You are on page 1of 4

‫القاضي الفاضل‬

‫هو عبد الرحيم بن القاضي الشرف أبي المجد علي بن القاضي السعيد‬
‫أبي محمد محمد بن الحسن بن الحسين بن أحمد بن المفرج بن أحمد‬
‫اللخمي‪ ،‬العسقلني المولد‪ ،‬المصري الدار‪ ،‬المعروف بالقاضي الفاضل‪،‬‬
‫الملقب بمحيي الدين وزير السلطان الملك الناصر صلح الدين يوسف بن‬
‫أيوب‪.‬‬

‫ُولد القاضي الفاضل في مدينة "عسقلن" شمال غزة في فلسطين سنة )‬


‫‪ 529‬هـ(‪ ،‬كان أبوه قاضًيا بعسقلن‪ ،‬فأرسل ولده عبد الرحيم إلى الديار‬
‫المصرية في آخر عهد الدولة الفاطمية‪ ،‬فاشتغل بالكتابة والنشاء‪ ،‬فبرع‬
‫وفاق أقرانه في مصر‪ ،‬ثم ما لبث أن فاق وساد أهل زمانه جميًعا‪ ,‬ولما‬
‫دخل صلح الدين اليوبي بلد مصر سنة ‪ 564‬هـ جعله كاتَبه وصاحَبه‬
‫قه في رحلة الكفاح والجهاد المقدس‪ ،‬بل إن صلح الدين جعله وزيره‬ ‫ورفي َ‬
‫وجليسه وأنيسه‪ ،‬وكان أعّز عليه من أهله وأولده‪ ،‬وتساعدا حتى ُفتحت‬
‫حسامه وسنانه‪ ،‬وهذا بقلمه ولسانه وبيانه‪.‬‬
‫البلد والقاليم؛ هذا ب ُ‬

‫كن منه غاية التمكن‪ -‬يعني من صلح‬ ‫قال ابن خلكان رحمه الله‪" :‬تم ّ‬
‫الدين‪ -‬وبرز في صناعة النشاء وفاق المتقدمين‪ ،‬وله فيه الغرائب مع‬
‫الكثار‪.‬‬

‫أخبرني أحد الفضلء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات‬


‫رسائله في المجلدات والتعليقات في الوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة‬
‫مجلد‪ ،‬وهو مجيد في أكثرها‪".‬‬
‫قال العماد الكاتب الصبهاني في كتاب "الخريدة" في حقه‪" :‬رب القلم‬
‫والبيان‪ ،‬واللسن واللسان‪ ،‬والقريحة الوّقادة‪ ،‬والبصيرة الن ّ‬
‫قادة‪ ،‬والبديهة‬
‫المعجزة‪ ،‬والبديعة المطرزة‪ ،‬والفضل الذي ما سمع في الوائل بمن لو‬
‫عاش في زمانه لتعّلق في غباره‪ ،‬أو جرى في مضماره؛ فهو كالشريعة‬
‫المحمدية التي نسخت الشرائع ورسخت بها الصنائع؛ يخترع الفكار ويفترع‬
‫البكار‪ ،‬ويطلع النوار ويبدع الزهار‪ ،‬وهو ضابط الملك بآرائه ورابط السلك‬
‫بآلئه؛ إن شاء أنشأ في اليوم الواحد بل في الساعة ما لو د ُّون لكان لهل‬
‫الصناعة خير بضاعة" انتهى كلم العماد باختصار‪.‬‬

‫وقال غيره‪" :‬وكان مع فضله كثير العبادة‪ ،‬تالًيا للقرآن العزيز ديًنا خيًرا‪،‬‬
‫وكان السلطان صلح الدين يقول‪ :‬ل تظنوا أني ملكت البلد بسيوفكم‪ ،‬بل‬
‫بقلم الفاضل"‪.‬‬
‫وكان بين الفاضل وبين الملك العادل أبي بكر بن أيوب وحشة‪ ،‬فلما بلغ‬
‫الفاضل مجيء العادل إلى مصر دعا الله على نفسه بالموت فمات قبل‬
‫دخوله‪.‬‬

‫القاضي الفاضل وصلح الدين‬


‫ب الفهم‪ ،‬جاد ّ الذكاء‪ ،‬بعيد النظرة‪ ،‬يتسم بحسن‬ ‫كان القاضي الفاضل ثاق َ‬
‫دا من‬‫تقديره للمور‪ ،‬وكان صلح الدين ل يقطع أمًرا دونه‪ ،‬ول يولي أح ً‬
‫دا‪.‬‬
‫الناس حتى يستشيره ول يصدر عن رأيه أب ً‬
‫وكان إذا خرج صلح الدين للجهاد في الشام ضد الصليبيين يترك القاضي‬
‫ضا يتركه مسئول ً وراعًيا‬ ‫الفضل والًيا على مصر؛ يضبطها لحين عودته‪ ،‬وأي ً‬
‫دا وبنًتا‪ ،‬كان ل يستأمن صلح الدين عليهم‬ ‫لبنائه‪ ،‬وكانوا سبعة عشر ول ً‬
‫دا سواه‪ ,‬وكان القاضي الفاضل هو الوحيد القادر على توجيه صلح‬ ‫أح ً‬
‫الدين وتهدئته وقت الزمات؛ فعندما كان صلح الدين يجاهد الصليبيين في‬
‫الشام استغلها بعض الروافض في مصر أن ُيعيدوا الدولة الفاطمية‪،‬‬
‫واغتنموا ِغيبة الناصر عن مصر واستهانوا بأمر العزيز عثمان بن صلح‬
‫الدين‪ ،‬فبعثوا اثني عشر رجل ً ينادون في الليل‪" :‬يا آل علي‪ ،‬يا آل علي"‬
‫وهم يظنون الحرس وحبسوهم‪ ،‬فلما بلغ خبرهم للناصر في الشام ساءه‬
‫ذلك واغتم واهتم له‪ ،‬وكان القاضي الفاضل ل يفارقه في سفر ول حضر‪،‬‬
‫فقال له‪" :‬يا أيها الملك‪ ..‬ينبغي أن تفرح ول تحزن؛ حيث لم يضع إلى‬
‫هؤلء الجهلة أحد من رعيتك" فسّرى عنه ما كان بجد‪ ،‬وفرح به وأرسله‬
‫إلى مصر ليضبط المور بها‪.‬‬
‫ومما يدل على ُبعد نظر القاضي الفاضل أنه أشار على الناصر بعدم‬
‫إرسال خطابات إلى سلطان الموحدين في المغرب لطلب المساعدة ضد‬
‫الصليبيين‪ ،‬ولكن الناصر أصّر وأرسل‪ ،‬فلم يرد عليه سلطان الموحدين؛‬
‫لنه لم يكتب له في الخطاب ويلقبه بأمير المؤمنين‪ ،‬وإنما كتب له بأمير‬
‫المسلمين‪ ،‬فغضب يعقوب بن يوسف سلطان الموحدين ولم يرسل أية‬
‫مساعدة‪.‬‬
‫كان القاضي الفاضل بمصر أثناء حصار الفرنج لعكا يدّبر المور فيها ويجّهز‬
‫للسلطان ما يحتاج إليه من الموال والجنود وإعداد السطول لفك الحصار‬
‫حا للناصر يقول له‬ ‫عن عكا‪ ،‬فلما طال أمر الحصار كتب كتاًبا بليًغا وفصي ً‬
‫فيه‪" :‬إن سبب التطويل في الحصار هو كثرة الذنوب وارتكاب المحارم‬
‫بين الناس‪ ،‬وإن الله ل ُينال ما عنده إل بطاعته‪ ،‬وعرفت حال المنكرات‬
‫التي سادت وظهرت في البلد‪ ،‬وإنها السبب وراء هذا البلء"‪ ،‬فكان هذا‬
‫الخطاب من أسباب النصر بعدها‪.‬‬
‫دا عنده أثناء‬
‫ولما حضرت صلح الدين الوفاة كان القاضي الفاضل موجو ً‬
‫فترة مرضه‪ ،‬وكان معه في آخر حياته‪ ،‬وهو الذي قام بتجهيزه وشراء‬
‫الكفن من ماله الخاص وأمر القاضي الفاضل أن يدفن مع الناصر سيفه‬
‫الذي كان يجاهد به؛ حتى يتوكأ عليه يوم القيامة‪.‬‬
‫ولم ينقطع عمل ول أثر القاضي الفاضل بوفاة صلح الدين‪ ،‬إنما استمر‬
‫في نصائحه لولده من بعده؛ فلما هجمت الفرنج على الشام سنة ‪ 593‬هـ‬
‫أرسل القاضي الفاضل إلى الملك العادل أِخ صلح الدين يحّثه على الجهاد‬
‫والمصابرة أمام الصليبيين‪ ،‬وُيثني عليه ويشجعه ويشكر له سعيه في‬
‫قتالهم‪.‬‬

‫وكان القاضي الفاضل مع سعة أمواله كثيَر الصدقات والصلت والصيام‪،‬‬


‫وكان يواظب كل يوم وليلة على ختمة كاملة مع ما يزيد عليها من نافلة‪،‬‬
‫وكان رحيم القلب‪ ،‬حسن السيرة‪ ،‬طاهر القلب والسريرة‪ ،‬قد أوقف‬
‫لسارى من يدي الصليبيين‪ ،‬وقد بنى عدة مدارس على‬ ‫أوقاًفا لتخليص ا ُ‬
‫الشافعية والمالكية‪ ،‬وقد اقتنى مكتبة ضخمة تقدر بمائة ألف كتاب‪.‬‬
‫ُيعد ّ القاضي الفاضل من جملة العلماء الفذاذ الذين أتقنوا فنون الكتابة‬
‫والتأليف والتصنيف في الدب والتاريخ؛ لهذا وصفه النويري بأنه "كاتب‬
‫الشرق والغرب"‪ ،‬ورغم ذلك لم تشر المراجع التي ترجمت لسيرته إلى‬
‫أن له مصنفات في حقول الدب والتاريخ سوى ديوانه الشعري الذي طبع‬
‫قا‪ ،‬كما أشار ابن‬
‫في القاهرة عام ‪1961‬م‪ ،‬ورسائله التي سنشير إليها لح ً‬
‫خلكان إلى أنه اطلع على مصنف تاريخي للقاضي الفاضل "رتبه على‬
‫اليام‪ ،‬وهو بخطه؛ يذكر فيه ما يتجدد كل يوم‪ ،‬وأكد أن مسودات رسائله‬
‫"في المجلدات والتعليقات في الوراق إذا جمعت ما تقتصر عن مائة‬
‫ضا بأنه اقتبس بعض نصوصه التاريخية من‬ ‫مجلد"‪ ،‬وقد أفادنا المقريزي أي ً‬
‫ماته"‪.‬‬
‫مَياوَ َ‬
‫كتاب "متجددات" القاضي الفاضل و" ُ‬

‫الطريقة الفاضلية‬

‫ة إلى‬
‫عرف باسم الطريقـة الفاضليـة نسب ً‬
‫مدرسة القاضي الفاضل أو مـا ُ‬
‫ة إلى قبيلـة‬
‫القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي بن محمد اللخمي نسبـ ً‬
‫لخم ‪.‬‬

‫وقبل الحديث عن سمـات هذه الطريقـة وخصائصهـا ‪ ،‬وما لها وما عليها‬
‫أجد ُ لزاما ً عل ّ‬
‫ي أن أشير إلى بعض سيـرة صاحبهـا ‪.‬‬

‫تعلم القاضي الفاضل النشاء في ديوان النشاء في القاهرة‪ ،‬وبرع فيه‬


‫مما أتاح له فرص العمل في دواوين الحكومات والدول ‪ ،‬فاشتغل في‬
‫دواوين الكتابة في القاهرة ثم في السكندرية و ذلك في حياة الدولـة‬
‫الفاطمية ‪ ،‬على أن أشرق صفحات حياته بدأت يوم اتصاله بصلح الدين‬
‫اليوبي الذي جعله وزيـره ‪ ،‬ورئيس ديوان النشاء في مملكته وكان‬
‫ساعده اليمن فيما أراده من إصلحات مالية وحربية بعد القضـاء على‬
‫الدولة الفاطمية وفضل ً عن القيمة الدبية لنشاء القاضي الفاضل ‪،‬‬
‫ورسائله فإن لها قيمة تاريخيـة كبرى تتمثل في تسجيل فتوحات صلح‬
‫الدين وانتصاراته ل بل وبعض هزائمه وإخفاقاته ‪ ،‬وتصور الحالة السلمية‬
‫وما كانت عليه من تفكك واضطراب في أغلب الوقات ‪.‬‬

‫وقد طبع القاضي الفاضل الكتابة الدبية في زمنه بطابعه الفني ‪،‬‬
‫وخصائص نثره حتى نسبت إليه خصائص الكتابة الدبية وأطلق على نهجها‬
‫في ذلك الزمن الطريقة الفاضلية ‪.‬‬

‫وتقضي هذه الطريقة بالتزام السجع ‪ ،‬والطباق ‪ ،‬وفنون البديع الخرى‬


‫المستعملة في الشعـر من توريـة وجناس ‪ ،‬واقتباس آيات القرآن ‪،‬‬
‫وتضمين الشعر ‪ ،‬والمأثور من القوال ومصطلحات العلوم ‪ ،‬والتوسع في‬
‫المعاني الخيالية ‪ ،‬والمبالغة في صنع ألوان البيان ‪.‬‬
‫لقد برع القاضي الفاضل في منهجه هذا ‪ ،‬وكان له باع طويلة فيه حتى‬
‫قيل "فما كرر دعاًء في مكاتبة ‪،‬ول ردد لفظا ً في مخاطبة بل تأتي فصوله‬
‫مبتكرة "‪.‬‬

‫إن هذه الطريقة تتطلب ثقافة واسعة في مختلف العلوم والفنون ‪ ،‬وهي ‪-‬‬
‫كما ترى ‪ -‬يقترب فيها النثر من الشعر ‪.‬‬

‫لقد تمكن القاضي الفاضل من التميز والرتقاء بفن الكتابة إلى مرتبة‬
‫عالية بفضل ثقافته الموسوعية الشاملة ‪ ،‬واستطاع أن يؤرخ بقلمه‬
‫لمرحلة دقيقة وصعبة من حياة صلح الدين والمة السلمية ‪ ،‬فكانت‬
‫رسائله في الحرب والسلم معا ً ‪.‬‬

‫لقد حاول الكتاب مجاراة القاضي الفاضل في الكتابة غير أنهم لم يبلغوا‬
‫مستواه ل بل إن صنعة بعضهـم جاءت ثقيلة متكلفة كما هو الحال في‬
‫كثير من إنشاء العماد الصفهاني ‪ ،‬وابن الثير وغيرهما ‪ .‬وإليك أخي‬
‫القارئ هذه الفقرة من رسالة له في أسرى الصليبين في حطين ‪":‬وليس‬
‫في قتل هؤلء الكفار مراجعة ‪ ،‬ول للشرع في استبقائهم مصلحة ‪ ،‬ول في‬
‫ض العزم في قتلهم لتناهي‬ ‫التغاضي عنهم عند الله عذر مقبول ‪ ،‬فليم ِ‬
‫أمثالهم عن فعلهم‪" ....‬ربي ل تذر على الرض من الكافرين دّيارا"‬

‫إن الكتابة فن وعلم ‪ ،‬وهي تحتاج إلى إعداد الناشئة و تدريبهم وتثقيفهم‬
‫كتابا ً ‪ ،‬ولذا فإني أدعو معاهد العلم ‪ ،‬والجامعات ‪،‬‬
‫وتأهيلهم ليصبحوا ُ‬
‫والمدارس ‪ ،‬والمراكز الثقافية إلى الهتمام بالتعبير ‪ ،‬وفنون الكتابة‬
‫والبداع باللغة العربية الفصحى ‪ ،‬عسى أن نجد جيل ً قادرا ً على الكتابة‬
‫الفنية السليمة المبدعة والجميلة ‪.‬‬

‫المصادر والمراجع‬

‫أحمد أحمد بدوي الحياة الدبية في عصر الحروب الصليبية * دار نهضة‬
‫مصر للطباعة ‪ .‬مصر‬

‫أحمد حسين الزيات ‪.‬تاريخ الدب العربي ‪ /‬دار الحكمة – بيروت ‪ /‬ص‬
‫‪2005‬‬

You might also like