Professional Documents
Culture Documents
تمتد جذور وظيفة الشعر إلى عمق الثقافة والحضارة ،إن لم نقل إلى الذهنية التي أنتجت هذه الثقافة،
وتختلف 0هذه الوظيفة حسب العصور والثقافات ،وتتعدد حولها اإلجابات بتعدد المداخل النقدية ،انطالقا
من إشكالية يلخصها السؤال المركزي التالي :عم نبحث في الشعر ،هل نبحث فيه عن المعارف 0العامة ،
أم الحكمة ،أم اللغة ،أم التاريخ واألنساب ،أم الفن والجمال؟ وما العوامل المتحكمة في تحوالت الوظيفة
الشعرية وتبدلها في مختلف مراحل الشعر ؟
و من أقدم اإلجابات عن هذا السؤال المركزي تلك التي أطلقها أفالطون ،حين شيد من خياله مدينته
الفاضلة ،فاستبعد 0منها الشعراء ،ظنا ً بأنهم جديرون بأن يمألوا عقول الناس باألوهام 0والخرافات وأن
يصرفوهم 0عن جد العمل إلى هزل القول ،فكان الشعر مع أفالطون بال وظيفة ،اللهم إال إذا كان أناشيد
تتقدم صفوف المحاربين ،ترن أصداؤه في ظالل راياتهم)1(.
أما المعلم األول أرسطو فقد ربط وظيفة الشعر بالطبيعة اإلنسانية في بحتها عن المتعة واإلحساس0
بالجمال ،فقال":يبدو أن الشعر-على العموم -قد ولَّده سببان وأن دينك السببين راجعان إلى الطبيعة
اإلنسانية ،فإن المحاكاة أمر فطري موجود 0للناس منذ الصغر ،ثم إن االلتذاذ باألشياء المحكية أمر عام
للجميع")2(.
أما حين نعرج على الثقافة العربية القديمة ،فنجد 0للشعر وظائف 0متعددة بحسب الخلفية الثقافية والمقياس
النقدي الموجه لرؤية الناقد ،فهذا الجاحظ )ت 255هـ (يعبر عن ذلك ،بقوله " :طلبت علم الشعر عند
األصمعي 0فوجدته ال يتقن إال غريبه ،فرجعت إلى األخفش فوجدته ال يتقن إال إعرابه ،فعطفت على أبي
عبيدة فوجدته ال يتقن إال ما اتصل باألخبار ،وما تعلق باأليام واألنساب ،فلم أظفر بما أردت إالَّ عند
األدباء الكتاب كالحسن بن وهب ،ومحمد عبد الملك الزيات"(.)3
وفي 0ذلك نجد إشارات واضحة إلى مقاييس معرفية مختلفة تحدد وظيفة الشعر ،فاألصمعي )ت 210هـ
(بحكم مرجعيته اللغوية جعل وظيفة الشعر االحتفال بالجزل والغريب من اللغة وبأخبار 0العرب وأيامهم،
كما هو الشأن في شعر امرئ القيس وزهير 0والنابغة.أما األخفش العالم اللغوي والنحوي 0الصارم فيصل
وظيفة الشعر بتيسير 0تعلم قواعد اللغة العربية واالنضباط إليها ،لذلك أخرج من حرم الشعر كل بيت
شعري 0ينتهك قواعد سيبويه ،وهجومه على شعر بشار خير دليل على ذلك .أما أبا عبيدة فقد قصر 0وظيفة
الشعر على نقل األخبار واأليام واألنساب ،في حين نجد الجاحظ ،وهو َي ُع ُّد أصناف النقاد واستغاللهم0
للشعر خدمة ألهدافهم 0من نحو وغريب وشاهد 0ومثل ،يذهب بوظيفة الشعر بعيدا عن االستشهاد 0به في
التقعيد للغة أو فهم القرآن والحديث إلى االحتفال بأفانين اللغة والتطريب 0للترويح عن النفس عند الكتاب
الشعراء ،الذين يبدعون الشعر صدقا 0وهواية ال احترافا 0،كابن وهب والزيات ،ممن ال يحتفل بهم التاريخ
الرسمي 0لألدب.
وحري 0بنا إذا ،أمام تعدد وظائف 0الشعر في التراث النقدي لألدب العربي ،أن نبحث في الخلفيات الثقافية
والمعرفية المتحكمة في توجيه الشعر وتحديد وظيفته في كل فترة من فترات هذا التراث.
أوال :وظيفة الشعر في المرحلة الجاهلية
يؤكد ابن رشيق في كتابه العمد أن القبيلة العربية إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك ،وصنعت
األطعمة ،وصُنعت األطعمة ،واجتمعت النساء ،يلعبن بالمزاهر ،كما يصنعن في األعراس( .)4والواقع0
أن الشاعر في العصر الجاهلية يوجد بيولوجيا 0في موضع 0من تجب حمايته ،فهو" شخص منزلته تفوق
منزلته البشر عموما )5(" ،أو قل ،إنه"نبي قبيلته وزعيمها في السلم وبطلها 0في الحرب" )6(،ووظيفته
األساسية والطبيعية ،أن يكون لسان عشيرته " ،يحمي عرض بني قبيلته ويخلد بالءهم ويشارك في
المعارك راشقا العدو بسهام شعرية لها قوة خارقة للعادة" )7(،ويصنع 0معرفتها و علمها ،فيتغنى0
بأمجادها 0وأيامها 0وأنسابها وبمعتقداتها 0،ويحمي شرف الدم والعرق 0،إنه مرآة تنعكس عليها الصورة
المثالية للجماعة القبلية.
ولهذا نظر عرب الجاهلية إلى الشاعر نظرتهم إلى الكائن النوراني ،وأنزلوا 0الشعراء منزلة األنبياء في
األمم ،ألنهم " لم يكن في أيديهم كتاب يرجعون إليه ،وال حكم يأخذون به"( ، )8فكان الشعر ديوان
علمهم ومنتهى 0حكمهم ،به يأخذون ،وإليه يصيرون )9(،لما فيه من حكمة وعمل في قلوب الملوك
واألشراف ،وتأثير في نفوس أهل البأس والنجدة ،وفعل في عقول أهل األنفة والكرم 0.وصار الشعراء
فيهم بمنزلة الحكام ،يقولون فيرضى قولهم 0،ويحكمون فيمضي حكمهم ،أمثال عمر بن كلثوم والحارث
بن حلزة والنابغة .
ولكن هذه المكانة المرموقة للشاعر والوظيفة التوجيهية للشعر لم تستمرا 0طويال ،إذ أصاب التغير
والتحول 0العالقات االجتماعية واالقتصادية والمعرفية على السواء ،خاصة مع ظهور مراكز الثراء القبلي
والمرتبطة بالسلطة والقوة وأهمية اللسان الناطق 0باسمها والمعبر عنها .فدخلت العالقة بين الشعراء و
سادات القبائل أفق الربح والخسارة" ،وعرف أمثال زهير بن أبي سُلمى عطايا هرم ابن سنان التي وإن
لم تفسد زهيرا فقد أفسدت غيره على نحو النابغة واألعشى ( " )10ممن جعلوا المديح على قدر العطية،
واألوصاف 0على قدر النوال .وبدأ التحول من وظيفة الشعر الذي يتحد بالمجموع 0من القبيلة ،هاديا إياها
ما يراه سبيلها القويم ،إلى صورة الشاعر الذي يتحد بمصالحه الخاصة ويسعى 0وراء المال والجاه ،متنقال
بين مواطنه ،فوضعت بذلك األسس األولى لوظيفة التكسب بالشعر ،وساعد على ذلك تنافس شيوخ القبائل
الكبرى وملوكها 0في توظيف الشعر لتأكيد مكانتهم والدفاع 0عن مصالحهم.
ثانيا :وظيفة الشعر في مرحلة ما بعد الجاهلية
إذا كان الشاعر خالل المرحلة الجاهلية مخصوصا 0بالرعاية والجزاء والتشريف 0مقابل الخدمات التي
يؤديها 0داخل عشيرته وقبيلتيه ،فمع "مجيء اإلسالم يصبح الشاعر مدافعا عن العشيرة الدينية ومضطلعا،
خالل حكم األمويين ،بمهمة الدعاية للعائلة الحاكمة أو األحزاب المعارضة" )11( ،فنمط الشاعر القبلي
تراجع في بداية األمر لصالح الدعوة اإلسالمية ،فكان دور الشاعر هو التصدي لخصوم الدعوة ،واإلشادة
بالقيم الدينية الجديدة ،ووصف 0الفتوح ،ورثاء الشهداء ،ومثل هذه التجربة شعراء كثيرون ،منهم :حسان
بن ثابت ،وكعب بن زهير ،وعبد هللا بن رواحة.
وسيتراجع دور الشاعر ثانية خالل الحكم األموي ،حين سعى إلى البحث عن المجد والثروة ،إذ كانت
السلطة تغذق على المداحين من مال ونعم ،مما فرض على الشاعر التخلي عن قناعاته الشخصية أو أن
يكيفها بكثير من المرونة لكي يحصل على التشجيع والحماية والفائدة من العائلة الحاكمة أو من األحزاب
المعارضة ،فقد كان لكل حزب سياسي 0شاعر يتحدث بلسانه ،ويدافع 0عن أحقيته في الخالفة ،فكان
األخطل شاعر األمويين ،والكميت شاعر الهاشميين ،والطرماح 0شاعر الخوارج ،وتلخصت 0بذلك وظيفة
الشعر خالل هذه المرحلة ،في التعبير 0عن المعايير الثقافية السائدة ،وهو مقابل ذلك مخصوص بالرعاية
والجزاء.
كما أن حياة البذخ واالنحالل التي كانت قائمة خالل العصر األموي ،والتي كان ينغمس فيها الشعراء
ساعدت على إضعاف الروابط 0القديمة ،وعلى التغيير الذي طرأ على وظيفة الشعر ،خاصة وأن محيط
األسر والعشائر 0الحاكمة قد تبنى االحتفالية المتداولة في اإلمبراطورية الساسانية ،مما أدخل وظيفة الشعر
في باب خدمة المصالح الحزبية أو الفردية ،بعيدا عن التحليق في أجواء الفن الطليقة)12(.
أما خالل المرحلة العباسية ،فقد نزع الشعر إلى خدمة الطبقة الحاكمة واألرستقراطية ،وأصبح الشاعر
مستخدما 0بالضرورة لدى فئات المجتمع المستهلكة للثقافة ،وتحولت بغداد إلى نقطة جذب قوية ،شهدت
إقباال كبيرا للشعراء والكتاب على النوادي ،أمثال دعبل الخز اعي وأبي نواس وأبي تمام والبحتري
والجاحظ ،بحثا عن اتخاذ مسار مهني أو شهرة أو تقرب من البالط العباسي ،الذي اتسع هرمية وتنظيما
أكثر من بالط سابقيهم األموي(.)13
كما توطدت خالل هذه المرحلة مؤسسة حماية األدب التي تضمن للشاعر وجوده وتحدد له وظيفته
وقواعد 0نشاطه ،وأصبح المسار المهني للشاعر يلزمه بكل المساومات ،خاصة حين خسر الشاعر
األولوية التي كان يتمتع بها بمجرد الكف عن تمجيد القبيلة والدفاع 0عن شرفها وعن الحفاظ على
تاريخها ،موجها اهتمامه نحو مصلحته الشخصية )14( ،ولم يعد الشاعر المعبر الرسمي ،بل أصبح
متضرعا يدفع فنه إلى مستوى 0ممارسة حرفة مربحة تقوم على محض التسلية ،فتفرغ إلنتاج يكاد
ينحصر 0في فن المراثي والمديح والغزل ،دون أن يحلم بالتحرر من األغراض المعهودة والصيغ 0الشكلية
المفروضة .أما وظيفة الدعاية السياسية التي كان يقوم بها الشاعر في المرحلتين الجاهلية واإلسالمية،
فقد أوكلت خالل هذه المرحلة إلى الدعاة وأصبحت وظيفته في هذه الناحية محدودة جدا ،مقتصرا على
التسلية أو التكسب.
إن وظيفة الشعر قد تغيرت ،بتغير الظروف 0السوسيوثقافية المحيطة بالشاعر ،فخسر 0الشاعر األولوية
التي كان يتمتع بها من قبل وتردت حرفته ،لصالح فئة جديدة سطع نجمها ،هي فئة الكتاب "التي توفر0
أسمى إداريي الدولة )15( ،والتي تحرص على عروبة الدولة العباسية ،وعلى المصالحة بين األعراق
المختلفة ،وعلى حماية األدب من خالل تثبيت قواعده التي ينبغي االمتثال لها.
استنادا إلى ما تقدم ،يطرح أمامنا السؤال التالي :هل سيبقى الشاعر في الثقافة العربية تحث رحمة
األشياء والكلمات التي تولت في أرواح اآلخرين ،أم أن الشاعر سيجعل روحه منبعا لشعره كما كان في
أولى مراحل تشكله وفي قليل من التجارب الشعرية التي تلتها التي تلتها؟
)1 ( قراءة جديدة لشعرنا القديم ،صالح عبد الصبور ،دار العودة ،بيروت ،ط ،1982 ،3ص ..10
)2( فن الشعر ،أرسطو طاليس ،ترجمة متى بن يونس ،تحقيق:شكري 0عياد ،دار الكتاب ،القاهرة، ،
،1967ص .36.
)3( البيان والتبيين ،الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر ،تحقيق وشرح عبد السالم هارون ،دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع ،بيروت ،الطبعة الرابعة( ،د.ت ، ).ص .76.
)4( العمدة في محاسن الشعر وآدابه ،ابن رشيق ،تحقيق:محمد قرقزان ،دار المعرفة ،الطبعة األولى،
،1988ص .153.
)5( تاريخ اللغة واآلداب العربية ،شارل بال ،تعريب رفيق 0بن وناس وجماعته ،دار الغرب اإلسالمي،
الطبعة األولى ،بيروت ،1997 ،ص .86.
)6( تاريخ األدب العربي ،حنا الفاخوري ،دار اليوسف للطباعة والنشر ،بيروت ،لبنان( ،د.ط) ،
(د.ت) ،ص .59.
)7( تاريخ اللغة واآلداب العربية،ص .87.
)8( غواية التراث ،جابر عصفور ،كتاب مجلة العربي ،وزارة اإلعالم ،الكويت ،الطبعة األولى،
أكتوبر،20050ص .114 .
)9( طبقات فحول الشعراء ،محمد ابن سالم الجمحي،قرأه وشرحه :محمود 0شاكر( ، ،د.ط) ( ،د.ت) ،
ص .24.
)10( غواية التراث،ص .115.
)11( ينظر :الشعرية العربية ،جمال الدين بن الشيخ ،ترجمة مبارك حنون ومحمد الوالي ومحمد0
أوراغ ،دار توبقال للنشر ،الدار البيضاء ،المغرب ،الطبعة األولى ،1996ص .71.
)12( تاريخ األدب العربي ،ص .230.
)13( الشعرية العربية،ص64.وما بعدها .
)14( البيان والتبيين ،ج .1/241
)15( الشعرية العربية ،ص.92.