Professional Documents
Culture Documents
مقدمة:
يستكشف النقد األدبي أصالة األدب أو عدم أصالته ،ويميز جيده من رديئه.
والنقد متصل باألدب ،منه يستمد وجوده ،ويسير في ظله ،يرصد خطاه و اتجاهاته.
وإذا كان األدب بطبيعته ينزع إلى الحرية والتجديد واكتشاف آفاق جديدة يحلق فيها
ويعبر عنها ،فإن النقد على العكس من ذلك ،إنه محافظ مقيد ،يقف عند حدود دراسة
األعمال األدبية يقصد الكشف عما فيها .من مواطن القوة والضعف ،والحسن والقبح،
تذوق النص تكون متبوعة بخطوات متسلسلة
ّ وإصدار األحكام عليها .أي أن عملية
ومرتّبة ،مثل التحليل ،والتفسير ،والتعليل ،وأخيراً التقييم للخروج بصورة متكاملة عن
النص المراد نقده لبيان حسنه من عدمه .ويختلف النقد بحسب النص ،فهنالك نقد
األدباء والشعراء ،والفقهاء واألصوليين فيما يتعلق بأمور الدين والفقه ،فك ٌّل له منهجه
الخاص في النقد؛ ّ
ألن القواعد المطبّقة على النصوص تختلف باختالف أنواعها.
ُ
تمييز الدراهِم جاء في لسان العرب البن منظور(ت711:ه) الن ْق ُد والتَّ ْنقادُ:
1
ْف منها؛ أَنشد سيبويه : و ِإخرا ُج َّ
الزي ِ
ي الدراه ِِيم ،وهو جمع د ِْرهم على غير قياس أَو د ِْرهام على ورواية سيبويهَ :ن ْف َ
القياس فيمن قاله .وقد نَقَ َدها يَ ْنقُدُها نَ ْقداً وانتَقَ َدها وتَنَقَّ َدها ونَقَ َده إِياها نَ ْقداً :أَعطاه
ضها .ونَقَ ْدتُه الدراه َِم ونقَدْتُ له الدراهم أَي أَعطيته فانتَقَ َدها أَي قَ َب َ
ضها. فانتَقَ َدها أَي قَ َب َ
ْف .1 ت منها َّ
الزي َ ونقَدْتُ الدراهم وانتَقَ ْدتُها ِإذا أ َ ْخ َر ْج َ
ومن معانيها أيضا " النقاش" يقال ناقد فالن فالنا في األمر ،إذا ناقشه فيه ،ومن هذا
المعنى األصلي للكلمة تحدد معنى النقد في األدب .ذلك ألن ما يفعله الناقد من محاولة
التمييز بين جيد الكالم ورديئه ،ليس إال من جنس ما .يفعله الصيرفي في نقد الدراهم
والدنانير.
-المفهوم االصطالحي للنقد :
ومن أوائل النصوص النقدية القديمة التي تتضمن كلمة "نقد" نص البن سالم
الجمحي(139ه232-ه) في كتابه طبقات فحول الشعراء .يقول ":وللشعر صناعة
وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات :منها ما تثقفه العين ،ومنها
ما تثقفه األذن ،منها ما تثقفه اليد و منها ما يثقفه اللسان ،من ذلك اللؤلؤ والياقوت ال
يعرف بصفة وال وزن دون المعاينة ممن يبصره ،ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم
- 1ابن منظور ،معجم لسان العرب ،دار صادر بيروت الطبعة ،3:مادة نقد
2
ال تعرف جودتهما بلون وال مس وال طراوة وال دنس وال صفة ،ويعرفه الناقد عند
وزائفها2". المعاينة فيعرف بهرجها
أما قدامة بن جعفر (337ه) في كتابه " نقد الشعر " فيعرف النقد يقول ... " :
ولم أجد أحدا وضع في نقد الشعر جيده من رديئه كتابا ،وكان الكالم عندي في هذا
القسم أولى بالشعر من سائر األقسام المعهودة ". 3
ونجد مصادر أخرى قد تطرقت للنقد ومفهومه في سياق تعريفها للشعرمنها :
"الشعر والشعراء " البن قتيبة (213ه276-ه) ،وعيار الشعر البن
طباطبا(ت322:ه) ،والموازنة بين أبي تمام والبحتري لآلمدي(ت، )370:
والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني (322ه392-ه) والذخيرة البن
بسام (542ه) .فالدارس لمثل هذه المصادر النقدية يقف على معرفة العرب للنقد
األدبي " معنى ال أسما ،أي عرفوه كما يقول األستاذ طه إبراهيم كنها وحقيقة ،وإن
لم يعرفوه عنوانا لطائفة من األسباب .
ونستشف مما سبق أن المفهوم االصطالحي لكلمة نقد هو تمييز جيد الشعر من
رديئه والذي سيبقى هو المفهوم الشائع عند النقاد القدامى .
ا بن سالم الجمحي ،طبقات فحول الشعراء ،تحقيق محمود ،محمد شاكر ،الطبعة الثانية مطبعة المدني ،
القاهرة 1974 ،م ،الجزء األول،ص-52 /
قدامة بن جعفر ،نقد الشعر ،تحقيق كمال مصطفى ،الطبعة الثالثة ،مكتبة الخانجي ،القاهرة 1979م :ص7 /
3
-
3
4
محاضرات مادة النقد االدبي القديم –جامعة وهران-1
تعريف المصدر :يحتوي المصدر على المادة العلمية األساسية األولى في علم من العلوم ،
ا
أصًل ال يمكن لباحث في ذلك العلم االستغناء عنه .ألنه يتيح للباحث الحصول بحيث يصبح
على أصل الفكرة وجذورها .والمصادر هي أمهات الكتب العربية القديمة التي كانت في
الغالب عبارة عن مخطوطات وتم تحقيقها .وعلى أساس ذلك تطلق كلمة مصدر على أي
شاعر
ٍ ب أو
لعالم أو كات ٍ
ٍ صا علمية أو أدبية ،نثرية أو شعرية
من اآلثار التي تضم نصو ا
أصي ٍل وليس ناقل.
تعريف المرجع :هو مصنف يستند إلى غيره .وهو حديث في نشأته .يتناول موضوعات
جزئية يساعدنا في فهم المصادر وإضاءتها .ويشمل الكتب المطبوعة والدراسات البحوث
والرسائل الجامعية و المقاالت األكاديمية ...
-يحتوي المصدر على المادة األساسية التي كتبها القدماء وهو لذلك األصل ،أما
المراجع فتعتبر فروعا .
-تستعين المراجع بالمصادر لشرح مادتها وتبسيطها وإعادة تحوير أفكارها وليس
العكس .
-تصنف المراجع لعامة القراء للعودة إليها في فهم المسائل العلمية والمعرفية ،أما
المصادر فهي في الغالب للمختصين.
-المصادر في أغلبها كانت مخطوطات ،أما المراجع فقد كتبت في عصر آلة الطباعة
.
-طبقات فحول الشعراء البن سًلم الجمحي (ت ، )231:تحقيق :محمد محمود شاكر
.ابن سًلم أحد أعًلم وأعمدة األدب العربي في القرن الثالث الهجري ،أسَّس في هذا
المصدر لفن النقد ال ُمبكر ،فكان بين طيّاته ناقداا و ُمتذوقاا وراو ايا و ُم ّ
ؤر اخا للشعر
ي في الثقافة العربية.
ي؛ لذا اعتبره البعض أول من منه َج للنقد األدب ّ
العرب ّ
-البيان والتبيين لعمرو بن أبي عثمان الجاحظ ( ،ت255:ه) ،من علماء البصرة
،المصدر من تحقيق :عبد السًلم هارون .ويضم مختارات من األدب العربي القديم،
يحتوي على مسائل كثيرة في البيان والبًلغة وعيوب اللسان والخطابة المقرونة
بفصاحة اللغة ،فيه حديث عن مختلف الثقافات اليونانية والهندية والفارسية التي عنها
أخذ العرب .
-الشعر والشعراء البن قتيبة (ت276:ه) ،أحد علماء الكوفة .كتب جملة من
التصانيف األدبية واللغوية .ويعد مصدر "الشعر والشعراء" من مصادر األدب
األولى .أورد فيه أخبار المشهورين من الشعراء وما أخذه عليهم العلماء من
األخطاء في األلفاظ والمعاني في أشعارهم.
-طبقات الشعراء البن المعتز (ت296:ه)،فيه عرض لطائفة من شعر شعراء الدولة
العباسية المحدثين .وهذا الكتاب من نوادر التراث العربي ،وقد كتبه ابن المعتز في
أيام قصار من أخريات حياته بعد عام 293هـ ،وعني فيه بجمع المفاكهات والنوادر
والمحاسن التي أثرت عن شعراء عاشوا في بًلط بني العباس وقصور وزرائهم
ورجاالتهم.
-عيار الشعر البن طباطبا(ت )322:تحقيق :عبد العزيز بن ناصر المانع .و كتاب
عيار الشعر من أهم الكتب النقدية في القرن الرابع هجري
-أخبار أبي تمام لمحمد بن يحي أبي بكر الصولي (ت355:ه) تحقيق خليل عساكر.
-الموازنة بين الطائيين البحتري وأبي تمام لآلمدي (ت 370:ه) كان كتاب الموازنة
نقلة نوعية في تاريخ النقد االدبي ،ذلك ألنه ارتفع عن سذاجة النقد القائم على
المفاضلة من دون تعليل واضح ،فجاءت موازنته معللة ومؤيدة بالتفصيًلت التي تلم
بالمعاني وااللفاظ والموضوعات الشعرية بفروعها المختلفة .وقد أراد اآلمدي أن
يبين للناس أن االختًلف في تفضيل الشاعرين أبي تمام والبحتري أحدهما على
اآلخر أمر طبيعي لكثرة جيدهما وبدائعهما.
-نقد الشعر لقدامة بن جعفر (ت ، )337:تحقيق كمال مصطفى .يع ّد كتاب نقد الشعر
لقدامة بن جعفر من الكتب النقدية العربية المهمة ّ
ألن الكتاب تض ّمن محاولة لدرس
الشعر على أساس نظري فيه وضوح وشمول .فضًل عن ّ
أن الكتاب كان وثيقة
تاريخية س ّجلت بدايات تأثر النقد العربي بأفكار أرسطو اليوناني.
-الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني (ت392:ه) ظهر هذا المؤلف
وقت أن كان الخًلف حول المتنبي شديداا .فمن النقاد من يبجله ،ويرتفع به ،ومنهم
شاعرا عادياا بل ضعيفاا يقع في أخطاء ،اليقع فيها الناشئة من الشعراء،
ا من يراه
فجعل القاضي الجرجاني مهمته إحقاق الحق في المتنبي والدفاع عنه.
كتاب رائدٌ في
ٌ -دالئل اإلعجاز لعبد القاهر الجرجاني فارسي األصل (ت741:ه)،
إعجاز القرآن ،قَدَّم فيه صاحبه نظريته في النظم ،تلك النظرية التي تركز بعمق على
ا
أصوال للبًلغة في سامق درجاتها .كما سياقات القرآن البًلغية ،وتستخرج منها
ض المؤلف لمسائ َل بًلغي ٍة أخرى ،مثل :التقديم والتأخير ،والفصل والوصل،
َع َر َ
والحقيقة والمجاز ،ثم ختم الكتاب بنماذج تحليلية تبرز أهمية النظم.
-منهاج البلغاء وسراج األدباء لحازم القرطاجني (ت684 :ه) ،أحد علماء األندلس
ولد بقرطاجنة ،هاجر إلى المغرب وتوفي به ،يدور الكتاب في مجمله على الشعر
وصناعته ،أما الجانب الذي انصرف إليه حازم بعد ذلك فكان هو الحديث عن دوافع
متأثرا فيها بأرسطو ،كما أشار إلى فضل
ا الكتابة الشعرية ،التي هي األخرى كان
الشعر على سائر الفنون األدبية ،ليختتم قسم المعاني بالحديث عن أصول النظريات
البًلغية.
-الممتع في علم الشعر وعمله لعبد الكريم النهشلي (ت405:ه) ،ولد بالمسيلة في
القطر الجزائري ثم انتقل إلى القيروان .اعتمد عليه ابن رشيق في كتابه العمدة .و
أن قيمة كتاب «الممتع» إنّما هي في الجمع و التنظيم.و عبد الكريم النهشلي
يبدو ّ
يفضّل المعنى على اللفظ ث ّم هو يؤ ّكد أثر البيئة و أثر الزمن في مرتبة الشعر .
-العمدة في صناعة الشعر ونقده البن رشيق القيرواني المسيلي(ت654:ه) ولد في
المسيلة بالمغرب األوسط (الجزائر) .غلب عليه طابع الشعر والنقد ،نقل به النقد من
المشرق إلى المغرب ،جمع مادته العلمية من شتى المصنفات والمصادر العربية.
-المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لضياء الدين ابن األثير(ت637:ه) ،أورد في
كتابه الكثير من اآلثار األدبية وأظهر رأيه فيها .
محاضرات مادة النقد االدبي القديم
-1البدايات األولى للنقد في العصر الجاهلي :مجاالت انتشار النقد وتطوره :
نهتم في هذا الدرس باإلرهاصات األولى لظهور النقد العربي القديم وماتالها من مراحل
من خالل جملة من اإلشكاالت من قبيل :متى نشأ النقد العربي القديم ؟ هل مع ظهور
الشعر و األدب؟ أم مع بداية الكتابة و التدوين ؟ أم هل مع ترجمة الفلسفة اليونانية ؟ وما
مدى تأثر النقد العربي القديم بالظواهر الثقافية األخرى؟
ال نستطع أن نحدد على وجه الدقة الصورة التي ظهر عليها النقد الجاهلي ،فذلك راجع إلى ما
نُ ِظم من شعر ومن نقد في العهد الجاهلي األول .لكن لم يصل إلينا منه إال القليل النادر ،خاصة إذا
علمنا أن عمر بن الخطاب قال " :كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه".
ويمكن أن نعتبر أن الصور األولى للنقد األدبي الجاهلي كانت تلي مباشرة إلقاء المقطوعات
الشعرية التي كان ينظمها الشاعر ،تصدر غالبا عن الرواة والحفاظ ،معنى ذلك أن النقد كان
مالزما للشعر ،ونحن نعلم أن الشعر يثير بفضل خصائص صياغته أنواعا خاصة من االنفعاالت،
ومن المؤكد أن تكون هناك استجابات لهذا االنفعال في بعديها السلبي واإليجابي ،التي عنها يصدر
النقد.
واستدل الناقد طه أحمد إبراهيم على وجود النقد في هذه المرحلة بنضج القصيدة الجاهلية ،فالنقد
في تصوره هو تلك المدرسة التي تعمل على إنضاج الشعر ،وتخليصه من الشوائب التي علقت به
لحظة والدته وتكوينه ،يقول " :في مثل هذا العهد نعد نقدا كل ماله مساس باألدب بُنية ومعنى،
1
وإن لم يتصل بالبحث في الجمال الفني ،فذم اإلقواء نقد في الجاهلية ،ألنه يعيب أمرا لعله من آثار
1
طفولة الشعر".
و هي عملية تنقيحية يقوم بها الشعراء تجاه شعرهم عن طريق الزيادة و النقصان أو التقديم
والتأخير .وقد عده طه أحمد إبراهيم مظهرا من مظاهر الحس النقدي عند شعراء الجاهلية ،ومنهم
رواد المدرسة األوسية الذين نعتهم األصمعي ب ":عبيد الشعر" .وخاصة زهير صاحب
الحوليات ،فالشعراء كثيرا ما مارسوا على أشعارهم نقدا ذاتيا يتوجهون إلى شعرهم ،فيتدارسونه
ويراجعونه ويحذفون منه ،ويضيفون إليه في تبصر وعمق .وكان كل هذا ضربا من الممارسة
النقدية على نصوصهم الشعرية .وفي هذا الصدد يقول طه أحمد إبراهيم ":إن هذا الشعر مر
بضروب كثيرة من التهذيب حتى بلغ ذلك اإلتقان الذي نجده عليه ،أواخر العصر الجاهلي ...فلم
يكن طفرة أن يهتدي العربي لوحدة الروي في القصيدة ،وال لوحدة حركة الروي ،وال للتصريع
في أولها و ال الفتتاحها بالنسيب والوقوف باألطالل ،لم يكن طفرة أن يعرف العرب كل تلك
األصول الشعرية في القصيدة ،وكل تلك المواصفات في ابتداءاته مثال ،وإنما ذلك كله بعد
1
ما يؤكد أن القدماء نقحوا تجارب ،وبعد إصالح وتهذيب .وهذا التهذيب هو النقد األدبي".
أشعارهم وتدبروها وسنوا لها القواعد وأحكموا ضبطها حتى يظفروا بأعمال قيمة ،متكلفين
جهودا شاقة في التماس المعنى المصيب تارة ،والتماس اللفظ المتخير تارة ثانية.
كانت تضرب قبة حمراء للنابغة الذبياني فيتوافد إليها الشعراء من أجل الحكم على أشعارهم .فقد
حضر األعشى والخنساء وحسان بن تابث إلى مجلسه فأنشده األعشى قصيدته التي مطلعها:
طه أحمد إبراهيم ،تاريخ النقد األدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري ، ،ط دار الحكمة
1
– بيروت ،لبنان .ص -11
2
وأنشده حسان بن ثابت قوله:
وأس َيافُنَا يقطرن من نجدةِ د َما لنَا ال َجفَنَات الغُ ِر يلمعن بال ُ
ض َحى
من هذا الخبر ندرك منزلة النابغة عند معاصريه ،وما احتكامهم إليه دون غيره إال
اعتراف علني بشاعريته ،وقدرته على تمييز الجيد من الرديء في الشعر ،ودليل كذلك على ما
كان يتمتع به من علم بصناعة الشعر ومن ملكة خاصة في النقد.
مما وصلنا عن هذه المجالس ما كان قد عيب على النابغة من ارتكابه لإلقواء ولم يستطع أحد أن
يصارحه به حتى دخل يثرب مرة فأسمعوه إياه غناء في قوله:
يمكن أن نمثل له بموقف طرفة بن العبد من خاله المتلمس حين أنشده قوله المشهور:
قال طرفة" :استنوق الجمل".ألن "الصيعرية " صفة تكون في عنق الناقة ال في عنق البعير.
2
ابن قتيبة ،الشعر و الشعراء ،ج ،1تحقيق أحمد شاكر،ط ، 3:ص-،11 .
3
فهذا نقد يدل على بصر طرفة بمعاني األلفاظ ،ومواضع استعمالها ،كما يدل على ذوقه النقدي،
وفطنته إلى أن مثل هذا الخطأ اللفظي مما يعيب الشعر.
أ-التعميم في األحكام:
النقد الجاهلي نقد انطباعي يقوم على المفاضلة بين الشعراء ،يستلهم أدواته من البيئة الطبيعية
واالجتماعية ،فكان النقاد يطلقون أحكاما متنوعة على الشعر في أيامهم ،تتناول الشاعر والقصيدة
جملة ،وقد يكون هذا الحكم مبنيا عندهم على إعجابهم ببيت من أبيات القصيدة أو بجزء من
البيت ،وقد يرجع هذا الحكم إلى إعجابهم بالشاعر نفسه وبشخصيته.
لقد صدرت األحكام النقدية الجاهلية متسمة بالذوق الفطري الذي يعتمد على إحساس الناقد
المباشر بالمعنى أو الفكرة ،فهو يتلقاها ويحسها بذوقه ،وبفطرته البسيطة .ولهذا تصدر أحكامه
مرتجلة نتيجة لهذا التذوق المباشر .فطرفة بن العبد وهو صبي لم يستسغ وصف الجمل بوصف
الناقة فيصيح قائال في وجه خاله المتلمس" :استنوق الجمل" .والنابغة يستنكر على حسان بن ثابت
استعمال القلة في مقام الفخر في قوله:
فعلق على هذا البيت أبو بكر الصولي بقوله " :فانظر إلى هذا النقد الجليل الذي يدل على نقاء
كالم النابغة ،وديباجة شعره ،وقال له :أقللت أسيافك ،ألنه قال :وأسيافنا :جمع ألدنى العدد،
والكثير" سيوف "،والجفنات ألدنى العدد والكثير"جفان" .3وقد اعتمد في ذلك على ذوقه الفطري
الذي صقلته ثقافته العربية الواسعة ،وأحاطته بعادات قومهم وقيمهم.
3
-15 طه أحمد إبراهيم ،تاريخ النقد األدبي عند العرب ،ص.
4
وهذه السمة تتصل اتصاال مباشرا بالذوق الفطري الذي يعد أساسا هاما في صدور األحكام
النقدية.
كان من بين الشعراء مدرسة سمي أفرادها "عبيد الشعر" وكانت تبذل عناية فائقة في تفهم الشعر
وتذوقه ،وتجويده وتنميقه ،ولكن على الرغم من ظهور رواد هذه المدرسة وهم أصحاب
الحوليات ،لم يكن ذلك هو االتجاه الغالب وإنما كان اتجاها محدودا لدى أهل المدرسة ،وطابعا
خاصا يميز المنتسبين إليها ،أما الطابع العام فهو االتجاه والبعد عن التحليل واالرتجال في
االحكام. .
في صدر اإلسالم انشغل المسلمون بالفتوحات االسالمية ونشر الدعوة لبناء دعائم اإلسالم.
وقد وردت روايات متعارضة في النهي عن قول الشعر ومدحه ،لكنها ضعفت لكونها -كما يرى
بعض المتخصصين -ال تنسجم وما ورد عن النبي الكريم من تقريبه للشعراء خدمة للدعوة مثلما
حدث مع كعب بن زهيرصاحب قصيدة "بانت سعاد" وحسان بن ثابت.
وإذا كان أغلب النقاد أو أكثرهم قد اجمعوا على أن النقد في بداية صدر اإلسالم كان
جامدا ،وصورة وامتدادا للنقد الجاهلي ،فما ذلك إال ألن األحكام النقدية التي نجدها في هذه الفترة
قليلة ،باستثناء أحكام عمر بن الخطاب ،وبذلك نتجاوز هذه الفترة إلى الفترة التي تلتها ،في
العصر األموي إلى آخر القرن األول الهجري تقريبا ،فنحاول الوقوف على معالم النقد في هذه
الفترة ومدى ما أصابه من تطور.
تطور الشعر في هذا العصر تبعا للتطور الطبيعي في البيئات المختلفة كالحجاز والشام والعراق،
كما نجد النقاد قد بدأوا يوازنون بين الشعراء ،تارة بين شعراء المذهب الواحد ،وأخرى بين
شعراء البيئة الواحدة ،وظهرت مصطلحات نقدية جديدة ،فنجدهم يقولون :جرير أشعر عند
العامة ،والفرزدق أشعر عند الخاصة .
وقد كان خلفاء بني أمية يعقدون المجالس األدبية يتحدث فيها الحاضرون عن الشعر والشعراء،
ويلقي المادحون قصائدهم فتنال االستحسان أو اإلعراض واالنتقاد .لكن عموما ظل النقد
5
االنطباعي التذوقي هو القائم في العصر األموي ،وأقيم على الطبع والسليقة ومن ثم كان التعليل
فيه فطريا ساذجا ً بعيداً عن روح العلم والمنهج.
وقد رأينا النقد في العصر الجاهلي يحكم على البيت أو البيتين ،ويهمل تعليل األحكام أو يورد
بعض التعليالت الجزئية ،وسار في نفس االتجاه تقريبا في العصر اإلسالمي مع بعض التطور
الذي يتجلى في المفاضلة بين الشعراء ،وفي غلبة طابع االهتمام اللغوي عليه ،وهذا قد أهله
ليتقبل التطور الذي ينتظره؛ حيث يظهر نقاد اختصوا في النقد وجعلوه همهم ،الشيء الذي لم نعثر
له على أثر في العصور السابقة ألن المذاهب والمدارس والتيارات النقدية لم تكن قد ظهرت بعد،
وإنما تظهر بعد ذلك حين تبدأ حركة التدوين في مختلف ميادين الثقافة العربية على أوسع نطاق.
وإذا كان أغلب النقاد قد اجمعوا على أن النقد في بداية صدر اإلسالم كان جامدا ،وصورة
وامتدادا للنقد الجاهلي ،فما ذلك إال ألن األحكام النقدية التي نجدها في هذه الفترة قليلة ،وبذلك
نتجاوز هذه الفترة إلى الفترة التي تلتها ،في العصر األموي إلى أواسط القرن الثاني الهجري
تقريبا ومابعدها وهي المرحلة التي بدأ فيها االهتمام بجمع التراث وتدوينه أيام قيام الدولة العباسية
،فنحاول الوقوف على معالم النقد في هذه الفترة ومدى ما أصابه من تطور.
إذا وصلنا إلى النقد في العصر العباسي رأينا إمعانًا في الحضارة وإمعانًا في الترف ورأينا
الشعر واألدب يتحوالن إلى فن وصناعة بعد أن كانا يصدران عن طبع وسليقة ،ورأينا الثقافة
تشمل فروع المعرفة كلها دينية وأدبية ،ورأينا الثقافات األجنبية تتدفق على المملكة اإلسالمية من
فارسية وهندية ويونانية ورأينا كل مجموعة من المعارف تتحول إلى علم حتى اللغة واألدب
والنحو والصرف.
فكان طبيعيًّا أن يتحول الذوق الفطري إلى ذوق مثقف ثقافة علمية واسعة ،وأن يتأثر النقد
األدبي بهذه الثروة العلمية واألدبية الواسعة .وستكون جميع نماذجنا النقدية في دروسنا المقبلة عن
هذه الفترة .
6
اختلفت اآلراء النقدية وتداخلت بخصوص البداية الفعلية للنقد األدبي القديم فالعديد من
النقاد تبنوا آراء دون أخرى ولكل حجته في ذلك .وفيما يلي نعرض هذه التصورات :
يبني طه أحمد إبراهيم تصوره للبداية الفعلية للنقد حين يؤكد أن أواخر القرن األول
بداية صحيحة لظهور النقد ،فارتقى النقد األدبي ارتقاء محمودا ،وكثر الخوض فيه،
وتعمق الناس في فهم األدب ،ووازنوا بين شعر وشعر ،وبين شاعر وشاعر ،حتى
لتستطيع أن تقول ":إن عهد النقد الصحيح يبتدئ من ذلك الوقت ،وأن كل ما سبق لم يكن
غير نواة له أو محاوالت فيه".4
وهناك من النقاد من انتهى برفضه للبداية األولية للنقد في المرحلة الجاهلية وماتالها ،لينص أن
النقد لم يظهر إال في القرن الرابع الهجري ،وقبل هذه المرحلة ال يمكن أن يعتد به .وبذلك يكون
قد أعاد قراءة النقد العربي القديم من خالل تصورات ومفاهيم جديدة حول النقد ،ومن رواد هذه
الفئة د .محمد مندور ابتداء من 1944سنة تأليف كتاب " النقد المنهجي عند العرب".
انطلق محمد مندور من رفض الوقوف عند حدود ما أثير من نقد في األسواق والمنتديات
األدبية ،وأكد منذ البدء أنه سيركز على ما جاء من نقد ممنهج مع كل من اآلمدي و القاضي
الجرجاني ،باعتبارهما شكال المحور للطرح الذي يتبناه د .محمد مندور ويعتد به ،وجعله أساس
ما أسماه بالنقد المنهجي الذي تدعمه أسس نظرية أو تطبيقية عامة .
ويقدم م حمد غنيمي هالل في ترصده للنقد العربي القديم قراءة أخرى في مصنفه النقدي
الشهير " النقد األدبي الحديث " الصادر سنة ،1958حيث ربط بين نضوج عملية النقد العربي
القديم باستلهامه من الفلسفة اليونانية وذلك بظهور الفكر الفلسفي على يد المعتزلة و األشاعرة
والمتكلمين .وتوصل إلى أن في العصر العباسي استجاب األدب العربي لمطالب المجتمع الجديد
بسبب اتساع الحضارة اإلسالمية ،و اتصال العرب بالثقافات األخرى .و تعرفهم على حضارات
األمم األخرى القديمة منها اليونان و الفرس .
4
طه أحمد إبراهيم ،تاريخ النقد األدبي عند العرب ،ص-.34.
7
ويستدل غنيمي هالل على توجهه هذا بمالمح النقد العربي في هذه المرحلة التي حملت سمات
النقد اليوناني ،بالنظر إلى الترجمة وروافدها وذلك في حدود ما استطاع نقاد العرب فهمه ،ويعد
قدامة بن جعفر خير من مثل األثر الفلسفي في النقد العربي القديم ،و يعتبر غنيمي هالل هذا
الناقد البداية الفعلية لظهور النقد عند العرب باعتباره أول من ظهرت لديه القواعد اليونانية
مطبقة بشكل جلي في مؤلفه "نقد الشعر ".يقول...":فمن ذلك اتجاه قدامة إلى دراسة األجناس
األدبية تبعا لنظرة أرسطو في النظر إلى العمل األدبي ،بوصفه كال ذا وحدة في حدود ما فهم
قدامة و من سايروه".5
وتستوقف تجربة األصمعي النقدية إحسان عباس حيث اعتبرها بداية النقد المنظم ،ذلك أنه شعر
ببعض المفارقة التي أخذت تبدو في أفق الحياة الشعرية .و السبب في ذلك يرجع إلى تميزه
عمن سبقه بالعديد من المميزات .فهو وإن شارك األوائل في كثير من النظرات الساذجة من مثل
االلتفات نحو أغزل بيت وأهجى بيت وما أشبه ذلك من أحكام ،قد هداه بصره النافذ إلى مواقف
نقدية واضحة ،وما مصطلح الفحولة الذي وظفه إال دليال على ذلك .
هكذا نصل إلى أن ما قبل األصمعي يشكل مرحلة نقدية غير منظمة ،وال يجب أن نعتد بها ،وال
نقف عند حدودها ،وأن النقد الحقيقي لن يظهر إال في أواخر القرن األول الهجري مع األصمعي،
فهو في نظر د .إحسان عباس النواة األولى لظهور النقد المنظم في تاريخ األدب العربي.
فمع األصمعي توفرت الشروط التي يعتبرها د .إحسان عباس أساسا لوجود النقد وهي التأليف
و اإلحساس بالتغير والتطور ،وفي غيابها ال يمكن بأي حال من األحوال البحث عن نقد منظم.
إنما نتحدث عن لوحات نقدية طابعها شفهي وميزتها الذوق الفطري الفج ،وليس ذلك الذوق
الناضج المجرب للعملية اإلبداعية والقادر على تحليل ظواهرها وتفسيرها و الوقوف عند
جزئياتها.
– .5محمد غنيمي هالل ،النقد األدبي الحديث ص 11طبعة دار الثقافة بيروت،ص157.
8
9
كلية اآلداب والفنون /قسم اللغة العربية وآدابها
أ .د .ف .العزوني جدع مشترك سنة أولى ليسانس /
تمهيد :
يستعين النقد األدبي بمجموع األدوات المناسبة التي تمكنه من تحقيق أهدافه،
واالستناد إلى وسائل علمية مختلفة ،تؤمن له االنتهاء إلى أحكام نقدية موضوعية تقنع
المتلقي والمبدع في آن معاً ، ،ويعتمد على لغة علمية سليمة في خطابه ،قوامها الدقة
والتحديد ،والموضوعية والحياد ،ولعل تحقيق هذه المطالب ال يتم ،وال يمكن إنجازه إال من
خالل االستعانة بالمصطلح النقدي الذي ال ينبغي أن يكون موجودا ً فحسب ،بل عليه كذلك
أن يكون متطوراً ،ليواكب التغيرات التي تطرأ على األدب ذاته بفنونه المختلفة.
استطاع النقاد األوائل-على الرغم من حداثة التجربة النقدية لديهم-أن يستنبطوا بعض
المصطلحات النقدية التي اعتمدوا عليها في دراستهم للشعر ،والحكم على الشعراء ،وإنزالهم
في المراتب التي يستحقونها ،من حيث جودة أشعارهم أو رداءتها ،ولعل من بين أشهر
المصطلحات النقدية القديمة التي نقع عليها في اإلرهاصات األولى للنقد العربي القديم،
مصطلح"الفحولة".
جاء في لسان العرب (:الفحل معروف الذكر من كل حيوان ،جمعه أ ْف ُحل ،وفحول
وفحولة وفِحال وفِحالة.
1
قال سيبويه :ألحقوا فيها الهاء لتأنيث الجمع ،ورجل فحيل :فحل .وإنه لبين الفحولة
العدو إذا اشتد وقوي ...والفحل :حصير تنسج من فحال النخل
ّ ....ويقال :استفحل أمر
والجمع فحول ».ابن منظور ،لسان العرب ،مكتبة المعارف ،مصر ،1979 ،مادة :فحل.
تعريفه اصطالحا:
انتقلت الفحولة إلى حقل الشعر والشعراء ،لتوصف بها طبقة من الشعراء تميزت عن
غيرها في ميدان الموهبة الشعرية .و الفحولة الشعرية اصطالحا ترتبط بالشعر وروايته ،
ألن كثرة رواية الشعر ،يقوي ملكة الشعر لدى الشعراء ،ويجعلهم قادرين على اإلبداع
الشعري ،يقول احسان عباس « :الفحولة تعني طرازا رفيعا في السبك وطاقة كبيرة في
الشاعرية وسيطرة واثقة على المعاني ».إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي عند العرب،
من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري ،األردن ،دار النشر للنشر والتوزيع ،ط،1
،2006ص. 41.
ما نالحظه هو أن هذا المصطلح في سياق اللغة يُ ْعلي من قيمة الذكورة لما فيها من
شدة وقوة .والفحل من الشعراء في نظر األصمعي إنما يتخذ قيمته الداللية ،وميزته
الشعرية من خالل معنى الذكورة الذي يفهم من خالل اختالفه عن األنثى ،أو تضاده معها.
وهي تعني الغلبة والسيطرة واالقتدار والتفوق ..ومن ثمة فالفحل يُصنَع ويُنتَج من
خالل مقومات تُسْت َمد من الشعر والشعراء .
و تعتبر الفحولة صورة تأسيسية للنقد العربي القديم وأحد أهم موضوعات الشعرية
العربية .وهي عبارة عن إجراءات ملموسة نحكم بها على كينونة كل شاعر ومزيته .وقد
أوالها النقاد القدماء أهمية كبيرة وصاغوا لها معايير صنفت في ضوئها طبقات للشعراء
انتخب األصمعي الفحولة مقياسا للمعرفة النقدية ،وجعل يمايز بها بين الشعراء
وصاغ لها شروطا ومعايير كثيرة ومتنوعة .وقد حدد األصمعي هذه الشروط وبينها بقوله:
2
( ال يعتبر الشاعر في قريض الشعر فحال حتى يروي أشعار العرب ،ويسمع األخبار
ويعرف المعاني ،وتدور في مسامعه األلفاظ ،وأول ذلك أن يعلم العروض ليكون ميزانا
على قوله ،والنحو ليصلح به لسانه ويقيم به إعرابه والنسب وأيام العرب ،ليستعين بذلك
على معرفة المناقب وذكرهما بمذح أو ذم».ابن رشيق ،العمدة في محاسن الشعر وآدابه ،
تحقيق :محمد قرقزان ،دار المعرفة ،بيروت ،1988 ،ج ،1ص362.363.
إذا تأملنا هذه الشروط نجد أنها تنتمي إلى حقول معرفية كثيرة :من رواية األشعار وسماع
األخبار ،ومعرفة المعاني ،إلى ضرورة اإلحاطة بعلمي العروض والنحو ،والعلم باألنساب
وأيام العرب ومعرفة المناقب ،وغير ذلك من علوم ومعارف يحتاج إليها الشاعر ،وال
يمكنه االستغناء عنها .،ومن هنا نفهم السبب الذي حذا بالنقاد إلى أن يجعلوا الشاعر الفحل
في طليعة الشعراء.
اشترط النقاد القدماء وعلى رأسهم األصمعي في من يلقب بالفحل :الجودة ،وكثرة الشعر
وروايته.
...وهذا المعيار هو الذي جعله يقول في امرئ القيس :ما أرى في الدنيا ألحد مثل قول
امرئ القيس:
3
ص َعير المازني
إن الكم والوفرة الشعرية مقياس للفحولة لدى األصمعي فثعلبة بن ُ
ي (-ق .ه)
حليف بن نمير (-؟ق .ه) لو أت ّم خمسا أو ستا لكان فحال ،وأوس بن غَلفاء ال ُهجيِم ّ
لوكان قال عشرين قصيدة لحق بالفحول...وسالمة بن جندل (-؟ق .ه) (لوكان زاد شيئا كان
فحال».أبو حاتم السجستناني ،فحولة الشعراء ،مصدر سابق ،ص.40.
أي كلما كان الشاعر مكثرا في قول الشعر ارتقى إلى مصاف الفحولة ،.معنى ذلك
ان االصمعي ال يعتد باألبيات والمقطوعات القصيرة ،بل يتخذ من عدد القصائد الجيدة
أنموذجا متعاليا يطالب من خالله الشاعر أن ينتج على منواله.
يحتكم األصمعي للشعر الجاهلي ويعلي من مكانته ويعترف بفحولة هذه المرحلة ،في مقابل
الشعر الذي تالها زمنيا .فحينما سئل عن جرير والفرزدق واألخطل « قال :هؤالء لو
كانوا في الجاهلية كان لهم شأن .وال أقول فيهم شيئا ألنهم إسالميون ».األصمعي ،فحولة
الشعراء ،مصدر سابق ،ص.44.
معنى ذلك أن الشعراء االسالميين والمولدين ممن تأخروا يندرجون في غير مكان الفحو
.يقول األصمعي":سمعت أبا عمرو بن العالء يقول :لو أدرك األخطل من الجاهلية يوما
واحدا ماقدمت عليه جاهليا وال إسالميا".
أصبح الفح ل مدار تمايز طبقات ابن سالم الجمحي ،واقتصر على الفحول
المشهورين من الشعراء ،ولم يتجاوزهم إلى غيرهم ممن لم يكونوا من الفحول ،أو كانوا من
الفحول ولكنهم لم يشتهروا بين الناس بأشعارهم.
يقول « :ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية واإلسالم والمخضرمين الذين كانوا في الجاهلية
وأدركوا اإلسالم ،فنزلناهم منازلهم ،واحتججنا لكل شاعر بما وجدناه له من حجة ،وما قال
فيه العلماء ..فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعراً ،فألفنا من تشابه شعره
4
منهم إلى نظر ائه ،فوجدناهم عشر طبقات ،أربعة رهط كل طبقة ،متكافئين معتدلين" .ابن
سالم الجمحي ،طبقات فحول الشعراء ،تحقيق :محمود محمد شاكر ،جدة ،ج.24.،1
نالحظ ان ابن سالم أقام طبقاته على معيار تصنيفي جعل عشر طبقات للجاهليين
احتوت كل طبقة على أربعة شعراء .كما أدرج االسالميين في طبقات عشر أخرى احتوت
كل طبقة على أربعة شعراء أيضا .تخللت هاتين الطبقتين طبقات ثالث وهي طبقة أصحاب
المراثي ،وطبقة القرى العربية وطبقة شعراء اليهود .وشرع في ترتيب الشعراء داخل كل
طبقة بحسب معايير منهجية قيد بها نفسه.
اعتمد ابن سالم على الوفرة الشعرية في المفاضلة بين الشعراء وقدم الشاعر الواحد
على اآلخر بحسب الكثرة .يقول في تبريره لتأخر طرفة بن العبد وعبيد بن األبرص وعلقمة
بن َع َبدة و َعدِي بن زيد إلى الطبقة الرابعة « .وهم أربعة رهط فحول شعراء موضعهم مع
األوائل ،وإنما ق ّل شعرهم بأيدي الرواة ».ابن سالم الجمحي ،مصدر مذكور ،ج،1:
ص137.
يقول ":وأوس نظير االربعة المتقدمين ،إال أننا اقتصرنا في الطبقات على أربعة
رهط ".فأوس بن حجر مماثل في طاقته الشعرية واالبداعية لكل شعراء الطبقة األولى من
الجاهليين مثل امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى ،والنابغة الذبياني ،واألعشى إال أن تحديده
للطبقة الواحدة بأربعة شعراء هو الذي جعله يؤخر أوس الطبقة الثانية .
5
إن تصنيف الشعراء في طبقات ابن سالم يدلنا على أن الشعراء الفحول ليسوا جميعا ً في
مرتبة واحدة في الموهبة واألداء والبراعة الشعرية ،بل إن بينهم من التفاوت والتباين ما
يجعل تصنيفهم في طبقات أمراً ممكنا ً .
ابن رشيق القيرواني(:ت : )456 :نلخص مفهوم الفحولة لدى ابن رشيق في قوله :
الشعراء أربعة :شاعر خنذيذ ،وهو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر
غيره ،وسئل رؤبة عن الفحولة قال :هم الرواة .وشاعر مفلق ،وهو الذي ال رواية له إال
مجود كالخنذيذ في شعره .وشاعر فقط ،وهو فوق الرديئ بدرجة ،وشعرور وهو
ّ أنه
الشئ».ابن رشيق ،العمدة ،ص.113 .
ّ
األندلسيين الحازم القرطاجني(ت484 :ه): الفحولة لدى
صناعة الشعر أو صناعة الفحولة عند حازم ال تتأتى إال باجتماع مجموعة من
الخصائص والمميزات يقول ( :وال يكمل للشاعر قول على الوجه المختار إال بأن تكون له
قوة حافظة وقوة مائزة وقوة صانعة) .حازم القرطاجني ،منهاج البلغاء وسراج
األدباء،تحقيق :محمد الحبييب ،بيروت ،دار الغرب االسالمي ،ط ،1981 ،2ص.42.
إن القوة الصانعة على النحو الذي عرفها القرطاجني هي التي بها تكتمل الصناعة
الشعرية والتي بها يصنع الشاعر الفحول .أما القوة الحافظة فتكشف لنا الطريق الذي سلكه
6
الشعراء الفحول الذين لزموا الشعراء األوائل وأخذوا عنهم الشعر حفظا .فامرؤ القيس
راوية أبي داؤد اإليادي ،وطرفة راوية المتلمس ،وزهير راوية أوس بن طفيل والحطيئة
راوية زهير ..
إذن ترتبط صناعة الشعر برواية الشعر والنسج على منوال الفحول وتشرب طرائقهم
في إجادة االختيار وحسن التأليف .دون إلغاء الخصوصية اإلبداعية التي تخلق التفاوت بين
الشعراء.فالشعراء بطبيعتهم ـ متفاوتون في إنتاجهم وفي مستواهم الفني ،لذلك كانت مراتبهم
ـ عنده ـ متوقفة على مدى اختراعهم للمعاني أو ابتذالهم لها.
7
كلية اآلداب والفنون /قسم اللغة العربية وآدابها
أ .د .ف .العزوني جدع مشترك سنة أولى ليسانس /
مقدمة :
قضية االنتحال من أولى القضايا النقدية التي طرحت تبعا لتدوين التراث األدبي ،وقد
نبه النقاد القدامى إلى خطورتها بعدما الحظوا نسبة الشعر إلى غير قائليه ،لذلك سارعوا
لدراستها دراسة نقدية .فأخضعوا ما تناقله الرواة من أشعار جاهلية للتمحيص والتدقيق
فالحظوا من خالل التجربة والمعاينة وجود ادعاءات من طرف بعض الرواة على الشعراء
فيما لم يقولوه من شعر ،فنبهوا إلى دلك وحاولوا البحث في أسباب وتداعيات االنتحال بغية
الحفاظ على الشعر وتنقيحه بحيث ال يترك منه إال الثابت الصحيح .كماصنفوا رواة الشعر
بين ثقات وغير ثقات ،وانتشلوا الشعر من التداخل والفوضى ،وشددوا على دور العلماء
بالعودة إليهم ،نتيجة غزارة محصولهم المعرفي واستقامة ذوقهم الفني.
جاء في لسان العرب البن منظور« :ن َِحل جس ُمه ،ونَ َحل ،ينَ َحل ،وينَ ُحل نُحوالً ،فهو
فالن ِ :إذا ادّعاه أَنه قائلُه
ٍ ناحل :ذهَب من مرض أَو سفَر والفتح أَفصح .وا ْنتَ َحل فال ٌن ِش ْع َر
ِ
سبه ِإليه ،ونَ َح ْلتُه القو َل أَ ْن َحلُه ن َْحالً ،وتَنَ َّحلَه ادَّعاه وهو لغيره ،ونَ َحله القو َل ينَ َحله ن َْحال :نَ َ
الشاعر قصيدة إِذا نُ ِسبَت ِإليه ُ ض ْفت ِإليه قوالً قاله غيره ،وادّعيتَه عليه .ونُ َحل بالفتحِ :إذا أ َ َ
،وهي من قِي ِل غيره ».ابن منظور ،لسان العرب ،تحقيق :محمد الصادق العبيدي وأمين
عبد الوهاب ،دار إحياء التراث ،بيروت،ط ،1:مادة :ن ح ل.
اصطالحا:
ورد في معجم المصطلحات :االنتحال «هو أن يأخذ الشاعر كالم غيره بعد علمه
بنسبته له بلفظه كله ومن غير تغيير لنظمه ،أو أن يأخذ المعنى وتبدّل الكلمات كلها أو
بعضها بما يرادفها ».مجدي وهبة وكامل المهندس ،معجم مصطلحات العربية في اللغة
واألدب ،ص.420.
ويقول عبر العزيز نبوي « :النحل :نسبة شعر رجل إلى رجل آخر.. .واالنتحال:
ادّعاء الشعر...و الوضع :أن ينظم الرج ُل الشعر ثم ينسبه إلى غيره ».عبد العزيز بنوي ،
دراسات في الشعر الجاهلي ،الصدر لخدمات الطباعة ،القاهرة ،مصر،ص.82.
تعرض ابن سالم لقضية االنتحال في مقدمة كتابه( طبقات فحول الشعراء) ،وحاول
تحليلها للوقوف على أسبابها السياسية واالجتماعية .يقول " :فلما راجعت العرب رواية
الشعر ،وذكر أيامها ومآثرها ،استقل بعض العشائر شعر شعرائهم ،وما ذهب من ذكر
وقائعهم ،وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم ،وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع واألشعار
فقالوا على ألسنة شعرائهم ،ثم كان الرواة بعدُ ،فزادوا في األشعار ،وليس يُ ْش ِكل على أهل
العلم زيادة الرواة ،وال ما وضعوا وال ما وضع المولّدون " .ابن سالم الجمحي طبقات
فحول الشعراء ج،1ص47-46 .
عوامل ظهور االنتحال لدى ابن سالم هي:
-1قلة الشعر لدى بعض القبائل ،مما حدا بها نحو االستكثار من شعرها ،الذي صنع
ونسب إلى غير قائليه ،بدافع العصبية ،وبحسب ابن سالم من الممكن تبينه لخلوه
من نواحي الجمال في شتى األغراض الشعرية ،وأنه لم يكن مما رواه أهل الثقة
عن مصادر موثوق بها من أهل البادية.
-2زيادة الرواة على ما كانوا يروون من محفوظ لديهم .مثل داود بن متمم بن نويرة
الذي عده ابن سالم من الذين نحلوا الشعر ،و حماد الراوية (ت155:ه) وخلف
األحمر(ت )180:غير الموثوق في روايتهما .
-األولى تحسن نظم الشعر وصوغه وتضيف ما تنظمه إلى الجاهليين من الشعراء.ومثل
لهذه الطائفة بحماد الراوية وخلف األحمر .
-الثانية لم تكن تحسن النظم وال االحتذاء على أمثلة الشعر الجاهلي ،وكانت تحمل منه كل
زيف وهم رواة األخباروالسير والقصص من مثل ابن اسحاق راوية السيرة النبوية منطقا
بالشعر العربي ما لم ينطقوه من قوم عاد وثمود.
س ّمى ابن سالم الجمحي هذا الكالم المنحول ب"كالم مؤلف عقدت أواخره بقافية".
كما ذ ّكر بفضل أهل العلم ،و بفطنتهم وخبرتهم في التمييز بين األصيل والدخيل .فعلينا أن
نقبل بما قبله الثقات ،وأن نرفض ما رفضوه.
استكماال لجهود ابن سالم ميز الجاحظ بين الشعر الصحيح والمنحول معتمدا على
شهادة الرواة وعلى مبدإ التفاوت في الشعر .وقد أخضع العديد من األبيات الشعرية للدراسة
،كاشفا االنتحال فيها مع االتيان باألدلة التاريخية للتدليل على مقوالته النقدية.
وقد نبه الجاحظ عل المنحول المصنوع ،وهو مع الرأي القائل أن حماد الراوية كان يصنع
القصائد الطوال ويروي شعرا منقوال.
يروي الجاحظ قول األفوه األودي
يقول ":فمن أين علم األفوه أن الشهب التي يراها إنما هي قذف ورجم وهو جاهلي ولم يدع
هذا أخر قط إال المسلمون".
عرض ابن رشيق لمسألة االنتحال لدى حديثه عن السرقات يقول (:واالصطراف
أن يعجب الشاعر ببيت من الشعر فيصرفه إلى نفسه ،فإن صرفه إليه على جهة المثل فهو
اجتالب واستلحاق ،وإن ادّعاه جملة فهو انتحال ،وال يقال منتحل إال لمن ادّعى شعرا لغيره
وهو يقول الشعر ،وأما إن كان ال يقول الشعر فهو مدّع غير منتحل «.العمدة ،مصدر
مذكور ،ج،2ص281.
-االصطراف أن يصرف الشاعر إلى شعره بيتا أو أكثر من شعر غيره فيضيفه إلى
شعره .ويفرق ابن رشيق بين وجهين لالصطرف :
أ -االجتالب :هو أن يجتلب الشاعر بيتا من شعر غيره تمثال به ال ادعاء تأليفه ،دون نية
االنتحال أو اإلغارة أو الغصب.
ب -االنتحال :عملية نسب الشعر لشعراء آخرين .سواء من الرواة للشعراء أو
الشاعر لذاته .فالقصيدة هنا تأخذ لتثبت إلى غير قائلها.
إذن يتحول االنتحال عند ابن رشيق إلى نوع من أنواع السرقات الشعرية ،فالقصيدة تؤخذ
لتثبت إلى غير قائلها.
بنى األندلسيون نظريتهم التوثيقية في الشعر على مقاييس تناولته شكال ومضمونا،
متجاوزين مسألة ربطه بروايته كما كان عليه الحال في المشرق .
اشتغل نقاد األندلس على صحة اإلسناد في المصادر ونقضوا العديد من الروايات
واهتموا بعدد من المقاييس في الرويات الشعرية:
مثل -:قواعد اللغة :استغالل النقاد قواعد النحو وأصوله الثابتة فيما يثبتونه من روايات أو
ينقضونه.
-اللفظ والمعنى :يرجح األندلسيون بين الروايات في إطار أحوال اللفظ مع المعنى كأن
يكون في الرواية المختارة معنى أبلغ وأصوب .وأن يكون المعنى مع لفظ الرواية المختارة
أوضح و أنسب.
-الموسيقى الشعرية :دافع األندلسيون على الرواة فيما نسب إليهم من رواية فاسدة الوزن
علة أساس النغمة الشعرية.
-السياق :وجه اللغويون بعض الروايات من خالل نظرتهم للمسألة الشعرية من حيث وحدة
أجزائها وتناسق معانيها وصحة مبانيها
حيث ر ّجحوا بين الروايات من خالل صحة هذه الخصائص ورفضوا ماخالف
قواعد اللغة وأصول النحو الثابتة .كما نزعوا منزعا معرفيا في تحقيق الرواية استنادا إلى
الواقع التاريخي والجغرافي لبعض الكلمات التي كان ورودها في الشعر مغايرا لمقصود
الشاعر الحقيقي.
وقد تمكنوا بفضل هده المجهودات من تحقيق النص الشعري وانتشاله من
االضطراب والفوضى التي اعترته.