Professional Documents
Culture Documents
ابن سناء الملك [القاضى السعيد أبو القاسم هبة اهلل بن القاضى الرشيد جعفر بن سناء الملك (550هـ –608هـ)=
(1155م1211-م) أكبر شاعر مصرىـ فى العصر األيوبى ،وقد َّ
عده شوقى ضيف أنبه شاعر أنجبته مصر حتى
عصره ،وهو محق فى ذلك ،فقد برع هذا الشاعر منذ نشأته فى كنف أبيه ،وقد كان رجالً من رجاالت الدولة األيوبية
انعقدت بينه وبين القاضى الفاضل وزيرـ صالح الدين األيوبىـ صداقة وطيدة انعكست آثارها على الشخصية األدبية
البن سناء الملك الذى لقى كل الرعاية والتشجيع من القاضى الفاضل الذى كان رمزاً أدبياً لهذا العصر بما أضفاه على
األدب المصرى من إرساء لفنون البديع الذى ُي َع ُّد الظاهرة الفنية المميزة لهذا األدب .وقد أَثَّرت نشأة ابن سناء الملك
فى أسرة تميزت بالجاه والغنى والعلم والثقافة فى شخصيته األدبية ،التى أَثَْرتها ثقافته العربية األصيلة ،وموهبته
الشعرية الجميلة ،فاهتم أبوه بتعليمه وتثقيفه ،فحفظ القرآن الكريم ،ودرس العلوم العربية من نحو ولغة على يد َعلَم من
أعالمها هو عبداهلل بن برى ،كما درس الحديث النبوى الشريفـ على يد أكبر ُم َحدثِّى مصر فى عصره وهو الحافظـ
السْلفى ،وتعلم الفارسية وظهر أثر ذلك فى خرجات موشحاته ،كما ظهر أثر الثقافة الفلسفية فى شعره الذى تميز بعمق ِّ
الفكرة وابتكارـ الخيال.
وقد أشاد ابن سعيد فى كتاب " :النجوم الزاهرة فى ُحلى حضرة القاهرة" فى القسم الخاص بالقاهرة من كتاب
الم ْغ ِرب" الذى حققه حسين نصار ،بشعر ابن سناء الملك ،وأشار إلى تميُّز أسلوبه الشعرىَّ ،
وتقدمه المغرب فى ُحلى َ
" ُ
فى طريقة الغوص على المعانى الرفيعة ،الطيارة فى اآلفاق ،األرجة فى جميع األرجاء على حد تعبيره.
وقد حفل شعر ابن سناء الملك بهذا االرتباط الوثيقـ بذاته وبوطنه وبأحوالـ مجتمعه ،ولغة عصره ،وذوقه
األدبى ،إضافة إلى ارتباط شعره بأهم الوقائعـ السياسية فى تاريخ مصر فى العصر األيوبى وهى الحروب الصليبية،
خاصة ما يتعلق منها بجهاد صالح الدين األيوبىـ السترداد الكرامة العربية ،وتحريرـ بيت المقدس من براثن
الصليبيين فى موقعة حطين المباركة سنة 583هـ .لقد استقدم القاضى الفاضل ابن سناء الملك إلى الشام وقلَّده منصباً
رفيعاًـ فى ديوان اإلنشاء إلعجابه بشعره .وقد تولى ابن سناء الملك أعمال القاضى الفاضل فى مصر بعد عودته إليها،
وعجزه عن مفارقتها ،نيابة عن القاضى الفاضل أثناء إقامته فى الشام ،وهذا يدل على كفاءته ،وثقة القاضى الفاضل
فيه ،وقدـ أواله هذه الوظيفة الرسمية العظيمة التى أكسبته ثراء واستقراراً ومجداً إضافة إلى شهرته الشعرية ،ونشاطه
األدبى.
لقد كان ابن سناء الملك يعقد مجالس فى بيته لمطارحة الشعر ،واالستماعـ إلى النوادرـ والفكاهات ،وكانت داره
منتدى عامرا لهذه المجالس ،وكان يعيش حياة مترفة فى هذه الدار التى كانت تطل على النيل ،وتزدان بالزهور،
وكان يجتمع فيها بأصدقائه وبأدباء عصره حيث يتبادلون الحوار حول قضاياـ األدب ،وقضاياـ الحياة ،ويمزجون فى
هذا الحوار بين الجد والهزل كما هى السمة التى تتسم بها الشخصية المصرية األصيلة.
لقد أَثْرت الحروب الصليبية ديوان الشعر المصرىـ بقصائد حماسية رائعة ،وسجل الشعراء المصريون مشاعر
الفرحة العارمة بيوم حطين المجيد بحروفـ من نور ،فأوجدواـ ديواناً ضخماً فى األدب العربى أُطلق عليه (القدسيات)،
وضمـ هذا الديوان قصائد رائعة كثيرة للشعراء الذين َّخلدوا هذا اليوم وقائده العظيم صالح الدين األيوبى.
وفى هذا السياق يلتقى ابن سناء الملك بأبى تمام ،كما التقى صالح الدين بالخليفة العباسى المعتصمـ فيتناص معه
فى بائيته الشهيرة :
الحد بين الجد واللَّعب
فى َحدِّه ُّ السيف أصدق أنباء من الكتب
ويخلِّد ابن سناء الملك فتح صالح الدين لحلب فى قصيدته البائية ،ومطلعها :
أيوب ذلَّت ِشيع ُة ُّ
الصلُب َ وبابن عزت ملَّ ُة َ
الع َرب بدولة الترك َّ
85
فيلتقى فى ذلك مع تخليد أبى تمام للمعتصم فى فتح عمورية.
وقصيدة ابن سناء الملك هذه قصيدة طويلة (سبعة وخمسون بيتاً) تميزت ببراعة الشاعر فى توظيفـ البديع
توظيفاً فنياً رائعاً روعة النصر العظيم الذى حققه صالح الدين ،والتحم فيه الفن المصرىـ األدبى البديعى مع فن أبى
فصورـ
تمام الذى تأثر بالفن البديعى فى الشعر المصرىـ أثناء إقامته فى مصر فى بداياته األدبية ،ثم أصبح َعلَماً عليهَّ ،
وتحولـ به إلى فن له عمقه الفكرى وأثره اإلنسانىـ وقيمته األدبية .وتناص معه ابن سناء
َّ فلسفته الذاتية من خالله،
الملك فلم يقل شأوا عنه مع تأثره به ،ذلك ألن البديع فى األدب المصرى فن له جذوره الثقافية والفنية الراسخة فى
وجدان وعقول المصريين .فالبديعـ نتاج ثقافة متنوعة ،خاصة هذه الثقافة الواسعة باللغة وخصائصهاـ النغمية
الموسيقية الصوتية ،تلك الثقافة التى ِّ
تمكن األديب من تقديم أدبه فى قمة جماله األسلوبى ،وإ بداعه اللفظى .وقد كان
البديع فى منظور النقد المصرىـ كما تناولتُه بالدراسة فى كتابى (نقد الشعر فى مصر اإلسالمية) تعبيراً عن االتصال
الوثيقـ بجماليات التعبير األدبى ،كما كان معياراً من أهم معاييرـ النقد األدبى ،والحكم على براعة األديب .وقدـ شملت
هذه القيم التعبيرية للبديع ،فى مفهوم النقاد المصريين ،كل القيم التعبيرية فى البالغة العربية بمعناها العام الذى ضم
علوم البالغة من معان وبيان وبديع ،فى داللة واضحة على الذوق األدبى المصرىـ الميَّال إلى البديع .والبديعـ عناية
باإليقاع النغمى والجرس الموسيقىـ للكلمات التى يرجع أثرها الجمالى فى النفس إلى طرقـ ترديد األصوات فى
الكالم.
والمدح فى شعر ابن سناء الملك يسلمنا إلى قضية من أهم قضاياـ شعره الذى دار أكثر من نصفه حول المدح،
وقدـ ذكر محقق ديوانه أنه استغرقـ خمسة آالف بيت ،وإ ن كنا نرى أنه مبالغ فى ذلك ألن مقدمات قصائد المدح يمتزج
فيها الغزل والخمر والوصف وغيرها .وغزل الشعراء العرب فى بدايات القصائد المدحية أثر من اآلثار النفسية
الرائعة التى تجعل الدخول إلى المدح بعد الغزل فنا له خصوصيته األدبية ،اشتهر بذلك من الشعراء المصريين ابن
نباتة فى حسن تخلصه ،وفُتن به "ابن ِحجة" فى كتبه المتعددة خاصة "خزانة األدب" ،كما فُتن به القدماء والمعاصرون.
وأجمل شعر ابن النبيه المصرىـ شاعر الغزل الرقيق كان غزله الذى َّ
قدم به مدائحه مثل قصيدته الرائعة :
ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا أفديه إن َح ِفظ الهوى أو ضيعا
ومثل قول ابن سناء الملك من قصيدة فى مدح القاضى الفاضل ،وتهنئته بفتح صالح الدين لعسقالن ،يقول
متغزالً فى مطلعها :
أَتُرى درى ذاك الرقيب بما جرى باتت ُمعانقتى ولكن فى ال َك َرى
وشم من الثياب العنبرا
َر ْدعا َّ لما رأى فى ُبردتى
ونعم درى َّ
بيت الحشا فقد اجترا وقد اشترى طيف تخطَّى الهول حتى َيشترى
فأقول سار وال أقول له سرى ما زار إال فى نهار جبينه
86
ولَ َكم مضى زمن ِ
وأنت من "القُرى" صر ِت بمن ح ِ
ويت "مدينة" يا ُ ِ
َ عين ْ
تفسرا
رقدت َّ
ُ لما انتبهت ومذ
َّ وأمى من حلمت بذكرها
بأبى ِّ
خرج حين تَْب ِسم جوهرا
حلو وتُ ِ ضابها
ومن العجائب أن ماء ُر َ
نورها أن تُبصرا
فالشمس يمنع ُ إنى ألعشقها وما أبصرتُها
فتقول تطمع بى وأنت كما ترى؟ َّ
لترق لى أشكو إليها رقَّتى
سمرا
وجعلت ليلى بالنجوم ُم َّ وفتحت أبواب السماء لناظرى
ويتجلى جانب هام آخر من جوانب شخصية ابن سناء الملك وهو الجانب النقدى الخاص بوضعه لقواعد
الموشح ،فضالً عن إبداعه له فى كتابه الهام "دار الطراز" ،إذ ُي ُّ
عد عمله فى هذا الكتاب إنجازاً للنقاد المصريين فى هذا
المجال الذى يقدم فيه ابن سناء الملك إسهاماً واضحاًـ فى دراسة موسيقى الشعر العربى مضيفاً ذلك الجانب النقدى
المتميز إلى جانب مكانته الشعرية الرفيعة.
ُع ِجب ابن سناء الملك بالموشحات فوصفهاـ بهذا األسلوب البالغى الذى يعكس ذوق عصره.
وقد أ ْ
ويفسر األهوانى حماسة ابن سناء الملك فى استقبال هذا الفن بأنه رأى فيه لونا من ألوان التجديد ،ونزعة من
نزعات االبتكار.
ويضع ابن سناء الملك فى "دار الطراز" األسس النظرية لفن الموشح ،ويعرض ألهم نماذجه عند أهم أعالمه،
ومن بينهم ابن سناء الملك نفسه ،مما يجعل هذا الكتاب مثاالً جيداً للدراسة التى تجمع ،فى دقة ،بين النظرية والتطبيق.
وقدـ استشهد ابن سناء الملك على نظريته فى الموشح بموشحات لألندلسيين والمغاربة بلغ عددها أربعاً وثالثين
موشحة ،ثم نظم على نسجها خمساً وثالثين موشحة أخرى مما يجعل هذا الكتاب معرضاً قيِّماً للموشحات بفنونها
المختلفة .ويشترط ابن سناء الملك أن تكون خرجة الموشح من ألفاظ العامة ،وإ ال خرج الموشح عن أن يكون موشحا
.وتجب اإلشارة هنا إلى أن إنجاز ابن سناء الملك فى الموشحات إبداعاً ونقداً معلم بارز من معالم شخصيته األدبية
مثَّل طموحه إلى التجديد فى موسيقىـ الشعر العربى ،بما أضافه إلى فن الموشح من هذه القيم التجديدية ممثلة فيما
أبدعه من موشحات اخترع أوزانها ،أو فى دراسته لوزن الموشح وإ نجازه المهم فيه ،أو فى تجديده لخرجة الموشح
ووزنها ،وما بدا من غرامه بها ،وتعبيره عنها بروح مصرية وثابة مرحة على حد تعبير سليمان العطار :كتابه
الحداثة العباسية فى قرطبة ،دراسة فى نشأة الموشحات األندلسية" .وقد كان تنظير ابن سناء الملك لعروض الموشح
إنجازا مقابال فى أهميته لوضع الخليل بن أحمد لعروض الشعر العربى كما رأى شوقىـ ضيف؛ [ "عصر الدول
واإلمارات"ـ – القسم الخاص بمصر].
87