Professional Documents
Culture Documents
مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد العاشرباب الآداب والتصوف
مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد العاشرباب الآداب والتصوف
)الداب والتصوف(
شيخ السلم تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
ل فل مضل له ،ومن يضلل ل من شرور أنفسنا ،ومن سيئات أعمالنا ،من يهده ا ّ
ل نستعينه ونستغفره ،ونعوذ با ّ
الحمد ّ
ل عليه وآله وسلم.
ل وحده ل شريك له ،ونشهد أن محمًدا عبده ورسوله ـ صلى ا ّ فل هادي له ،ونشهد أن ل إله إل ا ّ
أما بعد:
فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب ـ التي قد تسمى ]المقامات والحوال[ـ وهي من أصول اليمان ،وقواعد
ل ،وإخلص الدين له ،والشكر له ،والصبر على حكمه ،والخوفل ورسوله ،والتوكل على ا ّالدين ،مثل /محبة ا ّ
ل حقه من أهل اليمان ،واستكتبها وكل منا عجلن.
منه ،والرجاء له ،وما يتبع ذلك .اقتضى ذلك بعض من أوجب ا ّ
فأقول :هذه العمال جميعها واجبة على جميع الخلق ـ المأمورين في الصل ـ باتفاق أئمة الدين ،والناس فيها على
ثلث درجات كما هم في أعمال البدان على ثلث درجات :ظالم لنفسه ،ومقتصد ،وسابق بالخيرات.
والسابق بالخيرات :المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب ،والتارك للمحرم والمكروه .وإن كان كل من
ل يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإما بحسنات المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه :إما بتوبة ـ وا ّ
ل الذين ذكرهم في ماحية ،وإما بمصائب مكفرة ،وإما بغير ذلك .وكل من الصنفين :المقتصدين والسابقين من أولياء ا ّ
ل:
ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن .اّلِذيَن آَمُنوا َوَكاُنوا َيّتُقوَن{ ]يونس .[63 ،62 :فحد أولياء ا ّ
خْو ٌ
ل َ
ل َ
ن َأْوِلَياَء ا ِّ كتابه بقولهَ} :أ َ
ل ِإ ّ
هم المؤمنون المتقون ،ولكن ذلك ينقسم إلى عام وهم :المقتصدون / ،وخاص وهم :السابقون ،وإن كان السابقون هم
أعلى درجات كالنبياء والصديقين.
وقد ذكر النبي صلى ال عليه وسلم القسمين في الحديث الذي رواه البخـاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الّ
ل :من عادى لي ولًيا فقد بارزني بالمحاربة ،وما تقرب عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وآله وسلم ـ أنه قال) :يقول ا ّ
ى بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي
ى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ،ول يزال عبدي يتقرب إل ّ إل ّ
يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها ،فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش
وبي يمشي ،ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه ،وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس
عبدي المؤمن ،يكره الموت وأكره مساءته ولبد له منه(.
ل بقدر إيمانه وتقواه ،كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره ،إذوأما الظالم لنفسه من أهل اليمان ،فمعه من ولية ا ّ
الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب ،والسيئات المقتضية للعقاب ،حتى يمكن أن يثاب ويعاقب،
ل ـ صلى ال عليه وآله وسلم ـ وأئمة السلم وأهل السنة والجماعة الذين يقولون:وهذا قول جميع أصحاب رسول ا ّ
إنه ل يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وأما القائلون بالتخليد ،كالخوارج والمعتزلة القائلين :إنه ل يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة ،وأنه ل شفاعة
للرسول ول لغيره في أهل الكبائر ،ل قبل دخول النار ول بعده ،فعندهم ل يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب،
وحسنات وسيئات ،بل من أثيب ل يعاقب ،ومن عوقب لم يثب .ودلئل هذا الصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف
المة كثير ليس هذا موضعه ،وقد بسطناه في مواضعه.
وينبني على هذا أمور كثيرة؛ ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلبد أن يكون معه من هذه العمال بقدر إيمانه ،وإن
ل كان يسمى حماًرال عنه ـ أن رج ً
كان له ذنوب ،كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ
وكان يضحك النبي صلى ال عليه وسلم .وكان يشرب الخمر ،ويجلده النبي صلى ال عليه وسلم ،فأتى به مرة فقال
ل ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى ال عليه وسلم .فقال له النبي صلى ال عليه وسلم) :ل تلعنه فإنه
رجل :لعنه ا ّ
ل ورسوله(. يحب ا ّ
ل ورسوله أوثق عرى اليمان ،كما أن العابد ل ورسوله ،وحب ا ّ فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محًبا ّ
ل ورسوله من ذلك الوجه ،كما استفاض في الصحاح طا عليه عند ا ّ
الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخو ً
وغيرها من حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي ـ صلى ال عليه وعلى
آله وسلم ـ أنه ذكر الخوارج فقال) :يحقر /أحدكم صلته مع صلتهم ،وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم،
يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم ،يمرقون من السلم كما يمرق السهم من الّرِمّية ،أينما لقيتموهم فاقتلوهم ،فإن
ل لمن قتلهم يوم القيامة ،لئن أدركتهم لقتلنهم قتل عاد(.
في قتلهم أجًرا عند ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب بأمر النبي صلى ال
وهؤلء قاتلهم أصحاب رسول ا ّ
عليه وسلم .وقال النبي صلى ال عليه وسلم فيهم في الحديث الصحيح) :تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين
يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق(.
ولهذا قال أئمة السلم ،كسفيان الثوري وغيره :إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لن البدعة ل يتاب منها،
ل ول رسوله قدوالمعصية يتاب منها .ومعنى قولهم :إن البدعة ل يتاب منها :أن المبتدع الذي يتخذ ديًنا لم يشرعه ا ّ
زين له سوء عمله فرآه حسًنا ،فهو ل يتوب ما دام يراه حسًنا؛ لن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه ،أو بأنه
ترك حسًنا مأموًرا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله .فما دام يرى فعله حسًنا وهو سيئ في نفس المر فإنه ل
يتوب.
ل ويرشده حتى يتبين له الحق ،كما هدى ـ سبحانه وتعالى ـ من هدى من ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه ا ّ
الكفار والمنافقين وطوائف من أهل /البدع والضلل ،وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه ،فمن عمل بما علم
ن اْهَتَدْوا َزاَدُهْم ُهًدى َوآَتاُهْم َتْقواُهْم{ ]محمد ،[17 :وقال تعالىَ} :وَلْو َأّنُهْم ل علم ما لم يعلم كما قال تعالىَ} :واّلِذي َ أورثه ا ّ
طا ُمْسَتِقيًما{ ]النساء66 :ـ صَرا ً ظيًماَ .وَلَهَدْيَناُهْم ِ عِ جًرا َ ن َلُدّنا َأ ْ
لَتْيَناُهْم ِم ْ
شّد َتْثِبيًتاَ .وِإًذا َ
خْيًرا َلُهْم َوَأ َ
ن َ ن ِبِه َلَكا َ
ظو َ عَُفَعُلوا َما ُيو َ
ن ِبِه َوَيْغِفْر َلُكْم َوا ُّ
ل شو َ ل َلُكْم ُنوًرا َتْم ُ
جَع ْحَمِتِه َوَي ْ
ن َر ْن ِم ْسوِلِه ُيْؤِتُكْم ِكْفَلْي ِل َوآِمُنوا ِبَر ُ ن آَمُنوا اّتُقوا ا َّ ،[68وقال تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ
ت ِإَلى الّنوِر{ ]البقرة ،[257 :وقال ظُلَما ِن ال ّ
جُهْم ِم ْ خِر ُ ن آَمُنوا ُي ْ ي اّلِذي َ حيٌم{ ]الحديد ،[28 :وقال تعالى} :ا ُّ
ل َوِل ّ غُفوٌر َر ِ َ
ت ِإَلى الّنوِر ِبِإْذِنِه
ظُلَما ِ
ن ال ّ
جُهْم ِم ْ خِر ُلِم َوُي ْسَ ل ال ّ
سُب َ
ضَواَنُه ُ ن اّتَبَع ِر ْ ل َم ْنَ .يْهِدي ِبِه ا ُّ ب ُمِبي ٌ ل ُنوٌر َوِكَتا ٌ ن ا ِّ تعالىَ} :قْد َ
جاَءُكْم ِم ْ
ط ُمْسَتِقيٍم{ ]المائدة .[16 ،15 :وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة. صَرا ٍ َوَيْهِديِهْم ِإَلى ِ
وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبًعا لهواه ،فإن ذلك يورثه الجهل والضلل حتى يعمى قلبه عن الحق
ن{]الصف ،[5 :وقال تعالىِ} :في ُقُلوِبِهْم سِقي َل َيْهِدي اْلَقْوَم اْلَفا ِ ل َ ل ُقُلوَبُهْم َوا ُّ
غ ا ُّ الواضح ،كما قال تعالىَ} :فَلّما َزا ُ
غوا َأَزا َ
عْنَدت ِ لَيا ُل ِإّنَما ا ْ
ن ِبَها ُق ْ
جاَءْتُهْم آَيٌة َلُيْؤِمُن ّ
ن َ
جْهَد َأْيَماِنِهْم َلِئ ْ
ل َ سُموا ِبا ِّضا{]البقرة ،[10 :وقال تعالىَ} :وَأْق َ ل َمَر ً
ض َفَزاَدُهْم ا ُّ
َمَر ٌ
ن{
طْغَياِنِهْم َيْعَمُهو َ
ل َمّرٍة َوَنَذُرُهْم ِفي ُ
صاَرُهْم َكَما َلْم ُيْؤِمُنوا ِبِه َأّو َ
ب َأْفِئَدَتُهْم َوَأْب َ
نَ .وُنَقّل ُ
ل ُيْؤِمُنو َ
ت َ
جاَء ْ
شِعُرُكْم َأّنَها ِإَذا َ
ل َوَما ُي ْ
ا ِّ
]النعام .[110 ،109 :وهذا استفهام نفي وإنكار ،أي :وما يدريكم أنها إذا جاءت ل يؤمنون ،وإنا نقلب أفئدَتهم
وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ ]إنها[ بالكسر تكون /جزًما بأنها إذا جاءت ل يؤمنون
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ ولهذا قال من قال من السلف كسعيد ابن جبير :إن من ثواب
الحسنة الحسنة بعدها ،وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها.
والصدق والخلص هما في الحقيقة تحقيق اليمان والسلم ،فإن /المظهرين للسلم ينقسمون إلى :مؤمن ومنافق،
ل حقيقة والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق ،فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر ا ّ
سَلْمَنا{إلى قولهِ} :إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ
ن ن ُقوُلوا َأ ْ
ل َلْم ُتْؤِمُنوا َوَلِك ْ ب آَمّنا ُق ْعَرا ُ لْ اليمان نعته بالصدق كما في قوله تعالىَ} :قاَل ْ
ت ا َْ
صاِدُقوَن{ ]الحجرات،[15 ،14 : ك ُهْم ال ّل ُأْوَلِئ َ
ل ا ِّ
سِبي ِ سِهْم ِفي َ جاَهُدوا ِبَأْمَواِلِهْم َوَأنُف ِسوِلِه ُثّم َلْم َيْرَتاُبوا َو َ
ل َوَر ُ ن آَمُنوا ِبا ِّ
اّلِذي َ
سوَلُه ُأْوَلِئكَ
ل َوَر ُ ن ا َّصُرو َ
ضَواًنا َوَيْن ُ
ل َوِر ْ ن ا ِّ
ل ِم ْ
ضً ن َف ْ ن ِدياِرِهْم َوَأْمَواِلِهْم َيْبَتُغو َ جوا ِم ْ خِر ُن ُأ ْ
ن اّلِذي َ
جِري َوقال تعالىِ} :لْلُفَقَراِء اْلُمَها ِ
صاِدُقوَن{ ]الحشر.[8 : ُهْم ال ّ
فأخبر أن الصادقين في دعوى اليمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة ،وجاهدوا في سبيله بأموالهم
ن
ن َلَما آَتْيُتُكْم ِم ْ
ق الّنِبّيي َ
ل ِميَثا َ وأنفسهم ،وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الولين والخرين كما قال تعالىَ} :وِإْذ َأ َ
خَذ ا ُّ
صِري َقاُلوا َأْقَرْرَنا َقا َ
ل عَلى َذِلُكْم ِإ ْ
خْذُتْم َ
ل َأَأْقَرْرُتْم َوَأ َ
صُرّنُه َقا َ
ن ِبِه َوَلَتْن ُ
ق ِلَما َمَعُكْم َلُتْؤِمُن ّ
صّد ٌ
ل ُم َ
سو ٌ
جاَءُكْم َر ُ
حْكَمٍة ُثّم َ
ب َو ِ
ِكَتا ٍ
ل نبًيا إل أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد َفاْشَهُدوا َوَأَنا َمَعُكْم ِمْن الّشاِهِديَن{]آل عمران ،[81 :قال ابن عباس :ما بعث ا ّ
وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ،وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
شِديٌد َوَمَناِفُع
حِديَد ِفيِه َبْأسٌ َ
ط َوَأْنَزْلَنا اْل َ
سِس ِباْلِق ْ
ن ِلَيُقوَم الّنا ُ
ب َواْلِميَزا َ
ت َوَأْنَزْلَنا َمَعُهْم اْلِكَتا َ
سَلَنا ِباْلَبّيَنا ِ وقال تعالىَ} :لَقْد َأْر َ
سْلَنا ُر ُ
ي َعِزيٌز{]الحديد ،[25 :فذكر ـ تعالى ـ أنه أنزل الكتاب والميزان ،وأنه ل َقِو ّ ن ا َّ ب ِإ ّسَلُه ِباْلَغْي ِ
صُرُه َوُر ُن َيْن ُ ل َم ْ س وَِلَيْعَلَم ا ُّ
ِللّنا ِ
ل من ينصره ورسله؛ ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي ،وسيف ينصر، أنزل الحديد لجل القيام بالقسط؛ وليعلم ا ّ
وكفى بربك هادًيا ونصيًرا .والكتاب والحديد وإن اشتركا في النزال فل يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل
حِكيِم{ ]الزمر ،[1 :وقال تعالى} :الر ل اْلَعِزيِز اْل َن ا ِّ
ب ِم ْ ل ،كما قال تعالىَ} :تْنِزي ُ
ل اْلِكَتا ِ الخر حيث نزل الكتاب من ا ّ
ك َلُتَلّقى اْلُقْرآَن ِمْن َلُدْن َحِكيٍم َعِليٍم{ ]النمل:
خِبيٍر{ ]هود ،[1 :وقال تعالىَ} :وِإّن َ حِكيٍم َ
ن َ
ن َلُد ْ
ت ِم ْ
صَل ْ
ت آَياُتُه ُثّم ُف ّ
حِكَم ْ
ب ُأ ْ
ِكَتا ٌ
،[6والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها.
شِرقِ ل اْلَم ْجوهَُكْم ِقَب َ ن ُتَوّلوا ُو ُ س اْلِبّر َأ ْوكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالىَ} :لْي َ
ن{ ك ُهْم اْلُمّتُقو َ صَدُقوا َوُأْوَلِئ َ ن َ ك اّلِذي َ ن{إلى قولهُ} :أْوَلِئ َ ب َوالّنِبّيي َ
لِئَكِة َواْلِكَتا ِ
خِر َواْلَم َ
لِل َواْلَيْوِم ا ْ
ن ِبا ِّ ن آَم َن اْلِبّر َم ْ
ب َوَلِك ّ
َواْلَمْغِر ِ
]البقرة ،[177 :وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالىِ} :في ُقُلوِبِهْم َمَرضٌ َفَزاَدُهْم ا ُّ
ل
ل َيْعلَُمل َوا ُّل ا ِّ سو ُ ك َلَر ُ شَهُد ِإّن َ
ن َقاُلوا َن ْ ك اْلُمَناِفُقو َ
جاَء َن{ ]البقرة ،[10 :وقوله تعالىِ} :إَذا َ ب َأِليٌم ِبَما َكاُنوا َيْكِذُبو َ عَذا ٌضا َوَلُهْم َ َمَر ً
خَلُفوا عَقَبُهْم ِنَفاًقا ِفي ُقُلوِبِهْم ِإَلى َيْوِم َيْلَقْوَنُه ِبَما َأ ْن{ ]المنافقون ،[1 :وقوله تعالىَ} :فَأ ْ ن َلَكاِذُبو َن اْلُمَناِفِقي َ
شَهُد ِإ ّ
ل َي ْ
سوُلُه َوا ُّك َلَر ُ
ِإّن َ
ل َما َوَعُدوُه َوِبَما َكاُنوا َيْكِذُبوَن{ ]التوبة .[77 :ونحو ذلك في القرآن كثير. ا َّ
ومما ينبغي أن يعرف :أن الصدق والتصديق يكون في القوال وفي /العمال ،كقول النبي صلى ال عليه وسلم في
الحـديث الصحـيح) :كتب على ابـن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك ل محالة ،فالعينان تزنيان وزناهما النظر،
والذنان تزنيان وزناهما السمع ،واليدان تزنيان وزناهما البطش ،والرجلن تزنيان وزناهما المشي ،والقلب يتمنى
ويشتهي ،والفرج يصدق ذلك أو يكذبه( .ويقال :حملوا على العدو حملة صادقة إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة،
ويقال فلن صادق الحب والمودة ونحو ذلك .ولهذا يريدون بالصادق :الصادق في إرادته وقصده وطلبه ،وهو
الصادق في عمله ،ويريدون الصادق في خبره وكلمه ،والمنافق ضد المؤمن الصادق ،وهو الذي يكون كاذًبا في
لِة
صَعُهْم َوِإَذا َقاُموا ِإَلى ال ّ
خاِد ُ
ل َوُهَو َ
ن ا َّ
عو َ
خاِد ُ
ن ُي َ ل تعالىِ} :إ ّ
ن اْلُمَناِفِقي َ خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله .قال ا ّ
س{ اليتين ]النساء.[143 ،142 : ن الّنا َ
ساَلى ُيَراُءو َ
َقاُموا ُك َ
ل ِفيِه
جًل َر ُ
ل َمَث ً
ب ا ُّ ل ل لغيره ،كما قال تعالىَ } :
ضَر َ وأما الخلص فهو حقيقة السلم ،إذ السلم هو :الستسلم ّ
ل فقد استكبر ،ومن استسلم ّ
ل ل َسَلًما ِلَرُجٍل َهْل َيْسَتِوَياِن{ الية ]الزمر .[29 :فمن لم يستسلم ّ
جًن َوَر ُ
سو َ
شاِك ُ
شَرَكاُء ُمَت َ
ُ
ولغيرة فقد أشرك ،وكل من الكبر والشرك ضد السلم ،والسلم ضد الشرك والكبر .ويستعمل لزًما ومتعدًيا كما
سٌ
ن حِ
ل َوُهَو ُم ْ
جَهُه ِّ
سَلَم َو ْ ن{ ]البقرة ،[131 :وقال تعالىَ} :بَلى َم ْ
ن َأ ْ ب اْلَعاَلِمي َ
ت ِلَر ّ
سَلْم ُ
ل َأ ْ
سِلْم َقا َ قال تعالىِ} :إْذ َقا َ
ل َلُه َرّبُه َأ ْ
ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن{ ]البقرة .[112 :وأمثال ذلك في القرآن كثير. خْو ٌ ل َ عْنَد َرّبِه َو َ
جُرُه ِ
َفَلُه َأ ْ
ل وحده وترك عبادة ما سواه ،وهو السلم ل[ ،وهي متضمنة عبادة ا ّ /ولهذا كان رأس السلم ]شهادة أن ل إله إل ا ّ
ل ِمْنُه َوُهَو ِفين ُيْقَب َلِم ِديًنا َفَل ْسَلْ غْيَر ا ِْ ل من الولين والخرين دينا سواه ،كما قال تعالىَ} :وَم ْ
ن َيْبَتِغ َ العام الذي ل يقبل ا ّ
ل ِإَلَه ِإ ّ
ل ط َ
سِ لِئَكُة َوُأْوُلوا اْلِعْلِم َقاِئًما ِباْلِق ْ
ل ُهَو َواْلَم َ
ل ِإَلَه ِإ ّ
ل َأّنُه َ ن{]آل عمران ،[85 :وقال تعالىَ } :
شِهَد ا ُّ سِري َخا ِن اْل َ
خَرِة ِم ْ
لِ اْ
لُم{]آل عمران.[19 ،18 : سَلْ
ل ا ِْ
عْنَد ا ِّ
ن ِ
ن الّدي َ
حِكيُمِ .إ ّ
ُهَو اْلَعِزيُز اْل َ
وهذا الذي ذكرناه ،مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة :هو المور الباطنة من العلوم والعمال ،وأن العمال
علنية،الظاهرة ل تنفع بدونها .كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده) :السلم َ
واليمان في القلب(؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي
صلى ال عليه وسلم) :الحلل َبّين ،والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات ل يعلمهن كثير من الناس ،فمن اتقى
ضه وِدينِه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع الشبهات فقد استبرأ لِعْر ِ
ل محارمه ،أل وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد فيه ،أل وإن لكل ملك حمى ،أل وإن حمى ا ّ
وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ،أل وهي القلب( ،وعن أبي هريرة قال :القلب ملك والعضاء جنوده ،فإذا طاب
الملك طابت جنوده ،وإذا خبث الملك خبثت جنوده.
َفصـــل
ل والخلص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك ،كلها مأمور بها في حق وهذه العمال الباطنة ،كمحبة ا ّ
الخاصة والعامة ل يكون تركها محموًدا في حال أحد ،وإن ارتقى مقامه.
ل به ول رسوله ،بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين ،كقوله تعالىَ} :و َ
ل َتِهُنوا وأما ]الحزن[ فلم يأمر ا ّ
ن{ ق ِمّما َيْمُكُرو َ
ضْي ٍ
ك ِفي َ ل َت ُ
عَلْيِهْم َو َ
ن َ
حَز ْ ن{ ]آل عمران ،[139 :وقولهَ} :و َ
ل َت ْ ن ُكْنُتْم ُمْؤِمِني َ
ن ِإ ْ
عَلْو َ
لْحَزُنوا َوَأْنُتْم ا َْ
ل َت ْ
َو َ
ك َقْوُلُهْم{ ]يونس،[56 : حُزْن َ ل َمَعَنا{ ]التوبة ،[40 :وقولهَ} :و َ
ل َي ْ ن ا َّ
ن ِإ ّ
حَز ْ
ل َت ْ
حِبِه َ
صا ِ
ل ِل َ ]النحل ،[127 :وقولهِ} :إْذ َيُقو ُ
ل َتْأَسْوا َعَلى َما َفاَتُكْم َوَل َتْفَرُحوا ِبَما آَتاُكْم{ ]الحديد .[23 :وأمثال ذلك كثير. وقولهِ} :لَكْي َ
ل به ،نعم! ل يأثم صاحبه إذا لم وذلك ؛لنه ل يجلب منفعة ول يدفع مضرة فل فائدة فيه ،وما ل فائدة فيه ل يأمر ا ّ
ل ل يؤاخذ على دمع العين يقترن بحزنه محرم ،كما يحزن على المصائب ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :إن ا ّ
ول على حزن القلب ،ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم( وأشار بيده إلى لسانه ،وقال صلى ال عليه وسلم) :تدمع العين،
عْيَناُه
ت َ
ض ْ
سفَ َواْبَي ّ
عَلى ُيو ُ
سَفى َ
ل َياَأ َ ويحزن القلب/ ،ول نقول إل ما يرضى الرب( ،ومنه قوله تعالىَ} :وَتَوّلى َ
عْنُهْم َوَقا َ
ظيٌم{]يوسف.[84 :ن َفُهَو َك ِ
حْز ِ
ن اْل ُ
ِم َ
وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه ،فيكون محموًدا من تلك الجهة ل من جهة الحزن ،كالحزين
على مصيبة في دينه ،وعلى مصائب المسلمين عموًما .فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير ،وبغض الشر،
وتوابع ذلك ،ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى
عنه ،وإل كان حسب صاحبه رفع الثم عنه من جهة الحزن.
ل ،والتوكل عليه ،والخلص له ونحو ذلك ،فهذه كلها خير محض ،وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد وأما المحبة ّ
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .ومن قال :إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك
إن أراد خروج الخاصة عنها ،فإن هذه ل يخرج عنها مؤمن قط ،وإنما يخرج عنها كافر أو منافق .وقد تكلم بعضهم
في ذلك بكلم ،بينا غلطه فيه وأنه تقصير في تحقيق هذه المقامات بكلم مبسوط وليس هذا موضعه.
/ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى :خصوص وعموم ،فللخاصة خاصها ،وللعامة عامها .مثال ذلك أن هؤلء
قالوا :إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت ،والخاص ل يناضل عن نفسه .وقالوا :المتوكل يطلب بتوكله
أمًرا من المور ،والعارف يشهد المور بفروعها منها فل يطلب شيًئا .فيقال :أما الول فإن التوكل أعم من التوكل
ل في صلح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم المور إليه؛ ولهذا في مصالح الدنيا ،فإن المتوكل يتوكل على ا ّ
ك َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة ،[5 :كما في قوله تعالىَ} :فاْعُبْدُه َوَتَوّكْل َعَلْيِه{ ]هود: يناجي ربه في كل صلة بقولهِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد َوِإّيا َ
ت َوِإَلْيِه
عَلْيِه َتَوّكْل ُ
ل ُهَو َ
ل ِإَلَه ِإ ّ ب{ ]هود ،88 :الشورى ،[10 :وقولهُ} :ق ْ
ل ُهَو َرّبي َ ت َوِإَلْيِه ُأِني ُ ،[123وقولهَ } :
عَلْيِه َتَوّكْل ُ
ب{]الرعد.[30 : َمَتا ِ
فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لن هذين يجمعان الدين كله؛ ولهذا قال من قال من السلف :إن ا ّ
ل
جمع الكتب المنزلة في القرآن ،وجمع علم القرآن في المفصل ،وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب ،وجمع علم
ك َنْسَتِعيُن{. فاتحة الكتاب في قولهِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد َوِإّيا َ
وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد ،كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي
ل سبحانه :قسمت الصلة بيني وبين عبدي نصفين ،نصفها لي ونصفها لعبدي، صلى ال عليه وسلم أنه قال) :يقول ا ّ
ل :حمدني عبدي. ل رب العالمين ،يقول ا ّ ل صلى ال عليه وسلم) :يقول العبد :الحمد ّ ولعبدي ما سأل( قال رسول ا ّ
ل :مجدني عبدي .يقول ل :أثنى على عبدي .يقول العبد :مالك يوم الدين ،يقول ا ّ يقول العبد :الرحمن /الرحيم ،يقول ا ّ
ل :فهذه الية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل .يقول العبد :اهدنا العبد :إياك نعبد وإياك نستعين ،يقول ا ّ
ل :فهؤلء لعبدي ولعبدي الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ول الضالين ،يقول ا ّ
ما سأل( .فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير ،والعبد له نصف الدعاء والطلب .وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه،
وما للعبد ،فإياك نعبد للرب ،وإىاك نستعين للعبد.
ل عنه ـ قال :كنت رديًفا للنبي صلى ال عليه وسلم على حمار فقال) :يا معاذ، وفي الصحيحين عن معاذ ـ رضي ا ّ
ل ورسوله أعلم ،قال) :حق ال على العباد أن يعبدوه ول يشركوا به شيئا، ل على العباد؟( قلت :ا ّأتدري ما حق ا ّ
ل ورسوله أعلم ،قال) :حقهم عليه أل يعذبهم( .والعبادة هي الغاية ل إذا فعلوا ذلك؟( قلت :ا ّأتدري ما حق العباد على ا ّ
ل ِلَيْعُبُدوِني{
س ِإ ّ
لن َ
ن َوا ِْ
جّت اْل ِ ل ومحبته ورضاه كما قال تعالىَ} :وَما َ
خَلْق ُ ل لها العباد من جهة أمر ا ّالتي خلق ا ّ
ل ونهايته،
ل ونهايته ،وكمال الذل ّ ]الذاريات ،[56 :وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب ،وهي اسم يجمع كمال الحب ّ
فالحب الخلي عن ذل ،والذل الخلي عن حب ل يكون عبادة ،وإنما العبادة ما يجمع كمال المرين؛ولهذا كانت العبادة
ل غني عن العالمين ،فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها؛ولهذا ل ،وهي وإن كانت منفعتها للعبد وا ّ لتصلح إل ّ
سا منها ثم
حا بتوبة العبد من /الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في أرض دوية مهلكة إذا نام آي ً ل أشد فر ً
كان ا ّ
حا بتوبة عبده من هذا براحلته ،وهذا يتعلق به أمور جليلة قد بسطناها وشرحناها في ل أشد فر ً
استيقظ فوجدها ،فا ّ
غير هذا الموضع.
والتوكل والستعانة للعبد؛ لنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة ،فالستعانة كالدعاء
ل عز وجل :يا بن آدم،والمسألة .وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى ال عليه وسلم قال] :يقول ا ّ
إنما هي أربع :واحدة لي ،وواحدة لك ،وواحدة بيني وبينك ،وواحدة بينك وبين خلقي .فأما التي لي فتعبدني ل تشرك
ى الجابة،بي شيئا ،وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه ،وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعل ّ
وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك(.
لـ
ل وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا ابتداء ،فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملئًما له ،وا ّ
وكون هذا ّ
تعالى ـ يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه ،ويحب الوسيلة تبًعا لذلك ،وإل فكل مأمور به فمنفعته عائدة
ل ويرضاه ،وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل ل يطلب على العبد ،وكل ذلك يحبه ا ّ
به إل حظوظ الدنيا ،وهو غلط بل التوكل في المور الدينية أعظم.
ل ويأمر
ضا ،التوكل من المور الدينية التي ل تتم الواجبات والمستحبات إل بها ،والزاهد فيها زاهد فيما يحبه ا ّ
/وأي ً
به ويرضاه.
والزهد المشروع هو :ترك الرغبة فيما ل ينفع في الدار الخرة ،وهو فضول المباح التي ل يستعان بها على طاعة
ل ،كما أن الورع المشروع هو :ترك ما قد يضر في الدار الخرة ،وهو ترك المحرمات والشبهات التي ليستلزم ا ّ
تركها ترك ما فعله أرجح منها ،كالواجبات .فأما ما ينفع في الدار الخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار
ل َلُكْم َو َ
ل ل ا ُّ
حّ
ت َما َأ َ
طّيَبا ِ
حّرُموا َ
ل ُت َ الخرة ،فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ
ن آَمُنوا َ
ب اْلُمْعَتِديَن{]المائدة ،[87 :كما أن الشتغال بفضول المباحات ،هو ضد الزهد المشروع ،فإن اشتغل
ح ّ
ل ُي ِ
ل َ
ن ا َّ
َتْعَتُدوا ِإ ّ
صا عن درجة المقربين إلى درجة المقتصدين.
بها عن فعل واجب أو فعل محرم كان عاصًيا ،وإل كان منقو ً
وأما قولهم :إن المور قد فرغ منها ،فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه ل حاجة إليه؛ لن المطلوب إن كان
ل.
عا وعق ً
مقدًرا فل حاجة إليه ،وإن لم يكن /مقدًرا لم ينفع الدعاء ،وهذا القول من أفسد القوال شر ً
وكذلك قول من قال :التوكل والدعاء ل يجلب به منفعة ول يدفع به مضرة ،وإنما هو عبادة محضة ،وإن حقيقة
ضا ،وكذلك قول من قال:
التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض ،وهذا وإن كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أي ً
إن الدعاء إنما هو عبادة محضة.
فهذه القوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد :وهو أن هؤلء ظنوا أن كون المور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على
ل سبحانه يقدر المور ويقضيها بالسباب التي جعلها معلقة
ضا ـ تكون من العبد ،ولم يعلموا أن ا ّ
أسباب مقدرة ـ أي ً
بها من أفعال العباد ،وغير أفعالهم؛ ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل العمال بالكلية.
وقد سئل النبي صلى ال عليه وسلم عن هذا الصل مرات ،فأجاب عنه كما أخرجا في الصحيحين عن عمران بن
عِلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال) :نعم( .قالوا :ففيم ل ،أ ُ ل صلى ال عليه وسلم :يا رسول ا ّ حصين قال :قيل لرسول ا ّ
ل صلى العمل؟ قال) :كل ميسر لما خلق له( .وفي الصحيحين عن على بن أبي طالب قال :كنا في جنازة فيها رسول ا ّ
ال عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الرض ،ثم رفع رأسه وقال) :ما من نفس منفوسة
ل ،أفل إل وقد كتب مكانها من النار أو الجنة ،إل وقد كتبت شقية أو سعيدة( .قال / :فقال رجل من القوم :يا نبي ا ّ
نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة ،ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى
الشقاوة .قال] :اعملوا فكل ميسر لما خلق له .أما أهل السعادة فييسرون للسعادة ،وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة[،
سَتْغَنى.
ل َوا ْ
خَن َب ِ
سَرىَ .وَأّما َم ْ
سُرهُ ِلْلُي ْ
سُنَي ّ
سَنىَ .ف َ
حْق ِباْل ُ
صّد َ
طى َواّتَقىَ .و َ
عَ ل صلى ال عليه وسلمَ}] :فَأّما َم ْ
ن َأ ْ ثم قال نبي ا ّ
ب ِباْلُحْسَنىَ .فَسُنَيّسُرُه ِلْلُعْسَرى{( ]الليل 5 :ـ ،[10أخرجه الجماعة في الصحاح والسنن والمسانيد. َوَكّذ َ
وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى ال عليه وسلم في عدة أحاديث.
فبين صلى ال عليه وسلم أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي ل ينافى أن تكون سعادة هذا بالعمال الصالحة،
وشقاوة هذا بالعمال السيئة ،فإنه سبحانه يعلم المور على ما هي عليه ،وكذلك يكتبها ،فهو يعلم أن السعيد يسعد
بالعمال الصالحة ،والشقي يشقى بالعمال السيئة ،فمن كان سعيًدا ييسر للعمال الصالحة التي تقتضي السعادة،
ومن كان شقًيا ييسر للعمال السيئة /التي تقتضى الشقاوة ،وكلهما ميسر لما خلق له ،وهو ما يصير إليه من مشيئة
ك َوِلَذِل َ
ك حَم َرّب َ
ن َر ِ
ل َم ْ
نِ .إ ّ
خَتِلِفي َ
ن ُم ْ ل ـ سبحانه ـ في كتابه في قوله تعالىَ} :و َ
ل َيَزاُلو َ ل العامة الكونية التي ذكرها ا ّ
ا ّ
َخَلَقُهْم{]هود.[119 ،118 :
جّ
ن ت اْل ِ ل ورضاه وهو إرادته الدينية التي أمروا بموجبها فذلك مذكور في قولهَ} :وَما َ
خَلْق ُ وأما ما خلقوا له من محبة ا ّ
س ِإّل ِلَيْعُبُدوِن{]الذاريات.[56 :
لن َ
َوا ِْ
ل ـ سبحانه ـ قد بين في كتابه في كل واحدة :من ]الكلمات[ و]المر[ و]الرادة[ و]الذن[ و ]الكتاب[ و ]الحكم[ و
وا ّ
ل ورضاه وأمره الشرعي ،وما هو كوني موافق لمشيئته ]القضاء[ و ]التحريم[ ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة ا ّ
الكونية.
ن َوِإيَتاِء ِذي اْلُقْرَبى{ ]النحل ،[90 :وقال تعالىِ} :إ ّ
ن ا َّ
ل سا ِحَلْ ل َوا ِل َيْأُمُر ِباْلَعْد ِن ا َّمثال ذلك أنه قال في المر الدينيِ} :إ ّ
ل َلُه ُك ْ
ن ن َيُقو َ ت ِإَلى َأْهِلَها{ ]النساء ،[58 :ونحو ذلك .وقال في الكونيِ} :إّنَما َأْمُرُه ِإَذا َأَراَد َ
شْيًئا َأ ْ لَماَنا ِ
ن ُتَؤّدوا ا َْ
َيْأُمُرُكْم َأ ْ
ق َعَلْيَها اْلَقْوُل{ ]السراء [16 :على حّ سُقوا ِفيَها َف َ
ك َقْرَيًة َأَمْرَنا ُمْتَرِفيَها َفَف َ
ن ُنْهِل َن{ ]يس ،[82 :وكذلك قولهَ} :وِإَذا َأَرْدَنا َأ ْ َفَيُكو ُ
إحدى القوال في هذه الية.
ن
ن ِم ْن اّلِذي َ سَن َ
ن َلُكْم َوَيْهِدَيُكْم ُ سَر{ ]البقرةُ}/ ،[185 :يِريُد ا ُّ
ل ِلُيَبّي َ ل ُيِريُد ِبُكْم اْلُع ْسَر َو َ وقال فى الرادة الدينيةُ} :يِريُد ا ُّ
ل ِبُكْم اْلُي ْ
طّهَرُكْم{]المائدة،[6 : ن ُيِريُد ِلُي َ ج َوَلِك ْ
حَر ٍ
ن َ
عَلْيُكْم ِم ْ
ل َ
جَع َ حِكيٌم{ ]النساءَ} ،[26 :ما ُيِريُد ا ُّ
ل ِلَي ْ عِليٌم َل َ عَلْيُكْم َوا ُّ
ب َ َقْبِلُكْم َوَيُتو َ
ن َيهِدَيُهل َأ ْ ل َما ُيِريُد{ ]البقرة ،[253 :وقالَ} :فَم ْ
ن ُيِرْد ا ُّ ل َيْفَع ُن ا َّ ل َما اْقَتَتُلوا َوَلِك ّ شاَء ا ُّ وقال في الرادة الكونيةَ} :وَلْو َ
صّعُد ِفي الّسَماِء{]النعام ،[125 :وقال نوح عليه جا َكَأّنَما َي ّحَر ً ضّيًقا َ صْدَرُه َ ل َ جَع ْضّلُه َي ْن ُي ِن ُيِرْد َأ ْ
لِم َوَم ْ سَلْ صْدَرُه ِل ِْ
ح َ شَر َْي ْ
ل ُيِريُد َأن ُيْغِوَيكُْم{]هود ،[34 :وقال تعالىِ} :إّنَما َأْمُرُه ِإَذا َأَراَد نا ّ ح َلُكْم ِإن َكا َ صَ ن َأن َ ت َأ ْ
ن َأَرد ّ حي ِإ ْ صِ ل َينَفُعُكْم ُن ْ السلمَ} :و َ
َشْيًئا َأنْ َيُقوَل َلُه ُكْن َفَيُكوُن{ ]يس.[28 :
ك َأّل َتْعُبُدوا ِإّل ِإّياُه{ ]السراء [23 :أي :أمر ،وقال تعالى في الكوني: وقال تعالى في القضاء الدينيَ} :وَق َ
ضى َرّب َ
ت ِفي َيْوَمْيِن{ ]فصلت.[12 : سَماَوا ٍ
سْبَع َ
ن َ
ضاُه ّ
}َفَق َ
عَلْيُكْم ُأّمَهاُتُكْم َوَبَناُتُكْم{ت َحّرَم ْخنِزيِر{ ]المائدةُ } ،[3 : حُم اْل ِ
عَلْيُكْم اْلَمْيَتُة َوالّدُم َوَل ْ
ت َ وقال تعالى في التحريم الدينيُ } :
حّرَم ْ
ض{ ]المائدة.[26 : لْر ِ ن ِفي ا َْسَنًة َيِتيُهو َ
ن َ
عَلْيهِْم َأْرَبِعي َ
حّرَمٌة َالية ]النساء .[23 :وقال تعالى في التحريم الكونيَ} :فِإّنَها ُم َ
ق َمْعُلوٌمِ .للّساِئِل َواْلَمْحُروِم{ ]المعارج ،[25 ،24 :وقال تعالى في الكلمات الدينية: حّ ن ِفي َأْمَواِلِهْم َ وقال تعالىَ} :واّلِذي َ
سَراِئي َ
ل عَلى َبِني ِإ ْ
سَنى َ
حْ
ك اْل ُ ن{ ]البقرة ،[124 :وقال تعالى في الكونيةَ} :وَتّم ْ
ت َكِلَمُة َرّب َ ت َفَأَتّمُه ّ
}َوِإْذ اْبَتَلى ِإْبَراِهيَم َرّبُه ِبَكِلَما ٍ
صَبُروا{ ]العراف ،[137 :ومنه قوله صلى ال عليه وسلم المستفيض عنه من وجوه في الصحاح والسنن ِبَما َ
ل التامات التي ل يجاوزهن َبّر ول فاجر( .ومن المعلوم أن هذا والمسانيد أنه كان يقول في استعاذته) :أعوذ بكلمات ا ّ
هو الكوني الذي ل يخرج منه شىء ،عن مشيئته وتكوينه .وأما الكلمات الدينية فقد خالفها الفجار بمعصيته.
والمقصود هنا أنه صلى ال عليه وسلم بين أن العواقب التي خلق لها الناس من سعادة وشقاوة ييسرون لها بالعمال
التي يصيرون بها إلى ذلك ،كما أن سائر المخلوقات كذلك ،فهو ـ سبحانه ـ يخلق الولد وسائر الحيوان في الرحام بما
يقدره من اجتماع البوين على النكاح ،واجتماع المائين في الرحم ،فلو قال النسان :أنا أتوكل ول أطأ زوجتي ،فإن
كان قد /قضى لي بولد وجد وإل لم يوجد ول حاجة إلى وطء ،كان أحمق بخلف ما إذا وطئ وعزل الماء فإن عزل
ل ،إذ قد يسبق الماء بغير اختياره.
الماء ل يمنع انعقاد الولد إذا شاء ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم في غزوة ومن هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ،قال :خرجنا مع رسول ا ّ
بني المصطلق ،فأصبنا سبًيا من العرب ،فاشتهينا النساء ،واشتدت علىنا العزبة ،وأحببنا العزل ،فسألنا عن ذلك
ل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة( ،وفي ل صلى ال عليه وسلم) :فقال ما علىكم أل تفعلوا ،فإن ا ّ
رسول ا ّ
ل أتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال :إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل، صحيح مسلم عن جابر :أن رج ً
وأنا أطوف عليها ،وأكره أن تحمل ،فقال) :اعزل عنها إن شئت ،فإنه سيأتيها ما قدر لها(.
ل ـ سبحانه ـ قادر على ما قد فعله من خلق النسان من غير أبوين كما خلق آدم ،ومن خلقه من أب فقط
وهذا مع أن ا ّ
كما خلق حواء من ضلع آدم القصير ،ومن خلقه من أم فقط كما خلق المسيح ابن مريم ـ عليه السلم ،لكن خلق ذلك
بأسباب أخرى غير معتادة.
وهذا الموضع ،وإن كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع ،فقد وقع في كثير من دقه كثير من المشائخ
المعظمين يسترسل أحدهم مع القدر /غير محقق لما أمر به ونهى عنه ،ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل،
ل كالميت بين يدي الغاسل يتضمن والجري مع الحقيقة القدرية ،ويحسب أن قول القائل :ينبغي للعبد أن يكون مع ا ّ
ترك العمل بالمر والنهي حتى يترك ما أمر به ،ويفعل ما نهى عنه وحتى يضعف عنده النور والفرقان الذي يفرق به
ل بينه كما قال تعالىَ} :أْم ل به وأحبه ورضيه ،وبين ما نهى عنه وأبغضه وسخطه فيسوي بين ما فرق ا ّ بين ما أمر ا ّ
ت َسَواًء َمْحَياُهْم َوَمَماُتُهْم َساَء َما َيْحُكُموَن{]الجاثية،[21 : حا ِ صاِل َ
عِمُلوا ال ّ ن آَمُنوا َو َ جَعَلُهْم َكاّلِذي َن َن ْت َأ ْ
سّيَئا ِحوا ال ّ جَتَر ُ نا ْ ب اّلِذي َ
س َحِ َ
ن آَمُنوا ن{ ]القلم [36 ،35 :وقال تعالىَ} :أْم َن ْ
جَعلُ اّلِذي َ حُكُمو َ ف َت ْنَ .ما َلُكْم َكْي َ جِرِمي َ ن َكاْلُم ْ سِلِمي َ
ل اْلُم ْ
جَع ُ وقال تعالىَ} :أَفَن ْ
ن َيْعَلُمو َ
ن سَتِوي اّلِذي َ ل َي ْ جاِر{ ]ص ،[28 :وقال تعالىُ} :ق ْ
ل َه ْ ن َكاْلُف ّل اْلُمّتِقي َ
جَع ُ
ض َأْم َن ْ
لْر ِ ن ِفي ا َْ سِدي َ
ت َكاْلُمْف ِ حا ِ صاِل َ
عِمُلوا ال ّ َو َ
حُروُرَ .وَما ل اْل َ
ل َو َ ظّل ال ّل الّنوُرَ .و َ
ت َو َ
ظُلَما ُ
ل ال ّ
صيُرَ .و َ
عَمى َواْلَب ِ لْسَتِوي ا َْ ن{]الزمر ،[9 :وقال تعالىَ} :وَما َي ْ ل َيْعَلُمو َ ن َ َواّلِذي َ
ت ِبُمْسِمٍع َمْن ِفي اْلُقُبوِر{ ]فاطر ،[19-22 :وأمثال ذلك. شاُء َوَما َأْن َ ن َي َ
سِمُع َم ْ ل ُي ْن ا َّت ِإ ّلْمَوا ُل ا َْ حَياُء َو َ لْ سَتِوي ا َْ َي ْ
حتى يفضي المر بغلتهم إلى عدم التمييز بين المر بالمأمور النبوي اللهي الفرقاني الشرعي الذي دل عليه الكتاب
والسنة ،وبين ما يكون في الوجود من الحوال التي تجري على أيدي الكفار والفجار ،فيشهدون وجه الجمع من جهة
ل وقدره وربوبيته وإرادته العامة / ،وأنه داخل في ملكه ،ول يشهدون وجه الفرق الذي فرق ا ّ
ل كون الجميع بقضاء ا ّ
به بين أوليائه وأعدائه ،والبرار والفجار ،والمؤمنين والكافرين ،وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الديني ،وأهل
المعصية الذين عصوا هذا المر ،ويستشهدون في ذلك بكلمات مجملة نقلت عن بعض الشياخ ،أو ببعض غلطات
بعضهم.
ل ،السالكين سبيل الرادة ؛ إرادة الذين يريدون وهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب العتناء به على أهل طريق ا ّ
ل ،حتى وجهه ،فإنه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان ما ل يعلمه إل ا ّ
يصيروا معاونين على البغي والعدوان للمسلطين في الرض من أهل الظلم والعلو ،كالذين يتوجهون بقلوبهم في
معاونة من يهوونه من أهل العلو في الرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم أحوال أثروا بها في ذلك كانوا بذلك
حا ،وإن كانت ل ـ فإن القلوب لها من التأثير أعظم مما للبدان ،لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صال ً من أولياء ا ّ
ل أخرى ،وقد تكلم الفقهاء على وجوب ل تارة ،ومكروًها ّ فاسدة كان تأثيرها فاسًدا ،فالحوال يكون تأثيرها محبوًبا ّ
القود على من يقتل غيره في الباطن حيث يجب القود في ذلك ـ ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم المر الكوني ،ويعدون
ل له ،ول يعلمون أنه في الحقيقة مجرد خرق العادة لحدهم بكشف يكشف له أو بتأثير يوافق إرادته هو كرامة من ا ّ
ل لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه ،وهو طاعته إهانة ،وأن الكرامة لزوم الستقامة ،وأن /ا ّ
عَلْيِهْم
ف َ
خْو ٌ
ل َ
ل َن َأْوِلَياَء ا ِّ ل فيهمَ} :أ َ
ل ِإ ّ ل الذين قال ا ّ
وطاعة رسوله وموالة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلء هم أولياء ا ّ
َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن{]يونس.[62 :
فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين ،وإن كانوا موافقين فيما أوجبه وأحبه فهم من المقربين،
ل به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها ،أومع أن كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجًبا ،وأما ما يبتلى ا ّ
بالضراء فليس ذلك لجل كرامة العبد على ربه ول هوانه عليه ،بل قد يسعد بها قوم إذا أطاعوه في ذلك ،وقد يشقى
بها قوم إذا عصوه في ذلك.
ل َرّبي
عَلْيِه ِرْزَقُه َفَيُقو ُ
لُه َفَقَدَر َ
ل َرّبي َأْكَرَمِنيَ .وَأّما ِإَذا َما اْبَت َ
لُه َرّبُه َفَأْكَرَمُه َوَنّعَمُه َفَيُقو ُ
ن ِإَذا َما اْبَت َ
سا ُ ل تعالىَ} :فَأّما ا ِْ
لن َ قال ا ّ
ل{ ]الفجر[15-17 :؛ ولهذا كان الناس في هذه المور على ثلثة أقسام: َأَهاَنِنيَ .ك ّ
ل.
قسم ترتفع درجاتهم بخرق العادة إذا استعملوها في طاعة ا ّ
ل كبلعام وغيره.
ل إذا استعملوها في معصية ا ّ
وقوم يتعرضون بها لعذاب ا ّ
ل ،أو
/والقسم الول :هم المؤمنون حًقا المتبعون لنبيهم سيد ولد آدم الذي إنما كانت خوارقه لحجة يقيم بها دين ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم عن السترسال ل .ولكثرة الغلط في هذا الصل نهى رسول ا ّ لحاجة يستعين بها على طاعة ا ّ
مع القدر بدون الحرص على فعل المأمور الذي ينفع العبد ،فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال :قال رسول
ل من المؤمن الضعيف ،وفي كل خير ،احرص على ما ل صلى ال عليه وسلم) :المؤمن القوي خير وأحب إلى ا ّ ا ّ
ل وما شاء
ل ول تعجزن ،وإن أصابك شيء فل تقل :لو أني فعلت كان كذا وكذا ،ولكن قل :قدر ا ّ ينفعك واستعن با ّ
فعل ،فإن لو تفتح عمل الشيطان(.
وفي سنن أبي داود :إن رجلين اختصما إلى النبي صلى ال عليه وسلم ،فقضى على أحدهما ،فقال المقضي عليه:
ل صلى ال عليه وسلم) :إن ال يلوم على العجز ،ولكن علىك بالكيس ،فإذا ل ونعم الوكيل .فقال رسول ا ّحسبي ا ّ
ل ونعم الوكيل( .فأمر النبي صلى ال عليه وسلم المؤمن أن يحرص على ما ينفعه وأن غلبك أمر فقل :حسبي ا ّ
عَلْيِه{
ل َ ن{ ]الفاتحة ،[5 :وقوله تعالىَ} :فا ْ
عُبْدُه َوَتَوّك ْ سَتِعي ُ
ك َن ْ ل ،وهذا مطابق لقوله تعالىِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد َوِإّيا َ يستعين با ّ
ل ول شىء أنفع له من ل وعبادته؛ إذ النافع له هو طاعة ا ّ ]هود .[123 :فإن الحرص على ما ينفع العبد هو طاعة ا ّ
ذلك ،وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة وإن كان من جنس المباح.
ل إل ازددت بها قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لسعد) :إنك لن /تنفق نفقة تبتغي بها وجه ا ّ
ل يلوم على العجز الذي هو ي امرأتك( ،فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن ا ّ درجة ورفعة ،حتى اللقمة تضعها فى ف ّ
ضد الكيس ،وهو التفريط فيما يؤمر بفعله ،فإن ذلك ينافى القدرة المقارنة للفعل .وإن كان ل ينافى القدرة المتقدمة
التي هي مناط المر والنهي.
ل تعالى في قولهَ} :ما َكاُنوا فإن الستطاعة التي توجب الفعل تكون مقارنة له ،ول تصلح إل لمقدورها ،كما ذكرها ا ّ
طيُعوَن َسْمًعا{ ]الكهف .[101 :وأما الستطاعة التي يتعلق بها سَت ِ سْمَع{ ]هود ،[20 :وفي قولهَ} :وَكاُنوا َ
ل َي ْ ن ال ّ
طيُعو َ
سَت ِ
َي ْ
ل{
سِبي ً
ع ِإَلْيِه َ
طا َ
سَت َ
نا ْ
ت َم ْ
ج اْلَبْي ِ
حّس ِ
عَلى الّنا ِ المر والنهي فتلك قد يقترن بها الفعل وقد ل يقترن كما في قوله تعالىَ} :و ِّ
ل َ
]آل عمران ،[97 :وقول النبي صلى ال عليه وسلم لعمران بن حصين) :صل قائما فإن لم تستطع فقاعًدا ،فإن لم
تستطع فعلى جنب(.
قـوم ينظـرون إلـى جانـب المـر والنهـي والعبـادة والطاعـة شاهديـن للهية الرب ـ سبحانه ـ الذي أمروا أن يعبدوه،
ول ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والستعانة ،وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة ،فهم مع حسن
ل ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلن؛ لن الستعانة بالّ والتوكل عليه قصدهم وتعظيمهم لحرمات ا ّ
واللجأ إلىه والدعاء له هي التي تقوى العبد وتيسر عليه المور.
ل بن عمرو؛ أن ل .وفي الصحيحين عن عبد ا ّ /ولهذا قال بعض السلف :من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم صفته في التوراة) :إنا أرسلناك شاهًدا ومبشًرا ونذيًرا وحرًزا للميين ،أنت عبدي رسول ا ّ
خاب بالسواق ،ول يجزى بالسيئة السيئة ،ولكن يجزى بالسيئة ورسولي ،سميتك المتوكل ،ليس بفظ ول غليظ ول ص ّ
غْلًفا بأن يقولوا
صّما وقلوًبا ُ
الحسنة ،ويعفو ويغفر ،ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء ،فأفتح به أعيًنا عميا وآذاًنا ُ
ل(.
ل إله إل ا ّ
ل .وقد ثبت في الصحيحين عن ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم :ل حول ول قوة إل با ّ
ل َفُهَو َحْسُبُه{ ]الطلق ،[3 :وقال عَلى ا ِّ
ل َ النبي صلى ال عليه وسلم) :إنها كنز من كنوز الجنة( .قال تعالىَ} :وَم ْ
ن َيَتَوّك ْ
ل{ إلى قوله:
ل َوِنْعَم اْلَوِكي ُ
سُبَنا ا ُّحْشْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا َوَقاُلوا َ
خَ
جَمُعوا َلُكْم َفا ْ
س َقْد َ
ن الّنا َس ِإ ّل َلُهْم الّنا ُ
ن َقا َ
تعالى :اّلِذي َ
ل َتَخاُفوُهْم َوَخاُفوِني ِإْن ُكْنُتْم ُمْؤِمِنيَن{ ]آل عمران ،[173-175 :وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ـ رضي ا ّ
ل }َف َ
ل َوِنْعَم اْلَوِكيُل{ قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار ،وقالها محمد صلى ال عليه سُبَنا ا ُّ
حْعنه ـ في قولهَ} :وَقاُلوا َ
وسلم حين قال لهم الناس :إن الناس قد جمعوا لكم(.
وقسم ثان :يشهدون ربوبية الحق وافتقارهم إلىه ويستعينون به ،لكن على أهوائهم وأذواقهم ،غير ناظرين إلى حقيقة
أمره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته ،وهذا حال كثير من المفتقرة والمتصوفة ؛ ولهذا كثيًرا /ما يعملون على
الحوال التي يتصرفون بها في الوجود ،ول يقصدون ما يرضى الرب ويحبه ،وكثيًرا ما يغلطون ،فيظنون أن
معصيته هي مرضاته ،فيعودون إلى تعطيل المر والنهي ويسمون هذا حقيقة ،ويظنون أن هذه الحقيقة القدرية يجب
السترسال معها دون مراعاة الحقيقة المرية الدينية التي هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهًرا
وباطًنا.
وهؤلء كثيًرا ما يسلبون أحوالهم ،وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق ،بل كثير منهم يرتد عن السلم؛ لن
ل ونهيه فليس من المتقين ،فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه ،تارة العاقبة للتقوى ،ومن لم يقف عند أمر ا ّ
في بدعة يظنونها شرعة ،وتارة في الحتجاج بالقدر على المر ،والّ ـ تعالى ـ لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة
عَلْيَها آَباَءَنا َوا ُّ
ل جْدَنا َ
شًة َقاُلوا َو َ
حَ النعام والعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالىَ} :وِإَذا َفَعُلوا َفا ِ
ل ،وأن شرعوا ما لم ل َل َيْأُمُر ِباْلَفْحَشاِء{ ]العراف ،[28 :وقد ذمهم على أن حرموا ما لم يحرمه ا ّ ن ا َّ
ل ِإ ّ
َأَمَرَنا ِبَها ُق ْ
حّرْمَنا ِم ْ
ن ل َ ل آَباُؤَنا َو َ
شَرْكَنا َو َل َما َأ ْشاَء ا ُّشَرُكوا َلْو َ
ن َأ ْ
ل اّلِذي َ ل ،وذكر احتجاجهم بالقدر في قوله تعالىَ } :
سَيُقو ُ يشرعه ا ّ
يٍء{ ]النعام ،[148 :ونظيرها في النحل ويس والزخرف .وهؤلء يكون فيهم شبه من هذا وهذا. ش َْ
ولهذا قال طائفة من العلماء :اللتفات إلى السباب شرك في التوحيد ،ومحو السباب أن تكون أسباب نقص في
العقل ،والعراض عن السباب بالكلية قدح في الشرع ،وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد
والعقل والشرع.
طا شديًدا ،وإن كان من أعيان المشائخ ـ فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق ،فقد غلط غل ً
كصاحب ]علل المقامات[ وهو من أجل المشائخ ،وأخذ ذلك عنه صاحب ]محاسن المجالس[ ـ وظهر ضعف حجة
من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط ،وظنه أنه ل فائدة له في تحصيل المقصود ،وهذه حال من جعل
الدعاء كذلك ،وذلك بمنزلة من جعل العمال المأمور بها كذلك ،كمن اشتغل بالتوكل عما يجب عليه من /السباب
التي هي عبادة وطاعة مأمور بهـا ،فإن غلـط هـذا في ترك السباب المأمور بها التي هي داخـلة في قوله تعـالى:
عَلْيِه{
ل َ عَلْيِه{ كغلط الول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل في قوله تعالىَ} :فا ْ
عُبْدهُ َوَتَوّك ْ ل َ
عُبْدُه َوَتَوّك ْ
}َفا ْ
]هود.[123 :
ل ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة ،وإن كان في حصول مستحبات لكن يقال :من كان توكله على ا ّ
وواجبات فهو من الخاصة ،كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه ،ومن أعرض عن
ل ورسوله ،بل خارج عن حقيقة اليمان ،فكيف يكون هذا المقام للخاصة ،قال الّ تعالىَ} :وَقا َ
ل التوكل فهو عاص ّ
ب َلُكْم َوِإ ْ
ن غاِل َ
ل َل َف َ
صْرُكْم ا ُّ ن{ ]يونس ،[84 :وقال تعالىِ} :إ ْ
ن َيْن ُ سِلِمي َ
ن ُكْنُتْم ُم ْل َفَعَلْيِه َتَوّكُلوا ِإ ْن ُكْنُتْم آَمْنُتْم ِبا ِّ
سى َياَقْوِم ِإ ْ ُمو َ
ل َفْلَيَتَوّكْل اْلُمْؤِمُنوَن{ ]إبراهيم،[11 : ن َبْعِدِه{ ]آل عمران ،[160 :وقال تعالىَ} :و َ
عَلى ا ِّ صُرُكْم ِم ْ ن َذا اّلِذي َيْن ُ خُذْلُكْم َفَم ْ
َي ْ
عَلْيِه َيَتَوّك ُ
ل ل َ
سِبي ا ُّ
حْل َ ضّرِه{إلى قولهُ} :ق ْ ت ُ شَفا ُ
ن َكا ِ
ل ُه ّ
ضّر َه ْ
ل ِب ُ
ن َأَراَدِني ا ُّ
ل ِإ ْ ن ا ِّ
ن ُدو ِ ن ِم ْعو َ وقال تعالىُ} :ق ْ
ل َأَفَرَأْيُتْم َما َتْد ُ
اْلُمَتَوّكُلوَن{ ]الزمر.[38 :
ل{ في جلب المنفعة تارة ،وفي دفع المضرة أخرى .فالولى في قوله تعالىَ} :وَلوْ سِبي ا ُّ حْ ل هذه الكلمة } َ وقد ذكر ا ّ
سوُلُه{ الية ]التوبة .[59 :والثانية في قوله} :اّلِذي َ
ن ضِلِه َوَر ُ
ن َف ْل ِم ْ
سُيْؤِتيَنا ا ُّ
ل َسُبَنا ا ُّ
حْ
سوُلُه َوَقاُلوا َ ل َوَر ُ ضوا َما آَتاُهْم ا َُّأّنُهْم َر ُ
لُ َوِنْعَم اْلَوِكيُل{ ]آل عمران ،[173 :وفي قوله سُبَنا ا ّ
حْشْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا َوَقاُلوا َخَ
جَمُعوا َلُكْم َفا ْ س َقْد َ ن الّنا َ س ِإ ّ
ل َلُهْم الّنا ُ
َقا َ
ل صِرِه{ ]النفال ،[26 :وقولهَ} :وَلْو َأّنُهْم َر ُ
ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ ك ِبَن ْ
ل ُهَو اّلِذي َأّيَد َ ك ا ُّ
سَب َ
حْن َ ك َفِإ ّ
عو َ خَد ُن َي ْن ُيِريُدوا َأ ْتعالىَ} :وِإ ْ
ضِلِه َوَرُسوُلُه{ ،يتضمن بالرضا والتوكل. ن َف ْل ِم ْسُيْؤِتيَنا ا ُّ
ل َ سُبَنا ا ُّ
حْسوُلُه َوَقاُلوا َ َوَر ُ
والرضا والتوكل يكتنفان المقدور ،فالتوكل قبل وقوعه ،والرضا بعد وقوعه؛ ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم
يقول في الصلة) :الّلهم ،بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيًرا لي ،وتوفني إذا كانت الوفاة
خيًرا لي ،الّلهم ،إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ،وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا ،وأسألك القصد في
الفقر والغنى ،وأسألك نعيًما ل ينفد ،وأسألك قرة عين ل تنقطع ،الّلهم ،إني أسألك الرضا بعد القضاء ،وأسألك بْرد
العيش بعد الموت ،وأسألك لذة النظر إلى وجهك ،وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ول فتنة مضلة،
الّلهم ،زينا بزينة اليمان ،واجعلنا هداة مهتدين( رواه أحمد والنسائي من حديث عمار بن ياسر.
وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لحقيقة الرضا؛ ولهذا كان طائفة من المشائخ يعزمون على الرضا
قبل وقوع البلء ،فإذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره كما قال تعالىَ} :وَلقَْد ُكْنُتْم تَمّنْون
ل َتْفَعُلو َ
ن ن َما َ ن{ ]آل عمران ،[143 :وقال تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ
ن َآَمُنوا ِلَم َتُقوُلو َ ظُرو َ ن َتْلَقْوُه َفَقْد َرَأْيُتُموُه َوَأْنُتْم َتْن ُل َأ ْ
ن َقْب ِ
ت ِم ْاْلَمْو َ
ص{ ]الصف[2-4 : صو ٌ ن َمْر ُ صّفا َكَأّنُهْم ُبنَيا ٌ
سِبيِلهِ َ
ن ِفي َ
ن ُيَقاِتُلو َ
ب اّلِذي َ
ح ّ
ل ُي ِ
ن ا َّ
ن ِ .إ ّ ل َتْفَعُلو َن َتُقوُلوا َما َ ل َأ ْ عْنَد ا َِّ .كُبَر مَْقًتا ِ
ل ـ سبحانه وتعالى ـ آية الجهاد ،فكرهه ل لعملناه ،فأنزل ا ّ نزلت هذه الية لما قالوا :لو علمنا أي العمال أحب إلى ا ّ
من كرهه.
ولهذا كره للمرء أن يتعرض للبلء ،بأن يوجب على نفسه ما ل يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك ،أو
يطلب ولية ،أو يقدم على بلد فيه طاعون .كما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
نهى عن النذر ،وقال) :إنه ل يأتي بخير ،وإنما يستخرج به من البخيل( ،وثبت عنه في الصحيحين أنه قال لعبد
عْنتت إلىها ،وإن أعطيتها من غير مسألة أ ِ
سُمَرة) :ل تسأل المارة ،فإنك إن أعطيتها عن مسألة وِكْل َ الرحمن بن َ
عليها ،وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيًرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك( .وثبت عنه في الصحيحين
أنه قال في الطاعون) :إذا سمعتم به بأرض فل تقدموا عليه ،وإذا وقع بأرض وأنتم بها فل تخرجوا فراًرا منه(،
ل العافية ،ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا ،واعلموا أنوثبت عنه في الصحيحين أنه قال) :ل تتمنوا لقاء العدو واسألوا ا ّ
الجنة تحت ظلل السيوف( وأمثال ذلك مما يقتضي أن النسان ل ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء ويحرم
ل عهوًدا على أمور ،وغالب هؤلء يبتلون بنقض العهود. عليه أشياء فيبخل بالوفاء ،كما يفعل كثير ممن يعاهد ا ّ
ويقتضي أن النسان إذا ابتلى فعليه أن يصبر ويثبت ول ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات.
ولبد في جميع ذلك من /الصبر؛ ولهذا كان الصبر واجًبا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات ،وترك المحظورات.
ل عنه.
ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها ،والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى ا ّ
لِة
صَصْبِر َوال ّ ل الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضًعا ،وقرنه بالصلة في قوله تعالىَ} :وا ْ
سَتِعيُنوا ِبال ّ وقد ذكر ا ّ
صاِبِريَن{ ]البقرة ،[153 :وقوله: ل َمَع ال ّ ن ا َّلِة ِإ ّ
صَصْبِر َوال ّ سَتِعيُنوا ِبال ّن{ ]البقرة} ،[45 :ا ْ شِعي َ
خا ِعَلى اْل َ ل ََوِإّنَها َلَكِبيَرٌة ِإ ّ
ن{ ]هودَ} [115 ،114 :فا ْ
صِبْر سِني َ
حِ جَر اْلُم ْ
ضيُع َأ ْ
ل ُي ِ ل َن ا َّ ل{إلى قولهَ} :وا ْ
صِبْر َفِإ ّ ن الّلْي ِ
طَرِفي الّنَهاِر َوُزَلًفا ِم ْ لَة َصَ }َوَأِقْم ال ّ
ك{الية سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ
ق َوا ْ
حّل َ عَد ا ِّ
ن َو ْ غُروِبَها{ ]طهَ} ،[130 :فا ْ
صِبْر ِإ ّ ل ُ س َوَقْب َ
شْم ِ
ع ال ّ
طُلو ِ ل ُ ك َقْب َ
حْمِد َرّب َ
ح ِب َسّب ْ
ن َو َ
عَلى َما َيُقوُلو َ َ
]غافر.[55 :
ل
سٍر ِ .إ ّ
خْن َلِفي ُ سا َ لن َن ا ِْ فجعل البحث عن العلم من الجهاد ،ولبد في الجهاد من الصبر؛ ولهذا /قال تعالىَ} :واْلَع ْ
صِرِ .إ ّ
صْبِر{ ]سورة العصر[ ،وقال تعالىَ} :واْذُكْر ِ
عَباَدَنا إْبَراِهيَم صْوا ِبال ّ
ق َوَتَوا َ
حّصْوا ِباْل َت َوَتَوا َ
حا ِ
صاِل َعِمُلوا ال ّ
ن آمَُنوا َو َ
اّلِذي َ
صاِر{ ]ص.[45 : لْب َ
لْيِدي َوا َْ
ب ُأْوِلي ا َْ
ق َوَيْعُقو َ
حا َ
سَ
َوِإ ْ
فالعلم النافع هو أصل الهدى ،والعمل بالحق هو الرشاد ،وضد الول الضلل ،وضد الثاني الغي ،فالضلل العمل
صاِحُبُكْم َوَما َغَوى{ ]النجم ،[2 ،1 :فل ينال الهدى
ل َ
ضّ بغير علم ،والغي اتباع الهوى .قال تعالىَ} :والّن ْ
جِم ِإَذا َهَوى َ .ما َ
إل بالعلم ،ول ينال الرشاد إل بالصبر ،ولهذا قال على :أل إن الصبر من اليمان بمنزلة الرأس من الجسد ـ فإذا
انقطع الرأس بان الجسد ـ ثم رفع صوته فقال :أل ل إيمان لمن ل صبر له.
وأما الرضا ،فقد تنازع العلماء والمشائخ من أصحاب المام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء :هل هو واجب أو
مستحب ؟ على قولين :فعلى الول يكون من أعمال المقتصدين ،وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين .قال عمـر
بن عبـد العزيز :الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن .وقد روى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لبن
ل بالرضا مع اليقين فافعل ،فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيًرا كثيًرا".
عباس " :إن استطعت أن تعمل ّ
/ولهذا لم يجئ في القرآن إل مدح الراضين ل إيجاب ذلك وهذا في الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب،
س{]البقرة ،[177 :وقال تعالى: ن اْلَبْأ ِ
حي َ
ضّراِء َو ِ
ساِء َوال ّ ن ِفي اْلَبْأ َصاِبِري َ كالمرض والفقر والزلزال ،كما قال تعالىَ} :وال ّ
ضّراُء َوُزْلِزُلوا{ ]البقرة ،[214 :فالبأساء فيساُء َوال ّ
سْتُهْم اْلَبْأ َن َقْبِلُكْم َم ّ
خَلْوا ِم ْ
ن َ
ل اّلِذي َ
جّنَة َوَلّما َيْأِتُكْم َمَث ُ
خُلوا اْل َ
ن َتْد ُ
حسِْبُتْم َأ ْ
}َأْم َ
الموال ،والضراء في البدان ،والزلزال في القلوب.
ل به ،فأصله واجب ،وهو من اليمان كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح: وأما الرضا بما أمر ا ّ
لـ
ل رًبا ،وبالسلم ديًنا ،وبمحمد نبًيا( ،وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء ا ّ )ذاق طعم اليمان من رضى با ّ
سّلُموا
ت َوُي َ ضْي َجا ِمّما َق َ
حَر ً
سِهْم َ
جُدوا ِفي َأنُف ِ
ل َي ِ
جَر َبْيَنُهْم ُثّم َشَ ك ِفيَما َ حّكُمو َ حّتى ُي َ
ن َ ل ُيْؤِمُنو َ
ك َ ل َوَرّب َتعالى ـ قال تعالىَ} :ف َ
ل{ الية ]التوبة ،[59 :وقال سُبَنا ا ُّ
حْ
سوُلُه َوَقاُلوا َ
ل َوَر ُ ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ سِليًما{]النساء ،[65 :وقال تعالىَ} :وَلْو َأّنُهْم َر ُ َت ْ
ل ِمْنُهْم عَماَلُهْم{ ]محمد ،[28 :وقال تعالىَ} :مَنَعُهْم َأ ْ
ن ُتْقَب َ ط َأ ْ
حَب َ
ضَواَنُه َفَأ ْ
ل َوَكِرُهوا ِر ْ ط ا َّ
خَ سَ تعالىَ} :ذِل َ
ك ِبَأّنُهْم اّتَبُعوا َما َأ ْ
لَة ِإّل َوُهْم ُكَساَلى َوَل ُينِفُقوَن ِإّل َوُهْم َكاِرُهوَن{]التوبة.[54 : صَ ن ال ّ ل َيْأُتو َ
سوِلِه َو َل َوِبَر ُل َأّنُهْم َكَفُروا ِبا َِّنَفَقاُتُهْم ِإ ّ
ومن النوع الول :ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن سعد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال_ :من سعادة ابن
ل له(.
ل ،وسخطه بما يقسم ا ّ
ل له ،ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته ّ
ل ،ورضاه بما قسم ا ّ
آدم استخارته ّ /
وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان ،فأكثر العلماء يقولون :ل يشرع الرضا بها ،كما ل تشرع
ساَد{
ب اْلَف َ
ح ّل ُي ِ
ل َل ـ سبحانه ـ ل يرضاها ول يحبها ،وإن كان قد قدرها وقضاها كما قال سبحانهَ} :وا ُّ محبتها ،فإن ا ّ
ضى ِم ْ
ن ل َيْر َن َما َ ضى ِلِعَباِدِه اْلُكْفَر{]الزمر ،[7 :وقال تعالىَ} :وُهَو َمَعُهْم ِإْذ ُيَبّيُتو َ ]البقرة ،[205 :وقال تعالىَ} :و َ
ل َيْر َ
عَماَلُهْم{
ط َأ ْ
حَب َ
ضَواَنُه َفَأ ْ
ل َوَكِرُهوا ِر ْ ط ا َّ
خَسَ ل{ ]النساء ،[108 :بل يسخطها كما قال تعالىَ} :ذِل َ
ك ِبَأّنُهْم اّتَبُعوا َما َأ ْ اْلَقْو ِ
]محمد.[28 :
ل وكسًبا .وهذا
ل خلًقا ،وتسخط من جهة كونها مضافة إلى العبد فع ً
وقالت طائفة :ترضى من جهة كونها مضافة إلى ا ّ
القول ل ينافي الذي قبله ،بل هما يعودان إلى أصل واحد .وهو ـ سبحانه ـ إنما قدر الشياء لحكمة ،فهي باعتبار تلك
الحكمة محبوبة مرضية ،وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة؛ إذ الشىء الواحد يجتمع فيه وصفان يحب من
أحدهما ويكره من الخر ،كما في الحديث الصحيح) :ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي
المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولبد له منه(.
ل وفعله ل بالمقضي الذي /هو مفعوله ،فهو خروج منه عن مقصود وأما من قال بالرضا بالقضاء الذي هو وصف ا ّ
الكلم ،فإن الكلم ليس في الرضا فيما يقوم بذات الرب ـ تعالى ـ من صفاته وأفعاله ،وإنما الكلم في الرضا
بمفعولته .والكلم فيما يتعلق بهذا قد بيناه في غير هذا الموضع.
والرضا وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد ،حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا؛ولهذا جاء في الكتاب
ل على كل حال ،وذلك يتضمن الرضا بقضائه ،وفي الحديث) :أول من يدعى إلى الجنة :الحمادون والسنة حمد ا ّ
ل في السراء والضراء( ،وروى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان إذا أتاه المر يسره قال: الذين يحمدون ا ّ
ل على كل حال( .وفي مسند المام ل الذي بنعمته تتم الصالحات( ،وإذا أتاه المر الذي يسوؤه قال) :الحمد ّ)الحمد ّ
ل لملئكته :أقبضتم ولد
أحمد عن أبي موسى الشعري عن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :إذا قبض ولد العبد يقول ا ّ
عبدي؟ فيقولون :نعم ،فيقول :أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون :نعم ،فيقول :ماذا قال عبدي ؟ فيقولون :حمدك واسترجع،
فيقول :ابنوا لعبدي بيًتا في الجنة ،وسموه بيت الحمد( ،ونبينا محمد صلى ال عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد،
ل على السراء والضراء .والحمد على الضراء يوجبه مشهدان: وأمته هم الحمادون الذين يحمدون ا ّ
ل ـ سبحانه ـ مستوجب لذلك ،مستحق له لنفسه ،فإنه أحسن كل شيء خلقه ،وأتقن كل شيء،
أحدهما :علم العبد بأن ا ّ
وهو العلىم الحكيم ،الخبير الرحيم.
ل لعبده المؤمن ،خير من اختياره لنفسه ،كما روى مسلم في صحيحه ،وغيره عن النبي /والثاني :علمه بأن اختيار ا ّ
ل للمؤمن قضاء إل كان خيًرا له ،وليس ذلك لحد إلصلى ال عليه وسلم أنه قال) :والذي نفسي بيده ل يقضي ا ّ
للمؤمن ،إن أصابته سراء شكر فكان خيًرا له ،وإن أصابته ضراء صبر فكان خيًرا له(.
فأما من ل يصبر على البلء ،ول يشكر على الرخاء ،فل يلزم أن يكون القضاء خيًرا له؛ ولهذا أجيب من أورد هذا
على ما يقضي على المؤمن من المعاصي بجوابين:
ل ،وقد ترتفع والجواب الثاني :أن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور .والذنوب تنقص اليمان ،فإذا تاب العبد أحبه ا ّ
درجته بالتوبة .قال بعض السلف :كان داود بعد التوبة خيًرا منه قبل الخطيئة ،فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد
بن جبير :إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار ،وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة .وذلك أنه يعمل الحسنة
ل ويتوب إلىه منها .وقـد ثبـت في فتكون نصب عينه ويعجب بها ،ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر ا ّ
الصحيـح عـن النبـي صلى ال عليه وسلم أنـه قـال) :العمـال بالخواتيم( .والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع
عنه بعشرة أسباب:
ل عليه ،فإن التائب من الذنب كمن ل ذنب له ،أو يستغفر فيغفر له ،أو يعمل حسنات تمحوها ،فإن أن يتوب فيتوب ا ّ
الحسنات يذهبن السيئات ،أو يدعوا له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حًيا وميًتا ،أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما
ل به ،أو يشفع فيه نبيه محمد صلى ال عليه وسلم ،أو يبتليه الّ ـ تعالى ـ في الدنيا بمصائب تكفر عنه ،أو
ينفعه ا ّ
يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه ،أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه ،أو يرحمه أرحم
الراحمين.
/فمن أخطأته هذه العشرة ،فل يلومن إل نفسه ،كما قال ـ تعالى ـ فيما يروي عنه رسوله صلى ال عليه وسلم) :يا
ل ،ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل
عبادي ،إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ،فمن وجد خيًرا فليحمد ا ّ
نفسه(.
ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيًرا له ،فكيف مع الرضا؟ ولهذا جاء في الحديث) :المصاب من حرم الثواب( في
ل يقول :يا آل بيت رسول ا ّ
ل الثر الذي رواه الشافعي في مسنده :أن النبي صلى ال عليه وسلم لما مات سمعوا قائ ً
ل فثقوا ،وإياه
ل عزاء من كل مصيبة ،وخلًفا من كل هالك ،ودرًكا من كل فائت ،فبا ّ صلى ال عليه وسلم إن في ا ّ
فارجوا ،فإن المصاب من حرم الثواب ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط ،مع أنه ل فائدة فيه ،فقد يكون فيه
ل.
مضرة لكنه يعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه ا ّ
/لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب ،وذلك ل ينافى الرضا ،بخلف البكاء عليه لفوات حظه
ل في قلوبمنه ،وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى ال عليه وسلم لما بكى على الميت وقال) :إن هذه رحمة جعلها ا ّ
ل من عباده الرحـماء( ،فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه ل لرحمة الميت ،فإن الفضيل بن عباده ،وإنما يرحم ا ّ
ل به ،حاله حال حسن ل قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى ا ّ عياض لما مات ابنه على فضحـك وقال :رأيت أن ا ّ
ل ـ تعالى ـ كحال النبي صلى ال عليه وسلم بالنسبة إلى أهل الجزع .وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد ا ّ
صْوا ِباْلَمْرَحَمِة{ ]البلد ،[17 :فذكر ـ سبحانه ـ
صْبِر َوَتَوا َ
صْوا ِبال ّ
ن آَمُنوا َوَتَوا َ
ن اّلِذي َ فهذا أكمل .كـما قال تعالىُ} :ثّم َكا َ
ن ِم ْ
التواصي بالصبر والمرحمة.
والناس أربعة أقسام :منهم من يكون فيه صبر بقسوة .ومنهم مـن يكـون فيه رحمة بجزع .ومنهم من يكون فيه القسوة
والجزع .والمؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه ويرحم الناس.
ل من توابع المحبة له ،وهذا إنما يتوجه على المأخذ الول وقد ظن طائفة من المصنفين في هذا الباب أن الرضا عن ا ّ
وهو الرضا عنه لستحقاقه ذلك بنفسه ،مع قطع العبد النظر عن حظه ،بخلف المأخذ الثاني وهو :الرضا لعلمه بأن
المقضي خير له ،ثم إن المحبة متعلقة به والرضا متعلق بقضائه ،لكن قد يقال في تقرير ما قال هذا المصنف ونحوه.
إن المحبة ل نوعان / :محبة له نفسه ،ومحبة له لما فيه من الحسان ،وكذلك الحمد له نوعان :حمد له على ما
يستحقه نفسه ،وحمد على إحسانه إلى عبده ،فالنوعان للرضا كالنوعين للمحبة.
وأما الرضا به وبدينه وبرسوله ،فذلك من حظ المحبة ،ولهذا ذكر النبي صلى ال عليه وسلم ذوق طعم اليمان ،كما
ذكر في المحبة وجود حلوة اليمان .وهذان الحديثان الصحيحان هما أصل فيما يذكر من الوجد والذوق اليماني
الشرعي ،دون الضللي البدعي .ففي صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ذاق طعم اليمان من
ل ربا وبالسلم دينا وبمحمد نبيا( ،وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ثلث من كن رضي با ّ
ل ،ومنل ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ فيه وجد بهن حلوة اليمان :أن يكون ا ّ
ل منه ،كما يكره أن يلقى في النار( .وهذا مما يبين من الكلم على المحبة
كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ
فنقول:
َفصــل
ل ورسوله من أعظم واجبات اليمان وأكبر أصوله وأجل قواعده ،بل هي أصل كل عمل من ل؛ بل محبة ا ّ
محبة ا ّ
أعمال اليمان والدين ،كما أن /التصديق به أصل كل قول من أقوال اليمان والدين ،فإن كل حركة في الوجود إنما
تصدر عن محبة :إما عن محبة محمودة ،أو عن محبة مذمومة ،كما قد بسطنا ذلك في قاعدة المحبة من القواعد
الكبار.
ل ـ سبحانهفجميع العمال اليمانية الدينية ل تصدر إل عن المحبة المحمودة .وأصل المحبة المحمودة هي محبة ا ّ
حا ،بل جميع العمال اليمانية الدينية ل
ل صال ً
ل ل يكون عم ًوتعالى ـ إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند ا ّ
ل ـ تعالى ـ ل يقبل من العمل إل ما أريد به وجهه ،كما ثبت في الصحيح عن النبي ل ،فإن ا ّ
تصدر إل عن محبة ا ّ
ل فأشرك فيه غيري فأنا ل تعالى :أنا أغنى الشركاء عن الشرك ،فمن عمل عم ً صلى ال عليه وسلم أنه قال) :يقول ا ّ
منه بريء وهو كله للذي أشرك( ،وثبت في الصحيح حديث الثلثة الذين هم أول من تسعر بهم النار :القارئ
المرائي ،والمجاهد المرائي ،والمتصدق المرائي.
ل سواه ،وهو الذي بعث به الولين والخرين من الرسل ،وأنزل بهل هو الدين الذي ل يقبل ا ّ
بل إخلص الدين ّ
جميع الكتب ،واتفق عليه أئمة أهل اليمان ،وهذا هو خلصة الدعوة النبوية ،وهو قطب القرآن الذي تدور عليه
رحاه.
ص{ خاِل ُ ن اْل َ
ل الّدي ُ ل ِّ ن َ .أ َصا َلُه الّدي َ
خِل ًل ُم ْعُبْد ا َّ
ق َفا ْحّ ب ِباْل َك اْلِكَتا َحِكيِم ِ .إّنا َأنَزْلَنا ِإَلْي َل اْلَعِزيِز اْل َ
ن ا ِّ
ب ِم ْل اْلِكَتا ِقال تعالىَ} :تْنِزي ُ
لْ
ن ت َِن َ .وُأِمْر ُ صا َلُه الّدي َ
خِل ًل ُم ْعُبَد ا َّ
ن َأ ْ
ت َأ ْ
ل ِإّني ُأِمْر ُ ]الزمر1 :ـ ،[3والسورة كلها عامتها في هذا المعنى ،كقولهُ} :ق ْ
س ا ُّ
ل صا َلُه ِديِني{ ]الزمر ،[14 :إلى قولهَ} :أَلْي َ خِل ً عُبُد ُم ْ
ل َأ ْ
ل ا َّ ن{ ]الزمر [12 ،11 :إلى قولهُ} / :ق ْ سِلِمي َ
ل اْلُم ْن َأوّ ََأُكو َ
ل ُه ّ
ن ضّر َه ْل ِب ُ ن َأَراَدِني ا ُّل ِإ ْ
ن ا ِّن ُدو ِ ن ِم ْعو َ ن ُدوِنِه{ ]الزمر [36 :إلى قولهَ} :أَفَرَأْيُتْم َما َتْد ُ ن ِم ْك ِباّلِذي َ
خّوُفوَن َ عْبَدُه َوُي َ
ف َ ِبَكا ٍ
ل ِّ
ل ن ُ .ق ْشْيًئا َولَ َيْعِقُلو َ ن َ ل َيْمِلُكو َل َأَوَلْو َكاُنوا َ شَفَعاَء ُق ْل ُ ن ا ِّن ُدو ِ خُذوا ِم ْ ضّرِه{ الية ]الزمر [38 :إلى قولهَ} :أْم اّت َ ت ُ شَفا ُ َكا ِ
خَرِة َوِإَذا ُذِكَرلِ ن ِبا ْ ل ُيْؤِمُنو َ
ن َ ب اّلِذي َ
ت ُقُلو ُ شَمَأّز ْ حدَهُ ا ْل َو ْ ن َ .وِإَذا ُذِكَر ا ُّ جُعو َ ض ُثّم ِإَلْيِه ُتْر َ
لْر ِ ت َوا َْسَماَوا ِك ال ّ جِميًعا َلُه ُمْل ُ عُة َ شَفا َال ّ
ل َتْأُمُروَنِني َأْعُبُد َأّيَها اْلَجاِهُلوَن{]الزمر[64 : ل َأَفَغْيَر ا ِّ ن{ ]الزمر 43 :ـ [45إلى قولـهُ} :ق ْ شُرو َ سَتْب ِ
ن ِمنْ ُدوِنِه ِإَذا ُهْم َي ْ اّلِذي َ
ل َفاْعُبْد َوُكْن ِمْن الّشاِكِريَن{ ]الزمر.[66 : إلى قولهَ} :ب ْ
ل ا َّ
ك ِلَمْن َيَشاُء{ ]النساء [48 :وهذه الية في حق من لم يتب؛ ن َذِل َك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ
شَر َ
ن ُي ْ
ل َيْغِفُر َأ ْ
ل َ وقد قال سبحانهِ} :إ ّ
ن ا َّ
ولهذا خصص الشرك ،وقيد ما /سواه بالمشيئة ،فأخبر أنه ل يغفر الشرك لمن لم يتب منه ،وما دونه يغفره لمن
ب َجِميًعا{]الزمر [53 :فتلك
ل َيْغِفُر الّذُنو َ
ن ا َّ
ل ِإ ّ
حمَِة ا ِّ
ن َر ْ
طوا ِم ْ
ل َتْقَن ُ
سِهْم َعَلى َأْنُف ِ
سَرُفوا َن َأ ْ
عَباِدي اّلِذي َ يشاء .وأما قولهُ} :ق ْ
ل َيا ِ
في حق التائبين؛ ولهذا عم وأطلق ،وسياق الية يبين ذلك مع سبب نزولها.
وقد أخبر ـ سبحانه ـ أن الولين والخرين إنما أمروا بذلك في غير موضع كالسورة التي قرأها النبي صلى ال عليه
ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ
ب ل ـ تعالى ـ أن يقرأ عليه قراءة إبلغ وإسماع بخصوصه فقالَ} :وَما َتَفّر َ
ق اّلِذي َ ي لما أمره ا ّ وسلم على ُأَب ّ
صيَن َلُه الّديَن ُحَنَفاَء{الية ]البينة.[5 ،4 :
خِل ِ
ل ُم ْ
ل ِلَيْعُبُدوا ا َّ
جاَءْتُهْم اْلَبّيَنُة َ .وَما ُأِمُروا ِإ ّ
ن َبْعِد َما َ
ل ِم ْ
ِإ ّ
ل َما َلُكْم ِمْن ِإَلٍه َغْيُرُه{ ]العراف: عُبُدوا ا َّوجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الصل كما قال نوح ـ عليه السلم} :ا ْ
ل َما َلُكْم ِمْن ِإَلٍه َغْيُرُه{ل سيما أفضل / ،[59وكذلك هود وصالح وشعيب ـ عليهم السلم ـ وغيرهم كل يقول} :ا ْ
عُبُدوا ا َّ
ل بهما وأيدهما فيه ل :إبراهيم ومحمًدا ـ عليهما السلم ـ فإن هذا الصل بينه ا ّ ل كلهما خلي ً الرسل الذين اتخذ ا ّ
س ِإَماًما{ ]البقرة ،[124 :وفي ذريته جعل النبوة ك ِللّنا ِ
عُل َ ل فيهِ} :إّني َ
جا ِ ونشره بهما ،فإبراهيم هو المام الذي قال ا ّ
لِبيِه َوَقْوِمِه ل عليهم ،قال سبحانهَ} :وِإْذ َقا َ
ل ِإْبَراِهيُم َِ والكتاب والرسل ،فأهل هذه النبوة والرسالة هم من آله الذين بارك ا ّ
طَرِني َفِإّنُه َسَيْهِديِني َ .وَجَعَلَها َكِلَمًة َباِقَيًة ِفي َعِقِبِه َلَعّلُهْم َيْرِجُعوَن{ ]الزخرف.[28 - 26 :
ل اّلِذي َف َ
ن ِ .إ ّ
ِإّنِني َبَراٌء ِمّما َتْعُبُدو َ
ل وهي البراءة من كل معبود إل من الخالق الذي فطرنا كما قال صاحب يسَ} :وَما فهذه الكلمة هي كلمة الخلص ّ
ل
شْيًئا َو َعُتُهْم َعّني شََفا َ ن َ ل ُتْغ ِ ضّر َ ن ِب ُ حَما ُ ن ُيِرْدِني الّر ْ ن ُدوِنِه آِلَهًة ِإ ْ خُذ ِم ْ ن َ .أَأّت ِجُعو َ طَرِني َوِإَلْيِه ُتْر َ عُبُد اّلِذي َف َ
ل َأ ْ
ِلي َ
ن{ ]يس22 :ـ ،[24وقال تعالى في قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلل من اتخذ ل ُمِبي ٍ
لٍ ضَ ُينِقُذوِني ِ .إّني ِإًذا َلِفي َ
طَرجِهي ِلّلِذي َف َ ت َو ْجْه ُ ن ِ .إّني َو ّ شِرُكو َ ل َياَقْوِم ِإّني َبِريٌء ِمّما ُت ْ ت َقا َ ل ،قالَ} :فَلّما َأَفَل ْ بعض الكواكب رًبا يعبده من دون ا ّ
طاًنا{ ]النعام: سْل َ
عَلْيُكْم ُ
ل ِبِه َ ل َما َلْم ُيَنّز ْ
شَرْكُتْم ِبا ِّن َأّنكُْم َأ ْ
خاُفو َ ن{ إلى قولهَ} :و َ
ل َت َ شِرِكي َن اْلُم ْحِنيًفا َوَما َأَنا ِم ْ
ض َلْر َت َوا َْسَماَوا ِ
ال ّ
ل َر ّ
ب عُدّو ِلي ِإ ّن َ .فِإّنُهْم َ
لْقَدُمو َ ن َ .أْنُتْم َوآَباُؤُكْم ا َْل َأَفَرَأْيُتْم َما ُكْنُتْم َتْعُبُدو َ ،[78-81وقال إبراهيم الخليل ـ عليه السلمَ} :قا َ
ت َفُهَو َيْشِفيِني َ .واّلِذي ُيِميُتِني ُثّم ُيْحِييِن{ ]الشعراء: ض ُسِقيِني َ .وِإَذا َمِر ْ طِعُمِني َوَي ْ خَلَقِني َفُهَو َيْهِديِني َ .واّلِذي ُهَو ُي ْ اْلَعاَلِمينَ .اّلِذي َ
ن ا ِّ
ل ن ُدو ِ ن ِم ْ
ن َمَعُه ِإْذ َقاُلوا ِلَقْوِمِهْم ِإّنا ُبَرآُء ِمْنُكْم َوِمّما َتْعُبُدو َسَنٌة ِفي ِإْبَراِهيَم َواّلِذي َ حَ سَوٌة َ ،[75-81وقال تعالىَ} :قْد َكاَن ْ
ت َلُكْم ُأ ْ
َكَفْرَنا ِبكُْم{ الية ]الممتحنة.[4 :
ل دين التوحيد ،وقمع به المشركين من كان مشرًكا فيل به الدين الخالص ّ
ونبينا صلى ال عليه وسلم هو الذي أقام ا ّ
الصل ،ومن الذين كفروا من أهل الكتب ،وقال صلى ال عليه وسلم فيما رواه المام أحمد وغيره) :بعثت بالسيف
ل وحده ل شريك له ،وجعل رزقي تحت ظل رمحي ،وجعل الذلة والصغار على من بين يدي الساعة حتى يعبد ا ّ
ل عليه من اليات المتضمنة للتوحيد.
خالف أمري ،ومن تشبه بقوم فهو منهم( ،وقد تقدم بعض ما أنزل ا ّ
ن.سَتْكِبُرو َ ل َي ْ
ل ِإَلَه ِإلّ ا ُّ
ل َلُهْم َ حٌد{ إلى قولهِ} :إّنُهْم َكاُنوا ِإَذا ِقي َ ن ِإَلَهُكْم َلَوا ِصّفا{ إلى قولهِ} :إ ّ ت َ صاّفا ِضاَ} :وال ّ وقال تعالى أي ً
ق َمْعُلوٌم َ .فَواِكُه َوُهْم ك َلُهْم ِرْز ٌ ن{ إلى قولهُ} :أْوَلِئ َ سِلي َ
ق اْلُمْر َ صّد َق َو َ حّ جاَء ِباْل َ
ل َنَُ .ب ْ
جُنو ٍ عٍر َم ْشا ِن َأِئّنا َلَتاِرُكوا آِلَهِتَنا ِل َ
َوَيُقوُلو َ
عَباَد
ل ِ ن ِ .إ ّصُفو َعّما َي ِ ل َ ن ا ِّ حا َ
سْب َل ،إلى قولهُ } : ُمْكَرُموَن{ إلى ما ذكره من قصص النبياء في التوحيد وإخلص الدين ّ
صيًرا ِ .إ ّ
ل جَد َلُهْم َن ِن َت ِ ن الّناِر َوَل ْ ل ِم ْ سَف ِ
لْك ا َْ
ن ِفي الّدْر ِ ن{ ]الصافات 159 :ـ ،[160وقال تعالىِ} :إ ّ
ن اْلُمَناِفِقي َ صي َ ل اْلُمخَْل ِا ِّ
ظيًما{ ]النساء: عِ جًرا َ ن َأ ْ ل اْلُمْؤِمِني َت ا ُّف ُيْؤ ِسْو َن َو َ
ك َمَع اْلُمْؤِمِني َ ل َفُأْوَلِئ َ
صوا ِديَنُهْم ِّخَل ُل َوَأ ْصُموا ِبا ِّعَت َ حوا َوا ْ صَل ُ
ن َتاُبوا َوَأ ْ اّلِذي َ
.[146 ،145
وفي الجملة فهذا الصل في سورة النعام ،والعراف ،والنور ،وآل طسم / ،وآل حم ،وآل الر ،وسور المفصل وغير
ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر ،فهو أصل الصول وقاعدة الدين حتى في سورتي
ل َأَحٌد{ وهاتان السورتان كان النبي صلى ال عليه وسلم يقرأ ن{ و}ُق ْ
ل ُهَو ا ُّ الكافرون والخلصُ} :ق ْ
ل َياَأّيَها اْلَكاِفُرو َِ
بهما في صلة التطوع كركعتي الطواف ،وسنة الفجر ،وهما متضمنتان للتوحيد.
ل بالقصد والرادة ،وهو الذيفأما }قُْل َياَأّيَها اْلَكاِفُروَِن{ :فهي متضمنة للتوحيد العملي الرادي ،وهو إخلص الدين ّ
ل َأَحٌد{ :فمتضمنة للتوحيد القولي العملي كما ثبت في الصحيحين يتكلم به مشائخ التصوف غالًبا ،وأما سورة }ُق ْ
ل ُهَو ا ُّ
ل أحد في صلته ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :سلوه لم يفعل ذلك؟( ل كان يقرأ :قل هو ا ّ
عن عائشة أن رج ً
ل يحبه(.
فقال :لنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها ،فقال) :أخبروه أن ا ّ
ل ـ سبحانه وتعالى ـ الذي ينفي قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل ،ما
ولهذا تضمنت هذه السورة من وصف ا ّ
صارت به هي الصل المعتمد في مسائل الذات كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع .وذكرنا اعتماد الئمة عليها
مع ما تضمنته من تفسير الحد الصمد ،كما جاء تفسيره عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين ،وما دل
على ذلك من الدلئل.
طا بالخر .فل يوجد أحد ل وإن /كان أحد النوعين مرتب ً
لكن المقصود هنا هو :التوحيد العملي ،وهو إخلص الدين ّ
من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إل وفيه نوع من الشرك العملي؛ إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين
ل وبين خلقه ،أو بينه وبين المعدومات كما يسوى المعطلة بينه وبين المعدومات في الصفات السلبية التي ل تستلزم ا ّ
حا ول ثبوت كمال ،أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات في صفات النقص ،وكما يسوون إذا أثبتوا هم مد ً
ومن ضاهاهم من الممثلة بينه وبين المخلوقات في حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدلون بربهم ،ويجعلون له أنداًدا
ويسوون المخلوقات برب العالمين.
ل ـ سبحانه وتعالى ـ قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقينوا ّ
والشهداء والصالحين ،غيرالمغضوب عليهم ول الضالين .وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم) :اليهود مغضوب
عليهم ،والنصارى ضالون( .وفي هذه المة من فيه شبه من هؤلء وهؤلء كما قال النبي صلى ال عليه وسلم:
ل ،اليهود
ب لدخلتموه( ،قالوا :يا رسول ا ّ
ض ّ
حر َ
جْ)لتتبعن سنن من كان قبلكم ،حذو الُقّذة بالقذة ،حتى لو /دخلوا ُ
والنصارى؟ قال) :فمن؟( والحديث في الصحيحين.
ل وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته ،وهذا ل ،وهو إرادة ا ّفإذا كان أصل العمل الديني هو إخلص الدين ّ
س ِإّل ِلَيْعُبُدوِن{ ]الذاريات:
لن َ
ن َوا ِْ
جّت اْل ِ كمال المحبة ،لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقولهَ} :وَما َ
خَلْق ُ
س اْعُبُدوا َرّبُكْم اّلِذي َخَلَقُكْم َواّلِذيَن ِمْن َقْبِلُكْم{]البقرة [21 :وأمثال هذا ،والعبادة تتضمن كمال ،[56وقولهَ} :ياَأّيَها الّنا ُ
الحب ونهايته ،وكمال الذل ونهايته ،فالمحبوب الذي ل يعظم ول يذل له ل يكون معبوًدا ،والمعظم الذي ل يحب ،ل
ل{ ]البقرة:حّبا ِّ شّد ُن آَمُنوا َأ َل َواّلِذي َب ا ِّ
ح ّ حّبوَنُهْم َك ُل َأنَداًدا ُي ِ
ن ا ِّ
ن ُدو ِ
خُذ ِم ْ
ن َيّت ِ
س َم ْن الّنا ِيكون معبوًدا؛ ولهذا قال تعالىَ} :وِم ْ
ل،
[165فبين ـ سبحانه ـ أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الّ أنداًدا ،وإن كانوا يحبونهم كما يحبون ا ّ
ل ،والحب يتبع العلم؛ ولن المؤمنين جعلوا جميع ل ولوثانهم ،لن المؤمنين أعلم با ّ ل منهم ّ فالذين آمنوا أشد حًبا ّ
ل وحده ،وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين النداد في الحب ،ومعلوم أن ذلك أكمل .قال حبهم ّ
ن{
ل َأْكَثُرُهْم لَ َيْعَلُمو َ
ل َب ْ
حْمُد ِّ ل اْل َ
ن َمَث ًسَتِوَيا ِ
ل َي ْ
ل َه ْ جٍسَلًما ِلَر ُ
ل َ
جً ن َوَر ُسو َ شاِك ُ
شَرَكاُء ُمَت َ
ل ِفيِه ُ
جًل َر ُ
ل َمَث ً
ب ا ُّ تعالىَ } :
ضَر َ
]الزمر.[29 :
ل ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين ،وإن كان ذلك من محبةواسم المحبة فيه إطلق وعموم ،فإن المؤمن يحب ا ّ
ل ـ سبحانه وتعالى ـ مذكورة بما يختص به ـ
ل /ل يستحقها غيره؛ ولهذا جاءت محبة ا ّل ،وإن كانت المحبة التي ّ ا ّ
ل ـ سبحانه وتعالى.
سبحانه ـ من العبادة والنابة إليه والتبتل له ،ونحو ذلك .فكل هذه السماء تتضمن محبة ا ّ
ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين ،فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها ،فإن النبي صلى ال عليه وسلم
ل( .فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل قال ) :رأس المر السلم ،وعموده الصلة ،وذروة سنامه الجهاد في سبيل ا ّ
سِبي ِ
ل جاَهَد ِفي َ
خِر َو َ
لِ
ل َواْلَيْوِم ا ْ
ن ِبا ِّ
ن آَم َ
حَراِم َكَم ْ
جِد اْل َ
سِعَماَرَة اْلَم ْ
ج َو ِ
حا ّ
سَقاَيَة اْل َ وهو أعله وأشرفه .وقد قال تعالىَ} :أ َ
جَعْلُتْم ِ
ظيٌم{ ]التوبة19 :ـ ،[22والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة. عِ جٌر َل{ إلى قولهَ} :أ ْ
عْنَد ا ِّ
ن ِ
ل َيسَْتُوو َ
ل َ
ا ِّ
خَواُنُكمْ
ن آَباُؤُكْم َوَأْبَناُؤُكْم َوِإ ْن َكا َ وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد ،والجهاد دليل المحبة الكاملة .قال تعالىُ} :ق ْ
ل ِإ ْ
عْ
ن ن َيْرَتّد ِمْنُكْم َ
ن آَمُنوا َم ْ شيَرُتُكْم{ الية ]التوبة ،[24 :وقال تعالى في صفة المحبين المحبوبينَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ عِ َوَأْزَواجُُكْم َو َ
لِئٍم{ن َلْوَمَة َ خاُفو َ ل َي َل َو َل ا ِّسِبي ِ ن ِفي َ جاِهُدو َ
ن ُي َ
عَلى اْلَكاِفِري َ
عّزٍة َ
ن َأ ِ
عَلى اْلُمْؤِمِني َ
حّبوَنُه َأِذّلٍة َ
حّبُهْم َوُي ِ
ل ِبَقْوٍم ُي ِ
ف َيْأِتي ا ُّ
سْو َِديِنِه َف َ
]المائدة [54 :فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ،وإنهم يجاهدون في سبيل
ل ،ول يخافون لومة لئم.
ا ّ
/فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لن المحب يحب ما يحب محبوبه ،ويبغض ما يبغض محبوبه ،ويوالي من يواليه
ويعادي من يعاديه ،ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه ،ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه ،فهو موافق له في
ذلك .وهؤلء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب
له ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلل) :لعلك أغضبتهم لن كنت أغضبتهم
ل لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن
لقد أغضبت ربك( .فقال لهم :يا إخوتي ،هل أغضبتكم؟ قالوا :ل ،يغفر ا ّ
ل مأخذها ،فقال لهم أبو بكر :أتقولون هذا لسيد قريش ؟ وذكر أبو بكر ذلك حرب فقالوا :ما أخذت السيوف من عدو ا ّ
ل؛ لكمال ما عندهم من الموالة ّ
ل للنبي صلى ال عليه وسلم فقال له ما تقدم؛ لن أولئك إنما قالوا ذلك غضًبا ّ
ل ورسوله.ورسوله ،والمعاداة لعداء ا ّ
ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه) :ل يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل
حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي
بها ،فبي يسمع ،وبي يبصر ،وبي يبطش ،وبي يمشي ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه ،وما ترددت عن
شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ،ولبد له منه( فبين ـ سبحانه ـ أنه
يتردد لن التردد تعارض إرادتين ،وهو ـ سبحانه ـ يحب ما يحب عبده /ويكره ما يكرهه ،وهو يكره الموت فهو
يكرهه ،كما قال) :وأنا أكره مساءته( ،وهو ـ سبحانه ـ قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت .فسمى ذلك تردًدا ،ثم بين
أنه لبد من وقوع ذلك.
وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه .وقد يقال له :اتحاد نوعي
وصفي ،وليس ذلك اتحاد الذاتين فإن ذلك محال ممتنع ،والقائل به كافر ،وهو قول النصارى والغالية من الرافضة
والنساك كالحلجية ونحوهم ،وهو التحاد المقيد في شيء بعينه.
وأما التحاد المطلق ـ الذي هو قول أهل وحدة الوجود الذين يزعمون أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق ـ فهذا
تعطيل للصانع وجحود له ،وهو جامع لكل شرك ،فكما أن التحاد نوعان ،فكذلك الحلول نوعان :قوم يقولون:
ل في
بالحلول المقيد في بعض الشخاص ،وقوم يقولون :بحلوله في كل شيء ،وهم الجهمية الذين يقولون :إن ذات ا ّ
كل مكان.
وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء في المحبة أن يغيب بمحبوبه عن نفسه وحبه ،ويغيب بمذكوره عن ذكره،
وبمعروفه عن معرفته ،وبموجوده عن وجوده ،حتى ل يشهد إل محبوبه فيظن في زوال تمييزه ونقص عقله وسكره
أنه هو محبوبه .كما قيل :إن محبوًبا وقع في اليم فألقى المحب نفسه خلفه ،فقال / :أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك ؟
فقال ،غبت بك عني ،فظننت أنك أني ،فل ريب أن هذا خطأ وضلل.
لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذوًرا في زوال عقله،
فل يكون مؤاخًذا بما يصدر منه من الكلم في هذه الحال التي زال فيها عقله بغير سبب محظور ،كما قيل في عقلء
ل ،فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم ،وأسقط ما فرض بما سلب.ل وأحوا ً
ل عقو ً
المجانين :إنهم قوم آتاهم ا ّ
وأما إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظوًرا لم يكن السكران معذوًرا ،وإن كان ل يحكم بكفره في أصح القولين،
كما ل يقع طلقه في أصح القولين ،وإن كان النزاع في الحكم مشهوًرا .وقد بسطنا الكلم في هذا ،وفيمن يسلم له
حاله ومن ل يسلم في قاعدة ذلك.
وبكل حال ،فالفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا حال ناقص ،وإن كان صاحبه غير مكلف؛ ولهذا لم يرد مثل هذا
عن الصحابة الذين هم أفضل هذه المة ول عن نبينا محمد صلى ال عليه وسلم وهو أفضل الرسل ،وإن كان لهؤلء
في صعق موسى نوع تعلق ،وإنما حدث زوال العقل عند الواردات اللهية على بعض التابعين ومن بعدهم ،وإن
كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه ووليته وعداوته ،فمن المعلوم أن من /أحب الّ
ن ُيَقاِتُلو َ
ن ب اّلِذي َ
ح ّ
ل ُي ِ المحبة الواجبة فلبد أن يبغض أعداءه ،ول بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالىِ} :إ ّ
ن ا َّ
ص{ ]الصف.[4 : صو ٌ
ن َمْر ُ
صّفا َكَأّنُهْم ُبنَيا ٌ
سِبيِلِه َ
ِفي َ
والمحب التام ل يؤثر فيه لوم اللئم وعذل العاذل ،بل ذلك يغريه بملزمة المحبة ،كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك،
ل ويرضاه من جهاد أعدائه ،فإن وهؤلء هم أهل الملم المحمود وهم الذين ل يخافون من يلومهم على ما يحب ا ّ
ل أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق ،وليس من المحمود الصبر الملم على ذلك كثير .وأما الملم على فعل ما يكرهه ا ّ
على هذا الملم ،بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .وبهذا يحصل الفرق بين ]الملمية[ الذين يفعلون
ل ورسوله ويصبرون ل ورسوله ول يخافون لومة لئم في ذلك ،وبين ]الملمية[ الذين يفعلون ما يبغضه ا ّ ما يحبه ا ّ
على الملم في ذلك.
صــل
َف ْ
وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني ،فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها ،فإن الراجي الطامع
ن َيْبَتُغو َ
ن عو َن َيْد ُ إنما يطمع فيما يحبه ل فيما يبغضه .والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب .قال تعالىُ} :أْوَلِئ َ
ك اّلِذي َ
جُروا ن َها َ
ن آَمُنوا َواّلِذي َ عَذاَبُه{الية ]السراء ،[57 :وقالِ} :إ ّ
ن اّلِذي َ ن َ
خاُفو َ
حَمَتُه َوَي َ
ن َر ْجو َب َوَيْر ُ
سيَلَة َأّيُهْم َأْقَر ُ
ِإَلى َرّبهِْم اْلَو ِ
ل{ ]البقرة.[218 : حَمَة ا ِّ
ن َر ْجو َك َيْر ُ
ل ُأْوَلِئ َ
ل ا ِّسِبي ِ
جاَهُدوا ِفي َ َو َ
ورحمته اسم جامع لكل خير .وعذابه اسم جامع لكل شر .ودار الرحمة الخالصة هي الجنة ،ودار العذاب الخالص هي
النار ،وأما الدنيا فدار امتزاج ،فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنة فالجنة اسم جامع لكل نعيم ،وأعله النظر إلى وجه
ل ،كما في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :إذا دخل ا ّ
ل موعًدا يريد أن ينجزكموه .فيقولون :ما هو؟ ألم يبيض
أهل الجنة الجنة نادى مناد :يا أهل الجنة ،إن لكم عند ا ّ
وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار؟( قال) :فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيًئا
أحب إليهم من النظر إليه( وهو الزيادة.
ومن هنا يتبين زوال الشتباه في قول من قال :ما عبدتك شوًقا إلى جنتك ول خوًفا من نارك ،وإنما عبدتك شوًقا إلى
رؤيتك ،فإن هذا القائل ظن هو ومن تابعه أن الجنة ليدخل في مسماها إل الكل والشرب واللباس والنكاح والسماع
ل من الجهمية ،أو من يقربها ويزعم أنهونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات ،كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية ا ّ
ل ،كما يقوله طائفة من المتفقهة .فهؤلء متفقون على أن مسمى الجنة والخرة /ل يدخل فيه إل ل تمتع بنفس رؤية ا ّ
خَرَة{ لِ ن ُيِريُد ا ْ التمتع بالمخلوقات؛ ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قولهِ} :مْنُكْم َم ْ
ن ُيِريُد الّدْنَيا َوِمْنُكْم َم ْ
ن َلُهْم
سُهْم َوَأْمَواَلُهْم ِبَأ ّ
ن َأنُف َ
ن اْلُمْؤِمِني َشَتَرى ِم ْ لا ْ ل ،وقال آخر في قوله تعالىِ} :إ ّ
ن ا َّ ]آل عمران [152 :قال فأين من يريد ا ّ
اْلَجّنَة{ ]التوبة [111 :قال :إذا كانت النفوس والموال بالجنة فأين النظر إليه ،وكل هذا لظنهم أن الجنة ل يدخل فيها
النظر.
وأما عمل الحي بغير حب ول إرادة أصل ،فهذا ممتنع وإن تخيله بعض الغالطين من النساك ،وظن أن كمال العبد أل
تبقى له إرادة أصل؛ فذاك لنه تكلم في حال الفناء والفاني ـ الذي يشتغل بمحبوبه ـ له إرادة ومحبة ولكن ل يشعر
بها ،فوجود المحبة شيء ،والرادة شيء ،والشعور بها شيء آخر .فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط ،فالعبد
ل يتصور أن يتحرك قط إل عن حب وبغض وإرادة؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم) :أصدق السماء حارث
ل ما يدعوه وهمام( .فكل إنسان له حرث وهو العمل ،وله هم وهو أصل /الرادة ،ولكن تارة يقوم بالقلب من محبة ا ّ
ل عنه :نعم العبد صهيب ،لو لم إلى طاعته ،ومن إجلله والحياء منه ما ينهاه عن معصيته ،كما قال عمر ـ رضي ا ّ
ل يمنعه من معصيته.ل لم يعصه أي :هو لم يعصه ولو لم يخفه ،فكيف إذا خافه ،فإن إجلله وإكرامه ّ يخف ا ّ
فالراجي الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه ،والتنعم بتجليه له ،فمعلوم أن هذا من توابع
محبته له ،فالمحبة هي التي أوجبت محبة التجلي والخوف من الحتجاب ،وإن تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق
ل وجدها أحلى من كل محبة؛ ل المستلزمة محبته ،ثم إذا وجد حلوة محبة ا ّ
والتنعم به ،فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة ا ّ
ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء ،كما في الحديث) :إن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون
ل التي
ل ومحبته .فالخوف من التعذب بمخلوق والرجاء له يسوقه إلى محبة ا ّ الّنَفس( وهو يبين غاية تنعمهم بذكر ا ّ
هي الصل.
وهذا كله ينبني على أصل المحبة ،فيقال :قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين ،كما في قولهَ} :واّلِذينَ
سوِلِه
ل َوَر ُ ن ا ِّ
ب ِإَلْيُكْم ِم ْ حّبوَنُه{ ]المائدة ،[54 :وقوله تعالىَ} :أ َ
ح ّ ل{ ]البقرة ،[165 :وقوله تعالىُ} :ي ِ
حّبُهْم َوُي ِ حّبا ِّ
آَمُنوا َأشَّد ُ
َوِجَهاٍد ِفي َسِبيِلِه{ ]التوبة [24 :وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ثلث من كن فيه وجد حلوة
ل ،وأن يكره أن يرجع في الكفر
ل ورسوله أحب إليه مما سواهما ،وأن يحب المرء ل يحبه إل ّ اليمان :أن يكون ا ّ
ل منه كما يكره أن يلقى في النار(.
بعد إذ أنقذه ا ّ
وكذلك محبة صحابته وقرابته ،كما في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :آية اليمان حب النصار،
ل عنه:
ل واليوم الخر( ،وقال على ـ رضي ا ّ وآية النفاق بغض النصار( ،وقال) :ل يبغض النصار رجل يؤمن با ّ
ى أنه ل يحبني إل مؤمن ،ول يبغضني إل منافق .وفي السنن أنه قال للعباس) :والذي نفسي
إنه لعهد النبي المي إل ّ
عا أنه قال:
ل ولقرابتي( يعني :بني هاشم ،وقد روى حديث عن ابن عباس مرفو ًبيده ،ل يدخلون الجنة حتى يحبوكم ّ
ل ،وأحبوا أهل بيتي لجلي(.
ل لما يغذوكم به من نعمه ،وأحبوني بحب ا ّ
)أحبوا ا ّ
ل من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة ،وكذلك حبه لهلها وهم
وأما العمال التي يحبها ا ّ
ل المتقون.
المؤمنون أولياء ا ّ
وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة ،والذي عليه سلف المة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ
ل ـ سبحانه ـ محبوب لذاته محبة حقيقية ،بل هي أكمل محبة ،فإنها كما قال
الدين المتبعون ،وأئمة التصوف إن ا ّ
ل{ ]البقرة [165 :وكذلك هو ـ سبحانه ـ يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية.حّبا ِّ
شّد ُ تعالىَ} :واّلِذي َ
ن آَمُنوا َأ َ
وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين ،زعًما منهم أن المحبة ل تكون إل لمناسبة بين المحب والمحبوب ،وأنه
ل مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة ،وكان أول من ابتدع هذا في السلم هو الجعد بن درهم في أوائل المائة
ل القسري أمير العراق والمشرق بواسط .خطب الناس يوم الضحى فقال :أيها الثانية فضحى به خالد بن عبد ا ّ
ل ولم يكلم /
ل لم يتخذ إبراهيم خلي ً
ح بالجعد بن درهم ،إنه زعم أن ا ّ
ضّل ضحاياكم ،فإني ُم َحوا تقبل ا ّ
ضّالناسَ ،
موسي تكليًما ،ثم نزل فذبحه ،وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه ،وإليه أضيف
قول الجهمية ،فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها ،ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد ،وظهر قولهم
أثناء خلفة المأمون ،حتى امتحن أئمة السلم ودعوا إلى الموافقة لهم على ذلك.
وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن
ل ،وهؤلء هم أعداء إبراهيم الخليل ـ عليه السلم ـ وهم يعبدون الكواكب ويبنون الرب ليس له صفة ثبوتية أص ً
ل ،وموسى كليما ،لن الخلة هيالهياكل للعقول والنجوم وغيرها ،وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خلي ً
كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل:
ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :لو كنت متخًذا من أهل
ل( يعني :نفسه ،وفي رواية) :إني أبرأ إلى كل خليل من ل ،ولكن صاحبكم خليل ا ّ ل لتخذت أبا بكر خلي ًالرض خلي ً
ل كما اتخذ
ل اتخذني خلي ً
ل( ،وفي رواية) :إن ا ّ
ل لتخذت أبا بكر خلي ًخلته ،ولو كنت متخًذا من أهل الرض خلي ً
ل ،وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق ل( ،فبين صلى ال عليه وسلم أنه ل يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خلي ً إبراهيم /خلي ً
صا كما قالل عنه .مع أنه صلى ال عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخا ً الناس بها أبو بكر الصديق ـ رضي ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم ،وكذلك ابنه ل إني لحبك( وكذلك قوله للنصار .وكان زيد بن حارثة حب رسول ا ّ لمعاذ) :وا ّ
أسامة حبه ،وأمثال ذلك .وقال له عمرو بن العاص :أي الناس أحب إليك ؟ قال) :عائشة( .قال :فمن الرجال؟ قال:
ل عنها) :أل تحبين ما أحب؟( قالت :بلى ،قال) :فأحبي عائشة( .وقال للحسن: )أبوها( ،وقال لفاطمة ابنته ـ رضي ا ّ
)اللهم إني أحبه فأحبه ،وأحب من يحبه( وأمثال هذا كثير.
فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال) :إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ،ولو كنت متخًذا من أهل الرض خليل لتخذت
ل( ،فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هي من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها أبا بكر خلي ً
محبوًبا لذاته ل لشيء آخر؛ إذ المحبوب لشيء غيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير ،ومن كمالها ل تقبل الشركة
والمزاحمة لتخللها المحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب.
فالخلة تنافى المزاحمة ،وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوًبا لذاته /محبة ل يزاحمه فيها غيره ،وهذه محبة ل
ل ،فل يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة ،وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره ـ إذا كان تصلح إل ّ
ل تعالى.
محبوًبا بحق ـ فإنما يحب لجله ،وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة ،فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إل ما كان ّ
ضا إن أنكر محبتهل محبوًبا لذاته ينكر مخاللته .وكذلك أي ً
وإذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكون ا ّ
ل بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد. لحد من عباده فهو ينكر أن يتخذه خلي ً
وكذلك تكليمه لموسى أنكروه؛ لنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الفعال ،فكما ينكرون أن يتصف
ن
ن ِم ْ
ل اّلِذي َ بحياة أو قدرة أو علم أو أن يستوى أو أن يجيء فكذلك ينكرون أن يتكلم أو يكلم ،فهذا حقيقة قولهمَ} .كَذِل َ
ك َقا َ
ت ُقُلوُبُهْم{ ]البقرة.[118 :
شاَبَه ْ
ل َقْوِلِهْم َت َ
َقْبِلِهْم ِمْث َ
ل ويحرفونلكن لما كان السلم ظاهًرا والقرآن متلوا ،ل يمكن جحده لمن أظهر السلم ،أخذوا يلحدون في أسماء ا ّ
الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب إليه ،وهذا جهل عظيم؛ فإن محبة المتقرب
إلى المتقرب إليه تابع لمحبته وفرع عليه ،فمن ل يحب الشيء ل يمكن أن يحب التقرب إليه؛ إذ التقرب وسيلة،
ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود ،فيمتنع أن تكون الوسيلة إلى الشيء المحبوب هي المحبوب دون الشيء المقصود
بالوسيلة.
/وكذلك العبادة والطاعة ،إذا قيل في المطاع المعبود :إن هذا يحب طاعته وعبادته ،فإن محبته ذلك تبع لمحبته ،وإل
ضا
فمن ل يحب ل يحب طاعته وعبادته ،ومن كان ل يعمل لغيره إل لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فإنه يكون معاو ً
له أو مفتدًيا منه ل يكون محًبا له .ول يقال إن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته ،فإن محبة المقصود وإن
استلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة ،فإن ذلك يقتضى أن يعبر بلفظين :محبة العوض والسلمة عن محبة
ل فل تعلق لها بمجرد محبة العوض ،أل ترى أن من استأجر أجيًرا بعوض ل يقال :إن الجير العمل .أما محبة ا ّ
يحبه بمجرد ذلك .بل قد يستأجر الرجل من ل يحبه بحال بل من يبغضه ،وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب
ل به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع أل يكون
ضا له .فعلم أن ما وصف ا ّ
معذب ل يقال :إنه يحبه بل يكون مبغ ً
معناه إل مجرد محبة العمل الذي ينالون به بعض الغراض المخلوقة من غير أن يكون ربهم محبوًبا أصل.
ضا ،فلفظ العبادة متضمن للمحبة مع الذل كما تقدم؛ ولهذا كانت محبة القلب للبشر على طبقات:
وأي ً
أحدها :العلقة :وهو تعلق القلب بالمحبوب ،ثم الصبابة :وهو انصباب القلب إليه ،ثم الغرام :وهو الحب اللزم ،ثم
ل فإن المحب يبقى ذاكًرا
ل عبد ا ّ
العشق وآخر /المراتب هو التتيم :وهو التعبد للمحبوب ،والمتيم المعبود ،وتيم ا ّ
ل لمحبوبه.معبًدا مذل ً
ضا ،فلو كان هذا الذي قالوه حًقا من كون ذلك مجاًزا لما فيه من الحذف والضمار ،فالمجاز ل يطلق إل بقرينة وأي ً
ل محبوًبا ،وأل يكون المحبوب إل العمال ل وسنة رسوله ما ينفي أن يكون ا ّ تبين المراد .ومعلوم أن ليس في كتاب ا ّ
ضا :فمن علمات المجاز صحة إطلق نفيه ،فيجب ضا .وأي ً
ل في الدللة المتصلة ول المنفصلة بل ول في العقل أي ً
ل ،ولم
ب ،كما أطلق إمامهم الجعد ابن درهم أن ال لم يتخذ إبراهيم خلي ًح ّ
ب ول ُي َح ّ
ل ل ُي ِ
أن يصح إطلق القول بأن ا ّ
يكلم موسى تكليًما ،ومعلوم أن هذا ممتنع بإجماع المسلمين ،فعلم دللة الجماع على أن هذا ليس مجاًزا ،بل هي
حقيقة.
ضا ،فالتعبير بمحبة الشيء عن مجرد محبة طاعته ل عن محبة نفسه أمر ل يعرف في اللغة ل حقيقة ول مجاًزا، وأي ً
فحمل الكلم عليه تحريف محض أيضا .وقد قررنا في مواضع من القواعد الكبار أنه ل يجوز أن يكون غير ا ّ
ل
ل ،ول إله إل هو المعبود ،الذي
ل موجوًدا بذاته ،بل ل رب إل ا ّ
محبوًبا مراًدا لذاته كما ل يجوز أن يكون غير ا ّ
يستحق أن يحب لذاته ويعظم لذاته ،كمال المحبة والتعظيم.
وكل مولود يولد على الفطرة فإنه ـ سبحانه ـ فطر القـلوب على أنه ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه
ل وحده ،وإن كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور ومسموع وملموس يجد من نفسه وتنتهى إليه إل ا ّ
أن قلبه يطلب شيًئا سواه ،ويحب أمًرا غيره يتألهه ويصمد إليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من هذه الجناس؛ ولهذا
ب{]الرعد ،[28 :وفي الحديث الصحيح عن عياض بن حمار عن ن اْلُقُلو ُ
طَمِئ ّ
ل َت ْ ل تعالى في كتابهَ} :أ َ
ل ِبِذْكِر ا ِّ قال ا ّ
النبي صلى ال عليه وسلم عن ال تعالى قال) :إني خلقت عبادي حنفاَء فاجتالتهم الشياطين ،وحرمت عليهم ما أحللت
لهم ،وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا( ،كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه
وسلم أنه قال) :كل مولود يولد على الفطرة ،فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ،كما تنتج /البهيمة بهيمة جمعاء،
ل َذِل َ
ك ق ا ِّ
خْل ِ
ل ِل َ
ل َتْبِدي َ
عَلْيَها َ
س َ
طَر الّنا َ
ل اّلِتي َف َ هل تحسون فيها من جدعاء( ،ثم يقول أبو هريرة :اقرؤوا إن شئتمِ} :ف ْ
طَرةَ ا ِّ
الّديُن اْلَقّيُم{ ]الروم.[30 :
ل هو المستحق له على الكمال ،وكل ما في غيره من ضا ،فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فا ّ وأي ً
محبوب فهو منه ـ سبحانه وتعالى ـ فهو المستحق لن يحب على الحقيقة والكمال .وإنكار محبة العبد لربه هو في
الحقيقة إنكار لكونه إلًها معبوًدا ،كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه رًبا خالًقا
فصار إنكارها مستلزًما لنكار كونه رب العالمين ،ولكونه إله العالمين .وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود.
ل عليهما وسلمه ـ أن أعظم ولهذا اتفقت المتان قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى ـ صلوات ا ّ
ل بكل قلبك وعقلك وقصدك ،وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم التي هي أصل شريعة التوراة الوصايا أن تحب ا ّ
والنجيل والقرآن ،وإنكار ذلك هو مأخوذ عن المشركين والصابئين أعداء إبراهيم الخليل ،ومن وافقهم على ذلك من
متفلسف ومتكلم ومتفقه ومبتدع أخذه عن هؤلء ،وظهر ذلك في القرامطة الباطنية من السماعيلية؛ ولهذا قال الخليل
ن{ب اْلَعاَلِمي َ
عُدّو ِلي ِإلّ َر ّن َ .فِإّنُهْم َ
لْقَدُمو َ ل وسلمه عليه َ} :أَفَرَأْيُتْم َما ُكْنُتْم َتْعُبُدو َ
ن َ .أْنُتْم َوآَباُؤُكْم ا َْ إمام الحنفاء ـ صلوات ا ّ
ن َأَتى
ل َم ْن ِ .إ ّ
ل َبُنو َ
ل َو َ ن{ ]النعام ،[76 :وقال تعالىَ} :يْوَم َ
ل َيْنَفُع َما ٌ لِفِلي َ با ْ ح ّ ضاَ } :
ل ُأ ِ ]الشعراء75 :ـ ، [77وقال أي ً
ب َسِليٍم{ ]الشعراء [89 ،88 :وهو السليم من الشرك. ل ِبَقْل ٍ
ا َّ
وأما قولهم :إنه ل مناسبة بين المحدث والقديم توجب محبته له وتمتعه بالنظر إليه .فهذا الكلم مجمل ،فإن أرادوا
بالمناسبة أنه ليس بينهما توالد فهذا حق ،وإن أرادوا أنه ليس بينهما من المناسبة ما بين الناكح والمنكوح والكل
ضا حق ،وإن أرادوا أنه ل مناسبة بينهما توجب أن يكون أحدهما محًبا عابًدا والخروالمأكول أو نحو ذلك فهذا أي ً
معبوًدا محبوًبا فهذا هو رأس المسألة ،فالحتجاج به مصادرة على المطلوب ،ويكفي في ذلك المنع.
ثم يقال :بل ل مناسبة تقتضي المحبة الكاملة إل المناسبة التي بين المخلوق والخالق ،الذي ل إله غيره ،الذي هو في
ل معبوًدا في
السماء إله وفي الرض إله ،وله المثل العلى في السموات والرض .وحقيقة قول هؤلء جحد كون ا ّ
ل محًبا في الحقيقة،
الحقيقة؛ ولهذا وافق على هذه المسألة طوائف من الصوفية المتكلمين الذين ينكرون أن يكون ا ّ
فأقروا بكونه محبوًبا ومنعوا كونه محًبا؛ لنهم تصوفوا مع ما كانوا عليه من قول أولئك المتكلمة ،فأخذوا عن
الصوفية مذهبهم في المحبة وإن كانوا قد يخلطون فيه ،وأصل إنكارها إنما هو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية،
فأما محبة الرب عبده فهم لها أشد إنكاًرا .ومنكروها قسمان:
/قسم يتأولونها بنفس المفعولت التي يحبها العبد فيجعلون محبته نفس خلقه.
وقسم يجعلونها نفس إرادته لتلك المفعولت .وقد بسطنا الكلم في ذلك في قواعد الصفات والقدر وليس هذا موضعها.
ل يحب ويرضى ما أمر بفعله من واجب ومن المعلوم أنه قد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف المة على أن ا ّ
ومستحب ،وإن لم يكن ذلك موجوًدا ،وعلى أنه قد يريد وجود أمور يبغضها ويسخطها من العيان والفعال كالفسق
ضى ِلِعَباِدهِ اْلُكْفَر{ ]الزمر.[7 : ساَد{ ]البقرة ، [205 :وقال تعالىَ} :و َ
ل َيْر َ ب اْلَف َ
ح ّ
ل ُي ِ ل تعالىَ} :وا ُّ
ل َ والكفر ،وقد قال ا ّ
وقد تبين أن ذلك هو أصل أعمال اليمان ،ولم يتبين بين أحد من سلف المة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان نزاع
ل أن تحرك به من أنواع العبادات الشرعية ،كالعرفان اليماني في ذلك ،وكانوا يحركون هذه المحبة بما شرع ا ّ
ب َوَل اِْليَماُن{إلى آخر السورة
ن َأْمِرَنا َما ُكْنتَ َتْدِري َما اْلِكَتا ُ
حا ِم ْ
ك ُرو ًحْيَنا ِإَلْي َ والسماع الفرقاني ،قال تعالىَ} :وَكَذِل َ
ك َأْو َ
]الشورى.[53 ،52 :
/ثم إنه لما طال المد صار في طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكر هذه المحبة.
وصار في بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير ،وسماع المكاء والتصدية،
فيسمعون من القوال والشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذي يحرك من كل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح
لمحب الوثان والصلبان والخوان والوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن ،ولكن كان الذين
يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكان والمكان والخلن ،وربما اشترطوا له الشيخ الذي يحرس من الشيطان،
ثم توسع في ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه إلى أنواع من المعاصي ،بل إلى أنواع من الفسوق ،بل خرج فيه طوائف
إلى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الشعار التي فيها الكفر واللحاد ،مما هو من أعظم أنواع الفساد،
وينتج ذلك لهم من الحوال بحسبه ،كما تنتج لعباد المشركين وأهل الكتاب عباداتهم بحسبها.
ل :من تكلف السماع فتن به ،ومن صادفه السماع استراح به، والذي عليه محققو المشائخ أنه كما قال الجنيد ـ رحمه ا ّ
ومعنى ذلك أنه ل يشرع الجتماع لهذا السماع المحدث ،ول يؤمر به ،ول يتخذ ذلك ديًنا ،وقربة ،فإن القرب
ل ول دين إل ما شرعه ل وسلمه عليهم ـ فكما أنه ل حرام إل ما حرمه ا ّ والعبادات إنما تؤخذ عن الرسل ـ صلوات ا ّ
ن ُكْنُتْم ل{ ]الشورى[21 :؛ ولهذا قال تعالىُ} :ق ْ
ل ِإ ْ ن ِبِه ا ُّ
ن َما َلْم َيْأَذ ْ
ن الّدي ِ
عوا َلُهْم ِم ْ
شَر ُ ل تعالىَ} :أْم َلُهْم ُ
شَرَكاُء َ ل .قال ا ّ ا ّ
ل موجبة لمتابعة رسوله ،وجعل ل َوَيْغِفْر َلُكْم ُذُنوَبُكْم{ ]آل عمران ،[31 :فجعل محبتهم ّ حِبْبُكْم ا ُّ
ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ
ن ا َّ
حّبو َ
ُت ِ
ل عنه :عليكم بالسبيل والسنة ،فإنه ما من عبد على ل لهم ،قال أبي بن كعب ـ رضي ا ّ متابعة رسوله موجبة لمحبة ا ّ
ل إل تحاتت عنه خطاياه ،كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة ،وما ل فاقشعر جلده من مخافة ا ّ السبيل والسنة ذكر ا ّ
ل خالًيا ففاضت عيناه من خشية الّ إل لم تمسه النار أبًدا ،وإن اقتصاًدا في سبيل من عبد على السبيل والسنة ذكر ا ّ
وسنة خير من اجتهاد في خلف سبيل وسنة ،فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصاًدا واجتهاًدا على منهاج النبياء
وسنتهم ،وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
فلو كان هذا مما يؤمر به ويستحب وتصلح به القلوب للمعبود المحبوب ،لكان ذلك مما دلت الدلة الشرعية عليه.
ومن المعلوم أنه لم يكن في القرون الثلثة المفضلة التي قال فيها النبي صلى ال عليه وسلم) :خير القرون قرني الذي
بعثت فيه ،ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم( ل في الحجاز ،ول في الشام ،ول في اليمن ،ول في العراق ،ول في
خَراسان أحد من أهل الخير والدين يجتمع على السماع المبتدع لصلح القلوب؛ ولهذا كرهه الئمة مصر ،ول في ُ
كالمام أحمد وغيره ،حتى عده الشافعي من أحداث الزنادقة حين قال :خلفت ببغداد شيًئا أحدثه الزنادقة يسمونه
التغبير ،يصدون به الناس عن القرآن.
/وأما ما لم يقصده النسان من الستماع ،فل يترتب عليه ل نهي ول ذم باتفاق الئمة؛ ولهذا إنما يترتب الذم والمدح
على الستماع ل على السماع ،فالمستمع للقرآن يثاب عليه والسامع له من غير قصد وإرادة ل يثاب على ذلك؛إذ
العمال بالنيات ،وكذلك ما ينهى عن استماعه من الملهي لو سمعه السامع بدون قصده لم يضره ذلك ،فلو سمع
السامع بيًتا يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود وأزعج قاطنه المحبوب أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما
ل وتركل ورسوله إلى محبته التي تتضمن فعل ما يحبه ا ّ ينهى عنه ،وكان المحمود الحسن حركة قلبه التي يحبها ا ّ
ل يقول:
ل ،كالذي اجتاز بيًتا فسمع قائ ً
ما يكرهه ا ّ
فأخذ منه إشارة تناسب حاله ،فإن الشارات من باب القياس والعتبار وضرب المثال.
والمقصود هنا أن المقاصد المطلوبة للمريدين تحصل بالسماع اليماني القرآني النبوي الديني الشرعي الذي هو
عَلْيِهْم ِم ْ
ن ل َ ن َأْنَعَم ا ُّ ل تعالىُ} :أْوَلِئ َ
ك اّلِذي َ سماع النبيين ،وسماع العالمين ،وسماع العارفين ،وسماع المؤمنين .قال ا ّ
ن ُأوُتوا جًدا َوُبِكّيا{ ]مريم ،[58 :وقال تعالىِ} :إ ّ
ن اّلِذي َ سّ خّروا ُن َحَما ِت الّر ْ ن ُذّرّيِة آَدَم{إلى قولهِ} :إَذا ُتْتَلى َ
عَلْيِهْم آَيا ُ ن مِ ْالّنِبّيي َ
لْذَقاِن ُسّجًدا{ إلى قولهَ} :وَيِزيُدُهْم ُخُشوًعا{ ]السراء107 :ــ ،[109وقال تعالى: ن ِل َْ
خّرو َعَلْيِهْم َي ِ
ن َقْبِلِه ِإَذا ُيْتَلى َ
اْلِعْلَم ِم ْ
ق{ ]المائدة ،[83 :وقال تعالىِ} :إّنَما حّ
ن اْل َ
عَرُفوا ِم ْ
ن الّدْمِع ِمّما َ
ض ِم ْ
عُيَنُهْم َتِفي ُ
ل َتَرى َأ ْ سو ِ
ل ِإَلى الّر ُ سِمُعوا َما ُأنِز َ }َوِإَذا َ
ت َعَلْيِهْم آياُتُه َزاَدْتُهْم ِإيَماًَنا َوَعَلى َرّبِهْم َيَتَوّكُلوَن{ ]النفال ،[2 :وقال تعالى:
ت ُقُلوُبُهْم َوِإَذا ُتِلَي ْ
جَل ْ ل َو ِن ِإَذا ُذِكَر ا ُّ
ن اّلِذي َ
اْلُمْؤِمُنو َ
ي َتْقَشِعّر ِمْنُه ُجُلوُد اّلِذيَن َيْخَشْوَن َرّبُهْم{ الية ]الزمر.[23 : شاِبًها َمَثاِن َث ِكَتاًبا ُمَت َ
حِدي ِ ن اْل َ
سَحَ ل َأ ْ
ل َنّز َ
}ا ُّ
عنْ
ل َ ضّ ث ِلُي ِ
حِدي ِ شَتِري َلْهَو اْل َ ن َي ْس َم ْن الّنا ِوكما مدح المقبلين على هذا السماع فقد ذم المعرضين عنه في مثل قولهَ} :وِم ْ
شْرُه ِبَعَذا ٍ
ب ن ِفي ُأُذَنْيِه َوْقًرا َفَب ّ
سَمْعَها َكَأ ّ
ن َلْم َي ْسَتْكِبًرا َكَأ ْ خَذَها ُهُزًوا{ إلى قولهَ} :وِإَذا ُتْتَلى َ
عَلْيِه آَياُتَنا َوّلى ُم ْ عْلٍم َوَيّت ِ
ل ِبَغْيِر ِ
ل ا ِّ
سِبي ِ
َ
صّما َوُعْمَياًنا{ ]الفرقان ،[73 :وقال تعالى: عَلْيَها ُ خّروا َ ت َرّبِهْم َلْم َي ِ
ن ِإَذا ُذّكُروا ِبآَيا ِ َأِليٍم{]لقمان ،[7 ،6 :وقال تعالىَ} :واّلِذي َ
ت ِمْن َقْسَوَرٍة{]المدثر 49 :ـ .[51 سَتْنِفَرٌة َ .فّر ْ
حُمٌر ُم ْ ضينََ .كَأّنُهْم ُ
ن الّتْذِكَرِة ُمْعِر ِ
عْ }َفَما َلُهْم َ
وهذا كان سماع سلف المة وأكابر مشائخها وأئمتها كالصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشائخ كإبراهيم بن أدهم،
والفضيل بن عياض ،وأبي سليمان الداراني ،ومعروف الكرخي ،ويوسف بن أسباط ،وحذيفة المرعشي ،وأمثال
هؤلء.
ل عنه ـ يقول لبي موسى الشعري :يا أبا موسى ،ذكرنا ربنا ،فيقرأ وهم يسمعون وكان عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ
ويبكون .وكان أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحًدا منهم أن يقرأ القرآن والباقي يستمعون،
وقد ثبت في الصحيح :أن النبي صلى ال عليه وسلم مر بأبي موسى الشعري وهو يقرأ ،فجعل يستمع لقراءته وقال:
)لقد أوتي هذا مزماًرا من مزامير آل داود( ،وقال) :مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك( ،فقال :لو
علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا ،أي :لحسنته لك تحسيًنا ،وقال صلى ال عليه وسلم) :زينوا القرآن بأصواتكم(،
عا ـ كقوله:
ل أشد أذًنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته( ـ أذنا أي :استما ً وقالّ ) :
ل لشيء ما أذن لنبي حسن ت{ ]النشقاق [2 :أي :استمعت ،وقال صلى ال عليه وسلم) :ما أذن ا ّ حّق ْ
ت ِلَرّبَها َو ُ
}َوَأِذَن ْ
الصوت ،يتغنى بالقرآن يجهر به( ،وقال) :ليس منا من لم يتغن بالقرآن(.
/ولهذا السماع من المواجيد العظيمة ،والذواق الكريمة ،ومزيد المعارف والحوال الجسيمة ما ل يتسع له خطاب،
ول يحويه كتاب ،كما أن في تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم واليمان ما ل يحيط به بيان.
ل بالخوف وحده فهو حروري ،ومن عبده بالرجاء ل بالحب وحده فهو زنديق ،ومن عبد ا ّ وقال بعضهم :من عبد ا ّ
وحده فهو مرجئ ،ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد ،وذلك؛ لن الحب المجرد تنبسط النفوس فيه
ل َوَأِحّباُؤُه{ ]المائدة:
ن َأْبَناُء ا ِّ
حُل حتى قالت اليهود والنصارىَ} :ن ْ حتى تتوسع في أهوائها ،إذا لم يزعها وازع الخشية ّ
،[18ويوجد في مدعي المحبة من مخالفة الشريعة ما ل يوجد في أهل الخشية؛ ولهذا قرن الخشية بها في قوله/ :
ك َيْوُم اْلُخُلوِد{]ق32 :ـ .[34 لٍم َذِل َ
سَخُلوَها ِب َ
ب .اْد ُ
ب ُمِني ٍ
جاَء ِبَقْل ٍ
ب َو َ
ن ِباْلَغْي ِ
حَما َ
ي الّر ْ
شَخِ
ن َ
ظَ .م ْ
حِفي ٍ
ب َل َأّوا ٍ
ن ِلُك ّ
عُدو َ
}َهَذا َما ُتو َ
وكان المشائخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير
خشية؛ لما في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة ،وما وقع في هؤلء من فساد العتقاد ،والعمال
أوجب إنكار طوائف لصل طريقة المتصوفة بالكلية ،حتى صار المنحرفون صنفين :
وصنف ينكر حقها وباطلها ،كما عليه طوائف من أهل الكلم والفقه.
والصواب إنما هو القرار بما فيها ،وفي غيرها من موافقة الكتاب ،والسنة ،والنكار لما فيها وفي غيرها من
مخالفة الكتاب والسنة.
وكثير ممن يدعي المحبة هو أبعد من غيره عن اتباع السنة ،وعن المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،والجهاد في
ل ليس فيه غيره ،ول ل ،ويدعي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره؛ لزعمه أن طريق المحبة ّ سبيل ا ّ
ل ـ تعالى ـ يوم القيامة) :أين
ل ،وهذا خلف ما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا في الحديث المأثور ،يقول ا ّ
غضب ّ
ل تنبيه على ما فيالمتحابون بجللي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم ل ظل إل ظلي( ،فقوله :أين المتحابون بجلل ا ّ
ل وتعظيمه مع التحاب فيه ،وبذلك يكونون حافظين لحدوده ،دون الذين ل يحفظون حدوده لضعف قلوبهم من إجلل ا ّ
اليمان في قلوبهم ،وهؤلء الذين جاء فيهم الحديث) :حقت محبتي للمتحابين في ،وحقت محبتي للمتجالسين في،
ل كثيرة.
وحقت محبتي للمتزاورين في ،وحقت محبتي للمتباذلين في( ،والحاديث في المتحابين في ا ّ
أحدهما :وهو الذي يقال له :محبة العامة؛ لجل إحسانه إلى عباده ،وهذه المحبة على هذا الصل ل ينكرها أحد ،فإن
القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ،وبغض من أساء إليها ،والّ ـ سبحانه ـ هو المنعم المحسن إلى عبده
بالحقيقة ،فإنه المتفضل بجميع النعم ،وإن جرت بواسطة ،إذ هو ميسر الوسائط؛ ومسبب السباب ،ولكن هذه المحبة
ل نفسه ،فما أحب العبد في الحقيقة إل نفسه ،وكذلك كل من أحب شيًئا لجل في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة ا ّ
إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إل نفسه .وهذا ليس بمذموم بل محمود.
ل،
ل لما يغذوكم به من نعمه ،وأحبوني لحب ا ّوهذه المحبة هي المشار إليها بقوله صلى ال عليه وسلم) :أحبوا ا ّ
ل ما يستوجب أنه يحبه إل إحسانه إليه،
وأحبوا أهلي بحبي( ،والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة ا ّ
ل على نوعين:وهذا كما قالوا :إن الحمد ّ
وحمد هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه ـ سبحانه ـ /فكذلك الحب ،فإن الصل الثاني فيه هو
ل ما يستحق أن يحب لجله ،وما من وجه من الوجوه التي يعرف محبته لما هو له أهل ،وهذا حب من عرف من ا ّ
ل بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إل وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولته؛ إذ كل نعمة ا ّ
منه فضل ،وكل نقمة منه عدل؛ ولهذا استحق أن يكون محموًدا على كل حال ،ويستحق أن يحمد على السراء،
والضراء ،وهذا أعلى وأكمل ،وهذا حب الخاصة.
وهؤلء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم ،ويتلذذون بذكره ومناجاته ،ويكون ذلك لهم أعظم من الماء
للسمك ،حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من اللم ما ل يطيقون ،وهم السابقون كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة
ل عنه ـ قال :مر النبي صلى ال عليه وسلم بجبل يقال له :جمدان ،فقال) :سيروا هذا جمدان ،سبق ـ رضي ا ّ
ل كثيًرا والذاكرات( ،وفي رواية أخرى قال: ل ،من المفردون؟ قال) :الذاكرون ا ّ المفردون( ،قالوا :يا رسول ا ّ
ل يضع الذكر عنهم أثقالهم ،فيأتون ال يوم القيامة خفاًفا( والمستهتر بذكر ال يتولع به ينعم به
)المستهترون بذكر ا ّ
كلف ل يفتر منه.
ل عنهما ـ قال :قال موسى :يا رب ،أي عبادك أحب وفي حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس ـ رضي ا ّ
إليك؟ قال :الذي يذكرني ول ينساني ،قال :أي عبادك أعلم؟ قال :الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدله على
/هدى أو ترده عن ردى ،قال أي عبادك أحكم؟ قال :الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما
يحكم لنفسه) .(3فذكر في هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير.
ل ـ تعالى ـ ما يظن في محبة غيره مما هو من جنسومما ينبغي التفطن له أنه ل يجوز أن يظن في باب محبة ا ّ
التجني ،والهجر ،والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك ،مما قد يغلط فيه طوائف من الناس ،حتى يتمثلون في حبه بجنس ما
يتمثلون به في حب من يصد ويقطع بغير ذنب ،أو يبعد من يتقرب إليه ،وإن غلط في ذلك من غلط من المصنفين في
ل الحجة البالغة.
ل ،بل ّ
رسائلهم حتى يكون مضمون كلمهم إقامة الحجة على ا ّ
ل تعالى :من ذكرني في وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ) :يقول ا ّ
عا ،ومن
نفسه ذكرته في نفسي ،ومن ذكرني في مل ذكرته في مل خير منه ،ومن تقرب إلى شبًرا تقربت إليه ذرا ً
ل تعالى) :أهل ذكريعا ،ومن أتاني يمشي أتيته هرولة( .وفي بعض الثار يقول ا ّ عا تقربت إليه با ً
تقرب إلى ذرا ً
أهل مجالستي ،وأهل شكري أهل زيادتي ،وأهل طاعتي أهل كرامتي ،وأهل معصيتي ل أؤيسهم من رحمتي ،وإن
ل يحب التوابين ـ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ،أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب(. تابوا فأنا حبيبهم ـ لن ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم) :سيد ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس قال :قال /رسول ا ّ
ل أنت ،خلقتني وأنا عبدك ،وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، الستغفار أن يقول العبد :اللهم أنت ربي ل إله إل ا ّ
أعوذ بك من شر ما صنعت ،أبوء لك بنعمتك على ،وأبوء بذنبي فاغفرلي ،فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت .من قالها إذا
أصبح موقًنا بها فمات في يومه دخل الجنة ،ومن قالها إذا أمسى موقًنا بها فمات من ليلته دخل الجنة(.
ل يحتاج فيها إلى شكر ،وذنب منه يحتاج فيه إلى الستغفار ،وكل من هذين من المور فالعبد دائما بين نعمة من ا ّ
جا إلى التوبة والستغفار.
ل وآلئه ،ول يزال محتا ً
اللزمة للعبد دائًما ،فإنه ل يزال يتقلب في نعم ا ّ
ولهذا كان سيد ولد آدم ،وإمام المتقين محمد صلى ال عليه وسلم يستغفر في جميع الحوال .وقال صلى ال عليه
ل ،وأتوب إليه في اليوم
وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري) :أيها الناس ،توبوا إلى ربكم ،فإني لستغفر ا ّ
ل في اليوم مائة مرة( ،وقالأكثر من سبعين مرة( ،وفي صحيح مسلم أنه قال) :إنه ليغان على قلبي ،وإني لستغفر ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم في المجلس الواحد يقول) :رب اغفر لي وتب على ،إنك ل بن عمر :كنا نعد لرسول ا ّعبد ا ّ
أنت التواب الغفور ،مائة مرة(.
/ولهذا شرع الستغفار في خواتيم العمال .قال تعالىَ} :واْلُمْسَتْغِفِريَن ِباَْلْسَحاِر{ ]آل عمران ،[17 :وقال بعضهم:
أحيوا الليل بالصلة فلما كان وقت السحر ،أمروا بالستغفار ،وفي الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا
انصرف من صلته استغفر ثلثا ،وقال) :اللهم أنت السلم ،ومنك السلم ،تباركت ياذا الجلل والكرام( ،وقال
ل َغُفوٌر َرِحيٌم{]البقرة،198 :
ن ا َّ
ل ِإ ّ حَراِم{ إلى قولهَ} :وا ْ
سَتْغِفُروا ا َّ شَعِر اْل َ
عنَد اْلَم ْ
ل ِ
ت َفاْذُكُروْا ا ّ
عَرَفا ٍ
ن َ تعالىَ} :فِإَذا َأَف ْ
ضُتم ّم ْ
ل به مما لم يصل إليه أحد ل حق جهاده ،وأتى بما أمر ا ّ ل نبيه بعد أن بلغ الرسالة ،وجاهد في ا ّ ،[199وقد أمر ا ّ
ن َتّواًبا{
سَتْغِفْرُه ِإّنُه َكا َ
ك َوا ْ
حْمِد َرّب َ
ح ِب َ
سّب ْ
جا َ .ف َ
ل َأْفَوا ً
ن ا ِّ
ن ِفي ِدي ِ
خُلو َ
س َيْد ُ
ت الّنا َ
ح َ .وَرَأْي َ
ل َواْلَفْت ُ
صُر ا ِّ غيره ،فقال تعالىَ } :
جاَء َن ْ
]سورة النصر[.
خِبيٍر َ .أ ّ
ل حِكيٍم َ ن َ ن َلُد ْت ِم ْصَل ْ ت آَياُتُه ُثّم ُف ّ
حِكَم ْ ب ُأ ْل تعالى} :الر ِكَتا ٌ ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والستغفار ،كما قال ا ّ
ل ِإّنِني َلُكْم ِمْنُه َنِذيٌر َوَبِشيٌر َ .وَأْن اْسَتْغِفُروا َرّبُكْم ُثّم ُتوُبوا ِإَلْيِه ُيَمّتعُْكْم َمَتاًعا َحَسًنا{ الية ]هود1 :ـ ،[3وقـال
ل ا َّ
َتْعُبُدوا ِإ ّ
ت{
ن َواْلُمْؤِمَنا ِ
ك َوِلْلُمْؤِمِني َ
سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ
ل َوا ْ
ل ا ُّل ِإَلَه ِإ ّ سَتْغِفُروُه{ ]فصلت ،[6 :وقال تعالىَ} :فا ْ
عَلْم َأّنُه َ تعالـىَ} :فا ْ
سَتِقيُموا ِإَلْيِه َوا ْ
]محمد.[19 :
ل والستغفار( وقد قال يونس: ولهذا جاء في الحديث ) :يقول الشيطان :أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بل إله إل ا ّ
ظاِلِميَن{ ]النبياء ،[87 :وكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا ركب دابته يحمد ا ّ
ل ن ال ّ
ت ِم ْ
ك ِإّني ُكن ُ
حاَن َ
سْب َ
ت ُ
ل َأْن َ
ل ِإَلَه ِإ ّ
}َ
ثم يكبر ثلثا ويقول) :ل إله إل أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي( ،وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس:
ل على محمد وسلم.ل أعلم ،وصلى ا ّ )سبحانك الّلهم وبحمدك ،أشهد أن ل إله إل أنت ،أستغفرك وأتوب إليك( .وا ّ
ل تعالى :
/وقال شيخ السلم تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه ا ّ
ل فل مضل له ،ومن يضلل ل من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،من يهد ا ّ
ل ،نستعينه ونستغفره ،ونعوذ با ّ الحمد ّ
ل عليه وعلى آله
ل وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمًدا عبده ور سوله ،صلى ا ّ فل هادي له ،وأشهد أن ل إله إل ا ّ
وأصحابه وسلم تسليًما.
صــل
َف ْ
شَفاِئَها
ب َو ِ
ض القُلو ِ
في َمَر ِ
ن ِفْتَنًة
طا ُشْي َل َما ُيْلِقي ال ّجَع َ ضا{ ]البقرة ،[10 :وقال تعالىِ} :لَي ْ ل َمَر ً ض َفَزاَدُهْم ا ُّقال ال تعالى عن المنافقينِ} :في ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ
ن ِفيجُفو َ ض َواْلُمْر ِن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ ن َواّلِذي َ سَيِة ُقُلوُبُهْم{ ]الحج / ،[53 :وقالَ} :لِئ ْ
ن َلْم َيْنَتِه اْلُمَناِفُقو َ ض َواْلَقا ِن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ ِلّلِذي َ
ن َوِلَيُقو َ
ل ب َواْلُمْؤِمُنو َن ُأوُتوا اْلِكَتا َ ب اّلِذي َ ل{ ]الحزاب ،[60 :وقالَ} :و َ
ل َيْرَتا َ ل َقِلي ًك ِفيَها ِإ ّجاِوُروَن َ ل ُي َك ِبِهْم ُثّم َ
اْلَمِديَنِة َلُنْغِرَيّن َ
شَفاٌء ِلَمان َرّبُكْم َو ِ ظٌة ِم ْعَ جاَءْتُكْم َمْو ِل{ ]المدثر ،[31 :وقال تعالىَ} :قْد َ ل ِبَهَذا َمَث ً
ن َماَذا َأَراَد ا ُّض َواْلَكاِفُرو َ ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ اّلِذي َ
ظاِلِمي َ
ن ل َيِزيُد ال ّ ن َو َحَمٌة ِلْلُمْؤِمِني َ
شَفاٌء َوَر ْن َما ُهَو ِ ن اْلُقْرآ ِ ل ِم ْ ن{ ]يونس ،[57 :وقالَ} :وُنَنّز ُ حَمٌة ِلْلُمْؤِمِني َ
صُدوِر َوُهًدى َوَر ْ ِفي ال ّ
ظ ُقُلوِبِهْم{ ]التوبة.[15 ،14 : غْي َ ن َ .وُيْذِهبْ َ صُدوَر َقْوٍم ُمْؤِمِني َ ف ُ ش ِ ساًرا{] ،السراء ،[82 :وقالَ} :وَي ْ خَ ل َ ِإ ّ
ومرض البدن خلف صحته وصلحه ،وهو فساد يكون فيه يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية ،فإدراكه إما أن يذهب
كالعمى والصمم ،وإما أن يدرك الشياء على خلف ما هي عليه كما يدرك الحلو مًرا ،وكما يخيل إليه أشياء ل حقيقة
لها في الخارج.
وأما فساد حركته الطبيعية ،فمثل أن تضعف قوته عن الهضم ،أو مثل أن يبغض الغذية التي يحتاج إليها ،ويحب
الشياء التي تضره ،ويحصل له من اللم بحسب ذلك ،ولكن مع ذلك المرض لم يمت ولم يهلك ،بل فيه نوع قوة
على إدراك الحركة الرادية في الجملة ،فيتولد من ذلك ألم يحصل في البدن إما بسبب فساد الكمية ،أو الكيفية.
فالول :إما نقص المادة فيحتاج إلى غذاء ،وإما بسبب زيادتها / ،فيحتاج إلى استفراغ.
صــل
َف ْ
وكذلك مرض القلب ،هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره ،وإرادته ،فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى ل
يرى الحق ،أو يراه على خلف ما هو عليه ،وإرادته بحيث يبغض الحق النافع ،ويحب الباطل الضار ،فلهذا يفسر
ض{ ]البقرة [10 :أي :شك ،وتارة يفسر
المرض تارة بالشك والريب .كما فسر مجاهد وقتادة قولهِ} :في ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ
ض{ ]الحزاب.[32 : بشهوة الزنا كما فسر به قولهَ} :فَي ْ
طَمَع اّلِذي ِفي َقْلِبِه َمَر ٌ
ولهذا صنف الخرائطي كتاب ]اعتلل القلوب[ أي مرضها ،وأراد به مرضها بالشهوة ،والمريض يؤذيه ما ل يؤذي
الصحيح ،فيضره يسير الحر والبرد والعمل ونحو ذلك ،من المور التي ل يقوى عليها لضعفه بالمرض.
والمرض في الجملة يضعف المريض بجعل قوته ضعيفة ل تطيق ما يطيقه /القوي ،والصحة تحفظ بالمثل ،وتزال
بالضد ،والمرض يقوى بمثل سببه ،ويزول بضده ،فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه ،وزاد ضعف
قوته ،حتى ربما يهلك ،وإن حصل له ما يقوي القوة ويزيل المرض ،كان بالعكس.
صُدورَ
ف ُ ل تعالىَ} :وَي ْ
ش ِ ومرض القلب ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك ،فإن ذلك يؤلم القلب .قال ا ّ
ظ ُقُلوِبِهْم{ ]التوبة ،[15 ،14 :فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من اللم ،ويقال :فلن شفىغْي َ
ب َ
ن َ .وُيْذِه ْ
َقْوٍم ُمْؤمِِني َ
غيظه ،وفي القود استشفاء أولياء المقتول ،ونحو ذلك .فهذا شفاء من الغم والغيظ والحزن ،وكل هذه آلم تحصل في
النفس.
ي السؤال(.
وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب ،قال النبي صلى ال عليه وسلم ) :هل سألوا إذا لم يعلموا ،فإنما شفاء الِع ّ
والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه ،حتى يحصل له العلم واليقين ،ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق :قد
شفاني بالجواب.
والمرض دون الموت ،فالقلب يموت بالجهل المطلق ،ويمرض بنوع من الجهل ،فله موت ومرض ،وحياة وشفاء،
وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه؛ فلهذا مرض القلب إذا ورد عليه شبهة
ل َما ُيْلِقي أو شهوة قوت مرضه ،وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من /أسباب صلحه وشفائه .قال تعالىِ} :لَي ْ
جَع َ
ض{ ]الحج[53 :؛ لن ذلك أورث شبهة عندهم ،والقاسية قلوبهم ليبسها فأولئك قلوبهم ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ
ن ِفْتَنًة ِلّلِذي َ
طا ُ
شْي َ
ال ّ
ضعيفة بالمرض ،فصار ما ألقى الشيطان فتنة لهم ،وهؤلء كانت قلوبهم قاسية عن اليمان ،فصار فتنة لهم.
والقرآن شفاء لما في الصدور ،ومن في قلبه أمراض الشبهات ،والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل،
فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم ،والتصور والدراك بحيث يرى الشياء على ما هي عليه ،وفيه من الحكمة
والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب ،والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلح القلب ،فيرغب القلب فيما ينفعه
ضا للرشاد.
ضا للغي ،بعد أن كان مريًدا للغي مبغ ً
ويرغب عما يضره ،فيبقى القلب محًبا للرشاد مبغ ً
/فالقرآن مزيل للمراض الموجبة للرادات الفاسدة ،حتى يصلح القلب فتصلح إرادته ،ويعود إلى فطرته التي فطر
عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي ،ويغتذى القلب من اليمان ،والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذى البدن بما
ينميه ويقومه ،فإن زكاة القلب مثل نماء البدن.
والزكاة في اللغة :النماء والزيادة في الصلح ،يقال :زكا الشيء :إذا نما في الصلح ،فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو
ويزيد حتى يكمل ويصلح ،كما يحتاج البدن أن يربى بالغذية المصلحة له ،ولبد مع ذلك من منع ما يضره ،فل ينمو
البدن إل بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره ،كذلك القلب ل يزكو فينمو ويتم صلحه إل بحصول ما ينفعه ودفع ما
يضره ،وكذلك الزرع ل يزكو إل بهذا.
والصدقة لما كانت تطفئ الخطيئة ،كما يطفئ الماء النار ،صار القلب يزكو بها ،وزكاته معنى زائد على طهارته من
طّهُرُهْم َوُتَزّكيِهْم ِبَها{ ]التوبة.[103 :
صَدَقًة ُت َ
ن َأْمَواِلِهْم َ ل تعالىُ } :
خْذ ِم ْ الذنب .قال ا ّ
وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب.
جُعوال َلُكْم اْر ِ حٍد َأَبًدا{ ]النور ،[21 :وقال تعالىَ} :وِإ ْ
ن ِقي َ ن َأ َ
حَمُتُه َما َزَكى ِمْنُكْم ِم ْ عَلْيُكْم َوَر ْ
ل َل ا ِّضُ قال تعالىَ} :وَلْو َ
ل َف ْ
خِبيرٌ
ل َن ا َّك َأْزَكى َلُهْم ِإ ّ جُهْم َذِل َ
ظوا ُفُرو َ
حَف ُ
صاِرِهْم َوَي ْ
ن َأْب َ
ضوا ِم ْ ن َيُغ ّ جُعوا ُهَو َأْزَكى َلُكْم{ ]النور ،[28 :وقالُ} :ق ْ
ل ِلْلُمْؤِمِني َ َفاْر ِ
صّلى{]العلى ،[15 ،14 :وقال تعالىَ} :قْد سَم َرّبِه َف َ
ن َتَزّكىَ .وَذَكَر ا ْ ح َم ْ ن{ ]النور ،[30 :وقال تعالىَ} :قْد َأْفَل َ صَنُعو َِبَما َي ْ
ك َلَعّلُه َيّزّكى{ ]عبس ،[3 :وقال تعالى: ساَها{ ]الشمس ،[10 ،9 :وقال تعالىَ} :وَما ُيْدِري َ ن َد ّب َم ْ
خا َ
ن َزّكاَهاَ .وَقْد َ ح َم ْ
َأْفَل َ
ك َفَتْخَشى{]النازعات ،[19 ،18 :فالتزكية وإن كان أصلها النماء ،والبركة ك ِإَلى َرّب َن َتَزّكىَ .وَأْهِدَي َ
ك ِإَلى َأ ْ
ل َل َ
ل َه ْ}َفُق ْ
وزيادة الخير ،فإنما تحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمع هذا وهذا.
وقالَ} :وَوْيٌل ِلْلُمْشِرِكيَن .اّلِذيَن َل ُيْؤُتوَن الّزَكاَة{ ]فصلت ،[7 ،6 :وهي التوحيد واليمان الذي به يزكو القلب ،فإنه
ل .وهذا أصل ما يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب ،وإثبات إلهية الحق في القلب ،وهو حقيقة ل إله إل ا ّ
تزكو به القلوب.
والتزكية :جعل الشيء زكًيا ،إما في ذاته ،وإما في العتقاد والخبر / ،كما يقال :عدلته إذا جعلته عدل في نفسه ،أو
سُكْم{ ]النجم ،[32 :أي :تخبروا بزكاتها ،وهذا غير قولهَ} :قْد َأْفَل َ
ح َم ْ
ن في اعتقاد الناس ،قال تعالىَ} :ف َ
ل ُتَزّكوا َأنُف َ
َزّكاَها{ ]الشمس[9 :؛ ولهذا قالُ} :هَو َأْعَلُم ِبَمْن اّتَقى{ ]النجم ،[32 :وكان اسم زينب برة ،فقيل تزكى نفسها ،فسماها
ل صلى ال عليه وسلم زينب. رسول ا ّ
ل ُيَزّكي َمْن َيَشاُء{ ]النساء ،[49 :أي :يجعله زاكًيا ،ويخبر بزكاته كما
ل ا ُّ
سُهْم َب ْ
ن َأنُف َ وأما قولهَ} :أَلْم َتَر ِإَلى اّلِذي َ
ن ُيَزّكو َ
يزكي المزكي الشهود فيخبر بعدلهم.
والعدل هو :العتدال ،والعتدال هو صلح القلب ،كما أن الظلم فساده؛ ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالًما
لنفسه ،والظلم خلف العدل ،فلم يعدل على نفسه ،بل ظلمها ،فصلح القلب في العدل ،وفساده في الظلم ،وإذا ظلم
العبد نفسه فهو الظالم وهو المظلوم ،كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه ،فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل
ت{ ]البقرة.[286 :
سَب ْ
عَلْيَها َما اْكَت َ
ت َو َ من خير وشر .قال تعالىَ} :لَها َما َك َ
سَب ْ
والعمل له أثر في القلب من نفع وضر وصلح قبل أثره في الخارج ،فصلحها عدل لها وفسادها ظلم لها .قال تعالى:
سأُْتْم َفَلَها{
ن َأ َ
سُكْم َوِإ ْ
لنُف ِ
سنُتْم َِ
حَسنُتْم َأ ْ
حَ ساَء َفَعَلْيَها{ ]فصلت ،[46 :وقال تعالىِ} :إ ْ
ن َأ ْ ن َأ َ
سِه َوَم ْ
حا َفِلَنْف ِ
صاِل ً
ل َ
عمِ َ
ن َ
}َم ْ
]السراء ،[7 :قال بعض السلف :إن للحسنة لنوًرا في القلب ،وقوة في البدن ،وضياء في الوجه ،وسعة في الرزق،
ضا
صا في الرزق ،وبغ ً ومحبة في قلوب الخلق ،وإن للسيئة لظلمة في /القلب ،وسواًدا في الوجه ووهًنا في البدن ،ونق ً
في قلوب الخلق.
/والظلم ثلثة أنواع ،والظلم كله من أمراض القلوب ،والعدل صحتها وصلحها .قال أحمد بن حنبل لبعض الناس :لو
صححت لم تخف أحًدا ،أي خوفك من المخلوق هو من مرض فيك ،كمرض الشرك والذنوب.
ن َمَثُلُه
س َكَم ْ
شي ِبِه ِفي الّنا ِ
جَعْلَنا َلُه ُنوًرا َيْم ِ
حَيْيَناهُ َو َ
ن َمْيًتا فََأ ْ وأصل صلح القلب هو حياته واستنارته ،قال تعالىَ} :أَوَم ْ
ن َكا َ
س ِبَخاِرٍج ِمْنَها{ ]النعام.[122 :
ت َلْي َ
ظُلَما ِ
ِفي ال ّ
عَلى
ل َ ق اْلَقْو ُ
حّحّيا َوَي ِ
ن َ ل حياة القلوب ،ونورها ،وموتها ،وظلمتها في غير موضع كقولهِ} :لُيْنِذَر َم ْ
ن َكا َ لذلك ذكر ا ّ
ل
ن ا َّ حِييُكْم{ ،ثم قالَ} :وا ْ
عَلُموا َأ ّ عاُكْم ِلَما ُي ْ
ل ِإَذا َد َ
سو ِل َوِللّر ُ
جيُبوا ِّ
سَت ِ ن{ ]يس ،[70 :وقوله تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ
ن آَمُنوا ا ْ اْلَكاِفِري َ
ي{ حّن اْل َ
ت ِم ْ ج اْلَمّي َ
خِر ُ
ت َوُي ْ
ن اْلَمّي ِ
ي ِم ْحّج اْل َ
خِر ُ ن{ ]النفال ،[24 :وقال تعالىُ} :ي ْ شُرو َ
حَ
ن اْلَمْرِء َوَقْلِبِه َوَأّنُه ِإَلْيِه ُت ْ
ل َبْي َ
حو َُي ُ
]الروم ،[19 :ومن أنواعه أنه يخرج المؤمن من الكافر ،والكافر من المؤمن .وفي الحديث الصحيح) :مثل البيت
ضا) :اجعلوا من صلتكم في
ل فيه ،مثل الحي والميت( ،وفي الصحيح أي ً ل فيه والبيت الذي ل يذكر ا ّ
الذي يذكر ا ّ
بيوتكم ول تتخذوها قبوًرا(.
ت{ ]النعام ،[39 :وذكر ـ سبحانه ـ آية النور وآية الظلمة ،فقال:
ظُلَما ِ
صّم َوُبْكٌم ِفي ال ّ وقد قال تعالىَ} :واّلِذي َ
ن َكّذُبوا ِبآَياِتَنا ُ
جَرٍة
شَن َ ي ُيوَقُد ِم ْ
ب ُدّر ّ جُة َكَأّنَها َكْوَك ٌ
جا َ
جٍة الّز َ
جا َح ِفي ُز َ صَبا ُ
ح اْلِم ْ صَبا ٌ
شَكاٍة ِفيَها ِم ْ ل ُنوِرِه َكِم ْ ض َمَث ُ
لْر ِ ت َوا َْ
سَماَوا ِل ُنوُر ال ّ }ا ُّ
ضيُء َوَلْو َلْم َتْمَسْسُه َناٌر ُنوٌر َعَلى ُنوٍر{]النور ،[35 :فهذا مثل نور اليمان غْرِبّيٍة َيَكاُد َزْيُتَها ُي ِ ل َشْرِقّيٍة َو َل َ
ُمَباَرَكٍة َزْيُتوِنٍة َ
عْنَدُه
ل ِ
جَد ا َّ
شْيًئا َوَو َ
جْدُه َ
جاَءهُ َلْم َي ِ
حّتى ِإَذا َ ن َماًء َ
ظْمآ ُسُبُه ال ّ
حَ ب ِبِقيَعٍة َي ْ
سَرا ٍ عَماُلُهْم َك َ
ن َكَفُروا َأ ْ في قلوب المؤمنين ،ثم قالَ} :واّلِذي َ
ض ِإَذاق َبْع ٍضَها َفْو َت َبْع ُظُلَما ٌب ُ حا ٌ
سَ
ن َفْوِقِه َ ج ِم ْ
ن َفْوِقِه َمْو ٌ
ج ِم ْشاُه َمْو ٌ ي َيْغ َ
جّ حٍر ُل ّ
ت ِفي َب ْظُلَما ٍ بَ .أْو َك ُ سا ِ حَ سِريُع اْل ِل َ
ساَبُه َوا ُّ َفَوّفاُه حِ َ
ل َلُه ُنوًرا َفَما َلُه ِمْن ُنوٍر{]النور.[40 ،39 : ل ا ُّ جَع ْن َلْم َي ْ
ج َيَدُه َلْم َيَكْد َيَراَها َوَم ْ
خَر ََأ ْ
فالول :مثل العتقادات الفاسدة ،والعمال التابعة لها ،يحسبها صاحبها شيًئا ينفعه فإذا جاءها لم يجدها شيًئا ينفعه،
ل حسابه على تلك العمال. فوفاه ا ّ
والثاني :مثل للجهل البسيط ،وعدم اليمان والعلم ،فإن صاحبها في ظلمات بعضها فوق بعض ل يبصر شيًئا ،فإن
البصر إنما هو بنور اليمان والعلم.
ن{ ]العراف ،[201 :وقال تعالىَ} :وَلَقْد صُرو َ ن َتَذّكُروا َفِإَذا ُهْم ُمْب ِ طا ِ شْي َ
ن ال ّ
ف ِم ْ
طاِئ ٌ
سُهْم َن اّتَقْوا ِإَذا َم ّ قال تعالىِ} :إ ّ
ن اّلِذي َ
ل به ما ت ِبِه َوَهّم ِبَها َلْوَل َأْن َرَأى ُبْرَهاَن َرّبِه{ ]يوسف ،[24 :وهو برهان اليمان الذي حصل في قلبه ،فصرف ا ّ َهّم ْ
ج الّنا َ
س خِر َرا ،ولم يفعل سيئة .وقال تعالىِ} :لُت ْ كان هم به ،وكتب له حسنة كاملة ولم يكتب /عليه خطيئة إذا فعل خي ً
ن َكَفُروا َأْوِلَياُؤُهْم
ت ِإَلى الّنوِر َواّلِذي َظُلَما ِ
ن ال ّ
جُهمْ ِم ْ خِر ُن آَمُنوا ُي ْ
ي اّلِذي َ
ل َوِل ّت ِإَلى الّنوِر{ ]إبراهيم ،[1 :وقال} :ا ُّ ظُلَما ِ
ن ال ّ
ِم ْ
ن
ن ِم ْ سوِلِه ُيْؤِتُكْم ِكْفَلْي ِ
ل َوآِمُنوا ِبَر ُ ت{ ]البقرة ،[257 :وقالَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ
ن آَمُنوا اّتُقوا ا َّ ظُلَما ِ
ن الّنوِر ِإَلى ال ّ جوَنُهْم ِم ْ خِر ُ
ت ُي ْ
غو ُ طا ُ
ال ّ
َرْحَمِتِه َوَيْجَعْل َلُكْم ُنوًرا َتْمُشوَن ِبِه{]الحديد.[28 :
وإنما المقصود هنا ذكر حياة القلوب وإنارتها ،وفي الدعاء المأثور) :اجعل القرآن ربيع قلوبنا ،ونور صدورنا(،
والربيع :هو المطر الذي ينزل من السماء فينبت به النبات ،قال النبي صلى ال عليه وسلم) :إن مما ينبت الربيع ما
طا أو ُيِلّم( .والفصل الذي ينزل فيه أول المطر تسميه العرب الربيع ،لنزول المطر الذي ينبت الربيع فيه،
َيْقتل حََب ً
وغيرهم يسمى الربيع الفصل الذي يلي الشتاء ،فإن فيه تخرج الزهار التي تخلق منها الثمار ،وتنبت الوراق على
الشجار.
والقلب الحي المنور؛ فإنه لما فيه من النور يسمع ويبصر ويعقل ،والقلب الميت فإنه ل يسمع ول يبصر .قال تعالى:
صّم ُبْكٌم ُعْميٌ َفُهْم َل َيْعِقُلوَن{ ]البقرة ،[171 :وقال تعالى:
عاًء َوِنَداًء ُ
ل ُد َ
سَمُع ِإ ّ
ل َي ْ
ق ِبَما َ
ل اّلِذي َيْنِع ُ
ن َكَفُروا َكَمَث ِ
ل اّلِذي َ
}َوَمَث ُ
ن{
صُرو َ ل ُيْب ِي َوَلْو َكاُنوا َ ت َتْهِدي اْلُعْم َك َأَفَأْن َ
ظُر ِإَلْي َن َيْن ُ
نَ .وِمْنُهْم َم ْل َيْعِقُلو َصّم َوَلْو َكاُنوا َ سِمُع ال ّت ُت ْ
ك َأَفَأْن َ
ن ِإَلْي َ
سَتِمُعو َ
ن َي ْ
}َوِمْنُهْم َم ْ
ل
ل آَيٍة َ
ن َيَرْوا ُك ّ
ن َيْفَقُهوهُ َوِفي آَذاِنِهْم َوْقًرا َوِإ ْ
عَلى ُقُلوِبِهْم َأِكّنًة َأ ْجَعْلَنا َ
ك َو َ سَتِمُع ِإَلْي َ ]يونس ،[43 ،42 :وقال تعالىَ} :وِمْنُهْم َم ْ
ن َي ْ
طيُر اَْلّوِليَن{ اليات ]النعام.[25 : سا ِل َأ َ
ن َهَذا ِإ ّن َكَفُروا ِإ ْ ل اّلِذي َ
ك َيُقو ُ
جاِدُلوَن َ
ك ُي َجاُءو َ حّتى ِإَذا َُيْؤِمُنوا ِبَها َ
فأخبر أنهم ل يفقهون بقلوبهم ول يسمعون بآذانهم ول يؤمنون بما رأوه من النار ،كما أخبر عنهم حيث قالواُ} :قُلوُبَنا
ب{ ]فصلت .[5 :فذكروا الموانع على القلوب والسمع جا ٌ
حَك ِ
ن َبْيِنَنا َوَبْيِن َ
عوَنا ِإَلْيِه َوِفي آَذاِنَنا َوْقٌر َوِم ْ
ِفي َأِكّنةٍ ِمّما َتْد ُ
والبصار ،وأبدانهم حية تسمع الصوات وترى الشخاص؛ لكن حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البهائم،
عاًء
ل ُد َ
سَمُع ِإ ّ
ل َي ْ
ق ِبَما َ
ل اّلِذي َيْنِع ُ
ن َكَفُروا َكَمَث ِ لها سمع وبصر وهي تأكل وتشرب وتنكح ،ولهذا قال تعالىَ} :وَمَث ُ
ل اّلِذي َ
َوِنَداًء{.
ن ّأكّثّرهًم ّيسّمعونّ سب ّأ ّفشبههم بالغنم الذي ينعق بها الراعي وهي ل تسمع إل نداء ،كما قال في الية الخرىّ} :أم ّتح ّ
س َلُهْم
لن ِن َوا ِْ
جّن اْل ِ ل { ]الفرقان ،[44 :وقال تعالىَ} :وَلَقْد َذَرْأَنا ِل َ
جَهّنَم َكِثيًرا ِم ْ سبي ْ ل ّضَلنّعام ّبل ٍهًم ّأ ّ ل ّكا ّ ن ٍهًم إ ّ
نإً ّأو ّيعٌقٍلو ّ
ضّل{]العراف.[179 : ل ُهْم َأ َ لْنَعاِم َب ْ
ك َكا َْ
ن ِبَها ُأْوَلِئ َ
سَمُعو َ
ل َي ْ
ن َ
ن ِبَها َوَلُهْم آَذا ٌصُرو َ
ل ُيْب ِن َ
عُي ٌ
ن ِبَها َوَلُهْم َأ ْ
ل َيْفَقُهو َ
ب َ ُقُلو ٌ
ل :المظهرون للسلم فيهم مؤمن ومنافق ،والمنافقون كثيرون في كل زمان ،والمنافقون في الدرك السفل
فيقال :أو ً
من النار.
ويقال :ثانًيا :النسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر ،وإن كان معه إيمان ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في
صا ،ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق الحديث المتفق عليه) :أربع من كن فيه كان منافًقا خال ً
حتى يدعها :إذا حدث كذب ،وإذا اؤتمن خان ،وإذا عاهد غدر ،وإذا خاصم فجر( .فأخبر أنه من كانت فيه خصلة
منهن كانت فيه خصلة من النفاق.
ل عنهل عنه ـ) :إنك امرؤ فيك جاهلية( .وأبو ذر ـ رضي ا ّ /وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال لبي ذر ـ رضي ا ّ
ـ من أصدق الناس إيماًنا ،وقال في الحديث الصحيح) :أربع في أمتي من أمر الجاهلية :الفخر بالحساب ،والطعن في
النساب ،والنياحة ،والستسقاء بالنجوم( ،وقال في الحديث الصحيح) :لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة،
ضا في الحديث الصحيح: حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه( .قالوا :اليهود والنصارى؟ ! قال) :فمن ؟!( .وقال أي ً
عا بذراع" قالوا :فارس والروم؟! قال) :ومن الناس إل هؤلء(. "لتأخذن أمتي ما أخذت المم قبلها ،شبًرا بشبر ،وذرا ً
وقال ابن أبي ُمَلْيَكة :أدركت ثلثين من أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ،وعن علي ـ
ل عنهما ـ قال :القلوب أربعة :قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن ،وقلب أغلف فذاك
أو حذيفة ـ رضي ا ّ
قلب الكافر ،وقلب منكوس ،فذاك قلب المنافق ،وقلب فيه مادتان :مادة تمده اليمان ،ومادة تمده النفاق ،فأولئك قوم
حا وآخر سيًئا.
ل صال ً
خلطوا عم ً
ل في اليمان من مدح شعب اليمان وذم شعب الكفر ،وهذا كما يقول وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر ا ّ
ط اْلُمْسَتِقيَم{ ]الفاتحة .[6 :فيقولون :المؤمن قد هدى إلى الصراط المستقيم ،فأي /فائدة بعضهم في قوله} :اْهِدَنا ال ّ
صَرا َ
في طلب الهدى؟! ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم :نم حتى آتيك ،أو يقول
بعضهم :ألزم قلوبنا الهدى ،فحذف الملزوم ،ويقول بعضهم :زدني هدى ،وإنما يوردون هذا السؤال؛ لعدم تصورهم
ل عنه في جميع ل به ،وترك ما نهى ا ّالصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه ،فإن المراد به العمل بما أمر ا ّ
المور.
ل ،وأن القرآن حق على سبيل الجمال ،فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما والنسان وإن كان أقر بأن محمًدا رسول ا ّ
ينفعه ويضره ،وما أمر به ،وما نهى عنه في تفاصيل المور وجزئياتها لم يعرفه ،وما عرفه فكثير منه لم يعمل
بعلمه ،ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونهي في القرآن والسنة ،فالقرآن والسنة إنما تذكر فيهما المور العامة الكلية ،ل
يمكن غير ذلك ل تذكر ما يخص به كل عبد؛ ولهذا أمر النسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم.
ل ،ويتناول التعريف بما والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله ،يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفص ً
يدخل في أوامره الكليات ،ويتناول إلهام العمل بعلمه ،فإن مجرد العلم بالحق ل يحصل به الهتداء إن لم يعمل بعلمه،
ك َوَيْهِدَي َ
ك عَلْي َ
خَر َوُيِتّم ِنْعَمَتُه َ
ك َوَما َتَأ ّن َذْنِب َ
ل َما َتَقّدَم ِم ْ
ك ا ُّ حا ُمِبيًنا ِ .لَيْغِفَر َل َ
ك َفْت ً ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبيةِ} :إّنا َفَت ْ
حَنا َل َ
سَتِقيَم{
ط اْلُم ْ
صَرا َن َ .وَهَدْيَناُهَما ال ّ سَتِبي َ
ب اْلُم ْسَتِقيًما{ ]الفتح ،[2 ،1 :وقال في حق موسى وهارونَ} :وآَتْيَناُهَما اْلِكَتا َ طا ُم ْ
صَرا ً
ِ
]الصافات.[118 ،117 :
ل من المور الخبرية والعلمية العتقادية والعملية ،مع أنهم كلهم متفقون على أن والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء ا ّ
محمًدا حق ،والقرآن حق ،فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا ،ثم الذين
ل به أكثرهم يعصونه ول يحتذون حذوه ،فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك العمال؛ لفعلوا ما علموا ما أمر ا ّ
ل المتقين كان من أعظم ل من هذه المة حتى صاروا من أولياء ا ّ أمروا به وتركوا ما نهو عنه ،والذين هداهم ا ّ
ل دائًما في أن يهديهم الصراط ل بهذا الدعاء في كل صلة ،مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى ا ّ أسباب ذلك دعاؤهم ا ّ
المستقيم.
وقول من قال :زدنا هدى ،يتناول ما تقدم ،لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم ،فإن العمل في
المستقبل بالعلم لم يحصل بعد ،ول يكون مهتدًيا حتى يعمل في المستقبل بالعلم ،وقد ل يحصل العلم في /المستقبل بل
ل عليهم
يزول عن القلب ،وإن حصل فقد ل يحصل العمل ،فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه ا ّ
في كل صلة ،فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه ،وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر
ل أعلم.
والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة ،وا ّ
واعلم أن حياة القلب وحياة غيره ليست مجرد الحس والحركة الرادية ،أو مجرد العلم والقدرة كما يظن ذلك طائفة
ل وقدرته ،كأبي الحسين البصري ،قالوا :إن حياته أنه بحيث يعلم ويقدر ،بل الحياة صفة قائمة
من النظار في علم ا ّ
ضا مستلزمة لذلك ،فكل حي له بالموصوف ،وهي شرط في العلم والرادة والقدرة على الفعال الختيارية ،وهي أي ً
شعور وإرادة وعمل اختياري بقدرة ،وكل ما له علم وإرادة وعمل اختياري فهو حي.
والحياء مشتق من الحياة ،فإن القلب الحي يكون صاحبه حيا فيه حياء يمنعه عن القبائح ،فإن حياة القلب هي المانعة
من القبائح التي تفسد القلب؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم) :الحياء من اليمان( ،وقال) :الحياء والعي شعبتان
من اليمان .والبذاء والبيان شعبتان من النفاق(.
حا ،والوقاحة الصلبة وهو اليبس المخالف
فإن الحي يدفع ما يؤذيه ،بخلف الميت الذي ل حياة فيه فإنه يسمى وق ً
سا صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه ،وامتناعه من القبح كالرض / حا ياب ً
لرطوبة الحياة ،فإذا كان وق ً
اليابسة ل يؤثر فيها وطء القدام ،بخلف الرض الخضرة.
ولهذا كان الحي يظهر عليه التأثر بالقبح ،وله إرادة تمنعه عن فعل القبح ،بخلف الوقـح الذي ليس بحي فل حياء معه
ول إيمان يزجره عن ذلك .فالقلـب إذا كان حًيا فمات النسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقها للبدن ،ليست
هي في نفسها ميتة بمعنى زوال حياتها عنها.
ن ُقِتُلوا
ن اّلِذي َ
سَب ّ
حَ حَياٌء{ ]البقرة ،[154 :وقال تعالىَ} :و َ
ل َت ْ ل َأ ْ
ت َب ْ
ل َأْمَوا ٌ
ل ا ِّ
سِبي ِ
ل ِفي َ
ن ُيْقَت ُ ولهذا قال تعالىَ} :و َ
ل َتُقوُلوا ِلَم ْ
ت{ ]آل عمران: س َذاِئَقُة اْلَمْو ِ حَياٌء{ ]آل عمران [169 :مع أنهم موتى دخلون في قولهُ} :ك ّ
ل َنْف ٍ ل َأ ْ
ل َأْمَواًتا َب ْ
ل ا ِّ
سِبي ِ
ِفي َ
ت َوِإّنُهْم َمّيُتوَن{ ]الزمر ،[30 :وقولهَ} :وُهَو اّلِذي َأْحَياُكْم ُثّم ُيِميُتُكْم ُثّم ُيْحِييُكْم{ ]الحج،[66 : ك َمّي ٌ ،[185وفي قولهِ} :إّن َ
فالموت المثبت غير الموت المنفي .المثبت :هو فراق الروح البدن ،والمنفي :زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن.
صــل
َف ْ
ومن أمراض القلوب الحسد ،كما قال بعضهم في حده :إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الغنياء ،فل يجوز أن
يكون الفاضل حسوًدا؛ لن الفاضل يجري على ما هو الجميل ،وقد قال طائفة من الناس :إنه تمنى زوال النعمة عن
المحسود ،وإن لم يصر للحاسد مثلها ،بخلف الغبطة :فإنه تمنى مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط.
والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان:
أحدهما :كراهة للنعمة عليه مطلًقا ،فهذا هو الحسد المذموم ،وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه،
ضا في قلبه ،ويلتذ بزوال النعمة عنه ،وإن لم يحصل له نفع بزوالها ،لكن نفعه /زوال اللم الذي كان
فيكون ذلك مر ً
في نفسه ،ولكن ذلك اللم لم يزل إل بمباشرة منه ،وهو راحة ،وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه
ل على عبده مرض .فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود وأعظم منها ،وقد والمرض باق؛ فإن بغضه لنعمة ا ّ
يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود.
والحاسد ليس له غرض في شيء معين ،لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع؛ ولهذا قال من قال :إنه تمنى زوال
النعمة ،فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه.
والنوع الثاني :أن يكره فضل ذلك الشخص عليه ،فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه ،فهذا حسد وهو الذي سموه
الغبطة ،وقد سماه النبي صلى ال عليه وسلم حسًدا في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر ـ رضي
ل مال فسلطه ل الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ،ورجل آتاه ا ّ ل عنهما ـ أنه قال) :ل حسد إل في اثنتين :رجل أتاه ا ّا ّ
ل القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار،
على هلكته في الحق( هذا لفظ ابن مسعود ،ولفظ ابن عمر) :رجل آتاه ا ّ
ل مالً فهو ينفق منه في الحق آناء الليل والنهار( رواه البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه) :ل حسد ورجل آتاه ا ّ
ل القرآن فهو يتلوه الليل والنهار ،فسمعه رجل فقال :ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا/ ، إل في اثنين :رجل آتاه ا ّ
ل مال فهو يهلكه في الحق .فقال رجل :ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا فعملت فيه مثل ما يعمل هذا ،ورجل آتاه ا ّ
فعملت فيه مثل ما يعمل هذا( .فهذا الحسد الذي نهى عنه النبي صلى ال عليه وسلم إل في موضعين هو الذي سماه
أولئك الغبطة ،وهو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه.
ل عليه؟ قيل :مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهتهفإن قيل :إًذا لم سمي حسًدا وإنما أحب أن ينعم ا ّ
أن يتفضل عليه ،ولول وجود ذلك الغير لم يحب ذلك ،فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسًدا؛
ل عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس ،فهذا ليس عنده من الحسد
لنه كراهة تتبعها محبة ،وأما من أحب أن ينعم ا ّ
شيء.
ولهذا يبتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني ،وقد تسمى المنافسة ،فيتنافس الثنان في المر المحبوب المطلوب ،كلهما
يطلب أن يأخذه ،وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الخر ،كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الخر،
ن َ .تْعِر ُ
ف ظُرو َ
ك َين ُ
لَراِئ ِ
عَلى ا َْ
لْبَراَر َلِفي َنِعيٍم َ . والتنافس ليس مذموًما مطلًقا ،بل هو محمود في الخير ،قال تعالى} :إِ ّ
ن ا َْ
س اْلُمَتَناِفُسوَن{ ]المطففين22 :ـ .[26 ك فَْلَيَتَناَف ْ
ك َوِفي َذِل َ
سٌ
خَتاُمُه ِم ْ
خُتوٍم ِ .
ق َم ْ
حي ٍ
ن َر ِ
ن ِم ْ
سَقْو َ
ضَرَة الّنِعيِم ُ .ي ْ
جوِهِهْم َن ْ
ِفي ُو ُ
فأمر المنافس أن ينافس في هذا النعيم ،ل ينافس في نعيم الدنيا /الزائل ،وهذا موافق لحديث النبي صلى ال عليه
وسلم فإنه نهى عن الحسد إل فيمن أوتي العلم فهو يعمل به ويعلمه ،ومن أوتي المال فهو ينفقه ،فأما من أوتي علًما
ل فهذا ل يحسد ول يتمنى مثل حاله ،فإنه ليس في خير ولم يعمل به ولم يعلمه ،أو أوتي مال ولم ينفقه في طاعة ا ّ
يرغب فيه ،بل هو معرض للعذاب ،ومن ولي ولية فيأتيها بعلم وعدل ،أدى المانات إلى أهلها ،وحكم بين الناس
ل.
بالكتاب والسنة ،فهذا درجته عظيمة ،لكن هذا في جهاد عظيم ،كذلك المجاهد في سبيل ا ّ
والحسد في الصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة ،وإل فالعامل ل يحسد في العادة ،ولو كان تنعمه
بالكل والشرب والنكاح أكثر من غيره ،بخلف هذين النوعين فإنهما يحسدان كثيًرا؛ ولهذا يوجد بين أهل /العلم
الذين لهم أتباع من الحسد ما ل يوجد فيمن ليس كذلك ،وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله ،فهذا ينفع الناس بقوت
القلوب وهذا ينفعهم بقوت البدان ،والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا.
ل ـ سبحانه ـ لنفسه المقدسة ،ولما يعبد من دونه ،فإن الوثان ل تقدر ل على عمل ينفع ،ول على والمثلن ضربهما ا ّ
كلم ينفع ،فإذا قدر عبد مملوك ل يقدر على شيء ،وآخر قد رزقه الّ رزًقا حسًنا فهو ينفق منه سًرا وجهًرا هل
يستوى هذا المملوك العاجز عن الحسان وهذا القادر على الحسان المحسن إلى الناس سًرا وجهًرا .وهو ـ سبحانه ـ
قادر على الحسان إلى عباده ،وهو محسن إليهم دائما ،فكيف يشبه به العاجز المملوك الذي ل يقدر على شيء حتى
ل مالً فهو ينفق منه آناء الليل والنهار.
يشرك به معه ،وهذا مثل الذي أعطاه ا ّ
ل لنفسه ،فإنه ـ سبحانه ـ عالم عادل قادر يأمر بالعدل ،وهو قائم بالقسط على صراط مستقيم .كما وقد ضرب ذلك مث ً
ط َل ِإَلَه ِإّل ُهَو اْلَعِزيُز اْلَحِكيُم{ ]آل عمران ،[18 :وقال
سِلِئَكُة َوُأْوُلوا اْلِعْلِم َقاِئًما ِباْلِق ْ
ل ُهَو َواْلَم َ
ل ِإَلَه ِإ ّ
ل َأّنُه َ قال تعالىَ } :
شِهَد ا ُّ
ط ُمْسَتِقيٍم{ ]هود.[56 : صَرا ٍ
عَلى ِ هودِ} :إ ّ
ن َرّبي َ
ل يعلم الناس وأخوه يطعم الناس ،فكانوا يعظمون على ذلك ،ورأى
ولهذا كان الناس يعظمون دار العباس ،كان عبد ا ّ
معاوية الناس يسألون ابن عمر عن المناسك وهو يفتيهم فقال :هذا والّ الشرف ،أو نحو ذلك.
ل عنه ـ النفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن ل عنه ـ نافس أبا بكر ـ رضي ا ّهذا وعمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ
ل عندي ،فقلت اليوم ل صلى ال عليه وسلم أن نتصدق ،فوافق ذلك ما ً ل عنه ـ قال :أمرنا رسول ا ّ
الخطاب ـ رضي ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم) :ما أبقيت أسبق أبا بكر أن سبقته يوًما .قال فجئت بنصف مالي ،قال :فقال لي رسول /ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم) :ما أبقيت ل عنه ـ بكل ما عنده ،فقال له رسول ا ّ
لهلك؟( قلت :مثله ،وأتى أبو بكر ـ رضي ا ّ
ل ورسوله فقلت :ل أسابقك إلى شيء أبًدا.لهلك؟( قال :أبقيت لهم ا ّ
وكذلك موسى صلى ال عليه وسلم في حديث المعراج حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى ال عليه وسلم حتى بكى
لما تجاوزه النبي صلى ال عليه وسلم فقيل له :ما يبكيك :فقال) :أبكي ،لن غلًما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته
أكثر ممن يدخلها من أمتي( ،أخرجاه في الصحيحين ،وروى في بعض اللفاظ المروية غير الصحيح) :مررنا على
رجل وهو يقول ويرفع صوته :أكرمته وفضلته ،قال :فرفعناه إليه فسلمنا عليه فرد السلم ،فقال :من هذا معك يا
جبريل ؟ قال :هذا أحمد ،قال :مرحًبا بالنبي المي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لمته ،قال :ثم اندفعنا فقلت :من هذا يا
جبريل ؟ قال :هذا موسى بن عمران ،قلت :ومن يعاتب ؟ قال :يعاتب ربه فيك ،قلت :ويرفع صوته على ربه؟! قال:
ل ـ عز وجل ـ قد عرف صدقه(. إن ا ّ
ل عنه ـ كان مشبًها بموسى ،ونبينا حاله أفضل من حال موسى ،فإنه لم يكن عنده شيء من ذلك.
/وعمر ـ رضي ا ّ
وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه ،كانوا سالمين من جميع هذه المور ،فكانوا أرفع درجة ممن
ل عنه ـ أن يكون أمين هذه المة ،فإنحا؛ ولهذا استحق أبو عبيدة ـ رضي ا ّ
عنده منافسة وغبطة ،وإن كان ذلك مبا ً
المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه ،كان أحق بالمانة ممن يخاف مزاحمته؛ ولهذا
يؤتمن على النساء والصبيان الخصيان ،ويؤتمن على الولية الصغرى من يعرف أنه ل يزاحم على الكبرى ،ويؤتمن
على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيء منه ،وإذا أؤتمن من في نفسه خيانة شبه بالذئب المؤتمن على
الغنم ،فل يقدر أن يؤدي المانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه.
ل صلى سا عند رسول ا ّ ل عنه ـ قال :كنا يوًما جلو ًوفي الحديث الذي رواه المام أحمد في مسنده عن أنس ـ رضي ا ّ
ال عليه وسلم فقال) :يطلع عليكم الن من هذا الفج رجل من أهل الجنة( ،قال :فطلع رجل من النصار تنطف لحيته
من وضوء ،قد علق نعليه في يده الشمال ،فسلم ،فلما كان الغد قال النبي صلى ال عليه وسلم مثل ذلك ،فطلع ذلك
الرجل على مثل حاله ،فلما كان اليوم الثالث ،قال النبي صلى ال عليه وسلم مقالته فطلع ذلك الرجل على مثل حاله،
ل عنه ـ فقال :إني لحيت أبى، ل بن عمرو بن العاص ـ رضي /ا ّ فلما قام النبي صلى ال عليه وسلم :اتبعه عبد ا ّ
فأقسمت أل أدخل عليه ثلًثا ،فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلث فعلت .قال :نعم ،قال أنس ـ رضي ا ّ
ل
ل يحدث أنه بات عنده ثلث ليال ،فلم يره يقوم من الليل شيًئا ،غير أنه إذا تعار انقلب على فراشه عنه ـ :فكان عبد ا ّ
ل :غير أني لم أسمعه يقول إل خيًرا ،فلما فرغنا ل ـ عز وجل ـ وكبر حتى يقوم إلى صلة الفجر ،فقال عبد ا ّ ذكر ا ّ
ل لم يكن بيني وبين والدي غضب ول هجرة ،ولكن سمعت رسول ا ّ
ل من الثلث وكدت أن أحقر عمله قلت :يا عبد ا ّ
صلى ال عليه وسلم يقول ثلث مرات) :يطلع عليكم رجل من أهل الجنة( ،فطلعت أنت الثلث مرات ،فأردت أن
ل صلى ال عليه آوى إليك لنظر ما عملك ،فأقتدى بذلك ،فلم أَرك تعمل كثير عمل ،فما الذي بلغ بك ما قال رسول ا ّ
شا ول حسًدا على خير أعطاه وسلم ؟ قال :ما هو إل ما رأيت ،غير أنني ل أجد على أحد من المسلمين في نفسي غ ً
ل ابن عمرو له :هذه التي بلغت بك ،وهي ل :هذه التي بلغت بك وهي التي ل نطيق .فقول عبد ا ّ ل إياه .قال عبد ا ّ
ا ّ
التي ل نطيق ،يشير إلى خلوه وسلمته من جميع أنواع الحسد.
ن ِبِهْم
سِهْم َوَلْو َكا َ
عَلى َأْنُف ِ
ن َ
جًة ِمّما ُأوُتوا َوُيْؤِثُرو َ
حا َ
صُدوِرِهْم َ
ن ِفي ُ
جُدو َ ل ـ تعالى ـ على النصار فقالَ} :و َ
ل َي ِ وبهذا أثنى ا ّ
صٌة{ ]الحشر ،[9 :أي :مما أوتي إخوانهم المهاجرون ،قال المفسرون :ل يجدون في صدورهم حاجة أي :حسًدا صا َخ َ
َ
ظا مما أوتي المهاجرون ،ثم قال بعضهم :من مال الفيء ،وقيل :من الفضل والتقدم / ،فهم ل يجدون حاجة مماوغي ً
أتوا من المال ول من الجاه ،والحسد يقع على هذا.
ل ورسوله أحب الخرون وكان بين الوس والخزرج منافسة على الدين ،فكان هؤلء إذا فعلوا ما يفضلون به عند ا ّ
س اْلُمَتَناِفُسوَن{ ]المطففين:
ك َفْلَيَتَناَف ْ
ك َوِفي َذِل َ
سٌ ل كما قالِ } :
خَتاُمُه ِم ْ أن يفعلوا نظير ذلك ،فهو منافسة فيما يقربهم إلى ا ّ
.[26
سًدا ِم ْ
ن حَن َبْعِد ِإيَماِنُكْم ُكّفاًرا َ
ب َلْو َيُرّدوَنُكْم ِم ْ
ل اْلِكَتا ِ وأما الحسد المذموم كله ،فقد قال تعالى في حق اليهود َ} :وّد َكِثيٌر ِم ْ
ن َأْه ِ
ق{ ]البقرة ،[109 :يودون :أي :يتمنون ارتدادكم حسًدا ،فجعل الحسد هو الموجب حّ
ن َلُهْم اْل َ
ن َبْعِد َما َتَبّي َ
سِهْم ِم ْ
عْنِد َأنُف ِ
ِ
لذلك الود من بعد ما تبين لهم الحق؛ لنهم لما رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل ،بل ما لم يحصل لهم مثله
حْكَمَةب َواْل ِ
ل ِإْبَراِهيَم اْلِكَتا َ
ضِلِه َفَقْد آَتْيَنا آ َ
ن َف ْ
ل ِم ْ
عَلى َما آَتاُهْم ا ُّ س َن الّنا َسُدو َحُحسدوكم ،وكذلك في الية الخرىَ} :أْم َي ْ
عوُذ سِعيًرا{ ]النساء ،[55 ،54 :وقال تعالىُ} :ق ْ
ل َأ ُ جَهّنَم َعْنُه َوَكَفى ِب َصّد َ
ن َ ن ِبِه َوِمْنُهْم َم ْ
ن آَم َظيًماَ .فِمْنُهْم َم ْ
عَِوآَتْيَناُهْم ُمْلًكا َ
ت ِفي الُْعَقِدَ .وِمْن َشّر َحاِسٍد ِإَذا َحَسَد{ ] سورة الفلق [. شّر الّنّفاَثا ِن َبَ .وِم ْ
ق ِإَذا َوَق َ
سٍ غا ِشّر َن َ قَ .وِم ْخَل َ
شّر َما َ ن َقِ .م ْ
ب اْلَفَل ِ
ِبَر ّ
وقد ذكر طائفة من المفسرين أنها نزلت بسبب حسد اليهود للنبي صلى ال عليه وسلم حتى سحروه :سحره لَبِيد بن
ل عليه بها ظالم معتد ،والكاره لتفضيله المحب لمماثلته
العصم اليهودي ،فالحاسد /المبغض للنعمة على من أنعم ا ّ
ل فهذا ل بأس به ،وإعراض ل ،فإذا أحب أن يعطي مثل ما أعطى مما يقربه إلى ا ّ منهى عن ذلك إل فيما يقربه إلى ا ّ
قلبه عن هذا بحيث ل ينظر إلى حال الغير أفضل.
ثم هذا الحسد ،إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالًما معتدًيا مستحًقا للعقوبة إل أن يتوب ،وكان المحسود مظلوًما
ب َلْو
ل اْلِكَتا ِ را بالصبر والتقوى ،فيصبر على أذى الحاسد ويعفو ويصفح عنه ،كما قال تعالىَ} :وّد َكِثيٌر ِم ْ
ن َأْه ِ مأمو ً
ل ِبَأْمِرِه{ ]البقرة: ي ا ُّ حّتى َيْأِت َ
حوا َ صَف ُ
عُفوا َوا ْ ق َفا ْ
حّن َلُهْم اْل َ
ن َبْعِد َما َتَبّي َ
سِهْم ِم ْ
عْنِد َأنُف ِ
ن ِ
سًدا ِم ْ
حَ
ن َبْعِد ِإيَماِنُكْم ُكّفاًرا َ
َيُرّدوَنُكْم ِم ْ
ن
ل ّمِبي ٍ
لٍ ضَ ن َأَباَنا َلِفي َ صَبٌة ِإ ّ
ع ْ ن ُ حُ
ب ِإَلى َأِبيَنا ِمّنا َوَن ْ
خوُه َأحَ ّف َوَأ ُ س ُ ،[109وقد ابتلى يوسف بحسد إخوته له حيث قالواَ} :لُيو ُ
ك َفَيِكيُدوْا َلكَ
خَوِت َعَلى ِإ ْك َ ص ُرْؤَيا َ ص ْ ل َتْق ُ{ ]يوسف ،[8 :فحسدوهما على تفضيل الب لهما؛ ولهذا قال يعقوب ليوسفَ } :
لنَساِن َعُدّو ّمِبيٌن { ]يوسف.[5 : ن ِل ِطا َشْي َ
ن ال َّكْيًدا ِإ ّ
ثم إنهم ظلموه بتكلمهم في قتله وإلقائه في الجب وبيعه رقيًقا لمن ذهب به إلى بلد الكفر فصار مملوًكا لقوم كفار ،ثم
إن يوسف ابتلى بعد أن ظلم بمن يدعوه إلى الفاحشة ويراود عليها ،ويستعين عليه بمن يعينه على ذلك فاستعصم،
ل ،فكان مظلوًما من جهة من أحبه لهواه ،وغرضه واختار السجن على الفاحشة ،وآثر عذاب /الدنيا على سخط ا ّ
الفاسد.
فهذه المحبة أحبته لهوي محبوبها شفاؤها وشفاؤه إن وافقها ،وأولئك المبغضون أبغضوه بغضة أوجبت أن يصير
ملقى في الجب ،ثم أسيًرا مملوًكا بغير اختياره ،فأولئك أخرجوه من إطلق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير
سا مسجوًنا باختياره ،فكانت هذه أعـظم في محنته ،وكان صبره اختياره ،وهـذه ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبو ً
هنا صبًرا اختيارًيا اقترن به التقوى ،بخلف صبره على ظلمهم فإن ذلك كان من باب المصائب التي من لم يصبر
ضيُع
ل ُي ِ
ل َ
ن ا َّ
صِبْر َفِإ ّ
ق َوَي ْ عليها صبر الكرام سل سلو البهائم ،والصبر الثاني أفضل الصبرين؛ ولهذا قالِ} :إّنُه َم ْ
ن َيّت ِ
َأْجَر اْلمُْحِسِنيَن{ ]يوسف.[90 :
وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه ،وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان ،وإن لم يفعل أوذي وعوقب ،فاختار
الذى والعقوبة على فراق دينه :إما الحبس ،وإما الخروج من بلده ،كما جرى للمهاجرين ،حيث اختاروا فراق
الوطان على فراق الدين ،وكانوا يعذبون ويؤذون.
وقد أوذي النبي صلى ال عليه وسلم بأنواع من الذى فكان يصبر عليها صبًرا اختيارًيا ،فإنه إنما يؤذى لئل يفعل ما
يفعله /باختياره ،وكان هذا أعظم من صبر يوسف؛ لن يوسف إنما طلب منه الفاحشة وإنما عوقب إذا لم يفعل
بالحبس ،والنبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه طلب منهم الكفر وإذا لم يفعلوا طلبت عقوبتهم بالقتل فما دونه .وأهون
ما عوقب به الحبس ،فإن المشركين حبسوه وبني هاشم بالشعب مدة ،ثم لما مات أبو طالب اشتدوا عليه ،فلما بايعت
النصار وعرفوا بذلك صاروا يقصدون منعه من الخروج ويحبسونه هو وأصحابه عن ذلك ولم يكن أحد يهاجر إل
سًرا ،إل عمر بن الخطاب ونحوه ،فكانوا قد ألجؤوهم إلى الخروج من ديارهم ومع هذا منعوا من منعوه منهم عن
ذلك وحبسوه.
ل ورسوله ،لم يكن من المصائب السماوية التي فكان ما حصل للمؤمنين من الذى والمصائب هو باختيارهم طاعة ّ
تجرى بدون اختيار العبد من جنس حبس يوسف ،ل من جنس التفريق بينه وبين أبيه ،وهذا أشرف النوعين ،وأهلها
أعظم درجة ـ وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب بمصائبه ـ فإن هذا أصيب
ظَمٌأ
صيُبُهْم َ
ل ُي ِ ل يثاب على نفس المصائب ويكتب له بها عمل صالح ،قال تعالىَ} :ذِل َ
ك ِبَأّنُهْم َ وأوذي باختياره طاعة ّ
ل َ
ل ن ا َّ
ح ِإ ّ
صاِل ٌ
ل َ
عَم ٌ
ب َلُهْم ِبِه َ
ل ُكِت َ
ل ِإ ّ
عُدّو َنْي ً
ن َ
ل َيَناُلونَ ِم ْ
ظ اْلُكّفاَر َو َ
طًئا َيِغي ُ
ن َمْو ِ
طُئو َ
ل َي َ
ل َو َ
ل ا ِّ
سِبي ِ
صٌة ِفي َ
خَم َ
ل َم ْ
ب َو َ
ص ٌ
ل َن ََو َ
ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]التوبة.[120 : ُي ِ
/بخلف المصائب التي تجرى بل اختيار العبد ،كالمرض وموت العزيز عليه وأخذ اللصوص ماله ،فإن تلك إنما
يثاب على الصبر عليها ل على نفس ما يحدث من المصيبة ،لكن المصيبة يكفر بها خطاياه ،فإن الثواب إنما يكون
على العمال الختيارية ،وما يتولد عنها.
ل ورسوله ،ويحدث لهم بسبب ذلك حرج ،أو مرض ،أو حبس ،أو فراق وطن والذين يؤذون على اليمان ،وطاعة ا ّ
وذهاب مال وأهل ،أو ضرب أو شتم أو نقص رياسة ومال هم في ذلك علي طريقة النبياء وأتباعهم كالمهاجرين
الولين ،فهؤلء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لهم به عمل صالح ،كما يثاب المجاهد على ما يصيبه من الجوع
ل فعله يقوم به لكنها متسببة عن فعله
والعطش والتعب وعلى غيظه الكفار ،وإن كانت هذه الثار ليست عم ً
الختياري ،وهي التي يقال لها متولدة.
والمقصود أن الحسد مرض من أمراض النفس ،وهو مرض غالب فل يخلص منه إل قليل من الناس؛ ولهذا يقال :ما
خل /جسد من حسد ،لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه ،وقد قيل للحسن البصري :أيحسد المؤمن؟ فقال :ما أنساك إخوة
يوسف ل أبا لك! ولكن عمه في صدرك ،فإنه ل يضرك ما لم تعد به يًدا ولساًنا.
فمن وجد في نفسه حسًدا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر ،فيكره ذلك من نفسه ،وكثير من الناس الذين
ضا ل يقومون بما يجب من حقه ،بل إذا ذمه
عندهم دين ل يعتدون على المحسود ،فل يعينون من ظلمه ،ولكنهم أي ً
أحد لم يوافقوه على ذمه ول يذكرون محامده ،وكذلك لو مدحه أحد لسكتوا ،وهؤلء مدينون في ترك المأمور في حقه
ضا في مواضع ،ول ينصرون مفرطون في ذلك ،ل معتدون عليه ،وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فل ينصفون أي ً
على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود ،وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب.
ل بتقواه؛ كما جرى لزينب بنت جحش ـ رضي الّ عنها ـ فإنهال وصبر فلم يدخل في الظالمين ،نفعه ا ّ
ومن اتقى ا ّ
كانت هي التي تسامى عائشة من أزواج النبي صلى ال عليه وسلم وحسد النساء بعضهن لبعض كثير غالب ،ل سيما
المتزوجات بزوج واحد ،فإن المرأة تغار على زوجها لحظها منه ،فإنه بسبب المشاركة يفوت بعض حظها.
طا من ذلك وفات الخر ،ويكون بين /وهكذا الحسد يقع كثيًرا بين المتشاركين في رئاسة أو مال ،إذا أخذ بعضهم قس ً
النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الخر عليه ،كحسد إخوة يوسف ،وكحسد ابني آدم أحدهما لخيه ،فإنه حسده لكون
ل من اليمان والتقوى ـ كحسد اليهود للمسلمين ـ
ل تقبل قربانه ،ولم يتقبل قربان هذا ،فحسده على ما فضله ا ّ
أن ا ّ
ل به ثلثة :الحرص ،والكبر ،والحسد ،فالحرص من آدم ،والكبر من وقتله على ذلك؛ ولهذا قيل :أول ذنب عصى ا ّ
إبليس ،والحسد من قابيل حيث قتل هابيل.
طيرة ،وسأحدثكم بما يخرج من ذلك :إذا حسدت فلوفي الحديث) :ثلث ل ينجو منهن أحد :الحسد ،والظن ،وال ّ
تبغض ،وإذا ظننت فل تحقق ،وإذا تطيرت فامض( رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة.
وفي السنن عن النبي صلى ال عليه وسلم) :دب إليكم داء المم قبلكم :الحسد ،والبغضاء وهي الحالقة ،ل أقول :تحلق
الشعر ،ولكن تحلق الدين( فسماه داء ،كما سمى البخل داء في قوله) :وأي داء أدوأ من البخل؟!( فعلم أن هذا مرض،
وقد جاء في حديث آخر) :أعوذ بك من منكرات الخلق والهواء ،والدواء( فعطف الدواء على الخلق والهواء.
ظيٍم{ ]القلم ،[4 :قال ابن عباس ،وابن عيينة،
عِق َ
خُل ٍ جّية ،قال تعالىَ} :وِإّن َ
ك َلَعلى ُ سِ/فإن الخلق ما صار عادة للنفس ،و َ
ل عنهم ـ على دين عظيم ،وفي لفظ عن ابن عباس :على دين السلم ،وكذلك قالت عائشة وأحمد بن حنبل ـ رضي ا ّ
ل عنها ـ :كان خلقه القرآن .وكذلك قال الحسن البصري :أدب القرآن هو الخلق العظيم. ـ رضي ا ّ
ضا ،والداء هو المرض ،وهو تألم القلب والفساد فيه ،وقرن في الحديث الول الحسد وأما الهوى ،فقد يكون عار ً
ل على ذلك الغير ،ثم ينتقل إلى بغضه ،فإن بغض اللزم يقتضى بغض بالبغضاء؛ لن الحاسد يكره أولً فضل ا ّ
ل إذا كانت لزمة وهو يحب زوالها ،وهي ل تزول إل بزواله أبغضه وأحب عدمه ،والحسد الملزوم ،فإن نعمة ا ّ
ل ـ تعالى ـ عمن قبلنا :أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ،فلم يكن اختلفهم لعدم
يوجب البغي ،كما أخبر ا ّ
العلم ،بل علموا الحق ولكن بغى بعضهم على بعض ،كما يبغى الحاسد على المحسود.
ل عنه ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :ل تحاسدوا ،ول تباغضوا، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ـ رضي ا ّ
ل إخواًنا ،ول يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلث ليال ،يلتقيان فيصّد هذاول تدابروا ،ول تقاطعوا ،وكونوا عباد ا ّ
ويصد هذا ،وخيرهما الذي يبدأ بالسلم( ،وقد قال صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس
ضا) :والذي /نفسي بيده ،ل يؤمن أحدكم حتي يحب لخيه ما يحب لنفسه(. أي ً
ن ا ِّ
ل ل ِم َ
ضٌصاَبُكْم َف ْ
ن َأ َ
شِهيًداَ .وَلِئ ْ
ن َمَعُهْم َ
ي ِإْذ َلْم َأُك ْ
عَل ّ
ل َ
ل َقْد َأْنَعَم ا ُّ
صيَبٌة َقا َ
صاَبْتُكْم ُم ِ
ن َأ َ
ن َفِإ ْ
طَئ ّ
ن َلُيَب ّ
ن ِمْنُكْم َلَم ْوقد قال تعالىَ} :وِإ ّ
ظيًما{ ]النساء.[73 ،72 : عِ ت َمَعُهْم َفَأُفوَز َفْوًزا َن َبْيَنُكْم َوَبْيَنُه َمَوّدٌة َياَلْيَتِني ُكن ُ
ن َلْم َتُك ْ
ن َكَأ ْ
َلَيُقوَل ّ
فهؤلء المبطئون لم يحبوا لخوانهم المؤمنين ما يحبون لنفسهم ،بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا باختصاصهم ،وإن
أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها ،بل أحبوا أن يكون لهم منها حظ ،فهم ل يفرحون إل بدنيا تحصل لهم ،أو شر دنيوي
ل ورسوله والدار الخرة ،ولو كانوا كذلك لحبوا إخوانهم ،وأحبوا ما وصلينصرف عنهم ،إذا كانوا ل يحبون ا ّ
إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة ،ومن لم يسره ما يسر المؤمنين ،ويسوؤه ما يسوء المؤمنين فليس
منهم.
ل صلى ال عليه وسلم يقول: ففي الصحيحين عن عامر قال :سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول :سمعت رسول ا ّ
)مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد ،إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالحُّمى
ل صلى ال عليه وسلم: ل عنه ـ قال :قال رسول ا ّ
سَهر( ،وفي الصحيحين عن أبي موسى الشعري ـ رضي ا ّ وال ّ
)المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا( وشبك بين أصابعه.
والشح مرض ،والبخل مرض ،والحسد شر من البخل ،كما في الحديث /الذي رواه أبو داود عن النبي صلى ال عليه
وسلم أنه قال) :الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ،والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار( وذلك أن
ل على عباده ،وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه وحسد البخيل يمنع نفسه ،والحسود يكره نعمة ا ّ
لنظرائه ،وقد يكون فيه بخل بل حسد لغيره والشح أصل ذلك.
ك ُهْم اْلُمْفِلُحوَن{ ] الحشر ،[9 :وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
سِه َفُأْوَلِئ َ
ح َنْف ِ
شّ
ق ُ وقال تعالىَ} :وَم ْ
ن ُيو َ
قال) :إياكم والشح ،فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا ،وأمرهم بالظلم فظلموا ،وأمرهم بالقطيعة فقطعوا(،
وكان عبد الرحمن بن عوف يكثر من الدعاء في طوافه يقول :الّلهم قني شح نفسي ،فقال له رجل :ما أكثر ما تدعو
بهذا .فقال :إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة .والحسد يوجب الظلم.
صــل
َف ْ
فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها ،بل وحبها لما يضرها؛ ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب،
وأما مرض الشهوة ،والعشق فهو حب النفس لما يضرها ،وقد يقترن به بغضها لما ينفعها ،والعشق مرض نفساني،
ضا في الجسم ،إما من أمراض /الدماغ كالماليخوليا؛ ولهذا قيل فيه :هو مرض
وإذا قوى أثر في البدن فصار مر ً
وسواسي شبيه بالماليخوليا ،وأما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك.
والمقصود هنا مرض القلب؛ فإنه أصل محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهى ما يضره .وإذا لم يطعم
ذلك تألم ،وإن أطعم ذلك قوى به المرض وزاد.
ل يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب( ،وفي مناجاة موسى وفي الحديث) :إن ا ّ
المأثورة عن وهب التي رواها المام أحمد في كتاب [الزهد] يقول الّ تعالى) :إني لذود أوليائي عن نعيم الدنيا
ورخائها ،كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة ،وإني لجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق
إبله عن مبارك الغرة ،وما ذلك لهوانهم علي ،ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالًما موفًرا لم تكلمه الدنيا ولم
يطفئه الهوى( .وإنما شفاء المريض بزوال مرضه ،بل بزوال ذلك الحب المذموم من قلبه.
وقيل :من باب التصورات ،وإنه فساد في التخييل ،حيث يتصور المعشوق على ما هو به ،قال هؤلء :ولهذا ل
ل فاسًدا.
ل بالعشق ،ول أنه يعشق؛ لنه منزه عن ذلك ،ول يحمد من يتخيل فيه خيا ً
يوصف ا ّ
لـ
ل؛ لن العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي ،وا ّ
والجمهور ل يطلقون هذا اللفظ في حق ا ّ
تعالى ـ محبته ل نهاية لها ،فليست تنتهي إلى حد ل تنبغي مجاوزته.
قال هؤلء :والعشق مذموم مطلًقا ل يمدح ل في محبة الخالق ،ول المخلوق؛ لنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد
ضا فإن لفظ العشق إنما يستعمل في العرف في محبة النسان لمرأة أو صبي ،ل يستعمل في محبة المحمود ،وأي ً
كمحبة الهل والمال والوطن والجاه ،ومحبة النبياء والصالحين ،وهو مقرون كثيًرا بالفعل المحرم :إما بمحبة امرأة
أجنبية أو صبي ،يقترن به النظر المحرم ،واللمس المحرم ،وغير ذلك من الفعال المحرمة.
/وأما محبة الرجل لمرأته أو سريته محبة تخرجه عن العدل بحيث يفعل لجلها ما ل يحل ،ويترك ما يجب ،كما هو
الواقع كثيًرا ،حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة ،لمحبته الجديدة ،وحتى يفعل من مطالبها المذمومة ما يضره في دينه
ل ،أو يسرف في ودنياه ،مثل أن يخصها بميراث ل تستحقه ،أو يعطي أهلها من الولية والمال ما يتعدى به حدود ا ّ
النفاق عليها ،أو يملكها من أمور محرمة تضره في دينه ودنياه ،وهذا في عشق من يباح له وطؤها.
فكيف عشق الجنبية والّذكران من العالمين؟ ففيه من الفساد ما ل يحصيه إل رب العباد ،وهو من المراض التي
ض{
طَمَع اّلِذي ِفي َقْلِبِه َمَر ٌ
ل َفَي ْ
ن ِباْلَقْو ِ
ضْع َ
خ َ تفسد دين صاحبها وعرضه ،ثم قد تفسد عقله ثم جسمه ،قال تعالىَ} :ف َ
ل َت ْ
]الحزاب.[32 :
ومن في قلبه مرض الشهوة ،وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض ،والطمع الذي يقوى الرادة
سا من المطلوب ،فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الرادة
والطلب ،ويقوي المرض بذلك ،بخلف ما إذا كان آي ً
ل ،بل يكون حديث
فيضعف الحب ،فإن النسان ل يريد أن يطلب ما هو آيس منه ،فل يكون مع الرادة عمل أص ً
نفس إل أن يقترن بذلك كلم أو نظر ،ونحو ذلك فيأثم بذلك.
ل ،وقد روى في الحديث) :أن من عشق فعف وكتم وصبر/فأما إذا ابتلى بالعشق وعف وصبر ،فإنه يثاب على تقواه ّ
ثم مات كان شهيًدا( وهومعروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا ،و فيه نظر ول يحتج
بهذا.
ل ،وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى ل يكون في
لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظًرا وقولً وعم ً
ل ،وعن
ذلك كلم محرم ،إما شكوى إلى المخلوق وإما إظهار فاحشة ،وإما نوع طلب للمعشوق ،وصبر على طاعة ا ّ
معصيته ،وعلى ما في قلبه من ألم العشق ،كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة ،فإن هذا يكون ممـن اتقـى ا ّ
ل
ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]يوسف.[90 :
ل ُي ِ
ل َ
ن ا َّ
صِبْر َفِإ ّ
ق َوَي ْ وصبـرِ} ،إّنُه َم ْ
ن َيّت ِ
ل كان
ل فينهاها خشية من ا ّ
وهكذا مرض الحسد وغيره من أمراض النفوس ،وإذا كانت النفس تطلب ما يبغضه ا ّ
ي اْلَمْأَوى{ ]النازعات.[41 ،40 :
جّنَة ِه َ
ن اْل َ
ن اْلَهَوى َ .فِإ ّ
عْس َ
ف َمَقاَم َرّبِه َوَنَهى الّنْف َ
خا َ ممن دخل في قولهَ} :وَأّما َم ْ
ن َ
فالنفس إذا أحبت شيًئا سعت في حصوله بما يمكن ،حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية ،فمن
صا لحسده له فيؤذي من له بهضا مذموًما وفعل ذلك كان آثًما ،مثل أن يبغض شخ ً
أحب محبة مذمومة أو أبغض بغ ً
تعلق ،إما بمنع حقوقهم ،أو بعدوان عليهم .أو لمحبة له /لهواه معه فيفعل لجله ما هو محرم ،أو ما هو مأمور به ّ
ل
ل ،وهذه أمراض كثيرة في النفوس ،والنسان قد يبغض شيًئا فيبغض لجله أموًرا كثيرة بمجرد فيفعله لجل هواه ل ّ
الوهم والخيال.
وكذلك يحب شيًئا فيحب لجله أموًرا كثيرة ،لجل الوهم والخيال ،كما قال شاعرهم:
فقد أحب سوداء ،فأحب جنس السواد ،حتى في الكلب ،وهذا كله مرض في القلب في تصوره وإرادته.
فنسأل ال ـ تعالى ـ أن يعافى قلوبنا من كل داء ،ونعوذ بال من منكرات الخلق والهواء والدواء.
ل عليها عباده كما قال النبي صلى ال عليه وسلم: ل ـ تعالى ـ وهذه الفطرة التي فطر ا ّ
والقلب إنما خلق لجل حب ا ّ
)كل مولود يولد على الفطرة ،فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ،كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ،هل تحسون
خْل ِ
ق ل ِل َ
ل َتْبِدي َ
عَلْيَها َ
س َ
طَر الّنا َ
ل اّلِتي َف َ ل عنه ـ أقرؤوا إن شئتمِ} :ف ْ
طَرةَ ا ِّ فيها من جدعاء( ثم يقول أبو هريرة ـ رضي ا ّ
ل{ ]الروم ،[30 :أخرجه البخاري ومسلم. ا ِّ
ل محًبا له
ل ـ سبحانه ـ فطر عباده على محبته وعبادته وحده ،فإذا تركت الفطرة بل فساد كان القلب عارًفا با ّ /فا ّ
عابًدا له وحده ،لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ،وهذه كلها تغير فطرته التي
ل وقدره ـ كما يغير البدن بالجدع ـ ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر الّ ـ تعالى ـ لها
فطره عليها ،وإن كانت بقضاء ا ّ
من يسعى في إعادتها إلى الفطرة.
ل عليهم وسلم ـ بعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها ل لتغيير الفطرة وتحويلها ،وإذا كان القلب محًبا لّ
والرسل ـ صلى ا ّ
ل أن يبتلى بالعشق ،وحيث ابتلى بالعشق فلنقص محبته ّ
ل صا له الدين ،لم يبتل بحب غيره أصل ،فض ً وحده مخل ً
وحده.
شاَء ِإّنُه ِم ْ
ن حَسوَء َواْلَف ْ
عْنُه ال ّ
ف َ
صِر َ صا له الدين لم يبتل بذلك ،بل قال تعالىَ} :كَذِل َ
ك ِلَن ْ ل مخل ً
ولهذا لما كان يوسف محًبا ّ
صيَن{ ]يوسف .[24 :وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها؛ فلهذا ابتليت بالعشق ،وما يبتلى خَل ِ
عَباِدَنا اْلُم ْ
ِ
ل الخائف منه فيه صارفان يصرفانه عن العشق:
بالعشق أحد إل لنقص توحيده وإيمانه ،وإل فالقلب المنيب إلى ا ّ
ل ،فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه ،وكل من أحب شيًئا بعشق أو غير عشق فإنه يصرف /والثاني :خوفه من ا ّ
عن محبته بمحبة ما هو أحب إليه منه ،إذا كان يزاحمه ،وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض
ل أحب إلى العبد من كل شيء ،وأخوف عنده من كل شيء ،لم يحصل معه عشق إليه من ترك ذاك الحب ،فإذا كان ا ّ
ول مزاحمة إل عند غفلة أو عند ضعف هذا الحب والخوف ،بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ،فإن
ل وخوًفا منه وترك المعصية حًبا له وخوًفااليمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،فكلما فعل العبد الطاعة محبة ّ
منه قوى حبه له وخوفه منه ،فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره.
وهكذا أمراض البدان :فإن الصحة تحفظ بالمثل ،والمرض يدفع بالضد ،فصحة القلب باليمان تحفظ بالمثل ،وهو ما
عا وموقوًفا) :إن
يورث القلب إيماًنا من العلم النافع والعمل الصالح ،فتلك أغذية له ،كما في حديث ابن مسعود مرفو ً
ل لعباده[ .. .بياض
ل هي القرآن( .والدب :المضيف فهو ضيافة ا ّ كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته ،وإن مأدبة ا ّ
بالصل].
مثل آخر :الليل وأوقات الذان والقامة وفي سجوده ،وفي أدبار الصلوات ،ويضم إلى ذلك الستغفار ،فإنه من
عا حسًنا إلى أجل مسمى.
ل ثم تاب إليه متعه متا ً
استغفر ا ّ
/وليتخذ ورًدا من الذكار في النهار ،ووقت النوم ،وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف ،فإنه ل يلبث
ل بروح منه .ويكتب اليمان في قلبه. أن يؤيده ا ّ
وليحرص على إكمال الفرائـض مـن الصلـوات الخمـس باطنـة وظاهـرة فإنهـا عمـود الدين ،وليكن هجيراه ل حول
ل ،فإنها بها تحمل الثقال ،وتكابد الهوال ،وينال رفيع الحوال.
ول قوة إل با ّ
ول يسأم من الدعاء والطلب ،فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل ،فيقول :قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي ،وليعلم أن
النصر مع الصبر ،وأن الفرج مع الكرب ،وأن مع العسر يسًرا ،ولم ينل أحد شيًئا من ختم الخير نبي فمن دونه إل
بالصبر.
ل رب العالمين ،وله الحمد والمنة على السلم والسنة ،حمًدا يكافئ نعمه الظاهرة والباطنة ،وكما ينبغي
والحمد ّ
لكرم وجهه وعز جلله.
ل على سيدنا محمد ،وعلى آله وأصحابه ،وأزواجه أمهات المؤمنين ،والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وصلى ا ّ
وسلم تسليًما كثيًرا.
ضا:
ل ـ َأْي ً
حَمُه ا ُّ
سـلِم ـ َر ِ
لْخا ِ
شْيـ ُ
ل َ
َ/وَقـا َ
فصــل
ل مرض القلوب وشفاءها في مواضع من كتابه وجاء ذلك في سنة رسوله صلى ال عليه وسلم ،كقوله ـ /وقد ذكر ا ّ
عو َ
ن ساِر ُض ُي َ ن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ ضا{ ]البقرة ،[10 :وقالَ} :فَتَرى اّلِذي َ ل َمَر ً ض َفَزاَدُهْم ا ُّ تعالى ـ عن المنافقينِ} :في ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ
جاَءْتُكْمظ ُقُلوِبِهْم{ ]التوبة ،[15 ،14 :وقالَ} :قْد َ غْي َ
ب َ ن َ .وُيْذِه ْ
صُدوَر َقْوٍم ُمْؤِمِني َ ف ُ ش ِ ِفيِهم{ ]المائدة ،[52 :وقال تعالىَ} :وَي ْ
ن{ حَمٌة ِلْلُمْؤِمِني َ
شَفاٌء َوَر ْن َما ُهَو ِ ن اْلُقْرآ ِ صُدوِر{ ]يونس ،[57 :وقال تعالىَ} :وُنَنّز ُ
ل ِم ْ شَفاٌء ِلَما ِفي ال ّ
ن َرّبُكْم َو ِ
ظٌة ِم ْ
عََمْو ِ
طَمَعل َفَي ْن ِباْلَقْو ِ
ضْع َ
خ َ شَفاٌء{ ]فصلت ،[44 :وقال تعالىَ} :ف َ
ل َت ْ ن آَمُنوا ُهًدى َو ِ ]السراء ،[82 :وقال تعالىُ} :ق ْ
ل ُهَو ِلّلِذي َ
ن ِفي اْلَمِديَنِة َلُنْغِرَيّن َ
ك جُفو َض َواْلُمْر ِن َواّلِذينَ ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ ن َلْم َيْنَتِه اْلُمَناِفُقو َض{ ]الحزاب ،[32 :وقالَ} :لِئ ْ اّلِذي ِفي َقْلِبِه َمَر ٌ
ل َوَرُسوُلُه ِإّل ُغُروًرا{ ]الحزاب: عَدَنا ا ُّ
ض َما َو َن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ ن َواّلِذي َ ِبِهْم{ ]الحزاب ،[60 :وقالَ} :وِإْذ َيُقو ُ
ل اْلُمَناِفُقو َ
.[12
ي السؤال( ،وقال الرشيد :الن شفيتني يا
وقال النبي صلى ال عليه وسلم) :هل سألوا إذ لم يعلموا ،فإنما شفاء الِع ّ
ل ،وإذا شك في تفسير شيء سأل رج ً
ل مالك ،وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود :أن أحًدا ل يزال بخير ما اتقى ا ّ
فشفاه ،وأوشك أل يجده والذي ل إله إل هو.
ل من مرض القلوب وشفائها بمنزلة ما ذكر من موتها /وحياتها وسمعها وبصرها وعقلها وصممهاوما ذكر ا ّ
وبكمها وعماها.
فساد الحس.
وكل منهما يحصل بفقده ألم وعذاب ،فكما أنه مع صحة الحس والحركة الرادية والطبيعية تحصل اللذة والنعمة،
ل به على عباده ،مما يكون فيه لذة
فكذلك بفسادها يحصل اللم والعذاب؛ ولهذا كانت النعمة من النعيم ،وهو ما ينعم ا ّ
ونعيم ،وقالُ} :ثّم َلُتْسَأُلّن َيْوَمِئٍذ َعْن الّنِعيِم{ ]التكاثر ،[8 :أي :عن شكره.
فسبب اللذة إحساس الملئم ،وسبب اللم إحساس المنافي ،ليس اللذة واللم نفس الحساس والدراك ،وإنما هو نتيجته
وثمرته ومقصوده وغايته ،فالمرض فيه ألم لبد منه وإن كان قد يسكن أحياًنا لمعارض راجح ،فالمقتضى له قائم
يهيج بأدنى سبب ،فلبد في المرض من وجود سبب اللم ،وإنما يزول اللم بوجود المعارض الراجح.
ولذة القلب وألمه أعظم من لذة الجسم وألمه ،أعني ألمه ولذته النفسانيتان / ،وإن كان قد يحصل فيه من اللم من جنس
ما يحصل في سائر البدن بسبب مرض الجسم ،فذلك شيء آخر.
فلذلك كان مرض القلب وشفاؤه ،أعظم من مرض الجسم وشفائه ،فتارة يكون من جملة الشبهات .كما قالَ} :فَي ْ
طَمَع
ض{ ،وكما صنف الخرائطي كتاب ]اعتلل القلوب بالهواء[ ففي قلوب المنافقين :المرض من هذا اّلِذي ِفي َقْلِبِه َمَر ٌ
الوجه ،ومن هذا الوجه :من جهة فساد العتقادات ،وفساد الرادات.
والمظلوم في قلبه مرض وهو اللم الحاصل بسبب ظلم الغير له ،فإذا استوفى حقه اشتفى قلبه .كما قال تعالى:
ظ ُقُلوِبِهْم{ ]التوبة ،[15 ،14 :فإن غيظ القلب إنما هو لدفع الذي واللم عنه ،فإذا
غْي َ
ب َ
ن َ .وُيْذِه ْ
صُدوَر َقْوٍم ُمْؤِمِني َ
شفِ ُ
}َوَي ْ
اندفع عنه الذى واستوفى حقه زال غيظه.
فكذلك إذا بلي بحب من ل ينفعه العشق ،ونحوه سواء كان لصورة أو لرئاسة أو لمال ونحو ذلك ،فإن لم يحصل
ضا وألًما وسقًما ،ولذلك كما أن المريض محبوبه ومطلوبه فهو متألم ومريض سقيم ،وإن حصل محبوبه فهو أشد مر ً
ل ،وكان دوامه على ذلك يوجب من اللم إذا كان يبغض ما يحتاج إليه من الطعام والشراب ،كان ذلك اللم حاص ً
أكثر من ذلك حتى يقتله ،حتى يزول ما يوجب بغضه لما ينفعه ويحتاج إليه ،فهو متألم في الحال ،وتألمه فيما بعد ـ إن
ل ـ أعظم وأكبر.
لم يعافِه ا ّ
ل على المحسود ،كبغض المريض لكل الصحاء لطعمتهم وأشربتهم ،حتى ل يقدر أن يراهم فبغض الحاسد لنعمة ا ّ
يأكلون ،ونفرته عن أن يقوم بحقه كنفرة المريض عما يصلح له من طعام وشراب ،فالحب والبغض الخارج عن
العتدال والصحة في النفس كالشهوة والنفرة الخارج عن العتدال والصحة في الجسم ،وعمى القلب وبكمه أن
يبصر الحقائق ويميز ما ينفعه ويضره ،كعمى الجسم ،وخرسه عن أن يبصر المور المرتبة ،ويتكلم بها ويميز بين
ما ينفعه ويضره.
وكما أن الضرير إذا أبصر وجد أن الراحة والعافية والسرور أمًرا /عظيًما .فبصر القلب ورؤيته الحقائق بينه وبين
ل ،وإنما الغرض هنا تشبيه أحد المرضين بالخر ،فطب الديان يحتذى بصر الرأس من التفاوت ما ل يحصيه إل ا ّ
حذو طب البدان.
فمرض الجسم يكون بخروج الشهوة ،والنفرة الطبيعية عن العتدال ،أما شهوة ما ل يحصل أو يفقد الشهوة النافعة
وينفر به عما يصلح ويفقد النفرة عما يضر ،ويكون بضعف قوة الدراك والحركة ،كذلك مرض القلب يكون بالحب
ل{ن ا ِّ
ن اّتَبَع َهَواُه ِبَغْيِر ُهًدى ِم ْ
ل ِمّم ْ
ضّ ل فيهاَ} :وَم ْ
ن َأ َ والبغض الخارجين عن العتدال ،وهي الهواء التي قال ا ّ
ظَلُموا َأْهَواَءُهْم ِبَغْيِر ِعْلٍم{ ]الروم.[29 :
ن َ ]القصص ،[50 :وقالَ} :ب ْ
ل اّتَبَع اّلِذي َ
جا عن العتدال إذا فعل ما يشتهيه الجسم بل قول الطبيب ،ويكون لضعف إدراك القلب وقوته كما يكون الجسد خار ً
حتى ل يستطيع أن يعلم ويريد ما ينفعه ويصلح له ،وكما أن المرضى الجهال قد يتناولون ما يشتهون ،فل /يحتمون
ول يصبرون على الدوية الكريهة لما في ذلك من تعجيل نوع من الراحة واللذة ،ولكن ذلك يعقبهم من اللم ما يعظم
قدره ،أو يعجل الهلك.
فكذلك بنو آدم هم جهال ظلموا أنفسهم ،يستعجل أحدهم ما ترغبه لذته ويترك ما تكرهه نفسه ،مما هو ل يصلح له،
فيعقبهم ذلك من اللم والعقوبات ،إما في الدنيا وإما في الخرة ما فيه عظم العذاب والهلك العظم.
والتقوى :هي الحتماء عما يضره بفعل ما ينفعه ،فإن الحتماء عن الضار يستلزم استعمال النافع ،وأما استعمال
ضا استعمالً لضار ،فل يكون صاحبه من المتقين.
النافع فقد يكون معه أي ً
وأما ترك استعمال الضار والنافع فهذا ل يكون؛ فإن العبد إذا عجز عن تناول الغذاء كان مغتذًيا بما معه من المواد
التي تضره حتى يهلك؛ ولهذا كانت العاقبة للتقوى ،وللمتقين؛ لنهم المحتمون عما يضرهم فعاقبتهم السلم
والكرامة ،وإن وجدوا ألًما في البتداء لتناول الدواء والحتماء ،كفعل العمال الصالحة المكروهة .كما قال تعالى:
ب َعَلْيُكْم اْلِقَتاُل َوُهَو ُكْرٌه َلُكْم َوَعسى َأْن َتْكَرُهوا َشْيًئا َوُهَو َخْيٌر َلُكْم َوَعَسى َأْن ُتِحّبوا َشْيًئا َوُهَو َشّر َلُكْم{ ]البقرة.[216 :
}ُكِت َ
ي اْلَمْأَوى{
جّنَة ِه َ
ن اْل َ
ن اْلَهَوى َ .فِإ ّ
عْ
س َ
ف َمَقاَم َرّبِه َوَنَهى الّنْف َ
خا َ ولكثرة العمال الباطلة المشتهاة ،كما قال تعالىَ} :وَأّما َم ْ
ن َ
ت الّشْوَكِة َتُكوُن َلُكْم{ ]النفال ،[7 :فأما من لم يحتم فإن ذلك سبب غْيَر َذا ِ
ن َ ]النازعات .[41 ،40 :وكما قالَ} :وَتَوّدو َ
ن َأ ّ
لضرره في العاقبة ،ومن تناول ما ينفعه مع يسير من التخليط ،فهو أصلح ممن احتمى حمية كاملة ولم يتناول الشياء
سًرا ،فإن الحمية التامة بل اغتذاء تمرض ،فهكذا من ترك السيئات ولم يفعل الحسنات.
وقد قدمنا في قاعدة كبيرة أن جنس الحسنات أنفع من جنس ترك السيئات ،كما أن جنس الغتذاء من جنس الحتماء،
وبينا أن هذا مقصود لنفسه وذلك مقصود لغيره بالنضمام إلى غيره ،وكما أن الواجب الحتماء عن سبب المرض
قبل حصوله ،وإزالته بعد حصوله ،فهكذا أمراض القلب يحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداء وإلى إعادتها ـ بأن
عرض له المرض ـ دواًما ،والصحة تحفظ بالمثل ،والمرض يزول بالضد ،فصحة القلب تحفظ باستعمال أمثال ما
فيها ،أو هو ما يقوي العلم واليمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة ،وتزول بالضد ،فتزال الشبهات بالبينات،
وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق.
ولهذا قال يحيى بن عمار :العلوم خمسة :فعلم هو حياة الدنيا ،وهو علم التوحيد ،وعلم هو غذاء الدين ،وهو علم
التذكر بمعاني القرآن والحديث ،وعلم هو دواء الدين ،وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من /يشفيه
منها ،كما قال ابن مسعود :وعلم هو داء الدين وهو الكلم المحدث ،وعلم هو هلك الدين ،وهو علم السحر ونحوه.
فحفظ الصحة بالمثل ،وإزالة المرض بالضد ،في مرض الجسم الطبيعي ،ومرض القلب النفساني الديني الشرعي.
سانه ،كما تنتج البهيمة جَ صَرانه أو ُيَم ّ قال النبي صلى ال عليه وسلم) :كل مولود يولد على الفطرة فأبواه ُيَهّوَداِنه أو ُيَن ّ
عَلْيَها{ س َ
طَر الّنا َ ل اّلِتي َف َطَرةَ ا ِّ بهيمة جمعاء ،هل تحسون فيها من جدعاء( ثم يقول أبو هريرة :اقرؤوا إن شئتمِ} :ف ْ
خْل َ
ق نَ .وُهَو اّلِذي َيْبَدُأ اْل َل َلُه َقاِنُتو َض ُك ّلْر ِ ت َوا َْ سَماَوا ِ ن ِفي ال ّ ل تعالىَ} :وَلُه َم ْ ]الروم ،[30 :أخرجاه في الصحيـحين .قال ا ّ
ظَلُموا َأْهَواَءُهْم ِبَغْيِر ِعْلٍم{ إلى ن َ ل اّتَبَع اّلِذي َض{ إلى قولهَ} :ب ْ لْر ِ ت َوا َْ
سَماَوا ِعَلى ِفي ال ّ لْل ا َْ
عَلْيِه َوَلُه اْلَمَث ُ
ن َُثّم ُيِعيُدُه َوُهَو َأْهَو ُ
ن{ ل َيْعَلُمو َن َأْكَثَر الّناسِ َ ن اْلَقّيُم َوَلِك ّ
ك الّدي ُ ل َذِل َ
ق ا ِّ
خْل ِ
ل ِل َ
ل َتْبِدي َ
عَلْيَها َ
س َطَر الّنا َل اّلِتي َف َ
طَرَة ا ِّ
حِنيًفا ِف ْن َ ك ِللّدي ِ قولهَ} :فَأِقْم َو ْ
جَه َ
]الروم26 :ـ .[30
ل وحده ل شريك له ،فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية فأخبر أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيًفا ،وهو عبادة ا ّ
المستقيمة المعتدلة للقلب ،وتركها ظلم عظيم اتبع أهله أهواءهم بغير علم ،ولبد لهذه الفطرة والخلقة ـ وهي صحة
ل؛ ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكملة
الخلقة ـ من قوت وغذاء يمدها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علًما وعم ً
ل كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في حديث ابن مسعود) :إن كل آدب يحب أن بالشريعة المنزلة ،وهي مأدبة ا ّ
ل من السماء ،كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسنة. ل هي القرآن( ،ومثله كماء أنزله ا ّ/تؤتي مأدبته ،وإن مأدبة ا ّ
ل كتابه شفاء لما في
والمحرفون للفطرة المغيرون للقلب عن استقامته ،هم ممرضون القلوب مسقمون لها ،وقد أنزل ا ّ
الصدور.
وما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب هي بمنزلة ما تصيب الجسم من اللم ،يصح بها الجسم وتزول أخلطه
الفاسدة .كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :ما يصيب المؤمن من وصب ول نصب ول هم ول حزن ول غم ول
ل بها خطاياه( ،وذلك تحقيق لقولهَ} :مْن َيْعَمْل ُسوًءا ُيْجَز ِبِه{ ]النساء.[123 :
أذى ،حتى الشوكة يشاكها ،إل كفر ا ّ
جْنب ،وكذلك
وكما أن أمراض الجسم ما إذا مات النسان منه كان شهيًدا .كالمطعون والمبطون وصاحب ذات ال َ
الميت بغرق ،أو حرق ،أو هدم ،فمن /أمراض النفس ،ما إذا اتقى العبد ربه فيه وصبر عليه حتى مات كان شهيًدا،
ل ويصبر للقتال حتى يقتل ،فإن البخل والجبن من أمراض النفوس إن أطاعه أوجب له اللم، كالجبان الذي يتقى ا ّ
وإن عصاه تألم كأمراض الجسم.
وكذلك العشق ،فقد روى) :من عشق فعف وكتم وصبر ،ثم مات مات شهيًدا( فإنه مرض في النفس ،يدعو إلى ما
ضا ،وإن
يضر النفس ،كما يدعو المريض إلى تناول ما يضر .فإن أطاع هواه عظم عذابه في الخرة وفي الدنيا أي ً
عصى الهوى بالعفة والكتمان صار في نفسه من اللم والسقم ما فيها ،فإذا مات من ذلك المرض كان شهيًدا ،هذا
يدعوه إلى النار فيمنعه كالجبان تمنعه نفسه عن الجنة فيقدمها.
فأجاب:
ل ويرضاه ،من القوال والعمال الباطنة والظاهرة، ل رب العالمين ،العبادة :هي اسم جامع لكل ما يحبه ا ّ
الحمد ّ
كالصلة والزكاة ،والصيام ،والحج ،وصدق الحديث ،وأداء المانة ،وبر الوالدين ،وصلة الرحام ،والوفاء بالعهود،
والمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،والجهاد للكفار والمنافقين ،والحسان إلى الجار واليتيم ،والمسكين وابن
السبيل ،والمملوك من الدميين والبهائم ،والدعاء والذكر والقراءة ،وأمثال ذلك من العبادة.
ل والنابة إليه ،وإخلص الدين له ،والصبر لحكمه ،والشكر لنعمه ،والرضا
ل ورسوله ،وخشية ا ّوكذلك حب ا ّ
ل.
بقضائه ،والتوكل عليه / ،والرجاء لرحمته ،والخوف لعذابه ،وأمثال ذلك هي من العبادة ّ
لنسَ
ن َوا ِْ
جّت اْل ِ ل هي الغاية المحبوبة له والمرضية له ،التي خلق الخلق لها ،كما قال تعالىَ} :وَما َ
خَلْق ُ وذلك أن العبادة ّ
غْيُرُه{
ن ِإَلٍه َ
ل َما َلُكْم ِم ْ ن{ ]الذاريات ،[56 :وبها أرسل جميع الرسل ،كما قال نوح لقومه} :ا ْ
عُبُدوا ا َّ ل ِلَيْعُبُدو ِ
ِإ ّ
]المؤمنون ،[23 :وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم.
لَلُة{
ضَ عَلْيِه ال ّ
ت َحّق ْ
ن َ ل َوِمْنُهْم َم ْ
ن َهَدى ا ُّ
غوتَ َفِمْنُهْم َم ْ
طا ُ
جَتِنُبوا ال ّ
ل َوا ْ
عُبُدوا ا َّ
ن ُا ْل َأ ْ
سو ً ل ُأّمٍة َر ُوقال تعالىَ} :وَلَقْد َبَعْثَنا ِفي ُك ّ
ك ِمْن َرُسوٍل ِإّل ُنوِحي ِإَلْيِه َأّنُه َل ِإَلَه ِإّل َأَنا َفاْعُبُدوِن{ ]النبياء ،[25 :وقال ن َقْبِل َ ]النحل ،[36 :وقال تعالىَ} :وَما َأْر َ
سْلَنا ِم ْ
ل ُكُلوا ِم ْ
ن سُ ن{ ]النبياء ،[92 :كما قال في الية الخرىَ} :ياَأّيَها الّر ُ عُبُدو ِ حَدًة َوَأَنا َرّبُكْم َفا ْ
ن َهِذِه ُأّمُتُكْم ُأّمًة َوا ِتعالىِ} :إ ّ
عِليٌم{ ]المؤمنون .[51 :وجعل ذلك لزمًا لرسوله إلى الموت كما قالَ} :وا ْ
عُبْد ن َ حا ِإّني ِبَما َتْعَمُلو َصاِل ً
عَمُلوا َ ت َوا ْطّيَبا ِ
ال ّ
ك اْلَيِقيُن{ ]الحجر.[99 : حّتى َيْأِتَي َ
ك ََرّب َ
ن{
ل َوُهْم ِبَأْمِرِه َيْعَمُلو َ سِبُقوَنُه ِباْلَقْو ِ
ل َي ْ
نَ .عَباٌد ُمْكَرُمو َ ل ِحاَنُه َب ْ
سْب َ
ن َوَلًدا ُحَما ُخَذ الّر ْوقال في وصف الملئكة بذلكَ} :وَقاُلوا اّت َ
شْيًئا ِإّداَ .تَكاُد
جْئُتْم َ
ن َوَلًداَ .لَقْد ِحَم ُ ن{]النبياء26 :ـ ،[28وقال تعالىَ} :وَقاُلوا اّت َ
خَذ الّر ْ شِفُقو َشَيِتِه ُم ْ
خْ
ن َ إلى قولهَ} :وُهْم ِم ْ
ن ِفيل َم ْن ُك ّ خَذ َوَلًداِ .إ ْ
ن َيّت ِ
ن َأ ْحَم ِن َوَلًداَ .وَما َيْنَبِغي ِللّر ْحَم ِعْوا ِللّر ْ
ن َد َل َهّداَ .أ ْجَبا ُ
خّر اْل ِ ض َوَت ِ لْر ُ ق ا َْشّن ِمْنُه َوَتن َطْر َت َيَتَف ّ
سَماَوا ُ
ال ّ
صاُهْم َوَعّدُهْم َعّداَ .وُكّلُهْم آِتيهِ َيْوَم اْلِقَياَمِة َفْرًدا{ ]مريم 88 :ـ .[95 ح َ عْبًداَ .لَقْد َأ ْ
ن َ
حَم ِ ل آِتي الّر ْ ض ِإ ّلْر ِ ت َوا َْسَماَوا ِ
ال ّ
ل{
سَراِئي َ
ل ِلَبِني ِإ ْ
جَعْلَناُه َمَث ً
عَلْيِه َو َ
عْبٌد َأْنَعْمَنا َ
ل َ للوهية والنبوةِ} :إ ْ
ن ُهَو ِإ ّ وقال تعالى عن المسيح ـ الذي أدعيت فيه ا ُ
]الزخرف[59 :؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح) :ل تطروني كما أطرت النصارى
ل ورسوله(.عيسى /ابن مريم ،فإنما أنا عبد فقولوا :عبد ا ّ
وقد ثبت في الصحيح :أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن السلم قال:
ل ،وتقيم الصلة ،وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ،وتحج البيت إن ل وأن محمًدا رسول ا ّ
)أن تشهد أن ل إله إل ا ّ
ل وملئكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ،وتؤمن ل( .قال :فما اليمان ؟ قال) :أن تؤمن با ّ
استطعت إليه سبي ً
ل كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .ثم قال :في آخربالقدرخيره وشره( .قال :فما الحسان؟ قال )أن تعبد ا ّ
الحديث( :هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم( فجعل هذا كله من الدين.
ل أي :يعبد ا ّ
ل ل ،ويدين ّ
والدين يتضمن معنى الخضوع والذل .يقال :دنته فدان ،أي :ذللته فذل ،ويقال :يدين ا ّ
ل عبادته وطاعته والخضوع له. ويطيعه ويخضع له ،فدين ا ّ
ل قد وطئته القدام.
ضا ـ يقال :طريق معبد إذا كان مذل ً
/والعبادة أصل معناها :الذل ـ أي ً
ومن خضع لنسان مع بغضه له ل يكون عابدًا له ،ولو أحب شيًئا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له ،كما قد يحب ولده
ل أحب إلى العبد من كل شىء ،وأن يكون ل ـ تعالى ـ بل يجب أن يكون ا ّوصديقه؛ ولهذا ل يكفي أحدهما في عبادة ا ّ
ل.
ل أعظم عنده من كل شىء ،بل ل يستحق المحبة والذل التام إل ا ّ ا ّ
ن آَباُؤُكْم ن َكا َ ل ِإ ْل تعالىُ} :ق ْ ل ،قال ا ّ ل كان تعظيمه باط ً ل فمحبته فاسدة ،وما عظم بغير أمر ا ّ وكل ما أحب لغير ا ّ
سوِلِه
ل َوَر ُ ن ا ِّ ب ِإَلْيُكْم ِم ْ
ح ّ
ضْوَنَها َأ َ
ن َتْر َ
ساِك ُ
ساَدَها َوَم َ
ن كَ َ
شْو َ
خَجاَرٌة َت ْ
ل اْقَتَرْفُتُموَها َوِت َ
شيَرُتُكْم َوَأْمَوا ٌعِ جُكْم َو َ
خَواُنُكْم َوَأْزَوا ُ
َوَأْبَناُؤُكْم َوِإ ْ
ل ورسوله ،كالطاعة ،فإن الطاعة ّ
ل ل ِبَأْمِرِه{]التوبة ،[24 :فجنس المحبة تكون ّ ي ا ُّحّتى َيْأِت َصوا َ سِبيِلِه َفَتَرّب ُ
جَهاٍد ِفي َ َو ِ
ل ورسولهَ} :وَلْو َأّنُهْم ضوُه{ ]التوبة ،[62 :واليتاء ّ ن ُيْر ُ ق َأ ْ
حّسوُلُه َأ َ
ل َوَر ُ ل ورسـولهَ} :وا ُّ ورسـوله /والرضـاء ّ
ل َوَرُسوُلُه{ ]التوبة.[59 : ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ َر ُ
ل اْلِكَتابِل َياَأْه َل وحده ،كما قال تعالىُ} :ق ْ وأما العبادة وما يناسبها من التوكل ،والخوف ،ونحو ذلك فل يكون إل ّ
ن َتَوّلْوا َفُقوُلوال َفِإ ْ
ن ا ِّن ُدو ِ ضا َأْرَباًبا ِم ْ
ضَنا َبْع ًخَذ َبْع ُل َيّت ِ
شْيًئا َو َ
ك ِبِه َ
شِر َ
ل ُن ْ
ل َو َ ل ا َّل َنْعُبَد ِإ ّ
سَواٍء َبْيَنَنا َوَبْيَنُكْم َأ ّ
َتَعاَلْوا ِإَلى َكِلَمٍة َ
ل ِم ْ
ن سُيْؤِتيَنا ا ُّ
ل َ سُبَنا ا ُّحْ سوُلُه َوَقاُلوا َ ل َوَر ُ ضوا َما آَتاُهْم ا ُّن{ ]آل عمران ،[ 64 :وقال تعالىَ} :وَلْو َأّنُهْم َر ُ سِلُمو َ
شَهُدوا ِبَأّنا ُم ْ
اْ
عْنُه
خُذوُه َوَما َنَهاُكْم َ ل َف ُ
سو ُ ل والرسول كقولهَ} :وَما آَتاُكْم الّر ُ ل َراِغُبوَن{]التوبة ،[59 :فاليتاء ّ سوُلُه ِإّنا ِإَلى ا ِّ ضِلِه َوَر َُف ْ
جَمُعوا س َقْد َ ن الّنا َ س ِإ ّ
ل َلُهْم الّنا ُ ل وحده ،كما قال تعالى} :اّلِذي َ
ن َقا َ َفاْنَتُهوا{ ]الحشر ،[7 :وأما الحسب وهو الكافي فهو ا ّ
ن اّتَبَع َ
ك ل َوَم ْ ك ا ُّ
سُب َ حْ ي َ ل{ ]آل عمران ،[173 :وقال تعالىَ} :ياَأّيَها الّنِب ّ ل َوِنْعَم اْلَوِكي ُ
سُبَنا ا ُّحْ شْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا َوَقاُلوا َ َلُكْم َفاخْ َ
ل.
ِمْن اْلُمْؤِمِنيَن{ ]النفال ،[64 :أي :حسبك وحسب من اتبعك ا ّ
ل،
ل فذل ودبره /وصرفه ،وبهذا العتبار المخلوقون كلهم عباد ا ّ وتحرير ذلك :أن العبد يراد به المعبد الذي عبده ا ّ
من البرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار ،إذ هو ربهم كلهم ومليكهم ،ل يخرجون عن مشيئته
وقدرته ،وكلماته التامات التي ل يجاوزهن بر ول فاجر ،فما شاء كان وإن لم يشاؤوا .وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن،
طْوًعا َوَكْرًها َوِإَلْيِه ُيْرَجُعوَن{ ]آل عمران.[83 :
ض َ
لْر ِ
ت َوا َْ
سَماَوا ِ
ن ِفي ال ّ
سَلَم َم ْ
ن َوَلُه َأ ْ
ل َيْبُغو َ كما قال تعالىَ} :أَفَغْيَر ِدي ِ
ن ا ِّ
فهو ـ سبحانه ـ رب العالمين وخالقهم ،ورازقهم ،ومحييهم ،ومميتهم ،ومقلب قلوبهم ،ومصرف أمورهم ،ل رب لهم
غيره ،ول مالك لهم سواه ،ول خالق إل هو سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه ،وسواء علموا ذلك أو جهلوه ،لكن أهل
ل بذلك ،أو جاحدًا له مستكبرًا على ربه ل يقر ول يخضع
اليمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به ،بخلف من كان جاه ً
ل ربه وخالقه.
له ،مع علمه بأن ا ّ
حُدوا ِبَها
جَفالمعرفة بالحق إذا كانت مع الستكبار عن قبوله والجحد له كان عذابًا على صاحبه ،كما قال تعالىَ} :و َ
ب َيْعِرُفوَنُه َكَما
ن آَتْيَناُهْم اْلِكَتا َن{ ]النمل ،[14 :وقال تعالى} :اّلِذي َسِدي َ
عاِقَبُة اْلُمْف ِ
ن َ
ف َكا َظْر َكْي َعُلّوا َفان ُ ظْلًما َو ُ
سُهْم ُ سَتْيَقَنْتَها َأْنُف ُ
َوا ْ
ظاِلِمي َ
ن ن ال ّك َوَلِك ّ
ل ُيَكّذُبوَن َ ن{]البقرة ،[146 :وقال تعالىَ} :فِإّنُهْم َ ق َوُهْم َيْعَلُمو َحّن اْل َ
ن َفِريًقا ِمْنُهْم َلَيْكُتُمو َ
ن َأْبَناَءُهْم َوِإ َّيْعِرُفو َ
ل َيْجَحُدوَن{ ]النعام.[33 : ت ا ِّ ِبآَيا ِ
وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها ،يشهد هذه الحقيقة وهي الحقيقة الكونية ،التي يشترك فيها وفي شهودها
ظْرِنيب َفَأْن ِ
ل َر ّ ومعرفتها المؤمن ،والكافر ،والبر ،والفاجر ،وإبليس معترف بهذه الحقيقة ،وأهل النار .قال إبليسَ} :قا َ
ض َوَُلْغِوَيّنُهْم َأْجَمِعيَن{]الحجر،[39 : لْر ِ ن َلُهْم ِفي ا َْ لَزّيَن ّ
غَوْيَتِني َُب ِبَما َأ ْ ن{]الحجر ،[36 :وقالَ} :قا َ
ل َر ّ ِإَلى َيْوِم ُيْبَعُثو َ
ي{ ]السراء ،[62 :وأمثال هذا من عَل ّ
ت َ
ك َهَذا اّلِذي كَّرْم َ ن{ ]ص ،[82 :وقالَ} :أَرَأْيَت َ جَمِعي َ
غِوَيّنُهْم َأ ْ
لْ وقالَ} :فِبِعّزِت َ
ك َُ
شْقَوُتَنا َوُكّنا َقْوًما
عَلْيَنا ِ
ت َ ل ربه وخالقه وخالق غيره ،وكذلك أهل النار قالواَ} :قاُلوا َرّبَنا َ
غَلَب ْ الخطاب الذي يقر فيه بأن ا ّ
ق َقاُلوا َبَلى َوَرّبَنا{ ]النعام.[30 : حّس َهَذا ِباْل َل َأَلْي َ
عَلى َرّبِهْم َقا َ ن{ ]المؤمنون ،[106 :وقال تعالىَ} :وَلْو َتَرى ِإْذ ُوِقُفوا َ ضاّلي َ
َ
فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها ،ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته،
ل ،وأهل وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار ،وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء ا ّ
المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم المر والنهي الشرعيان ،كان من أشر أهل الكفر واللحاد.
ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم المر لمشاهدة الرادة ،ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين بالّ
ل ل يعبد إل إياه ،فيطيع
ورسوله .حتى يدخل في النوع الثاني ،من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابدًا ّ
أمره وأمر رسله ،ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين ،ويعادي أعداءه ،وهذه العبادة متعلقة بإلهيته؛ ولهذا كان عنوان
ل بخلف من يقر بربوبيته ول يعبده ،أو يعبد معه إلًها آخر ،فالله الذي يألهه القلب بكمال الحب التوحيد ل إله إل ا ّ
ل ويرضاها ،وبها وصف والتعظيم والجلل والكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك ،وهذه العبادة هي التي يحبها ا ّ
المصطفين من عباده ،وبها بعث رسله.
وأما العبد ،بمعنى المعبد ،سواء أقر بذلك أو أنكره ،فتلك يشترك /فيها المؤمن والكافر .وبالفرق بين هذيـن النوعين
ل ودينه وأمره الشرعي ،التي يحبها ويرضاها ،ويوالى أهلها، يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة ا ّ
ويكرمهم بجنته ،وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر ،والبر والفاجر التي من اكتفى بها ،ولم يتبع
الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين ،والكافرين برب العالمين ،ومن اكتفى بها في بعض المور دون بعض،
ل ،بحسب ما نقص من الحقائق الدينية. أو في مقام أو حال نقص من إيمانه ووليته ّ
وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون ،وكثر فيه الشتباه على السالكين ،حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين
ل الذي يعلم السر والعلن ،وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر ـ التحقيق ،والتوحيد ،والعرفان ما ل يحصيهم إل ا ّ
ل ـ فيما ذكر عنه ،فبين أن كثيرًا من الرجال ،إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إل أنا فإني انفتحت لي
رحمه ا ّ
فيه روزنة ،فنازعت أقدار الحق بالحق للحق ،والرجل من يكون منازعًا للقدر ،ل من يكون موافقًا للقدر.
ل به ورسوله ،لكن كثيرًا من الرجال غلطوا ،فإنهم قد يشهدون ما ل ـ هو الذي أمر ا ّ والذي ذكره الشيخ ـ رحمه ا ّ
يقدر على أحدهم من المعاصي والذنوب ،أو ما يقدر على الناس من ذلك ،بل من الكفر ،ويشهدون أن هذا جار بمشيئة
ل ،وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته / ،فيظنون الستسلم لذلك وموافقته والرضا به ،ونحو ا ّ
يٍء{
ش ْ
ن َ
حّرْمَنا ِم ْ
ل َ
ل آَباُؤَنا َو َ
شَرْكَنا َو َ
ل َما َأ ْ ذلك ،دينًا وطريقًا وعبادة ،فيضاهون المشركين الذين قالواَ} :لْو َ
شاَء ا ُّ
طَعَمُه{ ]يس ،[47 :وقالواَ} :لْو َشاَء الّرْحَماُن َما َعَبْدَناُهْم{ ]الزخرف: ل َأ ْ
شاُء ا ُّ
ن َلْو َي َ ]النعام ،[148 :وقالواَ} :أُن ْ
طِعُم َم ْ
.[20
ولو هدوا؛ لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب ،التي تصيبنا ،كالفقر والمرض
ل َيْهِد َقْلَبُه{ ]التغابن .[11 :وقال بعض السلف :هو ن ِبا ِّ
ن ُيْؤِم ْ
ل َوَم ْ ن ا ِّل ِبِإْذ ِ
صيَبٍة ِإ ّ
ن ُم ِ ب ِم ْصا َ والخوف ،قال تعالىَ} :ما َأ َ
ل ِفي
ض َو َ
لْر ِ
صيَبٍة ِفي ا َْ
ن ُم ِ
ب ِم ْ ل فيرضى ويسلم ،وقال تعالىَ} :ما َأ َ
صا َ الرجل تصيبه المصيبة ،فيعلم أنها من عند ا ّ
ل َتْأَسْوا َعَلى َما َفاَتُكْم َوَل َتْفَرُحوا ِبَما آَتاُكْم{ ]الحديد.[23 ،22 :سيٌرِ .لَكْي َ ل َي ِ
عَلى ا ِّ ك َ ن َذِل َ
ن َنْبَرَأَها ِإ ّ
ل َأ ْ
ن َقْب ِ
ب ِم ْ
ل ِفي ِكَتا ٍ
سُكْم ِإ ّ
َأْنُف ِ
وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :احتج آدم وموسى ،فقال موسى :أنت آدم الذي خلقك الّ
بيده ،ونفخ فيك من روحه ،وأسجد لك ملئكته ،وعلمك أسماء كل شيء ،فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم:
ل برسالته وبكلمه ،فهل وجدت ذلك مكتوبًا علي قبل أن أخلق ؟قال :نعم .قال :فحج آدم
أنت موسى الذي اصطفاك ا ّ
موسى(.
/وآدم ـ عليه السلم ـ لم يحتج على موسى بالقدر ،ظًنا أن المذنب يحتج بالقدر ،فإن هذا ل يقوله مسلم ول عاقل ،ولو
كان هذا عذرًا لكان عذرا لبليس ،وقوم نوح ،وقوم هود ،وكل كافر ،ول موسى لم آدم أيضًا؛ لجل الذنب ،فإن آدم
قد تاب إلى ربه ،فاجتباه وهدى ،ولكن لمه؛ لجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة؛ ولهذا قال :فلماذا أخرجتنا ونفسك
من الجنة؟ فأجابه آدم أن هذا كان مكتوًبا قبل أن أخلق ،فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدرًا ،وما قدر من
ل ربًا.
المصائب يجب الستسلم له ،فإنه من تمام الرضا با ّ
وأما الذنوب ،فليس للعبد أن يذنب ،وإذا أذنب ،فعليه أن يستغفر ويتوب ،فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب.
شْيًئا{ل َيضُّرُكْم َكْيُدُهْم َ
صِبُروا َوَتّتُقوا َ ك{ ]غافر ،[55 :وقال تعالىَ} :وِإ ْ
ن َت ْ سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ
ق َوا ْ
حّل َ عَد ا ِّ
ن َو ْ قال تعالىَ} :فا ْ
صِبْر ِإ ّ
لُموِر{ ]آل عمران ،[186 :وقال يوسفِ} :إّنُه َم ْ
ن َيّتقِ عْزِم ا ُْ
ن َ
ك ِم ْ
ن َذِل َ
صِبُروا َوَتّتُقوا َفِإ ّ ]آل عمران ،[120 :وقالَ} :وِإ ْ
ن َت ْ
ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]يوسف.[90 : ل ُي ِل َن ا َّ
صِبْر َفِإ ّ
َوَي ْ
وكذلك ذنوب العباد ،يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف ،وينهى عن المنكر ـ بحسب قدرته ـ ويجاهد في سبيل
ل .كما قال تعالىَ} :ياَأّيَها ل ،ويبغض في ا ّ ل ،ويحب في ا ّ ل ،ويعادي أعداء ا ّ ل الكفار والمنافقين ،ويوالى أولياء ا ّ ا ّ
ن َمَعُه ِإْذ
سَنٌة ِفي ِإْبَراِهيَم َواّلِذي َ
حَسَوٌة َ ن ِإَلْيِهْم ِباْلَمَوّدِة{ إلى قولهَ} :قْد َكاَن ْ
ت َلُكْم ُأ ْ عُدّوُكْم َأْوِلَياَء ُتْلُقو َ
عُدّوي َو َ
خُذوا َ
ل َتّت ِ
ن آَمُنوا َ
اّلِذي َ
حَدُه{ل َو ْحّتى ُتْؤِمُنوا ِبا ِّ ضاُء َأَبًدا َ ل َكَفْرَنا ِبُكْم َوَبَدا َبْيَنَنا َوَبْيَنُكمْ اْلَعَداَوةُ َواْلَبْغ َ
ن ا ِّ
ن ُدو ِ ن ِم َْقاُلوا ِلَقوِْمِهْم ِإّنا ُبَرآُء ِمْنُكْم َوِمّما َتْعُبُدو َ
سوَلُه{ إلى قولهُ} :أْوَلِئ َ
ك َكَتبَ ل َوَر ُ حاّد ا َّ ن َن َم ْ خِر ُيَواّدو َ لِل َواْلَيْوِم ا ْ ن ِبا ِّ
جُد َقْوًما ُيْؤِمُنو َ ]الممتحنة1 :ـ ،[4وقال تعالىَ } :
ل َت ِ
ن{ ]القلم ،[53 :وقالَ} :أْم جِرِمي َ ن َكاْلُم ْسِلِمي َ
ل اْلُم ْ
جَع ُ ح ِمْنُه{ ]المجادلة ،[22 :وقال تعالىَ} :أَفَن ْ ن َوَأّيَدُهْم ِبُرو ٍ ليَما َِفي ُقُلوِبِهْم ا ِْ
ب اّلِذي َ
ن س َحِ جاِر{ ]ص ،[28 :وقال تعالىَ} :أْم َ ن َكاْلُف ّل اْلُمّتِقي َ جَع ُض َأْم َن ْلْر ِ ن ِفي ا َْ سِدي َت َكاْلُمْف ِحا ِصاِل َ عِمُلوا ال ّ ن آَمُنوا َو َ ل اّلِذي َ
جَع َُن ْ
ت َسَواًء َمْحَياُهْم َوَمَماُتُهْم َساَء َما َيْحُكُموَن{ ]الجاثية ،[21 :وقال حا ِصاِل َعِمُلوا ال ّ ن آَمُنوا َو َ جَعَلُهْم َكاّلِذي َن َن ْت َأ ْسّيَئا ِحوا ال ّ جَتَر ُ
اْ
ت{]فاطر: لْمَوا ُ ل ا َْحَياُء َو َ
لْ سَتِوي ا َْ حُروُرَ .وَما َي ْ ل اْل َ ل َو َ ظّل ال ّ ل الّنوُرَ .و َ ت َو َ ظُلَما ُل ال ّصيُرَ .و َ عَمى َواْلَب ِ لْ سَتِوي ا َْ تعالىَ} :وَما َي ْ
ل{ ]الزمر،[29 : ن َمَث ً
سَتِوَيا ِ
ل َي ْل َه ْ جٍ سَلًما ِلَر ُ
ل َ جً ن َوَر ُ سو َ شاِك ُ شَرَكاُء ُمَت َ ل ِفيِه ُجً ل َر ُ ل َمَث ً ب ا ُّ
ضَر َ 19ـ ،[22وقال تعالىَ } :
جَلْي ِ
ن ل َر ُ ل َمَث ً ب ا ُّضَر َ نَ .و َ ل َيْعَلُمو َ ل َأْكَثُرُهْم َ يٍء{ إلى قولهَ} :ب ْ ش ْ
عَلى َ ل َيْقِدُر َ
عْبًدا َمْمُلوًكا َ ل َ ل َمَث ًب ا ُّ ضَر َ وقال تعالىَ } :
حا ُ
ب صَسَتِوي َأ ْ ل َي ْ سَتِقيٍم{]النحل ،[76 ،75 :وقال تعالىَ } : ط ُم ْ صَرا ٍ عَلى ِ يٍء{ إلى قولهَ} :وُهَو َ ش ْ
عَلى َ ل َيْقِدُر َ حُدُهَما َأْبَكُم ََأ َ
ب اْلَجّنِة ُهْم اْلَفاِئُزوَن{ ]الحشر.[20 : حا ُ صَ جّنِة َأ ْ ب اْل َحا ُ صَالّناِر َوَأ ْ
ل فيه بين أهل الحق ،والباطل ،وأهل الطاعة ،وأهل /المعصية ،وأهل البر ،وأهل الفجور،
ونظائر ذلك ،مما يفرق ا ّ
وأهل الهدى ،والضلل ،وأهل الغي ،والرشاد ،وأهل الصدق والكذب.
ل بينها غاية التفريق ،حتى يؤول فمن شهد الحقيقة الكونية ،دون الدينية سوى بين هذه الجناس المختلفة التي فرق ا ّ
ن{
ب اْلَعاَلِمي َ
سّويُكْم ِبَر ّ
نِ .إْذ ُن َ
ل ُمِبي ٍ
لٍ
ضَن ُكّنا َلِفي َ ل بالصنام ،كما قال تعالى عنهمَ} :تا ِّ
ل ِإ ْ به المر إلى أن يسوى ا ّ
ل بكل موجود ،وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقًا ]الشعراء [98 ،97 :بل قد آل المر بهؤلء إلى أن سووا ا ّ
لكل موجود ،إذ جعلوه هو وجود المخلوقات ،وهذا من أعظم الكفر واللحاد برب العباد.
وهؤلء يصل بهم الكفر إلى أنهم ل يشهدون أنهم عباد ل بمعنى أنهم معبدون ،ول بمعنى أنهم عابدون ،إذ يشهدون
أنفسهم هي الحق ،كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب [الفصوص] ،وأمثاله من الملحدين المفترين ،كابن
سبعين وأمثاله ،ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون ،وهذا ليس بشهود الحقيقة ،ل كونية ول دينية ،بل هو ضلل
وعمى عن شهود الحقيقة الكونية ،حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق ،وجعلوا كل وصف مذموم ،وممدوح
نعًتا للخالق والمخلوق ،إذ وجود هذا ،هو وجود هذا عندهم.
ل ورسوله ،عوامهم وخواصهم ،الذين هم أهل الكتاب ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :إن لّ /وأما المؤمنون با ّ
ل رب كل ل ،وخاصته(.فهؤلء يعلمون أن ا ّل ؟ قال) :أهل القرآن هم أهل ا ّ
أهلين من الناس( قيل :من هم يا رسول ا ّ
ل فيه ول متحدًا به ول وجوده وجوده.
شيء ومليكه وخالقه ،وأن الخالق ـ سبحانه ـ مباين للمخلوق ،ليس هو حا ً
ل بأن قالوا بالحلول والتحاد بالمسيح خاصة ،فكيف من جعل ذلك عاًما في كل مخلوق؟.
والنصارى ،كفرهم ا ّ
ل أمر بطاعته ،وطاعة رسوله ،ونهى عن معصيته ،ومعصية رسوله ،وأنه ل يحب الفساد، ويعلمون مع ذلك أن ا ّ
ول يرضى لعباده الكفر ،وإن على الخلق أن يعبدوه ،فيطيعوا أمره ويستعينوا به على ذلك ،كما قالِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد َوِإّياكَ
َنْسَتِعيُن{]الفاتحة.[5 :
ومن عبادته وطاعته :المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ـ بحسب المكان ـ والجهاد في سبيله ،لهل الكفر
والنفاق .فيجتهدون في إقامة دينه ،مستعينين به ،دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات ،دافعين بذلك ما قد يخاف
من ذلك ،كما يزيل النسان الجوع الحاضر بالكل ،ويدفع به الجوع المستقبل ،وكذلك ،إذا آن أوان البرد /دفعه
ل ،أرأيت أدوية نتداوىباللباس ،وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه .كما قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم :يا رسول ا ّ
ل( .وفي الحديث) :إن الدعاء ل شيًئا؟ فقال) :هي من قدر ا ّ
بها ،ورقى نسترقى بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر ا ّ
ل وكل ذلك من العبادة.ل ورسوله العابدين ّوالبلء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والرض( .فهذا حال المؤمنين با ّ
وهؤلء الذين يشهدون الحقيقة الكونية ،وهي ربوبيته ـ تعالى ـ لكل شيء ،ويجعلون ذلك مانعًا من اتباع أمره الديني
الشرعي على مراتب في الضلل.
فغلتهم يجعلون ذلك مطلًقا عامًا ،فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة ،وقول هؤلء شر من قول اليهود
يٍء{]النعام:
ش ْ
ن َ
حّرْمَنا ِم ْ
ل َ
ل آَباُؤَنا َو َ
شَرْكَنا َو َ
ل َما َأ ْ والنصارى ،وهو من جنس قول المشركين الذين قالواَ} :لْو َ
شاَء ا ُّ
،[148وقالواَ} :لْو َشاَء الّرْحَماُن َما َعَبْدَناُهْم{ ]الزخرف.[20 :
وهؤلء من أعظم أهل الرض تناقضًا ،بل كل من احتج بالقدر ،فإنه متناقض ،فإنه ل يمكن أن يقر كل آدمي على ما
فعل ،فلبد إذا ظلمه ظالم ،أو ظلم الناس ظالم ،وسعى في الرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج
ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من /أنواع الضرر التي ل قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر ،وأن يعاقب الظالم بما
يكف عدوان أمثاله .فيقال له :إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك ،وإن لم يكن حجة بطل أصل
قولك :حجة .وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية ليطردون هذا القول ول يلتزمونه ،وإنما هم بحسب
آرائهم وأهوائهم ،كما قال فيهم بعض العلماء :أنت عند الطاعة قدري ،وعند المعصية جبري ،أي مذهب وافق هواك
تمذهبت به.
وقد يقولون :من شهد الرادة ،سقط عنه التكليف ،ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الرادة،
ل خالق أفعال العباد ،وأنه يدبر
فهؤلء ل يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية ،فشهدوا أن ا ّ
جميع الكائنات ،وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علمًا ،وبين من يراه شهودًا ،فل يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك
ل ،وهؤلء ل يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعًا من ل أص ًويعلمه فقط ،ولكن عمن /يشهده ،فل يرى لنفسه فع ً
التكليف على هذا الوجه.
وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد .
وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم ،عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلفه ،كما ضاق نطاق المعتزلة ،ونحوهم من
ل العامة وخلقه
القدرية عن ذلك .ثم المعتزلة أثبتت المر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة ا ّ
لفعال العباد ،وهؤلء أثبتوا القضاء والقدر ،ونفوا المر والنهي ،في حق من شهد القدر ،إذ لم يمكنهم نفي ذلك
مطلًقا .وقول هؤلء شر من قول المعتزلة؛ ولهذا لم يكن في السلف من هؤلء أحد ،وهؤلء يجعلون المر والنهي
للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية؛ ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه المر
والنهي ،وصار من الخاصة.
ك اْلَيِقيُن{]الحجر ،[99 :وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة،
حّتى َيْأِتَي َ
ك َ وربما تأولوا على ذلك قوله تعالىَ} :وا ْ
عُبْد َرّب َ
وقول هؤلء كفر صريح .وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر ،فإنه قد علم بالضطرار من دين السلم ،أن المر
والنهي لزم لكل عبد ما دام عقله حاضرًا إلى /أن يموت ،ل يسقط عنه المر والنهي ،ل بشهوده القدر ،ول بغير
ذلك ،فمن لم يعرف ذلك عرفه ،وبين له فإن أصر على اعتقاد سقوط المر والنهي فإنه يقتل .وقد كثرت مثل هذه
المقالت في المستأخرين.
وأما المستقدمون من هذه المة ،فلم تكن هذه المقالت معروفة فيهم.
ل ورسوله ،ومعاداة له ،وصد عن سبيله ،ومشاقة له ،وتكذيب لرسله ،ومضادة له في
وهذه المقالت هي محادة ّ
حكمه ،وإن كان من يقول هذه المقالت قد يجهل ذلك ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول ،وطريق أولياء
ل المحققين ،فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلة ل تجب عليه؛ لستغنائه عنها بما حصل له من الحوال
ا ّ
القلبية ،أو أن الخمر حلل له؛ لكونه من الخواص الذين ل يضرهم شرب الخمر ،أو أن الفاحشة حلل له؛ لنه صار
كالبحر ل تكدره الذنوب ،ونحو ذلك.
ل ،وبين الحتجاج بالقدر على ول ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع ا ّ
ل .فهؤلء الصناف /فيهم شبه من المشركين ،إما أن يبتدعوا ،وإما أن يحتجوا بالقدر ،وإما أن يجمعوا مخالفة أمر ا ّ
ل َيْأُمُر
ل َن ا َّ
ل ِإ ّ
ل َأَمَرَنا ِبَها ُق ْ
عَلْيَها آَباَءَنا َوا ُّ
جدَْنا َ
شًة َقاُلوا َو َ
حَبين المرين .كما قال تعالى عن المشركينَ} :وِإَذا َفَعُلوا َفا ِ
ل َما شاَء ا ُّ
شَرُكوا َلْو َ ن َأ ْ
ل اّلِذي َ ن{ ] العراف ،[ 28 :وكما قال تعالى عنهمَ } :
سَيُقو ُ ل َتْعَلُمو َ
ل َما َ عَلى ا ِّ
ن َشاِء َأَتُقوُلو َ
حَ ِباْلَف ْ
يٍء{ ] النعام.[148 : ش ْ ن َ حّرْمَنا ِم ْ
ل َل آَباُؤَنا َو َ
شَرْكَنا َو ََأ ْ
/وهؤلء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة ،كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة .وطريق الحقيقة عندهم هو
السلوك الذي ل يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه ،ولكن بما يراه ويذوقه ويجده ،ونحو ذلك .وهؤلء ل يحتجون
بالقدر مطلًقا ،بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم ،وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة ،وأمرهم باتباعها ،دون اتباع أمر
ل ورسوله ،نظير بدع أهل الكلم من الجهمية ،وغيرهم ،الذين يجعلون ما ابتدعوه من القوال المخالفة للكتاب ا ّ
والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها ،دون ما دلت عليه السمعيات .ثم الكتاب والسنة ،إما أن يحرفوه عن مواضعه،
ل ،مع اعتقادهم نقيض وإما أن يعرضوا عنه بالكلية ،فل يتدبرونه ول يعقلونه ،بل يقولون :نفوض معناه إلى ا ّ
مدلوله .وإذا حقق على هؤلء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة ،وجدت جهليات واعتقادات فاسدة.
ل ،فإن
ل ،واختياره الهوي على اتباع أمر ا ّ
وأصل ضلل من ضل ،هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند ا ّ
الذوق والوجد ونحو ذلك ،هو بحسب ما يحبه العبد ،فكل محب له ذوق ،ووجد بحسب محبته .فأهل اليمان لهم من
الذوق والوجد مثل ما بينه النبي صلى ال عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح) :ثلث من كن فيه وجد حلوة
ل ،ومن كان يكره أن يرجع ل ورسوله أحب إليه مما /سواهما ،ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ اليمان :من كان ا ّ
ل منه ،كما يكره أن يلقى في النار( .وقال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح) :ذاق طعم في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ
ل ربًا ،وبالسلم دينًا ،وبمحمد نبيًا(.
اليمان من رضى با ّ
وأما أهل الكفر والبدع والشهوات ،فكل بحسبه ،قيل لسفيان بن عيينة :ما بال أهل الهواء لهم محبة شديدة لهوائهم؟!
فقال :أنسيت قوله تعالىَ} :وُأْشِرُبوا ِفي ُقُلوِبِهْم اْلِعْجَل ِبُكْفِرِهْم{ ]البقرة[93 :؟! ،أو نحو هذا من الكلم .فعباد الصنام
ل{ ]البقرة:
حّبا ِّ
شّد ُ
ن آَمُنوا َأ َ
ل َواّلِذي َ
ب ا ِّ
ح ّحّبوَنُهْم َك ُل َأنَداًدا ُي ِ
ن ا ِّ
ن ُدو ِخُذ ِم ْن َيّت ِ
س َم ْ
ن الّنا ِ يحبون آلهتهم ،كما قال تعالىَ} :وِم ْ
ل{ ]القصص،[50 : ن ا ِّ
ن اّتَبَع َهَواُه ِبَغْيِر ُهًدى ِم ْل ِممّ ْضّ ن َأ َ ن َأْهَواَءُهْم َوَم ْ
عَلْم َأّنَما َيّتِبُعو َ
ك َفا ْ
جيُبوا َل َ
سَت ِ ،[165وقالَ} :فِإ ْ
ن َلْم َي ْ
س َوَلَقْد َجاَءُهْم ِمْن َرّبِهْم اْلُهَدى{ ]النجم[23 :؛ ولهذا يميل هؤلء إلى سماع لْنُف ُ ن َوَما َتْهَوى ا َْظّ ل ال ّ ن ِإ ّ وقالِ} :إ ْ
ن َيّتِبُعو َ
الشعر والصوات التي تهيج المحبة المطلقة ،التي ل تختص بأهل اليمان ،بل يشترك فيها محب الرحمن ،ومحب
الوثان ،ومحب الصلبان ،ومحب الوطان ،ومحب الخوان ،ومحب المردان ،ومحب النسوان .وهؤلء الذين يتبعون
أذواقهم ،ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة ،وما كان عليه سلف المة.
ل ،كما قال تعالىُ} :ثّم فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته ،وطاعة رسوله ل يكون متبعًا لدين ،شرعه ا ّ
ي شْيًئا{ إلى قولهَ} :وا ُّ
ل َوِل ّ ل َ ن ا ِّ ك ِم ْ
عن َ
ن ُيْغُنوا َ
ن ِ .إّنُهْم َل ْ
ل َيْعَلُمو َ
ن َ
ل َتّتِبْع َأْهَواَء اّلِذي َ
لْمِر َفاّتِبْعَها َو َ
ن ا َْ
شِريَعٍة ِم ْ
عَلى َ ك َ جَعْلَنا ََ
ن َمان الّدي ِ
عوا َلُهْم ِم ْ
شَر ُ ل ،قال تعالىَ} :أْم َلُهْم ُ
شَرَكاُء َ اْلُمّتِقيَن{ ] الجاثية ،[18 ،17 :بل يكون متبعًا لهواه بغير هدى من ا ّ
ل،ل{ ]الشورى ،[21 :وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه ا ّ ن ِبِه ا ُّ
َلْم َيْأَذ ْ
ل به عن المشركين ،كما تقدم.
وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة ،كما أخبر ا ّ
ومن هؤلء طائفة هم أعلهم قدرًا ،وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة ،واجتناب المحرمات
المشهورة ،لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من السباب التي هي عبادة ،ظانين أن العارف إذا شهد ] القدر[
أعرض عن ذلك ،مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء ،ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة ،بناء على أن من
ل قدر الشياء بأسبابها كما قدر السعادةشهد القدر علم أن ما قدر سيكون ،فل حاجة إلى ذلك ،وهذا غلط عظيم .فإن ا ّ
ل خلق للجنة أهل ،خلقها لهم وهم في أصلب آبائهم، والشقاوة بأسبابها ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :إن ا ّ
ل كتب المقادير فقالوا :يا رسولوبعمل أهل الجنة يعملون( ،وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم لما أخبرهم بأن ا ّ
ل ،أفل ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال) :ل ،اعملوا فكل ميسر لما خلق له ،أما من كان من أهل السعادة، ا ّ
فسييسر لعمل أهل السعادة ،وأما من كان من أهل الشقاوة ،فسييسر لعمل أهل الشقاوة(.
ل به عباده من السباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالىَ} :فاْعُبْدهُ َوَتَوّكْل َعَلْيِه{ ]هود: /فما أمر ا ّ
ب{ ]الرعد ،[30 :وقول شعيب ـ عليه السلم ـَ } :
عَلْيِه ت َوِإَلْيِه َمَتا ِ
عَلْيِه َتَوّكْل ُ
ل ُهَو َ
ل ِإَلَه ِإ ّ ،[123وفي قولهُ} :ق ْ
ل ُهَو َرّبي َ
ب{ ]هود.[88 : ت َوِإَلْيِه ُأِني ُ
َتَوّكْل ُ
ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من العمال دون الواجبات ،فتنقص بقدر ذلك.
ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة ،أو استجابة دعوة مخالفة العادة العامة ،ونحو ذلك،
فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة ،والشكر ،ونحو ذلك.
ل الذي بعث بهفهذه المور ونحوها كثيرًا ما تعرض لهل السلوك والتوجه ،وإنما ينجو العبد منها بملزمة أمر ا ّ
رسوله في كل وقت .كما قال الزهري :كان من مضى من سلفنا يقولون :العتصام بالسنة نجاة .وذلك أن السنة ـ كما
ل ـ مثل سفينة نوح من ركبها نجا ،ومن تخلف عنها غرق. قال مالك رحمه ا ّ
والعبادة ،والطاعة ،والستقامة ،ولزوم الصراط المستقيم ،ونحو ذلك من السماء مقصودها واحد ،ولها أصلن:
ل.
/أحدهما :أل يعبد إل ا ّ
حا َولَ
صاِل ً
ل َ عَم ً ل َ جوا ِلَقاَء َرّبِه َفْلَيْعَم ْن َيْر ُ
ن َكا َوالثاني :أن يعبد بما أمر وشرع ل بغير ذلك من البدع .قال تعالىَ} :فَم ْ
عَلْيِهْم
ف َخْو ٌ ل َ
عْنَد َرّبِه َو َ جُرُه ِ ن َفَلُه َأ ْ
سٌحِل َوُهَو ُم ْجَهُه ِّ سَلَم َو ْ حًدا{ ]الكهف ،[110 :وقال تعالىَ} :بَلى َم ْ
ن َأ ْ ك ِبِعَباَدِة َرّبِه َأ َ
شِر ْ ُي ْ
خَذحِنيًفا َواّت َ
ن َواّتَبَع ِمّلَة ِإْبَراِهيَم َسٌ حِ ل َوُهَو ُم ْجَهُه ِّسَلمَ َو ْ
ن َأ ْ
ن ِديًنا ِمّم ْ
سُ
حَ ن{ ]البقرة ،[112 :وقال تعالىَ} :وَم ْ
ن َأ ْ حَزُنو َ ل ُهْم َي َْو َ
ل{ ]النساء ،[125 :فالعمل الصالح هو الحسان وهو فعل الحسنات .والحسنات ،هي ما أحبه ا ّ
ل خِلي ًل ِإْبَراِهيَم َ ا ُّ
ورسوله ،وهو ما أمر به أمر إىجاب ،أو استحباب ،فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة ،فإن ا ّ
ل
ليحبها ول رسوله ،فل تكون من الحسنات ،ول من العمل الصالح ،كما أن من يعمل ما ليجوز كالفواحش ،والظلم
ليس من الحسنات ،ول من العمل الصالح.
ل وحده ،وكان عمر بن الخطاب ل{ ،فهو إخلص الدين ّ جَهُه ِّ حًدا{ وقولهَ} :أ ْ
سَلَم َو ْ ك ِبِعَباَدِة َرّبِه َأ َ
شِر ْ وأما قولهَ} :و َ
ل ُي ْ
يقول :اللهم اجعل عملي كله صالحًا ،واجعله لوجهك خالصًا ،ول تجعل لحد فيه شيئًا.
ل{ ]هود ،7 :الملك ،[2 :قال :أخلصه ،وأصوبه .قالوا :يا أبا عَم ً
ن َ
سُوقال الفضيل بن عياض في قولهِ} :لَيْبُلَوُكْم َأّيُكْم َأ ْ
حَ
على ،ما أخلصه وأصوبه؟ قال / :إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل ،وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا
ل ،والصواب أن يكون على السنة. لم يقبل ،حتى يكون خالصًا صوابًا ،والخالص أن يكون ّ
ن{
سَتِعي ُ
ك َن ْ ل في اسم العبادة ،فلماذا عطف عليها غيرها ،كقولهِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد َوِإّيا َ ل داخ ًفإن قيل :فإذا كان جميع ما يحبه ا ّ
طيُعوِني{ ]نوح،[3 : ل َواّتُقوهُ َوَأ ِ
عُبُدوا ا َّ عَلْيِه{ ]هود ،[123 :وقال نوحَ} :أ ْ
نا ْ ل َ ]الفاتحة ،[5 :وقولهَ} :فا ْ
عُبْدُه َوَتَوّك ْ
لَة َتْنَهى َعْن اْلَفْحَشاِء َواْلُمْنَكِر{ ]العنكبوت: صَن ال ّوكذلك قول غيره من الرسل .قيل :هذا له نظائر ،كما في قولهِ} :إ ّ
شاِء َواْلُمنَكِر حَ ن اْلَف ْ
عْ
ن َوِإيَتاِء ِذي اْلُقْرَبى َوَيْنَهى َ
سا ِ
حَ لْل َوا ِ
ل َيْأُمُر ِباْلَعْد ِ ،[45والفحشاء من المنكر ،وكذلك قولهِ} :إ ّ
ن ا َّ
ي{ ]النحل ،[90 :وإيتاء ذي القربى هو من العدل والحسان ،كما أن الفحشاء والبغي من المنكر ،وكذلك قوله: َواْلَبْغ ِ
لَة{ ]العراف ،[170 :وإقامة الصلة من أعظم التمسك بالكتاب ،وكذلك قوله: صَ ب َوَأَقاُموا ال ّ ن ِباْلِكَتا ِ
سُكو َن ُيَم ّ
}َواّلِذي َ
ت َوَيْدُعوَنَنا َرَغًبا َوَرَهًبا{ ]النبياء ،[90 :ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات ،وأمثال ذلك خْيَرا ِ ن ِفي اْل َعو َ ساِر ُ
}ِإّنُهْم َكاُنوا ُي َ
في القرآن كثير.
صا له بالذكر ؛ لكونه مطلوبًا بالمعنى العام، وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الخر ،فيعطف عليه تخصي ً
والمعنى الخاص ،وتارة تكون دللة السم تتنوع بحال النفراد والقتران ،فإذا أفرد عم ،وإذا قرن بغيره خص ،كاسم
ل{ ]البقرة ،[273 :وقولهَ} :فَكّفاَرُتُه ل ا ِّ
سِبي ِ
صُروا ِفي َ
ح ِ الفقير ،والمسكين لما /أفرد أحدهما في مثل قولهِ} :للُفَقَراِء اّلِذي َ
ن ُأ ْ
ن{ساِكي ِ
ت ِلْلُفَقَراِء َواْلَم َ ن{ ]المائدة ،[89 :دخل فيه الخر ،ولما قرن بينهما في قولهِ} :إّنَما ال ّ
صَدَقا ُ ساِكي َ
شَرِة َم َ
طَعاُم عَ َ
ِإ ْ
]التوبة [60 :صارا نوعين.
وقد قيل :إن الخاص المعطوف على العام ليدخل في العام حال القتران ،بل يكون من هذا الباب .والتحقيق أن هذا
ن ل{ ]البقرة ،[98 :وقال تعالىَ} :وِإْذ َأ َ
خْذَنا ِم ْ ل َوِميَكا َ
جْبِري َ
سِلِه َو ِ
لِئَكِتِه َوُر ُ
ل َوَم َ
عُدّوا ِّ
ن َ ليس لزمًا ،قال تعالىَ} :م ْ
ن َكا َ
ك َوِمْن ُنوٍح َوِإْبَراِهيَم َوُموَسى َوِعيَسى اْبِن َمْرَيَم{ ]الحزاب.[7 : ن ِميَثاَقُهْم َوِمْن َ
الّنِبّيي َ
وذكر الخاص مع العام يكون ،لسباب متنوعة ،تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام ،كما في نوح وإبراهيم
ن ِباْلَغْي ِ
ب ن ُيْؤِمُنو َ وموسى وعيسى ،وتارة؛ لكون العام فيه إطلق قد ل يفهم منه العموم ،كما في قولهُ} :هًدى ِلْلُمّتِقي َ
ن .اّلِذي َ
ك{ ]البقرة2 :ـ ،[4فقوله :يؤمنون ن َقْبِل َ
ل ِم ْ
ك َوَما ُأْنِز َ
ل ِإَلْي َ
ن ِبَما ُأْنِز َ
ن ُيْؤِمُنو َ
نَ .واّلِذي َ
لَة َوِمّما َرَزْقَناُهْم ُينِفُقو َ
صَن ال ّ
َوُيِقيُمو َ
بالغيب يتناول الغيب الذي يجب اليمان به ،لكن فيه إجمال ،فليس فيه دللة على أن من الغيب ،ما أنزل إليك ،وما
أنزل من قبلك.وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب ،وبالخبار بالغيب ،وهو ما أنزل إليك ،وما
أنزل من قبلك.
سُكونَ ن ُيَم ّلَة{ ]العنكبوت ،[45 :وقولهَ} :واّلِذي َ صَب َوَأِقْم ال ّن اْلِكَتا ِ ك ِم ْ ي ِإَلْي َ
حَ /ومن هذا الباب قوله تعالى} :اْت ُ
ل َما ُأو ِ
لَة{ ]العراف ،[170 :وتلوة الكتاب ،هي اتباعه ،كما قال ابن مسعود في قوله تعالى} :اّلِذي َ
ن صَب َوَأَقاُموا ال ّ ِباْلِكَتا ِ
لَوِتِه{ ]البقرة ،[121 :قال :يحللون حلله ويحرمون حرامه ،ويؤمنون بمتشابهه ويعملون ق ِت َ
حّب َيْتُلوَنُه َ
آَتْيَناُهْم اْلِكَتا َ
ل
ل ِإَلَه ِإ ّ
ل َ بمحكمه ،فاتباع الكتاب يتناول الصلة وغيرها ،لكن خصها بالذكر لمزيتها .وكذلك قوله لموسىِ} :إّنِني َأَنا ا ُّ
ل َوُقوُلوا لَة ِلِذْكِري{ ]طه ،[14 :وإقامة الصلة لذكره من أجل عبادته ،وكذلك قوله تعالى} :اّتُقوا ا َّ صَعُبْدِني َوَأِقْم ال ّ َأَنا َفا ْ
ن{صاِدِقي َ ل َوُكوُنوا َمَع ال ّ سيَلَة{ ]المائدة ،[35 :وقوله} :اّتُقوا ا َّ
ل َواْبَتُغوا ِإَلْيِه اْلَو ِسِديًدا{ ]الحزاب ،[70 :وقوله} :اّتُقوا ا َّ ل َ َقْو ً
ل ،وكذلك قولهَ} :فاْعُبْدُه َوَتَوّكْل َعَلْيِه{ ]هود ،[123 :فإن ]التوبة ،[119 :فإن هذه المور هي أيضًا من تمام تقوى ا ّ
ل ،لكن خصت بالذكر ،ليقصدها المتعبد بخصوصها ،فإنها هي العون على سائر التوكل والستعانة هي من عبادة ا ّ
أنواع العبادة إذ هو ـ سبحانه ـ ل يعبد إل بمعونته.
ل ،وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، إذا تبين هذا ،فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته ّ
ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه .أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق
وأضلهم .قال تعالىَ} :وَقاُلوا اّتَخَذ الّرْحَماُن َوَلًدا ُسْبَحاَنُه َبْل ِعَباٌد ُمْكَرُموَنَ .ل َيْسِبُقوَنُه ِباْلَقْوِل َوُهْم ِبَأْمِرِه َيْعَمُلوَن{ /إلى قوله:
ل شْيًئا ِإّدا{ إلى قولهِ} :إ ْ
ن ُك ّ جْئُتْم َن َوَلًداَ .لَقْد ِ
حَما ُخذَ الّر ْن{ ]النبياء26 :ـ ،[28وقال تعالىَ} :وَقاُلوا اّت َ شِفُقو َشَيِتِه ُم ْخْن َ }َوُهْم ِم ْ
صاُهْم َوَعّدُهْم َعّداَ .وُكّلُهْم آِتيِه َيْوَم اْلِقَياَمِة َفْرًدا{ ]مريم 88 :ـ ،[95 ح َ عْبًداَ .لَقْد َأ ْ
ن َ حَما ِ ل آِتي الّر ْ ض ِإ ّ
لْر ِ ت َوا َْ سَماَوا ِ ن ِفي ال ّ َم ْ
ن ِفيل{ ]الزخرف ،[59 :وقال تعالىَ} :وَلُه َم ْ سَراِئي َ
ل ِلَبِني ِإ ْجَعْلَناُه َمَث ً
عَلْيِه َو َ عْبٌد َأْنَعْمَنا َ
ل َ ن ُهَو ِإ ّ وقال تعالى في المسيحِ} :إ ْ
ض َوَمْن ِعْنَدُه َل َيْسَتْكِبُروَن َعْن ِعَباَدِتِه َوَل َيْسَتْحِسُروَنُ .يَسّبُحوَن الّلْيَل َوالّنَهاَر َل َيْفُتُروَن{ ]النبياء،[20 ،19 : لْر ِ ت َوا َْسَماَوا ِ ال ّ
شُرُهْم ِإَلْيِه
حُ سَي ْ
سَتْكِبْر َف َ
عَباَدِتِه َوَي ْ
ن ِعْف َ سَتنِك ْ
ن َي ْ
ن َومَ ْ لِئَكُة اْلُمَقّرُبو َ
ل اْلَم َ ل َو َ عْبًدا ِّ ن َن َيُكو َ ح َأ ْسي ُف اْلَم ِ
سَتنِك َ ن َي ْوقال تعالىَ} :ل ْ
عوِني صيًرا{ ]النساء ،[173 ،172 :وقال تعالىَ} :وَقالَ َرّبُكْم اْد ُ ل َن ِ ل َوِلّيا َو َ ن ا ِّن ُدو ِ ن َلُهْم ِم ْ
جُدو َ جِميًعا{ إلى قولهَ} :و َ
ل َي ِ َ
ل َوالّنَهاُر ن{ ]غافر ،[60 :وقال تعالىَ} :وِم ْ
ن آَياِتِه الّلْي ُ خِري َ جَهّنَم َدا ِن َ خُلو َ سَيْد ُعَباَدِتي َ ن ِ عْ ن َ سَتْكِبُرو َن َي ْن اّلِذي َب َلُكْم ِإ ّج ْسَت ِ
َأ ْ
حونَسّب ُ
ك ُي َ
عْنَد َرّب َ
ن ِ
سَتْكَبُروا َفاّلِذي َ
نا ْنَ .فِإ ْ
ن ُكْنُتمْ ِإّياهُ َتْعُبُدو َ
ن ِإ ْ
خَلَقُه ّ
ل اّلِذي َ
جُدوا ِّ
سُ
ل ِلْلَقَمِر َوا ْ
س َو َ
شْم ِ
جُدوا ِلل ّسُل َت ْ
س َواْلَقَمُر َ
شْم ُ َوال ّ
خيَفًة{ إلى قولهِ} :إ ّ
ن عا َو ِ ضّر ًك َت َسَ ك ِفي َنْف ِن{ ]فصلت ،[38 ،37 :وقال تعالىَ} :واْذُكْر َرّب َ سَأُمو َل َي ْ
ل َوالّنَهاِر َوُهْم ََلُه ِبالّلْي ِ
ك َل َيْسَتْكِبُروَن َعْن ِعَباَدِتِه َوُيَسّبُحوَنُه َوَلُه َيْسُجُدوَن{ ]العراف.[206 ،205 : ن عِْنَد َرّب َ اّلِذي َ
وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة ،وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن ،وقد أخبر أنه أرسل
ك ِمْن َرُسوٍل ِإّل ُنوِحي ِإَلْيِه َأّنُه َل ِإَلَه ِإّل َأَنا َفاْعُبُدوِني{ ]النبياء،[25 : ن َقْبِل َ جميع الرسل بذلك /.فقال تعالىَ} :وَما َأْر َ
سْلَنا ِم ْ
عَباِديت{ ]النحل ،[36 :وقال تعالى لبني إسرائيلَ} :يا ِ غو َطا ُ
جَتِنُبوا ال ّ
ل َوا ْعُبُدوا ا َّ ن ُا ْ
ل َأ ْ
سو ً ل ُأّمٍة َر ُ وقالَ} :وَلَقْد َبَعْثَنا ِفي ُك ّ
عُبُدوا
سا ْي َفاّتُقوِني{ ]البقرة ،[41 :وقالَ} :ياَأّيَها الّنا ُ عُبُدوِني{ ]العنكبوتَ} ،[56 :وِإّيا َ ي َفا ْسَعٌة َفِإّيا َ ضي َوا ِ ن َأْر ِ ن آمَُنوا ِإ ّ
اّلِذي َ
س ِإّل ِلَيْعُبُدوِني{ ]الذاريات،[56 : لن َ ن َوا ِْ
جّ ت اْل ِ ن{ ]البقرة ،[21 :وقالَ} :وَما َ
خَلْق ُ ن َقْبِلُكْم َلَعّلُكْم َتّتُقو َ
ن ِم ْخَلَقُكْم َواّلِذي َ
َرّبُكْم اّلِذي َ
ب
عَذا َت َرّبي َعصَْي ُ ن َف ِإ ْ
خا ُ
ل ِإّني َأ َ
نُ .ق ْسِلِمي َ
ل اْلُم ْ
ن َأّو َ
ن َأُكو َ لْت َِ
نَ .وُأِمْر ُ
صا َلُه الّدي َ
خِل ً ل ُم ْعُبَد ا َّن َأ ْت َأ ْ ل ِإّني ُأِمْر ُ وقال تعالىُ} :ق ْ
صا َلُه ِديِنيَ .فاْعُبُدوا َما ِشْئُتْم ِمْن ُدوِنِه{ ]الزمر11 :ـ .[15 خِل ًعُبُد ُم ْ
ل َأ ْل ا َّ
ظيٍمُ .ق ْعَِيْوٍم َ
ل َما َلُكْم ِم ْ
ن ل ،كقول نوح ومن بعده عليهم السلم} :ا ْ
عُبُدوا ا َّ وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة ا ّ
ِإَلٍه َغْيُرُه{ ]المؤمنون ،[23 :وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :بعثت بالسيف بين يدي
ل وحده ل شريك له ،وجعل رزقي تحت ظل رمحي ،وجعل الذلة والصغار على من خالف
الساعة حتى يعبد ا ّ
أمري(.
ل
نِّ .إ ّ جَمِعي َغِوَيّنُهْم َأ ْ
لْ ض َو َُ لْر ِ ن َلُهْم ِفي ا َْ لَزّيَن ّغَوْيَتِني َُوقد بين أن عباده هم الذين ينجون من السيئات ،قال الشيطانِ} :بَما َأ ْ
ن{ ن اْلَغاِوي َ ك ِم ْ ن اّتَبَع َ
ل َم ْ ن ِإ ّطا ٌسْل َعَلْيِهْم ُك َس َل َعَباِدي َلْي َ ن ِ ن{ ]الحجر ،[40 ،39 :قال تعالىِ} :إ ّ صي َخَل ِ ك ِمْنُهْم اْلُم ْعَباَد َ ِ
صيَن{ ]ص ،[83 ،82 :وقال في حق يوسف: خَل ِ ك ِمْنُهْم اْلُم ْعَباَد َل ِنِ .إ ّ جَمِعي َغِوَيّنُهْم َأ ْلْ ك َُ ل َفِبِعّزِت َ ]الحجر ،[42 :وقالَ} :قا َ
عَباَد ا ِّ
ل ل ِ نِ .إ ّصُفو َ عّما َي ِ ل َ ن ا ِّ حا َ ن{ ]يوسف ،[24 :وقالُ } :
سْب َ صي َ
خَل ِ عَباِدَنا اْلُم ْ
ن ِ شاَء ِإّنُه ِم ْحَ سوَء َواْلَف ْ عْنُه ال ّ
ف َ صِر َ ك ِلَن ْ }َكَذِل َ
ن
عَلى اّلِذي َ طاُنُه َ سْل َ
نِ .إّنَما ُ عَلى َرّبِهْم َيَتَوّكُلو َ ن آَمُنوا َو َ عَلى اّلِذي َن َ طا ٌسْل َس َلُه ُن{ ]الصافات ،[160 ،159 :وقالِ} :إّنُه َلْي َ صي َ خَل ِاْلُم ْ
عَباَدَنا إْبَراِهيَمن{ ] النحل ،[100 ،99 :وبها نعت كل من اصطفي من خلقه ،كقولهَ} :واْذُكْر ِ شِرُكو َ ن ُهْم ِبِه ُم َْيَتَوّلْوَنُه َواّلِذي َ
طَفْيَن اَْلْخَياِر{ ]ص45 :ـ صَ ن اْلُم ْ عْنَدَنا َلِم ْ
صٍة ِذْكَرى الّداِرَ .وِإّنُهْم ِ خاِل َ صَناُهْم ِب َ
خَل ْ صاِرِ .إّنا َأ ْ لْب َ لْيِدي َوا َْ ب ُأْوِلي ا َْ ق َوَيْعُقو َ حا َسَ َوِإ ْ
ب{ ]ص،[30 : ب{ ]ص ،[17 :وقال عن سليمانِ} :نْعَم اْلَعْبُد ِإّنُه َأّوا ٌ لْيِد ِإّنُه َأّوا ٌعْبَدَنا َداُووَد َذا ا َْ ،[47وقولهَ} :واْذُكْر َ
ب ِإْذ َناَدى َرّبُه{ ]ص ،[41 :وقال عن نوح عليه السلم: عْبَدَنا َأّيو َوعن أيوبِ} :نْعَم اْلَعْبُد{ ]ص ،[44 :وقالَ} :واْذُكْر َ
حَراِم ِإَلىجِد اْل َ سِن اْلَم ْ ل ِم ْ سَرى ِبَعْبِدهِ َلْي ً ن اّلِذي َأ ْ حا َ شُكوًرا{ ]السراء ،[3 :وقالُ } :
سْب َ عْبًدا َن َ ح ِإّنُه َكا َ حَمْلَنا َمَع ُنو ٍن َ }ُذّرّيَة مَ ْ
عَلى ب ِمّما َنّزْلَنا َ ن ُكنُتْم ِفي َرْي ٍ عوُه{ ]الجن ،[19 :وقالَ} :وِإ ْ ل َيْد ُ صى{ ]السراء ،[1 :وقال }َوَأّنُه َلّما َقاَم َ
عْبُد ا ِّ لْق َ جِد ا َْسِ اْلَم ْ
ل{ ]النسان،[6 : عَباُد ا ِّب ِبَها ِ شَر ُ عْيًنا َي ْحى{ ]النجم ،[10 :وقالَ } : عْبِدِه َما َأْو َحى ِإَلى َ عْبِدَنا{ ]البقرة ،[23 :وقالَ} :فَأْو َ َ
ض َهْوًنا{ ]الفرقان ،[63 :ومثل هذا كثير متعدد في القرآن . لْر ِ عَلى ا َْ ن َ شو َ ن َيْم ُن اّلِذي َحَما ِ
عَباُد الّر ْ وقالَ} :و ِ
صــل
َف ْ
ل عظيًما ،وهو تفاضلهم في حقيقة اليمان ،وهم ينقسمون فيه، إذا تبين ذلك ،فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاض ً
إلى عام ،وخاص ؛ ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ؛ ولهذا كان الشرك في هذه المة أخفى من
دبيب النمل .وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قالَ) :تِعسَ عبد الدرهم ،تعس عبد الدينار ،تعس عبد
القطيفة ،تعس عبد الخميصة ،تعس وانتكس ،وإذا شيك فل انتقش ،إن أعطى رضي ،وإن منع سخط(.
فسماه النبي صلى ال عليه وسلم عبد الدرهم ،وعبد الدينار ،وعبد القطيفة ،وعبد الخميصة .وذكر ما فيه دعاء وخبر،
وهو قوله" :تعس وانتكس ،وإذا شيك فل انتقش" ،والنقش :إخراج الشوكة من الرجل ،والمنقاش ما يخرج به الشوكة،
وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ،ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس ،فل نال المطلوب ول خلص من المكروه،
وهذه حال من عبد المال ،وقد وصف ذلك بأنه )إذا أعطى رضى ،وإذا منع سخط( ،كما قال تعالىَ} :وِمْنُهْم َم ْ
ن َيْلِمُزكَ
ل وسخطهم لغير طوَن{ ]التوبة ،[58 :فرضاهم لغير ا ّ
خُسَ
طْوا ِمْنَها ِإَذا ُهْم َي ْ
ن َلْم ُيْع َ
ضوا َوِإ ْ
طوا ِمْنَها َر ُ
عُن ُأ ْ
ت َفِإ ْ
صَدَقا ِ
ِفي ال ّ
ل ،وهكذا حال من كان متعلًقا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي ،وإن لم يحصل له ا ّ
سخط ،فهذا عبد ما يهواه من ذلك ،وهو رقيق له ،إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته ،فما استرق
القلب ،واستعبده فهو عبده ،ولهذا يقال:
وقال القائل:
ويقال :الطمع غل في العنق ،قيد في الرجل ،فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل .ويروي عن عمر بن
ل عنه ـ أنه قال :الطمع فقر ،واليأس غني ،وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه .وهذا أمر الخطاب ـ رضي ا ّ
يجده النسان من نفسه ،فإن المر الذي ييأس منه ل يطلبه ،ول يطمع به ،ول يبقى قلبه فقيًرا إليه ،ول إلى من يفعله،
وأما إذا طمع في أمر من المور ،ورجاه تعلق قلبه به ،فصار فقيًرا إلى حصوله ،وإلى من يظن أنه سبب في
عُبُدوُه
ق َوا ْ
ل الّرْز َ حصوله ،وهذا في المال والجاه ،والصور وغير ذلك .قال الخليل صلى ال عليه وسلمَ} :فاْبَتُغوا ِ
عْنَد ا ِّ
َواْشُكُروا َلُه ِإَلْيِه ُتْرَجُعوَن{]العنكبوت .[17
ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الصل ،وإنما أبيحت للضرورة .وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح
عة
والسنن والمسانيد .كقوله صلى ال عليه وسلم) :ل تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه ُمز َ
حا في وجهه( ،وقوله:شا ،أو كدو ً
خمو ً
شا أو ُخدو ً
لحم( ،وقوله) :من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة ُ
ضا) :لن يأخذ
)ل تحل المسألة إل لذي غرم مفظع ،أو دم موجع ،أو فقر مدقع( ،هذا المعنى في الصحيح .وفيه أي ً
أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه ،أو منعوه( ،وقال) :ما أتاك من هذا المال وأنت غير
سائل ،ول مشرف فخذه ،وما ل فلتتبعه نفسك( فكره أخـذه من سؤال اللسان واستشراف القلب ،وقال في الحديث
ل ،وما أعطى أحد عطاء خيًرا وأوسع ل ،ومن يتصبر يصبره ا ّ ل ،ومن يستعفف يعفه ا ّ
الصحيح) :من يستغن يغنه ا ّ
من الصبر( وأوصى خواص أصحابه أل يسألوا الناس شيًئا وفي المسند :إن أبا بكر كان يسقط السوط من يده ،فل
يقول لحد ناولني إياه ،ويقول :إن خليلي أمرني أل أسأل الناس شيًئا .وفي صحيح مسلم وغيره ،عن عوف ابن مالك:
أن /النبي صلى ال عليه وسلم بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية) :أل تسألوا الناس شيًئا( ،فكان بعض أولئك
النفر يسقط السوط من يد أحدهم ،ول يقول لحد :ناولني إياه.
وقد دلت النصوص على المر بمسألة الخالق ،والنهي عن مسألة المخلوق ،في غير موضع .كقوله تعالىَ} :فِإَذا
ك َفاْرَغب{ ]الشرح ،[8 ،7 :وقول النبي صلى ال عليه وسلم لبن عباس) :إذا سألت فاسأل ب َ .وِإَلى َرّب َ
ص ْ
ت َفان َ
غ َ
َفَر ْ
ق{ ]العنكبوت ،[17 :ولم يقل :فابتغوا الرزق
ل الّرْز َ ل( ،ومنه قول الخليلَ} :فاْبَتُغوا ِ
عْنَد ا ِّ ل ،وإذا استعنت فاستعن با ّ ا ّ
ل .وقد قال تعالى: ل؛ لن تقديم الظرف يشعر بالختصاص والحصر ،كأنه قال :ل تبتغوا الرزق إل عند ا ّ عند ا ّ
ضِلِه{ ]النساء ،[32 :والنسان لبد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه ،ودفع ما يضره، ن َف ْل ِم ْ
سَأُلوا ا َّ
}َوا ْ
ل ،وإليه يشتكي ،كما قال يعقوب ـ عليه السلم ـَ} :قا َ
ل ِإّنَما ل ،فله أن يسأل ا ّ
وكل المرين شرع له أن يكون دعاؤه ّ
ل{ ]يوسف.[86 :حْزِني ِإَلى ا ِّ
شُكو َبّثي َو ُ َأ ْ
ل ورحمته ،ورجائه لقضاء حاجته ،ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما وكلما قوى طمع العبد في فضل ا ّ
سواه ،فكما أن طمعه في /المخلوق يوجب عبوديته له ،فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه .كما قيل :استغن عمن شئت
تكن نظيره ،وأفضل على من شئت تكن أميره ،واحتج إلى من شئت تكن أسيره .فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له
ل ،لسيما ل ،والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية ّ يوجب عبوديته له ،وإعراض قلبه عن الطلب من غير ا ّ
من كان يرجو المخلوق ول يرجو الخالق ،بحيث يكون قلبه معتمًدا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه ،وإما
على أهله وأصدقائه ،وإما على أمواله وذخائره ،وإما على ساداته وكبرائه ،كمالكه وملكه ،وشيخه ومخدومه
عَباِدِه
ب ِ
حْمِدِه َوَكَفى ِبِه ِبُذُنو ِ
ح ِب َ
سّب ْ
ت َو َ
ل َيُمو ُ
ي اّلِذي َ
حّعَلى اْل َ
ل َوغيرهم ،ممن هو قد مات أو يموت .قال تعالىَ} :وَتَوّك ْ
َخِبيًرا{ ]الفرقان.[58 :
وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه ،أو يرزقوه ،أو أن يهدوه خضع قلبه لهم ،وصار فيه من العبودية لهم بقدر
ذلك ،وإن كان في الظاهر أميًرا لهم مدبًرا لهم متصرًفا بهم ،فالعاقل ينظر إلى الحقائق ل إلى الظواهر ،فالرجل إذا
تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيًرا لها ،تحكم فيه وتتصرف بما تريد ،وهو في الظاهر سيدها؛ لنه
زوجها .وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها ل سيما إذا درت بفقره إليها ،وعشقه لها ،وأنه ل يعتاض عنها بغيرها،
فإنها حينئذ تحكم فيه بحـكم السيد القاهـر الظـالم في عبده المقهور ،الذي ل يستطيع الخلص /منه ،بل أعظم ،فإن
أسر القلب أعظم من أسر البدن ،واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن ،فإن من استعبد بدنه واسترق ل يبالي ،إذا
حا من ذلك مطمئًنا ،بل يمكنه الحتىال في الخلص .وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيًقا كان قلبه مستري ً
ل فهذا هو الذل ،والسر المحض ،والعبودية لما استعبد القلب. مستعبًدا ،متيًما لغير ا ّ
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب ،فإن المسلم لو أسره كافر ،أو استرقه فاجر بغيرحق لم
ل وحق مواليه له أجران ،ولو يضره ذلك إذا كان قائًما بما يقدر عليه من الواجبات ،ومن استعبد بحق ،إذا أدى حق ا ّ
ل،
أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن باليمان ،لم يضره ذلك ،وأما من استعبد قلبه ،فصار عبًدا لغير ا ّ
فهذا يضره ذلك ،ولو كان في الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب ،والعبودية عبودية القلب ،كما أن الغنى غنى النفس ،قال النبي صلى ال عليه وسلم) :ليس الغنى
عن كثرة العرض ،وإنما الغنى غنى النفس( ،وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة ،فأما من استعبد قلبه
صورة محرمة ،امرأة أو صبي ،فهذا هو العذاب الذي ل يدان فيه .وهؤلء من أعظم الناس عذاًبا وأقلهم ثواًبا ،فإن
العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلًقا بها ،مستعبًدا لها اجتمع له من /أنواع الشر والفساد ،ما ل يحصيه إل رب العباد،
ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى ،فدوام تعلق القلب بها بل فعل الفاحشة أشد ضرًرا عليه ،ممن يفعل ذنًبا ثم يتوب
منه ويزول أثره من قلبه ،وهؤلء يشبهون بالسكارى والمجانين .كما قيل:
وقيل:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانـــــين
ل ،والخلص له لم يكن عنده ل ،فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة ا ّ
ومن أعظم أسباب هذا البلء :إعراض القلب عن ا ّ
شيء قط أحلى من ذلك ،ول ألذ ول أطيب ،والنسان ل يترك محبوًبا إل بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه ،أو خوًفا
من مكروه ،فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح ،أو بالخوف من الضرر.
ل يصرف
صيَن{ ]يوسف .[42 :فا ّ
خَل ِ
عَباِدَنا اْلُم ْ
ن ِ
شاَء ِإّنُه مِ ْ
حَسوَء َواْلَف ْ
عْنُه ال ّ
ف َ
صِر َ /قال ـ تعالى ـ في حق يوسفَ} :كَذِل َ
ك ِلَن ْ
ل.
عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها ،ويصرف عنه الفحشاء بإخلصه ّ
ل والخلص له ،تغلبه نفسه على اتباع هواها ،فإذا ذاق طعـم الخـلص ولهذا يكون قبل أن يذوق حلوة العبودية ّ
ل َأْكَبُر{ ]العنكبوت:
شاِء َواْلُمْنَكِر َوَلِذْكُر ا ِّ
حَن اْلَف ْ
عْ
لَة َتْنَهى َ
صَ وقوى في قلبه انقهر له هـواه بل علج .قال تعالىِ} :إ ّ
ن ال ّ
ل ،وحصول هذا ،[45فإن الصلة فيها دفع للمكروه ،وهو الفحشاء والمنكر ،وفيها تحصيل المحبوب ،وهو ذكر ا ّ
ل مقصودة لذاتها .وأما اندفاع الشر عنه ،فهو ل ،وعبادة القلب ّ ل عبادة ّالمحبوب أكبر من دفع المكروه ،فإن ذكر ا ّ
مقصود لغيره على سبيل التبع.
والقلب خلق يحب الحق ،ويريده ،ويطلبه .فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك ،فإنه يفسد القلب ،كما يفسد
ب َمن َدّساَها{ ]الشمس ،[10 ،9 :وقال خا َ الزرع ،بما ينبت فيه من الدغل؛ ولهذا قال تعالىَ} :قْد َأْفَل َ
ح َمن َزّكاَهاَ .وَقْد َ
ظوا
حَف ُ
صاِرِهْم َوَي ْ
ن َأْب َ
ضوا ِم ْ
ن َيُغ ّ صّلى{ ]العلى ،[15 ،14 :وقالُ} :ق ْ
ل ِلْلُمْؤِمِني َ سَم َرّبِه َف َ
ن َتَزّكى َ .وَذَكَر ا ْ تعالىَ} :قْد َأْفَل َ
ح َم ْ
ل َعَلْيكُْم َوَرْحَمُتُه َما َزَكا ِمْنُكْم ِمْن َأَحٍد َأَبًدا{ ]النور،[21 : ل ا ِّ
ضُ ك َأْزَكى َلُهْم{ ]النور ،[30 :وقال تعالىَ} :وَلْو َ
ل َف ْ جُهْم َذِل َ
ُفُرو َ
فجعل ـ سبحانه ـ غض البصر ،وحفظ الفرج هو أزكى /للنفس ،وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس ،وزكاة
النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش ،والظلم ،والشرك ،والكذب ،وغير ذلك.
وكذلك طالب الرئاسة ،والعلو في الرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها ،ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم،
فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الموال والوليات ويعفو عنهم ليطيعوه ،ويعينوه ،فهو في الظاهر رئيس
ل ،وإذا كان
مطاع ،وفي الحقيقة عبد مطيع لهم ،والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للخر ،وكلهما تارك لحقيقة عبادة ا ّ
تعاونهما على العلو في الرض بغير الحق ،كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق ،فكل واحد من
الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الخر.
ضا ـ طالب المال ؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه ،وهذه المور نوعان:
وهكذا ـ أي ً
ل ويرغبمنها :ما يحتاج العبد إليه ،كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ،ونحو ذلك .فهذا يطلبه من ا ّ
إليه فيه ،فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه ،وبساطه الذي يجلس عليه ،بل بمنزلة
عا.
عا ،وإذا مسه الخير منو ً
عا /إذا مسه الشر جزو ً
الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده ،فيكون هلو ً
ومنها :ما ل يحتاج العبد إليه ،فهذه ل ينبغي له أن يعلق قلبه بها ،فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبًدا لها ،وربما صار
ل ،وشعبةل ،ول حقيقة التوكل عليه ،بل فيه شعبة من العبادة لغير ا ّل ،فل يبقى معه حقيقة العبادة ّ معتمًدا على غير ا ّ
ل ،وهذا من أحق الناس بقوله صلى ال عليه وسلم) :تعس عبد الدرهم ،تعس عبد الدينار ،تعس من التوكل على غير ا ّ
ل إذا أعطاه إياها رضي ،وإذا ل ،فإن ا ّ
عبد القطيفة ،تعس عبد الخميصة( ،وهذا هو عبد هذه المور ،فلو طلبها من ا ّ
ل ورسوله،ل ،ويحب ما أحبه ا ّ ل ،ويسخطه ما يسخط ا ّ ل من يرضيه ما يرضي ا ّ منعه إياها سخط ،وإنما عبد ا ّ
ل ،ويعادي أعداء الّ ـ تعالى ـ وهذا هو الذي استكمل اليمان .كما ل ورسوله ،ويوالي أولياء ا ّ ويبغض ما أبغضه ا ّ
عَرى اليمان :الحب ل فقد استكمل اليمان( وقال) :أوثق ُ ل ،ومنع ّل ،وأعطى ّ ل ،وأبغض ّ في الحديث) :من أحب ّ
ل(.
ل ،والبغض في ا ّفي ا ّ
ل ورسوله أحب إليه مما وفي الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم) :ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان :من كان ا ّ
ل منه ،كما يكره أن
ل ،ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ
سواهما ،ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ
لل ل ورسوله أحب إليه مما سواهما ،وأحب المخلوق ّ يلقى في النار( فهذا وافق ربه فيما يحبه وما /يكرهه فكان ا ّ
ل،
ل ،فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب ،فإذا أحب أنبياء ا ّ لغرض آخر ،فكان هذا من تمام حبه ّ
ل ِبَقْوٍم
ف َيْأِتي ا ُّ ل؛ لجل قيامهم بمحبوبات الحق ل لشيء آخر ،فقد أحبهم لّ ل لغيره ،وقد قال تعالىَ} :ف َ
سْو َ وأولياء ا ّ
ُيِحّبُهْم وَُيِحّبوَنُه َأِذّلٍة َعَلى اْلُمْؤِمِنيَن َأِعّزٍة َعَلى اْلَكاِفِريَن{ ]المائدة. [54 :
ل ،وينهى
ل{ ]آل عمران ،[31 :فإن الرسول يأمر بما يحب ا ّ حِبْبُكْم ا ُّ
ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ
ن ا َّ
حّبو َ
ن ُكْنُتْم ُت ِ ولهذا قال تعالىُ} :ق ْ
ل ِإ ْ
ل لزم أن يتبع الرسول، ل التصديق به ،فمن كان محًبا ّ
ل ،ويخبر بما يحب ا ّ ل ،ويفعل ما يحبه ا ّ عما يبغضه ا ّ
ل ،فجعل ا ّ
ل ل .فيحبه ا ّ
فيصدقه فيما أخبر ،ويطيعه فيما أمر ،ويتأسى به فيما فعل ،ومن فعل هذا ،فقد فعل ما يحبه ا ّ
لهل محبته علمتين :اتباع الرسول ،والجهاد في سبيله.
ل منل من اليمان ،والعمل الصالح ،ومن دفع ما يبغضه ا ّ وذلك؛ لن الجهاد حقيقته الجتهاد في حصول ما يحبه ا ّ
شيَرُتُكْم{ إلى قولهَ } :
حّتى عِ
جُكْم َو َ
خَواُنُكْم َوَأْزَوا ُ
ن آَباُؤُكْم َوَأْبَناُؤُكْم َوِإ ْ
ن َكا َ الكفر والفسوق والعصيان .وقد قال تعالىُ} :ق ْ
ل ِإ ْ
ل ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد .بل ل ِبَأْمِرِه{ ]التوبة ،[24 :فتوعد من كان أهله وماله ،أحب إليه من ا ّ ي ا ُّ
َيْأِت َ
قد ثبت عنه في الصحيح ،أنه قال) :والذي نفسي بيده ل يؤمن /أحدكم حتى أكون أحب إليه ،من ولده ،ووالده،
ل لنت أحب إلى من كل شيء إل ل! ،وا ّ والناس أجمعين( ،وفي الصحيح أن عمر ابن الخطاب قال له :يا رسول ا ّ
ل ،لنت أحب إلى من نفسي ،فقال) :الن يا من نفسي ،فقال) :ل يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك( .فقال :فوا ّ
عمر(.
ل يحب اليمان فحقيقة المحبة ل تتم إل بموالة المحبوب ،وهو موافقته في حب ما يحب ،وبغض ما يبغض ،وا ّ
والتقوى ،ويبغض الكفر والفسوق والعصيان .ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب ،فكلما قويت المحبة في القلب طلب
القلب فعل المحبوبات ،فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات .فإذا كان العبد قادًرا
عليها حصلها .وإن كان عاجًزا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل كما قال النبي صلى ال عليه
وسلم) :من دعا إلى هدى كان له من الجر مثل أجور من اتبعه ،من غير أن ينقص من أجورهم شيًئا ،ومن دعا إلى
ل ما
ضللة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيًئا( .وقال) :إن بالمدينة لرجا ً
سرتم مسيًرا ول قطعتم وادًيا ،إل كانوا معكم(.قالوا :وهم بالمدينة.قال) :وهم بالمدينة ،حبسهم العذر(.
والجهاد ،هو بذل الوسع ،وهو القدرة في حصول محبوب الحق / ،ودفع ما يكرهه الحق ،فإذا ترك العبد ما يقدر عليه
ل ورسوله في قلبه ،ومعلوم أن المحبوبات ل تنال غالًبا إل باحتمال
ل على ضعف محبة ا ّ من الجهاد ،كان دلي ً
المكروهات ،سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة ،فالمحبون للمال والرئاسة والصور ،ل ينالون مطالبهم إل بضرر
ل ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والخرة ،فالمحب ّ
ل إذا كان ما يسلكه أولئك هو
ل مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم ّ المحبين لغير ا ّ
الطريق الذي يشير به العقل.
ن آَمُنوا
ل َواّلِذي َ
ب ا ِّ
ح ّ
حّبوَنُهْم َك ُ
ل َأنَداًدا ُي ِ
ن ا ِّ
ن ُدو ِ
ن َيّتخُِذ ِم ْ
س َم ْ ل .كما قال تعالىَ} :وِم ْ
ن الّنا ِ ومن المعلوم أن المؤمن أشد حًبا ّ
ل{]البقرة ،[165 :نعم! قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريًقا ل يحصل بها المطلوب ،فمثل حّبا ِّ
شّد ُ
َأ َ
هذه الطريق ل تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة ،فكيف إذا كانت المحبة فاسدة ،والطريق غير موصل! كما
يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضرًرا ،ول تحصل لهم مطلوًبا ،وإنما
المقصود الطرق التي يسلكها العقل؛ لحصول مطلوبه.
ل إزداد له عبودية ،وكلما ازداد له عبودية ازداد له حًبا وحرية عما سواه،
وإذا تبين هذا ،فكلما ازداد القلب حًبا ّ
ل من وجهين :من جهة العبادة ،وهي العلة الغائية ،ومن جهة الستعانة والتوكل ،وهي والقلب فقير بالذات /إلى ا ّ
العلة الفاعلىة ،فالقلب ل يصلح ،ول يفلح ،ول يلتذ ،وليسر ،ول يطيب ،وليسكن ،ول يطمئن ،إل بعبادة ربه،
وحبه والنابة إليه .ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ،ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه ،ومن
حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه ،وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
ل.
والناس في هذا على درجات متفاوتة ل يحصى طرفيها إل ا ّ
ل من هذا الوجه.
ل ،وأقواهم ،وأهداهم ،أتمهم عبودية ّ
فأكمل الخلق ،وأفضلهم ،وأعلهم ،وأقربهم إلى ا ّ
ولهذا كان شعار الصلوات والذان والعياد ،هو التكبير ،وكان مستحًبا في المكنة العالية ،كالصفا والمروة ،وإذا
عل النسان شرًفا أو ركب دابة ونحو ذلك ،وبه يطفأ الحريق وإن عظم ،وعند الذان يهرب الشيطان .قال تعالى:
ب َلُكْم ِإّن اّلِذيَن َيْسَتْكِبُروَن َعْن ِعَباَدِتي َسَيْدُخُلوَن َجَهّنَم َداِخِريَن{ ]غافر.[60 :
ج ْ
سَت ِ
عوِني َأ ْ
ل َرّبُكْم اْد ُ
}َوَقا َ
ل لبد أن يعبد غيره ،فإن النسان حساس يتحرك بالرادة .وقد ثبت في الصحيح عن وكل من استكبر عن عبادة ا ّ
النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :أصدق السماء حارث وهمام( فالحارث الكاسب الفاعل ،والهمام فعال من الهم،
والهم أول الرادة ،فالنسان له إرادة دائًما ،وكل إرادة ،فلبد لها من مراد تنتهي إليه ،فلبد لكل عبـد من مـراد
ل معبوده ومنتهى حبه ،وإرادته بل استكبر عن ذلك فلبد أن يكون له محـبوب هو منتهى حبه وإرادته ،فمن لم يكن ا ّ
ل ،فيكون عبًدا لذلك المراد المحبوب ،إما المال ،وإما الجاه ،وإما الصور ،وإما ما
مراد محبوب /يستعبده غير ا ّ
ل ،كالشمس ،والقمر ،والكواكب ،والوثان ،وقبور النبياء ،والصالحين ،أو من الملئكة، يتخذه إلًها من دون ا ّ
ل.
والنبياء الذين يتخذهم أرباًبا ،أو غير ذلك مما عبد من دون ا ّ
ل يكون مشرًكا ،وكل مستكبر ،فهو مشرك؛ ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكباًرا عن وإذا كان عبًدا لغير ا ّ
حٌرسا ِن َفَقاُلوا َن َوَقاُرو َ ن َوَهاَما َعْو َ
ن ِ .إَلى ِفْر َ ن مُِبي ٍطا ٍ
سْل َسى ِبآَياِتَنا َو ُ سْلَنا ُمو َل ،وكان مشرًكا .قال تعالىَ} :وَلَقْد َأْر َ عبادة ا ّ
عَلى
ل َ ب{ إلى قولهَ} :كَذِلكَ َي ْ
طَبُع ا ُّ سا ِحَن ِبَيْوِم اْل ِ
ل ُيْؤِم ُل ُمَتَكّبٍر َ ن ُك ّ ت ِبَرّبي َوَرّبُكْم ِم ْ عْذ ُ
سى ِإّني ُ ب{ ،إلى قولهَ} :وَقا َ
ل ُمو َ َكّذا ٌ
سَتْكَبُروا ِفي ت َفا ْ
سى ِباْلَبّيَنا ِجاَءُهْم ُمو َن َوَلَقْد َن َوَهاَما َ عْو َ جّباٍر{ ]غافر23 :ـ ،[35وقال تعالىَ} :وَقاُرو َ
ن َوِفْر َ ب ُمَتَكّبٍر َ ل َقْل ِ ُك ّ
طاِئَفًةف َضِع ُ سَت ْشَيًعا َي ْل َأْهَلَها ِ
جَع َ
ض َو َ
لْر ِ ل ِفي ا َْ عَ ن َ عْو َ ن{ ]العنكبوت ،[39 :وقال تعالىِ} :إ ّ
ن ِفْر َ ساِبِقي َ
ض َوَما َكاُنوا َ لْر ِ ا َْ
ي ِنَساَءُهْم{إلى قولهِ} :إّنُه َكاَن ِمْن اْلُمْفِسِديَن{ ]القصص.[4 : حِسَت ْح َأْبَناَءُهْم َوَي ْ
ِمْنُهْم ُيَذّب ُ
ل هو موله الذي ل يعبد إل إياه ،ول يستعين إل به ،ول ولن يستغنى القلب عن جميع المخلوقات إل بأن يكون ا ّ
ل،
يتوكل إل عليه ،ول يفرح إل بما يحبه ويرضاه ،ول يكره إل ما يبغضه الرب ويكرهه ،ول يوالي إل من واله ا ّ
ل .فكلما قوى
ل ،ول يمنع إل ّ
ل ،ول يعطي إل ّ ل ،وليبغض شيًئا إل ّ ل ،ول يحب إل ا ّول يعادي إل من عاداه ا ّ
ل يبرئه من الكبر والشرك.ل كملت عبوديته ،واستغناؤه عن المخلوقات ،وبكمال عبوديته ّ إخلص دينه ّ
حَباَرهُْم َوُرْهَباَنُهْم َأْرَباًبا والشرك غالب على النصارى ،والكبر غالب على اليهود ،قال ـ تعالى ـ في النصارى} :اّت َ
خُذوا َأ ْ
ل َواْلَمِسيَح اْبَن َمْرَيَم َوَما ُأِمُروا ِإّل ِلَيْعُبُدوا ِإَلًها َواِحًدا َل ِإَلَه ِإّل ُهَو سُْبَحاَنُه َعّما ُيْشِرُكوَن{ ]التوبة ،[31 :وقال في ن ا ِّ
ن ُدو ِ
ِم ْ
صِر ُ
ف سَأ ْ ن{ ]البقرة ،[87 :وقال تعالىَ } : سَتْكَبْرُتْم َفَفِريًقا َكّذْبُتْم َوَفِريًقا َتْقُتُلو َ
سُكْم ا ْ
ل َتْهَوى َأنُف ُ ل ِبَما َسو ٌ اليهودَ} :أَفُكّلَما َ
جاَءُكْم َر ُ
ن َيَرْوال َوِإ ْسِبي ً
خُذوهُ َل َيّت ِ
شِد َل الّر ْ
سِبي َ
ن َيَرْوا َ
ل ُيْؤِمُنوا ِبَها َوِإ ْ ل آَيٍة َ ن َيَرْوا ُك ّ ق َوِإ ْ
حّ ض ِبَغْيِر اْل َ
لْر ِ ن ِفي ا َْ
ن َيَتَكّبُرو َ
ن آَياِتي اّلِذي َعْ َ
ل{ ]العراف.[146 : سِبي ً
خُذوُه َ ي َيّت ِل الَغ ّ
سِبي َ
َ
ل َيْغِفُر َأنْل َ ن ا َّ ل ،قال تعالىِ} :إ ّ ولما كان الكبر مستلزًما للشرك ،والشرك ضد السلم ،وهو الذنب الذي ل يغفره ا ّ
شَر َ
ك ن ُي ْ
ل َيْغِفُر َأ ْل َ ظيًما{ ]النساء ،[48 :وقالِ} :إ ّ
ن ا َّ عِ ل َفَقْد اْفَتَرى ِإْثًما َ ك ِبا ِّشِر ْ ن ُي ْشاُء َوَم ْ ن َي َك ِلَم ْن َذِل َك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ شَر َ ُي ْ
لًل َبِعيًدا{ ]النساء ،[116 :كان النبياء جميعهم مبعوثين بدين ضَ ل َ ضّ ل َفَقْد َ ك ِبا ِّشِر ْ ن ُي ْشاُء َوَم ْ ن َي َ ك ِلَم ْن َذِل َِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ
جٍر ِإ ْ
ن ن َأ ْ
سَأْلُتُكْم ِم ْ ل غيره ،ل من الولين ول من الخرين .قال نوحَ} :فِإ ْ
ن َتَوّلْيُتْم َفَما َ السلم ،فهو الدين الذي ل يقبل ا ّ
ن
ل َم ْ ن ِمّلِة ِإْبَراِهيَم ِإ ّ عْب َ غ ُ ن{ ]يونس ،[72 :وقال في حق إبراهيمَ} :وَم ْ
ن َيْر َ سِلِمي َ
ن اْلُم ْن ِم ْ ن َأُكو َ ت َأ ْل َوُأِمْر ُ عَلى ا ِّ ل َ جِري ِإ ّ َأ ْ
ن{ إلى قولهَ} :ف َ
ل ب اْلَعاَلِمي َ
ت ِلَر ّ سَلْم ُ
ل َأ ْ
سِلْم َقا َ
ل َلُه َرّبُه َأ ْ
ن ِ .إْذ َقا َحي َصاِل ِ ن ال ّ خَرِة َلِم ْ لِطَفْيَناُه ِفي الّدْنَيا َوِإّنُه ِفي ا ْ صَ سِفَه َنْفسَُه َوَلَقْد ا َْ
صاِلِحيَن{ ]يوسف ،[101 :وقال حْقِني ِبال ّ ن{ ]البقرة ،[130-132 :وقال يوسفَ} :تَوّفِني ُمسِْلًما َوَأْل ِ سِلُمو َ ل َوَأْنُتْم ُم ْ
ن ِإ ّ
َتُموُت ّ
ل َتَوّكْلَنا{ ]يونس ،[85 ،84 :وقال تعالىِ} :إّنا عَلى ا ِّنَ .فَقاُلوا َ سِلِمي َ ن ُكْنُتْم ُم ْ ل َفَعَلْيِه َتَوّكُلوا ِإ ْن ُكْنُتْم آَمْنُتْم ِبا ِّموسىَ} :ياَقْوِم ِإ ْ
سي ت َنْف ِ
ظَلْم ُب ِإّني َ ن َهاُدوا{ ]المائدة ،[44 :وقالت بلقيسَ} :ر ّ سَلُموا ِلّلِذي َن َأ ْ ن اّلِذي َحُكُم ِبَها الّنِبّيو َ َأنَزْلَنا الّتْوَراَة ِفيَها ُهًدى َوُنوٌر َي ْ
شَهْد سوِلي َقاُلوا آَمّنا َوا ْ ن آِمُنوا ِبي َوِبَر ُ ن َأ ْ
حَواِرّيي َ ت ِإَلى اْل َحْي ُن{ ]النمل ،[44 :وقالَ} / :وِإْذ َأْو َ ب اْلَعاَلِمي َ ل َر ّ ن ِّ سَلْيَما َ
ت َمَع ُ سَلْم َُوَأ ْ
ن
لِم ِديًنا َفَل ْ سَ لْ غْيَر ا ِْن َيْبَتِغ َلُم{]آل عمران ،[19 :وقالَ} :وَم ْ سَلْل ا ِْ عْنَد ا ِّ ن ِ ن الّدي َ ن{ ]المائدة ،[111 :وقالِ} :إ ّ ِبَأّنَنا ُمسِْلُمو َ
ُيْقَبَل ِمْنُه{ ]آل عمران. [85 :
وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب ،فهو خالق السبب والمقدر له ،وهو مفتقر إليه كافتقار هذا ،وليس في
المخلوقات سبب مستقل بفعل ول دفع ضرر ،بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه ،وإلى ما يدفع عنه
الضد الذي يعارضه ،ويمانعه.
ل َأَفَرَأْيُتْموهو ـ سبحانه ـ وحده الغني عن كل ما سواه ،ليس له شريك يعاونه ول ضد يناوئه ويعارضه .قال تعالىُ} :ق ْ
عَلْيِه
ل َسِبي ا ُّ حْ ل َ حَمِتِه ُق ْ
ت َر ْ سَكا ُ ن ُمْم ِ
ل ُه ّ حَمٍة َه ْ
ضّرِه َأْو َأَراَدِني ِبَر ْ ت ُ شَفا ُ ن َكا ِل ُه ّ ضّر َه ْ ل ِب ُ ن َأَراَدِني ا ُّ
ل ِإ ْ
ن ا ِّن ُدو ِ ن ِم ْ عو َ َما َتْد ُ
عَلى ُك ّ
ل خْيٍر َفُهَو َ ك ِب َسَ سْ ن َيْم َ
ل ُهَو َوِإ ْف َلُه ِإ ّ
ش َل َكا ِ ضّر َف َ ل ِب ُ
ك ا ُّ سَ سْ ن َيْم َن{ ]الزمر ،[38 :وقال تعالىَ} :وِإ ْ ل اْلُمَتَوّكُلو َ
َيَتَوّك ُ
ت
سَماَوا ِ طَر ال ّ جِهي ِلّلِذي َف َ ت َو ْ جْه ُن ِ .إّني َو ّ شِرُكو َ يٍء َقِديٌر{ ]النعام ،[17 :وقال تعالى عن الخليلَ} :ياَقْوِم ِإّني َبِريٌء ِمّما ُت ْ ش َْ
شاَء َرّبي ن َي َ
ل َأ ْن ِبِه ِإ ّشِرُكو َ ف َما ُت ْخا ُ ل َأ َ
ل َوَقْد َهَداِني َو َ جوِني ِفي ا ِّ حا ّ ل َأُت َ
جُه َقْوُمُه َقا َحا ّ ن َ .و َ شِرِكي َ
ن اْلُم ْ
حِنيًفا َوَما َأَنا ِم ْ
ض َ لْر َ َوا َْ
ك َلُهْم اَْلْمُن َوُهْم ُمْهَتُدوَن{ ]النعام. [78-82 : ظْلٍم ُأْوَلِئ َ
سوا ِإيَماَنُهْم ِب ُ شْيًئا{ إلى قوله تعالى} :اّلِذي َ
ن آَمُنوا َوَلْم َيْلِب ُ َ
ل عنه ـ :إن هذه الية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى ال وفي الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي ا ّ
ل ،أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال) :إنما هو الشرك ،ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح:
عليه وسلم وقالوا :يا رسول ا ّ
ظيٌم{( ]لقمان.[13 :عِظْلٌم َ
ك َل ُ
ن الشّْر َ
}ِإ ّ
ل َحِنيًفا َوَلْم َيُكْن ِمَن اْلُمْشِرِكيَن{ ]النحل ،[120 :والمة :هو معلم الخير الذي يؤتم
ن ُأّمًة َقاِنًتا ِّ /وقال تعالىِ} :إ ّ
ن ِإْبَراِهيَم َكا َ
به ،كما أن القدوة الذي يقتدى به.
ن اّتِبْع ِمّلَة ل ـ تعالى ـ جعل في ذريته النبوة والكتاب ،وإنما بعث النبياء بعده بملته قال تعالىُ} :ثّم َأْو َ
حْيَنا ِإَلْيكَ َأ ْ وا ّ
ن اّتَبُعوُه َوَهَذا الّنِب ّ
ي ن َأْوَلى الّناسِ ِبِإْبَراِهيَم َلّلِذي َ ِإْبَراِهيَم َحِنيًفا َوَما َكاَن ِمْن اْلُمْشِرِكيَن{ ]النحل ،[123 :وقال تعالىِ :إ ّ
حِنيًفا
ن َ ن َكا َ صَراِنّيا َوَلِك ْ ل َن ْ ن{ ]آل عمران ،[68 :وقال تعالىَ} :ما َكا َ
ن ِإْبَراِهيُم َيُهوِدّيا َو َ ي اْلُمْؤِمِني َل َوِل ّن آَمُنوا َوا ُّ َواّلِذي َ
حِنيًفا
ل ِمّلَة ِإْبَراِهيَم َ ل َب ْصاَرى َتْهَتُدوا ُق ْ ن{ ]آل عمران ،[67 :وقال تعالىَ} :وَقاُلوا ُكوُنوا ُهوًدا َأْو َن َ شِرِكي َن اْلُم ْن ِم ْسِلًما َوَما َكا َ
ُم ْ
ط{ إلى قوله: سَبا ِلْ ب َوا َْق َوَيْعُقو َ حا َ
سَل َوِإ ْعي َسَما ِ
ل ِإَلى ِإْبَراِهيَم َوِإ ْ
ل ِإَلْيَنا َوَما ُأنِز َ
ل َوَما ُأنِز َ
ن ُ .قوُلوا آَمّنا ِبا ِّشِرِكي َ ن اْلُم ْ
ن ِم ْ
َوَما َكا َ
}َوَنْحنُ َلُه ُمْسِلُموَن{ ]البقرة.[136 ،135 :
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم :إن إبراهيم خير البرية ،فهو أفضل النبياء بعد النبي صلى ال
ل تعالى .وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم من غير وجه أنه قال) :إن ا ّ
ل عليه وسلم وهو خليل ا ّ
ل لتخذت أبا بكر خليل ،ولكن ل( ،وقال) :لو كنت متخًذا من أهل الرض خلي ً ل كما اتخذ إبراهيم خلي ً
اتخذني خلي ً
خة أبي بكر( ،وقال) :إن من
خْو َ
ت إل َسّد ْ
خة إل ُ
خْو َ
ل( ـ يعني نفسه ـ وقال) :ل يبقين /في المسجد َ
صاحبكم خليل ا ّ
كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ،أل فل تتخذوا القبور مساجد ،فإني أنهاكم عن ذلك( وكل هذا في الصحيح
.وفيه أنه قال :ذلك قبل موته بأيام ،وذلك من تمام رسالته.
ل خلًفا للجهمية.
ل ـ تعالى ـ للعبد ،ومحبة العبد ّ
ل ،التي أصلها محبة ا ّ
فإن في ذلك تحقيق تمام مخالته ّ
وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه ،وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر.
ل ،ومن الرب ـ سبحانه ـ كمال الربوبية لعباده الذينوالخلة :هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبوديـة ّ
يحبهم ويحبونه ،ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل ،وكمال الحب ،فإنهم يقولون :قلب متيم إذا كان متعبًدا للمحبوب،
ل عبده ،وهذا على الكمال حصل لبراهيم ومحمد صلى ال عليهما وسلم؛ ولهذا لم يكن له من والمتيم المتعبد ،وتيم ا ّ
أهل الرض خليل ،إذ الخلة ل تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى:
بخلف أصل الحب ،فإنه صلى ال عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة) :الّلهم إني أحبهما
فأحبهما ،وأحب من يحبهما( ،وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟ قال) :عائشة( .قال :فمن الرجال؟ قال:
ل ورسوله( وأمثال ذلك ل يحب الّ ورسوله ،ويحبه ا ّ
ل عنه ـ) :لعطين الراية رج ً
)أبوها( ،وقال لعلى ـ رضي ا ّ
كثير.
وقد أخبر ـ تعالى ـ أنه يحب المتقين ،ويحب المحسنين ،ويحب المقسطين ،ويحب التوابين ،ويحب المتطهرين ،ويحب
ل ِبَقْوٍم ُيِحّبُهْم َوُيِحّبوَنُه{ ]المائدة ،[54 :فقد
ف َيْأِتي ا ُّ
سْو َالذين يقاتلون في سبيله صًفا كأنهم بنيان مرصوص ،وقالَ} :ف َ
ل{ ]البقرة.[165 : حّبا ِّشّد ُ أخبر بمحبته لعباده المؤمنين ،و محبة المؤمنين له ،حتى قالَ} :واّلِذي َ
ن آَمُنوا َأ َ
ل ،وظنه أن المحبة فوق الخلة قول
ل ،وإبراهيم خليل ا ّ
وأما الخلة فخاصة .وقول بعض الناس :إن محمًدا حبيب ا ّ
ل كما ثبت ذلك في الحاديث الصحيحة المستفيضة ،وما يروي) :إن العباس يحشر ضا خليل ا ّ
ضعيف ،فإن محمًدا أي ً
بين حبيب وخليل( وأمثال ذلك ،فأحاديث موضوعة ل تصلح أن يعتمد عليها.
ل ـ تعالى ـ محبة ما أحب ،كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ثلث /وقد قدمنا أن من محبة ا ّ
ل ،ومن
من كن فيه وجد حلوة اليمان :من كان ال ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ
ل منه كما يكره أن يلقي في النار .أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن هذه
كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ
الثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان؛ لن وجد الحلوة بالشيء يتبع المحبة له ،فمن أحب شيًئا أو اشتهاه إذا حصل
له مراده فإنه يجد الحلوة واللذة والسرور بذلك ،واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملئم الذي هو المحبوب أو
المشتهى.
ل.
وتفريعها :أن يحب المرء ل يحبه إل ّ
ودفع ضدها :أن يكره ضد اليمان أعظم من كراهته اللقاء في النار ،فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة
ل ،وأحقهم بأن
ل؛ لنه أكمل الناس محبة ّ
ل صلى ال عليه وسلم يحب المؤمنين الذين يحبهم ا ّ ل ،وكان رسول ا ّ ا ّ
ل فيها نصيب ،بل قال) :لو كنت متخًذا من أهل الرض ل ،والخلة ليس لغير ا ّ
ل ،ويبغض ما يبغضه ا ّ يحب ما يحبه ا ّ
ل( علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة. ل لتخذت أبا بكر خلي ً خلي ً
ل تحقيق عبوديته؛ وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية والمقصود هو أن الخلة والمحبة ّ
مجرد ذل /وخضوع فقط ،ل محبة معه ،أو أن المحبة فيها انبساط في الهواء أو إدلل ل تحتمله الربوبية؛ ولهذا
يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة .فقال :أمسكوا عن هذه المسألة ل تسمعها النفوس فتدعيها.
وكره من كره من أهل المعرفة ،والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلم في المحبة بل خشية ،وقال من قال من السلف:
ل بالحب وحده فهو زنديق ،ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ،ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، من عبد ا ّ
ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد؛ ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى
أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة ،والدعوى التي تنافي العبودية ،وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي ل تصلح إل
لل ل ،ما ل يصلح ـ بكل وجه ـ إل ّل ،ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود النبياء والمرسلين أو يطلبون من ا ّ ّ
يصلح للنبياء والمرسلين .وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ.
وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل ،وحررها المر والنهي الذي جاؤوا به ،بل ضعف العقل الذي به
يعرف العبد حقيقته ،وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة ،انبسطت النفس بحمقها في ذلك ،كما ينبسط
النسان في محبة النسان مع حمقه وجهله ،ويقول :أنا محب فل أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل،
ل تعالىُ} :ق ْ
ل َفِلَم ُيَعّذُبُكْم ِبُذُنوِبُكْم ل َوَأِحّباُؤُه{ قال ا ّ
ن َأْبَناُء ا ِّفهذا /عين الضلل ،وهو شبيه بقول اليهود والنصارىَ} :ن ْ
حُ
ب َمْن َيَشاُء{ ]المائدة ،[18 :فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين شاُء َوُيَعّذ ُ
ن َي َ
ق َيْغِفُر ِلَم ْ
خَل َ
ن َ
شٌر ِمّم ْ
ل َأْنُتْم َب َ
َب ْ
ول منسوبين إليه بنسبة البنوة ،بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون.
ل يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه ،ل يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان ،ومن فمن كان ا ّ
ل يبغض منه ذلك ،كما يحب منه ما يفعله من الخير ،إذ حبه للعبد
فعل الكبائر وأصر عليها ،ولم يتب منها ،فإن ا ّ
ل يحبه مع إصراره عليها ،كان بمنزلة من زعم أن بحسب إيمانه وتقواه ،ومن ظن أن الذنوب ،ل تضره؛ لكون ا ّ
تناول السم ل يضره مع مداومته عليه ،وعدم تداويه منه بصحة مزاجه.
ل في كتابه من قصص أنبيائه ،وما جرى لهم من التوبة والستغفار ،وما أصيبوا به من ولو تدبر الحمق ما قص ا ّ
أنواع البلء الذي فيه تمحيص لهم ،وتطهير بحسب أحوالهم ،علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها ،ولو كان أرفع
الناس مقاًما ،فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارًفا بمصلحته ول مريًدا لها ،بل يعمل بمقتضى الحب ـ وإن كان جهلً
وظلًما ـ كان ذلك سبًبا لبغض المحبوب له ونفوره عنه ،بل لعقوبته.
ل ،وإما من تضييع عا من أمور الجهل بالدين ،إما من تعدي حدود ا ّ
ل أنوا ً
وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب ا ّ
ل ،وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي ل حقيقة لها ،كقول بعضهم :أي مريد لي ترك في النار أحًدا فأنا منه
حقوق ا ّ
برىء ،فقال الخر :أي مريد لي ترك أحًدا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه برىء ،فالول :جعل مريده يخرج كل
من في النار ،والثاني :جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار .ويقول بعضهم :إذا كان يوم القيامة نصبت
خيمتي على جهنم حتى ل يدخلها أحد ،وأمثال ذلك من القوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين ،وهي إما
كذب عليهم ،وإما غلط منهم ،ومثل هذا قد يصدر في حال سكر ،وغلبة ،وفناء يسقط فيها تمييز النسان ،أو يضعف
حتى ل يدري ما قال ،والسكر هو لذة مع عدم تمييز؛ ولهذا كان بين هؤلء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلم.
والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب ،والشوق ،واللوم ،والعذل والغرام كان هذا أصل
ل{ ]آل عمران:
حِبْبُكْم ا ُّ
ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ
ن ا َّ
حّبو َ ل للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقالُ} :ق ْ
ل ِإنْ ُكْنُتْم ُت ِ مقصدهم .ولهذا أنزل ا ّ
ل إل من يتبع رسوله ،وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية. ،[31فل يكون محًبا ّ
وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته ،ويدعي من /الخيالت ما ل يتسع هذا الموضع لذكره ،حتى قد
يظن أحدهم سقوط المر وتحليل الحرام له ،وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول ،وسنته ،وطاعته ،بل قد جعل
ل عنه؛ل به ،وكمال بغض ما نهى ا ّ ل ومحبة رسوله الجهاد في سبيله ،والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر ا ّ محبة ا ّ
ل{ ]المائدة.[54 :
ل ا ِّ
سِبي ِ
ن ِفي َ
جاِهُدو َ
ن ُي َ
عَلى اْلَكاِفِري َ
عّزٍة َ
ن َأ ِ ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونهَ} :أِذّلٍة َ
عَلى اْلُمْؤِمِني َ
وفي كلم بعض الشيوخ :المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب ،وأرادوا أن الكون كله قد أراد الّ
وجوده ،فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء ،حتى الكفر والفسوق ،والعصيان ،ول يمكن أحًدا أن يحب كل
موجود ،بل يحب ما يلئمه وينفعه ،ويبغض ما ينافيه ويضره ،ولكن استفادوا بهذا الضلل اتباع أهوائهم ،فهم يحبون
ل بغض ما ل ،ومن محبة ا ّ
ما يهوونه كالصور ،والرئاسة وفضول المال ،والبدع المضلة ،زاعمين أن هذا من محبة ا ّ
ل ورسوله ،وجهاد أهله بالنفس والمال.
يبغضه ا ّ
ل ـ تعالى ـ
/وأصل ضللهم :أن هذا القائل الذي قال :إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد ا ّ
ل ،وهذا معنى الرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه ،فكأنه قال تحرق من القلب ما سوى المحبوب ّ
ل ،فإذا أحببت ما ل يحب كانت المحبة ناقصة ،وأما قضاؤه وقدره صحيح ،فإن من تمام الحب أل يحب إل ما يحبه ا ّ
فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهي عنه ،فإن لم أوافقه في بغضه ،وكراهته ،وسخطه لم أكن محًبا له ،بل محًبا لما
ل وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين منيبغضه .فاتباع الشريعة ،والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة ا ّ
ل منل ناظًرا إلى عموم ربوبيته ،أو متبًعا لبعض البدع المخالفة لشريعته ،فإن دعوى هذه المحبة ّ
يدعي محبة ا ّ
ل ،بل قد تكون دعوى هؤلء شًرا من دعوى اليهود والنصارى ،لما فيهم من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة ّ
النفاق الذين هم به في الدرك السفل من النار ،كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شًرا من دعواهم ،إذا لم يصلوا
ل ما هم متفقون عليه ،حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس. إلى مثل كفرهم ،وفي التوراة والنجيل من محبة ا ّ
ل بكل قلبك وعقلك ونفسك( ،والنصارى يدعون قيامهم ففي النجيل أن المسيح قال) :أعظم وصايا المسيح أن تحب ا ّ
ل ،إذا لم /يتبعوا ما أحبه ،بل
بهذه المحبة ،وإن ما هم فيه من الزهد ،والعبادة هو من ذلك ،وهم برآء من محبة ا ّ
ل يبغض الكافرين ويمقتهم ،ويلعنهم ،وهو سبحانه يحب من ل وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ،وا ّ اتبعوا ما أسخط ا ّ
ل له ،وإن
ل ـ تعالى ـ غير محب له ،بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب ا ّ ل ،وا ّيحبه ،ل يمكن أن يكون العبد محًبا ّ
ل ـ تعالى ـ أنه قال) :من تقرب إلى شبًرا تقربت إليه ل لعبده أعظم ،كما في الحديث الصحيح اللهي عن ا ّ كان جزاء ا ّ
عا ،ومن أتاني يمشي أتيته هرولة(.عا تقربت إليه با ً
عا ،ومن تقرب إلى ذرا ً ذرا ً
وقد أخبر ـ سبحانه ـ أنه يحب المتقين ،والمحسنين والصابرين ،ويحب التوابين ،ويحب المتطهرين ،بل هو يحب من
فعل ما أمر به من واجب ومستحب ،كما في الحديث الصحيح) :ل يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ،فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به( الحديث.
خا في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى ،من دعوى المحبة وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشيا ً
ل ،بنحو ما ل مع مخالفة شريعته ،وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك ،ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى ا ّ ّ
تمسك به النصارى من الكلم المتشابه ،والحكايات التي ل يعرف صدق قائلها ،ولو صدق لم يكن قائلها معصوًما،
فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا ،كما جعل النصارى قسيسيهم ،ورهبانهم شارعين /لهم ديًنا ،ثم إنهم ينتقصون
ل من العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعى النصارى في المسيح ،ويثبتون للخاصة من المشاركة في ا ّ
جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه ،إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع.
ل بكل وجه ،وهو تحقيق محبة الّ بكل درجة ،وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية ّ
ل ،كانت فيه
العبد لربه ،وتكمل محبة الرب لعبده ،وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا ،وكلما كان في القلب حب لغير ا ّ
ل بحسب ذلك ،وكل محبة ل تكون ل كان فيه حب لغير ا ّ ل بحسب ذلك ،وكلما كان فيه عبودية لغير ا ّ عبودية لغير ا ّ
ل إل
ل ،ول يكون ّ ل فهو باطل ،فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إل ما كان ّ ل فهي باطلة ،وكل عمل ل يراد به وجه ا ّ ّ
ل،
ل لم يكن ّ
ل ،وكل عمل ل يوافق شرع ا ّ ل لم يكن ّ ل ورسوله ،وهو المشروع ،فكل عمل أريد به غير ا ّ ما أحبه ا ّ
ل ورسوله ،وهو الواجب والمستحب ،كما ل ،وأن يكون موافًقا لمحبة ا ّ ل إل ما جمع الوصفين ،أن يكون ّ بل ل يكون ّ
حًدا{ ]الكهف.[110 :ك ِبِعَباَدِة َرّبِه َأ َ
شِر ْ
ل ُي ْ
حا َو َ
صاِل ً
ل َ
عَم ً
ل َ
جوا ِلَقاَء َرّبِه َفْلَيْعَم ْ
ن َيْر ُ
ن َكا َ
قالَ} :فَم ْ
والشرك غالب على النفوس ،وهو كما جاء في الحديث) :وهو في هذه المة أخفى من دبيب النمل( ،وفي حديث آخر:
ل ،كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل ؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم لبي بكر: قال أبو بكر :يا رسول ا ّ
)أل أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله ؟ قل :الّلهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ،وأستغفرك لما ل
صا ،ول تجعل لحد فيه شيًئا. حا ،واجعله لوجهك خال ً
أعلم( .وكان عمر يقول في دعائه :الّلهم اجعل عملي كله صال ً
ل وعبوديتها له ،وإخلص دينها وكثيًرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق /محبتها ّ
له ،كما قال شداد بن أوس :يا بقايا العرب ،إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء ،والشهوة الخفية .قيل لبي داود
السجستاني :وما الشهوة الخفية؟قال :حب الرئاسة ،وعن كعب بن مالك عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ما
ذئبان جائعان أرسل في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال ،والشرف لدينه( قال الترمذي :حديث
حسن صحيح.
فبين صلى ال عليه وسلم أن الحرص على المال ،والشرف في فساد الدين ،ل ينقص عن فساد الذئبين الجائعين
ل،
لزريبة الغنم ،وذلك بين ،فإن الدين السليم ل يكون فيه هذا الحرص ،وذلك أن القلب إذا ذاق حلوة عبوديته ّ
ل السوء والفحشاء،ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه ،وبذلك يصرف عن أهل الخلص ّ
صيَن{ ]يوسف.[42 :
خَل ِ
عَباِدَنا اْلُم ْ
ن ِ
شاَء ِإّنُه ِم ْ
حَسوَء َواْلَف ْ
عْنُه ال ّ
ف َ
صِر َ كما قال تعالىَ} :كَذِل َ
ك ِلَن ْ
ل ما يمنعه عن محبة ل ما يمنعه عن عبوديته لغيره ،ومن حلوة محبته ّ ل ذاق من حلوة عبوديته ّ فإن المخلص ّ
ل،غيره؛ إذ ليس عند القلب ل أحلى ،ول ألذ ،ول أطيب ،ول ألين ،ول أنعم من حلوة اليمان المتضمن عبوديته ّ
ل خائًفا منه راغًبا ل فيصير القلب منيًبا إلى ا ّ ومحبته له ،وإخلصه الدين له ،وذلك يقتضى انجذاب القلب إلى ا ّ
ب{ ]ق ،[33 :إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه ب ُمِني ٍ
جاَء ِبَقْل ٍ
ب َو َن ِباْلَغْي ِحَما َ
ي الّر ْ شَ خِ ن َ راهًبا ،كما قال تعالىَ} :م ْ
ن ِإَلى َرّبِهْم
ن َيْبَتُغو َ
عو َ
ن َيْد ُ ل ومحبه إل بين خوف ورجاء ،قال تعالىُ} :أْوَلِئ َ
ك اّلِذي َ وحصول /مرغوبه ،فل يكون عبد ا ّ
ك َكاَن َمْحُذوًرا{ ]السراء.[57 : ب َرّب َعَذا َ
ن َعَذاَبُه ِإ ّن َ
خاُفو َ
حَمَتُه َوَي َ
ن َر ْجو َ
ب َوَيْر ُ
سيَلَة َأّيُهْم َأْقَر ُ
اْلَو ِ
صا له اجتباه ربه فيحيى قلبه ،واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، وإذا كان العبد مخل ً
ل ،فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق ،فيهوى ما يسنح ويخاف من حصول ضد ذلك ،بخلف القلب الذي لم يخلص ّ
له ويتشبث بما يهواه ،كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله .فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة ،فيبقى أسيًرا
صا وذًما .وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة ،فترضيه الكلمة وتغضبه عبًدا لمن لو اتخذه هو عبًدا له ،لكان ذلك عيًبا ونق ً
الكلمة ويستعبده من يثنى عليه ولو بالباطل ،ويعادي من يذمه ولو بالحق ،وتارة يستعبده الدرهم والدينار ،وأمثال ذلك
ل.
من المور التي تستعبد القلوب ،والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من ا ّ
ل أحب إليه من كل ما سواه، ل عبًدا له قد صار قلبه معبًدا لربه وحده ل شريك له ،بحيث يكون ا ّ صا ّ ومن لم يكن خال ً
ل له خاضًعا وإل استعبدته الكائنات ،واستولت على قلبه الشياطين ،وكان من الغاوين إخوان الشياطين، ويكون ذلي ً
ل ،وهذا أمر ضروري ل حيلة فيه ،فالقلب إن لم يكن حنيًفا مقب ً
ل وصار فيه من السوء والفحشاء ما ل يعلمه إل ا ّ
ل َتْبِدي َ
ل عَلْيَها َ
س َطَر الّنا َ
ل اّلِتي َف َ
طَرةَ ا ِّ
حِنيًفا ِف ْ
ن َ
ك ِللّدي ِ ضا عما /سواه وإل كان مشرًكا ،قال تعالىَ} :فَأِقْم َو ْ
جَه َ ل معر ً على ا ّ
ب ِبَما َلَدْيِهْم َفِرُحوَن{ ]الروم30 :ـ .[32 حْز ٍ ل ِن{ إلى قولهُ} :ك ّ ل َيْعَلُمو َ
س َ
ن َأْكَثَر الّنا ِ
ن اْلَقّيُم َوَلِك ّ
ك الّدي ُ
ل َذِل َ
ق ا ِّ
خْل ِ
ِل َ
ل وعبادته وإخلص الدين ل ـ سبحانه ـ إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلء الحنفاء المخلصين أهل محبة ا ّ وقد جعل ا ّ
حا َ
ق سَ له ،كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم .قال تعالى في إبراهيمَ} :وَوَهْبَنا َلُه ِإ ْ
لِة َوِإيَتاَء صَ ت َوِإَقاَمِة ال ّ خْيَرا ِ ل اْل َ حْيَنا ِإَلْيِهْم ِفْع َ
ن ِبَأْمِرَنا َوَأْو َ
جَعْلَناُهْم َأِئّمًة َيْهُدو َ
ن َ .و َ
حي َ
صاِل ِ
جَعْلَنا َ
ل َب َناِفَلًة َوُك ّ
َوَيْعُقو َ
ن ِإَلى الّناِر َوَيْوَم اْلِقَياَمِة َ
ل عو َ ن{ ]النبياء ،[73 ،72 :وقال في فرعون وقومهَ} :و َ
جَعْلَناُهْم َأِئّمًة َيْد ُ عاِبِدي َ
الّزَكاِة َوَكاُنوا َلَنا َ
صُروَن َ .وَأْتَبْعَناُهْم ِفي َهِذِه الّدْنَيا َلْعَنًة َوَيْوَم اْلِقَياَمِة ُهْم ِمْن اْلَمْقُبوِحيَن{ ]القصص.[42 ،41 : ُين َ
/وأما إبراهيم ،وآل إبراهيم الحنفاء ،والنبياء فهم يعلمون أنه لبد من الفرق بين الخالق والمخلوق ،ولبد من الفرق
ل وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة بين الطاعة والمعصية .وأن العبد كلما ازداد تحقيًقا ازدادت محبته ّ
ل وبين خلقه .والخليل يقولَ} :قا َ
ل َأَفَرَأْيُتْم غيره ومحبة غيره وطاعة غيره .وهؤلء المشركون الضالون يسوون بين ا ّ
ب اْلَعاَلِميَن{ ]الشعراء ،[75-77 :ويتمسكون بالمتشابه من كلم ل َر ّ
عُدّو ِلي ِإ ّ
ن َ .فِإّنُهْم َ
لْقَدُمو َ
ن َ .أْنُتْم َوآَباُؤُكْم ا َْ
َما ُكْنُتْم َتْعُبُدو َ
المشائخ كما فعلت النصارى.
مثال ذلك اسم الفناء ،فإن الفناء ثلثة أنواع :نوع للكاملين من النبياء والولياء ،ونوع للقاصدين من الولياء
والصالحين ،ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين.
ل ،ول يعبد إل إياه ،ول يتوكل إل عليه ،ول يطلب ل ،بحيث ل يحب إل ا ّفأما الول :فهو الفناء عن إرادة ما سوى ا ّ
غيره ،وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبى يزيد حيث قال :أريد أل أريد إل ما يريد .أي المراد
ل ورضيه المحبوب المرضي ،وهو المراد بالرادة الدينية وكمال العبد أل يريد ول يحب ول يرضى إل ما أراده ا ّ
ل كالملئكة والنبياء والصالحين .وهذا معنى وأحبه ،وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب ،ول يحب إل ما يحبه ا ّ
ل ،أو
ل ،أو مما سوى عبادة ا ّب َسِليٍم{ ]الشعراء [89 :قالوا :هو السليم مما سوى ا ّ
ل ِبَقْل ٍ
ن َأَتى ا َّ قولهم في قولهِ} :إ ّ
ل َم ْ
ل ،فالمعنى واحد وهذا المعني إن سمى فناء أو لم يسم ،هو أول السلم ل ،أو مما سوى محبة ا ّ مما سوى /إرادة ا ّ
وآخره .وباطن الدين وظاهره.
وأما النوع الثاني :فهو الفناء عن شهود السوى ،وهذا يحصل لكثير من السالكين ،فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر
ل ،بل
ل وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد ،ل يخطر بقلوبهم غير ا ّ ا ّ
طَنا َعَلى َقْلِبَها{ ]القصص،[10 :
ن َرَب ْ
ل َأ ْ
ت َلُتْبِدي ِبِه َلْو َ
ن َكاَد ْ
غا ِإ ْ
سى َفاِر ً
ح ُفَؤاُد ُأّم ُمو َ وليشعرون ،كما قيل في قولهَ} :وَأ ْ
صَب َ
غا من كل شيء إل من ذكر موسى ،وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من المور إما حب وإما خوف .وإما قالوا :فار ً
رجاء يبقى قلبه منصرًفا عن كل شيء إل عما قد أحبه ،أو خافه أو طلبه ،بحيث يكون عند استغراقه في ذلك ل يشعر
بغيره.
فإذا قوى على صاحب الفناء هذا ،فإنه يغيب بموجوده عن وجوده ،وبمشهوده عن شهوده ،وبمذكوره عن ذكره،
وبمعروفه عن معرفته ،حتى يفنى من لم يكن ،وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه ،ويبقى من لم يزل وهو الرب
تعالى ،والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره ،وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها .وإذا قوى هذا ضعف المحب حتى
ل ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه ،فقال :أنا
اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه ،كما يذكر :أن رج ً
وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال :غبت بك عني ،فظننت أنك أني .
/وهذا الموضع زل فيه أقوام ،وظنوا أنه اتحاد ،وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى ل يكون بينهما فرق في نفس
وجودهما ،وهذا غلط ،فإن الخالق ل يتحد به شيء أصل ،بل ل يتحد شيء بشيء إل إذا استحال وفسدا وحصل من
اتحادهما أمر ثالث ل هو هذا ول هذا ،كما إذا اتحد الماء واللبن ،والماء والخمر ،ونحو ذلك ،ولكن يتحد المراد
والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الرادة والكراهة ،فيحب هذا ما يحب هذا .ويبغض هذا ما يبغض هذا،
ويرضى ما يرضى ،ويسخط ما يسخط ،ويكره ما يكره ،ويوالي من يوالي ،ويعادي من يعادي ،وهذا الفناء كله فيه
نقص.
وأكابر الولياء ،كأبي بكر وعمر ،والسابقين الولين من المهاجرين والنصار ،لم يقعوا في هذا الفناء ،فضل
عمن هو فوقهم من النبياء ،وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة .وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة
ل عنهم ـ كانوا أكمل وأقوى وأثبت في العقل والتمييز ،لما يرد على القلب من أحوال اليمان ،فإن الصحابة ـ رضي ا ّ
الحوال اليمانية من أن تغيب عقولهم .أو يحصل لهم غشى ،أو صعق ،أو سكر ،أو فناء ،أو َوَلٌه ،أو جنون .وإنما
كان مبادئ هذه المور في التابعين من عباد البصرة ،فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن .ومنهم من
يموت :كأبي جهير الضرير .وزرارة بن أوفى قاضي البصرة.
وكذلك صار في شيوخ الصوفية ،من يعرض له من الفناء والسكر ،ما /يضعف معه تمييزه ،حتى يقول في تلك
الحال من القوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه ،كما يحكى نحو ذلك ،عن مثل أبى يزيد ،وأبي الحسين النوري،
وأبى بكر الشبلي وأمثالهم.
بخلف أبي سليمان الداراني ،ومعروف الكرخي ،والفضيل بن عياض ،بل وبخلف الجنيد وأمثالهم ،ممن كانت
عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فل يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه ،بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيـها
ل وإرادته وعبادته ،وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون المور على ما هي عليه ،بل يشهدون سوى محبة ا ّ
ل مدبرة بمشيئته ،بل مستجيبة له قانتة له ،فيكون لهم فيها تبصرة وذكـرى ،ويكون ما
المخلوقات قائمة بأمر ا ّ
يشهـدونه من ذلك مؤيـًدا ،وممـًدا لما في قلوبهم من إخلص الدين ،وتجريد التوحيد له ،والعبادة له وحده ل شريك له.
وهذه الحقيقة ،التي دعا إليها القرآن ،وقام بها أهل تحقيق اليمان ،والكمل من أهل العرفان .ونبينا صلى ال عليه
وسلم إمام هؤلء وأكملهم؛ ولهذا لما عرج به إلى السموات ،وعاين ما هنالك من اليات وأوحى إليه ما أوحى من
أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله ،ولظهر عليه ذلك ،بخلف ما كان يظهر على موسى من التغشي ـ
ل عليهم وسلم أجمعين. صلى ا ّ
ل ،وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق ،فل
/وأما النوع الثالث :مماقد يسمى فناء ـ فهو أن يشهد أن ل موجود إل ا ّ
فرق بين الرب والعبد ،فهذا فناء أهل الضلل واللحاد الواقعين في الحلول والتحاد.
ل ،ونحو ذلك ،فمرادهم بذلك ما أرى ربا ل ،أول أنظر إلى غير ا ّوالمشائخ المستقيمون إذا قال أحدهم :ما أرى غير ا ّ
غيره ،ول خالًقا غيره ،ول مدبًرا غيره ،ول إلها غيره ،ول أنظر إلى غيره محبة له ،أو خوًفا منه ،أو رجاء له ،فإن
العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب ،فمن أحب شيًئا ،أو رجاه أو خافه التفت إليه ،وإذا لم يكن في القلب محبة له ،ول
رجاء له ،ول خوف منه ،ول بغض له ،ول غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه ،ول أن ينظر
طا ،ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به. إليه ول أن يراه وإن رآه اتفاًقا ،رؤية مجردة كان كما لو رأى حائ ً
ل عنهم ـ يذكرون شيًئا من تجريد التوحيد ،وتحقيق إخلص الدين كله ،بحيث ل يكون والمشائخ الصالحون ـ رضي ا ّ
غا منل ول ناظًرا إلى ما سواه :لحًبا له ،ول خوًفا منه ،ول رجاء له بل يكون القلب فار ً العبد ملتفًتا إلى غير ا ّ
ل ،فبالحق يسمع ،وبالحق يبصر ،وبالحق يبطش ،وبالحق يمشي ،فيحب المخلوقات خالًيا منها ل ينظر إليها إل بنور ا ّ
ل ،ويخاف ا ّ
ل ل ،ويعادي منها ما عاداه /ا ّ
ل ،ويوالي منها ما واله ا ّ
ل ،ويبغض منها ما يبغضه ا ّ منها ما يحبه ا ّ
ل ،فهذا هو القلب السليم ،الحنيف ،الموحد ،المسلم،ل فيها ،ول يرجوها في ا ّل ،ويرجو ا ّفيها ،ول يخافها في ا ّ
المؤمن ،العارف ،المحقق ،الموحد بمعرفة النبياء والمرسلين ،وبحقيقتهم وتوحيدهم.
وأما النوع الثالث :وهو الفناء في الموجود ،فهو تحقيق آل فرعون ،ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم.
وليس مراد المشائخ ،والصالحين ،بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات ،هو رب الرض والسموات ،فإن
هذا ل يقوله إل من هو في غاية الضلل والفساد ،إما فساد العقل ،وإما فساد العتقاد .فهو متردد بين الجنون
واللحاد.
وكل المشائخ الذين يقتدي بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف المة وأئمتها ،من أن الخالق ـ سبحانه ـ مباين
للمخلوقات ،وليس في مخلوقاته شىء من ذاته ،ول في ذاته شىء من مخلوقاته ،وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث،
وتمييز الخالق عن المخلوق .وهذا في كلمهم /أكثر من أن يمكن ذكره هنا .وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب
من المراض والشبهات ،وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات ،فيظنه خالق الرض والسموات ،لعدم التمييز
والفرقان في قلبه ،بمنزلة من رأى شعاع الشمس ،فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء.
وهم قد يتكلمون في الفرق ،والجمع ،ويدخل في ذلك من العبارات الملفتة نظير ما دخل في الفناء ،فإن العبد إذا شهد
التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلًقا بها ،متشتًتا ناظًرا إليها متعلًقا بها ،إما محبة ،وإما خوًفا ،وإما رجاء،
ل بعد التفاته إلى
ل وعبادته وحده ل شريك له ،فالتفت قلبه إلى ا ّ فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد ا ّ
المخلوقين فصارت محبته لربه ،وخوفه من ربه ،ورجاؤه لربه ،واستعانته بربه ،وهو في هذا الحال قد ل يسع قلبه
ضا عن الخلق نظًرا وقصًدا وهو النظر إلى المخلوق؛ ليفرق بين الخالق والمخلوق .فقد يكون مجتمًعا على الحق معر ً
نظير النوع الثاني من الفناء.
ل ،فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق ،ويثبت في قلبه ألوهية الحق ،فيكون
وذلك تحقيق شهادة أن ل إله إل ا ّ
نافًيا للوهية كل شيء من المخلوقات ،مثبًتا للوهية رب العالمين رب الرض والسموات ،وذلك يتضمن اجتماع
ل ،وعلى مفارقة ما سواه ،فيكون مفرًقا في علمه وقصده في شهادته ،وإرادته في معرفته ومحبته بين القلب على ا ّ
ل ـ تعالى ـ ذاكًرا له عارًفا به ،وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه ،وانفراده الخالق والمخلوق ،بحيث يكون عالًما با ّ
ل ،معظًما له ،عابًدا له ،راجًيا له خائًفا منه ،موالًيا فيه ،معادًيا فيه ،مستعيًنا به،عنهم ،وتوحده دونهم ،ويكون محًبا ّ
متوكلً عليه ،ممتنًعا عن عبادة غيره ،والتوكل عليه ،والستعانة به ،والخوف منه ،والرجاء له ،والموالة فيه،
ل ـ سبحانه وتعالى. والمعاداة فيه ،والطاعة لمره ،وأمثال ذلك ،مما هو من خصائص إلهية ا ّ
ل ـ تعالى ـ دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته ،وهو أنه رب كل شيء ومليكه ،وخالقه ،ومدبره،
وإقراره بألوهية ا ّ
ل.
فحينئذ يكون موحًدا ّ
ومن زعم أن هذا ذكر العامة ،وأن ذكر الخاصة هو السم المفرد ،وذكر خاصة الخاصة ،هو السم المضمر ،فهم
ضِهْم َيْلَعُبوَن{ ]النعام ،[91 :من أبين غلط خْو ِ ل ُثّم َذْرُهْم ِفي َ ضالون غالطون .واحتجاج بعضهم على ذلك ،بقولهُ} :ق ْ
ل ا ُّ
سى ُنوًرا َوُهًدى
جاَء ِبِه ُمو َ
ب اّلِذي َ
ل اْلِكَتا َ
ن َأنَز َ
ل َم ْ هؤلء ،فإن السم هومذكور في المر بجواب الستفهام .وهو قولهُ} :ق ْ
ل الذي أنزل ل{ ]النعام [91 :أي :ا ّ ل ا ُّ
ل آَباُؤُكْم ُق ْ
عّلْمُتْم َما َلْم َتْعَلُموا َأْنُتْم َو َ
ن َكِثيًرا َو ُ
خُفو َ
س ُتْبُدوَنَها َوُت ْ
طي َ
جَعُلوَنُه َقَرا ِ
س َت ْ
ِللّنا ِ
الكتاب الذي جاء به موسى،فالسم مبتدأ ،وخبره قد دل عليه الستفهام ،كما في نظائر ذلك تقول :من جاره ،فيقول
زيد.
وأما السم المفرد ،مظهًرا ،أو مضمًرا ،فليس بكلم تام ،ول جملة مفيدة ،ول يتعلق به إيمان ،ول كفر ،ول أمر ،ول
ل صلى ال عليه وسلم ،ول يعطي القلب بنفسه نهي ،ولم يذكر ذلك أحد من سلف المة ،ول شرع ذلك رسول ا ّ
معرفة مفيدة ،ول حالً نافًعا ،وإنما يعطيه تصوًرا مطلًقا ،ل يحكم عليه بنفي ول إثبات ،فإن لم يقترن به من معـرفة
القلب وحاله ما يفيد بنفسه /وإل لم يكن فيه فائدة .والشريعة إنما تشرع من الذكار ما يفيد بنفسه ،ل ما تكون الفائدة
حاصلة بغيره.
وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من اللحاد ،وأنواع من التحاد ،كما قد بسط في غير هذا
الموضع.
وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال :أخاف أن أموت بين النفي والثبات .حال ل يقتدى فيها بصاحبها ،فإن في
ذلك من الغلط ما ل خفاء به .إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إل على ما قصده ونواه ،إذ العمال بالنيات ،وقد
ل دخلل ،وقال) :من كان آخر كلمه ل إله إل ا ّثبت أن النبي صلى ال عليه وسلم أمر بتلقين الميت ل إله إل ا ّ
الجنة( ولو كان ما ذكره محذوًرا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موًتا غير محمود ،بل كان يلقن ما
اختاره من ذكر السم المفرد.
والذكر بالسم المضمر المفرد أبعد عن السنة،وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلل الشيطان،فإن من قال :يا هو يا
هو ،أو :هو هو .ونحو ذلك لم يكن الضمير عائًدا إل ِإلى ما يصوره قلبه ،والقلب قد يهتدي وقد يضل،وقد صنف
ل{ ]آل عمران ،[7 :معناه: صاحب ]الفصوص[ كتاًبا سماه كتاب ]الهو[ وزعم بعضهم أن قولهَ} :وَما َيْعَلُم َتْأِويَلُه ِإ ّ
ل ا ُّ
وما يعلم تأويل هذا السم الذي هو ]الهو[ ،وقيل :هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل /العقلء على أنه من أبين
الباطل،فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلء ،حتى قلت مرة لبعض من قال شيًئا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت:
]وما يعلم تأويل هو[ منفصلة.
ل أمر نبيه بأن ل ُثّم َذْرُهْم{ ويظن أن ا ّ ل ا ُّ ل[ بقولهُ} :ق ْ ثم كثيًرا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل] :ا ّ
ل الذي أنزل الكتاب الذي جاء به ل بّلٍه{ معناه :ا ّ يقول :السم المفرد ،وهذا غلط باتفاق أهل العلم ،فإن قولهٍ} :ق ٌ
ن َكِثيًرا
خُفو َ
س ُتْبُدوَنَها َوُت ْ
طي َ
جَعُلوَنُه َقَرا ِ
س َت ْ
سى ُنوًرا َوُهًدى ِللّنا ِجاَء ِبِه ُمو َ
ب اّلِذي َ
ل اْلِكَتا َ
ن َأنَز َ
ل َم ْ موسى ،وهو جواب لقولهُ} :ق ْ
ل الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ،رد بذلك قول ل{ ]النعام ،[91 :أي :ا ّ ل ا ُّل آَباُؤُكْم ُق ْ
عّلْمُتْم َما َلْم َتْعَلُموا َأْنُتْم َو َ
َو ُ
ل{ أنزله }ُثّم َذْرُهْم
ل ا ُّ
ب اّلِذي َجاَء ِبِه ُموَسى{ ثم قالُ} :ق ْ
ل اْلِكَتا َ ل على بشر من شيء ،فقالَ} :م ْ
ن َأنَز َ من قال :ما أنزل ا ّ
ضِهْم َيْلَعُبوَن{. {هؤلء المكذبين }ِفي َ
خْو ِ
ومما يبين ما تقدم :ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلًما ،ل يحكون به ما
ل ،فالقول ل يحكى به إل كلم تام ،أو جملة اسمية أو فعلىة؛ ولهذا يكسرون أن إذا جاءت بعد القول ،فالقول كان قو ً
ل ـ تعالى ـ ل يأمر أحًدا بذكر اسم مفرد ،ول شرع للمسلمين اسًما مفرًدا مجرًدا ،والسم المجرد
ل يحكى به اسم ،وا ّ
ل يفيد اليمان /باتفاق أهل السلم ،ول يؤمر به في شيء من العبادات ،ول في شيء من المخاطبات.
ل[
ونظير من اقتصر على السم المفرد ما يذكر أن بعض العراب مر بمؤذن يقول] :أشهد أن محمًدا رسول ا ّ
بالنصب فقال :ماذا يقول هذا؟ هذا السم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلم؟
ك اَْلْعَلى{ ]العلى،[1 :سَم َرّب َ حا ْ ل{ ]المزمل ،[8 :وقولهَ } :
سّب ْ ل ِإَلْيِه َتْبِتي ً
ك َوَتَبّت ْ
سَم َرّب َوما في القرآن من قولهَ} :واْذُكْر ا ْ
ظيِم{ ]الواقعة،[96 :
ك اْلَع ِسِم َرّب َح ِبا ْ صّلى{ ]العلى ،[15 ،14 :وقولهَ} :ف َ
سّب ْ سَم َرّبِه َف َ
ن َتَزّكىَ .وَذَكَر ا ْ وقولهَ} :قْد َأْفَل َ
ح َم ْ
ظيِم{ ]الواقعة ،[96 :قال: ك اْلَع ِ
سِم َرّب َ ونحو ذلك ل يقتضي ذكره مفرًدا ،بل في السنن أنه لما نزل قولهَ} :فسَّب ْ
ح ِبا ْ
ك اَْلْعَلى{ قال) :اجعلوها في سجودكم( .فشرع لهم أن يقولوا في سَم َرّب َ حا ْ سّب ْ )اجعلوها في ركوعكم( ولما نزل قولهَ } :
الركوع :سبحان ربي العظيم ،وفي السجود سبحان ربي العلى ،وفي الصحيح أنه كان يقول في ركوعه) :سبحان
ربي العظيم( وفي سجوده) :سبحان ربي العلى( وهذا هو معنى قوله) :اجعلوها في ركوعكم( و)سجودكم( باتفاق
المسلمين.
فتسبيح اسم ربه العلى وذكر اسم ربه ،ونحو ذلك هو بالكلم التام المفيد ،كما في الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم
ل أكبر( ،وفيل ،وا ّ
ل ،ول إله إل ا ّل ،والحمد ّ أنه قال) :أفضل الكلم بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن ـ :سبحان /ا ّ
الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال) :كلمتان خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان ،حبيبتان إلى الرحمن:
ل العظيم( ،وفي الصحيحين عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال) :من قال في يومه مائة ل وبحمده ،سبحان ا ّ سبحان ا ّ
ل له حرًزا من الشيطان ل وحده ل شريك له ،له الملك ،وله الحمد ،وهو على كل شيء قدير ،كتب ا ّ مرة :ل إله إل ا ّ
يومه ذلك حتى يمسى ،ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به ،إل رجل قـال مثل ما قال أو زاد عليه .ومـن قال في يومـه
ل العظيم ،حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر( ،وفي الموطأ وغيره ل وبحمده سبحان ا ّ مائة مـرة :سبحان ا ّ
ل وحده ل شريك له له الملك عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي ل إله إل ا ّ
وله الحمد وهو على كل شيء قدير( .وفي سنن ابن ماجه وغيره عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال) :أفضل الذكر ل
ل(.
ل ،وأفضل الدعاء الحمد ّ إله إل ا ّ
ل،
ل .والول أحسن؛ لن الفعل كله مفعول بسم ا ّ ل ،أو ابتدأت بسم ا ّ ومن الناس من يضمر في مثل هذا ابتدائي بسم ا ّ
سِم ا ِّ
ل ق{ ]العلق ،[1 :وفي قولهِ} :بِا ْ
خَل َ
ك اّلِذي َ ليس مجرد ابتدائه ،كما أظهر المضـمر في قــوله} :اْقَرْأ ِبا ْ
سِم َرّب َ
ساَها{ ]هود ،[41 :وفي قول النبي صلى ال عليه وسلم) :من كان ذبح قبل الصلة فليذبح مكانها أخرى. جَراَها َوُمْر َ
َم ْ
ل( .ومن هذا الباب قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لربيبه عمر بن ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم ا ّ
ل .ليس المراد أن يذكر السم مجرًدا .وكذلك ل ،وكل بيمينك ،وكل مما يليك( فالمراد أن يقول بسم ا ّ أبي سلمة) :بسم ا ّ
ل فكل( ،وكذلك قوله صلى ال عليه قوله في الحديث الصحيح لعدي بن حاتم) :إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم ا ّ
ل عند دخوله ،وعند خروجه .وعند طعامه ،قال الشيطان ل مبيت لكم ول وسلم) :إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم ا ّ
عشاء( وأمثال ذلك كثير.
ل تعالى إنما هو بالجملة التامة .كقول وكذلك ما شرع للمسلمين في صلتهم وأذانهم ،وحجهم وأعيادهم من ذكر ا ّ
ل ،وقول المصلي :ال أكبر ،سبحان ل ،أشهد أن محمًدا رسول ا ّ ل /أكبر ،أشهد أن ل إله إل ا ّ ل أكبر ،ا ّ المؤذن :ا ّ
ل ،وقول الملبي :لبيك الّلهم لبيك،
ل لمن حمده ،ربنا ولك الحمد ،التحيات ّ ربي العظيم ،سبحان ربي العلى ،سمع ا ّ
ل من الذكر إنما هو كلم تام ،ل اسم مفرد ل مظهر ول مضمر ،وهذا هو الذي يسمى وأمثال ذلك ،فجميع ما شرعه ا ّ
ل وبحمده في اللغة كلمة ،كقوله) :كلمتان خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان ،حبيبتان إلى الرحمن ،سبحان ا ّ
ل باطل( ،ومنه قوله تعالى: ل العظيم( ،وقوله) :أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :أل كل شيء ماخل ا ّ سبحان ا ّ
صْدًقا َوَعْدًل{ ]النعام ،[115 :وأمثال ذلك
ك ِ ن َأْفَواِهِهْم{ الية ]الكهف ،[5 :وقولهَ} :وَتّم ْ
ت َكِلَمُة َرّب َ ج ِم ْ
خُر ُ
ت َكِلَمًة َت ْ
}َكُبَر ْ
مما استعمل فيه لفظ الكلمة في الكتاب والسنة،بل وسائر كلم العرب فإنما يراد به الجملة التامة ،كما كانوا يستعملون
الحرف في السم ،فيقولون :هذا حرف غريب .أي :لفظ السم غريب.
وقسم سيبويه الكلم إلى اسم ،وفعل ،وحرف جاء لمعنى ،ليس باسم وفعل ،وكل من هذه القسام يسمى حرًفا ،لكن
خاصة الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ول فعل ،وسمى حروف الهجاء باسم الحرف وهي أسماء ،ولفظ
الحرف يتناول هذه السماء وغيرها ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف/
عشر حسنات :أما أني ل أقول} :الــم{ حرف ،ولكن ألف حرف،ولم حرف ،وميم حرف( ،وقد سأل الخليل أصحابه
عن النطق بحرف الزاي من زيد فقالوا :زاي ،فقال :جئتم بالسم ،وإنما الحرف ]ز[.
ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يسمى كلمة ،وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى،
ليس باسم ول فعل ،كحروف الجر ونحوها ،وأما ألفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من
اللفظ ،وتارة باسم ذلك الحرف ،ولما غلب هذا الصطلح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب ،ومنهم من
ظا مشترًكا بين السم مثل وبين الجملة ،ول يعرف في صريح اللغة من لفظ الكلمة إل
يجعل لفظ الكلمة في اللغة لف ً
الجملة التامة.
ل ـ سبحانه ـ هو ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلم ،والواحد منه بالكلمة،
والمقصود هنا أن المشروع في ذكر ا ّ
ل ومعرفته ومحبته وخشيته ،وغير ذلك من وهو الذي ينفع القلوب ،ويحصل به الثواب والجر ،والقرب إلى ا ّ
المطالب العالية والمقاصد السامية ،وأما القتصار على السم المفرد مظهًرا أو مضمًرا فل أصل له .فضل عن أن
يكون من ذكر الخاصة والعارفين ،بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضللت وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة
من أحوال أهل اللحاد ،وأهل التحاد ،كما قد بسط الكلم عليه في غير هذا الموضع.
جوا ِلَقاَء
ن َيْر ُ
ن َكا َ
ل ،ول نعبده إل بما شرع ،ل نعبده بالبدع ،كما قال تعالىَ} :فَم ْ /وجماع الدين أصلن :أل نعبد إل ا ّ
حًدا{ ]الكهف ،[110 :وذلك تحقيق الشهادتين :شهادة أن ل إله إل ك ِبِعَباَدِة َرّبِه َأ َ
شِر ْ ل ُي ْ
حا َو َ صاِل ًل َ عَم ًل َ َرّبِه َفْلَيْعَم ْ
ل .ففي الولى :أل نعبد إل إياه ،وفي الثانية :أن محمًدا هو رسوله المبلغ عنه ،فعلىنا ل ،وشهادة أن محمًدا رسول ا ّ ا ّ
ل به ،ونهانا عن محدثات المور ،وأخبر أنها ضللة ،قال تعالى: أن نصدق خبره ونطيع أمره ،وقد بين لنا ما نعبد ا ّ
ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن{ ]البقرة.[112 :
خْو ٌ
ل َعْنَد َرّبِه َو َ
جُرُه ِ ن َفَلُه َأ ْ
سٌحِ ل َوُهَو ُم ْجَهُه ِّ
سَلَم َو ْ
}َبَلى َمنْ َأ ْ
ل ،وأل تكون ل ،ول نستعين إل با ّ ل ،ول نرغب إل إلى ا ّ ل ول نتوكل إل على ا ّ كما أنا مأمورون أل نخاف إل ا ّ
ل ،فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به ،فالحلل ما حلله والحرام ما حرمه ،والدين عبادتنا إل ّ
ن{
غُبو َ
ل َرا ِسوُلُه ِإّنا ِإَلى ا ِّ
ضِلِه َوَر ُ
ن َف ْ
ل ِم ْ
سُيْؤِتيَنا ا ُّ
ل َ
سُبَنا ا ُّ
حْ
سوُلُه َوَقاُلوا َل َوَر ُ ضوا َما آَتاُهْم ا ُّما شرعه ،قال تعالىَ} :وَلْو َأّنُهْم َر ُ
ل والرسول ،كما قالَ} :وَما آَتاُكْم الّرُسوُل َفُخُذوهُ َوَما َنَهاُكْم َعْنُه َفاْنَتُهوا{ ]الحشر ،[7 :وجعل ]التوبة ،[59 :فجعل اليتاء ّ
س ِإ ّ
ن ن َقالَ َلُهْم الّنا ُ ل{ ولم يقل ورسوله ،كما قال في الية الخرى} :اّلِذي َ سُبَنا ا ُّ
حْل وحده بقولهَ} :وَقاُلوا َ التوكل على ا ّ
ل َوِنْعَم اْلَوِكيُل{ ]آل عمران ،[173 :ومثله قولهَ} :ياَأّيَها الّنِب ّ
ي سُبَنا ا ُّحْشْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا َوَقاُلوا َ
خَ
جَمُعوا َلُكْم َفا ْس َقْد َ
الّنا َ
عْبَدُه{
ف َ ل ِبَكا ٍ ن{ ]النفال ،[64 :أي / :حسبك وحسب المؤمنين كما قالَ} :أَلْي َ
س ا ُّ ن اْلُمْؤِمِني َ ك ِم ْ
ن اّتَبَع َل َوَم ْك ا ُّسُب َ
حَْ
]الزمر.[36 :
ل يؤتيه منل والرسول ،وقدم ذكر الفضل ،لن الفضل بيد ا ّ ضِلِه َوَرُسوُلُه{ ،فجعل اليتاء ّ ن َف ْ
ل ِم ْ ثم قالَ } :
سُيْؤِتيَنا ا ُّ
ل َراِغُبوَن{ فجعل الرغبة إلى
ل ذو الفضل العظيم ،وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين ،وقالِ} :إّنا ِإَلى ا ِّ يشاء وا ّ
ب{ ]الشرح ،[8 ،7 :وقال النبي صلى ال عليه وسلم لبن غ ْ
ك َفاْر َ
ب َ .وِإَلى َرّب َ
ص ْ
ت َفان َ ل وحده كما في قولهَ} :فِإَذا َفَر ْ
غ َ ا ّ
ل( .والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع. ل ،وإذا استعنت فاستعن با ّ عباس) :إذا سألت فاسأل ا ّ
عُبُدوا
نا ْ
ل ورسوله ،كما في قول نوح ـ عليه السلم ـَ} :أ ْ ل ،وجعل الطاعة والمحبة ّ فجعل العبادة والخشية والتقوى ّ
ن{ ]النور: ك ُهْم اْلَفاِئُزو َ
ل َوَيّتِقيِه َفُأْوَلِئ َ
سوَلُه َوَيخْشَ ا َّ
ل َوَر ُ
طْع ا َّ
ن ُي ِ
طيُعوِني{ ]نوح ،[3 :وقولهَ} :وَم ْ
ل َواّتُقوُه َوَأ ِ
ا َّ
،[52وأمثال ذلك.
فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه،والطاعة لهم ،فأضل الشيطان النصارى ،وأشباههم فأشركوا
ل ،وعصوا الرسول ،اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباًبا من دون ال والمسيح ابن مريم ،فجعلوا يرغبون إليهمبا ّ
ل أهل الصراط ل المؤمنين المخلصين ّ ويتوكلون عليهم ويسألونهم ،مع معصيتهم لمرهم ومخالفتهم لسنتهم ،وهدى ا ّ
ل ،وأسلمواالمستقيم ،الذين عرفوا الحق واتبعوه / ،فلم يكونوا من المغضوب عليهم ول الضالين ،فأخلصوا دينهم ّ
ل ،وأنابوا إلى ربهم ،وأحبوه ورجوه وخافوه،وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه،وجوههم ّ
وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم ،واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم.
ل العظيم أن يثبتنا عليه ،ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين.
فنسأل ا ّ
ل ل روحه ـ عن قول النبي صلى ال عليه وسلم) :دعوة أخي ذي النونَ } :
ل ِإَلَه ِإ ّ سلم ابن تيمية ـ قدس ا ّ لْ خا ِ شْي ُل َ سئ َ
ُ
ل كربته( ما معنى هذه الدعوة؟ ولم ظاِلِميَن{]النبياء .[87 :ما دعا بها مكروب إل فرج ا ّ
ن ال ّ
ت ِم ْ
ك ِإّني ُكن ُ
حاَن َ
سْب َ
ت َُأْن َ
كانت كاشفة للكرب؟ وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها؟ وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها .حتى يوجب
ظاِلِميَن{ ،مع أن التوحيد يوجب كشف الضر؟ وهل يكفيه اعترافه ،أم ن ال ّ كشف ضره؟ وما مناسبة ذكرهِ} :إّني ُكن ُ
ت ِم ْ
لبد من التوبة والعزم في المستقبل؟ وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق
ل ـ تعالى ـ ورجائه
والتعلق بهم؟ وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين ،والتعلق بهم بالكلية ،وتعلقه با ّ
وانصرافه إليه بالكلية ،وما السبب المعين على ذلك ؟
فأجاب:
ل رب العالمين ،لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين :دعاء العبادة/ ،ودعاء المسألة.
الحمد ّ
قيل :لول دعاؤكم إياه ،وقيل :لول دعاؤه إياكم .فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة ،وإلى المفعول تارة ،ولكن
إضافته إلى الفاعل أقوى؛ لنه لبد له من فاعل؛ فلهذا كان هذا أقوى القولين أي :ما يعبأ بكم لول أنكم تدعونه
ف َيُكوُن ِلَزاًما{ ]الفرقان [77 :أي :عذاب لزم للمكذبين. فتعبدونه ،وتسألونهَ} :فَقْد َكّذْبُتْم َف َ
سْو َ
ولفظ الصلة في اللغة :أصله الدعاء ،وسميت الصلة دعاء لتضمنها معنى الدعاء ،وهو العبادة والمسألة.
ب َلُكْم{ ]غافر ،[60 :بالوجهين،قيل :اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم .كماج ْ سَت ِ /وقد فسر قوله تعالى} :اْد ُ
عوِني َأ ْ
ت{ ]الشورى [26 :أي :يستجيب لهم ،وهو معروف في اللغة ،يقال: حا ِ
صاِل َ
عِمُلوا ال ّ
ن آَمُنوا َو َ
ب اّلِذي َ
جي ُ قال تعالىَ} :وَي ْ
سَت ِ
استجابه واستجاب له ،كما قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل
ل لفظ الدعاء ،ثم ذكر
الخر ،فيقول :من يدعوني فأستجيب له ،من يسألني فأعطيه ،من يستغفرني فأغفر له( فذكر أو ً
السؤال والستغفار .والمستغفر سائل كما أن السائل داع ،لكن ذكر السائل؛ لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير،
وذكرهما جميًعا بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما ،فهو من باب عطف الخاص على العام.
ضا راغب وراهب ،يرجو رحمته ويخاف عذابه، وكل سائل راغب راهب ،فهو عابد للمسؤول ،وكل عابد له /فهو أي ً
فكل عابد سائل ،وكل سائل عابد .فأحد السمين يتناول الخر عند تجرده عنه ،ولكن إذا جمع بينهما :فإنه يراد
بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب ،ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال المر،
وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال.
ضا ـ راج خائف راغب راهب :يرغب في حصول مراده ،ويرهب ل ،والنظر إليه هو ـ أي ً والعابد الذي يريد وجه ا ّ
غًبا َوَرَهًبا{ ]النبياء ،[90 :وقال تعالىَ} :تَت َ
جاَفى عوَنَنا َر َ
ت َوَيْد ُ
خْيَرا ِ
ن ِفي اْل َ
عو َ
ساِر ُمن فواته ،قال تعالىِ} :إّنُهْم َكاُنوا ُي َ
ل ـ دعاء عبادة أو دعاء مسألة طَمًعا{ ]السجدة ،[16 :ول يتصور أن يخلو داع ّ خْوًفا َو َ
ن َرّبُهْم َعو َ جِع َيْد ُ
ضا ِ
ن اْلَم َ
عْجُنوُبُهْم َ
ُ
ـ من الرغب والرهب ،من الخوف والطمع.
وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة ،فهذا قد يفسر مراده بأن المقربين يريدون
ل ،فيقصدون التلذذ بالنظر إليه ،وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به ،وهؤلء يرجون حصول هذا المطلوب،وجه ا ّ
ويخافون حرمانه ،فلم يخلوا عن الخوف والرجاء ،لكن مرجوهم ومخوفهم بحسب مطلوبهم.
ومن قال من هؤلء :لم أعبدك شوًقا إلى جنتك ول خوًفا من نارك /،فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات،
والنار اسم لما ل عذاب فيه إل ألم المخلوقات ،وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة ،بل كل ما أعده ا ّ
ل
ل الجنة ،ويستعيذ به من النار ،ولما
لوليائه ،فهو من الجنة والنظر إليه هو من الجنة؛ ولهذا كان أفضل الخلق يسأل ا ّ
ل من النار ،أما إني ل أحسن دندنتك ول ل الجنة ،وأعوذ با ّ
سأل بعض أصحابه عما يقول في صلته قال :إني أسأل ا ّ
دندنة معاذ ،فقال) :حولها ندندن(.
ل ل يتلذذ
وقد أنكر على من قال هذا الكلم ـ يعني :أسألك لذة النظر إلى وجهك ـ فريق من أهل الكلم ،ظنوا أن ا ّ
بالنظر إليه ،وأنه ل نعيم إل بمخلوق .فغلط هؤلء في معنى الجنة كما غلط أولئك ،لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن
يطلب ،وهؤلء أنكروا ذلك.
وأما التألم بالنار ،فهو أمر ضروري ،ومن قال :لو أدخلني النار لكنت راضًيا ،فهو عزم منه على الرضا .والعزائم قد
تنفسخ عند وجود الحقائق ،ومثل هذا يقع في كلم طائفة مثل سمنون الذي قال:
فابتلى بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول :ادعوا لعمكم الكذاب ،قال تعالىَ} :وَلَقْد ُكْنُتْم َتَمّنْون اْلَمْو َ
ت
ظُروَن{ ]آل عمران.[143 :
ن َتْلَقْوُه َفَقْد َرَأْيُتُموُه َوَأْنُتْم َتْن ُ
ل َأ ْ
ن َقْب ِ
ِم ْ
/وبعض من تكلم في علل المقامات ،جعل الحب والرضا والخوف والرجاء ،من مقامات العامة بناء على مشاهدة
القدر ،وأن من شهد القدر فشهد توحيد الفعال حتى فنى من لم يكن ،وبقى من لم يزل ،يخرج عن هذه المور ،وهذا
عا.
كلم مستدرك حقيقة وشر ً
ضا لما ينافره ،ومن قال إن الحي يستوى عنده سا محًبا لما يلئمه ،مبغ ً
أما الحقيقة ،فإن الحي ل يتصور أل يكون حسا ً
جميع المقدورات ،فهو أحد رجلين ،إما أنه ل يتصور ما يقول بل هو جاهل ،وإما أنه مكابر معاند ،ولو قدر أن
النسان حصل له حال أزال عقله ـ سواء سمي اصطلًما ،أو محوا ،أو فناء ،أو غشًيا ،أو ضعًفا ـ فهذا لم يسقط
إحساس نفسه بالكلية ،بل له إحساس بما يلئمه وما ينافره ،وإن سقط إحساسه ببعض الشياء ،فإنه لم يسقط بجميعها.
فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع ،والفناء ،فل يشهد فرًقا فإنه غالط ،بل لبد من الفرق،
فإنه أمر ضروري.
لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقى في الفرق الطبيعي ،فيبقى متبًعا لهواه ل مطيًعا لموله.
/ولهذا لما وقعت هذه المسألة،بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم الفرق الثاني،وهو :أن يفرق بين المأمور والمحظور،
ل وما يكرهه ،مع شهوده للقدر الجامع ،فيشهد الفرق في القدر الجامع .ومن لم يفرق بين المأمور
وبين ما يحبه ا ّ
والمحظور ،خرج عن دين السلم.
وهؤلء الذين يتكلمون في الجمع ل يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية ،وإن خرجوا عنه كانوا كفاًرا من شر
الكفار ،وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم ،ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود ،فل يفرقون بين
ل ورسوله
الخالق والمخلوق ،ولكن ليس كل هؤلء ينتهون إلى هذا اللحاد ،بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون ا ّ
ل ورسوله تارة ،كالعصاة من أهل القبلة .وهذه المور مبسوطة في غير هذا الموضع.
تارة ،ويعصون ا ّ
ن{
ب اْلَعاَلِمي َ
ل َر ّ
حْمُد ِّ
ن اْل َ
عَواُهْم َأ ْ ل ـ تعالى ـَ} :وآ ِ
خُر َد ْ والمقصود هنا أن لفظ الدعوة والدعاء ،يتناول هذا وهذا ،قال ا ّ
ل( رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا. ل ،وأفضل الدعاء الحمد ّ ]يونس ،[10 :وفي الحديث) :أفضل الذكر ل إله إل ا ّ
حاَن َ
ك سْب َ
ت ُ
ل َأْن َ وقال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره) :دعـوة أخي ذي النونَ } :
ل ِإَلَه ِإ ّ
ل كربته( ،سماها دعوة ،لنها تتضمن نوعي ظاِلِميَن{ ]النبياء ،[87 :ما دعا بها مكروب إل فرج ا ّ
ن ال ّ
ت ِم ْ
ِإّني ُكن ُ
الدعاء .فقوله ل إله إل أنت اعتراف بتوحيد اللهية/ .وتوحيد اللهية يتضمن أحد نوعي الدعاء ،فإن الله هو
ل ل إله إل هو.
المستحق؛ لن يدعي دعاء عبادة ،ودعاء مسألة ،وهو ا ّ
ظاِلِميَن{ اعتراف بالذنب ،وهو يتضمن طلب المغفرة ،فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة ن ال ّ
ت ِم ْوقولهِ} :إّني ُكن ُ
الطلب ،وتارة يسأل بصيغة الخبر ،إما بوصف حاله ،وإما بوصف حال المسؤول ،وإما بوصف الحالين .كقول نوح ـ
س ِلي ِبِه ِعْلٌم َوِإّل َتْغِفْر ِلي َوَتْرَحْمِني َأُكْن ِمْن اْلَخاِسِريَن{ ]هود [47 :فهذا ليس
ك َما َلْي َ
سَأَل َ
ن َأ ْ
ك َأ ْ
عوُذ ِب َ عليه السلمَ} :ر ّ
ب ِإّني َأ ُ
ل أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر. صيغة طلب ،وإنما هو إخبار عن ا ّ
وقد روى الترمذي ،وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي،
أعطيته أفضل ما أعطي السائلين( رواه الترمذي ،وقال :حديث حسن ،ورواه مالك بن الحويرث /وقال" :من شغله
عا بهذا اللفظ.
ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" ،وأظن البيهقي رواه مرفو ً
ل وحده ل شريك له ،له الملك وله الحمد وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله) :أفضل الدعاء يوم عرفة :ل إله إل ا ّ
عان:
جْد َ
وهو على كل شيء قدير( فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن ُ
وهذه الصيغة ـ صيغة الطلب والستدعاء ـ إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب ،أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه
ونحو ذلك ،فإنها تقال على وجه المر :إما لما في ذلك من حاجة الطالب ،وإما لما فيه من نفع المطلوب ،فأما إذا
كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه ،فإنها سؤال محض بتذلل ،وافتقار ،وإظهار الحال.
ووصف الحاجة والفتقار هو سؤال بالحال ،وهو أبلغ من جهة العلم والبيان.
وذلك أظهر من جهة القصد والرادة؛ فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني ،لن الطالب السائل يتصور مقصوده
ومراده ،فيطلبه ويسأله ،فهو سؤال بالمطابقة والقصد الول .وتصريح به باللفظ ،وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل
والمسؤول ،فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين ،فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضى للسؤال والجابة،
ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال ،فيتضمن السؤال والمقتضى له والجابة /كقول النبي صلى ال عليه
ل تعالى عنه ـ لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلتي ،فقال) :قل :الّلهم إني
وسلم لبي بكر الصديق ـ رضي ا ّ
ظلمت نفسي ظلًما كثيًرا ،ول يغفر الذنوب إل أنت ،فاغفرلي مغفرة من عندك ،وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم(.
أخرجاه في الصحيحين.
فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضى حاجته إلى المغفرة ،وفيه وصف ربه الذي يوجب ،أنه ل يقدر على هذا
المطلوب غيره ،وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه ،وفيه بيان المقتضى للجابة،وهو وصف الرب
بالمغفرة،والرحمة،فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب.
ن{
خْيُر اْلَغاِفِري َ
ت َ
حْمَنا َوَأْن َ
غِفْر َلَنا َواْر َ وكثير من الدعية يتضمن بعض ذلك ،كقول موسى ـ عليه السلم ـَ} :أْن َ
ت َوِلّيَنا َفا ْ
ت َنْفِسي َفاْغِفْر ِلي{ ]القصص: ظَلْم ُب ِإّني َ ]العراف ،[155 :فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الجابة .وقولهَ} :ر ّ
ي ِمْن خَْيٍر َفِقيٌر{ ]القصص ،[24 :فيه الوصف ،[16فيه وصف حال النفس والطلب ،وقولهِ} :إّني ِلَما َأنَزْل َ
ت ِإَل ّ
المتضمن للسؤال بالحال ،فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة.
يبقى أن يقال :فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب؟
/فيقال :لن المقام مقام اعتراف ،بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي ،فأصل الشر هو الذنب ،والمقصود دفع الضر،
والستغفار جاء بالقصد الثاني ،فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لستشعاره أنه مسيء ظالم ،وهو الذي أدخل
الضر على نفسه ،فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من العتراف بظلمه ،ولم يذكر صيغة طلب المغفرة؛ لنه
مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني ،بخلف كشف الكرب ،فإنه مقصود له في حال وجــوده بالقصد الول ،إذ
النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها ،زوال ما تخاف وجوده من
الضرر في المستقبل بالقصد الثاني ،والمقصود الول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر ،فهذا مقدم في
قصده وإرادته ،وأبلغ ما ينال به رفع سببه ،فجاء بما يحصل مقصوده.
حاَنك{ فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه ،والمقام يقتضى تنزيهه عن سْب َ
وهذا يتبين بالكلم على قولهُ } :
الظلم والعقوبة بغير ذنب ،يقول :أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب؛ بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي،
ظَلُموا َأنُفَسُهْم{]هود:ن َ ن{ ]النحل،[118 :وقال تعالىَ} :وَما َ
ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ ظِلُمو َسُهْم َي ْ
ن َكاُنوا َأنُف َ قال تعالىَ} :وَما َ
ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ
سَنا{ ن{ ]الزخرف ،[76 :وقال آدم ـ عليه السلم ـَ} :رّبَنا َ
ظَلْمَنا َأنُف َ ظاِلِمي َ
ن َكاُنوا ُهْم ال ّ ،[101وقالَ} :وَما َ
ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ
]العراف.[23 :
/وكذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الستفتاح) :اللهم أنت الملك ل
إله إل أنت ،أنت ربي وأنا عبدك ،ظلمت نفسي واعترفت بذنبي ،فاغفرلي ذنوبي جميًعا ،فإنه ل يغفر الذنوب إل
أنت( ،وفي صحيح البخاري) :سيد الستغفار أن يقول العبد :اللهم أنت ربي ل إله إل أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على
عهدك ووعدك ما استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ،أبوء لك بنعمتك علي ،وأبوء بذنبي فاغفرلي فإنه ل يغفر
الذنوب إل أنت ،من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ،ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من
ليلته دخل الجنة(.
ل وإحسانه ،فإنه ل يظلم الناس شيًئا ،فل يعاقب أحًدا إل بذنبه ،وهو يحسن إليهم ،فكل
فالعبد عليه أن يعترف بعدل ا ّ
نقمة منه عدل ،وكل نعمة منه فضل.
ت{ فيه إثبات انفراده باللهية ،واللهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ،ففيها إثبات
ل َأْن َ فقولهَ } :
ل ِإَلَه ِإ ّ
إحسانه إلى العباد ،فإن الله هو المألوه ،والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد ،وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به
من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب ،المخضوع له غاية الخضوع ،والعبادة تتضمن غاية
الحب بغاية الذل.
ك{ يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم ،وغيره من النقائص ،فإن التسبيح ،وإن كان يقال :يتضمن حاَن َ
سْب َ
/وقولهُ } :
نفي النقائص ،وقد روى في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي صلى ال عليه وسلم في قول العبد:
حا إل إذا تضمن ثبوتا ،وإل فالنفي المحض ل مدح فيه،
ل من السوء .فالنفي ل يكون مد ً
ل) :إنها براءة ا ّ سبحان ا ّ
ل السماء الحسنى.
ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله ،و ّ
ل
ل ِإَلَه ِإ ّ وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله ،كقوله تعالى} :ا ُّ
ل َ
ي اْلَقّيوُم َل َتْأُخُذُه ِسَنٌة َوَل َنْوٌم{ ]البقرة .[255 :فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته ،وقوله:
حّ ُهَو اْل َ
ب{ ]ق ،[38 :يتضمن كمال قدرته ،ونحو ذلك .فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء ،ونفي النقص ن ُلُغو ٍ سَنا ِم ْ}َوَما َم ّ
ك{ تبرئته من الظلم ،وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم ،فإن الظالم
حاَن َ
سْب َ
عنه يتضمن تعظيمه .ففي قولهُ } :
ل غني عن كل شيء ،عليم بكل شيء ،وهو غني بنفسه ،وكل ما سواه فقير إنما يظلم ؛ لحاجته إلى الظلم أو لجهله ،وا ّ
إليه ،وهذا كمال العظمة.
والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له ،والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له ،وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم
ل وبحمده( ،وفي الصحيحين عن النبي صلى ال ل لملئكته :سبحان ا ّ
أنه سئل ،أي الكلم أفضل؟ قال) :ما اصطفى ا ّ
ل وبحمده، عليه وسلم ،أنه قال) :كلمتان خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان ،حبيبتان إلى الرحمن :سبحان ا ّ
ك{ ]البقرة:
حْمِد َ
ح ِب َ
سّب ُ
ن ُن َ
حُك{ ]الحجر ،[98 :وقالت الملئكةَ} :وَن ْحْمِد َرّب َ
ح ِب َ ل العظيم( ،وفي القـرآن }َف َ
سّب ْ سبحان ا ّ
.[30
وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد ،والخرى بالتعظيم ،فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص،
المتضمن إثبات المحاسن والكمال ،والحمد إنما يكون على المحاسن ،وقرن بين الحمد والتعظيم ،كما قرن بين الجلل
والكرام؛ إذ ليس كل معظم محبوًبا محموًدا ،ول كل محبوب محموًدا معظما ،وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب
المتضمن معنى الحمد ،وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم ،ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن ،وفيها
الذل له الناشئ عن عظمته وكبريائه.ففيها إجلله وإكرامه .وهو ـ سبحانه ـ المستحق للجلل والكرام ،فهو مستحق
غاية الجلل وغاية الكرام.
/ومن الناس من يحسب أن ]الجلل[ هو الصفات السلبية ،و]الكرام[ الصفات الثبوتية ،كما ذكر ذلك الرازي ونحوه.
والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية ،وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص ،لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن
حِميُد{ ] لقمان ،[26 :وقول سليمان ـ عليه السلم ـَ} :فِإ ّ
ن َرّبي ي اْل َ
ل ُهَو اْلَغِن ّ يحب وما يستحق أن يعظم ،كقولهِ} :إ ّ
ن ا َّ
ك َوَلُه اْلَحْمُد{ ] التغابن ،[1 :فإن كثيًرا ممن يكون له الملك والغنى ل
ي َكِريٌم{ ] النمل ،[40 :وكذلك قولهَ} :لُه اْلُمْل ُ
غِن ّ
َ
يكون محموًدا بل مذموًما ،إذ الحمد يتضمن الخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة ،فيتضمن إخباًرا بمحاسن
المحبوب محبة له.
وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك .فالول يهاب
ويخاف ول يحب ،وهذا يحب ويحمد ،ول يهاب ول يخاف ،والكمال اجتماع الوصفين ،كما ورد في الثر) :إن
المؤمن رزق حلوة ومهابة( وفي نعت النبي صلى ال عليه وسلم :كان من رآه بديهة هابه ،ومن خالطه معرفة أحبه.
فقرن التسبيح بالتحميد ،وقرن التهليل بالتكبير ،كما في كلمات الذان .ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الخر إذا
أفرد ،فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم ،ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم اللهية ،فإن اللهية تتضمن
كونه محبوًبا ،بل تتضمن أنه ل يستحق كمال الحب إل هو .والحمد هو الخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق
ل مفتاح الخطاب ،وكل أمر ذي بال ل يبدأ فيه بالحمد ّ
ل أن يحب ،فاللهية /تتضمن كمال الحمد؛ ولهذا كان الحمد ّ
ظيِم{ ]الواقعة ،[96 :وقد قال
ك اْلَع ِ
سِم َرّب َ
ح ِبا ْ ل فيها إثبات عظمته كما قدمناه؛ ولهذا قالَ} :ف َ
سّب ْ فهو أجذم ،وسبحان ا ّ
النبي صلى ال عليه وسلم) :اجعلوها في ركوعكم( رواه أهل السنن ،وقال) :أما الركوع فعظموا فيه الرب ،وأما
السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء ،فقمن أن يستجاب لكم( رواه مسلم .فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود
والتسبيح يتضمن التعظيم.
ل أعظم ،كما ثبت في ل أكبر( ،فإن ذلك أكمل من قول :ا ّولهذا جاءت اللفاظ المشروعة في الصلة والذان بقول) :ا ّ
ل تعالى :الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ،فمن نازعني الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :يقول ا ّ
واحًدا منهما عذبته( ،فجعل العظمة كالزار ،والكبرياء كالرداء ،ومعلوم أن الرداء أشرف ،فلما كان التكبير أبلغ من
ل ،صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم، التعظيم صرح بلفظه ،وتضمن ذلك التعظيم ،وفي قوله :سبحان ا ّ
فصار كل من الكلمتين /متضمًنا معنى الكلمتين الخريين إذا أفردتا ،وعند القتران تعطى كل كلمة خاصيتها.
ل ،فإنه يستلزم معنى الخر ،فإنه يدل على الذات ،والذات تستلزم معنى السم
وهذا كما أن كل اسم من أسماء ا ّ
الخر ،لكن هذا باللزوم ،وأما دللة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة ،ودللتها على أحدهما
بالتضمن.
ك{ ]النبياء [87 :يتضمن معنى الكلمات الربع اللتي هن أفضل الكلم بعد حاَن َ
سْب َ
ت ُ
ل َأْن َ فقول الداعيَ } :
ل ِإَلَه ِإ ّ
ل الحسنى ،وصفاته العلىا ،ففيها كمال المدح.
القرآن .وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء ا ّ
ظاِلِميَن{ فيه اعتراف بحقيقة حاله ،وليس لحد من العباد أن يبرئ نفسه عن هذا الوصف ،لن ال ّ وقولهِ} :إّني ُكن ُ
ت ِم ْ
سيما في مقام مناجاته لربه .وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ل ينبغي لعبد أن يقول :أنا
خير من يونس بن َمّتى( .وقال) :من قال :أنا خير من يونس بن متى فقد كذب( فمن ظن أنه خير من يونس ،بحيث
يعلم أنه ليس عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب؛ ولهذا كان سادات الخلئق ،ل يفضلون أنفسهم على يونس في
هذا المقام ،بل يقولون :كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد صلى ال عليه وسلم.
صــل
َف ْ
ك ا ُّ
ل سَ
سْ ل .كما قال تعالىَ} :وِإ ْ
ن َيْم َ وأما قول السائل :لم كانت موجبة لكشف الضر؟ فذلك لن الضر ل يكشفه إل ا ّ
ضِلِه{ ]يونس ،[107 :والذنوب سبب للضر ،والستغفار يزيل أسبابه، ل َراّد ِلَف ْخْيٍر َف َك ِب َ
ن ُيِرْد َ ل ُهَو َوِإ ْ
ف َلُه ِإ ّ
ش َ
ل َكا ِ
ضّر َف َ
ِب ُ
ل ُمَعّذَبُهْم َوُهْم َيسَْتْغِفُروَن{ ]النفال ،[33 :فأخبر أنه سبحانه ل
ن ا ُّ
ت ِفيِهْم َوَما َكا َ
ل ِلُيَعّذَبُهْم َوَأْن َ
ن ا ُّ كما قال تعالىَ} :وَما َكا َ
جا ،ورزقه من
جا ،ومن كل ضيق مخر ً ل له من كل هم فر ً يعذب مستغفًرا .وفي الحديث) :من أكثر الستغفار جعل ا ّ
ت َأْيِديُكمْ َوَيْعُفو َعْن َكِثيٍر{ ]الشورى.[30 :
سَب ْ
صيَبٍة َفِبَما َك َ
ن ُم ِ حيث ل يحتسب( ،وقال تعالىَ} :وَما َأ َ
صاَبُكْم ِم ْ
ظاِلِميَن{ ]النبياء ،[87 :اعتراف بالذنب وهو استغفار ،فإن هذا العتراف متضمن طلب
ن ال ّ فقولهِ} :إّني ُكن ُ
ت ِم ْ
المغفرة.
وفي الحديث المرفوع إلى النبي صلى ال عليه وسلم :أنه دخل على مريض فقال) :كيف تجدك ؟( فقال :أرجو ا ّ
ل
ل ما يرجو ،وآمنه مما يخاف(.
وأخاف ذنوبي ،فقال) :ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن ،إل أعطاه ا ّ
ل إشراك ،وإن
ل ،ول يتعلق بمخلوق ،ول بقوة العبد ،ول عمله؛ فإن تعلىق الرجاء بغير ا ّ فالرجاء ينبغي أن يتعلق با ّ
ل قد جعل لها أسباًبا ،فالسبب ل يسـتقل بنفسه ،بل لبد له من معاون ،ولبد أن يمنع المعارض المعوق له ،وهو كان ا ّ
ل ـ تعالى.
ل يحصل ،ويبقى إل بمشيئة ا ّ
/ولهذا قيل :اللتفات إلى السباب شرك في التوحيد ،ومحو السباب أن تكون أسباًبا نقص في العقل ،والعراض عن
ب{ ]الشرح ،[8 ،7 :فأمر غ ْ ك َفاْر َ
بَ .وِإَلى َرّب َ ص ْ
ت َفان َغ َل تعالىَ} :فِإَذا َفَر ْ السباب بالكلية قدح في الشرع؛ ولهذا قال ا ّ
ل َفَتَوّكُلوا ِإْن ُكنُتْم ُمْؤِمِنيَن{ ]المائدة ،[23 :فالقلب ل يتوكل إل على من عَلى ا ِّبأن تكون الرغبة إليه وحده ،وقالَ} :و َ
يرجوه ،فمن رجا قوته ،أو عمله ،أو علمه ،أو حاله ،أو صديقه ،أو قرابته ،أو شيخه ،أو ملكه ،أو ماله ،غير ناظر
ل كان فيه نوع توكل على ذلك السبب ،وما رجا أحد مخلوًقا أو توكل عليه إل خاب ظنه فيه ،فإنه مشركَ} :وَم ْ
ن إلى ا ّ
ق{ ]الحج ،[31 :وكذلك المشرك يخاف حي ٍ
ن سَ ِ
ح ِفي َمَكا ٍطْيُر َأْو َتْهِوي ِبِه الّري ُ
طُفُه ال ّ
خَسَماِء َفَت ْ
ن ال ّ
خّر ِم ْ
ل َفَكَأّنَما َ
ك ِبا ِّ
شِر ُْي ْ
ل َما َلْم ُيَنّز ْ
ل شَرُكوا ِبا ِّ
ب ِبَما َأ ْ
ع َن َكَفُروا الّر ْ ب اّلِذي َ المخلوقين ،ويرجوهم ،فيحصل له رعب ،كما قال تعالىَ } :
سُنْلِقي ِفي ُقُلو ِ
طاًنا{ ] آل عمران.[151 : سْل َ
ِبِه ُ
ن{
ن َوُهْم ُمْهَتُدو َ
لْم ُ
ك َلُهْم ا َْ
ظْلٍم ُأْوَلِئ َ
سوا ِإيَماَنُهْم ِب ُ والخالص من الشرك يحصل له المن ،كما قال تعالى} :اّلِذي َ
ن آَمُنوا َوَلمْ َيْلِب ُ
]النعام ،[82 :وقد فسر النبي صلى ال عليه وسلم الظلم هنا بالشرك .ففي الصحيح عن ابن مسعود أن هذه الية لما
نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم وقالوا :أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم:
ظيٌم{ ؟( ]لقمان / ،[13 :وقال تعالىَ} :وِم ْ
ن عِظْلٌم َ
ك َل ُ
شْر َ )إنما هذا الشرك ،ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالحِ} :إ ّ
ن ال ّ
ن اْلُقّوَة ِّ
ل ب َأ ّ
ن اْلَعَذا َظَلُموا ِإْذ َيَرْو َ ن َ ل َوَلْو َيَرى اّلِذي َ حّبا ِّشّد ُن آَمُنوا َأ َل َواّلِذي َب ا ِّح ّ حّبوَنُهْم َك ُ ل َأنَداًدا ُي ِ ن ا ِّن ُدو ِ خُذ ِم ْ ن َيّت ِس َم ْ
الّنا ِ
ن َلَنا ن اّتَبُعوا َلْو َأ ّل اّلِذي َ
بَ .وَقا َ سَبا ُ لْ ت ِبِهْم ا َْطَع ْ ن اّتَبُعوا َوَرَأْوا اْلَعَذابَ َوَتَق ّن اّلِذي َ ن اّتِبُعوا ِم ْ بِ .إْذ َتَبّرَأ اّلِذي َشِديُد اْلَعَذا ِل َ ن ا َّ جِميًعا وََأ َّ
ت َعَلْيِهْم َوَما ُهمْ ِبَخاِرِجيَن ِمْن الّناِر{ ]البقرة165 :ـ ،[167وقال سَرا ٍحَ عَماَلُهْم َ ل َأ ْ
ك ُيِريِهْم ا ُّ َكّرًة َفَنَتَبّرَأ ِمْنُهْم َكَما َتَبّرُءوا ِمّنا َكَذِل َ
سيَلَة ن ِإَلى َرّبِهْم اْلَو ِ ن َيْبَتُغو َعو َ ن َيْد ُك اّلِذي َلُ .أْوَلِئ َ
حِوي ً ل َت ْعنُكْم َو َ
ضّر َ ف ال ّ ش َ ن َك ْ ل َيْمِلُكو َ
ن ُدوِنِه َف َ عْمُتْم ِم ْ ن َز َعوا اّلِذي َ ل اْد ُ تعالىُ} :ق ْ
ل السباب، ك َكاَن َمْحُذوًرا{ ]السراء[57 ،56 :؛ ولهذا يذكر ا ّ ب َرّب َ عَذا َ ن َ عَذاَبُه ِإ ّ
ن َ خاُفو َ حَمَتُه َوَي َن َر ْ جو َ ب َوَيْر ُ َأّيُهْم َأْقَر ُ
طَمِئ ّ
ن شَرى َلُكْم َوِلَت ْ ل ُب ْل ِإ ّ ل ،قال تعالى ـ لما أنزل الملئكة ـَ} :وَما َ
جَعَلُه ا ُّ ويأمر بأن ل يعتمد عليها ،ول يرجى إل ا ّ
خُذْلُكْم َفَم ْ
ن ن َي ْ
ب َلُكْم َوِإ ْ
غاِل َ ل َ ل َف َصْرُكْم ا ُّ ن َيْن ُ حِكيِم{ ]آل عمران ،[126 :وقالِ} :إ ْ ل اْلَعِزيِز اْل َ عْنِد ا ِّن ِ ل ِم ْصُر ِإ ُّقُلوُبُكْم ِبِه َوَما الّن ْ
ل َفْلَيَتَوّكْل اْلُمْؤِمُنوَن{ ]آل عمران.[160 : عَلى ا ِّ ن َبْعِدِه َو َ
صُرُكْم ِم ْ َذا اّلِذي َيْن ُ
ل ،والراجي سائل طالب فل يصلح أن يرجو ل إلًها آخر قعد مذموًما مخذو ً
ل ،فمن جعل مع ا ّ
وكلهما ل يصلح إل ّ
ل ،وليسأل /غيره؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح) :ما أتاك من هذا المال وأنت غير إل ا ّ
شِرف فخذه ،وما ل فل تتبعه نفسك( .فالمشرف الذي يستشرف بقلبه ،والسائل الذي يسأل بلسانه ،وفي سائل ول ُم ْ
ل صلى ال عليه وسلم لسأله الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال :أصابتنا فاقة فجئت رسول ا ّ
ن يغنه
سَتْغ ِ
ل مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم ،وإنه من َي ْ
فوجدته يخطب الناس وهو يقول) :أيها الناس ،وا ّ
ل ،وما أعطى أحد عطاء خيًرا وأوسع من الصبر(. صّبْر يصبره ا ّ
ل ،ومن َيَت َ
ل ،ومن يستعفف يعفه ا ّ
ا ّ
والستغناء أل يرجو بقلبه أحًدا فيستشرف إليه ،والستعفاف أل يسأل بلسانه أحًدا؛ ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن
التوكل ،فقال :قطع الستشراف إلى الخلق ،أي :ل يكون في قلبك أن أحًدا يأتيك بشىء ،فقيل له :فما الحجة في ذلك ؟
فقال :قول الخليل لما قال له جبرائيل :هل لك من حاجة؟ فقال) :أما إليك فل(.
فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه ،ودفع ما يضره ،ل يوجه قلبه إل إلى ال؛ فلهذا قال المكروب:
ت{ ،ومثل هذا ما في الصحيحين عن ابن عباس ،أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يقول :عند الكرب: ل ّأن ّ
ل إّلّه إ ّ
}ّ
ل رب السموات ورب الرض رب ل رب العرش العظيم / ،ل إله إل ا ّ
ل العظيم الحليم ،ل إله إل ا ّ
)ل إله إل ا ّ
العرش الكريم( .فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد ،وتأله العبد ربه ،وتعلق رجائه به وحده ل شريك له ،وهي لفظ
خبر يتضمن الطلب.
صا من قلبه له حقيقة أخرى ،وبحسب تحقيق ل ،فقول العبد لها مخل ً والناس ،وإن كانوا يقولون بألسنتهم :ل إله إل ا ّ
ن
سَمُعو َ
ن َأْكَثَرُهْم َي ْ
ب َأ ّ
س ُ
حَل َ .أْم َت ْ
عَلْيِه َوِكي ً
ن َ
ت َتُكو ُ
خَذ ِإَلَهُه َهَواُه َأَفَأْن َ
ن اّت َ
ت َم ْل .قال تعالىَ :أَرَأْي َ التوحيد تكمل طاعة ا ّ
ل{ ]الفرقان ،[44 ،43 :فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه ،فقد اتخذ إلهه سِبي ًل َ
ضّ ل ُهْم َأ َ
لْنَعاِم َب ْ
ل َكا َْ
ن ُهْم ِإ ّ
ن ِإ ْ
َأْو َيْعِقُلو َ
هواه ،أي :جعل معبوده هو ما يهواه ،وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه ،فهم يتخذون أنداًدا من دون
ب اْلِفِليَن{ ]النعام.[76 : ح ّ ل يحبونهم كحب ال؛ ولهذا قال الخليلَ } :
ل ُأ ِ ا ّ
فإن قومه لم يكونوا منكرين للصانع ،ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافًعا له كالشمس والقمر والكواكب،
والخليل بين أن الفل يغيب عن عابده ،وتحجبه عنه الحواجب ،فل يرى عابده ول يسمع كلمه ،ول يعلم حاله ،ول
ينفعه ،ول يضره بسبب ول غيره ،فأي وجه لعبادة من يأفل؟!
ل ،خرج من قلبه /تأله ما يهواه ،وتصرف عنه المعاصي والذنوب، وكلما حقق العبد الخلص في قول :ل إله إل ا ّ
صيَن{ ]يوسف ،[24 :فلعل صرف السوء خَل ِ
عَباِدَنا اْلُم ْن ِشاَء ِإّنُه ِم ْ
حَسوَء َواْلَف ْ عْنُه ال ّف َ
صِر َ ك ِلَن ْكما قال تعالىَ} :كَذِل َ
طاٌن{ ]الحجر:
سْل َ
عَلْيِهْم ُ
ك َ
س َل َ
عَباِدي َلْي َ ل المخلصين ،وهؤلء هم الذين قال فيهمِ} :إ ّ
ن ِ والفحشاء عنه بأنه من عباد ا ّ
صيَن{ ]ص ،[83 ،82 :وقد ثبت في الصحيح عن خَل ِك ِمْنُهْم اْلُم ْعَباَد َ
ل ِ ن ِ .إ ّ
جَمِعي َ غِوَيّنُهْم َأ ْ
لْ ،[42وقال الشيطانَ} :فِبِعّزِت َ
ك َُ
ل على النار(. صا من قلبه ،حرمه ا ّ ل مخل ً النبي صلى ال عليه وسلم ،أنه قال) :من قال :ل إله إل ا ّ
ل لم يحقق إخلصها المحرم له على فإن الخلص ينفي أسباب دخول النار ،فمن دخل النار من القائلين ل إله إل ا ّ
النار ،بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار ،والشرك في هذه المة أخفى من دبيب النمل؛
ك َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة ،[5 :والشيطان يأمر بالشرك را في كل صلة أن يقولِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد َوِإّيا َ ولهذا كان العبد مأمو ً
ل؛ إما خوًفا منه ،وإما رجاء له ،فل يزال العبد مفتقًرا إلى والنفس تطيعه في ذلك ،فل تزال النفس تلتفت إلى غير ا ّ
تخليص توحيده من شوائب الشرك .وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
ل والستغفار ،فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الهواء، قال) :يقول الشيطان :أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بل إله إل ا ّ
فهم يذنبون ول يستغفرون؛ لنهم يحسبون أنهم يحسنون صنًعا(.
ل ،له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه ،فصار فيه شرك منعه من /فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من ا ّ
ك ِإّني
حاَن َ
سْب َ
ت ُ الستغفار ،وأما من حقق التوحيد والستغفار ،فلبد أن يرفع عنه الشر؛فلهذا قال ذو النونَ } :
ل ِإَلَه ِإلّ َأْن َ
ظاِلِميَن{ ]النبياء.[87 :
ت ِمنْ ال ّ
ُكن ُ
ك َوِلْلُمْؤِمِني َ
ن سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ
ل َوا ْ
ل ا ُّ
ل ِإَلَه ِإ ّ ل بين التوحيد والستغفار في غير موضع ،كقوله تعالىَ} :فا ْ
عَلْم َأّنُه َ ولهذا يقرن ا ّ
ل ِإّنِني َلُكْم ِمْنُه َنِذيٌر َوَبِشيٌر َ .وَأْن اْسَتْغِفُروا َرّبُكْم ُثّم ُتوُبوا ِإَلْيِه{ ]هود،2 : ل ا َّ ت{ ]محمد ،[19 :وقولهَ} :أ ّ
ل َتْعُبُدوا ِإ ّ َواْلُمْؤِمَنا ِ
سَتْغِفُروا َرّبُكْم ُثّم ُتوُبوا ِإَلْيِه{ غْيُرُه{ إلى قولهَ} :وَياَقْوِم ا ْ ن ِإَلٍه َ
ل َما َلُكْم ِم ْ
عُبُدوا ا َّ
ل َياَقْوِم ا ْ
خاُهْم ُهوًدا َقا َ ،[3وقولهَ} :وِإَلى َ
عاٍد َأ َ
]هود 50 :ـ ،[52وقولهَ} :فاْسَتِقيُموا ِإَلْيِه َواْسَتْغِفُروُه{ ]فصلت.[6 :
وخاتمة المجلس) :سبحانك الّلهم وبحمدك أشهد أن ل إله إل أنت أستغفرك وأتوب إليك( إن كان مجلس رحمة كانت
ضا أنها تقال في آخر الوضوء بعد أن يقال) :أشهد أن
كالطابع عليه ،وإن كان مجلس لغو كانت كفارة له ،وقد روى أي ً
ل وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمًدا عبده ورسوله ،الّلهم اجعلني من التوابين ،واجعلني من المتطهرين(.
ل إله إل ا ّ
وهذا الذكر يتضمن التوحيد والستغفار ،فإن صدره الشهادتان /اللتان هما أصل الدين وجماعه ،فإن جميع الدين
ل بطاعة
ل ،وأن نطيع رسوله ،والدين كله داخل في هذا في عبادة ا ّداخل في الشهادتين؛ إذ مضمونهما أل نعبد إل ا ّ
ل ورسوله.ل ،وطاعة رسوله ،وكل ما يجب أو يستحب داخل في طاعة ا ّ ا ّ
وقد روى أنه يقول) :سبحانك اللهم وبحمدك ،أشهد أن ل إله إل أنت ،أستغفرك وأتوب إليك( وهذا كفارة المجلس ،فقد
شرع في آخر المجلس وفي آخر الوضوء ،وكذلك كان النبي صلى ال عليه وسلم يختم الصلة ،كما في الحديث
الصحيح أنه كان يقول في آخر صلته) :اللهم اغفر لي ما قدمت ،وما أخرت ،وما أسررت ،وما أعلنت ،وما أنت
أعلم به مني ،أنت المقدم ،وأنت المؤخر ،ل إله إل أنت( وهنا قدم الدعاء وختمه بالتوحيد؛ لن الدعاء مأمور به في
آخر الصلة ،وختم بالتوحيد ليختم الصلة بأفضل المرين وهو التوحيد ،بخلف ما لم يقصد في هذا فإن تقديم
التوحيد أفضل.
فإن جنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب ،وإن كان المفضول قد يفضل
على الفاضل في موضعه الخاص ،بسبب وبأشياء أخر ،كما أن الصلة أفضل من القراءة ،والقراءة أفضل من الذكر
الذي هو ثناء ،والذكر أفضل من الدعاء الذي هو سؤال ،ومع هذا فالمفضول له أمكنة ،وأزمنة / ،وأحوال يكون فيها
ل هو تحقيق قول ل إله
أفضل من الفاضل ،لكن أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد ،وإخلص الدين كله ّ
ل.
إل ا ّ
ل ل نقدر أن نضبطه ،حتى إن كثيًرافإن المسلمين وإن اشتركوا في القرار بها ،فهم متفاضلون في تحقيقها تفاض ً
ل خالق كل شيء وربه ،ول يميزون بين القرار منهم يظنون أن التوحيد المفروض :هو القرار والتصديق بأن ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم، بتوحيد الربوبية ،الذي أقر به مشركو العرب ،وبين توحيد اللهية ،الذي دعاهم إليه رسول ا ّ
ول يجمعون بين التوحيد القولي والعملي.
ل هو الخالق وحده يجعلون معه آلهة /أخرى ،يجعلونهم شفعاء لهم إليه ،ويقولون :ما
وكانوا مع إقرارهم بأن ا ّ
ل.
ل زلفى ،ويحبونهم كحب ا ّنعبدهم إل ليقربونا إلى ا ّ
س َم ْ
ن والشراك في الحب والعبادة والدعاء والسؤال ،غير الشراك في العتقاد والقرار .كما قال تعالىَ} :وِم ْ
ن الّنا ِ
ل{ ]البقرة ،[165 :فمن أحب مخلوًقا كما يحب الخالق فهو حّبا ِّ
شّد ُ
ن آَمُنوا َأ َ
ل َواّلِذي َ
ب ا ِّ
ح ّ
حّبوَنُهْم َك ُ
ل َأنَداًدا ُي ِ
ن ا ِّ
خُذ ِمنْ ُدو ِ
َيّت ِ
ل خالقه.
ل أنداًدا يحبهم كحب ال .وإن كان مقًرا بأن ا ّ
مشرك به ،قد اتخذ من دون ا ّ
ل هو محبوبه ومعبوده ل ،فالول يكون ا ّ ل ،وبين من أحب مخلوًقا مع ا ّ ل ورسوله بين من أحب مخلوًقا ّ ولهذا فرق ا ّ
ل يحب أنبياءه وعباده الصالحين ،أحبهم لجله، الذي هو منتهى حبه وعبادته ل يحب معه غيره ،لكنه لما علم أن ا ّ
عا عليه
ل ،وفر ً
ل يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك ،فكان حبه لما يحبه تابًعا لمحبة ا ّ وكذلك لما علم أن ا ّ
ل فيه.
وداخ ً
ل ،ويتخذه شفيًعا له ل يرجوه ويخافه ،أو يطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة ّ ل فجعله نًدا ّ
بخلف من أحب مع ا ّ
لِء
ن َهُؤ َ
ل َيْنَفُعُهْم َوَيُقوُلو َ
ضّرُهْم َو َ ل َي ُ
ل َما َن ا ِّ
ن ِمنْ ُدو ِ من غير أن يعلم أن ال يأذن له أن يشفع فيه ،قال تعالىَ} :وَيْعُبُدو َ
ن َمْرَيَم َوَما ُأِمُروا ِإ ّ
ل ح اْب َسي َل َواْلَم ِ
ن ا ِّ
ن ُدو ِ
حَباَرُهْم َوُرْهَباَنُهْم َأْرَباًبا ِم ْ ل{ ]يونس / ،[81 :وقال تعالى} :اّت َ
خُذوا َأ ْ عْنَد ا ِّ
شَفَعاُؤَنا ِ
ُ
ي بن حاتم للنبي صلى ال عليه وسلم :ما عِد ّ
ِلَيْعُبُدوا ِإَلًها َواِحًدا َل ِإَلَه ِإّل ُهَو ُسْبَحاَنُه َعّما ُيْشِرُكوَن{ ]التوبة ،[31 :وقد قال َ
عبدوهم ،قال) :أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم ،وحرموا عليهم الحلل فأطاعوهم ،فكانت تلك عبادتهم إياهم( .قال
عَلى َيَدْيِه
ظاِلُم َ ل{ ]الشورى ،[21 :وقال تعالىَ} :وَيْوَم َيَع ّ
ض ال ّ ن ِبِه ا ُّ
ن َما َلْم َيْأَذ ْ
ن الّدي ِ
عوا َلُهْم ِم ْ
شَر ُ تعالىَ} :أْم َلُهْم ُ
شَرَكاُء َ
طا ُ
ن شْي َ
ن ال ّ
جاَءِني َوَكا َ
ن الّذْكِر َبْعَد ِإْذ َ
عْ
ضّلِني َ
ل َ .لَقْد َأ َ
خِلي ً
لًنا َ
خْذ ُف َ
لَ .ياَوْيَلِتي َلْيَتِني َلْم َأّت ِ
سِبي ً
ل َ
سو ِ
ت َمَع الّر ُ
خْذ ُ
ل َياَلْيَتِني اّت َ
َيُقو ُ
لنَسانِ َخُذوًل{ ]الفرقان 27 :ـ .[29 ِل ِْ
ل ،فالحلل ما حلله ،والحرام ما حرمه ،والدين ما شرعه، فالرسول وجبت طاعته؛ لنه من يطع الرسول فقد أطاع ا ّ
ل ،وهمومن سوى الرسول من العلماء ،والمشايخ ،والمراء ،والملوك إنما تجب طاعتهم ،إذا كانت طاعتهم طاعة ّ
طيُعوا
ل َوَأ ِ
طيُعوا ا َّ ل ورسوله بطاعتهم ،فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول ،قال تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ
ن آَمُنوا َأ ِ إذا أمر ا ّ
الّرُسوَل َوُأْوِلي اَْلْمِر ِمْنُكْم{ ]النساء.[59 :
فلم يقل :وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولى المر منكم ،بل جعل طاعة أولي المر داخلة في طاعة الرسول ،وطاعة
ل ،وأعاد الفعل في طاعة الرسول ،دون طاعة أولي المر ،فإنه من يطع الرسول /فقد أطاع ال، الرسول طاعة ّ
ل،
ل به أم ل ،بخلف أولي المر فإنهم قد يأمرون بمعصية ا ّ فليس لحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر هل أمر ا ّ
ل به أم ل،
ل ،وينظر هل أمر ا ّ
ل ،بل لبد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية ّ فليس كل من أطاعهم مطيًعا ّ
سواء كان أولى المر من العلماء أو المراء ،ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وغير ذلك؛وبهذا
ل{ ] النفال ،[39 :وقال النبي صلى ال ن ُكّلُه ِّ
ن الّدي ُ
ن ِفْتَنٌة َوَيُكو َ
ل َتُكو َ ل ،قال تعالىَ} :وَقاِتُلوُهْم َ
حّتى َ يكون الدين كله ّ
ل؟ فقال:
ل ،الرجل يقاتل شجاعة ،ويقاتل حمية ،ويقاتل رياء ،فأي ذلك في سبيل ا ّ عليه وسلم لما قيل له :يا رسول ا ّ
ل(.ل هي العليا فهو في سبيل ا ّ )من قاتل لتكون كلمة ا ّ
ل.
ل ،وإن كان قد يقول :إنه يحبه ّ
خا أو أميًرا ،فيجعله نًدا ّ
ثم إن كثيًرا من الناس يحب خليفة أو عالًما أو شي ً
ل ورسوله ،فقد جعله نًدا،فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به ،وينهى عنه ،وإن خالف أمر ا ّ
وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح ،ويدعوه ويستغيث به ،ويوالي أولياءه ،ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته
ل ورسوله ،فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في في كل ما يأمر به ،وينهى عنه ،ويحلله ويحرمه ،ويقيمه مقام ا ّ
ل{ ]البقرة.[165:حّبا ِّ
شّد ُ
ن آَمُنوا َأ َ
ل َواّلِذي َ
ب ا ِّ
ح ّ
حّبوَنُهْم َك ُ
ل َأنَداًدا ُي ِ
ن ا ِّ
ن ُدو ِ
خُذ ِم ْ
ن َيّت ِ
س َم ْ قوله تعالىَ} :وِم ْ
ن الّنا ِ
فالتوحيد والشراك يكون في أقوال القلب ،ويكون في أعمال القلب؛ ولهذا قال الجنيد :التوحيد قول القلب ،والتوكل
عمل القلب .أراد بذلك التوحيد الذي هو التصديق ،فإنه لما قرنه بالتوكل جعله أصله ،وإذا أفرد لفظ التوحيد ،فهو
يتضمن قول القلب وعمله ،والتوكل من تمام التوحيد.
وهذا كلفظ اليمان فإنه إذا أفرد دخلت فيه العمال الباطنة والظاهرة ،وقيل :اليمان قول وعمل ،أي :قول القلب
واللسان وعمل القلب والجوارج ،ومنه قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق عليه) :اليمان بضع
ل ،وأدناها إماطة الذى عن الطريق ،والحياء شعبة من اليمان( ،ومنه قوله وستون شعبة ،أعلها قول ل إله إل ا ّ
ن{ صاِدُقو َ
ك ُهْم ال ّ ل ُأْوَلِئ َ
ل ا ِّ
سِبي ِ
سِهْم ِفي َ جاَهُدوا ِبَأْمَواِلِهْم َوَأنُف ِسوِلِه ُثّم َلْم َيْرَتاُبوا َو َ ل َوَر ُ ن آَمُنوا ِبا ِّ تعالىِ} :إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ
ن اّلِذي َ
عَلى َرّبِهْم
عَلْيِهْم آياُتُه َزاَدْتُهْم ِإيَماًَنا َو َ
ت َ
ت ُقُلوُبُهْم َوِإَذا ُتِلَي ْ
جَل ْ
ل َو ِ ن ِإَذا ُذِكَر ا ُّ
ن اّلِذي َ ]الحجرات ،[15 :وقولهِ} :إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ
ن اّلِذي َ
ن حّقا{ ]النفال2 :ـ [4وقولهِ} :إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ ن َ ك ُهْم اْلُمْؤِمُنو َ ن ُ .أْوَلِئ َ
لَة َوِمّما َرَزْقَناُهْم ُينِفُقو َصَن ال ّ ن ُيِقيُمو َ
ن .اّلِذي َ َيَتَوّكُلو َ
ل َوَرُسوِلِه َوِإَذا َكاُنوا َمَعُه َعَلى َأْمٍر َجاِمٍع َلْم َيْذَهُبوا َحّتى َيْسَتْأِذُنوُه{ ]النور.[62 : آَمُنوا ِبا ِّ
واليمان المطلق يدخل فيه السلم كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس) :آمركم
ل / ،وإقام الصلة ،وإيتاء الزكاة،ل ،وأن محمًدا رسول ا ّ
ل؟ شهادة أن ل إله إل ا ّ
ل ،أتدرون ما اليمان با ّ
باليمان با ّ
وأن تؤدوا خمس ما غنمتم(؛ ولهذا قال من قال من السلف :كل مؤمن مسلم ،وليس كل مسلم مؤمًنا.
ت{
حا ِ
صاِل َ
عِمُلوا ال ّ
ن آَمُنوا َو َ وأما إذا قرن لفظ اليمان بالعمل أو بالسلم ،فإنه يفرق بينهما كما في قوله تعالىِ} :إ ّ
ن اّلِذي َ
]البينة ،[7 :وهو في القرآن كثير ،وكما في قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما سأله جبريل
ل ،وتقيم الصلة،ل وأن محمًدا رسول ا ّعن السلم واليمان والحسان ـ فقال) :السلم :أن تشهد أن ل إله إل ا ّ
ل ،وملئكته ،وكتبه ،ورسله، وتؤتي الزكاة ،وتصوم رمضان ،وتحج البيت( .قال :فما اليمان؟ قال) :أن تؤمن با ّ
ل كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه
والبعث بعد الموت ،وتؤمن بالقدر خيره وشره( .قال :فما الحسان؟ قال) :أن تعبد ا ّ
يراك( .ففرق في هذا النص بين السلم واليمان لما قرن بين السمين ،وفي ذلك النص أدخل السلم في اليمان لما
أفرده بالذكر.
وكذلك لفظ ]العمل[ فإن السلم المذكور هو من العمل ،والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه ،فإذا حصل
إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة ،وإيمان القلب لبد فيه من تصديق القلب وانقياده ،وإل فلو صدق قلبه بأن
ل ،وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته ،لم يكن قد آمن قلبه.
محمًدا رسول ا ّ
و]اليمان[ وإن تضمن التصديق ،فليس هو مرادًفا له ،فل يقال /لكل مصدق بشيء :أنه مؤمن به .فلو قال :أنا أصدق
بأن الواحد نصف الثنين ،وأن السماء فوقنا ،والرض تحتنا ،ونحو ذلك مما يشاهده الناس ويعلمونه ،لم يقل لهذا :أنه
ت ِبُمْؤِمٍن َلَنا{ ]يوسف:
مؤمن بذلك ،بل ل يستعمل إل فيمن أخبر بشيء من المور الغائبة كقول إخوة يوسفَ} :وَما َأْن َ
،[17فإنهم أخبروه بما غاب عنه وهم يفرقون بين من آمن له وآمن به فالول :يقال للمخبر ،والثاني :يقال للمخبر به
ت ِبُمْؤِمٍن َلَنا{ ،وقال تعالىَ} :فَما آَمَن ِلُموَسى ِإّل ُذّرّيٌة ِمْن َقْوِمِه{ ]يونس.[83 :
كما قال إخوة يوسفَ} :وَما َأْن َ
ومنه قوله ـ تعالى ـ عن فرعون وملئهَ} :أُنْؤِمُن ِلَبَشَرْيِن ِمْثِلَنا{ ]المؤمنون ،[47 :أي :نقر لهما ونصدقهما .ومنه قوله:
ل ُثّم ُيَحّرُفوَنُه مِْن َبْعِد َما َعَقُلوُه َوُهْم َيْعَلُموَن{ ]البقرة ،[75 :ومنه لَم ا ِّن َك َ سَمُعو َق ِمْنُهْم َي ْن َفِري ٌن ُيْؤِمُنوا َلُكْم َوَقْد َكا َ
ن َأ ْ
طَمُعو َ
}َأَفَت ْ
ب{
ن ِباْلَغْي ِجٌر ِإَلى َرّبي{ ]العنكبوت ،[26 :ومن المعني الخر قوله تعالىُ} :يْؤِمُنو َ ل ِإّني ُمَها ِط َوَقا َ قوله تعالىَ} :فآَم َ
ن َلُه ُلو ٌ
حٍد ِم ْ
ن ن َأ َ
ق َبْي َ
ل ُنَفّر ُ
سِلِه َ
لِئَكِتِه َوُكُتِبِه َوُر ُ
ل َوَم َل آَمنَ ِبا ِّ ن ُك ّ
ن َرّبِه َواْلُمْؤِمُنو َل ِإَلْيِه ِم ْ
ل ِبَما ُأنِز َ
سو ُن الّر ُ ]البقرة ،[3 :وقوله} :آَم َ
ب َوالّنِبّييَن{ ]البقرة ،[177 :أي :أقر لِئَكِة َواْلِكَتا ِخِر َواْلَم َ لِل َواْلَيْوِم ا ْ
ن ِبا ِّن آَم َ
ن اْلِبّر َم ْسِلِه{ ]البقرة ،[285 :وقولهَ} :وَلِك ّ ُر ُ
بذلك ومثل هذا في القرآن كثير.
والمقصود هنا أن لفظ ]اليمان[ إنما يستعمل في بعض الخبار ،وهو مأخوذ من المن ،كما أن القرار مأخوذ من
قر ،فالمؤمن صاحب أمن ،كما أن المقر صاحب إقرار ،فلبد في ذلك من عمل القلب بموجب تصديقه ،فإذا كان
ل ،ولم يقترن بذلك حبه ،وتعظيمه بل كان يبغضه ويحسده ويستكبر عن اتباعه ،فإن هذا
عالًما بأن محمًدا رسول ا ّ
ليس بمؤمن به ،بل كافر به.
ومن هذا الباب :كفر إبليس ،وفرعون ،وأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وغير هؤلء ،فإن إبليس لم
ظْلًما
سُهْم ُ
سَتْيَقَنْتَها َأْنُف ُ
حُدوا ِبَها َوا ْ
جَل فيهمَ} :و َ يكذب خبًرا ول مخبًرا ،بل استكبر عن أمر ربه .وفرعون وقومه قال ا ّ
صاِئَر{]السراء،[102 : ض َب َلْر ِ ت َوا َْ
سَماَوا ِب ال ّ
ل َر ّ
لء ِإ ّ
ل َهُؤ َ
ت َما َأنَز َ عُلّوا{ ]النمل ،[14 :وقال له موسىَ} :لَقْد َ
عِلْم َ َو ُ
ب َيْعِرُفوَنُه َكَما َيْعِرُفوَن َأْبَناَءُهْم{ ]البقرة.[146 : وقال تعالى} :اّلِذي َ
ن آَتْيَناُهْم اْلِكَتا َ
فمجرد علم القلب بالحق إن لم يقترن به عمل القلب بموجب ـ علمه مثل محبة القلب له واتباع القلب له ـ لم ينفع
ل بعلمه ،وقد كان النبي صلى ال عليه وسلم /يقول) :الّلهم صاحبه ،بل أشد الناس عذاًبا يوم القيامة عالم لم ينفعه ا ّ
إني أعوذ بك من علم ل ينفع ،ونفس ل تشبع ،ودعاء ل يسمع ،وقلب ل يخشع(.
ولكن الجهمية ظنوا أن مجرد علم القلب وتصديقه هو اليمان ،وأن من دل الشرع على أنه ليس بمؤمن ،فإن ذلك يدل
ل ،وحقيقته توجب التسوية بين المؤمن والكافر؛ ولهذا أطلقعا وعق ً
على عدم علم قلبه ،وهذا من أعظم الجهل شر ً
وكيع بن الجراح وأحمد ابن حنبل وغيرهما من الئمة كفرهم بذلك ،فإنه من المعلوم أن النسان يكون عالًما بالحق
ويبغضه لغرض آخر ،فليس كل من كان مستكبًرا عن الحق ،يكون غيرعالم به ،وحينئذ فاليمان لبد فيه من تصديق
القلب وعمله ،وهذا معنى قول السلف :اليمان قول وعمل.
ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للرادة ،لزم وجود الفعال الظاهرة ،فإن الرادة الجازمة
إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطًعا ،وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة ،أو لعدم كمال الرادة،
ل وأحبه محبة تامة،
وإل فمع كمالها يجب وجود الفعل الختياري ،فإذا أقر القلب إقراًرا تاًما ،بأن محمًدا رسول ا ّ
امتنع مع ذلك أل يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك ،لكن إن كان عاجًزا لخرس ،ونحوه أو لخوف ،ونحوه لم يكن
قادًرا على النطق بهما.
ل ،بل كان يحبه؛ ل ،وهو محب له ،فلم تكن محبته له لمحبته ّ وأبو طالب ،وإن كان عالًما بأن محمًدا رسول ا ّ /
لنه ابن أخيه فيحبه للقرابة ،وإذا أحب ظهوره فلما يحصل له بذلك من الشرف والرئاسة ،فأصل محبوبه هو
الرئاسة ؛ فلهذا لما عرض عليه الشهادتين عند الموت رأى أن بالقرار بهما زوال دينه الذي يحبه ،فكان دينه أحب
جّنُبَها ل فيهَ} :و َ
سُي َ ل كما كان يحبه أبو بكر الذي قال ا ّ إليه من ابن أخيه فلم يقر بهما ـ فلو كان يحبه ؛ لنه رسول ا ّ
ضى{ ]الليل 17 :ـ ف َيْر َ
سْو َ
عَلى َ .وَل َ
لْ
جِه َرّبِه ا َْ
ل اْبِتَغاَء َو ْجَزى ِ .إ ّ
ن ِنْعَمٍة ُت ْ
عْنَدُه ِم ْ
حٍد ِ
لَلْتَقى .اّلِذي ُيْؤِتي َماَلُه َيَتَزّكى َ .وَما َِ
ا َْ
،[21وكما كان يحبه سائر المؤمنين به ،كعمر وعثمان وعلى ،وغيرهم لنطق بالشهادتين قطًعا ـ فكان حبه حًبا مع
ل ل يقبل من العمل إل ما ل ،وا ّ ل ما فعله من نصر الرسول ومؤازرته ؛ لنه لم يعمله ّ ل ؛ ولهذا لم يقبل ا ّ ل ل حًبا ّ ا ّ
أريد به وجهه ،بخلف الذي فعل ،ما فعل ابتغاء وجه ربه العلى.
ل ،والدين ل وهذا مما يحقق أن اليمان ،والتوحيد لبد فيهما من عمل القلب ،كحب القلب ،فلبد من إخلص الدين ّ
ل ـ عز وجل ـ سورتي الخلصُ} :ق ْ
ل َياَأّيَها يكون ديًنا إل بعمل ،فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة ،وقد أنزل ا ّ
ل َأَحٌد{ .إحداهما في توحيد القول والعلم ،والثانية في توحيد العمل /والرادة ،فقال في الول: ل ُهَو ا ُّ ن{ و}ُق ْ اْلَكاِفُرو َ
صَمُد َ .لْم َيِلْد َوَلْم ُيوَلْد َ .وَلْم َيُكْن َلُه ُكُفًوا َأَحٌد{ ]سورة الخلص[ فأمره أن يقول هذا التوحيد وقال في ل ال ّ حٌد .ا ُّ ل َأ َ
ل ُهوَ ا ُّ }ُق ْ
عُبُد َ .لُكْم
ن َما َأ ْ عاِبُدو َ
ل َأْنُتْم َ
عَبدّتْم َ .و َ
عاِبٌد َما َ
ل َأَنا َ
عُبُد َ .و َ
ن َما َأ ْ
عاِبُدو َ
ل َأْنُتْم َ
ن َ .و َ
عُبُد َما َتْعُبُدو َ
ل َأ ْ
نَ . الثانيُ} :ق ْ
ل َياَأّيَها اْلَكاِفُرو َ
ل.
ل وإخلص العبادة ّ ي ِديِن{ ] سورة الكافرون [ فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير ا ّ ِديُنُكْم وَِل َ
والعبادة أصلها القصد والرادة ،والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه ،وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما
ن{ ]الذاريات ،[56 :وقال تعالىَ} :ياَأّيَها ل ِلَيْعُبُدو ِس ِإ ّ
لن َ
ن َوا ِْ
جّ
ت اْل ِ لها ،كما ذكرناه في لفظ اليمان ،قال تعالىَ} :وَما َ
خَلْق ُ
س اعُْبُدوا َرّبُكْم{ ]البقرة ،[21 :فهذا ونحوه يدخل فيه فعل المأمورات وترك المحظورات ،والتوكل من ذلك ،وقد الّنا ُ
ك َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة ،[5 :وقالَ} :فاْعُبْدُه َوَتَوّكْل َعَلْيِه{ ]هود.[123 : قال في موضع آخرِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد َوِإّيا َ
ومثل هذا كثيًرا ما يجيء في القرآن؛ تتنوع دللة اللفظ في عمومه وخصوصه بحسب الفراد والقتران ،كلفظ
ف َوَتْنَهْوَن َعْن اْلُمنَكِر{ ] آل عمران،[110 : ن ِباْلمَْعُرو ِس َتْأُمُرو َ
ت ِللّنا ِ
ج ْ
خِر َ المعروف والمنكر فإنه قد قالُ} :كْنُتْم َ
خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ
ن اْلُمنَكِر{ ]التوبة ،[71 :وقالَ} :يْأُمُرُهْمعْ
ن َ
ف َوَيْنَهْو َن ِباْلَمْعُرو ِ
ض َيْأُمُرو َ
ضُهْم َأْوِلَياُء َبْع ٍ ت َبْع ُ وقالَ} :واْلُمْؤِمُنو َ
ن َواْلُمْؤِمَنا ُ
ل.
ل ،كما يدخل في المعروف ما يحبه ا ّ ف َوَيْنَهاُهْم َعْن اْلُمنَكِر{ ]العراف ،[157 :فالمنكر يدخل فيه ما كرهه ا ّ ِباْلَمْعُرو ِ
لَة َتْنَهى َعْن اْلَفْحَشاِء َواْلُمْنَكِر{ ]العنكبوت ،[45 :فعطف المنكر على الفحشاء ،ودخل صَ وقد قال في موضع آخرِ} :إ ّ
ن ال ّ
شاِء َواْلُمنَكِر
حَن اْلفَ ْ
عْ
ن َوِإيَتاِء ِذي اْلُقْرَبى َوَيْنَهى َ
سا ِ
حَلْ
ل َوا ِ
ل َيْأُمُر ِباْلَعْد ِ في المنكر هنا البغي ،وقال في موضع آخرِ} :إ ّ
ن ا َّ
ي{ ]النحل ،[90 :فقرن بالمنكر الفحشاء والبغي. َواْلَبْغ ِ
ومن هذا الباب لفظ الفقراء والمساكين ،إذا أفرد أحدهما دخل فيه الخر ،وإذا قرن أحدهما بالخر صار بينهما فرق،
ل وحده والتوكل عليه وحده ،وخشية لكن هناك أحد السمين أعم من الخر ،وهنا بينهما عموم وخصوص ،فمحبة ا ّ
ل َأنَداًدا
ن ا ِّ
ن ُدو ِ خُذ ِم ْن َيّت ِ
س َم ْ
ن الّنا ِ ل تعالى ،قال تعالى في المحبةَ} :وِم ْ ل وحده ،ونحو هذا كل هذا يدخل في توحيد ا ّ ا ّ
جُكْم
خَواُنُكْم َوَأْزَوا ُ
ن آَباُؤُكْم َوَأْبَناُؤُكْم َوِإ ْ
ن َكا َ ل{ ]البقرة ،[165 :وقال تعالىُ} :ق ْ
ل ِإ ْ حّبا ِّ
شّد ُ
ن آَمُنوا َأ َ
ل َواّلِذي َ
ب ا ِّ
ح ّ
حّبوَنُهْم َك ُ
ُي ِ
صواسِبيِلِه َفَتَرّب ُ
جَهاٍد ِفي َ سوِلِه َو ِ ل َوَر ُ ن ا ِّ ب ِإَلْيُكْم ِم ْ
ح ّ ضْوَنَها َأ َ
ن َتْر َساِك ُ
ساَدَها َوَم َ ن َك َ
شْو َ
خَ جاَرٌة َت ْل اْقَتَرْفُتُموَها َوِت َشيَرُتُكْم َوَأْمَوا ٌ عَِو َ
ك ُهْم اْلَفاِئُزوَن{ ]النور،[52 : ل َوَيّتِقِه َفُأْوَلِئ َش ا َّ
خ َ سوَلُه َوَي ْل َوَر ُطْع ا َّ
ن ُي ِل ِبَأْمِرِه{ ]التوبة ،[24 :وقال تعالىَ} :وَم ْ ي ا ُّ
حّتى َيْأِت ََ
سوُلُه َوَقاُلوا
ل َوَر ُضوا َما آَتاُهْم ا ُّ ل وحده ،وقال تعالىَ} :وَلْو َأّنُهْم َر ُ ل والرسول وجعل الخشية والتقوى ّ فجعل الطاعة ّ
ب َ .وِإَلى َرّب َ
ك ص ْت َفان َغ َ ن{ ]التوبة ،[59 :وقال تعالىَ} :فِإَذا َفَر ْ غُبو َ ل َرا ِ
سوُلُه ِإّنا ِإَلى ا ِّضِلِه َوَر ُ
ن َف ْل ِم ْ سُيْؤِتيَنا ا ُّ
ل َ سُبَنا ا ُّ
حَْ
ل وحده. ب{ ]الشرح [8 ،7 :فجعل التحسب والرغبة إلى ا ّ غ َْفاْر َ
ل،
ل وعم ًل قو ً
ل وحده وذلك يتضمن التصديق ّ
ت{ فيه إفراد اللهية ّ
ل َأْن َ والمقصود هنا أن قول القائلَ } :
ل ِإَلَه ِإ ّ
ل رب كل شيء ،لكن كانوا يجعلون معه آلهة أخرى ،فل يخصونه باللهية، فالمشركون كانوا يقرون بأن ا ّ
ك َنْسَتِعيُن{ فإن النسان قد وتخصيصه باللهية يوجب أل يعبد إل إياه ،وأل يسأل غيره ،كما في قولهِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد َوِإّيا َ
صا له في
ل ،بل يكرهها وينهى عنها ،فهذا وإن كان مخل ً ل وحده والتوكل عليه ،لكن في أمور ل يحبها ا ّ
يقصد سؤال ا ّ
صا في عبادته وطاعته ،وهذا حال كثير من أهل التوجهات الفاسدة أصحاب سؤاله ،والتوكل عليه ،لكن ليس هو مخل ً
ل ورسوله ،فإنهم يعانون على هذه المور. الكشوفات ،والتصرفات المخالفة لمر ا ّ
ل ورسوله حصل لهم نصيب من العاجلة ،وكانت عاقبتهم ل عليها ،لكن لما لم تكن موافقة لمرا ّ وكثير منهم يستعين ا ّ
ن َكُفوًرا{ سا ُلْن َن ا ِْ ضُتْم َوَكا َ
عَر ْ
جاُكْم ِإَلى اْلَبّر َأ ْل ِإّياُه َفَلّما َن ّ
ن ِإ ّ
عو َ ن َتْد ُ
ل َم ْضّ حِر َضّر ِفي اْلَب ْ سُكْم ال ّ عاقبة سيئة ،قال تعالىَ} :وِإَذا َم ّ
عَنا ِإَلى
ن َلْم َيْد ُضّرهُ َمّر َكَأ ْ عْنُه ُ
شْفَنا َ جْنِبِه َأْو َقاعًِدا َأْو َقاِئًما َفَلّما َك َ
عاَنا ِل َ
ضّر َد َ
ن ال ّ
سا َ لْن َ ]السراء ،[67 :وقال تعالىَ} :وِإَذا َم ّ
س ا ِْ
ضّر َمّسُه{ ]يونس.[12 :
ُ
ل ورسوله ،لكن ل يحققون التوكل عليه والستعانة به ،فهؤلء يثابون على حسن طائفة أخرى قد يقصدون طاعة ا ّ وَ
ل والتوكل عليه ،ولهذا يبتلى الواحد نيتهم ،وعلى طاعتهم ،لكنهم مخذولون فيما يقصدونه ،إذ لم يحققوا الستعانة با ّ
من هؤلء بالضعف والجزع تارة ،وبالعجاب أخرى ،فإن لم يحصل مراده من الخير كان لضعفه ،وربما حصل له
جزع ،فإن حصل مراده نظر إلى نفسه وقوته فحصل له إعجاب ،وقد يعجب بحاله فيظن حصول مراده فيخذل ،قال
ن{ إلى قولهُ} :ثّم
ت ُثّم َوّلْيُتْم ُمْدِبِري َ
حَب ْ
ض ِبَما َر ُ
لْر ُ
عَلْيُكْم ا َْ
ت َ
ضاَق ْ
شْيًئا َو َ
عْنُكْم َ
ن َ
جَبْتُكْم َكْثَرُتُكْم َفَلْم ُتْغ ِ
عَن ِإْذ َأ ْ تعالىَ} :وَيْوَم ُ
حَنْي ٍ
ل َغُفوٌر َرِحيٌم{ ]التوبة25 :ـ .[27 شاُء َوا ُّ ن َي َ
عَلى َم ْ ك َ ن َبْعِد َذِل َ
ل ِم ْ
ب ا ُّ
َيُتو ُ
وكثيًرا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب ،فالرياء من باب الشراك بالخلق ،والعجب من باب الشراك بالنفس،
ك َنْسَتِعيُن{ ،فمن حقق قوله:
ك َنْعٍُبد{ ،والمعجب ل يحقق قولهَ} :وِإّيا َ
وهذا حال المستكبر ،فالمرائي ل يحقق قوله} :إّيا َ
ك َنْسَتِعيُن{ خرج عن العجاب ،وفي الحديث المعروف) :ثلث ك َنْعُبُد{ خرج عن الرياء ،ومن حقق قولهَ} :وِإّيا َ
}ِإّيا َ
ع ،وهوى ُمّتَبٌع ،وإعجاب المرء بنفسه(. طا ٌ
ح ُم َ
شّمهلكاتُ :
ومن هؤلء من يكون شركه بالشياطين ،كأصحاب الحوال الشيطانية ،فيفعلون ما تحبه الشياطين من الكذب
ل ،كما قد
والفجور ،ويدعونه بأدعية تحبها الشياطين ،ويعزمون بالعزائم التي تطيعها الشياطين ،مما فيها إشراك با ّ
بسط الكلم عليهم في مواضع أخر ،وهؤلء قد يحصل لهم من الخوارق ما يظن أنه من كرامات الولياء .وإنما هو
من أحوال السحرة والكهان؛ ولهذا يجب الفرق بين الحوال اليمانية القرآنية ،والحوال النفسانية ،والحوال
الشيطانية.
ل عليه النعمة استحضر ت{ قد يستحضر في ذلك أحد النوعين دون الخر فمن أتم ا ّ ل َأْن َ وقول المكروبَ } :
ل ِإَلَه ِإ ّ
ل مستشعًرا أنه ل التوحيد في النوعين ،فإن المكروب همته منصرفة إلى دفع ضره وجلب نفعه ،فقد يقول :ل إله إل ا ّ
يكشف الضر غيرك ،ول يأتي بالنعمة إل أنت ،فهذا مستحضر توحيد الربوبية ،ومستحضر توحيد السؤال والطلب،
ل ويرضاه ويأمر /به وهـو أل يعبد إل إياه ،ول يعبده إل والتوكل عليه ،معرض عن توحيد اللهية الذي يحبه ا ّ
ل قوله: ل عليه وكان ممتث ً ل متوك ًت{ كان عابًدا ّ
ل َأْن َ بطـاعته ،وطـاعـة رسوله ،فمن استشعر هـذا في قـولهَ } :
ل ِإَلَه ِإ ّ
ل ِإَلْيِه
ك َوَتَبّت ْ ب{ ]الشورى ،[10 :وقولهَ} :واْذُكْر ا ْ
سَم َرّب َ ت َوِإَلْيِه ُأِني ُ عَلْيِه{ ]هود ،[123 :وقولهَ } :
عَلْيِه َتَوّكْل ُ ل َعُبْدُه َوَتَوّك ْ
}َفا ْ
ل{ ]المّزمل.[9 ،8 : خْذُه َوِكي ًل ُهَو َفاّت ِ
ل ِإَلَه ِإ ّ
ب َ ق َواْلَمْغِر ِشِر ِ
ب اْلَم ْ
ل َ .ر ّ َتْبِتي ً
وهذا مما يفرق به بين العبد الرسول وخلفائه ،وبين النبي الملك ،فإن نبينا محمًدا صلى ال عليه وسلم خير بين أن
ل ،فإن العبد الرسول هو الذي ل يفعل إل ما أمر به،
ل ،فاختار أن يكون عبًدا رسو ً
يكون نبًيا ملًكا ،أو عبًدا رسو ً
ل ل أعطي ل ،فهو عبد محض منفذ أمر مرسله ،كما ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال) :إني وا ّ ففعله كله عبادة ّ
ل بذلكأحًدا ول أمنع أحًدا ،وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت( ،وهو لم يرد بقوله) :ل أعطي أحًدا ول أمنع( إفراد ا ّ
ل وقدره ،وإنما أراد إفراد قدًرا وكوًنا ،فإن جميع المخلوقين يشاركونه في هذا ،فل يعطي أحًدا ول يمنع إل بقضاء ا ّ
ل في إعطائي عا وديًنا ،أي ل أعطي إل من أمرت /بإعطائه ،ول أمنع إل من أمرت بمنعه ،فأنا مطيع ّ ل بذلك شر ً
ا ّ
ل أمره بهذه القسمة.
ومنعى ،فهو يقسم الصدقة والفيء والغنائم كما يقسم المواريث بين أهلها؛ لن ا ّ
ل ورسوله ،ليس المراد به ل ورسوله ،فالمراد به ما يجب أن يصرف في طاعة ا ّ ولهذا كان المال حيث أضيف إلى ا ّ
ل خلًقا وقدًرا ،فإن جميع الموال بهذه أنه ملك للرسول ،كما ظنه طائفة من الفقهاء ،ول المراد به كونه مملوًكا ّ
ل{سو ِسُه َوِللّر ُخُم َ
ل ُ
ن ِّ
يٍء َفَأ ّ
ش ْن َغِنْمُتْم ِم ْ ل{ ]النفال ،[1 :وقولهَ} :وا ْ
عَلُموا َأّنَما َ سو ِل َوالّر ُ ل ِّلْنَفا ُ المثابة ،وهذا كقولهُ} :ق ْ
ل ا َْ
عَلى
ل َب{ إلى قولهَ} :ما َأَفاَء ا ُّ ل ِرَكا ٍ ل َو َ
خْي ٍ
ن َ عَلْيِه ِم ْ
جْفُتْم َ
سوِلِه ِمْنُهْم َفَما َأْو َ
عَلى َر ُ
ل َالية ]النفال ،[41 :وقولهَ} :وَما َأَفاَء ا ُّ
َرُسوِلِه ِمْن َأْهِل اْلُقَرى َفِلّلِه َوِللّرُسوِل َوِلِذي اْلُقْرَبى{ الية ]الحشر ،[7 ،6 :فذكر في الفيء ما ذكر في الخمس.
فظن طائفة من الفقهاء أن الضافة إلى الرسول تقتضى أنه يملكه ،كما يملك الناس أملكهم .ثم قال بعضهم :إن غنائم
بدر كانت ملًكا للرسول ،وقال بعضهم :إن الفيء وأربعة أخماسه كان ملًكا للرسول ،وقال بعضهم :إن الرسول إنما
كان يستحق من الخمس خمسه ،وقال بعض هؤلء :وكذلك كان يستحق من خمس الفيء خمسه ،وهذه القوال توجد
في كلم طوائف من أصحاب الشافعي ،وأحمد ،وأبي حنيفة ،وغيرهم ،وهذا غلط من وجوه:
/منها :أن الرسول لم يكن يملك هذه الموال كما يملك الناس أموالهم ،ول كما يتصرف الملوك في ملكهم ،فإن هؤلء
وهؤلء لهم أن يصرفوا أموالهم في المباحات ،فإما إن يكون مالًكا له ،فيصرفه في أغراضه الخاصة ،وإما أن يكون
ب{
سا ٍ
حَ
ك ِبَغْيِر ِ
س ْ ملًكا له ،فيصرفه في مصلحة ملكه ،وهذه حال النبي الملك ،كداود وسليمان ،قال تعالىَ} :فاْمُن ْ
ن َأْو َأْم ِ
ل ل يعطي إل من أمر ]ص ،[39 :أي :أعط من شئت واحرم من شئت ل حساب عليك ،ونبينا كان عبًدا رسو ً
ل وطاعة له. بإعطائه ،ول يمنع إل من أمر بمنعه ،فلم يكن يصرف الموال إل في عبادة ا ّ
ومنها :أن النبي ل يورث ولو كان ملًكا ،فإن النبياء ليورثون ،فإذا كان ملوك النبياء لم يكونوا ملكا ،كما يملك
الناس أموالهم ،فكيف يكون صفوة الرسل الذي هو عبد رسول مالًكا.
للومنها :أن النبي صلى ال عليه وسلم كان ينفق على نفسه وعياله قدر الحاجة ،ويصرف سائر المال في طاعة ا ّ
ل أمر رسولهل ورسوله ،بمعنى أن ا ّيستفضله ،وليست هذه حال الملك ،بل المال الذي يتصرف فيه كله هو مال ا ّ
أن يصرف ذلك المال في طاعته ،فتجب طاعته في قسمه ،كما تجب طاعته في سائر ما يأمر به ،فإنه من يطع
ل / ،والموال التي كان يقسمها النبي صلى ال عليه وسلم على
ل ،وهو في ذلك مبلغ عن ا ّالرسول فقد أطاع ا ّ
وجهين:
ل به ،منه ما هو محدود بالشرع ،كالصلوات الخمس،ومنها :ما يحتاج إلى اجتهاده ونظره ورأيه ،فإن ما أمر ا ّ
وطواف السبوع بالبيت ،ومنه ما يرجع في قدره إلى اجتهاد المأمور ،فيزيده وينقصه بحسب المصلحة التي يحبها
ل.
ا ّ
فمن هذا ما اتفق عليه الناس ،ومنه ما تنازعوا فيه ،كتنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات :هل هي مقدرة
بالشرع؟ أم يرجع فيها إلى العرف ،فتختلف في قدرها وصفتها باختلف أحوال الناس؟ وجمهور الفقهاء على القول
ضا في
الثاني ،وهو الصواب لقول النبي صلى ال عليه وسلم لهند) :خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف( ،وقال أي ً
خطبته المعروفة) :للنساء كسوتهن ونفقتهن بالمعروف(.
ل والرسل من الموال ،كان المرجع في قسمته إلى أمر /النبي صلى ال عليه وسلم ،بخلف ما فما أضيف إلى ا ّ
ل عليكم إل الخمس،
سمى مستحقوه كالمواريث؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم عام حنين) :ليس لي مما أفاء ا ّ
والخمس مردود عليكم( أي :ليس له بحكم القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إل الخمس؛ ولهذا قال:
)وهو مردود عليكم( بخلف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة.
ولهذا كانت الغنائم يقسمها المراء بين الغانمين ،والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين ،الذين خلفوا رسول
ل ورسوله ل صلى ال عليه وسلم في أمته ،فيقسمونها بأمرهم ،فأما أربعة الخماس ،فإنما يرجعون فيها ليعلم حكم ا ّ ا ّ
كما يستفتى المستفتى ،وكما كانوا في الحدود لمعرفة المر الشرعي ،والنبي صلى ال عليه وسلم أعطى المؤلفة
قلوبهم من غنائم حنين ما أعطاهم ،فقيل :إن ذلك كان من الخمس ،وقيل :إنه كان من أصل الغنيمة ،وعلى هذا القول
فهو فعل ذلك لطيب نفوس المؤمنين بذلك؛ ولهذا أجاب من عتب من النصار بما أزال عتبه ،وأراد تعويضهم عن
ذلك.
ومن الناس من يقول :الغنيمة قبل القسمة لم يملكها الغانمون ،وإن للمام أن يتصرف فيها باجتهاده كما هو مذكور في
غير هذا الموضع.
ل ،والسؤال متعلًقا باسمه الرب ،فإن العبادة هي الغاية التي لها خلق الخلق. ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه ا ّ
واللهية هي الغاية ،والربوبية تتضمن خلق الخلق وإنشاءهم فهو متضمن ابتداء حالهم ،والمصلي إذا قالِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد
ك َنسَْتِعيُن{ فبدأ بالمقصود الذي هو الغاية على الوسيلة التي هي البداية ،فالعبادة غاية مقصودة ،والستعانة وسيلة َوِإّيا َ
إليها :تلك حكمة وهذا سبب ،والفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلىة معروف؛ ولهذا يقال :أول الفكرة آخر العمل،
وأول البغية آخر الدرك .فالعلة الغائية متقدمة في التصور والرادة وهي متأخرة في الوجود .فالمؤمن يقصد عبادة ا ّ
ل
ك َنْسَتِعيُن{ . ابتداء وهو يعلم أن ذلك ل يحصل إل بإعانته فيقولِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد وِإّيا َ
ل أكبر ،الّ
ل ـ تعالى ـ جاءت الذكار المشروعة بهذا السم مثل كلمات الذان :ا ّ ولما كانت العبادة متعلقة باسمه ا ّ
ل ،ومثل التسبيح،ل .ومثل التشهد :التحيات ّل ،أشهد أن محمًدا رسول ا ّ
أكبر .ومثل الشهادتين / :أشهد أن ل إله إل ا ّ
ل أكبر.
ل ،وا ّ
ل ،ول إله إل ا ّ
ل ،والحمد ّ
والتحميد ،والتهليل ،والتكبير :سبحان ا ّ
ن ِم ْ
ن حْمَنا َلَنُكوَن ّ
ن َلْم َتْغِفْر َلَنا َوَتْر َ
سَنا َوِإ ْ را ما يجيء باسم الرب ،كقول آدم وحواءَ} :رّبَنا َ
ظَلْمَنا َأنُف َ وأما السؤال فكثي ً
س ِلي ِبِه ِعْلٌم{ ]هود ،[47 :وقول موسى: ك َما َلْي َ سَأَل َ
ن َأ ْ
ك َأ ْ
عوُذ ِب َ
ب ِإّني َأ ُن{ ]العراف ،[23 :وقول نوحَ} :ر ّ سِري َخا ِ
اْل َ
عْنَد َبْيِت َ
ك ع ِ غْيِر ِذي َزْر ٍ ن ُذّرّيِتي ِبَواٍد َ ت ِم ْ سَكن ُ غِفْر ِلي{]القصص ،[16 :وقول الخليلَ} :رّبَنا إِّني َأ ْ سي َفا ْت َنْف ِ
ظَلْم ُ
ب ِإّني َ }َر ّ
ت الّسِميُع اْلَعِليُم{ ]البقرة: ك َأْن َ ل ِمّنا ِإّن َلَة{ الية ]إبراهيم ،[37 :وقوله مع إسماعيلَ} :رّبَنا َتَقّب ْ صَ حّرِم َرّبَنا ِلُيِقيُموا ال ّ
اْلُم َ
ب الّناِر{]البقرة [201 :ومثل هذا عَذا َ حسََنًة َوِقَنا َ خَرِة َ لِ سَنًة َوِفي ا ْ
حَ ،[127وكذلك قول الذين قالواَ} :رّبَنا آِتَنا ِفي الّدْنَيا َ
كثير.
وقد نقل عن مالك أنه قال :أكره للرجل أن يقول في دعائه :يا سيدي ،يا سيدي ،يا حنان ،يا حنان ،ولكن يدعو بما
ل ِقَياًما َوُقُعوًدا
ن ا َّ دعت به النبياء ،ربنا ،ربنا .نقله عنه العتبي في العتبية .وقال تعالى عن أولى اللباب} :اّلِذي َ
ن َيْذُكُرو َ
ب الّناِر{ ]آل عمران[191 : عَذا َ
ك َفِقَنا َ
حاَن َ
سْب َ
ل ُ
طًت َهَذا َبا ِ
خَلْق َ
ض َرّبَنا َما َ
لْر ِ
ت َوا َْ
سَماَوا ِ
ق ال ّ
خْل ِ
ن ِفي َ
عَلى جُُنوِبِهْم َوَيَتَفّكُرو َ
َو َ
اليات.
ل؛ لتضمنه اسم الرب ،كان /فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال ،ناسب أن يسأله باسمه الرب ،وإن سأله باسمه ا ّ
ل ،وإذا قصد الدعاء دعا باسم ل أولى بذلك ،إذا بدأ بالثناء ذكر اسم ا ّ حسًنا ،وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة ،فاسم ا ّ
ن َلْم
سَنا َوِإ ْ ن{]النبياء ،[87 :وقال آدمَ} :رّبَنا َ
ظَلْمَنا َأنُف َ ظاِلِمي َ ن ال ّ
ت ِم ْ
ك ِإّني ُكن ُ
حاَن َ
سْب َ
ت ُ
ل َأْن َ الرب؛ ولهذا قال يونسَ } :
ل ِإَلَه ِإ ّ
صِبرْن{ ]العراف ،[23 :فإن يونس ـ عليه السلم ـ ذهب مغاضًبا ،وقال تعالىَ} :فا ْ سِري َخا ِ ن اْل َ
ن ِم ْحْمَنا َلَنُكوَن ّ
َتْغِفْر َلَنا َوَتْر َ
ت َوُهَو ُمِليٌم{]الصافات ،[142 :ففعل ما يلم حو ُت{ ]القلم ،[48 :وقال تعالىَ} :فاْلَتَقَمُه اْل ُ حو ِ ب اْل ُ
ح ِ صا ِ
ن َك َ ل َتُك ْك َو َحْكِم َرّب َ ِل ُ
عليه فكان المناسب لحاله أن يبدأ بالثناء على ربه ،والعتراف بأنه ل إله إل هو ،فهو الذي يستحق أن يعبد دون غيره
ل وحده ،وقد روى أن يونس ـ عليه السلم ـ ندم على ارتفاع فل يطاع الهوى ،فإن اتباع الهوى يضعف عبادة ا ّ
ل تعالى وأن
العذاب عن قومه بعد أن أظلهم وخاف أن ينسبوه إلى الكذب فغاضب.وفعل ما اقتضى الكلم الذي ذكره ا ّ
ل من اللهية ،سواء صدر ذلك عن هوى النفس أو طاعة ت{ وهذا الكلم يتضمن براءة ما سوى ا ّ ل َأْن َ يقالَ } :
ل ِإَلَه ِإ ّ
ظاِلِميَن{.
ن ال ّ
ت ِم ْ
ك ِإّني ُكن ُ
حاَن َ الخلق أو غير ذلك؛ ولهذا قالُ } :
سْب َ
والعبد يقول مثل هذا الكلم فيما يظنه وهو غير مطابق ،وفيما يريده وهو غير حسن.
ظَلْمَنا َأنُفَسَنا{ ولم يكن عند آدم من ينازعه الرادة لما أمر الّ ل بذنبه ،فقالَ } :
/وأما آدم ـ عليه السلم ـ فإنه اعترف أو ً
صِحيَن َ .فَدّلُهَما ِبُغُروٍر{ ]العراف:
ن الّنا ِ به ،مما يزاحم اللهيـة بـل ظـن صدق الشيطـان الـذي }َوَقا َ
سَمُهَما ِإّني َلُكَما َلِم ْ
،[22 ،21فالشيطان غرهما وأظهر نصحهما فكانا في قبول غروره ،وما أظهر من نصحه حالهما مناسًبا لقولهما:
ظَلْمَنا َأنُفَسَنا{ لما حصل من التفريط ،ل لجل هوى وحظ يزاحم اللهية ،وكانا محتاجين إلى أن يربهما ربوبية }َرّبَنا َ
ل ربهما الذي ل يقضي حاجتهما غيره. تكمل علمهما وقصدهما ،حتى ل يغترا بمثل ذلك ،فهما يشهدان حاجتهما إلى ا ّ
وذو النون شهد ما حصل من التقصير في حق اللهية بما حصل من المغاضبة ،وكراهة إنجاء أولئك ،ففي ذلك من
ت{ فإن قول العبد:
ل َأْن َ ل ،وتألهه له وأن يقولَ } :
ل ِإَلَه ِإ ّ المعارضة في الفعل لحب شيء آخر ما يوجب تجريد محبته ّ
ل من هوى متبع(. ل إله إل أنت ،يمحو أن يتخذ إلهه هواه .وقد روى) :ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند ا ّ
ل ،ومحو الهوى الذي يتخذ إلًها من دونه ،فلم يبق له ـ صلوات ا ّ
ل ل عليه ـ تحقيق إلهيته ّ
فكمل يونس ـ صلوات ا ّ
ل الدين؛ إذ كان من أفضل صا ّعليه وسلمه ـ عند تحقيق قوله ل إله إل أنت إرادة تزاحم إلهية الحق ،بل كان مخل ً
ل المخلصين.
عباد ا ّ
ضا ،فمثل هذه الحال تعرض لمن تعرض له ،فيبقى فيه /نوع مغاضبة للقدر ومعارضة له في خلقه وأمره، وأي ً
ووساوس في حكمته ورحمته ،فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين :الراء الفاسدة ،والهواء الفاسدة ،فيعلم أن الحكمة،
ل به ،فل يكون له والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته ،ل فيما اقتضاه علم العبد وحكمته ،ويكون هواه تبًعا لما أمر ا ّ
جُدوا ِفي ل َي ِ جَر َبْيَنُهْم ُثّم َ
شَك ِفيَما َ
حّكُمو َ
حّتى ُي َ
ن َ
ل ُيْؤمُِنو َ
ك َ ل تعالىَ} :ف َ
ل َوَرّب َ ل وحكمه هوى يخالف ذلك ،قال ا ّ مع أمر ا ّ
ت َوُيَسّلُموا َتْسِليًما{ ]النساء ،[65 :وقد روى عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال) :والذي نفسي بيده، ضْي َ
جا ِمّما َق َ
حَر ً
سِهْم َ
َأنُف ِ
ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبًعا لما جئت به( رواه أبو حاتم في صحيحه؛ وفي الصحيح أن عمر قال له :يا
ى من نفسي .قال) :الن يا عمر( ،وفي الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال: ل لنت أحب إل ّ ل ،وا ّ رسول ا ّ
ن آَباُؤُكْم َوَأْبَناُؤُكْمن َكا َ )ليؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ،ووالده ،والناس أجمعين( ،وقال تعالىُ} :ق ْ
ل ِإ ْ
جَهاٍد
سوِلِه َو ِ
ل َوَر ُ
ن ا ِّ
ب ِإَلْيُكْم ِم ْ
ح ّ
ضْوَنَها َأ َ
ن َتْر َ
ساِك ُ
ساَدَها َوَم َ
ن َك َ
شْو َ
خَجاَرٌة َت ْ
ل اْقَتَرْفُتُموَها َوِت َ
شيَرُتُكْم َوَأْمَوا ٌعِ جُكْم َو َ
خَواُنُكْم َوَأْزَوا ُ
َوِإ ْ
ل ِبَأْمِرِه{ ]التوبة.[24 : ي ا ُّ
حّتى َيْأِت َصوا َ سِبيِلِه َفَتَرّب ُ
ِفي َ
فإذا كان اليمان ل يحصل حتى يحكم العبد رسوله ،ويسلم له ،ويكون هواه تبًعا لما جاء به ،ويكون الرسول والجهاد
ل تعالى والتسليم له؟! /فمن رأى قوًما
في سبيله مقدًما على حب النسان نفسه ،وماله ،وأهله ،فكيف في تحكيمه ا ّ
ل،ل لهم ورحمهم ،وكره هو ذلك ،فهذا إما أن يكون عن إرادة تخالف حكم ا ّ يستحقون العذاب في ظنه ،وقد غفر ا ّ
ل علىم حكيم .وإذا علمت أنه علىم ،وأنه حكيم ،لم يبق لكراهية ما فعله وجه ،وهذا ل ،وا ّ
وإما عن ظن يخالف علم ا ّ
يكون فيما أمر به ،وفيما خلقه ولم يأمرنا أن نكرهه ،ونغضب عليه.
فأما ما أمرنا بكراهته من الموجودات؛ كالكفر ،والفسوق ،والعصيان ،فعلىنا أن نطيعه في أمره بخلف توبته على
عباده وإنجائه إياهم من العذاب ،فإن هذا من مفعولته التي لم يأمرنا أن نكرهها ،بل هي مما يحبها ،فإنه يحب
التوابين ،ويحب المتطهرين .فكراهة هذا من نوع اتباع الرادة المزاحمة لللهية ،فعلى صاحبها أن يحقق توحيد
اللهية فيقول :ل إله إل أنت.
ل ،فينسخ ما يلقي الشيطان ،ويحكم الّ آياته؟ هذا فيه قولن ،والمأثور عن السلف /ولكن هل يصدر ما يستدركه ا ّ
يوافق القرآن بذلك ،والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله) :تلك الغرانيق
العلى ،وإن شفاعتهن لترتجى( وقالوا :إن هذا لم يثبت ،ومن علم أنه ثبت قال :هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم
ضا ،وقالوا في قولهِ} :إلّ ِإَذا َتَمّنى َأْلَقى
يلفظ به الرسول صلى ال عليه وسلم ،ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أي ً
طانُ ِفي ُأْمِنّيِتِه{ ]الحج [52 :هو حديث النفس.
شْي َ
ال ّ
ل ثابًتا ل يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقولهَ} :وَما وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف ،فقالوا هذا منقول نق ً
حِكيٌم
عِليٌم َ ل َ ل آَياِتِه َوا ُّ
حِكُم ا ُّ ن ُثّم ُي ْ
طا ُشْي َ
ل َما ُيْلِقي ال ّسخُ ا ُّن ِفي ُأْمِنّيِتِه َفَيْن َ
طا ُ
شْي َل ِإَذا َتَمّنى َأْلَقى ال ّي ِإ ّ ل َنِب ّل َو َ سو ٍ ن َر ُك ِم ْ ن َقْبِل َ
سْلَنا ِم ْ
َأْر َ
ن ُأوُتوا اْلِعْلَم َأّنُه ق َبِعيٍد َ .وِلَيْعَلَم اّلِذي َ
شَقا ٍ
ن َلِفي ِ ظاِلِمي َ
ن ال ّسَيِة ُقُلوُبُهْم َوِإ ّ
ض َواْلَقا ِن ِفي ُقُلوِبِهْم َمَر ٌ ن ِفْتَنًة ِلّلِذي َ
طا ُشْي َ
جَعلَ َما ُيْلِقي ال ّ ِ .لَي ْ
صَراطٍ ُمْسَتِقيٍم{ ] الحج 52 :ـ ،[ 54فقالوا :الثار في ن آَمُنوا ِإَلى ِ ل َلَهاِد اّلِذي َ
ن ا َّ
ت َلُه ُقُلوُبُهْم َوِإ ّ
خِب َ ك َفُيْؤِمُنوا ِبِه َفُت ْ
ق ِمنْ َرّب َ حّ اْل َ
ل لما يلقى الشيطان،تفسير هذه الية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث ،والقرآن يوافق ذلك ،فإن نسخ ا ّ
وإحكامه آياته ،إنما يكون لرفع ما وقع في آياته ،وتمييز الحق من الباطل ،حتى ل تختلط آياته /بغيرها .وجعل ما ألقى
الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ،والقاسية قلوبهم ،إنما يكون إذا كان ذلك ظاهًرا يسمعه الناس ،ل باطًنا في
النفس .والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الخر من النسخ.
وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى ال عليه وسلم ،وبعده عن الهوى من ذلك النوع ،فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم
ل ،وهو ل ،وهو مصدق في ذلك ،فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند ا ّ يأمر بخلفه وكلهما من عند ا ّ
ل ،ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق ،وقوله الحق ،وهذا كما قالت الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه ا ّ
شىخَل ُمْبِديِه َوَت ْ
ك َما ا ُّ
سَ ل عنها ـ لو كان محمد كاتًما شيًئا من الوحي لكتم هذه اليةَ} :وُت ْ
خِفي ِفي َنْف ِ عائشة ـ رضي ا ّ
ق َأْن َتْخَشاُه{ ]الحزاب ،[37 :أل ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ،ولو كان حّ
ل َأ َ
س َوا ُّ
الّنا َ
ل أحكم آياته ،ونسخ ما ألقاه الشيطان ،هو أدل على تحريه للصدق خطأ ،فبيان الرسول صلى ال عليه وسلم أن ا ّ
وبرائته من الكذب ،وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق صلى ال عليه وسلم تسليما؛ ولهذا كان تكذيبه
ضا بل ريب.كفًرا مح ً
وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع ،هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في
العصمة من الكبائر والصغائر أو من /بعضها ،أم هل العصمة إنما هي في القرار عليها ل في فعلها؟ أم ل يجب
القول بالعصمة إل في التبليغ فقط؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم ل؟ والكلم على هذا مبسوط
في غير هذا الموضع.
والقول الذي عليه جمهور الناس ،وهو الموافق للثار المنقولة عن السلف :إثبات العصمة من القرار على الذنوب
مطلًقا ،والرد على من يقول :إنه يجوز إقرارهم عليها ،وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول.
وحجج النفاة ل تدل على وقوع ذنب أقر عليه النبياء؛ فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع ،وذلك ل
يجوز إل مع تجويز كون الفعال ذنوًبا ،ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه،
ورجعوا عنه ،كما أن المر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه ،فأما ما نسخ من المـر والنـهي فل يجوز
جعله مأموًرا به ول منهًيا عنه ،فضل عن وجوب اتباعه والطاعة فيه.
وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافى الكمال ،أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح ،أو أنها توجب التنفير ،أو
ل،نحو ذلك من الحجج العقلية ،فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع ،وإل فالتوبة النصوح التي يقبلها ا ّ
يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه ،كما قال /بعض السلف :كان داود ـ عليه السلم ـ بعد التوبة خيًرا منه قبل
الخطيئة .وقال آخر :لو لم تكن التوبة أحب الشياء إليه ،لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه ،وقد ثبت في الصحاح
ل( ...إلخ.
ل أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منز ً
حديث التوبةّ ) :
حا
صاِل ً
ل َ
عَم ً
ل َ
عِم َ
ن َو َ
ب َوآَم َ
ن َتا َ ن{ ]البقرة ،[222 :وقال تعالىِ} :إ ّ
ل َم ْ طّهِري َ
ب اْلُمَت َ
ح ّ
ن َوُي ِ
ب الّتّواِبي َ
ح ّل ُي ِ وقد قال تعالىِ} :إ ّ
ن ا َّ
ل صغار ذنوبه ويخبأ عنه ت{ ]الفرقان ،[70 :وقد ثبت في الصحيح حديث الذي يعرض ا ّ سَنا ٍ
حَ سّيَئاِتِهْم َ
ل َ
ل ا ُّ
ك ُيَبّد ُ
َفُأْوَلِئ َ
ل له) :إني قد غفرتها لك ،وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة ،فيقول: كبارها ،وهو مشفق من كبارها أن تظهر ،فيقول ا ّ
أي رب ،إن لي سيئات لم أرها( إذا رأي تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان مشفًقا منها أن
تظهر ،ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل ،أعظم من حاله لو لم تقع السيئات ،ول التبديل.
وقال طائفة من السلف ،منهم سعيد بن جبير :إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار ،وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل
بها الجنة ،يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار ،ويعمل السيئة فل يزال خوفه منها وتوبته منها حتى
شِرَكا ِ
ت ن َواْلُم ْ
شِرِكي َ
ت َواْلُم ْ
ن َواْلُمَناِفَقا ِ
ل اْلُمَناِفِقي َ
ب ا ُّ
ل ِ .لُيَعذّ َ
جُهو ً
ظُلوًما َ
ن َ
ن ِإّنُه َكا َ
سا ُ
لْن َ تدخله الجنة ،وقد قال تعالىَ} :و َ
حَمَلَها ا ِْ
ل َغُفوًرا َرِحيًما{ ]الحزاب ،[73 ،72 :فغاية كل إنسان أن يكون من المؤمنين ن ا ُّت َوَكا َ ن َواْلُمْؤِمَنا ِ
عَلى اْلُمْؤِمِني َ
ل َ
ب ا ُّ
َوَيُتو َ
ل عليهم. والمؤمنات الذين تاب ا ّ
وفي الكتاب والسنة الصحيحة ،والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه.
والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلت الجهمية ،والقدرية ،والدهرية لنصوص السماء والصفات ونصوص القدر
ونصوص المعاد ،وهي من جنس تأويلت القرامطة الباطنية التي يعلم بالضطرار أنها باطلة ،وأنها من باب تحريف
الكلم عن مواضعه ،وهؤلء يقصد أحدهم تعظيم النبياء فيقع في تكذيبهم ،ويريد اليمان بهم فيقع في الكفر بهم.
ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والجماع ،وهي العصمة في التبليغ ،لم ينتفعوا بها ،إذ كانوا ل يقرون
بموجب ما بلغته النبياء ،وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه ،أو كانوا فيه كالميين الذين ل يعلمون الكتاب إل أماني،
والعصمة التي كانوا ادعوها ،لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ول حاجة بهم إليها عندهم ،فإنها متعلقة بغيرهم ل بما
ل ،ويدع ما يجب عليه من تصديق النبياء أمروا باليمان به ،فيتكلم أحدهم فيها على النبياء بغير سلطان من ا ّ
وطاعتهم ،وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة ،قال تعالى:
}َفِإّنَما عََلْيِه َما ُحّمَل َوَعَلْيُكْم َما ُحّمْلُتْم{ الية ]النور.[54 :
ل ـ تعالى ـ لم يذكر في القرآن شيًئا من ذلك عن نبي من النبياء إل مقروًنا بالتوبة والستغفار ،كقول آدم
/وا ّ
عوُذ ِبكَ ب ِإّني َأ ُ ن{ ]العراف ،[23 :وقول نوحَ} :ر ّ سِري َخا ِ
ن اْل َن ِم ْ حْمَنا َلَنُكوَن ّ
ن َلْم َتْغِفْر َلَنا َوَتْر َ
سَنا َوِإ ْ وزوجتهَ} :رّبَنا َ
ظَلْمَنا َأنُف َ
ن{]هود ،[47 :وقول الخليل ـ عليه السلم ـَ} :رّبَنا ا ْ
غِفرْ سِري َ خا ِن اْل َن ِم ْحْمِني َأُك ْ ل َتْغِفْر ِلي َوَتْر َ عْلٌم َوِإ ّ
س ِلي ِبِه ِ ك َما َلْي َ سَأَل َ
ن َأ َْأ ْ
طيَئِتي َيْوَم الّدين{ ]الشعراء: خِ ن َيْغِفَر ِلي َ طَمُع َأ ْب{ ]إبراهيم ،[41 :وقولهَ} :واّلِذي َأ ْ سا ُ حَ ن َيْوَم َيُقوُم اْل ِي َوِلْلُمْؤِمِني َ ِلي َوِلَواِلَد ّ
خَرِة ِإّنا ُهْدَنا
لِ سَنًة َوِفي ا ْ حَ ب َلَنا ِفي َهِذهِ الّدْنَيا َن َ .واْكُت ْ خْيُر اْلَغاِفِري َت َ حْمَنا َوَأْن َغِفْر َلَنا َواْر َ ،[82وقول موسىَ} :أْن َ
ت َوِلّيَنا َفا ْ
حاَن َ
ك سْب َ
ل ُ ق َقا َغِفْر ِلي{]القصص ،[16 :وقولهَ} :فَلّما َأَفا َ سي َفا ْ ت َنْف ِ
ظَلْم ُب ِإّني َ ك{ ]العراف ،[156 ،155 :وقولهَ} :ر ّ ِإَلْي َ
ك َوِإ ّ
ن ب َ .فَغَفْرَنا َلُه َذِل َ خّر َراِكًعا َوَأَنا َ ن{]العراف ،[143 :وقوله تعالى عن داودَ} :فا ْ
سَتْغَفَر َرّبُه َو َ ل اْلُمْؤِمِني َك َوَأَنا َأّو ُت ِإَلْي َُتْب ُ
حٍد ِم ْ
ن لَ ل َيْنَبِغي َِ ب ِلي ُمْلًكا َ غِفْر ِلي َوَه ْ با ْ ب{ ]ص ،[25 ،24 :وقوله تعالى عن سليمانَ} :ر ّ ن َمآ ٍ سَ حْ عْنَدَنا َلُزْلَفى َو ُ َلُه ِ
ب{ ]ص.[35 : ت اْلَوّها ُ ك َأْن َ َبْعِدي ِإّن َ
ل عنه ما يناسب الذنب من الستغفار ،بل قالَ} :كَذِل َ
ك ل عنه ذنًبا؛ فلهذا لم يذكر ا ّ وأما يوسف الصديق ،فلم يذكر ا ّ
صيَن{]يوسف ،[24 :فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء ،وهذا يدل خَل ِ
عَباِدَنا اْلُم ْ
ن ِ
شاَء ِإّنُه ِم ْ
حَسوَء َواْلَف ْ
عْنُه ال ّ
صِرفَ َ
ِلَن ْ
على أنه لم يصدر منه سوء ول فحشاء.
ت ِبِه َوَهّم ِبَها َلْوَل َأْن َرَأى ُبْرَهاَن َرّبِه{ ]يوسف / ،[24 :فالهم اسم جنس تحته نوعان كما قال المام
وأما قولهَ} :وَلَقْد َهّم ْ
أحمد :الهم همان :هم خطرات ،وهم إصرار ،وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم) :إن العبد إذا هم
ل كتبت له حسنة ،وإن عملها كتبت له سيئة واحدة( وإن تركها من غير أن يتركها بسيئة لم تكتبت عليه ،وإذا تركها ّ
ل عنه ل ،ولذلك صرف ا ّ ل لم تكتب له حسنة ول تكتب عليه سيئة ،ويوسف صلى ال عليه وسلم هم هما تركه ّ ّ
السوء والفحشاء لخلصه ،وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم ،وعارضه الخلص الموجب
ل.لنصراف القلب عن الذنب ّ
طا ِ
ن شْي َ
ن ال ّ
طاِئفٌ ِم ْ
سُهْم َ
ن اّتَقْوا ِإَذا َم ّ فيوسف ـ عليه السلم ـ لم يصدر منه إل حسنة يثاب عليها ،وقال تعالىِ} :إ ّ
ن اّلِذي َ
صُروَن{]العراف.[201 :َتَذّكُروا َفِإَذا ُهْم ُمْب ِ
س َلّماَرٌة ِبالّسوِء ِإّل َما َرِحَم َرّبي{ ]يوسف [53 :فمن كلم امرأة العزيز ،كما يدل القرآن ن الّنْف َ
سي ِإ ّ /وقولهَ} :وَما ُأَبّر ُ
ئ َنْف ِ
جْع
ل اْر ِ
ل َقا َ
سو ُ
جاَءهُ الّر ُ
ك اْئُتوِني ِبِه َفَلّما َ على ذلك دللة بينة ،ل يرتاب فيها من تدبر القرآن ،حيث قال تعالىَ} :وَقا َ
ل اْلَمِل ُ
ش ِّ
ل حا َ ن َ سِه ُقْل َ
ن َنْف ِ
عْ ف َ س َن ُيو ُن ِإْذ َراَودّت ّطُبُك ّ خ ْل َما َ عِليٌم َ .قا َ
ن َ
ن َرّبي ِبَكْيِدِه ّن ِإ ّ
ن َأْيِدَيُه ّ
طْع َ
لِتي َق ّسَوِة ال ّ ل الّن ْ
سَأْلُه َما َبا ُ
ك َفا ْ ِإَلى َرّب َ
خْنُه
ك ِلَيْعَلَم َأّني َلْم َأ ُ
ن َ .ذِل َ
صاِدِقي َ
ن ال ّ سِه َوِإّنُه َلِم ْعنْ َنْف ِ
ق َأَنا َراَودّتُه َ
حّ ص اْل َ
ح َ صَ ح ْ ن َ لَ ت اْمَرَأُة اْلَعِزيِز ا ْسوٍء َقاَل ْ ن ُ عَلْيِه ِم ْ
عِلْمَنا َ َما َ
س َلّماَرٌة ِبالّسوِء ِإّل َما َرِحَم َرّبي ِإّن َرّبي َغُفوٌر َرِحيٌم{ ]يوسف: ن الّنْف َ سي ِإ ّئ َنْف ِ
ن َ .وَما ُأَبّر ُ خاِئِني َ
ل َيْهِدي َكْيَد اْل َ ل َ ن ا َّب َوَأ ِّباْلَغْي ِ
50ـ .[53
فهذا كله كلم امرأة العزيز ،ويوسف إذ ذاك في السجن ،لم يحضر بعد إلى الملك ،ول سمع كلمه ول رآه ،ولكن لما
ب{ أي :لم أخنه في حال مغيبه عني وإن خْنُه ِباْلَغْي ِ ظهرت براءته في غيبته ـ كما قالت امرأة العزيزَ} :ذِل َ
ك ِلَيْعَلَم َأّني َلْم َأ ُ
ن{
ن َأِمي ٌ
ك اْلَيْوَم َلَدْيَنا َمِكي ٌ
ل ِإّن َ
سي َفَلّما َكّلَمُه َقا َ صُه ِلَنْف ِ
خِل ْسَت ْك اْئُتوِني ِبِه َأ ْ كنت في حال شهوده راودته ـ فحينئذَ} :وَقا َ
ل اْلَمِل ُ
]يوسف ،[54 :وقد قال كثير من المفسرين :إن هذا من كلم يوسف ،ومنهم من لم يذكر إل هذا القول ،وهو قول في
غاية الفساد ،ول دليل عليه ،بل الدلة تدل على نقيضه ،وقد /بسط الكلم على هذه المور في غير هذا الموضع.
ل به حسنات ،ورفع درجاته ،وكان و المقصود هنا أن ما تضمنته ]قصة ذي النون[ مما يلم عليه كله مغفور بدله ا ّ
ل َتُك ْ
ن ك َو َ
حْكِم َرّب َ بعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع ،قال تعالىَ} :فا ْ
صِبْر ِل ُ
ن{حي َ
صاِل ِ
ن ال ّ
جَعَلُه ِم ْ
جَتَباُه َرّبُه َف َ
ن َرّبِه َلُنِبَذ ِباْلَعَراِء َوُهَو َمْذُموٌمَ .فا ْ
ن َتَداَرَكُه ِنْعَمٌة ِم ْ
ل َأ ْ
ظوٌمَ .لْو َ
ت ِإْذ َناَدى َوُهَو َمْك ُ
حو ِ
ب اْل ُ
ح ِ
صا ِ
َك َ
ت َوُهَو ُمِليٌم{ ]الصافات ،[241 :فأخبر أنه في حو ُ]القلم48 :ـ ،[50وهذا بخلف حال التقام الحوت فإنه قالَ} :فاْلَتَقَمُه اْل ُ
تلك الحال مليم ،و ]المليم[ الذي فعل ما يلم عليه ،فالملم في تلك الحال ل في حال نبذه بالعراء وهو سقيم ،فكانت
ظاِلِميَن{ ]النبياء [87 :أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان،
ن ال ّ
ت ِم ْ
ك ِإّني ُكن ُ
حاَن َ
سْب َ
ت ُ
ل َأْن َ حاله بعد قولهَ } :
ل ِإَلَه ِإ ّ
والعتبار بكمال النهاية ل بما جرى في البداية ،والعمال بخواتيمها.
ل ـ تعالى ـ خلق النسان وأخرجه من بطن أمه ل يعلم شيًئا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال ،فل وا ّ
يجوز أن يعتبر قدر النسان بما وقع منه قبل حال الكمال ،بل العتبار بحال كماله ،ويونس صلى ال عليه وسلم
وغيره من النبياء في حال النهاية حالهم أكمل الحوال.
ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملئكة على النبياء والصالحين فإنهم اعتبروا كمال الملئكة مع بداية /
الصالحين ونقصهم فغلطوا ،ولو اعتبروا حال النبياء والصالحين بعد دخول الجنان ،ورضا الرحمن ،وزوال كل ما
لٌم
سَبَ .
ل َبا ٍ
ن ُك ّ
عَلْيِهْم ِم ْ
ن َ
خُلو َ فيه نقص وملم ،وحصول كل ما فيه رحمة وسلم ،حتى استقر بهم القرار }َواْلَم َ
لِئَكُة َيْد ُ
صَبْرُتْم َفِنْعَم ُعْقَبى الّداِر{ ]الرعد [24 ،23 :فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على حال غيرهم من
عَلْيُكْم ِبَما َ
َ
المخلوقين وإل فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص
والعيوب.
ولو اعتبر ذلك لعتبر أحدهم وهو نطفة ثم علقة ،ثم مضغة ،ثم حين نفخت فيه الروح ،ثم هو وليد ،ثم رضيع ثم
فطيم ،إلى أحوال أخر ،فعلم أن الواحد في هذه الحال لم تقم به صفات الكمال التي يستحق بها كمال المدح والتفضيل ،
وتفضيله بها على كل صنف وجيل ،وإنما فضله باعتبار المآل ،عند حصول الكمال.
وما يظنه بعض الناس أنه من ولد على السلم فلم يكفر قط أفضل ممن كان كافًرا فأسلم ليس بصواب ،بل العتبار
ل في عاقبته كان أفضل .فإنه من المعلوم أن السابقين الولين من المهاجرين والنصار بالعاقبة ،وأيهما كان أتقى ّ
ل ورسوله بعد كفرهم هم أفضل ممن ولد على السلم من أولدهم وغير أولدهم ،بل من عرف الشر الذين آمنوا با ّ
وذاقه ثم عرف الخير وذاقه /فقد تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل ممن لم يعرف
الخير والشر ويذقهما كما ذاقهما ،بل من لم يعرف إل الخير فقد يأتيه الشر فل يعرف أنه شر ،فإما أن يقع فيه ،وإما
أل ينكره كما أنكره الذي عرفه.
ل عنه ـ :إنما تنقض عرى السلم عروة عروة إذا نشأ في السلم من لم ولهذا قال عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ
يعرف الجاهلية .وهو كما قال عمر ،فإن كمال السلم هو بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد
ل ،ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره ،فقد ل يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، في سبيل ا ّ
ول يكون عنده من الجهاد لهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من
الحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره.
ل عنهم ـ أعظم إيماًنا وجهاًدا ممن بعدهم ،لكمال معرفتهم بالخير والشر ،وكمال
ولهذا كان الصحابة ـ رضي ا ّ
محبتهم للخير وبغضهم للشر ،لما علموه من حسن حال السلم واليمان والعمل الصالح ،وقبح حال الكفر
والمعاصي؛ ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والمن ممن لم يذق ذلك؛
ولهذا يقال:
/ويقال:
ل عنه ـ يقول :لست بخب ول يخدعني الخب ،فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ
الخير ل الشر ،وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر ،فأما من ل يعرف الشر فذاك نقص فيه ل يمدح به.
وليس المراد أن كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون أعلم بذلك وأكره له ممن لم يذقه مطلًقا ،فإن هذا ليس
بمطرد ،بل قد يكون الطبيب أعلم بالمراض من المرضى ،والنبياء ـ عليهم الصلة والسلم ـ أطباء الديان فهم أعلم
الناس بما يصلح القلوب ويفسدها ،وإن كان أحدهم لم يذق من الشر ما ذاقه الناس.
ولكن المراد :أن من الناس من يحصل له بذوقه الشر من المعرفة به ،والنفور عنه ،والمحبة للخير إذا ذاقه ما ل
يحصل لبعض الناس ،مثل من كان مشرًكا أو يهودًيا أو نصرانًيا ،وقد عرف ما في الكفر من الشبهات والقوال
ل صدره للسلم ،وعرفه محاسن السلم ،فإنه قد يكون أرغب فيه ،وأكره للكفر الفاسدة والظلمة والشر ،ثم شرح ا ّ
من بعض من لم يعرف حقيقة الكفر والسلم ،بل هو معرض عن بعض حقيقة هذا وحقيقة هذا ،أو مقلد في مدح هذا
وذم هذا.
/ومثال ذلك من ذاق طعم الجوع ثم ذاق طعم الشبع بعده ،أو ذاق المرض ثم ذاق طعم العافية بعده ،أو ذاق الخوف ثم
ذاق المن بعده ،فإن محبة هذا ورغبته في العافية والمن والشبع ونفوره عن الجوع والخوف والمرض أعظم ممن
لم يبتل بذلك ولم يعرف حقيقته.
ل ،فقد حا ،ورزقه الجهاد في سبيل ا ّ ل له الحق وتاب عليه توبة نصو ً وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور ،ثم بين ا ّ
يكون بيانه لحالهم ،وهجره لمساويهم ،وجهاده لهم أعظم من غيره ،قال نعيم بن حماد الخزاعي ـ وكان شديًدا على
ن َرّب َ
ك صَبُروا ِإ ّ
جاَهُدوا َو َ
ن َبْعِد َما ُفِتُنوا ُثّم َ
جُروا ِم ْ ل تعالىِ} :لّلِذي َ
ن َها َ الجهمية ـ :أنا شديد عليهم ،لني كنت منهم .وقد قال ا ّ
ِمْن َبْعِدَها َلَغُفوٌر َرِحيٌم{]النحل [110 :نزلت هذه الية في طائفة من الصحابة كان المشركون فتنوهم عن دينهم ثم تاب
ل ورسوله ،وجاهدوا وصبروا. ل عليهم ،فهاجروا إلى ا ّ
ا ّ
ل عنهما ـ من أشد الناس على السلم فلما أسلما تقدما على منوكان عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ـ رضي ا ّ
سبقهما إلى السلم ،وكان بعض من سبقهما دونهما في اليمان والعمل الصالح بما كان عندهما من كمال الجهاد
صا وصدًقا ومعرفة وفراسة ونوًرا أبعد عن هوى
ل ورسوله ،وكان عمر لكونه أكمل إيماًنا وإخل ً للكفار والنصر ّ
ل عنهم أجمعين.
ل ،مقدما على سائر المسلمين ،غير أبي بكر رضي ا ّالنفس وأعلى همة /في إقامة دين ا ّ
ل قال لداود :أما الذنب فقد غفرناه ،وأما الود فل يعود" فهذا لو عرفت صحته لم
وما يذكر في السرائيليات) :أن ا ّ
عا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا ،فإن دين محمد صلى ال عليه وسلم في التوبة جاء بما لم يجئ به
يكن شر ً
شرع من قبله؛ ولهذا قال " :أنا نبي الرحمة ،وأنا نبي التوبة( ،وقد رفع به من الصار والغلل ما كان على من
قبلنا.
طّهِريَن{ ]البقرة [222 :وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده ب اْلُمَت َ
ح ّ
ن َوُي ِ
ب الّتّواِبي َ
ح ّ
ل ُي ِ وقد قال تعالى في كتابهِ} :إ ّ
ن ا َّ
التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والمركب إذا وجده بعد اليأس .فإذا كان هذا فرح
ل ِلَما ُيِريُد{
جيُد َ .فّعا ٌ الرب بتوبة التائب وتلك محبته ،كيف يقال :إنه ل يعود لمودته }َوُهَو اْلَغُفوُر اْلَوُدوُد ُ .ذو اْلَعْر ِ
ش اْلَم ِ
]البروج [16 - 14 :ولكن وده وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبد بعد التوبة ،فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق
بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة ،وإن كان أنقص /
كان المر أنقص ،فإن الجزاء من جنس العمل ،وما ربك بظلم للعبيد.
ل تعالى :من عادى لي ولًيا فقد آذنته بالحرب،وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ) :يقول ا ّ
ى بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت
وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ،ول يزال عبدي يتقرب إل ّ
سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها ،فبي يسمع ،وبي يبصر،
وبي يبطش ،وبي يمشي ،ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه ،وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن
قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ،ولبد له منه( .ومعلوم أن أفضل الولياء بعد النبياء هم
السابقون الولون من المهاجرين والنصار ،وكانت محبة الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق
والعصيان أعظم محبة ومودة ،وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبهم وودهم.
عَرى اليمان الحب في ومعلوم أن المحبة والمودة التي بين المؤمنين إنما تكون تابعة لحبهم لّ ـ تعالى ـ فإن أوثق ُ
ن ا ِّ
ل ن ُدو ِ
خُذ ِم ْ
ن َيّت ِ
س َم ْ ل شرك .قال تعالىَ} :وِم ْ
ن الّنا ِ ل من كمال التوحيد ،والحب مع ا ّل .فالحب ّ ل ،والبغض في ا ّا ّ
ل{ ]البقرة ،[165 :فتلك المودة التي صارت بين الرسول والمؤمنين وبين حّبا ِّ
شّد ُ
ن آَمُنوا َأ َ
ل َواّلِذي َ
ب ا ِّ
ح ّ
حّبوَنُهْم َك ُ
َأنَداًدا ُي ِ
ل ،فعلم أن ا ّ
ل ل وّده ا ّ
ل ،ومن وّد ا ّ
ل أحبه ا ّ
ل ومن أحب ا ّ
ل ومحبة ّ
الذين عادوهم من المشركين إنما كانت مودة ّ
أحبهم وودهم بعد التوبة ،كما أحبوه وودوه ،فكيف يقال :إن التائب إنما تحصل له المغفرة دون المودة؟!
ق َأَثاًما .
ك َيْل َ
ل َذِل َ
ن َيْفَع ْ
ن َوَم ْل َيْزُنو َ
ق َو َ حّل ِباْل َ ل ِإ ّ
حّرَم ا ُّس اّلِتي َ
ن الّنْف َ
ل َيْقُتُلو َ
خَر َو َ
ل ِإَلًها آ َ
ن َمَع ا ِّ عو َ ل َيْد ُ
ن َ وقد قال تعالىَ} :واّلِذي َ
ت{سَنا ٍحَ سّيَئاِتِهْم َ
ل َل ا ُّك ُيَبّد ُ
حا َفُأْوَلِئ َ
صاِل ً
ل َ عَم ً
ل َ
عِم َن َو َ
ب َوآَم َ
ن َتا َ ل َم ْ
خُلْد ِفيِه ُمَهاًنا ِ .إ ّ
ب َيْوَم اْلِقَياَمِة َوَي ْ
ف َلُه اْلَعَذا ُ
ع ْ
ضا َ
ُي َ
ل لهم ،وتبديل السيئات حسنات ليس ل يبدل سيئاتهم حسنات ،فالحسنات توجب مودة ا ّ ] الفرقان68 :ـ [70فإذا كان ا ّ
ل
ب ا ُّ
ك َيُتو ُ
ب َفُأْوَلِئ َ
ن َقِري ٍ
ن ِم ْ
جَهاَلٍة ُثّم َيُتوُبو َ
سوَء ِب َ
ن ال ّ
ن َيْعَمُلو َ
ل ِلّلِذي َ را ،وقد قال تعالىِ} :إّنَما الّتْوَبُة َ
عَلى ا ِّ صا بمن كان كاف ً مخت ً
ل صلى ال عليه وسلم عن هذه الية ل َعِليًما َحِكيًما{ ]النساء [17 :قال أبو العالية :سألت أصحاب رسول ا ّ ن ا ُّ
عَلْيِهْم َوَكا َ
َ
ل فهو /جاهل ،وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب. فقالوا لي :كل من عصي ا ّ
ل تعالى للتائبين فرق ل أصل له ،بل الكتاب والسنة الوجه الثاني :أن ما ذكر من الفرق بين تائب وتائب في محبة ا ّ
ل يحب التوابين ،ويفرح بتوبة التائبين ،سواء كانوا عالمين بأن ما أتوه ذنب أو لم يكونوا عالمين بذلك.
يدل على أن ا ّ
ومن علم أن ما أتاه ذنب ثم تاب فلبد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود ،فإذا كان يبغض الحق فلبد أن يحبه ،وإذا
كان يحب الباطل فلبد أن يبغضه ،فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به ،ومن بغض الباطل
ل كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابه ،فكل من ل تعالى ويرضاها ،ومحبة ا ّ واجتنابه هو من المور التي يحبها ا ّ
ل لمحبوب الحق كان الحق أعظم محبة له ،وانتقاله من مكروه الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان كان أعظم فع ً
ل سيئاته
عليه من الباطل ،وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق ،فوجب زيادة محبة الحق له ومودته إياه ،بل يبدل ا ّ
ل سيئاته حسنات ،فإن الجزاء من جنس العمل .وحينئذ فإذا كان حسنات لنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل ا ّ
إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده الّ منه أعظم من
ل له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة ،فكيف يقال :الود ل يعود.
فعله له قبل التوبة كانت /مودة ا ّ
ل ل يبعث نبًيا إل من كان معصوًما قبل النبوة ،كما يقول ذلك طائفة منوبهذا يظهر جواب شبهة من يقول :إن ا ّ
الرافضة وغيرهم ،وكذلك من قال :إنه ل يبعث نبًيا إل من كان مؤمنا قبل النبوة ،فإن هؤلء توهموا أن الذنوب تكون
صا فهو
صا وإن تاب التائب منها ،وهذا منشأ غلطهم .فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناق ً نق ً
ل ،لكن إن قدم التوبة لم
طا عظيًما ،فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب ل يلحق التائب منه شيء أص ً غالط غل ً
يلحقه شيء ،وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله.
ل عليهم وسلمه ـ كانوا ل يؤخرون التوبة ،بل يسارعون إليها ،ويسابقون إليها،ل يؤخرون ول والنبياء ـ صلوات ا ّ
ل ذلك بما يبتليه به كما فعل بذيل كفر ا ّ
يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك،ومن أخر ذلك زمًنا قلي ً
النون صلى ال عليه وسلم ،هذا على المشهور إن إلقاءه كان بعد النبوة ،وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فل
يحتاج إلى هذا.
والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب ،وإذا كان قد يكون أفضل ،فالفضل /
ل عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم السباط الذين نبأهم
أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة ،وقد أخبر ا ّ
ط َوَقاَل ِإّني ُمَهاِجٌر ِإَلى َرّبي{ ]العنكبوت .[26 :فآمن لوط لبراهيم ـ عليه السلم ـ ل تعالى ،وقد قال تعالىَ} :فآَم َ
ن َلُه ُلو ٌ ا ّ
شَعْي ُ
ب ك َيا ُ
جّن َ
خِر َ
ن َقْوِمِه َلُن ْ
سَتْكَبُروا ِم ْ
نا ْ ل تعالى إلى قوم لوط .وقد قال تعالى في قصة شعيبَ} :قالَ اْلَم َُ
ل اّلِذي َ ثم أرسله ا ّ
جاَنا الُّعْدَنا ِفي ِمّلِتُكْم َبْعَد ِإْذ َن ّ ن ُ ل َكِذًبا ِإ ْ عَلى ا ِّ ن َ .قْد اْفَتَرْيَنا َ
ل َأَوَلْو ُكّنا َكاِرِهي َن ِفي ِمّلِتَنا َقا َ ن َقْرَيِتَنا َأْو َلَتُعوُد ّ
ك ِم ْن آَمُنوا َمَع َ َواّلِذي َ
ق َوَأْن َ
ت حّ ن َقْوِمَنا ِباْل َح َبْيَنَنا َوَبْي َ
ل َتَوّكْلَنا َرّبَنا اْفَت ْ
عَلى ا ِّ عْلًما َيٍء ِ ش ْ
ل َ سَع َرّبَنا ُك ّ ل َرّبَنا َو ِ
شاَء ا ُّ ن َي َل َأ ْن َنُعوَد ِفيَها ِإ ّ ن َلَنا َأ ْ
ِمْنَها َوَما َيُكو ُ
حى
ن ِفي ِمّلِتَنا َفَأْو َ ضَنا َأْو َلَتُعوُد ّ ن َأْر ِ جّنُكْم ِم ْ خِر َ سِلِهْم َلُن ْ
ن َكَفُروا ِلُر ُ ن{]العراف ،[89 ،88 :وقال تعالىَ} :وَقا َ
ل اّلِذي َ حي َ خْيُر اْلَفاِت َِ
ف َوِعيِد{]إبراهيم.[14 ،13 : خا َ ف َمَقاِمي َو َ خا َ ن َ ك ِلَم ْ
ن َبْعِدِهْم َذِل َ
ض ِم ْ لْر َ سِكَنّنُكْم ا َْ
ن َ .وَلُن ْ
ظاِلِمي َ ن ال ِّإَلْيِهْم َرّبُهْم َلُنْهِلَك ّ
وإذا عرف أن العتبار بكمال النهاية ،وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والستغفار ،ولبد لكل عبد من التوبة وهي
عَلى
ل َ
ب ا ُّ
ت َوَيُتو َ
شِرَكا ِ
ن َواْلُم ْ
شِرِكي َ
ت َواْلُم ْ
ن َواْلمَُناِفَقا ِ
ل اْلُمَناِفِقي َ واجبة على الولين والخرين .كما قال تعالىِ} :لُيَعّذ َ
ب ا ُّ
ل َغُفوًرا َرِحيًما{ ]الحزاب.[73 : ن ا ُّ
ت َوَكا َ
اْلُمْؤِمِنينَ َواْلُمْؤِمَنا ِ
ل ـ سبحانه ـ بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى ال عليه وسلم وآخر ما نزل /وقد أخبر ا ّ
سّب ْ
ح جا .فَف َ
ل َأْفَوا ً
ن ا ِّ
ن ِفي ِدي ِ
خُلو َ
س َيْد ُ
ت الّنا َ
ح َ .وَرَأْي َ
ل َواْلَفْت ُ
صُر ا ِّ عليه ـ أو من آخر ما نزل عليه ـ قوله تعالىِ} :إَذا َ
جاَء َن ْ
ل عنها ـ أن النبي صلى ال ك َواْسَتْغِفْرُه ِإّنُه َكاَن َتّواًبا{ ]سورة النصر[ ،وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي ا ّ حْمِد َرّب َ
ِب َ
عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده) :سبحانك الّلهم ربنا وبحمدك الّلهم اغفر لي" يتأول القرآن(.
وفي الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان /يقول) :اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي
وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ،اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي ،الّلهم اغفر
لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني .أنت المقدم وأنت المؤخر ،وأنت على كل
ل ،أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ؟شيء قدير( ،وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال :يا رسول ا ّ
قال) :أقول :الّلهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ،الّلهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب
البيض من الدنس ،الّلهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد(.
وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع ،وفي صحيح مسلم عن على ـ رضى الّ
عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول في دعاء الستفتاح) :اللهم أنت الملك ل إله إل أنت ،أنت ربي وأنا
عبدك ،ظلمت نفسي وعملت سوًءا فاغفر لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت واهدني لحسن الخلق ل يهدي لحسنها
إل أنت واصرف عني سيئها ل يصرف عني سيئها إل أنت( ،وفي صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
كان يقول في سجوده) :الّلهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله ،علنيته وسره ،أوله وآخره(.
ل َما َتَقّدَم مِ ْ
ن ك ا ُّ
حا ُمِبيًنا ِ .لَيْغِفَر َل َ
ك َفْت ً ت{ ]محمد ،[19 :وقالِ} :إّنا َفَت ْ
حَنا َل َ ن َواْلُمْؤِمَنا ِ
ك َوِلْلُمْؤِمِني َ وقد قال تعالىَ} :وا ْ
سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ
ك َوَما َتَأّخَر{]الفتح ،[2 ،1 :وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة) :أن المسيح يقول :اذهبوا إلى محمد عبد غفر َذْنِب َ
ل له ما تقدم من ذنبه وما تأخر( ،وفي الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يقوم حتى ترم قدماه ،فيقال له: ا ّ
ل لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال) :أفل أكون عبًدا شكورا(.
أتفعل هذا وقد غفر ا ّ
ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين
كثيرة.
لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلت الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب.
ل َما َتَقّدَم ِم ْ
ن وتأويلتهم تبين لمن /تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه .كتأويلهم قولهِ} :لَيْغِفَر َلكَ ا ُّ
ك َوَما َتَأّخَر{ ]الفتح [2 :المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلن ويدل على ذلك وجوه: َذْنِب َ
ل فيه هذه السورة ،قال ل عن عام الحديبية الذي أنزل ا ّ ل عليه قبل أن ينزل إلى الرض فض ً أحدها :أن آدم قد تاب ا ّ
ت َفَتا َ
ب عَلْيِه َوَهَدى{ ]طه ،[122 ،121 :وقالَ} :فَتَلّقى آَدُم ِم ْ
ن َرّبِه َكِلَما ٍ ب َ
جَتَباُه َرّبُه َفَتا َ
صى آَدُم َرّبُه َفَغَوى ُ .ثّم ا ْع َ تعالىَِ} :و َ
ن ِم ْ
ن حْمَنا َلَنُكوَن ّ
ن َلْم َتْغِفْر َلَنا َوَتْر َ
سَنا َوِإ ْ حيُم{ ]البقرة ،[37 :وقد ذكر أنه قالَ} :رّبَنا َ
ظَلْمَنا َأنُف َ ب الّر ِ عَلْيِه ِإّنُه ُهَو الّتّوا ُ
َ
اْلَخاِسِريَن{ ]العراف.[23 :
ضا ،ومن
والثاني :أن يقال :فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ول يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أي ً
قال :إنه لم يصدر من النبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما.
ل ل يجعل الذنب ذنًبا لمن لم يفعله فإنه هو القائلَ} :وَل َتِزُر َواِزَرٌة ِوْزَر ُأْخَرى{ ] السراء.[15 : الوجه الثالث :أن ا ّ
فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد صلى ال عليه وسلم ذنب آدم صلى ال عليه وسلم أو أمته أو غيرهما .وقد قال
ك{ ]النساء: سَ ل َنْف َف ِإ ّ
ل ُتَكّل ُل َ ل ا ِّ
سِبي ِ حّمْلُتْم{ ]النور [54 :وقال تعالىَ} :فَقاِت ْ
ل ِفي َ عَلْيُكْم َما ُ
ل َو َ
حّم َ تعالىَ} :فِإّنَما َ
عَلْيِه َما ُ
ك َوَمان َذْنِب َ
ل َما َتَقّدَم ِم ْك ا ُّ ،[84ولو جاز هذا لجاز /أن يضاف إلى محمد ذنوب النبياء كلهم ،ويقال :إن قولهِ} :لَيْغِفَر َل َ
َتَأّخَر{ ]الفتح [2 :المراد :ذنوب النبياء وأممهم قبلك ،فإنه يوم القيامة يشفع للخلئق كلهم ،وهو سيد ولد آدم ،وقال:
)أنا سيد ولد آدم ول فخر ،وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة .أنا خطيب النبياء إذا وفدوا ،وإمامهم إذا اجتمعوا(
وحينئذ فل يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد ،بل تجعل ذنوب الولين والخرين على قول هؤلء ذنوًبا له .فإن قال:
ضا لم يغفر ذنوب جميع أمته. ل لم يغفر ذنوب جميع المم ،قيل :وهو أي ً إن ا ّ
لُ} :هَو
ل هذا لك فما لنا؟ فأنزل ا ّ
الوجه الخامس :أنه ثبت في الصحيح أن هذه الية لما نزلت قال الصحابة يا رسول ا ّ
ب اْلُمْؤِمِنيَن ِلَيْزَداُدوا ِإيَماًنا َمَع ِإيَماِنِهْم{ ]الفتح [4 :فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أنسِكيَنَة ِفي ُقُلو ِ ل ال ّ اّلِذي َأْنَز َ
ك َوَما َتَأّخَر{ مختص به دون أمته. ن َذْنِب َ
ل َما َتَقّدَم ِم ْ قولهِ} :لَيْغِفَر َل َ
ك ا ُّ
ل لم يغفر ذنوب جميع أمته ،بل قد ثبت /أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في الوجه السادس :أن ا ّ
الخرة ،وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف المة وأئمتها ،وشوهد في الدنيا من
ب َمْن َيْعَمْل ُسوًءا ُيْجَز ِبِه{ ]النساء[123 :
ل اْلِكَتا ِ
ي َأهْ ِ
ل َأَماِن ّ ل تعالىَ} :لْي َ
س ِبَأَماِنّيُكْم َو َ ل ،وقد قال ا ّ
ذلك ما ل يحصيه إل ا ّ
والستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الفضل .فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الول،
لكن الذم والوعيد ل يكون إل على ذنب.
صـــل
َف ْ
وأما قول السائل :هل العتراف بالخطيئة بمجرده مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة الصادرة عنها ،أم
يحتاج إلى شيء آخر؟
ل إل بتوبة ،كما قال تعالى: فجوابه :أن الموجب للغفران مع التوحيد هو التوبة المأمور بها ،فإن الشرك ل يغفره ا ّ
ك ِلَمْن َيَشاُء{ ]النساء [116 ،48 :في موضعين من القرآن ،وما دون الشرك ن َذِل َ
ك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ
شَر َ
ن ُي ْ
ل َيْغِفُر َأ ْ
ل َ ن ا َّ}ِإ ّ
طوا ِم ْ
ن ل َتْقَن ُ
سِهْم َ
عَلى َأْنُف ِ
سَرُفوا َ
ن َأ ْ
عَباِدي اّلِذي َ فهو مع التوبة مغفور ،وبدون التوبة معلق بالمشيئة كما قال تعالىُ} :ق ْ
ل َيا ِ
ب َجِميًعا{ ]الزمر [53 :فهذا في حق التائبين؛ ولهذا عمم وأطلق ،وحتم أنه يغفر الذنوب ل َيْغِفُر الّذُنو َ
ن ا َّل ِإ ّ
حَمِة ا َِّر ْ
ك ِلَمْن َيَشاُء{ فخص ما دون الشرك وعلقه بالمشيئة فإذا كان الشرك ل جميًعا ،وقال في تلك اليةَ} :وَيْغِفُر َما ُدو َ
ن َذِل َ
ل للتائب ،وقد يغفره بدون التوبة لمن يشاء. يغفر إل بتوبة ،وأما ما دونه فيغفره ا ّ
فالعتراف بالخطيئة مع التوحيد إن كان متضمًنا للتوبة أوجب المغفرة ،وإذا غفر الذنب زالت عقوبته ،فإن المغفرة
هي وقاية شر الذنب.
ل الغفار
ومن الناس من يقول :الغفر الستر ،ويقول :إنما سمي المغفرة والغفار؛ لما فيه من معنى الستر ،وتفسير اسم ا ّ
بأنه الستار .وهذا تقصير في معنى الغفر ،فإن المغفرة معناها وقاية شر الذنب بحيث ل يعاقب على الذنب ،فمن غفر
ذنبه لم يعاقب عليه .وأما مجرد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن ،ومن عوقب على الذنب باطًنا أو ظاهًرا فلم يغفر
له،وإنما يكون غفران الذنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقة بالذنب.
وأما إذا ابتلى مع ذلك بما يكون سبًبا في حقه لزيادة أجره فهذا ل ينافى المغفرة.
/وكذلك إذا كان من تمام التوبة أن يأتي بحسنات يفعلها ،فإن من يشترط في التوبة من تمام التوبة ،وقد يظن الظان أنه
تائب ول يكون تائًبا بل يكون تارًكا ،والتارك غير التائب ،فإنه قد يعرض عن الذنب لعدم خطوره بباله أو المقتضى
لعجزه عنه ،أو تنتفي إرادته له بسبب غير ديني ،وهذا ليس بتوبة ،بل لبد من أن يعتقد أنه سيئة ويكره فعله لنهي ا ّ
ل
ل تعالى ،ل لرغبة مخلوق ول لرهبة مخلوق ،فإن التوبة من أعظم الحسنات ،والحسنات كلها يشترك عنه ويدعه ّ
ل{ ]الملك [2 :قال:
عَم ً
ن َ
سُحَل وموافقة أمره ،كما قال الفضيل بن عياض في قولهِ} :لَيْبُلَوُكْم َأّيُكْم َأ ْ
فيها الخلص ّ
صا ولم يكن صواًبا لم يقبل ،وإذا
أخلصه وأصوبه ،قالوا :يا أبا على ،ما أخلصه وأصوبه؟ قال :إن العمل إذا كان خال ً
ل ،والصواب أن يكون على صا صواًبا .والخالص أن يكون ّ صا لم يقبل ،حتى يكون خال ً
كان صواًبا ولم يكن خال ً
السنة.
صا ،ول
حا ،واجعله لوجهك خال ً
ل عنه ـ يقول في دعائه :اللهم اجعل عملي كله صال ً
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ
تجعل لحد فيه شيًئا.
ل من غير إقلع عنه فهذا في نفس الستغفار المجرد الذي ل توبة معه، وأما العتراف بالذنب على وجه الخضوع ّ
ل تعالى أن يغفر له الذنب مع كونه لم يتب منه ،وهذا يأس من رحمة ال ،ول يقطع بالمغفرة له وهو كالذي يسأل /ا ّ
فإنه داع دعوة مجردة .وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ما من داع يدعو بدعوة ليس
فيها إثم ول قطيعة رحم إل كان بين إحدى ثلث :إما أن يعجل له دعوته ،وإما أن يدخر له من الجزاء مثلها ،وإما أن
ل أكثر( .فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة، ل ،إًذا نكثر قال) :ا ّ
يصرف عنه من الشر مثلها( .قالوا :يا رسول ا ّ
وإذا لم تحصل فلبد أن يحصل معه صرف شر آخر أو حصول خير آخر ،فهو نافع كما ينفع كل دعاء.
وقول من قال من العلماء :الستغفار مع الصرار توبة الكذابين ،فهذا إذا كان المستغفر يقوله على وجه التوبة أو
يدعي أن استغفاره توبة ،وأنه تائب بهذا الستغفار فل ريب أنه مع الصرار ل يكون تائًبا ،فإن التوبة والصرار
ضدان :الصرار يضاد التوبة ،لكن ل يضاد الستغفار بدون التوبة.
وقول القائل :هل العتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة أم لبد من استحضار جميع
الذنوب؟
/أحدها :أن التوبة تصح من ذنب مع الصرار على ذنب آخر إذا كان المقتضى للتوبة من أحدهما أقوى من المقتضى
للتوبة من الخر ،أو كان المانع من أحدهما أشد ،وهذا هو القول المعروف عند السلف والخلف.
وذهب طائفة من أهل الكلم كأبي هاشم إلى أن التوبة ل تصح من قبيح مع الصرار على الخر ،قالوا :لن الباعث
ل لم يكن توبة صحيحة ،والخشية مانعة من جميع الذنوب ل من بعضها ،وحكى على التوبة إن لم يكن من خشية ا ّ
القاضي أبو يعلى وابن عقيل هذا رواية عن أحمد؛ لن المروزي نقل عنه أنه سئل عمن تاب من الفاحشة وقال :لو
ل :سألت رسول الّ صلى ال عليه مرضت لم أعد لكن ل يدع النظر ،فقال أحمد :أي توبة هذه؟! قال جرير بن عبد ا ّ
وسلم عن نظرة الفجأة فقال) :اصرف بصرك(.
والمعروف عن أحمد وسائر الئمة هو القول بصحة التوبة ،وأحمد في هذه المسألة إنما أراد أن هذه ليست توبة عامة
يحصل بسببها من التائبين توبة مطلًقا ،لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر ،فإن نصوصه المتواترة عنه
ضا أولى من حمله على التناقض ،ل سيما إذا وأقواله الثابتة تنافي ذلك ،وحمل كلم المام على ما يصدق بعضه بع ً
عا لم يعرف عن أحد من السلف ،وأحمد يقول / :إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام،
كان القول الخر مبتد ً
وكان في المحنة يقول :كيف أقول ما لم ُيَقل؟ واتباع أحمد للسنة والثار وقوة رغبته في ذلك ،وكراهته لخلفه من
المور المتواترة عنه يعرفها من يعرف حاله من الخاصة والعامة.
وما ذكروه من أن الخشية توجب العموم .فجوابه أنه قد يعلم قبح أحد الذنبين دون الخر ،وإنما يتوب مما يعلم قبحه.
ضا ،فقد يعلم قبحها ولكن هواه يغلبه في أحدهما دون الخر فيتوب من هذا دون ذاك ،كمن أدى بعض الواجبات
وأي ً
دون بعض ،فإن ذلك يقبل منه.
ولكن المعتزلة لهم أصل فاسد وافقوا فيه الخوارج في الحكم وإن خالفوهم في السم ،فقالوا :إن أصحاب الكبائر
ل ثم
يخلدون في النار ول يخرجون منها بشفاعة ول غيرها ،وعندهم يمتنع أن يكون الرجل الواحد ممن يعاقبه ا ّ
يثيبه؛ ولهذا يقولون بحبوط جميع الحسنات بالكبيرة.
وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة ،فعلى أن أهل الكبائر يخرجون /من النار ويشفع فيهم ،وأن الكبيرة الواحدة ل
تحبط جميع الحسنات ،ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة ،ول يحبط جميع الحسنات إل الكفر ،كما ل يحبط
ل على ذلك ،وإن كان مستحًقا ل أثابه ا ّ
جميع السيئات إل التوبة ،فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا ا ّ
للعقوبة على كبيرته.
ل ِمْن اْلُمّتِقيَن{ ]المائدة [27 :فعلى قول الخوارج والمعتزلة ل تقبل حسنة وعلى هذا تنازع الناس في قولهِ} :إّنَما َيَتَقّب ُ
ل ا ُّ
إل ممن اتقاه مطلًقا فلم يأت كبيرة ،وعند المرجئة إنما يتقبل ممن اتقى الشرك ،فجعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم
ل ،فمن اتقاه في
ل موافًقا لمر ا ّ
صا ّ
ل فيه فعمله خال ً
]المتقين[ وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى ا ّ
عمل تقبله منه ،وإن كان عاصًيا في غيره .ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيًعا في غيره.
طا في والتوبة من بعض الذنوب دون بعض ،كفعل بعض الحسنات المأمور /بها دون بعض ،إذا لم يكن المتروك شر ً
سْعَيَها َوُهَوسَعى َلَها َ خَرَة َو َ لِن َأَراَد ا ْصحة المفعول ،كاليمان المشروط في غيره من العمال ،كما قال الّ تعالىَ} :وَم ْ
حَياًة
حِيَيّنُه َ
ن َفَلُن ْ
ن َذَكٍر َأْو ُأنَثى َوُهَو ُمْؤِم ٌ حا ِم ْ
صاِل ً
ل َ عمِ َ ن َ شُكوًرا{ ]السراء ،[19 :وقال تعالىَ} :م ْ سْعُيُهْم َم ْ
ن َ
ك َكا َ
ن َفُأْوَلِئ َ
ُمْؤِم ٌ
خَرِة َوُأْوَلِئ َ
ك لِ عَماُلُهْم ِفي الّدْنَيا َوا ْت َأ ْ
ط ْ
حِب َك َ
ت َوُهَو َكاِفٌر َفُأْوَلِئ َ
ن ِديِنِه َفَيُم ْ
عْ طّيَبًة{ ]النحل ،[79 :وقالَ} :وَم ْ
ن َيْرَتِدْد ِمْنُكْم َ َ
ب الّناِر ُهْم ِفيَها َخاِلُدوَن{]البقرة.[217 : حا ُ صََأ ْ
الصل الثاني :أن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإن التوبة إنما تقتضى مغفرة ما تاب منه ،أما ما لم يتب
عا إل في الكافر إذا أسلم ،فإن
منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب ،ل على حكم من تاب ،وما علمت في هذا نزا ً
إسلمه يتضمن التوبة من الكفر فيغفر له بالسلم الكفر الذي تاب منه ،وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر
ولم يتب منها في السلم؟ هذا فيه قولن معروفان:
أحدهما :يغفر له الجميع ،لطلق قوله صلى ال عليه وسلم) :السلم يهدم ما كان قبله( رواه مسلم .مع قوله تعالى:
ف{ ]النفال.[38 :
سَل َ
ن َينَتُهوا ُيْغَفْر َلُهْم َما َقْد َ
ن َكَفُروا ِإ ْ
ل ِلّلِذي َ
}ُق ْ
والقول الثاني :أنه ل يستحق أن يغفر له بالسلم إل ما تاب منه / ،فإذا أسلم وهو مصر على كبائر دون الكفر فحكمه
في ذلك حكم أمثاله من أهل الكبائر ،وهذا القول هو الذي تدل عليه الصول والنصوص ،فإن في الصحيحين أن النبي
ل ،أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال) :من أحسن منكم في
صلى ال عليه وسلم قال له حكيم بن حزام :يا رسول ا ّ
السلم لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ،ومن أساء في السلم أخذ بالول والخر( فقد دل هذا النص على أنه إنما
ترفع المؤاخذة بالعمال التي فعلت في حال الجاهلية عمن أحسن ل عمن ل يحسن ،وإن لم يحسن أخذ بالول
والخر ،ومن لم يتب منها فلم يحسن.
ف{ ]النفال [38 :يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما قد سَل َ
ن َينَتُهوا ُيْغَفْر َلُهْم َما َقْد َ
ن َكَفُروا ِإ ْ وقوله تعالىُ} :ق ْ
ل ِلّلِذي َ
سلف منه ،ل يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما سلف من غيره؛ وذلك لن قول القائل لغيره :إن انتهيت
غفرت لك ما تقدم ،ونحو ذلك يفهم منه عند الطلق أنك إن انتهيت عن هذا المر غفر لك ما تقدم منه ،وإذا انتهيت
عن شيء غفر لك ما تقدم منه ،كما يفهم مثل ذلك في قوله) :إن تبت( ،ل يفهم منه أنك بالنتهاء عن ذنب يغفر لك ما
تقدم من غيره.
وأما قول النبي صلى ال عليه وسلم) :السلم يهدم ما قبله( وفي رواية) :يجب ما كان قبله( فهذا قاله لما أسلم عمرو
بن العاص وطلب /أن يغفر له ما تقدم من ذنبه .فقال له) :يا عمرو ،أما علمت أن السلم يهدم ما كان قبله ،وأن
التوبة تهدم ما كان قبلها ،وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها( .ومعلوم أن التوبة إنما توجب مغفرة ما تاب منه ،ل توجب
التوبة غفران جميع الذنوب.
الصل الثالث :أن النسان قد يستحضر ذنوًبا فيتوب منها وقد يتوب توبة مطلقة ل يستحضر معها ذنوبه ،لكن إذا
كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنًبا؛ لن التوبة العامة تتضمن عزًما عاًما بفعل المأمور وترك
المحظور ،وكذلك تتضمن ندًما عاًما على كل محظور.
والندم سواء قيل :إنه من باب العتقادات ،أو من باب الرادات ،أو قيل :إنه من باب اللم التي تلحق النفس بسبب
فعل ما يضرها ،فإذا استشعر القلب أنه فعل ما يضره ،حصل له معرفة بأن الذي فعله كان من السيئات ،وهذا من
باب العتقادات ،وكراهية لما كان فعله ،وهو من جنس الرادات ،وحصل له أذى وغم لما كان فعله ،وهذا من باب
اللم ،كالغموم والحزان ،كما أن الفرح والسرور هو من باب اللذات ليس هو من باب العتقادات والرادات.
ومن قال من المتفلسفة ومن اتبعهم :إن اللذة هي إدراك الملئم /من حيث هو ملئم ،وأن اللم هو إدراك المنافر من
حيث هو منافر فقد غلط في ذلك .فإن اللذة واللم حالن يتعقبان إدراك الملئم والمنافر فإن الحب لما يلئمه،كالطعام
ل له ثلثة أحوال:
المشتهى مث ً
والثالث :اللذة الحاصلة بذلك ،واللذة أمر مغاير للشهوة ولذوق المشتهي ،بل هي حاصلة لذوق المشتهي ،ليست نفس
ذوق المشتهي.
ل .فإن كراهته شيء ،وحصوله شيء آخر ،واللم الحاصل به ثالث.
وكذلك المكروه ،كالضرب مث ً
ل شيء ،ثم ما يحصل من ذكر المحبوب ل من النعيم والسرور بذلك ،فإن حبهم ّوكذلك ما للعارفين أهل محبة ا ّ
شيء ،ثم اللذة الحاصلة بذلك أمر ثالث ،ول ريب أن الحب مشروط بشعور المحبوب ،كما أن الشهوة مشروطة
بشعور المشتهي ،لكن الشعور المشروط في اللذة غير الشعور المشروط في المحبة ،فهذا الثاني يسمى إدراًكا وذوًقا
ل ،ونحو ذلك مما يعبر به عن إدراك المحبوب / ،سواء كان بالباطن أو الظاهر ،ثم هذا الذوق ل ووجًدا ووصا ً وني ً
يستلزم اللذة ،واللذة أمر يحسه الحي باطًنا وظاهًرا.
ل رًبا ،وبالسلم ديًنا،
وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح) :ذاق طعم اليمان من رضى با ّ
وبمحمد صلى ال عليه وسلم نبًيا( ،وفي الصحيحين عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ثلث من كن فيه وجد بهن
ل ،ومن كان يكره أنل ورسوله أحب إلىه من سواهما ،ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ا ّ حلوة اليمان :من كان ا ّ
ل منه كما يكره أن يلقى في النار(.
يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ
وإن حصل بغضه وذوق البغيض حصل اللم ،فالذي يبغض الذنب ول يفعله ل يندم ،والذي ل يبغضه ل يندم على
فعله ،فإذا فعله وعرف أن هذا مما يبغضه ويضره ندم على فعله إياه .وفي المسند عن ابن مسعود عن النبي صلى ال
عليه وسلم أنه قال) :الندم توبة(.
إذا تبين هذا ،فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها ،وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إل
أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص ،مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه؛ لقوة إرادته
إياه أو لعتقاده أنه حسن ليس بقبيح ،فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة ،وأما ما كان لو حضر
بعينه لكان مما يتوب منه فإن التوبة العامة شاملته.
وأما التوبة المطلقة ،وهي أن يتوب توبة مجملة ،ول تستلزم التوبة من كل ذنب ،فهذه ل توجب دخول كل فرد من
أفراد الذنوب فيها ول تمنع دخوله كاللفظ المطلق ،لكن هذه تصلح أن تكون سبًبا لغفرانه المعين ،كما تصلح أن تكون
سبًبا لغفران الجميع ،بخلف /العامة فإنها مقتضية للغفران العام ،كما تناولت الذنوب تناول عاًما.
وكثير من الناس ل يستحضر عند التوبة إل بعض المتصفات بالفاحشة أو مقدماتها ،أو بعض الظلم باللسان أو اليد،
ل عليه في باطنه وظاهره من شعب اليمان وحقائقه أعظم ضرًرا عليه وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب ّ
مما فعله من بعض الفواحش ،فإن ما أمر ال به من حقائق اليمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حًقا أعظم نفًعا
ل ورسوله ،فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية حتى ثبت في الصحيح أنه من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة ،كحب ا ّ
كان على عهد النبي صلى ال عليه وسلم رجل يدعى حماًرا ،وكان يشرب الخمر ،وكان كلما أتى به إلى النبي صلى
ال عليه وسلم جلده الحد ،فلما كثر ذلك منه أتى به مرة فأمر بجلده فلعنه رجل فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :ل
ل ورسوله(.
تلعنه فإنه يحب ا ّ
ل ورسوله ،مع أنه صلى ال عليه وسلم لعن في الخمرعشرة: فنهي عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب ا ّ
)لعن الخمر ،وعاصرها ومعتصرها،وشاربها وساقيها ،وحاملها والمحمولة إليه ،وبائعها ومبتاعها ،وآكل ثمنها(.
ولكن لعن المطلق ل يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له.
طا بثبوت شروط/وكذلك ]التكفير المطلق[ ،و]الوعيد المطلق[ .ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشرو ً
وانتفاء موانع ،فل يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين ،ول يلحق من له حسنات تمحو سيئاته ،ول يلحق المشفوع
له ،والمغفور له ،فإن الذنوب تزول عقوبتها ـ التي هي جهنم ـ بأسباب التوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ـ
لكنها من عقوبات الدنيا ـ وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة ،وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة ،وتزول
ضا بدعاء المؤمنين :كالصلة عليه وشفاعة الشفيع المطاع ،كمن يشفع فيه سيد الشفعاء محمد صلى ال عليه وسلم أي ً
تسليًما.
وحينئذ ،فأي ذنب تاب منه ارتفع موجبه ،وما لم يتب منه فله حكم الذنوب التي لم يتب منها ،فالشدة إذا حصلت
بذنوب وتاب من بعضها خفف منه بقدر ما تاب منه ،بخلف ما لم يتب منه ،بخلف صاحب التوبة العامة.
والناس في غالب أحوالهم ل يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك ،فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال ،لنه
ل أعلم.
دائًما يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور؛ فعليه أن يتوب دائًما ،وا ّ
ج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق؟ وما الحيلة في صرف القلب عن
وأما قول السائل :ما السبب في أن الَفَر َ /
التعلق بهم وتعلقه بال؟
ل ،فل يستقل شيء سواه بإحداث أمر من المور ،بل ما شاء كان وما لم يشأ لم فتوحيد الربوبية :أنه ل خالق إل ا ّ
يكن ،فكل ما سواه إذا قدر سبًبا فلبد له من شريك معاون وضد معوق ،فإذا طلب مما سواه إحداث أمر من المور
طلب منه ما ل يستقل به ول يقدر وحده عليه ،حتى ما يطلب من العبد من الفعال الختيارية ل يفعلها إل بإعانة ا ّ
ل
ل لها بما يخلقه فيه من الرادة الجازمة ويخلقه له من القدرة التامة ،وعند وجود القدرة التامة
له ،كأن يجعله فاع ً
والرادة الجازمة يجب وجود المقدور.
ل كان وما لم يشأ لم يكن ،وما سواه ل تستلزم إرادته شيًئا ،بل ما ل وحده مستلزمة لكل ما يريده ،فما شاء ا ّ فمشيئة ا ّ
أراده ل يكون إل بأمور خارجة عن مقدوره إن لم يعنه الرب بها لم يحصل مراده ،ونفس إرادته ل تحصل إل بمشيئة
ب اْلَعاَلِميَن{ ]التكوير ،[29 ،28 :وقال / ل َر ّ شاَء ا ُّ
ن َي َ
ل َأ ْ
ن ِإ ّشاُءو َسَتِقيَمَ .وَما َت َ
ن َي ْ
شاَء ِمْنُكْم َأ ْ
ن َ ل تعالى .كما قال تعالىِ} :لَم ْ ا ّ
ظاِلِمي َ
ن حَمِتِه َوال ّ
شاُء ِفي َر ْ ن َي َ
ل َم ْخُ حِكيًماُ .يْد ِ
عِليًما َ ن َل َكا َن ا َّ
ل ِإ ّ
شاَء ا ُّ
ن َي َل َأ ْ
ن ِإ ّ
شاُءو َ لَ .وَما َت َ سِبي ً
خَذ ِإَلى َرّبِه َ
شاَء اّت َ تعالىَ} :فَم ْ
ن َ
ل اْلَمْغِفَرِة{
ل الّتْقَوى َوَأْه ُ
ل ُهَو َأْه ُ
شاَء ا ُّ ن َي َ
ل َأ ْ
ن ِإ ّ
شاَء َذَكَرُهَ .وَما َيْذُكُرو َن َ عَذاًبا َأِليًما{ ]النسان29 :ـ ،[31وقالَ} :فَم ْ عّد َلُهْم َ
َأ َ
]المدثر.[56 ،55 :
والراجي لمخلوق طالب بقلبه لما يريده من ذلك المخلوق وذلك المخلوق عاجز عنه ،ثم هذا من الشرك الذي ل يغفره
ل ،فمن كمال نعمته وإحسانه إلى عباده المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى ا ّ
حَده العبد توحيد اللهية حصلت له سعادة الدنيا والخرة.
التوحيد ،ثم إن و ّ
كما احتج ـ سبحانه ـ على المشركين الذين يقرون بأنه خالق كل شيء ثم يشركون ول يعبدونه وحده ل شريك له ،قال
ب اْلَعْر ِ
ش سْبِع َوَر ّ
ت ال ّ
سَماَوا ِ
ب ال ّ
ن َر ّ
ل َم ْ
نُ .ق ْ
ل َتَذّكُرو َ
ل َأَف َ
ل ُق ْ
ن ِّ
سَيُقوُلو َ
نَ .
ن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ
ن ِفيَها ِإ ْ
ض َوَم ْ
لْر ُ
ن ا َْ تعالىُ} :ق ْ
ل ِلَم ْ
ل َفَأّنا
ل ُق ْن ِّ سَيُقوُلو َنَ .
ن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ
عَلْيِه ِإ ْ
جاُر َ
ل ُي َ
جيُر َو َيٍء َوُهَو ُي ِ ش ْ ل َ
ت ُك ّ ن ِبَيِدِه َمَلُكو ُ
ل َم ْ
نُ .ق ْ
ل َتّتُقو َ
ل َأَف َ
ل ُق ْ
ن ِّ
سَيُقوُلو َ
ظيِمَ .
اْلَع ِ
ل َفَأّنا
ن ا ُّ س َواْلَقَمَر َلَيُقوُل ّ
شْم َ
خَر ال ّسّ ض َو َ لْر َ ت َوا َْ
سَماَوا ِق ال ّ
خَل َ
ن َ سَأْلَتُهْم َم ْ ن{]المؤمنون 84 :ـ ،[89وقال تعالىَ} :وَلِئ ْ
ن َ حُرو َ
سَ ُت ْ
ُيْؤَفُكوَن{]العنكبوت [61 :وهذا قد ذكر في القرآن في غير موضع.
ل على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدينفمن تمام نعمة ا ّ
ويرجونه ل يرجون أحًدا سواه ،وتتعلق قلوبهم به ل بغيره ،فيحصل لهم من التوكل عليه والنابة إليه ،وحلوة
اليمان وذوق طعمه ،والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف ،أو الجدب ،أو
حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة ،فإن ذلك لذات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل
للمؤمن.
ل الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال ،أو يستحضر تفصيله بال ،ولكل وأما ما يحصل لهل التوحيد المخلصين ّ
مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه ،ولهذا قال بعض السلف :يا بن آدم ،لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع
ل حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلوة مناجاته ما ل
باب سيدك .وقال بعض الشيوخ :إنه ليكون لي إلى ا ّ
أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي /عن ذلك ،لن النفس ل تريد إل حظها فإذا قضى
انصرفت .وفي بعض السرائيليات يا بن آدم ،البلء يجمع بيني وبينك ،والعافية تجمع بينك وبين نفسك.
وهذا المعنى كثير ،وهو موجود مذوق محسوس بالحس الباطن للمؤمن ،وما من مؤمن إل وقد وجد من ذلك ما
يعرف به ما ذكرناه ،فإن ذلك من باب الذوق والحس ل يعرفه إل من كان له ذوق وحس بذلك.
ولفظ ]الذوق[ وإن كان قد يظن أنه في الصل مختص بذوق اللسان ،فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم
من ذلك مستعمل في الحساس بالملئم والمنافر ،كما أن لفظ ]الحساس[ في عرف الستعمال عام فيما يحس
بالحواس الخمس ،بل وبالباطن.
ف{ ]النحل [112 :فجعل الخوف والجوع مذوًقا، خْو ِع َواْل َجو ِس اْل ُ
ل ِلَبا َوالمقصود لفظ ]الذوق[ قال تعالىَ} :فَأَذاَقَها ا ُّ
وأضاف إليهما اللباس ليشعر أنه لبس الجائع والخائف فشمله وأحاط به إحاطة اللباس باللبس /،بخلف من كان اللم
ب اَْلِليِم{ ]الصافات ،[38 :وقال
ل يستوعب مشاعره بل يختص ببعض المواضع ،وقال تعالىِ} :إّنُكْم لََذاِئُقو اْلَعَذا ِ
ن ِفيَها سَقَر{ ]القمر ،[48 :وقالَ } :
ل َيُذوُقو َ س َ ت اْلَعِزيُز اْلَكِريُم{ ]الدخان ،[ 49 :وقال تعالىُ} :ذوُقوا َم ّ ك َأْن َ تعالىُ} :ذ ْ
ق ِإّن َ
ساًقا{]النبأ ،[25 ،24 :وقالَ} :وَلُنِذيَقّنُهْم
غّحِميًما َو َ ل َ شَراًباِ .إ ّ
ل َ ن ِفيَها َبْرًدا َو َ
ل َيُذوُقو َ ت{ ]الدخان ،[56 :وقال تعالىَ } : اْلَمْو َ
ب اَْلْكَبِر{]السجدة ،[21 :وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم) :ذاق طعم اليمان من رضى ن اْلَعَذا ِ
لْدَنى ُدو َ ب ا َْ
ن اْلَعَذا ِ
ِم ْ
ل رًبا وبالسلم ديًنا وبمحمد نبًيا(. با ّ
فاستعمال لفظ ]الذوق[ في إدراك الملئم والمنافر كثير .وقال النبي صلى ال عليه وسلم) :ثلث من كن فيه وجد
حلوة اليمان( كما تقدم ذكر الحديث .فوجود المؤمن حلوة اليمان في قلبه وذوق طعم اليمان أمر يعرفه من
حصل له هذا الوجد.
ل به الرسل ،وأنزل به الكتب ،وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه .وا ّ
ل وهذا هو حقيقة السلم الذي بعث ا ّ
سبحانه أعلم.
ل َتَعاَلى:
حَمُه ا ُّ
سـلم ـ َر ِ
خ الِ ْ
قال شيـ ُ
صــل
َف ْ
أحدها :فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب ،والتوكل عليه وعبادته ،وما يتبع ذلك ،فهذا حق صحيح وهو محض
التوحيد والخلص ،وهو في الحقيقة عبادة القلب ،وتوكله ،واستعانته ،وتألهه وإنابته ،وتوجهه إلى الّ وحده ل
شريك له ،وما يتبع ذلك من المعارف والحوال .وليس لحد خروج عن هذا.
المر الثاني :فناء القلب عن شهود ما سوى الرب ،فذاك فناء عن الرادة ،وهذا فناء عن الشهادة ،ذاك فناء عن عبادة
الغير والتوكل عليه ،وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه ،فهذا الفناء فيه نقص ،فإن شهود الحقائق على ما هي
عليه ،وهو شهود الرب مدبًرا العبادة ،آمًرا بشرائعه ،أكمل من شهود وجوده ،أو صفة من صفاته ،أو اسم من
أسمائه ،والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك.
ل ،ولكن عرض كثير من هذا ل عن شهوده مفص ًولهذا كان الصحابة أكمل شهوًدا من أن ينقصهم شهود للحق مجم ً
لكثير من المتأخرين من هذه المة .كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق؛ الموت والغشي والصياح
والضطراب ،وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه ،وعن شهود التفرقة في الجمع،والكثرة في
الوحدة ،حتى اختلفوا في إمكان ذلك ،وكثير منهم يرى أنه ل يمكن سوى ذلك لما رأى أنه إذا ذكر الخلق أو المر
اشتغل عن الخالق المر .وإذا عورض بالنبي /صلى ال عليه وسلم وخلفائه ادعى الختصاص ،أو أعرض عن
الجواب أو تحير في المر.
وسبب ذلك أنه قاس جميع الخلق على ما وجده من نفسه؛ ولهذا يقول بعض هؤلء :إنه ل يمكن حين تجلى الحق
سماع كلمه ،ويحكى عن ابن عربي أنه لما ذكر له عن الشيخ شهاب الدين السهروردي أنه جوز اجتماع المرين.
قال :نحن نقول له عن شهود الذات وهو يخبرنا عن شهود الصفات ،والصواب مع شهاب الدين .فإنه كان صحيح
العتقاد في امتياز الرب عن العبد .وإنما بنى ابن عربي على أصله الكفري في أن الحق هو الوجود الفائض على
الممكنات ،ومعلوم أن شهود هذا ل يقع فيه خطاب ،وإنما الخطاب في مقام العقل.
ل ،إذا فنى بمشهوده عن شهوده ،وبموجوده عنوفي هذا الفناء قد يقول :أنا الحق ،أو سبحاني ،أو ما في الجبة إل ا ّ
ل كان مستغرًقا في محبة آخر ،فوقع
وجوده ،وبمذكوره عن ذكره ،وبمعروفه عن عرفانه .كما يحكون أن رج ً
المحبوب في اليم فألقى الخر نفسه خلفه ،فقال ما الذي أوقعك خلفي؟ فقال :غبت بك عني فظننت أنك أني.
وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود /حلوة اليمان ،كما يحصل بسكر الخمر ،وسكر عشيق
الصور .وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء ،كما يحصل بحال حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق
ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى وهي شطحات بعض المشائخ ،كقول بعضهم :أنصب خيمتي على
جهنم ،ونحو ذلك من القوال والعمال المخالفة للشرع ،وقد يكون صاحبها غير مأثوم ،وإن لم يكن فيشبه هذا الباب
أمر خفراء العدو ومن يعين كافًرا أو ظالًما بحال ويزعم أنه مغلوب عليه .ويحكم على هؤلء أن أحدهم إذا زال عقله
بسبب غير محرم فل جناح عليهم فيما يصدر عنهم من القوال والفعال المحرمة بخلف ما إذا كان سبب زوال
العقل والغلبة أمًرا محرًما.
وهذا كما قلنا في عقلء المجانين والمولهين ،الذين صار ذلك لهم مقاًما دائًما ،كما أنه يعرض لهؤلء في بعض
الوقات ،كما قال بعض العلماء ذلك فيمن زال عقله حتى ترك شيًئا من الواجبات :إن كان زواله بسبب غير محرم
مثل الغماء بالمرض أو أسقى مكرها شيًئا يزيل عقله فل إثم عليه ،وإن زال بشرب الخمر ونحو ذلك من الحوال
المحرمة أثم بترك الواجب ،وكذلك المر في فعل المحرم.
وكما أنه ل جناح عليهم فل يجوز القتداء بهم ول حمل كلمهم وفعالهم على الصحة بل هم في الخاصة مثل الغافل
ل فسلب عقولهم
ل وأحوا ً
ل عقو ً
والمجنون في التكاليف /الظاهرة ،وقال فيهم بعض العلماء :هؤلء قوم أعطاهم ا ّ
وترك أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب.
ولهذا اتفق العارفون على أن حال البقاء أفضل من ذلك ،وهو شهود الحقائق بإشهاد الحق ،كما قال الّ ـ تعالى ـ فيما
ي بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره روى عنه رسوله) :ول يزال عبدي يتقرب إل ّ
الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها ،ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه .فبي
يسمع وبي يبصر ،وبي يبطش وبي يمشي" وفي رواية" :وبي ينطق ،وبي يعقل( .فإذا سمع بالحق ورأى به سمع
المر على ما هو عليه وشهد الحق على ما هو عليه.
وعامة ما تجده في كتب أصحاء الصوفية مثل شيخ السلم ومن قبله من الفناء هو هذا ،مع أنه قد يغلط بعضهم في
بعض أحكامه كما تكلمت عليه في غير هذا الموضع.
وفي الجملة ،فهذا الفناء صحيح وهو في عيسوية المحمدية ،وهو شبيه بالصعق والصياح الذي حدث في التابعين؛
ولهذا يقع كثير من هؤلء في نوع ضلل؛ لن الفناء عن شهود الحقائق مرجعه إلى عدم العلم والشهود .وهو وصف
نقص ل وصف كمال ،وإنما يمدح من جهة /عدم إرادة ما سواه؛ لن ذكر المخلوق قد يدعو إلى إرادته والفتنة به.
ولهذا غالب عباد ]العيسوية[ في عدم العلم بالسوي ،وإرادته والفتنة به ،ويوصفون بسلمة القلوب .وغالب علماء
]الموسوية[ في العلم بالسوي وإرادته والفتنة به ،ويوصفون بالعلم ،لكن الولون موصوفون بالجهل والعدل.
والخرون موصوفون بالظلم ...وكلهما صحيح.
ل وحده ل شريك له فهذا نعت المحمدية الكاملون في العلم والرادة ،وسلمة القلب فأما العلم بالحق والخلق ،وإرادة ا ّ
المحمودة ،هي سلمة ...إذ الجهل ل يكون بنفسه صفة مدح .إل أنه قد يمدح لسلمته به عن الشرور ،فإن أكثر
النفوس إذا عرفت الشر الذي تهواه اتبعته أو فزعت منه أو فتنها.
ل باطل**
أل كل شيء ما خل ا ّ
ك ِإّل َوْجَهُه{]القصص [88 :فإنهم لو أرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهود الصحيح،
يٍء َهاِل ٌ
ش ْ وكما قيل في قولهُ} :ك ّ
ل َ
لكنهم يريدون أنه هو عين الموجودات ،فهذا كفر وضلل .ربما تمسك أصحابه بألفاظ متشابهة توجد في كلم بعض
المشايخ ،كما تمسك النصارى بألفاظ متشابهة تروى عن المسيح ،ويرجعون إلى وجد فاسد أو قياس فاسد .فتدبر هذا
التقسيم فإنه بيان الصراط المستقيم.
صـــل
َف ْ
المر والنهي ،الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة ،فل تجب الشريعة
على من ل يمكنه العلم كالمجنون والطفل ،ول تجب على من يعجز كالعمى والعرج والمريض في الجهاد ،وكما
ل تجب الطهارة بالماء ،والصلة قائًما والصوم ،وغير ذلك على من يعجز عنه.
سواء قيل :يجوز تكليف ما ل يطاق أو لم يجز ،فإنه ل خلف أن تكليف العاجز الذي ل قدرة له على الفعل بحال غير
طا لمناط
واقع في /الشريعة ،بل قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم ،والقدرة تخفيًفا عنه ،وضب ً
التكليف ،وإن كان تكليفه ممكًنا ،كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ،وإن كان له فهم وتمييز ،لكن ذاك لنه لم يتم
فهمه ،ولن العقل يظهر في الناس شيًئا فشيًئا ،وهم يختلفون فيه ،فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قيدت بالبلوغ.
وكما ل يجب الحج إل على من ملك زاًدا وراحلة عند جمهور العلماء ،مع إمكان المشي لما فيه من المشقة ،وكما ل
يجب الصوم على المسافر مع إمكانه منه تخفيًفا عليه ،وكما تسقط الواجبات بالمرض الذي يخاف معه زيادة المرض
وتأخر البرء ،وإن كان فعلها ممكًنا.
ل في شريعة ما يشق ،ويحرم ما يشق تحريمه ،كالصار لكن هذه المواضع هي مما تختلف فيها الشرائع ،فقد يوجب ا ّ
سيَنا َأْو
ن َن ِخْذَنا ِإ ْ والغلل التي كانت على بني إسرائيل ،وقد يخفف في شريعة أخرى ،كما قال المؤمنونَ} :رّبَنا َ
ل ُتَؤا ِ
سَر َو َ
ل ل تعالىُ} :يِريُد ا ُّ
ل ِبُكْم اْلُي ْ صًرا َكَما َحَمْلَتُه َعَلى اّلِذيَن ِمْن َقْبِلَنا{]البقرة ،[286 :وكما قال ا ّ عَلْيَنا ِإ ْ
ل َ
حِم ْ
ل َت ْ
طْأَنا َرّبَنا َو َ
خَ َأ ْ
عَلْيُكْم ِفي الّدي ِ
ن ل َ جَع َج{ ]المائدة ،[6 :وقالَ} :وَما َ حَر ٍ
ن َ
عَلْيُكْم ِم ْ
ل َ
جَع َ سَر{ ]البقرة ،[185 :وقالَ} :ما ُيِريُد ا ُّ
ل ِلَي ْ ُيِريُد ِبُكْم اْلُع ْ
ف َعْنُكْم{]النساء.[28 : خّف َن ُي َ ج{ ]الحج ،[78 :وقالُ} :يِريُد ا ُّ
ل َأ ْ حَر ٍن َ ِم ْ
/وقال النبي صلى ال عليه وسلم لصحابه في قصة العرابي) :إنما بعثتم ميسرين ،ولم تبعثوا معسرين( ،وقال لمعاذ
وأبي موسى) :يسرا ول تعسرا( ،وقال) :إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إل غلبه( ،وقال) :ل تشددوا على
ل عليهم،فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات،ل عليكم ،فإن أقواًما شددوا على أنفسهم ،فشدد ا ّ
أنفسكم فيشدد ا ّ
ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم( ،وقال) :ل رهبانية في السلم(،وقال) :لكني أصوم وأفطر ،وأقوم وأنام،
ل يحب أن يؤخذ برخصه ،كما يكره أن وأتزوج النساء ،وآكل اللحم ،فمن رغب عن سنتي فليس مني( ،وقال) :إن ا ّ
تؤتي معصيته( ،وروى عنه أنه قال) :بعثت بالحنيفية السمحة(.
وأما كون النسان مريًدا لما أمر به ،أو كارًها له ،فهذا ل تلتفت إليه الشرائع ،بل ول أمر عاقل ،بل النسان مأمور
بمخالفة هواه.
فإن هذه الصول ممهدة في الكتاب والسنة ،وكلم العلماء والعارفين ،وليس الغرض هنا تقريرها.
وأما قضاء الصلة عليه عند أحمد ،وعند من يقول :يقضي صلة يوم وليلة ،فذاك نظير وجوب قضائها على النائم
والناسي ،ول إثم عليهما ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :ليس في النوم تفريط ،وإنما التفريط في اليقظة( ،وقال:
)من نام عن صلة أو نسيها ،فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها ل كفارة لها إل ذلك(.
/وكذلك قدرة العبد ،فإنه لو فرط بعد وجوب الحج عليه ،حتى ضيع ماله بقى الحج في ذمته ،وكذلك في استحلل
ل ِإْثَم َعَلْيِه{]البقرة .[173 :فالضرورة بسبب محظور ل
عاٍد َف َ
ل َ
غ َو َ
غْيَر َبا ٍ
طّر َ
ضُ ل تعالىَ} :فَم ْ
نا ْ المحرمات ،قال ا ّ
تستباح بها المحرمات ،بخلف الضرورة التي هي بسبب غير محظور.
وقد اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يترخص ترخص المسافر؟ ومذهب الشافعي ،وأحمد أنه ل يترخص.
فالحوال التي ترد على العباد ،وأهل المعرفة والزهاد ،ونحوهم مما توجب زوال عقل أحدهم وعلمه ،حتى تجعله
كالمجنون والموله والسكران والنائم ،أو زوال قدرته حتى تجعله كالعاجز ،أو تجعله كالمضطر الذي يصدر عنه
القول والفعل بغير إرادته واختياره ،فإن زوال العقل والقدرة قد يوجب عجزه عن أداء واجبات ،وقد يوجب وقوعه
في محرمات.
فهؤلء يقال فيهم :إن كان زوال ذلك بسبب غير محرم ،فل حرج عليهم فيما يتركونه من الواجبات ،ويفعلونه من
ضا اتباعهم فيما هو خارج عن الشريعة من أقوالهم وأفعالهم ،ول نذمهم على ذلك ،بل قد
المحرمات ،ول يجوز أي ً
يمدحون على ما وافقوا فيه الشريعة من /القوال والعمال ،ويرفع عنهم اللوم فيما عذرهم فيه الشارع ،كما يقال في
المجتهد المخطئ سواء ،بل المجتهد المخطئ نوع مـن هذا الجنس ،حيث سقط عنه اللوم؛ لعجزه عن العلم.
وإن كان زوال ذلك بسبب محرم ،استحقوا الذم والعقاب على ما يتركونه من واجب ويفعلونه من محرم.
مثال الول :من يسمع القرآن على الوجه المشروع ،فهاج له وجد يحبه ،أو مخافة أو رجاء ،فضعف عن حمله حتى
حا عظيًما ،أو اضطرب اضطراًبا كثيًرا ،فتولد عن ذلك ترك صلة واجبة ،أو تعدي مات ،أو صعق ،أو صاح صيا ً
على بعض الناس ،فإن هذا معذور في ذلك ،فإن هذا في هذه الحال بمنزلة عقلء المجانين المولهين ،الذين حصل لهم
الجنون ،مع أنهم من الصالحين وأهل المعرفة ،إما لقوة الوارد الذي ورد عليهم ،وإما لضعف قلوبهم عن حمله ،وإما
لنحراف أمزجتهم وقوة الخلط ،وإما لعارض من الجن ،فإن هؤلء كما بلغنا عن المام أبي محمد المقدسي ،حيث
ل ،فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم ،وأسقط ما فرض بما سلب. ل وأحوا ًل عقو ً
سئل عنهم ،فقال :هؤلء قوم أعطاهم ا ّ
ولهذا كان هذا الصنف والذي قبله موجوًدا في التابعين ومن /بعدهم ،ل سيما في عباد البصريين ،فإن فيهم من مات
من سماع القرآن ،كزرارة بن أوفى ،وأبي جهير الضرير وغيرهما.
ضا من غلب عليه الذكروأما الصحابة ،فإن حالهم كان أكمل من أن يكون فيهم مجنون أو مصعوق ،ومن هؤلء أي ً
ل ،والتوحيد له والمحبة حتى غاب بالمذكور المشهود المحبوب المعبود عما سواه ،كما يحصل لبعض العاشقين في ّ
ل .ومنهم من غلبغيبته بمعشوقه عما سواه ،فيقول أحدهم في هذه الحال .أنا الحق ،أو سبحاني ،أو ما في الجبة إل ا ّ
عليه حال الرجاء والرحمة ،حتى قال :أبسط سجادتي على جهنم .فمن قال هذا في حال زوال عقله بحيث يكون
عا :فل إثم عليه.
كالسكران أو الموله ،وكان السبب الذي أوجب ذلك غير منهي عنه شر ً
ومثال الثاني :ما قد يحصل عند سماع المكاء والتصدية لكثير من أهل السماع ،فإنه قد ينشد أشعاًرا فيها ما يخالف
طا ،وزوال عقل ،حتى يقتل بعضهم الشرع بأصوات مخالفة للشرع ،ويكون النسان فيه استعداد فيوجب ذلك اختل ً
ضا من ترك واجبات الشريعة ،ومن العتداء على المؤمنين ضا ،إما ظاهًرا وإما باطًنا بالهمة والقلوب ،ويوجب أي ً
بع ً
ل به عليم.
في الدين والدنيا ما ا ّ
ل قوية
/وكذلك قد يسلك أحدهم عبادات غير شرعية في العتقادات والعمال فتورثه تلك العبادات والعمال أحوا ً
قاهرة ،يترك بها الواجبات ،ويفعل بها المحرمات أعظم مما يفعله الملك الجبار ،إذا سكر بشرب الخمر بالنفوس
والموال.
وإذا خوطب أحدهم في حال صحوه ،وعقله قال :كنت مغلوًبا ،وورد علي وارد فعل بي هذا ،والحكم للوارد ،وهذه
حال كثير من خفراء العدو ،وكثير ممن يعين الكفرة والظلمة ،ويعتدي على المسلمين والمؤمنين من أهل الحوال،
ويقول :إنه مغلوب في ذلك ،وأنه ورد عليه وارد أوجب ذلك ،وأنه خوطب بذلك الفعل.
ل ونهيه ،وزوال قدرتك حتى صرت مضطًرا إلى تلك الفعال ،وإن فيقال :أما زوال عقلك حتى صرت ل تفهم أمر ا ّ
ل ،حتى صرت في حال المجانين والسكارى ،فأنت بمنزلة شارب كنت صادًقا في ذلك ،فسببه تفريطك وعدوانك أو ً
الخمر الذي سكر منها ،والمتعرض للعشق حتى يعشق فيفعل فيه العشق الفاعيل؛ إذ ل فرق بين سكر الصوات
والصور والشراب ،فإن هذا سكر الجسام ،وهذا سكر النفوس ،وهذا سكر الرواح ،فإذا كان السبب محظوًرا لم يكن
السكران معذوًرا في دين السلم.
/ولهذا إنما تقع هذه الحوال ممن فيه نصرانية يميل بسببها إلى السكر ،كما يفعله النصارى في الشراب والصوات
والصور؛ ولهذا كان هؤلء في عالم الضلل.
وأما قولك :إنك خوطبت بذلك ،وأمرت فمن أي الجهتين؟ أمن جهة الكلمات الدينية؟ أم من جهة الكلمات الكونية؟
وإن أقررت أنه من الثانية فصحيح ،لكن هذا حال الكفار والمنافقين مثل إبليس وفرعون ونمرود ،وسائر من أطاع
الوامر الكونية ،وتبع الرادة القدرية ،وأعرض عن الوامر الشرعية ،ولم يقف عند الرادة الدينية.
فتدبر هذا الصل فإنه عظيم نافع جدًا ،فتنكشف به الحوال المخالفة للشرع ،وانقسام أهلها إلى معذور وموزور،
كانقسامها إلى /مسطور على صاحبه ،ومغفور ،بمنزلة الحوال الصادرة عن غير أهل العبادات والزهادات من
العقل والصحو ،ومن الغماء والسكر والجنون ومن الضطرار والختيار ،فإن أحوال الملوك والمراء وأحوال
الهداة والعلماء ،وأحوال المشايخ والفقراء ،تشترك في هذه القاعدة الشريفة ،وتحكم الشريعة فيها بالفرقان.
وإذا ضم إلى ذلك أن ما يصدر عن ذوي الحوال من كشف علمي أو تأثير قدري ليس بمستلزم لولية ال ،بل ول
للصلح ،بل ول لليمان؛ إذ قد يكون هذا الجنس في كافر ،ومنافق ،وفاسق ،وعاصي ،وإنما أولياء ال الذين ل خوف
عليهم ول هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون.
ل وبين الحوال ،كما فرق بين خلفة النبوة وبين جنس الملك ،وفرق بين العلم الذي ورثته النبياء، ففرق بين ولية ا ّ
ل له حال تأثير وكشف ،وقد يكون وبين جنس الكلم ،فبين هذين النوعين خصوص وعموم ،فقد يكون الرجل وليًا ّ
ل ،كما قد يكون خليفة نبي مطاعًا، وليًا ليس له تلك الحال بكمالها ،وقد يكون له شيء من هذه الحوال ،وليس وليًا ّ
وقد يكون خليفة نبي مستضعفًا ،وقد يكون جبارًا مطاعًا ليس من النبوة في شيء ،وقد يكون عالمًا ليس متكلما بما
يخالف كلم النبياء ،وقد يكون عالمًا متكلمًا بكلم النبياء.
َفصــل
واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات في هذا القدر وغيره ،إنما وقع في المة في أواخر خلفة الخلفاء
الراشدين ،كما أخبر به النبي صلى ال عليه وسلم حيث قال) :من يعش منكم بعدي فسيري اختلًفا كثيًرا ،فعليكم
بسنتي ،وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي(.
ومعلوم أنه إذا استقام ولة المور الذين يحكمون في النفوس والموال استقام عامة الناس ،كما قال أبو بكر الصديق
فيمـا رواه البخـاري في صحيحه للمرأة الحمسية لما سألته فقالت :ما بقاؤنا على هذا المر الصالح ؟ قال :ما
استقامت لكم أئمتكم ،وفي الثر :صنفان إذا صلحوا صلح الناس :العلماء والمراء أهل الكتاب وأهل الحديد ،كما دل
عليه قولهَ} :لَقْد َأْرَسْلَنا{ الية ]الحديد.[25 :
عا ،وعن جماعة من الصحابة )إن أخوف ما أخاف عليكم: /وكذلك من جهتهم يقع الفساد ،كما جاء في الحديث مرفو ً
زلة عالم ،وجدال منافق بالقرآن ،وأئمة مضلون( .فالئمة المضلون هم المراء ،والعالم والمجادل هم العلماء ،لكن
أحدهما صحيح العتقاد يزل ،وهو العالم ،كما يقع من أئمة الفقهاء أهل السنة والجماعة.
ل ،وإنما
والثاني ،كالمتفلسفة والمتكلمين الذين يجادلون بشبهات القرآن مع أنهم في الحقيقة منسلخون من آيات ا ّ
احتجاجهم به دفًعا للخصم ،ل اهتداء به واعتماًدا عليه؛ ولهذا قال( :جدال منافق بالقرآن) فإن السنة والجماع تدفع
شبهته.
والدين القائم بالقلب من اليمان علًما وحالً هو الصل ،والعمال الظاهرة هي الفروع ،وهي كمال اليمان.
ل عليه ـ وجاءت إمارة يزيد ،وجرت فيها فتنة قتل وكان ملك معاوية ملًكا ورحمة ،فلما ذهب معاوية ـ رحمة ا ّ
ل بن الزبير .
الحسين بالعراق ،وفتنة أهل الحرة بالمدينة ،وحصروا مكة ،لما قام عبد ا ّ
/ثم مات يزيد وتفرقت المة ،ابن الزبير بالحجاز،وبنو الحكم بالشام،ووثب المختار بن أبي عبيد وغيره بالعراق
ل ،وأبو
ل بن عمر ،وجابر بن عبد ا ّ
ل بن عباس ،وعبد ا ّ.وذلك في أواخر عصر الصحابة ،وقد بقى فيهم مثل عبد ا ّ
سعيد الخدري ،وغيرهم ،حدثت بدعة القدرية والمرجئة ،فردها بقايا الصحابة كابن عباس ،وابن عمر ،وجابر،
ل عنهم ـ مع ما كانوا يردونه هم ،وغيرهم من بدعة الخوارج والروافض. وواثلة بن السقع وغيرهم ـ رضي ا ّ
وعامة ما كانت القدرية إذ ذاك يتكلمون فيه ،أعمال العباد ،كما يتكلم فيها المرجئة ،فصار كلمهم في الطاعة
والمعصية ،والمؤمن والفاسق ونحو ذلك من مسائل السماء والحكام ،والوعد والوعيد ،ولم يتكلموا بعد في ربهم ول
في صفاته إل في أواخر عصر صغار التابعين ،من حين أواخر الدولة الموية حين شرع القرن الثالث ـ تابعوا
التابعين ـ ينقرض أكثرهم ـ فإن العتبار في القرون الثلثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه ،وجمهور الصحابة
انقرضوا بانقراض خلفة الخلفاء الربعة ،حتى إنه لم يكن بقى من أهل بدر ،إل نفر قليل ،وجمهور التابعين
بإحسان ،انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك ،وجمهـور تابعي التابعين
انقرضوا في أواخر الدولة الموية ،وأوائل الدولة العباسية ـ وصار /في ولة المور كثير من العاجم ،وخرج كثير
من المر عن ولية العرب وعربت بعض الكتب العجمية من كتب الفرس والهند والروم ،وظهر مـا قاله النبي صلى
ال عليه وسلم) :ثم يفشوا الكذب حـتى يشهد الرجل ،ول يستشهد ،ويحلف ،ول يستحلف( ،حدث ثلثة أشياء:
فكان جمهور الرأي من الكوفة ،إذ هو غالب على أهلها ،مع ما كان فيهم من التشيع الفاحش ،وكثرة الكذب في
الرواية ،مع أن في خيار أهلها من العلم ،والصدق ،والسنة والفقه ،والعبادة أمر عظيم ،لكن الغرض أن فيها نشأ كثرة
الكذب في الرواية .وكثرة الراء في الفقه ،والتشيع في الصول ،وكان جمهور الكلم والتصوف في البصرة.
فإنه بعد موت الحسن ،وابن سيرين بقليل ،ظهر عمرو بن عبيد ،وواصل بن عطاء ،ومن اتبعهما من أهل الكلم
والعتزال.
وظهر أحمد بن عطاء الهجيمي الذي صحب عبد الواحد بن زيد / ،وعبد الواحد صحب الحسن البصري ،ومن اتبعه
من المتصوفة ،وبنى دويرة للصوفية ،هي أول ما بني في السلم ،وكان عبد الرحمن بن مهدي وغيره يسمونهم
الفقرية ،وكانوا يجتمعون في دويرة لهم .
وصار لهؤلء من الكلم المحدث ،طريق يتدينون به ،مع تمسكهم بغالب الدين.
ولهؤلء من التعبد المحدث ،طريق يتمسكون به مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع ،وصار لهؤلء حال من السماع،
والصوت حتى إن أحدهم يموت أو يغشى عليه.
ولهؤلء حال في الكلم والحروف ،حتى خرجوا به إلى تفكير أوقعهم في تحير.
وقد كتبت قبل هذا في القواعد ،ما في طريقي أهل الكلم ،والنظر وأهل الرادة والعمل من النحراف ،إذا لم يقترن
ل ورسوله ،واستصحاب بمتابعة الرسول .كما بينت في قاعدة كبيرة أن أصل العلم ،والهدى ،والدين هو :اليمان با ّ
ذلك في جميع القوال والحوال.
وكان أهل المدينة أقرب من هؤلء ،وهؤلء في القول والعمل ،إذ لم ينحرفوا انحراف الطائفتين من الكوفيين
عا ،وإن كان في بعضهم نوع انحراف لكن هم أقرب. والبصريين ،هوى ورواية ،ورأيا ،وكلًما ،وسما ً
وأما الشاميون ،فكان غالبهم مجاهدين ،وأهل أعمال قلبية ،أقرب إلى الحال المشروع ،من صوفية البصريين إذ ذاك.
ولهذا تجد كتب الكلم ،والتصوف ،إنما خرجت في الصل من البصرة ،فمتكلمة المعتزلة أئمتهم بصريون ،مثل أبي
ل ، ...وأبي الحسين /البصري ،وكذلك متكلمة
الهذيل العلف ،وأبي علي الجبائي ،وابنه أبي هاشم ،وأبي عبد ا ّ
ل بن سعيد بن كلب ،وأبي الحسن الشعري وصاحبه أبي الحسن الباهلي ،والقاضي أبي الكلبية والشعرية ،كعبد ا ّ
بكر بن الباقلني وغيرهم.
وكذلك كتب المتصوفة ومن خلط التصوف بالحديث والكلم ،ككتب الحارث بن أسد المحاسبي ،وأبي الحسن بن
سالم ،وأبي سعيد العرابي وأبي طالب المكي.
كما أن علم النبوة ،من اليمان والقرآن ،وما يتبع ذلك من الفقه والحديث وأعمال القلوب ،إنما خرجت من المصار
ل صلى ال عليه وسلم ،وهي الحرمان والعراقان والشام :المدينة ومكة والكوفة
التي يسكنها جمهور أصحاب رسول ا ّ
والبصرة والشام ،وسائر المصار تبع.
فالقراء السبعة من هذه المصار ،وكذلك أئمة أهل الحديث وأثبتهم أهل المدينة ،وأهل البصرة ،كالزهري ومالك،
وكقتادة وشعبة ،ويحيى بن سعيد ،وعبد الرحمن بن مهدي.
وأهل الشام لم يكن فيهم كثير كاذب ،ول أئمة كبار في القراءة والحديث .وكذلك أئمة الفقهاء ،فمالك عالم أهل المدينة،
والثوري وأبو حنيفة وغيرهما من أهل الكوفة .وابن جريج وغيره من أهل مكة ،وحماد بن سلمة ،وحماد بن زيد من
أهل البصرة ،والوزاعي وطبقته بالشام ،وقد قيل إن مالًكا إنما احتذى موطأه على كتاب حماد بن سلمة ،وقيل :إن
كتاب ابن جريج قبل ذلك.
ثم الشافعي ،وإن كان أصله مكًيا ،فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بمصره.
وكذلك المام أحمد ،وإن كان أجداده بصريين ،فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بالبصريين ،ول غيرهم.
ل بن المبارك ،وإسحاق بن إبراهيم ،ومحمد بن إسماعيل البخاري ،وغيرهم من الخراسانيين ،وكذلككما أن عبد ا ّ
أئمة الزهاد والعباد من هذه المصار ،كما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في ]صفوة الصفوة[.
ل صلى ال عليه وسلم ،وأما ما جاء عمن بعدهم ،فل فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول ا ّ
ل ،وإن كان صاحبه معذوًرا ،بل مأجوًرا ،لجتهاد أو تقليد.
ينبغي أن يجعل /أص ً
فمن بنى الكلم في العلم :الصول ،والفروع على الكتاب والسنة ،والثار المأثورة عن السابقين ،فقد أصاب طريق
النبوة ،وكذلك من بنى الرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول العمال وفروعها من الحوال القلبية،
والعمال البدنية على اليمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد ،صلى ال عليه وسلم ،وأصحابه فقد أصاب
طريق النبوة ،وهذه طريق أئمة الهدى.
ب التفسير المأثور عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين .وكتب الحديث والثار المأثورة عن ب ُكُت َ
وَكَت َ
النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين ،وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه ،حتى قال في رسالته
ل صلىل ،أو في حديث عن رسول ا ّإلى خليفة وقته المتوكل :ل أحب الكلم في شيء من ذلك إل ما كان في كتاب ا ّ
ال عليه وسلم ،أو الصحابة أو التابعين ،فأما غير ذلك فالكلم فيه غير محمود.
ل عليهم من
/وكذلك في الزهد والرقاق والحوال ،فإنه اعتمد في كتاب ]الزهد[ على المأثور عن النبياء ،صلوات ا ّ
آدم إلى محمد ،ثم على طريق الصحابة والتابعين ،ولم يذكر من بعدهم ،وكذلك وصفه لخذ العلم أن يكتب ما جاء عن
النبي صلى ال عليه وسلم ،ثم عن الصحابة ،ثم عن التابعين .ـ وفي رواية أخرى ـ ثم أنت في التابعين مخير.
وله كلم في الكلم الكلمي .والرأي الفقهي وفي الكتب الصوفية ،والسماع الصوفي ليس هذا موضعه .يحتاج
تحريره إلى تفصيل ،وتبيين كيفية استعماله في حال دون حال.
فإنه ينبني على الصل ،الذي قدمناه من أنه قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة ،أو غير مغفورة ،وقد يتعذر أو
يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة ،إل بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علًما
ل .فإذا لم يحصل النور الصافي ،بأن لم يوجد إل النور الذي ليس بصاف .وإل بقى النسان في الظلمة ،فلوعم ً
ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة .إل إذا حصل نور ل ظلمة فيه ،وإل فكم ممن عدل عن ذلك يخرج
عن النور بالكلية ،إذا خرج غيره عن ذلك؛ لما رآه في طرق الناس من الظلمة.
/وإنما قررت هذه القاعدة؛ ليحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه ،ويعرف أن العدول عن كمال خلفة النبوة
ل ،وكل ل ،وتارة بعدوان بفعل السيئات علًما وعم ً
عا ،تارة يكون لتقصير بترك الحسنات علًما وعم ً
المأمور به شر ً
من المرين قد يكون عن غلبة ،وقد يكون مع قدرة .
والثاني :قد يكون مع حاجة وضرورة ،وقد يكون مع غنى وسعة ،وكل واحد من العاجز عن كمال الحسنات،
ل
سا ِإ ّ
ل َنْف ً
ف ا ُّطْعُتْم{ ]التغابن ،[16 :وقال} :لَ ُيَكّل ُ سَت َ ل يقولَ} :فاّتُقوا ا َّ
ل َما ا ْ والمضطر إلى بعض السيئات معذور ،فإن ا ّ
حا ُ
ب صَك َأ ْ سَعَها ُأْوَلِئ َ
ل ُو ْ
سا ِإ ّ
ف َنْف ً
ل ُنَكّل ُ
ت َ حا ِ صاِل َ
عِمُلوا ال ّ سَعَها{ ]البقرة [286 :ـ في البقرة والطلق ـ وقالَ} :واّلِذي َ
ن آَمُنوا َو َ ُو ْ
اْلَجّنِة ُهْم ِفيَها َخاِلُدوَن{ ]العراف ،[42 :وقال النبي صلى ال عليه وسلم) :إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم(،
ل ِلَيْجَعَل َعَلْيُكْم ِمْن َحَرٍج{ ]المائدة،[6 : ج{ ]الحج ،[78 :وقالَ} :ما ُيِريُد ا ُّ حَر ٍ
ن َ
ن ِم ْ
عَلْيُكْم ِفي الّدي ِ ل َ جَع َوقال سبحانهَ} :وَما َ
ل ِإْثَم َعَلْيِه{ ]البقرة: عاٍد َف َ
ل َ غ َو َ
غْيَر َبا ٍ
طّر َ ضُ نا ْ سَر{ ]البقرة ،[185 :وقال} :فََم ْ ل ُيِريُد ِبُكْم اْلُع ْ
سَر َو َ وقالُ} :يِريُد ا ُّ
ل ِبُكْم اْلُي ْ
طْأُتْم ِبِه{ ]الحزاب.[5 : خَ ح ِفيَما َأ ْجَنا ٌعَلْيُكْم ُ
س َ ،[173وقالَ} :وَلْي َ
ل ،سواء كانت واجبة أو مستحبة ،وتعرف السيئة في
/وهذا أصل عظيم وهو :أن تعرف الحسنة في نفسها علًما وعم ً
ل ،محظورة كانت ،أو غير محظورة ـ إن سميت غير المحظورة سيئة ـ وإن الدين تحصيل ل وعم ً
نفسها علًما وقو ً
الحسنات والمصالح ،وتعطيل السيئات والمفاسد.
وإنه كثيًرا ما يجتمع في الفعل الواحد ،أو في الشخص الواحد المران ،فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه
أحدهما ،فل يغفل عما فيه من النوع الخر ،كما يتوجه المدح والمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما ،فل يغفل عما
فيه من النوع الخر ،وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية ،لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به
غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية.
ل له الكتاب والميزان.
فهذا طريق الموازنة والمعادلة ،ومن سلكه كان قائًما بالقسط الذي أنزل ا ّ
صــل
َف ْ
ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق الرأي والكلم والتصوف ،وغير ذلك :كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب /
والسنة والثار؛ إذ العهد قريب ،وأنوار الثار النبوية بعد فيها ظهور ،ولها برهان عظيم ،وإن كان عند بعض الناس
قد اختلط نورها بظلمة غيرها.
فأما المتأخرون ،فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون ،مثل من صنف في الكلم من المتأخرين ،فلم يذكر إل
ل ،أو خرج به المر إلى نوعالصول المبتدعة وأعرض عن الكتاب والسنة ،وجعلهما إما فرعين ،أو آمن بهما مجم ً
من الزندقة ،ومتقدمو المتكلمين خيرمن متأخريهم.
وكذلك من صنف في الرأي فلم يذكر إل رأي متبوعه وأصحابه ،وأعرض عن الكتاب والسنة ،ووزن ماجاء به
الكتاب والسنة علـى رأي متبوعـه ،ككثير من أتبـاع أبي حنيفة ،ومالك ،والشافعي ،وأحمد ،وغيرهم.
وكذلك من صنف في التصوف والزهد ،جعل الصل ما روى عن متأخري الزهاد وأعرض عن طريق الصحابة
والتابعين ،كما فعل صاحب الرسالة أبوالقاسم القشيري ،وأبو بكر محمد بن إسحاق الكلباذي ،وابن خميس الموصلي
في ]مناقب البرار[ ،وأبو عبد الرحمن السلمي في ]تاريخ الصوفية[ ،لكن أبوعبد الرحمن صنف أيضا ]سير السلف[
من الولياء والصالحين .وسير الصالحين من السلف ،كما صنف في سير الصالحين من الخلف ونحوهم ،من ذكرهم
لخبار أهل /الزهد والحوال ،من بعد القرون الثلثة ،من عند إبراهيم بن أدهم ،والفضيل بن عياض ،وأبي سليمان
الداراني ،ومعروف الكرخي ،ومن بعدهم ،وإعراضهم عن حال الصحابة ،والتابعين الذين نطق الكتاب والسنة
بمدحهم ،والثناء عليهم ،والرضوان عنهم.
وكان أحسن من هذا أن يفعلوا ،كما فعله أبو نعيم الصبهاني في ]الحلية[ من ذكره للمتقدمين والمتأخرين .وكذلك أبو
الفرج بن الجوزي في ]صفوة الصفوة[ وكذلك أبو القاسم التيمي في ]سير السلف[ ،...وكذلك ابن أسد بن موسى ،إن
ل بن المبارك ،وأحمد بن حنبل ،وهناد بن السرى وغيرهم في كتبهم في الزهد ،فهذا هذا. لم يصعدوا إلى طريقة عبد ا ّ
ل أعلم وأحكم.
وا ّ
فإن معرفة أصول الشياء ومبادئها .ومعرفة الدين وأصله ،وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفًعا .إذ المرء ما لم
يحط علًما بحقائق الشياء التي يحتاج إليها ،يبقى في قلبه حسكة.
وكان للزهاد ،عدة أسماء :يسمون بالشام الجوعية ،ويسمون بالبصرة الفقرية ،والفكرية ،ويسمون بخراسان المغاربة،
ضا الصوفية والفقراء.
ويسمون أي ً
والنسبة في الصوفية ،إلى الصوف؛ لنه غالب لباس الزهاد ،وقد قيل هو نسبة إلى صوفة بن مراد بن أد بن /
طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون حول البيت .وأما من قال :هم نسبة إلى الصفة ،فقد قيل :كان حقه أن يقال:
صفية ،وكذلك من قال :نسبة إلى الصفا ،قيل له :كان حقه أن يقال :صفائية ،ولو كان مقصوًرا لقيل صفوية ،وإن
ل .قيل له :كان حقه أن يقال :صفية ،ول
نسب إلى الصفوة قيل :صفوية .ومن قال :نسبة إلى الصف المقدم بين يدي ا ّ
ريب أن هذا يوجب النسبة والضافة ،إذا أعطى السم حقه من جهة العربية.
لكن التحقيق ،أن هذه النسب إنما أطلقت على طريق الشتقاق الكبر والوسط ،دون الشتقاق الصغر ،كما قال أبو
جعفر :العامة اسم مشتق من العمى،فراعوا الشتراك في الحروف دون الترتيب ،وهو الشتقاق الوسط ،أو
الشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الكبر.
وكذلك إذا قيل الصوفي من الصفا ،وأما إذا قيل هو من الصفة أو الصف ،فهو على الكبر.
وقد تكلم بهذا السم قوم من الئمة ،كأحمد بن حنبل ،وغيره / ،وقد تكلم به أبو سليمان الداراني وغيره ،وأما الشافعي
فالمنقول عنه ذم الصوفية ،وكذلك مالك ـ فيما أظن ـ وقد خاطب به أحمد لبي حمزة الخراساني ،وليوسف بن
ضا من أصحاب الحسين الرازي ،ولبدر ابن أبي بدر المغازلي ،وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم ،ومن العباد أي ً
أحمد ،ومالك ،والشافعي ،وأبي حنيفة ،وأهل الحديث ،والعباد ،ومدحه آخرون.
والتحقيق فيه أنه مشتمل على الممدوح والمذموم ،كغيره من الطريق ،وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا ،وقد ل
يكون ،وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة ،والقاعدة التي
ل وصفوته ،وخيار عباده ما ل يحصى عده .كما في أهل قدمتها تجمع ذلك كله ،وفي المتسمين بذلك من أولياء ا ّ
ل ـ سبحانه ـ أعلم.
ل .وا ّ
الرأي من أهل العلم واليمان من ل يحصى عدده إل ا ّ
وبهذا يتبين لك أن البدعة في الدين ،وإن كانت في الصل مذمومة ،كما دل عليه الكتاب والسنة ،سواء في ذلك البدع
القولية والفعلية .وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي صلى ال عليه وسلم) :كل بدعة
ضللة( متعين ،وإنه يجب العمل بعمومه ،وإن من أخذ يصنف ]البدع[ إلى حسن وقبيح ،ويجعل ذلك /ذريعة إلى أل
يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ ،كما يفعل طائفة من المتفقهة ،والمتكلمة والمتصوفة ،والمتعبدة ،إذا نهوا عن
العبادات المبتدعة والكلم في التدين المبتدع ادعوا أل بدعة مكروهة إل ما نهى عنه ،فيعود الحديث إلى أن يقال :كل
ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضللة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان ،بل كل ما لم
يشرع من الدين فهو ضللة.
وما سمي بدعة ،وثبت حسنه بأدلة الشرع ،فأحد المرين ،فيه لزم:
إما أن يقال :ليس ببدعة في الدين ،وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة .كما قال عمر :نعمت البدعة هذه.
وإما أن يقال :هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح ،كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر
عمومات الكتاب والسنة وهذا قد قررته في اقتضاء الصراط المستقيم ،وفي قاعدة السنة والبدعة ،وغيره.
وإنما المقصود هنا ،أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة ،أو المخالف للكتاب
والسنة إذا صدر عن شخص من الشخاص ،فقد يكون على وجه يعذر فيه ،إما /لجتهاد أو تقليد يعذر فيه ،وإما لعدم
ضا في أصل التكفير والتفسيق المبني على أصل الوعيد. قدرته كما قد قررته في غير هذا الموضع ،وقررته أي ً
فإن نصوص الوعيد ،التي في الكتاب والسنة ،ونصوص الئمة بالتكفير ،والتفسيق ونحو ذلك ل يستلزم ثبوت
موجبها في حق المعين ،إل إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ،ل فرق في ذلك بين الصول ،والفروع .هذا في
ل ولعنته وغضبه في الدار الخرة ،خالد في النار ،أو غير خالد،عذاب الخرة ،فإن المستحق للوعيد من عذاب ا ّ
وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق ،يدخل في هذه القاعدة ،سواء كان بسبب بدعة اعتقادية ،أو عبادية ،أو بسبب
فجور في الدنيا ،وهو الفسق بالعمال.
ضا ،فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوًقا بدعوتهم ،إذ ل عذاب إل على من بلغته
فأما أحكام الدنيا ،فكذلك أي ً
الرسالة ،وكذلك عقوبة الفساق ل تثبت إل بعد قيام الحجة.
عـدٌة شريَفـة ينبغي التفطن لها وهى:
َ/وُهنـا َقا ِ
أن ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه ،فعقوبتنا له في الدنيا أكبر ،وأما ما عاد من الذنوب بمضرة
النسان في نفسه ،فقد تكون عقوبته في الخرة أشد ،وإن كنا نحن ل نعاقبه في الدنيا.
وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس ،فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا ل محالة لكف ظلم الناس
بعضهم عن بعض ،ثم هو نوعان:
/ولهذا يعاقب الداعية إلى البدع ،بما ل يعاقب به الساكت ،ويعاقب من أظهر المنكر بما ل يعاقب به من استخفى به،
ونمسك عن عقوبة المنافق في الدين ،وإن كان في الدرك السفل من النار.
ل ـ تعالى ـ فإنه الذي يجزي الناس على أعمالهم في الخرة ،وقد وهذا لن الصل ،أن تكون العقوبة من فعل ا ّ
ضا في الدنيا .وأما نحن ،فعقوبتنا للعباد بقدر ما يحصل به أداء الواجبات ،وترك المحرمات بحسب إمكاننا، يجزيهم أي ً
ل ،فإذا فعلوا ل ،وأن محمًدا رسول ا ّ كما قال صلى ال عليه وسلم) :أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل ا ّ
ن الّدي ُ
ن ن ِفْتَنٌة َوَيُكو َ
ل َتُكو َ ل( وقال تعالىَ} :وَقاِتُلوُهْم َ
حّتى َ ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها وحسابهم على ا ّ
ل{ ]النفال ،[39 :وقالَ} :واْلِفْتَنُة َأْكَبُر ِمْن اْلَقْتِل{ ]البقرة. [217 :
ُكّلُه ِّ
ويبنى على هذه القاعدة :أنه قد يقر من الكفار والمنافقين ،بل عقوبة من يكون عذابه في الخرة أشد ،إذا لم يتعد
ضرره إلى غيره ،كالذين يؤتون الجزية عن يد وهم صاغرون ،والذين أظهروا السلم والتزموا شرائعه ظاهًرا مع
نفاقهم؛ لن هذين الصنفين كفوا ضررهم في الدين والدنيا عن المسلمين ،ويعاقبون في الخرة على ما اكتسبوا من
الكفر والنفاق ،وأما من أظهر ما فيه مضرة فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه وإن كان مسلًما فاسًقا ،أو عاصًيا ،أو عد ً
ل
حا أو عالًما سواء في ذلك المقدور عليه والممتنع.
مجتهًدا مخطًئا ،بل صال ً
مثال المقدور عليه إنما يعاقب من أظهر الزنا ،والسرقة ،وشرب الخمر ،وشهادة الزور ،وقطع الطريق ،وغير ذلك
لما فيه من العدوان على النفوس والموال والبضاع ،وإن كان مع هذا حال الفاسق في الخرة خيًرا من حال أهل
العهد الكفار ،ومن حال المنافقين ،إذ الفاسق خير من الكافر والمنافق بالكتاب والسنة والجماع.
وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم ،وإن كان قد يكون معذوًرا فيها في نفس المر لجتهاد أو
تقليد.
وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه ،وإن كانوا قوًما صالحين ،فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على
ترك واجب ،أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا ،وإن كانوا معذورين فيه؛ لدفع ضرر فعلهم في الدنيا ،كما يقام الحد
حا ،وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس ،فبينما هم على من تاب بعد رفعه إلى المام وإن كان قد تاب توبة نصو ً
ببيداء من الرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر
لما كان فيهم العباس وغيره ،وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إل بقتالهم ،فالعقوبات المشروعة
والمقدورة قد تتناول في الدنيا من ل يستحقها في الخرة ،وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم:
القاتل مجاهد والمقتول شهيد.
وعلى هذا ،فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع /يهجر ،فل يستشهد ول يروي عنه ،ول يستفتى ول
يصلي خلفه ،قد يكون من هذا الباب ،فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة
أو غيرها ،وإن كان في نفس المر تائًبا أو معذوًرا ،إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين :إما ترك الذنوب المهجورة
وأصحابها ،وإما عقوبة فاعلها ونكاله ،فأما هجره بترك ...في غير هذا الموضع.
ومن هذا الباب :هجر المام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد ،ولمن تاب بعد الجابة ،ولمن فعل بدعة ما،مع أن
فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة ،فإن هجره لهم والمسلمين معه ل يمنع معرفة قدر فضلهم،كما أن
الثلثة الذين خلفوا لما أمر النبي صلى ال عليه وسلم المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق.حتى قد
ل لهل بدر) :اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم( وأحدهم كعب بن مالك شاعر قيل أن اثنين منهما شهدا بدًرا،وقد قال ا ّ
النبي صلى ال عليه وسلم وأحد أهل العقبة ،فهذا أصل عظيم أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل ل
حا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة ،وبين
ل صال ً ل ،أو رج ًيمنع أن يكون المعاقب عد ً
ل سبحانه أعلم.عقوبة الخرة،وا ّ
صــل
َف ْ /
ومما يناسب هذا الباب قولهم :فلن يسلم إليه حاله ،أو ل يسلم إليه حاله ،فإن هذا كثيًرا ما يقع فيه النزاع فيما قد
يصدر عن بعض المشائخ ،والفقراء ،والصوفية ،من أمور يقال :إنها تخالف الشريعة ،فمن يرى أنها منكرة وإن
إنكار المنكر من الدين ،ينكر تلك المور ،وينكر على ذلك الرجل وعلى من أحسن به الظن ويبغضه ويذمه ويعاقبه،
ومن رأي ما في ذلك الرجل من صلح وعبادة ،كزهد وأحوال ،وورع ،وعلم ل ينكرها بل يراها سائغة أو حسنة أو
يعرض عن ذلك.
وقد يغلو كل واحد من هذين ،حتى يخرج بالول ،إنكاره إلى التكفير والتفسيق في مواطن الجتهاد ،متبًعا لظاهر من
أدلة الشريعة ،ويخرج بالثاني إقراره إلى القرار بما يخالف دين السلم مما يعلم بالضطرار أن الرسول جاء
عا في زعمه لما يشبه قصة موسى والخضر ،والول يكثر في الموسوية ومن انحرف منهم إلي يهودية بخلفه ،اتبا ً
والثاني يكثر في العيسوية ومن انحرف منهم إلى نصرانية.
يٍء َرْحَمًة َوِعْلًما{ ]غافر ،[7 :وقال ش ْ ل َ ت ُك ّ فأما المة الوسط :فلهم العلم والرحمة ،كما أخبر عن نفسه بقولهَ} :رّبَنا َو ِ
سْع َ
يٍء ِعْلًما{ ]طه:
ش ْ
ل َ
سَع ُك ّ
ل ُهَو َو ِ
ل ِإَلَه ِإ ّ
ل اّلِذي َيٍء{ ]العراف ،[156 :وقالِ} :إّنَما ِإَلُهكُْم ا ُّش ْ
ل َ
ت ُك ّ
سَع ْ تعالىَ} :وَر ْ
حَمِتي َو ِ
،[98وكذلك وصف العبد الذي لقيه موسى حيث قال} :آَتْيَناُه َرْحَمًة ِمْن ِعْنِدَنا َوَعّلْمَناهُ ِمْن َلُدّنا ِعْلًما{ ]الكهف.[65 :
والثاني :تصويبه علي ما فعل بحيث يكون محموًدا مأجوًرا .فالول عدم الذم والعقاب .والثاني :وجود الحمد والثواب.
الول :عدم سخط ال وعقابه ،والثاني :وجود رضاه وثوابه؛ ولهذا /تجد المنكرين غالًبا في إثبات السخط والذم
والعقاب ،والمقرين في إثبات الرضا والحمد والثواب ،وكلهما قد يكون مخطًئا ويكون الصواب في أمر ثالث وسط،
وهو أنه ل حمد ول ذم ول ثواب ول عقاب.
ل ،إذا علم أنه مخالف للكتاب والسنة ،بحيث يكون قو ً
ل وبيان ذلك :أن ذلك المر الصادر عنه سواء كان قولً أو فع ً
ل محرًما فإنه يعذر في موضعين:
ل ،أو عم ً
باط ً
مثال الول :أن يكون صاحب الحال مولها مجنوًنا ،قد سقط عنه القلم ،فهذا إذا قيل فيه :يسلم له حاله ،بمعنى أنه ل
يذم ول يعاقب ،ل بمعنى تصويبه فيه ،كما يقال في سائر المجانين فهو صحيح.
وكذلك إذا كان ذلك الحال صادًرا عنه باجتهاد ،كمسائل الجتهاد المتنازع فيها بين أهل العلم والدين .فإن هذا إذا قيل:
يسلم إليه حاله ،كما يقال :يقر على اجتهاده ،بمعنى أنه ل يذم ول يعاقب فهو صحيح.
/وأما إذا قيل ذلك بمعنى أنه صواب ،أو صحيح ،فلبد من دليل على تصويبه ،وإل فمجرد القول ،أو الفعل الصادر
من غير الرسول ،ليس حجة على تصويب القائل أو الفاعل ،فإذا علم أن ذلك الجتهاد خطأ كان تسليم حاله بمعني
رفع الذم عنه ،ل بمعنى إصابته وكذلك إذا أريد بتسليم حاله وإقراره ،أنه يقر على حكمه ،فل ينقض ،أو على فتياه،
فل تنكر أو على جواز اتباعه لمن هو من أهل تقليده واتباعه ،بأن للقاصرين أن يقلدوا ويتبعوا من يسوغ تقليده،
واتباعه من العلماء والمشايخ ،فيما لم يظهر لهم أنه خطأ ،لكن بعض هذا يدخل في القسم الثاني ،الذي لم يعلم مخالفته
للشريعة.
وتسليم الحال في مثل هذا إذا عرف أنه معذور ،أو عرف أنه صادق في طريقه ،وإن هذا المر قد يكون اجتهاًدا منه،
فهذه ثلثة مواضع يسلم إليه فيها حاله؛ لعدم تمكنه من العلم ،وخفاء الحق عليه فيها على وجه يعذر به.
حا
ومثال الثاني :عدم قدرته ـ أن يرد عليه من الحوال ما يضطره إلى أن يخرق ثيابه ،أو يلطم وجهه ،أو يصيح صيا ً
منكًرا ،أو يضطرب اضطراًبا شديًدا .فهذا إذا عرف أن سبب ذلك لم يكن محرًما ،وأنه مغلوب عليه سلم إليه حاله،
وإن شك هل هو مغلوب ،أو متصنع ،فإن عرف منه الصدق ،قيل :هذا يسلم إليه حاله / ،وإن عرف كذبه أنكر عليه،
وإن شك فيه توقف في التسليم والنكار ،حتى يتبين أمره ،كما يفعل بمن شهد شهادة ،أو اتهم بسرقة .فإن ظهر صدقه
وعدله قبلت الشهادة ودفعت إليهم ،وإن ظهر كذبه وخيانته ردت الشهادة ،وعوقب على السرقة ،وإن اشتبه المر
توقف فيه؛ فإن المؤمن وقاف متبين ،هكذا قال الحسن البصري.
وكذلك إذا ترك الواجبات مظهًرا أنه مغلوب ل يقدر على فعلها ،مثل أن يترك الصلة مظهًرا أنه بمنزلة المغمى
عليه ،والنائم الذي ل يتمكن من فعلها .كما قد يعترى بعض المصعوقين من وارد خوف ال ،أو محبته ،أو نحو ذلك
بحيث يسقط تمييزه ،فل يمكنه الصلة ،فهو فيما يتركه من الواجبات نظير ما يرتكبه من المحرمات ،فتسليم الحال
بمعني عدم اللوم قد يراد به الحكم بأنه معذور ،وقد يراد به ترك الحكم بأنه ملوم.
هذا فيما يعلم من القوال والفعال أنه مخالف للشرع بل ريب ،كالشطحات المأثورة عن بعض المشائخ ،كقول ابن
هود :إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم ،وكون الشبلي كان يحلق لحيته ويمزق ثيابه حتي أدخلوه
المارستان مرتين ،وما يحكى عن بعضهم أنه قال :إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث به ،وكترك آخر
عا لسلطان وقته وسماه العادل،وترك آخر الصلة خلف إمام؛ لما كوشف به صلة الجمعة خلف إمام صالح ،لكونه د ً
ل وأحوال فسلب عقولهم وترك من حديث نفسه ،وما يحكي عن عقلء /المجانين الذين قيل فيهم :إن ال أعطاهم عقو ً
أحوالهم ،وأسقط ما فرض بما سلب.
فجماع هذا :أن هذه المور تعطى حقها من الكتاب والسنة .فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر ،والمر والنهي وجب
اتباعه ،ولم يلتفت إلى من خالفه كائًنا من كان ،ولم يجز اتباع أحد في خلف ذلك كائًنا من كان ،كما دل عليه الكتاب
والسنة وإجماع المة من اتباع الرسول وطاعته ،وإن الرجل الذي صدر عنه ذلك يعطي عذره حيث عذرته الشريعة
بأن يكون مسلوب العقل ،أو ساقط التمييز أو مجتهًدا مخطًئا اجتهاًدا قولًيا أو عملًيا ،أو مغلوًبا على ذلك الفعل أو
الترك بحيث ل يمكنه رد ما صدر عنه من الفعل المنكر بل ذنب فعله ،ول يمكنه أداء ذلك الواجب بل ذنب فعله،
جا ،بل ل سبيلظا بحيث ل يتبع ما خالف الكتاب والسنة ول يجعل ذلك شرعة ول منها ً ويكون هذا الباب نوعه محفو ً
إلى ال ول شرعة إل ما جاء به محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وأما الشخاص الذين خالفوا بعض ذلك على الوجوه المتقدمة فيعذرون ،ول يذمون ،ول يعاقبون .فإن كل أحد من
الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إل رسول ال صلى ال عليه وسلم .وما من الئمة إل من له أقوال ،وأفعال ل
يتبع عليها ،مع أنه ل يذم عليها ،وأما القوال والفعال التي لم يعلم قطًعا مخالفتها للكتاب والسنة ،بل /هي من موارد
الجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم واليمان؛ فهذه المور قد تكون قطعية عند بعض من بين ال له الحق فيها؛ لكنه ل
يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم ،فيلتحق من وجه بالقسم الول .ومن وجه بالقسم الثاني.
ضا ،فهذه تسلم لكل مجتهد ،ومن قلده طريقهم تسليًما نوعيا ،بحيث ل ينكر ذلك عليهم ،كما
وقد تكون اجتهادية عنده أي ً
سلم في القسم الول تسليًما شخصًيا.
وأما الذي ل يسلم إليه حاله :فمثل أن يعرف منه أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم ،ككثير من المنتسبة إلى الشيخ أحمد
بن الرفاعي ،واليونسية فيما يأتونه من المحرمات ،ويتركونه من الواجبات ،أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في
وجده ليظن به خيًرا ،ويرفع عنه الملم فيما يقع من المور المنكرة ،أو يعرف منه أن الحق قد تبين له ،وأنه متبع
لهواه ،أو يعرف منه تجويز النحراف عن موجب الشريعة المحمدية ،وأنه قد يتفوه بما يخالفها ،وأن من الرجال من
قد يستغنى عن الرسول أو له أن يخالفه ،أو أن يجري مع القدر المحض المخالف للدين ،كما يحكى بعض الكذابين
الضالين :أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى ال عليه وسلم مع الكفار لما انهزم أصحابه وقالوا :نحن مع ال ،من غلب
كنا معه ،وأنه صبيحة السراء سمع منه ما جرى بينه وبين ربه من المناجاة /وأنه تواجد في السماء ،حتى وقع
الرداء عنه ،وأن السر الذي أوصى إليه أودعه في أرض نبت فيها اليراع فصار في الشبابة بمعنى ذلك السر ،أو
يسوغ لحد بعد محمد الخروج عن شريعته ،كما ساغ للخضر الخروج عن أمر موسى ،فإنه لم يكن مبعوًثا إليه كما
بعـث محمـد إلى الناس كافة .فهؤلء ونحوهم ممن يخالف الشريعة ،ويبين له الحق فيعرض عنه ،يجب النكار عليهم
بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب.
ضا ـ ينكر علي من اتبع الولين المعذورين في أقوالهم ،وأفعالهم المخالفة للشرع ،فإن العذر الذي قام بهم
وكذلك ـ أي ً
منتف في حقه فل وجه لمتابعته فيه.
ومن اشتبه أمره من أي القسمين هو :توقف فيه ،فإن المام إن يخطئ في العفو ،خير من أن يخطئ في العقوبة ،لكن
ل ليس عليه أمرنا فهو ل يتوقف في رد ما خالف الكتاب والسنة ،فإن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :من عمل عم ً
رد( .فل يسوغ الخروج عن موجب العموم والطلق في الكتاب والسنة بالشبهات ،ول يسوغ الذم والعقوبة
ل أو صواًبا ،أو خطأ بالشبهات ،وال يهدينا الصراط المستقيم :صراط
بالشبهات ،ول يسوغ جعل الشىء حًقا ،أو باط ً
الذين أنعم عليهم ،من النبيين والصديقين ،والشهداء ،والصالحين ،غير المغضوب عليهم ول الضالين.
/وبقيت هنا المسألة التي تشتبه غالًبا ،وهو أن يظهر من بعض الرجال المجهول الحال ،أمر مخالف للشرع في
الظاهر ،ويجوز أن يكون معذوًرا فيه عذًرا شرعًيا .مثل وجد خرج فيه عن الشرع ،ل يدري أهو صادق فيه أم
متصنع ،وأخذ مال بغير إذن صاحبه في الظاهر ،مع تجويز أن يكون علم طيب قلب صاحبه به ،فهذا إن قيل :ينكر
عليه جاز أن يكون معذوًرا ،وإن قيل :ل ينكر عليه لزم إقرار المجهولين على مخالفة الشرع في الظاهر ،فالواجب
في مثل هذا أن يخاطب صاحبه أول برفق ،ويقال له :هذا في الظاهر منكر ،وأما في الباطن ،فأنت أمين ال على
نفسك ،فأخبرنا بحالك فيه أول تظهره حيث يكون إظهاره فتنة ،وتسلك في ذلك طريقة ل تفضي إلى إقرار المنكرات،
ول لوم البرآء.
والضابط أن من عرف من عادته الصدق ،والمانة أقر على ما لم يعلم أنه كذب وحرام ،ومن عرف منه الكذب أو
الخيانة ،لم يقر على المجهول ،وأما المجهول فيتوقف فيه.
/وقال الشيخ المام العالم العلمة شيخ السلم ،بقية السلف الكرام ،العالم الرباني ،المقذوف في قلبه النور القرآني،
أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني ـ قدس ال روحه ،ونور ضريحه ،وأسكنه فسيح الجنان :
الحمد ل ،نحمده ونستعينه ،ونستغفره ،ونستهديه ،ونعوذ بال من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،من يهده ال فل
مضل له ،ومن يضلل فل هادي له.
ونشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له ،ونشهد أن محمًدا عبده و رسوله ،أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدين كله و كفى بال شهيًدا ،فبلغ الرسالة ،وأدى المانة ،ونصح المة ،وكشف الغمة ،وجاهد في ال حق جهاده،
صا حتى أتاه اليقين من ربه ،صلى ال عليه وسلم تسليًما كثيًرا إلى يوم الدين.
وعبد ال مخل ً
فصـــل
فإن هذا باب كثر فيه الضطراب ،كما كثر في باب الحلل والحرام ،فإن أقواًما استحلوا بعض ما حرمه ال ،وأقواًما
حرموا بعض ما أحل ال ـ تعالى ـ وكذلك أقواًما أحدثوا عبادات لم يشرعها ال ،بل نهى عنها.
وأصل الدين :أن الحلل ما أحله ال ورسوله ،والحرام ما حرمه ال ورسوله ،والدين ما شرعه ال ورسوله ،ليس
سَتِقيًما َفاّتِبُعوُه َو َ
ل طي ُم ْ
صَرا ِ لحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث ال به رسوله .قال ال تعالى َ} :وَأ ّ
ن َهَذا ِ
صاُكْم ِبِه َلَعّلُكْم َتّتُقوَن{ ]النعام .[153 :
سِبيِلِه َذِلُكْم َو ّ
ن َ
عْق ِبُكْم َ
ل َفَتَفّر َ
سُب َ
َتّتِبُعوا ال ّ
طا عنطا ،وخط خطو ً وفي حديث عبد ال بن مسعود ـ رضي ال عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه خط خ ً
طي
صَرا ِ يمينه وشماله ،ثم قال) :هذه سبيل ال ،وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو /إليه( ،ثم قرأَ} :وَأ ّ
ن َهَذا ِ
ق ِبُكْم َعْن َسِبيِلِه{.
ل َفَتَفّر َ
سُب َ
ل َتّتِبُعوا ال ّ
سَتِقيًما َفاّتِبُعوُه َو َ
ُم ْ
وقد ذكر ال تعالي في سورة النعام ،والعراف ،وغيرهما ما ذم به المشركين حيث حرموا ما لم يحرمه ال ـ تعالى ـ
كالبحيرة ،والسائبة ؛ واستحلوا ما حرمه ال كقتل أولدهم ،وشرعوا دينا لم يأذن به ال ،فقال تعالىَ} :أْم َلُهْم ُ
شَرَكاُء
ل{ ]الشورى ،[21 :ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات ،كالشرك والفواحش، ن ِبِه ا ُّ
ن َما َلْم َيْأَذ ْ
ن الّدي ِ
عوا َلُهْم ِم ْ
شَر ُ
َ
مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك.
العبادات التي يتقرب بها إلى ال ـ تعالى ـ منها ما كان محبوًبا ل ورسوله مرضًيا ل ورسوله ،إما واجب وإما
مستحب ،كما في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال فيما يروى عن ربه ـ تبارك وتعالى) :ما تقرب إل ّ
ي
ي بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع
عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ،ول يزال عبدي يتقرب إل ّ
به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها / ،فبي يسمع وبي يبصر ،وبي يبطش ،وبي
يمشي ،ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه ،و ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي
المؤمن ،يكره الموت وأكره مساءته ،ولبد له منه(.
ومعلوم أن الصلة منها فرض ،وهي الصلوات الخمس ،ومنها نافلة ،كقيام الليل ،وكذلك الصيام فيه فرض ،وهو
صوم شهر رمضان ،ومنه نافلة كصيام ثلثة أيام من كل شهر ،وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض وإلى
المسجدين الخرين ـ مسجد النبي صلى ال عليه وسلم وبيت المقدس ـ مستحب.
ل اْلَعْفَو{
ن ُق ْ
ك َماَذا ُينِفُقو َ وكذلك الصدقة ،منها ما هو فرض ،ومنها ما هو مستحب ،وهو العفو ،كما قال تعالىَ} :وَي ْ
سَأُلوَن َ
]البقرة.[219 :
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :يابن آدم ،إنك إن تنفق الفضل خير لك ،وإن تمسكه
شر لك ،ول تلم على كفاف ،واليد العليا خير من اليد السفلى ،وابدأ بمن تعول( ،والفرق بين الواجب ،والمستحب له
موضع آخر غير هذا ،والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروع ،سواء كان واجًبا ،أو مستحًبا ،وما ليس بمشروع.
فالمشروع هو الذي يتقرب به إلى ال ـ تعالى ـ وهو سبيل ال / ،وهو البر والطاعة والحسنات ،والخير ،والمعروف،
وهو طريق السالكين ،ومنهاج القاصدين ،والعابدين ،وهو الذي يسلكه كل من أراد ال هدايته ،وسلك طريق الزهد
والعبادة ،وما يسمى بالفقر والتصوف ،ونحو ذلك.
ول ريب أن هذا يدخل فيه الصلوات المشروعة ،واجبها ،ومستحبها ،ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع ،وقراءة
القرآن على الوجه المشروع ،والذكار والدعوات الشرعية ،وما كان من ذلك موقًتا بوقت كطرفي النهار ،وما كان
متعلًقا بسبب ،كتحية المسجد ،وسجود التلوة ،وصلة الكسوف ،وصلة الستخارة ،وما ورد من الذكار ،والدعية
الشرعية في ذلك .وهذا يدخل فيه أمور كثيرة ،وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه ،وكذلك يدخل فيه الصيام
الشرعي ،كصيام نصف الدهر ،وثلثه أو ثلثيه ،أو عشره ،وهو صيام ثلثة أيام من كل شهر ،ويدخل فيه السفر
الشرعي ،كالسفر إلى مكة وإلى المسجدين الخرين ،ويدخل فيه الجهاد على اختلف أنواعه ،وأكثر الحاديث النبوية
في الصلة والجهاد ،ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع.
والعبادات الدينية أصولها :الصلة والصيام والقراءة التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد ال بن
عمرو بن العاص ،لما أتاه النبي صلى ال عليه وسلم ،وقال) :ألم أحدث أنك قلت :لصومن /النهار ،ولقومن الليل،
ت له النفس( ،ثم أمره
ت له العين ،وَنِفَه ْ
جَم ْ
ولقرأن القرآن في ثلث؟( قال :بلى! قال) :فل تفعل فإنك إذا فعلت ذلك َه َ
بصيام ثلثة أيام من كل شهر ،فقال :إني أطيق أكثر من ذلك ،فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم ،فقال :إني أطيق
أكثر من ذلك ،فقال) :ل أفضل من ذلك( ،وقال) :أفضل الصيام صيام داود ـ عليه السلم ـ كان يصوم يوًما ويفطر
يوًما ،ول يفر إذا لقى ،وأفضل القيام قيام داود ،كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ،وأمره أن يقرأ القرآن
في سبع(.
ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة ،قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين) :يحقر أحدكم صلته مع
صلتهم ،وصيامه مع صيامهم ،وقراءته مع قراءتهم ،يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم ،يمرقون من الدين كما
يمرق السهم من الّرِمّية( فذكر اجتهادهم بالصلة والصيام والقراءة ،وأنهم يغلون في ذلك ،حتى تحقر الصحابة
عبادتهم في جنب عبادة هؤلء.
وهؤلء غلوا في العبادات بل فقه ،فآل المر بهم إلى البدعة ،فقال) :ىمرقون من السلم كـما يمرق السهم من
الرمية ،أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجًرا عند ال لمن قتلهم يوم القيامة( .فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين،
وكفروا من خالفهم ،وجاءت فيهم الحاديث /الصحيحة ،قال المام أحمد بن حنبل ـ رحمه ال تعالى ـ :صح فيهم
الحديث من عشرة أوجه ،وقد أخرجها مسلم في صحيحه وأخرج البخاري قطعة منها.
ثم هذه الجناس الثلثة مشروعة ،ولكن يبقى الكلم في القدر المشروع منها ،وله صنف كتاب ]القتصاد في العبادة[.
وقال أبي بن كعب ،وغيره :اقتصاد في سنة ،خير من اجتهاد في بدعة.
والكلم في سرد الصوم وصيام الدهر سوى يومي العيدين ،وأيام التشريق ،وقيام جميع الليل ،هل هو مستحب؟ كما
ذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء ،والصوفية والعباد ،أو هو مكروه ـ كما دلت عليه السنة وإن كان جائًزا ؟ لكن صوم
يوم وفطر يوم أفضل ،وقيام ثلث الليل أفضل ،ولبسطه موضع آخر.
إذ المقصود هنا الكلم في أجناس عبادات غير مشروعة ،حدثت في المتأخرين كالخلوات فإنها تشتبه بالعتكاف
الشرعي ،والعتكاف الشرعي في المساجد ،كما كان النبي صلى ال عليه وسلم يفعله هو وأصحابه ،من العبادات
الشرعية.
وأما الخلوات ،فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي ،وهذا خطأ / ،فإن ما فعله صلى ال عليه وسلم قبل
النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة ،فنحن مأمورون باتباعه فيه ،وإل فل .وهو من حين نبأه ال ـ تعالى ـ لم يصعد بعد
ذلك إلى غار حراء ول خلفاؤه الراشدون .وقد أقام ـ صلوات ال عليه ـ بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة ،ودخل
مكة في عمرة القضاء ،وعام الفتح أقام بها قريًبا من عشرين ليلة ،وأتاها في حجة الوداع ،وأقام بها أربع ليال ،وغار
حراء قريب منه ،ولم يقصده.
وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية ،ويقال :إن عبد المطلب هو سن لهم إتيانه؛ لنه لم تكن لهم هذه العبادات
الشرعية التي جاء بها بعد النبوة ـ صلوات ال عليه ـ كالصلة والعتكاف في المساجد ،فهذه تغني عن إتيان حراء
بخلف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي ،فإنه لم يكن يقرأ ،بل قال له الملك ـ عليه السلم ـ :اقرأ .قال ـ صلوات ال
عليه وسلمه ـ) :فقلت :لست بقارئ( ول كانوا يعرفون هذه الصلة! ولهذا لما صلها النبي صلى ال عليه وسلم نهاه
عَلى اْلُهَدى َ .أْو
ن َ
ن َكا َ
ت ِإ ْ
صّلى َ .أَرَأْي َ
عْبًدا ِإَذا َ عنها من نهاه من المشركين ،كأبي جهل ،قال ال تعالىَ} :أَرَأْي َ
ت اّلِذي َيْنَهى َ .
ع َناِدَيه .
طَئةٍ َ .فْلَيْد ُ
خا ِ
صَيٍة َكاِذَبٍة َ
صَيِة َ .نا ِ
سَفَع ِبالّنا ِ
ن َلْم َيْنَتِه َلَن ْ
ل َلِئ ْ
ل َيَرى َ .ك ّ
ن ا َّ
ب َوَتَوّلى َ .أَلْم َيْعَلْم ِبَأ ّ
ن َكّذ َ
ت ِإ ْ
َأَمَر ِبالّتْقَوى َ .أَرَأْي َ
ب{]العلق 9 :ـ .[19 جْد َواْقَتِر ْ
سُ طْعُه َوا ْ
ل ُت ِ
ل َع الّزَباِنَيَة َ .ك ّ
سَنْد ُ
َ
وطائفة يجعلون الخلوة أربعين يوًما ،ويعظمون أمر الربعينية / ،ويحتجون فيها بأن ال ـ تعالى ـ واعد موسى ـ عليه
ضا أربعين ل ـ تعالى ـ
السلم ـ ثلثين ليلة وأتمها بعشر.وقد روى أن موسى ـ عليه السلم ـ صامها وصام المسيح أي ً
وخوطب بعدها .فيقولون يحصل بعدها الخطاب والتنزل ،كما يقولون في غار حراء حصل بعده نزول الوحي.
ضا غلط ،فإن هذه ليست من شريعة محمد صلى ال عليه وسلم بل شرعت لموسى ـ عليه السلم ـ كما شرع وهذا أي ً
له السبت والمسلمون ل يسبتون ،وكما حرم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد صلى ال عليه وسلم .فهذا
تمسك بشرع منسوخ ،و ذاك تمسك بما كان قبل النبوة.
وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين ،وحصل له تنزل شيطاني ،وخطاب شيطاني ،وبعضهم
يطير به شيطانه ،وأعرف من هؤلء عدًدا طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للنبياء من التنزل ،فنزلت عليهم
شِريَعٍة ِم ْ
ن عَلى َ
ك َ الشياطين؛ لنهم خرجوا عن شريعة النبي صلى ال عليه وسلم التي أمروا بها .قال تعالى ُ} :ثّم َ
جَعْلَنا َ
ن{
ي اْلُمّتِقي َ
ل َوِل ّ
ض َوا ُّ
ضُهْم َأْوِلَياُء َبْع ٍ
ن َبْع ُ
ظاِلِمي َ
ن ال ّ
شْيًئا َوِإ ّ
ل َ
ن ا ِّ
ك ِم ْ
عن َ
ن ُيْغُنوا َ
ن ِ .إّنُهْم َل ْ
ل َيْعَلُمو َ
ن َ
ل َتّتِبْع َأْهَواَء اّلِذي َ
لْمِر َفاّتِبْعَها َو َ
ا َْ
]الجاثية.[19 ،18 :
وكثير منهم ل يحد للخلوة مكاًنا ،ول زماًنا ،بل يأمر النسان أن يخلو في الجملة.
/ثم صار أصحاب الخلوات فيهم من يتمسك بجنس العبادات الشرعية ،الصلة والصيام ،والقراءة والذكر.وأكثرهم
يخرجون إلى أجناس غير مشروعة ،فمن ذلك طريقة أبي حامد ومن تبعه ،وهؤلء يأمرون صاحب الخلوة أل يزيد
على الفرض ،ل قراءة ول نظًرا في حديث نبوي ،ول غير ذلك ،بل قد يأمرونه بالذكر ،ثم قد يقولون ما يقوله أبو
حامد :ذكر العامة :ل إله إل ال ،وذكر الخاصة :ال ،ال ،وذكر خاصة الخاصة :هو ،هو.
والذكر بالسم المفرد مظهًرا ،ومضمًرا بدعة في الشرع ،وخطأ في القول واللغة ،فإن السم المجرد ليس هو كلًما ل
إيماًنا ول كفًرا.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :أفضل الكلم بعد القرآن أربع وهن من القرآن :سبحان
ال ،والحمد ل ،ول إله إل ال ،وال أكبر( .وفي حديث آخر) :أفضل الذكر ل إله إل ال( ،وقال) :أفضل ما قلت أنا
والنبيون من قبلي :ل إله إل ال وحده ل شريك له ،له الملك وله الحمد ،وهو على كل شيء قدير( .والحاديث في
فضل هذه الكلمات كثيرة صحيحة.
وأما ذكر السم المفرد ،فبدعة لم يشرع ،وليس هو بكلم يعقل ول فيه إيمان؛ ولهذا صار بعض من يأمر به من
المتأخرين يبين أنه ليس /قصدنا ذكر ال ـ تعالى ـ ولكن جمع القلب على شيء معين حتي تستعد النفس لما يرد
ل شيطانًيا ،فيلبسه الشيطان ،ويخيل
عليها ،فكان يأمر مريده بأن يقول هذا السم مرات ،فإذا اجتمع قلبه ألقى عليه حا ً
إليه أنه قد صار في المل العلى ،وأنه أعطى ما لم يعطه محمد صلى ال عليه وسلم ليلة المعراج ،ول موسى ـ عليه
السلم ـ يوم الطور ،وهذا وأشباهه وقع لبعض من كان في زماننا.
وأبلغ من ذلك من يقول :ليس مقصودنا إل جمع النفس بأي شيء كان ،حتي يقول :ل فرق بين قولك :يا حي ! وقولك:
يا جحش! وهذا مما قاله لي شخص منهم ،وأنكرت ذلك عليه ،ومقصودهم بذلك أن تجتمع النفس حتى يتنزل عليها
الشيطان.
ومنهم من يقول :إذا كان قصد وقاصد ،ومقصود ،فاجعل الجميع واحًدا ،فيدخله في أول المر في وحدة الوجود.
وأما أبو حامد ،وأمثاله ممن أمروا بهذه الطريقة ،فلم يكونوا يظنون أنها تفضي إلى الكفر لكن ينبغي أن يعرف أن
البدع بريد الكفر ،ولكن أمروا المريد أن يفرغ قلبه من كل شيء ،حتى قد يأمروه أن يقعد في مكان مظلم ويغطي
رأسه ويقول :ال ،ال .وهم يعتقدون أنه إذا فرغ قلبه استعد بذلك فينزل على قلبه من المعرفة ما هو المطلوب ،بل /
قد يقولون :إنه يحصل له من جنس ما يحصل للنبياء.
ومنهم من يزعم أنه حصل له أكثر مما حصل للنبياء ،وأبو حامد يكثر من مدح هذه الطريقة في ]الحياء[ وغيره،
كما أنه يبالغ في مدح الزهد ،وهذا من بقايا الفلسفة عليه .فإن المتفلسفة ،كابن سينا ،وأمثاله يزعمون أن كل ما يحصل
في القلوب من العلم للنبياء وغيرهم فإنما هو من العقل الفعال؛ ولهذا يقولون :النبوة مكتسبة ،فإذا تفرغ صفى قلبه ـ
عندهم ـ وفاض على قلبه من جنس ما فاض على النبياء .وعندهم أن موسى بن عمران صلى ال عليه وسلم كلم من
سماء عقله ،لم يسمع الكلم من خارج؛ فلهذا يقولون :إنه يحصل لهم مثل ما حصل لموسى ،وأعظم مما حصل
لموسى.
وأبو حامد يقول :إنه سمع الخطاب ،كما سمعه موسى ـ عليه السلم ـ وإن لم يقصد هو بالخطاب ،وهذا كله ؛ لنقص
إيمانهم بالرسل وأنهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرسل وكفروا ببعض ،وهذا الذي قالوه باطل من وجوه:
أحدها :أن هذا الذي يسمونه :العقل الفعال ،باطل ل حقيقة له كما قد بسط هذا في موضع آخر.
الثاني :أن ما يجعله ال في القلوب يكون تارة بواسطة الملئكة /إن كان حًقا ،وتارة بواسطة الشياطين ،إذا كان
ل .والملئكة ،والشياطين أحياء ناطقون ،كما قد دلت على ذلك الدلئل الكـثيرة من جـهة النبياء ،وكما يدعي ذلكباط ً
من باشره من أهل الحقائق .وهم يزعمون أن الملئكة ،والشياطين صفات لنفس النسان فقط .وهذا ضلل عظيم.
الثالث :أن النبياء جاءتهم الملئكة من ربهم بالوحي ،ومنهم من كلمه ال ـ تعالى ـ فقربه وناداه ،كما كلم موسى ـ
عليه السلم ـ لم يكن ما حصل لهم مجرد فيض ،كما يزعمه هؤلء.
الرابع :أن النسان إذا فرغ قلبه من كل خاطر .فمن أين يعلم أن ما يحصل فيه حق؟ هذا إما أن يعلم بعقل ،أو سمع،
وكلهما لم يدل على ذلك.
الخامس :أن الذي قد علم بالسمع والعقل ،أنه إذا فرغ قلبه من كل شيء حلت فيه الشياطين ،ثم تنزلت عليه الشياطين،
كما كانت تتنزل على الكهان ،فإن الشيطان إنما يمنعه من الدخول إلى قلب ابن آدم ما فيه من ذكر ال ،الذي أرسل به
ن َ .وِإّنُهْم طاًنا َفُهَو َلُه َقِري ٌ
شْي َ
ض َلُه َ
ن ُنَقّي ْحَم ِن ِذْكِر الّر ْ
عْ
ش َ رسله ،فإذا خل من ذلك توله الشيطان ،قال ال ـ تعالىَ} :وَم ْ
ن َيْع ُ
غِوَيّنُهْم
لْك َُ ن{]الزخرف ،[37 ،36 :وقال الشيطان ،فيما أخبر ال عنهَ} :فِبِعّزِت َ ن َأّنُهْم ُمْهَتُدو َ
سُبو َ
حَ ل َوَي ْ سِبي ِ
ن ال ّ
عْصّدوَنُهْم ََلَي ُ
ك ِم ْ
ن ن اّتَبَع َل َم ْن ِإ ّ
طا ٌسْل َ
عَلْيِهْم ُ
ك َ
س َل َ
عَباِدي َلْي َ ن{ ]ص ،[83 ،82 :وقال تعالى ِ} :إ ّ
ن ِ صي َ خَل ِك ِمْنُهْم اْلُم ْ
عَباَد َ
ل ِجَمِعينَ ِ .إ ّ
َأ ْ
اْلَغاِويَن{]الحجر ،[42 :والمخلصون هم الذين يعبدونه وحده ل يشركون به شيًئا ،وإنما يعبد ال بما أمر به على ألسنة
رسله فمن لم يكن كذلك تولته الشياطين.
وهذا باب دخل فيه أمر عظيم على كثير من السالكين ،واشتبهت عليهم الحوال الرحمانية بالحوال الشيطانية،
وحصل لهم من جنس ما يحصل للكهان والسحرة ،وظنوا أن ذلك من كرامات أولياء ال المتقين ،كما قد بسط الكلم
على هذا في غير هذا الموضع.
السادس :أن هذه الطريقة لو كانت حًقا ،فإنما تكون في حق من لم يأته رسول ،فأما من أتاه رسول وأمر بسلوك
طريق ،فمن خالفه ضل ،وخاتم الرسل صلى ال عليه وسلم ،قد أمر أمته بعبادات شرعية من صلة ،وذكر ،ودعاء،
وقراءة ،لم يأمرهم قط بتفريغ القلب من كل خاطر ،وانتظار ما ينزل.
فهذه الطريقة لو قدر أنها طريق لبعض النبياء ،لكانت منسوخة بشرع محمد صلى ال عليه وسلم ،فكيف وهي
طريقة جاهلية ل توجب الوصول إلى المطلوب إل بطريق التفاق ،بأن يقذف ال ـ تعالى ـ في قلب /العبد إلهاًما
ينفعه؟ وهذا قد يحصل لكل أحد ليس هو من لوازم هذه الطريق.
ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما ل يحبه ال ،ويملؤه بما يحبه ال ،فيفرغه من عبادة
غير ال ويملؤه بعبادة ال ،وكذلك يفرغه عن محبة غير ال ويملؤه بمحبة ال ،وكذلك يخرج عنه خوف غير ال،
ويدخل فيه خوف ال ـ تعالى ـ وينفي عنه التوكل على غير ال ،ويثبت فيه التوكل على ال .وهذا هو السلم
المتضمن لليمان الذي يمده القرآن ويقويه ،ل ينقاضه وينافيه ،كما قال جندب وابن عمر :تعلمنا اليمان ثم تعلمنا
القرآن فازددنا إيماًنا.
وأما القتصار على الذكر المجرد الشرعي ،مثل قول :ل إله إل ال ،فهذا قد ينتفع به النسان أحياًنا ،لكن ليس هذا
الذكر وحده هو الطريق إلى ال ـ تعالى ـ دون ما دعاه ،بل أفضل العبادات البدنية الصلة ،ثم القراءة ،ثم الذكر ،ثم
الدعاء ،والمفضول في وقته الذي شرع فيه أفضل من الفاضل ،كالتسبيح في الركوع ،والسجود ،فإنه أفضل من
القراءة ،وكذلك الدعاء في آخر الصلة أفضل من القراءة ،ثم قد يفتح على النسان في العمل المفضول ،ما ل يفتح
عليه في العمل الفاضل .وقد ييسر عليه هذا دون هذا ،فيكون هذا أفضل في حقه لعجزه عن الفضل ،كالجائع إذا وجد
الخبز المفضول متيسًرا عليه ،والفاضل متعسًرا /عليه فإنه ينتفع بهذا الخبز المفضول ،وشبعه واغتذاؤه به حينئذ
أولى به.
السابع :أن أبا حامد يشبه ذلك بنقش أهل الصين والروم على تزويق الحائط ،وأولئك صقلوا حائطهم حتى تمثل فيه ما
صقله هؤلء ،وهذا قياس فاسد؛ لن هذا الذي فرغ قلبه لم يكن هناك قلب آخر يحصل له به التحلية ،كما حصل لهذا
الحائط من هذا الحائط .بل هو يقول إن :العلم منقوش في النفس الفلكية ،ويسمى ذلك ]اللوح المحفوظ[ تبًعا لبن سينا.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن اللوح المحفوظ الذي ذكره ال ورسوله ليس هو النفس الفلكية ،وابن سينا ومن تبعه
أخذوا أسماء جاء بها الشرع ،فوضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع ،ثم صاروا يتكلمون بتلك
السماء ،فيظن الجاهل أنهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشرع ،فأخذوا مخ الفلسفة ،وكسوه لحاء الشريعة.
ك ،والملكوت ،والجبروت ،و اللوح المحفوظ ،والملك ،والشيطان ،والحدوث ،والقدم وغير ذلك.
وهذا كلفظ الُمْل ِ
/وقد ذكرنا من ذلك طرًفا في الرد على التحادية ،لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي وما يوجد في كلم أبي
حامد ،ونحوه من أصول هؤلء الفلسفة الملحدة الذين يحرفون كلم ال ورسوله عن مواضعه ،كما فعلت طائفة
القرامطة الباطنية.
والمقصود هنا أنه لو كانت العلوم تنزل على القلوب من النفس الفلكية ،كما يزعم هؤلء ،فل فرق في ذلك بين الناظر
والمستدل والمفرغ قلبه ،فتمثيل ذلك بنقش أهل الصين والروم تمثيل باطل.
ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكار معينة وقوت معين ،ولهم تنزلت معروفة ،وقد بسط الكلم عليها ابن عربي
الطائي ومن سلك سبيله ،كالتلمساني ،وهي تنزلت شيطانية قد عرفتها وخبرت ذلك من وجوه متعددة ،لكن ليس هذا
موضع بسطها ،وإنما المقصود التنبيه على هذا الجنس.
ومما يأمرون به الجوع والسهر والصمت مع الخلوة بل حدود شرعية ،بل سهر مطلق ،وجوع مطلق ،وصمت
ل شيطانية ،و أبو طالب قد ذكر بعض ذلك،
مطلق مع الخلوة ،كما ذكر ذلك ابن عربي وغيره ،وهي تولد لهم أحوا ً
لكن أبو طالب أكثر اعتصاًما بالكتاب والسنة من هؤلء .ولكن يذكر أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة /.من جنس
أحاديث المسبعات التي رواها عن الخضر عن النبي صلى ال عليه وسلم ،وهو كذب محض ،وإن كان ليس فيه إل
قراءة قرآن ،ويذكر أحياًنا عبادات بدعية من جنس ما بالغ في مدح الجوع هو ،وأبو حامد وغيرهما ،وذكروا أنه يزن
الخبز بخشب رطب ،كلما جف نقص الكل.
وذكروا صلوات اليام والليالي ،وكلها كذب موضوعة؛ ولهذا قد يذكرون مع ذلك شيًئا من الخيالت الفاسدة ،وليس
هذا موضع بسط ذلك.
وإنما الغرض التنبيه بهذا علي جنس من العبادات البدعية ،وهي ] :الخلوات البدعية[ سواء قدرت بزمان ،أو لم تقدر؛
لما فيها من العبادات البدعية ،أما التي جنسها مشروع ،ولكن غير مقدرة وأما ما كان جنسه غير مشروع ،فأما
الخلوة ،والعزلة ،والنفراد المشروع ،فهو ما كان مأموًرا به أمر إيجاب ،أو استحباب:
حّتى
عْنُهْم َ ض َ عِر ْ ن ِفي آَياِتَنا َفَأ ْ ضو َ خو ُ ن َي ُت اّلِذي َفالول :كاعتزال المور المحرمة ،ومجانبتها ،كما قال تعالىَ} :وِإَذا َرَأْي َ
ل َوَهْبَنا َلُهن ا ِّ
ن ُدو ِ ن ِم ْ غْيِرِه{ ]النعام ،[68 :ومنه قوله تعالى عن الخليلَ} :فَلّما ا ْ
عَتَزَلُهْم َوَما َيْعُبُدو َ ث َ حِدي ٍ
ضوا ِفي َ خو ُ َي ُ
ل َفْأُووا ِإَلى ل ا َّ
ن ِإ ّعَتَزْلُتُموُهْم َوَما َيْعُبُدو َ جَعْلَنا َنِبّيا{ ]مريم ،[49 :و قوله عن أهل /الكهفَ} :وِإْذ ا ْ ل َب َوُك ّ
ق َوَيْعُقو َ
حا َ
سَِإ ْ
ف{ ] الكهف ،[16 :فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ول جماعة ،ول من يأمر بشرع نبي ؛ فلهذا أووا إلى اْلَكْه ِ
الكهف ،وقد قال موسىَ} :وِإْن َلْم ُتْؤِمُنوا ِلي َفاْعَتِزُلوِني{ ]الدخان.[21 :
وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما ل ينفع ،وذلك بالزهد فيه ،فهو مستحب ،وقد قال طاووس :نعم صومعة
الرجل بيته يكف فيه بصره ،وسمعه.
وإذا أراد النسان تحقيق علم ،أو عمل ،فتخلى في بعض الماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة ،فهذا حق كما
في الصحيحين ،أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل :أي الناس أفضل؟ قال) :رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل ال ،كلما
سمع هيعة طار إليها يتتبع الموت مظانه ،ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلة ،ويؤتي الزكاة ،ويدع
الناس إل من خير(.
وقوله) :يقيم الصلة ويؤتي الزكاة( دليل على أن له مال يزكيه ،وهو ساكن مع ناس يؤذن بينهم وتقام الصلة فيهم،
فقد قال صلوات ال عليه) :ما من ثلثة في قرية ول بدو ل تقام فيهم الصلة جماعة إل وقد استحوذ عليهم الشيطان(
وقال) :عليكم بالجماعة ،فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم(.
صـــل
َف ْ /
وهذه الخلوات ،قد يقصد أصحابها الماكن التي ليس فيها أذان ،ول إقامة ،ول مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس،
إما مساجد مهجورة ،وإما غير مساجد ،مثل الكهوف ،والغيران التي في الجبال ،ومثل المقابر ل سيما قبر من يحسن
به الظن ،ومثل المواضع التي يقال أن بها أثر نبي ،أو رجل صالح؛ ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال
شيطانية ،يظنون أنها كرامات رحمانية.
فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه ،وقد مات من سنين كثيرة ،ويقول :أنا فلن ،وربما قال له :نحن إذا
وضعنا في القبر خرجنا ،كما جرى للتونسي مع نعمان السلمي.
والشياطين كثيًرا ما يتصورون ،بصورة النس في اليقظة والمنام ،وقد تأتي لمن ل يعرف فتقول :أنا الشيخ فلن ،أو
العالم فلن ،وربما قالت :أنا أبو بكر وعمر وربما أتى في اليقظة دون المنام ،وقال :أنا المسيح ،أنا موسى ،أنا محمد،
وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها / ،وثم من يصدق بأن النبياء يأتون في اليقظة في صورهم ،وثم شيوخ لهم زهد،
وعلم ،وورع ،ودين يصدقون بمثل هذا.
ومن هؤلء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي ،أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه .ومن هؤلء من رأى
في دائرة ذرى الكعبة صورة شيخ ،قال :إنه إبراهيم الخليل ،ومنهم من يظن أن النبي صلى ال عليه وسلم خرج من
الحجرة وكلمه ،وجعلوا هذا من كراماته ،ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه.
وبعضهم كان يحكي :أن ابن منده ،كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل ،فسأل النبي صلى ال
عليه وسلم عن ذلك فأجابه ،وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك ،وجعل ذلك من كراماته ،حتى قال ابن عبد
البر لمن ظن ذلك :ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الولين من المهاجرين والنصار؟ فهل في هؤلء من سأل
النبي صلى ال عليه وسلم بعد الموت وأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء ،فهل سألوا النبي صلى ال عليه وسلم
فأجابهم ؟ وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه ،فهل سألته فأجابها؟
صــل
َف ْ
ل عليهم وسلمه أجمعين ـ قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه ،وأن نقتدي بهم ،وبهداهم .قال تعالى:
والنبياء ـ صلوات ا ّ
سى َوَما ُأوِتيَ عي َسى َو ِي ُمو َ ط َوَما ُأوِت َسَبا ِ
لْب َوا َْ
ق َوَيْعُقو َ
حا َ
سَ
ل َوِإ ْ
عي َ
سَما ِل ِإَلى ِإْبَراِهيَم َوِإ ْ
ل ِإَلْيَنا َوَما ُأنِز َ
ل َوَما ُأنِز َ
}ُقوُلوا آَمّنا ِبا ِّ
ل َفِبُهَداُهْم اْقَتِدِه{ ]
ن َهَدى ا ُّ ن{ ]البقرة ،[136 :وقال تعالىُ} :أْوَلِئ َ
ك اّلِذي َ سِلُمو َن َلُه ُم ْ
حُ حٍد ِمْنُهْم َوَن ْ
ن َأ َ
ق َبْي َ
ل ُنَفّر ُ
ن َرّبِهْم َن ِم ْ الّنِبّيو َ
النعام [90 :ومحمد صلى ال عليه وسلم خاتم النبيين ل نبي بعده ،وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره ،فلم
ل إل باتباع محمد صلى ال عليه وسلم فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب ،فهو
يبق طريق إلى ا ّ
مشروع ،وكذلك ما رغب فيه ،وذكر ثوابه ،وفضله.
ول يجوز أن يقال :إن هذا مستحب ،أو مشروع ،إل بدليل شرعي ،ول يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف ،لكن
إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي ،وروى له فضائل بأسانيد ضعيفة ،جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب ،وذلك
أن مقادير الثواب غير معلومة ،فإذا روى في مقدار الثواب حديث ل يعرف أنه كذب ،لم يجز أن يكذب /به ،وهذا هو
الذي كان المام أحمد بن حنبل ،وغيره يرخصون فيه ،وفي روايات أحاديث الفضائل .وأما أن يثبتوا أن هذا عمل
ل ،كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب ،فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته
مستحب مشروع بحديث ضعيف ،فحاشا ّ
إل أن يبينوا أنه كذب لقول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح) :من روى عني حديًثا يرى أنه كذب فهو
أحد الكاذبين(.
وما فعله النبي صلى ال عليه وسلم على وجه التعبد ،فهو عبادة يشرع التأسي به فيه .فإذا خصص زمان أو مكان
بعبادة ،كان تخصيصه بتلك العبادة سنة؛ كتخصيصه العشر الواخر بالعتكاف فيها وكتخصيصه مقام إبراهيم
بالصلة فيه ،فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل ،على الوجه الذي فعل؛ لنه فعل.
وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد ،فإذا سافر لحج أو عمرة أو جهاد وسافرنا كذلك ،كنا متبعين له ،وكذلك إذا
ضرب لقامة حد ،بخلف من شاركه في السفر ،وكان قصده غير قصده ،أو شاركه في الضرب ،وكان قصده غير
ل بحكم التفاق مثل نزوله في السفر بمكان ،أو أن يفضل في إداوته ماء قصده ،فهذا ليس بمتابع له ،ولو فعل فع ً
فيصبه في أصل شجرة ،أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق ونحو ذلك ،فهل يستحب قصد متابعته في ذلك؟
كان ابن عمر يحب أن /يفعل مثل ذلك .وأما الخلفاء الراشدون ،وجمهور الصحابة ،فلم يستحبوا ذلك؛ لن هذا ليس
بمتابعة له ،إذ المتابعة لبد فيها من القصد ،فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل ،بل حصل له بحكم التفاق كان في قصده
ل عنه ـ يقول :وإن لم يقصده ،لكن نفس فعله حسن على أي وجه كان ،فأحب أن غير متابع له ،وابن عمر ـ رضي ا ّ
أفعل مثله ،إما لن ذلك زيادة في محبته ،وإما لبركة مشابهته له.
ومن هذا الباب :إخراج التمر في صدقة الفطر لمن ليس ذلك قوته ،وأحمد قد وافق ابن عمر على مثل ذلك ،ويرخص
عا لبن عمر ،وعن أحمد في التمسح
في مثل ما فعله ابن عمر ،وكذلك رخص أحمد في التمسح بمقعده من المنبر اتبا ً
بالمنبر روايتان.
أشهرهما أنه مكروه ،كقول الجمهور ،وأما مالك وغيره من العلماء ،فيكرهون هذه المور وإن فعلها ابن عمر ،فإن
أكابر الصحابة ،كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم ،لم يفعلها .فقد ثبت بالسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب ـ
ل عنه ـ أنه كان في السفر فرآهم ينتابون مكاًنا يصلون فيه ،فقال :ما هذا؟ قالوا :مكان صلى فيه رسول ا ّ
ل رضي ا ّ
صلى ال عليه وسلم .فقال :أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا ،من أدركته فيه
الصلة فليصل فيه وإل فليمض.
/وهكذا للناس قولن ،فيما فعله من المباحات على غير وجه القصد هل متابعته فيه مباحة فقط ،أو مستحبة؟ على
قولين في مذهب أحمد وغيره ،كما قد بسط ذلك في موضعه ،ولم يكن ابن عمر ،ول غيره من الصحابة يقصدون
الماكن التي كان ينزل فيها ويبيت فيها مثل بيوت أزواجه ،ومثل مواضع نزوله في مغازيه ،وإنما كان الكلم في
مشابهته في صورة الفعل فقط ،وإن كان هو لم يقصد التعبد به ،فأما المكنة نفسها ،فالصحابة متفقون على أنه ل
يعظم منها ،إل ما عظمه الشارع.
َفصــل
وأهل العبادات البدعية ،يزين لهم الشيطان تلك العبادات ،ويبغض إليهم السبل الشرعية حتى يبغضهم في العلم
والقرآن والحديث ،فل يحبون سماع القرآن والحديث ،ول ذكره ،وقد يبغض إليهم حتى الكتاب ،فل يحبون كتابا ،ول
من معه كتاب ،ولو كان مصحًفا أو حديًثا ،كما حكى النصراباذي أنهم كانوا يقولون :يدع علم الخرق ،ويأخذ علم
الورق ،قال :وكنت أستر الواحى منهم ،فلما كبرت احتاجوا إلى علمي.
وكذلك حكى السري السقطي :أن واحًدا منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلًما خرج ،ولم يقعد عنده ،ولهذا قال
ل التستري :يا معشر الصوفية ،ل تفارقوا السواد على البياض ،فما فارق أحد السواد على البياض إل سهل بن عبد /ا ّ
تزندق .وقال الجنيد :علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة ،فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث ل يقتدى به في هذا
الشأن.
وكثير من هؤلء ينفر ممن يذكر الشرع ،أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب ،وذلك؛ لنهم استشعروا أن هذا
الجنس فيه ما يخالف طريقهم ،فصارت شياطينهم تهربهم من هذا ،كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلم
المسلمين حتى ل يتغير اعتقاده في دينه ،وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم ،ويستغشون ثيابهم لئل
ن{
ن َواْلَغْوا ِفيِه َلَعّلُكْم َتْغِلُبو َ
سَمُعوا ِلَهَذا اْلُقْرآ ِ
ل َت ْ
ن َكَفُروا َ ل تعالى عن المشركينَ} :وَقا َ
ل اّلِذي َ يسمعوا كلمه ول يروه ،وقال ا ّ
ت ِمْن َقْسَوَرٍة{ ]المدثر.[51 - 49 : سَتْنِفَرٌةَ .فّر ْ
حُمٌر ُم ْنَ .كَأّنُهْم ُ
ضي َ
ن الّتْذِكَرِة ُمْعِر ِ
عْ]فصلت ،[26 :وقال تعالىَ} :فَما َلُهْم َ
ل ـ تعالى: وهم من أرغب الناس في السماع البدعي ،سماع المعازف .ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات ا ّ
ل ـ تعالى ـ وسلوك
وكان مما زين لهم طريقهم ،أن وجدوا كثيًرا من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة ا ّ
ل بالدنيا ،وإما بالمعاصي وإما جهل وتكذيًبا بما يحصل لهل التأله والعبادة ،فصار وجود هؤلء مما
سبيله ،إما اشتغا ً
ينفرهم ،وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه /من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين ،هؤلء يقولون :ليس هؤلء
على شيء ،وهؤلء يقولون :ليس هؤلء على شيء ،وقد يظنون أنهم يحصل لهم بطريقهم أعظم مما يحصل في
الكتب.
ل،
صا حصل له ذلك ،وهذا كذب .نعم قد يكون سمع آيات ا ّ فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بل تلقين ،ويحكون أن شخ ً
فلما صفى نفسه تذكرها فتلها .فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها ،ويقول بعضهم أو يحكي أن
ن ما
بعضهم قال :أخذوا علمهم ميًتا عن ميت ،وأخذنا علمنا عن الحي الذي ل يموت .وهذا يقع ،لكن منهم من يظن أ ّ
ل ـ تعالى ـ بل واسطة ،وقد يكون من الشيطان وليس عندهم فرقان يفرق بين يلقي إليه من خطاب ،أو خاطر هو من ا ّ
الرحماني والشيطاني ،فإن الفرق الذي ل يخطئ هو القرآن والسنة ،فما وافق الكتاب والسنة ،فهو حق .وماخالف
ذلك ،فهو خطأ.
ن.
ن َأّنُهْم ُمْهَتُدو َ
سُبو َ
حَل َوَي ْ
سِبي ِ
ن ال ّ
عْ
صّدوَنُهْم َ
نَ .وِإّنُهْم َلَي ُ
طاًنا َفُهَو َلُه َقِري ٌ
شْي َ
ض َلُه َ
ن ُنَقّي ْ حَم ِ
ن ِذْكِر الّر ْ عْ ش َ
ن َيْع ُ وقد قال تعالىَ} :وَم ْ
س اْلَقِريُن{ ]الزخرف. [36-38 : ن َفِبْئ َ
شِرَقْي ِك ُبْعَد اْلَم ْ
ت َبْيِني َوَبْيَن َ
ل َياَلْي َ
جاَءَنا َقا َ
حّتى ِإَذا َ
َ
ل بل واسطة ،صاروا عند أنفسهم أعظم من اتباع الرسول .يقول ثم إن هؤلء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من ا ّ
ضا :فلن يأخذ عن الكتاب ،وهذا الشيخ
ل بل واسطة ،ويقول أي ً
أحدهم :فلن عطيته على يد محمد ،وأنا عطيتي من ا ّ
ل ،ومثل هذا.يأخذ عن ا ّ
ل لفظ مجمل ،فإن /أراد به العطاء والخذ العام وهو الكوني الخلقي أي: ل ،وأعطاني ا ّوقول القائل :يأخذ عن ا ّ
ل وقدرته حصل لي هذا ،فهو حق ،ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا ،وذلك الذي أخذ عن الكتاب ،هو بمشيئة ا ّ
ضا هم كذلك ،وإن أراد أن هذا الذي حصل له ل أخذ بهذا العتبار .والكفار من المشركين وأهل الكتاب أي ًضا عن ا ّأي ً
ل تعالى .فهنا طريقان:ل ،ويرضاه ،ويقرب إليه ،وهذا الخطاب الذي يلقي إليه هو كلم ا ّهو مما يحبه ا ّ
ل ،ل من الشيطان ،وإلقائه ووسوسته؟ فإن الشياطين يوحون إلى أحدهما :أن يقال له :من أين لك أن هذا إنما هو من ا ّ
ل ـ تعالى ـ بذلك في القرآن ،وهذا موجود كثيًرا في عباد المشركين ،وأهل أوليائهم وينزلون عليهم ،كما أخبر ا ّ
الكتاب ،وفي الكهان ،والسحرة ،ونحوهم ،وفي أهل البدع بحسب بدعتهم .فإن هذه الحوال قد تكون شيطانية وقد
ل بهتكون رحمانية ،فل بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ،والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث ا ّ
ل بهمحمًدا صلى ال عليه وسلم فهو }اّلِذي َنّزَل اْلُفْرَقاَن َعَلى َعْبِدِه ِلَيُكوَن ِلْلَعالَِميَن َنِذيًرا{]الفرقان ،[1 :وهوالذي فرق ا ّ
بين الحق والباطل ،وبين الهدى والضلل ،وبين الرشاد والغي ،وبين طريق الجنة وطريق النار ،وبين سبيل أولياء
الرحمن وسبيل أولياء الشيطان ،كما قد بسط الكلم على هذا في غير هذا الموضع.
/والمقصود هنا أنه يقال لهم :إذا كان جنس هذه الحوال مشترًكا بين أهل الحق وأهل الباطل فل بد من دليل يبين أن
ما حصل لكم هو الحق.
ل به محمًدا صلى ال عليه وسلم ،وذلك أنه ينظر الطريق الثاني :أن يقال :بل هذا من الشيطان لنه مخالف لما بعث ا ّ
فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته ،فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له :اسجد لهذا الصنم حتى
يحصل لك المراد ،أو استشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب ،أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل
أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب ،أو أن يدعو مخلوًقا ،كما يدعو الخالق سواء كان المخلوق
خا ،فإذا دعاه كما يدعو الخالق ،سبحانه ،إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة صار مشركا به ،فحينئذ
ملًكا ،أو نبًيا ،أو شي ً
ما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك ،كما كان يحصل للمشركين.
وكانت الشياطين تتراءى لهم أحياًنا ،وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض المور الغائبة .أو يقضون لهم
بعض الحوائج ،فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم ،وإيمانهم الذي هلكوا بزواله
جِه
ن اْلَمْرِء َوَزْو ِ
ن ِبِه َبْي َ
ن ِمْنُهَما َما ُيَفّرُقو َ
ل َتْكُفْر َفَيَتَعّلُمو َ
ن ِفْتَنٌة َف َ
حُ
ل ِإّنَما َن ْ
حّتى َيُقو َ
حٍد َ
ن َأ َ ل تعالىَ} :وَما ُيَعّلَما ِ
ن ِم ْ كالسحر ،قال ا ّ
ق َوَلِبْئ َ
س لٍخَ
ن َ
خَرِة ِم ْ
لِشَتَراُه َما َلُه ِفي ا ْ
نا ْ
عِلُموا َلَم ْ
ل َينَفُعُهْم َوَلَقْد َ
ضّرُهْم َو َ
ن َما َي ُ
ل َوَيَتَعّلُمو َ
ن ا ِّ
ل ِبِإْذ ِ
حٍد ِإ ّ
ن َأ َ
ن ِبِه ِم ْ
ضاّري َ
َوَما ُهْم ِب َ
َما َشَرْوا ِبِه َأنُفَسُهْم َلْو َكاُنوا َيْعَلُموَن{ ]البقرة. [102 :
والمعازف هي خمر النفوس ،تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس ،فإذا سكروا بالصوات حل فيهم الشرك،
ل ،ويزنون.
ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم ،فيشركون ويقتلون النفس التي حرم ا ّ
وهذه الثلثة موجودة كثيًرا في أهل سماع المعازف ،سماع المكاء والتصدية ،أما الشرك فغالب عليهم بأن يحبوا
ل ويتواجدون على حبه.
شيخهم أو غيره ،مثل ما يحبون ا ّ
وأما الفواحش ،فالغناء رقية الزنا ،وهو من أعظم السباب /،لوقوع الفواحش ،ويكون الرجل والصبي والمرأة في
ل به أو كلهما،
غاية العفة والحرية حتى يحضره ،فتنحل نفسه ،وتسهل عليه الفاحشة ،ويميل لها فاعلً ،أو مفعو ً
كما يحصل بين شاربي الخمر ،وأكثر.
ضا في السماع ،كثير يقولون :قتله بحاله ويعدون ذلك من قوته ،وذلك أن معهم
وأما القتل ،فإن قتل بعضهم بع ً
شياطين تحضرهم فأيهم كانت شياطينه أقوى قتل الخر .كالذين يشربون الخمر ،ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا
سا،
صا ،وإما فر ً
عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الخر ،وقد جرى مثل هذا لكثير منهم ،ومنهم من يقتل إما شخ ً
أو غير ذلك بحاله ،ثم يقوم صاحب الثأر ،ويستغيث بشيخه ،فيقتل ذلك الشخص ،وجماعة معه :إما عشرة ،وإما أقل
أو أكثر .كما جرى مثل هذا لغير واحد .وكان الجهال يحسبون هذا من باب الكرامات.
فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية ،وأن هؤلء معهم شياطين تعينهم على الثم والعدوان عرف ذلك من بصره الّ ـ
تعالى ـ وانكشف التلبيس والغش الذي كان لهؤلء.
وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والرادة فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة ،فبتنا
بمكان وأرادوا أن /يقيموا سماعا وأن أحضر معهم فامتنعت من ذلك ،فجعلوا لي مكانا منفرًدا قعدت فيه ،فلما سمعوا
وحصل الوجد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده ،ويقول :يا فلن قد جاءك نصيب عظيم تعال خذ
نصيبك ،فقلت في نفسي ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا :أنتم في حل من هذا النصيب فكل نصيب ل يأتي عن طريق
ل ،فإني ل آكل منه شيًئا ،وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة ،وعلم أنه كان معهم الشياطين،
محمد بن عبد ا ّ
وكان فيهم من هو سكران بالخمر.
ل ورسوله ول والذي قلته معناه :أن هذا النصيب ،وهذه العطية والموهبة والحال سببها غير شرعي ،ليس هو طاعة ّ
شرعها الرسول فهو مثل من يقول :تعال اشرب معنا الخمر ونحن نعطيك هذا المال ،أو عظم هذا الصنم ونحن نوليك
هذه الولية ونحو ذلك.
ل ـ سبحانه وتعالى ـ مثل أن ينذر لصنم ،أو كنيسة ،أو قبر ،أو نجم ،أو شيخ ،ونحو ذلك
وقد يكون سببه نذًرا لغير ا ّ
من النذور ،التي فيها شرك ،فإذا أشرك بالنذر ،فقد يعطيه الشيطان بعض حوائجه ،كما تقدم في السحر.
ل ـ تعالى ـ فإنه ثبت في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى ال عليه وسلم ،أنه نهى عن وهذا بخلف النذر ّ
النذر ،وقال) :إنه ل يأتي /بخير ،وإنما يستخرج به من البخيل( وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال
عليه وسلم نحوه ،وفي رواية) :فإن النذر يلقي ابن آدم إلى القدر( فهذا المنهي عنه هو النذر الذي يجب الوفاء به،
منهى عن عقده ،ولكن إذا كان قد عقده فعليه ،الوفاء به كما في صحيح البخاري عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
ل فل يعصه(. ل فليطعه ،ومن نذر أن يعصي ا ّ قال) :من نذر أن يطيع ا ّ
وإنما نهى عنه صلى ال عليه وسلم ؛لنه ل فائدة فيه إل التزام ما التزمه ،وقد ل يرضى به ،فيبقى آثًما .وإذا فعل تلك
العبادات بل نذر كان خيًرا له ،والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم ،فبين النبي صلى ال عليه وسلم أن النذر ل
ل القرآن أن أصوم ل علي إن حفظني ا ّ
يأتي بخير ،فليس النذر سبًبا في حصول مطلوبهم ،وذلك أن الناذر إذا قالّ :
ل هذا العدو ،أو إن قضي عني هذا الدين فعلت كذا، ل من هذا المرض ،أو إن دفع ا ّ ل ثلثة أيام ،أو إن عافاني ا ّ
مث ً
ل ـ سبحانه ـ ل يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة ضا عن ذلك المطلوب .وا ّ فقد جعل العبادة التي التزمها عو ً
المنذورة ،بل ينعم على عبده بذلك المطلوب؛ ليبتليه أيشكر أم يكفر؟ وشكره يكون بفعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه.
ل َتَعاَلى:
حَمُه ا ُّ
سـلم ـ َر ِ
لْخا ِ
شْيـ ُ
ل َ
سئـ َ
ُ /
فأجاب:
ل رب العالمين ،عمل أهل الجنة :اليمان والتقوى ،وعمل أهل النار الكفر والفسوق والعصيان ،فأعمال أهل الحمد ّ
ل ،وملئكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم الخر ،واليمان بالقدر خيره وشره ،والشهادتان :شهادة أن ل الجنة اليمان با ّ
ل كأنك
ل ،وإقام الصلة ،وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وحج البيت .وأن تعبد ا ّل ،وأن محمًدا رسول ا ّ إله إل ا ّ
تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ومن أعمال أهل الجنة :صدق الحديث ،وأداء المانة ،والوفاء بالعهد ،وبر الوالدين ،وصلة الرحام ،والحسان إلى
الجار ،واليتيم ،والمسكين ،والمملوك من الدميين والبهائم.
ومن أعمال أهل الجنة :المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،والجهاد في سبيل ال للكفار والمنافقين.
ومن أعمال أهل الجنة :العدل في جميع المور ،وعلى جميع الخلق حتى الكفار ،وأمثال هذه العمال.
ل ورسوله ،وأعمال أهل النار كلها تدخل في وتفصيل الجملتين ل يمكن ،لكن أعمال أهل الجنة كلها تدخل في طاعة ا ّ
ص
ن َيْع ِ
ظيُم َ .وَم ْ
ك اْلَفْوُز اْلَع ِ
ن ِفيَها َوَذِل َ
خاِلِدي َ
لْنَهاُر َ
حِتَها ا َْ
ن َت ْ
جِري ِم ْ
ت َت ْ
جّنا ٍ
خْلُه َ
سوَلُه ُيْد ِ
ل َوَر ُ طْع ا َّ
ن ُي ِل ورسولهَ} ،وَم ْ معصية ا ّ
ل أعلم. ب ُمِهيٌن{]النساء [14 ،13 :وا ّ عَذا ٌ
خاِلًدا ِفيَها َوَلُه َ خْلُه َناًرا َ
حُدوَدُه ُيْد ِ
سوَلُه َوَيَتَعّد ُ
ل َوَر ُ
ا َّ
ل تعالى :
/وقال الشيخ ـ رحمه ا ّ
صــل
َف ْ
وأما قوله :هل الفضل للسالك العزلة أو الخلطة؟
عا كلًيا وإما حالًيا ،فحقيقة المر :أن الخلطة تارة تكون واجبة أو
فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها؟ إما نزا ً
مستحبة ،والشخص الواحد قد يكون مأموًرا بالمخالطة تارة ،وبالنفراد تارة .وجماع ذلك أن المخالطة إن كان فيها
تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها ،وإن كان فيها تعاون على الثم والعدوان فهي منهي عنها ،فالختلط
بالمسلمين في جنس العبادات ،كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلة الكسوف ،والستسقاء ،ونحو ذلك هو
ل به ورسوله.مما أمر ا ّ
وكذلك الختلط بهم في الحج ،وفي غزو الكفار والخوارج المارقين ،وإن كان أئمة ذلك فجاًرا ،وإن كان في تلك
الجماعات فجار / ،وكذلك الجتماع الذي يزداد العبد به إيماًنا ،إما لنتفاعه به ،وإما لنفعه له ،ونحو ذلك.
ول بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلح قلبه ،وما يختص به
من المور التي ل يشركه فيها غيره ،فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه ،إما في بيته ،كما قال طاووس :نعم صومعة
الرجل بيته ،يكف فيها بصره ولسانه ،وإما في غير بيته.
فاختيار المخالطة مطلًقا خطأ ،واختيار النفراد مطلًقا خطأ ،وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا ،وهذا ،وما
هو الصلح له في كل حال ،فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم.
وكذلك السبب وترك السبب ،فمن كان قادًرا على السبب ،ول يشغله عما هو أنفع له في دينه فهو مأمور به ،مع
ل ،وهو مأمور أن
ل ،وهذا خير له من أن يأخذ من الناس ولو جاءه بغير سؤال ،وسبب مثل هذا عبادة ا ّ التوكل على ا ّ
ل ،فهو مطيع في هذا وهذا ،وهذه طريق ل ويتوكل عليه ،فإن تسبب بغير نية صالحة ،أو لم يتوكل على ا ّيعبد ا ّ
النبياء والصحابة.
ل ل يستطيعون /ضرًبا في الرض يحسبهم الجاهل أغنياء من وأما من كان من الفقراء الذين أحصروا في سبيل ا ّ
ل من الكسب ،ففعل ما هو فيهالتعفف ،فهذا إما أن يكون عاجًزا عن الكسب ،أو قادًرا عليه بتفويت ما هو فيه أطوع ّ
أطوع هو المشروع في حقه ،وهذا يتنوع بتنوع أحوال الناس.
وقد تقدم أن الفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادات ،كما أن جنس الصلة أفضل من جنس القراءة ،وجنس
القراءة أفضل من جنس الذكر ،وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء ،و تارة يختلف باختلف الوقات ،كما أن
القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلة.
وتارة باختلف عمل النسان الظاهر ،كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة ،وكذلك
الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالتفاق ،وأما القراءة في الطواف ،ففيها نزاع معروف.
وتارة باختلف المكنة كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون
الصلة ونحوها ،والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلة ،والصلة للمقيمين بمكة أفضل.
/وتارة باختلف مرتبة جنس العبادة ،فالجهاد للرجال أفضل من الحج ،وأما النساء فجهادهن الحج ،والمرأة المتزوجة
طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لبويها ،بخلف اليمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها.
وتارة يختلف باختلف حال قدرة العبد وعجزه ،فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه ،وإن كان
جنس المعجوز عنه أفضل ،وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس ،ويتبعون أهواءهم.
فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له؛ ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه ،يريد أن يجعله
أفضل لجميع الناس ،ويأمرهم بمثل ذلك.
ل بعث محمًدا بالكتاب والحكمة ،وجعله رحمة للعباد ،وهدًيا لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له ،فعلى المسلم أنوا ّ
حا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له. يكون ناص ً
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له ،ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل ،ومنهم من
يكون تطوعه بالعبادات /البدنية ـ كالصلة والصيام ـ أفضل له ،والفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى ال
عليه وسلم باطنا وظاهًرا.
أما بعد:
ل ،وأن محمًدا عبده ورسوله ،أرسلهاعلم أنه يجب على كل بالغ عاقل من النس والجن ،أن يشهد أن ل إله إل ا ّ
ل شهيًدا .أرسله إلى جميع الخلق ،إنسهم وجنهم ،وعربهمبالهدى ودين الحق ،ليظهره على الدين كله وكفى با ّ
وعجمهم ،وفرسهم وهندهم ،وبربرهم ورومهم ،وسائر أصناف العجم أسودهم ،وأبيضهم ،والمراد بالعجم من ليس
بعربي على اختلف ألسنتهم.
فمحمد صلى ال عليه وسلم أرسل إلى كل أحد ،من النس والجن كتابيهم وغير كتابيهم ،في كل ما يتعلق بدينه من
المور الباطنة والظاهرة ،في عقائده وحقائقه ،وطرائقه وشرائعه ،فل عقيدة إل عقيدته ،ول حقيقة إل حقيقته ،ول
ل ،وإلى رضوانه وجنته وكرامته / طريقة إل طريقته ،ول شريعة إل شريعته ،ول يصل أحد من الخلق إلى ا ّ
ووليته ،إل بمتابعته باطًنا وظاهًرا في القوال والعمال الباطنة والظاهرة في أقوال القلب وعقائده ،وأحوال القلب
وحقائقه ،وأقوال اللسان وأعمال الجوارح.
ل ولي إل من اتبعه باطًنا ،وظاهًرا ،فصدقه فيما أخبر به من الغيوب ،والتزم طاعته فيما فرض على الخلق
وليس ّ
من أداء الواجبات وترك المحرمات .فمن لم يكن له مصدًقا فيما أخبر ملتزًما طاعته فيما أوجب ،وأمر به في المور
ل ولو حصل له الباطنة التي في القلوب والعمال الظاهرة التي على البدان لم يكن مؤمنا فضل عن أن يكون ولًيا ّ
من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل ،فإنه ل يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور من أداء الواجبات
ل ،والمقربة إلى
من الصلة وغيرها بطهارتها وواجباتها إل من أهل الحوال الشيطانية ،المبعدة لصاحبها عن ا ّ
سخطه وعذابه.
لكن من ليس بمكلف من الطفال والمجانين قد رفع القلم عنهم ،فل يعاقبون وليس لهم من اليمان بالّ وتقواه باطًنا
ل المتقين ،وحزبه المفلحين وجنده الغالبين ،لكن يدخلون في السلم تبًعا لبائهم، وظاهًرا ما يكونـون بـه من أولياء ا ّ
س َ
ب ئ ِبَما َك َ
ل اْمِر ٍ
يٍء ُك ّ
ش ْ
ن َ
عَمِلِهْم ِم ْ
ن َ
حْقَنا ِبِهْم ُذّرّيَتُهْم َوَما َأَلْتَناُهْم ِم ْ
ن َأْل َ كما قال تعالىَ} :واّلِذي َ
ن آَمُنوا َواّتَبَعْتُهْم ُذّرّيُتُهْم ِبِإيَما ٍ
َرِهيٌن{ ]الطور.[21 :
ل؛ لن هذه ل وأحوال خواص ا ّ /وهم مع عدم العقل ل يكونون ممن في قلوبهم حقائق اليمان ،ومعارف أهل ولية ا ّ
ل الذين
المور كلها مشروطة بالعقل ،فالجنون مضاد العقل والتصديق والمعرفة واليقين والهدى والثناء ،وإنما يرفع ا ّ
ل ل يعاقبه ويرحمه في الخرة فإنه ل يكون من أولياء ا ّ
ل آمنوا والذين أوتوا العلم درجات ،فالمجنون وإن كان ا ّ
ل درجاتهم.
المقربين والمقتصدين الذين يرفع ا ّ
ل،
ل ،على نور من ا ّل ،وأن يترك معصية ا ّل ،يرجو رحمة ا ّ ل ،على نور من ا ّ/والتقوى أن يعمل الرجل بطاعة ا ّ
ل إل بأداء فرائضه ،ثم بأداء نوافله .قال تعالى) :وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء
ل ،ول يتقرب ولي ا ّ
يخاف عذاب ا ّ
ما افترضت عليه ،ول يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه( كما جاء في الحديث الصحيح اللهي الذي رواه
البخاري.
صل
َف ْ
ل ،وأعظم الفرائض عنده :الصلوات الخمس في مواقيتها ،وهي أول ما يحاسب عليها العبد ومن أحب العمال إلى ا ّ
ل ـ تعالى ـ بنفسه ليلة المعراج لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة ،وهي
من عمله يوم القيامة ،وهي التي فرضها ا ّ
عمود السلم الذي ل يقوم إل به ،وهي أهم أمر الدين ،كما كان ـ أمير المؤمنين ـ عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله:
إن أهم أمركم عندي الصلة ،فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ،ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :بين العبد وبين الشرك ترك الصلة( وقال) :العهد الذي
بيننا وبينهم /الصلة ،فمن تركها فقد كفر( .فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ غير حائض ونفساء ،فهو كافر
ل يحبها ويثيب عليها ،وصلى مع ذلك وقام الليل ،وصاممرتد باتفاق أئمة المسلمين ،وإن اعتقد أنها عمل صالح وإن ا ّ
ضا كافر مرتد ،حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ النهار ،وهو مع ذلك ل يعتقد وجوبها على كل بالغ ،فهو أي ً
عاقل.
صا ل تجب عليهم الصلة، ل خوا ً ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين ،أو أن ّ
بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس ،أو لستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى ،أو أن المقصود
ل فل يحتاج إلى الصلة ،بل حضور القلب مع الرب ،أو أن الصلة فيها تفرقة ،فإذا كان العبد في جمعيته مع ا ّ
المقصود من الصلة هي المعرفة ،فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلة ،فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة،
كالطيران في الهواء ،والمشي على الماء ،أو ملء الوعية ماء من الهواء أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من
الكنوز ،وقتل من يبغضه بالحوال الشيطانية .فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلة ونحو ذلك.
صا ل يحتاجون إلى متابعة محمد صلى ال عليه وسلم ،بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن
ل خوا ً
ل رجا ً
أو أن ّ
موسى ،أو أن كل /من كاشف وطار في الهواء ،أو مشى على الماء ،فهو ولي سواء صلى أو لم يصل.
أو اعتقد أن الصلة تقبل من غير طهارة ،أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل
والطهارات والحانات والقمامين ،وغير ذلك من البقاع ،وهم ل يتوضؤون ول يصلون الصلوات المفروضات ،فمن
ل فهو كافر مرتد عن السلم باتفاق أئمة السلم ،ولو كان في نفسه زاهًدا عابًدا ،فالرهبان اعتقد أن هؤلء أولياء ا ّ
أزهد وأعبد ،وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول ،وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون اتباعه ولكنهم لم يؤمنوا
سِلِه
ل َوُر ُ
ن ِبا ِّ
ن َيْكُفُرو َ بجميع ماجاء به ،بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض ،فصاروا بذلك كافرين كما قال تعالىِ} :إ ّ
ن اّلِذي َ
حّقا
ن َ
ل ُ .أْوَلِئكَ ُهْم اْلَكاِفُرو َ
سِبي ً
ك َ ن َذِل َ خُذوا َبْي َن َيّت ِ
ن َأ ْ ض َوُيِريُدو َ ض َوَنْكُفُر ِبَبْع ٍ ن ِبَبْع ٍن ُنْؤِم ُسِلِه َوَيُقوُلو َ
ل َوُر ُن ا ِّ
ن ُيَفّرُقوا َبْي َ
ن َأ ْ
َوُيِريُدو َ
غُفوًرال َ ن ا ُّ
جوَرُهْم َوَكا َ ف ُيْؤِتيِهْم ُأ ُ سْو َك َ حٍد ِمْنُهْم ُأْوَلِئ َ
ن َأ َ
سِلِه َوَلْم ُيَفّرُقوا َبْي َ
ل َوُر ُن آَمُنوا ِبا ِّ
عَذاًبا ُمِهيًنا َ .واّلِذي َ
ن َ عَتْدَنا ِلْلَكاِفِري َ
َوَأ ْ
َرِحيًما{ ]النساء.[150-152 :
ومن كان مسلوب العقل أو مجنوًنا ،فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه ،فليس عليه عقاب ،ول يصح إيمانه ول صلته
ول صيامه ول شيء من أعماله ،فإن العمال كلها ل تقبل إل مع العقل .فمن ل عقل /له ل يصح شيء من عبادته ل
لْوِلي الّنَهى{ ت ُِ
لَيا ٍ
ك َ ل؛ ولهذا قال تعالىِ} :إ ّ
ن ِفي َذِل َ فرائضه ول نوافله ،ومن ل فريضة له ول نافلة ،ليس من أولياء ا ّ
جر [5 :أي لذي عقل .وقال تعالىَ} :واّتُقوِني َياُأْوِلي ك َقَسٌم ِلِذي ِحْجٍر{ ]الف ْ ل ِفي َذِل َ]طه [54 :أي العقول ،وقال تعالىَ} :ه ْ
ن{ ]النفال ،[22 :وقال تعالىِ} :إّنا َأنَزْلَناُه ل َيْعِقُلو َ
ن َصّم اْلُبْكُم اّلِذي َ
ل ال ّ
عْنَد ا ِّ
ب ِ شّر الّدَوا ّ ب{ ]البقرة [197 :وقالِ} :إ ّ
ن َ لْلَبا ِ
ا َْ
ُقْرآًنا َعَرِبّيا َلَعّلُكْم َتْعِقُلوَن{ ]يوسف.[2 :
ل لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط ،بل قال ل وأثنى على من كان له عقل .فأما من ل يعقل فإن ا ّ فإنما مدح ا ّ
سِعيِر{ ]الملك ،[10 :وقال تعالىَ} :وَلَقْد َذَرْأَنا
ب ال ّ
حا ِ
صَل َما ُكّنا ِفي َأ ْ ـ تعالى ـ عن أهل النارَ} :وَقاُلوا َلْو ُكّنا َن ْ
سَمُع َأْو َنْعِق ُ
ل ُهمْ
لْنَعاِم َب ْ
ن ِبَها ُأْوَلِئكَ َكا َْ
سَمُعو َ ل َي ْ
ن َ ن ِبَها َوَلُهْم آَذا ٌ
صُرو َ ل ُيْب ِ ن َ عُي ٌ
ن ِبَها َوَلُهْم َأ ْ
ل َيْفَقُهو َ
ب َ
س َلُهْم ُقُلو ٌ
لن ِ
ن َوا ِْ
جّ ن اْل ِ
جَهّنَم كَِثيًرا ِم ِْل َ
ضّ
ل ل ُهْم َأ َ لْنَعاِم َب ْ
ل َكا َْن ُهْم ِإ ّ
ن ِإ ْ
ن َأْو َيْعِقُلو َ
سَمُعو َ ن َأْكَثَرُهْم َي ْ
ب َأ ّ
س ُحَ ن{ ]العراف [179 :وقالَ} :أْم َت ْ ك ُهْم اْلَغاِفُلو َ
ل ُأْوَلِئ َ
ضَّأ َ
ل{ ]الفرقان.[44 : سِبي ً
َ
فمن ل عقل له ل يصح إيمانه ول فرضه ول نفله ،ومن كان يهودًيا أو نصرانًيا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح
إسلمه ل باطًنا ول ظاهًرا .ومن كان قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار .ومن كان مؤمًنا ثم جن بعد
ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في /حال عقله ،ومن ولد مجنوًنا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ول كفر .وحكم
المجنون حكم الطفل إذا كان أبواه مسلمين كان مسلًما تبًعا لبويه باتفاق المسلمين ،وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند
جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد.
وكذلك من جن بعد إسلمه يثبت لهم حكم السلم تبًعا لبائهم ،وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له
بالسلم ظاهًرا تبًعا لبويه أو لهل الدار ،كما يحكم بذلك للطفال .ل لجل إيمان قام به ،فأطفال المسلمين ومجانينهم
ل المتقين الذين يوم القيامة تبع لبائهم ،وهذا السلم ل يوجب له مزية على غيره ،ول أن يصير به من أولياء ا ّ
ن َو َ
ل حّتى َتْعَلُموا َما َتُقوُلو َ
سَكاَرى َ
لَة َوَأْنُتْم ُ
صَل َتْقَرُبوا ال ّ يتقربون إليه بالفرائض والنوافل .وقد قال تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ
ن آَمُنوا َ
ل عز وجل عن قربان الصلة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا ما ُجُنًبا ِإلّ َعاِبِري َسِبيٍل َحّتى َتْغَتِسُلوا{ ]النساء [43 :فنهى ا ّ
يقولون.
ل في "سورة المائدة" .وقد روى أنه كان سبب وهذه الية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم الخمر بالية التي أنزلها ا ّ
ل هذه الية؛ فإذا
نزولها :أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم فخلط في القراءة ،فأنزل ا ّ
ل الصلة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون ،علم أن ذلك يوجب أل يصلي /أحد كان قد حرم ا ّ
حتى يعلم ما يقول .فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلة ،وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم؛ ولهذا اتفق
العلماء على أنه ل تصح صلة من زال عقله بأي سبب زال ،فكيف بالمجنون؟!.
وقد قال بعض المفسرين ـ وهو يروي عن الضحاك ـ :ل تقربوها وأنتم سكارى من النوم .وهذا إذا قيل :إن الية دلت
عليه بطريق العتبار أو شمول معنى اللفظ العام ،وإل فل ريب أن سبب نزول الية كان السكر من الخمر .واللفظ
ضا .وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إذا صريح في ذلك؛ والمعنى الخر صحيح أي ً
قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد ،فإنه ل يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ـ وفي لفظ ـ
إذا قام يصلي فنعس فليرقد(.
فقد نهى النبي صلى ال عليه وسلم عن الصلة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس .وقد احتج العلماء بهذا على أن
النعاس ل ينقض الوضوء ،إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلة ،أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة ،والنبي صلى ال
عليه وسلم إنما علل ذلك بقوله) :فإنه ل يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه( فعلم أنه قصد النهي عن الصلة لمن
ل يدري ما يقول وإن كان ذلك بسبب النعاس .وطرد ذلك أنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال) :ل يصلي /أحدكم ،وهو
يدافع الخبثين ول بحضرة طعام( لما في ذلك من شغل القلب .وقال أبو الدرداء :من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته
فيقضيها ثم يقبل على صلته وقلبه فارغ.
فإذا كانت الصلة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح حتى يعلم ما يقول كانت صلة المجنون ومن يدخل
في مسمى المجنون ،وإن سمي مولها أو متولها ،أولى أل تجوز صلته.
ومعلوم أن الصلة أفضل العبادات ،كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال :قلت للنبي صلى ال عليه وسلم :أي
ل؟ قال) :الصلة على وقتها( .قلت :ثم أي ؟ قال) :بر الوالدين( .قلت :ثم أي؟ قال) :الجهاد( .قال: العمل أحب إلى ا ّ
ضا في الصحيحين عنه :أنه جعل أفضل ل صلى ال عليه وسلم ،ولو استزدته لزادني .وثبت أي ً حدثني بهن رسول ا ّ
ل،
ل ،وجهاد في سبيله ،ثم الحج المبرور .ول منافاة بينهما؛ فإن الصلة داخلة في مسمى اليمان با ّ العمال إيمان با ّ
ضيَع ِإيَماَنُكْم{ ]البقرة .[143 :قال البراء بن عازب وغيره من السلف :أي
ل ِلُي ِ كما دخلت في قوله تعالىَ} :وَما َكا َ
ن ا ُّ
صلتكم إلى بيت المقدس.
ولهذا كانت الصلة كاليمان ل تدخلها النيابة بحال ،فل يصلي أحد عن أحد الفرض ،ل لعذر ول لغير عذر .كما ل
يؤمن أحد عنه ،ول /تسقط بحال كما ل يسقط اليمان ،بل عليه الصلة ما دام عقله حاضًرا ،وهو متمكن من فعل
بعض أفعالها .فإذا عجز عن جميع الفعال ولم يقدر على القوال ،فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الفعال
بقلبه؟ فيه قولن للعلماء ،وإن كان الظهر أن هذا غير مشروع.
ل من فرض ونفل ،و]الولية[ هي اليمان والتقوى فإذا كان كذلك ،تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى ا ّ
المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل ،فقد حرم ما به يتقرب أولياء الّ إليه؛ لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فل
يعاقب ،كما ل يعاقب الطفال والبهائم؛ إذ ل تكليف عليهم في هذه الحال .ثم إن كان مؤمًنا قبل حدوث الجنون به ،وله
ل بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك اليمان والعمل الصالح أعمال صالحة ،وكان يتقرب إلى ا ّ
ل تعالى بحسب ما كان عليه من اليمان والتقوى ،كما ل يسقط ذلك بالموت ،بخلف ما ما تقدم ،وكان له من ولية ا ّ
لو ارتد عن السلم؛ فإن الردة تحبط العمال ،وليس من السيئات ما يحبط العمال الصالحة إل الردة ،كما أنه ليس
من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إل التوبة ،فل يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته ،كما
ل يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله بالعمال المسكرة والنوم؛ لنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح ،ولكن في
الحديث /الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إذا مرض العبد أو سافر ،كتب له من
العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم(.
ل؛ لما ثبت من كفره وفسقه؛ ولهذا كانوأما إن كان قبل جنونه كافًرا أو فاسًقا أو مذنًبا ،لم يكن حدوث الجنون به مزي ً
من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشوًرا معهم ،وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه
محشورا مع المؤمنين من المتقين .وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمى صاحبه مولًها أو متولًها ،ل يوجب مزيد
حال صاحبه من اليمان والتقوى ،ول يكون زوال عقله سبًبا لمزيد خيره ول صلحه ول ذنبه؛ ولكن الجنون يوجب
زوال العقل ،فيبقى على ما كان عليه من خير وشر ،ل أنه يزيده ول ينقصه ،لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير،
كما أنه يمنع عقوبته على الشر.
/وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم ،كشرب الخمر ،وأكل الحشيشة ،أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى
يغيب عقله ،أو الذي يتعبد بعبادات بديعة حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله ،أو يأكل بنجا يزيل عقله،
فهؤلء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول .وكثير من هؤلء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه
صا عظيًما حتى يغيب عقله ،أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني ،وكثير من هؤلء يقصد التوله فيرقص رق ً
حتى يصير مولًها .فهؤلء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف عن غير واحد منهم.
واختلف العلماء :هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم؟ والصل "مسألة السكران" والمنصوص عن الشافعي وأحمد
وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله .وقال كثير من العلماء ليس مكلًفا ،وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد،
وإحدى الروايتين عن أحمد :أن طلق السكران ل يقع ،وهذا أظهر القولين .ولم يقل أحد من العلماء :إن هؤلء الذين
ل الموحدين المقربين وحزبه المفلحين .ومن ذكره العلماء من عقلء زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء ا ّ
المجانين الذين ذكروهم بخير ،فهم من القسم الول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم.
ومن علمة هؤلء :أنهم إذا حصل لهم في جنونهم نوع من الصحو /تكلموا بما كان في قلوبهم من اليمان ،ل بالكفر
والبهتان ،بخلف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقه بالكفر والشرك ،ويهذي في زوال عقله بالكفر ،فهذا إنما
يكون كافًرا ل مسلًما ،ومن كان يهذي بكلم ل يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية ،وغير ذلك مما يحصل لبعض
من يحضر السماع ،ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلم ل يعقل ـ أو بغير العربية ـ فهؤلء إنما يتكلم على
ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع.
ل وأحوالً فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب.
ل عقو ً
ومن قال :إن هؤلء أعطاهم ا ّ
ل ،كلم مجمل ،فإن الحوال تنقسم إلى :حال رحماني ،وحال شيطاني ،وما يكون ل لهم أحوا ً
قيل :قولك وهب ا ّ
لهؤلء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب] ،فتارة[ يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان ،وتارة يكون من
الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى واليمان؛ فإن كان هؤلء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية،
وكانوا من المؤمنين المتقين ،فل ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول ،وإن كان ما
أعطوه من الحوال الشيطانية ـ كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون ـ فهؤلء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا
بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق ،كما لم يخرج الولون عما كانوا عليه من اليمان /والتقوى ،كما أن نوم كل
واحد من الطائفتين وموته وإغماءه ل يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال
العقل ،غايته أن يسقط التكليف.
ل ،ولحا ول ثواًبا ول يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء ا ّ ورفع القلم ل يوجب حمًدا ولمد ً
كرامة من كرامات الصالحين ،بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ول مدح في
ذلك ول ذم ،بل النائم أحسن حالً من هؤلء ،ولهذا كان النبياء ـ عليهم السلم ـ ينامون وليس فيهم مجنون ول موله،
والنبي صلى ال عليه وسلم يجوز عليه النوم والغماء ،ول يجوز عليه الجنون ،وكان نبينا محمد صلى ال عليه
وسلم تنام عيناه ول ينام قلبه ،وقد أغمى عليه في مرضه.
ل إزالةل أنبياءه عنه؛ فإنه من أعظم نقائص النسان؛ إذ كمال النسان بالعقل؛ ولهذا حرم ا ّوأما الجنون فقد نزه ا ّ
العقل بكل طريق ،وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل ،كشرب الخمر؛ فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل؛ لنها
ل كما
طا أو مقرًبا إلى ولية ا ّ
ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل ،فكيف يكون مع هذا زوال العقل سبًبا أو شر ً
يظنه كثير من أهل الضلل؟! حتى قال قائلهم في هؤلء:
فهذا كلم ضال ،بل كافر ،يظن أن للمجنون سًرا يسجد العقل على بابه ،وذلك لما رآه من بعض المجانين من نوع
مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة ،ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان،
ل ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين واليهود
فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا ّ
ل عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب والنصارى؛ فإن كثيًرا من الكفار والمشركين فض ً
شياطينهم أضعاف ما لهؤلء؛ لنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب؛ لكن لبد في جميع مكاشفة
هؤلء من الكذب والبهتان .ولبد في أعمالهم من فجور وطغيان ،كما يكون لخوانهم من السحرة والكهان ،قال ا ّ
ل
ك َأِثيٍم{ ]الشعراء.[222 ،221 :
ل َأّفا ٍ
عَلى ُك ّ
ل َ
ن َ .تَنّز ُ
طي ُ
شَيا ِ
ل ال ّ
ن َتَنّز ُ
عَلى َم ْ تعالىَ} :ه ْ
ل ُأَنّبُئُكْم َ
فكل من تنزلت عليه الشياطين لبد أن يكون فيه كذب /وفجور ،من أي قسم كان ،والنبي صلى ال عليه وسلم قد
ل هم الذين يتقربون إليه بالفرائض ،وحزبه المفلحون ،وجنده الغالبون ،وعباده الصالحون .فمن أخبر أن أولياء ا ّ
ل المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك ،فمن اعتقد في اعتقد فيمن ل يفعل الفرائض ول النوافل أنه من أولياء ا ّ
ل المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين ،فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين ،وإذا مثل هؤلء أنه من أولياء ا ّ
ن َقاُلوا ل كان من الكاذبين الذين قيل فيهمِ} :إَذا َ
جاَءكَ اْلُمَناِفُقو َ ل وأشهد أن محمًدا رسول ا ّ قال :أنا أشهد أن ل إله إل ا ّ
ساَء َما
ل ِإّنُهْم َ
ل ا ِّ
سِبي ِ
ن َ
عْ
صّدوا َ
جّنًة َف َ
خُذوا َأْيَماَنُهْم ُ
ن .اّت َ
ن َلَكاِذُبو َ
ن اْلُمَناِفِقي َ
شَهُد ِإ ّ
ل َي ْ
سوُلُه َوا ُّك َلَر ُ
ل َيْعَلُم ِإّن َ
ل َوا ُّ
ل ا ِّسو ُ ك َلَر ُ
شَهُد ِإّن َ
َن ْ
طِبَع َعَلى ُقُلوِبِهْم َفُهْم َل َيْفَقُهوَن{ ]المنافقون.[1-3 : ك ِبَأّنُهْم آَمُنوا ُثّم َكَفُروا َف ُن َ .ذِل َ
َكاُنوا َيْعَمُلو َ
ل على
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :من ترك ثلث جمع تهاوًنا من غير عذر طبع ا ّ
قلبه( ،فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع وإن صلى الظهر ،فكيف بمن ل يصلي ظهًرا ول جمعة ول فريضة
ول نافلة ،ول يتطهر للصلة ل الطهارة الكبرى ول الصغرى؟! فهذا لو كان قبل مؤمًنا ،وكان قد طبع على قلبه كان
كافًرا مرتًدا بما تركه ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض ،وإن اعتقد أنه مؤمن كان كافًرا مرتًدا ،فكيف يعتقد أنه من
ل{ ]المجادلة [19 :أي: ساُهْم ِذْكَر ا ِّ
ن َفَأن َ
طا ُ
شْي َ
عَلْيِهْم ال ّ
حَوَذ َ ل المتقين ،وقد قال تعالى في صفة المنافقين} :ا ْ
سَت ْ أولياء /ا ّ
ل به ورسولهاستولى ،يقال :حاذ البل حوًذا :إذا استاقها ،فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلف ما أمر ا ّ
حَوَذ جا ،فهؤلء }ا ْ
سَت ْ طيَن َعَلى اْلَكاِفِريَن َتُؤّزُهْم َأّزا{ ]مريم [83 :أي تزعجهم إزعا ً شَيا ِ
سْلَنا ال ّقال تعالىَ} :أَلْم َتَرى َأّنا َأْر َ
طاِن هُْم اْلَخاِسُروَن{ ]المجادلة.[19 :
شْي َ
ب ال ّ
حْز َ
ن ِ
ل ِإ ّ
ن َأ َ
طا ِ
شْي َ
ب ال ّ
حْز ُ
ك ِل ُأْوَلِئ َ
ساُهْم ِذْكَر ا ِّن َفَأن َطا ُ
شْي َ
عَلْيِهْم ال ّ
َ
وفي السنن عن أبي الدرداء عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ما من ثلثة في قرية ،ل يؤذن ول تقام فيهم
الصلة ،إل استحوذ عليهم الشيطان( ،فأي ثلثة كانوا من هؤلء ل يؤذن ول تقام فيهم الصلة كانوا من حزب
الشيطان الذين استحوذ عليهم ،ل من أولياء الرحمن الذين أكرمهم ،فإن كانوا عباًدا زهاًدا ولهم جوع وسهر وصمت
وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات ،كأهل جبل لبنان ،وأهل جبل الفتح الذي بآسون ،وجبل
ليسون ،ومغارة الدم بجبل قاسيون ،وغير ذلك من الجبال والبقاع التي يقصدها كثير من العباد الجهال الضلل،
ويفعلون فيها خلـوات ورياضات من غير أن يؤذن ،وتقام فيهم الصلة الخمس ،بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها ا ّ
ل
ورسوله ،بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لحوالهم بالكتاب والسنة / ،ول قصد المتابعة لرسول ا ّ
ل
ل َوَيْغِفْر َلُكْم ُذُنوَبُكْم{ الية ]آل عمران [31 :فهؤلء أهل البدع
حِبْبُكْم ا ُّ
ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ
ن ا َّ
حّبو َ
ن ُكْنُتْم ُت ِ ل فيهُ} :ق ْ
ل ِإ ْ الذي قال ا ّ
ل فهو شاهد زور كاذب وعن طريق والضللت من حزب الشيطان ل من أولياء الرحمن ،فمن شهد لهم بولية ا ّ
الصواب ناكب.
ل ،فهو مرتد عن دين السلم وإما ثم إن كان قد عرف أن هؤلء مخالفون للرسول ،وشهد مع ذلك أنهم من أولياء ا ّ
عا لهواه،
مكذب للرسول ،وإما شاك فيما جاء به مرتاب ،وإما غير منقاد له بل مخالف له إما جحوًدا أو عناًدا أو اتبا ً
وكل من هؤلء كافر.
ل إلى كل أحد في المور الباطنة والظاهرة، ل بما جاء به الرسول ،وهو معتقد مع ذلك أنه رسول ا ّ وأما إن كان جاه ً
ل إل بمتابعته صلى ال عليه وسلم ،لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما وأنه ل طريق إلى ا ّ
جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان ،لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته ،ل لقصد مخالفته ،ول
يرجو الهدى في غير متابعته ـ فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب ،فإن تاب وأناب وإل ألحق
ل ،كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد بالقسم الذي قبله وكان كافًرا مرتًدا ،ول تنجيه عبادته ول زهادته من عذاب ا ّ
الصلبان وعباد النيران وعباد الوثان ،مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية ،ومكاشفات شيطانية قال /تعالى:
صْنًعا{ ]الكهف.[104 ،103 :
ن ُسُنو َ
حِن َأّنُهْم ُي ْ
سُبو َ
حَحَياِة الّدْنَيا َوُهْم َي ْ
سْعُيُهْم ِفي اْل َ
ل َ
ضّ
ن َ
ل اّلِذي َ
عَما ً
ن َأ ْ
سِري َ
خَلْ
ل َهلْ ُنَنّبُئُكْم ِبا َْ
}ُق ْ
قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات .وقد روى عن علي بن أبي طالب
ل عنه ـ وغيرهم أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضللت .وقال تعالىَ} :ه ْ
ل ـ رضي ا ّ
ك َأِثيٍم{ ]الشعراء [222 ،221 :فالفاك هو الكذاب والثيم الفاجر كما
ل َأّفا ٍ
عَلى ُك ّ
ل َن َ .تَنّز ُطي ُ
شَيا ِ
ل ال ّن َتَنّز ُ
ُأَنّبُئُكْم عََلى َم ْ
طَئٍة{ ]العلق.[16 ،15 : خا ِ
صَيٍة َكاِذَبٍة َ
صَيِة َ .نا ِ قالَ} :لَن ْ
سَفًعا ِبالّنا ِ
ومن تكلم في الدين بل علم كان كاذًبا وإن كان ل يتعمد الكذب ،كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه
ل فوضعت بعد وسلم ،لما قالت له سبيعة السلمية ،وقد توفى عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع ،فكانت حام ً
موت زوجها بليال قلئل ،فقال لها أبو السنابل بن بعكك :ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الجلين فقال النبي
صلى ال عليه وسلم) :كذب أبو السنابل ،بل حللت فانكحى( ،وكذلك لما قال سلمة بن الكوع أنهم يقولون :إن عامًرا
قتل نفسه وحبط عمله فقال) :كذب من قالها ،إنه لجاهد مجاهد( ،وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب ،فإنه كان رج ً
ل
حا ،وقد روى أنه كان أسيد بن الحضير ،لكنه لما تكلم بل علم كذبه النبي صلى ال عليه وسلم.
صال ً
ل ،وإن يكن /وقد قال أبوبكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ـ فيما يفتون فيه باجتهادهم ـ :إن يكن صواًبا فمن ا ّ
ل ورسوله بريئان منه .فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان ،فكيف خطأ فهو مني ومن الشيطان ،وا ّ
ضا من الشيطان ،مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب ،والمجتهد بمن تكلم بل اجتهاد يبيح له الكلم في الدين؟ فهذا خطؤه أي ً
خطؤه من الشيطان وهو مغفور له ،كما أن الحتلم والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور له بخلف من تكلم
بل اجتهاد يبيح له ذلك ،فهذا كاذب آثم في ذلك ،وإن كانت له حسنات في غير ذلك ،فإن الشيطان ينزل على كل
عَلْيِهْم
ك َ
س َل َ
عَباِدي َلْي َ ل وطاعته له قال تعالىِ} :إ ّ
ن ِ إنسان ويوحي إليه بحسب موافقته له ،ويطرد بحسب إخلصه ّ
طاٌن{ ]الحجر.[42 : سْل َ
ُ
وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات ،وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد
عُبُدوِني
نا ْ
ن َ .وَأ ْ
عُدّو ُمِبي ٌ
ن ِإّنُه َلُكْم َ
طا َ
شْي َ
ل َتْعُبُدوا ال ّ
ن َ الشيطان ،ل من عباد الرحمن .قال تعالىَ} :أَلْم َأ ْ
عَهْد ِإَلْيُكْم َياَبِني آَدَم َأ ْ
ل َكِثيًرا َأَفَلْم َتُكوُنوا َتْعِقُلوَن{ ]يس.[60-62 : جِب ّ
ل ِمْنُكْم ِ
ضّسَتِقيٌم َ .وَلَقْد َأ َ
ط ُم ْ
صَرا ٌ
َهَذا ِ
والذين يعبدون الشيطان أكثرهم ل يعرفون أنهم يعبدون الشيطان ،بل قد يظنون أنهم يعبدون الملئكة أو الصالحين،
كالذين يستغيثون بهم /ويسجدون لهم فهم في الحقيقة ،إنما عبدوا الشيطان وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد
ن ُدوِنِهْم
ت َوِلّيَنا ِم ْ
ك َأْن َ
حاَن َ
سْب َ
ن َ .قاُلوا ُ
لِء ِإّياُكْم َكاُنوا َيْعُبُدو َ
لِئَكِة َأَهُؤ َ
ل ِلْلَم َ
جِميًعا ُثّم َيُقو ُ
شُرُهْم َ
حُل الصالحين .قال تعالىَ} :وَيْوَم َي ْ ا ّ
َبْل َكاُنوا َيْعُبُدوَن اْلِجّن َأْكَثُرُهْم ِبِهْم ُمْؤِمُنوَن{ ]سبأ.[41 ،40 :
ولهذا نهى النبي صلى ال عليه وسلم عن الصلة وقت طلوع الشمس ووقت غربها ،فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى
يكون سجود عباد الشمس له ،وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس وسجودهم للشيطان ،وكذلك أصحاب دعوات
الكواكب الذين يدعون كوكًبا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه ويدعونه ويصنعون له من الطعام واللباس والبخور
والتبركات ما يناسبه ،كما ذكره صاحب ]السر المكتوم[ المشرقي ،وصاحب ]الشعلة النورانية[ البوني المغربي
وغيرهما؛ فإن هؤلء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض المور وتقضي لهم بعض الحوائج ويسمون ذلك
روحانية الكواكب.
ل بحسب ما والى فيه الرحمن ،وكان فيه وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان أخرى كان فيه من اليمان وولية ا ّ
ل والنفاق بحسب ما والى فيه الشيطان ،كما قال حذيفة بن اليمان :القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج من عداوة ا ّ
يزهر فذلك قلب المؤمن .وقلب أغلف فذلك قلب الكافر ـ والغلف :الذي يلف عليه غلف .كما قال تعالى عن اليهود:
ل َعَلْيَها ِبُكْفِرِهْم{ ]النساء [155 :وقد تقدم قوله صلى ال عليه وسلم) :من ترك ثلث جمع
طَبَع ا ُّ
ل َ
ف َب ْ
غْل ٌ
}ٍَوَقْوِلِهْم ُقُلوُبَنا ُ
ل على قلبه( ـ وقلب منكوس فذلك قلب المنافق .وقلب فيه مادتان :مادة تمده لليمان ومادة تمده للنفاق ،فأيهما طبع ا ّ
عا.
غلب كان الحكم له .وقد روى هذا في ]مسند المام أحمد[ مرفو ً
ل بن عمرو بن العاص عن النبي صلى ال عليه وسلم /أنه قال) :أربع من كن فيه كان
وفي الصحيحين عن عبد ا ّ
منافًقا خالصا ،ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها :إذا اؤتمن خان ،وإذا حدث كذب،
وإذا عاهد غدر ،وإذا خاصم فجر(.
فقد بين النبي صلى ال عليه وسلم أن القلب يكون فيه شعبة نفاق ،وشعبة إيمان ،فإذا كان فيه شعبة نفاق كان فيه شعبة
من وليته وشعبة من عداوته؛ ولهذا يكون بعض هؤلء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه بالّ وتقواه تكـون
ل تعالى :أن نقول
من كرامـات الولياء ،وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين؛ ولهذا أمرنا ا ّ
ضاّليَن{ ]الفاتحة.[7 ،6 :
ل ال ّ
عَلْيِهْم َو َ
ب َ
ضو ِ
غْيِر اْلَمْغ ُ
عَلْيِهْم َ
ت َ
ن َأْنَعْم َ
ط اّلِذي َ
صَرا َ
سَتِقيَم ِ .
ط اْلُم ْ كل صـلة} :اْهِدَنا ال ّ
صَرا َ
ل أن يهدينا الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعم عليهم ،من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،وحسن نسأل ا ّ
أولئك رفيًقا.
ل على محمد.
ل رب العالمين .والعاقبة للمتقين .وصلى ا ّ
والحمد ّ
ل عّمن َيُقول:
سِئ َ
َو ُ /
فأجــاب:
إن أراد بذلك العمال المشروعة الموافقة للكتاب والسنة ،كالصلة ،والصدقة ،والجهاد ،والذكر ،والقراءة وغير ذلك.
فهذا صحيح.
ل أعلم.
ل طريًقا مخالًفا للكتاب والسنة ،فهو باطل .وا ّ
وإن أراد إلى ا ّ
ل فل
ل من شرور أنفسنا ،ومن سيئات أعمالنا ،من يهد ا ّ
ل ،نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ،ونعوذ با ّ
الحمد ّ
مضل له ،ومن يضلل فل هادي له.
قال الشيخ أبو محمد عبد القادر في كتاب [فتوح الغيب] :لبد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلثة أشياء:
أمر يمتثله.
ونهي يجتنبه.
/فأقل حالة ل يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الشياء الثلثة ،فينبغي له أن يلزم بها قلبه ،ويحدث بها نفسه ،ويأخذ بها
الجوارح في كل أحواله.
قلت :هذا كلم شريف ،جامع يحتاج إليه كل أحد ،وهو تفصيل لما يحتاج إليه العبد ،وهي مطابقة لقوله تعالىِ} :إّنُه َم ْ
ن
ضّرُكْم َكْيُدُهْم َشْيًئا{]آل
ل َي ُ
صِبُروا َوَتّتُقوا َ ن{ ]يوسف ،[90 :ولقوله تعالىَ} :وِإ ْ
ن َت ْ سِني َ
حِجَر اْلُم ْ
ضيُع َأ ْ
ل ُي ِ
ل َ
ن ا َّ
صِبْر َفِإ ّ
ق َوَي ْ
َيّت ِ
ك ِمْن َعْزِم اُْلُموِر{ ]آل عمران[186 :؛ فإن ]التقوى[ تتضمن: ن َذِل َ
صِبُروا َوَتّتُقوا َفِإ ّ عمران [120 :ولقوله تعالىَ} :وِإ ْ
ن َت ْ
فعل المأمور ،وترك المحظور ،و]الصبر[ يتضمن :الصبر على المقدور .فالثلثة ترجع إلى هذين الصلين ،والثلثة
ل ورسوله.
في الحقيقة ترجع إلى امتثال المر ،وهو طاعة ا ّ
ل ورسوله ،وهو :أن يفعل في ذلك الوقت ما أمر به في فحقيقة المر أن كل عبد فإنه محتاج في كل وقت إلى طاعة ا ّ
ل
س ِإ ّ
لن َن َوا ِْ
جّت اْل ِ
خَلْق ُل التي خلق لها الجن والنس ،كما قال تعالىَ} :وَما َ ل ورسوله هي :عبادة ا ّ ذلك الوقت وطاعة ا ّ
عُبُدوا
سا ْ ن{ ]الحجر ،[99 :وقال تعالىَ} :ياَأّيَها الّنا ُ ك اْلَيِقي ُ
حّتى َيْأِتَي َ
ك َ ن{ ]الذاريات ،[56 :وقال تعالىَ} :وا ْ
عُبْد َرّب َ ِلَيْعُبُدو ِ
َرّبُكْم اّلِذي َخَلَقُكْم َواّلِذيَن ِمْن َقْبِلُكْم َلَعّلُكْم َتّتُقوَن{ ]البقرة.[21 :
ل َأنْ
سو ً ل ،ول يشركوا به شيًئا ،وقال تعالىَ} :وَلَقْد َبَعْثَنا ِفي ُك ّ
ل ُأّمٍة َر ُ والرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا ا ّ /
ن آِلَهًة
حَم ِ
ن الّر ْن ُدو ِجَعْلَنا ِم ْ
سِلَنا َأ َ
ن ُر ُك ِم ْ
ن َقْبِل َ
سْلَنا ِم ْ
ن َأْر َ
ل َم ْ ت{ ]النحل ،[36 :وقال تعالىَ} :وا ْ
سَأ ْ غو َ
طا ُ
جَتِنُبوا ال ّ
ل َوا ْ
عُبُدوا ا َّ
ُا ْ
ُيْعَبُدوَن{ ]الزخرف.[45 :
وإنما كانت الثلثة ترجع إلى امتثال المر؛ لنه في الوقت الذي يؤمر فيه بفعل شيء من الفرائض ،كالصلوات
الخمس والحج ونحو ذلك ،يحتاج إلى فعل ذلك المأمور ،وفي الوقت الذي تحدث أسباب المعصية يحتاج إلى المتناع
والكراهة والمساك عن ذلك ،وهذا فعل لما أمر به في هذا الوقت ،وأما من لم تخطر له المعصية ببال ،فهذا لم يفعل
شيًئا يؤجر عليه ،ولكن عدم ذنبه مستلزم لسلمته من عقوبة الذنب ،والعدم المحض المستمر ل يؤمر به ،وإنما يؤمر
بأمر يقدر عليه العبد ،وذاك ل يكون إل حادًثا ،سواء كان إحداث إيجاد أمر ،أو إعدام أمر.
وأما القدر الذي يرضى به ،فإنه إذا ابتلى بالمرض أو الفقر أو الخوف ،فهو مأمور بالصبر أمر إيجاب ،ومأمور
بالرضا ،إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب؛ وللعلماء من أصحابنا وغيرهم في ذلك قولن ،ونفس الصبر والرضا
ل.
ل ورسوله ،هو من امتثال المر وهو عبادة ّ بالمصائب هو طاعة ّ
/لكن هذه الثلثة وإن دخلت في امتثال المر عند الطلق ،فعند التفصيل والقتران :إما أن تخص بالذكر ،وإما أن
لَة ِلِذْكِري{
صَ عَلْيِه{ ]هود ،[123 :وقولهَ} :فا ْ
عُبْدِني َوَأِقْم ال ّ ل َ يقال :يراد بهذا مال يراد بهذا ،كما في قولهَ} :فا ْ
عُبْدُه َوَتَوّك ْ
صا ،وإما
]طه ،[14 :فإن هذا داخل في العبادة إذا أطلق اسم العبادة ،وعند القتران إما أن يقال :ذكره عموًما وخصو ً
صا يغني عن دخوله في العام. أن يقال :ذكره خصو ً
شِر ِ
ق ب اْلَم ْ
ل َ .ر ّ
ل ِإَلْيِه َتْبِتي ً
ك َوَتَبّت ْ ن{]الفاتحة ،[5 :وقولهَ} :واْذُكْر ا ْ
سَم َرّب َ سَتِعي ُ
ك َن ْ ومثل هذا قوله تعالىِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد َوِإّيا َ
ل{ ]المّزمل .[8-10 :وقد يقال :لفظ جِمي ًجًرا َ
جْرُهْم َه ْ
ن َواْه ُ
عَلى َما َيُقوُلو َ
صِبْر َ ل َ .وا ْ خْذُه َوِكي ً ل ُهَو َفاّت ِ
ل ِإَلَه ِإ ّ
ب َ
َواْلَمْغِر ِ
]التبتيل[ ل يتناول هذه المور المعطوفة كما يتناولها لفظ العبادة والطاعة.
وبالجملة فرق ما بين ما يؤمر به النسان ابتداء ،وبين ما يؤمر به عند حاجته إلى جلب المنفعة ودفع المضرة ،أو عند
حب الشيء وبغضه.
ل روحه ـ يدور على هذا القطب ،وهو أن يفعل المأمور ويترك المحظور ،ويخلوا فيما سواهما وكلم الشيخ ـ قدس ا ّ
ل به ،وما لم يؤمر به العبد بل فعله الرب عز وجل بل واسطة العبد،
عن إرادة؛ /لئل يكون له مراد غير فعل ما أمر ا ّ
أو فعله بالعبد بل هوى من العبد .فهذا هو القدر الذي عليه أن يرضى به.
وسيأتي في كلم الشيخ ما يبين مراده ،وأن العبد في كل حال عليه أن يفعل ما أمر به ،ويترك ما نهي عنه .وأما إذا لم
يكن هو أمر العبد بشيء من ذلك فما فعله الرب كان علينا التسليم فيما فعله ،وهذه هي ]الحقيقة[ في كلم الشيخ
وأمثاله .وتفصيل الحقيقة الشرعية في هذا المقام أن هذا نوعان:
أحدهما :أن يكون العبد مأموًرا فيما فعله الرب .إما بحب له وإعانة عليه .وإما ببغض له ودفع له.
ل علىفالول :مثل البر والتقوى الذي يفعله غيره ،فهو مأمور بحبه وإعانته عليه ،كإعانة المجاهدين في سبيل ا ّ
الجهاد ،وإعانة سائر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بحسب المكان ،وبمحبة ذلك والرضا به ،وكذلك هو مأمور
عند مصيبة الغير :إما بنصر مظلوم ،وإما بتعزية مصاب ،وإما بإغناء فقير ونحو ذلك.
/وأما ما هو مأمور ببغضه ودفعه ،فمثل ما إذا أظهر الكفر والفسوق والعصيان ،فهو مأمور ببغض ذلك ودفعه،
وإنكاره بحسب المكان كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح) :من رأى منكم منكًرا فليغيره بيده،
فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اليمان(.
وأما ما ل يؤمر العبد فيه بواحد منهما ،فمثل ما يظهر له من فعل النسان للمباحات التي لم يتبين له أنه يستعان بها
على طاعة ول معصية .فهذه ل يؤمر بحبها ،ول ببغضها ،وكذلك مباحات نفسه المحضة التي لم يقصد الستعانة بها
على طاعة ول معصية.
مع أن هذا نقص منه ،فإن الذي ينبغي أنه ل يفعل من المباحات إل ما يستعين به على الطاعة ،ويقصد الستعانة بها
ل تعالى بالنوافل بعد الفرائض ،ولم يزل أحدهم يتقرب
على الطاعة ،فهذا سبيل المقربين السابقين الذين تقربوا إلى ا ّ
إليه بذلك حتى أحبه ،فكان سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها،
وأما من فعل المباحات مع الغفلة ،أو فعل فضول المباح التي ل يستعان بها على طاعة مع أداء الفرائض واجتناب
المحارم باطًنا وظاهًرا ،فهذا من المقتصدين أصحاب اليمين.
/وبالجملة الفعال التي يمكن دخولها تحت المر والنهي ل تكون مستوية من كل وجه ،بل إن فعلت على الوجه
المحبوب كان وجودها خيًرا للعبد ،وإل كان تركها خيًرا له وإن لم يعاقب عليها ،ففضول المباح التي ل تعين على
ل ،فإنها تكون شاغلة له عن ذلك ،وأما إذا قدر
الطاعة عدمها خير من وجودها ،إذا كان مع عدمها يشتغل بطاعة ا ّ
ل كانت رحمة في حقه ،وإن كان اشتغاله أنها تشغله عما دونها فهي خير له مما دونها ،وإن شغلته عن معصية ا ّ
ل خيًرا له من هذا وهذا.
بطاعة ا ّ
وكذلك أفعال الغفلة والشهوة التي يمكن الستعانة بها على الطاعة ،كالنوم الذي يقصد به الستعانة على العبادة؛
صا من العبدوالكل والشرب واللباس والنكاح الذي يمكن الستعانة به على العبادة ،إذا لم يقصد به ذلك كان ذلك نق ً
وفوات حسنة ،وخير يحبه ال ،ففي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لسعد) :إنك لن تنفق نفقة تبتغي
ي امرأتك( ،وقال في الصحيح) :نفقة المسلم على ل ،إل ازددت بها درجة ورفعة ،حتى اللقمة تضعها في ف ّ بها وجه ا ّ
أهله يحتسبها صدقة(.
فما ل يحتاج إليه من المباحات ،أو يحتاج إليه ولم يصحبه إيمان يجعله حسنة ،فعدمه خير من وجوده ،إذا كان مع
ل،
عدمه يشتغل بما هو /خير منه ،وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم) :في بضع أحدكم صدقة( .قالوا :يارسول ا ّ
يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر .قال) :أرأيتم لو وضعها في الحرام أما كان عليه وزر؟( قالوا :بلى ! قال) :فكذلك
إذا وضعها في الحلل كان له بها أجر ،فلم تعتدون بالحرام ول تعتدون بالحلل ؟(.
ضا ،فالعبد مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات ،هو مأمور بالكل عند الجوع ،والشرب عند العطش؛ ولهذاوأي ً
يجب على المضطر إلى الميتة أن يأكل منها ،ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجًبا للوعيد ،كما هو قول جماهير
العلماء من الئمة الربعة وغيرهم ،وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه ،بل وهو مأمور /بنفس عقد النكاح إذا
احتاج إليه وقدر عليه ،فقول النبي صلى ال عليه وسلم) :في بضع أحدكم صدقة( فإن المباضعة مأمور بها لحاجته
ولحاجة المرأة إلى ذلك ،فإن قضاء حاجتها التي ل تنقضي إل به بالوجه المباح صدقة.
والسلوك سلوكان:
سلوك البرار أهل اليمين ،وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطًنا وظاهًرا.
والثاني :سلوك المقربين السابقين ،وهو فعل الواجب والمستحب بحسب المكان ،وترك المكروه والمحرم ،كما قال
النبي صلى ال عليه وسلم) :إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ،وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم(.
وكلم الشيوخ الكبارـ كالشيخ عبد القادر وغيره ـ يشير إلى هذا السلوك؛ ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب
وينهون عما هو مكروه غير محرم ،فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة ،وبالعامة مسلك العامة ،وطريق الخاصة
ل ويرضاه،ل ورسوله بإرادته ،وهو ما يحبه /ا ّ طريق المقربين أل يفعل العبد إل ما أمر به ،ول يريد إل ما أمر ا ّ
ويريده إرادة دينية شرعية ،وإل فالحوادث كلها مرادة له خلًقا وتكويًنا.
عا؛ وذلك لن من الحواث ما يجب دفعه ل ،ول مأمور شر ً والوقوف مع الرادة الخلقية القدرية مطلًقا غير مقدور عق ً
ول تجوز إرادته ،كمن أراد تكفير الرجل أو تكفير أهله ،أو الفجور به أو بأهله أو أراد قتل النبي وهو قادر على
دفعه ،أو أراد إضلل الخلق وإفساد دينهم ودنياهم ،فهذه المور يجب دفعها وكراهتها؛ ل تجوز إرادتها.
وأما المتناع عقل ،فلن النسان مجبول على حب ما يلئمه وبغض ما ينافره ،فهو عند الجوع يحب ما يغنيه
كالطعام ،ول يحب ما ل يغنيه كالتراب فل يمكن أن تكون إرادته لهذين سواء.
ل وعبادته وحده، وكذلك يحب اليمان والعمل الصالح الذي ينفعه ،ويبغض الكفر والفسوق الذي يضره ،بل ويحب ا ّ
ن{ ب اْلَعاَلِمي َ
ل َر ّ عُدّو ِلي ِإ ّ نَ .فِإّنُهْم َلْقَدُمو َ ويبغض عبادة ما دونه ،كما قال الخليلَ} :أَفَرَأْيُتْم َما ُكْنُتْم َتْعُبُدو َ
نَ .أْنُتْم َوآَباُؤُكْم ا َْ
ن َمَعُه ِإْذ َقاُلوا ِلَقْوِمِهْم ِإّنا ُبَرآءُ ِمْنُكْم َوِمّما َتْعُبُدو َ
ن سَنٌة ِفي ِإْبَراِهيَم َواّلِذي َحَ سَوٌة َ ت َلُكْم ُأ ْ]الشعراء ،[77 - 75 :وقال تعالىَ} :قْد َكاَن ْ
لِ َوْحَدُه{ ]الممتحنة.[4 : حّتى ُتْؤِمُنوا ِبا ّ ضاُء َأَبًدا َ ل َكَفْرَنا ِبُكْم َوَبَدا َبْيَنَنا َوَبْيَنُكْم اْلَعَداَوُة َواْلَبْغ َ
ن ُدونِ ا ِّ
ِم ْ
فإذا عرف أن العبد مفطور على حب ما ينفعه ،وبغض مايضره لم يمكن أن تستوى إرادته لجميع الحوادث فطرة
ل بإرادة أمور وكراهة أخرى.
وخلًقا ،ول هو مأمور من جهة الشرع أن يكون مريًدا لجميع الحوادث ،بل قد أمره ا ّ
ل عليهم وسلمه ـ بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها ل بتحويل الفطرة وتغييرها .وقد قال والرسل ـ صلوات ا ّ /
النبي صلى ال عليه وسلم) :كل مولود يولد على الفطرة ،فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه( ،قال تعالىَ} :فَأِقْم
س َل َيْعَلُموَن{ ]الروم،[30 :
ن َأْكَثَر الّنا ِ
ن اْلَقّيُم َوَلِك ّ
ك الّدي ُ
ل َذِل َ
ق ا ِّ
خْل ِ
ل ِل َ
ل َتْبِدي َ
عَلْيَها َ
س َ
طَر الّنا َ
ل اّلِتي َف َ
طَرَة ا ِّ
حِنيًفا ِف ْ
ن َ
ك ِللّدي ِ
جَه َ
َو ْ
ل تعالى :إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم) :يقول ا ّ
وحرمت عليهم ما أحللت لهم ،وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا(.
ل ،وذلك يتضمن حبه تعالى والذل له ،ل يشرك به شيء ،ل في الحب ول والحنيفية :هي الستقامة بإخلص الدين ّ
ل وحده،
ل وحده ،وكذلك الخشية والتقوى ّ
في الذل؛ فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل ،وذلك ل يستحقه إل ا ّ
ل وحده.والتوكل على ا ّ
سوَلهُ
ل َوَر ُ طْع ا َّ والرسول يطاع ويحب ،فالحلل ما أحله والحرام ما حرمه ،والدين ما شرعه ،قال تعالىَ} :وَم ْ
ن ُي ِ
سُبَنا ا ُّ
ل حْسوُلُه َوَقاُلوا َل َوَر ُ ن{ ]النور ،[52 :وقال تعالىَ} :وَلْو َأّنُهْم َر ُ
ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ ك ُهْم اْلَفاِئُزو َ ل َوَيّتِقِه َفُأْوَلِئ َ ش ا َّ
خ َ َوَي ْ
ل َراِغُبوَن{ ]التوبة.[59 :
سوُلُه ِإّنا ِإَلى ا ِّ
ضِلِه َوَر ُن َف ْ ل ِم ْ سُيْؤِتيَنا ا َُّ
ل بإرادته ومحبته.
فهذا هو الصل الذي يجب على كل أحد أن يعتصم به ،فل بد أن يكون مريًدا محًبا لما أمره ا ّ
ل بكراهته وبغضه.
ضا لما أمره ا ّ
كارًها مبغ ً
فالنبي الملك :يعطي بإرادته ل يعاقب على ذلك ،كالذي يفعل المباحات بإرادته ،وأما العبد الرسول فل يعطي ول
يمنع إل بأمر ربه ،وهو محبته ورضاه وإرادته الدينية ،والسابقون المقربون أتباع العبد الرسول ،والمقتصدون أهل
اليمين أتباع النبي الملك ،وقد يكون للنسان حال هو فيها خال عن الرادتين :وهو أل تكون له إرادة في عطاء ول
منع ،ل إرادة دينية هو مأمور بها ،ول إرادة نفسانية سواء كان منهًيا عنها أو غير منهي عنها ،بل ما وقع كان مراًدا
عا في ذلك. له ،ومهما فعل به كان مراًدا له ،من غير أن يفعل المأمور به شر ً
/فهذا بمنزلة من له أموال يعطيها وليس له إرادة في إعطاء معين ،ل إرادة شرعية ول إرادة مذمومة ،بل يعطي كل
أحد .فهذا إذا قدر أنه قام بما يجب عليه بحسب إمكانه ولكنه خفى عليه الرادة الشرعية في تفصيل أفعاله ،فإنه ليذم
على ما فعل ول يمدح مطلًقا ،بل يمدح لعدم هواه ،ولو علم تفصيل المأمور به وأراده إرادة شرعية لكان أكمل؛ بل
حا له،
هذا مع القدرة إما واجب وإما مستحب .وحال هذا خير من حال من يريد بحكم هواه ونفسه؛وإن كان ذلك مبا ً
وهو دون من يريد بأمر ربه ل بهواه ،ول بالقدر المحض.
فمضمون هذا المقام أن الناس في المباحات من الملك والمال وغير ذلك على ثلثة أقسام:
قوم ل يتصرفون فيها إل بحكم المر الشرعي .وهو حال نبينا صلى ال عليه وسلم .وهو حال العبد الرسول ومن
اتبعه في ذلك.
وقوم يتصرفون فيها بحكم إرادتهم والشهوة التي ليست محرمة .وهذا حال النبي الملك .وهو حال البرار أهل اليمين.
وقوم ل يتصرفون بهذا ول بهذا .أما الول :فلعدم /علمهم به .وأما الثاني :فلزهدهم فيه؛ بل يتصرفون فيها بحكم
ل الخلقية القدرية حين تعذر معرفة الرادة الشرعية المرية ،وهذا كالترجيح بالقرعة عا لرادة ا ّ
القدر المحض ،اتبا ً
إذا تعذر الترجيح بسبب شرعي معلوم ،وقد يتصرف هؤلء في هذا المقام بإلهام يقع في قلوبهم وخطاب.
ل روحه ـ كثيًرا ما يقع في هذا المقام؛ فإنه يأمر بالزهد في إرادة النفس وهواها،
وكلم الشيخ عبد القادر ـ قدس ا ّ
حتى ل يتصرف بحكم الرادة والنفس ،وهذا رفع له عن حال البرار أهل اليمين وعن طريق الملوك مطلًقا ،ومن
حصل هذا وتصرف بالمر الشرعي المحمدي القرآني فهو أكمل الخلق ،لكن هذا قد يخفى عليه ،فإن معرفة هذا على
التفصيل قد يتعذر أو يتعسر في كثير من المواضع أل ترى أن النبي صلى ال عليه وسلم لما حكم سعد ابن معاذ في
ل من فوق سبعةبني قريظة فحكم بقتل مقاتلتهم ،وبسبي ذراريهم ،وغنيمة أموالهم .قال) :لقد حكمت فيهم بحكم ا ّ
أرقعة( ،وذلك أن تخيير ولي المر بين القتل والسترقاق ،والمن والفداء ليس تخيير شهوة ،بل تخيير رأي ومصلحة،
ل ،وإل فل. فعليه أن يختار الصلح ،فإن اختار ذلك فقد وافق حكم ا ّ
ولما كان هذا يخفي كثيًرا ،قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث /الصحيح) :إذا حاصرت أهل حصن فسألوك
ل فيهم ،ولكن أنزلهم على حكمك وحكم ل ،فإنك ل تدري ماحكم ا ّل فل تنزلهم على حكم ا ّأن تنزلهم على حكم ا ّ
ل،
أصحابك( ،والحاكم الذي ينزل أهل الحصن على حكمه عليه أن يحكم باجتهاده ،فلما أمر سعد بما هو الرضي ّ
ل في الباطن.
والحب إليه ،حكم بحكمه ،ولو حكم بغير ذلك لنفذ حكمه فإنه حكم باجتهاده ،وإن لم يكن ذلك هو حكم ا ّ
ففي مثل هذه الحال التي ل يتبين المر الشرعي في الواقعة المعينة ،يأمر الشيخ عبدالقادر وأمثاله من الشيوخ :تارة
بالرجوع إلى المر الباطن واللهام إن أمكن ذلك ،وتارة بالرجوع إلى القدر المحض لتعذر السباب المرجحة من
جهة الشرع ،كما يرجح الشارع بالقرعة .فهم يأمرون أل يرجح بمجرد إرادته وهواه ،فإن هذا إما محرم وإما مكروه،
وإما منقص ،فهم في هذا النهي كنهيهم عن فضول المباحات.
ثم إن تبين لهم المر الشرعي وجب الترجيح به ،وإل رجحوا ،إما بسبب باطن من اللهام والذوق ،وإما بالقضاء
ل ،كما كان النبي صلى ال عليه وسلم يعلموالقدر الذي ل يضاف إليهم .ومن يرجح في مثل هذه الحال باستخارة ا ّ
أصحابه الستخارة في المور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن ،فقد أصاب.
/وهذا كما أنه إذا تعارضت أدلة المسألة الشرعية عند الناظر المجتهد ،وعند المقلد المستفتي ،فإنه ل يرجح شيًئا ،بل
ما جرى به القدر أقروه ،ولم ينكروه ،وتارة يرجح أحدهم :إما بمنام ،وإما برأي مشير ناصح ،وإما برؤية المصلحة
في أحد الفعلين.
وأما الترجيح بمجرد الختيار ،بحيث إذا تكافأت عنده الدلة يرجح بمجرد إرادته واختياره .فهذا ليس قول أحد من
أئمة السلم ،وإنما هو قول طائفة من أهل الكلم ،ولكن قاله طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي :أنه يخير بين
المفتين المختلفين .وهذا كما أن طائفة من السالكين إذا استوى عنده المران في الشريعة رجح بمجرد ذوقه وإرادته،
فالترجيح بمجرد الرادة التي ل تستند إلى أمر علمي باطن ول ظاهر ،ل يقول به أحد من أئمة العلم والزهد .فأئمة
الفقهاء والصوفية ل يقولون هذا.
ولكن من جوز لمجتهد أو مقلد الترجيح بمجرد اختياره وإرادته ،فهو نظير من شرع للسالك الترجيح بمجرد إرادته
وذوقه.
لكن قد يقال :القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي .وعلى هذا التقدير ليس من هذا ،فمن غلب
ل أو مكروه ،ورأي
ل ،إذا لم يدر في المر المعين /هل هو محبوب ّ
ل ،وبغض ما يكرهه ا ّ على قلبه إرادة ما يحبه ا ّ
حا عنده .كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه ،فإن الترجيح بخبر هذا عند
قلبه يحبه أو يكرهه ،كان هذا ترجي ً
انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي.
ل( ثم قرأ
وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :اتقوا فراسة المؤمن ،فإنه ينظر بنور ا ّ
ت ِلْلُمَتَوّسِميَن{ ]الحجر .[57 :وقال عمر بن الخطاب :اقتربوا من أفواه المطيعين ،واسمعوا
لَيا ٍ
ك َ قوله تعالىِ} :إ ّ
ن ِفي َذِل َ
ل تعالى) :ول يزال عبدي يتقرب إلي منهم ما يقولون ،فإنه تتجلى لهم أمور /صادقة .وقد ثبت في الصحيح قول ا ّ
بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي
يمشي بها ،فبي يسمع ،وبي يبصر ،وبي يبطش ،وبي يمشي(.
ل ـ سبحانه وتعالى ـ فطر عباده على الحنيفية :وهو حب المعروف ،وبغض المنكر ،فإذا لم تستحل الفطرة ضا فا ّ وأي ً
فالقلوب مفطورة على الحق ،فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة اليمان ،منورة بنور القرآن ،وخفي عليها دللة الدلة
ل علم القرآن السمعية الظاهرة ،ورأى قلبه يرجح أحد المرين ،كان هذا من أقوى المارات عند مثله ،وذلك أن ا ّ
ل{ الية ثم قالَ} :وَكَذِل َ
ك سو ً
ل َر ُ
سَب َأْو ُيْر ِ
جا ٍ
حَن َوَراِء ِ حًيا َأْو ِم ْ
ل َو ْ
ل ِإ ّ
ن ُيَكّلَمُه ا ُّ
شٍر َأ ْ ل تعالىَ} :وَما َكا َ
ن ِلَب َ واليمان .قال ا ّ
ب َوَل اِْليَماُن َوَلِكْن َجَعْلَناُه ُنوًرا َنْهِدي ِبِه َمْن َنَشاُء ِمْن ِعَباِدَنا{ ]الشورى،51 : ت َتْدِري َما اْلِكَتا ُ ن َأْمِرَنا َما ُكْن َ
حا ِم ْ
ك ُرو ً
حْيَنا ِإَلْي َ
َأْو َ
ل بن عمر :تعلمنا اليمان ،ثم تعلمنا القرآن ،فازددنا إيماًنا. ل ،وعبد ا ّ ،[52وقال جندب بن عبد ا ّ
ل أنزل المانة في جذر قلوب الرجال،وفي الصحيحين عن حذيفة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إن ا ّ
فعلموا من القرآن وعلموا من السنة( ،وفي الترمذي وغيره حديث النواس عن النبي صلى ال عليه وسلم /أنه قال:
طا مستقيما ،وعلى جنبتي الصراط سوران ،وفي السورين أبواب مفتحة ،وعلى البواب ستور ل صرا ً
ل مث ً
)ضرب ا ّ
مرخاة ،وداع يدعو على رأس الصراط ،وداع يدعو من فوق الصراط .فالصراط المستقيم هو السلم ،والستور
ل .فإذا أراد العبد أن يفتح باًبا من تلك البواب ناداه المنادي ـ أو كما قال ـ يا
ل ،والبواب المفتحة محارم ا ّ
حدود ا ّ
ل فيل ،والداعي فوق الصراط واعظ ا ّ ل ل تفتحه ،فإنك إن تفتحه تلجه .والداعي على رأس الصراط كتاب ا ّ عبد ا ّ
قلب كل مؤمن(.
فقد بين أن في قلب كل مؤمن واعظ ،والواعظ المر والنهي بترغيب وترهيب؛ فهذا المر والنهي الذي يقع في قلب
المؤمن مطابق لمر القرآن ونهيه؛ ولهذا يقوى أحدهما بالخر .كما قال تعالىُ} :نوٌر َعَلى ُنوٍر{ ]النور ،[35 :قال
بعض السلف في الية :هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر .فإذا سمع بالثر كان نوًرا على نور .نور
ل أنزل الكتاب والميزان
اليمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن ،كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل؛ فإن ا ّ
ليقوم الناس بالقسط.
وقد يؤتي العبد أحدهما ول يؤتي الخر ،كما في الصحيحين عن أبي موسى الشعري عن النبي صلى ال عليه وسلم
أنه قال) :مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الترجة طعمها طيب وريحها طيب ،ومثل /المؤمن الذي ل يقرأ القرآن
كمثل التمرة طعمها طيب ول ريح لها ،ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ،ومثل
المنافق الذي ل يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر(.
واللهام في القلب تارة يكون من جنس القول والعلم والظن والعتقاد ،وتارة يكون من جنس العمل والحب والرادة
والطلب ،فقد يقع في قلبه أن هذا القول أرجح وأظهر وأصوب ،وقد يميل قلبه إلى أحد المرين دون الخر ،وفي
الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :قد كان في المم قبلكم محدثون ،فإن يكن في أمتي أحد فعمر(،
والمحدث الملهم المخاطب ،وفي مثل هذا قول النبي صلى ال عليه وسلم في حديث وابصة) :البر ما اطمأنت إليه
النفس وسكن إليه القلب ،والثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك( وهو في السنن .وفي صحيح مسلم عن
النواس عن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :البر حسن الخلق ،والثم ما حاك في نفسك ،وكرهت أن يطلع عليه
الناس( .وقال ابن مسعود :الثم حزاز القلوب.
ضا فإذا كانت المور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن يقيًنا أو ظًنا ،فالمور الدينية كذلك بطريق الولى ،فإنه إلى
وأي ً
كشفها أحوج ،لكن هذا في الغالب لبد أن يكون كشًفا بدليل ،وقد يكون /بدليل ينقدح في قلب المؤمن ،ول يمكنه
التعبير عنه .وهذا أحد ما فسر به معنى الستحسان.
وقد قال من طعن في ذلك ـ كأبي حامد وأبي محمد ـ :ما ل يعبر عنه فهو هوس ،وليس كذلك؛ فإنه ليس كل أحد يمكنه
صا ،وكثيرمن أهل الكشف يلقي في قلبه أن هذا الطعام
إبانة المعاني القائمة بقلبه ،وكثير من الناس يبينها بياًنا ناق ً
ل أو
حرام ،أو أن هذا الرجل كافر أو فاسق ،من غيردليل ظاهر ،وبالعكس قد يلقي في قلبه محبة شخص وأنه ولي ّ
أن هذا المال حلل.
حا لطالب الحق إذا وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الحكام الشرعية ،لكن إن مثل هذا يكون ترجي ً
تكافأت عنده الدلة السمعية الظاهرة .فالترجيح بها خير من التسوية بين المرين المتناقضين قطًعا ،فإن التسوية
بينهما باطلة قطًعا.كما قلنا :إن العمل بالظن الناشئ عن ظاهر أو قياس خير من العمل بنقيضه إذا احتيج إلى العمل
بأحدهما .والصواب الذي عليه السلف والجمهور أنه لبد في كل حادثة من دليل شرعي ،فليجوز تكافؤ الدلة في
نفس المر ،لكن قد تتكافأ عند الناظر لعدم ظهور الترجيح له ،وأما من قال :إنه ليس في نفس المر حق معين ،بل
كل مجتهد عالم بالحق الباطن في المسألة ،وليس لحدهما على الخر مزية في علم ول عمل ،فهؤلء /قد يجوزون
أو بعضهم تكافؤ الدلة ،ويجعلون الواجب التخيير بين القولين ،وهؤلء يقولون ليس على الظن دليل في نفس المر؛
وإنما رجحان أحد القولين هو من باب الرجحان بالميل والرادة ،كترجيح النفس الغضبية للنتقام ،والنفس الحليمة
للعفو.
وهذا القول خطأ؛ فإنه لبد في نفس المر من حق معين يصيبه المستدل تارة ويخطئه أخرى .كالكعبة في حق من
اشتبهت عليه القبلة والمجتهد إذا أداه اجتهاد إلى جهة سقط عنه الفرض بالصلة إليها كالمجتهد إذا أداه اجتهاده إلى
ل وله أجر على ذلك ،وليس مصيًبا بمعنى أنه علم ل ،وهو مصيب بمعنى أنه مطيع ّ قول فعمل بموجبه كلهما مطيع ّ
الحق المعين؛ فإن ذلك ل يكون إل واحًدا ومصيبه له أجران وهذا في كشف النواع التي يكون عليها دليل شرعي
لكن قد يخفي على العبد ،فإن الشارع بين الحكام الكلية.
ل أو فاسًقا أو مؤمًنا أو منافًقا أو ولًيا
وأما الحكام المعينات التي تسمى :تنقيح المناط ،مثل كون الشخص المعين عد ً
ل أو عدًوا له ،وكون هذا المعين عدًوا للمسلمين يستحق القتل ،وكون هذا العقار ليتيم أو فقير يستحق الحسان إليه، ّ
وكون هذا المال يخاف عليه من ظلم ظالم ،فإذا زهد فيه الظالم انتفع به أهله ،فهذه /المور ل يجب أن تعلم بالدلة
الشرعية العامة الكلية ،بل تعلم بأدلة خاصة تدل عليها.
ل بعض عباده حال هذا المال المعين ،وحال هذا الشخص المعين ،وإن لم يكن
ومن طرق ذلك :اللهام ،فقد يلهم ا ّ
هناك دليل ظاهر يشركه فيه غيره.
ل ،فهؤلء ل يفعلون ول يأمرون إل بما يحبونه بهواهم، والنوع الثاني :عكس هذا ،وهو أنهم يتبعون هواهم ،ل أمر ا ّ
ت َتُكو ُ
ن خَذ ِإَلَهُه َهَواُه َأَفَأْن َ
ن اّت َ ول يتركون وينهون إل عما يكرهونه بهواهم ،وهؤلء شر الخلق .قال تعالىَ} :أَرَأْي َ
ت َم ْ
ن اّتَبَع َهَواُه
ل ِمّم ْ ضّ ل{ ]الفرقان [43 :قال الحسن :هو المنافق ل يهوي شيًئا إل ركبه ،وقال تعالىَ}ْ / :وَم ْ
ن َأ َ عَلْيِه َوِكي ً
َ
ل{ ]القصص ،[50 :وقال عمر بن عبد العزيز :ل تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه ،ويخالفه إذا ن ا ِّ
ِبَغْيِر ُهًدى ِم ْ
ل عنه ـ لنه خالف هواه ،فإذا أنت ل تثاب على ما اتبعته من الحق ،وتعاقب على ما خالفته .وهو كما قال ـ رضي ا ّ
ل.
في الموضعين إنما قصد اتباع هواه لم يعمل ّ
أل ترى أن أبا طالب نصر النبي صلى ال عليه وسلم ،وذب عنه أكثر من غيره؛ لكن فعل ذلك لجل القرابة ،ل لجل
ل؛ فقال
ل عنه ـ أعانه بنفسه وماله ّ ل ذلك منه ،ولم يثبه على ذلك؟! وأبو بكر الصديق ـ رضي ا ّ ل تعالى ،فلم يتقبل ا ّ ا ّ
سْو َ
ف عَلى َ .وَل َ
لْ
جِه َرّبِه ا َْ
ل اْبِتَغاَء َو ْ
جَزى ِ .إ ّ
ن ِنْعَمةٍ ُت ْ
عْنَدُه ِم ْ
حٍد ِ
لَلْتَقى .اّلِذي ُيْؤِتي َماَلُه َيَتَزّكى َ .وَما َِ
جّنُبَها ا َْ ل فيهَ} :و َ
سُي َ ا ّ
ضى{ ]الليل.[17-21 : َيْر َ
وأما خلو النسان عن الرادة مطلًقا فممتنع ،فإنه مفطور على إرادة مالبد له منه وعلى كراهة ما يضره ويؤذيه،
ل :مثل أداء الفرائض وترك المحارم ،بل وكذلك عموم والزاهد الناسك إذا كان مسلًما فل بد أن يريد أشياء يحبها ا ّ
ل ،فلم يحب شيًئا من الطاعات،
ل ،ول أحب شيًئا ّ ل ،وإل فمن لم يحب ا ّالمؤمنين لبد أن يريد أحدهم أشياء يحبها ا ّ
ل الشهادتين ول غيرهما ول يريد ذلك فإنه ل يكون مؤمًنا ،فلبد لكل مؤمن من أن تكون له إرادة لبعض ما يحبه
ل ل يحبها ولل ،فإنه أراد المعصية وا ّ
ل ،فهذا لزم لكل من عصى ا ّ ل؛ وأما إرادة العبد لما يهواه ول يحبه ا ّ
ا ّ
يرضاها .وأما الخلو عن الرادتين المحمودة والمذمومة فيقع على وجهين:
ل تعالى وطاعته وإن علم بها ،فإنه قد يعلم كثيًرا من المور أنه مأمور بها،
أحدهما :مع إعراض العبد عن عبادة ا ّ
ل،
وهو ل يريدها ول يكره من غيره فعلها ،وإذا اقتتل المسلمون والكفار لم يكن مريًدا لنتصار هؤلء الذي يحبه ا ّ
ل.
ول لنتصار هؤلء الذي يبغضه ا ّ
ل نهى
ل أمر به ،المجتنبين لما يعلمون أن ا ّ
والوجه الثاني :يقع من كثير من الزهاد العباد الممتثلين لما /يعلمون أن ا ّ
عنه ،وأمور أخرى ل يعلمون أنها مأمور بها ول منهي عنها ،فل يريدونها ول يكرهونها لعدم العلم ،وقد يرضونها
ل وأنهم لما خلو عن هوى النفس كانوا من جهة كونها مخلوقة مقدرة ،وقد يعاونون عليها ،ويرون هذا موافقة ّ
ل ورسوله علينا أن نحب مأمورين بالرضا بكل حادث؛ بل والمعاونة عليه .وهذا موضع يقع فيه الغلط ،فإن ما أحبه ا ّ
ل ورسوله ل ورسوله ،وأما ما ل يحبه ا ّل ورسوله فعلينا أن نبغض ما أبغضه ا ّ ل ورسوله .وما أبغضه ا ّ
ما أحبه ا ّ
ل ل يحبها ويرضاها
ل ورسوله كالفعال التي ل تكليف فيها مثل أفعال النائم والمجنون ،فهذا إذا كان ا ّ ول يبغضه ا ّ
ضا ل ينبغي أن يحبها ويرضاها ول يكرهها. ول يكرهها ويذمها ،فالمؤمن أي ً
والثاني :الرضا بالمصائب ،فهذا مأمور به :إما مستحب ،وإما واجب.
ل ل يحبه ول /والثالث :الكفر والفسوق والعصيان ،فهذا ل يؤمر بالرضا به ،بل يؤمر ببغضه وسخطه ،فإن ا ّ
ب اْلَفَساَد{ ]البقرة،[205 : ح ّ
ل ُي ِ ل{ ]النساء ،[108 :وقالَ} :وا ُّ
ل َ ن اْلَقْو ِ
ضى ِم ْ
ل َيْر َ يرضاه ،كما قال تعالىِ} :إْذ ُيَبّيُتو َ
ن َما َ
ب
ح ّ
ل ُي ِ
ل َ ن{ ]آل عمران ،[32 :وقالِ} :إ ّ
ن ا َّ ب اْلَكاِفِري َ
ح ّ
ل ُي ِ
ل َ ضى ِلِعَباِدِه اْلُكْفَر{ ]الزمر ،[7 :وقالَ} :فِإ ّ
ن ا َّ وقالَ} :و َ
ل َيْر َ
اْلُمْعَتِديَن{ ]المائدة.[87 :
وهو وإن خلقه لما له في ذلك من الحكمة فل يمتنع أن يخلق مال يحبه لفضائه إلى الحكمة التي يحبها ،كما خلق
ل في أن يخلق ما يشاء ،وهو محمود على ذلك.الشياطين ،فنحن راضون عن ا ّ
وأما نفس هذا الفعل المذموم وفاعله ،فل نرضى به ول نحمده ،وفرق بين ما يحب لنفسه ،وما يراد لفضائه إلى
ضا من جهة أخرى؛ فإن المر الواحد يراد من وجه ويكره من وجه آخر ،كالمريض الذي المحبوب ،مع كونه مبغ ً
يتناول الدواء الكريه؛ فإنه يبغض الدواء ويكرهه ،وهو مع هذا يريد استعماله لفضائه إلى المحبوب ،ل لنه في نفسه
محبوب.
ل تعالى) :وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ،يكره وفي الحديث الصحيح يقول ا ّ
الموت وأكره مساءته ولبد له منه( ،فهو سبحانه لما كره مساءة عبده المؤمن الذي /يكره الموت ،كان هذا مقتضًيا
ل تعالى
أن يكره إماتته ،مع أنه يريد إماتته؛ لما له في ذلك من الحكمة ـ سبحانه وتعالى ـ فالمور التي يبغضها ا ّ
ل به حيث خلقها ،لما له في ذلك من الحكمة ،فكذلكوينهى عنها ل تحب ول ترضى ،لكن نرضى بما يرضى ا ّ
الفعال التي ل يحبها ول يبغضها ل ينبغي أن تحب ول ترضى ،كما ل ينبغي أن تبغض.
ل رًبا ،وبالسلم ديًنا ،وبمحمد نبًيا ،وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى والرضا الثابت بالنص هو أن يرضى با ّ
ل أن يرضيه( ،وأما بالنسبة
ل رًبا ،وبالسلم ديًنا ،وبمحمد نبًيا ،كان حًقا على ا ّال عليه وسلم أنه قال) :من رضى با ّ
ل ،إذ له الحمد على كل حال ،ويرضى بما يرضاه من الحكمة التي خلق لجلها ما خلق وإن إلى القدر فيرضى عن ا ّ
كنا نبغض ما يبغضه من المخلوقات ،فحيث انتفي المر الشرعي أو خفي المر الشرعي ل يكون المتثال والرضا
والمحبة ،كما يكون في المر الشرعي ،وإن كان ذلك مقدوًرا.
فمنهم من هو أعرف من غيره بالمر الشرعي وأطوع له ،فهذا /تكون حاله أحسن ممن يقصر عنه في المعرفة
بالمر الشرعي والطاعة له.
ومنهم من يبعد عن المر الشرعي ،ويسترسل حتى ينسلخ من السلم بالكلية ،ويبقى واقًفا مع هواه والقدر.
وهؤلء ينظرون إلى الحقيقة القدرية معرضين عن المر الشرعي ول بد مع ذلك من اتباع أمر ونهي غير المر
ل ورسوله ،إذ السترسال مع القدر مطلًقا ممتنع لذاته ،لما تقدم من أن العبد
الشرعي ،إما من أنفسهم وإما من غير ا ّ
مفطور على محبة أشياء وبغض أشياء.
ل كالميت مع الغاسل ل يصح ول يسوغ على الطلق عن أحد من المسلمين، وقول من قال :إن العبد يكون مع ا ّ
ل به وأحبه ،فلبد
ل عليه ،وإل فإذا علم ما أمر ا ّ
وإنما يقال ذلك في بعض المواضع؛ ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر ا ّ
ل ،ويبغض ما أبغضه.أن يحب ما أحبه ا ّ
صـــل
َف ْ
وكما أن الطريقة العلمية بصحة النظر في الدلة والسباب هي الموجبة للعلم ،كتدبر القرآن والحديث ،فالطريقة
العملية بصحة الرادة والسباب هي الموجبة للعمل؛ ولهذا يسمون السالك في ذلك :المريد ،كما يسميه أولئك:
الطالب ،و النظر جنس تحته حق وباطل ،ومحمود ومذموم ،وكذلك :الرادة.
فكما أن طريق العلم لبد فيه من العلم النبوي الشرعي ،بحيث يكون معلومك المعلومات الدينية النبوية ،ويكون علمك
بها مطابًقا لما أخبرت به الرسل ،وإل فل ينفعك أي معلوم علمته ،ول أي شيء اعتقدته فيما أخبرت به الرسل ،بل
ل وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر ،فكذلك ]الرادة[ لبد فيها من تعيين المراد ،وهو ا ّ
ل لبد من اليمان با ّ
ل وتكون عبادتك إياه بما شرع على ألسنة رسله ،إذ لبد من والطريق إليه ،وهو ما أمرت به الرسل .فل بد أن تعبد ا ّ
ل.
تصديق الرسول فيما أخبر علًما ،ولبد من طاعته فيما أمر عم ً
وأما من جعل حكمه مجرد القدر ،كما فعل صاحب ]منازل السائرين[ وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن
يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة ـ فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع .فل ينفع المريد
ل بأي عبادة كانت ،بل هذه طريقة المشركين المبتدعين الذين لهمالقاصد أن يعبد أي معبود كان ،ول أن يعبد ا ّ
ل بغير أمر
ل ،كالنصارى ومن أشبههم من أهل البدع الذين يعبدون غير ا ّ شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به ا ّ
ل وحده ،ويعبدونه بما شرع .ل يعبدونه بالبدع إل ما يقع من أحدهم خطأ. ل ،وأما أهل السلم والسنة فهم يعبدون ا ّا ّ
ل بالخوف منهفالسالكون طريق الرادة قد يغلطون تارة في المراد ،وتارة في الطريق إليه ،وتارة يألهون غير ا ّ
والرجاء له ،والتعظيم والمحبة له وسؤاله والرغبة إليه ،فهذا حقيقة الشرك المحرم ،فإن حقيقة /التوحيد أل يعبد إل
ل.
ا ّ
والعبادة تتضمن كمال الحب ،وكمال التعظيم ،وكمال الرجاء ،والخشية ،والجلل والكرام .والفناء في هذا التوحيد
فناء المرسلين واتباعهم ،وهو أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه ،وبطاعته عن طاعة ما سواه ،وبسؤاله عن سؤال
ما سواه ،وبخوفه عن خوف ما سواه ،وبرجائه عن رجاء ماسواه ،وبحبه والحب فيه عن محبة ما سواه والحب فيه.
ل ،لكن ل يتبعون المر الشرعي في إرادته ،لكن تارة يعبده أحدهم بما يظنه وأما الغالطون في الطريق فقد يريدون ا ّ
يرضيه ،ول يكون كذلك ،وتارة ينظرون القدر لكونه مراده ،فيفنون في القدر الذي ليس لهم فيه غرض ،وأما الفناء
المطلق فيه فممتنع .وهؤلء يفني أحدهم متبًعا لذوقه ووجده المخالف للمر الشرعي ،أو ناظًرا إلى القدر .وهذا يبتلى
به كثير من خواصهم.
والشيخ عبد القادر ،ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمًرا بالتزام الشرع ،والمر والنهي ،وتقديمه على الذوق والقدر،
ومن أعظم المشائخ أمًرا بترك الهوى والرادة النفسية .فإن الخطأ في الرادة من حيث هي إرادة إنما تقع من هذه
ل ،بل يريد ما يريده الرب ـ عز وجل ـ :إما إرادة
الجهة؛ فهو يأمر السالك /أل تكون له إرادة من جهة هواه أص ً
شرعية أن تبين له ذلك ،وإل جرى مع الرادة القدرية ،فهو إما مع أمر الرب ،وإما مع خلقه ،وهو سبحانه له الخلق
والمر.
وهذه طريقة شرعية صحيحة ،إنما يخاف على صاحبها من ترك إرادة شرعية ل يعلم أنها شرعية ،أو من تقديم إرادة
قدرية على الشرعية فإنه إذا لم يعلم أنها شرعية فقد يتركها ،وقد يريد ضدها ،فيكون ترك مأموًرا أو فعل محظوًرا
وهو ل يعلم .فإن طريقة الرادة :يخاف على صاحبها من ضعف العلم؛ وما يقترن بالعلم من العمل ،والوقوع في
الضلل ،كما أن طريقة العلم يخاف على صاحبها من ضعف العمل ،وضعف العلم الذي يقترن بالعمل ،لكن ل يكلف
طْعُتْم{ ]التغابن ،[16 :فإذا تفقه السالك ،وتعلم المر
سَت َ سا إل وسعها من هذا ،وهذا .قال تعالىَ} :فاّتُقوا ا َّ
ل َما ا ْ ل نف ً
ا ّ
والنهي بحسب اجتهاده ،وكان علمه وإرادته بحسب ذاك ،فهذا مستطاعه .وإذا أدى الطالب ما أمر به ،وترك ما نهى
عنه ،وكان علمه مطابًقا لعمله ،فهذا مستطاعه.
صـــل
َف ْ /
ل والتوكل عليه ،فل تطعهم في قلت :فحكمه يتناول خلقه وأمره ،أي :افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة ا ّ
ل تعالى ول تتعلق بهم في جلب منفعه ول دفع مضرة .وأما الفناء عن الهوى بالمر وعن الرادة بالفعل بأن معصية ا ّ
ل ل لرادة نفسه ،فالرادة تارة
يكون فعله موافًقا للمر الشرعي ل لهواه ،وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل ا ّ
تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات.
فالول :يكون بالمر ،والثاني :ل تكون له إرادة .ول بد في هذا أن يقيد بأل تكون له إرادة لم يؤمر بها ،وإل فإذا أمر
بأن يريد من المقدورات شيًئا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته ،سواء كان موافًقا للقدر أم ل .وهذا الموضع قد يغلط
فيه طائفة من السالكين/ .والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم
إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور.
فإذا كان القلب ل يرجوهم ،ول يخافهم ،لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأموًرا به من المشي
ل،
ل عنه ،كذهاب الرسل ،واتباع الرسل إلى من يبلغون رسالت ا ّ ل به ،ونهيهم عما نهاهم ا ّ إليهم لمرهم بما أمر ا ّ
ل عليه ،وإل فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمرل متوك ً
فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد .ليكون عابًدا ّ
به؛ فقد يكون ما أضاعه من المر أولى به مما قام به من التوكل ،أو مثله أو دونه ،كما أن من قام بأمر ولم يتوكل
عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب ،بل قد يكون ما تركه من التوكل والستعانة أولى به مما فعله من المر أو مثله
أو دونه.
قال الشيخ) :وعلمة فنائك عنك وعن هواك :ترك التكسب ،والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر ،فل تتحرك
ل فيتوله آخًرا .كما
فيك بك ول تعتمد عليك لك ول تنصر نفسك ،ول تذب عنك ،لكن تكل ذلك كله /إلى من توله أو ً
كان ذلك موكولً إليه في حال كونك مغيًبا في الرحم ،وكونك رضيًعا طفل في مهدك(.
قلت :وهذا لن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها ودفع ما تبغضه ويضرها ،فإذا فنى عن ذاك بالمر فعل ما يحبه
ل عما يبغضه وحينئذ فالنفس لبد
ل عن محبوبه وبترك ما يبغضه ا ّل فاعتاض بفعل محبوب ا ّل وترك ما يبغضه ا ّ
ا ّ
ل.
ل على ا ّ
لها من جلب المنفعة ودفع المضرة ،فيكون في ذلك متوك ً
ل ـ ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لن النفس لبد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة ،فإن لم تكن والشيخ ـ رحمه ا ّ
ل في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل المر مطلًقا ،بل لبد أن تعصي المر في جلب متوكلة على ا ّ
ل وطاعة أمره بدون التوكل عليه ،كما أن التوكل عليه ل يصح بدون عبادته المنفعة ودفع المضرة فل تصح العبادة ّ
ل
ث َحْي ُ
ن َ
جا َ .وَيْرُزْقُه ِم ْ
خَر ً
ل َلُه َم ْ
جَع ْ
ل َي ْ
ق ا َّ عَلْيِه{ ]هود ،[123 :وقال تعالىَ} :وَم ْ
ن َيّت ِ ل َ وطاعته ،قال تعالىَ} :فا ْ
عُبْدُه َوَتَوّك ْ
شِر ِ
ق ب اْلَم ْ
ل َ .ر ّ
ل ِإَلْيِه َتْبِتي ً
ك َوَتَبّت ْ سُبُه{ ]الطلق ،[3 ،2 :وقال تعالىَ} :واْذُكْر ا ْ
سَم َرّب َ حْل َفُهَو َعَلى ا ِّ ل َن َيَتَوّك ْب َوَم ْس ُحَت ِ
َي ْ
ل{ ]المزمل. [9 ،8 :خْذُه َوِكي ًل ُهَو َفاّت ِ
ل ِإَلَه ِإ ّ
ب َ َواْلَمْغِر ِ
ل أن يجلب له ماوالمقصود أن امتثال المر على الطلق ل يصح بدون /التوكل والستعانة ،ومن كان واثًقا با ّ
ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره ،وإل فنفسه ل تدعه أن يترك ما يقول :إنه محتاج فيه إلى
غيره.
ل أنك ل تريد مراًدا قط ،فل يكن لك غرض ،ول تقف لك ل عنه ـ :وعلمة فناء إرادتك بفعل ا ّقال الشيخ ـ رضي ا ّ
ل تعالي وفعله ،ساكن ل سواها ،بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة ا ّ حاجة ول مرام؛ لنك ل تريد مع إرادة ا ّ
الجوارح مطمئن الجنان ،مشروح الصدر ،منور الوجه ،عامر الباطن ،غنيا عن الشياء بخالقها ،تقلبك يد القدرة
ويدعوك لسان الزل ،ويعلمك رب الملك ويكسوك نوًرا منه والحلل ،وينزلك منازل من سلف من أولى العلم الول،
فتكون منكسًرا أبًدا.
فل تثبت فيك شهوة ول إرادة :كالناء المتثلـم الذي ل يثبت فيه مائع ول كدر فتفنوا عـن أخلق البشريـة ،فلـن يقبـل
ل ،فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم باطنـك ساكنًـا غيـر إرادة ا ّ
ل تبارك وتعالى حًقا في العلم فتدخل حينئذ في زمـرة المنكـسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية، وهو فعل ا ّ
وأزيلت شهواتهم الطبيعية واستوثقت لهم إرادات ربانيـة وشهوات إضافية .كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :حبب
إلى من /دنياكم :النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلة( فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيًقا
ل تعالى) :أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي( وساق كلمه .وفيه) :ول يزال عبدي يتقرب لما أشرت إليه وتقدم ،قال ا ّ
ي بالنوافل( الحديث. إل ّ
ل عنه ـ وحقيقته أنه ل يريد كون شيء إل أن يكون قلت :هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر ـ رضي ا ّ
ل أنك ل تريد مراًدا قط .أي ل تريد مراًدا لم تؤمر بإرادته ،فأما ما
مأموًرا بإرادته .فقوله :علمة فناء إرادتك بفعل ا ّ
ل ورسوله بإرادتك إياه ،فإرادته إما واجب وإما مستحب ،وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص . أمرك ا ّ
شّ
ي ن َرّبُهْم ِباْلَغَداِة َواْلَع ِ عو َ ن َيْد ُ
طُرْد اّلِذي َل َت ْل ـ تعالى ـ قد وصف النبياء والصديقين بهذه الرادة ،فقال تعالىَ} :و َ وا ّ
ُيِريُدونَ َوْجَهُه{ ]النعام ،[52 :وقال تعالىَ} :وَما َِلَحٍد ِعْنَدُه ِمْن ِنْعَمٍة ُتْجَزى ِ .إّل اْبِتَغاَء َوْجِه َرّبِه اَْلْعَلى{ ]الليل،[20 ،19 :
سولَُه
ل َوَر ُ ن ا َّن ُتِرْد َ ن ُكْنُت ّ شُكوًرا{ ]النسان ،[9 :وقال تعالىَ} :وِإ ْ ل ُ
جَزاًء َو َل ُنِريُد ِمْنُكْم َ ل َجِه ا ِّ
طِعُمُكْم ِلَو ْ وقال تعالىِ} :إّنَما ُن ْ
سْعَيَها
سَعى َلَها َ خَرَة َو َ لِ ظيًما{ ]الحزاب ،[29 :وقال تعالىَ} :وَم ْ
ن َأَراَد ا ْ عِ جًرا َ ن َأ ْ
ت ِمْنُك ّسَنا ِ
حِ عّد ِلْلُم ْ
ل َأ َ
ن ا َّخَرَة َفِإ ّلَِوالّداَر ا ْ
ص{خاِل ُ ن اْل َ
ل الّدي ُ ل ِّ نَّ .أ َ
صا َلُه الّدي َخِل ً ل ُم ْ شُكوًرا{ ]السراء ،[19 :وقال تعالىَ} :فا ْ
عُبْد ا َّ سْعُيُهْم َم ْن َ ك َكا َن َفُأْوَلِئ َ
َوُهَو ُمْؤِم ٌ
شْيًئا{
شِرُكوا ِبِه َ ل َولَ ُت ْ عُبُدوا ا َّصا َلُه ِديِني{ ]الزمر ،[14 :وقال تعالىَ} :وا ْ خِل ً عُبُد ُم ْ
ل َأ ْ ]الزمر ،[3 ،2 :وقال تعالىُ} :ق ْ
ل ا َّ
س ِإّل ِلَيْعُبُدوِن{ ]الذاريات.[56 : لن َن َوا ِْجّ ت اْل ِ ]النساء ،[36 :وقال تعالىَ} :وَما َ
خَلْق ُ
ل َوُهَو ُمْحِسٌن{ ]البقرة ،[112 :أي أخلص جَهُه ِّ سَلَم َو ْ ل ،ولما أمر به ،وقال تعالىَ} :بَلى َم ْ
ن َأ ْ ول عبادة إل بإرادة ا ّ
صيَن َلُه الّديَن{]البينة ،[5 :وإخلص الدين له /هو إرادته وحده خِل ِ
ل ُم ْ
ل ِلَيْعُبُدوا ا َّل .وقال تعالىَ} :وَما ُأِمُروا ِإ ّ قصده ّ
ل{]البقرة ،[165 :وقال حّبا ِّ
شّد ُ حّبوَنُه{]المائدة ،[54 :وقال تعالىَِ} :واّلِذي َ
ن آَمُنوا َأ َ بالعبادة .وقال تعالىُ} :ي ِ
حّبُهْم َوُي ِ
ل{ ]آل عمران ،[31 :وكل محب فهو مريد ،وقال الخليل ـ عليه السلم حِبْبُكْم ا ُّ
ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ
ن ا َّحّبو َ
ن ُكْنُتْم ُت ِ تعالىُ} :ق ْ
ل ِإ ْ
ض{ ]النعام.[79 : لْر َ ت َوا َْسَماَوا ِطَر ال ّ جِهي ِلّلِذي َف َ ت َو ْ
جْه ُن{ ]النعام ،[76 :ثم قالِ} :إّني َو ّ لِفِلي َ
با ْ ح ّ ـَ } :
ل ُأ ِ
ل بإرادته ،وإرادة ما يأمر به ،وينهى عن إرادة غيره ،وإرادة ما نهى عنه ،وقد قالومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر ا ّ
النبي صلى ال عليه وسلم) :إنما العمال بالنيات ،وإنما لكل امرئ ما نوى ،فمن كانت هجرته إلى الّ ورسوله
ل ورسوله ،ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ،أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه( ،فهما فهجرته إلى ا ّ
ل ول يرضاها ،بل إما نهي عنها ،وإما لم يأمر بها ،ول ينهي ل ويرضاها ،وإرادة ل يحبها ا ّ إرادتان :إرادة يحبها ا ّ
عنها والناس في الرادة ثلثة أقسام:
وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الرادة مطلًقا ،ولم يبق لهم مراد إل ما يقدره الرب ،وإن هذا المقام هو أكمل المقامات،
ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة ،وهي الحقيقة القدرية الكونية؛ وأنه /شهد القيومية العامة ،ويجعلون الفناء
في شهود توحيد الربوبية هو الغاية؛ وقد يسمون هذا الجمع والفناء والصطلم ،ونحو ذلك .وكثير من الشيوخ زلقوا
في هذا الموضع.
وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد بن محمد وبين طائفة من أصحابه الصوفية؛ فإنهم اتفقوا على شهود توحيد
ل خالق كل شيء وربه ومليكه ،وهو شهود القدر ،وسموا هذا مقام الجمع؛ فإنه خرج به عن الفرق الربوبية ،وأن ا ّ
الول وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة هذا ،ورؤية فعل هذا وترك هذا ،فإن النسان قبل أن يشهد هذا التوحيد
ل يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات؛ ويكون متبًعا لهواه فيما يريده ،فإذا أراد الحق خرج
يرى للخلق فع ً
بإرادته عن إرادة الهوى والطبع ،ثم شهد أنه خالق كل شيء ،فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق ،فلما اتفقوا
على هذا ذكر لهم الجنيد بن محمد الفرق الثاني ،وهو بعد هذا الجمع ،وهو الفرق الشرعي .أل تري أنك تريد ما
ل يستحق العبادة دون ما سواه ،وأن عبادته هي بطاعة رسله ،فتفرق أمرت به ،ول تريد ما نهيت عنه؟! وتشهد أن ا ّ
بين المأمور والمحظور ،وبين أوليائه وأعدائه ،وتشهد توحيد اللوهية ،فنازعوه في هذا الفرق.
منهم من أنكره.
/ومنهم من لم يفهمه.
ثم إنك تجد كثيًرا من الشيوخ إنما ينتهي إلى ذلك الجمع ،وهو :توحيد الربوبية ،والفناء فيه .كما في كلم صاحب
]منازل السائرين[ مع جللة قدره ،مع أنه قطًعا كان قائًما بالمر والنهي المعروفين ،لكن قد يدعون أن هذا لجل
العامة.
ومنهم من يتناقض.
ومنهم من يقول :الوقوف مع المر لجل مصلحة العامة ،وقد يعبر عنهم بأهل المارستان.
ومنهم من يقول :التحقيق أن يكون الجمع في قلبك مشهوًدا ،والفرق على لسانك موجوًدا ،فيشهد بقلبه استواء المأمور
والمحظور مع تفريقه بينهما.
ومنهم من يرى أن هذه هي الحقيقة التي هي منتهى سلوك /العارفين ،وغاية منازل الولياء الصديقين.
و منهم من يظن أن الوقوف مع إرادة المر والنهي يكون في السلوك والبداية ،وأما في النهاية فلتبقى إل إرادة القدر.
ل والطاعة له ولـرسوله إنما تكون في امتثال المر وهو في الحقيقة قول بسقوط العبادة والطاعة ،فإن العبادة ّ
الشرعي ل في الجري مع المقدور ،وإن كان كفًرا أو فسوًقا أو عصياًنا ،ومن هنا صار كثير من السالكين من أعوان
الكفار والفجار وخفرائهم ،حيث شهدوا القدر معهم؛ ولم يشهدوا المر والنهي الشرعيين.
ومن هؤلء من يقول :من شهد القدر سقط عنه الملم ،ويقولون إن الخضر إنما سقط عنه الملم لما شهد القدر.
وأصحاب شهود القدر قد يؤتي أحدهم ملًكا من جهة خرق العادة بالكشف والتصرف ،فيظن ذلك كمال في الولية،
وتكون تلك الخوارق إنما حصلت بأسباب شيطانية ،وأهواء نفسانية ،وإنما الكمال في الولية أن يستعمل خرق
العادات في إقامة المر والنهي الشرعيين مع حصولهما بفعل المأمور وترك المحظور ،فإذاحصلت بغير السباب
الشرعية فهي مذمومة ،وإن حصلت بالسباب الشرعية لكن استعملت ليتوصل بها إلى محرم كانت مذمومة ،وإن
توصل بها إلى مباح /ل يستعان بها على طاعة كانت للبرار دون المقربين.
وأما إن حصلت بالسبب الشرعي واستعين بها على فعل المر الشرعي ،فهذه خوارق المقربين السابقين.
فلبد أن ينظر في الخوارق في أسبابها وغاياتها :من أين حصلت ،وإلى ماذا أوصلت ـ كما ينظر في الموال في
مستخرجهـا ومصروفهـا ـ ومن استعملها ـ أعني الخوارق ـ في إرادته الطبيعية كان مذموًما ،ومن كان خالًيا عن
الرادتين الطبيعية والشرعية فهذا حسبه أن يعفي عنه ،لكونه لم يعرف الرادة الشرعية.
وأما إن عرفها وأعرض عنها فإنه يكون مذموًما مستحًقا للعقاب إن لم يعف عنه ،وهو يمدح بكون إرادته ليست
ل تعالى ورسوله ،ل يكفيه أن تكون ل من هذا ولمن هذا ،مع أنه ل بهواه ،لكن يجب مع ذلك أن تكون موافقة لمر ا ّ
ل ورسوله ،لكنل ورسوله ،أراد مال يحبه ا ّيمكن خلوه عن الرادة مطلًقا؛ بل لبد له من إرادة ،فإن لم يرد ما يحبه ا ّ
ل.
إذا جاهد نفسه على ترك ما تهواه بقى مريًدا لما يظن أنه مأمور به ،فيكون ضا ً
غْيِر
عَلْيِهْم َ
ت َ
ن َأْنَعْم َ
ط اّلِذي َ
صَرا َ
سَتِقيَم ِ .
ط اْلُم ْ فإن هذا يشبه حال الضالين من النصارى .وقد قال تعالى} :اْهِدَنا ال ّ
صَرا َ
ضاّليَن{ ]الفاتحة ،[7 ،6 :وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم) :اليهود مغضوب عليهم ل ال ّ
عَلْيِهْم َو َ
ب َ
ضو ِ
اْلَمْغ ُ
والنصارى ضالون(.
فاليهود لهم إرادات فاسدة منهي عنها .كما أخبر عنهم بأنهم عصوا وكانوا يعتدون .وهم يعرفون الحق ول يعملون به،
فلهم علم ،لكن ليس لهم عمل بالعلم ،وهم في الرادة المذمومة المحرمة يتبعون أهواءهم ليسوا في الرادة المحمودة
ل ورسوله.المأمور بها ،وهي إرادة ما يحبه ا ّ
والنصارى لهم قصد وعبادة وزهد لكنهم ضلل ،يعملون بغير علم ،فل يعرفون الرادة التي يحبها الّ ورسوله ،بل
ل عنهل به ورسوله ،كما ل يريد كثيًرا مما نهى ا ّ
غاية أحدهم تجريد نفسه عن الرادات ،فل يبقى مريًدا لما أمر ا ّ
ل ورسوله ،ولهذا كانوا ملعونين :أي ورسوله ،وهؤلء ضالون عن مقصودهم فإن مقصودهم إنما هو في طاعة ا ّ
ل عز وجل.بعيدين عن الرحمة التي تنال بطاعة ا ّ
والعالم الفاجر يشبه اليهود .والعابد الجاهل يشبه النصارى .ومن أهل العلم من فيه شيء من الول ،ومن أهل العبادة
من فيه شيء من الثاني.
وأفضل النبياء بعده إبراهيم ،كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي صلى ال عليه وسلم) :إن إبراهيم خير
البرية( ،وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى ال عليه وسلم :أنه كان يقول في خطبة الجمعة) :خير
ل بن مسعود يخطب بذلك يوم ل ،وخير الهدى هدي محمد صلى ال عليه وسلم( .وكذلك كان عبد ا ّ
الكلم كلم ا ّ
الخميس ،كما رواه البخاري في صحيحه.
ل صلى ال عليه وسلم خادًما لهل عنها ـ أنها قالت :ما ضرب رسول ا ّ وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي ا ّ
ل ،وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه ،إل أن تنتهك محارم
ول امرأة ول دابة ول شيًئا قط ،إل أن يجاهد في سبيل ا ّ
ل.
ل لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم ّل ،فإذا انتهكت محارم ا ّ
ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم عشر سنين ،فما قال لي :أف قط ،وما قال لي لشىء فعلته لم
/وقال أنس :خدمت رسول ا ّ
فعلته؟ ول لشيء لم أفعله لم ل فعلته؟ .وكان بعض أهله إذا عنفني على شيء قال) :دعوه ،فلو قضى شيء لكان(.
ل صلى ال عليه وسلم هو أفضل الخلئق ،وسيد ولد آدم ،وله الوسيلة في المقامات كلها ،ولم يكن حاله أنه ورسول ا ّ
ل تعالى:
ل يريد شيًئا ،ولأنه يريد كل واقع ،كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى ،بل هو منزه عن هذا وهذا ،قال ا ّ
ل َيْدُعوُه{ ]الجن [19 :وقال
عْبُد ا ِّ حى{ ]النجم ،[4 ،3 :وقال تعالىَ} :وَأّنُه َلّما َقاَم َ ي ُيو َ
حٌل َو ْن ُهَو ِإ ّ
ن اْلَهَوى ِ .إ ْعْق َ طُ}َوَما َيْن ِ
ل{ ]السراء.[1 : سَرى ِبَعْبِدِه َلْي ً ن اّلِذي َأ ْ حا َ عْبِدَنا{ ]البقرة ،[23 :وقالُ } :
سْب َ عَلى َب ِمّما َنّزْلَنا َ
ن ُكنُتْم ِفي َرْي ٍتعالىَ} :وِإ ْ
والمراد بعبده عابده المطيع لمره ،وإل فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبودون مخلوقون مدبرون.
ل لعمل المؤمن أجلًك اْلَيِقيُن{ ]الحجر. [99 :قال الحسن البصري :لم يجعل ا ّ حّتى َيْأِتَي َ
ك َ ل لنبيهَ} :وا ْ
عُبْد َرّب َ وقد قال ا ّ
ظيٍم{ ]القلم. [4 :قال ابن عباس ومن وافقه كابن عيينة وأحمد بن
عِق َ
خُل ٍ ل تعالى لهَ} :وِإّن َ
ك َلَعلى ُ دون الموت ،وقد قال ا ّ
حنبل :على دين عظيم .والدين :فعل ما أمر به .وقالت عائشة :كان خلقه القرآن .رواه مسلم .وقد أخبرت أنه لم يكن
ل ،وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه ،وأما حدود ا ّ
ل ل /وينتقم ّيعاقب لنفسه ،ول ينتقم لنفسه ،لكن يعاقب ّ
فقد قال) :والذي نفسي بيده ،لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها( أخرجاه في الصحيحين.
وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ول ينتقم ،بل يستوفى حق ربه ،ويعفو عن حظ نفسه ،وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر،
ل أكمل الجهاد ل به ،ويجاهد في سبيل ا ّ ل يقوم بالمر فيفعل ما أمر ا ّ
فيقول) :لو قضى شيء لكان( ،وفي حق ا ّ
طْع
ل ُت ِ
ل َقْرَيٍة َنِذيًرا َ .ف َ ل بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه ،كما قال تعالىَ} :وَلْو ِ
شْئَنا َلَبَعْثَنا ِفي ُك ّ الممكن ،فجاهدهم أو ً
اْلَكاِفِريَن َوَجاِهْدُهْم ِبِه ِجَهاًدا َكِبيًرا{ ]الفرقان .[52 ،51 :ثم لما /هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال ،جاهدهم بيده.
ضا من حديث عمر بن الخطاب عن النبي وهذا مطابق لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة ،وهو معروف أي ً
صلى ال عليه وسلم في حديث احتجاج آدم وموسى ،لما لم موسى آدم لكونه أخرج نفسه وذريته من الجنة بالذنب
ى قبل أن أخلق بمدة طويلة ،قال النبي صلى ال عليه وسلم) :فحج آدم
الذي فعله ،فأجابه آدم بأن هذا كان مكتوًبا عل ّ
موسى(.
ل ،وإنما كان لما لحقه وغيره من الدميين من المصيبة بسبب ذلك الفعل، وذلك لن ملم موسى لدم لم يكن لحق ا ّ
فذكر له آدم أن هذا كان أمًرا مقدًرا لبد من كونه ،والمصائب التي تصيب العباد يؤمرون فيها بالصبر؛ فإن هذا هو
الذي ينفعهم ،وأما لومهم لمن كان سبًبا فيها فل فائدة لهم في ذلك ،وكذلك ما فاتهم من المور التي تنفعهم يؤمرون في
ذلك بالنظر إلى القدر ،وأما التأسف والحزن فل فائدة فيه ،فما جرى به القدر من فوت منفعة لهم ،أو حصول مضرة
لهم ،فلينظروا في ذلك إلى القدر ،وأما ما كان بسبب أعمالهم فليجتهدوا في التوبة من المعاصي ،والصلح في
ل لهم.
المستقبل .فإن هذا المر ينفعهم ،وهو مقدور لهم بمعونة ا ّ
ل من/وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :المؤمن القوي خير وأحب إلى ا ّ
ل ول تعجزن .وإن أصابك شيء فل تقل :لو أني المؤمن الضعيف ،وفي كل خير ،احرص على ما ينفعك واستعن با ّ
ل وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان(.فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل :قدر ا ّ
ل ،ونهاه عن العجز ،وأنفع ما للعبد طاعة أمر النبي صلى ال عليه وسلم بحرص العبد على ما ينفعه ،والستعانة با ّ
ك َنْسَتِعيُن{]الفاتحة.[5 : ل تعالى .وهذان الصلن هما حقيقة قوله تعالىِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد َوِإّيا َ ل ورسوله ،وهي عبادة ا ّ
ا ّ
ونهاه عن العجز وهو الضاعة والتفريط والتواني .كما قال في الحديث الخر) :الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد
ل الماني( رواه الترمذي.الموت ،والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني على ا ّ
وفي سنن أبي داود :أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقضى على أحدهما ،فقال المقضي عليه :حسبي
ل يلوم على العجز ،ولكن عليك بالكيس ،فإذا غلبك أمر فقل:
ل ونعم الوكيل ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :إن ا ّ
ا ّ
ل ونعم الوكيل( فالكيس ضد العجز .وفي الحديث) :كل شيء بقدر حتى العجز والكيس( رواه مسلم .وليس حسبي ا ّ
المراد بالعجز في كلم النبي صلى ال عليه وسلم ما يضاد /القدرة؛ فإن من ل قدرة له بحال ل يلم ،ول يؤمر بما ل
يقدر عليه بحال.
ل وما شاء
ل ونهاه عن العجز ،أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر ويقول :قدر ا ّ
ثم لما أمره بالجتهاد والستعانة با ّ
فعل ،ول يتحسر ويتلهف ويحزن .ويقول) :لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ،فإن لو تفتح عمل الشيطان(.
وقد قال بعض الناس في هذا المعنى :المر أمران :أمر فيه حيلة وأمر ل حيلة فيه؛ فما فيه حيلة ل يعجز عنه ،وما ل
حيلة فيه ل يجزع منه .وهذا هو الذي يذكره أئمة الدين .كما ذكر الشيخ عبد القادر وغيره .فإنه لبد من فعل المأمور
عَلْيَنا
ل َ
ن ا ُّ
خي َقْد َم ّ
ف َوهَذا َأ ِ وترك المحظور ،والرضا والصبر على المقدور .وقد قال تعالى حكاية عن يوسفَ} :أَنا ُيو ُ
س ُ
ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]يوسف.[90 :
ل ُي ِ
ل َ
ن ا َّ
صِبْر َفِإ ّ
ق َوَي ْ
ن َيّت ِ
ِإّنُه َم ْ
فالتقوى :تتضمن فعل المأمور وترك المحظور .والصبر :يتضمن الصبر على المقدور .وقد قال تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ
ن
ضّرُكْم َكْيُدُهْم َشْيًئا{ ]آل عمران118- : ل َي ُ
صِبُروا َوَتّتُقوا َ ل{ إلى قولهَ} :وِإ ْ
ن َت ْ خَبا ً
ل َيْأُلوَنُكْم َن ُدوِنُكْم َ طاَنًة ِم ْ
خُذوا ِب َ
ل َتّت ِ آَمُنوا َ
صِبُروان َت ْ ،[120فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر ل يضر /المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين ،وقال تعالىَ} :بَلى ِإ ْ
لِئَكِة ُمَسّوِميَن{ ]آل عمران ،[125 :فبين أنه مع الصبر ن اْلَم َ
ف ِم ْ
ل ٍ
سِة آ َ
خْم َ
ن َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ
َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ
والتقوى يمدهم بالملئكة ،وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم.
صِبُروا
ن َت ْ
شَرُكوا َأًذى َكِثيًرا َوِإ ْ
ن َأ ْ
ن اّلِذي َ
ن َقْبِلُكْم َوِم ْ
ب ِم ْ
ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ
ن اّلِذي َ
ن ِم ْ
سَمُع ّ
سُكْم َوَلَت ْ وقال تعالىَ} :لُتْبَلُو ّ
ن ِفي َأْمَواِلُكْم َوَأْنُف ِ
ك ِمْن َعْزِم اُْلُموِر{]آل عمران [186 :فأخبرهم أن أعداءهم من المشركين وأهل الكتاب لبد أن يؤذوهم ن َذِل َ
َوَتّتُقوا َفِإ ّ
بألسنتهم ،وأخبر أنهم إن يصبروا ويتقوا فإن ذلك من عزم المور .فالصبر والتقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة،
المؤذين بألسنتهم والمؤذين بأيديهم ،وشر العدو المبطن للعداوة ،وهم المنافقون .وهذا الذي كان خلق النبي صلى ال
عليه وسلم وهديه هو أكمل المور.
ل صلى ال ل تارة وما ل يحبه تارة ،أو لم يرد ل هذا ول هذا ،فكلهما دون خلق رسول ا ّ فأما من أراد ما يحبه ا ّ
عليه وسلم؛ وإن لم يكن على واحد منهما إثم ،كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والنتقام المباح
ل صلى ال عليه وسلم أكمل كما هو خلق بعض النبياء والصالحين ،فهو وإن كان جائًزا ل إثم فيه ،فخلق رسول ا ّ
منه.
/وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب ،ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا
ضا خلق بعض النبياء والصالحـين فهـذا وإن كـان جائـًزا ل إثـم
ل .كما هو أي ً
ل أرضى ّ جاز العفو وإن كان النتقام ّ
ل صلى ال عليه وسلم أكمل منه.فيـه فخلـق رسـول ا ّ
ل له.
وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فل عيب على نبي فيما شرع ا ّ
ل بعض النبيين على بعض ،وفضل بعض الرسل على بعض ،والشريعة التي بعث الّ بها محمًدا لكن قد فضل ا ّ
صلى ال عليه وسلم أفضل الشرائع؛ إذ كان محمد صلى ال عليه وسلم أفضل النبياء والمرسلين ،وأمته خير أمة
س{ ]آل عمران :[110 :كنتم خير الناس ت ِللّنا ِ
ج ْ
خِر َ أخرجت للناس .قال أبو هريرة في قوله تعالىُ} :كْنُتْم َ
خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ
للناس ،تأتون بهم في القياد والسلسل حتى تدخلوهم الجنة ،يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس ،فهم خير
ل أنفعهم لعياله ،وأما غير النبياء فمنهم من يكون ذلك شرعة لتباعه ل ،فأحبهم إلى ا ّ
المم للخلق .والخلق عيال ا ّ
لذلك النبي ،وأما من كان من أهل شريعة محمد صلى ال عليه وسلم ومنهاجه فإن كان ما تركه واجًبا عليه وما فعله
ل مخطًئا فالّ قد وضع عن هذه المة /الخطأ والنسيان محرًما عليه كان مستحًقا للذم والعقاب ،إل أن يكون متأو ً
ل عنه بأسباب متعددة. وذنب أحدهم قد يعفو ا ّ
ومن أسباب هذا النحراف :أن من الناس من تغلب عليه طريقة الزهد في إرادة نفسه ،فيزهد في موجب الشهوة
صا
والغضب ،كما يفعل ذلك من يفعله من عباد المشركين ،وأهل الكتاب كالرهبان وأشباههم ،وهؤلء يرون الجهاد نق ً
ل لم يجعل عمارة بيت المقدس على يد داود؛ لنه
لما فيه من قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الموال ،ويرون أن ا ّ
جرى علي يديه سفك الدماء.
ل بأنه ل
ومنهم من ل يري ذبح شيء من الحيوان كما عليه البراهمة ،ومنهم من ل يحرم ذلك لكنه هو يتقرب إلى ا ّ
يذبح حيواًنا ول يأكل لحمه ول ينكح النساء ،ويقول مادحه :فلن ما نكح ،ول ذبح.
وقد أنكر النبي صلى ال عليه وسلم على هؤلء كما في الصحيحين عن أنس :أن نفرا من أصحاب النبي صلى ال
عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى ال عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم :ل أتزوج النساء ،وقال بعضهم:
ل وأثني عليه وقال) :ما
ل آكل اللحم ،وقال بعضهم :ل أنام على فراش .فبلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسلم فحمد ا ّ
بال أقوام قالوا :كذا وكذا؟! لكني أصلي وأنام / ،وأصوم وأفطر ،وأتزوج النساء ،وآكل اللحم ،فمن رغب عن سنتي
ل َلُكْم{ ]المائدة [87 :نزلت في عثمان ابن
ل ا ُّ
حّت َما َأ َ
طّيَبا ِ
حّرُموا َ
ل ُت َ فليس مني( .وقد قال تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ
ن آَمُنوا َ
مظعون وطائفة معه كانوا قد عزموا على التبتل ،ونوع من الترهب .وفي الصحيحين عن سعد قال :رد رسول ا ّ
ل
صلى ال عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لختصينا.
ل ورسوله هو الزهد فيما ل ينفع في الخرة ،فأما ما ينفع في الخرة وما يستعان والزهد النافع المشروع الذي يحبه ا ّ
ل وطاعته ،والزهد إنما يراد لنه زهد فيما يضر ،أو زهد فيما ل به على ذلك ،فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة ا ّ
ينفع ،فأما الزهد في النافع فجهل وضلل كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :احرص على ما ينفعك ،واستعن با ّ
ل
ول تعجزن(.
ل وطاعته وطاعة رسوله ،وكل ما صده عن ذلك فإنه ضار ل نافع ،ثم النفع له أن تكون كل والنافع للعبد هو عبادة ا ّ
حا ل يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما ل ينفعه ول
ل وطاعة له ،وإن أدى الفرائض وفعل مبا ًأعماله عبادة ّ
يضره.
وكذلك الورع المشروع ،هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو /ما يعلم تحريمه ،وما يشك في تحريمه ،وليس في
عا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلكتركه مفسدة أعظم من فعله ـ مثل محرم معين ـ مثل من يترك أخذ الشبهة ور ً
محرما بيًنا تحريمه ،أو يترك واجًبا تركه أعظم فساًدا من فعله مع الشبهة ،كمن يكون على أبية أو عليه ديون هو
مطالب بها ،وليس له وفاء إل من مال فيه شبهة فيتورع عنها ،ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة.
وكذلك من الورع الحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه.
وتمام الورع أن يعم النسان خير الخيرين ،وشر الشرين ،ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها
وتعطيل المفاسد وتقليلها ،وإل فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع
عا ،ويدع الجمعة
واجبات ويفعل محرمات ،ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع المراء الظلمة ويرى ذلك ور ً
والجماعة خلف الئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ،ويرى ذلك من الورع ،ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم
العالم لما في صاحبه من بدعة خفية ،ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع.
ل ورسوله من الرغبة والزهد ومايكرهه من ذلك ،وإل فقد يدع واجبات/وكذلك الزهد والرغبة ،من لم يراع مايحبه ا ّ
ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الكل ،أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه
ل ،لما في فعل
ل تعالى أو حقوق عباده ،أو يدع المر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل ا ّ
من حقوق ا ّ
ذلك من أذى بعض الناس والنتقام منهم ،حتى يستولى الكفار والفجار على الصالحين البرار فل ينظر المصلحة
الراجحة في ذلك.
ج َأْهِلِه
خَرا ُ
حَراِم َوِإ ْ
جِد اْل َ
سِل َوُكْفٌر ِبِه َواْلَم ْ
ل ا ِّ
سِبي ِ
ن َ
عْ
صدّ َ
ل ِفيِه َكِبيٌر َو َ
ل ِقَتا ٌ
ل ِفيِه ُق ْ
حَراِم ِقَتا ٍ
شْهِر اْل َ
ن ال ّ
عْك َ وقد قال تعالىَ} :ي ْ
سَأُلوَن َ
ل َواْلِفْتَنُة َأْكَبُر ِمْن اْلَقْتِل{ ]البقرة.[217 : عْنَد ا ِّ
ِمْنُه َأْكَبُر ِ
يقول ـ سبحانه وتعالى ـ :وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك ،فيدفع
أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.
وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلًما له هو جاهل ،فإن هذا الحيوان لبد أن يموت ،فإذا قتل
لمنفعة الدميين /وحاجتهم كان خيًرا من أن يموت موًتا ل ينتفع به أحد ،والدمي أكمل منه ،ول تتم مصلحته إل
ل عنه كصبر البهائم وذبحهاباستعمال الحيوان في الكل والركوب ونحو ذلك ،لكن مال يحتاج إليه من تعذيبه نهي ا ّ
ل الحسان بحسب المكان فيما أباحه من القتل والذبح .كما في في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك ،وأوجب ا ّ
ل كتب الحسان على كل شيء :فإذا صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إن ا ّ
قتلتم فأحسنوا القتلة ،وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ،وليحد أحدكم شفرته ،وليرح ذبيحته(.
ل تعالى ،وهؤلء الذين يأتون بصور الطاعات مع ل ورسوله ،لكن لهواء أنفسهم ل لعبادة ا ّ وطائفة رغبت فيما أمر ا ّ
ل ،الرجل يقاتل شجاعة، فساد النيات ،كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قيل له :يا رسول ا ّ
ل(.ل هي العليا / ،فهو في سبيل ا ّ ل؟ فقال) :من قاتل لتكون كلمة ا ّ ويقاتل حمية ،ويقاتل رياء ،فأي ذلك في سبيل ا ّ
ل{
ل َقِلي ً
ل ِإ ّ
ن ا َّ
ل َيْذُكُرو َ
س َو َ
ن الّنا َ
ساَلى ُيَراُءو َ
لِة َقاُموا ُك َ
صَعُهْم َوِإَذا َقاُموا ِإَلى ال ّ
خاِد ُ
ل َوُهَو َ
ن ا َّ
عو َ
خاِد ُ
ن ُي َ قال تعالىِ} :إ ّ
ن اْلُمَناِفِقي َ
]النساء. [142 :
وهؤلء أهل إرادات فاسدة مذمومة ،فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم ،وهم يشبهون اليهود ،كما يشبه أولئك
عَلْيِهْم
ت َ ضِرَب ْ ل َو ُ ن ا ِّب ِم ْ ض ٍ س َوَباُءوا ِبَغ َ ن الّنا ِ ل ِم ْ حْب ٍ
ل َو َ ن ا ِّل ِم ْحْب ٍل ِب َ
ن َما ُثِقُفوا ِإ ّ عَلْيِهْم الّذّلُة َأْي َ
ت َضِرَب ْ النصارى .قال تعالىُ } :
صْوا َوَكاُنوا َيْعَتُدوَن{]آل عمران ،[112 :وقال ك ِبَما عَ َ ق َذِل َحّلنِبَياَء ِبَغْيِر َ ن ا َْل َوَيْقُتُلو َت ا ِّن ِبآَيا ِك ِبَأّنُهْم َكاُنوا َيْكُفُرو َسَكَنُة َذِل َاْلَم ْ
خُذوُه ل َيّت ِشِد َ ل الّر ْسِبي َ
ن َيَرْوا َ ل ُيْؤِمُنوا ِبَها َوِإ ْ ل آَيٍة َ ن َيَرْوا ُك ّ ق َوِإ ْ
حّ ض ِبَغْيِر اْل َ
لْر ِ ن ِفي ا َْ ن َيَتَكّبُرو َ ن آَياِتي اّلِذي َعْ ف َ صِر ُ سَأ ْتعالىَ } :
خ ِمْنَها َفَأْتَبَعُه
سَل َ
عَلْيِهْم َنَبَأ اّلِذي آَتْيَناُه آَياِتَنا َفان َ
ل َل{ ]العراف ،[146 :وقال تعالىَ} :واْت ُ سِبي ً خُذوُه َ ي َيّت ِ
ل الَغ ّسِبي َ
ن َيَرْوا َ ل وَِإ ْسِبي ً
َ
ث َأْو َتْتُرْكُه َيْلَه ْ
ث عَلْيِه َيْلَه ْ
ل َ حِم ْ
ن َت ْ
ب ِإ ْل اْلَكْل ِشْئَنا َلَرَفْعَناُه ِبَها{ إلى قولهَ} :واّتَبَع َهَواُه َفَمَثُلُه َكَمَث ِ ن َ .وَلْو ِ ن اْلَغاِوي َ
ن ِم ْ ن َفَكا َ طا ُشْي َ
ال ّ
ص َلَعّلُهْم َيَتَفّكُروَن{]العراف.[176 ،175 : ص َ ص اْلَق َ ص ْ ن َكّذُبوا ِبآَياِتَنا َفاْق ُك َمَثلُ اْلَقْوِم اّلِذي ََذِل َ
فهؤلء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق ،وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلل والجهل بالحق .كما قال تعالىَ}ِ :و َ
ل
ضّلوا َعْن َسَواِء الّسِبيِل{ ]المائدة.[77 :
ضّلوا َكِثيًرا َو َ
ل َوَأ َ
ن َقْب ُ
ضّلوا ِم ْ
َتّتِبُعوا َأْهَواَء َقْوٍم َقْد َ
صـــل
َف ْ
وهذا كثير في كلمهم :كقول الشيخ عبد القادر في كتاب ]فتوح الغيب[] :اخرج من نفسك ،وتنح عنها ،وانعزل عن
ل تبارك وتعالى ،وكن بوابه علي باب قلبك ،وامتثل أمره تبارك وتعالى في إدخال من يأمرك ملكك ،وسلم الكل إلى ا ّ
بإدخاله ،وانته نهيه في صد من يأمرك بصده ،فل تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه ،وإخراج الهوى من القلب
بمخالفته وترك متابعته في الحوال كلها ،وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته ،فل ترد إرادة غير إرادته تبارك
وتعالى ،وغير ذلك منك غير ،وهو واد الحمقى ،وفيه حتفك وهلكك وسقوطك من عينه تبارك وتعالى ،وحجابك
عنه.
احفظ أبدا أمره ،وانته أبدا نهيه ،وسلم إليه أبدا مقدوره ،ول تشركه بشيء من خلقه ،فإرادتك وهواك وشهواتك خلقه،
ك ِبِعَباَدِة
شِر ْ
ل ُي ْ
حا َو َ
صاِل ً
ل َ
عَم ً
ل َ
جو ِلَقاَء َرّبِه َفْلَيْعَم ْ
ن َيْر ُ ل تعالىَ} :فَم ْ
ن َكا َ فل ترد ول تهوى ول تشته لئل يكون شركا .قال ا ّ
ضا متابعتك لهواك ،وأن تختار مع ربك شيًئا َرّبِه َأَحًدا{ ]الكهف [110 :ليس الشرك عبادة الصنام فحسب؛ بل هو أي ً
سواه من الدنيا وما فيها ،والخرة وما فيها ،فما سواه تبارك وتعالى غيره ،فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به غيره،
ل ول مقاًما ،ولتدع شيًئا من فاحذر ول تركن ،وخف ول تأمن ،وفتش ول تغفل فتطمئن ،ول تضف إلى نفسك حا ً
ذلك[.
ل،
ل وعدوته ،والشياء كلها تابعة ّل ونفسك ،وأنت المخاطب ،والنفس ضد ا ّ ضا] :إنما هو ا ّ
وقال الشيخ عبد القادر أي ً
فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها كنت خصًما له على نفسك[ ـ إلى أن قال ـ:
فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الحوال كلها ،فإن /كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج
من إجرام الخلق ،وشبههم ومنتهم ،والتكال عليهم والثقة بهم ،والخوف منهم؛ والرجاء لهم ،والطمع فيما عندهم من
حطام الدنيا ،فل ترج عطاءهم على طريق الهدية ،أو الزكاة ،أو الصدقة ،أو الكفارة أو النذر ،فاقطع همك منهم من
سائر الوجوه والسباب ،فاخرج من الخلق جًدا ،واجعلهم كالباب يرد ويفتتح ،وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة وتحيل
ل ـ تبارك وتعالى.أخرى ،كل ذلك بفعل فاعل ،وتدبير مدبر ،وهو ا ّ
فإذا صح لك هذا كنت موحًدا له ـ تبارك وتعالى ـ ول تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية ،واعتقد أن
ل فتكفر ،وتكون
ل ـ تعالى ـ ول تقبل فعلهم دون ا ّ
ل ـ تبارك وتعالى ـ لكيل تعبدهم ،وتنسى ا ّ
الفعال ل تتم لهم دون ا ّ
ل خلًقا وللعباد كسبا .كما جاءت به الثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب ،وامتثل أمر قدرًيا .ولكن قل :هي ّ
ل فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ول تجاوزه ،فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم ،فل تكن أنت الحاكم ،وكونك معهم ا ّ
قدر ،والقدر ظلمة ،فادخل في الظلمة بالمصباح وهو الحكم ـ كتاب الّ وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم ـ ل تخرج
عنهما.
فإن خطر خاطر أو وجدت إلهاما فاعرضهما على الكتاب والسنة ،فإن وجدت فيهما تحريم ذلك ،مثل أن تلهم بالزنا
أو الربا أو مخالطة /أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك ،واهجره ولتقبله ،ولتعمل به
واقطع بأنه من الشيطان اللعين ،وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحه من الكل والشرب واللبس والنكاح
ضا ول تقبله ،واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها ،وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها[
فاهجره أي ً
قلت :ومراده بهجر المباح ،إذا لم يكن مأموًرا به ،كما قد بين مراده في غير هذا الموضع ،فإن المباح المأمور به إذا
ل عليه ،وكان واجًبا عليه ،وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين
فعله بحكم المر كان ذلك من أعظم نعمة ا ّ
المقربين؛ ل يقف عند طريقة البرار أصحاب اليمين[.
قال] :وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ول إباحته بل هو أمر ل تعقله ،مثل أن يقال لك :ائت موضع كذا وكذا،
ل تعالى من نعمه من العلم
الق فلًنا الصالح ،ول حاجة لك هناك ول في الصالح ،لستغنائك عنه بما أولك ا ّ
والمعرفة ،فتوقف في ذلك ول تبادر إليه ،فتقول :هل هذا إلهام إل من الحق فأعمل به؟ بل أنتظر الخير في ذلك،
ل تبارك وتعالى يفعلها العقلء من
وفعل الحق بأن يتكرر ذلك اللهام وتؤمر بالسعي ،أو علمة تظهر لهل العلم با ّ
ل ،والمؤيدون من البدال.
أولياء ا ّ
ل وامتحان،
وإنما لم تبادر إلى ذلك لنك ل تعلم عاقبته وما يؤول المر إليه ،وربما /كان فيه فتنة وهلك ومكر من ا ّ
ظا
ل محفو ً
فاصبر حتى يكون عز وجل هو الفاعل فيك ،فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمو ً
ل تعالى ل يعاقبك على فعله ،وإنما تتطرق العقوبات نحوك لكونك في الشىء[.فيها؛ لن ا ّ
ل عنه ـ بأن ما كان محظوًرا في الشرع يجب تركه ولبد ،وما كان معلوًما أنه مباح بعينهقلت :فقد أمر ـ رضي ا ّ
ضا ،وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح ل مضرة فيه أو فيه مضرة لكونه يفعل بحكم الهوى ل بأمر الشارع فيترك أي ً
مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين ،والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين ،فإن جنس هذا العمل ليس
محرًما ول كل أفراده مباحة؛ بل يحرم على النسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه فأمره بالكف عن
الذهاب حتى يظهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة؛ لنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له
فعله ،وإذا خاف الضرر ينبغي له تركه ،فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فل يؤاخذ بالفعل ،لخلف ما إذا
فعله باختياره أو شهوته؛ وإذ تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسًنا.
وقد جاءت شواهد السنة بأن من ابتلى بغير تعرض منه أعين ومن تعرض للبلء خيف عليه .مثل قوله صلى ال عليه
وسلم لعبد الرحمن بن سمرة) :ل تسأل المارة ،فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ،وإن أعطيتها /عن غير
ل العافية ،فإذا لقيتموهم فاصبروا( .وفي السنن) :من
مسألة أعنت عليها( ،ومنه قوله) :ل تتمنوا لقاء العدو ،واسألوا ا ّ
ل عليه ملًكا يسدده ـ وفي
سأل القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه ،ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل ا ّ
رواية ـ وإن أكره عليه( ،وفي الصحيحين أنه صلى ال عليه وسلم قال في الطاعون) :إذا سمعتم به بأرض فل تقدموا
عليه ،وإذا وقع بأرض وأنتم بها فل تخرجوا فراًرا منه( ،وعنه أنه صلى ال عليه وسلم نهى عن النذر .ومنه قوله:
)ذروني ماتركتم ،فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلفهم على أنبيائهم ،فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ،وإذا
أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم(.
صـــل
َف ْ
قال الشيخ عبد القادر :وإن كنت في حال الحقيقة ،وهي حال الولية :فخالف هواك واتبع المر في الجملة ،واتباع
المر على قسمين:
أحدهما :أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس ،وتترك الحظ وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر
منها وما بطن.
/والقسم الثاني :ما كان بأمر باطن ،وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه ،وإنما يتحقق هذا المر في المباح
الذي ليس حكًما في الشرع ،على معنى أنه ليس من قبيل النهي ول من قبيل المر الواجب ،بل هو مهمل ترك العبد
حا فل يحدث العبد فيه شيًئا من عنده بل ينتظر المر فيه فإذا أمر امتثل فيصير
يتصرف فيه باختياره ،فسمى مبا ً
ل تعالى ،مافي الشرع حكمه فبالشرع ،وما ليس له حكم في الشرع فبالمر الباطن ،فحينئذ جميع حركاته وسكناته با ّ
يصير محقًقا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم.
وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحق ،والفناء حالة البدال المنكسري القلوب؛ لجل الحق ،والموحدين
العارفين أرباب العلوم والفعل ،السادة المراء ،السخي الخفراء للحق ،خلفاء الرحمن وأجلئه وأعيانه وأحبابه ـ
عليهم السلم ـ فاتباع المر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة ،وأل تكون لك إرادة وهمة في شيء البتة،
دنيا وأخرى عبد الَمِلك لعبد الَمَلك ،وعبد المر ل عبد الهوى كالطفل مع الظئر ،والميت الغسيل مع الغاسل،
والمريض المغلوب على حسه مع الطبيب فيما سوى المر والنهي.
ضا :اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك ،إن كنت في /حال التقوى التي هي القدم الولى ،واتبع المر في حالة وقال أي ً
الولية ووجود الهوي ول تتجاوزه ،وهي القدم الثانية ،وارض بالفعل ووافق وافن في حالة البدلية والعينية
والصديقية ،وهي المنتهى ،تنح عن الطريق القذر ،خل عن سبيله ،رد نفسك وهواك ،كف لسانك عن الشكوى ،فإذا
فعلت ذلك ،إن كان خيًرا زادك المولى طيبة ولذة وسروًرا ،وإن كان شراً حفظك في طاعته فيه ،وأزال عنك الملمة
وأقعدك فيه حتى يتجاوز ويريحك عند انقضاء أجله ،كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار والبرد في الشتاء فيسفر عن
الصيف ،ذلك النموذج عندك فاعتبر به .ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطايا ،ول يصلح
لمجالسة الكريم إل طاهر عن أنجاس الذنوب والزلت ،وليقبل على شدته إل طيب من دون الدعوى والهواشات،
كما ل يصلح لمجالسة الملوك إل الطاهر من النجاس وأنواع النتن والوساخ ،فالبليا مكفرات .قال النبي صلى ال
عليه وسلم) :حمى يوم كفارة سنة(.
ل عنه ـ أن لزوم المر والنهي لبد منه في كل مقام ،وذكر الحوال الثلث قلت :فقد بين الشيخ عبد القادر ـ رضي ا ّ
التي جعلها :حال صاحب التقوى ،وحال الحقيقة ،وحال حق الحق ،وقد فسر مقصوده بأنه لبد للعبد في كل حال من
أن يريد فعل ما أمر به /في الشرع وترك ما نهى عنه في الشرع ،وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر
به ولم ينه عنه ،وهذا حق .فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ول نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو
في مثل هذا عن إرادة النقيضين.
وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم المر دائًما المر الشرعي الظاهر إن عرفه ،أو المر الباطن ،وبين أن
المر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ول محرم ،وإن مثل هذا ينتظر فيه المر الخاص حتى يفعله
بحكم المر.
فإن قلت :فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله؟ وصاحب الحق الذي بعده؟.
قيل :أما الذي بعده الذين سماهم :البدال ،فهم الذين ل يفعلون إل بأمر الحق ول يفعلون إل به فل يشهدون لنفسهم
ل فيما فعلوه من الطاعة؛ بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره ،ولهذا قال :فاتباع المر فيها فع ً
مخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة.
ل هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير،فهؤلء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد اللهية ،فيشهدون /أن ا ّ
ل خالق أفعال العباد فل يرون أحًدا مسيًئا إليهم ،ول يرون لهم
فل يرون لنفسهم حمًدا ول منة على أحد ،ويرون أن ا ّ
ل خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها ،وهم يعلمون أن العبادة ل يستحقون من حًقا على أحد إذ قد شهدوا أن ا ّ
ل شيًئا ،بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة ويشهدون أنه يستحق أن يعبد ،ول يشرك به أنفسهم ول بأنفسهم على ا ّ
شيء وأنه يستحق أن يتقي حق تقاته ،وحق تقاته أن يطاع فل يعصى ،ويذكر فل ينسى ،ويشكر فل يكفر ،فيرون إنما
قام بهم من العمل الصالح فهو جوده وفضله وكرمه له الحمد في ذلك.
ل .وأما ما قام بالعباد من أذاهم ،فهو خلقه وهو من عدله ،وما تركه الناس من
ويشهدون :أنه ل حول ول قوة إل با ّ
حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه ،وله الحمد علي كل حال على ما فعل ومالم يفعل .ولهذا كانوا
منكسرة قلوبهم؛ لشهودهم وجوده الكامل وعدمهم المحض ،ول أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إل العدم ل يرى له
شيًئا ،ول يرى به شيًئا.
ل ،لكنل ،وأنه ل يفعل إلما أمر به ،فليفعل إل ّ وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلص الدين ّ
ل /وأنه ليس له في الحقيقة شيء؛ بل الرب قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته ،وأنه ل حول ول قوة إل با ّ
هو الخالق الفاعل لكل ما قام به ،وإن كمال هذا الشهود ل يبقى شيًئا من العجب ول الكبر ونحو ذلك .فكلهما قائم
ل هو الذي جعله مسلًما مصلًيا ،وأنه في الحقيقة لم يحدث شيًئا .وذاك وإن كان ل ،لكن هذا يشهد أن ا ّبالمر مطيع ّ
ل خالق أفعال العباد؛ لكن قد ل يشهده شهوًدا يجعله فيه بمنزلة المعدوم.
يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقًرا بأن ا ّ
ضا ،بينهما فرق من جهة ثانية :وهي أن الول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها ،فهو يميز في مراداته بين وأي ً
ما يؤمر به وما ينهى عنه ،ومال يؤمر به ول ينهى عنه؛ ولهذا لم يبق له مراد أصل إل ما أراده الرب ،إما أمًرا به
ل به ،ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر ،في غير المر والنهي.ل ،وإما فعل فيه فيفعله ا ّ
فيمتثله هو با ّ
وأما الول :الذي هو في مقام التقوى العامة ،فإن له شهوات للمحرمات ،وله التفات إلى الخلق ،وله رؤية نفسه،
فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى ،بأن يكف عن المحرمات ،وعن تناول الشهوات بغير المر ،فهذا يحتاج أن يميز بين ما
يفعله ومال يفعله ،وهو التقوى ،وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إل ما يؤمر به فقط ،فل يفعل إل ما أمر به في
حا لم يفعل إل ما أمر به.
الشرع ،وما كان مبا ً
فإن قيل :كلم الشيخ كله يدور على أنه يتبع المر مهما أمكن معرفته باطًنا وظاهًرا ،وما ليس فيه أمًرا باطًنا ول
ظاهًرا يكون فيه مسلمًـا لفعل الرب ،بحيث ل يكون له اختيار ل في هذا ول في هذا بل إن عرف المر كان معه،
وإن لم يعرفه كان مع القدر ،فهو مع أمر الرب إن عرف وإل فمع خلقه ،فإنه سبحانه له الخلق والمر ،وهذا يقتضي
ل فيه حكم ل باستحباب ول كراهة ،وقد صرح بذلك هو والشيخ أن من الحوادث ماليس فيه أمر ول نهي ،فل يكون ّ
حماد الدباس ،وإن السالك يصل إلى أمور ل يكون فيها حكم شرعي بأمر ول نهي ،بل يقف العبد مع القدر؛ وهذا
الموضع هو الذي يكون السالك فيه عندهم مع الحقيقة القدرية المحضة ،إذ ليس هنا حقيقة شرعية.
حا على
/وهذا مما ينازعهم فيه أهل العلم بالشريعة ،ويقولون :الفعل إما أن يكون بالنسبة إلى الشرع وجوده راج ً
حا على وجوده ،وهو المحرم والمكروه ،وإما أن يستوى عدمه ،وهو الواجب والمستحب .وإما أن يكون عدمه راج ً
المران وهو المباح ،وهذا التقسيم بحسب المر المطلق.
ثم الفعل المعين الذي يقال :هو مباح ،إما أن تكون مصلحته راجحة للعبد لستعانته به على طاعته ولحسن نيته .فهذا
ضا محبوًبا راجح الوجود بهذا العتبار ،وإما أن يكون مفوًتا للعبد ما هو أفضل له كالمباح الذي يشغله عن
يصير أي ً
مستحب ،فهذا عدمه خير له.
ل بالنوافل بعد الفرائض ل يكون المباح المعين في حقه مستوى الطرفين ،فإنه إذا لم يستعن به والسالك المتقرب إلى ا ّ
على طاعته كان تركه ،وفعل الطاعة مكانه خيًرا له ،وإنما قدر وجوده وعدمه سواء إذا كان مع عدمه يشتغل بمباح
ل بالفرائض ،كأداء الواجبات، مثله .فيقال :ل فرق بين هذا وهذا ،فهذا يصلح للبرار أهل اليمين الذين يتقربون إلى ا ّ
وترك المحرمات ،ويشتغلون مع ذلك بمباحات .فهؤلء قد يكون المباح المعين يستوى وجوده وعدمه في حقهم ،إذا
ل إن /لم تشتغل بفعل آخر يضاد الول؛ إذ ل كانوا عند عدمه يشتغلون بمباح آخر ،ول سبيل إلى أن تترك النفس فع ً
تكون معطلة عن جميع الحركات والسكنات.
ومن هذا أنكر الكعبي :المباح في الشريعة؛ لن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم ،وترك المحرم واجب ،ول يمكنه
تركه إل أن يشتغل بضده ،وهذا المباح ضده ،والمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إل
ضد واحد ،وإل فهو أمر بأحد أضداده ،فأي ضد تلبس به كان واجًبا من باب الواجب المخير.
وسؤال الكعبي هذا أشكل على كثير من النظار .فمنهم من اعترف بالعجز عن جوابه :كأبي الحسن المدي ،وقواه
طائفة ،بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده كأبي المعالي .ومنهم من قال :هذا فيما إذا كانت أضداده محصورة،
فأما ما ليست أضداده محصورة فل يكون النهي عنه أمًرا بأحدهما ،كما يفرق بين الواجب المطلق والواجب المخير،
فيقال في المخير :هو أمر بأحد الثلثة ،ويقال في المطلق :هو أمر بالقدر المشترك ،وجدنا أبو البركات يميل إلى هذا.
وقد ألزموا الكعبي إذا ترك الحرام بحرام آخر ،وهو قد يقول :عليه ترك المحرمات كلها إلى ما ليس بمحرم ،بل إما
مباح وإما مستحب ،وإما واجب.
/وتحقيق المر أن قولنا :المر بالشىء نهى عن ضده وأضداده ،والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده ،من جنس
قولنا :المر بالشىء أمر بلوازمه ،وما ل يتم الواجب إل به ،فهو واجب ،والنهي عن الشىء نهي عما ل يتم اجتنابه
إل به .فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده ،بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء
أضداده ،وعدم النهي عنه؛ بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته ،وإذا كان ل يعدم إلبضد يخلقه كالكوان فل بد
عند عدمه من وجود بعض أضداده ،فهذا حق في نفسه؛ لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وإن لم يكن
مقصوده المر .والفرق ثابت بين مايؤمر به قصًدا ،وما يلزمه في الوجود.
فالول :هو الذي يذم ويعاقب على تركه بخلف الثاني ،فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيًدا فعليه أن
يسعى من المكان البعيد ،والقريب يسعى من المكان القريب ،فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به ،ومع هذا فإذا
ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب ،بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد
أعظم ،فلو كانت اللوازم مقصودة للمر لكان يعاقب بتركها ،فكان يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطًعا.
وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لبد من ترك أضداده ،لكن /ترك الضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصوًدا
للمر ،بحيث أنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه ل على فعل الضداد التي اشتغل بها ،وكذلك المنهي عنه
سا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك. مقصود الناهي عدمه؛ ليس مقصوده فعل شيء من أضداده ،وإذا تركه متلب ً
وعلى هذا إذا ترك حراًما بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني ،ول يقال :فعل واجًبا وهو ترك الول؛ لن المقصود
عدم الول ،فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ول بامتثاله أمًرا مقصوًدا؛ لكن نهى عن الحرام ومن
ضرورة ترك المنهي عنه الشتغال بضد من أضداده ،فذاك يقع لزًما لترك المنهي عنه ،فليس هو الواجب المحدود
بقولنا :الواجب ما يذم تاركه ،ويعاقب تاركه ،أو يكون تركه سبًبا للذم والعقاب.
فقولنا :ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب ،أو ]يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب[ .يتضمن إيجاب اللوازم،
عا ،أي ل يحصل إل به،والفرق ثابت بين الواجب الول ،والثاني .فإن الول يذم تاركه ويعاقب ،والثاني واجب وقو ً
ويؤمر به أمًرا بالوسائل ،ويثاب عليه ،لكن العقوبة ليست على تركه.
/ومن هذا الباب إذا اشتبهت الميتة بالمذكي ،فإن المحرم الذي يعاقب على فعله أحدهما ،بحيث إذا أكلهما جميًعا لم
يعاقب عقوبة من أكل ميتتين ،بل عقوبة من أكل ميتة واحدة ،والخرى وجب تركها وجوب الوسائل .فقول من قال:
ضا بذلك العتبار وهذا كلهما محرم صحيح بهذا العتبار؛ وقول من قال :المحرم في نفس المر أحدهما صحيح أي ً
نظير قول من قال :يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب.
وإنكار أبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي على من قال هذا ،ومن قال :المحرم أحدهما ل يناسب طريقة الفقهاء،
وحاصله يرجع إلى نزاع لفظي .فإن الوجوب والحرمة الثابتة لحدهما ليست ثابتة للخر ،بل نوع آخر ،حتى لو
اشتبهت مملوكته بأجنبية بالليل ووطئها يعتقد حل وطء إحداهما وتحريم وطء الخرى ،كان ولده من مملوكته ثابًتا
ل ،ثم تزوج الخرى لم يحد حدين ،مع نسبه بخلف الخرى ،ولو قدرنا أنها اشتبهت بأجنبية وتزوج إحداهما فحد مث ً
أنه لحد في ذلك لجواز أن تكون المنكوحة هي الجنبية.
وبهذا تنحل شبهة الكعبي .فإن المحرم تركه مقصود ،وأما الشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة؛ فإذا قيل المباح
واجب بمعنى وجوب الوسائل ،أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق.
/ثم إن هذا يعتبر فيه القصد ،فإن كان النسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى
ل ليشتغل به عن الطعام الحرام ،فهذا يثاب
امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الجنبية ووطئها ،أو يأكل طعاًما حل ً
ل،
على هذه النية والفعل؛ كما بين ذلك النبي صلى ال عليه وسلم بقوله) :وفي بضع أحدكم صدقة( .قالوا :يارسول ا ّ
أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال) :أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان عليه وزر ،فلم تحتسبون بالحرام ول
ل يحب أن يؤخذ برخصه ،كما يكره أن تؤتي معصيته(
تحتسبون بالحلل؟!( ،ومنه قوله صلى ال عليه وسلم) :إن ا ّ
رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه.
وقد يقال :المباح يصير واجًبا بهذا العتبار ،وإن تعين طريًقا صار واجًبا معيًنا ،وإل كان واجبا مخيًرا ،لكن مع هذا
ل ،إل وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم ل يشترط فيه القصد ،أما مع الذهول عن ذلك فل يكون واجًبا أص ً
القصد .فكذلك ما يتوسل به إليه ،فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وأنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم
يمنع ذلك .فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري .وإل فالمعاني الصحيحة ل ينازع فيها من فهمها.
والمقصود هنا أن البرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح /عن مباح آخر ،فيكون كل من المباحين يستوى
وجوده وعدمه في حقهم .أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها،
ل ،وحينئذ فمباحاتهم طاعات ،وإذا كان كذلك لم تكن الفعال في حقهم إل ما يترجح وجوده، والستعانة على طاعة ا ّ
عا أمر استحباب ،أو ما يترجح عدمه فالفضل لهم أن ل يفعلوه ،وإن لم يكن فيه إثم .والشريعة قدفيؤمرون به شر ً
بينت أحكام الفعال كلها فهذا سؤال.
وسؤال ثان :وهو أنه إذا قدر أن من الفعال ماليس فيه أمر ول نهي ،كما في حق البرار ،فهذا الفعل ل يحمد ول
يذم ،ول يحب ول يبغض ،ول ينظر فيه إل وجود القدر وعدمه ،بل إن فعلوه لم يحمدوا ،وإن لم يفعلوه لم يحمدوا،
فل يجعل مما يحمدون عليه أنهم يكونون في هذا الفعل كالميت بين يدي الغاسل ،مع كون هذا الفعل صدر باختيارهم
وإرادتهم .إذ الكلم في ذلك.
وأما غيرالفعال الختيارية ،وهو ما فعل بالنسان كما يحمل النسان وهو ل يستطيع المتناع ،فهذا خارج عن
التكليف ،مع أن العبد مأمور في مثل هذا أن يحبه إن كان حسنة ،ويبغضه إن كان سيئة ،ويخلو عنهما إن لم يكن
حسنة ول سيئة ،فمن جعل النسان فيما يستعمله فيه القدر من الفعال الختيارية كالميت بين /يدي الغاسل فقد رفع
المر والنهي عنه في الفعال الختيارية وهذا باطل.
وسؤال ثالث :وهو أن حقيقة هذا القول طي بساط المر والنهي عن العبد في هذه الحوال ،مع كون أفعاله اختيارية،
ل ورسوله، وهب أنه ليس له هوى ،فليس كل مال هوى فيه يسقط عنه فيه المر والنهي ،بل عليه أن يحب ما أحبه ا ّ
ل ورسوله.
ويبغض ما أبغضه ا ّ
عا أو
وفصل الخطاب :أن السالك قد يخفي عليه المر والنهي ،بحيث ل يدري هل ذلك الفعل مأمور به شر ً
عا؛ فيبقى هواه لئل يكون له هوى فيه ،ثم يسلم فيه للقدر ،وهو فعل الرب لعدم معرفته برضا الرب
منهي عنه شر ً
وأمره وحبه في ذلك الفعل.
ل الشرعي وهذا يعرض لكثير من أئمة العباد ،وأئمة العلماء ،فإنه قد يكون عندهم أفعال وأقوال ل يعرفون حكم ا ّ
فيها ،بل قد تعارضت عندهم فيها الدلة أو خفيت الدلة بالكلية ،فيكونون معذورين لخفاء الشرع عليهم ،وحكم الشرع
إنما يثبت في حق العبد إذا تمكن من /معرفته ،وأما ما لم يبلغه ولم يتمكن من معرفته فل يطالب به ،وإنما عليه أن
ل ما استطاع .وهذا خطأ في العلم ،وليس خطأ في العمل ،وهو كالمجتهد المخطئ له أجر على قصده يتقي ا ّ
واجتهاده ،وخطؤه مرفوع عنه.
فإن قيل :فإذا كان المر هكذا .فالواجب على العبد أن يتوقف في مثل هذه الحال إذا لم يتبين له أن ذلك الفعل مأمور به
ل لما يستعمل فيه من
أو منهي عنه ،وهو ل يريد أن يفعل شيًئا ل مدح فيه ول ذم ،فيقف ل يستسلم للقدر ويصير مح ً
ل ،فهو ل يمدحه ول يذمه ،ول يرضاه ول يسخطه؛إذا لم يتبين له حكمه. الفعال ،الّلهم إل إذا فعل غيره فع ً
فأما كونه هو من أفعاله الختيارية يصير مستسلًما لما يستعمله القدر فيه :كالطفل مع الظئر ،والميت مع الغاسل ،فهذا
ل به ول رسوله ،بل هذا محرم ،وإن عفى عن صاحبه وحسب صاحبه أن يعفي عنه؛ لجتهاده وحسن مما لم يأمر ا ّ
غا
قصده ،أما كونه يحمد على ذلك ،ويجعل هذا أفضل المقامات فليس المر كذلك ،وكونه مجرًدا عن هواه ليس مسو ً
له أن يستسلم لكل مايفعل به.
/أحدهما :أن يفعل به بغير اختياره كما يحمل النسان ول يمكنه المتناع ،وكما تضجع المرأة قهًرا وتوطأ ،فهذا ل إثم
ضا معفو عنه في الفعال عند الجمهور ،وهو فيه باتفاق العلماء ،وأما أن يكره بالكراه الشرعي حتى يفعل ،فهذا أي ً
ل ِمْن َبْعِد ِإْكَراِهِهّن َغُفوٌر َرِحيٌم{ ]النور.[33 :
ن ا َّ
ن َفِإ ّ أصح الروايتين عن أحمد لقوله تعالىَ} :وَم ْ
ن ُيْكِرّه ّ
وأما إذا لم يكره الكراه الشرعي فاستسلمه للفعل المطلق الذي ل يعرف أخير هو أم شر؟ ليس هو مأموًرا به ،وإن
ل ورسوله.
جرى على يده خرق عادة أو لم يجر ،فليس هو مأموًرا أن يفعل إل ما هو خير عند ا ّ
قيل :هذا السؤال صحيح ،وحقيقة المر :أن السالكين إذا وصلوا إلى هذا المقام فيحسن قصدهم وتسليمهم وخضوعهم
لربهم ،وطلبهم منه أن يختار لهم ما هو الصلح ،إذا استعملوا في أمورهم ل يعرفون حكمه في الشرع رجوا أن
يكون خيًرا؛ لن معرفتهم بحكمه قد تعذرت عليهم ،والنسان غير عالم في كل حال بما هو الصلح له في دينه ،وبما
ل فيما لم يعلم عاقبته ،إذا قال) :اللهم ،إني أستخيرك بعلمك
ل ورسوله ،فيبقى حالهم حال المستخير ّ
هو أرضى ّ
وأستقدرك بقدرتك ،وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ول أقدر؛ وتعلم ول أعلم؛ وأنت علم الغيوب ،الّلهم ،إن
كنت تعلم أن هذا المر خير لي في ديني /ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ،ثم بارك لي فيه .وإن كنت
تعلم أن هذا المر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم
ارضني به(.
ل له .إذ لم يكن معه دليل شرعي على ل كان ما شرح له صدره وتيسر له من المور هو الذي اختاره ا ّفإذا استخار ا ّ
أن عين هذا الفعل هو مأمور به في هذه الحال ،فإن الدلة الشرعية إنما تأمر بأمر مطلق عام ،ل بعين كل فعل من
كل فاعل ،إذ كان هذا ممتنًعا؛ وإن كان ذلك المعين يمكن إدراجه تحت بعض خطاب الشارع العام؛ إذا كانت الفراد
المعينة داخلة تحت المر العام الكلي؛ لكن ل يقدر كل أحد على استحضار هذا ،ول على استحضار أنواع الخطاب .
ولهذا كان الفقهاء يعدلون إلى القياس عند خفاء ذلك عليهم.
ضا ـ قد ل يحصل في كل واقعة ،فقد يخفى على الئمة المجتهدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان
ثم القياس ـ أي ً
دخول الواقعة المعينة تحت خطاب عام ،أو اعتبارها بنظير لها ،فل يعرف لها أصل ،ول نظير .هذا مع كثرة نظرهم
في خطاب الشارع ومعرفة معانيه ،ودللته على الحكام .فكيف من لم يكن كذلك؟!
/ثم السالك ليس قصده معرفة الحلل والحرام؛ بل مقصوده أن هذا الفعل المعين خير من هذا ،وهذا خير من هذا،
ل ولكل سالك حال تخصه قد يؤمر فيهال في حقه في تلك الحال ،وهذا باب واسع ل يحيط به إل ا ّ
وأيهما أحب إلى ا ّ
بما ينهي عنه غيره ،ويؤمر في حال بما ينهي عنه في أخرى.
فقالوا :نحن نفعل الخير بحسب المكان ،وهو فعل ما علمنا أنا أمرنا به ،ونترك أصل الشر وهو هوى النفس ،ونلجأ
ل فيما سوى ذلك أن يوفقنا لما هو أحب إليه وأرضى له؛ فما استعملنا فيه رجونا أن يكون من هذا الباب؛ ثم إن
إلى ا ّ
أصبنا فلنا أجران ،وإل فلنا أجر ،وخطؤنا محطوط عنا فهذا هذا.
وحينئذ ،فمن قدر أنه علم المشروع وفعله فهو أفضل من هذا؛ ولكن كثير ممن يعلم المشروع ل يفعله ول يقصد أحب
ل وكثير منهم يفعله بشوب من الهوى ،فيبقى هذا فعل المشروع بهوى وهذا ترك مالم يعلم أنه مشروع
المور إلى ا ّ
بل هوى .فهذا نقص في العلم ،وذاك نقص في العمل؛ إذ العمل بهوى النفس نقص في العمل ،ولو كان المفعول
واجًبا.
فيقال :إن تاب صاحب الهوي من هواه كان أرفع بعلمه ،وإن /لم يتب فله نصيب من عالم السوء؛ ولهذا تشاجر
رجلن من المتقدمين عام الحكمين في مثل هذا .فقال أحدهما لصاحبه :إنما مثلك مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو
تتركه يلهث .وقال الخر :أنت كالحمار يحمل أسفاًرا؛ فهذا أحسن قصًدا وأقوى علًما.
ولهذا تجد أصحاب حسن القصد إنما يعيبون على هؤلء اتباع الهوي وحب الدنيا والرئاسة ،وأهل العلم يعيبون على
أولئك نقص علمهم بالشرع ،وعدولهم عن المر والنهي فهذا هذا.
ل ـ تعالى ـ المسؤول أن يهدينا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
وا ّ
والصالحين وحسن أولئك رفيًقا.
وقد قال بعض أهل الفقه والزهد :من الناس من سلك الشريعة ،ومنهم من سلك الحقيقة .ولعله أراد هؤلء وهؤلء؛
ل مع حسن القصد واتباع المر والنهي المعلوم لهم مع خفاء الدلة الشرعية في ذلك
فإن هؤلء يرجحون بما ييسره ا ّ
المتيسر لهم ،وهؤلء يرجحون بالدلة الشرعية من الظواهر والقيسة ،وأخبار الحاد وأقوال العلماء مع خفاء المر
المتيسر لهم.
ضا ،فهؤلء قد يشهدون مافي ذلك الفعل المقدر من /المصلحة والخير ،فيرجحونه بحكم اليمان وإن لم يعرفوا
وأي ً
ل من النص على حسنه ،وأولئك إنما يرجحون من النصوص ،وما استنبط منها ،فهؤلء لهم القرآن ،وهؤلء لهم دلي ً
اليمان ،وسبب هذا أن كل من الطائفتين خفي عليه ما مع الخرى من الحق ،وكل من الطائفتين في طريقها حق
وباطل.
فأما المدعون للحقيقة بدون مراعاة المر والنهي الشرعيين ،فهم ضالون ،كالذين يعرفون المر والنهي ول يفعلون
إل ما يهوونه من الكبائر ،فإنهم فساق .وهؤلء الذين قيل فيهم :احذروا فتنة العالم الفاجر ،والعابد الجاهل فإن فتنتهما
فتنة لكل مفتون .والحقيقة قد تكون قدرية وقد تكون ذوقية ،وقد تكون شرعية ولفظ الشرع يتناول المنزل ،و المؤول
والمبدل.
والمقصود هنا ذكر أهل الستقامة من الطائفتين والكلم على حال أهل العبادة والرادة ،الذين خرجوا عن الهوي
وهو الفرق الطبعي ،وقاموا بما علموه من الفرق الشرعي.
وبقى قسم ثالث ،ليس لهم فيه فرق طبعي ول عندهم فيه فرق شرعي ،فهو الذي جروا فيه مع الفعل والقدر.
ل عنهم ـ وأنهم خير قرون هذه المة ،إذ كانوا في خلفة النبوة يقومون
وهذا مما بين حال كمال الصحابة ـ رضي ا ّ
بالفروق الشرعية في جليل المور ودقيقها مع اتساع المر ،والواحد من المتأخرين قد يعجز عن معرفة الفروق
الشرعية فيما يخصه ،كما أن الواحد من هؤلء يتبع هواه في أمر قليل .فأولئك مع عظيم ما دخلوا فيه من المر
والنهي لهم العلم الذي يميزون به بين الحسنات والسيئات ،ولهم القصد الحسن الذي يفعلون به الحسنات ،والكثير من
المتأخرين العالمين والعابدين يفوت أحدهم العلم في كثير من الحسنات والسيئات حتى يظن السيئة حسنة وبالعكس ،أو
يفوته القصد في كثير من العمال ،حتي يتبع هواه فيما وضح له من المر والنهي.
ل أن يهدينا الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فنسأل ا ّ
هذا لعمري إذا كان عند العالم ما هو أمر الشارع ونهيه حقيقة ،وعند العابد حسن القصد الخالي عن الهوي حقيقة،
فأما من خلط الشرع المنزل بالمبدل والمؤول ،وخلط القصد الحسن باتباع الهوى ،فهؤلء /وهؤلء مخلطون في
علمهم وعملهم ،وتخليط هؤلء في العلم سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في القصد ،وتخليط هؤلء في القصد سوى
تخليطهم وتخليط غيرهم في العلم.
ل علم ما لم يعلم .وحسن القصد :من أعون الشياء على نيل العلم ودركه .والعلم فإنه من عمل بما علم ورثه ا ّ
الشرعي :من أعون الشياء على حسن القصد والعمل الصالح ،فإن العلم قائد والعمل سائق والنفس حرون ،فإن ونى
قائدها لم تستقم لسائقها ،وإن ونى سائقها لم تستقم لقائدها ،فإذا ضعف العلم حار السالك ولم يدر أين يسلك ،فغايته أن
يستطرح للقدر ،وإذا ترك العمل حار السالك عن الطريق فسلك غيره مع علمه أنه تركه ،فهذا حائر ل يدري أين
يسلك مع كثرة سيره وهذا حائر عن الطريق زائغ عنه مع علمه به.
ظُلوًما
ن َ
ن ِإّنُه َكا َ
سا ُ
لْن َ ل ُقُلوَبُهْم{ ]الصف .[5 :هذا جاهل وهذا ظالم ،قال تعالىَ} :و َ
حَمَلَها ا ِْ غ ا ُّغوا َأَزا َقال تعالىَ} :فَلّما َزا ُ
َجُهوًل{ ]الحزاب .[72 :مع أن الجهل والظلم متقاربان لكن الجاهل ل يدري أنه ظالم والظالم جهل الحقيقة المانعة له
ب{ ]النساء.[17 : ن َقِري ٍ
ن ِم ْ
جَهاَلٍة ُثّم َيُتوُبو َ
سوَء ِب َ
ن ال ّ
ن َيْعَمُلو َ
ل ِلّلِذي َ من العلم .قال تعالىِ} :إّنَما الّتْوَبُة َ
عَلى ا ِّ
ل ليس عالًما
ل ،وعالم بأمر ا ّ
ل ليس عالًما بأمر ا ّ
وقد روى الخلل عن أبي حيان التيمي قال :العلماء ثلثة :فعالم با ّ
ل.
ل وبأمر ا ّ
ل ،وعالم با ّ
با ّ
ي اْلَمْأَوى{
جّنَة ِه َ
ن اْل َ
ن اْلَهَوى َ .فِإ ّ
عْ
س َ
ف َمَقاَم َرّبِه َوَنَهى الّنْف َ
خا َ قلت :والخشية تمنع اتباع الهوى قال تعالىَ} :وَأّما َم ْ
ن َ
]النازعات.[41 ،40 :
ضّ
ل والكمال في عدم الهوى وفي العلم هو لخاتم الرسل صلى ال عليه وسلم الذي قال فيهَ} :والّن ْ
جِم ِإَذا َهَوى َ .ما َ
ي ُيوَحى{ ]النجم ،[1-4 :فنفى عنه الضلل والغي ووصفه بأنه ل حٌ
ل َو ْ
ن ُهَو ِإ ّ
ن اْلَهَوى ِ .إ ْ
عْق َ
طُغَوى َ .وَما َيْن ِ
حُبُكْم َوَما َ
صا ِ
َ
ينطق عن الهوى إن هو إل وحي يوحى ،فنفى الهوى وأثبت العلم الكامل وهو الوحي ،فهذا كمال العلم وذاك كمال
القصد صلى ال عليه وسلم.
ل ورسوله باطًنا وظاهًرا ،ومن كان وعبادته :طاعة أمره ،وأمره لنا ما بلغه الرسول عنه ،فالكمال في كمال طاعة ا ّ
ل به فترك هواه واستسلم للقدر أو اجتهد في الطاعة فأخطأ فعل المأمور به إلى ما اعتقده مأموًرالم يعرف ما أمر ا ّ
ل مثابون على ما أحسنوه من به ،أو تعارضت عنده الدلة فتوقف عما هو طاعة في نفس المر ،فهؤلء مطيعون ّ
ل ،وما عجزوا عن علمه فأخطؤوه إلى غيره فمغفور لهم. ل ،واستفرغوه من وسعهم في طاعة ا ّ القصد ّ
وهذا من أسباب فتن تقع بين المة ،فإن أقواًما يقولون ويفعلون أموًرا هم مجتهدون فيها .وقد أخطؤوا فتبلغ أقواًما
ضا مجتهدون مخطئون ،فيكون هذا مجتهًدا يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب ،أو يظنون أنهم ل يعذرون بالخطأ ،وهم أي ً
مخطًئا في فعله ،وهذا مجتهًدا مخطًئا /في إنكاره ،والكل مغفور لهم .وقد يكون أحدهما مذنًبا ،كما قد يكونان جميًعا
مذنبين.
ل ،وخير الهدى هدي محمد صلى ال عليه وسلم ،وشر المور محدثاتها وكل بدعة ضللة.
وخير الكلم كلم ا ّ
والواحد من هؤلء قد يعطي طرًفا بالمر والنهي ،فيولي ويعزل ويعطي ويمنع ،فيظن الظان أن هذا كمال ،وإنما
ل ،وإل فهو من جنس الملك ،وأفعال الملك :إما ذنب ،وإما عفو ،وإما
يكون كمال إذا كان موافًقا للمر ،فيكون طاعة ّ
طاعة.
فالخلفاء الراشدون أفعالهم طاعة وعبادة ،وهم أتباع العبد الرسول وهي طريقة السابقين المقربين.
وأما طريقة الملوك العادلين ،فإما طاعة وإما عفو ،وهي طريقة النبياء الملوك؛ وطريقة البرار أصحاب اليمين.
وأما طريقة الملوك الظالمين ،فتتضمن المعاصي ،وهي طريقة الظالمين لنفسهم .قال تعالىُ} :ثّم َأْوَرْثَنا اْلِكَتا َ
ب اّلِذي َ
ن
ضُل اْلَكِبيُر{ ]فاطر [32 :فل ك ُهَو اْلَف ْ
ل َذِل َ
ن ا ِّ
ت ِبِإذْ ِ
خْيَرا ِ
ق ِباْل َ
ساِب ٌ
صٌد َوِمْنُهْم َ
سِه َوِمْنُهْم ُمْقَت ِ
ظاِلٌم ِلَنْف ِ
عَباِدَنا َفِمْنُهْم َ
ن ِ
طَفْيَنا ِم ْ
صَ
ا ْ
يخرج الواحد من المؤمنين عن أن يكون /من أحد هذه الصناف :إما ظالم لنفسه وإما مقتصد ،وإما سابق بالخيرات.
وخوارق العادات :إما مكاشفة وهي من جنس العلم الخارق ،وإما تصرف وهي من جنس القدرة الخارقة ،وأصحابها
ل يخرجون عن القسام الثلثة.
ل َتَعاَلى:
حَمه ا ّ
لم ـ َر ِ
ســ َ
لْخا ِ
ل شي ُ
قا َ
صـــل
َف ْ
حدثني أبي عن محيى الدين بن النحاس؛ وأظني سمعتها منه أنه رأى الشيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخباًرا
عن الحق تعالى) :من جاءنا تلقيناه من البعيد ،ومن تصرف بحولنا ألنا له الحديد ،ومن اتبع مرادنا أردنا ما يريد،
ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد(.
ل .وفي الثر) :من سره أن يكون أقوى والتقرب بحوله هو الستعانة ،والتوكل عليه ،فإنه ل حول ول /قوة إل با ّ
سُبُه{
حْل َفُهَو َ
عَلى ا ِّ
ل َ ل( .وعن سعيد بن جبير) :التوكل جماع اليمان( ،وقال تعالىَ} :وَم ْ
ن َيَتَوّك ْ الناس فليتوكل على ا ّ
ب َلُكْم{ ]النفال ،[9 :وهذا على أصح القولين في أن التوكل عليه ـ جا َ
سَت َ
ن َرّبُكْم َفا ْ ]الطلق ،[3 :وقالِ} :إْذ َت ْ
سَتِغيُثو َ
ضا ـ سبب لجلب المنافع ودفع المضار ،فإنه يفيد قوة العبد وتصريف الكون ولهذا بمنزلة الدعاء على أصح القولين أي ً
هو الغالب على ذوي الحوال متشرعهم وغير متشرعهم ،وبه يتصرفون ويؤثرون تارة بما يوافق المر ،وتارة بما
يخالفه.
ل ِبُكْم اْلُيْسَر َوَل ُيِريُد ِبُكْم اْلُعْسَر{ ]البقرة ،[185 :وقوله: وقوله) :ومن اتبع مرادنا( يعني :المراد الشرعي كقولهُ} :يِريُد ا ُّ
عَلْيُكْم{
طّهَرُكْم َوِلُيِتّم ِنْعَمَتُه َ
ن ُيِريُد ِلُي َ
ج َوَلِك ْحَر ٍ ن َعَلْيكُْم ِم ْ
ل َ جَع َ عْنُكْم{ ]النساء ،[28 :وقولهَ} :ما ُيِريُد ا ُّ
ل ِلَي ْ ف َ
خّف َ
ن ُي َ
ل َأ ْ
}ُيِريُد ا ُّ
ل لطاعك( ،وفي الحديث الصحيح: ]المائدة [6 :هذا هو طاعة أمره ،وقد جاء في الحديث) :وأنت يا عمر لو أطعت ا ّ
ت َوَيِزيُدُهْم ِم ْ
ن حا ِ صاِل َ
عِمُلوا ال ّ ن آَمُنوا َو َ ب اّلِذي َ
جي ُ )ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه( ،وقد قال تعالىَ} :وَي ْ
سَت ِ
ضِلِه{ ]الشورى.[26 : َف ْ
ل :رجاء
ل من المحرم والمكروه لجل ا ّ
وقوله) :ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد( .يعني :ترك ما كره ا ّ
ب{
سا ٍ
حَ
جَرُهْم ِبَغْيِر ِ
ن َأ ْ ومحبة وخشية أعطيناه فوق المزيد؛ لن هذا مقام الصبر ،وقد قال تعالىِ} :إّنَما ُيَوّفى ال ّ
صاِبُرو َ
]الزمر.[10 :
فأجــاب:
أما ]كتاب قوت القلوب[ و ]كتاب الحياء[ تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب :مثل الصبر والشكر ،والحب
والتوكل ،والتوحيد ونحو ذلك .وأبو طالب أعلم بالحديث والثر ،وكلم أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم ،من
أبي حامد الغزالي ،وكلمه أسد وأجود تحقيًقا ،وأبعد عن البدعة مع أن في ]قوت القلوب[ أحاديث ضعيفة
وموضوعة ،وأشياء كثيرة مردودة.
وأما ما في ]الحياء[ من الكلم في ]المهلكات[ مثل الكلم على الكبر ،والعجب والرياء ،والحسد ونحو ذلك ،فغالبه
منقول من كلم الحارث المحاسبي في الرعاية ،ومنه ماهو مقبول ومنه ماهو مردود ،ومنه ما هو متنازع فيه.
و]الحياء[ فيه فوائد كثيرة ،لكن فيه مواد مذمومة ،فإنه فيه مواد فاسدة من كلم الفلسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة
والمعاد ،فإذا /ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدًوا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين.
وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه .وقالوا :مرضه ]الشفاء[ يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة.
وفيه مع ذلك من كلم المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة ،ومن غير ذلك
من العبادات والدب ما هو موافق للكتاب والسنة ،ما هو أكثر مما يرد منه؛ فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا
فيه.
صـــل
َف ْ
ل ودعائه كسائر العبادات ،وبينقد دل الكتاب والسنة وآثار سلف المة على جنس المشروع المستحب في ذكر ا ّ
النبي صلى ال عليه وسلم مراتب الذكار ،كقوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن سمرة بن جندب:
ل أكبر ،ل يضرك بأيهن ل ،وا ّ
ل ،ول إله إل ا ّ
ل ،والحمد ّ
)أفضل الكلم بعد القرآن أربع ،وهن من القرآن :سبحان ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم :أي الكلم أفضل ؟ قال) :ما اصطفى ا ّ
ل بدأت( وفي صحيحه عن أبي ذر قال :سئل رسول ا ّ
ل وبحمده(.
لملئكته سبحان ا ّ
ل ،وأفضل عا إلى النبي صلى ال عليه وسلم) :أفضل الذكر ل إله إل ا ّ
وفي ]كتاب الذكر[ لبن أبي الدنيا وغيره مرفو ً
ل بن كريز عن النبي صلى ال عليه وسلم) :أفضل ما ل( .وفي الموطأ وغيره حديث طلحة بن عبد ا ّ الدعاء الحمد ّ /
ل وحده ل شريك له ،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير( ،وفي السنن قلت أنا والنبيون من قبلي :ل إله إل ا ّ
ل ،إني ل أستطيع أن آخذ من القرآن شيًئا ،فعلمني ما يجزئني في صلتي فقال) :قل: حديث الذي قال :يا رسول ا ّ
ل أكبر( .ولهذا قال الفقهاء :إن من عجز عن القراءة في الصلة انتقل إلى هذه
ل وا ّ
ل ،ول إله إل ا ّ
ل والحمد ّسبحان ا ّ
الكلمات الباقيات الصالحات .وفضائل هذه الكلمات ونحوها كثير ليس هذا موضعه.
وإنما الغرض من الذكر والدعاء ما ليس بمشروع الجنس أو هو منهي عنه أو عن صفته .كما قال تعالى} :اْد ُ
عوا َرّبُكْم
لِ اَْلْسَماُء اْلُحْسَنى َفاْدُعوهُ ِبَها{ ]العراف[180 :
ن{ ]العراف ،[55 :وقال تعالىَ} :و ّ
ب اْلُمْعَتِدي َ
ح ّ
ل ُي ِ
خْفَيًة ِإّنُه َ
عا َو ُ
ضّر ً
َت َ
فل يدعي إل بأسمائه الحسنى.
ومن المنهي عنه :ما كانوا يقولونه في الجاهلية في تلبيتهم :لبيك ل شريك لك ،إل شريًكا هو لك ،تملكه وما ملك.
ل عليك .فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :شأن ومثل قول بعض العراب للنبي صلى ال عليه وسلم :إنا نستشفع با ّ
ل ل يستشفع به على أحد من خلقه( ومثل ما كانوا يقولون في أول السلم / :السلم على ا ّ
ل ل أعظم من ذلك ،إن ا ّا ّ
ل والصلوات ل هو السلم ،فإذا قعد أحدكم فليقل :التحيات ّقبل عباده .فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :إن ا ّ
والطيبات(.
ل هو ]السلم[ ،فالسلم يطلب منه ل يطلب له .بل يثنى أشار بذلك إلى أن ]السلم[ إنما يطلب لمن يحتاج إليه ،وا ّ
ل والصلوات والطيبات .فالحق سبحانه يثنى عليه ويطلب منه ،وأما المخلوق فيطلب له. عليه ،فإنه له فيقال :التحيات ّ
جّ
ن ت اْل ِ ل الصالحين .قال تعالىَ} :وَما َ
خَلْق ُ ل وبركاته ،السلم علينا وعلى عباد ا ّ فيقال :السلم عليك أيها النبي ورحمة ا ّ
طِعُموِن{ ]الذاريات ،[57 ،56 :والرزق يعم كل ما ينتفع به ن ُي ْ
ق َوَما ُأِريُد َأ ْن ِرْز ٍ
ن َ .ما ُأِريُد ِمْنُهْم ِم ْ
ل ِلَيْعُبُدو ِ
س ِإ ّ
لن َ
َوا ِْ
المرتزق؛ فالنسان يرزق الطعام والشراب واللباس ،وما ينتفع بسمعه وبصره وشمه ،ويرزق ما ينتفع به باطنه من
ل سبحانه ما يريد من الخلق من رزق ،فإنهم لن يبلغوا علم وإيمان ،وفرح وسرور ،وقوة ونور ،وتأييد وغير ذلك ،وا ّ
حُ
ن ل َفِقيٌر َوَن ْ
ن ا َّ
ن َقاُلوا ِإ ّ
ل اّلِذي َ
ل َقْو َ ضره فيضروه ،ولن يبلغوا نفعه فينفعوه ،بل هو الغني وهم الفقراءَ} .لَقْد َ
سِمَع ا ُّ
َأْغِنَياُء{ ]آل عمران ،[181:وهو الحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ،ولم يكن له كفًوا أحد.
وكذلك الدعاء المكروه ،مثل الدعاء ببغي أو قطيعة رحم أو دعاء منازل النبياء أو دعاء العرابي الذي قال :اللهم ما
كنت معذبي به في /الخرة فعجله لي في الدنيا ،ومثل قوله صلى ال عليه وسلم للمصابين بميت لما صاحوا) :ل
جاَلُهْم
سِتْع َ
شّر ا ْ
س ال ّ
ل ِللّنا ِ
ل ا ُّ
جُتدعوا على أنفسكم إل بخير؛فإن الملئكة يؤمنون على ما تقولون( وقد قال تعالىَ} :وَلْو ُيَع ّ
ي ِإَلْيِهْم َأَجُلُهْم{ ]يونس ،[11 :وقال تعالىَ} :وَيْدُع اِْلنَساُن ِبالّشّر ُدَعاَءهُ ِباْلَخْيِر َوَكاَن اِْلنَساُن َعُجوًل{ ]السراء:
ضَخْيِر َلُق ِ
ِباْل َ
،[11وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استيعابه .وإنما نبهنا على جنس المكروه.
ل أكبر[، ل[ ،ومثل] :ا ّ وإنما الغرض هنا أن الشرع لم يستحب من الذكر إل ما كان كلًما تاًما مفيًدا مثل] :ل إله إل ا ّ
ك{ ]الرحمنَ} ،[78 :تَباَر َ
ك اّلِذي سُم َرّب َ
كا ْل[ ،ومثل }َتَباَر َ
ل[ ،ومثل ]ل حول ول قوة إل با ّ ل والحمد ّ ومثل ]سبحان ا ّ
ك اّلِذي َنّزَل اْلُفْرَقاَن{ ]الفرقان.[1 :
ض{ ]الحديدَ} [1 :تَباَر َ
لْر ِت َوا َْ
سَماَوا ِ
ل َما ِفي ال ّ
ح ِّ ك{ ]الملكَ } ،[1 :
سّب َ ِبَيِدِه اْلُمْل ُ
ل[ أو ]مضمًرا[ مثل] :هو ،هو[ .فهذا ليس بمشروع في كتاب ول سنة ،ولل ،ا ّ
فأما) السم المفرد( مظهًرا مثل] :ا ّ
ضا عن أحد من سلف المة ،ول عن أعيان المة المقتدى بهم ،وإنما لهج به قوم من ضلل المتأخرين. هو مأثور أي ً
وربما غل بعضهم في ذلك حتى يجعلوا ذكر السم المفرد للخاصة ،وذكر الكلمة التامة للعامة ،وربما قال بعضهم:
ل[ للعارفين ،و]هو[ للمحققين ،وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على ل[ للمؤمنين ،و]ا ّ
]ل إله إل ا ّ
ل[ .أو على ]هو[ أو ]يا هو[ أو ]ل هو إل هو[. ل ،ا ّ
ل ،ا ّ
]ا ّ
وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك .واستدل عليه تارة بوجد ،وتارة برأي ،وتارة بنقل مكذوب ،كما
ل[ .فقالها النبي صلى ال
ل ،ا ّ
ل ،ا ّ
يروي بعضهم أن النبي صلى ال عليه وسلم لقن علّيا بن أبي طالب أن يقول] :ا ّ
عليه وسلم ثلًثا .ثم أمر علًيا فقالها ثلثا .وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
ل( ،وهي الكلمة التي /وإنما كان تلقين النبي صلى ال عليه وسلم للذكر المأثور عنه ،ورأس الذكر) :ل إله إل ا ّ
ل( ،وقال) :إني ل ،كلمة أحاج لك بها عند ا ّعرضها على عمه أبي طالب حين الموت .وقال) :ياعم ،قل :ل إله إل ا ّ
ل دخل الجنة(، حا( ،وقال) :من كان آخر كلمه ل إله إل ا ّ لعلم كلمة ل يقولها عبد عند الموت إل وجد روحه لها رو ً
ل،
ل دخل الجنة( ،وقال) :أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل ا ّ وقال) :من مات وهو يعلم أن ل إله إل ا ّ
ل( والحاديث كثيرة ل ،فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها ،وحسابهم على ا ّ وأن محمًدا رسول ا ّ
في هذا المعنى.
وقد كتبت فيما تقدم من ]القواعد[ بعض ما يتعلق بهاتين ]الكلمتين[ العظيمتين الجامعتين الفارقتين :شهادة أن ل إله
ل ،وشهادة أن محمًدا عبده ورسوله صلى ال عليه وعلى آله وسلم تسليًما. إل ا ّ
فأما ذكر ]السم المفرد[ فلم يشرع بحال ،وليس في الدلة الشرعية ما يدل على استحبابه.
ل ُثمّ َذْرُهْم{ ]النعام ،[91 :ويتوهمون أن المراد وأما ما يتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالىُ} :ق ْ
ل ا ُّ
ق َقْدِرِه ِإْذ َقاُلوا
حّ قول هذا السم فخطأ واضح؛ ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الية ،فإنه سبحانه قالَ} :وَما َقَدُروا ا َّ
ل َ
ن َكِثيًرا
خُفو َ
س ُتْبُدوَنَها َوُت ْ
طي َ
جَعُلوَنُه َقَرا ِ
س َت ْ
سى ُنوًرا َوُهًدى ِللّنا ِ
جاَء ِبِه ُمو َ
ب اّلِذي َ
ل اْلِكَتا َ
ن َأنَز َ
ل َم ْيٍء ُق ْش ْ
ن َ شٍر ِم ْ عَلى َب َ ل َ ل ا َُّما َأنَز َ
ل أنزل الكتاب الذي جاء به موسى .فهذا كلم تام، ل{ ]النعام [91 :أي :قل :ا ّ ل ا ُّ
ل آَباُؤُكْم ُق ْ
عّلْمُتْم َما َلْم َتْعَلُموا َأْنُتْم َو َ
َو ُ
وجملة إسمية مركبة من مبتدأ وخبر ،حذف الخبر منها لدللة السؤال على الجواب.
ل َأَفَرَأْيُتْم{
ل ُق ْ
ن ا ُّض َلَيُقوُل ّ
لْر َ ت َوا َْ
سَماَوا ِ ق ال ّخَل َ
ن َسَأْلَتُهْم َم ْ
ن َ وهذا قياس مطرد في مثل هذا في كلم العرب كقولهَ} :وَلِئ ْ
ن َلُكْم َأ ْ
ن جٍة َما َكا َ ت َبْه َ
ق َذا َ حَداِئ َ
سَماِء َماًء َفَأْنَبْتَنا ِبِه َن ال ّ
ل َلُكْم ِم ْ ض َوَأنَز َلْر َت َوا َْ
سَماَوا ِ
ق ال ّ
خَل َ الية ]الزمر ،[38 :وقولهَ} :أّم ْ
ن َ
ل{ ]النمل ،[60 :وكذلك ما بعدها وقوله] :قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم. جَرَها َأِئَلٌه َمَع ا ِّ
شَُتْنِبُتوا َ
ل[ على قراءة أبي عمرو ،وتقول في الكلم :من جاء؟ فتقول :زيد .ومن أكرمت ؟ فتقول :زيًدا .وبمن سيقولون ا ّ
مررت؟ فتقول :بزيد .فيذكرون السم الذي هو جواب من ،ويحذفون المتصل به ،لنه قد ذكر في السؤال مرة،
فيكرهون تكريره من غير فائدة بيان ،لما في ذلك من التطويل والتكرير.
ل{ ]آل عمران [7 :قال /وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلء الغالطين في قولهَ} :وَما َيْعَلُم َتْأِويَلُه ِإ ّ
ل ا ُّ
المعنى :وما يعلم تأويل )هو( أي اسم ]هو[ الذي يقال فيه] :هو ،هو[ .وصنف ابن عربي كتاًبا في ]الهو[ فقلت له ـ
وأنا إذ ذاك صغير جًدا ـ :لو كان كما تقول لكتبت في المصحف مفصولة)تأويل هو( ولم تكتب موصولة ،وهذا الكلم
الذي قاله هذا معلوم الفساد بالضطرار .وإنما كثير من غالطي المتصوفة لهم مثل هذه التأويلت الباطلة في الكتاب
والسنة.
حا .فيقع
حا ،لكن ل يدل عليه الكلم وليس هو مراد المتكلم ،وقد ل يكون صحي ً وقد يكون المعنى الذي يعنونه صحي ً
الغلط تارة في الحكم ،و تارة في الدليل كقول بعضهمَ} :أْن َرآُه اْسَتْغَنى{]العلق [7 :أي :إن رأى ربه استغنى ،والمعني
أنه ليطغى أن رأى نفسه استغنى ،وكقول بعضهم) :فإن لم تكن تراه( :يعني فإن فنيت عنك رأيت ربك .وليس هذا
معنى الحديث ،فإنه لو أريد هذا لقيل :فإن لم تكن تره .وقد قيل] :تراه[ ثم كيف يصنع بجواب الشرط ؟ وهو قوله:
فإنه يراك؛ ثم إنه على قولهم الباطل تكون كان تامة .فالتقدير :فإن لم تكن :أي لم تقع ،ولم تحصل .وهذا تقدير محال
فإن العبد كائن موجود ليس بمعدوم .ولو أريد فناؤه عن هواه أو فناء شهوده للغيار لم يعبر بنفي كونه؛ فإن هذا
حا والدللة ليست مرادة فقد يسمى ذلك ]إشارة[. محال .ومتى كان المعنى صحي ً
/وقد أودع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ]حقائق التفسير[ من هذا قطعة.
وليس المقصود الن الكلم في هذا فإنه باب آخر ،وإنما الغرض بيان حكم ذكر السم وحده من غير كلم تام ،وقد
ظهر بالدلة الشرعية أنه غير مستحب.
ل ،وقد
ل ،ول علًما ول جه ً
وكذلك بالدلة العقلية الذوقية؛ فإن السم وحده ل يعطي إيماًنا ول كفًرا ،ولهدى ول ضل ً
يذكر الذاكر اسم نبي من النبياء ،أو فرعون من الفراعنة ،أو صنم من الصنام ،ول يتعلق بمجرد اسمه حكم إل أن
يقرن به ما يدل على نفي أو إثبات ،أو حب أو بغض ،وقد يذكر الموجود والمعدوم.
ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أن السم وحده ل يحسن السكوت عليه ،ول هو جملة تامة ،ول
ل .قال :فعل ماذا؟! فإنه لما نصب السم
كلًما مفيًدا ولهذا سمع بعض العرب مؤذنا يقول :أشهد أن محمًدا رسول ا ّ
صار صفة ،والصفة من تمام السم الموصوف ،فطلب بصحة طبعه الخبر المفيد؛ ولكن المؤذن قصد الخبر ولحن.
ل ول جنته؛ فإن الكفار من جميع ل[ ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمًنا ،ولم يستحق ثواب ا ّ /ولو كرر النسان اسم ]ا ّ
المم يذكرون السم مفرًدا ،سواء أقروا به وبوحدانيته أم ل؛ حتى إنه لما أمرنا بذكر اسمه كقولهَ} :فُكُلوا ِمّما َأْم َ
سْك َ
ن
سَم
حا ْ عَلْيِه{ ]النعام ،[121 :وقولهَ } :
سّب ْ ل َسُم ا ِّ عَلْيِه{ ]المائدة ،[4 :وقولهَ} :و َ
ل َتْأُكُلوا ِمّما َلْم ُيْذَكْر ا ْ ل َ
سَم ا ِّ
عَلْيُكْم َواْذُكُروا ا ْ
َ
ظيِم{ ]الواقعة ،96 ،74 :الحاقة [52 :ونحو ذلك :كان ذكر ك اْلَع ِسِم َرّب َ
ح ِبا ْ عَلى{ ] العلى ،[1 :وقولهَ} :ف َ
سّب ْ لْ ك ا َْ
َرّب َ
ل ،أو يقول :سبحان ربي العلى ،وسبحان ربي العظيم ،ونحو ذلك .ولم يشرع اسمه بكلم تام مثل أن يقول :بسم ا ّ
ذكر السم المجرد قط ،ول يحصل بذلك امتثال أمر ،ول ]حل صيد[ ول ذبيحة ول غير ذلك.
ل ،ونحو ذلك.
فإن قيل :فالذاكر أو السامع للسم المجرد قد يحصل له وجد محبة ،وتعظيم ّ
قلت :نعم ،ويثاب على ذلك الوجد المشروع ،والحال اليماني ،ل لن مجرد السم مستحب ،وإذا سمع ذلك حرك
ل ،أو يسبه فيثورساكن القلب ،وقد يتحرك الساكن بسماع ذكر محرم أو مكروه ،حتى قد يسمع المسلم من يشرك با ّ
ل بقوة نفرته /وبغضه لما سمعه ،وقد قال الصحابة للنبي صلى ال عليه وسلم :إن أحدنا
في قلبه حال وجد ومحبة ّ
ليجد في نفسه ما لن يحترق حتى يصير حممة ،أو يخر من السماء إلى الرض ،أحب إليه من أن يتكلم به .قال) :أو
ل الذي رد كيده إلى الوسوسة(.قد وجدتموه؟!( قالوا :نعم ،قال) :ذاك صريح اليمان( ،وفي رواية :قال) :الحمد ّ
فالشيطان لما قذف في قلوبهم وسوسة مذمومة تحرك اليمان الذي في قلوبهم بالكراهة لذلك ،والستعظام له ،فكان
ذلك صريح اليمان ،ول يقتضى ذلك أن يكون السبب الذي هو الوسوسة مأموًرا به.
ضا ـ قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ويورثه ذلك إيمانِا وتقوى ،وليس السبب والعبد ـ أي ً
ل.
ل َوِنْعَم اْلَوِكي ُ
سُبَنا ا ُّ
حْ
شْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا َوَقاُلوا َ
خَجَمُعوا َلُكْم َفا ْ
س َقْد َ
ن الّنا َ
س ِإ ّ
ل َلُهْم الّنا ُ را به؛ وقد قال تعالى} :اّلِذي َ
ن َقا َ مأمو ً
ضٍل{ الية ]آل عمران ،[174 ،173 :فهذا اليمان الزائد والتوكل كان سبب تخويفهم بالعدو ل َوَف ْن ا ِّ
َفاْنَقَلُبوا ِبِنْعَمٍة ِم ْ
ل بها ،ول يكون الذنب مأموًرا به ،وهذا باب واسع عا بل العبد يفعل ذنًبا فيورثه ذلك توبة يحبه ا ّ وليس ذلك مشرو ً
جًدا.
ففرق بين أن يكون نفس السبب موجًبا للخير ومقتضًيا ،وبين /أل يكون؛ وإنما نشأ الخير من المحل .فالمأمور به من
الكلمات الطيبات والعمال الصالحات ،هي موجبة للخير والرحمة والثواب .وإذا اقترن بها قوة إيمان العبد وما يجده
من حلوة اليمان وتذوقه من طعمه تضاعف الخير والرحمة والبركة ،وما ليس مأموًرا به .إما من فعل العبد:
محرمه ومكروهه ومباحه .وإما من فعل غيره معه :من النس والجن ،وإما من الحوادث السمائية التي يصيبه بها
الرب ،إذا صادفت منه إيماًنا ويقيًنا فحركت ذلك اليمان واليقين ،وازداد العبد بذلك إيمانا لم يكن ذلك مما يوجب أن
تحب تلك السباب ،أو تحمد أو يؤمر بها ،إذا لم يكن كذلك ،فإنها ليست مقتضية لذلك الخير ،وإنما مقتضاها تحريك
الساكن وطال ما جرت إلى شر وضرر.
ويشبه هذا الباب ذكر الحب المطلق والشوق المطلق ،والوجل المطلق ،وما يتضمن ذلك من نظم ونثر ،فإن هذا من
ل إنما
ل ورسوله ،ولم يأمر بها فإن ا ّ
ضا :يشترك فيه المؤمن والكافر ،والبر والفاجر ،فلذلك لم يشرعها ا ّ
المجمل أي ً
يأمر بالخير والعمل الصالح والبر وذلك ليس من هذا الباب ،فإن شعر المحبين مشترك بين محب اليمان ومحب
الوثان ،ومحب النسوان ،ومحب المردان ،ومحب الوطان ،ومحب الخدان.
وأبعد من ذلك ذكر]السم المضمر[ وهو] :هو[ .فإن هذا بنفسه ل يدل على معين ،وإنما هو بحسب ما يفسره من
مذكور أو معلوم فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته؛ ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق .وقد
يقول] :ل هو إل هو[ ويسرى قلبه في ]وحدة الوجود[ ومذهب فرعون والسماعيلية وزنادقة هؤلء المتصوفة
المتأخرين بحيث يكون قوله] :هو[ كقوله] :وجوده[ .وقد يعني بقوله] :ل هو إل هو[ أي :أنه هو الوجود وأنه ما ثم
ل ،وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد .كما بينته من مذهب) التحادية( في غير هذا الموضع. خلق أص ً
ومن أسباب هذه العتقادات والحوال الفاسدة الخروج عن الشرعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا صلى ال
عليه وسلم .فإن البدع هي :مبادئ الكفر ومظان الكفر .كما أن السنن المشروعة هي :مظاهر اليمان ،ومقوية
س َقْد
ن الّنا َ
س ِإ ّ
ل َلُهْم الّنا ُ ل عن زيادته في مثل قوله} :اّلِذي َ
ن َقا َ لليمان؛ فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .كما أخبر ا ّ
شْوُهْم َفَزاَدُهْم ِإيَماًنا{ ] آل عمران ،[173 :وقولهَ} :أّيُكْم َزاَدْتُه َهِذهِ ِإيَماًنا{ ]التوبة/ ،[124 :وقولهُ} :هَو اّلِذي خَ
جَمُعوا َلُكْم َفا ْ
َ
ب اْلُمْؤِمِنيَن ِلَيْزَداُدوا ِإيَماًنا َمَع ِإيَماِنِهْم{ ]الفتح [4 :وغير ذلك.
ل السِّكيَنَة ِفي ُقُلو ِ
َأْنَز َ
الثاني :الذكر بالقلب فقط ،فإن كان مع عجز اللسان فحسن وإن كان مع قدرته فترك للفضل.
ل ،وفيه حكاية التي لم تجد الملئكة فيه خيًرا إل حركة لسانه
الثالث :الذكر باللسان فقط ،وهو كون لسانه رطًبا بذكر ا ّ
ل تعالى) :أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه(. ل .ويقول ا ّ
بذكر ا ّ
/وأما مع تيسر الكلمة التامة فالقتصار على مجرد السم مكرًرا بدعة ،والصل في البدع الكراهة.
وما نقل عن أبي يزيد والنوري والشبلي وغيرهم :من ذكر السم المجرد ،فمحمول على أنهم مغلوبون ،فإن أحوالهم
تشهد بذلك ،مع أن المشائخ الذين هم أصح من هؤلء وأكمل لم يذكروا إل الكلمة التامة ،وعند التنازع يجب الرد إلى
ل أعلم.
ل والرسول ،وليس فعل غير الرسول حجة على الطلق .وا ّ ا ّ
ل:
حَمُه ا ُّ
خ ـ َر ِ
ل الشْي ُ
َوَقا َ
َفصــل
في الصراط المستقيم ،في الزهد والعبادة والورع ،في ترك المحرمات والشهوات ،والقتصاد ،في العبادة .وإن لزوم
السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة ،فإن أصحابها لبد أن يقعوا في الصار والغلل،
وإن كانوا متأولين ،فلبد لهم من اتباع الهوى ،ولهذا سمى أصحاب البدع أصحاب الهواء ،فإن طريق السنة علم
وعدل وهدي ،وفي البدعة جهل وظلم ،وفيها اتباع الظن وما تهوى النفس.
والرسول ،ما ضل وما غوى ،والضلل :مقرون بالغي ،فكل غاو ضال ،والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلل،
عوا
ضا ُ
ف َأ َ
خْل ٌ
ن َبْعِدِهْم َ
ف ِم ْ وهو مجانبة طريق الفجار وأهل البدع ،كما كان السلف ينهون عنهما ،قال تعالىَ} :ف َ
خَل َ
ف َيْلَقْوَن َغّيا{ ]مريم.[59 :
سْو َ
ت َف َ
شَهَوا ِ
لَة َواّتَبُعوا ال ّ
صَال ّ
/والغي في الصل :مصدر غوي يغوي غًيا ،كما يقال :لوى يلوي لًيا .وهو ضد الرشد ،كما قال تعالىَ} :وِإ ْ
ن َيَرْوا
ل{ ]العراف.[146 : سِبي ً
خُذوُه َ
ي َيّت ِ
ل الَغ ّ
سِبي َ
ن َيَرْوا َ
ل َوِإ ْ
سِبي ً
خُذوُه َ
ل َيّت ِ
شِد َ
ل الّر ْ
سِبي َ
َ
والرشد :العمل الذي ينفع صاحبه ،والغي :العمل الذي يضر صاحبه ،فعمل الخير رشد ،وعمل الشر غي ،ولهذا قالت
ض َأْم َأَراَد ِبِهْم َرّبُهْم َرَشًدا{]الجن ،[10 :فقابلوا بين الشر وبين الرشد ،وقال في
لْر ِ
ن ِفي ا َْ
شّر ُأِريَد ِبَم ْ الجنَ} :وَأّنا َ
ل َنْدِري َأ َ
ضّرا َوَل َرَشًدا{]الجن ،[21 :ومنه الرشيد ،الذي يسلم إليه ماله .وهو الذي يصرف ك َلُكْم َ ل َأْمِل ُ آخر السورةُ} :ق ْ
ل ِإّني َ
ماله فيما ينفع ل فيما يضر.
صيَن{ ]ص ،[83 ،82 :وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم خَل ِ
ك ِمْنُهْم اْلُم ْ
عَباَد َ
ل ِنِ .إ ّ
جَمِعي َغِوَيّنُهْم َأ ْ
لْوقال الشيطانَُ } :
جْبُتْم ِلي{]إبراهيم ،[22 :وقالَ} :وُبّرَز ْ
ت سَت َ
عْوُتُكْم َفا ْ
ن َد َل َأ ْ
ن ِإ ّ
طا ٍ
سْل َ
ن ُ عَلْيُكْم ِم ْ
ن ِلي َفيطيعونه ،كما قال تعالىَ} :وَما َكا َ
حقّ
ن َ ن{ ]الشعراء91 :ـ ،[95وقالَ} :قا َ
ل اّلِذي َ جمَُعو َس َأ ْجُنوُد ِإْبِلي َ
نَ .و ُن{ إلى أن قالَ} :فُكْبِكُبوا ِفيَها ُهْم َواْلَغاُوو َ حيُم ِلْلَغاِوي َ
جِ اْل َ
صاِحُبُكْم َوَما َغَوى{ ]النجم.[2 :
ل َغَوْيَنا{]القصص ،[63 :وقالَ} :ما َ
ضّ غَوْيَناُهْم َكَما َ
غَوْيَنا َأ ْ
ن َأ ْ
لِء اّلِذي َ
ل َرّبَنا َهُؤ َ
عَلْيِهْم اْلَقْو ُ
َ
فمن يلق خيًرا يحمد الناس أمره ** ومن يغو ل يعدم على الغي لئًما
ق َأَثاًما{ ]الفرقان ،[68 :أي مجازات آثام .وفي الحديث المأثور :إن غيا واد في وقال الزجاج :جزاؤه غي ،لقولهَ} :يْل َ
ت{]مريم،[59 :شَهَوا ِ لَة َواّتَبُعوا ال ّ
صَ عوا ال ّ ضا ُ جهنم تستعيذ منه أوديتها ،وهذا تعبير عن ملقات الشر ،وقال سبحانهَ} :أ َ
ي ُيِريُدوَن َوْجَهُه{ ]النعام: شّعونَ َرّبُهْم ِباْلَغَداِة َواْلَع ِ
ن َيْد ُ
طُرْد اّلِذي َ ل .كما قال تعالىَ} :و َ
ل َت ْ فإن الصلة فيها إرادة وجه ا ّ
،[52أي يصلون صلة الفجر والعصر .والداعي يقصد ربه ويريده ،فتكون القلوب في هذه الشياء مريدة لربها
محبة له.
/واتباع الشهوات :هو اتباع ما تشتهيه النفس ،فإن الشهوات ،جمع شهوة ،والشهوة هي في الصل مصدر ،ويسمي
ظيًما{ ]النساء:
عِ
ل َ
ن َتِميُلوا َمْي ً
ت َأ ْ
شَهَوا ِ
ن ال ّ المشتهي شهوة .تسمية للمفعول باسم المصدر .قال تعالىَ} :وُيِريُد اّلِذي َ
ن َيّتِبُعو َ
ل يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به، [27فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات ،فإنه يريد أن يتوب علينا ،أي فا ّ
ظيًما{ يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات عِ
ل َ ت{ وهم الغاوون}َأ ْ
ن َتِميُلوا َمْي ً شَهَوا ِ
ن ال ّ
ن َيّتِبُعو َ
}َوُيِريُد اّلِذي َ
ل عظيًما ،فإن أصل الميل العدول ،فلبد منه للذين يتبعون الشهوات ،كما قال صلى ال عليه وسلم) :استقيموا عدو ً
ولن تحصوا ،واعلموا أن خير أعمالكم الصلة ،ول يحافظ على الوضوء إل مؤمن( رواه أحمد وابن ماجه من حديث
ثوبان.
ل َتِميُلوا ُك ّ
ل صُتْم َف َ
حَر ْ
ساِء َوَلْو َ
ن الّن َ
ن َتْعِدُلوا َبْي َ
طيُعوا َأ ْ
سَت ِ فأخبر أنا ل نطيق الستقامة أو ثوابها إذا استقمنا ،وقالَ} :وَل ْ
ن َت ْ
اْلَمْيِل َفَتَذُروَها َكاْلُمَعّلَقِة{ ]النساء ،[129 :فقوله :كل الميل أي :يريد نهاية الميل ،يريد الزيغ عن الطريق ،والعدول عن
سواء الصراط إلى نهاية الشر ،بل إذا بليت بذلك فتوسط ،وعد إلى الطريق بالتوبة.
كما في الحديث عن النبي صلى ال عليه وسلم) :ميل المؤمن كميل الفرس في آخيته يحول ثم يرجع إلى آخيته .كذلك
عّد ْ
ت ض ُأ ِ
لْر ُ
ت َوا َْ
سَماَوا ُ
ضَها ال ّ
عْر ُ
جّنٍة َ
عوا ِإَلى َمْغِفَرٍة ِمنْ َرّبُكْم َو َ المؤمن يحول ثم يرجع /إلى ربه( ،قال تعالىَ} :و َ
ساِر ُ
ن{ ]آل عمران133 :ـ ،[136فلم يقل :ل يظلمون ول يذنبون ،بل قالِ} :إَذا َفَعُلوا جُر اْلَعاِمِلي َ ن{ إلى قـولهَ} :وِنْعَم َأ ْ ِلْلُمّتِقي َ
ظَلُموا َأْنُفَسُهْم{ ]آل عمران ،[135 :أي بذنب آخر غير الفاحشة ،فعطف العام على الخاص .كما قال موسى: شًة َأْو َحََفا ِ
ظَلْمتُ َنْفِسي{ ]النمل ،[44 :وقال تعالي عموًما عن ب ِإّني َ سي{ ]القصص ،[16 :وقالت بلقيسَ} :ر ّ ت َنْف ِ
ظَلْم ُ
ب ِإّني َ }َر ّ
ظَلُموا َأنُفَسُهْم{ ]هود ،[101 :فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا عنه ،وبعصيانهم ن َ
ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْأهل القرى المهلكةَ} :وَما َ
لنبيائهم ،وبتركهم التوبة إلى ربهم.
ثم ذكر أنه خلق النسان ضعيًفا ،وسياق الكلم يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات .فلبد له من شهوة مباحة
يستغنى بها عن المحرمة ،ولهذا قال طاوس ومقاتل :ضعيف في قلة الصبر عن النساء ،وقال الزجاج وابن كيسان:
ضعيف العزم عن قهر الهوى .وقيل :ضعيف في أصل الخلقة ،لنه خلق من ماء مهين ،يروي ذلك /عن الحسن،
ف َعْنُكْم{ وهو
خّف َ
ن ُي َ لكن لبد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر؛ ليناسب ما ذكر في الية ،فإنه قالُ} :يِريُد ا ُّ
ل َأ ْ
شَ
ي خِ تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ول تصبروا عنه .كما أباح نكاح الفتيات ،وقد قال قبل ذلكِ} :لَم ْ
ن َ
ل َغُفوٌر َرِحيٌم{ ]النساء.[25 :
خْيٌر َلُكْم َوا ُّ
صِبُروا َ
ن َت ْ
ت مِْنُكْم َوَأ ْ
اْلَعَن َ
صِبُروا َخْيٌر َلُكْم{ ]النساء،[25 : فهو ـ سبحانه ـ مع إباحته نكاح الماء عند عدم الطول ،وخشية العنت ،قالَ} :وَأ ْ
ن َت ْ
فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت ،وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة ،فإن ذلك ل يمكن
الصبر عنه.
وكذلك من أباح الستمناء ،عند الضرورة فالصبر عن الستمناء أفضل ،فقد روى عن ابن عباس :أن نكاح الماء
خير منه ،وهو خير من الزنا ،فإذا كان الصبر عن نكاح الماء أفضل فعن الستمناء بطريق الولى أفضل.
ل سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلًقا ،وهو أحد القوال في مذهب أحمد .واختاره ابن عقيل
في المفردات والمشهور عنه ـ يعني عن أحمد ـ أنه محرم إل إذا خشي العنت .والثالث أنه مكروه إل إذا خشي العنت.
صِبُروا َخْيٌر َلُكْم{ ففيه أولى .وذلك يدل على أن الصبر عن كلهما ممكن. ل قد قال في نكاح الماءَ} :وَأ ْ
ن َت ْ فإذا كان ا ّ
سا ُ
ن لن َ
ق ا ِْ
خِل َ
عْنُكْم َو ُ
ف َ
خّف َ
ن ُي َ فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه ،فذلك لتسهيل التكليـف ،كما قال تعالىُ} :يِريُد ا ُّ
ل َأ ْ
ضِعيًفا{.
َ
و الستمناء ل يباح عند أكثر العلماء سلًفا وخلًفا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك .وكلم ابن عباس وما روى عن
أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت ،وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك؛ فأبيح له ذلك
لتكسير شدة عنته وشهوته.
وأما من فعل ذلك تلذًذا أو تذكًرا أو عادة ،بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها .فهذا كله محرم ل يقول
به أحمد ،ول غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد والصبر عن هذا من الواجبات ل من المستحبات.
حا
ن ِنَكا ً
جُدو َ
ل َي ِ
ن َ
ف اّلِذي َ وأما الصبر عن المحرمات فواجب ،وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها .قال تعالىَ} :وْلَي ْ
سَتْعِف ْ
ضِلِه{ ]النور ،[33 :و الستعفاف :هو ترك المنهي عنه .كما في الحديث /الصحيح عن أبي سعيد ن َف ْ
ل ِم ْ
حّتى ُيْغِنَيُهْم ا ُّ
َ
ل ،ومن يتصبر يصبره
ل ،ومن يستغن يغنه ا ّ
الخدري عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :من يستعفف يعفه ا ّ
ل ،وما أعطى أحد عطاء خيًرا وأوسع من الصبر(.
ا ّ
فالمستغني ،ل يستشرف بقلبه .و المستعف :هو الذي ل يسأل الناس بلسانه ،والمتصبر :هو الذي ل يتكلف الصبر.
ل .وهذا كأنه في سياق الصبرعلى الفاقة ،بأن يصبر على مرارة الحاجة ،ل يجزع مما فأخبر أنه من يتصبر يصبره ا ّ
س{ ]البقرة:
ن اْلَبْأ ِ
حي َ
ضّراِء َو ِ
ساِء َوال ّ
ن ِفي اْلَبْأ َ ابتلى به من الفقر ،وهو الصبر في البأساء والضراء .قال تعالىَ} :وال ّ
صاِبِري َ
. [177
والضراء :المرض .وهو الصبر على ما ابتلى به من حاجة ومرض وخوف .والصبر على ما ابتلى به باختياره،
كالجهاد ،فإن الصبر عليه أفضل من الصبر على المرض الذي يبتلى به بغير اختياره ،ولذلك إذا ابتلى بالعنت في
الجهاد فالصبر على ذلك أفضل من الصبر عليه في بلده؛ لن هذا الصبر من تمام الجهاد .وكذلك لو ابتلى في الجهاد
بفاقة ،أو مرض حصل بسببه كان الصبر عليه أفضل .كما قد بسط هذا في مواضع.
وكذلك ما يؤذي النسان به في فعله للطاعات ،كالصلة ،والمر بالمعروف / ،والنهي عن المنكر ،وطلب العلم من
المصائب ،فصبره عليها أفضل من صبره على ما ابتلى به بدون ذلك ،وكذلك إذا دعته نفسه إلى محرمات :من
رئاسة ،وأخذ مال ،وفعل فاحشة كان صبره عنه أفضل من صبره على ماهو دون ذلك ،فإن أعمال البر ،كلما عظمت
كان الصبر عليها أعظم مما دونهما.
فإن في العلم ،والمارة ،والجهاد ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والصلة ،والحج ،والصوم ،والزكاة ،من
الفتن النفسية وغيرها ما ليس في غيرها .ويعرض في ذلك ميل النفس إلى الرئاسة والمال والصور .فإذا كانت النفس
غير قادرة على ذلك لم تطمع فيه ،كما تطمع مع القدرة ،فإنها مع القدرة تطلب تلك المور المحرمة ،بخلف حالها
بدون القدرة فإن الصبر مع القدرة جهاد ،بل هو من أفضل الجهاد .وأكمل من ثلثة أوجه:
الثالث :أن طلب النفس لها إذا كان بسبب أمر ديني ـ كمن /خرج لصلة ،أو طلب علم ،أو جهاد ،فابتلى بما يميل إليه
من ذلك فإن صبره عن ذلك ـ يتضمن فعل المأمور وترك المحظور ،بخلف ما إذا مالت نفسه إلى ذلك بدون عمل
ل .ول تدخل صالح ،ولهذا كان يونس ابن عبيد يوصي بثلث يقول :ل تدخل على سلطان ،وإن قلت :آمره بطاعة ا ّ
ل ،ول تصغ أذنك إلى صاحب بدعة ،وإن قلت أرد عليه.
علي امرأة :وإن قلت :أعلمها كتاب ا ّ
فأمره بالحتراز من أسباب الفتنة ،فإن النسان إذا تعرض لذلك فقد يفتتن ول يسلم.
ل ويصبر ويخلص ويجاهد. فإذا قدر أنه ابتلى بذلك بغير اختياره أو دخل فيه باختياره ،وابتلى ،فعليه أن يتقى ا ّ
وصبره على ذلك وسلمته مع قيامه بالواجب ،من أفضل العمال ،كمن تولى ولية وعدل فيها ،أو رد على أصحاب
البدع بالسنة المحضة ،ولم يفتنوه ،أو علم النساء الدين على الوجه المشروع من غير فتنة.
ل إلى نفسه .كما قال النبي صلى ل إذا ابتلى العبد وقدر عليه أعانه ،وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلء وكله ا ّ
لكن ا ّ
ال عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة) :ل تسأل المارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة ،وكلت إليها .وإن أعطيتها عن
غير مسألة ،أعنت عليها( وكذلك /قال في الطاعون) :إذا وقع ببلد وأنتم بها ،فل تخرجوا فراًرا منه ،وإذا سمعتم به
ل يعينه عليها بخلف من ل به فعرضت له فتنة من غير اختياره ،فإن ا ّ بأرض فل تقدموا عليه( فمن فعل ما أمره ا ّ
تعرض لها.
ل عليه ويعينه ،إما لكن باب التوبة مفتوح ،فإن الرجل قد يسأل المارة فيوكل إليها ،ثم يندم فيتوب من سؤاله فيتوب ا ّ
طوا
ل َتْقَن ُ
سِهْم َ
عَلى َأْنُف ِ
سَرُفوا َ
ن َأ ْ
عَباِدي اّلِذي َ على إقامة الواجب ،وإما على الخلص منها ،وكذلك سائر الفتن .كماقالُ} :ق ْ
ل َيا ِ
ب َجِميًعا{ ]الزمر ،[53 :وهذه المور تحتاج إلى بسط ل يتسع له هذا الموضع. ل َيْغِفُر الّذُنو َ
ن ا َّ
ل ِإ ّ
حَمِة ا ِّ
ن َر ْ
ِم ْ
ل َفِبُهَداُهمْ
ن َهَدى ا ُّ ل سبحانه يريد أن يبين لنا ،ويهدينا سنن الذين من قبلنا الذين قال فيهمُ} :أْوَلِئ َ
ك اّلِذي َ والمقصود أن ا ّ
ن َأْنَعْم َ
ت ط اّلِذي َ
صَرا َ
سَتِقيَم ِ . ط اْلُم ْ اْقَتِدِه{]النعام ،[90 :وهم الذين أمرنا أن نسأله الهداية لسبيلهم في قوله} :اْهِدَنا ال ّ
صَرا َ
َعَلْيِهْم{ ]الفاتحة [7 ،6 :فهو يحب لنا ويأمرنا أن نتبع صراط هؤلء ،وهو سبيل من أناب إليه ،فذكر هنا ثلثة أمور:
البيان ،والهداية ،والتوبة.
وقيل :المراد بالسنن هنا سنن أهل الحق والباطل ،أي :يريد أن يبين لنا سنن هؤلء وهؤلء ،فيهدي عباده المؤمنين
ن َقْوِمِهسا ِل ِبِل َ
سولٍ ِإ ّ ن َر ُ إلى الحق / ،ويضل آخرين ،فإن الهدى والضلل إنما يكون بعد البيان .كما قالَ} :وَما َأْر َ
سْلَنا ِم ْ
ل َقْوًما َبْعَد ِإْذ َهَداُهْم
ضّ ل ِلُي ِ حِكيُم{]إبراهيم ،[4 :وقالَ} :وَما َكا َ
ن ا ُّ شاُء َوُهَو اْلَعِزيُز اْل َ
ن َي َ
شاُء َوَيْهِدي َم ْ
ن َي َ
ل َم ْ
ل ا ُّ
ضّن َلُهْم َفُي ِ
ِلُيَبّي َ
َحّتى ُيَبّيَن َلُهْم َما َيّتُقوَن{]التوبة.[115 :
ن{ ]النساء ،[26 :متعلًقا بيبين يعني سنن أهل الباطل ل بيهدي ،وأهل الحق متعلق بقوله :ويهديكم .وقال سَن َ
فتكون } ُ
الزجاج :السنن الطرق ،فالمعنى يدلكم على طاعته ،كما دل النبياء وتابعيهم .وهذا أولى ،لنه قد يقدم فعلين فل يجعل
طًرا{ ]الكهف.[96 :عَلْيِه ِق ْ الول هوالعامل وحده ،بل العامل إما الثاني وحده .وإما الثنان ،كقوله} :آُتوِني ُأْفِر ْ
غ َ
أو إذا أريد هذا التقدير :يبين لكم سنن الذين من قبلكم ،ويهديكم سنًنا .فدل علي أنه يهدينا سننهم .والمراد بذلك سنن
ن{
عاِقَبُة اْلُمَكّذِبي َ
ن َ
ف َكا َ
ظروا َكْي َ
ض َفاْن ُ
لْر ِ ن{ فإنه قال بعدهاَ} :ف ِ
سيُروا ِفي ا َْ سَن ٌ
ن َقْبِلُكْم ُ
ت ِم ْ أهل الحق ،بخلف قولهَ} :قْد َ
خَل ْ
]آل عمران ،[137 :فإنه أراد تعريف عقوبة الظالمين بالعيان ،وهنا فأنزل علينا من القرآن ما يهدينا به سنن الذين
ل عليهم .وذكر ثلثة أمور :التبيين ،والهدى ،والتوبة. من قبلنا ،وهم الذين أنعم ا ّ
لن النسان أول يحتاج إلى معرفة الخير والشر ،وما أمر به وما نهى عنه ،ثم يحتاج بعد ذلك /إلى أن يهدي ،فيقصد
الحق ويعمل به دون الباطل .وهو سنن النبياء والصالحين .ثم لبد له بعد ذلك من الذنوب ،فيريد أن يتطهر منها
بالتوبة فهو محتاج إلى العلم والعمل به .وإلى التوبة مع ذلك .فلبد له من التقصير ،أو الغفلة في سلوك تلك السنن
ل إليها .فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن .وهذه السنن :تدخل فيها الواجباتالتي هداه ا ّ
ل ،ويتوب إليه .فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد ل
والمستحبات ،فلبد للسالك فيها من تقصير وغفلة ،فيستغفر ا ّ
ل بالحق الذي أوجبه عليه ،فما يسعه إل الستغفار والتوبة عقيب كل طاعة. يستطيع أن يقوم ّ
وقد يقال :الهداية ،هنا البيان والتعريف ،أي :يعرفكم سنن الذين من قبلكم ،من أهل السعادة والشقاوة؛ لتتبعوا هذه
وتجتنبوا هذه ،كما قال تعالىَ} :وَهَدْيَناُه الّنْجَدْيِن{ ]البلد ،[10 :قال علي وابن مسعود :سبيل الخير والشر .وعن ابن
عباس :سبيل الهدى والضلل .وقال مجاهد :سبيل السعادة والشقاوة ،أي فطرناه على ذلك ،وعرفناه إياه ،والجميع
واحد .والنجدان الطريقان الواضحان ،والنجد المرتفع من الرض ،فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر ونبينه له،
كتبيين الطريقين العاليين ،لكن الهدى والتبيين والتعريف في هذه الية يشترك /فيه بنو آدم ،ويعرفونه بعقولهم.
ك َما ُكن َ
ت حيَها ِإَلْي َ
ب ُنو ِ
ن َأْنَباِء اْلَغْي ِ ل تعالى عنها ،كما قالِ} :تْل َ
ك ِم ْ وأما طريق من تقدم من النبياء ،فل بد من إخبار ا ّ
ك ِمْن َقْبِل َهَذا{]هود ،[49 :لكن يجاب عن هذا بأنه لو أريد هذا المعنى ،لقال :يريد الّ ليبين لكم سنن ل َقْوُم َ
ت َو َ
َتْعَلُمَها َأْن َ
الذين من قبلكم ،ولم يحتج أن يذكر الهدى ،إذا كان المعنى واحًدا ،فلما ذكر أنه يريد التبيين والهدي ،علم أن هذا غير
هذا ،فالتبيين :التعريف والتعليم ،والهدى :هو المر والنهي ،وهو الدعاء إلى الخير .كما قال تعالىَ} :وِلُك ّ
ل َقْوٍم َهاٍد {
ط ُمْسَتِقيٍم{ ]الشورى ،[52 :أي تدعوهم صَرا ٍ ]الرعد ،[7 :أي داع يدعوهم إلى الخير .كما قال تعالىَ} :وِإّن َ
ك َلَتْهِدي ِإَلى ِ
إليه دعاء تعليم.
وهداه هنا يتعدى بنفسه ،لن التقدير :ويلزمكم سنن الذين من قبلكم ،فل تعدلوا عنها ،وليس المراد هنا بالهدى اللهام.
ط اْلُمْسَتِقيَم{ لكونه لو أراد ذلك لوقع ،ولم يكن فينا ضال ،بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى كما في قوله} :اْهِدَنا ال ّ
صَرا َ
المحبة والرضا ،ولهذا قال الزجاج :يريد أن يدلكم على ما يكون سبًبا لتوبتكم ،فعلق الرادة بفعل نفسه .فإن الزجاج
ظن الرادة في القرآن ليست إل كذلك ،وليس كما ظن ،بل الرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك ،فإنه /ما شاء
ج َوَلِك ْ
ن حَر ٍ
ن َ
عَلْيُكْم ِم ْ
ل َ
جَع َ كان وما لم يشأ لم يكن .وأما الرادة الموجودة في أمره وشرعه ،فهو كقولهَ} :ما ُيِريُد ا ُّ
ل ِلَي ْ
ت{ ]الحزاب ،[33 :ونحو ذلك. ل اْلَبْي ِ
س َأْه َ
ج َ
عْنُكْم الّر ْ
ب َ طّهَرُكْم{ الية ]المائدة ،[6 :وقولهِ} :إّنَما ُيِريُد ا ُّ
ل ِلُيْذِه َ ُيِريُد ِلُي َ
فهذه إرادته لما أمر به ،بمعنى أنه يحبه ويرضاه ،ويثيب فاعله ،ل بمعنى أنه أراد أن يخلقه ،فيكون كما قالَ} :فَم ْ
ن
ضّيًقا َحَرًجا{ الية ]النعام. [125 :
صْدَرُه َ
ل َ
جَع ْ
ضّلُه َي ْ
ن ُي ِ
ن ُيِرْد َأ ْ
لِم َوَم ْ
سَلْ
صْدَرُه ِل ِْ
ح َ
شَر ْ
ن َيهِدَيُه َي ْ
ل َأ ْ
ُيِرْد ا ُّ
ل كان ،وما لم يشأ لم يكن ،وهذه الرادة متعلقة بكل فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه .كما يقول المسلمون :ما شاء ا ّ
ل،
حادث ،والرادة الشرعية المرية ل تتعلق إل بالطاعات ،كما يقول الناس لمن يفعل القبيح :يفعل شيًئا ما يريده ا ّ
ل كان وما لم يشأ لم يكن .فإن هذه الرادة نوعان .كما قد بسط في موضع آخر. مع قولهم :ما شاء ا ّ
لكن الخطاب في الية لجميع المسلمين ،كالخطاب بآية الوضوء .والخطاب لهل البيت بقولهِ} :إّنَما ُيِريُد ا ُّ
ل ِلُيْذِهبَ
سَر{ل ُيِريُد ِبُكْم اْلُع ْ سَر َو َ س{ ]الحزاب[33 :؛ ولهذا يهدد من لم يطعه .وكما في الصيامُ} :يِريُد ا ُّ
ل ِبُكْم اْلُي ْ ج َ
عْنُكْم الّر ْ
َ
]البقرة ،[185 :فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا ،ل إرادة الخلق المستلزمة للمراد ،لنه لو كان كذلك
لم تكن الية خطاًبا ،إل لمن أخذ باليسر ،ولمن فعل ما أمر به ،وكان من تخلف عن ذلك ل يدخل تحت المر والنهي
الذي في الية ،وليس كذلك .بل الحكم الشرعي لزم لجميع المسلمين ،فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب ،والذين
أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم ،هدي اللهام ،والعانة بأن جعلهم مهتدين .كما أنه هو الذي جعل المصلي مصلًيا،
والمسلم مسلًما.
ظيًما{
عِل َن َتِميُلوا َمْي ً
ت َأ ْ
شَهَوا ِ
ن ال ّ ولو كانت الرادة هنا من النسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقلَ} :وُيِريُد اّلِذي َ
ن َيّتِبُعو َ
حي ِإ ْ
ن صِ ]النساء ،[27 :فإنه حينئذ ل تأثير لرادة هؤلء ،بل وجودها وعدمها سواء .كما في قول نوحَ} :و َ
ل َينَفُعُكْم ُن ْ
ل كان ،وإن لم يشأ الناس ،وما لم يشأ لم يكن،
ل ُيِريُد َأْن ُيْغِوَيُكْم{ ]هود ،[34 :فإن ما شاء ا ّ
ن ا ُّ
ن َكا َ
ح َلُكْم ِإ ْ
صَ
ن َأن َ
ت َأ ْ
َأَرْد ُ
وإن شاءه الناس.
والمقصود بالية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات .والمعنى :إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم ،وهؤلء
يريدون لكم الشر الذي يضركم ،كالشيطان الذي يريد أن يغويكم ،وأتباعه هم أهل الشهوات فل تتخذوه وذريته أولياء
ل َو َ
ل ضّل َي ِ
ي َف َ من دوني ،بل اسلكوا طرق الهدي والرشاد ،وإياكم وطرق الغي والفساد .كما قال تعالىَ} :فَم ْ
ن اّتَبَع ُهَدا َ
َيْشَقى{ اليات ]طه.[123 :
ت{ ]النساء ،[27 :في الموضعين ،فاتباع الشهوة من جنس اتباع الهوى ،كما قال تعالىَ} :أّنَما شَهَوا ِ ن ال ّوقولهَ} :يّتِبُعو َ
سَد ْ
ت ق َأْهَواَءُهْم َلَف َ
حّل{ ]القصص ،[50 :وقالَ} :وَلْو اّتَبَع اْل َ ن ا ِّ
ن اّتَبَع َهَواُه ِبَغْيِر ُهًدى ِم ْ ل ِمّم ْضّن َأ َ ن َأْهَواَءُهْم َوَم ْ
َيّتِبُعو َ
ضّلوا ِمْن َقْبُل{ ]المائدة،[77 : ن{ ] المؤمنون ،[ 71 :وقال تعالىَ} :و َ
ل َتّتِبُعوا َأْهَواَء َقْوٍم َقْد َ ن ِفيِه ّ
ض َوَم ْلْر ُ ت َوا َْسَماَوا ُ
ال ّ
ل َتّتِبْععَمِلِه َواّتَبُعوا َأهَْواَءُهْم{ ]محمد ،[14 :وقال تعالىَ} :و َ سوُء َ ن َلُه ُ
ن ُزّي َ
ن َرّبِه َكَم ْعَلى َبّيَنٍة ِم ْن َ ن َكا َوقال تعالىَ} :أَفَم ْ
َأْهَواَء اّلِذيَن َل َيْعَلُموَن{ ]الجاثية ،[18 :وهذا في القرآن كثير.
والهوى :مصدر هوى يهوي هوى ،ونفس المهوي يسمى هوى ما يهوى ،فاتباعه كاتباع السبيل.كما قال تعالىَ} :و َ
ل
ضّلوا ِمْن َقْبُل{ وكما في لفظ الشهوة ،فاتباع الهوى يراد به نفس مسمى المصدر ،أي اتباع إرادته َتّتِبُعوا َأْهَواَء َقْوٍم َقْد َ
ي{ ]لقمان،[15 : ب ِإَل ّ
ن َأَنا َ
ل َم ْ ومحبته التي هي هواه واتباع الرادة :هو فعل ما تهواه النفس ،كقوله تعالىَ} :واّتِبْع َ
سِبي َ
ن ُدوِنِه ن سَِبيِلِه{ ]النعام ،[153 :وقالَ} :و َ
ل َتّتِبُعوا ِم ْ عْ
ق ِبُكْم َ
ل َفَتَفّر َ
سُب َ
ل َتّتِبُعوا ال ّ
سَتِقيًما َفاّتِبُعوُه َو َ
طي ُم ْ
صَرا ِ
ن َهَذا ِ وقولهَ} :وَأ ّ
َأْوِلَياَء{ ]العراف ،[3 :فلفظ التباع يكون للمر الناهي ،وللمر والنهي ،وللمأمور به والمنهي عنه ،وهو الصراط
المستقيم.
ل َما
سوِء ِإ ّ
لّماَرٌة ِبال ّ
س َ
ن الّنْف َ
سي ِإ ّ كذلك يكون للهوى أمر ونهي ،وهو أمر النفس ونهيها ،كما قال تعالىَ} :وَما ُأَبّر ُ
ئ َنْف ِ
َرِحَم َرّبي ِإّن َرّبي َغُفوٌر َرِحيٌم{ ]يوسف ،[53 :ولكن ما يأمر به من الفعال المذمومة ،فأحدها مستلزم للخر ،فاتباع
المر هو فعل المأمور ،واتباع أمر النفس هو فعل ما تهواه ،فعلى هذا يعلم أن اتباع الشهوات ،واتباع الهواء هو
اتباع شهوة النفس ،وهواها ،وذلك بفعل ما تشتهيه وتهواه.
بل قد يقال :هذا هو الذي يتعين في لفظ اتباع الشهوات والهواء ،لن الذي يشتهي ويهوى ،إنما يصير موجوًدا بعد
أن يشتهي ويهوى ،وإنما يذم النسان إذا فعل ما يشتهي ويهوى عند وجوده / ،فهو حينئذ قد فعل ،ول ينهى عنه بعد
وجوده ،ول يقال لصاحبه :ل تتبع هواك.
ضا فالفعل المراد المشتهى ،الذي يهواه النسان :هو تابع لشهوته وهواه ،فليست الشهوة والهوي تابعة له ،فاتباع
وأي ً
الشهوات هو اتباع شهوة النفس ،وإذا جعلت الشهوة بمعنى المشتهى كان مع مخالفة الصل يحتاج إلى أن يجعل في
ضا،
الخارج ما يشتهي ،والنسان يتبعه كالمرأة المطلوبة ،أو الطعام المطلوب ،وإن سميت المرأة شهوة والطعام أي ً
كما في قوله صلى ال عليه وسلم) :كل عمل ابن آدم له إل الصيام فإنه لي ،وأنا أجزي به ،يدع طعامه وشرابه
وشهوته من أجلي( أي :يترك شهوته ،وهو إنما يترك ما يشتهيه كما يترك الطعام ،ل أنه يدع طعامه بترك الشهوة
الموجودة في نفسه ،فإن تلك مخلوقة فيه مجبول عليها ،وإنما يثاب إذا ترك ما تطلبه تلك الشهوة.
وحقيقة المر ،أنهما متلزمان ،فمن اتبع نفس شهوته القائمة بنفسه اتبع ما يشتهيه ،وكذلك من اتبع الهوى القائم بنفسه
اتبع ما يهواه ،فإن ذلك من آثار الرادة ،واتباع الرادة هو امتثال أمرها ،وفعل ما تطلبه ،كالمأمور الذي يتبع أمر
أميره ،ولبد أن يتصور مراده الذي يهواه ويشتهيه في نفسه ويتخيله قبل فعله .فيبقى ذلك المثال كالمام مع المأموم
يتبعه حيث كان ،وفعله في الظاهر /تبع لتباع الباطن ،فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهي التي في النفس هي
المحركة للنسان المرة له.
ل للفعل ،وهذه
ولهذا يقال :العلة الغائية علة فاعلية ،فإن النسان للعلة الغائية ـ بهذا التصور والرادة ـ صار فاع ً
ل ،فيكون النسان متبًعا لها ،والشيطان يمده في
الصورة المرادة المتصورة في النفس هي التي جعلت الفاعل فاع ً
الغي ،فهو يقوي تلك الصورة ويقوي أثرها ويزين للناس اتباعها ،وتلك الصورة تتناول صورة العين المطلوبة ـ
كالمحبوب من الصور والطعام والشراب ـ ويتناول نفس الفعل الذي هو المباشر لذلك المطلوب المحبوب ،والشيطان
والنفس تحب ذلك ،وكلما تصور ذلك المحبوب في نفسه أراد وجوده في الخارج ،فإن أول الفكر آخر العمل ،وأول
البغية آخر الدرك.
ولهذا يبقى النسان عند شهوته ،وهواه أسيًرا لذلك ،مقهوًرا تحت سلطان الهوى ،أعظم من قهر كل قاهر ،فإن هذا
القاهر الهوائي ،القاهر للعبد ،هو صفة قائمة بنفسه ،ليمكنه مفارقته البتة ،والصورة الذهنية تطلبها النفس ،فإن
المحبوب تطلب النفس أن تدركه ،وتمثله لها في نفسها ،فهو متبع للرادة .وإن كانت الذهنية والتزين من الزين
والمراد التصور في نفسه .والمشتهى الموجود في الخارج له محركان :التصور والمشتهى ،هذا يحركه تحريك طلب
وأمر ،وهذا يأمره أن يتبع /طلبه وأمره ،فاتباع الشهوات والهواء يتناول هذا كله ،بخلف كل قاهر ينفصل عن
النسان فإنه يمكنه مفارقته مع بقاء نفسه على حالها ،وهذا إنما يفارقه بتغير صفة نفسه.
ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم) :ثلث مهلكات :شح مطاع ،وهوي متبع ،وإعجاب المرء بنفسه .وثلث
ل في السر والعلنية ،والقصد في الفقر والغنى ،وكلمة الحق في الغضب والرضا(.
منجيات :خشية ا ّ
وقوله في الحديث :هوي متبع ،فيه دليل على أن المتبع هو ما قام في النفس .كقوله :في الشح المطاع ،وجعل الشح
عا ،لنه هو المر ،وجعل الهوى متبًعا ،لن المتبع قد يكون إماًما يقتدى به ول يكون آمًرا .وفي الصحيحين عن مطا ً
النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إياكم والشح .فإن الشح أهلك من كان قبلكم ،أمرهم بالبخل فبخلوا ،وأمرهم بالظلم
فظلموا ،وأمرهم بالقطيعة فقطعوا( .فبين أن الشح يأمر بالبخل والظلم والقطيعة ،فالبخل ،منع منفعة الناس بنفسه
وماله ،والظلم ،هو العتداء عليهم.
فالول هو التفريط فيما يجب ،فيكون قد فرط فيما يجب ،واعتدى عليهم بفعل ما يحرم وخص قطيعة الرحم بالذكر
إعظاًما لها؛ لنها تدخل /في المرين المتقدمين قبلها.
وقد كان عبد الرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت ،وبالوقوف بعرفة أن يقول :الّلهم قني شح نفسي ،فسئل عن
ذلك ،فقال :إذا وقيت شح نفسي ،وقيت الظلم والبخل والقطيعة .وفي رواية عنه قال :إني أخاف أن أكون قد هلكت،
ق ُشّح َنْفِسِه{ ،وأنا رجل شحيح ل يكاد يخرج من يدي شيء ،فقال :ليس ل يقولَ} :وَم ْ
ن ُيو َ قال :وماذاك؟ قال :أسمع ا ّ
ل في القرآن إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلًما ،وإنما يكن بالبخل وبئس الشيء البخل. ذاك بالشح الذي ذكره ا ّ
عَلى
ن َ
جًة ِمّما ُأوُتوا َوُيْؤِثُرو َ
حا َ
صُدوِرِهْم َ
ن ِفي ُ
جُدو َ وقد ذكر تعالى الشح في سياق ذكر الحسد واليثار في قولهَ} :و َ
ل َي ِ
ك ُهْم اْلُمْفِلُحوَن{ ]الحشر ،[9 :فمن وقى شح نفسه لم يكن سِه َفُأْوَلِئ َ
ح َنْف ِ
شّ
ق ُ صٌة{ ،ثم قالَ} :وَم ْ
ن ُيو َ صا َ
خ َ
ن ِبِهْم َ
سِهْم َوَلْو َكا َ
َأْنُف ِ
حسوًدا باغًيا على المحسود والحسد أصله بغض المحسود.
/والشح يكون في الرجل مع الحرص ،وقوة الرغبة في المال ،وبغض للغير وظلم له ،كما قال تعالىَ} :قْد َيْعَلُم الُّ
خْيِر ُأْوَلِئ َ
ك عَلى اْل َ حًة َعَلْيُكْم{ اليات ـ إلى قولهَ} :أ ِ
شّ حًة َ
شّل َ .أ ِ
ل َقِلي ً
س ِإ ّ
ن اْلَبْأ َ
ل َيْأُتو َ
خَواِنِهْم َهُلّم ِإَلْيَنا َو َ
لْن ِ
ن ِمْنُكْم َواْلَقاِئِلي َاْلُمَعّوِقي َ
ل َأْعَماَلُهْم{ ]الحزاب ،[19 ،18 :فشحهم على المؤمنين ،وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه، ط ا ُّ حَب َ
َلْم ُيْؤِمُنوا َفَأ ْ
وبغض الخير يأمر بالشر ،وبغض النسان يأمر بظلمه ،وقطيعته كالحسد ،فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود
وقطيعته ،كابني آدم وإخوة يوسف.
ضا وكراهية ،فيأمران بمنع الواجب وبظلم ذلك الشخص ،فإن الفعل صدر فيه عن فالحسد والشح ،يتضمنان بغ ً
بغض ،بخلف الهوى فإن الفعل صدر فيه عن حب أحب شيًئا فاتبعه ففعله ،وذلك مقصوده أمر عدمي والعدم ل ينفع.
ولكن ذاك القصد أمر بأمر وجودي ،فأطيع أمره.
جا عن الشح والنبي صلى ال عليه وسلم جعل الشح يأمر بالبخل.
وابن مسعود جعل البخل خار ً
ومن الناس من يقول :الشح ،والبخل سواء .كما قال ابن جرير :الشح في كلم العرب هو البخل ،ومنع الفضل من
المال .وليس /كما قال :بل ما قاله النبي صلى ال عليه وسلم وابن مسعود أحق أن يتبع ،فإن البخيل قد يبخل بالمال
محبة لما يحصل لـه به من اللذة والتنعم ،وقد ل يكون متلذًذا به ول متنعًما بل نفسه تضيق عن إنفاقه وتكره ذلك حتي
يكون يكره ،أن ينفع نفسه منه مع كثرة ماله ،وهذا قد يكون مع التذاذه بجمع المال ومحبته لرؤيته .وقد ل يكون هناك
ضا للخير ل للمعطي ول لذة أصل ،بل يكره أن يفعل إحساًنا إلى أحد حتى لو أراد غيره أن يعطي كره ذلك منه بغ ً
ضا وحسًدا للمعطي ،أو للمعطي وهذا هو الشح وهذا هو الذي يأمر بالبخلضا منه للخير وقد يكون بغ ً للمعطي ،بل بغ ً
حا.
قطًعا ،ولكن كل بخل يكون عن شح ،فكل شحيح بخيل وليس كل بخيل شحي ً
قال الخطابي :الشح أبلغ في المنع من البخل ،والبخل إنما هو من أفراد المور وخواص الشياء ،والشح عام ،فهو
كالوصف اللزم للنسان من قبل الطبع والجبلة.
وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال :البخل :أن يظن النسان بماله ،والشح :أن يضن بماله ومعروفه ،وقيل :الشح:
أن يشح بمعروف غيره على غيره ،و البخل :أن يبخل بمعروفه على غيره والذين يتبعون الشهوات ،ويتبعون
أهواءهم يحبون ذلك ويريدونه ،فاتبعوا /محبتهم وإرادتهم من غير علم ،فلم ينظروا هل ذلك نافع لهم في العاقبة أو
ضار.
/والمقصود أن اللهة كثيرة ،والعبادات لها متنوعة ،وبالجملة فكل ما يريده النسان ويحبه لبد أن يتصوره في نفسه،
ل ،وتمثلت له الشياطيـن في صورة فتلك الصورة العلمية محركة له إلى محبوبه ولوازم الحب ،فمن عبده عبد غير ا ّ
ل ،فإنما يعبد الشيطان؛ ولهذا يقارنمن يعبـده ،وهذا كثير ما زال ولم يزل؛ ولهذا كان كل من عبد شيًئا غير ا ّ
الشيطان الشمس عند طلوعها وغروبها ،واستوائها ليكون سجود من يعبدها له.
وقد كانت الشياطين ،تتمثل في صورة من يعبد ،كما كانت تكلمهم من الصنام التي يعبدونها ،وكذلك في وقتنا خلق
كثير من المنتسبين إلى السلم ،والنصارى والمشركين ممن أشرك ببعض من يعظمه من الحياء والموات من
المشايخ وغيرهم ،فيدعوه ويستغيث به في حياته وبعد مماته ،فيراه قد أتاه وكلمه وقضى حاجته ،وإنما هو شيطان
تمثل على صورته ،ليغوى هذا المشرك.
والمبتلون بالعشق ،ل يزال الشيطان يمثل لحدهم صورة المعشوق ،أو يتصور بصورته ،فل يزال يرى صورته،
ل الذكر الذي يخنس منه الوسواس
مع مغيبه عنه بعد موته ،فإنما جله الشيطان على قلبه ،ولهذا إذا ذكر العبد ا ّ
الخناس خنس هذا المثال الشيطاني ،وصورة المحبوب تستولى على المحب أحياًنا حتى ل يرى غيرها ،ول يسمع
غير كلمها ،فتبقى /نفسه مشتغلة بها.
صا ،يحصل لحدهم نوع من ذلك يسمى الصطلم والفناء ،يغيب بمحبوبه عن ل مسلكا ناق ً
والذين يسلكون في محبة ا ّ
ل وصفاته وكلمه وأمره محبته ،وبمعروفه عن معرفته ،وبمذكوره عن ذكره ،حتى ل يشعر بشيء من أسماء ا ّ
ونهيه.
ل ،ويظن كثير من المسالكين ،أن هذا هو غاية
ومنهم من قد ينتقل من هذا إلى التحاد .فيقول :أنا هو ،وهو أنا ،وأنا ا ّ
السالكين ،وأن هذا هو التوحيد ،الذي هو نهاية كل سالك ،وهم غالطون في هذا ،بل هذا من جنس قول النصارى،
ل وأمره.
ولكن ضلوا لنهم لم يسلكوا الطريق الشرعية في الباطن في خبر ا ّ
والمقصود أن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس ،يستولى على قلب أحدهم مايشتهيه حتى
يقهره ويملكه ،ويبقى أسيًرا ما يهواه ،يصرفه كيف تصرف ذلك المطلوب؛ ولهذا قال بعض السلف :ما أنا على
الشاب الناسك بأخوف مني عليه من سبع ضار يثب عليه من صبي حدث يجلس إليه.
والقلب يغرق فيما يستولى عليه ،إما من محبوب وإما من مخوف ،كما يوجد من محبة المال والجاه والصور،
والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرًقا فيه ،كما يغرق الغريق في الماء ،فلبد أن يستولى عليها مايحيط بها من
الجسام ،والقلوب يستولى عليها ما يتمثل لها من المخاوف ،والمحبوبات والمكروهات ،فالمحبوب يطلبه ،والمكروه
ل ،ول يذهب السيئات إل ا ّ
ل يدفعه ،والرجاء يتعلق بالمحبوب والخوف يتعلق بالمكروه ،ول يأتي بالحسنات إل ا ّ
حيُم{
عَباِدِه َوُهَو اْلَغُفوُر الّر ِ
ن ِ
شاُء ِم ْ
ن َي َ
ب ِبِه َم ْ
صي ُ
ضِلِه ُي ِ
ل َراّد ِلَف ْ
خْيٍر َف َ
ك ِب َ
ن ُيِرْد َ
ل ُهَو َوِإ ْف َلُه ِإ ّ
ش َ ل َكا ِضّر َف َل ِب ُ
ك ا ُّ
سَ
سْن َيمْ َ
}َوِإ ْ
ضّر َفِإَلْيِه َتْجَأُروَن{ ]النحل.[53 : سُكْم ال ّل ُثّم ِإَذا َم ّ
ن ا ِّ ]يونسَ} [107 :وَما ِبُكْم ِم ْ
ن ِنْعَمٍة َفِم ْ
والمقصود أن القلب قد يغمره ،فيستولى عليه ما يريده العبد ،ويحبه ،ومايخافه ويحذره ،كائنا من كان؛ ولهذا قال
ك ُهْم َلَها َعاِمُلوَن{]المؤمنون ،[36 :فهي فيما يغمرها عما ن َذِل َ
ن ُدو ِ ل ِم ْعَما ٌ
ن َهَذا َوَلُهْم َأ ْ
غْمَرٍة ِم ْ تعالىَ} :ب ْ
ل ُقُلوُبُهْم ِفي َ
ل تعالىّ} :فّذرٍهًم ٌفي
ل والدار الخرة وما فيها من النعيم ،والعذاب الليم .قال ا ّ أنذرت به ،فيغمرها ذلك عن ذكر ا ّ
ّغمّرتٌهًم ّحّتى" ٌحيُن{]المؤمنون ،[54 :أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في
صوَن .اّلِذيَن ُهْم ِفي َغْمَرٍة َساُهوَن{ اليات ]الذاريات،[11 ،10 :
خّرا ُ الخيرات ،والعمال الصالحة .وقال تعالىُ} :قِت َ
ل اْل َ
أي ساهون عن أمر الخرة ،فهم في غمرة عنها ،أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها ،ساهون عن أمر
الخرة ،وما خلقوا له.
ل،
ل ،رائًدا غير ا ّ
ل عن ا ّ
والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف ،فيبقى القلب مغموًرا فيما يهواه ويخشاه ،غاف ً
ل ،قد انفرط أمره ،قد ران حب الدنيا على قلبه ،كما روى في صحيح البخاري، ساهًيا عن ذكره ،قد اشتغل بغير ا ّ
وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :تعس عبد الدينار ،تعس عبد الدرهم ،تعس عبد
القطيفة ،تعس عبد الخميصة ،تعس وانتكس ،وإذا شيك فل انتقش ،إن أعطى رضى ،وإن منع سخط(.
جعله عبد ما يرضيه وجوده ويسخطه فقده ،حتى يكون عبد الدرهم ،وعبد ما وصف في هذا الحديث ،والقطيفة :هي
التي يجلس عليها ،فهو خادمها ،كما قال بعض السلف :البس من الثياب ما يخدمك ،ول تلبس منها ما تكن أنت تخدمه،
وهي كالبساط الذي تجلس عليه ،والخميصة :هي التي يرتدي بها ،وهذا من أقل المال .وإنما /نبه به النبي صلى ال
عليه وسلم على ما هو أعلي منه ،فهو عبد لذلك ،فيه أرباب متفرقون ،وشركاء متشاكسون.
ولهذا قال) :إن أعطى رضي ،وإن منع سخط( .فما كان يرضى النسان حصوله ويسخطه فقده ،فهو عبده ،إذ العبد
يرضى باتصاله بهما ،ويسخط لفقدهما .والمعبود الحق الذي ل إله إل هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك
في قلبه إيمان ،وتوحيد ومحبة ،وذكر ،وعبادة ،فيرضى بذلك ،وإذا منع من ذلك غضب.
وكذلك من أحب شيًئا ،فل بد أن يتصوره في قلبه ،ويريد اتصاله به بحسب المكان.
ل تعالى حًرا .وهذا مطابق لهذا الحديث ،فإنه ل يكون عبًدا لّ
قال الجنيد :ل يكون العبد عبًدا حتى يكون مما سوى ا ّ
ل ،فإذال كله ،حتى ل يكون عبًدا لما سواه ،ول فيه شعبة ،ول أدنى جزء من عبودية ما سوى ا ّ صا دينه ّ
صا مخل ً
خال ً
ل فهو عبد لذلك الغير ،ففيه من الشرك بقدر محبته ،وعبادته لذلك الغير زيادة.
كان يرضيه ،ويسخطه غير ا ّ
ل في عبوديته ،من /لحد من المخلوقين عليه ربانية ،وقال زيد بن عمرو بن
ل ما صدق ا ّ
قال الفضيل بن عياض :وا ّ
نفيل:
ل صلى ال عليه وسلم: روى المام أحمد والترمذي ،والطبراني ،من حديث أسماء بنت عميس ،قالت :قال رسول ا ّ
)بئس العبد عبد تخيل ،واختال ،ونسى الكبير المتعال ،بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار العلى ،بئس العبد
عبد سها ولها ،ونسى المقابر والبلى ،بئس العبد عبد بغى واعتدى ،ونسى المبدأ والمنتهى ،بئس العبد عبد يختل الدنيا
بالدين ،بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات ،بئس العبد عبد رغب يذله ويزيله عن الحق ،بئس العبد عبد طمع يقوده،
ل أعلم.
بئس العبد عبد هوى يضله( قال الترمذي :غريب .وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه .وا ّ
ح ّ
ب حّبوَنُهْم َك ُ
ل َأنَداًدا ُي ِ
ن ا ِّ
ن ُدو ِ
خُذ ِم ْ
ن َيّت ِ
س َم ْ وكذلك أحاديث وآثار كثيرة رويت في معنى ذلك .كما قال تعالىَ} :ومِ ْ
ن الّنا ِ
ل{ ]البقرة.[165 :
حّبا ِّ
شّد ُ
ن آَمُنوا َأ َ
ل َواّلِذي َ
ا ِّ
ل ،وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإنوطالب الرئاسة ـ ولو بالباطل ـ ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باط ً
ل تعالى يحب الحق، كانت حًقا / .والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه ،وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لن ا ّ
والصدق ،والعدل ،ويبغض الكذب ،والظلم.
ل أحبه ،وإن كان فيه مخالفة هواه؛ لن هواه قد صار تبًعا لماجاء به
فإذا قيل :الحق والصدق والعدل الذي يحبه ا ّ
ل يبغضه ،والمؤمن يبغضه ،ولو وافق هواه. الرسول .وإذا قيل :الظلم والكذب ،فا ّ
طْوا
ن َلْم ُيْع َ
ضوا َوِإ ْ
طوا ِمْنَها َر ُ
عُن ُأ ْ
ت َفِإ ْ
صَدَقا ِ
ك ِفي ال ّ وكذلك طالب المال ـ ولو بالباطل ـ كما قال تعالىَ} :وِمْنُهْم َم ْ
ن َيْلِمُز َ
طوَن{ ]التوبة [58 :وهؤلء هم الذين قال فيهم) :تعس عبد الدينار( الحديث .فكيف إذا استولى على خُسَِمْنَها ِإَذا ُهْم َي ْ
القلب ما هو أعظم استعباًدا من الدرهم والدينـار ،من الشهوات والهواء ،والمحبوبات التي تجذب القلب عن كمال
ل وعبادته؟ ! لما فيها من المزاحمة والشرك بالمخلوقات ،كيف تدفع القلب ،وتزيغه عن كمال محبته لربه
محبته ّ
وعبادته وخشيته؛ لن كل محبوب يجذب قلب محبه إليه ،ويزيغه عن محبة غير محبوبه ،وكذلك المكروه يدفعه،
ل تعالى.
ويزيله ،ويشغله عن عبادة ا ّ
ولهذا روى المام أحمد في مسنده وغيره ،أن النبي صلى ال عليه وسلم /قال لصحابه) :الفقر تخافون؟! ل أخاف
عليكم الفقر ،إنما أخاف عليكم الدنيا ،حتى إن قلب أحدكم إذا زاغ ل يزيغه إل هي(.
وكذلك الذين يحبون العبد كأصدقائه ،والذين يبغضونه كأعدائه ،فالذين يحبونه يجذبونه إليهم .فإذا لم تكن المحبة منهم
ل ،ولو أحسن إليه ل ،والذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن ا ّل ،كان ذلك مما يقطعه عن ا ّله ّ
ل أوجب إحسانهم إليه محبته لهم ،وإنجذاب قلبه إليهم .ولو كان على غير الستقامة، أصدقاؤه الذين يحبونه ،لغير ا ّ
ل وعبادته.
وأوجب مكافأته لهم ،فيقطعونه عن ا ّ
ل،وأما حب الناس له ،فإنه يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم ،فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة ا ّ
ل وإخلصه وخشيته، وخشيته /وإل جذبوه وأخذوه إليهم ،كحب امرأة العزيز ليوسف ،فإن قوة ىوسف ومحبته ّ
كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها ،هذا إذا أحب أحدهم صورته ،مع أن هنا الداعي قوي منه
ل ،وإل فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين ،أنه يقع بعض الشر بينهم. ومنهم ،فهنا المعصوم من عصمه ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم) :ل يخلون رجل بامرأة إل كان ثالثهما الشيطان(.
ولهذا قال رسول ا ّ
وقد يحبونه لعلمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك ،فالفتنة في هذا أعظم ،إل إذا كانت فيه قوة إيمانية ،وخشية وتوحيد
تام ،فإن فتنة العلم والجاه والصور فتنة لكل مفتون .وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم ،إن لم يفعلها وإل نقص
ضا بعد أن كان محبوبا ،فأصدقاء
الحب ،أو حصل نوع بغض ،وربما زاد أو أدى إلى النسلخ من حبه ،فصار مبغو ً
النسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم ،حتى يكون كالعبد لهم ،وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره،
وأولئك يطلبون منه انتفاعهم ،وإن كان مضًرا له مفسًدا لدينه ل يفكرون في ذلك .وقليل منهم الشكور.
فالطائفتان في الحقيقة ل يقصدون نفعه ول دفع ضرره ،وإنما /يقصدون أغراضهم به ،فإن لم يكن النسان عابًدا
ل عليه موالًيا له وموالًيا فيه ومعادًيا ،وإل أكلته الطائفتان ،وأدى ذلك إلى هلكه في الدنيا والخرة.
ل ،متوك ً
ا ّ
وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم ،وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والختلف والفتن .قوم يوالون
زيًدا ،ويعادون عمًرا .وآخرون بالعكس؛ لجل أغراضهم ،فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه
من زيد انقلبوا إلى عمرو ،وكذلك أصحاب عمرو ،كما هو الواقع بين أصناف الناس.
ل أضر عليه من أولئك ،فإن وكذلك الرأس ،من الجانبين ،يميل إلى هؤلء الذين يوالونه ،وهم إذا لم تكن الموالة ّ
أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه إما بقتله ،أو بأخذ ماله ،وإما بإزالة منصبه ،وهذا كله ضرر دنيوي ،ل يعتد به إذا سلم
العبد ،وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين ليعتدون بفساد دينهم مع سلمة دنياهم .فهم ل يبالون بذلك .وأما
ل فهم ل يقدرون عليه."دين العبد" الذي بينه وبين ا ّ
وأما أولياءه الذين يوالونه للغراض ،فإنما يقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك ،فإن لم يفعل
انقلبوا أعداء ،فدخل بذلك عليه الذى من جهتين:
وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لنهم قد شاهدوا منه .وعرفوا مالم يعرفه أعداؤه .فاستجلبوا بذلك عداوة
غيرهم ،فتتضاعف العداوة.
وإن لم يحب مفارقتهم ،احتاج إلى مداهنتهم ،ومساعدتهم على ما يريدونه ،وإن كان فيه فساد دينه .فإن ساعدهم على
ضا أن يعاونهم
ظا تاًما من ظلمهم وجورهم ،وطلبوا منه أي ً
نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيًبا وافًرا وح ً
على أغراضهم ،ولو فاتت أغراضه الدنيوية .فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده !! فإن النسان ظالم جاهل ،ل
يطلب إل هواه.
ل تامة،
ل ،وتكون استعانته عليهم با ّ
فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم .ويصبر على أذاهم .ويقضى حوائجهم ّ
ل تام .وإل أفسدوا دينه ودنياه ،كما هو الواقع المشاهد من الناس ،ممن يطلب الرئاسة الدنيوية ،فإنه
وتوكله على ا ّ
يطلب منه من الظلم والمعاصي ما ينال به تلك الرئاسة ،ويحسن له هذا الرأي ،ويعاديه إن لم يقم معه ،كما قد /جرى
ذلك مع غير واحد.
صا لصورته ،فإنه يخدمه ،ويعظمه ،ويعطيه ما يقدر عليه ،ويطلب منه من المحرم ما
وذلك يجري فيمن يحب شخ ً
يفسد دينه.
وفيمن يحب صاحب بدعة؛ لكونه له داعية إلى تلك البدعة ،يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل ،وإل
عاداه؛ ولهذا صار علماء الكفار ،وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل؛ لجل التباع
والمحبين ،ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم.
ل كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ل ووليه ،ومن أحب أحًدا لغير ا ّل ،ووالى غيره ،كره محب ا ّفمن أحب غير ا ّ
ضرر أعدائه ،فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي ،والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه،
وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة ،وذهابها عنه ،فأي صداقة هذه؟! ويحبون بقاء ذلك المحبوب؛ ليستعملوه
في أغراضهم ،وفيما يحبونه ،وكلهما ضرر عليه.
ب{ ]البقرة ،[166 :قال الفضيل بن سَبا ُ لْت ِبِهْم ا َْطَع ْ
ب َوَتَق ّ ن اّتَبُعوا َوَرَأْوا اْلَعَذا َن اّلِذي َ
ن اّتِبُعوا ِم ْ قال تعالىِ} :إْذ َتَبّرَأ اّلِذي َ
ل ،والوصلت التي كانت بينهم في الدنيا }َوَقا َ
ل اّلِذي َ
ن عياض عن ليث /عن مجاهد :هي المودات التي كانت لغير ا ّ
ت َعَلْيِهْم َوَما ُهْم ِبَخاِرِجيَن ِمْن الّناِر{ ]البقرة: سَرا ٍ حَ عَماَلُهْم َل َأ ْ
ك ُيِريِهْم ا ُّن َلَنا َكّرًة َفَنَتَبّرَأ ِمْنُهْم َكَما َتَبّرُءوا ِمّنا َكَذِل َ
اّتَبُعوا َلْو َأ ّ
ل حسرات عليهم :هي العمال التي يفعلها بعضهم ،مع بعض في الدنيا كانت ،لغير .[167فالعمال التي أراهم ا ّ
ل وحده ل يشرك به شيًئا ،ول حول ول ل .فالخير كله في أن يعبد ا ّ ل ،ومنها الموالة ،والصحبة ،والمحبة ،لغير ا ّ ا ّ
ل.
قوة إل با ّ
صل
َف ْ
ومما يحقق هذه المور أن المحب يجذب ،والمحبوب يجذب .فمن أحب شيًئا جذبه إليه بحسب قوته ،ومن أحب
صورة جذبته تلك الصورة إلى المحبوب الموجود في الخارج بحسب قوته .فإن المحب عـلته فاعلية ،والمحـبوب
علته غائية ،وكـل منهـما لـه تأثير في وجود المعلول ،والمحب إنما يجذب المحبوب بما في قلب المحب من صورته
التي يتمثلها ،فتلك الصورة تجذبه بمعنى انجذابه إليها ،ل أنها هي في نفسها قصد وفعل ،فإن في المحبوب من المعنى
المناسب ما يقتضى انجذاب المحب إليه ،كما ينجذب النسان إلى الطعام ليأكله ،وإلى امرأة ليباشرها ،وإلى /صديقه
ل ورسوله ،والصالحين من عباده لما اتصف به سبحانه من ل ورسوله إلى ا ّليعاشره ،وكما تنجذب قلوب المحبين ّ
الصفات التي يستحق؛ لجلها أن يحب ويعبد.
بل ليجوز أن يحب شيء من الموجودات ،لذاته إل هو سبحانه وبحمده ،فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب
ل ا ُّ
ل ن ِفيِهَما آِلَهٌة ِإ ّ
لغيره ،ل لذاته ،والرب تعالى هوالذي يجب أن يحب لنفسه ،وهذا من معاني إلهيته و }َلْو َكا َ
ل ،فإن ذلك من خصائص إلهيته ،فل سَدَتا{ ]النبياء ،[22 :فإن محبة الشيء لذاته شرك ،فل يحب لذاته إل ا ّ
َلَف َ
ل وحده ،وكل محبوب سواه إن لم يحب لجله ،أو لما يحب لجله فمحبته فاسدة. يستحق ذلك إل ا ّ
ل ـ تعالى ـ خلق في النفوس حب الغذاء ،وحب النساء ،لما في ذلك من حفظ البدان وبقاء النسان ،فإنه لول حب وا ّ
الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم ،ولول حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل ،والمقصود بوجود ذلك :بقاء كل
ل وحده ،ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي ل يستحق ذلك غيره.
منهم ؛ليعبدوا ا ّ
وإنما تحب النبياء والصالحون تبعا لمحبته ،فإن من تمام حبه حب ما يحبه ،وهو يحب النبياء والصالحين ،ويحب
ل،
ل هو من تمام حبه ،وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب ا ّ العمال الصالحة ،فحبها ّ /
ل اجتمعا على ذلك ،وتفرقا عليه ،كان ل ،وإذا تحاب الرجلن في ا ّل كان حبه جاذًبا إلى حب ا ّفالمخلوق إذا أحب ّ
ل ،كما قال تعالى) :حقت محبتي للمتحابين في ،وحقت محبتي للمتجالسين في، كل منهما جاذبا للخر إلى حب ا ّ
ل ،وهم قوم
ل عباًدا ليسوا بأنبياء ول شهداء يغبطهم النبياء والشهداء بقربهم من ا ّ
وحقت محبتي للمتباذلين في ،وإن ّ
ل علي غير أموال يتباذلونها ،ول أرحام يتواصلون بها ،إن لوجوههم لنوًرا ،وإنهم لعلى كراسي من
تحابوا بروح ا ّ
نور ،ل يخافون إذا خاف الناس ،ول يحزنون إذا حزن الناس(.
ل هو المحبوب لذاته ،فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته، ل كان ا ّ
فإنك إذا أحببت الشخص ّ
ل ،كما إذا ذكرت النبي صلى ال عليه وسلم ،والنبياء قبله ،والمرسلين وأصحابهم الصالحين، فازداد حبك ّ
ل يجذبل ،فالمحبوب ّل المنعم عليهم ،وبهم إذا كنت تحبهم ّ
وتصورتهم في قلبك ،فإن ذلك يجـذب قلبك إلى محبة ا ّ
ل تعالى ،وكل منل هو محبوبه ،فهو يحب أن يجذبه إلى ا ّ ل ،فإن ا ّ
صا ّ
ل ،إذا أحب شخ ً ل ،والمحب ّ
إلى محبة ا ّ
ل.
ل يجذب إلى ا ّل والمحبوب ّالمحب ّ
ل ،كما إذا أحب كل من الشخصين /الخر بصورة :كالمرأة مع الرجل ،فإن المحب وهكذا إذا كان الحب لغير ا ّ
يطلب المحبوب ،والمحبوب يطلب المحب ،بانجذاب المحبوب ،فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذًبا مجذوًبا من
الوجهين ،فيجب التصال ،ولو كان الحب من أحد الجانبين ؛لكان المحب يجذب المحبوب ،والمحبوب يجذبه ،لكن
المحبوب ل يقصد جذبه ،والمحب يقصد جذبه وينجذب.
وهذا سبب التأثير في المحبوب ،إما تمثل يحصل في قلبه ،فينجذب ،وإما أن ينجذب بل محبة :كما يأكل الرجل
الطعام ،ويلبس الثوب ،ويسكن الدار ،ونحو ذلك من المحبوبات التي ل إرادة لها.
ضا بكونه سبًبا للحسان إليه وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ،لكن هذا في
وأما الحيوان ،فيحب بعضه بع ً
ضا ،فإنه ليس لّ
الحقيقة إنما هو محبة الحسان ،ل نفس المحسن ،ولو قطع ذلك لضمحل ذلك الحب وربما أعقب بغ ً
عز وجل.
ل فهذا كذب ،ومحال ،وزور فإن من أحب إنساًنا ؛لكونه يعطيه ،فما أحب إل العطاء ،ومن قال :إنه يحب من يعطيه ّ
من القول ،وكذلك من أحب إنساًنا لكونه ينصره إنما أحب النصر ل الناصر .وهذا كله من اتباع ما تهوى النفس،
فإنه لم يحب في الحقيقة إل ما يصل إليه من جلب منفعة ،أو دفع مضرة ،فهو إنما أحب تلك المنفعة ودفع المضرة
ل ول لذات المحبوب.
وإنما /أحب ذلك لكونه وسيلة إلى محبوبه ،وليس هذا حًبا ّ
وعلى هذا تجرى عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض ،وهذا ل يثابون عليه في الخرة ول ينفعهم ،بل ربما أدى ذلك
إلى النفاق والمداهنة ،فكانوا في الخرة من الخلء الذين بعضهم لبعض عدو إل المتقين .وإنما ينفعهم في الخرة
ل ،فهذا من دسائس النفوس ل وحده ،وأما من يرجو النفع والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه ّ
لو ّالحب في ا ّ
ونفاق القوال.
ونبينا كان يعطي المؤلفة قلوبهم ،ويدع آخرين هـم أحب إليه من الذي يعطي؛ يكلهم إلى ما في قلوبهم من اليمان،
وإنما كان يعطي المؤلفة قلوبهم ،لما في قلوبهم من الهلع والجزع؛ ليكون ما يعطيهم سبًبا لجلب قلوبهم إلى أن يحبوا
ل عز وجل ،وصرفها عن ضد ذلك؛ ولهذا كان ل ،فكان مقصوده بذلك دعوة القلوب إلى حب ا ّ السلم فيحبوا ا ّ
ل ويمنع
ل على وجوههم في النار فمنعهم بذلك العطاء عما /يكرهه منهم فكان يعطي ّ يعطي أقواًما خشية أن يكبهم ا ّ
ل ،فقد استكمل اليمان( ،وفي صحيح البخاري عنه صلى ل ،ومنع ّل ،وأعطى ّ ل ،وأبغض ّ ل .وقد قال) :من أحب ّ ّ
ل إنما أنا قاسم ل أعطي أحًدا ول أمنع أحًدا ،ولكن أضع حيث أمرت(. ال عليه وسلم أنه قال) :إني وا ّ
وصورة المحبوب المتمثلة في النفس يتحرك لها المحب ،ويريد لها ،ويحب ويبغض ويبتهج وينشرح عند ذكرها ،من
أي جنس كانت ،فتبقى هي كالمر الناهي له؛ ولهذا يجد في نفسه كأنها تخاطبه بأمر ونهي وغير ذلك ،كما يرى كثير
من الناس من يحبه ،ويعظمه في منامه ،وهو يأمره ،وينهاه ،ويخبره بأمور.
وقد يخاطبون بأشياء حسنة رشوة منه لهم ،ول يخاطبون بما يعرفون أنه باطل؛لئل ينفرون منه ،بل الشيطان يخاطب
أحدهم بما يري أنه حق ،والراهب إذا راض نفسه فمرة يرى في نفسه صورة التثليث ،وربما خوطب منها؛لنه كان
ل ورسوله يرى الرسول في منامه
قد يتمثلها قبل ذلك ،فلما انصقلت نفسه بالرياضة ظهرت له ،والمؤمن الذي يحب ا ّ
ل تعالى في منامه بحسب إيمانه ،كما قد بسط في غير هذا الموضع.
بحسب إيمانه ،وكذلك يري ا ّ
ل هوولهذا كثير من أهل الزهد والعبادة يكون من أعوان الكفار ،ويزعم أنه مأمور بذلك ،ويخاطب به ويظن أن ا ّ
صا
ل منزه عن ذلك ،وإنما المر له بذلك النفس والشيطان ومافي نفسه من الشرك ،إذ لو كان مخل ً الذي أمره بذلك ،وا ّ
ل الدين ،لما عرض له شيء من ذلك ،فإن هذا ل يكون إل لمن فيه شرك في عبادته ،أو عنده بدعة ،ول يقع هذا ّ
لمخلص متمسك بالسنة البتة.
ل.
رؤيا من ا ّ
ورؤيا من الشيطان.
وما يحصل من نوع المكاشفة والتصرف ثلثة أصناف :ملكي ،ونفسي ،وشيطاني ،فإن الملك له قوة ،والنفس لها
قوة ،والشيطان له قوة ،وقلب المؤمن له قوة ،فما كان من الملك ومن قلب المؤمن ،فهو حق ،وما كان من الشيطان
ووسوسة النفس ،فهو باطل.
ل ،بل صاروا يظنون في من هو من جنسل وأعداء ا ّوقد اشتبه هذا بهذا على طوائف كثيرة ،فلم يفرقوا بين أولياء ا ّ
ل المتقين .والكلم في هذا مبسوط في موضع آخر.
المشركين والكفار ـ أهل الكتاب من وجوه كثيرة ـ أنه من أولياء ا ّ
ولهذا في هؤلء من يرى جواز قتال النبياء ،ومنهم من يرى أنه أفضل من النبياء ،إلى أنواع أخر .وذلك ؛لنه
حصل لهم من النواع الشيطانية والنفسانية ما ظنوا أنها من كرامات الولياء ،فظنوا /أنهم منهم ،فكان المر
ل ويرضاه ،فل يحبونه ول يريدونه وحده، بالعكس .وأصل هذا أنهم تعبدوا بما تحبه النفس ،وأما العبادة بما يحبه ا ّ
ل بما أمر به ورسله حط لهم عن منصب الولية ،فيحدثون محبة قوية وتألًها وعبادة وشوًقا ويرون أنهم إذا عبدوا ا ّ
وزهًدا ،ولكن فيه شرك وبدعة.
حِبْبُكْم ا ُّ
ل ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ ن ا َّ
حّبو َن ُكْنُتْم ُت ِ
ل ِإ ْ
ل وحده على متابعة رسوله ،كما قال تعالىُ} :ق ْ ومحبة التوحيد :إنما تكون ّ
ل ،ويبغضون له. َوَيْغِفْر َلُكْم ُذُنوَبُكْم{ ]آل عمران[31 :؛ فلهذا يكون أهل التباع فيهم جهاد ونية في محبتهم ،يحبون ّ
ل َكَفْرَنا ِبُكْم َوَبَدا َبْيَنَنا
ن ا ِّن ُدو ِ ن ِم ْ
وهم على ملة إبراهيم .والذين معه }ِإْذ َقاُلوا ِلَقْوِمِهْم ِإّنا ُبَرآُء ِمْنُكْم َوِمّما َتْعُبُدو َ
حَدُه{ ]الممتحنة ،[4 :وأولئك محبتهم فيها شرك ،وليسوا متابعين ل َو ْحّتى ُتْؤِمُنوا ِبا ِّ
ضاُء َأَبًدا َ
َوَبْيَنُكْم اْلَعَداَوُة َواْلَبْغ َ
ل ،فليست هي المحبة الخلصية ،فإنها مقرونة بالتوحيد؛ ولهذا سمي أبو طالب للرسول ،ول مجاهدين في سبيل ا ّ
ل ـ سبحانه ـ أعلم. المكي كتابه :قوت القلوب في معاملة المحبوب ،ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد ،وا ّ
ضا:
ل ـ َأْي ً
حَمُه ا ُّ
سـلم ـ َر ِ
خ الِ ْ
شْي ُ
ل َ
َ/قا َ
صـل
َف ْ
حا؛ لنه مفوت لما هو أنفع منه ،أو محصل لما يربو
وإن الزهد :هو عما ل ينفع ،إما لنتفاء نفعه ،أو لكونه مرجو ً
ضرره على نفعه .وأما المنافع الخالصة ،أو الراجحة فالزهد فيها حمق
وأما الورع ،فإنه المساك عما قد يضر ،فتدخل فيه المحرمات والشبهات ؛لنها قد تضر .فإنه من اتقى الشبهات
استبرأ لعرضه ودينه ،ومن وقع في الشبهات ،وقع في الحرام ،كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه.
وأما الورع ،عما ل مضرة فيه ،أو فيه مضرة مرجوحة ـ لما /تقترن به من جلب منفعة راجحة ،أو دفع مضرة
أخرى راجحة ـ فجهل وظلم .وذلك يتضمن :ثلثة أقسام ل يتورع عنها المنافع المكافئة والراجحة والخالصة كالمباح
المحض أو المستحب أو الواجب فإن الورع عنها ضللة.
الزهد ،خلف الرغبة .يقال :فلن زاهد في كذا .وفلن راغب فيه .و الرغبة :هي من جنس الرادة .فالزهد في
الشيء انتفاء الرادة له ،إما مع وجود كراهته ،وإما مع عدم الرادة والكراهة ،بحيث ليكون ل مريًدا له ،ول كارًها
له ،وكل من لم يرغب في الشيء ويريده فهو زاهد فيه.
ل إرادته، ل فيه من فضول الدنيا ،فتحمد فيه الرغبة والرادة لما حمد ا ّ ل يحمد فيه الزهد ،فيما زهد ا ّ
وكما أن سبيل ا ّ
شّ
ي ن َرّبُهْم ِباْلَغَداةِ َواْلَع ِ
عو َ ن َيْد ُ
طُرْد اّلِذي َ
والرغبة فيه؛ ولهذا كان أساس الطريق الرادة .كما قال تعالىَ} :ولَ َت ْ
سْعُيُهْمن َ ك َكا َ ن َفُأْوَلِئ َ
سْعَيَها َوُهَو ُمْؤِم ٌسَعى َلَها َ خَرَة َو َ
لِن َأَراَد ا ْ
جَهُه{]النعام ،[52 :وقال تعالىَ} :وَم ْن َو ْ
ُيِريُدو َ
شُكوًرا{ ]السراء ،[19 :ونظائره متعددة. َم ْ
ن
ل ّلّماَ .وُتحِّبو َ
ث َأْك ًن الّتَرا َ ]هود ،[16 ،15 :وقال تعالىَ} :أْلَهاُكْم الّتَكاُثٍُر{ السورة ] التكاثر [ ،وقـال تعالـىَ}:وَتْأُكُلو َ
شِديٌد{ب اْلخَْيِر َل َ
ح ّشِهيٌدَ .وِإّنُه ِل ُ ك َل َ
عَلى َذِل َن ِلَرّبِه َلَكُنوٌدَ .وِإّنُه َ
سا َلن َن ا ِْ
جّما {]الفجر ،[20 ،19 :وقالِ} :إ ّ حّبا َ
ل ُ
اْلَما َ
خٌر َبْيَنُكْم{ الية ]الحديد ،[20 :وهذا ب َوَلْهٌو َوِزيَنٌة َوَتَفا ُحَياُة الّدْنَيا َلِع ٌ
عَلُموا َأّنَما اْل َ
]العاديات ،[6-8 :وقال تعالى} :ا ْ
باب واسع.
وإنما المقصود هنا تميز الزهد الشرعي ،من غيره ،وهو الزهد المحمود ،وتميز الرغبة الشرعية ،من غيرها ،وهي
الرغبة المحمودة ،فإنه كثيًرا ما يشتبه الزهد بالكسل والعجز والبطالة عن الوامر الشرعية ،وكثيًرا ما تشتبه الرغبة
الشرعية بالحرص ،والطمع ،والعمل الذي ضل سعى صاحبه.
وأما الورع ،فهو اجتناب الفعل واتقاؤه ،والكف والمساك عنه والحذر منه ،وهو يعود إلى كراهة المر ،والنفرة منه،
ضا ـ وإن كان قد اختلف في المطلوب بالنهي .هل هو عدم المنهى عنه ،أو فعل والبغض له ،وهو أمر وجودي أي ً
عا ،ومتقًيا ،إل إذا وجد منه المتناع
عا ،ومتور ً
ضده؟ وأكثر أهل الثبات على الثاني ـ فل ريب أنه ليسمى ور ً
والمساك الذي هو فعل ضد المنهي عنه.
/والتحقيق :أنه مع عدم المنهي عنه يحصل له عدم مضرة الفعل المنهي عنه ،وهو ذمه وعقابه ونحو ذلك ،ومع وجود
المتناع والتقاء والجتناب يكون قد وجد منه عمل صالح وطاعة وتقوى ،فيحصل له منفعة هذا العمل ،من حمده
وثوابه ،وغير ذلك ،فعدم المضرة لعدم السيئات ،ووجود المنفعة لوجود الحسنات.
فتلخص أن الزهد من باب عدم الرغبة ،والرادة في المزهود فيه .والورع من باب وجود النفرة ،والكراهة للمتورع
عنه ،وانتفاء الرادة ،إنما يصلح فيما ليس فيه منفعة خالصة أو راجحة ،وأما وجود الكراهة ،فإنما يصلح فيما فيه
مضرة خالصة أو راجحة ،فأما إذا فرض مال منفعة فيه ول مضرة ،أو منفعته ومضرته سواء من كل وجه ،فهذا ل
يصلح أن يراد ،ول يصلح أن يكره ،فيصلح فيه الزهد ،ول يصلح فيه الورع ،فظهر بذلك أن كل ما يصلح فيه الورع
يصلح فيه الزهد ،من غير عكس ،وهذا بين ،فإن ما صلح أن يكره وينفر عنه صلح أن ل يراد ول يرغب فيه ،فإن
عدم الرادة أولى من وجود الكراهة ،ووجود الكراهة مستلزم عدم الرادة من غير عكس ،وليس كل ما صلح أن ل
يراد يصلح أن يكره ،بل قد يعرض من المور مال تصلح إرادته ول كراهته ،ول حبه ول بغضه ول المر به ،ول
النهي عنه.
/وبهذا يتبين أن الواجبات والمستحبات ،ل يصلح فيها زهد ول ورع ،وأما المحرمات والمكروهات ،فيصلح فيها
الزهد والورع .وأما المباحات ،فيصلح فيها الزهد دون الورع ،وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل.
وإنما الشأن فيما إذا تعارض في الفعل .هل هو مأمور به ،أو منهي عنه ،أو مباح؟ وفيما إذا اقترن بما جنسه مباح ما
يجعله مأموًرا به ،أو منهًيا عنه ،أو اقترن بالمأمور به ،مايجعله منهًيا عنه وبالعكس.
فعند اجتماع المصالح والمفاسد والمنافع والمضار وتعارضها ،يحتاج إلى الفرقان.
َوَقــال:
صـــل
َف ْ
قول بعض الناس :الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الطلق ،كما قد يستدل به طوائف على أنواع من
ل من
ل ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل ا ّ الرهبانيات ،والعبادات المبتدعة ،التي لم يشرعها ا ّ
الطيبات ،ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى ال عليه وسلم ،حيث قال) :هلك المتنطعون( ،وقال) :لو مد لي
الشهر لواصلت وصالً يدع المتعمقون تعمقهم( ،مثل الجوع أو العطش المفرط ،الذي يضر العقل والجسم ،ويمنع
أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه ،وكذلك الحتفاء والتعري والمشي الذي يضر النسان بل فائدة ،مثل حديث أبي
إسرائيل الذي نذر أن يصوم ،وأن يقوم قائما ول يجلس ول يستظل ول يتكلم فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :مروه
فليجلس ،وليستظل ،وليتكلم ،وليتم /صومه( رواه البخاري ،وهذا باب واسع.
ل على أهل السلم :الكلمتين، ل ورسوله في عمل ميسر ،كما يسر ا ّ وأما الجر على قدر الطاعة فقد تكون الطاعة ّ
وهما أفضل العمال؛ ولذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم) :كلمتان خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان،
ل العظيم( أخرجاه في الصحيحين. ل وبحمده ،سبحان ا ّ
حبيبتان إلى الرحمن ،سبحان ا ّ
ومن الناس من ليثبت إل الثاني ،كما تقوله المعتزلة وطائفة /من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ،والصواب إثبات
العتبارين ،كما تدل عليه نصوص الئمة وكلم السلف وجمهور العلماء من أصحابنا وغيرهم.
فأما كونه مشًقا ،فليس هو سبًبا لفضل العمل ورجحانه ،ولكن قد يكون العمل الفاضل مشًقا ،ففضله لمعنى غير
مشقته ،والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره ،فيزداد الثواب بالمشقة ،كما أن من كان بعده عن البيت في الحج
والعمرة أكثر ،يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لعائشة في العمرة) :أجرك على قدر
نصبك( لن الجر على قدر العمل في بعد المسافة ،وبالبعد يكثر النصب فيكثر الجر ،وكذلك الجهاد ،وقوله صلى
ال عليه وسلم) :الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ،والذي يقرأه ويتتعتع فيه ،وهو عليه شاق له أجران(.
فكثيًرا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب ،ل لن التعب والمشقة مقصود من العمل ،لكن ؛لن العمل مستلزم
للمشقة والتعب ،هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الصار والغلل ،ولم يجعل علينا فيه حرج ،ول أريد بنا فيه
العسر ،وأما في شرع من قبلنا ،فقد تكون المشقة مطلوبة منهم .وكثير من العباد يرى جنس المشقة واللم والتعب
ل؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون /إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علقة الجسد ،وهذا
مطلوًبا مقرًبا إلى ا ّ
من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم.
ولهذا تجد هؤلء مع من شابههم من الرهبان يعالجون العمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات،
مع أنه ل فائدة فيها ول ثمرة لها ،ول منفعة إل أن يكون شيًئا يسيًرا ل يقاوم العذاب الليم الذي يجدونه.
ونظير هذا الصل الفاسد ،مدح بعض الجهال بأن يقول :فلن ما نكح ول ذبح .وهذا مدح الرهبان الذين ل ينكحون
ول يذبحون ،وأما الحنفاء فقد قال النبي صلى ال عليه وسلم) :لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء ،وآكل اللحم ،فمن
رغب عن سنتي فليس مني(.
وهذه الشياء هي من الدين الفاسد ،وهو مذموم ،كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم.
والناس أقسام:
ل الذي هدانا
والقسم الثالث وهم :أهل الدين الصحيح ،أهل السلم المستمسكون بالكتاب ،والسنة والجماعة ،والحمد ّ
ل لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
لهذا ،وما كنا لنهتدي لول أن هدانا ا ّ
ل:
حَمُه ا ُّ
سـلم أحَمد بن تيمية ـ َر ِ
خ الِ ْ
شي ُ
ل َ
َ/وَقا َ
صل
َف ْ
ن َزّكاَها{ ]الشمس ،[9 :و}َقْد في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات ،قال تعالىَ} :قْد َأْفَل َ
ح َم ْ
َأْفَلَح َمنْ َتَزّكى{ ]العلى.[14 :
أما اللفظ فقوله :من زكاها اسم موصول ولبد فيه من عائد /على }ّمن{ فإذا قيل :قد أفلح الشخص الذي زكاها؛ كان
ضمير الشخص في زكاها يعود على }ّمن{ ،هذا وجه الكلم الذي ل ريب في صحته كما يقال :قد أفلح من اتقى ال
وقد أفلح من أطاع ربه.
ل ،لم يبق في الجملة ضمير يعود على }ّمن{ فإن الضميرعلى هذا يعود على
وأما إذا كان المعنى :قد أفلح من زكاه ا ّ
ل ،وليس هو }ّمن{ وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فل يعود على }ّمن{ ل ضمير الفاعل ،ول المفعول. ا ّ
فتخلوا الصلة من عائد وهذا ل يجوز.
ن{ ،وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثة ،فل يجوز أن يراد بالكلم ما ليس وأما هنا فليس في لفظ }َم ْ
ل عز وجل عنه ،فلو قدر احتمال عود ضمير }َزّكاَها{ إلى نفس فيه دليل على إرادته ،فإن مثل هذا مما يصان كلم ا ّ
ن{ ل دليل يوجب عوده عليه ؛لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل ن{ ،مع أن لفظ }َم ْ
وإلى }َم ْ
التذكير والتأنيث ،وهو في التذكير أظهر ،لعدم دللته على التأنيث ،فإن الكلم إذا احتمل معنيين وجب حمله على
أظهرهما ،ومن تكلف غير ذلك ،فقد خرج عن كلم العرب المعروف ،والقرآن منزه عن ذلك ،والعدول عما يدل
ل أنه
صا من جهة المعني؟! فقد أخبر ا ّ
عليه ظاهر الكلم إلى مال يدل عليه بل دليل ل يجوز البتة فكيف إذا كان ن ً
يلهم التقوى والفجور .ولبسط هذا موضع آخر.
/والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم ،والتحذير من تدسيتها ،كقولهَ} :قْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{ ]العلى ،[14 :فلو قدر
ل نفسه لم يكن فيه أمر لهم ول نهي ،ول ترغيب ول ترهيب .والقرآن إذا أمر أو نهى ل أن المعنى قد أفلح من زكى ا ّ
ل مؤمًنا ،بل يقولَ} :قْد َأْفَلَح اْلُمْؤِمُنوَن{ ]المؤمنونَ} ،[1 :قْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{ إذ يذكر مجرد القدر فل يقول :من جعله ا ّ
ل؟! أل ترى أنه في مقام ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود ،ول يليق هذا بأضعف الناس عقل فكيف بكلم ا ّ
المر ،والنهي ،والترغيب ،والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد ،والوعيد ،والمدح ،والذم ،وإنما يذكر القدر عند بيان
نعمه عليهم ،إما بما ليس من أفعالهم ،وإما بإنعامه باليمان ،والعمل الصالح ،ويذكره في سياق قدرته ومشيئته ،وأما
ل َعَلْيُكْم َوَرْحَمُتُه َما َزَكى{ الية ]النور ،[21 :فهذا ل ا ِّ ضُ في معرض المر فل يذكره إل عند النعم .كقولهَ} :وَلْو َ
ل َف ْ
مناسب .وقولهَ} :قْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{وهذه الية من جنس الثانية ل الولى.
ضوا{ الية ]النور ،[30 :وقالَ} :فاْرِجُعوا ُهَو َأْزَكى َلُكْم{]النور: ن َيُغ ّ والمقصود ذكر التزكية قال تعالىُ} :ق ْ
ل ِلْلُمْؤِمِني َ
ك َأّل َيّزّكى{]عبس.[7 : ن الّزَكاَة{ ]فصلت ،[7 :وقالَ} :وَما َ
عَلْي َ ل ُيْؤُتو َ ،[28وقال} :اّلِذي َ
ن َ
وأصل الزكاة الزيادة في الخير .ومنه يقال :زكا الزرع ،وزكا /المال إذا نما .ولن ينمو الخير إل بترك الشر ،والزرع
ل يزكو حتى يزال عنه الدغل ،فكذلك النفس والعمال ل تزكوا حتي يزال عنها ما يناقضها ول يكون الرجل متزكًيا
ساّها{ جعلها ذليلة حقيرة خسيسة ،وقال الفراء :دساها؛
إل مع ترك الشر ،فإنه يدنس النفس ويدسيها .قال الزجاجّ} :د ّ
لن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله ،قال ابن قتيبة :أي أخفاها بالفجور والمعصية ،فالفاجر دس نفسه ،أي قمعها
وخباها ،وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها ،وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها ،واللئام تنزل
الطراف والوديان.
/وإخفاء المنزل وإظهاره تبًعا لذلك ،قال تعالىَ} :يَتَواَرى ِمْن اْلَقْوِم ِمْن ُسوِء َما ُبّشَر ِبِه{ الية ]النحل .[59 :فهكذا النفس
البخيلة الفاجرة قد دسها صاحبها في بدنه بعضها في بعض؛ ولهذا وقت الموت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من
الصوف المبتل ،والنفس البرة التقية النقية ،التي قد زكاها صاحبها فارتفعت ،واتسعت ،ومجدت ،ونبلت فوقت الموت
تخرج من البدن تسيل ،كالقطرة من في السقاء ،وكالشعرة من العجين .قال ابن عباس :إن للحسنة لنوًرا في القلب،
وضياًء في الوجه ،وقوة في البدن ،وسعة في الرزق ،ومحبة في قلوب الخلق .وإن للسيئة لظلمة في القلب ،وسواًدا
ب{ الية ]العراف: في الوجه ،ووهنا في البدن ،وضيًقا في الرزق ،وبغضة في قلوب الخلق .قال تعالىَ} :واْلَبَلُد ال ّ
طّي ُ
ي اّلِذي َ
ن صْدَرُه{ الية ]النعام .[521 :وقال} :ا ُّ
ل َوِل ّ ح َ
شَر ْ
ن َيهِدَيُه َي ْ
ل َأ ْ .[58وهذا مثل البخيل والمنفق .قالَ} :فَم ْ
ن ُيِرْد ا ُّ
آَمُنوا{ الية ]البقرة.[257 :
عَلْيُكمْ
ل َل ا ِّضُ وقال له في سياق الرمي بالفاحشة ،وذم من أحب إظهارها في المؤمنين ،والمتكلم بما ل يعلمَ} :وَلْو َ
ل َف ْ
حٍد َأَبًدا{الية]النور .[21 :فبين أن الزكاة إنما تحصل بترك الفاحشة ولهذا قالُ} :ق ْ
ل ِلْلُمْؤِمِني َ
ن ن َأ َ
حَمُتُه َما َزَكى ِمْنُكْم ِم ْ
َوَر ْ
صاِرِهْم{ الية ]النور .[30 :وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال النفس ،فإنها تعلم أن السيئات مذمومة ن َأْب َ
ضوا ِم ْ َيُغ ّ
ومكروه فعلها ،ويجاهد نفسه إذا دعته إليها ،إن كان مصدًقا لكتاب /ربه مؤمنا بما جاء عن نبيه صلى ال عليه وسلم؛
ضا ،بخلف ما إذا
ولهذا التصديق واليمان والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة ،فتزكو بذلك أي ً
عملت السيئات فإنهـا تتدنس وتندس ،وتنقمع ،كالزرع إذا نبت معه الدغل.
والثواب إنما يكون على عمل موجود ،وكذلك العقاب .فأما العدم المحض ،فل ثواب فيه ول عقاب ،لكن فيه عدم
ل سبحانه أمر بالخير ،ونهى عن الشر ،واتفق الناس على أن المطلوب بالمر فعل موجود، الثواب والعقاب ،وا ّ
واختلفوا في النهي هل المطلوب أمر وجودي ،أم عدمي؟ فقيل :وجودي ،وهو الترك ،وهذا قول الكثر .وقيل:
المطلوب عدم الشر ،وهو أل يفعله.
والتحقيق أن المؤمن إذا نهى عن المنكر ،فل بد أل يقربه ويعزم على تركه ،ويكره فعله ،وهذا أمر وجودي بل ريب،
فليتصور أن المؤمن الذي يعلم أنه . ..وجودي ،لكن قد ل يكون مريًدا له كما يكره أكل الميتة طبًعا ،ومع ذلك ،فلبد
له من اعتقاد التحريم والعزم على تركه لطاعة الشارع ،وهذا قدر زائد على كراهة الطبع ،وهو أمر وجودي يثاب
عليه ،ولكن ليس كثواب من كف نفسه وجاهدها عن طلب /المحرم ،ومن كانت كراهته للمحرمات كراهة إيمان .وقد
غمر إيمانه حكم طبعه ،فهذا أعلى القسام الثلثة ،وهذا صاحب النفس المطمئنة ،وهو أرفع من صاحب اللوامة التي
تفعل الذنب ،وتلوم صاحبها عليه ،وتتلوم وتتردد ،هل تفعله أم ل؟!
ل حرمه ،ول هو مريد له ،بل لم يفعله ،فهذا ليعاقب ول يثاب ،إذ لم يحصل منه أمر وأما من لم يخطر بباله أن ا ّ
وجودي يثاب عليه ،أو يعاقب فمن قال :المطلوب أل يفعل ،إن أراد أن هذا المطلوب يكفي في عدم العقاب ،فقد
ل ورسوله ،فل بد لنفسه من أعمال
صدق ،وإن أراد أنه يثاب على هذا العدم ،فليس كذلك ،والكافر إذا لم يؤمن با ّ
يشتغل بها عن اليمان ،وترك العمال كفر يعاقب عليها.
ل عقوبة الكفار في النار ،ذكر أموًرا وجودية وتلك تدس النفس؛ ولهذا كان التوحيد واليمان أعظم ما ولهذا لما ذكر ا ّ
تزكو به النفس ،وكان الشرك أعظم ما يدسيها ،وتتزكى بالعمال الصالحة والصدقة هذا كله مما ذكره السلف .قالوا:
في }َقْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{]العلى ،[14 :تطهر من الشرك ،ومن المعصية بالتوبة ،وعن أبي سعيد وعطاء وقتادة :صدقة
الفطر .ولم يريدوا أن الية لم تتناول إل هي ،بل مقصودهم :أن من أعطى صدقة الفطر ،وصلى صلة العيد فقد
تناولته وما بعدها ،ولهذا /كان يزيد بن حبيب ،كلما خرج إلى الصلة خرج بصدقة ،ويتصدق بها ،قبل الصلة ،ولو
ل .قال الحسنَ} :قْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{ من كان عمله زاكًيا ،وقال أبو الحوص :زكاة المور كلها ،وقال
لم يجد إل بص ً
ل عز وجل ،ومعنى الزاكي :النامي الكثير. الزجاج :تزكى بطاعة ا ّ
وكذلك قالوا في قولهَ} :وَوْيٌل ِلْلُمْشِرِكيَن .اّلِذيَن َل ُيْؤُتوَن الّزَكاَة{]فصلت [7 ،6 :قال ابن عباس :ليشهدون أن ل إله إل
ل أعلم ـ أهل
ل ،وقال مجاهد :ل يزكون أعمالهم أي ليست زاكية ،وقيل ل يطهرونها بالخلص ،كأنه أراد ـ وا ّ ا ّ
الرياء ،فإنه شرك .وعن الحسن :ل يؤمنون بالزكاة ،ول يقرون بها .وعن الضحاك :ل يتصدقون ،ول ينفقون في
الطاعة ،وعن ابن السائب :ل يعطون زكاة أموالهم .قال :كانوا يحجون ويعتمرون ول يزكون.
ن َتَزّكى{
ك ِإَلى َأ ْ والتحقيق أن الية تتناول كل ما يتزكى به النسان من التوحيد والعمال الصالحة .كقولهَ} :ه ْ
ل َل َ
]النازعات ،[18 :وقولهَ} :قْد َأْفَلَح َمْن َتَزّكى{ ]العلى ،[14 :والصدقة المفروضة لم تكن فرضت عند نزولها.
قيل :هذا كقولهُ} :ثّم ُسِئُلوا اْلِفْتَنَة َلَتْوَها{ ]الحزاب ،[14 :وتقدم قبلها أن /الرسول دعاهم ،وهو طلب منه ،فكان هذا
اللفظ متضمًنا قيام الحجة عليهم بالرسل ،والرسل إنما يدعونهم لما تزكو به أنفسهم.
طّهُرُهْم{ من
صَدَقًة ُت َ
ن َأْمَواِلِهْم َ ومما يليق :أن الزكاة تستلزم الطهارة؛ لن معناها معنى الطهارة .قولهُ } :
خْذ ِم ْ
الشر}َوُتَزّكيِهْم{ ]التوبة [103 :بالخير قال صلى ال عليه وسلم) :الّلهم طهرني بالماء والبرد والثلج( كان يدعو به
في الستفتاح وفي العتدال من الركوع ،والغسل.
فهذه المور توجب تبريد المغسول بها ،و]البرد[ يعطي قوة وصلبة ،ومايسر يوصف بالبرد وقرة العين؛ ولهذا كان
دمع السرور بارًدا ،ودمع الحزن حاًرا؛ لن مايسوء النفس يوجب حزنها وغمها ،وما يسرها يوجب فرحها
وسرورها وذلك مما يبرد الباطن.
فسأل النبي صلى ال عليه وسلم :أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور
الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب.
وقوله :بالثلج والبرد والماء البارد :تمثيل بما فيه من هذا الجنس ،وإل فنفس الذنوب ل تغسل بذلك ،كما يقال :أذقنا
برد عفوك ،وحلوة مغفرتك .ولما قضى أبو قتادة دين المدين قال صلى ال عليه وسلم) :الن /بّردت جلدته( ،ويقال:
برد اليقين ،وحرارة الشك ،ويقال :هذا المر يثلج له الصدر ،إذا كان حًقا يعرفه القلب ويفرح به ،حتى يصير في مثل
برد الثلج ،ومرض النفس :إما شبهة وإما شهوة أو غضب ،والثلثة توجب السخونة ،ويقال لمن نال مطلوبه :برد
قلبه ،فإن الطالب فيه حرارة الطلب.
وقولهُ} :خْذ ِمْن َأْمَواِلِهْم{ :دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة ،فإنه قاله بعد قوله:
}َوآَخُروَن اْعَتَرُفوا{الية ]التوبة .[102 :فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق
ل{ الية ]النور .[31 :فأمرهم جميًعا بالتوبة في سياق ما ضوا{اليات ]النورَ} [30 :وُتوُبوا ِإَلى ا ِّ ن َيُغ ّ قولهُ} :ق ْ
ل ِلْلُمْؤِمِني َ
ل كتب على ابن آدم حظه من الزنا( الحديث .وكذلك ذكره؛ لنه ل يسلم أحد من هذا الجنس .كما في الصحيح) :إن ا ّ
ت{ ]هود [114 :نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء إل سّيَئا ِ
ن ال ّ
ت ُيْذِهْب َ
سَنا ِ
حَ في الصحيح :إن قولهِ} :إ ّ
ن اْل َ
الجماع ،ثم ندم فنزلت.
ل ،وينهى النفس عن الهوى ،ونفس الهوى والشهوة ل يعاقب عليه ،بل على ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف ا ّ
حا ،وثبت عنه أنه قال) :المجاهد
ل صال ً
ل ،وعم ً
اتباعه والعمل به ،فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة ّ
ل( ،فيؤمر بجهادها /كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها ،وهو إلي جهاد نفسهمن جاهد نفسه في ذات ا ّ
أحوج ،فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية ،والصبر في هذا من أفضل العمال ،فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك
الجهاد ،فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد .كما قال) :والمهاجر من هجر السيئات(.
ظيًما{]النساء،[74 :
عِجًرا َ
ف ُنْؤِتيِه َأ ْ
سْو َ
ب َف َ ثم هذا ل يكون محموًدا فيه ،إل إذا غلب ،بخلف الول فإنه من}َفُيْقَت ْ
ل َأْو َيْغِل ْ
ل أمر النسان أن ينهي النفس عن ولهـذا قال صلى ال عليه وسلم) :ليـس الشديد بالصرعة ( . ..إلخ؛ وذلك لن ا ّ
الهوى ،وأن يخاف مقام ربه ،فحصل له من اليمان ما يعينه على الجهاد ،فإذا غلب كان لضعف إيمانه ،فيكون
طا بترك المأمور ،بخلف العدو الكافر فإنه قد يكون بدنه أقوى.مفر ً
فالذنوب إنما تقع إذا كانت النفس غير ممتثلة لما أمرت به ،ومع امتثال المأمور ل تفعل المحظور ،فإنهما ضدان .قال
طاٌن{ ]الحجر ،42 :السراء: سْل َ
عَلْيِهْم ُ
ك َ
س َل َ
عَباِدي َلْي َ سوَء{ الية ]يوسف .[24 :وقالِ} :إ ّ
ن ِ عْنُه ال ّ
ف َ
صِر َ تعالىَ} :كَذِل َ
ك ِلَن ْ
ل المخلصون ل يغويهم الشيطان ،والغي خلف الرشد ،وهو اتباع الهوى ،فمن مالت نفسه إلى محرم، [ 65فعباد ا ّ
صا له الدين ،فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء .. ..خشية ومحبة ،والعبادة له / ل مخل ً ل كما أمر ا ّ فليأت بعبادة ا ّ
وحده ،وهذا يمنع من السيئات.
صا ،فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحيا لها بعد الوقوع ،فهو كالترياق الذي يدفع أثر فإذا كان تائًبا ،فإن كان ناق ً
السم ،ويرفعه بعد حصوله ،وكالغذاء من الطعام والشراب ،وكالستمتاع بالحلل الذي يمنع النفس عن طلب الحرام،
فإذا حصل له طلب إزالته ،وكالعلم الذي يمنع من الشك ،ويرفعه بعد وقوعه ،وكالطب الذي يحفظ الصحة ويدفع
المرض ،وكذلك ما في القلب من اليمان يحفظ بأشباهه مما يقوم به.
وإذا حصل منه مرض من الشبهات والشهوات أزيل بهذه ،ول يحصل المرض إل لنقص أسباب الصحة ،كذلك القلب
ل يمرض إل لنقص إيمانه .وكذلك اليمان والكفران متضادان ،فكل ضدين :فأحدهما يمنع الخر تارة ،ويرفعه
ل ،كذلك الحسنات والسيئات والحباط. .. أخرى ،كالسواد والبياض . ..حصل موضعه ويرفعه إذا كان حاص ً
والمعتزلة إن الكبيرة تحبط الحسنات حتى اليمان ،وإن من مات عليها لم يكن .. .الجبائي وابنه بالموازنة .لكن قالوا:
من رجحت سيئاته خلد في النار ،والموازنة بل تخليد قول . ..الحباط ما أجمع عليه وهو حبوط الحسنات كلها بالكفر
ط َعَمُلُه{ الية ]المائدة،[5 :
حِب َ
ن َفَقْد َ ليَما ِ ن ِديِنِه{الية]البقرة ،[217 :وقولهَ} :وَم ْ
ن َيْكُفْر ِبا ِْ عْ كما قالَ} :وَم ْ
ن َيْرَتِدْد ِمْنُكْم َ
ك{ الية ]الزمر.[65 : عَمُل َ
ن َطّ حَب َ
ت َلَي ْ
شَرْك َ ن{ ]النعام ،[88 :وقالَ} :لِئ ْ
ن َأ ْ عْنُهْم َما َكاُنوا َيْعَمُلو َ
ط َحِب َشَرُكوا َل َ وقالَ} :وَلْو َأ ْ
وما ادعته المعتزلة مخالف لقوال السلف ،فإنه سبحانه ذكر حد الزاني وغيره ،ولم يجعلهم كفاًرا حابطي العمال،
ول أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين ،والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم .والنبي صلى ال عليه وسلم أمر
بالصلة على الغال ،وعلى قاتل نفسه ،ولو كانوا كفاًرا ومنافقين لم تجز الصلة عليهم .فعلم أنهم لم يحبط إيمانهم كله.
ل ورسوله( وذلك الحب من أعظم شعب اليمان .فعلم أن إدمانه ل وقال عمن شرب الخمر) :ل تلعنه فإنه يحب ا ّ
يذهب الشعب كلها ،وثبت من وجوه كثيرة) :يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان( ولو حبط لم يكن في
ب{الية]فاطر .[32 :فجعل من المصطفين. قلوبهم شيء منه .وقال تعالىُ} :ثّم َأْوَرْثَنا اْلِكَتا َ
فإذا كانت السيئات ل تحبط جميع الحسنات ،فهل تحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر؟ فيه
صَدَقاِتُكْم قولن للمنتسبين إلى السنة .منهم من ينكره ،ومنهم من يثبته ،كما دلت عليه النصوص ،مثل قوله} :لَ ُتْب ِ
طُلوا َ
ِباْلَمّن َواَْلَذى{ الية]البقرة .[264 :دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة ،وضرب مثله بالمرائي ،وقالت عائشة:
ابلغي زيًدا أن جهاده بطل .الحديث.
طُلوا عَماُلُكْم{ ]الحجرات ،[2 :وحديث صلة العصر ففي ذلك نزاع .وقال تعالىَ} :و َ
ل ُتْب ِ ط َأ ْ
حَب َ /وأما قولهَ} :أ ْ
ن َت ْ
َأْعَماَلُكْم{ ]محمد [33 :قال الحسن :بالمعاصي والكبائر ،وعن عطاء :بالشرك والنفاق ،وعن ابن السائب :بالرياء
والسمعة ،وعن مقاتل :بالمن .وذلك أن قوًما منوا بإسلمهم ،فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر
تحبط العمال.
قيل :ذلك منهي عنه في نفسه ،وموجب للخلود الدائم ،فالنهي عنه ل يعبر عنه بهذا ،بل يذكره على وجه التغليظ.
ل سبحانه في هذه وفي آية المن سماها إبطال ،ولم يسمه كقولهَ} :مْن َيْرَتّد ِمْنُكْم َعْن ِديِنِه{ ]المائدة [54 :ونحوها .وا ّ
ل ُثّم َماُتوا َوُهْم ُكّفاٌر{ الية]محمد.[34 :
ل ا ِّ
سِبي ِ
ن َ
عْصّدوا َ
ن َكَفُروا َو َ طا؛ ولهذا ذكر بعدها الكفر بقولهِ} :إ ّ
ن اّلِذي َ إحبا ً
فإن قيل :المراد إذا دخلتم فيها فأتموها ،وبها احتج من قال :يلزم التطوع بالشروع فيه.
قيل :لو قدر أن الية تدل على أنه منهي عن إبطال بعض العمل ،فإبطاله كله أولى ،بدخوله فيها فكيف وذلك قبل
فراغه ل يسمى صلة ول صوًما؟!
ثم يقال :البطال يوجد قبل الفراغ أو بعده ،وما ذكروه أمر بالتمام ،والبطال هو إبطال الثواب ،ول نسلم أن من لم
يتم العبادة يبطل جميع ثوابه ،بل يقال :إنه يثاب على ما فعل من ذلك .وفي الصحيح حديث المفلس )الذي يأتي
بحسنات أمثال الجبال(.
فأجــاب:
ل ،كما في الحديث ل وحده ،الزهد المشروع هو ترك كل شيء ل ينفع في الدار الخرة ،وثقة القلب بما عند ا ّ الحمد ّ
ل أوثق الذي في الترمذي )ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلل ،ول إضاعة المال ،ولكن الزهد أن تكون بما في يد ا ّ
ل تعالى يقولِ} :لَكْي َ
ل بما في يدك ،وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك( لن ا ّ
َتْأَسْوا عََلى َما َفاَتُكْم َوَل َتْفَرُحوا ِبَما آَتاُكْم{ ]الحديد .[23 :فهذا صفة القلب.
ل من مطعم وملبس ومال وغير ذلك ،كما قال/وأما في الظاهر ،فترك الفضول التي ل يستعان بها على طاعة ا ّ
المام أحمد :إنما هو طعام دون طعام ،ولباس دون لباس ،وصبر أيام قلئل.
ل،
ل صلى ال عليه وسلم ،كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول) :خير الكلم كلم ا ّ وجماع ذلك خلق رسول ا ّ
وخير الهدى هدى محمد ،وشر المور محدثاتها ،وكل بدعة ضللة( .وكان عادته في المطعم أنه ل يرد موجوًدا ،ول
يتكلف مفقوًدا ،ويلبس من اللباس ما تيسر من قطن وصوف وغير ذلك ،وكان القطن أحب إليه ،وكان إذا بلغه أن
ل صلى ال عليه بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد في الزهد ،أو العبادة على المشروع ،ويقول :أينا مثل رسول ا ّ
ل تعالى( وبلغه أن بعض أصحابه قال :أما أنا ل ،وأعلمكم بحدود ا ّ
ل إني لخشاكم ّ وسلم ؟! يغضب لذلك ،ويقول) :وا ّ
فأصوم فل أفطر ،وقال الخر :أما أنا فأقوم فل أنام ،وقال آخر :أما أنا فل أتزوج النساء ،وقال آخر :أما أنا فل آكل
اللحم ،فقال صلى ال عليه وسلم) :لكني أصوم وأفطر ،وأقوم وأنام ،وأتزوج النساء ،وآكل اللحم ،فمن رغب عن
سنتي فليس مني(.
ل ورسوله ،ول هو من دين النبياء؛ بل قد قال تعالىَ} :وَلَقْدفأما العراض عن الهل والولد فليس مما يحبه ا ّ
ك َوَجَعْلَنا َلُهْم َأْزَواًجا َوُذّرّيًة{ ]الرعد [38 :والنفاق على العيال والكسب لهم يكون واجًبا تارة
ن َقْبِل َ
ل ِم ْ
سًسْلَنا ُر ُ
َأْر َ
ومستحًبا أخرى ،فكيف يكون ترك الواجب أو المستحب من الدين.
وكذلك السياحة في البلد لغير مقصود مشروع ،كما يعانيه بعض النساك أمر منهي عنه ،قال المام أحمد :ليست
السياحة من السلم في شىء ،ول من فعل النبيين ول الصالحين.
أحدهما :الصيام .كما روى عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :الحلل بين،
والحرام بين ،وبينهما أمور مشتبهات ل يعلمهن كثيرمن الناس ،فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ،ومن
وقع في الشبهات وقع في الحرام ،كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ،أل وإن لكل /ملك حمى ،أل وإن
ل محارمه ،أل وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ،وإذا فسدت فسد الجسد كله ،إل وهي حمى ا ّ
القلب( .متفق عليه.
لكن إذا ترك النسان الحرام ،أو الشبهة ،بترك واجب أو مستحب ،وكان الثم أو النقص الذي عليه في الترك أعظم
من الثم الذي عليه في الفعل لم يشرع ذلك ،كما ذكر أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي ،عن المام أحمد بن حنبل
أنه سئل عمن ترك ما ل شبهة فيه وعليه دين؟ فسأله ولده أترك هذا المال الذي فيه شبهة فل أقضيه؟ فقال له :أتدع...
]بياض بالصل[.
ل ـ عن
خ السلم َأُبو اْلَعّباس أحمد بن تيمية ـ رحمه ا ّ
شْي ُ
ل َ
سِئ َ
ُ
ق اْلَيِقيِن{ ] الواقعة [95 :و}َعْيَن اْلَيِقيِن{]التكاثر [ 7 :و}ِعْلَم اْلَيِقيِن{ ]التكاثر [5 :فما معنى كل مقام
حّقوله تعالىَ } :
منها؟ وأي مقام أعلى؟.
فأجـاب:
ل رب العالمين ،للناس في هذه السماء مقالت معروفة.
الحمد ّ
ل ،وصدق المخبر .أو رأى آثار العسل فاستدل على وجوده.
فالول :مثل من أخبر أن هناك عس ً
والثاني :مثل من رأى العسل وشاهده وعاينه ،وهذا أعلى كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :ليس المخبر
كالمعاين(.
/والثالث :مثل من ذاق العسل ،ووجد طعمه وحلوته ،ومعلوم أن هذا أعلى مما قبله؛ ولهذا يشير أهل المعرفة إلى ما
عندهم من الذوق والوجد ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح) :ثلث من كن فيه وجد حلوة
ل ،ومن كان يكره أن يرجع ل ورسوله أحب إليه مما سواهما ،ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ اليمان :من كان ا ّ
ل منه كما يكره أن يلقي في النار( ،وقال صلى ال عليه وسلم) :ذاق طعم اليمان :من رضى إلى الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ
ل( فالناس فيما يجده أهل اليمان ويذوقونه من حلوة اليمان وطعمه على ل رًبا ،وبالسلم ديًنا ،وبمحمد رسو ً با ّ
ثلث درجات:
الولى :من علم ذلك مثل من يخبره به شيخ له يصدقه ،أو يبلغه ما أخبر به العارفون عن أنفسهم ،أو يجد من آثار
أحوالهم ما يدل على ذلك.
والثانية :من شاهد ذلك وعاينه ،مثل أن يعاين من أحوال أهل المعرفة والصدق واليقين ما يعرف به مواجيدهم
وأذواقهم ،وإن كان هذا في الحقيقة لم يشاهد ما ذاقوه ووجدوه ،ولكن شاهد ما دل عليه لكن هو أبلغ من المخبر،
والمستدل بآثارهم.
والثالثة :أن يحصل له من الذوق والوجد في نفسه ما كان /سمعه ،كما قال بعض الشيوخ :لقد كنت في حال أقول
فيها :إن كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب .وقال آخر :إنه ليمر على القلب أوقات
يرقص منها طرًبا .وقال الخر :لهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم.
إحداها :العلم بذلك لما أخبرتهم الرسل ،وما قام من الدلة على وجود ذلك.
والثالثة :إذا باشروا ذلك؛ فدخل أهل الجنة الجنة ،وذاقوا ما كانوا يوعدون ،ودخل أهل النار النار ،وذاقوا ما كانوا
يوعدون ،فالناس فيما يوجد في القلوب ،وفيما يوجد خارج القلوب على هذه الدرجات الثلث.
وكذلك في أمور الدنيا :فإن من أخبر بالعشق أو النكاح ولم يره ولم يذقه كان له علم به ،فإن شاهده ولم يذقه كان له
معاينة له ،فإن ذاقه بنفسه كان له ذوق وخبرة به ،ومن لم يذق الشيء لم يعرف حقيقته ،فإن /العبارة إنما تفيد التمثيل
والتقريب .وأما معرفة الحقيقة فل تحصل بمجرد العبارة ،إل لمن يكون قد ذاق ذلك الشيء المعبر عنه ،وعرفه
وخبره؛ ولهذا يسمون أهل المعرفة؛ لنهم عرفوا بالخبرة والذوق ما يعلمه غيرهم بالخبر والنظر ،وفي الحديث
الصحيح) :أن هرقل ملك الروم سأل أبا سفيان بن حرب فيما سأله عنه من أمور النبي صلى ال عليه وسلم قال :فهل
يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ قال :ل ،قال :وكذلك اليمان إذا خالطت بشاشته القلب ل
يسخطه أحد(.
فاليمان إذا باشر القلب وخالطته بشاشته ل يسخطه القلب ،بل يحبه ويرضاه ،فإن له من الحلوة في القلب واللذة
والسرور والبهجة ما ل يمكن التعبير عنه لمن لم يذقه ،والناس متفاوتون في ذوقه والفرح والسرور الذي في القلب له
خْيٌر ِمّما
حوا ُهَو َ
ك َفْلَيْفَر ُ
حَمِتِه َفِبَذِل َ
ل َوِبَر ْ
ل ا ِّ
ضِ من البشاشة ما هو بحسبه ،وإذا خالطت القلب لم يسخطه ،قال تعالىُ} :ق ْ
ل ِبَف ْ
ضُه{ ]الرعد: ن ُينِكُر َبْع َ ب َم ْ حَزا ِ لْ ن ا َْ
ك َوِم ْل ِإَلْي َ
ن ِبَما ُأنِز َ حو َ ب َيْفَر ُ ن{ ]يونس ،[58 :وقال تعالىَ} :واّلِذي َ
ن آَتْيَناُهْم اْلِكَتا َ جَمُعو َ
َي ْ
ن{
شُرو َ
سَتْب ِ
ن آَمُنوا َفَزاَدْتُهْم ِإيَماًنا َوُهْم َي ْل َأّيُكْم َزاَدْتُه َهِذِه ِإيَماًنا َفَأّما اّلِذي َ
ن َيُقو ُ
سوَرٌة َفِمْنُهْم َم ْ ،[36وقال تعالىَ} :وِإَذا َما ُأنِزَل ْ
ت ُ
]التوبة [124 :فأخبرـ سبحانه ـ أنهم يستبشرون بما أنزل من القرآن ،والستبشار هو الفرح والسرور؛ وذلك لما
ل.
يجدونه في قلوبهم من الحلوة واللذة والبهجة بما أنزل ا ّ
/واللذة أبدا تتبع المحبة فمن أحب شيًئا ونال ما أحبه وجد الّلذة به؛ فالذوق هو إدراك المحبوب ،اللذة الظاهرة كالكل
ل :حال النسان فيها أنه يشتهي الطعام ويحبه ،ثم يذوقه ويتناوله فيجد حينئذ لذته وحلوته ،وكذلك النكاح وأمثال مث ً
ذلك.
وليس للخلق محبة أعظم ول أكمل ول أتم من محبة المؤمنين لربهم ،وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من
ل،
ل تعالى ،وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه ،فإن الرسول عليه الصلة والسلم إنما يحب لجل ا ّ كل وجه إل ا ّ
ل{]آل عمران ،[31 :وفي حِبْبُكْم ا ُّ
ل َفاّتِبُعوِني ُي ْن ا َّ
حّبو َ
ن ُكْنُتْم ُت ِ ل .كما قال تعالىُ} :ق ْ
ل ِإ ْ ل ،ويتبع لجل ا ّ ويطاع لجل ا ّ
ن َكا َ
ن ل ،وأحبوا أهل بيتي لحبي( ،وقال تعالىُ} :ق ْ
ل ِإ ْ ل لما يغذوكم به من نعمه ،وأحبوني لحب ا ّ الحديث) :أحبوا ا ّ
ن{سِقي َ
ل َيْهِدي اْلَقْوَم اْلَفا ِ
ل َل ِبَأْمِرِه َوا ُّ
ي ا ُّ
حّتى َيْأِت َ
صوا َ سِبيِلِه َفَتَرّب ُجَهاٍد ِفي َ سوِلِه َو ِ ل َوَر ُ ن ا ِّب ِإَلْيُكْم ِم ْ
ح ّآَباُؤُكْم{ إلى قولهَ} :أ َ
]التوبة ،[24 :وقال النبي صلى ال عليه وسلم) :ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس
ل ،فقد استكمل اليمان( وقال ل ،ومنع ّ ل ،وأعطى ّ ل ،وأبغض ّ أجمعين( وفي حديث الترمذي وغيره) :من أحب ّ
ل{ ]البقرة ،[165 :فالذين آمنوا أشد حّبا ِّشّد ُن آَمُنوا َأ َ
ل َواّلِذي َ ب ا ِّ
ح ّ حّبوَنُهْم َك ُ
ل َأنَداًدا ُي ِ
ن ا ِّ ن ُدو ِخُذ ِم ْن َيّت ِ
س َم ْ تعالىَ} :وِم ْ
ن الّنا ِ
ل ،من كل محب لمحبوبه ،وقد بسطنا الكلم على هذا في مواضع متعددة. حًبا ّ
ل ولرسوله من حلوة اليمان ما يناسب هذه المحبة ،ولهذا /والمقصود هنا أن أهل اليمان يجدون بسبب محبتهم ّ
ل ورسولهعلق النبي صلى ال عليه وسلم ما يجدونه بالمحبة فقال) :ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان :أن يكون ا ّ
ل ،وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار(.
أحب إليه مما سواهما ،وأن يحب المرء ل يحبه إل ّ
ل.
عا واستدل ً
منهم :من علم ذلك سما ً
ل ،واللتجاء إليه ،والستعانة به ،وقطع التعلق بما سواه ،وجرب من ومنهم :من وجد حقيقة الخلص والتوكل على ا ّ
نفسه أنه إذا تعلق بالمخلوقين ورجاهم ،وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة أو يدفعوا عنه مضرة ،فإنه يخذل من جهتهم،
ول يحصل مقصوده ،بل قد يبذل لهم من الخدمة والموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه وقت حاجته إليهم ،فل
صا له
ل بصدق الفتقار إليه ،واستغاث به مخل ًينفعونه :إما لعجزهم ،وإما لنصراف قلوبهم عنه ،وإذا /توجه إلى ا ّ
ل ،ما لم يذق
الدين ،أجاب دعاءه؛ وأزال ضرره ،وفتح له أبواب الرحمة .فمثل هذا قد ذاق من حقيقة التوكل والدعاء ّ
ل وإرادة وجهه دون ما سواه؛ يجد من الحوال والنتائج والفوائد مال يجده غيره .وكذلك من ذاق طعم إخلص الدين ّ
من لم يكن كذلك.
بل من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة والعلو؛ وتعلقه بالصور الجميلة ،أو جمعه للمال يجد في أثناء ذلك من الهموم
والغموم والحزان واللم وضيق الصدر ما ل يعبر عنه ،وربما ل يطاوعه قلبه على ترك الهوى ،ول يحصل له ما
يسره ،بل هو في خوف وحزن دائًما ،إن كان طالًبا لما يهواه فهو قبل إدراكه حزين متألم حيث لم يحصل .فإذا أدركه
كان خائًفا من زواله وفراقه.
ل ،والعبادة له ،وحلوة ذكره ل ل خوف عليهم ول هم يحزنون ،فإذا ذاق هذا أو غيره حلوة الخلص ّ وأولياء ا ّ
صا ،فإنه يجد منل خال ً
حا ،ويكون لوجه ا ّ ل وهو محسن بحيث يكون عمله صال ً ومناجاته ،وفهم كتابه ،وأسلم وجهه ّ
السرور واللذة والفرح ما هو أعظم مما يجده الداعي المتوكل الذي نال بدعائه وتوكله ما ينفعه من الدنيا .أو اندفع
عنه ما يضره ،فإن حلوة ذلك هي بحسب ما حصل له من /المنفعة ،أو اندفع عنه من المضرة ،ول أنفع للقلب من
ل ،ول أضر عليه من الشراك.
التوحيد وإخلص الدين ّ
سؤال أبى القاسم المغربى يتفضل الشيخ المام بقية السلف ،وقدوة الخلف ،أعلم من لقيت ببلد المشرق /
والمغرب ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية ،بأن يوصيني بما يكون فيه صلح ديني ودنياي ،ويرشدني إلى كتاب
يكون عليه اعتمادي في علم الحديث ،وكذلك في غيره من العلوم الشرعية وينبهني على أفضل العمال الصالحة بعد
ل تعالى يحفظه .والسلم الكريم
الواجبات ،ويبين لي أرجح المكاسب ،كل ذلك على قصد اليماء والختصار ،وا ّ
ل وبركاته. عليه ورحمة ا ّ
فأجـــاب:
ل رب العالمين ،أما الوصية :فما أعلم وصية أنفع من وصية الّ ورسوله لمن عقلها /واتبعها ،قال تعالى: الحمد ّ
ل{ ]النساء.[131 :
ن اّتُقوا ا َّ
ن َقْبِلُكْم َوِإّياُكْم َأ ْ
ب ِم ْ
ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ
صْيَنا اّلِذي َ
}َوَلَقْد وَ ّ
ثم إنه صلى ال عليه وسلم وصاه هذه الوصية ،فعلم أنها جامعة وهي كذلك لمن عقلها ،مع أنها تفسير الوصية
القرآنية.
ل عز وجل ،وحق لعباده .ثم الحق الذي عليه لبد أن يخل ببعضه أحياًنا :إما بترك مأمور به ،أو فعل منهي /حق ّ
ل حيثما كنت( وهذه كلمة جامعة ،وفي قوله) :حيثما كنت( تحقيق لحاجته عنه .فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :اتق ا ّ
إلى التقوى في السر والعلنية .ثم قال) :وأتبع السيئة الحسنة تمحها( فإن الطبيب متى تناول المريض شيًئا مضًرا
أمره بما يصلحه .والذنب للعبد كأنه أمر حتم ،فالكيس هو الذي ل يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات .وإنما
قدم في لفظ الحديث)السيئة( وإن كانت مفعولة ،لن المقصود هنا محوها ل فعل الحسنة ،فصار كقوله في بول
العرابي) :صبوا عليه ذنوًبا من ماء(.
وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات ،فإنه أبلغ في المحو والذنوب يزول موجبها بأشياء:
أحدها :التوبة.
ل تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب ،فإذا اجتمعت التوبة والستغفار
والثاني :الستغفار من غير توبة .فإن ا ّ
فهو الكمال.
الثالث :العمال الصالحة المكفرة :إما الكفارات المقدرة / ،كما يكفر المجامع في رمضان والمظاهر والمرتكب
لبعض محظورات الحج أو تارك بعض واجباته ،أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة ،وهي أربعة أجناس :هدى وعتق
وصدقة وصيام.
وإما الكفارات المطلقة ،كما قال حذيفة لعمر :فتنة الرجل في أهله وماله وولده ،يكفرها الصلة والصيام والصدقة
والمر بالمعروف والنهي عن المنكر .وقد دل على ذلك القرآن والحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس،
والجمعة والصيام ،والحج وسائر العمال التي يقال فيها :من قال كذا وعمل كذا غفر له ،أو غفر له ما تقدم من ذنبه،
صا ما صنف في فضائل العمال. وهي كثيرة لمن تلقاها من السنن خصو ً
ل عنه ـ) :لتتبعن سنن من كان قبلكم وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم من حديث أبي سعيد ـ رضي ا ّ
ل ،اليهود والنصارى ؟ قال) :فمن؟( هذا حذو القذة بالقذة /حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه( .قالوا :يا رسول ا ّ
ضوا{ ]التوبة،[69 :
خا ُ
ضُتْم َكاّلِذي َ
خ ْ
لِقِهْم َو ُ
خَن َقْبِلُكْم ِب َ
ن ِم ْ
سَتْمَتَع اّلِذي َ
لِقُكْم َكَما ا ْ
خَ خبر تصديقه في قوله تعالىَ} :فا ْ
سَتْمَتْعُتْم ِب َ
ولهذا شواهد في الصحاح والحسان.
وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة ،كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة ،فإن كثيًرا من
أحوال اليهود قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى العلم ،وكثيًرا من أحوال النصارى قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى
ل به محمًدا صلى ال عليه وسلم ،ثم نزله على أحوال الناس. الدين ،كما يبصر ذلك من فهم دين السلم الذي بعث ا ّ
فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلص النفوس من هذه الورطات وهو اتباع السيئات الحسنات .والحسنات ما ندب
ل إليه على لسان خاتم النبيين من العمال والخلق والصفات. ا ّ
/ومما يزيل موجب الذنوب المصائب المكفرة ،وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن أو أذى في مال أو عرض أو جسد أو
غير ذلك ،لكن ليس هذا من فعل العبد.
ل :من عمل الصالح ،وإصلح الفاسد قال) :وخالق الناس بخلق حسن( وهو حق
فلما قضى بهاتين الكلمتين حق ا ّ
الناس.
وجماع الخلق الحسن مع الناس :أن تصل من قطعك بالسلم والكرام ،والدعاء له والستغفار والثناء عليه ،والزيارة
له وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال ،وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض .وبعض هذا واجب،
وبعضه مستحب.
ل به مطلًقا ،هكذا
ل به محمًدا صلى ال عليه وسلم ،فهو الدين الجامع لجميع ما أمر ا ّ
وأما الخلق العظيم الذي وصف ا ّ
ل عنها ـ) :كان خلقه القرآن( وحقيقته المبادرة إلى
قال مجاهد وغيره ،وهو تأويل القرآن ،كما قالت عائشة ـ رضي ا ّ
ل تعالى بطيب نفس وانشراح صدر. امتثال ما يحبه ا ّ
وتفصيل أصول التقوى وفروعها ليحتمله هذا الموضع؛ فإنها الدين كله ،لكن ينبوع الخير وأصله :إخلص العبد
ك َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة ،[5 :وفي قولهَ} :فاْعُبْدُه َوَتَوّكْل َعَلْيِه{ ]هود: لربه عبادة واستعانة ،كما في قولهِ} :إّيا َ
ك َنْعُبُد َوِإّيا َ
شُكُروا َلُه{
عُبُدوهُ َوا ْ
ق َوا ْ
ل الّرْز َ ب{ ]الشورى ،[10 :وفي قولهَ} :فاْبَتُغوا ِ
عْنَد ا ِّ ت َوِإَلْيِه ُأِني ُ ،[123وفي قولهَ } :
عَلْيِه َتَوّكْل ُ
ل لجلهم ،ويجعل همته ربه تعالى، عا بهم أو عم ً ]العنكبوت ،[17 :بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفا ً
وذلك بملزمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقة وحاجة ومخافة وغير ذلك / ،والعمل له بكل محبوب .ومن أحكم
هذا فل يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك.
وأما ما سألت عنه من أفضل العمال بعد الفرائض ،فإنه يختلف باختلف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب
ل وأمره :إن ملزمة ذكر أوقاتهم ،فل يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد ،لكن مما هو كالجماع بين العلماء با ّ
ل دائما هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة ،وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم) :سبق ا ّ
ل كثيًرا والذاكرات( ،وفيما رواه أبو داود عن أبي
ل ،ومن المفردون ؟ قال) :الذاكرون ا ّ المفردون( ،قالوا :يارسول ا ّ
ل عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :أل أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، الدرداء ـ رضي ا ّ
وأرفعها في درجاتكم ،وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ،ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا
ل(.
ل! قال ) :ذكر ا ّ
أعناقكم؟( قالوا :بلى يارسول ا ّ
وأقل ذلك أن يلزم العبد الذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين صلى ال عليه وسلم ،كالذكار المؤقتة في
أول النهار وآخره / ،وعند أخذ المضجع ،وعند الستيقاظ من المنام ،وأدبار الصلوات ،والذكار المقيدة مثل مايقال
عند الكل والشرب واللباس والجماع ،ودخول المنزل والمسجد والخلء والخروج من ذلك ،وعند المطر والرعد إلى
غير ذلك ،وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة.
ل وا ّ
ل ل والحمد ّ
ل[ .وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل) :سبحان ا ّ
ثم ملزمة الذكر مطلًقا وأفضله ]ل إله إل ا ّ
ل( أفضل منه.أكبر ول حول ول قوة إل با ّ
ل ،من تعلم علم وتعليمه ،وأمر بمعروف ونهى عن ثم يعلم أن كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرب إلى ا ّ
سا يتفقه أو يفقه فيه الفقه
ل .ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض ،أو جلس مجل ًمنكر ،فهو من ذكر ا ّ
ل .وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الولين في كلماتهم في ضا من أفضل ذكر ا ّ ل ورسوله فقها ،فهذا أي ًالذي سماه ا ّ
أفضل العمال كبير اختلف.
ل تعالى ،وليكثر من ذلك ومن الدعاء،وما اشتبه أمره على العبد فعليه بالستخارة المشروعة ،فما ندم من استخار ا ّ
فإنه مفتاح كل خير ،ول يعجل فيقول :قد دعوت فلم يستجب لي ،وليتحر الوقات /الفاضلة ،كآخر الليل ،وأدبار
الصلوات ،وعند الذان ،ووقت نزول المطر ،ونحو ذلك.
ل ،والثقة بكفايته ،وحسن الظن به .وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ
وأما أرجح المكاسب ،فالتوكل على ا ّ
ل ويدعــوه ،كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه) :كلكم جائع إل من أطعمته فاستطعموني أطعمكم .ياعبادي، فيه إلى ا ّ
ل عنه ـ قال :قال رسول ا ّ
ل كلكم عار إل من كسوته فاستكسوني أكسكم( وفيما رواه الترمذي عن أنس ـ رضي ا ّ
صلى ال عليه وسلم) :ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع ،فإنه إن لم ييسره لم يتيسر(.
شُروا ِفي
لُة َفانَت ِ
صَت ال ّ ضِلِه{ ]النساء ،[32 :وقال سبحانهَ} :فِإَذا ُق ِ
ضَي ْ ن َف ْ
ل ِم ْ ل تعالى في كتابهَ} :وا ْ
سَأُلوا ا َّ وقد قال ا ّ
ل{ ]الجمعة [10 :وهذا وإن كان في الجمعة فمعناه قائم في جميع الصلوات .ولهذا ـ وا ّ
ل ل ا ِّ
ضِن َف ْ
ض َواْبَتُغوا ِم ْ
لْر ِ
ا َْ
أعلم ـ أمر النبي صلى ال عليه وسلم الذي يدخل المسجد أن يقول) :اللهم افتح لي أبواب رحمتك( وإذا خرج أن يقول:
شُكُروا َلُه{
عُبُدوهُ َوا ْ
ق َوا ْ
ل الّرْز َ )الّلهم إني أسألك من فضلك( وقد قال الخليل صلى ال عليه وسلمَ} :فاْبَتُغوا ِ
عْنَد ا ِّ
ل واللجأ إليه في أمر الرزق وغيره أصل عظيم. ]العنكبوت [17 :وهذا أمر ،والمر يقتضي اليجاب فالستعانة با ّ
/ثم ينبغى له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليبارك له فيه ،ول يأخذه بإشراف وهلع؛ بل يكون المال عنده بمنزلة الخلء
الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة ،والسعي فيه إذا سعى كإصلح الخلء .وفي الحديث المرفوع
ل عليه شمله ،وفرق عليه ضيعته ،ولم يأته من الدنياالذي رواه الترمذي وغيره) :من أصبح والدنيا أكبر همه ،شتت ا ّ
ل عليه شمله ،وجعل غناه في قلبه ،وأتته الدنيا وهي راغمة(.
إل ما كتب له .ومن أصبح والخرة أكبر همه ،جمع ا ّ
وقال بعض السلف :أنت محتاج إلى الدنيا ،وأنت إلى نصيبك من الخرة أحوج ،فإن بدأت بنصيبك من الخرة مر
ق َوَما
ن ِرْز ٍ
نَ .ما ُأِريُد ِمْنُهْم ِم ْ
ل ِلَيْعُبُدو ِ
س ِإ ّ
لن َ
جنّ َوا ِْت اْل ِ ل تعالىَ} :وَما َ
خَلْق ُ على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاًما ،قال ا ّ
ق ُذو اْلُقّوِة اْلَمِتيُن{ ]الذاريات.[56-58 :
ل ُهَو الّرّزا ُ
ن ا َّ
نِ .إ ّ
طِعُمو ِ
ُأِريُد َأنْ ُي ْ
فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك ،فهذا يختلف باختلف الناس ،ول
ل تعالى فيها الستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى ال
أعلم في ذلك شيًئا عاًما ،لكن إذا عن للنسان جهة فليستخر ا ّ
عليه وسلم ،فإن فيها من البركة مال يحاط به .ثم ما تيسر له فل يتكلف غيره إل أن يكون منه كراهة شرعية.
ضا يختلف باختلف نشء النسان في البلد ،فقد /وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم ،فهذا باب واسع ،وهو أي ً
يتيسر له في بعض البلد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه مال يتيسر له في بلد آخر ،لكن جماع الخير أن يستعين
ل ـ سبحانه ـ في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى ال عليه وسلم ،فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علًما ،وما با ّ
سواه إما أن يكون علًما فل يكون نافًعا ،وإما أن ل يكون علًما ،وإن سمى به ،ولئن كان علًما نافًعا فل بد أن يكون في
ميراث محمد صلى ال عليه وسلم ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه .ولتكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره
ل تعالى ولمع الناس ،إذاونهيه وسائر كلمه .فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فل يعدل عنه فيما بينه وبين ا ّ
أمكنه ذلك.
وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى ال عليه وسلم .وإذا اشتبه عليه مما قد
ل صلى ال عليه وسلم ل عنها ـ أن رسول ا ّ
اختلف فيه الناس فليدع بمارواه مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي ا ّ
كان يقول إذا قام يصلي من الليل) :اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ،فاطر السموات والرض عالم الغيب
والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ،اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى
ل تعالى /قد قال فيما رواه عنه رسوله) :ياعبادي كلكم ضال إل من هديته فاستهدوني أهدكم(.صراط مستقيم( فإن ا ّ
ل سبحانه ،وما في الكتب المصنفة المبوبة وأما وصف]الكتب والمصنفين[ ،فقد سمع منا في أثناء المذاكرة ما يسره ا ّ
كتاب أنفع من ]صحيح محمد بن إسماعيل البخاري[ لكن هو وحده ل يقوم بأصول العلم .ول يقوم بتمام المقصود
للمتبحر في أبواب العلم ،إذ لبد من معرفة أحاديث أخر ،وكلم أهل الفقه وأهل العلم في المور التي يختص بعلمها
ل قلبه هداه بما يبلغه من ذلك ،ومن أعماه
بعض العلماء .وقد أوعبت المة في كل فن من فنون العلم إيعاًبا ،فمن نور ا ّ
ل ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لبي لبيد النصاري) :أو ليست التوراة لم تزده كثرة الكتب إل حيرة وضل ً
والنجيل عند اليهود والنصارى ؟ فماذا تغني عنهم؟(.
ل العظيم أن يرزقنا الهدى والسداد ،ويلهمنا رشدنا ،ويقينا شر أنفسنا ،وأن ل يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ،ويهب
فنسأل ا ّ
ل رب العالمين ،وصلواته على أشرف المرسلين. لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب ،والحمد ّ
ل وزاده من
خ الَماُم ،الَعاِلُم الَعامل الحبر الكامل ،شيخ السلم ومفتي النام تقي الدين ابن تيمية ـ أيده ا ّ
شي ُ
سئل ال ّ
َو ُ
فضله العظيم ـ عن )الصبرالجميل( و )الصفح الجميل( و)الهجر الجميل( وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه
الناس؟
ل:
فأجاب ـ رحمه ا ّ
ل أمر نبيه بالهجر الجميل ،والصفح الجميل ،والصبر الجميل ،فالهجر الجميل :هجر بل ل ،أما بعد :فإن ا ّ الحمد ّ
أذى ،والصفح الجميل :صفح بل عتاب ،والصبر الجميل :صبر بل شكوى قال يعقوب ـ عليه الصلة والسلم ـِ} :إّنَما
صُفوَن{]يوسف [18 :فالشكوى إلى عَلى َما َت ِ
ن َ
سَتَعا ُ
ل اْلُم ْ
ل َوا ُّ
جِمي ٌ ل{]يوسف [86 :مع قولهَ} :ف َ
صْبٌر َ حْزِني ِإَلى ا ِّ
شُكو َبّثي َو ُ
َأ ْ
ل ل تنافي الصبر الجميل ،ويروي عن موسى ـ عليه الصلة والسلم ـ أنه كان يقول) :اللهم لك الحمد ،وإليك ا ّ
المشتكى ،وأنت المستعان ،وبك /المستغاث وعليك التكلن( ومن دعاء النبي صلى ال عليه وسلم :الّلهم إليك أشكو
ضعف قوتي ،وقلة حيلتي ،وهواني على الناس ،أنت رب المستضعفين وأنت ربي ،الّلهم إلي من تكلني؟ إلى بعيد
يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فل أبالي ،غير أن عافيتك هي أوسع لي .أعوذ بنور
وجهك الذي أشرقت له الظلمات ،وصلح عليه أمر الدنيا والخرة ،أن ينزل بي سخطك ،أو يحل علي غضبك ،لك
العتبي حتى ترضى(.
ل{ ]يوسف [86 :ويبكي حْزِني ِإَلى ا ِّ ل عنه ـ يقرأ في صلة الفجرِ} :إّنَما َأ ْ
شُكو َبّثي َو ُ وكان عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ
حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف؛ بخلف الشكوي إلى المخلوق .قرئ على المام أحمد في مرض موته أن
سا كره أنين المريض ،وقال :إنه شكوى .فما أن حتى مات .وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال ،إما إزالة ما طاوو ً
ب َ .وِإَلى َرّب َ
ك ص ْ
ت َفان َ
غ َيضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه ،كما قال تعالىَ} :فِإَذا َفَر ْ
ل(.
ل ،وإذا استعنت فاستعن با ّ ب{]الشرح ،[8 ،7 :وقال صلى ال عليه وسلم لبن عباس) :إذا سألت فاسأل ا ّ غ ْ
َفاْر َ
ولبد للنسان من شيئين :طاعته بفعل المأمور ،وترك المحظور ،وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور .فالول
ل{ إلى قولهَ} :وِإ ْ
ن خَبا ًل َيْأُلوَنُكْم َ
ن ُدوِنُكْم َ طاَنًة ِم ْخُذوا ِب َ ل َتّت ِ
ن آَمُنوا َ هو التقوى ،والثاني هو الصبر .قال تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ
ن َفْوِرِهْم َهَذا صِبُروا َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ ن َت ْط{ ،وقال تعالىَ} :بَلى ِإ ْ حي ٌن ُم ِ ل ِبَما َيْعَمُلو َن ا َّشْيًئا ِإ ّ
ضّرُكْم َكْيُدُهْم َ ل َي ُصِبُروا َوَتّتُقوا َ َت ْ
سَمُع ّ
ن سُكْم َوَلَت ْ ن{]آل عمران ،[118-125 :وقال تعالىَ} :لُتْبَلُو ّ
ن ِفي َأْمَواِلُكْم َوَأْنُف ِ سّوِمي َلِئَكِة ُم َ ن اْلَم َ
ف ِم ْ ل ٍ سِة آ َ
خْم َ ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ
ك ِمْن َعْزِم اُْلُموِر{]آل عمران[186 : ن َذِل َصِبُروا َوَتّتُقوا َفِإ ّ ن َت ْ
شَرُكوا َأًذى َكِثيًرا َوِإ ْ ن َأ ْ
ن اّلِذي َن َقْبِلُكْم َوِم ْ
ب ِم ْن اّلِذينَ ُأوُتوا اْلِكَتا َ ِم ْ
ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{]يوسف.[90 : ل ُي ِ ل َ ن ا َّصِبْر َفِإ ّ
ق َوَي ْن َيّت ِعَلْيَنا ِإّنُه َم ْ
ل َن ا ُّخي َقْد َم ّ ف َوهَذا َأ ِ س ُ وقد قال يوسفَ} :أَنا ُيو ُ
ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشائخ المستقيمين يوصون في عامة كلمهم بهذين الصلين :المسارعة إلى
فعل المأمور ،والتقاعد عن فعل المحظور ،والصبر والرضا بالمر المقدور ،وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من
ل خالق كل شيء العامة؛ بل ومن السالكين ،فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن ا ّ
ل ويرضاه ،وبين ما يسخطه ويبغضه ،وإن قدره وقضاه ول يميز بين توحيد اللوهية، وربه ،ول يفرق بين ما يحبه ا ّ
وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات ـ سعيدها وشقيها ـ مشهد الجمع الذي يشترك فيه
المؤمن والكافر ،والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبئ الكاذب ،وأهل الجنة وأهل النار ،وأولياء الّ وأعداؤه،
والملئكة المقربون والمردة الشياطين.
ل ربهم وخالقهم ومليكهم ل رب لهم غيره. /فإن هؤلء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية ،وهو أن ا ّ
ل به بين أوليائه وأعدائه .وبين المؤمنين والكافرين ،والبرار والفجار ،وأهل الجنة ول يشهد الفرق الذي فرق ا ّ
والنار وهو توحيد اللوهية ،وهو عبادته وحده ل شريك له ،وطاعته وطاعة رسوله ،وفعل ما يحبه ويرضاه ،وهو ما
ل عنه ورسوله ،وموالة أوليائه ،ومعاداة أعدائه، ل به ورسوله أمر إيجاب ،أو أمر استحباب ،وترك ما نهى ا ّ أمر ا ّ
والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان ،فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية
الفارقة بين هؤلء وهؤلء ،ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإل فهو من جنس المشركين ،وهو شر من اليهود
والنصارى.
خَل َ
ق ن َ سَأْلَتُهْم َم ْ
ن َل رب كل شيء كما قال تعالىَ} :وَلِئ ْ فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية .إذ هم يقرون بأن ا ّ
ل َأَفلَ
ل ُق ْن ِّسَيُقوُلو َ نَ . ن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ
ن ِفيَها ِإ ْ
ض َوَم ْ لْر ُ ن ا َْ ل{ ]الزمر ،[38 :وقال تعالىُ} :ق ْ
ل ِلَم ْ ن ا ُّ
ض َلَيُقوُل ّ
لْر َ ت َوا َْسَماَوا ِ ال ّ
ل
جيُر َو َ يٍء َوُهَو ُي ِش ْ ل َ ت ُك ّن ِبَيِدِه َمَلُكو ُل َم ْنُ .ق ْ
ل َتّتُقو َل َأَف َ
ل ُق ْن ِّ سَيُقوُلو َ
ظيِمَ .
ش اْلَع ِ
ب اْلَعْر ِ
سْبِع َوَر ّ
ت ال ّ
سَماَوا ِ ب ال ّ ن َر ّ ل َم ْ ن ُ .ق ْ َتَذّكُرو َ
ل ُقْل َفَأّنا ُتْسَحُروَن{ ]المؤمنون[84-89 : ن ِّسَيُقوُلو َ نَ .
ن ُكنُتْم َتْعَلُمو َعَلْيِه ِإ ْ
جاُر َُي َ
ل ِإّل َوُهْم ُمْشِرُكوَن{ ]يوسف [106 :قال بعض السلف :تسألهم من خلق ولهذا قال سبحانهَ} :وَما ُيْؤِم ُ
ن َأْكَثُرُهْم ِبا ِّ
ل وهم مع هذا يعبدون غيره. السموات والرض فيقولون ا ّ
فمن أقر بالقضاء والقدر دون المر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى ،فإن أولئك يقرون بالملئكة
ن ِبا ِّ
ل ن َيْكُفُرو َ والرسل الذين جاؤوا بالمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض .كما قال تعالىِ} :إ ّ
ن اّلِذي َ
ك ُهْم
لُ .أْوَلِئ َ
سِبي ً
ك َ
ن َذِل َ
خُذوا َبْي َ
ن َيّت ِ
ن َأ ْ
ض َوُيِريُدو َ
ض َوَنْكُفُر ِبَبْع ٍ
ن ِبَبْع ٍ
ن ُنْؤِم ُ
سِلِه َوَيُقوُلو َ
ل َوُر ُ
ن ا ِّ
ن ُيَفّرُقوا َبْي َ
ن َأ ْ
سِلِه َوُيِريُدو َ
َوُر ُ
اْلَكاِفُروَن َحّقا{ ]النساء.[151 ،150 :
وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية ،وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة ،ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر ،ويسلك
ل ورسولهل الذي بعث به رسله ،وبين من عصى ا ّ هذه الحقيقة ،فل يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر ا ّ
من الكفار والفجار ،فهؤلء أكفر من اليهود والنصارى .لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض المور دون
بعض ،بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ،ول يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض البرار ،وبين بعض الفجار،
عا لظنه وما يهواه ،فيكون ناقص اليمان بحسب ما سوى بين البرار والفجار ،ويكون معه ول يفرق بين آخرين اتبا ً
ل تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه. من اليمان بدين ا ّ
/ومن أقر بالمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه المة،
فهؤلء يشبهون المجوس ،وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس.
ضا ،فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب ـ سبحانه ـ وخاصمه كما نقل ذلك
ومن أقر بهما وجعل الرب متناق ً
عنه.
ل فيفعل المأمور ،ويترك المحظور، وكذلك هم في الحوال والفعال .فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي ا ّ
ل على ذلك .كما قال تعالى:
ويصبر على مايصيبه من المقدور ،فهو عند المر والنهي والدين والشريعة ويستعين با ّ
ك َنْسَتِعيُن{ ]الفاتحة.[5 :
ك َنْعُبُد َوِإّيا َ
}ِإّيا َ
وإذا أذنب استغفر وتاب :ل يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات ،ول يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات ،بل
يؤمن بالقدر ول يحتج به ،كما في الحديث الصحيح الذي فيه) :سيد الستغفار أن يقول العبد :اللهم أنت ربي ل إله إل
أنت ،خلقتني وأنا عبدك ،وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ،أبوء لك بنعمتك علي
وأبوء بذنبي ،فاغفر لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت( ،فيقر بنعمة /الّ عليه في الحسنات ،ويعلم أنه هو هداه ويسره
لليسرى ،ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها ،كما قال بعضهم :أطعتك بفضلك ،والمنة لك وعصيتك بعلمك،
والحجة لك ،فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي ،إل غفرت لي .وفي الحديث الصحيح اللهي) :ياعبادي
ل ،ومن وجد غيرذلك فل يلومن إل نفسه(. إنما هي أعمالكم ،أحصيها لكم ،ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيًرا فليحمد ا ّ
وآخرون قد يشهدون المر فقط :فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الستطاعة؛ لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر
ما يوجب لهم حقيقة الستعانة والتوكل والصبر .وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الستعانة والتوكل
ل ورسوله واتباع شريعته ،وملزمة ماجاء به الكتاب والسنة من والصبر ،ماليس عند أولئك؛ لكنهم ل يلتزمون أمر ا ّ
ل ول يعبدونه ،والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ول يستعينوه؛ والمؤمن يعبده ويستعينه.
الدين فهؤلء يستعينون ا ّ
والقسم الرابع شر القسام ،وهو من ل يعبده ول يستعينه ،فل هو مع الشريعة المرية؛ ول مع القدر الكوني.
وانقسامهم إلى هذه القسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو/ذلك؛ وما يكون بعده من صبر
ورضا ونحوذلك ،فهم في التقوى وهي طاعة المر الديني ،والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام.
والثاني :الذين لهم نوع من التقوى بلصبر ،مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلة ونحوها ،ويتركون المحرمات،
لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه ،أو ابتلى بعدو يخيفه عظم جزعه ،وظهر
هلعه.
والثالث :قوم لهم نوع من الصبر بل تقوى ،مثل الفجار الذين يصبرون علي مايصيبهم في مثل أهوائهم ،كاللصوص
والقطاع الذين يصبرون على اللم في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام ،والكتاب وأهل الديوان الذين
يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الموال بالخيانة وغيرها .وكذلك طلب الرئاسة والعلو على غيرهم
يصبرون من ذلك على أنواع من الذى التي ل يصبر عليها أكثر الناس ،وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من
أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الذى واللم .وهؤلء هم الذين
يريدون علًوا في الرض /أو فساًدا من طلب الرئاسة والعلو على الخلق ،ومن طلب الموال بالبغي والعدوان،
والستمتاع بالصور المحرمة نظًرا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات ،ولكن ليس لهم تقوى
فيما تركوه من المأمور ،وفعلوه من المحظور ،وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب :كالمرض
والفقر وغير ذلك ،ول يكون فيه تقوى إذا قدر.
سا َ
ن لن َ ل تعالىِ} :إ ّ
ن ا ِْ وأما القسم الرابع ،فهو شر القسام :ل يتقون إذا قدروا ،ول يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال ا ّ
ق َهُلوًعا ِ .إَذا َمّسُه الّشّر َجُزوًعا َ .وِإَذا َمّسُه اْلَخْيُر َمُنوًعا{]المعارج [19-21 :فهؤلء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا
خِل َ
ُ
قدروا ،ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا .إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك ،وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون
به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول ،وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلًبا .وأقلهم رحمة
وإحساًنا وعفًوا ،كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق اليمان أبعد :مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون
ومن يشبههم في كثير من أمورهم .وإن كان متظاهًرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم،
ل ل ينظر إلى صوركم ول إلى أموالكم ،وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم(.
فالعتبار بالحقائق) :فإن ا ّ
/فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيًها لهم من هذا الوجه ،وكان ما معه من السلم أو
مايظهره منه بمنزلة ما معهم من السلم وما يظهرونه منه ،بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للسلم
من هو أعظم ردة وأولى بالخلق الجاهلية ،وأبعد عن الخلق السلمية ،من التتار.
ل ،وخير الهدى هدي وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته) :خير الكلم كلم ا ّ
ل ،وخير الهدي هدي محمد ،فكل من محمد ،وشر المور محدثاتها ،وكل بدعة ضللة( ،وإذا كان خير الكلم كلم ا ّ
كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب ،وهو به أحق ،ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف ،كان
ل أطوع ،وعلى ما يصيبه أصبر ،فكلما كان أتبع لما يأمر ا ّ
ل عن الكمال أبعد ،وبالباطل أحق .والكامل هو من كان ّ
ل فيما يحبه ويرضاه ،وصبًرا على ماقدره وقضاه ،كان أكمل وأفضل .وكل من نقص عن به ورسوله وأعظم موافقة ّ
هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك.
ل ـ تعالى ـ الصبر والتقوى جميًعا في غير موضع من كتابه ،وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار وقد ذكر ا ّ
المحاربين المعاندين والمنافقين ،وعلى من ظلمه من المسلمين ،ولصاحبه تكون العاقبة / ،قال ال تعالىَ} :بَلى ِإ ْ
ن
ل تعالى: لِئَكِة ُمَسّوِميَن{] آل عمران ،[125 :وقال ا ّ
ن اْلَم َ
ف ِم ْ
ل ٍ
سِة آ َ
خْم َ
ن َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ
صِبُروا َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ
َت ْ
ن َذِلكَ
صِبُروا َوَتّتُقوا َفِإ ّ ن َت ْ شَرُكوا َأًذى َكِثيًرا َوِإ ْ ن َأ ْن اّلِذي َن َقْبِلُكْم َوِم ْ
ب ِم ْ ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ ن اّلِذي َن ِم ْسَمُع ّسُكْم َوَلَت ْ }َلُتْبَلُونّ ِفي َأْمَواِلُكْم َوَأْنُف ِ
عِنّتْم
ل َوّدوا َما َ خَبا ًل َيْأُلوَنُكْم َ ن ُدوِنُكْم َ طاَنًة ِم ْخُذوا ِب َ ل َتّت ِ
ن آَمُنوا َ لُموِر{]آل عمران ،[186 :وقال تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ عْزِم ا ُْن َ ِم ْ
حّبوَنُكْمحّبوَنُهْم َولَ ُي ِ لِء ُت ِ نَ .هاَأْنُتْم ُأْو َن كُْنُتْم َتْعِقُلو َ
ت ِإ ْلَيا ِ صُدوُرُهْم َأْكَبُر َقْد َبّيّنا َلُكْم ا ْ خِفي ُ ن َأْفَواِهِهْم َوَما ُت ْ ضاُء ِم ْ ت اْلَبْغ َ َقْد َبَد ْ
صُدوِر. ت ال ّ عِليٌم ِبَذا ِ
ل َ ن ا َّ ظُكْم ِإ ّ
ل ُموُتوا ِبَغْي ِ ظ ُق ْن الَغْي ِ ل ِم ْلَناِم َ
عَلْيُكْم ا َْضوا َ ع ّ خَلْوا َ ب ُكّلِه َوِإَذا َلُقوُكْم َقاُلوا آَمّنا َوِإَذا َ َوُتْؤِمُنونَ ِباْلِكَتا ِ
ط{]آل حي ٌن ُم ِ ل ِبَما َيْعَمُلو َ ن ا َّشْيًئا ِإ ّ
ضّرُكْم َكْيُدُهْم َ ل َي ُ صِبُروا َوَتّتُقوا َ ن َت ْ حوا ِبَها َوِإ ْ سّيَئٌة َيْفَر ُ
صْبُكْم َ
ن ُت ِ سْؤُهْم َوِإ ْ سَنٌة َت ُ
حَسسُْكْم َ ن َتْم َِإ ْ
صِبرْ ق َوَي ْ ن َيّت ِ
عَلْيَنا ِإّنُه َم ْل َن ا ُّ خي َقْد َم ّ ف َوهَذا َأ ِ س ُ ل َأَنا ُيو ُ ف َقا َ
س ُ ت ُيو ُ لْن َك َ عمران ،[118-120 :وقال إخوة يوسف لهَ} :أِئّن َ
ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]يوسف.[90 : ل ُي ِ ل َ ن ا ََّفِإ ّ
خْيُر
ل َوُهَو َ
حُكَم ا ُّ
حّتى َي ْ
صِبْر َ
ك َوا ْ صا فقال تعالىَ} :واّتِبْع َما ُيو َ
حى ِإَلْي َ وقد قرن الصبر بالعمال الصالحة عموًما وخصو ً
اْلَحاِكِميَن{ ]يونس.[109 :
ل ـ عما ذكر الستاذ القشيري في ) باب الرضا( عن الشيخ أبي سليمان أنه قال :الرضا
خ السـلم ـ َرحَمُه ا ُّ
شْي ُ
ل َ
سئ َ
َو ُ
ل الجنة ،ول يستعيذ من النار ،فهل هذا الكلم صحيح؟ ل يسأل ا ّ أّ
فأجاب:
أما المقام الول :فينبغي أن يعلم أن الستاذ أبا القاسم لم يذكر هذا عن الشيخ أبي سليمان بإسناد ،وإنما ذكره مرسلً
عنه ،وما يذكره أبو القاسم في رسالته عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين والمشائخ وغيرهم ،تارة
حا،
ل ،وكثيًرا ما يقول :وقيل كذا ثم الذي يذكره بإسناد تارة يكون إسناده /صحي ً
يذكره بإسناد ،وتارة يذكره مرس ً
ل ،ومحذوف القائل أولى ،وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات عا .وما يذكره مرس ً وتارة يكون ضعيًفا ،بل موضو ً
الفقهاء ،فإن فيها من الحاديث والثار ما هو صحيح ،ومنها ما هو ضعيف ،ومنها ما هو موضوع.
فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الثار المنقولة ،فيها الصحيح ،وفيها الضعيف ،وفيها الموضوع .وهذا
المر متفق عليه بين جميع المسلمين ل يتنازعون أن هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا ،بل نفس الكتب المصنفة في
]التفسير[ فيها هذا وهذا ،مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولت وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم؟!
والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه أو التصوف أو الحديث ،ويروون هذا تارة؛ لنهم لم يعلموا أنه كذب ،وهو
الغالب على أهل الدين ،فإنهم ل يحتجون بما يعلمون أنه كذب ،وتارة يذكـرونه وإن علمـوا أنه كـذب؛ إذ قصـدهم
رواية مـا روي في ذلك الباب ،ورواية
الحاديث المكذوبة مع بيان كونها كذًبا جائز .وأما روايتها مع المساك عن ذلك رواية عمل فإنه حـرام عند العلماء،
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :من حدث عني حديًثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد
الكاذبين( ـ .وقد فعل كثير من العلماء /متأولين أنهم لم يكذبوا ،وإنما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل إذ رووه
لتعريف أنه روى؛ ل لجل العمل به ول العتماد عليه.
والمقصود هنا أن ما يوجد في الرسالة وأمثالها :من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولت عن النبي
صلى ال عليه وسلم وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع .فالصحيح :الذي قامت الدللة على
صدقه ،والموضوع الذي قامت الدللة على كذبه ،والضعيف الذي رواه من لم يعلم صدقه ،إما لسوء حفظه وإما
لتهامه ،ولكن يمكن أن يكون صادًقا فيه؛ فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ.
وغالب أبواب الرسالة فيها القسام الثلثة .ومن ذلك :باب الرضا ،فإنه ذكر عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال:
ل رًبا وبالسلم ديًنا وبمحمد صلى ال عليه وسلم نبًيا( .وهذا الحديث رواه مسلم في)ذاق طعم اليمان من رضي با ّ
صحيحه ،وإن كان الستاذ لم يذكر أن مسلًما رواه لكنه رواه ،بإسناد صحيح.
وذكر في أول هذا الباب حديًثا ضعيًفا ـ بل موضوعا ـ وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن
عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر ،فهو وإن كان أول حديث ذكره في الباب /فإن أحاديث الفضل بن
عيسى من أوهى الحاديث وأسقطها ،ول نزاع بين الئمة أنه ل يعتمد عليها ول يحتج بها؛ فإن الضعف ظاهر عليها
وإن كان هو ل يتعمد الكذب ،فإن كثيًرا من الفقهاء ل يحتج بحديثهم لسوء الحفظ ل لعتماد الكذب ،وهذا الرقاشي
اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك أئمة هذا الشأن؛ حتى قال أيوب السختياني :لو ولد أخرس لكان خيًرا له ،وقال
سفيان بن عيينة :ل شيء ،وقال المام أحمد والنسائي :هو ضعيف .وقال يحيى بن معين :رجل سوء .وقال أبو حاتم
وأبو زرعة :منكر الحديث.
وكذلك ما ذكره من الثار؛ فإنه قد ذكر آثاًرا حسنة بأسانيد حسنة مثل ما رواه عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه
قال :إذا سل العبد عن الشهوات فهو راض ،فإن هذا رواه عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي بإسناده ،والشيخ أبو
عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلم هؤلء المشائخ وحكاياتهم ،وصنف في السماء كتاب ]طبقات الصوفية[
وكتاب ]زهاد السلف[ وغير ذلك ،وصنف في البواب كتاب ]مقامات الولياء[ وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على
القسام الثلثة.
وذكر عن الشيخ أبي عبد الرحمن أنه قال :سمعت النصر آبادي يقول :من أراد أن يبلغ محل الرضا فيلزم ماجعل الّ
ل من امتثال /أوامره واجتناب نواهيه ل سيما إذا
رضاه فيه ،فإن هذا الكلم في غاية الحسن ،فإنه من لزم مايرضى ا ّ
ل ،كما قال في الحديث الصحيحل يرضى عنه ،كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه ا ّ قام بواجبها ومستحبها فإن ا ّ
الذي في البخاري) :من عادى لي ولًيا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه ،ول
ي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته( الحديث .وذلك أن الرضا نوعان:
يزال عبدي يتقرب إل ّ
ل من غيرتعد إلى المحظور ،كما قالَ} :والُّ أحدهما :الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه .ويتناول ما أباحه ا ّ
ل ِم ْ
ن سُيْؤِتيَنا ا ُّ
ل َسُبَنا ا ُّ
حْسوُلُه َوَقاُلوا َ
ل َوَر ُ ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ ضوُه{]التوبة ،[62 :وقال تعالىَ} :وَلْو َأّنُهْم َر ُ ن ُيْر ُ ق َأ ْ حّسوُلهُ َأ َ َوَر ُ
ك ِفي ن َيْلِمُز َن{ ]التوبة [59 :وهذا الرضا واجب؛ ولهذا ذم من تركه بقولهَ} :وِمْنُهْم َم ْ غُبو َ
ل َرا ِ
سوُلُه ِإّنا ِإَلى ا ِّضِلِه َوَر ُ َف ْ
سُيْؤِتيَنا
ل َ سُبَنا ا ُّ
حْ سوُلُه َوَقاُلوا َ ل َوَر ُ
ضوا َما آَتاُهْم ا ُّ نَ .وَلْو َأّنُهْم َر ُ
طو َخُ سَ طْوا ِمْنَها ِإَذا ُهْم َي ْ
ن َلْم ُيْع َ
ضوا َوِإ ْ
طوا ِمْنَها َر ُ عُ ن ُأ ْت َفِإ ْ
صَدَقا ِ ال ّ
ضِلِه َوَرُسوُلُه{]التوبة.[59 ،58 : ن َف ْ ل ِم ْا ُّ
والنوع الثاني :الرضا بالمصائب ،كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء .وليس بواجب،
وقد قيل :إنه واجب ،والصحيح أن الواجب هو الصبر .كما قال الحسن :الرضا غريزة ،ولكن الصبر معول المؤمن.
وقد روى في حديث ابن عباس /أن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل،
فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيًرا كثيًرا(.
ل ل يرضاه كما قالَ} :ولَ وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان :فالذي عليه أئمة الدين أنه ل يرضى بذلك ،فإن ا ّ
ل َ
ل ن ا َّ عْنُهْم َفِإ ّ
ضْوا َ ن َتْر َ ساَد{ ]البقرة ،[205 :وقال تعالىَ} :فِإ ْ ب اْلَف َ
ح ّ ل ُي ِ
ل َضى ِلِعَباِدِه اْلُكْفَر{ ]الزمر [7 :وقالَ} :وا ُّ َيْر َ
ظيًما{ عِعَذاًبا َ عّد َلُه َ عَلْيِه َوَلَعَنُه َوَأ َ
ل َ ب ا ُّ
ض َ
غ ِ
خالًِدا ِفيَها َو َ
جَهّنُم َ ن{ ]التوبة ،[96 :وقال تعالىَ} :ف َ
جَزاُؤُه َ سِقي َ
ن اْلَقْوِم اْلَفا ِ
عْضى َ َيْر َ
ل عَماَلُهْم{ ]محمد ،[28 :وقال تعالىَ} :و َ
عَد ا ُّ ط َأ ْ
حَب َضَواَنُه َفَأ ْ
ل َوَكِرُهوا ِر ْ ط ا َّخَسَ ]النساء ،[93 :وقالَ} :ذِل َ
ك ِبَأّنُهْم اّتَبُعوا َما َأ ْ
خطَسِ ن َ سُهْم َأ ْت َلُهْم َأنُف ُ
س َما َقّدَم ْ سُبُهْم{ ]التوبة ،[68 :وقال تعالىَ} :لِبْئ َ حْ ي َ ن ِفيَها ِه َخاِلِدي َ
جَهّنَم َت َواْلُكّفاَر َناَر َ ن َواْلُمَناِفَقا ِ
اْلُمَناِفِقي َ
لـب ُهْم َخاِلُدوَن{ ]المائدة ،[80 :وقال تعالىَ} :فَلّما آَسُفوَنا انَتَقْمَنا ِمْنُهْم{ ] الزخرف [55 :فإذا كان ا ّ عَلْيهِْم َوِفي اْلَعَذا ِل َ ا ُّ
سبحانه ـ ل يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك ،وهو يسخط عليهم ،ويغضب عليهم ،فكيف يشرع للمؤمن أن
ل ويغضبه؟!.
يرضى ذلك وأل يسخط ويغضب لما يسخط ا ّ
ل رب الكائنات جميعها ،وعلموا أنه قدروالفريق الثاني :من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين :فشهدوا أن ا ّ
على كل شيء وشاءه ،وظنوا أنهم ل يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق
والعصيان ،حتى قال بعضهم :المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب .قالوا :والكون كله مراد
ل عظيًما ،حيث لم يفرقوا بين الرادة الدينية والكونية ،والذن الكوني والديني ،والمر
المحبوب .وضل هؤلء ضل ً
الكوني والديني ،والبعث الكوني والديني ،والرسال الكوني والديني .كما بسطناه في غير هذا الموضع.
ل وأعدائه ،والنبياء والمتقين .ويجعلون /وهؤلء يؤول المر بهم إلى أل يفرقوا بين المأمور والمحظور وأولياء ا ّ
الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الرض ،ويجعلون المتقين كالفجار ،ويجعلون المسلمين كالمجرمين،
ويعطلون المر والنهي ،والوعد والوعيد ،والشرائع وربما سموا هذا :حقيقة ،ولعمري إنه حقيقة كونية ،لكن هذه
ل{ ]الزمر،[38 :ن ا ُّ
ض َلَيُقوُل ّ
لْر َ
ت َوا َْ
سَماَوا ِ
خَلقَ ال ّ
ن َ سَأْلَتُهْم َم ْ الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الصنام ،كما قالَ} :وَلِئ ْ
ن َ
ل َتَذّكُروَن{ اليات ]المؤمنون.[85 ،84 : ل َأَف َ
ل ُق ْ
ن ِّسَيُقوُلو َنَ . ن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ
ن ِفيَها ِإ ْ
ض َوَم ْ
لْر ُ
ن ا َْ وقال تعالىُ} :ق ْ
ل ِلَم ْ
ل خالق كل شيء وربه ومليكه ،فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان
فالمشركون الذين يعبدون الصنام كانوا مقرين بأن ا ّ
أقرب أن يكون كعباد الصنام.
ل،
ل وبرسله ،وبتصديقهم فيما أخبروا ،وطاعتهم فيما أمروا ،واتباع ما يرضاه ا ّ والمؤمن إنما فارق الكفر باليمان با ّ
ويحبه دون ما يقدر ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان ،ولكن يرضى بما أصابه من المصائب ،ل بما فعله من
ك{
سَتْغِفْر ِلَذْنِب َ
ق َوا ْ
حّ
ل َ
عَد ا ِّ ن َو ْ المعائب .فهو من الذنوب يستغفر .وعلى المصائب يصبر ،فهو كما قال تعالىَ} :فا ْ
صِبْر ِإ ّ
ضّرُكْم َكْيُدُهْم ل َي ُ
صِبُروا َوَتّتُقوا َ
ن َت ْ ]غافر [55 :فيجمع بين طاعة المر والصبر على المصائب .كما /قال تعالىَ} :وِإ ْ
ك ِمنْ َعْزِم اُْلُموِر{]آل عمران ،[186 :وقال يوسف: ن َذِل َ
صِبُروا َوَتّتُقوا َفِإ ّ شْيًئا{ ]آل عمران ،[120 :وقال تعالىَ} :وِإ ْ
ن َت ْ َ
ضيُع َأْجَر اْلُمْحِسِنيَن{ ]يوسف.[90 : ل ُي ِ
ل َ
ن ا َّ
صِبْر َفِإ ّ
ق َوَي ْ
}ِإّنُه َمنْ َيّت ِ
والمقصود هنا :أن ما ذكره القشيري عن النصر آبادي من أحسن الكلم حيث قال :من أراد أن يبلغ محل الرضا
ل رضاه فيه ،وكذلك قول الشيخ أبي سليمان :إذا سل العبد عن الشهوات فهو راض؛ وذلك أن العبد
فليلزم ما جعل ا ّ
إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها ،فإذا لم يحصل سخط ،فإذا سل عن شهوات نفسه رضي
ل له من الرزق ،وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال لبشر الحافي :الرضا أفضل من الزهد في بما قسم ا ّ
الدنيا؛ لن الراضي ل يتمنى فوق منزلته ،كلم حسن .لكن أشك في سماع بشر الحافي من الفضيل.
ل .فقال الجنيد :قولك ذا ضيق صدر،وكذلك ما ذكره معلًقا قال :قال الشبلي بين يدي الجنيد :لحول ول قوة إل با ّ
ل عنه ـ سيد الطائفة ،ومن
وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء .فإن هذا من أحسن الكلم .وكان الجنيد ـ رضي ا ّ
أحسنهم تعليًما وتأديًبا وتقويًما ـ وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ ل كلـمة استرجاع ،وكثير من الناس يقولها عند
عا ل صبًرا .فالجنيد /أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها ،إذ كانت
المصائب بمنزلة السترجاع ،ويقولها جز ً
ل ينافى الرضا ،ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه. حا ً
وفيما ذكره آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلًقا .قال :وقيل :قال موسى) :إلهي ،دلني على عمل إذا عملته رضيت عني.
ل إليه :يابن عمران ،رضائي في رضاك عني( ،فهذه عا .فأوحى ا ّ
فقال :إنك ل تطيق ذلك ،فخر موسى ساجًدا متضر ً
الحكاية السرائيلية فيها نظر؛ فإنه قد يقال :ل يصلح أن يحكي مثلها عن موسى بن عمران .ومعلوم أن هذه
حا ،مثل ما ثبت
ل صحي ً السرائيليات ليس لها إسناد ،ول يقوم بها حجة في شيء من الدين ،إل إذا كانت منقولة لنا نق ً
عن نبينا أنه حدثنا به عن بني إسرائيل ،ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه؛ فإن موسى من أعظم أولي العزم ،وأكابر
ل تعالى راض عن السابقين الولين منل به عنه؟! وا ّ
المسلمين؛ فكيف يقال :إنه ل يطيق أن يعمل ما يرضى ا ّ
المهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان .أفل يرضى عن موسى بن عمران كليم الرحمن؟! وقال تعالىِ} :إ ّ
ن
ي
ضَن ِفيَها َأَبًدا َر ِ
خاِلِدي َ
لْنَهاُر َ
حِتَها ا َْ
ن َت ْ
جِري ِم ْ
ن َت ْ
عْد ٍ
ت َ
جّنا ُ
عْنَد َرّبِهْم َ
جَزاُؤُهْم ِ
خْيُر اْلَبِرّيِةَ .
ك ُهْم َ
ت ُأْوَلِئ َ
حا ِ
صاِل َ
عِمُلوا ال ّن آمَُنوا َو َ
اّلِذي َ
ضوا َعْنُه{]البينة [8 ،7 :ومعلوم أن موسى بن عمران ـ عليه السلم ـ من أفضل الذين آمنوا وعملوا عْنهُْم َوَر ُل َا ُّ
الصالحات.
والكتب المسندة في أخبار هؤلء المشائخ وكلمهم مثل كتاب "حلية الولياء" لبي نعيم ،و"طبقات الصوفية" لبي
عبد الرحمن ،و ]صفوة الصفوة[ لبن الجوزي .وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان .أل
ترى الذي رواه عنه مسنًدا حيث قال :قال لحمد بن أبي الحواري :يا أحمد ،لقد أوتيت من الرضا /نصيًبا لو ألقاني
في النار لكنت بذلك راضًيا .فهذا الكلم مأثور عن أبي سليمان بالسناد؛ ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه
أبي عبد الرحمن ،بخلف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه .فل أصل لها عن الشيخ أبي سليمان.
ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها فإنه قبل أن يرويها قال :وسئل أبو عثمان
الحيري النيسابوري عن قول النبي صلى ال عليه وسلم) :أسألك الرضا بعد القضاء( ،فقال :لن الرضا بعد القضاء
هوالرضا .فهذا الذي قاله الشيخ أبوعثمان كلم حسن سديد .ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال :أرجو أن
أكون قد عرفت طرًفا من الرضا .لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضًيا.
فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا .وإنما هو عزم على الرضا ،وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء ،وإن
صا عزائم الصوفية؛ ولهذا قيل لبعضهم: كان هذا عزًما فالعزم قد يدوم ،وقد ينفسخ ،وما أكثر انفساخ العزائم خصو ً
بماذا عرفت ربك ؟ قال :بفسخ العزائم ونقض الهمم .وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلء المشائخَ} :وَلَقْد ُكْنُتْم
ن َما
ن َآَمُنوا ِلَم َتُقوُلو َ ن{ ]آل عمران ،[143 :وقال تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ ظُرو َ ن َتْلَقْوُه َفَقْد َرَأْيُتُموُه َوَأْنُتْم َتْن ُ
ل َأ ْ
ن َقْب ِ
ت ِم ْ
َتَتَمّنْون اْلَمْو َ
ص{]الصف2- : صو ٌ ن َمْر ُ صّفا َكَأّنُهْم ُبنَيا ٌ
سِبيِلِه َ ن ِفي َ ن ُيَقاِتُلو َب اّلِذي َ ح ّ ل ُي ِ
ن ا َّ نِ .إ ّ
ل َتْفَعُلو َ ن َتُقوُلوا َما َ ل َأ ْعْنَد ا ِّ
نَ .كُبَر َمْقًتا ِ
ل َتْفَعُلو ََ
[4وفي الترمذي أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم :لو علمنا أي العمل أحب إلى الّ لعملناه فأنزل
ق ِمْنُهْمل ِإَذا َفِري ٌ
عَلْيِهْم اْلِقَتا ُ
ب َلَة َوآُتوا الّزَكاَة َفَلّما ُكِت َ صَ ل َلُهْم ُكّفوا َأْيِدَيُكْم َوَأِقيُموا ال ّ ل تعالى هذه الية }َأَلْم َتَر ِإَلى اّلِذي َ
ن ِقي َ ا ّ
ب{الية ]النساء .[77 :فهؤلء ل َقِري ٍ جٍ خْرَتَنا ِإَلى َأ َ
ل َأ ّ
ل َلْو َ عَلْيَنا اْلِقَتا َ
ت َ شَيًة َوَقاُلوا َرّبَنا ِلَم َكَتْب َ خْشّد َ ل َأْو َأ َشَيِة ا ِّخْس َك َ
شْونَ الّنا َخَ َي ْ
الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه لما ابتلوا به كرهوه وفروا منه ،وأين ألم الجهاد من ألم النار؟ وعذاب ا ّ
ل
الذي ل طاقة لحد به ،ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب أنه كان يقول:
فأخذه العسر من ساعته :أي حصر بوله؛ فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول :ادعوا لعمكم
الكذاب.
ي ،فاحتبسوحكى أبو نعيم الصبهاني عن أبي بكر الواسطي أنه قال سمنون :يارب ،قد رضيت بكل ما تقضيه عل ّ
ل ،فلما /أطلق بوله ،قال :ربي قد تبت إليك.
بوله أربعة عشر يوًما ،فكان يتلوى كما تتلوى الحية ،يتلوى يميًنا وشما ً
قال أبو نعيم :فهذا الرضا الذي ادعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدني بلوي ،مع أن سمنونا هذا كان يضرب به المثل،
وله في المحبة مقام مشهور ،حتى روى عن إبراهيم بن فاتك أنه قال :رأيت سمنوًنا يتكلم على الناس في المسجد
الحرام ،فجاء طائر صغير فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده ،ثم لم يزل يضرب بمنقاره الرض حتى سقط منه
ضا.
دم؛ ومات الطائر .وقال :رأيته يوًما يتكلم في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بع ً
وقد ذكر القشيري في )باب الرضا( عن رويم المقري ـ رفيق سمنون ـ حكاية تناسب هذا حيث قال :قال رويم :إن
ل أن يحولها عن يساره ،فهذا يشبه قول سمنون :فكيف ما شئت فامتحني. الراضي لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل ا ّ
وإذا لم يطق الصبر على عسر البول ،أفيطيق أن تكون النار عن يمينه ؟
والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلء وابتلى بعسر البول فغلبه اللم حتى قال :بحبي لك أل فرجت عني؛
ففرج عنه.
ورويم ـ وإن كان من رفقاء الجنيد ـ فليس هو عندهم من هذه الطبقة ،بل الصوفية يقولون :إنه رجع إلى الدنيا وترك
التصوف؛ حتى روى عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال :من أراد أن يستكتم سًرا /فليفعل .كما فعل رويم .كتم
حب الدنيا أربعين سنة فقيل :وكيف يتصور ذلك؟ قال :ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد وكان بينهما
ل على بابه فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي وأكل الطيبات، مودة أكيدة ،فجذبه إليه ،وجعله وكي ً
لـ
وبنى الدور ،وإذا هو كان يكتم حب الدنيا مالم يجدها ،فلما وجدها أظهر ماكان يكتم من حبها .هذا مع أنه ـ رحمه ا ّ
كان له من العبادات ما هو معروف وكان على مذهب داود.
ل؛ ولكنوهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم أقواله وعواقبها ل تجعل طريقة ول تتخذ سبي ً
قد يستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة ،ونحو ذلك ،وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق ،وما
ل عليهم ـ أعلم بطريق سبيل يقدر عليه من التقوى والصبر وما ل يقدر عليه من التقوى والصبر ،والرسل ـ صلوات ا ّ
صا مخطًئا محروًما ،وإن لم يكن عاصًيا أو فاسًقا أو
ل وأهدى وأنصح ،فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقو ً ا ّ
كافًرا.
ل بشيء، ويشبه هذا العرابي الذي دخل عليه النبي صلى ال عليه وسلم وهو مريض كالفرخ فقال) :هل كنت تدعو ا ّ
ل ل تستطيعه ول تطيقه ،هل قال :كنت أقول :الّلهم ما كنت معذبني به في الخرة فاجعله في الدنيا ،فقال :سبحان ا ّ
ضا حمله خوفه من عذاب النار ،ومحبته قلت :ربنا آتنا في /الدنيا حسنة ،وفي الخرة حسنة ،وقنا عذاب النار( فهذا أي ً
طا ،والخطأ والغلط مع حسن القصـدلسلمة عاقبته على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا ،وكان مخطئا في ذلك غال ً
ل أن يكـون
وسلمته ،وصلح الرجل وفضله ودينه وزهـده وورعـه وكراماته كثير جًدا ،فليس من شرط ولي ا ّ
ل عنه ـل بعد الرسل أبو بكر الصديق ـ رضي ا ّ معصوًما مـن الخطأ والغلـط؛ بل ول من الذنوب ،وأفضل أولياء ا ّ
ضا وأخطأت بعضا(.وقد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال له لما عبر الرؤيا) :أصبت بع ً
ل أعلم ـ أن أبا سليمان لما قال هذه الكلمة ـ :لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضًيا ـ أن يكون بعض الناس
ويشبه ـ وا ّ
ل الجنة ،ول تستعيذه من النار .وتلك الكلمة التي قالها أبو
حكاه بما فهمه من المعنى أنه قال :الرضا أل تسأل ا ّ
سليمان ،مع أنها ل تدل على رضاه بذلك ،ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك ،فنحن نعلم أن هذا العزم ل يستمر بل
ينفسخ ،وإن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها؛ وأنها مستدركة ،كما استدركت دعوى سمنون ورويم وغير ذلك؛
ل الجنة ،واستعاذ من النار ،ل يكون فإن بين هذه الكلمة وتلك فرًقا عظيًما .فإن تلك الكلمة مضمونها :أن من سأل ا ّ
راضًيا.
وفرق بين من يقول :أنا إذا فعل كذا كنت راضًيا ،وبين /من يقول :ل يكون راضًيا إل من ل يطلب خيًرا ،ول يهرب
من شر؛ وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجل من أن يقول مثل هذا الكلم ،فإن الشيخ أبا سليمان من
أجلء المشائخ ،وساداتهم ومن أتبعهم للشريعة حتى إنه قال :إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم ،فل أقبلها إل
ضا:
بشاهدين :الكتاب والسنة .فمن ل يقبل نكت قلبه إل بشاهدين ،يقول هذا مثل الكلم؟! وقال الشيخ أبو سليمان أي ً
ليس لمن ألهم شيًئا من الخير أن يفعله ،حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نوًرا على نور؛ بل صاحبه أحمد
بن أبي الحواري كان من أتبع المشائخ للسنة ،فكيف أبو سليمان؟!.
وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلم تظهر بالكلم في المقام الثاني وهو قول القائل كائًنا من كان :الرضا أل تسأل
ل الجنة ،ول تستعيذه من النار.
ا ّ
ونقدم قبل ذلك مقدمة يتبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الشتباه والضطراب ،وذلك أن قوًما كثيًرا من
الناس ،من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة ،وغيرهم ،ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس،
وسماع أصوات طيبة ،وشم روائح طيبة ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيًما غير ذلك .ثم صاروا ضربين:
/ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم .كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم.
ومنهم من أقر بالرؤية ،إما الرؤية التي أخبر بها النبي صلى ال عليه وسلم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ،وإما
برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم ،أو جعلها بحاسة سادسة ،ونحو ذلك
ًاالتي ذهب إليها ضرار بن عمرو وطوائف من أهل الكلم المنتسبين إلى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية ،وإن كان
ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية .والنزاع بينهم لفظي ،ونزاعهم مع أهل السنة معنوي؛ ولهذا كان
بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلء.
والمقصود هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه ،قالوا :لنه ل مناسبة بين
المحدث والقديم ،كما ذكر ذلك الستاذ أبو المعالى الجويني في ]الرسالة النظامية[ ،وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في
بعض كتبه ،ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجلً يقول :أسألك لذة النظر إلى وجهك .فقال :يا هذا ،هب أن له وجًها،
ل يخلق لهم نعيًما ببعض المخلوقات مقارًنا للرؤية ،فأما النعيم
أله وجه يتلذذ بالنظر إليه؟! وذكر أبو المعالي أن ا ّ
بنفس الرؤية فأنكـره ،وجعل هذا من أسرار التوحيد.
/وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم ،وهو مذهب سلف المة وأئمتها ،ومشائخ الطريق ،كما في
الحديث الذي في النسائي وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم) :اللهم بعلمك الغيب ،وقدرتك على الخلق ،أحيني إذا
كانت الحياة خيًرا لي ،وتوفني إذا كانت الوفاة خيًرا لي ،الّلهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ،وأسألك كلمة
الحق في الغضب والرضا ،وأسألك القصد في الفقر والغنى ،وأسألك نعيًما ل ينفد ،وقرة عين ل تنقطع ،وأسألك
الرضا بعد القضاء ،وبرد العيش بعد الموت ،وأسألك لذة النظر إلى وجهك ،وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء
مضرة ،ول فتنة مضلة ،الّلهم زينا بزينة اليمان ،واجعلنا هداة مهتدين( .وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن
ل موعًدا يريد أن
النبي صلى ال عليه وسلم قال) :إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد ،يا أهل الجنة ،إن لكم عند ا ّ
ينجزكموه ،فيقولون :ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة ،ويجرنا من النار؟ قال :فيكشف
الحجاب؛ فينظرون إليه فما أعطاهم شيًئا أحب إليهم من النظر إليه(.
وكلما كان الشيء أحب كانت اللذة بنيله أعظم ،وهذا متفق عليه بين السلف والئمة ومشائخ الطريق ،كما روي عن
الحسن البصري أنه قال :لو علم العابدون بأنهم ل يرون ربهم في الخرة لذابت نفوسهم في /الدنيا شوًقا إليه،
وكلمهم في ذلك كثير.
وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في السلم الجعد بن درهم ،أستاذ الجهم بن
ل ضحاياكم ،فإني مضح بالجعد بن ل القسري .وقال :أيها الناس ،ضحوا تقبل ا ّ صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد ا ّ
ل ،ولم يكلم موسى تكليًما ثم نزل فذبحه.
ل لم يتخذ إبراهيم خلي ً
درهم ،فإنه زعم أن ا ّ
ل يحب ويحب .ولهذا وافقهموالذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف المة وأئمتها ومشائخ الطريق :أن ا ّ
على ذلك من تصوف من /أهل الكلم :كأبي القاسم القشيري؛ وأبي حامد الغزالي ،وأمثالهما .ونصر ذلك أبو حامد
في )الحياء( وغيره .وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في )الرسالة( على طريق الصوفية كما في كتاب أبي طالب المسمى
بـ )قوت القلوب( وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية ،استند في ذلك لما وجده من كتب الفلسفة من إثبات نحو
ذلك حيث قالوا :يعشق ويعشق.
حّبوَنُه{ وقد بسط الكلم على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه .وقد قال تعالىُ} :ي ِ
حّبُهْم َوُي ِ
ل َوَرُسوِلِه{ ]التوبة،[24 : ن ا ِّ
ب ِإَلْيُكْم ِم ْ ل{ ]البقرة ،[165 :وقالَ} :أ َ
ح ّ حّبا ِّ
شّد ُ ]المائدة ،[54 :وقال تعالىَ} :واّلِذي َ
ن آَمُنوا َأ َ
ل ورسوله وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان :من كان ا ّ
ل منه
ل ،ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه ا ّ
أحب إليه مما سواهما ،ومن كان يحب المرء ل يحبه إل ّ
كما يكره أن يلقى في النار(.
والمقصود هنـا أن هؤلء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم ـ الذين ينكرون حقيقة المحبة ـ يلزمهم أن ينكروا التلذذ
بالنظر إليه؛ ولهذا ليس في الحقيقة عندهم إل التنعم بالكل والشرب ،ونحو ذلك .وهذا القول باطل بالكتاب والسنة
واتفاق سلف المة ومشائخها ،فهذا أحد الحزبين الغالطين.
والضرب الثاني :طوائف من المتصوفة والمتفقرة والمتبتلة / :وافقوا هؤلء على أن الجنة ليست إل هذه المور التي
ل والتنعم بالنظر إليه ،وأصابوا في ذلك وجعلوا
يتنعم بها المخلوق؛ ولكن وافقوا السلف والئمة على إثبات رؤية ا ّ
يطلبون هذا النعيم ،وتسمو إليه همتهم ،ويخافون فوته ،وصار أحدهم يقول :ما عبدتك شوًقا إلى جنتك ،أو خوًفا من
نارك ،ولكن لنظر إليك وإجللً لك ،وأمثال هذه الكلمات .مقصودهم بذلك :هو أعلى من الكل والشرب والتمتع
ل بل حظ ول إرادة ،وإنضا في ظنهم أنهم يعبدون ا ّبالمخلوق ،لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة .وقد يغلطون أي ً
كل ما يطلب منه فهو حظ النفس ،وتوهموا أن البشر يعمل بل إرادة ول مطلوب ول محبوب ،وهو سوء معرفة
بحقيقة اليمان والدين والخرة.
وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه ،حتى ل يشعر بنفسه وإرادتها ،فيظن
أنه يفعل لغير مراده ،والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه ،وهذا كحال كثير من الصالحين
والصادقين ،وأرباب الحوال والمقامات يكون لحدهم وجد صحيح ،وذوق سليم ،لكن ليس له عبارة تبين كلمه،
فيقع في كلمه غلط وسوء أدب ،مع صحة مقصوده؛ وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده.
ل /تعالى أصابوا في ذلك ،لكن أخطؤوا من جهة أنهم فهؤلء الذين قالوا مثل هذا الكلم ،إذا عنوا به طلب رؤية ا ّ
جا عن الجنة ،فأسقطوا حرمة اسم الجنة ،ولزم من ذلك أمور منكرة؛ نظير ما ذكر عن الشبلي ـ جعلوا ذلك خار ً
ل ـ أنه سمع قارًئا يقرأِ} :مْنُكْم َمْن ُيِريُد الّدْنَيا َوِمْنُكْم َمْن ُيِريُد اْلِخَرَة{ ]آل عمران .[152 :فصرخ وقال :أين مريد
رحمه ا ّ
ل؛ وهذه الية في أصحاب النبي ل؛ ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الخرة ما أرادوا ا ّ ل؟ فيحمد منه كونه أراد ا ّ ا ّ
ل من هو دونهم .كالشبلي،
ل ،أفيريد ا ّ
صلى ال عليه وسلم الذين كانوا معه بأحد ،وهم أفضل الخلق ،فإن لم يريدوا ا ّ
وأمثاله؟!
ن َلُهْم
سُهْم َوَأْمَواَلُهْم ِبَأ ّ
ن َأنُف َ
ن اْلُمْؤِمِني َ
شَتَرى ِم ْ
لا ْ ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشائخ أنه سأل مرة عن قوله تعالىِ} :إ ّ
ن ا َّ
ل َفَيْقُتُلوَن َوُيْقَتُلوَن{ ]التوبة [111 :قال :فإذا كانت النفس والموال في ثمن الجنة ،فالرؤية بم ل ا ِّ
سِبي ِ
ن ِفي َ
جّنَة ُيَقاِتُلو َ
اْل َ
تنال ؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال.
ل للولياء من نعيم ،بالنظر إليه وما سوى ذلك ،هو في الجنة ،كما أن كل ما وعد والواجب أن يعلم أن كل ما أعده ا ّ
ي َلُهْم ِمْن ُقّرِة َأْعُيٍن َجَزاًء ِبَما َكاُنوا َيْعَمُلوَن{ ]السجدة،[17 :
خِف َ
س َما ُأ ْ به أعداءه هو في النار .وقد قال تعالىَ} :ف َ
ل َتْعَلُم َنْف ٌ
ل أعددت لعبادي الصالحين ما ل عين رأت ،ول أذن وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم) :يقول ا ّ
سمعت ،ول خطر على قلب بشر َبْلُه ما أطلعتهم عليه( وإذا علم أن /جميع ذلك داخل في الجنة ،فالناس في الجنة
ل{ ]السراء[21 :ضي ً
ت َوَأْكَبُر َتْف ِ
جا ٍ
خَرُة َأْكَبُر َدَر َ
لِض َوَل ْ
عَلى َبْع ٍ ضُهْم َ ضْلَنا َبْع َ
ف َف ّ على درجات متفاوتة ،كما قال} :ان ُ
ظْر َكْي َ
وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غيرذلك من مطالب الخرة هو في الجنة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ،ثم صلوا علي،
ل لي الوسيلة ،فإنها درجة في الجنة ل تنبغي إل لعبد من
ل عليه عشًرا ،ثم سلوا ا ّ
فإنه من صلى علي مرة صلى ا ّ
ل لي الوسيلة ،حلت عليه شفاعتي يوم القيامة( ،فقد أخبر أنل ،وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد ،فمن سأل ا ّ
عباد ا ّ
ل ورجاء أن يكون هو ذلك العبد ـ هي درجة في الجنة ،فهل بقى بعد الوسيلة ـ التي ل تصلح إل لعبد واحد من عباد ا ّ
جا عن الجنة يصلح للمخلوقين؟! الوسيلة شيء أعلي منها يكون خار ً
ضا ـ في حديث الملئكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال) :فيقولون للرب تبارك وثبت في الصحيح ـ أي ً
وتعالى :وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك( .قال) :فيقول :وما يطلبون؟ قالوا :يطلبون الجنة( .قال) :فيقول:
وهل رأوها؟( قال) :فيقولون :ل( ،قال) :فيقول :فكيف لو رأوها؟!( قال) :فيقولون :لو رأوها لكانوا أشد لها طلًبا(.
قال) :ومم يستعيذون؟!( قالوا) :يستعيذون من النار( .قال) :فيقول :وهل رأوها؟!( قال) :فيقولون :ل( .قال) :فيقول/ :
فكيف لو رأوها ؟( قالوا) :لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة( .قال) :فيقول :أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون ،وأعذتهم
مما يستعيذون( ـ أو كما قال ـ قال) :فيقولون :فيهم فلن الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم( ،قال) :فيقول :هم القوم
ل كان مطلوبهم الجنة ،ومهربهم من النار. ليشقى بهم جليسهم( .فهؤلء الذين هم من أفضل أولياء ا ّ
والنبي صلى ال عليه وسلم لّما بايع النصار ليلة العقبة ،وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الولين الذين هم
أفضل من هؤلء المشائخ كلهم ،قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم :اشترط لربك ولنفسك ولصحابك قال) :أشترط
لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم ،وأشترط لصحابي أن تواسوهم( .قالوا :فإذا فعلنا ذلك فما
ل ل نقيلك ،ول نستقيلك .وقد قالوا له في أثناء البيعة :إن بيننا وبين القوم
لنا؟ قال) :لكم الجنة( .قالوا :مد يدك فوا ّ
ل وعهوًدا وإنا ناقضوها. حبا ً
ل ورسوله ،على وجه ل ل لنفوسهم وأموالهم في رضا ا ّ ل ورسوله ،وبذ ً ل محبة ّفهؤلء الذين بايعوه من أعظم خلق ا ّ
يلحقهم فيه أحد من هؤلء المتأخرين ،قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة ،فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه،
ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب؛ بل وفي الجنة ما ل تشعر به النفوس لتطلبه ،فإن /الطلب والحب
والرادة فرع عن الشعور والحساس والتصور ،فما ل يتصوره النسان ول يحسه ول يشعر به يمتنع أن يطلبه
ن ِفيَها َوَلَدْيَنا َمِزيٌد{ ]ق ،[35 :وقالَ} :وِفيَها َما َت ْ
شَتِهيِه ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا .كما قال تعالىَ} :لُهْم َما َي َ
شاُءو َ
س َوَتَلّذ اَْلْعُيُن{ ]الزخرف [71 :ففيها ما يشتهون ،وفيها مزيد على ذلك ،وهو مالم يبلغه علمهم ليشتهوه .كماقال لنُف ُ
ا َْ
صلى ال عليه وسلم) :مال عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر( وهذا باب واسع.
ل ما
ل الجنة ،ول تستعيذه من النار ،إن أراد بذلك أل تسأل ا ّ
فإذا عرفت هذه المقدمة ،فقول القائل :الرضا أل تسأل ا ّ
هو داخل في مسمى الجنة الشرعية ،فل تسأله النظر إليه ،ول غير ذلك مما هو مطلوب جميع النبياء والولياء،
وإنك ل تستعيذ به من احتجابه عنك ،ول من تعذيبك في النار .فهذا الكلم مع كونه مخالًفا لجميع النبياء والمرسلين،
وسائر المؤمنين ،فهو متناقض في نفسه ،فاسد في صريح العقول ،وذلك أن الرضا الذي ل يسأل ،إنما ل يسأله
ل فكأنه
ل ول محبة ّ ل .ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به ،ومحبته له ،وإذا لم يبق معه رضا عن ا ّ لرضاه عن ا ّ
قال :يرضى أل يرضى وهذا جمع بين النقيضين .ول ريب أنه كلم من لم يتصور ما يقول ،ول عقله ،يوضح ذلك
أن الراضي إنما يحمله على احتمال المكاره واللم /ما يجده من لذة الرضا وحلوته ،فإذا فقد تلك الحلوة واللذة
امتنع أن يتحمل ألًما ومرارة ،فكيف يتصور أن يكون راضًيا ،وليس معه من حلوة الرضا ما يحمل به مرارة
المكاره؟ وإنما هذا من جنس كلم السكران والفاني الذي وجد في نفسه حلوة الرضا ،فظن أن هذا يبقى معه على أي
حال كان ،وهذا غلط عظيم منه :كغلط سمنون كما تقدم.
وإن أراد بذلك أل يسأل التمتع بالمخلوق ،بل يسأل ما هو أعلى من ذلك؛ فقد غلط من وجهين:
من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة.
ضا ـ أثبت أنه طالب مع كونه راضًيا ،فإذا كان الرضا ل ينافى هذا الطلب ،فل ينافي طلًبا آخر إذا
ومن جهة أنه ـ أي ً
جا إلى مطلوبه؛ ومعلوم أن تمتعه بالنظر ل يتم إل بسلمته من النار ،وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر، كان محتا ً
وما ل يتم المطلوب إل به فهو مطلوب؛ فيكون طلبه للنظر طلًبا للوازمه التي منها النجاة من النار ،فيكون رضاه ل
ينافي طلب حصول المنفعة ودفع المضرة عنه .ول طلب حصول الجنة ودفع النار ول غيرهما مما هو من لوازم
النظر ،فتبين تناقض قوله.
ل ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من طلب ل الجنة ،ولم يستعذ به من النار ،فإما أن يطلب من ا ّ ضا فإذا لم يسأل ا ّ
/وأي ً
منفعة ودفع مضرة .وإما أل يطلبه ،فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة أولى ،واستعاذته
من النار أولى .وإن كان الرضا أل يطلب شيًئا قط ،ولو كان مضطًرا إليه ،ول يستعيذ من شيء قط وإن كان مضًرا،
ضا عن ذلك ،فإن التفت بقلبه إلى
ل في أن يفعل به ذلك ،وإما أن يكون معر ً فل يخلو :إما أن يكون ملتفًتا بقلبه إلى ا ّ
ل فهو طالب مستعيذ بحاله ،ول فرق بين الطلب بالحال والقال ،وهو بهما أكمل وأتم فل يعدل عنه. ا ّ
ضا عن جميع ذلك ،فمن المعلوم أنه ل يحيا ويبقى إل بما يقيم حياته ،ويدفع مضاره بذلك ،والذي به وإن كان معر ً
يحيا من المنافع ودفع المضار ،إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد ،أو ل يحبه ول يطلبه ول يريده .فإن أحبه وطلبه
ل ولل كان مشرًكا مذموًما ،فضل عن أن يكون محموًدا .وإن قال :ل أحبه وأطلبه وأريده ل من ا ّ وأراده من غير ا ّ
من خلقه .قيل :هذا ممتنع في الحي ،فإن الحي ممتنع عليه أل يحب ما به يبقى ،وهذا أمر معلوم بالحس ،ومن كان
بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا ،فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة ،إذ الرضا مستلزم لذلك .فكيف
يسلب عنه ذلك كله؟ /فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلم.
ل؟
ل من ل يفعل ما يرضاه ا ّ
ل ،وإل فكيف يكون راضًيا عن ا ّ
أحدها أن يقال :الراضي لبد أن يفعل ما يرضاه ا ّ
ل ويسخطه ويذمه ،وينهي عنه. وكيف يسوغ رضا ما يكرهه ا ّ
ل يحبه ويرضاه ،وإما أل يحبه ويرضاه ،فإن لم يكن يحبه ويرضاه لم وبيان هذا :أن الرضا المحمود إما أن يكون ا ّ
يكن هذا الرضا مأموًرا به ،ل أمر إيجاب ول أمر استحباب؛ فإن من الرضا ما هو كفر ،كرضا الكفار بالشرك ،وقتل
حَب َ
ط ضَواَنُه َفَأ ْ
ل َوَكِرُهوا ِر ْ ط ا َّخَسَ ل ويكرهه .قال تعالىَ} :ذِل َ
ك ِبَأّنُهْم اّتَبُعوا َما َأ ْ النبياء وتكذيبهم ،ورضاهم بما يسخطه ا ّ
ل ،وقال النبي صلى ال عليه وسلم) :إن ل برضاه وعمله فقد أسخط ا ّ َأْعَماَلُهْم{ ]محمد ،[28 :فمن اتبع مـا أسخط ا ّ
الخطيئة إذا عملت في الرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها ،ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب
عنها وأنكرها( ،وقال صلى ال عليه وسلم) :سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون ،فمن أنكر فقد برئ ،ومن كره
ن اْلَقْوِم
عْ ضى َ ل َيْر َ
ل َ
ن ا َّ
عْنُهْم َفِإ ّ
ضْوا َ
ن َتْر َ عْنُهْم َفِإ ْ
ضْوا َ ن َلُكْم ِلَتْر َ فقد سلم ولكن من رضى وتابع هلك( .وقال تعالىَ} :ي ْ
حِلُفو َ
ل ويرضاه ،وهو ل يرضى عنهم .وقال تعالى: اْلَفاِسِقيَن{ ]التوبة [96 :فرضانا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه ا ّ
ل .وقال تعالى: ضيُتْم ِباْلَحَياِة الّدْنَيا ِمْن اْلِخَرِة َفَما َمَتاُع اْلَحَياِة الّدْنَيا ِفي اْلِخَرِة ِإّل َقِليٌل{ ]التوبة [38 :فهذا رضا قد ذمه ا ّ }َأَر ِ
ضا رضا مذموم ،وسوى هذا ،وهذا طَمَأّنوا ِبَها{ ]يونس [7 :فهذا أي ً حَياِة الّدْنَيا َوا ْ
ضوا ِباْل َ
ن ِلَقاَءَنا َوَر ُ
جو َ
ل َيْر ُ
ن َ
ن اّلِذي َ
}ِإ ّ
كثير.
ل ول هو مؤمن
فمن رضى بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره ومعاصيه ومعاصي غيره فليس هو متبًعا لرضا ا ّ
ل .بل هو مسخط لربه ،وربه غضبان عليه ،لعن له ،ذام له ،متوعد له بالعقاب.
با ّ
ل التي يأمر بها المشائخ المهتدون :إنما هي المر بطاعة الّ والنهي عن معصيته .فمن أمر أو استحب أو وطريق ا ّ
ل وهو يصد عن سبيل ا ّ
ل ل ل ولى ّ ل ويذمه وينهى عنه ويعاقب أصحابه فهو عدو ّ مدح الرضا الذي يكرهه ا ّ
ل ،ومنه ما يكرهه
وطريقه ،ليس بسالك لطريقه وسبيله .وإذا كان الرضا الموجود في بني آدم منه ما يحبه ا ّ
ويسخطه ،ومنه ما هو مباح ل من هذا ول من هذا ،كسائر أعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك ،كلها تنقسم
ل مباح.
ل ومكروه ّإلى محبوب ّ
ل الذي أمـر بالرضا والقشيري قد ذكره في أوائل باب الرضا فقال :اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بقضاء ا ّ
به ،إذ ليس كـل ماهو بقضائه يجـوز للعبد أو يجب على العبد الرضا به .كالمعاصي وفنون محن المسلمين .وهذا
الذي قاله ،قاله قبله وبعده ومعه غير واحد من العلماء :كالقاضي أبي بكر ،والقاضي أبي يعلى وأمثالهما ،لمـا احتج
ل لكنا مأمورين بالرضا بها ،والرضـال مأمور به ،فلو كانت المعاصي /بقضاء ا ّعليهم القدرية بأن الرضا بقضاء ا ّ
ل عنه ل يجـوز فأجابهم أهـل السنة عن ذلك بثلثة أجوبة:بما نهى ا ّ
أحدها ـ وهو جواب هؤلء وجماهير الئمة ـ :أن هذا العموم ليس بصحيح ،فلسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضى
ل ورسوله.
وقدر ،ولم يجئ في الكتاب والسنة أمر بذلك ،ولكن علينا أن نرضي بما أمرنا أن نرضى به ،كطاعة ا ّ
وهذا هو الذي ذكره أبو القاسم.
الثالث :أنهم قالوا :هذه المعاصي لها وجهان :وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه ،ووجه إلى الرب من
ل ،ول يرضى من الوجه الذي يضاف به حيث هو خلقها وقضاها وقدرها ،فيرضى من الوجه الذي يضاف به إلى ا ّ
إلى العبد ،إذ كونها شًرا وقبيحة ومحرًما وسبًبا للعذاب والذم ونحو ذلك إنما هو من جهة كونها مضافة إلى العبد.
وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والسرار ما قد ذكرنا منه ما قد ذكرناه في غيرهذا الموضع ،ول يحتمله هذا المكان.
فإن /هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر ،وهي من أعظم مطالب الدين وأشرف علوم الولين والخرين وأدقها على
عقول أكثر العالمين.
والمقصود هنا أن مشائخ الصوفية والعلماء وغيرهم قد بينوا أن من الرضا ما يكون جائًزا ،ومنه مال يكون جائًزا
ضا.
فضل عن كونه مستحًبا أو من صفات المقربين ،وإن أبا القاسم ذكر ذلك في ]الرسالة[ أي ً
قيل :غلطوا في ذلك لنهم رأوا أن الراضي بأمر ل يطلب غير ذلك المر ،فالعبد إذا كان في حال من الحوال فمن
رضاه أل يطلب غير تلك الحال ،ثم إنهم رأوا أن أقصى المطالب الجنة ،وأقصى المكاره النار .فقالوا :ينبغي أليطلب
شيًئا ولو أنه الجنة ول يكره ما يناله ،ولو أنه النار ،وهذا وجه غلطهم ،ودخل عليهم الضلل من وجهين:
ل ،فجعلوا الرضال ويرضاه /وأن هذا من أعظم طرق أولياء ا ّ أحدهما :ظنهم أن الرضا بكل ما يكون أمر يحبه ا ّ
ل إنمـا هي أن
ل مبيًنا والطـريق إلى ا ّ
ل ،فضلوا ضل ً
بكل حادث وكائن أو بكل حال يكون فيها للعبد طريًقا إلى ا ّ
ترضيه بأن تفعـل مايحبه ويرضاه ليس أن ترضى بكل مـا يحدث ويكـون ،فإنه هو لـم يأمـرك بذلـك ،ول رضيه لـك
ول أحبه؛ بـل هـو ـ سبحانه ـ يكـره ويسخـط ويبغض عـلى أعيـان أفعال موجـودة ل يحصيها إل هو ،وولية ا ّ
ل
موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض ،وتكره ما يكره ،وتسخط ما يسخط ،وتوالي من يوالي ،وتعادي من
ل قد
يعادي ،فإذا كنت تحب وترضى ما يكرهه ويسخطه كنـت عدوه ل ولّيه ،وكان كل ذم نال من رضى ما أسخط ا ّ
نالك.
ل.
فتدبر هذا؛ فإنه ينبه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من ل يحصيهم إل ا ّ
الوجه الثاني :أنهم ل يفرقون بين الدعاء الذي أمروا به أمر إيجاب ،وأمر استحباب ،وبين الدعاء الذي نهوا عنه ،أو
لم يؤمروا به ولم ينهوا عنه ،فإن دعاء العبد لربه ومسألته إياه ثلثة أنواع:
ونوع من الدعاء ينهي عنه :كالعتداء مثل أن يسأل الرجل مال يصلح من خصائص النبياء ،وليس هو بنبي ،وربما
هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى .مثل أن يسأل لنفسه الوسيلة التي ل تصلح إل لعبد من عباده ،أو يسأل ا ّ
ل
تعالى أن يجعله بكل شيء عليًما ،أو على كل شيء قدير ،وأن يرفع عنه كل حجاب يمنعه من مطالعة الغيوب .وأمثال
ذلك ،أو مثل من يدعوه ظاًنا أنه محتاج إلى عباده؛ وأنهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب منه ذلك الفعل ،ويذكر أنه إذا لم
يفعله /حصل له من الخلق ضير .وهذا ونحوه جهل بال واعتداء في الدعاء .وإن وقع في ذلك طائفة من الشيوخ.
ومثل أن يقولوا :اللهم اغفر لي إن شئت ،فيظن أن ال قد يفعل الشىء مكرها ،وقد يفعل مختاًرا ،كالملوك ،فيقول:
اغفر لي إن شئت ،وقد نهي النبي صلى ال عليه وسلم عن ذلك وقال) :ل يقل أحدكم :اللهم اغفر لي إن شئت ،اللهم
ارحمني إن شئت ،ولكن ليعزم المسألة؛ فإن ال ل مكره له( ،ومثل أن يقصد السجع في الدعاء ويتشهق ويتشدق،
وأمثال ذلك فهذه الدعية ونحوها منهي عنها.
والمقصود أن الرضا الذي هو من طريق ال ل يتضمـن ترك واجب ول ترك مستحب ،فالدعاء الذي هو واجب أو
مستحب ل يكون تركه من الرضا ،كما أن ترك سائر الواجبات ل يكون من الرضا المشروع ،ول فعل المحرمات
من المشروع .فقد تبين غلط هؤلء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور ،ومن جهة أنهم لم يميزوا بين
الدعاء المشروع إيجابا ،واستحبابا ،والدعاء غير المشروع.
وقد علم بالضطرار من دين السلم أن طلب الجنة من ال ،والستعاذة به من النار ،هو من أعظم الدعية
المشروعة لجميع المرسلين /والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،وأن ذلك ل يخرج عن كونه واجًبا أو
مستحبا ،وطريق أولياء ال التي يسلكونها ل تخرج عن فعل واجبات ومستحبات؛ إذ ما سوي ذلك محرم أو مكروه أو
مباح ل منفعة فيه في الدين.
ثم إنه لما أوقع هؤلء في هـذا الغلط أنهـم وجـدوا كثيـًرا من الناس ل يسألون ال جلب المنافع ،ودفع المضار ،حتى
طلب الجنة ،والستعاذة من النار ،من جهة كون ذلك عبادة وطاعة وخيًرا ،بل من جهة كون النفس تطلب ذلك ،فرأوا
أن من الطريق ترك ما تختاره النفس وتريـده ،وأل يكـون لحـدهم إرادة أصـل ،بـل يكـون مطلـوبه الجريان تحت
القدر ـ كائًنا من كان ـ وهذا هو الذي أدخل كثيًرا منهم في الرهبانية ،والخروج عن الشرعية ،حتى تركوا من الكل
والشرب واللباس والنكاح ما يحتاجون إليه ،وما ل تتم مصلحة دينهم إل به؛ فإنهم رأوا العامة تعد هذه المور بحكم
الطبع والهوى والعادة ،ومعلوم أن الفعال التي على هذا الوجه ل تكون عبادة ول طاعة ول قربة ،فرأي أولئك
الطريق إلي ال ترك هذه العبادات ،والفعال الطبعيات ،فلزموا من الجوع والسهر والخلوة والصمت وغير ذلك مما
فيه ترك الحظوظ واحتمال المشاق ،ما أوقعهم في ترك واجبات ومستحبات ،وفعل مكروهات ومحرمات.
ل :طريق المفرطين الذين فعلوا هذه الفعال المحتاج /وكل المرين غير محمود ،ول مأمور به ،ول طريق إلى ا ّ
ل ،وطريق المعتدين الذين تركوا هذه الفعال؛ بل المشروع أن تفعل بنية إليها على غير وجه العبادة ،والتقرب إلى ا ّ
حا{ ]المؤمنون ،[51 :وقال تعالىُ} :كُلوا صاِل ً
عَمُلوا َ
ت َوا ْ
طّيَبا ِ ل تعالىُ} :كُلوا ِم ْ
ن ال ّ ل .قال ا ّل ،وأن يشكر ا ّ التقرب إلى ا ّ
ل{ ]البقرة ،[172 :فأمر بالكل والشرب ،فمن أكل ولم يشكر كان مذموًما ،ومن لم شُكُروا ِّ
ت َما َرَزْقَناُكْم َوا ْ
طّيَبا ِ
ن َ
ِم ْ
ل ليرضى عن العبد أن يأكل يأكل ولم يشكر كان مذموًما ،وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إن ا ّ
الكلة فيحمده عليها ،ويشرب الشربة فيحمده عليها( ،وقال النبي صلى ال عليه وسلم لسعد) :إنك لن تنفق نفقة تبتغي
ضا أنه قال) :نفقة
ي امرأتك( ،وفي الصحيح أي ً ل ،إل ازددت بها درجة ورفعة ،حتى اللقمة تضعها في ف ّ بها وجه ا ّ
ل جلب المنفعة له ودفع المضرة عنه المؤمن على أهله يحتسبها صدقة( .فكذلك الدعية هنا من الناس من يسأل ا ّ
عا
عا وعبادة ،فليس من المشروع أن أدع الدعاء مطلًقا لتقصيرهذا وتفريطه؛ بل أفعله أنا شر ً طبًعا وعادة ل شر ً
وعبادة.
عا وعبادة إنما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه ثم اعلم أن الذي يفعله شر ً
ل َرّبَنا آِتَنا ِفي
ن َيُقو ُ
س َم ْ وآخرته؛ بخلف /الذي يفعله طبًعا فإنه إنما يطلب مصلحة دنياه فقط ،كما قال تعالىَ} :فِم ْ
ن الّنا ِ
صي ٌ
ب ك َلُهْم َن ِ
ب الّناِرُ .أْوَلِئ َ
عَذا َ
سَنًة َوِقَنا َ
حَ
خَرةِ َ
لِ
سَنًة َوِفي ا ْ
حَل َرّبَنا آِتَنا ِفي الّدْنَيا َ
ن َيُقو ُ
قَ .وِمْنُهْم َم ْ
لٍخَ
ن َ
خَرِة ِم ْ
الّدْنَيا َوَما َلُه ِفي ال ِ
ب{ ]البقرة [200-202 :وحينئذ فطالب الجنة والمستعيذ من النار إنما يطلب حسنة الخرة
سا ِ
حَ
سِريُع اْل ِ
ل َ
سُبوا َوا ُّ
ِمّما َك َ
فهو محمود.
ومما يبين المر في ذلك أن يرد قول هؤلء :بأن العبد ل يفعل مأموًرا ول يترك محظوًرا .فل يصلي ول يصوم ول
يتصدق ،ول يحج ول يجاهد ول يفعل شيًئا من القربات ،فإن ذلك إنما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب .فإذا كان
هو ل يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة ،ول دفع العقاب الذي هو النار ،فل يفعل مأموًرا ،ول يترك محظوًرا،
ويقول :أنا راض بكل ما يفعله بي وإن كفرت وفسقت وعصيت؛ بل يقول :أنا أكفر وأفسق وأعصى حتى يعاقبني
وأرضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه ،وهذا قول من هو من أجهل الخلق وأحمقهم وأضلهم وأكفرهم.
أما جهله وحمقه؛ فلن الرضى بذلك ممتنع متعذر؛ لن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين.
ول ريب أن ملحظة القضاء والقدر ،أوقعت كثيًرا من أهل الرادة من المتصوفة في أن تركوا من المأمور وفعلوا
من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين ،وإما عاصين فاسقين ،وإما كافرين ،وقد رأيت من ذلك ألوانا.
ل َلُه ُنوًرا َفَما َلُه ِمْن ُنوٍر{ ]النور.[40 :
ل ا ُّ
جَع ْ
ن َلْم َي ْ
}َوَم ْ
وهؤلء المعتزلة ونحوهم من القدرية طرفا نقيض ـ هؤلء يلحظون القدر ويعرضون عن المر .وأولئك يلحظون
المر ويعرضون عن القدر ـ والطائفتان تظن أن ملحظة المر والقدر متعذر .كما أن طائفة تجعل ذلك مخالًفا
للحكمة والعدل .وهذه الصناف الثلثة هي :القدرية المجوسية ،والقدرية المشركية؛ والقدرية البليسية؛ وقد بسطنا
الكلم عليهم في غير هذا الموضع.
وأصل ما يبتلى به السالكون أهل الرادة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركية ،فيشهدون القدر ويعرضون
عن المر ،كما قال فيهم بعض العلماء :أنت عند الطاعة قدري ،وعند المعصية جبري ،أي مذهب وافق هواك
ل عليهـا قبل الفعـل ،ويشكره عليها بعد
تمذهبت به .وإنما المشروع العكس ،وهو أن يكون عند الطاعة يستعين ا ّ
الفعل /ويجتهد أل يعصى فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والستغفار ،كما في حديث سيد الستغفار) :أبوء لك
بنعمتك علي ،وأبوء بذنبي( ،وكما في الحديث الصحيح اللهي) :ياعبادي ،إنماهي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم
ل ،ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل نفسه(.
إياها ،فمن وجد خيًرا فليحمد ا ّ
ومن هذا الباب دخل قوم من أهل الرادة في ترك الدعاء ،وآخرون جعلوا التوكل والمحبة من مقامات العامة ،وأمثال
هذه الغاليط التي تكلمنا عليها في غير هذا الموضع ،وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك؛ ولهذا يوجد في كلم
ل التستري :كل وجد ل يشهد له الكتاب والسنة هؤلء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة ،حتى قال سهل بن عبد ا ّ
فهو باطل .وقال الجنيد بن محمد :علمنا مقيد بالكتاب والسنة؛ فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث ل يصح أن يتكلم في
ل أعلم.
علمنا ،وا ّ
ما تقول السادة العلماء فيمن عزم على فعل محرم ،كالزنا والسرقة ،وشرب الخمر عزًما جازًما فعجز عن /
فعله :إما بموت ،أو غيره .هل يأثم بمجرد العزم أم ل؟ وإن قلتم :يأثم ،فما جواب من يحتج على عدم الثم بقوله) :إذا
ل تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها ،مالم تعمل أوهم عبدي بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه) )(1وبقوله ( :إن ا ّ
تتكلم( واحتج به من وجهين:
أحدهما :أنه أخبر بالعفو عن حديث النفس ،والعزم داخل في العموم والعزم والهم واحد .قاله ابن سيده.
الثاني :أنه جعل التجاوز ممتدا إلى أن يوجد كلم أوعمل ،وما قبل ذلك داخل في حد التجاوز ،ويزعم أل دللة في
قول النبي صلى ال عليه وسلم) :إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار(؛ لن الموجب لدخول
المقتول في النار مواجهته أخيه ،لنه عمل ل مجرد قصد ،وأل دللة في قوله صلى ال عليه وسلم في الذي قال) :لو
أن لي مال لفعلت وفعلت ،إنهما في الثم سواء وفي الجر سواء(؛ لنه تكلم / ،والنبي صلى ال عليه وسلم قال) :ما
ل مكشوًفا مستوًفا.
لم تعمل به أو تتكلم( وهذا قد تكلم ،وقد وقع في هذه المسألة كلم كثير .واحتيج إلى بيانها مطو ً
ل ،هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكلم في حكمها إلى حسن التصور لها ،فإن اضطراب الناس في هذه
الحمد ّ
المسائل وقع عامته من أمرين:
والثاني :عدم إعطاء الدلة الشرعية حقها ،ولهذا كثر اضطراب كثير من الناس في هذا الباب ،حتى يجد الناظر في
كلمهم أنهم يدعون إجماعات متناقضة في الظاهر.
فينبغي أن يعلم أن كل واحـد من صفات الحي التي هي العلم والقدرة والرادة ونحوها له من المراتب ما بين أوله
وآخره مال يضبطه العباد :كالشك ،ثم الظن ،ثم العلم ،ثم اليقين ،ومراتبه؛ وكذلك الهم والرادة والعزم وغير ذلك؛
ولهذا كان الصواب عند جماهير أهل السنة ـ وهو /ظاهر مذهب أحمـد ،وهو أصح الروايتين عنه ،وقول أكثر
أصحابه ـ أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان ،بل وكذلك الصفات التي تقوم بغير الحي :كاللوان
ل :الرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها ،إذا كانت القدرة حاصلة فإنه متى والطعوم والرواح .فنقول أو ً
وجدت الرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل ،لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم،
ومتي وجدت الرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الرادة جازمة ،وهو إرادات الخلق لما يقدرون عليه من
الفعال ،ولم يفعلوه ،وإن كانت هذه الرادات متفاوتة في القوة والضعف تفاوًتا كثيًرا؛ لكن حيث لم يقع الفعل المراد
مع وجود القدرة التامة فليست الرادة جازمة جزًما تاًما.
وهذه المسألة إنما كثر فيها النزاع؛ لنهم قدروا إرادة جازمة للفعل ل يقترن بها شىء من الفعل ،وهذا ل يكون .وإنما
يكون ذلك في العزم على أن يفعل ،فقد يعزم على الفعل في المستقبل من ل يفعل منه شيئا في الحال ،والعزم على أن
يفعل في المستقبل ل يكفي في وجود الفعل ،بل لبد عند وجوده من حدوث تمام الرادة المستلزمة للفعل ،وهذه هي
الرادة الجازمة.
والرادة الجازمة إذا فعل معها النسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام :له ثواب الفاعل التام،
وعقاب الفاعل التام /الذي فعل جميع الفعل المراد ،حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته ،مثل
سان
المشتركين والمتعاونين على أفعال البر ،ومنها ما يتولد عن فعل النسان كالداعي إلى هدى أو إلى ضللة ،وال ّ
سنة حسنة ،وسنة سيئة ،كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :من دعا إلى هدى كان له ّ
من الجر مثل أجور من تبعه ،من غير أن ينقص من أجورهم شيء ،ومن دعا إلى ضللة كان عليه من الوزر مثل
أوزار من تبعه ،من غير أن ينقص أوزارهم شىء( ،وثبت عنه في الصحيحين أنه قال) :من سن سنة حسنة كان له
أجرها ،وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ،من غير أن ينقص من أجورهم شيء(.
فالداعي إلى الهدى وإلى الضللة ،هو طالب مريد كامل الطلب والرادة لما دعا إليه ،لكن قدرته بالدعاء والمر،
ل تعالى في كتابه بين الفعال المباشرة والمتولدة فقالَ} :ذِل َ
ك ِبَأّنُهْم َ
ل وقدرة الفاعل بالتباع والقبول؛ ولهذا قرن ا ّ
عَم ٌ
ل ب َلُهْم ِبِه َ
ل ُكِت َ ل ِإ ّعُدّو َنْي ً
ن َ ن ِم ْل َيَناُلو َ
ظ اْلُكّفاَر َو َ
طًئا َيِغي ُ
ن َمْو ِطُئو َ
ل َي َ
ل َو َ
ل ا ِّ
سِبي ِصٌة ِفي َخَم َ ل َم ْ ب َو َص ٌ ل َن َ
ظَمٌأ َو َ
صيُبُهْم َُي ِ
ن َما َكاُنوا
سَحَل َأ ْجِزَيُهْم ا ُّب َلُهْم ِلَي ْ
ل ُكِت َ
ن َواِدًيا ِإ ّطُعو َل َيْق َ
ل َكِبيَرًة َو َ
صِغيَرًة َو َ
ن َنَفَقًة َل ُينِفُقو َ
نَ .و َ
سِني َ
حِجَر اْلُم ْضيُع َأ ْ
ل ُي ِ
ل َ ن ا َّ
ح ِإ ّ
صاِل ٌ
َ
َيْعَمُلوَن{ ]التوبة.[121 ،120 :
فذكر في الية الولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة / ،وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب،
صاِلٌح{ ،فأخبر أن هذه المور التي ل َ عَم ٌ وما يحصل للكفار بهم من الغيظ ،وما ينالونه من العدو .وقالُ} :كِت َ
ب لَُهْم ِبِه َ
تحدث وتتولد من فعلهم وفعل آخر منفصل عنهم يكتب لهم بها عمل صالح ،وذكر في الية الثانية نفس أعمالهم
ب َلُهْم{ فإن هذه نفسها عمل المباشرة التي باشروها بأنفسهم :وهي النفاق ،وقطع المسافة ،فلهذا قال فيهاِ} :إ ّ
ل ُكِت َ
ل هي العليا،ل ،وأن تكون كلمة ا ّ صالح ،وإرادتهم في الموضعين جازمة على مطلوبهم الذي هو أن يكون الدين كله ّ
فما حدث مع هذه الرادة الجازمة من المور التي تعين فيها قدرتهم بعض العانة هي لهم عمل صالح.
وكذلك الداعي إلى الهدى والضللة ،لما كانت إرادته جازمة كاملة في هدي التباع وضللهم ،وأتى من العانة على
ذلك بما يقدر عليه ،كان بمنزلة العامل الكامل ،فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه :للهادي مثل أجور المهتدين،
وللمضل مثل أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة؛ فإن السنة هي ما رسم للتحري ،فإن السان كامل
الرادة لكل ما يفعل من ذلك ،وفعله بحسب قدرته .
ومن هذا :قوله في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ل تقتل نفس ظلًما إل
كان على ابن آدم الول كفل من دمها؛ لنه أول من سن القتل( ،فالكفل /النصيب مثل نصيب القاتل .كما فسره
الحديث الخر ،وهو كما استباح جنس قتل المعصوم ،لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة ،فصار شريًكا في
ض َفَكَأّنَما َقَت َ
ل لْر ِ
ساٍد ِفي ا َْ
س َأْو َف َ
سا ِبَغْيِر َنْف ٍ
ل َنْف ً
ن َقَت َ
ل َأّنُه َم ْ
سَراِئي َ
عَلى َبِني ِإ ْ
ك َكَتْبَنا َ
ل َذِل َ
جِ قتل كل نفس ،ومنه قوله تعالىِ} :م ْ
ن َأ ْ
س َجِميًعا{ ]المائدة.[32 : حَيا الّنا َ
حَياَها َفَكَأّنَما َأ ْ
ن َأ ْ
س جَِميًعا َوَم ْ
الّنا َ
يءٍ
ش ْ
ن َ
طاَياُهْم ِم ْ
خَ
ن َ
ن ِم ْ
حاِمِلي َ
طاَياُكْم َوَما ُهْم ِب َ
خَ
ل َ
حِم ْ
سِبيَلَنا َوْلَن ْ
ن آَمُنوا اّتِبُعوا َ
ن َكَفُروا ِلّلِذي َ ومن هذا الباب قوله تعالىَ} :وَقا َ
ل اّلِذي َ
ِإّنُهْم َلَكاِذُبوَنَ .وَلَيْحِمُلّن َأْثَقاَلُهْم َوَأْثَقاًل َمَع َأْثَقاِلِهْم َوَلُيْسَأُلّن َيْوَم اْلِقَياَمِة َعّما َكاُنوا َيْفَتُروَن{ ] العنكبوت [13 ،12 :فأخبر أن أئمة
الضلل ل يحملون من خطايا التباع شيًئا ،وأخبر أنهم يحملون أثقالهم ،وهي أوزار التباع ،من غير أن ينقص من
أوزار التباع شيء؛ لن إرادتهم كانت جازمة بذلك ،وفعلوا مقدورهم ،فصار لهم جزاء كل عامل؛ لن الجزاء على
العمل يستحق مع الرادة الجازمة ،وفعل المقدور منه.
وهو كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان / :أن النبي صلى ال عليه وسلم كتب إلى هرقل:
)فإن توليت فإن عليك إثم الريسيين( ،فأخبر أن هرقل لما كان إمامهم المتبوع في دينهم أن عليه إثم الريسيين ،وهم
التباع ،وإن كان قد قيل :أن أصل هذه الكلمة من الفلحين والكرة ،كلفظ الطاء بالتركي ،فإن هذه الكلمة تقلب إلى ما
هو أعم من ذلك ،ومعلوم أنه إذا تولى عن اتباع الرسول كان عليه مثل آثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء كما
دل عليه سائر نصوص الكتاب والسنة.
ضّلوَنُهم{ ]النحل [25 :هي الوزار الحاصلة لضلل التباع ،وهي حاصلة من جهة المر،
ن ُي ِ فقولهَ} :وِم ْ
ن َأْوَزاِر اّلِذي َ
ومن جهة المأمور الممتثل ،فالقدرتان مشتركتان في حصول ذلك الضلل؛ فلهذا كان علي هذا بعضه ،وعلى هذا
بعضه ،إل أن كل بعض من هذين البعضين هو مثل وزر عامل كامل ،كما دلت عليه سائر النصوص ،مثل قوله/ :
)من دعا إلى الضللة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة(.
حّتى ِإَذا
خَتَها َ
ت ُأ ْ
ت ُأّمٌة َلَعَن ْ
خَل ْ
س ِفي الّناِر ُكّلَما َد َ لن ِ ن َوا ِْجّ ن اْل ِ
ن َقْبِلُكْم ِم ْ
ت ِم ْ
خَل ْ
خُلوا ِفي ُأَمٍم َقْد َ ومن هذا الباب قوله تعالىَ} :قا َ
ل اْد ُ
ن{ ل َتْعَلُمو َ
ن َ ف َوَلِك ْ
ضْع ٌل ِ ل ِلُك ّ
ن الّناِر َقا َضْعًفا ِم ْ
عَذاًبا ِ ضّلوَنا َفآِتِهْم َلِء َأ َلُهْم َرّبَنا َهُؤ َ
لو َخَراُهْم ُِ
ت ُأ ْ
جِميًعا َقاَل ْ
اّداَرُكوا ِفيَها َ
]العراف.[38 :
فأخبر ـ سبحانه ـ أن التباع دعوا على أئمة الضلل بتضعيف العذاب ،كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالىَ} :وَقاُلوا
ب َواْلَعْنُهْم َلْعًنا َكِبيًرا{ ]الحزاب.[68 ،67 :وأخبر ـ
ن اْلَعَذا ِ
ن ِم ْ
ضْعَفْي ِ
لَ .رّبَنا آِتِهْم ِ
سِبي َ
ضّلوَنا ال ّ
ساَدَتَنا َوُكَبَراَءَنا َفَأ َ
طْعَنا َ
َرّبَنا ِإّنا َأ َ
سبحانه ـ أن لكل من المتبعين والتباع تضعيًفا من العذاب .ولكن ل يعلم التباع التضعيف.
ولهذا وقع عظيم المدح والثناء لئمة الهدى ،وعظيم الذم واللعنة لئمة الضلل ،حتى روى في أثر ـ ل يحضرني
إسناده ـ) :أنه ما من عذاب في النار إل يبدأ فيه بإبليس ثم يصعد بعد ذلك إلى غيره ،وما من نعيم في الجنة إل يبدأ فيه
بالنبي صلى ال عليه وسلم ثم ينتقل إلى غيره( فإنه هو المام المطلق في الهدى لول بني آدم وآخرهم .كما قال) :أنا
سيد ولد آدم ول فخر ،آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة /ول فخر( ،وهو شفيع الولين والخرين في الحساب
ل عليهم ميثاق اليمان به كما أخذ على كل نبي بينهم ؛ وهو أول من يستفتح باب الجنة ،وذلك أن جميع الخلئق أخذ ا ّ
حْكَمٍة ُثّم
ب َو ِ
ن ِكَتا ٍ
ن َلَما آَتْيُتُكْم ِم ْ
ق الّنِبّيي َ
ل ِميَثا َ أن يؤمن بمن قبله من النبياء ؛ ويصدق بمن بعده ،قال تعالىَ} :وِإْذ َأ َ
خَذ ا ُّ
صُرّنُه{ الية ]آل عمران .[81 :فافتتح الكلم باللم الموطئة للقسم التي يؤتي ن ِبِه َوَلَتْن ُ
ق ِلَما َمَعُكْم َلُتْؤِمُن ّ
صّد ٌ
ل ُم َ
سو ٌ
جاَءُكْم َر ُ
َ
بها إذا اشتمل الكلم على قسم وشرط؛ وأدخل اللم على ما الشرطية ليبين العموم ،ويكون المعنى :مهما آتيكم من
ل نبيا إل أخذ كتاب وحكمة فعليكم إذا جاءكم ذلك النبي المصدق اليمان به ونصره .كما قال ابن عباس :ما بعث ا ّ
عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.
ل ـ تعالى ـ قد نوه بذكره وأعلنه في المل العلى ،ما بين خلق جسد آدم ونفخ الروح فيه ،كما في حديث ميسرة وا ّ
ل! متى كنت نبًيا؟ وفي رواية ـ متى كتبت نبًيا ؟ فقال) :وآدم بين الروح والجسد( رواه
الفجر قال ، :قلت :يا رسول ا ّ
أحمد .وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
ل لخاتم النبيين ،وإن آدم لمنجدل في طينته( الحديث.
قال) :إني عند ا ّ
ل وقدر في ذلك الوقت ،وفي تلك الحال أمر إمام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق
/فكتب ا ّ
جسده ونفخ الروح فيه ،كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود .
فمن آمن به من الولين والخرين أثيب على ذلك ،وإن كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظـم من
ثـواب من لم يأت إل باليمان المجمل ،على أنه إمام مطلق لجميع الذرية ،وإن له نصيبا من إيمان كل مؤمن من
الولين والخرين ،كما أن كل ضلل وغواية في الجن والنس لبليس منه نصيب ،فهذا يحقق الثر المروي ويؤيد
ل ـ إما من مراسيل الزهري ،وإما
ما في نسخة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن النبي صلى ال عليه وسلم مرس ً
من مراسيل من فوقه من التابعين ـ قال) :بعثت داعًيا وليس إلى من الهداية شيء ،وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس
إليه من الضللة شيء(.
ومما يدخل في هذا الباب من بعض الوجوه :قوله في الحديث الذي في السنن) :وزنت بالمة فرجحت ،ثم وزن أبو
بكر بالمة فرجح ،ثم وزن عمر بالمة فرجح ،ثم رفع الميزان(.
حا بالمة فظاهر ؛ لن له مثل أجر جميع المة مضافا إلى أجره .وأما أبو فأما كون النبي صلى ال عليه وسلم راج ً
بكر وعمر؛ فلن لهما /معاونة مع الرادة الجازمة في إيمان المة كلها ،وأبو بكر كان في ذلك سابًقا لعمر وأقوى
إرادة منه ،فإنهما هما اللذان كانا يعاونان النبي صلى ال عليه وسلم على إيمان المة في دقيق المور وجليلها؛ في
محياه وبعد وفاته.
ولهذا سأل أبو سفيان يوم أحد :أفي القوم محمد؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي) :ل
ل! إن الذي ذكرت لحياء وقد بقى تجيبوه( .فقال :أما هؤلء فقد كفيتموهم .فلم يملك عمر نفسه أن قال :كذبت ياعدو ا ّ
لك ما يسوؤك رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب ،فأبو سفيان ـ رأس الكفر حينئذ ـ لم يسأل إل عن
هؤلء الثلثة؛ لنهم قادة المؤمنين .كما ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب لما وضعت جنازة عمر قال :والّ
ل مع صاحبيك، ل إني لرجو أن يحشرك ا ّ ل بعمله من هذا المسجي ،وا ّ
ما على وجه الرض أحد أحب أن ألقي ا ّ
فإني كثيًرا ما كنت أسمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول) :دخلت أنا وأبو بكر وعمر ،وخرجت أنا وأبو بكر وعمر،
وذهبت أنا وأبو بكر وعمر(.
وأمثال هذه النصوص كثيرة ،تبين سبب استحقاقهما أن كان لهما مثل أعمال جميع المة ،لوجود الرادة الجازمة مع
التمكن من القدرة /على ذلك كله ،بخلف من أعان على بعض ذلك دون بعض ،ووجدت منه إرادة في بعض ذلك
دون بعض.
ضا فالمريد إرادة جازمة مع فعل المقدور هو بمنزلة العامل الكامل ،وإن لم يكن إماًما وداعًيا ،كما قال سبحانه:
وأي ً
ن ِبَأْمَواِلِهْم
جاِهِدي َ
ل اْلُم َ
ل ا ُّ
ضَ
سِهْم َف ّ
ل ِبَأْمَواِلِهْم َوَأنُف ِ
ل ا ِّ
سِبي ِ
ن ِفي َجاِهُدو َ ضَرِر َواْلُم َ
غْيُر ُأْوِلي ال ّ
ن َن اْلُمْؤِمِني َ
ن ِم ْعُدو َ
سَتِوي اْلَقا ِل َي ْ
}َ
حَمًة
ت ِمْنُه َوَمْغِفَرًة َوَر ْجا ٍ ظيًماَ .دَر َ
عِجًرا َ ن َأ ْعِدي َعَلى اْلَقا ِن َجاِهِدي َ
ل اْلُم َ
ل ا ُّ
ضَسَنى َوَف ّ حْ
ل اْل ُ
عَد ا ُّ
ل َو َ
جًة َوُك ّن َدَر َ عِدي َ
عَلى اْلَقا ِ
سِهْم ََوَأنُف ِ
ل َغُفوًرا َرِحيًما{ ]النساء.[96 ،95 : ن ا ُّ
َوَكا َ
ل ـ تعالى ـ نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز ،ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز، فا ّ
بل يقال :دليل الخطاب يقتضى مساواته إياه .ولفظ الية صريح .استثنى أولو الضرر من نفي المساواة ،فالستثناء هنا
هو من النفي ،وذلك يقتضي أن أولى الضرر قد يساوون القاعدين ،وإن لم يساووهم في الجميع ،ويوافقه ما ثبت عن
النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك) :إن بالمدينة رجال ما سرتم مسيرا ول قطعتم واديا إل كانوا
معكم( .قالوا :وهم بالمدينة .قال) :وهم بالمدينة حبسهم العذر( ،فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إل العذر هو
مثل من معهم في هذه الغزوة .ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته / ،فكذلك
القاعدون الذين لم يحبسهم إل العذر.
ومن هذا الباب :ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إذا مرض العبد أو
سافر؛ كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم( ،فإنه إذا كان يعمل في الصحة والقامة عمل ثم لم يتركه إل لمرض
أو سفر؛ ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة ،ل لضعف النية وفتورها ،فكان له من الرادة الجازمة التي لم
يتخلف عنها الفعل إل لضعف القدرة ،ما للعامل والمسافر وإن كان قادًرا مع مشقة كذلك بعض المرض ،إل أن القدرة
ع
طا َ
سَت َ
نا ْ
ت َم ْ
ج اْلَبْي ِ
حّ
س ِ
عَلى الّنا ِ الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة ،كما في قوله تعالىَ} :و ِّ
ل َ
طَعاُم ِسّتيَن ِمْسِكيًنا{ ]المجادلة ،[4 :ونحو ذلك ليس المعتبر في طْع َفِإ ْ
سَت ِ ل{ ]آل عمران ،[97 :وقولهَ} :فَم ْ
ن َلْم َي ْ سِبي ً
ِإَلْيِه َ
الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان ،بل لبد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة ،بل أو
مكافية.
ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال) :من جهز غازًيا فقد غزا ،ومن خلفه في أهله بخير فقد
غزا( ،وقوله) :من فطر صائًما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء( ،فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس،
وجهاد بالمال ،فإذا بذل هذا بدنه ،وهذا ماله مع وجود الرادة الجازمة في كل منهما؛ كان كل منهما مجاهًدا /بإرادته
ضا غاز ،وكذلك الجازمة ومبلغ قدرته ،وكذلك لبد للغازي من خليفة في الهل ،فإذا خلفه في أهله بخير فهو أي ً
الصيام لبد فيه من إمساك ،ول بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم ،وإل فالصائم الذي ل يستطيع العشاء ل يتمكن
من الصوم.
وكذلك قوله في الحديث الصحيح) :إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة ،كان لها أجرها بما أنفقت ،ولزوجها
مثل ذلك ،ل ينقص بعضهم من أجور بعض شيًئا( وكذلك قوله في حديث أبي موسى) :الخازن المين الذي يعطي ما
أمر به كامل موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين( أخرجاه .وذلك أن إعطاء الخازن المين الذي يعطي ما أمر به
موفًرا طيبة به نفسه ل يكون إل مع الرادة الجازمة الموافقة لرادة المر ،وقد فعل مقدوره وهو المتثال ،فكان أحد
المتصدقين.
ومن هذا الباب حديث أبي كبشة النماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :إنما الدنيا
ل( ،فقال رجل :لو أن لي مثل فلن لعملت بعمله ،فقال النبيل علما ومال فهو يعمل فيه بطاعة ا ّ
لربعة :رجل آتاه ا ّ
صلى ال عليه وسلم) :فهما في الجر سواء( ،وقد رواه الترمذي مطول ،وقال :حديث حسن صحيح ،فهذا التساوي
ل منه إرادة جازمة ل يتخلف عنها
مع )الجر والوزر( هو في حكاية حال من قال ذلك / ،وكان صادًقا فيه ،وعلم ا ّ
الفعل إل لفوات القدرة؛ فلهذا استويا في الثواب والعقاب.
وليس هذه الحال تحصل لكل من قال) :لو أن لي ما لفلن لفعلت مثل ما يفعل( إل إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود
الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة ،وإل فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم ،لو اقترنت به القدرة لنفسخت
عزيمته ،كعامة الخلق يعاهدون وينقضون ،وليس كل من عزم على شيء عزًما جازًما قبل القدرة عليه وعدم
ن َقْبلِ
ت ِم ْالصوارف عن الفعل تبقى تلك الرادة عند القدرة المقارنة للصوارف ،كما قال تعالىَ} :وَلَقْد ُكْنُتْم َتَتَمّنْون اْلَمْو َ
ن{ ن َما لَ َتْفَعُلو َن َآَمُنوا ِلَم َتُقوُلو َن{ ]آل عمران ،[143 :وكما قال تعالىَ} :ياَأّيَها اّلِذي َ ظُرو َ ن َتْلَقْوهُ َفَقْد َرَأْيُتُموُه َوَأْنُتْم َتْن ُ
َأ ْ
خُلوا ِبِه
ضِلِه َب ِ
ن َف ْ نَ .فَلّما آَتاُهْم ِم ْ حي َ
صاِل ِ
ن ال ّن ِم ْ ن َوَلَنُكوَن ّ
صّدَق ّ
ضِلِه َلَن ّ
ن َف ْ
ن آَتاَنا ِم ْ
ل َلِئ ْ
عاَهَد ا َّ ]الصف ،[2 :وكما قالَ} :وِمْنُهْم َم ْ
ن َ
ضوَن{ ]التوبة.[76 ،75 : َوَتَوّلوا وَُهْم ُمْعِر ُ
ل بنوحديث أبي كبشة في النيات مثل حديث البطاقة في الكلمات .وهو الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد ا ّ
ل له يوم القيامة تسعة
ل من أمة النبي صلى ال عليه وسلم ينشر ا ّعمرو عن النبي صلى ال عليه وسلم :أن رج ً
وتسعين سجل كل سجل منها مدى البصر ،ويقال له :هل تنكر من هذا شيًئا؟ هل ظلمتك؟ فيقول / :ل يارب .فيقال له:
ل ظلم عليك اليوم ،فيؤتي ببطاقة فيها التوحيد فتوضع في كفة والسجلت في كفة ،فطاشت السجلت وثقلت البطاقة(.
فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والخلص والصفاء وحسن النية ،إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في
الصورة الظاهرة ،فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما.
صل
َف ْ
وبهذا تبين أن الحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل وأمثالها ،إنما هي فيما دون الرادة الجازمة التي لبد أن
يقترن بها الفعل ،كما في الصحيحين عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس عن النبي صلى ال عليه وسلم ،فيما
ل كتب الحسنات والسيئات ،ثم بين ذلك ،فمن هم بحسنة فلم يعملها، يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال) / :إن ا ّ
ل عنده عشر حسنات ،ومن هم بسيئة ولم يعملها؛ كتبها له ا ّ
ل ل عنده حسنة كاملة ،فإن هم بها وعملها؛ كتبها ا ّ كتبها ا ّ
ل له عنده سيئة واحدة( وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة. حسنة كاملة ،فإن هم بها وعملها؛ كتبها ا ّ
فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل؛ ولهذا قال) :فعملها() ،فلم يعملها( ومن أمكنه الفعل فلم يفعل؛ لم تكن إرادته
جازمة ،فإن الرادة الجازمة مع القدرة مستلزمة للفعل ،كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل ،وموجب له ،إذ لو
توقف على شيء آخر؛ لم تكن الرادة الجازمة مع القدرة تامة كافية في وجود الفعل ،ومن المعلوم المحسوس أن
المر بخلف ذلك ،ول ريب أن ]الهم[ و ]العزم[ و ]الرادة[ ونحو ذلك قد يكون جازًما ل يتخلف عنه الفعل إل
للعجز ،وقد ل يكون هذا على هذا الوجه من الجزم.
فهذا القسم الثاني يفرق فيه بين المريد والفاعل ،بل يفرق بين إرادة وإرادة ،إذ الرادة هي عمل القلب الذي هو ملك
الجسد ،كما قال أبو هريرة :القلب ملك ،والعضاء جنوده ،فإذا طاب الملك؛ طابت جنوده ،وإذا خبث الملك؛ خبثت
جنوده .وتحقيق ذلك ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى ال عليه وسلم) / :إن في الجسد
مضغة إذا صلحت؛ صلح لها سائر الجسد ،وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد أل وهي القلب( .فإذا هم بحسنة فلم يعملها
كان قد أتى بحسنة ،وهي الهم بالحسنة فتكتب له حسنة كاملة ،فإن ذلك طاعة وخير ،وكذلك هو في عرف الناس كما
قيل:
ل له عشر حسنات ،لما مضى من رحمته أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ،إلى سبعمائة فإن عملها كتبها ا ّ
حّبٍة{
سْنُبَلٍة ِماَئُة َ
ل ُ
ل ِفي ُك ّ
سَناِب َ
سْبَع َ
ت َ
حّبٍة َأْنَبَت ْ
ل َ
ل َكَمَث ِ
ل ا ِّ
سِبي ِ
ن َأْمَواَلُهْم ِفي َ
ن ُينِفُقو َ
ل اّلِذي َ
ضعف ،كما قال تعالىَ} :مَث ُ
]البقرة ،[261 :وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لمن جاء بناقة) :لك بها يوم القيامة سبعمائة
عا) :أنه يعطى به ألف ألف حسنة(. ناقة مخطومة مزمومة( إلى أضعاف كثيرة .وقد روى عن أبي هريرة مرفو ً
ل ل يكتبها عليه كما أخبر به في الحديث الصحيح ،وسواء وأما الهام بالسيئة الذي لم يعملها وهو قادر عليها ،فإن ا ّ
سمى همه إرادة أو عزًما أو لم يسم ،متى كان قادًرا على الفعل وهم به وعزم عليه ولم يفعله مع القدرة فليست إرادته
ل تجاوزجازمة ،وهذا موافق لقوله في الحديث الصحيح /ـ حديث أبي هريرة ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم) :إن ا ّ
لمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به( .فإن ما هم به العبد من المور التي يقدر عليها من الكلم والعمل
ل عليه ،كما شهد به قوله) :من هم بسيئة فلم
ولم يتكلم بها ولم يعملها لم تكن إرادته لها جازمة ،فتلك مما لم يكتبها ا ّ
يعملها( ،ومن حكى الجماع كابن عبد البر وغيره في هذه المسألة على هذا الحديث فهو صحيح بهذا العتبار.
ل له عنده
ل؛ كتبها ا ّ
ل وخوفه ،أو يتركها لغير ذلك ،فإن تركها لخشية ا ّ
وهذا الهام بالسيئة ،فإما أن يتركها لخشية ا ّ
حسنة كاملة كما قد صرح به في الحديث ،وكما قد جاء في الحديث الخر) :اكتبوها له حسنة ،فإنما تركها من أجلي(،
أو قال) :من جرائي( ،وأما إن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة ،كما جاء في الحديث الخر) :فإن لم يعملها لم
تكتب عليه( .وبهذا تتفق معاني الحاديث.
ل تعالى ل يضعف السيئات بغير عمل صاحبها ،ول يجزي النسان وإن عملها لم تكتب عليه إل سيئة واحدة ،فإن ا ّ
جَهّنَم
ن َ
لّلْم َ
في الخرة إل بما عملت نفسه ،ول تمتلئ جهنم إل من أتباع إبليس من الجنة والناس ،كما قال تعالىَ } :
ن{ ]ص[85 :؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس) :إن الجنة يبقى جَمِعي َ
ك ِمْنُهْم َأ ْ
ن َتِبَع َ
ك َوِمّم ْ
ِمْن َ
ل لها أقواًما في الخرة ،وأما النار فإنه ينزوي بعضها إلى /بعض حتى يضع عليها قدمه فتمتلئ فيها فضل فينشئ ا ّ
بمن دخلها من أتباع إبليس(.
ولهذا كان الصحيح المنصوص عن أئمة العدل كأحمد وغيره الوقف في أولد المشركين ،وأنه ل يجزم لمعين منهم
بجنة ول نار ،بل يقال فيهم كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديثين الصحيحين :حديث أبي هريرة وابن
عباس) :ال أعلم بما كانوا عاملين( .فحديث أبي هريرة في الصحيحين ،وحديث ابن عباس في البخاري ،وفي حديث
سمرة ابن جندب الذي رواه البخاري) :إن منهم من يدخل الجنة( ،وثبت) :أن منهم من يدخل النار( كما في صحيح
مسلم في قصة الغلم الذي قتله الخضر ،وهذا يحقق ما روى من وجوه :أنهم يمتحنون يوم القيامة فيظهر على علم الّ
فيهم ،فيجزيهم حينئذ على الطاعة والمعصية ،وهذا هو الذي حكاه الشعري عن أهل السنة والحديث واختاره.
وأما أئمة الضلل ـ الذين عليهم أوزار من أضلوه ـ ونحوهم ،فقد بينا أنهم إنما عوقبوا لوجود الرادة الجازمة مع
التمكن من الفعل؛ بقوله في حديث أبي كبشة) :فهما في الوزر سواء( ،وقوله) :من دعا إلى ضللة كان عليه من
الوزر مثل أوزار من تبعه( ،فإذا وجدت الرادة الجازمة ،والتمكن من الفعل صاروا بمنزلة الفاعل التام ،والهام
بالسيئة التي لم يعملها مع قدرته عليها لم توجد منه إرادة جازمة ،وفاعل /السيئة التي تمضي ل يجزي بها إل سيئة
واحدة ،كما شهد به النص ،وبهذا يظهر قول الئمة حيث قال المام أحمد) :الهم( همان :هم خطرات ،وهم إصرار.
فهم الخطرات يكون من القادر ،فإنه لو كان همه إصراًرا جازًما وهو قادر لوقع الفعل.
ل تجاوز لمتي عما حدثت بها أنفسها مالم تكلم به أو تعمل( ل ينافي العقوبة على الرادة وعلى هذا فقوله) :إن ا ّ
الجازمة التي لبد أن يقترن بها الفعل ،فإن الرادة الجازمة هي التي يقترن بها المقدور من الفعل ،وإل فمتى لم يقترن
بها المقدور من الفعل لم تكن جازمة ،فالمريد الزنا والسرقة وشرب الخمر العازم على ذلك متى كانت إرادته جازمة
عازمة فلبد أن يقترن بها من الفعل ما يقدر عليه ،ولو أنه يقربه إلى جهة المعصية ،مثل تقرب السارق إلى مكان
المال المسروق ،ومثل نظر الزاني واستماعه إلى المزني به ،وتكلمه معه ،ومثل طلب الخمر والتماسها ونحو ذلك،
فلبد مع الرادة الجازمة من شىء من مقدمات الفعل المقدور ،بل مقدمات الفعل توجد بدون الرادة الجازمة عليه،
كما قال النبي صلى ال عليه وسلم ،في الحديث المتفق عليه) :العينان تزنيان وزناهما النظر ،واللسان يزني وزناه
النطق ،واليد تزني وزناها البطش ،والرجل تزني وزناها المشي ،والقلب يتمنى ويشتهي ،والفرج يصدق ذلك أو
يكذبه( ،وكذلك حديث أبي بكرة المتفق عليه) :إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار( .قيل :يارسول
صا على قتلل! هذا القاتل ،فما بال المقتول؟ /قال) :إنه أراد قتل صاحبه( وفي رواية في الصحيحين) :إنه كان حري ً ا ّ
صاحبه(.
فإنه أراد ذلك إرادة جازمة فعل معها مقدوره ،منعه منها من قتل صاحبه العجز ،وليست مجرد هم ول مجرد عزم
على فعل مستقبل ،فاستحق حينئذ النار ،كما قدمنا من أن الرادة الجازمة التي أتى معها بالممكن يجري صاحبها
مجرى الفاعل التام.
والرادة التامة قد ذكرنا أنه لبد أن يأتي معها بالمقدور أو بعضه وحيث ترك الفعل المقدور فليست جازمة ،بل قد
تكون جازمة فيما فعل دون ما ترك ،مع القدرة ،مثل الذي يأتي بمقدمات الزنا :من اللمس ،والنظر والقبلة ،ويمتنع
عن الفاحشة الكبرى ؛ ولهذا قال في حديث أبي هريرة الصحيح) :العين تزنى ،والذن تزني ،واللسان يزني ـ إلى أن
قال ـ :والقلب يتمنى ويشتهي( أي يتمنى الوطء ويشتهيه ،ولم يقل :يريد ،ومجرد الشهوة والتمني ليس إرادة جازمة،
ول يستلزم وجود الفعل ،فل يعاقب على ذلك ،وإنما يعاقب إذا أراد إرادة جازمة مع القدرة والرادة الجازمة التي
يصدقها الفرج.
ل صلى ال ومن هذا الحديث الذي في الصحيحين عن ابن مسعود :أن رجل أصاب من امرأة قبلة ،فأتى رسول ا ّ
ت{سّيَئا ِ
ن ال ّ
ت ُيْذِهْب َ
سَنا ِ
حَ
ن اْل َ
ل ِإ ّ
ن الّلْي ِ
طَرِفي الّنَهاِر َوُزَلًفا ِم ْ
لَة َ
صَل تعالىَ} :وَأِقْم ال ّ
عليه وسلم فذكر ذلك /له ،فأنزل ا ّ
الية ]هود [114 :فقال الرجل :ألى هذه ؟ فقال) :لمن عمل بها من أمتي( .فمثل هذا الرجل وأمثاله لبد في الغالب أن
يهم بما هو أكبر من ذلك ،كما قال) :والقلب يتمنى ويشتهي ،والفرج يصدق ذلك أو يكذبه( .لكن إرادته القلبية للقبلة
كانت إرادة جازمة ،فاقترن بها فعل القبلة بالقدرة ،وأما إرادته للجماع فقد تكون غير جازمة ،وقد تكون جازمة ،لكن
لم يكن قادرا .والشبه في الذي نزلت فيه الية أنه كان متمكًنا لكنه لم يفعل.
فتفريق أحمد وغيره بين هم الخطرات وهم الصرار هو الذي عليه الجواب ،فمن لم يمنعه من الفعل إل العجز ،فلبد
أن يفعل ما يقدر عليه من مقدماته ،وإن فعله وهو عازم على العود متى قدر فهو مصر؛ ولهذا قال ابن المبارك:
المصر الذي يشرب الخمر اليوم ،ثم ل يشربها إلى شهر ،وفي رواية إلى ثلثين سنة ،ومن نيته أنه إذا قدر على
شربها )شربها( .وقد يكون مصًرا إذا عزم على الفعل في وقت دون وقت ،كمن يعزم على ترك المعاصي في شهر
رمضان دون غيره ،فليس هذا بتائب مطلقا ،ولكنه تارك للفعل في شهر رمضان ،ويثاب إذا كان ذلك الترك ّ
ل
ل ،واجتناب محارمه في ذلك الوقت ،ولكنه ليس من التائبين الذين يغفر لهم بالتوبة مغفرة مطلقة ،ول
وتعظيم شعائر ا ّ
هو مصر مطلًقا .وأما الذي /وصفه ابن المبارك ،فهو مصر إذا كان من نيته العود إلى شربها.
ن ُيِريدُ ن َكا َ
ل ـ سبحانه ـ في القرآن رتب الثواب والعقاب على مجرد الرادة ،كقوله تعالىَ} :م ْ ومما يوضح هذا :أن ا ّ
ن َكا َ
ن حوًرا{ ]السراء ،[18 :وقالَ} :م ْ لَها َمْذُموًما َمْد ُصَ جَهّنَم َي ْ
جَعْلَنا َلُه َ
ن ُنِريُد ُثّم َشاُء ِلَم ْجْلَنا َلُه ِفيَها َما َن َ
عّجَلَة َ اْلَعا ِ
ل الّناُر{خَرِة ِإ ّلِن َلْيسَ َلُهْم ِفي ا ْ
ك اّلِذي َ
نُ .أْوَلِئ َ
سو َخُ
ل ُيْب َ
عَماَلُهْم ِفيَها َوُهْم ِفيَها َ
ف ِإَلْيِهْم َأ ْ
حَياَة الّدْنَيا َوِزيَنَتَها ُنَو ّ
ُيِريُد الْ َ
ث الّدْنَيا ُنؤِتِه ِمْنَها َوَما َلُه
حْر َ
ن ُيِريُد َ
ن َكا َ حْرثِِه َوَم ْ
خَرِة َنِزْد َلُه ِفي َ
ث الْ ِ حْر َن ُيِريُد َ ن َكا َ ]هود ،[16 ،15 :وقالَ} :م ْ
ب{ ]الشورى.[20 : صي ٍ ن َن ِ لخَِرِة ِم ْ ِفي ا ْ
ف ِإَلْيِهمْ
فرتب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة ،ويريد الحياة الدنيا ،ويريد حرث الدنيا ،وقال في آية هودُ} :نَو ّ
ن{ ]هود ،[16 ،15 :فدل على أنه كان لهم أعمال بطلت ،وعوقبوا ل َما َكاُنوا َيْعَمُلو َ
طٌ
عَماَلُهْم ِفيَها{ إلى أن قالَ} :وَبا َِأ ْ
سَعى لخَِرَة َو َ
ن َأَراَد ا ْ
على أعمال أخرى عملوها ،وإن الرادة هنا مستلزمة للعمل ،ولما ذكر إرادة الخرة ،قالَ} :وَم ْ
ن{ ]السراء ،[19 :وذلك لن إرادة الخرة وإن استلزمت عملها فالثواب إنما هو على العمل سْعَيَها َوُهَو ُمْؤِم ٌ
َلَها َ
المأمور به ،ل كل سعي ،ولبد مع ذلك من اليمان.
ن ُتِرْدنَ
ن ُكْنُت ّ
حَياَة الّدْنَيا َوِزينََتَها{ الية ]الحزابَ} ،[28 :وِإ ْ
ن اْل َ
ن ُتِرْد َ
ن ُكْنُت ّ
ك ِإ ْ
جَ
ل لَِْزَوا ِ
ي ُق ْ
ومنه قولهَ} :ياَأّيَها الّنِب ّ
خَرَة{ ]الحزاب ،[29 :فهذا نظير تلك الية التي في سورة هود ،وهذا يطابق قوله) :إذا التقى سوَلُه َوالّداَر الْ ِ ل َورَ ُ
ا َّ
صا على قتل صاحبه( ،فذكر الحرص المسلمان بسيفيهما( إل أنه قال) :فإنه أراد قتل صاحبه( .أو) :إنه كان حري ً
ل عفا لمتي عما حدثت والرادة على القتل وهذا لبد أن يقترن به فعل ،وليس هذا مما دخل في حديث العفو) :إن ا ّ
به أنفسها(.
ومما يبني على هـذا مسألة معروفة ـ بين أهل السنة وأكثر العلماء /وبين بعض القدرية ـ وهي توبة العاجز عن
الفعل ،كتوبة المجبوب عن الزنا ،وتوبة القطع العاجز عن السرقة ،ونحوه من العجز ،فإنها توبة صحيحة عند
جماهير العلماء من أهل السنة وغيرهم .وخالف في ذلك بعض القدرية؛ بناء على أن العاجز عن الفعل ل يصح أن
يثاب على تركه الفعل ،بل يعاقب على تركه وليس كذلك ،بل إرادة العاجز عليها الثواب والعقاب كما بينا ،وبينا أن
الرادة الجازمة مع القدرة تجري مجرى الفاعل التام ،فهذا العاجز إذا أتى بما يقدر عليه من مباعدة أسباب المعصية
بقوله وعمله وهجرانها وتركها بقلبه ،كالتائب القادر عليها سواء ،فتوبة هذا العاجز عن كمال الفعل ،كإصرار العاجز
عن كمال الفعل.
ومما يبني على هذا المسألة المشهورة في الطلق ،وهو أنه لو طلق في نفسه وجزم بذلك ولم يتكلم به ،فإنه ل يقع به
الطلق عند جمهور العلماء .وعند مالك في إحدى الروايتين يقع ،وقد استدل أحمد وغيره من الئمة على ترك الوقوع
ل تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها( فقال المنازع :هذا المتجاوز عنه ،إنما هو حديث النفس ،والجازمبقوله) :إن ا ّ
بذلك في النفس ليس من حديث النفس.
فقال المنازع لهم :قد قال) :ما لم تكلم به أو تعمل به( ،فأخبر أن التجاوز عن حديث النفس امتد إلى هذه الغاية التي
هي الكلم به /والعمل به ،كما ذكر ذلك في صدر السؤال من استدلل بعض الناس وهو استدلل حسن ،فإنه لو كان
حديث النفس إذا صار عزًما ولم يتكلم به أو يعمل يؤاخذ به ؛ لكان خلف النص ،لكن يقال :هذا في المأمور صاحب
المقدرة التي يمكن فيها الكلم والعمل ،إذا لم يتكلم ولم يعمل ،وأما الرادة الجازمة المأتي فيها بالمقدور فتجرى
مجرى التي أتى معها بكمال العمل ،بدليل الخرس لما كان عاجزا عن الكلم ،وقد يكون عاجزا عن العمل باليدين
ونحوهما ،لكنه إذا أتى بمبلغ طاقته من الشارة جرى ذلك مجرى الكلم من غيره ،والحكام والثواب والعقاب وغير
ذلك .
وأما الوجه الخر الذي احتج به وهو أن العزم والهم داخل في حديث النفس المعفو عنه مطلًقا فليس كذلك ،بل إذا
قيل :إن الرادة الجازمة مستلزمة لوجود فعل ما يتعلق به الذم والعقاب وغير ذلك ،يصح ذلك ،فإن المراد إن كان
مقدورا مع الرادة الجازمة؛ وجب وجوده ،وإن كان ممتنًعا فلبد مع الرادة الجازمة من فعل بعض مقدماته ،وحيث
لم يوجد فعل أصل فهو هم ،وحديث النفس ليس إرادة جازمة ولهذا لم يجئ في النصوص العفو عن مسمى الرادة
والحب والبغض والحسد والكبر والعجب وغير ذلك من أعمال القلوب ،إذ كانت هذه العمال حيث وقع عليهم ذم
وعقاب فلنها تمت حتى صارت قول وفعل.
ل تجاوز لمتي( الحديث حق ،والمؤاخذة بالرادات المستلزمة لعمال /وحينئذ قوله صلى ال عليه وسلم) :إن ا ّ
الجوارح حق ،ولكن طائفة من الناس قالوا :إن الرادة الجازمة قد تخلو عن فعل أو قول ،ثم تنازعوا في العقاب
عليها ،فكان القاضي أبو بكر ومن تبعه كأبي حامد وأبي الفرج بن الجوزي يرون العقوبة على ذلك ،وليس معهم دليل
على أنه يؤاخذ إذا لم يكن هناك قول أو عمل.
والقاضي بناها على أصله في اليمان الذي اتبع فيه جهًما والصالحي ،وهو المشهور عن أبي الحسن الشعري ،وهو
ل ورسوله إنما هو كفر في
ل ورسوله بلسانه ،وإن سب ا ّأن اليمان مجرد تصديق القلب ،ولو كذب بلسانه ،وسب ا ّ
الظاهر ،وأن كلما كان كفًرا في نفس المر ،فإنه يمتنع أن يكون معه شيء من تصديق القلب ،وهذا أصل فاسد في
الشرع والعقل ،حتى أن الئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيدة وغيرهم كفروا من قال في اليمان بهذا
القول ،بخلف المرجئة من الفقهاء الذين يقولون :هو تصديق القلب واللسان ،فإن هؤلء لم يكفرهم أحد من الئمة،
وإنما بدعوهم.
وقد بسط الكلم في اليمان وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع ،وبين أن من الناس من يعتقد وجود الشياء بدون
لوازمها ،فيقدر ما ل وجود له.
طا من و جوه:
/وأصل جهم في اليمان تضمن غل ً
ومنها :ظنه ثبوت إيمان قائم في القلب بدون شيء من القوال والعمال.
ومنها :ظنه أن من حكم الشرع بكفره وخلوده في النار ،فإنه يمتنع أن يكون في قلبه شيء من التصديق ،وجزموا بأن
إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن في قلوبهم شيء من ذلك .وهذا كلمهم في الرادة والكراهة والحب والبغض
ضا؛ لزم
ونحو ذلك ،فإن هذه المور إذا كانت هما وحديث نفس فإنه معفو عنه ،وإذا صارت إرادة جازمة وحًبا وبغ ً
وجود الفعل ووقوعه ،وحينئذ فليس لحد أن يقدر وجودها مجردة ،ثم يقول :ليس فيها إثم ،وبهذا يظهر الجواب عن
حجة السائل.
ل يثيب على محبته ومحبة رسوله ،والحب فيه والبغض فيه ،ويعاقب على بغضه وبغض فإن المة مجمعة على أن ا ّ
رسوله ،وبغض أوليائه ،وعلى محبة النداد من دونه ،وما يدخل في هذه المحبة من الرادات /والعزوم ،فإن المحبة
عا آخر مستلزًما للرادة ،فلبد معها من إرادة وعزم ،فل يقال :هذا من حديث عا من الرادة أو نو ً
سواء كانت نو ً
ل ،والبغض في النفس المعفو عنه ،بل كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي) :أوثق عرى اليمان :الحب في ا ّ
ل( ،وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :والذي نفسي بيده ليؤمن أحدكم حتى أكون ا ّ
ل صلى ل بن هشام قال :كنا مع رسول ا ّ أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين( ،وفي صحيح البخاري عن عبد ا ّ
ل أحب إلي من كل شيء ،إل من نفسي. ال عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر :لنت يا رسول ا ّ
فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :ل ،والذي نفسي بيده ! حتى أكون أحب إليك من نفسك( ،فقال عمر :فإنك الن أحب
خَواُنُكْم
ن آَباُؤُكْم َوَأْبَناُؤُكْم َوِإ ْ
ن َكا َ إلي من نفسي .فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :الن ياعمر!( ،بل قد قال تعالىُ} :ق ْ
ل ِإ ْ
سِبيِلِه
جَهاٍد ِفي َ
سوِلِه َو ِ
ل َوَر ُ
ن ا ِّ
ب ِإَلْيُكْم ِم ْ
ح ّ
ضْوَنَها َأ َ
ن َتْر َ
ساِك ُ
ساَدَها َوَم َ
ن َك َ
شْو َ
خَجاَرٌة َت ْ
ل اْقَتَرْفُتُموَها َوِت َ
شيَرُتُكْم َوَأْمَوا ٌ عِجُكْم َو َ
َوَأْزَوا ُ
ل َل َيْهِدي اْلَقْوَم اْلَفاِسِقيَن{ ]التوبة.[24 : ل ِبَأْمِرِه َوا ُّ
ي ا ُّ
حّتى َيْأِت َصوا َ َفَتَرّب ُ
ل ورسوله أحب إليه من سواهما ،وهذا من أصول اليمان المفروضة التي ل يكون العبد مؤمًنا
أحدها :أن يكون ا ّ
بدونها.
والثالث :أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر.
ل ورسوله ،ومحبة المؤمنين فيه، وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علمات صدقه في التوبة هذه الخصال ،محبة ا ّ
ل ورسوله وإن كانت متعلقة بالعيان ليست من أفعالنـا كالرادة المتعلقة بأفعالنا ،فهي مستلزمة لذلك ،فإن من كان ا ّ
أحب إليه من نفسه وأهله وماله لبد /أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة ،مثل إرادته نصر الّ ورسوله ودينه
ل ورسوله. ل ورسوله ،ومثل بغضه لمن يعادي ا ّ والتقريب إلى ا ّ
ومن هذا الباب :مـا استفاض عنه صلى ال عليه وسلم في الصحاح من حديث ابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي
صلى ال عليه وسلم قال) :المرء مع من أحب( ،وفي رواية) :الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم( أي ولما يعمل
بأعمالهم ،فقال) :المرء مع من أحب( .قال أنس :فما فرح المسلمون بشيء بعد السلم فرحهم بهذا الحديث ،فأنا أحب
ل معهم ،وإن لم أعمل عملهم ،وهذا الحديث حق ،فإن النبي صلى ال عليه وسلم وأبا بكر وعمر ،وأرجو أن يجعلني ا ّ
كون المحب مع المحبوب أمر فطري ل يكون غير ذلك ،وكونه معه هو على محبته إياه ،فإن كانت المحبة متوسطة
أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك ،وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك ،والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة
للمحبوب في محابه ،إذا كان المحب قادًرا عليها ،فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر
ذلك ،وإن كانت موجودة.
ل َواْلَيْوِم
ن ِبا ِّ
جُد َقْوًما ُيْؤِمُنو َ وحب الشيء وإرادته يستلزم بغض ضده وكراهته ،مع العلم بالتضاد؛ ولهذا قال تعالىَ } :
ل َت ِ
ل َوَرُسوَلُه{ ]المجادلة ،[22 :والموادة من أعمال القلوب.
حاّد ا َّ
ن َ
ن َم ْ
خِر ُيَواّدو َ
لِاْ
ل ورسوله ،وما ناقض اليمان فإنه ل يستلزم مودته ومودة رسوله ،وذلك يناقض موادة من حاد ا ّفإن اليمان با ّ
ل ورسوله يستلزم الذم والعقاب؛ لجل عدم اليمان .فإن ما ناقض اليمان كالشك والعراض وردة القلب ،وبغض ا ّ
ل به رسوله ،فاستحق تاركه الذم والعقاب وأعظم الواجبات يستلزم الذم والعقاب لكونه تضمن ترك المأمور مما أمر ا ّ
إيمان القلب ،فما ناقضه استلزم الذم والعقاب لتركه هذا الواجب ،بخلف ما استحق الذم لكونه منهًيا عنه كالفواحش
والظلم ،فإن هذا هو الذي يتكلم في الهم به وقصده ،إذا كان هذا ل يناقض أصل اليمان ،وإن كان يناقض كماله ،بل
نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي ،ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات ،ولهذا كانت الصلة تنهى
عن الفحشاء والمنكر ،فالصلة تضمنت شيئين:
ل ورسوله تستلزم وجود محبوباته؛ ولهذا جاء في الحديث الذي في الترمذي) :من /والمقصود هنا أن المحبة التامة ّ
ل ،وهما عمل قلبه،ل ،وبغضه ّل؛ فقد استكمل اليمان( ،فإنه إذا كان حبه ّ
ل ،ومنع ّل ،وأعطى ّ ل ،وأبغض ّ أحب ّ
ل ،ودل ذلك على كمال اليمان؛ وذلك أن كمال ل ،وهما عمل بدنه؛ دل على كمال محبته ّ ل ،ومنعه ّ وعطاؤه ّ
ل وحده ل شريك له ،والعبادة تتضمن كمال الحب ،وكمال الذل ،والحب ل ،وذلك عبادة ا ّ
اليمان أن يكون الدين كله ّ
ل ،وبغضه لمن يبغضه مبدأ جميع الحركات الرادية ،ولبد لكل حي من حب وبغض ،فإذا كانت محبته لمن يحبه ا ّ
ل؛ دل ذلك على صحة اليمان في قلبه ،لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف ،بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها، ا ّ
ل ،ومنعه ل؛ دل على كمال اليمان باطًنا
ل ،وعطاؤه ّ
الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس ،فإذا كان حبه ّ
وظاهًرا.
وقد ذم في كتابه من أحب أندادا من دونه ،قال تعالىَ} :وُأْشِرُبوا ِفي ُقُلوِبِهْم اْلِعْجَل ِبُكْفِرِهْم{ ]البقرة ،[93 :وذم من اتخذ
إلهه هواه وهو أن يتأله ما يهواه ويحبه ،وهذا قد يكون فعل القلب فقط ،وقد مدح تعالى وذم في كتابه في غير موضع
ل{حّبا ِّ
شّد ُ على المحبة والرادة والبغض والسخط والفرح والغم ،ونحو ذلك من أفعال القلوب كقولهَِ} :واّلِذي َ
ن آَمُنوا َأ َ
جَلَة َوَيَذُرو َ
ن ن اْلَعا ِ خَرَة{ ]القيامة / ،[21 ،20 :وقولهُ} :ي ِ
حّبو َ لِ نا ْ
جَلَةَ .وَتَذُرو َ
ن اْلَعا ِ
حّبو َ
ل ُت ِ ]البقرة ،[165 :وقولهَ} :ك ّ
ل َب ْ
ل{ ]النسان.[27 : َوَراَءُهْم َيْوًما َثِقي ً
شَمَأّزتْ حَدُه ا ْ ل َو ْحوا ِبَها{ ]آل عمران ،[120 :وقولهَ} :وِإَذا ُذِكَر ا ُّ سّيَئٌة َيْفَر ُ
صْبُكْم َ ن ُت ِسْؤُهْم َوِإ ْسَنٌة َت ُ
حَسُكْم َ سْ ن َتْم َوقولهِ} :إ ْ
ن{ ]الزمر ،[45 :وقولهَ} :وِإَذا ُتْتَلى َ
عَلْيِهْم آَياُتَنا َبّيَنا ٍ
ت شُرو َسَتْب ِ
ن ُدوِنِه ِإَذا ُهْم َي ْ ن ِم ْخَرِة َوِإَذا ُذِكَر اّلِذي َ
لِ ن ِبا ْ
ل ُيْؤِمُنو َ ن َ ب اّلِذي َ
ُقُلو ُ
ب َلْو
ل اْلِكَتا ِ ن َأْه ِعَلْيِهْم آَياِتَنا{ ]الحج ،[72 :وقولهَ} :وّد َكِثيٌر ِم ْ ن َ ن َيْتُلو َ
ن ِباّلِذي َ
طو َ سُ ن َي ْن َكَفُروا اْلُمْنَكَر َيَكاُدو َجوِه اّلِذي َ ف ِفي ُو ُ َتْعِر ُ
شِرِكي َ
ن ل اْلُم ْ ب َو َ ل اْلِكَتا ِ
ن َأْه ِ سِهْم{ ]البقرة ،[109 :وقولهَ} :ما َيَوّد اّلِذي َ
ن َكَفُروا ِم ْ عْنِد َأنُف ِ
ن ِسًدا ِم ْحَ ن َبْعِد ِإيَماِنُكْم ُكّفاًرا َ
َيُرّدوَنُكْم ِم ْ
ت الّشْوَكِة َتُكوُن َلُكْم{ ]النفال.[7 : غْيَر َذا ِ
ن َ ن َرّبُكْم{ ]البقرة ،[105 :وقولهَ} :وَتَوّدو َ
ن َأ ّ خْيٍر ِم ْ
ن َ عَلْيُكْم ِم ْ
ن ُيَنّزلَ َ َأ ْ
ل َوُهمْن ِإ ّ
ل ُينِفُقو َساَلى َو َل َوُهْم ُك َ
لَة ِإ ّصَ ن ال ّ ل َيْأُتو َسوِلِه َو َ ل َوِبَر ُ ل َأّنُهْم َكَفُروا ِبا ِّ
ل ِمْنُهْم َنَفَقاُتُهْم ِإ ّ وقولهَ} :وَما َمَنَعُهْم َأ ْ
ن ُتْقَب َ
سوَرٌةت ُ عَماَلُهْم{ ]محمد ،[9 :وقولهَ} :وِإَذا َما ُأنِزَل ْ ط َأ ْحَب َل َفَأ ْ ل ا ُّ
ك ِبَأّنُهْم َكِرُهوا َما َأنَز َ ن{ ]التوبة ،[54 :وقولهَ} :ذِل َ َكاِرُهو َ
ب
حَزا ِلْنا َ ك َوِم َل ِإَلْي َ
ن ِبَما ُأنِز َ
حو َ
ب َيْفَر ُ ل َأّيُكْم َزاَدْتُه َهِذِه ِإيَماًنا{ الية ]التوبة ،[124 :وقولهَ} :واّلِذي َ
ن آَتْيَناُهُم اْلِكَتا َ ن َيُقو ُ
َفِمْنُهْم مَ ْ
ك َفْلَيْفَرُحوا{ ]يونس.[58 : حَمِتِه َفِبَذِل َل َوِبَر ْ ل ا ِّ
ضِل ِبَف ْضُه { ]الرعد ،[36 :وقولهُ} :ق ْ َمن ُينِكُر َبْع َ
ض ِبَغْيرِ
لْر ِ ن ِفي ا َْ حو َ ن{ ] القصص ،[76 :وقالَ} :ذِلُكْم ِبَما ُكْنُتْم َتْفَر ُ حي َب اْلَفِر ِح ّ ل ُي ِ
ل َن ا َّ ح ِإ ّ
ل َتْفَر ْ
ل َلُه َقْوُمُه َوقالِ} :إْذ َقا َ
ن
سا َ خوٍر{ ]لقمان ،[18 :وقالَ} :وِإّنا ِإَذا َأَذْقَنا ا ِْ
لْن َ ل َف ُخَتا ٍ
ل ُم ْ
ب ُك ّ ح ّ ل ُي ِل َ ن ا َّ ن{ ]غافر ،[75 :وقالِ} :إ ّ حو َ ق َوِبَما ُكْنُتْم َتْمَر ُحّ اْل َ
ن َأَذْقَناُه َنْعَماَء س َكُفوٌرَ .وَلِئ ْعَناَها ِمْنُه ِإّنُه َلَيُئو ٌ حَمةً ُثّم َنَز ْ
ن ِمّنا َر ْسا َ لن َ ح ِبَها{ ]الشورى ،[48 :وقالَ} :وَلِئ ْ
ن َأَذْقَنا ا ِْ حمًَة َفِر َ ِمّنا َر ْ
ت{ ]هود ،[9-11 :وقال: حا ِ صاِل َ
عِمُلوا ال ّ صَبُروا َو َ ن َ ل اّلِذي َخوٌرِ .إ ّ ح َف ُعّني ِإّنُه َلَفِر ٌت َ سّيَئا ُ ب ال ّ
ن َذَه َسْتُه َلَيُقوَل ّ
ضّراَء َم ّ َبْعَد َ
شِديٌد{ خْيِر َل َ ب اْل َ
ح ّشِهيٌدَ .وِإّنُه ِل ُك َل َعَلى َذِل َن ِلَرّبِه َلَكُنوٌدَ .وِإّنُه َسا َلن َن ا ِْ جّما{ ]الفجر ،[20 :وقالِ} :إ ّ حّبا َ ل ُ ن اْلَما َحّبو َ}َوُت ِ
ن{]يوسف ،[87 :وقالَ} :وَم ْ
ن ل اْلَقْوُم الَكاِفُرو َ ل ِإ ّ
ح ا ِّن َرْو ِس ِم ْ ل َيْيَئ ُل ِإّنُه َ ح ا ِّ ن َرْو ِ سوا ِم ْ ]العاديات ،[6-8 :وقالَ} :و َ
ل َتْيَأ ُ
ضاّلوَن{ ]الحجر.[56 : ل ال ّحَمِة َرّبِه ِإ ّ ط ِمنْ َر ْ َيْقَن ُ
ل من مساعي القلوب وأعمالها، ل وسنة رسوله واتفاق المؤمنين يحمد ويذم على ما شاء ا ّ
ومثل هذا كثير في كتاب ا ّ
مثل قوله في الحديث الصحيح المتفق عليه) :ل تباغضوا ول تحاسدوا( ،وقوله) :ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه من
الخير ما يحب لنفسه( ،وقوله) :مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر( ،وقوله) :ل يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر( ،و)ل يدخل
النار من في قلبه مثقال ذرة من اليمان( ،وقوله) :ل تسموا العنب الكرم ،وإنما الكرم قلب المؤمن( وأمثال هذا كثير.
بل قول القلب وعمله هو الصل ،مثل تصديقه وتكذيبه وحبه وبغضه ،من ذلك ما يحصل به مدح وذم وثواب وعقاب
بدون فعل الجوارح الظاهرة ،ومنه ما ل يقترن به ذلك إل مع الفعل بالجوارح الظاهرة /إذا كانت مقدورة ،وأما ما
ترك فيه فعل الجوارح الظاهرة للعجز عنه فهذا حكم صاحبه حكم الفاعل ،فأقوال القلب وأفعاله ثلثة أقسام:
وثانيها :ما ليس سيئة بنفسه حتى يفعل ،وهو السيئة المقدورة كما تقدم.
وثالثها :ما هو مع العجز كالحسنة والسيئة المفعولة ،وليس هو مع القدرة كالحسنة والسيئة المفعولة ،كما تقدم.
فالقسم الول :هو ما يتعلق بأصول اليمان من التصديق والتكذيب ،والحب والبغض ،وتوابع ذلك؛ فإن هذه المور
يحصل فيها الثواب والعقاب ،وعلو الدرجات ،وأسفل الدركات ،بما يكون في القلوب من هذه المور ،وإن لم يظهر
على الجوارح ،بل المنافقون يظهرون بجوارحهم القوال والعمال الصالحة ،وإنما عقابهم وكونهم في الدرك السفل
من النار على ما في قلوبهم من المراض ،وإن كان ذلك قد يقترن به أحياًنا بغض القول والفعل ،لكن ليست العقوبة
سيَماُهْم
لَرْيَناَكُهْم َفَلَعَرْفَتُهْم ِب ِ مقصورة على ذلك البغض اليسير ،وإنما ذلك البغض دللة كما قال تعالىَ} :وَلْو َن َ
شاُء َ
َوَلَتْعِرَفّنُهْم ِفي َلْحِن اْلَقْوِل{ ]محمد ،[30 :فأخبر أنهم لبد أن يعرفوا في لحن القول.
وأما القسم الثاني ،والثالث :فمظنة الفعال التي ل تنافى أصول اليمان ،مثل المعاصي الطبعية ،مثل الزنا ،والسرقة،
ل وأنوشرب الخمر ،كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :من مات يشهد أن ل إله إل ا ّ
ل ،دخل الجنة ،وإن زنا وإن سرق ،وإن شرب الخمر( ،وكما شهد النبي صلى ال عليه وسلم في محمًدا رسول ا ّ
الحديث الصحيح للرجل الذي كان يكثر شرب الخمر ،وكان يجلده كلما جيء به فلعنه رجل ،فقال) :ل تلعنه فإنه يحب
ل ما أكثر ما يؤتى به في شرب الخمر .فقال النبي صلى ال عليه ل ورسوله( ،وفي رواية قال بعضهم :أخزاه ا ّ ا ّ
وسلم) :ل تكونوا أعواًنا للشيطان على أخيكم( وهذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة.
ل تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به( ،والعفو عن حديث النفس إنما وقع ولهذا قال) :إن ا ّ
ل وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر ،فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من المور التي ل لمة محمد المؤمنين با ّ
تقدح في اليمان ،فأما ما نافى اليمان فذلك ل يتناوله لفظ الحديث؛لنه إذا نافى اليمان لم يكن صاحبه من /أمة
محمد في الحقيقة ،ويكون بمنزلة المنافقين ،فل يجب أن يعفى عما في نفسه من كلمه أو عمله ،وهذا فرق بين يدل
ل لهذه المة عن الخطأ والنسيان ،كما دل عليه الكتاب عليه الحديث ،وبه تأتلف الدلة الشرعية ،وهذا كما عفا ا ّ
والسنة ،فمن صح إيمانه عفى له عن الخطأ والنسيان ،وحديث النفس ،كما يخرجون من النار ،بخلف من ليس معه
اليمان فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه؛ ولهذا جاء) :نية المؤمن خير من
عمله( هذا الثر رواه أبو الشيخ الصبهاني في ]كتاب المثال[ من مراسيل ثابت البناني ،وقد ذكره ابن القيم في النية
ل أعلم.
من طرق عن النبي صلى ال عليه وسلم ثم ضعفها ،فا ّ
فإن النية يثاب عليها المؤمن بمجردها ،وتجرى مجرى العمل إذا لم يمنع من العمل بها إل العجز ،ويمكنه ذلك في
عامة أفعال الخير ،وأما عمل البدن فهو مقيد بالقدرة ،وذلك ل يكون إل قليل؛ ولهذا قال بعض السلف :قوة المؤمن في
قلبه ،وضعفه في بدنه ،وقوة المنافق في بدنه ،وضعفه في قلبه.
شاُء{
ن َي َ
ب َم ْ
شاُء َوُيَعّذ ُ
ن َي َ
ل َفَيْغِفُر ِلَم ْ
سْبُكْم ِبِه ا ُّ
حا ِ
خُفوُه ُي َ
سُكْم َأْو ُت ْ وقد دل على هذا الصل قوله تعالىَ} :وِإ ْ
ن ُتْبُدوا َما ِفي َأنُف ِ
الية ]البقرة ،[284 :وهذه الية وإن كان قد قال طائفة من السلف :إنها منسوخة كما روى البخاري في صحيحه عن
مروان الصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ـ وهو ابن عمر ـ أنها نسخت ،فالنسخ في لسان
صا للعام أو تقييدا للمطلق،
السلف أعم مما هو في لسان المتأخرين ،يريدون به رفع الدللة مطلقا ،وإن كان تخصي ً
وغير ذلك ،كما هو معروف في عرفهم ،وقد أنكر آخرون نسخها لعدم دليل ذلك ،وزعم قوم أن ذلك خبر ،والخبر ل
ينسخ ،ورد آخرون بأن هذا خبر عن حكم شرعي ،كالخبر الذي بمعنى المر والنهي.
وحقيقة المر :أن قوله سبحانهَ} :وِإْن ُتْبُدوا َما ِفي َأنُفِسُكْم َأْو ُتْخُفوُه{ ]البقرة ،[284 :لم يدل على المؤاخذة بذلك؛ بل دل
ب َمن َيَشاء { ل يستلزم أنه على المحاسبة به ،ول /يلزم من كونه يحاسب أن يعاقب؛ ولهذا قالَ} :فَيْغِفُر ِلَمن َي َ
شاء َوُيَعّذ ُ
قد يغفر ويعذب بل سبب ول ترتيب ،ول أنه يغفر كل شيء ،أو يعذب على كل شيء ،مع العلم بأنه ل يعذب
المؤمنين ،وأنه ل يغفر أن يشرك به إل مع التوبة ،ونحو ذلك .
وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في المسألة إنما وقع لكونهم رأوا عزًما جازًما ل يقترن به فعل قط ،وهذا ل
يكون إل إذا كان الفعل مقارًنا للعزم ،وإن كان العجز مقارًنا للرادة؛ امتنع وجود المراد ،لكن ل تكون تلك إرادة
ضا ،فمع الرادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدماتجازمة ،فإن الرادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أي ً
الفعل ولوازمه ،وإن لم يوجد الفعل نفسه.
والنسان يجد من نفسه :أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وإرادته ،ومع العجز عنه يضعف ذلك
الطمع ،وهو ل يعجز عما يقوله ويفعله على السواء ،ول عما يظهر على صفحات وجهه/ ،وفلتات لسانه ،مثل بسط
الوجه وتعبسه ،وإقباله على الشيء والعراض عنه ،وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم
والعقاب ،كما يترتب عليها الحمد والثواب.
وبعض الناس يقدر عزما جازما ل يقترن به فعل قط ،وهذا ل يكون إل لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره،
فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازًما ،ول نزاع في إطلق اللفاظ؛ فإن من الناس من يفرق بين العزم
والقصد فيقول :ما قارن الفعل فهو قصد ،وما كان قبله فهو عزم .ومنهم من يجعل الجميع سواء ،وقد تنازعوا :هل
ل لما يفعله في المستقبل عزًما ؟ وهو نزاع لفظي؛ لكن ما عزم النسان عليه أن يفعله في المستقبل،تسمى إرادة ا ّ
ضا:
فلبد حين فعله من تجدد إرادة ،غير العزم المتقدم ،وهي الرادة المستلزمة لوجود الفعل مع القدرة ،وتنازعوا أي ً
ضا في ذلك قولن.هل يجب وجود الفعل مع القدرة والداعي؟ وقد ذكروا أي ً
والظهر أن القدرة مع الداعي التام تستلزم وجود المقدور ،والرادة مع القدرة تستلزم وجود المراد.
والمتنازعون في هذه أراد أحدهم إثبات العقاب مطلًقا على كل عزم على فعل مستقبل ،وإن لم يقترن به فعل ،وإرادة
الخر رفع العقاب /مطلًقا عن كل ما في النفس من الرادات الجازمة ونحوها ،مع ظن الثنين أن ذلك الواحد لم
يظهر بقول ول عمل ،وكل من هذين انحراف عن الوسط.
فإذا عرف أن الرادة الجازمة ل يتخلف عنها الفعل مع القدرة إل لعجز يجري صاحبها مجرى الفاعل التام في
الثواب والعقاب .وأما إذا تخلف عنها ما يقدر عليها فذلك المتخلف ل يكون مراًدا إرادة جازمة ،بل هو الهم الذي وقع
العفو عنه ،وبه ائتلفت النصوص والصول.
ثم هنا مسائل كثيرة فيما يجتمع في القلب من الرادات المتعارضة كالعتقادات المتعارضة ،وإرادة الشيء وضده،
مثل شهوة النفس للمعصية وبغض القلب لها ،ومثل حديث النفس الذي يتضمن الكفر إذا قارنه بعض ذلك والتعوذ
ل صلى ال عليه وسلم إليه فقالوا :إن أحدنا يجد في نفسه ما لن يحترق حتى يصير منه ،كما شكا أصحاب رسول ا ّ
حممة ،أو يخر من السماء إلى الرض أحب إليه من أن يتكلم به .فقال) :أو قد وجدتموه؟!( فقالوا :نعم .قال) :ذلك
ل الذي رد كيده إلى الوسوسة(. صريح اليمان( رواه مسلم من حديث ابن مسعود ،وأبي هريرة ،وفيه) :الحمد ّ
وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان /به على الجواب ،فإن له موارد واسعة .فهنا لما اقترن
بالوسواس هذا البغض وهذه الكراهة ،كان هو صريح اليمان ،وهو خالصه ومحضه؛ لن المنافق والكافر ل يجد
هذا البغض ،وهذه الكراهة مع الوسوسة بذلك ،بل إن كان في الكفر البسيط ،وهو العراض عما جاء به الرسول،
وترك اليمان به ـ وإن لم يعتقد تكذيبه ـ فهذا قد ل يوسوس له الشيطان بذلك ،إذ الوسوسة بالمعارض المنافي لليمان
إنما يحتاج إليها عند وجود مقتضيه ،فإذا لم يكن معه ما يقتضي اليمان لم يحتج إلى معارض يدفعه ،وإن كان في
الكفر المركب وهو التكذيب فالكفر فوق الوسوسة ،وليس معه إيمان يكره به ذلك.
حَتَم َ
ل ت َأْوِدَيٌة ِبَقَدِرَها َفا ْ
ساَل ْ
سَماِء َماًء َف َ
ن ال ّ ولهذا لما كانت هذه الوسوسة عارضة لعامة المؤمنين ،كما قال تعالىَ} :أنَز َ
ل ِم ْ
ل المثل لمـا الّسْيُل َزَبًدا َراِبًيا َوِمّما ُيوِقُدوَن َعَلْيِه ِفي الّناِر اْبِتَغاَء ِحْلَيٍة َأْو َمَتاٍع َزَبٌد ِمْثُلُه{ اليات ] الرعد .[17 :فضرب ا ّ
ينزله مـن اليمان والقرآن بالماء الذي ينزل في أودية الرض ،وجعل القلوب كالودية ،منها الكبير ،ومنها الصغير
ل به من الهدى والعلم
كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :مثل ما بعثني ا ّ
ضا ،فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكل والعشب الكثير ،وكانت منها طائفة أمسكـتكمثل غيث أصاب أر ً
الماء فسقـى الناس وشربـوا ،وكانـت منهـا طائفة إنما هي /قيعان ل تمسـك مـاًء ول تنبـت كل ،فذلك مثل من فقه في
ل الذي أرسلت به(سا ولم يقبل هدى ا ّ
ل بما بعثني به من الهدى والعلم ،ومثل من لم يرفع بذلك رأ ً
ل ونفعه ا ّدين ا ّ
فهذا أحد المثلين.
والمثل الخر ما يوقد عليه لطلب الحلية والمتاع ،من معادن الذهب والفضة والحديد ونحوه ،وأخبر أن السيل يحتمل
طَل َفَأّما الّزَبُد{ ]الرعد،[17 : ق َواْلَبا ِحّ ل اْل َ
ب ا ُّ
ضِر ُ ك َي ْزبًدا رابًيا ومما يوقدون عليه في النار زبد مثله ،ثم قالَ} :كَذِل َ
الرابي على الماء وعلى الموقد عليه فهو نظير ما يقع في قلوب المؤمنين من الشك والشبهات في العقائد والرادات
ب ُجَفاًء{ يجفوه القلب فيرميه ويقذفه كما الفاسدة كما شكاه الصحابة إلى النبي صلى ال عليه وسلم ،قال تعالىَ} :فَيْذَه ُ
ض{ وهو مثل ما ثبت في القلوب من اليقين واليمان ،كما لْر ِ ث ِفي ا َْ يقذف الماء الزبد ويجفوه }َوَأّما َما َينَفُع الّنا َ
س َفَيْمُك ُ
خَرِة
لِحَياةِ الّدْنَيا َوِفي ا ْ
ت ِفي اْل َ
ل الّثاِب ِ
ن آَمُنوا ِباْلَقْو ِل اّلِذي َ طّيَبٍة{ الية ،إلى قولهُ} :يَثّب ُ
ت ا ُّ جَرٍة َ شَطّيَبًة َك َ
ل َكِلَمًة َقال تعالىَ} :مَث ً
ل َما َيَشاُء{ ]إبراهيم 24 :ـ .[27 ل ا ُّن َوَيْفَع ُ
ظاِلِمي َ
ل ال ّ
ل ا ُّ
ضَّوُي ِ
فكل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنفاق فكرهه وألقاه ازداد إيماًنا ويقيًنا ،كما أن كل من حدثته نفسه
حا وبًرا وتقوى.
ل ازداد صل ًبذنب فكرهه ونفاه عن نفسه وتركه ّ
/وأما المنافق فإذا وقعت له الهواء والراء المتعلقة بالنفاق لم يكرهها ولم ينفها ،فإنه قد وجدت منه سيئة الكفر من
غير حسنة إيمانية تدفعها أو تنفيها ،والقلوب يعرض لها اليمان والنفاق ،فتارة يغلب هذا ،وتارة يغلب هذا.
ل تجاوز لمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها( كما في بعض ألفاظه في وقوله صلى ال عليه وسلم) :إن ا ّ
الصحيح ،هو مقيد بالتجاوز للمؤمنين ،دون من كان مسلًما في الظاهر ،وهو منافق في الباطن وهم كثيرون في
المتظاهرين بالسلم قديًما وحديًثا .وهم في هذه الزمان المتأخرة في بعض الماكن أكثر منهم في حال ظهور
اليمان في أول المر ،فمن أظهر اليمان وكان صادًقا مجتنًبا ما يضاده أويضعفه يتجاوز له عما يمكنه التكلم به
والعمل به ،دون ما ليس كذلك .كما دل عليه لفظ الحديث.
فالقسمان اللذان بينا أن العبد يثاب فيهما ويعاقب على أعمال القلوب خارجة من هذا الحديث ،وكذلك قوله) :من هم
بحسنة() ،من هم بسيئة( إنما هو في المؤمن الذي يهم بسيئة أو حسنة يمكنه فعلها فربما فعلها وربما تركها؛ لنه أخبر
أن الحسنة تضاعف بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
ل{ ]البقرة ،[261 :و }اْبِتَغاَء
ل ا ِّ
سِبي ِ
ن ُينِفُقونَ َأْمَواَلُهْم ِفي َ ل .كما قال تعالىَ} :مَث ُ
ل اّلِذي َ /وهذا إنما هو لمن يفعل الحسنات ّ
ل يطعمه بحسناته ل{ ]البقرة ،[265 :و }اْبِتَغاَء َوْجِه َرّبِه{ ]الليل [20 :وهذا للمؤمنين؛ فإن الكافر وإن كان ا ّ ضاةِ ا ِّ
َمْر َ
في الدنيا ،وقد يخفف عنه بها في الخرة ،كما خفف عن أبي طالب لحسانه إلى النبي صلى ال عليه وسلم ،وبشفاعة
النبي صلى ال عليه وسلم ،فلم يوعد لكافر على حسناته بهذا التضعيف ،وقد جاء ذلك مقيًدا في حديث آخر :إنه في
المسلم الذي هو حسن السلم.