Professional Documents
Culture Documents
Munqid
Munqid
اعتنى بـه
محمد أسماعيل حُزيِّن -و -شذا رائق عبدهللا
1
اليفاع :املكان املرتفع.
2
يف ق :االستبصار.
3
يقال :اجتوى الطعام :كرهه.
4
يف ش :ردين.
5
يف ش :معاودتي نيسابور.
6
يف ق :مستوفقاً.
7
يف ق :املصدوق.
8
رواه أمحد وأبو دواد وابن ماجة والرتمذي بلفظ أخر.
الغزايل الضالل
ُاملِنقُذ مَِن َّ
9
مبتدع :لغوياً خمرتع واصبح اصطالحاً على احملدث املكروه يف الدين.
10
يف ش :بطانته :أي السريرة وهنا العقيدة الباطنة.
11
يف ق :صفوته.
12
يف لسان العرب :الزنديق القائل ببقاء الدهر.
13
املعطل هو الذي ينكر صفات اخلالق.
14
يف ش :واحتسس.
15
يف ش ِ :شَّرة ،والشرة بكسر الشني املعجمة وفتح الراء املشددة :احلدة والنشاط.
16
يف ش :يقول.
17
رواه أمحد والبخاري ومسلم بلفظ آخر.
-4-
الغزايل الضالل
ُاملِنقُذ مَِن َّ
فتح رك ب اطين إىل ( طلب ) حقيقة الفط رة األص لية ،وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوال دين
واألس تاذين ، 18والتمي يز بني ه ذه التقلي دات ،وأوائله ا تلقين ات ،ويف متي يز احل ق منه ا عن الباط ل
اختالفات ،فقلت يف نفسي:أوالً 19إمنا مطلويب العلم حبقائق األمور ،فال ُبد من طلب حقيقة العلم ما
21
هي؟ فظهر يل أن العلم اليقيين هو الذي ينكشف 20فيه املعلوم انكشافاً ال يبقى معه ريب ،وال يقارنه
إمكان الغلط والوهم ،وال يتسع القلب لتقدير ذلك ؛ بل األمان من اخلطأ ينبغي أنا يكون مقارن اً لليقني
مقارنة لو حتدى بإظهار بطألنه مثالً من يقلب احلجر ذهب اً والعصا ثعبان اً ،مل يورث ذلك شكاً وإنكاراً
؛ ف إين إذا علمت أن العش رة أك ثر من الثالثة ،فلو ق ال يل قائ ل :ال ،بل الثالثة أك ثر [ من العش رة ]
بدليل أين أقلب هذه العصا ثعبان اً ،وقلبها ،وشاهدت ذلك منه ،مل أشك بسببه يف معرفيت ،ومل حيصل
يل منه إال التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك 22فيما علمته ،فال.
مث علمت أن كل ما ال أعلمه على ه ذا الوجه وال أتيقنه ه ذا الن وع من اليقني ،فهو علم ال ثقة به وال
أمان معه ،وكل علم ال أمان معه ،فليس بعلم يقيين.
18
مجع أستاذ فارسي معرب ،وجيمع أيضاً على أساتذة وأساتيذ.
19
يف ش :بدون أوالً.
20
يف ش :يكشف.
21
يف ق :يفارقه.
22
يف ق زاد :بسببه.
-5-
حد العُلوم
وج ْ
سطة َ
السفْ َ
ل َ خ ُ
َ - 1مدَا ِ
مث فتشت عن عل ومي فوج دت نفسي ع اطالً من علم موص وف بـهذه الص فة إال يف احلس يات
اجلليات ،وهيوالض روريات .فقلت :اآلن بعد حص ول الي أس ،ال مطمع يف اقتب اس املش كالت إال من َّ
احلسيات والضروريات ،فال بد من إحكامها أوالً ألتيقن أن ثقيت 23باحملسوسات ،وأماين من الغلط يف
بل يف التقليديات ،ومن جنس أم ان أك ثر اخللق يف الض روريات ،من جنس أم اين ال ذي ك ان من َق ُ
حمقق ال غدر فيه وال غائلة له؟ فأقبلت جبد بليغ أتأمل احملسوسات والضروريات ، النظريات ،أم هو أمان ٌ
وأنظر هل ميكنين أن أشكك نفسي فيها ،فانتهي يب طول التشكك 24إىل أن مل تسمح نفسي بتسليم
األمان يف احملسوسات أيضاً ،وأخذت تتسع للشك فيها وتقول : 25من أين الثقة باحملسوسات، 26
وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إىل الظل ف رتاه واقف اً غري متح رك ،وحتكم بنفي احلركة ،مث ،بالتجربة
واملشاهدة ،بعد ساعة ،تعرف أنه متحرك وأنه مل يتحرك دفعة ( واحدة ) بغتة ،بل على التدريج ذرة
ذرة ،حىت مل يكن 27له حالة وقوف .وتنظر إىل الكوكب فرتاه صغرياً يف مقدار دينار ، 28مث األدلة
اهلندس ية ت دل على أنه أكرب من األرض يف املق دار .وه ذا وأمثاله من احملسوس ات حيكم فيها ح اكم احلس
بأحكامه ،ويكذبـه حاكم العقل وخيونـه تكذيباً ال سبيل إىل مدافعته.
فقلت :قد بطلت الثقة باحملسوس ات أيض اً ،فلعله ال ثقة إال بالعقلي ات اليت هي من األولي ات ،كقولن ا:
العشرة أكثر من الثالثة ،والنفي واإلثبات ال جيتمعان يف الشيء الواحد ،والشيء الواحد ال يكون حادثاً
قدمياً ،موجوداً معدوماً ،واجباً حماالً .فقالت المحسوس ات :مب تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك
باحملسوسات ،وقد كنت واثقاً يب ،فجاء حاكم العقل فكذبين ،ولوال حاكم العقل لكنت تستمر على
تص ديقي ،فلعل وراء إدراك العقل حاكم اً آخر ،إذا جتلى ،ك ذب العقل يف حكمه ،كما جتلى ح اكم
العقل فك ذب احلس يف حكمه ،وع دم جتلي ذلك اإلدراك ،ال ي دل على اس تحالته .فت وقفت النفس يف
23
يف ش :أثقيت.
24
يف ش :التشكيك.
25
يف ش :وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول.
26
يف ق :باحلواس.
27
يف ش :تكن.
28
يف ش :الدينار.
الغزايل الضالل
ُاملِنقُذ مَِن َّ
جواب ذلك قليالً ،وأيدت إشكاهلا باملنام ،وقالت :أما تراك تعتقد يف النوم أموراً ،وتتخيل أحواالً ،
وتعتقد هلا ثباتاً واستقراراً ،وال تشك يف تلك احلالة فيها ،مث تستيقظ فتعلم أنه مل يكن جلميع متخيالتك
ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم تأمن أن يكون مجيع ما تعتقده يف يقظتك حبس أو عقل هو حق باإلضافة
إىل حالتك [ اليت أنت فيها ] ؛ لكن ميكن أن تط رأ عليك حالة تك ون نس بتها إىل يقظتك ،كنس بة
يقظتك إىل منامك ،وتك ون يقظتك نوم اً باإلض افة إليه ا! ف إذا وردت تلك احلالة تيقنت أن مجيع ما
تومهت بعقلك خياالت ال حاصل هلا ،ولعل تلك احلالة ما تدعيه 29الصوفية أنـها حالتهم ؛ إذ يزعمون
أنـهم يشاهدون يف أحواهلم اليت ( هلم ) ،إذا غاصوا يف أنفسهم ،وغابوا عن حواسهم ،أحواالً ال توافق
هذه املعقوالت .ولعل تلك احلالة هي املوت ،إذ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلّم:
30
(( الناسُ نيا ٌم فإذا ماتوا انتبـهوا ))
فلعل احلياة الدنيا نوم باإلضافة إىل اآلخرة .فإذا مات ظهرت له األشياء على خالف ما يشاهده اآلن ،
ويقال له عند ذلك:
ُك اليو َم حدي ٌد )) (ق)22 :
غطاءك فبصر َ
َ عنك
َ (( فكشفنا
فلما خطرت 31يل هذه اخلواطر وانقدحت يف النفس ،حاولت لذلك عالجاً فلم يتيسر ،إذ مل يكن دفعه
إال بال دليل ،ومل ميكن نصب دليل إال من ت ركيب العل وم األولية ،ف إذا مل تكن مس لمة مل ميكن ت ركيب
الدليل .فأعضل هذا الداء ، 32ودام قريب اً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة حبكم احلال ،ال
حبكم النطق واملق ال ،حىت ش فى اهلل تع اىل من ذلك املرض ،وع ادت النفس إىل الص حة واالعت دال ،
ورجعت الض روريات العقلية مقبولة موثوق اً بـها على أمن ويقني ؛ ومل يكن ذلك بنظم دليل وت رتيب
كالم ،بل بن ور قذفه اهلل تع اىل يف الص در وذلك الن ور هو مفت اح أك ثر املع ارف ،فمن ظن أن الكشف
موق وف على األدلة احملررة فقد ض يق رمحة اهلل [ تع اىل ] الواس عة ؛ وملا س ئل رس ول اهلل ص لى اهلل عليه
وسلّم عن ( الشرح ) ومعناه يف قوله تعاىل:
29
يف د :يدعيه و يف ش :ندعية ؛ والصواب ما ثبتناه يف النص.
30
يقول يف ش :أنه ليس حبديث ولكن من كالم على بن أىب طالب رضي اهلل عنه.
31
يف ش :خطر.
32
هذه احلالة هي اليت تسمى فرتة الشك وهي غري األزمة الروحانية اليت أدت بالغزايل إىل ترك بغداد ؛ وهي األزمة األوىل وهي بطابعها
غير روحانية وإمنا هي معرفية .ويرى البعض أن هذا الشك مشابه ملا حصل للعامل الفرنسي رينيه ديكارت راجع يف ذلك ما كتبه أمحد مشس
ال دين يف حاش ية (املنق ذ) من حتقيقه ص ،29وما كتبه عبد ال رمحن ب دوي يف مقالة بعن وان ( :أوه ام ح ول الغ زايل ) يف كت اب أبو حامد
الغزالي :دراسات في فكره وعصره وتأثيره ،منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط لعام 1988م.
-7-
الغزايل الضالل
ُاملِنقُذ مَِن َّ
(( فمن يرد هللا أن يهديه يشرح صدره لإلسالم)) (األنعام)125 :
ق ال (( :هو نور يقذفه هللا تعالى في القلب )) فقي ل( :وما عالمته ؟) ق ال (( :التجافي عن دار
دار ال ُخلُود )) .33وهو الذي قال صلى اهلل عليه وسلم فيه: ال ُغر ِ
ُور واإلنابة إلى ِ
34
ق في ظُ ْلم ٍة ثم رشَّ عليه ْم من نُور ِه ))
(( إن هللا تعالى خلق الخل َ
فمن ذلك الن ور ينبغي أن يطلب الكشف ،وذلك الن ور ينبجس من اجلود اإلهلي يف بعض األح ايني ،
وجيب الرتصد له كما قال صلى اهلل عليه وسلّم:
35
ٌ
نفحات أال فتعرضُوا لها )) أيام دهركم
(( إن لربكم في ِ
واملقص ود من ه ذه احلكاي ات أن يعمل كم ال اجلد يف الطلب ،حىت ينتهي إىل طلب ما ال يطلب .ف إن
األوليات ليست مطلوبة ،فأنـها حاضرة .واحلاضر إذا طلب فقد 36واختفى .ومن طلب ما ال يطلب ،
فال يتهم بالتقصري يف طلب ما يطلب.
33
ذكره ابن كثري يف تفسريه بطرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً.
34
رواه أمحد والرتمذي واحلاكم بلفظ آخر.
35
رواه الطرباين والسيوطي يف الفتح الكبري بلفظ أخر قريب ،والبيهقي وأبو هريرة بلفظ آخر ،وأبو نعيم عن أنس.
36
يف ش :نفر.
-8-
الغزايل الضالل :اصناف الطالبني
ُاملِنقُذ مَِن َّ
البين
الط ْ القَو ُل في ْ
أصَنافِ َّ
وملا شفاين اهلل من هذا املرض بفضله وسعة جوده ،أنحصرت أصناف الطالبني عندي يف أربع فرق:
.1المتكلمون :وهم َّ
يدعون أنـهم أهل الرأي والنظر.
.2الباطنية :وهم يزعمون أنـهم أصحاب التعليم واملخصوصون باالقتباس من اإلمام املعصوم.
.3الفالسفة :وهم يزعمون أنـهم أهل املنطق والربهان.
.4الصوفية :وهم يدعون أنـهم خواص احلضرة وأهل املشاهدة واملكاشفة.
فقلت يف نفسي :احلق ال يعدو هذه األصناف األربعة ،فهؤالء هم السالكون سبل طلب احلق ،فإن َّ
شذ
احلق عنهم ،فال يبقى يف درك احلق مطمع ،إذ ال مطمع يف الرج وع إىل التقليد بعد مفارقته ؛ و( من )
شرط املقلد 37أن ال يعلم أنه مقلد ،فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده ،وهو شعب 38ال يرأب، 39
وشعث 40ال يلم بالتلفيق والتأليف ،إال أن يذاب بالنار ،ويستأنف له صنعة أخرى مستجدة.
فابتدرت لسلوك هذه الطرق ،واستقصاء ما عند هذه الفرق .مبتدئاً بعلم الكالم .ومثني اً بطريق الفلسفة
،ومثلثاً بتعلم الباطنية ،ومربعاً بطريق الصوفية.
37
يف ش :إذ من شرط املقلد.
38
الشعب بكسر الشني املعجمة وسكون العني املهملة انفراج بني اجلبلني ،واملراد هنا شق.
39
اليرأب :اليصلح.
40
شعث :ما تفرق من األمور.
-9-
وحاصِله
صوده َ
المَ :مقْ ُ
عْلُم الكَ َ
ِ -1
فحص لته وعقلته ،وط العت كتب احملققني منهم ،وص نفت فيه ما أردت أن مث إين ابت دأت بعلم الكالم َّ ،
واف مبقصودي ؛ وإمنا المقصود من ه 41حفظ عقيدة أهل أصنف ،فصادفته علم اً وافي اً مبقصوده ،غري ٍ
الس نة [ على أهل الس نة ] وحراس تها عن تش ويش أهل البدعة .فقد ألقى اهلل ( تع اىل ) إىل عب اده على
لسان رسوله عقيدة هي احلق ،على ما فيه صالح دينهم ودنياهم ،كما نطق مبعرفته القرآن واألخبار ،
مث ألقى الشيطان يف وساوس املبتدعة أموراً خمالفة للسنة ،فلهجوا 42بـها وكادوا يشوشون عقيدة احلق
على أهله ا .فأنشأ اهلل تع اىل طائفة املتكلمني ،وح رك دواعيهم لنصرة الس نة بكالم م رتب ،يكشف عن
تلبيس ات أهل الب دع احملدثة ،على خالف الس نة املأثورة ؛ فمنه نشأ علم الكالم وأهله .ولقد ق ام طائفة
منهم مبا ندبـهم اهلل ( تعاىل ) إليه ،فأحسنوا الذب عن السنة ،والنضال عن العقيدة املتلقاة بالقبول من
النب وة ،والتغيري يف وجه ما أح دث من البدعة ؛ ولكنهم اعتم دوا يف ذلك على مق دمات تس لموها من
خصومهم ،واضطرهم إىل تسليمها :إما التقليد ،أو إمجاع األمة ،أو جمرد القبول من القرآن واألخبار.
وكان أكثر خوضهم يف استخراج مناقضات اخلصوم ،ومؤاخذهتم بلوازم مسلماهتم .وهذا قليل النفع يف
حق 43من ال يسلم سوى الضروريات شيئاً ( أص الً ) ،فلم يكن الكالم يف حقي كافي اً ،وال لدائي
ال ذي كنت أش كوه ش افياً .نعم ،ملا نش أت ص نعة الكالم وك ثر اخلوض فيه وط الت املدة ،تش وق
املتكلم ون إىل حماولة ال ذبّ ( عن الس نة ) ب البحث عن حق ائق األم ور ،وخاض وا يف البحث عن اجلواهر
واألعراض 44وأحكامها .ولكن ملا مل يكن ذلك مقصود علمهم ،مل يبلغ كالمهم فيه الغاية القصوى ،
45
أبعد أن يكون قد حصل ذلك فلم حيصل منه ما ميحق بالكلية ظلمات احلرية يف اختالفات اخللق ؛ وال ُ
لغريي! بل لست أشك يف حصول ذلك لطائفة ولكن حصوالً مشوباً بالتقليد يف بعض األمور اليت ليست
من األوليات!
41
يف ش :مقصوده.
42
هلج باألمر :أولع به فثابر عليه واعتاده.
43
يف ش :جنب.
44
اجلوهر :األصل ويف املصطلح املاهية .العرض هو الذي حيتاج إىل موضع يقوم به كاللون احملتاج اىل جسم حيله.
45
يف ش :يـمحو.
- 10 -
الغزايل الضالل :الفلسفة
ُاملِنقُذ مَِن َّ
والغرض اآلن حكاية حايل ،ال اإلنكار على من استشفى به ،فإن أدوية الشفاء ختتلف باختالف الداء.
وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر بـه آخر!
- 11 -
الغزايل الضالل :الفلسفة
ُاملِنقُذ مَِن َّ
لسَفة
الف ْ
َ -2
محصوهلا.
المذموم منها وما ال يذم.
وما يكفر به قائلة وما ال يكفر به.
وما يبتدع فيه وما ال يبتدع.
وبيان ما سرقه الفالسفة من كالم أهل احلق.
وبيان ما مزجوه بكالم أهل احلق لرتويج باطلهم يف درج ذلك.
وكيفية عدم قبول البشر وحصول نفرة النفوس من ذلك احلق املمزوج بالباطل.
46
وكيفية استخالص احلق اخلالص من الزيف والبهرج من مجلة كالمهم.
مث إين ابتدأت ،بعد الفراغ من علم الكالم ،بعلم الفلس**فة وعلمت يقين اً ،أنه ال يقف على فساد نوع
من العل وم ،من ال يقف على منتهى ذلك العلم ،حىت يس اوي أعلمهم يف أصل [ ذلك ] العلم ،مث يزيد
عليه وجياوز درجته ،فيطلع على ما مل يطلع عليه صاحب العلم من غور 47وغائله ،وإذا ذاك 48ميكن أن
حقاً .ومل أر أحداً من علماء اإلسالم صرف عنايته ومهته إىل ذلك. يكون ما يدعيه من فساده ّ
ومل يكن يف كتب (( املتكلمني )) من كالمهم ،حيث اشتغلوا بالرد عليهم ،إال كلمات معقدة مبددة ،
ظاهرة التناقض والفساد ،ال يظن االغرتار بـها بعاقل 49عامي ،فض الً عمن يدعي دقائق العل وم .فعلمت
أن رد املذهب قبل فهمه واإلطالع على كنهه 50رمى يف عماية ،فشمرت عن ساق اجلد ،يف حتصيل
ذلك العلم من الكتب ،مبجرد املطالعة من غري استعانة بأستاذ ،وأقبلت على ذلك يف أوقات فراغي من
التصنيف والتدريس يف العلوم الشرعية ،وأنا ممنو 51بالتدريس واإلفادة لثالمثائة نفر من الطلبة ببغداد.
46
مجيع هذه النقط الثمانية زائدة يف ش و ق.
47
يف ش :غوره.
48
يف ش :فإذذاك.
49
يف ش :بغافل.
50
كنهه :قدر الشيء ونـهايته ؛ يقال :بلغت كنه هذا األمر أي غايته .لسان اللسان.
51
ممنو :مبتلِّى به.
- 12 -
الغزايل الضالل :الفلسفة
ُاملِنقُذ مَِن َّ
ف أطلعين اهلل س بحأنه [ وتع اىل ] مبج رد املطالعة يف ه ذه األوق ات املختلسة ،على منتهى عل ومهم يف أقل
من س نتني .مث مل أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريب اً من س نة ،أع اوده وأردده وأتفقد غوائله
وأغواره ،حىت اطَّلعت على ما فيه من خداع وتلبيس ،وحتقيق وختييل ،اطالعاً مل أشك فيه.
فامسع اآلن حكايتهم 52وحكاية حاصل علومهم ؛ فإين رأيتهم أصنافاً ،ورأيت علومهم أقساماً ؛ وهم
على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة 53الكفر واإلحلاد ،وإن كان بني القدماء منهم واألقدمني ،وبني
األواخر منهم واألوائل ،تفاوت عظيم يف البعد عن احلق والقرب منه.
52
يف ش :حكايته.
53
يف ش :مسة.
- 13 -
الغزايل الضالل :الفلسفة
ُاملِنقُذ مَِن َّ
54
الكِفر َكافَّتهمُ
صَمة ُ
فة وشُمول وَ ْ
س َال ِ
صَناف الفَ َ
َأ ْ
اعلم :أنـهم ،على كثرة فرقهم واختالف مذاهبـهم ،ينقسمون إىل ثالثة أقسام :الدهريون ،والطبيعيون ،
واإلهليون.
الصنف األول :الدهريون -:وهم طائفة من األقدمني جحدوا الصانع املدبر ،العامل القادر ،وزعموا أن
الع امل مل ي زل موج وداً ك ذلك بنفسه بال ص انع ،ومل ي زل احلي وان من النطفة ،والنطفة من احلي وان ،
كذلك كان ،وكذلك يكون أبداً وهؤالء هم الزنادقة*.
والصنف الثاني :الط*بيعيون -:وهم قوم أكثروا حبثهم عن عامل الطبيعة ،وعن عجائب احليوان والنبات
،وأك ثروا اخلوض يف علم تش ريح أعض اء احليوان ات ،ف رأوا فيها من عج ائب ص نع اهلل تع اىل وب دائع
حكمته ،مم ا اضطروا معه إىل االع رتاف بف اطر 55حكيم ،مطل ع على غاي ات األمور ومقاص دها .وال
يطالع التشريح وعجائب منافع األعضاء مطالع ،إال وحيصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبري الباين
لبنية احليوان ؛ ال سيما بنية اإلنسان .إال أن هؤالء ،لكثرة حبثهم عن الطبيعة ،ظهر عندهم -العتدال
املزاج -ت أثري عظيم يف ق وام ق وى احلي وان بـه .فظن وا أن الق وة العاقلة من اإلنس ان تابعة ملزاجه أيض اً ،
وأنـها تبطل ببطالن مزاجه فتنعدم .56مث إذا انعدمت ، 57فال يعقل إعادة املعدوم كما زعموا .فذهبوا إىل
أن النفس متوت وال تع ود ،فجح دوا اآلخ رة ،وأنك روا اجلنة والن ار [ ،واحلشر والنشر ] ،والقيامة
واحلس اب ،فلم يبق عن دهم للطاعة ث واب ،وال للمعص ية عق اب ،فاحنل عنهم اللج ام وأنـهمكوا يف
الشهوات أنـهماك األنعام.
وه**ؤالء أيض*اً زنادقة ألن أصل اإلميان هو اإلميان باهلل واليوم اآلخر .وه ؤالء جح دوا اليوم اآلخر ،وإن
آمنوا باهلل وصفاته.
54
يف ش :أصناف الفالسفة واتصاف كافتهم بالكفر.
55
يف ش :بقادر.
56
يف ش :فينعدم.
57
يف ش :انعدم.
- 14 -
والصنف الثالث :اإللهيون -:وهم املتأخرون منهم [ ،مثل ] :سقراط ، 58وهو أستاذ أفالطون ،
وأفالطون 59أستاذ أرسطاطاليس ،وأرسطاطاليس 60هو الذي رتب [ هلم ] املنطق َّ ،
وهذب هلم العلوم ،
ج اً من عل ومهم ،وهم جبملتهم ردوا على قبل ،وأنض ََج هلم ما ك ان ِف ّ
وحرر هلم ما مل يكن حمرراً من ُ
ّ
الصنفني األولني من الدهرية والطبيعية ،وأوردوا يف الكشف عن فضائحهم ما أغنوا بـه غريهم (( .وكفى
اهلل املؤمنني القتال )) بتقاتلهم .مث رد أرسطاطاليس على أفالطون وسقراط ،ومن كان قبلهم من اإلهليني
رداً مل يقصر فيه حىت تربأ عن مجيعهم ؛ إال أنه استبقى أيض اً من رذائل 61كفرهم وبدعتهم بقايا مل
ّ ،
64
يوفق للنـزوع عنها ، 62فوجب تكفريهم ،وتكفري شيعتهم 63من املتفلسفة اإلسالميني ،كابن سينا
والفارابي 65و غريهم .66على أنه مل يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة اإلسالميني كقيام
ه ذين ال رجلني .وما نقله غريمها ليس خيلو من ختبيط وختليط يتش وش فيه قلب املط الع حىت ال يفهم .وما
ال يُفهم كيف ُيرد أو يقبل؟ وجمموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس ،حبسب نقل هذين الرجلني
،ينحصر يف ثالثة أقسام- :
58
فليسوف يوناين ( 399-469ق .م ).ادعى أنه ال يعلم شيء ،وليس له آثار مكتوبة وكل ما عندنا ما سجله تلميذه أفالطون من
حمدثاته .رفعت احملكمة اليونانية دعوة ضده بتهمة افساد الشباب وأعدمته بالسم.
59
فليسوف يوناين ( 347-427ق.م ).تلميذ سقراط سجل حمدثات أستاذه ،وأسس مدرسة للفلسفة مساها األكادمية ،جرب الدور
السياسي يف س ركيوز (ايطالي ا) مث رجع إىل عاص مة اليون ان أثنيا عن دما تغري الوضع السياسي حوله ،ق ال م ربراً ل ذلك أنه ال يريد أن تتك رر
اجلرمية ضد الفلسفة مشرياً إىل حادثة إعدام سقراط .من أهم أعماله كتاب اجلمهورية.
60
فليسوف مقدوين ( 347-427ق.م ).تلميذ أفالطونَ ،درس يف مدرسته عشرون عاماً ،مث رجع إىل بلده ليكون مدرساً لإلسكندر
املق دوين ،مث ع اد إىل أثنيا وأسس مدرسة مساها الليس يم ،بعد وف اة أفالط ون ،وحبث فيها مع تالمي ذه شىت أن واع املعرفة واس تمرت بعد مماته
بسنوات عديدة .مث اضطر مغادرة أثنيا عندما توىف االسكندر وضعف أمر املقدونيني .تالميذه اشتهروا ( باملشائني ) ألنه كانت عادة املعلم
أن ميشي وهو يلقي احملاضرة .من أشهر املعلقني على أعماله الفليسوف ابن رشد القرطيب احلفيد املعروف بـ"املعلق" الذي ازدهر بعد الغزايل
مبائة عام .هذب علم النطق وكتب يف االخالق والنفس وما وراء الطبيعة ،واعماله السياسية مل تصل العرب واكتفوا مبا كتب افالطون.
61
يف ق :رذاذ.
62
يف ش :للنـزع منها.
63
يف ش :متبعيهم.
64
هو أبو احلسني علي ابن سينا ( 428-370هـ) (فارسي األصل) الطبيب والفليسوف ،صاحب كتاب (القانون يف الطب) وكتاب
(الشفا) وكتاب (النجاة) يف الفلسفة.
65
أبو نصر الفارايب (339-260هـ) الفليسوف (تركي األصل) املشهور صاحب كتاب املوسيقى الكبري وكتب يف الفلسفة .زعم أبن
سينا أنه مل يفهم ارسطو حىت قرأ شرحه الذى ألفه الفارايب .مل يشتهر يف عصره ،ولكنه اشتهر بعد ابن سينا.
66
يف ق :أمثاهلما ،ويف ش غريمها.
- 15 -
.1قسم جيب التفكري به.
.2وقسم جيب التبديع به.
.3وقسم ال جيب إنكاره أصالً فلنفصله.67
67
ناقص يف ش :فلنفصله.
- 16 -
علومِهم
ام ُ
س َِأْق َ
أعلم :أن علومهم -بالنسبة إىل الغرض الذي نطلبه -ستة أقسام :رياضية ،ومنطقية ،وطبيعية ،وإهلية
،وسياسية ،وخلقية.
- 1أما الرياضية :فتتعلق بعلم احلساب واهلندسة وعلم هيئة العالم ، 68وليس يتعلق شيء منها باألمور
الدينية نفي اً وإثبات اً ،بل هي أم ور برهانية ال س بيل إىل جماحدته بعد فهمها ومعرفته ا .وقد تول دت منها
آفتان:
احداهما 69األولى :ان من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها ،فيحسن بسبب ذلك
اعتقاده يف الفالسفة ،وحيسب أن مجيع علومهم يف الوضوح [ ويف ] وثاقة الربهان كهذا العلم .مث يكون
قد مسع من كفرهم وتعطيلهم وتـهاونـهم بالشرع ما تناولته األلسن فيكفر بالتقليد احملض ويقول :لو كان
70
الدين حق اً ملا اختفى على هؤالء مع تدقيقهم يف هذا العلم! فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم
استدل 71على أن احلق هو اجلحد واإلنكار للدين .وكم رأيت ممن يضل 72عن احلق بـهذا العذر 73وال
مس تند له س واه! وإذا قيل ل ه :احلاذق يف ص ناعة واح دة ليس يل زم أن يك ون حاذق اً يف كل ص ناعة ،فال
يلزم أن يكون احلاذق يف الفقه والكالم حاذق اً يف الطب ،وال أن يكون اجلاهل بالعقليات جاهالً بالنحو
،بل لكل ص ناعة أهل بلغ وا فيها [ رتبة ] الرباعة والس بق .وإن ك ان احلمق واجلهل ( قد ) يل زمهم يف
جربه وخاض غريها .فكالم األوائل يف الرياضيات برهاين ،ويف اإلهليات ختميين ؛ ال يعرف ذلك إال من ّ
فيه .فهذا إذا قرر على هذا الذي أحلَ َد 74بالتقليد ،لم يقع منه موقع القبول ،بل حتمله غلبة اهلوى ،
والشهوة الباطلة ،وحب التكايس ،على أن يصر على حتسني الظن بـهم يف العلوم كلها.
68
يف ش :العلم.
69
ناقص يف ش :احدامها.
70
يف ق :جورهم.
71
يف ش :فيستدل.
72
يف ش :ضل.
73
يف ش :القدر.
74
يف ش :اختذ.
- 17 -
فه ذه آفة عظيمة ألجلها جيب زجر كل من خيوض يف تلك العل وم ،فأهنا وإن مل تتعلق ب أمر ال دين ،
ولكن ملا كانت من مبادئ علومهم ،سرى 75إليه شرهم وشؤمهم ،فقل من خيوض فيها إال وينخلع من
الدين وينحل عن رأسه جلام التقوى.
اآلفة الثاني**ة :نشأت من صديق لإلسالم جاهل ،ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب
إليهم :فأنكر مجيع علومهم وادعى جهلهم فيها ،حىت أنكر قوهلم يف الكسوف واخلسوف ،وزعم أن ما
ق الوه على خالف الش رع .فلما ق رع ذلك مسع من ع رف ذلك بالربه ان الق اطع ،مل يشك يف برهأنه ،
حب اً ولإلسالم بغض اً.
ولكن اعتقد أن اإلسالم مبين على اجلهل وإنكار الربهان القاطع ،ف يزداد للفلسفة ّ
ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن اإلسالم ينصر بإنكار هذه العلوم ،وليس يف الشرع تعرض هلذه
العلوم بالنفي واإلثبات ،وال يف هذه العلوم تعرض لألمور الدينية .وقوله صلى اهلل عليه وسلّم:
ت أح ٍد وال لحياته فإذات هللا تعالى ال ينخسفا ِن لمو ِ(( إن الشمس والقمر آيتان من آيا ِ
رأيتم ذلك
76
فافزعوا إلى ذكر هللا تعالى وإلى الصالة )) .
وليس يف هذا ما يوجب إنكار علم احلساب املعرف مبسري الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلهما على
يء خضع ل هُ )) فليس توجد ه ذه وجه خمص وص .أما قوله ( عليه الس الم ) (( :لكن اهلل إذا جتلى لش ْ
الزيادة يف الصحاح أصالً .فهذا حكم الرياضيات وآفتها.
– 2وأما المنطقيات :فال يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً ،بل هي 77النظر يف طرق األدلة
واملق اييس وش روط مق دمات الربه ان وكيفية تركيبها ،وش روط احلد الص حيح وكيفية ترتيب ه .وأن العلم
إما تص ور وس بيل معرفته احلد ،وإما تص ديق وس بيل معرفته الربه ان ؛ وليس يف ه ذا ما ينبغي أن ينكر ،
بل هو ( من ) جنس ما ذك ره املتكلم ون وأهل النظر يف األدلة ،وإمنا يفارقونـهم بالعب ارات
واالصطالحات ،بزيادة االستقصاء يف التعريفات والتشعيبات ،ومثال كالمهم فيها قوهلم :إذا ثبت أن
كل (( أ )) (( ب )) ل زم أن بعض (( ب )) (( أ )) أي إذا ثبت أن كل إنس ان حي وان ،ل زم أن بعض
احليوان إنسان .ويعربون عن هذا بأنه املوجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية .وأي تعلق هلذا مبهمات الدين
حىت جيحد وينكر؟ ف إذا أنكر مل حيصل من إنك اره عند أهل املنطق إال س وء االعتق اد يف عقل املنكر ،بل
يف دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا اإلنكار .نعم ،هلم نوع من الظلم يف هذا العلم ،وهو أنـهم
75
يف ش :يسرى.
76
روي هذا احلديث بأسانيد وطرق خمتلفة .يوجد يف البخاري وأمحد والنسائي وأبن ماجة ومالك.
77
يف ش :هو.
- 18 -
جيمع ون للربه ان ش روطاً يعلم أهنا ت ورث اليقني ال حمالة ،لكنهم عند االنته اء إىل املقاصد الدينية ما
أمكنهم الوف اء بتلك الش روط ،بل تس اهلوا غاية التس اهل ،ورمبا ينظر يف املنطق أيض اً من يستحس نه
وي راه واض حاً ،فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفري ات مؤيد مبثل تلك ال رباهني ،فاس تعجل ب الكفر قبل
االنتهاء إىل العلوم اإلهلية.
فهذه اآلفة أيضاً متطرقة إليه.
- 3وأما ( علم ) الطبيعيات :فهو حبث 78عن عامل السماوات وكواكبها وما حتتها من األجسام
املفردة :كاملاء واهلواء والرتاب والنار ،وعن األجسام املركبة :كاحليوان والنبات واملعادن ،وعن أسباب
80
تغريه ا واس تحالتها وامتزاجه ا .وذل ك يض اهي حبث الطب 79عن جس م اإلنس ان وأعض ائه الرئيس ة
واخلادمة ،وأس باب اس تحالة مزاجه .وكما ليس من ش رط ال دين إنك ار علم الطب ،فليس من ش رطه
أيض اً إنكار ذلك العلم ،إال يف مسائل معينة ،ذكرناها يف كتاب (( تـهافت الفالسفة )) .وما عداها مما
جيب املخالفة فيها ؛ فعند التأمل يتبني أهنا مندرجة حتتها ،وأصل مجلتها :أن تعلم 81أن الطبيعة مسخرة
هلل تع اىل ،ال تعمل بنفس ها ،بل هي مس تعملة من جهة فاطرها .والش مس والقمر والنج وم والطب ائع
لشيء منها بذاته عن ذاته.82
ٍ مسخرات بأمره ال فعل
– 4وأما اإللهيات :ففيها أكثر أغاليطهم ،فما قدروا على الوفاء بالربه ان على ما شرطوه يف املنطق ،
ولذلك كثر االختالف بينهم فيه ا .ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب اإلسالميني ،على
ما نقله الفارايب وابن سينا .ولكن جمموع ما غلطوا فيه يرجع إىل عشرين أص الً ،جيب تكفريهم يف ثالثة
منها ،وتبديعهم يف سبعة عشر .وإلبطال مذهبهم يف هذه املسائل العشرين ،صنفنا كتاب ( التهافت ).
أما املسائل الثالث ،فقد خالفوا فيها كافة اإلسالميني 83وذلك يف قوهلم:
- 1إن األجس اد ال حتشر ،وإمنا املث اب واملع اقَب هي األرواح اجملردة ( ،واملثوب ات ) والعقوب ات
روحانية ال جسمانية ؛
78
يف ش :يبحث.
79
يف ش :الطبيب.
80
يف ش :الرئيسية.
81
يف ش :يعلم.
82
نقص يف ش :عن ذاته.
83
يف ق :املسلمني.
- 19 -
ولقد صدقوا يف إثبات الروحانية ،فأهنا ثابتة 84أيضاً ،ولكن كذبوا يف إنكار اجلسمانية ،وكفروا
بالشريعة فيما نطقوا به.
- 2ومن ذلك قوهلم (( :إن اهلل تعاىل يعلم الكليات دون اجلزئيات )) ؛
ت وال فيوه ذا أيض اً كفر ص ريح ،بل احلق أن ه (( :ال يعــزب عنـه مثقــال ذر ٍة في الســموا ِ
األرض ))(.سبأ)3 :
ِ
- 3ومن ذلك قوهلم بقدم العامل وأزليته فلم يذهب أحد من املسلمني إىل شيء من هذه املسائل.
وأما ما وراء ذلك من نفيهم الص فات ،وق وهلم إنه ع امل بال ذات ،ال بعلم زائد (على ال ذات) وما جيري
جمراه ،فم ذهبهم فيها ق ريب من م ذهب املعتزلة وال جيب تكفري املعتزلة مبثل ذل ك .وقد ذكرنا يف كت اب
(( فيصل التفرقة بني اإلسالم والزندقة )) ما يتبني به فساد رأي من يتسارع إىل التكفري يف كل ما خيالف
مذهبه.
- 4وأما السياسيات :فجميع كالمهم فيها يرجع إىل احلكم املصلحية املتعلقة باألمور الدنيوية ( واإليالة
) الس لطانية ،وإمنا أخ ذوها من كتب اهلل املنـزلة على األنبي اء ،ومن احلكم املأثورة عن س لف األنبي اء [
عليهم السالم ].
- 5وأما الخلقية :فجميع كالمهم ( فيها ) يرجع إىل حصر ص فات النفس وأخالقها ،وذكر أجناس ها
وأنواعها وكيفية معاجلتها وجماه دهتا ،وإمنا أخ ذوها من كالم الص وفية ،وهم املت أهلون املواظب ون على
ذكر اهلل تعاىل ،وعلى خمالفة اهلوى وسلوك الطريق إىل اهلل تعاىل باإلعراض عن مالذِّ الدنيا .وقد انكشف
هلم يف جماه دهتم من أخالق النفس وعيوبـها ،وآف ات أعماهلا ما ص رحوا بـها ،فأخ ذها الفالس فة
ومزجوها بكالمهم ،توسالً بالتجمل بـها إىل ترويج باطلهم .ولقد كان يف عصرهم ،بل يف كل عصر ،
مجاعة من املتأهلني ،ال ُيخلي اهلل [ سبحانه ] العامل عنهم ،فأنـهم أوتاد األرض ،بربكاتـهم تنـزل الرمحة
على أهل األرض كما ورد يف اخلرب حيث قال صلى اهلل عليه وسلّم:
(( بـهم تمطرون وبـهم ترزقون ومنـهم كان أصحاب الكهف )).85
وك انوا يف س الف األزمنة ،على ما نطق بـه الق رآن ،فتولد من م زجهم كالم النب وة وكالم الص وفية
بكتبهم آفتان :آفة يف حق القابل وآفة يف حق الراد:
84
يف ق :كائنة.
85
احلديث ليس له ختريج يف ش.
- 20 -
- 1أما اآلفة ال**تي في حق ال**راد فعظيمة :إذ ظنت طائفة من الض عفاء أن ذلك الكالم إذا ك ان ُم َّ
دوناً
يف كتبهم ،وممزوج اً بب اطلهم ،ينبغي أن ُيهجر وال ُي ذكر بل ُينكر على [ كل ] من ي ذكره ،إذ مل
يس معوه أوالً إال منهم ،فس بق إىل عق وهلم الض عيفة أنه باطل ،ألن قائله مُبطل ؛ كال ذي يس مع من
النصراين قوله (( :ال إله إال اهلل عيسى رسول اهلل )) فينكره ويقول (( :هذا كالم النصارى )) وال يتوقف
ريثما يتأمل أن النصراين كافر باعتبار هذا القول ،أو باعتبار إنكاره نبوة حممد عليه الصالة والسالم!؟
فإن مل يكن كافراً إال باعتبار إنكاره ،فال ينبغي أن خيالف يف غري ما هو به كافر مما هو حق يف نفسه ،
وإن ك ان أيض اً حق اً عن ده .وه ذه ع ادة ض عفاء العق ول ،يعرف ون احلق بالرج ال ،ال الرج ال ب احلق.
والعاقل يقتدي بسيد العقالء 86علي ، 87رضي اهلل عنه 88حيث قال (( :ال تعـرف الحـق بالرجـال (
بل ) اعرف الحق تعرف أهله )) و ( العارف ) العاقل يعرف احلق ،مث ينظر يف نفس القول :فإن
كان حق اً ،قبله سواء كان قائله مبطالً أو حمق اً ؛ بل رمبا حيرص على انتزاع احلق من أقاويل 89أهل
الض الل ،عاملاً ب أن مع دن ال ذهب الرغ ام .وال ب أس على الص راف إن أدخل ي ده يف كيس القالب ،
وان تزع اإلبريز اخلالص من الزيف والبه رج ،مهما ك ان واثق اً ببص ريته ؛ وامنا يزجر عن معاملة القالب
ويصد عن األخرق ،دون السباح احلاذق ؛ ُ
ُ القروي ،دون الصرييف ( البصري ) ؛ ومينع من ساحل البحر
ُّ
مس احلية الصيب دون املعزِّم البارع.
ولعمري! ملا غلب على أكثر اخللق ظنهم بأنفسهم احلذاقة والرباعة ،وكمال العقل ( ومتام اآللة ) يف متييز
احلق عن ( الباطل ،واهلدى عن ) الض اللة ،وجب حسم الب اب يف زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل
الضالل ما أمكن ،إذ ال يسلمون عن اآلفة الثانية اليت سنذكرها ( أص الً ) وإن سلموا عن ( هذه ) اآلفة
اليت ذكرناها.
ولقد اع رتض على بعض الكلم ات املبثوثة يف تص انيفنا يف أس رار عل وم ال دين ،طائفة من ال ذين مل
تس تحكم يف العل وم س رائرهم ،ومل تنفتح إىل أقصى غاي ات املذاهب بص ائرهم ،وزعمت أن تلك
86
يف ق زاد :بقول أمري املؤمنني.
87
يف ق زاد :بن أيب طالب.
88
اإلمام علي كرم اهلل وجهه ،هو ابن عم الرسول صلى اهلل عليه وسلم تزوج ابنته فاطمة الزهراء ووالد احلسن واحلسني و رابع اخللفاء
الراش دون وهو إم ٌام يف الفقه واحلكمة والع دل ؛ اتفقت مجيع امللل على فض له و له مك ارم وحماسن كث رية ليس ه ذا مق ام ذكرها رضي اهلل
عنه.
89
يف ق :تضاعيف كالم.
- 21 -
الكلم ات من كالم األوائل ،مع أن بعض ها من مول دات اخلواطر -وال يبعد أن يقع احلافر على احلافر -
وبعضها يوجد يف الكتب الشرعية ،وأكثرها موجود معناه يف كتب الصوفية.
وهب أهنا مل توجد إال يف كتبهم ،ف إذا ك ان ذلك الكالم معق والً يف نفسه ،مؤي داً بالربه ان ،ومل يكن
فلم ينبغي أن يهجر وي رتك؟ فلو فتحنا ه ذا الب اب ،وتطرقنا إىل أن يهجرعلى خمالفة الكت اب والس نة َ ،
كل حق سبق إليه خاطر مبطل ،للزمنا أن نـهجر كثرياً من احلق ،ولزمنا أن نـهجر مجلة آيات من آيات
الق رآن وأخب ار الرس ول ص لى اهلل عليه وس لّم وحكاي ات الس لف وكلم ات احلكم اء والص وفية ،ألن
صاحب كتاب (( إخوان الصفا )) أوردها يف كتابـه مستشهداً بـها ومستدرجاً قلوب احلمقى بواسطتها
إىل باطل ه ؛ ويتداعى ذلك إىل أن يستخرج املبطلون احلق من أيدينا بإيداعهم إياه كتبهم .وأقل درجات
احلجام ،ويتحقق أنالع امل :أن يتم يز عن الع امي الغُمر ،فال يع اف العسل ،وإن وج ده يف حمجمة َّ
احملجمة ال تغري ذات العسل ،فإن نفرة الطبع عنه مبنية على جهل عامي منشؤه أن احملجمة ،إمنا صنعت
لل دم املس تقذَر ،فيظن أن ال دم مس تقذر لكونه يف احملجمة ،وال ي دري أنه مس تقذر لص فة يف ذاته ؛ ف إذا
ع دمت ( ه ذه ) الص فة يف العسل فكونـه يف ظرفه ال يكس به تلك الص فة ،فال ينبغي أن ي وجب له
االستقذار ،وهذا وهم باطل ،وهو غالب على أكثر اخللق .فإذا نسبت الكالم وأسندته إىل قائل حسن
فيه اعتقادهم ،قبلوه وإن كان باطالً ؛ وإن أسندته إىل من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حق اً .فأبداً
يعرفون احلق بالرجال وال يعرفون الرجال باحلق ،وهو غاية الضالل! هذه آفة الرد.
- 2واآلفة الثانية آفة القب**ول :فإن من نظر يف كتبهم (( ك إخوان الص فا )) وغ ريه ،ف رأى ما مزجوه
بكالمهم من احلكم النبوية ،والكلم ات الص وفية ،رمبا استحس نها وقبلها ،وحسن اعتق اده فيها ،
فيسارع إىل قبول باطلهم املمزوج بـه ،حلسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه ،وذلك نوع استدراج إىل
الباطل.
وألجل ه ذه اآلفة جيب الزجر عن مطالعة كتبهم ملا فيها من الغ در واخلط ر .وكما جيب ص ون من ال
حيسن الس باحة على مزالق الش طوط ،جيب ص ون اخللق عن مطالعة تلك الكتب .وكما جيب ص ون
املعزم أن ال ميس
الص بيان عن مس احليَّات ،جيب ص ون األمساع عن خمتلط الكلم ات وكما جيب على ِّ
احلية بني ي دي ول ده الطفل ،إذا علم أن س يقتدي به ويظن أنه مثله ،بل جيب عليه أن حي ّذره [ منه ] ،
ب أن حيذر هو [ يف ] نفسه [ وال ميس ها ] بني يديه ،فك ذلك جيب على الع امل الراسخ مثله .وكما أن
املع ّزِم احلاذق إذا أخذ احلية وم يز بني الرتي اق والسم ،واس تخرج منها الرتي اق وأبطل السم فليس له أن
الب ،وأخرج منه الق ّ
يشح بالرتياق على احملتاج إليه .وكذا الصراف الناقد البصري إذا أدخل يده يف كيس َ
اإلبريز اخلالص ،واّطرح الزيف والبهرج ،فليس له أن يشح باجليد املرضي على من حيتاج إليه ؛ فكذلك
- 22 -
الع امل .وكما أن احملت اج إىل الرتي اق ،إذا امشأزت نفسه منه ،حيث علم أنه مس تخرج من احلية اليت هي
مركز السم [ وجب تعريفه ] ،والفقري املضطر إىل املال ،إذا نفر عن قبول الذهب املستخرج من كيس
القالّب ،وجب تنبيهه على أن نفرته جهل حمض ،هو س بب حرمأنه الفائ دة اليت هي مطلبه ،وحتتم
تعريفه أن قرب اجلوار بني الزيف واجليد ال جيعل اجليد زيف اً ،كما ال جيعل الزيف جيداً ،فكذلك قرب
اجلوار بني احلق الباطل ،ال جيعل احلق باطالً ،كما ال جيعل الباطل حقاً.
فهذا ( مقدار ) ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها.
- 23 -
وغِائَلته - 3القَو ُل ِفي مَْذَه ِ
ب التَّعلِيم َ
مث إين ملا ف رغت من علم الفلس فة وحتص يله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه ،علمت أن ذلك أيض اً غري
وافٍ بكم ال الغ رض ،وأن العقل ليس مس تقالً باإلحاطة جبميع املط الب ،وال كاش فاً للغط اء عن مجيع
املعض الت .وك ان قد نبغت نابغة التعليمية ،وش اع بين اخللق حتدثهم مبعرفة معىن األم ور من جهة اإلم ام
فعن يل أن أحبث يف مقاالتـهم ،ألطّلع على ما يف كن انتهم .مث اتفق أن ورد علي املعص وم الق ائم ب احلق ّ ،
أمر ج ازم من حض رة اخلالفة ،بتص نيف كت اب يكشف [ عن ] حقيقة م ذهبهم .فلم يس عين مدافعته
وص ار ذلك مس تحثاً من خ ارج ،ض ميمة للب اعث من الب اطن ،فابت دأت بطلب كتبهم ومجع مقاالتـهم.
وكذلك قد بلغين بعض كلماتـهم املستحدثة اليت ولدتـها خواطر أهل العصر ،ال على املنهاج املعهود من
سلفهم .فجمعت تلك الكلمات ( ،ورتبتها ) ترتيب اً حمكم اً مقارن اً للتحقيق ،واستوفيت اجلواب عنها ،
حىت أنكر بعض أهل احلق ( مين ) مب الغيت يف تقرير حجتهم ،فق ال (( :ه ذا س عي هلم ،فأنـهم ك انوا
يعجزون عن نصرة مذهبهم بـمثل هذه الشبهات لوال حتقيقك هلا ،وترتيبك إياها )) .وهذا اإلنكار من
وجه حق ،فقد أنكر أمحد بن حنبل على احلارث احملاسيب ( رمحهما اهلل ) ،تص نيفه يف ال رد على املعتزلة
؛ فقال احلارث (( :الرد على البدعة فرض)) فقال أمحد (( :نعم ،ولكن حكيت شبهتهم أوالً مث أجبت
عنها ؛ فبَم ت أمن أن يط الع الش بهة من يعلق ذلك بفهمه ،وال يلتفت إىل اجلواب ،أو ينظر يف اجلواب
وال يفهم كنهه؟ )).
وما ذك ره أمحد بن حنبل حق ،ولكن يف ش بهة ( مل تنتشر ) ومل تش تهر .فأما إذا انتش رت ،ف اجلواب
عنها واجب وال ميكن اجلواب [ عنها ] إال بعد احلكاي ة .نعم ،ينبغي أن ال يتكلف هلم ش بهة مل [
يتكلفوها ] ؛ ومل أتكلف أنا ذلك ،بل كنت قد مسعت تلك الشبهة من واحد من أصحايب املختلفني إيل
،بعد أن ك ان قد التحق بـهم ؛ وانتحل مذهبـهم ،وحكى أنـهم يض حكون على تص انيف املص نفني يف
ال رد عليهم ،بأنـهم مل يفهم وا بعد حجتهم .مث ذكر تلك احلجة وحكاها عنهم ،فلم أرض لنفسي أن
يظن يف الغفلة عن اصل حجتهم ،فل ذلك أوردتـها ،وال أن يظن يب أين -وإن مسعتها – مل أفهمها
فلذلك قررهتا.
واملقصود ،أين قررت شبهتهم إىل أقصى اإلمكان ،مث أظهرت فسادها [ بغاية الربهان ].
واحلاصل :أنه ال حاصل عند هؤالء ،وال طائل لكالمهم .ولوال سوء نصرة الصديق اجلاهل ،ملا انتهت
تلك البدعة -مع ضعفها -إىل هذه الدرجة ؛ ولكن شدة التعصب ،دعت الذابني عن احلق إىل تطويل
- 24 -
الغزايل الضالل :مذهب التعليم
ُاملِنقُذ مَِن َّ
النـزاع معهم يف مق دمات كالمهم ،وإىل جماحدتـهم يف كل ما نطق وا به ،فجاح دوهم يف دع واهم(( :
احلاجة إىل التعليم واملعلم )) .ويف دع واهم أن ه (( :ال يص لح كل معلم ،بل ال بد من معلم معص وم)) .
وظه رت حجتهم يف إظه ار احلاجة إىل التعليم واملعلم ،وض عف ق ول املنك رين يف مقابلته ،ف اغرت ب ذلك
مجاعة وظنوا أن ذلك من قوة مذهبهم وضعف مذهب املخالفني هلم ،ومل يفهموا أن ذلك لضعف ناصر
احلق وجعله بطريقه ؛ بل الصواب االعرتاف باحلاجة إىل املعلم ،وأنه ال بد وأن يكون ( املعلم ) معصوماً
،ولكن معلمنا املعص وم ( هو ) محمد ص لى اهلل عليه وس لّم ف إذا ق الوا (( :هو ميت )) ،فنق ول(( :
ومعلمكم غ ائب )) ،ف إذا ق الوا (( :معلمنا قد علم ال دعاة وبثهم يف البالد ،وهو ينتظر م راجعتهم إن
اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل )) .فنقول (( :ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم يف البالد وأكمل التعليم إذ
قال اهلل تعاىل:
ُ
وأتممت عليك ْم نعمتي ] )) (املائدة)3 : ُ
أكملت لكم دينكم [ (( اليوم
وبعد كمال التعليم ال يضر موت املعلم كما ال يضر غيبته.
فبقي ق وهلم (( :كيف حتكم ون فيما مل تس معوه؟ أب النص ومل تس معوه ،أم باإلجته اد وال رأي وهو مظنة
اخلالف؟ )) فنق ول (( :نفعل ما فعله مع اذ إذ بعثه رس ول اهلل عليه [ الص الة ] والس الم إىل اليمن :أن
حنكم بالنص ،عند وجود النص وباإلجتهاد عند عدمه ( .90بل ) كما يفعله دعاهتم إذا بعدوا عن اإلمام
إىل أقاصي البالد ،إذ ال ميكنـه أن حيكم بالنص فإن النصوص املتناهية ال تستوعب الوقائع الغري املتناهية ،
وال ميكنـه الرج وع يف كل واقعة إىل بل دة اإلم ام ،وأن يقطع املس افة ويرجع فيك ون املس تفيت قد م ات ،
وف ات االنتف اع ب الرجوع .فمن أش كلت عليه القبلة ليس له طريق إال أن يص لي باالجته اد ،إذ لو س افر
إىل بل دة اإلم ام ملعرفة القبلة ،فيف وت وقت الص الة .ف إذن ج ازت الص الة إىل غري القبلة بن اء على الظن.
صيب أجران )) .91فكذلك يف مجيع اجملتهدات ، ويقال (( :إن املخطيء يف االجتهاد له أجر واح ٌد وللم ِ
ُ ٌ
وكذلك أمر صرف الزكاة إىل الفقري ،فرمبا يظنـه فقرياً باجتهاده وهو غين باطناً بإخفائه ماله ،فال يكون
مؤاخ ذاً بـه وإن أخطأ ،ألنه مل يؤاخذ إال مبوجب ظن ه .ف إن ق ال (( :ظن خمالف ِه كظنه )) ف أقول (( :هو
م أمور باتب اع ظن نفسه ،كاجملتهد يف القبلة يتبع ظنه وإن خالفه غ ريه )) .ف إن ق ال (( :فاملقلد يتبع أبا
حنيفة والش افعي ( رمحهما اهلل ) أم غريمها )) .ف أقول (( :فاملقلد يف القبلة عند االش تباه ،يف معرفة
األفضل األعلم بدالئل القبلة ،فيتبع ذلك االجتهاد ؛ فكذلك يف املذاهب)) .
90
رواه أبو دواد والرتمذي وأمحد.
91
رواه مسلم والبخاري وأبو دواد وابن ماجة والرتمذي والنسائي (اي الستة) وأمحد.
- 25 -
الغزايل الضالل :مذهب التعليم
ُاملِنقُذ مَِن َّ
فرد اخللق إىل االجتهاد -ضرورة -األنبياءُ واألئمة مع العلم بأنـهم ( قد ) خيطئون ،بل قال رسول اهلل
ّ
صلى اهلل عليه وس لّم (( :أنا أحكم بالظاهر واهلل يتوىل السرائر )) .92أي أنا أحكم بغالب الظن احلاصل
من ق ول الش هود ،ورمبا أخط أوا في ه .وال س بيل إىل األمن من اخلطأ لألنبي اء يف مثل ه ذه اجملته دات ،
فيكف يطمع يف ذلك؟
وهلم ها هنا س ؤاالن :أح دمها ق وهلم (( :ه ذا وإن صح يف اجملته دات فال يصح يف قواعد العقائد ،إذ
املخطئ فيه غري معذور ،فكيف السبيل إليه؟ )) فأقول (( :قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة ؛
وما وراء ذلك من التفص يل ،واملتن ازع فيه ،يع رف احلق فيه ب الوزن بالقس طاس املس تقيم .وهي املوازين
اليت ذكرها اهلل ( تعاىل ) يف كتابه ،وهي مخسة ذكرتـها يف كتاب (( القسطاس املستقيم )) .فإن قال(( :
خص ومك خيالفونك يف ذلك امليزان )) .ف أقول (( :ال يتص ور أن يفهم ذلك امليزان مث خيالف فيه [ إذ ال
خيالف فيه ] أهل التعليم ،ألين اس تخرجته من الق رآن وتعلمته منه ،وال خيالف فيه أهل املنطق ،ألنه
موافق ملا ش رطوه يف املنطق ،وغري خمالف له ؛ وال خيالف فيه املتكلم ألنه موافق ملا ي ذكره يف أدلة
فلم ال ترفع
النظريات ،وبه يعرف احلق يف الكالميات )) .فإن قال (( :فإن كان يف يدك مثل هذا امليزان َ
اخلالف بني اخللق؟ )) ف أقول (( :لو أص غوا إيل ل رفعت اخلالف بينهم ؛ وذك رت طريق رفع اخلالف يف
كت اب (( القس طاس املس تقيم )) ،فتأمله لتعلم أنه حق وأنه يرفع اخلالف قطع اً لو أص غوا وال يص غون [
إليه ] ب أمجعهم! بل قد أص غى إيل طائفة ،ف رفعت اخلالف بينهم .وإمامك يريد رفع اخلالف بينهم مع
ومل مل يرفع علي رضي اهلل عنـه ،وهو رأس األئمة؟ أو ي دعي أنهفلم مل يرفع إىل اآلن؟ َ
ع دم إص غائهم َ ،
فلم مل حيملهم إىل اآلن؟ وألي ي وم أجله؟ وهل حصل بني يق در على محل ك افتهم على اإلص غاء قه راً َ ،
اخللق بس بب دعوته إال زي ادة خالف وزي ادة خمالف؟ نعم! ك ان خيشى من اخلالف ن وع الض رر ال ينتهي
إىل سفك الدماء ،وختريب البالد وأيتام األوالد ،وقطع الطرق ،واإلغارة على األموال .وقد حدث يف
الع امل من برك ات رفعكم اخلالف [ من اخلالف ] ما مل يكن مبثله عه د )) .ف إن ق ال (( :ادعيت أنك
ترفع اخلالف بني اخللق ولكن املتحري بني املذاهب املتعارضة ،واالختالف ات املتقابلة ،مل يلزمه اإلص غاء
إليك دون خصمك ،وأكثر اخلصوم خيالفونك ،وال فرق بينك وبينهم)) .
وهذا هو سؤاهلم الثاين فأقول (( :هذا أوالً ينقلب عليك ،فإنك إذا دعوت هذا املتحري إىل نفسك فيقول
املتحري ،مبا ص رت أوىل من خمالفيك ،وأك ثر أهل العلم خيالفونك؟ فليت ش عري! مباذا جتيب ،أجتيب
بأن تقول :إمامي منصوص عليه؟ فمن يصدقك يف دعوى النص ،وهو مل يسمع النص من الرسول؟ وإمنا
92
قال احلافظ العراقي واحلافظ املزي :ال أصل له.
- 26 -
الغزايل الضالل :مذهب التعليم
ُاملِنقُذ مَِن َّ
يس مع دع واك مع تط ابق أهل العلم على اخرتاعك وتك ذيبك .مث هب أنه س لم لك النص ،ف إن ك ان
متح رياً يف أصل النب وة ،فق ال :هب أن إمامك ي ديل مبعج زة عيسى عليه الس الم فيق ول :ال دليل على
ص دقي أين أح يي أب اك ،فأحي اه ،فن اطقين بأنه حمق ،فبم اذا أعلم ص دقه؟ ومل يعلم كافة اخللق ص دق
عيسى عليه الس الم بـهذه املعج زة ،بل عليه من األس ئلة املش كلة ما ال ي دفع إال ب دقيق النظر العقلي ؛
والنظر العقلي ال يوثق به عندك ،وال يعرف داللة املعجزة على الصدق ما مل يعرف السحر والتمييز بينه
وبني املعج زة ،وما مل يع رف أن اهلل ال يضل عب اده - .وس ؤال اإلض الل وعسر [ حترير ] اجلواب عنه
مش هور -فبم اذا ت دفع مجيع ذلك؟ ومل يكن إمامك أوىل باملتابعة من خمالف ه! )) ف ريجع إىل األدلة النظرية
اليت ينكرها ،وخصمه يديل مبثل تلك األدلة وأوضح منها .وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقالب اً عظيما
،لو اجتمع أوهلم وآخرهم على أن جييبوا عنه جواباً مل يقدروا عليه.
وإمنا نشأ الفس اد من مجاعة من الض عفة ن اظروهم ،فلم يش تغلوا ب القلب ،بل ب اجلواب .وذلك مما يط ول
فيه الكالم ،وما ال يس بق س ريعاً إىل اإلفه ام ،فال يصلح لإلفح ام .ف إن ق ال قائ ل (( :فه ذا هو القلب ،
فهل عنه جواب؟ )) فأقول (( :نعم! جوابه أن املتحري لو قال :أنا متحري ،ومل يعني املسألة اليت هو متحري
فيها ،يق ال ل ه :أنت كم ريض يق ول :أنا م ريض وال يعني مرضه ،ويطلب عالجه .فيق ال ل ه :ليس يف
الوجود عالج للمرض املطلق ،بل ملرض معني :من صداع أو إسهال أو غريمها .فكذلك املتحري ينبغي أن
يعني ما هو متحري فيه ؛ ف إن عني املس ألة عرّفته احلق فيها ب الوزن ب املوازين اخلمسة ،اليت ال يفهمها أحد
إال ويعرتف بأنه امليزان احلق ،الذي يوثق بكل ما يوزن به ،فيفهم امليزان ،ويفهم منه أيضاً صحة الوزن
،كما يفهم متعلم علم احلس اب نفس احلس اب ،وك ون احملاسب املعلم عاملاً باحلس اب وص ادقاً فيه )).
وقد أوضحت ذلك يف كتاب (( القسطاس املستقيم )) يف مقدار عشرين ورقة ؛ فليتأمل.
وليس املقصود اآلن بيان فساد مذهبهم ،فقد ذكرت ذلك يف كتاب (( املستظهري )) أوالً ؛ ويف كتاب
(( حجة احلق )) ثاني اً ،وهو ج واب كالم هلم ُع رض علي ببغ داد ؛ ويف كت اب (( مفصل اخلالف ))
الذي هو اثنا عشر فصالً ثالثاً ؛ وهو جواب كالم ُعرض علي بـهمدان ؛ ويف كتاب (( الدرج )) املرقوم
(( باجلداول )) رابع اً ،وهو من ركيك كالمهم ال ذي ُع رض علي بط وس ؛ ويف كت اب (( القس طاس
املستقيم )) خامساً ،وهو كتاب مستقل بنفسه مقصوده بيان ميزان العلوم وإظهار االستغناء عن االمام [
املعصوم ] ملن أحاط به.
- 27 -
الغزايل الضالل :مذهب التعليم
ُاملِنقُذ مَِن َّ
بل املقصود أن هؤالء ليس معهم شيء من الشفاء املنجي من ظلمات اآلراء ،بل هم ،مع عجزهم عن
إقامة الربهان على تعيني اإلمام ،طال ما جاريناهم 93فصدقناهم يف احلاجة إىل التعليم وإىل املعلم املعصوم
وأنه ال ذي عين وه ،مث س ألناهم عن العلم ال ذي تعلم وه من ه ذا املعص وم وعرض نا عليهم إش كاالت فلم
يفهموها ،فض الً عن القيام حبلّها! فلما عجزوا أحالوا [ على ] اإلمام الغائب ،وقالوا ( (( :أنه ) ال بد
من السفر إليه )) .والعجب أنـهم ضيعوا عمرهم يف طلب املعلم ويف التبجح بالظفر به ،ومل يتعلموا منه
94
كاملتضمخ بالنجاسة ،يتعب يف طلب املاء حىت إذا وجده مل يستعمله ،وبقي متضمخاً ّ شيئاً أص الً ،
باخلبائث.
ومنهم من ادعى شيئاً من علمهم ،فكان حاصل ما ذكره شيئاً من ركيك فلسفة فيثاغورس :وهو رجل
من ق دماء األوائل ،ومذهبـه أرك مذاهب الفلس فة ،وقد رد عليه أرس طاطاليس ،بل اس رتكَّ كالمه
واسرتذله ،وهو احملكي يف كتاب (( إخوان الصفا )) ،وهو على التحقيق حشو الفلسفة.
ف العجب ممن يتعب ط ول العمر يف حتص يل العلم مث يقنع مبثل ذلك العلم الركيك املس تغث ،ويظن بأنه
ظفر بأقصى مقاصد العل وم! فه ؤالء أيض اً جربن اهم وس ربنا ظ اهرهم وب اطنهم ؛ فرجع حاص لهم إىل
اس تدراج الع وام ،وض عفاء العق ول ببي ان احلاجة إىل املعلم ،وجمادلتهم يف إنك ارهم احلاجة إىل التعليم
بكالم ق وي مفحم ،حىت إذا س اعدهم على احلاجة إىل املعلم مس اعد ،وق ال (( :ه ات علمه وأف دنا من
تعليمه! )) وقف وقال (( :اآلن إذا سلمت يل هذا فاطلبه ،فإمنا غرضَي هذا القدر فقط )) .إذ علم أنه
لو زاد على ذلك الفتضح ولعجز عن حل أدىن اإلشكاالت ،بل عجز عن فهمه ،فضالً عن جوابـه.
فهذه حقيقة حاهلم فأخربهم َتْقُلهم 95فلما خربناهم 96نفضنا اليد عنهم ( أيضاً ).
93
يف ق :جربناهم.
94
التضمخ :التلطخ ،يقال يف الطيب.
95
اخربهم :امتحنهم ؛ وتقلهم :تبغضهم.
96
يف ق :جربناهم.
- 28 -
وفَّية
طُرق الصُّ ِ
ُ -4
مث إين ،ملا فرغت من هذه العلوم ،أقبلت بـهميت على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنم ا تتم بعلم
وعمل ؛ وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس .والتنـزه عن أخالقها املذمومة وصفاهتا اخلبيثة ،حىت
يتوصل ( بـها ) إىل ختلية القلب عن غري اهلل ( تعالى ) وحتليته بذكر اهلل.
وكان العلم أيسر عليّ من العمل .فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل (( :قوت القلوب ))
أليب ط الب املكي ( رمحه اهلل ) وكتب (( احلارث احملاسيب )) ،واملتفرق ات املأثورة عن ((اجلنيد)) و ((
الشبلي )) و (( أيب يزيد البسطامي )) [ قدس اهلل أرواحهم ] ،وغريهم من املشايخ ؛ حىت اطلعت على
كنه مقاص دهم العلمية ،وحص لت ما ميكن أن حيصل من ط ريقهم ب التعلم والس ماع .فظهر يل أن أخص
خواص هم ،ما ال ميكن الوص ول إليه ب التعلم بل بال ذوق واحلال وتب دل الص فات .وكم من الف رق بني أن
تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابـهما وشروطهما ،وبني أن تكون صحيحاً وشبعان؟ وبني أن تعرف
حد الس كر ،وأنه عب ارة عن حالة حتصل من اس تيالء أخبرة تتص اعد من املع دة على مع ادن الفكر ،وبني
وعلمه وهو س كران وما معه من علمه ش يء! حد الس كر ِأن تك ون س كران! بل الس كران ال يع رف ّ
حد
وما معه من الس كر ش يء .والط بيب يف حالة املرض يع رف ّ الس كر واركأنه َوالص احي يع رف ح ّد ُ َّ
رق بني أن تع رف حقيقة الزهد وش روطه الص حة وأسبابـها وأدويتها ،وهو فاقد الص حة .فك ذلك ف ٌ
وأسبابه ،وبني أن تكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا!
فعلمت يقين اً أنـهم أرباب األحوال ،ال أصحاب األقوال .وأن ما ميكن حتصيله بطريق العلم فقد حصلته
يبق إال ما ال س بيل إليه بالس ماع والتعلم ،بل بال ذوق والس لوك .وك ان ( قد ) حصل معي -من ،ومل َ
إميان يقيينٌ
العلوم اليت مارستها واملسالك اليت سلكتها ،يف التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقليةٌ -
باهلل تعاىل ،وبالنبُّوة وباليوم اآلخر.
بأسباب وقرائن
ٍ فهذه األصول الثالثة من اإلميان كانت قد رسخت يف نفسي ،ال بدليل معني حمرر 97بل
تفاصيلها.
ُ وجتارب ال تدخل حتت احلصر
وكان قد ظهر عندي أنه ال مطمع ( يل ) يف سعادة اآلخرة إال بالتقوى ،وكف النفس عن اهلوى ،وأن
قطع عالقة القلب عن الدنيا بالتجايف عن دار الغرور ،واإلنابة إىل دار اخللود ،واإلقبال رأس ذلك كله ُ ،
97
يف ق :جمرد.
- 29 -
بكُنه اهلمة على اهلل تع اىل .وأن ذلك ال يتم إال ب اإلعراض عن اجلاه واملال ،واهلرب من الش واغل
والعالئق.
مث الحظت أح وايل ؛ ف إذا أنا منغمس يف العالئق ،وقد أح دقت يب من اجلوانب ؛ والحظت أعم ايل –
وأحسنها التدريس والتعليم -فإذا أنا فيها مقبل على علوم غري مهمة وال نافعة يف طريق اآلخرة.
مث تفك رت يف نييت يف الت دريس ف إذا هي غري خالصة لوجه اهلل تع اىل ،بل باعثها وحمركها طلب اجلاه
وانتش ار الص يت ؛ ف تيقنت أين على ش فا ُج ُرف ه ار ،وأين قد أش فيت على الن ار ،إن مل أش تغل بتاليف
األحوال.
بعد على مقام االختيار ،أصمم العزم على اخلروج من بغداد ومفارقة تلك فلم أزل أتفكر فيه مدة ،وأنا ُ
رجال وأؤخر عنه أخ رى .ال تص دق يل رغبة يف طلب األح وال يوم اً ،وأحل الع زم يوم اً ،وأق دم فيه ً
اآلخ رة بك رة ،إال وحيمل عليها جن د الش هوة محلة فيفرتها عش ية .فص ارت ش هوات ال دنيا جتاذبين
بسالس لها إىل املق ام ،ومن ادي اإلميان ين ادي :الرحيل! الرحي ل! فلم يبق من العمر إال قليل ،وبني ي ديك
الس فر الطويل ،ومجيع ما أنت فيه من العلم والعمل ري اء وختيي ل! ف إن مل تس تعد اآلن لآلخ رة فمىت
تس تعد؟ وإن مل تقطع اآلن [ ه ذه العالئق ] فمىت تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ،وينج زم الع زم على
اهلرب والفرار.
مث يعود الشيطان ويقول (( :هذه حال عارضة ،إياك أن تطاوعها ،فأنـها سريعة الزوال ؛ فإن أذعنت هلا
وت ركت ه ذا اجلاه الع ريض ،والش أن املنظ وم اخلايل عن التك دير والتنغيص ،واألمر املس لم الص ايف عن
منازعة اخلصوم ،رمبا التفتت إليه نفسك ،وال يتيسر لك املعاودة)) .
98
فلم أزل أتردد بني جتاذب شهوات الدنيا ،ودواعي اآلخرة ،قريباً من ستة أشهر أوهلا رجب سنة مثان
ومثانني وأربع مائة .ويف هذا الشهر 99جاوز األمر حد االختيار إىل االضطرار ،إذ أقفل اهلل على لساين
حىت اعتقل عن الت دريس ،فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوم اً واح داً تطييب اً لقل وب املختلفة [ إيل ] ،
فكان ال ينطق لساين بكلمة [ واحدة ] وال أستطيعها البتة ،حىت أورثت هذه العقلة يف اللسان حزن اً يف
98
يف بعض النسخ (( سنة ست )).
99
هذا هو قمة األزمة الروحية عندة وسببها هو اخلوف من اهلالك اآلخروي كما قال عبدالغافر الفارسي (( :فتح عليه باب من أبواب
اخلوف )) .ولعل من االسباب اليت أدت إىل هذه األزمة هو دراسة كتب الصوفيني وسريتـهم .ويف هذه الفرتة الزمنية يذكر أبن كثري أن عاملاً
دخل بغ داد ودرس يف الناظمية وعلى يديه ت اب كث ًري من العب اد ورجع وا إىل اهلل وكثري منهم من زهد يف ال دنيا وتنس ك .انظر فيما كتبـه د.
مصطفى حممود أبو صوى عن هذه األزمة وما كتبتة أنا يف هذا املوضوع ،واجلدير بالذكر أن هذه األزمة هي غري (فرتة الشك) اليت عاىن
منها وذكرها يف فصل مداخل السفسطة وجحد العلوم .
- 30 -
القلب ،بطلت معه ق وة اهلضم وم راءة الطع ام والش راب :فك ان ال ينس اغ يل ثريد ،وال تنهضم ( يل )
لقمة ؛ وتعدى إىل ضعف القوى ،حىت قطع األطباء طمعهم من العالج وقالوا (( :هذا أمر نـزل بالقلب
،ومنه سرى إىل املزاج ،فال سبيل إليه بالعالج ،إال بأن يرتوح السر عن اهلم امللم )).
مث ملا أحسست بعجزي ،وسقط بالكلية اختياري ،التجأت إىل اهلل تعاىل التجاء املضطر الذي ال حيلة له
،فأج ابين ال ذي (( جييب املض طر إذا دع اه )) ،وس هل على قليب اإلع راض عن اجلاه واملال ( واألهل
أدب ر يف نفسي س فر الش ام ح ذراً أن يطلع والولد واألص حاب ) ،وأظه رت ع زم اخلروج إىل مكة وأنا ّ
اخلليفة ومجلة األص حاب على ع زمي على املق ام يف الش ام ؛ فتلطفت بلط ائف احليل يف اخلروج من بغ داد
على ع زم أن ال أعاودها أب داً .واس تهدفت ألئمة أهل الع راق كافة ،إذ مل يكن فيهم من جيوز أن يك ون
ديين ،إذ ظنوا أن ذلك هو املنصب األعلى يف الدين ،وكان ذلك مبلغهم لإلعراض عما كنت فيه سبب ّ
من العلم.
مث ارتبك الناس يف االستنباطات ،وظن من ُبعد عن العراق ،أن ذلك كان الستشعار من جهة الوالة ؛ (
وأما من قرب من الوالة ) :كان يشاهد إحلاحهم يف التعلق يب واالنكباب عليَّ ،وإعراضي عنهم ،وعن
االلتفات إىل قوهلم ،فيقولون (( :هذا أمر مساوي ،وليس له سبب إال عني أصابت أهل اإلسالم وزمرة
أهل العلم )).
ففارقت بغداد ،وفرقت ما كان معي من املال ،ومل أدخر إال قدر الكفاف ،وقوت األطفال ،ترخص اً
بأن مال العراق مرصد للمصاحل ،ولكونه وقف اً على املسلمني .فلم أر يف العامل ماالً يأخذه العامل لعياله
أصلح منه.
مث دخلت الشام ،وأقمت به قريباً من سنتني لا شغل يل إال العزلة واخللوة ؛ والرياضة واجملاهدة ،اشتغاالً
بتزكية النفس ،وتـهذيب األخالق ،وتص فية القلب ل ذكر اهلل ( تع اىل ) ،كما كنت حص لته من
كتب 100الص وفية .فكنت أعتكف م دة يف مس جد دمشق ،أص عد من ارة املس جد ط ول النه ار ،وأغلق
بابـها على نفسي.
مث رحلت منها إىل بيت املقدس ،أدخل كل يوم الصخرة ،وأغلق بابـها على نفسي.
يف داعية فريضة احلج ،واالستمداد من بركات مكة واملدينة .وزيارة رسول اهلل صلى اهلل عليه مث حتركت َّ
وسلم بعد الفراغ من زيارة اخلليل صلوات اهلل وسالمه عليه ؛ فسرت إىل احلجاز.
100
يف ق :علم.
- 31 -
مث ج ذبتين اهلمم ،ودع وات األطف ال إىل ال وطن ،فعاودته بعد أن كنت أبعد اخللق عن الرج وع إليه.
فآثرت العزلة [ به ] أيضاً حرصاً على اخللوة ،وتصفية القلب للذكر.
يف وجه املراد ،وتشوش صفوة وكانت حوادث الزمان ،ومهمات العيال ،وضرورات املع اش ، 101تغري َّ
اخللوة .وكان ال يصفو [ يل ] احلال إال يف أقوات متفرقة .لكين مع ذلك ال أقطع طمعي منها ،فتدفعين
عنها العوائق ،وأعود إليها.
ودمت على ذلك مق دار عشر س نني ؛ وانكش فت يل يف أثن اء ه ذه اخلل وات أم ور ال ميكن إحص اؤها
واستقص اؤها ،والق در ال ذي أذك ره لينتفع به :إين علمت يقين اً أن الص وفية هم الس الكون لطريق اهلل (
تعاىل ) خاصة ،وأن سريهتم أحسن السري ،وطريقهم أصوب الطرق ،وأخالقهم أزكى األخالق .بل لو
ُجمع عقل العقالء ،وحكمة احلكماء ،وعلم الواقفني على أسرار الشرع من العلماء ،ليغريوا شيئاً من
س ريهم وأخالقهم ،ويب دلوه مبا هو خري منه ،مل جيدوا إليه س بيالً .ف إن مجيع حركاتـهم وسكناتـهم ،يف
ظ اهرهم وب اطنهم ،مقتبسة من ( ن ور ) مش كاة النب وة ؛ وليس وراء ن ور النب وة على وجه األرض ن ور
يستضاء به.
وباجلملة ،فم اذا يق ول الق ائلون يف طريقة ،طهارتـها -وهي أول ش روطها -تطهري القلب بالكلية عما
سوى اهلل ( تعاىل ) ،ومفتاحها اجلاري منها جمرى التحرمي من الصالة ،استغراق القلب بالكلية بذكر اهلل
،وآخرها الفن اء بالكلية يف اهلل؟ وه ذا آخرها باإلض افة إىل ما يك اد ي دخل حتت االختي ار والكسب من
أوائلها .وهي على التحقيق أول الطريقة ،وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه.
ومن أول الطريقة تبت دئ املكاش فات ( واملش اهدات ) ،حىت أنـهم يف يقظتهم يش اهدون املالئكة ،
وأرواح األنبي اء ويس معون منهم أص واتاً ويقتبس ون منهم فوائ د .مث ي رتقى احلال من مش اهدة الص ور
واألمثال ،إىل درجات يضيق عنها نطاق النطق ،فال حياول معرب أن يعرب عنها إال اشتمل لفظه على خطأ
صريح ال ميكنه االحرتاز عنه.
وعلى اجلملة .ينتهي األمر إىل ق رب يك اد يتخيل منه طائفة احلل ول ،وطائفة االحتاد ،وطائفة الوص ول ،
وكل ذلك خطأ .وقد بينا وجه اخلطأ فيه يف كتاب (( املقصد األسنى )) ؛ بل الذي البسته تلك احلالة ال
ينبغي أن يزيد على أن يقول :
102
فظن خرياً وال تسأل عن اخل ِرب!
َّ لست أذكره
وكان ما كان مما ُ
101
يف ق :املعيشة.
102
هذا البيت البن املعتز.
- 32 -
وباجلملة ،فمن مل يرزق منه شيئاً بالذوق ،فليس يدرك من حقيقة النبوة إال االسم ،وكرامات األولياء
[ ،هي ] على التحقيق ،بدايات األنبياء ،وكان ذلك أول حال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،حني
أقبل إىل جبل (( ح راء )) ،حيث ك ان خيلو فيه بربه ويتعبد ،حىت ق الت الع رب (( :إن حمم داً عشق
ربه!)).
وهذه حالة ،يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها .فمن مل يرزق الذوق ،فيتيقنها بالتجربة والتسامع ،إن
أك ثر معهم الص حبة ،حىت يفهم ذلك بق رائن األح وال يقين اً .ومن جالس هم ،اس تفاد منهم ه ذا اإلميان.
فهم القوم ال يشقى جليسهم .ومن مل يرزق صحبتهم ،فليعلم إمكان ذلك يقين اً بشواهد الربهان ،على
ما ذكرناه يف كتاب (( عجائب القلب )) من كتب (( إحياء علوم الدين )).
والتحقيق بالربه ان علم ،ومالبسة عني تلك احلالة ذوق ،والقب ول من التس امع والتجربة حبسن الظن
إيمان .فهذه ثالث درجات :
)) (اجملادلة:58 : ٍ درجات يرفع هللا الذين آمنوا منكم والذين أوتواـ العلم
ِ ((
)11
ووراء هؤالء قوم جهال ،هم املنكرون ألصل ذلك ،املتعجبون من هذا الكالم ،يستمعون ويسخرون ،
ويقولون :العجب ! أنـهم كيف يهذون ! وفهيم قال اهلل تعاىل :
عندك قالوا للذين ُأوتوا (( ومنـهم من يستمع إليكَ حتى إذا خرجوا من ِ
العلم ماذا قال آنفا ً أولئكـ الذين طبع هللا على قلوبـهم واتبعوا أهواءهم ))
( فأصمهُم وأعمى أبصارهم ) (حممد )16 :47 :
على ومما بان يل بالضرورة من ممارسة طريقتهم (( ،حقيقة النبوة وخاصيتها )) .وال بد من التنبيه
103
103
يف ق :التنويه.
- 33 -
الخلق إليهَا
افة َ
واضطرار كَ ِ
ِ النُبوَّة:
حقيقَة ُ
َ
اعلم :أن ج وهر اإلنس ان يف أصل الفط رة ،خلق خالي اً س اذجاً ال خ بر معه من ع وامل اهلل ( تع اىل )!
والعوامل كثرية ال حيصيها إال اهلل تعاىل كما قال:
(( وما يعلم جنو ُد ربك إال هو )) (املدثر )31 :74 :
وإمنا خربه من العوامل بواسطة اإلدراك ،وكل إدراك من اإلدراكات خلق ليطلع اإلنسان به على عامل من
املوجودات ،ونعين بالعوامل ،أجناس املوجودات.
ف أول ما خيلق يف اإلنس ان حاسة اللمس ،في درك بـها أجناس اً من املوج ودات :ك احلرارة ،وال ربودة ،
والرطوبة واليبوسة ،واللني واخلش ونة ،وغريه ا .واللمس قاصر عن األل وان واألص وات قطع اً ،بل هي
كاملعدوم يف حق اللمس.
مث ختلق له [ حاسة ] البصر ،فيدرك بـها األلوان واألشكال ،وهو أوسع عوامل احملسوسات.
مث ينفخ فيه السمع ،فيسمع األصوات والنغمات.
مث خيلق له ال **ذوق .وك ذلك إىل أن جياوز ع امل احملسوس ات ،فيخلق فيه التمي **يز ،وهو ق ريب من س بع
سنني ،وهو طور آخر من أطوار وجوده :فيدرك فيه أموراً زائدة على ( عامل ) احملسوسات ،ال يوجد
منها شيء يف عامل احلس.
مث يرتقى إىل طور آخر ،فيخلق له العقل ،فيدرك الواجبات واجلائزات واملستحيالت ،وأموراً ال توجد
يف األطوار اليت قبله.
ووراء العقل ط ور آخر تنفتح فيه عني أخ رى يبصر بـها الغيب وما س يكون يف املس تقبل ،وأم وراً ُأخر ،
العقل مع زول عنها كع زل ق وة التمي يز عن إدراك املعق والت وكع زل ق وة احلس عن م دركات التمي يز.
وكما أن املميز لو عرضت عليه مدركات العقل ألباها واستبعدها ،فكذلك بعض العقالء أبوا مدركات
النب وة واس تبعدوها ،وذلك عني اجلهل :إذ ال مس تند هلم إال أنه طور مل يبلغه ومل يوجد يف حقه ،فيظن
أنه غري موج ود يف نفس ه .واألكمه ،لو مل يعلم ب التواتر والتس امع األل وان واألش كال وحكي له ذلك
يقر بـها .وقد قرب اهلل تعاىل على خلقه بأن أعطاهم منوذجاً 104من خاصية النبوة
ابتداء ،مل يفهمها ومل ّ
ً
،وهو النوم :إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب ،إما صرحياً وإما يف كسوة مثال يكشف عنـه التعبري.
وهذا لو مل جيربه اإلنسان من نفسه -وقيل له (( :إن من الناس من يسقط مغشياً عليه كامليت ،ويزول
104
يف ش :أمنوذجاً.
- 34 -
الغزايل الضالل :حقيقة النبوة
ُاملِنقُذ مَِن َّ
( عنه ) إحساسه ومسعه وبص ره في درك الغيب – )) .ألنك ره ،وأق ام الربه ان على اس تحالته ،وق ال(( :
الق وى احلساسة أس باب اإلدراك ،فمن ال ي درك األش ياء مع وجودها وحض ورها ،فب أن ال ي درك مع
ركودها أوىل وأح ق )) .وه ذا ن وع قي اس يكذبه الوج ود واملش اهدة .فكما أن العقل ط ور من أط وار
اآلدمي ،حيصل فيه عني يبصر بـها أنواعاً من املعقوالت ،واحلواس معزولة عنها ،فالنبوة أيض اً عبارة عن
طور حيصل فيه عني هلا نور يظهر يف نورها الغيب ،وأمور ال يدركها العقل.
والشك يف النبوة ،إما أن يقع :يف إمكأنـها ،أو يف وجودها ووقوعها ،أو يف حصوهلا لشخص معني.
ودليل إمكأنـها وجودها .ودليل وجودها وجود معارف يف العامل ال يتصور أن تنال بالعقل ،كعلم الطب
والنجوم ؛ فإن من حبث عنها علم بالضرورة أهنا ال تدرك إال بإهلام إهلي وتوفيق من جهة اهلل ( تعاىل ) ،
وال س بيل إليها بالتجربة .فمن األحك ام النجومية ما ال يقع إال يف كل ألف س نة م رة ،فكيف ين ال ذلك
بالتجربة ؟ وكذلك خواص األدوية .فتبني بـهذا الربهان أن يف اإلمكان وجود طريق إلدراك هذه األمور
اليت ال يدركها العقل -وهو املراد بالنبوة -ال أن النبوة عبارة عنها فقط ،بل إدراك هذا اجلنس اخلارج
عن م دركات العقل إح دى خ واص النب وة ،وهلا خواص كث رية س واها .وما ذكرنا ،فقط رة من حبرها ؛
إمنا ذكرناها ألن معك أُمنوذج اً منها ،وهو م دركاتك يف الن وم ؛ ومعك عل وم من جنس ها يف الطب
والنج وم ،وهي معج زات األنبي اء ( عليهم الص الة والس الم ) ،وال س بيل إليها للعقالء ببض اعة العقل
أصالً.
وأما ما عدا هذا من خواص النبوة ،فإمنا يدرك بالذوق ،من سلوك طريق التصوف ؛ ألن هذا إمنا فهمته
ب أمنوذج رزقته وهو الن وم ،ول واله ملا ص دقت ب ه .ف إن ك ان للنيب خاصة ليس لك منها أمنوذج ،وال
تفهمها أص الً ،فكيف تص دق بـها ؟ وإمنا التص ديق بعد الفهم :وذلك األمنوذج يحصل يف أوائل طريق
التص وف فيحصل به ن وع من ال ذوق بالق در احلاصل ون وع من التص ديق مبا مل حيصل بالقي اس ( إليه ).
فهذه اخلاصية الواحدة تكفيك لإلميان بأصل النبوة.
ف إن وقع لك الشك يف ش خص معني ،أنه نيب أم ال ،فال حيصل اليقني إال مبعرفة أحواله ،إما باملش اهدة
،أو ب التواتر والتس امع ؛ فإنك إذا ع رفت الطب والفقه ،ميكنك أن تع رف الفقه اء واألطب اء مبش اهدة
أح واهلم ،ومساع أق واهلم ،وإن مل تش اهدهم ؛ وال تعجز أيض اً عن معرفة ك ون الش افعي ( رمحه اهلل )
فقيه اً ،وك ون ج الينوس طبيب اً ،معرفة باحلقيقة ال بالتقليد عن الغري [ ،بل ] ب أن تتعلم ش يئاً من الفقه
والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما ،فيحصل لك علم ضروري حباهلما .فكذلك إذا فهمت معىن النبوة
ف أكثرت النظر يف الق رآن واألخب ار ،يحصل لك العلم الض روري بكونه ص لى اهلل عليه وس لم على أعلى
- 35 -
الغزايل الضالل :حقيقة النبوة
ُاملِنقُذ مَِن َّ
درج ات النب وة ،وأعضد ذلك بتجربة ما قاله يف العب ادات وتأثريها يف تص فية القل وب ،وكيف ص دق
صلى اهلل عليه وسلم يف قوله:
105
(( من عمل بما علم ورثهُ هللا علم ما لم يعلم ))
وكيف صدق يف قوله:
106
(( من أعان ظالما ً سلطهُ هللا علي ِه ))
وكيف صدق يف قوله:
(( من اصبح وهُ ُمو ُمهُ ه ٌّم واح ٌد كفاه هللا ( تعالى ) هُ ُمو َم الدنيا واآلخر ِة )).107
فإذا جربت ذلك يف ألف وألفني وآالف ،حصل لك علم ضروري ال تتمارى فيه.
فمن هذا الطريق اطلب اليقني بالنبوة ،ال من قلب العصا ثعبان اً ،وشق القمر ،فإن ذلك إذا نظرت إليه
وح ده ،ومل تنضم إليه الق رائن الكث رية اخلارجة عن احلصر ،ورمبا ظننت أنه س حر وختييل ،وأنه من اهلل
تعاىل إضالل فأنه
ُضلُّ من يَ َشا ُء ويَهدي من يشا ُء )) (فاطر.)8:
(( ي ِ
وترد عليك أسئلة املعجزات ،فإذا كان مستند إميانك إىل كالم منظوم يف وجه داللة املعجزة ،فينجزم
إميانك بكالم مرتب يف وجه اإلشكال والشبهة عليها ،فليكن مثل هذه اخلوارق إحدى الدالئل والقرائن
يف مجلة نظ رك ،حىت حيصل لك علم ض روري ال ميكنك ذكر مس تنده على التع يني كال ذي خيربه مجاعة
خبرب متواتر ال ميكنه أن يذكر أن اليقني مستفاد من قول واحد معني ،بل من حيث ال يدري ،وال خيرج
عن مجلة ذلك وال بتعيني اآلحاد .فهذا هو اإليمان القوي العلمي.
وأما الذوق فهو كاملشاهدة واألخذ باليد ،وال يوجد إال يف طريق الصوفية.
فهذا القدر من حقيقة النبوة ،كاف يف الغرض الذي أقصده اآلن ،وسأذكر وجه احلاجة إليه.
105
غري موجود يف كتب احلديث املشهورة.
106
رواه أبن عساكر عن أبن مسعود وهو حديث ضعيف.
107
رواه أبن ماجة عن أبن مسعود واسناده ضعيف ،فيه نـهشل بن سعيد .قيل فيه أنه يروى املناكري ،وقيل بل املوضوعات.
- 36 -
َسبَب نشر ال ِع ْلم ب َع ْد اإلع َر ِ
اض َعنـه
مث إين ،ملا واظبت على العزلة واخلل وة قريب اً من عشر س نني ،ب ان يل يف أثن اء ذلك على الض رورة من
أسباب ال أحصيها ،مرة بالذوق ،ومرة بالعلم الربهاين ،ومرة بالقبول اإلمياين :أن اإلنسان خلق من
ب دن وقلب - 108وأعين ب القلب حقيقة روحه اليت هي حمل معرفة اهلل ،دون اللحم وال دم ال ذي يش ارك
فيه امليت والبهيمة ، -وأن البدن له صحة بـها سعادته ومرض فيه هالكه ؛ وأن القلب كذلك له صحة
وس المة ،وال ينجو (( إال من أتى هللا بقلب سليم )) (الش عراء )89:؛ وله مرض فيه هالكه األب دي
األخ روي ،كما ق ال تع اىل (( :في قلوبـهم مرضٌ ))( 109البق رة )10:وأن اجلهل باهلل سم مهلك ؛
وأن معصية اهلل ،مبتابعة اهلوى ،داؤه املمرض ،وأن معرفة اهلل تعاىل ترياقه احمليي ،وطاعته مبخالفة اهلوى
،دواؤه الش ايف ؛ وأنه ال س بيل إىل معاجلت ة بازالة مرضه وكسب ص حته ،اال بأدوية ؛ كما ال س بيل إىل
معاجلة الب دن إال ب ذلك .وكما أن أدوية الب دن ت ؤثر يف كسب الص حة خباص ية فيها ،ال ي دركها العقالء
ببضاعة العقل ،بل جيب فيها تقليد األطباء الذين أخذوها من األنبياء ،الذين اطلعوا خباصية النبوة على
خ واص األش ياء ،فك ذلك ب ان يل ،على الض رورة ،ب أن أدوية العب ادات حبدودها ومقاديرها احملدودة
املقدرة من جهة األنبياء ،ال يدرك وجه تأثريها ببضاعة عقل العقالء ،بل جيب فيها تقليد األنبياء الذين
أدرك وا تلك اخلواص بن ور النب وة ،ال ببض اعة العق ل .وكما أن األدوية ت ركب من ( أخالط خمتلفة )
الن وع واملق دار وبعض ها ض عف البعض يف ال وزن واملق دار ،فال خيلو اختالف مقاديرها عن سر هو من
قبيل اخلواص ،فك ذلك العب ادات اليت هي أدوية داء القل وب ،مركبة من أفع ال خمتلفة الن وع واملق دار ،
حىت أن الس جود ض عف الرك وع ،وص الة الص بح نصف ص الة العصر يف املق دار ؛ وال خيلو عن سر من
االس رار ،هو من قبيل اخلواص اليت ال يطلع عليها اال بن ور النب وة .ولقد حتامق وجتاهل ج داً من أراد أن
يستنبط ،بطريق العقل ،هلا حكمة ،أو ظن أنـها ذكرت على االتفاق ،ال عن سر إهلي فيها ،يقتضيها
بطريق اخلاص ية .وكما أن يف األدوية أص والً هي أركأنـها ،وزوائد هي متمماهتا ،لكل واحد منها
خصوص تأثري يف أعمال أصوهلا ،كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آثار أركان العبادات.
108
يف ق :أن لإلنسان بدناً وقلباً.
109
ذكرت يف القرآن عشر مرات بـهذا اللفظ.
- 37 -
الغزايل الضالل :سبب نشر العلم
ُاملِنقُذ مَِن َّ
عرفنا ذلكوعلى اجلملة :فاألنبي اء عليهم الس الم أطب اء أم راض القل وب ،وإمنا فائ دة العقل وتص رفه أن ّ
وشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز 110عن درك ما يدرك بعني النبوة ،وأخذ بأيدينا وسلمنا ( إليها )
تس ليم العمي ان إىل القائ دين ،وتس ليم املرضى املتح ريين إىل األطب اء املش فقني .ف إىل ههنا جمرى العقل
وخمطاه وهو معزول عما بعد ذلك ،إال عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه.
فهذه أمور عرفناها بالضرورة اجلارية جمرى املشاهدة ،يف مدة اخللوة والعزلة.
مث رأينا فت ور االعتق ادات يف أصل النب وة ،مث يف حقيقة النب وة ،مث يف العمل مبا ش رحته النب وة ،وحتققنا
شيوع ذلك بني اخللق ؛ فنظرت إىل أسباب فتور اخللق ،وضعف إميأنـهم ،فإذا هي أربعة :
- 1سبب من اخلائضني يف علم الفلسفة ؛
- 2وسبب من اخلائضني يف طريق التصوف ؛
- 3وسبب من املنتسبني اىل دعوى التعليم ؛
-4وسبب من معاملة الموسومين بالعلم فيما بني الناس.
أل من أن يقصر منهم يف متابعة الش رع ( واس أله ) عن ش بهته وأحبث
ف إين تتبعت م دةً آح اد اخللق ،أس ُ
عن عقيدته وس ره وقلت ل ه (( :ما لك تقصر فيها ف إن كنت ت ؤمن ب اآلخرة ولست تس تعد هلا وتبيعها
بالدنيا ،فهذه محاقة! فإنك ال تبيع االثنني بواحد ،فكيف تبيع ما ال نـهاية له بأيام معدودة؟ وإن كنت
ال ت ؤمن ،ف أنت ك افر! ف دبر نفسك يف طلب اإلميان ،وانظر ما س بب كف رك اخلفي ال ذي هو م ذهبك
باطناً ،وهو سبب جرأتك ظاهراً ،وإن كنت ال تصرح به جتمالً باإلميان وتشرفاً بذكر الشرع ! )).
فقائل يق **ول (( :إن ه ذا أمر لو وجبت احملافظة عليه ،لك ان العلم اء أج در ب ذلك ؛ وفالن من املش اهري
بني الفضالء ال يصلي ،وفالن يشرب اخلمر ،وفالن يأكل أموال األوقاف وأموال اليتامى ،وفالن يأكل
إدرار الس لطان وال حيرتز عن احلرام ،وفالن يأخذ الرش وة على القض اء والش هادة ! وهلم ج راً إىل
أمثاله)) .
وقائل ثان :يدعي ( علم ) التصوف ،ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقّى عن احلاجة إىل العبادة!.
وقائل ثالث :يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل اإلباحة!
وهؤالء هم الذين ضلوا عن التصوف.
110
يف ق :بالعمى.
- 38 -
الغزايل الضالل :سبب نشر العلم
ُاملِنقُذ مَِن َّ
وقائل رابع لقي أهل التعليم فيق ول (( :احلق مش كل ،والطريق إليه متعسر ، 111واالختالف فيه كثري ،
وليس بعض املذاهب أوىل من بعض ،وأدلة العق ول متعارضة ،فال ثقة ب رأي أهل ال رأي ،وال داعي إىل
التعليم متحكم ال حجة له ،فكيف أدع اليقني بالشك ؟ )).
وقائل خامس يقول (( :لست أفعل هذا تقليداً ،ولكين قرأت علم الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة ،وإن
حاصلها يرجع إىل احلكمة واملصلحة ،وأن املقصود من تعبداتـها :ضبط عوام اخللق وتقيي دهم عن التقاتل
والتن ازع واالسرتس ال يف الش هوات ،فما أنا من الع وام اجله ال حىت أدخل يف حجر التكليف ،وإمنا أنا
من احلكماء أتبع احلكمة وأنا بصير بـها ،مستغن فيها عن التقليد ! )).
ه ذا منتهى إميان من ق رأ ( م ذهب ) فلس فة اإلهليني منهم ؛ وتعلم ذلك من كتب ابن س ينا وأيب نصر
الفارايب .وهؤالء هم املتجملون باإلسالم.
ورمبا ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ،وحيضر اجلماعات والصلوات ،ويعظم الشريعة بلسأنه ،ولكنه مع
ذلك ال يرتك شرب اخلمر ،وأنواعاً من الفسق والفجور! وإذا قيل له(( :إن كانت النبوة غري صحيحة ،
فلم تص لي ؟ )) فرمبا يق ول (( :لرياضة اجلسد ،ولع ادة أهل البلد ،وحفظ املال والولد! )) .ورمبا ق ال:
فلم تش رب اخلمر؟ )) فيق ول (( :إمنا نـهي عن اخلمر((الش ريعة ص حيحة ،والنب وة حق! )) فيق الَ (( :
ألنـها تورث العداوة والبغضاء ،وأنا حبكميت حمرتز عن ذلك ،وإين أقصد به تشحيذ خاطري )).حىت أن
ابن سينا ذكر يف وصية له كتب فيها :أنه عاهد اهلل تعاىل على كذا وكذا ،وأن يعظم األوضاع الشرعية
،وال يقصر يف العب ادات الدينية ،وال يش رب تلهي اً بل ت داوياً وتش افياً ؛ فك ان منتهى حالته يف ص فاء
اإلميان ،والتزام العبادات ،أن استثىن شرب اخلمر لغرض التشايف.
فه ذا إميان من ي دعي اإلميان منهم .وقد اخندع بـهم مجاعة ،وزادهم اخنداعاً ض عف اع رتاض املعرتضني
عليهم ،إذ اعرتض وا مبجاه دة علم اهلندسة واملنطق ،وغري ذلك مما هو ض روري هلم ،على ما بينا علته
من قبل.
فلما رأيت أص ناف اخللق قد ض عف إيـمأنـهم إىل ه ذا احلد بـهذه األس باب ،ورأيت نفسي ملبة بكشف
هذه الشبهة ،حىت كان إفضاح هؤالء أيسر عندي من شربة ماء ،لكثرة خوضي يف علومهم [ وطرقهم
] -أعين [ ط رق ] الص وفية والفالس فة والتعليمية واملتومسني من العلم اء ، -انق دح يف نفسي أن ذلك
متعني يف ه ذا ال وقت ،حمت وم .فم اذا تغنيك اخلل وة والعزلة ،وقد عم ال داء ،وم رض األطب اء ،وأش رف
اخللق على اهلالك؟ مث قلت يف نفس ي (( :مىت تش تغل أنت بكشف ه ذه الغمة ومص ادمة ه ذه الظلمة ،
111
يف ق :والطريق متعسرة.
- 39 -
الغزايل الضالل :سبب نشر العلم
ُاملِنقُذ مَِن َّ
والزم ان زم ان الف رتة ،وال دور دور الباطل ،ولو اش تغلت ب دعوة اخللق ،عن ط رقهم إىل احلق ،لع اداك
أهل الزمان بأمجعهم ،وأنـَّى تقاومهم فكيف تعايشهم ،وال يتم ذلك إال بزمان مساعد ،وسلطان متدين
قاهر؟ ))
فرتخصت بيين وبني اهلل تعاىل باالستمرار على العزلة تعلالً بالعجز عن إظهار احلق باحلجة .فقدر اهلل تعاىل
أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه ،ال بتحريك من خارج .فأمر أمر إلزام بالنهوض إىل نيسابور ،
لت دارك ه ذه الف رتة .وبلغ اإلل زام ح داً ك ان ينتهي ،لو أص ررت على اخلالف ،إىل حد الوحشة .فخطر
يل أن س بب الرخصة قد ض عف ،فال ينبغي أن يك ون باعثك على مالزمة العزلة الكسل واالس رتاحة ،
وطلب عز النفس وصوهنا عن أذى اخللق ،ومل ترخص لنفسك ُعسَْر معاناة اخللق ،واهلل سبحأنه وتعاىل
يقول:
ب النــاسُ أن يُـتركوا أن يقولــوا آمنـا ً وهم ال ُيَفَتنــونَ (( بسم هللا الرحمن الرحيم :الم .أحَ ِ
س َ
فتنا الذينَ من قبلهم )) اآلية (العنكبوت) 3-1 : ولقد ّ
ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه:
فصبروا على ما كُـّذبوا وأُوذوا ،حــتى أتــاهم نصـرُنا ؛ وال ت ُرس ٌل من قبلكَ َ (( ولقدَ ُكّذَب ْ
ت هللا ،ولقد جاءك من نبأ المرسلين )) ( األنعام) 34: مبَ ّد َل لكلما ِ
ويق ول عز وجل (( :بسم هللا الــرحمن الــرحيم :يس والقــرآن الحكيم )) ...إلى قوله (( إنما
ب )) ( .يس) 11-1: تنذ ُر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغي ِ
فش اورت يف ذلك مجاعة من أرب اب القلوب واملش اهدات ،فاتفقوا على اإلش ارة ب رتك العزلة ،واخلروج
من الزاوية ؛ وانض اف إىل ذلك منامات من الص احلني كثرية متواترة ،تشهد بأن هذه احلركة مب دأ خري
الظن بس بب ه ذه ورشد قدّرها اهلل س بحأنه على رأس ه ذه املائة 112؛ فاس تحكم الرج اء ،وغلب حسن ّ
الش هادات وقد وعد اهلل س بحأنه بإحي اء دينه على رأس كل مائة .ويسّر اهلل تع اىل احلركة إىل نيس ابور ،
للقيام بـهذا املهم يف ذي القعدة ،سن تسع وتسعني وأربع مائة .وك ان اخلروج من بغداد يف ذي القع دة
سنة مثان ومثانني وأربع مائة .وبلغت مدة العزلة إحدى عشر سنة .وهذه حركة قدّرها اهلل تعاىل ( ،وهي
) من عجائب تقديراته اليت مل يكن هلا انقداح يف القلب يف هذه العزلة ،كما مل يكن اخلروج من بغداد ،
والنـزوع عن تلك األحوال مما خطر إمكأنه أصالً بالبال ؛ واهلل تعاىل مقلب القلوب واألحوال و (( قلب
112
أبو دواد واحلاكم عن أبو هريرة عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال (( :إن اهلل يبعث هلذه األمة على رأس كل مائة سنة من جيدد
هلا دينها )).
- 40 -
أصابع الــرحمن )) .113وأنا أعلم أين ،وإن رجعت إىل نشر العلم ،فماِ المؤمن بين إصبعين من
ود إىل ما ك ان ،وكنت يف ذلك الزم ان أنشر العلم ال ذي به يكتسب اجلاه ، رجعت! ف إن الرج وع َع ٌ
وأدعو إليه بق ويل وعملي ،وك ان ذلك قص دي وني يت .وأما اآلن ف أدعو إىل العلم ال ذي به ُي رتك اجلاه ،
ويعرف بـه سقوط رتبة اجلاه.
ه ذا هو اآلن نييت وقص دي وأمنييت ؛ يعلم اهلل ذلك مين ؛ وأنا أبغي أن أص لح نفسي وغ ريي ،ولست
أدري أأصِل مرادي أم ُأخرتم 114دون غرضي؟ ولكين اؤمن إميان يقني ومشاهدة أنه ال حول وال قوة إال
باهلل ( العلي العظيم ) ؛ وأين مل أحترك ،لكنه حركين ؛ وإين مل أعمل ،لكنه اس تعملين ؛ فأس أله أن
يص لحين أوالً ،مث ُيص لح يب ،ويهديين ،مث يه دي يب ؛ وأن يريين احلق حق اً ،ويرزقين اتباعه ،ويريين
الباطل باطالً ،ويرزقين اجتنابه.
* * *
ونعود اآلن إىل ما ذكرناه من أسباب ضعف اإلميان بذكر طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم:
أما ال* **ذين ادع* **وا الح* **يرة بما س* **معوه من أهل التعليم ،فعالجهم ما ذكرن اه يف كت اب (( القس طاس
املستقيم )) وال نطول بذكره ( يف ) هذه الرسالة.
وأما ما توهمه أهل اإلباحة ،فقد حص رنا ش بههم يف س بعة أن واع وكش فناها يف كت اب (( كيمي اء
السعادة )).
وأما من فسد إيمأنه بطريق الفلس* * **فة ،ح* * **تى أنكر أصل النب* * **وة ،فقد ذكرنا حقيقة النب وة ووجودها
بالضرورة ،بدليل وجود ( علم ) خواص األدوية والنجوم وغريمها .وإمنا قدمنا هذه املقدمة ألجل ذلك.
وأنـما أوردنا ال دليل من خ واص الطب والنج وم ،ألنه من نفس علمهم .وحنن ن بني لكل ع امل بفن من
العلوم ،كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات ، 115مثالً من نفس علمه ،برهان النبوة.
وأما من أثبت النبوة بلسأنه ،وسوى أوض*اع الش*رع على الحكمة ،فهو على التحقيق كافر بالنبوة ،
وإمنا هو مؤمن حبكم له طالع خمصوص ،يقتضي طالعه أن يكون متبوعاً ؛ وليس هذا من النبوة يف شيء.
بل اإلميان بالنبوة :أن يقر بإثبات طور وراء العقل ،تنفتح فيه عني يدرك بـها مدركات خاصة ،والعقل
113
مسلم وأمحد عن عبداهلل بن عمرو بن العاص ويوجد يف الرتمذي وأبن ماجه روايات مشابـهه عن أخرون.
114
يقال :اخرتمة املنية ،أى أخذته.
115
هذا اللفظ من أصل يوناين وهو من مصطلحات السحر :خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بـها روحانيات الكواكب العلوية
بالطبائع السفلية .راجع املعجم الوسيط.
- 41 -
معزول عنها ،كعزل السمع عن إدراك األلوان ،والبصر عن إدراك األصوات ،ومجيع احلواس عن إدراك
جيوز ه ذا ،فقد أقمنا الربه ان على إمكأنه ،بل على وج وده .وإن ج وز ه ذا ،فقد املعق والت .ف إن مل ّ
أثبت ،أن ههنا أم وراً تس مى خ واص ،ال ي دور تص رف العقل حواليها أص الً ،بل يك اد العقل يكذبـها
ويقضي باس تحالتها .ف إن وزن دانق 116من األفي ون ،سم قاتل ألنه جيمد ال دم يف الع روق لف رط برودته.
وال ذي ي دعي علم الطبيعة ،ي زعم أنه ما ي ربد من املركب ات ،إمنا ي ربد بعنص ري املاء وال رتاب ؛ فهما
العنصران الباردان .ومعلوم أن أرطاالً من املاء والرتاب ال يبلغ تربيدها يف الباطن إىل هذا احلد .فلو أخرب
ط بيعي بـهذا ومل جيربـه ،لق ال (( :ه ذا حمال ،وال دليل على اس تحالته أن فيه نارية وهوائية ،واهلوائية
والنارية ال تزي دها ب رودة ؛ فنق در الكل م اء وتراب اً ،فال ي وجب ه ذا اإلف راط يف التربيد .ف إن انضم إليه
حارّان فبأن ال يوجب ذلك أوىل )) .ويقدر هذا برهان اً! وأكثر براهني الفالسفة يف الطبيعيات واإلهليات
،مبين على ه ذا اجلنس! فأنـهم تص وروا األم ور على ق در ما وج دوه وعقل وه ،وما لم ي ألفوه ق دروا
دع ،أنه عند رك ود احلواس ،يعلم الغيب ، الرْؤيا الص ادقة مألوفة ،وادعى م ٍاس تحالته ،ولو مل تكن ُ
ألنكره املتصفون مبثل هذه العقول .ولو قيل لواحد :هل جيوز أن يكون يف الدنيا شيء ،هو مبقدار حبة ،
يوضع يف بلدة فيأكل تلك البلدة جبملتها مث يأكل نفسه فال ُيبقي [ شيئاً ] من البلدة وما فيها ،وال يبقى
هو نفسه؟ )) لقال (( :هذا لمحال وهو من مجلة اخلرافات! )) وهذه حالة النار ،ينكرها من مل َير النار
إذا مسعها .وأكثر [ إنكار ] عجائب اآلخرة هو من هذا القبيل .فنقول للطبيعي (( :قد اضطررت إىل أن
فلم ال جيوز أن يك ون يفتق ول :يف األفي ون خاص ية يف التربيد ،ليست على قي اس املعق ول بالطبيع ةَ .
األوضاع الشرعية من اخلواص ،يف مداواة القلوب وتصفيتها ،ما ال يدرك باحلكمة العقلية ،بل ال يبصر
ذلك إال بعني النب وة؟ )) بل قد اع رتفوا خبواص هي أعجب من ه ذا فيما أوردوه يف كتبهم ،وهي من
اخلواص العجيبة اجملربة يف معاجلة احلامل اليت عسر عليها الطلق ،بـهذا الشكل:
يكتب على خرق تني مل يص بهما م اء ،وتنظر إليهما احلامل بعينها ،وتض عهما حتت ق دميها ،فيس رع
الولد يف احلال إىل اخلروج .وقد أق روا بإمك ان ذلك وأوردوه يف (( عجائب اخلواص )) ؛ وهو شكل فيه
116
الدانق (بفتح النون وكسرها) :سدس الدرهم.
- 42 -
تسعة بيوت ،يرقم فيها رقوم خمصوصة ،يكون جمموع ما يف جدول واحد مخسة عشر ،قرأته يف طول
الشكل أو يف عرضه أو على التأريب.117
فيا ليت ش عري! من يص دق ب ذلك ،مث ال يتسع عقله للتص ديق ،ب أن تق دير ص الة الص بح بركع تني ،
والظهر ب أربع ،واملغرب بثالث ،هو خلواص غري معلومة بنظر احلكمة؟ وس ببها اختالف ه ذه األوق ات.
وإمنا ت درك ه ذه اخلواص بن ور النب وة .والعجب أنـَّا لو غرينا العب ارة إىل عب ارة املنجمني ،لعقل وا اختالف
هذه األوقات ،فنقول (( :أليس خيتلف احلكم يف الطالع ،بأن تكون الشمس يف وسط السماء ،أو يف
الطالع ،أو يف الغارب ،حىت يبنوا على هذا يف تسيرياتـهم اختالف العالج ،وتفاوت األعمار واآلجال ،
وال فرق بني الزوال وبني كون الشمس يف وسط السماء ،وال بني املغرب وبني كون الشمس يف الغارب
،فهل لتصديق ذلك سبب؟ )) إال أن ذلك يسمعه بعبارة منجم ،لعله جرب كذبه مائة مرة .وال يزال
يع اود تص ديقه ،حىت لو ق ال املنجم [ له ] (( :إذا ك انت الش مس يف وسط الس ماء ،ونظر إليها
الكوكب الفالين ،والطالع هو الربج الفالين ،فلبست ثوباً جديداً يف ذلك الوقت قتلت يف ذلك الثوب!
)) فأنه ال يلبس الث وب يف ذلك ال وقت ،ورمبا يقاسي فيه ال ربد الش ديد ،ورمبا مسعه من منجم وقد
عرف 118كذبـه مرات!.
فليت ش عري! من يتسع عقله لقب ول ه ذه الب دائع ويض طر إىل االع رتاف بأنـها خ واص -معرفتها معج زة
لبعض األنبي اء -فيكف ينكر مثل ذلك ،فيما يس معه من ق ول نيب ص ادق مؤيد ب املعجزات ،لم يع رف
قط بالكذب! ( ومل ال يتسع إلمكأنه! ).
فإن أنكر فلسفي إمكان هذه اخلواص يف أعداد الركعات ،ورمي اجلمار ،وعدد أركان احلج ،وسائر
تعبدات الشرع ،مل جيد بينها وبني خواص األدوية والنجوم فرق اً أص الً .فإن قال (( :قد جربت شيئاً من
النجوم وشيئاً من الطب ،فوجدت بعضه ص ادقاً ،فانقدح يف نفسي تصديقه وسقط من قليب استبعاده
ونفرته ؛ وهذا مل أجربه ،فبم أعلم وجوده وحتقيقه؟ )) وإن أقررت بإمكأنه ،فأقول (( :إنك ال تقتصر
على تصديق ما جربته بل مسعت أخبار اجملربني وقلدتـهم ،فامسع أقوال األنبياء فقد جربوا وشاهدوا احلق
يف مجيع ما ورد بـه الشرع ،واسلك سبيلهم تدرك باملشاهدة بعض ذلك)).
على أين أق ول (( :وإن مل جتربه ،فيقضي عقلك بوج وب التص ديق واإلتب اع قطع اً .فإنا لو فرض نا رجالً
بلغ وعقل ومل جيرب ( املرض ) ،فم رض ،وله والد مش فق ح اذق ب الطب ،يس مع دع واه يف معرفة
117
يف ش ( :أو جوانبه) بدالً من (أو على التأريب).
118
يف ق :جرب.
- 43 -
الطب منذ عقل ،فعجن له وال ده دواء ،فق ال (( :ه ذا يص لح ملرضك ويش فيك من س قمك )) .فم اذا
يقتض يه عقله ،إن ك ان ال دواء م راً كريه املذاق ،أن يتن اول؟ أ َو َيك ذب ويق ول (( :أنا [ ال ] أعقل
مناس بة ه ذا ال دواء لتحص يل الش فاء ،ومل أجرب ه! )) فال شك أنك تس تحمقه إن فعل ذل ك! وك ذلك
يس تحمقك أهل البص ائر يف توقف ك! ف إن قلت (( :فبَم أع رف ش فقة النيب ص لى اهلل عليه وس لم ومعرفته
بـهذا الطب؟ )) ف أقول (( :ومب ع رفت [ ش فقة أبيك ] وليس ذلك أم راً حمسوس اً؟ بل عرفتها بق رائن
أحواله وشواهد أعماله يف مصادره وموارده علماً ضرورياً ال تتمارى فيه)) .
ومن نظر يف أق وال رس ول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم ،وما ورد من األخب ار يف اهتمامه بإرش اد اخللق ،
جر الن اس ب أنواع الرفق 119واللطف ،إىل حتسني األخالق وإص الح ذات ال بني ،وباجلملة إىل وتلطفه يف ّ
ما يصلح به دينهم ودنياهم ،حصل له علم ضروري ،بأن شفقته صلى اهلل عليه وسلم على أمته أعظم
من شفقة الوالد على ولده.
وإذا نظر إىل عج ائب ما ظهر عليه من األفع ال ،وإىل عج ائب الغيب ال ذي أخرب عنه الق رآن على لس أنه
ويف األخبار ،وإىل ما ذكره يف آخر الزمان ،فظهر ذلك كما ذكره ،علم علم اً ضرورياً أنه بلغ الطور
ال ذي وراء العقل ،وانفتحت له العني اليت ينكشف منها الغيب ال ذي ال يدركه إال اخلواص ،واألم ور
اليت ال يدركها العقل.
فهذا هو منهاج حتصيل العلم الضروري بتصديق النيب صلى اهلل عليه وسلم .فجرب وتأمل القرآن وطالع
األخبار ،تعرف ذلك بالعيان.
وهذا القدر يكفي يف تنبيه املتفلسفة ،ذكرناه لشدة احلاجة إليه يف هذا الزمان.
وأما السبب الرابع -وهو ضعف اإلميان بسبب سرية العلماء -فيداوي هذا املرض بثالثة أمور:
أحدها :أن تقول (( :إن العامل الذي تزعم أنه يأكل احلرام ومعرفته بتحرمي ذلك احلرام كمعرفتك بتحرمي
اخلمر [ وحلم اخلنـزير ] والربا ،بل بتحرمي الغيبة والكذب والنميمة ،وأنت تعرف ذلك وتفعله ،ال لعدم
إميانك بأنه معص ية ،بل لش هوتك الغالبة عليك ؛ فش هوته كش هوتك ،وقد غلبته كما غلبتك ،فعلمه
مبسائل وراء هذا يتميز به عنك ،ال يناسب زيادة زجر عن هذا احملظور املعني.
(( وكم من مؤمن بالطب ال يصرب عن الفاكهة وعن املاء البارد ،وإن زجره الطبيب عنه! وال يدل ذلك
على أنه غري ضار ،أو على ان اإلميان بالطب غري صحيح ،فهذا حممل هفوات العلماء)) .
119
يف ق زاد :واللني.
- 44 -
الث**اني :أن يقال للعامي (( :ينبغي أن تعتقد أن العامل اختذ علمه ذخراً لنفسه يف اآلخرة ،ويظن أن علمه
ينجيه ،ويك ون ش فيعاً له حىت يتس اهل معه يف أعماله ،لفض يلة علم ه .وإن ج از أن يك ون زي ادة حجة
عليه ،فهو جيوز أن يك ون زي ادة درجة له ،وهو ممكن .فهو ،وإن ت رك العمل ،ي ديل ب العلم .وأما أنت
أيها الع امي! إذا نظ رت إليه وت ركت العمل وأنت عن العلم عاطل ،فتهلك بس وء عملك وال ش فيع
لك! ))
الث **الث :وهو احلقيقة ،أن الع امل احلقيقي ،ال يق ارف معص ية إال على س بيل اهلف وة ،وال يك ون مص راً
يعرف أن املعصية سمٌ مهلك ،وأن اآلخرة خري من الدنيا .ومن على املعاصي أص الً .إذ العلم احلقيقي ما ّ
عرَف ذلك ،ال يبيع اخلري مبا هو أدىن [ منه ].
وه ذا العلم ال حيصل ب أنواع العل وم اليت يش تغل بـها أك ثر الن اس .فل ذلك ال يزي دهم ذلك العلم إال ج رأة
على معص ية اهلل تع اىل .وأما العلم احلقيقي ،فيزيد ص احبه خش ية وخوف اً [ ورج اءً ] ،وذلك حيول بينه
وبين املعاصي إال اهلف وات اليت ال ينفك عنها البشر يف الف رتات ،وذلك ال ي دل على ض عف اإلميان.
اب ،وهو بعيدٌ عن اإلصرار واإلكباب. تو ٌ
فاملؤمن مفنتٌ ّ
- 45 -
هذا ما أردت أن أذكره يف ذم الفلسفة والتعليم وآفاتـهما وآفات من أنكر عليهما ،ال بطريقه.
نس أل اهلل العظيم أن جيعلنا ممن آث ره واجتب اه ،وأرش ده إىل احلق وه داه ،وأهلمه ذك ره حىت ال ينس اه ،
وعصمه عن شر نفسه حىت مل يؤثر عليه سواه ،واستخلصه لنفسه حىت ال يعبد إال إياه.
- 46 -
مالحظه عن النص والتحقيق:
بسم هللا الــرحمن الــرحيم ،وبـه نســتعين ،والصــالة والســالم على رســول هللا ؛ الحمد هلل
التي تمم بـه الصالحات وبفضله تنـزل البركات .نص هــذا الكتــاب نقل من موقع الــوراق
االمارتي -ولهم منا جزيل الشكر -وقد أُدخل عليه تعديالت و اكمــال بعض النقص الــذي
كــــان في النص و تصــــحيحات هامة مع مقارنة النص بطبعة دار الكتب العلمية لعــــام
1988م بتحقيق أحمد شــمس الــدين ؛ والطبعة الخامسة الــتي حققها كل من األســتاذ كامل
عيَّاد و األستاذ جميل صليبا كما وردت في سلسة الروائع االنسانية مع الترجمة الفرنســية
لفريد جبر.و قد ذكرنا االختالف بين النسختين في الهامش و حاولنا على قــدر المســتطاع
اثبات ما هو صــحيح في صــدر الكتــاب .ثم إن تحقيق األحــاديث النبوية الشــريفة وشــرح
بعض الكلمات مأخوذ عن أحمد شمس الدين بتصرف واختصار .وهللا من وراء القصد.
والرموز التي اتخذت في الهواش كالتالي:
ق - :يعني الوراق وهي اصل النص.
ش - :نسخة أحمد شمس الدين.
د - :نسخة األستاذين كامل عيَّاد وجميل صليبا.
تصحيح وتحقيق واختيار محمد اسماعيل حزيَّن و شــذا رائق عبدهللا لموقع الغــزالي في
منتصف عام 2002م.
- 47 -