬‬
‫ل ـ تعالى ـ للعبد‪ ،‬ومحبة العبد ّ‬
‫ل ‪ ،‬التي أصلها محبة ا ّ‬
‫فإن في ذلك تحقيق تمام مخالته ّ‬

‫ل‪ ،‬وأن ل يعبدوا إل إياه‪ ،‬ورد على أشباه المشركين‪.‬‬


‫وفي ذلك تحقيق توحيد ا ّ‬

‫وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه‪ ،‬وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر‪.‬‬

‫ل‪ ،‬ومن الرب ـ سبحانه ـ كمال الربوبية لعباده الذين‬‫والخلة‪ :‬هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبوديـة ّ‬
‫يحبهم ويحبونه‪ ،‬ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل‪ ،‬وكمال الحب‪ ،‬فإنهم يقولون‪ :‬قلب متيم إذا كان متعبًدا للمحبوب‪،‬‬
‫ل عبده‪ ،‬وهذا على الكمال حصل لبراهيم ومحمد صلى ال عليهما وسلم؛ ولهذا لم يكن له من‬ ‫والمتيم المتعبد‪ ،‬وتيم ا ّ‬
‫أهل الرض خليل‪ ،‬إذ الخلة ل تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى‪:‬‬

‫‪/‬قد تخللت مسلك الروح مني ** و بذا سمى الخليل خلي ً‬


‫ل‬

‫بخلف أصل الحب‪ ،‬فإنه صلى ال عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة‪) :‬الّلهم إني أحبهما‬
‫فأحبهما‪ ،‬وأحب من يحبهما(‪ ،‬وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟ قال‪) :‬عائشة(‪ .‬قال‪ :‬فمن الرجال؟ قال‪:‬‬
‫ل ورسوله( وأمثال ذلك‬ ‫ل يحب الّ ورسوله‪ ،‬ويحبه ا ّ‬
‫ل عنه ـ‪) :‬لعطين الراية رج ً‬
‫)أبوها(‪ ،‬وقال لعلى ـ رضي ا ّ‬
‫كثير‪.‬‬

‫وقد أخبر ـ تعالى ـ أنه يحب المتقين‪ ،‬ويحب المحسنين‪ ،‬ويحب المقسطين‪ ،‬ويحب التوابين‪ ،‬ويحب المتطهرين‪ ،‬ويحب‬
‫ل ِبَقْوٍم ُيِحّبُهْم َوُيِحّبوَنُه{ ]المائدة‪ ،[54 :‬فقد‬
‫ف َيْأِتي ا ُّ‬
‫سْو َ‬‫الذين يقاتلون في سبيله صًفا كأنهم بنيان مرصوص‪ ،‬وقال‪َ} :‬ف َ‬
‫ل{ ]البقرة‪.[165 :‬‬ ‫حّبا ِّ‬‫شّد ُ‬ ‫أخبر بمحبته لعباده المؤمنين‪ ،‬و محبة المؤمنين له‪ ،‬حتى قال‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬
‫ل‪ ،‬وظنه أن المحبة فوق الخلة قول‬
‫ل‪ ،‬وإبراهيم خليل ا ّ‬
‫وأما الخلة فخاصة ‪ .‬وقول بعض الناس‪ :‬إن محمًدا حبيب ا ّ‬
‫ل كما ثبت ذلك في الحاديث الصحيحة المستفيضة‪ ،‬وما يروي‪) :‬إن العباس يحشر‬ ‫ضا خليل ا ّ‬
‫ضعيف‪ ،‬فإن محمًدا أي ً‬
‫بين حبيب وخليل( وأمثال ذلك‪ ،‬فأحاديث موضوعة ل تصلح أن يعتمد عليها‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ محبة ما أحب‪ ،‬كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ثلث‬ ‫‪/‬وقد قدمنا أن من محبة ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ومن‬
‫من كن فيه وجد حلوة اليمان‪ :‬من كان ال ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ‬
‫ل منه كما يكره أن يلقي في النار‪ .‬أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن هذه‬
‫كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ‬
‫الثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان؛ لن وجد الحلوة بالشيء يتبع المحبة له‪ ،‬فمن أحب شيًئا أو اشتهاه إذا حصل‬
‫له مراده فإنه يجد الحلوة واللذة والسرور بذلك‪ ،‬واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملئم الذي هو المحبوب أو‬
‫المشتهى‪.‬‬

‫طا بيًنا‪ ،‬فإن‬


‫ومن قال‪ :‬إن اللذة إدراك الملئم‪ ،‬كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والطباء‪ ،‬فقد غلط في ذلك غل ً‬
‫ل يشتهي الطعام فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة‪ ،‬فاللذة تتبع‬‫الدراك يتوسط بين المحبة واللذة‪ ،‬فإن النسان مث ً‬
‫النظر إلى الشيء‪ ،‬فإذا نظر إليه التذ‪ ،‬فاللذة تتبع النظر ليست نفس النظر‪ ،‬وليست هي رؤية الشيء ؛بل تحصل عقيب‬
‫س َوَتَلّذ اَْلْعُيُن{ ]الزخرف‪ ،[71 :‬وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات‪،‬‬
‫لنُف ُ‬ ‫رؤيته‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬وِفيَها َما َت ْ‬
‫شَتِهيِه ا َْ‬
‫واللم من فرح وحزن ونحو ذلك‪ ،‬يحصل بالشعور بالمحبوب‪ ،‬أو الشعور بالمكروه‪ ،‬وليس نفس الشعور هو الفرح‬
‫ول الحزن‪ .‬فحلوة اليمان المتضمنة من اللذة به ‪ /‬والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلوة اليمان‪ ،‬تتبع كمال‬
‫ل‪ ،‬وذلك بثلثة أمور‪ :‬تكميل هذه المحبة‪ ،‬وتفريعها‪ ،‬ودفع ضدها‪.‬‬ ‫محبة العبد ّ‬

‫ل ورسوله ل يكتفي فيها بأصل الحب‪ ،‬بل لبد أن‬


‫ل ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬فإن محبة ا ّ‬ ‫فتكميلها‪ :‬أن يكون ا ّ‬
‫ل ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم‪.‬‬ ‫يكون ا ّ‬

‫ل‪.‬‬
‫وتفريعها‪ :‬أن يحب المرء ل يحبه إل ّ‬

‫ودفع ضدها‪ :‬أن يكره ضد اليمان أعظم من كراهته اللقاء في النار‪ ،‬فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة‬
‫ل‪ ،‬وأحقهم بأن‬
‫ل؛ لنه أكمل الناس محبة ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم يحب المؤمنين الذين يحبهم ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬وكان رسول ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫ل فيها نصيب‪ ،‬بل قال‪) :‬لو كنت متخًذا من أهل الرض‬ ‫ل‪ ،‬والخلة ليس لغير ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ويبغض ما يبغضه ا ّ‬ ‫يحب ما يحبه ا ّ‬
‫ل( علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة‪.‬‬ ‫ل لتخذت أبا بكر خلي ً‬ ‫خلي ً‬

‫ل تحقيق عبوديته؛ وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية‬ ‫والمقصود هو أن الخلة والمحبة ّ‬
‫مجرد ذل ‪ /‬وخضوع فقط‪ ،‬ل محبة معه‪ ،‬أو أن المحبة فيها انبساط في الهواء أو إدلل ل تحتمله الربوبية؛ ولهذا‬
‫يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة‪ .‬فقال‪ :‬أمسكوا عن هذه المسألة ل تسمعها النفوس فتدعيها‪.‬‬
‫وكره من كره من أهل المعرفة‪ ،‬والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلم في المحبة بل خشية‪ ،‬وقال من قال من السلف‪:‬‬
‫ل بالحب وحده فهو زنديق‪ ،‬ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ‪ ،‬ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري‪،‬‬ ‫من عبد ا ّ‬
‫ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد؛ ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى‬
‫أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة‪ ،‬والدعوى التي تنافي العبودية‪ ،‬وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي ل تصلح إل‬
‫لل‬ ‫ل‪ ،‬ما ل يصلح ـ بكل وجه ـ إل ّ‬‫ل‪ ،‬ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود النبياء والمرسلين أو يطلبون من ا ّ‬ ‫ّ‬
‫يصلح للنبياء والمرسلين‪ .‬وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ‪.‬‬

‫وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل‪ ،‬وحررها المر والنهي الذي جاؤوا به‪ ،‬بل ضعف العقل الذي به‬
‫يعرف العبد حقيقته‪ ،‬وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة‪ ،‬انبسطت النفس بحمقها في ذلك‪ ،‬كما ينبسط‬
‫النسان في محبة النسان مع حمقه وجهله‪ ،‬ويقول‪ :‬أنا محب فل أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل‪،‬‬
‫ل تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َفِلَم ُيَعّذُبُكْم ِبُذُنوِبُكْم‬ ‫ل َوَأِحّباُؤُه{ قال ا ّ‬
‫ن َأْبَناُء ا ِّ‬‫فهذا ‪ /‬عين الضلل‪ ،‬وهو شبيه بقول اليهود والنصارى‪َ} :‬ن ْ‬
‫حُ‬
‫ب َمْن َيَشاُء{ ]المائدة‪ ،[18 :‬فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين‬ ‫شاُء َوُيَعّذ ُ‬
‫ن َي َ‬
‫ق َيْغِفُر ِلَم ْ‬
‫خَل َ‬
‫ن َ‬
‫شٌر ِمّم ْ‬
‫ل َأْنُتْم َب َ‬
‫َب ْ‬
‫ول منسوبين إليه بنسبة البنوة‪ ،‬بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون‪.‬‬
‫ل يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه‪ ،‬ل يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬ومن‬ ‫فمن كان ا ّ‬
‫ل يبغض منه ذلك‪ ،‬كما يحب منه ما يفعله من الخير‪ ،‬إذ حبه للعبد‬
‫فعل الكبائر وأصر عليها‪ ،‬ولم يتب منها‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫ل يحبه مع إصراره عليها‪ ،‬كان بمنزلة من زعم أن‬ ‫بحسب إيمانه وتقواه‪ ،‬ومن ظن أن الذنوب ‪ ،‬ل تضره؛ لكون ا ّ‬
‫تناول السم ل يضره مع مداومته عليه‪ ،‬وعدم تداويه منه بصحة مزاجه‪.‬‬

‫ل في كتابه من قصص أنبيائه‪ ،‬وما جرى لهم من التوبة والستغفار‪ ،‬وما أصيبوا به من‬ ‫ولو تدبر الحمق ما قص ا ّ‬
‫أنواع البلء الذي فيه تمحيص لهم‪ ،‬وتطهير بحسب أحوالهم‪ ،‬علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها‪ ،‬ولو كان أرفع‬
‫الناس مقاًما‪ ،‬فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارًفا بمصلحته ول مريًدا لها‪ ،‬بل يعمل بمقتضى الحب ـ وإن كان جهلً‬
‫وظلًما ـ كان ذلك سبًبا لبغض المحبوب له ونفوره عنه‪ ،‬بل لعقوبته‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وإما من تضييع‬ ‫عا من أمور الجهل بالدين‪ ،‬إما من تعدي حدود ا ّ‬
‫ل أنوا ً‬
‫وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي ل حقيقة لها‪ ،‬كقول بعضهم‪ :‬أي مريد لي ترك في النار أحًدا فأنا منه‬
‫حقوق ا ّ‬
‫برىء‪ ،‬فقال الخر‪ :‬أي مريد لي ترك أحًدا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه برىء‪ ،‬فالول‪ :‬جعل مريده يخرج كل‬
‫من في النار‪ ،‬والثاني‪ :‬جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار‪ .‬ويقول بعضهم‪ :‬إذا كان يوم القيامة نصبت‬
‫خيمتي على جهنم حتى ل يدخلها أحد‪ ،‬وأمثال ذلك من القوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين‪ ،‬وهي إما‬
‫كذب عليهم‪ ،‬وإما غلط منهم‪ ،‬ومثل هذا قد يصدر في حال سكر‪ ،‬وغلبة‪ ،‬وفناء يسقط فيها تمييز النسان‪ ،‬أو يضعف‬
‫حتى ل يدري ما قال‪ ،‬والسكر هو لذة مع عدم تمييز؛ ولهذا كان بين هؤلء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلم‪.‬‬

‫والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب‪ ،‬والشوق‪ ،‬واللوم‪ ،‬والعذل والغرام كان هذا أصل‬
‫ل{ ]آل عمران‪:‬‬
‫حِبْبُكْم ا ُّ‬
‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬
‫ن ا َّ‬
‫حّبو َ‬ ‫ل للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإنْ ُكْنُتْم ُت ِ‬ ‫مقصدهم‪ .‬ولهذا أنزل ا ّ‬
‫ل إل من يتبع رسوله‪ ،‬وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية‪.‬‬ ‫‪ ،[31‬فل يكون محًبا ّ‬

‫وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته‪ ،‬ويدعي من ‪ /‬الخيالت ما ل يتسع هذا الموضع لذكره‪ ،‬حتى قد‬
‫يظن أحدهم سقوط المر وتحليل الحرام له‪ ،‬وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول‪ ،‬وسنته‪ ،‬وطاعته‪ ،‬بل قد جعل‬
‫ل عنه؛‬‫ل به‪ ،‬وكمال بغض ما نهى ا ّ‬ ‫ل ومحبة رسوله الجهاد في سبيله‪ ،‬والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر ا ّ‬ ‫محبة ا ّ‬
‫ل{ ]المائدة‪.[54 :‬‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن ِفي َ‬
‫جاِهُدو َ‬
‫ن ُي َ‬
‫عَلى اْلَكاِفِري َ‬
‫عّزٍة َ‬
‫ن َأ ِ‬ ‫ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه‪َ} :‬أِذّلٍة َ‬
‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬

‫ل أكمل من عبودية من قبلهم‪ ،‬وأكمل هذه المة‬


‫ل أكمل من محبة من قبلها‪ ،‬وعبوديتهم ّ‬‫ولهذا كانت محبة هذه المة ّ‬
‫في ذلك أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل‪ ،‬فأين هذا من قوم يدعون‬
‫المحبة؟!‬

‫وفي كلم بعض الشيوخ‪ :‬المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب‪ ،‬وأرادوا أن الكون كله قد أراد الّ‬
‫وجوده‪ ،‬فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء‪ ،‬حتى الكفر والفسوق‪ ،‬والعصيان‪ ،‬ول يمكن أحًدا أن يحب كل‬
‫موجود‪ ،‬بل يحب ما يلئمه وينفعه‪ ،‬ويبغض ما ينافيه ويضره‪ ،‬ولكن استفادوا بهذا الضلل اتباع أهوائهم‪ ،‬فهم يحبون‬
‫ل بغض ما‬ ‫ل‪ ،‬ومن محبة ا ّ‬
‫ما يهوونه كالصور‪ ،‬والرئاسة وفضول المال‪ ،‬والبدع المضلة‪ ،‬زاعمين أن هذا من محبة ا ّ‬
‫ل ورسوله‪ ،‬وجهاد أهله بالنفس والمال‪.‬‬
‫يبغضه ا ّ‬

‫ل ـ تعالى ـ‬
‫‪/‬وأصل ضللهم‪ :‬أن هذا القائل الذي قال‪ :‬إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وهذا معنى‬ ‫الرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه‪ ،‬فكأنه قال تحرق من القلب ما سوى المحبوب ّ‬
‫ل‪ ،‬فإذا أحببت ما ل يحب كانت المحبة ناقصة‪ ،‬وأما قضاؤه وقدره‬ ‫صحيح‪ ،‬فإن من تمام الحب أل يحب إل ما يحبه ا ّ‬
‫فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهي عنه‪ ،‬فإن لم أوافقه في بغضه‪ ،‬وكراهته‪ ،‬وسخطه لم أكن محًبا له‪ ،‬بل محًبا لما‬
‫ل وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من‬‫يبغضه‪ .‬فاتباع الشريعة‪ ،‬والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة ا ّ‬
‫ل من‬‫ل ناظًرا إلى عموم ربوبيته‪ ،‬أو متبًعا لبعض البدع المخالفة لشريعته‪ ،‬فإن دعوى هذه المحبة ّ‬
‫يدعي محبة ا ّ‬
‫ل‪ ،‬بل قد تكون دعوى هؤلء شًرا من دعوى اليهود والنصارى‪ ،‬لما فيهم من‬ ‫جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة ّ‬
‫النفاق الذين هم به في الدرك السفل من النار‪ ،‬كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شًرا من دعواهم‪ ،‬إذا لم يصلوا‬
‫ل ما هم متفقون عليه‪ ،‬حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس‪.‬‬ ‫إلى مثل كفرهم‪ ،‬وفي التوراة والنجيل من محبة ا ّ‬
‫ل بكل قلبك وعقلك ونفسك(‪ ،‬والنصارى يدعون قيامهم‬ ‫ففي النجيل أن المسيح قال‪) :‬أعظم وصايا المسيح أن تحب ا ّ‬
‫ل‪ ،‬إذا لم ‪ /‬يتبعوا ما أحبه‪ ،‬بل‬
‫بهذه المحبة‪ ،‬وإن ما هم فيه من الزهد‪ ،‬والعبادة هو من ذلك‪ ،‬وهم برآء من محبة ا ّ‬
‫ل يبغض الكافرين ويمقتهم‪ ،‬ويلعنهم‪ ،‬وهو سبحانه يحب من‬ ‫ل وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم‪ ،‬وا ّ‬ ‫اتبعوا ما أسخط ا ّ‬
‫ل له‪ ،‬وإن‬
‫ل ـ تعالى ـ غير محب له‪ ،‬بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬وا ّ‬‫يحبه‪ ،‬ل يمكن أن يكون العبد محًبا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ أنه قال‪) :‬من تقرب إلى شبًرا تقربت إليه‬ ‫ل لعبده أعظم‪ ،‬كما في الحديث الصحيح اللهي عن ا ّ‬ ‫كان جزاء ا ّ‬
‫عا‪ ،‬ومن أتاني يمشي أتيته هرولة(‪.‬‬‫عا تقربت إليه با ً‬
‫عا‪ ،‬ومن تقرب إلى ذرا ً‬ ‫ذرا ً‬

‫وقد أخبر ـ سبحانه ـ أنه يحب المتقين‪ ،‬والمحسنين والصابرين‪ ،‬ويحب التوابين‪ ،‬ويحب المتطهرين‪ ،‬بل هو يحب من‬
‫فعل ما أمر به من واجب ومستحب‪ ،‬كما في الحديث الصحيح‪) :‬ل يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا‬
‫أحببته كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به( الحديث‪.‬‬

‫خا في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى‪ ،‬من دعوى المحبة‬ ‫وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشيا ً‬
‫ل‪ ،‬بنحو ما‬ ‫ل مع مخالفة شريعته‪ ،‬وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك‪ ،‬ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى ا ّ‬ ‫ّ‬
‫تمسك به النصارى من الكلم المتشابه‪ ،‬والحكايات التي ل يعرف صدق قائلها‪ ،‬ولو صدق لم يكن قائلها معصوًما‪،‬‬
‫فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا‪ ،‬كما جعل النصارى قسيسيهم ‪ ،‬ورهبانهم شارعين ‪ /‬لهم ديًنا‪ ،‬ثم إنهم ينتقصون‬
‫ل من‬ ‫العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعى النصارى في المسيح‪ ،‬ويثبتون للخاصة من المشاركة في ا ّ‬
‫جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه‪ ،‬إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع‪.‬‬

‫ل بكل وجه‪ ،‬وهو تحقيق محبة الّ بكل درجة‪ ،‬وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة‬ ‫وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية ّ‬
‫ل‪ ،‬كانت فيه‬
‫العبد لربه‪ ،‬وتكمل محبة الرب لعبده‪ ،‬وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا‪ ،‬وكلما كان في القلب حب لغير ا ّ‬
‫ل بحسب ذلك‪ ،‬وكل محبة ل تكون‬ ‫ل كان فيه حب لغير ا ّ‬ ‫ل بحسب ذلك‪ ،‬وكلما كان فيه عبودية لغير ا ّ‬ ‫عبودية لغير ا ّ‬
‫ل إل‬
‫ل‪ ،‬ول يكون ّ‬ ‫ل فهو باطل‪ ،‬فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إل ما كان ّ‬ ‫ل فهي باطلة‪ ،‬وكل عمل ل يراد به وجه ا ّ‬ ‫ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫ل لم يكن ّ‬
‫ل‪ ،‬وكل عمل ل يوافق شرع ا ّ‬ ‫ل لم يكن ّ‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬وهو المشروع‪ ،‬فكل عمل أريد به غير ا ّ‬ ‫ما أحبه ا ّ‬
‫ل ورسوله‪ ،‬وهو الواجب والمستحب‪ ،‬كما‬ ‫ل‪ ،‬وأن يكون موافًقا لمحبة ا ّ‬ ‫ل إل ما جمع الوصفين‪ ،‬أن يكون ّ‬ ‫بل ل يكون ّ‬
‫حًدا{ ]الكهف‪.[110 :‬‬‫ك ِبِعَباَدِة َرّبِه َأ َ‬
‫شِر ْ‬
‫ل ُي ْ‬
‫حا َو َ‬
‫صاِل ً‬
‫ل َ‬
‫عَم ً‬
‫ل َ‬
‫جوا ِلَقاَء َرّبِه َفْلَيْعَم ْ‬
‫ن َيْر ُ‬
‫ن َكا َ‬
‫قال‪َ} :‬فَم ْ‬

‫ل تعالى‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬بَلى َم ْ‬


‫ن‬ ‫صا لوجه ا ّ‬
‫فلبد من العمل الصالح‪ ،‬وهو الواجب‪ ،‬والمستحب‪ ،‬ولبد أن يكون خال ً‬
‫ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن{ ]البقرة‪ ،[112 :‬وقال ‪ /‬النبي صلى ال عليه‬
‫خْو ٌ‬
‫ل َ‬
‫عْنَد َرّبِه َو َ‬
‫جُرُه ِ‬
‫ن َفَلُه َأ ْ‬
‫سٌ‬‫حِ‬
‫ل َوُهَو ُم ْ‬
‫سَلَم َوجَْهُه ِّ‬
‫َأ ْ‬
‫ل ليس عليه أمرنا فهو رد(‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إنما العمال بالنيات وإنما لكل‬ ‫وسلم‪) :‬من عمل عم ً‬
‫ل ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى ا ّ‬‫امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى ا ّ‬
‫امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه(‪.‬‬

‫ل الرسل‪ ،‬وأنزل الكتب‪ ،‬وإليه دعا‬


‫وهذا الصل هو أصل الدين‪ ،‬وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين‪ ،‬وبه أرسل ا ّ‬
‫الرسول‪ ،‬وعليه جاهد‪ ،‬وبه أمر‪ ،‬وفيه رغب‪ ،‬وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه‪.‬‬

‫والشرك غالب على النفوس‪ ،‬وهو كما جاء في الحديث‪) :‬وهو في هذه المة أخفى من دبيب النمل(‪ ،‬وفي حديث آخر‪:‬‬
‫ل‪ ،‬كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل ؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم لبي بكر‪:‬‬ ‫قال أبو بكر‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫)أل أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله ؟ قل‪ :‬الّلهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم‪ ،‬وأستغفرك لما ل‬
‫صا‪ ،‬ول تجعل لحد فيه شيًئا‪.‬‬ ‫حا‪ ،‬واجعله لوجهك خال ً‬
‫أعلم(‪ .‬وكان عمر يقول في دعائه‪ :‬الّلهم اجعل عملي كله صال ً‬

‫ل وعبوديتها له‪ ،‬وإخلص دينها‬ ‫وكثيًرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق ‪ /‬محبتها ّ‬
‫له‪ ،‬كما قال شداد بن أوس‪ :‬يا بقايا العرب‪ ،‬إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء‪ ،‬والشهوة الخفية‪ .‬قيل لبي داود‬
‫السجستاني‪ :‬وما الشهوة الخفية؟قال‪ :‬حب الرئاسة‪ ،‬وعن كعب بن مالك عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ما‬
‫ذئبان جائعان أرسل في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال‪ ،‬والشرف لدينه( قال الترمذي‪ :‬حديث‬
‫حسن صحيح‪.‬‬
‫فبين صلى ال عليه وسلم أن الحرص على المال‪ ،‬والشرف في فساد الدين‪ ،‬ل ينقص عن فساد الذئبين الجائعين‬
‫ل‪،‬‬
‫لزريبة الغنم‪ ،‬وذلك بين‪ ،‬فإن الدين السليم ل يكون فيه هذا الحرص‪ ،‬وذلك أن القلب إذا ذاق حلوة عبوديته ّ‬
‫ل السوء والفحشاء‪،‬‬‫ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه‪ ،‬وبذلك يصرف عن أهل الخلص ّ‬
‫صيَن{ ]يوسف‪.[42 :‬‬
‫خَل ِ‬
‫عَباِدَنا اْلُم ْ‬
‫ن ِ‬
‫شاَء ِإّنُه ِم ْ‬
‫حَ‬‫سوَء َواْلَف ْ‬
‫عْنُه ال ّ‬
‫ف َ‬
‫صِر َ‬ ‫كما قال تعالى‪َ} :‬كَذِل َ‬
‫ك ِلَن ْ‬

‫ل ما يمنعه عن محبة‬ ‫ل ما يمنعه عن عبوديته لغيره‪ ،‬ومن حلوة محبته ّ‬ ‫ل ذاق من حلوة عبوديته ّ‬ ‫فإن المخلص ّ‬
‫ل‪،‬‬‫غيره؛ إذ ليس عند القلب ل أحلى‪ ،‬ول ألذ‪ ،‬ول أطيب‪ ،‬ول ألين‪ ،‬ول أنعم من حلوة اليمان المتضمن عبوديته ّ‬
‫ل خائًفا منه راغًبا‬ ‫ل فيصير القلب منيًبا إلى ا ّ‬ ‫ومحبته له‪ ،‬وإخلصه الدين له‪ ،‬وذلك يقتضى انجذاب القلب إلى ا ّ‬
‫ب{ ]ق‪ ،[33 :‬إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه‬ ‫ب ُمِني ٍ‬
‫جاَء ِبَقْل ٍ‬
‫ب َو َ‬‫ن ِباْلَغْي ِ‬‫حَما َ‬
‫ي الّر ْ‬ ‫شَ‬ ‫خِ‬ ‫ن َ‬ ‫راهًبا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬م ْ‬
‫ن ِإَلى َرّبِهْم‬
‫ن َيْبَتُغو َ‬
‫عو َ‬
‫ن َيْد ُ‬ ‫ل ومحبه إل بين خوف ورجاء‪ ،‬قال تعالى‪ُ} :‬أْوَلِئ َ‬
‫ك اّلِذي َ‬ ‫وحصول ‪ /‬مرغوبه‪ ،‬فل يكون عبد ا ّ‬
‫ك َكاَن َمْحُذوًرا{ ]السراء‪.[57 :‬‬ ‫ب َرّب َ‬‫عَذا َ‬
‫ن َ‬‫عَذاَبُه ِإ ّ‬‫ن َ‬
‫خاُفو َ‬
‫حَمَتُه َوَي َ‬
‫ن َر ْ‬‫جو َ‬
‫ب َوَيْر ُ‬
‫سيَلَة َأّيُهْم َأْقَر ُ‬
‫اْلَو ِ‬

‫صا له اجتباه ربه فيحيى قلبه‪ ،‬واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء‪،‬‬ ‫وإذا كان العبد مخل ً‬
‫ل‪ ،‬فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق‪ ،‬فيهوى ما يسنح‬ ‫ويخاف من حصول ضد ذلك‪ ،‬بخلف القلب الذي لم يخلص ّ‬
‫له ويتشبث بما يهواه‪ ،‬كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله‪ .‬فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة‪ ،‬فيبقى أسيًرا‬
‫صا وذًما‪ .‬وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة‪ ،‬فترضيه الكلمة وتغضبه‬ ‫عبًدا لمن لو اتخذه هو عبًدا له‪ ،‬لكان ذلك عيًبا ونق ً‬
‫الكلمة ويستعبده من يثنى عليه ولو بالباطل‪ ،‬ويعادي من يذمه ولو بالحق‪ ،‬وتارة يستعبده الدرهم والدينار‪ ،‬وأمثال ذلك‬
‫ل‪.‬‬
‫من المور التي تستعبد القلوب‪ ،‬والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من ا ّ‬

‫ل أحب إليه من كل ما سواه‪،‬‬ ‫ل عبًدا له قد صار قلبه معبًدا لربه وحده ل شريك له‪ ،‬بحيث يكون ا ّ‬ ‫صا ّ‬ ‫ومن لم يكن خال ً‬
‫ل له خاضًعا وإل استعبدته الكائنات‪ ،‬واستولت على قلبه الشياطين‪ ،‬وكان من الغاوين إخوان الشياطين‪،‬‬ ‫ويكون ذلي ً‬
‫ل‪ ،‬وهذا أمر ضروري ل حيلة فيه‪ ،‬فالقلب إن لم يكن حنيًفا مقب ً‬
‫ل‬ ‫وصار فيه من السوء والفحشاء ما ل يعلمه إل ا ّ‬
‫ل َتْبِدي َ‬
‫ل‬ ‫عَلْيَها َ‬
‫س َ‬‫طَر الّنا َ‬
‫ل اّلِتي َف َ‬
‫طَرةَ ا ِّ‬
‫حِنيًفا ِف ْ‬
‫ن َ‬
‫ك ِللّدي ِ‬ ‫ضا عما ‪ /‬سواه وإل كان مشرًكا‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬فَأِقْم َو ْ‬
‫جَه َ‬ ‫ل معر ً‬ ‫على ا ّ‬
‫ب ِبَما َلَدْيِهْم َفِرُحوَن{ ]الروم‪30 :‬ـ ‪.[32‬‬ ‫حْز ٍ‬ ‫ل ِ‬‫ن{ إلى قوله‪ُ} :‬ك ّ‬ ‫ل َيْعَلُمو َ‬
‫س َ‬
‫ن َأْكَثَر الّنا ِ‬
‫ن اْلَقّيُم َوَلِك ّ‬
‫ك الّدي ُ‬
‫ل َذِل َ‬
‫ق ا ِّ‬
‫خْل ِ‬
‫ِل َ‬

‫ل وعبادته وإخلص الدين‬ ‫ل ـ سبحانه ـ إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلء الحنفاء المخلصين أهل محبة ا ّ‬ ‫وقد جعل ا ّ‬
‫حا َ‬
‫ق‬ ‫سَ‬ ‫له‪ ،‬كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم‪ .‬قال تعالى في إبراهيم‪َ} :‬وَوَهْبَنا َلُه ِإ ْ‬
‫لِة َوِإيَتاَء‬ ‫صَ‬ ‫ت َوِإَقاَمِة ال ّ‬ ‫خْيَرا ِ‬ ‫ل اْل َ‬ ‫حْيَنا ِإَلْيِهْم ِفْع َ‬
‫ن ِبَأْمِرَنا َوَأْو َ‬
‫جَعْلَناُهْم َأِئّمًة َيْهُدو َ‬
‫ن ‪َ .‬و َ‬
‫حي َ‬
‫صاِل ِ‬
‫جَعْلَنا َ‬
‫ل َ‬‫ب َناِفَلًة َوُك ّ‬
‫َوَيْعُقو َ‬
‫ن ِإَلى الّناِر َوَيْوَم اْلِقَياَمِة َ‬
‫ل‬ ‫عو َ‬ ‫ن{ ]النبياء‪ ،[73 ،72 :‬وقال في فرعون وقومه‪َ} :‬و َ‬
‫جَعْلَناُهْم َأِئّمًة َيْد ُ‬ ‫عاِبِدي َ‬
‫الّزَكاِة َوَكاُنوا َلَنا َ‬
‫صُروَن ‪َ .‬وَأْتَبْعَناُهْم ِفي َهِذِه الّدْنَيا َلْعَنًة َوَيْوَم اْلِقَياَمِة ُهْم ِمْن اْلَمْقُبوِحيَن{ ]القصص‪.[42 ،41 :‬‬ ‫ُين َ‬

‫ل وقضاه‪ ،‬بل ينظرون إلى‬ ‫ل ويرضاه‪ ،‬وبين ما قدر ا ّ‬


‫ل إلى أل يميزوا بين ما يحبه ا ّ‬
‫ولهذا يصير أتباع فرعون أو ً‬
‫المشيئة المطلقة الشاملة‪ ،‬ثم في آخر المر ل يميزون بين الخالق والمخلوق‪ ،‬بل يجعلون وجود هذا وجود هذا‪ ،‬ويقول‬
‫محققوهم‪ :‬الشريعة فيها طاعة ومعصية‪ ،‬والحقيقة فيها معصية بل طاعة‪ ،‬والتحقيق ليس فيه طاعة ول معصية‪ ،‬وهذا‬
‫تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق وأنكروا تكليمه لعبده موسى وما أرسله به من المر والنهي‪.‬‬

‫‪/‬وأما إبراهيم‪ ،‬وآل إبراهيم الحنفاء‪ ،‬والنبياء فهم يعلمون أنه لبد من الفرق بين الخالق والمخلوق‪ ،‬ولبد من الفرق‬
‫ل وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة‬ ‫بين الطاعة والمعصية‪ .‬وأن العبد كلما ازداد تحقيًقا ازدادت محبته ّ‬
‫ل وبين خلقه‪ .‬والخليل يقول‪َ} :‬قا َ‬
‫ل َأَفَرَأْيُتْم‬ ‫غيره ومحبة غيره وطاعة غيره‪ .‬وهؤلء المشركون الضالون يسوون بين ا ّ‬
‫ب اْلَعاَلِميَن{ ]الشعراء‪ ،[75-77 :‬ويتمسكون بالمتشابه من كلم‬ ‫ل َر ّ‬
‫عُدّو ِلي ِإ ّ‬
‫ن ‪َ .‬فِإّنُهْم َ‬
‫لْقَدُمو َ‬
‫ن ‪َ .‬أْنُتْم َوآَباُؤُكْم ا َْ‬
‫َما ُكْنُتْم َتْعُبُدو َ‬
‫المشائخ كما فعلت النصارى‪.‬‬

‫مثال ذلك اسم الفناء‪ ،‬فإن الفناء ثلثة أنواع‪ :‬نوع للكاملين من النبياء والولياء‪ ،‬ونوع للقاصدين من الولياء‬
‫والصالحين‪ ،‬ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين‪.‬‬

‫ل‪ ،‬ول يعبد إل إياه‪ ،‬ول يتوكل إل عليه‪ ،‬ول يطلب‬ ‫ل‪ ،‬بحيث ل يحب إل ا ّ‬‫فأما الول‪ :‬فهو الفناء عن إرادة ما سوى ا ّ‬
‫غيره‪ ،‬وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبى يزيد حيث قال‪ :‬أريد أل أريد إل ما يريد‪ .‬أي المراد‬
‫ل ورضيه‬ ‫المحبوب المرضي‪ ،‬وهو المراد بالرادة الدينية وكمال العبد أل يريد ول يحب ول يرضى إل ما أراده ا ّ‬
‫ل كالملئكة والنبياء والصالحين‪ .‬وهذا معنى‬ ‫وأحبه‪ ،‬وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب‪ ،‬ول يحب إل ما يحبه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬أو‬
‫ل‪ ،‬أو مما سوى عبادة ا ّ‬‫ب َسِليٍم{ ]الشعراء‪ [89 :‬قالوا‪ :‬هو السليم مما سوى ا ّ‬
‫ل ِبَقْل ٍ‬
‫ن َأَتى ا َّ‬ ‫قولهم في قوله‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ل َم ْ‬
‫ل‪ ،‬فالمعنى واحد وهذا المعني إن سمى فناء أو لم يسم ‪ ،‬هو أول السلم‬ ‫ل‪ ،‬أو مما سوى محبة ا ّ‬ ‫مما سوى ‪ /‬إرادة ا ّ‬
‫وآخره‪ .‬وباطن الدين وظاهره‪.‬‬

‫وأما النوع الثاني‪ :‬فهو الفناء عن شهود السوى‪ ،‬وهذا يحصل لكثير من السالكين‪ ،‬فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر‬
‫ل‪ ،‬بل‬
‫ل وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد‪ ،‬ل يخطر بقلوبهم غير ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫طَنا َعَلى َقْلِبَها{ ]القصص‪،[10 :‬‬
‫ن َرَب ْ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ت َلُتْبِدي ِبِه َلْو َ‬
‫ن َكاَد ْ‬
‫غا ِإ ْ‬
‫سى َفاِر ً‬
‫ح ُفَؤاُد ُأّم ُمو َ‬ ‫وليشعرون‪ ،‬كما قيل في قوله‪َ} :‬وَأ ْ‬
‫صَب َ‬
‫غا من كل شيء إل من ذكر موسى‪ ،‬وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من المور إما حب وإما خوف‪ .‬وإما‬ ‫قالوا‪ :‬فار ً‬
‫رجاء يبقى قلبه منصرًفا عن كل شيء إل عما قد أحبه‪ ،‬أو خافه أو طلبه‪ ،‬بحيث يكون عند استغراقه في ذلك ل يشعر‬
‫بغيره‪.‬‬

‫فإذا قوى على صاحب الفناء هذا ‪ ،‬فإنه يغيب بموجوده عن وجوده‪ ،‬وبمشهوده عن شهوده‪ ،‬وبمذكوره عن ذكره‪،‬‬
‫وبمعروفه عن معرفته‪ ،‬حتى يفنى من لم يكن‪ ،‬وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه‪ ،‬ويبقى من لم يزل وهو الرب‬
‫تعالى‪ ،‬والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره‪ ،‬وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها‪ .‬وإذا قوى هذا ضعف المحب حتى‬
‫ل ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه‪ ،‬فقال‪ :‬أنا‬
‫اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه‪ ،‬كما يذكر‪ :‬أن رج ً‬
‫وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال‪ :‬غبت بك عني‪ ،‬فظننت أنك أني ‪.‬‬

‫‪/‬وهذا الموضع زل فيه أقوام‪ ،‬وظنوا أنه اتحاد‪ ،‬وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى ل يكون بينهما فرق في نفس‬
‫وجودهما‪ ،‬وهذا غلط‪ ،‬فإن الخالق ل يتحد به شيء أصل‪ ،‬بل ل يتحد شيء بشيء إل إذا استحال وفسدا وحصل من‬
‫اتحادهما أمر ثالث ل هو هذا ول هذا‪ ،‬كما إذا اتحد الماء واللبن‪ ،‬والماء والخمر‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ولكن يتحد المراد‬
‫والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الرادة والكراهة‪ ،‬فيحب هذا ما يحب هذا‪ .‬ويبغض هذا ما يبغض هذا‪،‬‬
‫ويرضى ما يرضى‪ ،‬ويسخط ما يسخط‪ ،‬ويكره ما يكره‪ ،‬ويوالي من يوالي‪ ،‬ويعادي من يعادي‪ ،‬وهذا الفناء كله فيه‬
‫نقص‪.‬‬

‫وأكابر الولياء‪ ،‬كأبي بكر وعمر‪ ،‬والسابقين الولين من المهاجرين والنصار‪ ،‬لم يقعوا في هذا الفناء‪ ،‬فضل‬
‫عمن هو فوقهم من النبياء‪ ،‬وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة‪ .‬وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة‬
‫ل عنهم ـ كانوا أكمل وأقوى وأثبت في‬ ‫العقل والتمييز‪ ،‬لما يرد على القلب من أحوال اليمان‪ ،‬فإن الصحابة ـ رضي ا ّ‬
‫الحوال اليمانية من أن تغيب عقولهم‪ .‬أو يحصل لهم غشى‪ ،‬أو صعق‪ ،‬أو سكر‪ ،‬أو فناء‪ ،‬أو َوَلٌه‪ ،‬أو جنون‪ .‬وإنما‬
‫كان مبادئ هذه المور في التابعين من عباد البصرة‪ ،‬فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن‪ .‬ومنهم من‬
‫يموت‪ :‬كأبي جهير الضرير‪ .‬وزرارة بن أوفى قاضي البصرة‪.‬‬

‫وكذلك صار في شيوخ الصوفية‪ ،‬من يعرض له من الفناء والسكر‪ ،‬ما ‪ /‬يضعف معه تمييزه‪ ،‬حتى يقول في تلك‬
‫الحال من القوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه‪ ،‬كما يحكى نحو ذلك‪ ،‬عن مثل أبى يزيد‪ ،‬وأبي الحسين النوري‪،‬‬
‫وأبى بكر الشبلي وأمثالهم‪.‬‬

‫بخلف أبي سليمان الداراني‪ ،‬ومعروف الكرخي ‪ ،‬والفضيل بن عياض‪ ،‬بل وبخلف الجنيد وأمثالهم‪ ،‬ممن كانت‬
‫عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فل يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه‪ ،‬بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيـها‬
‫ل وإرادته وعبادته‪ ،‬وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون المور على ما هي عليه‪ ،‬بل يشهدون‬ ‫سوى محبة ا ّ‬
‫ل مدبرة بمشيئته‪ ،‬بل مستجيبة له قانتة له‪ ،‬فيكون لهم فيها تبصرة وذكـرى‪ ،‬ويكون ما‬
‫المخلوقات قائمة بأمر ا ّ‬
‫يشهـدونه من ذلك مؤيـًدا‪ ،‬وممـًدا لما في قلوبهم من إخلص الدين‪ ،‬وتجريد التوحيد له‪ ،‬والعبادة له وحده ل شريك له‪.‬‬

‫وهذه الحقيقة‪ ،‬التي دعا إليها القرآن‪ ،‬وقام بها أهل تحقيق اليمان‪ ،‬والكمل من أهل العرفان‪ .‬ونبينا صلى ال عليه‬
‫وسلم إمام هؤلء وأكملهم؛ ولهذا لما عرج به إلى السموات‪ ،‬وعاين ما هنالك من اليات وأوحى إليه ما أوحى من‬
‫أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله‪ ،‬ولظهر عليه ذلك‪ ،‬بخلف ما كان يظهر على موسى من التغشي ـ‬
‫ل عليهم وسلم أجمعين‪.‬‬ ‫صلى ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق‪ ،‬فل‬
‫‪/‬وأما النوع الثالث‪ :‬مماقد يسمى فناء ـ فهو أن يشهد أن ل موجود إل ا ّ‬
‫فرق بين الرب والعبد‪ ،‬فهذا فناء أهل الضلل واللحاد الواقعين في الحلول والتحاد‪.‬‬

‫ل‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فمرادهم بذلك ما أرى ربا‬ ‫ل‪ ،‬أول أنظر إلى غير ا ّ‬‫والمشائخ المستقيمون إذا قال أحدهم‪ :‬ما أرى غير ا ّ‬
‫غيره‪ ،‬ول خالًقا غيره‪ ،‬ول مدبًرا غيره‪ ،‬ول إلها غيره‪ ،‬ول أنظر إلى غيره محبة له‪ ،‬أو خوًفا منه‪ ،‬أو رجاء له‪ ،‬فإن‬
‫العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب‪ ،‬فمن أحب شيًئا‪ ،‬أو رجاه أو خافه التفت إليه‪ ،‬وإذا لم يكن في القلب محبة له‪ ،‬ول‬
‫رجاء له‪ ،‬ول خوف منه‪ ،‬ول بغض له‪ ،‬ول غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه‪ ،‬ول أن ينظر‬
‫طا‪ ،‬ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به‪.‬‬ ‫إليه ول أن يراه وإن رآه اتفاًقا‪ ،‬رؤية مجردة كان كما لو رأى حائ ً‬

‫ل عنهم ـ يذكرون شيًئا من تجريد التوحيد‪ ،‬وتحقيق إخلص الدين كله‪ ،‬بحيث ل يكون‬ ‫والمشائخ الصالحون ـ رضي ا ّ‬
‫غا من‬‫ل ول ناظًرا إلى ما سواه‪ :‬لحًبا له‪ ،‬ول خوًفا منه‪ ،‬ول رجاء له بل يكون القلب فار ً‬ ‫العبد ملتفًتا إلى غير ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فبالحق يسمع‪ ،‬وبالحق يبصر‪ ،‬وبالحق يبطش‪ ،‬وبالحق يمشي‪ ،‬فيحب‬ ‫المخلوقات خالًيا منها ل ينظر إليها إل بنور ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ويخاف ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل‪ ،‬ويعادي منها ما عاداه ‪ /‬ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ويوالي منها ما واله ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ويبغض منها ما يبغضه ا ّ‬ ‫منها ما يحبه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فهذا هو القلب السليم‪ ،‬الحنيف‪ ،‬الموحد‪ ،‬المسلم‪،‬‬‫ل فيها‪ ،‬ول يرجوها في ا ّ‬‫ل‪ ،‬ويرجو ا ّ‬‫فيها‪ ،‬ول يخافها في ا ّ‬
‫المؤمن‪ ،‬العارف‪ ،‬المحقق‪ ،‬الموحد بمعرفة النبياء والمرسلين‪ ،‬وبحقيقتهم وتوحيدهم‪.‬‬

‫وأما النوع الثالث‪ :‬وهو الفناء في الموجود‪ ،‬فهو تحقيق آل فرعون‪ ،‬ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم‪.‬‬

‫ل عليهم من أوليائه المتقين‪،‬‬


‫وهذا النوع الذي عليه أتباع النبياء هو الفناء المحمود‪ ،‬الذي يكون صاحبه به ممن أثنى ا ّ‬
‫وحزبه المفلحين‪ ،‬وجنده الغالبين‪.‬‬

‫وليس مراد المشائخ‪ ،‬والصالحين‪ ،‬بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات‪ ،‬هو رب الرض والسموات‪ ،‬فإن‬
‫هذا ل يقوله إل من هو في غاية الضلل والفساد‪ ،‬إما فساد العقل‪ ،‬وإما فساد العتقاد‪ .‬فهو متردد بين الجنون‬
‫واللحاد‪.‬‬

‫وكل المشائخ الذين يقتدي بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف المة وأئمتها‪ ،‬من أن الخالق ـ سبحانه ـ مباين‬
‫للمخلوقات‪ ،‬وليس في مخلوقاته شىء من ذاته‪ ،‬ول في ذاته شىء من مخلوقاته‪ ،‬وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث‪،‬‬
‫وتمييز الخالق عن المخلوق‪ .‬وهذا في كلمهم ‪ /‬أكثر من أن يمكن ذكره هنا‪ .‬وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب‬
‫من المراض والشبهات‪ ،‬وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات‪ ،‬فيظنه خالق الرض والسموات‪ ،‬لعدم التمييز‬
‫والفرقان في قلبه‪ ،‬بمنزلة من رأى شعاع الشمس‪ ،‬فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء‪.‬‬

‫وهم قد يتكلمون في الفرق‪ ،‬والجمع‪ ،‬ويدخل في ذلك من العبارات الملفتة نظير ما دخل في الفناء‪ ،‬فإن العبد إذا شهد‬
‫التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلًقا بها‪ ،‬متشتًتا ناظًرا إليها متعلًقا بها‪ ،‬إما محبة‪ ،‬وإما خوًفا‪ ،‬وإما رجاء‪،‬‬
‫ل بعد التفاته إلى‬
‫ل وعبادته وحده ل شريك له‪ ،‬فالتفت قلبه إلى ا ّ‬ ‫فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد ا ّ‬
‫المخلوقين فصارت محبته لربه‪ ،‬وخوفه من ربه‪ ،‬ورجاؤه لربه‪ ،‬واستعانته بربه‪ ،‬وهو في هذا الحال قد ل يسع قلبه‬
‫ضا عن الخلق نظًرا وقصًدا وهو‬ ‫النظر إلى المخلوق؛ ليفرق بين الخالق والمخلوق‪ .‬فقد يكون مجتمًعا على الحق معر ً‬
‫نظير النوع الثاني من الفناء‪.‬‬

‫ل‪ ،‬مدبرة بأمره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية ا ّ‬


‫ل‬ ‫ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو‪ :‬أن يشهد أن المخلوقات قائمة با ّ‬
‫لـ‬‫ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه ـ سبحانه ـ رب المصنوعات‪ ،‬وإلهها وخالقها‪ ،‬ومالكها‪ ،‬فيكون مع اجتماع قلبه على ا ّ‬
‫ل وموالة فيه‪ ،‬ومعاداة فيه وأمثال ذلك ـ ناظًرا إلى الفرق‬ ‫صا له ومحبة وخوًفا ورجاء واستعانة وتوكل على ا ّ‬ ‫إخل ً‬
‫ل رب كل شيء‪،‬‬ ‫بين الخالق والمخلوق مميًزا ‪ /‬بين هذا وهذا‪ ،‬يشهد تفرق المخلوقات‪ ،‬وكثرتها مع شهادته أن ا ّ‬
‫ل ل إله إل هو‪ ،‬وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم‪ ،‬وذلك واجب‪ ،‬في علم القلب‪،‬‬ ‫ومليكه‪ ،‬وخالقه‪ ،‬وأنه هو ا ّ‬
‫وشهادته‪ ،‬وذكره‪ ،‬ومعرفته‪ ،‬في حال القلب‪ ،‬وعبادته‪ ،‬وقصده‪ ،‬وإرادته‪ ،‬ومحبته‪ ،‬وموالته‪ ،‬وطاعته‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق‪ ،‬ويثبت في قلبه ألوهية الحق‪ ،‬فيكون‬
‫وذلك تحقيق شهادة أن ل إله إل ا ّ‬
‫نافًيا للوهية كل شيء من المخلوقات‪ ،‬مثبًتا للوهية رب العالمين رب الرض والسموات‪ ،‬وذلك يتضمن اجتماع‬
‫ل‪ ،‬وعلى مفارقة ما سواه‪ ،‬فيكون مفرًقا في علمه وقصده في شهادته‪ ،‬وإرادته في معرفته ومحبته بين‬ ‫القلب على ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ ذاكًرا له عارًفا به‪ ،‬وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه‪ ،‬وانفراده‬ ‫الخالق والمخلوق‪ ،‬بحيث يكون عالًما با ّ‬
‫ل‪ ،‬معظًما له‪ ،‬عابًدا له‪ ،‬راجًيا له خائًفا منه‪ ،‬موالًيا فيه‪ ،‬معادًيا فيه‪ ،‬مستعيًنا به‪،‬‬‫عنهم‪ ،‬وتوحده دونهم‪ ،‬ويكون محًبا ّ‬
‫متوكلً عليه‪ ،‬ممتنًعا عن عبادة غيره‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والستعانة به‪ ،‬والخوف منه‪ ،‬والرجاء له‪ ،‬والموالة فيه‪،‬‬
‫ل ـ سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫والمعاداة فيه‪ ،‬والطاعة لمره‪ ،‬وأمثال ذلك‪ ،‬مما هو من خصائص إلهية ا ّ‬

‫ل ـ تعالى ـ دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته‪ ،‬وهو أنه رب كل شيء ومليكه‪ ،‬وخالقه‪ ،‬ومدبره‪،‬‬
‫وإقراره بألوهية ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫فحينئذ يكون موحًدا ّ‬

‫عا إلى النبي صلى ال‬


‫ل‪ ،‬كما رواه الترمذي وابن أبي ‪ /‬الدنيا‪ ،‬وغيرهما مرفو ً‬‫ويبين ذلك أن أفضل الذكر‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫ل(‪ ،‬وفي الموطأ ـ وغيره ـ عن طلحة بن عبد‬ ‫ل‪ ،‬وأفضل الدعاء‪ :‬الحمد ّ‬ ‫عليه وسلم أنه قال‪) :‬أفضل الذكر‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫ل وحده ل شريك له‪،‬‬‫ل بن كثير أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي‪ :‬ل إله إل ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫له الملك وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير(‪.‬‬

‫ومن زعم أن هذا ذكر العامة‪ ،‬وأن ذكر الخاصة هو السم المفرد‪ ،‬وذكر خاصة الخاصة‪ ،‬هو السم المضمر‪ ،‬فهم‬
‫ضِهْم َيْلَعُبوَن{ ]النعام‪ ،[91 :‬من أبين غلط‬ ‫خْو ِ‬ ‫ل ُثّم َذْرُهْم ِفي َ‬ ‫ضالون غالطون‪ .‬واحتجاج بعضهم على ذلك‪ ،‬بقوله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ا ُّ‬
‫سى ُنوًرا َوُهًدى‬
‫جاَء ِبِه ُمو َ‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫ل اْلِكَتا َ‬
‫ن َأنَز َ‬
‫ل َم ْ‬ ‫هؤلء‪ ،‬فإن السم هومذكور في المر بجواب الستفهام‪ .‬وهو قوله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل الذي أنزل‬ ‫ل{ ]النعام‪ [91 :‬أي‪ :‬ا ّ‬ ‫ل ا ُّ‬
‫ل آَباُؤُكْم ُق ْ‬
‫عّلْمُتْم َما َلْم َتْعَلُموا َأْنُتْم َو َ‬
‫ن َكِثيًرا َو ُ‬
‫خُفو َ‬
‫س ُتْبُدوَنَها َوُت ْ‬
‫طي َ‬
‫جَعُلوَنُه َقَرا ِ‬
‫س َت ْ‬
‫ِللّنا ِ‬
‫الكتاب الذي جاء به موسى‪،‬فالسم مبتدأ‪ ،‬وخبره قد دل عليه الستفهام‪ ،‬كما في نظائر ذلك تقول‪ :‬من جاره‪ ،‬فيقول‬
‫زيد‪.‬‬

‫وأما السم المفرد‪ ،‬مظهًرا‪ ،‬أو مضمًرا‪ ،‬فليس بكلم تام‪ ،‬ول جملة مفيدة‪ ،‬ول يتعلق به إيمان‪ ،‬ول كفر‪ ،‬ول أمر‪ ،‬ول‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول يعطي القلب بنفسه‬ ‫نهي‪ ،‬ولم يذكر ذلك أحد من سلف المة‪ ،‬ول شرع ذلك رسول ا ّ‬
‫معرفة مفيدة‪ ،‬ول حالً نافًعا‪ ،‬وإنما يعطيه تصوًرا مطلًقا‪ ،‬ل يحكم عليه بنفي ول إثبات‪ ،‬فإن لم يقترن به من معـرفة‬
‫القلب وحاله ما يفيد بنفسه ‪ /‬وإل لم يكن فيه فائدة‪ .‬والشريعة إنما تشرع من الذكار ما يفيد بنفسه‪ ،‬ل ما تكون الفائدة‬
‫حاصلة بغيره‪.‬‬

‫وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من اللحاد‪ ،‬وأنواع من التحاد‪ ،‬كما قد بسط في غير هذا‬
‫الموضع‪.‬‬

‫وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال‪ :‬أخاف أن أموت بين النفي والثبات‪ .‬حال ل يقتدى فيها بصاحبها‪ ،‬فإن في‬
‫ذلك من الغلط ما ل خفاء به‪ .‬إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إل على ما قصده ونواه‪ ،‬إذ العمال بالنيات‪ ،‬وقد‬
‫ل دخل‬‫ل‪ ،‬وقال‪) :‬من كان آخر كلمه ل إله إل ا ّ‬‫ثبت أن النبي صلى ال عليه وسلم أمر بتلقين الميت ل إله إل ا ّ‬
‫الجنة( ولو كان ما ذكره محذوًرا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موًتا غير محمود‪ ،‬بل كان يلقن ما‬
‫اختاره من ذكر السم المفرد‪.‬‬

‫والذكر بالسم المضمر المفرد أبعد عن السنة‪،‬وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلل الشيطان‪،‬فإن من قال‪ :‬يا هو يا‬
‫هو‪ ،‬أو‪ :‬هو هو‪ .‬ونحو ذلك لم يكن الضمير عائًدا إل ِإلى ما يصوره قلبه‪ ،‬والقلب قد يهتدي وقد يضل‪،‬وقد صنف‬
‫ل{ ]آل عمران‪ ،[7 :‬معناه‪:‬‬ ‫صاحب ]الفصوص[ كتاًبا سماه كتاب ]الهو[ وزعم بعضهم أن قوله‪َ} :‬وَما َيْعَلُم َتْأِويَلُه ِإ ّ‬
‫ل ا ُّ‬
‫وما يعلم تأويل هذا السم الذي هو ]الهو[‪ ،‬وقيل‪ :‬هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل ‪/‬العقلء على أنه من أبين‬
‫الباطل‪،‬فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلء‪ ،‬حتى قلت مرة لبعض من قال شيًئا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت‪:‬‬
‫]وما يعلم تأويل هو[ منفصلة‪.‬‬

‫ل أمر نبيه بأن‬ ‫ل ُثّم َذْرُهْم{ ويظن أن ا ّ‬ ‫ل ا ُّ‬ ‫ل[ بقوله‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫ثم كثيًرا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل‪] :‬ا ّ‬
‫ل الذي أنزل الكتاب الذي جاء به‬ ‫ل بّلٍه{ معناه‪ :‬ا ّ‬ ‫يقول‪ :‬السم المفرد‪ ،‬وهذا غلط باتفاق أهل العلم‪ ،‬فإن قوله‪ٍ} :‬ق ٌ‬
‫ن َكِثيًرا‬
‫خُفو َ‬
‫س ُتْبُدوَنَها َوُت ْ‬
‫طي َ‬
‫جَعُلوَنُه َقَرا ِ‬
‫س َت ْ‬
‫سى ُنوًرا َوُهًدى ِللّنا ِ‬‫جاَء ِبِه ُمو َ‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫ل اْلِكَتا َ‬
‫ن َأنَز َ‬
‫ل َم ْ‬ ‫موسى‪ ،‬وهو جواب لقوله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‪ ،‬رد بذلك قول‬ ‫ل{ ]النعام‪ ،[91 :‬أي‪ :‬ا ّ‬ ‫ل ا ُّ‬‫ل آَباُؤُكْم ُق ْ‬
‫عّلْمُتْم َما َلْم َتْعَلُموا َأْنُتْم َو َ‬
‫َو ُ‬
‫ل{ أنزله }ُثّم َذْرُهْم‬
‫ل ا ُّ‬
‫ب اّلِذي َجاَء ِبِه ُموَسى{ ثم قال‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل اْلِكَتا َ‬ ‫ل على بشر من شيء‪ ،‬فقال‪َ} :‬م ْ‬
‫ن َأنَز َ‬ ‫من قال‪ :‬ما أنزل ا ّ‬
‫ضِهْم َيْلَعُبوَن{‪.‬‬ ‫{هؤلء المكذبين }ِفي َ‬
‫خْو ِ‬

‫ومما يبين ما تقدم‪ :‬ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلًما‪ ،‬ل يحكون به ما‬
‫ل‪ ،‬فالقول ل يحكى به إل كلم تام‪ ،‬أو جملة اسمية أو فعلىة؛ ولهذا يكسرون أن إذا جاءت بعد القول‪ ،‬فالقول‬ ‫كان قو ً‬
‫ل ـ تعالى ـ ل يأمر أحًدا بذكر اسم مفرد‪ ،‬ول شرع للمسلمين اسًما مفرًدا مجرًدا‪ ،‬والسم المجرد‬
‫ل يحكى به اسم‪ ،‬وا ّ‬
‫ل يفيد اليمان ‪ /‬باتفاق أهل السلم‪ ،‬ول يؤمر به في شيء من العبادات‪ ،‬ول في شيء من المخاطبات‪.‬‬

‫ل[‬
‫ونظير من اقتصر على السم المفرد ما يذكر أن بعض العراب مر بمؤذن يقول‪] :‬أشهد أن محمًدا رسول ا ّ‬
‫بالنصب فقال‪ :‬ماذا يقول هذا؟ هذا السم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلم؟‬

‫ك اَْلْعَلى{ ]العلى‪،[1 :‬‬‫سَم َرّب َ‬ ‫حا ْ‬ ‫ل{ ]المزمل‪ ،[8 :‬وقوله‪َ } :‬‬
‫سّب ْ‬ ‫ل ِإَلْيِه َتْبِتي ً‬
‫ك َوَتَبّت ْ‬
‫سَم َرّب َ‬‫وما في القرآن من قوله‪َ} :‬واْذُكْر ا ْ‬
‫ظيِم{ ]الواقعة‪،[96 :‬‬
‫ك اْلَع ِ‬‫سِم َرّب َ‬‫ح ِبا ْ‬ ‫صّلى{ ]العلى‪ ،[15 ،14 :‬وقوله‪َ} :‬ف َ‬
‫سّب ْ‬ ‫سَم َرّبِه َف َ‬
‫ن َتَزّكى‪َ .‬وَذَكَر ا ْ‬ ‫وقوله‪َ} :‬قْد َأْفَل َ‬
‫ح َم ْ‬
‫ظيِم{ ]الواقعة‪ ،[96 :‬قال‪:‬‬ ‫ك اْلَع ِ‬
‫سِم َرّب َ‬ ‫ونحو ذلك ل يقتضي ذكره مفرًدا‪ ،‬بل في السنن أنه لما نزل قوله‪َ} :‬فسَّب ْ‬
‫ح ِبا ْ‬
‫ك اَْلْعَلى{ قال‪) :‬اجعلوها في سجودكم(‪ .‬فشرع لهم أن يقولوا في‬ ‫سَم َرّب َ‬ ‫حا ْ‬ ‫سّب ْ‬ ‫)اجعلوها في ركوعكم( ولما نزل قوله‪َ } :‬‬
‫الركوع‪ :‬سبحان ربي العظيم‪ ،‬وفي السجود سبحان ربي العلى‪ ،‬وفي الصحيح أنه كان يقول في ركوعه‪) :‬سبحان‬
‫ربي العظيم( وفي سجوده‪) :‬سبحان ربي العلى( وهذا هو معنى قوله‪) :‬اجعلوها في ركوعكم( و)سجودكم( باتفاق‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫فتسبيح اسم ربه العلى وذكر اسم ربه‪ ،‬ونحو ذلك هو بالكلم التام المفيد‪ ،‬كما في الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم‬
‫ل أكبر(‪ ،‬وفي‬‫ل‪ ،‬وا ّ‬
‫ل‪ ،‬ول إله إل ا ّ‬‫ل‪ ،‬والحمد ّ‬ ‫أنه قال‪) :‬أفضل الكلم بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن ـ‪ :‬سبحان ‪/‬ا ّ‬
‫الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‪ ،‬حبيبتان إلى الرحمن‪:‬‬
‫ل العظيم(‪ ،‬وفي الصحيحين عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬من قال في يومه مائة‬ ‫ل وبحمده‪ ،‬سبحان ا ّ‬ ‫سبحان ا ّ‬
‫ل له حرًزا من الشيطان‬ ‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬له الملك‪ ،‬وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪ ،‬كتب ا ّ‬ ‫مرة‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫يومه ذلك حتى يمسى‪ ،‬ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به‪ ،‬إل رجل قـال مثل ما قال أو زاد عليه‪ .‬ومـن قال في يومـه‬
‫ل العظيم‪ ،‬حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر(‪ ،‬وفي الموطأ وغيره‬ ‫ل وبحمده سبحان ا ّ‬ ‫مائة مـرة‪ :‬سبحان ا ّ‬
‫ل وحده ل شريك له له الملك‬ ‫عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي ل إله إل ا ّ‬
‫وله الحمد وهو على كل شيء قدير(‪ .‬وفي سنن ابن ماجه وغيره عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬أفضل الذكر ل‬
‫ل(‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وأفضل الدعاء الحمد ّ‬ ‫إله إل ا ّ‬

‫ومثل هذه الحاديث كثيرة في أنواع ما يقال من الذكر والدعاء‪.‬‬

‫ن‬ ‫عَلْيِه{ ]النعام‪ ،[121 :‬وقوله‪َ} :‬فُكُلوا ِمّما َأْم َ‬


‫سْك َ‬ ‫ل َ‬‫سُم ا ِّ‬ ‫وكذلك ما في القرآن من قوله تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َتْأُكُلوا ِمّما َلْم ُيْذَكْر ا ْ‬
‫ل‪ .‬وهذا جملة تامة إما اسمية‪ ،‬على أظهر ‪ /‬قولي النحاة‪،‬‬ ‫ل َعَلْيِه{ ]المائدة‪ ،[4 :‬إنما هو قوله‪ :‬بسم ا ّ‬ ‫سَم ا ِّ‬
‫عَلْيُكْم َواْذُكُروا ا ْ‬
‫َ‬
‫ل الّرْحَمِن الّرِحيِم{ فتقديره‪ :‬قراءتي‬ ‫ل‪ ،‬أو أذبح باسم ال‪ ،‬وكذلك قول القارئ‪ِ} :‬ب ْ‬
‫سِم ا ِّ‬ ‫أو فعلىة‪ ،‬والتقدير ذبحي باسم ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ل‪ ،‬أو أقرأ بسم ا ّ‬
‫بسم ا ّ‬

‫ل‪،‬‬
‫ل‪ .‬والول أحسن؛ لن الفعل كله مفعول بسم ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬أو ابتدأت بسم ا ّ‬ ‫ومن الناس من يضمر في مثل هذا ابتدائي بسم ا ّ‬
‫سِم ا ِّ‬
‫ل‬ ‫ق{ ]العلق‪ ،[1 :‬وفي قوله‪ِ} :‬بِا ْ‬
‫خَل َ‬
‫ك اّلِذي َ‬ ‫ليس مجرد ابتدائه‪ ،‬كما أظهر المضـمر في قــوله‪} :‬اْقَرْأ ِبا ْ‬
‫سِم َرّب َ‬
‫ساَها{ ]هود‪ ،[41 :‬وفي قول النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬من كان ذبح قبل الصلة فليذبح مكانها أخرى‪.‬‬ ‫جَراَها َوُمْر َ‬
‫َم ْ‬
‫ل(‪ .‬ومن هذا الباب قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لربيبه عمر بن‬ ‫ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم ا ّ‬
‫ل‪ .‬ليس المراد أن يذكر السم مجرًدا‪ .‬وكذلك‬ ‫ل‪ ،‬وكل بيمينك‪ ،‬وكل مما يليك( فالمراد أن يقول بسم ا ّ‬ ‫أبي سلمة‪) :‬بسم ا ّ‬
‫ل فكل(‪ ،‬وكذلك قوله صلى ال عليه‬ ‫قوله في الحديث الصحيح لعدي بن حاتم‪) :‬إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم ا ّ‬
‫ل عند دخوله‪ ،‬وعند خروجه‪ .‬وعند طعامه‪ ،‬قال الشيطان ل مبيت لكم ول‬ ‫وسلم‪) :‬إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم ا ّ‬
‫عشاء( وأمثال ذلك كثير‪.‬‬
‫ل تعالى إنما هو بالجملة التامة‪ .‬كقول‬ ‫وكذلك ما شرع للمسلمين في صلتهم وأذانهم‪ ،‬وحجهم وأعيادهم من ذكر ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وقول المصلي‪ :‬ال أكبر‪ ،‬سبحان‬ ‫ل‪ ،‬أشهد أن محمًدا رسول ا ّ‬ ‫ل ‪ /‬أكبر‪ ،‬أشهد أن ل إله إل ا ّ‬ ‫ل أكبر‪ ،‬ا ّ‬ ‫المؤذن‪ :‬ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وقول الملبي‪ :‬لبيك الّلهم لبيك‪،‬‬
‫ل لمن حمده‪ ،‬ربنا ولك الحمد‪ ،‬التحيات ّ‬ ‫ربي العظيم‪ ،‬سبحان ربي العلى‪ ،‬سمع ا ّ‬
‫ل من الذكر إنما هو كلم تام‪ ،‬ل اسم مفرد ل مظهر ول مضمر‪ ،‬وهذا هو الذي يسمى‬ ‫وأمثال ذلك‪ ،‬فجميع ما شرعه ا ّ‬
‫ل وبحمده‬ ‫في اللغة كلمة‪ ،‬كقوله‪) :‬كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‪ ،‬حبيبتان إلى الرحمن‪ ،‬سبحان ا ّ‬
‫ل باطل(‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪:‬‬ ‫ل العظيم(‪ ،‬وقوله‪) :‬أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد‪ :‬أل كل شيء ماخل ا ّ‬ ‫سبحان ا ّ‬
‫صْدًقا َوَعْدًل{ ]النعام‪ ،[115 :‬وأمثال ذلك‬
‫ك ِ‬ ‫ن َأْفَواِهِهْم{ الية ]الكهف‪ ،[5 :‬وقوله‪َ} :‬وَتّم ْ‬
‫ت َكِلَمُة َرّب َ‬ ‫ج ِم ْ‬
‫خُر ُ‬
‫ت َكِلَمًة َت ْ‬
‫}َكُبَر ْ‬
‫مما استعمل فيه لفظ الكلمة في الكتاب والسنة‪،‬بل وسائر كلم العرب فإنما يراد به الجملة التامة‪ ،‬كما كانوا يستعملون‬
‫الحرف في السم‪ ،‬فيقولون‪ :‬هذا حرف غريب‪ .‬أي‪ :‬لفظ السم غريب‪.‬‬

‫وقسم سيبويه الكلم إلى اسم‪ ،‬وفعل‪ ،‬وحرف جاء لمعنى‪ ،‬ليس باسم وفعل‪ ،‬وكل من هذه القسام يسمى حرًفا‪ ،‬لكن‬
‫خاصة الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ول فعل‪ ،‬وسمى حروف الهجاء باسم الحرف وهي أسماء‪ ،‬ولفظ‬
‫الحرف يتناول هذه السماء وغيرها‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف‪/‬‬
‫عشر حسنات‪ :‬أما أني ل أقول‪} :‬الــم{ حرف‪ ،‬ولكن ألف حرف‪،‬ولم حرف‪ ،‬وميم حرف(‪ ،‬وقد سأل الخليل أصحابه‬
‫عن النطق بحرف الزاي من زيد فقالوا‪ :‬زاي‪ ،‬فقال‪ :‬جئتم بالسم‪ ،‬وإنما الحرف ]ز[‪.‬‬

‫ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يسمى كلمة‪ ،‬وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى‪،‬‬
‫ليس باسم ول فعل‪ ،‬كحروف الجر ونحوها‪ ،‬وأما ألفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من‬
‫اللفظ‪ ،‬وتارة باسم ذلك الحرف‪ ،‬ولما غلب هذا الصطلح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب‪ ،‬ومنهم من‬
‫ظا مشترًكا بين السم مثل وبين الجملة‪ ،‬ول يعرف في صريح اللغة من لفظ الكلمة إل‬
‫يجعل لفظ الكلمة في اللغة لف ً‬
‫الجملة التامة‪.‬‬

‫ل ـ سبحانه ـ هو ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلم‪ ،‬والواحد منه بالكلمة‪،‬‬
‫والمقصود هنا أن المشروع في ذكر ا ّ‬
‫ل ومعرفته ومحبته وخشيته‪ ،‬وغير ذلك من‬ ‫وهو الذي ينفع القلوب‪ ،‬ويحصل به الثواب والجر‪ ،‬والقرب إلى ا ّ‬
‫المطالب العالية والمقاصد السامية‪ ،‬وأما القتصار على السم المفرد مظهًرا أو مضمًرا فل أصل له‪ .‬فضل عن أن‬
‫يكون من ذكر الخاصة والعارفين‪ ،‬بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضللت وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة‬
‫من أحوال أهل اللحاد‪ ،‬وأهل التحاد‪ ،‬كما قد بسط الكلم عليه في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫جوا ِلَقاَء‬
‫ن َيْر ُ‬
‫ن َكا َ‬
‫ل‪ ،‬ول نعبده إل بما شرع‪ ،‬ل نعبده بالبدع‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬فَم ْ‬ ‫‪/‬وجماع الدين أصلن‪ :‬أل نعبد إل ا ّ‬
‫حًدا{ ]الكهف‪ ،[110 :‬وذلك تحقيق الشهادتين‪ :‬شهادة أن ل إله إل‬ ‫ك ِبِعَباَدِة َرّبِه َأ َ‬
‫شِر ْ‬ ‫ل ُي ْ‬
‫حا َو َ‬ ‫صاِل ً‬‫ل َ‬ ‫عَم ً‬‫ل َ‬ ‫َرّبِه َفْلَيْعَم ْ‬
‫ل‪ .‬ففي الولى‪ :‬أل نعبد إل إياه‪ ،‬وفي الثانية‪ :‬أن محمًدا هو رسوله المبلغ عنه‪ ،‬فعلىنا‬ ‫ل‪ ،‬وشهادة أن محمًدا رسول ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫ل به‪ ،‬ونهانا عن محدثات المور‪ ،‬وأخبر أنها ضللة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫أن نصدق خبره ونطيع أمره‪ ،‬وقد بين لنا ما نعبد ا ّ‬
‫ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن{ ]البقرة‪.[112 :‬‬
‫خْو ٌ‬
‫ل َ‬‫عْنَد َرّبِه َو َ‬
‫جُرُه ِ‬ ‫ن َفَلُه َأ ْ‬
‫سٌ‬‫حِ‬ ‫ل َوُهَو ُم ْ‬‫جَهُه ِّ‬
‫سَلَم َو ْ‬
‫}َبَلى َمنْ َأ ْ‬

‫ل‪ ،‬وأل تكون‬ ‫ل‪ ،‬ول نستعين إل با ّ‬ ‫ل‪ ،‬ول نرغب إل إلى ا ّ‬ ‫ل ول نتوكل إل على ا ّ‬ ‫كما أنا مأمورون أل نخاف إل ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به‪ ،‬فالحلل ما حلله والحرام ما حرمه‪ ،‬والدين‬ ‫عبادتنا إل ّ‬
‫ن{‬
‫غُبو َ‬
‫ل َرا ِ‬‫سوُلُه ِإّنا ِإَلى ا ِّ‬
‫ضِلِه َوَر ُ‬
‫ن َف ْ‬
‫ل ِم ْ‬
‫سُيْؤِتيَنا ا ُّ‬
‫ل َ‬
‫سُبَنا ا ُّ‬
‫حْ‬
‫سوُلُه َوَقاُلوا َ‬‫ل َوَر ُ‬ ‫ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ‬‫ما شرعه‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وَلْو َأّنُهْم َر ُ‬
‫ل والرسول‪ ،‬كما قال‪َ} :‬وَما آَتاُكْم الّرُسوُل َفُخُذوهُ َوَما َنَهاُكْم َعْنُه َفاْنَتُهوا{ ]الحشر‪ ،[7 :‬وجعل‬ ‫]التوبة‪ ،[59 :‬فجعل اليتاء ّ‬
‫س ِإ ّ‬
‫ن‬ ‫ن َقالَ َلُهْم الّنا ُ‬ ‫ل{ ولم يقل ورسوله‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪} :‬اّلِذي َ‬ ‫سُبَنا ا ُّ‬
‫حْ‬‫ل وحده بقوله‪َ} :‬وَقاُلوا َ‬ ‫التوكل على ا ّ‬
‫ل َوِنْعَم اْلَوِكيُل{ ]آل عمران‪ ،[173 :‬ومثله قوله‪َ} :‬ياَأّيَها الّنِب ّ‬
‫ي‬ ‫سُبَنا ا ُّ‬‫حْ‬‫شْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا َوَقاُلوا َ‬
‫خَ‬
‫جَمُعوا َلُكْم َفا ْ‬‫س َقْد َ‬
‫الّنا َ‬
‫عْبَدُه{‬
‫ف َ‬ ‫ل ِبَكا ٍ‬ ‫ن{ ]النفال‪ ،[64 :‬أي‪ / :‬حسبك وحسب المؤمنين كما قال‪َ} :‬أَلْي َ‬
‫س ا ُّ‬ ‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬ ‫ك ِم ْ‬
‫ن اّتَبَع َ‬‫ل َوَم ْ‬‫ك ا ُّ‬‫سُب َ‬
‫حْ‬‫َ‬
‫]الزمر‪.[36 :‬‬

‫ل يؤتيه من‬‫ل والرسول‪ ،‬وقدم ذكر الفضل‪ ،‬لن الفضل بيد ا ّ‬ ‫ضِلِه َوَرُسوُلُه{‪ ،‬فجعل اليتاء ّ‬ ‫ن َف ْ‬
‫ل ِم ْ‬ ‫ثم قال‪َ } :‬‬
‫سُيْؤِتيَنا ا ُّ‬
‫ل َراِغُبوَن{ فجعل الرغبة إلى‬
‫ل ذو الفضل العظيم‪ ،‬وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين‪ ،‬وقال‪ِ} :‬إّنا ِإَلى ا ِّ‬ ‫يشاء وا ّ‬
‫ب{ ]الشرح‪ ،[8 ،7 :‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم لبن‬ ‫غ ْ‬
‫ك َفاْر َ‬
‫ب ‪َ .‬وِإَلى َرّب َ‬
‫ص ْ‬
‫ت َفان َ‬ ‫ل وحده كما في قوله‪َ} :‬فِإَذا َفَر ْ‬
‫غ َ‬ ‫ا ّ‬
‫ل(‪ .‬والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن با ّ‬ ‫عباس‪) :‬إذا سألت فاسأل ا ّ‬
‫عُبُدوا‬
‫نا ْ‬
‫ل ورسوله‪ ،‬كما في قول نوح ـ عليه السلم ـ‪َ} :‬أ ْ‬ ‫ل‪ ،‬وجعل الطاعة والمحبة ّ‬ ‫فجعل العبادة والخشية والتقوى ّ‬
‫ن{ ]النور‪:‬‬ ‫ك ُهْم اْلَفاِئُزو َ‬
‫ل َوَيّتِقيِه َفُأْوَلِئ َ‬
‫سوَلُه َوَيخْشَ ا َّ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫طْع ا َّ‬
‫ن ُي ِ‬
‫طيُعوِني{ ]نوح‪ ،[3 :‬وقوله‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ل َواّتُقوُه َوَأ ِ‬
‫ا َّ‬
‫‪ ،[52‬وأمثال ذلك‪.‬‬

‫فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه‪،‬والطاعة لهم‪ ،‬فأضل الشيطان النصارى‪ ،‬وأشباههم فأشركوا‬
‫ل‪ ،‬وعصوا الرسول‪ ،‬اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباًبا من دون ال والمسيح ابن مريم‪ ،‬فجعلوا يرغبون إليهم‬‫با ّ‬
‫ل أهل الصراط‬ ‫ل المؤمنين المخلصين ّ‬ ‫ويتوكلون عليهم ويسألونهم‪ ،‬مع معصيتهم لمرهم ومخالفتهم لسنتهم‪ ،‬وهدى ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وأسلموا‬‫المستقيم‪ ،‬الذين عرفوا الحق واتبعوه‪ / ،‬فلم يكونوا من المغضوب عليهم ول الضالين‪ ،‬فأخلصوا دينهم ّ‬
‫ل‪ ،‬وأنابوا إلى ربهم‪ ،‬وأحبوه ورجوه وخافوه‪،‬وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه‪،‬‬‫وجوههم ّ‬
‫وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم‪ ،‬واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم‪.‬‬

‫ل من أحد ديًنا إل‬


‫ل به الولين والخرين من الرسل‪ ،‬وهو الدين الذي ل يقبل ا ّ‬
‫وذلك هو دين السلم الذي بعث ا ّ‬
‫إياه‪ ،‬وهو حقيقة العبادة لرب العالمين‪.‬‬

‫ل العظيم أن يثبتنا عليه‪ ،‬ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين‪.‬‬
‫فنسأل ا ّ‬

‫ل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‪.‬‬


‫ل وحده‪ ،‬وصلى ا ّ‬
‫والحمد ّ‬

‫ل‬ ‫ل روحه ـ عن قول النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬دعوة أخي ذي النون‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬ ‫سلم ابن تيمية ـ قدس ا ّ‬ ‫لْ‬ ‫خا ِ‬ ‫شْي ُ‬‫ل َ‬ ‫سئ َ‬
‫ُ‬
‫ل كربته( ما معنى هذه الدعوة؟ ولم‬ ‫ظاِلِميَن{]النبياء‪ .[87 :‬ما دعا بها مكروب إل فرج ا ّ‬
‫ن ال ّ‬
‫ت ِم ْ‬
‫ك ِإّني ُكن ُ‬
‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ت ُ‬‫َأْن َ‬
‫كانت كاشفة للكرب؟ وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها؟ وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها‪ .‬حتى يوجب‬
‫ظاِلِميَن{‪ ،‬مع أن التوحيد يوجب كشف الضر؟ وهل يكفيه اعترافه‪ ،‬أم‬ ‫ن ال ّ‬ ‫كشف ضره؟ وما مناسبة ذكره‪ِ} :‬إّني ُكن ُ‬
‫ت ِم ْ‬
‫لبد من التوبة والعزم في المستقبل؟ وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق‬
‫ل ـ تعالى ـ ورجائه‬
‫والتعلق بهم؟ وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين‪ ،‬والتعلق بهم بالكلية‪ ،‬وتعلقه با ّ‬
‫وانصرافه إليه بالكلية‪ ،‬وما السبب المعين على ذلك ؟‬

‫فأجاب‪:‬‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين‪ :‬دعاء العبادة‪/ ،‬ودعاء المسألة‪.‬‬
‫الحمد ّ‬

‫خَر لَ‬ ‫ل ِإَلًها آ َ‬


‫ع َمَع ا ِّ‬ ‫ن َيْد ُ‬‫ن{ ]الشعراء‪ ،[213 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬ ‫ن اْلُمَعّذِبي َ‬‫ن ِم ْ‬
‫خَر َفَتُكو َ‬ ‫ل ِإَلًها آ َ‬‫ع َمَع ا ِّ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬ف َ‬
‫ل َتْد ُ‬ ‫قال ا ّ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫خَر َ‬ ‫ل ِإَلًها آ َ‬
‫ع َمَع ا ِّ‬ ‫ن{ ]المؤمنون‪ ،[117 :‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َتْد ُ‬ ‫ح اْلَكاِفُرو َ‬
‫ل ُيْفِل ُ‬
‫عْنَد َرّبِه ِإّنُه َ‬ ‫ساُبُه ِ‬ ‫حَ‬ ‫ن َلُه ِبِه َفِإّنَما ِ‬
‫ُبْرَها َ‬
‫ن ُدوِنِه‬ ‫ن ِم ْ‬ ‫عو َ‬ ‫عَلْيِه ِلَبًدا{ ]الجن‪ ،[19 :‬وقال‪ِ} :‬إ ْ‬
‫ن َيْد ُ‬ ‫ن َ‬ ‫عوُه َكاُدوا َيُكوُنو َ‬ ‫ل َيْد ُ‬ ‫ُهَو{ ]القصص‪ ،[88 :‬وقال‪َ} :‬وَأّنُه َلّما َقاَم َ‬
‫عْبُد ا ِّ‬
‫ن َلُهْم‬
‫جيُبو َ‬ ‫سَت ِ‬
‫ل َي ْ‬‫ن ُدوِنِه َ‬ ‫ن ِم ْ‬‫عو َ‬ ‫ن َيْد ُ‬
‫ق َواّلِذي َ‬
‫حّ‬ ‫طاًنا َمِريًدا{ ]النساء‪ ،[117 :‬وقال تعالى‪َ} :‬لُه دَ ْ‬
‫عَوةُ اْل َ‬ ‫شْي َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ِإ ّ‬‫عو َ‬
‫ن َيْد ُ‬ ‫ل ِإَناًثا َوِإ ْ‬
‫ِإ ّ‬
‫خَر َو َ‬
‫ل‬ ‫ل ِإَلًها آ َ‬
‫ن َمَع ا ِّ‬ ‫عو َ‬ ‫ل َيْد ُ‬
‫ن َ‬ ‫ط َكّفْيِه ِإَلى اْلَماِء ِلَيْبُلَغ َفاُه َوَما ُهَو ِبَباِلِغِه{ ]الرعد‪ ،[14 :‬وقال تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬ ‫سِ‬ ‫ل َكَبا ِ‬ ‫يٍء ِإ ّ‬
‫ش ْ‬ ‫ِب َ‬
‫عاُؤُكْم{‬ ‫ل ُد َ‬‫ل َما َيْعَبُأ ِبُكْم َرّبي َلْو َ‬‫ن{ ]الفرقان‪ ،[68 :‬وقال في آخر السورة‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫ل َيْزُنو َ‬ ‫ق َو َ‬‫حّ‬ ‫ل ِباْل َ‬
‫ل ِإ ّ‬‫حّرَم ا ُّ‬ ‫س اّلِتي َ‬ ‫ن الّنْف َ‬ ‫َيْقُتُلو َ‬
‫]الفرقان‪.[77 :‬‬

‫قيل‪ :‬لول دعاؤكم إياه‪ ،‬وقيل‪ :‬لول دعاؤه إياكم‪ .‬فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة‪ ،‬وإلى المفعول تارة‪ ،‬ولكن‬
‫إضافته إلى الفاعل أقوى؛ لنه لبد له من فاعل؛ فلهذا كان هذا أقوى القولين أي‪ :‬ما يعبأ بكم لول أنكم تدعونه‬
‫ف َيُكوُن ِلَزاًما{ ]الفرقان‪ [77 :‬أي‪ :‬عذاب لزم للمكذبين‪.‬‬ ‫فتعبدونه‪ ،‬وتسألونه‪َ} :‬فَقْد َكّذْبُتْم َف َ‬
‫سْو َ‬

‫ولفظ الصلة في اللغة‪ :‬أصله الدعاء‪ ،‬وسميت الصلة دعاء لتضمنها معنى الدعاء‪ ،‬وهو العبادة والمسألة‪.‬‬

‫ب َلُكْم{ ]غافر‪ ،[60 :‬بالوجهين‪،‬قيل‪ :‬اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم‪ .‬كما‬‫ج ْ‬ ‫سَت ِ‬ ‫‪/‬وقد فسر قوله تعالى‪} :‬اْد ُ‬
‫عوِني َأ ْ‬
‫ت{ ]الشورى‪ [26 :‬أي‪ :‬يستجيب لهم‪ ،‬وهو معروف في اللغة‪ ،‬يقال‪:‬‬ ‫حا ِ‬
‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬
‫ن آَمُنوا َو َ‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫جي ُ‬ ‫قال تعالى‪َ} :‬وَي ْ‬
‫سَت ِ‬
‫استجابه واستجاب له‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب‬

‫وقيل‪ :‬سلوني أعطكم‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل‬
‫ل لفظ الدعاء‪ ،‬ثم ذكر‬
‫الخر‪ ،‬فيقول‪ :‬من يدعوني فأستجيب له‪ ،‬من يسألني فأعطيه‪ ،‬من يستغفرني فأغفر له( فذكر أو ً‬
‫السؤال والستغفار‪ .‬والمستغفر سائل كما أن السائل داع‪ ،‬لكن ذكر السائل؛ لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير‪،‬‬
‫وذكرهما جميًعا بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما‪ ،‬فهو من باب عطف الخاص على العام‪.‬‬

‫ب َدْعَوَة الّداِعي ِإَذا َدَعاِني{ ]البقرة‪.[186 :‬‬


‫جي ُ‬
‫ب ُأ ِ‬
‫عّني َفِإّني َقِري ٌ‬
‫عَباِدي َ‬
‫ك ِ‬ ‫قال تعالى‪َ} :‬وِإَذا َ‬
‫سَأَل َ‬

‫ضا راغب وراهب‪ ،‬يرجو رحمته ويخاف عذابه‪،‬‬ ‫وكل سائل راغب راهب‪ ،‬فهو عابد للمسؤول‪ ،‬وكل عابد له ‪ /‬فهو أي ً‬
‫فكل عابد سائل‪ ،‬وكل سائل عابد‪ .‬فأحد السمين يتناول الخر عند تجرده عنه‪ ،‬ولكن إذا جمع بينهما‪ :‬فإنه يراد‬
‫بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب‪ ،‬ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال المر‪،‬‬
‫وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال‪.‬‬

‫ضا ـ راج خائف راغب راهب‪ :‬يرغب في حصول مراده‪ ،‬ويرهب‬ ‫ل‪ ،‬والنظر إليه هو ـ أي ً‬ ‫والعابد الذي يريد وجه ا ّ‬
‫غًبا َوَرَهًبا{ ]النبياء‪ ،[90 :‬وقال تعالى‪َ} :‬تَت َ‬
‫جاَفى‬ ‫عوَنَنا َر َ‬
‫ت َوَيْد ُ‬
‫خْيَرا ِ‬
‫ن ِفي اْل َ‬
‫عو َ‬
‫ساِر ُ‬‫من فواته‪ ،‬قال تعالى‪ِ} :‬إّنُهْم َكاُنوا ُي َ‬
‫ل ـ دعاء عبادة أو دعاء مسألة‬ ‫طَمًعا{ ]السجدة‪ ،[16 :‬ول يتصور أن يخلو داع ّ‬ ‫خْوًفا َو َ‬
‫ن َرّبُهْم َ‬‫عو َ‬ ‫جِع َيْد ُ‬
‫ضا ِ‬
‫ن اْلَم َ‬
‫عْ‬‫جُنوُبُهْم َ‬
‫ُ‬
‫ـ من الرغب والرهب‪ ،‬من الخوف والطمع‪.‬‬

‫وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة‪ ،‬فهذا قد يفسر مراده بأن المقربين يريدون‬
‫ل‪ ،‬فيقصدون التلذذ بالنظر إليه‪ ،‬وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به‪ ،‬وهؤلء يرجون حصول هذا المطلوب‪،‬‬‫وجه ا ّ‬
‫ويخافون حرمانه‪ ،‬فلم يخلوا عن الخوف والرجاء‪ ،‬لكن مرجوهم ومخوفهم بحسب مطلوبهم‪.‬‬

‫ومن قال من هؤلء‪ :‬لم أعبدك شوًقا إلى جنتك ول خوًفا من نارك‪ /،‬فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات‪،‬‬
‫والنار اسم لما ل عذاب فيه إل ألم المخلوقات‪ ،‬وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة‪ ،‬بل كل ما أعده ا ّ‬
‫ل‬
‫ل الجنة‪ ،‬ويستعيذ به من النار‪ ،‬ولما‬
‫لوليائه‪ ،‬فهو من الجنة والنظر إليه هو من الجنة؛ ولهذا كان أفضل الخلق يسأل ا ّ‬
‫ل من النار‪ ،‬أما إني ل أحسن دندنتك ول‬ ‫ل الجنة‪ ،‬وأعوذ با ّ‬
‫سأل بعض أصحابه عما يقول في صلته قال‪ :‬إني أسأل ا ّ‬
‫دندنة معاذ‪ ،‬فقال‪) :‬حولها ندندن(‪.‬‬

‫ل ل يتلذذ‬
‫وقد أنكر على من قال هذا الكلم ـ يعني‪ :‬أسألك لذة النظر إلى وجهك ـ فريق من أهل الكلم‪ ،‬ظنوا أن ا ّ‬
‫بالنظر إليه‪ ،‬وأنه ل نعيم إل بمخلوق‪ .‬فغلط هؤلء في معنى الجنة كما غلط أولئك‪ ،‬لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن‬
‫يطلب‪ ،‬وهؤلء أنكروا ذلك‪.‬‬

‫وأما التألم بالنار‪ ،‬فهو أمر ضروري‪ ،‬ومن قال‪ :‬لو أدخلني النار لكنت راضًيا‪ ،‬فهو عزم منه على الرضا‪ .‬والعزائم قد‬
‫تنفسخ عند وجود الحقائق‪ ،‬ومثل هذا يقع في كلم طائفة مثل سمنون الذي قال‪:‬‬

‫وليس لي في سواك حظ ** فكيف ما شئت فامتحني‬

‫فابتلى بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول‪ :‬ادعوا لعمكم الكذاب‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد ُكْنُتْم َتَمّنْون اْلَمْو َ‬
‫ت‬
‫ظُروَن{ ]آل عمران‪.[143 :‬‬
‫ن َتْلَقْوُه َفَقْد َرَأْيُتُموُه َوَأْنُتْم َتْن ُ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ن َقْب ِ‬
‫ِم ْ‬

‫‪/‬وبعض من تكلم في علل المقامات‪ ،‬جعل الحب والرضا والخوف والرجاء‪ ،‬من مقامات العامة بناء على مشاهدة‬
‫القدر‪ ،‬وأن من شهد القدر فشهد توحيد الفعال حتى فنى من لم يكن‪ ،‬وبقى من لم يزل‪ ،‬يخرج عن هذه المور‪ ،‬وهذا‬
‫عا‪.‬‬
‫كلم مستدرك حقيقة وشر ً‬
‫ضا لما ينافره‪ ،‬ومن قال إن الحي يستوى عنده‬ ‫سا محًبا لما يلئمه‪ ،‬مبغ ً‬
‫أما الحقيقة‪ ،‬فإن الحي ل يتصور أل يكون حسا ً‬
‫جميع المقدورات‪ ،‬فهو أحد رجلين‪ ،‬إما أنه ل يتصور ما يقول بل هو جاهل‪ ،‬وإما أنه مكابر معاند‪ ،‬ولو قدر أن‬
‫النسان حصل له حال أزال عقله ـ سواء سمي اصطلًما‪ ،‬أو محوا‪ ،‬أو فناء‪ ،‬أو غشًيا‪ ،‬أو ضعًفا ـ فهذا لم يسقط‬
‫إحساس نفسه بالكلية‪ ،‬بل له إحساس بما يلئمه وما ينافره‪ ،‬وإن سقط إحساسه ببعض الشياء‪ ،‬فإنه لم يسقط بجميعها‪.‬‬

‫فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع‪ ،‬والفناء‪ ،‬فل يشهد فرًقا فإنه غالط‪ ،‬بل لبد من الفرق‪،‬‬
‫فإنه أمر ضروري‪.‬‬

‫لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقى في الفرق الطبيعي‪ ،‬فيبقى متبًعا لهواه ل مطيًعا لموله‪.‬‬

‫‪/‬ولهذا لما وقعت هذه المسألة‪،‬بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم الفرق الثاني‪،‬وهو‪ :‬أن يفرق بين المأمور والمحظور‪،‬‬
‫ل وما يكرهه‪ ،‬مع شهوده للقدر الجامع‪ ،‬فيشهد الفرق في القدر الجامع‪ .‬ومن لم يفرق بين المأمور‬
‫وبين ما يحبه ا ّ‬
‫والمحظور‪ ،‬خرج عن دين السلم‪.‬‬

‫وهؤلء الذين يتكلمون في الجمع ل يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية‪ ،‬وإن خرجوا عنه كانوا كفاًرا من شر‬
‫الكفار‪ ،‬وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم‪ ،‬ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود‪ ،‬فل يفرقون بين‬
‫ل ورسوله‬
‫الخالق والمخلوق‪ ،‬ولكن ليس كل هؤلء ينتهون إلى هذا اللحاد‪ ،‬بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون ا ّ‬
‫ل ورسوله تارة‪ ،‬كالعصاة من أهل القبلة‪ .‬وهذه المور مبسوطة في غير هذا الموضع‪.‬‬
‫تارة‪ ،‬ويعصون ا ّ‬

‫ن{‬
‫ب اْلَعاَلِمي َ‬
‫ل َر ّ‬
‫حْمُد ِّ‬
‫ن اْل َ‬
‫عَواُهْم َأ ْ‬ ‫ل ـ تعالى ـ‪َ} :‬وآ ِ‬
‫خُر َد ْ‬ ‫والمقصود هنا أن لفظ الدعوة والدعاء‪ ،‬يتناول هذا وهذا‪ ،‬قال ا ّ‬
‫ل( رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬وأفضل الدعاء الحمد ّ‬ ‫]يونس‪ ،[10 :‬وفي الحديث‪) :‬أفضل الذكر ل إله إل ا ّ‬
‫حاَن َ‬
‫ك‬ ‫سْب َ‬
‫ت ُ‬
‫ل َأْن َ‬ ‫وقال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره‪) :‬دعـوة أخي ذي النون‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل كربته(‪ ،‬سماها دعوة‪ ،‬لنها تتضمن نوعي‬ ‫ظاِلِميَن{ ]النبياء‪ ،[87 :‬ما دعا بها مكروب إل فرج ا ّ‬
‫ن ال ّ‬
‫ت ِم ْ‬
‫ِإّني ُكن ُ‬
‫الدعاء‪ .‬فقوله ل إله إل أنت اعتراف بتوحيد اللهية‪/ .‬وتوحيد اللهية يتضمن أحد نوعي الدعاء‪ ،‬فإن الله هو‬
‫ل ل إله إل هو‪.‬‬
‫المستحق؛ لن يدعي دعاء عبادة‪ ،‬ودعاء مسألة‪ ،‬وهو ا ّ‬

‫ظاِلِميَن{ اعتراف بالذنب‪ ،‬وهو يتضمن طلب المغفرة‪ ،‬فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة‬ ‫ن ال ّ‬
‫ت ِم ْ‬‫وقوله‪ِ} :‬إّني ُكن ُ‬
‫الطلب‪ ،‬وتارة يسأل بصيغة الخبر‪ ،‬إما بوصف حاله‪ ،‬وإما بوصف حال المسؤول‪ ،‬وإما بوصف الحالين‪ .‬كقول نوح ـ‬
‫س ِلي ِبِه ِعْلٌم َوِإّل َتْغِفْر ِلي َوَتْرَحْمِني َأُكْن ِمْن اْلَخاِسِريَن{ ]هود‪ [47 :‬فهذا ليس‬
‫ك َما َلْي َ‬
‫سَأَل َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ك َأ ْ‬
‫عوُذ ِب َ‬ ‫عليه السلم‪َ} :‬ر ّ‬
‫ب ِإّني َأ ُ‬
‫ل أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر‪.‬‬ ‫صيغة طلب‪ ،‬وإنما هو إخبار عن ا ّ‬

‫حْمَنا َلَنُكوَننّ‬‫ن َلْم َتْغِفْر َلَنا َوَتْر َ‬


‫سَنا َوِإ ْ‬ ‫ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة‪ ،‬وكذلك قول آدم ـ عليه السلم‪َ} :‬رّبَنا َ‬
‫ظَلْمَنا َأنُف َ‬
‫خْيٍر‬
‫ن َ‬ ‫ي ِم ْ‬ ‫ت ِإَل ّ‬
‫ب ِإّني ِلَما َأنَزْل َ‬ ‫ن{ ]العراف‪ ،[23 :‬هو من هذا الباب‪ ،‬ومن ذلك قول موسى ـ عليه السلم‪َ} :‬ر ّ‬ ‫سِري َ‬
‫خا ِ‬
‫ن اْل َ‬
‫ِم ْ‬
‫ل إنزال‬ ‫ل إليه من الخير‪ ،‬وهو متضمن لسؤال ا ّ‬ ‫َفِقيٌر{ ]القصص‪ ،[24 :‬فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل ا ّ‬
‫الخير إليه‪.‬‬

‫وقد روى الترمذي‪ ،‬وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي‪،‬‬
‫أعطيته أفضل ما أعطي السائلين( رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن‪ ،‬ورواه مالك بن الحويرث ‪ /‬وقال‪" :‬من شغله‬
‫عا بهذا اللفظ‪.‬‬
‫ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"‪ ،‬وأظن البيهقي رواه مرفو ً‬

‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد‬ ‫وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله‪) :‬أفضل الدعاء يوم عرفة‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫عان‪:‬‬
‫جْد َ‬
‫وهو على كل شيء قدير( فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن ُ‬

‫أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حباؤك أن شيمتك الحباء‬

‫إذا أثنى عليك المرء يومـــا ** كفاه من تعرضه الثنــاء‬

‫قال‪ :‬فهذا مخلوق يخاطب مخلوًقا‪ ،‬فكيف بالخالق تعالى‪.‬‬


‫ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى ـ عليه السلم ـ‪) :‬الّلهم لك الحمد‪ ،‬وإليك المشتكى‪ ،‬وأنت المستعان‪ ،‬وبك‬
‫المستغاث‪ ،‬وعليك التكلن( فهذا خبر يتضمن السؤال‪.‬‬

‫ت َأْرَحُم الّراِحِميَن{ ]النبياء‪ ،[83 :‬فوصف نفسه‪ ،‬ووصف‬


‫ضّر َوَأْن َ‬ ‫ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلم‪َ} :‬أّني َم ّ‬
‫سِني ال ّ‬
‫ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره‪ ،‬وهي صيغة خبر تضمنت السؤال‪ .‬و هذا من باب حسن الدب في‬
‫السؤال والدعاء‪ ،‬فقول القائل لمن يعظمه‪ ،‬ويرغب إليه‪ :‬أنا جائع‪ ،‬أنا ‪ /‬مريض‪ ،‬حسن أدب في السؤال‪ .‬وإن كان في‬
‫قوله‪ :‬أطعمني‪ ،‬وداوني‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬مما هو بصيغة الطلب‪ ،‬طلب جازم من المسؤول‪ ،‬فذاك فيه إظهار حاله وإخباره‬
‫على وجه الذل والفتقار المتضمن لسؤال الحال‪ ،‬وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب‪.‬‬

‫وهذه الصيغة ـ صيغة الطلب والستدعاء ـ إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب‪ ،‬أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬فإنها تقال على وجه المر‪ :‬إما لما في ذلك من حاجة الطالب‪ ،‬وإما لما فيه من نفع المطلوب‪ ،‬فأما إذا‬
‫كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه‪ ،‬فإنها سؤال محض بتذلل‪ ،‬وافتقار‪ ،‬وإظهار الحال‪.‬‬

‫ووصف الحاجة والفتقار هو سؤال بالحال‪ ،‬وهو أبلغ من جهة العلم والبيان‪.‬‬

‫وذلك أظهر من جهة القصد والرادة؛ فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني‪ ،‬لن الطالب السائل يتصور مقصوده‬
‫ومراده‪ ،‬فيطلبه ويسأله‪ ،‬فهو سؤال بالمطابقة والقصد الول‪ .‬وتصريح به باللفظ‪ ،‬وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل‬
‫والمسؤول‪ ،‬فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين‪ ،‬فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضى للسؤال والجابة‪،‬‬
‫ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال‪ ،‬فيتضمن السؤال والمقتضى له والجابة ‪ /‬كقول النبي صلى ال عليه‬
‫ل تعالى عنه ـ لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلتي‪ ،‬فقال‪) :‬قل‪ :‬الّلهم إني‬
‫وسلم لبي بكر الصديق ـ رضي ا ّ‬
‫ظلمت نفسي ظلًما كثيًرا‪ ،‬ول يغفر الذنوب إل أنت‪ ،‬فاغفرلي مغفرة من عندك‪ ،‬وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم(‪.‬‬
‫أخرجاه في الصحيحين‪.‬‬

‫فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضى حاجته إلى المغفرة‪ ،‬وفيه وصف ربه الذي يوجب‪ ،‬أنه ل يقدر على هذا‬
‫المطلوب غيره‪ ،‬وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه‪ ،‬وفيه بيان المقتضى للجابة‪،‬وهو وصف الرب‬
‫بالمغفرة‪،‬والرحمة‪،‬فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب‪.‬‬

‫ن{‬
‫خْيُر اْلَغاِفِري َ‬
‫ت َ‬
‫حْمَنا َوَأْن َ‬
‫غِفْر َلَنا َواْر َ‬ ‫وكثير من الدعية يتضمن بعض ذلك‪ ،‬كقول موسى ـ عليه السلم ـ‪َ} :‬أْن َ‬
‫ت َوِلّيَنا َفا ْ‬
‫ت َنْفِسي َفاْغِفْر ِلي{ ]القصص‪:‬‬ ‫ظَلْم ُ‬‫ب ِإّني َ‬ ‫]العراف‪ ،[155 :‬فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الجابة‪ .‬وقوله‪َ} :‬ر ّ‬
‫ي ِمْن خَْيٍر َفِقيٌر{ ]القصص‪ ،[24 :‬فيه الوصف‬ ‫‪ ،[16‬فيه وصف حال النفس والطلب‪ ،‬وقوله‪ِ} :‬إّني ِلَما َأنَزْل َ‬
‫ت ِإَل ّ‬
‫المتضمن للسؤال بالحال‪ ،‬فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة‪.‬‬

‫يبقى أن يقال‪ :‬فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب؟‬

‫‪/‬فيقال‪ :‬لن المقام مقام اعتراف‪ ،‬بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي‪ ،‬فأصل الشر هو الذنب‪ ،‬والمقصود دفع الضر‪،‬‬
‫والستغفار جاء بالقصد الثاني‪ ،‬فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لستشعاره أنه مسيء ظالم‪ ،‬وهو الذي أدخل‬
‫الضر على نفسه‪ ،‬فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من العتراف بظلمه‪ ،‬ولم يذكر صيغة طلب المغفرة؛ لنه‬
‫مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني‪ ،‬بخلف كشف الكرب‪ ،‬فإنه مقصود له في حال وجــوده بالقصد الول‪ ،‬إذ‬
‫النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها‪ ،‬زوال ما تخاف وجوده من‬
‫الضرر في المستقبل بالقصد الثاني‪ ،‬والمقصود الول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر‪ ،‬فهذا مقدم في‬
‫قصده وإرادته‪ ،‬وأبلغ ما ينال به رفع سببه‪ ،‬فجاء بما يحصل مقصوده‪.‬‬

‫حاَنك{ فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه‪ ،‬والمقام يقتضى تنزيهه عن‬ ‫سْب َ‬
‫وهذا يتبين بالكلم على قوله‪ُ } :‬‬
‫الظلم والعقوبة بغير ذنب‪ ،‬يقول‪ :‬أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب؛ بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي‪،‬‬
‫ظَلُموا َأنُفَسُهْم{]هود‪:‬‬‫ن َ‬ ‫ن{ ]النحل‪،[118 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ‬ ‫ظِلُمو َ‬‫سُهْم َي ْ‬
‫ن َكاُنوا َأنُف َ‬ ‫قال تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ‬
‫سَنا{‬ ‫ن{ ]الزخرف‪ ،[76 :‬وقال آدم ـ عليه السلم ـ‪َ} :‬رّبَنا َ‬
‫ظَلْمَنا َأنُف َ‬ ‫ظاِلِمي َ‬
‫ن َكاُنوا ُهْم ال ّ‬ ‫‪،[101‬وقال‪َ} :‬وَما َ‬
‫ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ‬
‫]العراف‪.[23 :‬‬
‫‪/‬وكذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الستفتاح‪) :‬اللهم أنت الملك ل‬
‫إله إل أنت‪ ،‬أنت ربي وأنا عبدك‪ ،‬ظلمت نفسي واعترفت بذنبي‪ ،‬فاغفرلي ذنوبي جميًعا‪ ،‬فإنه ل يغفر الذنوب إل‬
‫أنت(‪ ،‬وفي صحيح البخاري‪) :‬سيد الستغفار أن يقول العبد‪ :‬اللهم أنت ربي ل إله إل أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على‬
‫عهدك ووعدك ما استطعت‪ ،‬أعوذ بك من شر ما صنعت‪ ،‬أبوء لك بنعمتك علي‪ ،‬وأبوء بذنبي فاغفرلي فإنه ل يغفر‬
‫الذنوب إل أنت‪ ،‬من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة‪ ،‬ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من‬
‫ليلته دخل الجنة(‪.‬‬

‫ل وإحسانه‪ ،‬فإنه ل يظلم الناس شيًئا‪ ،‬فل يعاقب أحًدا إل بذنبه‪ ،‬وهو يحسن إليهم‪ ،‬فكل‬
‫فالعبد عليه أن يعترف بعدل ا ّ‬
‫نقمة منه عدل‪ ،‬وكل نعمة منه فضل‪.‬‬

‫ت{ فيه إثبات انفراده باللهية‪ ،‬واللهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته‪ ،‬ففيها إثبات‬
‫ل َأْن َ‬ ‫فقوله‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫إحسانه إلى العباد‪ ،‬فإن الله هو المألوه‪ ،‬والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد‪ ،‬وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به‬
‫من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب‪ ،‬المخضوع له غاية الخضوع‪ ،‬والعبادة تتضمن غاية‬
‫الحب بغاية الذل‪.‬‬

‫ك{ يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم‪ ،‬وغيره من النقائص‪ ،‬فإن التسبيح‪ ،‬وإن كان يقال‪ :‬يتضمن‬ ‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫‪/‬وقوله‪ُ } :‬‬
‫نفي النقائص‪ ،‬وقد روى في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي صلى ال عليه وسلم في قول العبد‪:‬‬
‫حا إل إذا تضمن ثبوتا‪ ،‬وإل فالنفي المحض ل مدح فيه‪،‬‬
‫ل من السوء‪ .‬فالنفي ل يكون مد ً‬
‫ل‪) :‬إنها براءة ا ّ‬ ‫سبحان ا ّ‬
‫ل السماء الحسنى‪.‬‬
‫ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله‪ ،‬و ّ‬

‫ل‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬ ‫وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله‪ ،‬كقوله تعالى‪} :‬ا ُّ‬
‫ل َ‬
‫ي اْلَقّيوُم َل َتْأُخُذُه ِسَنٌة َوَل َنْوٌم{ ]البقرة‪ .[255 :‬فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫حّ‬ ‫ُهَو اْل َ‬
‫ب{ ]ق‪ ،[38 :‬يتضمن كمال قدرته‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء‪ ،‬ونفي النقص‬ ‫ن ُلُغو ٍ‬ ‫سَنا ِم ْ‬‫}َوَما َم ّ‬
‫ك{ تبرئته من الظلم‪ ،‬وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم‪ ،‬فإن الظالم‬
‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫عنه يتضمن تعظيمه‪ .‬ففي قوله‪ُ } :‬‬
‫ل غني عن كل شيء‪ ،‬عليم بكل شيء‪ ،‬وهو غني بنفسه‪ ،‬وكل ما سواه فقير‬ ‫إنما يظلم ؛ لحاجته إلى الظلم أو لجهله‪ ،‬وا ّ‬
‫إليه‪ ،‬وهذا كمال العظمة‪.‬‬

‫ك{ تسبيح‪ .‬وقد ثبت في‬‫حاَن َ‬


‫سْب َ‬
‫ت{ تهليل‪ .‬وقوله‪ُ } :‬‬
‫ل َأْن َ‬ ‫ضا ـ ففي هذا الدعاء التهليل‪ ،‬والتسبيح‪ ،‬فقوله‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬ ‫وأي ً‬
‫ل‪،‬‬
‫الصحيح عن ‪ /‬النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ ) :‬أفضل الكلم بعد القرآن أربع‪ ،‬وهن من القرآن‪ ،‬سبحان ا ّ‬
‫ل أكبر(‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وا ّ‬
‫ل‪ ،‬ول إله إل ا ّ‬
‫والحمد ّ‬

‫والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له‪ ،‬والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له‪ ،‬وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫ل وبحمده(‪ ،‬وفي الصحيحين عن النبي صلى ال‬ ‫ل لملئكته‪ :‬سبحان ا ّ‬
‫أنه سئل‪ ،‬أي الكلم أفضل؟ قال‪) :‬ما اصطفى ا ّ‬
‫ل وبحمده‪،‬‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬أنه قال‪) :‬كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‪ ،‬حبيبتان إلى الرحمن‪ :‬سبحان ا ّ‬
‫ك{ ]البقرة‪:‬‬
‫حْمِد َ‬
‫ح ِب َ‬
‫سّب ُ‬
‫ن ُن َ‬
‫حُ‬‫ك{ ]الحجر‪ ،[98 :‬وقالت الملئكة‪َ} :‬وَن ْ‬‫حْمِد َرّب َ‬
‫ح ِب َ‬ ‫ل العظيم(‪ ،‬وفي القـرآن }َف َ‬
‫سّب ْ‬ ‫سبحان ا ّ‬
‫‪.[30‬‬

‫وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد‪ ،‬والخرى بالتعظيم‪ ،‬فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص‪،‬‬
‫المتضمن إثبات المحاسن والكمال‪ ،‬والحمد إنما يكون على المحاسن‪ ،‬وقرن بين الحمد والتعظيم‪ ،‬كما قرن بين الجلل‬
‫والكرام؛ إذ ليس كل معظم محبوًبا محموًدا‪ ،‬ول كل محبوب محموًدا معظما‪ ،‬وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب‬
‫المتضمن معنى الحمد‪ ،‬وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم‪ ،‬ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن‪ ،‬وفيها‬
‫الذل له الناشئ عن عظمته وكبريائه‪.‬ففيها إجلله وإكرامه‪ .‬وهو ـ سبحانه ـ المستحق للجلل والكرام‪ ،‬فهو مستحق‬
‫غاية الجلل وغاية الكرام‪.‬‬

‫‪/‬ومن الناس من يحسب أن ]الجلل[ هو الصفات السلبية‪ ،‬و]الكرام[ الصفات الثبوتية‪ ،‬كما ذكر ذلك الرازي ونحوه‪.‬‬
‫والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية‪ ،‬وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص‪ ،‬لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن‬
‫حِميُد{ ] لقمان‪ ،[26 :‬وقول سليمان ـ عليه السلم ـ‪َ} :‬فِإ ّ‬
‫ن َرّبي‬ ‫ي اْل َ‬
‫ل ُهَو اْلَغِن ّ‬ ‫يحب وما يستحق أن يعظم‪ ،‬كقوله‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ك َوَلُه اْلَحْمُد{ ] التغابن‪ ،[1 :‬فإن كثيًرا ممن يكون له الملك والغنى ل‬
‫ي َكِريٌم{ ] النمل‪ ،[40 :‬وكذلك قوله‪َ} :‬لُه اْلُمْل ُ‬
‫غِن ّ‬
‫َ‬
‫يكون محموًدا بل مذموًما‪ ،‬إذ الحمد يتضمن الخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة‪ ،‬فيتضمن إخباًرا بمحاسن‬
‫المحبوب محبة له‪.‬‬

‫وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك‪ .‬فالول يهاب‬
‫ويخاف ول يحب‪ ،‬وهذا يحب ويحمد‪ ،‬ول يهاب ول يخاف‪ ،‬والكمال اجتماع الوصفين‪ ،‬كما ورد في الثر‪) :‬إن‬
‫المؤمن رزق حلوة ومهابة( وفي نعت النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬كان من رآه بديهة هابه‪ ،‬ومن خالطه معرفة أحبه‪.‬‬

‫فقرن التسبيح بالتحميد‪ ،‬وقرن التهليل بالتكبير‪ ،‬كما في كلمات الذان‪ .‬ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الخر إذا‬
‫أفرد‪ ،‬فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم‪ ،‬ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم اللهية‪ ،‬فإن اللهية تتضمن‬
‫كونه محبوًبا‪ ،‬بل تتضمن أنه ل يستحق كمال الحب إل هو‪ .‬والحمد هو الخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق‬
‫ل مفتاح الخطاب‪ ،‬وكل أمر ذي بال ل يبدأ فيه بالحمد ّ‬
‫ل‬ ‫أن يحب‪ ،‬فاللهية ‪ /‬تتضمن كمال الحمد؛ ولهذا كان الحمد ّ‬
‫ظيِم{ ]الواقعة‪ ،[96 :‬وقد قال‬
‫ك اْلَع ِ‬
‫سِم َرّب َ‬
‫ح ِبا ْ‬ ‫ل فيها إثبات عظمته كما قدمناه؛ ولهذا قال‪َ} :‬ف َ‬
‫سّب ْ‬ ‫فهو أجذم‪ ،‬وسبحان ا ّ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬اجعلوها في ركوعكم( رواه أهل السنن‪ ،‬وقال‪) :‬أما الركوع فعظموا فيه الرب‪ ،‬وأما‬
‫السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء‪ ،‬فقمن أن يستجاب لكم( رواه مسلم‪ .‬فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود‬
‫والتسبيح يتضمن التعظيم‪.‬‬

‫ل أكبر( ففي ل إله‬


‫ل وا ّ‬
‫ل وبحمده( إثبات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده‪ .‬وأما قوله‪) :‬ل إله إل ا ّ‬‫ففي قوله‪) :‬سبحان ا ّ‬
‫ل إثبات محامده فإنها كلها داخلة في إثبات إلهيته‪ ،‬وفي قوله‪) :‬الّ أكبر( إثبات عظمته‪ ،‬فإن الكبرياء تتضمن‬‫إل ا ّ‬
‫العظمة‪ ،‬ولكن الكبرياء أكمل‪.‬‬

‫ل أعظم‪ ،‬كما ثبت في‬ ‫ل أكبر(‪ ،‬فإن ذلك أكمل من قول‪ :‬ا ّ‬‫ولهذا جاءت اللفاظ المشروعة في الصلة والذان بقول‪) :‬ا ّ‬
‫ل تعالى‪ :‬الكبرياء ردائي والعظمة إزاري‪ ،‬فمن نازعني‬ ‫الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬يقول ا ّ‬
‫واحًدا منهما عذبته(‪ ،‬فجعل العظمة كالزار‪ ،‬والكبرياء كالرداء‪ ،‬ومعلوم أن الرداء أشرف‪ ،‬فلما كان التكبير أبلغ من‬
‫ل‪ ،‬صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم‪،‬‬ ‫التعظيم صرح بلفظه‪ ،‬وتضمن ذلك التعظيم‪ ،‬وفي قوله‪ :‬سبحان ا ّ‬
‫فصار كل من الكلمتين ‪ /‬متضمًنا معنى الكلمتين الخريين إذا أفردتا‪ ،‬وعند القتران تعطى كل كلمة خاصيتها‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فإنه يستلزم معنى الخر‪ ،‬فإنه يدل على الذات‪ ،‬والذات تستلزم معنى السم‬
‫وهذا كما أن كل اسم من أسماء ا ّ‬
‫الخر‪ ،‬لكن هذا باللزوم‪ ،‬وأما دللة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة‪ ،‬ودللتها على أحدهما‬
‫بالتضمن‪.‬‬

‫ك{ ]النبياء‪ [87 :‬يتضمن معنى الكلمات الربع اللتي هن أفضل الكلم بعد‬ ‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ت ُ‬
‫ل َأْن َ‬ ‫فقول الداعي‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل الحسنى‪ ،‬وصفاته العلىا‪ ،‬ففيها كمال المدح‪.‬‬
‫القرآن‪ .‬وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء ا ّ‬

‫ظاِلِميَن{ فيه اعتراف بحقيقة حاله‪ ،‬وليس لحد من العباد أن يبرئ نفسه عن هذا الوصف‪ ،‬ل‬‫ن ال ّ‬ ‫وقوله‪ِ} :‬إّني ُكن ُ‬
‫ت ِم ْ‬
‫سيما في مقام مناجاته لربه‪ .‬وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ل ينبغي لعبد أن يقول‪ :‬أنا‬
‫خير من يونس بن َمّتى(‪ .‬وقال‪) :‬من قال‪ :‬أنا خير من يونس بن متى فقد كذب( فمن ظن أنه خير من يونس‪ ،‬بحيث‬
‫يعلم أنه ليس عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب؛ ولهذا كان سادات الخلئق‪ ،‬ل يفضلون أنفسهم على يونس في‬
‫هذا المقام‪ ،‬بل يقولون‪ :‬كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫ك ا ُّ‬
‫ل‬ ‫سَ‬
‫سْ‬ ‫ل‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن َيْم َ‬ ‫وأما قول السائل‪ :‬لم كانت موجبة لكشف الضر؟ فذلك لن الضر ل يكشفه إل ا ّ‬
‫ضِلِه{ ]يونس‪ ،[107 :‬والذنوب سبب للضر‪ ،‬والستغفار يزيل أسبابه‪،‬‬ ‫ل َراّد ِلَف ْ‬‫خْيٍر َف َ‬‫ك ِب َ‬
‫ن ُيِرْد َ‬ ‫ل ُهَو َوِإ ْ‬
‫ف َلُه ِإ ّ‬
‫ش َ‬
‫ل َكا ِ‬
‫ضّر َف َ‬
‫ِب ُ‬
‫ل ُمَعّذَبُهْم َوُهْم َيسَْتْغِفُروَن{ ]النفال‪ ،[33 :‬فأخبر أنه سبحانه ل‬
‫ن ا ُّ‬
‫ت ِفيِهْم َوَما َكا َ‬
‫ل ِلُيَعّذَبُهْم َوَأْن َ‬
‫ن ا ُّ‬ ‫كما قال تعالى‪َ} :‬وَما َكا َ‬
‫جا‪ ،‬ورزقه من‬
‫جا‪ ،‬ومن كل ضيق مخر ً‬ ‫ل له من كل هم فر ً‬ ‫يعذب مستغفًرا‪ .‬وفي الحديث‪) :‬من أكثر الستغفار جعل ا ّ‬
‫ت َأْيِديُكمْ َوَيْعُفو َعْن َكِثيٍر{ ]الشورى‪.[30 :‬‬
‫سَب ْ‬
‫صيَبٍة َفِبَما َك َ‬
‫ن ُم ِ‬ ‫حيث ل يحتسب(‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما َأ َ‬
‫صاَبُكْم ِم ْ‬
‫ظاِلِميَن{ ]النبياء‪ ،[87 :‬اعتراف بالذنب وهو استغفار‪ ،‬فإن هذا العتراف متضمن طلب‬
‫ن ال ّ‬ ‫فقوله‪ِ} :‬إّني ُكن ُ‬
‫ت ِم ْ‬
‫المغفرة‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فما شاء كان‪،‬‬


‫ت{ ]النبياء‪ ،[87 :‬تحقيق لتوحيد اللهية‪ ،‬فإن الخير ل موجب له إل مشيئة ا ّ‬ ‫ل َأن َ‬ ‫وقوله‪َ} :‬أن ّ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل‪ ،‬وإن كانت أفعال‬‫جا عن قدرة العبد‪ ،‬فهو من ا ّ‬ ‫وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬والمعوق له ‪ /‬من العبد هو ذنوبه‪ ،‬وما كان خار ً‬
‫ل جعل فعل المأمور وترك المحظور سبًبا للنجاة‪ ،‬والسعادة‪ ،‬فشهادة التوحيد تفتح باب‬ ‫ل تعالى‪ ،‬لكن ا ّ‬ ‫العباد بقدر ا ّ‬
‫الخير‪ ،‬والستغفار من الذنوب يغلق باب الشر‪.‬‬

‫ل ل يظلم الناس شيًئا‪ ،‬ولكن الناس‬


‫ل أن يظلمه‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ول يخاف من ا ّ‬
‫ولهذا ينبغي للعبد أل يعلق رجاءه إل با ّ‬
‫ل عنه ـ أنه قال‪ :‬ل يرجون عبد‬‫أنفسهم يظلمون‪ ،‬بل يخاف أن يجزيه بذنوبه‪ ،‬وهذا معنى ما روى عن على ـ رضي ا ّ‬
‫إل ربه ول يخافن إل ذنبه‪.‬‬

‫وفي الحديث المرفوع إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنه دخل على مريض فقال‪) :‬كيف تجدك ؟( فقال‪ :‬أرجو ا ّ‬
‫ل‬
‫ل ما يرجو‪ ،‬وآمنه مما يخاف(‪.‬‬
‫وأخاف ذنوبي‪ ،‬فقال‪) :‬ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن‪ ،‬إل أعطاه ا ّ‬

‫ل إشراك‪ ،‬وإن‬
‫ل‪ ،‬ول يتعلق بمخلوق‪ ،‬ول بقوة العبد‪ ،‬ول عمله؛ فإن تعلىق الرجاء بغير ا ّ‬ ‫فالرجاء ينبغي أن يتعلق با ّ‬
‫ل قد جعل لها أسباًبا‪ ،‬فالسبب ل يسـتقل بنفسه‪ ،‬بل لبد له من معاون‪ ،‬ولبد أن يمنع المعارض المعوق له‪ ،‬وهو‬ ‫كان ا ّ‬
‫ل ـ تعالى‪.‬‬
‫ل يحصل‪ ،‬ويبقى إل بمشيئة ا ّ‬

‫‪/‬ولهذا قيل‪ :‬اللتفات إلى السباب شرك في التوحيد‪ ،‬ومحو السباب أن تكون أسباًبا نقص في العقل‪ ،‬والعراض عن‬
‫ب{ ]الشرح‪ ،[8 ،7 :‬فأمر‬ ‫غ ْ‬ ‫ك َفاْر َ‬
‫ب‪َ .‬وِإَلى َرّب َ‬ ‫ص ْ‬
‫ت َفان َ‬‫غ َ‬‫ل تعالى‪َ} :‬فِإَذا َفَر ْ‬ ‫السباب بالكلية قدح في الشرع؛ ولهذا قال ا ّ‬
‫ل َفَتَوّكُلوا ِإْن ُكنُتْم ُمْؤِمِنيَن{ ]المائدة‪ ،[23 :‬فالقلب ل يتوكل إل على من‬ ‫عَلى ا ِّ‬‫بأن تكون الرغبة إليه وحده‪ ،‬وقال‪َ} :‬و َ‬
‫يرجوه‪ ،‬فمن رجا قوته‪ ،‬أو عمله‪ ،‬أو علمه‪ ،‬أو حاله‪ ،‬أو صديقه‪ ،‬أو قرابته‪ ،‬أو شيخه‪ ،‬أو ملكه‪ ،‬أو ماله‪ ،‬غير ناظر‬
‫ل كان فيه نوع توكل على ذلك السبب‪ ،‬وما رجا أحد مخلوًقا أو توكل عليه إل خاب ظنه فيه‪ ،‬فإنه مشرك‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن‬ ‫إلى ا ّ‬
‫ق{ ]الحج‪ ،[31 :‬وكذلك المشرك يخاف‬ ‫حي ٍ‬
‫ن سَ ِ‬
‫ح ِفي َمَكا ٍ‬‫طْيُر َأْو َتْهِوي ِبِه الّري ُ‬
‫طُفُه ال ّ‬
‫خَ‬‫سَماِء َفَت ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫خّر ِم ْ‬
‫ل َفَكَأّنَما َ‬
‫ك ِبا ِّ‬
‫شِر ْ‬‫ُي ْ‬
‫ل َما َلْم ُيَنّز ْ‬
‫ل‬ ‫شَرُكوا ِبا ِّ‬
‫ب ِبَما َأ ْ‬
‫ع َ‬‫ن َكَفُروا الّر ْ‬ ‫ب اّلِذي َ‬ ‫المخلوقين‪ ،‬ويرجوهم‪ ،‬فيحصل له رعب‪ ،‬كما قال تعالى‪َ } :‬‬
‫سُنْلِقي ِفي ُقُلو ِ‬
‫طاًنا{ ] آل عمران‪.[151 :‬‬ ‫سْل َ‬
‫ِبِه ُ‬

‫ن{‬
‫ن َوُهْم ُمْهَتُدو َ‬
‫لْم ُ‬
‫ك َلُهْم ا َْ‬
‫ظْلٍم ُأْوَلِئ َ‬
‫سوا ِإيَماَنُهْم ِب ُ‬ ‫والخالص من الشرك يحصل له المن‪ ،‬كما قال تعالى‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َوَلمْ َيْلِب ُ‬
‫]النعام‪ ،[82 :‬وقد فسر النبي صلى ال عليه وسلم الظلم هنا بالشرك‪ .‬ففي الصحيح عن ابن مسعود أن هذه الية لما‬
‫نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم وقالوا‪ :‬أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ظيٌم{ ؟( ]لقمان‪ / ،[13 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ن‬ ‫عِ‬‫ظْلٌم َ‬
‫ك َل ُ‬
‫شْر َ‬ ‫)إنما هذا الشرك‪ ،‬ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن اْلُقّوَة ِّ‬
‫ل‬ ‫ب َأ ّ‬
‫ن اْلَعَذا َ‬‫ظَلُموا ِإْذ َيَرْو َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل َوَلْو َيَرى اّلِذي َ‬ ‫حّبا ِّ‬‫شّد ُ‬‫ن آَمُنوا َأ َ‬‫ل َواّلِذي َ‬‫ب ا ِّ‬‫ح ّ‬ ‫حّبوَنُهْم َك ُ‬ ‫ل َأنَداًدا ُي ِ‬ ‫ن ا ِّ‬‫ن ُدو ِ‬ ‫خُذ ِم ْ‬ ‫ن َيّت ِ‬‫س َم ْ‬
‫الّنا ِ‬
‫ن َلَنا‬ ‫ن اّتَبُعوا َلْو َأ ّ‬‫ل اّلِذي َ‬
‫ب‪َ .‬وَقا َ‬ ‫سَبا ُ‬ ‫لْ‬ ‫ت ِبِهْم ا َْ‬‫طَع ْ‬ ‫ن اّتَبُعوا َوَرَأْوا اْلَعَذابَ َوَتَق ّ‬‫ن اّلِذي َ‬ ‫ن اّتِبُعوا ِم ْ‬ ‫ب‪ِ .‬إْذ َتَبّرَأ اّلِذي َ‬‫شِديُد اْلَعَذا ِ‬‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬ ‫جِميًعا وََأ ّ‬‫َ‬
‫ت َعَلْيِهْم َوَما ُهمْ ِبَخاِرِجيَن ِمْن الّناِر{ ]البقرة‪165 :‬ـ ‪ ،[167‬وقال‬ ‫سَرا ٍ‬‫حَ‬ ‫عَماَلُهْم َ‬ ‫ل َأ ْ‬
‫ك ُيِريِهْم ا ُّ‬ ‫َكّرًة َفَنَتَبّرَأ ِمْنُهْم َكَما َتَبّرُءوا ِمّنا َكَذِل َ‬
‫سيَلَة‬ ‫ن ِإَلى َرّبِهْم اْلَو ِ‬ ‫ن َيْبَتُغو َ‬‫عو َ‬ ‫ن َيْد ُ‬‫ك اّلِذي َ‬‫ل‪ُ .‬أْوَلِئ َ‬
‫حِوي ً‬ ‫ل َت ْ‬‫عنُكْم َو َ‬
‫ضّر َ‬ ‫ف ال ّ‬ ‫ش َ‬ ‫ن َك ْ‬ ‫ل َيْمِلُكو َ‬
‫ن ُدوِنِه َف َ‬ ‫عْمُتْم ِم ْ‬ ‫ن َز َ‬‫عوا اّلِذي َ‬ ‫ل اْد ُ‬ ‫تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل السباب‪،‬‬ ‫ك َكاَن َمْحُذوًرا{ ]السراء‪[57 ،56 :‬؛ ولهذا يذكر ا ّ‬ ‫ب َرّب َ‬ ‫عَذا َ‬ ‫ن َ‬ ‫عَذاَبُه ِإ ّ‬
‫ن َ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫حَمَتُه َوَي َ‬‫ن َر ْ‬ ‫جو َ‬ ‫ب َوَيْر ُ‬ ‫َأّيُهْم َأْقَر ُ‬
‫طَمِئ ّ‬
‫ن‬ ‫شَرى َلُكْم َوِلَت ْ‬ ‫ل ُب ْ‬‫ل ِإ ّ‬ ‫ل‪ ،‬قال تعالى ـ لما أنزل الملئكة ـ‪َ} :‬وَما َ‬
‫جَعَلُه ا ُّ‬ ‫ويأمر بأن ل يعتمد عليها‪ ،‬ول يرجى إل ا ّ‬
‫خُذْلُكْم َفَم ْ‬
‫ن‬ ‫ن َي ْ‬
‫ب َلُكْم َوِإ ْ‬
‫غاِل َ‬ ‫ل َ‬ ‫ل َف َ‬‫صْرُكْم ا ُّ‬ ‫ن َيْن ُ‬ ‫حِكيِم{ ]آل عمران‪ ،[126 :‬وقال‪ِ} :‬إ ْ‬ ‫ل اْلَعِزيِز اْل َ‬ ‫عْنِد ا ِّ‬‫ن ِ‬ ‫ل ِم ْ‬‫صُر ِإ ّ‬‫ُقُلوُبُكْم ِبِه َوَما الّن ْ‬
‫ل َفْلَيَتَوّكْل اْلُمْؤِمُنوَن{ ]آل عمران‪.[160 :‬‬ ‫عَلى ا ِّ‬ ‫ن َبْعِدِه َو َ‬
‫صُرُكْم ِم ْ‬ ‫َذا اّلِذي َيْن ُ‬

‫وقد قدمنا أن الدعاء نوعان‪ :‬دعاء عبادة‪ ،‬ودعاء مسألة‪.‬‬

‫ل‪ ،‬والراجي سائل طالب فل يصلح أن يرجو‬ ‫ل إلًها آخر قعد مذموًما مخذو ً‬
‫ل‪ ،‬فمن جعل مع ا ّ‬
‫وكلهما ل يصلح إل ّ‬
‫ل‪ ،‬وليسأل ‪ /‬غيره؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪) :‬ما أتاك من هذا المال وأنت غير‬ ‫إل ا ّ‬
‫شِرف فخذه‪ ،‬وما ل فل تتبعه نفسك(‪ .‬فالمشرف الذي يستشرف بقلبه‪ ،‬والسائل الذي يسأل بلسانه‪ ،‬وفي‬ ‫سائل ول ُم ْ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم لسأله‬ ‫الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬أصابتنا فاقة فجئت رسول ا ّ‬
‫ن يغنه‬
‫سَتْغ ِ‬
‫ل مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم‪ ،‬وإنه من َي ْ‬
‫فوجدته يخطب الناس وهو يقول‪) :‬أيها الناس‪ ،‬وا ّ‬
‫ل‪ ،‬وما أعطى أحد عطاء خيًرا وأوسع من الصبر(‪.‬‬ ‫صّبْر يصبره ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ومن َيَت َ‬
‫ل‪ ،‬ومن يستعفف يعفه ا ّ‬
‫ا ّ‬

‫والستغناء أل يرجو بقلبه أحًدا فيستشرف إليه‪ ،‬والستعفاف أل يسأل بلسانه أحًدا؛ ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن‬
‫التوكل‪ ،‬فقال‪ :‬قطع الستشراف إلى الخلق‪ ،‬أي‪ :‬ل يكون في قلبك أن أحًدا يأتيك بشىء‪ ،‬فقيل له‪ :‬فما الحجة في ذلك ؟‬
‫فقال‪ :‬قول الخليل لما قال له جبرائيل‪ :‬هل لك من حاجة؟ فقال‪) :‬أما إليك فل(‪.‬‬

‫فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه‪ ،‬ودفع ما يضره‪ ،‬ل يوجه قلبه إل إلى ال؛ فلهذا قال المكروب‪:‬‬
‫ت{‪ ،‬ومثل هذا ما في الصحيحين عن ابن عباس‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يقول‪ :‬عند الكرب‪:‬‬ ‫ل ّأن ّ‬
‫ل إّلّه إ ّ‬
‫}ّ‬
‫ل رب السموات ورب الرض رب‬ ‫ل رب العرش العظيم‪ / ،‬ل إله إل ا ّ‬
‫ل العظيم الحليم‪ ،‬ل إله إل ا ّ‬
‫)ل إله إل ا ّ‬
‫العرش الكريم(‪ .‬فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد‪ ،‬وتأله العبد ربه‪ ،‬وتعلق رجائه به وحده ل شريك له‪ ،‬وهي لفظ‬
‫خبر يتضمن الطلب‪.‬‬

‫صا من قلبه له حقيقة أخرى‪ ،‬وبحسب تحقيق‬ ‫ل‪ ،‬فقول العبد لها مخل ً‬ ‫والناس‪ ،‬وإن كانوا يقولون بألسنتهم‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫ن‬
‫سَمُعو َ‬
‫ن َأْكَثَرُهْم َي ْ‬
‫ب َأ ّ‬
‫س ُ‬
‫حَ‬‫ل ‪َ .‬أْم َت ْ‬
‫عَلْيِه َوِكي ً‬
‫ن َ‬
‫ت َتُكو ُ‬
‫خَذ ِإَلَهُه َهَواُه َأَفَأْن َ‬
‫ن اّت َ‬
‫ت َم ْ‬‫ل‪ .‬قال تعالى‪َ :‬أَرَأْي َ‬ ‫التوحيد تكمل طاعة ا ّ‬
‫ل{ ]الفرقان‪ ،[44 ،43 :‬فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه‪ ،‬فقد اتخذ إلهه‬ ‫سِبي ً‬‫ل َ‬
‫ضّ‬ ‫ل ُهْم َأ َ‬
‫لْنَعاِم َب ْ‬
‫ل َكا َْ‬
‫ن ُهْم ِإ ّ‬
‫ن ِإ ْ‬
‫َأْو َيْعِقُلو َ‬
‫هواه‪ ،‬أي‪ :‬جعل معبوده هو ما يهواه‪ ،‬وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه‪ ،‬فهم يتخذون أنداًدا من دون‬
‫ب اْلِفِليَن{ ]النعام‪.[76 :‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ل يحبونهم كحب ال؛ ولهذا قال الخليل‪َ } :‬‬
‫ل ُأ ِ‬ ‫ا ّ‬

‫فإن قومه لم يكونوا منكرين للصانع‪ ،‬ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافًعا له كالشمس والقمر والكواكب‪،‬‬
‫والخليل بين أن الفل يغيب عن عابده‪ ،‬وتحجبه عنه الحواجب‪ ،‬فل يرى عابده ول يسمع كلمه‪ ،‬ول يعلم حاله‪ ،‬ول‬
‫ينفعه‪ ،‬ول يضره بسبب ول غيره‪ ،‬فأي وجه لعبادة من يأفل؟!‬

‫ل‪ ،‬خرج من قلبه ‪ /‬تأله ما يهواه‪ ،‬وتصرف عنه المعاصي والذنوب‪،‬‬ ‫وكلما حقق العبد الخلص في قول‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫صيَن{ ]يوسف‪ ،[24 :‬فلعل صرف السوء‬ ‫خَل ِ‬
‫عَباِدَنا اْلُم ْ‬‫ن ِ‬‫شاَء ِإّنُه ِم ْ‬
‫حَ‬‫سوَء َواْلَف ْ‬ ‫عْنُه ال ّ‬‫ف َ‬
‫صِر َ‬ ‫ك ِلَن ْ‬‫كما قال تعالى‪َ} :‬كَذِل َ‬
‫طاٌن{ ]الحجر‪:‬‬
‫سْل َ‬
‫عَلْيِهْم ُ‬
‫ك َ‬
‫س َل َ‬
‫عَباِدي َلْي َ‬ ‫ل المخلصين‪ ،‬وهؤلء هم الذين قال فيهم‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِ‬ ‫والفحشاء عنه بأنه من عباد ا ّ‬
‫صيَن{ ]ص‪ ،[83 ،82 :‬وقد ثبت في الصحيح عن‬ ‫خَل ِ‬‫ك ِمْنُهْم اْلُم ْ‬‫عَباَد َ‬
‫ل ِ‬ ‫ن ‪ِ .‬إ ّ‬
‫جَمِعي َ‬ ‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬
‫لْ‬ ‫‪ ،[42‬وقال الشيطان‪َ} :‬فِبِعّزِت َ‬
‫ك َُ‬
‫ل على النار(‪.‬‬ ‫صا من قلبه‪ ،‬حرمه ا ّ‬ ‫ل مخل ً‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه قال‪) :‬من قال‪ :‬ل إله إل ا ّ‬

‫ل لم يحقق إخلصها المحرم له على‬ ‫فإن الخلص ينفي أسباب دخول النار‪ ،‬فمن دخل النار من القائلين ل إله إل ا ّ‬
‫النار‪ ،‬بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار‪ ،‬والشرك في هذه المة أخفى من دبيب النمل؛‬
‫ك َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة‪ ،[5 :‬والشيطان يأمر بالشرك‬ ‫را في كل صلة أن يقول‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬ ‫ولهذا كان العبد مأمو ً‬
‫ل؛ إما خوًفا منه‪ ،‬وإما رجاء له‪ ،‬فل يزال العبد مفتقًرا إلى‬ ‫والنفس تطيعه في ذلك‪ ،‬فل تزال النفس تلتفت إلى غير ا ّ‬
‫تخليص توحيده من شوائب الشرك‪ .‬وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫ل والستغفار‪ ،‬فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الهواء‪،‬‬ ‫قال‪) :‬يقول الشيطان‪ :‬أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بل إله إل ا ّ‬
‫فهم يذنبون ول يستغفرون؛ لنهم يحسبون أنهم يحسنون صنًعا(‪.‬‬

‫ل‪ ،‬له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه‪ ،‬فصار فيه شرك منعه من‬ ‫‪/‬فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من ا ّ‬
‫ك ِإّني‬
‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ت ُ‬ ‫الستغفار‪ ،‬وأما من حقق التوحيد والستغفار‪ ،‬فلبد أن يرفع عنه الشر؛فلهذا قال ذو النون‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإلّ َأْن َ‬
‫ظاِلِميَن{ ]النبياء‪.[87 :‬‬
‫ت ِمنْ ال ّ‬
‫ُكن ُ‬

‫ك َوِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن‬ ‫سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ‬
‫ل َوا ْ‬
‫ل ا ُّ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬ ‫ل بين التوحيد والستغفار في غير موضع‪ ،‬كقوله تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫عَلْم َأّنُه َ‬ ‫ولهذا يقرن ا ّ‬
‫ل ِإّنِني َلُكْم ِمْنُه َنِذيٌر َوَبِشيٌر ‪َ .‬وَأْن اْسَتْغِفُروا َرّبُكْم ُثّم ُتوُبوا ِإَلْيِه{ ]هود‪،2 :‬‬ ‫ل ا َّ‬ ‫ت{ ]محمد‪ ،[19 :‬وقوله‪َ} :‬أ ّ‬
‫ل َتْعُبُدوا ِإ ّ‬ ‫َواْلُمْؤِمَنا ِ‬
‫سَتْغِفُروا َرّبُكْم ُثّم ُتوُبوا ِإَلْيِه{‬ ‫غْيُرُه{ إلى قوله‪َ} :‬وَياَقْوِم ا ْ‬ ‫ن ِإَلٍه َ‬
‫ل َما َلُكْم ِم ْ‬
‫عُبُدوا ا َّ‬
‫ل َياَقْوِم ا ْ‬
‫خاُهْم ُهوًدا َقا َ‬ ‫‪ ،[3‬وقوله‪َ} :‬وِإَلى َ‬
‫عاٍد َأ َ‬
‫]هود‪ 50 :‬ـ ‪ ،[52‬وقوله‪َ} :‬فاْسَتِقيُموا ِإَلْيِه َواْسَتْغِفُروُه{ ]فصلت‪.[6 :‬‬
‫وخاتمة المجلس‪) :‬سبحانك الّلهم وبحمدك أشهد أن ل إله إل أنت أستغفرك وأتوب إليك( إن كان مجلس رحمة كانت‬
‫ضا أنها تقال في آخر الوضوء بعد أن يقال‪) :‬أشهد أن‬
‫كالطابع عليه‪ ،‬وإن كان مجلس لغو كانت كفارة له‪ ،‬وقد روى أي ً‬
‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمًدا عبده ورسوله‪ ،‬الّلهم اجعلني من التوابين‪ ،‬واجعلني من المتطهرين(‪.‬‬
‫ل إله إل ا ّ‬

‫وهذا الذكر يتضمن التوحيد والستغفار‪ ،‬فإن صدره الشهادتان ‪ /‬اللتان هما أصل الدين وجماعه‪ ،‬فإن جميع الدين‬
‫ل بطاعة‬
‫ل‪ ،‬وأن نطيع رسوله‪ ،‬والدين كله داخل في هذا في عبادة ا ّ‬‫داخل في الشهادتين؛ إذ مضمونهما أل نعبد إل ا ّ‬
‫ل ورسوله‪.‬‬‫ل‪ ،‬وطاعة رسوله‪ ،‬وكل ما يجب أو يستحب داخل في طاعة ا ّ‬ ‫ا ّ‬

‫وقد روى أنه يقول‪) :‬سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬أشهد أن ل إله إل أنت‪ ،‬أستغفرك وأتوب إليك( وهذا كفارة المجلس‪ ،‬فقد‬
‫شرع في آخر المجلس وفي آخر الوضوء‪ ،‬وكذلك كان النبي صلى ال عليه وسلم يختم الصلة‪ ،‬كما في الحديث‬
‫الصحيح أنه كان يقول في آخر صلته‪) :‬اللهم اغفر لي ما قدمت‪ ،‬وما أخرت‪ ،‬وما أسررت‪ ،‬وما أعلنت‪ ،‬وما أنت‬
‫أعلم به مني‪ ،‬أنت المقدم‪ ،‬وأنت المؤخر‪ ،‬ل إله إل أنت( وهنا قدم الدعاء وختمه بالتوحيد؛ لن الدعاء مأمور به في‬
‫آخر الصلة‪ ،‬وختم بالتوحيد ليختم الصلة بأفضل المرين وهو التوحيد‪ ،‬بخلف ما لم يقصد في هذا فإن تقديم‬
‫التوحيد أفضل‪.‬‬

‫فإن جنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب‪ ،‬وإن كان المفضول قد يفضل‬
‫على الفاضل في موضعه الخاص‪ ،‬بسبب وبأشياء أخر‪ ،‬كما أن الصلة أفضل من القراءة‪ ،‬والقراءة أفضل من الذكر‬
‫الذي هو ثناء‪ ،‬والذكر أفضل من الدعاء الذي هو سؤال‪ ،‬ومع هذا فالمفضول له أمكنة‪ ،‬وأزمنة‪ / ،‬وأحوال يكون فيها‬
‫ل هو تحقيق قول ل إله‬
‫أفضل من الفاضل‪ ،‬لكن أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد‪ ،‬وإخلص الدين كله ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫إل ا ّ‬

‫ل ل نقدر أن نضبطه‪ ،‬حتى إن كثيًرا‬‫فإن المسلمين وإن اشتركوا في القرار بها‪ ،‬فهم متفاضلون في تحقيقها تفاض ً‬
‫ل خالق كل شيء وربه‪ ،‬ول يميزون بين القرار‬ ‫منهم يظنون أن التوحيد المفروض‪ :‬هو القرار والتصديق بأن ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫بتوحيد الربوبية‪ ،‬الذي أقر به مشركو العرب‪ ،‬وبين توحيد اللهية‪ ،‬الذي دعاهم إليه رسول ا ّ‬
‫ول يجمعون بين التوحيد القولي والعملي‪.‬‬

‫ل رًبا ينفرد دونه بخلق شيء‪ ،‬بل كانوا كما قال ا ّ‬


‫ل‬ ‫فإن المشركين ما كانوا يقولون‪ :‬إن العالم خلقه اثنان‪ ،‬ول أن مع ا ّ‬
‫ل َوُهْم‬‫ل ِإ ّ‬ ‫ل{ ] لقمان‪ ،[25 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما ُيْؤِم ُ‬
‫ن َأْكَثُرُهْم ِبا ِّ‬ ‫ن ا ُّ‬
‫ض َلَيُقوُل ّ‬
‫لْر َ‬ ‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ق ال ّ‬
‫خَل َ‬
‫ن َ‬
‫سَأْلَتُهْم َم ْ‬ ‫عنهم‪َ} :‬وَلِئ ْ‬
‫ن َ‬
‫ل َم ْ‬
‫ن‬ ‫نّ‪ُ .‬ق ْ‬‫ل َتَذّكُرو َ‬ ‫ل َأَف َ‬
‫ل ُق ْ‬
‫ن ِّ‬‫سَيُقوُلو َ‬
‫ن‪َ .‬‬
‫ن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ‬
‫ن ِفيَها ِإ ْ‬
‫ض َوَم ْ‬
‫لْر ُ‬ ‫ن ا َْ‬
‫ل ِلَم ْ‬‫ن{ ]يوسف‪ ،[106 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫شِرُكو َ‬
‫ُم ْ‬
‫عَلْيِه ِإ ْ‬
‫ن‬ ‫جاُر َ‬
‫ل ُي َ‬
‫جيُر َو َ‬
‫يٍء َوُهَو ُي ِ‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫ت ُك ّ‬
‫ل َمنْ ِبَيِدِه َمَلُكو ُ‬
‫ن ‪ُ .‬ق ْ‬
‫ل َتّتُقو َ‬
‫ل َأَف َ‬
‫ل ُق ْ‬
‫ن ِّ‬
‫سَيُقوُلو َ‬
‫ظيِم ‪َ .‬‬
‫ش اْلَع ِ‬
‫ب اْلَعْر ِ‬
‫سْبِع َوَر ّ‬
‫ت ال ّ‬
‫ب السَّماَوا ِ‬‫َر ّ‬
‫ل ُقْل َفَأّنا ُتْسَحُروَن{ ]المؤمنون‪ 84 :‬ـ ‪.[89‬‬ ‫ن ِّ‬
‫سَيُقوُلو َ‬
‫ن‪َ .‬‬‫ُكنُتْم َتْعَلُمو َ‬

‫ل هو الخالق وحده يجعلون معه آلهة ‪ /‬أخرى‪ ،‬يجعلونهم شفعاء لهم إليه‪ ،‬ويقولون‪ :‬ما‬
‫وكانوا مع إقرارهم بأن ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ل زلفى‪ ،‬ويحبونهم كحب ا ّ‬‫نعبدهم إل ليقربونا إلى ا ّ‬

‫س َم ْ‬
‫ن‬ ‫والشراك في الحب والعبادة والدعاء والسؤال‪ ،‬غير الشراك في العتقاد والقرار‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ن الّنا ِ‬
‫ل{ ]البقرة‪ ،[165 :‬فمن أحب مخلوًقا كما يحب الخالق فهو‬ ‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬
‫ل َواّلِذي َ‬
‫ب ا ِّ‬
‫ح ّ‬
‫حّبوَنُهْم َك ُ‬
‫ل َأنَداًدا ُي ِ‬
‫ن ا ِّ‬
‫خُذ ِمنْ ُدو ِ‬
‫َيّت ِ‬
‫ل خالقه‪.‬‬
‫ل أنداًدا يحبهم كحب ال‪ .‬وإن كان مقًرا بأن ا ّ‬
‫مشرك به‪ ،‬قد اتخذ من دون ا ّ‬

‫ل هو محبوبه ومعبوده‬ ‫ل‪ ،‬فالول يكون ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬وبين من أحب مخلوًقا مع ا ّ‬ ‫ل ورسوله بين من أحب مخلوًقا ّ‬ ‫ولهذا فرق ا ّ‬
‫ل يحب أنبياءه وعباده الصالحين‪ ،‬أحبهم لجله‪،‬‬ ‫الذي هو منتهى حبه وعبادته ل يحب معه غيره‪ ،‬لكنه لما علم أن ا ّ‬
‫عا عليه‬
‫ل‪ ،‬وفر ً‬
‫ل يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك‪ ،‬فكان حبه لما يحبه تابًعا لمحبة ا ّ‬ ‫وكذلك لما علم أن ا ّ‬
‫ل فيه‪.‬‬
‫وداخ ً‬

‫ل‪ ،‬ويتخذه شفيًعا له‬ ‫ل يرجوه ويخافه‪ ،‬أو يطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة ّ‬ ‫ل فجعله نًدا ّ‬
‫بخلف من أحب مع ا ّ‬
‫لِء‬
‫ن َهُؤ َ‬
‫ل َيْنَفُعُهْم َوَيُقوُلو َ‬
‫ضّرُهْم َو َ‬ ‫ل َي ُ‬
‫ل َما َ‬‫ن ا ِّ‬
‫ن ِمنْ ُدو ِ‬ ‫من غير أن يعلم أن ال يأذن له أن يشفع فيه‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وَيْعُبُدو َ‬
‫ن َمْرَيَم َوَما ُأِمُروا ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫ح اْب َ‬‫سي َ‬‫ل َواْلَم ِ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬
‫حَباَرُهْم َوُرْهَباَنُهْم َأْرَباًبا ِم ْ‬ ‫ل{ ]يونس‪ / ،[81 :‬وقال تعالى‪} :‬اّت َ‬
‫خُذوا َأ ْ‬ ‫عْنَد ا ِّ‬
‫شَفَعاُؤَنا ِ‬
‫ُ‬
‫ي بن حاتم للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬ما‬ ‫عِد ّ‬
‫ِلَيْعُبُدوا ِإَلًها َواِحًدا َل ِإَلَه ِإّل ُهَو ُسْبَحاَنُه َعّما ُيْشِرُكوَن{ ]التوبة‪ ،[31 :‬وقد قال َ‬
‫عبدوهم‪ ،‬قال‪) :‬أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم‪ ،‬وحرموا عليهم الحلل فأطاعوهم‪ ،‬فكانت تلك عبادتهم إياهم(‪ .‬قال‬
‫عَلى َيَدْيِه‬
‫ظاِلُم َ‬ ‫ل{ ]الشورى‪ ،[21 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَيْوَم َيَع ّ‬
‫ض ال ّ‬ ‫ن ِبِه ا ُّ‬
‫ن َما َلْم َيْأَذ ْ‬
‫ن الّدي ِ‬
‫عوا َلُهْم ِم ْ‬
‫شَر ُ‬ ‫تعالى‪َ} :‬أْم َلُهْم ُ‬
‫شَرَكاُء َ‬
‫طا ُ‬
‫ن‬ ‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫جاَءِني َوَكا َ‬
‫ن الّذْكِر َبْعَد ِإْذ َ‬
‫عْ‬
‫ضّلِني َ‬
‫ل ‪َ .‬لَقْد َأ َ‬
‫خِلي ً‬
‫لًنا َ‬
‫خْذ ُف َ‬
‫ل‪َ .‬ياَوْيَلِتي َلْيَتِني َلْم َأّت ِ‬
‫سِبي ً‬
‫ل َ‬
‫سو ِ‬
‫ت َمَع الّر ُ‬
‫خْذ ُ‬
‫ل َياَلْيَتِني اّت َ‬
‫َيُقو ُ‬
‫لنَسانِ َخُذوًل{ ]الفرقان‪ 27 :‬ـ ‪.[29‬‬ ‫ِل ِْ‬

‫ل‪ ،‬فالحلل ما حلله‪ ،‬والحرام ما حرمه‪ ،‬والدين ما شرعه‪،‬‬ ‫فالرسول وجبت طاعته؛ لنه من يطع الرسول فقد أطاع ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وهم‬‫ومن سوى الرسول من العلماء‪ ،‬والمشايخ‪ ،‬والمراء‪ ،‬والملوك إنما تجب طاعتهم‪ ،‬إذا كانت طاعتهم طاعة ّ‬
‫طيُعوا‬
‫ل َوَأ ِ‬
‫طيُعوا ا َّ‬ ‫ل ورسوله بطاعتهم‪ ،‬فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َأ ِ‬ ‫إذا أمر ا ّ‬
‫الّرُسوَل َوُأْوِلي اَْلْمِر ِمْنُكْم{ ]النساء‪.[59 :‬‬

‫فلم يقل‪ :‬وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولى المر منكم‪ ،‬بل جعل طاعة أولي المر داخلة في طاعة الرسول‪ ،‬وطاعة‬
‫ل‪ ،‬وأعاد الفعل في طاعة الرسول‪ ،‬دون طاعة أولي المر‪ ،‬فإنه من يطع الرسول ‪ /‬فقد أطاع ال‪،‬‬ ‫الرسول طاعة ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫ل به أم ل‪ ،‬بخلف أولي المر فإنهم قد يأمرون بمعصية ا ّ‬ ‫فليس لحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر هل أمر ا ّ‬
‫ل به أم ل‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وينظر هل أمر ا ّ‬
‫ل‪ ،‬بل لبد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية ّ‬ ‫فليس كل من أطاعهم مطيًعا ّ‬
‫سواء كان أولى المر من العلماء أو المراء‪ ،‬ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وغير ذلك؛وبهذا‬
‫ل{ ] النفال‪ ،[39 :‬وقال النبي صلى ال‬ ‫ن ُكّلُه ِّ‬
‫ن الّدي ُ‬
‫ن ِفْتَنٌة َوَيُكو َ‬
‫ل َتُكو َ‬ ‫ل‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وَقاِتُلوُهْم َ‬
‫حّتى َ‬ ‫يكون الدين كله ّ‬
‫ل؟ فقال‪:‬‬
‫ل‪ ،‬الرجل يقاتل شجاعة‪ ،‬ويقاتل حمية‪ ،‬ويقاتل رياء‪ ،‬فأي ذلك في سبيل ا ّ‬ ‫عليه وسلم لما قيل له‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ل(‪.‬‬‫ل هي العليا فهو في سبيل ا ّ‬ ‫)من قاتل لتكون كلمة ا ّ‬

‫ل‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وإن كان قد يقول‪ :‬إنه يحبه ّ‬
‫خا أو أميًرا‪ ،‬فيجعله نًدا ّ‬
‫ثم إن كثيًرا من الناس يحب خليفة أو عالًما أو شي ً‬

‫ل ورسوله‪ ،‬فقد جعله نًدا‪،‬‬‫فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به‪ ،‬وينهى عنه‪ ،‬وإن خالف أمر ا ّ‬
‫وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح‪ ،‬ويدعوه ويستغيث به‪ ،‬ويوالي أولياءه‪ ،‬ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته‬
‫ل ورسوله‪ ،‬فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في‬ ‫في كل ما يأمر به‪ ،‬وينهى عنه‪ ،‬ويحلله ويحرمه‪ ،‬ويقيمه مقام ا ّ‬
‫ل{ ]البقرة‪.[165:‬‬‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬
‫ل َواّلِذي َ‬
‫ب ا ِّ‬
‫ح ّ‬
‫حّبوَنُهْم َك ُ‬
‫ل َأنَداًدا ُي ِ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬
‫خُذ ِم ْ‬
‫ن َيّت ِ‬
‫س َم ْ‬ ‫قوله تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ن الّنا ِ‬

‫فالتوحيد والشراك يكون في أقوال القلب‪ ،‬ويكون في أعمال القلب؛ ولهذا قال الجنيد‪ :‬التوحيد قول القلب‪ ،‬والتوكل‬
‫عمل القلب‪ .‬أراد بذلك التوحيد الذي هو التصديق‪ ،‬فإنه لما قرنه بالتوكل جعله أصله‪ ،‬وإذا أفرد لفظ التوحيد‪ ،‬فهو‬
‫يتضمن قول القلب وعمله‪ ،‬والتوكل من تمام التوحيد‪.‬‬

‫وهذا كلفظ اليمان فإنه إذا أفرد دخلت فيه العمال الباطنة والظاهرة‪ ،‬وقيل‪ :‬اليمان قول وعمل‪ ،‬أي‪ :‬قول القلب‬
‫واللسان وعمل القلب والجوارج‪ ،‬ومنه قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق عليه‪) :‬اليمان بضع‬
‫ل‪ ،‬وأدناها إماطة الذى عن الطريق‪ ،‬والحياء شعبة من اليمان(‪ ،‬ومنه قوله‬ ‫وستون شعبة‪ ،‬أعلها قول ل إله إل ا ّ‬
‫ن{‬ ‫صاِدُقو َ‬
‫ك ُهْم ال ّ‬ ‫ل ُأْوَلِئ َ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫سِهْم ِفي َ‬ ‫جاَهُدوا ِبَأْمَواِلِهْم َوَأنُف ِ‬‫سوِلِه ُثّم َلْم َيْرَتاُبوا َو َ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫ن آَمُنوا ِبا ِّ‬ ‫تعالى‪ِ} :‬إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫عَلى َرّبِهْم‬
‫عَلْيِهْم آياُتُه َزاَدْتُهْم ِإيَماًَنا َو َ‬
‫ت َ‬
‫ت ُقُلوُبُهْم َوِإَذا ُتِلَي ْ‬
‫جَل ْ‬
‫ل َو ِ‬ ‫ن ِإَذا ُذِكَر ا ُّ‬
‫ن اّلِذي َ‬ ‫]الحجرات‪ ،[15 :‬وقوله‪ِ} :‬إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫حّقا{ ]النفال‪2 :‬ـ ‪ [4‬وقوله‪ِ} :‬إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬ ‫ن َ‬ ‫ك ُهْم اْلُمْؤِمُنو َ‬ ‫ن ‪ُ .‬أْوَلِئ َ‬
‫لَة َوِمّما َرَزْقَناُهْم ُينِفُقو َ‬‫صَ‬‫ن ال ّ‬ ‫ن ُيِقيُمو َ‬
‫ن ‪ .‬اّلِذي َ‬ ‫َيَتَوّكُلو َ‬
‫ل َوَرُسوِلِه َوِإَذا َكاُنوا َمَعُه َعَلى َأْمٍر َجاِمٍع َلْم َيْذَهُبوا َحّتى َيْسَتْأِذُنوُه{ ]النور‪.[62 :‬‬ ‫آَمُنوا ِبا ِّ‬

‫واليمان المطلق يدخل فيه السلم كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس‪) :‬آمركم‬
‫ل‪ / ،‬وإقام الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪،‬‬‫ل‪ ،‬وأن محمًدا رسول ا ّ‬
‫ل؟ شهادة أن ل إله إل ا ّ‬
‫ل‪ ،‬أتدرون ما اليمان با ّ‬
‫باليمان با ّ‬
‫وأن تؤدوا خمس ما غنمتم(؛ ولهذا قال من قال من السلف‪ :‬كل مؤمن مسلم‪ ،‬وليس كل مسلم مؤمًنا‪.‬‬

‫ت{‬
‫حا ِ‬
‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬
‫ن آَمُنوا َو َ‬ ‫وأما إذا قرن لفظ اليمان بالعمل أو بالسلم‪ ،‬فإنه يفرق بينهما كما في قوله تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫]البينة‪ ،[7 :‬وهو في القرآن كثير‪ ،‬وكما في قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما سأله جبريل‬
‫ل‪ ،‬وتقيم الصلة‪،‬‬‫ل وأن محمًدا رسول ا ّ‬‫عن السلم واليمان والحسان ـ فقال‪) :‬السلم‪ :‬أن تشهد أن ل إله إل ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪،‬‬ ‫وتؤتي الزكاة‪ ،‬وتصوم رمضان‪ ،‬وتحج البيت(‪ .‬قال‪ :‬فما اليمان؟ قال‪) :‬أن تؤمن با ّ‬
‫ل كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه‬
‫والبعث بعد الموت‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره وشره(‪ .‬قال‪ :‬فما الحسان؟ قال‪) :‬أن تعبد ا ّ‬
‫يراك(‪ .‬ففرق في هذا النص بين السلم واليمان لما قرن بين السمين‪ ،‬وفي ذلك النص أدخل السلم في اليمان لما‬
‫أفرده بالذكر‪.‬‬

‫وكذلك لفظ ]العمل[ فإن السلم المذكور هو من العمل‪ ،‬والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه‪ ،‬فإذا حصل‬
‫إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة‪ ،‬وإيمان القلب لبد فيه من تصديق القلب وانقياده‪ ،‬وإل فلو صدق قلبه بأن‬
‫ل‪ ،‬وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته‪ ،‬لم يكن قد آمن قلبه‪.‬‬
‫محمًدا رسول ا ّ‬

‫و]اليمان[ وإن تضمن التصديق‪ ،‬فليس هو مرادًفا له‪ ،‬فل يقال ‪ /‬لكل مصدق بشيء‪ :‬أنه مؤمن به‪ .‬فلو قال‪ :‬أنا أصدق‬
‫بأن الواحد نصف الثنين‪ ،‬وأن السماء فوقنا‪ ،‬والرض تحتنا‪ ،‬ونحو ذلك مما يشاهده الناس ويعلمونه‪ ،‬لم يقل لهذا‪ :‬أنه‬
‫ت ِبُمْؤِمٍن َلَنا{ ]يوسف‪:‬‬
‫مؤمن بذلك‪ ،‬بل ل يستعمل إل فيمن أخبر بشيء من المور الغائبة كقول إخوة يوسف‪َ} :‬وَما َأْن َ‬
‫‪ ،[17‬فإنهم أخبروه بما غاب عنه وهم يفرقون بين من آمن له وآمن به فالول‪ :‬يقال للمخبر‪ ،‬والثاني‪ :‬يقال للمخبر به‬
‫ت ِبُمْؤِمٍن َلَنا{‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬فَما آَمَن ِلُموَسى ِإّل ُذّرّيٌة ِمْن َقْوِمِه{ ]يونس‪.[83 :‬‬
‫كما قال إخوة يوسف‪َ} :‬وَما َأْن َ‬

‫ل َوُيْؤِمُن ِلْلُمْؤِمِنيَن{ ]التوبة‪ ،[61 :‬ففرق بين‬


‫ن ِبا ِّ‬
‫خْيٍر َلُكْم ُيْؤِم ُ‬
‫ن َ‬
‫ل ُأُذ ُ‬
‫ن ُق ْ‬
‫ن ُهَو ُأُذ ٌ‬
‫ي َوَيُقوُلو َ‬
‫ن الّنِب ّ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬وِمْنُهْم اّلِذي َ‬
‫ن ُيْؤُذو َ‬
‫ل فهو من باب القرار به‪.‬‬ ‫ل وإيمانه للمؤمنين‪ ،‬لن المراد يصدق المؤمنين إذا أخبروه‪ ،‬وأما إيمانه با ّ‬ ‫إيمانه با ّ‬

‫ومنه قوله ـ تعالى ـ عن فرعون وملئه‪َ} :‬أُنْؤِمُن ِلَبَشَرْيِن ِمْثِلَنا{ ]المؤمنون‪ ،[47 :‬أي‪ :‬نقر لهما ونصدقهما‪ .‬ومنه قوله‪:‬‬
‫ل ُثّم ُيَحّرُفوَنُه مِْن َبْعِد َما َعَقُلوُه َوُهْم َيْعَلُموَن{ ]البقرة‪ ،[75 :‬ومنه‬ ‫لَم ا ِّ‬‫ن َك َ‬ ‫سَمُعو َ‬‫ق ِمْنُهْم َي ْ‬‫ن َفِري ٌ‬‫ن ُيْؤِمُنوا َلُكْم َوَقْد َكا َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫طَمُعو َ‬
‫}َأَفَت ْ‬
‫ب{‬
‫ن ِباْلَغْي ِ‬‫جٌر ِإَلى َرّبي{ ]العنكبوت‪ ،[26 :‬ومن المعني الخر قوله تعالى‪ُ} :‬يْؤِمُنو َ‬ ‫ل ِإّني ُمَها ِ‬‫ط َوَقا َ‬ ‫قوله تعالى‪َ} :‬فآَم َ‬
‫ن َلُه ُلو ٌ‬
‫حٍد ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ن َأ َ‬
‫ق َبْي َ‬
‫ل ُنَفّر ُ‬
‫سِلِه َ‬
‫لِئَكِتِه َوُكُتِبِه َوُر ُ‬
‫ل َوَم َ‬‫ل آَمنَ ِبا ِّ‬ ‫ن ُك ّ‬
‫ن َرّبِه َواْلُمْؤِمُنو َ‬‫ل ِإَلْيِه ِم ْ‬
‫ل ِبَما ُأنِز َ‬
‫سو ُ‬‫ن الّر ُ‬ ‫]البقرة‪ ،[3 :‬وقوله‪} :‬آَم َ‬
‫ب َوالّنِبّييَن{ ]البقرة‪ ،[177 :‬أي‪ :‬أقر‬ ‫لِئَكِة َواْلِكَتا ِ‬‫خِر َواْلَم َ‬ ‫لِ‬‫ل َواْلَيْوِم ا ْ‬
‫ن ِبا ِّ‬‫ن آَم َ‬
‫ن اْلِبّر َم ْ‬‫سِلِه{ ]البقرة‪ ،[285 :‬وقوله‪َ} :‬وَلِك ّ‬ ‫ُر ُ‬
‫بذلك ومثل هذا في القرآن كثير‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن لفظ ]اليمان[ إنما يستعمل في بعض الخبار‪ ،‬وهو مأخوذ من المن‪ ،‬كما أن القرار مأخوذ من‬
‫قر‪ ،‬فالمؤمن صاحب أمن‪ ،‬كما أن المقر صاحب إقرار‪ ،‬فلبد في ذلك من عمل القلب بموجب تصديقه‪ ،‬فإذا كان‬
‫ل‪ ،‬ولم يقترن بذلك حبه‪ ،‬وتعظيمه بل كان يبغضه ويحسده ويستكبر عن اتباعه‪ ،‬فإن هذا‬
‫عالًما بأن محمًدا رسول ا ّ‬
‫ليس بمؤمن به‪ ،‬بل كافر به‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬كفر إبليس‪ ،‬وفرعون‪ ،‬وأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وغير هؤلء‪ ،‬فإن إبليس لم‬
‫ظْلًما‬
‫سُهْم ُ‬
‫سَتْيَقَنْتَها َأْنُف ُ‬
‫حُدوا ِبَها َوا ْ‬
‫جَ‬‫ل فيهم‪َ} :‬و َ‬ ‫يكذب خبًرا ول مخبًرا‪ ،‬بل استكبر عن أمر ربه‪ .‬وفرعون وقومه قال ا ّ‬
‫صاِئَر{]السراء‪،[102 :‬‬ ‫ض َب َ‬‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬‫ب ال ّ‬
‫ل َر ّ‬
‫لء ِإ ّ‬
‫ل َهُؤ َ‬
‫ت َما َأنَز َ‬ ‫عُلّوا{ ]النمل‪ ،[14 :‬وقال له موسى‪َ} :‬لَقْد َ‬
‫عِلْم َ‬ ‫َو ُ‬
‫ب َيْعِرُفوَنُه َكَما َيْعِرُفوَن َأْبَناَءُهْم{ ]البقرة‪.[146 :‬‬ ‫وقال تعالى‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن آَتْيَناُهْم اْلِكَتا َ‬

‫فمجرد علم القلب بالحق إن لم يقترن به عمل القلب بموجب ـ علمه مثل محبة القلب له واتباع القلب له ـ لم ينفع‬
‫ل بعلمه‪ ،‬وقد كان النبي صلى ال عليه وسلم ‪ /‬يقول‪) :‬الّلهم‬ ‫صاحبه‪ ،‬بل أشد الناس عذاًبا يوم القيامة عالم لم ينفعه ا ّ‬
‫إني أعوذ بك من علم ل ينفع‪ ،‬ونفس ل تشبع‪ ،‬ودعاء ل يسمع‪ ،‬وقلب ل يخشع(‪.‬‬

‫ولكن الجهمية ظنوا أن مجرد علم القلب وتصديقه هو اليمان‪ ،‬وأن من دل الشرع على أنه ليس بمؤمن‪ ،‬فإن ذلك يدل‬
‫ل‪ ،‬وحقيقته توجب التسوية بين المؤمن والكافر؛ ولهذا أطلق‬‫عا وعق ً‬
‫على عدم علم قلبه‪ ،‬وهذا من أعظم الجهل شر ً‬
‫وكيع بن الجراح وأحمد ابن حنبل وغيرهما من الئمة كفرهم بذلك‪ ،‬فإنه من المعلوم أن النسان يكون عالًما بالحق‬
‫ويبغضه لغرض آخر‪ ،‬فليس كل من كان مستكبًرا عن الحق‪ ،‬يكون غيرعالم به‪ ،‬وحينئذ فاليمان لبد فيه من تصديق‬
‫القلب وعمله‪ ،‬وهذا معنى قول السلف‪ :‬اليمان قول وعمل‪.‬‬

‫ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للرادة‪ ،‬لزم وجود الفعال الظاهرة‪ ،‬فإن الرادة الجازمة‬
‫إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطًعا‪ ،‬وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة‪ ،‬أو لعدم كمال الرادة‪،‬‬
‫ل وأحبه محبة تامة‪،‬‬
‫وإل فمع كمالها يجب وجود الفعل الختياري‪ ،‬فإذا أقر القلب إقراًرا تاًما‪ ،‬بأن محمًدا رسول ا ّ‬
‫امتنع مع ذلك أل يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك‪ ،‬لكن إن كان عاجًزا لخرس‪ ،‬ونحوه أو لخوف‪ ،‬ونحوه لم يكن‬
‫قادًرا على النطق بهما‪.‬‬

‫ل‪ ،‬بل كان يحبه؛‬ ‫ل‪ ،‬وهو محب له‪ ،‬فلم تكن محبته له لمحبته ّ‬ ‫وأبو طالب‪ ،‬وإن كان عالًما بأن محمًدا رسول ا ّ‬ ‫‪/‬‬
‫لنه ابن أخيه فيحبه للقرابة‪ ،‬وإذا أحب ظهوره فلما يحصل له بذلك من الشرف والرئاسة‪ ،‬فأصل محبوبه هو‬
‫الرئاسة ؛ فلهذا لما عرض عليه الشهادتين عند الموت رأى أن بالقرار بهما زوال دينه الذي يحبه‪ ،‬فكان دينه أحب‬
‫جّنُبَها‬ ‫ل فيه‪َ} :‬و َ‬
‫سُي َ‬ ‫ل كما كان يحبه أبو بكر الذي قال ا ّ‬ ‫إليه من ابن أخيه فلم يقر بهما ـ فلو كان يحبه ؛ لنه رسول ا ّ‬
‫ضى{ ]الليل‪ 17 :‬ـ‬ ‫ف َيْر َ‬
‫سْو َ‬
‫عَلى ‪َ .‬وَل َ‬
‫لْ‬
‫جِه َرّبِه ا َْ‬
‫ل اْبِتَغاَء َو ْ‬‫جَزى ‪ِ .‬إ ّ‬
‫ن ِنْعَمٍة ُت ْ‬
‫عْنَدُه ِم ْ‬
‫حٍد ِ‬
‫لَ‬‫لْتَقى ‪ .‬اّلِذي ُيْؤِتي َماَلُه َيَتَزّكى ‪َ .‬وَما َِ‬
‫ا َْ‬
‫‪ ،[21‬وكما كان يحبه سائر المؤمنين به‪ ،‬كعمر وعثمان وعلى‪ ،‬وغيرهم لنطق بالشهادتين قطًعا ـ فكان حبه حًبا مع‬
‫ل ل يقبل من العمل إل ما‬ ‫ل‪ ،‬وا ّ‬ ‫ل ما فعله من نصر الرسول ومؤازرته ؛ لنه لم يعمله ّ‬ ‫ل ؛ ولهذا لم يقبل ا ّ‬ ‫ل ل حًبا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫أريد به وجهه‪ ،‬بخلف الذي فعل‪ ،‬ما فعل ابتغاء وجه ربه العلى‪.‬‬

‫ل‪ ،‬والدين ل‬ ‫وهذا مما يحقق أن اليمان‪ ،‬والتوحيد لبد فيهما من عمل القلب‪ ،‬كحب القلب‪ ،‬فلبد من إخلص الدين ّ‬
‫ل ـ عز وجل ـ سورتي الخلص‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َياَأّيَها‬ ‫يكون ديًنا إل بعمل‪ ،‬فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة‪ ،‬وقد أنزل ا ّ‬
‫ل َأَحٌد{‪ .‬إحداهما في توحيد القول والعلم‪ ،‬والثانية في توحيد العمل ‪ /‬والرادة‪ ،‬فقال في الول‪:‬‬ ‫ل ُهَو ا ُّ‬ ‫ن{ و}ُق ْ‬ ‫اْلَكاِفُرو َ‬
‫صَمُد ‪َ .‬لْم َيِلْد َوَلْم ُيوَلْد ‪َ .‬وَلْم َيُكْن َلُه ُكُفًوا َأَحٌد{ ]سورة الخلص[ فأمره أن يقول هذا التوحيد وقال في‬ ‫ل ال ّ‬ ‫حٌد ‪ .‬ا ُّ‬ ‫ل َأ َ‬
‫ل ُهوَ ا ُّ‬ ‫}ُق ْ‬
‫عُبُد ‪َ .‬لُكْم‬
‫ن َما َأ ْ‬ ‫عاِبُدو َ‬
‫ل َأْنُتْم َ‬
‫عَبدّتْم ‪َ .‬و َ‬
‫عاِبٌد َما َ‬
‫ل َأَنا َ‬
‫عُبُد ‪َ .‬و َ‬
‫ن َما َأ ْ‬
‫عاِبُدو َ‬
‫ل َأْنُتْم َ‬
‫ن ‪َ .‬و َ‬
‫عُبُد َما َتْعُبُدو َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ن‪َ .‬‬ ‫الثاني‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َياَأّيَها اْلَكاِفُرو َ‬
‫ل‪.‬‬
‫ل وإخلص العبادة ّ‬ ‫ي ِديِن{ ] سورة الكافرون [ فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير ا ّ‬ ‫ِديُنُكْم وَِل َ‬

‫والعبادة أصلها القصد والرادة‪ ،‬والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه‪ ،‬وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما‬
‫ن{ ]الذاريات‪ ،[56 :‬وقال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها‬ ‫ل ِلَيْعُبُدو ِ‬‫س ِإ ّ‬
‫لن َ‬
‫ن َوا ِْ‬
‫جّ‬
‫ت اْل ِ‬ ‫لها‪ ،‬كما ذكرناه في لفظ اليمان‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬
‫س اعُْبُدوا َرّبُكْم{ ]البقرة‪ ،[21 :‬فهذا ونحوه يدخل فيه فعل المأمورات وترك المحظورات‪ ،‬والتوكل من ذلك‪ ،‬وقد‬ ‫الّنا ُ‬
‫ك َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة‪ ،[5 :‬وقال‪َ} :‬فاْعُبْدُه َوَتَوّكْل َعَلْيِه{ ]هود‪.[123 :‬‬ ‫قال في موضع آخر‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬

‫ومثل هذا كثيًرا ما يجيء في القرآن؛ تتنوع دللة اللفظ في عمومه وخصوصه بحسب الفراد والقتران‪ ،‬كلفظ‬
‫ف َوَتْنَهْوَن َعْن اْلُمنَكِر{ ] آل عمران‪،[110 :‬‬ ‫ن ِباْلمَْعُرو ِ‬‫س َتْأُمُرو َ‬
‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬
‫خِر َ‬ ‫المعروف والمنكر فإنه قد قال‪ُ} :‬كْنُتْم َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫ن اْلُمنَكِر{ ]التوبة‪ ،[71 :‬وقال‪َ} :‬يْأُمُرُهْم‬‫عْ‬
‫ن َ‬
‫ف َوَيْنَهْو َ‬‫ن ِباْلَمْعُرو ِ‬
‫ض َيْأُمُرو َ‬
‫ضُهْم َأْوِلَياُء َبْع ٍ‬ ‫ت َبْع ُ‬ ‫وقال‪َ} :‬واْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ن َواْلُمْؤِمَنا ُ‬
‫ل‪.‬‬
‫ل‪ ،‬كما يدخل في المعروف ما يحبه ا ّ‬ ‫ف َوَيْنَهاُهْم َعْن اْلُمنَكِر{ ]العراف‪ ،[157 :‬فالمنكر يدخل فيه ما كرهه ا ّ‬ ‫ِباْلَمْعُرو ِ‬

‫لَة َتْنَهى َعْن اْلَفْحَشاِء َواْلُمْنَكِر{ ]العنكبوت‪ ،[45 :‬فعطف المنكر على الفحشاء‪ ،‬ودخل‬ ‫صَ‬ ‫وقد قال في موضع آخر‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ال ّ‬
‫شاِء َواْلُمنَكِر‬
‫حَ‬‫ن اْلفَ ْ‬
‫عْ‬
‫ن َوِإيَتاِء ِذي اْلُقْرَبى َوَيْنَهى َ‬
‫سا ِ‬
‫حَ‬‫لْ‬
‫ل َوا ِ‬
‫ل َيْأُمُر ِباْلَعْد ِ‬ ‫في المنكر هنا البغي‪ ،‬وقال في موضع آخر‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ي{ ]النحل‪ ،[90 :‬فقرن بالمنكر الفحشاء والبغي‪.‬‬ ‫َواْلَبْغ ِ‬

‫ومن هذا الباب لفظ الفقراء والمساكين‪ ،‬إذا أفرد أحدهما دخل فيه الخر‪ ،‬وإذا قرن أحدهما بالخر صار بينهما فرق‪،‬‬
‫ل وحده والتوكل عليه وحده‪ ،‬وخشية‬ ‫لكن هناك أحد السمين أعم من الخر‪ ،‬وهنا بينهما عموم وخصوص‪ ،‬فمحبة ا ّ‬
‫ل َأنَداًدا‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬ ‫خُذ ِم ْ‬‫ن َيّت ِ‬
‫س َم ْ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫ل تعالى‪ ،‬قال تعالى في المحبة‪َ} :‬وِم ْ‬ ‫ل وحده‪ ،‬ونحو هذا كل هذا يدخل في توحيد ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫جُكْم‬
‫خَواُنُكْم َوَأْزَوا ُ‬
‫ن آَباُؤُكْم َوَأْبَناُؤُكْم َوِإ ْ‬
‫ن َكا َ‬ ‫ل{ ]البقرة‪ ،[165 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬ ‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬
‫ل َواّلِذي َ‬
‫ب ا ِّ‬
‫ح ّ‬
‫حّبوَنُهْم َك ُ‬
‫ُي ِ‬
‫صوا‬‫سِبيِلِه َفَتَرّب ُ‬
‫جَهاٍد ِفي َ‬ ‫سوِلِه َو ِ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫ن ا ِّ‬ ‫ب ِإَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ح ّ‬ ‫ضْوَنَها َأ َ‬
‫ن َتْر َ‬‫ساِك ُ‬
‫ساَدَها َوَم َ‬ ‫ن َك َ‬
‫شْو َ‬
‫خَ‬ ‫جاَرٌة َت ْ‬‫ل اْقَتَرْفُتُموَها َوِت َ‬‫شيَرُتُكْم َوَأْمَوا ٌ‬ ‫عِ‬‫َو َ‬
‫ك ُهْم اْلَفاِئُزوَن{ ]النور‪،[52 :‬‬ ‫ل َوَيّتِقِه َفُأْوَلِئ َ‬‫ش ا َّ‬
‫خ َ‬ ‫سوَلُه َوَي ْ‬‫ل َوَر ُ‬‫طْع ا َّ‬
‫ن ُي ِ‬‫ل ِبَأْمِرِه{ ]التوبة‪ ،[24 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬ ‫ي ا ُّ‬
‫حّتى َيْأِت َ‬‫َ‬
‫سوُلُه َوَقاُلوا‬
‫ل َوَر ُ‬‫ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ‬ ‫ل وحده‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلْو َأّنُهْم َر ُ‬ ‫ل والرسول وجعل الخشية والتقوى ّ‬ ‫فجعل الطاعة ّ‬
‫ب ‪َ .‬وِإَلى َرّب َ‬
‫ك‬ ‫ص ْ‬‫ت َفان َ‬‫غ َ‬ ‫ن{ ]التوبة‪ ،[59 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فِإَذا َفَر ْ‬ ‫غُبو َ‬ ‫ل َرا ِ‬
‫سوُلُه ِإّنا ِإَلى ا ِّ‬‫ضِلِه َوَر ُ‬
‫ن َف ْ‬‫ل ِم ْ‬ ‫سُيْؤِتيَنا ا ُّ‬
‫ل َ‬ ‫سُبَنا ا ُّ‬
‫حْ‬‫َ‬
‫ل وحده‪.‬‬ ‫ب{ ]الشرح‪ [8 ،7 :‬فجعل التحسب والرغبة إلى ا ّ‬ ‫غ ْ‬‫َفاْر َ‬

‫وهذه المور مبسوطة في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ل‪،‬‬
‫ل وعم ً‬‫ل قو ً‬
‫ل وحده وذلك يتضمن التصديق ّ‬
‫ت{ فيه إفراد اللهية ّ‬
‫ل َأْن َ‬ ‫والمقصود هنا أن قول القائل‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل رب كل شيء‪ ،‬لكن كانوا يجعلون معه آلهة أخرى‪ ،‬فل يخصونه باللهية‪،‬‬ ‫فالمشركون كانوا يقرون بأن ا ّ‬
‫ك َنْسَتِعيُن{ فإن النسان قد‬ ‫وتخصيصه باللهية يوجب أل يعبد إل إياه‪ ،‬وأل يسأل غيره‪ ،‬كما في قوله‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬
‫صا له في‬
‫ل‪ ،‬بل يكرهها وينهى عنها‪ ،‬فهذا وإن كان مخل ً‬ ‫ل وحده والتوكل عليه‪ ،‬لكن في أمور ل يحبها ا ّ‬
‫يقصد سؤال ا ّ‬
‫صا في عبادته وطاعته‪ ،‬وهذا حال كثير من أهل التوجهات الفاسدة أصحاب‬ ‫سؤاله‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬لكن ليس هو مخل ً‬
‫ل ورسوله‪ ،‬فإنهم يعانون على هذه المور‪.‬‬ ‫الكشوفات‪ ،‬والتصرفات المخالفة لمر ا ّ‬

‫ل ورسوله حصل لهم نصيب من العاجلة‪ ،‬وكانت عاقبتهم‬ ‫ل عليها‪ ،‬لكن لما لم تكن موافقة لمرا ّ‬ ‫وكثير منهم يستعين ا ّ‬
‫ن َكُفوًرا{‬ ‫سا ُ‬‫لْن َ‬‫ن ا ِْ‬ ‫ضُتْم َوَكا َ‬
‫عَر ْ‬
‫جاُكْم ِإَلى اْلَبّر َأ ْ‬‫ل ِإّياُه َفَلّما َن ّ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫عو َ‬ ‫ن َتْد ُ‬
‫ل َم ْ‬‫ضّ‬ ‫حِر َ‬‫ضّر ِفي اْلَب ْ‬ ‫سُكْم ال ّ‬ ‫عاقبة سيئة‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وِإَذا َم ّ‬
‫عَنا ِإَلى‬
‫ن َلْم َيْد ُ‬‫ضّرهُ َمّر َكَأ ْ‬ ‫عْنُه ُ‬
‫شْفَنا َ‬ ‫جْنِبِه َأْو َقاعًِدا َأْو َقاِئًما َفَلّما َك َ‬
‫عاَنا ِل َ‬
‫ضّر َد َ‬
‫ن ال ّ‬
‫سا َ‬ ‫لْن َ‬ ‫]السراء‪ ،[67 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإَذا َم ّ‬
‫س ا ِْ‬
‫ضّر َمّسُه{ ]يونس‪.[12 :‬‬
‫ُ‬

‫ل ورسوله‪ ،‬لكن ل يحققون التوكل عليه والستعانة به‪ ،‬فهؤلء يثابون على حسن‬ ‫طائفة أخرى قد يقصدون طاعة ا ّ‬ ‫وَ‬
‫ل والتوكل عليه‪ ،‬ولهذا يبتلى الواحد‬ ‫نيتهم‪ ،‬وعلى طاعتهم‪ ،‬لكنهم مخذولون فيما يقصدونه‪ ،‬إذ لم يحققوا الستعانة با ّ‬
‫من هؤلء بالضعف والجزع تارة‪ ،‬وبالعجاب أخرى‪ ،‬فإن لم يحصل مراده من الخير كان لضعفه‪ ،‬وربما حصل له‬
‫جزع‪ ،‬فإن حصل مراده نظر إلى نفسه وقوته فحصل له إعجاب‪ ،‬وقد يعجب بحاله فيظن حصول مراده فيخذل‪ ،‬قال‬
‫ن{ إلى قوله‪ُ} :‬ثّم‬
‫ت ُثّم َوّلْيُتْم ُمْدِبِري َ‬
‫حَب ْ‬
‫ض ِبَما َر ُ‬
‫لْر ُ‬
‫عَلْيُكْم ا َْ‬
‫ت َ‬
‫ضاَق ْ‬
‫شْيًئا َو َ‬
‫عْنُكْم َ‬
‫ن َ‬
‫جَبْتُكْم َكْثَرُتُكْم َفَلْم ُتْغ ِ‬
‫عَ‬‫ن ِإْذ َأ ْ‬ ‫تعالى‪َ} :‬وَيْوَم ُ‬
‫حَنْي ٍ‬
‫ل َغُفوٌر َرِحيٌم{ ]التوبة‪25 :‬ـ ‪.[27‬‬ ‫شاُء َوا ُّ‬ ‫ن َي َ‬
‫عَلى َم ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ن َبْعِد َذِل َ‬
‫ل ِم ْ‬
‫ب ا ُّ‬
‫َيُتو ُ‬

‫وكثيًرا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب‪ ،‬فالرياء من باب الشراك بالخلق‪ ،‬والعجب من باب الشراك بالنفس‪،‬‬
‫ك َنْسَتِعيُن{‪ ،‬فمن حقق قوله‪:‬‬
‫ك َنْعٍُبد{‪ ،‬والمعجب ل يحقق قوله‪َ} :‬وِإّيا َ‬
‫وهذا حال المستكبر‪ ،‬فالمرائي ل يحقق قوله‪} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْسَتِعيُن{ خرج عن العجاب‪ ،‬وفي الحديث المعروف‪) :‬ثلث‬ ‫ك َنْعُبُد{ خرج عن الرياء‪ ،‬ومن حقق قوله‪َ} :‬وِإّيا َ‬
‫}ِإّيا َ‬
‫ع‪ ،‬وهوى ُمّتَبٌع‪ ،‬وإعجاب المرء بنفسه(‪.‬‬ ‫طا ٌ‬
‫ح ُم َ‬
‫شّ‬‫مهلكات‪ُ :‬‬

‫ل‪ ،‬بل يعبد غيره ويستعين غيره وهؤلء المشركون‬


‫ل‪ ،‬ول استعانته با ّ‬
‫‪/‬وشر من هؤلء وهؤلء من ل تكون عبادته ّ‬
‫من الوجهين‪.‬‬

‫ومن هؤلء من يكون شركه بالشياطين‪ ،‬كأصحاب الحوال الشيطانية‪ ،‬فيفعلون ما تحبه الشياطين من الكذب‬
‫ل‪ ،‬كما قد‬
‫والفجور‪ ،‬ويدعونه بأدعية تحبها الشياطين‪ ،‬ويعزمون بالعزائم التي تطيعها الشياطين‪ ،‬مما فيها إشراك با ّ‬
‫بسط الكلم عليهم في مواضع أخر‪ ،‬وهؤلء قد يحصل لهم من الخوارق ما يظن أنه من كرامات الولياء‪ .‬وإنما هو‬
‫من أحوال السحرة والكهان؛ ولهذا يجب الفرق بين الحوال اليمانية القرآنية‪ ،‬والحوال النفسانية‪ ،‬والحوال‬
‫الشيطانية‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فلم يعبدوا إل إياه‪ ،‬ولم يتوكلوا إل عليه‪.‬‬


‫وأما القسم الرابع‪ :‬فهم أهل التوحيد الذين أخلصوا دينهم ّ‬

‫ل عليه النعمة استحضر‬ ‫ت{ قد يستحضر في ذلك أحد النوعين دون الخر فمن أتم ا ّ‬ ‫ل َأْن َ‬ ‫وقول المكروب‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل مستشعًرا أنه ل‬ ‫التوحيد في النوعين‪ ،‬فإن المكروب همته منصرفة إلى دفع ضره وجلب نفعه‪ ،‬فقد يقول‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫يكشف الضر غيرك‪ ،‬ول يأتي بالنعمة إل أنت‪ ،‬فهذا مستحضر توحيد الربوبية‪ ،‬ومستحضر توحيد السؤال والطلب‪،‬‬
‫ل ويرضاه ويأمر ‪ /‬به وهـو أل يعبد إل إياه‪ ،‬ول يعبده إل‬ ‫والتوكل عليه‪ ،‬معرض عن توحيد اللهية الذي يحبه ا ّ‬
‫ل قوله‪:‬‬ ‫ل عليه وكان ممتث ً‬ ‫ل متوك ً‬‫ت{ كان عابًدا ّ‬
‫ل َأْن َ‬ ‫بطـاعته‪ ،‬وطـاعـة رسوله‪ ،‬فمن استشعر هـذا في قـوله‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل ِإَلْيِه‬
‫ك َوَتَبّت ْ‬ ‫ب{ ]الشورى‪ ،[10 :‬وقوله‪َ} :‬واْذُكْر ا ْ‬
‫سَم َرّب َ‬ ‫ت َوِإَلْيِه ُأِني ُ‬ ‫عَلْيِه{ ]هود‪ ،[123 :‬وقوله‪َ } :‬‬
‫عَلْيِه َتَوّكْل ُ‬ ‫ل َ‬‫عُبْدُه َوَتَوّك ْ‬
‫}َفا ْ‬
‫ل{ ]المّزمل‪.[9 ،8 :‬‬ ‫خْذُه َوِكي ً‬‫ل ُهَو َفاّت ِ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ب َ‬ ‫ق َواْلَمْغِر ِ‬‫شِر ِ‬
‫ب اْلَم ْ‬
‫ل ‪َ .‬ر ّ‬ ‫َتْبِتي ً‬

‫حا لغير قصد الستعانة به على طاعة الّ‬


‫ثم إن كان مطلوبه محرًما أثم‪ ،‬وإن قضيت حاجته‪ ،‬وإن كان طالًبا مبا ً‬
‫ل وعبادته لقصد الستعانة به على ذلك‪ ،‬كان‬
‫وعبادته لم يكن آثًما‪ ،‬ول مثاًبا‪ ،‬وإن كان طالًبا ما يعينه على طاعة ا ّ‬
‫مثاًبا مأجوًرا‪.‬‬

‫وهذا مما يفرق به بين العبد الرسول وخلفائه‪ ،‬وبين النبي الملك‪ ،‬فإن نبينا محمًدا صلى ال عليه وسلم خير بين أن‬
‫ل‪ ،‬فإن العبد الرسول هو الذي ل يفعل إل ما أمر به‪،‬‬
‫ل‪ ،‬فاختار أن يكون عبًدا رسو ً‬
‫يكون نبًيا ملًكا‪ ،‬أو عبًدا رسو ً‬
‫ل ل أعطي‬ ‫ل‪ ،‬فهو عبد محض منفذ أمر مرسله‪ ،‬كما ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال‪) :‬إني وا ّ‬ ‫ففعله كله عبادة ّ‬
‫ل بذلك‬‫أحًدا ول أمنع أحًدا‪ ،‬وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت(‪ ،‬وهو لم يرد بقوله‪) :‬ل أعطي أحًدا ول أمنع( إفراد ا ّ‬
‫ل وقدره‪ ،‬وإنما أراد إفراد‬ ‫قدًرا وكوًنا‪ ،‬فإن جميع المخلوقين يشاركونه في هذا‪ ،‬فل يعطي أحًدا ول يمنع إل بقضاء ا ّ‬
‫ل في إعطائي‬ ‫عا وديًنا‪ ،‬أي ل أعطي إل من أمرت ‪ /‬بإعطائه‪ ،‬ول أمنع إل من أمرت بمنعه‪ ،‬فأنا مطيع ّ‬ ‫ل بذلك شر ً‬
‫ا ّ‬
‫ل أمره بهذه القسمة‪.‬‬
‫ومنعى‪ ،‬فهو يقسم الصدقة والفيء والغنائم كما يقسم المواريث بين أهلها؛ لن ا ّ‬

‫ل ورسوله‪ ،‬ليس المراد به‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬فالمراد به ما يجب أن يصرف في طاعة ا ّ‬ ‫ولهذا كان المال حيث أضيف إلى ا ّ‬
‫ل خلًقا وقدًرا‪ ،‬فإن جميع الموال بهذه‬ ‫أنه ملك للرسول‪ ،‬كما ظنه طائفة من الفقهاء‪ ،‬ول المراد به كونه مملوًكا ّ‬
‫ل{‬‫سو ِ‬‫سُه َوِللّر ُ‬‫خُم َ‬
‫ل ُ‬
‫ن ِّ‬
‫يٍء َفَأ ّ‬
‫ش ْ‬‫ن َ‬‫غِنْمُتْم ِم ْ‬ ‫ل{ ]النفال‪ ،[1 :‬وقوله‪َ} :‬وا ْ‬
‫عَلُموا َأّنَما َ‬ ‫سو ِ‬‫ل َوالّر ُ‬ ‫ل ِّ‬‫لْنَفا ُ‬ ‫المثابة‪ ،‬وهذا كقوله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ا َْ‬
‫عَلى‬
‫ل َ‬‫ب{ إلى قوله‪َ} :‬ما َأَفاَء ا ُّ‬ ‫ل ِرَكا ٍ‬ ‫ل َو َ‬
‫خْي ٍ‬
‫ن َ‬ ‫عَلْيِه ِم ْ‬
‫جْفُتْم َ‬
‫سوِلِه ِمْنُهْم َفَما َأْو َ‬
‫عَلى َر ُ‬
‫ل َ‬‫الية ]النفال‪ ،[41 :‬وقوله‪َ} :‬وَما َأَفاَء ا ُّ‬
‫َرُسوِلِه ِمْن َأْهِل اْلُقَرى َفِلّلِه َوِللّرُسوِل َوِلِذي اْلُقْرَبى{ الية ]الحشر‪ ،[7 ،6 :‬فذكر في الفيء ما ذكر في الخمس‪.‬‬

‫فظن طائفة من الفقهاء أن الضافة إلى الرسول تقتضى أنه يملكه‪ ،‬كما يملك الناس أملكهم‪ .‬ثم قال بعضهم‪ :‬إن غنائم‬
‫بدر كانت ملًكا للرسول‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬إن الفيء وأربعة أخماسه كان ملًكا للرسول‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬إن الرسول إنما‬
‫كان يستحق من الخمس خمسه‪ ،‬وقال بعض هؤلء‪ :‬وكذلك كان يستحق من خمس الفيء خمسه‪ ،‬وهذه القوال توجد‬
‫في كلم طوائف من أصحاب الشافعي‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وأبي حنيفة‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وهذا غلط من وجوه‪:‬‬

‫‪/‬منها‪ :‬أن الرسول لم يكن يملك هذه الموال كما يملك الناس أموالهم‪ ،‬ول كما يتصرف الملوك في ملكهم‪ ،‬فإن هؤلء‬
‫وهؤلء لهم أن يصرفوا أموالهم في المباحات‪ ،‬فإما إن يكون مالًكا له‪ ،‬فيصرفه في أغراضه الخاصة‪ ،‬وإما أن يكون‬
‫ب{‬
‫سا ٍ‬
‫حَ‬
‫ك ِبَغْيِر ِ‬
‫س ْ‬ ‫ملًكا له‪ ،‬فيصرفه في مصلحة ملكه‪ ،‬وهذه حال النبي الملك‪ ،‬كداود وسليمان‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬فاْمُن ْ‬
‫ن َأْو َأْم ِ‬
‫ل ل يعطي إل من أمر‬ ‫]ص‪ ،[39 :‬أي‪ :‬أعط من شئت واحرم من شئت ل حساب عليك‪ ،‬ونبينا كان عبًدا رسو ً‬
‫ل وطاعة له‪.‬‬ ‫بإعطائه‪ ،‬ول يمنع إل من أمر بمنعه‪ ،‬فلم يكن يصرف الموال إل في عبادة ا ّ‬

‫ومنها‪ :‬أن النبي ل يورث ولو كان ملًكا‪ ،‬فإن النبياء ليورثون‪ ،‬فإذا كان ملوك النبياء لم يكونوا ملكا‪ ،‬كما يملك‬
‫الناس أموالهم‪ ،‬فكيف يكون صفوة الرسل الذي هو عبد رسول مالًكا‪.‬‬

‫لل‬‫ومنها‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كان ينفق على نفسه وعياله قدر الحاجة‪ ،‬ويصرف سائر المال في طاعة ا ّ‬
‫ل أمر رسوله‬‫ل ورسوله‪ ،‬بمعنى أن ا ّ‬‫يستفضله‪ ،‬وليست هذه حال الملك‪ ،‬بل المال الذي يتصرف فيه كله هو مال ا ّ‬
‫أن يصرف ذلك المال في طاعته‪ ،‬فتجب طاعته في قسمه‪ ،‬كما تجب طاعته في سائر ما يأمر به‪ ،‬فإنه من يطع‬
‫ل‪ / ،‬والموال التي كان يقسمها النبي صلى ال عليه وسلم على‬
‫ل‪ ،‬وهو في ذلك مبلغ عن ا ّ‬‫الرسول فقد أطاع ا ّ‬
‫وجهين‪:‬‬

‫منها‪ :‬ما تعين مستحقه ومصرفه كالمواريث‪.‬‬

‫ل به‪ ،‬منه ما هو محدود بالشرع‪ ،‬كالصلوات الخمس‪،‬‬‫ومنها‪ :‬ما يحتاج إلى اجتهاده ونظره ورأيه‪ ،‬فإن ما أمر ا ّ‬
‫وطواف السبوع بالبيت‪ ،‬ومنه ما يرجع في قدره إلى اجتهاد المأمور‪ ،‬فيزيده وينقصه بحسب المصلحة التي يحبها‬
‫ل‪.‬‬
‫ا ّ‬

‫فمن هذا ما اتفق عليه الناس‪ ،‬ومنه ما تنازعوا فيه‪ ،‬كتنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات‪ :‬هل هي مقدرة‬
‫بالشرع؟ أم يرجع فيها إلى العرف‪ ،‬فتختلف في قدرها وصفتها باختلف أحوال الناس؟ وجمهور الفقهاء على القول‬
‫ضا في‬
‫الثاني‪ ،‬وهو الصواب لقول النبي صلى ال عليه وسلم لهند‪) :‬خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف(‪ ،‬وقال أي ً‬
‫خطبته المعروفة‪) :‬للنساء كسوتهن ونفقتهن بالمعروف(‪.‬‬

‫ضا ـ فيما يجب من الكفارات‪ :‬هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف؟‬


‫وكذلك تنازعوا ـ أي ً‬

‫ل والرسل من الموال‪ ،‬كان المرجع في قسمته إلى أمر ‪ /‬النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بخلف ما‬ ‫فما أضيف إلى ا ّ‬
‫ل عليكم إل الخمس‪،‬‬
‫سمى مستحقوه كالمواريث؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم عام حنين‪) :‬ليس لي مما أفاء ا ّ‬
‫والخمس مردود عليكم( أي‪ :‬ليس له بحكم القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إل الخمس؛ ولهذا قال‪:‬‬
‫)وهو مردود عليكم( بخلف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة‪.‬‬

‫ولهذا كانت الغنائم يقسمها المراء بين الغانمين‪ ،‬والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين‪ ،‬الذين خلفوا رسول‬
‫ل ورسوله‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم في أمته‪ ،‬فيقسمونها بأمرهم‪ ،‬فأما أربعة الخماس‪ ،‬فإنما يرجعون فيها ليعلم حكم ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫كما يستفتى المستفتى‪ ،‬وكما كانوا في الحدود لمعرفة المر الشرعي‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم أعطى المؤلفة‬
‫قلوبهم من غنائم حنين ما أعطاهم‪ ،‬فقيل‪ :‬إن ذلك كان من الخمس‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه كان من أصل الغنيمة‪ ،‬وعلى هذا القول‬
‫فهو فعل ذلك لطيب نفوس المؤمنين بذلك؛ ولهذا أجاب من عتب من النصار بما أزال عتبه‪ ،‬وأراد تعويضهم عن‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ومن الناس من يقول‪ :‬الغنيمة قبل القسمة لم يملكها الغانمون‪ ،‬وإن للمام أن يتصرف فيها باجتهاده كما هو مذكور في‬
‫غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ل الذي يعبده ويستعينه‪ ،‬فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله‪ِ} :‬إّيا َ‬


‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬
‫ك‬ ‫فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض ّ‬
‫َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة‪ / [5 :‬توحيد اللهية وتوحيد الربوبية‪ ،‬وإن كانت اللهية تتضمن الربوبية‪ ،‬والربوبية تستلزم اللهية‪،‬‬
‫ب الّناسِ‬ ‫عوُذ ِبَر ّ‬ ‫ل َأ ُ‬‫فإن أحدهما إذا تضمن الخر عند النفراد‪ ،‬لم يمنع أن يختص بمعناه عند القتران‪ ،‬كما في قوله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ب اْلَعاَلِميَن{ ]الفاتحة‪ ،[2 :‬فجمع بين السمين‪ :‬اسم الله‬ ‫ل َر ّ‬ ‫س{ ]الناس‪ ،[1-3 :‬وفي قوله‪} :‬اْل َ‬
‫حْمُد ِّ‬ ‫س ‪ِ .‬إَلِه الّنا ِ‬
‫ك الّنا ِ‬
‫‪َ .‬مِل ِ‬
‫واسم الرب‪ .‬فإن الله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد‪ ،‬والرب هو الذي يرب عبده فيدبره‪.‬‬

‫ل‪ ،‬والسؤال متعلًقا باسمه الرب‪ ،‬فإن العبادة هي الغاية التي لها خلق الخلق‪.‬‬ ‫ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه ا ّ‬
‫واللهية هي الغاية‪ ،‬والربوبية تتضمن خلق الخلق وإنشاءهم فهو متضمن ابتداء حالهم‪ ،‬والمصلي إذا قال‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد‬
‫ك َنسَْتِعيُن{ فبدأ بالمقصود الذي هو الغاية على الوسيلة التي هي البداية‪ ،‬فالعبادة غاية مقصودة‪ ،‬والستعانة وسيلة‬ ‫َوِإّيا َ‬
‫إليها‪ :‬تلك حكمة وهذا سبب‪ ،‬والفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلىة معروف؛ ولهذا يقال‪ :‬أول الفكرة آخر العمل‪،‬‬
‫وأول البغية آخر الدرك‪ .‬فالعلة الغائية متقدمة في التصور والرادة وهي متأخرة في الوجود‪ .‬فالمؤمن يقصد عبادة ا ّ‬
‫ل‬
‫ك َنْسَتِعيُن{ ‪.‬‬ ‫ابتداء وهو يعلم أن ذلك ل يحصل إل بإعانته فيقول‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد وِإّيا َ‬

‫ل أكبر‪ ،‬الّ‬
‫ل ـ تعالى ـ جاءت الذكار المشروعة بهذا السم مثل كلمات الذان‪ :‬ا ّ‬ ‫ولما كانت العبادة متعلقة باسمه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ومثل التسبيح‪،‬‬‫ل‪ .‬ومثل التشهد‪ :‬التحيات ّ‬‫ل‪ ،‬أشهد أن محمًدا رسول ا ّ‬
‫أكبر‪ .‬ومثل الشهادتين‪ / :‬أشهد أن ل إله إل ا ّ‬
‫ل أكبر‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وا ّ‬
‫ل‪ ،‬ول إله إل ا ّ‬
‫ل‪ ،‬والحمد ّ‬
‫والتحميد‪ ،‬والتهليل‪ ،‬والتكبير‪ :‬سبحان ا ّ‬

‫ن ِم ْ‬
‫ن‬ ‫حْمَنا َلَنُكوَن ّ‬
‫ن َلْم َتْغِفْر َلَنا َوَتْر َ‬
‫سَنا َوِإ ْ‬ ‫را ما يجيء باسم الرب‪ ،‬كقول آدم وحواء‪َ} :‬رّبَنا َ‬
‫ظَلْمَنا َأنُف َ‬ ‫وأما السؤال فكثي ً‬
‫س ِلي ِبِه ِعْلٌم{ ]هود‪ ،[47 :‬وقول موسى‪:‬‬ ‫ك َما َلْي َ‬ ‫سَأَل َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ك َأ ْ‬
‫عوُذ ِب َ‬
‫ب ِإّني َأ ُ‬‫ن{ ]العراف‪ ،[23 :‬وقول نوح‪َ} :‬ر ّ‬ ‫سِري َ‬‫خا ِ‬
‫اْل َ‬
‫عْنَد َبْيِت َ‬
‫ك‬ ‫ع ِ‬ ‫غْيِر ِذي َزْر ٍ‬ ‫ن ُذّرّيِتي ِبَواٍد َ‬ ‫ت ِم ْ‬ ‫سَكن ُ‬ ‫غِفْر ِلي{]القصص‪ ،[16 :‬وقول الخليل‪َ} :‬رّبَنا إِّني َأ ْ‬ ‫سي َفا ْ‬‫ت َنْف ِ‬
‫ظَلْم ُ‬
‫ب ِإّني َ‬ ‫}َر ّ‬
‫ت الّسِميُع اْلَعِليُم{ ]البقرة‪:‬‬ ‫ك َأْن َ‬ ‫ل ِمّنا ِإّن َ‬‫لَة{ الية ]إبراهيم‪ ،[37 :‬وقوله مع إسماعيل‪َ} :‬رّبَنا َتَقّب ْ‬ ‫صَ‬ ‫حّرِم َرّبَنا ِلُيِقيُموا ال ّ‬
‫اْلُم َ‬
‫ب الّناِر{]البقرة‪ [201 :‬ومثل هذا‬ ‫عَذا َ‬ ‫حسََنًة َوِقَنا َ‬ ‫خَرِة َ‬ ‫لِ‬ ‫سَنًة َوِفي ا ْ‬
‫حَ‬ ‫‪ ،[127‬وكذلك قول الذين قالوا‪َ} :‬رّبَنا آِتَنا ِفي الّدْنَيا َ‬
‫كثير‪.‬‬

‫وقد نقل عن مالك أنه قال‪ :‬أكره للرجل أن يقول في دعائه‪ :‬يا سيدي‪ ،‬يا سيدي‪ ،‬يا حنان‪ ،‬يا حنان‪ ،‬ولكن يدعو بما‬
‫ل ِقَياًما َوُقُعوًدا‬
‫ن ا َّ‬ ‫دعت به النبياء‪ ،‬ربنا‪ ،‬ربنا‪ .‬نقله عنه العتبي في العتبية‪ .‬وقال تعالى عن أولى اللباب‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن َيْذُكُرو َ‬
‫ب الّناِر{ ]آل عمران‪[191 :‬‬ ‫عَذا َ‬
‫ك َفِقَنا َ‬
‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ل ُ‬
‫طً‬‫ت َهَذا َبا ِ‬
‫خَلْق َ‬
‫ض َرّبَنا َما َ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ق ال ّ‬
‫خْل ِ‬
‫ن ِفي َ‬
‫عَلى جُُنوِبِهْم َوَيَتَفّكُرو َ‬
‫َو َ‬
‫اليات‪.‬‬

‫ل؛ لتضمنه اسم الرب‪ ،‬كان‬ ‫‪/‬فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال‪ ،‬ناسب أن يسأله باسمه الرب‪ ،‬وإن سأله باسمه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وإذا قصد الدعاء دعا باسم‬ ‫ل أولى بذلك‪ ،‬إذا بدأ بالثناء ذكر اسم ا ّ‬ ‫حسًنا‪ ،‬وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة‪ ،‬فاسم ا ّ‬
‫ن َلْم‬
‫سَنا َوِإ ْ‬ ‫ن{]النبياء‪ ،[87 :‬وقال آدم‪َ} :‬رّبَنا َ‬
‫ظَلْمَنا َأنُف َ‬ ‫ظاِلِمي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ت ِم ْ‬
‫ك ِإّني ُكن ُ‬
‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ت ُ‬
‫ل َأْن َ‬ ‫الرب؛ ولهذا قال يونس‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫صِبرْ‬‫ن{ ]العراف‪ ،[23 :‬فإن يونس ـ عليه السلم ـ ذهب مغاضًبا‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬فا ْ‬ ‫سِري َ‬‫خا ِ‬ ‫ن اْل َ‬
‫ن ِم ْ‬‫حْمَنا َلَنُكوَن ّ‬
‫َتْغِفْر َلَنا َوَتْر َ‬
‫ت َوُهَو ُمِليٌم{]الصافات‪ ،[142 :‬ففعل ما يلم‬ ‫حو ُ‬‫ت{ ]القلم‪ ،[48 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فاْلَتَقَمُه اْل ُ‬ ‫حو ِ‬ ‫ب اْل ُ‬
‫ح ِ‬ ‫صا ِ‬
‫ن َك َ‬ ‫ل َتُك ْ‬‫ك َو َ‬‫حْكِم َرّب َ‬ ‫ِل ُ‬
‫عليه فكان المناسب لحاله أن يبدأ بالثناء على ربه‪ ،‬والعتراف بأنه ل إله إل هو‪ ،‬فهو الذي يستحق أن يعبد دون غيره‬
‫ل وحده‪ ،‬وقد روى أن يونس ـ عليه السلم ـ ندم على ارتفاع‬ ‫فل يطاع الهوى‪ ،‬فإن اتباع الهوى يضعف عبادة ا ّ‬
‫ل تعالى وأن‬
‫العذاب عن قومه بعد أن أظلهم وخاف أن ينسبوه إلى الكذب فغاضب‪.‬وفعل ما اقتضى الكلم الذي ذكره ا ّ‬
‫ل من اللهية‪ ،‬سواء صدر ذلك عن هوى النفس أو طاعة‬ ‫ت{ وهذا الكلم يتضمن براءة ما سوى ا ّ‬ ‫ل َأْن َ‬ ‫يقال‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ظاِلِميَن{‪.‬‬
‫ن ال ّ‬
‫ت ِم ْ‬
‫ك ِإّني ُكن ُ‬
‫حاَن َ‬ ‫الخلق أو غير ذلك؛ ولهذا قال‪ُ } :‬‬
‫سْب َ‬

‫والعبد يقول مثل هذا الكلم فيما يظنه وهو غير مطابق‪ ،‬وفيما يريده وهو غير حسن‪.‬‬

‫ظَلْمَنا َأنُفَسَنا{ ولم يكن عند آدم من ينازعه الرادة لما أمر الّ‬ ‫ل بذنبه‪ ،‬فقال‪َ } :‬‬
‫‪/‬وأما آدم ـ عليه السلم ـ فإنه اعترف أو ً‬
‫صِحيَن ‪َ .‬فَدّلُهَما ِبُغُروٍر{ ]العراف‪:‬‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫به‪ ،‬مما يزاحم اللهيـة بـل ظـن صدق الشيطـان الـذي }َوَقا َ‬
‫سَمُهَما ِإّني َلُكَما َلِم ْ‬
‫‪ ،[22 ،21‬فالشيطان غرهما وأظهر نصحهما فكانا في قبول غروره‪ ،‬وما أظهر من نصحه حالهما مناسًبا لقولهما‪:‬‬
‫ظَلْمَنا َأنُفَسَنا{ لما حصل من التفريط‪ ،‬ل لجل هوى وحظ يزاحم اللهية‪ ،‬وكانا محتاجين إلى أن يربهما ربوبية‬ ‫}َرّبَنا َ‬
‫ل ربهما الذي ل يقضي حاجتهما غيره‪.‬‬ ‫تكمل علمهما وقصدهما‪ ،‬حتى ل يغترا بمثل ذلك‪ ،‬فهما يشهدان حاجتهما إلى ا ّ‬

‫وذو النون شهد ما حصل من التقصير في حق اللهية بما حصل من المغاضبة‪ ،‬وكراهة إنجاء أولئك‪ ،‬ففي ذلك من‬
‫ت{ فإن قول العبد‪:‬‬
‫ل َأْن َ‬ ‫ل‪ ،‬وتألهه له وأن يقول‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬ ‫المعارضة في الفعل لحب شيء آخر ما يوجب تجريد محبته ّ‬
‫ل من هوى متبع(‪.‬‬ ‫ل إله إل أنت‪ ،‬يمحو أن يتخذ إلهه هواه‪ .‬وقد روى‪) :‬ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ومحو الهوى الذي يتخذ إلًها من دونه‪ ،‬فلم يبق له ـ صلوات ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل عليه ـ تحقيق إلهيته ّ‬
‫فكمل يونس ـ صلوات ا ّ‬
‫ل الدين؛ إذ كان من أفضل‬ ‫صا ّ‬‫عليه وسلمه ـ عند تحقيق قوله ل إله إل أنت إرادة تزاحم إلهية الحق‪ ،‬بل كان مخل ً‬
‫ل المخلصين‪.‬‬
‫عباد ا ّ‬

‫ضا‪ ،‬فمثل هذه الحال تعرض لمن تعرض له‪ ،‬فيبقى فيه ‪ /‬نوع مغاضبة للقدر ومعارضة له في خلقه وأمره‪،‬‬ ‫وأي ً‬
‫ووساوس في حكمته ورحمته‪ ،‬فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين‪ :‬الراء الفاسدة‪ ،‬والهواء الفاسدة‪ ،‬فيعلم أن الحكمة‪،‬‬
‫ل به‪ ،‬فل يكون له‬ ‫والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته‪ ،‬ل فيما اقتضاه علم العبد وحكمته‪ ،‬ويكون هواه تبًعا لما أمر ا ّ‬
‫جُدوا ِفي‬ ‫ل َي ِ‬ ‫جَر َبْيَنُهْم ُثّم َ‬
‫شَ‬‫ك ِفيَما َ‬
‫حّكُمو َ‬
‫حّتى ُي َ‬
‫ن َ‬
‫ل ُيْؤمُِنو َ‬
‫ك َ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬ف َ‬
‫ل َوَرّب َ‬ ‫ل وحكمه هوى يخالف ذلك‪ ،‬قال ا ّ‬ ‫مع أمر ا ّ‬
‫ت َوُيَسّلُموا َتْسِليًما{ ]النساء‪ ،[65 :‬وقد روى عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬والذي نفسي بيده‪،‬‬ ‫ضْي َ‬
‫جا ِمّما َق َ‬
‫حَر ً‬
‫سِهْم َ‬
‫َأنُف ِ‬
‫ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبًعا لما جئت به( رواه أبو حاتم في صحيحه؛ وفي الصحيح أن عمر قال له‪ :‬يا‬
‫ى من نفسي‪ .‬قال‪) :‬الن يا عمر(‪ ،‬وفي الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪:‬‬ ‫ل لنت أحب إل ّ‬ ‫ل‪ ،‬وا ّ‬ ‫رسول ا ّ‬
‫ن آَباُؤُكْم َوَأْبَناُؤُكْم‬‫ن َكا َ‬ ‫)ليؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده‪ ،‬ووالده‪ ،‬والناس أجمعين(‪ ،‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫جَهاٍد‬
‫سوِلِه َو ِ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ب ِإَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ح ّ‬
‫ضْوَنَها َأ َ‬
‫ن َتْر َ‬
‫ساِك ُ‬
‫ساَدَها َوَم َ‬
‫ن َك َ‬
‫شْو َ‬
‫خَ‬‫جاَرٌة َت ْ‬
‫ل اْقَتَرْفُتُموَها َوِت َ‬
‫شيَرُتُكْم َوَأْمَوا ٌ‬‫عِ‬ ‫جُكْم َو َ‬
‫خَواُنُكْم َوَأْزَوا ُ‬
‫َوِإ ْ‬
‫ل ِبَأْمِرِه{ ]التوبة‪.[24 :‬‬ ‫ي ا ُّ‬
‫حّتى َيْأِت َ‬‫صوا َ‬ ‫سِبيِلِه َفَتَرّب ُ‬
‫ِفي َ‬

‫فإذا كان اليمان ل يحصل حتى يحكم العبد رسوله‪ ،‬ويسلم له‪ ،‬ويكون هواه تبًعا لما جاء به‪ ،‬ويكون الرسول والجهاد‬
‫ل تعالى والتسليم له؟! ‪ /‬فمن رأى قوًما‬
‫في سبيله مقدًما على حب النسان نفسه‪ ،‬وماله‪ ،‬وأهله‪ ،‬فكيف في تحكيمه ا ّ‬
‫ل‪،‬‬‫ل لهم ورحمهم‪ ،‬وكره هو ذلك‪ ،‬فهذا إما أن يكون عن إرادة تخالف حكم ا ّ‬ ‫يستحقون العذاب في ظنه‪ ،‬وقد غفر ا ّ‬
‫ل علىم حكيم‪ .‬وإذا علمت أنه علىم‪ ،‬وأنه حكيم‪ ،‬لم يبق لكراهية ما فعله وجه‪ ،‬وهذا‬ ‫ل‪ ،‬وا ّ‬
‫وإما عن ظن يخالف علم ا ّ‬
‫يكون فيما أمر به‪ ،‬وفيما خلقه ولم يأمرنا أن نكرهه‪ ،‬ونغضب عليه‪.‬‬

‫فأما ما أمرنا بكراهته من الموجودات؛ كالكفر‪ ،‬والفسوق‪ ،‬والعصيان‪ ،‬فعلىنا أن نطيعه في أمره بخلف توبته على‬
‫عباده وإنجائه إياهم من العذاب‪ ،‬فإن هذا من مفعولته التي لم يأمرنا أن نكرهها‪ ،‬بل هي مما يحبها‪ ،‬فإنه يحب‬
‫التوابين‪ ،‬ويحب المتطهرين‪ .‬فكراهة هذا من نوع اتباع الرادة المزاحمة لللهية‪ ،‬فعلى صاحبها أن يحقق توحيد‬
‫اللهية فيقول‪ :‬ل إله إل أنت‪.‬‬

‫ب‬ ‫ن{ و}َوُي ِ‬


‫ح ّ‬ ‫ب الّتّواِبي َ‬ ‫فعلىنا أن نحب ما يحب‪ ،‬ونرضي ما يرضى‪ ،‬ونأمر بما يأمر‪ ،‬وننهي عما ينهي‪ ،‬فإذا كان }ُي ِ‬
‫ح ّ‬
‫طّهِريَن{ فعلىنا أن نحبهم‪ ،‬ول نأله مراداتنا المخالفة لمحابه‪.‬‬
‫اْلُمَت َ‬
‫لـ‬ ‫والكلم في هذا المقام مبني على أصل‪ ،‬وهو‪ :‬أن النبياء ـ صلوات الّ عليهم ـ معصومون فيما يخبرون به عن ا ّ‬
‫سبحانه ـ وفي تبليغ رسالته باتفاق المة؛ ولهذا وجب اليمان بكل ما أوتوه كما ‪ /‬قال تعالى‪ُ} :‬قوُلوا آَمّنا ِبا ِّ‬
‫ل َوَما ُأنِز َ‬
‫ل‬
‫ق َبْينَ‬
‫ل ُنَفّر ُ‬ ‫ن َرّبِهْم َ‬‫ن ِم ْ‬ ‫ي الّنِبّيو َ‬‫سى َوَما ُأوِت َ‬ ‫عي َ‬‫سى َو ِ‬ ‫ي ُمو َ‬‫ط َوَما ُأوِت َ‬ ‫سَبا ِ‬‫لْ‬ ‫ب َوا َْ‬
‫ق َوَيْعُقو َ‬ ‫حا َ‬‫سَ‬ ‫ل َوِإ ْ‬
‫عي َ‬
‫سَما ِ‬ ‫ل ِإَلى ِإْبَراِهيَم َوِإ ْ‬ ‫ِإَلْيَنا َوَما ُأنِز َ‬
‫سِميُع اْلَعِليُم{‬ ‫ل َوُهَو ال ّ‬ ‫سَيْكِفيَكُهْم ا ُّ‬
‫ق َف َ‬‫شَقا ٍ‬ ‫ن َتَوّلْوا فَِإّنَما ُهْم ِفي ِ‬
‫ل َما آَمنُتْم ِبِه َفَقْد اْهَتَدوا َوِإ ْ‬‫ن آَمُنوا ِبِمْث ِ‬
‫ن ‪َ .‬فِإ ْ‬ ‫سِلُمو َ‬‫ن َلُه ُم ْ‬ ‫حُ‬ ‫حٍد ِمْنهُْم َوَن ْ‬
‫َأ َ‬
‫ن{ ]البقرة‪ ،[177 :‬وقال‪} :‬آمَ َ‬
‫ن‬ ‫ب َوالّنِبّيي َ‬
‫لِئَكِة َواْلِكَتا ِ‬
‫خِر َواْلَم َ‬‫لِ‬ ‫ل َواْلَيْوِم ا ْ‬‫ن ِبا ِّ‬‫ن آَم َ‬ ‫]البقرة‪ ،[137 ،136 :‬وقال‪َ} :‬وَلِك ّ‬
‫ن اْلِبّر َم ْ‬
‫طْعَنا‬
‫سِمْعَنا َوَأ َ‬‫سِلِه َوَقاُلوا َ‬ ‫ن ُر ُ‬‫حٍد ِم ْ‬ ‫ن َأ َ‬
‫ق َبْي َ‬
‫ل ُنَفّر ُ‬
‫سِلِه َ‬
‫لِئَكِتِه َوُكُتِبِه َوُر ُ‬ ‫ل َوَم َ‬ ‫ن ِبا ِّ‬
‫ل آَم َ‬
‫ن ُك ّ‬‫ن َرّبِه َواْلُمْؤِمُنو َ‬ ‫ل ِإَلْيِه ِم ْ‬
‫سولُ ِبَما ُأنِز َ‬ ‫الّر ُ‬
‫صيُر{ ]البقرة‪.[285 :‬‬ ‫ك اْلَم ِ‬ ‫ك َرّبَنا َوِإَلْي َ‬‫غْفَراَن َ‬
‫ُ‬

‫ل‪ ،‬ولهذا من سب نبًيا من النبياء‬


‫بخلف غير النبياء‪ ،‬فإنهم ليسوا معصومين كما عصم النبياء‪ ،‬ولو كانوا أولياء ّ‬
‫قتل باتفاق الفقهاء‪ ،‬ومن سب غيرهم لم يقتل‪.‬‬

‫ل‪ ،‬و الرسول‬


‫وهذه العصمة الثابتة للنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة‪ ،‬فإن النبي هو المنبئ عن ا ّ‬
‫ل ثابتة‪ ،‬فل يستقر‬
‫ل‪ ،‬والعصمة فيما يبلغونه عن ا ّ‬
‫ل تعالى‪ ،‬وكل رسول نبي‪ ،‬وليس كل نبي رسو ً‬ ‫هو الذي أرسله ا ّ‬
‫في ذلك خطأ باتفاق المسلمين‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فينسخ ما يلقي الشيطان‪ ،‬ويحكم الّ آياته؟ هذا فيه قولن‪ ،‬والمأثور عن السلف‬ ‫‪/‬ولكن هل يصدر ما يستدركه ا ّ‬
‫يوافق القرآن بذلك‪ ،‬والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله‪) :‬تلك الغرانيق‬
‫العلى‪ ،‬وإن شفاعتهن لترتجى( وقالوا‪ :‬إن هذا لم يثبت‪ ،‬ومن علم أنه ثبت قال‪ :‬هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم‬
‫ضا‪ ،‬وقالوا في قوله‪ِ} :‬إلّ ِإَذا َتَمّنى َأْلَقى‬
‫يلفظ به الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أي ً‬
‫طانُ ِفي ُأْمِنّيِتِه{ ]الحج‪ [52 :‬هو حديث النفس‪.‬‬
‫شْي َ‬
‫ال ّ‬

‫ل ثابًتا ل يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله‪َ} :‬وَما‬ ‫وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف‪ ،‬فقالوا هذا منقول نق ً‬
‫حِكيٌم‬
‫عِليٌم َ‬ ‫ل َ‬ ‫ل آَياِتِه َوا ُّ‬
‫حِكُم ا ُّ‬ ‫ن ُثّم ُي ْ‬
‫طا ُ‬‫شْي َ‬
‫ل َما ُيْلِقي ال ّ‬‫سخُ ا ُّ‬‫ن ِفي ُأْمِنّيِتِه َفَيْن َ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬‫ل ِإَذا َتَمّنى َأْلَقى ال ّ‬‫ي ِإ ّ‬ ‫ل َنِب ّ‬‫ل َو َ‬ ‫سو ٍ‬ ‫ن َر ُ‬‫ك ِم ْ‬ ‫ن َقْبِل َ‬
‫سْلَنا ِم ْ‬
‫َأْر َ‬
‫ن ُأوُتوا اْلِعْلَم َأّنُه‬ ‫ق َبِعيٍد ‪َ .‬وِلَيْعَلَم اّلِذي َ‬
‫شَقا ٍ‬
‫ن َلِفي ِ‬ ‫ظاِلِمي َ‬
‫ن ال ّ‬‫سَيِة ُقُلوُبُهْم َوِإ ّ‬
‫ض َواْلَقا ِ‬‫ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬ ‫ن ِفْتَنًة ِلّلِذي َ‬
‫طا ُ‬‫شْي َ‬
‫جَعلَ َما ُيْلِقي ال ّ‬ ‫‪ِ .‬لَي ْ‬
‫صَراطٍ ُمْسَتِقيٍم{ ] الحج‪ 52 :‬ـ ‪ ،[ 54‬فقالوا‪ :‬الثار في‬ ‫ن آَمُنوا ِإَلى ِ‬ ‫ل َلَهاِد اّلِذي َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ت َلُه ُقُلوُبُهْم َوِإ ّ‬
‫خِب َ‬ ‫ك َفُيْؤِمُنوا ِبِه َفُت ْ‬
‫ق ِمنْ َرّب َ‬ ‫حّ‬ ‫اْل َ‬
‫ل لما يلقى الشيطان‪،‬‬‫تفسير هذه الية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث‪ ،‬والقرآن يوافق ذلك‪ ،‬فإن نسخ ا ّ‬
‫وإحكامه آياته‪ ،‬إنما يكون لرفع ما وقع في آياته‪ ،‬وتمييز الحق من الباطل‪ ،‬حتى ل تختلط آياته ‪/‬بغيرها‪ .‬وجعل ما ألقى‬
‫الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض‪ ،‬والقاسية قلوبهم‪ ،‬إنما يكون إذا كان ذلك ظاهًرا يسمعه الناس‪ ،‬ل باطًنا في‬
‫النفس‪ .‬والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الخر من النسخ‪.‬‬

‫وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبعده عن الهوى من ذلك النوع‪ ،‬فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم‬
‫ل‪ ،‬وهو‬ ‫ل‪ ،‬وهو مصدق في ذلك‪ ،‬فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند ا ّ‬ ‫يأمر بخلفه وكلهما من عند ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق‪ ،‬وقوله الحق‪ ،‬وهذا كما قالت‬ ‫الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه ا ّ‬
‫شى‬‫خَ‬‫ل ُمْبِديِه َوَت ْ‬
‫ك َما ا ُّ‬
‫سَ‬ ‫ل عنها ـ لو كان محمد كاتًما شيًئا من الوحي لكتم هذه الية‪َ} :‬وُت ْ‬
‫خِفي ِفي َنْف ِ‬ ‫عائشة ـ رضي ا ّ‬
‫ق َأْن َتْخَشاُه{ ]الحزاب‪ ،[37 :‬أل ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله‪ ،‬ولو كان‬ ‫حّ‬
‫ل َأ َ‬
‫س َوا ُّ‬
‫الّنا َ‬
‫ل أحكم آياته‪ ،‬ونسخ ما ألقاه الشيطان‪ ،‬هو أدل على تحريه للصدق‬ ‫خطأ‪ ،‬فبيان الرسول صلى ال عليه وسلم أن ا ّ‬
‫وبرائته من الكذب‪ ،‬وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق صلى ال عليه وسلم تسليما؛ ولهذا كان تكذيبه‬
‫ضا بل ريب‪.‬‬‫كفًرا مح ً‬

‫وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع‪ ،‬هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في‬
‫العصمة من الكبائر والصغائر أو من ‪ /‬بعضها‪ ،‬أم هل العصمة إنما هي في القرار عليها ل في فعلها؟ أم ل يجب‬
‫القول بالعصمة إل في التبليغ فقط؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم ل؟ والكلم على هذا مبسوط‬
‫في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والقول الذي عليه جمهور الناس‪ ،‬وهو الموافق للثار المنقولة عن السلف‪ :‬إثبات العصمة من القرار على الذنوب‬
‫مطلًقا‪ ،‬والرد على من يقول‪ :‬إنه يجوز إقرارهم عليها‪ ،‬وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول‪.‬‬
‫وحجج النفاة ل تدل على وقوع ذنب أقر عليه النبياء؛ فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع‪ ،‬وذلك ل‬
‫يجوز إل مع تجويز كون الفعال ذنوًبا‪ ،‬ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه‪،‬‬
‫ورجعوا عنه‪ ،‬كما أن المر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه‪ ،‬فأما ما نسخ من المـر والنـهي فل يجوز‬
‫جعله مأموًرا به ول منهًيا عنه‪ ،‬فضل عن وجوب اتباعه والطاعة فيه‪.‬‬

‫وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافى الكمال‪ ،‬أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح‪ ،‬أو أنها توجب التنفير‪ ،‬أو‬
‫ل‪،‬‬‫نحو ذلك من الحجج العقلية‪ ،‬فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع‪ ،‬وإل فالتوبة النصوح التي يقبلها ا ّ‬
‫يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه‪ ،‬كما قال ‪ /‬بعض السلف‪ :‬كان داود ـ عليه السلم ـ بعد التوبة خيًرا منه قبل‬
‫الخطيئة‪ .‬وقال آخر‪ :‬لو لم تكن التوبة أحب الشياء إليه‪ ،‬لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه‪ ،‬وقد ثبت في الصحاح‬
‫ل( ‪...‬إلخ‪.‬‬
‫ل أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منز ً‬
‫حديث التوبة‪ّ ) :‬‬

‫حا‬
‫صاِل ً‬
‫ل َ‬
‫عَم ً‬
‫ل َ‬
‫عِم َ‬
‫ن َو َ‬
‫ب َوآَم َ‬
‫ن َتا َ‬ ‫ن{ ]البقرة‪ ،[222 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ل َم ْ‬ ‫طّهِري َ‬
‫ب اْلُمَت َ‬
‫ح ّ‬
‫ن َوُي ِ‬
‫ب الّتّواِبي َ‬
‫ح ّ‬‫ل ُي ِ‬ ‫وقد قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل صغار ذنوبه ويخبأ عنه‬ ‫ت{ ]الفرقان‪ ،[70 :‬وقد ثبت في الصحيح حديث الذي يعرض ا ّ‬ ‫سَنا ٍ‬
‫حَ‬ ‫سّيَئاِتِهْم َ‬
‫ل َ‬
‫ل ا ُّ‬
‫ك ُيَبّد ُ‬
‫َفُأْوَلِئ َ‬
‫ل له‪) :‬إني قد غفرتها لك‪ ،‬وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫كبارها‪ ،‬وهو مشفق من كبارها أن تظهر‪ ،‬فيقول ا ّ‬
‫أي رب‪ ،‬إن لي سيئات لم أرها( إذا رأي تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان مشفًقا منها أن‬
‫تظهر‪ ،‬ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل‪ ،‬أعظم من حاله لو لم تقع السيئات‪ ،‬ول التبديل‪.‬‬

‫وقال طائفة من السلف‪ ،‬منهم سعيد بن جبير‪ :‬إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار‪ ،‬وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل‬
‫بها الجنة‪ ،‬يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار‪ ،‬ويعمل السيئة فل يزال خوفه منها وتوبته منها حتى‬
‫شِرَكا ِ‬
‫ت‬ ‫ن َواْلُم ْ‬
‫شِرِكي َ‬
‫ت َواْلُم ْ‬
‫ن َواْلُمَناِفَقا ِ‬
‫ل اْلُمَناِفِقي َ‬
‫ب ا ُّ‬
‫ل ‪ِ .‬لُيَعذّ َ‬
‫جُهو ً‬
‫ظُلوًما َ‬
‫ن َ‬
‫ن ِإّنُه َكا َ‬
‫سا ُ‬
‫لْن َ‬ ‫تدخله الجنة‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫حَمَلَها ا ِْ‬
‫ل َغُفوًرا َرِحيًما{ ]الحزاب‪ ،[73 ،72 :‬فغاية كل إنسان أن يكون من المؤمنين‬ ‫ن ا ُّ‬‫ت َوَكا َ‬ ‫ن َواْلُمْؤِمَنا ِ‬
‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ل َ‬
‫ب ا ُّ‬
‫َوَيُتو َ‬
‫ل عليهم‪.‬‬ ‫والمؤمنات الذين تاب ا ّ‬

‫وفي الكتاب والسنة الصحيحة‪ ،‬والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه‪.‬‬

‫والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلت الجهمية‪ ،‬والقدرية‪ ،‬والدهرية لنصوص السماء والصفات ونصوص القدر‬
‫ونصوص المعاد‪ ،‬وهي من جنس تأويلت القرامطة الباطنية التي يعلم بالضطرار أنها باطلة‪ ،‬وأنها من باب تحريف‬
‫الكلم عن مواضعه‪ ،‬وهؤلء يقصد أحدهم تعظيم النبياء فيقع في تكذيبهم‪ ،‬ويريد اليمان بهم فيقع في الكفر بهم‪.‬‬

‫ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والجماع‪ ،‬وهي العصمة في التبليغ‪ ،‬لم ينتفعوا بها‪ ،‬إذ كانوا ل يقرون‬
‫بموجب ما بلغته النبياء‪ ،‬وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه‪ ،‬أو كانوا فيه كالميين الذين ل يعلمون الكتاب إل أماني‪،‬‬
‫والعصمة التي كانوا ادعوها‪ ،‬لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ول حاجة بهم إليها عندهم‪ ،‬فإنها متعلقة بغيرهم ل بما‬
‫ل‪ ،‬ويدع ما يجب عليه من تصديق النبياء‬ ‫أمروا باليمان به‪ ،‬فيتكلم أحدهم فيها على النبياء بغير سلطان من ا ّ‬
‫وطاعتهم‪ ،‬وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬

‫}َفِإّنَما عََلْيِه َما ُحّمَل َوَعَلْيُكْم َما ُحّمْلُتْم{ الية ]النور‪.[54 :‬‬

‫ل ـ تعالى ـ لم يذكر في القرآن شيًئا من ذلك عن نبي من النبياء إل مقروًنا بالتوبة والستغفار‪ ،‬كقول آدم‬
‫‪/‬وا ّ‬
‫عوُذ ِبكَ‬ ‫ب ِإّني َأ ُ‬ ‫ن{ ]العراف‪ ،[23 :‬وقول نوح‪َ} :‬ر ّ‬ ‫سِري َ‬‫خا ِ‬
‫ن اْل َ‬‫ن ِم ْ‬ ‫حْمَنا َلَنُكوَن ّ‬
‫ن َلْم َتْغِفْر َلَنا َوَتْر َ‬
‫سَنا َوِإ ْ‬ ‫وزوجته‪َ} :‬رّبَنا َ‬
‫ظَلْمَنا َأنُف َ‬
‫ن{]هود‪ ،[47 :‬وقول الخليل ـ عليه السلم ـ‪َ} :‬رّبَنا ا ْ‬
‫غِفرْ‬ ‫سِري َ‬ ‫خا ِ‬‫ن اْل َ‬‫ن ِم ْ‬‫حْمِني َأُك ْ‬ ‫ل َتْغِفْر ِلي َوَتْر َ‬ ‫عْلٌم َوِإ ّ‬
‫س ِلي ِبِه ِ‬ ‫ك َما َلْي َ‬ ‫سَأَل َ‬
‫ن َأ ْ‬‫َأ ْ‬
‫طيَئِتي َيْوَم الّدين{ ]الشعراء‪:‬‬ ‫خِ‬ ‫ن َيْغِفَر ِلي َ‬ ‫طَمُع َأ ْ‬‫ب{ ]إبراهيم‪ ،[41 :‬وقوله‪َ} :‬واّلِذي َأ ْ‬ ‫سا ُ‬ ‫حَ‬ ‫ن َيْوَم َيُقوُم اْل ِ‬‫ي َوِلْلُمْؤِمِني َ‬ ‫ِلي َوِلَواِلَد ّ‬
‫خَرِة ِإّنا ُهْدَنا‬
‫لِ‬ ‫سَنًة َوِفي ا ْ‬ ‫حَ‬ ‫ب َلَنا ِفي َهِذهِ الّدْنَيا َ‬‫ن ‪َ .‬واْكُت ْ‬ ‫خْيُر اْلَغاِفِري َ‬‫ت َ‬ ‫حْمَنا َوَأْن َ‬‫غِفْر َلَنا َواْر َ‬ ‫‪ ،[82‬وقول موسى‪َ} :‬أْن َ‬
‫ت َوِلّيَنا َفا ْ‬
‫حاَن َ‬
‫ك‬ ‫سْب َ‬
‫ل ُ‬ ‫ق َقا َ‬‫غِفْر ِلي{]القصص‪ ،[16 :‬وقوله‪َ} :‬فَلّما َأَفا َ‬ ‫سي َفا ْ‬ ‫ت َنْف ِ‬
‫ظَلْم ُ‬‫ب ِإّني َ‬ ‫ك{ ]العراف‪ ،[156 ،155 :‬وقوله‪َ} :‬ر ّ‬ ‫ِإَلْي َ‬
‫ك َوِإ ّ‬
‫ن‬ ‫ب ‪َ .‬فَغَفْرَنا َلُه َذِل َ‬ ‫خّر َراِكًعا َوَأَنا َ‬ ‫ن{]العراف‪ ،[143 :‬وقوله تعالى عن داود‪َ} :‬فا ْ‬
‫سَتْغَفَر َرّبُه َو َ‬ ‫ل اْلُمْؤِمِني َ‬‫ك َوَأَنا َأّو ُ‬‫ت ِإَلْي َ‬‫ُتْب ُ‬
‫حٍد ِم ْ‬
‫ن‬ ‫لَ‬ ‫ل َيْنَبِغي َِ‬ ‫ب ِلي ُمْلًكا َ‬ ‫غِفْر ِلي َوَه ْ‬ ‫با ْ‬ ‫ب{ ]ص‪ ،[25 ،24 :‬وقوله تعالى عن سليمان‪َ} :‬ر ّ‬ ‫ن َمآ ٍ‬ ‫سَ‬ ‫حْ‬ ‫عْنَدَنا َلُزْلَفى َو ُ‬ ‫َلُه ِ‬
‫ب{ ]ص‪.[35 :‬‬ ‫ت اْلَوّها ُ‬ ‫ك َأْن َ‬ ‫َبْعِدي ِإّن َ‬
‫ل عنه ما يناسب الذنب من الستغفار‪ ،‬بل قال‪َ} :‬كَذِل َ‬
‫ك‬ ‫ل عنه ذنًبا؛ فلهذا لم يذكر ا ّ‬ ‫وأما يوسف الصديق‪ ،‬فلم يذكر ا ّ‬
‫صيَن{]يوسف‪ ،[24 :‬فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء‪ ،‬وهذا يدل‬ ‫خَل ِ‬
‫عَباِدَنا اْلُم ْ‬
‫ن ِ‬
‫شاَء ِإّنُه ِم ْ‬
‫حَ‬‫سوَء َواْلَف ْ‬
‫عْنُه ال ّ‬
‫صِرفَ َ‬
‫ِلَن ْ‬
‫على أنه لم يصدر منه سوء ول فحشاء‪.‬‬

‫ت ِبِه َوَهّم ِبَها َلْوَل َأْن َرَأى ُبْرَهاَن َرّبِه{ ]يوسف‪ / ،[24 :‬فالهم اسم جنس تحته نوعان كما قال المام‬
‫وأما قوله‪َ} :‬وَلَقْد َهّم ْ‬
‫أحمد‪ :‬الهم همان‪ :‬هم خطرات‪ ،‬وهم إصرار‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن العبد إذا هم‬
‫ل كتبت له حسنة‪ ،‬وإن عملها كتبت له سيئة واحدة( وإن تركها من غير أن يتركها‬ ‫بسيئة لم تكتبت عليه‪ ،‬وإذا تركها ّ‬
‫ل عنه‬ ‫ل‪ ،‬ولذلك صرف ا ّ‬ ‫ل لم تكتب له حسنة ول تكتب عليه سيئة‪ ،‬ويوسف صلى ال عليه وسلم هم هما تركه ّ‬ ‫ّ‬
‫السوء والفحشاء لخلصه‪ ،‬وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم‪ ،‬وعارضه الخلص الموجب‬
‫ل‪.‬‬‫لنصراف القلب عن الذنب ّ‬

‫طا ِ‬
‫ن‬ ‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫طاِئفٌ ِم ْ‬
‫سُهْم َ‬
‫ن اّتَقْوا ِإَذا َم ّ‬ ‫فيوسف ـ عليه السلم ـ لم يصدر منه إل حسنة يثاب عليها‪ ،‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫صُروَن{]العراف‪.[201 :‬‬‫َتَذّكُروا َفِإَذا ُهْم ُمْب ِ‬

‫ضا على يده‪ ،‬وأمثال‬


‫وأما ما ينقل من أنه حل سراويله‪ ،‬وجلس مجلس الرجل من المرأة‪ ،‬وأنه رأى صورة يعقوب عا ً‬
‫ل به ول رسوله‪ ،‬وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذًبا‬‫ذلك‪ ،‬فكله مما لم يخبر ا ّ‬
‫حا فيهم‪ ،‬وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله‪ ،‬لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى ال عليه وسلم‬
‫على النبياء وقد ً‬
‫حرًفا واحًدا‪.‬‬

‫س َلّماَرٌة ِبالّسوِء ِإّل َما َرِحَم َرّبي{ ]يوسف‪ [53 :‬فمن كلم امرأة العزيز‪ ،‬كما يدل القرآن‬ ‫ن الّنْف َ‬
‫سي ِإ ّ‬ ‫‪/‬وقوله‪َ} :‬وَما ُأَبّر ُ‬
‫ئ َنْف ِ‬
‫جْع‬
‫ل اْر ِ‬
‫ل َقا َ‬
‫سو ُ‬
‫جاَءهُ الّر ُ‬
‫ك اْئُتوِني ِبِه َفَلّما َ‬ ‫على ذلك دللة بينة‪ ،‬ل يرتاب فيها من تدبر القرآن‪ ،‬حيث قال تعالى‪َ} :‬وَقا َ‬
‫ل اْلَمِل ُ‬
‫ش ِّ‬
‫ل‬ ‫حا َ‬ ‫ن َ‬ ‫سِه ُقْل َ‬
‫ن َنْف ِ‬
‫عْ‬ ‫ف َ‬ ‫س َ‬‫ن ُيو ُ‬‫ن ِإْذ َراَودّت ّ‬‫طُبُك ّ‬ ‫خ ْ‬‫ل َما َ‬ ‫عِليٌم ‪َ .‬قا َ‬
‫ن َ‬
‫ن َرّبي ِبَكْيِدِه ّ‬‫ن ِإ ّ‬
‫ن َأْيِدَيُه ّ‬
‫طْع َ‬
‫لِتي َق ّ‬‫سَوِة ال ّ‬ ‫ل الّن ْ‬
‫سَأْلُه َما َبا ُ‬
‫ك َفا ْ‬ ‫ِإَلى َرّب َ‬
‫خْنُه‬
‫ك ِلَيْعَلَم َأّني َلْم َأ ُ‬
‫ن ‪َ .‬ذِل َ‬
‫صاِدِقي َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫سِه َوِإّنُه َلِم ْ‬‫عنْ َنْف ِ‬
‫ق َأَنا َراَودّتُه َ‬
‫حّ‬ ‫ص اْل َ‬
‫ح َ‬ ‫صَ‬ ‫ح ْ‬ ‫ن َ‬ ‫لَ‬ ‫ت اْمَرَأُة اْلَعِزيِز ا ْ‬‫سوٍء َقاَل ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫عَلْيِه ِم ْ‬
‫عِلْمَنا َ‬ ‫َما َ‬
‫س َلّماَرٌة ِبالّسوِء ِإّل َما َرِحَم َرّبي ِإّن َرّبي َغُفوٌر َرِحيٌم{ ]يوسف‪:‬‬ ‫ن الّنْف َ‬ ‫سي ِإ ّ‬‫ئ َنْف ِ‬
‫ن ‪َ .‬وَما ُأَبّر ُ‬ ‫خاِئِني َ‬
‫ل َيْهِدي َكْيَد اْل َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬‫ب َوَأ ّ‬‫ِباْلَغْي ِ‬
‫‪ 50‬ـ ‪.[53‬‬

‫فهذا كله كلم امرأة العزيز‪ ،‬ويوسف إذ ذاك في السجن‪ ،‬لم يحضر بعد إلى الملك‪ ،‬ول سمع كلمه ول رآه‪ ،‬ولكن لما‬
‫ب{ أي‪ :‬لم أخنه في حال مغيبه عني وإن‬ ‫خْنُه ِباْلَغْي ِ‬ ‫ظهرت براءته في غيبته ـ كما قالت امرأة العزيز‪َ} :‬ذِل َ‬
‫ك ِلَيْعَلَم َأّني َلْم َأ ُ‬
‫ن{‬
‫ن َأِمي ٌ‬
‫ك اْلَيْوَم َلَدْيَنا َمِكي ٌ‬
‫ل ِإّن َ‬
‫سي َفَلّما َكّلَمُه َقا َ‬ ‫صُه ِلَنْف ِ‬
‫خِل ْ‬‫سَت ْ‬‫ك اْئُتوِني ِبِه َأ ْ‬ ‫كنت في حال شهوده راودته ـ فحينئذ‪َ} :‬وَقا َ‬
‫ل اْلَمِل ُ‬
‫]يوسف‪ ،[54 :‬وقد قال كثير من المفسرين‪ :‬إن هذا من كلم يوسف‪ ،‬ومنهم من لم يذكر إل هذا القول‪ ،‬وهو قول في‬
‫غاية الفساد‪ ،‬ول دليل عليه‪ ،‬بل الدلة تدل على نقيضه‪ ،‬وقد ‪ /‬بسط الكلم على هذه المور في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ل به حسنات‪ ،‬ورفع درجاته‪ ،‬وكان‬ ‫و المقصود هنا أن ما تضمنته ]قصة ذي النون[ مما يلم عليه كله مغفور بدله ا ّ‬
‫ل َتُك ْ‬
‫ن‬ ‫ك َو َ‬
‫حْكِم َرّب َ‬ ‫بعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫صِبْر ِل ُ‬
‫ن{‬‫حي َ‬
‫صاِل ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫جَعَلُه ِم ْ‬
‫جَتَباُه َرّبُه َف َ‬
‫ن َرّبِه َلُنِبَذ ِباْلَعَراِء َوُهَو َمْذُموٌم‪َ .‬فا ْ‬
‫ن َتَداَرَكُه ِنْعَمٌة ِم ْ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ظوٌم‪َ .‬لْو َ‬
‫ت ِإْذ َناَدى َوُهَو َمْك ُ‬
‫حو ِ‬
‫ب اْل ُ‬
‫ح ِ‬
‫صا ِ‬
‫َك َ‬
‫ت َوُهَو ُمِليٌم{ ]الصافات‪ ،[241 :‬فأخبر أنه في‬ ‫حو ُ‬‫]القلم‪48 :‬ـ ‪ ،[50‬وهذا بخلف حال التقام الحوت فإنه قال‪َ} :‬فاْلَتَقَمُه اْل ُ‬
‫تلك الحال مليم‪ ،‬و ]المليم[ الذي فعل ما يلم عليه‪ ،‬فالملم في تلك الحال ل في حال نبذه بالعراء وهو سقيم‪ ،‬فكانت‬
‫ظاِلِميَن{ ]النبياء‪ [87 :‬أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان‪،‬‬
‫ن ال ّ‬
‫ت ِم ْ‬
‫ك ِإّني ُكن ُ‬
‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ت ُ‬
‫ل َأْن َ‬ ‫حاله بعد قوله‪َ } :‬‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫والعتبار بكمال النهاية ل بما جرى في البداية‪ ،‬والعمال بخواتيمها‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ خلق النسان وأخرجه من بطن أمه ل يعلم شيًئا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال‪ ،‬فل‬ ‫وا ّ‬
‫يجوز أن يعتبر قدر النسان بما وقع منه قبل حال الكمال‪ ،‬بل العتبار بحال كماله‪ ،‬ويونس صلى ال عليه وسلم‬
‫وغيره من النبياء في حال النهاية حالهم أكمل الحوال‪.‬‬

‫ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملئكة على النبياء والصالحين فإنهم اعتبروا كمال الملئكة مع بداية‬ ‫‪/‬‬
‫الصالحين ونقصهم فغلطوا‪ ،‬ولو اعتبروا حال النبياء والصالحين بعد دخول الجنان‪ ،‬ورضا الرحمن‪ ،‬وزوال كل ما‬
‫لٌم‬
‫سَ‬‫ب‪َ .‬‬
‫ل َبا ٍ‬
‫ن ُك ّ‬
‫عَلْيِهْم ِم ْ‬
‫ن َ‬
‫خُلو َ‬ ‫فيه نقص وملم‪ ،‬وحصول كل ما فيه رحمة وسلم‪ ،‬حتى استقر بهم القرار }َواْلَم َ‬
‫لِئَكُة َيْد ُ‬
‫صَبْرُتْم َفِنْعَم ُعْقَبى الّداِر{ ]الرعد‪ [24 ،23 :‬فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على حال غيرهم من‬
‫عَلْيُكْم ِبَما َ‬
‫َ‬
‫المخلوقين وإل فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص‬
‫والعيوب‪.‬‬

‫ولو اعتبر ذلك لعتبر أحدهم وهو نطفة ثم علقة‪ ،‬ثم مضغة‪ ،‬ثم حين نفخت فيه الروح‪ ،‬ثم هو وليد‪ ،‬ثم رضيع ثم‬
‫فطيم‪ ،‬إلى أحوال أخر‪ ،‬فعلم أن الواحد في هذه الحال لم تقم به صفات الكمال التي يستحق بها كمال المدح والتفضيل ‪،‬‬
‫وتفضيله بها على كل صنف وجيل‪ ،‬وإنما فضله باعتبار المآل‪ ،‬عند حصول الكمال‪.‬‬

‫وما يظنه بعض الناس أنه من ولد على السلم فلم يكفر قط أفضل ممن كان كافًرا فأسلم ليس بصواب‪ ،‬بل العتبار‬
‫ل في عاقبته كان أفضل‪ .‬فإنه من المعلوم أن السابقين الولين من المهاجرين والنصار‬ ‫بالعاقبة‪ ،‬وأيهما كان أتقى ّ‬
‫ل ورسوله بعد كفرهم هم أفضل ممن ولد على السلم من أولدهم وغير أولدهم‪ ،‬بل من عرف الشر‬ ‫الذين آمنوا با ّ‬
‫وذاقه ثم عرف الخير وذاقه ‪ /‬فقد تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل ممن لم يعرف‬
‫الخير والشر ويذقهما كما ذاقهما‪ ،‬بل من لم يعرف إل الخير فقد يأتيه الشر فل يعرف أنه شر‪ ،‬فإما أن يقع فيه‪ ،‬وإما‬
‫أل ينكره كما أنكره الذي عرفه‪.‬‬

‫ل عنه ـ‪ :‬إنما تنقض عرى السلم عروة عروة إذا نشأ في السلم من لم‬ ‫ولهذا قال عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ‬
‫يعرف الجاهلية‪ .‬وهو كما قال عمر‪ ،‬فإن كمال السلم هو بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد‬
‫ل‪ ،‬ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره‪ ،‬فقد ل يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه‪،‬‬ ‫في سبيل ا ّ‬
‫ول يكون عنده من الجهاد لهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من‬
‫الحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره‪.‬‬

‫ل عنهم ـ أعظم إيماًنا وجهاًدا ممن بعدهم‪ ،‬لكمال معرفتهم بالخير والشر‪ ،‬وكمال‬
‫ولهذا كان الصحابة ـ رضي ا ّ‬
‫محبتهم للخير وبغضهم للشر‪ ،‬لما علموه من حسن حال السلم واليمان والعمل الصالح‪ ،‬وقبح حال الكفر‬
‫والمعاصي؛ ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والمن ممن لم يذق ذلك؛‬
‫ولهذا يقال‪:‬‬

‫والضد يظهر حسنه الضد**‬

‫‪/‬ويقال‪:‬‬

‫وبضدها تتبين الشياء**‬

‫ل عنه ـ يقول‪ :‬لست بخب ول يخدعني الخب‪ ،‬فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد‬
‫وكان عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ‬
‫الخير ل الشر‪ ،‬وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر‪ ،‬فأما من ل يعرف الشر فذاك نقص فيه ل يمدح به‪.‬‬

‫وليس المراد أن كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون أعلم بذلك وأكره له ممن لم يذقه مطلًقا‪ ،‬فإن هذا ليس‬
‫بمطرد‪ ،‬بل قد يكون الطبيب أعلم بالمراض من المرضى‪ ،‬والنبياء ـ عليهم الصلة والسلم ـ أطباء الديان فهم أعلم‬
‫الناس بما يصلح القلوب ويفسدها‪ ،‬وإن كان أحدهم لم يذق من الشر ما ذاقه الناس‪.‬‬

‫ولكن المراد‪ :‬أن من الناس من يحصل له بذوقه الشر من المعرفة به‪ ،‬والنفور عنه‪ ،‬والمحبة للخير إذا ذاقه ما ل‬
‫يحصل لبعض الناس‪ ،‬مثل من كان مشرًكا أو يهودًيا أو نصرانًيا‪ ،‬وقد عرف ما في الكفر من الشبهات والقوال‬
‫ل صدره للسلم‪ ،‬وعرفه محاسن السلم‪ ،‬فإنه قد يكون أرغب فيه‪ ،‬وأكره للكفر‬ ‫الفاسدة والظلمة والشر‪ ،‬ثم شرح ا ّ‬
‫من بعض من لم يعرف حقيقة الكفر والسلم‪ ،‬بل هو معرض عن بعض حقيقة هذا وحقيقة هذا‪ ،‬أو مقلد في مدح هذا‬
‫وذم هذا‪.‬‬
‫‪/‬ومثال ذلك من ذاق طعم الجوع ثم ذاق طعم الشبع بعده‪ ،‬أو ذاق المرض ثم ذاق طعم العافية بعده‪ ،‬أو ذاق الخوف ثم‬
‫ذاق المن بعده‪ ،‬فإن محبة هذا ورغبته في العافية والمن والشبع ونفوره عن الجوع والخوف والمرض أعظم ممن‬
‫لم يبتل بذلك ولم يعرف حقيقته‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فقد‬ ‫حا‪ ،‬ورزقه الجهاد في سبيل ا ّ‬ ‫ل له الحق وتاب عليه توبة نصو ً‬ ‫وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور‪ ،‬ثم بين ا ّ‬
‫يكون بيانه لحالهم‪ ،‬وهجره لمساويهم‪ ،‬وجهاده لهم أعظم من غيره‪ ،‬قال نعيم بن حماد الخزاعي ـ وكان شديًدا على‬
‫ن َرّب َ‬
‫ك‬ ‫صَبُروا ِإ ّ‬
‫جاَهُدوا َو َ‬
‫ن َبْعِد َما ُفِتُنوا ُثّم َ‬
‫جُروا ِم ْ‬ ‫ل تعالى‪ِ} :‬لّلِذي َ‬
‫ن َها َ‬ ‫الجهمية ـ‪ :‬أنا شديد عليهم‪ ،‬لني كنت منهم‪ .‬وقد قال ا ّ‬
‫ِمْن َبْعِدَها َلَغُفوٌر َرِحيٌم{]النحل‪ [110 :‬نزلت هذه الية في طائفة من الصحابة كان المشركون فتنوهم عن دينهم ثم تاب‬
‫ل ورسوله‪ ،‬وجاهدوا وصبروا‪.‬‬ ‫ل عليهم‪ ،‬فهاجروا إلى ا ّ‬
‫ا ّ‬

‫ل عنهما ـ من أشد الناس على السلم فلما أسلما تقدما على من‬‫وكان عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ـ رضي ا ّ‬
‫سبقهما إلى السلم‪ ،‬وكان بعض من سبقهما دونهما في اليمان والعمل الصالح بما كان عندهما من كمال الجهاد‬
‫صا وصدًقا ومعرفة وفراسة ونوًرا أبعد عن هوى‬
‫ل ورسوله‪ ،‬وكان عمر لكونه أكمل إيماًنا وإخل ً‬ ‫للكفار والنصر ّ‬
‫ل عنهم أجمعين‪.‬‬
‫ل‪ ،‬مقدما على سائر المسلمين‪ ،‬غير أبي بكر رضي ا ّ‬‫النفس وأعلى همة ‪ /‬في إقامة دين ا ّ‬

‫وهذا وغيره مما يبين أن العتبار بكمال النهاية ل بنقص البداية‪.‬‬

‫ل قال لداود‪ :‬أما الذنب فقد غفرناه‪ ،‬وأما الود فل يعود" فهذا لو عرفت صحته لم‬
‫وما يذكر في السرائيليات‪) :‬أن ا ّ‬
‫عا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا‪ ،‬فإن دين محمد صلى ال عليه وسلم في التوبة جاء بما لم يجئ به‬
‫يكن شر ً‬
‫شرع من قبله؛ ولهذا قال‪ " :‬أنا نبي الرحمة‪ ،‬وأنا نبي التوبة( ‪،‬وقد رفع به من الصار والغلل ما كان على من‬
‫قبلنا‪.‬‬

‫طّهِريَن{ ]البقرة‪ [222 :‬وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده‬ ‫ب اْلُمَت َ‬
‫ح ّ‬
‫ن َوُي ِ‬
‫ب الّتّواِبي َ‬
‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬ ‫وقد قال تعالى في كتابه‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والمركب إذا وجده بعد اليأس‪ .‬فإذا كان هذا فرح‬
‫ل ِلَما ُيِريُد{‬
‫جيُد ‪َ .‬فّعا ٌ‬ ‫الرب بتوبة التائب وتلك محبته‪ ،‬كيف يقال‪ :‬إنه ل يعود لمودته }َوُهَو اْلَغُفوُر اْلَوُدوُد ‪ُ .‬ذو اْلَعْر ِ‬
‫ش اْلَم ِ‬
‫]البروج‪ [16 - 14 :‬ولكن وده وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبد بعد التوبة‪ ،‬فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق‬
‫بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة‪ ،‬وإن كان أنقص ‪/‬‬
‫كان المر أنقص‪ ،‬فإن الجزاء من جنس العمل‪ ،‬وما ربك بظلم للعبيد‪.‬‬

‫ل تعالى‪ :‬من عادى لي ولًيا فقد آذنته بالحرب‪،‬‬‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ ) :‬يقول ا ّ‬
‫ى بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت‬
‫وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه‪ ،‬ول يزال عبدي يتقرب إل ّ‬
‫سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ ،‬فبي يسمع‪ ،‬وبي يبصر‪،‬‬
‫وبي يبطش‪ ،‬وبي يمشي‪ ،‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ ،‬وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن‬
‫قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته‪ ،‬ولبد له منه(‪ .‬ومعلوم أن أفضل الولياء بعد النبياء هم‬
‫السابقون الولون من المهاجرين والنصار‪ ،‬وكانت محبة الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق‬
‫والعصيان أعظم محبة ومودة‪ ،‬وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبهم وودهم‪.‬‬

‫ل َغُفوٌر َرِحيٌم{]الممتحنة‪ ،[7 :‬نزلت في‬


‫لُ َقِديٌر َوا ُّ‬
‫عاَدْيُتْم ِمْنُهْم َمَوّدًة َوا ّ‬
‫ن َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ل َبْيَنُكْم َوَبْي َ‬
‫جَع َ‬
‫ن َي ْ‬
‫ل َأ ْ‬
‫سى ا ُّ‬
‫عَ‬‫وقد قال تعالى‪َ } :‬‬
‫ل ورسوله مثل ]أهل الحزاب[ كأبي سفيان بن حرب‪ ،‬وأبي سفيان بن الحارث‪ ،‬والحارث‬ ‫المشركين الذين عادوا ا ّ‬
‫ل ورسوله ‪/‬‬‫بن هشام‪ ،‬وسهيل ابن عمرو‪ ،‬وعكرمة بن أبي جهل‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬وغيرهم‪ .‬فإنهم بعد معاداتهم ّ‬
‫ل بينهم وبين الرسول والمؤمنين مودة‪ ،‬وكانوا في ذلك متفاضلين وكان عكرمة وسهيل والحارث بن هشام‬ ‫جعل ا ّ‬
‫ل يا‬
‫أعظم مودة من أبي سفيان بن حرب ونحوه‪ .‬وقد ثبت في الصحيح‪ :‬أن هند امرأة أبي سفيان أم معاوية قالت‪ :‬وا ّ‬
‫ل‪ ،‬ما كان على وجه الرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك‪ ،‬وقد أصبحت وما على وجه‬ ‫رسول ا ّ‬
‫الرض أهل خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك فذكر النبي صلى ال عليه وسلم لها نحو ذلك‪.‬‬

‫عَرى اليمان الحب في‬ ‫ومعلوم أن المحبة والمودة التي بين المؤمنين إنما تكون تابعة لحبهم لّ ـ تعالى ـ فإن أوثق ُ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ل‬ ‫ن ُدو ِ‬
‫خُذ ِم ْ‬
‫ن َيّت ِ‬
‫س َم ْ‬ ‫ل شرك‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫ل من كمال التوحيد‪ ،‬والحب مع ا ّ‬‫ل‪ .‬فالحب ّ‬ ‫ل‪ ،‬والبغض في ا ّ‬‫ا ّ‬
‫ل{ ]البقرة‪ ،[165 :‬فتلك المودة التي صارت بين الرسول والمؤمنين وبين‬ ‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬
‫ل َواّلِذي َ‬
‫ب ا ِّ‬
‫ح ّ‬
‫حّبوَنُهْم َك ُ‬
‫َأنَداًدا ُي ِ‬
‫ل‪ ،‬فعلم أن ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل وّده ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ومن وّد ا ّ‬
‫ل أحبه ا ّ‬
‫ل ومن أحب ا ّ‬
‫ل ومحبة ّ‬
‫الذين عادوهم من المشركين إنما كانت مودة ّ‬
‫أحبهم وودهم بعد التوبة‪ ،‬كما أحبوه وودوه‪ ،‬فكيف يقال‪ :‬إن التائب إنما تحصل له المغفرة دون المودة؟!‬

‫ل‪ ،‬بخلف من علم أن الفعل محرم‬


‫وإن قال قائل‪ :‬أولئك كانوا كفاًرا‪ ،‬لم يعرفوا أن ما فعلوه محرم‪ ،‬بل كانوا جها ً‬
‫وأتاه‪.‬‬

‫‪/‬قيل‪ :‬الجواب من وجهين‪:‬‬

‫ل‪ ،‬ويعادونه حسًدا وكبًرا‪ ،‬وأبو‬


‫أحدهما‪ :‬أنه ليس المر كذلك‪ ،‬بل كان كثير من الكفار يعلمون أن محمًدا رسول ا ّ‬
‫سفيان قد سمع من أخبار نبوة النبي صلى ال عليه وسلم ما لم يسمع غيره‪ ،‬كما سمع من أمية بن أبي الصلت‪ ،‬وما‬
‫سمعه من هرقل ملك الروم‪ ،‬وقد أخبر عن نفسه أنه لم يزل موقًنا أن أمر النبي صلى ال عليه وسلم سيظهر حتى‬
‫ل عليه السلم‪ ،‬وهو كاره له‪ ،‬وقد سمع منه عام اليرموك وغيره ما دل على حسن إسلمه ومحبته ّ‬
‫ل‬ ‫أدخل ا ّ‬
‫ورسوله بعد تلك العداوة العظيمة‪.‬‬

‫ق َأَثاًما ‪.‬‬
‫ك َيْل َ‬
‫ل َذِل َ‬
‫ن َيْفَع ْ‬
‫ن َوَم ْ‬‫ل َيْزُنو َ‬
‫ق َو َ‬ ‫حّ‬‫ل ِباْل َ‬ ‫ل ِإ ّ‬
‫حّرَم ا ُّ‬‫س اّلِتي َ‬
‫ن الّنْف َ‬
‫ل َيْقُتُلو َ‬
‫خَر َو َ‬
‫ل ِإَلًها آ َ‬
‫ن َمَع ا ِّ‬ ‫عو َ‬ ‫ل َيْد ُ‬
‫ن َ‬ ‫وقد قال تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ت{‬‫سَنا ٍ‬‫حَ‬ ‫سّيَئاِتِهْم َ‬
‫ل َ‬‫ل ا ُّ‬‫ك ُيَبّد ُ‬
‫حا َفُأْوَلِئ َ‬
‫صاِل ً‬
‫ل َ‬ ‫عَم ً‬
‫ل َ‬
‫عِم َ‬‫ن َو َ‬
‫ب َوآَم َ‬
‫ن َتا َ‬ ‫ل َم ْ‬
‫خُلْد ِفيِه ُمَهاًنا ‪ِ .‬إ ّ‬
‫ب َيْوَم اْلِقَياَمِة َوَي ْ‬
‫ف َلُه اْلَعَذا ُ‬
‫ع ْ‬
‫ضا َ‬
‫ُي َ‬
‫ل لهم‪ ،‬وتبديل السيئات حسنات ليس‬ ‫ل يبدل سيئاتهم حسنات‪ ،‬فالحسنات توجب مودة ا ّ‬ ‫] الفرقان‪68 :‬ـ ‪ [70‬فإذا كان ا ّ‬
‫ل‬
‫ب ا ُّ‬
‫ك َيُتو ُ‬
‫ب َفُأْوَلِئ َ‬
‫ن َقِري ٍ‬
‫ن ِم ْ‬
‫جَهاَلٍة ُثّم َيُتوُبو َ‬
‫سوَء ِب َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن َيْعَمُلو َ‬
‫ل ِلّلِذي َ‬ ‫را‪ ،‬وقد قال تعالى‪ِ} :‬إّنَما الّتْوَبُة َ‬
‫عَلى ا ِّ‬ ‫صا بمن كان كاف ً‬ ‫مخت ً‬
‫ل صلى ال عليه وسلم عن هذه الية‬ ‫ل َعِليًما َحِكيًما{ ]النساء‪ [17 :‬قال أبو العالية‪ :‬سألت أصحاب رسول ا ّ‬ ‫ن ا ُّ‬
‫عَلْيِهْم َوَكا َ‬
‫َ‬
‫ل فهو ‪ /‬جاهل‪ ،‬وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب‪.‬‬ ‫فقالوا لي‪ :‬كل من عصي ا ّ‬

‫ل تعالى للتائبين فرق ل أصل له‪ ،‬بل الكتاب والسنة‬ ‫الوجه الثاني‪ :‬أن ما ذكر من الفرق بين تائب وتائب في محبة ا ّ‬
‫ل يحب التوابين‪ ،‬ويفرح بتوبة التائبين‪ ،‬سواء كانوا عالمين بأن ما أتوه ذنب أو لم يكونوا عالمين بذلك‪.‬‬
‫يدل على أن ا ّ‬

‫ومن علم أن ما أتاه ذنب ثم تاب فلبد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود‪ ،‬فإذا كان يبغض الحق فلبد أن يحبه‪ ،‬وإذا‬
‫كان يحب الباطل فلبد أن يبغضه‪ ،‬فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به‪ ،‬ومن بغض الباطل‬
‫ل كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابه‪ ،‬فكل من‬ ‫ل تعالى ويرضاها‪ ،‬ومحبة ا ّ‬ ‫واجتنابه هو من المور التي يحبها ا ّ‬
‫ل لمحبوب الحق كان الحق أعظم محبة له‪ ،‬وانتقاله من مكروه الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان‬ ‫كان أعظم فع ً‬
‫ل سيئاته‬
‫عليه من الباطل‪ ،‬وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق‪ ،‬فوجب زيادة محبة الحق له ومودته إياه‪ ،‬بل يبدل ا ّ‬
‫ل سيئاته حسنات‪ ،‬فإن الجزاء من جنس العمل‪ .‬وحينئذ فإذا كان‬ ‫حسنات لنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل ا ّ‬
‫إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده الّ منه أعظم من‬
‫ل له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة‪ ،‬فكيف يقال‪ :‬الود ل يعود‪.‬‬
‫فعله له قبل التوبة كانت ‪ /‬مودة ا ّ‬

‫ل ل يبعث نبًيا إل من كان معصوًما قبل النبوة‪ ،‬كما يقول ذلك طائفة من‬‫وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول‪ :‬إن ا ّ‬
‫الرافضة وغيرهم‪ ،‬وكذلك من قال‪ :‬إنه ل يبعث نبًيا إل من كان مؤمنا قبل النبوة‪ ،‬فإن هؤلء توهموا أن الذنوب تكون‬
‫صا فهو‬
‫صا وإن تاب التائب منها‪ ،‬وهذا منشأ غلطهم‪ .‬فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناق ً‬ ‫نق ً‬
‫ل‪ ،‬لكن إن قدم التوبة لم‬
‫طا عظيًما‪ ،‬فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب ل يلحق التائب منه شيء أص ً‬ ‫غالط غل ً‬
‫يلحقه شيء‪ ،‬وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله‪.‬‬

‫ل عليهم وسلمه ـ كانوا ل يؤخرون التوبة‪ ،‬بل يسارعون إليها‪ ،‬ويسابقون إليها‪،‬ل يؤخرون ول‬ ‫والنبياء ـ صلوات ا ّ‬
‫ل ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي‬‫ل كفر ا ّ‬
‫يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك‪،‬ومن أخر ذلك زمًنا قلي ً‬
‫النون صلى ال عليه وسلم ‪،‬هذا على المشهور إن إلقاءه كان بعد النبوة‪ ،‬وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فل‬
‫يحتاج إلى هذا‪.‬‬

‫والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب‪ ،‬وإذا كان قد يكون أفضل‪ ،‬فالفضل‬ ‫‪/‬‬
‫ل عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم السباط الذين نبأهم‬
‫أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة‪ ،‬وقد أخبر ا ّ‬
‫ط َوَقاَل ِإّني ُمَهاِجٌر ِإَلى َرّبي{ ]العنكبوت‪ .[26 :‬فآمن لوط لبراهيم ـ عليه السلم ـ‬ ‫ل تعالى‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ} :‬فآَم َ‬
‫ن َلُه ُلو ٌ‬ ‫ا ّ‬
‫شَعْي ُ‬
‫ب‬ ‫ك َيا ُ‬
‫جّن َ‬
‫خِر َ‬
‫ن َقْوِمِه َلُن ْ‬
‫سَتْكَبُروا ِم ْ‬
‫نا ْ‬ ‫ل تعالى إلى قوم لوط‪ .‬وقد قال تعالى في قصة شعيب‪َ} :‬قالَ اْلَم َُ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫ثم أرسله ا ّ‬
‫جاَنا الُّ‬‫عْدَنا ِفي ِمّلِتُكْم َبْعَد ِإْذ َن ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫ل َكِذًبا ِإ ْ‬ ‫عَلى ا ِّ‬ ‫ن ‪َ .‬قْد اْفَتَرْيَنا َ‬
‫ل َأَوَلْو ُكّنا َكاِرِهي َ‬‫ن ِفي ِمّلِتَنا َقا َ‬ ‫ن َقْرَيِتَنا َأْو َلَتُعوُد ّ‬
‫ك ِم ْ‬‫ن آَمُنوا َمَع َ‬ ‫َواّلِذي َ‬
‫ق َوَأْن َ‬
‫ت‬ ‫حّ‬ ‫ن َقْوِمَنا ِباْل َ‬‫ح َبْيَنَنا َوَبْي َ‬
‫ل َتَوّكْلَنا َرّبَنا اْفَت ْ‬
‫عَلى ا ِّ‬ ‫عْلًما َ‬‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬
‫ل َ‬ ‫سَع َرّبَنا ُك ّ‬ ‫ل َرّبَنا َو ِ‬
‫شاَء ا ُّ‬ ‫ن َي َ‬‫ل َأ ْ‬‫ن َنُعوَد ِفيَها ِإ ّ‬ ‫ن َلَنا َأ ْ‬
‫ِمْنَها َوَما َيُكو ُ‬
‫حى‬
‫ن ِفي ِمّلِتَنا َفَأْو َ‬ ‫ضَنا َأْو َلَتُعوُد ّ‬ ‫ن َأْر ِ‬ ‫جّنُكْم ِم ْ‬ ‫خِر َ‬ ‫سِلِهْم َلُن ْ‬
‫ن َكَفُروا ِلُر ُ‬ ‫ن{]العراف‪ ،[89 ،88 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَقا َ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫حي َ‬ ‫خْيُر اْلَفاِت ِ‬‫َ‬
‫ف َوِعيِد{]إبراهيم‪.[14 ،13 :‬‬ ‫خا َ‬ ‫ف َمَقاِمي َو َ‬ ‫خا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ك ِلَم ْ‬
‫ن َبْعِدِهْم َذِل َ‬
‫ض ِم ْ‬ ‫لْر َ‬ ‫سِكَنّنُكْم ا َْ‬
‫ن ‪َ .‬وَلُن ْ‬
‫ظاِلِمي َ‬ ‫ن ال ّ‬‫ِإَلْيِهْم َرّبُهْم َلُنْهِلَك ّ‬

‫وإذا عرف أن العتبار بكمال النهاية‪ ،‬وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والستغفار‪ ،‬ولبد لكل عبد من التوبة وهي‬
‫عَلى‬
‫ل َ‬
‫ب ا ُّ‬
‫ت َوَيُتو َ‬
‫شِرَكا ِ‬
‫ن َواْلُم ْ‬
‫شِرِكي َ‬
‫ت َواْلُم ْ‬
‫ن َواْلمَُناِفَقا ِ‬
‫ل اْلُمَناِفِقي َ‬ ‫واجبة على الولين والخرين‪ .‬كما قال تعالى‪ِ} :‬لُيَعّذ َ‬
‫ب ا ُّ‬
‫ل َغُفوًرا َرِحيًما{ ]الحزاب‪.[73 :‬‬ ‫ن ا ُّ‬
‫ت َوَكا َ‬
‫اْلُمْؤِمِنينَ َواْلُمْؤِمَنا ِ‬

‫ل ـ سبحانه ـ بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى ال عليه وسلم وآخر ما نزل‬ ‫‪/‬وقد أخبر ا ّ‬
‫سّب ْ‬
‫ح‬ ‫جا ‪ .‬فَف َ‬
‫ل َأْفَوا ً‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ِفي ِدي ِ‬
‫خُلو َ‬
‫س َيْد ُ‬
‫ت الّنا َ‬
‫ح ‪َ .‬وَرَأْي َ‬
‫ل َواْلَفْت ُ‬
‫صُر ا ِّ‬ ‫عليه ـ أو من آخر ما نزل عليه ـ قوله تعالى‪ِ} :‬إَذا َ‬
‫جاَء َن ْ‬
‫ل عنها ـ أن النبي صلى ال‬ ‫ك َواْسَتْغِفْرُه ِإّنُه َكاَن َتّواًبا{ ]سورة النصر[‪ ،‬وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي ا ّ‬ ‫حْمِد َرّب َ‬
‫ِب َ‬
‫عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده‪) :‬سبحانك الّلهم ربنا وبحمدك الّلهم اغفر لي" يتأول القرآن(‪.‬‬

‫ن َبْعِد َما َكاَد َيِزيُغ‬


‫سَرةِ ِم ْ‬
‫عِة اْلُع ْ‬
‫سا َ‬
‫ن اّتَبُعوهُ ِفي َ‬
‫صاِر اّلِذي َ‬
‫لن َ‬
‫ن َوا َْ‬
‫جِري َ‬
‫ي َواْلُمَها ِ‬
‫عَلى الّنِب ّ‬
‫ل َ‬ ‫ل عليه قبل ذلك‪َ} :‬لَقْد َتا َ‬
‫ب ا ُّ‬ ‫وقد أنزل ا ّ‬
‫ف َرِحيٌم{ ]التوبة‪ ،[117 :‬وفي صحيح البخاري عن النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫عَلْيِهْم ِإّنُه ِبِهْم َرُءو ٌ‬
‫ب َ‬
‫ق ِمْنُهْم ُثّم َتا َ‬
‫ب َفِري ٍ‬
‫ُقُلو ُ‬
‫ل وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين‬
‫أنه كان يقول‪) :‬يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لستغفر ا ّ‬
‫مرة(‪ ،‬وفي صحيح مسلم عن الغر المزني عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إنه ليغان على قلبي وإني‬
‫ل صلى ال عليه وسلم في‬ ‫ل في اليوم مائة مـرة(‪ ،‬وفي السنن عن ابن عـمر أنه قال‪ :‬كـنا نعد لرسول ا ّ‬‫لستغفر ا ّ‬
‫المجلس الواحد يقول‪) :‬رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الغفور( مائة مرة‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان ‪ /‬يقول‪) :‬اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي‬
‫وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني‪ ،‬اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي‪ ،‬الّلهم اغفر‬
‫لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني‪ .‬أنت المقدم وأنت المؤخر‪ ،‬وأنت على كل‬
‫ل‪ ،‬أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ؟‬‫شيء قدير(‪ ،‬وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫قال‪) :‬أقول‪ :‬الّلهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب‪ ،‬الّلهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب‬
‫البيض من الدنس‪ ،‬الّلهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد(‪.‬‬

‫وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع‪ ،‬وفي صحيح مسلم عن على ـ رضى الّ‬
‫عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول في دعاء الستفتاح‪) :‬اللهم أنت الملك ل إله إل أنت‪ ،‬أنت ربي وأنا‬
‫عبدك‪ ،‬ظلمت نفسي وعملت سوًءا فاغفر لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت واهدني لحسن الخلق ل يهدي لحسنها‬
‫إل أنت واصرف عني سيئها ل يصرف عني سيئها إل أنت(‪ ،‬وفي صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫كان يقول في سجوده‪) :‬الّلهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله‪ ،‬علنيته وسره‪ ،‬أوله وآخره(‪.‬‬

‫خَر َلَنا َهَذا‬


‫سّ‬
‫ن اّلِذي َ‬ ‫ل وقال‪ُ }) :‬‬
‫سْبحا َ‬ ‫‪/‬وفي السنن عن على‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم أتى بدابة؛ ليركبها وأنه حمد ا ّ‬
‫َوَما ُكّنا َلُه ُمْقِرِنيَن ‪َ .‬وِإّنا ِإَلى َرّبَنا َلُمنَقِلُبوَن{( ]الزخرف‪ [14 ،13 :‬ثم كبره وحمده ثم قال‪) :‬سبحانك ظلمت نفسي فاغفر‬
‫لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت(‪ ،‬ثم ضحك ! وقال‪) :‬إن الرب يعجب من عبده إذا قال‪ :‬اغفـر لي‪ ،‬فإنه ل يغفـر‬
‫الذنوب إل أنت‪ ،‬يقول علم عبدي أنه ل يغفر الذنوب إل أنا(‪.‬‬

‫ل َما َتَقّدَم مِ ْ‬
‫ن‬ ‫ك ا ُّ‬
‫حا ُمِبيًنا ‪ِ .‬لَيْغِفَر َل َ‬
‫ك َفْت ً‬ ‫ت{ ]محمد‪ ،[19 :‬وقال‪ِ} :‬إّنا َفَت ْ‬
‫حَنا َل َ‬ ‫ن َواْلُمْؤِمَنا ِ‬
‫ك َوِلْلُمْؤِمِني َ‬ ‫وقد قال تعالى‪َ} :‬وا ْ‬
‫سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ‬
‫ك َوَما َتَأّخَر{]الفتح‪ ،[2 ،1 :‬وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة‪) :‬أن المسيح يقول‪ :‬اذهبوا إلى محمد عبد غفر‬ ‫َذْنِب َ‬
‫ل له ما تقدم من ذنبه وما تأخر(‪ ،‬وفي الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يقوم حتى ترم قدماه‪ ،‬فيقال له‪:‬‬ ‫ا ّ‬
‫ل لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال‪) :‬أفل أكون عبًدا شكورا(‪.‬‬
‫أتفعل هذا وقد غفر ا ّ‬
‫ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين‬
‫كثيرة‪.‬‬

‫لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلت الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب‪.‬‬
‫ل َما َتَقّدَم ِم ْ‬
‫ن‬ ‫وتأويلتهم تبين لمن ‪ /‬تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه‪ .‬كتأويلهم قوله‪ِ} :‬لَيْغِفَر َلكَ ا ُّ‬
‫ك َوَما َتَأّخَر{ ]الفتح‪ [2 :‬المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلن ويدل على ذلك وجوه‪:‬‬ ‫َذْنِب َ‬

‫ل فيه هذه السورة‪ ،‬قال‬ ‫ل عن عام الحديبية الذي أنزل ا ّ‬ ‫ل عليه قبل أن ينزل إلى الرض فض ً‬ ‫أحدها‪ :‬أن آدم قد تاب ا ّ‬
‫ت َفَتا َ‬
‫ب‬ ‫عَلْيِه َوَهَدى{ ]طه‪ ،[122 ،121 :‬وقال‪َ} :‬فَتَلّقى آَدُم ِم ْ‬
‫ن َرّبِه َكِلَما ٍ‬ ‫ب َ‬
‫جَتَباُه َرّبُه َفَتا َ‬
‫صى آَدُم َرّبُه َفَغَوى ‪ُ .‬ثّم ا ْ‬‫ع َ‬ ‫تعالى‪َِ} :‬و َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫ن‬ ‫حْمَنا َلَنُكوَن ّ‬
‫ن َلْم َتْغِفْر َلَنا َوَتْر َ‬
‫سَنا َوِإ ْ‬ ‫حيُم{ ]البقرة‪ ،[37 :‬وقد ذكر أنه قال‪َ} :‬رّبَنا َ‬
‫ظَلْمَنا َأنُف َ‬ ‫ب الّر ِ‬ ‫عَلْيِه ِإّنُه ُهَو الّتّوا ُ‬
‫َ‬
‫اْلَخاِسِريَن{ ]العراف‪.[23 :‬‬

‫ضا‪ ،‬ومن‬
‫والثاني‪ :‬أن يقال‪ :‬فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ول يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أي ً‬
‫قال‪ :‬إنه لم يصدر من النبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما‪.‬‬

‫ل ل يجعل الذنب ذنًبا لمن لم يفعله فإنه هو القائل‪َ} :‬وَل َتِزُر َواِزَرٌة ِوْزَر ُأْخَرى{ ] السراء‪.[15 :‬‬ ‫الوجه الثالث‪ :‬أن ا ّ‬
‫فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد صلى ال عليه وسلم ذنب آدم صلى ال عليه وسلم أو أمته أو غيرهما‪ .‬وقد قال‬
‫ك{ ]النساء‪:‬‬ ‫سَ‬ ‫ل َنْف َ‬‫ف ِإ ّ‬
‫ل ُتَكّل ُ‬‫ل َ‬ ‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬ ‫حّمْلُتْم{ ]النور‪ [54 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فَقاِت ْ‬
‫ل ِفي َ‬ ‫عَلْيُكْم َما ُ‬
‫ل َو َ‬
‫حّم َ‬ ‫تعالى‪َ} :‬فِإّنَما َ‬
‫عَلْيِه َما ُ‬
‫ك َوَما‬‫ن َذْنِب َ‬
‫ل َما َتَقّدَم ِم ْ‬‫ك ا ُّ‬‫‪ ،[84‬ولو جاز هذا لجاز ‪ /‬أن يضاف إلى محمد ذنوب النبياء كلهم‪ ،‬ويقال‪ :‬إن قوله‪ِ} :‬لَيْغِفَر َل َ‬
‫َتَأّخَر{ ]الفتح‪ [2 :‬المراد‪ :‬ذنوب النبياء وأممهم قبلك‪ ،‬فإنه يوم القيامة يشفع للخلئق كلهم‪ ،‬وهو سيد ولد آدم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫)أنا سيد ولد آدم ول فخر‪ ،‬وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة‪ .‬أنا خطيب النبياء إذا وفدوا‪ ،‬وإمامهم إذا اجتمعوا(‬
‫وحينئذ فل يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد‪ ،‬بل تجعل ذنوب الولين والخرين على قول هؤلء ذنوًبا له‪ .‬فإن قال‪:‬‬
‫ضا لم يغفر ذنوب جميع أمته‪.‬‬ ‫ل لم يغفر ذنوب جميع المم‪ ،‬قيل‪ :‬وهو أي ً‬ ‫إن ا ّ‬

‫ت{ ]محمد‪ [19 :‬فكيف‬


‫ن َواْلُمْؤِمَنا ِ‬
‫ك َوِلْلُمْؤِمِني َ‬ ‫الوجه الرابع‪ :‬أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله‪َ} :‬وا ْ‬
‫سَتْغِفْر ِلذَْنِب َ‬
‫يكون ذنب المؤمنين ذنًبا له‪.‬‬

‫ل‪ُ} :‬هَو‬
‫ل هذا لك فما لنا؟ فأنزل ا ّ‬
‫الوجه الخامس‪ :‬أنه ثبت في الصحيح أن هذه الية لما نزلت قال الصحابة يا رسول ا ّ‬
‫ب اْلُمْؤِمِنيَن ِلَيْزَداُدوا ِإيَماًنا َمَع ِإيَماِنِهْم{ ]الفتح‪ [4 :‬فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن‬‫سِكيَنَة ِفي ُقُلو ِ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫اّلِذي َأْنَز َ‬
‫ك َوَما َتَأّخَر{ مختص به دون أمته‪.‬‬ ‫ن َذْنِب َ‬
‫ل َما َتَقّدَم ِم ْ‬ ‫قوله‪ِ} :‬لَيْغِفَر َل َ‬
‫ك ا ُّ‬

‫ل لم يغفر ذنوب جميع أمته‪ ،‬بل قد ثبت ‪ /‬أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في‬ ‫الوجه السادس‪ :‬أن ا ّ‬
‫الخرة‪ ،‬وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف المة وأئمتها‪ ،‬وشوهد في الدنيا من‬
‫ب َمْن َيْعَمْل ُسوًءا ُيْجَز ِبِه{ ]النساء‪[123 :‬‬
‫ل اْلِكَتا ِ‬
‫ي َأهْ ِ‬
‫ل َأَماِن ّ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬لْي َ‬
‫س ِبَأَماِنّيُكْم َو َ‬ ‫ل‪ ،‬وقد قال ا ّ‬
‫ذلك ما ل يحصيه إل ا ّ‬
‫والستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الفضل‪ .‬فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الول‪،‬‬
‫لكن الذم والوعيد ل يكون إل على ذنب‪.‬‬

‫صـــل‬
‫َف ْ‬

‫وأما قول السائل‪ :‬هل العتراف بالخطيئة بمجرده مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة الصادرة عنها‪ ،‬أم‬
‫يحتاج إلى شيء آخر؟‬

‫ل إل بتوبة‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬ ‫فجوابه‪ :‬أن الموجب للغفران مع التوحيد هو التوبة المأمور بها‪ ،‬فإن الشرك ل يغفره ا ّ‬
‫ك ِلَمْن َيَشاُء{ ]النساء‪ [116 ،48 :‬في موضعين من القرآن‪ ،‬وما دون الشرك‬ ‫ن َذِل َ‬
‫ك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ‬
‫شَر َ‬
‫ن ُي ْ‬
‫ل َيْغِفُر َأ ْ‬
‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬‫}ِإ ّ‬
‫طوا ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ل َتْقَن ُ‬
‫سِهْم َ‬
‫عَلى َأْنُف ِ‬
‫سَرُفوا َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫عَباِدي اّلِذي َ‬ ‫فهو مع التوبة مغفور‪ ،‬وبدون التوبة معلق بالمشيئة كما قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َيا ِ‬
‫ب َجِميًعا{ ]الزمر‪ [53 :‬فهذا في حق التائبين؛ ولهذا عمم وأطلق‪ ،‬وحتم أنه يغفر الذنوب‬ ‫ل َيْغِفُر الّذُنو َ‬
‫ن ا َّ‬‫ل ِإ ّ‬
‫حَمِة ا ِّ‬‫َر ْ‬
‫ك ِلَمْن َيَشاُء{ فخص ما دون الشرك وعلقه بالمشيئة فإذا كان الشرك ل‬ ‫جميًعا‪ ،‬وقال في تلك الية‪َ} :‬وَيْغِفُر َما ُدو َ‬
‫ن َذِل َ‬
‫ل للتائب‪ ،‬وقد يغفره بدون التوبة لمن يشاء‪.‬‬ ‫يغفر إل بتوبة‪ ،‬وأما ما دونه فيغفره ا ّ‬

‫فالعتراف بالخطيئة مع التوحيد إن كان متضمًنا للتوبة أوجب المغفرة‪ ،‬وإذا غفر الذنب زالت عقوبته‪ ،‬فإن المغفرة‬
‫هي وقاية شر الذنب‪.‬‬

‫ل الغفار‬
‫ومن الناس من يقول‪ :‬الغفر الستر‪ ،‬ويقول‪ :‬إنما سمي المغفرة والغفار؛ لما فيه من معنى الستر‪ ،‬وتفسير اسم ا ّ‬
‫بأنه الستار‪ .‬وهذا تقصير في معنى الغفر‪ ،‬فإن المغفرة معناها وقاية شر الذنب بحيث ل يعاقب على الذنب‪ ،‬فمن غفر‬
‫ذنبه لم يعاقب عليه‪ .‬وأما مجرد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن‪ ،‬ومن عوقب على الذنب باطًنا أو ظاهًرا فلم يغفر‬
‫له‪،‬وإنما يكون غفران الذنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقة بالذنب‪.‬‬

‫وأما إذا ابتلى مع ذلك بما يكون سبًبا في حقه لزيادة أجره فهذا ل ينافى المغفرة‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك إذا كان من تمام التوبة أن يأتي بحسنات يفعلها‪ ،‬فإن من يشترط في التوبة من تمام التوبة‪ ،‬وقد يظن الظان أنه‬
‫تائب ول يكون تائًبا بل يكون تارًكا‪ ،‬والتارك غير التائب‪ ،‬فإنه قد يعرض عن الذنب لعدم خطوره بباله أو المقتضى‬
‫لعجزه عنه‪ ،‬أو تنتفي إرادته له بسبب غير ديني‪ ،‬وهذا ليس بتوبة‪ ،‬بل لبد من أن يعتقد أنه سيئة ويكره فعله لنهي ا ّ‬
‫ل‬
‫ل تعالى‪ ،‬ل لرغبة مخلوق ول لرهبة مخلوق‪ ،‬فإن التوبة من أعظم الحسنات‪ ،‬والحسنات كلها يشترك‬ ‫عنه ويدعه ّ‬
‫ل{ ]الملك‪ [2 :‬قال‪:‬‬
‫عَم ً‬
‫ن َ‬
‫سُ‬‫حَ‬‫ل وموافقة أمره‪ ،‬كما قال الفضيل بن عياض في قوله‪ِ} :‬لَيْبُلَوُكْم َأّيُكْم َأ ْ‬
‫فيها الخلص ّ‬
‫صا ولم يكن صواًبا لم يقبل‪ ،‬وإذا‬
‫أخلصه وأصوبه‪ ،‬قالوا‪ :‬يا أبا على‪ ،‬ما أخلصه وأصوبه؟ قال‪ :‬إن العمل إذا كان خال ً‬
‫ل‪ ،‬والصواب أن يكون على‬ ‫صا صواًبا‪ .‬والخالص أن يكون ّ‬ ‫صا لم يقبل‪ ،‬حتى يكون خال ً‬
‫كان صواًبا ولم يكن خال ً‬
‫السنة‪.‬‬

‫صا‪ ،‬ول‬
‫حا‪ ،‬واجعله لوجهك خال ً‬
‫ل عنه ـ يقول في دعائه‪ :‬اللهم اجعل عملي كله صال ً‬
‫وكان عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ‬
‫تجعل لحد فيه شيًئا‪.‬‬

‫وبسط الكلم في التوبة له موضع آخر‪.‬‬

‫ل من غير إقلع عنه فهذا في نفس الستغفار المجرد الذي ل توبة معه‪،‬‬ ‫وأما العتراف بالذنب على وجه الخضوع ّ‬
‫ل تعالى أن يغفر له الذنب مع كونه لم يتب منه‪ ،‬وهذا يأس من رحمة ال‪ ،‬ول يقطع بالمغفرة له‬ ‫وهو كالذي يسأل ‪ /‬ا ّ‬
‫فإنه داع دعوة مجردة‪ .‬وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ما من داع يدعو بدعوة ليس‬
‫فيها إثم ول قطيعة رحم إل كان بين إحدى ثلث‪ :‬إما أن يعجل له دعوته‪ ،‬وإما أن يدخر له من الجزاء مثلها‪ ،‬وإما أن‬
‫ل أكثر(‪ .‬فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬إًذا نكثر قال‪) :‬ا ّ‬
‫يصرف عنه من الشر مثلها(‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫وإذا لم تحصل فلبد أن يحصل معه صرف شر آخر أو حصول خير آخر‪ ،‬فهو نافع كما ينفع كل دعاء‪.‬‬

‫وقول من قال من العلماء‪ :‬الستغفار مع الصرار توبة الكذابين‪ ،‬فهذا إذا كان المستغفر يقوله على وجه التوبة أو‬
‫يدعي أن استغفاره توبة‪ ،‬وأنه تائب بهذا الستغفار فل ريب أنه مع الصرار ل يكون تائًبا‪ ،‬فإن التوبة والصرار‬
‫ضدان‪ :‬الصرار يضاد التوبة‪ ،‬لكن ل يضاد الستغفار بدون التوبة‪.‬‬

‫وقول القائل‪ :‬هل العتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة أم لبد من استحضار جميع‬
‫الذنوب؟‬

‫فجواب هذا مبني على أصول‪:‬‬

‫‪/‬أحدها‪ :‬أن التوبة تصح من ذنب مع الصرار على ذنب آخر إذا كان المقتضى للتوبة من أحدهما أقوى من المقتضى‬
‫للتوبة من الخر‪ ،‬أو كان المانع من أحدهما أشد‪ ،‬وهذا هو القول المعروف عند السلف والخلف‪.‬‬

‫وذهب طائفة من أهل الكلم كأبي هاشم إلى أن التوبة ل تصح من قبيح مع الصرار على الخر‪ ،‬قالوا‪ :‬لن الباعث‬
‫ل لم يكن توبة صحيحة‪ ،‬والخشية مانعة من جميع الذنوب ل من بعضها‪ ،‬وحكى‬ ‫على التوبة إن لم يكن من خشية ا ّ‬
‫القاضي أبو يعلى وابن عقيل هذا رواية عن أحمد؛ لن المروزي نقل عنه أنه سئل عمن تاب من الفاحشة وقال‪ :‬لو‬
‫ل‪ :‬سألت رسول الّ صلى ال عليه‬ ‫مرضت لم أعد لكن ل يدع النظر‪ ،‬فقال أحمد‪ :‬أي توبة هذه؟! قال جرير بن عبد ا ّ‬
‫وسلم عن نظرة الفجأة فقال‪) :‬اصرف بصرك(‪.‬‬

‫والمعروف عن أحمد وسائر الئمة هو القول بصحة التوبة‪ ،‬وأحمد في هذه المسألة إنما أراد أن هذه ليست توبة عامة‬
‫يحصل بسببها من التائبين توبة مطلًقا‪ ،‬لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر‪ ،‬فإن نصوصه المتواترة عنه‬
‫ضا أولى من حمله على التناقض‪ ،‬ل سيما إذا‬ ‫وأقواله الثابتة تنافي ذلك‪ ،‬وحمل كلم المام على ما يصدق بعضه بع ً‬
‫عا لم يعرف عن أحد من السلف‪ ،‬وأحمد يقول‪ / :‬إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام‪،‬‬
‫كان القول الخر مبتد ً‬
‫وكان في المحنة يقول‪ :‬كيف أقول ما لم ُيَقل؟ واتباع أحمد للسنة والثار وقوة رغبته في ذلك‪ ،‬وكراهته لخلفه من‬
‫المور المتواترة عنه يعرفها من يعرف حاله من الخاصة والعامة‪.‬‬

‫وما ذكروه من أن الخشية توجب العموم‪ .‬فجوابه أنه قد يعلم قبح أحد الذنبين دون الخر‪ ،‬وإنما يتوب مما يعلم قبحه‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فقد يعلم قبحها ولكن هواه يغلبه في أحدهما دون الخر فيتوب من هذا دون ذاك‪ ،‬كمن أدى بعض الواجبات‬
‫وأي ً‬
‫دون بعض‪ ،‬فإن ذلك يقبل منه‪.‬‬

‫ولكن المعتزلة لهم أصل فاسد وافقوا فيه الخوارج في الحكم وإن خالفوهم في السم‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن أصحاب الكبائر‬
‫ل ثم‬
‫يخلدون في النار ول يخرجون منها بشفاعة ول غيرها‪ ،‬وعندهم يمتنع أن يكون الرجل الواحد ممن يعاقبه ا ّ‬
‫يثيبه؛ ولهذا يقولون بحبوط جميع الحسنات بالكبيرة‪.‬‬

‫وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة‪ ،‬فعلى أن أهل الكبائر يخرجون ‪ /‬من النار ويشفع فيهم‪ ،‬وأن الكبيرة الواحدة ل‬
‫تحبط جميع الحسنات‪ ،‬ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة‪ ،‬ول يحبط جميع الحسنات إل الكفر‪ ،‬كما ل يحبط‬
‫ل على ذلك‪ ،‬وإن كان مستحًقا‬ ‫ل أثابه ا ّ‬
‫جميع السيئات إل التوبة‪ ،‬فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا ا ّ‬
‫للعقوبة على كبيرته‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬وبين حكم الكفار في‬


‫ل ـ عز وجل ـ يفرق بين حكم السارق والزاني وقتال المؤمنين بعضهم بع ً‬
‫وكتاب ا ّ‬
‫]السماء‪ ،‬والحكام[‪ .‬والسنة المتواترة عن النبي صلى ال عليه وسلم وإجماع الصحابة يدل على ذلك‪ ،‬كما هو‬
‫مبسوط في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ل ِمْن اْلُمّتِقيَن{ ]المائدة‪ [27 :‬فعلى قول الخوارج والمعتزلة ل تقبل حسنة‬ ‫وعلى هذا تنازع الناس في قوله‪ِ} :‬إّنَما َيَتَقّب ُ‬
‫ل ا ُّ‬
‫إل ممن اتقاه مطلًقا فلم يأت كبيرة‪ ،‬وعند المرجئة إنما يتقبل ممن اتقى الشرك‪ ،‬فجعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم‬
‫ل‪ ،‬فمن اتقاه في‬
‫ل موافًقا لمر ا ّ‬
‫صا ّ‬
‫ل فيه فعمله خال ً‬
‫]المتقين[ وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى ا ّ‬
‫عمل تقبله منه‪ ،‬وإن كان عاصًيا في غيره‪ .‬ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيًعا في غيره‪.‬‬

‫طا في‬ ‫والتوبة من بعض الذنوب دون بعض‪ ،‬كفعل بعض الحسنات المأمور ‪ /‬بها دون بعض‪ ،‬إذا لم يكن المتروك شر ً‬
‫سْعَيَها َوُهَو‬‫سَعى َلَها َ‬ ‫خَرَة َو َ‬ ‫لِ‬‫ن َأَراَد ا ْ‬‫صحة المفعول‪ ،‬كاليمان المشروط في غيره من العمال‪ ،‬كما قال الّ تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫حَياًة‬
‫حِيَيّنُه َ‬
‫ن َفَلُن ْ‬
‫ن َذَكٍر َأْو ُأنَثى َوُهَو ُمْؤِم ٌ‬ ‫حا ِم ْ‬
‫صاِل ً‬
‫ل َ‬ ‫عمِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫شُكوًرا{ ]السراء‪ ،[19 :‬وقال تعالى‪َ} :‬م ْ‬ ‫سْعُيُهْم َم ْ‬
‫ن َ‬
‫ك َكا َ‬
‫ن َفُأْوَلِئ َ‬
‫ُمْؤِم ٌ‬
‫خَرِة َوُأْوَلِئ َ‬
‫ك‬ ‫لِ‬ ‫عَماُلُهْم ِفي الّدْنَيا َوا ْ‬‫ت َأ ْ‬
‫ط ْ‬
‫حِب َ‬‫ك َ‬
‫ت َوُهَو َكاِفٌر َفُأْوَلِئ َ‬
‫ن ِديِنِه َفَيُم ْ‬
‫عْ‬ ‫طّيَبًة{ ]النحل‪ ،[79 :‬وقال‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َيْرَتِدْد ِمْنُكْم َ‬ ‫َ‬
‫ب الّناِر ُهْم ِفيَها َخاِلُدوَن{]البقرة‪.[217 :‬‬ ‫حا ُ‬ ‫صَ‬‫َأ ْ‬

‫الصل الثاني‪ :‬أن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإن التوبة إنما تقتضى مغفرة ما تاب منه‪ ،‬أما ما لم يتب‬
‫عا إل في الكافر إذا أسلم‪ ،‬فإن‬
‫منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب‪ ،‬ل على حكم من تاب‪ ،‬وما علمت في هذا نزا ً‬
‫إسلمه يتضمن التوبة من الكفر فيغفر له بالسلم الكفر الذي تاب منه‪ ،‬وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر‬
‫ولم يتب منها في السلم؟ هذا فيه قولن معروفان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬يغفر له الجميع‪ ،‬لطلق قوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬السلم يهدم ما كان قبله( رواه مسلم‪ .‬مع قوله تعالى‪:‬‬
‫ف{ ]النفال‪.[38 :‬‬
‫سَل َ‬
‫ن َينَتُهوا ُيْغَفْر َلُهْم َما َقْد َ‬
‫ن َكَفُروا ِإ ْ‬
‫ل ِلّلِذي َ‬
‫}ُق ْ‬
‫والقول الثاني‪ :‬أنه ل يستحق أن يغفر له بالسلم إل ما تاب منه‪ / ،‬فإذا أسلم وهو مصر على كبائر دون الكفر فحكمه‬
‫في ذلك حكم أمثاله من أهل الكبائر‪ ،‬وهذا القول هو الذي تدل عليه الصول والنصوص‪ ،‬فإن في الصحيحين أن النبي‬
‫ل‪ ،‬أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال‪) :‬من أحسن منكم في‬
‫صلى ال عليه وسلم قال له حكيم بن حزام‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫السلم لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية‪ ،‬ومن أساء في السلم أخذ بالول والخر( فقد دل هذا النص على أنه إنما‬
‫ترفع المؤاخذة بالعمال التي فعلت في حال الجاهلية عمن أحسن ل عمن ل يحسن‪ ،‬وإن لم يحسن أخذ بالول‬
‫والخر‪ ،‬ومن لم يتب منها فلم يحسن‪.‬‬

‫ف{ ]النفال‪ [38 :‬يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما قد‬ ‫سَل َ‬
‫ن َينَتُهوا ُيْغَفْر َلُهْم َما َقْد َ‬
‫ن َكَفُروا ِإ ْ‬ ‫وقوله تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِلّلِذي َ‬
‫سلف منه‪ ،‬ل يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما سلف من غيره؛ وذلك لن قول القائل لغيره‪ :‬إن انتهيت‬
‫غفرت لك ما تقدم‪ ،‬ونحو ذلك يفهم منه عند الطلق أنك إن انتهيت عن هذا المر غفر لك ما تقدم منه‪ ،‬وإذا انتهيت‬
‫عن شيء غفر لك ما تقدم منه‪ ،‬كما يفهم مثل ذلك في قوله‪) :‬إن تبت(‪ ،‬ل يفهم منه أنك بالنتهاء عن ذنب يغفر لك ما‬
‫تقدم من غيره‪.‬‬

‫وأما قول النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬السلم يهدم ما قبله( وفي رواية‪) :‬يجب ما كان قبله( فهذا قاله لما أسلم عمرو‬
‫بن العاص وطلب ‪ /‬أن يغفر له ما تقدم من ذنبه‪ .‬فقال له‪) :‬يا عمرو‪ ،‬أما علمت أن السلم يهدم ما كان قبله‪ ،‬وأن‬
‫التوبة تهدم ما كان قبلها‪ ،‬وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها(‪ .‬ومعلوم أن التوبة إنما توجب مغفرة ما تاب منه‪ ،‬ل توجب‬
‫التوبة غفران جميع الذنوب‪.‬‬

‫الصل الثالث‪ :‬أن النسان قد يستحضر ذنوًبا فيتوب منها وقد يتوب توبة مطلقة ل يستحضر معها ذنوبه‪ ،‬لكن إذا‬
‫كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنًبا؛ لن التوبة العامة تتضمن عزًما عاًما بفعل المأمور وترك‬
‫المحظور‪ ،‬وكذلك تتضمن ندًما عاًما على كل محظور‪.‬‬

‫والندم سواء قيل‪ :‬إنه من باب العتقادات‪ ،‬أو من باب الرادات‪ ،‬أو قيل‪ :‬إنه من باب اللم التي تلحق النفس بسبب‬
‫فعل ما يضرها‪ ،‬فإذا استشعر القلب أنه فعل ما يضره‪ ،‬حصل له معرفة بأن الذي فعله كان من السيئات‪ ،‬وهذا من‬
‫باب العتقادات‪ ،‬وكراهية لما كان فعله‪ ،‬وهو من جنس الرادات‪ ،‬وحصل له أذى وغم لما كان فعله‪ ،‬وهذا من باب‬
‫اللم‪ ،‬كالغموم والحزان‪ ،‬كما أن الفرح والسرور هو من باب اللذات ليس هو من باب العتقادات والرادات‪.‬‬

‫ومن قال من المتفلسفة ومن اتبعهم‪ :‬إن اللذة هي إدراك الملئم ‪ /‬من حيث هو ملئم‪ ،‬وأن اللم هو إدراك المنافر من‬
‫حيث هو منافر فقد غلط في ذلك‪ .‬فإن اللذة واللم حالن يتعقبان إدراك الملئم والمنافر فإن الحب لما يلئمه‪،‬كالطعام‬
‫ل له ثلثة أحوال‪:‬‬
‫المشتهى مث ً‬

‫أحدها‪ :‬الحب‪ ،‬كالشهوة للطعام‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬إدراك المحبوب‪ ،‬كأكل الطعام‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬اللذة الحاصلة بذلك‪ ،‬واللذة أمر مغاير للشهوة ولذوق المشتهي‪ ،‬بل هي حاصلة لذوق المشتهي‪ ،‬ليست نفس‬
‫ذوق المشتهي‪.‬‬

‫ل‪ .‬فإن كراهته شيء‪ ،‬وحصوله شيء آخر‪ ،‬واللم الحاصل به ثالث‪.‬‬
‫وكذلك المكروه‪ ،‬كالضرب مث ً‬

‫ل شيء‪ ،‬ثم ما يحصل من ذكر المحبوب‬ ‫ل من النعيم والسرور بذلك‪ ،‬فإن حبهم ّ‬‫وكذلك ما للعارفين أهل محبة ا ّ‬
‫شيء‪ ،‬ثم اللذة الحاصلة بذلك أمر ثالث‪ ،‬ول ريب أن الحب مشروط بشعور المحبوب‪ ،‬كما أن الشهوة مشروطة‬
‫بشعور المشتهي‪ ،‬لكن الشعور المشروط في اللذة غير الشعور المشروط في المحبة‪ ،‬فهذا الثاني يسمى إدراًكا وذوًقا‬
‫ل‪ ،‬ونحو ذلك مما يعبر به عن إدراك المحبوب‪ / ،‬سواء كان بالباطن أو الظاهر‪ ،‬ثم هذا الذوق‬ ‫ل ووجًدا ووصا ً‬ ‫وني ً‬
‫يستلزم اللذة‪ ،‬واللذة أمر يحسه الحي باطًنا وظاهًرا‪.‬‬
‫ل رًبا‪ ،‬وبالسلم ديًنا‪،‬‬
‫وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪) :‬ذاق طعم اليمان من رضى با ّ‬
‫وبمحمد صلى ال عليه وسلم نبًيا(‪ ،‬وفي الصحيحين عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ثلث من كن فيه وجد بهن‬
‫ل‪ ،‬ومن كان يكره أن‬‫ل ورسوله أحب إلىه من سواهما‪ ،‬ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ا ّ‬ ‫حلوة اليمان‪ :‬من كان ا ّ‬
‫ل منه كما يكره أن يلقى في النار(‪.‬‬
‫يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ‬

‫ل رًبا‪ ،‬وبالسلم ديًنا‪ ،‬وبمحمد نبًيا‪ ،‬وأن َوجَْد حلوة‬


‫ق طعم اليمان لمن رضى با ّ‬ ‫فبين صلى ال عليه وسلم أن َذْو َ‬
‫ل ل لغيره‪ ،‬ومن كان يكره‬ ‫صا ّ‬
‫ل ورسوله أشد من حبه لغيرهما‪ ،‬ومن كان يحب شخ ً‬ ‫اليمان حاصل لمن كان حبه ّ‬
‫ضد اليمان‪ ،‬كما يكره أن يلقي في النار‪ ،‬فهذا الحب لليمان‪ ،‬والكراهية للكفر استلزم حلوة اليمان‪ ،‬كما استلزم‬
‫الرضا المتقدم ذوق طعم اليمان‪ ،‬وهذا هو اللذة‪ ،‬وليس هو نفس التصديق والمعرفة الحاصلة في القلب‪ ،‬ول نفس‬
‫الحب الحاصل في القلب‪ ،‬بل هذا نتيجة ذاك وثمرته ولزم له‪ ،‬وهي أمور متلزمة‪ ،‬فل توجد اللذة إل بحب وذوق‪،‬‬
‫وإل فمن أحب شيًئا ولم يذق منه ‪ /‬شيًئا لم يجد لذة‪ ،‬كالذي يشتهي الطعام ولم يذق منه شيًئا‪ ،‬ولو ذاق ما ل يحبه لم‬
‫يجد لذة‪ ،‬كمن ذاق ما ل يريده‪ ،‬فإذا اجتمع حب الشيء وذوقه حصلت اللذة بعد ذلك‪.‬‬

‫وإن حصل بغضه وذوق البغيض حصل اللم‪ ،‬فالذي يبغض الذنب ول يفعله ل يندم‪ ،‬والذي ل يبغضه ل يندم على‬
‫فعله‪ ،‬فإذا فعله وعرف أن هذا مما يبغضه ويضره ندم على فعله إياه‪ .‬وفي المسند عن ابن مسعود عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أنه قال‪) :‬الندم توبة(‪.‬‬

‫إذا تبين هذا‪ ،‬فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها‪ ،‬وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إل‬
‫أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص‪ ،‬مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه؛ لقوة إرادته‬
‫إياه أو لعتقاده أنه حسن ليس بقبيح‪ ،‬فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة‪ ،‬وأما ما كان لو حضر‬
‫بعينه لكان مما يتوب منه فإن التوبة العامة شاملته‪.‬‬

‫وأما التوبة المطلقة‪ ،‬وهي أن يتوب توبة مجملة‪ ،‬ول تستلزم التوبة من كل ذنب‪ ،‬فهذه ل توجب دخول كل فرد من‬
‫أفراد الذنوب فيها ول تمنع دخوله كاللفظ المطلق‪ ،‬لكن هذه تصلح أن تكون سبًبا لغفرانه المعين‪ ،‬كما تصلح أن تكون‬
‫سبًبا لغفران الجميع‪ ،‬بخلف ‪/‬العامة فإنها مقتضية للغفران العام‪ ،‬كما تناولت الذنوب تناول عاًما‪.‬‬

‫وكثير من الناس ل يستحضر عند التوبة إل بعض المتصفات بالفاحشة أو مقدماتها‪ ،‬أو بعض الظلم باللسان أو اليد‪،‬‬
‫ل عليه في باطنه وظاهره من شعب اليمان وحقائقه أعظم ضرًرا عليه‬ ‫وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب ّ‬
‫مما فعله من بعض الفواحش‪ ،‬فإن ما أمر ال به من حقائق اليمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حًقا أعظم نفًعا‬
‫ل ورسوله‪ ،‬فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية حتى ثبت في الصحيح أنه‬ ‫من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة‪ ،‬كحب ا ّ‬
‫كان على عهد النبي صلى ال عليه وسلم رجل يدعى حماًرا‪ ،‬وكان يشرب الخمر‪ ،‬وكان كلما أتى به إلى النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم جلده الحد‪ ،‬فلما كثر ذلك منه أتى به مرة فأمر بجلده فلعنه رجل فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل‬
‫ل ورسوله(‪.‬‬
‫تلعنه فإنه يحب ا ّ‬

‫ل ورسوله‪ ،‬مع أنه صلى ال عليه وسلم لعن في الخمرعشرة‪:‬‬ ‫فنهي عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب ا ّ‬
‫)لعن الخمر‪ ،‬وعاصرها ومعتصرها‪،‬وشاربها وساقيها‪ ،‬وحاملها والمحمولة إليه‪ ،‬وبائعها ومبتاعها‪ ،‬وآكل ثمنها(‪.‬‬

‫ولكن لعن المطلق ل يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له‪.‬‬

‫طا بثبوت شروط‬‫‪/‬وكذلك ]التكفير المطلق[‪ ،‬و]الوعيد المطلق[‪ .‬ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشرو ً‬
‫وانتفاء موانع‪ ،‬فل يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين‪ ،‬ول يلحق من له حسنات تمحو سيئاته‪ ،‬ول يلحق المشفوع‬
‫له‪ ،‬والمغفور له‪ ،‬فإن الذنوب تزول عقوبتها ـ التي هي جهنم ـ بأسباب التوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ـ‬
‫لكنها من عقوبات الدنيا ـ وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة‪ ،‬وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة‪ ،‬وتزول‬
‫ضا بدعاء المؤمنين‪ :‬كالصلة عليه وشفاعة الشفيع المطاع‪ ،‬كمن يشفع فيه سيد الشفعاء محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫أي ً‬
‫تسليًما‪.‬‬
‫وحينئذ‪ ،‬فأي ذنب تاب منه ارتفع موجبه‪ ،‬وما لم يتب منه فله حكم الذنوب التي لم يتب منها‪ ،‬فالشدة إذا حصلت‬
‫بذنوب وتاب من بعضها خفف منه بقدر ما تاب منه‪ ،‬بخلف ما لم يتب منه‪ ،‬بخلف صاحب التوبة العامة‪.‬‬

‫والناس في غالب أحوالهم ل يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك‪ ،‬فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال‪ ،‬لنه‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫دائًما يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور؛ فعليه أن يتوب دائًما‪ ،‬وا ّ‬

‫ج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق؟ وما الحيلة في صرف القلب عن‬
‫وأما قول السائل‪ :‬ما السبب في أن الَفَر َ‬ ‫‪/‬‬
‫التعلق بهم وتعلقه بال؟‬

‫فيقال‪ :‬سبب هذا تحقيق التوحيد‪] :‬توحيد الربوبية[‪ ،‬و]توحيد اللهية[‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فل يستقل شيء سواه بإحداث أمر من المور‪ ،‬بل ما شاء كان وما لم يشأ لم‬ ‫فتوحيد الربوبية‪ :‬أنه ل خالق إل ا ّ‬
‫يكن‪ ،‬فكل ما سواه إذا قدر سبًبا فلبد له من شريك معاون وضد معوق‪ ،‬فإذا طلب مما سواه إحداث أمر من المور‬
‫طلب منه ما ل يستقل به ول يقدر وحده عليه‪ ،‬حتى ما يطلب من العبد من الفعال الختيارية ل يفعلها إل بإعانة ا ّ‬
‫ل‬
‫ل لها بما يخلقه فيه من الرادة الجازمة ويخلقه له من القدرة التامة‪ ،‬وعند وجود القدرة التامة‬
‫له‪ ،‬كأن يجعله فاع ً‬
‫والرادة الجازمة يجب وجود المقدور‪.‬‬

‫ل كان وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬وما سواه ل تستلزم إرادته شيًئا‪ ،‬بل ما‬ ‫ل وحده مستلزمة لكل ما يريده‪ ،‬فما شاء ا ّ‬ ‫فمشيئة ا ّ‬
‫أراده ل يكون إل بأمور خارجة عن مقدوره إن لم يعنه الرب بها لم يحصل مراده‪ ،‬ونفس إرادته ل تحصل إل بمشيئة‬
‫ب اْلَعاَلِميَن{ ]التكوير‪ ،[29 ،28 :‬وقال ‪/‬‬ ‫ل َر ّ‬ ‫شاَء ا ُّ‬
‫ن َي َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ن ِإ ّ‬‫شاُءو َ‬‫سَتِقيَم‪َ .‬وَما َت َ‬
‫ن َي ْ‬
‫شاَء ِمْنُكْم َأ ْ‬
‫ن َ‬ ‫ل تعالى‪ .‬كما قال تعالى‪ِ} :‬لَم ْ‬ ‫ا ّ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ن‬ ‫حَمِتِه َوال ّ‬
‫شاُء ِفي َر ْ‬ ‫ن َي َ‬
‫ل َم ْ‬‫خُ‬ ‫حِكيًما‪ُ .‬يْد ِ‬
‫عِليًما َ‬ ‫ن َ‬‫ل َكا َ‬‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫شاَء ا ُّ‬
‫ن َي َ‬‫ل َأ ْ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫شاُءو َ‬ ‫ل‪َ .‬وَما َت َ‬ ‫سِبي ً‬
‫خَذ ِإَلى َرّبِه َ‬
‫شاَء اّت َ‬ ‫تعالى‪َ} :‬فَم ْ‬
‫ن َ‬
‫ل اْلَمْغِفَرِة{‬
‫ل الّتْقَوى َوَأْه ُ‬
‫ل ُهَو َأْه ُ‬
‫شاَء ا ُّ‬ ‫ن َي َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫شاَء َذَكَرُه‪َ .‬وَما َيْذُكُرو َ‬‫ن َ‬ ‫عَذاًبا َأِليًما{ ]النسان‪29 :‬ـ ‪ ،[31‬وقال‪َ} :‬فَم ْ‬ ‫عّد َلُهْم َ‬
‫َأ َ‬
‫]المدثر‪.[56 ،55 :‬‬

‫والراجي لمخلوق طالب بقلبه لما يريده من ذلك المخلوق وذلك المخلوق عاجز عنه‪ ،‬ثم هذا من الشرك الذي ل يغفره‬
‫ل‪ ،‬فمن كمال نعمته وإحسانه إلى عباده المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى‬ ‫ا ّ‬
‫حَده العبد توحيد اللهية حصلت له سعادة الدنيا والخرة‪.‬‬
‫التوحيد‪ ،‬ثم إن و ّ‬

‫ضرّ‬ ‫عَنا ِإَلى ُ‬ ‫ن َلْم َيْد ُ‬


‫ضّرُه َمّر َكَأ ْ‬
‫عْنُه ُ‬ ‫شْفَنا َ‬
‫عًدا َأْو َقاِئًما َفَلّما َك َ‬
‫جْنِبِه َأْو َقا ِ‬
‫عاَنا ِل َ‬
‫ضّر َد َ‬
‫ن ال ّ‬
‫سا َ‬
‫لْن َ‬ ‫وإن كان ممن قيل فيه‪َ} :‬وِإَذا َم ّ‬
‫س ا ِْ‬
‫ل ِإّياُه َفَلّما‬
‫ن ِإ ّ‬
‫عو َ‬ ‫ن َتْد ُ‬‫ل َم ْ‬ ‫ضّ‬‫حِر َ‬ ‫ضّر ِفي اْلَب ْ‬
‫سُكْم ال ّ‬ ‫ن{]يونس‪ ،[12 :‬وفي قوله‪َ} :‬وِإَذا َم ّ‬ ‫ن َما َكاُنوا َيْعَمُلو َ‬
‫سِرِفي َ‬
‫ن ِلْلُم ْ‬
‫ك ُزّي َ‬‫سُه َكَذِل َ‬
‫َم ّ‬
‫ضُتْم َوَكاَن اِْلْنَساُن َكُفوًرا{ ]السراء‪ [67 :‬كان ما حصل له من وحدانيته حجة عليه‪.‬‬ ‫عَر ْ‬ ‫جاُكْم ِإَلى اْلَبّر َأ ْ‬‫َن ّ‬

‫كما احتج ـ سبحانه ـ على المشركين الذين يقرون بأنه خالق كل شيء ثم يشركون ول يعبدونه وحده ل شريك له‪ ،‬قال‬
‫ب اْلَعْر ِ‬
‫ش‬ ‫سْبِع َوَر ّ‬
‫ت ال ّ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ب ال ّ‬
‫ن َر ّ‬
‫ل َم ْ‬
‫ن‪ُ .‬ق ْ‬
‫ل َتَذّكُرو َ‬
‫ل َأَف َ‬
‫ل ُق ْ‬
‫ن ِّ‬
‫سَيُقوُلو َ‬
‫ن‪َ .‬‬
‫ن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ‬
‫ن ِفيَها ِإ ْ‬
‫ض َوَم ْ‬
‫لْر ُ‬
‫ن ا َْ‬ ‫تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِلَم ْ‬
‫ل َفَأّنا‬
‫ل ُق ْ‬‫ن ِّ‬ ‫سَيُقوُلو َ‬‫ن‪َ .‬‬
‫ن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ‬
‫عَلْيِه ِإ ْ‬
‫جاُر َ‬
‫ل ُي َ‬
‫جيُر َو َ‬‫يٍء َوُهَو ُي ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬
‫ت ُك ّ‬ ‫ن ِبَيِدِه َمَلُكو ُ‬
‫ل َم ْ‬
‫ن‪ُ .‬ق ْ‬
‫ل َتّتُقو َ‬
‫ل َأَف َ‬
‫ل ُق ْ‬
‫ن ِّ‬
‫سَيُقوُلو َ‬
‫ظيِم‪َ .‬‬
‫اْلَع ِ‬
‫ل َفَأّنا‬
‫ن ا ُّ‬ ‫س َواْلَقَمَر َلَيُقوُل ّ‬
‫شْم َ‬
‫خَر ال ّ‬‫سّ‬ ‫ض َو َ‬ ‫لْر َ‬ ‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬‫ق ال ّ‬
‫خَل َ‬
‫ن َ‬ ‫سَأْلَتُهْم َم ْ‬ ‫ن{]المؤمنون‪ 84 :‬ـ ‪ ،[89‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلِئ ْ‬
‫ن َ‬ ‫حُرو َ‬
‫سَ‬ ‫ُت ْ‬
‫ُيْؤَفُكوَن{]العنكبوت‪ [61 :‬وهذا قد ذكر في القرآن في غير موضع‪.‬‬

‫ل على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين‬‫فمن تمام نعمة ا ّ‬
‫ويرجونه ل يرجون أحًدا سواه‪ ،‬وتتعلق قلوبهم به ل بغيره‪ ،‬فيحصل لهم من التوكل عليه والنابة إليه‪ ،‬وحلوة‬
‫اليمان وذوق طعمه‪ ،‬والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف‪ ،‬أو الجدب‪ ،‬أو‬
‫حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة‪ ،‬فإن ذلك لذات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل‬
‫للمؤمن‪.‬‬

‫ل الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال‪ ،‬أو يستحضر تفصيله بال‪ ،‬ولكل‬ ‫وأما ما يحصل لهل التوحيد المخلصين ّ‬
‫مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه‪ ،‬ولهذا قال بعض السلف‪ :‬يا بن آدم‪ ،‬لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع‬
‫ل حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلوة مناجاته ما ل‬
‫باب سيدك‪ .‬وقال بعض الشيوخ‪ :‬إنه ليكون لي إلى ا ّ‬
‫أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي ‪ /‬عن ذلك‪ ،‬لن النفس ل تريد إل حظها فإذا قضى‬
‫انصرفت‪ .‬وفي بعض السرائيليات يا بن آدم‪ ،‬البلء يجمع بيني وبينك‪ ،‬والعافية تجمع بينك وبين نفسك‪.‬‬

‫وهذا المعنى كثير‪ ،‬وهو موجود مذوق محسوس بالحس الباطن للمؤمن‪ ،‬وما من مؤمن إل وقد وجد من ذلك ما‬
‫يعرف به ما ذكرناه‪ ،‬فإن ذلك من باب الذوق والحس ل يعرفه إل من كان له ذوق وحس بذلك‪.‬‬

‫ولفظ ]الذوق[ وإن كان قد يظن أنه في الصل مختص بذوق اللسان‪ ،‬فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم‬
‫من ذلك مستعمل في الحساس بالملئم والمنافر‪ ،‬كما أن لفظ ]الحساس[ في عرف الستعمال عام فيما يحس‬
‫بالحواس الخمس‪ ،‬بل وبالباطن‪.‬‬

‫س ِمْنُهْم ِمْن َأَحٍد{ ]مريم‪.[98 :‬‬


‫ح ّ‬ ‫وأما في اللغة فأصله ]الرؤية[ كما قال‪َ} :‬ه ْ‬
‫ل ُت ِ‬

‫ف{ ]النحل‪ [112 :‬فجعل الخوف والجوع مذوًقا‪،‬‬ ‫خْو ِ‬‫ع َواْل َ‬‫جو ِ‬‫س اْل ُ‬
‫ل ِلَبا َ‬‫والمقصود لفظ ]الذوق[ قال تعالى‪َ} :‬فَأَذاَقَها ا ُّ‬
‫وأضاف إليهما اللباس ليشعر أنه لبس الجائع والخائف فشمله وأحاط به إحاطة اللباس باللبس‪ /،‬بخلف من كان اللم‬
‫ب اَْلِليِم{ ]الصافات‪ ،[38 :‬وقال‬
‫ل يستوعب مشاعره بل يختص ببعض المواضع‪ ،‬وقال تعالى‪ِ} :‬إّنُكْم لََذاِئُقو اْلَعَذا ِ‬
‫ن ِفيَها‬ ‫سَقَر{ ]القمر‪ ،[48 :‬وقال‪َ } :‬‬
‫ل َيُذوُقو َ‬ ‫س َ‬ ‫ت اْلَعِزيُز اْلَكِريُم{ ]الدخان‪ ،[ 49 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ذوُقوا َم ّ‬ ‫ك َأْن َ‬ ‫تعالى‪ُ} :‬ذ ْ‬
‫ق ِإّن َ‬
‫ساًقا{]النبأ‪ ،[25 ،24 :‬وقال‪َ} :‬وَلُنِذيَقّنُهْم‬
‫غّ‬‫حِميًما َو َ‬ ‫ل َ‬ ‫شَراًبا‪ِ .‬إ ّ‬
‫ل َ‬ ‫ن ِفيَها َبْرًدا َو َ‬
‫ل َيُذوُقو َ‬ ‫ت{ ]الدخان‪ ،[56 :‬وقال تعالى‪َ } :‬‬ ‫اْلَمْو َ‬
‫ب اَْلْكَبِر{]السجدة‪ ،[21 :‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ذاق طعم اليمان من رضى‬ ‫ن اْلَعَذا ِ‬
‫لْدَنى ُدو َ‬ ‫ب ا َْ‬
‫ن اْلَعَذا ِ‬
‫ِم ْ‬
‫ل رًبا وبالسلم ديًنا وبمحمد نبًيا(‪.‬‬ ‫با ّ‬

‫فاستعمال لفظ ]الذوق[ في إدراك الملئم والمنافر كثير‪ .‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ثلث من كن فيه وجد‬
‫حلوة اليمان( كما تقدم ذكر الحديث‪ .‬فوجود المؤمن حلوة اليمان في قلبه وذوق طعم اليمان أمر يعرفه من‬
‫حصل له هذا الوجد‪.‬‬

‫ل وإقبالهم عليه دون‬


‫وهذا الذوق‪ ،‬أصحابه فيه يتفاوتون‪ ،‬فالذي يحصل لهل اليمان عند تجريد توحيد قلوبهم إلى ا ّ‬
‫ما سواه بحيث يكونون حنفاء له مخلصين له الدين‪ ،‬ل يحبون شيًئا إل له‪ ،‬ول يتوكلون إل عليه‪ ،‬ول يوالون إل فيه‪،‬‬
‫ول يعادون إل له‪ ،‬ول يسألون إل إياه‪ ،‬ول يرجـون إل إياه‪ ،‬ول يخافـون إل إياه‪ ،‬يعبدونه ويستعينون لـه وبـه‪ ،‬بحيث‬
‫يكونون عند الحق بل خلق‪ ،‬وعند الخلق بل هوى‪ ،‬قد فنيت عنهم إرادة ما سواه بإرادته‪ ،‬ومحبة ما سواه بمحبته‪،‬‬
‫وخوف ‪ /‬ما سواه بخوفه‪ ،‬ورجاء ما سواه برجائه‪ ،‬ودعاء ما سواه بدعائه‪ ،‬هو أمر ل يعرفه بالذوق والوجد إل من له‬
‫نصيب‪ ،‬وما من مؤمن إل له منه نصيب‪.‬‬

‫ل به الرسل‪ ،‬وأنزل به الكتب‪ ،‬وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه‪ .‬وا ّ‬
‫ل‬ ‫وهذا هو حقيقة السلم الذي بعث ا ّ‬
‫سبحانه أعلم‪.‬‬

‫ل َتَعاَلى‪:‬‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫سـلم ـ َر ِ‬
‫خ الِ ْ‬
‫قال شيـ ُ‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫]الفناء[ الذي يوجد في كلم الصوفية يفسر بثلثة أمور‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب‪ ،‬والتوكل عليه وعبادته‪ ،‬وما يتبع ذلك‪ ،‬فهذا حق صحيح وهو محض‬
‫التوحيد والخلص‪ ،‬وهو في الحقيقة عبادة القلب‪ ،‬وتوكله‪ ،‬واستعانته‪ ،‬وتألهه وإنابته‪ ،‬وتوجهه إلى الّ وحده ل‬
‫شريك له‪ ،‬وما يتبع ذلك من المعارف والحوال‪ .‬وليس لحد خروج عن هذا‪.‬‬

‫ب َسِليٍم{ ]الشعراء‪ [89 :‬وهو سلمة القلب عن العتقادات‬


‫ل ِبَقْل ٍ‬
‫ن َأَتى ا َّ‬ ‫ل فيه‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ل َم ْ‬ ‫وهذا هو القلب السليم الذي قال ا ّ‬
‫الفاسدة‪ ،‬والرادات الفاسدة‪ ،‬وما يتبع ذلك‪.‬‬
‫‪/‬وهذا ]الفناء[ ل ينافيه البقاء‪ ،‬بل يجتمع هو والبقاء فيكون العبد فانًيا عن إرادة ما سواه‪ ،‬وإن كان شاعًرا بالّ‬
‫ل‪ ،‬ول نعبد إل إياه‪ ،‬له‬
‫ل‪ ،‬وكان النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪( :‬ل إله إل ا ّ‬ ‫وبالسوى‪ ،‬وترجمته قول‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫النعمة‪ ،‬وله الفضل‪ ،‬وله الثناء الحسن( وهذا في الجملة هو أول الدين وآخره‪.‬‬

‫المر الثاني‪ :‬فناء القلب عن شهود ما سوى الرب‪ ،‬فذاك فناء عن الرادة‪ ،‬وهذا فناء عن الشهادة‪ ،‬ذاك فناء عن عبادة‬
‫الغير والتوكل عليه‪ ،‬وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه‪ ،‬فهذا الفناء فيه نقص‪ ،‬فإن شهود الحقائق على ما هي‬
‫عليه‪ ،‬وهو شهود الرب مدبًرا العبادة‪ ،‬آمًرا بشرائعه‪ ،‬أكمل من شهود وجوده‪ ،‬أو صفة من صفاته‪ ،‬أو اسم من‬
‫أسمائه‪ ،‬والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك‪.‬‬

‫ل‪ ،‬ولكن عرض كثير من هذا‬ ‫ل عن شهوده مفص ً‬‫ولهذا كان الصحابة أكمل شهوًدا من أن ينقصهم شهود للحق مجم ً‬
‫لكثير من المتأخرين من هذه المة‪ .‬كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق؛ الموت والغشي والصياح‬
‫والضطراب‪ ،‬وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه‪ ،‬وعن شهود التفرقة في الجمع‪،‬والكثرة في‬
‫الوحدة‪ ،‬حتى اختلفوا في إمكان ذلك‪ ،‬وكثير منهم يرى أنه ل يمكن سوى ذلك لما رأى أنه إذا ذكر الخلق أو المر‬
‫اشتغل عن الخالق المر‪ .‬وإذا عورض بالنبي ‪ /‬صلى ال عليه وسلم وخلفائه ادعى الختصاص‪ ،‬أو أعرض عن‬
‫الجواب أو تحير في المر‪.‬‬

‫وسبب ذلك أنه قاس جميع الخلق على ما وجده من نفسه؛ ولهذا يقول بعض هؤلء‪ :‬إنه ل يمكن حين تجلى الحق‬
‫سماع كلمه‪ ،‬ويحكى عن ابن عربي أنه لما ذكر له عن الشيخ شهاب الدين السهروردي أنه جوز اجتماع المرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬نحن نقول له عن شهود الذات وهو يخبرنا عن شهود الصفات‪ ،‬والصواب مع شهاب الدين‪ .‬فإنه كان صحيح‬
‫العتقاد في امتياز الرب عن العبد‪ .‬وإنما بنى ابن عربي على أصله الكفري في أن الحق هو الوجود الفائض على‬
‫الممكنات‪ ،‬ومعلوم أن شهود هذا ل يقع فيه خطاب‪ ،‬وإنما الخطاب في مقام العقل‪.‬‬

‫ل‪ ،‬إذا فنى بمشهوده عن شهوده‪ ،‬وبموجوده عن‬‫وفي هذا الفناء قد يقول‪ :‬أنا الحق‪ ،‬أو سبحاني‪ ،‬أو ما في الجبة إل ا ّ‬
‫ل كان مستغرًقا في محبة آخر‪ ،‬فوقع‬
‫وجوده‪ ،‬وبمذكوره عن ذكره‪ ،‬وبمعروفه عن عرفانه‪ .‬كما يحكون أن رج ً‬
‫المحبوب في اليم فألقى الخر نفسه خلفه‪ ،‬فقال ما الذي أوقعك خلفي؟ فقال‪ :‬غبت بك عني فظننت أنك أني‪.‬‬

‫وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود ‪ /‬حلوة اليمان‪ ،‬كما يحصل بسكر الخمر‪ ،‬وسكر عشيق‬
‫الصور‪ .‬وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء‪ ،‬كما يحصل بحال حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق‬
‫ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى وهي شطحات بعض المشائخ‪ ،‬كقول بعضهم‪ :‬أنصب خيمتي على‬
‫جهنم‪ ،‬ونحو ذلك من القوال والعمال المخالفة للشرع‪ ،‬وقد يكون صاحبها غير مأثوم‪ ،‬وإن لم يكن فيشبه هذا الباب‬
‫أمر خفراء العدو ومن يعين كافًرا أو ظالًما بحال ويزعم أنه مغلوب عليه‪ .‬ويحكم على هؤلء أن أحدهم إذا زال عقله‬
‫بسبب غير محرم فل جناح عليهم فيما يصدر عنهم من القوال والفعال المحرمة بخلف ما إذا كان سبب زوال‬
‫العقل والغلبة أمًرا محرًما‪.‬‬

‫وهذا كما قلنا في عقلء المجانين والمولهين‪ ،‬الذين صار ذلك لهم مقاًما دائًما‪ ،‬كما أنه يعرض لهؤلء في بعض‬
‫الوقات‪ ،‬كما قال بعض العلماء ذلك فيمن زال عقله حتى ترك شيًئا من الواجبات‪ :‬إن كان زواله بسبب غير محرم‬
‫مثل الغماء بالمرض أو أسقى مكرها شيًئا يزيل عقله فل إثم عليه‪ ،‬وإن زال بشرب الخمر ونحو ذلك من الحوال‬
‫المحرمة أثم بترك الواجب‪ ،‬وكذلك المر في فعل المحرم‪.‬‬

‫وكما أنه ل جناح عليهم فل يجوز القتداء بهم ول حمل كلمهم وفعالهم على الصحة بل هم في الخاصة مثل الغافل‬
‫ل فسلب عقولهم‬
‫ل وأحوا ً‬
‫ل عقو ً‬
‫والمجنون في التكاليف ‪ /‬الظاهرة‪ ،‬وقال فيهم بعض العلماء‪ :‬هؤلء قوم أعطاهم ا ّ‬
‫وترك أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب‪.‬‬

‫ولهذا اتفق العارفون على أن حال البقاء أفضل من ذلك‪ ،‬وهو شهود الحقائق بإشهاد الحق‪ ،‬كما قال الّ ـ تعالى ـ فيما‬
‫ي بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره‬ ‫روى عنه رسوله‪) :‬ول يزال عبدي يتقرب إل ّ‬
‫الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ ،‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ .‬فبي‬
‫يسمع وبي يبصر‪ ،‬وبي يبطش وبي يمشي" وفي رواية‪" :‬وبي ينطق‪ ،‬وبي يعقل(‪ .‬فإذا سمع بالحق ورأى به سمع‬
‫المر على ما هو عليه وشهد الحق على ما هو عليه‪.‬‬

‫وعامة ما تجده في كتب أصحاء الصوفية مثل شيخ السلم ومن قبله من الفناء هو هذا‪ ،‬مع أنه قد يغلط بعضهم في‬
‫بعض أحكامه كما تكلمت عليه في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫وفي الجملة‪ ،‬فهذا الفناء صحيح وهو في عيسوية المحمدية‪ ،‬وهو شبيه بالصعق والصياح الذي حدث في التابعين؛‬
‫ولهذا يقع كثير من هؤلء في نوع ضلل؛ لن الفناء عن شهود الحقائق مرجعه إلى عدم العلم والشهود‪ .‬وهو وصف‬
‫نقص ل وصف كمال‪ ،‬وإنما يمدح من جهة ‪ /‬عدم إرادة ما سواه؛ لن ذكر المخلوق قد يدعو إلى إرادته والفتنة به‪.‬‬

‫ولهذا غالب عباد ]العيسوية[ في عدم العلم بالسوي‪ ،‬وإرادته والفتنة به‪ ،‬ويوصفون بسلمة القلوب‪ .‬وغالب علماء‬
‫]الموسوية[ في العلم بالسوي وإرادته والفتنة به‪ ،‬ويوصفون بالعلم‪ ،‬لكن الولون موصوفون بالجهل والعدل‪.‬‬
‫والخرون موصوفون بالظلم‪ ...‬وكلهما صحيح‪.‬‬

‫ل وحده ل شريك له فهذا نعت المحمدية الكاملون في العلم والرادة‪ ،‬وسلمة القلب‬ ‫فأما العلم بالحق والخلق‪ ،‬وإرادة ا ّ‬
‫المحمودة‪ ،‬هي سلمة‪ ...‬إذ الجهل ل يكون بنفسه صفة مدح‪ .‬إل أنه قد يمدح لسلمته به عن الشرور‪ ،‬فإن أكثر‬
‫النفوس إذا عرفت الشر الذي تهواه اتبعته أو فزعت منه أو فتنها‪.‬‬

‫ل هو الوجود‪ ،‬وأنه ل وجود لسواه‪ ،‬ل به ول بغيره‪ ،‬وهذا القول‬


‫الثالث‪ :‬فناء عن وجود السوى‪ :‬بمعنى أنه يرى أن ا ّ‬
‫والحال للتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوني ونحوهم الذين يجعلون الحقيقة أنه عين‬
‫الموجودات وحقيقة الكائنات‪ ،‬وأنه ‪ /‬ل وجود لغيره‪ ،‬ل بمعنى أن قيام الشياء به ووجودها به‪ ،‬كما قال النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم‪" :‬أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد‪:‬‬

‫ل باطل**‬
‫أل كل شيء ما خل ا ّ‬

‫ك ِإّل َوْجَهُه{]القصص‪ [88 :‬فإنهم لو أرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهود الصحيح‪،‬‬
‫يٍء َهاِل ٌ‬
‫ش ْ‬ ‫وكما قيل في قوله‪ُ} :‬ك ّ‬
‫ل َ‬
‫لكنهم يريدون أنه هو عين الموجودات‪ ،‬فهذا كفر وضلل‪ .‬ربما تمسك أصحابه بألفاظ متشابهة توجد في كلم بعض‬
‫المشايخ‪ ،‬كما تمسك النصارى بألفاظ متشابهة تروى عن المسيح‪ ،‬ويرجعون إلى وجد فاسد أو قياس فاسد‪ .‬فتدبر هذا‬
‫التقسيم فإنه بيان الصراط المستقيم‪.‬‬

‫ســلم ـ قدس ال روحه ‪:‬‬


‫لْ‬‫خا ِ‬
‫شْيــ ُ‬
‫ل َ‬
‫‪َ/‬وَقا َ‬

‫صـــل‬
‫َف ْ‬

‫المر والنهي‪ ،‬الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة‪ ،‬فل تجب الشريعة‬
‫على من ل يمكنه العلم كالمجنون والطفل‪ ،‬ول تجب على من يعجز كالعمى والعرج والمريض في الجهاد‪ ،‬وكما‬
‫ل تجب الطهارة بالماء‪ ،‬والصلة قائًما والصوم‪ ،‬وغير ذلك على من يعجز عنه‪.‬‬

‫سواء قيل‪ :‬يجوز تكليف ما ل يطاق أو لم يجز‪ ،‬فإنه ل خلف أن تكليف العاجز الذي ل قدرة له على الفعل بحال غير‬
‫طا لمناط‬
‫واقع في ‪ /‬الشريعة‪ ،‬بل قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم‪ ،‬والقدرة تخفيًفا عنه‪ ،‬وضب ً‬
‫التكليف‪ ،‬وإن كان تكليفه ممكًنا‪ ،‬كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم‪ ،‬وإن كان له فهم وتمييز‪ ،‬لكن ذاك لنه لم يتم‬
‫فهمه‪ ،‬ولن العقل يظهر في الناس شيًئا فشيًئا‪ ،‬وهم يختلفون فيه‪ ،‬فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قيدت بالبلوغ‪.‬‬

‫وكما ل يجب الحج إل على من ملك زاًدا وراحلة عند جمهور العلماء‪ ،‬مع إمكان المشي لما فيه من المشقة‪ ،‬وكما ل‬
‫يجب الصوم على المسافر مع إمكانه منه تخفيًفا عليه‪ ،‬وكما تسقط الواجبات بالمرض الذي يخاف معه زيادة المرض‬
‫وتأخر البرء‪ ،‬وإن كان فعلها ممكًنا‪.‬‬
‫ل في شريعة ما يشق‪ ،‬ويحرم ما يشق تحريمه‪ ،‬كالصار‬ ‫لكن هذه المواضع هي مما تختلف فيها الشرائع‪ ،‬فقد يوجب ا ّ‬
‫سيَنا َأْو‬
‫ن َن ِ‬‫خْذَنا ِإ ْ‬ ‫والغلل التي كانت على بني إسرائيل‪ ،‬وقد يخفف في شريعة أخرى‪ ،‬كما قال المؤمنون‪َ} :‬رّبَنا َ‬
‫ل ُتَؤا ِ‬
‫سَر َو َ‬
‫ل‬ ‫ل تعالى‪ُ} :‬يِريُد ا ُّ‬
‫ل ِبُكْم اْلُي ْ‬ ‫صًرا َكَما َحَمْلَتُه َعَلى اّلِذيَن ِمْن َقْبِلَنا{]البقرة‪ ،[286 :‬وكما قال ا ّ‬ ‫عَلْيَنا ِإ ْ‬
‫ل َ‬
‫حِم ْ‬
‫ل َت ْ‬
‫طْأَنا َرّبَنا َو َ‬
‫خَ‬ ‫َأ ْ‬
‫عَلْيُكْم ِفي الّدي ِ‬
‫ن‬ ‫ل َ‬ ‫جَع َ‬‫ج{ ]المائدة‪ ،[6 :‬وقال‪َ} :‬وَما َ‬ ‫حَر ٍ‬
‫ن َ‬
‫عَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ل َ‬
‫جَع َ‬ ‫سَر{ ]البقرة‪ ،[185 :‬وقال‪َ} :‬ما ُيِريُد ا ُّ‬
‫ل ِلَي ْ‬ ‫ُيِريُد ِبُكْم اْلُع ْ‬
‫ف َعْنُكْم{]النساء‪.[28 :‬‬ ‫خّف َ‬‫ن ُي َ‬ ‫ج{ ]الحج‪ ،[78 :‬وقال‪ُ} :‬يِريُد ا ُّ‬
‫ل َأ ْ‬ ‫حَر ٍ‬‫ن َ‬ ‫ِم ْ‬

‫‪/‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم لصحابه في قصة العرابي‪) :‬إنما بعثتم ميسرين‪ ،‬ولم تبعثوا معسرين(‪ ،‬وقال لمعاذ‬
‫وأبي موسى‪) :‬يسرا ول تعسرا(‪ ،‬وقال‪) :‬إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إل غلبه(‪ ،‬وقال‪) :‬ل تشددوا على‬
‫ل عليهم‪،‬فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات‪،‬‬‫ل عليكم‪ ،‬فإن أقواًما شددوا على أنفسهم‪ ،‬فشدد ا ّ‬
‫أنفسكم فيشدد ا ّ‬
‫ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم(‪ ،‬وقال‪) :‬ل رهبانية في السلم(‪،‬وقال‪) :‬لكني أصوم وأفطر‪ ،‬وأقوم وأنام‪،‬‬
‫ل يحب أن يؤخذ برخصه‪ ،‬كما يكره أن‬ ‫وأتزوج النساء‪ ،‬وآكل اللحم‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فليس مني(‪ ،‬وقال‪) :‬إن ا ّ‬
‫تؤتي معصيته(‪ ،‬وروى عنه أنه قال‪) :‬بعثت بالحنيفية السمحة(‪.‬‬

‫وأما كون النسان مريًدا لما أمر به‪ ،‬أو كارًها له‪ ،‬فهذا ل تلتفت إليه الشرائع‪ ،‬بل ول أمر عاقل‪ ،‬بل النسان مأمور‬
‫بمخالفة هواه‪.‬‬

‫ن ُنِريُد ُثّم‬‫شاُء ِلَم ْ‬‫جْلَنا َلُه ِفيَها َما َن َ‬


‫عّ‬‫جَلَة َ‬
‫ن ُيِريُد اْلَعا ِ‬ ‫والرادة‪ :‬هي الفارقة بين أهل الجنة وأهل النار‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬م ْ‬
‫ن َكا َ‬
‫ك َكاَن َسْعُيُهْم َمْشُكوًرا{ ]السراء‪:‬‬ ‫ن َفُأْوَلِئ َ‬
‫سْعَيَها َوُهَو ُمْؤِم ٌ‬
‫سَعى َلَها َ‬‫خَرَة َو َ‬‫لِ‬ ‫ن َأَراَد ا ْ‬ ‫حوًرا ‪َ .‬وَم ْ‬ ‫لَها َمْذُموًما َمْد ُ‬ ‫صَ‬ ‫جَهّنَم َي ْ‬‫جَعْلَنا َلُه َ‬ ‫َ‬
‫ض َوَل َفَساًدا{ ]القصص‪ ،[83 :‬وقال‬ ‫لْر ِ‬ ‫عُلّوا ِفي ا َْ‬
‫ن ُ‬
‫ل ُيِريُدو َ‬‫ن َ‬‫جَعُلَها ِلّلِذي َ‬ ‫خَرُة َن ْ‬
‫لِ‬‫ك الّداُر ا ْ‬ ‫‪ ،[19 ،18‬وقال تعالى‪ِ} :‬تْل َ‬
‫عو َ‬
‫ن‬ ‫ن َيْد ُ‬
‫طُرْد اّلِذي َ‬ ‫عَماَلُهْم ِفيَها{ الية ]هود‪ ،[15 :‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َت ْ‬ ‫ف ِإَلْيِهْم َأ ْ‬‫حَياَة الّدْنَيا َوِزيَنَتَها ُنَو ّ‬
‫ن ُيِريُد اْل َ‬‫ن َكا َ‬‫تعالى‪َ} :‬م ْ‬
‫ي ُيِريُدوَن َوْجَهُه{ ]النعام‪ ،[52 :‬ونظائره كثيرة‪.‬‬ ‫شّ‬ ‫َرّبُهْم ِباْلَغَداِة َواْلَع ِ‬

‫فإن هذه الصول ممهدة في الكتاب والسنة‪ ،‬وكلم العلماء والعارفين‪ ،‬وليس الغرض هنا تقريرها‪.‬‬

‫طا بالتمكن من العلم الذي أصله العقل‪ ،‬وبالقدرة على الفعل‬


‫وإنما الغرض شيء آخر‪ ،‬وهو أنه إذا كان التكليف مشرو ً‬
‫فنقول‪ :‬كل من هذين قد يزول بأسباب محظورة‪ ،‬وبأسباب غير محظورة‪ ،‬فإذا أزال عقله بشرب الخمر أو البنج‬
‫ونحوهما لم يزل عنه بذلك‪ ،‬أثم بما يتركه من الواجبات ويفعله من المحرمات‪ ،‬إذا كان السكر يقتضي ذلك‪ ،‬بخلف ما‬
‫إذا زال بسبب غير محرم‪ ،‬كالغماء لمرض‪ ،‬أو خوف‪ ،‬أو سكر بشرب غير محرم‪ ،‬مثل أن يجرع الخمر مكرًها‪،‬‬
‫فإن هذا ل إثم عليه‪.‬‬

‫وأما قضاء الصلة عليه عند أحمد‪ ،‬وعند من يقول‪ :‬يقضي صلة يوم وليلة‪ ،‬فذاك نظير وجوب قضائها على النائم‬
‫والناسي‪ ،‬ول إثم عليهما‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ليس في النوم تفريط‪ ،‬وإنما التفريط في اليقظة(‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫)من نام عن صلة أو نسيها‪ ،‬فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها ل كفارة لها إل ذلك(‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك قدرة العبد‪ ،‬فإنه لو فرط بعد وجوب الحج عليه‪ ،‬حتى ضيع ماله بقى الحج في ذمته‪ ،‬وكذلك في استحلل‬
‫ل ِإْثَم َعَلْيِه{]البقرة‪ .[173 :‬فالضرورة بسبب محظور ل‬
‫عاٍد َف َ‬
‫ل َ‬
‫غ َو َ‬
‫غْيَر َبا ٍ‬
‫طّر َ‬
‫ضُ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬فَم ْ‬
‫نا ْ‬ ‫المحرمات‪ ،‬قال ا ّ‬
‫تستباح بها المحرمات‪ ،‬بخلف الضرورة التي هي بسبب غير محظور‪.‬‬

‫وقد اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يترخص ترخص المسافر؟ ومذهب الشافعي‪ ،‬وأحمد أنه ل يترخص‪.‬‬

‫فالحوال التي ترد على العباد‪ ،‬وأهل المعرفة والزهاد‪ ،‬ونحوهم مما توجب زوال عقل أحدهم وعلمه‪ ،‬حتى تجعله‬
‫كالمجنون والموله والسكران والنائم‪ ،‬أو زوال قدرته حتى تجعله كالعاجز‪ ،‬أو تجعله كالمضطر الذي يصدر عنه‬
‫القول والفعل بغير إرادته واختياره‪ ،‬فإن زوال العقل والقدرة قد يوجب عجزه عن أداء واجبات‪ ،‬وقد يوجب وقوعه‬
‫في محرمات‪.‬‬

‫فهؤلء يقال فيهم‪ :‬إن كان زوال ذلك بسبب غير محرم‪ ،‬فل حرج عليهم فيما يتركونه من الواجبات‪ ،‬ويفعلونه من‬
‫ضا اتباعهم فيما هو خارج عن الشريعة من أقوالهم وأفعالهم‪ ،‬ول نذمهم على ذلك‪ ،‬بل قد‬
‫المحرمات‪ ،‬ول يجوز أي ً‬
‫يمدحون على ما وافقوا فيه الشريعة من ‪ /‬القوال والعمال‪ ،‬ويرفع عنهم اللوم فيما عذرهم فيه الشارع‪ ،‬كما يقال في‬
‫المجتهد المخطئ سواء‪ ،‬بل المجتهد المخطئ نوع مـن هذا الجنس‪ ،‬حيث سقط عنه اللوم؛ لعجزه عن العلم‪.‬‬

‫وإن كان زوال ذلك بسبب محرم‪ ،‬استحقوا الذم والعقاب على ما يتركونه من واجب ويفعلونه من محرم‪.‬‬

‫مثال الول‪ :‬من يسمع القرآن على الوجه المشروع‪ ،‬فهاج له وجد يحبه‪ ،‬أو مخافة أو رجاء‪ ،‬فضعف عن حمله حتى‬
‫حا عظيًما‪ ،‬أو اضطرب اضطراًبا كثيًرا‪ ،‬فتولد عن ذلك ترك صلة واجبة‪ ،‬أو تعدي‬ ‫مات‪ ،‬أو صعق‪ ،‬أو صاح صيا ً‬
‫على بعض الناس‪ ،‬فإن هذا معذور في ذلك‪ ،‬فإن هذا في هذه الحال بمنزلة عقلء المجانين المولهين‪ ،‬الذين حصل لهم‬
‫الجنون‪ ،‬مع أنهم من الصالحين وأهل المعرفة‪ ،‬إما لقوة الوارد الذي ورد عليهم‪ ،‬وإما لضعف قلوبهم عن حمله‪ ،‬وإما‬
‫لنحراف أمزجتهم وقوة الخلط‪ ،‬وإما لعارض من الجن‪ ،‬فإن هؤلء كما بلغنا عن المام أبي محمد المقدسي‪ ،‬حيث‬
‫ل‪ ،‬فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم‪ ،‬وأسقط ما فرض بما سلب‪.‬‬ ‫ل وأحوا ً‬‫ل عقو ً‬
‫سئل عنهم‪ ،‬فقال‪ :‬هؤلء قوم أعطاهم ا ّ‬

‫ولهذا كان هذا الصنف والذي قبله موجوًدا في التابعين ومن ‪ /‬بعدهم‪ ،‬ل سيما في عباد البصريين‪ ،‬فإن فيهم من مات‬
‫من سماع القرآن‪ ،‬كزرارة بن أوفى‪ ،‬وأبي جهير الضرير وغيرهما‪.‬‬

‫ضا من غلب عليه الذكر‬‫وأما الصحابة‪ ،‬فإن حالهم كان أكمل من أن يكون فيهم مجنون أو مصعوق‪ ،‬ومن هؤلء أي ً‬
‫ل‪ ،‬والتوحيد له والمحبة حتى غاب بالمذكور المشهود المحبوب المعبود عما سواه‪ ،‬كما يحصل لبعض العاشقين في‬ ‫ّ‬
‫ل‪ .‬ومنهم من غلب‬‫غيبته بمعشوقه عما سواه‪ ،‬فيقول أحدهم في هذه الحال‪ .‬أنا الحق‪ ،‬أو سبحاني‪ ،‬أو ما في الجبة إل ا ّ‬
‫عليه حال الرجاء والرحمة‪ ،‬حتى قال‪ :‬أبسط سجادتي على جهنم‪ .‬فمن قال هذا في حال زوال عقله بحيث يكون‬
‫عا‪ :‬فل إثم عليه‪.‬‬
‫كالسكران أو الموله‪ ،‬وكان السبب الذي أوجب ذلك غير منهي عنه شر ً‬

‫ومثال الثاني‪ :‬ما قد يحصل عند سماع المكاء والتصدية لكثير من أهل السماع‪ ،‬فإنه قد ينشد أشعاًرا فيها ما يخالف‬
‫طا‪ ،‬وزوال عقل‪ ،‬حتى يقتل بعضهم‬ ‫الشرع بأصوات مخالفة للشرع‪ ،‬ويكون النسان فيه استعداد فيوجب ذلك اختل ً‬
‫ضا من ترك واجبات الشريعة‪ ،‬ومن العتداء على المؤمنين‬ ‫ضا‪ ،‬إما ظاهًرا وإما باطًنا بالهمة والقلوب‪ ،‬ويوجب أي ً‬
‫بع ً‬
‫ل به عليم‪.‬‬
‫في الدين والدنيا ما ا ّ‬

‫ل قوية‬
‫‪/‬وكذلك قد يسلك أحدهم عبادات غير شرعية في العتقادات والعمال فتورثه تلك العبادات والعمال أحوا ً‬
‫قاهرة‪ ،‬يترك بها الواجبات‪ ،‬ويفعل بها المحرمات أعظم مما يفعله الملك الجبار‪ ،‬إذا سكر بشرب الخمر بالنفوس‬
‫والموال‪.‬‬

‫وإذا خوطب أحدهم في حال صحوه‪ ،‬وعقله قال‪ :‬كنت مغلوًبا‪ ،‬وورد علي وارد فعل بي هذا‪ ،‬والحكم للوارد‪ ،‬وهذه‬
‫حال كثير من خفراء العدو‪ ،‬وكثير ممن يعين الكفرة والظلمة‪ ،‬ويعتدي على المسلمين والمؤمنين من أهل الحوال‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬إنه مغلوب في ذلك‪ ،‬وأنه ورد عليه وارد أوجب ذلك‪ ،‬وأنه خوطب بذلك الفعل‪.‬‬

‫ل ونهيه‪ ،‬وزوال قدرتك حتى صرت مضطًرا إلى تلك الفعال‪ ،‬وإن‬ ‫فيقال‪ :‬أما زوال عقلك حتى صرت ل تفهم أمر ا ّ‬
‫ل‪ ،‬حتى صرت في حال المجانين والسكارى‪ ،‬فأنت بمنزلة شارب‬ ‫كنت صادًقا في ذلك‪ ،‬فسببه تفريطك وعدوانك أو ً‬
‫الخمر الذي سكر منها‪ ،‬والمتعرض للعشق حتى يعشق فيفعل فيه العشق الفاعيل؛ إذ ل فرق بين سكر الصوات‬
‫والصور والشراب‪ ،‬فإن هذا سكر الجسام‪ ،‬وهذا سكر النفوس‪ ،‬وهذا سكر الرواح‪ ،‬فإذا كان السبب محظوًرا لم يكن‬
‫السكران معذوًرا في دين السلم‪.‬‬

‫‪/‬ولهذا إنما تقع هذه الحوال ممن فيه نصرانية يميل بسببها إلى السكر‪ ،‬كما يفعله النصارى في الشراب والصوات‬
‫والصور؛ ولهذا كان هؤلء في عالم الضلل‪.‬‬

‫وأما قولك‪ :‬إنك خوطبت بذلك‪ ،‬وأمرت فمن أي الجهتين؟ أمن جهة الكلمات الدينية؟ أم من جهة الكلمات الكونية؟‬

‫ث ِفي اُْلّمّييَن{ ]الجمعة‪ ،[2 :‬وقوله‪:‬‬


‫ن{ ]النحل‪ [90 :‬وقوله‪ُ} :‬هَو اّلِذي َبَع َ‬
‫سا ِ‬
‫حَ‬‫لْ‬
‫ل َوا ِ‬
‫ل َيْأُمُر ِباْلَعْد ِ‬ ‫فالولى مثل قوله‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ت{ ]الحديد‪.[25 :‬‬ ‫سَلَنا ِباْلَبّيَنا ِ‬
‫سْلَنا ُر ُ‬
‫}َلَقْد َأْر َ‬
‫عَباًدا َلَنا{ ]السراء‪ ،[5 :‬وقوله‪َ} :‬أّنا َأْر َ‬
‫سْلَنا‬ ‫والثانية مثل قوله‪َ} :‬أَمْرَنا ُمْتَرِفيَها{ ]السراء‪ ،[16 :‬وقوله‪َ} :‬بَعْثَنا َ‬
‫عَلْيُكمْ ِ‬
‫طيَن{ ]مريم‪ [83 :‬فإن ذكرت أنه من الجهة الولى‪ ،‬فباطل‪ ،‬بخلف الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫شَيا ِ‬
‫ال ّ‬

‫وإن أقررت أنه من الثانية فصحيح‪ ،‬لكن هذا حال الكفار والمنافقين مثل إبليس وفرعون ونمرود‪ ،‬وسائر من أطاع‬
‫الوامر الكونية‪ ،‬وتبع الرادة القدرية‪ ،‬وأعرض عن الوامر الشرعية‪ ،‬ولم يقف عند الرادة الدينية‪.‬‬

‫فتدبر هذا الصل فإنه عظيم نافع جدًا‪ ،‬فتنكشف به الحوال المخالفة للشرع‪ ،‬وانقسام أهلها إلى معذور وموزور‪،‬‬
‫كانقسامها إلى ‪ /‬مسطور على صاحبه‪ ،‬ومغفور‪ ،‬بمنزلة الحوال الصادرة عن غير أهل العبادات والزهادات من‬
‫العقل والصحو‪ ،‬ومن الغماء والسكر والجنون ومن الضطرار والختيار‪ ،‬فإن أحوال الملوك والمراء وأحوال‬
‫الهداة والعلماء‪ ،‬وأحوال المشايخ والفقراء‪ ،‬تشترك في هذه القاعدة الشريفة‪ ،‬وتحكم الشريعة فيها بالفرقان‪.‬‬

‫وإذا ضم إلى ذلك أن ما يصدر عن ذوي الحوال من كشف علمي أو تأثير قدري ليس بمستلزم لولية ال‪ ،‬بل ول‬
‫للصلح‪ ،‬بل ول لليمان؛ إذ قد يكون هذا الجنس في كافر‪ ،‬ومنافق‪ ،‬وفاسق‪ ،‬وعاصي‪ ،‬وإنما أولياء ال الذين ل خوف‬
‫عليهم ول هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون‪.‬‬

‫ل وبين الحوال‪ ،‬كما فرق بين خلفة النبوة وبين جنس الملك‪ ،‬وفرق بين العلم الذي ورثته النبياء‪،‬‬ ‫ففرق بين ولية ا ّ‬
‫ل له حال تأثير وكشف‪ ،‬وقد يكون‬ ‫وبين جنس الكلم‪ ،‬فبين هذين النوعين خصوص وعموم‪ ،‬فقد يكون الرجل وليًا ّ‬
‫ل‪ ،‬كما قد يكون خليفة نبي مطاعًا‪،‬‬ ‫وليًا ليس له تلك الحال بكمالها‪ ،‬وقد يكون له شيء من هذه الحوال‪ ،‬وليس وليًا ّ‬
‫وقد يكون خليفة نبي مستضعفًا‪ ،‬وقد يكون جبارًا مطاعًا ليس من النبوة في شيء‪ ،‬وقد يكون عالمًا ليس متكلما بما‬
‫يخالف كلم النبياء‪ ،‬وقد يكون عالمًا متكلمًا بكلم النبياء‪.‬‬

‫َفصــل‬

‫واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات في هذا القدر وغيره‪ ،‬إنما وقع في المة في أواخر خلفة الخلفاء‬
‫الراشدين‪ ،‬كما أخبر به النبي صلى ال عليه وسلم حيث قال‪) :‬من يعش منكم بعدي فسيري اختلًفا كثيًرا‪ ،‬فعليكم‬
‫بسنتي‪ ،‬وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي(‪.‬‬

‫ومعلوم أنه إذا استقام ولة المور الذين يحكمون في النفوس والموال استقام عامة الناس‪ ،‬كما قال أبو بكر الصديق‬
‫فيمـا رواه البخـاري في صحيحه للمرأة الحمسية لما سألته فقالت‪ :‬ما بقاؤنا على هذا المر الصالح ؟ قال‪ :‬ما‬
‫استقامت لكم أئمتكم‪ ،‬وفي الثر‪ :‬صنفان إذا صلحوا صلح الناس‪ :‬العلماء والمراء أهل الكتاب وأهل الحديد‪ ،‬كما دل‬
‫عليه قوله‪َ} :‬لَقْد َأْرَسْلَنا{ الية ]الحديد‪.[25 :‬‬

‫طيُعوا الّرُسوَل َوُأْوِلي اَْلْمِر ِمْنُكْم{ ]النساء‪.[59 :‬‬


‫ل َوَأ ِ‬ ‫وهم أولو المر‪ ،‬في قوله‪َ} :‬أ ِ‬
‫طيُعوا ا َّ‬

‫عا‪ ،‬وعن جماعة من الصحابة )إن أخوف ما أخاف عليكم‪:‬‬ ‫‪/‬وكذلك من جهتهم يقع الفساد‪ ،‬كما جاء في الحديث مرفو ً‬
‫زلة عالم‪ ،‬وجدال منافق بالقرآن‪ ،‬وأئمة مضلون(‪ .‬فالئمة المضلون هم المراء‪ ،‬والعالم والمجادل هم العلماء‪ ،‬لكن‬
‫أحدهما صحيح العتقاد يزل‪ ،‬وهو العالم‪ ،‬كما يقع من أئمة الفقهاء أهل السنة والجماعة‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وإنما‬
‫والثاني‪ ،‬كالمتفلسفة والمتكلمين الذين يجادلون بشبهات القرآن مع أنهم في الحقيقة منسلخون من آيات ا ّ‬
‫احتجاجهم به دفًعا للخصم‪ ،‬ل اهتداء به واعتماًدا عليه؛ ولهذا قال‪( :‬جدال منافق بالقرآن) فإن السنة والجماع تدفع‬
‫شبهته‪.‬‬

‫والدين القائم بالقلب من اليمان علًما وحالً هو الصل‪ ،‬والعمال الظاهرة هي الفروع‪ ،‬وهي كمال اليمان‪.‬‬

‫ل بمكة أصوله من التوحيد والمثال التي هي المقاييس‬


‫فالدين أول ما يبنى من أصوله ويكمل بفروعه‪ ،‬كما أنزل ا ّ‬
‫العقلية‪ ،‬والقصص‪ ،‬والوعد‪ ،‬والوعيد‪ ،‬ثم أنزل بالمدينة ـ لما صار له قوة ـ فروعه الظاهرة من الجمعة والجماعة‪،‬‬
‫والذان والقامة‪ ،‬والجهاد‪ ،‬والصيام‪ ،‬وتحريم الخمر والزنا‪ ،‬والميسر وغير ذلك من واجباته ومحرماته‪.‬‬
‫‪/‬فأصوله تمد فروعه وتثبتها‪ ،‬وفروعه تكمل أصوله وتحفظها‪ ،‬فإذا وقع فيه نقص ظاهر فإنما يقع ابتداء من جهة‬
‫فروعه؛ ولهذا قال صلى ال عليه وسلم‪) :‬أول ما تفقدون من دينكم المانة‪ ،‬وآخر ما تفقدون من دينكم الصلة(‪،‬‬
‫وروى عنه أنه قال‪) :‬أول ما يرفع الحكم بالمانة( ‪.‬والحكم هو عمل المراء‪ ،‬وولة المور‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل‬
‫س َأْن َتْحُكُموا ِباْلَعْدِل{ ]النساء‪ ،[58 :‬وأما الصلة فهي أول فرض‪،‬‬
‫ن الّنا ِ‬
‫حَكْمُتْم َبْي َ‬
‫ت ِإَلى َأْهِلَها َوِإَذا َ‬
‫لَماَنا ِ‬
‫ن ُتَؤّدوا ا َْ‬
‫َيْأُمُرُكْم َأ ْ‬
‫وهي من أصول الدين واليمان‪ ،‬مقرونة بالشهادتين‪ ،‬فل تذهب إل في الخر‪ ،‬كما قال صلى ال عليه وسلم‪) :‬بدأ‬
‫السلم غريًبا‪ ،‬وسيعود غريًبا كما بدأ‪ ،‬فطوبي للغرباء( فأخبر أن عوده كبدئه‪.‬‬

‫ضا في أهل العلم والدين‪،‬‬


‫فلما ذهبت دولة الخلفاء الراشدين‪ ،‬وصار ملًكا ظهر النقص في المراء‪ ،‬فلبد أن يظهر أي ً‬
‫فحدث في آخر خلفة علي بدعتا الخوارج والرافضة‪ ،‬إذ هي متعلقة بالمامة والخلفة‪ ،‬وتوابع ذلك من العمال‪،‬‬
‫والحكام الشرعية‪.‬‬

‫ل عليه ـ وجاءت إمارة يزيد‪ ،‬وجرت فيها فتنة قتل‬ ‫وكان ملك معاوية ملًكا ورحمة‪ ،‬فلما ذهب معاوية ـ رحمة ا ّ‬
‫ل بن الزبير ‪.‬‬
‫الحسين بالعراق‪ ،‬وفتنة أهل الحرة بالمدينة‪ ،‬وحصروا مكة‪ ،‬لما قام عبد ا ّ‬

‫‪/‬ثم مات يزيد وتفرقت المة‪ ،‬ابن الزبير بالحجاز‪،‬وبنو الحكم بالشام‪،‬ووثب المختار بن أبي عبيد وغيره بالعراق‬
‫ل‪ ،‬وأبو‬
‫ل بن عمر‪ ،‬وجابر بن عبد ا ّ‬
‫ل بن عباس‪ ،‬وعبد ا ّ‬‫‪.‬وذلك في أواخر عصر الصحابة‪ ،‬وقد بقى فيهم مثل عبد ا ّ‬
‫سعيد الخدري‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬حدثت بدعة القدرية والمرجئة‪ ،‬فردها بقايا الصحابة كابن عباس‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وجابر‪،‬‬
‫ل عنهم ـ مع ما كانوا يردونه هم‪ ،‬وغيرهم من بدعة الخوارج والروافض‪.‬‬ ‫وواثلة بن السقع وغيرهم ـ رضي ا ّ‬

‫وعامة ما كانت القدرية إذ ذاك يتكلمون فيه‪ ،‬أعمال العباد‪ ،‬كما يتكلم فيها المرجئة‪ ،‬فصار كلمهم في الطاعة‬
‫والمعصية‪ ،‬والمؤمن والفاسق ونحو ذلك من مسائل السماء والحكام‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬ولم يتكلموا بعد في ربهم ول‬
‫في صفاته إل في أواخر عصر صغار التابعين‪ ،‬من حين أواخر الدولة الموية حين شرع القرن الثالث ـ تابعوا‬
‫التابعين ـ ينقرض أكثرهم ـ فإن العتبار في القرون الثلثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه‪ ،‬وجمهور الصحابة‬
‫انقرضوا بانقراض خلفة الخلفاء الربعة‪ ،‬حتى إنه لم يكن بقى من أهل بدر‪ ،‬إل نفر قليل‪ ،‬وجمهور التابعين‬
‫بإحسان‪ ،‬انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك‪ ،‬وجمهـور تابعي التابعين‬
‫انقرضوا في أواخر الدولة الموية‪ ،‬وأوائل الدولة العباسية ـ وصار ‪ /‬في ولة المور كثير من العاجم‪ ،‬وخرج كثير‬
‫من المر عن ولية العرب وعربت بعض الكتب العجمية من كتب الفرس والهند والروم‪ ،‬وظهر مـا قاله النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم‪) :‬ثم يفشوا الكذب حـتى يشهد الرجل‪ ،‬ول يستشهد‪ ،‬ويحلف‪ ،‬ول يستحلف(‪ ،‬حدث ثلثة أشياء‪:‬‬

‫الرأي و الكلم والتصوف ‪.‬‬

‫وحدث التجهم‪ :‬وهو نفي الصفات‪ .‬وبإزائه التمثيل‪.‬‬

‫فكان جمهور الرأي من الكوفة‪ ،‬إذ هو غالب على أهلها‪ ،‬مع ما كان فيهم من التشيع الفاحش‪ ،‬وكثرة الكذب في‬
‫الرواية‪ ،‬مع أن في خيار أهلها من العلم‪ ،‬والصدق‪ ،‬والسنة والفقه‪ ،‬والعبادة أمر عظيم‪ ،‬لكن الغرض أن فيها نشأ كثرة‬
‫الكذب في الرواية‪ .‬وكثرة الراء في الفقه‪ ،‬والتشيع في الصول‪ ،‬وكان جمهور الكلم والتصوف في البصرة‪.‬‬

‫فإنه بعد موت الحسن‪ ،‬وابن سيرين بقليل‪ ،‬ظهر عمرو بن عبيد‪ ،‬وواصل بن عطاء‪ ،‬ومن اتبعهما من أهل الكلم‬
‫والعتزال‪.‬‬

‫وظهر أحمد بن عطاء الهجيمي الذي صحب عبد الواحد بن زيد‪ / ،‬وعبد الواحد صحب الحسن البصري‪ ،‬ومن اتبعه‬
‫من المتصوفة‪ ،‬وبنى دويرة للصوفية‪ ،‬هي أول ما بني في السلم‪ ،‬وكان عبد الرحمن بن مهدي وغيره يسمونهم‬
‫الفقرية‪ ،‬وكانوا يجتمعون في دويرة لهم ‪.‬‬

‫وصار لهؤلء من الكلم المحدث‪ ،‬طريق يتدينون به‪ ،‬مع تمسكهم بغالب الدين‪.‬‬
‫ولهؤلء من التعبد المحدث‪ ،‬طريق يتمسكون به مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع‪ ،‬وصار لهؤلء حال من السماع‪،‬‬
‫والصوت حتى إن أحدهم يموت أو يغشى عليه‪.‬‬

‫ولهؤلء حال في الكلم والحروف‪ ،‬حتى خرجوا به إلى تفكير أوقعهم في تحير‪.‬‬

‫وهؤلء أصل أمرهم الكلم ‪.‬‬

‫وهؤلء أصل أمرهم الرادة ‪.‬‬

‫وهؤلء يقصدون بالكلم التوحيد‪ ،‬ويسمون نفوسهم الموحدين‪.‬‬

‫وهؤلء يقصدون بالرادة‪ ،‬التوحيد ويسمون نفوسهم أهل ‪ /‬التوحيد‪ ،‬والتجريد‪.‬‬

‫وقد كتبت قبل هذا في القواعد‪ ،‬ما في طريقي أهل الكلم‪ ،‬والنظر وأهل الرادة والعمل من النحراف‪ ،‬إذا لم يقترن‬
‫ل ورسوله‪ ،‬واستصحاب‬ ‫بمتابعة الرسول‪ .‬كما بينت في قاعدة كبيرة أن أصل العلم‪ ،‬والهدى‪ ،‬والدين هو‪ :‬اليمان با ّ‬
‫ذلك في جميع القوال والحوال‪.‬‬

‫وكان أهل المدينة أقرب من هؤلء‪ ،‬وهؤلء في القول والعمل‪ ،‬إذ لم ينحرفوا انحراف الطائفتين من الكوفيين‬
‫عا‪ ،‬وإن كان في بعضهم نوع انحراف لكن هم أقرب‪.‬‬ ‫والبصريين‪ ،‬هوى ورواية‪ ،‬ورأيا‪ ،‬وكلًما‪ ،‬وسما ً‬

‫وأما الشاميون‪ ،‬فكان غالبهم مجاهدين‪ ،‬وأهل أعمال قلبية‪ ،‬أقرب إلى الحال المشروع‪ ،‬من صوفية البصريين إذ ذاك‪.‬‬

‫ولهذا تجد كتب الكلم‪ ،‬والتصوف‪ ،‬إنما خرجت في الصل من البصرة‪ ،‬فمتكلمة المعتزلة أئمتهم بصريون‪ ،‬مثل أبي‬
‫ل‪ ، ...‬وأبي الحسين ‪ /‬البصري‪ ،‬وكذلك متكلمة‬
‫الهذيل العلف‪ ،‬وأبي علي الجبائي‪ ،‬وابنه أبي هاشم‪ ،‬وأبي عبد ا ّ‬
‫ل بن سعيد بن كلب‪ ،‬وأبي الحسن الشعري وصاحبه أبي الحسن الباهلي‪ ،‬والقاضي أبي‬ ‫الكلبية والشعرية‪ ،‬كعبد ا ّ‬
‫بكر بن الباقلني وغيرهم‪.‬‬

‫وكذلك كتب المتصوفة ومن خلط التصوف بالحديث والكلم‪ ،‬ككتب الحارث بن أسد المحاسبي‪ ،‬وأبي الحسن بن‬
‫سالم‪ ،‬وأبي سعيد العرابي وأبي طالب المكي‪.‬‬

‫وقد شرك هؤلء من البغداديين‪ ،‬والخراسانيين‪ ،‬والشاميين خلق‪.‬‬

‫لكن الغرض أن الصول من ثم ‪.‬‬

‫كما أن علم النبوة‪ ،‬من اليمان والقرآن‪ ،‬وما يتبع ذلك من الفقه والحديث وأعمال القلوب‪ ،‬إنما خرجت من المصار‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهي الحرمان والعراقان والشام‪ :‬المدينة ومكة والكوفة‬
‫التي يسكنها جمهور أصحاب رسول ا ّ‬
‫والبصرة والشام‪ ،‬وسائر المصار تبع‪.‬‬

‫فالقراء السبعة من هذه المصار‪ ،‬وكذلك أئمة أهل الحديث وأثبتهم أهل المدينة‪ ،‬وأهل البصرة‪ ،‬كالزهري ومالك‪،‬‬
‫وكقتادة وشعبة‪ ،‬ويحيى بن سعيد‪ ،‬وعبد الرحمن بن مهدي‪.‬‬

‫‪/‬وأهل الكوفة فيهم الصادق‪ ،‬والكاذب‪.‬‬

‫وأهل الشام لم يكن فيهم كثير كاذب‪ ،‬ول أئمة كبار في القراءة والحديث‪ .‬وكذلك أئمة الفقهاء‪ ،‬فمالك عالم أهل المدينة‪،‬‬
‫والثوري وأبو حنيفة وغيرهما من أهل الكوفة‪ .‬وابن جريج وغيره من أهل مكة‪ ،‬وحماد بن سلمة‪ ،‬وحماد بن زيد من‬
‫أهل البصرة‪ ،‬والوزاعي وطبقته بالشام‪ ،‬وقد قيل إن مالًكا إنما احتذى موطأه على كتاب حماد بن سلمة‪ ،‬وقيل‪ :‬إن‬
‫كتاب ابن جريج قبل ذلك‪.‬‬
‫ثم الشافعي‪ ،‬وإن كان أصله مكًيا‪ ،‬فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بمصره‪.‬‬

‫وكذلك المام أحمد‪ ،‬وإن كان أجداده بصريين‪ ،‬فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بالبصريين‪ ،‬ول غيرهم‪.‬‬
‫ل بن المبارك‪ ،‬وإسحاق بن إبراهيم‪ ،‬ومحمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬وغيرهم من الخراسانيين‪ ،‬وكذلك‬‫كما أن عبد ا ّ‬
‫أئمة الزهاد والعباد من هذه المصار‪ ،‬كما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في ]صفوة الصفوة[‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأما ما جاء عمن بعدهم‪ ،‬فل‬ ‫فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وإن كان صاحبه معذوًرا‪ ،‬بل مأجوًرا‪ ،‬لجتهاد أو تقليد‪.‬‬
‫ينبغي أن يجعل ‪ /‬أص ً‬

‫فمن بنى الكلم في العلم‪ :‬الصول‪ ،‬والفروع على الكتاب والسنة‪ ،‬والثار المأثورة عن السابقين‪ ،‬فقد أصاب طريق‬
‫النبوة‪ ،‬وكذلك من بنى الرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول العمال وفروعها من الحوال القلبية‪،‬‬
‫والعمال البدنية على اليمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأصحابه فقد أصاب‬
‫طريق النبوة‪ ،‬وهذه طريق أئمة الهدى‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬


‫تجد المام أحمد إذا ذكر أصول السنة‪ ،‬قال‪ :‬هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول ا ّ‬

‫ب التفسير المأثور عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين‪ .‬وكتب الحديث والثار المأثورة عن‬ ‫ب ُكُت َ‬
‫وَكَت َ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين‪ ،‬وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه‪ ،‬حتى قال في رسالته‬
‫ل صلى‬‫ل‪ ،‬أو في حديث عن رسول ا ّ‬‫إلى خليفة وقته المتوكل‪ :‬ل أحب الكلم في شيء من ذلك إل ما كان في كتاب ا ّ‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬أو الصحابة أو التابعين‪ ،‬فأما غير ذلك فالكلم فيه غير محمود‪.‬‬

‫ل عليهم من‬
‫‪/‬وكذلك في الزهد والرقاق والحوال‪ ،‬فإنه اعتمد في كتاب ]الزهد[ على المأثور عن النبياء‪ ،‬صلوات ا ّ‬
‫آدم إلى محمد‪ ،‬ثم على طريق الصحابة والتابعين‪ ،‬ولم يذكر من بعدهم‪ ،‬وكذلك وصفه لخذ العلم أن يكتب ما جاء عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم عن الصحابة‪ ،‬ثم عن التابعين‪ .‬ـ وفي رواية أخرى ـ ثم أنت في التابعين مخير‪.‬‬

‫وله كلم في الكلم الكلمي‪ .‬والرأي الفقهي وفي الكتب الصوفية‪ ،‬والسماع الصوفي ليس هذا موضعه‪ .‬يحتاج‬
‫تحريره إلى تفصيل‪ ،‬وتبيين كيفية استعماله في حال دون حال‪.‬‬

‫فإنه ينبني على الصل‪ ،‬الذي قدمناه من أنه قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة‪ ،‬أو غير مغفورة‪ ،‬وقد يتعذر أو‬
‫يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة‪ ،‬إل بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علًما‬
‫ل‪ .‬فإذا لم يحصل النور الصافي‪ ،‬بأن لم يوجد إل النور الذي ليس بصاف‪ .‬وإل بقى النسان في الظلمة‪ ،‬فل‬‫وعم ً‬
‫ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة‪ .‬إل إذا حصل نور ل ظلمة فيه‪ ،‬وإل فكم ممن عدل عن ذلك يخرج‬
‫عن النور بالكلية‪ ،‬إذا خرج غيره عن ذلك؛ لما رآه في طرق الناس من الظلمة‪.‬‬

‫‪/‬وإنما قررت هذه القاعدة؛ ليحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه‪ ،‬ويعرف أن العدول عن كمال خلفة النبوة‬
‫ل‪ ،‬وكل‬ ‫ل‪ ،‬وتارة بعدوان بفعل السيئات علًما وعم ً‬
‫عا‪ ،‬تارة يكون لتقصير بترك الحسنات علًما وعم ً‬
‫المأمور به شر ً‬
‫من المرين قد يكون عن غلبة‪ ،‬وقد يكون مع قدرة ‪.‬‬

‫فالول‪ ،‬قد يكون؛ لعجز وقصور‪ ،‬وقد يكون مع قدرة وإمكان‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬قد يكون مع حاجة وضرورة‪ ،‬وقد يكون مع غنى وسعة‪ ،‬وكل واحد من العاجز عن كمال الحسنات‪،‬‬
‫ل‬
‫سا ِإ ّ‬
‫ل َنْف ً‬
‫ف ا ُّ‬‫طْعُتْم{ ]التغابن‪ ،[16 :‬وقال‪} :‬لَ ُيَكّل ُ‬ ‫سَت َ‬ ‫ل يقول‪َ} :‬فاّتُقوا ا َّ‬
‫ل َما ا ْ‬ ‫والمضطر إلى بعض السيئات معذور‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫حا ُ‬
‫ب‬ ‫صَ‬‫ك َأ ْ‬ ‫سَعَها ُأْوَلِئ َ‬
‫ل ُو ْ‬
‫سا ِإ ّ‬
‫ف َنْف ً‬
‫ل ُنَكّل ُ‬
‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫سَعَها{ ]البقرة‪ [286 :‬ـ في البقرة والطلق ـ وقال‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َو َ‬ ‫ُو ْ‬
‫اْلَجّنِة ُهْم ِفيَها َخاِلُدوَن{ ]العراف‪ ،[42 :‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم(‪،‬‬
‫ل ِلَيْجَعَل َعَلْيُكْم ِمْن َحَرٍج{ ]المائدة‪،[6 :‬‬ ‫ج{ ]الحج‪ ،[78 :‬وقال‪َ} :‬ما ُيِريُد ا ُّ‬ ‫حَر ٍ‬
‫ن َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫عَلْيُكْم ِفي الّدي ِ‬ ‫ل َ‬ ‫جَع َ‬‫وقال سبحانه‪َ} :‬وَما َ‬
‫ل ِإْثَم َعَلْيِه{ ]البقرة‪:‬‬ ‫عاٍد َف َ‬
‫ل َ‬ ‫غ َو َ‬
‫غْيَر َبا ٍ‬
‫طّر َ‬ ‫ضُ‬ ‫نا ْ‬ ‫سَر{ ]البقرة‪ ،[185 :‬وقال‪} :‬فََم ْ‬ ‫ل ُيِريُد ِبُكْم اْلُع ْ‬
‫سَر َو َ‬ ‫وقال‪ُ} :‬يِريُد ا ُّ‬
‫ل ِبُكْم اْلُي ْ‬
‫طْأُتْم ِبِه{ ]الحزاب‪.[5 :‬‬ ‫خَ‬ ‫ح ِفيَما َأ ْ‬‫جَنا ٌ‬‫عَلْيُكْم ُ‬
‫س َ‬ ‫‪ ،[173‬وقال‪َ} :‬وَلْي َ‬
‫ل‪ ،‬سواء كانت واجبة أو مستحبة‪ ،‬وتعرف السيئة في‬
‫‪/‬وهذا أصل عظيم وهو‪ :‬أن تعرف الحسنة في نفسها علًما وعم ً‬
‫ل‪ ،‬محظورة كانت‪ ،‬أو غير محظورة ـ إن سميت غير المحظورة سيئة ـ وإن الدين تحصيل‬ ‫ل وعم ً‬
‫نفسها علًما وقو ً‬
‫الحسنات والمصالح‪ ،‬وتعطيل السيئات والمفاسد‪.‬‬

‫وإنه كثيًرا ما يجتمع في الفعل الواحد‪ ،‬أو في الشخص الواحد المران‪ ،‬فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه‬
‫أحدهما‪ ،‬فل يغفل عما فيه من النوع الخر‪ ،‬كما يتوجه المدح والمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما‪ ،‬فل يغفل عما‬
‫فيه من النوع الخر‪ ،‬وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية‪ ،‬لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به‬
‫غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية‪.‬‬

‫ل له الكتاب والميزان‪.‬‬
‫فهذا طريق الموازنة والمعادلة‪ ،‬ومن سلكه كان قائًما بالقسط الذي أنزل ا ّ‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق الرأي والكلم والتصوف‪ ،‬وغير ذلك‪ :‬كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب ‪/‬‬
‫والسنة والثار؛ إذ العهد قريب‪ ،‬وأنوار الثار النبوية بعد فيها ظهور‪ ،‬ولها برهان عظيم‪ ،‬وإن كان عند بعض الناس‬
‫قد اختلط نورها بظلمة غيرها‪.‬‬

‫فأما المتأخرون‪ ،‬فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون‪ ،‬مثل من صنف في الكلم من المتأخرين‪ ،‬فلم يذكر إل‬
‫ل‪ ،‬أو خرج به المر إلى نوع‬‫الصول المبتدعة وأعرض عن الكتاب والسنة‪ ،‬وجعلهما إما فرعين‪ ،‬أو آمن بهما مجم ً‬
‫من الزندقة‪ ،‬ومتقدمو المتكلمين خيرمن متأخريهم‪.‬‬

‫وكذلك من صنف في الرأي فلم يذكر إل رأي متبوعه وأصحابه‪ ،‬وأعرض عن الكتاب والسنة‪ ،‬ووزن ماجاء به‬
‫الكتاب والسنة علـى رأي متبوعـه‪ ،‬ككثير من أتبـاع أبي حنيفة‪ ،‬ومالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫وكذلك من صنف في التصوف والزهد‪ ،‬جعل الصل ما روى عن متأخري الزهاد وأعرض عن طريق الصحابة‬
‫والتابعين‪ ،‬كما فعل صاحب الرسالة أبوالقاسم القشيري‪ ،‬وأبو بكر محمد بن إسحاق الكلباذي‪ ،‬وابن خميس الموصلي‬
‫في ]مناقب البرار[‪ ،‬وأبو عبد الرحمن السلمي في ]تاريخ الصوفية[‪ ،‬لكن أبوعبد الرحمن صنف أيضا ]سير السلف[‬
‫من الولياء والصالحين‪ .‬وسير الصالحين من السلف‪ ،‬كما صنف في سير الصالحين من الخلف ونحوهم‪ ،‬من ذكرهم‬
‫لخبار أهل ‪ /‬الزهد والحوال‪ ،‬من بعد القرون الثلثة‪ ،‬من عند إبراهيم بن أدهم‪ ،‬والفضيل بن عياض‪ ،‬وأبي سليمان‬
‫الداراني‪ ،‬ومعروف الكرخي‪ ،‬ومن بعدهم‪ ،‬وإعراضهم عن حال الصحابة‪ ،‬والتابعين الذين نطق الكتاب والسنة‬
‫بمدحهم‪ ،‬والثناء عليهم‪ ،‬والرضوان عنهم‪.‬‬

‫وكان أحسن من هذا أن يفعلوا‪ ،‬كما فعله أبو نعيم الصبهاني في ]الحلية[ من ذكره للمتقدمين والمتأخرين‪ .‬وكذلك أبو‬
‫الفرج بن الجوزي في ]صفوة الصفوة[ وكذلك أبو القاسم التيمي في ]سير السلف[‪ ،...‬وكذلك ابن أسد بن موسى‪ ،‬إن‬
‫ل بن المبارك‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬وهناد بن السرى وغيرهم في كتبهم في الزهد‪ ،‬فهذا هذا‪.‬‬ ‫لم يصعدوا إلى طريقة عبد ا ّ‬
‫ل أعلم وأحكم‪.‬‬
‫وا ّ‬

‫فإن معرفة أصول الشياء ومبادئها‪ .‬ومعرفة الدين وأصله‪ ،‬وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفًعا‪ .‬إذ المرء ما لم‬
‫يحط علًما بحقائق الشياء التي يحتاج إليها‪ ،‬يبقى في قلبه حسكة‪.‬‬

‫وكان للزهاد‪ ،‬عدة أسماء‪ :‬يسمون بالشام الجوعية‪ ،‬ويسمون بالبصرة الفقرية‪ ،‬والفكرية‪ ،‬ويسمون بخراسان المغاربة‪،‬‬
‫ضا الصوفية والفقراء‪.‬‬
‫ويسمون أي ً‬

‫والنسبة في الصوفية‪ ،‬إلى الصوف؛ لنه غالب لباس الزهاد‪ ،‬وقد قيل هو نسبة إلى صوفة بن مراد بن أد بن‬ ‫‪/‬‬
‫طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون حول البيت‪ .‬وأما من قال‪ :‬هم نسبة إلى الصفة‪ ،‬فقد قيل‪ :‬كان حقه أن يقال‪:‬‬
‫صفية‪ ،‬وكذلك من قال‪ :‬نسبة إلى الصفا‪ ،‬قيل له‪ :‬كان حقه أن يقال‪ :‬صفائية‪ ،‬ولو كان مقصوًرا لقيل صفوية‪ ،‬وإن‬
‫ل‪ .‬قيل له‪ :‬كان حقه أن يقال‪ :‬صفية‪ ،‬ول‬
‫نسب إلى الصفوة قيل‪ :‬صفوية‪ .‬ومن قال‪ :‬نسبة إلى الصف المقدم بين يدي ا ّ‬
‫ريب أن هذا يوجب النسبة والضافة‪ ،‬إذا أعطى السم حقه من جهة العربية‪.‬‬

‫لكن التحقيق‪ ،‬أن هذه النسب إنما أطلقت على طريق الشتقاق الكبر والوسط‪ ،‬دون الشتقاق الصغر‪ ،‬كما قال أبو‬
‫جعفر‪ :‬العامة اسم مشتق من العمى‪،‬فراعوا الشتراك في الحروف دون الترتيب‪ ،‬وهو الشتقاق الوسط‪ ،‬أو‬
‫الشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الكبر‪.‬‬

‫وعلى الوسط قول نحاة الكوفيين السم‪ ،‬مشتق من السمة‪.‬‬

‫وكذلك إذا قيل الصوفي من الصفا‪ ،‬وأما إذا قيل هو من الصفة أو الصف‪ ،‬فهو على الكبر‪.‬‬

‫وقد تكلم بهذا السم قوم من الئمة‪ ،‬كأحمد بن حنبل‪ ،‬وغيره‪ / ،‬وقد تكلم به أبو سليمان الداراني وغيره‪ ،‬وأما الشافعي‬
‫فالمنقول عنه ذم الصوفية‪ ،‬وكذلك مالك ـ فيما أظن ـ وقد خاطب به أحمد لبي حمزة الخراساني‪ ،‬وليوسف بن‬
‫ضا من أصحاب‬ ‫الحسين الرازي‪ ،‬ولبدر ابن أبي بدر المغازلي‪ ،‬وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم‪ ،‬ومن العباد أي ً‬
‫أحمد‪ ،‬ومالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأبي حنيفة‪ ،‬وأهل الحديث‪ ،‬والعباد‪ ،‬ومدحه آخرون‪.‬‬

‫والتحقيق فيه أنه مشتمل على الممدوح والمذموم‪ ،‬كغيره من الطريق‪ ،‬وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا‪ ،‬وقد ل‬
‫يكون‪ ،‬وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة‪ ،‬والقاعدة التي‬
‫ل وصفوته‪ ،‬وخيار عباده ما ل يحصى عده‪ .‬كما في أهل‬ ‫قدمتها تجمع ذلك كله‪ ،‬وفي المتسمين بذلك من أولياء ا ّ‬
‫ل ـ سبحانه ـ أعلم‪.‬‬
‫ل‪ .‬وا ّ‬
‫الرأي من أهل العلم واليمان من ل يحصى عدده إل ا ّ‬

‫وبهذا يتبين لك أن البدعة في الدين‪ ،‬وإن كانت في الصل مذمومة‪ ،‬كما دل عليه الكتاب والسنة‪ ،‬سواء في ذلك البدع‬
‫القولية والفعلية‪ .‬وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬كل بدعة‬
‫ضللة( متعين‪ ،‬وإنه يجب العمل بعمومه‪ ،‬وإن من أخذ يصنف ]البدع[ إلى حسن وقبيح‪ ،‬ويجعل ذلك ‪ /‬ذريعة إلى أل‬
‫يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ‪ ،‬كما يفعل طائفة من المتفقهة‪ ،‬والمتكلمة والمتصوفة‪ ،‬والمتعبدة‪ ،‬إذا نهوا عن‬
‫العبادات المبتدعة والكلم في التدين المبتدع ادعوا أل بدعة مكروهة إل ما نهى عنه‪ ،‬فيعود الحديث إلى أن يقال‪ :‬كل‬
‫ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضللة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان‪ ،‬بل كل ما لم‬
‫يشرع من الدين فهو ضللة‪.‬‬

‫وما سمي بدعة‪ ،‬وثبت حسنه بأدلة الشرع‪ ،‬فأحد المرين‪ ،‬فيه لزم‪:‬‬

‫إما أن يقال‪ :‬ليس ببدعة في الدين‪ ،‬وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة‪ .‬كما قال عمر‪ :‬نعمت البدعة هذه‪.‬‬

‫وإما أن يقال‪ :‬هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح‪ ،‬كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر‬
‫عمومات الكتاب والسنة وهذا قد قررته في اقتضاء الصراط المستقيم‪ ،‬وفي قاعدة السنة والبدعة‪ ،‬وغيره‪.‬‬

‫وإنما المقصود هنا‪ ،‬أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة‪ ،‬أو المخالف للكتاب‬
‫والسنة إذا صدر عن شخص من الشخاص‪ ،‬فقد يكون على وجه يعذر فيه‪ ،‬إما ‪ /‬لجتهاد أو تقليد يعذر فيه‪ ،‬وإما لعدم‬
‫ضا في أصل التكفير والتفسيق المبني على أصل الوعيد‪.‬‬ ‫قدرته كما قد قررته في غير هذا الموضع‪ ،‬وقررته أي ً‬

‫فإن نصوص الوعيد‪ ،‬التي في الكتاب والسنة‪ ،‬ونصوص الئمة بالتكفير‪ ،‬والتفسيق ونحو ذلك ل يستلزم ثبوت‬
‫موجبها في حق المعين‪ ،‬إل إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع‪ ،‬ل فرق في ذلك بين الصول‪ ،‬والفروع‪ .‬هذا في‬
‫ل ولعنته وغضبه في الدار الخرة‪ ،‬خالد في النار‪ ،‬أو غير خالد‪،‬‬‫عذاب الخرة‪ ،‬فإن المستحق للوعيد من عذاب ا ّ‬
‫وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق‪ ،‬يدخل في هذه القاعدة‪ ،‬سواء كان بسبب بدعة اعتقادية‪ ،‬أو عبادية‪ ،‬أو بسبب‬
‫فجور في الدنيا‪ ،‬وهو الفسق بالعمال‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوًقا بدعوتهم‪ ،‬إذ ل عذاب إل على من بلغته‬
‫فأما أحكام الدنيا‪ ،‬فكذلك أي ً‬
‫الرسالة‪ ،‬وكذلك عقوبة الفساق ل تثبت إل بعد قيام الحجة‪.‬‬
‫عـدٌة شريَفـة ينبغي التفطن لها وهى‪:‬‬
‫‪َ/‬وُهنـا َقا ِ‬

‫أن ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه‪ ،‬فعقوبتنا له في الدنيا أكبر‪ ،‬وأما ما عاد من الذنوب بمضرة‬
‫النسان في نفسه‪ ،‬فقد تكون عقوبته في الخرة أشد‪ ،‬وإن كنا نحن ل نعاقبه في الدنيا‪.‬‬

‫وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس‪ ،‬فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا ل محالة لكف ظلم الناس‬
‫بعضهم عن بعض‪ ،‬ثم هو نوعان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬منع ما يجب لهم من الحقوق‪ ،‬وهو التفريط‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬فعل ما يضر به وهو العدوان‪ .‬فالتفريط في حقوق العباد‪...‬‬

‫‪/‬ولهذا يعاقب الداعية إلى البدع‪ ،‬بما ل يعاقب به الساكت‪ ،‬ويعاقب من أظهر المنكر بما ل يعاقب به من استخفى به‪،‬‬
‫ونمسك عن عقوبة المنافق في الدين‪ ،‬وإن كان في الدرك السفل من النار‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ فإنه الذي يجزي الناس على أعمالهم في الخرة‪ ،‬وقد‬ ‫وهذا لن الصل‪ ،‬أن تكون العقوبة من فعل ا ّ‬
‫ضا في الدنيا‪ .‬وأما نحن‪ ،‬فعقوبتنا للعباد بقدر ما يحصل به أداء الواجبات‪ ،‬وترك المحرمات بحسب إمكاننا‪،‬‬ ‫يجزيهم أي ً‬
‫ل‪ ،‬فإذا فعلوا‬ ‫ل‪ ،‬وأن محمًدا رسول ا ّ‬ ‫كما قال صلى ال عليه وسلم‪) :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل ا ّ‬
‫ن الّدي ُ‬
‫ن‬ ‫ن ِفْتَنٌة َوَيُكو َ‬
‫ل َتُكو َ‬ ‫ل( وقال تعالى‪َ} :‬وَقاِتُلوُهْم َ‬
‫حّتى َ‬ ‫ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها وحسابهم على ا ّ‬
‫ل{ ]النفال‪ ،[39 :‬وقال‪َ} :‬واْلِفْتَنُة َأْكَبُر ِمْن اْلَقْتِل{ ]البقرة‪. [217 :‬‬
‫ُكّلُه ِّ‬

‫ل‪ ،‬فإذا أسلم‬


‫ولهذا من تاب من الكفار‪ ،‬والمحاربين‪ ،‬وسائر الفساق قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبة التي لحق ا ّ‬
‫الحربي قبل القدرة عليه عصم دمه‪ ،‬وأهله‪ ،‬وماله‪ ،‬وكذلك قاطع الطريق‪ ،‬والزاني والسارق‪ ،‬والشارب إذا تابوا قبل‬
‫القدرة عليهم؛ لحصول المقصود بالتوبة وأما إذا تابوا بعد القدرة لم تسقط العقوبة كلها؛ لن ذلك يفضي إلى تعطيل‬
‫الحدود وحصول الفساد؛ ولن هذه التوبة غير موثوق بها؛ ولهذا إذا أسلم الحربي عند القتال صح إسلمه؛ لنه أسلم‬
‫قبل القدرة عليه‪ / ،‬بخلف من أسلم بعد السر‪ ،‬فإنه ل يمنع استرقاقه وإن عصم دمه‪.‬‬

‫ويبنى على هذه القاعدة‪ :‬أنه قد يقر من الكفار والمنافقين‪ ،‬بل عقوبة من يكون عذابه في الخرة أشد‪ ،‬إذا لم يتعد‬
‫ضرره إلى غيره‪ ،‬كالذين يؤتون الجزية عن يد وهم صاغرون‪ ،‬والذين أظهروا السلم والتزموا شرائعه ظاهًرا مع‬
‫نفاقهم؛ لن هذين الصنفين كفوا ضررهم في الدين والدنيا عن المسلمين‪ ،‬ويعاقبون في الخرة على ما اكتسبوا من‬
‫الكفر والنفاق‪ ،‬وأما من أظهر ما فيه مضرة فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه وإن كان مسلًما فاسًقا‪ ،‬أو عاصًيا‪ ،‬أو عد ً‬
‫ل‬
‫حا أو عالًما سواء في ذلك المقدور عليه والممتنع‪.‬‬
‫مجتهًدا مخطًئا‪ ،‬بل صال ً‬

‫مثال المقدور عليه إنما يعاقب من أظهر الزنا‪ ،‬والسرقة‪ ،‬وشرب الخمر‪ ،‬وشهادة الزور‪ ،‬وقطع الطريق‪ ،‬وغير ذلك‬
‫لما فيه من العدوان على النفوس والموال والبضاع‪ ،‬وإن كان مع هذا حال الفاسق في الخرة خيًرا من حال أهل‬
‫العهد الكفار‪ ،‬ومن حال المنافقين‪ ،‬إذ الفاسق خير من الكافر والمنافق بالكتاب والسنة والجماع‪.‬‬

‫وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم‪ ،‬وإن كان قد يكون معذوًرا فيها في نفس المر لجتهاد أو‬
‫تقليد‪.‬‬

‫ل‪ ،‬ومع كوننا ننفذ‬


‫‪/‬وكذلك يجوز قتال البغاة‪ :‬وهم الخارجون على المام‪ ،‬أو غير المام بتأويل سائغ مع كونهم عدو ً‬
‫أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه من جزية أو خراج أو غيرذلك‪ .‬إذ الصحابة ل خلف في بقائهم على العدالة‪ ،‬وذلك‬
‫أن التفسيق انتفى للتأويل السائغ‪ .‬وأما القتال‪ :‬فليؤدوا ما تركوه من الواجب‪ ،‬و ينتهوا عما ارتكبوه من المحرم‪ ،‬وإن‬
‫كانوا متأولين‪.‬‬

‫وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه‪ ،‬وإن كانوا قوًما صالحين‪ ،‬فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على‬
‫ترك واجب‪ ،‬أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا‪ ،‬وإن كانوا معذورين فيه؛ لدفع ضرر فعلهم في الدنيا‪ ،‬كما يقام الحد‬
‫حا‪ ،‬وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس‪ ،‬فبينما هم‬ ‫على من تاب بعد رفعه إلى المام وإن كان قد تاب توبة نصو ً‬
‫ببيداء من الرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر‬
‫لما كان فيهم العباس وغيره‪ ،‬وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إل بقتالهم‪ ،‬فالعقوبات المشروعة‬
‫والمقدورة قد تتناول في الدنيا من ل يستحقها في الخرة‪ ،‬وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم‪:‬‬
‫القاتل مجاهد والمقتول شهيد‪.‬‬

‫وعلى هذا‪ ،‬فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع ‪ /‬يهجر‪ ،‬فل يستشهد ول يروي عنه‪ ،‬ول يستفتى ول‬
‫يصلي خلفه‪ ،‬قد يكون من هذا الباب‪ ،‬فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة‬
‫أو غيرها‪ ،‬وإن كان في نفس المر تائًبا أو معذوًرا‪ ،‬إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين‪ :‬إما ترك الذنوب المهجورة‬
‫وأصحابها‪ ،‬وإما عقوبة فاعلها ونكاله‪ ،‬فأما هجره بترك ‪...‬في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬هجر المام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد‪ ،‬ولمن تاب بعد الجابة‪ ،‬ولمن فعل بدعة ما‪،‬مع أن‬
‫فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة‪ ،‬فإن هجره لهم والمسلمين معه ل يمنع معرفة قدر فضلهم‪،‬كما أن‬
‫الثلثة الذين خلفوا لما أمر النبي صلى ال عليه وسلم المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق‪.‬حتى قد‬
‫ل لهل بدر‪) :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم( وأحدهم كعب بن مالك شاعر‬ ‫قيل أن اثنين منهما شهدا بدًرا‪،‬وقد قال ا ّ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم وأحد أهل العقبة‪ ،‬فهذا أصل عظيم أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل ل‬
‫حا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة‪ ،‬وبين‬
‫ل صال ً‬ ‫ل‪ ،‬أو رج ً‬‫يمنع أن يكون المعاقب عد ً‬
‫ل سبحانه أعلم‪.‬‬‫عقوبة الخرة‪،‬وا ّ‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬ ‫‪/‬‬

‫ومما يناسب هذا الباب قولهم‪ :‬فلن يسلم إليه حاله‪ ،‬أو ل يسلم إليه حاله‪ ،‬فإن هذا كثيًرا ما يقع فيه النزاع فيما قد‬
‫يصدر عن بعض المشائخ‪ ،‬والفقراء‪ ،‬والصوفية‪ ،‬من أمور يقال‪ :‬إنها تخالف الشريعة‪ ،‬فمن يرى أنها منكرة وإن‬
‫إنكار المنكر من الدين‪ ،‬ينكر تلك المور‪ ،‬وينكر على ذلك الرجل وعلى من أحسن به الظن ويبغضه ويذمه ويعاقبه‪،‬‬
‫ومن رأي ما في ذلك الرجل من صلح وعبادة‪ ،‬كزهد وأحوال‪ ،‬وورع‪ ،‬وعلم ل ينكرها بل يراها سائغة أو حسنة أو‬
‫يعرض عن ذلك‪.‬‬

‫وقد يغلو كل واحد من هذين‪ ،‬حتى يخرج بالول‪ ،‬إنكاره إلى التكفير والتفسيق في مواطن الجتهاد‪ ،‬متبًعا لظاهر من‬
‫أدلة الشريعة‪ ،‬ويخرج بالثاني إقراره إلى القرار بما يخالف دين السلم مما يعلم بالضطرار أن الرسول جاء‬
‫عا في زعمه لما يشبه قصة موسى والخضر‪ ،‬والول يكثر في الموسوية ومن انحرف منهم إلي يهودية‬ ‫بخلفه‪ ،‬اتبا ً‬
‫والثاني يكثر في العيسوية ومن انحرف منهم إلى نصرانية‪.‬‬

‫‪/‬والول‪ :‬كثيًرا ما يقع في ذوي العلم‪ ،‬لكن مقروًنا بقسوة وهوى‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬كثيًرا ما يقع في ذوي الرحمة‪ ،‬لكن مقروًنا بضلل وجهل‪.‬‬

‫يٍء َرْحَمًة َوِعْلًما{ ]غافر‪ ،[7 :‬وقال‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ت ُك ّ‬ ‫فأما المة الوسط‪ :‬فلهم العلم والرحمة‪ ،‬كما أخبر عن نفسه بقوله‪َ} :‬رّبَنا َو ِ‬
‫سْع َ‬
‫يٍء ِعْلًما{ ]طه‪:‬‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫سَع ُك ّ‬
‫ل ُهَو َو ِ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ل اّلِذي َ‬‫يٍء{ ]العراف‪ ،[156 :‬وقال‪ِ} :‬إّنَما ِإَلُهكُْم ا ُّ‬‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫ت ُك ّ‬
‫سَع ْ‬ ‫تعالى‪َ} :‬وَر ْ‬
‫حَمِتي َو ِ‬
‫‪ ،[98‬وكذلك وصف العبد الذي لقيه موسى حيث قال‪} :‬آَتْيَناُه َرْحَمًة ِمْن ِعْنِدَنا َوَعّلْمَناهُ ِمْن َلُدّنا ِعْلًما{ ]الكهف‪.[65 :‬‬

‫ل‪ ،‬أن تسليم الحال له معنيان‪:‬‬


‫ل وفع ً‬
‫والعدل في هذا الباب قو ً‬

‫أحدهما‪ :‬رفع اللوم عنه بحيث ل يكون مذموًما ول مأثوًما ‪...‬‬

‫والثاني‪ :‬تصويبه علي ما فعل بحيث يكون محموًدا مأجوًرا‪ .‬فالول عدم الذم والعقاب‪ .‬والثاني‪ :‬وجود الحمد والثواب‪.‬‬
‫الول‪ :‬عدم سخط ال وعقابه‪ ،‬والثاني‪ :‬وجود رضاه وثوابه؛ ولهذا ‪ /‬تجد المنكرين غالًبا في إثبات السخط والذم‬
‫والعقاب‪ ،‬والمقرين في إثبات الرضا والحمد والثواب‪ ،‬وكلهما قد يكون مخطًئا ويكون الصواب في أمر ثالث وسط‪،‬‬
‫وهو أنه ل حمد ول ذم ول ثواب ول عقاب‪.‬‬
‫ل‪ ،‬إذا علم أنه مخالف للكتاب والسنة‪ ،‬بحيث يكون قو ً‬
‫ل‬ ‫وبيان ذلك‪ :‬أن ذلك المر الصادر عنه سواء كان قولً أو فع ً‬
‫ل محرًما فإنه يعذر في موضعين‪:‬‬
‫ل‪ ،‬أو عم ً‬
‫باط ً‬

‫أحدهما‪ :‬عدم تمكنه من العلم به‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬عدم قدرته على الحق المشروع‪.‬‬

‫مثال الول‪ :‬أن يكون صاحب الحال مولها مجنوًنا‪ ،‬قد سقط عنه القلم‪ ،‬فهذا إذا قيل فيه‪ :‬يسلم له حاله‪ ،‬بمعنى أنه ل‬
‫يذم ول يعاقب‪ ،‬ل بمعنى تصويبه فيه‪ ،‬كما يقال في سائر المجانين فهو صحيح‪.‬‬

‫وإن عنى به أن ذلك القول صواب فهذا خطأ‪.‬‬

‫وكذلك إذا كان ذلك الحال صادًرا عنه باجتهاد‪ ،‬كمسائل الجتهاد المتنازع فيها بين أهل العلم والدين‪ .‬فإن هذا إذا قيل‪:‬‬
‫يسلم إليه حاله‪ ،‬كما يقال‪ :‬يقر على اجتهاده‪ ،‬بمعنى أنه ل يذم ول يعاقب فهو صحيح‪.‬‬

‫‪/‬وأما إذا قيل ذلك بمعنى أنه صواب‪ ،‬أو صحيح‪ ،‬فلبد من دليل على تصويبه‪ ،‬وإل فمجرد القول‪ ،‬أو الفعل الصادر‬
‫من غير الرسول‪ ،‬ليس حجة على تصويب القائل أو الفاعل‪ ،‬فإذا علم أن ذلك الجتهاد خطأ كان تسليم حاله بمعني‬
‫رفع الذم عنه‪ ،‬ل بمعنى إصابته وكذلك إذا أريد بتسليم حاله وإقراره‪ ،‬أنه يقر على حكمه‪ ،‬فل ينقض‪ ،‬أو على فتياه‪،‬‬
‫فل تنكر أو على جواز اتباعه لمن هو من أهل تقليده واتباعه‪ ،‬بأن للقاصرين أن يقلدوا ويتبعوا من يسوغ تقليده‪،‬‬
‫واتباعه من العلماء والمشايخ‪ ،‬فيما لم يظهر لهم أنه خطأ‪ ،‬لكن بعض هذا يدخل في القسم الثاني‪ ،‬الذي لم يعلم مخالفته‬
‫للشريعة‪.‬‬

‫وتسليم الحال في مثل هذا إذا عرف أنه معذور‪ ،‬أو عرف أنه صادق في طريقه‪ ،‬وإن هذا المر قد يكون اجتهاًدا منه‪،‬‬
‫فهذه ثلثة مواضع يسلم إليه فيها حاله؛ لعدم تمكنه من العلم‪ ،‬وخفاء الحق عليه فيها على وجه يعذر به‪.‬‬

‫حا‬
‫ومثال الثاني‪ :‬عدم قدرته ـ أن يرد عليه من الحوال ما يضطره إلى أن يخرق ثيابه‪ ،‬أو يلطم وجهه‪ ،‬أو يصيح صيا ً‬
‫منكًرا‪ ،‬أو يضطرب اضطراًبا شديًدا‪ .‬فهذا إذا عرف أن سبب ذلك لم يكن محرًما‪ ،‬وأنه مغلوب عليه سلم إليه حاله‪،‬‬
‫وإن شك هل هو مغلوب‪ ،‬أو متصنع‪ ،‬فإن عرف منه الصدق‪ ،‬قيل‪ :‬هذا يسلم إليه حاله‪ / ،‬وإن عرف كذبه أنكر عليه‪،‬‬
‫وإن شك فيه توقف في التسليم والنكار‪ ،‬حتى يتبين أمره‪ ،‬كما يفعل بمن شهد شهادة‪ ،‬أو اتهم بسرقة‪ .‬فإن ظهر صدقه‬
‫وعدله قبلت الشهادة ودفعت إليهم‪ ،‬وإن ظهر كذبه وخيانته ردت الشهادة‪ ،‬وعوقب على السرقة‪ ،‬وإن اشتبه المر‬
‫توقف فيه؛ فإن المؤمن وقاف متبين‪ ،‬هكذا قال الحسن البصري‪.‬‬

‫وكذلك إذا ترك الواجبات مظهًرا أنه مغلوب ل يقدر على فعلها‪ ،‬مثل أن يترك الصلة مظهًرا أنه بمنزلة المغمى‬
‫عليه‪ ،‬والنائم الذي ل يتمكن من فعلها‪ .‬كما قد يعترى بعض المصعوقين من وارد خوف ال‪ ،‬أو محبته‪ ،‬أو نحو ذلك‬
‫بحيث يسقط تمييزه‪ ،‬فل يمكنه الصلة‪ ،‬فهو فيما يتركه من الواجبات نظير ما يرتكبه من المحرمات‪ ،‬فتسليم الحال‬
‫بمعني عدم اللوم قد يراد به الحكم بأنه معذور‪ ،‬وقد يراد به ترك الحكم بأنه ملوم‪.‬‬

‫هذا فيما يعلم من القوال والفعال أنه مخالف للشرع بل ريب‪ ،‬كالشطحات المأثورة عن بعض المشائخ‪ ،‬كقول ابن‬
‫هود‪ :‬إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم‪ ،‬وكون الشبلي كان يحلق لحيته ويمزق ثيابه حتي أدخلوه‬
‫المارستان مرتين‪ ،‬وما يحكى عن بعضهم أنه قال‪ :‬إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث به‪ ،‬وكترك آخر‬
‫عا لسلطان وقته وسماه العادل‪،‬وترك آخر الصلة خلف إمام؛ لما كوشف به‬ ‫صلة الجمعة خلف إمام صالح‪ ،‬لكونه د ً‬
‫ل وأحوال فسلب عقولهم وترك‬ ‫من حديث نفسه‪ ،‬وما يحكي عن عقلء ‪ /‬المجانين الذين قيل فيهم‪ :‬إن ال أعطاهم عقو ً‬
‫أحوالهم‪ ،‬وأسقط ما فرض بما سلب‪.‬‬

‫فجماع هذا‪ :‬أن هذه المور تعطى حقها من الكتاب والسنة‪ .‬فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر‪ ،‬والمر والنهي وجب‬
‫اتباعه‪ ،‬ولم يلتفت إلى من خالفه كائًنا من كان‪ ،‬ولم يجز اتباع أحد في خلف ذلك كائًنا من كان‪ ،‬كما دل عليه الكتاب‬
‫والسنة وإجماع المة من اتباع الرسول وطاعته‪ ،‬وإن الرجل الذي صدر عنه ذلك يعطي عذره حيث عذرته الشريعة‬
‫بأن يكون مسلوب العقل‪ ،‬أو ساقط التمييز أو مجتهًدا مخطًئا اجتهاًدا قولًيا أو عملًيا‪ ،‬أو مغلوًبا على ذلك الفعل أو‬
‫الترك بحيث ل يمكنه رد ما صدر عنه من الفعل المنكر بل ذنب فعله‪ ،‬ول يمكنه أداء ذلك الواجب بل ذنب فعله‪،‬‬
‫جا‪ ،‬بل ل سبيل‬‫ظا بحيث ل يتبع ما خالف الكتاب والسنة ول يجعل ذلك شرعة ول منها ً‬ ‫ويكون هذا الباب نوعه محفو ً‬
‫إلى ال ول شرعة إل ما جاء به محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وأما الشخاص الذين خالفوا بعض ذلك على الوجوه المتقدمة فيعذرون‪ ،‬ول يذمون‪ ،‬ول يعاقبون‪ .‬فإن كل أحد من‬
‫الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وما من الئمة إل من له أقوال‪ ،‬وأفعال ل‬
‫يتبع عليها‪ ،‬مع أنه ل يذم عليها‪ ،‬وأما القوال والفعال التي لم يعلم قطًعا مخالفتها للكتاب والسنة‪ ،‬بل ‪ /‬هي من موارد‬
‫الجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم واليمان؛ فهذه المور قد تكون قطعية عند بعض من بين ال له الحق فيها؛ لكنه ل‬
‫يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم‪ ،‬فيلتحق من وجه بالقسم الول‪ .‬ومن وجه بالقسم الثاني‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فهذه تسلم لكل مجتهد‪ ،‬ومن قلده طريقهم تسليًما نوعيا‪ ،‬بحيث ل ينكر ذلك عليهم‪ ،‬كما‬
‫وقد تكون اجتهادية عنده أي ً‬
‫سلم في القسم الول تسليًما شخصًيا‪.‬‬

‫وأما الذي ل يسلم إليه حاله‪ :‬فمثل أن يعرف منه أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم‪ ،‬ككثير من المنتسبة إلى الشيخ أحمد‬
‫بن الرفاعي‪ ،‬واليونسية فيما يأتونه من المحرمات‪ ،‬ويتركونه من الواجبات‪ ،‬أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في‬
‫وجده ليظن به خيًرا‪ ،‬ويرفع عنه الملم فيما يقع من المور المنكرة‪ ،‬أو يعرف منه أن الحق قد تبين له‪ ،‬وأنه متبع‬
‫لهواه‪ ،‬أو يعرف منه تجويز النحراف عن موجب الشريعة المحمدية‪ ،‬وأنه قد يتفوه بما يخالفها‪ ،‬وأن من الرجال من‬
‫قد يستغنى عن الرسول أو له أن يخالفه‪ ،‬أو أن يجري مع القدر المحض المخالف للدين‪ ،‬كما يحكى بعض الكذابين‬
‫الضالين‪ :‬أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى ال عليه وسلم مع الكفار لما انهزم أصحابه وقالوا‪ :‬نحن مع ال‪ ،‬من غلب‬
‫كنا معه‪ ،‬وأنه صبيحة السراء سمع منه ما جرى بينه وبين ربه من المناجاة ‪ /‬وأنه تواجد في السماء‪ ،‬حتى وقع‬
‫الرداء عنه‪ ،‬وأن السر الذي أوصى إليه أودعه في أرض نبت فيها اليراع فصار في الشبابة بمعنى ذلك السر‪ ،‬أو‬
‫يسوغ لحد بعد محمد الخروج عن شريعته‪ ،‬كما ساغ للخضر الخروج عن أمر موسى‪ ،‬فإنه لم يكن مبعوًثا إليه كما‬
‫بعـث محمـد إلى الناس كافة‪ .‬فهؤلء ونحوهم ممن يخالف الشريعة‪ ،‬ويبين له الحق فيعرض عنه‪ ،‬يجب النكار عليهم‬
‫بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب‪.‬‬

‫ضا ـ ينكر علي من اتبع الولين المعذورين في أقوالهم‪ ،‬وأفعالهم المخالفة للشرع‪ ،‬فإن العذر الذي قام بهم‬
‫وكذلك ـ أي ً‬
‫منتف في حقه فل وجه لمتابعته فيه‪.‬‬

‫ومن اشتبه أمره من أي القسمين هو‪ :‬توقف فيه‪ ،‬فإن المام إن يخطئ في العفو‪ ،‬خير من أن يخطئ في العقوبة‪ ،‬لكن‬
‫ل ليس عليه أمرنا فهو‬ ‫ل يتوقف في رد ما خالف الكتاب والسنة‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬من عمل عم ً‬
‫رد(‪ .‬فل يسوغ الخروج عن موجب العموم والطلق في الكتاب والسنة بالشبهات‪ ،‬ول يسوغ الذم والعقوبة‬
‫ل أو صواًبا‪ ،‬أو خطأ بالشبهات‪ ،‬وال يهدينا الصراط المستقيم‪ :‬صراط‬
‫بالشبهات‪ ،‬ول يسوغ جعل الشىء حًقا‪ ،‬أو باط ً‬
‫الذين أنعم عليهم‪ ،‬من النبيين والصديقين‪ ،‬والشهداء‪ ،‬والصالحين‪ ،‬غير المغضوب عليهم ول الضالين‪.‬‬

‫‪/‬وبقيت هنا المسألة التي تشتبه غالًبا‪ ،‬وهو أن يظهر من بعض الرجال المجهول الحال‪ ،‬أمر مخالف للشرع في‬
‫الظاهر‪ ،‬ويجوز أن يكون معذوًرا فيه عذًرا شرعًيا‪ .‬مثل وجد خرج فيه عن الشرع‪ ،‬ل يدري أهو صادق فيه أم‬
‫متصنع‪ ،‬وأخذ مال بغير إذن صاحبه في الظاهر‪ ،‬مع تجويز أن يكون علم طيب قلب صاحبه به‪ ،‬فهذا إن قيل‪ :‬ينكر‬
‫عليه جاز أن يكون معذوًرا‪ ،‬وإن قيل‪ :‬ل ينكر عليه لزم إقرار المجهولين على مخالفة الشرع في الظاهر‪ ،‬فالواجب‬
‫في مثل هذا أن يخاطب صاحبه أول برفق‪ ،‬ويقال له‪ :‬هذا في الظاهر منكر‪ ،‬وأما في الباطن‪ ،‬فأنت أمين ال على‬
‫نفسك‪ ،‬فأخبرنا بحالك فيه أول تظهره حيث يكون إظهاره فتنة‪ ،‬وتسلك في ذلك طريقة ل تفضي إلى إقرار المنكرات‪،‬‬
‫ول لوم البرآء‪.‬‬

‫والضابط أن من عرف من عادته الصدق‪ ،‬والمانة أقر على ما لم يعلم أنه كذب وحرام‪ ،‬ومن عرف منه الكذب أو‬
‫الخيانة‪ ،‬لم يقر على المجهول‪ ،‬وأما المجهول فيتوقف فيه‪.‬‬
‫‪/‬وقال الشيخ المام العالم العلمة شيخ السلم‪ ،‬بقية السلف الكرام‪ ،‬العالم الرباني‪ ،‬المقذوف في قلبه النور القرآني‪،‬‬
‫أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني ـ قدس ال روحه‪ ،‬ونور ضريحه‪ ،‬وأسكنه فسيح الجنان ‪:‬‬

‫الحمد ل‪ ،‬نحمده ونستعينه‪ ،‬ونستغفره‪ ،‬ونستهديه‪ ،‬ونعوذ بال من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده ال فل‬
‫مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪.‬‬

‫ونشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬ونشهد أن محمًدا عبده و رسوله‪ ،‬أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على‬
‫الدين كله و كفى بال شهيًدا‪ ،‬فبلغ الرسالة‪ ،‬وأدى المانة‪ ،‬ونصح المة‪ ،‬وكشف الغمة‪ ،‬وجاهد في ال حق جهاده‪،‬‬
‫صا حتى أتاه اليقين من ربه‪ ،‬صلى ال عليه وسلم تسليًما كثيًرا إلى يوم الدين‪.‬‬
‫وعبد ال مخل ً‬

‫فصـــل‬

‫في العبادات و الفرق بين شرعيها وبدعيها‬

‫فإن هذا باب كثر فيه الضطراب‪ ،‬كما كثر في باب الحلل والحرام‪ ،‬فإن أقواًما استحلوا بعض ما حرمه ال‪ ،‬وأقواًما‬
‫حرموا بعض ما أحل ال ـ تعالى ـ وكذلك أقواًما أحدثوا عبادات لم يشرعها ال‪ ،‬بل نهى عنها‪.‬‬

‫وأصل الدين‪ :‬أن الحلل ما أحله ال ورسوله‪ ،‬والحرام ما حرمه ال ورسوله‪ ،‬والدين ما شرعه ال ورسوله‪ ،‬ليس‬
‫سَتِقيًما َفاّتِبُعوُه َو َ‬
‫ل‬ ‫طي ُم ْ‬
‫صَرا ِ‬ ‫لحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث ال به رسوله‪ .‬قال ال تعالى ‪َ} :‬وَأ ّ‬
‫ن َهَذا ِ‬
‫صاُكْم ِبِه َلَعّلُكْم َتّتُقوَن{ ]النعام ‪.[153 :‬‬
‫سِبيِلِه َذِلُكْم َو ّ‬
‫ن َ‬
‫عْ‬‫ق ِبُكْم َ‬
‫ل َفَتَفّر َ‬
‫سُب َ‬
‫َتّتِبُعوا ال ّ‬

‫طا عن‬‫طا‪ ،‬وخط خطو ً‬ ‫وفي حديث عبد ال بن مسعود ـ رضي ال عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه خط خ ً‬
‫طي‬
‫صَرا ِ‬ ‫يمينه وشماله‪ ،‬ثم قال‪) :‬هذه سبيل ال‪ ،‬وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو ‪ /‬إليه(‪ ،‬ثم قرأ‪َ} :‬وَأ ّ‬
‫ن َهَذا ِ‬
‫ق ِبُكْم َعْن َسِبيِلِه{‪.‬‬
‫ل َفَتَفّر َ‬
‫سُب َ‬
‫ل َتّتِبُعوا ال ّ‬
‫سَتِقيًما َفاّتِبُعوُه َو َ‬
‫ُم ْ‬

‫وقد ذكر ال تعالي في سورة النعام‪ ،‬والعراف‪ ،‬وغيرهما ما ذم به المشركين حيث حرموا ما لم يحرمه ال ـ تعالى ـ‬
‫كالبحيرة‪ ،‬والسائبة ؛ واستحلوا ما حرمه ال كقتل أولدهم‪ ،‬وشرعوا دينا لم يأذن به ال‪ ،‬فقال تعالى‪َ} :‬أْم َلُهْم ُ‬
‫شَرَكاُء‬
‫ل{ ]الشورى‪ ،[21 :‬ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات‪ ،‬كالشرك والفواحش‪،‬‬ ‫ن ِبِه ا ُّ‬
‫ن َما َلْم َيْأَذ ْ‬
‫ن الّدي ِ‬
‫عوا َلُهْم ِم ْ‬
‫شَر ُ‬
‫َ‬
‫مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك‪.‬‬

‫والكلم في الحلل والحرام له مواضع أخر‪.‬‬

‫والمقصود هنا العبادات فنقول‪:‬‬

‫العبادات التي يتقرب بها إلى ال ـ تعالى ـ منها ما كان محبوًبا ل ورسوله مرضًيا ل ورسوله‪ ،‬إما واجب وإما‬
‫مستحب‪ ،‬كما في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال فيما يروى عن ربه ـ تبارك وتعالى‪) :‬ما تقرب إل ّ‬
‫ي‬
‫ي بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع‬
‫عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه‪ ،‬ول يزال عبدي يتقرب إل ّ‬
‫به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ / ،‬فبي يسمع وبي يبصر‪ ،‬وبي يبطش‪ ،‬وبي‬
‫يمشي‪ ،‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ ،‬و ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي‬
‫المؤمن‪ ،‬يكره الموت وأكره مساءته‪ ،‬ولبد له منه(‪.‬‬

‫ومعلوم أن الصلة منها فرض‪ ،‬وهي الصلوات الخمس‪ ،‬ومنها نافلة‪ ،‬كقيام الليل‪ ،‬وكذلك الصيام فيه فرض‪ ،‬وهو‬
‫صوم شهر رمضان‪ ،‬ومنه نافلة كصيام ثلثة أيام من كل شهر‪ ،‬وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض وإلى‬
‫المسجدين الخرين ـ مسجد النبي صلى ال عليه وسلم وبيت المقدس ـ مستحب‪.‬‬

‫ل اْلَعْفَو{‬
‫ن ُق ْ‬
‫ك َماَذا ُينِفُقو َ‬ ‫وكذلك الصدقة‪ ،‬منها ما هو فرض‪ ،‬ومنها ما هو مستحب‪ ،‬وهو العفو‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَي ْ‬
‫سَأُلوَن َ‬
‫]البقرة‪.[219 :‬‬
‫وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬يابن آدم‪ ،‬إنك إن تنفق الفضل خير لك‪ ،‬وإن تمسكه‬
‫شر لك‪ ،‬ول تلم على كفاف‪ ،‬واليد العليا خير من اليد السفلى‪ ،‬وابدأ بمن تعول(‪ ،‬والفرق بين الواجب‪ ،‬والمستحب له‬
‫موضع آخر غير هذا‪ ،‬والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروع‪ ،‬سواء كان واجًبا‪ ،‬أو مستحًبا‪ ،‬وما ليس بمشروع‪.‬‬

‫فالمشروع هو الذي يتقرب به إلى ال ـ تعالى ـ وهو سبيل ال‪ / ،‬وهو البر والطاعة والحسنات‪ ،‬والخير‪ ،‬والمعروف‪،‬‬
‫وهو طريق السالكين‪ ،‬ومنهاج القاصدين‪ ،‬والعابدين‪ ،‬وهو الذي يسلكه كل من أراد ال هدايته‪ ،‬وسلك طريق الزهد‬
‫والعبادة‪ ،‬وما يسمى بالفقر والتصوف‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ول ريب أن هذا يدخل فيه الصلوات المشروعة‪ ،‬واجبها‪ ،‬ومستحبها‪ ،‬ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع‪ ،‬وقراءة‬
‫القرآن على الوجه المشروع‪ ،‬والذكار والدعوات الشرعية‪ ،‬وما كان من ذلك موقًتا بوقت كطرفي النهار‪ ،‬وما كان‬
‫متعلًقا بسبب‪ ،‬كتحية المسجد‪ ،‬وسجود التلوة‪ ،‬وصلة الكسوف‪ ،‬وصلة الستخارة‪ ،‬وما ورد من الذكار‪ ،‬والدعية‬
‫الشرعية في ذلك‪ .‬وهذا يدخل فيه أمور كثيرة‪ ،‬وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه‪ ،‬وكذلك يدخل فيه الصيام‬
‫الشرعي‪ ،‬كصيام نصف الدهر‪ ،‬وثلثه أو ثلثيه‪ ،‬أو عشره‪ ،‬وهو صيام ثلثة أيام من كل شهر‪ ،‬ويدخل فيه السفر‬
‫الشرعي‪ ،‬كالسفر إلى مكة وإلى المسجدين الخرين‪ ،‬ويدخل فيه الجهاد على اختلف أنواعه‪ ،‬وأكثر الحاديث النبوية‬
‫في الصلة والجهاد‪ ،‬ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع‪.‬‬

‫والعبادات الدينية أصولها‪ :‬الصلة والصيام والقراءة التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد ال بن‬
‫عمرو بن العاص‪ ،‬لما أتاه النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال‪) :‬ألم أحدث أنك قلت‪ :‬لصومن ‪ /‬النهار‪ ،‬ولقومن الليل‪،‬‬
‫ت له النفس(‪ ،‬ثم أمره‬
‫ت له العين‪ ،‬وَنِفَه ْ‬
‫جَم ْ‬
‫ولقرأن القرآن في ثلث؟( قال‪ :‬بلى! قال‪) :‬فل تفعل فإنك إذا فعلت ذلك َه َ‬
‫بصيام ثلثة أيام من كل شهر‪ ،‬فقال‪ :‬إني أطيق أكثر من ذلك‪ ،‬فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم‪ ،‬فقال‪ :‬إني أطيق‬
‫أكثر من ذلك‪ ،‬فقال‪) :‬ل أفضل من ذلك(‪ ،‬وقال‪) :‬أفضل الصيام صيام داود ـ عليه السلم ـ كان يصوم يوًما ويفطر‬
‫يوًما‪ ،‬ول يفر إذا لقى‪ ،‬وأفضل القيام قيام داود‪ ،‬كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه‪ ،‬وأمره أن يقرأ القرآن‬
‫في سبع(‪.‬‬

‫ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة‪ ،‬قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين‪) :‬يحقر أحدكم صلته مع‬
‫صلتهم‪ ،‬وصيامه مع صيامهم‪ ،‬وقراءته مع قراءتهم‪ ،‬يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم‪ ،‬يمرقون من الدين كما‬
‫يمرق السهم من الّرِمّية( فذكر اجتهادهم بالصلة والصيام والقراءة‪ ،‬وأنهم يغلون في ذلك‪ ،‬حتى تحقر الصحابة‬
‫عبادتهم في جنب عبادة هؤلء‪.‬‬

‫وهؤلء غلوا في العبادات بل فقه‪ ،‬فآل المر بهم إلى البدعة‪ ،‬فقال‪) :‬ىمرقون من السلم كـما يمرق السهم من‬
‫الرمية‪ ،‬أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجًرا عند ال لمن قتلهم يوم القيامة(‪ .‬فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين‪،‬‬
‫وكفروا من خالفهم‪ ،‬وجاءت فيهم الحاديث ‪ /‬الصحيحة‪ ،‬قال المام أحمد بن حنبل ـ رحمه ال تعالى ـ‪ :‬صح فيهم‬
‫الحديث من عشرة أوجه‪ ،‬وقد أخرجها مسلم في صحيحه وأخرج البخاري قطعة منها‪.‬‬

‫ثم هذه الجناس الثلثة مشروعة‪ ،‬ولكن يبقى الكلم في القدر المشروع منها‪ ،‬وله صنف كتاب ]القتصاد في العبادة[‪.‬‬
‫وقال أبي بن كعب‪ ،‬وغيره‪ :‬اقتصاد في سنة‪ ،‬خير من اجتهاد في بدعة‪.‬‬

‫والكلم في سرد الصوم وصيام الدهر سوى يومي العيدين‪ ،‬وأيام التشريق‪ ،‬وقيام جميع الليل‪ ،‬هل هو مستحب؟ كما‬
‫ذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء‪ ،‬والصوفية والعباد‪ ،‬أو هو مكروه ـ كما دلت عليه السنة وإن كان جائًزا ؟ لكن صوم‬
‫يوم وفطر يوم أفضل‪ ،‬وقيام ثلث الليل أفضل‪ ،‬ولبسطه موضع آخر‪.‬‬

‫إذ المقصود هنا الكلم في أجناس عبادات غير مشروعة‪ ،‬حدثت في المتأخرين كالخلوات فإنها تشتبه بالعتكاف‬
‫الشرعي‪ ،‬والعتكاف الشرعي في المساجد‪ ،‬كما كان النبي صلى ال عليه وسلم يفعله هو وأصحابه‪ ،‬من العبادات‬
‫الشرعية‪.‬‬

‫وأما الخلوات‪ ،‬فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي‪ ،‬وهذا خطأ‪ / ،‬فإن ما فعله صلى ال عليه وسلم قبل‬
‫النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة‪ ،‬فنحن مأمورون باتباعه فيه‪ ،‬وإل فل‪ .‬وهو من حين نبأه ال ـ تعالى ـ لم يصعد بعد‬
‫ذلك إلى غار حراء ول خلفاؤه الراشدون‪ .‬وقد أقام ـ صلوات ال عليه ـ بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة‪ ،‬ودخل‬
‫مكة في عمرة القضاء‪ ،‬وعام الفتح أقام بها قريًبا من عشرين ليلة‪ ،‬وأتاها في حجة الوداع‪ ،‬وأقام بها أربع ليال‪ ،‬وغار‬
‫حراء قريب منه‪ ،‬ولم يقصده‪.‬‬

‫وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية‪ ،‬ويقال‪ :‬إن عبد المطلب هو سن لهم إتيانه؛ لنه لم تكن لهم هذه العبادات‬
‫الشرعية التي جاء بها بعد النبوة ـ صلوات ال عليه ـ كالصلة والعتكاف في المساجد‪ ،‬فهذه تغني عن إتيان حراء‬
‫بخلف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي‪ ،‬فإنه لم يكن يقرأ‪ ،‬بل قال له الملك ـ عليه السلم ـ‪ :‬اقرأ‪ .‬قال ـ صلوات ال‬
‫عليه وسلمه ـ‪) :‬فقلت‪ :‬لست بقارئ( ول كانوا يعرفون هذه الصلة! ولهذا لما صلها النبي صلى ال عليه وسلم نهاه‬
‫عَلى اْلُهَدى ‪َ .‬أْو‬
‫ن َ‬
‫ن َكا َ‬
‫ت ِإ ْ‬
‫صّلى ‪َ .‬أَرَأْي َ‬
‫عْبًدا ِإَذا َ‬ ‫عنها من نهاه من المشركين‪ ،‬كأبي جهل‪ ،‬قال ال تعالى‪َ} :‬أَرَأْي َ‬
‫ت اّلِذي َيْنَهى ‪َ .‬‬
‫ع َناِدَيه ‪.‬‬
‫طَئةٍ ‪َ .‬فْلَيْد ُ‬
‫خا ِ‬
‫صَيٍة َكاِذَبٍة َ‬
‫صَيِة ‪َ .‬نا ِ‬
‫سَفَع ِبالّنا ِ‬
‫ن َلْم َيْنَتِه َلَن ْ‬
‫ل َلِئ ْ‬
‫ل َيَرى ‪َ .‬ك ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ب َوَتَوّلى ‪َ .‬أَلْم َيْعَلْم ِبَأ ّ‬
‫ن َكّذ َ‬
‫ت ِإ ْ‬
‫َأَمَر ِبالّتْقَوى ‪َ .‬أَرَأْي َ‬
‫ب{]العلق‪ 9 :‬ـ ‪.[19‬‬ ‫جْد َواْقَتِر ْ‬
‫سُ‬ ‫طْعُه َوا ْ‬
‫ل ُت ِ‬
‫ل َ‬‫ع الّزَباِنَيَة ‪َ .‬ك ّ‬
‫سَنْد ُ‬
‫َ‬

‫وطائفة يجعلون الخلوة أربعين يوًما‪ ،‬ويعظمون أمر الربعينية‪ / ،‬ويحتجون فيها بأن ال ـ تعالى ـ واعد موسى ـ عليه‬
‫ضا أربعين ل ـ تعالى ـ‬
‫السلم ـ ثلثين ليلة وأتمها بعشر‪.‬وقد روى أن موسى ـ عليه السلم ـ صامها وصام المسيح أي ً‬
‫وخوطب بعدها‪ .‬فيقولون يحصل بعدها الخطاب والتنزل‪ ،‬كما يقولون في غار حراء حصل بعده نزول الوحي‪.‬‬

‫ضا غلط‪ ،‬فإن هذه ليست من شريعة محمد صلى ال عليه وسلم بل شرعت لموسى ـ عليه السلم ـ كما شرع‬ ‫وهذا أي ً‬
‫له السبت والمسلمون ل يسبتون‪ ،‬وكما حرم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬فهذا‬
‫تمسك بشرع منسوخ‪ ،‬و ذاك تمسك بما كان قبل النبوة‪.‬‬

‫وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين‪ ،‬وحصل له تنزل شيطاني‪ ،‬وخطاب شيطاني‪ ،‬وبعضهم‬
‫يطير به شيطانه‪ ،‬وأعرف من هؤلء عدًدا طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للنبياء من التنزل‪ ،‬فنزلت عليهم‬
‫شِريَعٍة ِم ْ‬
‫ن‬ ‫عَلى َ‬
‫ك َ‬ ‫الشياطين؛ لنهم خرجوا عن شريعة النبي صلى ال عليه وسلم التي أمروا بها‪ .‬قال تعالى ‪ُ} :‬ثّم َ‬
‫جَعْلَنا َ‬
‫ن{‬
‫ي اْلُمّتِقي َ‬
‫ل َوِل ّ‬
‫ض َوا ُّ‬
‫ضُهْم َأْوِلَياُء َبْع ٍ‬
‫ن َبْع ُ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫شْيًئا َوِإ ّ‬
‫ل َ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ك ِم ْ‬
‫عن َ‬
‫ن ُيْغُنوا َ‬
‫ن ‪ِ .‬إّنُهْم َل ْ‬
‫ل َيْعَلُمو َ‬
‫ن َ‬
‫ل َتّتِبْع َأْهَواَء اّلِذي َ‬
‫لْمِر َفاّتِبْعَها َو َ‬
‫ا َْ‬
‫]الجاثية‪.[19 ،18 :‬‬

‫وكثير منهم ل يحد للخلوة مكاًنا‪ ،‬ول زماًنا‪ ،‬بل يأمر النسان أن يخلو في الجملة‪.‬‬

‫‪/‬ثم صار أصحاب الخلوات فيهم من يتمسك بجنس العبادات الشرعية‪ ،‬الصلة والصيام‪ ،‬والقراءة والذكر‪.‬وأكثرهم‬
‫يخرجون إلى أجناس غير مشروعة‪ ،‬فمن ذلك طريقة أبي حامد ومن تبعه‪ ،‬وهؤلء يأمرون صاحب الخلوة أل يزيد‬
‫على الفرض‪ ،‬ل قراءة ول نظًرا في حديث نبوي‪ ،‬ول غير ذلك‪ ،‬بل قد يأمرونه بالذكر‪ ،‬ثم قد يقولون ما يقوله أبو‬
‫حامد‪ :‬ذكر العامة‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬وذكر الخاصة‪ :‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬وذكر خاصة الخاصة‪ :‬هو‪ ،‬هو‪.‬‬

‫والذكر بالسم المفرد مظهًرا‪ ،‬ومضمًرا بدعة في الشرع‪ ،‬وخطأ في القول واللغة‪ ،‬فإن السم المجرد ليس هو كلًما ل‬
‫إيماًنا ول كفًرا‪.‬‬

‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬أفضل الكلم بعد القرآن أربع وهن من القرآن ‪ :‬سبحان‬
‫ال‪ ،‬والحمد ل‪ ،‬ول إله إل ال‪ ،‬وال أكبر(‪ .‬وفي حديث آخر‪) :‬أفضل الذكر ل إله إل ال(‪ ،‬وقال‪) :‬أفضل ما قلت أنا‬
‫والنبيون من قبلي‪ :‬ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير(‪ .‬والحاديث في‬
‫فضل هذه الكلمات كثيرة صحيحة‪.‬‬

‫وأما ذكر السم المفرد‪ ،‬فبدعة لم يشرع‪ ،‬وليس هو بكلم يعقل ول فيه إيمان؛ ولهذا صار بعض من يأمر به من‬
‫المتأخرين يبين أنه ليس ‪ /‬قصدنا ذكر ال ـ تعالى ـ ولكن جمع القلب على شيء معين حتي تستعد النفس لما يرد‬
‫ل شيطانًيا‪ ،‬فيلبسه الشيطان‪ ،‬ويخيل‬
‫عليها‪ ،‬فكان يأمر مريده بأن يقول هذا السم مرات‪ ،‬فإذا اجتمع قلبه ألقى عليه حا ً‬
‫إليه أنه قد صار في المل العلى‪ ،‬وأنه أعطى ما لم يعطه محمد صلى ال عليه وسلم ليلة المعراج‪ ،‬ول موسى ـ عليه‬
‫السلم ـ يوم الطور‪ ،‬وهذا وأشباهه وقع لبعض من كان في زماننا‪.‬‬
‫وأبلغ من ذلك من يقول‪ :‬ليس مقصودنا إل جمع النفس بأي شيء كان‪ ،‬حتي يقول‪ :‬ل فرق بين قولك‪ :‬يا حي ! وقولك‪:‬‬
‫يا جحش! وهذا مما قاله لي شخص منهم‪ ،‬وأنكرت ذلك عليه‪ ،‬ومقصودهم بذلك أن تجتمع النفس حتى يتنزل عليها‬
‫الشيطان‪.‬‬

‫ومنهم من يقول‪ :‬إذا كان قصد وقاصد‪ ،‬ومقصود‪ ،‬فاجعل الجميع واحًدا‪ ،‬فيدخله في أول المر في وحدة الوجود‪.‬‬

‫وأما أبو حامد‪ ،‬وأمثاله ممن أمروا بهذه الطريقة‪ ،‬فلم يكونوا يظنون أنها تفضي إلى الكفر لكن ينبغي أن يعرف أن‬
‫البدع بريد الكفر‪ ،‬ولكن أمروا المريد أن يفرغ قلبه من كل شيء‪ ،‬حتى قد يأمروه أن يقعد في مكان مظلم ويغطي‬
‫رأسه ويقول‪ :‬ال‪ ،‬ال‪ .‬وهم يعتقدون أنه إذا فرغ قلبه استعد بذلك فينزل على قلبه من المعرفة ما هو المطلوب‪ ،‬بل ‪/‬‬
‫قد يقولون‪ :‬إنه يحصل له من جنس ما يحصل للنبياء‪.‬‬

‫ومنهم من يزعم أنه حصل له أكثر مما حصل للنبياء‪ ،‬وأبو حامد يكثر من مدح هذه الطريقة في ]الحياء[ وغيره‪،‬‬
‫كما أنه يبالغ في مدح الزهد‪ ،‬وهذا من بقايا الفلسفة عليه‪ .‬فإن المتفلسفة‪ ،‬كابن سينا‪ ،‬وأمثاله يزعمون أن كل ما يحصل‬
‫في القلوب من العلم للنبياء وغيرهم فإنما هو من العقل الفعال؛ ولهذا يقولون‪ :‬النبوة مكتسبة‪ ،‬فإذا تفرغ صفى قلبه ـ‬
‫عندهم ـ وفاض على قلبه من جنس ما فاض على النبياء‪ .‬وعندهم أن موسى بن عمران صلى ال عليه وسلم كلم من‬
‫سماء عقله‪ ،‬لم يسمع الكلم من خارج؛ فلهذا يقولون‪ :‬إنه يحصل لهم مثل ما حصل لموسى‪ ،‬وأعظم مما حصل‬
‫لموسى‪.‬‬

‫وأبو حامد يقول‪ :‬إنه سمع الخطاب‪ ،‬كما سمعه موسى ـ عليه السلم ـ وإن لم يقصد هو بالخطاب‪ ،‬وهذا كله ؛ لنقص‬
‫إيمانهم بالرسل وأنهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرسل وكفروا ببعض‪ ،‬وهذا الذي قالوه باطل من وجوه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن هذا الذي يسمونه‪ :‬العقل الفعال‪ ،‬باطل ل حقيقة له كما قد بسط هذا في موضع آخر‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن ما يجعله ال في القلوب يكون تارة بواسطة الملئكة ‪ /‬إن كان حًقا‪ ،‬وتارة بواسطة الشياطين‪ ،‬إذا كان‬
‫ل‪ .‬والملئكة‪ ،‬والشياطين أحياء ناطقون‪ ،‬كما قد دلت على ذلك الدلئل الكـثيرة من جـهة النبياء‪ ،‬وكما يدعي ذلك‬‫باط ً‬
‫من باشره من أهل الحقائق‪ .‬وهم يزعمون أن الملئكة‪ ،‬والشياطين صفات لنفس النسان فقط‪ .‬وهذا ضلل عظيم‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬أن النبياء جاءتهم الملئكة من ربهم بالوحي‪ ،‬ومنهم من كلمه ال ـ تعالى ـ فقربه وناداه‪ ،‬كما كلم موسى ـ‬
‫عليه السلم ـ لم يكن ما حصل لهم مجرد فيض‪ ،‬كما يزعمه هؤلء‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬أن النسان إذا فرغ قلبه من كل خاطر‪ .‬فمن أين يعلم أن ما يحصل فيه حق؟ هذا إما أن يعلم بعقل‪ ،‬أو سمع‪،‬‬
‫وكلهما لم يدل على ذلك‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬أن الذي قد علم بالسمع والعقل‪ ،‬أنه إذا فرغ قلبه من كل شيء حلت فيه الشياطين‪ ،‬ثم تنزلت عليه الشياطين‪،‬‬
‫كما كانت تتنزل على الكهان‪ ،‬فإن الشيطان إنما يمنعه من الدخول إلى قلب ابن آدم ما فيه من ذكر ال‪ ،‬الذي أرسل به‬
‫ن ‪َ .‬وِإّنُهْم‬ ‫طاًنا َفُهَو َلُه َقِري ٌ‬
‫شْي َ‬
‫ض َلُه َ‬
‫ن ُنَقّي ْ‬‫حَم ِ‬‫ن ِذْكِر الّر ْ‬
‫عْ‬
‫ش َ‬ ‫رسله‪ ،‬فإذا خل من ذلك توله الشيطان‪ ،‬قال ال ـ تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َيْع ُ‬
‫غِوَيّنُهْم‬
‫لْ‬‫ك َُ‬ ‫ن{]الزخرف‪ ،[37 ،36 :‬وقال الشيطان‪ ،‬فيما أخبر ال عنه‪َ} :‬فِبِعّزِت َ‬ ‫ن َأّنُهْم ُمْهَتُدو َ‬
‫سُبو َ‬
‫حَ‬ ‫ل َوَي ْ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫عْ‬‫صّدوَنُهْم َ‬‫َلَي ُ‬
‫ك ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ن اّتَبَع َ‬‫ل َم ْ‬‫ن ِإ ّ‬
‫طا ٌ‬‫سْل َ‬
‫عَلْيِهْم ُ‬
‫ك َ‬
‫س َل َ‬
‫عَباِدي َلْي َ‬ ‫ن{ ]ص‪ ،[83 ،82 :‬وقال تعالى ‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِ‬ ‫صي َ‬ ‫خَل ِ‬‫ك ِمْنُهْم اْلُم ْ‬
‫عَباَد َ‬
‫ل ِ‬‫جَمِعينَ ‪ِ .‬إ ّ‬
‫َأ ْ‬
‫اْلَغاِويَن{]الحجر‪ ،[42 :‬والمخلصون هم الذين يعبدونه وحده ل يشركون به شيًئا‪ ،‬وإنما يعبد ال بما أمر به على ألسنة‬
‫رسله فمن لم يكن كذلك تولته الشياطين‪.‬‬

‫وهذا باب دخل فيه أمر عظيم على كثير من السالكين‪ ،‬واشتبهت عليهم الحوال الرحمانية بالحوال الشيطانية‪،‬‬
‫وحصل لهم من جنس ما يحصل للكهان والسحرة‪ ،‬وظنوا أن ذلك من كرامات أولياء ال المتقين‪ ،‬كما قد بسط الكلم‬
‫على هذا في غير هذا الموضع‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أن هذه الطريقة لو كانت حًقا‪ ،‬فإنما تكون في حق من لم يأته رسول‪ ،‬فأما من أتاه رسول وأمر بسلوك‬
‫طريق‪ ،‬فمن خالفه ضل‪ ،‬وخاتم الرسل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قد أمر أمته بعبادات شرعية من صلة‪ ،‬وذكر‪ ،‬ودعاء‪،‬‬
‫وقراءة‪ ،‬لم يأمرهم قط بتفريغ القلب من كل خاطر‪ ،‬وانتظار ما ينزل‪.‬‬

‫فهذه الطريقة لو قدر أنها طريق لبعض النبياء‪ ،‬لكانت منسوخة بشرع محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكيف وهي‬
‫طريقة جاهلية ل توجب الوصول إلى المطلوب إل بطريق التفاق‪ ،‬بأن يقذف ال ـ تعالى ـ في قلب ‪ /‬العبد إلهاًما‬
‫ينفعه؟ وهذا قد يحصل لكل أحد ليس هو من لوازم هذه الطريق‪.‬‬

‫ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما ل يحبه ال‪ ،‬ويملؤه بما يحبه ال‪ ،‬فيفرغه من عبادة‬
‫غير ال ويملؤه بعبادة ال‪ ،‬وكذلك يفرغه عن محبة غير ال ويملؤه بمحبة ال‪ ،‬وكذلك يخرج عنه خوف غير ال‪،‬‬
‫ويدخل فيه خوف ال ـ تعالى ـ وينفي عنه التوكل على غير ال‪ ،‬ويثبت فيه التوكل على ال‪ .‬وهذا هو السلم‬
‫المتضمن لليمان الذي يمده القرآن ويقويه‪ ،‬ل ينقاضه وينافيه‪ ،‬كما قال جندب وابن عمر‪ :‬تعلمنا اليمان ثم تعلمنا‬
‫القرآن فازددنا إيماًنا‪.‬‬

‫وأما القتصار على الذكر المجرد الشرعي‪ ،‬مثل قول‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬فهذا قد ينتفع به النسان أحياًنا‪ ،‬لكن ليس هذا‬
‫الذكر وحده هو الطريق إلى ال ـ تعالى ـ دون ما دعاه‪ ،‬بل أفضل العبادات البدنية الصلة‪ ،‬ثم القراءة‪ ،‬ثم الذكر‪ ،‬ثم‬
‫الدعاء‪ ،‬والمفضول في وقته الذي شرع فيه أفضل من الفاضل‪ ،‬كالتسبيح في الركوع‪ ،‬والسجود‪ ،‬فإنه أفضل من‬
‫القراءة‪ ،‬وكذلك الدعاء في آخر الصلة أفضل من القراءة‪ ،‬ثم قد يفتح على النسان في العمل المفضول‪ ،‬ما ل يفتح‬
‫عليه في العمل الفاضل‪ .‬وقد ييسر عليه هذا دون هذا‪ ،‬فيكون هذا أفضل في حقه لعجزه عن الفضل‪ ،‬كالجائع إذا وجد‬
‫الخبز المفضول متيسًرا عليه‪ ،‬والفاضل متعسًرا ‪ /‬عليه فإنه ينتفع بهذا الخبز المفضول‪ ،‬وشبعه واغتذاؤه به حينئذ‬
‫أولى به‪.‬‬

‫السابع‪ :‬أن أبا حامد يشبه ذلك بنقش أهل الصين والروم على تزويق الحائط‪ ،‬وأولئك صقلوا حائطهم حتى تمثل فيه ما‬
‫صقله هؤلء‪ ،‬وهذا قياس فاسد؛ لن هذا الذي فرغ قلبه لم يكن هناك قلب آخر يحصل له به التحلية‪ ،‬كما حصل لهذا‬
‫الحائط من هذا الحائط‪ .‬بل هو يقول إن‪ :‬العلم منقوش في النفس الفلكية‪ ،‬ويسمى ذلك ]اللوح المحفوظ[ تبًعا لبن سينا‪.‬‬

‫وقد بينا في غير هذا الموضع أن اللوح المحفوظ الذي ذكره ال ورسوله ليس هو النفس الفلكية‪ ،‬وابن سينا ومن تبعه‬
‫أخذوا أسماء جاء بها الشرع‪ ،‬فوضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع‪ ،‬ثم صاروا يتكلمون بتلك‬
‫السماء‪ ،‬فيظن الجاهل أنهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشرع‪ ،‬فأخذوا مخ الفلسفة‪ ،‬وكسوه لحاء الشريعة‪.‬‬

‫ك‪ ،‬والملكوت‪ ،‬والجبروت‪ ،‬و اللوح المحفوظ‪ ،‬والملك‪ ،‬والشيطان‪ ،‬والحدوث‪ ،‬والقدم وغير ذلك‪.‬‬
‫وهذا كلفظ الُمْل ِ‬

‫‪/‬وقد ذكرنا من ذلك طرًفا في الرد على التحادية‪ ،‬لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي وما يوجد في كلم أبي‬
‫حامد‪ ،‬ونحوه من أصول هؤلء الفلسفة الملحدة الذين يحرفون كلم ال ورسوله عن مواضعه‪ ،‬كما فعلت طائفة‬
‫القرامطة الباطنية‪.‬‬

‫والمقصود هنا أنه لو كانت العلوم تنزل على القلوب من النفس الفلكية‪ ،‬كما يزعم هؤلء‪ ،‬فل فرق في ذلك بين الناظر‬
‫والمستدل والمفرغ قلبه‪ ،‬فتمثيل ذلك بنقش أهل الصين والروم تمثيل باطل‪.‬‬

‫ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكار معينة وقوت معين‪ ،‬ولهم تنزلت معروفة‪ ،‬وقد بسط الكلم عليها ابن عربي‬
‫الطائي ومن سلك سبيله‪ ،‬كالتلمساني‪ ،‬وهي تنزلت شيطانية قد عرفتها وخبرت ذلك من وجوه متعددة‪ ،‬لكن ليس هذا‬
‫موضع بسطها‪ ،‬وإنما المقصود التنبيه على هذا الجنس‪.‬‬

‫ومما يأمرون به الجوع والسهر والصمت مع الخلوة بل حدود شرعية‪ ،‬بل سهر مطلق‪ ،‬وجوع مطلق‪ ،‬وصمت‬
‫ل شيطانية‪ ،‬و أبو طالب قد ذكر بعض ذلك‪،‬‬
‫مطلق مع الخلوة‪ ،‬كما ذكر ذلك ابن عربي وغيره‪ ،‬وهي تولد لهم أحوا ً‬
‫لكن أبو طالب أكثر اعتصاًما بالكتاب والسنة من هؤلء‪ .‬ولكن يذكر أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة‪ /.‬من جنس‬
‫أحاديث المسبعات التي رواها عن الخضر عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو كذب محض‪ ،‬وإن كان ليس فيه إل‬
‫قراءة قرآن‪ ،‬ويذكر أحياًنا عبادات بدعية من جنس ما بالغ في مدح الجوع هو‪ ،‬وأبو حامد وغيرهما‪ ،‬وذكروا أنه يزن‬
‫الخبز بخشب رطب‪ ،‬كلما جف نقص الكل‪.‬‬

‫وذكروا صلوات اليام والليالي‪ ،‬وكلها كذب موضوعة؛ ولهذا قد يذكرون مع ذلك شيًئا من الخيالت الفاسدة‪ ،‬وليس‬
‫هذا موضع بسط ذلك‪.‬‬

‫وإنما الغرض التنبيه بهذا علي جنس من العبادات البدعية‪ ،‬وهي ‪] :‬الخلوات البدعية[ سواء قدرت بزمان‪ ،‬أو لم تقدر؛‬
‫لما فيها من العبادات البدعية‪ ،‬أما التي جنسها مشروع‪ ،‬ولكن غير مقدرة وأما ما كان جنسه غير مشروع‪ ،‬فأما‬
‫الخلوة‪ ،‬والعزلة‪ ،‬والنفراد المشروع‪ ،‬فهو ما كان مأموًرا به أمر إيجاب‪ ،‬أو استحباب‪:‬‬

‫حّتى‬
‫عْنُهْم َ‬ ‫ض َ‬ ‫عِر ْ‬ ‫ن ِفي آَياِتَنا َفَأ ْ‬ ‫ضو َ‬ ‫خو ُ‬ ‫ن َي ُ‬‫ت اّلِذي َ‬‫فالول‪ :‬كاعتزال المور المحرمة‪ ،‬ومجانبتها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وِإَذا َرَأْي َ‬
‫ل َوَهْبَنا َلُه‬‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬ ‫ن ِم ْ‬ ‫غْيِرِه{ ]النعام‪ ،[68 :‬ومنه قوله تعالى عن الخليل‪َ} :‬فَلّما ا ْ‬
‫عَتَزَلُهْم َوَما َيْعُبُدو َ‬ ‫ث َ‬ ‫حِدي ٍ‬
‫ضوا ِفي َ‬ ‫خو ُ‬ ‫َي ُ‬
‫ل َفْأُووا ِإَلى‬ ‫ل ا َّ‬
‫ن ِإ ّ‬‫عَتَزْلُتُموُهْم َوَما َيْعُبُدو َ‬ ‫جَعْلَنا َنِبّيا{ ]مريم‪ ،[49 :‬و قوله عن أهل ‪ /‬الكهف‪َ} :‬وِإْذ ا ْ‬ ‫ل َ‬‫ب َوُك ّ‬
‫ق َوَيْعُقو َ‬
‫حا َ‬
‫سَ‬‫ِإ ْ‬
‫ف{ ] الكهف‪ ،[16 :‬فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ول جماعة‪ ،‬ول من يأمر بشرع نبي ؛ فلهذا أووا إلى‬ ‫اْلَكْه ِ‬
‫الكهف‪ ،‬وقد قال موسى‪َ} :‬وِإْن َلْم ُتْؤِمُنوا ِلي َفاْعَتِزُلوِني{ ]الدخان‪.[21 :‬‬

‫وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما ل ينفع‪ ،‬وذلك بالزهد فيه‪ ،‬فهو مستحب‪ ،‬وقد قال طاووس‪ :‬نعم صومعة‬
‫الرجل بيته يكف فيه بصره‪ ،‬وسمعه‪.‬‬

‫وإذا أراد النسان تحقيق علم‪ ،‬أو عمل‪ ،‬فتخلى في بعض الماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة‪ ،‬فهذا حق كما‬
‫في الصحيحين‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل‪ :‬أي الناس أفضل؟ قال‪) :‬رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل ال‪ ،‬كلما‬
‫سمع هيعة طار إليها يتتبع الموت مظانه‪ ،‬ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلة‪ ،‬ويؤتي الزكاة‪ ،‬ويدع‬
‫الناس إل من خير(‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬يقيم الصلة ويؤتي الزكاة( دليل على أن له مال يزكيه‪ ،‬وهو ساكن مع ناس يؤذن بينهم وتقام الصلة فيهم‪،‬‬
‫فقد قال صلوات ال عليه‪) :‬ما من ثلثة في قرية ول بدو ل تقام فيهم الصلة جماعة إل وقد استحوذ عليهم الشيطان(‬
‫وقال‪) :‬عليكم بالجماعة‪ ،‬فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم(‪.‬‬

‫صـــل‬
‫َف ْ‬ ‫‪/‬‬

‫وهذه الخلوات‪ ،‬قد يقصد أصحابها الماكن التي ليس فيها أذان‪ ،‬ول إقامة‪ ،‬ول مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس‪،‬‬
‫إما مساجد مهجورة‪ ،‬وإما غير مساجد‪ ،‬مثل الكهوف‪ ،‬والغيران التي في الجبال‪ ،‬ومثل المقابر ل سيما قبر من يحسن‬
‫به الظن‪ ،‬ومثل المواضع التي يقال أن بها أثر نبي‪ ،‬أو رجل صالح؛ ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال‬
‫شيطانية‪ ،‬يظنون أنها كرامات رحمانية‪.‬‬

‫فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه‪ ،‬وقد مات من سنين كثيرة‪ ،‬ويقول‪ :‬أنا فلن‪ ،‬وربما قال له‪ :‬نحن إذا‬
‫وضعنا في القبر خرجنا‪ ،‬كما جرى للتونسي مع نعمان السلمي‪.‬‬

‫والشياطين كثيًرا ما يتصورون‪ ،‬بصورة النس في اليقظة والمنام‪ ،‬وقد تأتي لمن ل يعرف فتقول‪ :‬أنا الشيخ فلن‪ ،‬أو‬
‫العالم فلن‪ ،‬وربما قالت‪ :‬أنا أبو بكر وعمر وربما أتى في اليقظة دون المنام‪ ،‬وقال‪ :‬أنا المسيح‪ ،‬أنا موسى‪ ،‬أنا محمد‪،‬‬
‫وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها‪ / ،‬وثم من يصدق بأن النبياء يأتون في اليقظة في صورهم‪ ،‬وثم شيوخ لهم زهد‪،‬‬
‫وعلم‪ ،‬وورع‪ ،‬ودين يصدقون بمثل هذا‪.‬‬

‫ومن هؤلء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي‪ ،‬أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه‪ .‬ومن هؤلء من رأى‬
‫في دائرة ذرى الكعبة صورة شيخ‪ ،‬قال‪ :‬إنه إبراهيم الخليل‪ ،‬ومنهم من يظن أن النبي صلى ال عليه وسلم خرج من‬
‫الحجرة وكلمه‪ ،‬وجعلوا هذا من كراماته‪ ،‬ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه‪.‬‬
‫وبعضهم كان يحكي‪ :‬أن ابن منده‪ ،‬كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل‪ ،‬فسأل النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم عن ذلك فأجابه‪ ،‬وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك‪ ،‬وجعل ذلك من كراماته‪ ،‬حتى قال ابن عبد‬
‫البر لمن ظن ذلك‪ :‬ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الولين من المهاجرين والنصار؟ فهل في هؤلء من سأل‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم بعد الموت وأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء‪ ،‬فهل سألوا النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫فأجابهم ؟ وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه‪ ،‬فهل سألته فأجابها؟‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫ل عليهم وسلمه أجمعين ـ قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه‪ ،‬وأن نقتدي بهم‪ ،‬وبهداهم‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫والنبياء ـ صلوات ا ّ‬
‫سى َوَما ُأوِتيَ‬ ‫عي َ‬‫سى َو ِ‬‫ي ُمو َ‬ ‫ط َوَما ُأوِت َ‬‫سَبا ِ‬
‫لْ‬‫ب َوا َْ‬
‫ق َوَيْعُقو َ‬
‫حا َ‬
‫سَ‬
‫ل َوِإ ْ‬
‫عي َ‬
‫سَما ِ‬‫ل ِإَلى ِإْبَراِهيَم َوِإ ْ‬
‫ل ِإَلْيَنا َوَما ُأنِز َ‬
‫ل َوَما ُأنِز َ‬
‫}ُقوُلوا آَمّنا ِبا ِّ‬
‫ل َفِبُهَداُهْم اْقَتِدِه{ ]‬
‫ن َهَدى ا ُّ‬ ‫ن{ ]البقرة‪ ،[136 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬أْوَلِئ َ‬
‫ك اّلِذي َ‬ ‫سِلُمو َ‬‫ن َلُه ُم ْ‬
‫حُ‬ ‫حٍد ِمْنُهْم َوَن ْ‬
‫ن َأ َ‬
‫ق َبْي َ‬
‫ل ُنَفّر ُ‬
‫ن َرّبِهْم َ‬‫ن ِم ْ‬ ‫الّنِبّيو َ‬
‫النعام‪ [90 :‬ومحمد صلى ال عليه وسلم خاتم النبيين ل نبي بعده‪ ،‬وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره‪ ،‬فلم‬
‫ل إل باتباع محمد صلى ال عليه وسلم فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب‪ ،‬فهو‬
‫يبق طريق إلى ا ّ‬
‫مشروع‪ ،‬وكذلك ما رغب فيه‪ ،‬وذكر ثوابه‪ ،‬وفضله‪.‬‬

‫ول يجوز أن يقال‪ :‬إن هذا مستحب‪ ،‬أو مشروع‪ ،‬إل بدليل شرعي‪ ،‬ول يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف‪ ،‬لكن‬
‫إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي‪ ،‬وروى له فضائل بأسانيد ضعيفة‪ ،‬جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب‪ ،‬وذلك‬
‫أن مقادير الثواب غير معلومة‪ ،‬فإذا روى في مقدار الثواب حديث ل يعرف أنه كذب‪ ،‬لم يجز أن يكذب ‪/‬به‪ ،‬وهذا هو‬
‫الذي كان المام أحمد بن حنبل‪ ،‬وغيره يرخصون فيه‪ ،‬وفي روايات أحاديث الفضائل‪ .‬وأما أن يثبتوا أن هذا عمل‬
‫ل‪ ،‬كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب‪ ،‬فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته‬
‫مستحب مشروع بحديث ضعيف‪ ،‬فحاشا ّ‬
‫إل أن يبينوا أنه كذب لقول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪) :‬من روى عني حديًثا يرى أنه كذب فهو‬
‫أحد الكاذبين(‪.‬‬

‫وما فعله النبي صلى ال عليه وسلم على وجه التعبد‪ ،‬فهو عبادة يشرع التأسي به فيه‪ .‬فإذا خصص زمان أو مكان‬
‫بعبادة‪ ،‬كان تخصيصه بتلك العبادة سنة؛ كتخصيصه العشر الواخر بالعتكاف فيها وكتخصيصه مقام إبراهيم‬
‫بالصلة فيه‪ ،‬فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل‪ ،‬على الوجه الذي فعل؛ لنه فعل‪.‬‬

‫وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد‪ ،‬فإذا سافر لحج أو عمرة أو جهاد وسافرنا كذلك‪ ،‬كنا متبعين له‪ ،‬وكذلك إذا‬
‫ضرب لقامة حد‪ ،‬بخلف من شاركه في السفر‪ ،‬وكان قصده غير قصده‪ ،‬أو شاركه في الضرب‪ ،‬وكان قصده غير‬
‫ل بحكم التفاق مثل نزوله في السفر بمكان‪ ،‬أو أن يفضل في إداوته ماء‬ ‫قصده‪ ،‬فهذا ليس بمتابع له‪ ،‬ولو فعل فع ً‬
‫فيصبه في أصل شجرة‪ ،‬أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق ونحو ذلك‪ ،‬فهل يستحب قصد متابعته في ذلك؟‬
‫كان ابن عمر يحب أن ‪ /‬يفعل مثل ذلك‪ .‬وأما الخلفاء الراشدون‪ ،‬وجمهور الصحابة‪ ،‬فلم يستحبوا ذلك؛ لن هذا ليس‬
‫بمتابعة له‪ ،‬إذ المتابعة لبد فيها من القصد‪ ،‬فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل‪ ،‬بل حصل له بحكم التفاق كان في قصده‬
‫ل عنه ـ يقول‪ :‬وإن لم يقصده‪ ،‬لكن نفس فعله حسن على أي وجه كان‪ ،‬فأحب أن‬ ‫غير متابع له‪ ،‬وابن عمر ـ رضي ا ّ‬
‫أفعل مثله‪ ،‬إما لن ذلك زيادة في محبته‪ ،‬وإما لبركة مشابهته له‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬إخراج التمر في صدقة الفطر لمن ليس ذلك قوته‪ ،‬وأحمد قد وافق ابن عمر على مثل ذلك‪ ،‬ويرخص‬
‫عا لبن عمر‪ ،‬وعن أحمد في التمسح‬
‫في مثل ما فعله ابن عمر‪ ،‬وكذلك رخص أحمد في التمسح بمقعده من المنبر اتبا ً‬
‫بالمنبر روايتان‪.‬‬

‫أشهرهما أنه مكروه‪ ،‬كقول الجمهور‪ ،‬وأما مالك وغيره من العلماء‪ ،‬فيكرهون هذه المور وإن فعلها ابن عمر‪ ،‬فإن‬
‫أكابر الصحابة‪ ،‬كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم‪ ،‬لم يفعلها‪ .‬فقد ثبت بالسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب ـ‬
‫ل عنه ـ أنه كان في السفر فرآهم ينتابون مكاًنا يصلون فيه‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا؟ قالوا‪ :‬مكان صلى فيه رسول ا ّ‬
‫ل‬ ‫رضي ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال‪ :‬أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا‪ ،‬من أدركته فيه‬
‫الصلة فليصل فيه وإل فليمض‪.‬‬
‫‪/‬وهكذا للناس قولن‪ ،‬فيما فعله من المباحات على غير وجه القصد هل متابعته فيه مباحة فقط‪ ،‬أو مستحبة؟ على‬
‫قولين في مذهب أحمد وغيره‪ ،‬كما قد بسط ذلك في موضعه‪ ،‬ولم يكن ابن عمر‪ ،‬ول غيره من الصحابة يقصدون‬
‫الماكن التي كان ينزل فيها ويبيت فيها مثل بيوت أزواجه‪ ،‬ومثل مواضع نزوله في مغازيه‪ ،‬وإنما كان الكلم في‬
‫مشابهته في صورة الفعل فقط‪ ،‬وإن كان هو لم يقصد التعبد به‪ ،‬فأما المكنة نفسها‪ ،‬فالصحابة متفقون على أنه ل‬
‫يعظم منها‪ ،‬إل ما عظمه الشارع‪.‬‬

‫َفصــل‬

‫وأهل العبادات البدعية‪ ،‬يزين لهم الشيطان تلك العبادات‪ ،‬ويبغض إليهم السبل الشرعية حتى يبغضهم في العلم‬
‫والقرآن والحديث‪ ،‬فل يحبون سماع القرآن والحديث‪ ،‬ول ذكره‪ ،‬وقد يبغض إليهم حتى الكتاب‪ ،‬فل يحبون كتابا‪ ،‬ول‬
‫من معه كتاب‪ ،‬ولو كان مصحًفا أو حديًثا‪ ،‬كما حكى النصراباذي أنهم كانوا يقولون‪ :‬يدع علم الخرق‪ ،‬ويأخذ علم‬
‫الورق‪ ،‬قال‪ :‬وكنت أستر الواحى منهم‪ ،‬فلما كبرت احتاجوا إلى علمي‪.‬‬

‫وكذلك حكى السري السقطي‪ :‬أن واحًدا منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلًما خرج‪ ،‬ولم يقعد عنده‪ ،‬ولهذا قال‬
‫ل التستري‪ :‬يا معشر الصوفية‪ ،‬ل تفارقوا السواد على البياض‪ ،‬فما فارق أحد السواد على البياض إل‬ ‫سهل بن عبد ‪ /‬ا ّ‬
‫تزندق‪ .‬وقال الجنيد‪ :‬علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة‪ ،‬فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث ل يقتدى به في هذا‬
‫الشأن‪.‬‬

‫وكثير من هؤلء ينفر ممن يذكر الشرع‪ ،‬أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب‪ ،‬وذلك؛ لنهم استشعروا أن هذا‬
‫الجنس فيه ما يخالف طريقهم‪ ،‬فصارت شياطينهم تهربهم من هذا‪ ،‬كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلم‬
‫المسلمين حتى ل يتغير اعتقاده في دينه‪ ،‬وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم‪ ،‬ويستغشون ثيابهم لئل‬
‫ن{‬
‫ن َواْلَغْوا ِفيِه َلَعّلُكْم َتْغِلُبو َ‬
‫سَمُعوا ِلَهَذا اْلُقْرآ ِ‬
‫ل َت ْ‬
‫ن َكَفُروا َ‬ ‫ل تعالى عن المشركين‪َ} :‬وَقا َ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫يسمعوا كلمه ول يروه‪ ،‬وقال ا ّ‬
‫ت ِمْن َقْسَوَرٍة{ ]المدثر‪.[51 - 49 :‬‬ ‫سَتْنِفَرٌة‪َ .‬فّر ْ‬
‫حُمٌر ُم ْ‬‫ن‪َ .‬كَأّنُهْم ُ‬
‫ضي َ‬
‫ن الّتْذِكَرِة ُمْعِر ِ‬
‫عْ‬‫]فصلت‪ ،[26 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فَما َلُهْم َ‬
‫ل ـ تعالى‪:‬‬ ‫وهم من أرغب الناس في السماع البدعي‪ ،‬سماع المعازف‪ .‬ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات ا ّ‬

‫ل ـ تعالى ـ وسلوك‬
‫وكان مما زين لهم طريقهم‪ ،‬أن وجدوا كثيًرا من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة ا ّ‬
‫ل بالدنيا‪ ،‬وإما بالمعاصي وإما جهل وتكذيًبا بما يحصل لهل التأله والعبادة‪ ،‬فصار وجود هؤلء مما‬
‫سبيله‪ ،‬إما اشتغا ً‬
‫ينفرهم‪ ،‬وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه ‪ /‬من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين‪ ،‬هؤلء يقولون‪ :‬ليس هؤلء‬
‫على شيء‪ ،‬وهؤلء يقولون‪ :‬ليس هؤلء على شيء‪ ،‬وقد يظنون أنهم يحصل لهم بطريقهم أعظم مما يحصل في‬
‫الكتب‪.‬‬

‫ل‪،‬‬
‫صا حصل له ذلك‪ ،‬وهذا كذب‪ .‬نعم قد يكون سمع آيات ا ّ‬ ‫فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بل تلقين‪ ،‬ويحكون أن شخ ً‬
‫فلما صفى نفسه تذكرها فتلها‪ .‬فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها‪ ،‬ويقول بعضهم أو يحكي أن‬
‫ن ما‬
‫بعضهم قال‪ :‬أخذوا علمهم ميًتا عن ميت‪ ،‬وأخذنا علمنا عن الحي الذي ل يموت‪ .‬وهذا يقع‪ ،‬لكن منهم من يظن أ ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ بل واسطة‪ ،‬وقد يكون من الشيطان وليس عندهم فرقان يفرق بين‬ ‫يلقي إليه من خطاب‪ ،‬أو خاطر هو من ا ّ‬
‫الرحماني والشيطاني‪ ،‬فإن الفرق الذي ل يخطئ هو القرآن والسنة‪ ،‬فما وافق الكتاب والسنة‪ ،‬فهو حق‪ .‬وماخالف‬
‫ذلك‪ ،‬فهو خطأ‪.‬‬

‫ن‪.‬‬
‫ن َأّنُهْم ُمْهَتُدو َ‬
‫سُبو َ‬
‫حَ‬‫ل َوَي ْ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫عْ‬
‫صّدوَنُهْم َ‬
‫ن‪َ .‬وِإّنُهْم َلَي ُ‬
‫طاًنا َفُهَو َلُه َقِري ٌ‬
‫شْي َ‬
‫ض َلُه َ‬
‫ن ُنَقّي ْ‬ ‫حَم ِ‬
‫ن ِذْكِر الّر ْ‬ ‫عْ‬ ‫ش َ‬
‫ن َيْع ُ‬ ‫وقد قال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫س اْلَقِريُن{ ]الزخرف‪. [36-38 :‬‬ ‫ن َفِبْئ َ‬
‫شِرَقْي ِ‬‫ك ُبْعَد اْلَم ْ‬
‫ت َبْيِني َوَبْيَن َ‬
‫ل َياَلْي َ‬
‫جاَءَنا َقا َ‬
‫حّتى ِإَذا َ‬
‫َ‬

‫ك َأنَزْلَناُه{ ]النبياء‪ ،[50 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما ُهَو ِإ ّ‬


‫ل‬ ‫وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله‪ ،‬قال تعالي‪َ} :‬وَهَذا ِذْكٌر ُمَباَر ٌ‬
‫ن ِذْكِري‬ ‫عْ‬ ‫ض َ‬ ‫عَر َ‬ ‫ن َأ ْ‬‫شَقى ‪َ .‬وَم ْ‬ ‫ل َي ْ‬‫ل َو َ‬ ‫ضّ‬‫ل َي ِ‬ ‫ي َف َ‬ ‫ن{ ] القلم‪ ،[52 :‬وقال تعـالى‪َ}/ :‬فِإّما َيْأِتَيّنُكْم ِمّني ُهًدى َفَم ْ‬
‫ن اّتَبَع ُهَدا َ‬ ‫ِذْكٌر ِلْلَعاَلِمي َ‬
‫سيَتَها َوَكَذِل َ‬
‫ك‬ ‫ك آَياُتَنا َفَن ِ‬
‫ك َأَتْت َ‬
‫ل َكَذِل َ‬‫صيًرا ‪َ .‬قا َ‬ ‫ت َب ِ‬ ‫عَمى َوَقْد ُكن ُ‬ ‫شْرَتِني َأ ْ‬
‫حَ‬ ‫ب ِلَم َ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫عَمى ‪َ .‬قا َ‬ ‫شُرُه َيْوَم اْلِقَياَمِة َأ ْ‬‫حُ‬‫ضنًكا َوَن ْ‬ ‫شًة َ‬ ‫ن َلُه مَِعي َ‬ ‫َفِإ ّ‬
‫ت َأ ّ‬
‫ن‬ ‫حا ِ‬ ‫صاِل َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن َيْعَمُلو َ‬‫ن اّلِذي َ‬ ‫شُر اْلُمْؤِمِني َ‬‫ي َأْقَوُم َوُيَب ّ‬
‫ن َيْهِدي ِلّلِتي هِ َ‬ ‫ن َهَذا اْلُقْرآ َ‬‫سى{ ]طه‪ ،[123-126 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫اْلَيْوَم ُتن َ‬
‫حْيَنا ِإَلْي َ‬
‫ك‬ ‫ك َأْو َ‬ ‫عَذاًبا َأِليًما{ ]السراء‪ ،[10 ،9 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَكَذِل َ‬ ‫عَتْدَنا َلُهْم َ‬
‫خَرِة َأ ْ‬‫لِ‬ ‫ن ِبا ْ‬
‫ل ُيْؤِمُنو َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫جًرا َكِبيًرا ‪َ .‬وَأ ّ‬‫َلُهْم َأ ْ‬
‫سَتِقيٍم‬
‫ط ُم ْ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫ك َلَتْهِدي ِإَلى ِ‬ ‫عَباِدَنا َوِإّن َ‬
‫ن ِ‬ ‫شاُء ِم ْ‬ ‫ن َن َ‬
‫جَعْلَناُه ُنوًرا َنْهِدي ِبِه َم ْ‬‫ن َ‬ ‫ن َوَلِك ْ‬‫ليَما ُ‬ ‫ل ا ِْ‬‫ب َو َ‬‫ت َتْدِري َما اْلِكَتا ُ‬ ‫ن َأْمِرَنا َما ُكْن َ‬
‫حا مِ ْ‬ ‫ُرو ً‬
‫لُموُر{ ]الشورى‪ ،[53 ،52 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬كَتابٌ‬ ‫صيُر ا ُْ‬
‫ل َت ِ‬
‫ل ِإَلى ا ِّ‬ ‫ض َأ َ‬‫لْر ِ‬ ‫ت َوَما ِفي ا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬‫ل اّلِذي َلُه َما ِفي ال ّ‬‫ط ا ِّ‬‫صَرا ِ‬ ‫‪ِ .‬‬
‫حِميٌِد{ ]إبراهيم‪ ،[1 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فاّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫ط اْلَعِزيِز اْل َ‬
‫صَرا ِ‬
‫ن َرّبِهْم ِإَلى ِ‬ ‫ت ِإَلى الّنوِر ِبِإْذ ِ‬
‫ظُلَما ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫س ِم ْ‬
‫ج الّنا َ‬‫خِر َ‬
‫ك ِلُت ْ‬‫َأنَزْلَناُه ِإَلْي َ‬
‫ك ُهْم اْلُمْفِلُحوَن{ ]العراف‪. [157 :‬‬ ‫ل َمَعُه ُأْوَلِئ َ‬‫صُروُه َواّتَبُعوا الّنوَر اّلِذي ُأنِز َ‬
‫عّزُروُه َوَن َ‬ ‫آَمُنوا ِبِه َو َ‬

‫ل بل واسطة‪ ،‬صاروا عند أنفسهم أعظم من اتباع الرسول‪ .‬يقول‬ ‫ثم إن هؤلء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من ا ّ‬
‫ضا‪ :‬فلن يأخذ عن الكتاب‪ ،‬وهذا الشيخ‬
‫ل بل واسطة‪ ،‬ويقول أي ً‬
‫أحدهم‪ :‬فلن عطيته على يد محمد‪ ،‬وأنا عطيتي من ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ومثل هذا‪.‬‬‫يأخذ عن ا ّ‬

‫ل لفظ مجمل‪ ،‬فإن ‪ /‬أراد به العطاء والخذ العام وهو الكوني الخلقي أي‪:‬‬ ‫ل‪ ،‬وأعطاني ا ّ‬‫وقول القائل‪ :‬يأخذ عن ا ّ‬
‫ل وقدرته حصل لي هذا‪ ،‬فهو حق‪ ،‬ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا‪ ،‬وذلك الذي أخذ عن الكتاب‪ ،‬هو‬ ‫بمشيئة ا ّ‬
‫ضا هم كذلك‪ ،‬وإن أراد أن هذا الذي حصل له‬ ‫ل أخذ بهذا العتبار‪ .‬والكفار من المشركين وأهل الكتاب أي ً‬‫ضا عن ا ّ‬‫أي ً‬
‫ل تعالى‪ .‬فهنا طريقان‪:‬‬‫ل‪ ،‬ويرضاه‪ ،‬ويقرب إليه‪ ،‬وهذا الخطاب الذي يلقي إليه هو كلم ا ّ‬‫هو مما يحبه ا ّ‬

‫ل‪ ،‬ل من الشيطان‪ ،‬وإلقائه ووسوسته؟ فإن الشياطين يوحون إلى‬ ‫أحدهما‪ :‬أن يقال له‪ :‬من أين لك أن هذا إنما هو من ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ بذلك في القرآن‪ ،‬وهذا موجود كثيًرا في عباد المشركين‪ ،‬وأهل‬ ‫أوليائهم وينزلون عليهم‪ ،‬كما أخبر ا ّ‬
‫الكتاب‪ ،‬وفي الكهان‪ ،‬والسحرة‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬وفي أهل البدع بحسب بدعتهم‪ .‬فإن هذه الحوال قد تكون شيطانية وقد‬
‫ل به‬‫تكون رحمانية‪ ،‬فل بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‪ ،‬والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث ا ّ‬
‫ل به‬‫محمًدا صلى ال عليه وسلم فهو }اّلِذي َنّزَل اْلُفْرَقاَن َعَلى َعْبِدِه ِلَيُكوَن ِلْلَعالَِميَن َنِذيًرا{]الفرقان‪ ،[1 :‬وهوالذي فرق ا ّ‬
‫بين الحق والباطل‪ ،‬وبين الهدى والضلل‪ ،‬وبين الرشاد والغي‪ ،‬وبين طريق الجنة وطريق النار‪ ،‬وبين سبيل أولياء‬
‫الرحمن وسبيل أولياء الشيطان‪ ،‬كما قد بسط الكلم على هذا في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫‪/‬والمقصود هنا أنه يقال لهم‪ :‬إذا كان جنس هذه الحوال مشترًكا بين أهل الحق وأهل الباطل فل بد من دليل يبين أن‬
‫ما حصل لكم هو الحق‪.‬‬

‫ل به محمًدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذلك أنه ينظر‬ ‫الطريق الثاني‪ :‬أن يقال‪ :‬بل هذا من الشيطان لنه مخالف لما بعث ا ّ‬
‫فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته‪ ،‬فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له‪ :‬اسجد لهذا الصنم حتى‬
‫يحصل لك المراد‪ ،‬أو استشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب‪ ،‬أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل‬
‫أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب‪ ،‬أو أن يدعو مخلوًقا‪ ،‬كما يدعو الخالق سواء كان المخلوق‬
‫خا‪ ،‬فإذا دعاه كما يدعو الخالق‪ ،‬سبحانه‪ ،‬إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة صار مشركا به‪ ،‬فحينئذ‬
‫ملًكا‪ ،‬أو نبًيا‪ ،‬أو شي ً‬
‫ما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك‪ ،‬كما كان يحصل للمشركين‪.‬‬

‫وكانت الشياطين تتراءى لهم أحياًنا‪ ،‬وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض المور الغائبة‪ .‬أو يقضون لهم‬
‫بعض الحوائج‪ ،‬فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم‪ ،‬وإيمانهم الذي هلكوا بزواله‬
‫جِه‬
‫ن اْلَمْرِء َوَزْو ِ‬
‫ن ِبِه َبْي َ‬
‫ن ِمْنُهَما َما ُيَفّرُقو َ‬
‫ل َتْكُفْر َفَيَتَعّلُمو َ‬
‫ن ِفْتَنٌة َف َ‬
‫حُ‬
‫ل ِإّنَما َن ْ‬
‫حّتى َيُقو َ‬
‫حٍد َ‬
‫ن َأ َ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬وَما ُيَعّلَما ِ‬
‫ن ِم ْ‬ ‫كالسحر‪ ،‬قال ا ّ‬
‫ق َوَلِبْئ َ‬
‫س‬ ‫لٍ‬‫خَ‬
‫ن َ‬
‫خَرِة ِم ْ‬
‫لِ‬‫شَتَراُه َما َلُه ِفي ا ْ‬
‫نا ْ‬
‫عِلُموا َلَم ْ‬
‫ل َينَفُعُهْم َوَلَقْد َ‬
‫ضّرُهْم َو َ‬
‫ن َما َي ُ‬
‫ل َوَيَتَعّلُمو َ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ل ِبِإْذ ِ‬
‫حٍد ِإ ّ‬
‫ن َأ َ‬
‫ن ِبِه ِم ْ‬
‫ضاّري َ‬
‫َوَما ُهْم ِب َ‬
‫َما َشَرْوا ِبِه َأنُفَسُهْم َلْو َكاُنوا َيْعَلُموَن{ ]البقرة‪. [102 :‬‬

‫ل عنه ـ أنه قال‪ :‬اتقوا الخمر‬


‫وكذلك قد يكون سببه سماع المعازف‪ ،‬وهذا كما يذكر عن عثمان بن عفان ـ رضي ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فقالت‪ :‬أو تقتل‬
‫ل سأل امرأة‪ ،‬فقالت‪ :‬ل أفعل حتى تسجد لهذا الوثن‪ ،‬فقال‪ :‬ل أشرك با ّ‬‫فإنها أم الخبائث‪ ،‬وإن رج ً‬
‫ل‪ ،‬فقالت‪ :‬أو تشرب هذا القدح؟ فقال هذا أهون‪ .‬فلما شرب الخمر قتل‬ ‫هذا الصبي؟ فقال‪ :‬ل أقتل النفس التي حرم ا ّ‬
‫الصبي وسجد للوثن وزنا بالمرأة‪.‬‬

‫والمعازف هي خمر النفوس‪ ،‬تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس‪ ،‬فإذا سكروا بالصوات حل فيهم الشرك‪،‬‬
‫ل‪ ،‬ويزنون‪.‬‬
‫ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم‪ ،‬فيشركون ويقتلون النفس التي حرم ا ّ‬

‫وهذه الثلثة موجودة كثيًرا في أهل سماع المعازف‪ ،‬سماع المكاء والتصدية‪ ،‬أما الشرك فغالب عليهم بأن يحبوا‬
‫ل ويتواجدون على حبه‪.‬‬
‫شيخهم أو غيره‪ ،‬مثل ما يحبون ا ّ‬
‫وأما الفواحش‪ ،‬فالغناء رقية الزنا‪ ،‬وهو من أعظم السباب‪ /،‬لوقوع الفواحش‪ ،‬ويكون الرجل والصبي والمرأة في‬
‫ل به أو كلهما‪،‬‬
‫غاية العفة والحرية حتى يحضره‪ ،‬فتنحل نفسه‪ ،‬وتسهل عليه الفاحشة‪ ،‬ويميل لها فاعلً‪ ،‬أو مفعو ً‬
‫كما يحصل بين شاربي الخمر‪ ،‬وأكثر‪.‬‬

‫ضا في السماع‪ ،‬كثير يقولون‪ :‬قتله بحاله ويعدون ذلك من قوته‪ ،‬وذلك أن معهم‬
‫وأما القتل‪ ،‬فإن قتل بعضهم بع ً‬
‫شياطين تحضرهم فأيهم كانت شياطينه أقوى قتل الخر‪ .‬كالذين يشربون الخمر‪ ،‬ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا‬
‫سا‪،‬‬
‫صا‪ ،‬وإما فر ً‬
‫عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الخر‪ ،‬وقد جرى مثل هذا لكثير منهم‪ ،‬ومنهم من يقتل إما شخ ً‬
‫أو غير ذلك بحاله‪ ،‬ثم يقوم صاحب الثأر‪ ،‬ويستغيث بشيخه‪ ،‬فيقتل ذلك الشخص‪ ،‬وجماعة معه‪ :‬إما عشرة‪ ،‬وإما أقل‬
‫أو أكثر‪ .‬كما جرى مثل هذا لغير واحد‪ .‬وكان الجهال يحسبون هذا من باب الكرامات‪.‬‬

‫فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية‪ ،‬وأن هؤلء معهم شياطين تعينهم على الثم والعدوان عرف ذلك من بصره الّ ـ‬
‫تعالى ـ وانكشف التلبيس والغش الذي كان لهؤلء‪.‬‬

‫وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والرادة فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة‪ ،‬فبتنا‬
‫بمكان وأرادوا أن ‪ /‬يقيموا سماعا وأن أحضر معهم فامتنعت من ذلك‪ ،‬فجعلوا لي مكانا منفرًدا قعدت فيه‪ ،‬فلما سمعوا‬
‫وحصل الوجد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده‪ ،‬ويقول‪ :‬يا فلن قد جاءك نصيب عظيم تعال خذ‬
‫نصيبك‪ ،‬فقلت في نفسي ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا‪ :‬أنتم في حل من هذا النصيب فكل نصيب ل يأتي عن طريق‬
‫ل‪ ،‬فإني ل آكل منه شيًئا‪ ،‬وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة‪ ،‬وعلم أنه كان معهم الشياطين‪،‬‬
‫محمد بن عبد ا ّ‬
‫وكان فيهم من هو سكران بالخمر‪.‬‬

‫ل ورسوله ول‬ ‫والذي قلته معناه‪ :‬أن هذا النصيب‪ ،‬وهذه العطية والموهبة والحال سببها غير شرعي‪ ،‬ليس هو طاعة ّ‬
‫شرعها الرسول فهو مثل من يقول‪ :‬تعال اشرب معنا الخمر ونحن نعطيك هذا المال‪ ،‬أو عظم هذا الصنم ونحن نوليك‬
‫هذه الولية ونحو ذلك‪.‬‬

‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ مثل أن ينذر لصنم‪ ،‬أو كنيسة‪ ،‬أو قبر‪ ،‬أو نجم‪ ،‬أو شيخ‪ ،‬ونحو ذلك‬
‫وقد يكون سببه نذًرا لغير ا ّ‬
‫من النذور‪ ،‬التي فيها شرك‪ ،‬فإذا أشرك بالنذر‪ ،‬فقد يعطيه الشيطان بعض حوائجه‪ ،‬كما تقدم في السحر‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ فإنه ثبت في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه نهى عن‬ ‫وهذا بخلف النذر ّ‬
‫النذر‪ ،‬وقال‪) :‬إنه ل يأتي ‪ /‬بخير‪ ،‬وإنما يستخرج به من البخيل( وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم نحوه‪ ،‬وفي رواية‪) :‬فإن النذر يلقي ابن آدم إلى القدر( فهذا المنهي عنه هو النذر الذي يجب الوفاء به‪،‬‬
‫منهى عن عقده‪ ،‬ولكن إذا كان قد عقده فعليه‪ ،‬الوفاء به كما في صحيح البخاري عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫ل فل يعصه(‪.‬‬ ‫ل فليطعه‪ ،‬ومن نذر أن يعصي ا ّ‬ ‫قال‪) :‬من نذر أن يطيع ا ّ‬

‫وإنما نهى عنه صلى ال عليه وسلم ؛لنه ل فائدة فيه إل التزام ما التزمه‪ ،‬وقد ل يرضى به‪ ،‬فيبقى آثًما‪ .‬وإذا فعل تلك‬
‫العبادات بل نذر كان خيًرا له‪ ،‬والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم‪ ،‬فبين النبي صلى ال عليه وسلم أن النذر ل‬
‫ل القرآن أن أصوم‬ ‫ل علي إن حفظني ا ّ‬
‫يأتي بخير‪ ،‬فليس النذر سبًبا في حصول مطلوبهم‪ ،‬وذلك أن الناذر إذا قال‪ّ :‬‬
‫ل هذا العدو‪ ،‬أو إن قضي عني هذا الدين فعلت كذا‪،‬‬ ‫ل من هذا المرض‪ ،‬أو إن دفع ا ّ‬ ‫ل ثلثة أيام‪ ،‬أو إن عافاني ا ّ‬
‫مث ً‬
‫ل ـ سبحانه ـ ل يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة‬ ‫ضا عن ذلك المطلوب‪ .‬وا ّ‬ ‫فقد جعل العبادة التي التزمها عو ً‬
‫المنذورة‪ ،‬بل ينعم على عبده بذلك المطلوب؛ ليبتليه أيشكر أم يكفر؟ وشكره يكون بفعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه‪.‬‬

‫ل تلك النعمة؛ ليعبده العبد تلك العبادة المنذورة التي‬


‫وأما تلك العبادة المنذورة‪ ،‬فل تقوم بشكر تلك النعمة‪ ،‬ول ينعم ا ّ‬
‫كانت مستحبة‪ ،‬فصارت ‪ /‬واجبة؛ لنه سبحانه لم يوجب تلك العبادة ابتداء‪ ،‬بل هو يرضى من العبد بأن يؤدي‬
‫ل ثم بذل ذلك النذر؛ لجل تلك النعمة‪،‬‬ ‫الفرائض‪ ،‬ويجتنب المحارم‪ ،‬لكن هذا الناذر يكون قد ضيع كثيًرا من حقوق ا ّ‬
‫ل بها؛ لمجرد ذلك المبذول المحتقر‪.‬‬
‫وتلك النعمة أجل من أن ينعم ا ّ‬

‫ل من أن يحوجه إلى ذلك المبذول الكثير‪ ،‬فليس النذر سبًبا‬


‫ل‪ ،‬فهو أكرم على ا ّ‬
‫وإن كان المبذول كثيًرا‪ ،‬والعبد مطيع ّ‬
‫ل تعالى أسبابا؛‬
‫لحصول مطلوبه كالدعاء‪ ،‬فإن الدعاء من أعظم السباب وكذلك الصدقة وغيرها من العبادات جعلها ا ّ‬
‫لحصول الخير ودفع الشر إذا فعلها العبد ابتداء‪ ،‬وأما ما يفعله على وجه النذر‪ ،‬فإنه ل يجلب منفعة‪ ،‬ول يدفع عنه‬
‫ل ـ تعالى ـ يستخرج بالنذر من البخيل‪ ،‬فيعطي على النذر مالم يكن‬
‫مضرة‪ ،‬لكنه كان بخيل فلما نذر‪ ،‬لزمه ذلك‪ ،‬فا ّ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫يعطيه بدونه وا ّ‬

‫ل َتَعاَلى‪:‬‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫سـلم ـ َر ِ‬
‫لْ‬‫خا ِ‬
‫شْيـ ُ‬
‫ل َ‬
‫سئـ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫ما عمل أهل الجنة؟ وما عمل أهل النار؟‬

‫فأجاب‪:‬‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬عمل أهل الجنة‪ :‬اليمان والتقوى‪ ،‬وعمل أهل النار الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬فأعمال أهل‬ ‫الحمد ّ‬
‫ل‪ ،‬وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم الخر‪ ،‬واليمان بالقدر خيره وشره‪ ،‬والشهادتان‪ :‬شهادة أن ل‬ ‫الجنة اليمان با ّ‬
‫ل كأنك‬
‫ل‪ ،‬وإقام الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وحج البيت‪ .‬وأن تعبد ا ّ‬‫ل‪ ،‬وأن محمًدا رسول ا ّ‬ ‫إله إل ا ّ‬
‫تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك‪.‬‬

‫ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬صدق الحديث‪ ،‬وأداء المانة‪ ،‬والوفاء بالعهد‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬وصلة الرحام‪ ،‬والحسان إلى‬
‫الجار‪ ،‬واليتيم‪ ،‬والمسكين‪ ،‬والمملوك من الدميين والبهائم‪.‬‬

‫ل ورجاء رحمته‪ ،‬والنابة إليه‪،‬‬


‫ل‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والمحبة له ولرسوله‪ ،‬وخشية ا ّ‬
‫‪/‬ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬الخلص ّ‬
‫والصبر على حكمه‪ ،‬والشكر لنعمه‪.‬‬

‫ل‪ ،‬ودعاؤه‪ ،‬ومسألته‪ ،‬والرغبة إليه‪.‬‬


‫ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬قراءة القرآن‪ ،‬وذكر ا ّ‬

‫ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬والجهاد في سبيل ال للكفار والمنافقين‪.‬‬

‫ل أعد الجنة للمتقين‪ ،‬الذين‬


‫ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬أن تصل من قطعك‪ ،‬وتعطي من حرمك‪ ،‬وتعفو عمن ظلمك‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫ل يحب المحسنين‪.‬‬‫ينفقون في السراء‪ ،‬والضراء‪ ،‬والكاظمين الغيظ‪ ،‬والعافين عن الناس‪ ،‬وا ّ‬

‫ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬العدل في جميع المور‪ ،‬وعلى جميع الخلق حتى الكفار‪ ،‬وأمثال هذه العمال‪.‬‬

‫ل‪ ،‬والتكذيب بالرسل‪ ،‬والكفر والحسد‪ ،‬والكذب‪ ،‬والخيانة‪ ،‬والظلم‪ ،‬والفواحش‪،‬‬


‫وأما عمل أهل النار‪ ،‬فمثل‪ :‬الشراك با ّ‬
‫ل‪ ،‬والمن من‬ ‫والغدر‪ ،‬وقطيعة الرحم‪ ،‬والجبن عن الجهاد‪ ،‬والبخل‪ ،‬واختلف السر والعلنية‪ ،‬واليأس من ‪ /‬روح ا ّ‬
‫ل‪ ،‬واعتداء حدوده‪ ،‬وانتهاك حرماته‪،‬‬‫ل‪ ،‬والجزع عند المصائب‪ ،‬والفخر والبطر عند النعم‪ ،‬وترك فرائض ا ّ‬ ‫مكر ا ّ‬
‫وخوف المخلوق دون الخالق‪ ،‬ورجاء المخلوق دون الخالق‪ ،‬والتوكل على المخلوق دون الخالق‪ ،‬والعمل رياء‬
‫ل‪،‬‬
‫وسمعة‪ ،‬ومخالفة الكتاب والسنة‪ ،‬وطاعة المخلوق في معصية الخالق‪ ،‬والتعصب بالباطل‪ ،‬والستهزاء بآيات ا ّ‬
‫وجحد الحق‪ ،‬والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة‪.‬‬

‫ل بغير الحق‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وأكل الربا‪،‬‬


‫ومن عمل أهل النار‪ :‬السحر‪ ،‬وعقوق الوالدين‪ ،‬وقتل النفس التي حرم ا ّ‬
‫والفرار من الزحف‪ ،‬وقذف المحصنات الغافلت المؤمنات‪.‬‬

‫ل ورسوله‪ ،‬وأعمال أهل النار كلها تدخل في‬ ‫وتفصيل الجملتين ل يمكن‪ ،‬لكن أعمال أهل الجنة كلها تدخل في طاعة ا ّ‬
‫ص‬
‫ن َيْع ِ‬
‫ظيُم ‪َ .‬وَم ْ‬
‫ك اْلَفْوُز اْلَع ِ‬
‫ن ِفيَها َوَذِل َ‬
‫خاِلِدي َ‬
‫لْنَهاُر َ‬
‫حِتَها ا َْ‬
‫ن َت ْ‬
‫جِري ِم ْ‬
‫ت َت ْ‬
‫جّنا ٍ‬
‫خْلُه َ‬
‫سوَلُه ُيْد ِ‬
‫ل َوَر ُ‬ ‫طْع ا َّ‬
‫ن ُي ِ‬‫ل ورسوله‪َ} ،‬وَم ْ‬ ‫معصية ا ّ‬
‫ل أعلم‪.‬‬ ‫ب ُمِهيٌن{]النساء‪ [14 ،13 :‬وا ّ‬ ‫عَذا ٌ‬
‫خاِلًدا ِفيَها َوَلُه َ‬ ‫خْلُه َناًرا َ‬
‫حُدوَدُه ُيْد ِ‬
‫سوَلُه َوَيَتَعّد ُ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫ا َّ‬

‫ل تعالى ‪:‬‬
‫‪/‬وقال الشيخ ـ رحمه ا ّ‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬
‫وأما قوله‪ :‬هل الفضل للسالك العزلة أو الخلطة؟‬

‫عا كلًيا وإما حالًيا‪ ،‬فحقيقة المر‪ :‬أن الخلطة تارة تكون واجبة أو‬
‫فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها؟ إما نزا ً‬
‫مستحبة‪ ،‬والشخص الواحد قد يكون مأموًرا بالمخالطة تارة‪ ،‬وبالنفراد تارة‪ .‬وجماع ذلك أن المخالطة إن كان فيها‬
‫تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها‪ ،‬وإن كان فيها تعاون على الثم والعدوان فهي منهي عنها‪ ،‬فالختلط‬
‫بالمسلمين في جنس العبادات‪ ،‬كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلة الكسوف‪ ،‬والستسقاء‪ ،‬ونحو ذلك هو‬
‫ل به ورسوله‪.‬‬‫مما أمر ا ّ‬

‫وكذلك الختلط بهم في الحج‪ ،‬وفي غزو الكفار والخوارج المارقين‪ ،‬وإن كان أئمة ذلك فجاًرا‪ ،‬وإن كان في تلك‬
‫الجماعات فجار‪ / ،‬وكذلك الجتماع الذي يزداد العبد به إيماًنا‪ ،‬إما لنتفاعه به‪ ،‬وإما لنفعه له‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ول بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلح قلبه‪ ،‬وما يختص به‬
‫من المور التي ل يشركه فيها غيره‪ ،‬فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه‪ ،‬إما في بيته‪ ،‬كما قال طاووس‪ :‬نعم صومعة‬
‫الرجل بيته‪ ،‬يكف فيها بصره ولسانه‪ ،‬وإما في غير بيته‪.‬‬

‫فاختيار المخالطة مطلًقا خطأ‪ ،‬واختيار النفراد مطلًقا خطأ‪ ،‬وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا‪ ،‬وهذا‪ ،‬وما‬
‫هو الصلح له في كل حال‪ ،‬فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم‪.‬‬

‫وكذلك السبب وترك السبب‪ ،‬فمن كان قادًرا على السبب‪ ،‬ول يشغله عما هو أنفع له في دينه فهو مأمور به‪ ،‬مع‬
‫ل‪ ،‬وهو مأمور أن‬
‫ل‪ ،‬وهذا خير له من أن يأخذ من الناس ولو جاءه بغير سؤال‪ ،‬وسبب مثل هذا عبادة ا ّ‬ ‫التوكل على ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فهو مطيع في هذا وهذا‪ ،‬وهذه طريق‬ ‫ل ويتوكل عليه‪ ،‬فإن تسبب بغير نية صالحة‪ ،‬أو لم يتوكل على ا ّ‬‫يعبد ا ّ‬
‫النبياء والصحابة‪.‬‬

‫ل ل يستطيعون ‪ /‬ضرًبا في الرض يحسبهم الجاهل أغنياء من‬ ‫وأما من كان من الفقراء الذين أحصروا في سبيل ا ّ‬
‫ل من الكسب‪ ،‬ففعل ما هو فيه‬‫التعفف‪ ،‬فهذا إما أن يكون عاجًزا عن الكسب‪ ،‬أو قادًرا عليه بتفويت ما هو فيه أطوع ّ‬
‫أطوع هو المشروع في حقه‪ ،‬وهذا يتنوع بتنوع أحوال الناس‪.‬‬

‫وقد تقدم أن الفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادات‪ ،‬كما أن جنس الصلة أفضل من جنس القراءة‪ ،‬وجنس‬
‫القراءة أفضل من جنس الذكر‪ ،‬وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء‪ ،‬و تارة يختلف باختلف الوقات‪ ،‬كما أن‬
‫القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلة‪.‬‬

‫وتارة باختلف عمل النسان الظاهر‪ ،‬كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة‪ ،‬وكذلك‬
‫الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالتفاق‪ ،‬وأما القراءة في الطواف‪ ،‬ففيها نزاع معروف‪.‬‬

‫وتارة باختلف المكنة كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون‬
‫الصلة ونحوها‪ ،‬والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلة‪ ،‬والصلة للمقيمين بمكة أفضل‪.‬‬

‫‪/‬وتارة باختلف مرتبة جنس العبادة‪ ،‬فالجهاد للرجال أفضل من الحج‪ ،‬وأما النساء فجهادهن الحج‪ ،‬والمرأة المتزوجة‬
‫طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لبويها‪ ،‬بخلف اليمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها‪.‬‬

‫وتارة يختلف باختلف حال قدرة العبد وعجزه‪ ،‬فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه‪ ،‬وإن كان‬
‫جنس المعجوز عنه أفضل‪ ،‬وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس‪ ،‬ويتبعون أهواءهم‪.‬‬

‫فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له؛ ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه‪ ،‬يريد أن يجعله‬
‫أفضل لجميع الناس‪ ،‬ويأمرهم بمثل ذلك‪.‬‬

‫ل بعث محمًدا بالكتاب والحكمة‪ ،‬وجعله رحمة للعباد‪ ،‬وهدًيا لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له‪ ،‬فعلى المسلم أن‬‫وا ّ‬
‫حا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له‪.‬‬ ‫يكون ناص ً‬
‫وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له‪ ،‬ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل‪ ،‬ومنهم من‬
‫يكون تطوعه بالعبادات ‪ /‬البدنية ـ كالصلة والصيام ـ أفضل له‪ ،‬والفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم باطنا وظاهًرا‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وخير الهدى هدي محمد صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬


‫فإن خير الكلم كلم ا ّ‬

‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‪.‬‬


‫وا ّ‬

‫وقــال الشيخ‪:‬‬ ‫‪/‬‬

‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمًدا عبده ورسوله صلى ال عليه‬


‫ل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ا ّ‬ ‫الحمد ّ‬
‫وسلم تسليًما كثيًرا‪.‬‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫ل‪ ،‬وأن محمًدا عبده ورسوله‪ ،‬أرسله‬‫اعلم أنه يجب على كل بالغ عاقل من النس والجن‪ ،‬أن يشهد أن ل إله إل ا ّ‬
‫ل شهيًدا‪ .‬أرسله إلى جميع الخلق‪ ،‬إنسهم وجنهم‪ ،‬وعربهم‬‫بالهدى ودين الحق‪ ،‬ليظهره على الدين كله وكفى با ّ‬
‫وعجمهم‪ ،‬وفرسهم وهندهم‪ ،‬وبربرهم ورومهم‪ ،‬وسائر أصناف العجم أسودهم‪ ،‬وأبيضهم‪ ،‬والمراد بالعجم من ليس‬
‫بعربي على اختلف ألسنتهم‪.‬‬

‫فمحمد صلى ال عليه وسلم أرسل إلى كل أحد‪ ،‬من النس والجن كتابيهم وغير كتابيهم‪ ،‬في كل ما يتعلق بدينه من‬
‫المور الباطنة والظاهرة‪ ،‬في عقائده وحقائقه‪ ،‬وطرائقه وشرائعه‪ ،‬فل عقيدة إل عقيدته‪ ،‬ول حقيقة إل حقيقته‪ ،‬ول‬
‫ل‪ ،‬وإلى رضوانه وجنته وكرامته ‪/‬‬ ‫طريقة إل طريقته‪ ،‬ول شريعة إل شريعته‪ ،‬ول يصل أحد من الخلق إلى ا ّ‬
‫ووليته‪ ،‬إل بمتابعته باطًنا وظاهًرا في القوال والعمال الباطنة والظاهرة في أقوال القلب وعقائده‪ ،‬وأحوال القلب‬
‫وحقائقه‪ ،‬وأقوال اللسان وأعمال الجوارح‪.‬‬

‫ل ولي إل من اتبعه باطًنا‪ ،‬وظاهًرا‪ ،‬فصدقه فيما أخبر به من الغيوب‪ ،‬والتزم طاعته فيما فرض على الخلق‬
‫وليس ّ‬
‫من أداء الواجبات وترك المحرمات‪ .‬فمن لم يكن له مصدًقا فيما أخبر ملتزًما طاعته فيما أوجب‪ ،‬وأمر به في المور‬
‫ل ولو حصل له‬ ‫الباطنة التي في القلوب والعمال الظاهرة التي على البدان لم يكن مؤمنا فضل عن أن يكون ولًيا ّ‬
‫من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل‪ ،‬فإنه ل يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور من أداء الواجبات‬
‫ل‪ ،‬والمقربة إلى‬
‫من الصلة وغيرها بطهارتها وواجباتها إل من أهل الحوال الشيطانية‪ ،‬المبعدة لصاحبها عن ا ّ‬
‫سخطه وعذابه‪.‬‬

‫لكن من ليس بمكلف من الطفال والمجانين قد رفع القلم عنهم‪ ،‬فل يعاقبون وليس لهم من اليمان بالّ وتقواه باطًنا‬
‫ل المتقين‪ ،‬وحزبه المفلحين وجنده الغالبين‪ ،‬لكن يدخلون في السلم تبًعا لبائهم‪،‬‬ ‫وظاهًرا ما يكونـون بـه من أولياء ا ّ‬
‫س َ‬
‫ب‬ ‫ئ ِبَما َك َ‬
‫ل اْمِر ٍ‬
‫يٍء ُك ّ‬
‫ش ْ‬
‫ن َ‬
‫عَمِلِهْم ِم ْ‬
‫ن َ‬
‫حْقَنا ِبِهْم ُذّرّيَتُهْم َوَما َأَلْتَناُهْم ِم ْ‬
‫ن َأْل َ‬ ‫كما قال تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َواّتَبَعْتُهْم ُذّرّيُتُهْم ِبِإيَما ٍ‬
‫َرِهيٌن{ ]الطور‪.[21 :‬‬

‫ل؛ لن هذه‬ ‫ل وأحوال خواص ا ّ‬ ‫‪/‬وهم مع عدم العقل ل يكونون ممن في قلوبهم حقائق اليمان‪ ،‬ومعارف أهل ولية ا ّ‬
‫ل الذين‬
‫المور كلها مشروطة بالعقل‪ ،‬فالجنون مضاد العقل والتصديق والمعرفة واليقين والهدى والثناء‪ ،‬وإنما يرفع ا ّ‬
‫ل ل يعاقبه ويرحمه في الخرة فإنه ل يكون من أولياء ا ّ‬
‫ل‬ ‫آمنوا والذين أوتوا العلم درجات‪ ،‬فالمجنون وإن كان ا ّ‬
‫ل درجاتهم‪.‬‬
‫المقربين والمقتصدين الذين يرفع ا ّ‬

‫ل‪ ،‬أو مجنوًنا‪ ،‬أو‬


‫ومن ظن أن أحًدا من هؤلء الذين ل يؤدون الواجبات ول يتركون المحرمات‪ ،‬سواء كان عاق ً‬
‫ل المتقين‪ ،‬وحزبه المفلحين‪ ،‬وعباده الصالحين وجنده‬
‫مولها‪ ،‬أو متولًها‪ ،‬فمن اعتقد أن أحًدا من هؤلء من أولياء ا ّ‬
‫ل درجاتهم بالعلم واليمان‪ ،‬مع كونه ل يؤدي الواجبات ول‬ ‫الغالبين‪ ،‬السابقين‪ ،‬المقربين والمقتصدين الذين يرفع ا ّ‬
‫ل صلى ال‬ ‫يترك المحرمات‪ ،‬كان المعتقد لولية مثل هذا كافًرا مرتًدا عن دين السلم‪ ،‬غير شاهد أن محمًدا رسول ا ّ‬
‫ل هم المتقون‬
‫ل‪ ،‬أن أولياء ا ّ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬بل هو مكذب لمحمد صلى ال عليه وسلم فيما شهد به؛ لن محمًدا أخبر عن ا ّ‬
‫ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن‪ .‬الِّذيَن آَمُنوا َوَكاُنوا َيّتُقوَن{ ]يونس‪ ،[63 ،62 :‬وقال‬ ‫خْو ٌ‬‫ل َ‬
‫ل َ‬ ‫ن َأْوِلَياَء ا ِّ‬ ‫المؤمنون‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬أ َ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ل َأْتَقاُكْم{ ]الحجرات‪.[13 :‬‬
‫عْنَد ا ِّ‬
‫ن َأْكَرَمُكْم ِ‬
‫ل ِلَتَعاَرُفوا ِإ ّ‬
‫شُعوًبا َوَقَباِئ َ‬
‫جَعْلَناُكْم ُ‬
‫ن َذَكٍر َوُأنَثى َو َ‬ ‫خَلْقَناُكْم ِم ْ‬ ‫تعالي‪َ} :‬ياَأّيَها الّنا ُ‬
‫س ِإّنا َ‬

‫ل‪،‬‬
‫ل‪ ،‬على نور من ا ّ‬‫ل‪ ،‬وأن يترك معصية ا ّ‬‫ل‪ ،‬يرجو رحمة ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬على نور من ا ّ‬‫‪/‬والتقوى أن يعمل الرجل بطاعة ا ّ‬
‫ل إل بأداء فرائضه‪ ،‬ثم بأداء نوافله‪ .‬قال تعالى‪) :‬وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء‬
‫ل‪ ،‬ول يتقرب ولي ا ّ‬
‫يخاف عذاب ا ّ‬
‫ما افترضت عليه‪ ،‬ول يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه( كما جاء في الحديث الصحيح اللهي الذي رواه‬
‫البخاري‪.‬‬

‫صل‬
‫َف ْ‬

‫ل‪ ،‬وأعظم الفرائض عنده‪ :‬الصلوات الخمس في مواقيتها‪ ،‬وهي أول ما يحاسب عليها العبد‬ ‫ومن أحب العمال إلى ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ بنفسه ليلة المعراج لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة‪ ،‬وهي‬
‫من عمله يوم القيامة‪ ،‬وهي التي فرضها ا ّ‬
‫عمود السلم الذي ل يقوم إل به‪ ،‬وهي أهم أمر الدين‪ ،‬كما كان ـ أمير المؤمنين ـ عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله‪:‬‬
‫إن أهم أمركم عندي الصلة‪ ،‬فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه‪ ،‬ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة‪.‬‬

‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬بين العبد وبين الشرك ترك الصلة( وقال‪) :‬العهد الذي‬
‫بيننا وبينهم ‪ /‬الصلة‪ ،‬فمن تركها فقد كفر(‪ .‬فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ غير حائض ونفساء‪ ،‬فهو كافر‬
‫ل يحبها ويثيب عليها‪ ،‬وصلى مع ذلك وقام الليل‪ ،‬وصام‬‫مرتد باتفاق أئمة المسلمين‪ ،‬وإن اعتقد أنها عمل صالح وإن ا ّ‬
‫ضا كافر مرتد‪ ،‬حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ‬ ‫النهار‪ ،‬وهو مع ذلك ل يعتقد وجوبها على كل بالغ‪ ،‬فهو أي ً‬
‫عاقل‪.‬‬

‫صا ل تجب عليهم الصلة‪،‬‬ ‫ل خوا ً‬ ‫ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين‪ ،‬أو أن ّ‬
‫بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس‪ ،‬أو لستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى‪ ،‬أو أن المقصود‬
‫ل فل يحتاج إلى الصلة‪ ،‬بل‬ ‫حضور القلب مع الرب‪ ،‬أو أن الصلة فيها تفرقة‪ ،‬فإذا كان العبد في جمعيته مع ا ّ‬
‫المقصود من الصلة هي المعرفة‪ ،‬فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلة‪ ،‬فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة‪،‬‬
‫كالطيران في الهواء‪ ،‬والمشي على الماء‪ ،‬أو ملء الوعية ماء من الهواء أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من‬
‫الكنوز‪ ،‬وقتل من يبغضه بالحوال الشيطانية‪ .‬فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلة ونحو ذلك‪.‬‬

‫صا ل يحتاجون إلى متابعة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن‬
‫ل خوا ً‬
‫ل رجا ً‬
‫أو أن ّ‬
‫موسى‪ ،‬أو أن كل ‪ /‬من كاشف وطار في الهواء‪ ،‬أو مشى على الماء‪ ،‬فهو ولي سواء صلى أو لم يصل‪.‬‬

‫أو اعتقد أن الصلة تقبل من غير طهارة‪ ،‬أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل‬
‫والطهارات والحانات والقمامين‪ ،‬وغير ذلك من البقاع‪ ،‬وهم ل يتوضؤون ول يصلون الصلوات المفروضات‪ ،‬فمن‬
‫ل فهو كافر مرتد عن السلم باتفاق أئمة السلم‪ ،‬ولو كان في نفسه زاهًدا عابًدا‪ ،‬فالرهبان‬ ‫اعتقد أن هؤلء أولياء ا ّ‬
‫أزهد وأعبد‪ ،‬وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول‪ ،‬وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون اتباعه ولكنهم لم يؤمنوا‬
‫سِلِه‬
‫ل َوُر ُ‬
‫ن ِبا ِّ‬
‫ن َيْكُفُرو َ‬ ‫بجميع ماجاء به‪ ،‬بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض‪ ،‬فصاروا بذلك كافرين كما قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫حّقا‬
‫ن َ‬
‫ل ‪ُ .‬أْوَلِئكَ ُهْم اْلَكاِفُرو َ‬
‫سِبي ً‬
‫ك َ‬ ‫ن َذِل َ‬ ‫خُذوا َبْي َ‬‫ن َيّت ِ‬
‫ن َأ ْ‬ ‫ض َوُيِريُدو َ‬ ‫ض َوَنْكُفُر ِبَبْع ٍ‬ ‫ن ِبَبْع ٍ‬‫ن ُنْؤِم ُ‬‫سِلِه َوَيُقوُلو َ‬
‫ل َوُر ُ‬‫ن ا ِّ‬
‫ن ُيَفّرُقوا َبْي َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫َوُيِريُدو َ‬
‫غُفوًرا‬‫ل َ‬ ‫ن ا ُّ‬
‫جوَرُهْم َوَكا َ‬ ‫ف ُيْؤِتيِهْم ُأ ُ‬ ‫سْو َ‬‫ك َ‬ ‫حٍد ِمْنُهْم ُأْوَلِئ َ‬
‫ن َأ َ‬
‫سِلِه َوَلْم ُيَفّرُقوا َبْي َ‬
‫ل َوُر ُ‬‫ن آَمُنوا ِبا ِّ‬
‫عَذاًبا ُمِهيًنا ‪َ .‬واّلِذي َ‬
‫ن َ‬ ‫عَتْدَنا ِلْلَكاِفِري َ‬
‫َوَأ ْ‬
‫َرِحيًما{ ]النساء‪.[150-152 :‬‬

‫ومن كان مسلوب العقل أو مجنوًنا‪ ،‬فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه‪ ،‬فليس عليه عقاب‪ ،‬ول يصح إيمانه ول صلته‬
‫ول صيامه ول شيء من أعماله‪ ،‬فإن العمال كلها ل تقبل إل مع العقل‪ .‬فمن ل عقل ‪ /‬له ل يصح شيء من عبادته ل‬
‫لْوِلي الّنَهى{‬ ‫ت ُِ‬
‫لَيا ٍ‬
‫ك َ‬ ‫ل؛ ولهذا قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِفي َذِل َ‬ ‫فرائضه ول نوافله‪ ،‬ومن ل فريضة له ول نافلة‪ ،‬ليس من أولياء ا ّ‬
‫جر‪ [5 :‬أي لذي عقل‪ .‬وقال تعالى‪َ} :‬واّتُقوِني َياُأْوِلي‬ ‫ك َقَسٌم ِلِذي ِحْجٍر{ ]الف ْ‬ ‫ل ِفي َذِل َ‬‫]طه‪ [54 :‬أي العقول‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬ه ْ‬
‫ن{ ]النفال‪ ،[22 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إّنا َأنَزْلَناُه‬ ‫ل َيْعِقُلو َ‬
‫ن َ‬‫صّم اْلُبْكُم اّلِذي َ‬
‫ل ال ّ‬
‫عْنَد ا ِّ‬
‫ب ِ‬ ‫شّر الّدَوا ّ‬ ‫ب{ ]البقرة‪ [197 :‬وقال‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن َ‬ ‫لْلَبا ِ‬
‫ا َْ‬
‫ُقْرآًنا َعَرِبّيا َلَعّلُكْم َتْعِقُلوَن{ ]يوسف‪.[2 :‬‬
‫ل لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط‪ ،‬بل قال‬ ‫ل وأثنى على من كان له عقل‪ .‬فأما من ل يعقل فإن ا ّ‬ ‫فإنما مدح ا ّ‬
‫سِعيِر{ ]الملك‪ ،[10 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َذَرْأَنا‬
‫ب ال ّ‬
‫حا ِ‬
‫صَ‬‫ل َما ُكّنا ِفي َأ ْ‬ ‫ـ تعالى ـ عن أهل النار‪َ} :‬وَقاُلوا َلْو ُكّنا َن ْ‬
‫سَمُع َأْو َنْعِق ُ‬
‫ل ُهمْ‬
‫لْنَعاِم َب ْ‬
‫ن ِبَها ُأْوَلِئكَ َكا َْ‬
‫سَمُعو َ‬ ‫ل َي ْ‬
‫ن َ‬ ‫ن ِبَها َوَلُهْم آَذا ٌ‬
‫صُرو َ‬ ‫ل ُيْب ِ‬ ‫ن َ‬ ‫عُي ٌ‬
‫ن ِبَها َوَلُهْم َأ ْ‬
‫ل َيْفَقُهو َ‬
‫ب َ‬
‫س َلُهْم ُقُلو ٌ‬
‫لن ِ‬
‫ن َوا ِْ‬
‫جّ‬ ‫ن اْل ِ‬
‫جَهّنَم كَِثيًرا ِم ْ‬‫ِل َ‬
‫ضّ‬
‫ل‬ ‫ل ُهْم َأ َ‬ ‫لْنَعاِم َب ْ‬
‫ل َكا َْ‬‫ن ُهْم ِإ ّ‬
‫ن ِإ ْ‬
‫ن َأْو َيْعِقُلو َ‬
‫سَمُعو َ‬ ‫ن َأْكَثَرُهْم َي ْ‬
‫ب َأ ّ‬
‫س ُ‬‫حَ‬ ‫ن{ ]العراف‪ [179 :‬وقال‪َ} :‬أْم َت ْ‬ ‫ك ُهْم اْلَغاِفُلو َ‬
‫ل ُأْوَلِئ َ‬
‫ضّ‬‫َأ َ‬
‫ل{ ]الفرقان‪.[44 :‬‬ ‫سِبي ً‬
‫َ‬

‫فمن ل عقل له ل يصح إيمانه ول فرضه ول نفله‪ ،‬ومن كان يهودًيا أو نصرانًيا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح‬
‫إسلمه ل باطًنا ول ظاهًرا‪ .‬ومن كان قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار‪ .‬ومن كان مؤمًنا ثم جن بعد‬
‫ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في ‪ /‬حال عقله‪ ،‬ومن ولد مجنوًنا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ول كفر‪ .‬وحكم‬
‫المجنون حكم الطفل إذا كان أبواه مسلمين كان مسلًما تبًعا لبويه باتفاق المسلمين‪ ،‬وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند‬
‫جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد‪.‬‬

‫وكذلك من جن بعد إسلمه يثبت لهم حكم السلم تبًعا لبائهم‪ ،‬وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له‬
‫بالسلم ظاهًرا تبًعا لبويه أو لهل الدار‪ ،‬كما يحكم بذلك للطفال‪ .‬ل لجل إيمان قام به‪ ،‬فأطفال المسلمين ومجانينهم‬
‫ل المتقين الذين‬ ‫يوم القيامة تبع لبائهم‪ ،‬وهذا السلم ل يوجب له مزية على غيره‪ ،‬ول أن يصير به من أولياء ا ّ‬
‫ن َو َ‬
‫ل‬ ‫حّتى َتْعَلُموا َما َتُقوُلو َ‬
‫سَكاَرى َ‬
‫لَة َوَأْنُتْم ُ‬
‫صَ‬‫ل َتْقَرُبوا ال ّ‬ ‫يتقربون إليه بالفرائض والنوافل‪ .‬وقد قال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َ‬
‫ل عز وجل عن قربان الصلة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا ما‬ ‫ُجُنًبا ِإلّ َعاِبِري َسِبيٍل َحّتى َتْغَتِسُلوا{ ]النساء‪ [43 :‬فنهى ا ّ‬
‫يقولون‪.‬‬

‫ل في "سورة المائدة"‪ .‬وقد روى أنه كان سبب‬ ‫وهذه الية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم الخمر بالية التي أنزلها ا ّ‬
‫ل هذه الية؛ فإذا‬
‫نزولها‪ :‬أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم فخلط في القراءة‪ ،‬فأنزل ا ّ‬
‫ل الصلة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون‪ ،‬علم أن ذلك يوجب أل يصلي ‪/‬أحد‬ ‫كان قد حرم ا ّ‬
‫حتى يعلم ما يقول‪ .‬فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلة‪ ،‬وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم؛ ولهذا اتفق‬
‫العلماء على أنه ل تصح صلة من زال عقله بأي سبب زال‪ ،‬فكيف بالمجنون؟!‪.‬‬

‫وقد قال بعض المفسرين ـ وهو يروي عن الضحاك ـ‪ :‬ل تقربوها وأنتم سكارى من النوم‪ .‬وهذا إذا قيل‪ :‬إن الية دلت‬
‫عليه بطريق العتبار أو شمول معنى اللفظ العام‪ ،‬وإل فل ريب أن سبب نزول الية كان السكر من الخمر‪ .‬واللفظ‬
‫ضا‪ .‬وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إذا‬ ‫صريح في ذلك؛ والمعنى الخر صحيح أي ً‬
‫قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد‪ ،‬فإنه ل يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ـ وفي لفظ ـ‬
‫إذا قام يصلي فنعس فليرقد(‪.‬‬

‫فقد نهى النبي صلى ال عليه وسلم عن الصلة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس‪ .‬وقد احتج العلماء بهذا على أن‬
‫النعاس ل ينقض الوضوء‪ ،‬إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلة‪ ،‬أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة‪ ،‬والنبي صلى ال‬
‫عليه وسلم إنما علل ذلك بقوله‪) :‬فإنه ل يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه( فعلم أنه قصد النهي عن الصلة لمن‬
‫ل يدري ما يقول وإن كان ذلك بسبب النعاس‪ .‬وطرد ذلك أنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال‪) :‬ل يصلي ‪ /‬أحدكم‪ ،‬وهو‬
‫يدافع الخبثين ول بحضرة طعام( لما في ذلك من شغل القلب‪ .‬وقال أبو الدرداء‪ :‬من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته‬
‫فيقضيها ثم يقبل على صلته وقلبه فارغ‪.‬‬

‫فإذا كانت الصلة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح حتى يعلم ما يقول كانت صلة المجنون ومن يدخل‬
‫في مسمى المجنون‪ ،‬وإن سمي مولها أو متولها‪ ،‬أولى أل تجوز صلته‪.‬‬

‫ومعلوم أن الصلة أفضل العبادات‪ ،‬كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال‪ :‬قلت للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أي‬
‫ل؟ قال‪) :‬الصلة على وقتها(‪ .‬قلت‪ :‬ثم أي ؟ قال‪) :‬بر الوالدين(‪ .‬قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪) :‬الجهاد(‪ .‬قال‪:‬‬ ‫العمل أحب إلى ا ّ‬
‫ضا في الصحيحين عنه‪ :‬أنه جعل أفضل‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولو استزدته لزادني‪ .‬وثبت أي ً‬ ‫حدثني بهن رسول ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وجهاد في سبيله‪ ،‬ثم الحج المبرور‪ .‬ول منافاة بينهما؛ فإن الصلة داخلة في مسمى اليمان با ّ‬ ‫العمال إيمان با ّ‬
‫ضيَع ِإيَماَنُكْم{ ]البقرة‪ .[143 :‬قال البراء بن عازب وغيره من السلف‪ :‬أي‬
‫ل ِلُي ِ‬ ‫كما دخلت في قوله تعالى‪َ} :‬وَما َكا َ‬
‫ن ا ُّ‬
‫صلتكم إلى بيت المقدس‪.‬‬
‫ولهذا كانت الصلة كاليمان ل تدخلها النيابة بحال‪ ،‬فل يصلي أحد عن أحد الفرض‪ ،‬ل لعذر ول لغير عذر‪ .‬كما ل‬
‫يؤمن أحد عنه‪ ،‬ول ‪ /‬تسقط بحال كما ل يسقط اليمان‪ ،‬بل عليه الصلة ما دام عقله حاضًرا‪ ،‬وهو متمكن من فعل‬
‫بعض أفعالها‪ .‬فإذا عجز عن جميع الفعال ولم يقدر على القوال‪ ،‬فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الفعال‬
‫بقلبه؟ فيه قولن للعلماء‪ ،‬وإن كان الظهر أن هذا غير مشروع‪.‬‬

‫ل من فرض ونفل‪ ،‬و]الولية[ هي اليمان والتقوى‬ ‫فإذا كان كذلك‪ ،‬تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى ا ّ‬
‫المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل‪ ،‬فقد حرم ما به يتقرب أولياء الّ إليه؛ لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فل‬
‫يعاقب‪ ،‬كما ل يعاقب الطفال والبهائم؛ إذ ل تكليف عليهم في هذه الحال‪ .‬ثم إن كان مؤمًنا قبل حدوث الجنون به‪ ،‬وله‬
‫ل بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك اليمان والعمل الصالح‬ ‫أعمال صالحة‪ ،‬وكان يتقرب إلى ا ّ‬
‫ل تعالى بحسب ما كان عليه من اليمان والتقوى‪ ،‬كما ل يسقط ذلك بالموت‪ ،‬بخلف ما‬ ‫ما تقدم‪ ،‬وكان له من ولية ا ّ‬
‫لو ارتد عن السلم؛ فإن الردة تحبط العمال‪ ،‬وليس من السيئات ما يحبط العمال الصالحة إل الردة‪ ،‬كما أنه ليس‬
‫من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إل التوبة‪ ،‬فل يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته‪ ،‬كما‬
‫ل يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله بالعمال المسكرة والنوم؛ لنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح‪ ،‬ولكن في‬
‫الحديث ‪ /‬الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إذا مرض العبد أو سافر‪ ،‬كتب له من‬
‫العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم(‪.‬‬

‫ل ما سرتم مسيًرا‪ ،‬ول قطعتم‬


‫وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك‪) :‬إن بالمدينة لرجا ً‬
‫وادًيا‪ ،‬إل كانوا معكم( قالوا‪ :‬وهم بالمدينة ؟! قال‪) :‬وهم بالمدينة حبسهم العذر(‪ ،‬فهؤلء كانوا قاصدين للعمل الذي‬
‫كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل؛ بخلف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ول‬
‫حا يكتب لهم به الثواب‪.‬‬
‫ل‪ ،‬بخلف أولئك فإن لهم قصًدا صحي ً‬ ‫عبادة أص ً‬

‫ل؛ لما ثبت من كفره وفسقه؛ ولهذا كان‬‫وأما إن كان قبل جنونه كافًرا أو فاسًقا أو مذنًبا‪ ،‬لم يكن حدوث الجنون به مزي ً‬
‫من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشوًرا معهم‪ ،‬وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه‬
‫محشورا مع المؤمنين من المتقين‪ .‬وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمى صاحبه مولًها أو متولًها‪ ،‬ل يوجب مزيد‬
‫حال صاحبه من اليمان والتقوى‪ ،‬ول يكون زوال عقله سبًبا لمزيد خيره ول صلحه ول ذنبه؛ ولكن الجنون يوجب‬
‫زوال العقل‪ ،‬فيبقى على ما كان عليه من خير وشر‪ ،‬ل أنه يزيده ول ينقصه‪ ،‬لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير‪،‬‬
‫كما أنه يمنع عقوبته على الشر‪.‬‬

‫‪/‬وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم‪ ،‬كشرب الخمر‪ ،‬وأكل الحشيشة‪ ،‬أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى‬
‫يغيب عقله‪ ،‬أو الذي يتعبد بعبادات بديعة حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله‪ ،‬أو يأكل بنجا يزيل عقله‪،‬‬
‫فهؤلء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول‪ .‬وكثير من هؤلء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه‬
‫صا عظيًما حتى يغيب عقله‪ ،‬أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني‪ ،‬وكثير من هؤلء يقصد التوله‬ ‫فيرقص رق ً‬
‫حتى يصير مولًها‪ .‬فهؤلء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف عن غير واحد منهم‪.‬‬

‫واختلف العلماء‪ :‬هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم؟ والصل "مسألة السكران" والمنصوص عن الشافعي وأحمد‬
‫وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله‪ .‬وقال كثير من العلماء ليس مكلًفا‪ ،‬وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد‪،‬‬
‫وإحدى الروايتين عن أحمد‪ :‬أن طلق السكران ل يقع‪ ،‬وهذا أظهر القولين‪ .‬ولم يقل أحد من العلماء‪ :‬إن هؤلء الذين‬
‫ل الموحدين المقربين وحزبه المفلحين‪ .‬ومن ذكره العلماء من عقلء‬ ‫زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء ا ّ‬
‫المجانين الذين ذكروهم بخير‪ ،‬فهم من القسم الول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم‪.‬‬

‫ومن علمة هؤلء‪ :‬أنهم إذا حصل لهم في جنونهم نوع من الصحو ‪ /‬تكلموا بما كان في قلوبهم من اليمان‪ ،‬ل بالكفر‬
‫والبهتان‪ ،‬بخلف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقه بالكفر والشرك‪ ،‬ويهذي في زوال عقله بالكفر‪ ،‬فهذا إنما‬
‫يكون كافًرا ل مسلًما‪ ،‬ومن كان يهذي بكلم ل يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية‪ ،‬وغير ذلك مما يحصل لبعض‬
‫من يحضر السماع‪ ،‬ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلم ل يعقل ـ أو بغير العربية ـ فهؤلء إنما يتكلم على‬
‫ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع‪.‬‬

‫ل وأحوالً فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب‪.‬‬
‫ل عقو ً‬
‫ومن قال‪ :‬إن هؤلء أعطاهم ا ّ‬
‫ل‪ ،‬كلم مجمل‪ ،‬فإن الحوال تنقسم إلى‪ :‬حال رحماني‪ ،‬وحال شيطاني‪ ،‬وما يكون‬ ‫ل لهم أحوا ً‬
‫قيل‪ :‬قولك وهب ا ّ‬
‫لهؤلء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب‪] ،‬فتارة[ يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان‪ ،‬وتارة يكون من‬
‫الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى واليمان؛ فإن كان هؤلء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية‪،‬‬
‫وكانوا من المؤمنين المتقين‪ ،‬فل ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول‪ ،‬وإن كان ما‬
‫أعطوه من الحوال الشيطانية ـ كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون ـ فهؤلء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا‬
‫بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق‪ ،‬كما لم يخرج الولون عما كانوا عليه من اليمان ‪ /‬والتقوى‪ ،‬كما أن نوم كل‬
‫واحد من الطائفتين وموته وإغماءه ل يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال‬
‫العقل‪ ،‬غايته أن يسقط التكليف‪.‬‬

‫ل‪ ،‬ول‬‫حا ول ثواًبا ول يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء ا ّ‬ ‫ورفع القلم ل يوجب حمًدا ولمد ً‬
‫كرامة من كرامات الصالحين‪ ،‬بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ول مدح في‬
‫ذلك ول ذم‪ ،‬بل النائم أحسن حالً من هؤلء‪ ،‬ولهذا كان النبياء ـ عليهم السلم ـ ينامون وليس فيهم مجنون ول موله‪،‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم يجوز عليه النوم والغماء‪ ،‬ول يجوز عليه الجنون‪ ،‬وكان نبينا محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم تنام عيناه ول ينام قلبه‪ ،‬وقد أغمى عليه في مرضه‪.‬‬

‫ل إزالة‬‫ل أنبياءه عنه؛ فإنه من أعظم نقائص النسان؛ إذ كمال النسان بالعقل؛ ولهذا حرم ا ّ‬‫وأما الجنون فقد نزه ا ّ‬
‫العقل بكل طريق‪ ،‬وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل‪ ،‬كشرب الخمر؛ فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل؛ لنها‬
‫ل كما‬
‫طا أو مقرًبا إلى ولية ا ّ‬
‫ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل‪ ،‬فكيف يكون مع هذا زوال العقل سبًبا أو شر ً‬
‫يظنه كثير من أهل الضلل؟! حتى قال قائلهم في هؤلء‪:‬‬

‫‪/‬هم معشر حلوا النظــام وخرقـوا ** السـياج فل فرض لديهم ول نفـل‬

‫مجانــين إل أن سر جنونـــهم ** عـزيز على أبـوابه يسجد العقـــل‬

‫فهذا كلم ضال‪ ،‬بل كافر‪ ،‬يظن أن للمجنون سًرا يسجد العقل على بابه‪ ،‬وذلك لما رآه من بعض المجانين من نوع‬
‫مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة‪ ،‬ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان‪،‬‬
‫ل ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين واليهود‬
‫فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا ّ‬
‫ل عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب‬ ‫والنصارى؛ فإن كثيًرا من الكفار والمشركين فض ً‬
‫شياطينهم أضعاف ما لهؤلء؛ لنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب؛ لكن لبد في جميع مكاشفة‬
‫هؤلء من الكذب والبهتان‪ .‬ولبد في أعمالهم من فجور وطغيان‪ ،‬كما يكون لخوانهم من السحرة والكهان‪ ،‬قال ا ّ‬
‫ل‬
‫ك َأِثيٍم{ ]الشعراء‪.[222 ،221 :‬‬
‫ل َأّفا ٍ‬
‫عَلى ُك ّ‬
‫ل َ‬
‫ن ‪َ .‬تَنّز ُ‬
‫طي ُ‬
‫شَيا ِ‬
‫ل ال ّ‬
‫ن َتَنّز ُ‬
‫عَلى َم ْ‬ ‫تعالى‪َ} :‬ه ْ‬
‫ل ُأَنّبُئُكْم َ‬

‫فكل من تنزلت عليه الشياطين لبد أن يكون فيه كذب ‪ /‬وفجور‪ ،‬من أي قسم كان‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم قد‬
‫ل هم الذين يتقربون إليه بالفرائض‪ ،‬وحزبه المفلحون‪ ،‬وجنده الغالبون‪ ،‬وعباده الصالحون‪ .‬فمن‬ ‫أخبر أن أولياء ا ّ‬
‫ل المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك‪ ،‬فمن اعتقد في‬ ‫اعتقد فيمن ل يفعل الفرائض ول النوافل أنه من أولياء ا ّ‬
‫ل المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين‪ ،‬فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين‪ ،‬وإذا‬ ‫مثل هؤلء أنه من أولياء ا ّ‬
‫ن َقاُلوا‬ ‫ل كان من الكاذبين الذين قيل فيهم‪ِ} :‬إَذا َ‬
‫جاَءكَ اْلُمَناِفُقو َ‬ ‫ل وأشهد أن محمًدا رسول ا ّ‬ ‫قال‪ :‬أنا أشهد أن ل إله إل ا ّ‬
‫ساَء َما‬
‫ل ِإّنُهْم َ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬
‫عْ‬
‫صّدوا َ‬
‫جّنًة َف َ‬
‫خُذوا َأْيَماَنُهْم ُ‬
‫ن ‪ .‬اّت َ‬
‫ن َلَكاِذُبو َ‬
‫ن اْلُمَناِفِقي َ‬
‫شَهُد ِإ ّ‬
‫ل َي ْ‬
‫سوُلُه َوا ُّ‬‫ك َلَر ُ‬
‫ل َيْعَلُم ِإّن َ‬
‫ل َوا ُّ‬
‫ل ا ِّ‬‫سو ُ‬ ‫ك َلَر ُ‬
‫شَهُد ِإّن َ‬
‫َن ْ‬
‫طِبَع َعَلى ُقُلوِبِهْم َفُهْم َل َيْفَقُهوَن{ ]المنافقون‪.[1-3 :‬‬ ‫ك ِبَأّنُهْم آَمُنوا ُثّم َكَفُروا َف ُ‬‫ن ‪َ .‬ذِل َ‬
‫َكاُنوا َيْعَمُلو َ‬

‫ل على‬
‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬من ترك ثلث جمع تهاوًنا من غير عذر طبع ا ّ‬
‫قلبه(‪ ،‬فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع وإن صلى الظهر‪ ،‬فكيف بمن ل يصلي ظهًرا ول جمعة ول فريضة‬
‫ول نافلة‪ ،‬ول يتطهر للصلة ل الطهارة الكبرى ول الصغرى؟! فهذا لو كان قبل مؤمًنا‪ ،‬وكان قد طبع على قلبه كان‬
‫كافًرا مرتًدا بما تركه ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض‪ ،‬وإن اعتقد أنه مؤمن كان كافًرا مرتًدا‪ ،‬فكيف يعتقد أنه من‬
‫ل{ ]المجادلة‪ [19 :‬أي‪:‬‬ ‫ساُهْم ِذْكَر ا ِّ‬
‫ن َفَأن َ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫عَلْيِهْم ال ّ‬
‫حَوَذ َ‬ ‫ل المتقين‪ ،‬وقد قال تعالى في صفة المنافقين‪} :‬ا ْ‬
‫سَت ْ‬ ‫أولياء ‪ /‬ا ّ‬
‫ل به ورسوله‬‫استولى‪ ،‬يقال‪ :‬حاذ البل حوًذا‪ :‬إذا استاقها‪ ،‬فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلف ما أمر ا ّ‬
‫حَوَذ‬ ‫جا‪ ،‬فهؤلء }ا ْ‬
‫سَت ْ‬ ‫طيَن َعَلى اْلَكاِفِريَن َتُؤّزُهْم َأّزا{ ]مريم‪ [83 :‬أي تزعجهم إزعا ً‬ ‫شَيا ِ‬
‫سْلَنا ال ّ‬‫قال تعالى‪َ} :‬أَلْم َتَرى َأّنا َأْر َ‬
‫طاِن هُْم اْلَخاِسُروَن{ ]المجادلة‪.[19 :‬‬
‫شْي َ‬
‫ب ال ّ‬
‫حْز َ‬
‫ن ِ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ن َأ َ‬
‫طا ِ‬
‫شْي َ‬
‫ب ال ّ‬
‫حْز ُ‬
‫ك ِ‬‫ل ُأْوَلِئ َ‬
‫ساُهْم ِذْكَر ا ِّ‬‫ن َفَأن َ‬‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫عَلْيِهْم ال ّ‬
‫َ‬

‫وفي السنن عن أبي الدرداء عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ما من ثلثة في قرية‪ ،‬ل يؤذن ول تقام فيهم‬
‫الصلة‪ ،‬إل استحوذ عليهم الشيطان(‪ ،‬فأي ثلثة كانوا من هؤلء ل يؤذن ول تقام فيهم الصلة كانوا من حزب‬
‫الشيطان الذين استحوذ عليهم‪ ،‬ل من أولياء الرحمن الذين أكرمهم‪ ،‬فإن كانوا عباًدا زهاًدا ولهم جوع وسهر وصمت‬
‫وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات‪ ،‬كأهل جبل لبنان‪ ،‬وأهل جبل الفتح الذي بآسون‪ ،‬وجبل‬
‫ليسون‪ ،‬ومغارة الدم بجبل قاسيون‪ ،‬وغير ذلك من الجبال والبقاع التي يقصدها كثير من العباد الجهال الضلل‪،‬‬
‫ويفعلون فيها خلـوات ورياضات من غير أن يؤذن‪ ،‬وتقام فيهم الصلة الخمس‪ ،‬بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها ا ّ‬
‫ل‬
‫ورسوله‪ ،‬بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لحوالهم بالكتاب والسنة‪ / ،‬ول قصد المتابعة لرسول ا ّ‬
‫ل‬
‫ل َوَيْغِفْر َلُكْم ُذُنوَبُكْم{ الية ]آل عمران‪ [31 :‬فهؤلء أهل البدع‬
‫حِبْبُكْم ا ُّ‬
‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬
‫ن ا َّ‬
‫حّبو َ‬
‫ن ُكْنُتْم ُت ِ‬ ‫ل فيه‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬ ‫الذي قال ا ّ‬
‫ل فهو شاهد زور كاذب وعن طريق‬ ‫والضللت من حزب الشيطان ل من أولياء الرحمن‪ ،‬فمن شهد لهم بولية ا ّ‬
‫الصواب ناكب‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فهو مرتد عن دين السلم وإما‬ ‫ثم إن كان قد عرف أن هؤلء مخالفون للرسول‪ ،‬وشهد مع ذلك أنهم من أولياء ا ّ‬
‫عا لهواه‪،‬‬
‫مكذب للرسول‪ ،‬وإما شاك فيما جاء به مرتاب‪ ،‬وإما غير منقاد له بل مخالف له إما جحوًدا أو عناًدا أو اتبا ً‬
‫وكل من هؤلء كافر‪.‬‬

‫ل إلى كل أحد في المور الباطنة والظاهرة‪،‬‬ ‫ل بما جاء به الرسول‪ ،‬وهو معتقد مع ذلك أنه رسول ا ّ‬ ‫وأما إن كان جاه ً‬
‫ل إل بمتابعته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما‬ ‫وأنه ل طريق إلى ا ّ‬
‫جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان‪ ،‬لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته‪ ،‬ل لقصد مخالفته‪ ،‬ول‬
‫يرجو الهدى في غير متابعته ـ فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب‪ ،‬فإن تاب وأناب وإل ألحق‬
‫ل‪ ،‬كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد‬ ‫بالقسم الذي قبله وكان كافًرا مرتًدا‪ ،‬ول تنجيه عبادته ول زهادته من عذاب ا ّ‬
‫الصلبان وعباد النيران وعباد الوثان‪ ،‬مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية‪ ،‬ومكاشفات شيطانية قال ‪ /‬تعالى‪:‬‬
‫صْنًعا{ ]الكهف‪.[104 ،103 :‬‬
‫ن ُ‬‫سُنو َ‬
‫حِ‬‫ن َأّنُهْم ُي ْ‬
‫سُبو َ‬
‫حَ‬‫حَياِة الّدْنَيا َوُهْم َي ْ‬
‫سْعُيُهْم ِفي اْل َ‬
‫ل َ‬
‫ضّ‬
‫ن َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫عَما ً‬
‫ن َأ ْ‬
‫سِري َ‬
‫خَ‬‫لْ‬
‫ل َهلْ ُنَنّبُئُكْم ِبا َْ‬
‫}ُق ْ‬

‫قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات‪ .‬وقد روى عن علي بن أبي طالب‬
‫ل عنه ـ وغيرهم أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضللت‪ .‬وقال تعالى‪َ} :‬ه ْ‬
‫ل‬ ‫ـ رضي ا ّ‬
‫ك َأِثيٍم{ ]الشعراء‪ [222 ،221 :‬فالفاك هو الكذاب والثيم الفاجر كما‬
‫ل َأّفا ٍ‬
‫عَلى ُك ّ‬
‫ل َ‬‫ن ‪َ .‬تَنّز ُ‬‫طي ُ‬
‫شَيا ِ‬
‫ل ال ّ‬‫ن َتَنّز ُ‬
‫ُأَنّبُئُكْم عََلى َم ْ‬
‫طَئٍة{ ]العلق‪.[16 ،15 :‬‬ ‫خا ِ‬
‫صَيٍة َكاِذَبٍة َ‬
‫صَيِة ‪َ .‬نا ِ‬ ‫قال‪َ} :‬لَن ْ‬
‫سَفًعا ِبالّنا ِ‬

‫ومن تكلم في الدين بل علم كان كاذًبا وإن كان ل يتعمد الكذب‪ ،‬كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه‬
‫ل فوضعت بعد‬ ‫وسلم‪ ،‬لما قالت له سبيعة السلمية‪ ،‬وقد توفى عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع‪ ،‬فكانت حام ً‬
‫موت زوجها بليال قلئل‪ ،‬فقال لها أبو السنابل بن بعكك‪ :‬ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الجلين فقال النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪) :‬كذب أبو السنابل‪ ،‬بل حللت فانكحى(‪ ،‬وكذلك لما قال سلمة بن الكوع أنهم يقولون‪ :‬إن عامًرا‬
‫قتل نفسه وحبط عمله فقال‪) :‬كذب من قالها‪ ،‬إنه لجاهد مجاهد(‪ ،‬وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب‪ ،‬فإنه كان رج ً‬
‫ل‬
‫حا‪ ،‬وقد روى أنه كان أسيد بن الحضير‪ ،‬لكنه لما تكلم بل علم كذبه النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫صال ً‬

‫ل‪ ،‬وإن يكن‬ ‫‪/‬وقد قال أبوبكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ـ فيما يفتون فيه باجتهادهم ـ‪ :‬إن يكن صواًبا فمن ا ّ‬
‫ل ورسوله بريئان منه‪ .‬فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان‪ ،‬فكيف‬ ‫خطأ فهو مني ومن الشيطان‪ ،‬وا ّ‬
‫ضا من الشيطان‪ ،‬مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب‪ ،‬والمجتهد‬ ‫بمن تكلم بل اجتهاد يبيح له الكلم في الدين؟ فهذا خطؤه أي ً‬
‫خطؤه من الشيطان وهو مغفور له‪ ،‬كما أن الحتلم والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور له بخلف من تكلم‬
‫بل اجتهاد يبيح له ذلك‪ ،‬فهذا كاذب آثم في ذلك‪ ،‬وإن كانت له حسنات في غير ذلك‪ ،‬فإن الشيطان ينزل على كل‬
‫عَلْيِهْم‬
‫ك َ‬
‫س َل َ‬
‫عَباِدي َلْي َ‬ ‫ل وطاعته له قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِ‬ ‫إنسان ويوحي إليه بحسب موافقته له‪ ،‬ويطرد بحسب إخلصه ّ‬
‫طاٌن{ ]الحجر‪.[42 :‬‬ ‫سْل َ‬
‫ُ‬
‫وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات‪ ،‬وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد‬
‫عُبُدوِني‬
‫نا ْ‬
‫ن ‪َ .‬وَأ ْ‬
‫عُدّو ُمِبي ٌ‬
‫ن ِإّنُه َلُكْم َ‬
‫طا َ‬
‫شْي َ‬
‫ل َتْعُبُدوا ال ّ‬
‫ن َ‬ ‫الشيطان‪ ،‬ل من عباد الرحمن‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬أَلْم َأ ْ‬
‫عَهْد ِإَلْيُكْم َياَبِني آَدَم َأ ْ‬
‫ل َكِثيًرا َأَفَلْم َتُكوُنوا َتْعِقُلوَن{ ]يس‪.[60-62 :‬‬ ‫جِب ّ‬
‫ل ِمْنُكْم ِ‬
‫ضّ‬‫سَتِقيٌم ‪َ .‬وَلَقْد َأ َ‬
‫ط ُم ْ‬
‫صَرا ٌ‬
‫َهَذا ِ‬

‫والذين يعبدون الشيطان أكثرهم ل يعرفون أنهم يعبدون الشيطان‪ ،‬بل قد يظنون أنهم يعبدون الملئكة أو الصالحين‪،‬‬
‫كالذين يستغيثون بهم ‪ /‬ويسجدون لهم فهم في الحقيقة‪ ،‬إنما عبدوا الشيطان وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد‬
‫ن ُدوِنِهْم‬
‫ت َوِلّيَنا ِم ْ‬
‫ك َأْن َ‬
‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ن ‪َ .‬قاُلوا ُ‬
‫لِء ِإّياُكْم َكاُنوا َيْعُبُدو َ‬
‫لِئَكِة َأَهُؤ َ‬
‫ل ِلْلَم َ‬
‫جِميًعا ُثّم َيُقو ُ‬
‫شُرُهْم َ‬
‫حُ‬‫ل الصالحين‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وَيْوَم َي ْ‬ ‫ا ّ‬
‫َبْل َكاُنوا َيْعُبُدوَن اْلِجّن َأْكَثُرُهْم ِبِهْم ُمْؤِمُنوَن{ ]سبأ‪.[41 ،40 :‬‬

‫ولهذا نهى النبي صلى ال عليه وسلم عن الصلة وقت طلوع الشمس ووقت غربها‪ ،‬فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى‬
‫يكون سجود عباد الشمس له‪ ،‬وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس وسجودهم للشيطان‪ ،‬وكذلك أصحاب دعوات‬
‫الكواكب الذين يدعون كوكًبا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه ويدعونه ويصنعون له من الطعام واللباس والبخور‬
‫والتبركات ما يناسبه‪ ،‬كما ذكره صاحب ]السر المكتوم[ المشرقي‪ ،‬وصاحب ]الشعلة النورانية[ البوني المغربي‬
‫وغيرهما؛ فإن هؤلء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض المور وتقضي لهم بعض الحوائج ويسمون ذلك‬
‫روحانية الكواكب‪.‬‬

‫طاًنا َفُهَو َلهُ‬ ‫شْي َ‬ ‫ض َلُه َ‬


‫ن ُنَقّي ْ‬ ‫حَم ِ‬
‫ن ِذْكِر الّر ْ‬‫عْ‬‫ش َ‬‫ن َيْع ُ‬ ‫ومنه من يظن أنها ملئكة وإنما هي شياطين تنزل عليهم‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫عَلْيُكْم‬
‫ل َ‬ ‫ل فيهما‪َ} :‬واْذُكُروا ِنْعَمَة ا ِّ‬ ‫َقِريٌن{ ]الزخرف‪ [36 :‬وذكر الرحمن هو الذي أنزله وهو الكتاب والسنة اللذان قال ا ّ‬
‫ن‬
‫ل ِم ْ‬ ‫سو ً‬ ‫ث ِفيِهْم َر ُ‬ ‫ن ِإْذ َبَع َ‬
‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ل َ‬ ‫ظُكْم ِبِه{ ]البقرة‪ ،[231 :‬وقال تعالى‪َ} :‬لَقْد َم ّ‬
‫ن ا ُّ‬ ‫حْكَمِة َيِع ُ‬
‫ب َواْل ِ‬‫ن اْلِكَتا ِ‬ ‫عَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ل َ‬ ‫َوَما َأنَز َ‬
‫لّمّيي َ‬
‫ن‬ ‫ث ِفي ا ُْ‬‫حْكَمَة{ ]آل عمران‪ ،[164 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬هَو اّلِذي َبَع َ‬ ‫ب َواْل ِ‬
‫عَلْيِهْم آَياِتِه َوُيَزّكيِهْم َوُيَعّلُمُهْم اْلِكَتا َ‬
‫سِهْم َيْتُلوا َ‬ ‫َأْنُف ِ‬
‫ن َنّزْلَنا‬‫حُ‬‫ل فيه‪ِ} :‬إّنا َن ْ‬ ‫ب َواْلِحْكَمَة{ ]الجمعة‪ ،[2 :‬وهو الذكر الذي قال ا ّ‬ ‫عَلْيِهْم آَياِتِه َوُيَزّكيِهْم َوُيَعّلُمُهْم اْلِكَتا َ‬
‫ل ِمْنُهْم َيْتُلو َ‬ ‫سو ً‬‫َر ُ‬
‫ظوَن{ ]الحجر‪ ،[9 :‬فمن أعرض عن هذا الذكر وهو الكتاب والسنة قيض له قرين من الشياطين‬ ‫حاِف ُ‬
‫الّذْكَر َوِإّنا َلُه َل َ‬
‫فصار من أولياء الشيطان بحسب ما تابعه‪.‬‬

‫ل بحسب ما والى فيه الرحمن‪ ،‬وكان فيه‬ ‫وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان أخرى كان فيه من اليمان وولية ا ّ‬
‫ل والنفاق بحسب ما والى فيه الشيطان‪ ،‬كما قال حذيفة بن اليمان‪ :‬القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج‬ ‫من عداوة ا ّ‬
‫يزهر فذلك قلب المؤمن‪ .‬وقلب أغلف فذلك قلب الكافر ـ والغلف‪ :‬الذي يلف عليه غلف‪ .‬كما قال تعالى عن اليهود‪:‬‬
‫ل َعَلْيَها ِبُكْفِرِهْم{ ]النساء‪ [155 :‬وقد تقدم قوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬من ترك ثلث جمع‬
‫طَبَع ا ُّ‬
‫ل َ‬
‫ف َب ْ‬
‫غْل ٌ‬
‫}ٍَوَقْوِلِهْم ُقُلوُبَنا ُ‬
‫ل على قلبه( ـ وقلب منكوس فذلك قلب المنافق‪ .‬وقلب فيه مادتان‪ :‬مادة تمده لليمان ومادة تمده للنفاق‪ ،‬فأيهما‬ ‫طبع ا ّ‬
‫عا‪.‬‬
‫غلب كان الحكم له‪ .‬وقد روى هذا في ]مسند المام أحمد[ مرفو ً‬

‫ل بن عمرو بن العاص عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ /‬أنه قال‪) :‬أربع من كن فيه كان‬
‫وفي الصحيحين عن عبد ا ّ‬
‫منافًقا خالصا‪ ،‬ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها‪ :‬إذا اؤتمن خان‪ ،‬وإذا حدث كذب‪،‬‬
‫وإذا عاهد غدر‪ ،‬وإذا خاصم فجر(‪.‬‬

‫فقد بين النبي صلى ال عليه وسلم أن القلب يكون فيه شعبة نفاق‪ ،‬وشعبة إيمان‪ ،‬فإذا كان فيه شعبة نفاق كان فيه شعبة‬
‫من وليته وشعبة من عداوته؛ ولهذا يكون بعض هؤلء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه بالّ وتقواه تكـون‬
‫ل تعالى‪ :‬أن نقول‬
‫من كرامـات الولياء‪ ،‬وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين؛ ولهذا أمرنا ا ّ‬
‫ضاّليَن{ ]الفاتحة‪.[7 ،6 :‬‬
‫ل ال ّ‬
‫عَلْيِهْم َو َ‬
‫ب َ‬
‫ضو ِ‬
‫غْيِر اْلَمْغ ُ‬
‫عَلْيِهْم َ‬
‫ت َ‬
‫ن َأْنَعْم َ‬
‫ط اّلِذي َ‬
‫صَرا َ‬
‫سَتِقيَم ‪ِ .‬‬
‫ط اْلُم ْ‬ ‫كل صـلة‪} :‬اْهِدَنا ال ّ‬
‫صَرا َ‬

‫ل بغير علم‪ .‬فمن اتبع هواه‬


‫و)المغضوب عليهم( هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلفه‪ ،‬و)الضالون( الذين يعبدون ا ّ‬
‫وذوقه ووجده‪ ،‬مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة‪ ،‬فهو من )المغضوب عليهم( وإن كان ل يعلم ذلك فهو من‬
‫)الضالين(‪.‬‬

‫ل أن يهدينا الصراط المستقيم‪ ،‬صراط الذين أنعم عليهم‪ ،‬من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪ ،‬وحسن‬ ‫نسأل ا ّ‬
‫أولئك رفيًقا‪.‬‬
‫ل على محمد‪.‬‬
‫ل رب العالمين‪ .‬والعاقبة للمتقين‪ .‬وصلى ا ّ‬
‫والحمد ّ‬

‫ل عّمن َيُقول‪:‬‬
‫سِئ َ‬
‫َو ُ‬ ‫‪/‬‬

‫ل عدد أنفاس الخلئق‪ .‬هل قوله صحيح ؟‬


‫الطرق إلى ا ّ‬

‫فأجــاب‪:‬‬

‫إن أراد بذلك العمال المشروعة الموافقة للكتاب والسنة‪ ،‬كالصلة‪ ،‬والصدقة‪ ،‬والجهاد‪ ،‬والذكر‪ ،‬والقراءة وغير ذلك‪.‬‬
‫فهذا صحيح‪.‬‬

‫ل أعلم‪.‬‬
‫ل طريًقا مخالًفا للكتاب والسنة‪ ،‬فهو باطل‪ .‬وا ّ‬
‫وإن أراد إلى ا ّ‬

‫ل روحه ونور ضريحه‪:‬‬


‫لمة الّزَمان أبو العباس أحمد بن تيمية ـ قدس ا ّ‬
‫عّ‬‫سلم َ‬
‫شيخ الِ ْ‬
‫ل َ‬
‫َقا َ‬

‫ل فل‬
‫ل من شرور أنفسنا‪ ،‬ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهد ا ّ‬
‫ل‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ با ّ‬
‫الحمد ّ‬
‫مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪.‬‬

‫ل عليه وسلم تسليما كثيًرا‪.‬‬


‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمًدا عبده ورسوله‪ ،‬صلى ا ّ‬
‫وأشهد أن ل إله إل ا ّ‬

‫قال الشيخ أبو محمد عبد القادر في كتاب [فتوح الغيب]‪ :‬لبد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلثة أشياء‪:‬‬

‫أمر يمتثله‪.‬‬

‫ونهي يجتنبه‪.‬‬

‫وقدر يرضي به‪.‬‬

‫‪/‬فأقل حالة ل يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الشياء الثلثة‪ ،‬فينبغي له أن يلزم بها قلبه‪ ،‬ويحدث بها نفسه‪ ،‬ويأخذ بها‬
‫الجوارح في كل أحواله‪.‬‬

‫قلت‪ :‬هذا كلم شريف‪ ،‬جامع يحتاج إليه كل أحد‪ ،‬وهو تفصيل لما يحتاج إليه العبد‪ ،‬وهي مطابقة لقوله تعالى‪ِ} :‬إّنُه َم ْ‬
‫ن‬
‫ضّرُكْم َكْيُدُهْم َشْيًئا{]آل‬
‫ل َي ُ‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا َ‬ ‫ن{ ]يوسف‪ ،[90 :‬ولقوله تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن َت ْ‬ ‫سِني َ‬
‫حِ‬‫جَر اْلُم ْ‬
‫ضيُع َأ ْ‬
‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫صِبْر َفِإ ّ‬
‫ق َوَي ْ‬
‫َيّت ِ‬
‫ك ِمْن َعْزِم اُْلُموِر{ ]آل عمران‪[186 :‬؛ فإن ]التقوى[ تتضمن‪:‬‬ ‫ن َذِل َ‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا َفِإ ّ‬ ‫عمران‪ [120 :‬ولقوله تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن َت ْ‬
‫فعل المأمور‪ ،‬وترك المحظور‪ ،‬و]الصبر[ يتضمن‪ :‬الصبر على المقدور‪ .‬فالثلثة ترجع إلى هذين الصلين‪ ،‬والثلثة‬
‫ل ورسوله‪.‬‬
‫في الحقيقة ترجع إلى امتثال المر‪ ،‬وهو طاعة ا ّ‬

‫ل ورسوله‪ ،‬وهو‪ :‬أن يفعل في ذلك الوقت ما أمر به في‬ ‫فحقيقة المر أن كل عبد فإنه محتاج في كل وقت إلى طاعة ا ّ‬
‫ل‬
‫س ِإ ّ‬
‫لن َ‬‫ن َوا ِْ‬
‫جّ‬‫ت اْل ِ‬
‫خَلْق ُ‬‫ل التي خلق لها الجن والنس‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَما َ‬ ‫ل ورسوله هي‪ :‬عبادة ا ّ‬ ‫ذلك الوقت وطاعة ا ّ‬
‫عُبُدوا‬
‫سا ْ‬ ‫ن{ ]الحجر‪ ،[99 :‬وقال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها الّنا ُ‬ ‫ك اْلَيِقي ُ‬
‫حّتى َيْأِتَي َ‬
‫ك َ‬ ‫ن{ ]الذاريات‪ ،[56 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وا ْ‬
‫عُبْد َرّب َ‬ ‫ِلَيْعُبُدو ِ‬
‫َرّبُكْم اّلِذي َخَلَقُكْم َواّلِذيَن ِمْن َقْبِلُكْم َلَعّلُكْم َتّتُقوَن{ ]البقرة‪.[21 :‬‬

‫ل َأنْ‬
‫سو ً‬ ‫ل‪ ،‬ول يشركوا به شيًئا‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َبَعْثَنا ِفي ُك ّ‬
‫ل ُأّمٍة َر ُ‬ ‫والرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا ا ّ‬ ‫‪/‬‬
‫ن آِلَهًة‬
‫حَم ِ‬
‫ن الّر ْ‬‫ن ُدو ِ‬‫جَعْلَنا ِم ْ‬
‫سِلَنا َأ َ‬
‫ن ُر ُ‬‫ك ِم ْ‬
‫ن َقْبِل َ‬
‫سْلَنا ِم ْ‬
‫ن َأْر َ‬
‫ل َم ْ‬ ‫ت{ ]النحل‪ ،[36 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وا ْ‬
‫سَأ ْ‬ ‫غو َ‬
‫طا ُ‬
‫جَتِنُبوا ال ّ‬
‫ل َوا ْ‬
‫عُبُدوا ا َّ‬
‫ُا ْ‬
‫ُيْعَبُدوَن{ ]الزخرف‪.[45 :‬‬

‫وإنما كانت الثلثة ترجع إلى امتثال المر؛ لنه في الوقت الذي يؤمر فيه بفعل شيء من الفرائض‪ ،‬كالصلوات‬
‫الخمس والحج ونحو ذلك‪ ،‬يحتاج إلى فعل ذلك المأمور‪ ،‬وفي الوقت الذي تحدث أسباب المعصية يحتاج إلى المتناع‬
‫والكراهة والمساك عن ذلك‪ ،‬وهذا فعل لما أمر به في هذا الوقت‪ ،‬وأما من لم تخطر له المعصية ببال‪ ،‬فهذا لم يفعل‬
‫شيًئا يؤجر عليه‪ ،‬ولكن عدم ذنبه مستلزم لسلمته من عقوبة الذنب‪ ،‬والعدم المحض المستمر ل يؤمر به‪ ،‬وإنما يؤمر‬
‫بأمر يقدر عليه العبد‪ ،‬وذاك ل يكون إل حادًثا‪ ،‬سواء كان إحداث إيجاد أمر‪ ،‬أو إعدام أمر‪.‬‬

‫وأما القدر الذي يرضى به‪ ،‬فإنه إذا ابتلى بالمرض أو الفقر أو الخوف‪ ،‬فهو مأمور بالصبر أمر إيجاب‪ ،‬ومأمور‬
‫بالرضا‪ ،‬إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب؛ وللعلماء من أصحابنا وغيرهم في ذلك قولن‪ ،‬ونفس الصبر والرضا‬
‫ل‪.‬‬
‫ل ورسوله‪ ،‬هو من امتثال المر وهو عبادة ّ‬ ‫بالمصائب هو طاعة ّ‬

‫‪/‬لكن هذه الثلثة وإن دخلت في امتثال المر عند الطلق‪ ،‬فعند التفصيل والقتران‪ :‬إما أن تخص بالذكر‪ ،‬وإما أن‬
‫لَة ِلِذْكِري{‬
‫صَ‬ ‫عَلْيِه{ ]هود‪ ،[123 :‬وقوله‪َ} :‬فا ْ‬
‫عُبْدِني َوَأِقْم ال ّ‬ ‫ل َ‬ ‫يقال‪ :‬يراد بهذا مال يراد بهذا‪ ،‬كما في قوله‪َ} :‬فا ْ‬
‫عُبْدُه َوَتَوّك ْ‬
‫صا‪ ،‬وإما‬
‫]طه‪ ،[14 :‬فإن هذا داخل في العبادة إذا أطلق اسم العبادة‪ ،‬وعند القتران إما أن يقال‪ :‬ذكره عموًما وخصو ً‬
‫صا يغني عن دخوله في العام‪.‬‬ ‫أن يقال‪ :‬ذكره خصو ً‬

‫شِر ِ‬
‫ق‬ ‫ب اْلَم ْ‬
‫ل ‪َ .‬ر ّ‬
‫ل ِإَلْيِه َتْبِتي ً‬
‫ك َوَتَبّت ْ‬ ‫ن{]الفاتحة‪ ،[5 :‬وقوله‪َ} :‬واْذُكْر ا ْ‬
‫سَم َرّب َ‬ ‫سَتِعي ُ‬
‫ك َن ْ‬ ‫ومثل هذا قوله تعالى‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬
‫ل{ ]المّزمل‪ .[8-10 :‬وقد يقال‪ :‬لفظ‬ ‫جِمي ً‬‫جًرا َ‬
‫جْرُهْم َه ْ‬
‫ن َواْه ُ‬
‫عَلى َما َيُقوُلو َ‬
‫صِبْر َ‬ ‫ل ‪َ .‬وا ْ‬ ‫خْذُه َوِكي ً‬ ‫ل ُهَو َفاّت ِ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ب َ‬
‫َواْلَمْغِر ِ‬
‫]التبتيل[ ل يتناول هذه المور المعطوفة كما يتناولها لفظ العبادة والطاعة‪.‬‬

‫وبالجملة فرق ما بين ما يؤمر به النسان ابتداء‪ ،‬وبين ما يؤمر به عند حاجته إلى جلب المنفعة ودفع المضرة‪ ،‬أو عند‬
‫حب الشيء وبغضه‪.‬‬

‫ل روحه ـ يدور على هذا القطب‪ ،‬وهو أن يفعل المأمور ويترك المحظور‪ ،‬ويخلوا فيما سواهما‬ ‫وكلم الشيخ ـ قدس ا ّ‬
‫ل به‪ ،‬وما لم يؤمر به العبد بل فعله الرب عز وجل بل واسطة العبد‪،‬‬
‫عن إرادة؛‪ /‬لئل يكون له مراد غير فعل ما أمر ا ّ‬
‫أو فعله بالعبد بل هوى من العبد‪ .‬فهذا هو القدر الذي عليه أن يرضى به‪.‬‬

‫وسيأتي في كلم الشيخ ما يبين مراده‪ ،‬وأن العبد في كل حال عليه أن يفعل ما أمر به‪ ،‬ويترك ما نهي عنه‪ .‬وأما إذا لم‬
‫يكن هو أمر العبد بشيء من ذلك فما فعله الرب كان علينا التسليم فيما فعله‪ ،‬وهذه هي ]الحقيقة[ في كلم الشيخ‬
‫وأمثاله‪ .‬وتفصيل الحقيقة الشرعية في هذا المقام أن هذا نوعان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن يكون العبد مأموًرا فيما فعله الرب‪ .‬إما بحب له وإعانة عليه‪ .‬وإما ببغض له ودفع له‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أل يكون العبد مأموًرا بواحد منهما‪.‬‬

‫ل على‬‫فالول‪ :‬مثل البر والتقوى الذي يفعله غيره‪ ،‬فهو مأمور بحبه وإعانته عليه‪ ،‬كإعانة المجاهدين في سبيل ا ّ‬
‫الجهاد‪ ،‬وإعانة سائر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بحسب المكان‪ ،‬وبمحبة ذلك والرضا به‪ ،‬وكذلك هو مأمور‬
‫عند مصيبة الغير‪ :‬إما بنصر مظلوم‪ ،‬وإما بتعزية مصاب‪ ،‬وإما بإغناء فقير ونحو ذلك‪.‬‬

‫‪/‬وأما ما هو مأمور ببغضه ودفعه‪ ،‬فمثل ما إذا أظهر الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬فهو مأمور ببغض ذلك ودفعه‪،‬‬
‫وإنكاره بحسب المكان كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪) :‬من رأى منكم منكًرا فليغيره بيده‪،‬‬
‫فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اليمان(‪.‬‬

‫وأما ما ل يؤمر العبد فيه بواحد منهما‪ ،‬فمثل ما يظهر له من فعل النسان للمباحات التي لم يتبين له أنه يستعان بها‬
‫على طاعة ول معصية‪ .‬فهذه ل يؤمر بحبها‪ ،‬ول ببغضها‪ ،‬وكذلك مباحات نفسه المحضة التي لم يقصد الستعانة بها‬
‫على طاعة ول معصية‪.‬‬

‫مع أن هذا نقص منه‪ ،‬فإن الذي ينبغي أنه ل يفعل من المباحات إل ما يستعين به على الطاعة‪ ،‬ويقصد الستعانة بها‬
‫ل تعالى بالنوافل بعد الفرائض‪ ،‬ولم يزل أحدهم يتقرب‬
‫على الطاعة‪ ،‬فهذا سبيل المقربين السابقين الذين تقربوا إلى ا ّ‬
‫إليه بذلك حتى أحبه‪ ،‬فكان سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها‪،‬‬
‫وأما من فعل المباحات مع الغفلة‪ ،‬أو فعل فضول المباح التي ل يستعان بها على طاعة مع أداء الفرائض واجتناب‬
‫المحارم باطًنا وظاهًرا‪ ،‬فهذا من المقتصدين أصحاب اليمين‪.‬‬

‫‪/‬وبالجملة الفعال التي يمكن دخولها تحت المر والنهي ل تكون مستوية من كل وجه‪ ،‬بل إن فعلت على الوجه‬
‫المحبوب كان وجودها خيًرا للعبد‪ ،‬وإل كان تركها خيًرا له وإن لم يعاقب عليها‪ ،‬ففضول المباح التي ل تعين على‬
‫ل‪ ،‬فإنها تكون شاغلة له عن ذلك‪ ،‬وأما إذا قدر‬
‫الطاعة عدمها خير من وجودها‪ ،‬إذا كان مع عدمها يشتغل بطاعة ا ّ‬
‫ل كانت رحمة في حقه‪ ،‬وإن كان اشتغاله‬ ‫أنها تشغله عما دونها فهي خير له مما دونها‪ ،‬وإن شغلته عن معصية ا ّ‬
‫ل خيًرا له من هذا وهذا‪.‬‬
‫بطاعة ا ّ‬

‫وكذلك أفعال الغفلة والشهوة التي يمكن الستعانة بها على الطاعة‪ ،‬كالنوم الذي يقصد به الستعانة على العبادة؛‬
‫صا من العبد‬‫والكل والشرب واللباس والنكاح الذي يمكن الستعانة به على العبادة‪ ،‬إذا لم يقصد به ذلك كان ذلك نق ً‬
‫وفوات حسنة‪ ،‬وخير يحبه ال‪ ،‬ففي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لسعد‪) :‬إنك لن تنفق نفقة تبتغي‬
‫ي امرأتك(‪ ،‬وقال في الصحيح‪) :‬نفقة المسلم على‬ ‫ل‪ ،‬إل ازددت بها درجة ورفعة‪ ،‬حتى اللقمة تضعها في ف ّ‬ ‫بها وجه ا ّ‬
‫أهله يحتسبها صدقة(‪.‬‬

‫فما ل يحتاج إليه من المباحات‪ ،‬أو يحتاج إليه ولم يصحبه إيمان يجعله حسنة‪ ،‬فعدمه خير من وجوده‪ ،‬إذا كان مع‬
‫ل‪،‬‬
‫عدمه يشتغل بما هو ‪ /‬خير منه‪ ،‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬في بضع أحدكم صدقة(‪ .‬قالوا‪ :‬يارسول ا ّ‬
‫يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر‪ .‬قال‪) :‬أرأيتم لو وضعها في الحرام أما كان عليه وزر؟( قالوا‪ :‬بلى ! قال‪) :‬فكذلك‬
‫إذا وضعها في الحلل كان له بها أجر‪ ،‬فلم تعتدون بالحرام ول تعتدون بالحلل ؟(‪.‬‬

‫ل‪ ،‬يقصد فعل المباح معتقًدا أن الّ‬


‫ل إلى ما أباحه ا ّ‬
‫وذلك أن المؤمن عند شهوة النكاح يقصد أن يعدل عما حرمه ا ّ‬
‫ل يحب أن يأخذ برخصه‪ ،‬كما يكره أن تؤتي معصيته( كما رواه المام أحمد في المسند ورواه غيره؛‬ ‫أباحه‪) ،‬وا ّ‬
‫ل من‬
‫ل إلى ما يحبه ا ّ‬
‫ولهذا أحب القصر والفطر‪ ،‬فعدول المؤمن عن الرهبانية والتشديد وتعذيب النفس الذي ل يحبه ا ّ‬
‫حا لما اقترن به من العتقاد والقصد اللذين كلهما‬ ‫ل عليها‪ ،‬وإن فعل مبا ً‬
‫الرخصة‪ ،‬هو من الحسنات التي يثيبه ا ّ‬
‫ل ورسوله‪.‬فإنما العمال بالنيات‪ ،‬وإنما لكل امرئ ما نوى‪.‬‬ ‫طاعة ّ‬

‫ضا‪ ،‬فالعبد مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات‪ ،‬هو مأمور بالكل عند الجوع‪ ،‬والشرب عند العطش؛ ولهذا‬‫وأي ً‬
‫يجب على المضطر إلى الميتة أن يأكل منها‪ ،‬ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجًبا للوعيد‪ ،‬كما هو قول جماهير‬
‫العلماء من الئمة الربعة وغيرهم‪ ،‬وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه‪ ،‬بل وهو مأمور ‪ /‬بنفس عقد النكاح إذا‬
‫احتاج إليه وقدر عليه‪ ،‬فقول النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬في بضع أحدكم صدقة( فإن المباضعة مأمور بها لحاجته‬
‫ولحاجة المرأة إلى ذلك‪ ،‬فإن قضاء حاجتها التي ل تنقضي إل به بالوجه المباح صدقة‪.‬‬

‫والسلوك سلوكان‪:‬‬

‫سلوك البرار أهل اليمين‪ ،‬وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطًنا وظاهًرا‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬سلوك المقربين السابقين‪ ،‬وهو فعل الواجب والمستحب بحسب المكان‪ ،‬وترك المكروه والمحرم‪ ،‬كما قال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه‪ ،‬وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم(‪.‬‬

‫وكلم الشيوخ الكبارـ كالشيخ عبد القادر وغيره ـ يشير إلى هذا السلوك؛ ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب‬
‫وينهون عما هو مكروه غير محرم‪ ،‬فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة‪ ،‬وبالعامة مسلك العامة‪ ،‬وطريق الخاصة‬
‫ل ويرضاه‪،‬‬‫ل ورسوله بإرادته‪ ،‬وهو ما يحبه ‪ /‬ا ّ‬ ‫طريق المقربين أل يفعل العبد إل ما أمر به‪ ،‬ول يريد إل ما أمر ا ّ‬
‫ويريده إرادة دينية شرعية‪ ،‬وإل فالحوادث كلها مرادة له خلًقا وتكويًنا‪.‬‬

‫عا؛ وذلك لن من الحواث ما يجب دفعه‬ ‫ل‪ ،‬ول مأمور شر ً‬ ‫والوقوف مع الرادة الخلقية القدرية مطلًقا غير مقدور عق ً‬
‫ول تجوز إرادته‪ ،‬كمن أراد تكفير الرجل أو تكفير أهله‪ ،‬أو الفجور به أو بأهله أو أراد قتل النبي وهو قادر على‬
‫دفعه‪ ،‬أو أراد إضلل الخلق وإفساد دينهم ودنياهم‪ ،‬فهذه المور يجب دفعها وكراهتها؛ ل تجوز إرادتها‪.‬‬
‫وأما المتناع عقل‪ ،‬فلن النسان مجبول على حب ما يلئمه وبغض ما ينافره‪ ،‬فهو عند الجوع يحب ما يغنيه‬
‫كالطعام‪ ،‬ول يحب ما ل يغنيه كالتراب فل يمكن أن تكون إرادته لهذين سواء‪.‬‬

‫ل وعبادته وحده‪،‬‬ ‫وكذلك يحب اليمان والعمل الصالح الذي ينفعه‪ ،‬ويبغض الكفر والفسوق الذي يضره‪ ،‬بل ويحب ا ّ‬
‫ن{‬ ‫ب اْلَعاَلِمي َ‬
‫ل َر ّ‬ ‫عُدّو ِلي ِإ ّ‬ ‫ن‪َ .‬فِإّنُهْم َ‬‫لْقَدُمو َ‬ ‫ويبغض عبادة ما دونه‪ ،‬كما قال الخليل‪َ} :‬أَفَرَأْيُتْم َما ُكْنُتْم َتْعُبُدو َ‬
‫ن‪َ .‬أْنُتْم َوآَباُؤُكْم ا َْ‬
‫ن َمَعُه ِإْذ َقاُلوا ِلَقْوِمِهْم ِإّنا ُبَرآءُ ِمْنُكْم َوِمّما َتْعُبُدو َ‬
‫ن‬ ‫سَنٌة ِفي ِإْبَراِهيَم َواّلِذي َ‬‫حَ‬ ‫سَوٌة َ‬ ‫ت َلُكْم ُأ ْ‬‫]الشعراء‪ ،[77 - 75 :‬وقال تعالى‪َ} :‬قْد َكاَن ْ‬
‫لِ َوْحَدُه{ ]الممتحنة‪.[4 :‬‬ ‫حّتى ُتْؤِمُنوا ِبا ّ‬ ‫ضاُء َأَبًدا َ‬ ‫ل َكَفْرَنا ِبُكْم َوَبَدا َبْيَنَنا َوَبْيَنُكْم اْلَعَداَوُة َواْلَبْغ َ‬
‫ن ُدونِ ا ِّ‬
‫ِم ْ‬

‫ل‪ ،‬وقال الخليل‪ِ} :‬إّنِني‬


‫ل أن نتأسى بإبراهيم والذين معه‪ ،‬إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون ا ّ‬ ‫فقد أمرنا ا ّ‬
‫طَرِني َفِإّنُه َسَيْهِديِني{ ]الزخرف‪ ،[27 ،26 :‬والبراءة ضد الولية‪ ،‬وأصل البراءة البغض‬
‫ل اّلِذي َف َ‬
‫ن‪ِ .‬إ ّ‬
‫َبَراٌء ِمّما َتْعُبُدو َ‬
‫ل‪ ،‬ول يبغض إل‬
‫ل‪ ،‬فل يحب إل ّ‬ ‫ل ّ‬‫ل‪ ،‬ويحب ما يحبه ا ّ‬ ‫وأصل الولية الحب‪ ،‬وهذا لن حقيقة التوحيد أل يحب إل ا ّ‬
‫ل{ ]البقرة‪.[165 :‬‬
‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬
‫ل َواّلِذي َ‬
‫ب ا ِّ‬
‫ح ّ‬
‫حّبوَنُهْم َك ُ‬
‫ل َأنَداًدا ُي ِ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬
‫خُذ ِم ْ‬
‫ن َيّت ِ‬
‫س َم ْ‬ ‫ل‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫ّ‬

‫ل‪ ،‬والمشركون يحبون غير ا ّ‬


‫ل‬ ‫ل ّ‬
‫ل‪ ،‬فأهل التوحيد والخلص يحبون غير ا ّ‬
‫ل والحب مع ا ّ‬
‫والفرق ثابت بين الحب ّ‬
‫ل‪ ،‬كحب المشركين للهتهم‪ ،‬وحب النصارى للمسيح‪ ،‬وحب أهل الهواء رؤوسهم‪.‬‬ ‫مع ا ّ‬

‫فإذا عرف أن العبد مفطور على حب ما ينفعه‪ ،‬وبغض مايضره لم يمكن أن تستوى إرادته لجميع الحوادث فطرة‬
‫ل بإرادة أمور وكراهة أخرى‪.‬‬
‫وخلًقا‪ ،‬ول هو مأمور من جهة الشرع أن يكون مريًدا لجميع الحوادث‪ ،‬بل قد أمره ا ّ‬

‫ل عليهم وسلمه ـ بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها ل بتحويل الفطرة وتغييرها‪ .‬وقد قال‬ ‫والرسل ـ صلوات ا ّ‬ ‫‪/‬‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬كل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه(‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬فَأِقْم‬
‫س َل َيْعَلُموَن{ ]الروم‪،[30 :‬‬
‫ن َأْكَثَر الّنا ِ‬
‫ن اْلَقّيُم َوَلِك ّ‬
‫ك الّدي ُ‬
‫ل َذِل َ‬
‫ق ا ِّ‬
‫خْل ِ‬
‫ل ِل َ‬
‫ل َتْبِدي َ‬
‫عَلْيَها َ‬
‫س َ‬
‫طَر الّنا َ‬
‫ل اّلِتي َف َ‬
‫طَرَة ا ِّ‬
‫حِنيًفا ِف ْ‬
‫ن َ‬
‫ك ِللّدي ِ‬
‫جَه َ‬
‫َو ْ‬
‫ل تعالى‪ :‬إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ‪،‬‬ ‫وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬يقول ا ّ‬
‫وحرمت عليهم ما أحللت لهم ‪ ،‬وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا(‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وذلك يتضمن حبه تعالى والذل له‪ ،‬ل يشرك به شيء‪ ،‬ل في الحب ول‬ ‫والحنيفية‪ :‬هي الستقامة بإخلص الدين ّ‬
‫ل وحده‪،‬‬
‫ل وحده‪ ،‬وكذلك الخشية والتقوى ّ‬
‫في الذل؛ فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل‪ ،‬وذلك ل يستحقه إل ا ّ‬
‫ل وحده‪.‬‬‫والتوكل على ا ّ‬

‫سوَلهُ‬
‫ل َوَر ُ‬ ‫طْع ا َّ‬ ‫والرسول يطاع ويحب‪ ،‬فالحلل ما أحله والحرام ما حرمه‪ ،‬والدين ما شرعه‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن ُي ِ‬
‫سُبَنا ا ُّ‬
‫ل‬ ‫حْ‬‫سوُلُه َوَقاُلوا َ‬‫ل َوَر ُ‬ ‫ن{ ]النور‪ ،[52 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلْو َأّنُهْم َر ُ‬
‫ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ‬ ‫ك ُهْم اْلَفاِئُزو َ‬ ‫ل َوَيّتِقِه َفُأْوَلِئ َ‬ ‫ش ا َّ‬
‫خ َ‬ ‫َوَي ْ‬
‫ل َراِغُبوَن{ ]التوبة‪.[59 :‬‬
‫سوُلُه ِإّنا ِإَلى ا ِّ‬
‫ضِلِه َوَر ُ‬‫ن َف ْ‬ ‫ل ِم ْ‬ ‫سُيْؤِتيَنا ا ُّ‬‫َ‬

‫وهذا حقيقة دين السلم‪.‬‬ ‫‪/‬‬

‫سى‬ ‫صْيَنا ِبِه ِإْبَراِهيَم َوُمو َ‬


‫ك َوَما َو ّ‬‫حْيَنا ِإَلْي َ‬
‫حا َواّلِذي َأْو َ‬ ‫صى ِبِه ُنو ً‬
‫ن َما َو ّ‬
‫ن الّدي ِ‬
‫ع َلُكْم ِم ْ‬ ‫والرسل بعثوا بذلك‪ ،‬كما قال تعالى‪َ } :‬‬
‫شَر َ‬
‫حا ِإّني ِبَما‬
‫صاِل ً‬
‫عَمُلوا َ‬ ‫ت َوا ْ‬ ‫طّيَبا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ل ُكُلوا ِم ْ‬ ‫سُ‬ ‫ل َتَتَفّرُقوا ِفيِه{ ]الشورى‪ ،[13 :‬وقال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها الّر ُ‬ ‫ن َو َ‬ ‫ن َأِقيُموا الّدي َ‬
‫سى َأ ْ‬ ‫عي َ‬‫َو ِ‬
‫َتْعَمُلوَن َعِليٌم‪َ .‬وِإّن َهِذِه ُأّمُتُكْم ُأّمًة َواِحَدًة َوَأَنا َرّبُكْم َفاّتُقوِني{ ]المؤمنون‪.[52 ،51 :‬‬

‫ل بإرادته ومحبته‪.‬‬
‫فهذا هو الصل الذي يجب على كل أحد أن يعتصم به‪ ،‬فل بد أن يكون مريًدا محًبا لما أمره ا ّ‬
‫ل بكراهته وبغضه‪.‬‬
‫ضا لما أمره ا ّ‬
‫كارًها مبغ ً‬

‫والناس في هذا الباب أربعة أنواع‪:‬‬

‫ل ورسوله بإرادته‪،‬‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬فيريدون ما أمرهم ا ّ‬


‫ل ورسوله‪ ،‬ويبغضون ما أبغضه ا ّ‬‫أكملهم الذين يحبون ما أحبه ا ّ‬
‫ل به ورسوله‪،‬‬ ‫ل ورسوله بكراهته‪ ،‬وليس عندهم حب ول بغض لغير ذلك‪ .‬فيأمرون بما أمر ا ّ‬ ‫ويكرهون ما أمرهم ا ّ‬
‫ل عنه ورسوله‪ ،‬ول ينهون عن غيرذلك‪ ،‬وهذه حال الخليلين أفضل البرية‪:‬‬ ‫ول يأمرون بغير ذلك‪ ،‬وينهون عما نهى ا ّ‬
‫محمد وإبراهيم صلى ال عليهما وسلم‪ ،‬وقد ‪ /‬ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إن ا ّ‬
‫ل‬
‫ل ل أعطي أحًدا‪ ،‬ول‬
‫ل( وقال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪) :‬إني وا ّ‬
‫ل كما اتخذ إبراهيم خلي ً‬
‫اتخذني خلي ً‬
‫أمنع أحًدا‪ ،‬وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت(‪.‬‬

‫ل‪ .‬فإن النبي‬


‫ل‪ ،‬فاختار أن يكون عبًدا رسو ً‬
‫وذكر‪ :‬أن ربه خيره بين أن يكون نبًيا ملًكا؛ وبين أن يكون عبًدا رسو ً‬
‫ب{ ]ص‪ ،[39 :‬قالوا‪ :‬معناه اعط من شئت‪،‬‬ ‫سا ٍ‬
‫حَ‬‫ك ِبَغْيِر ِ‬
‫س ْ‬
‫ن َأْو َأْم ِ‬
‫طاُؤَنا َفاْمُن ْ‬
‫عَ‬‫الملك مثل‪ :‬داود وسليمان‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬هَذا َ‬
‫وامنع من شئت‪ ،‬ل نحاسبك‪.‬‬

‫فالنبي الملك‪ :‬يعطي بإرادته ل يعاقب على ذلك‪ ،‬كالذي يفعل المباحات بإرادته‪ ،‬وأما العبد الرسول فل يعطي ول‬
‫يمنع إل بأمر ربه‪ ،‬وهو محبته ورضاه وإرادته الدينية‪ ،‬والسابقون المقربون أتباع العبد الرسول‪ ،‬والمقتصدون أهل‬
‫اليمين أتباع النبي الملك‪ ،‬وقد يكون للنسان حال هو فيها خال عن الرادتين‪ :‬وهو أل تكون له إرادة في عطاء ول‬
‫منع‪ ،‬ل إرادة دينية هو مأمور بها‪ ،‬ول إرادة نفسانية سواء كان منهًيا عنها أو غير منهي عنها‪ ،‬بل ما وقع كان مراًدا‬
‫عا في ذلك‪.‬‬ ‫له‪ ،‬ومهما فعل به كان مراًدا له‪ ،‬من غير أن يفعل المأمور به شر ً‬

‫‪/‬فهذا بمنزلة من له أموال يعطيها وليس له إرادة في إعطاء معين‪ ،‬ل إرادة شرعية ول إرادة مذمومة‪ ،‬بل يعطي كل‬
‫أحد‪ .‬فهذا إذا قدر أنه قام بما يجب عليه بحسب إمكانه ولكنه خفى عليه الرادة الشرعية في تفصيل أفعاله‪ ،‬فإنه ليذم‬
‫على ما فعل ول يمدح مطلًقا‪ ،‬بل يمدح لعدم هواه‪ ،‬ولو علم تفصيل المأمور به وأراده إرادة شرعية لكان أكمل؛ بل‬
‫حا له‪،‬‬
‫هذا مع القدرة إما واجب وإما مستحب‪ .‬وحال هذا خير من حال من يريد بحكم هواه ونفسه؛وإن كان ذلك مبا ً‬
‫وهو دون من يريد بأمر ربه ل بهواه‪ ،‬ول بالقدر المحض‪.‬‬

‫فمضمون هذا المقام أن الناس في المباحات من الملك والمال وغير ذلك على ثلثة أقسام‪:‬‬

‫قوم ل يتصرفون فيها إل بحكم المر الشرعي‪ .‬وهو حال نبينا صلى ال عليه وسلم‪ .‬وهو حال العبد الرسول ومن‬
‫اتبعه في ذلك‪.‬‬

‫وقوم يتصرفون فيها بحكم إرادتهم والشهوة التي ليست محرمة‪ .‬وهذا حال النبي الملك‪ .‬وهو حال البرار أهل اليمين‪.‬‬

‫وقوم ل يتصرفون بهذا ول بهذا‪ .‬أما الول‪ :‬فلعدم ‪ /‬علمهم به‪ .‬وأما الثاني‪ :‬فلزهدهم فيه؛ بل يتصرفون فيها بحكم‬
‫ل الخلقية القدرية حين تعذر معرفة الرادة الشرعية المرية‪ ،‬وهذا كالترجيح بالقرعة‬ ‫عا لرادة ا ّ‬
‫القدر المحض‪ ،‬اتبا ً‬
‫إذا تعذر الترجيح بسبب شرعي معلوم‪ ،‬وقد يتصرف هؤلء في هذا المقام بإلهام يقع في قلوبهم وخطاب‪.‬‬

‫ل روحه ـ كثيًرا ما يقع في هذا المقام؛ فإنه يأمر بالزهد في إرادة النفس وهواها‪،‬‬
‫وكلم الشيخ عبد القادر ـ قدس ا ّ‬
‫حتى ل يتصرف بحكم الرادة والنفس‪ ،‬وهذا رفع له عن حال البرار أهل اليمين وعن طريق الملوك مطلًقا ‪ ،‬ومن‬
‫حصل هذا وتصرف بالمر الشرعي المحمدي القرآني فهو أكمل الخلق‪ ،‬لكن هذا قد يخفى عليه‪ ،‬فإن معرفة هذا على‬
‫التفصيل قد يتعذر أو يتعسر في كثير من المواضع أل ترى أن النبي صلى ال عليه وسلم لما حكم سعد ابن معاذ في‬
‫ل من فوق سبعة‬‫بني قريظة فحكم بقتل مقاتلتهم‪ ،‬وبسبي ذراريهم‪ ،‬وغنيمة أموالهم‪ .‬قال‪) :‬لقد حكمت فيهم بحكم ا ّ‬
‫أرقعة(‪ ،‬وذلك أن تخيير ولي المر بين القتل والسترقاق‪ ،‬والمن والفداء ليس تخيير شهوة‪ ،‬بل تخيير رأي ومصلحة‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وإل فل‪.‬‬ ‫فعليه أن يختار الصلح‪ ،‬فإن اختار ذلك فقد وافق حكم ا ّ‬

‫ولما كان هذا يخفي كثيًرا‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث ‪ /‬الصحيح‪) :‬إذا حاصرت أهل حصن فسألوك‬
‫ل فيهم‪ ،‬ولكن أنزلهم على حكمك وحكم‬ ‫ل‪ ،‬فإنك ل تدري ماحكم ا ّ‬‫ل فل تنزلهم على حكم ا ّ‬‫أن تنزلهم على حكم ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫أصحابك(‪ ،‬والحاكم الذي ينزل أهل الحصن على حكمه عليه أن يحكم باجتهاده‪ ،‬فلما أمر سعد بما هو الرضي ّ‬
‫ل في الباطن‪.‬‬
‫والحب إليه‪ ،‬حكم بحكمه‪ ،‬ولو حكم بغير ذلك لنفذ حكمه فإنه حكم باجتهاده‪ ،‬وإن لم يكن ذلك هو حكم ا ّ‬

‫ففي مثل هذه الحال التي ل يتبين المر الشرعي في الواقعة المعينة‪ ،‬يأمر الشيخ عبدالقادر وأمثاله من الشيوخ‪ :‬تارة‬
‫بالرجوع إلى المر الباطن واللهام إن أمكن ذلك‪ ،‬وتارة بالرجوع إلى القدر المحض لتعذر السباب المرجحة من‬
‫جهة الشرع‪ ،‬كما يرجح الشارع بالقرعة‪ .‬فهم يأمرون أل يرجح بمجرد إرادته وهواه‪ ،‬فإن هذا إما محرم وإما مكروه‪،‬‬
‫وإما منقص‪ ،‬فهم في هذا النهي كنهيهم عن فضول المباحات‪.‬‬
‫ثم إن تبين لهم المر الشرعي وجب الترجيح به‪ ،‬وإل رجحوا‪ ،‬إما بسبب باطن من اللهام والذوق‪ ،‬وإما بالقضاء‬
‫ل‪ ،‬كما كان النبي صلى ال عليه وسلم يعلم‬‫والقدر الذي ل يضاف إليهم‪ .‬ومن يرجح في مثل هذه الحال باستخارة ا ّ‬
‫أصحابه الستخارة في المور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن‪ ،‬فقد أصاب‪.‬‬

‫‪/‬وهذا كما أنه إذا تعارضت أدلة المسألة الشرعية عند الناظر المجتهد‪ ،‬وعند المقلد المستفتي‪ ،‬فإنه ل يرجح شيًئا‪ ،‬بل‬
‫ما جرى به القدر أقروه‪ ،‬ولم ينكروه‪ ،‬وتارة يرجح أحدهم‪ :‬إما بمنام‪ ،‬وإما برأي مشير ناصح‪ ،‬وإما برؤية المصلحة‬
‫في أحد الفعلين‪.‬‬

‫وأما الترجيح بمجرد الختيار‪ ،‬بحيث إذا تكافأت عنده الدلة يرجح بمجرد إرادته واختياره‪ .‬فهذا ليس قول أحد من‬
‫أئمة السلم‪ ،‬وإنما هو قول طائفة من أهل الكلم‪ ،‬ولكن قاله طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي‪ :‬أنه يخير بين‬
‫المفتين المختلفين‪ .‬وهذا كما أن طائفة من السالكين إذا استوى عنده المران في الشريعة رجح بمجرد ذوقه وإرادته‪،‬‬
‫فالترجيح بمجرد الرادة التي ل تستند إلى أمر علمي باطن ول ظاهر‪ ،‬ل يقول به أحد من أئمة العلم والزهد‪ .‬فأئمة‬
‫الفقهاء والصوفية ل يقولون هذا‪.‬‬

‫ولكن من جوز لمجتهد أو مقلد الترجيح بمجرد اختياره وإرادته‪ ،‬فهو نظير من شرع للسالك الترجيح بمجرد إرادته‬
‫وذوقه‪.‬‬

‫لكن قد يقال‪ :‬القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي‪ .‬وعلى هذا التقدير ليس من هذا‪ ،‬فمن غلب‬
‫ل أو مكروه‪ ،‬ورأي‬
‫ل‪ ،‬إذا لم يدر في المر المعين ‪ /‬هل هو محبوب ّ‬
‫ل‪ ،‬وبغض ما يكرهه ا ّ‬ ‫على قلبه إرادة ما يحبه ا ّ‬
‫حا عنده‪ .‬كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه‪ ،‬فإن الترجيح بخبر هذا عند‬
‫قلبه يحبه أو يكرهه‪ ،‬كان هذا ترجي ً‬
‫انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي‪.‬‬

‫حا بدليل شرعي‪ ،‬والذين‬


‫ل ورسوله‪ ،‬كان هذا ترجي ً‬
‫ففي الجملة‪ ،‬متى حصل ما يظن معه أن أحد المرين أحب إلى ا ّ‬
‫أنكروا كون اللهام طريًقا على الطلق أخطؤوا‪ ،‬كما أخطأ الذين جعلوه طريًقا شرعًيا على الطلق‪.‬‬

‫حا‪ ،‬وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن‬


‫ولكن إذا اجتهد السالك في الدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجي ً‬
‫قصده وعمارته بالتقوى‪ ،‬فإلهام مثل هذا دليل في حقه؛ قد يكون أقوى من كثير من القيسة الضعيفة‪ ،‬والحاديث‬
‫الضعيفة‪ ،‬والظواهر الضعيفة‪ ،‬والستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب‪ ،‬والخلف‬
‫وأصول الفقه‪.‬‬

‫ل( ثم قرأ‬
‫وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬اتقوا فراسة المؤمن‪ ،‬فإنه ينظر بنور ا ّ‬
‫ت ِلْلُمَتَوّسِميَن{ ]الحجر‪ .[57 :‬وقال عمر بن الخطاب‪ :‬اقتربوا من أفواه المطيعين‪ ،‬واسمعوا‬
‫لَيا ٍ‬
‫ك َ‬ ‫قوله تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِفي َذِل َ‬
‫ل تعالى‪) :‬ول يزال عبدي يتقرب إلي‬ ‫منهم ما يقولون‪ ،‬فإنه تتجلى لهم أمور ‪ /‬صادقة‪ .‬وقد ثبت في الصحيح قول ا ّ‬
‫بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي‬
‫يمشي بها‪ ،‬فبي يسمع‪ ،‬وبي يبصر‪ ،‬وبي يبطش‪ ،‬وبي يمشي(‪.‬‬

‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ فطر عباده على الحنيفية‪ :‬وهو حب المعروف‪ ،‬وبغض المنكر‪ ،‬فإذا لم تستحل الفطرة‬ ‫ضا فا ّ‬ ‫وأي ً‬
‫فالقلوب مفطورة على الحق‪ ،‬فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة اليمان‪ ،‬منورة بنور القرآن‪ ،‬وخفي عليها دللة الدلة‬
‫ل علم القرآن‬ ‫السمعية الظاهرة‪ ،‬ورأى قلبه يرجح أحد المرين‪ ،‬كان هذا من أقوى المارات عند مثله‪ ،‬وذلك أن ا ّ‬
‫ل{ الية ثم قال‪َ} :‬وَكَذِل َ‬
‫ك‬ ‫سو ً‬
‫ل َر ُ‬
‫سَ‬‫ب َأْو ُيْر ِ‬
‫جا ٍ‬
‫حَ‬‫ن َوَراِء ِ‬ ‫حًيا َأْو ِم ْ‬
‫ل َو ْ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ن ُيَكّلَمُه ا ُّ‬
‫شٍر َأ ْ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬وَما َكا َ‬
‫ن ِلَب َ‬ ‫واليمان‪ .‬قال ا ّ‬
‫ب َوَل اِْليَماُن َوَلِكْن َجَعْلَناُه ُنوًرا َنْهِدي ِبِه َمْن َنَشاُء ِمْن ِعَباِدَنا{ ]الشورى‪،51 :‬‬ ‫ت َتْدِري َما اْلِكَتا ُ‬ ‫ن َأْمِرَنا َما ُكْن َ‬
‫حا ِم ْ‬
‫ك ُرو ً‬
‫حْيَنا ِإَلْي َ‬
‫َأْو َ‬
‫ل بن عمر‪ :‬تعلمنا اليمان‪ ،‬ثم تعلمنا القرآن‪ ،‬فازددنا إيماًنا‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬وعبد ا ّ‬ ‫‪ ،[52‬وقال جندب بن عبد ا ّ‬

‫ل أنزل المانة في جذر قلوب الرجال‪،‬‬‫وفي الصحيحين عن حذيفة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إن ا ّ‬
‫فعلموا من القرآن وعلموا من السنة(‪ ،‬وفي الترمذي وغيره حديث النواس عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ /‬أنه قال‪:‬‬
‫طا مستقيما‪ ،‬وعلى جنبتي الصراط سوران‪ ،‬وفي السورين أبواب مفتحة‪ ،‬وعلى البواب ستور‬ ‫ل صرا ً‬
‫ل مث ً‬
‫)ضرب ا ّ‬
‫مرخاة‪ ،‬وداع يدعو على رأس الصراط‪ ،‬وداع يدعو من فوق الصراط‪ .‬فالصراط المستقيم هو السلم‪ ،‬والستور‬
‫ل‪ .‬فإذا أراد العبد أن يفتح باًبا من تلك البواب ناداه المنادي ـ أو كما قال ـ يا‬
‫ل‪ ،‬والبواب المفتحة محارم ا ّ‬
‫حدود ا ّ‬
‫ل في‬‫ل‪ ،‬والداعي فوق الصراط واعظ ا ّ‬ ‫ل ل تفتحه‪ ،‬فإنك إن تفتحه تلجه‪ .‬والداعي على رأس الصراط كتاب ا ّ‬ ‫عبد ا ّ‬
‫قلب كل مؤمن(‪.‬‬

‫فقد بين أن في قلب كل مؤمن واعظ‪ ،‬والواعظ المر والنهي بترغيب وترهيب؛ فهذا المر والنهي الذي يقع في قلب‬
‫المؤمن مطابق لمر القرآن ونهيه؛ ولهذا يقوى أحدهما بالخر‪ .‬كما قال تعالى‪ُ} :‬نوٌر َعَلى ُنوٍر{ ]النور‪ ،[35 :‬قال‬
‫بعض السلف في الية‪ :‬هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر‪ .‬فإذا سمع بالثر كان نوًرا على نور‪ .‬نور‬
‫ل أنزل الكتاب والميزان‬
‫اليمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن‪ ،‬كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل؛ فإن ا ّ‬
‫ليقوم الناس بالقسط‪.‬‬

‫وقد يؤتي العبد أحدهما ول يؤتي الخر‪ ،‬كما في الصحيحين عن أبي موسى الشعري عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫أنه قال‪) :‬مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الترجة طعمها طيب وريحها طيب‪ ،‬ومثل ‪ /‬المؤمن الذي ل يقرأ القرآن‬
‫كمثل التمرة طعمها طيب ول ريح لها‪ ،‬ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر‪ ،‬ومثل‬
‫المنافق الذي ل يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر(‪.‬‬

‫واللهام في القلب تارة يكون من جنس القول والعلم والظن والعتقاد‪ ،‬وتارة يكون من جنس العمل والحب والرادة‬
‫والطلب‪ ،‬فقد يقع في قلبه أن هذا القول أرجح وأظهر وأصوب‪ ،‬وقد يميل قلبه إلى أحد المرين دون الخر‪ ،‬وفي‬
‫الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬قد كان في المم قبلكم محدثون‪ ،‬فإن يكن في أمتي أحد فعمر(‪،‬‬
‫والمحدث الملهم المخاطب‪ ،‬وفي مثل هذا قول النبي صلى ال عليه وسلم في حديث وابصة‪) :‬البر ما اطمأنت إليه‬
‫النفس وسكن إليه القلب‪ ،‬والثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك( وهو في السنن‪ .‬وفي صحيح مسلم عن‬
‫النواس عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬البر حسن الخلق‪ ،‬والثم ما حاك في نفسك‪ ،‬وكرهت أن يطلع عليه‬
‫الناس(‪ .‬وقال ابن مسعود‪ :‬الثم حزاز القلوب‪.‬‬

‫ضا فإذا كانت المور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن يقيًنا أو ظًنا‪ ،‬فالمور الدينية كذلك بطريق الولى‪ ،‬فإنه إلى‬
‫وأي ً‬
‫كشفها أحوج‪ ،‬لكن هذا في الغالب لبد أن يكون كشًفا بدليل‪ ،‬وقد يكون ‪ /‬بدليل ينقدح في قلب المؤمن‪ ،‬ول يمكنه‬
‫التعبير عنه‪ .‬وهذا أحد ما فسر به معنى الستحسان‪.‬‬

‫وقد قال من طعن في ذلك ـ كأبي حامد وأبي محمد ـ‪ :‬ما ل يعبر عنه فهو هوس‪ ،‬وليس كذلك؛ فإنه ليس كل أحد يمكنه‬
‫صا‪ ،‬وكثيرمن أهل الكشف يلقي في قلبه أن هذا الطعام‬
‫إبانة المعاني القائمة بقلبه‪ ،‬وكثير من الناس يبينها بياًنا ناق ً‬
‫ل أو‬
‫حرام‪ ،‬أو أن هذا الرجل كافر أو فاسق‪ ،‬من غيردليل ظاهر‪ ،‬وبالعكس قد يلقي في قلبه محبة شخص وأنه ولي ّ‬
‫أن هذا المال حلل‪.‬‬

‫حا لطالب الحق إذا‬ ‫وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الحكام الشرعية‪ ،‬لكن إن مثل هذا يكون ترجي ً‬
‫تكافأت عنده الدلة السمعية الظاهرة‪ .‬فالترجيح بها خير من التسوية بين المرين المتناقضين قطًعا‪ ،‬فإن التسوية‬
‫بينهما باطلة قطًعا‪.‬كما قلنا‪ :‬إن العمل بالظن الناشئ عن ظاهر أو قياس خير من العمل بنقيضه إذا احتيج إلى العمل‬
‫بأحدهما‪ .‬والصواب الذي عليه السلف والجمهور أنه لبد في كل حادثة من دليل شرعي‪ ،‬فليجوز تكافؤ الدلة في‬
‫نفس المر‪ ،‬لكن قد تتكافأ عند الناظر لعدم ظهور الترجيح له‪ ،‬وأما من قال‪ :‬إنه ليس في نفس المر حق معين‪ ،‬بل‬
‫كل مجتهد عالم بالحق الباطن في المسألة‪ ،‬وليس لحدهما على الخر مزية في علم ول عمل‪ ،‬فهؤلء ‪ /‬قد يجوزون‬
‫أو بعضهم تكافؤ الدلة‪ ،‬ويجعلون الواجب التخيير بين القولين‪ ،‬وهؤلء يقولون ليس على الظن دليل في نفس المر؛‬
‫وإنما رجحان أحد القولين هو من باب الرجحان بالميل والرادة‪ ،‬كترجيح النفس الغضبية للنتقام‪ ،‬والنفس الحليمة‬
‫للعفو‪.‬‬

‫وهذا القول خطأ؛ فإنه لبد في نفس المر من حق معين يصيبه المستدل تارة ويخطئه أخرى‪ .‬كالكعبة في حق من‬
‫اشتبهت عليه القبلة والمجتهد إذا أداه اجتهاد إلى جهة سقط عنه الفرض بالصلة إليها كالمجتهد إذا أداه اجتهاده إلى‬
‫ل وله أجر على ذلك‪ ،‬وليس مصيًبا بمعنى أنه علم‬ ‫ل‪ ،‬وهو مصيب بمعنى أنه مطيع ّ‬ ‫قول فعمل بموجبه كلهما مطيع ّ‬
‫الحق المعين؛ فإن ذلك ل يكون إل واحًدا ومصيبه له أجران وهذا في كشف النواع التي يكون عليها دليل شرعي‬
‫لكن قد يخفي على العبد‪ ،‬فإن الشارع بين الحكام الكلية‪.‬‬
‫ل أو فاسًقا أو مؤمًنا أو منافًقا أو ولًيا‬
‫وأما الحكام المعينات التي تسمى‪ :‬تنقيح المناط‪ ،‬مثل كون الشخص المعين عد ً‬
‫ل أو عدًوا له‪ ،‬وكون هذا المعين عدًوا للمسلمين يستحق القتل‪ ،‬وكون هذا العقار ليتيم أو فقير يستحق الحسان إليه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وكون هذا المال يخاف عليه من ظلم ظالم‪ ،‬فإذا زهد فيه الظالم انتفع به أهله‪ ،‬فهذه ‪ /‬المور ل يجب أن تعلم بالدلة‬
‫الشرعية العامة الكلية‪ ،‬بل تعلم بأدلة خاصة تدل عليها‪.‬‬

‫ل بعض عباده حال هذا المال المعين‪ ،‬وحال هذا الشخص المعين‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫ومن طرق ذلك‪ :‬اللهام‪ ،‬فقد يلهم ا ّ‬
‫هناك دليل ظاهر يشركه فيه غيره‪.‬‬

‫ل تعالى؛ فإنه ل يجوز قط لحد ل نبي ول‬


‫وقصة موسى مع الخضر هي من هذا الباب‪ ،‬ليس فيها مخالفة لشرع ا ّ‬
‫ل‪ ،‬لكن فيها علم حال ذاك المعين بسبب باطن يوجب فيه الشرع ما فعله الخضر‪ ،‬كمن دخل‬ ‫ولي أن يخالف شرع ا ّ‬
‫إلى دار وأخذ ما فيها من المال لعلمه بأن صاحبها أذن له وغيره لم يعلم‪ ،‬ومثل من رأى ضالة أخذها ولم يعرفها‪،‬‬
‫لعلمه بأنه أتى بها هدية له‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬ومثل هذا كثير عند أهل اللهام الصحيح‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فهؤلء ل يفعلون ول يأمرون إل بما يحبونه بهواهم‪،‬‬ ‫والنوع الثاني‪ :‬عكس هذا‪ ،‬وهو أنهم يتبعون هواهم‪ ،‬ل أمر ا ّ‬
‫ت َتُكو ُ‬
‫ن‬ ‫خَذ ِإَلَهُه َهَواُه َأَفَأْن َ‬
‫ن اّت َ‬ ‫ول يتركون وينهون إل عما يكرهونه بهواهم‪ ،‬وهؤلء شر الخلق‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬أَرَأْي َ‬
‫ت َم ْ‬
‫ن اّتَبَع َهَواُه‬
‫ل ِمّم ْ‬ ‫ضّ‬ ‫ل{ ]الفرقان‪ [43 :‬قال الحسن‪ :‬هو المنافق ل يهوي شيًئا إل ركبه‪ ،‬وقال تعالى‪َ}ْ / :‬وَم ْ‬
‫ن َأ َ‬ ‫عَلْيِه َوِكي ً‬
‫َ‬
‫ل{ ]القصص‪ ،[50 :‬وقال عمر بن عبد العزيز‪ :‬ل تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه‪ ،‬ويخالفه إذا‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ِبَغْيِر ُهًدى ِم ْ‬
‫ل عنه ـ لنه‬ ‫خالف هواه‪ ،‬فإذا أنت ل تثاب على ما اتبعته من الحق‪ ،‬وتعاقب على ما خالفته‪ .‬وهو كما قال ـ رضي ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫في الموضعين إنما قصد اتباع هواه لم يعمل ّ‬

‫أل ترى أن أبا طالب نصر النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذب عنه أكثر من غيره؛ لكن فعل ذلك لجل القرابة‪ ،‬ل لجل‬
‫ل؛ فقال‬
‫ل عنه ـ أعانه بنفسه وماله ّ‬ ‫ل ذلك منه‪ ،‬ولم يثبه على ذلك؟! وأبو بكر الصديق ـ رضي ا ّ‬ ‫ل تعالى‪ ،‬فلم يتقبل ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫سْو َ‬
‫ف‬ ‫عَلى ‪َ .‬وَل َ‬
‫لْ‬
‫جِه َرّبِه ا َْ‬
‫ل اْبِتَغاَء َو ْ‬
‫جَزى ‪ِ .‬إ ّ‬
‫ن ِنْعَمةٍ ُت ْ‬
‫عْنَدُه ِم ْ‬
‫حٍد ِ‬
‫لَ‬‫لْتَقى ‪ .‬اّلِذي ُيْؤِتي َماَلُه َيَتَزّكى ‪َ .‬وَما َِ‬
‫جّنُبَها ا َْ‬ ‫ل فيه‪َ} :‬و َ‬
‫سُي َ‬ ‫ا ّ‬
‫ضى{ ]الليل‪.[17-21 :‬‬ ‫َيْر َ‬

‫ل‪ .‬وهؤلء أكثر المسلمين‪ ،‬فإنهم يطيعون ا ّ‬


‫ل‬ ‫ل؛ وتارة إرادة يبغضها ا ّ‬
‫القسم الثالث‪ :‬الذي يريد تارة إرادة يحبها ا ّ‬
‫تارة‪ ،‬ويريدون ما أحبه‪ ،‬ويعصونه تارة‪ ،‬ويريدون ما يهوونه‪ ،‬وإن كان يكرهه‪.‬‬

‫ل ول لهواه‪ ،‬وهذا يقع لكثير من الناس في بعض الشياء‪ ،‬ويقع لكثير‬


‫والقسم الرابع‪ :‬أن يخلو عن الرادتين‪ ،‬فل يريد ّ‬
‫‪ /‬من الزهاد والنساك في كثير من المور‪.‬‬

‫وأما خلو النسان عن الرادة مطلًقا فممتنع‪ ،‬فإنه مفطور على إرادة مالبد له منه وعلى كراهة ما يضره ويؤذيه‪،‬‬
‫ل‪ :‬مثل أداء الفرائض وترك المحارم‪ ،‬بل وكذلك عموم‬ ‫والزاهد الناسك إذا كان مسلًما فل بد أن يريد أشياء يحبها ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فلم يحب شيًئا من الطاعات‪،‬‬
‫ل‪ ،‬ول أحب شيًئا ّ‬ ‫ل‪ ،‬وإل فمن لم يحب ا ّ‬‫المؤمنين لبد أن يريد أحدهم أشياء يحبها ا ّ‬
‫ل الشهادتين ول غيرهما ول يريد ذلك فإنه ل يكون مؤمًنا‪ ،‬فلبد لكل مؤمن من أن تكون له إرادة لبعض ما يحبه‬
‫ل ل يحبها ول‬‫ل‪ ،‬فإنه أراد المعصية وا ّ‬
‫ل‪ ،‬فهذا لزم لكل من عصى ا ّ‬ ‫ل؛ وأما إرادة العبد لما يهواه ول يحبه ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫يرضاها‪ .‬وأما الخلو عن الرادتين المحمودة والمذمومة فيقع على وجهين‪:‬‬

‫ل تعالى وطاعته وإن علم بها‪ ،‬فإنه قد يعلم كثيًرا من المور أنه مأمور بها‪،‬‬
‫أحدهما‪ :‬مع إعراض العبد عن عبادة ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫وهو ل يريدها ول يكره من غيره فعلها‪ ،‬وإذا اقتتل المسلمون والكفار لم يكن مريًدا لنتصار هؤلء الذي يحبه ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ول لنتصار هؤلء الذي يبغضه ا ّ‬

‫ل نهى‬
‫ل أمر به‪ ،‬المجتنبين لما يعلمون أن ا ّ‬
‫والوجه الثاني‪ :‬يقع من كثير من الزهاد العباد الممتثلين لما ‪ /‬يعلمون أن ا ّ‬
‫عنه‪ ،‬وأمور أخرى ل يعلمون أنها مأمور بها ول منهي عنها‪ ،‬فل يريدونها ول يكرهونها لعدم العلم‪ ،‬وقد يرضونها‬
‫ل وأنهم لما خلو عن هوى النفس كانوا‬ ‫من جهة كونها مخلوقة مقدرة‪ ،‬وقد يعاونون عليها‪ ،‬ويرون هذا موافقة ّ‬
‫ل ورسوله علينا أن نحب‬ ‫مأمورين بالرضا بكل حادث؛ بل والمعاونة عليه‪ .‬وهذا موضع يقع فيه الغلط‪ ،‬فإن ما أحبه ا ّ‬
‫ل ورسوله‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬وأما ما ل يحبه ا ّ‬‫ل ورسوله فعلينا أن نبغض ما أبغضه ا ّ‬ ‫ل ورسوله‪ .‬وما أبغضه ا ّ‬
‫ما أحبه ا ّ‬
‫ل ل يحبها ويرضاها‬
‫ل ورسوله كالفعال التي ل تكليف فيها مثل أفعال النائم والمجنون‪ ،‬فهذا إذا كان ا ّ‬ ‫ول يبغضه ا ّ‬
‫ضا ل ينبغي أن يحبها ويرضاها ول يكرهها‪.‬‬ ‫ول يكرهها ويذمها‪ ،‬فالمؤمن أي ً‬

‫ل تعالى خلق ما خلقه لما شاء‬


‫ل فذاك ل يختص بها‪ ،‬بل هو شامل لجميع المخلوقات‪ .‬وا ّ‬ ‫وأما كونها مقدورة ومخلوقة ّ‬
‫من حكمته‪ ،‬وقد أحسن كل شيء خلقه‪ ،‬والرضا بالقضاء ثلثة أنواع‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬الرضا بالطاعات؛ فهذا طاعة مأمور بها‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬الرضا بالمصائب‪ ،‬فهذا مأمور به‪ :‬إما مستحب‪ ،‬وإما واجب‪.‬‬

‫ل ل يحبه ول‬ ‫‪/‬والثالث‪ :‬الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬فهذا ل يؤمر بالرضا به‪ ،‬بل يؤمر ببغضه وسخطه‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫ب اْلَفَساَد{ ]البقرة‪،[205 :‬‬ ‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬ ‫ل{ ]النساء‪ ،[108 :‬وقال‪َ} :‬وا ُّ‬
‫ل َ‬ ‫ن اْلَقْو ِ‬
‫ضى ِم ْ‬
‫ل َيْر َ‬ ‫يرضاه‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ} :‬إْذ ُيَبّيُتو َ‬
‫ن َما َ‬
‫ب‬
‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬ ‫ن{ ]آل عمران‪ ،[32 :‬وقال‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬ ‫ب اْلَكاِفِري َ‬
‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬ ‫ضى ِلِعَباِدِه اْلُكْفَر{ ]الزمر‪ ،[7 :‬وقال‪َ} :‬فِإ ّ‬
‫ن ا َّ‬ ‫وقال‪َ} :‬و َ‬
‫ل َيْر َ‬
‫اْلُمْعَتِديَن{ ]المائدة‪.[87 :‬‬

‫وهو وإن خلقه لما له في ذلك من الحكمة فل يمتنع أن يخلق مال يحبه لفضائه إلى الحكمة التي يحبها‪ ،‬كما خلق‬
‫ل في أن يخلق ما يشاء‪ ،‬وهو محمود على ذلك‪.‬‬‫الشياطين‪ ،‬فنحن راضون عن ا ّ‬

‫وأما نفس هذا الفعل المذموم وفاعله‪ ،‬فل نرضى به ول نحمده‪ ،‬وفرق بين ما يحب لنفسه‪ ،‬وما يراد لفضائه إلى‬
‫ضا من جهة أخرى؛ فإن المر الواحد يراد من وجه ويكره من وجه آخر‪ ،‬كالمريض الذي‬ ‫المحبوب‪ ،‬مع كونه مبغ ً‬
‫يتناول الدواء الكريه؛ فإنه يبغض الدواء ويكرهه‪ ،‬وهو مع هذا يريد استعماله لفضائه إلى المحبوب‪ ،‬ل لنه في نفسه‬
‫محبوب‪.‬‬

‫ل تعالى‪) :‬وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن‪ ،‬يكره‬ ‫وفي الحديث الصحيح يقول ا ّ‬
‫الموت وأكره مساءته ولبد له منه(‪ ،‬فهو سبحانه لما كره مساءة عبده المؤمن الذي ‪ /‬يكره الموت‪ ،‬كان هذا مقتضًيا‬
‫ل تعالى‬
‫أن يكره إماتته‪ ،‬مع أنه يريد إماتته؛ لما له في ذلك من الحكمة ـ سبحانه وتعالى ـ فالمور التي يبغضها ا ّ‬
‫ل به حيث خلقها‪ ،‬لما له في ذلك من الحكمة‪ ،‬فكذلك‬‫وينهى عنها ل تحب ول ترضى‪ ،‬لكن نرضى بما يرضى ا ّ‬
‫الفعال التي ل يحبها ول يبغضها ل ينبغي أن تحب ول ترضى‪ ،‬كما ل ينبغي أن تبغض‪.‬‬

‫ل رًبا‪ ،‬وبالسلم ديًنا‪ ،‬وبمحمد نبًيا‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى‬ ‫والرضا الثابت بالنص هو أن يرضى با ّ‬
‫ل أن يرضيه(‪ ،‬وأما بالنسبة‬
‫ل رًبا‪ ،‬وبالسلم ديًنا‪ ،‬وبمحمد نبًيا‪ ،‬كان حًقا على ا ّ‬‫ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬من رضى با ّ‬
‫ل‪ ،‬إذ له الحمد على كل حال‪ ،‬ويرضى بما يرضاه من الحكمة التي خلق لجلها ما خلق وإن‬ ‫إلى القدر فيرضى عن ا ّ‬
‫كنا نبغض ما يبغضه من المخلوقات‪ ،‬فحيث انتفي المر الشرعي أو خفي المر الشرعي ل يكون المتثال والرضا‬
‫والمحبة‪ ،‬كما يكون في المر الشرعي‪ ،‬وإن كان ذلك مقدوًرا‪.‬‬

‫ل عن عامتهم‪ ،‬ويتفاوتون في ذلك بحسب معرفتهم‬


‫وهذا موضع يغلط فيه كثير من خاصة السالكين وشيوخهم‪ ،‬فض ً‬
‫بالمر الشرعي وطاعتهم له‪.‬‬

‫فمنهم من هو أعرف من غيره بالمر الشرعي وأطوع له‪ ،‬فهذا ‪ /‬تكون حاله أحسن ممن يقصر عنه في المعرفة‬
‫بالمر الشرعي والطاعة له‪.‬‬

‫ومنهم من يبعد عن المر الشرعي‪ ،‬ويسترسل حتى ينسلخ من السلم بالكلية‪ ،‬ويبقى واقًفا مع هواه والقدر‪.‬‬

‫ل عليه‪ ،‬ومنهم من يموت فاسًقا‪ ،‬ومنهم من يتوب الّ عليه‪.‬‬


‫ومن هؤلء من يموت كافًرا‪ ،‬ومنهم من يتوب ا ّ‬

‫وهؤلء ينظرون إلى الحقيقة القدرية معرضين عن المر الشرعي ول بد مع ذلك من اتباع أمر ونهي غير المر‬
‫ل ورسوله‪ ،‬إذ السترسال مع القدر مطلًقا ممتنع لذاته‪ ،‬لما تقدم من أن العبد‬
‫الشرعي‪ ،‬إما من أنفسهم وإما من غير ا ّ‬
‫مفطور على محبة أشياء وبغض أشياء‪.‬‬
‫ل كالميت مع الغاسل ل يصح ول يسوغ على الطلق عن أحد من المسلمين‪،‬‬ ‫وقول من قال‪ :‬إن العبد يكون مع ا ّ‬
‫ل به وأحبه‪ ،‬فلبد‬
‫ل عليه‪ ،‬وإل فإذا علم ما أمر ا ّ‬
‫وإنما يقال ذلك في بعض المواضع؛ ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ويبغض ما أبغضه‪.‬‬‫أن يحب ما أحبه ا ّ‬

‫صـــل‬
‫َف ْ‬

‫وكما أن الطريقة العلمية بصحة النظر في الدلة والسباب هي الموجبة للعلم‪ ،‬كتدبر القرآن والحديث‪ ،‬فالطريقة‬
‫العملية بصحة الرادة والسباب هي الموجبة للعمل؛ ولهذا يسمون السالك في ذلك‪ :‬المريد‪ ،‬كما يسميه أولئك‪:‬‬
‫الطالب‪ ،‬و النظر جنس تحته حق وباطل‪ ،‬ومحمود ومذموم‪ ،‬وكذلك‪ :‬الرادة‪.‬‬

‫فكما أن طريق العلم لبد فيه من العلم النبوي الشرعي‪ ،‬بحيث يكون معلومك المعلومات الدينية النبوية‪ ،‬ويكون علمك‬
‫بها مطابًقا لما أخبرت به الرسل‪ ،‬وإل فل ينفعك أي معلوم علمته‪ ،‬ول أي شيء اعتقدته فيما أخبرت به الرسل‪ ،‬بل‬
‫ل وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر‪ ،‬فكذلك ]الرادة[ لبد فيها من تعيين المراد‪ ،‬وهو ا ّ‬
‫ل‬ ‫لبد من اليمان با ّ‬
‫ل وتكون عبادتك إياه بما شرع على ألسنة رسله‪ ،‬إذ لبد من‬ ‫والطريق إليه‪ ،‬وهو ما أمرت به الرسل‪ .‬فل بد أن تعبد ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫تصديق الرسول فيما أخبر علًما‪ ،‬ولبد من طاعته فيما أمر عم ً‬

‫ل‪ ،‬والرادة الصالحة ما وافقت محبة ا ّ‬


‫ل‬ ‫ل مع موافقة السنة‪ ،‬فعلم الحق ما وافق علم ا ّ‬
‫ل وعم ً‬
‫‪/‬ولهذا كان اليمان قو ً‬
‫ل عليم حكيم‪.‬‬‫ورضاه‪ ،‬وهو حكمه الشرعي‪ ،‬وا ّ‬

‫ل وأمره‪ ،‬فهذا حكمه‪ ،‬وذاك‬


‫ل وخبره؛ والمور العملية لبد أن تطابق حب ا ّ‬
‫فالمور الخبرية لبد أن تطابق علم ا ّ‬
‫علمه‪.‬‬

‫وأما من جعل حكمه مجرد القدر‪ ،‬كما فعل صاحب ]منازل السائرين[ وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن‬
‫يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة ـ فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع‪ .‬فل ينفع المريد‬
‫ل بأي عبادة كانت‪ ،‬بل هذه طريقة المشركين المبتدعين الذين لهم‬‫القاصد أن يعبد أي معبود كان‪ ،‬ول أن يعبد ا ّ‬
‫ل بغير أمر‬
‫ل‪ ،‬كالنصارى ومن أشبههم من أهل البدع الذين يعبدون غير ا ّ‬ ‫شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به ا ّ‬
‫ل وحده‪ ،‬ويعبدونه بما شرع‪ .‬ل يعبدونه بالبدع إل ما يقع من أحدهم خطأ‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬وأما أهل السلم والسنة فهم يعبدون ا ّ‬‫ا ّ‬

‫ل بالخوف منه‬‫فالسالكون طريق الرادة قد يغلطون تارة في المراد‪ ،‬وتارة في الطريق إليه‪ ،‬وتارة يألهون غير ا ّ‬
‫والرجاء له‪ ،‬والتعظيم والمحبة له وسؤاله والرغبة إليه‪ ،‬فهذا حقيقة الشرك المحرم‪ ،‬فإن حقيقة ‪ /‬التوحيد أل يعبد إل‬
‫ل‪.‬‬
‫ا ّ‬

‫والعبادة تتضمن كمال الحب‪ ،‬وكمال التعظيم‪ ،‬وكمال الرجاء‪ ،‬والخشية‪ ،‬والجلل والكرام‪ .‬والفناء في هذا التوحيد‬
‫فناء المرسلين واتباعهم‪ ،‬وهو أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه‪ ،‬وبطاعته عن طاعة ما سواه‪ ،‬وبسؤاله عن سؤال‬
‫ما سواه‪ ،‬وبخوفه عن خوف ما سواه‪ ،‬وبرجائه عن رجاء ماسواه‪ ،‬وبحبه والحب فيه عن محبة ما سواه والحب فيه‪.‬‬

‫ل‪ ،‬لكن ل يتبعون المر الشرعي في إرادته‪ ،‬لكن تارة يعبده أحدهم بما يظنه‬ ‫وأما الغالطون في الطريق فقد يريدون ا ّ‬
‫يرضيه‪ ،‬ول يكون كذلك‪ ،‬وتارة ينظرون القدر لكونه مراده‪ ،‬فيفنون في القدر الذي ليس لهم فيه غرض‪ ،‬وأما الفناء‬
‫المطلق فيه فممتنع‪ .‬وهؤلء يفني أحدهم متبًعا لذوقه ووجده المخالف للمر الشرعي‪ ،‬أو ناظًرا إلى القدر‪ .‬وهذا يبتلى‬
‫به كثير من خواصهم‪.‬‬

‫والشيخ عبد القادر‪ ،‬ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمًرا بالتزام الشرع‪ ،‬والمر والنهي‪ ،‬وتقديمه على الذوق والقدر‪،‬‬
‫ومن أعظم المشائخ أمًرا بترك الهوى والرادة النفسية‪ .‬فإن الخطأ في الرادة من حيث هي إرادة إنما تقع من هذه‬
‫ل‪ ،‬بل يريد ما يريده الرب ـ عز وجل ـ‪ :‬إما إرادة‬
‫الجهة؛ فهو يأمر السالك ‪ /‬أل تكون له إرادة من جهة هواه أص ً‬
‫شرعية أن تبين له ذلك‪ ،‬وإل جرى مع الرادة القدرية‪ ،‬فهو إما مع أمر الرب‪ ،‬وإما مع خلقه‪ ،‬وهو سبحانه له الخلق‬
‫والمر‪.‬‬
‫وهذه طريقة شرعية صحيحة‪ ،‬إنما يخاف على صاحبها من ترك إرادة شرعية ل يعلم أنها شرعية‪ ،‬أو من تقديم إرادة‬
‫قدرية على الشرعية فإنه إذا لم يعلم أنها شرعية فقد يتركها‪ ،‬وقد يريد ضدها‪ ،‬فيكون ترك مأموًرا أو فعل محظوًرا‬
‫وهو ل يعلم‪ .‬فإن طريقة الرادة‪ :‬يخاف على صاحبها من ضعف العلم؛ وما يقترن بالعلم من العمل‪ ،‬والوقوع في‬
‫الضلل‪ ،‬كما أن طريقة العلم يخاف على صاحبها من ضعف العمل‪ ،‬وضعف العلم الذي يقترن بالعمل‪ ،‬لكن ل يكلف‬
‫طْعُتْم{ ]التغابن‪ ،[16 :‬فإذا تفقه السالك‪ ،‬وتعلم المر‬
‫سَت َ‬ ‫سا إل وسعها من هذا‪ ،‬وهذا‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬فاّتُقوا ا َّ‬
‫ل َما ا ْ‬ ‫ل نف ً‬
‫ا ّ‬
‫والنهي بحسب اجتهاده‪ ،‬وكان علمه وإرادته بحسب ذاك‪ ،‬فهذا مستطاعه‪ .‬وإذا أدى الطالب ما أمر به‪ ،‬وترك ما نهى‬
‫عنه‪ ،‬وكان علمه مطابًقا لعمله‪ ،‬فهذا مستطاعه‪.‬‬

‫صـــل‬
‫َف ْ‬ ‫‪/‬‬

‫ل‪ ،‬وعن هواك بأمره‪ ،‬وعن إرادتك بفعله‪ ،‬فحينئذ‬


‫ل روحه ـ‪) :‬افن عن الخلق بحكم ا ّ‬
‫قال الشيخ عبد القادر ـ قدس ا ّ‬
‫ل(‪.‬‬
‫يصلح أن تكون وعاء لعلم ا ّ‬

‫ل والتوكل عليه‪ ،‬فل تطعهم في‬ ‫قلت‪ :‬فحكمه يتناول خلقه وأمره‪ ،‬أي‪ :‬افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة ا ّ‬
‫ل تعالى ول تتعلق بهم في جلب منفعه ول دفع مضرة‪ .‬وأما الفناء عن الهوى بالمر وعن الرادة بالفعل بأن‬ ‫معصية ا ّ‬
‫ل ل لرادة نفسه‪ ،‬فالرادة تارة‬
‫يكون فعله موافًقا للمر الشرعي ل لهواه‪ ،‬وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل ا ّ‬
‫تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات‪.‬‬

‫فالول‪ :‬يكون بالمر‪ ،‬والثاني‪ :‬ل تكون له إرادة‪ .‬ول بد في هذا أن يقيد بأل تكون له إرادة لم يؤمر بها‪ ،‬وإل فإذا أمر‬
‫بأن يريد من المقدورات شيًئا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته‪ ،‬سواء كان موافًقا للقدر أم ل‪ .‬وهذا الموضع قد يغلط‬
‫فيه طائفة من السالكين‪/ .‬والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم‬
‫إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور‪.‬‬

‫ل انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم واليأس مما في أيديهم(‪.‬‬


‫قال الشيخ‪) :‬فعلمة فنائك عن خلق ا ّ‬

‫وهو كما قال‪.‬‬

‫فإذا كان القلب ل يرجوهم‪ ،‬ول يخافهم‪ ،‬لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأموًرا به من المشي‬
‫ل‪،‬‬
‫ل عنه‪ ،‬كذهاب الرسل‪ ،‬واتباع الرسل إلى من يبلغون رسالت ا ّ‬ ‫ل به‪ ،‬ونهيهم عما نهاهم ا ّ‬ ‫إليهم لمرهم بما أمر ا ّ‬
‫ل عليه‪ ،‬وإل فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر‬‫ل متوك ً‬
‫فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد‪ .‬ليكون عابًدا ّ‬
‫به؛ فقد يكون ما أضاعه من المر أولى به مما قام به من التوكل‪ ،‬أو مثله أو دونه‪ ،‬كما أن من قام بأمر ولم يتوكل‬
‫عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب‪ ،‬بل قد يكون ما تركه من التوكل والستعانة أولى به مما فعله من المر أو مثله‬
‫أو دونه‪.‬‬

‫قال الشيخ‪) :‬وعلمة فنائك عنك وعن هواك‪ :‬ترك التكسب‪ ،‬والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر‪ ،‬فل تتحرك‬
‫ل فيتوله آخًرا‪ .‬كما‬
‫فيك بك ول تعتمد عليك لك ول تنصر نفسك‪ ،‬ول تذب عنك‪ ،‬لكن تكل ذلك كله ‪ /‬إلى من توله أو ً‬
‫كان ذلك موكولً إليه في حال كونك مغيًبا في الرحم‪ ،‬وكونك رضيًعا طفل في مهدك(‪.‬‬

‫قلت‪ :‬وهذا لن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها ودفع ما تبغضه ويضرها‪ ،‬فإذا فنى عن ذاك بالمر فعل ما يحبه‬
‫ل عما يبغضه وحينئذ فالنفس لبد‬
‫ل عن محبوبه وبترك ما يبغضه ا ّ‬‫ل فاعتاض بفعل محبوب ا ّ‬‫ل وترك ما يبغضه ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ل على ا ّ‬
‫لها من جلب المنفعة ودفع المضرة‪ ،‬فيكون في ذلك متوك ً‬

‫ل ـ ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لن النفس لبد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة‪ ،‬فإن لم تكن‬ ‫والشيخ ـ رحمه ا ّ‬
‫ل في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل المر مطلًقا‪ ،‬بل لبد أن تعصي المر في جلب‬ ‫متوكلة على ا ّ‬
‫ل وطاعة أمره بدون التوكل عليه‪ ،‬كما أن التوكل عليه ل يصح بدون عبادته‬ ‫المنفعة ودفع المضرة فل تصح العبادة ّ‬
‫ل‬
‫ث َ‬‫حْي ُ‬
‫ن َ‬
‫جا ‪َ .‬وَيْرُزْقُه ِم ْ‬
‫خَر ً‬
‫ل َلُه َم ْ‬
‫جَع ْ‬
‫ل َي ْ‬
‫ق ا َّ‬ ‫عَلْيِه{ ]هود‪ ،[123 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َيّت ِ‬ ‫ل َ‬ ‫وطاعته‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫عُبْدُه َوَتَوّك ْ‬
‫شِر ِ‬
‫ق‬ ‫ب اْلَم ْ‬
‫ل ‪َ .‬ر ّ‬
‫ل ِإَلْيِه َتْبِتي ً‬
‫ك َوَتَبّت ْ‬ ‫سُبُه{ ]الطلق‪ ،[3 ،2 :‬وقال تعالى‪َ} :‬واْذُكْر ا ْ‬
‫سَم َرّب َ‬ ‫حْ‬‫ل َفُهَو َ‬‫عَلى ا ِّ‬ ‫ل َ‬‫ن َيَتَوّك ْ‬‫ب َوَم ْ‬‫س ُ‬‫حَت ِ‬
‫َي ْ‬
‫ل{ ]المزمل‪. [9 ،8 :‬‬‫خْذُه َوِكي ً‬‫ل ُهَو َفاّت ِ‬
‫ل ِإَلَه ِإ ّ‬
‫ب َ‬ ‫َواْلَمْغِر ِ‬

‫ل أن يجلب له ما‬‫والمقصود أن امتثال المر على الطلق ل يصح بدون ‪ /‬التوكل والستعانة‪ ،‬ومن كان واثًقا با ّ‬
‫ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره‪ ،‬وإل فنفسه ل تدعه أن يترك ما يقول‪ :‬إنه محتاج فيه إلى‬
‫غيره‪.‬‬

‫ل أنك ل تريد مراًدا قط‪ ،‬فل يكن لك غرض‪ ،‬ول تقف لك‬ ‫ل عنه ـ‪ :‬وعلمة فناء إرادتك بفعل ا ّ‬‫قال الشيخ ـ رضي ا ّ‬
‫ل تعالي وفعله‪ ،‬ساكن‬ ‫ل سواها‪ ،‬بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة ا ّ‬ ‫حاجة ول مرام؛ لنك ل تريد مع إرادة ا ّ‬
‫الجوارح مطمئن الجنان‪ ،‬مشروح الصدر‪ ،‬منور الوجه‪ ،‬عامر الباطن‪ ،‬غنيا عن الشياء بخالقها‪ ،‬تقلبك يد القدرة‬
‫ويدعوك لسان الزل‪ ،‬ويعلمك رب الملك ويكسوك نوًرا منه والحلل‪ ،‬وينزلك منازل من سلف من أولى العلم الول‪،‬‬
‫فتكون منكسًرا أبًدا‪.‬‬

‫فل تثبت فيك شهوة ول إرادة‪ :‬كالناء المتثلـم الذي ل يثبت فيه مائع ول كدر فتفنوا عـن أخلق البشريـة‪ ،‬فلـن يقبـل‬
‫ل‪ ،‬فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم‬ ‫باطنـك ساكنًـا غيـر إرادة ا ّ‬
‫ل تبارك وتعالى حًقا في العلم فتدخل حينئذ في زمـرة المنكـسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية‪،‬‬ ‫وهو فعل ا ّ‬
‫وأزيلت شهواتهم الطبيعية واستوثقت لهم إرادات ربانيـة وشهوات إضافية ‪.‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬حبب‬
‫إلى من ‪ /‬دنياكم‪ :‬النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلة( فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيًقا‬
‫ل تعالى‪) :‬أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي( وساق كلمه‪ .‬وفيه‪) :‬ول يزال عبدي يتقرب‬ ‫لما أشرت إليه وتقدم‪ ،‬قال ا ّ‬
‫ي بالنوافل( الحديث‪.‬‬ ‫إل ّ‬

‫ل عنه ـ وحقيقته أنه ل يريد كون شيء إل أن يكون‬ ‫قلت‪ :‬هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر ـ رضي ا ّ‬
‫ل أنك ل تريد مراًدا قط‪ .‬أي ل تريد مراًدا لم تؤمر بإرادته‪ ،‬فأما ما‬
‫مأموًرا بإرادته‪ .‬فقوله‪ :‬علمة فناء إرادتك بفعل ا ّ‬
‫ل ورسوله بإرادتك إياه‪ ،‬فإرادته إما واجب وإما مستحب‪ ،‬وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص ‪.‬‬ ‫أمرك ا ّ‬

‫ل‪ ،‬وإن قول أبي‬


‫وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين‪ ،‬فيظنون أن الطريقة الكاملة أل يكون للعبد إرادة أص ً‬
‫يزيد‪ :‬أريد أل أريد ـ لما قيل له‪ :‬ماذا تريد؟ ـ نقص وتناقض؛ لنه قد أراد‪ ،‬ويحملون كلم المشائخ الذين يمدحون‬
‫بترك الرادة على ترك الرادة مطلًقا‪ ،‬وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين‪ ،‬وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك‬
‫الرادة مطلًقا‪ ،‬فإن هذا غلط ممن قاله‪ ،‬فإن ذلك ليس بمقدور ول مأمور‪.‬‬

‫ل ورسوله ويأمر بها أمر‬


‫‪/‬فإن الحي لبد له من إرادة‪ ،‬فل يمكن حًيا أل تكون له إرادة‪ ،‬فإن الرادة التي يحبها ا ّ‬
‫إيجاب أو أمر استحباب ل يدعها إل كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة‪ ،‬وإن كانت مستحبة كان تاركها تارًكا‬
‫لما هو خير له‪.‬‬

‫شّ‬
‫ي‬ ‫ن َرّبُهْم ِباْلَغَداِة َواْلَع ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ن َيْد ُ‬
‫طُرْد اّلِذي َ‬‫ل َت ْ‬‫ل ـ تعالى ـ قد وصف النبياء والصديقين بهذه الرادة‪ ،‬فقال تعالى‪َ} :‬و َ‬ ‫وا ّ‬
‫ُيِريُدونَ َوْجَهُه{ ]النعام‪ ،[52 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما َِلَحٍد ِعْنَدُه ِمْن ِنْعَمٍة ُتْجَزى ‪ِ .‬إّل اْبِتَغاَء َوْجِه َرّبِه اَْلْعَلى{ ]الليل‪،[20 ،19 :‬‬
‫سولَُه‬
‫ل َوَر ُ‬ ‫ن ا َّ‬‫ن ُتِرْد َ‬ ‫ن ُكْنُت ّ‬ ‫شُكوًرا{ ]النسان‪ ،[9 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬ ‫ل ُ‬
‫جَزاًء َو َ‬‫ل ُنِريُد ِمْنُكْم َ‬ ‫ل َ‬‫جِه ا ِّ‬
‫طِعُمُكْم ِلَو ْ‬ ‫وقال تعالى‪ِ} :‬إّنَما ُن ْ‬
‫سْعَيَها‬
‫سَعى َلَها َ‬ ‫خَرَة َو َ‬ ‫لِ‬ ‫ظيًما{ ]الحزاب‪ ،[29 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َأَراَد ا ْ‬ ‫عِ‬ ‫جًرا َ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫ت ِمْنُك ّ‬‫سَنا ِ‬
‫حِ‬ ‫عّد ِلْلُم ْ‬
‫ل َأ َ‬
‫ن ا َّ‬‫خَرَة َفِإ ّ‬‫لِ‬‫َوالّداَر ا ْ‬
‫ص{‬‫خاِل ُ‬ ‫ن اْل َ‬
‫ل الّدي ُ‬ ‫ل ِّ‬ ‫نّ‪َ .‬أ َ‬
‫صا َلُه الّدي َ‬‫خِل ً‬ ‫ل ُم ْ‬ ‫شُكوًرا{ ]السراء‪ ،[19 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫عُبْد ا َّ‬ ‫سْعُيُهْم َم ْ‬‫ن َ‬ ‫ك َكا َ‬‫ن َفُأْوَلِئ َ‬
‫َوُهَو ُمْؤِم ٌ‬
‫شْيًئا{‬
‫شِرُكوا ِبِه َ‬ ‫ل َولَ ُت ْ‬ ‫عُبُدوا ا َّ‬‫صا َلُه ِديِني{ ]الزمر‪ ،[14 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وا ْ‬ ‫خِل ً‬ ‫عُبُد ُم ْ‬
‫ل َأ ْ‬ ‫]الزمر‪ ،[3 ،2 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ا َّ‬
‫س ِإّل ِلَيْعُبُدوِن{ ]الذاريات‪.[56 :‬‬ ‫لن َ‬‫ن َوا ِْ‬‫جّ‬ ‫ت اْل ِ‬ ‫]النساء‪ ،[36 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬

‫ل َوُهَو ُمْحِسٌن{ ]البقرة‪ ،[112 :‬أي أخلص‬ ‫جَهُه ِّ‬ ‫سَلَم َو ْ‬ ‫ل‪ ،‬ولما أمر به‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬بَلى َم ْ‬
‫ن َأ ْ‬ ‫ول عبادة إل بإرادة ا ّ‬
‫صيَن َلُه الّديَن{]البينة‪ ،[5 :‬وإخلص الدين له ‪ /‬هو إرادته وحده‬ ‫خِل ِ‬
‫ل ُم ْ‬
‫ل ِلَيْعُبُدوا ا َّ‬‫ل‪ .‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما ُأِمُروا ِإ ّ‬ ‫قصده ّ‬
‫ل{]البقرة‪ ،[165 :‬وقال‬ ‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬ ‫حّبوَنُه{]المائدة‪ ،[54 :‬وقال تعالى‪َِ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬ ‫بالعبادة‪ .‬وقال تعالى‪ُ} :‬ي ِ‬
‫حّبُهْم َوُي ِ‬
‫ل{ ]آل عمران‪ ،[31 :‬وكل محب فهو مريد‪ ،‬وقال الخليل ـ عليه السلم‬ ‫حِبْبُكْم ا ُّ‬
‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬
‫ن ا َّ‬‫حّبو َ‬
‫ن ُكْنُتْم ُت ِ‬ ‫تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ض{ ]النعام‪.[79 :‬‬ ‫لْر َ‬ ‫ت َوا َْ‬‫سَماَوا ِ‬‫طَر ال ّ‬ ‫جِهي ِلّلِذي َف َ‬ ‫ت َو ْ‬
‫جْه ُ‬‫ن{ ]النعام‪ ،[76 :‬ثم قال‪ِ} :‬إّني َو ّ‬ ‫لِفِلي َ‬
‫با ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ـ‪َ } :‬‬
‫ل ُأ ِ‬
‫ل بإرادته‪ ،‬وإرادة ما يأمر به‪ ،‬وينهى عن إرادة غيره‪ ،‬وإرادة ما نهى عنه‪ ،‬وقد قال‬‫ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر ا ّ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إنما العمال بالنيات‪ ،‬وإنما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى الّ ورسوله‬
‫ل ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها‪ ،‬أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه(‪ ،‬فهما‬ ‫فهجرته إلى ا ّ‬
‫ل ول يرضاها‪ ،‬بل إما نهي عنها‪ ،‬وإما لم يأمر بها‪ ،‬ول ينهي‬ ‫ل ويرضاها‪ ،‬وإرادة ل يحبها ا ّ‬ ‫إرادتان‪ :‬إرادة يحبها ا ّ‬
‫عنها والناس في الرادة ثلثة أقسام‪:‬‬

‫قوم يريدون ما يهوونه‪ ،‬فهؤلء عبيد أنفسهم والشيطان‪.‬‬

‫وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الرادة مطلًقا‪ ،‬ولم يبق لهم مراد إل ما يقدره الرب‪ ،‬وإن هذا المقام هو أكمل المقامات‪،‬‬
‫ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة‪ ،‬وهي الحقيقة القدرية الكونية؛ وأنه ‪ /‬شهد القيومية العامة‪ ،‬ويجعلون الفناء‬
‫في شهود توحيد الربوبية هو الغاية؛ وقد يسمون هذا الجمع والفناء والصطلم‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وكثير من الشيوخ زلقوا‬
‫في هذا الموضع‪.‬‬

‫وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد بن محمد وبين طائفة من أصحابه الصوفية؛ فإنهم اتفقوا على شهود توحيد‬
‫ل خالق كل شيء وربه ومليكه‪ ،‬وهو شهود القدر‪ ،‬وسموا هذا مقام الجمع؛ فإنه خرج به عن الفرق‬ ‫الربوبية‪ ،‬وأن ا ّ‬
‫الول وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة هذا‪ ،‬ورؤية فعل هذا وترك هذا‪ ،‬فإن النسان قبل أن يشهد هذا التوحيد‬
‫ل يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات؛ ويكون متبًعا لهواه فيما يريده‪ ،‬فإذا أراد الحق خرج‬
‫يرى للخلق فع ً‬
‫بإرادته عن إرادة الهوى والطبع‪ ،‬ثم شهد أنه خالق كل شيء‪ ،‬فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق‪ ،‬فلما اتفقوا‬
‫على هذا ذكر لهم الجنيد بن محمد الفرق الثاني‪ ،‬وهو بعد هذا الجمع‪ ،‬وهو الفرق الشرعي‪ .‬أل تري أنك تريد ما‬
‫ل يستحق العبادة دون ما سواه‪ ،‬وأن عبادته هي بطاعة رسله‪ ،‬فتفرق‬ ‫أمرت به‪ ،‬ول تريد ما نهيت عنه؟! وتشهد أن ا ّ‬
‫بين المأمور والمحظور‪ ،‬وبين أوليائه وأعدائه‪ ،‬وتشهد توحيد اللوهية‪ ،‬فنازعوه في هذا الفرق‪.‬‬

‫منهم من أنكره‪.‬‬

‫‪/‬ومنهم من لم يفهمه‪.‬‬

‫ومنهم من ادعي أن المتكلم فيه لم يصل إليه‪.‬‬

‫ثم إنك تجد كثيًرا من الشيوخ إنما ينتهي إلى ذلك الجمع‪ ،‬وهو‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬والفناء فيه‪ .‬كما في كلم صاحب‬
‫]منازل السائرين[ مع جللة قدره‪ ،‬مع أنه قطًعا كان قائًما بالمر والنهي المعروفين‪ ،‬لكن قد يدعون أن هذا لجل‬
‫العامة‪.‬‬

‫ومنهم من يتناقض‪.‬‬

‫ومنهم من يقول‪ :‬الوقوف مع المر لجل مصلحة العامة‪ ،‬وقد يعبر عنهم بأهل المارستان‪.‬‬

‫ومنهم من يسمى ذلك مقام التلبيس‪.‬‬

‫ومنهم من يقول‪ :‬التحقيق أن يكون الجمع في قلبك مشهوًدا‪ ،‬والفرق على لسانك موجوًدا‪ ،‬فيشهد بقلبه استواء المأمور‬
‫والمحظور مع تفريقه بينهما‪.‬‬

‫ومنهم من يرى أن هذه هي الحقيقة التي هي منتهى سلوك ‪ /‬العارفين‪ ،‬وغاية منازل الولياء الصديقين‪.‬‬

‫و منهم من يظن أن الوقوف مع إرادة المر والنهي يكون في السلوك والبداية‪ ،‬وأما في النهاية فلتبقى إل إرادة القدر‪.‬‬
‫ل والطاعة له ولـرسوله إنما تكون في امتثال المر‬ ‫وهو في الحقيقة قول بسقوط العبادة والطاعة‪ ،‬فإن العبادة ّ‬
‫الشرعي ل في الجري مع المقدور‪ ،‬وإن كان كفًرا أو فسوًقا أو عصياًنا‪ ،‬ومن هنا صار كثير من السالكين من أعوان‬
‫الكفار والفجار وخفرائهم‪ ،‬حيث شهدوا القدر معهم؛ ولم يشهدوا المر والنهي الشرعيين‪.‬‬
‫ومن هؤلء من يقول‪ :‬من شهد القدر سقط عنه الملم‪ ،‬ويقولون إن الخضر إنما سقط عنه الملم لما شهد القدر‪.‬‬

‫وأصحاب شهود القدر قد يؤتي أحدهم ملًكا من جهة خرق العادة بالكشف والتصرف‪ ،‬فيظن ذلك كمال في الولية‪،‬‬
‫وتكون تلك الخوارق إنما حصلت بأسباب شيطانية‪ ،‬وأهواء نفسانية‪ ،‬وإنما الكمال في الولية أن يستعمل خرق‬
‫العادات في إقامة المر والنهي الشرعيين مع حصولهما بفعل المأمور وترك المحظور‪ ،‬فإذاحصلت بغير السباب‬
‫الشرعية فهي مذمومة‪ ،‬وإن حصلت بالسباب الشرعية لكن استعملت ليتوصل بها إلى محرم كانت مذمومة‪ ،‬وإن‬
‫توصل بها إلى مباح ‪ /‬ل يستعان بها على طاعة كانت للبرار دون المقربين‪.‬‬

‫وأما إن حصلت بالسبب الشرعي واستعين بها على فعل المر الشرعي‪ ،‬فهذه خوارق المقربين السابقين‪.‬‬

‫فلبد أن ينظر في الخوارق في أسبابها وغاياتها‪ :‬من أين حصلت‪ ،‬وإلى ماذا أوصلت ـ كما ينظر في الموال في‬
‫مستخرجهـا ومصروفهـا ـ ومن استعملها ـ أعني الخوارق ـ في إرادته الطبيعية كان مذموًما‪ ،‬ومن كان خالًيا عن‬
‫الرادتين الطبيعية والشرعية فهذا حسبه أن يعفي عنه‪ ،‬لكونه لم يعرف الرادة الشرعية‪.‬‬

‫وأما إن عرفها وأعرض عنها فإنه يكون مذموًما مستحًقا للعقاب إن لم يعف عنه‪ ،‬وهو يمدح بكون إرادته ليست‬
‫ل تعالى ورسوله‪ ،‬ل يكفيه أن تكون ل من هذا ولمن هذا‪ ،‬مع أنه ل‬ ‫بهواه‪ ،‬لكن يجب مع ذلك أن تكون موافقة لمر ا ّ‬
‫ل ورسوله‪ ،‬لكن‬‫ل ورسوله‪ ،‬أراد مال يحبه ا ّ‬‫يمكن خلوه عن الرادة مطلًقا؛ بل لبد له من إرادة‪ ،‬فإن لم يرد ما يحبه ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫إذا جاهد نفسه على ترك ما تهواه بقى مريًدا لما يظن أنه مأمور به‪ ،‬فيكون ضا ً‬

‫غْيِر‬
‫عَلْيِهْم َ‬
‫ت َ‬
‫ن َأْنَعْم َ‬
‫ط اّلِذي َ‬
‫صَرا َ‬
‫سَتِقيَم ‪ِ .‬‬
‫ط اْلُم ْ‬ ‫فإن هذا يشبه حال الضالين من النصارى‪ .‬وقد قال تعالى‪} :‬اْهِدَنا ال ّ‬
‫صَرا َ‬
‫ضاّليَن{ ]الفاتحة‪ ،[7 ،6 :‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬اليهود مغضوب عليهم‬ ‫ل ال ّ‬
‫عَلْيِهْم َو َ‬
‫ب َ‬
‫ضو ِ‬
‫اْلَمْغ ُ‬
‫والنصارى ضالون(‪.‬‬

‫فاليهود لهم إرادات فاسدة منهي عنها‪ .‬كما أخبر عنهم بأنهم عصوا وكانوا يعتدون‪ .‬وهم يعرفون الحق ول يعملون به‪،‬‬
‫فلهم علم‪ ،‬لكن ليس لهم عمل بالعلم‪ ،‬وهم في الرادة المذمومة المحرمة يتبعون أهواءهم ليسوا في الرادة المحمودة‬
‫ل ورسوله‪.‬‬‫المأمور بها‪ ،‬وهي إرادة ما يحبه ا ّ‬

‫والنصارى لهم قصد وعبادة وزهد لكنهم ضلل‪ ،‬يعملون بغير علم‪ ،‬فل يعرفون الرادة التي يحبها الّ ورسوله‪ ،‬بل‬
‫ل عنه‬‫ل به ورسوله‪ ،‬كما ل يريد كثيًرا مما نهى ا ّ‬
‫غاية أحدهم تجريد نفسه عن الرادات‪ ،‬فل يبقى مريًدا لما أمر ا ّ‬
‫ل ورسوله‪ ،‬ولهذا كانوا ملعونين‪ :‬أي‬ ‫ورسوله‪ ،‬وهؤلء ضالون عن مقصودهم فإن مقصودهم إنما هو في طاعة ا ّ‬
‫ل عز وجل‪.‬‬‫بعيدين عن الرحمة التي تنال بطاعة ا ّ‬

‫والعالم الفاجر يشبه اليهود‪ .‬والعابد الجاهل يشبه النصارى‪ .‬ومن أهل العلم من فيه شيء من الول‪ ،‬ومن أهل العبادة‬
‫من فيه شيء من الثاني‪.‬‬

‫ل خلًقا أكرم عليه منه‪،‬‬


‫ل‪ .‬ففيهم من لم يخلق ا ّ‬
‫‪/‬وهذا الموضع تفرق فيه بنو آدم‪ ،‬وتباينوا تبايًنا عظيًما‪ ،‬ل يحيط به إل ا ّ‬
‫وهو خير البرية‪ .‬ومنهم من هو شر البرية‪ ،‬وأفضل الحوال فيه حال الخليلين‪ :‬إبراهيم ومحمد صلى ال عليهما وسلم‬
‫ومحمد سيد ولد آدم‪ ،‬وأفضل الولين والخرين‪ ،‬وخاتم النبيين وإمامهم إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا‪ ،‬وهو‬
‫المعروج به إلى ما فوق النبياء كلهم ـ إبراهيم و موسى وغيرهما‪.‬‬

‫وأفضل النبياء بعده إبراهيم‪ ،‬كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن إبراهيم خير‬
‫البرية(‪ ،‬وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنه كان يقول في خطبة الجمعة‪) :‬خير‬
‫ل بن مسعود يخطب بذلك يوم‬ ‫ل‪ ،‬وخير الهدى هدي محمد صلى ال عليه وسلم(‪ .‬وكذلك كان عبد ا ّ‬
‫الكلم كلم ا ّ‬
‫الخميس‪ ،‬كما رواه البخاري في صحيحه‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم خادًما له‬‫ل عنها ـ أنها قالت‪ :‬ما ضرب رسول ا ّ‬ ‫وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه‪ ،‬إل أن تنتهك محارم‬
‫ول امرأة ول دابة ول شيًئا قط‪ ،‬إل أن يجاهد في سبيل ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ل لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم ّ‬‫ل‪ ،‬فإذا انتهكت محارم ا ّ‬
‫ا ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم عشر سنين‪ ،‬فما قال لي‪ :‬أف قط‪ ،‬وما قال لي لشىء فعلته لم‬
‫‪/‬وقال أنس‪ :‬خدمت رسول ا ّ‬
‫فعلته؟ ول لشيء لم أفعله لم ل فعلته؟‪ .‬وكان بعض أهله إذا عنفني على شيء قال‪) :‬دعوه‪ ،‬فلو قضى شيء لكان(‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم هو أفضل الخلئق‪ ،‬وسيد ولد آدم‪ ،‬وله الوسيلة في المقامات كلها‪ ،‬ولم يكن حاله أنه‬ ‫ورسول ا ّ‬
‫ل تعالى‪:‬‬
‫ل يريد شيًئا‪ ،‬ولأنه يريد كل واقع‪ ،‬كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى‪ ،‬بل هو منزه عن هذا وهذا‪ ،‬قال ا ّ‬
‫ل َيْدُعوُه{ ]الجن‪ [19 :‬وقال‬
‫عْبُد ا ِّ‬ ‫حى{ ]النجم‪ ،[4 ،3 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَأّنُه َلّما َقاَم َ‬ ‫ي ُيو َ‬
‫حٌ‬‫ل َو ْ‬‫ن ُهَو ِإ ّ‬
‫ن اْلَهَوى ‪ِ .‬إ ْ‬‫عْ‬‫ق َ‬ ‫طُ‬‫}َوَما َيْن ِ‬
‫ل{ ]السراء‪.[1 :‬‬ ‫سَرى ِبَعْبِدِه َلْي ً‬ ‫ن اّلِذي َأ ْ‬ ‫حا َ‬ ‫عْبِدَنا{ ]البقرة‪ ،[23 :‬وقال‪ُ } :‬‬
‫سْب َ‬ ‫عَلى َ‬‫ب ِمّما َنّزْلَنا َ‬
‫ن ُكنُتْم ِفي َرْي ٍ‬‫تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫والمراد بعبده عابده المطيع لمره‪ ،‬وإل فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبودون مخلوقون مدبرون‪.‬‬

‫ل لعمل المؤمن أجلً‬‫ك اْلَيِقيُن{ ]الحجر‪. [99 :‬قال الحسن البصري‪ :‬لم يجعل ا ّ‬ ‫حّتى َيْأِتَي َ‬
‫ك َ‬ ‫ل لنبيه‪َ} :‬وا ْ‬
‫عُبْد َرّب َ‬ ‫وقد قال ا ّ‬
‫ظيٍم{ ]القلم‪. [4 :‬قال ابن عباس ومن وافقه كابن عيينة وأحمد بن‬
‫عِ‬‫ق َ‬
‫خُل ٍ‬ ‫ل تعالى له‪َ} :‬وِإّن َ‬
‫ك َلَعلى ُ‬ ‫دون الموت‪ ،‬وقد قال ا ّ‬
‫حنبل‪ :‬على دين عظيم‪ .‬والدين‪ :‬فعل ما أمر به‪ .‬وقالت عائشة‪ :‬كان خلقه القرآن‪ .‬رواه مسلم‪ .‬وقد أخبرت أنه لم يكن‬
‫ل‪ ،‬وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه‪ ،‬وأما حدود ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل ‪ /‬وينتقم ّ‬‫يعاقب لنفسه‪ ،‬ول ينتقم لنفسه‪ ،‬لكن يعاقب ّ‬
‫فقد قال‪) :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها( أخرجاه في الصحيحين‪.‬‬

‫ل ويرضاه من اليمان و العمل الصالح‪ ،‬وأمر بذلك وكره ما يبغضه ا ّ‬


‫ل‬ ‫وهذا هو كمال الرادة؛ فإنه أراد ما يحبه ا ّ‬
‫سَأْكُتُبَها ِلّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫يٍء َف َ‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫ت ُك ّ‬
‫سَع ْ‬ ‫ل تعالى بقوله‪َ} :‬وَر ْ‬
‫حَمِتي َو ِ‬ ‫من الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬ونهى عن ذلك‪ ،‬كما وصفه ا ّ‬
‫جيلِ‬‫لن ِ‬ ‫عْنَدُهْم ِفي الّتْوَراِة َوا ِْ‬
‫جُدوَنُه َمْكُتوًبا ِ‬
‫ي اّلِذي َي ِ‬
‫لّم ّ‬
‫ي ا ُْ‬‫ل الّنِب ّ‬
‫سو َ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫ن َيّتِبُعو َ‬
‫ن ‪ .‬اّلِذي َ‬
‫ن ُهْم ِبآَياِتَنا ُيْؤِمُنو َ‬‫ن الّزَكاَة َواّلِذي َ‬
‫ن َوُيْؤُتو َ‬‫َيّتُقو َ‬
‫عَلْيِهْم‬‫ت َ‬ ‫ل اّلِتي َكاَن ْ‬
‫لَ‬‫غَ‬ ‫لْ‬ ‫صَرُهْم َوا َْ‬
‫عْنُهْم ِإ ْ‬
‫ضُع َ‬
‫ث َوَي َ‬ ‫خَباِئ َ‬
‫عَلْيِهْم اْل َ‬
‫حّرُم َ‬ ‫ت َوُي َ‬‫طّيَبا ِ‬
‫ل َلُهْم ال ّ‬
‫حّ‬‫ن اْلُمنَكِر َوُي ِ‬ ‫عْ‬ ‫ف َوَيْنَهاُهْم َ‬‫َيْأُمُرُهْم ِباْلَمْعُرو ِ‬
‫ك ُهْم اْلُمْفِلُحوَن{ ]العراف‪.[157 ،156 :‬‬ ‫ل َمَعُه ُأْوَلِئ َ‬‫صُروُه َواّتَبُعوا الّنوَر اّلِذي ُأنِز َ‬ ‫عّزُروُه َوَن َ‬ ‫ن آَمُنوا ِبِه َو َ‬
‫َفاّلِذي َ‬

‫وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ول ينتقم‪ ،‬بل يستوفى حق ربه‪ ،‬ويعفو عن حظ نفسه‪ ،‬وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر‪،‬‬
‫ل أكمل الجهاد‬ ‫ل به‪ ،‬ويجاهد في سبيل ا ّ‬ ‫ل يقوم بالمر فيفعل ما أمر ا ّ‬
‫فيقول‪) :‬لو قضى شيء لكان(‪ ،‬وفي حق ا ّ‬
‫طْع‬
‫ل ُت ِ‬
‫ل َقْرَيٍة َنِذيًرا ‪َ .‬ف َ‬ ‫ل بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَلْو ِ‬
‫شْئَنا َلَبَعْثَنا ِفي ُك ّ‬ ‫الممكن‪ ،‬فجاهدهم أو ً‬
‫اْلَكاِفِريَن َوَجاِهْدُهْم ِبِه ِجَهاًدا َكِبيًرا{ ]الفرقان‪ .[52 ،51 :‬ثم لما ‪ /‬هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال‪ ،‬جاهدهم بيده‪.‬‬

‫ضا من حديث عمر بن الخطاب عن النبي‬ ‫وهذا مطابق لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة‪ ،‬وهو معروف أي ً‬
‫صلى ال عليه وسلم في حديث احتجاج آدم وموسى‪ ،‬لما لم موسى آدم لكونه أخرج نفسه وذريته من الجنة بالذنب‬
‫ى قبل أن أخلق بمدة طويلة‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬فحج آدم‬
‫الذي فعله‪ ،‬فأجابه آدم بأن هذا كان مكتوًبا عل ّ‬
‫موسى(‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وإنما كان لما لحقه وغيره من الدميين من المصيبة بسبب ذلك الفعل‪،‬‬ ‫وذلك لن ملم موسى لدم لم يكن لحق ا ّ‬
‫فذكر له آدم أن هذا كان أمًرا مقدًرا لبد من كونه‪ ،‬والمصائب التي تصيب العباد يؤمرون فيها بالصبر؛ فإن هذا هو‬
‫الذي ينفعهم‪ ،‬وأما لومهم لمن كان سبًبا فيها فل فائدة لهم في ذلك‪ ،‬وكذلك ما فاتهم من المور التي تنفعهم يؤمرون في‬
‫ذلك بالنظر إلى القدر‪ ،‬وأما التأسف والحزن فل فائدة فيه‪ ،‬فما جرى به القدر من فوت منفعة لهم‪ ،‬أو حصول مضرة‬
‫لهم‪ ،‬فلينظروا في ذلك إلى القدر‪ ،‬وأما ما كان بسبب أعمالهم فليجتهدوا في التوبة من المعاصي‪ ،‬والصلح في‬
‫ل لهم‪.‬‬
‫المستقبل‪ .‬فإن هذا المر ينفعهم‪ ،‬وهو مقدور لهم بمعونة ا ّ‬

‫ل من‬‫‪/‬وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬المؤمن القوي خير وأحب إلى ا ّ‬
‫ل ول تعجزن‪ .‬وإن أصابك شيء فل تقل‪ :‬لو أني‬ ‫المؤمن الضعيف‪ ،‬وفي كل خير‪ ،‬احرص على ما ينفعك واستعن با ّ‬
‫ل وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان(‪.‬‬‫فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل‪ :‬قدر ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ونهاه عن العجز‪ ،‬وأنفع ما للعبد طاعة‬ ‫أمر النبي صلى ال عليه وسلم بحرص العبد على ما ينفعه‪ ،‬والستعانة با ّ‬
‫ك َنْسَتِعيُن{]الفاتحة‪.[5 :‬‬ ‫ل تعالى‪ .‬وهذان الصلن هما حقيقة قوله تعالى‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬وهي عبادة ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫ونهاه عن العجز وهو الضاعة والتفريط والتواني‪ .‬كما قال في الحديث الخر‪) :‬الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد‬
‫ل الماني( رواه الترمذي‪.‬‬‫الموت‪ ،‬والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني على ا ّ‬

‫وفي سنن أبي داود‪ :‬أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقضى على أحدهما‪ ،‬فقال المقضي عليه‪ :‬حسبي‬
‫ل يلوم على العجز‪ ،‬ولكن عليك بالكيس‪ ،‬فإذا غلبك أمر فقل‪:‬‬
‫ل ونعم الوكيل‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫ل ونعم الوكيل( فالكيس ضد العجز‪ .‬وفي الحديث‪) :‬كل شيء بقدر حتى العجز والكيس( رواه مسلم‪ .‬وليس‬ ‫حسبي ا ّ‬
‫المراد بالعجز في كلم النبي صلى ال عليه وسلم ما يضاد ‪ /‬القدرة؛ فإن من ل قدرة له بحال ل يلم‪ ،‬ول يؤمر بما ل‬
‫يقدر عليه بحال‪.‬‬

‫ل وما شاء‬
‫ل ونهاه عن العجز‪ ،‬أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر ويقول‪ :‬قدر ا ّ‬
‫ثم لما أمره بالجتهاد والستعانة با ّ‬
‫فعل‪ ،‬ول يتحسر ويتلهف ويحزن‪ .‬ويقول‪) :‬لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا‪ ،‬فإن لو تفتح عمل الشيطان(‪.‬‬

‫وقد قال بعض الناس في هذا المعنى‪ :‬المر أمران‪ :‬أمر فيه حيلة وأمر ل حيلة فيه؛ فما فيه حيلة ل يعجز عنه‪ ،‬وما ل‬
‫حيلة فيه ل يجزع منه‪ .‬وهذا هو الذي يذكره أئمة الدين‪ .‬كما ذكر الشيخ عبد القادر وغيره‪ .‬فإنه لبد من فعل المأمور‬
‫عَلْيَنا‬
‫ل َ‬
‫ن ا ُّ‬
‫خي َقْد َم ّ‬
‫ف َوهَذا َأ ِ‬ ‫وترك المحظور‪ ،‬والرضا والصبر على المقدور‪ .‬وقد قال تعالى حكاية عن يوسف‪َ} :‬أَنا ُيو ُ‬
‫س ُ‬
‫ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]يوسف‪.[90 :‬‬
‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫صِبْر َفِإ ّ‬
‫ق َوَي ْ‬
‫ن َيّت ِ‬
‫ِإّنُه َم ْ‬

‫فالتقوى‪ :‬تتضمن فعل المأمور وترك المحظور‪ .‬والصبر‪ :‬يتضمن الصبر على المقدور‪ .‬وقد قال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن‬
‫ضّرُكْم َكْيُدُهْم َشْيًئا{ ]آل عمران‪118- :‬‬ ‫ل َي ُ‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا َ‬ ‫ل{ إلى قوله‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن َت ْ‬ ‫خَبا ً‬
‫ل َيْأُلوَنُكْم َ‬‫ن ُدوِنُكْم َ‬ ‫طاَنًة ِم ْ‬
‫خُذوا ِب َ‬
‫ل َتّت ِ‬ ‫آَمُنوا َ‬
‫صِبُروا‬‫ن َت ْ‬ ‫‪ ،[120‬فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر ل يضر ‪ /‬المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬بَلى ِإ ْ‬
‫لِئَكِة ُمَسّوِميَن{ ]آل عمران‪ ،[125 :‬فبين أنه مع الصبر‬ ‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬
‫ل ٍ‬
‫سِة آ َ‬
‫خْم َ‬
‫ن َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬
‫َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫والتقوى يمدهم بالملئكة‪ ،‬وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم‪.‬‬

‫صِبُروا‬
‫ن َت ْ‬
‫شَرُكوا َأًذى َكِثيًرا َوِإ ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن َقْبِلُكْم َوِم ْ‬
‫ب ِم ْ‬
‫ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫سَمُع ّ‬
‫سُكْم َوَلَت ْ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬لُتْبَلُو ّ‬
‫ن ِفي َأْمَواِلُكْم َوَأْنُف ِ‬
‫ك ِمْن َعْزِم اُْلُموِر{]آل عمران‪ [186 :‬فأخبرهم أن أعداءهم من المشركين وأهل الكتاب لبد أن يؤذوهم‬ ‫ن َذِل َ‬
‫َوَتّتُقوا َفِإ ّ‬
‫بألسنتهم‪ ،‬وأخبر أنهم إن يصبروا ويتقوا فإن ذلك من عزم المور‪ .‬فالصبر والتقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة‪،‬‬
‫المؤذين بألسنتهم والمؤذين بأيديهم‪ ،‬وشر العدو المبطن للعداوة‪ ،‬وهم المنافقون‪ .‬وهذا الذي كان خلق النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم وهديه هو أكمل المور‪.‬‬

‫ل صلى ال‬ ‫ل تارة وما ل يحبه تارة‪ ،‬أو لم يرد ل هذا ول هذا‪ ،‬فكلهما دون خلق رسول ا ّ‬ ‫فأما من أراد ما يحبه ا ّ‬
‫عليه وسلم؛ وإن لم يكن على واحد منهما إثم‪ ،‬كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والنتقام المباح‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أكمل‬ ‫كما هو خلق بعض النبياء والصالحين‪ ،‬فهو وإن كان جائًزا ل إثم فيه‪ ،‬فخلق رسول ا ّ‬
‫منه‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب‪ ،‬ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا‬
‫ضا خلق بعض النبياء والصالحـين فهـذا وإن كـان جائـًزا ل إثـم‬
‫ل‪ .‬كما هو أي ً‬
‫ل أرضى ّ‬ ‫جاز العفو وإن كان النتقام ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أكمل منه‪.‬‬‫فيـه فخلـق رسـول ا ّ‬

‫ل له‪.‬‬
‫وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فل عيب على نبي فيما شرع ا ّ‬

‫ل بعض النبيين على بعض‪ ،‬وفضل بعض الرسل على بعض‪ ،‬والشريعة التي بعث الّ بها محمًدا‬ ‫لكن قد فضل ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم أفضل الشرائع؛ إذ كان محمد صلى ال عليه وسلم أفضل النبياء والمرسلين‪ ،‬وأمته خير أمة‬
‫س{ ]آل عمران‪ :[110 :‬كنتم خير الناس‬ ‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬
‫خِر َ‬ ‫أخرجت للناس‪ .‬قال أبو هريرة في قوله تعالى‪ُ} :‬كْنُتْم َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫للناس‪ ،‬تأتون بهم في القياد والسلسل حتى تدخلوهم الجنة‪ ،‬يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس‪ ،‬فهم خير‬
‫ل أنفعهم لعياله‪ ،‬وأما غير النبياء فمنهم من يكون ذلك شرعة لتباعه‬ ‫ل‪ ،‬فأحبهم إلى ا ّ‬
‫المم للخلق‪ .‬والخلق عيال ا ّ‬
‫لذلك النبي‪ ،‬وأما من كان من أهل شريعة محمد صلى ال عليه وسلم ومنهاجه فإن كان ما تركه واجًبا عليه وما فعله‬
‫ل مخطًئا فالّ قد وضع عن هذه المة ‪ /‬الخطأ والنسيان‬ ‫محرًما عليه كان مستحًقا للذم والعقاب‪ ،‬إل أن يكون متأو ً‬
‫ل عنه بأسباب متعددة‪.‬‬ ‫وذنب أحدهم قد يعفو ا ّ‬

‫ومن أسباب هذا النحراف‪ :‬أن من الناس من تغلب عليه طريقة الزهد في إرادة نفسه‪ ،‬فيزهد في موجب الشهوة‬
‫صا‬
‫والغضب‪ ،‬كما يفعل ذلك من يفعله من عباد المشركين‪ ،‬وأهل الكتاب كالرهبان وأشباههم‪ ،‬وهؤلء يرون الجهاد نق ً‬
‫ل لم يجعل عمارة بيت المقدس على يد داود؛ لنه‬
‫لما فيه من قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الموال‪ ،‬ويرون أن ا ّ‬
‫جرى علي يديه سفك الدماء‪.‬‬

‫ل بأنه ل‬
‫ومنهم من ل يري ذبح شيء من الحيوان كما عليه البراهمة‪ ،‬ومنهم من ل يحرم ذلك لكنه هو يتقرب إلى ا ّ‬
‫يذبح حيواًنا ول يأكل لحمه ول ينكح النساء‪ ،‬ويقول مادحه‪ :‬فلن ما نكح‪ ،‬ول ذبح‪.‬‬

‫وقد أنكر النبي صلى ال عليه وسلم على هؤلء كما في الصحيحين عن أنس‪ :‬أن نفرا من أصحاب النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى ال عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم‪ :‬ل أتزوج النساء‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫ل وأثني عليه وقال‪) :‬ما‬
‫ل آكل اللحم‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬ل أنام على فراش‪ .‬فبلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسلم فحمد ا ّ‬
‫بال أقوام قالوا‪ :‬كذا وكذا؟! لكني أصلي وأنام‪ / ،‬وأصوم وأفطر‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬وآكل اللحم‪ ،‬فمن رغب عن سنتي‬
‫ل َلُكْم{ ]المائدة‪ [87 :‬نزلت في عثمان ابن‬
‫ل ا ُّ‬
‫حّ‬‫ت َما َأ َ‬
‫طّيَبا ِ‬
‫حّرُموا َ‬
‫ل ُت َ‬ ‫فليس مني(‪ .‬وقد قال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َ‬
‫مظعون وطائفة معه كانوا قد عزموا على التبتل‪ ،‬ونوع من الترهب‪ .‬وفي الصحيحين عن سعد قال‪ :‬رد رسول ا ّ‬
‫ل‬
‫صلى ال عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لختصينا‪.‬‬

‫ل ورسوله هو الزهد فيما ل ينفع في الخرة‪ ،‬فأما ما ينفع في الخرة وما يستعان‬ ‫والزهد النافع المشروع الذي يحبه ا ّ‬
‫ل وطاعته‪ ،‬والزهد إنما يراد لنه زهد فيما يضر‪ ،‬أو زهد فيما ل‬ ‫به على ذلك‪ ،‬فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة ا ّ‬
‫ينفع‪ ،‬فأما الزهد في النافع فجهل وضلل كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬احرص على ما ينفعك‪ ،‬واستعن با ّ‬
‫ل‬
‫ول تعجزن(‪.‬‬

‫ل وطاعته وطاعة رسوله‪ ،‬وكل ما صده عن ذلك فإنه ضار ل نافع‪ ،‬ثم النفع له أن تكون كل‬ ‫والنافع للعبد هو عبادة ا ّ‬
‫حا ل يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما ل ينفعه ول‬
‫ل وطاعة له‪ ،‬وإن أدى الفرائض وفعل مبا ً‬‫أعماله عبادة ّ‬
‫يضره‪.‬‬

‫وكذلك الورع المشروع‪ ،‬هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو ‪ /‬ما يعلم تحريمه‪ ،‬وما يشك في تحريمه‪ ،‬وليس في‬
‫عا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك‬‫تركه مفسدة أعظم من فعله ـ مثل محرم معين ـ مثل من يترك أخذ الشبهة ور ً‬
‫محرما بيًنا تحريمه‪ ،‬أو يترك واجًبا تركه أعظم فساًدا من فعله مع الشبهة‪ ،‬كمن يكون على أبية أو عليه ديون هو‬
‫مطالب بها‪ ،‬وليس له وفاء إل من مال فيه شبهة فيتورع عنها‪ ،‬ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة‪.‬‬

‫وكذلك من الورع الحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه‪.‬‬

‫وتمام الورع أن يعم النسان خير الخيرين‪ ،‬وشر الشرين‪ ،‬ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها‬
‫وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬وإل فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع‬
‫عا‪ ،‬ويدع الجمعة‬
‫واجبات ويفعل محرمات‪ ،‬ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع المراء الظلمة ويرى ذلك ور ً‬
‫والجماعة خلف الئمة الذين فيهم بدعة أو فجور‪ ،‬ويرى ذلك من الورع‪ ،‬ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم‬
‫العالم لما في صاحبه من بدعة خفية‪ ،‬ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع‪.‬‬

‫ل ورسوله من الرغبة والزهد ومايكرهه من ذلك‪ ،‬وإل فقد يدع واجبات‬‫‪/‬وكذلك الزهد والرغبة‪ ،‬من لم يراع مايحبه ا ّ‬
‫ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الكل‪ ،‬أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه‬
‫ل‪ ،‬لما في فعل‬
‫ل تعالى أو حقوق عباده‪ ،‬أو يدع المر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل ا ّ‬
‫من حقوق ا ّ‬
‫ذلك من أذى بعض الناس والنتقام منهم‪ ،‬حتى يستولى الكفار والفجار على الصالحين البرار فل ينظر المصلحة‬
‫الراجحة في ذلك‪.‬‬
‫ج َأْهِلِه‬
‫خَرا ُ‬
‫حَراِم َوِإ ْ‬
‫جِد اْل َ‬
‫سِ‬‫ل َوُكْفٌر ِبِه َواْلَم ْ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬
‫عْ‬
‫صدّ َ‬
‫ل ِفيِه َكِبيٌر َو َ‬
‫ل ِقَتا ٌ‬
‫ل ِفيِه ُق ْ‬
‫حَراِم ِقَتا ٍ‬
‫شْهِر اْل َ‬
‫ن ال ّ‬
‫عْ‬‫ك َ‬ ‫وقد قال تعالى‪َ} :‬ي ْ‬
‫سَأُلوَن َ‬
‫ل َواْلِفْتَنُة َأْكَبُر ِمْن اْلَقْتِل{ ]البقرة‪.[217 :‬‬ ‫عْنَد ا ِّ‬
‫ِمْنُه َأْكَبُر ِ‬

‫يقول ـ سبحانه وتعالى ـ‪ :‬وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك‪ ،‬فيدفع‬
‫أعظم الفسادين بالتزام أدناهما‪.‬‬

‫وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلًما له هو جاهل‪ ،‬فإن هذا الحيوان لبد أن يموت‪ ،‬فإذا قتل‬
‫لمنفعة الدميين ‪ /‬وحاجتهم كان خيًرا من أن يموت موًتا ل ينتفع به أحد‪ ،‬والدمي أكمل منه‪ ،‬ول تتم مصلحته إل‬
‫ل عنه كصبر البهائم وذبحها‬‫باستعمال الحيوان في الكل والركوب ونحو ذلك‪ ،‬لكن مال يحتاج إليه من تعذيبه نهي ا ّ‬
‫ل الحسان بحسب المكان فيما أباحه من القتل والذبح‪ .‬كما في‬ ‫في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك‪ ،‬وأوجب ا ّ‬
‫ل كتب الحسان على كل شيء‪ :‬فإذا‬ ‫صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إن ا ّ‬
‫قتلتم فأحسنوا القتلة‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة‪ ،‬وليحد أحدكم شفرته‪ ،‬وليرح ذبيحته(‪.‬‬

‫ل ورسوله من الرادات بإزائهم طائفتان‪:‬‬


‫وهؤلء الذين زهدوا في الرادات حتى فيما يحبه ا ّ‬

‫ل ورسوله الرغبة فيه من الكفر والفسوق والعصيان‪.‬‬


‫طائفة رغبت فيما كره ا ّ‬

‫ل تعالى‪ ،‬وهؤلء الذين يأتون بصور الطاعات مع‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬لكن لهواء أنفسهم ل لعبادة ا ّ‬ ‫وطائفة رغبت فيما أمر ا ّ‬
‫ل‪ ،‬الرجل يقاتل شجاعة‪،‬‬ ‫فساد النيات‪ ،‬كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قيل له‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ل(‪.‬‬‫ل هي العليا‪ / ،‬فهو في سبيل ا ّ‬ ‫ل؟ فقال‪) :‬من قاتل لتكون كلمة ا ّ‬ ‫ويقاتل حمية‪ ،‬ويقاتل رياء‪ ،‬فأي ذلك في سبيل ا ّ‬
‫ل{‬
‫ل َقِلي ً‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل َيْذُكُرو َ‬
‫س َو َ‬
‫ن الّنا َ‬
‫ساَلى ُيَراُءو َ‬
‫لِة َقاُموا ُك َ‬
‫صَ‬‫عُهْم َوِإَذا َقاُموا ِإَلى ال ّ‬
‫خاِد ُ‬
‫ل َوُهَو َ‬
‫ن ا َّ‬
‫عو َ‬
‫خاِد ُ‬
‫ن ُي َ‬ ‫قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اْلُمَناِفِقي َ‬
‫]النساء‪. [142 :‬‬

‫وهؤلء أهل إرادات فاسدة مذمومة‪ ،‬فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم‪ ،‬وهم يشبهون اليهود‪ ،‬كما يشبه أولئك‬
‫عَلْيِهْم‬
‫ت َ‬ ‫ضِرَب ْ‬ ‫ل َو ُ‬ ‫ن ا ِّ‬‫ب ِم ْ‬ ‫ض ٍ‬ ‫س َوَباُءوا ِبَغ َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫ل ِم ْ‬ ‫حْب ٍ‬
‫ل َو َ‬ ‫ن ا ِّ‬‫ل ِم ْ‬‫حْب ٍ‬‫ل ِب َ‬
‫ن َما ُثِقُفوا ِإ ّ‬ ‫عَلْيِهْم الّذّلُة َأْي َ‬
‫ت َ‬‫ضِرَب ْ‬ ‫النصارى‪ .‬قال تعالى‪ُ } :‬‬
‫صْوا َوَكاُنوا َيْعَتُدوَن{]آل عمران‪ ،[112 :‬وقال‬ ‫ك ِبَما عَ َ‬ ‫ق َذِل َ‬‫حّ‬‫لنِبَياَء ِبَغْيِر َ‬ ‫ن ا َْ‬‫ل َوَيْقُتُلو َ‬‫ت ا ِّ‬‫ن ِبآَيا ِ‬‫ك ِبَأّنُهْم َكاُنوا َيْكُفُرو َ‬‫سَكَنُة َذِل َ‬‫اْلَم ْ‬
‫خُذوُه‬ ‫ل َيّت ِ‬‫شِد َ‬ ‫ل الّر ْ‬‫سِبي َ‬
‫ن َيَرْوا َ‬ ‫ل ُيْؤِمُنوا ِبَها َوِإ ْ‬ ‫ل آَيٍة َ‬ ‫ن َيَرْوا ُك ّ‬ ‫ق َوِإ ْ‬
‫حّ‬ ‫ض ِبَغْيِر اْل َ‬
‫لْر ِ‬ ‫ن ِفي ا َْ‬ ‫ن َيَتَكّبُرو َ‬ ‫ن آَياِتي اّلِذي َ‬‫عْ‬ ‫ف َ‬ ‫صِر ُ‬ ‫سَأ ْ‬‫تعالى‪َ } :‬‬
‫خ ِمْنَها َفَأْتَبَعُه‬
‫سَل َ‬
‫عَلْيِهْم َنَبَأ اّلِذي آَتْيَناُه آَياِتَنا َفان َ‬
‫ل َ‬‫ل{ ]العراف‪ ،[146 :‬وقال تعالى‪َ} :‬واْت ُ‬ ‫سِبي ً‬ ‫خُذوُه َ‬ ‫ي َيّت ِ‬
‫ل الَغ ّ‬‫سِبي َ‬
‫ن َيَرْوا َ‬ ‫ل وَِإ ْ‬‫سِبي ً‬
‫َ‬
‫ث َأْو َتْتُرْكُه َيْلَه ْ‬
‫ث‬ ‫عَلْيِه َيْلَه ْ‬
‫ل َ‬ ‫حِم ْ‬
‫ن َت ْ‬
‫ب ِإ ْ‬‫ل اْلَكْل ِ‬‫شْئَنا َلَرَفْعَناُه ِبَها{ إلى قوله‪َ} :‬واّتَبَع َهَواُه َفَمَثُلُه َكَمَث ِ‬ ‫ن ‪َ .‬وَلْو ِ‬ ‫ن اْلَغاِوي َ‬
‫ن ِم ْ‬ ‫ن َفَكا َ‬ ‫طا ُ‬‫شْي َ‬
‫ال ّ‬
‫ص َلَعّلُهْم َيَتَفّكُروَن{]العراف‪.[176 ،175 :‬‬ ‫ص َ‬ ‫ص اْلَق َ‬ ‫ص ْ‬ ‫ن َكّذُبوا ِبآَياِتَنا َفاْق ُ‬‫ك َمَثلُ اْلَقْوِم اّلِذي َ‬‫َذِل َ‬

‫فهؤلء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق‪ ،‬وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلل والجهل بالحق‪ .‬كما قال تعالى‪َ}ِ :‬و َ‬
‫ل‬
‫ضّلوا َعْن َسَواِء الّسِبيِل{ ]المائدة‪.[77 :‬‬
‫ضّلوا َكِثيًرا َو َ‬
‫ل َوَأ َ‬
‫ن َقْب ُ‬
‫ضّلوا ِم ْ‬
‫َتّتِبُعوا َأْهَواَء َقْوٍم َقْد َ‬

‫ل ورسوله عنه من‬


‫ل ورسوله به من الرادات‪ ،‬والعمال الصالحة‪ ،‬مرتكبة لما نهى ا ّ‬
‫‪/‬وكل الطائفتين تاركة ما أمر ا ّ‬
‫الرادات والعمال الفاسدة‪.‬‬

‫صـــل‬
‫َف ْ‬

‫ل عنهم ـ‪ :‬بأنه ل يريد‬


‫فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشائخ أهل الستقامة ـ رضي ا ّ‬
‫ل ـ عز وجل ـ سواها‪ ،‬بل يجرى فعله فيه‪ ،‬فيكون هو مراد الحق‪ ،‬إنما‬ ‫السالك مراًدا قط‪ ،‬وأنه ل يريد مع إرادة ا ّ‬
‫ل أمر به فعليه أن يريده ويعمل به‪ ،‬وقد صرحوا‬ ‫ل ورسوله فيه‪ ،‬فأما ما علم أن ا ّ‬ ‫قصدوا به فيما لم يعلم العبد أمر ا ّ‬
‫بذلك في غير موضع‪ .‬وإن كان غيرهم من الغالطين يري القيام بالرادة الخلقية هو الكمال‪ ،‬وهو الفناء في توحيد‬
‫الربوبية‪ ،‬وأن السلوك إذا انتهى إلى هذا الحد‪ ،‬فصاحبه إذا قام بالمر فلجل غيره‪ ،‬أو أنه ل يحتاج أن يقوم بالمر‪،‬‬
‫فتلك أقوال وطرائق فاسدة قد تكلم عليها في غير هذا الموضع‪.‬‬
‫فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف‪ ،‬مثل الفضيل بن عياض‪ ،‬وإبراهيم بن أدهم‪ ،‬وأبي سليمان‬
‫الداراني ومعروف ‪ /‬الكرخي‪ ،‬والسري السقطي‪ ،‬والجنيد ابن محمد‪ ،‬وغيرهم من المتقدمين ومثل الشيخ عبد القادر‪،‬‬
‫والشيخ حماد‪ ،‬والشيخ أبي البيان‪ ،‬وغيرهم من المتأخرين‪ ،‬فهم ل يسوغون للمسالك ولو طار في الهواء أو مشى على‬
‫الماء أن يخرج عن المر والنهي الشرعيين بل عليه أن يفعل المأمور‪ ،‬ويدع المحظور إلى أن يموت‪ ،‬وهذا هو الحق‬
‫الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف‪.‬‬

‫وهذا كثير في كلمهم‪ :‬كقول الشيخ عبد القادر في كتاب ]فتوح الغيب[‪] :‬اخرج من نفسك‪ ،‬وتنح عنها‪ ،‬وانعزل عن‬
‫ل تبارك وتعالى‪ ،‬وكن بوابه علي باب قلبك‪ ،‬وامتثل أمره تبارك وتعالى في إدخال من يأمرك‬ ‫ملكك‪ ،‬وسلم الكل إلى ا ّ‬
‫بإدخاله‪ ،‬وانته نهيه في صد من يأمرك بصده‪ ،‬فل تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه‪ ،‬وإخراج الهوى من القلب‬
‫بمخالفته وترك متابعته في الحوال كلها‪ ،‬وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته‪ ،‬فل ترد إرادة غير إرادته تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬وغير ذلك منك غير‪ ،‬وهو واد الحمقى‪ ،‬وفيه حتفك وهلكك وسقوطك من عينه تبارك وتعالى‪ ،‬وحجابك‬
‫عنه‪.‬‬

‫احفظ أبدا أمره‪ ،‬وانته أبدا نهيه‪ ،‬وسلم إليه أبدا مقدوره‪ ،‬ول تشركه بشيء من خلقه‪ ،‬فإرادتك وهواك وشهواتك خلقه‪،‬‬
‫ك ِبِعَباَدِة‬
‫شِر ْ‬
‫ل ُي ْ‬
‫حا َو َ‬
‫صاِل ً‬
‫ل َ‬
‫عَم ً‬
‫ل َ‬
‫جو ِلَقاَء َرّبِه َفْلَيْعَم ْ‬
‫ن َيْر ُ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬فَم ْ‬
‫ن َكا َ‬ ‫فل ترد ول تهوى ول تشته لئل يكون شركا‪ .‬قال ا ّ‬
‫ضا متابعتك لهواك‪ ،‬وأن تختار مع ربك شيًئا‬ ‫َرّبِه َأَحًدا{ ]الكهف‪ [110 :‬ليس الشرك عبادة الصنام فحسب؛ بل هو أي ً‬
‫سواه من الدنيا وما فيها‪ ،‬والخرة وما فيها‪ ،‬فما سواه تبارك وتعالى غيره‪ ،‬فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به غيره‪،‬‬
‫ل ول مقاًما‪ ،‬ولتدع شيًئا من‬ ‫فاحذر ول تركن‪ ،‬وخف ول تأمن‪ ،‬وفتش ول تغفل فتطمئن‪ ،‬ول تضف إلى نفسك حا ً‬
‫ذلك[‪.‬‬

‫ل‪،‬‬
‫ل وعدوته‪ ،‬والشياء كلها تابعة ّ‬‫ل ونفسك‪ ،‬وأنت المخاطب‪ ،‬والنفس ضد ا ّ‬ ‫ضا‪] :‬إنما هو ا ّ‬
‫وقال الشيخ عبد القادر أي ً‬
‫فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها كنت خصًما له على نفسك[ ـ إلى أن قال ـ‪:‬‬

‫ل{ ]ص‪ [ [26 :‬إلى أن قال‪:‬‬


‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬
‫عْ‬
‫ك َ‬
‫ضّل َ‬ ‫]فالعبادة في مخالفتك نفسك وهواك‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َتّتِبْع اْلَهَوى َفُي ِ‬

‫ل تعالى ـ لما رأي رب العزة في المنام فقال له‪ :‬كيف الطريق‬


‫]والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي ـ رحمه ا ّ‬
‫إليك؟ فقال‪] :‬اترك نفسك وتعال[ قال أبو يزيد‪ :‬فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها‪.‬‬

‫فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الحوال كلها‪ ،‬فإن ‪ /‬كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج‬
‫من إجرام الخلق‪ ،‬وشبههم ومنتهم‪ ،‬والتكال عليهم والثقة بهم‪ ،‬والخوف منهم؛ والرجاء لهم‪ ،‬والطمع فيما عندهم من‬
‫حطام الدنيا‪ ،‬فل ترج عطاءهم على طريق الهدية‪ ،‬أو الزكاة‪ ،‬أو الصدقة‪ ،‬أو الكفارة أو النذر‪ ،‬فاقطع همك منهم من‬
‫سائر الوجوه والسباب‪ ،‬فاخرج من الخلق جًدا‪ ،‬واجعلهم كالباب يرد ويفتتح‪ ،‬وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة وتحيل‬
‫ل ـ تبارك وتعالى‪.‬‬‫أخرى‪ ،‬كل ذلك بفعل فاعل‪ ،‬وتدبير مدبر‪ ،‬وهو ا ّ‬

‫فإذا صح لك هذا كنت موحًدا له ـ تبارك وتعالى ـ ول تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية‪ ،‬واعتقد أن‬
‫ل فتكفر‪ ،‬وتكون‬
‫ل ـ تعالى ـ ول تقبل فعلهم دون ا ّ‬
‫ل ـ تبارك وتعالى ـ لكيل تعبدهم‪ ،‬وتنسى ا ّ‬
‫الفعال ل تتم لهم دون ا ّ‬
‫ل خلًقا وللعباد كسبا‪ .‬كما جاءت به الثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب‪ ،‬وامتثل أمر‬ ‫قدرًيا‪ .‬ولكن قل‪ :‬هي ّ‬
‫ل فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ول تجاوزه‪ ،‬فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم‪ ،‬فل تكن أنت الحاكم‪ ،‬وكونك معهم‬ ‫ا ّ‬
‫قدر‪ ،‬والقدر ظلمة‪ ،‬فادخل في الظلمة بالمصباح وهو الحكم ـ كتاب الّ وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم ـ ل تخرج‬
‫عنهما‪.‬‬

‫فإن خطر خاطر أو وجدت إلهاما فاعرضهما على الكتاب والسنة‪ ،‬فإن وجدت فيهما تحريم ذلك‪ ،‬مثل أن تلهم بالزنا‬
‫أو الربا أو مخالطة ‪ /‬أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك‪ ،‬واهجره ولتقبله‪ ،‬ولتعمل به‬
‫واقطع بأنه من الشيطان اللعين‪ ،‬وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحه من الكل والشرب واللبس والنكاح‬
‫ضا ول تقبله‪ ،‬واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها‪ ،‬وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها[‬
‫فاهجره أي ً‬
‫قلت‪ :‬ومراده بهجر المباح‪ ،‬إذا لم يكن مأموًرا به‪ ،‬كما قد بين مراده في غير هذا الموضع‪ ،‬فإن المباح المأمور به إذا‬
‫ل عليه‪ ،‬وكان واجًبا عليه‪ ،‬وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين‬
‫فعله بحكم المر كان ذلك من أعظم نعمة ا ّ‬
‫المقربين؛ ل يقف عند طريقة البرار أصحاب اليمين[‪.‬‬

‫قال‪] :‬وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ول إباحته بل هو أمر ل تعقله‪ ،‬مثل أن يقال لك‪ :‬ائت موضع كذا وكذا‪،‬‬
‫ل تعالى من نعمه من العلم‬
‫الق فلًنا الصالح‪ ،‬ول حاجة لك هناك ول في الصالح‪ ،‬لستغنائك عنه بما أولك ا ّ‬
‫والمعرفة‪ ،‬فتوقف في ذلك ول تبادر إليه‪ ،‬فتقول‪ :‬هل هذا إلهام إل من الحق فأعمل به؟ بل أنتظر الخير في ذلك‪،‬‬
‫ل تبارك وتعالى يفعلها العقلء من‬
‫وفعل الحق بأن يتكرر ذلك اللهام وتؤمر بالسعي‪ ،‬أو علمة تظهر لهل العلم با ّ‬
‫ل‪ ،‬والمؤيدون من البدال‪.‬‬
‫أولياء ا ّ‬

‫ل وامتحان‪،‬‬
‫وإنما لم تبادر إلى ذلك لنك ل تعلم عاقبته وما يؤول المر إليه‪ ،‬وربما ‪ /‬كان فيه فتنة وهلك ومكر من ا ّ‬
‫ظا‬
‫ل محفو ً‬
‫فاصبر حتى يكون عز وجل هو الفاعل فيك‪ ،‬فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمو ً‬
‫ل تعالى ل يعاقبك على فعله‪ ،‬وإنما تتطرق العقوبات نحوك لكونك في الشىء[‪.‬‬‫فيها؛ لن ا ّ‬

‫ل عنه ـ بأن ما كان محظوًرا في الشرع يجب تركه ولبد‪ ،‬وما كان معلوًما أنه مباح بعينه‬‫قلت‪ :‬فقد أمر ـ رضي ا ّ‬
‫ضا‪ ،‬وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح ل مضرة فيه أو فيه مضرة‬ ‫لكونه يفعل بحكم الهوى ل بأمر الشارع فيترك أي ً‬
‫مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين‪ ،‬والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين‪ ،‬فإن جنس هذا العمل ليس‬
‫محرًما ول كل أفراده مباحة؛ بل يحرم على النسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه فأمره بالكف عن‬
‫الذهاب حتى يظهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة؛ لنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له‬
‫فعله‪ ،‬وإذا خاف الضرر ينبغي له تركه‪ ،‬فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فل يؤاخذ بالفعل‪ ،‬لخلف ما إذا‬
‫فعله باختياره أو شهوته؛ وإذ تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسًنا‪.‬‬

‫وقد جاءت شواهد السنة بأن من ابتلى بغير تعرض منه أعين ومن تعرض للبلء خيف عليه‪ .‬مثل قوله صلى ال عليه‬
‫وسلم لعبد الرحمن بن سمرة‪) :‬ل تسأل المارة‪ ،‬فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها‪ ،‬وإن أعطيتها ‪ /‬عن غير‬
‫ل العافية‪ ،‬فإذا لقيتموهم فاصبروا(‪ .‬وفي السنن‪) :‬من‬
‫مسألة أعنت عليها(‪ ،‬ومنه قوله‪) :‬ل تتمنوا لقاء العدو‪ ،‬واسألوا ا ّ‬
‫ل عليه ملًكا يسدده ـ وفي‬
‫سأل القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه‪ ،‬ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل ا ّ‬
‫رواية ـ وإن أكره عليه(‪ ،‬وفي الصحيحين أنه صلى ال عليه وسلم قال في الطاعون‪) :‬إذا سمعتم به بأرض فل تقدموا‬
‫عليه‪ ،‬وإذا وقع بأرض وأنتم بها فل تخرجوا فراًرا منه(‪ ،‬وعنه أنه صلى ال عليه وسلم نهى عن النذر‪ .‬ومنه قوله‪:‬‬
‫)ذروني ماتركتم‪ ،‬فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلفهم على أنبيائهم‪ ،‬فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه‪ ،‬وإذا‬
‫أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم(‪.‬‬

‫صـــل‬
‫َف ْ‬

‫قال الشيخ عبد القادر‪ :‬وإن كنت في حال الحقيقة‪ ،‬وهي حال الولية‪ :‬فخالف هواك واتبع المر في الجملة‪ ،‬واتباع‬
‫المر على قسمين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس‪ ،‬وتترك الحظ وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر‬
‫منها وما بطن‪.‬‬

‫‪/‬والقسم الثاني‪ :‬ما كان بأمر باطن‪ ،‬وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه‪ ،‬وإنما يتحقق هذا المر في المباح‬
‫الذي ليس حكًما في الشرع‪ ،‬على معنى أنه ليس من قبيل النهي ول من قبيل المر الواجب‪ ،‬بل هو مهمل ترك العبد‬
‫حا فل يحدث العبد فيه شيًئا من عنده بل ينتظر المر فيه فإذا أمر امتثل فيصير‬
‫يتصرف فيه باختياره‪ ،‬فسمى مبا ً‬
‫ل تعالى‪ ،‬مافي الشرع حكمه فبالشرع‪ ،‬وما ليس له حكم في الشرع فبالمر الباطن‪ ،‬فحينئذ‬ ‫جميع حركاته وسكناته با ّ‬
‫يصير محقًقا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم‪.‬‬

‫وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحق‪ ،‬والفناء حالة البدال المنكسري القلوب؛ لجل الحق‪ ،‬والموحدين‬
‫العارفين أرباب العلوم والفعل‪ ،‬السادة المراء‪ ،‬السخي الخفراء للحق‪ ،‬خلفاء الرحمن وأجلئه وأعيانه وأحبابه ـ‬
‫عليهم السلم ـ فاتباع المر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة‪ ،‬وأل تكون لك إرادة وهمة في شيء البتة‪،‬‬
‫دنيا وأخرى عبد الَمِلك لعبد الَمَلك‪ ،‬وعبد المر ل عبد الهوى كالطفل مع الظئر‪ ،‬والميت الغسيل مع الغاسل‪،‬‬
‫والمريض المغلوب على حسه مع الطبيب فيما سوى المر والنهي‪.‬‬

‫ضا‪ :‬اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك‪ ،‬إن كنت في ‪ /‬حال التقوى التي هي القدم الولى‪ ،‬واتبع المر في حالة‬ ‫وقال أي ً‬
‫الولية ووجود الهوي ول تتجاوزه‪ ،‬وهي القدم الثانية‪ ،‬وارض بالفعل ووافق وافن في حالة البدلية والعينية‬
‫والصديقية‪ ،‬وهي المنتهى‪ ،‬تنح عن الطريق القذر‪ ،‬خل عن سبيله‪ ،‬رد نفسك وهواك‪ ،‬كف لسانك عن الشكوى‪ ،‬فإذا‬
‫فعلت ذلك‪ ،‬إن كان خيًرا زادك المولى طيبة ولذة وسروًرا‪ ،‬وإن كان شراً حفظك في طاعته فيه‪ ،‬وأزال عنك الملمة‬
‫وأقعدك فيه حتى يتجاوز ويريحك عند انقضاء أجله‪ ،‬كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار والبرد في الشتاء فيسفر عن‬
‫الصيف‪ ،‬ذلك النموذج عندك فاعتبر به‪ .‬ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطايا‪ ،‬ول يصلح‬
‫لمجالسة الكريم إل طاهر عن أنجاس الذنوب والزلت‪ ،‬وليقبل على شدته إل طيب من دون الدعوى والهواشات‪،‬‬
‫كما ل يصلح لمجالسة الملوك إل الطاهر من النجاس وأنواع النتن والوساخ‪ ،‬فالبليا مكفرات‪ .‬قال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪) :‬حمى يوم كفارة سنة(‪.‬‬

‫ل عنه ـ أن لزوم المر والنهي لبد منه في كل مقام‪ ،‬وذكر الحوال الثلث‬ ‫قلت‪ :‬فقد بين الشيخ عبد القادر ـ رضي ا ّ‬
‫التي جعلها‪ :‬حال صاحب التقوى‪ ،‬وحال الحقيقة‪ ،‬وحال حق الحق‪ ،‬وقد فسر مقصوده بأنه لبد للعبد في كل حال من‬
‫أن يريد فعل ما أمر به ‪ /‬في الشرع وترك ما نهى عنه في الشرع‪ ،‬وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر‬
‫به ولم ينه عنه‪ ،‬وهذا حق‪ .‬فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ول نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو‬
‫في مثل هذا عن إرادة النقيضين‪.‬‬

‫وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم المر دائًما المر الشرعي الظاهر إن عرفه‪ ،‬أو المر الباطن‪ ،‬وبين أن‬
‫المر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ول محرم‪ ،‬وإن مثل هذا ينتظر فيه المر الخاص حتى يفعله‬
‫بحكم المر‪.‬‬

‫فإن قلت‪ :‬فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله؟ وصاحب الحق الذي بعده؟‪.‬‬

‫قيل‪ :‬أما الذي بعده الذين سماهم‪ :‬البدال‪ ،‬فهم الذين ل يفعلون إل بأمر الحق ول يفعلون إل به فل يشهدون لنفسهم‬
‫ل فيما فعلوه من الطاعة؛ بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره‪ ،‬ولهذا قال‪ :‬فاتباع المر فيها‬ ‫فع ً‬
‫مخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة‪.‬‬

‫ل هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير‪،‬‬‫فهؤلء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد اللهية‪ ،‬فيشهدون ‪ /‬أن ا ّ‬
‫ل خالق أفعال العباد فل يرون أحًدا مسيًئا إليهم‪ ،‬ول يرون لهم‬
‫فل يرون لنفسهم حمًدا ول منة على أحد‪ ،‬ويرون أن ا ّ‬
‫ل خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها‪ ،‬وهم يعلمون أن العبادة ل يستحقون من‬ ‫حًقا على أحد إذ قد شهدوا أن ا ّ‬
‫ل شيًئا‪ ،‬بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة ويشهدون أنه يستحق أن يعبد‪ ،‬ول يشرك به‬ ‫أنفسهم ول بأنفسهم على ا ّ‬
‫شيء وأنه يستحق أن يتقي حق تقاته‪ ،‬وحق تقاته أن يطاع فل يعصى‪ ،‬ويذكر فل ينسى‪ ،‬ويشكر فل يكفر‪ ،‬فيرون إنما‬
‫قام بهم من العمل الصالح فهو جوده وفضله وكرمه له الحمد في ذلك‪.‬‬

‫ل‪ .‬وأما ما قام بالعباد من أذاهم‪ ،‬فهو خلقه وهو من عدله‪ ،‬وما تركه الناس من‬
‫ويشهدون‪ :‬أنه ل حول ول قوة إل با ّ‬
‫حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه‪ ،‬وله الحمد علي كل حال على ما فعل ومالم يفعل‪ .‬ولهذا كانوا‬
‫منكسرة قلوبهم؛ لشهودهم وجوده الكامل وعدمهم المحض‪ ،‬ول أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إل العدم ل يرى له‬
‫شيًئا‪ ،‬ول يرى به شيًئا‪.‬‬

‫ل‪ ،‬لكن‬‫ل‪ ،‬وأنه ل يفعل إلما أمر به‪ ،‬فليفعل إل ّ‬ ‫وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلص الدين ّ‬
‫ل ‪ /‬وأنه ليس له في الحقيقة شيء؛ بل الرب‬ ‫قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته‪ ،‬وأنه ل حول ول قوة إل با ّ‬
‫هو الخالق الفاعل لكل ما قام به‪ ،‬وإن كمال هذا الشهود ل يبقى شيًئا من العجب ول الكبر ونحو ذلك‪ .‬فكلهما قائم‬
‫ل هو الذي جعله مسلًما مصلًيا‪ ،‬وأنه في الحقيقة لم يحدث شيًئا‪ .‬وذاك وإن كان‬ ‫ل‪ ،‬لكن هذا يشهد أن ا ّ‬‫بالمر مطيع ّ‬
‫ل خالق أفعال العباد؛ لكن قد ل يشهده شهوًدا يجعله فيه بمنزلة المعدوم‪.‬‬
‫يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقًرا بأن ا ّ‬
‫ضا‪ ،‬بينهما فرق من جهة ثانية‪ :‬وهي أن الول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها‪ ،‬فهو يميز في مراداته بين‬ ‫وأي ً‬
‫ما يؤمر به وما ينهى عنه‪ ،‬ومال يؤمر به ول ينهى عنه؛ ولهذا لم يبق له مراد أصل إل ما أراده الرب‪ ،‬إما أمًرا به‬
‫ل به‪ ،‬ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر‪ ،‬في غير المر والنهي‪.‬‬‫ل‪ ،‬وإما فعل فيه فيفعله ا ّ‬
‫فيمتثله هو با ّ‬

‫وأما الول‪ :‬الذي هو في مقام التقوى العامة‪ ،‬فإن له شهوات للمحرمات‪ ،‬وله التفات إلى الخلق‪ ،‬وله رؤية نفسه‪،‬‬
‫فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى‪ ،‬بأن يكف عن المحرمات‪ ،‬وعن تناول الشهوات بغير المر‪ ،‬فهذا يحتاج أن يميز بين ما‬
‫يفعله ومال يفعله‪ ،‬وهو التقوى‪ ،‬وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إل ما يؤمر به فقط‪ ،‬فل يفعل إل ما أمر به في‬
‫حا لم يفعل إل ما أمر به‪.‬‬
‫الشرع‪ ،‬وما كان مبا ً‬

‫ل هو الذي فعل ذلك‬


‫ل‪ ،‬ويشهد أن ا ّ‬ ‫ل به ّ‬
‫ل‪ ،‬فل يفعل إل ما أمر ا ّ‬‫ل وبا ّ‬
‫‪/‬وأما الثالث‪ :‬فقد تم شهوده في أنه ل يفعل إل ّ‬
‫ل ـ تعالى‪.‬‬
‫ل‪ ،‬ول يفعل بنفسه ول بغير ا ّ‬ ‫في الحقيقة‪ ،‬ول تكون له همة إرادة أن يفعل لنفسه ول لغير ا ّ‬

‫ل منهم ل يفعل إل الطاعة‪ ،‬لكن يتفاوتون بكمال المعرفة والشهادة‪ ،‬وبصفاء‬


‫والثلثة مشتركون في الطريق‪ ،‬في أن ك ً‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫النية والرادة‪ .‬وا ّ‬

‫فإن قيل‪ :‬كلم الشيخ كله يدور على أنه يتبع المر مهما أمكن معرفته باطًنا وظاهًرا‪ ،‬وما ليس فيه أمًرا باطًنا ول‬
‫ظاهًرا يكون فيه مسلمًـا لفعل الرب‪ ،‬بحيث ل يكون له اختيار ل في هذا ول في هذا بل إن عرف المر كان معه‪،‬‬
‫وإن لم يعرفه كان مع القدر‪ ،‬فهو مع أمر الرب إن عرف وإل فمع خلقه‪ ،‬فإنه سبحانه له الخلق والمر‪ ،‬وهذا يقتضي‬
‫ل فيه حكم ل باستحباب ول كراهة‪ ،‬وقد صرح بذلك هو والشيخ‬ ‫أن من الحوادث ماليس فيه أمر ول نهي‪ ،‬فل يكون ّ‬
‫حماد الدباس‪ ،‬وإن السالك يصل إلى أمور ل يكون فيها حكم شرعي بأمر ول نهي‪ ،‬بل يقف العبد مع القدر؛ وهذا‬
‫الموضع هو الذي يكون السالك فيه عندهم مع الحقيقة القدرية المحضة‪ ،‬إذ ليس هنا حقيقة شرعية‪.‬‬

‫حا على‬
‫‪/‬وهذا مما ينازعهم فيه أهل العلم بالشريعة‪ ،‬ويقولون‪ :‬الفعل إما أن يكون بالنسبة إلى الشرع وجوده راج ً‬
‫حا على وجوده‪ ،‬وهو المحرم والمكروه‪ ،‬وإما أن يستوى‬ ‫عدمه‪ ،‬وهو الواجب والمستحب‪ .‬وإما أن يكون عدمه راج ً‬
‫المران وهو المباح‪ ،‬وهذا التقسيم بحسب المر المطلق‪.‬‬

‫ثم الفعل المعين الذي يقال‪ :‬هو مباح‪ ،‬إما أن تكون مصلحته راجحة للعبد لستعانته به على طاعته ولحسن نيته‪ .‬فهذا‬
‫ضا محبوًبا راجح الوجود بهذا العتبار‪ ،‬وإما أن يكون مفوًتا للعبد ما هو أفضل له كالمباح الذي يشغله عن‬
‫يصير أي ً‬
‫مستحب‪ ،‬فهذا عدمه خير له‪.‬‬

‫ل بالنوافل بعد الفرائض ل يكون المباح المعين في حقه مستوى الطرفين‪ ،‬فإنه إذا لم يستعن به‬ ‫والسالك المتقرب إلى ا ّ‬
‫على طاعته كان تركه‪ ،‬وفعل الطاعة مكانه خيًرا له‪ ،‬وإنما قدر وجوده وعدمه سواء إذا كان مع عدمه يشتغل بمباح‬
‫ل بالفرائض‪ ،‬كأداء الواجبات‪،‬‬ ‫مثله‪ .‬فيقال‪ :‬ل فرق بين هذا وهذا‪ ،‬فهذا يصلح للبرار أهل اليمين الذين يتقربون إلى ا ّ‬
‫وترك المحرمات‪ ،‬ويشتغلون مع ذلك بمباحات‪ .‬فهؤلء قد يكون المباح المعين يستوى وجوده وعدمه في حقهم‪ ،‬إذا‬
‫ل إن ‪ /‬لم تشتغل بفعل آخر يضاد الول؛ إذ ل‬ ‫كانوا عند عدمه يشتغلون بمباح آخر‪ ،‬ول سبيل إلى أن تترك النفس فع ً‬
‫تكون معطلة عن جميع الحركات والسكنات‪.‬‬

‫ومن هذا أنكر الكعبي‪ :‬المباح في الشريعة؛ لن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم‪ ،‬وترك المحرم واجب‪ ،‬ول يمكنه‬
‫تركه إل أن يشتغل بضده‪ ،‬وهذا المباح ضده‪ ،‬والمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إل‬
‫ضد واحد‪ ،‬وإل فهو أمر بأحد أضداده‪ ،‬فأي ضد تلبس به كان واجًبا من باب الواجب المخير‪.‬‬

‫وسؤال الكعبي هذا أشكل على كثير من النظار‪ .‬فمنهم من اعترف بالعجز عن جوابه‪ :‬كأبي الحسن المدي‪ ،‬وقواه‬
‫طائفة‪ ،‬بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده كأبي المعالي‪ .‬ومنهم من قال‪ :‬هذا فيما إذا كانت أضداده محصورة‪،‬‬
‫فأما ما ليست أضداده محصورة فل يكون النهي عنه أمًرا بأحدهما‪ ،‬كما يفرق بين الواجب المطلق والواجب المخير‪،‬‬
‫فيقال في المخير‪ :‬هو أمر بأحد الثلثة‪ ،‬ويقال في المطلق‪ :‬هو أمر بالقدر المشترك‪ ،‬وجدنا أبو البركات يميل إلى هذا‪.‬‬
‫وقد ألزموا الكعبي إذا ترك الحرام بحرام آخر‪ ،‬وهو قد يقول‪ :‬عليه ترك المحرمات كلها إلى ما ليس بمحرم‪ ،‬بل إما‬
‫مباح وإما مستحب‪ ،‬وإما واجب‪.‬‬

‫‪/‬وتحقيق المر أن قولنا‪ :‬المر بالشىء نهى عن ضده وأضداده‪ ،‬والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده‪ ،‬من جنس‬
‫قولنا‪ :‬المر بالشىء أمر بلوازمه‪ ،‬وما ل يتم الواجب إل به‪ ،‬فهو واجب‪ ،‬والنهي عن الشىء نهي عما ل يتم اجتنابه‬
‫إل به‪ .‬فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده‪ ،‬بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء‬
‫أضداده‪ ،‬وعدم النهي عنه؛ بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته‪ ،‬وإذا كان ل يعدم إلبضد يخلقه كالكوان فل بد‬
‫عند عدمه من وجود بعض أضداده‪ ،‬فهذا حق في نفسه؛ لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وإن لم يكن‬
‫مقصوده المر‪ .‬والفرق ثابت بين مايؤمر به قصًدا‪ ،‬وما يلزمه في الوجود‪.‬‬

‫فالول‪ :‬هو الذي يذم ويعاقب على تركه بخلف الثاني‪ ،‬فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيًدا فعليه أن‬
‫يسعى من المكان البعيد‪ ،‬والقريب يسعى من المكان القريب‪ ،‬فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به‪ ،‬ومع هذا فإذا‬
‫ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب‪ ،‬بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد‬
‫أعظم‪ ،‬فلو كانت اللوازم مقصودة للمر لكان يعاقب بتركها‪ ،‬فكان يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطًعا‪.‬‬

‫وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لبد من ترك أضداده‪ ،‬لكن ‪ /‬ترك الضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصوًدا‬
‫للمر‪ ،‬بحيث أنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه ل على فعل الضداد التي اشتغل بها‪ ،‬وكذلك المنهي عنه‬
‫سا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك‪.‬‬ ‫مقصود الناهي عدمه؛ ليس مقصوده فعل شيء من أضداده‪ ،‬وإذا تركه متلب ً‬

‫وعلى هذا إذا ترك حراًما بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني‪ ،‬ول يقال‪ :‬فعل واجًبا وهو ترك الول؛ لن المقصود‬
‫عدم الول‪ ،‬فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ول بامتثاله أمًرا مقصوًدا؛ لكن نهى عن الحرام ومن‬
‫ضرورة ترك المنهي عنه الشتغال بضد من أضداده‪ ،‬فذاك يقع لزًما لترك المنهي عنه‪ ،‬فليس هو الواجب المحدود‬
‫بقولنا‪ :‬الواجب ما يذم تاركه‪ ،‬ويعاقب تاركه‪ ،‬أو يكون تركه سبًبا للذم والعقاب‪.‬‬

‫فقولنا‪ :‬ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب‪ ،‬أو ]يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب[‪ .‬يتضمن إيجاب اللوازم‪،‬‬
‫عا‪ ،‬أي ل يحصل إل به‪،‬‬‫والفرق ثابت بين الواجب الول‪ ،‬والثاني‪ .‬فإن الول يذم تاركه ويعاقب‪ ،‬والثاني واجب وقو ً‬
‫ويؤمر به أمًرا بالوسائل‪ ،‬ويثاب عليه‪ ،‬لكن العقوبة ليست على تركه‪.‬‬

‫‪/‬ومن هذا الباب إذا اشتبهت الميتة بالمذكي‪ ،‬فإن المحرم الذي يعاقب على فعله أحدهما‪ ،‬بحيث إذا أكلهما جميًعا لم‬
‫يعاقب عقوبة من أكل ميتتين‪ ،‬بل عقوبة من أكل ميتة واحدة‪ ،‬والخرى وجب تركها وجوب الوسائل‪ .‬فقول من قال‪:‬‬
‫ضا بذلك العتبار وهذا‬ ‫كلهما محرم صحيح بهذا العتبار؛ وقول من قال‪ :‬المحرم في نفس المر أحدهما صحيح أي ً‬
‫نظير قول من قال‪ :‬يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب‪.‬‬

‫وإنكار أبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي على من قال هذا‪ ،‬ومن قال‪ :‬المحرم أحدهما ل يناسب طريقة الفقهاء‪،‬‬
‫وحاصله يرجع إلى نزاع لفظي‪ .‬فإن الوجوب والحرمة الثابتة لحدهما ليست ثابتة للخر‪ ،‬بل نوع آخر‪ ،‬حتى لو‬
‫اشتبهت مملوكته بأجنبية بالليل ووطئها يعتقد حل وطء إحداهما وتحريم وطء الخرى‪ ،‬كان ولده من مملوكته ثابًتا‬
‫ل‪ ،‬ثم تزوج الخرى لم يحد حدين‪ ،‬مع‬ ‫نسبه بخلف الخرى‪ ،‬ولو قدرنا أنها اشتبهت بأجنبية وتزوج إحداهما فحد مث ً‬
‫أنه لحد في ذلك لجواز أن تكون المنكوحة هي الجنبية‪.‬‬

‫وبهذا تنحل شبهة الكعبي‪ .‬فإن المحرم تركه مقصود‪ ،‬وأما الشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة؛ فإذا قيل المباح‬
‫واجب بمعنى وجوب الوسائل‪ ،‬أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق‪.‬‬

‫‪/‬ثم إن هذا يعتبر فيه القصد‪ ،‬فإن كان النسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى‬
‫ل ليشتغل به عن الطعام الحرام‪ ،‬فهذا يثاب‬
‫امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الجنبية ووطئها‪ ،‬أو يأكل طعاًما حل ً‬
‫ل‪،‬‬
‫على هذه النية والفعل؛ كما بين ذلك النبي صلى ال عليه وسلم بقوله‪) :‬وفي بضع أحدكم صدقة(‪ .‬قالوا‪ :‬يارسول ا ّ‬
‫أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال‪) :‬أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان عليه وزر‪ ،‬فلم تحتسبون بالحرام ول‬
‫ل يحب أن يؤخذ برخصه‪ ،‬كما يكره أن تؤتي معصيته(‬
‫تحتسبون بالحلل؟!(‪ ،‬ومنه قوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن ا ّ‬
‫رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه‪.‬‬

‫وقد يقال‪ :‬المباح يصير واجًبا بهذا العتبار‪ ،‬وإن تعين طريًقا صار واجًبا معيًنا‪ ،‬وإل كان واجبا مخيًرا‪ ،‬لكن مع هذا‬
‫ل‪ ،‬إل وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم ل يشترط فيه‬ ‫القصد‪ ،‬أما مع الذهول عن ذلك فل يكون واجًبا أص ً‬
‫القصد‪ .‬فكذلك ما يتوسل به إليه‪ ،‬فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وأنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم‬
‫يمنع ذلك‪ .‬فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري‪ .‬وإل فالمعاني الصحيحة ل ينازع فيها من فهمها‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن البرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح ‪ /‬عن مباح آخر‪ ،‬فيكون كل من المباحين يستوى‬
‫وجوده وعدمه في حقهم‪ .‬أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وحينئذ فمباحاتهم طاعات‪ ،‬وإذا كان كذلك لم تكن الفعال في حقهم إل ما يترجح وجوده‪،‬‬ ‫والستعانة على طاعة ا ّ‬
‫عا أمر استحباب‪ ،‬أو ما يترجح عدمه فالفضل لهم أن ل يفعلوه‪ ،‬وإن لم يكن فيه إثم‪ .‬والشريعة قد‬‫فيؤمرون به شر ً‬
‫بينت أحكام الفعال كلها فهذا سؤال‪.‬‬

‫وسؤال ثان‪ :‬وهو أنه إذا قدر أن من الفعال ماليس فيه أمر ول نهي‪ ،‬كما في حق البرار‪ ،‬فهذا الفعل ل يحمد ول‬
‫يذم‪ ،‬ول يحب ول يبغض‪ ،‬ول ينظر فيه إل وجود القدر وعدمه‪ ،‬بل إن فعلوه لم يحمدوا‪ ،‬وإن لم يفعلوه لم يحمدوا‪،‬‬
‫فل يجعل مما يحمدون عليه أنهم يكونون في هذا الفعل كالميت بين يدي الغاسل‪ ،‬مع كون هذا الفعل صدر باختيارهم‬
‫وإرادتهم‪ .‬إذ الكلم في ذلك‪.‬‬

‫وأما غيرالفعال الختيارية‪ ،‬وهو ما فعل بالنسان كما يحمل النسان وهو ل يستطيع المتناع‪ ،‬فهذا خارج عن‬
‫التكليف‪ ،‬مع أن العبد مأمور في مثل هذا أن يحبه إن كان حسنة‪ ،‬ويبغضه إن كان سيئة‪ ،‬ويخلو عنهما إن لم يكن‬
‫حسنة ول سيئة‪ ،‬فمن جعل النسان فيما يستعمله فيه القدر من الفعال الختيارية كالميت بين ‪ /‬يدي الغاسل فقد رفع‬
‫المر والنهي عنه في الفعال الختيارية وهذا باطل‪.‬‬

‫وسؤال ثالث‪ :‬وهو أن حقيقة هذا القول طي بساط المر والنهي عن العبد في هذه الحوال‪ ،‬مع كون أفعاله اختيارية‪،‬‬
‫ل ورسوله‪،‬‬ ‫وهب أنه ليس له هوى‪ ،‬فليس كل مال هوى فيه يسقط عنه فيه المر والنهي‪ ،‬بل عليه أن يحب ما أحبه ا ّ‬
‫ل ورسوله‪.‬‬
‫ويبغض ما أبغضه ا ّ‬

‫قيل‪ :‬هذه السولة أسئلة صحيحة‪.‬‬

‫عا أو‬
‫وفصل الخطاب‪ :‬أن السالك قد يخفي عليه المر والنهي‪ ،‬بحيث ل يدري هل ذلك الفعل مأمور به شر ً‬
‫عا؛ فيبقى هواه لئل يكون له هوى فيه‪ ،‬ثم يسلم فيه للقدر‪ ،‬وهو فعل الرب لعدم معرفته برضا الرب‬
‫منهي عنه شر ً‬
‫وأمره وحبه في ذلك الفعل‪.‬‬

‫ل الشرعي‬ ‫وهذا يعرض لكثير من أئمة العباد‪ ،‬وأئمة العلماء‪ ،‬فإنه قد يكون عندهم أفعال وأقوال ل يعرفون حكم ا ّ‬
‫فيها‪ ،‬بل قد تعارضت عندهم فيها الدلة أو خفيت الدلة بالكلية‪ ،‬فيكونون معذورين لخفاء الشرع عليهم‪ ،‬وحكم الشرع‬
‫إنما يثبت في حق العبد إذا تمكن من ‪ /‬معرفته‪ ،‬وأما ما لم يبلغه ولم يتمكن من معرفته فل يطالب به‪ ،‬وإنما عليه أن‬
‫ل ما استطاع‪ .‬وهذا خطأ في العلم‪ ،‬وليس خطأ في العمل‪ ،‬وهو كالمجتهد المخطئ له أجر على قصده‬ ‫يتقي ا ّ‬
‫واجتهاده‪ ،‬وخطؤه مرفوع عنه‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬فإذا كان المر هكذا‪ .‬فالواجب على العبد أن يتوقف في مثل هذه الحال إذا لم يتبين له أن ذلك الفعل مأمور به‬
‫ل لما يستعمل فيه من‬
‫أو منهي عنه‪ ،‬وهو ل يريد أن يفعل شيًئا ل مدح فيه ول ذم‪ ،‬فيقف ل يستسلم للقدر ويصير مح ً‬
‫ل‪ ،‬فهو ل يمدحه ول يذمه‪ ،‬ول يرضاه ول يسخطه؛إذا لم يتبين له حكمه‪.‬‬ ‫الفعال‪ ،‬الّلهم إل إذا فعل غيره فع ً‬

‫فأما كونه هو من أفعاله الختيارية يصير مستسلًما لما يستعمله القدر فيه‪ :‬كالطفل مع الظئر‪ ،‬والميت مع الغاسل‪ ،‬فهذا‬
‫ل به ول رسوله‪ ،‬بل هذا محرم‪ ،‬وإن عفى عن صاحبه وحسب صاحبه أن يعفي عنه؛ لجتهاده وحسن‬ ‫مما لم يأمر ا ّ‬
‫غا‬
‫قصده‪ ،‬أما كونه يحمد على ذلك‪ ،‬ويجعل هذا أفضل المقامات فليس المر كذلك‪ ،‬وكونه مجرًدا عن هواه ليس مسو ً‬
‫له أن يستسلم لكل مايفعل به‪.‬‬

‫ثم يقال‪ :‬المور مع هذا نوعان‪:‬‬

‫‪/‬أحدهما‪ :‬أن يفعل به بغير اختياره كما يحمل النسان ول يمكنه المتناع‪ ،‬وكما تضجع المرأة قهًرا وتوطأ‪ ،‬فهذا ل إثم‬
‫ضا معفو عنه في الفعال عند الجمهور‪ ،‬وهو‬ ‫فيه باتفاق العلماء‪ ،‬وأما أن يكره بالكراه الشرعي حتى يفعل‪ ،‬فهذا أي ً‬
‫ل ِمْن َبْعِد ِإْكَراِهِهّن َغُفوٌر َرِحيٌم{ ]النور‪.[33 :‬‬
‫ن ا َّ‬
‫ن َفِإ ّ‬ ‫أصح الروايتين عن أحمد لقوله تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن ُيْكِرّه ّ‬

‫وأما إذا لم يكره الكراه الشرعي فاستسلمه للفعل المطلق الذي ل يعرف أخير هو أم شر؟ ليس هو مأموًرا به‪ ،‬وإن‬
‫ل ورسوله‪.‬‬
‫جرى على يده خرق عادة أو لم يجر‪ ،‬فليس هو مأموًرا أن يفعل إل ما هو خير عند ا ّ‬

‫قيل‪ :‬هذا السؤال صحيح‪ ،‬وحقيقة المر‪ :‬أن السالكين إذا وصلوا إلى هذا المقام فيحسن قصدهم وتسليمهم وخضوعهم‬
‫لربهم‪ ،‬وطلبهم منه أن يختار لهم ما هو الصلح‪ ،‬إذا استعملوا في أمورهم ل يعرفون حكمه في الشرع رجوا أن‬
‫يكون خيًرا؛ لن معرفتهم بحكمه قد تعذرت عليهم‪ ،‬والنسان غير عالم في كل حال بما هو الصلح له في دينه‪ ،‬وبما‬
‫ل فيما لم يعلم عاقبته‪ ،‬إذا قال‪) :‬اللهم‪ ،‬إني أستخيرك بعلمك‬
‫ل ورسوله‪ ،‬فيبقى حالهم حال المستخير ّ‬
‫هو أرضى ّ‬
‫وأستقدرك بقدرتك‪ ،‬وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ول أقدر؛ وتعلم ول أعلم؛ وأنت علم الغيوب‪ ،‬الّلهم‪ ،‬إن‬
‫كنت تعلم أن هذا المر خير لي في ديني ‪ /‬ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي‪ ،‬ثم بارك لي فيه‪ .‬وإن كنت‬
‫تعلم أن هذا المر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم‬
‫ارضني به(‪.‬‬

‫ل له‪ .‬إذ لم يكن معه دليل شرعي على‬ ‫ل كان ما شرح له صدره وتيسر له من المور هو الذي اختاره ا ّ‬‫فإذا استخار ا ّ‬
‫أن عين هذا الفعل هو مأمور به في هذه الحال‪ ،‬فإن الدلة الشرعية إنما تأمر بأمر مطلق عام‪ ،‬ل بعين كل فعل من‬
‫كل فاعل‪ ،‬إذ كان هذا ممتنًعا؛ وإن كان ذلك المعين يمكن إدراجه تحت بعض خطاب الشارع العام؛ إذا كانت الفراد‬
‫المعينة داخلة تحت المر العام الكلي؛ لكن ل يقدر كل أحد على استحضار هذا‪ ،‬ول على استحضار أنواع الخطاب ‪.‬‬

‫ولهذا كان الفقهاء يعدلون إلى القياس عند خفاء ذلك عليهم‪.‬‬

‫ضا ـ قد ل يحصل في كل واقعة‪ ،‬فقد يخفى على الئمة المجتهدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‬
‫ثم القياس ـ أي ً‬
‫دخول الواقعة المعينة تحت خطاب عام‪ ،‬أو اعتبارها بنظير لها‪ ،‬فل يعرف لها أصل‪ ،‬ول نظير‪ .‬هذا مع كثرة نظرهم‬
‫في خطاب الشارع ومعرفة معانيه‪ ،‬ودللته على الحكام‪ .‬فكيف من لم يكن كذلك؟!‬

‫‪/‬ثم السالك ليس قصده معرفة الحلل والحرام؛ بل مقصوده أن هذا الفعل المعين خير من هذا‪ ،‬وهذا خير من هذا‪،‬‬
‫ل ولكل سالك حال تخصه قد يؤمر فيها‬‫ل في حقه في تلك الحال‪ ،‬وهذا باب واسع ل يحيط به إل ا ّ‬
‫وأيهما أحب إلى ا ّ‬
‫بما ينهي عنه غيره‪ ،‬ويؤمر في حال بما ينهي عنه في أخرى‪.‬‬

‫فقالوا‪ :‬نحن نفعل الخير بحسب المكان‪ ،‬وهو فعل ما علمنا أنا أمرنا به‪ ،‬ونترك أصل الشر وهو هوى النفس‪ ،‬ونلجأ‬
‫ل فيما سوى ذلك أن يوفقنا لما هو أحب إليه وأرضى له؛ فما استعملنا فيه رجونا أن يكون من هذا الباب؛ ثم إن‬
‫إلى ا ّ‬
‫أصبنا فلنا أجران‪ ،‬وإل فلنا أجر‪ ،‬وخطؤنا محطوط عنا فهذا هذا‪.‬‬

‫وحينئذ‪ ،‬فمن قدر أنه علم المشروع وفعله فهو أفضل من هذا؛ ولكن كثير ممن يعلم المشروع ل يفعله ول يقصد أحب‬
‫ل وكثير منهم يفعله بشوب من الهوى‪ ،‬فيبقى هذا فعل المشروع بهوى وهذا ترك مالم يعلم أنه مشروع‬
‫المور إلى ا ّ‬
‫بل هوى‪ .‬فهذا نقص في العلم‪ ،‬وذاك نقص في العمل؛ إذ العمل بهوى النفس نقص في العمل‪ ،‬ولو كان المفعول‬
‫واجًبا‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬إن تاب صاحب الهوي من هواه كان أرفع بعلمه‪ ،‬وإن ‪ /‬لم يتب فله نصيب من عالم السوء؛ ولهذا تشاجر‬
‫رجلن من المتقدمين عام الحكمين في مثل هذا‪ .‬فقال أحدهما لصاحبه‪ :‬إنما مثلك مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو‬
‫تتركه يلهث‪ .‬وقال الخر‪ :‬أنت كالحمار يحمل أسفاًرا؛ فهذا أحسن قصًدا وأقوى علًما‪.‬‬

‫ولهذا تجد أصحاب حسن القصد إنما يعيبون على هؤلء اتباع الهوي وحب الدنيا والرئاسة‪ ،‬وأهل العلم يعيبون على‬
‫أولئك نقص علمهم بالشرع‪ ،‬وعدولهم عن المر والنهي فهذا هذا‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ المسؤول أن يهدينا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء‬
‫وا ّ‬
‫والصالحين وحسن أولئك رفيًقا‪.‬‬

‫وقد قال بعض أهل الفقه والزهد‪ :‬من الناس من سلك الشريعة‪ ،‬ومنهم من سلك الحقيقة‪ .‬ولعله أراد هؤلء وهؤلء؛‬
‫ل مع حسن القصد واتباع المر والنهي المعلوم لهم مع خفاء الدلة الشرعية في ذلك‬
‫فإن هؤلء يرجحون بما ييسره ا ّ‬
‫المتيسر لهم‪ ،‬وهؤلء يرجحون بالدلة الشرعية من الظواهر والقيسة‪ ،‬وأخبار الحاد وأقوال العلماء مع خفاء المر‬
‫المتيسر لهم‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فهؤلء قد يشهدون مافي ذلك الفعل المقدر من ‪ /‬المصلحة والخير‪ ،‬فيرجحونه بحكم اليمان وإن لم يعرفوا‬
‫وأي ً‬
‫ل من النص على حسنه‪ ،‬وأولئك إنما يرجحون من النصوص‪ ،‬وما استنبط منها‪ ،‬فهؤلء لهم القرآن‪ ،‬وهؤلء لهم‬ ‫دلي ً‬
‫اليمان‪ ،‬وسبب هذا أن كل من الطائفتين خفي عليه ما مع الخرى من الحق‪ ،‬وكل من الطائفتين في طريقها حق‬
‫وباطل‪.‬‬

‫فأما المدعون للحقيقة بدون مراعاة المر والنهي الشرعيين‪ ،‬فهم ضالون‪ ،‬كالذين يعرفون المر والنهي ول يفعلون‬
‫إل ما يهوونه من الكبائر‪ ،‬فإنهم فساق‪ .‬وهؤلء الذين قيل فيهم‪ :‬احذروا فتنة العالم الفاجر‪ ،‬والعابد الجاهل فإن فتنتهما‬
‫فتنة لكل مفتون‪ .‬والحقيقة قد تكون قدرية وقد تكون ذوقية‪ ،‬وقد تكون شرعية ولفظ الشرع يتناول المنزل‪ ،‬و المؤول‬
‫والمبدل‪.‬‬

‫والمقصود هنا ذكر أهل الستقامة من الطائفتين والكلم على حال أهل العبادة والرادة‪ ،‬الذين خرجوا عن الهوي‬
‫وهو الفرق الطبعي‪ ،‬وقاموا بما علموه من الفرق الشرعي‪.‬‬

‫وبقى قسم ثالث‪ ،‬ليس لهم فيه فرق طبعي ول عندهم فيه فرق شرعي‪ ،‬فهو الذي جروا فيه مع الفعل والقدر‪.‬‬

‫جا بالقدر أو بذوقه ووجده‬


‫وأما من جري مع الفرق الطبعي‪ ،‬إما عالًما بأنه عاص وهو العالم ‪ /‬الفاجر‪ ،‬أو محت ً‬
‫ضا عن الكتاب والسنة‪ ،‬وهو العابد الجاهل فهذا خارج عن الصراط المستقيم‪.‬‬ ‫معر ً‬

‫ل عنهم ـ وأنهم خير قرون هذه المة‪ ،‬إذ كانوا في خلفة النبوة يقومون‬
‫وهذا مما بين حال كمال الصحابة ـ رضي ا ّ‬
‫بالفروق الشرعية في جليل المور ودقيقها مع اتساع المر‪ ،‬والواحد من المتأخرين قد يعجز عن معرفة الفروق‬
‫الشرعية فيما يخصه‪ ،‬كما أن الواحد من هؤلء يتبع هواه في أمر قليل‪ .‬فأولئك مع عظيم ما دخلوا فيه من المر‬
‫والنهي لهم العلم الذي يميزون به بين الحسنات والسيئات‪ ،‬ولهم القصد الحسن الذي يفعلون به الحسنات‪ ،‬والكثير من‬
‫المتأخرين العالمين والعابدين يفوت أحدهم العلم في كثير من الحسنات والسيئات حتى يظن السيئة حسنة وبالعكس‪ ،‬أو‬
‫يفوته القصد في كثير من العمال‪ ،‬حتي يتبع هواه فيما وضح له من المر والنهي‪.‬‬

‫ل أن يهدينا الصراط المستقيم‪ ،‬صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪.‬‬
‫فنسأل ا ّ‬

‫هذا لعمري إذا كان عند العالم ما هو أمر الشارع ونهيه حقيقة‪ ،‬وعند العابد حسن القصد الخالي عن الهوي حقيقة‪،‬‬
‫فأما من خلط الشرع المنزل بالمبدل والمؤول‪ ،‬وخلط القصد الحسن باتباع الهوى‪ ،‬فهؤلء ‪ /‬وهؤلء مخلطون في‬
‫علمهم وعملهم‪ ،‬وتخليط هؤلء في العلم سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في القصد‪ ،‬وتخليط هؤلء في القصد سوى‬
‫تخليطهم وتخليط غيرهم في العلم‪.‬‬
‫ل علم ما لم يعلم‪ .‬وحسن القصد‪ :‬من أعون الشياء على نيل العلم ودركه‪ .‬والعلم‬ ‫فإنه من عمل بما علم ورثه ا ّ‬
‫الشرعي‪ :‬من أعون الشياء على حسن القصد والعمل الصالح‪ ،‬فإن العلم قائد والعمل سائق والنفس حرون‪ ،‬فإن ونى‬
‫قائدها لم تستقم لسائقها‪ ،‬وإن ونى سائقها لم تستقم لقائدها‪ ،‬فإذا ضعف العلم حار السالك ولم يدر أين يسلك‪ ،‬فغايته أن‬
‫يستطرح للقدر‪ ،‬وإذا ترك العمل حار السالك عن الطريق فسلك غيره مع علمه أنه تركه‪ ،‬فهذا حائر ل يدري أين‬
‫يسلك مع كثرة سيره وهذا حائر عن الطريق زائغ عنه مع علمه به‪.‬‬

‫ظُلوًما‬
‫ن َ‬
‫ن ِإّنُه َكا َ‬
‫سا ُ‬
‫لْن َ‬ ‫ل ُقُلوَبُهْم{ ]الصف‪ .[5 :‬هذا جاهل وهذا ظالم‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫حَمَلَها ا ِْ‬ ‫غ ا ُّ‬‫غوا َأَزا َ‬‫قال تعالى‪َ} :‬فَلّما َزا ُ‬
‫َجُهوًل{ ]الحزاب‪ .[72 :‬مع أن الجهل والظلم متقاربان لكن الجاهل ل يدري أنه ظالم والظالم جهل الحقيقة المانعة له‬
‫ب{ ]النساء‪.[17 :‬‬ ‫ن َقِري ٍ‬
‫ن ِم ْ‬
‫جَهاَلٍة ُثّم َيُتوُبو َ‬
‫سوَء ِب َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن َيْعَمُلو َ‬
‫ل ِلّلِذي َ‬ ‫من العلم‪ .‬قال تعالى‪ِ} :‬إّنَما الّتْوَبُة َ‬
‫عَلى ا ِّ‬

‫ل ‪ /‬فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من‬


‫قال أبو العالية‪ :‬سألت أصحاب محمد فقالوا‪ :‬كل من عصى ا ّ‬
‫قريب‪.‬‬

‫ل ليس عالًما‬
‫ل‪ ،‬وعالم بأمر ا ّ‬
‫ل ليس عالًما بأمر ا ّ‬
‫وقد روى الخلل عن أبي حيان التيمي قال‪ :‬العلماء ثلثة‪ :‬فعالم با ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ل وبأمر ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وعالم با ّ‬
‫با ّ‬

‫ل الذي يعرف أمره ونهيه‪.‬‬


‫ل الذي يخشاه‪ ،‬والعالم بأمر ا ّ‬
‫فالعالم با ّ‬

‫ي اْلَمْأَوى{‬
‫جّنَة ِه َ‬
‫ن اْل َ‬
‫ن اْلَهَوى ‪َ .‬فِإ ّ‬
‫عْ‬
‫س َ‬
‫ف َمَقاَم َرّبِه َوَنَهى الّنْف َ‬
‫خا َ‬ ‫قلت‪ :‬والخشية تمنع اتباع الهوى قال تعالى‪َ} :‬وَأّما َم ْ‬
‫ن َ‬
‫]النازعات‪.[41 ،40 :‬‬

‫ضّ‬
‫ل‬ ‫والكمال في عدم الهوى وفي العلم هو لخاتم الرسل صلى ال عليه وسلم الذي قال فيه‪َ} :‬والّن ْ‬
‫جِم ِإَذا َهَوى ‪َ .‬ما َ‬
‫ي ُيوَحى{ ]النجم‪ ،[1-4 :‬فنفى عنه الضلل والغي ووصفه بأنه ل‬ ‫حٌ‬
‫ل َو ْ‬
‫ن ُهَو ِإ ّ‬
‫ن اْلَهَوى ‪ِ .‬إ ْ‬
‫عْ‬‫ق َ‬
‫طُ‬‫غَوى ‪َ .‬وَما َيْن ِ‬
‫حُبُكْم َوَما َ‬
‫صا ِ‬
‫َ‬
‫ينطق عن الهوى إن هو إل وحي يوحى‪ ،‬فنفى الهوى وأثبت العلم الكامل وهو الوحي‪ ،‬فهذا كمال العلم وذاك كمال‬
‫القصد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫س َوَلَقْد َجاَءُهْم ِمْن َرّبِهْم اْلُهَدى{ ]النجم‪،[23 :‬‬ ‫لْنُف ُ‬


‫ن َوَما َتْهَوى ا َْ‬ ‫ظّ‬‫ل ال ّ‬‫ن ِإ ّ‬ ‫ن َيّتِبُعو َ‬ ‫ووصف أعداءه بضد هذين‪ ،‬فقال تعالى‪ِ} :‬إ ْ‬
‫ن{‬
‫ل ِلَيْعُبُدو ِ‬
‫س ِإ ّ‬
‫لن َ‬
‫ن َوا ِْ‬
‫جّ‬‫ت اْل ِ‬ ‫ل علًما وقصًدا‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬ ‫فالكمال المطلق للنسان هو تكميل العبودية ّ‬
‫ل َفِبِعّزِت َ‬
‫ك‬ ‫عوُه{ ]الجن‪ ،[19 :‬وقال تعالى فيما حكاه عن إبليس‪َ} :‬قا َ‬ ‫ل َيْد ُ‬
‫عْبُد ا ِّ‬ ‫]الذاريات‪ ،[56 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَأّنُه َلّما َقاَم َ‬
‫طاٌن{ ]الحجر‪:‬‬ ‫سْل َ‬‫عَلْيِهْم ُ‬
‫ك َ‬
‫س َل َ‬‫عَباِدي َلْي َ‬
‫ن ِ‬‫ن{ ]ص‪ ،[83 ،82 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫صي َ‬ ‫خَل ِ‬ ‫ك ِمْنُهْم اْلُم ْ‬
‫عَباَد َ‬‫ل ِ‬
‫ن ‪ِ .‬إ ّ‬
‫جَمِعي َ‬‫غِوَيّنهُْم َأ ْ‬
‫لْ‬ ‫َُ‬
‫ن{ ]يوسف‪ ،[24 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إّنُه َلْي َ‬
‫س َلُه‬ ‫صي َ‬
‫عَباِدَنا اْلُمخَْل ِ‬
‫ن ِ‬‫شاَء ِإّنُه ِم ْ‬‫حَ‬ ‫سوَء َواْلَف ْ‬‫عْنُه ال ّ‬ ‫ف َ‬ ‫صِر َ‬ ‫ك ِلَن ْ‬‫‪ ،[42‬وقال تعالى‪َ} :‬كَذِل َ‬
‫طاُنُه َعَلى اّلِذيَن َيَتَوّلْوَنُه َواّلِذيَن ُهْم ِبِه ُمْشِرُكوَن{ ]النحل‪.[100 ،99 :‬‬ ‫سْل َ‬
‫ن ‪ِ .‬إّنَما ُ‬ ‫عَلى َرّبِهْم َيَتَوّكُلو َ‬ ‫ن آَمُنوا َو َ‬
‫عَلى اّلِذي َ‬‫ن َ‬ ‫طا ٌ‬ ‫سْل َ‬‫ُ‬

‫ل ورسوله باطًنا وظاهًرا‪ ،‬ومن كان‬ ‫وعبادته‪ :‬طاعة أمره‪ ،‬وأمره لنا ما بلغه الرسول عنه‪ ،‬فالكمال في كمال طاعة ا ّ‬
‫ل به فترك هواه واستسلم للقدر أو اجتهد في الطاعة فأخطأ فعل المأمور به إلى ما اعتقده مأموًرا‬‫لم يعرف ما أمر ا ّ‬
‫ل مثابون على ما أحسنوه من‬ ‫به‪ ،‬أو تعارضت عنده الدلة فتوقف عما هو طاعة في نفس المر‪ ،‬فهؤلء مطيعون ّ‬
‫ل‪ ،‬وما عجزوا عن علمه فأخطؤوه إلى غيره فمغفور لهم‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬واستفرغوه من وسعهم في طاعة ا ّ‬ ‫القصد ّ‬

‫وهذا من أسباب فتن تقع بين المة‪ ،‬فإن أقواًما يقولون ويفعلون أموًرا هم مجتهدون فيها‪ .‬وقد أخطؤوا فتبلغ أقواًما‬
‫ضا مجتهدون مخطئون‪ ،‬فيكون هذا مجتهًدا‬ ‫يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب‪ ،‬أو يظنون أنهم ل يعذرون بالخطأ‪ ،‬وهم أي ً‬
‫مخطًئا في فعله‪ ،‬وهذا مجتهًدا مخطًئا ‪ /‬في إنكاره‪ ،‬والكل مغفور لهم‪ .‬وقد يكون أحدهما مذنًبا‪ ،‬كما قد يكونان جميًعا‬
‫مذنبين‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وخير الهدى هدي محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وشر المور محدثاتها وكل بدعة ضللة‪.‬‬
‫وخير الكلم كلم ا ّ‬
‫والواحد من هؤلء قد يعطي طرًفا بالمر والنهي‪ ،‬فيولي ويعزل ويعطي ويمنع‪ ،‬فيظن الظان أن هذا كمال‪ ،‬وإنما‬
‫ل‪ ،‬وإل فهو من جنس الملك‪ ،‬وأفعال الملك‪ :‬إما ذنب‪ ،‬وإما عفو‪ ،‬وإما‬
‫يكون كمال إذا كان موافًقا للمر‪ ،‬فيكون طاعة ّ‬
‫طاعة‪.‬‬

‫فالخلفاء الراشدون أفعالهم طاعة وعبادة‪ ،‬وهم أتباع العبد الرسول وهي طريقة السابقين المقربين‪.‬‬

‫وأما طريقة الملوك العادلين‪ ،‬فإما طاعة وإما عفو‪ ،‬وهي طريقة النبياء الملوك؛ وطريقة البرار أصحاب اليمين‪.‬‬

‫وأما طريقة الملوك الظالمين‪ ،‬فتتضمن المعاصي‪ ،‬وهي طريقة الظالمين لنفسهم‪ .‬قال تعالى‪ُ} :‬ثّم َأْوَرْثَنا اْلِكَتا َ‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫ن‬
‫ضُل اْلَكِبيُر{ ]فاطر‪ [32 :‬فل‬ ‫ك ُهَو اْلَف ْ‬
‫ل َذِل َ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ت ِبِإذْ ِ‬
‫خْيَرا ِ‬
‫ق ِباْل َ‬
‫ساِب ٌ‬
‫صٌد َوِمْنُهْم َ‬
‫سِه َوِمْنُهْم ُمْقَت ِ‬
‫ظاِلٌم ِلَنْف ِ‬
‫عَباِدَنا َفِمْنُهْم َ‬
‫ن ِ‬
‫طَفْيَنا ِم ْ‬
‫صَ‬
‫ا ْ‬
‫يخرج الواحد من المؤمنين عن أن يكون ‪ /‬من أحد هذه الصناف‪ :‬إما ظالم لنفسه وإما مقتصد‪ ،‬وإما سابق بالخيرات‪.‬‬

‫وخوارق العادات‪ :‬إما مكاشفة وهي من جنس العلم الخارق‪ ،‬وإما تصرف وهي من جنس القدرة الخارقة‪ ،‬وأصحابها‬
‫ل يخرجون عن القسام الثلثة‪.‬‬

‫ل َتَعاَلى‪:‬‬
‫حَمه ا ّ‬
‫لم ـ َر ِ‬
‫ســ َ‬
‫لْ‬‫خا ِ‬
‫ل شي ُ‬
‫قا َ‬

‫صـــل‬
‫َف ْ‬

‫حدثني أبي عن محيى الدين بن النحاس؛ وأظني سمعتها منه أنه رأى الشيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخباًرا‬
‫عن الحق تعالى‪) :‬من جاءنا تلقيناه من البعيد‪ ،‬ومن تصرف بحولنا ألنا له الحديد‪ ،‬ومن اتبع مرادنا أردنا ما يريد‪،‬‬
‫ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد(‪.‬‬

‫قلت‪ :‬هذا من جهة الرب ـ تبارك وتعالى‪:‬‬

‫ل هي عبادته وحده كما قال تعالى‪) :‬من‬


‫فالولتان‪ :‬العبادة والستعانة‪ ،‬والخرتان‪ :‬الطاعة والمعصية‪ ،‬فالذهاب إلى ا ّ‬
‫عا‪ ،‬ومن أتاني يمشي أتيته هرولة(‪.‬‬
‫عا تقربت إليه با ً‬
‫ى ذرا ً‬
‫عا‪ ،‬ومن تقرب إل ّ‬
‫تقرب إلي شبًرا تقربت إليه ذرا ً‬

‫ل‪ .‬وفي الثر‪) :‬من سره أن يكون أقوى‬ ‫والتقرب بحوله هو الستعانة‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬فإنه ل حول ول ‪ /‬قوة إل با ّ‬
‫سُبُه{‬
‫حْ‬‫ل َفُهَو َ‬
‫عَلى ا ِّ‬
‫ل َ‬ ‫ل(‪ .‬وعن سعيد بن جبير‪) :‬التوكل جماع اليمان(‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َيَتَوّك ْ‬ ‫الناس فليتوكل على ا ّ‬
‫ب َلُكْم{ ]النفال‪ ،[9 :‬وهذا على أصح القولين في أن التوكل عليه ـ‬ ‫جا َ‬
‫سَت َ‬
‫ن َرّبُكْم َفا ْ‬ ‫]الطلق‪ ،[3 :‬وقال‪ِ} :‬إْذ َت ْ‬
‫سَتِغيُثو َ‬
‫ضا ـ سبب لجلب المنافع ودفع المضار‪ ،‬فإنه يفيد قوة العبد وتصريف الكون ولهذا‬ ‫بمنزلة الدعاء على أصح القولين أي ً‬
‫هو الغالب على ذوي الحوال متشرعهم وغير متشرعهم‪ ،‬وبه يتصرفون ويؤثرون تارة بما يوافق المر‪ ،‬وتارة بما‬
‫يخالفه‪.‬‬

‫ل ِبُكْم اْلُيْسَر َوَل ُيِريُد ِبُكْم اْلُعْسَر{ ]البقرة‪ ،[185 :‬وقوله‪:‬‬ ‫وقوله‪) :‬ومن اتبع مرادنا( يعني‪ :‬المراد الشرعي كقوله‪ُ} :‬يِريُد ا ُّ‬
‫عَلْيُكْم{‬
‫طّهَرُكْم َوِلُيِتّم ِنْعَمَتُه َ‬
‫ن ُيِريُد ِلُي َ‬
‫ج َوَلِك ْ‬‫حَر ٍ‬ ‫ن َ‬‫عَلْيكُْم ِم ْ‬
‫ل َ‬ ‫جَع َ‬ ‫عْنُكْم{ ]النساء‪ ،[28 :‬وقوله‪َ} :‬ما ُيِريُد ا ُّ‬
‫ل ِلَي ْ‬ ‫ف َ‬
‫خّف َ‬
‫ن ُي َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫}ُيِريُد ا ُّ‬
‫ل لطاعك(‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪:‬‬ ‫]المائدة‪ [6 :‬هذا هو طاعة أمره‪ ،‬وقد جاء في الحديث‪) :‬وأنت يا عمر لو أطعت ا ّ‬
‫ت َوَيِزيُدُهْم ِم ْ‬
‫ن‬ ‫حا ِ‬ ‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫ن آَمُنوا َو َ‬ ‫ب اّلِذي َ‬
‫جي ُ‬ ‫)ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه(‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ} :‬وَي ْ‬
‫سَت ِ‬
‫ضِلِه{ ]الشورى‪.[26 :‬‬ ‫َف ْ‬

‫ل‪ :‬رجاء‬
‫ل من المحرم والمكروه لجل ا ّ‬
‫وقوله‪) :‬ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد(‪ .‬يعني‪ :‬ترك ما كره ا ّ‬
‫ب{‬
‫سا ٍ‬
‫حَ‬
‫جَرُهْم ِبَغْيِر ِ‬
‫ن َأ ْ‬ ‫ومحبة وخشية أعطيناه فوق المزيد؛ لن هذا مقام الصبر‪ ،‬وقد قال تعالى‪ِ} :‬إّنَما ُيَوّفى ال ّ‬
‫صاِبُرو َ‬
‫]الزمر‪.[10 :‬‬

‫ل عن ]إحياء علوم الدين[ و ]قوت القلوب[‪ . ..‬إلخ‪.‬‬


‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫فأجــاب‪:‬‬
‫أما ]كتاب قوت القلوب[ و ]كتاب الحياء[ تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب‪ :‬مثل الصبر والشكر‪ ،‬والحب‬
‫والتوكل‪ ،‬والتوحيد ونحو ذلك‪ .‬وأبو طالب أعلم بالحديث والثر‪ ،‬وكلم أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم‪ ،‬من‬
‫أبي حامد الغزالي‪ ،‬وكلمه أسد وأجود تحقيًقا‪ ،‬وأبعد عن البدعة مع أن في ]قوت القلوب[ أحاديث ضعيفة‬
‫وموضوعة‪ ،‬وأشياء كثيرة مردودة‪.‬‬

‫وأما ما في ]الحياء[ من الكلم في ]المهلكات[ مثل الكلم على الكبر‪ ،‬والعجب والرياء‪ ،‬والحسد ونحو ذلك‪ ،‬فغالبه‬
‫منقول من كلم الحارث المحاسبي في الرعاية‪ ،‬ومنه ماهو مقبول ومنه ماهو مردود‪ ،‬ومنه ما هو متنازع فيه‪.‬‬

‫و]الحياء[ فيه فوائد كثيرة‪ ،‬لكن فيه مواد مذمومة‪ ،‬فإنه فيه مواد فاسدة من كلم الفلسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة‬
‫والمعاد‪ ،‬فإذا ‪ /‬ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدًوا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين‪.‬‬

‫وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه‪ .‬وقالوا‪ :‬مرضه ]الشفاء[ يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة‪.‬‬

‫وفيه أحاديث وآثار ضعيفة‪ ،‬بل موضوعة كثيرة‪.‬‬

‫وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم‪.‬‬

‫وفيه مع ذلك من كلم المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة‪ ،‬ومن غير ذلك‬
‫من العبادات والدب ما هو موافق للكتاب والسنة‪ ،‬ما هو أكثر مما يرد منه؛ فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا‬
‫فيه‪.‬‬

‫سـلم ـ قدس ال روحه‪:‬‬


‫خ الِ ْ‬
‫ل شْي ُ‬
‫‪َ/‬وَقا َ‬

‫صـــل‬
‫َف ْ‬

‫ل ودعائه كسائر العبادات‪ ،‬وبين‬‫قد دل الكتاب والسنة وآثار سلف المة على جنس المشروع المستحب في ذكر ا ّ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم مراتب الذكار‪ ،‬كقوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن سمرة بن جندب‪:‬‬
‫ل أكبر‪ ،‬ل يضرك بأيهن‬ ‫ل‪ ،‬وا ّ‬
‫ل‪ ،‬ول إله إل ا ّ‬
‫ل‪ ،‬والحمد ّ‬
‫)أفضل الكلم بعد القرآن أربع‪ ،‬وهن من القرآن‪ :‬سبحان ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ :‬أي الكلم أفضل ؟ قال‪) :‬ما اصطفى ا ّ‬
‫ل‬ ‫بدأت( وفي صحيحه عن أبي ذر قال‪ :‬سئل رسول ا ّ‬
‫ل وبحمده(‪.‬‬
‫لملئكته سبحان ا ّ‬

‫ل‪ ،‬وأفضل‬ ‫عا إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬أفضل الذكر ل إله إل ا ّ‬
‫وفي ]كتاب الذكر[ لبن أبي الدنيا وغيره مرفو ً‬
‫ل بن كريز عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬أفضل ما‬ ‫ل(‪ .‬وفي الموطأ وغيره حديث طلحة بن عبد ا ّ‬ ‫الدعاء الحمد ‪ّ /‬‬
‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير(‪ ،‬وفي السنن‬ ‫قلت أنا والنبيون من قبلي‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫ل‪ ،‬إني ل أستطيع أن آخذ من القرآن شيًئا‪ ،‬فعلمني ما يجزئني في صلتي فقال‪) :‬قل‪:‬‬ ‫حديث الذي قال‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ل أكبر(‪ .‬ولهذا قال الفقهاء‪ :‬إن من عجز عن القراءة في الصلة انتقل إلى هذه‬
‫ل وا ّ‬
‫ل‪ ،‬ول إله إل ا ّ‬
‫ل والحمد ّ‬‫سبحان ا ّ‬
‫الكلمات الباقيات الصالحات‪ .‬وفضائل هذه الكلمات ونحوها كثير ليس هذا موضعه‪.‬‬

‫وإنما الغرض من الذكر والدعاء ما ليس بمشروع الجنس أو هو منهي عنه أو عن صفته‪ .‬كما قال تعالى‪} :‬اْد ُ‬
‫عوا َرّبُكْم‬
‫لِ اَْلْسَماُء اْلُحْسَنى َفاْدُعوهُ ِبَها{ ]العراف‪[180 :‬‬
‫ن{ ]العراف‪ ،[55 :‬وقال تعالى‪َ} :‬و ّ‬
‫ب اْلُمْعَتِدي َ‬
‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬
‫خْفَيًة ِإّنُه َ‬
‫عا َو ُ‬
‫ضّر ً‬
‫َت َ‬
‫فل يدعي إل بأسمائه الحسنى‪.‬‬

‫ومن المنهي عنه‪ :‬ما كانوا يقولونه في الجاهلية في تلبيتهم‪ :‬لبيك ل شريك لك‪ ،‬إل شريًكا هو لك‪ ،‬تملكه وما ملك‪.‬‬
‫ل عليك‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬شأن‬ ‫ومثل قول بعض العراب للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنا نستشفع با ّ‬
‫ل ل يستشفع به على أحد من خلقه( ومثل ما كانوا يقولون في أول السلم‪ / :‬السلم على ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل أعظم من ذلك‪ ،‬إن ا ّ‬‫ا ّ‬
‫ل والصلوات‬ ‫ل هو السلم‪ ،‬فإذا قعد أحدكم فليقل‪ :‬التحيات ّ‬‫قبل عباده‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن ا ّ‬
‫والطيبات(‪.‬‬
‫ل هو ]السلم[‪ ،‬فالسلم يطلب منه ل يطلب له‪ .‬بل يثنى‬ ‫أشار بذلك إلى أن ]السلم[ إنما يطلب لمن يحتاج إليه‪ ،‬وا ّ‬
‫ل والصلوات والطيبات‪ .‬فالحق سبحانه يثنى عليه ويطلب منه‪ ،‬وأما المخلوق فيطلب له‪.‬‬ ‫عليه‪ ،‬فإنه له فيقال‪ :‬التحيات ّ‬
‫جّ‬
‫ن‬ ‫ت اْل ِ‬ ‫ل الصالحين‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬ ‫ل وبركاته‪ ،‬السلم علينا وعلى عباد ا ّ‬ ‫فيقال‪ :‬السلم عليك أيها النبي ورحمة ا ّ‬
‫طِعُموِن{ ]الذاريات‪ ،[57 ،56 :‬والرزق يعم كل ما ينتفع به‬ ‫ن ُي ْ‬
‫ق َوَما ُأِريُد َأ ْ‬‫ن ِرْز ٍ‬
‫ن ‪َ .‬ما ُأِريُد ِمْنُهْم ِم ْ‬
‫ل ِلَيْعُبُدو ِ‬
‫س ِإ ّ‬
‫لن َ‬
‫َوا ِْ‬
‫المرتزق؛ فالنسان يرزق الطعام والشراب واللباس‪ ،‬وما ينتفع بسمعه وبصره وشمه‪ ،‬ويرزق ما ينتفع به باطنه من‬
‫ل سبحانه ما يريد من الخلق من رزق‪ ،‬فإنهم لن يبلغوا‬ ‫علم وإيمان‪ ،‬وفرح وسرور‪ ،‬وقوة ونور‪ ،‬وتأييد وغير ذلك‪ ،‬وا ّ‬
‫حُ‬
‫ن‬ ‫ل َفِقيٌر َوَن ْ‬
‫ن ا َّ‬
‫ن َقاُلوا ِإ ّ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ل َقْو َ‬ ‫ضره فيضروه‪ ،‬ولن يبلغوا نفعه فينفعوه‪ ،‬بل هو الغني وهم الفقراء‪َ} .‬لَقْد َ‬
‫سِمَع ا ُّ‬
‫َأْغِنَياُء{ ]آل عمران‪ ،[181:‬وهو الحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد‪ ،‬ولم يكن له كفًوا أحد‪.‬‬

‫وكذلك الدعاء المكروه‪ ،‬مثل الدعاء ببغي أو قطيعة رحم أو دعاء منازل النبياء أو دعاء العرابي الذي قال‪ :‬اللهم ما‬
‫كنت معذبي به في ‪ /‬الخرة فعجله لي في الدنيا‪ ،‬ومثل قوله صلى ال عليه وسلم للمصابين بميت لما صاحوا‪) :‬ل‬
‫جاَلُهْم‬
‫سِتْع َ‬
‫شّر ا ْ‬
‫س ال ّ‬
‫ل ِللّنا ِ‬
‫ل ا ُّ‬
‫جُ‬‫تدعوا على أنفسكم إل بخير؛فإن الملئكة يؤمنون على ما تقولون( وقد قال تعالى‪َ} :‬وَلْو ُيَع ّ‬
‫ي ِإَلْيِهْم َأَجُلُهْم{ ]يونس‪ ،[11 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَيْدُع اِْلنَساُن ِبالّشّر ُدَعاَءهُ ِباْلَخْيِر َوَكاَن اِْلنَساُن َعُجوًل{ ]السراء‪:‬‬
‫ضَ‬‫خْيِر َلُق ِ‬
‫ِباْل َ‬
‫‪ ،[11‬وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استيعابه‪ .‬وإنما نبهنا على جنس المكروه‪.‬‬

‫ل أكبر[‪،‬‬ ‫ل[‪ ،‬ومثل‪] :‬ا ّ‬ ‫وإنما الغرض هنا أن الشرع لم يستحب من الذكر إل ما كان كلًما تاًما مفيًدا مثل‪] :‬ل إله إل ا ّ‬
‫ك{ ]الرحمن‪َ} ،[78 :‬تَباَر َ‬
‫ك اّلِذي‬ ‫سُم َرّب َ‬
‫كا ْ‬‫ل[‪ ،‬ومثل }َتَباَر َ‬
‫ل[‪ ،‬ومثل ]ل حول ول قوة إل با ّ‬ ‫ل والحمد ّ‬ ‫ومثل ]سبحان ا ّ‬
‫ك اّلِذي َنّزَل اْلُفْرَقاَن{ ]الفرقان‪.[1 :‬‬
‫ض{ ]الحديد‪َ} [1 :‬تَباَر َ‬
‫لْر ِ‬‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ل َما ِفي ال ّ‬
‫ح ِّ‬ ‫ك{ ]الملك‪َ } ،[1 :‬‬
‫سّب َ‬ ‫ِبَيِدِه اْلُمْل ُ‬

‫ل[ أو ]مضمًرا[ مثل‪] :‬هو‪ ،‬هو[‪ .‬فهذا ليس بمشروع في كتاب ول سنة‪ ،‬ول‬‫ل‪ ،‬ا ّ‬
‫فأما) السم المفرد( مظهًرا مثل‪] :‬ا ّ‬
‫ضا عن أحد من سلف المة‪ ،‬ول عن أعيان المة المقتدى بهم‪ ،‬وإنما لهج به قوم من ضلل المتأخرين‪.‬‬ ‫هو مأثور أي ً‬

‫ل[‪ .‬فقيل له‪ :‬لم ل تقول‪ :‬ل إله‬


‫ل‪ ،‬ا ّ‬
‫وربما اتبعوا فيه حال شيخ مغلوب فيه‪ ،‬مثلما يروي عن الشبلي أنه كان يقول‪] :‬ا ّ‬
‫ل؟ ‪/‬فقال‪ :‬أخاف أن أموت بين النفي والثبات‪ .‬وهذه من زلت الشبلي التي تغفر له لصدق إيمانه‪ ،‬وقوة وجده‪،‬‬ ‫إل ا ّ‬
‫وغلبة الحال عليه‪ ،‬فإنه كان ربما يجن ويذهب به إلى المارستان‪ ،‬و يحلق لحيته‪ .‬وله أشياء من هذا النمط التي ل‬
‫ل[ ومات قبل كمالها لم‬‫يجوز القتداء به فيها؛ وإن كان معذوًرا أو مأجوًرا‪ ،‬فإن العبد لو أراد أن يقول‪] :‬ل إله إل ا ّ‬
‫يضره ذلك شيًئا؛ إذ العمال بالنيات؛ بل يكتب له ما نواه‪.‬‬

‫وربما غل بعضهم في ذلك حتى يجعلوا ذكر السم المفرد للخاصة‪ ،‬وذكر الكلمة التامة للعامة‪ ،‬وربما قال بعضهم‪:‬‬
‫ل[ للعارفين‪ ،‬و]هو[ للمحققين‪ ،‬وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على‬ ‫ل[ للمؤمنين‪ ،‬و]ا ّ‬
‫]ل إله إل ا ّ‬
‫ل[‪ .‬أو على ]هو[ أو ]يا هو[ أو ]ل هو إل هو[‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ا ّ‬
‫]ا ّ‬

‫وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك‪ .‬واستدل عليه تارة بوجد‪ ،‬وتارة برأي‪ ،‬وتارة بنقل مكذوب‪ ،‬كما‬
‫ل[‪ .‬فقالها النبي صلى ال‬
‫ل‪ ،‬ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ا ّ‬
‫يروي بعضهم أن النبي صلى ال عليه وسلم لقن علّيا بن أبي طالب أن يقول‪] :‬ا ّ‬
‫عليه وسلم ثلًثا‪ .‬ثم أمر علًيا فقالها ثلثا‪ .‬وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث‪.‬‬

‫ل(‪ ،‬وهي الكلمة التي‬ ‫‪/‬وإنما كان تلقين النبي صلى ال عليه وسلم للذكر المأثور عنه‪ ،‬ورأس الذكر‪) :‬ل إله إل ا ّ‬
‫ل(‪ ،‬وقال‪) :‬إني‬ ‫ل‪ ،‬كلمة أحاج لك بها عند ا ّ‬‫عرضها على عمه أبي طالب حين الموت‪ .‬وقال‪) :‬ياعم‪ ،‬قل‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫ل دخل الجنة(‪،‬‬ ‫حا(‪ ،‬وقال‪) :‬من كان آخر كلمه ل إله إل ا ّ‬ ‫لعلم كلمة ل يقولها عبد عند الموت إل وجد روحه لها رو ً‬
‫ل‪،‬‬
‫ل دخل الجنة(‪ ،‬وقال‪) :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل ا ّ‬ ‫وقال‪) :‬من مات وهو يعلم أن ل إله إل ا ّ‬
‫ل( والحاديث كثيرة‬ ‫ل‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها‪ ،‬وحسابهم على ا ّ‬ ‫وأن محمًدا رسول ا ّ‬
‫في هذا المعنى‪.‬‬

‫وقد كتبت فيما تقدم من ]القواعد[ بعض ما يتعلق بهاتين ]الكلمتين[ العظيمتين الجامعتين الفارقتين‪ :‬شهادة أن ل إله‬
‫ل‪ ،‬وشهادة أن محمًدا عبده ورسوله صلى ال عليه وعلى آله وسلم تسليًما‪.‬‬ ‫إل ا ّ‬

‫فأما ذكر ]السم المفرد[ فلم يشرع بحال‪ ،‬وليس في الدلة الشرعية ما يدل على استحبابه‪.‬‬
‫ل ُثمّ َذْرُهْم{ ]النعام‪ ،[91 :‬ويتوهمون أن المراد‬ ‫وأما ما يتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ا ُّ‬
‫ق َقْدِرِه ِإْذ َقاُلوا‬
‫حّ‬ ‫قول هذا السم فخطأ واضح؛ ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الية‪ ،‬فإنه سبحانه قال‪َ} :‬وَما َقَدُروا ا َّ‬
‫ل َ‬
‫ن َكِثيًرا‬
‫خُفو َ‬
‫س ُتْبُدوَنَها َوُت ْ‬
‫طي َ‬
‫جَعُلوَنُه َقَرا ِ‬
‫س َت ْ‬
‫سى ُنوًرا َوُهًدى ِللّنا ِ‬
‫جاَء ِبِه ُمو َ‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫ل اْلِكَتا َ‬
‫ن َأنَز َ‬
‫ل َم ْ‬‫يٍء ُق ْ‬‫ش ْ‬
‫ن َ‬ ‫شٍر ِم ْ‬ ‫عَلى َب َ‬ ‫ل َ‬ ‫ل ا ُّ‬‫َما َأنَز َ‬
‫ل أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‪ .‬فهذا كلم تام‪،‬‬ ‫ل{ ]النعام‪ [91 :‬أي‪ :‬قل‪ :‬ا ّ‬ ‫ل ا ُّ‬
‫ل آَباُؤُكْم ُق ْ‬
‫عّلْمُتْم َما َلْم َتْعَلُموا َأْنُتْم َو َ‬
‫َو ُ‬
‫وجملة إسمية مركبة من مبتدأ وخبر‪ ،‬حذف الخبر منها لدللة السؤال على الجواب‪.‬‬

‫ل َأَفَرَأْيُتْم{‬
‫ل ُق ْ‬
‫ن ا ُّ‬‫ض َلَيُقوُل ّ‬
‫لْر َ‬ ‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬ ‫ق ال ّ‬‫خَل َ‬
‫ن َ‬‫سَأْلَتُهْم َم ْ‬
‫ن َ‬ ‫وهذا قياس مطرد في مثل هذا في كلم العرب كقوله‪َ} :‬وَلِئ ْ‬
‫ن َلُكْم َأ ْ‬
‫ن‬ ‫جٍة َما َكا َ‬ ‫ت َبْه َ‬
‫ق َذا َ‬ ‫حَداِئ َ‬
‫سَماِء َماًء َفَأْنَبْتَنا ِبِه َ‬‫ن ال ّ‬
‫ل َلُكْم ِم ْ‬ ‫ض َوَأنَز َ‬‫لْر َ‬‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ق ال ّ‬
‫خَل َ‬ ‫الية ]الزمر‪ ،[38 :‬وقوله‪َ} :‬أّم ْ‬
‫ن َ‬
‫ل{ ]النمل‪ ،[60 :‬وكذلك ما بعدها وقوله‪] :‬قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم‪.‬‬ ‫جَرَها َأِئَلٌه َمَع ا ِّ‬
‫شَ‬‫ُتْنِبُتوا َ‬
‫ل[ على قراءة أبي عمرو‪ ،‬وتقول في الكلم‪ :‬من جاء؟ فتقول‪ :‬زيد‪ .‬ومن أكرمت ؟ فتقول‪ :‬زيًدا‪ .‬وبمن‬ ‫سيقولون ا ّ‬
‫مررت؟ فتقول‪ :‬بزيد‪ .‬فيذكرون السم الذي هو جواب من‪ ،‬ويحذفون المتصل به‪ ،‬لنه قد ذكر في السؤال مرة‪،‬‬
‫فيكرهون تكريره من غير فائدة بيان‪ ،‬لما في ذلك من التطويل والتكرير‪.‬‬

‫ل{ ]آل عمران‪ [7 :‬قال‬ ‫‪/‬وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلء الغالطين في قوله‪َ} :‬وَما َيْعَلُم َتْأِويَلُه ِإ ّ‬
‫ل ا ُّ‬
‫المعنى‪ :‬وما يعلم تأويل )هو( أي اسم ]هو[ الذي يقال فيه‪] :‬هو‪ ،‬هو[‪ .‬وصنف ابن عربي كتاًبا في ]الهو[ فقلت له ـ‬
‫وأنا إذ ذاك صغير جًدا ـ‪ :‬لو كان كما تقول لكتبت في المصحف مفصولة)تأويل هو( ولم تكتب موصولة‪ ،‬وهذا الكلم‬
‫الذي قاله هذا معلوم الفساد بالضطرار‪ .‬وإنما كثير من غالطي المتصوفة لهم مثل هذه التأويلت الباطلة في الكتاب‬
‫والسنة‪.‬‬

‫حا‪ .‬فيقع‬
‫حا‪ ،‬لكن ل يدل عليه الكلم وليس هو مراد المتكلم‪ ،‬وقد ل يكون صحي ً‬ ‫وقد يكون المعنى الذي يعنونه صحي ً‬
‫الغلط تارة في الحكم‪ ،‬و تارة في الدليل كقول بعضهم‪َ} :‬أْن َرآُه اْسَتْغَنى{]العلق‪ [7 :‬أي‪ :‬إن رأى ربه استغنى‪ ،‬والمعني‬
‫أنه ليطغى أن رأى نفسه استغنى‪ ،‬وكقول بعضهم‪) :‬فإن لم تكن تراه(‪ :‬يعني فإن فنيت عنك رأيت ربك‪ .‬وليس هذا‬
‫معنى الحديث‪ ،‬فإنه لو أريد هذا لقيل‪ :‬فإن لم تكن تره‪ .‬وقد قيل‪] :‬تراه[ ثم كيف يصنع بجواب الشرط ؟ وهو قوله‪:‬‬
‫فإنه يراك؛ ثم إنه على قولهم الباطل تكون كان تامة‪ .‬فالتقدير‪ :‬فإن لم تكن‪ :‬أي لم تقع‪ ،‬ولم تحصل‪ .‬وهذا تقدير محال‬
‫فإن العبد كائن موجود ليس بمعدوم‪ .‬ولو أريد فناؤه عن هواه أو فناء شهوده للغيار لم يعبر بنفي كونه؛ فإن هذا‬
‫حا والدللة ليست مرادة فقد يسمى ذلك ]إشارة[‪.‬‬ ‫محال‪ .‬ومتى كان المعنى صحي ً‬

‫‪/‬وقد أودع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ]حقائق التفسير[ من هذا قطعة‪.‬‬

‫وليس المقصود الن الكلم في هذا فإنه باب آخر‪ ،‬وإنما الغرض بيان حكم ذكر السم وحده من غير كلم تام‪ ،‬وقد‬
‫ظهر بالدلة الشرعية أنه غير مستحب‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وقد‬
‫ل‪ ،‬ول علًما ول جه ً‬
‫وكذلك بالدلة العقلية الذوقية؛ فإن السم وحده ل يعطي إيماًنا ول كفًرا‪ ،‬ولهدى ول ضل ً‬
‫يذكر الذاكر اسم نبي من النبياء‪ ،‬أو فرعون من الفراعنة‪ ،‬أو صنم من الصنام‪ ،‬ول يتعلق بمجرد اسمه حكم إل أن‬
‫يقرن به ما يدل على نفي أو إثبات‪ ،‬أو حب أو بغض‪ ،‬وقد يذكر الموجود والمعدوم‪.‬‬

‫ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أن السم وحده ل يحسن السكوت عليه‪ ،‬ول هو جملة تامة‪ ،‬ول‬
‫ل‪ .‬قال‪ :‬فعل ماذا؟! فإنه لما نصب السم‬
‫كلًما مفيًدا ولهذا سمع بعض العرب مؤذنا يقول‪ :‬أشهد أن محمًدا رسول ا ّ‬
‫صار صفة‪ ،‬والصفة من تمام السم الموصوف‪ ،‬فطلب بصحة طبعه الخبر المفيد؛ ولكن المؤذن قصد الخبر ولحن‪.‬‬

‫ل ول جنته؛ فإن الكفار من جميع‬ ‫ل[ ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمًنا‪ ،‬ولم يستحق ثواب ا ّ‬ ‫‪/‬ولو كرر النسان اسم ]ا ّ‬
‫المم يذكرون السم مفرًدا‪ ،‬سواء أقروا به وبوحدانيته أم ل؛ حتى إنه لما أمرنا بذكر اسمه كقوله‪َ} :‬فُكُلوا ِمّما َأْم َ‬
‫سْك َ‬
‫ن‬
‫سَم‬
‫حا ْ‬ ‫عَلْيِه{ ]النعام‪ ،[121 :‬وقوله‪َ } :‬‬
‫سّب ْ‬ ‫ل َ‬‫سُم ا ِّ‬ ‫عَلْيِه{ ]المائدة‪ ،[4 :‬وقوله‪َ} :‬و َ‬
‫ل َتْأُكُلوا ِمّما َلْم ُيْذَكْر ا ْ‬ ‫ل َ‬
‫سَم ا ِّ‬
‫عَلْيُكْم َواْذُكُروا ا ْ‬
‫َ‬
‫ظيِم{ ]الواقعة‪ ،96 ،74 :‬الحاقة‪ [52 :‬ونحو ذلك‪ :‬كان ذكر‬ ‫ك اْلَع ِ‬‫سِم َرّب َ‬
‫ح ِبا ْ‬ ‫عَلى{ ] العلى‪ ،[1 :‬وقوله‪َ} :‬ف َ‬
‫سّب ْ‬ ‫لْ‬ ‫ك ا َْ‬
‫َرّب َ‬
‫ل‪ ،‬أو يقول‪ :‬سبحان ربي العلى‪ ،‬وسبحان ربي العظيم‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬ولم يشرع‬ ‫اسمه بكلم تام مثل أن يقول‪ :‬بسم ا ّ‬
‫ذكر السم المجرد قط‪ ،‬ول يحصل بذلك امتثال أمر‪ ،‬ول ]حل صيد[ ول ذبيحة ول غير ذلك‪.‬‬
‫ل‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فالذاكر أو السامع للسم المجرد قد يحصل له وجد محبة‪ ،‬وتعظيم ّ‬

‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ويثاب على ذلك الوجد المشروع‪ ،‬والحال اليماني‪ ،‬ل لن مجرد السم مستحب‪ ،‬وإذا سمع ذلك حرك‬
‫ل‪ ،‬أو يسبه فيثور‬‫ساكن القلب‪ ،‬وقد يتحرك الساكن بسماع ذكر محرم أو مكروه‪ ،‬حتى قد يسمع المسلم من يشرك با ّ‬
‫ل بقوة نفرته ‪ /‬وبغضه لما سمعه‪ ،‬وقد قال الصحابة للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إن أحدنا‬
‫في قلبه حال وجد ومحبة ّ‬
‫ليجد في نفسه ما لن يحترق حتى يصير حممة‪ ،‬أو يخر من السماء إلى الرض‪ ،‬أحب إليه من أن يتكلم به‪ .‬قال‪) :‬أو‬
‫ل الذي رد كيده إلى الوسوسة(‪.‬‬‫قد وجدتموه؟!( قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪) :‬ذاك صريح اليمان(‪ ،‬وفي رواية‪ :‬قال‪) :‬الحمد ّ‬

‫فالشيطان لما قذف في قلوبهم وسوسة مذمومة تحرك اليمان الذي في قلوبهم بالكراهة لذلك‪ ،‬والستعظام له‪ ،‬فكان‬
‫ذلك صريح اليمان‪ ،‬ول يقتضى ذلك أن يكون السبب الذي هو الوسوسة مأموًرا به‪.‬‬

‫ضا ـ قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ويورثه ذلك إيمانِا وتقوى‪ ،‬وليس السبب‬ ‫والعبد ـ أي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫ل َوِنْعَم اْلَوِكي ُ‬
‫سُبَنا ا ُّ‬
‫حْ‬
‫شْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا َوَقاُلوا َ‬
‫خَ‬‫جَمُعوا َلُكْم َفا ْ‬
‫س َقْد َ‬
‫ن الّنا َ‬
‫س ِإ ّ‬
‫ل َلُهْم الّنا ُ‬ ‫را به؛ وقد قال تعالى‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن َقا َ‬ ‫مأمو ً‬
‫ضٍل{ الية ]آل عمران‪ ،[174 ،173 :‬فهذا اليمان الزائد والتوكل كان سبب تخويفهم بالعدو‬ ‫ل َوَف ْ‬‫ن ا ِّ‬
‫َفاْنَقَلُبوا ِبِنْعَمٍة ِم ْ‬
‫ل بها‪ ،‬ول يكون الذنب مأموًرا به‪ ،‬وهذا باب واسع‬ ‫عا بل العبد يفعل ذنًبا فيورثه ذلك توبة يحبه ا ّ‬ ‫وليس ذلك مشرو ً‬
‫جًدا‪.‬‬

‫ففرق بين أن يكون نفس السبب موجًبا للخير ومقتضًيا‪ ،‬وبين ‪ /‬أل يكون؛ وإنما نشأ الخير من المحل‪ .‬فالمأمور به من‬
‫الكلمات الطيبات والعمال الصالحات‪ ،‬هي موجبة للخير والرحمة والثواب‪ .‬وإذا اقترن بها قوة إيمان العبد وما يجده‬
‫من حلوة اليمان وتذوقه من طعمه تضاعف الخير والرحمة والبركة‪ ،‬وما ليس مأموًرا به‪ .‬إما من فعل العبد‪:‬‬
‫محرمه ومكروهه ومباحه‪ .‬وإما من فعل غيره معه‪ :‬من النس والجن‪ ،‬وإما من الحوادث السمائية التي يصيبه بها‬
‫الرب‪ ،‬إذا صادفت منه إيماًنا ويقيًنا فحركت ذلك اليمان واليقين‪ ،‬وازداد العبد بذلك إيمانا لم يكن ذلك مما يوجب أن‬
‫تحب تلك السباب‪ ،‬أو تحمد أو يؤمر بها‪ ،‬إذا لم يكن كذلك‪ ،‬فإنها ليست مقتضية لذلك الخير‪ ،‬وإنما مقتضاها تحريك‬
‫الساكن وطال ما جرت إلى شر وضرر‪.‬‬

‫ويشبه هذا الباب ذكر الحب المطلق والشوق المطلق‪ ،‬والوجل المطلق‪ ،‬وما يتضمن ذلك من نظم ونثر‪ ،‬فإن هذا من‬
‫ل إنما‬
‫ل ورسوله‪ ،‬ولم يأمر بها فإن ا ّ‬
‫ضا‪ :‬يشترك فيه المؤمن والكافر‪ ،‬والبر والفاجر‪ ،‬فلذلك لم يشرعها ا ّ‬
‫المجمل أي ً‬
‫يأمر بالخير والعمل الصالح والبر وذلك ليس من هذا الباب‪ ،‬فإن شعر المحبين مشترك بين محب اليمان ومحب‬
‫الوثان‪ ،‬ومحب النسوان‪ ،‬ومحب المردان‪ ،‬ومحب الوطان‪ ،‬ومحب الخدان‪.‬‬

‫ل عن أن يكون هو ذكر الخاصة‪.‬‬


‫‪/‬فثبت بما ذكرناه أن ذكر السم المجرد ليس مستحًبا‪ ،‬فض ً‬

‫وأبعد من ذلك ذكر]السم المضمر[ وهو‪] :‬هو[‪ .‬فإن هذا بنفسه ل يدل على معين‪ ،‬وإنما هو بحسب ما يفسره من‬
‫مذكور أو معلوم فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته؛ ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق‪ .‬وقد‬
‫يقول‪] :‬ل هو إل هو[ ويسرى قلبه في ]وحدة الوجود[ ومذهب فرعون والسماعيلية وزنادقة هؤلء المتصوفة‬
‫المتأخرين بحيث يكون قوله‪] :‬هو[ كقوله‪] :‬وجوده[‪ .‬وقد يعني بقوله‪] :‬ل هو إل هو[ أي‪ :‬أنه هو الوجود وأنه ما ثم‬
‫ل‪ ،‬وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد‪ .‬كما بينته من مذهب) التحادية( في غير هذا الموضع‪.‬‬ ‫خلق أص ً‬

‫ومن أسباب هذه العتقادات والحوال الفاسدة الخروج عن الشرعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬فإن البدع هي‪ :‬مبادئ الكفر ومظان الكفر‪ .‬كما أن السنن المشروعة هي‪ :‬مظاهر اليمان‪ ،‬ومقوية‬
‫س َقْد‬
‫ن الّنا َ‬
‫س ِإ ّ‬
‫ل َلُهْم الّنا ُ‬ ‫ل عن زيادته في مثل قوله‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن َقا َ‬ ‫لليمان؛ فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية‪ .‬كما أخبر ا ّ‬
‫شْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا{ ] آل عمران‪ ،[173 :‬وقوله‪َ} :‬أّيُكْم َزاَدْتُه َهِذهِ ِإيَماًنا{ ]التوبة‪/ ،[124 :‬وقوله‪ُ} :‬هَو اّلِذي‬ ‫خَ‬
‫جَمُعوا َلُكْم َفا ْ‬
‫َ‬
‫ب اْلُمْؤِمِنيَن ِلَيْزَداُدوا ِإيَماًنا َمَع ِإيَماِنِهْم{ ]الفتح‪ [4 :‬وغير ذلك‪.‬‬
‫ل السِّكيَنَة ِفي ُقُلو ِ‬
‫َأْنَز َ‬

‫عا‪ .‬فهل هو مكروه؟‬


‫فإن قيل‪ :‬إذا لم يكن هذا الذكر مشرو ً‬
‫قلت‪ :‬أما في حق المغلوب فل يوصف بكراهة؛ فإنه قد يعرض للقلب أحوال يتعسر عليه فيها نطق اللسان مع امتلء‬
‫القلب بأحوال اليمان‪ ،‬وربما تيسر عليه ذكر السم المجرد دون الكلمة التامة وهؤلء يأتون على ما في قلوبهم من‬
‫أحوال اليمان وما قدروا عليه من نطق اللسان‪ ،‬فإن الناس في الذكر أربع طبقات‪.‬‬

‫إحداها‪ :‬الذكر بالقلب واللسان‪ ،‬وهو المأمور به‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬الذكر بالقلب فقط‪ ،‬فإن كان مع عجز اللسان فحسن وإن كان مع قدرته فترك للفضل‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وفيه حكاية التي لم تجد الملئكة فيه خيًرا إل حركة لسانه‬
‫الثالث‪ :‬الذكر باللسان فقط‪ ،‬وهو كون لسانه رطًبا بذكر ا ّ‬
‫ل تعالى‪) :‬أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه(‪.‬‬ ‫ل‪ .‬ويقول ا ّ‬
‫بذكر ا ّ‬

‫الرابع‪ :‬عدم المرين وهو حال الخاسرين‪.‬‬

‫‪/‬وأما مع تيسر الكلمة التامة فالقتصار على مجرد السم مكرًرا بدعة‪ ،‬والصل في البدع الكراهة‪.‬‬

‫وما نقل عن أبي يزيد والنوري والشبلي وغيرهم‪ :‬من ذكر السم المجرد‪ ،‬فمحمول على أنهم مغلوبون‪ ،‬فإن أحوالهم‬
‫تشهد بذلك‪ ،‬مع أن المشائخ الذين هم أصح من هؤلء وأكمل لم يذكروا إل الكلمة التامة‪ ،‬وعند التنازع يجب الرد إلى‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫ل والرسول‪ ،‬وليس فعل غير الرسول حجة على الطلق‪ .‬وا ّ‬ ‫ا ّ‬

‫ل‪:‬‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫خ ـ َر ِ‬
‫ل الشْي ُ‬
‫َوَقا َ‬

‫َفصــل‬

‫في الصراط المستقيم‪ ،‬في الزهد والعبادة والورع‪ ،‬في ترك المحرمات والشهوات‪ ،‬والقتصاد‪ ،‬في العبادة‪ .‬وإن لزوم‬
‫السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة‪ ،‬فإن أصحابها لبد أن يقعوا في الصار والغلل‪،‬‬
‫وإن كانوا متأولين‪ ،‬فلبد لهم من اتباع الهوى‪ ،‬ولهذا سمى أصحاب البدع أصحاب الهواء‪ ،‬فإن طريق السنة علم‬
‫وعدل وهدي‪ ،‬وفي البدعة جهل وظلم‪ ،‬وفيها اتباع الظن وما تهوى النفس‪.‬‬

‫والرسول‪ ،‬ما ضل وما غوى‪ ،‬والضلل‪ :‬مقرون بالغي‪ ،‬فكل غاو ضال‪ ،‬والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلل‪،‬‬
‫عوا‬
‫ضا ُ‬
‫ف َأ َ‬
‫خْل ٌ‬
‫ن َبْعِدِهْم َ‬
‫ف ِم ْ‬ ‫وهو مجانبة طريق الفجار وأهل البدع‪ ،‬كما كان السلف ينهون عنهما‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬ف َ‬
‫خَل َ‬
‫ف َيْلَقْوَن َغّيا{ ]مريم‪.[59 :‬‬
‫سْو َ‬
‫ت َف َ‬
‫شَهَوا ِ‬
‫لَة َواّتَبُعوا ال ّ‬
‫صَ‬‫ال ّ‬

‫‪/‬والغي في الصل‪ :‬مصدر غوي يغوي غًيا‪ ،‬كما يقال‪ :‬لوى يلوي لًيا‪ .‬وهو ضد الرشد‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن َيَرْوا‬
‫ل{ ]العراف‪.[146 :‬‬ ‫سِبي ً‬
‫خُذوُه َ‬
‫ي َيّت ِ‬
‫ل الَغ ّ‬
‫سِبي َ‬
‫ن َيَرْوا َ‬
‫ل َوِإ ْ‬
‫سِبي ً‬
‫خُذوُه َ‬
‫ل َيّت ِ‬
‫شِد َ‬
‫ل الّر ْ‬
‫سِبي َ‬
‫َ‬

‫والرشد‪ :‬العمل الذي ينفع صاحبه‪ ،‬والغي‪ :‬العمل الذي يضر صاحبه‪ ،‬فعمل الخير رشد‪ ،‬وعمل الشر غي‪ ،‬ولهذا قالت‬
‫ض َأْم َأَراَد ِبِهْم َرّبُهْم َرَشًدا{]الجن‪ ،[10 :‬فقابلوا بين الشر وبين الرشد‪ ،‬وقال في‬
‫لْر ِ‬
‫ن ِفي ا َْ‬
‫شّر ُأِريَد ِبَم ْ‬ ‫الجن‪َ} :‬وَأّنا َ‬
‫ل َنْدِري َأ َ‬
‫ضّرا َوَل َرَشًدا{]الجن‪ ،[21 :‬ومنه الرشيد‪ ،‬الذي يسلم إليه ماله‪ .‬وهو الذي يصرف‬ ‫ك َلُكْم َ‬ ‫ل َأْمِل ُ‬ ‫آخر السورة‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإّني َ‬
‫ماله فيما ينفع ل فيما يضر‪.‬‬

‫صيَن{ ]ص‪ ،[83 ،82 :‬وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم‬ ‫خَل ِ‬
‫ك ِمْنُهْم اْلُم ْ‬
‫عَباَد َ‬
‫ل ِ‬‫ن‪ِ .‬إ ّ‬
‫جَمِعي َ‬‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬
‫لْ‬‫وقال الشيطان‪َُ } :‬‬
‫جْبُتْم ِلي{]إبراهيم‪ ،[22 :‬وقال‪َ} :‬وُبّرَز ْ‬
‫ت‬ ‫سَت َ‬
‫عْوُتُكْم َفا ْ‬
‫ن َد َ‬‫ل َأ ْ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫طا ٍ‬
‫سْل َ‬
‫ن ُ‬ ‫عَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ن ِلي َ‬‫فيطيعونه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَما َكا َ‬
‫حقّ‬
‫ن َ‬ ‫ن{ ]الشعراء‪91 :‬ـ ‪ ،[95‬وقال‪َ} :‬قا َ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫جمَُعو َ‬‫س َأ ْ‬‫جُنوُد ِإْبِلي َ‬
‫ن‪َ .‬و ُ‬‫ن{ إلى أن قال‪َ} :‬فُكْبِكُبوا ِفيَها ُهْم َواْلَغاُوو َ‬ ‫حيُم ِلْلَغاِوي َ‬
‫جِ‬ ‫اْل َ‬
‫صاِحُبُكْم َوَما َغَوى{ ]النجم‪.[2 :‬‬
‫ل َ‬‫غَوْيَنا{]القصص‪ ،[63 :‬وقال‪َ} :‬ما َ‬
‫ضّ‬ ‫غَوْيَناُهْم َكَما َ‬
‫غَوْيَنا َأ ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫لِء اّلِذي َ‬
‫ل َرّبَنا َهُؤ َ‬
‫عَلْيِهْم اْلَقْو ُ‬
‫َ‬

‫ضا تسمى غًيا‪ ،‬كما أن عاقبة الخير‬


‫ثم إن الغي‪ ،‬إذا كان اسًما لعمل الشر الذي يضر صاحبه‪ ،‬فإن عاقبة العمل أي ً‬
‫تسمى رشًدا‪ ،‬كما ‪ /‬يسمى عاقبة الشر شًرا‪ ،‬وعاقبة الخير خيًرا‪ ،‬وعاقبة الحسنات حسنات‪ ،‬وعاقبة السيئات سيئات‪.‬‬
‫ل يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر‪ ،‬كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من‬
‫فالحسنات والسيئات‪ ،‬في كتاب ا ّ‬
‫جنس العمل‪ ،‬فمن عمل خيًرا وحسنات لقي خيًرا وحسنات‪ ،‬ومن عمل شًرا وسيئات لقي شًرا وسيئات‪ .‬كذلك من عمل‬
‫غًيا لقى غًيا‪ ،‬وترك الصلة واتباع الشهوات غي يلقي صاحبه غًيا‪ .‬فلهذا قال الزمخشري‪ :‬كل شر عند العرب غي‪،‬‬
‫وكل خير رشاد‪ .‬كما قيل‪:‬‬

‫فمن يلق خيًرا يحمد الناس أمره ** ومن يغو ل يعدم على الغي لئًما‬

‫ق َأَثاًما{ ]الفرقان‪ ،[68 :‬أي مجازات آثام‪ .‬وفي الحديث المأثور‪ :‬إن غيا واد في‬ ‫وقال الزجاج‪ :‬جزاؤه غي‪ ،‬لقوله‪َ} :‬يْل َ‬
‫ت{]مريم‪،[59 :‬‬‫شَهَوا ِ‬ ‫لَة َواّتَبُعوا ال ّ‬
‫صَ‬ ‫عوا ال ّ‬ ‫ضا ُ‬ ‫جهنم تستعيذ منه أوديتها‪ ،‬وهذا تعبير عن ملقات الشر‪ ،‬وقال سبحانه‪َ} :‬أ َ‬
‫ي ُيِريُدوَن َوْجَهُه{ ]النعام‪:‬‬ ‫شّ‬‫عونَ َرّبُهْم ِباْلَغَداِة َواْلَع ِ‬
‫ن َيْد ُ‬
‫طُرْد اّلِذي َ‬ ‫ل‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َت ْ‬ ‫فإن الصلة فيها إرادة وجه ا ّ‬
‫‪ ،[52‬أي يصلون صلة الفجر والعصر‪ .‬والداعي يقصد ربه ويريده‪ ،‬فتكون القلوب في هذه الشياء مريدة لربها‬
‫محبة له‪.‬‬

‫‪/‬واتباع الشهوات‪ :‬هو اتباع ما تشتهيه النفس‪ ،‬فإن الشهوات‪ ،‬جمع شهوة‪ ،‬والشهوة هي في الصل مصدر‪ ،‬ويسمي‬
‫ظيًما{ ]النساء‪:‬‬
‫عِ‬
‫ل َ‬
‫ن َتِميُلوا َمْي ً‬
‫ت َأ ْ‬
‫شَهَوا ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫المشتهي شهوة‪ .‬تسمية للمفعول باسم المصدر‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وُيِريُد اّلِذي َ‬
‫ن َيّتِبُعو َ‬
‫ل يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به‪،‬‬ ‫‪ [27‬فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات‪ ،‬فإنه يريد أن يتوب علينا‪ ،‬أي فا ّ‬
‫ظيًما{ يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات‬ ‫عِ‬
‫ل َ‬ ‫ت{ وهم الغاوون}َأ ْ‬
‫ن َتِميُلوا َمْي ً‬ ‫شَهَوا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن َيّتِبُعو َ‬
‫}َوُيِريُد اّلِذي َ‬
‫ل عظيًما‪ ،‬فإن أصل الميل العدول‪ ،‬فلبد منه للذين يتبعون الشهوات‪ ،‬كما قال صلى ال عليه وسلم‪) :‬استقيموا‬ ‫عدو ً‬
‫ولن تحصوا‪ ،‬واعلموا أن خير أعمالكم الصلة‪ ،‬ول يحافظ على الوضوء إل مؤمن( رواه أحمد وابن ماجه من حديث‬
‫ثوبان‪.‬‬

‫ل َتِميُلوا ُك ّ‬
‫ل‬ ‫صُتْم َف َ‬
‫حَر ْ‬
‫ساِء َوَلْو َ‬
‫ن الّن َ‬
‫ن َتْعِدُلوا َبْي َ‬
‫طيُعوا َأ ْ‬
‫سَت ِ‬ ‫فأخبر أنا ل نطيق الستقامة أو ثوابها إذا استقمنا‪ ،‬وقال‪َ} :‬وَل ْ‬
‫ن َت ْ‬
‫اْلَمْيِل َفَتَذُروَها َكاْلُمَعّلَقِة{ ]النساء‪ ،[129 :‬فقوله‪ :‬كل الميل أي‪ :‬يريد نهاية الميل‪ ،‬يريد الزيغ عن الطريق‪ ،‬والعدول عن‬
‫سواء الصراط إلى نهاية الشر‪ ،‬بل إذا بليت بذلك فتوسط‪ ،‬وعد إلى الطريق بالتوبة‪.‬‬

‫كما في الحديث عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ميل المؤمن كميل الفرس في آخيته يحول ثم يرجع إلى آخيته‪ .‬كذلك‬
‫عّد ْ‬
‫ت‬ ‫ض ُأ ِ‬
‫لْر ُ‬
‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ُ‬
‫ضَها ال ّ‬
‫عْر ُ‬
‫جّنٍة َ‬
‫عوا ِإَلى َمْغِفَرٍة ِمنْ َرّبُكْم َو َ‬ ‫المؤمن يحول ثم يرجع ‪ /‬إلى ربه(‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ساِر ُ‬
‫ن{ ]آل عمران‪133 :‬ـ ‪ ،[136‬فلم يقل‪ :‬ل يظلمون ول يذنبون‪ ،‬بل قال‪ِ} :‬إَذا َفَعُلوا‬ ‫جُر اْلَعاِمِلي َ‬ ‫ن{ إلى قـوله‪َ} :‬وِنْعَم َأ ْ‬ ‫ِلْلُمّتِقي َ‬
‫ظَلُموا َأْنُفَسُهْم{ ]آل عمران‪ ،[135 :‬أي بذنب آخر غير الفاحشة‪ ،‬فعطف العام على الخاص‪ .‬كما قال موسى‪:‬‬ ‫شًة َأْو َ‬‫حَ‬‫َفا ِ‬
‫ظَلْمتُ َنْفِسي{ ]النمل‪ ،[44 :‬وقال تعالي عموًما عن‬ ‫ب ِإّني َ‬ ‫سي{ ]القصص‪ ،[16 :‬وقالت بلقيس‪َ} :‬ر ّ‬ ‫ت َنْف ِ‬
‫ظَلْم ُ‬
‫ب ِإّني َ‬ ‫}َر ّ‬
‫ظَلُموا َأنُفَسُهْم{ ]هود‪ ،[101 :‬فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا عنه‪ ،‬وبعصيانهم‬ ‫ن َ‬
‫ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ‬‫أهل القرى المهلكة‪َ} :‬وَما َ‬
‫لنبيائهم‪ ،‬وبتركهم التوبة إلى ربهم‪.‬‬

‫ب َعَلْيُكْم{ ]النساء‪،[27 :‬‬


‫ن َيُتو َ‬ ‫سَتْغَفُروا ِلُذُنوِبِهْم{ ]آل عمران‪[135 :‬؛ ولهذا قال‪َ} :‬وا ُّ‬
‫ل ُيِريُد َأ ْ‬ ‫وقوله تعالى‪َ} :‬ذَكُروا ا َّ‬
‫ل َفا ْ‬
‫ضِعيًفا{]النساء‪ .[28 :‬قال مجاهد وغيره‪ :‬يتبعون الشهوات الزنا‪ ،‬وقال‬ ‫ن َ‬‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خِل َ‬‫عْنُكْم َو ُ‬
‫ف َ‬ ‫خّف َ‬‫ن ُي َ‬ ‫ثم قال‪ُ} :‬يِريُد ا ُّ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ابن زيد‪ :‬هم أهل الباطل‪ .‬وقال السدي‪ :‬هم اليهود والنصارى والجميع حق‪ ،‬فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر‪ ،‬وقد‬
‫يكون مع العتراف بأنها معصية‪.‬‬

‫ثم ذكر أنه خلق النسان ضعيًفا‪ ،‬وسياق الكلم يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات‪ .‬فلبد له من شهوة مباحة‬
‫يستغنى بها عن المحرمة‪ ،‬ولهذا قال طاوس ومقاتل‪ :‬ضعيف في قلة الصبر عن النساء‪ ،‬وقال الزجاج وابن كيسان‪:‬‬
‫ضعيف العزم عن قهر الهوى‪ .‬وقيل‪ :‬ضعيف في أصل الخلقة‪ ،‬لنه خلق من ماء مهين‪ ،‬يروي ذلك ‪ /‬عن الحسن‪،‬‬
‫ف َعْنُكْم{ وهو‬
‫خّف َ‬
‫ن ُي َ‬ ‫لكن لبد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر؛ ليناسب ما ذكر في الية‪ ،‬فإنه قال‪ُ} :‬يِريُد ا ُّ‬
‫ل َأ ْ‬
‫شَ‬
‫ي‬ ‫خِ‬ ‫تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ول تصبروا عنه‪ .‬كما أباح نكاح الفتيات‪ ،‬وقد قال قبل ذلك‪ِ} :‬لَم ْ‬
‫ن َ‬
‫ل َغُفوٌر َرِحيٌم{ ]النساء‪.[25 :‬‬
‫خْيٌر َلُكْم َوا ُّ‬
‫صِبُروا َ‬
‫ن َت ْ‬
‫ت مِْنُكْم َوَأ ْ‬
‫اْلَعَن َ‬
‫صِبُروا َخْيٌر َلُكْم{ ]النساء‪،[25 :‬‬ ‫فهو ـ سبحانه ـ مع إباحته نكاح الماء عند عدم الطول‪ ،‬وخشية العنت‪ ،‬قال‪َ} :‬وَأ ْ‬
‫ن َت ْ‬
‫فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت‪ ،‬وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة‪ ،‬فإن ذلك ل يمكن‬
‫الصبر عنه‪.‬‬

‫وكذلك من أباح الستمناء‪ ،‬عند الضرورة فالصبر عن الستمناء أفضل‪ ،‬فقد روى عن ابن عباس‪ :‬أن نكاح الماء‬
‫خير منه‪ ،‬وهو خير من الزنا‪ ،‬فإذا كان الصبر عن نكاح الماء أفضل فعن الستمناء بطريق الولى أفضل‪.‬‬

‫ل سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلًقا‪ ،‬وهو أحد القوال في مذهب أحمد‪ .‬واختاره ابن عقيل‬
‫في المفردات والمشهور عنه ـ يعني عن أحمد ـ أنه محرم إل إذا خشي العنت‪ .‬والثالث أنه مكروه إل إذا خشي العنت‪.‬‬
‫صِبُروا َخْيٌر َلُكْم{ ففيه أولى‪ .‬وذلك يدل على أن الصبر عن كلهما ممكن‪.‬‬ ‫ل قد قال في نكاح الماء‪َ} :‬وَأ ْ‬
‫ن َت ْ‬ ‫فإذا كان ا ّ‬

‫سا ُ‬
‫ن‬ ‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خِل َ‬
‫عْنُكْم َو ُ‬
‫ف َ‬
‫خّف َ‬
‫ن ُي َ‬ ‫فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه‪ ،‬فذلك لتسهيل التكليـف‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ} :‬يِريُد ا ُّ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ضِعيًفا{‪.‬‬
‫َ‬

‫و الستمناء ل يباح عند أكثر العلماء سلًفا وخلًفا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك‪ .‬وكلم ابن عباس وما روى عن‬
‫أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت‪ ،‬وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك؛ فأبيح له ذلك‬
‫لتكسير شدة عنته وشهوته‪.‬‬

‫وأما من فعل ذلك تلذًذا أو تذكًرا أو عادة‪ ،‬بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها‪ .‬فهذا كله محرم ل يقول‬
‫به أحمد‪ ،‬ول غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد والصبر عن هذا من الواجبات ل من المستحبات‪.‬‬

‫حا‬
‫ن ِنَكا ً‬
‫جُدو َ‬
‫ل َي ِ‬
‫ن َ‬
‫ف اّلِذي َ‬ ‫وأما الصبر عن المحرمات فواجب‪ ،‬وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وْلَي ْ‬
‫سَتْعِف ْ‬
‫ضِلِه{ ]النور‪ ،[33 :‬و الستعفاف‪ :‬هو ترك المنهي عنه‪ .‬كما في الحديث ‪ /‬الصحيح عن أبي سعيد‬ ‫ن َف ْ‬
‫ل ِم ْ‬
‫حّتى ُيْغِنَيُهْم ا ُّ‬
‫َ‬
‫ل‪ ،‬ومن يتصبر يصبره‬
‫ل‪ ،‬ومن يستغن يغنه ا ّ‬
‫الخدري عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬من يستعفف يعفه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وما أعطى أحد عطاء خيًرا وأوسع من الصبر(‪.‬‬
‫ا ّ‬

‫فالمستغني‪ ،‬ل يستشرف بقلبه‪ .‬و المستعف‪ :‬هو الذي ل يسأل الناس بلسانه‪ ،‬والمتصبر‪ :‬هو الذي ل يتكلف الصبر‪.‬‬
‫ل‪ .‬وهذا كأنه في سياق الصبرعلى الفاقة‪ ،‬بأن يصبر على مرارة الحاجة‪ ،‬ل يجزع مما‬ ‫فأخبر أنه من يتصبر يصبره ا ّ‬
‫س{ ]البقرة‪:‬‬
‫ن اْلَبْأ ِ‬
‫حي َ‬
‫ضّراِء َو ِ‬
‫ساِء َوال ّ‬
‫ن ِفي اْلَبْأ َ‬ ‫ابتلى به من الفقر‪ ،‬وهو الصبر في البأساء والضراء‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وال ّ‬
‫صاِبِري َ‬
‫‪. [177‬‬

‫والضراء‪ :‬المرض‪ .‬وهو الصبر على ما ابتلى به من حاجة ومرض وخوف‪ .‬والصبر على ما ابتلى به باختياره‪،‬‬
‫كالجهاد‪ ،‬فإن الصبر عليه أفضل من الصبر على المرض الذي يبتلى به بغير اختياره‪ ،‬ولذلك إذا ابتلى بالعنت في‬
‫الجهاد فالصبر على ذلك أفضل من الصبر عليه في بلده؛ لن هذا الصبر من تمام الجهاد‪ .‬وكذلك لو ابتلى في الجهاد‬
‫بفاقة‪ ،‬أو مرض حصل بسببه كان الصبر عليه أفضل‪ .‬كما قد بسط هذا في مواضع‪.‬‬

‫وكذلك ما يؤذي النسان به في فعله للطاعات‪ ،‬كالصلة‪ ،‬والمر بالمعروف‪ / ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬وطلب العلم من‬
‫المصائب‪ ،‬فصبره عليها أفضل من صبره على ما ابتلى به بدون ذلك‪ ،‬وكذلك إذا دعته نفسه إلى محرمات‪ :‬من‬
‫رئاسة‪ ،‬وأخذ مال‪ ،‬وفعل فاحشة كان صبره عنه أفضل من صبره على ماهو دون ذلك‪ ،‬فإن أعمال البر‪ ،‬كلما عظمت‬
‫كان الصبر عليها أعظم مما دونهما‪.‬‬

‫فإن في العلم‪ ،‬والمارة‪ ،‬والجهاد‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والصلة‪ ،‬والحج‪ ،‬والصوم‪ ،‬والزكاة‪ ،‬من‬
‫الفتن النفسية وغيرها ما ليس في غيرها‪ .‬ويعرض في ذلك ميل النفس إلى الرئاسة والمال والصور‪ .‬فإذا كانت النفس‬
‫غير قادرة على ذلك لم تطمع فيه‪ ،‬كما تطمع مع القدرة‪ ،‬فإنها مع القدرة تطلب تلك المور المحرمة‪ ،‬بخلف حالها‬
‫بدون القدرة فإن الصبر مع القدرة جهاد‪ ،‬بل هو من أفضل الجهاد‪ .‬وأكمل من ثلثة أوجه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن الصبر عن المحرمات‪ ،‬أفضل من الصبر على المصائب‪.‬‬


‫الثاني‪ :‬أن ترك المحرمات مع القدرة عليها‪ ،‬وطلب النفس لها‪ ،‬أفضل من تركها بدون ذلك‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أن طلب النفس لها إذا كان بسبب أمر ديني ـ كمن ‪ /‬خرج لصلة‪ ،‬أو طلب علم‪ ،‬أو جهاد‪ ،‬فابتلى بما يميل إليه‬
‫من ذلك فإن صبره عن ذلك ـ يتضمن فعل المأمور وترك المحظور‪ ،‬بخلف ما إذا مالت نفسه إلى ذلك بدون عمل‬
‫ل‪ .‬ول تدخل‬ ‫صالح‪ ،‬ولهذا كان يونس ابن عبيد يوصي بثلث يقول‪ :‬ل تدخل على سلطان‪ ،‬وإن قلت‪ :‬آمره بطاعة ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ول تصغ أذنك إلى صاحب بدعة‪ ،‬وإن قلت أرد عليه‪.‬‬
‫علي امرأة‪ :‬وإن قلت‪ :‬أعلمها كتاب ا ّ‬

‫فأمره بالحتراز من أسباب الفتنة‪ ،‬فإن النسان إذا تعرض لذلك فقد يفتتن ول يسلم‪.‬‬

‫ل ويصبر ويخلص ويجاهد‪.‬‬ ‫فإذا قدر أنه ابتلى بذلك بغير اختياره أو دخل فيه باختياره‪ ،‬وابتلى‪ ،‬فعليه أن يتقى ا ّ‬
‫وصبره على ذلك وسلمته مع قيامه بالواجب‪ ،‬من أفضل العمال‪ ،‬كمن تولى ولية وعدل فيها‪ ،‬أو رد على أصحاب‬
‫البدع بالسنة المحضة‪ ،‬ولم يفتنوه‪ ،‬أو علم النساء الدين على الوجه المشروع من غير فتنة‪.‬‬

‫ل إلى نفسه‪ .‬كما قال النبي صلى‬ ‫ل إذا ابتلى العبد وقدر عليه أعانه‪ ،‬وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلء وكله ا ّ‬
‫لكن ا ّ‬
‫ال عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة‪) :‬ل تسأل المارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة‪ ،‬وكلت إليها‪ .‬وإن أعطيتها عن‬
‫غير مسألة‪ ،‬أعنت عليها( وكذلك ‪/‬قال في الطاعون‪) :‬إذا وقع ببلد وأنتم بها‪ ،‬فل تخرجوا فراًرا منه‪ ،‬وإذا سمعتم به‬
‫ل يعينه عليها بخلف من‬ ‫ل به فعرضت له فتنة من غير اختياره‪ ،‬فإن ا ّ‬ ‫بأرض فل تقدموا عليه( فمن فعل ما أمره ا ّ‬
‫تعرض لها‪.‬‬

‫ل عليه ويعينه‪ ،‬إما‬ ‫لكن باب التوبة مفتوح‪ ،‬فإن الرجل قد يسأل المارة فيوكل إليها‪ ،‬ثم يندم فيتوب من سؤاله فيتوب ا ّ‬
‫طوا‬
‫ل َتْقَن ُ‬
‫سِهْم َ‬
‫عَلى َأْنُف ِ‬
‫سَرُفوا َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫عَباِدي اّلِذي َ‬ ‫على إقامة الواجب‪ ،‬وإما على الخلص منها‪ ،‬وكذلك سائر الفتن‪ .‬كماقال‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َيا ِ‬
‫ب َجِميًعا{ ]الزمر‪ ،[53 :‬وهذه المور تحتاج إلى بسط ل يتسع له هذا الموضع‪.‬‬ ‫ل َيْغِفُر الّذُنو َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫حَمِة ا ِّ‬
‫ن َر ْ‬
‫ِم ْ‬

‫ل َفِبُهَداُهمْ‬
‫ن َهَدى ا ُّ‬ ‫ل سبحانه يريد أن يبين لنا‪ ،‬ويهدينا سنن الذين من قبلنا الذين قال فيهم‪ُ} :‬أْوَلِئ َ‬
‫ك اّلِذي َ‬ ‫والمقصود أن ا ّ‬
‫ن َأْنَعْم َ‬
‫ت‬ ‫ط اّلِذي َ‬
‫صَرا َ‬
‫سَتِقيَم ‪ِ .‬‬ ‫ط اْلُم ْ‬ ‫اْقَتِدِه{]النعام‪ ،[90 :‬وهم الذين أمرنا أن نسأله الهداية لسبيلهم في قوله‪} :‬اْهِدَنا ال ّ‬
‫صَرا َ‬
‫َعَلْيِهْم{ ]الفاتحة‪ [7 ،6 :‬فهو يحب لنا ويأمرنا أن نتبع صراط هؤلء‪ ،‬وهو سبيل من أناب إليه‪ ،‬فذكر هنا ثلثة أمور‪:‬‬
‫البيان‪ ،‬والهداية‪ ،‬والتوبة‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬المراد بالسنن هنا سنن أهل الحق والباطل‪ ،‬أي‪ :‬يريد أن يبين لنا سنن هؤلء وهؤلء‪ ،‬فيهدي عباده المؤمنين‬
‫ن َقْوِمِه‬‫سا ِ‬‫ل ِبِل َ‬
‫سولٍ ِإ ّ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫إلى الحق‪ / ،‬ويضل آخرين‪ ،‬فإن الهدى والضلل إنما يكون بعد البيان‪ .‬كما قال‪َ} :‬وَما َأْر َ‬
‫سْلَنا ِم ْ‬
‫ل َقْوًما َبْعَد ِإْذ َهَداُهْم‬
‫ضّ‬ ‫ل ِلُي ِ‬ ‫حِكيُم{]إبراهيم‪ ،[4 :‬وقال‪َ} :‬وَما َكا َ‬
‫ن ا ُّ‬ ‫شاُء َوُهَو اْلَعِزيُز اْل َ‬
‫ن َي َ‬
‫شاُء َوَيْهِدي َم ْ‬
‫ن َي َ‬
‫ل َم ْ‬
‫ل ا ُّ‬
‫ضّ‬‫ن َلُهْم َفُي ِ‬
‫ِلُيَبّي َ‬
‫َحّتى ُيَبّيَن َلُهْم َما َيّتُقوَن{]التوبة‪.[115 :‬‬

‫ن{ ]النساء‪ ،[26 :‬متعلًقا بيبين يعني سنن أهل الباطل ل بيهدي‪ ،‬وأهل الحق متعلق بقوله‪ :‬ويهديكم‪ .‬وقال‬ ‫سَن َ‬
‫فتكون } ُ‬
‫الزجاج‪ :‬السنن الطرق‪ ،‬فالمعنى يدلكم على طاعته‪ ،‬كما دل النبياء وتابعيهم‪ .‬وهذا أولى‪ ،‬لنه قد يقدم فعلين فل يجعل‬
‫طًرا{ ]الكهف‪.[96 :‬‬‫عَلْيِه ِق ْ‬ ‫الول هوالعامل وحده‪ ،‬بل العامل إما الثاني وحده‪ .‬وإما الثنان‪ ،‬كقوله‪} :‬آُتوِني ُأْفِر ْ‬
‫غ َ‬

‫أو إذا أريد هذا التقدير‪ :‬يبين لكم سنن الذين من قبلكم‪ ،‬ويهديكم سنًنا‪ .‬فدل علي أنه يهدينا سننهم‪ .‬والمراد بذلك سنن‬
‫ن{‬
‫عاِقَبُة اْلُمَكّذِبي َ‬
‫ن َ‬
‫ف َكا َ‬
‫ظروا َكْي َ‬
‫ض َفاْن ُ‬
‫لْر ِ‬ ‫ن{ فإنه قال بعدها‪َ} :‬ف ِ‬
‫سيُروا ِفي ا َْ‬ ‫سَن ٌ‬
‫ن َقْبِلُكْم ُ‬
‫ت ِم ْ‬ ‫أهل الحق‪ ،‬بخلف قوله‪َ} :‬قْد َ‬
‫خَل ْ‬
‫]آل عمران‪ ،[137 :‬فإنه أراد تعريف عقوبة الظالمين بالعيان ‪ ،‬وهنا فأنزل علينا من القرآن ما يهدينا به سنن الذين‬
‫ل عليهم‪ .‬وذكر ثلثة أمور‪ :‬التبيين‪ ،‬والهدى‪ ،‬والتوبة‪.‬‬ ‫من قبلنا‪ ،‬وهم الذين أنعم ا ّ‬

‫لن النسان أول يحتاج إلى معرفة الخير والشر‪ ،‬وما أمر به وما نهى عنه‪ ،‬ثم يحتاج بعد ذلك ‪ /‬إلى أن يهدي‪ ،‬فيقصد‬
‫الحق ويعمل به دون الباطل‪ .‬وهو سنن النبياء والصالحين‪ .‬ثم لبد له بعد ذلك من الذنوب‪ ،‬فيريد أن يتطهر منها‬
‫بالتوبة فهو محتاج إلى العلم والعمل به‪ .‬وإلى التوبة مع ذلك‪ .‬فلبد له من التقصير‪ ،‬أو الغفلة في سلوك تلك السنن‬
‫ل إليها‪ .‬فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن‪ .‬وهذه السنن‪ :‬تدخل فيها الواجبات‬‫التي هداه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ويتوب إليه‪ .‬فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد ل‬
‫والمستحبات‪ ،‬فلبد للسالك فيها من تقصير وغفلة‪ ،‬فيستغفر ا ّ‬
‫ل بالحق الذي أوجبه عليه‪ ،‬فما يسعه إل الستغفار والتوبة عقيب كل طاعة‪.‬‬ ‫يستطيع أن يقوم ّ‬

‫وقد يقال‪ :‬الهداية‪ ،‬هنا البيان والتعريف‪ ،‬أي‪ :‬يعرفكم سنن الذين من قبلكم‪ ،‬من أهل السعادة والشقاوة؛ لتتبعوا هذه‬
‫وتجتنبوا هذه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَهَدْيَناُه الّنْجَدْيِن{ ]البلد‪ ،[10 :‬قال علي وابن مسعود‪ :‬سبيل الخير والشر‪ .‬وعن ابن‬
‫عباس‪ :‬سبيل الهدى والضلل‪ .‬وقال مجاهد‪ :‬سبيل السعادة والشقاوة‪ ،‬أي فطرناه على ذلك‪ ،‬وعرفناه إياه‪ ،‬والجميع‬
‫واحد‪ .‬والنجدان الطريقان الواضحان‪ ،‬والنجد المرتفع من الرض‪ ،‬فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر ونبينه له‪،‬‬
‫كتبيين الطريقين العاليين‪ ،‬لكن الهدى والتبيين والتعريف في هذه الية يشترك ‪ /‬فيه بنو آدم‪ ،‬ويعرفونه بعقولهم‪.‬‬

‫ك َما ُكن َ‬
‫ت‬ ‫حيَها ِإَلْي َ‬
‫ب ُنو ِ‬
‫ن َأْنَباِء اْلَغْي ِ‬ ‫ل تعالى عنها‪ ،‬كما قال‪ِ} :‬تْل َ‬
‫ك ِم ْ‬ ‫وأما طريق من تقدم من النبياء‪ ،‬فل بد من إخبار ا ّ‬
‫ك ِمْن َقْبِل َهَذا{]هود‪ ،[49 :‬لكن يجاب عن هذا بأنه لو أريد هذا المعنى‪ ،‬لقال‪ :‬يريد الّ ليبين لكم سنن‬ ‫ل َقْوُم َ‬
‫ت َو َ‬
‫َتْعَلُمَها َأْن َ‬
‫الذين من قبلكم‪ ،‬ولم يحتج أن يذكر الهدى‪ ،‬إذا كان المعنى واحًدا‪ ،‬فلما ذكر أنه يريد التبيين والهدي‪ ،‬علم أن هذا غير‬
‫هذا‪ ،‬فالتبيين‪ :‬التعريف والتعليم‪ ،‬والهدى‪ :‬هو المر والنهي‪ ،‬وهو الدعاء إلى الخير‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬وِلُك ّ‬
‫ل َقْوٍم َهاٍد {‬
‫ط ُمْسَتِقيٍم{ ]الشورى‪ ،[52 :‬أي تدعوهم‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫]الرعد‪ ،[7 :‬أي داع يدعوهم إلى الخير‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬وِإّن َ‬
‫ك َلَتْهِدي ِإَلى ِ‬
‫إليه دعاء تعليم‪.‬‬

‫وهداه هنا يتعدى بنفسه‪ ،‬لن التقدير‪ :‬ويلزمكم سنن الذين من قبلكم‪ ،‬فل تعدلوا عنها‪ ،‬وليس المراد هنا بالهدى اللهام‪.‬‬
‫ط اْلُمْسَتِقيَم{ لكونه لو أراد ذلك لوقع‪ ،‬ولم يكن فينا ضال‪ ،‬بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى‬ ‫كما في قوله‪} :‬اْهِدَنا ال ّ‬
‫صَرا َ‬
‫المحبة والرضا‪ ،‬ولهذا قال الزجاج‪ :‬يريد أن يدلكم على ما يكون سبًبا لتوبتكم‪ ،‬فعلق الرادة بفعل نفسه‪ .‬فإن الزجاج‬
‫ظن الرادة في القرآن ليست إل كذلك‪ ،‬وليس كما ظن‪ ،‬بل الرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك‪ ،‬فإنه ‪ /‬ما شاء‬
‫ج َوَلِك ْ‬
‫ن‬ ‫حَر ٍ‬
‫ن َ‬
‫عَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ل َ‬
‫جَع َ‬ ‫كان وما لم يشأ لم يكن‪ .‬وأما الرادة الموجودة في أمره وشرعه‪ ،‬فهو كقوله‪َ} :‬ما ُيِريُد ا ُّ‬
‫ل ِلَي ْ‬
‫ت{ ]الحزاب‪ ،[33 :‬ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ل اْلَبْي ِ‬
‫س َأْه َ‬
‫ج َ‬
‫عْنُكْم الّر ْ‬
‫ب َ‬ ‫طّهَرُكْم{ الية ]المائدة‪ ،[6 :‬وقوله‪ِ} :‬إّنَما ُيِريُد ا ُّ‬
‫ل ِلُيْذِه َ‬ ‫ُيِريُد ِلُي َ‬

‫فهذه إرادته لما أمر به‪ ،‬بمعنى أنه يحبه ويرضاه‪ ،‬ويثيب فاعله‪ ،‬ل بمعنى أنه أراد أن يخلقه‪ ،‬فيكون كما قال‪َ} :‬فَم ْ‬
‫ن‬
‫ضّيًقا َحَرًجا{ الية ]النعام‪. [125 :‬‬
‫صْدَرُه َ‬
‫ل َ‬
‫جَع ْ‬
‫ضّلُه َي ْ‬
‫ن ُي ِ‬
‫ن ُيِرْد َأ ْ‬
‫لِم َوَم ْ‬
‫سَ‬‫لْ‬
‫صْدَرُه ِل ِْ‬
‫ح َ‬
‫شَر ْ‬
‫ن َيهِدَيُه َي ْ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ُيِرْد ا ُّ‬

‫ل ُيِريدُ َأْن ُيْغِوَيُكْم ُهَو َرّبُكْم َوِإَلْيِه ُتْرَجُعوَن{ ]هود‪.[34 :‬‬


‫ن ا ُّ‬
‫ن َكا َ‬
‫ح َلُكْم ِإ ْ‬
‫صَ‬
‫ن َأن َ‬
‫ت َأ ْ‬
‫ن َأَرْد ُ‬
‫حي ِإ ْ‬
‫صِ‬ ‫وكما قال نوح‪َ} :‬و َ‬
‫ل َينَفُعُكْم ُن ْ‬

‫ل كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬وهذه الرادة متعلقة بكل‬ ‫فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه‪ .‬كما يقول المسلمون‪ :‬ما شاء ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫حادث‪ ،‬والرادة الشرعية المرية ل تتعلق إل بالطاعات‪ ،‬كما يقول الناس لمن يفعل القبيح‪ :‬يفعل شيًئا ما يريده ا ّ‬
‫ل كان وما لم يشأ لم يكن‪ .‬فإن هذه الرادة نوعان‪ .‬كما قد بسط في موضع آخر‪.‬‬ ‫مع قولهم‪ :‬ما شاء ا ّ‬

‫ل تعالى أراد أن‬


‫ل إلى طاعته‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫وقد يراد بالهدى اللهام‪ ،‬ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين الذين ‪ /‬هداهم ا ّ‬
‫ي َلْو َ‬
‫ل‬ ‫ل اّلِذي َهَداَنا ِلَهَذا َوَما ُكّنا ِلَنْهَتِد َ‬ ‫يتوب عليهم ويهديهم‪ ،‬فاهتدوا‪ ،‬ولول إرادته لهم ذلك لم يهتدوا‪ ،‬كما قالوا‪} :‬اْل َ‬
‫حْمُد ِّ‬
‫ق{ ]العراف‪.[43 :‬‬ ‫حّ‬
‫ل َرّبَنا ِباْل َ‬
‫سُ‬‫ت ُر ُ‬
‫جاَء ْ‬
‫ل َلَقْد َ‬
‫ن َهَداَنا ا ُّ‬
‫َأ ْ‬

‫لكن الخطاب في الية لجميع المسلمين‪ ،‬كالخطاب بآية الوضوء‪ .‬والخطاب لهل البيت بقوله‪ِ} :‬إّنَما ُيِريُد ا ُّ‬
‫ل ِلُيْذِهبَ‬
‫سَر{‬‫ل ُيِريُد ِبُكْم اْلُع ْ‬ ‫سَر َو َ‬ ‫س{ ]الحزاب‪[33 :‬؛ ولهذا يهدد من لم يطعه‪ .‬وكما في الصيام‪ُ} :‬يِريُد ا ُّ‬
‫ل ِبُكْم اْلُي ْ‬ ‫ج َ‬
‫عْنُكْم الّر ْ‬
‫َ‬
‫]البقرة‪ ،[185 :‬فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا‪ ،‬ل إرادة الخلق المستلزمة للمراد‪ ،‬لنه لو كان كذلك‬
‫لم تكن الية خطاًبا‪ ،‬إل لمن أخذ باليسر‪ ،‬ولمن فعل ما أمر به‪ ،‬وكان من تخلف عن ذلك ل يدخل تحت المر والنهي‬
‫الذي في الية‪ ،‬وليس كذلك‪ .‬بل الحكم الشرعي لزم لجميع المسلمين‪ ،‬فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب‪ ،‬والذين‬
‫أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم‪ ،‬هدي اللهام‪ ،‬والعانة بأن جعلهم مهتدين‪ .‬كما أنه هو الذي جعل المصلي مصلًيا‪،‬‬
‫والمسلم مسلًما‪.‬‬

‫ظيًما{‬
‫عِ‬‫ل َ‬‫ن َتِميُلوا َمْي ً‬
‫ت َأ ْ‬
‫شَهَوا ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ولو كانت الرادة هنا من النسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقل‪َ} :‬وُيِريُد اّلِذي َ‬
‫ن َيّتِبُعو َ‬
‫حي ِإ ْ‬
‫ن‬ ‫صِ‬ ‫]النساء‪ ،[27 :‬فإنه حينئذ ل تأثير لرادة هؤلء‪ ،‬بل وجودها وعدمها سواء‪ .‬كما في قول نوح‪َ} :‬و َ‬
‫ل َينَفُعُكْم ُن ْ‬
‫ل كان‪ ،‬وإن لم يشأ الناس‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪،‬‬
‫ل ُيِريُد َأْن ُيْغِوَيُكْم{ ]هود‪ ،[34 :‬فإن ما شاء ا ّ‬
‫ن ا ُّ‬
‫ن َكا َ‬
‫ح َلُكْم ِإ ْ‬
‫صَ‬
‫ن َأن َ‬
‫ت َأ ْ‬
‫َأَرْد ُ‬
‫وإن شاءه الناس‪.‬‬

‫والمقصود بالية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات‪ .‬والمعنى‪ :‬إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم‪ ،‬وهؤلء‬
‫يريدون لكم الشر الذي يضركم‪ ،‬كالشيطان الذي يريد أن يغويكم‪ ،‬وأتباعه هم أهل الشهوات فل تتخذوه وذريته أولياء‬
‫ل َو َ‬
‫ل‬ ‫ضّ‬‫ل َي ِ‬
‫ي َف َ‬ ‫من دوني‪ ،‬بل اسلكوا طرق الهدي والرشاد‪ ،‬وإياكم وطرق الغي والفساد‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬فَم ْ‬
‫ن اّتَبَع ُهَدا َ‬
‫َيْشَقى{ اليات ]طه‪.[123 :‬‬

‫ت{ ]النساء‪ ،[27 :‬في الموضعين‪ ،‬فاتباع الشهوة من جنس اتباع الهوى‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬أّنَما‬ ‫شَهَوا ِ‬ ‫ن ال ّ‬‫وقوله‪َ} :‬يّتِبُعو َ‬
‫سَد ْ‬
‫ت‬ ‫ق َأْهَواَءُهْم َلَف َ‬
‫حّ‬‫ل{ ]القصص‪ ،[50 :‬وقال‪َ} :‬وَلْو اّتَبَع اْل َ‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ن اّتَبَع َهَواُه ِبَغْيِر ُهًدى ِم ْ‬ ‫ل ِمّم ْ‬‫ضّ‬‫ن َأ َ‬ ‫ن َأْهَواَءُهْم َوَم ْ‬
‫َيّتِبُعو َ‬
‫ضّلوا ِمْن َقْبُل{ ]المائدة‪،[77 :‬‬ ‫ن{ ] المؤمنون‪ ،[ 71 :‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َتّتِبُعوا َأْهَواَء َقْوٍم َقْد َ‬ ‫ن ِفيِه ّ‬
‫ض َوَم ْ‬‫لْر ُ‬ ‫ت َوا َْ‬‫سَماَوا ُ‬
‫ال ّ‬
‫ل َتّتِبْع‬‫عَمِلِه َواّتَبُعوا َأهَْواَءُهْم{ ]محمد‪ ،[14 :‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬ ‫سوُء َ‬ ‫ن َلُه ُ‬
‫ن ُزّي َ‬
‫ن َرّبِه َكَم ْ‬‫عَلى َبّيَنٍة ِم ْ‬‫ن َ‬ ‫ن َكا َ‬‫وقال تعالى‪َ} :‬أَفَم ْ‬
‫َأْهَواَء اّلِذيَن َل َيْعَلُموَن{ ]الجاثية‪ ،[18 :‬وهذا في القرآن كثير‪.‬‬

‫والهوى‪ :‬مصدر هوى يهوي هوى‪ ،‬ونفس المهوي يسمى هوى ما يهوى‪ ،‬فاتباعه كاتباع السبيل‪.‬كما قال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل‬
‫ضّلوا ِمْن َقْبُل{ وكما في لفظ الشهوة‪ ،‬فاتباع الهوى يراد به نفس مسمى المصدر‪ ،‬أي اتباع إرادته‬ ‫َتّتِبُعوا َأْهَواَء َقْوٍم َقْد َ‬
‫ي{ ]لقمان‪،[15 :‬‬ ‫ب ِإَل ّ‬
‫ن َأَنا َ‬
‫ل َم ْ‬ ‫ومحبته التي هي هواه واتباع الرادة‪ :‬هو فعل ما تهواه النفس‪ ،‬كقوله تعالى‪َ} :‬واّتِبْع َ‬
‫سِبي َ‬
‫ن ُدوِنِه‬ ‫ن سَِبيِلِه{ ]النعام‪ ،[153 :‬وقال‪َ} :‬و َ‬
‫ل َتّتِبُعوا ِم ْ‬ ‫عْ‬
‫ق ِبُكْم َ‬
‫ل َفَتَفّر َ‬
‫سُب َ‬
‫ل َتّتِبُعوا ال ّ‬
‫سَتِقيًما َفاّتِبُعوُه َو َ‬
‫طي ُم ْ‬
‫صَرا ِ‬
‫ن َهَذا ِ‬ ‫وقوله‪َ} :‬وَأ ّ‬
‫َأْوِلَياَء{ ]العراف‪ ،[3 :‬فلفظ التباع يكون للمر الناهي‪ ،‬وللمر والنهي‪ ،‬وللمأمور به والمنهي عنه‪ ،‬وهو الصراط‬
‫المستقيم‪.‬‬

‫ل َما‬
‫سوِء ِإ ّ‬
‫لّماَرٌة ِبال ّ‬
‫س َ‬
‫ن الّنْف َ‬
‫سي ِإ ّ‬ ‫كذلك يكون للهوى أمر ونهي‪ ،‬وهو أمر النفس ونهيها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَما ُأَبّر ُ‬
‫ئ َنْف ِ‬
‫َرِحَم َرّبي ِإّن َرّبي َغُفوٌر َرِحيٌم{ ]يوسف‪ ،[53 :‬ولكن ما يأمر به من الفعال المذمومة‪ ،‬فأحدها مستلزم للخر‪ ،‬فاتباع‬
‫المر هو فعل المأمور‪ ،‬واتباع أمر النفس هو فعل ما تهواه‪ ،‬فعلى هذا يعلم أن اتباع الشهوات‪ ،‬واتباع الهواء هو‬
‫اتباع شهوة النفس‪ ،‬وهواها‪ ،‬وذلك بفعل ما تشتهيه وتهواه‪.‬‬

‫بل قد يقال‪ :‬هذا هو الذي يتعين في لفظ اتباع الشهوات والهواء‪ ،‬لن الذي يشتهي ويهوى‪ ،‬إنما يصير موجوًدا بعد‬
‫أن يشتهي ويهوى‪ ،‬وإنما يذم النسان إذا فعل ما يشتهي ويهوى عند وجوده‪ / ،‬فهو حينئذ قد فعل‪ ،‬ول ينهى عنه بعد‬
‫وجوده‪ ،‬ول يقال لصاحبه‪ :‬ل تتبع هواك‪.‬‬

‫ضا فالفعل المراد المشتهى‪ ،‬الذي يهواه النسان‪ :‬هو تابع لشهوته وهواه‪ ،‬فليست الشهوة والهوي تابعة له‪ ،‬فاتباع‬
‫وأي ً‬
‫الشهوات هو اتباع شهوة النفس‪ ،‬وإذا جعلت الشهوة بمعنى المشتهى كان مع مخالفة الصل يحتاج إلى أن يجعل في‬
‫ضا‪،‬‬
‫الخارج ما يشتهي‪ ،‬والنسان يتبعه كالمرأة المطلوبة‪ ،‬أو الطعام المطلوب‪ ،‬وإن سميت المرأة شهوة والطعام أي ً‬
‫كما في قوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬كل عمل ابن آدم له إل الصيام فإنه لي‪ ،‬وأنا أجزي به‪ ،‬يدع طعامه وشرابه‬
‫وشهوته من أجلي( أي‪ :‬يترك شهوته‪ ،‬وهو إنما يترك ما يشتهيه كما يترك الطعام‪ ،‬ل أنه يدع طعامه بترك الشهوة‬
‫الموجودة في نفسه‪ ،‬فإن تلك مخلوقة فيه مجبول عليها‪ ،‬وإنما يثاب إذا ترك ما تطلبه تلك الشهوة‪.‬‬

‫وحقيقة المر‪ ،‬أنهما متلزمان‪ ،‬فمن اتبع نفس شهوته القائمة بنفسه اتبع ما يشتهيه‪ ،‬وكذلك من اتبع الهوى القائم بنفسه‬
‫اتبع ما يهواه‪ ،‬فإن ذلك من آثار الرادة‪ ،‬واتباع الرادة هو امتثال أمرها‪ ،‬وفعل ما تطلبه‪ ،‬كالمأمور الذي يتبع أمر‬
‫أميره‪ ،‬ولبد أن يتصور مراده الذي يهواه ويشتهيه في نفسه ويتخيله قبل فعله‪ .‬فيبقى ذلك المثال كالمام مع المأموم‬
‫يتبعه حيث كان‪ ،‬وفعله في الظاهر ‪ /‬تبع لتباع الباطن‪ ،‬فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهي التي في النفس هي‬
‫المحركة للنسان المرة له‪.‬‬

‫ل للفعل‪ ،‬وهذه‬
‫ولهذا يقال‪ :‬العلة الغائية علة فاعلية‪ ،‬فإن النسان للعلة الغائية ـ بهذا التصور والرادة ـ صار فاع ً‬
‫ل‪ ،‬فيكون النسان متبًعا لها‪ ،‬والشيطان يمده في‬
‫الصورة المرادة المتصورة في النفس هي التي جعلت الفاعل فاع ً‬
‫الغي‪ ،‬فهو يقوي تلك الصورة ويقوي أثرها ويزين للناس اتباعها‪ ،‬وتلك الصورة تتناول صورة العين المطلوبة ـ‬
‫كالمحبوب من الصور والطعام والشراب ـ ويتناول نفس الفعل الذي هو المباشر لذلك المطلوب المحبوب‪ ،‬والشيطان‬
‫والنفس تحب ذلك‪ ،‬وكلما تصور ذلك المحبوب في نفسه أراد وجوده في الخارج‪ ،‬فإن أول الفكر آخر العمل‪ ،‬وأول‬
‫البغية آخر الدرك‪.‬‬

‫ولهذا يبقى النسان عند شهوته‪ ،‬وهواه أسيًرا لذلك‪ ،‬مقهوًرا تحت سلطان الهوى‪ ،‬أعظم من قهر كل قاهر‪ ،‬فإن هذا‬
‫القاهر الهوائي‪ ،‬القاهر للعبد‪ ،‬هو صفة قائمة بنفسه‪ ،‬ليمكنه مفارقته البتة‪ ،‬والصورة الذهنية تطلبها النفس‪ ،‬فإن‬
‫المحبوب تطلب النفس أن تدركه‪ ،‬وتمثله لها في نفسها‪ ،‬فهو متبع للرادة‪ .‬وإن كانت الذهنية والتزين من الزين‬
‫والمراد التصور في نفسه‪ .‬والمشتهى الموجود في الخارج له محركان‪ :‬التصور والمشتهى‪ ،‬هذا يحركه تحريك طلب‬
‫وأمر‪ ،‬وهذا يأمره أن يتبع ‪ /‬طلبه وأمره‪ ،‬فاتباع الشهوات والهواء يتناول هذا كله‪ ،‬بخلف كل قاهر ينفصل عن‬
‫النسان فإنه يمكنه مفارقته مع بقاء نفسه على حالها‪ ،‬وهذا إنما يفارقه بتغير صفة نفسه‪.‬‬

‫ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ثلث مهلكات‪ :‬شح مطاع‪ ،‬وهوي متبع‪ ،‬وإعجاب المرء بنفسه‪ .‬وثلث‬
‫ل في السر والعلنية‪ ،‬والقصد في الفقر والغنى‪ ،‬وكلمة الحق في الغضب والرضا(‪.‬‬
‫منجيات‪ :‬خشية ا ّ‬

‫وقوله في الحديث‪ :‬هوي متبع‪ ،‬فيه دليل على أن المتبع هو ما قام في النفس‪ .‬كقوله‪ :‬في الشح المطاع‪ ،‬وجعل الشح‬
‫عا‪ ،‬لنه هو المر‪ ،‬وجعل الهوى متبًعا‪ ،‬لن المتبع قد يكون إماًما يقتدى به ول يكون آمًرا‪ .‬وفي الصحيحين عن‬ ‫مطا ً‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إياكم والشح‪ .‬فإن الشح أهلك من كان قبلكم‪ ،‬أمرهم بالبخل فبخلوا‪ ،‬وأمرهم بالظلم‬
‫فظلموا‪ ،‬وأمرهم بالقطيعة فقطعوا(‪ .‬فبين أن الشح يأمر بالبخل والظلم والقطيعة‪ ،‬فالبخل‪ ،‬منع منفعة الناس بنفسه‬
‫وماله‪ ،‬والظلم‪ ،‬هو العتداء عليهم‪.‬‬

‫فالول هو التفريط فيما يجب‪ ،‬فيكون قد فرط فيما يجب‪ ،‬واعتدى عليهم بفعل ما يحرم وخص قطيعة الرحم بالذكر‬
‫إعظاًما لها؛ لنها تدخل ‪ /‬في المرين المتقدمين قبلها‪.‬‬

‫ل عنه‪ ،‬ول يمنع شيًئا‬


‫ق ُشّح َنْفِسِه{ ]الحشر‪ ،[9 :‬هو أل يأخذ شيًئا مما نهاه ا ّ‬ ‫وقال المفسرون في قوله تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن ُيو َ‬
‫ل ينهى عن الظلم‪ ،‬ويأمر بالحسان‪ ،‬والشح يأمر بالظلم‪،‬‬ ‫ل ورسوله‪ .‬فإن ا ّ‬ ‫ل بأدائه‪ ،‬فالشح يأمر بخلف أمرا ّ‬ ‫أمره ا ّ‬
‫وينهى عن الحسان‪.‬‬

‫وقد كان عبد الرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت‪ ،‬وبالوقوف بعرفة أن يقول‪ :‬الّلهم قني شح نفسي‪ ،‬فسئل عن‬
‫ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬إذا وقيت شح نفسي‪ ،‬وقيت الظلم والبخل والقطيعة‪ .‬وفي رواية عنه قال‪ :‬إني أخاف أن أكون قد هلكت‪،‬‬
‫ق ُشّح َنْفِسِه{‪ ،‬وأنا رجل شحيح ل يكاد يخرج من يدي شيء‪ ،‬فقال‪ :‬ليس‬ ‫ل يقول‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن ُيو َ‬ ‫قال‪ :‬وماذاك؟ قال‪ :‬أسمع ا ّ‬
‫ل في القرآن إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلًما‪ ،‬وإنما يكن بالبخل وبئس الشيء البخل‪.‬‬ ‫ذاك بالشح الذي ذكره ا ّ‬

‫عَلى‬
‫ن َ‬
‫جًة ِمّما ُأوُتوا َوُيْؤِثُرو َ‬
‫حا َ‬
‫صُدوِرِهْم َ‬
‫ن ِفي ُ‬
‫جُدو َ‬ ‫وقد ذكر تعالى الشح في سياق ذكر الحسد واليثار في قوله‪َ} :‬و َ‬
‫ل َي ِ‬
‫ك ُهْم اْلُمْفِلُحوَن{ ]الحشر‪ ،[9 :‬فمن وقى شح نفسه لم يكن‬ ‫سِه َفُأْوَلِئ َ‬
‫ح َنْف ِ‬
‫شّ‬
‫ق ُ‬ ‫صٌة{‪ ،‬ثم قال‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن ُيو َ‬ ‫صا َ‬
‫خ َ‬
‫ن ِبِهْم َ‬
‫سِهْم َوَلْو َكا َ‬
‫َأْنُف ِ‬
‫حسوًدا باغًيا على المحسود والحسد أصله بغض المحسود‪.‬‬

‫‪/‬والشح يكون في الرجل مع الحرص‪ ،‬وقوة الرغبة في المال‪ ،‬وبغض للغير وظلم له‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬قْد َيْعَلُم الُّ‬
‫خْيِر ُأْوَلِئ َ‬
‫ك‬ ‫عَلى اْل َ‬ ‫حًة َ‬‫عَلْيُكْم{ اليات ـ إلى قوله‪َ} :‬أ ِ‬
‫شّ‬ ‫حًة َ‬
‫شّ‬‫ل ‪َ .‬أ ِ‬
‫ل َقِلي ً‬
‫س ِإ ّ‬
‫ن اْلَبْأ َ‬
‫ل َيْأُتو َ‬
‫خَواِنِهْم َهُلّم ِإَلْيَنا َو َ‬
‫لْ‬‫ن ِ‬
‫ن ِمْنُكْم َواْلَقاِئِلي َ‬‫اْلُمَعّوِقي َ‬
‫ل َأْعَماَلُهْم{ ]الحزاب‪ ،[19 ،18 :‬فشحهم على المؤمنين‪ ،‬وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه‪،‬‬ ‫ط ا ُّ‬ ‫حَب َ‬
‫َلْم ُيْؤِمُنوا َفَأ ْ‬
‫وبغض الخير يأمر بالشر‪ ،‬وبغض النسان يأمر بظلمه‪ ،‬وقطيعته كالحسد‪ ،‬فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود‬
‫وقطيعته‪ ،‬كابني آدم وإخوة يوسف‪.‬‬

‫ضا وكراهية‪ ،‬فيأمران بمنع الواجب وبظلم ذلك الشخص‪ ،‬فإن الفعل صدر فيه عن‬ ‫فالحسد والشح‪ ،‬يتضمنان بغ ً‬
‫بغض‪ ،‬بخلف الهوى فإن الفعل صدر فيه عن حب أحب شيًئا فاتبعه ففعله‪ ،‬وذلك مقصوده أمر عدمي والعدم ل ينفع‪.‬‬
‫ولكن ذاك القصد أمر بأمر وجودي‪ ،‬فأطيع أمره‪.‬‬

‫جا عن الشح والنبي صلى ال عليه وسلم جعل الشح يأمر بالبخل‪.‬‬
‫وابن مسعود جعل البخل خار ً‬
‫ومن الناس من يقول‪ :‬الشح‪ ،‬والبخل سواء‪ .‬كما قال ابن جرير‪ :‬الشح في كلم العرب هو البخل‪ ،‬ومنع الفضل من‬
‫المال‪ .‬وليس ‪ /‬كما قال‪ :‬بل ما قاله النبي صلى ال عليه وسلم وابن مسعود أحق أن يتبع ‪ ،‬فإن البخيل قد يبخل بالمال‬
‫محبة لما يحصل لـه به من اللذة والتنعم‪ ،‬وقد ل يكون متلذًذا به ول متنعًما بل نفسه تضيق عن إنفاقه وتكره ذلك حتي‬
‫يكون يكره‪ ،‬أن ينفع نفسه منه مع كثرة ماله‪ ،‬وهذا قد يكون مع التذاذه بجمع المال ومحبته لرؤيته‪ .‬وقد ل يكون هناك‬
‫ضا للخير ل للمعطي ول‬ ‫لذة أصل‪ ،‬بل يكره أن يفعل إحساًنا إلى أحد حتى لو أراد غيره أن يعطي كره ذلك منه بغ ً‬
‫ضا وحسًدا للمعطي‪ ،‬أو للمعطي وهذا هو الشح وهذا هو الذي يأمر بالبخل‬‫ضا منه للخير وقد يكون بغ ً‬ ‫للمعطي‪ ،‬بل بغ ً‬
‫حا‪.‬‬
‫قطًعا‪ ،‬ولكن كل بخل يكون عن شح‪ ،‬فكل شحيح بخيل وليس كل بخيل شحي ً‬

‫قال الخطابي‪ :‬الشح أبلغ في المنع من البخل‪ ،‬والبخل إنما هو من أفراد المور وخواص الشياء‪ ،‬والشح عام‪ ،‬فهو‬
‫كالوصف اللزم للنسان من قبل الطبع والجبلة‪.‬‬

‫وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال‪ :‬البخل‪ :‬أن يظن النسان بماله‪ ،‬والشح‪ :‬أن يضن بماله ومعروفه‪ ،‬وقيل‪ :‬الشح‪:‬‬
‫أن يشح بمعروف غيره على غيره‪ ،‬و البخل‪ :‬أن يبخل بمعروفه على غيره والذين يتبعون الشهوات‪ ،‬ويتبعون‬
‫أهواءهم يحبون ذلك ويريدونه‪ ،‬فاتبعوا ‪/‬محبتهم وإرادتهم من غير علم‪ ،‬فلم ينظروا هل ذلك نافع لهم في العاقبة أو‬
‫ضار‪.‬‬

‫ل{ ]القصص‪ ،[50 :‬واتباع‬ ‫ن ا ِّ‬


‫ن اّتَبَع َهَواهُ ِبَغْيِر ُهًدى ِم ْ‬
‫ل ِمّم ْ‬
‫ضّ‬ ‫ن َأْهَواَءُهْم{ ثم قال‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َأ َ‬ ‫ولهذا قال‪َ} :‬فا ْ‬
‫عَلْم َأّنَما َيّتِبُعو َ‬
‫ل ما يستحسنون بل علم‪ ،‬ول برهان‪ ،‬كما قال‪َ} :‬أَفَرَأْي َ‬
‫ت‬ ‫الهوى درجات‪ :‬فمنهم المشركون والذين يعبدون من دون ا ّ‬
‫َمْن اّتَخَذ ِإَلَهُه َهَواُه{ ]الجاثية‪ ،[23 :‬أي يتخذ إلهه الذي يعبده وهو ما يهواه من آلهة‪ ،‬ولم يقل‪ :‬إن هواه نفس إلهه فليس‬
‫كل من يهوي شيًئا يعبده‪ ،‬فإن الهوى أقسام بل المراد أنه جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه‪ ،‬فكانت عبادته تابعة‬
‫لهوى نفسه في العبادة‪ ،‬فإنه لم يعبد ما يحب أن يعبد‪ ،‬ول عبد العبادة التي أمر بها‪.‬‬

‫ل بها‪ ،‬فهم إنما اتبعوا أهواءهم‪،‬‬


‫ل‪ ،‬وابتدعوا عبادات زعموا أنهم يعبدون ا ّ‬
‫وهذه حال أهل البدع‪ ،‬فإنهم عبدوا غير ا ّ‬
‫فإن أحدهم يتبع محبة نفسه وذوقها ووجدها وهواها من غير علم‪ ،‬ول هدى‪ ،‬ول كتاب منير‪.‬‬

‫ل بما شاء‪ ،‬ل بالحوادث والبدع‪.‬‬


‫فلو اتبع العلم والكتاب المنير‪ ،‬لم يعبد إل ا ّ‬

‫‪/‬والمقصود أن اللهة كثيرة‪ ،‬والعبادات لها متنوعة‪ ،‬وبالجملة فكل ما يريده النسان ويحبه لبد أن يتصوره في نفسه‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وتمثلت له الشياطيـن في صورة‬ ‫فتلك الصورة العلمية محركة له إلى محبوبه ولوازم الحب‪ ،‬فمن عبده عبد غير ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فإنما يعبد الشيطان؛ ولهذا يقارن‬‫من يعبـده‪ ،‬وهذا كثير ما زال ولم يزل؛ ولهذا كان كل من عبد شيًئا غير ا ّ‬
‫الشيطان الشمس عند طلوعها وغروبها‪ ،‬واستوائها ليكون سجود من يعبدها له‪.‬‬

‫وقد كانت الشياطين‪ ،‬تتمثل في صورة من يعبد‪ ،‬كما كانت تكلمهم من الصنام التي يعبدونها‪ ،‬وكذلك في وقتنا خلق‬
‫كثير من المنتسبين إلى السلم‪ ،‬والنصارى والمشركين ممن أشرك ببعض من يعظمه من الحياء والموات من‬
‫المشايخ وغيرهم‪ ،‬فيدعوه ويستغيث به في حياته وبعد مماته‪ ،‬فيراه قد أتاه وكلمه وقضى حاجته‪ ،‬وإنما هو شيطان‬
‫تمثل على صورته‪ ،‬ليغوى هذا المشرك‪.‬‬

‫والمبتلون بالعشق‪ ،‬ل يزال الشيطان يمثل لحدهم صورة المعشوق‪ ،‬أو يتصور بصورته‪ ،‬فل يزال يرى صورته‪،‬‬
‫ل الذكر الذي يخنس منه الوسواس‬
‫مع مغيبه عنه بعد موته‪ ،‬فإنما جله الشيطان على قلبه‪ ،‬ولهذا إذا ذكر العبد ا ّ‬
‫الخناس خنس هذا المثال الشيطاني‪ ،‬وصورة المحبوب تستولى على المحب أحياًنا حتى ل يرى غيرها‪ ،‬ول يسمع‬
‫غير كلمها‪ ،‬فتبقى ‪ /‬نفسه مشتغلة بها‪.‬‬

‫صا‪ ،‬يحصل لحدهم نوع من ذلك يسمى الصطلم والفناء‪ ،‬يغيب بمحبوبه عن‬ ‫ل مسلكا ناق ً‬
‫والذين يسلكون في محبة ا ّ‬
‫ل وصفاته وكلمه وأمره‬ ‫محبته‪ ،‬وبمعروفه عن معرفته‪ ،‬وبمذكوره عن ذكره‪ ،‬حتى ل يشعر بشيء من أسماء ا ّ‬
‫ونهيه‪.‬‬
‫ل‪ ،‬ويظن كثير من المسالكين‪ ،‬أن هذا هو غاية‬
‫ومنهم من قد ينتقل من هذا إلى التحاد‪ .‬فيقول‪ :‬أنا هو‪ ،‬وهو أنا‪ ،‬وأنا ا ّ‬
‫السالكين‪ ،‬وأن هذا هو التوحيد‪ ،‬الذي هو نهاية كل سالك‪ ،‬وهم غالطون في هذا‪ ،‬بل هذا من جنس قول النصارى‪،‬‬
‫ل وأمره‪.‬‬
‫ولكن ضلوا لنهم لم يسلكوا الطريق الشرعية في الباطن في خبر ا ّ‬

‫وقد بسط الكلم على هذا في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والمقصود أن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس‪ ،‬يستولى على قلب أحدهم مايشتهيه حتى‬
‫يقهره ويملكه‪ ،‬ويبقى أسيًرا ما يهواه‪ ،‬يصرفه كيف تصرف ذلك المطلوب؛ ولهذا قال بعض السلف‪ :‬ما أنا على‬
‫الشاب الناسك بأخوف مني عليه من سبع ضار يثب عليه من صبي حدث يجلس إليه‪.‬‬

‫ل وعبادته انجذاًبا تاًما‪ ،‬ول قام بها من خشية‬


‫‪/‬وذلك أن النفس الصافية التي فيها رقة الرياضة‪ ،‬ولم تنجذب إلى محبة ا ّ‬
‫ل التامة ما يصرفها عن هواها متى صارت تحت صورة من الصور استولت تلك الصورة عليها‪ .‬كما يستولى السبع‬ ‫ا ّ‬
‫على ما يفترسه‪ ،‬فالسبع يأخذ فريسته بالقهر‪ ،‬ول تقدر الفريسة على المتناع منه‪ .‬كذلك ما يمثله النسان في قلبه من‬
‫الصور المحبوبة‪ ،‬تبتلع قلبه وتقهره‪ ،‬فل يقدر قلبه على المتناع منه‪ ،‬فيبقى قلبه مستغرًقا في تلك الصورة أعظم من‬
‫استغراق الفريسة في جوف السد؛ لن المحبوب المراد هو غاية النفس‪ ،‬له عليها سلطان قاهر‪.‬‬

‫والقلب يغرق فيما يستولى عليه‪ ،‬إما من محبوب وإما من مخوف‪ ،‬كما يوجد من محبة المال والجاه والصور‪،‬‬
‫والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرًقا فيه‪ ،‬كما يغرق الغريق في الماء‪ ،‬فلبد أن يستولى عليها مايحيط بها من‬
‫الجسام‪ ،‬والقلوب يستولى عليها ما يتمثل لها من المخاوف‪ ،‬والمحبوبات والمكروهات‪ ،‬فالمحبوب يطلبه‪ ،‬والمكروه‬
‫ل‪ ،‬ول يذهب السيئات إل ا ّ‬
‫ل‬ ‫يدفعه‪ ،‬والرجاء يتعلق بالمحبوب والخوف يتعلق بالمكروه‪ ،‬ول يأتي بالحسنات إل ا ّ‬
‫حيُم{‬
‫عَباِدِه َوُهَو اْلَغُفوُر الّر ِ‬
‫ن ِ‬
‫شاُء ِم ْ‬
‫ن َي َ‬
‫ب ِبِه َم ْ‬
‫صي ُ‬
‫ضِلِه ُي ِ‬
‫ل َراّد ِلَف ْ‬
‫خْيٍر َف َ‬
‫ك ِب َ‬
‫ن ُيِرْد َ‬
‫ل ُهَو َوِإ ْ‬‫ف َلُه ِإ ّ‬
‫ش َ‬ ‫ل َكا ِ‬‫ضّر َف َ‬‫ل ِب ُ‬
‫ك ا ُّ‬
‫سَ‬
‫سْ‬‫ن َيمْ َ‬
‫}َوِإ ْ‬
‫ضّر َفِإَلْيِه َتْجَأُروَن{ ]النحل‪.[53 :‬‬ ‫سُكْم ال ّ‬‫ل ُثّم ِإَذا َم ّ‬
‫ن ا ِّ‬ ‫]يونس‪َ} [107 :‬وَما ِبُكْم ِم ْ‬
‫ن ِنْعَمٍة َفِم ْ‬

‫ل‪ ،‬ومحبته‪ ،‬ومعرفته‪ ،‬وتوحيده‪،‬‬


‫‪/‬وإذا دعا العبد ربه بإعطاء المطلوب‪ ،‬ودفع المرهوب‪ ،‬جعل له من اليمان با ّ‬
‫ضا من الدنيا‪ ،‬وأما إذا‬
‫ورجائه‪ ،‬وحياة قلبه‪ ،‬واستنارته بنور اليمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب إن كان عر ً‬
‫طلب منه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته ومايتبع ذلك‪ ،‬فهنا المطلوب قد يكون أنفع من الطلب‪ .‬وهو الدعاء‬
‫والمطلوب الذكر والشكر‪ ،‬وقيام العبادة على أحسن الوجوه وغير ذلك‪ .‬وهذا لبسطه موضع آخر‪.‬‬

‫والمقصود أن القلب قد يغمره‪ ،‬فيستولى عليه ما يريده العبد‪ ،‬ويحبه‪ ،‬ومايخافه ويحذره‪ ،‬كائنا من كان؛ ولهذا قال‬
‫ك ُهْم َلَها َعاِمُلوَن{]المؤمنون‪ ،[36 :‬فهي فيما يغمرها عما‬ ‫ن َذِل َ‬
‫ن ُدو ِ‬ ‫ل ِم ْ‬‫عَما ٌ‬
‫ن َهَذا َوَلُهْم َأ ْ‬
‫غْمَرٍة ِم ْ‬ ‫تعالى‪َ} :‬ب ْ‬
‫ل ُقُلوُبُهْم ِفي َ‬
‫ل تعالى‪ّ} :‬فّذرٍهًم ٌفي‬
‫ل والدار الخرة وما فيها من النعيم‪ ،‬والعذاب الليم‪ .‬قال ا ّ‬ ‫أنذرت به‪ ،‬فيغمرها ذلك عن ذكر ا ّ‬
‫ّغمّرتٌهًم ّحّتى" ٌحيُن{]المؤمنون‪ ،[54 :‬أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في‬
‫صوَن ‪ .‬اّلِذيَن ُهْم ِفي َغْمَرٍة َساُهوَن{ اليات ]الذاريات‪،[11 ،10 :‬‬
‫خّرا ُ‬ ‫الخيرات‪ ،‬والعمال الصالحة‪ .‬وقال تعالى‪ُ} :‬قِت َ‬
‫ل اْل َ‬
‫أي ساهون عن أمر الخرة‪ ،‬فهم في غمرة عنها‪ ،‬أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها‪ ،‬ساهون عن أمر‬
‫الخرة‪ ،‬وما خلقوا له‪.‬‬

‫طا{ ]الكهف‪ ،[28 :‬فالغمرة تكون من اتباع‬


‫ن َأْمُرُه ُفُر ً‬
‫ن ِذْكِرَنا َواّتَبَع َهَواُه َوَكا َ‬
‫عْ‬‫غَفْلَنا َقْلَبُه َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫طْع َم ْ‬ ‫وهذا يشبه قوله‪َ} :‬و َ‬
‫ل ُت ِ‬
‫الهوى‪ ،‬والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال من قال‪ :‬السهو‪ :‬الغفلة عن الشيء‪ ،‬وذهاب القلب عنه‪ ،‬وهذا جماع الشر‬
‫الغفلة‪ ،‬والشهوة‪.‬‬

‫ل والدار الخرة تسد باب الخير‪ ،‬الذي هو الذكر واليقظة‪.‬‬


‫فالغفلة عن ا ّ‬

‫ل‪،‬‬
‫ل‪ ،‬رائًدا غير ا ّ‬
‫ل عن ا ّ‬
‫والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف‪ ،‬فيبقى القلب مغموًرا فيما يهواه ويخشاه‪ ،‬غاف ً‬
‫ل‪ ،‬قد انفرط أمره‪ ،‬قد ران حب الدنيا على قلبه‪ ،‬كما روى في صحيح البخاري‪،‬‬ ‫ساهًيا عن ذكره‪ ،‬قد اشتغل بغير ا ّ‬
‫وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬تعس عبد الدينار‪ ،‬تعس عبد الدرهم‪ ،‬تعس عبد‬
‫القطيفة‪ ،‬تعس عبد الخميصة‪ ،‬تعس وانتكس‪ ،‬وإذا شيك فل انتقش‪ ،‬إن أعطى رضى‪ ،‬وإن منع سخط(‪.‬‬
‫جعله عبد ما يرضيه وجوده ويسخطه فقده‪ ،‬حتى يكون عبد الدرهم‪ ،‬وعبد ما وصف في هذا الحديث‪ ،‬والقطيفة‪ :‬هي‬
‫التي يجلس عليها‪ ،‬فهو خادمها‪ ،‬كما قال بعض السلف‪ :‬البس من الثياب ما يخدمك‪ ،‬ول تلبس منها ما تكن أنت تخدمه‪،‬‬
‫وهي كالبساط الذي تجلس عليه‪ ،‬والخميصة‪ :‬هي التي يرتدي بها‪ ،‬وهذا من أقل المال‪ .‬وإنما ‪ /‬نبه به النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم على ما هو أعلي منه‪ ،‬فهو عبد لذلك‪ ،‬فيه أرباب متفرقون‪ ،‬وشركاء متشاكسون‪.‬‬

‫ولهذا قال‪) :‬إن أعطى رضي‪ ،‬وإن منع سخط(‪ .‬فما كان يرضى النسان حصوله ويسخطه فقده‪ ،‬فهو عبده‪ ،‬إذ العبد‬
‫يرضى باتصاله بهما‪ ،‬ويسخط لفقدهما‪ .‬والمعبود الحق الذي ل إله إل هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك‬
‫في قلبه إيمان‪ ،‬وتوحيد ومحبة‪ ،‬وذكر‪ ،‬وعبادة‪ ،‬فيرضى بذلك‪ ،‬وإذا منع من ذلك غضب‪.‬‬

‫وكذلك من أحب شيًئا‪ ،‬فل بد أن يتصوره في قلبه‪ ،‬ويريد اتصاله به بحسب المكان‪.‬‬

‫ل تعالى حًرا‪ .‬وهذا مطابق لهذا الحديث‪ ،‬فإنه ل يكون عبًدا لّ‬
‫قال الجنيد‪ :‬ل يكون العبد عبًدا حتى يكون مما سوى ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فإذا‬‫ل كله‪ ،‬حتى ل يكون عبًدا لما سواه‪ ،‬ول فيه شعبة‪ ،‬ول أدنى جزء من عبودية ما سوى ا ّ‬ ‫صا دينه ّ‬
‫صا مخل ً‬
‫خال ً‬
‫ل فهو عبد لذلك الغير‪ ،‬ففيه من الشرك بقدر محبته‪ ،‬وعبادته لذلك الغير زيادة‪.‬‬
‫كان يرضيه‪ ،‬ويسخطه غير ا ّ‬

‫ل في عبوديته‪ ،‬من ‪ /‬لحد من المخلوقين عليه ربانية‪ ،‬وقال زيد بن عمرو بن‬
‫ل ما صدق ا ّ‬
‫قال الفضيل بن عياض‪ :‬وا ّ‬
‫نفيل‪:‬‬

‫أرباًواحًدا‪ ،‬أم ألف رب ** أدين إذا انقسمت المور؟!‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫روى المام أحمد والترمذي‪ ،‬والطبراني‪ ،‬من حديث أسماء بنت عميس‪ ،‬قالت‪ :‬قال رسول ا ّ‬
‫)بئس العبد عبد تخيل‪ ،‬واختال‪ ،‬ونسى الكبير المتعال‪ ،‬بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار العلى‪ ،‬بئس العبد‬
‫عبد سها ولها‪ ،‬ونسى المقابر والبلى‪ ،‬بئس العبد عبد بغى واعتدى‪ ،‬ونسى المبدأ والمنتهى‪ ،‬بئس العبد عبد يختل الدنيا‬
‫بالدين‪ ،‬بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات‪ ،‬بئس العبد عبد رغب يذله ويزيله عن الحق‪ ،‬بئس العبد عبد طمع يقوده‪،‬‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫بئس العبد عبد هوى يضله( قال الترمذي‪ :‬غريب‪ .‬وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه‪ .‬وا ّ‬

‫ح ّ‬
‫ب‬ ‫حّبوَنُهْم َك ُ‬
‫ل َأنَداًدا ُي ِ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬
‫خُذ ِم ْ‬
‫ن َيّت ِ‬
‫س َم ْ‬ ‫وكذلك أحاديث وآثار كثيرة رويت في معنى ذلك‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬ومِ ْ‬
‫ن الّنا ِ‬
‫ل{ ]البقرة‪.[165 :‬‬
‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬
‫ل َواّلِذي َ‬
‫ا ِّ‬

‫ل‪ ،‬وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن‬‫وطالب الرئاسة ـ ولو بالباطل ـ ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باط ً‬
‫ل تعالى يحب الحق‪،‬‬ ‫كانت حًقا‪ / .‬والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه‪ ،‬وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لن ا ّ‬
‫والصدق‪ ،‬والعدل‪ ،‬ويبغض الكذب‪ ،‬والظلم‪.‬‬

‫ل أحبه‪ ،‬وإن كان فيه مخالفة هواه؛ لن هواه قد صار تبًعا لماجاء به‬
‫فإذا قيل‪ :‬الحق والصدق والعدل الذي يحبه ا ّ‬
‫ل يبغضه‪ ،‬والمؤمن يبغضه‪ ،‬ولو وافق هواه‪.‬‬ ‫الرسول‪ .‬وإذا قيل‪ :‬الظلم والكذب‪ ،‬فا ّ‬

‫طْوا‬
‫ن َلْم ُيْع َ‬
‫ضوا َوِإ ْ‬
‫طوا ِمْنَها َر ُ‬
‫عُ‬‫ن ُأ ْ‬
‫ت َفِإ ْ‬
‫صَدَقا ِ‬
‫ك ِفي ال ّ‬ ‫وكذلك طالب المال ـ ولو بالباطل ـ كما قال تعالى‪َ} :‬وِمْنُهْم َم ْ‬
‫ن َيْلِمُز َ‬
‫طوَن{ ]التوبة‪ [58 :‬وهؤلء هم الذين قال فيهم‪) :‬تعس عبد الدينار( الحديث‪ .‬فكيف إذا استولى على‬ ‫خُ‬‫سَ‬‫ِمْنَها ِإَذا ُهْم َي ْ‬
‫القلب ما هو أعظم استعباًدا من الدرهم والدينـار‪ ،‬من الشهوات والهواء‪ ،‬والمحبوبات التي تجذب القلب عن كمال‬
‫ل وعبادته؟ ! لما فيها من المزاحمة والشرك بالمخلوقات‪ ،‬كيف تدفع القلب‪ ،‬وتزيغه عن كمال محبته لربه‬
‫محبته ّ‬
‫وعبادته وخشيته؛ لن كل محبوب يجذب قلب محبه إليه‪ ،‬ويزيغه عن محبة غير محبوبه‪ ،‬وكذلك المكروه يدفعه‪،‬‬
‫ل تعالى‪.‬‬
‫ويزيله‪ ،‬ويشغله عن عبادة ا ّ‬

‫ولهذا روى المام أحمد في مسنده وغيره‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ /‬قال لصحابه‪) :‬الفقر تخافون؟! ل أخاف‬
‫عليكم الفقر‪ ،‬إنما أخاف عليكم الدنيا‪ ،‬حتى إن قلب أحدكم إذا زاغ ل يزيغه إل هي(‪.‬‬

‫وكذلك الذين يحبون العبد كأصدقائه‪ ،‬والذين يبغضونه كأعدائه‪ ،‬فالذين يحبونه يجذبونه إليهم‪ .‬فإذا لم تكن المحبة منهم‬
‫ل‪ ،‬ولو أحسن إليه‬ ‫ل‪ ،‬والذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن ا ّ‬‫ل‪ ،‬كان ذلك مما يقطعه عن ا ّ‬‫له ّ‬
‫ل أوجب إحسانهم إليه محبته لهم‪ ،‬وإنجذاب قلبه إليهم‪ .‬ولو كان على غير الستقامة‪،‬‬ ‫أصدقاؤه الذين يحبونه‪ ،‬لغير ا ّ‬
‫ل وعبادته‪.‬‬
‫وأوجب مكافأته لهم‪ ،‬فيقطعونه عن ا ّ‬

‫ل‪ ،‬ولما‬‫ل‪ ،‬ويبغضه ّ‬ ‫ل ولما يحبه ا ّ‬


‫ل عز وجل‪ ،‬فيكون حبه ّ‬
‫فل تزول الفتنة عن القلب‪ ،‬إل إذا كان دين العبد كله ّ‬
‫ل‪ ،‬وكذلك موالته ومعاداته‪ ،‬وإل فمحبة المخلوق تجذبه‪ ،‬وحب الخلق له سبب يجذبهم به إليه‪ ،‬ثم قد يكون‬ ‫يبغضه ا ّ‬
‫هذا أقوى‪ ،‬وقد يكون هذا أقوى‪ ،‬فإذا كان هو غالًبا لهواه لم يجذبه مغلوب مع هواه‪ ،‬ول محبوباته إليها؛ لكونه غلًبا‬
‫ل‪ ،‬ومحبته التى تمنعه عن انجذابه إلى المحبوبات‪.‬‬
‫لهواه ناهًيا لنفسه عن الهوى‪ ،‬لما في قلبه من خشية ا ّ‬

‫ل‪،‬‬‫وأما حب الناس له‪ ،‬فإنه يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم‪ ،‬فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة ا ّ‬
‫ل وإخلصه وخشيته‪،‬‬ ‫وخشيته ‪ /‬وإل جذبوه وأخذوه إليهم‪ ،‬كحب امرأة العزيز ليوسف‪ ،‬فإن قوة ىوسف ومحبته ّ‬
‫كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها‪ ،‬هذا إذا أحب أحدهم صورته‪ ،‬مع أن هنا الداعي قوي منه‬
‫ل‪ ،‬وإل فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين‪ ،‬أنه يقع بعض الشر بينهم‪.‬‬ ‫ومنهم‪ ،‬فهنا المعصوم من عصمه ا ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل يخلون رجل بامرأة إل كان ثالثهما الشيطان(‪.‬‬
‫ولهذا قال رسول ا ّ‬

‫وقد يحبونه لعلمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك‪ ،‬فالفتنة في هذا أعظم‪ ،‬إل إذا كانت فيه قوة إيمانية‪ ،‬وخشية وتوحيد‬
‫تام‪ ،‬فإن فتنة العلم والجاه والصور فتنة لكل مفتون‪ .‬وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم‪ ،‬إن لم يفعلها وإل نقص‬
‫ضا بعد أن كان محبوبا‪ ،‬فأصدقاء‬
‫الحب‪ ،‬أو حصل نوع بغض‪ ،‬وربما زاد أو أدى إلى النسلخ من حبه‪ ،‬فصار مبغو ً‬
‫النسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم‪ ،‬حتى يكون كالعبد لهم‪ ،‬وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره‪،‬‬
‫وأولئك يطلبون منه انتفاعهم‪ ،‬وإن كان مضًرا له مفسًدا لدينه ل يفكرون في ذلك‪ .‬وقليل منهم الشكور‪.‬‬

‫فالطائفتان في الحقيقة ل يقصدون نفعه ول دفع ضرره‪ ،‬وإنما ‪ /‬يقصدون أغراضهم به‪ ،‬فإن لم يكن النسان عابًدا‬
‫ل عليه موالًيا له وموالًيا فيه ومعادًيا‪ ،‬وإل أكلته الطائفتان‪ ،‬وأدى ذلك إلى هلكه في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫ل‪ ،‬متوك ً‬
‫ا ّ‬

‫وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم‪ ،‬وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والختلف والفتن‪ .‬قوم يوالون‬
‫زيًدا‪ ،‬ويعادون عمًرا‪ .‬وآخرون بالعكس؛ لجل أغراضهم‪ ،‬فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه‬
‫من زيد انقلبوا إلى عمرو‪ ،‬وكذلك أصحاب عمرو‪ ،‬كما هو الواقع بين أصناف الناس‪.‬‬

‫ل أضر عليه من أولئك‪ ،‬فإن‬ ‫وكذلك الرأس‪ ،‬من الجانبين‪ ،‬يميل إلى هؤلء الذين يوالونه‪ ،‬وهم إذا لم تكن الموالة ّ‬
‫أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه إما بقتله‪ ،‬أو بأخذ ماله‪ ،‬وإما بإزالة منصبه‪ ،‬وهذا كله ضرر دنيوي‪ ،‬ل يعتد به إذا سلم‬
‫العبد‪ ،‬وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين ليعتدون بفساد دينهم مع سلمة دنياهم‪ .‬فهم ل يبالون بذلك‪ .‬وأما‬
‫ل فهم ل يقدرون عليه‪.‬‬‫"دين العبد" الذي بينه وبين ا ّ‬

‫وأما أولياءه الذين يوالونه للغراض‪ ،‬فإنما يقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك‪ ،‬فإن لم يفعل‬
‫انقلبوا أعداء‪ ،‬فدخل بذلك عليه الذى من جهتين‪:‬‬

‫‪/‬من جهة مفارقتهم‪ ،‬ومن جهة عداوتهم‪.‬‬

‫وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لنهم قد شاهدوا منه‪ .‬وعرفوا مالم يعرفه أعداؤه‪ .‬فاستجلبوا بذلك عداوة‬
‫غيرهم‪ ،‬فتتضاعف العداوة‪.‬‬

‫وإن لم يحب مفارقتهم‪ ،‬احتاج إلى مداهنتهم‪ ،‬ومساعدتهم على ما يريدونه‪ ،‬وإن كان فيه فساد دينه‪ .‬فإن ساعدهم على‬
‫ضا أن يعاونهم‬
‫ظا تاًما من ظلمهم وجورهم‪ ،‬وطلبوا منه أي ً‬
‫نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيًبا وافًرا وح ً‬
‫على أغراضهم‪ ،‬ولو فاتت أغراضه الدنيوية‪ .‬فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده !! فإن النسان ظالم جاهل‪ ،‬ل‬
‫يطلب إل هواه‪.‬‬

‫ل تامة‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وتكون استعانته عليهم با ّ‬
‫فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم‪ .‬ويصبر على أذاهم‪ .‬ويقضى حوائجهم ّ‬
‫ل تام‪ .‬وإل أفسدوا دينه ودنياه‪ ،‬كما هو الواقع المشاهد من الناس‪ ،‬ممن يطلب الرئاسة الدنيوية‪ ،‬فإنه‬
‫وتوكله على ا ّ‬
‫يطلب منه من الظلم والمعاصي ما ينال به تلك الرئاسة‪ ،‬ويحسن له هذا الرأي‪ ،‬ويعاديه إن لم يقم معه‪ ،‬كما قد ‪/‬جرى‬
‫ذلك مع غير واحد‪.‬‬

‫صا لصورته‪ ،‬فإنه يخدمه‪ ،‬ويعظمه‪ ،‬ويعطيه ما يقدر عليه‪ ،‬ويطلب منه من المحرم ما‬
‫وذلك يجري فيمن يحب شخ ً‬
‫يفسد دينه‪.‬‬

‫وفيمن يحب صاحب بدعة؛ لكونه له داعية إلى تلك البدعة‪ ،‬يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل‪ ،‬وإل‬
‫عاداه؛ ولهذا صار علماء الكفار‪ ،‬وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل؛ لجل التباع‬
‫والمحبين‪ ،‬ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم‪.‬‬

‫ل كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من‬ ‫ل ووليه‪ ،‬ومن أحب أحًدا لغير ا ّ‬‫ل‪ ،‬ووالى غيره‪ ،‬كره محب ا ّ‬‫فمن أحب غير ا ّ‬
‫ضرر أعدائه‪ ،‬فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي‪ ،‬والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه‪،‬‬
‫وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة‪ ،‬وذهابها عنه‪ ،‬فأي صداقة هذه؟! ويحبون بقاء ذلك المحبوب؛ ليستعملوه‬
‫في أغراضهم‪ ،‬وفيما يحبونه‪ ،‬وكلهما ضرر عليه‪.‬‬

‫ب{ ]البقرة‪ ،[166 :‬قال الفضيل بن‬ ‫سَبا ُ‬ ‫لْ‬‫ت ِبِهْم ا َْ‬‫طَع ْ‬
‫ب َوَتَق ّ‬ ‫ن اّتَبُعوا َوَرَأْوا اْلَعَذا َ‬‫ن اّلِذي َ‬
‫ن اّتِبُعوا ِم ْ‬ ‫قال تعالى‪ِ} :‬إْذ َتَبّرَأ اّلِذي َ‬
‫ل‪ ،‬والوصلت التي كانت بينهم في الدنيا }َوَقا َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫عياض عن ليث ‪ /‬عن مجاهد‪ :‬هي المودات التي كانت لغير ا ّ‬
‫ت َعَلْيِهْم َوَما ُهْم ِبَخاِرِجيَن ِمْن الّناِر{ ]البقرة‪:‬‬ ‫سَرا ٍ‬ ‫حَ‬ ‫عَماَلُهْم َ‬‫ل َأ ْ‬
‫ك ُيِريِهْم ا ُّ‬‫ن َلَنا َكّرًة َفَنَتَبّرَأ ِمْنُهْم َكَما َتَبّرُءوا ِمّنا َكَذِل َ‬
‫اّتَبُعوا َلْو َأ ّ‬
‫ل حسرات عليهم‪ :‬هي العمال التي يفعلها بعضهم‪ ،‬مع بعض في الدنيا كانت‪ ،‬لغير‬ ‫‪ .[167‬فالعمال التي أراهم ا ّ‬
‫ل وحده ل يشرك به شيًئا‪ ،‬ول حول ول‬ ‫ل‪ .‬فالخير كله في أن يعبد ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬ومنها الموالة‪ ،‬والصحبة‪ ،‬والمحبة‪ ،‬لغير ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫قوة إل با ّ‬

‫صل‬
‫َف ْ‬

‫ومما يحقق هذه المور أن المحب يجذب‪ ،‬والمحبوب يجذب‪ .‬فمن أحب شيًئا جذبه إليه بحسب قوته‪ ،‬ومن أحب‬
‫صورة جذبته تلك الصورة إلى المحبوب الموجود في الخارج بحسب قوته‪ .‬فإن المحب عـلته فاعلية‪ ،‬والمحـبوب‬
‫علته غائية‪ ،‬وكـل منهـما لـه تأثير في وجود المعلول‪ ،‬والمحب إنما يجذب المحبوب بما في قلب المحب من صورته‬
‫التي يتمثلها‪ ،‬فتلك الصورة تجذبه بمعنى انجذابه إليها‪ ،‬ل أنها هي في نفسها قصد وفعل‪ ،‬فإن في المحبوب من المعنى‬
‫المناسب ما يقتضى انجذاب المحب إليه‪ ،‬كما ينجذب النسان إلى الطعام ليأكله‪ ،‬وإلى امرأة ليباشرها‪ ،‬وإلى ‪ /‬صديقه‬
‫ل ورسوله‪ ،‬والصالحين من عباده لما اتصف به سبحانه من‬ ‫ل ورسوله إلى ا ّ‬‫ليعاشره‪ ،‬وكما تنجذب قلوب المحبين ّ‬
‫الصفات التي يستحق؛ لجلها أن يحب ويعبد‪.‬‬

‫بل ليجوز أن يحب شيء من الموجودات‪ ،‬لذاته إل هو سبحانه وبحمده‪ ،‬فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب‬
‫ل ا ُّ‬
‫ل‬ ‫ن ِفيِهَما آِلَهٌة ِإ ّ‬
‫لغيره‪ ،‬ل لذاته‪ ،‬والرب تعالى هوالذي يجب أن يحب لنفسه‪ ،‬وهذا من معاني إلهيته و }َلْو َكا َ‬
‫ل‪ ،‬فإن ذلك من خصائص إلهيته‪ ،‬فل‬ ‫سَدَتا{ ]النبياء‪ ،[22 :‬فإن محبة الشيء لذاته شرك‪ ،‬فل يحب لذاته إل ا ّ‬
‫َلَف َ‬
‫ل وحده‪ ،‬وكل محبوب سواه إن لم يحب لجله‪ ،‬أو لما يحب لجله فمحبته فاسدة‪.‬‬ ‫يستحق ذلك إل ا ّ‬

‫ل ـ تعالى ـ خلق في النفوس حب الغذاء‪ ،‬وحب النساء‪ ،‬لما في ذلك من حفظ البدان وبقاء النسان‪ ،‬فإنه لول حب‬ ‫وا ّ‬
‫الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم‪ ،‬ولول حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل‪ ،‬والمقصود بوجود ذلك‪ :‬بقاء كل‬
‫ل وحده‪ ،‬ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي ل يستحق ذلك غيره‪.‬‬
‫منهم ؛ليعبدوا ا ّ‬

‫وإنما تحب النبياء والصالحون تبعا لمحبته‪ ،‬فإن من تمام حبه حب ما يحبه‪ ،‬وهو يحب النبياء والصالحين‪ ،‬ويحب‬
‫ل‪،‬‬
‫ل هو من تمام حبه‪ ،‬وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب ا ّ‬ ‫العمال الصالحة‪ ،‬فحبها ‪ّ /‬‬
‫ل اجتمعا على ذلك‪ ،‬وتفرقا عليه‪ ،‬كان‬ ‫ل‪ ،‬وإذا تحاب الرجلن في ا ّ‬‫ل كان حبه جاذًبا إلى حب ا ّ‬‫فالمخلوق إذا أحب ّ‬
‫ل‪ ،‬كما قال تعالى‪) :‬حقت محبتي للمتحابين في‪ ،‬وحقت محبتي للمتجالسين في‪،‬‬ ‫كل منهما جاذبا للخر إلى حب ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وهم قوم‬
‫ل عباًدا ليسوا بأنبياء ول شهداء يغبطهم النبياء والشهداء بقربهم من ا ّ‬
‫وحقت محبتي للمتباذلين في‪ ،‬وإن ّ‬
‫ل علي غير أموال يتباذلونها‪ ،‬ول أرحام يتواصلون بها‪ ،‬إن لوجوههم لنوًرا‪ ،‬وإنهم لعلى كراسي من‬
‫تحابوا بروح ا ّ‬
‫نور‪ ،‬ل يخافون إذا خاف الناس‪ ،‬ول يحزنون إذا حزن الناس(‪.‬‬

‫ل هو المحبوب لذاته‪ ،‬فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته‪،‬‬ ‫ل كان ا ّ‬
‫فإنك إذا أحببت الشخص ّ‬
‫ل‪ ،‬كما إذا ذكرت النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والنبياء قبله‪ ،‬والمرسلين وأصحابهم الصالحين‪،‬‬ ‫فازداد حبك ّ‬
‫ل يجذب‬‫ل‪ ،‬فالمحبوب ّ‬‫ل المنعم عليهم‪ ،‬وبهم إذا كنت تحبهم ّ‬
‫وتصورتهم في قلبك‪ ،‬فإن ذلك يجـذب قلبك إلى محبة ا ّ‬
‫ل تعالى‪ ،‬وكل من‬‫ل هو محبوبه‪ ،‬فهو يحب أن يجذبه إلى ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫صا ّ‬
‫ل‪ ،‬إذا أحب شخ ً‬ ‫ل‪ ،‬والمحب ّ‬
‫إلى محبة ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ل يجذب إلى ا ّ‬‫ل والمحبوب ّ‬‫المحب ّ‬

‫ل‪ ،‬كما إذا أحب كل من الشخصين ‪ /‬الخر بصورة‪ :‬كالمرأة مع الرجل‪ ،‬فإن المحب‬ ‫وهكذا إذا كان الحب لغير ا ّ‬
‫يطلب المحبوب‪ ،‬والمحبوب يطلب المحب‪ ،‬بانجذاب المحبوب‪ ،‬فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذًبا مجذوًبا من‬
‫الوجهين‪ ،‬فيجب التصال‪ ،‬ولو كان الحب من أحد الجانبين ؛لكان المحب يجذب المحبوب‪ ،‬والمحبوب يجذبه‪ ،‬لكن‬
‫المحبوب ل يقصد جذبه‪ ،‬والمحب يقصد جذبه وينجذب‪.‬‬

‫وهذا سبب التأثير في المحبوب‪ ،‬إما تمثل يحصل في قلبه‪ ،‬فينجذب‪ ،‬وإما أن ينجذب بل محبة‪ :‬كما يأكل الرجل‬
‫الطعام‪ ،‬ويلبس الثوب‪ ،‬ويسكن الدار‪ ،‬ونحو ذلك من المحبوبات التي ل إرادة لها‪.‬‬

‫ضا بكونه سبًبا للحسان إليه وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها‪ ،‬لكن هذا في‬
‫وأما الحيوان‪ ،‬فيحب بعضه بع ً‬
‫ضا‪ ،‬فإنه ليس لّ‬
‫الحقيقة إنما هو محبة الحسان‪ ،‬ل نفس المحسن‪ ،‬ولو قطع ذلك لضمحل ذلك الحب وربما أعقب بغ ً‬
‫عز وجل‪.‬‬

‫ل فهذا كذب‪ ،‬ومحال‪ ،‬وزور‬ ‫فإن من أحب إنساًنا ؛لكونه يعطيه‪ ،‬فما أحب إل العطاء‪ ،‬ومن قال‪ :‬إنه يحب من يعطيه ّ‬
‫من القول‪ ،‬وكذلك من أحب إنساًنا لكونه ينصره إنما أحب النصر ل الناصر‪ .‬وهذا كله من اتباع ما تهوى النفس‪،‬‬
‫فإنه لم يحب في الحقيقة إل ما يصل إليه من جلب منفعة‪ ،‬أو دفع مضرة‪ ،‬فهو إنما أحب تلك المنفعة ودفع المضرة‬
‫ل ول لذات المحبوب‪.‬‬
‫وإنما ‪ /‬أحب ذلك لكونه وسيلة إلى محبوبه‪ ،‬وليس هذا حًبا ّ‬

‫وعلى هذا تجرى عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض‪ ،‬وهذا ل يثابون عليه في الخرة ول ينفعهم‪ ،‬بل ربما أدى ذلك‬
‫إلى النفاق والمداهنة‪ ،‬فكانوا في الخرة من الخلء الذين بعضهم لبعض عدو إل المتقين‪ .‬وإنما ينفعهم في الخرة‬
‫ل‪ ،‬فهذا من دسائس النفوس‬ ‫ل وحده‪ ،‬وأما من يرجو النفع والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه ّ‬
‫لو ّ‬‫الحب في ا ّ‬
‫ونفاق القوال‪.‬‬

‫ل ومحبته‪ ،‬وهؤلء هم‬


‫ل من خلقه‪ ،‬كالنبياء والصالحين ؛لكون حبهم يقرب إلى ا ّ‬
‫ل لما يحبه ا ّ‬
‫وإنما ينفع العبد الحب ّ‬
‫ل لهم‪.‬‬‫الذين يستحقون محبة ا ّ‬

‫ونبينا كان يعطي المؤلفة قلوبهم‪ ،‬ويدع آخرين هـم أحب إليه من الذي يعطي؛ يكلهم إلى ما في قلوبهم من اليمان‪،‬‬
‫وإنما كان يعطي المؤلفة قلوبهم‪ ،‬لما في قلوبهم من الهلع والجزع؛ ليكون ما يعطيهم سبًبا لجلب قلوبهم إلى أن يحبوا‬
‫ل عز وجل‪ ،‬وصرفها عن ضد ذلك؛ ولهذا كان‬ ‫ل‪ ،‬فكان مقصوده بذلك دعوة القلوب إلى حب ا ّ‬ ‫السلم فيحبوا ا ّ‬
‫ل ويمنع‬
‫ل على وجوههم في النار فمنعهم بذلك العطاء عما ‪ /‬يكرهه منهم فكان يعطي ّ‬ ‫يعطي أقواًما خشية أن يكبهم ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فقد استكمل اليمان(‪ ،‬وفي صحيح البخاري عنه صلى‬ ‫ل‪ ،‬ومنع ّ‬‫ل‪ ،‬وأعطى ّ‬ ‫ل‪ ،‬وأبغض ّ‬ ‫ل‪ .‬وقد قال‪) :‬من أحب ّ‬ ‫ّ‬
‫ل إنما أنا قاسم ل أعطي أحًدا ول أمنع أحًدا‪ ،‬ولكن أضع حيث أمرت(‪.‬‬ ‫ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إني وا ّ‬

‫وصورة المحبوب المتمثلة في النفس يتحرك لها المحب‪ ،‬ويريد لها‪ ،‬ويحب ويبغض ويبتهج وينشرح عند ذكرها‪ ،‬من‬
‫أي جنس كانت‪ ،‬فتبقى هي كالمر الناهي له؛ ولهذا يجد في نفسه كأنها تخاطبه بأمر ونهي وغير ذلك‪ ،‬كما يرى كثير‬
‫من الناس من يحبه‪ ،‬ويعظمه في منامه‪ ،‬وهو يأمره‪ ،‬وينهاه‪ ،‬ويخبره بأمور‪.‬‬

‫والمشركون تتمثل لهم الشياطين في صور من يعبدونه‪ ،‬تأمرهم وتنهاهم‪.‬‬


‫والقائلون بالشاهد والمنتسبون إلى السلوك يقول أحدهم‪ :‬إنه يخاطب في باطنه على لسان الشاهد‪ ،‬فمنهم من يصلي‬
‫بالليل وذاك بإزائه ليشاهده في الضوء‪ ،‬ومنهم من يشاهده في حال السماع في غيره‪ ،‬ويظنون أنهم يخاطبون ويجدون‬
‫المريد في قلوبهم بذلك‪ ،‬وذلك لنهم يتمثلونه في أنفسهم‪ ،‬وربما كان الشيطان يتمثل في صورته‪ ،‬فيجدون في نفوسهم‬
‫خطابا من تلك الصورة‪ ،‬فيقولون‪ :‬خوطبنا من جهته‪ .‬وهذا وإن كان موجوًدا في ‪ /‬المخاطب فمن المخاطب له ؟‬
‫فالفرقان هنا‪ .‬فإنما ذلك المخاطب من وسواس الشيطان والنفس‪.‬‬

‫وقد يخاطبون بأشياء حسنة رشوة منه لهم‪ ،‬ول يخاطبون بما يعرفون أنه باطل؛لئل ينفرون منه‪ ،‬بل الشيطان يخاطب‬
‫أحدهم بما يري أنه حق‪ ،‬والراهب إذا راض نفسه فمرة يرى في نفسه صورة التثليث‪ ،‬وربما خوطب منها؛لنه كان‬
‫ل ورسوله يرى الرسول في منامه‬
‫قد يتمثلها قبل ذلك‪ ،‬فلما انصقلت نفسه بالرياضة ظهرت له‪ ،‬والمؤمن الذي يحب ا ّ‬
‫ل تعالى في منامه بحسب إيمانه‪ ،‬كما قد بسط في غير هذا الموضع‪.‬‬
‫بحسب إيمانه‪ ،‬وكذلك يري ا ّ‬

‫ل هو‬‫ولهذا كثير من أهل الزهد والعبادة يكون من أعوان الكفار‪ ،‬ويزعم أنه مأمور بذلك‪ ،‬ويخاطب به ويظن أن ا ّ‬
‫صا‬
‫ل منزه عن ذلك‪ ،‬وإنما المر له بذلك النفس والشيطان ومافي نفسه من الشرك‪ ،‬إذ لو كان مخل ً‬ ‫الذي أمره بذلك‪ ،‬وا ّ‬
‫ل الدين‪ ،‬لما عرض له شيء من ذلك‪ ،‬فإن هذا ل يكون إل لمن فيه شرك في عبادته‪ ،‬أو عنده بدعة‪ ،‬ول يقع هذا‬ ‫ّ‬
‫لمخلص متمسك بالسنة البتة‪.‬‬

‫وإذا كانت الرؤيا‪ ،‬على ثلثة أقسام‪:‬‬

‫ل‪.‬‬
‫رؤيا من ا ّ‬

‫‪/‬ورؤيا من حديث النفس‪.‬‬

‫ورؤيا من الشيطان‪.‬‬

‫فكذلك ما يلقي في نفس النسان في حال يقظته ثلثة أقسام‪.‬‬

‫ولهذا كانت الحوال ثلثة‪ :‬رحماني‪ ،‬ونفساني‪ ،‬وشيطاني‪.‬‬

‫وما يحصل من نوع المكاشفة والتصرف ثلثة أصناف‪ :‬ملكي‪ ،‬ونفسي‪ ،‬وشيطاني‪ ،‬فإن الملك له قوة‪ ،‬والنفس لها‬
‫قوة‪ ،‬والشيطان له قوة‪ ،‬وقلب المؤمن له قوة‪ ،‬فما كان من الملك ومن قلب المؤمن‪ ،‬فهو حق‪ ،‬وما كان من الشيطان‬
‫ووسوسة النفس‪ ،‬فهو باطل‪.‬‬

‫ل‪ ،‬بل صاروا يظنون في من هو من جنس‬‫ل وأعداء ا ّ‬‫وقد اشتبه هذا بهذا على طوائف كثيرة‪ ،‬فلم يفرقوا بين أولياء ا ّ‬
‫ل المتقين‪ .‬والكلم في هذا مبسوط في موضع آخر‪.‬‬
‫المشركين والكفار ـ أهل الكتاب من وجوه كثيرة ـ أنه من أولياء ا ّ‬

‫ولهذا في هؤلء من يرى جواز قتال النبياء‪ ،‬ومنهم من يرى أنه أفضل من النبياء‪ ،‬إلى أنواع أخر‪ .‬وذلك ؛لنه‬
‫حصل لهم من النواع الشيطانية والنفسانية ما ظنوا أنها من كرامات الولياء‪ ،‬فظنوا ‪ /‬أنهم منهم‪ ،‬فكان المر‬
‫ل ويرضاه‪ ،‬فل يحبونه ول يريدونه وحده‪،‬‬ ‫بالعكس‪ .‬وأصل هذا أنهم تعبدوا بما تحبه النفس‪ ،‬وأما العبادة بما يحبه ا ّ‬
‫ل بما أمر به ورسله حط لهم عن منصب الولية‪ ،‬فيحدثون محبة قوية وتألًها وعبادة وشوًقا‬ ‫ويرون أنهم إذا عبدوا ا ّ‬
‫وزهًدا‪ ،‬ولكن فيه شرك وبدعة‪.‬‬

‫حِبْبُكْم ا ُّ‬
‫ل‬ ‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬ ‫ن ا َّ‬
‫حّبو َ‬‫ن ُكْنُتْم ُت ِ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ل وحده على متابعة رسوله‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫ومحبة التوحيد‪ :‬إنما تكون ّ‬
‫ل‪ ،‬ويبغضون له‪.‬‬ ‫َوَيْغِفْر َلُكْم ُذُنوَبُكْم{ ]آل عمران‪[31 :‬؛ فلهذا يكون أهل التباع فيهم جهاد ونية في محبتهم‪ ،‬يحبون ّ‬
‫ل َكَفْرَنا ِبُكْم َوَبَدا َبْيَنَنا‬
‫ن ا ِّ‬‫ن ُدو ِ‬ ‫ن ِم ْ‬
‫وهم على ملة إبراهيم‪ .‬والذين معه }ِإْذ َقاُلوا ِلَقْوِمِهْم ِإّنا ُبَرآُء ِمْنُكْم َوِمّما َتْعُبُدو َ‬
‫حَدُه{ ]الممتحنة‪ ،[4 :‬وأولئك محبتهم فيها شرك‪ ،‬وليسوا متابعين‬ ‫ل َو ْ‬‫حّتى ُتْؤِمُنوا ِبا ِّ‬
‫ضاُء َأَبًدا َ‬
‫َوَبْيَنُكْم اْلَعَداَوُة َواْلَبْغ َ‬
‫ل‪ ،‬فليست هي المحبة الخلصية‪ ،‬فإنها مقرونة بالتوحيد؛ ولهذا سمي أبو طالب‬ ‫للرسول‪ ،‬ول مجاهدين في سبيل ا ّ‬
‫ل ـ سبحانه ـ أعلم‪.‬‬ ‫المكي كتابه‪ :‬قوت القلوب في معاملة المحبوب‪ ،‬ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد‪ ،‬وا ّ‬
‫ضا‪:‬‬
‫ل ـ َأْي ً‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫سـلم ـ َر ِ‬
‫خ الِ ْ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫‪َ/‬قا َ‬

‫صـل‬
‫َف ْ‬

‫قد كتبت في كراسة الحوادث فصل في‪ :‬جماع الزهد والورع‪.‬‬

‫حا؛ لنه مفوت لما هو أنفع منه‪ ،‬أو محصل لما يربو‬
‫وإن الزهد‪ :‬هو عما ل ينفع‪ ،‬إما لنتفاء نفعه‪ ،‬أو لكونه مرجو ً‬
‫ضرره على نفعه‪ .‬وأما المنافع الخالصة‪ ،‬أو الراجحة فالزهد فيها حمق‬

‫وأما الورع‪ ،‬فإنه المساك عما قد يضر‪ ،‬فتدخل فيه المحرمات والشبهات ؛لنها قد تضر‪ .‬فإنه من اتقى الشبهات‬
‫استبرأ لعرضه ودينه‪ ،‬ومن وقع في الشبهات‪ ،‬وقع في الحرام‪ ،‬كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه‪.‬‬

‫وأما الورع‪ ،‬عما ل مضرة فيه‪ ،‬أو فيه مضرة مرجوحة ـ لما ‪ /‬تقترن به من جلب منفعة راجحة‪ ،‬أو دفع مضرة‬
‫أخرى راجحة ـ فجهل وظلم‪ .‬وذلك يتضمن‪ :‬ثلثة أقسام ل يتورع عنها المنافع المكافئة والراجحة والخالصة كالمباح‬
‫المحض أو المستحب أو الواجب فإن الورع عنها ضللة‪.‬‬

‫وأنا أذكر هنا تفصيل ذلك فأقول‪:‬‬

‫الزهد‪ ،‬خلف الرغبة‪ .‬يقال‪ :‬فلن زاهد في كذا‪ .‬وفلن راغب فيه‪ .‬و الرغبة‪ :‬هي من جنس الرادة‪ .‬فالزهد في‬
‫الشيء انتفاء الرادة له‪ ،‬إما مع وجود كراهته‪ ،‬وإما مع عدم الرادة والكراهة‪ ،‬بحيث ليكون ل مريًدا له‪ ،‬ول كارًها‬
‫له‪ ،‬وكل من لم يرغب في الشيء ويريده فهو زاهد فيه‪.‬‬

‫ل إرادته‪،‬‬ ‫ل فيه من فضول الدنيا‪ ،‬فتحمد فيه الرغبة والرادة لما حمد ا ّ‬ ‫ل يحمد فيه الزهد‪ ،‬فيما زهد ا ّ‬
‫وكما أن سبيل ا ّ‬
‫شّ‬
‫ي‬ ‫ن َرّبُهْم ِباْلَغَداةِ َواْلَع ِ‬
‫عو َ‬ ‫ن َيْد ُ‬
‫طُرْد اّلِذي َ‬
‫والرغبة فيه؛ ولهذا كان أساس الطريق الرادة‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬ولَ َت ْ‬
‫سْعُيُهْم‬‫ن َ‬ ‫ك َكا َ‬ ‫ن َفُأْوَلِئ َ‬
‫سْعَيَها َوُهَو ُمْؤِم ٌ‬‫سَعى َلَها َ‬ ‫خَرَة َو َ‬
‫لِ‬‫ن َأَراَد ا ْ‬
‫جَهُه{]النعام‪ ،[52 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬‫ن َو ْ‬
‫ُيِريُدو َ‬
‫شُكوًرا{ ]السراء‪ ،[19 :‬ونظائره متعددة‪.‬‬ ‫َم ْ‬

‫عَماَلُهْم ِفيَها َوُهْم ِفيَها َ‬


‫ل‬ ‫ف ِإَلْيِهْم َأ ْ‬
‫حَياَة الّدْنَيا َوِزيَنَتَها ُنَو ّ‬
‫ن ُيِريُد اْل َ‬
‫ن َكا َ‬
‫‪/‬كما رغـب فـي الزهـد‪ ،‬وذم ضـده فـي قولـه‪َ} :‬م ْ‬
‫ل الّنار{‬
‫خَرِة ِإ ّ‬
‫لِ‬‫س َلُهْم ِفي ا ْ‬
‫ن َلْي َ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫ن ‪ُ .‬أْوَلِئ َ‬
‫سو َ‬
‫خُ‬
‫ُيْب َ‬

‫ن‬
‫ل ّلّما‪َ .‬وُتحِّبو َ‬
‫ث َأْك ً‬‫ن الّتَرا َ‬ ‫]هود‪ ،[16 ،15 :‬وقال تعالى‪َ} :‬أْلَهاُكْم الّتَكاُثٍُر{ السورة ] التكاثر [‪ ،‬وقـال تعالـى‪َ}:‬وَتْأُكُلو َ‬
‫شِديٌد{‬‫ب اْلخَْيِر َل َ‬
‫ح ّ‬‫شِهيٌد‪َ .‬وِإّنُه ِل ُ‬ ‫ك َل َ‬
‫عَلى َذِل َ‬‫ن ِلَرّبِه َلَكُنوٌد‪َ .‬وِإّنُه َ‬
‫سا َ‬‫لن َ‬‫ن ا ِْ‬
‫جّما {]الفجر‪ ،[20 ،19 :‬وقال‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫حّبا َ‬
‫ل ُ‬
‫اْلَما َ‬
‫خٌر َبْيَنُكْم{ الية ]الحديد‪ ،[20 :‬وهذا‬ ‫ب َوَلْهٌو َوِزيَنٌة َوَتَفا ُ‬‫حَياُة الّدْنَيا َلِع ٌ‬
‫عَلُموا َأّنَما اْل َ‬
‫]العاديات‪ ،[6-8 :‬وقال تعالى‪} :‬ا ْ‬
‫باب واسع‪.‬‬

‫وإنما المقصود هنا تميز الزهد الشرعي‪ ،‬من غيره‪ ،‬وهو الزهد المحمود‪ ،‬وتميز الرغبة الشرعية‪ ،‬من غيرها‪ ،‬وهي‬
‫الرغبة المحمودة‪ ،‬فإنه كثيًرا ما يشتبه الزهد بالكسل والعجز والبطالة عن الوامر الشرعية‪ ،‬وكثيًرا ما تشتبه الرغبة‬
‫الشرعية بالحرص‪ ،‬والطمع‪ ،‬والعمل الذي ضل سعى صاحبه‪.‬‬

‫وأما الورع‪ ،‬فهو اجتناب الفعل واتقاؤه‪ ،‬والكف والمساك عنه والحذر منه‪ ،‬وهو يعود إلى كراهة المر‪ ،‬والنفرة منه‪،‬‬
‫ضا ـ وإن كان قد اختلف في المطلوب بالنهي‪ .‬هل هو عدم المنهى عنه‪ ،‬أو فعل‬ ‫والبغض له‪ ،‬وهو أمر وجودي أي ً‬
‫عا‪ ،‬ومتقًيا‪ ،‬إل إذا وجد منه المتناع‬
‫عا‪ ،‬ومتور ً‬
‫ضده؟ وأكثر أهل الثبات على الثاني ـ فل ريب أنه ليسمى ور ً‬
‫والمساك الذي هو فعل ضد المنهي عنه‪.‬‬

‫‪/‬والتحقيق‪ :‬أنه مع عدم المنهي عنه يحصل له عدم مضرة الفعل المنهي عنه‪ ،‬وهو ذمه وعقابه ونحو ذلك‪ ،‬ومع وجود‬
‫المتناع والتقاء والجتناب يكون قد وجد منه عمل صالح وطاعة وتقوى‪ ،‬فيحصل له منفعة هذا العمل‪ ،‬من حمده‬
‫وثوابه‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فعدم المضرة لعدم السيئات‪ ،‬ووجود المنفعة لوجود الحسنات‪.‬‬
‫فتلخص أن الزهد من باب عدم الرغبة‪ ،‬والرادة في المزهود فيه‪ .‬والورع من باب وجود النفرة‪ ،‬والكراهة للمتورع‬
‫عنه‪ ،‬وانتفاء الرادة‪ ،‬إنما يصلح فيما ليس فيه منفعة خالصة أو راجحة‪ ،‬وأما وجود الكراهة‪ ،‬فإنما يصلح فيما فيه‬
‫مضرة خالصة أو راجحة‪ ،‬فأما إذا فرض مال منفعة فيه ول مضرة‪ ،‬أو منفعته ومضرته سواء من كل وجه‪ ،‬فهذا ل‬
‫يصلح أن يراد‪ ،‬ول يصلح أن يكره‪ ،‬فيصلح فيه الزهد‪ ،‬ول يصلح فيه الورع‪ ،‬فظهر بذلك أن كل ما يصلح فيه الورع‬
‫يصلح فيه الزهد‪ ،‬من غير عكس‪ ،‬وهذا بين‪ ،‬فإن ما صلح أن يكره وينفر عنه صلح أن ل يراد ول يرغب فيه‪ ،‬فإن‬
‫عدم الرادة أولى من وجود الكراهة‪ ،‬ووجود الكراهة مستلزم عدم الرادة من غير عكس‪ ،‬وليس كل ما صلح أن ل‬
‫يراد يصلح أن يكره‪ ،‬بل قد يعرض من المور مال تصلح إرادته ول كراهته‪ ،‬ول حبه ول بغضه ول المر به‪ ،‬ول‬
‫النهي عنه‪.‬‬

‫‪/‬وبهذا يتبين أن الواجبات والمستحبات‪ ،‬ل يصلح فيها زهد ول ورع‪ ،‬وأما المحرمات والمكروهات‪ ،‬فيصلح فيها‬
‫الزهد والورع‪ .‬وأما المباحات‪ ،‬فيصلح فيها الزهد دون الورع‪ ،‬وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل‪.‬‬

‫وإنما الشأن فيما إذا تعارض في الفعل‪ .‬هل هو مأمور به‪ ،‬أو منهي عنه‪ ،‬أو مباح؟ وفيما إذا اقترن بما جنسه مباح ما‬
‫يجعله مأموًرا به‪ ،‬أو منهًيا عنه‪ ،‬أو اقترن بالمأمور به‪ ،‬مايجعله منهًيا عنه وبالعكس‪.‬‬

‫فعند اجتماع المصالح والمفاسد والمنافع والمضار وتعارضها‪ ،‬يحتاج إلى الفرقان‪.‬‬

‫َوَقــال‪:‬‬

‫صـــل‬
‫َف ْ‬

‫قول بعض الناس‪ :‬الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الطلق‪ ،‬كما قد يستدل به طوائف على أنواع من‬
‫ل من‬
‫ل ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل ا ّ‬ ‫الرهبانيات‪ ،‬والعبادات المبتدعة‪ ،‬التي لم يشرعها ا ّ‬
‫الطيبات‪ ،‬ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حيث قال‪) :‬هلك المتنطعون(‪ ،‬وقال‪) :‬لو مد لي‬
‫الشهر لواصلت وصالً يدع المتعمقون تعمقهم(‪ ،‬مثل الجوع أو العطش المفرط‪ ،‬الذي يضر العقل والجسم‪ ،‬ويمنع‬
‫أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه‪ ،‬وكذلك الحتفاء والتعري والمشي الذي يضر النسان بل فائدة‪ ،‬مثل حديث أبي‬
‫إسرائيل الذي نذر أن يصوم‪ ،‬وأن يقوم قائما ول يجلس ول يستظل ول يتكلم فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬مروه‬
‫فليجلس‪ ،‬وليستظل‪ ،‬وليتكلم‪ ،‬وليتم ‪ /‬صومه( رواه البخاري‪ ،‬وهذا باب واسع‪.‬‬

‫ل على أهل السلم‪ :‬الكلمتين‪،‬‬ ‫ل ورسوله في عمل ميسر‪ ،‬كما يسر ا ّ‬ ‫وأما الجر على قدر الطاعة فقد تكون الطاعة ّ‬
‫وهما أفضل العمال؛ ولذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‪،‬‬
‫ل العظيم( أخرجاه في الصحيحين‪.‬‬ ‫ل وبحمده‪ ،‬سبحان ا ّ‬
‫حبيبتان إلى الرحمن‪ ،‬سبحان ا ّ‬

‫حا اتصاف الول باعتبار تعلقه بالمر والثاني باعتبار‬


‫ولو قيل‪ :‬الجر على قدر منفعة العمل‪ ،‬وفائدته ؛لكان صحي ً‬
‫صفته في نفسه‪ .‬والعمل تكون منفعته وفائدته تارة من جهة المر فقط‪ ،‬وتارة من جهة صفته في نفسه‪ ،‬وتارة من كل‬
‫المرين‪ .‬فبالعتبار الول ينقسم إلى طاعة ومعصية‪ ،‬وبالثاني ينقسم إلى حسنة وسيئة‪ ،‬والطاعة والمعصية اسم له‬
‫من جهة المر‪ ،‬والحسنة والسيئة اسم له من جهة نفسه‪ .. .‬وإن كان كثيـر مـن النـاس ل يثبت إل الول‪ ،‬كما تقوله‬
‫الشعرية وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم‪.‬‬

‫ومن الناس من ليثبت إل الثاني‪ ،‬كما تقوله المعتزلة وطائفة ‪ /‬من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم‪ ،‬والصواب إثبات‬
‫العتبارين‪ ،‬كما تدل عليه نصوص الئمة وكلم السلف وجمهور العلماء من أصحابنا وغيرهم‪.‬‬

‫فأما كونه مشًقا‪ ،‬فليس هو سبًبا لفضل العمل ورجحانه‪ ،‬ولكن قد يكون العمل الفاضل مشًقا‪ ،‬ففضله لمعنى غير‬
‫مشقته‪ ،‬والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره‪ ،‬فيزداد الثواب بالمشقة‪ ،‬كما أن من كان بعده عن البيت في الحج‬
‫والعمرة أكثر‪ ،‬يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لعائشة في العمرة‪) :‬أجرك على قدر‬
‫نصبك( لن الجر على قدر العمل في بعد المسافة‪ ،‬وبالبعد يكثر النصب فيكثر الجر‪ ،‬وكذلك الجهاد‪ ،‬وقوله صلى‬
‫ال عليه وسلم‪) :‬الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة‪ ،‬والذي يقرأه ويتتعتع فيه‪ ،‬وهو عليه شاق له أجران(‪.‬‬
‫فكثيًرا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب‪ ،‬ل لن التعب والمشقة مقصود من العمل‪ ،‬لكن ؛لن العمل مستلزم‬
‫للمشقة والتعب‪ ،‬هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الصار والغلل‪ ،‬ولم يجعل علينا فيه حرج‪ ،‬ول أريد بنا فيه‬
‫العسر‪ ،‬وأما في شرع من قبلنا‪ ،‬فقد تكون المشقة مطلوبة منهم‪ .‬وكثير من العباد يرى جنس المشقة واللم والتعب‬
‫ل؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون ‪ /‬إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علقة الجسد‪ ،‬وهذا‬
‫مطلوًبا مقرًبا إلى ا ّ‬
‫من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم‪.‬‬

‫ولهذا تجد هؤلء مع من شابههم من الرهبان يعالجون العمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات‪،‬‬
‫مع أنه ل فائدة فيها ول ثمرة لها‪ ،‬ول منفعة إل أن يكون شيًئا يسيًرا ل يقاوم العذاب الليم الذي يجدونه‪.‬‬

‫ونظير هذا الصل الفاسد‪ ،‬مدح بعض الجهال بأن يقول‪ :‬فلن ما نكح ول ذبح‪ .‬وهذا مدح الرهبان الذين ل ينكحون‬
‫ول يذبحون‪ ،‬وأما الحنفاء فقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء‪ ،‬وآكل اللحم‪ ،‬فمن‬
‫رغب عن سنتي فليس مني(‪.‬‬

‫وهذه الشياء هي من الدين الفاسد‪ ،‬وهو مذموم‪ ،‬كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم‪.‬‬

‫والناس أقسام‪:‬‬

‫أصحاب دنيا محضة‪ :‬وهم المعرضون عن الخرة‪.‬‬

‫ل من أنواع العبادات‪ ،‬والزهادات‪.‬‬


‫وأصحاب دين فاسد‪ :‬وهم الكفار‪ ،‬والمبتدعة الذين يتدينون بما لم ‪ /‬يشرعه ا ّ‬

‫ل الذي هدانا‬
‫والقسم الثالث وهم‪ :‬أهل الدين الصحيح‪ ،‬أهل السلم المستمسكون بالكتاب‪ ،‬والسنة والجماعة‪ ،‬والحمد ّ‬
‫ل لقد جاءت رسل ربنا بالحق‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬وما كنا لنهتدي لول أن هدانا ا ّ‬

‫ل‪:‬‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫سـلم أحَمد بن تيمية ـ َر ِ‬
‫خ الِ ْ‬
‫شي ُ‬
‫ل َ‬
‫‪َ/‬وَقا َ‬

‫صل‬
‫َف ْ‬

‫ن َزّكاَها{ ]الشمس‪ ،[9 :‬و}َقْد‬ ‫في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬قْد َأْفَل َ‬
‫ح َم ْ‬
‫َأْفَلَح َمنْ َتَزّكى{ ]العلى‪.[14 :‬‬

‫ل‪ ،‬وصالح العمال‪ .‬وقال الفراء والزجاج‪ :‬قد أفلحت‬


‫قال قتادة وابن عيينة وغيرهما‪ :‬قد أفلح من زكى نفسه بطاعة ا ّ‬
‫ل‪ .‬وكذلك ذكره الوالبي‪ ،‬عن ابن عباس وهو منقطع‪ .‬وليس هو مراد من‬ ‫ل‪ ،‬وقد خابت نفس دساها ا ّ‬ ‫نفس زكاها ا ّ‬
‫ظا ومعنى‪.‬‬
‫الية؛ بل المراد بها الول قطًعا لف ً‬

‫أما اللفظ فقوله‪ :‬من زكاها اسم موصول ولبد فيه من عائد‪ /‬على }ّمن{ فإذا قيل‪ :‬قد أفلح الشخص الذي زكاها؛ كان‬
‫ضمير الشخص في زكاها يعود على }ّمن{‪ ،‬هذا وجه الكلم الذي ل ريب في صحته كما يقال‪ :‬قد أفلح من اتقى ال‬
‫وقد أفلح من أطاع ربه‪.‬‬

‫ل‪ ،‬لم يبق في الجملة ضمير يعود على }ّمن{ فإن الضميرعلى هذا يعود على‬
‫وأما إذا كان المعنى‪ :‬قد أفلح من زكاه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وليس هو }ّمن{ وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فل يعود على }ّمن{ ل ضمير الفاعل‪ ،‬ول المفعول‪.‬‬ ‫ا ّ‬
‫فتخلوا الصلة من عائد وهذا ل يجوز‪.‬‬

‫ل له‪ ،‬ونحو ذلك صح الكلم‪ ،‬وخفاء هذا على من قال به من‬


‫ل نفسه‪ ،‬أو من زكاها ا ّ‬
‫نعم‪ ،‬لو قيل‪ :‬قد أفلح من زكى ا ّ‬
‫النحاة عجب‪ .‬وهو لم يقل‪ :‬قد أفلحت نفس زكاها‪ .‬فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس ل صلة‪ ،‬بل قال‪َ} :‬قْد َأْفَل َ‬
‫ح َم ْ‬
‫ن‬
‫َزّكاَها{ ]الشمس‪ ،[9 :‬فالجملة صلة لـ }ّمن{ ل صفة لها‪.‬‬
‫ضا‪ :‬قد أفلحـت النفس التي زكـاها‪ ،‬فإنـه لـو قيـل ذلك‪ ،‬وجعـل في }ّزّكاّها { ضمير يعود على اسم الّ‬ ‫ول قال أي ً‬
‫صح‪ ،‬فإذا تكلفوا‪ ،‬وقالوا‪ :‬التقدير }َقْد َأْفَلَح َمْن َزّكاَها{ هي النفس التي زكاها‪ ،‬وقالوا‪ :‬في زكى ضمير المفعول يعود‬
‫ن{ وهي تصلح للمذكر والمؤنث ‪ /‬والواحد والعدد‪ ،‬فالضمير عائد على معناها المؤنث‪ ،‬وتأنيثها غير حقيقي؛‬ ‫على }َم ْ‬
‫ولهذا قيل‪ّ} :‬قد ّأفّلح{ ولم يقل‪ :‬قد أفلحت‪ ،‬قيل لهم‪ :‬هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة‪ ،‬فإنما يصح إذا دل الكلم‬
‫ك{ ]يونس‪ ،[42 :‬ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ن ِإَلْي َ‬
‫سَتِمُعو َ‬ ‫على ذلك في مثل ومن‪ .. .‬على أن المراد لنا‪ ،‬وكذا قوله‪َ} :‬وِمْنُهْم َم ْ‬
‫ن َي ْ‬

‫ن{‪ ،‬وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثة‪ ،‬فل يجوز أن يراد بالكلم ما ليس‬ ‫وأما هنا فليس في لفظ }َم ْ‬
‫ل عز وجل عنه‪ ،‬فلو قدر احتمال عود ضمير }َزّكاَها{ إلى نفس‬ ‫فيه دليل على إرادته‪ ،‬فإن مثل هذا مما يصان كلم ا ّ‬
‫ن{ ل دليل يوجب عوده عليه ؛لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل‬ ‫ن{‪ ،‬مع أن لفظ }َم ْ‬
‫وإلى }َم ْ‬
‫التذكير والتأنيث‪ ،‬وهو في التذكير أظهر‪ ،‬لعدم دللته على التأنيث‪ ،‬فإن الكلم إذا احتمل معنيين وجب حمله على‬
‫أظهرهما‪ ،‬ومن تكلف غير ذلك‪ ،‬فقد خرج عن كلم العرب المعروف‪ ،‬والقرآن منزه عن ذلك‪ ،‬والعدول عما يدل‬
‫ل أنه‬
‫صا من جهة المعني؟! فقد أخبر ا ّ‬
‫عليه ظاهر الكلم إلى مال يدل عليه بل دليل ل يجوز البتة فكيف إذا كان ن ً‬
‫يلهم التقوى والفجور‪ .‬ولبسط هذا موضع آخر‪.‬‬

‫‪/‬والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم‪ ،‬والتحذير من تدسيتها‪ ،‬كقوله‪َ} :‬قْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{ ]العلى‪ ،[14 :‬فلو قدر‬
‫ل نفسه لم يكن فيه أمر لهم ول نهي‪ ،‬ول ترغيب ول ترهيب‪ .‬والقرآن إذا أمر أو نهى ل‬ ‫أن المعنى قد أفلح من زكى ا ّ‬
‫ل مؤمًنا‪ ،‬بل يقول‪َ} :‬قْد َأْفَلَح اْلُمْؤِمُنوَن{ ]المؤمنون‪َ} ،[1 :‬قْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{ إذ‬ ‫يذكر مجرد القدر فل يقول‪ :‬من جعله ا ّ‬
‫ل؟! أل ترى أنه في مقام‬ ‫ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود‪ ،‬ول يليق هذا بأضعف الناس عقل فكيف بكلم ا ّ‬
‫المر‪ ،‬والنهي‪ ،‬والترغيب‪ ،‬والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد‪ ،‬والوعيد‪ ،‬والمدح‪ ،‬والذم‪ ،‬وإنما يذكر القدر عند بيان‬
‫نعمه عليهم‪ ،‬إما بما ليس من أفعالهم‪ ،‬وإما بإنعامه باليمان‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬ويذكره في سياق قدرته ومشيئته‪ ،‬وأما‬
‫ل َعَلْيُكْم َوَرْحَمُتُه َما َزَكى{ الية ]النور‪ ،[21 :‬فهذا‬ ‫ل ا ِّ‬ ‫ضُ‬ ‫في معرض المر فل يذكره إل عند النعم‪ .‬كقوله‪َ} :‬وَلْو َ‬
‫ل َف ْ‬
‫مناسب‪ .‬وقوله‪َ} :‬قْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{وهذه الية من جنس الثانية ل الولى‪.‬‬

‫ضوا{ الية ]النور‪ ،[30 :‬وقال‪َ} :‬فاْرِجُعوا ُهَو َأْزَكى َلُكْم{]النور‪:‬‬ ‫ن َيُغ ّ‬ ‫والمقصود ذكر التزكية قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫ك َأّل َيّزّكى{]عبس‪.[7 :‬‬ ‫ن الّزَكاَة{ ]فصلت‪ ،[7 :‬وقال‪َ} :‬وَما َ‬
‫عَلْي َ‬ ‫ل ُيْؤُتو َ‬ ‫‪ ،[28‬وقال‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن َ‬

‫وأصل الزكاة الزيادة في الخير‪ .‬ومنه يقال‪ :‬زكا الزرع‪ ،‬وزكا ‪/‬المال إذا نما‪ .‬ولن ينمو الخير إل بترك الشر‪ ،‬والزرع‬
‫ل يزكو حتى يزال عنه الدغل‪ ،‬فكذلك النفس والعمال ل تزكوا حتي يزال عنها ما يناقضها ول يكون الرجل متزكًيا‬
‫ساّها{ جعلها ذليلة حقيرة خسيسة‪ ،‬وقال الفراء‪ :‬دساها؛‬
‫إل مع ترك الشر‪ ،‬فإنه يدنس النفس ويدسيها‪ .‬قال الزجاج‪ّ} :‬د ّ‬
‫لن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله‪ ،‬قال ابن قتيبة‪ :‬أي أخفاها بالفجور والمعصية‪ ،‬فالفاجر دس نفسه‪ ،‬أي قمعها‬
‫وخباها‪ ،‬وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها‪ ،‬وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها‪ ،‬واللئام تنزل‬
‫الطراف والوديان‪.‬‬

‫طا عما كان عليه قبل ذلك‪ ،‬فإنه‬


‫عا وبس ً‬
‫فالبر والتقوى يبسط النفس‪ ،‬ويشرح الصدر‪ ،‬بحيث يجد النسان في نفسه اتسا ً‬
‫ل وشرح صدره‪ ،‬والفجور‪ ،‬والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها‪ ،‬بحيث‬ ‫لما اتسع بالبر والتقوى والحسان بسطه ا ّ‬
‫يجد البخيل في نفسه أنه ضيق‪ .‬وقد بين النبي صلى ال عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح‪ ،‬فقال‪) :‬مثل البخيل‬
‫والمتصدق‪ ،‬كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد‪ ،‬قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما‪ .‬فجعل المتصدق كلما هم بصدقة‬
‫اتسعت وانبسطت عنه‪ ،‬حتى تغشى أنامله‪ ،‬وتعفو أثره‪ ،‬وجعل البخيل كلما هم بصدقة‪ ،‬قلصت‪ ،‬وأخذت كل حلقة‬
‫ل صلى ال عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه‪ ،‬فلو رأيتها يوسعها فل تتسع( أخرجاه‪.‬‬ ‫بمكانها‪ ،‬وأنا رأيت رسول ا ّ‬

‫‪/‬وإخفاء المنزل وإظهاره تبًعا لذلك‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬يَتَواَرى ِمْن اْلَقْوِم ِمْن ُسوِء َما ُبّشَر ِبِه{ الية ]النحل‪ .[59 :‬فهكذا النفس‬
‫البخيلة الفاجرة قد دسها صاحبها في بدنه بعضها في بعض؛ ولهذا وقت الموت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من‬
‫الصوف المبتل‪ ،‬والنفس البرة التقية النقية‪ ،‬التي قد زكاها صاحبها فارتفعت‪ ،‬واتسعت‪ ،‬ومجدت‪ ،‬ونبلت فوقت الموت‬
‫تخرج من البدن تسيل‪ ،‬كالقطرة من في السقاء‪ ،‬وكالشعرة من العجين‪ .‬قال ابن عباس‪ :‬إن للحسنة لنوًرا في القلب‪،‬‬
‫وضياًء في الوجه‪ ،‬وقوة في البدن‪ ،‬وسعة في الرزق‪ ،‬ومحبة في قلوب الخلق‪ .‬وإن للسيئة لظلمة في القلب‪ ،‬وسواًدا‬
‫ب{ الية ]العراف‪:‬‬ ‫في الوجه‪ ،‬ووهنا في البدن‪ ،‬وضيًقا في الرزق‪ ،‬وبغضة في قلوب الخلق‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬واْلَبَلُد ال ّ‬
‫طّي ُ‬
‫ي اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫صْدَرُه{ الية ]النعام‪ .[521 :‬وقال‪} :‬ا ُّ‬
‫ل َوِل ّ‬ ‫ح َ‬
‫شَر ْ‬
‫ن َيهِدَيُه َي ْ‬
‫ل َأ ْ‬ ‫‪ .[58‬وهذا مثل البخيل والمنفق‪ .‬قال‪َ} :‬فَم ْ‬
‫ن ُيِرْد ا ُّ‬
‫آَمُنوا{ الية ]البقرة‪.[257 :‬‬

‫عَلْيُكمْ‬
‫ل َ‬‫ل ا ِّ‬‫ضُ‬ ‫وقال له في سياق الرمي بالفاحشة‪ ،‬وذم من أحب إظهارها في المؤمنين‪ ،‬والمتكلم بما ل يعلم‪َ} :‬وَلْو َ‬
‫ل َف ْ‬
‫حٍد َأَبًدا{الية]النور‪ .[21 :‬فبين أن الزكاة إنما تحصل بترك الفاحشة ولهذا قال‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن‬ ‫ن َأ َ‬
‫حَمُتُه َما َزَكى ِمْنُكْم ِم ْ‬
‫َوَر ْ‬
‫صاِرِهْم{ الية ]النور‪ .[30 :‬وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال النفس‪ ،‬فإنها تعلم أن السيئات مذمومة‬ ‫ن َأْب َ‬
‫ضوا ِم ْ‬ ‫َيُغ ّ‬
‫ومكروه فعلها‪ ،‬ويجاهد نفسه إذا دعته إليها‪ ،‬إن كان مصدًقا لكتاب ‪ /‬ربه مؤمنا بما جاء عن نبيه صلى ال عليه وسلم؛‬
‫ضا‪ ،‬بخلف ما إذا‬
‫ولهذا التصديق واليمان والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة ‪ ،‬فتزكو بذلك أي ً‬
‫عملت السيئات فإنهـا تتدنس وتندس‪ ،‬وتنقمع‪ ،‬كالزرع إذا نبت معه الدغل‪.‬‬

‫والثواب إنما يكون على عمل موجود‪ ،‬وكذلك العقاب‪ .‬فأما العدم المحض‪ ،‬فل ثواب فيه ول عقاب‪ ،‬لكن فيه عدم‬
‫ل سبحانه أمر بالخير‪ ،‬ونهى عن الشر‪ ،‬واتفق الناس على أن المطلوب بالمر فعل موجود‪،‬‬ ‫الثواب والعقاب‪ ،‬وا ّ‬
‫واختلفوا في النهي هل المطلوب أمر وجودي‪ ،‬أم عدمي؟ فقيل‪ :‬وجودي‪ ،‬وهو الترك‪ ،‬وهذا قول الكثر‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫المطلوب عدم الشر‪ ،‬وهو أل يفعله‪.‬‬

‫والتحقيق أن المؤمن إذا نهى عن المنكر‪ ،‬فل بد أل يقربه ويعزم على تركه‪ ،‬ويكره فعله‪ ،‬وهذا أمر وجودي بل ريب‪،‬‬
‫فليتصور أن المؤمن الذي يعلم أنه‪ . ..‬وجودي‪ ،‬لكن قد ل يكون مريًدا له كما يكره أكل الميتة طبًعا‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فلبد‬
‫له من اعتقاد التحريم والعزم على تركه لطاعة الشارع‪ ،‬وهذا قدر زائد على كراهة الطبع‪ ،‬وهو أمر وجودي يثاب‬
‫عليه‪ ،‬ولكن ليس كثواب من كف نفسه وجاهدها عن طلب ‪ /‬المحرم‪ ،‬ومن كانت كراهته للمحرمات كراهة إيمان‪ .‬وقد‬
‫غمر إيمانه حكم طبعه‪ ،‬فهذا أعلى القسام الثلثة‪ ،‬وهذا صاحب النفس المطمئنة‪ ،‬وهو أرفع من صاحب اللوامة التي‬
‫تفعل الذنب‪ ،‬وتلوم صاحبها عليه‪ ،‬وتتلوم وتتردد‪ ،‬هل تفعله أم ل؟!‬

‫ل حرمه‪ ،‬ول هو مريد له‪ ،‬بل لم يفعله‪ ،‬فهذا ليعاقب ول يثاب‪ ،‬إذ لم يحصل منه أمر‬ ‫وأما من لم يخطر بباله أن ا ّ‬
‫وجودي يثاب عليه‪ ،‬أو يعاقب فمن قال‪ :‬المطلوب أل يفعل‪ ،‬إن أراد أن هذا المطلوب يكفي في عدم العقاب‪ ،‬فقد‬
‫ل ورسوله‪ ،‬فل بد لنفسه من أعمال‬
‫صدق‪ ،‬وإن أراد أنه يثاب على هذا العدم‪ ،‬فليس كذلك‪ ،‬والكافر إذا لم يؤمن با ّ‬
‫يشتغل بها عن اليمان‪ ،‬وترك العمال كفر يعاقب عليها‪.‬‬

‫ل عقوبة الكفار في النار‪ ،‬ذكر أموًرا وجودية وتلك تدس النفس؛ ولهذا كان التوحيد واليمان أعظم ما‬ ‫ولهذا لما ذكر ا ّ‬
‫تزكو به النفس‪ ،‬وكان الشرك أعظم ما يدسيها‪ ،‬وتتزكى بالعمال الصالحة والصدقة هذا كله مما ذكره السلف‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫في }َقْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{]العلى‪ ،[14 :‬تطهر من الشرك‪ ،‬ومن المعصية بالتوبة‪ ،‬وعن أبي سعيد وعطاء وقتادة‪ :‬صدقة‬
‫الفطر‪ .‬ولم يريدوا أن الية لم تتناول إل هي‪ ،‬بل مقصودهم‪ :‬أن من أعطى صدقة الفطر‪ ،‬وصلى صلة العيد فقد‬
‫تناولته وما بعدها‪ ،‬ولهذا ‪ /‬كان يزيد بن حبيب‪ ،‬كلما خرج إلى الصلة خرج بصدقة‪ ،‬ويتصدق بها‪ ،‬قبل الصلة‪ ،‬ولو‬
‫ل‪ .‬قال الحسن‪َ} :‬قْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{ من كان عمله زاكًيا‪ ،‬وقال أبو الحوص‪ :‬زكاة المور كلها‪ ،‬وقال‬
‫لم يجد إل بص ً‬
‫ل عز وجل‪ ،‬ومعنى الزاكي‪ :‬النامي الكثير‪.‬‬ ‫الزجاج‪ :‬تزكى بطاعة ا ّ‬

‫وكذلك قالوا في قوله‪َ} :‬وَوْيٌل ِلْلُمْشِرِكيَن ‪ .‬اّلِذيَن َل ُيْؤُتوَن الّزَكاَة{]فصلت‪ [7 ،6 :‬قال ابن عباس‪ :‬ليشهدون أن ل إله إل‬
‫ل أعلم ـ أهل‬
‫ل‪ ،‬وقال مجاهد‪ :‬ل يزكون أعمالهم أي ليست زاكية‪ ،‬وقيل ل يطهرونها بالخلص‪ ،‬كأنه أراد ـ وا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫الرياء‪ ،‬فإنه شرك‪ .‬وعن الحسن‪ :‬ل يؤمنون بالزكاة‪ ،‬ول يقرون بها‪ .‬وعن الضحاك‪ :‬ل يتصدقون‪ ،‬ول ينفقون في‬
‫الطاعة‪ ،‬وعن ابن السائب‪ :‬ل يعطون زكاة أموالهم‪ .‬قال‪ :‬كانوا يحجون ويعتمرون ول يزكون‪.‬‬

‫ن َتَزّكى{‬
‫ك ِإَلى َأ ْ‬ ‫والتحقيق أن الية تتناول كل ما يتزكى به النسان من التوحيد والعمال الصالحة‪ .‬كقوله‪َ} :‬ه ْ‬
‫ل َل َ‬
‫]النازعات‪ ،[18 :‬وقوله‪َ} :‬قْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{ ]العلى‪ ،[14 :‬والصدقة المفروضة لم تكن فرضت عند نزولها‪.‬‬

‫فإن قيل‪} :‬يؤتي{ فعل متعد‪.‬‬

‫قيل‪ :‬هذا كقوله‪ُ} :‬ثّم ُسِئُلوا اْلِفْتَنَة َلَتْوَها{ ]الحزاب‪ ،[14 :‬وتقدم قبلها أن ‪ /‬الرسول دعاهم‪ ،‬وهو طلب منه‪ ،‬فكان هذا‬
‫اللفظ متضمًنا قيام الحجة عليهم بالرسل‪ ،‬والرسل إنما يدعونهم لما تزكو به أنفسهم‪.‬‬
‫طّهُرُهْم{ من‬
‫صَدَقًة ُت َ‬
‫ن َأْمَواِلِهْم َ‬ ‫ومما يليق‪ :‬أن الزكاة تستلزم الطهارة؛ لن معناها معنى الطهارة‪ .‬قوله‪ُ } :‬‬
‫خْذ ِم ْ‬
‫الشر}َوُتَزّكيِهْم{ ]التوبة‪ [103 :‬بالخير قال صلى ال عليه وسلم‪) :‬الّلهم طهرني بالماء والبرد والثلج( كان يدعو به‬
‫في الستفتاح وفي العتدال من الركوع‪ ،‬والغسل‪.‬‬

‫فهذه المور توجب تبريد المغسول بها‪ ،‬و]البرد[ يعطي قوة وصلبة‪ ،‬ومايسر يوصف بالبرد وقرة العين؛ ولهذا كان‬
‫دمع السرور بارًدا‪ ،‬ودمع الحزن حاًرا؛ لن مايسوء النفس يوجب حزنها وغمها‪ ،‬وما يسرها يوجب فرحها‬
‫وسرورها وذلك مما يبرد الباطن‪.‬‬

‫فسأل النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور‬
‫الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب‪.‬‬

‫وقوله‪ :‬بالثلج والبرد والماء البارد‪ :‬تمثيل بما فيه من هذا الجنس‪ ،‬وإل فنفس الذنوب ل تغسل بذلك‪ ،‬كما يقال‪ :‬أذقنا‬
‫برد عفوك‪ ،‬وحلوة مغفرتك‪ .‬ولما قضى أبو قتادة دين المدين قال صلى ال عليه وسلم‪) :‬الن ‪ /‬بّردت جلدته(‪ ،‬ويقال‪:‬‬
‫برد اليقين‪ ،‬وحرارة الشك‪ ،‬ويقال‪ :‬هذا المر يثلج له الصدر‪ ،‬إذا كان حًقا يعرفه القلب ويفرح به‪ ،‬حتى يصير في مثل‬
‫برد الثلج‪ ،‬ومرض النفس‪ :‬إما شبهة وإما شهوة أو غضب‪ ،‬والثلثة توجب السخونة‪ ،‬ويقال لمن نال مطلوبه‪ :‬برد‬
‫قلبه‪ ،‬فإن الطالب فيه حرارة الطلب‪.‬‬

‫وقوله‪ُ} :‬خْذ ِمْن َأْمَواِلِهْم{‪ :‬دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة‪ ،‬فإنه قاله بعد قوله‪:‬‬
‫}َوآَخُروَن اْعَتَرُفوا{الية ]التوبة‪ .[102 :‬فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق‬
‫ل{ الية ]النور‪ .[31 :‬فأمرهم جميًعا بالتوبة في سياق ما‬ ‫ضوا{اليات ]النور‪َ} [30 :‬وُتوُبوا ِإَلى ا ِّ‬ ‫ن َيُغ ّ‬ ‫قوله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫ل كتب على ابن آدم حظه من الزنا( الحديث‪ .‬وكذلك‬ ‫ذكره؛ لنه ل يسلم أحد من هذا الجنس‪ .‬كما في الصحيح‪) :‬إن ا ّ‬
‫ت{ ]هود‪ [114 :‬نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء إل‬ ‫سّيَئا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ت ُيْذِهْب َ‬
‫سَنا ِ‬
‫حَ‬ ‫في الصحيح‪ :‬إن قوله‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اْل َ‬
‫الجماع‪ ،‬ثم ندم فنزلت‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وينهى النفس عن الهوى‪ ،‬ونفس الهوى والشهوة ل يعاقب عليه‪ ،‬بل على‬ ‫ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف ا ّ‬
‫حا‪ ،‬وثبت عنه أنه قال‪) :‬المجاهد‬
‫ل صال ً‬
‫ل‪ ،‬وعم ً‬
‫اتباعه والعمل به‪ ،‬فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة ّ‬
‫ل(‪ ،‬فيؤمر بجهادها ‪ /‬كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها‪ ،‬وهو إلي جهاد نفسه‬‫من جاهد نفسه في ذات ا ّ‬
‫أحوج‪ ،‬فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية‪ ،‬والصبر في هذا من أفضل العمال‪ ،‬فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك‬
‫الجهاد‪ ،‬فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد‪ .‬كما قال‪) :‬والمهاجر من هجر السيئات(‪.‬‬

‫ظيًما{]النساء‪،[74 :‬‬
‫عِ‬‫جًرا َ‬
‫ف ُنْؤِتيِه َأ ْ‬
‫سْو َ‬
‫ب َف َ‬ ‫ثم هذا ل يكون محموًدا فيه‪ ،‬إل إذا غلب‪ ،‬بخلف الول فإنه من}َفُيْقَت ْ‬
‫ل َأْو َيْغِل ْ‬
‫ل أمر النسان أن ينهي النفس عن‬ ‫ولهـذا قال صلى ال عليه وسلم‪) :‬ليـس الشديد بالصرعة‪ ( . ..‬إلخ؛ وذلك لن ا ّ‬
‫الهوى‪ ،‬وأن يخاف مقام ربه‪ ،‬فحصل له من اليمان ما يعينه على الجهاد‪ ،‬فإذا غلب كان لضعف إيمانه‪ ،‬فيكون‬
‫طا بترك المأمور‪ ،‬بخلف العدو الكافر فإنه قد يكون بدنه أقوى‪.‬‬‫مفر ً‬

‫فالذنوب إنما تقع إذا كانت النفس غير ممتثلة لما أمرت به‪ ،‬ومع امتثال المأمور ل تفعل المحظور‪ ،‬فإنهما ضدان‪ .‬قال‬
‫طاٌن{ ]الحجر‪ ،42 :‬السراء‪:‬‬ ‫سْل َ‬
‫عَلْيِهْم ُ‬
‫ك َ‬
‫س َل َ‬
‫عَباِدي َلْي َ‬ ‫سوَء{ الية ]يوسف‪ .[24 :‬وقال‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِ‬ ‫عْنُه ال ّ‬
‫ف َ‬
‫صِر َ‬ ‫تعالى‪َ} :‬كَذِل َ‬
‫ك ِلَن ْ‬
‫ل المخلصون ل يغويهم الشيطان‪ ،‬والغي خلف الرشد‪ ،‬وهو اتباع الهوى‪ ،‬فمن مالت نفسه إلى محرم‪،‬‬ ‫‪ [ 65‬فعباد ا ّ‬
‫صا له الدين‪ ،‬فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء‪ .. ..‬خشية ومحبة‪ ،‬والعبادة له ‪/‬‬ ‫ل مخل ً‬ ‫ل كما أمر ا ّ‬ ‫فليأت بعبادة ا ّ‬
‫وحده‪ ،‬وهذا يمنع من السيئات‪.‬‬

‫صا‪ ،‬فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحيا لها بعد الوقوع‪ ،‬فهو كالترياق الذي يدفع أثر‬ ‫فإذا كان تائًبا‪ ،‬فإن كان ناق ً‬
‫السم‪ ،‬ويرفعه بعد حصوله‪ ،‬وكالغذاء من الطعام والشراب‪ ،‬وكالستمتاع بالحلل الذي يمنع النفس عن طلب الحرام‪،‬‬
‫فإذا حصل له طلب إزالته‪ ،‬وكالعلم الذي يمنع من الشك‪ ،‬ويرفعه بعد وقوعه‪ ،‬وكالطب الذي يحفظ الصحة ويدفع‬
‫المرض‪ ،‬وكذلك ما في القلب من اليمان يحفظ بأشباهه مما يقوم به‪.‬‬
‫وإذا حصل منه مرض من الشبهات والشهوات أزيل بهذه‪ ،‬ول يحصل المرض إل لنقص أسباب الصحة‪ ،‬كذلك القلب‬
‫ل يمرض إل لنقص إيمانه‪ .‬وكذلك اليمان والكفران متضادان‪ ،‬فكل ضدين‪ :‬فأحدهما يمنع الخر تارة‪ ،‬ويرفعه‬
‫ل‪ ،‬كذلك الحسنات والسيئات والحباط‪. ..‬‬ ‫أخرى‪ ،‬كالسواد والبياض‪ . ..‬حصل موضعه ويرفعه إذا كان حاص ً‬
‫والمعتزلة إن الكبيرة تحبط الحسنات حتى اليمان‪ ،‬وإن من مات عليها لم يكن‪ .. .‬الجبائي وابنه بالموازنة‪ .‬لكن قالوا‪:‬‬
‫من رجحت سيئاته خلد في النار‪ ،‬والموازنة بل تخليد قول‪ . ..‬الحباط ما أجمع عليه وهو حبوط الحسنات كلها بالكفر‬
‫ط َعَمُلُه{ الية ]المائدة‪،[5 :‬‬
‫حِب َ‬
‫ن َفَقْد َ‬ ‫ليَما ِ‬ ‫ن ِديِنِه{الية]البقرة‪ ،[217 :‬وقوله‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َيْكُفْر ِبا ِْ‬ ‫عْ‬ ‫كما قال‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َيْرَتِدْد ِمْنُكْم َ‬
‫ك{ الية ]الزمر‪.[65 :‬‬ ‫عَمُل َ‬
‫ن َ‬‫طّ‬ ‫حَب َ‬
‫ت َلَي ْ‬
‫شَرْك َ‬ ‫ن{ ]النعام‪ ،[88 :‬وقال‪َ} :‬لِئ ْ‬
‫ن َأ ْ‬ ‫عْنُهْم َما َكاُنوا َيْعَمُلو َ‬
‫ط َ‬‫حِب َ‬‫شَرُكوا َل َ‬ ‫وقال‪َ} :‬وَلْو َأ ْ‬

‫وما ادعته المعتزلة مخالف لقوال السلف‪ ،‬فإنه سبحانه ذكر حد الزاني وغيره‪ ،‬ولم يجعلهم كفاًرا حابطي العمال‪،‬‬
‫ول أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين‪ ،‬والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم‪ .‬والنبي صلى ال عليه وسلم أمر‬
‫بالصلة على الغال‪ ،‬وعلى قاتل نفسه‪ ،‬ولو كانوا كفاًرا ومنافقين لم تجز الصلة عليهم‪ .‬فعلم أنهم لم يحبط إيمانهم كله‪.‬‬
‫ل ورسوله( وذلك الحب من أعظم شعب اليمان‪ .‬فعلم أن إدمانه ل‬ ‫وقال عمن شرب الخمر‪) :‬ل تلعنه فإنه يحب ا ّ‬
‫يذهب الشعب كلها‪ ،‬وثبت من وجوه كثيرة‪) :‬يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان( ولو حبط لم يكن في‬
‫ب{الية]فاطر‪ .[32 :‬فجعل من المصطفين‪.‬‬ ‫قلوبهم شيء منه‪ .‬وقال تعالى‪ُ} :‬ثّم َأْوَرْثَنا اْلِكَتا َ‬

‫فإذا كانت السيئات ل تحبط جميع الحسنات‪ ،‬فهل تحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر؟ فيه‬
‫صَدَقاِتُكْم‬ ‫قولن للمنتسبين إلى السنة‪ .‬منهم من ينكره‪ ،‬ومنهم من يثبته‪ ،‬كما دلت عليه النصوص‪ ،‬مثل قوله‪} :‬لَ ُتْب ِ‬
‫طُلوا َ‬
‫ِباْلَمّن َواَْلَذى{ الية]البقرة‪ .[264 :‬دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة‪ ،‬وضرب مثله بالمرائي‪ ،‬وقالت عائشة‪:‬‬
‫ابلغي زيًدا أن جهاده بطل‪ .‬الحديث‪.‬‬

‫طُلوا‬ ‫عَماُلُكْم{ ]الحجرات‪ ،[2 :‬وحديث صلة العصر ففي ذلك نزاع‪ .‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل ُتْب ِ‬ ‫ط َأ ْ‬
‫حَب َ‬ ‫‪/‬وأما قوله‪َ} :‬أ ْ‬
‫ن َت ْ‬
‫َأْعَماَلُكْم{ ]محمد‪ [33 :‬قال الحسن‪ :‬بالمعاصي والكبائر‪ ،‬وعن عطاء‪ :‬بالشرك والنفاق‪ ،‬وعن ابن السائب‪ :‬بالرياء‬
‫والسمعة‪ ،‬وعن مقاتل‪ :‬بالمن‪ .‬وذلك أن قوًما منوا بإسلمهم‪ ،‬فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر‬
‫تحبط العمال‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬لم يرد إل إبطالها بالكفر‪.‬‬

‫قيل‪ :‬ذلك منهي عنه في نفسه‪ ،‬وموجب للخلود الدائم‪ ،‬فالنهي عنه ل يعبر عنه بهذا‪ ،‬بل يذكره على وجه التغليظ‪.‬‬
‫ل سبحانه في هذه وفي آية المن سماها إبطال‪ ،‬ولم يسمه‬ ‫كقوله‪َ} :‬مْن َيْرَتّد ِمْنُكْم َعْن ِديِنِه{ ]المائدة‪ [54 :‬ونحوها‪ .‬وا ّ‬
‫ل ُثّم َماُتوا َوُهْم ُكّفاٌر{ الية]محمد‪.[34 :‬‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬
‫عْ‬‫صّدوا َ‬
‫ن َكَفُروا َو َ‬ ‫طا؛ ولهذا ذكر بعدها الكفر بقوله‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬ ‫إحبا ً‬

‫فإن قيل‪ :‬المراد إذا دخلتم فيها فأتموها‪ ،‬وبها احتج من قال‪ :‬يلزم التطوع بالشروع فيه‪.‬‬

‫قيل‪ :‬لو قدر أن الية تدل على أنه منهي عن إبطال بعض العمل‪ ،‬فإبطاله كله أولى‪ ،‬بدخوله فيها فكيف وذلك قبل‬
‫فراغه ل يسمى صلة ول صوًما؟!‬

‫ثم يقال‪ :‬البطال يوجد قبل الفراغ أو بعده‪ ،‬وما ذكروه أمر بالتمام‪ ،‬والبطال هو إبطال الثواب‪ ،‬ول نسلم أن من لم‬
‫يتم العبادة يبطل جميع ثوابه‪ ،‬بل يقال‪ :‬إنه يثاب على ما فعل من ذلك‪ .‬وفي الصحيح حديث المفلس )الذي يأتي‬
‫بحسنات أمثال الجبال(‪.‬‬

‫ل به وما نهى عنه‪ ،‬ثم تزهد وترك الدنيا‬


‫سـلم ـ قدس ال روحه ـ عن رجل تفقه وعلم ما أمر ا ّ‬ ‫شْيـخ الِ ْ‬
‫ل َ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ل ورسوله‪ ،‬وساح في أرض‬ ‫والمال والهل والولد خائًفا من كسب الحرام والشبهات‪ ،‬وبعث الخرة وطلب رضا ا ّ‬
‫ل والبلدان‪ ،‬فهل يجوز له أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم ل؟‬
‫ا ّ‬

‫فأجــاب‪:‬‬
‫ل‪ ،‬كما في الحديث‬ ‫ل وحده‪ ،‬الزهد المشروع هو ترك كل شيء ل ينفع في الدار الخرة‪ ،‬وثقة القلب بما عند ا ّ‬ ‫الحمد ّ‬
‫ل أوثق‬ ‫الذي في الترمذي )ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلل‪ ،‬ول إضاعة المال‪ ،‬ولكن الزهد أن تكون بما في يد ا ّ‬
‫ل تعالى يقول‪ِ} :‬لَكْي َ‬
‫ل‬ ‫بما في يدك‪ ،‬وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك( لن ا ّ‬
‫َتْأَسْوا عََلى َما َفاَتُكْم َوَل َتْفَرُحوا ِبَما آَتاُكْم{ ]الحديد‪ .[23 :‬فهذا صفة القلب‪.‬‬

‫ل من مطعم وملبس ومال وغير ذلك‪ ،‬كما قال‬‫‪/‬وأما في الظاهر‪ ،‬فترك الفضول التي ل يستعان بها على طاعة ا ّ‬
‫المام أحمد‪ :‬إنما هو طعام دون طعام‪ ،‬ولباس دون لباس‪ ،‬وصبر أيام قلئل‪.‬‬

‫ل‪،‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول‪) :‬خير الكلم كلم ا ّ‬ ‫وجماع ذلك خلق رسول ا ّ‬
‫وخير الهدى هدى محمد‪ ،‬وشر المور محدثاتها‪ ،‬وكل بدعة ضللة(‪ .‬وكان عادته في المطعم أنه ل يرد موجوًدا‪ ،‬ول‬
‫يتكلف مفقوًدا‪ ،‬ويلبس من اللباس ما تيسر من قطن وصوف وغير ذلك‪ ،‬وكان القطن أحب إليه‪ ،‬وكان إذا بلغه أن‬
‫ل صلى ال عليه‬ ‫بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد في الزهد‪ ،‬أو العبادة على المشروع‪ ،‬ويقول‪ :‬أينا مثل رسول ا ّ‬
‫ل تعالى( وبلغه أن بعض أصحابه قال‪ :‬أما أنا‬ ‫ل‪ ،‬وأعلمكم بحدود ا ّ‬
‫ل إني لخشاكم ّ‬ ‫وسلم ؟! يغضب لذلك‪ ،‬ويقول‪) :‬وا ّ‬
‫فأصوم فل أفطر‪ ،‬وقال الخر‪ :‬أما أنا فأقوم فل أنام‪ ،‬وقال آخر‪ :‬أما أنا فل أتزوج النساء‪ ،‬وقال آخر‪ :‬أما أنا فل آكل‬
‫اللحم‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪) :‬لكني أصوم وأفطر‪ ،‬وأقوم وأنام‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬وآكل اللحم‪ ،‬فمن رغب عن‬
‫سنتي فليس مني(‪.‬‬

‫ل ورسوله‪ ،‬ول هو من دين النبياء؛ بل قد قال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد‬‫فأما العراض عن الهل والولد فليس مما يحبه ا ّ‬
‫ك َوَجَعْلَنا َلُهْم َأْزَواًجا َوُذّرّيًة{ ]الرعد‪ [38 :‬والنفاق على العيال والكسب لهم يكون واجًبا تارة‬
‫ن َقْبِل َ‬
‫ل ِم ْ‬
‫سً‬‫سْلَنا ُر ُ‬
‫َأْر َ‬
‫ومستحًبا أخرى‪ ،‬فكيف يكون ترك الواجب أو المستحب من الدين‪.‬‬

‫وكذلك السياحة في البلد لغير مقصود مشروع‪ ،‬كما يعانيه بعض النساك أمر منهي عنه‪ ،‬قال المام أحمد‪ :‬ليست‬
‫السياحة من السلم في شىء‪ ،‬ول من فعل النبيين ول الصالحين‪.‬‬

‫ت‬ ‫ن{ ]التوبة‪ [112 :‬ومن قوله‪ُ} :‬م ْ‬


‫سِلَما ٍ‬ ‫حو َ‬
‫ساِئ ُ‬
‫حاِمُدونَ ال ّ‬
‫ن اْل َ‬ ‫وأما السياحة المذكورة في القرآن من قوله‪} :‬الّتاِئُبو َ‬
‫ن اْلَعاِبُدو َ‬
‫ل قد‬ ‫ت َوَأْبَكاًرا{ ]التحريم‪ [5 :‬فليس المراد بها هذه السياحة المبتدعة؛ فإن ا ّ‬ ‫ت َثّيَبا ٍ‬
‫حا ٍ‬
‫ساِئ َ‬
‫ت َ‬
‫عاِبَدا ٍ‬
‫ت َ‬
‫ت َتاِئَبا ٍ‬
‫ت َقاِنَتا ٍ‬
‫ُمْؤِمَنا ٍ‬
‫وصف النساء اللتي يتزوجهن رسوله بذلك‪ ،‬والمرأة المزوجة ل يشرع لها أن تسافر في البراري سائحة‪ ،‬بل المراد‬
‫بالسياحة شيئان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬الصيام‪ .‬كما روى عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬الحلل بين‪،‬‬
‫والحرام بين‪ ،‬وبينهما أمور مشتبهات ل يعلمهن كثيرمن الناس‪ ،‬فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه‪ ،‬ومن‬
‫وقع في الشبهات وقع في الحرام‪ ،‬كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه‪ ،‬أل وإن لكل ‪ /‬ملك حمى‪ ،‬أل وإن‬
‫ل محارمه‪ ،‬أل وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كله‪ ،‬إل وهي‬ ‫حمى ا ّ‬
‫القلب(‪ .‬متفق عليه‪.‬‬

‫لكن إذا ترك النسان الحرام‪ ،‬أو الشبهة‪ ،‬بترك واجب أو مستحب‪ ،‬وكان الثم أو النقص الذي عليه في الترك أعظم‬
‫من الثم الذي عليه في الفعل لم يشرع ذلك‪ ،‬كما ذكر أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي‪ ،‬عن المام أحمد بن حنبل‬
‫أنه سئل عمن ترك ما ل شبهة فيه وعليه دين؟ فسأله ولده أترك هذا المال الذي فيه شبهة فل أقضيه؟ فقال له‪ :‬أتدع‪...‬‬
‫]بياض بالصل[‪.‬‬

‫ل ـ عن‬
‫خ السلم َأُبو اْلَعّباس أحمد بن تيمية ـ رحمه ا ّ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬

‫ق اْلَيِقيِن{ ] الواقعة‪ [95 :‬و}َعْيَن اْلَيِقيِن{]التكاثر‪ [ 7 :‬و}ِعْلَم اْلَيِقيِن{ ]التكاثر‪ [5 :‬فما معنى كل مقام‬
‫حّ‬‫قوله تعالى‪َ } :‬‬
‫منها؟ وأي مقام أعلى؟‪.‬‬

‫فأجـاب‪:‬‬
‫ل رب العالمين‪ ،‬للناس في هذه السماء مقالت معروفة‪.‬‬
‫الحمد ّ‬

‫ن{ ما شاهده وعاينه بالبصر‪ ،‬و} َ‬


‫حقّ‬ ‫ن اْلَيِقي ِ‬ ‫ن{ما علمه بالسماع والخبر والقياس والنظر‪ ،‬و} َ‬
‫عْي َ‬ ‫منها‪ :‬أن يقال‪ِ } :‬‬
‫عْلَم اْلَيِقي ِ‬
‫اْلَيِقيِن{ ما باشره ووجده وذاقه وعرفه بالعتبار‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وصدق المخبر‪ .‬أو رأى آثار العسل فاستدل على وجوده‪.‬‬
‫فالول‪ :‬مثل من أخبر أن هناك عس ً‬

‫والثاني‪ :‬مثل من رأى العسل وشاهده وعاينه‪ ،‬وهذا أعلى كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ليس المخبر‬
‫كالمعاين(‪.‬‬

‫‪/‬والثالث‪ :‬مثل من ذاق العسل‪ ،‬ووجد طعمه وحلوته‪ ،‬ومعلوم أن هذا أعلى مما قبله؛ ولهذا يشير أهل المعرفة إلى ما‬
‫عندهم من الذوق والوجد‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪) :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة‬
‫ل‪ ،‬ومن كان يكره أن يرجع‬ ‫ل ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ‬ ‫اليمان‪ :‬من كان ا ّ‬
‫ل منه كما يكره أن يلقي في النار(‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪) :‬ذاق طعم اليمان‪ :‬من رضى‬ ‫إلى الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ‬
‫ل( فالناس فيما يجده أهل اليمان ويذوقونه من حلوة اليمان وطعمه على‬ ‫ل رًبا‪ ،‬وبالسلم ديًنا‪ ،‬وبمحمد رسو ً‬ ‫با ّ‬
‫ثلث درجات‪:‬‬

‫الولى‪ :‬من علم ذلك مثل من يخبره به شيخ له يصدقه‪ ،‬أو يبلغه ما أخبر به العارفون عن أنفسهم‪ ،‬أو يجد من آثار‬
‫أحوالهم ما يدل على ذلك‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬من شاهد ذلك وعاينه‪ ،‬مثل أن يعاين من أحوال أهل المعرفة والصدق واليقين ما يعرف به مواجيدهم‬
‫وأذواقهم‪ ،‬وإن كان هذا في الحقيقة لم يشاهد ما ذاقوه ووجدوه‪ ،‬ولكن شاهد ما دل عليه لكن هو أبلغ من المخبر‪،‬‬
‫والمستدل بآثارهم‪.‬‬

‫والثالثة‪ :‬أن يحصل له من الذوق والوجد في نفسه ما كان ‪ /‬سمعه‪ ،‬كما قال بعض الشيوخ‪ :‬لقد كنت في حال أقول‬
‫فيها‪ :‬إن كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب‪ .‬وقال آخر‪ :‬إنه ليمر على القلب أوقات‬
‫يرقص منها طرًبا‪ .‬وقال الخر‪ :‬لهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم‪.‬‬

‫والناس فيما أخبروا به من أمر الخرة على ثلث درجات‪:‬‬

‫إحداها‪ :‬العلم بذلك لما أخبرتهم الرسل‪ ،‬وما قام من الدلة على وجود ذلك‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬إذا عاينوا ما وعدوا به من الثواب والعقاب والجنة والنار‪.‬‬

‫والثالثة‪ :‬إذا باشروا ذلك؛ فدخل أهل الجنة الجنة‪ ،‬وذاقوا ما كانوا يوعدون‪ ،‬ودخل أهل النار النار‪ ،‬وذاقوا ما كانوا‬
‫يوعدون‪ ،‬فالناس فيما يوجد في القلوب‪ ،‬وفيما يوجد خارج القلوب على هذه الدرجات الثلث‪.‬‬

‫وكذلك في أمور الدنيا‪ :‬فإن من أخبر بالعشق أو النكاح ولم يره ولم يذقه كان له علم به‪ ،‬فإن شاهده ولم يذقه كان له‬
‫معاينة له‪ ،‬فإن ذاقه بنفسه كان له ذوق وخبرة به‪ ،‬ومن لم يذق الشيء لم يعرف حقيقته‪ ،‬فإن ‪ /‬العبارة إنما تفيد التمثيل‬
‫والتقريب‪ .‬وأما معرفة الحقيقة فل تحصل بمجرد العبارة‪ ،‬إل لمن يكون قد ذاق ذلك الشيء المعبر عنه‪ ،‬وعرفه‬
‫وخبره؛ ولهذا يسمون أهل المعرفة؛ لنهم عرفوا بالخبرة والذوق ما يعلمه غيرهم بالخبر والنظر‪ ،‬وفي الحديث‬
‫الصحيح‪) :‬أن هرقل ملك الروم سأل أبا سفيان بن حرب فيما سأله عنه من أمور النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬فهل‬
‫يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬وكذلك اليمان إذا خالطت بشاشته القلب ل‬
‫يسخطه أحد(‪.‬‬

‫فاليمان إذا باشر القلب وخالطته بشاشته ل يسخطه القلب‪ ،‬بل يحبه ويرضاه‪ ،‬فإن له من الحلوة في القلب واللذة‬
‫والسرور والبهجة ما ل يمكن التعبير عنه لمن لم يذقه‪ ،‬والناس متفاوتون في ذوقه والفرح والسرور الذي في القلب له‬
‫خْيٌر ِمّما‬
‫حوا ُهَو َ‬
‫ك َفْلَيْفَر ُ‬
‫حَمِتِه َفِبَذِل َ‬
‫ل َوِبَر ْ‬
‫ل ا ِّ‬
‫ضِ‬ ‫من البشاشة ما هو بحسبه‪ ،‬وإذا خالطت القلب لم يسخطه‪ ،‬قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِبَف ْ‬
‫ضُه{ ]الرعد‪:‬‬ ‫ن ُينِكُر َبْع َ‬ ‫ب َم ْ‬ ‫حَزا ِ‬ ‫لْ‬ ‫ن ا َْ‬
‫ك َوِم ْ‬‫ل ِإَلْي َ‬
‫ن ِبَما ُأنِز َ‬ ‫حو َ‬ ‫ب َيْفَر ُ‬ ‫ن{ ]يونس‪ ،[58 :‬وقال تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن آَتْيَناُهْم اْلِكَتا َ‬ ‫جَمُعو َ‬
‫َي ْ‬
‫ن{‬
‫شُرو َ‬
‫سَتْب ِ‬
‫ن آَمُنوا َفَزاَدْتُهْم ِإيَماًنا َوُهْم َي ْ‬‫ل َأّيُكْم َزاَدْتُه َهِذِه ِإيَماًنا َفَأّما اّلِذي َ‬
‫ن َيُقو ُ‬
‫سوَرٌة َفِمْنُهْم َم ْ‬ ‫‪ ،[36‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإَذا َما ُأنِزَل ْ‬
‫ت ُ‬
‫]التوبة‪ [124 :‬فأخبرـ سبحانه ـ أنهم يستبشرون بما أنزل من القرآن‪ ،‬والستبشار هو الفرح والسرور؛ وذلك لما‬
‫ل‪.‬‬
‫يجدونه في قلوبهم من الحلوة واللذة والبهجة بما أنزل ا ّ‬

‫‪/‬واللذة أبدا تتبع المحبة فمن أحب شيًئا ونال ما أحبه وجد الّلذة به؛ فالذوق هو إدراك المحبوب‪ ،‬اللذة الظاهرة كالكل‬
‫ل‪ :‬حال النسان فيها أنه يشتهي الطعام ويحبه‪ ،‬ثم يذوقه ويتناوله فيجد حينئذ لذته وحلوته‪ ،‬وكذلك النكاح وأمثال‬ ‫مث ً‬
‫ذلك‪.‬‬

‫وليس للخلق محبة أعظم ول أكمل ول أتم من محبة المؤمنين لربهم‪ ،‬وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من‬
‫ل‪،‬‬
‫ل تعالى‪ ،‬وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه‪ ،‬فإن الرسول عليه الصلة والسلم إنما يحب لجل ا ّ‬ ‫كل وجه إل ا ّ‬
‫ل{]آل عمران‪ ،[31 :‬وفي‬ ‫حِبْبُكْم ا ُّ‬
‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬‫ن ا َّ‬
‫حّبو َ‬
‫ن ُكْنُتْم ُت ِ‬ ‫ل‪ .‬كما قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬ ‫ل‪ ،‬ويتبع لجل ا ّ‬ ‫ويطاع لجل ا ّ‬
‫ن َكا َ‬
‫ن‬ ‫ل‪ ،‬وأحبوا أهل بيتي لحبي(‪ ،‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬ ‫ل لما يغذوكم به من نعمه‪ ،‬وأحبوني لحب ا ّ‬ ‫الحديث‪) :‬أحبوا ا ّ‬
‫ن{‬‫سِقي َ‬
‫ل َيْهِدي اْلَقْوَم اْلَفا ِ‬
‫ل َ‬‫ل ِبَأْمِرِه َوا ُّ‬
‫ي ا ُّ‬
‫حّتى َيْأِت َ‬
‫صوا َ‬ ‫سِبيِلِه َفَتَرّب ُ‬‫جَهاٍد ِفي َ‬ ‫سوِلِه َو ِ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫ن ا ِّ‬‫ب ِإَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ح ّ‬‫آَباُؤُكْم{ إلى قوله‪َ} :‬أ َ‬
‫]التوبة‪ ،[24 :‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس‬
‫ل‪ ،‬فقد استكمل اليمان( وقال‬ ‫ل‪ ،‬ومنع ّ‬ ‫ل‪ ،‬وأعطى ّ‬ ‫ل‪ ،‬وأبغض ّ‬ ‫أجمعين( وفي حديث الترمذي وغيره‪) :‬من أحب ّ‬
‫ل{ ]البقرة‪ ،[165 :‬فالذين آمنوا أشد‬ ‫حّبا ِّ‬‫شّد ُ‬‫ن آَمُنوا َأ َ‬
‫ل َواّلِذي َ‬ ‫ب ا ِّ‬
‫ح ّ‬ ‫حّبوَنُهْم َك ُ‬
‫ل َأنَداًدا ُي ِ‬
‫ن ا ِّ‬ ‫ن ُدو ِ‬‫خُذ ِم ْ‬‫ن َيّت ِ‬
‫س َم ْ‬ ‫تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ن الّنا ِ‬
‫ل‪ ،‬من كل محب لمحبوبه‪ ،‬وقد بسطنا الكلم على هذا في مواضع متعددة‪.‬‬ ‫حًبا ّ‬

‫ل ولرسوله من حلوة اليمان ما يناسب هذه المحبة‪ ،‬ولهذا‬ ‫‪/‬والمقصود هنا أن أهل اليمان يجدون بسبب محبتهم ّ‬
‫ل ورسوله‬‫علق النبي صلى ال عليه وسلم ما يجدونه بالمحبة فقال‪) :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان‪ :‬أن يكون ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار(‪.‬‬
‫أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأن يحب المرء ل يحبه إل ّ‬

‫ل وحده‪ ،‬فإن الناس في هذا الباب على ثلث‬


‫ومن ذلك ما يجدونه من ثمرة التوحيد والخلص‪ ،‬والتوكل والدعاء ّ‬
‫درجات‪:‬‬

‫ل‪.‬‬
‫عا واستدل ً‬
‫منهم‪ :‬من علم ذلك سما ً‬

‫ومنهم‪ :‬من شاهد وعاين ما يحصل لهم‪.‬‬

‫ل‪ ،‬واللتجاء إليه‪ ،‬والستعانة به‪ ،‬وقطع التعلق بما سواه‪ ،‬وجرب من‬ ‫ومنهم‪ :‬من وجد حقيقة الخلص والتوكل على ا ّ‬
‫نفسه أنه إذا تعلق بالمخلوقين ورجاهم‪ ،‬وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة أو يدفعوا عنه مضرة‪ ،‬فإنه يخذل من جهتهم‪،‬‬
‫ول يحصل مقصوده‪ ،‬بل قد يبذل لهم من الخدمة والموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه وقت حاجته إليهم‪ ،‬فل‬
‫صا له‬
‫ل بصدق الفتقار إليه‪ ،‬واستغاث به مخل ً‬‫ينفعونه‪ :‬إما لعجزهم‪ ،‬وإما لنصراف قلوبهم عنه‪ ،‬وإذا ‪ /‬توجه إلى ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ما لم يذق‬
‫الدين‪ ،‬أجاب دعاءه؛ وأزال ضرره‪ ،‬وفتح له أبواب الرحمة‪ .‬فمثل هذا قد ذاق من حقيقة التوكل والدعاء ّ‬
‫ل وإرادة وجهه دون ما سواه؛ يجد من الحوال والنتائج والفوائد مال يجده‬ ‫غيره‪ .‬وكذلك من ذاق طعم إخلص الدين ّ‬
‫من لم يكن كذلك‪.‬‬

‫بل من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة والعلو؛ وتعلقه بالصور الجميلة‪ ،‬أو جمعه للمال يجد في أثناء ذلك من الهموم‬
‫والغموم والحزان واللم وضيق الصدر ما ل يعبر عنه‪ ،‬وربما ل يطاوعه قلبه على ترك الهوى‪ ،‬ول يحصل له ما‬
‫يسره‪ ،‬بل هو في خوف وحزن دائًما‪ ،‬إن كان طالًبا لما يهواه فهو قبل إدراكه حزين متألم حيث لم يحصل‪ .‬فإذا أدركه‬
‫كان خائًفا من زواله وفراقه‪.‬‬

‫ل‪ ،‬والعبادة له‪ ،‬وحلوة ذكره‬ ‫ل ل خوف عليهم ول هم يحزنون‪ ،‬فإذا ذاق هذا أو غيره حلوة الخلص ّ‬ ‫وأولياء ا ّ‬
‫صا‪ ،‬فإنه يجد من‬‫ل خال ً‬
‫حا‪ ،‬ويكون لوجه ا ّ‬ ‫ل وهو محسن بحيث يكون عمله صال ً‬ ‫ومناجاته‪ ،‬وفهم كتابه‪ ،‬وأسلم وجهه ّ‬
‫السرور واللذة والفرح ما هو أعظم مما يجده الداعي المتوكل الذي نال بدعائه وتوكله ما ينفعه من الدنيا‪ .‬أو اندفع‬
‫عنه ما يضره‪ ،‬فإن حلوة ذلك هي بحسب ما حصل له من ‪ /‬المنفعة‪ ،‬أو اندفع عنه من المضرة‪ ،‬ول أنفع للقلب من‬
‫ل‪ ،‬ول أضر عليه من الشراك‪.‬‬
‫التوحيد وإخلص الدين ّ‬

‫ك َنْسَتِعيُن{‪ ،‬كان هذا فوق‬


‫ك َنْعُبُد{ مع حقيقة التوكل التي هي حقيقة }إّيا َ‬
‫فإذا وجد حقيقة الخلص التي هي حقيقة }إّيا َ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫ما يجده كل أحد لم يجد مثل هذا‪ .‬وا ّ‬

‫سؤال أبى القاسم المغربى يتفضل الشيخ المام بقية السلف‪ ،‬وقدوة الخلف‪ ،‬أعلم من لقيت ببلد المشرق‬ ‫‪/‬‬
‫والمغرب‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية‪ ،‬بأن يوصيني بما يكون فيه صلح ديني ودنياي‪ ،‬ويرشدني إلى كتاب‬
‫يكون عليه اعتمادي في علم الحديث‪ ،‬وكذلك في غيره من العلوم الشرعية وينبهني على أفضل العمال الصالحة بعد‬
‫ل تعالى يحفظه‪ .‬والسلم الكريم‬
‫الواجبات‪ ،‬ويبين لي أرجح المكاسب‪ ،‬كل ذلك على قصد اليماء والختصار‪ ،‬وا ّ‬
‫ل وبركاته‪.‬‬ ‫عليه ورحمة ا ّ‬

‫فأجـــاب‪:‬‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬أما الوصية‪ :‬فما أعلم وصية أنفع من وصية الّ ورسوله لمن عقلها ‪ /‬واتبعها‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫الحمد ّ‬
‫ل{ ]النساء‪.[131 :‬‬
‫ن اّتُقوا ا َّ‬
‫ن َقْبِلُكْم َوِإّياُكْم َأ ْ‬
‫ب ِم ْ‬
‫ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ‬
‫صْيَنا اّلِذي َ‬
‫}َوَلَقْد وَ ّ‬

‫ل حيثما كنت‪ ،‬وأتبع السيئة الحسنة‬


‫ووصى النبي صلى ال عليه وسلم معاًذا لما بعثه إلى اليمن فقال‪) :‬يامعاذ‪ ،‬اتق ا ّ‬
‫تمحها‪ ،‬وخالق الناس بخلق حسن(‪.‬‬

‫ل‪ ،‬إني لحبك(‬


‫ل عنه ـ من النبي صلى ال عليه وسلم بمنزلة علية؛ فإنه قال له‪) :‬يامعاذ‪ ،‬وا ّ‬ ‫وكان معاذ ـ رضي ا ّ‬
‫وكان يردفه وراءه‪ .‬وروى فيه‪) :‬أنه أعلم المة بالحلل والحرام( )وأنه يحشر إمام العلماء برتوة ـ أي بخطوة(‪ .‬ومن‬
‫فضله أنه بعثه النبي صلى ال عليه وسلم مبلًغا عنه داعًيا ومفقًها ومفتًيا وحاكًما إلى أهل اليمن‪.‬‬

‫ل عنه ـ يقول‪ :‬إن معاًذا‬


‫وكان يشبهه بإبراهيم الخليل ـ عليه السلم ـ وإبراهيم إمام الناس‪ .‬وكان ابن مسعود ـ رضي ا ّ‬
‫ل حنيًفا ولم يك من المشركين؛ تشبيًها له بإبراهيم‪.‬‬
‫كان أمة قانًتا ّ‬

‫ثم إنه صلى ال عليه وسلم وصاه هذه الوصية‪ ،‬فعلم أنها جامعة وهي كذلك لمن عقلها‪ ،‬مع أنها تفسير الوصية‬
‫القرآنية‪.‬‬

‫أما بيان جمعها؛ فلن العبد عليه حقان‪:‬‬

‫ل عز وجل‪ ،‬وحق لعباده‪ .‬ثم الحق الذي عليه لبد أن يخل ببعضه أحياًنا‪ :‬إما بترك مأمور به‪ ،‬أو فعل منهي‬ ‫‪/‬حق ّ‬
‫ل حيثما كنت( وهذه كلمة جامعة‪ ،‬وفي قوله‪) :‬حيثما كنت( تحقيق لحاجته‬ ‫عنه‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬اتق ا ّ‬
‫إلى التقوى في السر والعلنية‪ .‬ثم قال‪) :‬وأتبع السيئة الحسنة تمحها( فإن الطبيب متى تناول المريض شيًئا مضًرا‬
‫أمره بما يصلحه‪ .‬والذنب للعبد كأنه أمر حتم‪ ،‬فالكيس هو الذي ل يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات‪ .‬وإنما‬
‫قدم في لفظ الحديث)السيئة( وإن كانت مفعولة‪ ،‬لن المقصود هنا محوها ل فعل الحسنة‪ ،‬فصار كقوله في بول‬
‫العرابي‪) :‬صبوا عليه ذنوًبا من ماء(‪.‬‬

‫وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات‪ ،‬فإنه أبلغ في المحو والذنوب يزول موجبها بأشياء‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬التوبة‪.‬‬

‫ل تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب‪ ،‬فإذا اجتمعت التوبة والستغفار‬
‫والثاني‪ :‬الستغفار من غير توبة‪ .‬فإن ا ّ‬
‫فهو الكمال‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬العمال الصالحة المكفرة‪ :‬إما الكفارات المقدرة‪ / ،‬كما يكفر المجامع في رمضان والمظاهر والمرتكب‬
‫لبعض محظورات الحج أو تارك بعض واجباته‪ ،‬أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة‪ ،‬وهي أربعة أجناس‪ :‬هدى وعتق‬
‫وصدقة وصيام‪.‬‬

‫وإما الكفارات المطلقة‪ ،‬كما قال حذيفة لعمر‪ :‬فتنة الرجل في أهله وماله وولده‪ ،‬يكفرها الصلة والصيام والصدقة‬
‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬وقد دل على ذلك القرآن والحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس‪،‬‬
‫والجمعة والصيام‪ ،‬والحج وسائر العمال التي يقال فيها‪ :‬من قال كذا وعمل كذا غفر له‪ ،‬أو غفر له ما تقدم من ذنبه‪،‬‬
‫صا ما صنف في فضائل العمال‪.‬‬ ‫وهي كثيرة لمن تلقاها من السنن خصو ً‬

‫صا في هذه الزمنة ونحوها‬


‫واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالنسان الحاجة إليه؛ فإن النسان من حين يبلغ؛ خصو ً‬
‫من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه‪ ،‬فإن النسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من‬
‫أمور الجاهلية بعدة أشياء‪ ،‬فكيف بغير هذا؟!‪.‬‬

‫ل عنه ـ‪) :‬لتتبعن سنن من كان قبلكم‬ ‫وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم من حديث أبي سعيد ـ رضي ا ّ‬
‫ل‪ ،‬اليهود والنصارى ؟ قال‪) :‬فمن؟( هذا‬ ‫حذو القذة بالقذة ‪ /‬حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه(‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ضوا{ ]التوبة‪،[69 :‬‬
‫خا ُ‬
‫ضُتْم َكاّلِذي َ‬
‫خ ْ‬
‫لِقِهْم َو ُ‬
‫خَ‬‫ن َقْبِلُكْم ِب َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫سَتْمَتَع اّلِذي َ‬
‫لِقُكْم َكَما ا ْ‬
‫خَ‬ ‫خبر تصديقه في قوله تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫سَتْمَتْعُتْم ِب َ‬
‫ولهذا شواهد في الصحاح والحسان‪.‬‬

‫وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة‪ ،‬كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة‪ ،‬فإن كثيًرا من‬
‫أحوال اليهود قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى العلم‪ ،‬وكثيًرا من أحوال النصارى قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى‬
‫ل به محمًدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم نزله على أحوال الناس‪.‬‬ ‫الدين‪ ،‬كما يبصر ذلك من فهم دين السلم الذي بعث ا ّ‬

‫ل وجعل له نوًرا يمشي‬


‫ل صدره للسلم فهو على نور من ربه‪ ،‬وكان ميًتا فأحياه ا ّ‬
‫وإذا كان المر كذلك فمن شرح ا ّ‬
‫به في الناس‪ ،‬لبد أن يلحظ أحوال الجاهلية وطريق المتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى‪،‬‬
‫فيرى أن قد ابتلى ببعض ذلك‪.‬‬

‫فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلص النفوس من هذه الورطات وهو اتباع السيئات الحسنات‪ .‬والحسنات ما ندب‬
‫ل إليه على لسان خاتم النبيين من العمال والخلق والصفات‪.‬‬ ‫ا ّ‬

‫‪/‬ومما يزيل موجب الذنوب المصائب المكفرة‪ ،‬وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن أو أذى في مال أو عرض أو جسد أو‬
‫غير ذلك‪ ،‬لكن ليس هذا من فعل العبد‪.‬‬

‫ل‪ :‬من عمل الصالح‪ ،‬وإصلح الفاسد قال‪) :‬وخالق الناس بخلق حسن( وهو حق‬
‫فلما قضى بهاتين الكلمتين حق ا ّ‬
‫الناس‪.‬‬

‫وجماع الخلق الحسن مع الناس‪ :‬أن تصل من قطعك بالسلم والكرام‪ ،‬والدعاء له والستغفار والثناء عليه‪ ،‬والزيارة‬
‫له وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال‪ ،‬وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض‪ .‬وبعض هذا واجب‪،‬‬
‫وبعضه مستحب‪.‬‬

‫ل به مطلًقا‪ ،‬هكذا‬
‫ل به محمًدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهو الدين الجامع لجميع ما أمر ا ّ‬
‫وأما الخلق العظيم الذي وصف ا ّ‬
‫ل عنها ـ‪) :‬كان خلقه القرآن( وحقيقته المبادرة إلى‬
‫قال مجاهد وغيره‪ ،‬وهو تأويل القرآن‪ ،‬كما قالت عائشة ـ رضي ا ّ‬
‫ل تعالى بطيب نفس وانشراح صدر‪.‬‬ ‫امتثال ما يحبه ا ّ‬

‫ل به إيجاًبا واستحباًبا‪ ،‬وما نهى‬


‫ل يجمع فعل كل ما أمر ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فهو‪ :‬أن اسم تقوى ا ّ‬
‫وأما بيان أن هذا كله في وصية ا ّ‬
‫ل وحقوق العباد‪ .‬لكن لما كان تارة يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية‬ ‫عنه تحريًما ‪ /‬وتنزيًها‪ ،‬وهذا يجمع حقوق ا ّ‬
‫ل عنهما ـ الذي رواه‬‫للنكفاف عن المحارم‪ ،‬جاء مفسًرا في حديث معاذ‪ ،‬وكذلك في حديث أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫ل وحسن الخلق(‪ .‬قيل‪ :‬وما أكثر ما‬
‫ل! ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال‪) :‬تقوى ا ّ‬
‫الترمذي وصححه‪ :‬قيل‪ :‬يارسول ا ّ‬
‫يدخل الناس النار؟ قال‪) :‬الجوفان‪ :‬الفم والفرج(‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬أكمل المؤمنين‬ ‫ل عنهما ـ قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬


‫ل بن عمر ـ رضي ا ّ‬
‫وفي الصحيح عن عبد ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫إيماًنا أحسنهم خلقا( فجعل كمال اليمان في كمال حسن الخلق‪ .‬ومعلوم أن اليمان كله تقوى ا ّ‬

‫وتفصيل أصول التقوى وفروعها ليحتمله هذا الموضع؛ فإنها الدين كله‪ ،‬لكن ينبوع الخير وأصله‪ :‬إخلص العبد‬
‫ك َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة‪ ،[5 :‬وفي قوله‪َ} :‬فاْعُبْدُه َوَتَوّكْل َعَلْيِه{ ]هود‪:‬‬ ‫لربه عبادة واستعانة‪ ،‬كما في قوله‪ِ} :‬إّيا َ‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬
‫شُكُروا َلُه{‬
‫عُبُدوهُ َوا ْ‬
‫ق َوا ْ‬
‫ل الّرْز َ‬ ‫ب{ ]الشورى‪ ،[10 :‬وفي قوله‪َ} :‬فاْبَتُغوا ِ‬
‫عْنَد ا ِّ‬ ‫ت َوِإَلْيِه ُأِني ُ‬ ‫‪ ،[123‬وفي قوله‪َ } :‬‬
‫عَلْيِه َتَوّكْل ُ‬
‫ل لجلهم‪ ،‬ويجعل همته ربه تعالى‪،‬‬ ‫عا بهم أو عم ً‬ ‫]العنكبوت‪ ،[17 :‬بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفا ً‬
‫وذلك بملزمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقة وحاجة ومخافة وغير ذلك‪ / ،‬والعمل له بكل محبوب‪ .‬ومن أحكم‬
‫هذا فل يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك‪.‬‬

‫وأما ما سألت عنه من أفضل العمال بعد الفرائض‪ ،‬فإنه يختلف باختلف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب‬
‫ل وأمره‪ :‬إن ملزمة ذكر‬ ‫أوقاتهم‪ ،‬فل يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد‪ ،‬لكن مما هو كالجماع بين العلماء با ّ‬
‫ل دائما هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة‪ ،‬وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم‪) :‬سبق‬ ‫ا ّ‬
‫ل كثيًرا والذاكرات(‪ ،‬وفيما رواه أبو داود عن أبي‬
‫ل‪ ،‬ومن المفردون ؟ قال‪) :‬الذاكرون ا ّ‬ ‫المفردون(‪ ،‬قالوا‪ :‬يارسول ا ّ‬
‫ل عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬أل أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم‪،‬‬ ‫الدرداء ـ رضي ا ّ‬
‫وأرفعها في درجاتكم‪ ،‬وخير لكم من إعطاء الذهب والورق‪ ،‬ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا‬
‫ل(‪.‬‬
‫ل! قال‪ ) :‬ذكر ا ّ‬
‫أعناقكم؟( قالوا‪ :‬بلى يارسول ا ّ‬

‫والدلئل القرآنية واليمانية بصًرا وخبًرا ونظًرا على ذلك كثيرة‪.‬‬

‫وأقل ذلك أن يلزم العبد الذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كالذكار المؤقتة في‬
‫أول النهار وآخره‪ / ،‬وعند أخذ المضجع‪ ،‬وعند الستيقاظ من المنام‪ ،‬وأدبار الصلوات‪ ،‬والذكار المقيدة مثل مايقال‬
‫عند الكل والشرب واللباس والجماع‪ ،‬ودخول المنزل والمسجد والخلء والخروج من ذلك‪ ،‬وعند المطر والرعد إلى‬
‫غير ذلك‪ ،‬وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة‪.‬‬

‫ل وا ّ‬
‫ل‬ ‫ل والحمد ّ‬
‫ل[‪ .‬وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل‪) :‬سبحان ا ّ‬
‫ثم ملزمة الذكر مطلًقا وأفضله ]ل إله إل ا ّ‬
‫ل( أفضل منه‪.‬‬‫أكبر ول حول ول قوة إل با ّ‬

‫ل‪ ،‬من تعلم علم وتعليمه‪ ،‬وأمر بمعروف ونهى عن‬ ‫ثم يعلم أن كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرب إلى ا ّ‬
‫سا يتفقه أو يفقه فيه الفقه‬
‫ل‪ .‬ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض‪ ،‬أو جلس مجل ً‬‫منكر‪ ،‬فهو من ذكر ا ّ‬
‫ل‪ .‬وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الولين في كلماتهم في‬ ‫ضا من أفضل ذكر ا ّ‬ ‫ل ورسوله فقها‪ ،‬فهذا أي ً‬‫الذي سماه ا ّ‬
‫أفضل العمال كبير اختلف‪.‬‬

‫ل تعالى‪ ،‬وليكثر من ذلك ومن الدعاء‪،‬‬‫وما اشتبه أمره على العبد فعليه بالستخارة المشروعة‪ ،‬فما ندم من استخار ا ّ‬
‫فإنه مفتاح كل خير‪ ،‬ول يعجل فيقول‪ :‬قد دعوت فلم يستجب لي‪ ،‬وليتحر الوقات ‪ /‬الفاضلة‪ ،‬كآخر الليل‪ ،‬وأدبار‬
‫الصلوات‪ ،‬وعند الذان‪ ،‬ووقت نزول المطر‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ل‪ ،‬والثقة بكفايته‪ ،‬وحسن الظن به‪ .‬وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ‬
‫وأما أرجح المكاسب‪ ،‬فالتوكل على ا ّ‬
‫ل ويدعــوه‪ ،‬كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه‪) :‬كلكم جائع إل من أطعمته فاستطعموني أطعمكم‪ .‬ياعبادي‪،‬‬ ‫فيه إلى ا ّ‬
‫ل عنه ـ قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬
‫ل‬ ‫كلكم عار إل من كسوته فاستكسوني أكسكم( وفيما رواه الترمذي عن أنس ـ رضي ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪) :‬ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع‪ ،‬فإنه إن لم ييسره لم يتيسر(‪.‬‬

‫شُروا ِفي‬
‫لُة َفانَت ِ‬
‫صَ‬‫ت ال ّ‬ ‫ضِلِه{ ]النساء‪ ،[32 :‬وقال سبحانه‪َ} :‬فِإَذا ُق ِ‬
‫ضَي ْ‬ ‫ن َف ْ‬
‫ل ِم ْ‬ ‫ل تعالى في كتابه‪َ} :‬وا ْ‬
‫سَأُلوا ا َّ‬ ‫وقد قال ا ّ‬
‫ل{ ]الجمعة‪ [10 :‬وهذا وإن كان في الجمعة فمعناه قائم في جميع الصلوات‪ .‬ولهذا ـ وا ّ‬
‫ل‬ ‫ل ا ِّ‬
‫ضِ‬‫ن َف ْ‬
‫ض َواْبَتُغوا ِم ْ‬
‫لْر ِ‬
‫ا َْ‬
‫أعلم ـ أمر النبي صلى ال عليه وسلم الذي يدخل المسجد أن يقول‪) :‬اللهم افتح لي أبواب رحمتك( وإذا خرج أن يقول‪:‬‬
‫شُكُروا َلُه{‬
‫عُبُدوهُ َوا ْ‬
‫ق َوا ْ‬
‫ل الّرْز َ‬ ‫)الّلهم إني أسألك من فضلك( وقد قال الخليل صلى ال عليه وسلم‪َ} :‬فاْبَتُغوا ِ‬
‫عْنَد ا ِّ‬
‫ل واللجأ إليه في أمر الرزق وغيره أصل عظيم‪.‬‬ ‫]العنكبوت‪ [17 :‬وهذا أمر‪ ،‬والمر يقتضي اليجاب فالستعانة با ّ‬

‫‪/‬ثم ينبغى له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليبارك له فيه‪ ،‬ول يأخذه بإشراف وهلع؛ بل يكون المال عنده بمنزلة الخلء‬
‫الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة‪ ،‬والسعي فيه إذا سعى كإصلح الخلء‪ .‬وفي الحديث المرفوع‬
‫ل عليه شمله‪ ،‬وفرق عليه ضيعته‪ ،‬ولم يأته من الدنيا‬‫الذي رواه الترمذي وغيره‪) :‬من أصبح والدنيا أكبر همه‪ ،‬شتت ا ّ‬
‫ل عليه شمله‪ ،‬وجعل غناه في قلبه‪ ،‬وأتته الدنيا وهي راغمة(‪.‬‬
‫إل ما كتب له‪ .‬ومن أصبح والخرة أكبر همه‪ ،‬جمع ا ّ‬

‫وقال بعض السلف‪ :‬أنت محتاج إلى الدنيا‪ ،‬وأنت إلى نصيبك من الخرة أحوج‪ ،‬فإن بدأت بنصيبك من الخرة مر‬
‫ق َوَما‬
‫ن ِرْز ٍ‬
‫ن‪َ .‬ما ُأِريُد ِمْنُهْم ِم ْ‬
‫ل ِلَيْعُبُدو ِ‬
‫س ِإ ّ‬
‫لن َ‬
‫جنّ َوا ِْ‬‫ت اْل ِ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬ ‫على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاًما‪ ،‬قال ا ّ‬
‫ق ُذو اْلُقّوِة اْلَمِتيُن{ ]الذاريات‪.[56-58 :‬‬
‫ل ُهَو الّرّزا ُ‬
‫ن ا َّ‬
‫ن‪ِ .‬إ ّ‬
‫طِعُمو ِ‬
‫ُأِريُد َأنْ ُي ْ‬

‫فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك‪ ،‬فهذا يختلف باختلف الناس‪ ،‬ول‬
‫ل تعالى فيها الستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى ال‬
‫أعلم في ذلك شيًئا عاًما‪ ،‬لكن إذا عن للنسان جهة فليستخر ا ّ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فإن فيها من البركة مال يحاط به‪ .‬ثم ما تيسر له فل يتكلف غيره إل أن يكون منه كراهة شرعية‪.‬‬

‫ضا يختلف باختلف نشء النسان في البلد‪ ،‬فقد‬ ‫‪/‬وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم‪ ،‬فهذا باب واسع‪ ،‬وهو أي ً‬
‫يتيسر له في بعض البلد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه مال يتيسر له في بلد آخر‪ ،‬لكن جماع الخير أن يستعين‬
‫ل ـ سبحانه ـ في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علًما‪ ،‬وما‬ ‫با ّ‬
‫سواه إما أن يكون علًما فل يكون نافًعا‪ ،‬وإما أن ل يكون علًما‪ ،‬وإن سمى به‪ ،‬ولئن كان علًما نافًعا فل بد أن يكون في‬
‫ميراث محمد صلى ال عليه وسلم ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه‪ .‬ولتكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره‬
‫ل تعالى ولمع الناس‪ ،‬إذا‬‫ونهيه وسائر كلمه‪ .‬فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فل يعدل عنه فيما بينه وبين ا ّ‬
‫أمكنه ذلك‪.‬‬

‫وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬وإذا اشتبه عليه مما قد‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‬ ‫ل عنها ـ أن رسول ا ّ‬
‫اختلف فيه الناس فليدع بمارواه مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي ا ّ‬
‫كان يقول إذا قام يصلي من الليل‪) :‬اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل‪ ،‬فاطر السموات والرض عالم الغيب‬
‫والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون‪ ،‬اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى‬
‫ل تعالى ‪ /‬قد قال فيما رواه عنه رسوله‪) :‬ياعبادي كلكم ضال إل من هديته فاستهدوني أهدكم(‪.‬‬‫صراط مستقيم( فإن ا ّ‬

‫ل سبحانه‪ ،‬وما في الكتب المصنفة المبوبة‬ ‫وأما وصف]الكتب والمصنفين[‪ ،‬فقد سمع منا في أثناء المذاكرة ما يسره ا ّ‬
‫كتاب أنفع من ]صحيح محمد بن إسماعيل البخاري[ لكن هو وحده ل يقوم بأصول العلم‪ .‬ول يقوم بتمام المقصود‬
‫للمتبحر في أبواب العلم‪ ،‬إذ لبد من معرفة أحاديث أخر‪ ،‬وكلم أهل الفقه وأهل العلم في المور التي يختص بعلمها‬
‫ل قلبه هداه بما يبلغه من ذلك‪ ،‬ومن أعماه‬
‫بعض العلماء‪ .‬وقد أوعبت المة في كل فن من فنون العلم إيعاًبا‪ ،‬فمن نور ا ّ‬
‫ل‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لبي لبيد النصاري‪) :‬أو ليست التوراة‬ ‫لم تزده كثرة الكتب إل حيرة وضل ً‬
‫والنجيل عند اليهود والنصارى ؟ فماذا تغني عنهم؟(‪.‬‬

‫ل العظيم أن يرزقنا الهدى والسداد‪ ،‬ويلهمنا رشدنا‪ ،‬ويقينا شر أنفسنا‪ ،‬وأن ل يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا‪ ،‬ويهب‬
‫فنسأل ا ّ‬
‫ل رب العالمين‪ ،‬وصلواته على أشرف المرسلين‪.‬‬ ‫لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب‪ ،‬والحمد ّ‬

‫ل وزاده من‬
‫خ الَماُم‪ ،‬الَعاِلُم الَعامل الحبر الكامل‪ ،‬شيخ السلم ومفتي النام تقي الدين ابن تيمية ـ أيده ا ّ‬
‫شي ُ‬
‫سئل ال ّ‬
‫َو ُ‬
‫فضله العظيم ـ عن )الصبرالجميل( و )الصفح الجميل( و)الهجر الجميل( وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه‬
‫الناس؟‬

‫ل‪:‬‬
‫فأجاب ـ رحمه ا ّ‬
‫ل أمر نبيه بالهجر الجميل‪ ،‬والصفح الجميل‪ ،‬والصبر الجميل‪ ،‬فالهجر الجميل‪ :‬هجر بل‬ ‫ل‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإن ا ّ‬ ‫الحمد ّ‬
‫أذى‪ ،‬والصفح الجميل‪ :‬صفح بل عتاب‪ ،‬والصبر الجميل‪ :‬صبر بل شكوى قال يعقوب ـ عليه الصلة والسلم ـ‪ِ} :‬إّنَما‬
‫صُفوَن{]يوسف‪ [18 :‬فالشكوى إلى‬ ‫عَلى َما َت ِ‬
‫ن َ‬
‫سَتَعا ُ‬
‫ل اْلُم ْ‬
‫ل َوا ُّ‬
‫جِمي ٌ‬ ‫ل{]يوسف‪ [86 :‬مع قوله‪َ} :‬ف َ‬
‫صْبٌر َ‬ ‫حْزِني ِإَلى ا ِّ‬
‫شُكو َبّثي َو ُ‬
‫َأ ْ‬
‫ل ل تنافي الصبر الجميل‪ ،‬ويروي عن موسى ـ عليه الصلة والسلم ـ أنه كان يقول‪) :‬اللهم لك الحمد‪ ،‬وإليك‬ ‫ا ّ‬
‫المشتكى‪ ،‬وأنت المستعان‪ ،‬وبك ‪ /‬المستغاث وعليك التكلن( ومن دعاء النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬الّلهم إليك أشكو‬
‫ضعف قوتي‪ ،‬وقلة حيلتي‪ ،‬وهواني على الناس‪ ،‬أنت رب المستضعفين وأنت ربي‪ ،‬الّلهم إلي من تكلني؟ إلى بعيد‬
‫يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فل أبالي‪ ،‬غير أن عافيتك هي أوسع لي‪ .‬أعوذ بنور‬
‫وجهك الذي أشرقت له الظلمات‪ ،‬وصلح عليه أمر الدنيا والخرة‪ ،‬أن ينزل بي سخطك‪ ،‬أو يحل علي غضبك‪ ،‬لك‬
‫العتبي حتى ترضى(‪.‬‬

‫ل{ ]يوسف‪ [86 :‬ويبكي‬ ‫حْزِني ِإَلى ا ِّ‬ ‫ل عنه ـ يقرأ في صلة الفجر‪ِ} :‬إّنَما َأ ْ‬
‫شُكو َبّثي َو ُ‬ ‫وكان عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ‬
‫حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف؛ بخلف الشكوي إلى المخلوق‪ .‬قرئ على المام أحمد في مرض موته أن‬
‫سا كره أنين المريض‪ ،‬وقال‪ :‬إنه شكوى‪ .‬فما أن حتى مات‪ .‬وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال‪ ،‬إما إزالة ما‬ ‫طاوو ً‬
‫ب ‪َ .‬وِإَلى َرّب َ‬
‫ك‬ ‫ص ْ‬
‫ت َفان َ‬
‫غ َ‬‫يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬فِإَذا َفَر ْ‬
‫ل(‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن با ّ‬ ‫ب{]الشرح‪ ،[8 ،7 :‬وقال صلى ال عليه وسلم لبن عباس‪) :‬إذا سألت فاسأل ا ّ‬ ‫غ ْ‬
‫َفاْر َ‬

‫ولبد للنسان من شيئين‪ :‬طاعته بفعل المأمور‪ ،‬وترك المحظور‪ ،‬وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور‪ .‬فالول‬
‫ل{ إلى قوله‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن‬ ‫خَبا ً‬‫ل َيْأُلوَنُكْم َ‬
‫ن ُدوِنُكْم َ‬ ‫طاَنًة ِم ْ‬‫خُذوا ِب َ‬ ‫ل َتّت ِ‬
‫ن آَمُنوا َ‬ ‫هو التقوى‪ ،‬والثاني هو الصبر‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن َفْوِرِهْم َهَذا‬ ‫صِبُروا َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬ ‫ن َت ْ‬‫ط{‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬بَلى ِإ ْ‬ ‫حي ٌ‬‫ن ُم ِ‬ ‫ل ِبَما َيْعَمُلو َ‬‫ن ا َّ‬‫شْيًئا ِإ ّ‬
‫ضّرُكْم َكْيُدُهْم َ‬ ‫ل َي ُ‬‫صِبُروا َوَتّتُقوا َ‬ ‫َت ْ‬
‫سَمُع ّ‬
‫ن‬ ‫سُكْم َوَلَت ْ‬ ‫ن{]آل عمران‪ ،[118-125 :‬وقال تعالى‪َ} :‬لُتْبَلُو ّ‬
‫ن ِفي َأْمَواِلُكْم َوَأْنُف ِ‬ ‫سّوِمي َ‬‫لِئَكِة ُم َ‬ ‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬ ‫ل ٍ‬ ‫سِة آ َ‬
‫خْم َ‬ ‫ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬
‫ك ِمْن َعْزِم اُْلُموِر{]آل عمران‪[186 :‬‬ ‫ن َذِل َ‬‫صِبُروا َوَتّتُقوا َفِإ ّ‬ ‫ن َت ْ‬
‫شَرُكوا َأًذى َكِثيًرا َوِإ ْ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫ن اّلِذي َ‬‫ن َقْبِلُكْم َوِم ْ‬
‫ب ِم ْ‬‫ن اّلِذينَ ُأوُتوا اْلِكَتا َ‬ ‫ِم ْ‬
‫ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{]يوسف‪.[90 :‬‬ ‫ل ُي ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬‫صِبْر َفِإ ّ‬
‫ق َوَي ْ‬‫ن َيّت ِ‬‫عَلْيَنا ِإّنُه َم ْ‬
‫ل َ‬‫ن ا ُّ‬‫خي َقْد َم ّ‬ ‫ف َوهَذا َأ ِ‬ ‫س ُ‬ ‫وقد قال يوسف‪َ} :‬أَنا ُيو ُ‬

‫ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشائخ المستقيمين يوصون في عامة كلمهم بهذين الصلين‪ :‬المسارعة إلى‬
‫فعل المأمور‪ ،‬والتقاعد عن فعل المحظور‪ ،‬والصبر والرضا بالمر المقدور‪ ،‬وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من‬
‫ل خالق كل شيء‬ ‫العامة؛ بل ومن السالكين‪ ،‬فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن ا ّ‬
‫ل ويرضاه‪ ،‬وبين ما يسخطه ويبغضه‪ ،‬وإن قدره وقضاه ول يميز بين توحيد اللوهية‪،‬‬ ‫وربه‪ ،‬ول يفرق بين ما يحبه ا ّ‬
‫وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات ـ سعيدها وشقيها ـ مشهد الجمع الذي يشترك فيه‬
‫المؤمن والكافر‪ ،‬والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبئ الكاذب‪ ،‬وأهل الجنة وأهل النار‪ ،‬وأولياء الّ وأعداؤه‪،‬‬
‫والملئكة المقربون والمردة الشياطين‪.‬‬

‫ل ربهم وخالقهم ومليكهم ل رب لهم غيره‪.‬‬ ‫‪/‬فإن هؤلء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية‪ ،‬وهو أن ا ّ‬
‫ل به بين أوليائه وأعدائه‪ .‬وبين المؤمنين والكافرين‪ ،‬والبرار والفجار‪ ،‬وأهل الجنة‬ ‫ول يشهد الفرق الذي فرق ا ّ‬
‫والنار وهو توحيد اللوهية‪ ،‬وهو عبادته وحده ل شريك له‪ ،‬وطاعته وطاعة رسوله‪ ،‬وفعل ما يحبه ويرضاه‪ ،‬وهو ما‬
‫ل عنه ورسوله‪ ،‬وموالة أوليائه‪ ،‬ومعاداة أعدائه‪،‬‬ ‫ل به ورسوله أمر إيجاب‪ ،‬أو أمر استحباب‪ ،‬وترك ما نهى ا ّ‬ ‫أمر ا ّ‬
‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان‪ ،‬فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية‬
‫الفارقة بين هؤلء وهؤلء‪ ،‬ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإل فهو من جنس المشركين‪ ،‬وهو شر من اليهود‬
‫والنصارى‪.‬‬

‫خَل َ‬
‫ق‬ ‫ن َ‬ ‫سَأْلَتُهْم َم ْ‬
‫ن َ‬‫ل رب كل شيء كما قال تعالى‪َ} :‬وَلِئ ْ‬ ‫فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية‪ .‬إذ هم يقرون بأن ا ّ‬
‫ل َأَفلَ‬
‫ل ُق ْ‬‫ن ِّ‬‫سَيُقوُلو َ‬ ‫ن‪َ .‬‬ ‫ن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ‬
‫ن ِفيَها ِإ ْ‬
‫ض َوَم ْ‬ ‫لْر ُ‬ ‫ن ا َْ‬ ‫ل{ ]الزمر‪ ،[38 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِلَم ْ‬ ‫ن ا ُّ‬
‫ض َلَيُقوُل ّ‬
‫لْر َ‬ ‫ت َوا َْ‬‫سَماَوا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ل‬
‫جيُر َو َ‬ ‫يٍء َوُهَو ُي ِ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ت ُك ّ‬‫ن ِبَيِدِه َمَلُكو ُ‬‫ل َم ْ‬‫ن‪ُ .‬ق ْ‬
‫ل َتّتُقو َ‬‫ل َأَف َ‬
‫ل ُق ْ‬‫ن ِّ‬ ‫سَيُقوُلو َ‬
‫ظيِم‪َ .‬‬
‫ش اْلَع ِ‬
‫ب اْلَعْر ِ‬
‫سْبِع َوَر ّ‬
‫ت ال ّ‬
‫سَماَوا ِ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫ن َر ّ‬ ‫ل َم ْ‬ ‫ن ‪ُ .‬ق ْ‬ ‫َتَذّكُرو َ‬
‫ل ُقْل َفَأّنا ُتْسَحُروَن{ ]المؤمنون‪[84-89 :‬‬ ‫ن ِّ‬‫سَيُقوُلو َ‬ ‫ن‪َ .‬‬
‫ن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ‬‫عَلْيِه ِإ ْ‬
‫جاُر َ‬‫ُي َ‬

‫ل ِإّل َوُهْم ُمْشِرُكوَن{ ]يوسف‪ [106 :‬قال بعض السلف‪ :‬تسألهم من خلق‬ ‫ولهذا قال سبحانه‪َ} :‬وَما ُيْؤِم ُ‬
‫ن َأْكَثُرُهْم ِبا ِّ‬
‫ل وهم مع هذا يعبدون غيره‪.‬‬ ‫السموات والرض فيقولون ا ّ‬
‫فمن أقر بالقضاء والقدر دون المر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى‪ ،‬فإن أولئك يقرون بالملئكة‬
‫ن ِبا ِّ‬
‫ل‬ ‫ن َيْكُفُرو َ‬ ‫والرسل الذين جاؤوا بالمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض‪ .‬كما قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ك ُهْم‬
‫ل‪ُ .‬أْوَلِئ َ‬
‫سِبي ً‬
‫ك َ‬
‫ن َذِل َ‬
‫خُذوا َبْي َ‬
‫ن َيّت ِ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ض َوُيِريُدو َ‬
‫ض َوَنْكُفُر ِبَبْع ٍ‬
‫ن ِبَبْع ٍ‬
‫ن ُنْؤِم ُ‬
‫سِلِه َوَيُقوُلو َ‬
‫ل َوُر ُ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُيَفّرُقوا َبْي َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫سِلِه َوُيِريُدو َ‬
‫َوُر ُ‬
‫اْلَكاِفُروَن َحّقا{ ]النساء‪.[151 ،150 :‬‬

‫وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية‪ ،‬وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة‪ ،‬ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر‪ ،‬ويسلك‬
‫ل ورسوله‬‫ل الذي بعث به رسله‪ ،‬وبين من عصى ا ّ‬ ‫هذه الحقيقة‪ ،‬فل يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر ا ّ‬
‫من الكفار والفجار‪ ،‬فهؤلء أكفر من اليهود والنصارى‪ .‬لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض المور دون‬
‫بعض‪ ،‬بحيث يفرق بين المؤمن والكافر‪ ،‬ول يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض البرار‪ ،‬وبين بعض الفجار‪،‬‬
‫عا لظنه وما يهواه‪ ،‬فيكون ناقص اليمان بحسب ما سوى بين البرار والفجار‪ ،‬ويكون معه‬ ‫ول يفرق بين آخرين اتبا ً‬
‫ل تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه‪.‬‬ ‫من اليمان بدين ا ّ‬

‫‪/‬ومن أقر بالمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه المة‪،‬‬
‫فهؤلء يشبهون المجوس‪ ،‬وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب ـ سبحانه ـ وخاصمه كما نقل ذلك‬
‫ومن أقر بهما وجعل الرب متناق ً‬
‫عنه‪.‬‬

‫فهذا التقسيم في القول والعتقاد‪.‬‬

‫ل فيفعل المأمور‪ ،‬ويترك المحظور‪،‬‬ ‫وكذلك هم في الحوال والفعال‪ .‬فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي ا ّ‬
‫ل على ذلك‪ .‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ويصبر على مايصيبه من المقدور‪ ،‬فهو عند المر والنهي والدين والشريعة ويستعين با ّ‬
‫ك َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة‪.[5 :‬‬
‫ك َنْعُبُد َوِإّيا َ‬
‫}ِإّيا َ‬

‫وإذا أذنب استغفر وتاب‪ :‬ل يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات‪ ،‬ول يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات‪ ،‬بل‬
‫يؤمن بالقدر ول يحتج به‪ ،‬كما في الحديث الصحيح الذي فيه‪) :‬سيد الستغفار أن يقول العبد‪ :‬اللهم أنت ربي ل إله إل‬
‫أنت‪ ،‬خلقتني وأنا عبدك‪ ،‬وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت‪ ،‬أعوذ بك من شر ما صنعت‪ ،‬أبوء لك بنعمتك علي‬
‫وأبوء بذنبي‪ ،‬فاغفر لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت(‪ ،‬فيقر بنعمة ‪ /‬الّ عليه في الحسنات‪ ،‬ويعلم أنه هو هداه ويسره‬
‫لليسرى‪ ،‬ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها‪ ،‬كما قال بعضهم‪ :‬أطعتك بفضلك‪ ،‬والمنة لك وعصيتك بعلمك‪،‬‬
‫والحجة لك‪ ،‬فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي‪ ،‬إل غفرت لي‪ .‬وفي الحديث الصحيح اللهي‪) :‬ياعبادي‬
‫ل‪ ،‬ومن وجد غيرذلك فل يلومن إل نفسه(‪.‬‬ ‫إنما هي أعمالكم‪ ،‬أحصيها لكم‪ ،‬ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيًرا فليحمد ا ّ‬

‫وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫وآخرون قد يشهدون المر فقط‪ :‬فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الستطاعة؛ لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر‬
‫ما يوجب لهم حقيقة الستعانة والتوكل والصبر‪ .‬وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الستعانة والتوكل‬
‫ل ورسوله واتباع شريعته‪ ،‬وملزمة ماجاء به الكتاب والسنة من‬ ‫والصبر‪ ،‬ماليس عند أولئك؛ لكنهم ل يلتزمون أمر ا ّ‬
‫ل ول يعبدونه‪ ،‬والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ول يستعينوه؛ والمؤمن يعبده ويستعينه‪.‬‬
‫الدين فهؤلء يستعينون ا ّ‬

‫والقسم الرابع شر القسام‪ ،‬وهو من ل يعبده ول يستعينه‪ ،‬فل هو مع الشريعة المرية؛ ول مع القدر الكوني‪.‬‬
‫وانقسامهم إلى هذه القسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو‪/‬ذلك؛ وما يكون بعده من صبر‬
‫ورضا ونحوذلك‪ ،‬فهم في التقوى وهي طاعة المر الديني‪ ،‬والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام‪.‬‬

‫ل عليهم من أهل السعادة في الدنيا والخرة‪.‬‬


‫أحدها‪ :‬أهل التقوى والصبر‪ ،‬وهم الذين أنعم ا ّ‬

‫والثاني‪ :‬الذين لهم نوع من التقوى بلصبر‪ ،‬مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلة ونحوها‪ ،‬ويتركون المحرمات‪،‬‬
‫لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه‪ ،‬أو ابتلى بعدو يخيفه عظم جزعه‪ ،‬وظهر‬
‫هلعه‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬قوم لهم نوع من الصبر بل تقوى‪ ،‬مثل الفجار الذين يصبرون علي مايصيبهم في مثل أهوائهم‪ ،‬كاللصوص‬
‫والقطاع الذين يصبرون على اللم في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام‪ ،‬والكتاب وأهل الديوان الذين‬
‫يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الموال بالخيانة وغيرها‪ .‬وكذلك طلب الرئاسة والعلو على غيرهم‬
‫يصبرون من ذلك على أنواع من الذى التي ل يصبر عليها أكثر الناس‪ ،‬وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من‬
‫أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الذى واللم‪ .‬وهؤلء هم الذين‬
‫يريدون علًوا في الرض ‪ /‬أو فساًدا من طلب الرئاسة والعلو على الخلق‪ ،‬ومن طلب الموال بالبغي والعدوان‪،‬‬
‫والستمتاع بالصور المحرمة نظًرا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات‪ ،‬ولكن ليس لهم تقوى‬
‫فيما تركوه من المأمور‪ ،‬وفعلوه من المحظور‪ ،‬وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب‪ :‬كالمرض‬
‫والفقر وغير ذلك‪ ،‬ول يكون فيه تقوى إذا قدر‪.‬‬

‫سا َ‬
‫ن‬ ‫لن َ‬ ‫ل تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا ِْ‬ ‫وأما القسم الرابع‪ ،‬فهو شر القسام‪ :‬ل يتقون إذا قدروا‪ ،‬ول يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال ا ّ‬
‫ق َهُلوًعا ‪ِ .‬إَذا َمّسُه الّشّر َجُزوًعا ‪َ .‬وِإَذا َمّسُه اْلَخْيُر َمُنوًعا{]المعارج‪ [19-21 :‬فهؤلء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا‬
‫خِل َ‬
‫ُ‬
‫قدروا‪ ،‬ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا‪ .‬إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك‪ ،‬وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون‬
‫به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول‪ ،‬وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلًبا‪ .‬وأقلهم رحمة‬
‫وإحساًنا وعفًوا‪ ،‬كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق اليمان أبعد‪ :‬مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون‬
‫ومن يشبههم في كثير من أمورهم‪ .‬وإن كان متظاهًرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم‪،‬‬
‫ل ل ينظر إلى صوركم ول إلى أموالكم‪ ،‬وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم(‪.‬‬
‫فالعتبار بالحقائق‪) :‬فإن ا ّ‬

‫‪/‬فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيًها لهم من هذا الوجه‪ ،‬وكان ما معه من السلم أو‬
‫مايظهره منه بمنزلة ما معهم من السلم وما يظهرونه منه‪ ،‬بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للسلم‬
‫من هو أعظم ردة وأولى بالخلق الجاهلية‪ ،‬وأبعد عن الخلق السلمية‪ ،‬من التتار‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وخير الهدى هدي‬ ‫وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته‪) :‬خير الكلم كلم ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وخير الهدي هدي محمد‪ ،‬فكل من‬ ‫محمد‪ ،‬وشر المور محدثاتها‪ ،‬وكل بدعة ضللة(‪ ،‬وإذا كان خير الكلم كلم ا ّ‬
‫كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب‪ ،‬وهو به أحق‪ ،‬ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف‪ ،‬كان‬
‫ل أطوع‪ ،‬وعلى ما يصيبه أصبر‪ ،‬فكلما كان أتبع لما يأمر ا ّ‬
‫ل‬ ‫عن الكمال أبعد‪ ،‬وبالباطل أحق‪ .‬والكامل هو من كان ّ‬
‫ل فيما يحبه ويرضاه‪ ،‬وصبًرا على ماقدره وقضاه‪ ،‬كان أكمل وأفضل‪ .‬وكل من نقص عن‬ ‫به ورسوله وأعظم موافقة ّ‬
‫هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ الصبر والتقوى جميًعا في غير موضع من كتابه‪ ،‬وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار‬ ‫وقد ذكر ا ّ‬
‫المحاربين المعاندين والمنافقين‪ ،‬وعلى من ظلمه من المسلمين‪ ،‬ولصاحبه تكون العاقبة‪ / ،‬قال ال تعالى‪َ} :‬بَلى ِإ ْ‬
‫ن‬
‫ل تعالى‪:‬‬ ‫لِئَكِة ُمَسّوِميَن{] آل عمران‪ ،[125 :‬وقال ا ّ‬
‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬
‫ل ٍ‬
‫سِة آ َ‬
‫خْم َ‬
‫ن َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫َت ْ‬
‫ن َذِلكَ‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا َفِإ ّ‬ ‫ن َت ْ‬ ‫شَرُكوا َأًذى َكِثيًرا َوِإ ْ‬ ‫ن َأ ْ‬‫ن اّلِذي َ‬‫ن َقْبِلُكْم َوِم ْ‬
‫ب ِم ْ‬ ‫ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫ن ِم ْ‬‫سَمُع ّ‬‫سُكْم َوَلَت ْ‬ ‫}َلُتْبَلُونّ ِفي َأْمَواِلُكْم َوَأْنُف ِ‬
‫عِنّتْم‬
‫ل َوّدوا َما َ‬ ‫خَبا ً‬‫ل َيْأُلوَنُكْم َ‬ ‫ن ُدوِنُكْم َ‬ ‫طاَنًة ِم ْ‬‫خُذوا ِب َ‬ ‫ل َتّت ِ‬
‫ن آَمُنوا َ‬ ‫لُموِر{]آل عمران‪ ،[186 :‬وقال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬ ‫عْزِم ا ُْ‬‫ن َ‬ ‫ِم ْ‬
‫حّبوَنُكْم‬‫حّبوَنُهْم َولَ ُي ِ‬ ‫لِء ُت ِ‬ ‫ن‪َ .‬هاَأْنُتْم ُأْو َ‬‫ن كُْنُتْم َتْعِقُلو َ‬
‫ت ِإ ْ‬‫لَيا ِ‬ ‫صُدوُرُهْم َأْكَبُر َقْد َبّيّنا َلُكْم ا ْ‬ ‫خِفي ُ‬ ‫ن َأْفَواِهِهْم َوَما ُت ْ‬ ‫ضاُء ِم ْ‬ ‫ت اْلَبْغ َ‬ ‫َقْد َبَد ْ‬
‫صُدوِر‪.‬‬ ‫ت ال ّ‬ ‫عِليٌم ِبَذا ِ‬
‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬ ‫ظُكْم ِإ ّ‬
‫ل ُموُتوا ِبَغْي ِ‬ ‫ظ ُق ْ‬‫ن الَغْي ِ‬ ‫ل ِم ْ‬‫لَناِم َ‬
‫عَلْيُكْم ا َْ‬‫ضوا َ‬ ‫ع ّ‬ ‫خَلْوا َ‬ ‫ب ُكّلِه َوِإَذا َلُقوُكْم َقاُلوا آَمّنا َوِإَذا َ‬ ‫َوُتْؤِمُنونَ ِباْلِكَتا ِ‬
‫ط{]آل‬ ‫حي ٌ‬‫ن ُم ِ‬ ‫ل ِبَما َيْعَمُلو َ‬ ‫ن ا َّ‬‫شْيًئا ِإ ّ‬
‫ضّرُكْم َكْيُدُهْم َ‬ ‫ل َي ُ‬ ‫صِبُروا َوَتّتُقوا َ‬ ‫ن َت ْ‬ ‫حوا ِبَها َوِإ ْ‬ ‫سّيَئٌة َيْفَر ُ‬
‫صْبُكْم َ‬
‫ن ُت ِ‬ ‫سْؤُهْم َوِإ ْ‬ ‫سَنٌة َت ُ‬
‫حَ‬‫سسُْكْم َ‬ ‫ن َتْم َ‬‫ِإ ْ‬
‫صِبرْ‬ ‫ق َوَي ْ‬ ‫ن َيّت ِ‬
‫عَلْيَنا ِإّنُه َم ْ‬‫ل َ‬‫ن ا ُّ‬ ‫خي َقْد َم ّ‬ ‫ف َوهَذا َأ ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ل َأَنا ُيو ُ‬ ‫ف َقا َ‬
‫س ُ‬ ‫ت ُيو ُ‬ ‫لْن َ‬‫ك َ‬ ‫عمران‪ ،[118-120 :‬وقال إخوة يوسف له‪َ} :‬أِئّن َ‬
‫ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]يوسف‪.[90 :‬‬ ‫ل ُي ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬‫َفِإ ّ‬

‫خْيُر‬
‫ل َوُهَو َ‬
‫حُكَم ا ُّ‬
‫حّتى َي ْ‬
‫صِبْر َ‬
‫ك َوا ْ‬ ‫صا فقال تعالى‪َ} :‬واّتِبْع َما ُيو َ‬
‫حى ِإَلْي َ‬ ‫وقد قرن الصبر بالعمال الصالحة عموًما وخصو ً‬
‫اْلَحاِكِميَن{ ]يونس‪.[109 :‬‬

‫طَرِفي الّنَهاِر َوُزَلًفا ِم ْ‬


‫ن‬ ‫لةَ َ‬
‫صَ‬‫ل وطاعة لمره وقال تعالى‪َ} :‬وَأِقْم ال ّ‬ ‫وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها تصديًقا لخبر ا ّ‬
‫ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]هود‪ ،[115 ،114 :‬وقال‬ ‫ل ُي ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬ ‫صِبْر َفِإ ّ‬
‫ن‪َ .‬وا ْ‬ ‫ك ِذْكَرى ِللّذاِكِري َ‬ ‫ت َذِل َ‬
‫سّيَئا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ت ُيْذِهْب َ‬
‫سَنا ِ‬ ‫حَ‬ ‫ن اْل َ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫الّلْي ِ‬
‫عَلى‬
‫صِبْر َ‬ ‫لْبَكاِر{ ]غافر‪ ،[55 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فا ْ‬ ‫ي َوا ِْ‬‫شّ‬ ‫ك ِباْلَع ِ‬
‫حْمِد َرّب َ‬‫ح ِب َ‬
‫سّب ْ‬
‫ك َو َ‬ ‫سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ‬
‫ق َوا ْ‬‫حّ‬‫ل َ‬ ‫عَد ا ِّ‬ ‫ن َو ْ‬ ‫صِبْر ِإ ّ‬‫تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫صْبِر‬
‫سَتِعيُنوا ِبال ّ‬‫ل{ ]طه‪ ،[130 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وا ْ‬ ‫ن آَناِء الّلْي ِ‬‫غُروِبَها َوِم ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫س َوَقْب َ‬‫شْم ِ‬ ‫ع ال ّ‬‫طُلو ِ‬ ‫ل ُ‬
‫ك َقْب َ‬ ‫حْمِد َرّب َ‬ ‫ح ِب َ‬‫سّب ْ‬‫ن َو َ‬‫َما َيُقوُلو َ‬
‫ن{‬
‫صاِبِري َ‬
‫ل َمَع ال ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫لِة ِإ ّ‬
‫صَ‬‫صْبِر َوال ّ‬ ‫ن{ ]البقرة‪ ،[45 :‬وقال تعالى‪} :‬ا ْ‬
‫سَتِعيُنوا ِبال ّ‬ ‫شِعي َ‬
‫خا ِ‬
‫عَلى اْل َ‬
‫ل َ‬
‫لِة َوِإّنَها َلَكِبيَرٌة ِإ ّ‬
‫صَ‬‫َوال ّ‬
‫]البقرة‪ [153 :‬فهذه مواضع قرن فيها الصلة والصبر‪.‬‬

‫صْوا ِباْلَمْرَحَمِة{ ]البلد‪ .[17 :‬وفي الرحمة‬


‫صْبِر َوَتَوا َ‬ ‫وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى‪َ} :‬وَتَوا َ‬
‫صْوا ِبال ّ‬
‫ضا رباعية‪ ،‬إذ من الناس من يصبر ول يرحم كأهل القوة والقسوة‪،‬‬ ‫الحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها؛ فإن القسمة أي ً‬
‫ومنهم من يرحم ول يصبر كأهل الضعف واللين‪ ،‬مثل كثير من النساء‪ ،‬ومن يشبههن‪ ،‬ومنهم من ليصبر ول يرحم‬
‫كأهل القسوة والهلع‪ .‬والمحمود هو الذي يصبر ويرحم‪ ،‬كما قال الفقهاء في المتولي‪ :‬ينبغي أن يكون قوًيا من غير‬
‫عنف‪ ،‬لينا من غير ضعف فبصبره يقوى‪ ،‬وبلينه يرحم‪ ،‬وبالصبر ينصر العبد؛ فإن النصر مع الصبر‪ ،‬وبالرحمة‬
‫ل من عباده الرحماء(‪ ،‬وقال‪) :‬من ل يرحم ل‬ ‫ل تعالى‪ .‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إنما يرحم ا ّ‬ ‫يرحمه ا ّ‬
‫يرحم(‪ ،‬وقال‪) :‬ل تنزع الرحمة إل من شقي(‪ ،‬وقال‪) :‬الراحمون يرحمهم الرحمن‪ ،‬وارحموا من في الرض يرحمكم‬
‫ل أعلم‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫من في السماء(‪ .‬وا ّ‬

‫ل ـ عما ذكر الستاذ القشيري في ) باب الرضا( عن الشيخ أبي سليمان أنه قال‪ :‬الرضا‬
‫خ السـلم ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫سئ َ‬
‫َو ُ‬
‫ل الجنة‪ ،‬ول يستعيذ من النار‪ ،‬فهل هذا الكلم صحيح؟‬ ‫ل يسأل ا ّ‬ ‫أّ‬

‫فأجاب‪:‬‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬الكلم على هذا القول من وجهين‪:‬‬


‫الحمد ّ‬

‫أحدهما ‪ :‬من جهة ثبوته عن الشيخ‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬من جهة صحته في نفسه وفساده‪.‬‬

‫أما المقام الول‪ :‬فينبغي أن يعلم أن الستاذ أبا القاسم لم يذكر هذا عن الشيخ أبي سليمان بإسناد‪ ،‬وإنما ذكره مرسلً‬
‫عنه‪ ،‬وما يذكره أبو القاسم في رسالته عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين والمشائخ وغيرهم‪ ،‬تارة‬
‫حا‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وكثيًرا ما يقول‪ :‬وقيل كذا ثم الذي يذكره بإسناد تارة يكون إسناده ‪ /‬صحي ً‬
‫يذكره بإسناد‪ ،‬وتارة يذكره مرس ً‬
‫ل‪ ،‬ومحذوف القائل أولى‪ ،‬وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات‬ ‫عا‪ .‬وما يذكره مرس ً‬ ‫وتارة يكون ضعيًفا‪ ،‬بل موضو ً‬
‫الفقهاء‪ ،‬فإن فيها من الحاديث والثار ما هو صحيح‪ ،‬ومنها ما هو ضعيف‪ ،‬ومنها ما هو موضوع‪.‬‬

‫فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الثار المنقولة‪ ،‬فيها الصحيح‪ ،‬وفيها الضعيف‪ ،‬وفيها الموضوع‪ .‬وهذا‬
‫المر متفق عليه بين جميع المسلمين ل يتنازعون أن هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا‪ ،‬بل نفس الكتب المصنفة في‬
‫]التفسير[ فيها هذا وهذا‪ ،‬مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولت وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم؟!‬

‫والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه أو التصوف أو الحديث‪ ،‬ويروون هذا تارة؛ لنهم لم يعلموا أنه كذب‪ ،‬وهو‬
‫الغالب على أهل الدين‪ ،‬فإنهم ل يحتجون بما يعلمون أنه كذب‪ ،‬وتارة يذكـرونه وإن علمـوا أنه كـذب؛ إذ قصـدهم‬
‫رواية مـا روي في ذلك الباب‪ ،‬ورواية‬

‫الحاديث المكذوبة مع بيان كونها كذًبا جائز‪ .‬وأما روايتها مع المساك عن ذلك رواية عمل فإنه حـرام عند العلماء‪،‬‬
‫كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬من حدث عني حديًثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد‬
‫الكاذبين( ـ‪ .‬وقد فعل كثير من العلماء ‪ /‬متأولين أنهم لم يكذبوا‪ ،‬وإنما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل إذ رووه‬
‫لتعريف أنه روى؛ ل لجل العمل به ول العتماد عليه‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن ما يوجد في الرسالة وأمثالها‪ :‬من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولت عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع‪ .‬فالصحيح‪ :‬الذي قامت الدللة على‬
‫صدقه‪ ،‬والموضوع الذي قامت الدللة على كذبه‪ ،‬والضعيف الذي رواه من لم يعلم صدقه‪ ،‬إما لسوء حفظه وإما‬
‫لتهامه‪ ،‬ولكن يمكن أن يكون صادًقا فيه؛ فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ‪.‬‬
‫وغالب أبواب الرسالة فيها القسام الثلثة‪ .‬ومن ذلك‪ :‬باب الرضا‪ ،‬فإنه ذكر عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪:‬‬
‫ل رًبا وبالسلم ديًنا وبمحمد صلى ال عليه وسلم نبًيا(‪ .‬وهذا الحديث رواه مسلم في‬‫)ذاق طعم اليمان من رضي با ّ‬
‫صحيحه‪ ،‬وإن كان الستاذ لم يذكر أن مسلًما رواه لكنه رواه‪ ،‬بإسناد صحيح‪.‬‬

‫وذكر في أول هذا الباب حديًثا ضعيًفا ـ بل موضوعا ـ وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن‬
‫عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر‪ ،‬فهو وإن كان أول حديث ذكره في الباب ‪ /‬فإن أحاديث الفضل بن‬
‫عيسى من أوهى الحاديث وأسقطها‪ ،‬ول نزاع بين الئمة أنه ل يعتمد عليها ول يحتج بها؛ فإن الضعف ظاهر عليها‬
‫وإن كان هو ل يتعمد الكذب‪ ،‬فإن كثيًرا من الفقهاء ل يحتج بحديثهم لسوء الحفظ ل لعتماد الكذب‪ ،‬وهذا الرقاشي‬
‫اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك أئمة هذا الشأن؛ حتى قال أيوب السختياني‪ :‬لو ولد أخرس لكان خيًرا له‪ ،‬وقال‬
‫سفيان بن عيينة‪ :‬ل شيء‪ ،‬وقال المام أحمد والنسائي‪ :‬هو ضعيف‪ .‬وقال يحيى بن معين‪ :‬رجل سوء‪ .‬وقال أبو حاتم‬
‫وأبو زرعة‪ :‬منكر الحديث‪.‬‬

‫وكذلك ما ذكره من الثار؛ فإنه قد ذكر آثاًرا حسنة بأسانيد حسنة مثل ما رواه عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه‬
‫قال‪ :‬إذا سل العبد عن الشهوات فهو راض‪ ،‬فإن هذا رواه عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي بإسناده‪ ،‬والشيخ أبو‬
‫عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلم هؤلء المشائخ وحكاياتهم‪ ،‬وصنف في السماء كتاب ]طبقات الصوفية[‬
‫وكتاب ]زهاد السلف[ وغير ذلك‪ ،‬وصنف في البواب كتاب ]مقامات الولياء[ وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على‬
‫القسام الثلثة‪.‬‬

‫وذكر عن الشيخ أبي عبد الرحمن أنه قال‪ :‬سمعت النصر آبادي يقول‪ :‬من أراد أن يبلغ محل الرضا فيلزم ماجعل الّ‬
‫ل من امتثال ‪ /‬أوامره واجتناب نواهيه ل سيما إذا‬
‫رضاه فيه‪ ،‬فإن هذا الكلم في غاية الحسن‪ ،‬فإنه من لزم مايرضى ا ّ‬
‫ل‪ ،‬كما قال في الحديث الصحيح‬‫ل يرضى عنه‪ ،‬كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه ا ّ‬ ‫قام بواجبها ومستحبها فإن ا ّ‬
‫الذي في البخاري‪) :‬من عادى لي ولًيا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه‪ ،‬ول‬
‫ي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته( الحديث‪ .‬وذلك أن الرضا نوعان‪:‬‬
‫يزال عبدي يتقرب إل ّ‬

‫ل من غيرتعد إلى المحظور‪ ،‬كما قال‪َ} :‬والُّ‬ ‫أحدهما‪ :‬الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه‪ .‬ويتناول ما أباحه ا ّ‬
‫ل ِم ْ‬
‫ن‬ ‫سُيْؤِتيَنا ا ُّ‬
‫ل َ‬‫سُبَنا ا ُّ‬
‫حْ‬‫سوُلُه َوَقاُلوا َ‬
‫ل َوَر ُ‬ ‫ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ‬ ‫ضوُه{]التوبة‪ ،[62 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلْو َأّنُهْم َر ُ‬ ‫ن ُيْر ُ‬ ‫ق َأ ْ‬ ‫حّ‬‫سوُلهُ َأ َ‬ ‫َوَر ُ‬
‫ك ِفي‬ ‫ن َيْلِمُز َ‬‫ن{ ]التوبة‪ [59 :‬وهذا الرضا واجب؛ ولهذا ذم من تركه بقوله‪َ} :‬وِمْنُهْم َم ْ‬ ‫غُبو َ‬
‫ل َرا ِ‬
‫سوُلُه ِإّنا ِإَلى ا ِّ‬‫ضِلِه َوَر ُ‬ ‫َف ْ‬
‫سُيْؤِتيَنا‬
‫ل َ‬ ‫سُبَنا ا ُّ‬
‫حْ‬ ‫سوُلُه َوَقاُلوا َ‬ ‫ل َوَر ُ‬
‫ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ‬ ‫ن‪َ .‬وَلْو َأّنُهْم َر ُ‬
‫طو َ‬‫خُ‬ ‫سَ‬ ‫طْوا ِمْنَها ِإَذا ُهْم َي ْ‬
‫ن َلْم ُيْع َ‬
‫ضوا َوِإ ْ‬
‫طوا ِمْنَها َر ُ‬ ‫عُ‬ ‫ن ُأ ْ‬‫ت َفِإ ْ‬
‫صَدَقا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ضِلِه َوَرُسوُلُه{]التوبة‪.[59 ،58 :‬‬ ‫ن َف ْ‬ ‫ل ِم ْ‬‫ا ُّ‬

‫والنوع الثاني‪ :‬الرضا بالمصائب‪ ،‬كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء‪ .‬وليس بواجب‪،‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إنه واجب‪ ،‬والصحيح أن الواجب هو الصبر‪ .‬كما قال الحسن‪ :‬الرضا غريزة‪ ،‬ولكن الصبر معول المؤمن‪.‬‬
‫وقد روى في حديث ابن عباس ‪ /‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل‪،‬‬
‫فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيًرا كثيًرا(‪.‬‬

‫ل ل يرضاه كما قال‪َ} :‬ولَ‬ ‫وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان‪ :‬فالذي عليه أئمة الدين أنه ل يرضى بذلك‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫ل َ‬
‫ل‬ ‫ن ا َّ‬ ‫عْنُهْم َفِإ ّ‬
‫ضْوا َ‬ ‫ن َتْر َ‬ ‫ساَد{ ]البقرة‪ ،[205 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فِإ ْ‬ ‫ب اْلَف َ‬
‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬‫ضى ِلِعَباِدِه اْلُكْفَر{ ]الزمر‪ [7 :‬وقال‪َ} :‬وا ُّ‬ ‫َيْر َ‬
‫ظيًما{‬ ‫عِ‬‫عَذاًبا َ‬ ‫عّد َلُه َ‬ ‫عَلْيِه َوَلَعَنُه َوَأ َ‬
‫ل َ‬ ‫ب ا ُّ‬
‫ض َ‬
‫غ ِ‬
‫خالًِدا ِفيَها َو َ‬
‫جَهّنُم َ‬ ‫ن{ ]التوبة‪ ،[96 :‬وقال تعالى‪َ} :‬ف َ‬
‫جَزاُؤُه َ‬ ‫سِقي َ‬
‫ن اْلَقْوِم اْلَفا ِ‬
‫عْ‬‫ضى َ‬ ‫َيْر َ‬
‫ل‬ ‫عَماَلُهْم{ ]محمد‪ ،[28 :‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫عَد ا ُّ‬ ‫ط َأ ْ‬
‫حَب َ‬‫ضَواَنُه َفَأ ْ‬
‫ل َوَكِرُهوا ِر ْ‬ ‫ط ا َّ‬‫خَ‬‫سَ‬ ‫]النساء‪ ،[93 :‬وقال‪َ} :‬ذِل َ‬
‫ك ِبَأّنُهْم اّتَبُعوا َما َأ ْ‬
‫خطَ‬‫سِ‬ ‫ن َ‬ ‫سُهْم َأ ْ‬‫ت َلُهْم َأنُف ُ‬
‫س َما َقّدَم ْ‬ ‫سُبُهْم{ ]التوبة‪ ،[68 :‬وقال تعالى‪َ} :‬لِبْئ َ‬ ‫حْ‬ ‫ي َ‬ ‫ن ِفيَها ِه َ‬‫خاِلِدي َ‬
‫جَهّنَم َ‬‫ت َواْلُكّفاَر َناَر َ‬ ‫ن َواْلُمَناِفَقا ِ‬
‫اْلُمَناِفِقي َ‬
‫لـ‬‫ب ُهْم َخاِلُدوَن{ ]المائدة‪ ،[80 :‬وقال تعالى‪َ} :‬فَلّما آَسُفوَنا انَتَقْمَنا ِمْنُهْم{ ] الزخرف‪ [55 :‬فإذا كان ا ّ‬ ‫عَلْيهِْم َوِفي اْلَعَذا ِ‬‫ل َ‬ ‫ا ُّ‬
‫سبحانه ـ ل يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك‪ ،‬وهو يسخط عليهم‪ ،‬ويغضب عليهم‪ ،‬فكيف يشرع للمؤمن أن‬
‫ل ويغضبه؟!‪.‬‬
‫يرضى ذلك وأل يسخط ويغضب لما يسخط ا ّ‬

‫وإنما ضل هنا فريقان من الناس‪:‬‬


‫قوم‪ :‬من أهل الكلم المنتسبين إلى السنة في مناظرة القدرية ظنوا أن محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع إلى‬
‫إرادته‪ ،‬وقد ‪ /‬علموا أنه مريد لجميع الكائنات خلًفا للقدرية‪ .‬وقالوا‪ :‬هو أيضا محب لها مريد لها‪ ،‬ثم أخذوا يحرفون‬
‫الكلم عن مواضعه‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل يحب الفساد‪ ،‬بمعنى ل يريد الفساد‪ :‬أي ل يريده للمؤمنين‪ ،‬ول يرضى لعباده الكفر‪ :‬أي‬
‫ل يريده لعباده المؤمنين‪ .‬وهذا غلط عظيم؛ فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال‪ :‬ل يحب اليمان ول يرضى لعباده‬
‫ل به فإنه يكون مستحًبا‬
‫اليمان‪ :‬أي ل يريده للكافرين‪ ،‬ول يرضاه للكافرين‪ ،‬وقد اتفق أهل السلم على أن ما أمر ا ّ‬
‫يحبه‪ .‬ثم قد يكون مع ذلك واجًبا‪ ،‬وقد يكون مستحًبا ليس بواجب سواء فعل أو لم يفعل‪ .‬والكلم على هذا مبسوط في‬
‫غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ل رب الكائنات جميعها‪ ،‬وعلموا أنه قدر‬‫والفريق الثاني‪ :‬من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين‪ :‬فشهدوا أن ا ّ‬
‫على كل شيء وشاءه‪ ،‬وظنوا أنهم ل يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق‬
‫والعصيان‪ ،‬حتى قال بعضهم‪ :‬المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب‪ .‬قالوا‪ :‬والكون كله مراد‬
‫ل عظيًما‪ ،‬حيث لم يفرقوا بين الرادة الدينية والكونية‪ ،‬والذن الكوني والديني‪ ،‬والمر‬
‫المحبوب‪ .‬وضل هؤلء ضل ً‬
‫الكوني والديني‪ ،‬والبعث الكوني والديني‪ ،‬والرسال الكوني والديني‪ .‬كما بسطناه في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ل وأعدائه‪ ،‬والنبياء والمتقين‪ .‬ويجعلون‬ ‫‪/‬وهؤلء يؤول المر بهم إلى أل يفرقوا بين المأمور والمحظور وأولياء ا ّ‬
‫الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الرض‪ ،‬ويجعلون المتقين كالفجار‪ ،‬ويجعلون المسلمين كالمجرمين‪،‬‬
‫ويعطلون المر والنهي‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬والشرائع وربما سموا هذا‪ :‬حقيقة‪ ،‬ولعمري إنه حقيقة كونية‪ ،‬لكن هذه‬
‫ل{ ]الزمر‪،[38 :‬‬‫ن ا ُّ‬
‫ض َلَيُقوُل ّ‬
‫لْر َ‬
‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫خَلقَ ال ّ‬
‫ن َ‬ ‫سَأْلَتُهْم َم ْ‬ ‫الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الصنام‪ ،‬كما قال‪َ} :‬وَلِئ ْ‬
‫ن َ‬
‫ل َتَذّكُروَن{ اليات ]المؤمنون‪.[85 ،84 :‬‬ ‫ل َأَف َ‬
‫ل ُق ْ‬
‫ن ِّ‬‫سَيُقوُلو َ‬‫ن‪َ .‬‬ ‫ن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ‬
‫ن ِفيَها ِإ ْ‬
‫ض َوَم ْ‬
‫لْر ُ‬
‫ن ا َْ‬ ‫وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِلَم ْ‬

‫ل خالق كل شيء وربه ومليكه‪ ،‬فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان‬
‫فالمشركون الذين يعبدون الصنام كانوا مقرين بأن ا ّ‬
‫أقرب أن يكون كعباد الصنام‪.‬‬

‫ل‪،‬‬
‫ل وبرسله‪ ،‬وبتصديقهم فيما أخبروا‪ ،‬وطاعتهم فيما أمروا‪ ،‬واتباع ما يرضاه ا ّ‬ ‫والمؤمن إنما فارق الكفر باليمان با ّ‬
‫ويحبه دون ما يقدر ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬ولكن يرضى بما أصابه من المصائب‪ ،‬ل بما فعله من‬
‫ك{‬
‫سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ‬
‫ق َوا ْ‬
‫حّ‬
‫ل َ‬
‫عَد ا ِّ‬ ‫ن َو ْ‬ ‫المعائب‪ .‬فهو من الذنوب يستغفر‪ .‬وعلى المصائب يصبر‪ ،‬فهو كما قال تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫صِبْر ِإ ّ‬
‫ضّرُكْم َكْيُدُهْم‬ ‫ل َي ُ‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا َ‬
‫ن َت ْ‬ ‫]غافر‪ [55 :‬فيجمع بين طاعة المر والصبر على المصائب‪ .‬كما ‪ /‬قال تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ك ِمنْ َعْزِم اُْلُموِر{]آل عمران‪ ،[186 :‬وقال يوسف‪:‬‬ ‫ن َذِل َ‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا َفِإ ّ‬ ‫شْيًئا{ ]آل عمران‪ ،[120 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن َت ْ‬ ‫َ‬
‫ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]يوسف‪.[90 :‬‬ ‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫صِبْر َفِإ ّ‬
‫ق َوَي ْ‬
‫}ِإّنُه َمنْ َيّت ِ‬

‫والمقصود هنا‪ :‬أن ما ذكره القشيري عن النصر آبادي من أحسن الكلم حيث قال‪ :‬من أراد أن يبلغ محل الرضا‬
‫ل رضاه فيه‪ ،‬وكذلك قول الشيخ أبي سليمان‪ :‬إذا سل العبد عن الشهوات فهو راض؛ وذلك أن العبد‬
‫فليلزم ما جعل ا ّ‬
‫إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها‪ ،‬فإذا لم يحصل سخط‪ ،‬فإذا سل عن شهوات نفسه رضي‬
‫ل له من الرزق‪ ،‬وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال لبشر الحافي‪ :‬الرضا أفضل من الزهد في‬ ‫بما قسم ا ّ‬
‫الدنيا؛ لن الراضي ل يتمنى فوق منزلته‪ ،‬كلم حسن‪ .‬لكن أشك في سماع بشر الحافي من الفضيل‪.‬‬

‫ل‪ .‬فقال الجنيد‪ :‬قولك ذا ضيق صدر‪،‬‬‫وكذلك ما ذكره معلًقا قال‪ :‬قال الشبلي بين يدي الجنيد‪ :‬لحول ول قوة إل با ّ‬
‫ل عنه ـ سيد الطائفة‪ ،‬ومن‬
‫وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء‪ .‬فإن هذا من أحسن الكلم‪ .‬وكان الجنيد ـ رضي ا ّ‬
‫أحسنهم تعليًما وتأديًبا وتقويًما ـ وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ ل كلـمة استرجاع‪ ،‬وكثير من الناس يقولها عند‬
‫عا ل صبًرا‪ .‬فالجنيد ‪ /‬أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها‪ ،‬إذ كانت‬
‫المصائب بمنزلة السترجاع‪ ،‬ويقولها جز ً‬
‫ل ينافى الرضا‪ ،‬ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه‪.‬‬ ‫حا ً‬

‫وفيما ذكره آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلًقا‪ .‬قال‪ :‬وقيل‪ :‬قال موسى‪) :‬إلهي‪ ،‬دلني على عمل إذا عملته رضيت عني‪.‬‬
‫ل إليه‪ :‬يابن عمران‪ ،‬رضائي في رضاك عني(‪ ،‬فهذه‬ ‫عا‪ .‬فأوحى ا ّ‬
‫فقال‪ :‬إنك ل تطيق ذلك‪ ،‬فخر موسى ساجًدا متضر ً‬
‫الحكاية السرائيلية فيها نظر؛ فإنه قد يقال‪ :‬ل يصلح أن يحكي مثلها عن موسى بن عمران‪ .‬ومعلوم أن هذه‬
‫حا‪ ،‬مثل ما ثبت‬
‫ل صحي ً‬ ‫السرائيليات ليس لها إسناد‪ ،‬ول يقوم بها حجة في شيء من الدين‪ ،‬إل إذا كانت منقولة لنا نق ً‬
‫عن نبينا أنه حدثنا به عن بني إسرائيل‪ ،‬ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه؛ فإن موسى من أعظم أولي العزم‪ ،‬وأكابر‬
‫ل تعالى راض عن السابقين الولين من‬‫ل به عنه؟! وا ّ‬
‫المسلمين؛ فكيف يقال‪ :‬إنه ل يطيق أن يعمل ما يرضى ا ّ‬
‫المهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان‪ .‬أفل يرضى عن موسى بن عمران كليم الرحمن؟! وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن‬
‫ي‬
‫ضَ‬‫ن ِفيَها َأَبًدا َر ِ‬
‫خاِلِدي َ‬
‫لْنَهاُر َ‬
‫حِتَها ا َْ‬
‫ن َت ْ‬
‫جِري ِم ْ‬
‫ن َت ْ‬
‫عْد ٍ‬
‫ت َ‬
‫جّنا ُ‬
‫عْنَد َرّبِهْم َ‬
‫جَزاُؤُهْم ِ‬
‫خْيُر اْلَبِرّيِة‪َ .‬‬
‫ك ُهْم َ‬
‫ت ُأْوَلِئ َ‬
‫حا ِ‬
‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬‫ن آمَُنوا َو َ‬
‫اّلِذي َ‬
‫ضوا َعْنُه{]البينة‪ [8 ،7 :‬ومعلوم أن موسى بن عمران ـ عليه السلم ـ من أفضل الذين آمنوا وعملوا‬ ‫عْنهُْم َوَر ُ‬‫ل َ‬‫ا ُّ‬
‫الصالحات‪.‬‬

‫صَنَع َعَلى َعْيِني{ ]طه‪ .[39 :‬ثم إن‬


‫حّبًة ِمّني َوِلُت ْ‬
‫ك مَ َ‬
‫عَلْي َ‬ ‫ل خص موسى بمزية فوق الرضا‪ ،‬حيث قال‪َ} :‬وَأْلَقْي ُ‬
‫ت َ‬ ‫‪/‬ثم إن ا ّ‬
‫ل من خطابه في القرآن حيث قال‪ :‬يا موسى‪ ،‬وذلك الخطاب فيه‬ ‫قوله له في الخطاب‪ :‬يابن عمران‪ ،‬مخالف لماذكره ا ّ‬
‫ل عنه ـ إلى أبي موسى الشعري‬ ‫نوع غض منه كما يظهر‪ .‬ومثل ما ذكر أنه قيل‪ :‬كتب عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ‬
‫أما بعد‪ :‬فإن الخير كله في الرضا فإن استطعت أن ترضى وإل فاصبر‪ .‬فهذا الكلم كلم حسن‪ .‬وإن لم يعلم إسناده‪.‬‬

‫ل ومعلًقا ما هو صحيح وغيره‪ ،‬فهذه الكلمة لم يذكرها عن أبي سليمان إل‬


‫وإذا تبين أن فيما ذكره مسنًدا ومرس ً‬
‫مرسلة‪ .‬وبمثل ذلك ل تثبت عن أبي سليمان باتفاق الناس؛ فإنه وإن قال بعض الناس‪ :‬إن المرسل حجة‪ ،‬فهذا لم يعلم‬
‫أن المرسل هو مثل الضعيف وغير الضعيف‪ .‬فأما إذا عرف ذلك فل يبقى حجة باتفاق العلماء‪ .‬كمن علم أنه تارة‬
‫يحفظ السناد وتارة يغلط فيه‪.‬‬

‫والكتب المسندة في أخبار هؤلء المشائخ وكلمهم مثل كتاب "حلية الولياء" لبي نعيم‪ ،‬و"طبقات الصوفية" لبي‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬و ]صفوة الصفوة[ لبن الجوزي‪ .‬وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان‪ .‬أل‬
‫ترى الذي رواه عنه مسنًدا حيث قال‪ :‬قال لحمد بن أبي الحواري‪ :‬يا أحمد‪ ،‬لقد أوتيت من الرضا ‪ /‬نصيًبا لو ألقاني‬
‫في النار لكنت بذلك راضًيا‪ .‬فهذا الكلم مأثور عن أبي سليمان بالسناد؛ ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه‬
‫أبي عبد الرحمن‪ ،‬بخلف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه‪ .‬فل أصل لها عن الشيخ أبي سليمان‪.‬‬

‫ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها فإنه قبل أن يرويها قال‪ :‬وسئل أبو عثمان‬
‫الحيري النيسابوري عن قول النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬أسألك الرضا بعد القضاء(‪ ،‬فقال‪ :‬لن الرضا بعد القضاء‬
‫هوالرضا‪ .‬فهذا الذي قاله الشيخ أبوعثمان كلم حسن سديد‪ .‬ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال‪ :‬أرجو أن‬
‫أكون قد عرفت طرًفا من الرضا‪ .‬لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضًيا‪.‬‬

‫فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا‪ .‬وإنما هو عزم على الرضا‪ ،‬وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء‪ ،‬وإن‬
‫صا عزائم الصوفية؛ ولهذا قيل لبعضهم‪:‬‬ ‫كان هذا عزًما فالعزم قد يدوم‪ ،‬وقد ينفسخ‪ ،‬وما أكثر انفساخ العزائم خصو ً‬
‫بماذا عرفت ربك ؟ قال‪ :‬بفسخ العزائم ونقض الهمم‪ .‬وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلء المشائخ‪َ} :‬وَلَقْد ُكْنُتْم‬
‫ن َما‬
‫ن َآَمُنوا ِلَم َتُقوُلو َ‬ ‫ن{ ]آل عمران‪ ،[143 :‬وقال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬ ‫ظُرو َ‬ ‫ن َتْلَقْوُه َفَقْد َرَأْيُتُموُه َوَأْنُتْم َتْن ُ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ن َقْب ِ‬
‫ت ِم ْ‬
‫َتَتَمّنْون اْلَمْو َ‬
‫ص{]الصف‪2- :‬‬ ‫صو ٌ‬ ‫ن َمْر ُ‬ ‫صّفا َكَأّنُهْم ُبنَيا ٌ‬
‫سِبيِلِه َ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫ن ُيَقاِتُلو َ‬‫ب اّلِذي َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬
‫ن ا َّ‬ ‫ن‪ِ .‬إ ّ‬
‫ل َتْفَعُلو َ‬ ‫ن َتُقوُلوا َما َ‬ ‫ل َأ ْ‬‫عْنَد ا ِّ‬
‫ن‪َ .‬كُبَر َمْقًتا ِ‬
‫ل َتْفَعُلو َ‬‫َ‬
‫‪ [4‬وفي الترمذي أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬لو علمنا أي العمل أحب إلى الّ لعملناه فأنزل‬
‫ق ِمْنُهْم‬‫ل ِإَذا َفِري ٌ‬
‫عَلْيِهْم اْلِقَتا ُ‬
‫ب َ‬‫لَة َوآُتوا الّزَكاَة َفَلّما ُكِت َ‬ ‫صَ‬ ‫ل َلُهْم ُكّفوا َأْيِدَيُكْم َوَأِقيُموا ال ّ‬ ‫ل تعالى هذه الية }َأَلْم َتَر ِإَلى اّلِذي َ‬
‫ن ِقي َ‬ ‫ا ّ‬
‫ب{الية ]النساء‪ .[77 :‬فهؤلء‬ ‫ل َقِري ٍ‬ ‫جٍ‬ ‫خْرَتَنا ِإَلى َأ َ‬
‫ل َأ ّ‬
‫ل َلْو َ‬ ‫عَلْيَنا اْلِقَتا َ‬
‫ت َ‬ ‫شَيًة َوَقاُلوا َرّبَنا ِلَم َكَتْب َ‬ ‫خْ‬‫شّد َ‬ ‫ل َأْو َأ َ‬‫شَيِة ا ِّ‬‫خْ‬‫س َك َ‬
‫شْونَ الّنا َ‬‫خَ‬ ‫َي ْ‬
‫الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه لما ابتلوا به كرهوه وفروا منه‪ ،‬وأين ألم الجهاد من ألم النار؟ وعذاب ا ّ‬
‫ل‬
‫الذي ل طاقة لحد به‪ ،‬ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب أنه كان يقول‪:‬‬

‫وليس لي في سواك حظ ** فكيفما شئت فاختبرني‬

‫فأخذه العسر من ساعته‪ :‬أي حصر بوله؛ فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول‪ :‬ادعوا لعمكم‬
‫الكذاب‪.‬‬

‫ي‪ ،‬فاحتبس‬‫وحكى أبو نعيم الصبهاني عن أبي بكر الواسطي أنه قال سمنون‪ :‬يارب‪ ،‬قد رضيت بكل ما تقضيه عل ّ‬
‫ل‪ ،‬فلما ‪ /‬أطلق بوله‪ ،‬قال‪ :‬ربي قد تبت إليك‪.‬‬
‫بوله أربعة عشر يوًما‪ ،‬فكان يتلوى كما تتلوى الحية‪ ،‬يتلوى يميًنا وشما ً‬
‫قال أبو نعيم‪ :‬فهذا الرضا الذي ادعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدني بلوي‪ ،‬مع أن سمنونا هذا كان يضرب به المثل‪،‬‬
‫وله في المحبة مقام مشهور‪ ،‬حتى روى عن إبراهيم بن فاتك أنه قال‪ :‬رأيت سمنوًنا يتكلم على الناس في المسجد‬
‫الحرام‪ ،‬فجاء طائر صغير فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده‪ ،‬ثم لم يزل يضرب بمنقاره الرض حتى سقط منه‬
‫ضا‪.‬‬
‫دم؛ ومات الطائر‪ .‬وقال‪ :‬رأيته يوًما يتكلم في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بع ً‬

‫وقد ذكر القشيري في )باب الرضا( عن رويم المقري ـ رفيق سمنون ـ حكاية تناسب هذا حيث قال‪ :‬قال رويم‪ :‬إن‬
‫ل أن يحولها عن يساره‪ ،‬فهذا يشبه قول سمنون‪ :‬فكيف ما شئت فامتحني‪.‬‬ ‫الراضي لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل ا ّ‬
‫وإذا لم يطق الصبر على عسر البول‪ ،‬أفيطيق أن تكون النار عن يمينه ؟‬

‫والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلء وابتلى بعسر البول فغلبه اللم حتى قال‪ :‬بحبي لك أل فرجت عني؛‬
‫ففرج عنه‪.‬‬

‫ورويم ـ وإن كان من رفقاء الجنيد ـ فليس هو عندهم من هذه الطبقة‪ ،‬بل الصوفية يقولون‪ :‬إنه رجع إلى الدنيا وترك‬
‫التصوف؛ حتى روى عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال‪ :‬من أراد أن يستكتم سًرا ‪ /‬فليفعل‪ .‬كما فعل رويم‪ .‬كتم‬
‫حب الدنيا أربعين سنة فقيل‪ :‬وكيف يتصور ذلك؟ قال‪ :‬ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد وكان بينهما‬
‫ل على بابه فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي وأكل الطيبات‪،‬‬ ‫مودة أكيدة‪ ،‬فجذبه إليه‪ ،‬وجعله وكي ً‬
‫لـ‬
‫وبنى الدور‪ ،‬وإذا هو كان يكتم حب الدنيا مالم يجدها‪ ،‬فلما وجدها أظهر ماكان يكتم من حبها‪ .‬هذا مع أنه ـ رحمه ا ّ‬
‫كان له من العبادات ما هو معروف وكان على مذهب داود‪.‬‬

‫ل؛ ولكن‬‫وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم أقواله وعواقبها ل تجعل طريقة ول تتخذ سبي ً‬
‫قد يستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق‪ ،‬وما‬
‫ل عليهم ـ أعلم بطريق سبيل‬ ‫يقدر عليه من التقوى والصبر وما ل يقدر عليه من التقوى والصبر‪ ،‬والرسل ـ صلوات ا ّ‬
‫صا مخطًئا محروًما‪ ،‬وإن لم يكن عاصًيا أو فاسًقا أو‬
‫ل وأهدى وأنصح‪ ،‬فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقو ً‬ ‫ا ّ‬
‫كافًرا‪.‬‬

‫ل بشيء‪،‬‬ ‫ويشبه هذا العرابي الذي دخل عليه النبي صلى ال عليه وسلم وهو مريض كالفرخ فقال‪) :‬هل كنت تدعو ا ّ‬
‫ل ل تستطيعه ول تطيقه‪ ،‬هل‬ ‫قال‪ :‬كنت أقول‪ :‬الّلهم ما كنت معذبني به في الخرة فاجعله في الدنيا‪ ،‬فقال‪ :‬سبحان ا ّ‬
‫ضا حمله خوفه من عذاب النار‪ ،‬ومحبته‬ ‫قلت‪ :‬ربنا آتنا في ‪ /‬الدنيا حسنة‪ ،‬وفي الخرة حسنة‪ ،‬وقنا عذاب النار( فهذا أي ً‬
‫طا‪ ،‬والخطأ والغلط مع حسن القصـد‬‫لسلمة عاقبته على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا‪ ،‬وكان مخطئا في ذلك غال ً‬
‫ل أن يكـون‬
‫وسلمته‪ ،‬وصلح الرجل وفضله ودينه وزهـده وورعـه وكراماته كثير جًدا‪ ،‬فليس من شرط ولي ا ّ‬
‫ل عنه ـ‬‫ل بعد الرسل أبو بكر الصديق ـ رضي ا ّ‬ ‫معصوًما مـن الخطأ والغلـط؛ بل ول من الذنوب‪ ،‬وأفضل أولياء ا ّ‬
‫ضا وأخطأت بعضا(‪.‬‬‫وقد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال له لما عبر الرؤيا‪) :‬أصبت بع ً‬

‫ل أعلم ـ أن أبا سليمان لما قال هذه الكلمة ـ‪ :‬لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضًيا ـ أن يكون بعض الناس‬
‫ويشبه ـ وا ّ‬
‫ل الجنة‪ ،‬ول تستعيذه من النار‪ .‬وتلك الكلمة التي قالها أبو‬
‫حكاه بما فهمه من المعنى أنه قال‪ :‬الرضا أل تسأل ا ّ‬
‫سليمان‪ ،‬مع أنها ل تدل على رضاه بذلك‪ ،‬ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك‪ ،‬فنحن نعلم أن هذا العزم ل يستمر بل‬
‫ينفسخ‪ ،‬وإن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها؛ وأنها مستدركة‪ ،‬كما استدركت دعوى سمنون ورويم وغير ذلك؛‬
‫ل الجنة‪ ،‬واستعاذ من النار‪ ،‬ل يكون‬ ‫فإن بين هذه الكلمة وتلك فرًقا عظيًما‪ .‬فإن تلك الكلمة مضمونها‪ :‬أن من سأل ا ّ‬
‫راضًيا‪.‬‬

‫وفرق بين من يقول‪ :‬أنا إذا فعل كذا كنت راضًيا‪ ،‬وبين ‪ /‬من يقول‪ :‬ل يكون راضًيا إل من ل يطلب خيًرا‪ ،‬ول يهرب‬
‫من شر؛ وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجل من أن يقول مثل هذا الكلم‪ ،‬فإن الشيخ أبا سليمان من‬
‫أجلء المشائخ‪ ،‬وساداتهم ومن أتبعهم للشريعة حتى إنه قال‪ :‬إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم‪ ،‬فل أقبلها إل‬
‫ضا‪:‬‬
‫بشاهدين‪ :‬الكتاب والسنة‪ .‬فمن ل يقبل نكت قلبه إل بشاهدين‪ ،‬يقول هذا مثل الكلم؟! وقال الشيخ أبو سليمان أي ً‬
‫ليس لمن ألهم شيًئا من الخير أن يفعله‪ ،‬حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نوًرا على نور؛ بل صاحبه أحمد‬
‫بن أبي الحواري كان من أتبع المشائخ للسنة‪ ،‬فكيف أبو سليمان؟!‪.‬‬

‫وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلم تظهر بالكلم في المقام الثاني وهو قول القائل كائًنا من كان‪ :‬الرضا أل تسأل‬
‫ل الجنة‪ ،‬ول تستعيذه من النار‪.‬‬
‫ا ّ‬
‫ونقدم قبل ذلك مقدمة يتبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الشتباه والضطراب‪ ،‬وذلك أن قوًما كثيًرا من‬
‫الناس‪ ،‬من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس‪،‬‬
‫وسماع أصوات طيبة‪ ،‬وشم روائح طيبة ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيًما غير ذلك‪ .‬ثم صاروا ضربين‪:‬‬

‫‪/‬ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم‪ .‬كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم‪.‬‬

‫ومنهم من أقر بالرؤية‪ ،‬إما الرؤية التي أخبر بها النبي صلى ال عليه وسلم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬وإما‬
‫برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم‪ ،‬أو جعلها بحاسة سادسة‪ ،‬ونحو ذلك‬

‫ًاالتي ذهب إليها ضرار بن عمرو وطوائف من أهل الكلم المنتسبين إلى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية‪ ،‬وإن كان‬
‫ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية‪ .‬والنزاع بينهم لفظي‪ ،‬ونزاعهم مع أهل السنة معنوي؛ ولهذا كان‬
‫بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلء‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه‪ ،‬قالوا‪ :‬لنه ل مناسبة بين‬
‫المحدث والقديم‪ ،‬كما ذكر ذلك الستاذ أبو المعالى الجويني في ]الرسالة النظامية[‪ ،‬وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في‬
‫بعض كتبه‪ ،‬ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجلً يقول‪ :‬أسألك لذة النظر إلى وجهك‪ .‬فقال‪ :‬يا هذا‪ ،‬هب أن له وجًها‪،‬‬
‫ل يخلق لهم نعيًما ببعض المخلوقات مقارًنا للرؤية‪ ،‬فأما النعيم‬
‫أله وجه يتلذذ بالنظر إليه؟! وذكر أبو المعالي أن ا ّ‬
‫بنفس الرؤية فأنكـره‪ ،‬وجعل هذا من أسرار التوحيد‪.‬‬

‫‪/‬وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم‪ ،‬وهو مذهب سلف المة وأئمتها‪ ،‬ومشائخ الطريق‪ ،‬كما في‬
‫الحديث الذي في النسائي وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬اللهم بعلمك الغيب‪ ،‬وقدرتك على الخلق‪ ،‬أحيني إذا‬
‫كانت الحياة خيًرا لي‪ ،‬وتوفني إذا كانت الوفاة خيًرا لي‪ ،‬الّلهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة‪ ،‬وأسألك كلمة‬
‫الحق في الغضب والرضا‪ ،‬وأسألك القصد في الفقر والغنى‪ ،‬وأسألك نعيًما ل ينفد‪ ،‬وقرة عين ل تنقطع‪ ،‬وأسألك‬
‫الرضا بعد القضاء‪ ،‬وبرد العيش بعد الموت‪ ،‬وأسألك لذة النظر إلى وجهك‪ ،‬وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء‬
‫مضرة‪ ،‬ول فتنة مضلة‪ ،‬الّلهم زينا بزينة اليمان‪ ،‬واجعلنا هداة مهتدين(‪ .‬وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن‬
‫ل موعًدا يريد أن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد‪ ،‬يا أهل الجنة‪ ،‬إن لكم عند ا ّ‬
‫ينجزكموه‪ ،‬فيقولون‪ :‬ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة‪ ،‬ويجرنا من النار؟ قال‪ :‬فيكشف‬
‫الحجاب؛ فينظرون إليه فما أعطاهم شيًئا أحب إليهم من النظر إليه(‪.‬‬

‫وكلما كان الشيء أحب كانت اللذة بنيله أعظم‪ ،‬وهذا متفق عليه بين السلف والئمة ومشائخ الطريق‪ ،‬كما روي عن‬
‫الحسن البصري أنه قال‪ :‬لو علم العابدون بأنهم ل يرون ربهم في الخرة لذابت نفوسهم في ‪ /‬الدنيا شوًقا إليه‪،‬‬
‫وكلمهم في ذلك كثير‪.‬‬

‫ل تعالى‪ ،‬تنازعوا في مسألة المحبة التي هـي‬


‫ثم هؤلء الذين وافقوا السلف والئمة والمشائخ على التنعم بالنظر إلى ا ّ‬
‫سُه‪ ،‬وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته؛ وقالوا‪ :‬هو‬
‫ب َنْف ُ‬
‫ح ّ‬
‫ل ل ُي َ‬
‫أصل ذلك؛ فذهب طوائف من‪ . ..‬والفقهاء إلى أن ا ّ‬
‫ضا ل يحب عباده المؤمنين؛ وإنما محبته إرادته للحسان إليهم ووليتهم‪ .‬ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر‬ ‫أي ً‬
‫السنة من أهل الكـلم‪ ،‬حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد‪ :‬كالقاضي أبي بكـر والقاضي أبي‬
‫يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلء‪.‬‬

‫وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في السلم الجعد بن درهم‪ ،‬أستاذ الجهم بن‬
‫ل ضحاياكم‪ ،‬فإني مضح بالجعد بن‬ ‫ل القسري‪ .‬وقال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬ضحوا تقبل ا ّ‬ ‫صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ولم يكلم موسى تكليًما ثم نزل فذبحه‪.‬‬
‫ل لم يتخذ إبراهيم خلي ً‬
‫درهم‪ ،‬فإنه زعم أن ا ّ‬

‫ل يحب ويحب‪ .‬ولهذا وافقهم‬‫والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف المة وأئمتها ومشائخ الطريق‪ :‬أن ا ّ‬
‫على ذلك من تصوف من ‪ /‬أهل الكلم‪ :‬كأبي القاسم القشيري؛ وأبي حامد الغزالي‪ ،‬وأمثالهما‪ .‬ونصر ذلك أبو حامد‬
‫في )الحياء( وغيره‪ .‬وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في )الرسالة( على طريق الصوفية كما في كتاب أبي طالب المسمى‬
‫بـ )قوت القلوب( وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية‪ ،‬استند في ذلك لما وجده من كتب الفلسفة من إثبات نحو‬
‫ذلك حيث قالوا‪ :‬يعشق ويعشق‪.‬‬

‫حّبوَنُه{‬ ‫وقد بسط الكلم على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه‪ .‬وقد قال تعالى‪ُ} :‬ي ِ‬
‫حّبُهْم َوُي ِ‬
‫ل َوَرُسوِلِه{ ]التوبة‪،[24 :‬‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ب ِإَلْيُكْم ِم ْ‬ ‫ل{ ]البقرة‪ ،[165 :‬وقال‪َ} :‬أ َ‬
‫ح ّ‬ ‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬ ‫]المائدة‪ ،[54 :‬وقال تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬
‫ل ورسوله‬ ‫وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان‪ :‬من كان ا ّ‬
‫ل منه‬
‫ل‪ ،‬ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ‬
‫أحب إليه مما سواهما‪ ،‬ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ‬
‫كما يكره أن يلقى في النار(‪.‬‬

‫والمقصود هنـا أن هؤلء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم ـ الذين ينكرون حقيقة المحبة ـ يلزمهم أن ينكروا التلذذ‬
‫بالنظر إليه؛ ولهذا ليس في الحقيقة عندهم إل التنعم بالكل والشرب‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وهذا القول باطل بالكتاب والسنة‬
‫واتفاق سلف المة ومشائخها‪ ،‬فهذا أحد الحزبين الغالطين‪.‬‬

‫والضرب الثاني‪ :‬طوائف من المتصوفة والمتفقرة والمتبتلة‪ / :‬وافقوا هؤلء على أن الجنة ليست إل هذه المور التي‬
‫ل والتنعم بالنظر إليه‪ ،‬وأصابوا في ذلك وجعلوا‬
‫يتنعم بها المخلوق؛ ولكن وافقوا السلف والئمة على إثبات رؤية ا ّ‬
‫يطلبون هذا النعيم‪ ،‬وتسمو إليه همتهم‪ ،‬ويخافون فوته‪ ،‬وصار أحدهم يقول‪ :‬ما عبدتك شوًقا إلى جنتك‪ ،‬أو خوًفا من‬
‫نارك‪ ،‬ولكن لنظر إليك وإجللً لك‪ ،‬وأمثال هذه الكلمات‪ .‬مقصودهم بذلك‪ :‬هو أعلى من الكل والشرب والتمتع‬
‫ل بل حظ ول إرادة‪ ،‬وإن‬‫ضا في ظنهم أنهم يعبدون ا ّ‬‫بالمخلوق‪ ،‬لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة‪ .‬وقد يغلطون أي ً‬
‫كل ما يطلب منه فهو حظ النفس‪ ،‬وتوهموا أن البشر يعمل بل إرادة ول مطلوب ول محبوب‪ ،‬وهو سوء معرفة‬
‫بحقيقة اليمان والدين والخرة‪.‬‬

‫وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه‪ ،‬حتى ل يشعر بنفسه وإرادتها‪ ،‬فيظن‬
‫أنه يفعل لغير مراده‪ ،‬والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه‪ ،‬وهذا كحال كثير من الصالحين‬
‫والصادقين‪ ،‬وأرباب الحوال والمقامات يكون لحدهم وجد صحيح‪ ،‬وذوق سليم‪ ،‬لكن ليس له عبارة تبين كلمه‪،‬‬
‫فيقع في كلمه غلط وسوء أدب‪ ،‬مع صحة مقصوده؛ وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده‪.‬‬

‫ل ‪ /‬تعالى أصابوا في ذلك‪ ،‬لكن أخطؤوا من جهة أنهم‬ ‫فهؤلء الذين قالوا مثل هذا الكلم‪ ،‬إذا عنوا به طلب رؤية ا ّ‬
‫جا عن الجنة‪ ،‬فأسقطوا حرمة اسم الجنة‪ ،‬ولزم من ذلك أمور منكرة؛ نظير ما ذكر عن الشبلي ـ‬ ‫جعلوا ذلك خار ً‬
‫ل ـ أنه سمع قارًئا يقرأ‪ِ} :‬مْنُكْم َمْن ُيِريُد الّدْنَيا َوِمْنُكْم َمْن ُيِريُد اْلِخَرَة{ ]آل عمران‪ .[152 :‬فصرخ وقال‪ :‬أين مريد‬
‫رحمه ا ّ‬
‫ل؛ وهذه الية في أصحاب النبي‬ ‫ل؛ ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الخرة ما أرادوا ا ّ‬ ‫ل؟ فيحمد منه كونه أراد ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫ل من هو دونهم‪ .‬كالشبلي‪،‬‬
‫ل‪ ،‬أفيريد ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم الذين كانوا معه بأحد‪ ،‬وهم أفضل الخلق‪ ،‬فإن لم يريدوا ا ّ‬
‫وأمثاله؟!‬

‫ن َلُهْم‬
‫سُهْم َوَأْمَواَلُهْم ِبَأ ّ‬
‫ن َأنُف َ‬
‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬
‫شَتَرى ِم ْ‬
‫لا ْ‬ ‫ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشائخ أنه سأل مرة عن قوله تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل َفَيْقُتُلوَن َوُيْقَتُلوَن{ ]التوبة‪ [111 :‬قال‪ :‬فإذا كانت النفس والموال في ثمن الجنة‪ ،‬فالرؤية بم‬ ‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن ِفي َ‬
‫جّنَة ُيَقاِتُلو َ‬
‫اْل َ‬
‫تنال ؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال‪.‬‬

‫ل للولياء من نعيم‪ ،‬بالنظر إليه وما سوى ذلك‪ ،‬هو في الجنة‪ ،‬كما أن كل ما وعد‬ ‫والواجب أن يعلم أن كل ما أعده ا ّ‬
‫ي َلُهْم ِمْن ُقّرِة َأْعُيٍن َجَزاًء ِبَما َكاُنوا َيْعَمُلوَن{ ]السجدة‪،[17 :‬‬
‫خِف َ‬
‫س َما ُأ ْ‬ ‫به أعداءه هو في النار‪ .‬وقد قال تعالى‪َ} :‬ف َ‬
‫ل َتْعَلُم َنْف ٌ‬
‫ل أعددت لعبادي الصالحين ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن‬ ‫وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬يقول ا ّ‬
‫سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر َبْلُه ما أطلعتهم عليه( وإذا علم أن ‪ /‬جميع ذلك داخل في الجنة‪ ،‬فالناس في الجنة‬
‫ل{ ]السراء‪[21 :‬‬‫ضي ً‬
‫ت َوَأْكَبُر َتْف ِ‬
‫جا ٍ‬
‫خَرُة َأْكَبُر َدَر َ‬
‫لِ‬‫ض َوَل ْ‬
‫عَلى َبْع ٍ‬ ‫ضُهْم َ‬ ‫ضْلَنا َبْع َ‬
‫ف َف ّ‬ ‫على درجات متفاوتة‪ ،‬كما قال‪} :‬ان ُ‬
‫ظْر َكْي َ‬
‫وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غيرذلك من مطالب الخرة هو في الجنة‪.‬‬

‫ل ورسله‪ ،‬وجميع أوليائه السابقين المقربين‪ ،‬وأصحاب اليمين‪ .‬كما‬


‫وطلب الجنة والستعاذة من النار طريق أنبياء ا ّ‬
‫في السنن أن النبي صلى ال عليه وسلم سأل بعض أصحابه‪) :‬كيف تقول في دعائك؟( قال‪ :‬أقول‪ :‬اللهم إني أسألك‬
‫الجنة‪ ،‬وأعوذ بك من النار؛ أما إني ل أحسن دندنتك‪ ،‬ول دندنة معاذ‪ .‬فقال‪) :‬حولهما ندندن( فقد أخبر أنه هو صلى‬
‫ال عليه وسلم ومعاذ ـ وهو أفضل الئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى ال عليه وسلم ـ إنما يدندنون حول‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ومعاذ‪ ،‬ومن يصلي خلفهما من المهاجرين‬ ‫الجنة‪ ،‬أفيكون قول أحد فوق قول رسول ا ّ‬
‫والنصار؟! ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة‪.‬‬

‫ك َما‬‫ن‪َ .‬وَما َأْدَرا َ‬‫عّلّيي َ‬


‫لْبَراِر َلِفي ِ‬
‫ب ا َْ‬‫ن ِكَتا َ‬ ‫وأهل الجنة نوعان‪ :‬سابقون مقربون‪ ،‬وأبرار أصحاب يمين‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬ك ّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ن ِم ْ‬
‫ن‬ ‫سَقْو َ‬
‫ضَرةَ الّنِعيِم‪ُ .‬ي ْ‬
‫جوِهِهْم َن ْ‬ ‫ف ِفي ُو ُ‬ ‫ن‪َ .‬تْعِر ُ‬ ‫ك َينظُُرو َ‬ ‫لَراِئ ِ‬‫عَلى ا َْ‬
‫لْبَراَر َلِفي َنِعيٍم‪َ .‬‬ ‫ن ا َْ‬
‫ن‪ِ .‬إ ّ‬ ‫شَهُدُه اْلُمَقّرُبو َ‬
‫ب َمْرُقوٌم‪َ .‬ي ْ‬
‫ن‪ِ .‬كَتا ٌ‬
‫عّلّيو َ‬
‫ِ‬
‫ب ِبَها اْلُمَقّرُبوَن{ ]المطففين‪[18-28 :‬‬ ‫شَر ُ‬ ‫عْيًنا َي ْ‬
‫سِنيٍم‪َ .‬‬
‫ن َت ْ‬
‫جُه ِم ْ‬‫ن‪َ .‬وِمَزا ُ‬
‫سو َ‬‫س اْلُمَتَناِف ُ‬
‫ك َفْلَيَتَناَف ْ‬
‫ك َوِفي َذِل َ‬ ‫سٌ‬ ‫خَتاُمُه ِم ْ‬
‫خُتوٍم‪ِ .‬‬
‫ق مَ ْ‬
‫حي ٍ‬
‫َر ِ‬
‫جا ويشربها المقربون صرًفا‪.‬‬
‫قال ابن عباس‪ :‬تمزج لصحاب اليمين مز ً‬

‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول‪ ،‬ثم صلوا علي‪،‬‬
‫ل لي الوسيلة‪ ،‬فإنها درجة في الجنة ل تنبغي إل لعبد من‬
‫ل عليه عشًرا‪ ،‬ثم سلوا ا ّ‬
‫فإنه من صلى علي مرة صلى ا ّ‬
‫ل لي الوسيلة‪ ،‬حلت عليه شفاعتي يوم القيامة(‪ ،‬فقد أخبر أن‬‫ل‪ ،‬وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد‪ ،‬فمن سأل ا ّ‬
‫عباد ا ّ‬
‫ل ورجاء أن يكون هو ذلك العبد ـ هي درجة في الجنة‪ ،‬فهل بقى بعد‬ ‫الوسيلة ـ التي ل تصلح إل لعبد واحد من عباد ا ّ‬
‫جا عن الجنة يصلح للمخلوقين؟!‬ ‫الوسيلة شيء أعلي منها يكون خار ً‬

‫ضا ـ في حديث الملئكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال‪) :‬فيقولون للرب تبارك‬ ‫وثبت في الصحيح ـ أي ً‬
‫وتعالى‪ :‬وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك(‪ .‬قال‪) :‬فيقول‪ :‬وما يطلبون؟ قالوا‪ :‬يطلبون الجنة(‪ .‬قال‪) :‬فيقول‪:‬‬
‫وهل رأوها؟( قال‪) :‬فيقولون‪ :‬ل(‪ ،‬قال‪) :‬فيقول‪ :‬فكيف لو رأوها؟!( قال‪) :‬فيقولون‪ :‬لو رأوها لكانوا أشد لها طلًبا(‪.‬‬
‫قال‪) :‬ومم يستعيذون؟!( قالوا‪) :‬يستعيذون من النار(‪ .‬قال‪) :‬فيقول‪ :‬وهل رأوها؟!( قال‪) :‬فيقولون‪ :‬ل(‪ .‬قال‪) :‬فيقول‪/ :‬‬
‫فكيف لو رأوها ؟( قالوا‪) :‬لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة(‪ .‬قال‪) :‬فيقول‪ :‬أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون‪ ،‬وأعذتهم‬
‫مما يستعيذون( ـ أو كما قال ـ قال‪) :‬فيقولون‪ :‬فيهم فلن الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم(‪ ،‬قال‪) :‬فيقول‪ :‬هم القوم‬
‫ل كان مطلوبهم الجنة‪ ،‬ومهربهم من النار‪.‬‬ ‫ليشقى بهم جليسهم(‪ .‬فهؤلء الذين هم من أفضل أولياء ا ّ‬

‫والنبي صلى ال عليه وسلم لّما بايع النصار ليلة العقبة‪ ،‬وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الولين الذين هم‬
‫أفضل من هؤلء المشائخ كلهم‪ ،‬قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬اشترط لربك ولنفسك ولصحابك قال‪) :‬أشترط‬
‫لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم‪ ،‬وأشترط لصحابي أن تواسوهم(‪ .‬قالوا‪ :‬فإذا فعلنا ذلك فما‬
‫ل ل نقيلك‪ ،‬ول نستقيلك‪ .‬وقد قالوا له في أثناء البيعة‪ :‬إن بيننا وبين القوم‬
‫لنا؟ قال‪) :‬لكم الجنة(‪ .‬قالوا‪ :‬مد يدك فوا ّ‬
‫ل وعهوًدا وإنا ناقضوها‪.‬‬ ‫حبا ً‬

‫ل ورسوله‪ ،‬على وجه ل‬ ‫ل لنفوسهم وأموالهم في رضا ا ّ‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬وبذ ً‬ ‫ل محبة ّ‬‫فهؤلء الذين بايعوه من أعظم خلق ا ّ‬
‫يلحقهم فيه أحد من هؤلء المتأخرين‪ ،‬قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة‪ ،‬فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه‪،‬‬
‫ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب؛ بل وفي الجنة ما ل تشعر به النفوس لتطلبه‪ ،‬فإن ‪ /‬الطلب والحب‬
‫والرادة فرع عن الشعور والحساس والتصور‪ ،‬فما ل يتصوره النسان ول يحسه ول يشعر به يمتنع أن يطلبه‬
‫ن ِفيَها َوَلَدْيَنا َمِزيٌد{ ]ق‪ ،[35 :‬وقال‪َ} :‬وِفيَها َما َت ْ‬
‫شَتِهيِه‬ ‫ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬لُهْم َما َي َ‬
‫شاُءو َ‬
‫س َوَتَلّذ اَْلْعُيُن{ ]الزخرف‪ [71 :‬ففيها ما يشتهون‪ ،‬وفيها مزيد على ذلك‪ ،‬وهو مالم يبلغه علمهم ليشتهوه‪ .‬كماقال‬ ‫لنُف ُ‬
‫ا َْ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪) :‬مال عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر( وهذا باب واسع‪.‬‬

‫ل ما‬
‫ل الجنة‪ ،‬ول تستعيذه من النار‪ ،‬إن أراد بذلك أل تسأل ا ّ‬
‫فإذا عرفت هذه المقدمة‪ ،‬فقول القائل‪ :‬الرضا أل تسأل ا ّ‬
‫هو داخل في مسمى الجنة الشرعية‪ ،‬فل تسأله النظر إليه‪ ،‬ول غير ذلك مما هو مطلوب جميع النبياء والولياء‪،‬‬
‫وإنك ل تستعيذ به من احتجابه عنك‪ ،‬ول من تعذيبك في النار‪ .‬فهذا الكلم مع كونه مخالًفا لجميع النبياء والمرسلين‪،‬‬
‫وسائر المؤمنين‪ ،‬فهو متناقض في نفسه‪ ،‬فاسد في صريح العقول‪ ،‬وذلك أن الرضا الذي ل يسأل‪ ،‬إنما ل يسأله‬
‫ل فكأنه‬
‫ل ول محبة ّ‬ ‫ل‪ .‬ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به‪ ،‬ومحبته له‪ ،‬وإذا لم يبق معه رضا عن ا ّ‬ ‫لرضاه عن ا ّ‬
‫قال‪ :‬يرضى أل يرضى وهذا جمع بين النقيضين‪ .‬ول ريب أنه كلم من لم يتصور ما يقول‪ ،‬ول عقله‪ ،‬يوضح ذلك‬
‫أن الراضي إنما يحمله على احتمال المكاره واللم ‪ /‬ما يجده من لذة الرضا وحلوته‪ ،‬فإذا فقد تلك الحلوة واللذة‬
‫امتنع أن يتحمل ألًما ومرارة‪ ،‬فكيف يتصور أن يكون راضًيا‪ ،‬وليس معه من حلوة الرضا ما يحمل به مرارة‬
‫المكاره؟ وإنما هذا من جنس كلم السكران والفاني الذي وجد في نفسه حلوة الرضا‪ ،‬فظن أن هذا يبقى معه على أي‬
‫حال كان‪ ،‬وهذا غلط عظيم منه‪ :‬كغلط سمنون كما تقدم‪.‬‬
‫وإن أراد بذلك أل يسأل التمتع بالمخلوق‪ ،‬بل يسأل ما هو أعلى من ذلك؛ فقد غلط من وجهين‪:‬‬

‫من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة‪.‬‬

‫ضا ـ أثبت أنه طالب مع كونه راضًيا‪ ،‬فإذا كان الرضا ل ينافى هذا الطلب‪ ،‬فل ينافي طلًبا آخر إذا‬
‫ومن جهة أنه ـ أي ً‬
‫جا إلى مطلوبه؛ ومعلوم أن تمتعه بالنظر ل يتم إل بسلمته من النار‪ ،‬وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر‪،‬‬ ‫كان محتا ً‬
‫وما ل يتم المطلوب إل به فهو مطلوب؛ فيكون طلبه للنظر طلًبا للوازمه التي منها النجاة من النار‪ ،‬فيكون رضاه ل‬
‫ينافي طلب حصول المنفعة ودفع المضرة عنه‪ .‬ول طلب حصول الجنة ودفع النار ول غيرهما مما هو من لوازم‬
‫النظر‪ ،‬فتبين تناقض قوله‪.‬‬

‫ل ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من طلب‬ ‫ل الجنة‪ ،‬ولم يستعذ به من النار‪ ،‬فإما أن يطلب من ا ّ‬ ‫ضا فإذا لم يسأل ا ّ‬
‫‪/‬وأي ً‬
‫منفعة ودفع مضرة‪ .‬وإما أل يطلبه‪ ،‬فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة أولى‪ ،‬واستعاذته‬
‫من النار أولى‪ .‬وإن كان الرضا أل يطلب شيًئا قط‪ ،‬ولو كان مضطًرا إليه‪ ،‬ول يستعيذ من شيء قط وإن كان مضًرا‪،‬‬
‫ضا عن ذلك‪ ،‬فإن التفت بقلبه إلى‬
‫ل في أن يفعل به ذلك‪ ،‬وإما أن يكون معر ً‬ ‫فل يخلو‪ :‬إما أن يكون ملتفًتا بقلبه إلى ا ّ‬
‫ل فهو طالب مستعيذ بحاله‪ ،‬ول فرق بين الطلب بالحال والقال‪ ،‬وهو بهما أكمل وأتم فل يعدل عنه‪.‬‬ ‫ا ّ‬

‫ضا عن جميع ذلك‪ ،‬فمن المعلوم أنه ل يحيا ويبقى إل بما يقيم حياته‪ ،‬ويدفع مضاره بذلك‪ ،‬والذي به‬ ‫وإن كان معر ً‬
‫يحيا من المنافع ودفع المضار‪ ،‬إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد‪ ،‬أو ل يحبه ول يطلبه ول يريده‪ .‬فإن أحبه وطلبه‬
‫ل ول‬‫ل كان مشرًكا مذموًما‪ ،‬فضل عن أن يكون محموًدا‪ .‬وإن قال‪ :‬ل أحبه وأطلبه وأريده ل من ا ّ‬ ‫وأراده من غير ا ّ‬
‫من خلقه‪ .‬قيل‪ :‬هذا ممتنع في الحي‪ ،‬فإن الحي ممتنع عليه أل يحب ما به يبقى‪ ،‬وهذا أمر معلوم بالحس‪ ،‬ومن كان‬
‫بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا‪ ،‬فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة‪ ،‬إذ الرضا مستلزم لذلك‪ .‬فكيف‬
‫يسلب عنه ذلك كله؟ ‪ /‬فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلم‪.‬‬

‫ل وطريقه ودينه فمن وجوه‪:‬‬


‫وأما في سبيل ا ّ‬

‫ل؟‬
‫ل من ل يفعل ما يرضاه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وإل فكيف يكون راضًيا عن ا ّ‬
‫أحدها أن يقال‪ :‬الراضي لبد أن يفعل ما يرضاه ا ّ‬
‫ل ويسخطه ويذمه‪ ،‬وينهي عنه‪.‬‬ ‫وكيف يسوغ رضا ما يكرهه ا ّ‬

‫ل يحبه ويرضاه‪ ،‬وإما أل يحبه ويرضاه‪ ،‬فإن لم يكن يحبه ويرضاه لم‬ ‫وبيان هذا‪ :‬أن الرضا المحمود إما أن يكون ا ّ‬
‫يكن هذا الرضا مأموًرا به‪ ،‬ل أمر إيجاب ول أمر استحباب؛ فإن من الرضا ما هو كفر‪ ،‬كرضا الكفار بالشرك‪ ،‬وقتل‬
‫حَب َ‬
‫ط‬ ‫ضَواَنُه َفَأ ْ‬
‫ل َوَكِرُهوا ِر ْ‬ ‫ط ا َّ‬‫خَ‬‫سَ‬ ‫ل ويكرهه‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬ذِل َ‬
‫ك ِبَأّنُهْم اّتَبُعوا َما َأ ْ‬ ‫النبياء وتكذيبهم‪ ،‬ورضاهم بما يسخطه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن‬ ‫ل برضاه وعمله فقد أسخط ا ّ‬ ‫َأْعَماَلُهْم{ ]محمد‪ ،[28 :‬فمن اتبع مـا أسخط ا ّ‬
‫الخطيئة إذا عملت في الرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها‪ ،‬ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب‬
‫عنها وأنكرها(‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪) :‬سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون‪ ،‬فمن أنكر فقد برئ‪ ،‬ومن كره‬
‫ن اْلَقْوِم‬
‫عْ‬ ‫ضى َ‬ ‫ل َيْر َ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫عْنُهْم َفِإ ّ‬
‫ضْوا َ‬
‫ن َتْر َ‬ ‫عْنُهْم َفِإ ْ‬
‫ضْوا َ‬ ‫ن َلُكْم ِلَتْر َ‬ ‫فقد سلم ولكن من رضى وتابع هلك(‪ .‬وقال تعالى‪َ} :‬ي ْ‬
‫حِلُفو َ‬
‫ل ويرضاه‪ ،‬وهو ل يرضى عنهم‪ .‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫اْلَفاِسِقيَن{ ]التوبة‪ [96 :‬فرضانا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه ا ّ‬
‫ل‪ .‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ضيُتْم ِباْلَحَياِة الّدْنَيا ِمْن اْلِخَرِة َفَما َمَتاُع اْلَحَياِة الّدْنَيا ِفي اْلِخَرِة ِإّل َقِليٌل{ ]التوبة‪ [38 :‬فهذا رضا قد ذمه ا ّ‬ ‫}َأَر ِ‬
‫ضا رضا مذموم‪ ،‬وسوى هذا‪ ،‬وهذا‬ ‫طَمَأّنوا ِبَها{ ]يونس‪ [7 :‬فهذا أي ً‬ ‫حَياِة الّدْنَيا َوا ْ‬
‫ضوا ِباْل َ‬
‫ن ِلَقاَءَنا َوَر ُ‬
‫جو َ‬
‫ل َيْر ُ‬
‫ن َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫}ِإ ّ‬
‫كثير‪.‬‬

‫ل ول هو مؤمن‬
‫فمن رضى بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره ومعاصيه ومعاصي غيره فليس هو متبًعا لرضا ا ّ‬
‫ل‪ .‬بل هو مسخط لربه‪ ،‬وربه غضبان عليه‪ ،‬لعن له‪ ،‬ذام له‪ ،‬متوعد له بالعقاب‪.‬‬
‫با ّ‬

‫ل التي يأمر بها المشائخ المهتدون‪ :‬إنما هي المر بطاعة الّ والنهي عن معصيته‪ .‬فمن أمر أو استحب أو‬ ‫وطريق ا ّ‬
‫ل وهو يصد عن سبيل ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل ل ولى ّ‬ ‫ل ويذمه وينهى عنه ويعاقب أصحابه فهو عدو ّ‬ ‫مدح الرضا الذي يكرهه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ومنه ما يكرهه‬
‫وطريقه‪ ،‬ليس بسالك لطريقه وسبيله‪ .‬وإذا كان الرضا الموجود في بني آدم منه ما يحبه ا ّ‬
‫ويسخطه‪ ،‬ومنه ما هو مباح ل من هذا ول من هذا‪ ،‬كسائر أعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك‪ ،‬كلها تنقسم‬
‫ل مباح‪.‬‬
‫ل ومكروه ّ‬‫إلى محبوب ّ‬

‫ل الجنة واستعاذته من‬ ‫ل الجنة ول يستعيذه من النار يقال له‪ :‬سؤال ا ّ‬


‫‪/‬فإذا كان المر كذلك فالراضي الذي ل يسأل ا ّ‬
‫النار إما أن تكون واجبة‪ ،‬وإما أن تكون مستحبة‪ ،‬وإما أن تكون مباحة‪ ،‬وإما أن تكون مكروهة‪ ،‬ول يقول مسلم‪ :‬إنها‬
‫ضا مباحة مستوية الطرفين‪ .‬ولو قيل‪ :‬إنها كذلك ففعل المباح المستوى الطرفين ل‬ ‫محرمة ولمكروهة‪ ،‬وليست أي ً‬
‫ينافي الرضا؛ إذ ليس من شرط الراضي أل يأكل ول يشرب ول يلبس ول يفعل أمثال هذه المور‪ ،‬فإذا كان ما يفعله‬
‫من هذه المور ل ينافي رضاه‪ ،‬أينافي رضاه دعاء وسؤال هو مباح؟! وإذا كان السؤال والدعاء كذلك واجبا أو‬
‫ل ل يفعل ما‬‫ل يرضى بفعل الواجبات والمستحبات‪ ،‬فكيف يكون الراضي الذي من أولياء ا ّ‬ ‫مستحبا فمعلوم أن ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ل ل أولياء ا ّ‬
‫يرضاه ويحبه؛ بل يفعل ما يسخطه ويكرهه وهذه صفة أعداء ا ّ‬

‫ل الذي أمـر بالرضا‬ ‫والقشيري قد ذكره في أوائل باب الرضا فقال‪ :‬اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بقضاء ا ّ‬
‫به‪ ،‬إذ ليس كـل ماهو بقضائه يجـوز للعبد أو يجب على العبد الرضا به‪ .‬كالمعاصي وفنون محن المسلمين‪ .‬وهذا‬
‫الذي قاله‪ ،‬قاله قبله وبعده ومعه غير واحد من العلماء‪ :‬كالقاضي أبي بكر‪ ،‬والقاضي أبي يعلى وأمثالهما‪ ،‬لمـا احتج‬
‫ل لكنا مأمورين بالرضا بها‪ ،‬والرضـا‬‫ل مأمور به‪ ،‬فلو كانت المعاصي ‪ /‬بقضاء ا ّ‬‫عليهم القدرية بأن الرضا بقضاء ا ّ‬
‫ل عنه ل يجـوز فأجابهم أهـل السنة عن ذلك بثلثة أجوبة‪:‬‬‫بما نهى ا ّ‬

‫أحدها ـ وهو جواب هؤلء وجماهير الئمة ـ‪ :‬أن هذا العموم ليس بصحيح‪ ،‬فلسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضى‬
‫ل ورسوله‪.‬‬
‫وقدر‪ ،‬ولم يجئ في الكتاب والسنة أمر بذلك‪ ،‬ولكن علينا أن نرضي بما أمرنا أن نرضى به‪ ،‬كطاعة ا ّ‬
‫وهذا هو الذي ذكره أبو القاسم‪.‬‬

‫ل أو فعله ل بالمقضي الذي هو مفعوله‪ .‬وفي هذا‬


‫والجواب الثاني‪ :‬أنهم قالوا‪ :‬إنا نرضى بالقضاء الذي هو صفة ا ّ‬
‫الجواب ضعف قد بيناه في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أنهم قالوا‪ :‬هذه المعاصي لها وجهان‪ :‬وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه‪ ،‬ووجه إلى الرب من‬
‫ل‪ ،‬ول يرضى من الوجه الذي يضاف به‬ ‫حيث هو خلقها وقضاها وقدرها‪ ،‬فيرضى من الوجه الذي يضاف به إلى ا ّ‬
‫إلى العبد‪ ،‬إذ كونها شًرا وقبيحة ومحرًما وسبًبا للعذاب والذم ونحو ذلك إنما هو من جهة كونها مضافة إلى العبد‪.‬‬
‫وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والسرار ما قد ذكرنا منه ما قد ذكرناه في غيرهذا الموضع‪ ،‬ول يحتمله هذا المكان‪.‬‬
‫فإن ‪ /‬هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر‪ ،‬وهي من أعظم مطالب الدين وأشرف علوم الولين والخرين وأدقها على‬
‫عقول أكثر العالمين‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن مشائخ الصوفية والعلماء وغيرهم قد بينوا أن من الرضا ما يكون جائًزا‪ ،‬ومنه مال يكون جائًزا‬
‫ضا‪.‬‬
‫فضل عن كونه مستحًبا أو من صفات المقربين‪ ،‬وإن أبا القاسم ذكر ذلك في ]الرسالة[ أي ً‬

‫ل الجنة ول تستعيذه من النار؟‬


‫فإن قيل‪ :‬هذا الذي ذكـرتموه أمر بين واضح‪ ،‬فمن أين غلط من قال‪ :‬الرضـا أل تسأل ا ّ‬
‫وغلـط من يستحسن مثل هـذا الكلم كائنا من كان؟‪.‬‬

‫قيل‪ :‬غلطوا في ذلك لنهم رأوا أن الراضي بأمر ل يطلب غير ذلك المر‪ ،‬فالعبد إذا كان في حال من الحوال فمن‬
‫رضاه أل يطلب غير تلك الحال‪ ،‬ثم إنهم رأوا أن أقصى المطالب الجنة‪ ،‬وأقصى المكاره النار‪ .‬فقالوا‪ :‬ينبغي أليطلب‬
‫شيًئا ولو أنه الجنة ول يكره ما يناله‪ ،‬ولو أنه النار‪ ،‬وهذا وجه غلطهم‪ ،‬ودخل عليهم الضلل من وجهين‪:‬‬

‫ل‪ ،‬فجعلوا الرضا‬‫ل ويرضاه ‪ /‬وأن هذا من أعظم طرق أولياء ا ّ‬ ‫أحدهما‪ :‬ظنهم أن الرضا بكل ما يكون أمر يحبه ا ّ‬
‫ل إنمـا هي أن‬
‫ل مبيًنا والطـريق إلى ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فضلوا ضل ً‬
‫بكل حادث وكائن أو بكل حال يكون فيها للعبد طريًقا إلى ا ّ‬
‫ترضيه بأن تفعـل مايحبه ويرضاه ليس أن ترضى بكل مـا يحدث ويكـون‪ ،‬فإنه هو لـم يأمـرك بذلـك‪ ،‬ول رضيه لـك‬
‫ول أحبه؛ بـل هـو ـ سبحانه ـ يكـره ويسخـط ويبغض عـلى أعيـان أفعال موجـودة ل يحصيها إل هو‪ ،‬وولية ا ّ‬
‫ل‬
‫موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض‪ ،‬وتكره ما يكره‪ ،‬وتسخط ما يسخط‪ ،‬وتوالي من يوالي‪ ،‬وتعادي من‬
‫ل قد‬
‫يعادي‪ ،‬فإذا كنت تحب وترضى ما يكرهه ويسخطه كنـت عدوه ل ولّيه‪ ،‬وكان كل ذم نال من رضى ما أسخط ا ّ‬
‫نالك‪.‬‬

‫ل‪.‬‬
‫فتدبر هذا؛ فإنه ينبه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من ل يحصيهم إل ا ّ‬

‫الوجه الثاني‪ :‬أنهم ل يفرقون بين الدعاء الذي أمروا به أمر إيجاب‪ ،‬وأمر استحباب‪ ،‬وبين الدعاء الذي نهوا عنه‪ ،‬أو‬
‫لم يؤمروا به ولم ينهوا عنه‪ ،‬فإن دعاء العبد لربه ومسألته إياه ثلثة أنواع‪:‬‬

‫ط اْلُمْسَتِقيَم{ ]الفاتحة‪ ،[6 :‬ومثل دعائه‬


‫صَرا َ‬‫نوع أمر العبد به إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب‪ :‬مثل ‪ /‬قوله‪} :‬اْهِدَنا ال ّ‬
‫في آخر الصلة كالدعاء الذي كان النبي صلى ال عليه وسلم يأمر به أصحابه فقال‪) :‬إذا قعد أحدكم في الصلة‬
‫ل من أربع‪ :‬من عذاب جهنم‪ ،‬وعذاب القبر‪ ،‬وفتنة المحيا والممات‪ ،‬وفتنة المسيح الدجال(‪ .‬فهذا دعاء‬ ‫فليستعذ با ّ‬
‫ل ورسوله‬ ‫أمرهم النبي صلى ال عليه وسلم أن يدعوا به في آخر صلتهم‪ .‬وقد اتفقت المة على أنه مشروع يحبه ا ّ‬
‫ل عنه‪ ،‬والكثرون قالوا‪:‬‬‫ويرضاه‪ ،‬وتنازعوا في وجوبه‪ .‬فأوجبه طاووس وطائفة‪ ،‬وهو قول في مذهب أحمد رضي ا ّ‬
‫هذا مستحب‪ ،‬والدعية التي كان النبي صلى ال عليه وسلم يدعو بها‪ :‬ل تخرج عن أن تكون واجبة‪ ،‬أو مستحبة‪،‬‬
‫ل عنه وأرضاه ـ فهل يكون من الرضا‬ ‫ل ويرضاه‪ ،‬ومن فعله ـ رضي ا ّ‬ ‫وكل واحد من الواجب والمستحب يحبه ا ّ‬
‫ترك ما يحبه ويرضاه؟!‬

‫ونوع من الدعاء ينهي عنه‪ :‬كالعتداء مثل أن يسأل الرجل مال يصلح من خصائص النبياء‪ ،‬وليس هو بنبي‪ ،‬وربما‬
‫هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى‪ .‬مثل أن يسأل لنفسه الوسيلة التي ل تصلح إل لعبد من عباده‪ ،‬أو يسأل ا ّ‬
‫ل‬
‫تعالى أن يجعله بكل شيء عليًما‪ ،‬أو على كل شيء قدير‪ ،‬وأن يرفع عنه كل حجاب يمنعه من مطالعة الغيوب‪ .‬وأمثال‬
‫ذلك‪ ،‬أو مثل من يدعوه ظاًنا أنه محتاج إلى عباده؛ وأنهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب منه ذلك الفعل‪ ،‬ويذكر أنه إذا لم‬
‫يفعله ‪ /‬حصل له من الخلق ضير‪ .‬وهذا ونحوه جهل بال واعتداء في الدعاء‪ .‬وإن وقع في ذلك طائفة من الشيوخ‪.‬‬
‫ومثل أن يقولوا‪ :‬اللهم اغفر لي إن شئت‪ ،‬فيظن أن ال قد يفعل الشىء مكرها‪ ،‬وقد يفعل مختاًرا‪ ،‬كالملوك‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫اغفر لي إن شئت‪ ،‬وقد نهي النبي صلى ال عليه وسلم عن ذلك وقال‪) :‬ل يقل أحدكم‪ :‬اللهم اغفر لي إن شئت‪ ،‬اللهم‬
‫ارحمني إن شئت‪ ،‬ولكن ليعزم المسألة؛ فإن ال ل مكره له(‪ ،‬ومثل أن يقصد السجع في الدعاء ويتشهق ويتشدق‪،‬‬
‫وأمثال ذلك فهذه الدعية ونحوها منهي عنها‪.‬‬

‫ومن الدعاء ما هو مباح كطلب الفضول التي لمعصية فيها‪.‬‬

‫والمقصود أن الرضا الذي هو من طريق ال ل يتضمـن ترك واجب ول ترك مستحب‪ ،‬فالدعاء الذي هو واجب أو‬
‫مستحب ل يكون تركه من الرضا‪ ،‬كما أن ترك سائر الواجبات ل يكون من الرضا المشروع‪ ،‬ول فعل المحرمات‬
‫من المشروع‪ .‬فقد تبين غلط هؤلء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور‪ ،‬ومن جهة أنهم لم يميزوا بين‬
‫الدعاء المشروع إيجابا‪ ،‬واستحبابا‪ ،‬والدعاء غير المشروع‪.‬‬

‫وقد علم بالضطرار من دين السلم أن طلب الجنة من ال‪ ،‬والستعاذة به من النار‪ ،‬هو من أعظم الدعية‬
‫المشروعة لجميع المرسلين ‪ /‬والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪ ،‬وأن ذلك ل يخرج عن كونه واجًبا أو‬
‫مستحبا‪ ،‬وطريق أولياء ال التي يسلكونها ل تخرج عن فعل واجبات ومستحبات؛ إذ ما سوي ذلك محرم أو مكروه أو‬
‫مباح ل منفعة فيه في الدين‪.‬‬

‫ثم إنه لما أوقع هؤلء في هـذا الغلط أنهـم وجـدوا كثيـًرا من الناس ل يسألون ال جلب المنافع‪ ،‬ودفع المضار‪ ،‬حتى‬
‫طلب الجنة‪ ،‬والستعاذة من النار‪ ،‬من جهة كون ذلك عبادة وطاعة وخيًرا‪ ،‬بل من جهة كون النفس تطلب ذلك‪ ،‬فرأوا‬
‫أن من الطريق ترك ما تختاره النفس وتريـده‪ ،‬وأل يكـون لحـدهم إرادة أصـل‪ ،‬بـل يكـون مطلـوبه الجريان تحت‬
‫القدر ـ كائًنا من كان ـ وهذا هو الذي أدخل كثيًرا منهم في الرهبانية‪ ،‬والخروج عن الشرعية‪ ،‬حتى تركوا من الكل‬
‫والشرب واللباس والنكاح ما يحتاجون إليه‪ ،‬وما ل تتم مصلحة دينهم إل به؛ فإنهم رأوا العامة تعد هذه المور بحكم‬
‫الطبع والهوى والعادة‪ ،‬ومعلوم أن الفعال التي على هذا الوجه ل تكون عبادة ول طاعة ول قربة‪ ،‬فرأي أولئك‬
‫الطريق إلي ال ترك هذه العبادات‪ ،‬والفعال الطبعيات‪ ،‬فلزموا من الجوع والسهر والخلوة والصمت وغير ذلك مما‬
‫فيه ترك الحظوظ واحتمال المشاق‪ ،‬ما أوقعهم في ترك واجبات ومستحبات‪ ،‬وفعل مكروهات ومحرمات‪.‬‬
‫ل‪ :‬طريق المفرطين الذين فعلوا هذه الفعال المحتاج‬ ‫‪/‬وكل المرين غير محمود‪ ،‬ول مأمور به‪ ،‬ول طريق إلى ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وطريق المعتدين الذين تركوا هذه الفعال؛ بل المشروع أن تفعل بنية‬ ‫إليها على غير وجه العبادة‪ ،‬والتقرب إلى ا ّ‬
‫حا{ ]المؤمنون‪ ،[51 :‬وقال تعالى‪ُ} :‬كُلوا‬ ‫صاِل ً‬
‫عَمُلوا َ‬
‫ت َوا ْ‬
‫طّيَبا ِ‬ ‫ل تعالى‪ُ} :‬كُلوا ِم ْ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ل‪ .‬قال ا ّ‬‫ل‪ ،‬وأن يشكر ا ّ‬ ‫التقرب إلى ا ّ‬
‫ل{ ]البقرة‪ ،[172 :‬فأمر بالكل والشرب‪ ،‬فمن أكل ولم يشكر كان مذموًما‪ ،‬ومن لم‬ ‫شُكُروا ِّ‬
‫ت َما َرَزْقَناُكْم َوا ْ‬
‫طّيَبا ِ‬
‫ن َ‬
‫ِم ْ‬
‫ل ليرضى عن العبد أن يأكل‬ ‫يأكل ولم يشكر كان مذموًما‪ ،‬وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إن ا ّ‬
‫الكلة فيحمده عليها‪ ،‬ويشرب الشربة فيحمده عليها(‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم لسعد‪) :‬إنك لن تنفق نفقة تبتغي‬
‫ضا أنه قال‪) :‬نفقة‬
‫ي امرأتك(‪ ،‬وفي الصحيح أي ً‬ ‫ل‪ ،‬إل ازددت بها درجة ورفعة‪ ،‬حتى اللقمة تضعها في ف ّ‬ ‫بها وجه ا ّ‬
‫ل جلب المنفعة له ودفع المضرة عنه‬ ‫المؤمن على أهله يحتسبها صدقة(‪ .‬فكذلك الدعية هنا من الناس من يسأل ا ّ‬
‫عا‬
‫عا وعبادة‪ ،‬فليس من المشروع أن أدع الدعاء مطلًقا لتقصيرهذا وتفريطه؛ بل أفعله أنا شر ً‬ ‫طبًعا وعادة ل شر ً‬
‫وعبادة‪.‬‬

‫عا وعبادة إنما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه‬ ‫ثم اعلم أن الذي يفعله شر ً‬
‫ل َرّبَنا آِتَنا ِفي‬
‫ن َيُقو ُ‬
‫س َم ْ‬ ‫وآخرته؛ بخلف ‪ /‬الذي يفعله طبًعا فإنه إنما يطلب مصلحة دنياه فقط‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬فِم ْ‬
‫ن الّنا ِ‬
‫صي ٌ‬
‫ب‬ ‫ك َلُهْم َن ِ‬
‫ب الّناِر‪ُ .‬أْوَلِئ َ‬
‫عَذا َ‬
‫سَنًة َوِقَنا َ‬
‫حَ‬
‫خَرةِ َ‬
‫لِ‬
‫سَنًة َوِفي ا ْ‬
‫حَ‬‫ل َرّبَنا آِتَنا ِفي الّدْنَيا َ‬
‫ن َيُقو ُ‬
‫ق‪َ .‬وِمْنُهْم َم ْ‬
‫لٍ‬‫خَ‬
‫ن َ‬
‫خَرِة ِم ْ‬
‫الّدْنَيا َوَما َلُه ِفي ال ِ‬
‫ب{ ]البقرة‪ [200-202 :‬وحينئذ فطالب الجنة والمستعيذ من النار إنما يطلب حسنة الخرة‬
‫سا ِ‬
‫حَ‬
‫سِريُع اْل ِ‬
‫ل َ‬
‫سُبوا َوا ُّ‬
‫ِمّما َك َ‬
‫فهو محمود‪.‬‬

‫ومما يبين المر في ذلك أن يرد قول هؤلء‪ :‬بأن العبد ل يفعل مأموًرا ول يترك محظوًرا‪ .‬فل يصلي ول يصوم ول‬
‫يتصدق‪ ،‬ول يحج ول يجاهد ول يفعل شيًئا من القربات‪ ،‬فإن ذلك إنما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب‪ .‬فإذا كان‬
‫هو ل يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة‪ ،‬ول دفع العقاب الذي هو النار‪ ،‬فل يفعل مأموًرا‪ ،‬ول يترك محظوًرا‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬أنا راض بكل ما يفعله بي وإن كفرت وفسقت وعصيت؛ بل يقول‪ :‬أنا أكفر وأفسق وأعصى حتى يعاقبني‬
‫وأرضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه‪ ،‬وهذا قول من هو من أجهل الخلق وأحمقهم وأضلهم وأكفرهم‪.‬‬

‫أما جهله وحمقه؛ فلن الرضى بذلك ممتنع متعذر؛ لن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين‪.‬‬

‫ل الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه‪.‬‬


‫‪/‬وأما كفره؛ فلنه مستلزم لتعطيل دين ا ّ‬

‫ول ريب أن ملحظة القضاء والقدر‪ ،‬أوقعت كثيًرا من أهل الرادة من المتصوفة في أن تركوا من المأمور وفعلوا‬
‫من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين‪ ،‬وإما عاصين فاسقين‪ ،‬وإما كافرين‪ ،‬وقد رأيت من ذلك ألوانا‪.‬‬
‫ل َلُه ُنوًرا َفَما َلُه ِمْن ُنوٍر{ ]النور‪.[40 :‬‬
‫ل ا ُّ‬
‫جَع ْ‬
‫ن َلْم َي ْ‬
‫}َوَم ْ‬

‫وهؤلء المعتزلة ونحوهم من القدرية طرفا نقيض ـ هؤلء يلحظون القدر ويعرضون عن المر‪ .‬وأولئك يلحظون‬
‫المر ويعرضون عن القدر ـ والطائفتان تظن أن ملحظة المر والقدر متعذر‪ .‬كما أن طائفة تجعل ذلك مخالًفا‬
‫للحكمة والعدل‪ .‬وهذه الصناف الثلثة هي‪ :‬القدرية المجوسية‪ ،‬والقدرية المشركية؛ والقدرية البليسية؛ وقد بسطنا‬
‫الكلم عليهم في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫وأصل ما يبتلى به السالكون أهل الرادة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركية‪ ،‬فيشهدون القدر ويعرضون‬
‫عن المر‪ ،‬كما قال فيهم بعض العلماء‪ :‬أنت عند الطاعة قدري‪ ،‬وعند المعصية جبري‪ ،‬أي مذهب وافق هواك‬
‫ل عليهـا قبل الفعـل‪ ،‬ويشكره عليها بعد‬
‫تمذهبت به‪ .‬وإنما المشروع العكس‪ ،‬وهو أن يكون عند الطاعة يستعين ا ّ‬
‫الفعل ‪ /‬ويجتهد أل يعصى فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والستغفار‪ ،‬كما في حديث سيد الستغفار‪) :‬أبوء لك‬
‫بنعمتك علي‪ ،‬وأبوء بذنبي(‪ ،‬وكما في الحديث الصحيح اللهي‪) :‬ياعبادي‪ ،‬إنماهي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم‬
‫ل‪ ،‬ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل نفسه(‪.‬‬
‫إياها‪ ،‬فمن وجد خيًرا فليحمد ا ّ‬

‫ومن هذا الباب دخل قوم من أهل الرادة في ترك الدعاء‪ ،‬وآخرون جعلوا التوكل والمحبة من مقامات العامة‪ ،‬وأمثال‬
‫هذه الغاليط التي تكلمنا عليها في غير هذا الموضع‪ ،‬وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك؛ ولهذا يوجد في كلم‬
‫ل التستري‪ :‬كل وجد ل يشهد له الكتاب والسنة‬ ‫هؤلء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة‪ ،‬حتى قال سهل بن عبد ا ّ‬
‫فهو باطل‪ .‬وقال الجنيد بن محمد‪ :‬علمنا مقيد بالكتاب والسنة؛ فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث ل يصح أن يتكلم في‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫علمنا‪ ،‬وا ّ‬

‫ما تقول السادة العلماء فيمن عزم على فعل محرم‪ ،‬كالزنا والسرقة‪ ،‬وشرب الخمر عزًما جازًما فعجز عن‬ ‫‪/‬‬
‫فعله‪ :‬إما بموت‪ ،‬أو غيره‪ .‬هل يأثم بمجرد العزم أم ل؟ وإن قلتم‪ :‬يأثم‪ ،‬فما جواب من يحتج على عدم الثم بقوله‪) :‬إذا‬
‫ل تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها‪ ،‬مالم تعمل أو‬‫هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه) )‪(1‬وبقوله‪ ( :‬إن ا ّ‬
‫تتكلم( واحتج به من وجهين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنه أخبر بالعفو عن حديث النفس‪ ،‬والعزم داخل في العموم والعزم والهم واحد‪ .‬قاله ابن سيده‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أنه جعل التجاوز ممتدا إلى أن يوجد كلم أوعمل‪ ،‬وما قبل ذلك داخل في حد التجاوز‪ ،‬ويزعم أل دللة في‬
‫قول النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار(؛ لن الموجب لدخول‬
‫المقتول في النار مواجهته أخيه‪ ،‬لنه عمل ل مجرد قصد‪ ،‬وأل دللة في قوله صلى ال عليه وسلم في الذي قال‪) :‬لو‬
‫أن لي مال لفعلت وفعلت‪ ،‬إنهما في الثم سواء وفي الجر سواء(؛ لنه تكلم‪ / ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬ما‬
‫ل مكشوًفا مستوًفا‪.‬‬
‫لم تعمل به أو تتكلم( وهذا قد تكلم‪ ،‬وقد وقع في هذه المسألة كلم كثير‪ .‬واحتيج إلى بيانها مطو ً‬

‫ل روحه ونور ضريحه‪:‬‬


‫فأجاب شيخ السلم ابن تيمية ـ قدس ا ّ‬

‫ل‪ ،‬هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكلم في حكمها إلى حسن التصور لها‪ ،‬فإن اضطراب الناس في هذه‬
‫الحمد ّ‬
‫المسائل وقع عامته من أمرين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬عدم تحقيق أحوال القلوب وصفاتها‪ ،‬التي هي مورد الكلم‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬عدم إعطاء الدلة الشرعية حقها‪ ،‬ولهذا كثر اضطراب كثير من الناس في هذا الباب‪ ،‬حتى يجد الناظر في‬
‫كلمهم أنهم يدعون إجماعات متناقضة في الظاهر‪.‬‬

‫فينبغي أن يعلم أن كل واحـد من صفات الحي التي هي العلم والقدرة والرادة ونحوها له من المراتب ما بين أوله‬
‫وآخره مال يضبطه العباد‪ :‬كالشك‪ ،‬ثم الظن‪ ،‬ثم العلم‪ ،‬ثم اليقين‪ ،‬ومراتبه؛ وكذلك الهم والرادة والعزم وغير ذلك؛‬
‫ولهذا كان الصواب عند جماهير أهل السنة ـ وهو ‪ /‬ظاهر مذهب أحمـد‪ ،‬وهو أصح الروايتين عنه‪ ،‬وقول أكثر‬
‫أصحابه ـ أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان‪ ،‬بل وكذلك الصفات التي تقوم بغير الحي‪ :‬كاللوان‬
‫ل‪ :‬الرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها‪ ،‬إذا كانت القدرة حاصلة فإنه متى‬ ‫والطعوم والرواح‪ .‬فنقول أو ً‬
‫وجدت الرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل‪ ،‬لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم‪،‬‬
‫ومتي وجدت الرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الرادة جازمة‪ ،‬وهو إرادات الخلق لما يقدرون عليه من‬
‫الفعال‪ ،‬ولم يفعلوه‪ ،‬وإن كانت هذه الرادات متفاوتة في القوة والضعف تفاوًتا كثيًرا؛ لكن حيث لم يقع الفعل المراد‬
‫مع وجود القدرة التامة فليست الرادة جازمة جزًما تاًما‪.‬‬

‫وهذه المسألة إنما كثر فيها النزاع؛ لنهم قدروا إرادة جازمة للفعل ل يقترن بها شىء من الفعل‪ ،‬وهذا ل يكون‪ .‬وإنما‬
‫يكون ذلك في العزم على أن يفعل‪ ،‬فقد يعزم على الفعل في المستقبل من ل يفعل منه شيئا في الحال‪ ،‬والعزم على أن‬
‫يفعل في المستقبل ل يكفي في وجود الفعل‪ ،‬بل لبد عند وجوده من حدوث تمام الرادة المستلزمة للفعل‪ ،‬وهذه هي‬
‫الرادة الجازمة‪.‬‬

‫والرادة الجازمة إذا فعل معها النسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام‪ :‬له ثواب الفاعل التام‪،‬‬
‫وعقاب الفاعل التام ‪ /‬الذي فعل جميع الفعل المراد‪ ،‬حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته‪ ،‬مثل‬
‫سان‬
‫المشتركين والمتعاونين على أفعال البر‪ ،‬ومنها ما يتولد عن فعل النسان كالداعي إلى هدى أو إلى ضللة‪ ،‬وال ّ‬
‫سنة حسنة‪ ،‬وسنة سيئة‪ ،‬كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬من دعا إلى هدى كان له‬ ‫ّ‬
‫من الجر مثل أجور من تبعه‪ ،‬من غير أن ينقص من أجورهم شيء‪ ،‬ومن دعا إلى ضللة كان عليه من الوزر مثل‬
‫أوزار من تبعه‪ ،‬من غير أن ينقص أوزارهم شىء(‪ ،‬وثبت عنه في الصحيحين أنه قال‪) :‬من سن سنة حسنة كان له‬
‫أجرها‪ ،‬وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة‪ ،‬من غير أن ينقص من أجورهم شيء(‪.‬‬

‫فالداعي إلى الهدى وإلى الضللة‪ ،‬هو طالب مريد كامل الطلب والرادة لما دعا إليه‪ ،‬لكن قدرته بالدعاء والمر‪،‬‬
‫ل تعالى في كتابه بين الفعال المباشرة والمتولدة فقال‪َ} :‬ذِل َ‬
‫ك ِبَأّنُهْم َ‬
‫ل‬ ‫وقدرة الفاعل بالتباع والقبول؛ ولهذا قرن ا ّ‬
‫عَم ٌ‬
‫ل‬ ‫ب َلُهْم ِبِه َ‬
‫ل ُكِت َ‬ ‫ل ِإ ّ‬‫عُدّو َنْي ً‬
‫ن َ‬ ‫ن ِم ْ‬‫ل َيَناُلو َ‬
‫ظ اْلُكّفاَر َو َ‬
‫طًئا َيِغي ُ‬
‫ن َمْو ِ‬‫طُئو َ‬
‫ل َي َ‬
‫ل َو َ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬‫صٌة ِفي َ‬‫خَم َ‬ ‫ل َم ْ‬ ‫ب َو َ‬‫ص ٌ‬ ‫ل َن َ‬
‫ظَمٌأ َو َ‬
‫صيُبُهْم َ‬‫ُي ِ‬
‫ن َما َكاُنوا‬
‫سَ‬‫حَ‬‫ل َأ ْ‬‫جِزَيُهْم ا ُّ‬‫ب َلُهْم ِلَي ْ‬
‫ل ُكِت َ‬
‫ن َواِدًيا ِإ ّ‬‫طُعو َ‬‫ل َيْق َ‬
‫ل َكِبيَرًة َو َ‬
‫صِغيَرًة َو َ‬
‫ن َنَفَقًة َ‬‫ل ُينِفُقو َ‬
‫ن‪َ .‬و َ‬
‫سِني َ‬
‫حِ‬‫جَر اْلُم ْ‬‫ضيُع َأ ْ‬
‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬
‫ح ِإ ّ‬
‫صاِل ٌ‬
‫َ‬
‫َيْعَمُلوَن{ ]التوبة‪.[121 ،120 :‬‬

‫فذكر في الية الولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة‪ / ،‬وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب‪،‬‬
‫صاِلٌح{‪ ،‬فأخبر أن هذه المور التي‬ ‫ل َ‬ ‫عَم ٌ‬ ‫وما يحصل للكفار بهم من الغيظ‪ ،‬وما ينالونه من العدو‪ .‬وقال‪ُ} :‬كِت َ‬
‫ب لَُهْم ِبِه َ‬
‫تحدث وتتولد من فعلهم وفعل آخر منفصل عنهم يكتب لهم بها عمل صالح‪ ،‬وذكر في الية الثانية نفس أعمالهم‬
‫ب َلُهْم{ فإن هذه نفسها عمل‬ ‫المباشرة التي باشروها بأنفسهم‪ :‬وهي النفاق‪ ،‬وقطع المسافة‪ ،‬فلهذا قال فيها‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ل ُكِت َ‬
‫ل هي العليا‪،‬‬‫ل‪ ،‬وأن تكون كلمة ا ّ‬ ‫صالح‪ ،‬وإرادتهم في الموضعين جازمة على مطلوبهم الذي هو أن يكون الدين كله ّ‬
‫فما حدث مع هذه الرادة الجازمة من المور التي تعين فيها قدرتهم بعض العانة هي لهم عمل صالح‪.‬‬

‫وكذلك الداعي إلى الهدى والضللة‪ ،‬لما كانت إرادته جازمة كاملة في هدي التباع وضللهم‪ ،‬وأتى من العانة على‬
‫ذلك بما يقدر عليه‪ ،‬كان بمنزلة العامل الكامل‪ ،‬فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه‪ :‬للهادي مثل أجور المهتدين‪،‬‬
‫وللمضل مثل أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة؛ فإن السنة هي ما رسم للتحري‪ ،‬فإن السان كامل‬
‫الرادة لكل ما يفعل من ذلك‪ ،‬وفعله بحسب قدرته ‪.‬‬

‫ومن هذا‪ :‬قوله في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ل تقتل نفس ظلًما إل‬
‫كان على ابن آدم الول كفل من دمها؛ لنه أول من سن القتل(‪ ،‬فالكفل ‪ /‬النصيب مثل نصيب القاتل‪ .‬كما فسره‬
‫الحديث الخر‪ ،‬وهو كما استباح جنس قتل المعصوم‪ ،‬لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة‪ ،‬فصار شريًكا في‬
‫ض َفَكَأّنَما َقَت َ‬
‫ل‬ ‫لْر ِ‬
‫ساٍد ِفي ا َْ‬
‫س َأْو َف َ‬
‫سا ِبَغْيِر َنْف ٍ‬
‫ل َنْف ً‬
‫ن َقَت َ‬
‫ل َأّنُه َم ْ‬
‫سَراِئي َ‬
‫عَلى َبِني ِإ ْ‬
‫ك َكَتْبَنا َ‬
‫ل َذِل َ‬
‫جِ‬ ‫قتل كل نفس‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ِ} :‬م ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫س َجِميًعا{ ]المائدة‪.[32 :‬‬ ‫حَيا الّنا َ‬
‫حَياَها َفَكَأّنَما َأ ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫س جَِميًعا َوَم ْ‬
‫الّنا َ‬

‫ت َقْوُم ُنوٍح اْلُمْرَسِليَن{ ]الشعراء‪:‬‬


‫ل معيًنا كان كتكذيب جنس الرسل‪ ،‬كما قيل فيه‪َ} :‬كّذَب ْ‬
‫ويشبه هذا أنه من كذب رسو ً‬
‫ت َعاٌد اْلُمْرَسِليَن{ ]الشعراء‪ [123 :‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫‪َ} [105‬كّذَب ْ‬

‫يءٍ‬
‫ش ْ‬
‫ن َ‬
‫طاَياُهْم ِم ْ‬
‫خَ‬
‫ن َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫حاِمِلي َ‬
‫طاَياُكْم َوَما ُهْم ِب َ‬
‫خَ‬
‫ل َ‬
‫حِم ْ‬
‫سِبيَلَنا َوْلَن ْ‬
‫ن آَمُنوا اّتِبُعوا َ‬
‫ن َكَفُروا ِلّلِذي َ‬ ‫ومن هذا الباب قوله تعالى‪َ} :‬وَقا َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ِإّنُهْم َلَكاِذُبوَن‪َ .‬وَلَيْحِمُلّن َأْثَقاَلُهْم َوَأْثَقاًل َمَع َأْثَقاِلِهْم َوَلُيْسَأُلّن َيْوَم اْلِقَياَمِة َعّما َكاُنوا َيْفَتُروَن{ ] العنكبوت‪ [13 ،12 :‬فأخبر أن أئمة‬
‫الضلل ل يحملون من خطايا التباع شيًئا‪ ،‬وأخبر أنهم يحملون أثقالهم‪ ،‬وهي أوزار التباع‪ ،‬من غير أن ينقص من‬
‫أوزار التباع شيء؛ لن إرادتهم كانت جازمة بذلك‪ ،‬وفعلوا مقدورهم‪ ،‬فصار لهم جزاء كل عامل؛ لن الجزاء على‬
‫العمل يستحق مع الرادة الجازمة‪ ،‬وفعل المقدور منه‪.‬‬

‫وهو كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان‪ / :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كتب إلى هرقل‪:‬‬
‫)فإن توليت فإن عليك إثم الريسيين(‪ ،‬فأخبر أن هرقل لما كان إمامهم المتبوع في دينهم أن عليه إثم الريسيين‪ ،‬وهم‬
‫التباع‪ ،‬وإن كان قد قيل‪ :‬أن أصل هذه الكلمة من الفلحين والكرة‪ ،‬كلفظ الطاء بالتركي‪ ،‬فإن هذه الكلمة تقلب إلى ما‬
‫هو أعم من ذلك‪ ،‬ومعلوم أنه إذا تولى عن اتباع الرسول كان عليه مثل آثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء كما‬
‫دل عليه سائر نصوص الكتاب والسنة‪.‬‬

‫ن َوَما‬‫سّرو َ‬ ‫ل َيْعَلُم َما ُي ِ‬


‫ن ا َّ‬‫جَرَم َأ ّ‬‫ل َ‬ ‫ن‪َ .‬‬ ‫سَتْكِبُرو َ‬
‫خَرِة ُقُلوُبُهْم ُمنكَِرةٌ َوُهْم ُم ْ‬
‫لِ‬‫ن ِبا ْ‬‫ل ُيْؤِمُنو َ‬
‫ن َ‬ ‫ومن هذا قوله تعالى‪ِ} :‬إَلُهُكْم ِإَلٌه َوا ِ‬
‫حٌد َفاّلِذي َ‬
‫ن َأْوَزاِر‬
‫حِمُلوا َأْوَزاَرُهْم َكاِمَلًة َيْوَم اْلِقَياَمِة َوِم ْ‬
‫ن‪ِ .‬لَي ْ‬
‫لّوِلي َ‬
‫طيُر ا َْ‬
‫سا ِ‬
‫ل َرّبُكْم َقاُلوا َأ َ‬
‫ل َلُهْم َماَذا َأنَز َ‬‫ن‪َ .‬وِإَذا ِقي َ‬‫سَتْكِبِري َ‬
‫ب اْلُم ْ‬
‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬
‫ن ِإّنُه َ‬
‫ُيْعِلُنو َ‬
‫ضّلوَنُهْم ِبَغْيِر ِعْلٍم{ ]النحل‪.[22-25 :‬‬ ‫ن ُي ِ‬ ‫اّلِذي َ‬

‫ضّلوَنُهم{ ]النحل‪ [25 :‬هي الوزار الحاصلة لضلل التباع‪ ،‬وهي حاصلة من جهة المر‪،‬‬
‫ن ُي ِ‬ ‫فقوله‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ن َأْوَزاِر اّلِذي َ‬
‫ومن جهة المأمور الممتثل‪ ،‬فالقدرتان مشتركتان في حصول ذلك الضلل؛ فلهذا كان علي هذا بعضه‪ ،‬وعلى هذا‬
‫بعضه‪ ،‬إل أن كل بعض من هذين البعضين هو مثل وزر عامل كامل‪ ،‬كما دلت عليه سائر النصوص‪ ،‬مثل قوله‪/ :‬‬
‫)من دعا إلى الضللة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة(‪.‬‬

‫حّتى ِإَذا‬
‫خَتَها َ‬
‫ت ُأ ْ‬
‫ت ُأّمٌة َلَعَن ْ‬
‫خَل ْ‬
‫س ِفي الّناِر ُكّلَما َد َ‬ ‫لن ِ‬ ‫ن َوا ِْ‬‫جّ‬ ‫ن اْل ِ‬
‫ن َقْبِلُكْم ِم ْ‬
‫ت ِم ْ‬
‫خَل ْ‬
‫خُلوا ِفي ُأَمٍم َقْد َ‬ ‫ومن هذا الباب قوله تعالى‪َ} :‬قا َ‬
‫ل اْد ُ‬
‫ن{‬ ‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫ن َ‬ ‫ف َوَلِك ْ‬
‫ضْع ٌ‬‫ل ِ‬ ‫ل ِلُك ّ‬
‫ن الّناِر َقا َ‬‫ضْعًفا ِم ْ‬
‫عَذاًبا ِ‬ ‫ضّلوَنا َفآِتِهْم َ‬‫لِء َأ َ‬‫لُهْم َرّبَنا َهُؤ َ‬
‫لو َ‬‫خَراُهْم ُِ‬
‫ت ُأ ْ‬
‫جِميًعا َقاَل ْ‬
‫اّداَرُكوا ِفيَها َ‬
‫]العراف‪.[38 :‬‬

‫فأخبر ـ سبحانه ـ أن التباع دعوا على أئمة الضلل بتضعيف العذاب‪ ،‬كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالى‪َ} :‬وَقاُلوا‬
‫ب َواْلَعْنُهْم َلْعًنا َكِبيًرا{ ]الحزاب‪.[68 ،67 :‬وأخبر ـ‬
‫ن اْلَعَذا ِ‬
‫ن ِم ْ‬
‫ضْعَفْي ِ‬
‫ل‪َ .‬رّبَنا آِتِهْم ِ‬
‫سِبي َ‬
‫ضّلوَنا ال ّ‬
‫ساَدَتَنا َوُكَبَراَءَنا َفَأ َ‬
‫طْعَنا َ‬
‫َرّبَنا ِإّنا َأ َ‬
‫سبحانه ـ أن لكل من المتبعين والتباع تضعيًفا من العذاب‪ .‬ولكن ل يعلم التباع التضعيف‪.‬‬

‫ولهذا وقع عظيم المدح والثناء لئمة الهدى‪ ،‬وعظيم الذم واللعنة لئمة الضلل‪ ،‬حتى روى في أثر ـ ل يحضرني‬
‫إسناده ـ‪) :‬أنه ما من عذاب في النار إل يبدأ فيه بإبليس ثم يصعد بعد ذلك إلى غيره‪ ،‬وما من نعيم في الجنة إل يبدأ فيه‬
‫بالنبي صلى ال عليه وسلم ثم ينتقل إلى غيره( فإنه هو المام المطلق في الهدى لول بني آدم وآخرهم‪ .‬كما قال‪) :‬أنا‬
‫سيد ولد آدم ول فخر‪ ،‬آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ‪ /‬ول فخر(‪ ،‬وهو شفيع الولين والخرين في الحساب‬
‫ل عليهم ميثاق اليمان به كما أخذ على كل نبي‬ ‫بينهم ؛ وهو أول من يستفتح باب الجنة‪ ،‬وذلك أن جميع الخلئق أخذ ا ّ‬
‫حْكَمٍة ُثّم‬
‫ب َو ِ‬
‫ن ِكَتا ٍ‬
‫ن َلَما آَتْيُتُكْم ِم ْ‬
‫ق الّنِبّيي َ‬
‫ل ِميَثا َ‬ ‫أن يؤمن بمن قبله من النبياء ؛ ويصدق بمن بعده‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وِإْذ َأ َ‬
‫خَذ ا ُّ‬
‫صُرّنُه{ الية ]آل عمران‪ .[81 :‬فافتتح الكلم باللم الموطئة للقسم التي يؤتي‬ ‫ن ِبِه َوَلَتْن ُ‬
‫ق ِلَما َمَعُكْم َلُتْؤِمُن ّ‬
‫صّد ٌ‬
‫ل ُم َ‬
‫سو ٌ‬
‫جاَءُكْم َر ُ‬
‫َ‬
‫بها إذا اشتمل الكلم على قسم وشرط؛ وأدخل اللم على ما الشرطية ليبين العموم‪ ،‬ويكون المعنى‪ :‬مهما آتيكم من‬
‫ل نبيا إل أخذ‬ ‫كتاب وحكمة فعليكم إذا جاءكم ذلك النبي المصدق اليمان به ونصره‪ .‬كما قال ابن عباس‪ :‬ما بعث ا ّ‬
‫عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ قد نوه بذكره وأعلنه في المل العلى‪ ،‬ما بين خلق جسد آدم ونفخ الروح فيه‪ ،‬كما في حديث ميسرة‬ ‫وا ّ‬
‫ل! متى كنت نبًيا؟ وفي رواية ـ متى كتبت نبًيا ؟ فقال‪) :‬وآدم بين الروح والجسد( رواه‬
‫الفجر قال‪ ، :‬قلت‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫أحمد‪ .‬وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫ل لخاتم النبيين‪ ،‬وإن آدم لمنجدل في طينته( الحديث‪.‬‬
‫قال‪) :‬إني عند ا ّ‬

‫ل وقدر في ذلك الوقت‪ ،‬وفي تلك الحال أمر إمام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق‬
‫‪/‬فكتب ا ّ‬
‫جسده ونفخ الروح فيه‪ ،‬كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود ‪.‬‬

‫فمن آمن به من الولين والخرين أثيب على ذلك‪ ،‬وإن كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظـم من‬
‫ثـواب من لم يأت إل باليمان المجمل‪ ،‬على أنه إمام مطلق لجميع الذرية‪ ،‬وإن له نصيبا من إيمان كل مؤمن من‬
‫الولين والخرين‪ ،‬كما أن كل ضلل وغواية في الجن والنس لبليس منه نصيب‪ ،‬فهذا يحقق الثر المروي ويؤيد‬
‫ل ـ إما من مراسيل الزهري‪ ،‬وإما‬
‫ما في نسخة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن النبي صلى ال عليه وسلم مرس ً‬
‫من مراسيل من فوقه من التابعين ـ قال‪) :‬بعثت داعًيا وليس إلى من الهداية شيء‪ ،‬وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس‬
‫إليه من الضللة شيء(‪.‬‬

‫ومما يدخل في هذا الباب من بعض الوجوه‪ :‬قوله في الحديث الذي في السنن‪) :‬وزنت بالمة فرجحت‪ ،‬ثم وزن أبو‬
‫بكر بالمة فرجح‪ ،‬ثم وزن عمر بالمة فرجح‪ ،‬ثم رفع الميزان(‪.‬‬

‫حا بالمة فظاهر ؛ لن له مثل أجر جميع المة مضافا إلى أجره‪ .‬وأما أبو‬ ‫فأما كون النبي صلى ال عليه وسلم راج ً‬
‫بكر وعمر؛ فلن لهما ‪ /‬معاونة مع الرادة الجازمة في إيمان المة كلها‪ ،‬وأبو بكر كان في ذلك سابًقا لعمر وأقوى‬
‫إرادة منه‪ ،‬فإنهما هما اللذان كانا يعاونان النبي صلى ال عليه وسلم على إيمان المة في دقيق المور وجليلها؛ في‬
‫محياه وبعد وفاته‪.‬‬

‫ولهذا سأل أبو سفيان يوم أحد‪ :‬أفي القوم محمد؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي‪) :‬ل‬
‫ل! إن الذي ذكرت لحياء وقد بقى‬ ‫تجيبوه(‪ .‬فقال‪ :‬أما هؤلء فقد كفيتموهم‪ .‬فلم يملك عمر نفسه أن قال‪ :‬كذبت ياعدو ا ّ‬
‫لك ما يسوؤك رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب‪ ،‬فأبو سفيان ـ رأس الكفر حينئذ ـ لم يسأل إل عن‬
‫هؤلء الثلثة؛ لنهم قادة المؤمنين‪ .‬كما ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب لما وضعت جنازة عمر قال‪ :‬والّ‬
‫ل مع صاحبيك‪،‬‬ ‫ل إني لرجو أن يحشرك ا ّ‬ ‫ل بعمله من هذا المسجي‪ ،‬وا ّ‬
‫ما على وجه الرض أحد أحب أن ألقي ا ّ‬
‫فإني كثيًرا ما كنت أسمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪) :‬دخلت أنا وأبو بكر وعمر‪ ،‬وخرجت أنا وأبو بكر وعمر‪،‬‬
‫وذهبت أنا وأبو بكر وعمر(‪.‬‬

‫وأمثال هذه النصوص كثيرة‪ ،‬تبين سبب استحقاقهما أن كان لهما مثل أعمال جميع المة‪ ،‬لوجود الرادة الجازمة مع‬
‫التمكن من القدرة ‪ /‬على ذلك كله‪ ،‬بخلف من أعان على بعض ذلك دون بعض‪ ،‬ووجدت منه إرادة في بعض ذلك‬
‫دون بعض‪.‬‬

‫ضا فالمريد إرادة جازمة مع فعل المقدور هو بمنزلة العامل الكامل‪ ،‬وإن لم يكن إماًما وداعًيا‪ ،‬كما قال سبحانه‪:‬‬
‫وأي ً‬
‫ن ِبَأْمَواِلِهْم‬
‫جاِهِدي َ‬
‫ل اْلُم َ‬
‫ل ا ُّ‬
‫ضَ‬
‫سِهْم َف ّ‬
‫ل ِبَأْمَواِلِهْم َوَأنُف ِ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن ِفي َ‬‫جاِهُدو َ‬ ‫ضَرِر َواْلُم َ‬
‫غْيُر ُأْوِلي ال ّ‬
‫ن َ‬‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن ِم ْ‬‫عُدو َ‬
‫سَتِوي اْلَقا ِ‬‫ل َي ْ‬
‫}َ‬
‫حَمًة‬
‫ت ِمْنُه َوَمْغِفَرًة َوَر ْ‬‫جا ٍ‬ ‫ظيًما‪َ .‬دَر َ‬
‫عِ‬‫جًرا َ‬ ‫ن َأ ْ‬‫عِدي َ‬‫عَلى اْلَقا ِ‬‫ن َ‬‫جاِهِدي َ‬
‫ل اْلُم َ‬
‫ل ا ُّ‬
‫ضَ‬‫سَنى َوَف ّ‬ ‫حْ‬
‫ل اْل ُ‬
‫عَد ا ُّ‬
‫ل َو َ‬
‫جًة َوُك ّ‬‫ن َدَر َ‬ ‫عِدي َ‬
‫عَلى اْلَقا ِ‬
‫سِهْم َ‬‫َوَأنُف ِ‬
‫ل َغُفوًرا َرِحيًما{ ]النساء‪.[96 ،95 :‬‬ ‫ن ا ُّ‬
‫َوَكا َ‬

‫ل ـ تعالى ـ نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز‪ ،‬ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز‪،‬‬ ‫فا ّ‬
‫بل يقال‪ :‬دليل الخطاب يقتضى مساواته إياه‪ .‬ولفظ الية صريح‪ .‬استثنى أولو الضرر من نفي المساواة‪ ،‬فالستثناء هنا‬
‫هو من النفي‪ ،‬وذلك يقتضي أن أولى الضرر قد يساوون القاعدين‪ ،‬وإن لم يساووهم في الجميع‪ ،‬ويوافقه ما ثبت عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك‪) :‬إن بالمدينة رجال ما سرتم مسيرا ول قطعتم واديا إل كانوا‬
‫معكم(‪ .‬قالوا‪ :‬وهم بالمدينة‪ .‬قال‪) :‬وهم بالمدينة حبسهم العذر(‪ ،‬فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إل العذر هو‬
‫مثل من معهم في هذه الغزوة‪ .‬ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته‪ / ،‬فكذلك‬
‫القاعدون الذين لم يحبسهم إل العذر‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إذا مرض العبد أو‬
‫سافر؛ كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم(‪ ،‬فإنه إذا كان يعمل في الصحة والقامة عمل ثم لم يتركه إل لمرض‬
‫أو سفر؛ ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة‪ ،‬ل لضعف النية وفتورها‪ ،‬فكان له من الرادة الجازمة التي لم‬
‫يتخلف عنها الفعل إل لضعف القدرة‪ ،‬ما للعامل والمسافر وإن كان قادًرا مع مشقة كذلك بعض المرض‪ ،‬إل أن القدرة‬
‫ع‬
‫طا َ‬
‫سَت َ‬
‫نا ْ‬
‫ت َم ْ‬
‫ج اْلَبْي ِ‬
‫حّ‬
‫س ِ‬
‫عَلى الّنا ِ‬ ‫الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ} :‬و ِّ‬
‫ل َ‬
‫طَعاُم ِسّتيَن ِمْسِكيًنا{ ]المجادلة‪ ،[4 :‬ونحو ذلك ليس المعتبر في‬ ‫طْع َفِإ ْ‬
‫سَت ِ‬ ‫ل{ ]آل عمران‪ ،[97 :‬وقوله‪َ} :‬فَم ْ‬
‫ن َلْم َي ْ‬ ‫سِبي ً‬
‫ِإَلْيِه َ‬
‫الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان‪ ،‬بل لبد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة‪ ،‬بل أو‬
‫مكافية‪.‬‬

‫ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬من جهز غازًيا فقد غزا‪ ،‬ومن خلفه في أهله بخير فقد‬
‫غزا(‪ ،‬وقوله‪) :‬من فطر صائًما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء(‪ ،‬فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس‪،‬‬
‫وجهاد بالمال‪ ،‬فإذا بذل هذا بدنه‪ ،‬وهذا ماله مع وجود الرادة الجازمة في كل منهما؛ كان كل منهما مجاهًدا ‪ /‬بإرادته‬
‫ضا غاز‪ ،‬وكذلك‬ ‫الجازمة ومبلغ قدرته‪ ،‬وكذلك لبد للغازي من خليفة في الهل‪ ،‬فإذا خلفه في أهله بخير فهو أي ً‬
‫الصيام لبد فيه من إمساك‪ ،‬ول بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم‪ ،‬وإل فالصائم الذي ل يستطيع العشاء ل يتمكن‬
‫من الصوم‪.‬‬

‫وكذلك قوله في الحديث الصحيح‪) :‬إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة‪ ،‬كان لها أجرها بما أنفقت‪ ،‬ولزوجها‬
‫مثل ذلك‪ ،‬ل ينقص بعضهم من أجور بعض شيًئا( وكذلك قوله في حديث أبي موسى‪) :‬الخازن المين الذي يعطي ما‬
‫أمر به كامل موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين( أخرجاه‪ .‬وذلك أن إعطاء الخازن المين الذي يعطي ما أمر به‬
‫موفًرا طيبة به نفسه ل يكون إل مع الرادة الجازمة الموافقة لرادة المر‪ ،‬وقد فعل مقدوره وهو المتثال‪ ،‬فكان أحد‬
‫المتصدقين‪.‬‬

‫ومن هذا الباب حديث أبي كبشة النماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إنما الدنيا‬
‫ل(‪ ،‬فقال رجل‪ :‬لو أن لي مثل فلن لعملت بعمله‪ ،‬فقال النبي‬‫ل علما ومال فهو يعمل فيه بطاعة ا ّ‬
‫لربعة‪ :‬رجل آتاه ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪) :‬فهما في الجر سواء(‪ ،‬وقد رواه الترمذي مطول‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪ ،‬فهذا التساوي‬
‫ل منه إرادة جازمة ل يتخلف عنها‬
‫مع )الجر والوزر( هو في حكاية حال من قال ذلك‪ / ،‬وكان صادًقا فيه‪ ،‬وعلم ا ّ‬
‫الفعل إل لفوات القدرة؛ فلهذا استويا في الثواب والعقاب‪.‬‬

‫وليس هذه الحال تحصل لكل من قال‪) :‬لو أن لي ما لفلن لفعلت مثل ما يفعل( إل إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود‬
‫الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة‪ ،‬وإل فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم‪ ،‬لو اقترنت به القدرة لنفسخت‬
‫عزيمته‪ ،‬كعامة الخلق يعاهدون وينقضون‪ ،‬وليس كل من عزم على شيء عزًما جازًما قبل القدرة عليه وعدم‬
‫ن َقْبلِ‬
‫ت ِم ْ‬‫الصوارف عن الفعل تبقى تلك الرادة عند القدرة المقارنة للصوارف‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد ُكْنُتْم َتَتَمّنْون اْلَمْو َ‬
‫ن{‬ ‫ن َما لَ َتْفَعُلو َ‬‫ن َآَمُنوا ِلَم َتُقوُلو َ‬‫ن{ ]آل عمران‪ ،[143 :‬وكما قال تعالى‪َ} :‬ياَأّيَها اّلِذي َ‬ ‫ظُرو َ‬ ‫ن َتْلَقْوهُ َفَقْد َرَأْيُتُموُه َوَأْنُتْم َتْن ُ‬
‫َأ ْ‬
‫خُلوا ِبِه‬
‫ضِلِه َب ِ‬
‫ن َف ْ‬ ‫ن‪َ .‬فَلّما آَتاُهْم ِم ْ‬ ‫حي َ‬
‫صاِل ِ‬
‫ن ال ّ‬‫ن ِم ْ‬ ‫ن َوَلَنُكوَن ّ‬
‫صّدَق ّ‬
‫ضِلِه َلَن ّ‬
‫ن َف ْ‬
‫ن آَتاَنا ِم ْ‬
‫ل َلِئ ْ‬
‫عاَهَد ا َّ‬ ‫]الصف‪ ،[2 :‬وكما قال‪َ} :‬وِمْنُهْم َم ْ‬
‫ن َ‬
‫ضوَن{ ]التوبة‪.[76 ،75 :‬‬ ‫َوَتَوّلوا وَُهْم ُمْعِر ُ‬

‫ل بن‬‫وحديث أبي كبشة في النيات مثل حديث البطاقة في الكلمات‪ .‬وهو الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد ا ّ‬
‫ل له يوم القيامة تسعة‬
‫ل من أمة النبي صلى ال عليه وسلم ينشر ا ّ‬‫عمرو عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أن رج ً‬
‫وتسعين سجل كل سجل منها مدى البصر‪ ،‬ويقال له‪ :‬هل تنكر من هذا شيًئا؟ هل ظلمتك؟ فيقول‪ / :‬ل يارب‪ .‬فيقال له‪:‬‬
‫ل ظلم عليك اليوم‪ ،‬فيؤتي ببطاقة فيها التوحيد فتوضع في كفة والسجلت في كفة‪ ،‬فطاشت السجلت وثقلت البطاقة(‪.‬‬
‫فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والخلص والصفاء وحسن النية‪ ،‬إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في‬
‫الصورة الظاهرة‪ ،‬فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما‪.‬‬

‫ل لها‪ ،‬فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية‬


‫ومثل هذا الحديث الذي في حديث المرأة البغي التي سقت كلًبا فغفر ا ّ‬
‫ل ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛‬‫والرحمة إذ ذاك‪ ،‬ومثله قوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان ا ّ‬
‫ل ما يظن أن تبلغ ما بلغت ؛ يكتب ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل له بها رضوانه إلى يوم القيامة‪ ،‬وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط ا ّ‬‫يكتب ا ّ‬
‫له بها سخطه إلى يوم القيامة(‪.‬‬

‫صل‬
‫َف ْ‬

‫وبهذا تبين أن الحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل وأمثالها‪ ،‬إنما هي فيما دون الرادة الجازمة التي لبد أن‬
‫يقترن بها الفعل‪ ،‬كما في الصحيحين عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيما‬
‫ل كتب الحسنات والسيئات‪ ،‬ثم بين ذلك‪ ،‬فمن هم بحسنة فلم يعملها‪،‬‬ ‫يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال‪) / :‬إن ا ّ‬
‫ل عنده عشر حسنات‪ ،‬ومن هم بسيئة ولم يعملها؛ كتبها له ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل عنده حسنة كاملة‪ ،‬فإن هم بها وعملها؛ كتبها ا ّ‬ ‫كتبها ا ّ‬
‫ل له عنده سيئة واحدة( وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة‪.‬‬ ‫حسنة كاملة‪ ،‬فإن هم بها وعملها؛ كتبها ا ّ‬

‫فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل؛ ولهذا قال‪) :‬فعملها(‪) ،‬فلم يعملها( ومن أمكنه الفعل فلم يفعل؛ لم تكن إرادته‬
‫جازمة‪ ،‬فإن الرادة الجازمة مع القدرة مستلزمة للفعل‪ ،‬كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل‪ ،‬وموجب له‪ ،‬إذ لو‬
‫توقف على شيء آخر؛ لم تكن الرادة الجازمة مع القدرة تامة كافية في وجود الفعل‪ ،‬ومن المعلوم المحسوس أن‬
‫المر بخلف ذلك‪ ،‬ول ريب أن ]الهم[ و ]العزم[ و ]الرادة[ ونحو ذلك قد يكون جازًما ل يتخلف عنه الفعل إل‬
‫للعجز‪ ،‬وقد ل يكون هذا على هذا الوجه من الجزم‪.‬‬

‫فهذا القسم الثاني يفرق فيه بين المريد والفاعل‪ ،‬بل يفرق بين إرادة وإرادة‪ ،‬إذ الرادة هي عمل القلب الذي هو ملك‬
‫الجسد‪ ،‬كما قال أبو هريرة‪ :‬القلب ملك‪ ،‬والعضاء جنوده‪ ،‬فإذا طاب الملك؛ طابت جنوده‪ ،‬وإذا خبث الملك؛ خبثت‬
‫جنوده‪ .‬وتحقيق ذلك ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) / :‬إن في الجسد‬
‫مضغة إذا صلحت؛ صلح لها سائر الجسد‪ ،‬وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد أل وهي القلب(‪ .‬فإذا هم بحسنة فلم يعملها‬
‫كان قد أتى بحسنة‪ ،‬وهي الهم بالحسنة فتكتب له حسنة كاملة‪ ،‬فإن ذلك طاعة وخير‪ ،‬وكذلك هو في عرف الناس كما‬
‫قيل‪:‬‬

‫لشكرنك معروًفا هممت به ** إن اهتمامك بالمعروف معروف‬


‫ول ألومك إن لم يمضه قدر ** فالشيء بالقدر المحتوم مصروف‬

‫ل له عشر حسنات‪ ،‬لما مضى من رحمته أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‪ ،‬إلى سبعمائة‬ ‫فإن عملها كتبها ا ّ‬
‫حّبٍة{‬
‫سْنُبَلٍة ِماَئُة َ‬
‫ل ُ‬
‫ل ِفي ُك ّ‬
‫سَناِب َ‬
‫سْبَع َ‬
‫ت َ‬
‫حّبٍة َأْنَبَت ْ‬
‫ل َ‬
‫ل َكَمَث ِ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن َأْمَواَلُهْم ِفي َ‬
‫ن ُينِفُقو َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ضعف‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬مَث ُ‬
‫]البقرة‪ ،[261 :‬وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لمن جاء بناقة‪) :‬لك بها يوم القيامة سبعمائة‬
‫عا‪) :‬أنه يعطى به ألف ألف حسنة(‪.‬‬ ‫ناقة مخطومة مزمومة( إلى أضعاف كثيرة‪ .‬وقد روى عن أبي هريرة مرفو ً‬

‫ل ل يكتبها عليه كما أخبر به في الحديث الصحيح‪ ،‬وسواء‬ ‫وأما الهام بالسيئة الذي لم يعملها وهو قادر عليها‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫سمى همه إرادة أو عزًما أو لم يسم‪ ،‬متى كان قادًرا على الفعل وهم به وعزم عليه ولم يفعله مع القدرة فليست إرادته‬
‫ل تجاوز‬‫جازمة‪ ،‬وهذا موافق لقوله في الحديث الصحيح ‪ /‬ـ حديث أبي هريرة ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن ا ّ‬
‫لمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به(‪ .‬فإن ما هم به العبد من المور التي يقدر عليها من الكلم والعمل‬
‫ل عليه‪ ،‬كما شهد به قوله‪) :‬من هم بسيئة فلم‬
‫ولم يتكلم بها ولم يعملها لم تكن إرادته لها جازمة‪ ،‬فتلك مما لم يكتبها ا ّ‬
‫يعملها(‪ ،‬ومن حكى الجماع كابن عبد البر وغيره في هذه المسألة على هذا الحديث فهو صحيح بهذا العتبار‪.‬‬

‫ل له عنده‬
‫ل؛ كتبها ا ّ‬
‫ل وخوفه‪ ،‬أو يتركها لغير ذلك‪ ،‬فإن تركها لخشية ا ّ‬
‫وهذا الهام بالسيئة‪ ،‬فإما أن يتركها لخشية ا ّ‬
‫حسنة كاملة كما قد صرح به في الحديث‪ ،‬وكما قد جاء في الحديث الخر‪) :‬اكتبوها له حسنة‪ ،‬فإنما تركها من أجلي(‪،‬‬
‫أو قال‪) :‬من جرائي(‪ ،‬وأما إن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة‪ ،‬كما جاء في الحديث الخر‪) :‬فإن لم يعملها لم‬
‫تكتب عليه(‪ .‬وبهذا تتفق معاني الحاديث‪.‬‬

‫ل تعالى ل يضعف السيئات بغير عمل صاحبها‪ ،‬ول يجزي النسان‬ ‫وإن عملها لم تكتب عليه إل سيئة واحدة‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫جَهّنَم‬
‫ن َ‬
‫لّ‬‫لْم َ‬
‫في الخرة إل بما عملت نفسه‪ ،‬ول تمتلئ جهنم إل من أتباع إبليس من الجنة والناس‪ ،‬كما قال تعالى‪َ } :‬‬
‫ن{ ]ص‪[85 :‬؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس‪) :‬إن الجنة يبقى‬ ‫جَمِعي َ‬
‫ك ِمْنُهْم َأ ْ‬
‫ن َتِبَع َ‬
‫ك َوِمّم ْ‬
‫ِمْن َ‬
‫ل لها أقواًما في الخرة‪ ،‬وأما النار فإنه ينزوي بعضها إلى ‪ /‬بعض حتى يضع عليها قدمه فتمتلئ‬ ‫فيها فضل فينشئ ا ّ‬
‫بمن دخلها من أتباع إبليس(‪.‬‬

‫ولهذا كان الصحيح المنصوص عن أئمة العدل كأحمد وغيره الوقف في أولد المشركين‪ ،‬وأنه ل يجزم لمعين منهم‬
‫بجنة ول نار‪ ،‬بل يقال فيهم كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديثين الصحيحين‪ :‬حديث أبي هريرة وابن‬
‫عباس‪) :‬ال أعلم بما كانوا عاملين(‪ .‬فحديث أبي هريرة في الصحيحين‪ ،‬وحديث ابن عباس في البخاري‪ ،‬وفي حديث‬
‫سمرة ابن جندب الذي رواه البخاري‪) :‬إن منهم من يدخل الجنة(‪ ،‬وثبت‪) :‬أن منهم من يدخل النار( كما في صحيح‬
‫مسلم في قصة الغلم الذي قتله الخضر‪ ،‬وهذا يحقق ما روى من وجوه‪ :‬أنهم يمتحنون يوم القيامة فيظهر على علم الّ‬
‫فيهم‪ ،‬فيجزيهم حينئذ على الطاعة والمعصية‪ ،‬وهذا هو الذي حكاه الشعري عن أهل السنة والحديث واختاره‪.‬‬

‫وأما أئمة الضلل ـ الذين عليهم أوزار من أضلوه ـ ونحوهم‪ ،‬فقد بينا أنهم إنما عوقبوا لوجود الرادة الجازمة مع‬
‫التمكن من الفعل؛ بقوله في حديث أبي كبشة‪) :‬فهما في الوزر سواء(‪ ،‬وقوله‪) :‬من دعا إلى ضللة كان عليه من‬
‫الوزر مثل أوزار من تبعه(‪ ،‬فإذا وجدت الرادة الجازمة‪ ،‬والتمكن من الفعل صاروا بمنزلة الفاعل التام‪ ،‬والهام‬
‫بالسيئة التي لم يعملها مع قدرته عليها لم توجد منه إرادة جازمة‪ ،‬وفاعل ‪ /‬السيئة التي تمضي ل يجزي بها إل سيئة‬
‫واحدة‪ ،‬كما شهد به النص‪ ،‬وبهذا يظهر قول الئمة حيث قال المام أحمد‪) :‬الهم( همان‪ :‬هم خطرات‪ ،‬وهم إصرار‪.‬‬
‫فهم الخطرات يكون من القادر‪ ،‬فإنه لو كان همه إصراًرا جازًما وهو قادر لوقع الفعل‪.‬‬

‫ن َرّبِه{ الية ]يوسف‪.[24 :‬‬ ‫ن َرَأى ُبْرَها َ‬


‫ل َأ ْ‬
‫ت ِبِه َوَهّم ِبَها َلْو َ‬
‫ومن هذا الباب هم ]يوسف[‪ ،‬حيث قال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َهّم ْ‬
‫وأما هم المرأة التي راودته فقد قيل‪ :‬إنه كان هم إصرار؛ لنها فعلت مقدورها‪ ،‬وكذلك ما ذكره عن المنافقين في قوله‬
‫ل عليه‪ ،‬ومثله يذم وإن لم‬ ‫تعالى‪َ} :‬وَهّموا ِبَما َلْم َيَناُلوا{ ]التوبة‪ ،[74 :‬فهذا الهم المذكور عنهم هم مذموم‪ ،‬كما ذمهم ا ّ‬
‫يكن جازًما‪ ،‬كما سنبينه في آخر الجواب من الفرق بين ما ينافى اليمان‪ ،‬وبين مال ينافيه‪ ،‬وكذلك الحريص على‬
‫السيئات الجازم بإرادة فعلها‪ ،‬إذا لم يمنعه إل مجرد العجز‪ ،‬فهذا يعاقب على ذلك عقوبة الفاعل‪ ،‬لحديث أبي كبشة‪،‬‬
‫ولما في الحديث الصحيح‪) :‬إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار( قيل‪ :‬هذا القاتل‪ ،‬فما بال المقتول ؟‬
‫صا على قتل صاحبه( وفي لفظ‪) :‬إنه أراد قتل صاحبه(‪.‬‬ ‫قال‪) :‬إنه كان حري ً‬
‫فهذه الرادة هي الحرص‪ ،‬وهي الرادة الجازمة‪ ،‬وقد وجد معها المقدور‪ ،‬وهو القتال لكن عجز عن القتل‪ ،‬وليس هذا‬
‫من الهم الذي ل يكتب‪ ،‬ول يقال‪ :‬إنه استحق ذلك بمجرد قوله‪ :‬لو أن لي ما لفلن ‪ /‬لعملت مثل ما عمل‪ ،‬فإن تمنى‬
‫الكبائر ليس عقوبته كعقوبة فاعلها بمجرد التكلم‪ ،‬بل لبد من أمر آخر‪ ،‬وهـو لم يذكـر أنه يعاقب على كلمه‪ ،‬وإنما‬
‫ذكر أنهما في الوزر سواء‪.‬‬

‫ل تجاوز لمتي عما حدثت بها أنفسها مالم تكلم به أو تعمل( ل ينافي العقوبة على الرادة‬ ‫وعلى هذا فقوله‪) :‬إن ا ّ‬
‫الجازمة التي لبد أن يقترن بها الفعل‪ ،‬فإن الرادة الجازمة هي التي يقترن بها المقدور من الفعل‪ ،‬وإل فمتى لم يقترن‬
‫بها المقدور من الفعل لم تكن جازمة‪ ،‬فالمريد الزنا والسرقة وشرب الخمر العازم على ذلك متى كانت إرادته جازمة‬
‫عازمة فلبد أن يقترن بها من الفعل ما يقدر عليه‪ ،‬ولو أنه يقربه إلى جهة المعصية‪ ،‬مثل تقرب السارق إلى مكان‬
‫المال المسروق‪ ،‬ومثل نظر الزاني واستماعه إلى المزني به‪ ،‬وتكلمه معه‪ ،‬ومثل طلب الخمر والتماسها ونحو ذلك‪،‬‬
‫فلبد مع الرادة الجازمة من شىء من مقدمات الفعل المقدور‪ ،‬بل مقدمات الفعل توجد بدون الرادة الجازمة عليه‪،‬‬
‫كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬في الحديث المتفق عليه‪) :‬العينان تزنيان وزناهما النظر‪ ،‬واللسان يزني وزناه‬
‫النطق‪ ،‬واليد تزني وزناها البطش‪ ،‬والرجل تزني وزناها المشي‪ ،‬والقلب يتمنى ويشتهي‪ ،‬والفرج يصدق ذلك أو‬
‫يكذبه(‪ ،‬وكذلك حديث أبي بكرة المتفق عليه‪) :‬إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار(‪ .‬قيل‪ :‬يارسول‬
‫صا على قتل‬‫ل! هذا القاتل‪ ،‬فما بال المقتول؟ ‪ /‬قال‪) :‬إنه أراد قتل صاحبه( وفي رواية في الصحيحين‪) :‬إنه كان حري ً‬ ‫ا ّ‬
‫صاحبه(‪.‬‬

‫فإنه أراد ذلك إرادة جازمة فعل معها مقدوره‪ ،‬منعه منها من قتل صاحبه العجز‪ ،‬وليست مجرد هم ول مجرد عزم‬
‫على فعل مستقبل‪ ،‬فاستحق حينئذ النار‪ ،‬كما قدمنا من أن الرادة الجازمة التي أتى معها بالممكن يجري صاحبها‬
‫مجرى الفاعل التام‪.‬‬

‫والرادة التامة قد ذكرنا أنه لبد أن يأتي معها بالمقدور أو بعضه وحيث ترك الفعل المقدور فليست جازمة‪ ،‬بل قد‬
‫تكون جازمة فيما فعل دون ما ترك‪ ،‬مع القدرة‪ ،‬مثل الذي يأتي بمقدمات الزنا‪ :‬من اللمس‪ ،‬والنظر والقبلة‪ ،‬ويمتنع‬
‫عن الفاحشة الكبرى ؛ ولهذا قال في حديث أبي هريرة الصحيح‪) :‬العين تزنى‪ ،‬والذن تزني‪ ،‬واللسان يزني ـ إلى أن‬
‫قال ـ‪ :‬والقلب يتمنى ويشتهي( أي يتمنى الوطء ويشتهيه‪ ،‬ولم يقل‪ :‬يريد‪ ،‬ومجرد الشهوة والتمني ليس إرادة جازمة‪،‬‬
‫ول يستلزم وجود الفعل‪ ،‬فل يعاقب على ذلك‪ ،‬وإنما يعاقب إذا أراد إرادة جازمة مع القدرة والرادة الجازمة التي‬
‫يصدقها الفرج‪.‬‬

‫ل صلى ال‬ ‫ومن هذا الحديث الذي في الصحيحين عن ابن مسعود‪ :‬أن رجل أصاب من امرأة قبلة‪ ،‬فأتى رسول ا ّ‬
‫ت{‬‫سّيَئا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ت ُيْذِهْب َ‬
‫سَنا ِ‬
‫حَ‬
‫ن اْل َ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ن الّلْي ِ‬
‫طَرِفي الّنَهاِر َوُزَلًفا ِم ْ‬
‫لَة َ‬
‫صَ‬‫ل تعالى‪َ} :‬وَأِقْم ال ّ‬
‫عليه وسلم فذكر ذلك ‪ /‬له‪ ،‬فأنزل ا ّ‬
‫الية ]هود‪ [114 :‬فقال الرجل‪ :‬ألى هذه ؟ فقال‪) :‬لمن عمل بها من أمتي(‪ .‬فمثل هذا الرجل وأمثاله لبد في الغالب أن‬
‫يهم بما هو أكبر من ذلك‪ ،‬كما قال‪) :‬والقلب يتمنى ويشتهي‪ ،‬والفرج يصدق ذلك أو يكذبه(‪ .‬لكن إرادته القلبية للقبلة‬
‫كانت إرادة جازمة‪ ،‬فاقترن بها فعل القبلة بالقدرة‪ ،‬وأما إرادته للجماع فقد تكون غير جازمة‪ ،‬وقد تكون جازمة‪ ،‬لكن‬
‫لم يكن قادرا‪ .‬والشبه في الذي نزلت فيه الية أنه كان متمكًنا لكنه لم يفعل‪.‬‬

‫فتفريق أحمد وغيره بين هم الخطرات وهم الصرار هو الذي عليه الجواب‪ ،‬فمن لم يمنعه من الفعل إل العجز‪ ،‬فلبد‬
‫أن يفعل ما يقدر عليه من مقدماته‪ ،‬وإن فعله وهو عازم على العود متى قدر فهو مصر؛ ولهذا قال ابن المبارك‪:‬‬
‫المصر الذي يشرب الخمر اليوم‪ ،‬ثم ل يشربها إلى شهر‪ ،‬وفي رواية إلى ثلثين سنة‪ ،‬ومن نيته أنه إذا قدر على‬
‫شربها )شربها(‪ .‬وقد يكون مصًرا إذا عزم على الفعل في وقت دون وقت‪ ،‬كمن يعزم على ترك المعاصي في شهر‬
‫رمضان دون غيره‪ ،‬فليس هذا بتائب مطلقا‪ ،‬ولكنه تارك للفعل في شهر رمضان‪ ،‬ويثاب إذا كان ذلك الترك ّ‬
‫ل‬
‫ل‪ ،‬واجتناب محارمه في ذلك الوقت‪ ،‬ولكنه ليس من التائبين الذين يغفر لهم بالتوبة مغفرة مطلقة‪ ،‬ول‬
‫وتعظيم شعائر ا ّ‬
‫هو مصر مطلًقا‪ .‬وأما الذي ‪ /‬وصفه ابن المبارك‪ ،‬فهو مصر إذا كان من نيته العود إلى شربها‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬لكن نيته أن‬


‫قلت‪ :‬والذي قد ترك المعاصي في شهر رمضان من نيته العود إليها في غير شهر رمضان مصر أي ً‬
‫يشربها إذا قدر عليها‪ ،‬غير النية مع وجود القدرة‪ ،‬فإذا قدر قد تبقى نيته وقد ل تبقى‪ ،‬ولكن متى كان مريدا إرادة‬
‫جازمة ل يمنعه إل العجز فهو معاقب على ذلك‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬
‫وتقدم أن مثل هذا لبد أن يقترن بإرادته ما يتمكن من الفعل معه‪ ،‬وبهذا يظهر ما يذكر عن الحارث المحاسبي أنه‬
‫حكى الجماع على أن الناوي للفعل ليس بمنزلة الفاعل له‪ ،‬فهذا الجماع صحيح مع القدرة‪ ،‬فإن الناوي للفعل القادر‬
‫عليه ليس بمنزلة الفاعل‪ ،‬وأما الناوي الجازم التي بما يمكن‪ ،‬فإنه بمنزلة الفاعل التام‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬

‫ن ُيِريدُ‬ ‫ن َكا َ‬
‫ل ـ سبحانه ـ في القرآن رتب الثواب والعقاب على مجرد الرادة‪ ،‬كقوله تعالى‪َ} :‬م ْ‬ ‫ومما يوضح هذا‪ :‬أن ا ّ‬
‫ن َكا َ‬
‫ن‬ ‫حوًرا{ ]السراء‪ ،[18 :‬وقال‪َ} :‬م ْ‬ ‫لَها َمْذُموًما َمْد ُ‬‫صَ‬ ‫جَهّنَم َي ْ‬
‫جَعْلَنا َلُه َ‬
‫ن ُنِريُد ُثّم َ‬‫شاُء ِلَم ْ‬‫جْلَنا َلُه ِفيَها َما َن َ‬
‫عّ‬‫جَلَة َ‬ ‫اْلَعا ِ‬
‫ل الّناُر{‬‫خَرِة ِإ ّ‬‫لِ‬‫ن َلْيسَ َلُهْم ِفي ا ْ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫ن‪ُ .‬أْوَلِئ َ‬
‫سو َ‬‫خُ‬
‫ل ُيْب َ‬
‫عَماَلُهْم ِفيَها َوُهْم ِفيَها َ‬
‫ف ِإَلْيِهْم َأ ْ‬
‫حَياَة الّدْنَيا َوِزيَنَتَها ُنَو ّ‬
‫ُيِريُد الْ َ‬
‫ث الّدْنَيا ُنؤِتِه ِمْنَها َوَما َلُه‬
‫حْر َ‬
‫ن ُيِريُد َ‬
‫ن َكا َ‬ ‫حْرثِِه َوَم ْ‬
‫خَرِة َنِزْد َلُه ِفي َ‬
‫ث الْ ِ‬ ‫حْر َ‬‫ن ُيِريُد َ‬ ‫ن َكا َ‬ ‫]هود‪ ،[16 ،15 :‬وقال‪َ} :‬م ْ‬
‫ب{ ]الشورى‪.[20 :‬‬ ‫صي ٍ‬ ‫ن َن ِ‬ ‫لخَِرِة ِم ْ‬ ‫ِفي ا ْ‬

‫ف ِإَلْيِهمْ‬
‫فرتب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة‪ ،‬ويريد الحياة الدنيا‪ ،‬ويريد حرث الدنيا‪ ،‬وقال في آية هود‪ُ} :‬نَو ّ‬
‫ن{ ]هود‪ ،[16 ،15 :‬فدل على أنه كان لهم أعمال بطلت‪ ،‬وعوقبوا‬ ‫ل َما َكاُنوا َيْعَمُلو َ‬
‫طٌ‬
‫عَماَلُهْم ِفيَها{ إلى أن قال‪َ} :‬وَبا ِ‬‫َأ ْ‬
‫سَعى‬ ‫لخَِرَة َو َ‬
‫ن َأَراَد ا ْ‬
‫على أعمال أخرى عملوها‪ ،‬وإن الرادة هنا مستلزمة للعمل‪ ،‬ولما ذكر إرادة الخرة‪ ،‬قال‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن{ ]السراء‪ ،[19 :‬وذلك لن إرادة الخرة وإن استلزمت عملها فالثواب إنما هو على العمل‬ ‫سْعَيَها َوُهَو ُمْؤِم ٌ‬
‫َلَها َ‬
‫المأمور به‪ ،‬ل كل سعي‪ ،‬ولبد مع ذلك من اليمان‪.‬‬

‫ن ُتِرْدنَ‬
‫ن ُكْنُت ّ‬
‫حَياَة الّدْنَيا َوِزينََتَها{ الية ]الحزاب‪َ} ،[28 :‬وِإ ْ‬
‫ن اْل َ‬
‫ن ُتِرْد َ‬
‫ن ُكْنُت ّ‬
‫ك ِإ ْ‬
‫جَ‬
‫ل لَِْزَوا ِ‬
‫ي ُق ْ‬
‫ومنه قوله‪َ} :‬ياَأّيَها الّنِب ّ‬
‫خَرَة{ ]الحزاب‪ ،[29 :‬فهذا نظير تلك الية التي في سورة هود‪ ،‬وهذا يطابق قوله‪) :‬إذا التقى‬ ‫سوَلُه َوالّداَر الْ ِ‬ ‫ل َورَ ُ‬
‫ا َّ‬
‫صا على قتل صاحبه(‪ ،‬فذكر الحرص‬ ‫المسلمان بسيفيهما( إل أنه قال‪) :‬فإنه أراد قتل صاحبه(‪ .‬أو‪) :‬إنه كان حري ً‬
‫ل عفا لمتي عما حدثت‬ ‫والرادة على القتل وهذا لبد أن يقترن به فعل‪ ،‬وليس هذا مما دخل في حديث العفو‪) :‬إن ا ّ‬
‫به أنفسها(‪.‬‬

‫ومما يبني على هـذا مسألة معروفة ـ بين أهل السنة وأكثر العلماء ‪ /‬وبين بعض القدرية ـ وهي توبة العاجز عن‬
‫الفعل‪ ،‬كتوبة المجبوب عن الزنا‪ ،‬وتوبة القطع العاجز عن السرقة‪ ،‬ونحوه من العجز‪ ،‬فإنها توبة صحيحة عند‬
‫جماهير العلماء من أهل السنة وغيرهم‪ .‬وخالف في ذلك بعض القدرية؛ بناء على أن العاجز عن الفعل ل يصح أن‬
‫يثاب على تركه الفعل‪ ،‬بل يعاقب على تركه وليس كذلك‪ ،‬بل إرادة العاجز عليها الثواب والعقاب كما بينا‪ ،‬وبينا أن‬
‫الرادة الجازمة مع القدرة تجري مجرى الفاعل التام‪ ،‬فهذا العاجز إذا أتى بما يقدر عليه من مباعدة أسباب المعصية‬
‫بقوله وعمله وهجرانها وتركها بقلبه‪ ،‬كالتائب القادر عليها سواء‪ ،‬فتوبة هذا العاجز عن كمال الفعل‪ ،‬كإصرار العاجز‬
‫عن كمال الفعل‪.‬‬

‫ومما يبني على هذا المسألة المشهورة في الطلق‪ ،‬وهو أنه لو طلق في نفسه وجزم بذلك ولم يتكلم به‪ ،‬فإنه ل يقع به‬
‫الطلق عند جمهور العلماء‪ .‬وعند مالك في إحدى الروايتين يقع‪ ،‬وقد استدل أحمد وغيره من الئمة على ترك الوقوع‬
‫ل تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها( فقال المنازع‪ :‬هذا المتجاوز عنه‪ ،‬إنما هو حديث النفس‪ ،‬والجازم‬‫بقوله‪) :‬إن ا ّ‬
‫بذلك في النفس ليس من حديث النفس‪.‬‬

‫فقال المنازع لهم‪ :‬قد قال‪) :‬ما لم تكلم به أو تعمل به(‪ ،‬فأخبر أن التجاوز عن حديث النفس امتد إلى هذه الغاية التي‬
‫هي الكلم به ‪ /‬والعمل به‪ ،‬كما ذكر ذلك في صدر السؤال من استدلل بعض الناس وهو استدلل حسن‪ ،‬فإنه لو كان‬
‫حديث النفس إذا صار عزًما ولم يتكلم به أو يعمل يؤاخذ به ؛ لكان خلف النص‪ ،‬لكن يقال‪ :‬هذا في المأمور صاحب‬
‫المقدرة التي يمكن فيها الكلم والعمل‪ ،‬إذا لم يتكلم ولم يعمل‪ ،‬وأما الرادة الجازمة المأتي فيها بالمقدور فتجرى‬
‫مجرى التي أتى معها بكمال العمل‪ ،‬بدليل الخرس لما كان عاجزا عن الكلم‪ ،‬وقد يكون عاجزا عن العمل باليدين‬
‫ونحوهما‪ ،‬لكنه إذا أتى بمبلغ طاقته من الشارة جرى ذلك مجرى الكلم من غيره‪ ،‬والحكام والثواب والعقاب وغير‬
‫ذلك ‪.‬‬

‫وأما الوجه الخر الذي احتج به وهو أن العزم والهم داخل في حديث النفس المعفو عنه مطلًقا فليس كذلك‪ ،‬بل إذا‬
‫قيل‪ :‬إن الرادة الجازمة مستلزمة لوجود فعل ما يتعلق به الذم والعقاب وغير ذلك‪ ،‬يصح ذلك‪ ،‬فإن المراد إن كان‬
‫مقدورا مع الرادة الجازمة؛ وجب وجوده‪ ،‬وإن كان ممتنًعا فلبد مع الرادة الجازمة من فعل بعض مقدماته‪ ،‬وحيث‬
‫لم يوجد فعل أصل فهو هم‪ ،‬وحديث النفس ليس إرادة جازمة ولهذا لم يجئ في النصوص العفو عن مسمى الرادة‬
‫والحب والبغض والحسد والكبر والعجب وغير ذلك من أعمال القلوب‪ ،‬إذ كانت هذه العمال حيث وقع عليهم ذم‬
‫وعقاب فلنها تمت حتى صارت قول وفعل‪.‬‬

‫ل تجاوز لمتي( الحديث حق‪ ،‬والمؤاخذة بالرادات المستلزمة لعمال‬ ‫‪/‬وحينئذ قوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن ا ّ‬
‫الجوارح حق‪ ،‬ولكن طائفة من الناس قالوا‪ :‬إن الرادة الجازمة قد تخلو عن فعل أو قول‪ ،‬ثم تنازعوا في العقاب‬
‫عليها‪ ،‬فكان القاضي أبو بكر ومن تبعه كأبي حامد وأبي الفرج بن الجوزي يرون العقوبة على ذلك‪ ،‬وليس معهم دليل‬
‫على أنه يؤاخذ إذا لم يكن هناك قول أو عمل‪.‬‬

‫والقاضي بناها على أصله في اليمان الذي اتبع فيه جهًما والصالحي‪ ،‬وهو المشهور عن أبي الحسن الشعري‪ ،‬وهو‬
‫ل ورسوله إنما هو كفر في‬
‫ل ورسوله بلسانه‪ ،‬وإن سب ا ّ‬‫أن اليمان مجرد تصديق القلب‪ ،‬ولو كذب بلسانه‪ ،‬وسب ا ّ‬
‫الظاهر‪ ،‬وأن كلما كان كفًرا في نفس المر‪ ،‬فإنه يمتنع أن يكون معه شيء من تصديق القلب‪ ،‬وهذا أصل فاسد في‬
‫الشرع والعقل‪ ،‬حتى أن الئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيدة وغيرهم كفروا من قال في اليمان بهذا‬
‫القول‪ ،‬بخلف المرجئة من الفقهاء الذين يقولون‪ :‬هو تصديق القلب واللسان‪ ،‬فإن هؤلء لم يكفرهم أحد من الئمة‪،‬‬
‫وإنما بدعوهم‪.‬‬

‫وقد بسط الكلم في اليمان وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع‪ ،‬وبين أن من الناس من يعتقد وجود الشياء بدون‬
‫لوازمها‪ ،‬فيقدر ما ل وجود له‪.‬‬

‫طا من و جوه‪:‬‬
‫‪/‬وأصل جهم في اليمان تضمن غل ً‬

‫ل وخشيته ونحو ذلك ‪.‬‬


‫منها‪ :‬ظنه أنه مجرد تصديق القلب ومعرفته بدون أعمال القلب‪ ،‬كحب ا ّ‬

‫ومنها‪ :‬ظنه ثبوت إيمان قائم في القلب بدون شيء من القوال والعمال‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ظنه أن من حكم الشرع بكفره وخلوده في النار‪ ،‬فإنه يمتنع أن يكون في قلبه شيء من التصديق‪ ،‬وجزموا بأن‬
‫إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن في قلوبهم شيء من ذلك‪ .‬وهذا كلمهم في الرادة والكراهة والحب والبغض‬
‫ضا؛ لزم‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬فإن هذه المور إذا كانت هما وحديث نفس فإنه معفو عنه‪ ،‬وإذا صارت إرادة جازمة وحًبا وبغ ً‬
‫وجود الفعل ووقوعه‪ ،‬وحينئذ فليس لحد أن يقدر وجودها مجردة‪ ،‬ثم يقول‪ :‬ليس فيها إثم‪ ،‬وبهذا يظهر الجواب عن‬
‫حجة السائل‪.‬‬

‫ل يثيب على محبته ومحبة رسوله‪ ،‬والحب فيه والبغض فيه‪ ،‬ويعاقب على بغضه وبغض‬ ‫فإن المة مجمعة على أن ا ّ‬
‫رسوله‪ ،‬وبغض أوليائه‪ ،‬وعلى محبة النداد من دونه‪ ،‬وما يدخل في هذه المحبة من الرادات ‪ /‬والعزوم‪ ،‬فإن المحبة‬
‫عا آخر مستلزًما للرادة‪ ،‬فلبد معها من إرادة وعزم‪ ،‬فل يقال‪ :‬هذا من حديث‬ ‫عا من الرادة أو نو ً‬
‫سواء كانت نو ً‬
‫ل‪ ،‬والبغض في‬ ‫النفس المعفو عنه‪ ،‬بل كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي‪) :‬أوثق عرى اليمان‪ :‬الحب في ا ّ‬
‫ل(‪ ،‬وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬والذي نفسي بيده ليؤمن أحدكم حتى أكون‬ ‫ا ّ‬
‫ل صلى‬ ‫ل بن هشام قال‪ :‬كنا مع رسول ا ّ‬ ‫أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين(‪ ،‬وفي صحيح البخاري عن عبد ا ّ‬
‫ل أحب إلي من كل شيء‪ ،‬إل من نفسي‪.‬‬ ‫ال عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر‪ :‬لنت يا رسول ا ّ‬
‫فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل‪ ،‬والذي نفسي بيده ! حتى أكون أحب إليك من نفسك(‪ ،‬فقال عمر‪ :‬فإنك الن أحب‬
‫خَواُنُكْم‬
‫ن آَباُؤُكْم َوَأْبَناُؤُكْم َوِإ ْ‬
‫ن َكا َ‬ ‫إلي من نفسي‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬الن ياعمر!(‪ ،‬بل قد قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫سِبيِلِه‬
‫جَهاٍد ِفي َ‬
‫سوِلِه َو ِ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ب ِإَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ح ّ‬
‫ضْوَنَها َأ َ‬
‫ن َتْر َ‬
‫ساِك ُ‬
‫ساَدَها َوَم َ‬
‫ن َك َ‬
‫شْو َ‬
‫خَ‬‫جاَرٌة َت ْ‬
‫ل اْقَتَرْفُتُموَها َوِت َ‬
‫شيَرُتُكْم َوَأْمَوا ٌ‬ ‫عِ‬‫جُكْم َو َ‬
‫َوَأْزَوا ُ‬
‫ل َل َيْهِدي اْلَقْوَم اْلَفاِسِقيَن{ ]التوبة‪.[24 :‬‬ ‫ل ِبَأْمِرِه َوا ُّ‬
‫ي ا ُّ‬
‫حّتى َيْأِت َ‬‫صوا َ‬ ‫َفَتَرّب ُ‬

‫ل ورسوله وجهاد في سبيله‪ ،‬فعلم‬ ‫ل به من كان أهله وماله أحب إليه من ا ّ‬


‫فانظر إلى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعد ا ّ‬
‫ل ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلى المؤمن من الهل والمال والمساكن والمتاجر‬ ‫أنه يجب ‪ /‬أن يكون ا ّ‬
‫ل صلى ال‬ ‫والصحاب والخوان‪ ،‬وإل لم يكن مؤمًنا حًقا‪ ،‬ومثل هذا ما في الصحيحين عن أنس قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن‬ ‫عليه وسلم‪) :‬ل يجد أحد حلوة اليمان حتى يحب المرء ل يحبه إل ّ‬
‫ل ورسوله أحب إليه مما سواهما( وهذا لفظ البخاري‪ ،‬فأخبر أنه ل يجد أحد حلوة‬
‫يرجع في الكفر‪ ،‬وحتى يكون ا ّ‬
‫اليمان إل بهذه المحبات الثلث‪:‬‬

‫ل ورسوله أحب إليه من سواهما‪ ،‬وهذا من أصول اليمان المفروضة التي ل يكون العبد مؤمًنا‬
‫أحدها‪ :‬أن يكون ا ّ‬
‫بدونها‪.‬‬

‫ل وهذا من لوازم الول‪.‬‬


‫الثاني‪ :‬أن يحب العبد ل يحبه إل ّ‬

‫والثالث‪ :‬أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر‪.‬‬

‫ل ورسوله‪ ،‬ومحبة المؤمنين فيه‪،‬‬ ‫وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علمات صدقه في التوبة هذه الخصال‪ ،‬محبة ا ّ‬
‫ل ورسوله‬ ‫وإن كانت متعلقة بالعيان ليست من أفعالنـا كالرادة المتعلقة بأفعالنا‪ ،‬فهي مستلزمة لذلك‪ ،‬فإن من كان ا ّ‬
‫أحب إليه من نفسه وأهله وماله لبد ‪ /‬أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة‪ ،‬مثل إرادته نصر الّ ورسوله ودينه‬
‫ل ورسوله‪.‬‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬ومثل بغضه لمن يعادي ا ّ‬ ‫والتقريب إلى ا ّ‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬مـا استفاض عنه صلى ال عليه وسلم في الصحاح من حديث ابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬المرء مع من أحب(‪ ،‬وفي رواية‪) :‬الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم( أي ولما يعمل‬
‫بأعمالهم‪ ،‬فقال‪) :‬المرء مع من أحب( ‪.‬قال أنس‪ :‬فما فرح المسلمون بشيء بعد السلم فرحهم بهذا الحديث‪ ،‬فأنا أحب‬
‫ل معهم‪ ،‬وإن لم أعمل عملهم‪ ،‬وهذا الحديث حق‪ ،‬فإن‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم وأبا بكر وعمر‪ ،‬وأرجو أن يجعلني ا ّ‬
‫كون المحب مع المحبوب أمر فطري ل يكون غير ذلك‪ ،‬وكونه معه هو على محبته إياه‪ ،‬فإن كانت المحبة متوسطة‬
‫أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك‪ ،‬وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك‪ ،‬والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة‬
‫للمحبوب في محابه‪ ،‬إذا كان المحب قادًرا عليها‪ ،‬فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر‬
‫ذلك‪ ،‬وإن كانت موجودة‪.‬‬

‫ل َواْلَيْوِم‬
‫ن ِبا ِّ‬
‫جُد َقْوًما ُيْؤِمُنو َ‬ ‫وحب الشيء وإرادته يستلزم بغض ضده وكراهته‪ ،‬مع العلم بالتضاد؛ ولهذا قال تعالى‪َ } :‬‬
‫ل َت ِ‬
‫ل َوَرُسوَلُه{ ]المجادلة‪ ،[22 :‬والموادة من أعمال القلوب‪.‬‬
‫حاّد ا َّ‬
‫ن َ‬
‫ن َم ْ‬
‫خِر ُيَواّدو َ‬
‫لِ‬‫اْ‬

‫ل ورسوله‪ ،‬وما ناقض اليمان فإنه‬ ‫ل يستلزم مودته ومودة رسوله‪ ،‬وذلك يناقض موادة من حاد ا ّ‬‫فإن اليمان با ّ‬
‫ل ورسوله‬ ‫يستلزم الذم والعقاب؛ لجل عدم اليمان‪ .‬فإن ما ناقض اليمان كالشك والعراض وردة القلب‪ ،‬وبغض ا ّ‬
‫ل به رسوله‪ ،‬فاستحق تاركه الذم والعقاب وأعظم الواجبات‬ ‫يستلزم الذم والعقاب لكونه تضمن ترك المأمور مما أمر ا ّ‬
‫إيمان القلب‪ ،‬فما ناقضه استلزم الذم والعقاب لتركه هذا الواجب‪ ،‬بخلف ما استحق الذم لكونه منهًيا عنه كالفواحش‬
‫والظلم‪ ،‬فإن هذا هو الذي يتكلم في الهم به وقصده‪ ،‬إذا كان هذا ل يناقض أصل اليمان‪ ،‬وإن كان يناقض كماله‪ ،‬بل‬
‫نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي‪ ،‬ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات‪ ،‬ولهذا كانت الصلة تنهى‬
‫عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬فالصلة تضمنت شيئين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬نهيها عن الذنوب‪.‬‬

‫ل أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر‪،‬‬


‫ل‪ ،‬وهو أكبر المرين‪ ،‬فما فيها من ذكر ا ّ‬
‫والثاني‪ :‬تضمنها ذكر ا ّ‬
‫ولبسط هذا موضع آخر‪.‬‬

‫ل ورسوله تستلزم وجود محبوباته؛ ولهذا جاء في الحديث الذي في الترمذي‪) :‬من‬ ‫‪/‬والمقصود هنا أن المحبة التامة ّ‬
‫ل‪ ،‬وهما عمل قلبه‪،‬‬‫ل‪ ،‬وبغضه ّ‬‫ل؛ فقد استكمل اليمان(‪ ،‬فإنه إذا كان حبه ّ‬
‫ل‪ ،‬ومنع ّ‬‫ل‪ ،‬وأعطى ّ‬ ‫ل‪ ،‬وأبغض ّ‬ ‫أحب ّ‬
‫ل‪ ،‬ودل ذلك على كمال اليمان؛ وذلك أن كمال‬ ‫ل‪ ،‬وهما عمل بدنه؛ دل على كمال محبته ّ‬ ‫ل‪ ،‬ومنعه ّ‬ ‫وعطاؤه ّ‬
‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬والعبادة تتضمن كمال الحب‪ ،‬وكمال الذل‪ ،‬والحب‬ ‫ل‪ ،‬وذلك عبادة ا ّ‬
‫اليمان أن يكون الدين كله ّ‬
‫ل‪ ،‬وبغضه لمن يبغضه‬ ‫مبدأ جميع الحركات الرادية‪ ،‬ولبد لكل حي من حب وبغض‪ ،‬فإذا كانت محبته لمن يحبه ا ّ‬
‫ل؛ دل ذلك على صحة اليمان في قلبه‪ ،‬لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف‪ ،‬بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها‪،‬‬ ‫ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ومنعه ل؛ دل على كمال اليمان باطًنا‬
‫ل‪ ،‬وعطاؤه ّ‬
‫الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس‪ ،‬فإذا كان حبه ّ‬
‫وظاهًرا‪.‬‬

‫ل‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬


‫وأصل الشرك في المشركين ـ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيًعا ـ إنما هو اتخاذ أنداد يحبونه كحب ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫ل‪ ،‬ل يحب إل ّ‬ ‫ل وبغضه ّ‬ ‫ل{ ]البقرة‪ ،[165 :‬ومن كان حبه ّ‬ ‫ب ا ِّ‬
‫ح ّ‬
‫حّبوَنُهْم َك ُ‬
‫ل َأنَداًدا ُي ِ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬
‫خُذ ِم ْ‬
‫ن َيّت ِ‬
‫س َم ْ‬
‫ن الّنا ِ‬
‫}َوِم ْ‬
‫ل كما روى البخاري ‪ /‬في‬ ‫ل‪ ،‬فهذه حال السابقين من أولياء ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬ول يمنع إل ّ‬ ‫ل‪ ،‬ول يعطي إل ّ‬ ‫ول يبغض إل ّ‬
‫ل‪ :‬من عادى لي ولًيا فقد آذنته بالحرب‪ ،‬وما‬ ‫صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬يقول ا ّ‬
‫ي بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته؛ كنت سمعه‬ ‫ي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه‪ ،‬ول يزال عبدي يتقرب إل ّ‬ ‫تقرب إل ّ‬
‫الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ ،‬فبي يسمع‪ ،‬وبي يبصر‪ ،‬وبي‬
‫يبطش‪ ،‬وبي يمشي‪ ،‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ ،‬وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض‬
‫ل محبة كاملة تقربوا بما يحبه من‬ ‫نفس عبدي المؤمن‪ ،‬يكره الموت وأكره مساءته ولبد له منه(‪ .‬فهؤلء الذين أحبوا ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫ل محبة كاملة حتى بلغوا ما بلغوه‪ ،‬وصار أحدهم يدرك با ّ‬ ‫النوافل‪ ،‬بعد تقربهم بما يحبه من الفرائض‪ ،‬أحبهم ا ّ‬
‫ل يجيب مسألته‪ ،‬ويعيذه مما استعاذ منه‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬بحيث إن ا ّ‬ ‫ويتحرك با ّ‬

‫وقد ذم في كتابه من أحب أندادا من دونه‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وُأْشِرُبوا ِفي ُقُلوِبِهْم اْلِعْجَل ِبُكْفِرِهْم{ ]البقرة‪ ،[93 :‬وذم من اتخذ‬
‫إلهه هواه وهو أن يتأله ما يهواه ويحبه‪ ،‬وهذا قد يكون فعل القلب فقط‪ ،‬وقد مدح تعالى وذم في كتابه في غير موضع‬
‫ل{‬‫حّبا ِّ‬
‫شّد ُ‬ ‫على المحبة والرادة والبغض والسخط والفرح والغم‪ ،‬ونحو ذلك من أفعال القلوب كقوله‪َِ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا َأ َ‬
‫جَلَة َوَيَذُرو َ‬
‫ن‬ ‫ن اْلَعا ِ‬ ‫خَرَة{ ]القيامة‪ / ،[21 ،20 :‬وقوله‪ُ} :‬ي ِ‬
‫حّبو َ‬ ‫لِ‬ ‫نا ْ‬
‫جَلَة‪َ .‬وَتَذُرو َ‬
‫ن اْلَعا ِ‬
‫حّبو َ‬
‫ل ُت ِ‬ ‫]البقرة‪ ،[165 :‬وقوله‪َ} :‬ك ّ‬
‫ل َب ْ‬
‫ل{ ]النسان‪.[27 :‬‬ ‫َوَراَءُهْم َيْوًما َثِقي ً‬

‫شَمَأّزتْ‬ ‫حَدُه ا ْ‬ ‫ل َو ْ‬‫حوا ِبَها{ ]آل عمران‪ ،[120 :‬وقوله‪َ} :‬وِإَذا ُذِكَر ا ُّ‬ ‫سّيَئٌة َيْفَر ُ‬
‫صْبُكْم َ‬ ‫ن ُت ِ‬‫سْؤُهْم َوِإ ْ‬‫سَنٌة َت ُ‬
‫حَ‬‫سُكْم َ‬ ‫سْ‬ ‫ن َتْم َ‬‫وقوله‪ِ} :‬إ ْ‬
‫ن{ ]الزمر‪ ،[45 :‬وقوله‪َ} :‬وِإَذا ُتْتَلى َ‬
‫عَلْيِهْم آَياُتَنا َبّيَنا ٍ‬
‫ت‬ ‫شُرو َ‬‫سَتْب ِ‬
‫ن ُدوِنِه ِإَذا ُهْم َي ْ‬ ‫ن ِم ْ‬‫خَرِة َوِإَذا ُذِكَر اّلِذي َ‬
‫لِ‬ ‫ن ِبا ْ‬
‫ل ُيْؤِمُنو َ‬ ‫ن َ‬ ‫ب اّلِذي َ‬
‫ُقُلو ُ‬
‫ب َلْو‬
‫ل اْلِكَتا ِ‬ ‫ن َأْه ِ‬‫عَلْيِهْم آَياِتَنا{ ]الحج‪ ،[72 :‬وقوله‪َ} :‬وّد َكِثيٌر ِم ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ن َيْتُلو َ‬
‫ن ِباّلِذي َ‬
‫طو َ‬ ‫سُ‬ ‫ن َي ْ‬‫ن َكَفُروا اْلُمْنَكَر َيَكاُدو َ‬‫جوِه اّلِذي َ‬ ‫ف ِفي ُو ُ‬ ‫َتْعِر ُ‬
‫شِرِكي َ‬
‫ن‬ ‫ل اْلُم ْ‬ ‫ب َو َ‬ ‫ل اْلِكَتا ِ‬
‫ن َأْه ِ‬ ‫سِهْم{ ]البقرة‪ ،[109 :‬وقوله‪َ} :‬ما َيَوّد اّلِذي َ‬
‫ن َكَفُروا ِم ْ‬ ‫عْنِد َأنُف ِ‬
‫ن ِ‬‫سًدا ِم ْ‬‫حَ‬ ‫ن َبْعِد ِإيَماِنُكْم ُكّفاًرا َ‬
‫َيُرّدوَنُكْم ِم ْ‬
‫ت الّشْوَكِة َتُكوُن َلُكْم{ ]النفال‪.[7 :‬‬ ‫غْيَر َذا ِ‬
‫ن َ‬ ‫ن َرّبُكْم{ ]البقرة‪ ،[105 :‬وقوله‪َ} :‬وَتَوّدو َ‬
‫ن َأ ّ‬ ‫خْيٍر ِم ْ‬
‫ن َ‬ ‫عَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ن ُيَنّزلَ َ‬ ‫َأ ْ‬

‫ل َوُهمْ‬‫ن ِإ ّ‬
‫ل ُينِفُقو َ‬‫ساَلى َو َ‬‫ل َوُهْم ُك َ‬
‫لَة ِإ ّ‬‫صَ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ل َيْأُتو َ‬‫سوِلِه َو َ‬ ‫ل َوِبَر ُ‬ ‫ل َأّنُهْم َكَفُروا ِبا ِّ‬
‫ل ِمْنُهْم َنَفَقاُتُهْم ِإ ّ‬ ‫وقوله‪َ} :‬وَما َمَنَعُهْم َأ ْ‬
‫ن ُتْقَب َ‬
‫سوَرٌة‬‫ت ُ‬ ‫عَماَلُهْم{ ]محمد‪ ،[9 :‬وقوله‪َ} :‬وِإَذا َما ُأنِزَل ْ‬ ‫ط َأ ْ‬‫حَب َ‬‫ل َفَأ ْ‬ ‫ل ا ُّ‬
‫ك ِبَأّنُهْم َكِرُهوا َما َأنَز َ‬ ‫ن{ ]التوبة‪ ،[54 :‬وقوله‪َ} :‬ذِل َ‬ ‫َكاِرُهو َ‬
‫ب‬
‫حَزا ِ‬‫لْ‬‫نا َ‬ ‫ك َوِم َ‬‫ل ِإَلْي َ‬
‫ن ِبَما ُأنِز َ‬
‫حو َ‬
‫ب َيْفَر ُ‬ ‫ل َأّيُكْم َزاَدْتُه َهِذِه ِإيَماًنا{ الية ]التوبة‪ ،[124 :‬وقوله‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن آَتْيَناُهُم اْلِكَتا َ‬ ‫ن َيُقو ُ‬
‫َفِمْنُهْم مَ ْ‬
‫ك َفْلَيْفَرُحوا{ ]يونس‪.[58 :‬‬ ‫حَمِتِه َفِبَذِل َ‬‫ل َوِبَر ْ‬ ‫ل ا ِّ‬
‫ضِ‬‫ل ِبَف ْ‬‫ضُه { ]الرعد‪ ،[36 :‬وقوله‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫َمن ُينِكُر َبْع َ‬

‫ض ِبَغْيرِ‬
‫لْر ِ‬ ‫ن ِفي ا َْ‬ ‫حو َ‬ ‫ن{ ] القصص‪ ،[76 :‬وقال‪َ} :‬ذِلُكْم ِبَما ُكْنُتْم َتْفَر ُ‬ ‫حي َ‬‫ب اْلَفِر ِ‬‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬‫ن ا َّ‬ ‫ح ِإ ّ‬
‫ل َتْفَر ْ‬
‫ل َلُه َقْوُمُه َ‬‫وقال‪ِ} :‬إْذ َقا َ‬
‫ن‬
‫سا َ‬ ‫خوٍر{ ]لقمان‪ ،[18 :‬وقال‪َ} :‬وِإّنا ِإَذا َأَذْقَنا ا ِْ‬
‫لْن َ‬ ‫ل َف ُ‬‫خَتا ٍ‬
‫ل ُم ْ‬
‫ب ُك ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬ ‫ن{ ]غافر‪ ،[75 :‬وقال‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫حو َ‬ ‫ق َوِبَما ُكْنُتْم َتْمَر ُ‬‫حّ‬ ‫اْل َ‬
‫ن َأَذْقَناُه َنْعَماَء‬ ‫س َكُفوٌر‪َ .‬وَلِئ ْ‬‫عَناَها ِمْنُه ِإّنُه َلَيُئو ٌ‬ ‫حَمةً ُثّم َنَز ْ‬
‫ن ِمّنا َر ْ‬‫سا َ‬ ‫لن َ‬ ‫ح ِبَها{ ]الشورى‪ ،[48 :‬وقال‪َ} :‬وَلِئ ْ‬
‫ن َأَذْقَنا ا ِْ‬ ‫حمًَة َفِر َ‬ ‫ِمّنا َر ْ‬
‫ت{ ]هود‪ ،[9-11 :‬وقال‪:‬‬ ‫حا ِ‬ ‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫صَبُروا َو َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل اّلِذي َ‬‫خوٌر‪ِ .‬إ ّ‬ ‫ح َف ُ‬‫عّني ِإّنُه َلَفِر ٌ‬‫ت َ‬ ‫سّيَئا ُ‬ ‫ب ال ّ‬
‫ن َذَه َ‬‫سْتُه َلَيُقوَل ّ‬
‫ضّراَء َم ّ‬ ‫َبْعَد َ‬
‫شِديٌد{‬ ‫خْيِر َل َ‬ ‫ب اْل َ‬
‫ح ّ‬‫شِهيٌد‪َ .‬وِإّنُه ِل ُ‬‫ك َل َ‬‫عَلى َذِل َ‬‫ن ِلَرّبِه َلَكُنوٌد‪َ .‬وِإّنُه َ‬‫سا َ‬‫لن َ‬‫ن ا ِْ‬ ‫جّما{ ]الفجر‪ ،[20 :‬وقال‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫حّبا َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ن اْلَما َ‬‫حّبو َ‬‫}َوُت ِ‬
‫ن{]يوسف‪ ،[87 :‬وقال‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن‬ ‫ل اْلَقْوُم الَكاِفُرو َ‬ ‫ل ِإ ّ‬
‫ح ا ِّ‬‫ن َرْو ِ‬‫س ِم ْ‬ ‫ل َيْيَئ ُ‬‫ل ِإّنُه َ‬ ‫ح ا ِّ‬ ‫ن َرْو ِ‬ ‫سوا ِم ْ‬ ‫]العاديات‪ ،[6-8 :‬وقال‪َ} :‬و َ‬
‫ل َتْيَأ ُ‬
‫ضاّلوَن{ ]الحجر‪.[56 :‬‬ ‫ل ال ّ‬‫حَمِة َرّبِه ِإ ّ‬ ‫ط ِمنْ َر ْ‬ ‫َيْقَن ُ‬

‫سولُ‬ ‫ب الّر ُ‬ ‫ن َيْنَقِل َ‬


‫ن َل ْ‬‫ظَنْنُتْم َأ ْ‬
‫ل َ‬‫ن{]فصلت‪ ،[23 :‬وقال‪َ} :‬ب ْ‬ ‫سِري َ‬‫خا ِ‬‫ن اْل َ‬‫حُتْم ِم ْ‬
‫صَب ْ‬
‫ظَننُتْم ِبَرّبُكْم َأْرَداُكْم َفَأ ْ‬
‫ظّنُكْم اّلِذي َ‬ ‫وقال‪َ} :‬وَذِلُكْم َ‬
‫ن الّنا َ‬
‫س‬ ‫سُدو َ‬ ‫حُ‬ ‫سْوِء َوُكْنُتْم َقْوًما ُبوًرا{ ]الفتح‪ ،[12 :‬وقال‪َ} :‬أْم َي ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ظّ‬ ‫ظَنْنُتْم َ‬
‫ك ِفي ُقُلوِبُكْم َو َ‬ ‫ن َذِل َ‬
‫ن ِإَلى َأْهِليِهْم َأَبًدا َوُزّي َ‬ ‫َواْلُمْؤِمُنو َ‬
‫صُدوِرِهْم‬ ‫ن ِفي ُ‬ ‫جُدو َ‬ ‫ل َي ِ‬‫سَد{ ] الفلق‪ ،[5 :‬وقال‪َ} :‬و َ‬ ‫حَ‬ ‫سٍد ِإَذا َ‬
‫حا ِ‬
‫شّر َ‬ ‫ن َ‬ ‫ضِلِه{ ]النساء‪ ،[54 :‬وقال‪َ} :‬وِم ْ‬ ‫ن َف ْ‬ ‫ل ِم ْ‬ ‫عَلى َما آَتاُهْم ا ُّ‬ ‫َ‬
‫ن َأْفَواِهِهْم َوَما‬‫ضاُء ِم ْ‬ ‫ت اْلَبْغ َ‬ ‫عِنّتْم َقْد َبَد ْ‬
‫ل َوّدوا َما َ‬‫خَبا ً‬
‫ل َيْأُلوَنُكْم َ‬
‫ن ُدوِنُكْم َ‬‫طاَنًة ِم ْ‬‫خُذوا ِب َ‬ ‫جًة ِمّما ُأوُتوا{ ]الحشر‪ ،[9 :‬وقال‪َ } :‬‬
‫ل َتّت ِ‬ ‫حا َ‬ ‫َ‬
‫ت ِإْن ُكْنُتْم َتْعِقُلوَن‪َ .‬هاَأْنُتْم ُأْوَلِء ُتِحّبوَنُهْم َوَل ُيِحّبوَنُكْم{ ]آل عمران‪ ،[119 ،118 :‬وقال‪:‬‬ ‫لَيا ِ‬
‫صُدوُرُهْم َأْكَبُر َقْد َبّيّنا َلُكْم ا ْ‬ ‫خِفي ُ‬ ‫ُت ْ‬
‫صُدوِر{‬ ‫ل َما ِفي ال ّ‬ ‫صَ‬ ‫ح ّ‬‫ضَغاَنُكْم{ ]محمد‪ ،[37 :‬وقال‪ِ} :‬إَذا ُبْعِثَر َما ِفي اْلُقُبوِر‪َ .‬و ُ‬ ‫ج َأ ْ‬ ‫خِر ْ‬‫خُلوا َوُي ْ‬‫حِفُكْم َتْب َ‬
‫ن َيسَْأْلُكُموَها َفُي ْ‬‫}ِإ ْ‬
‫ض{‬‫طَمَع اّلِذي ِفي َقْلِبِه َمَر ٌ‬ ‫ضا{ ]البقرة‪ ،[10 :‬وقال‪َ} :‬فَي ْ‬ ‫ل َمَر ً‬ ‫ض َفَزاَدُهْم ا ُّ‬ ‫]العاديات‪ ،[10 ،9 :‬وقال‪ِ} :‬في ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ن‬ ‫ن َلْم ُيِرْد ا ُّ‬
‫ك اّلِذي َ‬ ‫ض{ ]الحزاب‪ ،[12 :‬وقال‪ُ} :‬أْوَلِئ َ‬ ‫ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ‬ ‫ن َواّلِذي َ‬ ‫]الحزاب‪ ،[32 :‬وقال‪َ} :‬وِإْذ َيُقو ُ‬
‫ل اْلُمَناِفُقو َ‬
‫صُدوِر َوُهًدى َوَرْحَمٌة ِلْلُمْؤِمِنيَن{ ]يونس‪:‬‬
‫شَفاٌء لَِما ِفي ال ّ‬
‫ن َرّبُكْم َو ِ‬
‫ظٌة ِم ْ‬
‫عَ‬ ‫طّهَر ُقُلوَبُهْم{ ]المائدة‪ ،[41 :‬وقال‪َ} :‬قْد َ‬
‫جاَءْتُكْم َمْو ِ‬ ‫ُي َ‬
‫‪.[57‬‬

‫ل من مساعي القلوب وأعمالها‪،‬‬ ‫ل وسنة رسوله واتفاق المؤمنين يحمد ويذم على ما شاء ا ّ‬
‫ومثل هذا كثير في كتاب ا ّ‬
‫مثل قوله في الحديث الصحيح المتفق عليه‪) :‬ل تباغضوا ول تحاسدوا(‪ ،‬وقوله‪) :‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه من‬
‫الخير ما يحب لنفسه(‪ ،‬وقوله‪) :‬مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه‬
‫عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر(‪ ،‬وقوله‪) :‬ل يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر(‪ ،‬و)ل يدخل‬
‫النار من في قلبه مثقال ذرة من اليمان(‪ ،‬وقوله‪) :‬ل تسموا العنب الكرم‪ ،‬وإنما الكرم قلب المؤمن( وأمثال هذا كثير‪.‬‬

‫بل قول القلب وعمله هو الصل‪ ،‬مثل تصديقه وتكذيبه وحبه وبغضه‪ ،‬من ذلك ما يحصل به مدح وذم وثواب وعقاب‬
‫بدون فعل الجوارح الظاهرة‪ ،‬ومنه ما ل يقترن به ذلك إل مع الفعل بالجوارح الظاهرة ‪ /‬إذا كانت مقدورة‪ ،‬وأما ما‬
‫ترك فيه فعل الجوارح الظاهرة للعجز عنه فهذا حكم صاحبه حكم الفاعل‪ ،‬فأقوال القلب وأفعاله ثلثة أقسام‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬ما هو حسنة وسيئة بنفسه‪.‬‬

‫وثانيها‪ :‬ما ليس سيئة بنفسه حتى يفعل‪ ،‬وهو السيئة المقدورة كما تقدم‪.‬‬

‫وثالثها‪ :‬ما هو مع العجز كالحسنة والسيئة المفعولة‪ ،‬وليس هو مع القدرة كالحسنة والسيئة المفعولة‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬

‫فالقسم الول‪ :‬هو ما يتعلق بأصول اليمان من التصديق والتكذيب‪ ،‬والحب والبغض‪ ،‬وتوابع ذلك؛ فإن هذه المور‬
‫يحصل فيها الثواب والعقاب‪ ،‬وعلو الدرجات‪ ،‬وأسفل الدركات‪ ،‬بما يكون في القلوب من هذه المور‪ ،‬وإن لم يظهر‬
‫على الجوارح‪ ،‬بل المنافقون يظهرون بجوارحهم القوال والعمال الصالحة‪ ،‬وإنما عقابهم وكونهم في الدرك السفل‬
‫من النار على ما في قلوبهم من المراض‪ ،‬وإن كان ذلك قد يقترن به أحياًنا بغض القول والفعل‪ ،‬لكن ليست العقوبة‬
‫سيَماُهْم‬
‫لَرْيَناَكُهْم َفَلَعَرْفَتُهْم ِب ِ‬ ‫مقصورة على ذلك البغض اليسير‪ ،‬وإنما ذلك البغض دللة كما قال تعالى‪َ} :‬وَلْو َن َ‬
‫شاُء َ‬
‫َوَلَتْعِرَفّنُهْم ِفي َلْحِن اْلَقْوِل{ ]محمد‪ ،[30 :‬فأخبر أنهم لبد أن يعرفوا في لحن القول‪.‬‬

‫وأما القسم الثاني‪ ،‬والثالث‪ :‬فمظنة الفعال التي ل تنافى أصول اليمان‪ ،‬مثل المعاصي الطبعية‪ ،‬مثل الزنا‪ ،‬والسرقة‪،‬‬
‫ل وأن‬‫وشرب الخمر‪ ،‬كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬من مات يشهد أن ل إله إل ا ّ‬
‫ل‪ ،‬دخل الجنة‪ ،‬وإن زنا وإن سرق‪ ،‬وإن شرب الخمر(‪ ،‬وكما شهد النبي صلى ال عليه وسلم في‬ ‫محمًدا رسول ا ّ‬
‫الحديث الصحيح للرجل الذي كان يكثر شرب الخمر‪ ،‬وكان يجلده كلما جيء به فلعنه رجل‪ ،‬فقال‪) :‬ل تلعنه فإنه يحب‬
‫ل ما أكثر ما يؤتى به في شرب الخمر‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه‬ ‫ل ورسوله(‪ ،‬وفي رواية قال بعضهم‪ :‬أخزاه ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫وسلم‪) :‬ل تكونوا أعواًنا للشيطان على أخيكم( وهذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة‪.‬‬

‫ل تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به(‪ ،‬والعفو عن حديث النفس إنما وقع‬ ‫ولهذا قال‪) :‬إن ا ّ‬
‫ل وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر‪ ،‬فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من المور التي ل‬ ‫لمة محمد المؤمنين با ّ‬
‫تقدح في اليمان‪ ،‬فأما ما نافى اليمان فذلك ل يتناوله لفظ الحديث؛لنه إذا نافى اليمان لم يكن صاحبه من ‪ /‬أمة‬
‫محمد في الحقيقة‪ ،‬ويكون بمنزلة المنافقين‪ ،‬فل يجب أن يعفى عما في نفسه من كلمه أو عمله‪ ،‬وهذا فرق بين يدل‬
‫ل لهذه المة عن الخطأ والنسيان‪ ،‬كما دل عليه الكتاب‬ ‫عليه الحديث‪ ،‬وبه تأتلف الدلة الشرعية‪ ،‬وهذا كما عفا ا ّ‬
‫والسنة‪ ،‬فمن صح إيمانه عفى له عن الخطأ والنسيان‪ ،‬وحديث النفس‪ ،‬كما يخرجون من النار‪ ،‬بخلف من ليس معه‬
‫اليمان فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه؛ ولهذا جاء‪) :‬نية المؤمن خير من‬
‫عمله( هذا الثر رواه أبو الشيخ الصبهاني في ]كتاب المثال[ من مراسيل ثابت البناني‪ ،‬وقد ذكره ابن القيم في النية‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫من طرق عن النبي صلى ال عليه وسلم ثم ضعفها‪ ،‬فا ّ‬

‫فإن النية يثاب عليها المؤمن بمجردها‪ ،‬وتجرى مجرى العمل إذا لم يمنع من العمل بها إل العجز‪ ،‬ويمكنه ذلك في‬
‫عامة أفعال الخير‪ ،‬وأما عمل البدن فهو مقيد بالقدرة‪ ،‬وذلك ل يكون إل قليل؛ ولهذا قال بعض السلف‪ :‬قوة المؤمن في‬
‫قلبه‪ ،‬وضعفه في بدنه‪ ،‬وقوة المنافق في بدنه‪ ،‬وضعفه في قلبه‪.‬‬
‫شاُء{‬
‫ن َي َ‬
‫ب َم ْ‬
‫شاُء َوُيَعّذ ُ‬
‫ن َي َ‬
‫ل َفَيْغِفُر ِلَم ْ‬
‫سْبُكْم ِبِه ا ُّ‬
‫حا ِ‬
‫خُفوُه ُي َ‬
‫سُكْم َأْو ُت ْ‬ ‫وقد دل على هذا الصل قوله تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫ن ُتْبُدوا َما ِفي َأنُف ِ‬
‫الية ]البقرة‪ ،[284 :‬وهذه الية وإن كان قد قال طائفة من السلف‪ :‬إنها منسوخة كما روى البخاري في صحيحه عن‬
‫مروان الصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ـ وهو ابن عمر ـ أنها نسخت‪ ،‬فالنسخ في لسان‬
‫صا للعام أو تقييدا للمطلق‪،‬‬
‫السلف أعم مما هو في لسان المتأخرين‪ ،‬يريدون به رفع الدللة مطلقا‪ ،‬وإن كان تخصي ً‬
‫وغير ذلك‪ ،‬كما هو معروف في عرفهم‪ ،‬وقد أنكر آخرون نسخها لعدم دليل ذلك‪ ،‬وزعم قوم أن ذلك خبر‪ ،‬والخبر ل‬
‫ينسخ‪ ،‬ورد آخرون بأن هذا خبر عن حكم شرعي‪ ،‬كالخبر الذي بمعنى المر والنهي‪.‬‬

‫ل َنْفًسا ِإّل ُوْسَعَها{ ]البقرة‪ ،[286 :‬كما‬


‫ف ا ُّ‬ ‫والقائلون بنسخها يجعلون الناسخ لها الية التي بعدها وهي قوله‪َ } :‬‬
‫ل ُيَكّل ُ‬
‫روى مسلم في صحيحه من حديث أنس في هذه الية‪ ،‬فيكون المرفوع عنهم ما فسرت به الحاديث‪ ،‬وهو ما هموا به‬
‫وحدثوا به أنفسهم من المور المقدورة‪ ،‬ما لم يتكلموا به أو يعملوا به‪ ،‬ورفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا‬
‫ل تجاوز لمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه(‪.‬‬ ‫عليه‪ .‬كما روى ابن ماجه وغيره بإسناد حسن‪) :‬إن ا ّ‬

‫وحقيقة المر‪ :‬أن قوله سبحانه‪َ} :‬وِإْن ُتْبُدوا َما ِفي َأنُفِسُكْم َأْو ُتْخُفوُه{ ]البقرة‪ ،[284 :‬لم يدل على المؤاخذة بذلك؛ بل دل‬
‫ب َمن َيَشاء { ل يستلزم أنه‬ ‫على المحاسبة به‪ ،‬ول ‪ /‬يلزم من كونه يحاسب أن يعاقب؛ ولهذا قال‪َ} :‬فَيْغِفُر ِلَمن َي َ‬
‫شاء َوُيَعّذ ُ‬
‫قد يغفر ويعذب بل سبب ول ترتيب‪ ،‬ول أنه يغفر كل شيء‪ ،‬أو يعذب على كل شيء‪ ،‬مع العلم بأنه ل يعذب‬
‫المؤمنين‪ ،‬وأنه ل يغفر أن يشرك به إل مع التوبة‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬

‫ضا بين ما كان مقدوًرا عليه فلم‬


‫والصل أن يفرق بين ما كان مجامًعا لصل اليمان وما كان منافًيا له‪ ،‬ويفرق أي ً‬
‫يفعل‪ ،‬وبين ما لم يترك إل للعجز عنه‪ ،‬فهذان الفرقان هما فصل في هذه المواضيع المشتبهة‪.‬‬

‫وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في المسألة إنما وقع لكونهم رأوا عزًما جازًما ل يقترن به فعل قط‪ ،‬وهذا ل‬
‫يكون إل إذا كان الفعل مقارًنا للعزم‪ ،‬وإن كان العجز مقارًنا للرادة؛ امتنع وجود المراد‪ ،‬لكن ل تكون تلك إرادة‬
‫ضا‪ ،‬فمع الرادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدمات‬‫جازمة‪ ،‬فإن الرادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أي ً‬
‫الفعل ولوازمه‪ ،‬وإن لم يوجد الفعل نفسه‪.‬‬

‫والنسان يجد من نفسه‪ :‬أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وإرادته‪ ،‬ومع العجز عنه يضعف ذلك‬
‫الطمع‪ ،‬وهو ل يعجز عما يقوله ويفعله على السواء‪ ،‬ول عما يظهر على صفحات وجهه‪/ ،‬وفلتات لسانه‪ ،‬مثل بسط‬
‫الوجه وتعبسه‪ ،‬وإقباله على الشيء والعراض عنه‪ ،‬وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم‬
‫والعقاب‪ ،‬كما يترتب عليها الحمد والثواب‪.‬‬

‫وبعض الناس يقدر عزما جازما ل يقترن به فعل قط‪ ،‬وهذا ل يكون إل لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره‪،‬‬
‫فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازًما‪ ،‬ول نزاع في إطلق اللفاظ؛ فإن من الناس من يفرق بين العزم‬
‫والقصد فيقول‪ :‬ما قارن الفعل فهو قصد‪ ،‬وما كان قبله فهو عزم‪ .‬ومنهم من يجعل الجميع سواء‪ ،‬وقد تنازعوا‪ :‬هل‬
‫ل لما يفعله في المستقبل عزًما ؟ وهو نزاع لفظي؛ لكن ما عزم النسان عليه أن يفعله في المستقبل‪،‬‬‫تسمى إرادة ا ّ‬
‫ضا‪:‬‬
‫فلبد حين فعله من تجدد إرادة‪ ،‬غير العزم المتقدم‪ ،‬وهي الرادة المستلزمة لوجود الفعل مع القدرة‪ ،‬وتنازعوا أي ً‬
‫ضا في ذلك قولن‪.‬‬‫هل يجب وجود الفعل مع القدرة والداعي؟ وقد ذكروا أي ً‬

‫والظهر أن القدرة مع الداعي التام تستلزم وجود المقدور‪ ،‬والرادة مع القدرة تستلزم وجود المراد‪.‬‬

‫والمتنازعون في هذه أراد أحدهم إثبات العقاب مطلًقا على كل عزم على فعل مستقبل‪ ،‬وإن لم يقترن به فعل‪ ،‬وإرادة‬
‫الخر رفع العقاب ‪ /‬مطلًقا عن كل ما في النفس من الرادات الجازمة ونحوها‪ ،‬مع ظن الثنين أن ذلك الواحد لم‬
‫يظهر بقول ول عمل‪ ،‬وكل من هذين انحراف عن الوسط‪.‬‬

‫فإذا عرف أن الرادة الجازمة ل يتخلف عنها الفعل مع القدرة إل لعجز يجري صاحبها مجرى الفاعل التام في‬
‫الثواب والعقاب‪ .‬وأما إذا تخلف عنها ما يقدر عليها فذلك المتخلف ل يكون مراًدا إرادة جازمة‪ ،‬بل هو الهم الذي وقع‬
‫العفو عنه‪ ،‬وبه ائتلفت النصوص والصول‪.‬‬
‫ثم هنا مسائل كثيرة فيما يجتمع في القلب من الرادات المتعارضة كالعتقادات المتعارضة‪ ،‬وإرادة الشيء وضده‪،‬‬
‫مثل شهوة النفس للمعصية وبغض القلب لها‪ ،‬ومثل حديث النفس الذي يتضمن الكفر إذا قارنه بعض ذلك والتعوذ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم إليه فقالوا‪ :‬إن أحدنا يجد في نفسه ما لن يحترق حتى يصير‬ ‫منه‪ ،‬كما شكا أصحاب رسول ا ّ‬
‫حممة‪ ،‬أو يخر من السماء إلى الرض أحب إليه من أن يتكلم به‪ .‬فقال‪) :‬أو قد وجدتموه؟!( فقالوا‪ :‬نعم‪ .‬قال‪) :‬ذلك‬
‫ل الذي رد كيده إلى الوسوسة(‪.‬‬ ‫صريح اليمان( رواه مسلم من حديث ابن مسعود‪ ،‬وأبي هريرة‪ ،‬وفيه‪) :‬الحمد ّ‬

‫وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان ‪ /‬به على الجواب‪ ،‬فإن له موارد واسعة‪ .‬فهنا لما اقترن‬
‫بالوسواس هذا البغض وهذه الكراهة‪ ،‬كان هو صريح اليمان‪ ،‬وهو خالصه ومحضه؛ لن المنافق والكافر ل يجد‬
‫هذا البغض‪ ،‬وهذه الكراهة مع الوسوسة بذلك‪ ،‬بل إن كان في الكفر البسيط‪ ،‬وهو العراض عما جاء به الرسول‪،‬‬
‫وترك اليمان به ـ وإن لم يعتقد تكذيبه ـ فهذا قد ل يوسوس له الشيطان بذلك‪ ،‬إذ الوسوسة بالمعارض المنافي لليمان‬
‫إنما يحتاج إليها عند وجود مقتضيه‪ ،‬فإذا لم يكن معه ما يقتضي اليمان لم يحتج إلى معارض يدفعه‪ ،‬وإن كان في‬
‫الكفر المركب وهو التكذيب فالكفر فوق الوسوسة‪ ،‬وليس معه إيمان يكره به ذلك‪.‬‬

‫حَتَم َ‬
‫ل‬ ‫ت َأْوِدَيٌة ِبَقَدِرَها َفا ْ‬
‫ساَل ْ‬
‫سَماِء َماًء َف َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ولهذا لما كانت هذه الوسوسة عارضة لعامة المؤمنين‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬أنَز َ‬
‫ل ِم ْ‬
‫ل المثل لمـا‬ ‫الّسْيُل َزَبًدا َراِبًيا َوِمّما ُيوِقُدوَن َعَلْيِه ِفي الّناِر اْبِتَغاَء ِحْلَيٍة َأْو َمَتاٍع َزَبٌد ِمْثُلُه{ اليات ] الرعد‪ .[17 :‬فضرب ا ّ‬
‫ينزله مـن اليمان والقرآن بالماء الذي ينزل في أودية الرض‪ ،‬وجعل القلوب كالودية‪ ،‬منها الكبير‪ ،‬ومنها الصغير‬
‫ل به من الهدى والعلم‬
‫كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬مثل ما بعثني ا ّ‬
‫ضا‪ ،‬فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكل والعشب الكثير‪ ،‬وكانت منها طائفة أمسكـت‬‫كمثل غيث أصاب أر ً‬
‫الماء فسقـى الناس وشربـوا‪ ،‬وكانـت منهـا طائفة إنما هي ‪ /‬قيعان ل تمسـك مـاًء ول تنبـت كل‪ ،‬فذلك مثل من فقه في‬
‫ل الذي أرسلت به(‬‫سا ولم يقبل هدى ا ّ‬
‫ل بما بعثني به من الهدى والعلم‪ ،‬ومثل من لم يرفع بذلك رأ ً‬
‫ل ونفعه ا ّ‬‫دين ا ّ‬
‫فهذا أحد المثلين‪.‬‬

‫والمثل الخر ما يوقد عليه لطلب الحلية والمتاع‪ ،‬من معادن الذهب والفضة والحديد ونحوه‪ ،‬وأخبر أن السيل يحتمل‬
‫طَل َفَأّما الّزَبُد{ ]الرعد‪،[17 :‬‬ ‫ق َواْلَبا ِ‬‫حّ‬ ‫ل اْل َ‬
‫ب ا ُّ‬
‫ضِر ُ‬ ‫ك َي ْ‬‫زبًدا رابًيا ومما يوقدون عليه في النار زبد مثله‪ ،‬ثم قال‪َ} :‬كَذِل َ‬
‫الرابي على الماء وعلى الموقد عليه فهو نظير ما يقع في قلوب المؤمنين من الشك والشبهات في العقائد والرادات‬
‫ب ُجَفاًء{ يجفوه القلب فيرميه ويقذفه كما‬ ‫الفاسدة كما شكاه الصحابة إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬فَيْذَه ُ‬
‫ض{ وهو مثل ما ثبت في القلوب من اليقين واليمان‪ ،‬كما‬ ‫لْر ِ‬ ‫ث ِفي ا َْ‬ ‫يقذف الماء الزبد ويجفوه }َوَأّما َما َينَفُع الّنا َ‬
‫س َفَيْمُك ُ‬
‫خَرِة‬
‫لِ‬‫حَياةِ الّدْنَيا َوِفي ا ْ‬
‫ت ِفي اْل َ‬
‫ل الّثاِب ِ‬
‫ن آَمُنوا ِباْلَقْو ِ‬‫ل اّلِذي َ‬ ‫طّيَبٍة{ الية‪ ،‬إلى قوله‪ُ} :‬يَثّب ُ‬
‫ت ا ُّ‬ ‫جَرٍة َ‬ ‫شَ‬‫طّيَبًة َك َ‬
‫ل َكِلَمًة َ‬‫قال تعالى‪َ} :‬مَث ً‬
‫ل َما َيَشاُء{ ]إبراهيم‪ 24 :‬ـ ‪.[27‬‬ ‫ل ا ُّ‬‫ن َوَيْفَع ُ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ل ال ّ‬
‫ل ا ُّ‬
‫ضّ‬‫َوُي ِ‬

‫فكل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنفاق فكرهه وألقاه ازداد إيماًنا ويقيًنا‪ ،‬كما أن كل من حدثته نفسه‬
‫حا وبًرا وتقوى‪.‬‬
‫ل ازداد صل ً‬‫بذنب فكرهه ونفاه عن نفسه وتركه ّ‬

‫‪/‬وأما المنافق فإذا وقعت له الهواء والراء المتعلقة بالنفاق لم يكرهها ولم ينفها‪ ،‬فإنه قد وجدت منه سيئة الكفر من‬
‫غير حسنة إيمانية تدفعها أو تنفيها‪ ،‬والقلوب يعرض لها اليمان والنفاق‪ ،‬فتارة يغلب هذا‪ ،‬وتارة يغلب هذا‪.‬‬

‫ل تجاوز لمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها( كما في بعض ألفاظه في‬ ‫وقوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن ا ّ‬
‫الصحيح‪ ،‬هو مقيد بالتجاوز للمؤمنين‪ ،‬دون من كان مسلًما في الظاهر‪ ،‬وهو منافق في الباطن وهم كثيرون في‬
‫المتظاهرين بالسلم قديًما وحديًثا‪ .‬وهم في هذه الزمان المتأخرة في بعض الماكن أكثر منهم في حال ظهور‬
‫اليمان في أول المر‪ ،‬فمن أظهر اليمان وكان صادًقا مجتنًبا ما يضاده أويضعفه يتجاوز له عما يمكنه التكلم به‬
‫والعمل به‪ ،‬دون ما ليس كذلك‪ .‬كما دل عليه لفظ الحديث‪.‬‬

‫فالقسمان اللذان بينا أن العبد يثاب فيهما ويعاقب على أعمال القلوب خارجة من هذا الحديث‪ ،‬وكذلك قوله‪) :‬من هم‬
‫بحسنة(‪) ،‬من هم بسيئة( إنما هو في المؤمن الذي يهم بسيئة أو حسنة يمكنه فعلها فربما فعلها وربما تركها؛ لنه أخبر‬
‫أن الحسنة تضاعف بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة‪.‬‬
‫ل{ ]البقرة‪ ،[261 :‬و }اْبِتَغاَء‬
‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن ُينِفُقونَ َأْمَواَلُهْم ِفي َ‬ ‫ل‪ .‬كما قال تعالى‪َ} :‬مَث ُ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫‪/‬وهذا إنما هو لمن يفعل الحسنات ّ‬
‫ل يطعمه بحسناته‬ ‫ل{ ]البقرة‪ ،[265 :‬و }اْبِتَغاَء َوْجِه َرّبِه{ ]الليل‪ [20 :‬وهذا للمؤمنين؛ فإن الكافر وإن كان ا ّ‬ ‫ضاةِ ا ِّ‬
‫َمْر َ‬
‫في الدنيا‪ ،‬وقد يخفف عنه بها في الخرة‪ ،‬كما خفف عن أبي طالب لحسانه إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبشفاعة‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلم يوعد لكافر على حسناته بهذا التضعيف‪ ،‬وقد جاء ذلك مقيًدا في حديث آخر‪ :‬إنه في‬
‫المسلم الذي هو حسن السلم‪.‬‬

‫ل على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم‪.‬‬


‫ل رب العالمين‪ ،‬وصلى ا ّ‬
‫ل ـ سبحانه ـ أعلم‪ ،‬والحمد ّ‬
‫وا ّ‬

You might also like