You are on page 1of 47

‫( ‪) 505 – 450‬‬

‫اعتنى بـه‬
‫محمد أسماعيل حُزيِّن ‪ -‬و‪ -‬شذا رائق عبدهللا‬

‫نشر موقع الفلسفة اإلسالمية‬


‫الفهرست‬
‫توطئة‬
‫العلوم‬
‫حد ُ‬ ‫وج ْ‬
‫سطة َ‬ ‫خلُ السَْف َ‬
‫َمدَا ِ‬
‫البين‬
‫اف الطَّ ْ‬ ‫القَو ُل في أصَْن ِ‬
‫صله‬ ‫‪ِ - 1‬ع ْل ُم ال َكالَم‪َ :‬م ْقصُوده َ‬
‫وحا ِ‬
‫‪ – 2‬الفَل ْسفَة‬
‫كافتهمُ‬
‫صَمة الكُِفر َ َّ‬
‫وشمول َو ْ‬ ‫سفةَ ُ‬ ‫ال ِ‬‫الف َ‬
‫َأصَْناف َ‬
‫علومِهم‬ ‫ام ُ‬‫س ِ‬ ‫َأْق َ‬
‫عليم وغَائَِلته‬
‫ب التَّ ِ‬‫‪ - 3‬القَو ُل ِفي َمْذَه ِ‬
‫وفَّية‬
‫طُرق الصُّ ِ‬ ‫‪ُ -4‬‬
‫إليها‬
‫الخلق َ‬‫افة َ‬ ‫قيقة النُُبَّوة‪ :‬واضطِرار َك ِ‬ ‫ح َ‬ ‫َ‬
‫اض عَنـه‬ ‫العلم ب َع ْد اإلع َر ِ‬ ‫ْ‬ ‫َسبَب نشر ِ‬
‫مالحظه عن النص والتحقيق‬
‫توطئة‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫احلمد هلل الذي يفتتح حبمده كل رسالة ومقالة ‪ ،‬والصالة على حممد املصطفى صاحب النبوة والرسالة ‪،‬‬
‫وعلى آله وأصحابـه اهلادين من الضاللة‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫أبث إليك غاية العل وم وأس رارها ‪ ،‬وغائلة املذاهب وأغوارها ‪،‬‬ ‫فقد س ألتين أيها األخ يف ال دين ‪ ،‬أن ّ‬
‫وأحكي لك ما قاس يته يف اس تخالص احلق من بني اض طراب الف رق ‪ ،‬مع تب اين املس الك والط رق ‪ ،‬وما‬
‫اع‪ 1‬االستفسار‪ ، 2‬وما استفدته أوالً من علم‬ ‫استجرأت عليه من االرتفاع عن حضيض التقليد ‪ ،‬إىل َيف ٍ‬
‫اجَتْويـُته‪ 3‬ثانياً من طرق أهل التعليم القاصرين َلدرك احلق على تقليد اإلمام ‪ ،‬وما ازدريته‬ ‫الكالم ‪ ،‬وما َ‬
‫ثالثاً من طرق التفلسف ‪ ،‬وما ارتضيته آخراً من طريقة التصوف ‪ ،‬وما اجنلى يل يف تضاعيف تفتيشي عن‬
‫أقاويل اخللق ‪ ،‬من لباب احلق ‪ ،‬وما صرفين عن نشر العلم ببغداد ‪ ،‬مع كثرة الطلبة ‪ ،‬وما دعاين‪ 4‬إىل‬
‫بنيسابورَ‪ 5‬بعد طول املدة ‪ ،‬فابتدرت إلجابتك إىل مطلبك ‪ ،‬بعد الوقوف على صدق رغبتك ‪،‬‬ ‫معاودته ْ‬
‫وقلت مستعيناً باهلل ومتوكالً عليه ‪ ،‬ومستوثقاً‪ 6‬منه ‪ ،‬وملتجئاً إليه‪:‬‬
‫وأالَن للحق قي ادكم ‪ -‬أن اختالف اخللق يف األدي ان وامللل ‪،‬‬‫اعلم وا ‪ -‬أحسن اهلل ( تع اىل ) إرش ادكم ‪َ ،‬‬
‫مث اختالف األئمة يف املذاهب ‪ ،‬على كثرة الفرق وتباين الطرق ‪ ،‬حبر عميق غرق فيه األكثرون ‪ ،‬وما جنا‬
‫يهم فرحون )) (ال روم‪ )32 :‬هو‬ ‫لد ْ‬
‫ب بما َ‬ ‫كل حز ٍ‬ ‫منه إال األقلون ‪ ،‬وكل فريق يزعم أنه الناجي ‪ ،‬و (( ُ‬
‫الذي وعدنا بـه سيد املرسلني ‪ ،‬صلوات اهلل عليه ‪ ،‬وهو الصادق الصدوق‪ 7‬حيث قال‪:‬‬
‫‪8‬‬
‫(( ستفترق أمتي ثالثا ً وسبعين فرقة الناجية منـها واحدة ))‬

‫‪1‬‬
‫اليفاع ‪ :‬املكان املرتفع‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫يف ق‪ :‬االستبصار‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫يقال‪ :‬اجتوى الطعام‪ :‬كرهه‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫يف ش‪ :‬ردين‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫يف ش‪ :‬معاودتي نيسابور‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫يف ق‪ :‬مستوفقاً‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫يف ق‪ :‬املصدوق‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫رواه أمحد وأبو دواد وابن ماجة والرتمذي بلفظ أخر‪.‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫فقد كان ما وعد أن يكون‪.‬‬


‫ومل أزل يف عنف وان ش بايب ( وريع ان عم ري ) ‪ ،‬منذ راهقت البل وغ قبل بل وغ العش رين إىل اآلن ‪ ،‬وقد‬
‫اجلسُور ‪ ،‬ال َخ ْو َ‬
‫ض‬ ‫ض َ‬ ‫مرُته َخ ْو َ‬
‫أن اف السن على اخلمسني ‪ ،‬أقتحم ّجل ة ه ذا البحر العميق ‪ ،‬وأخوض َغ َ‬
‫هجم على كل مشكلة ‪ ،‬وأتقحم كل ورطة ‪ ،‬وأتفحص عن‬ ‫اجلبان احلذور ‪ ،‬وأتوغل يف كل مظلمة ‪ ،‬وأتـ ّ‬
‫عقيدة كل فرقة ‪ ،‬وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة ؛ ألميز بني ُمحق ومبطل ‪ ،‬ومتسنن ومبتدع‪، 9‬‬
‫ظاهرياً إال وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته ‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫باطنيا إال وأحب أن أطلع على باطنيته‪ ، 10‬وال‬
‫ال أغادر ًّ‬
‫فلس فياً إال وأقصد الوق وف على كنـه فلس فته ‪ ،‬وال متكلم اً إال وأجتهد يف اإلطالع على غاية كالمه‬
‫وجمادلته ‪ ،‬وال صوفياً إال وأحرص على العثور على سر صوفيته‪ ، 11‬وال متعبداً إال وأترصد ما يرجع إليه‬
‫حاصل عبادته ‪ ،‬وال زنديقاً‪ 12‬معطالً‪ 13‬إال وأتجسس‪ 14‬وراءه للتنبه ألسباب جرأته يف تعطيله وزندقته‪.‬‬
‫وقد كان التعطش إىل درك حقائق األمور دأيب ودي دين من أول أمري وريعان عمري ‪ ،‬غريزة وفطرة من‬
‫اهلل وض ُعتا يف ِجِبَّليت ‪ ،‬ال باختي اري وحيليت ‪ ،‬حىت احنلت عين رابطة التقليد وانكس رت علي العقائد‬
‫التنص ر ‪،‬‬
‫نشوء إال على ُ‬ ‫املوروثة على قرب عهد سن‪ 15‬الصبا ؛ إذ رأيت صبيان النصارى ال يكون هلم ٌ‬
‫وص بيان اليه ود ال نش وء هلم إال على الته ود ‪ ،‬وص بيان املس لمني ال نش وء هلم إال على اإلس الم‪ .‬ومسعت‬
‫احلديث املروي عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيث قال ‪:16‬‬
‫‪17‬‬
‫(( كل مولو ٍد يول ُد على الفطر ِة فأبواهُ يُهودأنه وينُصرأنه ويُم ِّج َسأنه ))‬

‫‪9‬‬
‫مبتدع ‪ :‬لغوياً خمرتع واصبح اصطالحاً على احملدث املكروه يف الدين‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫يف ش‪ :‬بطانته‪ :‬أي السريرة وهنا العقيدة الباطنة‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫يف ق‪ :‬صفوته‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫يف لسان العرب‪ :‬الزنديق القائل ببقاء الدهر‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫املعطل هو الذي ينكر صفات اخلالق‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫يف ش‪ :‬واحتسس‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫يف ش ‪ِ :‬شَّرة ‪ ،‬والشرة بكسر الشني املعجمة وفتح الراء املشددة‪ :‬احلدة والنشاط‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫يف ش ‪ :‬يقول‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫رواه أمحد والبخاري ومسلم بلفظ آخر‪.‬‬

‫‪-4-‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫فتح رك ب اطين إىل ( طلب ) حقيقة الفط رة األص لية ‪ ،‬وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوال دين‬
‫واألس تاذين‪ ، 18‬والتمي يز بني ه ذه التقلي دات ‪ ،‬وأوائله ا تلقين ات ‪ ،‬ويف متي يز احل ق منه ا عن الباط ل‬
‫اختالفات ‪ ،‬فقلت يف نفسي‪:‬أوالً‪ 19‬إمنا مطلويب العلم حبقائق األمور ‪ ،‬فال ُبد من طلب حقيقة العلم ما‬
‫‪21‬‬
‫هي؟ فظهر يل أن العلم اليقيين هو الذي ينكشف‪ 20‬فيه املعلوم انكشافاً ال يبقى معه ريب ‪ ،‬وال يقارنه‬
‫إمكان الغلط والوهم ‪ ،‬وال يتسع القلب لتقدير ذلك ؛ بل األمان من اخلطأ ينبغي أنا يكون مقارن اً لليقني‬
‫مقارنة لو حتدى بإظهار بطألنه مثالً من يقلب احلجر ذهب اً والعصا ثعبان اً ‪ ،‬مل يورث ذلك شكاً وإنكاراً‬
‫؛ ف إين إذا علمت أن العش رة أك ثر من الثالثة ‪ ،‬فلو ق ال يل قائ ل‪ :‬ال ‪ ،‬بل الثالثة أك ثر [ من العش رة ]‬
‫بدليل أين أقلب هذه العصا ثعبان اً ‪ ،‬وقلبها ‪ ،‬وشاهدت ذلك منه ‪ ،‬مل أشك بسببه يف معرفيت ‪ ،‬ومل حيصل‬
‫يل منه إال التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك‪ 22‬فيما علمته ‪ ،‬فال‪.‬‬
‫مث علمت أن كل ما ال أعلمه على ه ذا الوجه وال أتيقنه ه ذا الن وع من اليقني ‪ ،‬فهو علم ال ثقة به وال‬
‫أمان معه ‪ ،‬وكل علم ال أمان معه ‪ ،‬فليس بعلم يقيين‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫مجع أستاذ فارسي معرب ‪ ،‬وجيمع أيضاً على أساتذة وأساتيذ‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫يف ش ‪ :‬بدون أوالً‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫يف ش ‪ :‬يكشف‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫يف ق‪ :‬يفارقه‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫يف ق زاد ‪ :‬بسببه‪.‬‬

‫‪-5-‬‬
‫حد العُلوم‬
‫وج ْ‬
‫سطة َ‬
‫السفْ َ‬
‫ل َ‬ ‫خ ُ‬
‫‪َ - 1‬مدَا ِ‬
‫مث فتشت عن عل ومي فوج دت نفسي ع اطالً من علم موص وف بـهذه الص فة إال يف احلس يات‬
‫اجلليات ‪ ،‬وهي‬‫والض روريات‪ .‬فقلت‪ :‬اآلن بعد حص ول الي أس ‪ ،‬ال مطمع يف اقتب اس املش كالت إال من َّ‬
‫احلسيات والضروريات ‪ ،‬فال بد من إحكامها أوالً ألتيقن أن ثقيت‪ 23‬باحملسوسات ‪ ،‬وأماين من الغلط يف‬
‫بل يف التقليديات ‪ ،‬ومن جنس أم ان أك ثر اخللق يف‬ ‫الض روريات ‪ ،‬من جنس أم اين ال ذي ك ان من َق ُ‬
‫حمقق ال غدر فيه وال غائلة له؟ فأقبلت جبد بليغ أتأمل احملسوسات والضروريات ‪،‬‬ ‫النظريات ‪ ،‬أم هو أمان ٌ‬
‫وأنظر هل ميكنين أن أشكك نفسي فيها ‪ ،‬فانتهي يب طول التشكك‪ 24‬إىل أن مل تسمح نفسي بتسليم‬
‫األمان يف احملسوسات أيضاً ‪ ،‬وأخذت تتسع للشك فيها وتقول‪ : 25‬من أين الثقة باحملسوسات‪، 26‬‬
‫وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إىل الظل ف رتاه واقف اً غري متح رك ‪ ،‬وحتكم بنفي احلركة ‪ ،‬مث ‪ ،‬بالتجربة‬
‫واملشاهدة ‪ ،‬بعد ساعة ‪ ،‬تعرف أنه متحرك وأنه مل يتحرك دفعة ( واحدة ) بغتة ‪ ،‬بل على التدريج ذرة‬
‫ذرة ‪ ،‬حىت مل يكن‪ 27‬له حالة وقوف‪ .‬وتنظر إىل الكوكب فرتاه صغرياً يف مقدار دينار‪ ، 28‬مث األدلة‬
‫اهلندس ية ت دل على أنه أكرب من األرض يف املق دار‪ .‬وه ذا وأمثاله من احملسوس ات حيكم فيها ح اكم احلس‬
‫بأحكامه ‪ ،‬ويكذبـه حاكم العقل وخيونـه تكذيباً ال سبيل إىل مدافعته‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬قد بطلت الثقة باحملسوس ات أيض اً ‪ ،‬فلعله ال ثقة إال بالعقلي ات اليت هي من األولي ات ‪ ،‬كقولن ا‪:‬‬
‫العشرة أكثر من الثالثة ‪ ،‬والنفي واإلثبات ال جيتمعان يف الشيء الواحد ‪ ،‬والشيء الواحد ال يكون حادثاً‬
‫قدمياً ‪ ،‬موجوداً معدوماً ‪ ،‬واجباً حماالً‪ .‬فقالت المحسوس ات‪ :‬مب تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك‬
‫باحملسوسات ‪ ،‬وقد كنت واثقاً يب ‪ ،‬فجاء حاكم العقل فكذبين ‪ ،‬ولوال حاكم العقل لكنت تستمر على‬
‫تص ديقي ‪ ،‬فلعل وراء إدراك العقل حاكم اً آخر ‪ ،‬إذا جتلى ‪ ،‬ك ذب العقل يف حكمه ‪ ،‬كما جتلى ح اكم‬
‫العقل فك ذب احلس يف حكمه ‪ ،‬وع دم جتلي ذلك اإلدراك ‪ ،‬ال ي دل على اس تحالته‪ .‬فت وقفت النفس يف‬
‫‪23‬‬
‫يف ش‪ :‬أثقيت‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫يف ش‪ :‬التشكيك‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫يف ش ‪ :‬وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫يف ق‪ :‬باحلواس‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫يف ش‪ :‬تكن‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫يف ش ‪ :‬الدينار‪.‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫جواب ذلك قليالً ‪ ،‬وأيدت إشكاهلا باملنام ‪ ،‬وقالت‪ :‬أما تراك تعتقد يف النوم أموراً ‪ ،‬وتتخيل أحواالً ‪،‬‬
‫وتعتقد هلا ثباتاً واستقراراً ‪ ،‬وال تشك يف تلك احلالة فيها ‪ ،‬مث تستيقظ فتعلم أنه مل يكن جلميع متخيالتك‬
‫ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم تأمن أن يكون مجيع ما تعتقده يف يقظتك حبس أو عقل هو حق باإلضافة‬
‫إىل حالتك [ اليت أنت فيها ] ؛ لكن ميكن أن تط رأ عليك حالة تك ون نس بتها إىل يقظتك ‪ ،‬كنس بة‬
‫يقظتك إىل منامك ‪ ،‬وتك ون يقظتك نوم اً باإلض افة إليه ا! ف إذا وردت تلك احلالة تيقنت أن مجيع ما‬
‫تومهت بعقلك خياالت ال حاصل هلا ‪ ،‬ولعل تلك احلالة ما تدعيه‪ 29‬الصوفية أنـها حالتهم ؛ إذ يزعمون‬
‫أنـهم يشاهدون يف أحواهلم اليت ( هلم ) ‪ ،‬إذا غاصوا يف أنفسهم ‪ ،‬وغابوا عن حواسهم ‪ ،‬أحواالً ال توافق‬
‫هذه املعقوالت‪ .‬ولعل تلك احلالة هي املوت ‪ ،‬إذ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلّم‪:‬‬
‫‪30‬‬
‫(( الناسُ نيا ٌم فإذا ماتوا انتبـهوا ))‬
‫فلعل احلياة الدنيا نوم باإلضافة إىل اآلخرة‪ .‬فإذا مات ظهرت له األشياء على خالف ما يشاهده اآلن ‪،‬‬
‫ويقال له عند ذلك‪:‬‬
‫ُك اليو َم حدي ٌد )) (ق‪)22 :‬‬
‫غطاءك فبصر َ‬
‫َ‬ ‫عنك‬
‫َ‬ ‫(( فكشفنا‬
‫فلما خطرت‪ 31‬يل هذه اخلواطر وانقدحت يف النفس ‪ ،‬حاولت لذلك عالجاً فلم يتيسر ‪ ،‬إذ مل يكن دفعه‬
‫إال بال دليل ‪ ،‬ومل ميكن نصب دليل إال من ت ركيب العل وم األولية ‪ ،‬ف إذا مل تكن مس لمة مل ميكن ت ركيب‬
‫الدليل‪ .‬فأعضل هذا الداء‪ ، 32‬ودام قريب اً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة حبكم احلال ‪ ،‬ال‬
‫حبكم النطق واملق ال ‪ ،‬حىت ش فى اهلل تع اىل من ذلك املرض ‪ ،‬وع ادت النفس إىل الص حة واالعت دال ‪،‬‬
‫ورجعت الض روريات العقلية مقبولة موثوق اً بـها على أمن ويقني ؛ ومل يكن ذلك بنظم دليل وت رتيب‬
‫كالم ‪ ،‬بل بن ور قذفه اهلل تع اىل يف الص در وذلك الن ور هو مفت اح أك ثر املع ارف ‪ ،‬فمن ظن أن الكشف‬
‫موق وف على األدلة احملررة فقد ض يق رمحة اهلل [ تع اىل ] الواس عة ؛ وملا س ئل رس ول اهلل ص لى اهلل عليه‬
‫وسلّم عن ( الشرح ) ومعناه يف قوله تعاىل‪:‬‬

‫‪29‬‬
‫يف د‪ :‬يدعيه و يف ش ‪ :‬ندعية ؛ والصواب ما ثبتناه يف النص‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫يقول يف ش ‪ :‬أنه ليس حبديث ولكن من كالم على بن أىب طالب رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫يف ش ‪ :‬خطر‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫هذه احلالة هي اليت تسمى فرتة الشك وهي غري األزمة الروحانية اليت أدت بالغزايل إىل ترك بغداد ؛ وهي األزمة األوىل وهي بطابعها‬
‫غير روحانية وإمنا هي معرفية‪ .‬ويرى البعض أن هذا الشك مشابه ملا حصل للعامل الفرنسي رينيه ديكارت راجع يف ذلك ما كتبه أمحد مشس‬
‫ال دين يف حاش ية (املنق ذ) من حتقيقه ص ‪ ،29‬وما كتبه عبد ال رمحن ب دوي يف مقالة بعن وان ‪ ( :‬أوه ام ح ول الغ زايل ) يف كت اب أبو حامد‬
‫الغزالي‪ :‬دراسات في فكره وعصره وتأثيره ‪ ،‬منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط لعام ‪1988‬م‪.‬‬

‫‪-7-‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫(( فمن يرد هللا أن يهديه يشرح صدره لإلسالم)) (األنعام‪)125 :‬‬
‫ق ال‪ (( :‬هو نور يقذفه هللا تعالى في القلب )) فقي ل‪( :‬وما عالمته ؟) ق ال‪ (( :‬التجافي عن دار‬
‫دار ال ُخلُود ))‪ .33‬وهو الذي قال صلى اهلل عليه وسلم فيه‪:‬‬ ‫ال ُغر ِ‬
‫ُور واإلنابة إلى ِ‬
‫‪34‬‬
‫ق في ظُ ْلم ٍة ثم رشَّ عليه ْم من نُور ِه ))‬
‫(( إن هللا تعالى خلق الخل َ‬
‫فمن ذلك الن ور ينبغي أن يطلب الكشف ‪ ،‬وذلك الن ور ينبجس من اجلود اإلهلي يف بعض األح ايني ‪،‬‬
‫وجيب الرتصد له كما قال صلى اهلل عليه وسلّم‪:‬‬
‫‪35‬‬
‫ٌ‬
‫نفحات أال فتعرضُوا لها ))‬ ‫أيام دهركم‬
‫(( إن لربكم في ِ‬
‫واملقص ود من ه ذه احلكاي ات أن يعمل كم ال اجلد يف الطلب ‪ ،‬حىت ينتهي إىل طلب ما ال يطلب‪ .‬ف إن‬
‫األوليات ليست مطلوبة ‪ ،‬فأنـها حاضرة‪ .‬واحلاضر إذا طلب فقد‪ 36‬واختفى‪ .‬ومن طلب ما ال يطلب ‪،‬‬
‫فال يتهم بالتقصري يف طلب ما يطلب‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫ذكره ابن كثري يف تفسريه بطرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫رواه أمحد والرتمذي واحلاكم بلفظ آخر‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫رواه الطرباين والسيوطي يف الفتح الكبري بلفظ أخر قريب ‪ ،‬والبيهقي وأبو هريرة بلفظ آخر ‪ ،‬وأبو نعيم عن أنس‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫يف ش ‪ :‬نفر‪.‬‬

‫‪-8-‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل ‪ :‬اصناف الطالبني‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫البين‬
‫الط ْ‬ ‫القَو ُل في ْ‬
‫أصَنافِ َّ‬
‫وملا شفاين اهلل من هذا املرض بفضله وسعة جوده ‪ ،‬أنحصرت أصناف الطالبني عندي يف أربع فرق‪:‬‬
‫‪ .1‬المتكلمون‪ :‬وهم َّ‬
‫يدعون أنـهم أهل الرأي والنظر‪.‬‬
‫‪ .2‬الباطنية‪ :‬وهم يزعمون أنـهم أصحاب التعليم واملخصوصون باالقتباس من اإلمام املعصوم‪.‬‬
‫‪ .3‬الفالسفة‪ :‬وهم يزعمون أنـهم أهل املنطق والربهان‪.‬‬
‫‪ .4‬الصوفية‪ :‬وهم يدعون أنـهم خواص احلضرة وأهل املشاهدة واملكاشفة‪.‬‬
‫فقلت يف نفسي ‪ :‬احلق ال يعدو هذه األصناف األربعة ‪ ،‬فهؤالء هم السالكون سبل طلب احلق ‪ ،‬فإن َّ‬
‫شذ‬
‫احلق عنهم ‪ ،‬فال يبقى يف درك احلق مطمع ‪ ،‬إذ ال مطمع يف الرج وع إىل التقليد بعد مفارقته ؛ و( من )‬
‫شرط املقلد‪ 37‬أن ال يعلم أنه مقلد ‪ ،‬فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده ‪ ،‬وهو شعب‪ 38‬ال يرأب‪، 39‬‬
‫وشعث‪ 40‬ال يلم بالتلفيق والتأليف ‪ ،‬إال أن يذاب بالنار ‪ ،‬ويستأنف له صنعة أخرى مستجدة‪.‬‬
‫فابتدرت لسلوك هذه الطرق ‪ ،‬واستقصاء ما عند هذه الفرق‪ .‬مبتدئاً بعلم الكالم‪ .‬ومثني اً بطريق الفلسفة‬
‫‪ ،‬ومثلثاً بتعلم الباطنية ‪ ،‬ومربعاً بطريق الصوفية‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪37‬‬
‫يف ش ‪ :‬إذ من شرط املقلد‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫الشعب بكسر الشني املعجمة وسكون العني املهملة انفراج بني اجلبلني ‪ ،‬واملراد هنا شق‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫اليرأب ‪ :‬اليصلح‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫شعث ‪ :‬ما تفرق من األمور‪.‬‬

‫‪-9-‬‬
‫وحاصِله‬
‫صوده َ‬
‫الم‪َ :‬مقْ ُ‬
‫عْلُم الكَ َ‬
‫‪ِ -1‬‬
‫فحص لته وعقلته ‪ ،‬وط العت كتب احملققني منهم ‪ ،‬وص نفت فيه ما أردت أن‬ ‫مث إين ابت دأت بعلم الكالم ‪َّ ،‬‬
‫واف مبقصودي ؛ وإمنا المقصود من ه‪ 41‬حفظ عقيدة أهل‬ ‫أصنف ‪ ،‬فصادفته علم اً وافي اً مبقصوده ‪ ،‬غري ٍ‬
‫الس نة [ على أهل الس نة ] وحراس تها عن تش ويش أهل البدعة‪ .‬فقد ألقى اهلل ( تع اىل ) إىل عب اده على‬
‫لسان رسوله عقيدة هي احلق ‪ ،‬على ما فيه صالح دينهم ودنياهم ‪ ،‬كما نطق مبعرفته القرآن واألخبار ‪،‬‬
‫مث ألقى الشيطان يف وساوس املبتدعة أموراً خمالفة للسنة ‪ ،‬فلهجوا‪ 42‬بـها وكادوا يشوشون عقيدة احلق‬
‫على أهله ا‪ .‬فأنشأ اهلل تع اىل طائفة املتكلمني ‪ ،‬وح رك دواعيهم لنصرة الس نة بكالم م رتب ‪ ،‬يكشف عن‬
‫تلبيس ات أهل الب دع احملدثة ‪ ،‬على خالف الس نة املأثورة ؛ فمنه نشأ علم الكالم وأهله‪ .‬ولقد ق ام طائفة‬
‫منهم مبا ندبـهم اهلل ( تعاىل ) إليه ‪ ،‬فأحسنوا الذب عن السنة ‪ ،‬والنضال عن العقيدة املتلقاة بالقبول من‬
‫النب وة ‪ ،‬والتغيري يف وجه ما أح دث من البدعة ؛ ولكنهم اعتم دوا يف ذلك على مق دمات تس لموها من‬
‫خصومهم ‪ ،‬واضطرهم إىل تسليمها‪ :‬إما التقليد ‪ ،‬أو إمجاع األمة ‪ ،‬أو جمرد القبول من القرآن واألخبار‪.‬‬
‫وكان أكثر خوضهم يف استخراج مناقضات اخلصوم ‪ ،‬ومؤاخذهتم بلوازم مسلماهتم‪ .‬وهذا قليل النفع يف‬
‫حق‪ 43‬من ال يسلم سوى الضروريات شيئاً ( أص الً ) ‪ ،‬فلم يكن الكالم يف حقي كافي اً ‪ ،‬وال لدائي‬
‫ال ذي كنت أش كوه ش افياً‪ .‬نعم ‪ ،‬ملا نش أت ص نعة الكالم وك ثر اخلوض فيه وط الت املدة ‪ ،‬تش وق‬
‫املتكلم ون إىل حماولة ال ذبّ ( عن الس نة ) ب البحث عن حق ائق األم ور ‪ ،‬وخاض وا يف البحث عن اجلواهر‬
‫واألعراض‪ 44‬وأحكامها‪ .‬ولكن ملا مل يكن ذلك مقصود علمهم ‪ ،‬مل يبلغ كالمهم فيه الغاية القصوى ‪،‬‬
‫‪45‬‬
‫أبعد أن يكون قد حصل ذلك‬ ‫فلم حيصل منه ما ميحق بالكلية ظلمات احلرية يف اختالفات اخللق ؛ وال ُ‬
‫لغريي! بل لست أشك يف حصول ذلك لطائفة ولكن حصوالً مشوباً بالتقليد يف بعض األمور اليت ليست‬
‫من األوليات!‬

‫‪41‬‬
‫يف ش ‪ :‬مقصوده‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫هلج باألمر‪ :‬أولع به فثابر عليه واعتاده‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫يف ش ‪ :‬جنب‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫اجلوهر‪ :‬األصل ويف املصطلح املاهية‪ .‬العرض هو الذي حيتاج إىل موضع يقوم به كاللون احملتاج اىل جسم حيله‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫يف ش ‪ :‬يـمحو‪.‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫والغرض اآلن حكاية حايل ‪ ،‬ال اإلنكار على من استشفى به ‪ ،‬فإن أدوية الشفاء ختتلف باختالف الداء‪.‬‬
‫وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر بـه آخر!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪- 11 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫لسَفة‬
‫الف ْ‬
‫‪َ -2‬‬
‫‪ ‬محصوهلا‪.‬‬
‫‪ ‬المذموم منها وما ال يذم‪.‬‬
‫‪ ‬وما يكفر به قائلة وما ال يكفر به‪.‬‬
‫‪ ‬وما يبتدع فيه وما ال يبتدع‪.‬‬
‫‪ ‬وبيان ما سرقه الفالسفة من كالم أهل احلق‪.‬‬
‫‪ ‬وبيان ما مزجوه بكالم أهل احلق لرتويج باطلهم يف درج ذلك‪.‬‬
‫‪ ‬وكيفية عدم قبول البشر وحصول نفرة النفوس من ذلك احلق املمزوج بالباطل‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫‪ ‬وكيفية استخالص احلق اخلالص من الزيف والبهرج من مجلة كالمهم‪.‬‬
‫مث إين ابتدأت ‪ ،‬بعد الفراغ من علم الكالم ‪ ،‬بعلم الفلس**فة وعلمت يقين اً ‪ ،‬أنه ال يقف على فساد نوع‬
‫من العل وم ‪ ،‬من ال يقف على منتهى ذلك العلم ‪ ،‬حىت يس اوي أعلمهم يف أصل [ ذلك ] العلم ‪ ،‬مث يزيد‬
‫عليه وجياوز درجته ‪ ،‬فيطلع على ما مل يطلع عليه صاحب العلم من غور‪ 47‬وغائله ‪ ،‬وإذا ذاك‪ 48‬ميكن أن‬
‫حقاً‪ .‬ومل أر أحداً من علماء اإلسالم صرف عنايته ومهته إىل ذلك‪.‬‬ ‫يكون ما يدعيه من فساده ّ‬
‫ومل يكن يف كتب (( املتكلمني )) من كالمهم ‪ ،‬حيث اشتغلوا بالرد عليهم ‪ ،‬إال كلمات معقدة مبددة ‪،‬‬
‫ظاهرة التناقض والفساد ‪ ،‬ال يظن االغرتار بـها بعاقل‪ 49‬عامي ‪ ،‬فض الً عمن يدعي دقائق العل وم‪ .‬فعلمت‬
‫أن رد املذهب قبل فهمه واإلطالع على كنهه‪ 50‬رمى يف عماية ‪ ،‬فشمرت عن ساق اجلد ‪ ،‬يف حتصيل‬
‫ذلك العلم من الكتب ‪ ،‬مبجرد املطالعة من غري استعانة بأستاذ ‪ ،‬وأقبلت على ذلك يف أوقات فراغي من‬
‫التصنيف والتدريس يف العلوم الشرعية ‪ ،‬وأنا ممنو‪ 51‬بالتدريس واإلفادة لثالمثائة نفر من الطلبة ببغداد‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫مجيع هذه النقط الثمانية زائدة يف ش و ق‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫يف ش ‪ :‬غوره‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫يف ش‪ :‬فإذذاك‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫يف ش‪ :‬بغافل‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫كنهه ‪ :‬قدر الشيء ونـهايته ؛ يقال ‪ :‬بلغت كنه هذا األمر أي غايته‪ .‬لسان اللسان‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫ممنو ‪ :‬مبتلِّى به‪.‬‬

‫‪- 12 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫ف أطلعين اهلل س بحأنه [ وتع اىل ] مبج رد املطالعة يف ه ذه األوق ات املختلسة ‪ ،‬على منتهى عل ومهم يف أقل‬
‫من س نتني‪ .‬مث مل أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريب اً من س نة ‪ ،‬أع اوده وأردده وأتفقد غوائله‬
‫وأغواره ‪ ،‬حىت اطَّلعت على ما فيه من خداع وتلبيس ‪ ،‬وحتقيق وختييل ‪ ،‬اطالعاً مل أشك فيه‪.‬‬
‫فامسع اآلن حكايتهم‪ 52‬وحكاية حاصل علومهم ؛ فإين رأيتهم أصنافاً ‪ ،‬ورأيت علومهم أقساماً ؛ وهم‬
‫على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة‪ 53‬الكفر واإلحلاد ‪ ،‬وإن كان بني القدماء منهم واألقدمني ‪ ،‬وبني‬
‫األواخر منهم واألوائل ‪ ،‬تفاوت عظيم يف البعد عن احلق والقرب منه‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪52‬‬
‫يف ش ‪ :‬حكايته‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫يف ش ‪ :‬مسة‪.‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫‪54‬‬
‫الكِفر َكافَّتهمُ‬
‫صَمة ُ‬
‫فة وشُمول وَ ْ‬
‫س َ‬‫ال ِ‬
‫صَناف الفَ َ‬
‫َأ ْ‬
‫اعلم‪ :‬أنـهم ‪ ،‬على كثرة فرقهم واختالف مذاهبـهم ‪ ،‬ينقسمون إىل ثالثة أقسام‪ :‬الدهريون ‪ ،‬والطبيعيون ‪،‬‬
‫واإلهليون‪.‬‬
‫الصنف األول‪ :‬الدهريون‪ -:‬وهم طائفة من األقدمني جحدوا الصانع املدبر ‪ ،‬العامل القادر ‪ ،‬وزعموا أن‬
‫الع امل مل ي زل موج وداً ك ذلك بنفسه بال ص انع ‪ ،‬ومل ي زل احلي وان من النطفة ‪ ،‬والنطفة من احلي وان ‪،‬‬
‫كذلك كان ‪ ،‬وكذلك يكون أبداً وهؤالء هم الزنادقة*‪.‬‬
‫والصنف الثاني‪ :‬الط*بيعيون‪ -:‬وهم قوم أكثروا حبثهم عن عامل الطبيعة ‪ ،‬وعن عجائب احليوان والنبات‬
‫‪ ،‬وأك ثروا اخلوض يف علم تش ريح أعض اء احليوان ات ‪ ،‬ف رأوا فيها من عج ائب ص نع اهلل تع اىل وب دائع‬
‫حكمته ‪ ،‬مم ا اضطروا معه إىل االع رتاف بف اطر‪ 55‬حكيم ‪ ،‬مطل ع على غاي ات األمور ومقاص دها‪ .‬وال‬
‫يطالع التشريح وعجائب منافع األعضاء مطالع ‪ ،‬إال وحيصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبري الباين‬
‫لبنية احليوان ؛ ال سيما بنية اإلنسان‪ .‬إال أن هؤالء ‪ ،‬لكثرة حبثهم عن الطبيعة ‪ ،‬ظهر عندهم ‪ -‬العتدال‬
‫املزاج ‪ -‬ت أثري عظيم يف ق وام ق وى احلي وان بـه‪ .‬فظن وا أن الق وة العاقلة من اإلنس ان تابعة ملزاجه أيض اً ‪،‬‬
‫وأنـها تبطل ببطالن مزاجه فتنعدم‪ .56‬مث إذا انعدمت‪ ، 57‬فال يعقل إعادة املعدوم كما زعموا‪ .‬فذهبوا إىل‬
‫أن النفس متوت وال تع ود ‪ ،‬فجح دوا اآلخ رة ‪ ،‬وأنك روا اجلنة والن ار ‪ [ ،‬واحلشر والنشر ] ‪ ،‬والقيامة‬
‫واحلس اب ‪ ،‬فلم يبق عن دهم للطاعة ث واب ‪ ،‬وال للمعص ية عق اب ‪ ،‬فاحنل عنهم اللج ام وأنـهمكوا يف‬
‫الشهوات أنـهماك األنعام‪.‬‬
‫وه**ؤالء أيض*اً زنادقة ألن أصل اإلميان هو اإلميان باهلل واليوم اآلخر‪ .‬وه ؤالء جح دوا اليوم اآلخر ‪ ،‬وإن‬
‫آمنوا باهلل وصفاته‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫يف ش ‪ :‬أصناف الفالسفة واتصاف كافتهم بالكفر‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫يف ش ‪ :‬بقادر‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫يف ش ‪ :‬فينعدم‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫يف ش ‪ :‬انعدم‪.‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫والصنف الثالث‪ :‬اإللهيون ‪ -:‬وهم املتأخرون منهم ‪ [ ،‬مثل ]‪ :‬سقراط‪ ، 58‬وهو أستاذ أفالطون ‪،‬‬
‫وأفالطون‪ 59‬أستاذ أرسطاطاليس ‪ ،‬وأرسطاطاليس‪ 60‬هو الذي رتب [ هلم ] املنطق ‪َّ ،‬‬
‫وهذب هلم العلوم ‪،‬‬
‫ج اً من عل ومهم ‪ ،‬وهم جبملتهم ردوا على‬ ‫قبل ‪ ،‬وأنض ََج هلم ما ك ان ِف ّ‬
‫وحرر هلم ما مل يكن حمرراً من ُ‬
‫ّ‬
‫الصنفني األولني من الدهرية والطبيعية ‪ ،‬وأوردوا يف الكشف عن فضائحهم ما أغنوا بـه غريهم‪ (( .‬وكفى‬
‫اهلل املؤمنني القتال )) بتقاتلهم‪ .‬مث رد أرسطاطاليس على أفالطون وسقراط ‪ ،‬ومن كان قبلهم من اإلهليني‬
‫رداً مل يقصر فيه حىت تربأ عن مجيعهم ؛ إال أنه استبقى أيض اً من رذائل‪ 61‬كفرهم وبدعتهم بقايا مل‬
‫‪ّ ،‬‬
‫‪64‬‬
‫يوفق للنـزوع عنها‪ ، 62‬فوجب تكفريهم ‪ ،‬وتكفري شيعتهم‪ 63‬من املتفلسفة اإلسالميني ‪ ،‬كابن سينا‬
‫والفارابي‪ 65‬و غريهم‪ .66‬على أنه مل يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة اإلسالميني كقيام‬
‫ه ذين ال رجلني‪ .‬وما نقله غريمها ليس خيلو من ختبيط وختليط يتش وش فيه قلب املط الع حىت ال يفهم‪ .‬وما‬
‫ال يُفهم كيف ُيرد أو يقبل؟ وجمموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس ‪ ،‬حبسب نقل هذين الرجلني‬
‫‪ ،‬ينحصر يف ثالثة أقسام‪- :‬‬
‫‪58‬‬
‫فليسوف يوناين (‪ 399-469‬ق‪ .‬م‪ ).‬ادعى أنه ال يعلم شيء‪ ،‬وليس له آثار مكتوبة وكل ما عندنا ما سجله تلميذه أفالطون من‬
‫حمدثاته‪ .‬رفعت احملكمة اليونانية دعوة ضده بتهمة افساد الشباب وأعدمته بالسم‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫فليسوف يوناين ( ‪ 347-427‬ق‪.‬م‪ ).‬تلميذ سقراط سجل حمدثات أستاذه‪ ،‬وأسس مدرسة للفلسفة مساها األكادمية‪ ،‬جرب الدور‬
‫السياسي يف س ركيوز (ايطالي ا) مث رجع إىل عاص مة اليون ان أثنيا عن دما تغري الوضع السياسي حوله ‪ ،‬ق ال م ربراً ل ذلك أنه ال يريد أن تتك رر‬
‫اجلرمية ضد الفلسفة مشرياً إىل حادثة إعدام سقراط‪ .‬من أهم أعماله كتاب اجلمهورية‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫فليسوف مقدوين ( ‪ 347-427‬ق‪.‬م‪ ).‬تلميذ أفالطون‪َ ،‬درس يف مدرسته عشرون عاماً‪ ،‬مث رجع إىل بلده ليكون مدرساً لإلسكندر‬
‫املق دوين‪ ،‬مث ع اد إىل أثنيا وأسس مدرسة مساها الليس يم‪ ،‬بعد وف اة أفالط ون‪ ،‬وحبث فيها مع تالمي ذه شىت أن واع املعرفة واس تمرت بعد مماته‬
‫بسنوات عديدة‪ .‬مث اضطر مغادرة أثنيا عندما توىف االسكندر وضعف أمر املقدونيني‪ .‬تالميذه اشتهروا ( باملشائني ) ألنه كانت عادة املعلم‬
‫أن ميشي وهو يلقي احملاضرة‪ .‬من أشهر املعلقني على أعماله الفليسوف ابن رشد القرطيب احلفيد املعروف بـ"املعلق" الذي ازدهر بعد الغزايل‬
‫مبائة عام‪ .‬هذب علم النطق وكتب يف االخالق والنفس وما وراء الطبيعة‪ ،‬واعماله السياسية مل تصل العرب واكتفوا مبا كتب افالطون‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫يف ق‪ :‬رذاذ‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫يف ش ‪ :‬للنـزع منها‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫يف ش ‪ :‬متبعيهم‪.‬‬
‫‪64‬‬
‫هو أبو احلسني علي ابن سينا (‪ 428-370‬هـ) (فارسي األصل) الطبيب والفليسوف ‪ ،‬صاحب كتاب (القانون يف الطب) وكتاب‬
‫(الشفا) وكتاب (النجاة) يف الفلسفة‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫أبو نصر الفارايب (‪339-260‬هـ) الفليسوف (تركي األصل) املشهور صاحب كتاب املوسيقى الكبري وكتب يف الفلسفة‪ .‬زعم أبن‬
‫سينا أنه مل يفهم ارسطو حىت قرأ شرحه الذى ألفه الفارايب‪ .‬مل يشتهر يف عصره‪ ،‬ولكنه اشتهر بعد ابن سينا‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫يف ق‪ :‬أمثاهلما ‪ ،‬ويف ش غريمها‪.‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫‪ .1‬قسم جيب التفكري به‪.‬‬
‫‪ .2‬وقسم جيب التبديع به‪.‬‬
‫‪ .3‬وقسم ال جيب إنكاره أصالً فلنفصله‪.67‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪67‬‬
‫ناقص يف ش ‪ :‬فلنفصله‪.‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫علومِهم‬
‫ام ُ‬
‫س ِ‬‫َأْق َ‬
‫أعلم‪ :‬أن علومهم ‪ -‬بالنسبة إىل الغرض الذي نطلبه ‪ -‬ستة أقسام‪ :‬رياضية ‪ ،‬ومنطقية ‪ ،‬وطبيعية ‪ ،‬وإهلية‬
‫‪ ،‬وسياسية ‪ ،‬وخلقية‪.‬‬
‫‪ - 1‬أما الرياضية‪ :‬فتتعلق بعلم احلساب واهلندسة وعلم هيئة العالم‪ ، 68‬وليس يتعلق شيء منها باألمور‬
‫الدينية نفي اً وإثبات اً ‪ ،‬بل هي أم ور برهانية ال س بيل إىل جماحدته بعد فهمها ومعرفته ا‪ .‬وقد تول دت منها‬
‫آفتان‪:‬‬
‫احداهما‪ 69‬األولى‪ :‬ان من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها ‪ ،‬فيحسن بسبب ذلك‬
‫اعتقاده يف الفالسفة ‪ ،‬وحيسب أن مجيع علومهم يف الوضوح [ ويف ] وثاقة الربهان كهذا العلم‪ .‬مث يكون‬
‫قد مسع من كفرهم وتعطيلهم وتـهاونـهم بالشرع ما تناولته األلسن فيكفر بالتقليد احملض ويقول‪ :‬لو كان‬
‫‪70‬‬
‫الدين حق اً ملا اختفى على هؤالء مع تدقيقهم يف هذا العلم! فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم‬
‫استدل‪ 71‬على أن احلق هو اجلحد واإلنكار للدين‪ .‬وكم رأيت ممن يضل‪ 72‬عن احلق بـهذا العذر‪ 73‬وال‬
‫مس تند له س واه! وإذا قيل ل ه‪ :‬احلاذق يف ص ناعة واح دة ليس يل زم أن يك ون حاذق اً يف كل ص ناعة ‪ ،‬فال‬
‫يلزم أن يكون احلاذق يف الفقه والكالم حاذق اً يف الطب ‪ ،‬وال أن يكون اجلاهل بالعقليات جاهالً بالنحو‬
‫‪ ،‬بل لكل ص ناعة أهل بلغ وا فيها [ رتبة ] الرباعة والس بق‪ .‬وإن ك ان احلمق واجلهل ( قد ) يل زمهم يف‬
‫جربه وخاض‬ ‫غريها‪ .‬فكالم األوائل يف الرياضيات برهاين ‪ ،‬ويف اإلهليات ختميين ؛ ال يعرف ذلك إال من ّ‬
‫فيه‪ .‬فهذا إذا قرر على هذا الذي أحلَ َد ‪ 74‬بالتقليد ‪ ،‬لم يقع منه موقع القبول ‪ ،‬بل حتمله غلبة اهلوى ‪،‬‬
‫والشهوة الباطلة ‪ ،‬وحب التكايس ‪ ،‬على أن يصر على حتسني الظن بـهم يف العلوم كلها‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫يف ش‪ :‬العلم‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫ناقص يف ش ‪ :‬احدامها‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫يف ق‪ :‬جورهم‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫يف ش ‪ :‬فيستدل‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫يف ش ‪ :‬ضل‪.‬‬
‫‪73‬‬
‫يف ش‪ :‬القدر‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫يف ش ‪ :‬اختذ‪.‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫فه ذه آفة عظيمة ألجلها جيب زجر كل من خيوض يف تلك العل وم ‪ ،‬فأهنا وإن مل تتعلق ب أمر ال دين ‪،‬‬
‫ولكن ملا كانت من مبادئ علومهم ‪ ،‬سرى‪ 75‬إليه شرهم وشؤمهم ‪ ،‬فقل من خيوض فيها إال وينخلع من‬
‫الدين وينحل عن رأسه جلام التقوى‪.‬‬
‫اآلفة الثاني**ة‪ :‬نشأت من صديق لإلسالم جاهل ‪ ،‬ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب‬
‫إليهم‪ :‬فأنكر مجيع علومهم وادعى جهلهم فيها ‪ ،‬حىت أنكر قوهلم يف الكسوف واخلسوف ‪ ،‬وزعم أن ما‬
‫ق الوه على خالف الش رع‪ .‬فلما ق رع ذلك مسع من ع رف ذلك بالربه ان الق اطع ‪ ،‬مل يشك يف برهأنه ‪،‬‬
‫حب اً ولإلسالم بغض اً‪.‬‬
‫ولكن اعتقد أن اإلسالم مبين على اجلهل وإنكار الربهان القاطع ‪ ،‬ف يزداد للفلسفة ّ‬
‫ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن اإلسالم ينصر بإنكار هذه العلوم ‪ ،‬وليس يف الشرع تعرض هلذه‬
‫العلوم بالنفي واإلثبات ‪ ،‬وال يف هذه العلوم تعرض لألمور الدينية‪ .‬وقوله صلى اهلل عليه وسلّم‪:‬‬
‫ت أح ٍد وال لحياته فإذا‬‫ت هللا تعالى ال ينخسفا ِن لمو ِ‬‫(( إن الشمس والقمر آيتان من آيا ِ‬
‫رأيتم ذلك‬
‫‪76‬‬
‫فافزعوا إلى ذكر هللا تعالى وإلى الصالة )) ‪.‬‬
‫وليس يف هذا ما يوجب إنكار علم احلساب املعرف مبسري الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلهما على‬
‫يء خضع ل هُ )) فليس توجد ه ذه‬ ‫وجه خمص وص‪ .‬أما قوله ( عليه الس الم )‪ (( :‬لكن اهلل إذا جتلى لش ْ‬
‫الزيادة يف الصحاح أصالً‪ .‬فهذا حكم الرياضيات وآفتها‪.‬‬
‫‪ – 2‬وأما المنطقيات‪ :‬فال يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً ‪ ،‬بل هي‪ 77‬النظر يف طرق األدلة‬
‫واملق اييس وش روط مق دمات الربه ان وكيفية تركيبها ‪ ،‬وش روط احلد الص حيح وكيفية ترتيب ه‪ .‬وأن العلم‬
‫إما تص ور وس بيل معرفته احلد ‪ ،‬وإما تص ديق وس بيل معرفته الربه ان ؛ وليس يف ه ذا ما ينبغي أن ينكر ‪،‬‬
‫بل هو ( من ) جنس ما ذك ره املتكلم ون وأهل النظر يف األدلة ‪ ،‬وإمنا يفارقونـهم بالعب ارات‬
‫واالصطالحات ‪ ،‬بزيادة االستقصاء يف التعريفات والتشعيبات ‪ ،‬ومثال كالمهم فيها قوهلم‪ :‬إذا ثبت أن‬
‫كل (( أ )) (( ب )) ل زم أن بعض (( ب )) (( أ )) أي إذا ثبت أن كل إنس ان حي وان ‪ ،‬ل زم أن بعض‬
‫احليوان إنسان‪ .‬ويعربون عن هذا بأنه املوجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية‪ .‬وأي تعلق هلذا مبهمات الدين‬
‫حىت جيحد وينكر؟ ف إذا أنكر مل حيصل من إنك اره عند أهل املنطق إال س وء االعتق اد يف عقل املنكر ‪ ،‬بل‬
‫يف دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا اإلنكار‪ .‬نعم ‪ ،‬هلم نوع من الظلم يف هذا العلم ‪ ،‬وهو أنـهم‬

‫‪75‬‬
‫يف ش ‪ :‬يسرى‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫روي هذا احلديث بأسانيد وطرق خمتلفة‪ .‬يوجد يف البخاري وأمحد والنسائي وأبن ماجة ومالك‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫يف ش ‪ :‬هو‪.‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫جيمع ون للربه ان ش روطاً يعلم أهنا ت ورث اليقني ال حمالة ‪ ،‬لكنهم عند االنته اء إىل املقاصد الدينية ما‬
‫أمكنهم الوف اء بتلك الش روط ‪ ،‬بل تس اهلوا غاية التس اهل ‪ ،‬ورمبا ينظر يف املنطق أيض اً من يستحس نه‬
‫وي راه واض حاً ‪ ،‬فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفري ات مؤيد مبثل تلك ال رباهني ‪ ،‬فاس تعجل ب الكفر قبل‬
‫االنتهاء إىل العلوم اإلهلية‪.‬‬
‫فهذه اآلفة أيضاً متطرقة إليه‪.‬‬
‫‪ - 3‬وأما ( علم ) الطبيعيات‪ :‬فهو حبث‪ 78‬عن عامل السماوات وكواكبها وما حتتها من األجسام‬
‫املفردة‪ :‬كاملاء واهلواء والرتاب والنار ‪ ،‬وعن األجسام املركبة‪ :‬كاحليوان والنبات واملعادن ‪ ،‬وعن أسباب‬
‫‪80‬‬
‫تغريه ا واس تحالتها وامتزاجه ا‪ .‬وذل ك يض اهي حبث الطب‪ 79‬عن جس م اإلنس ان وأعض ائه الرئيس ة‬
‫واخلادمة ‪ ،‬وأس باب اس تحالة مزاجه‪ .‬وكما ليس من ش رط ال دين إنك ار علم الطب ‪ ،‬فليس من ش رطه‬
‫أيض اً إنكار ذلك العلم ‪ ،‬إال يف مسائل معينة ‪ ،‬ذكرناها يف كتاب (( تـهافت الفالسفة ))‪ .‬وما عداها مما‬
‫جيب املخالفة فيها ؛ فعند التأمل يتبني أهنا مندرجة حتتها ‪ ،‬وأصل مجلتها‪ :‬أن تعلم‪ 81‬أن الطبيعة مسخرة‬
‫هلل تع اىل ‪ ،‬ال تعمل بنفس ها ‪ ،‬بل هي مس تعملة من جهة فاطرها‪ .‬والش مس والقمر والنج وم والطب ائع‬
‫لشيء منها بذاته عن ذاته‪.82‬‬
‫ٍ‬ ‫مسخرات بأمره ال فعل‬
‫‪ – 4‬وأما اإللهيات‪ :‬ففيها أكثر أغاليطهم ‪ ،‬فما قدروا على الوفاء بالربه ان على ما شرطوه يف املنطق ‪،‬‬
‫ولذلك كثر االختالف بينهم فيه ا‪ .‬ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب اإلسالميني ‪ ،‬على‬
‫ما نقله الفارايب وابن سينا‪ .‬ولكن جمموع ما غلطوا فيه يرجع إىل عشرين أص الً ‪ ،‬جيب تكفريهم يف ثالثة‬
‫منها ‪ ،‬وتبديعهم يف سبعة عشر‪ .‬وإلبطال مذهبهم يف هذه املسائل العشرين ‪ ،‬صنفنا كتاب ( التهافت )‪.‬‬
‫أما املسائل الثالث ‪ ،‬فقد خالفوا فيها كافة اإلسالميني‪ 83‬وذلك يف قوهلم‪:‬‬
‫‪ - 1‬إن األجس اد ال حتشر ‪ ،‬وإمنا املث اب واملع اقَب هي األرواح اجملردة ‪ ( ،‬واملثوب ات ) والعقوب ات‬
‫روحانية ال جسمانية ؛‬

‫‪78‬‬
‫يف ش ‪ :‬يبحث‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫يف ش ‪ :‬الطبيب‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫يف ش ‪ :‬الرئيسية‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫يف ش ‪ :‬يعلم‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫نقص يف ش ‪ :‬عن ذاته‪.‬‬
‫‪83‬‬
‫يف ق‪ :‬املسلمني‪.‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫ولقد صدقوا يف إثبات الروحانية ‪ ،‬فأهنا ثابتة‪ 84‬أيضاً ‪ ،‬ولكن كذبوا يف إنكار اجلسمانية ‪ ،‬وكفروا‬
‫بالشريعة فيما نطقوا به‪.‬‬
‫‪ - 2‬ومن ذلك قوهلم‪ (( :‬إن اهلل تعاىل يعلم الكليات دون اجلزئيات )) ؛‬
‫ت وال في‬‫وه ذا أيض اً كفر ص ريح ‪ ،‬بل احلق أن ه‪ (( :‬ال يعــزب عنـه مثقــال ذر ٍة في الســموا ِ‬
‫األرض ))‪(.‬سبأ‪)3 :‬‬
‫ِ‬
‫‪ - 3‬ومن ذلك قوهلم بقدم العامل وأزليته فلم يذهب أحد من املسلمني إىل شيء من هذه املسائل‪.‬‬
‫وأما ما وراء ذلك من نفيهم الص فات ‪ ،‬وق وهلم إنه ع امل بال ذات ‪ ،‬ال بعلم زائد (على ال ذات) وما جيري‬
‫جمراه ‪ ،‬فم ذهبهم فيها ق ريب من م ذهب املعتزلة وال جيب تكفري املعتزلة مبثل ذل ك‪ .‬وقد ذكرنا يف كت اب‬
‫(( فيصل التفرقة بني اإلسالم والزندقة )) ما يتبني به فساد رأي من يتسارع إىل التكفري يف كل ما خيالف‬
‫مذهبه‪.‬‬
‫‪ - 4‬وأما السياسيات‪ :‬فجميع كالمهم فيها يرجع إىل احلكم املصلحية املتعلقة باألمور الدنيوية ( واإليالة‬
‫) الس لطانية ‪ ،‬وإمنا أخ ذوها من كتب اهلل املنـزلة على األنبي اء ‪ ،‬ومن احلكم املأثورة عن س لف األنبي اء [‬
‫عليهم السالم ]‪.‬‬
‫‪ - 5‬وأما الخلقية‪ :‬فجميع كالمهم ( فيها ) يرجع إىل حصر ص فات النفس وأخالقها ‪ ،‬وذكر أجناس ها‬
‫وأنواعها وكيفية معاجلتها وجماه دهتا ‪ ،‬وإمنا أخ ذوها من كالم الص وفية ‪ ،‬وهم املت أهلون املواظب ون على‬
‫ذكر اهلل تعاىل ‪ ،‬وعلى خمالفة اهلوى وسلوك الطريق إىل اهلل تعاىل باإلعراض عن مالذِّ الدنيا‪ .‬وقد انكشف‬
‫هلم يف جماه دهتم من أخالق النفس وعيوبـها ‪ ،‬وآف ات أعماهلا ما ص رحوا بـها ‪ ،‬فأخ ذها الفالس فة‬
‫ومزجوها بكالمهم ‪ ،‬توسالً بالتجمل بـها إىل ترويج باطلهم‪ .‬ولقد كان يف عصرهم ‪ ،‬بل يف كل عصر ‪،‬‬
‫مجاعة من املتأهلني ‪ ،‬ال ُيخلي اهلل [ سبحانه ] العامل عنهم ‪ ،‬فأنـهم أوتاد األرض ‪ ،‬بربكاتـهم تنـزل الرمحة‬
‫على أهل األرض كما ورد يف اخلرب حيث قال صلى اهلل عليه وسلّم‪:‬‬
‫(( بـهم تمطرون وبـهم ترزقون ومنـهم كان أصحاب الكهف ))‪.85‬‬
‫وك انوا يف س الف األزمنة ‪ ،‬على ما نطق بـه الق رآن ‪ ،‬فتولد من م زجهم كالم النب وة وكالم الص وفية‬
‫بكتبهم آفتان‪ :‬آفة يف حق القابل وآفة يف حق الراد‪:‬‬

‫‪84‬‬
‫يف ق‪ :‬كائنة‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫احلديث ليس له ختريج يف ش‪.‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫‪ - 1‬أما اآلفة ال**تي في حق ال**راد فعظيمة‪ :‬إذ ظنت طائفة من الض عفاء أن ذلك الكالم إذا ك ان ُم َّ‬
‫دوناً‬
‫يف كتبهم ‪ ،‬وممزوج اً بب اطلهم ‪ ،‬ينبغي أن ُيهجر وال ُي ذكر بل ُينكر على [ كل ] من ي ذكره ‪ ،‬إذ مل‬
‫يس معوه أوالً إال منهم ‪ ،‬فس بق إىل عق وهلم الض عيفة أنه باطل ‪ ،‬ألن قائله مُبطل ؛ كال ذي يس مع من‬
‫النصراين قوله‪ (( :‬ال إله إال اهلل عيسى رسول اهلل )) فينكره ويقول‪ (( :‬هذا كالم النصارى )) وال يتوقف‬
‫ريثما يتأمل أن النصراين كافر باعتبار هذا القول ‪ ،‬أو باعتبار إنكاره نبوة حممد عليه الصالة والسالم!؟‬
‫فإن مل يكن كافراً إال باعتبار إنكاره ‪ ،‬فال ينبغي أن خيالف يف غري ما هو به كافر مما هو حق يف نفسه ‪،‬‬
‫وإن ك ان أيض اً حق اً عن ده‪ .‬وه ذه ع ادة ض عفاء العق ول ‪ ،‬يعرف ون احلق بالرج ال ‪ ،‬ال الرج ال ب احلق‪.‬‬
‫والعاقل يقتدي بسيد العقالء‪ 86‬علي‪ ، 87‬رضي اهلل عنه‪ 88‬حيث قال‪ (( :‬ال تعـرف الحـق بالرجـال (‬
‫بل ) اعرف الحق تعرف أهله )) و ( العارف ) العاقل يعرف احلق ‪ ،‬مث ينظر يف نفس القول‪ :‬فإن‬
‫كان حق اً ‪ ،‬قبله سواء كان قائله مبطالً أو حمق اً ؛ بل رمبا حيرص على انتزاع احلق من أقاويل‪ 89‬أهل‬
‫الض الل ‪ ،‬عاملاً ب أن مع دن ال ذهب الرغ ام‪ .‬وال ب أس على الص راف إن أدخل ي ده يف كيس القالب ‪،‬‬
‫وان تزع اإلبريز اخلالص من الزيف والبه رج ‪ ،‬مهما ك ان واثق اً ببص ريته ؛ وامنا يزجر عن معاملة القالب‬
‫ويصد عن‬ ‫األخرق ‪ ،‬دون السباح احلاذق ؛ ُ‬
‫ُ‬ ‫القروي ‪ ،‬دون الصرييف ( البصري ) ؛ ومينع من ساحل البحر‬
‫ُّ‬
‫مس احلية الصيب دون املعزِّم البارع‪.‬‬
‫ولعمري! ملا غلب على أكثر اخللق ظنهم بأنفسهم احلذاقة والرباعة ‪ ،‬وكمال العقل ( ومتام اآللة ) يف متييز‬
‫احلق عن ( الباطل ‪ ،‬واهلدى عن ) الض اللة ‪ ،‬وجب حسم الب اب يف زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل‬
‫الضالل ما أمكن ‪ ،‬إذ ال يسلمون عن اآلفة الثانية اليت سنذكرها ( أص الً ) وإن سلموا عن ( هذه ) اآلفة‬
‫اليت ذكرناها‪.‬‬
‫ولقد اع رتض على بعض الكلم ات املبثوثة يف تص انيفنا يف أس رار عل وم ال دين ‪ ،‬طائفة من ال ذين مل‬
‫تس تحكم يف العل وم س رائرهم ‪ ،‬ومل تنفتح إىل أقصى غاي ات املذاهب بص ائرهم ‪ ،‬وزعمت أن تلك‬

‫‪86‬‬
‫يف ق زاد ‪ :‬بقول أمري املؤمنني‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫يف ق زاد‪ :‬بن أيب طالب‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫اإلمام علي كرم اهلل وجهه ‪ ،‬هو ابن عم الرسول صلى اهلل عليه وسلم تزوج ابنته فاطمة الزهراء ووالد احلسن واحلسني و رابع اخللفاء‬
‫الراش دون وهو إم ٌام يف الفقه واحلكمة والع دل ؛ اتفقت مجيع امللل على فض له و له مك ارم وحماسن كث رية ليس ه ذا مق ام ذكرها رضي اهلل‬
‫عنه‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫يف ق ‪ :‬تضاعيف كالم‪.‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫الكلم ات من كالم األوائل ‪ ،‬مع أن بعض ها من مول دات اخلواطر ‪ -‬وال يبعد أن يقع احلافر على احلافر ‪-‬‬
‫وبعضها يوجد يف الكتب الشرعية ‪ ،‬وأكثرها موجود معناه يف كتب الصوفية‪.‬‬
‫وهب أهنا مل توجد إال يف كتبهم ‪ ،‬ف إذا ك ان ذلك الكالم معق والً يف نفسه ‪ ،‬مؤي داً بالربه ان ‪ ،‬ومل يكن‬
‫فلم ينبغي أن يهجر وي رتك؟ فلو فتحنا ه ذا الب اب ‪ ،‬وتطرقنا إىل أن يهجر‬‫على خمالفة الكت اب والس نة ‪َ ،‬‬
‫كل حق سبق إليه خاطر مبطل ‪ ،‬للزمنا أن نـهجر كثرياً من احلق ‪ ،‬ولزمنا أن نـهجر مجلة آيات من آيات‬
‫الق رآن وأخب ار الرس ول ص لى اهلل عليه وس لّم وحكاي ات الس لف وكلم ات احلكم اء والص وفية ‪ ،‬ألن‬
‫صاحب كتاب (( إخوان الصفا )) أوردها يف كتابـه مستشهداً بـها ومستدرجاً قلوب احلمقى بواسطتها‬
‫إىل باطل ه ؛ ويتداعى ذلك إىل أن يستخرج املبطلون احلق من أيدينا بإيداعهم إياه كتبهم‪ .‬وأقل درجات‬
‫احلجام ‪ ،‬ويتحقق أن‬‫الع امل‪ :‬أن يتم يز عن الع امي الغُمر ‪ ،‬فال يع اف العسل ‪ ،‬وإن وج ده يف حمجمة َّ‬
‫احملجمة ال تغري ذات العسل ‪ ،‬فإن نفرة الطبع عنه مبنية على جهل عامي منشؤه أن احملجمة ‪ ،‬إمنا صنعت‬
‫لل دم املس تقذَر ‪ ،‬فيظن أن ال دم مس تقذر لكونه يف احملجمة ‪ ،‬وال ي دري أنه مس تقذر لص فة يف ذاته ؛ ف إذا‬
‫ع دمت ( ه ذه ) الص فة يف العسل فكونـه يف ظرفه ال يكس به تلك الص فة ‪ ،‬فال ينبغي أن ي وجب له‬
‫االستقذار ‪ ،‬وهذا وهم باطل ‪ ،‬وهو غالب على أكثر اخللق‪ .‬فإذا نسبت الكالم وأسندته إىل قائل حسن‬
‫فيه اعتقادهم ‪ ،‬قبلوه وإن كان باطالً ؛ وإن أسندته إىل من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حق اً‪ .‬فأبداً‬
‫يعرفون احلق بالرجال وال يعرفون الرجال باحلق ‪ ،‬وهو غاية الضالل! هذه آفة الرد‪.‬‬
‫‪ - 2‬واآلفة الثانية آفة القب**ول‪ :‬فإن من نظر يف كتبهم (( ك إخوان الص فا )) وغ ريه ‪ ،‬ف رأى ما مزجوه‬
‫بكالمهم من احلكم النبوية ‪ ،‬والكلم ات الص وفية ‪ ،‬رمبا استحس نها وقبلها ‪ ،‬وحسن اعتق اده فيها ‪،‬‬
‫فيسارع إىل قبول باطلهم املمزوج بـه ‪ ،‬حلسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه ‪ ،‬وذلك نوع استدراج إىل‬
‫الباطل‪.‬‬
‫وألجل ه ذه اآلفة جيب الزجر عن مطالعة كتبهم ملا فيها من الغ در واخلط ر‪ .‬وكما جيب ص ون من ال‬
‫حيسن الس باحة على مزالق الش طوط ‪ ،‬جيب ص ون اخللق عن مطالعة تلك الكتب‪ .‬وكما جيب ص ون‬
‫املعزم أن ال ميس‬
‫الص بيان عن مس احليَّات ‪ ،‬جيب ص ون األمساع عن خمتلط الكلم ات وكما جيب على ِّ‬
‫احلية بني ي دي ول ده الطفل ‪ ،‬إذا علم أن س يقتدي به ويظن أنه مثله ‪ ،‬بل جيب عليه أن حي ّذره [ منه ] ‪،‬‬
‫ب أن حيذر هو [ يف ] نفسه [ وال ميس ها ] بني يديه ‪ ،‬فك ذلك جيب على الع امل الراسخ مثله‪ .‬وكما أن‬
‫املع ّزِم احلاذق إذا أخذ احلية وم يز بني الرتي اق والسم ‪ ،‬واس تخرج منها الرتي اق وأبطل السم فليس له أن‬
‫الب ‪ ،‬وأخرج منه‬ ‫الق ّ‬
‫يشح بالرتياق على احملتاج إليه‪ .‬وكذا الصراف الناقد البصري إذا أدخل يده يف كيس َ‬
‫اإلبريز اخلالص ‪ ،‬واّطرح الزيف والبهرج ‪ ،‬فليس له أن يشح باجليد املرضي على من حيتاج إليه ؛ فكذلك‬

‫‪- 22 -‬‬
‫الع امل‪ .‬وكما أن احملت اج إىل الرتي اق ‪ ،‬إذا امشأزت نفسه منه ‪ ،‬حيث علم أنه مس تخرج من احلية اليت هي‬
‫مركز السم [ وجب تعريفه ] ‪ ،‬والفقري املضطر إىل املال ‪ ،‬إذا نفر عن قبول الذهب املستخرج من كيس‬
‫القالّب ‪ ،‬وجب تنبيهه على أن نفرته جهل حمض ‪ ،‬هو س بب حرمأنه الفائ دة اليت هي مطلبه ‪ ،‬وحتتم‬
‫تعريفه أن قرب اجلوار بني الزيف واجليد ال جيعل اجليد زيف اً ‪ ،‬كما ال جيعل الزيف جيداً ‪ ،‬فكذلك قرب‬
‫اجلوار بني احلق الباطل ‪ ،‬ال جيعل احلق باطالً ‪ ،‬كما ال جيعل الباطل حقاً‪.‬‬
‫فهذا ( مقدار ) ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪- 23 -‬‬
‫وغِائَلته‬ ‫‪ - 3‬القَو ُل ِفي مَْذَه ِ‬
‫ب التَّعلِيم َ‬
‫مث إين ملا ف رغت من علم الفلس فة وحتص يله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه ‪ ،‬علمت أن ذلك أيض اً غري‬
‫وافٍ بكم ال الغ رض ‪ ،‬وأن العقل ليس مس تقالً باإلحاطة جبميع املط الب ‪ ،‬وال كاش فاً للغط اء عن مجيع‬
‫املعض الت‪ .‬وك ان قد نبغت نابغة التعليمية ‪ ،‬وش اع بين اخللق حتدثهم مبعرفة معىن األم ور من جهة اإلم ام‬
‫فعن يل أن أحبث يف مقاالتـهم ‪ ،‬ألطّلع على ما يف كن انتهم‪ .‬مث اتفق أن ورد علي‬ ‫املعص وم الق ائم ب احلق ‪ّ ،‬‬
‫أمر ج ازم من حض رة اخلالفة ‪ ،‬بتص نيف كت اب يكشف [ عن ] حقيقة م ذهبهم‪ .‬فلم يس عين مدافعته‬
‫وص ار ذلك مس تحثاً من خ ارج ‪ ،‬ض ميمة للب اعث من الب اطن ‪ ،‬فابت دأت بطلب كتبهم ومجع مقاالتـهم‪.‬‬
‫وكذلك قد بلغين بعض كلماتـهم املستحدثة اليت ولدتـها خواطر أهل العصر ‪ ،‬ال على املنهاج املعهود من‬
‫سلفهم‪ .‬فجمعت تلك الكلمات ‪ ( ،‬ورتبتها ) ترتيب اً حمكم اً مقارن اً للتحقيق ‪ ،‬واستوفيت اجلواب عنها ‪،‬‬
‫حىت أنكر بعض أهل احلق ( مين ) مب الغيت يف تقرير حجتهم ‪ ،‬فق ال‪ (( :‬ه ذا س عي هلم ‪ ،‬فأنـهم ك انوا‬
‫يعجزون عن نصرة مذهبهم بـمثل هذه الشبهات لوال حتقيقك هلا ‪ ،‬وترتيبك إياها ))‪ .‬وهذا اإلنكار من‬
‫وجه حق ‪ ،‬فقد أنكر أمحد بن حنبل على احلارث احملاسيب ( رمحهما اهلل ) ‪ ،‬تص نيفه يف ال رد على املعتزلة‬
‫؛ فقال احلارث‪ (( :‬الرد على البدعة فرض)) فقال أمحد‪ (( :‬نعم ‪ ،‬ولكن حكيت شبهتهم أوالً مث أجبت‬
‫عنها ؛ فبَم ت أمن أن يط الع الش بهة من يعلق ذلك بفهمه ‪ ،‬وال يلتفت إىل اجلواب ‪ ،‬أو ينظر يف اجلواب‬
‫وال يفهم كنهه؟ ))‪.‬‬
‫وما ذك ره أمحد بن حنبل حق ‪ ،‬ولكن يف ش بهة ( مل تنتشر ) ومل تش تهر‪ .‬فأما إذا انتش رت ‪ ،‬ف اجلواب‬
‫عنها واجب وال ميكن اجلواب [ عنها ] إال بعد احلكاي ة‪ .‬نعم ‪ ،‬ينبغي أن ال يتكلف هلم ش بهة مل [‬
‫يتكلفوها ] ؛ ومل أتكلف أنا ذلك ‪ ،‬بل كنت قد مسعت تلك الشبهة من واحد من أصحايب املختلفني إيل‬
‫‪ ،‬بعد أن ك ان قد التحق بـهم ؛ وانتحل مذهبـهم ‪ ،‬وحكى أنـهم يض حكون على تص انيف املص نفني يف‬
‫ال رد عليهم ‪ ،‬بأنـهم مل يفهم وا بعد حجتهم‪ .‬مث ذكر تلك احلجة وحكاها عنهم ‪ ،‬فلم أرض لنفسي أن‬
‫يظن يف الغفلة عن اصل حجتهم ‪ ،‬فل ذلك أوردتـها ‪ ،‬وال أن يظن يب أين ‪ -‬وإن مسعتها – مل أفهمها‬
‫فلذلك قررهتا‪.‬‬
‫واملقصود ‪ ،‬أين قررت شبهتهم إىل أقصى اإلمكان ‪ ،‬مث أظهرت فسادها [ بغاية الربهان ]‪.‬‬
‫واحلاصل‪ :‬أنه ال حاصل عند هؤالء ‪ ،‬وال طائل لكالمهم‪ .‬ولوال سوء نصرة الصديق اجلاهل ‪ ،‬ملا انتهت‬
‫تلك البدعة ‪ -‬مع ضعفها ‪ -‬إىل هذه الدرجة ؛ ولكن شدة التعصب ‪ ،‬دعت الذابني عن احلق إىل تطويل‬

‫‪- 24 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل ‪ :‬مذهب التعليم‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫النـزاع معهم يف مق دمات كالمهم ‪ ،‬وإىل جماحدتـهم يف كل ما نطق وا به ‪ ،‬فجاح دوهم يف دع واهم‪(( :‬‬
‫احلاجة إىل التعليم واملعلم‪ )) .‬ويف دع واهم أن ه‪ (( :‬ال يص لح كل معلم ‪ ،‬بل ال بد من معلم معص وم‪)) .‬‬
‫وظه رت حجتهم يف إظه ار احلاجة إىل التعليم واملعلم ‪ ،‬وض عف ق ول املنك رين يف مقابلته ‪ ،‬ف اغرت ب ذلك‬
‫مجاعة وظنوا أن ذلك من قوة مذهبهم وضعف مذهب املخالفني هلم ‪ ،‬ومل يفهموا أن ذلك لضعف ناصر‬
‫احلق وجعله بطريقه ؛ بل الصواب االعرتاف باحلاجة إىل املعلم ‪ ،‬وأنه ال بد وأن يكون ( املعلم ) معصوماً‬
‫‪ ،‬ولكن معلمنا املعص وم ( هو ) محمد ص لى اهلل عليه وس لّم ف إذا ق الوا‪ (( :‬هو ميت )) ‪ ،‬فنق ول‪(( :‬‬
‫ومعلمكم غ ائب )) ‪ ،‬ف إذا ق الوا‪ (( :‬معلمنا قد علم ال دعاة وبثهم يف البالد ‪ ،‬وهو ينتظر م راجعتهم إن‬
‫اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل ))‪ .‬فنقول‪ (( :‬ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم يف البالد وأكمل التعليم إذ‬
‫قال اهلل تعاىل‪:‬‬
‫ُ‬
‫وأتممت عليك ْم نعمتي ] )) (املائدة‪)3 :‬‬ ‫ُ‬
‫أكملت لكم دينكم [‬ ‫(( اليوم‬
‫وبعد كمال التعليم ال يضر موت املعلم كما ال يضر غيبته‪.‬‬
‫فبقي ق وهلم‪ (( :‬كيف حتكم ون فيما مل تس معوه؟ أب النص ومل تس معوه ‪ ،‬أم باإلجته اد وال رأي وهو مظنة‬
‫اخلالف؟ )) فنق ول‪ (( :‬نفعل ما فعله مع اذ إذ بعثه رس ول اهلل عليه [ الص الة ] والس الم إىل اليمن‪ :‬أن‬
‫حنكم بالنص ‪ ،‬عند وجود النص وباإلجتهاد عند عدمه‪ ( .90‬بل ) كما يفعله دعاهتم إذا بعدوا عن اإلمام‬
‫إىل أقاصي البالد ‪ ،‬إذ ال ميكنـه أن حيكم بالنص فإن النصوص املتناهية ال تستوعب الوقائع الغري املتناهية ‪،‬‬
‫وال ميكنـه الرج وع يف كل واقعة إىل بل دة اإلم ام ‪ ،‬وأن يقطع املس افة ويرجع فيك ون املس تفيت قد م ات ‪،‬‬
‫وف ات االنتف اع ب الرجوع‪ .‬فمن أش كلت عليه القبلة ليس له طريق إال أن يص لي باالجته اد ‪ ،‬إذ لو س افر‬
‫إىل بل دة اإلم ام ملعرفة القبلة ‪ ،‬فيف وت وقت الص الة‪ .‬ف إذن ج ازت الص الة إىل غري القبلة بن اء على الظن‪.‬‬
‫صيب أجران ))‪ .91‬فكذلك يف مجيع اجملتهدات ‪،‬‬ ‫ويقال‪ (( :‬إن املخطيء يف االجتهاد له أجر واح ٌد وللم ِ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وكذلك أمر صرف الزكاة إىل الفقري ‪ ،‬فرمبا يظنـه فقرياً باجتهاده وهو غين باطناً بإخفائه ماله ‪ ،‬فال يكون‬
‫مؤاخ ذاً بـه وإن أخطأ ‪ ،‬ألنه مل يؤاخذ إال مبوجب ظن ه‪ .‬ف إن ق ال‪ (( :‬ظن خمالف ِه كظنه )) ف أقول‪ (( :‬هو‬
‫م أمور باتب اع ظن نفسه ‪ ،‬كاجملتهد يف القبلة يتبع ظنه وإن خالفه غ ريه‪ )) .‬ف إن ق ال‪ (( :‬فاملقلد يتبع أبا‬
‫حنيفة والش افعي ( رمحهما اهلل ) أم غريمها‪ )) .‬ف أقول‪ (( :‬فاملقلد يف القبلة عند االش تباه ‪ ،‬يف معرفة‬
‫األفضل األعلم بدالئل القبلة ‪ ،‬فيتبع ذلك االجتهاد ؛ فكذلك يف املذاهب‪)) .‬‬

‫‪90‬‬
‫رواه أبو دواد والرتمذي وأمحد‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫رواه مسلم والبخاري وأبو دواد وابن ماجة والرتمذي والنسائي (اي الستة) وأمحد‪.‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل ‪ :‬مذهب التعليم‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫فرد اخللق إىل االجتهاد ‪ -‬ضرورة ‪ -‬األنبياءُ واألئمة مع العلم بأنـهم ( قد ) خيطئون ‪ ،‬بل قال رسول اهلل‬
‫ّ‬
‫صلى اهلل عليه وس لّم‪ (( :‬أنا أحكم بالظاهر واهلل يتوىل السرائر ))‪ .92‬أي أنا أحكم بغالب الظن احلاصل‬
‫من ق ول الش هود ‪ ،‬ورمبا أخط أوا في ه‪ .‬وال س بيل إىل األمن من اخلطأ لألنبي اء يف مثل ه ذه اجملته دات ‪،‬‬
‫فيكف يطمع يف ذلك؟‬
‫وهلم ها هنا س ؤاالن‪ :‬أح دمها ق وهلم‪ (( :‬ه ذا وإن صح يف اجملته دات فال يصح يف قواعد العقائد ‪ ،‬إذ‬
‫املخطئ فيه غري معذور ‪ ،‬فكيف السبيل إليه؟ )) فأقول‪ (( :‬قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة ؛‬
‫وما وراء ذلك من التفص يل ‪ ،‬واملتن ازع فيه ‪ ،‬يع رف احلق فيه ب الوزن بالقس طاس املس تقيم‪ .‬وهي املوازين‬
‫اليت ذكرها اهلل ( تعاىل ) يف كتابه ‪ ،‬وهي مخسة ذكرتـها يف كتاب (( القسطاس املستقيم ))‪ .‬فإن قال‪(( :‬‬
‫خص ومك خيالفونك يف ذلك امليزان‪ )) .‬ف أقول‪ (( :‬ال يتص ور أن يفهم ذلك امليزان مث خيالف فيه [ إذ ال‬
‫خيالف فيه ] أهل التعليم ‪ ،‬ألين اس تخرجته من الق رآن وتعلمته منه ‪ ،‬وال خيالف فيه أهل املنطق ‪ ،‬ألنه‬
‫موافق ملا ش رطوه يف املنطق ‪ ،‬وغري خمالف له ؛ وال خيالف فيه املتكلم ألنه موافق ملا ي ذكره يف أدلة‬
‫فلم ال ترفع‬
‫النظريات ‪ ،‬وبه يعرف احلق يف الكالميات‪ )) .‬فإن قال‪ (( :‬فإن كان يف يدك مثل هذا امليزان َ‬
‫اخلالف بني اخللق؟ )) ف أقول‪ (( :‬لو أص غوا إيل ل رفعت اخلالف بينهم ؛ وذك رت طريق رفع اخلالف يف‬
‫كت اب (( القس طاس املس تقيم )) ‪ ،‬فتأمله لتعلم أنه حق وأنه يرفع اخلالف قطع اً لو أص غوا وال يص غون [‬
‫إليه ] ب أمجعهم! بل قد أص غى إيل طائفة ‪ ،‬ف رفعت اخلالف بينهم‪ .‬وإمامك يريد رفع اخلالف بينهم مع‬
‫ومل مل يرفع علي رضي اهلل عنـه ‪ ،‬وهو رأس األئمة؟ أو ي دعي أنه‬‫فلم مل يرفع إىل اآلن؟ َ‬
‫ع دم إص غائهم ‪َ ،‬‬
‫فلم مل حيملهم إىل اآلن؟ وألي ي وم أجله؟ وهل حصل بني‬ ‫يق در على محل ك افتهم على اإلص غاء قه راً ‪َ ،‬‬
‫اخللق بس بب دعوته إال زي ادة خالف وزي ادة خمالف؟ نعم! ك ان خيشى من اخلالف ن وع الض رر ال ينتهي‬
‫إىل سفك الدماء ‪ ،‬وختريب البالد وأيتام األوالد ‪ ،‬وقطع الطرق ‪ ،‬واإلغارة على األموال‪ .‬وقد حدث يف‬
‫الع امل من برك ات رفعكم اخلالف [ من اخلالف ] ما مل يكن مبثله عه د‪ )) .‬ف إن ق ال‪ (( :‬ادعيت أنك‬
‫ترفع اخلالف بني اخللق ولكن املتحري بني املذاهب املتعارضة ‪ ،‬واالختالف ات املتقابلة ‪ ،‬مل يلزمه اإلص غاء‬
‫إليك دون خصمك ‪ ،‬وأكثر اخلصوم خيالفونك ‪ ،‬وال فرق بينك وبينهم‪)) .‬‬
‫وهذا هو سؤاهلم الثاين فأقول‪ (( :‬هذا أوالً ينقلب عليك ‪ ،‬فإنك إذا دعوت هذا املتحري إىل نفسك فيقول‬
‫املتحري ‪ ،‬مبا ص رت أوىل من خمالفيك ‪ ،‬وأك ثر أهل العلم خيالفونك؟ فليت ش عري! مباذا جتيب ‪ ،‬أجتيب‬
‫بأن تقول‪ :‬إمامي منصوص عليه؟ فمن يصدقك يف دعوى النص ‪ ،‬وهو مل يسمع النص من الرسول؟ وإمنا‬

‫‪92‬‬
‫قال احلافظ العراقي واحلافظ املزي ‪ :‬ال أصل له‪.‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل ‪ :‬مذهب التعليم‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫يس مع دع واك مع تط ابق أهل العلم على اخرتاعك وتك ذيبك‪ .‬مث هب أنه س لم لك النص ‪ ،‬ف إن ك ان‬
‫متح رياً يف أصل النب وة ‪ ،‬فق ال‪ :‬هب أن إمامك ي ديل مبعج زة عيسى عليه الس الم فيق ول‪ :‬ال دليل على‬
‫ص دقي أين أح يي أب اك ‪ ،‬فأحي اه ‪ ،‬فن اطقين بأنه حمق ‪ ،‬فبم اذا أعلم ص دقه؟ ومل يعلم كافة اخللق ص دق‬
‫عيسى عليه الس الم بـهذه املعج زة ‪ ،‬بل عليه من األس ئلة املش كلة ما ال ي دفع إال ب دقيق النظر العقلي ؛‬
‫والنظر العقلي ال يوثق به عندك ‪ ،‬وال يعرف داللة املعجزة على الصدق ما مل يعرف السحر والتمييز بينه‬
‫وبني املعج زة ‪ ،‬وما مل يع رف أن اهلل ال يضل عب اده‪ - .‬وس ؤال اإلض الل وعسر [ حترير ] اجلواب عنه‬
‫مش هور‪ -‬فبم اذا ت دفع مجيع ذلك؟ ومل يكن إمامك أوىل باملتابعة من خمالف ه! )) ف ريجع إىل األدلة النظرية‬
‫اليت ينكرها ‪ ،‬وخصمه يديل مبثل تلك األدلة وأوضح منها‪ .‬وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقالب اً عظيما‬
‫‪ ،‬لو اجتمع أوهلم وآخرهم على أن جييبوا عنه جواباً مل يقدروا عليه‪.‬‬
‫وإمنا نشأ الفس اد من مجاعة من الض عفة ن اظروهم ‪ ،‬فلم يش تغلوا ب القلب ‪ ،‬بل ب اجلواب‪ .‬وذلك مما يط ول‬
‫فيه الكالم ‪ ،‬وما ال يس بق س ريعاً إىل اإلفه ام ‪ ،‬فال يصلح لإلفح ام‪ .‬ف إن ق ال قائ ل‪ (( :‬فه ذا هو القلب ‪،‬‬
‫فهل عنه جواب؟ )) فأقول‪ (( :‬نعم! جوابه أن املتحري لو قال‪ :‬أنا متحري ‪ ،‬ومل يعني املسألة اليت هو متحري‬
‫فيها ‪ ،‬يق ال ل ه‪ :‬أنت كم ريض يق ول‪ :‬أنا م ريض وال يعني مرضه ‪ ،‬ويطلب عالجه‪ .‬فيق ال ل ه‪ :‬ليس يف‬
‫الوجود عالج للمرض املطلق ‪ ،‬بل ملرض معني‪ :‬من صداع أو إسهال أو غريمها‪ .‬فكذلك املتحري ينبغي أن‬
‫يعني ما هو متحري فيه ؛ ف إن عني املس ألة عرّفته احلق فيها ب الوزن ب املوازين اخلمسة ‪ ،‬اليت ال يفهمها أحد‬
‫إال ويعرتف بأنه امليزان احلق ‪ ،‬الذي يوثق بكل ما يوزن به ‪ ،‬فيفهم امليزان ‪ ،‬ويفهم منه أيضاً صحة الوزن‬
‫‪ ،‬كما يفهم متعلم علم احلس اب نفس احلس اب ‪ ،‬وك ون احملاسب املعلم عاملاً باحلس اب وص ادقاً فيه ))‪.‬‬
‫وقد أوضحت ذلك يف كتاب (( القسطاس املستقيم )) يف مقدار عشرين ورقة ؛ فليتأمل‪.‬‬
‫وليس املقصود اآلن بيان فساد مذهبهم ‪ ،‬فقد ذكرت ذلك يف كتاب (( املستظهري )) أوالً ؛ ويف كتاب‬
‫(( حجة احلق )) ثاني اً ‪ ،‬وهو ج واب كالم هلم ُع رض علي ببغ داد ؛ ويف كت اب (( مفصل اخلالف ))‬
‫الذي هو اثنا عشر فصالً ثالثاً ؛ وهو جواب كالم ُعرض علي بـهمدان ؛ ويف كتاب (( الدرج )) املرقوم‬
‫(( باجلداول )) رابع اً ‪ ،‬وهو من ركيك كالمهم ال ذي ُع رض علي بط وس ؛ ويف كت اب (( القس طاس‬
‫املستقيم )) خامساً ‪ ،‬وهو كتاب مستقل بنفسه مقصوده بيان ميزان العلوم وإظهار االستغناء عن االمام [‬
‫املعصوم ] ملن أحاط به‪.‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل ‪ :‬مذهب التعليم‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫بل املقصود أن هؤالء ليس معهم شيء من الشفاء املنجي من ظلمات اآلراء ‪ ،‬بل هم ‪ ،‬مع عجزهم عن‬
‫إقامة الربهان على تعيني اإلمام ‪ ،‬طال ما جاريناهم‪ 93‬فصدقناهم يف احلاجة إىل التعليم وإىل املعلم املعصوم‬
‫وأنه ال ذي عين وه ‪ ،‬مث س ألناهم عن العلم ال ذي تعلم وه من ه ذا املعص وم وعرض نا عليهم إش كاالت فلم‬
‫يفهموها ‪ ،‬فض الً عن القيام حبلّها! فلما عجزوا أحالوا [ على ] اإلمام الغائب ‪ ،‬وقالوا‪ ( (( :‬أنه ) ال بد‬
‫من السفر إليه‪ )) .‬والعجب أنـهم ضيعوا عمرهم يف طلب املعلم ويف التبجح بالظفر به ‪ ،‬ومل يتعلموا منه‬
‫‪94‬‬
‫كاملتضمخ بالنجاسة ‪ ،‬يتعب يف طلب املاء حىت إذا وجده مل يستعمله ‪ ،‬وبقي متضمخاً‬ ‫ّ‬ ‫شيئاً أص الً ‪،‬‬
‫باخلبائث‪.‬‬
‫ومنهم من ادعى شيئاً من علمهم ‪ ،‬فكان حاصل ما ذكره شيئاً من ركيك فلسفة فيثاغورس‪ :‬وهو رجل‬
‫من ق دماء األوائل ‪ ،‬ومذهبـه أرك مذاهب الفلس فة ‪ ،‬وقد رد عليه أرس طاطاليس ‪ ،‬بل اس رتكَّ كالمه‬
‫واسرتذله ‪ ،‬وهو احملكي يف كتاب (( إخوان الصفا )) ‪ ،‬وهو على التحقيق حشو الفلسفة‪.‬‬
‫ف العجب ممن يتعب ط ول العمر يف حتص يل العلم مث يقنع مبثل ذلك العلم الركيك املس تغث ‪ ،‬ويظن بأنه‬
‫ظفر بأقصى مقاصد العل وم! فه ؤالء أيض اً جربن اهم وس ربنا ظ اهرهم وب اطنهم ؛ فرجع حاص لهم إىل‬
‫اس تدراج الع وام ‪ ،‬وض عفاء العق ول ببي ان احلاجة إىل املعلم ‪ ،‬وجمادلتهم يف إنك ارهم احلاجة إىل التعليم‬
‫بكالم ق وي مفحم ‪ ،‬حىت إذا س اعدهم على احلاجة إىل املعلم مس اعد ‪ ،‬وق ال‪ (( :‬ه ات علمه وأف دنا من‬
‫تعليمه! )) وقف وقال‪ (( :‬اآلن إذا سلمت يل هذا فاطلبه ‪ ،‬فإمنا غرضَي هذا القدر فقط‪ )) .‬إذ علم أنه‬
‫لو زاد على ذلك الفتضح ولعجز عن حل أدىن اإلشكاالت ‪ ،‬بل عجز عن فهمه ‪ ،‬فضالً عن جوابـه‪.‬‬
‫فهذه حقيقة حاهلم فأخربهم َتْقُلهم‪ 95‬فلما خربناهم‪ 96‬نفضنا اليد عنهم ( أيضاً )‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪93‬‬
‫يف ق ‪ :‬جربناهم‪.‬‬
‫‪94‬‬
‫التضمخ‪ :‬التلطخ ‪ ،‬يقال يف الطيب‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫اخربهم‪ :‬امتحنهم ؛ وتقلهم‪ :‬تبغضهم‪.‬‬
‫‪96‬‬
‫يف ق ‪ :‬جربناهم‪.‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫وفَّية‬
‫طُرق الصُّ ِ‬
‫‪ُ -4‬‬
‫مث إين ‪ ،‬ملا فرغت من هذه العلوم ‪ ،‬أقبلت بـهميت على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنم ا تتم بعلم‬
‫وعمل ؛ وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس‪ .‬والتنـزه عن أخالقها املذمومة وصفاهتا اخلبيثة ‪ ،‬حىت‬
‫يتوصل ( بـها ) إىل ختلية القلب عن غري اهلل ( تعالى ) وحتليته بذكر اهلل‪.‬‬
‫وكان العلم أيسر عليّ من العمل‪ .‬فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل‪ (( :‬قوت القلوب ))‬
‫أليب ط الب املكي ( رمحه اهلل ) وكتب (( احلارث احملاسيب )) ‪ ،‬واملتفرق ات املأثورة عن ((اجلنيد)) و ((‬
‫الشبلي )) و (( أيب يزيد البسطامي )) [ قدس اهلل أرواحهم ] ‪ ،‬وغريهم من املشايخ ؛ حىت اطلعت على‬
‫كنه مقاص دهم العلمية ‪ ،‬وحص لت ما ميكن أن حيصل من ط ريقهم ب التعلم والس ماع‪ .‬فظهر يل أن أخص‬
‫خواص هم ‪ ،‬ما ال ميكن الوص ول إليه ب التعلم بل بال ذوق واحلال وتب دل الص فات‪ .‬وكم من الف رق بني أن‬
‫تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابـهما وشروطهما ‪ ،‬وبني أن تكون صحيحاً وشبعان؟ وبني أن تعرف‬
‫حد الس كر ‪ ،‬وأنه عب ارة عن حالة حتصل من اس تيالء أخبرة تتص اعد من املع دة على مع ادن الفكر ‪ ،‬وبني‬
‫وعلمه وهو س كران وما معه من علمه ش يء!‬ ‫حد الس كر ِ‬‫أن تك ون س كران! بل الس كران ال يع رف ّ‬
‫حد‬
‫وما معه من الس كر ش يء‪ .‬والط بيب يف حالة املرض يع رف ّ‬ ‫الس كر واركأنه َ‬‫والص احي يع رف ح ّد ُ‬ ‫َّ‬
‫رق بني أن تع رف حقيقة الزهد وش روطه‬ ‫الص حة وأسبابـها وأدويتها ‪ ،‬وهو فاقد الص حة‪ .‬فك ذلك ف ٌ‬
‫وأسبابه ‪ ،‬وبني أن تكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا!‬
‫فعلمت يقين اً أنـهم أرباب األحوال ‪ ،‬ال أصحاب األقوال‪ .‬وأن ما ميكن حتصيله بطريق العلم فقد حصلته‬
‫يبق إال ما ال س بيل إليه بالس ماع والتعلم ‪ ،‬بل بال ذوق والس لوك‪ .‬وك ان ( قد ) حصل معي ‪ -‬من‬ ‫‪ ،‬ومل َ‬
‫إميان يقيينٌ‬
‫العلوم اليت مارستها واملسالك اليت سلكتها ‪ ،‬يف التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية‪ٌ -‬‬
‫باهلل تعاىل ‪ ،‬وبالنبُّوة وباليوم اآلخر‪.‬‬
‫بأسباب وقرائن‬
‫ٍ‬ ‫فهذه األصول الثالثة من اإلميان كانت قد رسخت يف نفسي ‪ ،‬ال بدليل معني حمرر‪ 97‬بل‬
‫تفاصيلها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وجتارب ال تدخل حتت احلصر‬
‫وكان قد ظهر عندي أنه ال مطمع ( يل ) يف سعادة اآلخرة إال بالتقوى ‪ ،‬وكف النفس عن اهلوى ‪ ،‬وأن‬
‫قطع عالقة القلب عن الدنيا بالتجايف عن دار الغرور ‪ ،‬واإلنابة إىل دار اخللود ‪ ،‬واإلقبال‬ ‫رأس ذلك كله ‪ُ ،‬‬

‫‪97‬‬
‫يف ق‪ :‬جمرد‪.‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫بكُنه اهلمة على اهلل تع اىل‪ .‬وأن ذلك ال يتم إال ب اإلعراض عن اجلاه واملال ‪ ،‬واهلرب من الش واغل‬
‫والعالئق‪.‬‬
‫مث الحظت أح وايل ؛ ف إذا أنا منغمس يف العالئق ‪ ،‬وقد أح دقت يب من اجلوانب ؛ والحظت أعم ايل –‬
‫وأحسنها التدريس والتعليم ‪ -‬فإذا أنا فيها مقبل على علوم غري مهمة وال نافعة يف طريق اآلخرة‪.‬‬
‫مث تفك رت يف نييت يف الت دريس ف إذا هي غري خالصة لوجه اهلل تع اىل ‪ ،‬بل باعثها وحمركها طلب اجلاه‬
‫وانتش ار الص يت ؛ ف تيقنت أين على ش فا ُج ُرف ه ار ‪ ،‬وأين قد أش فيت على الن ار ‪ ،‬إن مل أش تغل بتاليف‬
‫األحوال‪.‬‬
‫بعد على مقام االختيار ‪ ،‬أصمم العزم على اخلروج من بغداد ومفارقة تلك‬ ‫فلم أزل أتفكر فيه مدة ‪ ،‬وأنا ُ‬
‫رجال وأؤخر عنه أخ رى‪ .‬ال تص دق يل رغبة يف طلب‬ ‫األح وال يوم اً ‪ ،‬وأحل الع زم يوم اً ‪ ،‬وأق دم فيه ً‬
‫اآلخ رة بك رة ‪ ،‬إال وحيمل عليها جن د الش هوة محلة فيفرتها عش ية‪ .‬فص ارت ش هوات ال دنيا جتاذبين‬
‫بسالس لها إىل املق ام ‪ ،‬ومن ادي اإلميان ين ادي‪ :‬الرحيل! الرحي ل! فلم يبق من العمر إال قليل ‪ ،‬وبني ي ديك‬
‫الس فر الطويل ‪ ،‬ومجيع ما أنت فيه من العلم والعمل ري اء وختيي ل! ف إن مل تس تعد اآلن لآلخ رة فمىت‬
‫تس تعد؟ وإن مل تقطع اآلن [ ه ذه العالئق ] فمىت تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ‪ ،‬وينج زم الع زم على‬
‫اهلرب والفرار‪.‬‬
‫مث يعود الشيطان ويقول‪ (( :‬هذه حال عارضة ‪ ،‬إياك أن تطاوعها ‪ ،‬فأنـها سريعة الزوال ؛ فإن أذعنت هلا‬
‫وت ركت ه ذا اجلاه الع ريض ‪ ،‬والش أن املنظ وم اخلايل عن التك دير والتنغيص ‪ ،‬واألمر املس لم الص ايف عن‬
‫منازعة اخلصوم ‪ ،‬رمبا التفتت إليه نفسك ‪ ،‬وال يتيسر لك املعاودة‪)) .‬‬
‫‪98‬‬
‫فلم أزل أتردد بني جتاذب شهوات الدنيا ‪ ،‬ودواعي اآلخرة ‪ ،‬قريباً من ستة أشهر أوهلا رجب سنة مثان‬
‫ومثانني وأربع مائة‪ .‬ويف هذا الشهر‪ 99‬جاوز األمر حد االختيار إىل االضطرار ‪ ،‬إذ أقفل اهلل على لساين‬
‫حىت اعتقل عن الت دريس ‪ ،‬فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوم اً واح داً تطييب اً لقل وب املختلفة [ إيل ] ‪،‬‬
‫فكان ال ينطق لساين بكلمة [ واحدة ] وال أستطيعها البتة ‪ ،‬حىت أورثت هذه العقلة يف اللسان حزن اً يف‬

‫‪98‬‬
‫يف بعض النسخ (( سنة ست ))‪.‬‬
‫‪99‬‬
‫هذا هو قمة األزمة الروحية عندة وسببها هو اخلوف من اهلالك اآلخروي كما قال عبدالغافر الفارسي‪ (( :‬فتح عليه باب من أبواب‬
‫اخلوف ))‪ .‬ولعل من االسباب اليت أدت إىل هذه األزمة هو دراسة كتب الصوفيني وسريتـهم‪ .‬ويف هذه الفرتة الزمنية يذكر أبن كثري أن عاملاً‬
‫دخل بغ داد ودرس يف الناظمية وعلى يديه ت اب كث ًري من العب اد ورجع وا إىل اهلل وكثري منهم من زهد يف ال دنيا وتنس ك‪ .‬انظر فيما كتبـه د‪.‬‬
‫مصطفى حممود أبو صوى عن هذه األزمة وما كتبتة أنا يف هذا املوضوع ‪ ،‬واجلدير بالذكر أن هذه األزمة هي غري (فرتة الشك) اليت عاىن‬
‫منها وذكرها يف فصل مداخل السفسطة وجحد العلوم ‪.‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫القلب ‪ ،‬بطلت معه ق وة اهلضم وم راءة الطع ام والش راب‪ :‬فك ان ال ينس اغ يل ثريد ‪ ،‬وال تنهضم ( يل )‬
‫لقمة ؛ وتعدى إىل ضعف القوى ‪ ،‬حىت قطع األطباء طمعهم من العالج وقالوا‪ (( :‬هذا أمر نـزل بالقلب‬
‫‪ ،‬ومنه سرى إىل املزاج ‪ ،‬فال سبيل إليه بالعالج ‪ ،‬إال بأن يرتوح السر عن اهلم امللم ))‪.‬‬
‫مث ملا أحسست بعجزي ‪ ،‬وسقط بالكلية اختياري ‪ ،‬التجأت إىل اهلل تعاىل التجاء املضطر الذي ال حيلة له‬
‫‪ ،‬فأج ابين ال ذي (( جييب املض طر إذا دع اه )) ‪ ،‬وس هل على قليب اإلع راض عن اجلاه واملال ( واألهل‬
‫أدب ر يف نفسي س فر الش ام ح ذراً أن يطلع‬ ‫والولد واألص حاب ) ‪ ،‬وأظه رت ع زم اخلروج إىل مكة وأنا ّ‬
‫اخلليفة ومجلة األص حاب على ع زمي على املق ام يف الش ام ؛ فتلطفت بلط ائف احليل يف اخلروج من بغ داد‬
‫على ع زم أن ال أعاودها أب داً‪ .‬واس تهدفت ألئمة أهل الع راق كافة ‪ ،‬إذ مل يكن فيهم من جيوز أن يك ون‬
‫ديين ‪ ،‬إذ ظنوا أن ذلك هو املنصب األعلى يف الدين ‪ ،‬وكان ذلك مبلغهم‬ ‫لإلعراض عما كنت فيه سبب ّ‬
‫من العلم‪.‬‬
‫مث ارتبك الناس يف االستنباطات ‪ ،‬وظن من ُبعد عن العراق ‪ ،‬أن ذلك كان الستشعار من جهة الوالة ؛ (‬
‫وأما من قرب من الوالة ) ‪ :‬كان يشاهد إحلاحهم يف التعلق يب واالنكباب عليَّ ‪ ،‬وإعراضي عنهم ‪ ،‬وعن‬
‫االلتفات إىل قوهلم ‪ ،‬فيقولون‪ (( :‬هذا أمر مساوي ‪ ،‬وليس له سبب إال عني أصابت أهل اإلسالم وزمرة‬
‫أهل العلم ))‪.‬‬
‫ففارقت بغداد ‪ ،‬وفرقت ما كان معي من املال ‪ ،‬ومل أدخر إال قدر الكفاف ‪ ،‬وقوت األطفال ‪ ،‬ترخص اً‬
‫بأن مال العراق مرصد للمصاحل ‪ ،‬ولكونه وقف اً على املسلمني‪ .‬فلم أر يف العامل ماالً يأخذه العامل لعياله‬
‫أصلح منه‪.‬‬
‫مث دخلت الشام ‪ ،‬وأقمت به قريباً من سنتني لا شغل يل إال العزلة واخللوة ؛ والرياضة واجملاهدة ‪ ،‬اشتغاالً‬
‫بتزكية النفس ‪ ،‬وتـهذيب األخالق ‪ ،‬وتص فية القلب ل ذكر اهلل ( تع اىل ) ‪ ،‬كما كنت حص لته من‬
‫كتب‪ 100‬الص وفية‪ .‬فكنت أعتكف م دة يف مس جد دمشق ‪ ،‬أص عد من ارة املس جد ط ول النه ار ‪ ،‬وأغلق‬
‫بابـها على نفسي‪.‬‬
‫مث رحلت منها إىل بيت املقدس ‪ ،‬أدخل كل يوم الصخرة ‪ ،‬وأغلق بابـها على نفسي‪.‬‬
‫يف داعية فريضة احلج ‪ ،‬واالستمداد من بركات مكة واملدينة‪ .‬وزيارة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫مث حتركت َّ‬
‫وسلم بعد الفراغ من زيارة اخلليل صلوات اهلل وسالمه عليه ؛ فسرت إىل احلجاز‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫يف ق‪ :‬علم‪.‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫مث ج ذبتين اهلمم ‪ ،‬ودع وات األطف ال إىل ال وطن ‪ ،‬فعاودته بعد أن كنت أبعد اخللق عن الرج وع إليه‪.‬‬
‫فآثرت العزلة [ به ] أيضاً حرصاً على اخللوة ‪ ،‬وتصفية القلب للذكر‪.‬‬
‫يف وجه املراد ‪ ،‬وتشوش صفوة‬ ‫وكانت حوادث الزمان ‪ ،‬ومهمات العيال ‪ ،‬وضرورات املع اش‪ ، 101‬تغري َّ‬
‫اخللوة‪ .‬وكان ال يصفو [ يل ] احلال إال يف أقوات متفرقة‪ .‬لكين مع ذلك ال أقطع طمعي منها ‪ ،‬فتدفعين‬
‫عنها العوائق ‪ ،‬وأعود إليها‪.‬‬
‫ودمت على ذلك مق دار عشر س نني ؛ وانكش فت يل يف أثن اء ه ذه اخلل وات أم ور ال ميكن إحص اؤها‬
‫واستقص اؤها ‪ ،‬والق در ال ذي أذك ره لينتفع به‪ :‬إين علمت يقين اً أن الص وفية هم الس الكون لطريق اهلل (‬
‫تعاىل ) خاصة ‪ ،‬وأن سريهتم أحسن السري ‪ ،‬وطريقهم أصوب الطرق ‪ ،‬وأخالقهم أزكى األخالق‪ .‬بل لو‬
‫ُجمع عقل العقالء ‪ ،‬وحكمة احلكماء ‪ ،‬وعلم الواقفني على أسرار الشرع من العلماء ‪ ،‬ليغريوا شيئاً من‬
‫س ريهم وأخالقهم ‪ ،‬ويب دلوه مبا هو خري منه ‪ ،‬مل جيدوا إليه س بيالً‪ .‬ف إن مجيع حركاتـهم وسكناتـهم ‪ ،‬يف‬
‫ظ اهرهم وب اطنهم ‪ ،‬مقتبسة من ( ن ور ) مش كاة النب وة ؛ وليس وراء ن ور النب وة على وجه األرض ن ور‬
‫يستضاء به‪.‬‬
‫وباجلملة ‪ ،‬فم اذا يق ول الق ائلون يف طريقة ‪ ،‬طهارتـها ‪ -‬وهي أول ش روطها ‪ -‬تطهري القلب بالكلية عما‬
‫سوى اهلل ( تعاىل ) ‪ ،‬ومفتاحها اجلاري منها جمرى التحرمي من الصالة ‪ ،‬استغراق القلب بالكلية بذكر اهلل‬
‫‪ ،‬وآخرها الفن اء بالكلية يف اهلل؟ وه ذا آخرها باإلض افة إىل ما يك اد ي دخل حتت االختي ار والكسب من‬
‫أوائلها‪ .‬وهي على التحقيق أول الطريقة ‪ ،‬وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه‪.‬‬
‫ومن أول الطريقة تبت دئ املكاش فات ( واملش اهدات ) ‪ ،‬حىت أنـهم يف يقظتهم يش اهدون املالئكة ‪،‬‬
‫وأرواح األنبي اء ويس معون منهم أص واتاً ويقتبس ون منهم فوائ د‪ .‬مث ي رتقى احلال من مش اهدة الص ور‬
‫واألمثال ‪ ،‬إىل درجات يضيق عنها نطاق النطق ‪ ،‬فال حياول معرب أن يعرب عنها إال اشتمل لفظه على خطأ‬
‫صريح ال ميكنه االحرتاز عنه‪.‬‬
‫وعلى اجلملة‪ .‬ينتهي األمر إىل ق رب يك اد يتخيل منه طائفة احلل ول ‪ ،‬وطائفة االحتاد ‪ ،‬وطائفة الوص ول ‪،‬‬
‫وكل ذلك خطأ‪ .‬وقد بينا وجه اخلطأ فيه يف كتاب (( املقصد األسنى )) ؛ بل الذي البسته تلك احلالة ال‬
‫ينبغي أن يزيد على أن يقول ‪:‬‬
‫‪102‬‬
‫فظن خرياً وال تسأل عن اخل ِرب!‬
‫َّ‬ ‫لست أذكره‬
‫وكان ما كان مما ُ‬
‫‪101‬‬
‫يف ق‪ :‬املعيشة‪.‬‬
‫‪102‬‬
‫هذا البيت البن املعتز‪.‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫وباجلملة ‪ ،‬فمن مل يرزق منه شيئاً بالذوق ‪ ،‬فليس يدرك من حقيقة النبوة إال االسم ‪ ،‬وكرامات األولياء‬
‫‪ [ ،‬هي ] على التحقيق ‪ ،‬بدايات األنبياء ‪ ،‬وكان ذلك أول حال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬حني‬
‫أقبل إىل جبل (( ح راء )) ‪ ،‬حيث ك ان خيلو فيه بربه ويتعبد ‪ ،‬حىت ق الت الع رب ‪ (( :‬إن حمم داً عشق‬
‫ربه!))‪.‬‬
‫وهذه حالة ‪ ،‬يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها‪ .‬فمن مل يرزق الذوق ‪ ،‬فيتيقنها بالتجربة والتسامع ‪ ،‬إن‬
‫أك ثر معهم الص حبة ‪ ،‬حىت يفهم ذلك بق رائن األح وال يقين اً‪ .‬ومن جالس هم ‪ ،‬اس تفاد منهم ه ذا اإلميان‪.‬‬
‫فهم القوم ال يشقى جليسهم‪ .‬ومن مل يرزق صحبتهم ‪ ،‬فليعلم إمكان ذلك يقين اً بشواهد الربهان ‪ ،‬على‬
‫ما ذكرناه يف كتاب (( عجائب القلب )) من كتب (( إحياء علوم الدين ))‪.‬‬
‫والتحقيق بالربه ان علم ‪ ،‬ومالبسة عني تلك احلالة ذوق ‪ ،‬والقب ول من التس امع والتجربة حبسن الظن‬
‫إيمان‪ .‬فهذه ثالث درجات ‪:‬‬
‫)) (اجملادلة‪:58 :‬‬ ‫ٍ‬ ‫درجات‬ ‫يرفع هللا الذين آمنوا منكم والذين أوتواـ العلم‬
‫ِ‬ ‫((‬
‫‪)11‬‬
‫ووراء هؤالء قوم جهال ‪ ،‬هم املنكرون ألصل ذلك ‪ ،‬املتعجبون من هذا الكالم ‪ ،‬يستمعون ويسخرون ‪،‬‬
‫ويقولون ‪ :‬العجب ! أنـهم كيف يهذون ! وفهيم قال اهلل تعاىل ‪:‬‬
‫عندك قالوا للذين ُأوتوا‬ ‫(( ومنـهم من يستمع إليكَ حتى إذا خرجوا من ِ‬
‫العلم ماذا قال آنفا ً أولئكـ الذين طبع هللا على قلوبـهم واتبعوا أهواءهم ))‬
‫( فأصمهُم وأعمى أبصارهم ) (حممد ‪)16 :47 :‬‬
‫على‬ ‫ومما بان يل بالضرورة من ممارسة طريقتهم ‪ (( ،‬حقيقة النبوة وخاصيتها ))‪ .‬وال بد من التنبيه‬
‫‪103‬‬

‫أصلها لشدة مسيس احلاجة إليها‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫يف ق‪ :‬التنويه‪.‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫الخلق إليهَا‬
‫افة َ‬
‫واضطرار كَ ِ‬
‫ِ‬ ‫النُبوَّة‪:‬‬
‫حقيقَة ُ‬
‫َ‬
‫اعلم‪ :‬أن ج وهر اإلنس ان يف أصل الفط رة ‪ ،‬خلق خالي اً س اذجاً ال خ بر معه من ع وامل اهلل ( تع اىل )!‬
‫والعوامل كثرية ال حيصيها إال اهلل تعاىل كما قال‪:‬‬
‫(( وما يعلم جنو ُد ربك إال هو )) (املدثر ‪)31 :74 :‬‬
‫وإمنا خربه من العوامل بواسطة اإلدراك ‪ ،‬وكل إدراك من اإلدراكات خلق ليطلع اإلنسان به على عامل من‬
‫املوجودات ‪ ،‬ونعين بالعوامل ‪ ،‬أجناس املوجودات‪.‬‬
‫ف أول ما خيلق يف اإلنس ان حاسة اللمس ‪ ،‬في درك بـها أجناس اً من املوج ودات‪ :‬ك احلرارة ‪ ،‬وال ربودة ‪،‬‬
‫والرطوبة واليبوسة ‪ ،‬واللني واخلش ونة ‪ ،‬وغريه ا‪ .‬واللمس قاصر عن األل وان واألص وات قطع اً ‪ ،‬بل هي‬
‫كاملعدوم يف حق اللمس‪.‬‬
‫مث ختلق له [ حاسة ] البصر ‪ ،‬فيدرك بـها األلوان واألشكال ‪ ،‬وهو أوسع عوامل احملسوسات‪.‬‬
‫مث ينفخ فيه السمع ‪ ،‬فيسمع األصوات والنغمات‪.‬‬
‫مث خيلق له ال **ذوق‪ .‬وك ذلك إىل أن جياوز ع امل احملسوس ات ‪ ،‬فيخلق فيه التمي **يز ‪ ،‬وهو ق ريب من س بع‬
‫سنني ‪ ،‬وهو طور آخر من أطوار وجوده ‪ :‬فيدرك فيه أموراً زائدة على ( عامل ) احملسوسات ‪ ،‬ال يوجد‬
‫منها شيء يف عامل احلس‪.‬‬
‫مث يرتقى إىل طور آخر ‪ ،‬فيخلق له العقل ‪ ،‬فيدرك الواجبات واجلائزات واملستحيالت ‪ ،‬وأموراً ال توجد‬
‫يف األطوار اليت قبله‪.‬‬
‫ووراء العقل ط ور آخر تنفتح فيه عني أخ رى يبصر بـها الغيب وما س يكون يف املس تقبل ‪ ،‬وأم وراً ُأخر ‪،‬‬
‫العقل مع زول عنها كع زل ق وة التمي يز عن إدراك املعق والت وكع زل ق وة احلس عن م دركات التمي يز‪.‬‬
‫وكما أن املميز لو عرضت عليه مدركات العقل ألباها واستبعدها ‪ ،‬فكذلك بعض العقالء أبوا مدركات‬
‫النب وة واس تبعدوها ‪ ،‬وذلك عني اجلهل ‪ :‬إذ ال مس تند هلم إال أنه طور مل يبلغه ومل يوجد يف حقه ‪ ،‬فيظن‬
‫أنه غري موج ود يف نفس ه‪ .‬واألكمه ‪ ،‬لو مل يعلم ب التواتر والتس امع األل وان واألش كال وحكي له ذلك‬
‫يقر بـها‪ .‬وقد قرب اهلل تعاىل على خلقه بأن أعطاهم منوذجاً‪ 104‬من خاصية النبوة‬
‫ابتداء ‪ ،‬مل يفهمها ومل ّ‬
‫ً‬
‫‪ ،‬وهو النوم ‪ :‬إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب ‪ ،‬إما صرحياً وإما يف كسوة مثال يكشف عنـه التعبري‪.‬‬
‫وهذا لو مل جيربه اإلنسان من نفسه ‪ -‬وقيل له‪ (( :‬إن من الناس من يسقط مغشياً عليه كامليت ‪ ،‬ويزول‬
‫‪104‬‬
‫يف ش ‪ :‬أمنوذجاً‪.‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل ‪ :‬حقيقة النبوة‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫( عنه ) إحساسه ومسعه وبص ره في درك الغيب‪ – )) .‬ألنك ره ‪ ،‬وأق ام الربه ان على اس تحالته ‪ ،‬وق ال‪(( :‬‬
‫الق وى احلساسة أس باب اإلدراك ‪ ،‬فمن ال ي درك األش ياء مع وجودها وحض ورها ‪ ،‬فب أن ال ي درك مع‬
‫ركودها أوىل وأح ق‪ )) .‬وه ذا ن وع قي اس يكذبه الوج ود واملش اهدة‪ .‬فكما أن العقل ط ور من أط وار‬
‫اآلدمي ‪ ،‬حيصل فيه عني يبصر بـها أنواعاً من املعقوالت ‪ ،‬واحلواس معزولة عنها ‪ ،‬فالنبوة أيض اً عبارة عن‬
‫طور حيصل فيه عني هلا نور يظهر يف نورها الغيب ‪ ،‬وأمور ال يدركها العقل‪.‬‬
‫والشك يف النبوة ‪ ،‬إما أن يقع‪ :‬يف إمكأنـها ‪ ،‬أو يف وجودها ووقوعها ‪ ،‬أو يف حصوهلا لشخص معني‪.‬‬
‫ودليل إمكأنـها وجودها‪ .‬ودليل وجودها وجود معارف يف العامل ال يتصور أن تنال بالعقل ‪ ،‬كعلم الطب‬
‫والنجوم ؛ فإن من حبث عنها علم بالضرورة أهنا ال تدرك إال بإهلام إهلي وتوفيق من جهة اهلل ( تعاىل ) ‪،‬‬
‫وال س بيل إليها بالتجربة‪ .‬فمن األحك ام النجومية ما ال يقع إال يف كل ألف س نة م رة ‪ ،‬فكيف ين ال ذلك‬
‫بالتجربة ؟ وكذلك خواص األدوية‪ .‬فتبني بـهذا الربهان أن يف اإلمكان وجود طريق إلدراك هذه األمور‬
‫اليت ال يدركها العقل ‪ -‬وهو املراد بالنبوة ‪ -‬ال أن النبوة عبارة عنها فقط ‪ ،‬بل إدراك هذا اجلنس اخلارج‬
‫عن م دركات العقل إح دى خ واص النب وة ‪ ،‬وهلا خواص كث رية س واها‪ .‬وما ذكرنا ‪ ،‬فقط رة من حبرها ؛‬
‫إمنا ذكرناها ألن معك أُمنوذج اً منها ‪ ،‬وهو م دركاتك يف الن وم ؛ ومعك عل وم من جنس ها يف الطب‬
‫والنج وم ‪ ،‬وهي معج زات األنبي اء ( عليهم الص الة والس الم ) ‪ ،‬وال س بيل إليها للعقالء ببض اعة العقل‬
‫أصالً‪.‬‬
‫وأما ما عدا هذا من خواص النبوة ‪ ،‬فإمنا يدرك بالذوق ‪ ،‬من سلوك طريق التصوف ؛ ألن هذا إمنا فهمته‬
‫ب أمنوذج رزقته وهو الن وم ‪ ،‬ول واله ملا ص دقت ب ه‪ .‬ف إن ك ان للنيب خاصة ليس لك منها أمنوذج ‪ ،‬وال‬
‫تفهمها أص الً ‪ ،‬فكيف تص دق بـها ؟ وإمنا التص ديق بعد الفهم‪ :‬وذلك األمنوذج يحصل يف أوائل طريق‬
‫التص وف فيحصل به ن وع من ال ذوق بالق در احلاصل ون وع من التص ديق مبا مل حيصل بالقي اس ( إليه )‪.‬‬
‫فهذه اخلاصية الواحدة تكفيك لإلميان بأصل النبوة‪.‬‬
‫ف إن وقع لك الشك يف ش خص معني ‪ ،‬أنه نيب أم ال ‪ ،‬فال حيصل اليقني إال مبعرفة أحواله ‪ ،‬إما باملش اهدة‬
‫‪ ،‬أو ب التواتر والتس امع ؛ فإنك إذا ع رفت الطب والفقه ‪ ،‬ميكنك أن تع رف الفقه اء واألطب اء مبش اهدة‬
‫أح واهلم ‪ ،‬ومساع أق واهلم ‪ ،‬وإن مل تش اهدهم ؛ وال تعجز أيض اً عن معرفة ك ون الش افعي ( رمحه اهلل )‬
‫فقيه اً ‪ ،‬وك ون ج الينوس طبيب اً ‪ ،‬معرفة باحلقيقة ال بالتقليد عن الغري ‪ [ ،‬بل ] ب أن تتعلم ش يئاً من الفقه‬
‫والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما ‪ ،‬فيحصل لك علم ضروري حباهلما‪ .‬فكذلك إذا فهمت معىن النبوة‬
‫ف أكثرت النظر يف الق رآن واألخب ار ‪ ،‬يحصل لك العلم الض روري بكونه ص لى اهلل عليه وس لم على أعلى‬

‫‪- 35 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل ‪ :‬حقيقة النبوة‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫درج ات النب وة ‪ ،‬وأعضد ذلك بتجربة ما قاله يف العب ادات وتأثريها يف تص فية القل وب ‪ ،‬وكيف ص دق‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يف قوله‪:‬‬
‫‪105‬‬
‫(( من عمل بما علم ورثهُ هللا علم ما لم يعلم ))‬
‫وكيف صدق يف قوله‪:‬‬
‫‪106‬‬
‫(( من أعان ظالما ً سلطهُ هللا علي ِه ))‬
‫وكيف صدق يف قوله‪:‬‬
‫(( من اصبح وهُ ُمو ُمهُ ه ٌّم واح ٌد كفاه هللا ( تعالى ) هُ ُمو َم الدنيا واآلخر ِة ))‪.107‬‬
‫فإذا جربت ذلك يف ألف وألفني وآالف ‪ ،‬حصل لك علم ضروري ال تتمارى فيه‪.‬‬
‫فمن هذا الطريق اطلب اليقني بالنبوة ‪ ،‬ال من قلب العصا ثعبان اً ‪ ،‬وشق القمر ‪ ،‬فإن ذلك إذا نظرت إليه‬
‫وح ده ‪ ،‬ومل تنضم إليه الق رائن الكث رية اخلارجة عن احلصر ‪ ،‬ورمبا ظننت أنه س حر وختييل ‪ ،‬وأنه من اهلل‬
‫تعاىل إضالل فأنه‬
‫ُضلُّ من يَ َشا ُء ويَهدي من يشا ُء )) (فاطر‪.)8:‬‬
‫(( ي ِ‬
‫وترد عليك أسئلة املعجزات ‪ ،‬فإذا كان مستند إميانك إىل كالم منظوم يف وجه داللة املعجزة ‪ ،‬فينجزم‬
‫إميانك بكالم مرتب يف وجه اإلشكال والشبهة عليها ‪ ،‬فليكن مثل هذه اخلوارق إحدى الدالئل والقرائن‬
‫يف مجلة نظ رك ‪ ،‬حىت حيصل لك علم ض روري ال ميكنك ذكر مس تنده على التع يني كال ذي خيربه مجاعة‬
‫خبرب متواتر ال ميكنه أن يذكر أن اليقني مستفاد من قول واحد معني ‪ ،‬بل من حيث ال يدري ‪ ،‬وال خيرج‬
‫عن مجلة ذلك وال بتعيني اآلحاد‪ .‬فهذا هو اإليمان القوي العلمي‪.‬‬
‫وأما الذوق فهو كاملشاهدة واألخذ باليد ‪ ،‬وال يوجد إال يف طريق الصوفية‪.‬‬
‫فهذا القدر من حقيقة النبوة ‪ ،‬كاف يف الغرض الذي أقصده اآلن ‪ ،‬وسأذكر وجه احلاجة إليه‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫غري موجود يف كتب احلديث املشهورة‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫رواه أبن عساكر عن أبن مسعود وهو حديث ضعيف‪.‬‬
‫‪107‬‬
‫رواه أبن ماجة عن أبن مسعود واسناده ضعيف ‪ ،‬فيه نـهشل بن سعيد‪ .‬قيل فيه أنه يروى املناكري ‪ ،‬وقيل بل املوضوعات‪.‬‬

‫‪- 36 -‬‬
‫َسبَب نشر ال ِع ْلم ب َع ْد اإلع َر ِ‬
‫اض َعنـه‬
‫مث إين ‪ ،‬ملا واظبت على العزلة واخلل وة قريب اً من عشر س نني ‪ ،‬ب ان يل يف أثن اء ذلك على الض رورة من‬
‫أسباب ال أحصيها ‪ ،‬مرة بالذوق ‪ ،‬ومرة بالعلم الربهاين ‪ ،‬ومرة بالقبول اإلمياين ‪ :‬أن اإلنسان خلق من‬
‫ب دن وقلب‪ - 108‬وأعين ب القلب حقيقة روحه اليت هي حمل معرفة اهلل ‪ ،‬دون اللحم وال دم ال ذي يش ارك‬
‫فيه امليت والبهيمة ‪ ، -‬وأن البدن له صحة بـها سعادته ومرض فيه هالكه ؛ وأن القلب كذلك له صحة‬
‫وس المة ‪ ،‬وال ينجو (( إال من أتى هللا بقلب سليم )) (الش عراء‪ )89:‬؛ وله مرض فيه هالكه األب دي‬
‫األخ روي ‪ ،‬كما ق ال تع اىل ‪ (( :‬في قلوبـهم مرضٌ ))‪( 109‬البق رة‪ )10:‬وأن اجلهل باهلل سم مهلك ؛‬
‫وأن معصية اهلل ‪ ،‬مبتابعة اهلوى ‪ ،‬داؤه املمرض ‪ ،‬وأن معرفة اهلل تعاىل ترياقه احمليي ‪ ،‬وطاعته مبخالفة اهلوى‬
‫‪ ،‬دواؤه الش ايف ؛ وأنه ال س بيل إىل معاجلت ة بازالة مرضه وكسب ص حته ‪ ،‬اال بأدوية ؛ كما ال س بيل إىل‬
‫معاجلة الب دن إال ب ذلك‪ .‬وكما أن أدوية الب دن ت ؤثر يف كسب الص حة خباص ية فيها ‪ ،‬ال ي دركها العقالء‬
‫ببضاعة العقل ‪ ،‬بل جيب فيها تقليد األطباء الذين أخذوها من األنبياء ‪ ،‬الذين اطلعوا خباصية النبوة على‬
‫خ واص األش ياء ‪ ،‬فك ذلك ب ان يل ‪ ،‬على الض رورة ‪ ،‬ب أن أدوية العب ادات حبدودها ومقاديرها احملدودة‬
‫املقدرة من جهة األنبياء ‪ ،‬ال يدرك وجه تأثريها ببضاعة عقل العقالء ‪ ،‬بل جيب فيها تقليد األنبياء الذين‬
‫أدرك وا تلك اخلواص بن ور النب وة ‪ ،‬ال ببض اعة العق ل‪ .‬وكما أن األدوية ت ركب من ( أخالط خمتلفة )‬
‫الن وع واملق دار وبعض ها ض عف البعض يف ال وزن واملق دار ‪ ،‬فال خيلو اختالف مقاديرها عن سر هو من‬
‫قبيل اخلواص ‪ ،‬فك ذلك العب ادات اليت هي أدوية داء القل وب ‪ ،‬مركبة من أفع ال خمتلفة الن وع واملق دار ‪،‬‬
‫حىت أن الس جود ض عف الرك وع ‪ ،‬وص الة الص بح نصف ص الة العصر يف املق دار ؛ وال خيلو عن سر من‬
‫االس رار ‪ ،‬هو من قبيل اخلواص اليت ال يطلع عليها اال بن ور النب وة‪ .‬ولقد حتامق وجتاهل ج داً من أراد أن‬
‫يستنبط ‪ ،‬بطريق العقل ‪ ،‬هلا حكمة ‪ ،‬أو ظن أنـها ذكرت على االتفاق ‪ ،‬ال عن سر إهلي فيها ‪ ،‬يقتضيها‬
‫بطريق اخلاص ية‪ .‬وكما أن يف األدوية أص والً هي أركأنـها ‪ ،‬وزوائد هي متمماهتا ‪ ،‬لكل واحد منها‬
‫خصوص تأثري يف أعمال أصوهلا ‪ ،‬كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آثار أركان العبادات‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫يف ق‪ :‬أن لإلنسان بدناً وقلباً‪.‬‬
‫‪109‬‬
‫ذكرت يف القرآن عشر مرات بـهذا اللفظ‪.‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫عرفنا ذلك‬‫وعلى اجلملة ‪ :‬فاألنبي اء عليهم الس الم أطب اء أم راض القل وب ‪ ،‬وإمنا فائ دة العقل وتص رفه أن ّ‬
‫وشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز‪ 110‬عن درك ما يدرك بعني النبوة ‪ ،‬وأخذ بأيدينا وسلمنا ( إليها )‬
‫تس ليم العمي ان إىل القائ دين ‪ ،‬وتس ليم املرضى املتح ريين إىل األطب اء املش فقني‪ .‬ف إىل ههنا جمرى العقل‬
‫وخمطاه وهو معزول عما بعد ذلك ‪ ،‬إال عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه‪.‬‬
‫فهذه أمور عرفناها بالضرورة اجلارية جمرى املشاهدة ‪ ،‬يف مدة اخللوة والعزلة‪.‬‬
‫مث رأينا فت ور االعتق ادات يف أصل النب وة ‪ ،‬مث يف حقيقة النب وة ‪ ،‬مث يف العمل مبا ش رحته النب وة ‪ ،‬وحتققنا‬
‫شيوع ذلك بني اخللق ؛ فنظرت إىل أسباب فتور اخللق ‪ ،‬وضعف إميأنـهم ‪ ،‬فإذا هي أربعة ‪:‬‬
‫‪ - 1‬سبب من اخلائضني يف علم الفلسفة ؛‬
‫‪ - 2‬وسبب من اخلائضني يف طريق التصوف ؛‬
‫‪ - 3‬وسبب من املنتسبني اىل دعوى التعليم ؛‬
‫‪ -4‬وسبب من معاملة الموسومين بالعلم فيما بني الناس‪.‬‬
‫أل من أن يقصر منهم يف متابعة الش رع ( واس أله ) عن ش بهته وأحبث‬
‫ف إين تتبعت م دةً آح اد اخللق ‪ ،‬أس ُ‬
‫عن عقيدته وس ره وقلت ل ه‪ (( :‬ما لك تقصر فيها ف إن كنت ت ؤمن ب اآلخرة ولست تس تعد هلا وتبيعها‬
‫بالدنيا ‪ ،‬فهذه محاقة! فإنك ال تبيع االثنني بواحد ‪ ،‬فكيف تبيع ما ال نـهاية له بأيام معدودة؟ وإن كنت‬
‫ال ت ؤمن ‪ ،‬ف أنت ك افر! ف دبر نفسك يف طلب اإلميان ‪ ،‬وانظر ما س بب كف رك اخلفي ال ذي هو م ذهبك‬
‫باطناً ‪ ،‬وهو سبب جرأتك ظاهراً ‪ ،‬وإن كنت ال تصرح به جتمالً باإلميان وتشرفاً بذكر الشرع ! ))‪.‬‬
‫فقائل يق **ول‪ (( :‬إن ه ذا أمر لو وجبت احملافظة عليه ‪ ،‬لك ان العلم اء أج در ب ذلك ؛ وفالن من املش اهري‬
‫بني الفضالء ال يصلي ‪ ،‬وفالن يشرب اخلمر ‪ ،‬وفالن يأكل أموال األوقاف وأموال اليتامى ‪ ،‬وفالن يأكل‬
‫إدرار الس لطان وال حيرتز عن احلرام ‪ ،‬وفالن يأخذ الرش وة على القض اء والش هادة ! وهلم ج راً إىل‬
‫أمثاله‪)) .‬‬
‫وقائل ثان‪ :‬يدعي ( علم ) التصوف ‪ ،‬ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقّى عن احلاجة إىل العبادة!‪.‬‬
‫وقائل ثالث‪ :‬يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل اإلباحة!‬
‫وهؤالء هم الذين ضلوا عن التصوف‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫يف ق‪ :‬بالعمى‪.‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫وقائل رابع لقي أهل التعليم فيق ول‪ (( :‬احلق مش كل ‪ ،‬والطريق إليه متعسر‪ ، 111‬واالختالف فيه كثري ‪،‬‬
‫وليس بعض املذاهب أوىل من بعض ‪ ،‬وأدلة العق ول متعارضة ‪ ،‬فال ثقة ب رأي أهل ال رأي ‪ ،‬وال داعي إىل‬
‫التعليم متحكم ال حجة له ‪ ،‬فكيف أدع اليقني بالشك ؟ ))‪.‬‬
‫وقائل خامس يقول‪ (( :‬لست أفعل هذا تقليداً ‪ ،‬ولكين قرأت علم الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة ‪ ،‬وإن‬
‫حاصلها يرجع إىل احلكمة واملصلحة ‪ ،‬وأن املقصود من تعبداتـها‪ :‬ضبط عوام اخللق وتقيي دهم عن التقاتل‬
‫والتن ازع واالسرتس ال يف الش هوات ‪ ،‬فما أنا من الع وام اجله ال حىت أدخل يف حجر التكليف ‪ ،‬وإمنا أنا‬
‫من احلكماء أتبع احلكمة وأنا بصير بـها ‪ ،‬مستغن فيها عن التقليد ! ))‪.‬‬
‫ه ذا منتهى إميان من ق رأ ( م ذهب ) فلس فة اإلهليني منهم ؛ وتعلم ذلك من كتب ابن س ينا وأيب نصر‬
‫الفارايب‪ .‬وهؤالء هم املتجملون باإلسالم‪.‬‬
‫ورمبا ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ‪ ،‬وحيضر اجلماعات والصلوات ‪ ،‬ويعظم الشريعة بلسأنه ‪ ،‬ولكنه مع‬
‫ذلك ال يرتك شرب اخلمر ‪ ،‬وأنواعاً من الفسق والفجور! وإذا قيل له‪(( :‬إن كانت النبوة غري صحيحة ‪،‬‬
‫فلم تص لي ؟ )) فرمبا يق ول‪ (( :‬لرياضة اجلسد ‪ ،‬ولع ادة أهل البلد ‪ ،‬وحفظ املال والولد! ))‪ .‬ورمبا ق ال‪:‬‬
‫فلم تش رب اخلمر؟ )) فيق ول‪ (( :‬إمنا نـهي عن اخلمر‬‫((الش ريعة ص حيحة ‪ ،‬والنب وة حق! )) فيق ال‪َ (( :‬‬
‫ألنـها تورث العداوة والبغضاء ‪ ،‬وأنا حبكميت حمرتز عن ذلك ‪ ،‬وإين أقصد به تشحيذ خاطري‪ )).‬حىت أن‬
‫ابن سينا ذكر يف وصية له كتب فيها‪ :‬أنه عاهد اهلل تعاىل على كذا وكذا ‪ ،‬وأن يعظم األوضاع الشرعية‬
‫‪ ،‬وال يقصر يف العب ادات الدينية ‪ ،‬وال يش رب تلهي اً بل ت داوياً وتش افياً ؛ فك ان منتهى حالته يف ص فاء‬
‫اإلميان ‪ ،‬والتزام العبادات ‪ ،‬أن استثىن شرب اخلمر لغرض التشايف‪.‬‬
‫فه ذا إميان من ي دعي اإلميان منهم‪ .‬وقد اخندع بـهم مجاعة ‪ ،‬وزادهم اخنداعاً ض عف اع رتاض املعرتضني‬
‫عليهم ‪ ،‬إذ اعرتض وا مبجاه دة علم اهلندسة واملنطق ‪ ،‬وغري ذلك مما هو ض روري هلم ‪ ،‬على ما بينا علته‬
‫من قبل‪.‬‬
‫فلما رأيت أص ناف اخللق قد ض عف إيـمأنـهم إىل ه ذا احلد بـهذه األس باب ‪ ،‬ورأيت نفسي ملبة بكشف‬
‫هذه الشبهة ‪ ،‬حىت كان إفضاح هؤالء أيسر عندي من شربة ماء ‪ ،‬لكثرة خوضي يف علومهم [ وطرقهم‬
‫] ‪ -‬أعين [ ط رق ] الص وفية والفالس فة والتعليمية واملتومسني من العلم اء‪ ، -‬انق دح يف نفسي أن ذلك‬
‫متعني يف ه ذا ال وقت ‪ ،‬حمت وم‪ .‬فم اذا تغنيك اخلل وة والعزلة ‪ ،‬وقد عم ال داء ‪ ،‬وم رض األطب اء ‪ ،‬وأش رف‬
‫اخللق على اهلالك؟ مث قلت يف نفس ي‪ (( :‬مىت تش تغل أنت بكشف ه ذه الغمة ومص ادمة ه ذه الظلمة ‪،‬‬

‫‪111‬‬
‫يف ق‪ :‬والطريق متعسرة‪.‬‬

‫‪- 39 -‬‬
‫الغزايل‬ ‫الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫ُاملِنقُذ مَِن َّ‬

‫والزم ان زم ان الف رتة ‪ ،‬وال دور دور الباطل ‪ ،‬ولو اش تغلت ب دعوة اخللق ‪ ،‬عن ط رقهم إىل احلق ‪ ،‬لع اداك‬
‫أهل الزمان بأمجعهم ‪ ،‬وأنـَّى تقاومهم فكيف تعايشهم ‪ ،‬وال يتم ذلك إال بزمان مساعد ‪ ،‬وسلطان متدين‬
‫قاهر؟ ))‬
‫فرتخصت بيين وبني اهلل تعاىل باالستمرار على العزلة تعلالً بالعجز عن إظهار احلق باحلجة‪ .‬فقدر اهلل تعاىل‬
‫أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه ‪ ،‬ال بتحريك من خارج‪ .‬فأمر أمر إلزام بالنهوض إىل نيسابور ‪،‬‬
‫لت دارك ه ذه الف رتة‪ .‬وبلغ اإلل زام ح داً ك ان ينتهي ‪ ،‬لو أص ررت على اخلالف ‪ ،‬إىل حد الوحشة‪ .‬فخطر‬
‫يل أن س بب الرخصة قد ض عف ‪ ،‬فال ينبغي أن يك ون باعثك على مالزمة العزلة الكسل واالس رتاحة ‪،‬‬
‫وطلب عز النفس وصوهنا عن أذى اخللق ‪ ،‬ومل ترخص لنفسك ُعسَْر معاناة اخللق ‪ ،‬واهلل سبحأنه وتعاىل‬
‫يقول‪:‬‬
‫ب النــاسُ أن يُـتركوا أن يقولــوا آمنـا ً وهم ال ُيَفَتنــونَ‬ ‫(( بسم هللا الرحمن الرحيم‪ :‬الم‪ .‬أحَ ِ‬
‫س َ‬
‫فتنا الذينَ من قبلهم )) اآلية (العنكبوت‪) 3-1 :‬‬ ‫ولقد ّ‬
‫ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه‪:‬‬
‫فصبروا على ما كُـّذبوا وأُوذوا ‪ ،‬حــتى أتــاهم نصـرُنا ؛ وال‬ ‫ت ُرس ٌل من قبلكَ َ‬ ‫(( ولقدَ ُكّذَب ْ‬
‫ت هللا ‪ ،‬ولقد جاءك من نبأ المرسلين )) ( األنعام‪) 34:‬‬ ‫مبَ ّد َل لكلما ِ‬
‫ويق ول عز وجل‪ (( :‬بسم هللا الــرحمن الــرحيم ‪ :‬يس والقــرآن الحكيم‪ )) ...‬إلى قوله (( إنما‬
‫ب ))‪ ( .‬يس‪) 11-1:‬‬ ‫تنذ ُر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغي ِ‬
‫فش اورت يف ذلك مجاعة من أرب اب القلوب واملش اهدات ‪ ،‬فاتفقوا على اإلش ارة ب رتك العزلة ‪ ،‬واخلروج‬
‫من الزاوية ؛ وانض اف إىل ذلك منامات من الص احلني كثرية متواترة ‪ ،‬تشهد بأن هذه احلركة مب دأ خري‬
‫الظن بس بب ه ذه‬ ‫ورشد قدّرها اهلل س بحأنه على رأس ه ذه املائة‪ 112‬؛ فاس تحكم الرج اء ‪ ،‬وغلب حسن ّ‬
‫الش هادات وقد وعد اهلل س بحأنه بإحي اء دينه على رأس كل مائة‪ .‬ويسّر اهلل تع اىل احلركة إىل نيس ابور ‪،‬‬
‫للقيام بـهذا املهم يف ذي القعدة ‪ ،‬سن تسع وتسعني وأربع مائة‪ .‬وك ان اخلروج من بغداد يف ذي القع دة‬
‫سنة مثان ومثانني وأربع مائة‪ .‬وبلغت مدة العزلة إحدى عشر سنة‪ .‬وهذه حركة قدّرها اهلل تعاىل ‪ ( ،‬وهي‬
‫) من عجائب تقديراته اليت مل يكن هلا انقداح يف القلب يف هذه العزلة ‪ ،‬كما مل يكن اخلروج من بغداد ‪،‬‬
‫والنـزوع عن تلك األحوال مما خطر إمكأنه أصالً بالبال ؛ واهلل تعاىل مقلب القلوب واألحوال و (( قلب‬

‫‪112‬‬
‫أبو دواد واحلاكم عن أبو هريرة عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ (( :‬إن اهلل يبعث هلذه األمة على رأس كل مائة سنة من جيدد‬
‫هلا دينها ))‪.‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫أصابع الــرحمن ))‪ .113‬وأنا أعلم أين ‪ ،‬وإن رجعت إىل نشر العلم ‪ ،‬فما‬‫ِ‬ ‫المؤمن بين إصبعين من‬
‫ود إىل ما ك ان ‪ ،‬وكنت يف ذلك الزم ان أنشر العلم ال ذي به يكتسب اجلاه ‪،‬‬ ‫رجعت! ف إن الرج وع َع ٌ‬
‫وأدعو إليه بق ويل وعملي ‪ ،‬وك ان ذلك قص دي وني يت‪ .‬وأما اآلن ف أدعو إىل العلم ال ذي به ُي رتك اجلاه ‪،‬‬
‫ويعرف بـه سقوط رتبة اجلاه‪.‬‬
‫ه ذا هو اآلن نييت وقص دي وأمنييت ؛ يعلم اهلل ذلك مين ؛ وأنا أبغي أن أص لح نفسي وغ ريي ‪ ،‬ولست‬
‫أدري أأصِل مرادي أم ُأخرتم‪ 114‬دون غرضي؟ ولكين اؤمن إميان يقني ومشاهدة أنه ال حول وال قوة إال‬
‫باهلل ( العلي العظيم ) ؛ وأين مل أحترك ‪ ،‬لكنه حركين ؛ وإين مل أعمل ‪ ،‬لكنه اس تعملين ؛ فأس أله أن‬
‫يص لحين أوالً ‪ ،‬مث ُيص لح يب ‪ ،‬ويهديين ‪ ،‬مث يه دي يب ؛ وأن يريين احلق حق اً ‪ ،‬ويرزقين اتباعه ‪ ،‬ويريين‬
‫الباطل باطالً ‪ ،‬ويرزقين اجتنابه‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ونعود اآلن إىل ما ذكرناه من أسباب ضعف اإلميان بذكر طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم‪:‬‬
‫أما ال* **ذين ادع* **وا الح* **يرة بما س* **معوه من أهل التعليم ‪ ،‬فعالجهم ما ذكرن اه يف كت اب (( القس طاس‬
‫املستقيم )) وال نطول بذكره ( يف ) هذه الرسالة‪.‬‬
‫وأما ما توهمه أهل اإلباحة ‪ ،‬فقد حص رنا ش بههم يف س بعة أن واع وكش فناها يف كت اب (( كيمي اء‬
‫السعادة ))‪.‬‬
‫وأما من فسد إيمأنه بطريق الفلس* * **فة ‪ ،‬ح* * **تى أنكر أصل النب* * **وة ‪ ،‬فقد ذكرنا حقيقة النب وة ووجودها‬
‫بالضرورة ‪ ،‬بدليل وجود ( علم ) خواص األدوية والنجوم وغريمها‪ .‬وإمنا قدمنا هذه املقدمة ألجل ذلك‪.‬‬
‫وأنـما أوردنا ال دليل من خ واص الطب والنج وم ‪ ،‬ألنه من نفس علمهم‪ .‬وحنن ن بني لكل ع امل بفن من‬
‫العلوم ‪ ،‬كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات‪ ، 115‬مثالً من نفس علمه ‪ ،‬برهان النبوة‪.‬‬
‫وأما من أثبت النبوة بلسأنه ‪ ،‬وسوى أوض*اع الش*رع على الحكمة ‪ ،‬فهو على التحقيق كافر بالنبوة ‪،‬‬
‫وإمنا هو مؤمن حبكم له طالع خمصوص ‪ ،‬يقتضي طالعه أن يكون متبوعاً ؛ وليس هذا من النبوة يف شيء‪.‬‬
‫بل اإلميان بالنبوة‪ :‬أن يقر بإثبات طور وراء العقل ‪ ،‬تنفتح فيه عني يدرك بـها مدركات خاصة ‪ ،‬والعقل‬

‫‪113‬‬
‫مسلم وأمحد عن عبداهلل بن عمرو بن العاص ويوجد يف الرتمذي وأبن ماجه روايات مشابـهه عن أخرون‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫يقال‪ :‬اخرتمة املنية ‪ ،‬أى أخذته‪.‬‬
‫‪115‬‬
‫هذا اللفظ من أصل يوناين وهو من مصطلحات السحر‪ :‬خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بـها روحانيات الكواكب العلوية‬
‫بالطبائع السفلية‪ .‬راجع املعجم الوسيط‪.‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫معزول عنها ‪ ،‬كعزل السمع عن إدراك األلوان ‪ ،‬والبصر عن إدراك األصوات ‪ ،‬ومجيع احلواس عن إدراك‬
‫جيوز ه ذا ‪ ،‬فقد أقمنا الربه ان على إمكأنه ‪ ،‬بل على وج وده‪ .‬وإن ج وز ه ذا ‪ ،‬فقد‬ ‫املعق والت‪ .‬ف إن مل ّ‬
‫أثبت ‪ ،‬أن ههنا أم وراً تس مى خ واص ‪ ،‬ال ي دور تص رف العقل حواليها أص الً ‪ ،‬بل يك اد العقل يكذبـها‬
‫ويقضي باس تحالتها‪ .‬ف إن وزن دانق‪ 116‬من األفي ون ‪ ،‬سم قاتل ألنه جيمد ال دم يف الع روق لف رط برودته‪.‬‬
‫وال ذي ي دعي علم الطبيعة ‪ ،‬ي زعم أنه ما ي ربد من املركب ات ‪ ،‬إمنا ي ربد بعنص ري املاء وال رتاب ؛ فهما‬
‫العنصران الباردان‪ .‬ومعلوم أن أرطاالً من املاء والرتاب ال يبلغ تربيدها يف الباطن إىل هذا احلد‪ .‬فلو أخرب‬
‫ط بيعي بـهذا ومل جيربـه ‪ ،‬لق ال‪ (( :‬ه ذا حمال ‪ ،‬وال دليل على اس تحالته أن فيه نارية وهوائية ‪ ،‬واهلوائية‬
‫والنارية ال تزي دها ب رودة ؛ فنق در الكل م اء وتراب اً ‪ ،‬فال ي وجب ه ذا اإلف راط يف التربيد‪ .‬ف إن انضم إليه‬
‫حارّان فبأن ال يوجب ذلك أوىل‪ )) .‬ويقدر هذا برهان اً! وأكثر براهني الفالسفة يف الطبيعيات واإلهليات‬
‫‪ ،‬مبين على ه ذا اجلنس! فأنـهم تص وروا األم ور على ق در ما وج دوه وعقل وه ‪ ،‬وما لم ي ألفوه ق دروا‬
‫دع ‪ ،‬أنه عند رك ود احلواس ‪ ،‬يعلم الغيب ‪،‬‬ ‫الرْؤيا الص ادقة مألوفة ‪ ،‬وادعى م ٍ‬‫اس تحالته ‪ ،‬ولو مل تكن ُ‬
‫ألنكره املتصفون مبثل هذه العقول‪ .‬ولو قيل لواحد‪ :‬هل جيوز أن يكون يف الدنيا شيء ‪ ،‬هو مبقدار حبة ‪،‬‬
‫يوضع يف بلدة فيأكل تلك البلدة جبملتها مث يأكل نفسه فال ُيبقي [ شيئاً ] من البلدة وما فيها ‪ ،‬وال يبقى‬
‫هو نفسه؟ )) لقال‪ (( :‬هذا لمحال وهو من مجلة اخلرافات! )) وهذه حالة النار ‪ ،‬ينكرها من مل َير النار‬
‫إذا مسعها‪ .‬وأكثر [ إنكار ] عجائب اآلخرة هو من هذا القبيل‪ .‬فنقول للطبيعي‪ (( :‬قد اضطررت إىل أن‬
‫فلم ال جيوز أن يك ون يف‬‫تق ول ‪ :‬يف األفي ون خاص ية يف التربيد ‪ ،‬ليست على قي اس املعق ول بالطبيع ة‪َ .‬‬
‫األوضاع الشرعية من اخلواص ‪ ،‬يف مداواة القلوب وتصفيتها ‪ ،‬ما ال يدرك باحلكمة العقلية ‪ ،‬بل ال يبصر‬
‫ذلك إال بعني النب وة؟ )) بل قد اع رتفوا خبواص هي أعجب من ه ذا فيما أوردوه يف كتبهم ‪ ،‬وهي من‬
‫اخلواص العجيبة اجملربة يف معاجلة احلامل اليت عسر عليها الطلق ‪ ،‬بـهذا الشكل‪:‬‬

‫‪4‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪2‬‬ ‫د‬ ‫ط‬ ‫ب‬


‫‪3‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪7‬‬ ‫ج‬ ‫هـ‬ ‫ز‬
‫‪8‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪6‬‬ ‫ح‬ ‫ا‬ ‫و‬

‫يكتب على خرق تني مل يص بهما م اء ‪ ،‬وتنظر إليهما احلامل بعينها ‪ ،‬وتض عهما حتت ق دميها ‪ ،‬فيس رع‬
‫الولد يف احلال إىل اخلروج‪ .‬وقد أق روا بإمك ان ذلك وأوردوه يف (( عجائب اخلواص )) ؛ وهو شكل فيه‬
‫‪116‬‬
‫الدانق (بفتح النون وكسرها)‪ :‬سدس الدرهم‪.‬‬

‫‪- 42 -‬‬
‫تسعة بيوت ‪ ،‬يرقم فيها رقوم خمصوصة ‪ ،‬يكون جمموع ما يف جدول واحد مخسة عشر ‪ ،‬قرأته يف طول‬
‫الشكل أو يف عرضه أو على التأريب‪.117‬‬
‫فيا ليت ش عري! من يص دق ب ذلك ‪ ،‬مث ال يتسع عقله للتص ديق ‪ ،‬ب أن تق دير ص الة الص بح بركع تني ‪،‬‬
‫والظهر ب أربع ‪ ،‬واملغرب بثالث ‪ ،‬هو خلواص غري معلومة بنظر احلكمة؟ وس ببها اختالف ه ذه األوق ات‪.‬‬
‫وإمنا ت درك ه ذه اخلواص بن ور النب وة‪ .‬والعجب أنـَّا لو غرينا العب ارة إىل عب ارة املنجمني ‪ ،‬لعقل وا اختالف‬
‫هذه األوقات ‪ ،‬فنقول‪ (( :‬أليس خيتلف احلكم يف الطالع ‪ ،‬بأن تكون الشمس يف وسط السماء ‪ ،‬أو يف‬
‫الطالع ‪ ،‬أو يف الغارب ‪ ،‬حىت يبنوا على هذا يف تسيرياتـهم اختالف العالج ‪ ،‬وتفاوت األعمار واآلجال ‪،‬‬
‫وال فرق بني الزوال وبني كون الشمس يف وسط السماء ‪ ،‬وال بني املغرب وبني كون الشمس يف الغارب‬
‫‪ ،‬فهل لتصديق ذلك سبب؟ )) إال أن ذلك يسمعه بعبارة منجم ‪ ،‬لعله جرب كذبه مائة مرة‪ .‬وال يزال‬
‫يع اود تص ديقه ‪ ،‬حىت لو ق ال املنجم [ له ]‪ (( :‬إذا ك انت الش مس يف وسط الس ماء ‪ ،‬ونظر إليها‬
‫الكوكب الفالين ‪ ،‬والطالع هو الربج الفالين ‪ ،‬فلبست ثوباً جديداً يف ذلك الوقت قتلت يف ذلك الثوب!‬
‫)) فأنه ال يلبس الث وب يف ذلك ال وقت ‪ ،‬ورمبا يقاسي فيه ال ربد الش ديد ‪ ،‬ورمبا مسعه من منجم وقد‬
‫عرف‪ 118‬كذبـه مرات!‪.‬‬
‫فليت ش عري! من يتسع عقله لقب ول ه ذه الب دائع ويض طر إىل االع رتاف بأنـها خ واص ‪-‬معرفتها معج زة‬
‫لبعض األنبي اء‪ -‬فيكف ينكر مثل ذلك ‪ ،‬فيما يس معه من ق ول نيب ص ادق مؤيد ب املعجزات ‪ ،‬لم يع رف‬
‫قط بالكذب! ( ومل ال يتسع إلمكأنه! )‪.‬‬
‫فإن أنكر فلسفي إمكان هذه اخلواص يف أعداد الركعات ‪ ،‬ورمي اجلمار ‪ ،‬وعدد أركان احلج ‪ ،‬وسائر‬
‫تعبدات الشرع ‪ ،‬مل جيد بينها وبني خواص األدوية والنجوم فرق اً أص الً‪ .‬فإن قال‪ (( :‬قد جربت شيئاً من‬
‫النجوم وشيئاً من الطب ‪ ،‬فوجدت بعضه ص ادقاً ‪ ،‬فانقدح يف نفسي تصديقه وسقط من قليب استبعاده‬
‫ونفرته ؛ وهذا مل أجربه ‪ ،‬فبم أعلم وجوده وحتقيقه؟ )) وإن أقررت بإمكأنه ‪ ،‬فأقول‪ (( :‬إنك ال تقتصر‬
‫على تصديق ما جربته بل مسعت أخبار اجملربني وقلدتـهم ‪ ،‬فامسع أقوال األنبياء فقد جربوا وشاهدوا احلق‬
‫يف مجيع ما ورد بـه الشرع ‪ ،‬واسلك سبيلهم تدرك باملشاهدة بعض ذلك‪)).‬‬
‫على أين أق ول‪ (( :‬وإن مل جتربه ‪ ،‬فيقضي عقلك بوج وب التص ديق واإلتب اع قطع اً‪ .‬فإنا لو فرض نا رجالً‬
‫بلغ وعقل ومل جيرب ( املرض ) ‪ ،‬فم رض ‪ ،‬وله والد مش فق ح اذق ب الطب ‪ ،‬يس مع دع واه يف معرفة‬

‫‪117‬‬
‫يف ش ‪( :‬أو جوانبه) بدالً من (أو على التأريب)‪.‬‬
‫‪118‬‬
‫يف ق‪ :‬جرب‪.‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫الطب منذ عقل ‪ ،‬فعجن له وال ده دواء ‪ ،‬فق ال‪ (( :‬ه ذا يص لح ملرضك ويش فيك من س قمك‪ )) .‬فم اذا‬
‫يقتض يه عقله ‪ ،‬إن ك ان ال دواء م راً كريه املذاق ‪ ،‬أن يتن اول؟ أ َو َيك ذب ويق ول‪ (( :‬أنا [ ال ] أعقل‬
‫مناس بة ه ذا ال دواء لتحص يل الش فاء ‪ ،‬ومل أجرب ه! )) فال شك أنك تس تحمقه إن فعل ذل ك! وك ذلك‬
‫يس تحمقك أهل البص ائر يف توقف ك! ف إن قلت‪ (( :‬فبَم أع رف ش فقة النيب ص لى اهلل عليه وس لم ومعرفته‬
‫بـهذا الطب؟ )) ف أقول‪ (( :‬ومب ع رفت [ ش فقة أبيك ] وليس ذلك أم راً حمسوس اً؟ بل عرفتها بق رائن‬
‫أحواله وشواهد أعماله يف مصادره وموارده علماً ضرورياً ال تتمارى فيه‪)) .‬‬
‫ومن نظر يف أق وال رس ول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم ‪ ،‬وما ورد من األخب ار يف اهتمامه بإرش اد اخللق ‪،‬‬
‫جر الن اس ب أنواع الرفق‪ 119‬واللطف ‪ ،‬إىل حتسني األخالق وإص الح ذات ال بني ‪ ،‬وباجلملة إىل‬ ‫وتلطفه يف ّ‬
‫ما يصلح به دينهم ودنياهم ‪ ،‬حصل له علم ضروري ‪ ،‬بأن شفقته صلى اهلل عليه وسلم على أمته أعظم‬
‫من شفقة الوالد على ولده‪.‬‬
‫وإذا نظر إىل عج ائب ما ظهر عليه من األفع ال ‪ ،‬وإىل عج ائب الغيب ال ذي أخرب عنه الق رآن على لس أنه‬
‫ويف األخبار ‪ ،‬وإىل ما ذكره يف آخر الزمان ‪ ،‬فظهر ذلك كما ذكره ‪ ،‬علم علم اً ضرورياً أنه بلغ الطور‬
‫ال ذي وراء العقل ‪ ،‬وانفتحت له العني اليت ينكشف منها الغيب ال ذي ال يدركه إال اخلواص ‪ ،‬واألم ور‬
‫اليت ال يدركها العقل‪.‬‬
‫فهذا هو منهاج حتصيل العلم الضروري بتصديق النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فجرب وتأمل القرآن وطالع‬
‫األخبار ‪ ،‬تعرف ذلك بالعيان‪.‬‬
‫وهذا القدر يكفي يف تنبيه املتفلسفة ‪ ،‬ذكرناه لشدة احلاجة إليه يف هذا الزمان‪.‬‬
‫وأما السبب الرابع ‪ -‬وهو ضعف اإلميان بسبب سرية العلماء‪ -‬فيداوي هذا املرض بثالثة أمور‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن تقول‪ (( :‬إن العامل الذي تزعم أنه يأكل احلرام ومعرفته بتحرمي ذلك احلرام كمعرفتك بتحرمي‬
‫اخلمر [ وحلم اخلنـزير ] والربا ‪ ،‬بل بتحرمي الغيبة والكذب والنميمة ‪ ،‬وأنت تعرف ذلك وتفعله ‪ ،‬ال لعدم‬
‫إميانك بأنه معص ية ‪ ،‬بل لش هوتك الغالبة عليك ؛ فش هوته كش هوتك ‪ ،‬وقد غلبته كما غلبتك ‪ ،‬فعلمه‬
‫مبسائل وراء هذا يتميز به عنك ‪ ،‬ال يناسب زيادة زجر عن هذا احملظور املعني‪.‬‬
‫(( وكم من مؤمن بالطب ال يصرب عن الفاكهة وعن املاء البارد ‪ ،‬وإن زجره الطبيب عنه! وال يدل ذلك‬
‫على أنه غري ضار ‪ ،‬أو على ان اإلميان بالطب غري صحيح ‪ ،‬فهذا حممل هفوات العلماء‪)) .‬‬

‫‪119‬‬
‫يف ق زاد ‪ :‬واللني‪.‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫الث**اني‪ :‬أن يقال للعامي‪ (( :‬ينبغي أن تعتقد أن العامل اختذ علمه ذخراً لنفسه يف اآلخرة ‪ ،‬ويظن أن علمه‬
‫ينجيه ‪ ،‬ويك ون ش فيعاً له حىت يتس اهل معه يف أعماله ‪ ،‬لفض يلة علم ه‪ .‬وإن ج از أن يك ون زي ادة حجة‬
‫عليه ‪ ،‬فهو جيوز أن يك ون زي ادة درجة له ‪ ،‬وهو ممكن‪ .‬فهو ‪ ،‬وإن ت رك العمل ‪ ،‬ي ديل ب العلم‪ .‬وأما أنت‬
‫أيها الع امي! إذا نظ رت إليه وت ركت العمل وأنت عن العلم عاطل ‪ ،‬فتهلك بس وء عملك وال ش فيع‬
‫لك! ))‬
‫الث **الث‪ :‬وهو احلقيقة ‪ ،‬أن الع امل احلقيقي ‪ ،‬ال يق ارف معص ية إال على س بيل اهلف وة ‪ ،‬وال يك ون مص راً‬
‫يعرف أن املعصية سمٌ مهلك ‪ ،‬وأن اآلخرة خري من الدنيا‪ .‬ومن‬ ‫على املعاصي أص الً‪ .‬إذ العلم احلقيقي ما ّ‬
‫عرَف ذلك ‪ ،‬ال يبيع اخلري مبا هو أدىن [ منه ]‪.‬‬
‫وه ذا العلم ال حيصل ب أنواع العل وم اليت يش تغل بـها أك ثر الن اس‪ .‬فل ذلك ال يزي دهم ذلك العلم إال ج رأة‬
‫على معص ية اهلل تع اىل‪ .‬وأما العلم احلقيقي ‪ ،‬فيزيد ص احبه خش ية وخوف اً [ ورج اءً ] ‪ ،‬وذلك حيول بينه‬
‫وبين املعاصي إال اهلف وات اليت ال ينفك عنها البشر يف الف رتات ‪ ،‬وذلك ال ي دل على ض عف اإلميان‪.‬‬
‫اب ‪ ،‬وهو بعيدٌ عن اإلصرار واإلكباب‪.‬‬ ‫تو ٌ‬
‫فاملؤمن مفنتٌ ّ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪- 45 -‬‬
‫هذا ما أردت أن أذكره يف ذم الفلسفة والتعليم وآفاتـهما وآفات من أنكر عليهما ‪ ،‬ال بطريقه‪.‬‬
‫نس أل اهلل العظيم أن جيعلنا ممن آث ره واجتب اه ‪ ،‬وأرش ده إىل احلق وه داه ‪ ،‬وأهلمه ذك ره حىت ال ينس اه ‪،‬‬
‫وعصمه عن شر نفسه حىت مل يؤثر عليه سواه ‪ ،‬واستخلصه لنفسه حىت ال يعبد إال إياه‪.‬‬

‫وصلىـ هللا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبـه وسلم‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫لى ِذي ال ِع َّز ِة َوال َجالَل لألمام الغزالي‬


‫ص ُل اِ َ‬
‫ن الضَّالل و الم ُو ِ‬
‫نقُذ ِم َ‬
‫الم ِ‬
‫وبـهذا تم كتاب ُ‬
‫رحمه هللا تعالى واسكنـه فسيح جناته‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪- 46 -‬‬
‫مالحظه عن النص والتحقيق‪:‬‬
‫بسم هللا الــرحمن الــرحيم ‪ ،‬وبـه نســتعين ‪ ،‬والصــالة والســالم على رســول هللا ؛ الحمد هلل‬
‫التي تمم بـه الصالحات وبفضله تنـزل البركات‪ .‬نص هــذا الكتــاب نقل من موقع الــوراق‬
‫االمارتي ‪ -‬ولهم منا جزيل الشكر‪ -‬وقد أُدخل عليه تعديالت و اكمــال بعض النقص الــذي‬
‫كــــان في النص و تصــــحيحات هامة مع مقارنة النص بطبعة دار الكتب العلمية لعــــام‬
‫‪1988‬م بتحقيق أحمد شــمس الــدين ؛ والطبعة الخامسة الــتي حققها كل من األســتاذ كامل‬
‫عيَّاد و األستاذ جميل صليبا كما وردت في سلسة الروائع االنسانية مع الترجمة الفرنســية‬
‫لفريد جبر‪.‬و قد ذكرنا االختالف بين النسختين في الهامش و حاولنا على قــدر المســتطاع‬
‫اثبات ما هو صــحيح في صــدر الكتــاب‪ .‬ثم إن تحقيق األحــاديث النبوية الشــريفة وشــرح‬
‫بعض الكلمات مأخوذ عن أحمد شمس الدين بتصرف واختصار‪ .‬وهللا من وراء القصد‪.‬‬
‫والرموز التي اتخذت في الهواش كالتالي‪:‬‬
‫ق ‪ - :‬يعني الوراق وهي اصل النص‪.‬‬
‫ش‪ - :‬نسخة أحمد شمس الدين‪.‬‬
‫د‪ - :‬نسخة األستاذين كامل عيَّاد وجميل صليبا‪.‬‬
‫تصحيح وتحقيق واختيار محمد اسماعيل حزيَّن و شــذا رائق عبدهللا لموقع الغــزالي في‬
‫منتصف عام ‪2002‬م‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪- 47 -‬‬

You might also like