Professional Documents
Culture Documents
جذب إيمانه ،ونيته ،وهمته ،ووعيه ،وشعوره بمسؤوليته ،فهو من ذلك في عمل صالح ،أو
عزمة خير.
وجذب الشيطان من جهة أخرى ،وتزيينه الفتور ،وحب الدنيا ،فهو من ذلك في غفلة ،وكسل
وطول أمل ،وتراخ عن تعلم ما يجهل.
وهذا التردد بين الجذبين قديم ل ينقطع ،وبسببه أوجب المؤمنون على أنفسهم جلسات تفكر
وتأمل وتناصح ،يتفقدون فيها النفس أن يطرأ عليه كبر أو بطر ،والقلب أن َي ْع َت ِو َرهُ ميل ،والعلم
واليمان أن يتلبسا بإفراط يزيد بدعة ،أو تفريط يهمل أمرًا وإرشادًا.
وقد ترجم معاذ بن جبل –رضي ال عنه -هذا الحساس بكلمة عُدّت مادة في دستور أجيال
المؤمنين ،فقال لصاحبه وهو يُذ ّكرُه( :اجلس بنا نؤمن ساعة) (.)1
فأخذها ابن رواحة ،فقال لبي الدرداء –رضي ال عنهما ،-وهو آخذ بيده( :تعال نؤمن
ساعة .إن القلب أسرع تقلبًا من القِدر إذا استجمعت غليانًا).
فأخذناها عنهما ،فكانت هذه المواعظ في فقه الدعوة ،ندعو معها داعية السلم أن يجلس مع
كل موعظة ساعة ،يؤمن ويراجع نفسه ،وعلمه ،وهمته.
بقية ...وأمل.
صلّينَ ال ُم ْعتَزّين بدينهم ،المتحلين
وهكذا وضعت هذه السلسلة لتخاطب دعاة السلم ،من المُ َ
بأخلق المؤمنين ،دون الغافلين ،فضل عن المنحرفين.
ولهذا ،فإن هذه المواعظ سوف ل تورد كلمًا فكريًا في الموازنة بين السلم والمذاهب
الجتماعية والقتصادية الحديثة ،ول تحاور المخلطين الذين يجمعون مع السلم غيره ،بل اقتصرت
على مخاطبة مسلم ،صادق اليمان ،نقي العقيدة ،يتألم لواقع المسلمين الحاضر ويحزن ،فتدله على
طريق العمل المثمر وسبل الخلص ،وما يلزمه من الرتقاء بتربية نفسه على مستوى متطلبات هذا
الطريق .أو تخاطب مواعظنا داعية عرف طريق العمل ،وانخلع عن المحاولت الفردية ،وآثر العمل
الجماعي مع ميامين نفروا لمقارعة الجاهلية والرجوع بالمة إلى إسلمهأ ،لكنه بحاجة إلى تثبيت،
وزيادة بذل ،وترقيق قلب.
فمن غفل عن هذه المقاصد :أخطأ التعرف على أهمية هذه السلسلة ،واضطرب في الستفادة
منها.
وإذا سلم كتاب من هذه العيوب ،ولم يكن مطول طول منفرًا ،أو مختصرًا اختصارًا يجعله
يسد القليل من الحاجة دون احتواء معظم المرحلة التربوية ،أو مخلوطًا بمباحث خلفية وردود فلسفية
كلمية ل يحتاجها الداعية ،فإنه قد ل يخلو من نقص عام يقتصر معه مؤلّفه على ذكر أخلقيات
المسلم الفرد ،ويهمل ذكر مسلتزمات الدعوة الجماعية والعمل الحركي.
2
ثم إن الكثير من الكتب الحديثة قد أغفلت إيراد أقوال الئمة من السلف ،ولم تحرص على
بركة كامنة في نصوص الدعاة القدماء.
ثم ولجت الصحيحين ،للبخاري ومسلم ،واقتصرت عليهما فلم أتعدهما إل قليل ،وإلى حديث
صحيح ،وخلصت مواعظي بذلك من الحديث الضعيف والموضوع.
ونخلت كتاب الزهد لعبد ال بن المبارك ،وكتاب الزهد لحمد بن حنبل ،وكتب أخرى في
الرقائق والتعريف بطبقات الصالحين ،متحريًا أبلغ القوال معنى ومبنى ،معرضًا عما صح معناه
وركّ لفظه ،فضل عن الذي جزل مبناه واشتبه مقصده ،وحريصًا على ما ينسب إلى الصحابة
والتابعين والئمة القدماء ،مقل عمن بعد القرن الفاضل الثالث ،وإن كانوا نجباء ،إل الدعاة منهم،
جوْزي.
كابن تيمية ،وابن ال َقيّمْ ،وابن ال َ
أوهام وثقات
وأيضًا ،فإني في هذا السياق ،قد استفدت من أقوال جمهرة من الزهاد الثقات الذين يظنهم
بعض المتشددين ضعافًا مبتدعين بسبب أقوال ابتداعية نسبها لهم من بعدهم ،هم منها أبرياء.
ولعل من اللزم أن أذكّر القارئ هنا بأن هذا الكتاب يعتبر المرجع الرئيس الول في علم
الرجال ،فقد ألف الحافظ المقدسي كتابه( :الكمال في أسماء الرجال) وأودع فيه جميع أقوال الئمة في
رجال الصحيحين والسنن الربعة ،معتمدًا على تواريخ البُخاري وكتاب ابن أبي حاتم وكتب ابن
مَعين وأصحابه ،وأمثال ذلك .ثم جاء الحافظ المزّي فاختصر،ه وسماه (تهذيب الكمال) ،وجاء الحافظ
3
سمّى
ابن حجر العسقلني من بعد ،فاختصره وزاد عليه أشياء فاتتهما ،وهي كثيرة ،وعقّب عليهما ،و َ
مختصره( :تهذيب التهذيب) .ول زالت المقارنة بين كتاب ابن حجر هذا ،وبين المصادر الصيلة
التي اعتمد عليها هؤلء الحفاظ الثلثة ،مما طبع ورأيناه ،تبدي دقة بالغة في نقلهم النصوص منها.
واثمن توثيق تبديه ترجمة ابن أدهم في تهذيب التهذيب( )1يكمن في قول المام يحيى بن معين
فيه ،فقد قال عنه إنه( :عابد ثقة).
واصطلح( :ثقة) عند ابن معين يدل على منزلة أعلى من مجرد الصدق ،فالثقة عنده وعند
معظم الئمة هو :من كان صدوقًا ،ورعًا ،بعيدًا عن البدعة الغليظة.
وناهيك بابن معين ناقدًا للرجال ،فقد انعقد الجماع على قبول رأيه لما له من تشدد بالغ في
توثيقهم.
ونتقدم قليل ،لنجد محمد بن عبد ال بن نمير الكوفي يقول في ابن أدهم أيضًا إنه( :ثقة).
هو ( ُد ّر ُة العراق) كما يقول المام أحمد بن حنبل ،وتلمذ له البخاري وروى عنه في صحيحه،
وسماه الحسن بن سفيان الفَسَوي( :ريحانة العراق) .وقال علي بن الجنيد( :كان أحمد وابن معين
يقولن في شيوخ الكوفيين ما يقول ابن نمير فيهم) ،فهو العمدة في التعريف برجال الكوفة ،وقد عاش
ابن أدهم دهرًا طويل في الكوفة قبل أن ينزل الشام وبعد ذلك.
وكذلك المام النّسَائي صاحب السّنن ،فقد قال إن ابن أدهم( :ثقة مأمون أحد الزهاد) .والنّسائي
حجّةٌ في الرجال ،يميل مذهبه إلى التشدّد في توثيقهم ،كما هو معلوم عند أهل هذا الفن.
ثَبتٌ ُ
وقال المام يعقوب بن سفيان :إبراهيم بن أدهم من الخيار الفاضل ،وهذا اللفظ يتجاوز مجرد
العتراف له بأهلية رواية الحديث إلى القرار بالخيرية والفضل.
وقال المام الدّار قطني صاحب السنن :إذا روى عنه ثقة فهو صحيح الحديث.
وقال العِجْلي :ابن أدهم ثقة .والعِجْلي ناقد بصير متخصص في النقد ،ولكتابه في الثقات منزلة
عند المُحَدّثين.
ولعل أحدًا يتململ هنا ويقول :ابن حبان متساهل في التوثيق ،وينسى أن التساهل المنسوب إلى
ابن حبان مخصوص في الذين لم يجد أحدًا يوثقهم أو يجرحهم ،فيرجح جانب الستر فيهم ويصنفهم
في الثقات من دون إطراء ،ولكنه هنا يطري على رجل معروف مشهور.
وقال ابن الحوص :رأيت من بكر بن وائل خمسة ما رأيت مثلهم ،فذكر ابن أدهم فيهم.
ومن ل خبرة له بعلم الرجال يمر على مثل هذه القوال مرورًا عابرًا ،لجهله بمنازل
أصحابها ،ول يدري –مثلً -أن أبا الحوص هذا هو شيخ جمهرة ن شيوخ البخاري ،وحديثهم عنه
سنّة
متوافر في الصحيح ،وكان كوفيًا معاصرًا لبراهيم بن أدهم ،وذكروا عنه أنه كان( :ثقة صاحب ُ
واتّباع) ( ،)1أي أنه كان صحيح العقيدة ،حاثًا على إتباع السنن ،داعيًا إليها ،ولم يكن يروي الحديث
فقط .ومن كان في مثل هذه الحال ،كيف يسوغ له توثيق مبتدع؟
وقال المام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد :سمعت سفيان بن عُيينة يقول:
(رحم ال أبا إسحاق –يعني إبراهيم بن أدهم -قد يكون الرجل عالمًا بال ليس يفقه أمر ال).
ومرة أخرى يتعرض قليل الخبرة هنا للوهم حين يظن أن الكلمة تحمل شبه تضعيف ،لما في
ظاهرها من إشعار بذلك ،ولكنها أقرب الكلمات إلى توثيق عقيدة ابن أدهم ،فابن عيينة يقر هنا بأن
ابن أدهم من العلماء بال ،أي بتوحيده وصفاته ،لكنه ليس بفقيه في الحكام والمر والنهي وفروع
المعاملت.
وهذا القول على الخص ،ينفي الجانب الذي يرتكز عليه من يتهم ابن أدهم ،إذ إن ابن عيينة
وإن أقام بمكة وصار إمامها ،إل أنه كوفي الصل ،وله مع ابن أدهم مجالس.
هذه هي التوثيقات التي أوردها ابن حجر خلل ترجمة إبراهيم في تهذيب التهذيب ،ويمكننا أن
نضيف لها توثيقات أخرى تؤخذ بالقرينة من نفس الترجمة .فقد ذكر أن إمام الكوفة سفيان الثوري،
المعاصر لبن أدهم ،قد روى عنه الحديث ،وكذلك الوزاعي إمام الشام ،وروايتهما وإن لم تكن دللة
توثيق كاملة ،إل أنها تلقي في القلب نوع اطمئنان.
ولهذا نجد ابن تيمية قد سبقنا ،فشهد لبن أدهم ،وقال( :أما المستقيمون من السالكين ،كجمهور
مشايخ السلف ،مثل الفضيل بن عياض ،وإبراهيم بن أدهم .)1( )...
ويهم بعضهم حين يفهمون أن توثيقات النقاد الذين ذكرناهم ،لبن أدهم ،تقتصر على توثيق
روايته للحديث دون تزكية عقيدته ،وأن أصحاب الحديث قد يروون لمبتدع صادق.
فهذا القياس ل َيرِد ،إذ أن الصادقين أصحاب البدع ،الذين أوردت المدونات الحديثة لهم شيئًا
من رواياتهم ،كانت بدعتهم معروفة مشهورة في جيلهم ،فذكرها النقاد ،ونصوا على تلبسهم بها ،ومع
ذلك أجازوا الرواية عنهم ،وجعلوا حديثهم حُجّةً أو صالحًا للستشهاد به ،بمقدار بدعتهم .أما الذين
أطلقوا فيهم القول بالتوثيق ،فيشمل قولهم توثيق عقيدتهم .وأجزم بذلك وإن لم يكن بين يدي قول ناقد
يقرر ذلك قاعدة ،ولكنه الستقراء الذي جعل ما أقول واضحًا لدى كل متداولي علم رجال الحديث،
فإن جمع أقوال علماء الجرح والتعديل ،على نحو ما أودع في كتاب تهذيب التهذيب ،لم يترك أحدًا
من المبتدعة إل وذكرت بدعته في ثنايا ترجمته ،إن أغفل ذكره ناقد :ذكرها آخر ولبد ،ولم يفلت
أحد من تدقيقهم.
فتضعيف إبراهيم بن أدهم إذن ،يصطدم بعقبة توثيق القدماء له ،خصوصًا وإن فيهم ابن عيينة
الذي صرح بأن ابن أدهم من العلماء بال ،ناهيك عن شهادة ابن تيمية له بالستقامة ،وهو الخبير
بجزئيات المواقف العقائدية لجيال المسلمين التي سبقته ،خبرة ل نستطيع التقليل من شأنها.
وظاهر أن توثيقه هذا ل يشمل الرواية فقط ،بل هو يقر بالفضلية العامة ،ول يكون أفضل
الناس من هو مبتدع .وقد روى ابن المبارك عن الفضيل تأكيدًا لقوله فيه.
وكذلك سفيان بن عيينة إمام مكة ،قال( :فضيل ثقة) ،وروى عنه.
ورأى شيخ البخاري الحسين بن حريث حديث الفضيل حُجّة ،وروى عنه.
وعدّه القواريري شيخُ البخاري ثانيَ أفضل المشايخ الذين رآهم ،وروى عنه.
ووصفه عثمان بن أبي شيبة الكوفي ،شيخ البخاري ومسلم بأنه( :كان ثقة صدوقًا ،وليس
بحجة) ،أي يطلب لحديثة متابعًا.
وقال ابن سعد صاحب الطبقات( :كان ثقة نبيل فاضل عابدًا ورعًا كثير الحديث).
7
وذكره ابن حبان في الثقات ،ووصفه بالورع الدائم ،والخوف الوافر ،والبكاء الكثير.
ومن القرائن الدالة على حسن حاله :رواية رهط آخر من الثقات عنه ،فقد روى عنه المام
الشافعي ،ويحيى بن سعيد القَطّان إمام البصرة ،وشيخا البخاري ومسلم :يحيى بن يحيى التميمي،
وعبد ال بن مسلمة القعنبي ،وهما من أصحاب مالك الكبار ،وشيخ البخاري :أحمد بن عبد ال بن
يونس ،أحد رؤوس العلم في الكوفة ،ومسدد بن مسرهد الذي قال فيه البخاري خلل صحيحه :هو
مسدد كاسمه .وعبد ال بن الزبير الحميدي ،ثالث ال ُمزَني وال ُبوَيطي في صُحبة الشافعي .وإمام
خرسان :قُتيبةُ بن سعيد ،وهما من شيوخ البخاري ومسلم.
طبَهُ بن العلء ،إذ اتهمه بأنه روى أحاديث فيها إزراء على عثمان –رضي
ولم يضعفه إل قُ ْ
حجَر( :لم يلتفت أحج إلى قطبة في هذا) .وأورد عن الفضيل ما يدل على
ال عنه ،-فقال ،ابن َ
توقيره لعثمان ،عكس ما ادعاه قُطبَة.
وأما ابن تيمية فقد أكثر من مدحه ،فسماه في موضع( :سيد المسلمين في وقته) (.)1
معلّم الزهاد.
شرُ بن الحارث الحافي فقد قلّده أبو حاتم وسامه ،مع تشدده البالغ ،فقال (ثقة ،مرضي)
وأما بِ ْ
(.)3
وقيل لحمد بن حنبل :مات بشرٌ ،فقال( :مات رحمه ال وماله نظير في هذه المة إل عامرُ
بن عبد قيس) ،وعامر هذا تابعي ناسك من أقران أ َويْس.
)(1سماع الصوفية ،وهي مطبوعة ضمن مجموعة رسائل بعنوان :الجامع الفريد ص .677
)(2الوصية الكبرى ،ضمن مجموع الرسائل الكبرى .1/319
)(3الجرح والتعديل لبن أبي حاتم ج ،1ق ،1ص .356
8
حرْبي( :ما أخرجت َبغْدادُ أتَمّ عقل ول أحفظًا للسانه من بشر).
وقال المام إبراهيم ال َ
وقال ابن حبان في الثقات( :أخباره وشمائله في التقشف ،وخفي الزهد والورع ،أظهر من أن
يحتاج إلى الغراق في وصفها).
وقال الخطيب البغدادي( :كان ممن فاق أهل عصره في ال َورَع والزّهد ،وتفرد بوفور العقل،
وأنواع الفضل وحسن الطريقة ،واستقامة المذهب وعزوف النفس).
وأخباره في النتصار للمام أحمد خلل محنة خلق القرآن مبسوطة في كتاب ابن الجوزي
ضعّفَهُ.
حول مناقب أحمد ،ول أعلم أحدًا َ
وأما تركه التكسب ،واعتماده على ربح أخته من بيعها الصوف المغزول ،فليس بعيب ،إذ
كانوا يرون أنفسهم ُم َعلّمين للمّة يجب تفرغهم ،وكان شعبة بن الحجاج ،رأس أهل جيله من
المحدثين ،متفرغًا للحديث ،يعيش على مال أخيه الكادح ،ول ُيعِبه أحد بذلك.
الكيلني القدوة.
وذكر ابن تيمية الشيخ عبد القادر ،فوصفه بأنه:
(من أعظم مشايخ زمانهم أمرًا بالتزام الشرع والمر والنهي وتقديمه على الذوق والقدر .ومن
أعظم المشايخ أمرًا بترك الهوى والرادة النفسية) (.)5
إحداهما :حُجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ،ولطف نفوسهم ،وصدق معاملتهم ،فأهدروها
لجل هذه الشطحات ،وأنكروها غاية النكار ،وأساءوا الظن بهم مطلقًا ،وهذا عدوان وإسراف ،فلو
كان كل من أخطأ أو غلط :تُرك جملة ،وأهدرت محاسنه ،لفسدت العلو ،والصناعات ،والحكم،
وتعطلت معالمها.
والطائفة الثانية :حجبوا بما رَأوْهُ من محاسن القوم ،وصفاء قلوبهم ،وصحة عزائمهم ،وحسن
معاملتهم ،عن رؤية عيوب شطحاتهم ،ونقصانها ،فسحبوا عليها ذيل المحاسن ،وأجروا عليها حكم
القبول والنتصار لها ،واستظهروا بها في سلوكهم ،وهؤلء أيضا معتدون مفرطون.
والطائفة الثالثة :وهم أهل العدل والنصاف ،الذين أعطوا كل ذي حقّ حقّه ،وأنزلوا كل ذي
منزلة منزلته ،فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول ،ول للمعلول السقيم بحكم الصحيح ،بل قبلوا
ما يقبل وردوا ما يرد) (.)1
إن (البصير الصادق يضر في كل غنيمة بسهم ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها) (.)2
وقد كان (مدارج السالكين) لبن القيم ،ذلك الكتاب الرائع ،أوضح ثمرة لمنهجه هذا.
ومع ذلك ،فإننا آثرنا التشدد ،وعزفنا عن سعة منهج ابن القيم ،وحصرنا أنفسنا في دائرة
الثقات فقط ،حبًا في أن ل نترك لناقد مجال ،فلم نقرب الضعفاء من أصحاب الشطح ،ول ذكرنا كتابًا
فيه مدحهم وذكر أقوالهم إذا اضطررنا لنقل أقوال الثقات منه ،احتياطا ،وحذرا أن يعتقد الداعية
الناشئ الصلح المطلق لهذه الكتب المشوبة ،أو يظن أننا نزكيها ونجيز له مطالعتها.
(على من ُتعُ ّقبَ على الغزالي في الحياء من إيراد أحاديث ضعيفة ،بل موضوعة في كثير من
الحيان ،وأشياء من كلم الصوفية الممعنة في الغلو وهضم النفس وترك المباحات ،وقد ل تتفق مع
أصول الدين ،ومع ما ورد فيه من مواد كلم الفلسفة ،إلى غير ذلك من مآخذ تعقبه العلمة الحافظ
ابن الجوزي ،وشيخ السلم ابن تيمية ،مع اعترافهما بفضل الكتاب ،فإن كتاب الحياء في مقدمة
الكتب السلمية التي انتفع بها خلئق ل تحصى في كل عصر وجيل ،وأثرت في النفوس تأثيرًا ل
يعرف إل عن كتب معدودة ،ول يزال الكتاب الذي يكثر قراؤه والمعجبون به والمتأثرون في أكثر
البلد ،ول يزال ثرة زاخرة في الدين ،ومصدرًا قويًا من مصادر الصلح والتربية) (.)1
ول نجادل في أن الداعية الناشئ ،مكلف بأن يكون له كثير نظر في القرآن ،والصحيحين
وشروحهما ،قبل أن يبيح لنفسه النظر في الحياء وكتب الزهد والرقائق ،وأن يقدم بين يدي مطالعته
لها مطالعة (مدارج السالكين) لبن القيم أو تهذيبه و(تلبيس إبليس) لبن الجوزي ،وطائفة من كتب
ابن تيمية ،ليتجنب العمل بما يرى في كتب الزهد من أحاديث ضعيفة ،واصطلحات تحمل أكثر من
وجه ،ورياضات ذكروها لم يأمر بها النبي –صلى ال عليه وسلم -وأصحابه.
وأما كتب من اعتقد وحدة الوجود ،ولهج بها ،وجعلها ديدنه ،واقتفى أثر الحلج والبسطامي،
طرَاحها ،ول بد أن يكون داعية السلم في عافية مما فيها ،وقد طهرت هذا
وابن الفارض ،فالواجب ا ّ
الكتاب من ذكرهم وذكر أقوالهم تطهيرًا.
قدوات.
سيَر الدعاة من الفقهاء والمحدّثين والمراء ،في تاريخ الطبري،
ثم إني تتبعت بعد كتب الزهدِ :
وتهذيب التهذيب وطبقات ابن سعد ،وطبقات الشافعية ،وطبقات الحنابلة ،وتاريخ بغداد ،وأمثالها،
واستللت منها فوائد كثيرة ،أضفتها إلى ما اقتبسته من الحديث وأقوال الزهاد ،فكان ما شاء ال من
)(1رجال الفكر والدعوة .46
12
النص القديم المبارك ،الجامع لفقه أطباء القلوب من الصحابة والتابعين وتابعيهم ،الذين هم خير
الناس ،فإن أمة محمد –صلى ال عليه وسلم -خير أمة أخرجت للناس ،وأولئك خير أمة محمد.
سادة وفتوح.
وعرجت بعد ذلك على إنتاج العصر الحديث ،ولباب أقوال قادة الحركات السلمية
المعاصرة ،فبدأت بأبرك وأصفى وأصدق كلم فيه ،كلم المام ال َبنّا –رحمه ال.-
وكان بعض إكثار في اقتباسي عن سيد ،فإنه –كما وصفه الستاذ الندوي( :من فتوح السلم
الجديدة) (.)1
ومن عرف رسائل المام البنا ،وميز عبارات المودودي في (الجهاد)،و(منهاج النقلب
السلمي)،و(نظرية السلم السياسية) :بدا له بوضوح أثرهما العميق في كلم سيّد في :التجمع
الحركي ،والقاعدة الصلبة ،والمفاصلة ،وتكشفت له أصول الكثير من لفتاته وعباراته.
سيّد قد قصد من ظلله المنقح∗ ،أول ما قصد :شرح ورسم خطوط هذه الواعد
ويبدو لي ،أن َ
الحركية في التجمع ،ومفاصلة الجاهلية ،وتربية الصفوة المؤمنة المختارة ،مقدمًا لدعاة السلم مادة
الوعي الحقيقي الصائب.
وستقوم هذه المواعظ بانتقاء أهم ما تناوله قلم سيد في الفقه الحركي ،في مختلف المناسبات
التي أتاحتها اليات ،مع شرح فقه الظلل بما يماثله مما في كتبه الخرى ،وبما يكمله مما في رسائل
المودودي ،وبما يكشف عن أصوله عند الصحابة والتابعين وفقهاء الصّدْر الول.
وإنما اقتصرت في النقل عن هؤلء الفاضل جميعًا على ما يحتاجه الدعاة لتقان عملهم ،وما
يلزمهم من أخلق المؤمنين لقطع الطريق ،من صبر ،وشجاعة ،وأخوة ،وخوف من ال ،ورجاء
لرحمته وزهده ،و ِقصَر أمل ،وطاعة قادة ،ثم ما يجب أن يداووه من أمراض القلوب ،من غُرور،
وهكذا ظفرنا بكل معنى حسن أشار إليه يحيى بن معاذ الزاهد لمّا قال( :أحسن شيء :كلم
رقيق ،يستخرج من بحر عميق ،على لسان رجل رفيق) (.)1
وأحسبه يعني مثل هذا الكلم الرقيق ،الذي استخرجته لك –أيها الداعية -من بطون هذه الكتب
العميقة ،وغيري إنما خلط ما استخرجه من الساحل بما ظفر به من العماق ،وأبيت أنا إل أن
أستخرج لك من العماق فحسب ،ولم أرض إل كل نادر بليغ ،وستعلم كم من الرفق كانت تحمله
س َرتْ في
قلوب هؤلء الرجال الذي أهدوا لك ثمرات تجاربهم ونتائج تأملتهم ،فخلدت كلماتهم و َ
الناس ،معلنة عما لها من التصال بسند الحق.
(ولن تخلد الكلمة عل الجيال إل إن اتصلت بالحق والخير ،وكان لها من قوانين ال في خلقه
سند ،ومن إلهامه لعباده مدد.
ورب بارقة يرمي بها سلطان مسلطن أو صنم مشهور ،فتدوي حينًا ،وتأتلق زمانًا ،ثم تصمت
وتنطفئ ،وتكون كالشهاب يحور رمادًا بعد إلتهاب ،بما كان دويّها من صوت الباطل ل الحق،
وائتلفها من زخرف الكذب ل الصدق.
ول ينطق بكلمة الحق الخالدة إل عقل مدرك ،وقلب سليم .إل قائل يعتد بنفسه ويثق برأيه،
فيرسل الكلم أمثال سائرة ،وبينات في الحياة باقية ،ل يصف وقتًا محدودًا ،ول أمرًا موقوتًا ،ول
إنسانًا فردًا ،ول حدثًا واحدًا ،ولكنه يعم الجيال والعصار ،والبلدان والقطار.
وعلى قدر عظم القائل :تجد هذا العموم في قوله ،يبغي أن يجعل كلماته لناس منهاجًا ،وفي
ظلمات الحياة سراجًا وَهّاجًا) (.)2
والمرء ربما (يسمع المعنى نثرًا ،فل يهز له عِطفًا ،ول يهيج له طربا ،فإذا حوّل نظمًا ،فرّح
الحزين ،وحرّك الرزين ....وقرب من المر البعيد) (.)1
و(إنما الوزن من الكلم كزيادة اللحن على الصوت :يراد منه إضافة صناعة من طرب النفس
إلى صناعة من طرب الفكر) (.)2
لهذا ملنا إلى إيراد الشعار ،والستعانة بها ي هذه المواعظ ،قاصدين أن نضيف إلى المعاني
التي يستحسنها فكر الداعية نوعًا من استحسان نفسه لها ،ليرسخ المعنى ،ويطول تأمله وتذكره.
وليس أدلّ على أهمية الشعر في نصر العقائد وترويجها ما كان له من دور في إسعاف أهل
البعد وترويجها لدى العوام ،مضا ّدةً لمساعي ابن تيمية وتلمذته عندما انبروا لتفنيدها ودمغها بحجج
سنّةِ ال َغرّاء.
ال ُ
(ول ريب منطق ابن تيمية القوى أثرّ أثره ،ولكن جفاف المنطق ل يقوى على مقاومة نضرة
الشعر وفتنته) .كما يقول شاعر السلم محمد إقبال(.)3
وهو كما قال ،فإن الذي قلل من سريان كلم ابن تيمية في أوساط العامة هو ما كان عليه أئمة
الضللة الداعين إلى البدع من روعة البيان ،ورقة الشعر ،وتمكنهم فيه ،حتى سحروا قلوب الناس
بشعرهم من حيث ل يشعرون ،ولم يتهيأ لبن تيمية شاعر مبدع يسانده.
إن للشعر هذه القابلية في إسعاف من يستعمله وتزيين الخطأ أو الصواب ،ونصرة الحق أو
الباطل ،على حد سواء في كل شؤون الفكر وحقائق الحياة ،إذ النفس النسانية تحب الجمال ،والشعر
جمال كله ،وبإمكانه أن يزيد الحق والصواب نضرة وزهاء ورونقًا ووضوحًا ،أو أن يخفي ما يشين
صفحة الباطل والخطأ والوهم من خروق ونتوء وإعوجاج ،فينطلي عيبه بالتوزيق .ول يتخلص من
اسر الشعر وتأثيره إل قلب عامر باليمان عمرانًا كافيًا.
)(1خريدة القصر /القسم العراقي 1/202
)(2وحي القلم للرافعي 3/285
)(3كتاب محمد إقبال لعبد الوهاب عزام .52
15
إن هذه الظاهرة الشعرية هي التي دفعتني إلى الستعانة بالشعر في هذه المواعظ .ولئن كان
يقلل من تذوق بعض الدعاة لهذا الشعر العربي الرصين الواضح الذي اخترته ،ما أصابهم من هذا
الذي أصاب عموم الجيل العربي الجديد من ضعف الحاسة الدبية ،فإني أرجو أن يكون عملي هذا
محاولة للرتفاع بهذا الذوق لدى الدعاة .ولئن كان باعي في الشعر قصيرًا ،فإن في إنتاج الثقات غنى
وبركة .ولئن كان أكثره منشورًا من قبل ،فإن في هذا النتقاء تقوية وحفظًا وترويجًا وبعثًا جديدًا له.
ف وأتباع.
سل ٌ
َ
ولنا اقتداء في استعمال شعر الرقائق بالمام أحمد ،فقد كان يحفظ شيئًا منه أمله على ثعلب،
الديب المشهور ،وسمعه أصحابه ينشد الشعر ،ووقف الشعراء بين يديه أيمام محنته يمدحونه ،بل
تنسب إليه قطعة نظمها في عتاب علي بن المديني حين لم يصبر معه على العذاب(.)1
(يا أبا عبد ال :هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار ،أي شيء تقول فيها؟ ،فقال:
مثل أي شيء؟ ،قال :يقولون:
قال :فأعدت عليه ،فقام ودخل بيته ،ورد الباب ،فسمعت نحيبه من داخل البيت ،وهو يقول:
وأما استعارة بعض البيات التي قيلت في مدح أناسٍ ثقات من الخلفاء والقادة والكرماء
لوصف دعاة السلم بها ،فذلك مما ل يأباه العرف المأثور عن السلف ،ونقتدي بفعل عمر بن
الخطاب –رضي ال عنه -حين سمع أبيات زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان المرّي:
وبهذه القناعة في جدوى الشعر وجوازه :اقتبست الكثير من دواوين القدماء ،ثم من دواوين
وليد العظمي ،ومحمود آل جعفر ،والميري ،وعبد الوهاب عزام ،وغيرهم.
وكذلك أضفت شيئًا من شعر إقبال شاعر السلم الفحل مما في دواوينه( :رسالة المشرق)،
و(السرار والرموز) ،و(ضرب الكليم) ،فدخل شعره لول مرة في المواعظ العربية من بعد ما
ترجمه عبد الوهاب عزام.
وإقبال شارع صحيح العقيدة ،عميق الرؤية ،سليم التفكير .وقد وثقه أبو الحسن النّدوي
خصّص له دراسة سماها( :روائع إقبال) ،كما وثّقه المودودي في مقال مهم نشرته مجلة البعث
وَ
السلمي الهندية( ،)2بيّن في فضل إقبال في توجيه الجيل الذي أسرته الحضارة الغربية ،وإبعاده عن
ضيق القوميات ،وتأكيد صورة الدولة السلمية لديه ،حتى إن الستاذ المودودي وصف عمل غقبال
بأنه عمل عظيم في مجال الصلح ،له قيمة ل ينساها التاريخ السلمي ،وأنه استطاع إنقاذ الجيل
المسلم الذي كانت تتلقفه فتن جديدة ،ونظريات مختلفة.
وفوق هذا ،فقد كان لقبال في أواخر حياته عمل مهم ضخم جدًا ،في ميزان السلم ،وهو
تخصيصه قلمه لفضح القاديانية والحمدية ،والتحذير منهما ،ووجدته شديد النكار على زيغ وحدة
الوجود ،خلف ما يفهم البعض عنه.
(قد رأيت بين أفكار محمد إقبال وبين وجهة نظري توافقًا غريبًا ،قد تخطى المعاني إلى
الكلمات ،خصوصًا فيما يخص الوجدان والروح ،وإن لشديد الشوق إلى دراسة إقبال ونصوصه) (.)3
)(1الغاني 10/304
)(2
(وما المجازات والستعارات والكنايات ،ونحوها من أساليب البلغة ،إل أسلوب طبيعي ل
مذهب عنه للنفس الفنية ،إذ هي بطبيعتها تريد دائمًا ما هو أعظم ،وما هو أجمل ،وما هو أدق .وربما
ظهر ذلك لغير هذه النفس تكلفًا وتعسفًا ووضعًا للشياء في غير مواضعها ،ويخرج من هذا أنه عمل
فارغ وإساءة في التأدية ،وتمحل ل عبرة به ،ولكن فنّية النفس الشاعرة تأبى غل زيادة معانيها،
فتصنع ألفاظها صناعة توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف إحساسها ،فمن ثم ل تكون
الزيادة في صور الكلم وتقليب ألفاظه وترداد معانيه إل تهيئة لهذه الزيادة في شعور النفس) (،)1
ومنهم من ينقاد ببيت من الشعر ،وأحوج الناس إلى البلغة :الواعظ ،ليجمع مطالبهم ،لكنه ينبغي أن
ينظر في اللزم الواجب وأن يعطيهم من المباح في اللفظ قدر الملح في الطّعام ،ثم يجتذبهم إلى
العزائم ،ويعرفهم طريق الحق) (.)2
وفي هذه السلسلة كان ل بد مع هذه الستعارة العرفية من أن أتواضع أمام فحول الفقهاء،
وقادة الدعوة ،وأن أترك لهم التعبير عن أصول العمل السلمي ،مقتصرًا على جمع ما تفرق من
أقوالهم ،محييًا له بالتنسيق ،مضيفًا شيئًا من الفوائد من خلل التعقيب عليه ،فأدع الداعية أمام كلم
من اتفقت كلمة الدعاة على توثيقه ،والقلوب على حبّه ،يدل وضعه أمام كلم مجهول مثلي ،وما أنا
بالذي يقرب شأوهم ،ويداني فضلهم ،وإنما سوغت لنفسي الستعجال في المشاركة في تبيين فقه
وذلك الذي عنيته إذ وصفت عملي بأنه (إحياء) لفق الدعوة ،فهو إحياء لكلم المعاصرين
بالتنسيق والموازنة ،كما أنّه إحياء لكلم أولئك القدماء بالبعث من بعد نسيان ،في محاولة اجتهادية
تكميلية من خلل الجمع بين الكلمين ،نسأل ال تعالى السلمة والصواب فيها.
فلن شطرًا كبيرًا من هذه الستللت يمثل أسطرًا خفية أرجعناها بطول التفتيش والتنقيب في
كتب التراث إلى ميدان التداول والمدارسة ،أو يمثل أسطرًا مهمة من بين بحوث طويلة للمعاصرين:
كان عملنا كالحياء.
فعنوان (إحياء فقه الدعوة) وإن أشعر بتقليد الغزالي في إحيائه لعلوم الدين ،إل أن له من
حقيقة دللة لفظه نصيبًا كبيرًا.
خلصة متكاملة.
وهكذا اكتملت هذه المواعظ في الدعوة ،وصفات الداعية ،والمدونة اللطيفة في أعمال القلوب
وترقيقها.
وأظنها أول مواعظ شاملة تنخل القديم وتغربله ،وتستفيد من الجديد ،وتمزج النثر بالشعر،
مجرّدة فقه العمل الحركي وأدب الرقائق والحماسة دون فروع المعاملت ،مسترسلة في الخطاب
على السلوب الحديث غير مكتفية بإيراد القوال المستحسنة في تعداد جامد استسهلته كتب المواعظ
القديمة ،مع هجر كل كلمة يحتاج القارئ إلى قاموس لغوي لفهمها ،والنقاء من الحديث الضعيف،
والسرائيليات ،والساطير ،وقصص الكرامات المبالغ فيها ،والبعد جهد المكان عن تكرار اللفظ.
فهنا تجد:
19
رصانة القديم ،وشرحه الحديث.
ولقد بدأنا معك اليوم في هذه الحلقة ببيان ضرورة النخلع عن السلبية ،ووجوب إنكار المنكر
في عمل جماعي منظم ،وسنطرق في الحلقات التالية إن شاء ال تعالى أبواب الجهاد ،والزهد،
وأصول التربية ،والتحذير من الفتن وسبل النجاة منها ،وأحاديث عامة في الحث على العمل والتخلق
بأخلق المؤمنين ،ومباحث أخرى في المسار المرحلي وتطوير الدعوة.
وليلتفت الخ الداعية إلى ضرورات عدة حدت بنا إلى تجزئ هذه المواضيع وعدم نشرها في
كتاب ضخم واحد ،مراعيًا التكامل ف معانيها ،ناظرًا إلى ما في طبيعة كل حلقة من استدراك على
الحلقات الخرى ،فالدعوة إلى الزهد ل تعني استساغة الزهد المبتدع وهجر الجهاد ،والدعوة إلى
الجهاد ل تعني التهور والمجازفة ،كما أن المبالغة في الحث وإتعاب البدن في العمل ل تؤخذ على
ظاهرها بعيدة عن ضوابط التربية.
ول بد أيضًا ،خلل كل ذلك ،من اللتفات إلى حقيقة الراء المطروحة ،وكونها من الراء
الشخصية البحتة المعبرة عن مفاهيم كاتبها فحسب ،وما هي إل اجتهادات فردية ل تمثل رأيًا رسميًا
لجماعة من الجماعات السلمية العاملة ،ول تتحمل قياداتها مسؤولية خطأ يرد فيها ،أو غلو تتورط
فيه ،أو تساهل وتفريط تجنح إليه.
عمق وارتفاع.
20
وبعد يا داعية السلم:
فقد قيل :إن قائل الحكمة وسامعها شريكان ،أولهما بها من حقّقها بعمله ،فحقّق هذه الحكم
بعملك :تكن أولى بها ،وأجدر أن تنسب إليك.
وابدأ بإصلح نفسك :يصلح الذين معك من ناشئة الدعوة ،فإنها وصية المام الشافعي ،أرشد
بها مؤدب أولد هارون الرشيد ،فقال:
(ليكن أول ما تبدأ به من إصلح أولد أمير المؤمنين :إصلحك نفسك ،فإن أعنّتهم معقودة
بيدك ،فالحسن عندهم ما تستحسنه ،والقبيح عندهم ما تركته).
لم يقل له :القبيح عندهم ما قلت لهم إنه قبيح ،بل ما لم تعمل به ولم تقربه.
وقد سئل المام أحمد عن الرجل يكثر من كتابة الحديث وطلبه ،أيسوغ له ذلك؟
فقال:
وهذه الصفحات زيادة في العلم ،سوّغتَ لنفسك حيازتها ،فوجبت عليك زكاتها ،على مذهب
المام أحمد.
شعَلٌ
أنت نشءٌ ،وكلمي ُ
21
ل عَرى الروح هدوءٌ ،ولتكن
صمَم.
وما ارتفع صوت الحادي يوما لرفقة أولي َ
22
.1نرفض الهواء.
(إياكم وكل هوى يسمى بغير السلم).
صرخة تحذير صرخها المحدث الثقة ميمون بن مهران رحمه ال ،حين خاف أن يخدعنا
بريق السماء المغايرة ،ما زال صداها مسموعًا عبر الجيال.
فهو ينبهنا إلى أن كل ما هو (غير السلم) ل يعدو أن يكون هوى من الهواء ،مهما تعدد
شكل هذا الغير ،وأيًا كان الزمن الذي يظهر فيه.
وهذا هو المأثور عن جميع أئمة المسلمين ،ليس عندهم إل حق واحد ،وهو الوحي ،وما عداه
فيهو الهوى المذموم الذي ل يمدح شيء منه ول يلتحق بالحق ،ول يجوز للمسلم أن يحتكم إليه أو
يطمئن إليه قلبه.
(قد جعل ال اتّباع الهوى مضادًا للحق ،وعدّه قسيمًا له ،كما في قوله تعالى( :يا داود إنا
جعلناك خليفة في الرض ،فاحكم بين الناس بالحق ،ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل ال).
وقال تعالى( :فأما من طغى ،وآثر الحياة الدنيا ،فإن الجحيم هي المأوى).
وقال في قسيمه( :وأما من خاف مقام ربه ،ونهى النفس عن الهوى ،فإن الجنّة هي المأوى).
فقد حصر المر في شيئين :الوحي ،وهو الشريعة ،والهوى .فل ثالث لهما.
وإذا كان المر كذلك فهما متضادّان ،وحين تعيّن الحق في الوحي :توجه للهوى ضده ،فاتباع
الهوى مضاد للحق.
23
وقال( :ولو ا ّتبَعَ الحق أهواءهم لفسدت السماوات والرض ومن فيهن).
وقال( :أفمن كان على بيّنة من ربه كمن ُزيّنَ له سُوءُ عمله ،واتّبعوا أهواءهم).
وتأمل .فكل موضع ذكر ال تعالى فيه الهوى فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه .وقد
روي هذا المعنى عن ابن عباس أنه قال :ما ذكر الهوى في كتابه إل ذمه.
(فأما شريعة ال ،وإما أهواء الذين ل يعلمون ،وليس هناك من فرض ثالث ،ول طريق وسط
بين الشريعة المستقيمة والهواء المتقلبة ،وما يترك أحد شريعة ال إل ليحكم الهواء ،فكل ما عداها
هوى يهفو إليه الذين ل يعلمون) (.)2
(إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف ،وما عداهما أهواء منبعها الجهل .وعلى
صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها ،ويدع الهواء كلها ،وعليه أل ينحرف عن شيء من الشريعة
إلى شيء من الهواء) (.)3
ثم ما يزال ذاك أمره تعالى إلى المؤمنين ،مخاطبًا لهم أن:
(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّةً ،ول َت ّتبِعوا خُطُواتِ الشيطان).
(إما هدى ال ،وإما غواية الشيطان ،وبمثل هذا الحسم يدرك المسلم موقفه ،فل يتلجلج ،ول
يتردد ،ول يتحير بين شتى السبل ،وشتى التجاهات.
إنها ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدًا منها ،أو يخلط واحدًا منها بواحد.
)(1الموافقات .2/121
)(2في ظلل القرآن .25/136
)(3في ظلل القرآن .25/136
24
كل! إنه من ل يدخل في السلم بكليته ،ومن ل يسلم نفسه خالصة لقيادة ال وشريعته ،ومن ل
يتجرد من كل تصور آخر ،ومن كل منهج آخر ،ومن كل شرع آخر ،إن هذا في سبيل الشيطان،
سائر على خطوات الشيطان) (.)1
فتنة .....وحذر.
وقد سمّى المام أحمد بن حنبل رحمه ال ردّ الشيء الواحد من كلم رسول ال زيغًا ،فقال:
(نظرت في المصحف ،فوجدت طاعة الرسول –صلى ال عليه وسلم -في ثلثة وثلثين
موضعًا).
(وما الفتنة؟ :الشرك .لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من ال ّزيْغِ ،فيزيغ قلبه
فيهلكه) (.)2
فزيغ هو كفر محض ينتقل صاحبه إلى ما وراء حائط السلم ،يحصل ويتحقق بأن يعلم امرو
علمًا وافيًا بحكم شرعي في العقيدة أو الحكام ،ويعلم ثبوته بآية في كتاب ال أو بكلم متواتر عن
رسول ال –صلى ال عليه وسلم ،-ثم يدعي عدم إيمانه بصلح هذا الحكم الشرعي للعمل به،
ويصفه بأنه يفوت المصالح ،أو بأنه ل يتناسب مع التطور ،وما إلى ذلك.
فهذا هو من عنته اليات بأنه يؤمن ببعض ويكف ببعض ،وما من خلف بين المسلمين في
تكفيره.
)(1الظلل .2/142
)(2الصارم المسلول على شاتم الرسول ،لبن تيمية .56
25
فشيخ السلم ابن تيمية مثل ،يذهب في كلم صريح إلى تكفير هؤلء أصحاب اليمان
الجزئي ،ويأتي بأدلة من القرآن الكريم ،ويعلن ،رحمه ال ،عدم اقتصار صفة الكفر على الملحد
ومنكر جميع الرسالة ،بل أن( :المؤمن ببعض الرسالة دون بعض كافر أيضًا ،كما قال تعالى:
(إن الذي يكفرون بال ورسله ،ويريدون أن يُفَرقوا بين ال ورسُله ،ويقولون :نؤمن ببعض
ونكفر ببعض ،ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيل ،أولئك هم الكافرون حقًا وأعتدنا للكافرين عذابًا
مهينًا .والذين آمنوا بال ورسله ،ولم يُفرقوا بين أحد منهم ،أولئك سوف يؤتيهم أجورهم ،وكان ال
غفورًا رحيمًا).
(ثم أنتم هؤلء تقتلون أنفسكم ،وتخرجون فريقًا منكم من دياركم ،تَظَاهَرونَ عليهم بالثم
حرّمُ عليكم إخراجُهم ،أفتؤمنون ببعض الكتاب
والعُدوان ،وإن يأتوكم أُسارى تُفادوهم ،وهو م َ
وتكفرون ببعض؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إل خزي في الحياة الدنيا ،ويوم القيامة ُيرَدّون إلى
أشد العذاب وما ال بغافل عما تعملون).
وقال تعالى:
(ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك ،يريدون أن يتحاكموا
ضلّهم ضلل بعيدًا ،وإذا قيل لهمَ :تعَالَوا إلى
الطّاغوت ،وقد أُمروا أن يكفروا بِه؟ ويريد الشيطان أن ُي ِ
عنْك صُدودًا).
ل رأيت المُنافقينَ يَصدّون َ
ما أنزل ال وإلى الرّسُو ِ
وقال تعالى:
(ألم تر إلى الذين أُوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبْت والطّاغُوت ،ويقولون للذين كفروا:
هؤلء أهدى من الذين آمنوا سبيل؟ أولئك الذين لعنهم ال ،ومن يلعن ال فلن تجد له نصيرًا).
ثم ينبه ابن تيمية ،بعد سرده هذه اليات ،إلى أن ال تعالى خللها ،قد( :ذم الذين أتوا قسطًا
من الكتاب لمّا آمنوا بما خرج عن الرسالة وفضلوا الخارجين عن الرسالة على المؤمنين بها ،كما
يفضل ذلك بعض من يفضل الصابئة من الفلسفة والدول الجاهلية –جاهلية الترك والديلم والعرب
والفرس وغيرهم -على المؤمنين بال وكتابه ورسول .كما ذم المدعين اليمان بالكتب كلها وهم
يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة ،ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون ال ،كما
26
يصيب ذلك كثيرًا ممن يدعي السلم وينتحله ،في تحاكمهم إلى مقالت الصابئة الفلسفة أو غيرهم،
أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة السلم من ملوك الترك وغيرهم ،وإذا قيل لهم:
تعالوا إلى كتاب ال وسنة رسوله :أعرضوا عن ذلك إعراضًا) (.)1
فابن تيميه –كما ترى -يفسر الطاغوت الوارد في الية بأنه صاحب كل مقال يخالف الكتاب
والسنة ،وإن سمّى نفسه فيلسوفًا أو ملكًا ،واليمان بال ،دون اليمان برسوله وأوامره وتعاليمه إنما
هو تفريق يؤدي إلى الكفر ،ول اعتراف بمن يريد أن يتخذ الحل الوسط والدين المخلط المرقع ،أولئك
الذين وصفتهم الية بأنهم يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيل ،أي سبيل ثالثًا وسطًا بين سبيل السلم
وسبيل الراء البشرية ،فيجمع من هذا ومن هذا مزيجًا مركبًا يحكم الناس به.
وكثرة من حكومات البلد السلمية ،والحزاب السياسية والمنظمات الجتماعية اليوم ،ل
تصرح باللحاد ،وإنما تدعو إلى منهاج وأنظمة منافية لبعض أحكام السلم في الحلل والحرام،
حرّمَ ال ،وتحرم الكثير مما أحَلّ ال ،عالمة بوجه مخالفتها للشريعة ،قد بيّن علماء
ل الكثير مما َ
َفتُح ّ
السلم ورجال الحركة السلمية لها الخلط الذي وقعت فيه ،والتبعيض ،واليمان الجزئي ،ومع ذلك
أصرت عل المخالفة والدعوة إلى أهوائها.
(قال غير واحد من السلف :كفر دون كفر ،ونفاق دون نفاق ،وشركٌ دون شرك) (.)2
درجات متعددة من العصيان ،منه اللمم ،ومنه الكبائر ،وما بينهما ،يرتكبها المسلم شهوة ،في
ضعف من الهمة ،وبعد عن المروءة ،من دون أن يخطر على باله نفي ما أتت الشريعة به وخالفه .أو
يفعل ذلك جهل بأحكام الشريعة ،ل يكلف نفسه عناء الستفتاء ،وما هو بعناء ،أو يتأول تأول.
(المعاصي من أمر الجاهلية ،ول يكفر صاحبها بارتكابها ،إل بالشرك ،لقول النبي –صلى ال
عليه وسلم :-إنك امرؤ فيك جاهلية) (.)1
فأنت ترى أن استشهاد البخاري بهذا القول النبوي الشريف واضح الصواب ،والمخاطب به:
أبو ذر –رضي ال عنه ،-مع أنه كان من أجلّ الصحابة ،لما حصل منه من تعيير بلل بُِأمّهِ
السّوداء.
فالمعصية الواحدة هي شعبة من الجاهلية كما يقول النبي –صلى ال عليه وسلم -وكلما زادت
معاصي المسلم زادت نسبة ما فيه من الجاهلية ،ولكن ل ينتقل إلى الجاهلية كلية إل بالشرك في
العبادة أو اعتقاد حل بعض ما حرم ال أو اعتقاد حرمة بعض ما أحل ال ،وإيمانه ببعض وكفره
ببعض.
وهذا هو السر في تشديد النبي –صلى ال عليه وسلم -على الحذر في تكفير من يظهر
السلم ،وقوله:
"أيّما امرئ قال لخيه :يا كافر .فقد باء بها أحدهما ،إن كان كما قال ،وإل رجعت عليه" (.)2
وهذا هو السر أيضًا في تشديد المام حسن البنا على ذلك ،وقوله في الصول العشرين:
" ل ُنكَ ّفرُ مسلمًا أ َقرّا بالشهادتين ،وعمل بمقتضاهما وأدّى الفرائض ،برأي أو بمعصية ،إل أن
أقر بكلمة الكفر ،أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة أو كذّب صريح القرآن ،أو فسره على وجه ل
تحتمله أساليب اللغة العربية بحال ،أو عمل عمل ل يحتمل تأويل غير الكفر).
(تكفير المسلم على وجه يخرجه من السلم خطير جدًا ،فل بد من صدور ما يخرجه عن
السلم قطعًا ،كأن يأتي قول أو عمل ل يحتمل أي تأويل في كفر صاحبه ،مثل أن ينكر القطعي من
الدين ،كوجوب الصلة ،وحرمة الرّبا ،أو عدم لزوم التقيد بالسلم ،أو استهزأ بالسلم أو بالقرآن،
أو أنكر اليوم الخر ،أو قال :إن الشريعة صارت عتيقة وذهب زمانها ،ول تصلح للتطبيق ول لزوم
لها في الوقت الحاضر ،وغير ذلك ،مما يجعل قائله أو فاعله كافرًا قطعًا.
)(1صحيح البخاري .1/15
)(2صحيح مسلم .1/57
28
أما إذا صدرت منه َمعَاصٍ ،كشرب الخمر مع إقراره بأصول العقيدة السلمية ،فهو عاص ل
كافر .كذلك إذا قال قول أو علم عمل يحتمل التأويل ،فل نكفره بقوله أو عمله هذا.
ومن الجدي بالذكر أننا نطلق على بعض الفعال ،أو ترك بعض الفعال ،اسم الكفر ،كما
جاءت بها النصوص الشرعية ،مثل "ترك الصلة كفر" .أما تكفير شخص معين بالذات ،فل بد من
صدور ما يكفر به يقينًا ،مثل جحود فرض الصلة ،أو استتابته والقول له :إذا لم تصل نقتلك .ويصر
على الترك ،ويؤثر القتل ،فهذا دليل خلو قلبه من اليمان ،ويموت كافرًا.
وعلى ضوء هذه التفرقة نستطيع أن نفهم بعض النصوص ،مثل" :من حلف بغير ال فقد
أشرك" فهذا شرك غير مخرج من السلم ،وإنما هو معصية غليظة جدًا ،وهكذا"(.)1
لكنهم في المعاصي والغون؟ ،قد انحدروا إلى أدنى درجات اليمان ،وتخلفوا عن منازل
الفضل.
ووراء ذلك قصة طويلة ،تبدأ من يوم ما بدأت الفتوح الدارة تستهلك تدريجيًا تلك الصفوة
المؤمنة من أصحاب رسول ال –صلى ال عليه وسلم ،-المندفعة بعد موته لتمام مهمته في نشر
الدين بأروع الندفاع ،المنتشرة مثل شعاع الشمس ،تفتح البلد وتحطم الطواغيت ،وتقود الناس إلى
الجنة.
ويهيئ ال تعالى للمة عمر بن العزيز –رحمه ال ،-بما حباه من روح عالية ،فيرى في
مجرد ذاك البطر القليل والقعود دللة انحراف عن الحق ،ويستعظم أن تكون أمة الجهاد قد خف
اندفاعها ،فيقول حزينًا:
(إني أعالج أمرًا ل يُعينُ عليه إل ال ،قد فني علي الكبير ،و َك ِبرَ عليه الصّغير ،وفصُح عليه
العجمي ،وهاجر عليه العَرابي ،حتى حسبوه دينًا ل يرون الحق غيره) (.)1
كلمة قالها عمر في حزن عميق ،مع أنه يتسلم قيادة أمة تسود المم ،وتفيض بمعاني الخير،
وتحكم نفسها عمومًا بشرع ال.
إنه استكبار واستعظام المؤمن لصغار المعاصي ،وقليل البدع ،وهين الظلم ،وأوليات الترف.
وإنها نفس المؤمن في حساسيتها البالغة إزاء معاني العدل والظلم ،والتّباع والبتداع ،والبذل
والدّعةَ.
ض بصره أو َكفّ
ولذلك تجد المؤمن أبدًا ساعيًا في طلب الفضل الكمل ،غير مستعد ِلغَ ّ
لسانه عن ميل.
جيلنا المخدوع.
ومضت من بعد عمر قرون وأجيال ،نصر السلم في حقب منها أبطالٌ من القادة
والمصلحين ،وسادت الغفلة في حقب أخرى ،حتى رأينا المة في يومها هذا وقد أنهكتها خطط اليهود
ودول الكفر ،وسلبتها خيرها ،بما أضعفته من إيمانها ،وبدلته من موازينها ،وبما أقصته من حكم
قرآنها ،وما فرضته وربت عليه ذراري المسلمين من تصورات مغايرة للسلم تكسبها مختلف
السماء وتلبسها متعدد الثياب.
فمحنة المسلمين اليوم ل تقتصر على تسلط أئمة الضللة فحسب ،بل تعدت ذلك إلى تربية
سخّرت المناهج الدراسية وكراسي الجامعات والصحف والذاعات لمسخ الفكار والقيم ،حتى غدا
َ
سبُ نفسه في انعتاق من أسر القديم ،أي قديم كان.
صيْدُ المُخَطّطات في سُرورٍ ،يَحْ َ
َ
إنّ عُصاة المسلمين اليوم ضحية تربية أخلدتهم إلى الرض ،أرادت لهم الفسوق ابتداء،
لتستخف بهم الطواغيت انتهاء.
وإنها خطة قديمة ،يأخذها الطاغوت اللحق عن الطاغوت السّابق ،حتى تصل أصولها إلى
فرعون( ،وذلك كما يقول ال سبحانه( :فاستخفّ قومَهَ فأطاعوه ،إنهم كانوا قومًا فاسقين) .فهذا هو
التفسير الصحيح للتاريخ ،وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعون لو لم يكونوا فاسقين
عن دين ال ،فالمؤمن بال ل يستخفه الطاغوت ،ول يمكن أن يطيع له أمرًا) (.)1
)(1الظلل .9/45
)(2الظلل .9/122
)(3وحي القلم للرافعي .2/258
31
وهكذا تحول بهذه التربية ذلك الصقر السلمي إلى مثل طائر الحَجَلِ في وداعته ،كما يقول
إقبال.
أدب:
ظتَنا
نومّت ألحانُه يَقْ َ
كل ذُلّ يصيبُ النسانَ من غيره ،وينالُهُ من ظاهره :قَريبٌ شفاءهَ ،ويَسير إزاَلتُهُ .فإذا َنبَعَ الذُلّ
من النّفْس ،وانبثق من القلب ،فهو الدواء الدوي والموت الخفي.
الظبي الجفول!
وكان من تمام ما يلزمه هذا الترويض أن يضيقوا على دعاة السلم ،ليستبد بالتوجيه التربوي
والذاعي والصحافي أدعياءُ العلم والشعر والحكمة ،الذين موّهوا أمره بأسماء منظمات تبدوا في
ظاهرها مختلفة ،وطفقوا يزينون للجيل الجديد ،سليل المجاهدين وشبل السود ،أن يكون رقيقًا
لمّ ِة الذي نهضت به ،ويطمسون قصَصَ
للشهوات والجنس والعيش الرغيد ،وبدأوا ُيمْحُونَ تُراثَ ا ُ
ال ُعلَماءِ ،حذرًا من أن تكون نبراسًا للجيل يستدل بها على طريق العمل.
هذا هو عنوان خُطة الكيد اليهودي والصليبي .إنه تعليم الليث السلمي جفلة الظبي.
ومحو قصص أسد السلم من العلماء والزهاد والمجاهدين من تاريخ القرون الفاضلة الولى
لهذه المة المجاهدة.
وأنتجت خطط التربية ذاك الظبي الجفول الذي لم يعد يقتحم ،واستبدل ال َتلَ ُفتَ بال َعزْمِ ،وتعلّم
المسارعة إلى الهرب.
ومرت الخطة ،حتى إن ما نلحظه اليوم لدى بعض المخلصين من ميل على العزلة والخوف
من التعاون مع بقية المسلمين ليس إل من آثار هذه التربية ،ودليل على نفاذها ،وليس ذلك بمستغرب،
فإنها إذا نجحت في إبعاد الكثيرين عن السلم ،فمن باب أقرب أن تبعدهم عن بعض السلم،
وتقنعهم بترديد الكلم ،والعتزال ،وإلتماس الحذر من عمل ُي َعرّضُ للمتاعب.
وعندئذ بدأت المرحلة الثانية بعد أن أمنوا ،وصارت عملية التحول السريع إلى الجاهلية.....
فل َر ْيبَ أن السّواد العظم قد انحرف عن غير ما قصد كيد ،ول إرادة سوء ،وهم أهل لن
يشاركوا الدعاة في إرجاع المة إلى إسلمها ،والسير في خط الحركة السلمية ،والدوران في فلكها،
إذا انجلى لهم جانب النخداع الذي هم فيه.
ثم يقف الداعية وقفة أخرى ،فيجد أن المر كما قال عمر :صعب ،قد فني عليه الكبير ،وكبر
عليه الصغير ،وهاجر عليه العرابي.
فماذا يفعل؟
كل
ليس من ترك ،فإنه ليس في منهجه شيء من زيف ول نقص ،وآية كماله هؤلء الشباب
الحرار الذين يتغنون بالقرآن في عصر المادة والشهوات ،والقليل يؤدي إلى الكثير ،والصبر مفتاح
ما انغلق.
34
وليس من تأجيل ،فإن مرور الزّمن ليس من صالحه ،وإن الطغيان ُكلّما طال أمده تأصلت في
نفسو المتميعين معان الستخذاء ،ول بد من مبادرة تنتشل ،ما دام في الذين جرفهم التيار بقية عرق
ينبض ،وبذرة فطرة كامنة.
مزدوجة
النطلقة ال ُ
وهكذا ،لحقيقة وجود هذه الظّباء الجفولة ،والعصاة الذين تخلفوا عن منازل الفضل .ولحقيقة
كفر بعض حكومات المة السلمية وأحزابها وأفرادها اليوم ،بإيمانهم ببعض السلم دون بعض:
وجب وجود حركة إسلمية ،آمرةً بالمعروف ،مستنهضة للهمم ،ناهية عن النحراف ،كابتة له،
محاولة إقامة حكم للسلم.
وإنما استطردنا هذا الستطراد لندلل على انتفاء الحاجة للحكم على جميع المجتمع الحاضر
بالجاهلية ،وأن الداعية المسلم يمكنه النطلق بحرية وافرة انطلقًا مزدوجا في آن واحد ل حرف
فيه.
)(1الظلل .1/90
35
فهو ينظر إلى الحكومة الداعية إلى نهج يخالف الشرع ،أو الحزب الداعي إلى مثل ذلك ،أو
الفرد المتفلسف المعتقد لحل بعض الحرام ،أو ال ُمنْكر لجزء من اليمان ،نظرة تكفير غاضبة ،ويسلك
مسلكًا غليظًا مع هذه الحكومات والحزاب وهؤلء الفراد.
وهو في الوقت نفسه ينطلق منطلقًا آخر تجاه أهل المعاصي من المسلمين ،ويخاطبهم أنواعًا
متعددة من الخطاب .فمنها :خطاب حب وتوعية بمعاني العمل الجماعي لمن أدى الفرائض والتزام
بالحكام وأمر بالمعروف وفق اجتهاده الفردي.
ومنها :خطاب شفقة ورحمة وحنان ،لمن ألهته الشهوة والغفلة عن الفرائض وسدر في
العصيان.
ومنها :خطاب مقت وتذكير غاضب عنيف ،لصاحب الكبائر الظالم الماجن.
.2كسوف ل غروب
جلَد أصحاب الباطل وأهل الريبة وتفانيهم لتمرير خُطّتهم ،فإذا التفت رأى المين المسلم
ويرى َ
سادرًا غافل ،إل الذين رحمهم ربهم ،وقليل ما هم.
36
ويعود ليفرغ حزنه ،في خطاب مع نفسه ......
ب وعيشٍ رتيبْ
ومالوا لكس ٍ حسّ الكفاح
تبلّد في الناس ِ
()1
سُدور المين ،وعزم المريب يكاد يُزعزع من همتي
ويتهم نفسه أنه لم يكن بليغًا في ندائه ،ولكن سرعان ما يحس أنه قد حاز البلغة من أقطارها،
جمّل عزاءه .......
فيعود يسلي نفسه ويُ َ
لقد تبدلت موازين البلغة ،وافتقد الجيل العمال الكبيرة التي يتمجد بها ،فصار –كما يقول
الرافعي:-
ورغم الفساد ،فإن الداعية المسلم لن يتخلى عن محاولة انتشال العباد .وإن كل وساوس اليأس
من الصلح لن تلبث أن تتبدد أمام لحظة انتباه إيماني تريه مكانته المتوسطة لموكب اليمان السائر.
أخذ عن السلف ،ول بد أن يسوق له قدر ال خلفًا يتسلم المانة منه.
وإنه لموكب لن ينقطع أبدًا ،مضى به القول على لسان النبي –صلى ال عليه وسلم -حين
قال( :ل تَزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحَقّ ،ل يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر ال وهم
كذلك) (.)4
بل إن وجود العُصبة المسلمة في الرض ،الكاملة الدينونة ل ،التي لم تتلوث بانحراف عن
نهجه ،ول توان عن قصده ،هي من سنن ال الكونية التي كمل بها ال سبحانه ميزان ما خلق .ولو
افتقدت هذه العصبة لثقل الميزان في جانب ،وخف في جانب ،واضطرب الكون كله.
فكذلك وجود دعوة الحق ،فإنها والشمس والقمر والجاذبية والماء والهواء من سنن الكون التي
يتحتم وجودها ،وإل فتقوم ساعة القيامة ،لكنها سنة ل يراها إل صاحب قلب سليم ،كما ل يرى
الجاذبية إل صاحب درس عليم.
وهذا مصدر إصرار المسلم على المضي في الطريق ،يتعرض لقدر الخير هذا من أقدار ال،
يرجو أن يتجلى فيه ،فيكون من الفائزين .وأما من أعرض فإن السنة ماضية لن تقف لعراضه،
ويهدي ال لتجلية قدره وسنته قوما آخرين.
وقد أجمل الستاذ المرشد حسن الهضيبي –رحمه ال -هذا المعنى ،فقال:
(إن أحداث الزمان يجب أن تخضع لكتاب ال وسنة رسوله ،مهما تراءى للناس أن الدنيا ل
تحتمل هذا الخضاع ،فالدين هو السنة التي وضعها ال للناس كما وضع السنن الكونية الخرى
للشمس والقمر والحيوان والنبات ،وكل ما في السماء وما في الرض وما عليها) (.)1
إنه يقولك :كما أن للشمس ثباتا وجاذبية وللرض مدارًا ودورانًا ،فإن للبشر هذا الدين ،إن
فقده اختل ميزانه .والناظر يرى أبعد من ذلك ،ويبصر أن للكون هندسة بديعة ،هذا الدين جزء منها،
فل بد أن تمثله جماعة في كل وقت.
وأدرك عبد الوهاب عزام –رحمه ال -هذه السنة الكونية أيضًا ،سنة من ل يبتئس ِلصَولة
الباطل ،ول يرده تساقط الشهداء ،أو غثاء المتخلفين ،فقال:
إن إسلمنا نبأ عظيم ،وهو من مكملت الناموس الكوني الذي يختل دونه .فل بد إذن أن يوجد
في الواقع ،وتمحى الجاهلية ليتم الناموس من غير اضطراب.
ولقد جاء هذا النبأ العظيم ليتجاوز قريشًا في مكة ،والعرب في الجزيرة ،والجيل الذي عاصر
الدعوة في الرض ،ليتجاوز هذا المدى المحدود من المكان والزمان ،ويؤثر في مستقبل البشرية كلها
في جميع أعصارها وأقطارها ،ويكيف مصائرها منذ نزوله إلى الرض إلى أن يرث ال الرض
ومن عليها ،ولقد نزل في أوانه المقدر له في نظام هذا الكون كله ،ليؤدي دوره هذا في الوقت الذي
قَ ّد َرهُ ال له.
ولقد حول خط سير البشرية إلى الطريق الذي خطته يد القدر بهذا النبأ العظيم ،سواء في ذلك
من آمن به ومن صد عنه ،ومن جاهد معه ومن قاومه ،في جيله وفي الجيال التي تلته ،ولم يمر
بالبشرية في تاريخها كله حادث أو نبأ ترك فيها من الثار ما تركه هذا النبأ العظيم.
ولقد أنشأ من القيم والتصورات ،وأرسى من القواعد والنظم في هذه الرض كلها ،وفي أجيال
البشرية جميعها ،ما لم يكن العرب يتصورنه ولو في الخيال.
وما كانوا يدركون في ذلك الزمان أن هذا النبأ إنما جاء ليغر وجه الرض ،ويوجه سير
التاريخ ،ويحقق قدر ال في مصير هذه الحياة ،ويؤثر في ضمير هذه البشرية وفي واقعها ،ويصل
هذا كله بخط سير الوجود كله ،وبالحق الكامن في خلق السماوات والرض وما بينهما ،وأنه ماض
كذلك إلى يوم القيامة ،ويؤدي دوره في توجيه أقدار الناس وأقدار الحياة.
والمسلمون اليوم يقفون من هذا النبأ كما وقف منه العرب أول المر ،ل يدركون طبيعته
وارتباطه بطبيعة الوجود ،ول يتدبرون الحق الكامن في ليعلموا أنه طرف من الحق الكامن في بناء
الوجود ،ول يستعرضون آثاره في تاريخ البشرية وفي خط سيرها الطويل استعراضًا واقعيًا،
يعتمدون فيه على نظرة مستقلة غير مستمدة من أعداء هذا النبأ ،الذين يهمهم دائما أن يصغروا من
شأنه في تكييف حياة البشر وفي تحديد خط التاريخ ،ومن ثم فإن المسلمين ل يدركون حقيقة دورهم
سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل ،وأنه دور ماض في هذه الرض إلى آخر الزمان) (.)1
ووجود المسلم حتمية من حتميات التاريخ الماضي والحاضر ،وإنها لحتمية ماضية إلى يوم
القيامة.
(والحق هو قِوامُ هذا الوجود ،فإذا حاد عنه :فَسَدَ وهلك (ولو اتّبع الحق أهواءهم لفسدت
السماواتُ والرضُ ومن فيهن) ،ومن ثم فل بد للحق أن يظهر ،ول بد للباطل أن يزهق .ومهما تكن
الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو
زاهق)) (.)2
ولئن رأى الحاضر من البشرية إقصاء السلم عن الحياة فما ذالك إل كما تكسف الشمس.
والذي حصل من الضطراب والظلم والفساد بإقصائه لدليل لولي البصار يميزون به صواب ما
ختَلّ بدونه.
نقول من كون السلم جزئية ل بد منها في نظام الكون البديع يَ ْ
وكما تأوي الطيور إلى أعشاشها حين تُكسف الشمس ظهرًا ،وتعرف بفطرتها إن ثمة شذوذًا
قد حصل ،وأن الغروب ل يزال بعيدًا ،ويكون لها الشعاع الضئيل الباقي مصدر أمل لعودة سريعة
لنور الحياة ،وتظل تنتظر ل تنام ،فكذلك أولو القلوب الحية ،يدركون بفطرتهم أن تنحية السلم عن
الحكم كانت حدثًا هائل غريبًا ،لكنه ليس الغروب ،وإنما هو حدث شاذ ،وما استمرار وجود عصبة
للحق باقية –مهما كانت ضئيلة -إل مصدر أمل لعودة السلم إلى الحياة ،بل دللة أكيدة على أنه
سيعود إلى الحياة ،ويرجع من ابق وتمرد من البشر إلى الرب الرحيم ،ويستفيق ضحايا تربية
ستَمسِكون بالنهج القويم.
الترويض ،فإذا هم مُ ْ
)(1ديوان السرار والرموز لقبال .67
)(2مقدمة الظلل .1/7
40
(لقد كانت تنحية السلم عن قيادة البشرية حدثًا هائل في تاريخها ،ونكبة قاصمة في حياتها.
نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرًا في كل ما ألم بها من نكبات ...
لقد كان السلم قد تسلم القيادة بعدما فَسَدت الرض ،وأسنت الحياة ،وتعفنت القيادات ،وذاقت
س َبتْ أيدي الناس).
البشرية الويلت من القيادات المتعفنة ،و(ظهر الفساد في البر والبحر بما كَ َ
تسلم السلم القيادة بهذا القرآن ،وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن ،وبالشريعة المستمدة
من هذا التصور ،فكان ذلك مولدًا جديدًا للنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته ،لقد
أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورًا جديدًا عن الوجود والقيَم والنّظم ،كما حقق لها واقعًا اجتماعيًا فريدًا،
كان يعز على خيالها تصوّره مجرّد تصور ،قبل أن ُينْشئه له القرآن إنشاء.
نعم! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال ،والعظمة والرتفاع ،والبساطة واليسر ،والواقعية
واليجابية ،والتوازن والتناسق ،بحيث ل يخطر للبشرية على بال ،لول أن ال أراده لها ،وحققه في
حياتها ،في ظلل القرآن ،ومنهج القرآن وشريعة القرآن.
ولن يعدو هذا التنزيل ،ول يتجاوزه ،بعد إذ قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم:-
(أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :أل كُلّ شَيءٍ ما خَل الَ باطلُ) (.)2
(ال جاء بنا ،لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة ال) (.)1
فإن (السلم هو منهج الحياة الوحيد ،الذي يتحرر في البشر من عبودية البشر) (( ،)2فإذا أحنوا
رؤوسهم فإنما يحنونها ل وحده ،وإذا أطاعوا الشرائع فإنما يطيعون ال وحده ،وإذا خضعوا للنظام
فإنما يخضعون ل وحده ،ومن ثم يتحررون حقًا من عبودية العبيد للعبيد ،حين يصبحون كلهم عبيدًا
ل بل شريك) (.)3
سجدة الحرية.
ورمزهم في كل ذلك هذه السجدة التي تعلي القلوب ،كما أن رمز الجاهليين تلك السجدة للمادة
والجنس مميتة القلوب.
إنها سجدة المسلم ،عنوان العلو ،وشارة الحرية والبراءة من كل طاغوت ....
وستظل البشرية معذبة مضطربة قلقة مريضة ما دامت ل تسجد هذه السجدة ول تعتنق عقيدة
السلم .وما استمرار عذابها النفسي ،وظلمها مع تقدمها المدني إل دللة على (أن العقل ل يصلح
وحده أن يكون ضابطًا موزونًا ما لم ينضبط هو على ميزان العقيدة الصحيحة .فالعقل يتأثر بالهوى
كما نشهد في كل حين ،ويفقد قدرته على المقاومة في وجه الضغوط المختلفة ما لم يقم إلى جانبه ذلك
الضابط الموزون) (.)2
ول سعادة لنسان ،ول نجاة له من النجراف في النهيار السريع الذي تورطت فيه الجاهلية
من حوله إلى بأن يلجأ إلى هذه العقيدة يستهديها الطريق ،فتجيبه الجواب الصحيح على السئلة التليدة
لكل إنسان ،ليكتشف أن أدعياء الفكر هم الذين أقاموا الحجاب بينه وبين فطرته.
)(1الظلل .3/206
)(2الظلل .7/57
43
()1
باسمها فهو السعيد من عاش يحملها ويهتف
.3البرار الهالكون
تحليل الحداث ،وتفسير التاريخ ،وتسمية المقدمات الخفية المؤدية على النتائج المنظورة ،كل
ذلك إنما يتبع العقيدة التي يحملها الشخص المحلل المفسر ،والميزان الذي يزن به المور والظواهر
الجتماعية والسياسية والقتصادية.
ومن هنا اختلفت التفاسير والجتهادات اختلفًا بينا واضحًا وصار المؤمن ينظر أشياء من
العلقات بين النتائج وبين بعض الحداث والحوال نظرًا واضحًا كأنها أمام عينيه ،ويلمسها بيده
ويفركها فتزول قشورها التي تحجبها ،بينما ل يراهما الكافر والجاهلي أو الفاسق الذي طبع على قلبه
وتغلف بأغلفة الشهوات والغفلت.
ومن أهم الظواهر التاريخية التي يختلف في تفسيرها وتحليلها ظاهرة الضطراب الجتماعي
والتراجع والخراب المدني من بعد التقدم العلمي والعمراني والفني ،واستمرار التقهقر التدريجي ،حتى
ربما يختم بدمار كامل فجائي بقوة غير عادية.
فالكفار والفساق يدورون في حلقة مفرغة من التعليلت لهذه الظاهرة كلها أوهام ،أما المسلم
فله قول فصل واحد في تفسير هذه الظاهرة مستمد من كثير من آيات القرآن وأحاديث الرسول
-صلى ال عليه وسلم ،-وأوجزه الفاروق عمر بن الخطاب –رضي ال عنه -بجملة واحدة جامعة
حين سئل:
(أتوشك القرى أن تخرب وهي عامرة؟ ،قال :إذا عل فُجّارُها على َأبْرارها) (.)2
يعلو الفاجر ،فيولي أمثاله المور .ول ينفك كل فاجر أن يكون أسير شهواته ،فيطبع قلبه،
ويعيش في غفلة عن ارتياد ما فيه منافع قومه ،ثم يكون أسير مصالحه ،فيظلم ويشتط ويتعسف،
فتهدر بالتالي طاقات كثيرة وتتوارى الكفايات ،تطلب لنفسها الستر .ستر عرضها من العتداء،
وبدنها من العذاب ،ويعود ل يتصدى لمور المة إل كل جاهل أناني ،فيعم الضطراب الجتماعي،
ثم من بعده الخراب القتصادي والمدني العلمي.
وال سبحانه شديد ال َغ ْيرَة على دينه ،وعلى أعراض العباد ،فيمهل المة حين يعلو الفاجر،
ويحب أن تبادر جماعة من عباده البرار لصلح الحال ومنازعة الفجار والتطويح بهم ،لترجع
المور إلى نصابها ويعود العمران ،فإن بادرت فرقة أمر ملئكته بنصرهم وفتح عليه ينابيع فضله
وبركته وتوفيقه ،وإل فإنه يمهل أخرى ،من بعد أخرى ،حتى إذا تمادى الفاجر في فجوره ،وحتى إذا
تمادى البرار في خوفهم وجبنهم وسكوتهم وقعودهم عن النهي عن المنكر :اشتد غضب ال ،فإذا
ضبُه الفُجّار بما فجروا وظلموا ،والبرار بما سكتوا وتقاعسوا ورضوا ال ِذلّة.
غ َ
غضب :عم وشمل َ
وقد دلت اليات والحاديث على ذلك ،كما في تعقيبات شيخ السلم وإمام الدعاة تقي الدين
أحمد ابن تيمية الحرّاني على قوله تعالى( :واتقوا فتنة ل تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).
لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ،وكل القراءتين حق فإن الذي يتعدى حدود ال هو الظالم،
وتارك النكار عليه قد يجعل غير ظالم لكونه لم يشاركه ،وقد يجعل ظالمًا باعتبار ما ترك من
النكار الواجب ،وعلى هذا قوله:
جيْنا الذين َي ْنهَون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما
( َفَلمّا نَسُوا ما ُذكّروا به أنْ َ
كانوا يَفْسُقون) ،فأنجى ال الناهين .وأما أولئك الكارهون للذنب ،الذين قالوا( :لِمَ َتعِظونَ قَومًا ال
ُمهْل ُكهُم أو ُمعَ ّذبُهمْ عذابًا شديدًا) فالكثرون على أنهم نَجوا لنهم كانوا كارهين ،فأنكروا بحسب
قدرتهم.
45
والمقصود هنا أنه يصح النفي والثبات باعتبارين ،كما أن قوله( :ل تصيبن الذين ظلموا منكم
خاصة) ،أي ل تختص بالمعتدين بل يتناول من رأى المنكر فلم يغيره .ومن قرأ( :لتصيبن الذين
ظلموا منكم خاصة) أدخل في ذلك من ذلك من ترك النكار مع قدرته عليه .وقد يراد أنهم يعذبون
في الدنيا ،ويبعثون على نياتهم ،كالجيش الذين يغزون البيت ،فيخسف بهم كلهم ،ويحشر المكره على
نيته) (.)1
سيّد –رحمه ال -هنا ،في معرض كلمه عن اليات التي استشهد بها ابن تيمية ،إن
ويلحظ َ
ال سبحانه ذكر نتيجة الذين ينهون عن السوء ،وهي النجاة ،ونتيجة الذين ظلموا ،وهي إصابة العذاب
البئيس لهم ،أما الذين أنكروا بقلوبهم فقط ولم ينهوا عن المنكر فإن ال سبحانه لم يبين لنا نتيجتهم ولم
يقص علينا خبرهم ،بل أهمل ذكرهم والهمال نوع جزاء لمثل هذه الطائفة.
والحقيقة أن أكثر من تكلم في هذه اليات ذكر أن هؤلء الذين سكتوا نالهم العذاب بسكوتهم،
وشملهم العقاب ،وللقرطبي في تفسير تصريح واضح بذلك.
ووصف بعض الفاضل هذا العقاب بأنه "قانون العقاب الجماعي في سنة ال الكونية" وهو
(قانون رهيب مخيف يدفع كل ذي علم وفقه ،وكل ذي حكم وسلطان ،إلى المسارعة والمبادرة فورًا
لتغيير المنكر ،دفعا للعذاب عن الكل) (.)2
(وهذا اللزوم أشد بالنسبة للحكام ،لن بأيديهم السلطة والمر والنهي ،وإن ال ليزع بالسلطان
ما يزع بالقرآن ،فإذا أصلحوا الحوال حسب أحكام الشرع وأزالوا المنكر ،وأقاموا العدل ،وقضوا
على أسباب المعصيات :أثابهم ال تعالى حسن ثواب الدنيا ،وحسن ثواب الخرة ،ومكن لهم في
الرض .وإن هم تقاعسوا عن ذلك :انطبق عليهم حكم ال وجرت عليهم سنته ،وخسروا الدنيا
والخرة ،نعوذ بال من الخذلن) (.)3
وصاحب القلب الحي يحس بفطرته اليمانية أنّ الذي يعيشه ذراري المسلمين اليوم من نكسات
وهزائم وتراجعات إنما هو مقدمة ونذير بين يدي ما هو أشد وأنكى من عذاب ،والمة السلمية
اليوم ل يصدق عليها اسمها كل الصدق ،فإن النحراف قد أصابها( ،ويكفي المة انحرافًا أنها تركت
الجهاد في سبيل ال ،وأخلدت إلى الرض ،ورضيت بالحياة الدنيا من الخرة ،وأقبلت على الشهوات
ووعي هذه الحقيقة يلزم من علت همته أن يرفق بنفسه ،ويرحمها ،ويتجنب أن يمسه هذا
القانون العقابي الرهيب.
ليس له من طريق نجاة من هذا الحصار الذي يحاصره به هذا القانون الرهيب إل كوة
يستطيع أن يفلت منها :كوة المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،ومنازعة أهل المنكر ،وسلوك
سبيل الدعوة ،والهابة بالمة أن تسارع إلى الصلة وتحكيم شرع ال ،من قبل أن يجرفهم "قانون
التماثل" الذي هو من سنة ال العامة في الكون ،فيهلكوا ،ويصيبهم العذاب ،من بعد أن ارتكبوا مثل
العصيان الذي أهلك ال بسببه الغابرين ،فإن (النظير يأخذ حكم نظيره وإن ما يجري على الشيء
يجري على مثيله ويستحيل أن يفترق المتساويان من الحكم ،كما يستحيل أن يتساوى المختلفان في
الحكم.
وهذا القانون يسري حكمه على الفراد والمم على حد سواء ،وفي أحوال الدنيا والخرة.
وعلى هذا دل القرآن الكريم ،فمن ذلك:
.1قوله تعالى مبينا ما جرى لليهود من بني النضير من نكال في الدنيا بسبب
كفرهم ونقضهم العهد وكيدهم للرسول –صلى ال عليه وسلم -وللمؤمنين:
(هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لوّل الحشر ،ما
ظننتم أن يخرجوا ،وظنّوا أنهم مانعتهم حصونهم من ال فأتاهم ال من حيث
لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرّعب ،يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين
فاعتبروا يا أولي البصار) ،فقوله تعالى( :فاعتبروا يا أولي البصار)
صريح الدللة على قانون التماثل ،إذ أن من معناها :تأملوا يا أصحاب
العقول السليمة بما وقع لهم ،واحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم إذا فعلتم
.2قال تعالى( :ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبيّنات
وما كانوا ليؤمنوا ،كذلك نجزي القوم المجرمين) .فقول ال تعالى( :كذلك
نجزي القوم المجرمين) دليل على أن ما جرى للمجرمين السالفين يجري
على المجرمين اللحقين ،فالنظير يأخذ حكم نظيره ،وإن سنة ال واحدة
تجري على جميع المجرمين ،وال المستعان.
.5قال تعالى( :أفلم يسيروا في الرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر
ال عليهم وللكافرين أمثالها) ،دليل واضح أن الدّمار الذي حل بالكافرين السابقين
سيحلّ بالكافرين اللحقين ،لنهم متساوون في وصف الكفر والعناد والتكذيب
فيتساويان في العاقبة.
فالقرآن شاهد على صحة قانون التماثل بشقيه ،أي التساوي في الحكم والعاقبة بين التماثلين،
والتفريق بين المختلفين.
فإذا فهم المسلمون مدلول هذه اليات القرآنية التي ذكرناها للتدليل على صحة قانون التماثل
وأمثالها من اليات الخرى ،والتي فيها ذم للقوام السابقة ،كاليهود وغيرهم ،لتلبسهم بالفعال القبيحة
والوصاف الذميمة :عرفوا أن الذم كان لهذه المعاني وأن الذم يلحقهم ل محالة إذا فعلوا فعلهم ،وأن
48
العاقبة السيئة تصيبهم كما أصابتهم فل يغرهم مجرد انتسابهم للسلم من دون عمل وانصباغ
بمقتضاه(.)1
وقد جعل إقبال –رحمه ال -هذا القانون من قواعد الهدي السلمي ،وبيّن في المحاضرة
الخامسة من المحاضرات التي ألقاها بمدينة مدارس الهندية:
(إن المم والجماعات مأخوذة بأعمالها في هذه الحياة ،ولهذا يكثر القرآن من قصص الماضين
ويأمر بالنظر في تجارب المم ،غابرها وحاضرها) (.)2
إن هذه القوانين الرهيبة المفزعة ل يفهمها أكثر الناس ،وليس لهم استعداد للتصديق بها ،إنما
يفهمها الدعاة إلى ال فحسب ،ول بد لهم من مسارعة إلى القيام بواجب النهي عن المنكر ،ليأمنوا من
فزع يومئذ.
إنها رهبة تفزع المسلم حقا ،تقذفها تلك التهديدات التي خاطب ال تعالى بها من يصمت
ويتخارس ويدع عن المنكر.
ويظل الخرس قلقا أبدا ،محروما من الطمأنينة والسّكينة اليمانية ،فإنها حكر خالص
لصحاب اللسان الناطق بالحق ،الذين يبشرون الناس بالجنة ،وبسماحة السلم وعدله ،وينذرونهم
عذاب جهنم وقانون التماثل في العقاب الرباني ،فيرثون النبي –صلى ال عليه وسلم -في ذلك ،كما
وصفه ال تعالى ،حين قال أنه أرسله بشيرًا ونذيرًا .أو بالصطلح الخر :الذين يدعون إلى ال ،أو
باصطلح بعض الفقهاء :الذين يحتسبون ،أي يقومون بمهمة الحسبة ،أي احتساب الجر عند ال في
أداء النصيحة والمر والنهي.
وقد تعرض ابن تيمية –رحمه ال -لتعريف الدعوة ،فقال( :الدعوة إلى ال :هي الدعوة إلى
اليمان به ،وبما جاءت به رسله ،بتصديقهم فيما أخبروا به ،وطاعتهم فيما أمروا) (.)1
وكلمة (الدّعوة) هذه هي مصطلح إسلمي ،وهناك علقة وثيقة بين مدلول اللفظ في الصل
اللغوي ،وبين استعمال اللفظ كمصطلح إسلمي صرف ،ليس لبقية المعتقدات ناقة فيه ول جمل.
وأول ما ننظر إلى كون اللفظة فعل ،وهو " د ع و" على زنة "فعَل" وفي العربية ،إذا سبق
حرف العلة "الواو" حرف مفتوح قلب الواو ألفا ،فتصبح "دعا".
ونجد أن هذا اللفظ ل يحمل إل معنى واحدًا ،وهو :أن تميل الشيء إليك بصوت وكلم يكون
منك .انظر معجم مقاييس اللغة .2/279
ومشتقات هذا الفعل لم تخرج في مدلولتها عن هذا المعنى أبدًا ،فالمصدر منه مثلً هو :دعاء،
والصل :دعاو ،لنه –كما هو معروف -من دعوت ،إل أن الواو لما جاءت بعد اللف قلبت همزة.
وقد يأخذ المصدر أشكال أخرى من البنية .يقول الجوهري" :يقال :كنا في دعوة فلن ومدعاة ،وهو
في الصل مصدر ،يريدون :الدعوة إلى ،"...ويقول صاحب المحيط" :دعا دعاء ودعوى" ،أي
المالة والترغيب.
فمن مجموع ما تقدم نفهم أن الصلة وثيقة بين مدلول الفعل دعا في اللغة ،وبين مدلوله فيما
اصطلح عليه القرآن الكريم ،فقوله تعالى( :ادع إلى سبيل ربك) يدل على المالة والترغيب.
والذي يقوم بأمر الدعوة ويحمل ع ْبئَها ليبلغها إلى الناس هو الذي يطلق عليه السلم" :الداعي"
أو "الداعية" ،والداعي اسم فاعل من الفعل دعا يدعو ،أما الداعية فهو بناء اسم الفاعل أيضا مع تاء
تلحق في آخره لتدل على المبالغة والتكثير ،وإذا أردنا الجمع قلنا "دعاة" والجمع السالم "داعون"
و"داعيات")(.)1
(والرسول –صلى ال عليه وسلم -قام بهذه الدعوة ،فإنه أمر الخلق بكل ما أمر ال به ،ونهاهم
عن كل ما نهى ال عنه .أمر بكل معروف ،ونهى عن كل منكر) (.)2
(والواقع أن الدعوة إلى ال هي وظيفة رسل ال جميعًا ،ومن أجلها بعثهم ال تعالى إلى الناس،
فكلهم بل استثناء دعوا أقوامهم ومن أرسلوا إليهم إلى اليمان بال ،وإفراده بالعبادة ،على النحو ،الذي
شرعه لهم .قال تعالى عن نوح –عليه السلم( :-لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه ،فقال يا قوم اعبدوا ال ما
لكم من إله غيره).
)(1من مقال للشاعر الستاذ رشيد العظمي في مجلة التربية السلمية 5/71مع بعض حذف.
)(2مجموع فتاوى ابن تيمية .15/161
51
وهكذا جميع رسل ال دعوا إلى ال ،إلى عبادته وحده والتبرؤ من عادة سواه .قال تعالى( :لقد
بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت) ،فرسل ال هم الدعاة إلى ال ،وقد
اختارهم ال لحمل دعوته وتبليغها إلى الناس) (.)1
(وكل ما أحبه ال ورسوله من واجب ومستحب ،ومن باطن وظاهر ،فمن الدعوة إلى ال:
المر به .وكل ما أبغضه ال ورسوله ،من باطن وظاهر ،فمن الدعوة إلى ال :النهي عنه .ل تتم
الدعوة إلى ال إل بالدعوة إلى أن يفعل ما أحبه ال ،ويترك ما أبغضه ال ،سواء كان من القوال أو
العمال الباطنة أو الظاهرة) (.)2
ووردت في القرآن آيات كثيرة توجب الدعوة إلى ال ،منها ما تخاطب النبي –صلى ال عليه
وسلم ،-فتدخل أمته في الخطاب تبعا له ،ومنها ما خاطبت المة مباشرة.
فمن اليات التي تخاطب النبي –صلى ال عليه وسلم -قوله تعالى( :وادع إلى ربك إنّك لعلى
هدى مستقيم) .وقوله تعالى( :وادع على ربك ول تكونن من المشركين).
(وهذه اليات يدخل فيها المسلمون جميعا ،لن الصل في خطاب ال لرسوله –صلى ال عليه
وسلم -دخول أمته فيه إل ما استثنى ،وليس من هذا المستثنى أمر ال –تبارك وتعالى -له بالدعوة
إليه ،ومعنى ذلك أن ال تعالى أكرم هذه المة السلمية وشرفها أن أشركها مع رسوله الكريم في
وظيفته الدعوة إليه) (.)3
وأما اليات التي تخاطب المة وتوجب عليها أن تأمر وتنهى فكثيرة ،ل تدع عذرًا لمتقاعد
متخوف ،كقوله تعالى( :والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ،يأمرون بالمعروف ،وينهون عن
المنكر).
وقد سرد الغزالي –رحمه ال -هذه اليات ،وعقب عليها تعقيبات قيمة .قال:
(قال تعالى( :ليسوا سواء ،من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات ال آناء الليل وهم يسجدون،
يؤمنون بال واليوم الخر ،ويأمرون بالمعروف و َي ْنهَون عن المنكر ،ويسارعون في الخيرات،
وأولئك من الصالحين).
فلم يشهد لهم بالصلح بمجرد اليمان بال واليوم الخر حتى أضاف إليه المر بالمعروف
والنهي عن المنكر) (.)2
(وقال تعالىُ( :لعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ،ذلك بما
صوْا وكانوا يعتدون ،كانوا ل يتنا َهوْن عن ُمنُكر فعلون ،لبئس ما كانوا يفعلون).
ع َ
َ
وقال –عز وجل( :-كنتم خير أمّة أخرجت للناس ،تأمرون بالمعروف و َت ْن َهوْن عن المنكر).
خيْر أمة
وهذا يدل على فضيلة المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،إذ بين أنهم كانوا به َ
أخرجت للناس.
وقال تعالى( :فلما نسوا ما ذكّروا به أنجينا الذين َينْهوْن عن السّوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب
بئيس بما كانوا يفسُقون).
فبين أنهم استفادوا النجاة بالنهي عن السوء ،ويدل ذلك على الوجوب أيضًا.
وقال تعالى( :الذين إن مكّناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة ،وأمروا بالمعروف
و َن َهوْا عن المنكر).
وقال تعالى ( :وتعاونوا على البر والتقوى ،ول تعاونوا على الثم والعدوان) .وهو أمر جزم،
ومعنى التعاون :الحث عليه وتسهيل طرق الخير ،وسد سبل الشر والعدوان بحسب المكان.
)(4تفسير القرطبي 4/47نقل عن أصول الدعوة.
)(2إحياء علوم الدين .2/307
53
وقال تعالى( :لول ينهاهم الربّانيون والحبار عن قولهم الثم وأكلهم السّحت لبئس ما كانوا
يصنعون).
وقال تعالى( :فلول كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّةٍ ينهون عن الفساد في الرض).
وقال تعالى( :يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء ل ولو على أنفسكم أو الوالدين
والقربين).
وقال تعالى( :ل خير في كثير من نجواهم إل من أمر بصدقة أو معروف أو إصلح بين
الناس ،ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة ال فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا).
والصلح نهي عن البغي وإعادة إلى الطاعة ،فإن لم يفع فقد أمر ال بقتاله فقال:
وإذن ،فإن الحريص ،على إيمانه ،الطالب للفردوس وعلّيين ،يحرص أشد الحرص على أن
ينطق بالحق ،معطيا راحته ووقته وماله ،بل روحه ودمه ،ثمنًا لما يطلب ،فإن الدعوة إلى ال واجبة،
ل يعذر منها أحد ،إل من كان مستضعفًا من عوام الناس ،البسطاء السذج الذين ل يحسنون النطق
وتدبير المور.
وكما أوجب ال على نبيه الكريم –صلى ال عليه وسلم -أن يقوم فينذر ويدعو إلى ال ،فكذلك
(الدعوة إلى ال واجبة على من اتبعه ،وهم أمته يدعون إلى ال ،كما دعا إلى ال).
وكذلك يتضمن أمرهم بما أمر به ،ونهيهم عما ينهى عنه ،وإخبارهم بما أخبر به ،إذ الدعوة
تتضمن المر ،وذلك يتناول المر بكل معروف ،والنهي عن كل منكر) (.)2
(فمجموع أمته تقوم مقامه في الدعوة إلى ال ،ولهذا كان إجماعهم حجة قاطعة ،فأمته ل
تجتمع على ضللة ،وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى ال وإلى رسوله.
وكل واحد من المة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره ،فما قام
به غيره :سقط عنه ،وما عجز :لم يطالب به.
وأما ما لم يقم به غيره وهو قادر عليه فعليه أن يقوم به ،ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما ل
يجب على ذاك .وقد تقسطت الدعوة على المة بحسب ذلك تارة وبحسب غيره أخرى ،فقد يدعو هذا
إلى اعتقاد الواجب ،وهذا إلى عمل ظاهر واجب ،وهذا إلى عمل باطن واجب ،فتنوع الدعوة يكون
في الوجوب تارة ،وفي الوقوع أخرى.
وقد تبين بهذا أن الدعوة إلى ال تجب على كل مسلم ،لكنها فرض على الكفاية ،وإنما يجب
على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره ،وهذا شأن المر بالمعروف ،والنهي
عن المنكر ،وتبليغ ما جاء به الرسول ،والجهاد في سبيل ال ،وتعليم اليمان والقرآن.
وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ،فإن الداعي طالب مستدع
مقتض لما دعا إليه ،وذلك هو المر به ،إذ المر هو طلب الفعل المأمور به ،واستدعاء له ودعاء
إليه ،فالدعاء إلى ال :الدعاء إلى سبيله ،فهو أمر بسبيله ،وسبيله تصديقه فيما أخبر ،وطاعته فيما
أمر) (.)2
ويتوهم الكثيرون أنهم قد أذن لهم بالقعود حين قرر الفقهاء أن الدعوة فرض على الكفاية،
ويختارون أنفسهم في الطائفة المتخارسة ،اغترارًا بأن الدعوة إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين،
(فالدعوة إلى الخير –وأعلها :الدعوة إلى ال -واجبة على كل مسلم بقدر استطاعته ،لن هذه
الدعوة من صفات المؤمنين ،ولن الحديث الشريف أمر كل مسلم ومسلمة بإزالة المنكر حسب
استطاعته ،فإذا حصل المقصود بفرد أو أفراد :لم يطالب الخرون بإعادة المنكر لزالته ،ول
يؤاخذون لنهم لم يزيلوه .والشأن في المسلم المبادرة على المر بالمعروف والنهي عن المنكر دون
انتظار إلى غيره ،فقد ل يقوم به الغير فيقع في الثم .والمسلم يدعو إلى اله باعتباره مسلم مؤمنا بال
ورسوله ،كما قال تعالى (قل هذه سبيلي أدعو إلى ال على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان ال وما
أنا من المشركين) .فل بد للمسلم أن يدعو إلى ال ،ولكن لو قدر أنه لم يدع شخصا معينا إلى ال أو
لم يدع في وقت ،وقام بالدعوة مسلم آخر ،فإن الداعي يؤجر دون الول ،ولكن لو ترك المسلم الدعوة
إلى ال تركا دائما مستمرًا متعمدًا فإنه ل ينضوي تحت مفهوم قوله تعالى( :قل هذه سبيلي أدعو إلى
ال على بصيرة أنا ومن اتبعني) ،لن أتباع الرسول –صلى ال عليه وسلم -هم الذين يدعون إلى
ال.
هذا ومن معاني الفرض الكفائي أنه متوجه إلى المسلمين جميعًا بأن يعملوا لتحقيق هذا
الفرض ،وعلى القادر فعلً أن يقوم بهذا الفرض مباشرة فيكون معنى الية (ولتكن منكم أمّة يدعون
إلى الخير ويأمرون بالمعروف و َي ْن َهوْن عن المنْكر) :أن يقوم المسلمون بإعداد هذه "المة" ،أي
الجماعة المتصدية للدعوة إلى ال ،وأن يعاونوهم بكل الوسائل ليتحقق المقصود من قيامهم وهو إقامة
دين ال ونشر دعوته ،فإن لم يفعل المسلمون ذلك أثم الجميع ،المتأهل للدعوة وغيره.
56
ويقال أيضا :إن الدعوة إلى ال حتى لو قلنا أنها تجب على البعض دون البعض الخر باعتبار
أنها من الفروض الكفائية ،فإن الشرط للخروج من عهدة الفرض الكفائي حصول الكفاية بمن يقوم به،
ولما كانت الكفاية غير حاصلة ،فيجب أن يقوم بهذا الواجب كل مسلم حسب قدرته) (.)1
وتعرض لمن ل فقه له ها هنا شبهات وأوهام يظن معها عدم وجوب الدعوة إلى ال.
وأمر هذه الشبهات كأمر أي بدعة ،إنما تستند على نص مجمل يمكن صرفه وتأويله إلى
بعض المعاني الخاصة التي يمكن أن يتحملها النص ،ولكن القواعد العامة للشريعة تأبى هذا المعنى
وتدل على خلفه ،أو تنقضه نصوص أخرى توجب تفسيرًا آخر للنص الول ،وتكشف المعنى
المرجوح فيه.
والغالب في أمر البدع أن النصوص التي يستند لها أصحابها في ترويجها هي نصوص
واضحة لذي الفهم السليم ،ولكن الهوى يحمل على التمحل والتكلف في صرفها عن معناها الظاهر،
والهوى مسلك نفسي يظهر في صور كثيرة ،وتسببه دوافع كثيرة مختلفة ،وهو في هذا الموطن،
موطن اعتقاد أو ادعاء عدم وجوب الدعوة على جميع المسلمين ،إنما يسببه في الغالب :الخوف
والجبن والحرص على الراحة والسى على تفويت بعض المنافع الدنيوية التي قد تفوت الداعية بسبب
أمره ونهيه.
فمن هذه الشبهات :الفهم الخاطئ لقول العلماء :إن التكليف بالدعوة مختص بالعلماء ،إذ أن
(العلم) شرط ذكره الفقهاء من جملة شروط المر الناهي ،كقول الرازي:
(إن هذا التكليف مختص بالعلماء ،لن الدعوة إلى الخير :بالعلم بالخير وبالمعروف والمنكر،
فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء ل على الجهال ،والعلماء بعض المة) (.)2
ومثل هذا المعنى عند القرطبي والجصّاص( .)3فاشتبه المر على من اشتبه عليه من ها هنا.
(ول شك أن الدعوة إلى الخير ،وأعلها :الدعوة إلى ال ،مشروط لها العلم ،ولكن العلم ليس
شيئًا واحدًا ل يتجزّأ ول يتبعض ،وإنما هو بطبيعته يتجزأ ويتبعض ،فمن علم مسألة وجهل أخرى
فهو عالم بالولى جاهل بالثانية ،ومعنى ذلك أنه يعد من جملة العلماء بالمسألة الولى ،وبالتالي يتوفر
فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل ،ول خلف بين الفقهاء أن من جهل شيئًا أو جهل
حكمه أنه ل يدعو إليه ،لن العلم بصحة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة .وعلى هذا فكل
مسلم يدعو إلى ال بالقدر الذي يعلمه كما سنبينه فيما بعد ،ويكون هذا المعنى هو المقصود من قولهم
أن الدعوة تجب على العلماء ل على غيرهم ،أي على من يعلم المسألة وحكمها التي يدعو إليها،
سواء كان من عامة المسلمين أو ممن نال حظًا كبيرًا من العلم .وبهذا يظهر فساد قول من قال إن
المقصود بالعلماء هم الذين نالوا حظًا كبيرًا من العلم دون سواهم ،وقد يسمونهم برجال الدين ،لن
هذه التسمية تصدق على كل مسلم ،فهو من رجال السلم ،وليست مقصورة على فئة منهم) (.)1
ومن الشبهات أيضا ،الفهم الخاطئ للية الكريمة( :ل يَضرّكم من ضل إذا اهتديتم) ،فيحجم
الذي ل فقه له ممن يسمعها عن المر والنهي ،ويتودد إلى الناس.
وهذا الحجام اعتبره ابن القيم من أعظم مكايد الشيطان ،فيلقي الشيطان في َروْعِ البعض
(ترك المر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس وحسن الخلق معهم والعمل
سكُمْ) (.)2
بقوله تعالى :عليكم أنْفُ َ
ويحسن في هذا الموضع أن ننقل مقالة مهمة للمام ابن تيمية في رد هذه الشبهة ،أجاد فيها
وأحسن ،وأغنى وكفى.
وكذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا في تأويلها( :إذا رأيت شحا مطاعًا ،وهوى متبعًا،
وإعجاب كل ذي رأي برأيه ،فعليك بخويصة نفسك) .وهذا يفسره حديث أبي سعيد في مسلم( :من
رأى منكم منكرًا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اليمان).
فإذا قوي أهل الفجور حتى ل يبقى لهم إصغاء إلى البر ،بل يؤذون الناهي ،لغلبة الشح
والهوى والعجب :سقط التغيير باللسان في هذه الحال ،وبقي بالقلب.
و"الشح" هو شدة الحرص التي توجب البخل والظلم ،وهو منع الخير وكراهته .و"الهوى
المتبع" في إرادة الشر ومحبته ،و"العجاب بالرأي" في العقل والعلم .فذكر فساد القوى الثلث التي
هي العلم والحب والبغض ،كما في الحديث الخر( :ثلثٌ ُمهْلكاتٌ :شُحّ مطاع ،وهو ُم ّتبَعٌ ،وإعجابُ
المرء بنفسه) .وبإزائها الثلث المنجيات" :خشية ال في السر والعلنية ،والقصد في الفقر والغنى،
وكلمة الحق في الغضب والرضى" ،وهي التي سألها في الحديث الخر( :اللهم إني أسألك خشيتك في
السر والعلنية ،وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى ،وأسألك القصد في الفقر والغنى".
فخشية ال بإزاء إتباع الهوى ،فإن الخشية تمنع ذلك ،كما قال (وأما من خاف مقام ربه ونهى
النفس عن الهوى) ،والقصد في الفقر والغنى بإزاء الشح المطاع ،وكلمة الحق في الغضب والرضى
بإزاء إعجاب المرء بنفسه .وما ذكره الصّديق ظاهر ،فإن ال قال( :عليك أنفسكم) ،أي :إلزموها
وأقبلوا عليها ،ومن مصالح النفس فعل ما أمرت به من المر والنهي .وقال (ل يضركم من ضل إذا
اهتديتم) .وإنّما يتم الهتداء إذا أطيع ال ،وأدي الواجب من المر والنهي وغيرهما ،ولكن في الية
فوائد عظيمة.
إحداها :أن ل يخاف المؤمن الكفر والمنافقين لنهم لن يضروه إذا كان مهتديا.
59
الثانية :أن ل يحزن عليهم ول يجزع عليهم ،فإن معاصيهم ل تضره إذا اهتدى ،والحزن على
ص ْبرُك إل بال ،ول تحزن عليهم
ما ل يضر عبث ،وهذان المعنيان مذكوران في قوله( :واصبر وما َ
ضيْقٍ مما يمكرون).
ول تكُ في َ
الثالثة :أن يركن إليهم ،ول يمدّ عيْنه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات ،كقوله( :ل
تمدّن عيْن ْيكَ إلى ما متّعنا به أزواجًا منهم ول تحزن عليهم) فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما
عندهم في آية ،ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية ،فإن النسان قد يتألم عليهم ومنهم :إما
راغبًا وإما راهبًا.
الرابعة :أن ل يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم ،أو نهيهم
أو هجرهم ،أو عقوبتهم ،بل يقال لمن اعتدى عليهم :عليك نفسك ل يضرّك من ضلّ إذا اهتديت ،كما
قال( :ول يجْرمنّكم شنآن قوم على أن ل تعدلوا ،اعدلوا هو أقْرب للتقوى) ،وقال( :وقاتلوا في سبيل
ال الذين يقاتلونكم ول تعتدوا ،إن ال ل يحب المعتدين) ،وقال( :فإن انتهوا فل عُدوان إل على
الظالمين) ،فإن كثيرًا من المرين الناهين قد يتعدى حدود ال إما بجهل وإما بظلم ،وهذا باب يجب
التثبت فيه ،وسواء في ذلك النكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين.
الخامسة :أن يقوم بالمر والنهي على الوجه المشروع ،من العلم والرفق ،والصبر ،وحسن
القصد ،وسلوك السبيل القصد ،فإن ذلك داخل في قوله( :عليكم أنفسكم) ،وفي قوله( :إذا اهتديتم).
فهذه خمسة أوجه تُستفاد من الية لمن هو مأمورٌ بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وفيها
المعنى الخر ،وهو :إقبال المرء على مصلحة نفسه علمًا وعملً ،وإعراضُهُ عمّا ل يعْنيه ،كما قال
صاحب الشريعة( :من حسن إسلم المرء َت ْركُهُ ما ل يعنيه) ،ول سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء
إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه ،ل سيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة.
وكذلك العمل ،فصاحبه إما معتد ظالم ،وإما سفيه عابث ،أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة
المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل ال ،ويكون من باب الظلم والعدوان.
فتأمّل الية في هذه المور من أنفع الشياء للمرء ،وأنت إذا تأملت ما يقع من الختلف بين
هذه المة ،علمائها وعبّادها وأمرائها ورؤسائها :وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل
أو بغير تأويل ،كما بغت الجهمية على المستنة مرات متعددة ،وكما بغت الناصبة على علي وأهل
شبّهة على المنزّهَةِ ،وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم وإما على
بيته ،وكما قد تبغي المُ َ
60
نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر ال به ،وهو السراف المذكور في قولهم( :ربنا اغفر لنا ذنوبنا
وإسرافنا في أمرنا).
وبإزاء هذا العدوان :تقصير آخرين فيما أمروا به من الحق ،أو فيما أمروا به من المر
بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه المور كلها ،فما أحسن ما قال بعض السلف :ما أمر ال بأمر
إل اعترض الشيطان فيه بأمرين ،ل يبالي بأيهما ظفر ،غلو أو تقصير.
فالمعين على الثم والعدوان بإزائه تارك العانة على ال ِب ّر والتقوى ،وفاعل المأمور به وزيادة
منهي عنه بإزائه تارك المنهي عنه وبعض المأمور به ،وال يهدينا الصراط المستقيم ،ول حول ول
قوة إل بال).
انتهى كلم شيخ السلم ابن تيمية –رحمه ال ،)1(-وهو كلم رفيع جليل ،ولذلك حرصنا على
إيراده بطوله ،وكنا قد اختططنا لنفسنا في مقدمة هذه المواعظ التواضع أمام أئمة الفقهاء والدعاة،
والحرص على كلم القدماء وتقديمه على كلم المعاصرين وعلى ما نستطيع إنشاءه.
ويجب النتباه إلى أن ما أجازه خلل كلمه من السكوت عند قوة أهل الفجور وأذاهم للناهي
إنما يقتصر على العامة من المستضعفين ،وأما الدعاة والقادة والعلماء فيأخذون بالعزيمة ،ويصدعون
حلَقات
بالحق وإن لحقهم الذى والعذاب والموت ،كما بينه ابن تيمية في كلم آخر له سنذكره في َ
قادمة ،وكما بينه غيره ،وكما كانت سيرة المام أحمد بن حنبل –رحمه ال -في أيام محنة خلق
القرآن .ولحظ بصورة خاصة أهمية قول ابن تيمية "وإنما يتم الهتداء إذا أطيع ال).
(وهكذا صحح الخليفة الول –رضوان ال عليه -ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه
من هذه الية الكريمة ،ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح ،لن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد
صارت أشق ،فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهد
ومشاقه ،ويريحهم من عنت الجهاد وبلئه!
وكل وال ،إن هذا الدين ل يقوم إل بجهد وجهاد ،ول يصلح إل بعمل وكفاح ،ول بد لهذا
الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه ،ولخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده،
ولتقرير ألوهية ال في الرض ،ولرج المغتصبين لسلطان ال عما اغتصبوه من هذا السلطان ،ولقام
شريعة ال في حياة الناس ،وإقامة الناس عليها.
وإذن فإن مفهوم هؤلء الذين يعذرون أنفسهم غير وارد ،وإنما عنت الية أن (عليكم أنفسكم
فزكّوها وطهّروها ،وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها ،ول عليكم أنْ يضِلّ غيركم إذا أنتم اهتديتم،
فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم ،وأنتم أمة متضامنة فيما بينها ،بعضكم أولياء بعض ،ول ولء لكم
ول ارتباط بسواكم.
إن هذه الية الواحدة تقرر مبادئ أساسية في طبيعة المة المسلمة ،وفي طبيعة علقاتها بالمم
الخرى.
إن المة المسلمة هي حزب ال ،ومن عداها من المم فهم حزب الشيطان ،ومن ثم ل يقوم
بينها وبين المم الخرى ولء ول تضامن ،لنه ل اشتراك في عقيدة ،ومن ثم ل اشتراك في هدف
أو وسيلة ،ول اشتراك في تبعة أو جزاء.
وعلى المة المسلمة أن تتضامن فيما بينها وأن تتناصح وتتواصى ،وأن تهتدي بهدى ال الذي
جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن المم غيرها ...ثم ل يضيرها بعد ذلك شيئا أن يضل الناس
حولها ما دامت هي قائمة على الهدى.
ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى المة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى،
والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها .فإذا هي أقامت نظامها في الرض بقي عليها أن تدعو
الناس كافة ،وأن تحاول هدايتهم ،وبقي عليها أن تباشر ال ِقوَامَةَ على الناس كافة لتقيم العدل بينهم،
وِلتَحُولَ بينهم وبين الضلل والجاهلية التي منها أُخرجوا.
لمّة مسئولة عن نفسها أمام ال ل يضيرها من ضل إذا اهتدت ،ل يعني أنها غير
إنّ كون ا ُ
محاسبة على التقصير في المر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أول ،ثم في الرض جميعًا.
وأول المعروف السلم ل وتحكيم شريعته ،وأول المنكر الجاهلية والعتداء على سلطان ال
)(1الظلل .7/61/59
62
وشريعته .وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت ،والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان ال وحكمه ...
والمة المسلمة َقوّامةٌ على نفسها أول ،وعلى البشرية كلها أخيرًا.
وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الية كما فهم بعضهم قديما –وكما يمكن أن يفهم
بعضهم حديثً -أن المؤمن الفرد غير مكلف بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر – إذا اهتدى هو
بذاته – ول أن المة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة ال في الرض – إذا هي اهتدت بذاتها –
وضل الناس من حولها.
إن هذه الية ل تسقط عن الفرد ول عن المة التبعة في كفاح الشر ،ومقاومة الضلل
ومحاربة الطغيان – وأطغى العتداء على ألوهية ال واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير
شريعته ،وهو المنكر الذي ل ينفع الفرد ول ينفع المة أن تهتدي وهذا المنكر قائم) (.)1
ما نقلناه سابقا عن ابن تيمية ،وابن القيّم ،والغزالي ،وبعض المعاصرين ،في وجوب الدعوة
إلى ال ،والمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،معتمدين على طائفة من اليات والحاديث ،إنما هي
نقول تحمل معها من الوضوح ما كان كافيا لرد أوهام المتخارسين الذين ظنّوا أن بعض العبارات
الفقهية المجملة تعفيهم من هذا الوجوب.
ومع كثرة صيحات الدعاة في هذه السنين وإهابتهم بالناس ،وبالمصلين خصوصا ،أن يعملوا،
ويعاونوا الدعاة المرين النهاة ،فإن الكثرين لزال الحزن على واقع المسلمين يستهلكهم يوما بعد
يوم ،ولم يعرفوا طريق العمل ،أو عرفوه ومنعهم الخوف من تحمل التضحيات عن العمل ،أو منعهم
الحرص على المال والمصالح الدنيوية ،فانعزلوا في مساجدهم وبيوتهم ،يبكون السلم ،ويتركون
الجيال وجماهير الشباب الساذج لمن يربيها من دعاة اللحاد والعلمانية والشيوعية والوجودية ،ولمن
يجرها إلى الفساد والحياة الشهوانية والزنا والخمر والسراف في اللهو.
إن هؤلء المصلين ،وأهل الغيرة والحزن على مصير المسلمين ،يقرأون كتب الفقه التي ننقل
عنها ،وكتب الزهد والرقائق ،ولكن كأن خور عزائمهم ل يوقع أبصارهم على ما فيها من صيحات
المخلصين على مر الجيال والقرون ،من لدن عصر الصحابة إلى العصور المتأخرة ،وحثهم على
العمل للسلم ،والتبشير به ،ودعوة الخلق ،وتنبيه الجموع الغافلة ،وترك العزلة والتواري ،والتصدي
للجهاد والبذل.
إنه حزن قاتل ،وتعبد مرجوح ،وعزلة مضيعة ،وبدعة هادمة ،وأن تجلل كل ذلك بالخلص
والنية الصالحة.
وأول فوج ظهر من هؤلء الواهمين كان في عصر صدر السلم ،والصحابة –رضي ال
عنهم -لزالوا أحياء ،فتصدى لهم الصحابي الجليل عبد ال بن مسعود –رضي ال عنه ،-وعرف ما
في العزلة من مضادة للسلم المتحرك ،إسلم المر والنهي والجهاد والدعوة الذي رباه عليه النبي
64
–صلى ال عليه وسلم ،-فأوضح لهم بدعتهم ،ونهرهم واجتث أوهامهم من عروقها ،وعاد بهم إلى
الصواب.
يروي لنا التابعي الكوفي ،الفقيه النبيل عامر الشعبي ،أن رجال (خرجوا من الكوفة ،ونزلوا
قريبا يتعبدون ،فبلغ عبد ال بن مسعود ،فأتاهم ،ففرحوا بمجيئه إليهم ،فقال لهم:
فقال عبد ال :لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى
ترجعوا).
وأظن ،وال أعلم ،أن هؤلء أخذوا هذه البدعة عن النصارى ،إذ كانت أراضي الفرات حول
الكوفة كثيرة الديارات النصرانية ،وكانت قبيلة طي تسكن حول الكوفة آنذاك وقد فشت فيها
النصرانية قبل السلم ،كما يدل على ذلك كون رئيسها عدي بن حاتم الطائي –رضي ال عنه-
نصرانيا قبل إسلمه.
من يرد كيد الصهيونية والماسونية ،والدعاية الشيوعية اللحادية ،إذا بقي المصلون في
مساجدهم ل يضمون جهودهم إلى جهود دعاة السلم؟.
فلما مات ابن مسعود وأصحابه ،وذهب جيل المجاهدين من التابعين الذين رباهم الصحابة،
عاد البعض إلى التخلي عن الجهاد ،وإلى العُزلة ،مرة ثانية ،في النصف الثاني من القرن الثاني.
)(1كتاب الزهد لعبد ال بن المبارك .390
65
ابن المبارك يرث ابن مسعود.
كان –رحمه ال -مُحَدّثا ثقة ،وحديثه في الصحيحين والسنن والمسانيد يشهد بذلك ،وكان فوق
ذلك من الفقهاء والنبلء ،وله مال كثير ينفقه على أهل العلم في جميع عواصم السلم ،وله شعر
إيماني جيد.
ولم يكتف بذلك بل كان داعية مجاهدا ،يغزو كل سنة بلد الروم ،ويتخذ له من طرسوس
مقرا ،وهي جنوب تركيا الن ،حتى صار بهذه الصفات المجتمعة رأس المُحَدّثين في جيله ذاك.
تهز ابن المبارك هذه الكلمة التي نقلها في كتابه عن ابن مسعود –رضي ال عنه -فيتخذ منها
نبراسا ،ويقوم بدور ابن مسعود ثانية ،حتى نراه ينكر على رفيقه الزاهد العابد الثقة الفُضيل بن
عياض –رحمه ال( -ت 187هـ) اعتزاله ومجاورته في مكة .وتركه الجهاد.
كان الفُضيلُ ثقة ،وحديثه في الصحيحين يدل على ذلك ،وهو من أشهر العباد الزهاد في تاريخ
السلم ،وأجودهم كلما ،لكن ابن المبارك ل يرى كل ذلك مكافئا لترك الجهاد وقتال العدو ،فيخشن
له الكلم ،حتى يصفه بأنه عابد لعب بعبادته ،ويبعث له من طرسوس ،وبعد معركة من معاركه،
قبل أن ينفض غبار المعركة عنه ،أبياتًا رائعة جدًا تظل حجة لكل داعية من بعده.
فافتح قلبك ،وفك قيوده وإساره ،ليطير ويحلق عاليا مع أبيات ابن المبارك..
قال ابن المبارك هذا لمن انصرف إلى العبادة والمجاورة في الحرم المكي ،وكان الفضيل يلقب
بعابد الحرمين ،وله شهرة بكثرة البكاء ،ولذلك غمزة بذكر الدموع ،وكأنه كان مثل بعض المصلين،
يتطيبون بدهن الورد وغيره أتباعًا لسنة النبي –صلى ال عليه وسلم .-فغمزه بذكر العبير الواحد
السهل التناول ،في حين كان للنّبي –صلى ال عليه وسلم ،-ولورثته من العلماء المجاهدين عبير
غبار المعارك إضافة لعبير الورد والمسك.
فماذا نقول اليوم لمن ينصرف عن الجهاد والدعوة ،والمر والنهي ،ل إلى كثرة العبادة بل إلى
الراحة والترف وجمع الموال والحرص على إرضاء زوجته؟
وهل لنا أن نقول لمتزهد اليوم إل كما قال ابن المبارك :يا عابدًا لو أبصرت دعاة السلم
يصاولون دعاة الكفر والضلل الحزبي لعلمت أن بالعبادة تلعب؟
ولئن انحنت ظهور بعض المتعبدين اليوم من كثرة الصلة ،وجفت حلوقهم من مواصلة
الصوم ،فإن دعاة السلم قد انحنت ظهورهم بعد الفرائض والسنن من كثرة مجالس التداول في أمور
المسلمين ومصالحهم ،وجفت حلوقهم من كثرة السعي والحركة ،وبذلوا دماءهم ،واهتزت حبال
المشانق بأجسادهم.
وتتلحق من بعد ابن المبارك أجيال ،وإذا بالهمم تضعف مرة أخرى ،وإذا بالزهاد والعباد
يعتزلون في الرباطات ،ويتركون إرشاد الناس ،ويعافون الدعوة ،فيشيع الضطراب في المجتمع
المسلم مرة أخرى ،فإذا بالقرن السادس الهجري يلد لنا وارثًا صادقًا من وراث تلك القباس الولى
لبن مسعود وابن المبارك ،ينتفض ،ويأبى وعيه النسياق في تيار بدعة الترهيب والختفاء عن
الناس ،فيقف ينادي المة ،ويدلها على المراض التي تتهدّدها.
تكلم الشيخ عبد القادر كثيرًا ،وصاح بأهل العراق صيحات بليغة رفيعة المعنى والمبنى،
وينتشل لنا أحد تلمذته من تلك الصيحات كلمات يدونها سريعًا والمام يخطب خطبه السبوعية سنة
545هـ ،ويودعها كتابًا سماه (الفتح الرباني والفيض الرحماني) قد تجد فيه ما يجب رده ،لكنه
مملوء بصيحات الحق ،واللتفاتات القيمة ،والتشديد على وجوب الدعوة والمر والنهي.
فاسمع من صيحات الحق هذه قول عبد القادر الكيلن –رحمه ال -أن:
(المتزهد المبتدي في زهده يهرب من الخلق ،والزاهد الكامل في زهده ل يبالي منهم ،ول
يهرب منهم ،بل يطلبهم ،لنه يصير عارفًا ل –عز وجل ،-ومن عرف ال ل يهرب من شيء ،ول
يخاف من شيء سواه.
ولهذا قال بعضهم –رحمه ال -عليه :ل يضحك في وجه الفاسق على العارف.
68
خربوا صوامعكم واقربوا مني .قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل .ما وقعتم بشيء.
تقدموا)(.)1
وكذلك فهم العالم العامل ،وإن كلماته ليهتز لها القلب اهتزازًا.
خرب صومعتك أيها الهارب الذي ترزح تحت نير الفكار الرضية ،وآراء طواغيت القرن
العشرين.
وفي ذات الوقت كان داعية آخر في بغداد يحمل مثل هذا القلب الكبير أيضًا ،ويصيح بأهل
بغداد.
إنه أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي مؤلف (زاد المسير في علم التفسير) ،و(تلبيس إبليس)
وعشرات الكتب النافعة.
(الزهاد في مقام الخفافيش ،قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس ،وهي حالة حسنة إذا لم
تمنع من خير ،من جماعة وإتباع جنازة وعيادة مريض.
فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون ،وهذه مقامات النبياء –عليهم السلم.)2()-
والقعود في البيوت ،من بعد العتزال في المساجد ،أكثر بعدا عن صفة المسلم الكامل .ولذلك
كان للصحابة –رضي ال عنهم -إنكار شديد على من يتوارى في بيته ،ويأنس بالقرب من زوجه
وأولده ،ويترك المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،ويتخلى عن مكانه الذي يجب أن يحتله في
صف المحاربين للطواغيت.
وقد حفظ لنا الرواة عن الصحابي الجليل ال ُمبَشّر بالجنة طلحة بن عبيد ال ال ُقرَشيّ –رضي ال
عنه -أنه قال:
وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم ،وكذا في كل قرية.
وواجب على كل فقيه –فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية -أن يخرج إلى ما يجاور بلده من
أهل السواد ومن العرب والكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم) (.)1
وهذا ابن تيمية يفسر قوله تعالى( :يا أيها المدثر ،قم فأنذر) فيقول:
(فواجب على المة أن يبلغوا ما أُنزل إليه ،وينذروا كما َأنْذَر ،قال ال تعالى( :فلول نفر من
كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ،ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ،لعلهم يحذرون) .والجن لما
سمعوا القرآن( :وّلوْا إلى قومهم منذرين)) (.)2
وكما تتفاضل العمال في الميزان اليماني السلمي ،فإن العمل الصالح الواحد يتفاضل
تطبيقه أيضًا من شخص إلى شخص وظرف إلى ظرف ،ووقت إلى وقت ،بحيث يندب إليه أحد
المسلمين دون الخر ،وفي ظرف دون آخر ،ولكل مسلم عمل من أعمال الخير هو أفضل له من
العمال الخرى الفاضلة ،وذكر ابن القيّم -رحمه ال -أن (الشجاع الشديد الذي يهاب العدو
سطوته :وقوفه في الصف ساعة ،وجهاده أعداء ال ،أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع.
والعالم الذي قد عرف السنة ،والحلل والحرام ،وطرق الخير والشر :مخالطته للناس وتعليمهم
ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلة وقراءة القرآن والتسبيح) (.)3
فل يحتجن أحد بأحاديث فضل النوافل والتسبيح ليسوغ اعتزاله الناس ،ويترك مهمته
الرشادية التي يُلزمه إياها عمله الذي تعلمه ،فإن مباشرة الدعوة خير من مباشرة النوافل.
الداعية رحّالة.
وعلى داعية اليوم أن يكون رحالة سائحًا في محلت مدينته ،ومدن قطره ،يُبلّغ دعوة السلم.
انظر مثلً كيف كانت رسل رسول ال –صلى ال عليه وسلم -تسيح في البوادي تبلغ
العراب كلمة السلم وتبشر به ،ولم يكن ثمة انتظار ورودهم على المدينة .أل ترى أن العرابي
الذي سأل رسول ال –صلى ال عليه وسلم -عن أركان السلم ،فلما أخبره بها وقال( :ل أزيد
عليهن ول أنقص) كيف كان قد بدأ سؤاله بأن قال للنبي –صلى ال عليه وسلم:-
(يا محمد ،أتانا رسولك ،فزعم لنا أنّك تزعم أن ال أرسلك) ()1؟
أتاهم رسوله داعيًا ،وكذلك الناس تؤتى ،ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية.
ولو فصلت كلمة هذا العرابي لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله
النبي –صلى ال عليه وسلم -لقوم هذا ،وكيف فارق أهله وبيته وأولده ،وكيف اجتاز المفاوز
وصحراء من بعد صحراء ،وكيف تعرض للمخاطر والحر أو البرد ،ليبلغ دعوة السلم.
.6غَطة من جَهبَذ
إن من يريد المنزلة العليا القصوى من الجنة ،فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه
الحياة الدنيا.
واحدة بواحدة.
وما هذه المنزلة القصوى في الدنيا إل منزلة الدعوة إلى ال ،كما يقول الشيخ عبد القادر
الكيلني –رحمه ال -في كتابه الخر الذي سمّاه (فتوح الغيب).
كان هو داعية مصلحًا ،ولذلك تجد كل كتبه تركز على معنى الدعوة ووجوبها.
(وجعله جهبذًا وداعيًا للعباد ونذيرًا لهم وحجة فيهم ،هاديًا مهديًا).
ثم قال( :فهذه هي الغاية القصوى في بني آدم ،ل منزلة تفوق منزلته إل النبوة) (.)1
وكان الشيخ قد عد دونه في المنزلة آخر له (قلب بل لسان ،وهو مؤمن ستره ال –عزّ وجل-
عن خلقه ،وأسبل عليه كنفه ،وبصره بعيوب نفسه ،ونور قلبه).
فلن هذا المؤمن لم يملك اللسان ،نزلت مرتبته ،وتأخرت ،وفقد ما في ألقاب الول من الهيبة
والفخامة ،فالول( :جهبذ) ،و(داعية) ،و(حجة) ،وله ما في هذه الكلمات من إشعاع البهاء ،والثاني:
إن بونا شاسعًا ،وطفرة واسعة بين المنزلتين ،منزلة الدعوة ومنزلة اليمان المستور المنعزل،
وسبب البون هو اللسان الناطق بالحق ل غير.
من ملك هذا اللسان فقد بذّ وسبق قافلة السائرين إلى ال .كلهم يسير إلى ال ،ولكن أين من في
المقدمة ،ممن في المؤخرة؟
وكلهم يدخل إن شاء ال الجنة ،ولكن أين من يدخلها في الزمر الولى ،ممن يدخلها بعد أعوام
من النتظار في ساحة العرض؟ ولذلك جعل الكيلني –رحمه ال -فقه الداعية لواجبه في تغيير
الباطل وإظهار الحق منحة ربانية لمن يعلم ال صلح قلوبهم .وصاغ هذا المعنى بأحرف يسيرة،
لكنها ثمينة ،فقال:
(إذا صلح قلب العبد للحق –عزّ وجل ،-وتمكّن من قربه ،أُعطي المملكة والسلطنة في أقطار
الرض ،وسُلم إليه نشر الدعوة في الخلق ،والصبر على أذاهم .يُسلم إليه تغيير الباطل ،وإظهار
الحق) (.)1
وكذلك البلغة تكون حين تقتبس من مشكاة النبوة ،نسبًا وعلمًا ،فإنه كان –رحمه ال -في
الذروة من الشرف ،علويا صحيح النسب ،كما كان في الذروة من علم الحديث وفقه أقوال المام أحمد
بن حنبل –رحمه ال.-
إنه يقول :إن نشر الدعوة توفيق من ال ،يوفق له من يعلم صلح قلبه ،فهو تشريف ،وليس
بتكليف.
الباطل يجب أن (يغير) ،يغيره (الداعية) ،أي يحاربه ،ويزيله ،ويهيل عليه التراب يقبره.
وأما أن تتكلم معه باللغة الدبلوماسية ،فذلك لن يكون ولن يفيد ،إنما هو التغيير فقط ينص عليه
قانون الدعوة.
)(1الفتح الرباني للشيخ عبد القادر .144
74
نصل الماضي بالتي.
وإذن ،فإن السلم اليوم أحوج ما يكون إلى جماعة من الدعاة الذين يملكون هذه النظرية
التغييرية المفاصلة .دعاة يدركون جيدًا واجبهم في هداية الناس ،ويبصرون موقعهم في موكب الدعوة
السائر ،وأنهم حلقة تصل الماضي بالتي ،وينشدون:
نعم ،تعبوا –رحمهم ال ،-حتى أوصلوا عقيدة التوحيد لنا ،وربونا ،وهذبونا ،وانتشلونا من
مخاطر متلفة ،وعلينا أن نكون أوفياء لهم ،ننفذ عهدنا ،حين أخذوا علينا أن نعمل مثل الذي عملوا.
أما أن يختار الخلوة ،ويترك محاربة الفكار الرضية ،والمفاسد الخلقية ،فهو كما وصفه
مصطفى صادق الرافعي (يحسب أنه قد َفرّ من الرذائل إلى فضائله ،وماذا تكون العفة والمانة
والصدق والوفاء والبرّ والحسان وغيرها إذا كانت فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟
أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إل عشرة أحجار؟ وأيّم ال ،إن الخالي من مجاهدة
الرذائل جميعًا لهو الخالي من الفضائل جميعًا) (.)2
وأي فرق بين المعتزل في رأس جبل ،وبين من يعيش مع الناس أخرس صامتًا؟
إن مشكلة المسلمين اليوم ل يسببها نقص عددهم ،ومشكلة الدعوة السلمية اليوم ل تتمثل في
قلة عدد من بقي ثابتًا صامدًا على إسلمه حين كثر في المة ترك الصلة والبتداع وحمل أفكار
الكفر ،فإن كل قطر من أقطار السلم ل يزال فيه شباب خير كثير عددهم ،ولكن المشكلة في أنهم ل
(في البلد السلمية اليوم جيل مثقف ثقافة إسلمية عالية حريص على أن يعيد للسلم ما
فقده ،ل تأخذه في الحق لومة لئم ،ول عيب فيهم إل أنهم متأثرون بأسلفهم إلى حج كبير في بعض
التجاهات ،حيث يصرفون أكثر جهدهم في العبادات والمواعظ ،ولو أنهم صرفوا أكثر جهدهم في
تذكير المسلمين بشريعتهم المعطلة وقوانينهم المخالفة للشريعة وحكم السلم فيها لكان خيرًا لهم
وللسلم) (.)1
وشأن الداعية أن يترصد أخيار الرجال في المجتمع ،فيحتك بهم ،ويتعرف عليهم ،ويزورهم،
ويعلمهم طريق ضم الجهود السلمية وتنسيقها ،فيجدد بذلك سيرة المام الداعية المبجل أحمد بن
حنبل.
قالوا :كان المام أحمد (إذا بلغة عن شخص صلح ،أو زهد ،أو قيام بحق ،أو إتّباع للمر:
سأل عنه ،وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة ،وأحب أن يعرف أحواله) (.)2
ول يكون داعي ًة اليوم إل من يفتش عن الناس ،ويبحث عنهم ،ويسأل عن أخبارهم ويرحل
للقائهم ،ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم ،ومن انتظر مجيء الناس إليه في مسجده أو بيته فإن اليام
تبقيه وحيدًا ،ويتعلم فن التثاؤب.
وانظر من تطبيق المام أحمد لحرصه هذا مثالً يذكرونه في معرض التعريف بشيخ البخاري
والترمذي موسى بن حزام.
أل ترى أن المام أحمد لزمه أن يجلس معه المجالس مناقشًا له برفق وسكينة وحكمة
وموعظة حسنة حتى استطاع صرفه عن بدعة الرجاء التي توهمه أن العمل ليس شرطًا في اليمان،
وإنما هو تصديق القلب فقط ،ثم مجالس أخرى علّمه فيها السنن ،ثم مجالس أخرى بعث فيه همة
عالية استمر معها حتى موته بالدفاع عن السنة وقمع مخالفيها من أهل البدع والشهوات؟
إنه كذلك طريق الدعوة وسبيل خدمة السلم ،وكذلك كان سلفنا من دعاة السلم.
ل بد من اتصال بالناس.
ل بد لك من ترك زوجك وأولدك ومجالس الدنيا وهموم التجارة بضع ساعات في كل يوم،
تتوجه فيها إلى ال ،داعيًا أن يعين بك ضالً من ضحايا الطواغيت الحالية ،فتهديه ،أو يعين بك يائسًا
جامدًا ،يستهلكه الحزن على واقع المسلمين ،وتقيده همومه الدنيوية ،فتحركه وتهزه وتغطه غطا.
غَطّ جبريل –عليه السلم -نبينا محمدًا –صلى ال عليه وسلم -ثلثًا في غار حراء في أول
لحظات نبوته ،فضمه إلى صدره ضمّا شديدًا ،ثم قال له( :اقرأ باسم ربك الذي خلق).
ط النبي –صلى ال عليه وسلم -ابن عمه عبد ال بن عبّاس ،ضمه إلى صدره ،وقال:
وغَ ّ
(اللهم علمه القرآن).
وغَطّك الدعاةُ.
وعليك أن تَغطّ غيرك هذه الغطة الواجبة التي تضع حدّا فاصل بين عهد الرخاوة وعهد حمل
المانة بحزم وعزم ووفاء.
)(3تهذيب التهذيب لبن حجر .10/341
77
لقد أعان ال تعالى بأحمد آلف مثل موسى بن حزام هذا ،وبهم استطاع أن يرد فتنة وكيد
الجهمية والمعتزلة وينصر السنّة ،فكم يا ترى سيعين ال بك اليوم من ترد بهم كيد الشرق والغرب؟
لقد كان السلف –رضي ال عنهم -أفرح ما يكونون عند العمل للدعوة وهداية أحد على
أيديهم.
ثم يقول:
(إذا رأيت وجه مريد صادق قد أفلح على يدي :شبعت وارتويت ،واكتسيت ،وفرحت ،كيف
خرج مثله من تحت يدي؟) (.)1
هذا شبعهم وريّهم ،ل في تأليف الكتب فحسب ،والتي تكرر المعاني الواحدة.
السلم اليوم ل يحتاج مزيد بحوث في جزئيات الفقه بقدر ما يحتاج إلى دعاة يتكاتفون.
واسمع إلى طريف ما فهمه الفقيه المحدث العابد الوزير العباسي الصالح ابن هبيرة الدوري –
رحمه ال -من قوله تعالى( :وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) ،وقوله تعالى( :وجاء رجل من
أقصى المدينة يسعى) ،إذ يقول:
ويا له من استخراج بديع مع بساطته يجعل الداعية يتأمل ويقول :هل يتأتى للداعية اليوم أن
يستكثر ما توجبه الدعوة عليه من حركة يومية بعيدة بعد أن يعرف هذا الذي كان عليه سلفه من دعاة
الولى وصفتهم هذه التي خلدها القرآن في الجوب والتجول والذهاب إلى القاصي بغية بث الدعوة
والمر بالمعروف؟
(وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ،قال :يا قوم اتبعوا المرسلين).
(فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعدما رأى فيها من دلئل الحق والمنطق ما يتحدث عنه
في مقالته لقومه ،وحينما استشعر قلبه حقيقة اليمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها
سكوتًا ،ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلل من حوله والجحود والفجور ،ولكنه سعى بالحق
الذي استقر في ضميره وتحرك في شعوره ،سعى به إلى قومه وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون
ويهددون .وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق ،وفي كفهم عن
البغي ،وفي مقاومة اعتدائهم الثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين.
وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ول سلطان ،ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من
عشيرته ،ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه وتجئ به من أقصى المدينة إلى أقصاها) (.)2
.7جهاد الحجة.
وعي المسلم لوجوب الدعوة إلى ال ،وفقهه لهذه المسألة الحدية ،ووضوح رؤيته لهذا ال َم ْعلَمِ
البارز من معالم الطريق السلمي :كل ذلك يحدد نقطة البدء والنطلق في مسيرة الفرد المسلم في
سَلفِ
الحياة ،وفي خُطّة أي إصلح جماعي ،ومن ثم وجب اللحاح في بيان هذا الواجب ،وتطبيق ال ّ
الصالح له ،وأمثلة من تجدد سيرة السلف وكلمهم في ذلك في قرننا هذا.
(هو المؤمن أجاب ال في دعوته ،ودعا الناس إلى ما أجاب ال فيه من دعوته ،وعمل صالحًا
في إجابته.
وبمسارعته هذه إلى فهم كلم الحسن ،وباتحاد قوله مع قول الكيلني الذي ذكرناه قبل ،دلّل
على أن وحدة المفاهيم تابعة لوحدة المنهج في البحث.
فلن منهجهم هو جعل القرآن والحديث الصحيح مصدر الفهم ،وبناء الستعداد النفسي لقبول
جميع معاني القرآن والحديث التي يشير إليها العقل السليم والظاهر اللغوي :اتحدت أقوال هؤلء
الرهط الفاضل الذين ننقل عنهم ومفاهيمهم ،ابتداء بالصحابة ،ومن تبعهم بإحسان ،ومرورا بابن
الجوزي والشيخ عبد القادر وابن تيمية وابن القيّم ،وانتهاء ببعض أفاضل هذا العصر ،كالرّافعي
وإقبال وعبد الوهاب عزّام ،وبقادة الدعوة كالمام البنا ،والمودودي ،وعودة ،وسيد قطب .وسيظل
سير هذه الطائفة الظاهرة على الحق ،الخذة بالمعنى الظاهر ،إلى يوم القيامة ،بعكس منهج الطوائف
)(1مفتاح دار السعادة لبن القيم .1/153
80
الخرى التي حددتها ابتداء تأثرات فلسفية ،وميول ابتداعية ،وشهوات بدنية ونفسية ،وتخوفات ،وجبن
وحرص ،فما عادت تفتش إل عما يوافق الذي وقر في عقولها ونفوسها ،وتعرض عما يفضحها ،أو
تتمحل وتتكلف لصرفه عن معناه الظاهر.
وسطر واحد في القرآن فيه كفاية وغنى لصحاب المنهج الول الصحيح ،وذلك قوله تعالى:
ولذلك وصف رسول ال –صلى ال عليه وسلم -سورة العصر بأنها تعدل ثلث القرآن(.)1
فكلمتان فحسب ،لنهما بيّنتا وجوب الدعوة ،كانتا ربع ثلث القرآن.
فكل واحد في خسر( ،إل من كمل قوته العلمية باليمان بال ،وقوته العملية بالعمل بطاعته،
فهذا كماله في نفسه ،ثم كمل غيره بوصيته له بذلك ،وأمره إياه به ،و ِبمِلكِ ذلك كله ،وهو الصبر،
فكمل نفسه بالعلم النافع ،والعمل الصالح ،وكمَل غيره بتعليمه إياه ذلك ،ووصيته بالصبر عليه ،ولهذا
قال الشافعي –رحمه ال :-لو فكر الناس في سورة العصر لكفتهم) (.)2
فال سبحانه (لم يكتف منهم بمعرفة الحق والصبر عليه ،حتى يوصي بعضهم بعضًا ويرشده
إليه ،ويحثه عليه ،فإذا كان من عدا هؤلء فهو من الخاسرين) (.)3
أو بأحرف أُخرى يقولها الداعية الستاذ محمد محمود الصّواف أن:
(شرط النجاة من الخسران جعله ال –تبارك وتعالى -معلقًا بمعرفة الناس للحق ،وإذا عرفوه
ألزموا أنفسهم به ،ومكنوه من قلوبهم ،وعاشوا بالحق ،وللحق ،ول يعفون من المسؤولية ول ينجون
بأنفسهم إذا عرفوا الحق ولم يبشروا به ويدع النّاس إليه ويحملوهم حملً على التمسك بالحق وإتّباع
الحق.
)(1صحيح البخاري .6/233
)(2إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لبن القيم .1/33
)(3الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لبن القيم .73
81
فالدعوة إلى الحق والتبشير به :فرع اليمان بالحق ومعرفة الحق ،ول يتم الصل بدون هذا
الفرع ،الذي هو الدعوة إلى الحق والتبشير به بين النّاس ،ومن لم يأخذ نفسه بحمل النّاس على الحق
الصحيح ،بعد أن يعرفه ويتبعه ،فهو من الخاسرين ،لن أمر ال –تبارك وتعالى -صريح في هذه
اليةن وهو التواصي بالحق ،والتواصي يحمل معنى الدعوة إلى الحق بكل صراحة وقوة ،فإذا عرفت
الحق ،ورأيت أهل الباطل يزيغون عن الحق ،ولم تدعهم إلى إتّباع الحق ،وتوصهم بإتّباع طريق
الحق الذي هو الصراط المستقيم ،والنور المبين ،فل شك أنك من الخاسرين ،لنك لم تنفذ أمر ال،
وتتواص بالحق ولنك أخذت الحق لنفسك ولم تحمل عليه غيرك من الزائغين المنحرفين أو المخطئين
التائهين ،والمسلم ل يعيش لنفسه فقط ،بل يعيش لنفسه وللناس ،فإذا أصلح نفسه :وجب عليه اصلح
غيره ،والدعوة إلى الصلح تشمل النّاس جميعًا ،كل على حسب طاقته ،وبقدر نطاقه الذي يحيط به،
والنص في هذه الية صريح ،ل يقبل التأويل) (.)1
وبمقابل ذلك ،منح ال تعالى المتواصين بالحق ،من المرين بالمعروف والناهين عن المنكر،
الذين يقذفون بحجج ال وبيناته على آراء العقول الزائغة ،أجر وثواب المجاهدين والمهاجرين ،فعدّ
المر والنهي جهادا ،والثبات على الدعوة هجرة.
وقال ابن القيّم( :ول ريب أن المر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة ،فأما جهاد الحجة
فأُمر به في مكة بقوله( :فل تطع الكافرين وجاهدهم به) ،أي بالقرآن (جهادًا كبيرً).
وجاهدوهم بالقرآن ،يا ورثة وأتباع هذا النبي –صلى ال عليه وسلم.-
أي أن نقف لراء عقولهم القاصرة بالمرصاد ندمغها بحجج من هذا القرآن ،فإذا باطلهم هو
زاهق.
ثم الداعية بعد ذلك له أجر المهاجرين ،كما قرر المام ابن تيمية في تفسير قول تعالى:
(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) ،فقال:
(قالت طائفة من السلف :هذا يدخل فيه من آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة ،وهكذا قوله
تعالى( :والذين هاجروا من بعد ما فتنوا ،ثم جاهدوا وصبروا ،إنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم).
يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية ،ثم هجر السيئات وجاهد نفسه
وغيرها من العدو ،وجاهد المنافقين بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وغير ذلك ،وصبر على ما
أصابه من قول أو فعل ،وال –سبحانه وتعالى -أعلم) (.)1
وكما اخترنا اللحاح في بيان وجوب الدعوة إلى ال ،واعتبرناه المنطلق :اختار الشيخ عبد
القادر الكيلني –رحمه ال -اللحاح في بيان هذا الواجب ،وعاد يذكر أهل بغداد كل أُسبوع في
خطبته ،أو بالحرى عاد يذكر خيار أبناء الُمة الذين تجمعوا من أطراف الرض في عاصمة
السلم.
ويجع إتاحة ال –سبحانه -لعبده هذا المقام الشريف أكبر نعمة ،ويعد انشغاله به دليلً على
صحة تبعيته وخلفته للرسول –صلى ال عليه وسلم ،-فيقول:
(من صحّت تبعيته للرسول –صلى ال عليه وسلم -ألبسه درعه وخوذته ،و َقلّدهُ سيْفَهُ ،ونحله
خَلعِهِ ،واشتدّ فرحه به :كيف هو من أ ّمتِهِ؟
خلَعَ عليه من ِ
من أدبه وشمائله وأخلقه ،و َ
ويشكر ربه –عز وجل -على ذلك ،ثم يجعله نائبًا له في أمته ،ودليل وداعيا لهم إلى باب
الحق –عز وجل.-
كان هو الداعي والدليل ،ولما قبضه الحق –عزّ وجل -أقام له من أمته من يخلفه فيهم ،وهم
آحاد أفراد ،من كل ألف ألف واحد ،يدلون الخلق ،ويصبرون على أذاهم ،مع دوام النصح لهم.
يتبسمون في وجوه المنافقين والفسّاق ويحتالون عليهم بكل حيلة حتى يخلصوهم مما هم فيه،
ويحملوهم إلى باب ربهم –عز وجل.)2()-
ثم يدعوهم على إماتة الهوى والنفس والمّارة بالسّوس ،لتحصل حياة الدعوة.
ش َركَ له ،ردّك إلى الخلق لتنظر في مصالحهم وتردهم إلى بابه،
(موت ثم نشر ،ثم إذا شاء أنْ َ
يجيء لك الميل إلى الدنيا والخرة لتتناول أقسامك منها .تجيء لك القوة على مقاساة الخلق ،فتردهم
عن ضللهم) (.)3
ثم يوجز صفات الداعية وشروط التوثيق في صفة واحدة جامعة لصفة التجرد الكامل
والنغماس بكله في الدعوة ،حتى ينسى نفسه ،ويعود ل يرى إل من يدعوهم ،ول يتكلم إل بما يفيد
من يدعوهم .فعالمه ،وكونه الفسيح :ل يحوي تجارة ،ول شهوة ،ول منصبًا .ليس في هذا الكون إل
الذين يباشر دعوتهم .هم تجارته ،ولذته ،ومنصبه.
فهذه صفة من يريد أن يكون ضمن القاعدة الصلبة التي يُبنى عليها السلم الن.
ووال ،ل نجاح للدعوة ،ول وصول ،إن أعطيناها فضول الوقات ،ولم ننس أنفسنا وطعامنا.
إن جاهلية القرن العشرين زادت ظلم القرون الخيرة ظلمًا ،فل ترض العيش في الظلم،
بل:
يهدي النام إلى الهدى ويبين كن مشعل في جنح ليل حالك
واعمل على تحريك ما هو ساكن وانشط لدينك ل تكن متكاسل
أولى الورى بالنصح منك وأقمن وابدأ بأهلك إن دعوت فإنهم
()2
والمر من بعد العشيرة هيّن والُ يأمر بالعشيرة أول
خطوت خطوتك الُولى في بإصغائك لمن دعاك إلى أن تذر آراء الطواغيت الذين يشرعون
من دون ال.
ثم تمردت على خطط الترويض ،وأبقيت صفتك ،شبل حفيد أُسود ،ولم يجعلوك ظبيا جفول.
ثم نطقت ،ولم تسكت وتتخارس ،ودعوت إلى ال آمرًا بالمعروف ،ناهيا عن المنكر .وكنت
من الذين "يعملون الحق ويرحمون الخلق" كما يقول ابن تيمية(.)3
فاشتغل بدللة عباده عليه ،فهي حالت النبياء –عليهم الصلة والسلم.-
أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد ،لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم؟) (.)1
(هل كان شغل النبياء إل معاناة الخلق وحثهم على الخير ونهيهم عن الشر؟) (.)2
ول تزال أنت في استجابة من بعد استجابةَ ،و ِن ِعمّا الذي تفعل.
طوََ :تصِلْ.
وخطواتك المباركة هذه قد أوصلتك إلى منتصف الطريق ،فواصل الخَ ْ
خطواتك الُخرى في هجرتك إلى ال أن تتسع في نطقك بالحق ،وتقصد العامة ،فتكن لهم
إماما ،وقدوة ،وقائدًا ،ومرشدًا.
كانوا أئمة للعامة ،يتصدون لرشاد كل الناس ،فيتزايد حب القلوب لهم تدريجيًا ،ويرون فيهم
القدوة الصحيحة التي ل مطعن فيها ،فيتبعونهم ،ويمتثلون أمرهم.
هذا الزاهد المشهور بِشْر بن الحارث الحافي –رحمه ال ،-يعدد ثلث خصال امتاز بها المام
أحمد بن حنبل ،وفضل بها عليه ،وقصر هو عنها ،أحدها (أنه نُصبَ إماما للعامة) (.)3
ومثله المحدث الثقة الفقيه أبو إسحق الفزاري .قالوا :كان رجل عامة ،وهو الذي أدّب أهل
الثغور السلمية التي في أعالي بلد الشام والجزيرة تجاه الروم ،وعلّمهم سنن النبي –صلى ال عليه
وسلم ،-وكان يأمر وينهى ،وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه(.)2
وخالد بن عبد ال الواسطي ،أحد المحدثين الثقات من شيوخ البخاري ،وصفوه بأنه كان (رجل
عامة) (.)3
فحلل هذه التعريفات ،نجد أنهم كانوا دعاة ،يعلمون الناس ،لم يحملهم علمهم على حصر
أنفسهم بين الجدران بل كانوا ينزلون إلى الجموع ،ويقودونها في مواقفها السياسية ،كما قاد المام
أحمد جموع الخير في معارضة الجهمية والمعتزلة الذين أرادوا حرف عقيدة الُمة ببدعة خلق
القرآن ،ونازع الدولة كلها حين أرادت فرض البدعة بالقوة ،حتى نصره ال تعالى بالمتوكل ،إذ كان
صحيح العقيدة ،فبدل جهاز الدولة وطهره من المبتدعة ،وأخمد أمرهم َو َك َبتَهُ.
ولم يكونوا –رحمهم ال -بالذين ينسون العراب وأهل الرياف حين يقودون أهل المد ،بل
كانوا يلمسون أهمية وحدة عقائد ومواقف هؤلء وهؤلء ،فيرصدون لهم شيئًا من جهودهم وأوقاتهم.
هذا المام الزّهري زعيم المُحَدّثين ،ربى أجيال من أهل الحواضر السلمية ،وجعلهم أئمة في
الحديث ،وما كان ذلك يكفيه ،بل (كان ينزل بالعراب يعلمهم) ،يحفظ من بقي صحيح العقيدة،
ويتلطف مع من نجح أهل البدع في حرفه ،فيرجعه إلى التوحيد.
وجدد آخرون سيرة الزهري ،منهم الفقيه الواعظ أحمد الغزالي ،أخو المام صاحب الحياء،
فإنه كان (يدخل القرى والضياع ،ويعظ لهل البوادي ،تقربًا إلى ال) (.)4
وكان هؤلء –رحمهم ال -أصحاب فقه عظيم ،عرفوا المقاصد العامة للشريعة ،وجواز –بل
وجوب -كل ما يحقق هذه المقاصد وإن لم تنص عليه ،وعرفوا أن ما ل يتم الواجب إل به فهو
واجب ،فانخلعوا عن الفردية حيث اقتضى المر هذا النخلع وتكاتفوا ،وعملوا عملً جماعيًا،
وأوضحوا في عدد من الفتاوى الواضحة الصريحة شرعية العمل الجماعي في المر بالمعروف
والنهي عن المنكر ،مهما تسمى هذا العمل الجماعي بأسماء مختلفة ،كالجماعة ،والحزب ،والكتلة،
وغير ذلك .وإذا كان العمل جماعيًا فل بد أن يكون له قائد ورئيس ،سواء سمي زعيما ،أو مرشدًا،
أو رأس الحزب.
وقد تستغرب أشد الستغراب حين تعلم أن تسويغ إنشاء الجماعات العاملة لغايات شرعية،
وتسويغ مثل هذه الصطلحات التي تظنها حديثة ،قد ورد في كلم الفقهاء والئمة القدماء ،مما
يعطينا صورة واضحة عما تحوي بطون الكتب الفقهية من فقه حركي إسلمي مجهول لدينا ينتظر
من ينتزعه منها وينشره للدعاة.
اسمع قول ابن تيمية في شرعية العمل الجماعي ،مما ل تكاد تصدق أنه من كلم القدماء.
حمْلُ
(وأما لفظ "الزعيم" فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين ،قال تعالى( :ولمن جاء به ِ
بعير وأنا به زعيم) ،فمن تكلف بأمر طائفة فإنه يقال :هو زعيم .فإن كان قد تكفل بخير :كان محمودًا
على ذلك ،وإن كان شرّا :كان مذمومًا على ذلك.
وأمّا "رأس الحزب" فإنه رأس الطائفة التي تتحزب ،أي تصير حزبًا ،فإن كانوا مجتمعين على
ما أمر ال به ورسوله من غير زيادة ول نقصان فهم مؤمنون ،لهم ما لهم ،وعليهم ما عليهم .وإن
كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا ،مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل ،والعراض عمن
لم يدخل في حزبهم ،سواء كان على الحق والباطل :فهذا من التفرق الذي ذمه ال تعالى وسوله ،فإن
ال ورسوله أمرًا بالجماعة والئتلف ،ونهيا عن التفرقة والختلف ،وأمرًا بالتعاون على البر
والتقوى ،ونهيًا عن التعاون على الثم والعدوان) (.)1
وإنه لنص رائع يحفز الدعاة لجمع أمثاله وجعلها محور فقه الدعوة ،فتحوز الدعوة رسوخًا
جديدًا ،بما تملكه هذه النصوص من هيبة قائليها ،وبما تؤدي إليه من القيام بدور القول الفص حين
يسارع مستعجل واهم ،أو حائر نائم ،إلى تبديع من يعمل من دعاة السلم العمل الجماعي مع
أصحاب له من الدعاة آخرين.
وأنّى يكون في العمل الجماعي نوع بدعة وهو الصل الموروث عن النبياء –عليهم السلم-؟
قال تعالى( :قل هذه سبيلي ،أدعو إلى ال على بصيرة ،أنا ومن اتبعيني).
قال ابن القيّم( :قال ال َفرّاء وجماعة :ومن اتبعني معطوف على الضمير في أدعو .يعني :ومن
اتبعني يدعو إلى ال كما أدعو .وهذا قول الكلبي .قال :حق على كل من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا
إليه) (.)1
قال ابن القيّم( :فالرّبيون هنا :الجماعات ،بإجماع المفسرين ،قيل :إنه من الرّبة ،بكسر الراء،
وهي الجماعة .قال الجوهري :الرّبي واحد ال ّربّيين ،وهم اللوف من الناس) (.)2
وورثة هذا النبي ،وأولئك النبياء ،لهم أُسوة حسنة بهم ،ل يتفردون ،بل يسيرون ألوفًا.
وهذا المعنى فقهه الصحابة والسلف الصالح ووعوهُ وعيا كامل ،فلم يكتفوا بالدعوة الفردية،
وإنّما أسسوا الجماعات للدعوة إلى ال وعملوا عمل جماعيًا.
فانظر قول الزّهري :في رجال معه .فهو قد كوّن جماعة آمرة ،ودلل على أن المر
بالمعروف ل بد له من عصبة ،ومتى كانت عصبة كانت دعوة.
ثم ما فتئ أفاضل العلماء يتخذون لهم جماعة وأصحابًا للقيام مجتمعين بفريضة المر
بالمعروف والنهي عن المنكر ،كما كان أمر عبد الرحيم بن محمد العلثي البغدادي الفقيه المحدث
الزاهد ،قالوا( :كان شيْخًا جليل ،عالما ،عارفا ،من أجلّ شيوخ الحديث ،ملتزما بالسنة ،زاهدًا ذا
فضل وورع ،وأدب وعلم.
وقال البرزالي عنه :مُحَدّث بغداد في وقته ،موصوف بإتّباعه السنّة ونصرها .وال ّذبّ عنها.
قال الذهبي :وله أتباع وأصحاب يقومون في المر بالمعروف والنهي عن المنكر) (.)2
نعم ،شرط واحد يحدد رأس هذه الجماعة به قبول النضمام لجماعته ،وهو أن يتحرى الصالح
من الرجال ،المؤمن الكل للحلل ،ليكون في إعانته توفيق من ال ،وأثر ،وإل فإن كان من المخلطين
غير المتحرين لشروط الشرع في معاملته وسلوكه ومعيشته رفع ال عن عمله البركة.
(قال ابن عقيل :رأينا في زماننا أبا بكر القفالي ،في أيام القائم ،إذا نهض لنكار منكر استتبع
معه مشايخ ل يأكلون على من صنعة أيديهم ،كأبي بكر الخباز ،شيخ صالح أضر –أي صار
ضريرا -من إطلعه في التنور ،وتبعه جماعة ما فيهم من يأخذ صدقة ول يدنس بقبول عطاء –أي
صوّم النهارُ ،قوّام الليل ،أرباب بكاء ،فإذا تبعه مخلط رده ،وقال :متى لقينا
هدية من رجال الحكمُ -
الجيش بمخلط :انهزم الجيش) (.)3
وإن مثل هذه النصوص لهي اكتشافات ثمينة يجب أن تأخذ دورها في الفقه الحركي لتبين
أُصوله التي استمد منها.
وقد تطرق الغزالي فبحث أمر جواز تكوين جماعة للمر بالمعروف من ناحية موضوعية،
ودلل على عدم اشتراط الشريعة إذن السلطة في ذلك ،وأن ذلك الوفق للقياس.
(قال قائلون :ل يستقل آحاد الرعية بذلك ،لنه يؤدي إلى تحريك الفتن ،وهيجان الفساد،
وخراب البلد.
وقال آخرون :ل يحتاج إلى الذن –وهو القيس -لنه إذا جاز للحاد المر بالمعروف،
وأوائل درجاته تجر إلى ثوان ،ثم إلى ثوالث ،وقد ينتهي ل محالة التضارب ،والتضارب يدعو إلى
التعاون ،فل ينبغي إل أن نُبالي بلوازم المر بالمعروف ،ومنتهاه :تجنيد الجنود ف رضا ال ودفع
معاصيه.
ونحن نجوز للحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفّار ،قمعًا لهل
الكفر ،فكذلك قمع أهل الفساد جائز ،لن الكافر ل بأس بقتله ،والمسلم إن قتل فهو شهيد ،فكذلك
الفاسق المناضل عن فسقه ل بأس بقتله ،والمحتسب الحق إن قتل مظلومًا فهو شهيد.
وعلى الجملة ،فانتهاء المر إلى هذا من النوادر في الحسبة ،فل يغير به قانون القياس ،بل
يقال :كل من قدر على دفع منكر فله أن يدفع ذلك بيده ،وبسلحه ،وبنفسه ،وبأعوانه) (.)1
وللغزالي كلم آخر في تفنيد اشتراط إذن السلطان في المر بالمعروف ،من المفيد أن نقرنه
بكلمه هذا في تجويز الجتماع على المر والنهي.
(قد شرط قوم هذا الشرط ،ولم يثبتوا للحاد من الرعية الحسبة ،وهذا الشتراط فاسد ،فإن
اليات والخبار التي أوردناها تدل على أن كل من رأى منكرًا فسكت عليه عصى ،إذ يجب نهيه
أينما رآه على العموم ،فالتخصيص بشرط التفويض من المام تَحكّم ل أصل له).
ثم قال:
(فإن قيل :في المر بالمعروف إثبات سلطنة وولية واحتكام على المحكوم عليه ،ولذلك لم
يثبت للكافر على المسلم مع كونه حقّا ،فينبغي أن ل يثبت لحاد الرعية إل بتفويض من الوالي
وصاحب المر .فنقول :أما الكافر فممنوع لما فيه من السلطنة وعز الحتكام ،والكافر ذليل ،فل
يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم ،وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة،
وما فيه بمن عز السلطنة والحتكام ل يحوج إلى تفويض ،كعز التعليم والتعريف ،إذ ل خلف في أن
تعريف التحريم واليجاب لمن هو جاهل ومقْدم على المنكر بجهله ل يحتاج إلى إذن الوالي ،وفيه عز
الرشاد وعلى المعرف ذل التجهيل ،وذلك يكفي فيه مجرد الدين ،وكذلك النهي).
ثم خلص إلى أن (استمرار عادات السلف على الحسبة على ولة قاطع بإجماعهم على
الستغناء عن التفويض ،بل كل من أمر بمعروف ،فإن كان الوالي راضيا به فذاك ،وإن كان ساخطا
له فسخطه له منكر يجب النكار عليه ،فكيف يحتاج إلى إذنه في النكار عليه؟ ويدل على ذلك عادة
السلف في النكار على الئمة ،كما روي أن مروان بن الحكم خطب قبل صلة العيد ،فقال له رجل:
إنّما الخطبة بعد الصلة .فقال له مروان :اترك ذلك يا فلن فقال أبو سعيد ،أي الخُدْري :أما هذا فقد
قضى ما عليه .قال لنا رسول ال –صلى ال عليه وسلم :-من رأى منكم منكرًا فلينكره بيده ،فإن لم
يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اليمان.
فلقد كانوا فهموا من هذه العموميات دخول السلطين تحتها ،فكيف يحتاج إذنهم؟) (.)1
93
.9فقه العمل الجماعي في صياغته الحديثة.
نكبتان كبيرتان حدثتا في تاريخ السلم ،أتعبتا عموم المسلمين ،ولمدى أجيال ،بخلف نكبات
صغيرة محدودة الثر كثيرة.
النكبة الولى :أحدثها هولكو ،وبلغت ذروتها باحتلله بغداد عاصمة السلم.
والناظر لهذه النكبة يجد أنها ما كانت بدعة عما يصيب المم في فترات ضعفها ،وتوقعها
الكثير من العلماء ،وحذّروا المة وأولي المر من وقوعها قبل سنين طويلة من السنة التي وقعت
فيها ،وهي سنة 656هـ ،لِما رأوه من تردي أحوال العامة في عقيدتها وأخلقها ،وعزوف جمهور
العلماء عن المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وإلتهائهم بالجدل والمناظرات الجافة الموغرة
للصدور( .)1وقد حاول بعض متأخري الخلفاء إصلح الحوال بنظام ال ُف ُتوّة الذي حرف به سيرة كثير
من العامة إلى سيرة شبه عسكرية ،إل أن اصلحه كان مخروقا ،لنه لم يعتمد العقيدة أساسًا تربويا
لنظامه ،فتحول النظام إلى نوع من اللهو.
وهذا هو الذي يفسر لنا ذلك الذهول الذي أصاب معظم المة بعد تلك النكبة ،وحيّرتهم ،ولول
أن أتاحَ ال للمة المام ابن تيمية ،بما أعاده من الثقة ،وأوضحه من فقه العمل ،لكان الذهول أطول،
إل أن بعض أصحاب القلوب الحية من العلماء كانوا أسرع إلى فهم كلم ابن تيمية ،فعاونوه ،أو
نسجوا على منواله ،ورتقوا بعض الخرق الكبير.
ومع ذلك ،فيجب أن ل نبالغ في تصوير أثر الستدراك الذي قام به ابن تيمية وصحبه ،فإنه
كان محدود الثر ،واستمرت أحوال العامة في التردي ،واستمرت تجزئة العالم السلمي إلى دويلت
صغيرة متنازعة ضعيفة.
وبعد قرون من نكبة بغداد ،استطاعت الدولة العثمانية في عصرها الوسط ،وبمجيء بعض
السلطين القوياء الذين تمكنوا من توسيع رقعتها ،أن ترث هيبة العباسيين ،وتعيد إلى الذهان معنى
س ْمتِها الول الذي عهده المسلمون في أواسط الخلفة العباسية ،إن لم نقل :سمتها
الخلفة القرب إلى َ
القدم من ذلك ،واستمرت الدولة العثمانية حتى نهاية حكم السلطان عبد الحميد –رحمه ال -جديرة
بأن يوصف حكمها بأنه حكم إسلمي ،على عيوب كثيرة ،ونقص في تطبيق الحكام الشرعية في
)(1أشار الغزالي في مواضع من الحياء إلى مثل هذه الظواهر ،وكتب فيها الندوي خلل كتابه (رجال الفكر والدعوة في السلم) في طبعته الثانية ،ولكرم العمري
بحث في أخلق العامة آنذاك نشره في مجلة كلية الدراسات السلمية ببغداد.
94
آخر عهدها ،وعلى ظلم من بعض الولة الذين أساء السلطين اختيارهم أحيانا .ول يقول بخلف
قولنا هذا إل متأثر بتزييف حقائق التاريخ الحديث ،ذلك التزييف الذي قامت به المجامع الستشراقية
والدوائر التبشيرية ،واستخدمت فيه عملءها من الكتاب أو ضحايا من الذين تقمصهم نوع من
التطرف القومي العربي.
وأما النكبة الثانية :فاحتلل الجيوش النكليزية والفرنسية لبلد السلم في الحرب العالمية
الولى ،وقضاؤهم على آخر صورة يمكن أن تسمى بأنها إسلمية كما قلنا ممثلة في الحكم العثماني،
أو بعبارة أدق :قضاؤهم على أي احتمال قريب لتقويم انحراف الحكم العثماني عن السلم ،حين
حرف حزب التحاد والترقي بانقلبه على عبد الحميد ،قوانين شرعية كثيرة ،وحرف منهاج التربية،
وأشاع الطورانية ،أي القومية التركية ،ورضي السذج من أركان ذلك الحزب تدخل اليادي اليهودية
والماسونية في الحزب وسياسة الدولة.
وكما جعل هولكو احتلل بغداد هدفا معنويا مهما أراد به كسر معنويات عموم المة
السلمية ،فكذلك جعل الحلفاء ،أو النكليز بالتحديد ،أو تشرشل نفسه ،احتلل بغداد والقدس هدفا
معنويا ،مع التركيز على احتلل بغداد بالذات لكسر معنويات المة ،وإعادة احتلل هولكو لها إلى
الذهان ،كما كشفت عن ذلك البرقيات المتبادلة بين قائد الحملة النكليزية لحتلل العراق خلل
الحرب العالمية الولى ،وبين وزارة المستعمرات (.)1
وبرزوح البلد السلمية تحت حكم الجيوش الستعمارية ،أو تحت حكم المماليك الذين
نصبوهم ووجهوهم من وراء ستار :عادت الجاهلية إلى أرض البلد السلمية ،وضربت أطنابها،
وتمكنت من قيادة المؤسسات السياسية ،والجهزة التربوية ،والبيوت التجارية والمالية ،واستطاعت
بذلك من دخول القلوب بالترغيب والترهيب.
ولذلك أجبرتهم ظروف الحرب العالمية على التريث واللتهاء بصد الخطر العام الذي دهم
المة ،ثم مات البطل الداغستاني فيما نحسبه شهادة بشظايا طلقة مدفع خلل معركة حصار الكوت.
تلك المعركة الظافرة الرائعة التي انتهت بهزيمة النكليز أمام بعض بقايا جيش المة السلمية،
واستسلم أربعة عشر ألف جندي إنكليزي وأخذهم أسرى ،وكان الداغستاني –رحمه ال -قائد
المتطوعين غير النظاميين في تلك المعركة وما سبقها ،ودفن جوار قبر المام أبي حنيفة ببغداد،
ودفنت معه تلك الهمة الكبيرة العالية النبيلة.
تجدد الذهول.
ولكن انتهاء الحرب العالمية ،وتسلط الجاهلية ،تركا عموم المسلمين في ذهول شديد وحيرة.
كان الوضع الجديد بحاجة إلى رجل يبدأ فيعيد من أفراد المسلمين أمة إسلمية يقودها إلى حكم
السلم ثانية ،بأسلوب يناسب الواقع.
لكن الرياح الجاهلية كانت تصفر صفيرًا شديدًا في ديار السلم الخالية وما هناك من يصرخ
بالمسلمين مستنهضًا ،فيعلو هتافه على صفيرها.
نعم ،كانت هناك أصوات مخلصة كثيرة في بقاع السلم ،لكنها ما كانت تعرف طريق العمل
الصحيح ،ول الصفاء السلمي الكامل ،وتتوهم الطريق مقالت تكتب أو مؤتمرات تجتمع فتقرر
عودة السلم على الورق فحسب ،ولذلك بدت صيحات على ورق الصحف أو المنابر أو في
)(1تجد الشارة إلى خبر هذا الحزب في كتاب (البغداديون أخبارهم ومجالسهم) لبراهيم الدروبي.
96
المؤتمرات كمجموعة نغمات نشاز أمام نغمة الوج الهدارة لنشيد السلم الجديد الذي كان المسلمون
بشوق إلى سماعه.
كان السلم بحاجة إلى من يعرف طريق العودة الصحيح ،ويفقه أصول العمل الجماعي عند
السلف ،فيدق صدره ،ويعلي صوته ليسمعه المسلمون ،ويقول :ها أنا ،فيلتفون حوله ،ويميزون
صيحته ،ونبرة تكبيره.
إدراك الذات.
"ها أنا" هذه عرف إقبال –رحمه ال -حاجة المة لها.
وهي في مثل فترة الذهول تلك ،التي كان يعيشها المسلمون ،تعنى إدراك الطريق الصحيح،
الذي يبدأ من تربية الفرد ،على معاني العقيدة السلمية الصافية ،ويتطور إلى تجمع له قيادة لها
خُطّة.
وقد صور إقبال إدراك المة لذاتها الحقيقية السلمية من بعد ذهولها كإدراك الطفل لذاتها من
بعد عجزه أيام طفولته الولى.
ولن هذه المة تولد من دعوة رجل واحد فقيه ذي همة ،كما قال ف ديوانه الذي خصصه
فقد تحددت صفة الخطوة الولى في طريق انتشال ()1
لبيان الذات" :تولد المة من قلب جليل "....
المة من الذهول وإرجاعها إلى السلمز
إنها الخطوة الولى :عنوانها :أن يبادر قلب جليل فيدق صدره أمام جماهير المسلمين،
ويقول :هاأنذا ،على صفاء عقائدي ،وتجرد سلوكي تلحظونه فتجمعوا حولي.
أو بأحرف إقبال في تصوير هذا البشير النذير حين يستفيق من الذهول:
هذا هو "المجدد" بالصطلح السلمي ،فالسلم ل يعرف (أن تكون السلطة بيد الجاهلية
ويقف السلم منها موقف التابع المتخلف ،ول كان يكفيه أن يكون هنا وهناك رجال متمسكون
بالسلم في حياتهم الفردية المحدودة ،وتشيع في الحياة الجماعية الواسعة أخلط شتى من الجاهلية
والسلم.
ولذلك كان –ول يزال -الدين السلمي في كل عصر في حاجة إلى رجال أقوياء يأتون
ويُسَدّدون خطى الزمان ويوجهون مسيره إلى السلم ،سواء أكان عملهم في ذلك محيطا شاملً أو
كان على بعض نواحي المر مقتصرًا ،وهؤلء هم الذين يدعون بالمجددين) (.)2
ولن طريقهم يقتضي البذل ،كان من شروطهم أن يكونوا أبطال من الشجعان ،إذ أن (الذين ل
يقوون على البذل في سبيل المقصد العلى ،ول يشجعون مقاومة الخطار والمشكلت ،والذين ل
يطلبون في هذه الدنيا إل الراحة والسهولة والرغد ،وهم ينسكبون لذلك في كل قالب ويطاوعون لكل
ضغط :ل تجد لهم فعال يذكر في التاريخ النساني ،وإنما تشكيل التاريخ يكون من شأن البطال
وحدهم ،وهم الذين قد غيروا أبدا مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم ،وبدلوا أفكار العالم) (.)3
وكان الستاذ المودودي يمهد آنذاك ببحوثه القيمة لمثل هذه المسيرة في الهند ،ثم بدأ التجميع
فعل سنة .1938
وتلقف بعض الميامين هذه الدعوة في بعض البلد العربية عن المام البنا ،فكان في كل مكان
رائد شجاع تجمعت حوله طليعة ،وبدأوا المسير المبارك في السودان ،وسوريا ،وفلسطين ،والعراق
والُردن ولبنان.
وبذلك رسم هؤلء القادة ،بريادة المام ،مع الطلئع المقدامة الذين سارعوا للعمل معهم:
الصورة العملية لصول فقه العمل الجماعي السلمي في العصر الحديث ،وأتاحوا لبلغة سيد قطب
–رحمه ال -أن تنطق فتصف الطريق الدائم لمسيرة الدعوات.
يدعونا أن نتذكر (كيف وقع هذا المر أول مرة! لقد وقف رجل واحد يواجه البشرية كلها
بمنهج ال ويقول لها –كما أُمر :-إنها في جاهلية ،وإن الهدى هدى ال.
ثم تحول التاريخ ..تحول حين استقرت هذه الحقيقة الهائلة في قلب ذلك الرجل الواحد .تحول
على النحو الذي يعرفه الصدقاء والعداء!
هذه الحقيقة التي استقرت في قلب ذلك الرجل الواحد ما تزال قائمة قيام السنن الكونية
الكبرى ..وهذه البشرية الضالة قائمة كذلك وقد عادت إلى جاهليتها!
توجد نقطة البدء ،نقطة استقرار هذه الحقيقة في قلب ..في عدة قلوب ..في قلوب العصبة
المؤمنة ..ثم تمضي القافلة في الطريق .في الطريق الطويل ..الشائك ..الغريب اليوم على البشرية
غرته يوم جاءها الهدى أول مرة –فيما عدا بعض الستثناءات -ثم تصل القافلة في نهاية الطريق
الطويل الشائك كما وصلت القافلة الولى.
99
لست أزعم أنها مسألة هينة ،ول أنها معركة قصيرة ...ولكنها مضمونة النتيجة ...كل شيء
يؤيدها ...كل شيء حقيقي ،وفطري ،في طبيعة الكون ،وفي طبيعة النسان ...ويعارضها ركام
كثير ،ويقف في طريقها واقع بشري ضخم ،ولكنه غثاء!
(إن نقطة البدء الن هي نقطة البدي في أول عهد الناس برسالة السلم ...أن يوجد في بقعة
من الرض ناس يدينون دين الحق ،فيشهدوا أن ل إله إل ال ،وأن محمدًا رسول ال ...ومن ثم
يدينون ل وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع ،ويطبقون هذا في واقع الحياة ...ثم يحاولون أن
ينطلقوا في الرض بهذا العلن العام لتحرير النسان) (.)2
(والثلثة يصبحون عشرة ،والعشرة يصبحون مئة ،والمئة يصبحون ألفا ،واللف يصبحون
اثني عشر ألفا) (.)3
فهذا هو أسلوب الطلئع في محاولة البعث السلمي لتحقيق المنهج السلمي ،فالمنهج (إنما
يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر ،تؤمن به إيمانًا كامل ،وتستقيم عليه –بقدر طاقتها -تجتهد لتحقيقه
في قلوب الخرين ،وفي حياتهم كذلك) (.)4
ول بد من (البعث السلمي مهما تكن المسافة شاسعة بين محاولة البعث ،وبين تسلّم القيادة،
فمحاولة البعث السلمي هي الخطوة الولى التي ل يمكن تخطيها) (.)5
وهذه الطلئع ،هي الطلئع الموفقة الفائزة التي سيندم من لم يلتحق بها منذ الن ،وسيتوجع
كما َتوَجّع الصحابيّ الضبابي –رضي ال عنه -حين لم يُسلم إل بعد فتح مكة ،وقد كان رسول ال –
صلى ال عليه وسلم -دعاه إلى السلم بعد بدر فقال له:
قال:ل
فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه السلم حين دعاه إليه رسول ال –صلى ال عليه وسلم)-
(.)1
وكم من أناس اليوم ل يعدو منطقهم منطق ذي الجوشن؟ يدعوه واقع المعركة السلمية إلى
أن يكونوا الوائل والمقدمة ،والنبلء ،والقادة ،ورأس النفيضة ،فيأبون إل أن يكونوا مؤخرة.
وكم من إصبع سيُعضّ ندما يوم يختار ال الطلئع السائرة لتمام نوره؟
ول تزال اليوم في العالم السلمي بلد كثيرة فيها عناصر من الفراد الدعاة جيدة ،وجمعيات
إسلمية متعددة ،وتجمعات لدراسة الحديث النبوي الشريف وكلم السلف ،وطرق صوفية وطلب
دراسات شرعية ،وأحزاب إسلمية انتخابية ل تعتمد طريق التربية ،ولكن ليس في أي من هذه
الحزاب والطرق والتجمعات والجمعيات والعناصر التصميم على سلوك طريق الدعوة التي تتجمع
على أساس طاعة لمير ،وتلح في التربية ،وتخطط لتغيير الواقع الذي يضغط عليها واستبدال حكم
إسلمي به ،فهذه الجماعات مدعوة ،أينما وجدت ،في شمال أفريقيا أو شرقها أو غربها ،أو في
جزيرة العرب ،أو في بلد الفغان وإيران والهند ،أو جنوب شرقي آسيا ،أو في بلد الصين
والطاجيك والزبك والتركمان والداغستان إلى أن يراجع أفرادها أنفسهم ،فيصححوا عقائدهم إن كان
فيها نوع بدع ،ويعلوا هممهم إن كان يعتريهم نوع خوف ،ويتخلوا عن النانية وحب التزعم إن كان
قد ولدهما فيهم طول العمل في تجمعات صغيرة ،ثم يبايعوا حرا يتميز بهم في حركة إسلمية
واضحة الهدف التغييري ،متينة التوجيه التربوي ،رصينة الصف التنظيمي.
فإذا بادر مقدام فقال :ها أنا ،فإن لفراد هذه الجماعات أسوة وقدوة في الحوار الشريف بين
إبراهيم وإسماعيل –عليهما السلم -حين أمر ال إبراهيم ببناء الكعبة.
قال :وتعينني؟
ل تقعد في بيتك.
فإن استغربت أسلو الطلئع ،وأبيت إل فتاوى القدماء ،فاستمع إلى المام ابن تيمية يشرحه لك
ويقول في معرض شرحه لحديث الغُربة:
(كثير من الناس إذا رأى المنكر ،أو تغير كثير من أحوال السلم ،جزع وكلّ وناح كما ينوح
أهل المصائب ،وهو منهي عن هذا ،بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين السلم ،وأن
يؤمن بال مع الذين اتقوا) .ثم يقول( :وقوله –صلى ال عليه وسلم" :-ثم يعود غريبا كما بدأ" :أعظم ما
تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه ،وقد قال تعالى( :من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي ال بقوم
يحبهم ويحبونه أذلّةٍ على المؤمنين أعزة على الكافرين ،يجاهدون في سبيل ال ول يخافون في ال لومة
لئم).
فهؤلء يقيمونه إذ ارتد عنه أولئك.
وكذلك بدأ غريبا ولم يزل يقوى حتى انتشر ،فهكذا يتغرب في كثير من المكنة والزمنة ثم
يظهر حتى يقيمه ال –عز وجل ،-كما كان عمر بن عبد العزيز لما ولي قد تغرب كثير من السلم على
كثير من الناس حتى كان منهم من ل يعرف تحريم الخمر ،فأظهر ال به في السلم ما كان غريبا) (.)2
فإن هداك ال ،وكنت من الطلئع ،فاسمع الرواد في العصر الحديث يشرحون لك الطريق.
فأول ما ينبه المام البنا هو( :وجوب الجدّ والعمل ،وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه،
والتأسيس بعد التدريس) (.)1
مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة ،وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب.
ثم مرحلة التكوين وتخير النصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلء المدعوين.
وكثيرًا ما تسير هذه المراحل الثلث جنبا إلى جنب ،نظرا لوحدة الدعوة وقوة الرتباط بينها
جميعا ،فالداعي يدعو ،وهو في الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك ،ولكن ل شك في أن الغاية الخيرة ،أو
النتيجة الكاملة ،ل تظهر إل بعد عموم الدعاية وكثرة النصار ومتانة التكوين) (.)2
وأما الستاذ المودودي فيدعوك إلى التأمل في سيرة النبي –صلى ال عليه وسلم -لترى كيف
(قام ذلك الرجل الوحيد فتحدى الدنيا كلها ،ورفض كل تلك الفكار الخاطئة والطرق المعوجة التي
كانت رائجة في الدنيا ،وعرض بإزائها عقيدة من عند ال مخصوصة وطريقة معينة ،وفي مدة قليلة من
السنين حوّل مجرى التيار ،وغيّر لون الزمان بقوة تبليغه وجهاده) (.)3
(إن إقامة المامة الصالحة في أرض ال لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام السلم.
فكل من يؤمن بال ورسوله ويدين دين الحق ،ل ينتهي عمله إل بأن يبذل الجهد المستطاع لفراغ
حياته في قالب السلم.
ثم إذا لم يكن من الممكن تحقق هذا المقصد السمى إل بمساعي الجماعة ،لم يكن بد من أن
تكون لها غاية في الحياة إل إقامة نظام الحق وإدارة شؤونه بغاية من الهتمام والعناية ،وَل َع ْمرِ الحقّ
103
إنه لو لم يكن على وجه الرض إل رجل واحد مؤمن ،لما جاز له أن يرضى على نفسه بتسلّطِ نظام
الباطل ،حينما يجد نفسه وحيدًا فاقدًا للوسائل اللزمة ،أو أن يحاول التستر وراء الحيل الشرعية،
كالقتناع بأهون البليتين ،بل الحق أنه ل يكون أمامه إل طريق واحد ،وهو :أن يدعو الناس كافة إلى
منهاج الحياة الذي يرضى به الربّ تعالى .فإن لم يُجب لدعوته أحد ،فإن قيامه على الصراط
المستقيم ،واستمراره في دعوة الناس حتى يلقى ربه خير له ألف مرة من أن يتنكب الصراط الحق
ويهتف بنعرات تهش لها وتفرح بها الدنيا المتسكعة في بيداء الضللة والغواية) (.)1
ولكن هذه الحقائق ذهل عنها الفرديون وظنوا أنه طريق خُطب ،وصيحات منابر ،وقرارات
ومؤتمرات ،وحاول الداعية السلمي الكبير شكيب أرسلن –رحمه ال -تعليمهم الطريق الصحيح
فلم يفلح.
يقول –رحمه ال -في نص ثمين جدّا خلل رسالة أنشأها سنة 1931ونشرت مجلة
(المسلمون) صورتها ،يخاطب أحد أبناء فلسطين:
(تأتيني كتب كثيرة من المغرب وجاوا ومصر وسورية والعراق ونفس فلسطين بلدكم ،مقترحا
أصحابها عقد مؤتمر إسلمي أو انتخاب خليفة أو ما أشبه ذلك .ويكون جوابي دائما :يجب أن نؤسس
من تحت .يجب أن نربي الفرد).
(أما أن نعتقد مؤتمرا مجموعا من ضعفاء ليس لهم إرادة مستقلة وهم ل يقدرون أن ينفذوا
قرارا ،فما فائدة ذلك ،أتريد أن نجمع أصفارًا؟) (.)2
وهذه كلمات تكشف عن قمة الوعي وعن آخر تجارب الدعاة ،ولكن أصحاب شكيب خذلوه
وكانوا أقصر همما.
ولزلنا ننظر هؤلء لخطباء المساكين على منابر الجمعة والحتفالت يتألمون ،وينادون
المسلمين بالعمل والجهاد ،ويختمون خطبهم بمثل قولهم :السلم يناديكم .ول يسألون أنفسهم :بأي
متصد للزعامة نثق ،وما ثم فيهم إل قائد مقود ،ومتبجح مملوك؟
إنه التأسيس من تحت كما يقول شكيب ،ليس غير ،وإنها خيمة التنظيم ل قاعات المؤتمرات.
تنصب خيمتك في صحراء جاهلية القرن العشرين ،وتضرم نارك ليراها التائهون والمنقطعات
فيقصدونها وينزلون خيمتك وتنادي ابنتك لُبينى لتزيد لهب النار ،وتعلمها:
أوقدي النار علّ النار هدى يا لُبينى أوقدي طال المدى
أوقدي النار لبناء السبيل أوقدي يا لبن قد حار الدليل
علّ هذا الركب يعشو شطرها إرفعي النار وأذكي جمرها
أرشدي هذا الفراش الهائما شردي هذا الظلم الجاثما
حبذا المؤنس هذا الموقد حبذا النار بليل توقد
لو حوانا في سفار منزل حبذا عندك هذا النُزل
إنما النيران أعلم الطريق ما لذا المنزل قد سار الفريق
()1
زودي يا لبن من هذا اللهيب زوينا بهيام ووجيب
)(1لعزام ،من قصيدة اللمعات ،التي ألحقها بترجمته لديوان رسالة المشرق لقبال.
105
.10تنسيق وشمول
سمت الستعلء على المبادئ الخرى ،جازمًا بضللها .وسمت وليد هذا الترفع ،يطبعه
بالتبرؤ من الغيار ،ومفاصلتهم ،وهجر كل صاحب هوى.
وفي هذين السمتين تعبير عن فطرة التغيير التي طبع ال السلم عليها ،المتعدية بالتالي إلى
طبيعة الحركات السلمية.
وأمام هذه الفطرة ،غدت منهاج المهادنة ،والمصالحة ،والتعايش بين السلم والكفر :فاشلة.
ولذلك ،فإن الشعراء الدعوة ركزوا على بيان هذه الفطرة التغييرية السلمية.
فهذه مفاصلة حتمية ،لمجرد هذا المنطق المختلف والطريق المتعاكس ،فكيف وقد صار
العدوان؟
وفي هذا ما يوجب على الدعاة البتدار ،والخروج إلى عمل جماعي يعيد من ضل إلى الجدد
المشرق وصراط السداد.
فقد يكون الدعاة دعاة فكرة مجردة ،تراهم كأروع الدعاة فهما للسلم وعقيدته وأنظمته
وقوانينه ،وأكثرهم قراءة للكتب ،ولعلهم من أشد المسلمين حماسة ،وأخشعهم في الصلة ،ولكنهم
أما الذين يفتحون للمة اليوم نافذة تطل بها على نوع أمل ،فإنما هم ال ُمنَسّقون.
إذ ما زالت التجارب والتطبيقات تظهر الهمية العظمى لدور التنظيم في إحلل النسجام
والتنسيق بين جهود العاملين ،مع استثمار أدنى درجات إمكانية إفادة السلم لدى الشخاص استثمارا
ايجابيًا مباشرًا.
وإن الخطة البارعة بإمكانها أن تجعل التنظيم مركزا تسير في فلكه جهود الفراد في انسيابية
هندسية جميلة ليس فيها اضطراب ،كانسيابية محيط الدائرة الجميل الستدارة بالنسبة لمركزها.
فليس في الجهود المبذولة ما هو صغير إذا جاء في حينه المناسب ،ومكانه المناسب ،وللدعوة
متطلبات واحتياجات متكاملة ،بعضها يكمل بعضا ،والجهور المبذولة للوفاء بها متكاملة :صغيرها
يكمل ويقوي كبيرها.
(تراه كالدائرة :يصعد بك محيط ويحبط ،ل من أنه نازل أو عال ،ولكن من أنه ملتف ،مندمج،
موزون ،مقدر) (.)2
فليس ثمة جهد في هذا العمل تظنه في قيمته وأهميته نازل ،فيسوغ إهماله ،وإنما كل العمال
على بعد واحد من المركز إذا كانت ضمن الخطة موزونة مقدرة.
تكامل في التطبيق.
(دولة ووطن ،أو حكومة وأمّة .وهو خلق وقوة ،أو رحمة وعدالة .وهو ثقافة وقانون ،أو علم
وقضاء .وهو مادة وثروة ،أو كسب وغنى .وهو جهاد ودعوة ،أو جيش وفكرة .كما هو عقيدة
صادقة وعبادة) (.)1
إنها سعة في الفهم ،توجب على تجمع العاملين سعة أخرى في السلوب والتطبيق.
فليست الدعوة السلمية حزبا سياسيا ،وإن كانت ساعية إلى الحكم ،في انتباه تحذر معه أن
تلهيها الحداث عن خطها التربوي ،وواجبها العبادي.
ول هي مجمعا فقهيا محضا ،أو كلية شريعة ،أو دارا للفتاء ،وإن كانت تحرص على الثقافة
سنّة الغراء ،في بعد عن الجدل في الفروع ،وعن الترف الفكري
الشرعية ،والسير على بينة من ال ُ
المثبط لهمتها في التجميع وقيادة العامة.
ول هي دار نشر ،أو وكالة إعلمية ،وإن كانت الصحافة وملحقة الحداث وبيان حكم
السلم فيها من تمام واجباتها.
ول هي بعد ذلك منظمة فدائية ،أو مؤسسة عسكرية ،أو فرقة كشفية ،وإن كان الجهاد أصل
من أصولها ،واللعاب الرياضية أسلوبا من أساليبها ،في غير ما تورط في عنف ومجازفة
واستعجال.
كما أنها ليست جمعية خيرية ،أو وزارة أوقاف ،وإن كانت تأخذ بيد اليتيم والفقير ،وتسعف
المريض ،وتساهم في بناء بيوت ال.
نعم ليست الدعوة شيئا من ذلك ،ولكنها كل ذلك ،فإن تزاحمت الحاجات ،وقصرت الطاقات:
كان تقديم الهم وفق نظرة نسبية ،تبعا لميزان التوفيق بين المصالح والمفاسد المتعارضة ،بإهدار كل
مصلحة صغيرة يؤدي الحرص عليها إلى تفويت مصلحة أكبر منها ،واحتمال اليسير من المفاسد،
لدرء ما هو أعظم.
)(1رسالة التعليم.
109
ويبدو من تجاربنا ،أن الكثرين ممن نخاطبهم اليوم ينقصهم الوعي السياسي ،والمنهج الفقهي،
ولم تتوهج فيهم بعد روح الجهاد.
ولكن الجانب الخيري هو الذي ما زال يحتل شطرا واسعا في تفكيرهم ،وإن نقصت الموال
التي بأيديهم –في الحقيقة -عن مجاراة هذه السعة في التفكير ،ولذلك فإنهم بحاجة إلى مزيد خطاب
يفهمهم تكامل الدعوة وامتيازها عن أساليب الجمعيات الخيرية.
ول شك أن مما يساعد على ترجيح هذا التفكير عندهم :تلك القلوب الرقيقة التي يملكونها،
المفعمة باليمان الفطري ،والتي ما زال يؤجج تركيز الوعظ على معاني البرّ ومكارم الخلق
حماستها للمساهمة في كفالة اليتام ،وبناء المدارس ورفع المساجد.
ووال ما نطق واعظ بغير الحق ،ول كذبت أحاديث الفضائل ،ول غفلنا عن أثر ذلك في
ترويج الدعوة بالتربية الميدانية التي تحطم الحواجز ويعامل الدعاة المربون خللها عموم الناس
مباشرة إذ الناس في جوانب حياتهم منغمسون.
ولكن داعية السلم قد رصدته صفته لهم من مجرد ذلك وأجل ،وعيه أن يسد ثغرات ما
نرى في المة من يسدها إل هو ،ليس أجرها بأقل من أجر أبواب الخير ،إن لم يكن أضعافها.
إن أمام الداعية تنفيذ هذا الواجب التجميعي التربوي الثقافي العلمي السياسي الجهادي
الخيري ،في شموله الواسع وتكامله المترابط.
وهو التميز الثاني ،من بعد التميز الول عن عامة المسلمين بواسطة الجماعية في العمل.
وهو تميز قديم ل نبتدع القول به ،أمر به إمام دعاة زمانه ،أحمد بن حنبل –رحمه ال.-
الولى :كشفتها ألفاظ هذه الحروف ،وهي أن ل يبذل الداعية وجهه ،بالتعرض إلى جمع المال
من الغنياء ،ولو لمصلحة عامة ،فقد يحبس هذا النشاط لسان الداعية عن قول الحق ...أمرًا أو نهيا.
والثانية :يكشفها مجمل قصده من حفظ الوجه ،وهو التفرغ ،بهيبة كافية ،لقيادة جمهور
المسلمين ،ومصاولة البتداع وأعداء السلم ،والمر بالمعروف ،ونشر العلم ،مما تفصح سيرته هو
عن مثل ذلك.
وهذا الفتاء قريب مما ذكره فقهاء الحكام السلطانية ،حين أوجبوا على الخليفة أن ل يتشاغل
عن سياسة الدولة وتدبير الجيوش بالعبادة وأعمال البر الشخصية ،كما قال الماوردي ،حين جعل من
واجبات الخليفة:
(أن يباشر بنفسه المور ،وتصفح الحوال ،لينهض بسياسة المة ،وحراسة ال ِملّة ،ول يعوّل
على التفويض تشاغلً بِلذّة أو عبادة ،فقد يخون المين ،ويغش الناصح ،وقد قال ال تعالى( :يا داود
إنا جعلناك خليفة في الرض فاحكم بين الناس بالحق ،ول َتتّبع الهوى فيضلك عن سبيل ال).
فلم يقتصر ال سبحانه على التفويض دون المباشرة ،ول عذره في التباع حتى وصفه
بالضلل.
وهذا وإن كان مستحقا عليه بحكم الدين ومنصب الخلفة ،فهو من حقوق السياسة لكل
مسترع.
قال النبي –صلى ال عليه وسلم" :-كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته")(.)1
وجهد مواكبة الدعوة في شمولها ،مواكبة تستهلك البدن ،وترهق الفكر ،وتمتص رحيق الروح.
ولذلك كانت حالة الشمول سموا ،ل يقوى عليها إل أشداء المؤمنين.
)(1الحكام السلطانية للماوردي 16الطبعة الثانية.
111
.11راية الخير.
وبعد:
"فقد افتضحت الجاهلية ،وبدت سوأتها للناس ،واشتد تذمر الناس منها ،فهذا طور انتقال العالم
من قيادة الجاهلية إلى قيادة السلم"(.)1
إنه يتحدث عن أمر عظيم جليل ،وانتقال ضخم ،لكنه من أمر الحقائق.
فحينما يكون المر حقيقة ل يحتاج إلى كثير بلغة ،ول إلى إطناب ،أو بهرج وتزويق.
إنها الحقيقة التي يعيشها الغرب ،فهذا الخواء الروحي ،والنحدار الجنسي ،والتمييز
العنصري ،والظلم الستعماري ،لم يعد إفلسًا مجردًا ،بل فضيحة كبيرة للحضارة الغربية.
وهي الحقيقة التي ترهق المجتمعات الشيوعية ،ولو لم يكن فيها إل الرهاب وكبت الحريات
لكفتها فضيحة.
كما أنها الحقيقة التي تشير إلى عدل السلم ،وسماحته ،وسكينته التي يهديها إلى القلوب التي
أتعبها قلق المادة.
إن تأمل قصيرًا يرينا بوضوح أن شعوب المة السلمية قد ملت وسئمت ما اقتبسوه لها من
مادية الغرب ونظمه ،وما فطنوا له فقلدوه من أساليب الرهاب والتجويع الشيوعي ،وأصبحت القلوب
والعقول على أتم الستعداد إياب إلى السلم ثانية.
وشرط الدليل أن يكون خبيرا مميزا للثرُ ،متَ َفرّسا ،ناظرًا في أبراج السماء.
)(1مقدمة سيد قطب لكتاب الندوي :ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين .20
112
ن الوصول قريب.
فإن وُجد الدليل فإ ّ
جاذبية الدعاة.
وهذا هو ما تصوره بلغتنا القاصرة ،لن من يتبع طربا قد تعتريه غفلة ،أو تفجؤه عثرة ،أو
تغلبه إغفاءة ،فيتوقف.
إنه يجد في إدراك الذات قوة جذب تجبر الخرين على الرتباط بها ،فإذا جمع المسلم الحر
الفطن ذاته فكان داعية فإنه يدير من يريد في فلكه.
يقول إقبال:
()1
في طواف حولها ،ل مستقر شدّت الرض قواها ،فالقمر
فلن الرض تحفزت ،وخزنت من قوة الجذب ما استطاعت :أجبرت القمر على الرتباط بها،
والدوران حولها ،حتى بات ل يحدث نفسه بفرار.
فكذلك التفاف الناس حول دعوة السلم يكون حتميا إذا شد الدعاة قواهم ،حتى يعتاد الناس
الدوران في فلكهم ،ويجدون في ارتباطهم بالدعوة نوع اضطرار.
وتنادى السحرة الذين عارضوا موسى قبل إيمانهم ،فقالوا( :فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا) ،كما
أخبر ال تعالى .وبذلك عبروا عن التجمع المنظم للجاهلية في كل عصورها من خلل هذا الشعار
الذي يعطي درسا بليغا لمن يحزن على مصير المسلمين وليس لديه إل التأوه.
ول ينتصر دعاة السلم اليوم إل إذا جمعوا خيرهم ثم أتوا صفا واحدًا متراصا مقتحما.
إنها المبادأة اللزمة ،تارة تكون تكبيرًا ينبه ،وتارة تكون نارا تلفت ،وتارة تكون راية يبصرها
أهل الخير فيتجمعون حولها ،ول ينقص المسلمين اليوم في كثير من البلد إل هذه الراية ،فإنهم كثير
عددهم ،غزير علمهم ،جميل ذكرهم ،إنما أضعفهم التشتت والضّياع.
وقد زار عبد الوهاب عزام –رحمه ال -معظم بلد السلم ،وساح في بلد العرب وتركيا
والهند ،ودرس واقع المسلمين عن قرب ،فما خرج بغير هذه النتيجة ،فعاد ينادي الخيّرين أن:
(ل يخدعنكم الفساد الظاهر والشر المستشري ،ول ُي َه ّوَل ّنكُمْ ذكر فلن وفلن من المفسدين،
ففي المة أخيار أكثر ممن تعدون من الشرار ،ولكنها راية رفعت للشر فأوى إليها أشراره ،وهرع
نحوها أنصارها ،ونفر منها الخيار فلم ينحازوا إليها ،ولم تسمع أصواتهم حولها ،ولو رفعت للخير
راية لنحاز إليها الخيار وحفوا بها وسكنت أمة الشرار وقَلّ جَمعُهم وخفّت ذكرهم.
114
إن في المم خيرا وشرا ،وفسادا وصلحا ،ومصلحين ومفسدين ،فإن رفعت راية للخير
انضوى إليها الخيار في كل طائفة ،وغلب بها الخير في النفس التي يغلب شرها خيرها ،ونبت خير
في نفوس ل خير فيها ،فإن النسان ل يخلو –وإن عظم شره واستشرى داؤه -من نزعة للحق كامنة،
وعاطفة للخير مستسرة) (.)1
وكثير من أهل الخير إنما وقعوا في الوهام من هاهنا .رأوا ضخامة الفساد في بلدهم ،وتغير
الموازين والمقاييس ،وتسلط الشرار ،فظنوا أن المر قد فلت ،واستحكم الكفر ،واختاروا إما السكوت
وإما الهجرة إلى بلد أخف شرّا يتعطلون فيه.
الهجرة المفضولة.
وقبل ،حين استحكم أمر الجهمية والمعتزلة والشعوبية أيام المأمون والمعتصم والواثق،
ووُسّدَت المور إلى غير أهلها ،تألم القائد العربي الغيور أبو دلف القاسم العجلي ،وكان من كبار أهل
الخير ،صحيح العقيدة ،ظاهر النبل ،مناهضا للشعوبية التي يرعاها بعض القادة ،فاندفع يقول:
ثم هاجر إلى معسكره بمدينة الكرخ التي تقع أطللها اليوم على الطريق الذاهب من العراق
إلى خراسان ،قبيل كرمانشاه ،وهي غير الكرخ المعروفة ببغداد.
ثم هاجر إلى معسكره بمدينة الكرخ التي تقع أطللها اليوم على الطريق الذاهب من العراق
إلى خراسان ،قبيل كرمانشاه ،وهي غير الكرخ المعروفة ببغداد.
وهكذا شأن الحر الداعية دوما ،يصبر على العيش والمقام في بلده ،ليلتقط من مجتمع مستخذ
فتيانًا صباح الوجوه ،لم يصب قلوبهم وأبدانهم شيء من دنس الجاهلية وأمراضها وحرامها ،ويربيهم
ويغرز فيهم عزة السلم ،ويجعلهم صفوفا.
نعم ،في المجتمع المستخذي الذي طال خضوعه للطغيان ،تجد (النفس تميل إلى السفاف،
وتخلد إلى الراحة ،وتهوى الهين من كل أمر.
ولكن في النفس –على هذا -نزوعا إلى العلء ،وشغفا بالرتقاء ،وحنينا إلى المكارم ،وشوقا
إلى العظائم.
إن فيها لجمرة يغطيها الرماد ،وشرارة يقدحها الزناد ،فإن وجدت نافخا في جمرها وقادحا
لشرارها :استيقظت ،وتحفزت ،وعملت ،وصعدت.
وكلما ذاقت لذة العمل والرقي زادت حبا له ،وهياما به) (.)1
ولهذا فإن المهاجر مخطئ ،إل هجرة صاحب سر يخشى عليه ،أو هجرة صاحب فقه إلى من
يحتاج إليه ،أو هجرة من يخشى الفتنة في دينه.
أما السكوت فأبعد عن الصواب( ،والذين يبصرون بالظلم في كل طريق ،ويلتقون بالبغي في
كل ثنية ،ل يحركون يدا ول لسان ،وهم قادرون على تحريك اليد واللسان أولئك لم يعمر السلم
قلوبهم ،فلو عمرها لنقلبوا مجاهدين) (.)2
ومن ها هنا ل يكون المؤمن العامر القلب إل متحركا محركا ،أما المتباطئ الذي يعد باللتحاق
بعدما تظهر بوادر النجاح فإنما يعد وعد الضعاف.
ـم وقد ثارت لحقها القوام صاح ما الحر من يثور على الظلـ
()3
ـم فيصميه والنام نيام إنما الحر من يسير إلى الظلـ
وكان أعيان الفقهاء القدماء يميزون مثل هذه المعاني أكثر من المتأخرين ،وأرجعوا العز الذي
عرفه صدر السلم إلى وجود المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فمن ثم قالوا إنه (هو القط
العظم في الدين ،وهو المهم الذي ابتعث ال له النبيين أجمعين ،ولو طوي بساطه وعمله لتعطلت
النبوة ،واضمحلت الديانة ،واتسع الخرق ،وخربت البلد وهلك العباد ،ولم يشعروا بالهلك إل يوم
التناد ،وقد كان الذي خفنا أن يكون ،فإنا ل وإنا إليه راجعون ،إذ قد اندرس من هذا القطب عمله
وعمله) (.)1
فللذي رآه ،فتش عن المخرج والمستدرك فلم يجد إل أسلوب الطلئع ،وراح يحلي الجر لمن
يكون طليعة ،ويحكر له درجات القرب ،ويرفع البصار إلى ذراها ،ويصيح أن أيها الناس:
(من سعى في تلفي هذه الفترة ،وسد هذه الثلمة ،إما متكفلً بعملها ،أو متقلدًا لتنفيذها ،مجددًا
لهذه السنّة الدائرة ،ناهضًا بأعبائها ،ومتشمرًا في إحيائها :كان مستأثرًا من بين الخلق بإحياء سنة
أفضى الزمان إلى إماتتها ،ومستبدًا بقُربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها) (.)2
وأما الذي قررناه من أمر الهجرة فقد سبق إليه الصحابة –رضي ال عنهم.-
(قال أبو هريرة :لن أرابط ليلة في سبيل ال أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر
السود .ولهذا كان أفضل الرض في حق كل إنسان :أرض يكون فيها أطوع ل ورسوله ،وهذا
يختلف باختلف الحوال ،ول تتعين أرض يكون مقام النسان فيها أفضل ،وإنما يكون الفضل في
حق كل إنسان بحسب التقوى والطاعة والخشوع والخضوع والحضور ،وقد كتب أبو الدرداء إلى
سلمان :هلمّ إلى الرض المقدسة! فكتب إليه سلمان :إن الرض ل تقدس أحدا ،وإنما يقدس العبد
عمله .وكان النبي –صلى ال عليه وسلم -قد آخى بين سلمان وأبي الدرداء ،وكان سلمان أفقه من
أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا) (.)3
(ليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة ،بل بالقيام مع ذلك بالوامر المحبوبة ل ،وأكثر
الديّانين ل يعبأون منها إل بما شاركهم فيه عموم الناس ،وأما الجهاد والمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ،والنصيحة ل ورسوله وعباده ،ونصرة ال ورسوله ودينه وكتابه ،فهذه الواجبات ل تخطر
ببالهم فضل عن أن يريدوا فعلها ،وفضل عن أن يفعلوها .وأقل الناس دينا ،وأمقتهم إلى ال :من
ترك هذه الواجبات ،وإن زهد في الدنيا جميعها ،وقلّ أن ترى منهم من يحمّر وجهه ويمعره ل
ويغضب لحرماته ،ويبذل عرضه في نصرة دينه) (.)1
والنبي –صلى ال عليه وسلم( -كانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده ،ولهذا
كان أرقع العالمين ذكرا ،وأعظمهم عند ال قدرا) (.)2
س َوةٌ وقُدْوةٌ.
ولك فيه –صلى ال عليه وسلم -أ ْ
من ظواهر تاريخ الدعاة أنك تجد جمهرتهم العظمى قد عملت وبذلت للدعوة السلمية الشيء
الكثير بصمت وسكون ،وشغلهم النغماس في العمل اليومي والتربوي والتجميعي عن تدوين كثير مما
حبَوا الدعاة بتدوين وشروح.
تكشف لهم من فقه الدعوة الذوقي والتجريبي ،وقليل هم أولئك الذين َ
قد ل تتعدى كلماتهم السطر ،لكنها تكتسب أهميتها من كونها تقيم علقة وارتباطا بين
جزئيات إسلمية على وجه يضخم حجم هذه الجزئيات تضخيما تغدو به عظيمة الثر.
مثلها في ذلك مثل العداد المجردة ،ليست تحمل من القيمة المجردة إل قليل ،ثم أتى علماء
الرياضيات وتمكنوا من إقامة أشكال من العلقات المختلفة بين هذه العداد في معادلت رياضية
كشفت لهم أسرار الطاقات واستخدامها ،حتى أن آينشتين قد كشف على الورق المجرد ،بالقلم المجرد،
في أرقام مجردة ،سر الطاقة الذرية ،وكيفية إخراجها من مكمنها إلى مجالت الستخدام.
وكذلك هؤلء الدعاة ،أقاموا أشكال من العلقات بين الداب والوامر السلمية كشفت عن
درب واسع لمن يريد أن يسير ،وحددت العوامل الحاسمة ونقاط التأثير ،ودللت على ما منحهم ال
تعالى من عميق الوعي ،وما اكتسبوه من طويل التجربة.
ولكن كما أن معادلت الرقام ل يفهمها إل رياضي تأمّل وحلّل ،فإن معدلت الدعوة ل
يفهمها ،ول يدرك قيمتها إل داعية ذاق وتحمّل ،ويظل بمنأى عنها وعن فقهها من قبع وتعلّل.
من هؤلء الدعاة لبيب من الفحول ،تدل المعادلة التي وضعها على كمال عقله ،ونفاذ بصره،
لكنه مغمور مجهول .اسمه أبو بكر بن يزداينار –رحمه ال.-
(نظر الصالح ،بالصلح الذي فيه نور التقى واليمان والحقائق والصدق ،بالزهد في الدنيا،
والرغبة في العقبى ،فينكر على أهل المنكر منكرهم).
119
فهو قد جعل الفراسة شدة اليقين الداعي إلى ال بثوابه يوم القيامة ،ومعرفته تفاهة هذه اللذات
الدنيوية المحدودة المقطوعة الممنوعة ،فيحمل نفسه على تغيير المنكر ،ومنازعة أهل المنكر بشجاعة
يمدها إياه هذا اليقين.
ووال إنها لفراسة عالية تصغر عندها كل فراسة أخرى مهما كانت صادقة.
وانظر العناصر الربعة التي تجتمع فتكون الصلح الذي يدفع بصاحبه إلى صيحة الحق.
وحقائق :يعيش معها صاحبها حياة الواقع ،ل أوهام الدنيا القصيرة الزائلة.
إنه ل ينكر المنكر فحسب ،بل ينكر على أهل المنكر منكرهم.
إنه يمد إصبعه يشير إلى الطاغوت بالتهام ،ويرفع صوته يعلن فضيحة الكفر الذي أمامه،
باسمه ،ورقمه وعنوانه ،ثم ل تلبث الصبع الواحدة حتى تنفتح معها بقية الخمس ،فتكون يد التغيير
من بعد إصبع التهام.
ثم انظر الربط الرائع بين المقدمات الست في طرف المعادلة الول ،وبين التخصيص في
الطرف الثاني :ينكشف لك طريق استخدام الطاقة السلمية في الحياة البشرية وإسالتها من ينبوعها
لتروي ظمأ المتعطشين.
إنها مثل الضوء ،والحرارة ،والكهرباء .وكما خلق ال سبحانه وتعالى هذه الطاقات في الكون،
وأتاح من علماء الرياضيات والفيزياء من يكشف أسرارها ،ويذللها لخدمة النسان ،فإنه سبحانه أنزل
أيضا هذا القرآن ،وجعله من مكملت سنن الكون ،وأتاح من الدعاة من يكشف أسراره.
120
وكما يعهد الرياضي إلى المختبرات والمصانع أن تترجم معادلته وتصميماته إلى أجهزة
توضع في الستخدام ،فإن فقهاء الدعوة ،من مثل أبي بكر بن يزداينار هذا ،يعهدون إلى الحركات
المنظمة أن تترجم معادلتهم إلى عمليات تصحيحية لتخبطات النسان.
ومن هنا تنكشف أهمية البحوث في فقه الدعوة ،وما ينبني عليها من تخطيط حركي.
إن دور فقه الدعوة دومًا أن يضع الوصف الصحيح ،باللفظ الصريح ،للعمل الفصيح.
ومثلما ل يليق بعلماء الذرة الن أن يتطاولوا على أرخميدس وفيثاغورث وغيره من قدماء
علماء اليونان ،لما نجده من تقارب قوة وأهمية معادلت أولئك ومعادلت هؤلء في دفع عجلة العلم،
وأن كل من الجمهرتين أتت رائع بديعا في عصرها ،فإنه ل يليق أيضا بالمتأخر ممن يفتش للدعوة
السلمية عن معادلتها الجديدة أن يتطاول على من سلف من فقهاء المة وقادة الدعوة ،ول أن يتنكر
لهم ،ول أن يُ َدلّس على من يخاطبهم ،بل يجب عليه أن يكون وفيا أمينا ،فيذكر نص حروفهم حيث
أغنت وكفت للتعبير عما يريد ،ويكون له دور الحياء ،والربط ،والتحليل ،وإبراز المهم ،وشرحه،
وبيان حصول الجماع فيما أجمعوا عليه .والسطر الخفية المنسية إن أرجعها الباحث إلى ميدان
التداول ،وأوقع البصار عليها ،وفتح أبواب القلوب إليها ،فكأنما أحياها من بعد موت ،واصطادها من
بعد فوت.
وواجب المتفقه أن ينتبه لمثل هذا السمت الواجب لبحوث الدعوة ،فل يضيق صدرًا بالنقول،
بطرا وترفا ،ول يسأم تكرر المراجع ،فإن الفقه منحة الوهاب ،حبا به قوما قليلين.
وأثناء ذلك ،ل تخف الجتهاد والرأي الجديد ،فإن فقه الدعوة ل ينمو إن حرصت على التعميم
الذي يبقيك في دائرة ما ل خلف فيه ،ولكن تصلب في منهج البحث ل تتسامح فيه ،واحرص على
الصول ل تدع مستعجل السير أو هيّاب الصراع أن يتلعب فيها ،فيخرج إلى نوع تهور أو تخذيل،
ول من استفزه الرّعاع أن يسارع إلى تكفير.
121
ويعجبني جدا في هذا المجال استعراض داعية في مجلة (المجتمع) لدور سيد قطب في
توضيح وتحديد المنهج التربوي الحركي ،ودور عبد القادر عودة في تحديد المنهج التشريعي ،من بعد
اليقظة التي أوجدها المام البنا في تعميماته ومهد لهما بها ،والتثبيت الذي قام به الهضيبي بصلبته
في موقفه ،ثم استعراضه لما يصاحب كل توضيح ،وتحديد ،وتفصيل من اختلف اجتهادي بدافع
الحرص ،والخلص ،والستجابة للواقع المتغير ،ودور الجماع دائما في حل الخلف .وختم كلمه
بأن تساءل( :ترى ،أتعود الحركة إلى التبسيط والتعميم خروجا من المتاعب وأمانة من المخاوف ،أم
تمضي شوطًا أبعد في التفصيل وتتحمل ضريبة هذا التقدم والنتشار؟؟) ( ،)1وهو تساؤل يكمن خلفه
وعي الصحيح لدور بحوث فقه الدعوة في تقدم الدعوة حتى وإن ردت بعض اجتهادات الباحثين من
بعد.
فإن لم تقدم هذه البحوث اجتهادًا جديدًا فإنها ل تخلوا من تعبير يزيد الوضوح ،أو اصطلح
يخصص الدللة ،أو فتوى فقيه قديم مهاب يبين أصل ما نظنه جديدا ،أو –على القل -تقريب اجتهاد
الخرين ،بالقرار والموافقة ،من تناوئ الجماع.
وحين تصدأ القلوب ،وتتعكر النفوس ،وتبرد الهمم ،يكون ما تحمله هذه البحوث في ثناياها من
قصص الحماسة ،ومجاز الخطاب ،ومنظوم اللفاظ ،نعم العلج اللطيف ،في التجلية ،والترقيق،
والتصفية ،والشعال.
(إن المر بالمعروف يجب أن يتجه أول إلى المر بالمعروف الكبر ،وهو تقرير ألوهية ال
وحده سبحانه ،وتحقيق قيام المجتمع المسلم.
ل يعني ذلك أن يمتنع الدعاة عن تعليم أنفسهم وتعليم من معهم آداب السلم وأحكام العبادات،
ول النهي عن منكر فرعي يمكن إزالته بهذا النهي ،لكنها دعوة واضحة لعدم خداع النفس وتلهيتها
بالكتفاء بالنهي عن المنكرات الصغيرة والعزوف عن منكر الحكم بغير السلم ،والقناعة برتبة
الوعظ في مباحث إزالة النجاسة وسجود السهو دون الجهر بالحق ،والشارة إلى الطاغوت ،وتجميع
المسلمين ،وتربيتهم ،وتنسيق جهودهم وتوجيهها للنهضة الشاملة.
لقد أرسل ال تعالى نبيه –صلى ال عليه وسلم -ليحرر الناس (ويضع عنهم إصرهم والغلل
التي كانت عليهم) ،وإنها أغلل أي أغلل ،ثم أعاد اليهود هذه النسانية إلى عذابها وأغللها مرة
أخرى بهذه الحزاب التي زرعوها في كل مكان .ول بد أن تقوم نهضة إسلمية لتضع هذه الغلل
عن المغلولين ،وترفع هذا الحرج والضيق الذي يرهق أبناء المسلمين.
(إنه المر الهائل العظيم .أمر رقاب الناس .أمر حياتهم ومماتهم .أمر سعادتهم وشقائهم .أمر
ثوابهم وعقابهم .أمر هذه البشرية ،التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا
والخرة ،وإما أل تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها ،وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضللها معلقة
بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ.
فأما رسل ال –عليهم الصلة والسلم -فقد أدوا المانة و َبلّغوا الرّسالة ،ومضوا إلى ربهم
خالصين من هذا اللتزام الثقيل ،وهم لم يبلغوها دعوة باللسان ،ولكن بلغوها –مع هذا -قدوة ممثلة
في العمل ،وجهادًا ُمضْنيًا بالليل والنهار لزالة العقبات والعوائق ،سواء كانت هذه العقبات والعوائق
وبقي الواجب الثقيل على من بعده ،على المؤمنين برسالته ،فهناك أجيال وراء أجيال جاءت
وتجيء بعده –صلى ال عليه وسلم -وتبليغ هذه الجيال منوط بعده بأتباعه ،ول فكاك لهم من التبعة
الثقيلة –تبعة إقامة حجة ال على الناس ،وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الخرة ،وشِقْوة الدنيا –إل
بالتبليغ والداء ،على ذات المنهج الذي بلغ هم الناس ،وهناك ضللت ،وأهواء وشبهات ،وشهوات،
وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ،ودون الدعوة ،وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل ،وبالقوة.
الموقف هو الموقف ،والعقبات هي العقبات ،والناس هم الناس ،ول بد من بلغ ،ول بد من
أداء .بلغ بالبيان ،وبلغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون.
إنه المر المفروض الذي ل حيلة في النكوص عن حمله ،وإل فهي التبعة الثقيلة ،تبعة ضللة
البشرية كلها ،وشقوتها في هذه الدنيا ،وعدم قيام حجة ال عليها في الخرة ،وحمل التبعة في هذا
كله ،وعدم النجاة من النار.
()1
فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟)
السلم هو السلم ،ل زال مستعدا أن ينهي شقاء البشر ،ولكن تبليغ هذا السلم والقيام به
هو الذي ضعف ،ولذلك (كان بعض السلف الصالح يقول :يا له من دين لو أن له رجال) (.)2
كان يريد آخرين ،الفقه والزهد من صفاتهم ،لكن يذهبون إلى مرحلة أبعد .يريدهم دعاة ،همهم
هداية الخلق ،وإنفاذ حكم ال ،والنكار على من يحكم الناس بهواه ،وهي مرحلة ل يبلغها إل من
أوتي من أخلق الرجولة مقدارا ،ويأنف من كان رجل أن يقف دونها ،مهادنا ومصالحا ،أو مكتفيا
حوَيجة) ،تصغير حاجة ،أي جئناك تقضيها لنا،
بالتوريات .ولذلك لما قيل لحد فحول الرجال( :لنا ُ
أبي وقال:
أما هو فهمته عالية ،فقد رصد نفسه لضخام العمال ،ويأنف من صغارها.
وإن هذه الدعوة وال لهي شأن الرجال حقا ،الذين يضم سربهم كل مقدام.
أما أهل الحذر والهلع من الصدام وعقباته ،فليس فيهم إلى رُويجل.
فعند الرجال ،ل يكون الخوف إل من الغفلة ،كما قال العمري الزاهد( :إن من غفلتك عن
نفسك ،وإعراضك عن ال ،أن ترى ما يسخط ال فتتجاوزه ،ول تأمر فيه ول تنهى عنه ،خوفا ممن
ضرّا ول نفعا) (.)2
ل يملك لنفسه َ
فمن ثم كان ابن تيمية يكثر تقريع الخائفين من الصالحين ،وبيّن مرارا أن (هؤلء وإن كانوا
من المهاجرين الذين هجروا السيئات فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها ،حتى ل تكون
فتنة ويكون الدين كله ل.
فتدبر هذا ،فإنه كثيرًا ما يجتمع في كثير من الناس هذان المران ،بغض الكفر وأهله ،وبغض
الفجور وأهله ،وبغض نهيهم وجهادهم .كما يحب المعروف وأهله ول يحب أن يأمر به ول يجاهد
عليه بالنفس والمال ،وقد قال تعالى( :إنما المؤمنون الذين آمنوا بال ورسوله ثم لم يرتابوا ،وجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل ال ،أولئك هم الصادقون) ،وقال تعالى( :قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم
ضوْنها:
وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم ،وأموال اقترفتموها ،وتجارة تخشون كسادها ،ومساكن َترْ َ
)(1صيد الخاطر لبن الجوزي 251طبعة الغزالي.
)(2الجواب الكافي لبن القيم .44
125
أحبّ إليكم من ال ورسوله وجهاد في سبيله ،فتربصوا حتى يأتي ال بأمره ،وال ل يهدي القوم
الفاسقين) (.)1
وربما تظن أنك بحاجة إلى مزيد نقاش مع مثل هؤلء المفرّطين ،لكن يوسف القرضاوي قد
سبق وجادل ،وحجّ وفند ،ببلغة وجمال لفظ ،فكفاك ..........
.13الميثاق.
وكل نتاج عقول البشر في تغير وتبدل دائمين ،وتعتريه الرجرجة ،إل نتاج عقل يقتبس من
مشكاة هذا القرآن ،فإنه يقتبس أيضا شيئا من ذلك الخلود ،ويكون فيه الستقرار والثبات.
فمن ثم تجد وحدة الفهم ،ووحدة الوصف والتشخيص والمعالجة تجمع من تكلم في السلم
ونقد المجتمع ،ابتداء بمن رأى النبي –صلى ال عليه وسلم ،-وانتهاء بمن آمن به ولم يره في هذا
القرن ،بل حتى إنك لتجد في كلمهم بوضوح وحدة السلوب البلغي ،ووحدة الصطلح.
فحين يضع الفيلسوف نظرية ،أو حلول لمشكلة إنسانية ،تكون حماسته ،والحماسة التي يتمكن
أن يبعثها في تلمذته بسحر بيانه من عوامل تغطية ما يعتور حلوله من العيب ،وينسيهم الرهاق
الذي ترهقهم به مثالياته ،ثم يفضح طول التطبيق نظرياته ،فينتدب مغرور آخر نفسه ليغر الوصاف
والحلول ،ويأتي بنظريات جديدة ،ويظن هو ومن معه أن ذلك هو البداع ودليل الحيوية.
لكن حلول السلم ،لنها تنطلق من حقائق الفطرة ،ومنزلة ممن خلق الفطرة ،ل يزيدها طول
التطبيق وتبدل المجتمعات إل رسوخا ،ويبرز في كل جيل َمثَل تطبيقي يشير للناس إلى مصداقها،
وهذا هو عنصر البداع ،فإن ثبات السلم ،وتقلب غيره في التخبط والتبدل :إبداع في السلم
وإعجاز.
ولهذا ،فإن عرض القوال المتشابهة التي فاه بها السلف والخلف من فقهاء المة ،وإن كان
يكرر المعنى والمبنى ،فإنه من جانب آخر ينبه على وحدة المنهج والفهم والداء ،وإبراز الوحدة بحد
ذاته عنصر يجب على بحوث فقه الدعوة أن تحرص عليه ،لما يتضمنه من الشارة إلى أصالة
الخلف ،وعراقة مذهبه.
قالوا( :سُئل حذيفة –رضي ال عنه -عن ميت الحياء ،فقال :الذي ل ينكر المنكر بيده ول
بلسانه ول بقلبه) (.)1
هل تستطيع بعد النظر أن تقر من يطيل لسانه على حذيفة بن اليمان –رضي ال عنه -ويتهمه
بأن كلماته وليدة استفزازات الظروف الصعبة التي كان يعيشها؟
وما زادت تعابير سيد والمعاصرين فيما يُظن أنه من عُنف التعبير على حروف حذيفة.
إنه ليس من إفراط في حماسة الدعاة ،بل هو وضوح الدعوة الذي يفرض نفسه ،ولذلك نرى
المعتنق لها بصدق سرعان ما ينشأ نشأة أخرى غير التي كان عليها تماما ،وتتحور مفاهيمه ،ويخرج
من صومعته ليقود الناس ،كالذي كان من أمر التابعي وهب بن ُم َنبّه اليماني :عرفه اليمن راهبا معنيا
بسجع الرهبان وعلوم أهل الكتاب المحرفة ،فلما أسلم وسئل عن صفة المسلم قال( :يقتدي بمن قبله،
وهو إمام لمن بعده) (.)1
فوصف بالمامة والتصدي للقيادة بعد إذ كان هو نفسه منعزل ،وما هو بفهم يبتدعه ،لكنه حين
أسلم لم يجد مهمة المسلم المتعلم إل بهذه الصفة ،ووجد القرآن يصف إبراهيم –عليه السلم -بأنه
كان ُأمّةً ،وفي أحد تفسير هذا الوصف أنه من القتداء والئتمام ،كما ذكر ابن ال َقيّم ،فإنه قال( :المّة
هو القدوة الذي يؤتم به .قال ابن مسعود :والمة :المعلم للخير .وهي فعلة في الئتمام ،كقدوة ،وهو
الذي يقتدي به) (.)2
وما كان جيل من أجيال المؤمنين القدماء الذين أحاطوا بالنبياء القدماء يفهم إيمانه على أ،ه
تصديق قلب مجرد ،إنما فهموه إعانة ومساعدة باليد والمال ،ونصر بضم قوة المؤمن على قوة
جماعة المؤمنين في معاركها وصراعها مع الكافرين ،وكان إبراهيم ،وموسى ،وعيسى ،وكل النبيين
–عليهم السلم -يأخذون البيعة ممن يؤمن بهم على أن يؤمنوا بمحمد –صلى ال عليه وسلم،-
وينصرونه في صراعه مع الكفر إذا بُعث نبيا وهم أحياء يرزقون ،كما أخبر ال تعالى عن ذلك في
قوله( :وإذ أخذ ال ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم
لتؤمنن به ولتنصرنه .قال :أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا :أقررنا .قال :فاشهدوا وأنا معكم
مع الشاهدين).
(قال ابن عباس :ما بعث ال نبيًا إل أخذ عليه الميثاق لئن بُعث محمد وهو حي ليؤمنن به
وينصرنه ،وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه) (.)3
)(1كتاب الزهد للمام أحمد .372
)(2مفتاح دار السعادة .1/174
)(3مجموع فتاوى ابن تيمية .10/12
128
وإذن ،فالبيعة علينا نحن الن من ورثة محمد –صلى ال عليه وسلم -أوجب وأظهر إلزامًا
وأولوية.
واعتمادًا على هذا الميثاق القديم فهم ابن تيمية (أن الصادقين في دعوى اليمان هم :المؤمنون
الذين لم يعقب إيمانهم ريبة ،وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم ،وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ
على الولين والخرين) (.)1
ومن لم تسعفه الظروف أو كفاءته أو مقدار علمه في أن يكون داخل الصف المجاهد فإنه ل
ُيعْذر بالقعود ،بل عليه أن يعيّن من يأمر وينهى ويجاهد ،ويكون مؤيدًا مساندا.
وبذلك قال الفقيه المام الشاطبي ،فإنه يتصدى لشرح معنى قول الفقهاء :إن فروض الكفاية إن
قام بها البعض سقط الثم عن الباقين ،وخصص وسمى من فروض الكفاية :المر بالمعروف والنهي
عن المنكر ،وطلب العلم ،والولية والمامة ،أي الخلفة وطلبها وسياسة الناس بالشرع ،وبين –رحمه
ال -أنها وإن سقط وجوبها عن غير القادر عليها ،فإنه مطالب بالتفتيش عن القادر وحثه وإعانته
على القيام بها ،بل إجباره على القيام بها ،وساق أمر الولية كمثل ينسحب ليشمل ما نص عليه هو
من العلم والمر والنهي ،وعلى ما لم ينص عليه مما يوصف عند الفقهاء بأنه من فروض الكفاية.
(لكن قد يصح أن يقال :إنه –أي فرض الكفاية -واجب على الجميع على وجه من التجوز،
لن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة ،فهم مطلبون بسدها على الجملة ،فبعضهم هو قادر عليها
مباشرة وذلك من كان أهل لها ،والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين ،فمن كان
قادرًا على الولية مطلوب بإقامتها ،ومن ل يقدر عليها مطلوب بأمر آخر ،وهو إقامة ذلك القادر،
وإجباره على القيام بها ،فالقادر إذن مطلوب بإقامة الفرض ،وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر،
إذ ل يتوصل إلى قيام إل بالقامة ،من باب ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب) (.)2
وهذا كلم صريح ل يعذر أحدًا من المسلمين في قعوده عن تأييد الدعوة السلمية مهما كان
له من ظروفه العائلية والصحية والوظيفية والدراسية وأمثالها عذر يمنعه من النتساب الفعلي.
)(1نفس المرجع السابق.
)(2الموافقات للشاطبي .1/114
129
عرف الشاطبي ذلك لمتانة منهجه في البحث ،وفهمه السليم لمقاصد الفقهاء الوائل وهم
يضعون القواعد العامة ،ولن عبد القادر عودة كان يسير على نفس المنهج ،ولم يكن ليحرفه هوى
النفس ،فقد توصل إلى نفس النتيجة ،وأوجب على الجماهير في كل وقت أن تؤيد الحركة السلمية
المرة بالمعروف ،وحمّل الجماهير مسؤولية تسلط أعداء السلم ،فقال:
(إن جماهير المسلمين قد ألفت الفسق والكفر واللحاد حتى أصبحت ترى كل ذلك فتظنه
أوضاعا ل تخالف السلم ،أو تظن أن السلم ل يعنى بمحاربة الفسق والكفر واللحاد ،ول يعنيه
من أمر ذلك كله شيء.
إن السلم يوجب على المسلمين أن يتعلموا السلم وأن يتفقهوا في وأن يعلم بعضهم بعضا،
(فلول نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) .ولقد طالما
نفرت طوائف من المسلمين فأنذروا قومهم وحاولوا تفقيههم في الدين ،ولكن الحكومات السلمية
أخذت على نفسها أن تحارب هذه الطوائف ،وأن تحول بينها وبين ما يوجبه السلم ،إرضاء
للستعمار ،وإطاعة للطواغيت ،وموالة لعداء السلم ،ورضيت الجماهير هذا الوضع من
الحكومات ،وما كان لها أن ترضاه ،فشارك الجمهور الحكومات في خنق السلم ،وهدم الجماعات
العاملة للسلم) (.)1
ومثلما يكشف هذا القول عما كان في قلب عبد القادر عودة من لذعات ،فإنه يشير أيضا على
أن قادة الدعوة ل يصطنعون ول يغتصبون لنفسهم حقوقا يطالبون بها جماهير المسلمين ،وإنما
يبنون مطالباتهم على أساس ،وبينات ،ومستندات ،تثبت لهم حقهم ،كهذا البيان الشاطبي الثمين.
وبتدبر كلم الشاطبي تفهم أيضا سر اعتداد المام البنا –رحمه ال -بطريقته ومنهجه حين
فاصل المضطرين وصارحهم أن:
(إن أبيتم إل التذبذب والضطراب ،والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة ،فإن كتيبة
ال ستسير غير عابئة بقلة ول بكثرة ،وما النصر إل من عند ال) (.)2
)(1السلم بين جهل أبنائه وعجز علمائه .68
)(2إلى الشباب ،للمام البنا .16
130
فبين مفاصلة السلوب ومنهج العمل مع الواهمين ممن يعمل للسلم ،وهي غير مفاصلة
العقيدة مع أهل الكفر والبدعة ،فإنه هنا يتحدث عن المنهج الفاشل الذي يزينه الخوف لصحابه أو
توقعهم فيه البساطة والسذاجة ،والمنهج الفاشل عنده ما غاير منهجه ،أو اكتفى بجزئية من منهجه
فحسب دون ما يكملها ،فإن عرفت منهجه عرفت ما يخالفه ،وإن أحطت بشمول وسائله استبنت
قصور وسائل الخرين.
وهو ،لذلك ،يوجز سمت الجد العام لمنهجه في العمل ،فيقول( :إن رواسب القرون الماضية،
ونتائج الحوادث الخالية ،ل يمكن أن تزول بأمنية تختلج في الصدور ،أو كلمة تكتب في الصحف ،أو
خطب تلقى على الجماهير ،بل ل بد من طول الناة ،ودوام المثابرة ،وعظيم المصابرة ،والدأب على
العمل) (.)1
إذن ليست هي كلمة أو خطبة أو غير ذلك من وسائل الفرديين ،بل ل بد من وسيلة أوجبها
السلم لظهور أحكامه في التطبيق يجب أن تجعلها الحركة السلمية هدفا لها.
ل بد عنده (أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلمية حرة تعمل بأحكام السلم ،وتطبق
نظامه الجتماعي ،وتعلن مبادئه القويمة ،وتبلغ دعوته الحكيمة للناس .ما لم تقم هذه الدولة فإن
المسلمين جميعا آثمون مسئولون بين يدي ال العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم عن
إيجادها ،ومن العقوق للنسانية في هذه الظروف الحائرة أن تقوم فيها دول تهتف بالمبادئ الظالمة
وتنادي بالدعوات الغاشمة ول يكون في الناس من يعمل لتقوم دولة الحق والعدالة والسلم) (.)2
(قد يكون مفهوما أن يقنع المصلحون السلميون برتبة الوعظ والرشاد إذا وجدوا من أهل
التنفيذ إصغاء لوامر ال وتنفيذا لحكامه ،وإنصاتًا لياته وأحاديث نبيه –صلى ال عليه وسلم .-أما
والحال كما نرى :التشريع السلمي في واد ،والتشريع الفعلي والتنفيذي في واد آخر ،فإن قعود
المصلحين السلميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلمية ل يكفرها إل النهوض واستخلص قوة
التنفيذ من أيدي الذين ل يدينون بأحكام السلم الحنيف) (.)3
وتعتبر سيرةُ المام العملية ،وبناؤهُ للحركة الواسع المنظمة ،خير شرح يفهم منه العاملون
مذهبه في العمل الجماعي لتحقيق قيام هذه الدولة.
)(1مجلة (الدعوة) المصرية في العدد .67
)(2بين المس واليوم ،المجموعة .225
)(3المؤتمر الخامس ،المجموعة .272
131
المودودي يشرح المراحل.
وقد شارك الستاذ المودودي في رسم صورة الحركة السلمية التي يظنها أهل لتحقيق مهمة
الستخلف في الرض وبناء دولة السلم.
(مبنية على نظرية الحياة السلمية وفكرتها ،وعلى قواعد وقيم خلقية وعملية توافق روح
السلم ،وتوائم طبيعته) (.)1
ثم تلح الجماعة على نفسها في تربية أفرادها على هذا الساس لتنتج دعاة يقومون بمهمة نشر
الفكرة من الذين (لهم حظ وافر في القانون ،والسياسة ،وفي كل فروع العلوم والفنون ،من الذين
امتزجت الفكرة السلمية بلحومهم ودمائهم ،والذين تثقفت أذهانهم واتسعت مداركهم اتساعًا يؤهلهم
لتدوين نظام للفكار والنظريات ،ومنهاج كامل للحياة العملية مبني على مبادئ السلم وقواعده،
والذين آتاهم ال من الموهبة والمقدرة ما يمكنهم أن يقارعوا به أئمة الفكر ممن ل يؤمنون بال ول
باليوم الخر ويجاذبوهم بحبل ،حتى يبسطوا سلطان سموهم الفكري على عقولهم وأذهانهم ويرغموهم
على الستسلم لزعامتهم الفكرية والعقلية) (.)2
فإذا ما سارت الحركة شوطا في هذا المضمار التربوي والتبشيري تدخل مرحلة الصراع مع
الفكر (مكافحة ومقاومة للنظام الباطل المعوج السائد في المجتمع النساني) ( ،)3ذلك (أن نظام المامة
لن يحدث فيه أي تغير بمجرد وجود فئة مثل هذه في الرض ،بحيث أنها إذا تألفت وأخذت في
الوجود مكانها تنزلت من السماء الملئكة ونحّت الفاسقين الفاجرين عن كرسي السيطرة والسلطان
وبوّؤوه هؤلء الصالحين المؤمنين ،بل مما ل مندوحة عنه لهذه الفئة المؤلفة أن تستمر في المكافحة
والمناضلة لقوى الكفر والفسق) (.)4
)(1منهاج النقلب السلمي ،مجموعة نظرية السلم وهديه في السياسة والقانون .82/83
)(2نفس المرجع السابق.
)(3السس الخلقية للحركة السلمية .34
)(4منهاج النقلب السلمي .84
132
وخلل هذا الصراع (يمتحن القائمون بالدعوة وحاملو لوائها بأنواع من المصائب والشدائد،
فيقاسون اللم والهوال ،ضربا وقتل وإجلء عن الوطن ،ويبذلون مهجهم وأرواحهم بكل صبر،
وجلد ،وإخلص ،وعزم قوي ،ويبتلون بالشدائد ،ويفتنون) (.)1
ولكن ثباتهم يؤدي إلى احتدام صراع معاني الحق والباطل في نفوس أفراد المجتمع الذي
يرقبون ثباتهم ،ويصل الصراع إلى أوجه وذروته في نفوس بضعة أفراد كل يوم جديد ،فيقررون
بشجاعة النحياز إلى جماعة الدعاة الثابتين ،وهكذا تستمر جمهرة الدعاة في ازدياد مطرد( ،أما
أصحاب الطباع الفاسدة والذين في قلوبهم مرض ممن يتبعون الهواء والشهوات فسو تختفي
أصواتهم ،ويضمحل نفوذهم شيئا فشيئًا بإزاء تيار الحركة الجارف ،وسيرها الحثيث) (.)2
أنس الطريق.
وإنها لمهمة صعبة ،لكن تهونها وتبدد بلغة الصادقين حين ينادون.... ،
قم نصل مجد الباة الفاتحين قم نعد عدل الهداة الراشدين
شقي الناس بدنيا دون دين قم نفك القيد قد آن الوان
ل تقل :كيف؟ فإنا مسلمون فلنعدها رحمة للعالمين
اصعد الربوة واهتف بالذان يا أخا السلم في كل مكان
وامل الفاق :إنا مسلمون وارفع المصحف دستور الزمان
حيث كان الحق والعدل نكون مسلمون مسلمون مسلمون
()3
في سبيل ال ما أحلى المنون نرتضي الموت ونأبى أن نهون
)(3ليوسف القرضاوي ،مما أعيد نشره في مجلة التربية السلمية ببغداد في مجلدها السادس .395
133
.14صفة جيل التأسيس.
حقيقتان بازغتان تصفان الداعية المسلم دوما ،وفي ظللهما يعيش سعيدًا .إنه:
ل الرض تحده.
يرددهما مع المرددين:
إنه يعمل أنى هاجر وطرد ،ل يعشق ترابا ،ول يضيق ضمن حدود أوهم الستعمار غيره أنها
حدودهم ،ويتآخى مع كل بني السلم ،فإن لم تكن الهجرة وكان السجن .كان سجنه سياحة لروحه
وفكره ،وإذا شنق كان هبوط الحبل به علوا ينقله إلى منزل جميل كريم.
الداعية (ينظر إلى غالبه من علم ما دام مؤمنا ،ويستقين أنها فترة وتمضي ،وأن لليمان َكرّة
ل مفر منها .وهبها كانت القاضية فإنه ل يحني لها رأسا .إن الناس كلهم يموتون ،أما هو فيستشهد.
وهو يغادر هذه الرض إلى الجنة ،وغالبه يغادرها إلى النار ،وشتان شتان .وهو يسمع نداء ربه
الكريم:
(ل يغرنك تقلّب الذين كفروا في البلد ،متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد .لكن الذين
اتّقوا ربّهم لهم جنّات تجري من تحتها النهار خالدين فيها .نزل من عند ال خير للبرار) (.)1
والجاهليون يغفلون عن هذه الحقائق التي ينطلق منها دعاة السلم ،فيشردونهم ،ويضيقون
عليهم ،لكنه يخسرون كل جولة في النهاية ،بما صادموا من الفطرة التي جبل ال عليها الدعاة إليه.
فإن شئت أن تقول إن هاتين الحقيقتين نتاج لهذه الحرية ،ولهذا المل ،كان لك ذاك.
وإن شئت أن تقول إنهن أربع :الحرية ،والمال ،وهاتان :لم تعُ ُد الصّواب ،وإن لبين يدينك في
تاريخ الدعوة المثل من بعد المثل.
ولم يشحن تاريخ حركة بالمثال مثلما شحن تاريخ الحركة السلمية قديما وحديثا ،ولكثرتها
خفي بعضها على بعض الناشئة الجدد.
وفي الخفي ما هو أروع من الجلي ،ومصداق ذلك قصة تصديق الداعية القاضي محمد محمود
الزبيري –رحمه ال -لقواله ووعوده وعهوده بسيرة عملية.
نشأ في بقية الرث الموروث من اليمان اليماني والحكمة اليمانية التي أقر النبي –صلى ال
عليه وسلم -بها لهل عصره ممن باليمن ،وعزم على الصلح ،ووثب وثبة خير سنة 1948مع
الواثبين.
لم تكن وثبته تلك وثبة انتقام ،ول حب تسلط ،ولكن نظر النظر البعيد ورأى أن ل بد من
تغيير يحفظ اليمن في يد السلم قبل أن تمد له يد تغيير تقلد موجة الشرور ،وتحاكي انقلبات
البقين.
لقد فقد جهدا ،وضيعت عليه فرصة ،لكنه احتفظ بملك حرية قلبه ،ففخر بما ملك وازدهى،
واستعلى وتباهى وأنشأ يقول:
وللدعاة في عهودهم سمت أخذوه عن الزاهد جعفر الخلدي البغدادين وسنة في الوافاء ابتدعها
لهم ،من حين أن قال:
بهذه النفس كان الزبيري ،أديب اليمن الفذ ،يستعد استعداد من يملك الحرية ،ويحركه المل،
ويتعالى على حدود القطار ،ويستخف بالمحن.
خصال أربع منحته الصبر في فترة الصبر ،ووهبته التصميم على المناداة بالسلم في فترة
العمل ،فأسس الحزب السلمي في اليمن المتصارع يوم كان وزيرًا للمعارف والتربية بعد الثورة في
الستّينات ،فتلقى رصاصات في صدره نقلته إلى ما نحسبها شهادة له.
حسبوا أن الرصاصات ستنهي عمله ،فكانت رصاصات قدمت لظهور المد السلمي الواعي
الكفيل بإعادة السعادة إلى اليمن الباكي المعروف بالسعيد.
لقنهم إياها خالد بن الوليد –رضي ال عنه -لما وصف من معه ممن فتح بهم العراق ،فغدت
شرطا في كل داعية ،في كل جيل.
قال للفرس:
(قد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة) (.)1
وصاغها لهم عبد ال بن المبارك إمام الحديث ،وبطل الجهاد ،في بيتين كان يتمثل بهما كلما
خرج لصالحة فيقول:
ل تشتغل ب ُترّهات.
فكذلك قاموس لغة الدعاة ،يتطور ويتنامى ،ويضيف كل جيل منهم جديدًا إلى اصطلحات
صفاتهم .وضع بعضهم كلمة الحرية في الستعمال لما قال:
وزاد الثالث:
* ونستخف بالمحن *
)(1تاريخ الطبري .3/344
)(2تاريخ بغداد .10/166
137
وقبلهم وضع خالد اصطلح( :الحرص على الموت).
ويطالعنا الن الزاهد رويم باصطلح لما طلب منه صاحبه أن يوصيه فقال:
()1
(هو بذل الروح ،وإل فل تشتغل بترهات)
ل تعود هذه المة إلى إسلمها إل بدعوة تؤسس ابتداء على بذل الروح ،وإل فإن الماني مما
دون ذلك ،والتعويل على احتمال سماع أئمة الكفر لوعظنا ،واللغة الدبلوماسية ،ل تعدو أن تكون
ترهات فحسب.
ويا لها من صرخة في المشرق كان يمد ابن الجوزي بها صوته على شاطئ دجلة ببغداد،
ويهتف:
(أول قدم في الطريق :بذل الروح ......هذه الجادة ،فأين السالك؟) (.)2
ول زالت أجيال فتيان صباح الوجوه في كل قطر تجيبه أن :نحن السالكون ،إل قد بلغت ،وإنا
لنشهد ،بلغتنا فانتظمنا وخرجنا عن التهور ،وها هي أرواحنا ملك التخطيط الموزون ،نبذلها متى شاء
بإذن ال.
وفي زمنها كانت تجاوبها فصاحة مغربية تنطلق من لسان الدين ابن الخطيب تؤكد أنْ :نعم.
إنّ:
وهي (قطرة الدم) أيضًا .كذلك سماها داعية بسيط من الرعيل الول ،ل يحمل شهادة ،ول له
اسم مشتهر ،فقال لميره بلسان اليمان:
(إن قطرة الدم ل زالت غالية على المسلمين ،وما دامت قطرة الدم غالية فإنهم لن يصلوا إلى
شيء ،لن ثمن العزة والحرية قطرة الدم فقط) (.)3
)(1تلبيس إبليس لبن الجوزي .183
)(2المدهش لبن الجوزي .299
)(3مذكرات الدعوة والداعية .114
138
وهكذا تكون قوة بلغة لسان الصدق وإن كان صاحبه ل يعرف الجرجاني ول الجاحظ.
وهي الحدة والجرأة عند محمد إقبال .قرن الثنتين في بيت فقال:
()1
جريء لدى المعرك :المؤمن حديد :إذا ما طغى باطل
وعند آخر :لن تكون العظمة مع هوى العيش .ويصوغها نشيدًا يردد:
ويجمع داعية فقيه كل هذه الصطلحات في فتوى فقهية واضحة بعيدة عن تهمة فرط
الحماسة ،يقول فيها:
(المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر فرض كفائي يجب أن يكون في المة ،ولكن إذا كان
الحاكم ظالمًا باغيًا ل يتسع صدره لسماع النصيحة إلى درجة أن يقتل من يأمره وينهاه ،فإن هذا
الفرض يسع الفرد تركه ،ل المة ،ولكن من المندوب إليه ،بالنسبة للفرد ،القيام بهذا الفرض ولو أدى
ذلك إلى موته ،يدل على ذلك الحديث الشريف" :سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قال كلمة
حق لسلطان جائر فقتله" فيفهم من هذا الحديث أن من المندوب إليه :القيام بالمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ولو أدى ذلك إلى قتل المر .ول يعترض علينا بأن إلقاء النفس في التهلكة ل يجوز،
وهذه تهلكة .قال تعالى( :ول تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) ،لن الستشهاد في سبيل ال ليس بالتهلكة،
وإنما هو ضرب من ضروب الجهاد ،وما يترتب عليه من تقوية نفوس المحقين وخذلن المبطلين
وإيقاف الظالمين عند حدهم ،فحسن لهذه المعاني ،وندب الشرع إليه) (.)2
إن هذه الفتوى ،والثروة اللغوية التي في قاموس الدعاة ،وأقدام الهول الموصوفة ،من قبل،
وهذا المثال اليماني ،وعشرات المثلة في التاريخ الحديث والقديم ،ل تعني الستعجال ،ولكنها تثبت
بندا في قانون التربية الحركية للقاعدة الصلبة ،عنوانه :غرس الستعداد وشرح التبعة منذ البداية.
الستعداد النفسي لبذل الروح وقطرة الدم عند الحاجة ،فليست الدعوة جمعية خيرية تقنع
بالدليل.
والستعداد للتعب اليومي ،فدون غاية الدعوة رحلة طويلة ،وليست هي مجرد تصفيق في
احتفال أو استحسان لمقال.
والستعداد بإنفاق السرور ،وتحمل ثقل مصائب المة ،ابتداء بقضية فلسطين ،وانتهاء بمآسي
التنصير في إندونيسيا ،ومذابح المسلمين في البنغال والفلبين.
وهذه الثلث هي وجه للمرحلية التي ذكرها أحد الوعاظ قديمًا في قوله:
حزَن.
(يا هذا :أول الطريق سهل ،ثم يأتي ال َ
وهذا يقتضي أن تكون هناك نهاية أيضا ،وأن يكون في النهاية ما هو أكبر من إنفاق النفس،
ولم يذكره ،لكن الدعاة ،يميزونه في صورة لعلها هي (إنفاق ما بعد النفس) ،وأظنّها صورة الشوق
الشديد إلى الحُو ِريّات السّبعين ،فهو اجتماع الشوق بدرجة تنسي الداعية طعم الراحة ،ولذة الطعام،
وأنس الزوجة ،وتجعله هائما راكضا بل إلتفات.
ومن هذا الوصف القديم للمرحلية ،الذي جاء على لسان الواعظ ،ومن وجهها الخر الذي
رسمته الستعدادات الثلث :يتضح الوصف الحركي الحديث للمرحلية المتدرجة المتناسبة مع القوة
140
والواقع المحيط ،المنسابة مع انسيابية سير الحاضر نحو المستقبل ،وانسيابية القتران الكامن في فقه
الدعوة بين تفقهنا الشرعي ،وخبرتنا التجريبية.
حديث من استراح.
كان المام أحمد بن حنبل –رحمه ال -داعية نبها يقود تجمع دعاة من أهل التضحية والبذل،
وكان يعرف قيمة ثبات الداعية في المحن ،وأثر عدم إجابته لما يدعونه إليه من القول بخلق القرآن
في تثبيت المسلمين ،فمن ثم لم يجد لمن ل يفهم معاني لغة الدعاة واصطلحات قواميسهم غير
اصطلح:
إنه ل يكرههم ،ول يزدريهم ،بل يحبهم ويحرص عليهم ،ويستفيد من خيرهم مهما قل ،ولكنه
ل يدخلهم صفّه ما دامت عقولهم تتمتع بالراحة ،ول تحركها مصائب المسلمين.
يا أبا عبد ال :عليك عيال ،ولك صبيان ،وأنت معذور.
وما أكثر ما يقال مثل هذا للدعاة اليوم ،وما أكثر من يفهم السلم ثم يحدث نفسه بمثل هذا،
فيجبن وينزوي ول يشارك الدعاة سيرهم .وإنما هو حديث من استراح ،كما يقول المام أحمد ،وأما
هذا داعية المنصورة بمصر صلح الشربيني –رحمه ال ،-لم يمته رصاص النكليز لما
قاتلهم على قناة السويس ،ولكنه مات على سرير مستشفى بعد أيام الحج بمكة.
وهذا داعية البصرة قيس القرطاس –رحمه ال ،-لم يمته عذاب السجن الرهيب ،ولكنه مات
مخنوقًا بالغاز في حمام بعد خروجه من السجن بأيام.
وهذا داعية غزة عمر أبو جبارة –رحمه ال ،-صاحب الدعوة منذ صباه ودخل السجن فلم
يمته تعب البذل اليومي ومات من سقطة بسيطة.
وإنّ عهد الدعوة لن يقدم أجل ،ولكنه يرفع إلى الفراديس .فإن لم يكن المسلم مع أحمد ،أو مع
ورثة أحمد اليوم ،وقعد لعذر أو شبه عذر ،فإنه مطالب بالسف وازدراء نفسه على القل ،أل يكون
مع القوم العاملين ،كما قيل للزاهد الثقة بشر بن الحارث الحافي يوم تعذيب أحمد:
ما أقبح هذا الساق أن ل يكون القيد في نصرة لهذا الرجل) (.)1
ش َهرَ وأذاع حبه لحمد ،لكن الخليفة تركه لشهرته بالزهد وحب العامة له ،وخاف أن
مع أنه َ
يوسع دائرة النقمة عليه.
فالمؤمن الصادق إن عذر نفسه وأفتاها بالتخلف ،لنوع ضرورة أو ضعف يدريه من نفسه أو
شبهة :عرف ما يوجبه ذلك من التواضع وترك التطاول على الدعاة ،ويظل يتهم نفسه في اجتهاده،
ويمنح الصابرين المقتحمين لسانيا جميل يكون لهم فيه نوع سلوة وراحة .وأما أسير هواه فيجادل
ويثرثر ،ويقذف لسانه بكل لفظ صلب ،أل يوصف بتخلف ،فيجمع بجداله نقصًا إلى نقص ،والعياذ
بال.
ولن يزول المتخلف المستريح عن منازل الملومين حتى يفقه الوصف الحركي ،وينطق بلغة
الدعاة ،وينشد معهم ينقد على نفسه حاله الول:
)(1
142
ل يراه غير صوم وصله بريء السلم من شاك مضيم
فلنجاهد ،أو لتلفظنا الحياة ذروة الدين جهاد في الصميم
فهذا هو القول الموجز والحكم الخير في حالة المسلمين اليوم في جميع أقطار السلم.
وأما أن تلفظهم الحياة ،ويستبدل ال تعالى بهم آخرين ،أذلة على المؤمنين ،أعزة على
الكافرين ،يجاهدون في سبيل ال ،ول يخافون لومة لئم ،ول يغريهم جمال نساء ومال ،ول يرهبهم
طغيان طاغية ،واستئساد جاهلية.
أولى ثمرات العزّة اليمانية التي يحسها المؤمن :إدراكه ما في السلم من قوة الحقيقة التي
يكفي لكي تعلن عن نفسه أن تتمثل في فرد واحد ،وما في الراء الجاهلية المخالفة من زيف الباطل،
واحتياجها إلى سواد كثير وعدد كبير من الفراد ،يأسر منظرهم كل ساذج ،فيغتر ،وينطلي زيف
الباطل عليه ،دون أن يدرك ما هم فيه من الضلل.
ومن هنا رأينا تمثل المة السلمية أكثر من مرة بمؤمن واحد فقط ،كما قال ال تعالى:
143
ن إبراهيم كان أمّة قانتا ل حنيفا) قال ابن تيمية( :أي كان مؤمنًا وحده ،وكان النّاس كفارًا
(إ ّ
جميعهم) (.)1
وفي صحيح البخاري أنه قال لزوجه سارة( :يا سارة :ليس على وجه الرض مؤمن غيري
وغيرك) (.)2
ومن ها هنا أيضا انسد باب شعور المؤمن بالغربة ،فهو –لنه يمثل اليمان والحقيقة :يشعر
بأن الناس جميعا وهم في ضللهم هم الغرباء التائهون.
ولذلك ،فإنه لما توهم واهم فوصف عبد الوهاب عزام بالغربة ،كان جوابه سريعًا ،فقال:
أما غربة الغرباء الذين ذكروا في الحديث الشريف( :طوبى للغرباء) فهي غربة بالنسبة
للواقع ،أي لندرتهم وقلتهم بين غثاء ضال ،أما في عالم الضمير والشعور فإن للمؤمن الفرد من إيمانه
أنيسًا ورفيقًا وخليل يبعد الغربة.
وهذا التباين في شعور الداعية إلى اليمان ،عن شعور الداعية إلى الباطل :جعل دعاة الباطل
في تعب دوما ،وفي تبديل لصور باطلهم حين ل تنطلي على الناس ،ويُسوّغون ذلك بالتطور الفكري
والديالكتيك ،ويرون –بعقلية تجارية بحتة تضع حساب الرباح والخسائر المادية فحسب -أن من
يتكلم ويكتب لشاعة فكرة معينة ول يستجيب له الناس عليه أن يسارع إلى تبديلها بأخرى لها
تصريفًا .أما الداعية المسلم فهو يعتقد بأن عليه تحري القول الصائب الموافق للشرع ،وإتباع
السلوب الملئم حسب اجتهاده ،ثم ال هو الذي يتولى ما بعد ذلك ،فإن لم يستجب أحد فلحكمة
وبهذا الوعي لهذه الحقيقة اليمانية أجاب يوسف القرضاوي من اعترض عليه ،فقال:
وفي المثل العليا وفي المرتقى الصعبِ عجبت لهم قالوا :تماديت في المُنى
ستبذر حبّا في ثرى ليس بالخصبِ فأ ْقصِر ول تُجهد يراعك إنما
سأبذر حبي والثمار من الَربّ فقلت لهم :مهل ،فما اليأس شيمتي
()1
ولم أجد السمعَ المجيب فما ذنبي؟ إذا أنا أبلغت الرسالة جاهدا
إننا إذا لم نصل إلى ما نبغي ونريد ،فحسب عملنا أن يشجع الجيل اللحق على مواصلة
السير ،فإن النجاح في البتداء دليل على إمكان النتهاء ،أو كما يقول الرافعي:
(البدء في تحقيق الشيء العسير :حسبه أن يثبت معنى المكان فيه) (.)2
ووجود هذه النماذج الجيدة من دعاة السلم في كل مدينة من مدن السلم حسبه أن يثبت
معنى إمكان تطبيق المثل العليا السلمية من خلل تجمع حركي في وسط مظلم قاتم.
وهذا الثبات هو منطلقنا لمواصلة السير ،والكثار من تربية مثل هذه النماذج ،حتى نصل حدا
عدديا كافيًا لهداية من حولنا.
فإن لم يستطع الدعاة اليوم النصر فحسبهم أنهم كانوا –كما يقول سيد قطب( :-أجراء عند ال،
أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا :عملوا وقبضوا الجر المعلوم! وليس لهم ول عليهم أن تتجه
الدعوة إلى أي مصير ،فذلك شأن صاحب المر ل شأن الجير) (.)3
ل إلى كثرة النيس ،والعين تحب أن تقر بتسلط اليمان على الكفر،
وإل فإن في الفطرة مي ً
ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر ال.
وهذا ما يجعل الداعية حريصًا كل الحرص على تعلم فنون الدعوة ،لينجح في نقل مزيد من
الشباب من التيه إلى الطريق المستقيم ،وتراه ينتشي ويبلغ أقصى اللذة حين يأخذ بيعة جديدة ،ويكون
من أحب أدعية القرآن لديه أن يقول:
وما دعاؤه هذا من الستشراف للمسؤولية والتزعم وحب الظهور بحيث يكون مكروها ،بل
كما قال ابن القيم:
(هو يحب المامة في الدين ،بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إماما ،يقتدي به المتقون ،كما
اقتدى هو بالمتقين .فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى ال أن يكون في أعينهم جليل ،وفي قلوبهم مهيبًا،
وإليهم حبيبًا ،وأن يكون فيهم مطاعًا لكي يأتموا به ويقتفوا أثر الرسول على يده :لم يضره ذلك ،بل
يحمد عليه ،لنه داع إلى ال يحب أن يطاع ويعبد ويوحد ،فهو يحب ما يكون عونا على ذلك موصل
إليه ،ولهذا ذكر سبحانه عباده الذين اختصهم لنفسه وأثنى عليهم في تنزيله وأحسن جزاءهم يوم لقائه،
فذكرهم بأحسن أعمالهم وأوصافهم ثم قال( :والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ُقرّة
أعين واجعلنا للمتقين إماما) ،فسألوه أن يقر أعينهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم له سبحانه ،وأن يسر
قلوبهم بإتباع المتقين لهم على طاعته وعبوديته ،فإنّ المام والمؤتم متعاونان على الطاعة ،وإنما
سألوه ما يعينون به المتقين على مرضاته وطاعته ،وهو دعوتهم إلى ال بالمامة في الدين) (.)1
حبّ المامة في الدين يجب أن ل يخرجنا إلى نوع تساهل في الصفات اليمانية
ولكن ُ
والطبيعية التي نشترطها لمن يريد أن يكون مع الركب ،ويجب أن يكون هناك –على طول الخط-
تناسق وتوازن بين سعة التجميع وسعة طاقة التوجيه التربوي التي نملكها ،فإن من أخطر الخطار
)(1الروح ،لبن القيم .252
146
أن تتوغل الدعوة في تجميع واسع قبل أن تكون هناك صفوة من الدعاة قادرة على أن تتولى تربية
كل الذين يتجمعون حولها ،بل يجب أيضا أن يُبقي رجل الصفوة بعض أوقاتهم لمواصلة تربية أنفسهم
هم بالعلم والعبادة ،وإل قست قلوبهم من بعد لذة البتداء ،وإذا قست القلوب فقدت شيئا من معاني
الخوة.
هذا التوازن ليس بخاص في بداية الدعوة ،وإنما يجب أن يكون هو المسيطر على سعة
التجميع في أدوار كلها ،وإل تسرب الخطر.
ومن هنا فإن الخطة ل تتصور في مراحلها الولى احتمال حيازة رجل الشارع واستقطاب
الجماهير الواسعة ،بل ل يمكن أن يكون ذلك إل إذا خرجنا إلى نوع تساهل في الشروط ،ومن
المزالق أن تسير الدعوة وراء رجل الشارع حريصة عليه قبل حصول المقدار اللزم من الوعي
السلمي ،والعدد الكافي من أصحاب التربية الصلبة.
إن المتولعين بالسياسة من الدعاة يريدون للدعوة أن تدخل في سباق مع الحزاب لكتساب
رجل الشارع ،في الوقت الذي أبان رجل الشارع في البلد السلمية كلها عن طبيعته في قلة
استعداده للسير الطويل مع جماعة معينة.
رجل الشارع ،والغوغاء ،والدهماء ،والمصفقون :هم مادة الحزاب الجاهلية الرضية
وعنصر حياته ،لن هذه الحزاب تستطيع أن تبدل وتحور مناهجها وفق طلبات هؤلء وتبعًا
لستهلك السوق.
أما الدعوة السلمية فما بمثل هؤلء تنتصر ،وما بمثل هؤلء تغير مجرى الحياة.
إن التجمع القطيعي ممكن ،لكنه ل يستمر طويل .هذا فضل عن أن التجميع الواسع ينتقل
بالدعوة إلى وضع جديد تحتاج فيه إلى كفايات ضخمة تستخدمها في الدارة ،وإلى قدوات عالية
المستوى لدامة بقاء التجمع في رحاب الحياة الروحية أثناء انغماس الجميع بكثرة الحداث ،وإن لم
توجد مثل هذه الكفايات والقدوات قبل بدء التجميع الواسع والعمل مع رجل الشارع فإن الدعوة تكون
قد عملت على إيجاد جماهير تنتسب إلى السلم ،لكنها ذات رغبات ساذجة تنفر من الخطوات
الحكيمة وتندفع اندفاعات غير موجهة ول هادفة ،وربما طوعت السلم لقبول ما ليس منه وحملت
مفاهيم مشوبة بنظريات الكفر وعقائد مختلطة بالبدع.
147
اتزان التوسع الميداني.
وكما يولد التساهل في النتقاء ،والتكاثر الذي يلهي عن التركيز ،أنواع التورط والندفاع
العفوي غير الهادف ،فإن حماسة الدعاة في استدراك التقصير ،والربأ بنفوسهم أن يسبقهم الرضيون
والمنحرفون والملحدة ،والحرص على شمول ميادين العمل الثقافي والسياسي التي يتم فيها توجيه
الناس ،كل ذلك قد يدعوهم وينقلهم إلى تقليد الحزاب الرضية في خطط عملها بل مراجعة للرصيد،
ويقذفهم إلى مواجهة أهل الضلل في جميع الميادين والجبهات قبل الستعداد الكافي ،فيحصل (تشعب
العمل) ،و(توزع جهود ذوي الكفاية) ،فيقل التأثير في كل الميادين ،ويكون التعب والرهاق المستنفذ
للطاقة ،تمامًا كالذي يحدث في المعارك الحربية ،فإن التاريخ الحربي ،يظهر نماذج كثيرة لقادة فقدوا
دقة التخطيط الستراتيجي ،ففتحوا جبهات متعددة في آن واحد وزعت قواتهم ،ولم يصفّوا أعداءهم
واحدًا بعد الخر ،فكانت الهزيمة ،ول تزال فنون التعبئة العسكرية توصي القادة بأل يطيلوا جبهة
المعركة الواحدة ،وأن يهاجموا بالعمق الذي يكفل تعدد وجبات الهجوم إن أخفق الهجوم الول،
ويضمنوا وجود الحتياطي لدرء المفاجآت وحركات اللتفاف.
وليس قولنا هذا دعوة للراحة ،فإن الراحة موت ،ول للبرود ،فإن فيه الفوت ،ول لتحريم
الستفادة من فنون العمل التي برع فيها الجاهليون ،فإن المر يسع القتباس ما لم يصادم نصّا شرعيًا
أو عرفًا أخلقيًا استحسنه المؤمنون ،ولكننا ندعو إلى تقدير واقعي لطاقاتنا ،وتركيز لجهودنا ،وتجزئة
الستدراك بملء المجالت حسب أهميتها ،فإن الجهود المبكرة للكافر المستعمر في إنشاء الحزاب
أدى إلى أن تسبق الحزاب الدعوة السلمية ،وساعد على ذلك حيرة المخلصين بعد إسقاط الخلفة
العثمانية الشرعية ،ول يكون الستدراك بطفرة ،بل بسير موزون ،ومن ثم كان (اتزان التوسع
الميداني) قرين (اتزان التوسع العددي) في الوقاية من المصارع ،وارتباط التأثير بكثافة المسموع
والمنظور في الظاهرة التربوية يوجب مراعاة هذه الكثافة المتناسبة مع سعة الميادين التي تتوزع
عليها تناسبًا عكسيًا ،والتي تكثف كلما قلت الميادين.
والتاريخ القريب يرينا وقوع بعض أجزاء الحركة السلمية في مثل هذا التوزع والشمول
المستعجل كرد فع لكثافة الحداث السياسية ،والتنامي الحزبي ،إذ لجأ الدعاة إلى معاركة الجاهليين
في النقابات ،والتحادات المهنية والنوادي الدبية ،وعموم المرافق الجتماعية ،في وقت كان عدد
148
أصحاب الكفاية والدربة فيه قليل ،وكان النظر المتزن يوصي باللحاح في التربية الداخلية ،وتعميق
اليمان ،وتمتين الصف بغرس معاني الطاعة واللتزام ،قبل ولوج جولت التنافس.
إن الداعية الفقيه ل يستفزه تغلب الملحد القوي إن كان هو ضعيفًا ،بل يكظم غيظه ،ويصبر،
ويبدأ يعمل في انتظام ،ويطلب لرجله قبل الخطو موضعها من الرض الصلبة.
وحماسة المتحمسة من الدعاة ل تثمر على إطلقها ،فإنها محكومة بالواقع في بعض جوانبها.
وأهم ظواهر هذا الواقع السر عن مماشاة الحماسة وتنفيذ التمنيات :هو ضعف بعض الدعاة
وقصور مستوياتهم عن التمكن من مجاراة الخرين .فمجابهة الجاهليين في جميع الميادين التي
يطرقونها الن ،يقتضي نوعا من المقدرة والصلبة لدى الدعاة يشير واقعنا في البلد التي ل تزال
فيها الدعوة ناشئة إلى قلة من يتصف بها بالمستوى الذي يستطيع فيه أن يقود ويبتكر ويحرك
ويستمر ،ومن دون أن يتركز الثقل على عاتق أنفار معدودين من الدعاة.
إن النقطة التي يغفلها المتحمسة تتجلى في أن القسط العظم من فقه النتقاء والتشدد المتولد
عندهم ،ومن صلة النية والصرار وعلو الهمة ،إنما كونهما فيهم تفكير سنوات ،وتفاعل قلبي عميق
متوال مع أخطاء الماضي ،ومعاناة يومية لعمل طويل ،ول يمكن لفاقد هذا الفقه وهذه المعاناة أن
يكون بمثل مستواهم عن التنفيذ.
إنه حقيقة واقعة ،تنقل التخطيط عن المثاليات والرتجال إلى التدرج المتناسب مع الطاقة ،ومن
الخطأ أن تطلب سيرة صلبة واعية لدعاة ضعفاء ومجرد اللحاح عليهم ل يكفي إن لم يُسبق بتربية.
وهل رأيت الدول النامية تركز حكوماتها على الصناة الثقيلة في أول أمرها ،لنه مفتاح كل
صناعة أخرى.
149
كذلك نحن في أول أمرنا ،ولما نزل في مرحلة تشبه أول المر في كثير من البلد ،لكثرة
الخطاء وعنف حرب الكفر وعملئه لنا.
يجب التركيز على مصنع الثقات الذي يربي بالدعاة المسلحين باليمان والفقه الحركي
وتكديسهم ليجابهوا الكفر في ميدان إثر ميدان ،ول بد من أن ترصد الكفايات لخدمة الجهاز المربي
للثقات وتمتينه وتقويته.
إن الفترة منذ بداية جزء من أجزاء الحركة السلمية في عمله إلى اليام التي يقارب فيها
القوى الجاهلية المحيطة به يجب أن تكون فترة انتباه للتجميع وتربية وتفقيه ،وكل فتح لميدان جديد،
أو واجهة ،أو تحول إلى النغماس في المعترك السياسي كلية ،فإن معناه حصول التصادم بين
متطلبات الجهاز التربوي ومتطلبات الميادين الجديدة والنشاط السياسي ،المتسبب من قلة أصحاب
المقدرة والكفاية الذين يديمون تلبية هذه المتطلبات ويديرون الجهزة المختلفة ،ول يسوغ في التخطيط
أن تنفتح الدعوة انفتاحًا واسعًا في العمل قبل تأكدها من وجود ثقات بعدد كاف يديمون هذا النفتاح،
ويحولونه عن مجرد فورة سريعة ورد فعل لستفزاز الجاهليين لنا ،وإن كان هذا ل يمنع من تدريب
بعض الدعاة ،وبعدد قليل ،بالمشاركة في هذه الميادين عمليًا ،ليكونوا روادًا موجهين في أيام النفتاح.
كلم مقدس قاله ال تعالى ،محكم غير متشابه ،ماض غير منسوخ ،أراده عزّت إرادته أن
يكون للدعوة السلمية شعارًا ،ودستور عمل ،ومعلم طريق ،فجعله جل وعل في آية تتلوها المليين
كل يوم ،أن :بسم ال الرحمن الرحيم( .لقد أرسلنا رُسُلنا بالبينات وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع
للناس ،وليعلم ال من ينصره ورسله بالغيب ،إن ال قوي عزيز).
فكل قلب أُحكمت أقطاره ولم تتشابه ،ومضت إلى الخير عزيمته ولم تنسخ ،فهم هذه الية فهم
رسول ال –صلى ال عليه وسلم -لها.
فهمها أبو بكر –رضي ال عنه ،-المشتق لقبه من أسماء السيف ،فكان منه القرار لمن لوح
له بالسيف أداة تقويم إن زاغ واتبع الهوى.
وتواصت أجيال المسلمين بعدهما بهذا السلوك وتواصت بالقرآن ،فبعدوا عن الخسران.
150
حتى إذا خسروا ،وفق ال ابن تيمية –رحمه ال -يتلو عليهم هذه الية ،ويفسرها ،ويقول لهم:
(ذكر تعالى أنه أنزل الكتاب والميزان ،وأنه أنزل الحديد لجل القيام بالقسط ،وليعلم ال من
ينصره ورسله ،ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي ،وسيف ينصر ،وكفى بربك هاديا ونصيرا) (.)1
(إذا ظهر العلم بالكتاب والسنة ،وكان السيف تابعا لذلك :كان أمر السلم قائما) (.)2
ارتقاء المام البنا –رحمه ال -أوجب البتعاد عن التهور ،وحذر المتحمسة الملحاحين،
وعلمهم أنّ:
التدرج في الخطوات.
وانتظار الزمن.
وبذلك حدد المام علجا رابعا يحمي الدعوة من أنواع التورط والندفاع غير الهادف ،ويقيها
المصارع ،وأطلق عليه اسم( :النتظار).
وهكذا ،فإن من تمام واجب التربية السلمية الحركية في مراحل البتداء والتأسيس :غرس
الستعداد النفسي للنتظار الذي تكمل أثناءه صناعة الختصاصات التي تتولى النتشار والتوسع
الميداني ،ثم ما يتطلبه هذا النتظار اليجابي من القلل المرحلي في ولوج السياسة.
)(1مجموع فتاوى ابن تيمية .10/13
)(2مجموع فتاوى ابن تيمية .20/393
)(3مجلة (الدعوة) المصرية عدد .67
)(4نفس المرجع السابق.
151
إننا نجد أنفسنا في الحقيقة –ما دمنا نبذل الجهود التربوية بتواصل -أثبت من أن نأبه لشيوع
هذه الفكار الرضية المستوردة ،ونتقل أخبار انتصارات هذه الحزاب بشجاعة ،فإنها ليست على من
النتصارات الوقتية غير المؤهلة للدوام ،وستعصف بها جهودنا التربوية متى ما صدق عليها وصف
التربية وخرجت عن حد الفورة والرتجال.
بل أبعد من ذلك ،فلعلها حكمة ال في انتصار هذه الضللت ،لنها عجزت عن صنع الواقع
السعيد الذي وعدت الناس به ،وعجزهم هذا معناه فشل لجهودهم التربوية ،وإنها لفضيحة كبرى
تعيشها النظمة الفاسدة والدكتاتوريات التي أرادت حرف الناس عن السلم هي في وجهها الخر
اختصار لطريق دعاة السلم.
يسبقنا فيه الرضيون لوقت ...يسقط فيه بعضنا ...وتفوتنا بعض المغانم فيه.
وقد يرى البعض أن هذا الطريق البطيء ل يعوّد الدعاة على التضحية ،ويرى أننا نسقطها من
حسابنا.
ولكن المر ليس كما رأى ،فإن التضحيات مطلوبة ،ولكن في وقتها ،ول تؤتى مفتعلة ،وخير
الدعاة من بذر بذورها في نفوس إخوانه منذ الن.
إنه طريق واحد أصيل ل ثاني له :طريق التربية التدريجي الذي أوجزه الستاذ المرشد حسن
الهضيبي –رحمه ال -بقوله:
وخطواته :أن تشيع الوعي السلمي ،وتجمّع ،وتربي ،وتتوسع في اتزان ،وتنتشر في تأن،
وتنتظر حتى تكتمل الختصاصات ،وترقب ضعف من تسلط زورًا ،وترفع يدك إلى ال داعيًا أن
يرحم المسلمين ،حتى يسقط رداؤك عن منكبيك ،فإنه إن سقط :علوت.
152
أهمية الوعي الحركي في التعجيل.
ولكن واقع الحركة السلمية يشير إلى إمكانية اختصار هذه الفترة اختصارًا كبيرًا ،والتعجيل
في النفتاح المبتغى ،بواسطة اللحاح في نشر الفقه الحركي وترويجه وإيصاله إلى أصحاب
سلّم ِزمَامَه
الخلص الذين يعوزهم هذا الفقه ،فإن الدعاة كثير عددهم في كل مكان ،أو قُل :من َ
للدعوة والدعاة ،ولكن هذا الفقه الحركي هو الذي ينقصهم ،ولم علمناهم إتعاب النفس وإرهاقها،
والصبر على سهر الليالي وحني الظهور لتدارس هذا الفقه ،لوعى منهم جيل كثير من أصحاب
الستعداد يسدون الشاغر ،ويحلون محل الضعيف.
إن من أبرز التقصيرات المأخوذة على الحركة السلمية في حقبتها الماضية :تقصيرها في
تدوين أوليات الوعي الحركي وفقه الدعوة ،وإطنابها في شرح أنظمة السلم وجزئياته ،حتى بتنا
نرى هذا العدد الكبير الضخم من المنتسبين للدعوة دون أن يكون إنتاجهم وتغييرهم للواقع بالمستوى
الذي يظنه من يراهم لول وهلة ،لفوات فنون العمل وأصول العمل الجماعي عنهم ،وإنما يبدأ
الستدراك من هذه الحقيقة.
والستدراك بتنسيق تدريسه وتعويد الدعاة على أخذه مأخذ الجِدّ ل َتصَفّحه في مطالعات
عابرة.
153
.16النتقاء يقي المصارع.
ولهذه الصفات الفردية أصداء وانعكاسات في المجموع ،فالمجموع يندفع اندفاعات عفوية
بإلحاح من أعضائه ،فتتبدّد القوى ،ويكون الفشل.
إنه الندفاع العفوي الذي يسير فيه المجموع بل خُطة ،أو بخطة ل تلئم الواقع وبل هدف ،أو
بهدف غير مركز ول واضح ،وتتمحل الماني والمثاليات والحلم لجعله هدفًا.
وهذا وصف مرعب في الحركات ،يرغمها على التفتيش عن حلول تقي مصارع العفوية.
وأول الحلول يتمثل في تواصي قادة الحركة وجنودها بسمت من التشدد في تسليم مراكز
التوجيه داخل الحركة ،وتأمين صعود الثقات إليها ،من أصحاب اليمان والعلم والعمل.
كذلك فإن صعود الثقات إلى مراكز التوجيه هو الذي سيؤمن وضوح الهداف البعيدة في
أذهان المخلصين الفائرين من جنود الدعوة الجدد الذين لم تعركهم التجارب ،وهو الذي سيؤمن تفسير
سوّغاتها ،وفي كل هذا مساهمة أكيدة في التأمين ضد الندفاع
السياسات المرحلة لهم وإيضاح مُ َ
المستعجل ،وضد الندفاع غير الهادف.
والداعية حين ينظر الحالة الراهنة للحركات السلمية المنبثة في العالم السلمي ،وحين
يرجع إلى تاريخها ،تتجلى أمامه عِظَم رعاية ال سبحانه لها في اختيار قادتها ،فليس فيهم إل إمام له
قدم راسخة في اختيار العوان دفعوا ثمنه غاليًا في انشقاقات وفتن ،أو في مواقف لينة ،وكأن ذلك
154
من تمام العناية الربانية أيضًا ،فإنهم من خلل التساهل تعلموا التشدد ،ومن معاناة التعامل مع
الضعفاء تعلموا الحرص على النتقاء ،وليس مثل العلم التجريبي مصدر وعي.
()1
وتُوسع المرءَ إبدالً تجا ِربُهْ تجارب أبدلتني غير ما خلقي
ومنه نوع ما هو بتساهل ،ولكنه ضرب من المجازفة في العتماد على السذج الذين ينقصهم
أسلوب العصر ويعوزهم الوعي السياسي ،حتى لكأن الدعوة تئن من كثرة أخطائهم ،وتنادي:
وإنه لهمّ طويل ،يعرفه ويميزه المنغمس في العمل اليومي الحركي ،فإن تعقّد المجتمع
الحاضر ،وتعدد الحزاب ونشاطها ،والتخطيط اليهودي والماسوني داخل أقطار العالم السلمي ،كل
ذلك يتطلب نوعا من الدعاة المسلمين يزيدون على إيمانهم وإخلصهم وعلمهم الشرعي نوعا من
الوعي السياسي ،والخبرة بالساليب التنظيمية ،والمهارة في التخطيط المتزن الملئم للواقع الذي
نعيشه والمناسب للقوة التي نملكها ،وهؤلء هم وحدهم أصحاب النباهة الذين يبددون هموم الدعاة.
وباطل ظن من يتوهم عدم وجوب شرط القدوة لمن يشتغل في مراكز الدعوة التي ليس فيها
توجيه تربوي مباشر ،فالبعض يفصل بين المربين من الدعاة وغيرهم ممن ينفذون العمال التي
يتطلبها شمول الدعوة .لكن تحليل الظاهرة التربوية ينفي ذلك ،فإنهم جزء مرئي من هذه الدعوة يقلده
الجدد والنصار ،ولسان ناطق يسمعه هؤلء فيتأثرون به .ولذلك لم يفهم السلف فصل وظيفة رجل
الدولة السلمية عن التعليم والتربية ،وكانوا يرون أنه رجل تربية أيضًا.
قال ابن تيمية –رحمه ال -في شرح معنى( :كونوا ربانيين):
(قال مجاهد :هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره ،فهم أهل المر والنهي).
قال( :وذلك هو المنقول عن السّلف في الرباني.
نُقل عن علي قال :هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها.
)(1للبحتري في ديوانه .1/226
)(2شطر من خريدة القصر 1/258القسم العراقي للعماد الصبهاني.
155
وعن ابن عباس قال :هم الفقهاء المعلمون.
قلت :أهل المر والنهي هم الفقهاء المعلمون.
وقال قتادة وعطاء :واحدهم رباني ،وهم العلماء المعلمون).
()1
ثم ختم فقال إنهم( :منسوبون إلى التربية)
وإذن ،فإن جميع من يساهم في أعمال الدعوة إنما هو قدوة يُحتمل تأثيرها ،ويجب أن يحوز
شرط القدوة العلمية.
ومركز القدوة حساس دقيق جدًا ،ويجب أن ل يوضع فيه إلّ من كان مستعدًا للخذ بالعزيمة،
والبعد عن الرخص ،وإل من كان يغلب عليه الجِ ّد والزهد والتجرد ،ويشتاق إلى التعب والبذل ،لنه
إمام لمن حوله يقلدونه ،ول بد أن يكون فعله أبلغ في التعبير عن عقيدته ومعاني دعوته من قوله،
لن المنظر أعظم تأثيرًا من القول.
ومن ها هناَ ،لمّا هَمّ إمام مصر الليث بن سعد بفعل مفضول ينافي العزيمة قال له إمام المدينة
بن سعيد النصاري( :ل تفعل ،فإنك إمام منظور إليك) (.)2
وقيل:
ومن لم ينعشك عبيره على بعد ،فاعلم أنه ل طيب فيه ،ول تتكلف لشمه.
والداعية الصادق تستمر هيبته اليمانية في تعظيم ،وتظل في تصاعد ما تصاعدت هيبته ل
تعالى وتعاظمت اهتمامات قلبه بدعوته ،حتى يغدو منظره قاطعًا لغفلة ناظره.
وقال الشافعي:
(ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إل لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه ،وإذا
نهاهم عن شيء يكون أبعدهم منه).
وقال بعضهم:
" للمريد بلقاء كل صادق مزيد ،وفد ينفعه لحظ الرجال كما ينفعه لفظ الرّجال ،وقد قيل :من ل
ينفعك لَحْظُهُ ل ينفعك لَفْظُه".
(إن الرجل الصديق يكلم الصادقين بلسان فعله أكثر مما يكلمهم بلسان قوله ،فإذا نظر الصادق
إلى تصاريفه في مورده ومصدره ،وخلوته وجلوته ،وكلمه وسكوته ،وانتفع بالنظر إليه ،فهو نفع
اللحظ ،ومن ل يكون حاله وأفعاله هكذا فلفظه أيضًا ل ينفع ،لنه يتكلم بهواه ،ونورانية القول على
قدر نورانية القلب ،بحسب الستقامة والقيام بواجب حق العبودية وحقيقتها).
حوْشَب:
ومثله من كلم التابعين قول شهر بن َ
(إذا حدّث الرجل القوم فإن حديثه يقع من قلوبهم موقعه من قلبه).
(إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا) .أي قطرة
الندى عن الصخرة الملساء.
قال :زلّة العالم ،إذا زلّ العالم زَلّ بزلته عالم كثير) (.)1
)(1كتاب الزهد لبن المبارك .520
157
فلكل هذا كان من فقه الدعوة دقة اختيار من يكون قدوة ،ول تساهل في المر ،ول نخدع
أنفسنا فنسوغ التساهل تجاه البعض بعدم تسميتهم قدوات ،وبوصف مهمتهم بغير وصف التربية ،فإن
كل من يتعالم مع الدعاة إنما هو قدوة لهم ،من حيث إمكانية رؤيته وسماع قوله ،ووجود تأثر السمع
به ،فإن إنضاف إلى ذلك إيحاء وصف الداعية بأنه من المربين زاد التأثير ول شك ،وتفتحت القلوب
لقبول كلمه ومواعظه ،فإن عضدها فعله فنعمت المواعظ منه ،وإن لم تترجمها حياته اليومية معهم
إلى أفعال فإنها ل تعدو أن تكون هذرًا منفرًا.
(أن الموعظة أن تتأدّ في أسلوبها الحي كانت بالباطل أشبه ،وإنه ل يغير النفس إلّ النفس التي
فيها قوة التحويل والتغيير ،كنفوس النبياء ومن كان في طريقة روحهم ،وإن هذه الصناعة إنّما هي
وضع نور البصيرة في الكلم ،ل وضع القياس والحُجّة ،وإن الرجل الزاهد الصحيح الزهد إنما هو
حياة تلبسها الحقيقة لتكون به شيئًا في الحياة والعمل ،ل شيئا في القول والتوهم ،فيكون إلهامها فيه
كحرارة النار في النار ،من واتاها أحسها.
ولعمري ،كم من فقيه يقول للناس :هذا حرام ،فل يزيد الحرام إل ظهورًا وانكشافًا ما دام ل
ينطق إلّ نطق الكتب ،ول يحسن أن يصل بين النفس والشرع ،وقد خل من القوة التي تجعله روحًا
تتعلق الرواح بها ،وتضعه بين الناس في موضع يكون به في اعتبارهم كأنه آت من الجنة منذ
قريب ،راجع إليها بعد قريب.
والفقيه الذي يتعلق بالمال وشهوات النفس ،ول يجعل همه إل زيادة الرزق بالمال وشهوات
النفس ،ول يجعل همّه إل زيادة الرزق وحظ الدنيا ،هو الفقيه الفاسد الصورة في خيال الناس ،يُفهمهم
أول شيء أل يفهموا عنه) (.)1
ودعوتنا هي الحياة.
س َوةُ الصادقة.
وعلم الدعوة كله هو الُ ْ
ولو تفحصنا مدى تطبيق هذا العلم المهم لوجدنا ثغرات كبيرة في تاريخ الحركات السلمية
الحديثة كان يحصل فيها انخداع بالخطباء ،وأصحاب الشهادات العالية ،والمشاهير ،وكانوا يُدفعون
إلى الصدارة من دون طويل تجريب لهم ،وتقع الدعوة في ورطة ربطهم باسمها ،ول يلبث المعدن
الضعيف أن يفضح نفسه أثناء ترغيب أو ترهيب أو سياسة حركية تقتضي فقها لفهمها ،فيكون
النكوص.
إن اليمان ،وفقه الدعوة ،وشدة النغماس في العمل التجميعي والتربوي ،ووضوح الطاعة،
هي المحكمات التي يجب أن تتحكم في عملية النتقاء والتأمير ،ل شروط الوظائف الحكومية،
وأعراف المجامع الدبية.
بل إن على الدعاة أن يجفلوا ويخافوا ويحذروا من يكون عليم اللسان ،الذي يكثر التشدق،
ويتكلف اختيار الفصيح ،فإن النفاق والضعف يكثر في هذا الصنف ،ويجب أن ل يطمئن الداعية إلى
أحد بهذه الصفة إل من بعد أن يضمر في نفسه امتحانه ،فيراقبه مراقبة دقيقة مدة ،ويكون توثيقه له
من بعد تجربة ،ومن بعد رؤية قرائن إيمانه وصدقه.
سلَف ،فإن عمر بن الخطاب –رضي ال عنه -لما خاف الحنف بن قيس –
وللداعية في ذلك َ
رضي ال عنه -وكان الحنف متكلمًا لبقًا داهية :أبقاه عمر معه في المدينة سنة يراقبه ،ثم قال له:
(يا أحنف ،قد بلوتك وخبرتك فلم أر إل خيرًا ،ورأيت علنيتك حسنة ،وأنا أرجو أن تكون
سريرتك مثل علنيتك ،فإنا كنا نتحدث :إنّما يُهلك هذه المة كل منافق عليم.
وكتب عمر إلى أبي موسى الشعري :أما بعد ،فأدْنِ الحنف بن قيس ،وشاوره ،واسمع
منه)(.)1
وكم يحيط بالدعوة في العالم السلمي اليوم من رجال يجب على قادة الدعاة امتحانهم ،وكم
هي حاجة الدعاة إلى مثل علم عمر.
ولمثل هذا دأبَ السّلف الصالح على كثرة التوصية بضرورة مثل هذا الختيار ،كقول سيد
التابعين الحسن البصري:
(اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا قولهم ،فإن ال لم يدع قول إل جعل عليه دليل من عمل
يصدقه أو يكذبه ،فإذا سمعت قولً حسنًا فرويدًا بصاحبه ،فإن وافق قوله عمله فنعم ،ونعمة عين،
فآخه ،وأحببه ،وأودده ،وإن خالف قولً عملً فماذا يشبه عليك منه ،أو ماذا يخفي عليك منه؟ إياك
وإياه ،ل يخدعنك) (.)2
إنها الوصية القديمة ،ولكن القلوب تغفل ،وشهوة الوصول السريع ،أو شهوة التكاثر بالنصار،
تلهي ،وتدعو إلى التجاوز عن العلم الموروث.
وضعف الضعيف يكون من بدعة كما يكون من ذنب ،هذا ما تعارف عليه العلماء منذ القدم،
حتى إنهم كانوا ليهجرون الخ الشقيق إذا اعتقد ببدعة ،مثل علي بن حرب بن محمد الموصلي ،هجر
أخاه أحمد بسبب قوله أن لفظه بالقرآن مخلوق ،مع ثقته وصدقه( ،)3ومع سلمة قوله هذا ،واشتهاره
عن البخاري ،أيضًا ،ولكنه أنكر عليه لقرب العهد من بدعة خلق القرآن ،وأرادوا أن ل يدندن أحد
بما يقرب من ألفاظ المعتزلة ويزيد حيرة العامة.
ولكن أدعياء وحدة المة في هذا العصر يدعون إلى التجاوز عن معاني البدع ،وسرى هذا
الوهم الدعاة ،وأسقطوا أمر البدعة كعامل من عوامل التمييز ،فوقعوا في الخطأ.
وقال( :من أحب صاحب بدعة :أحبط ال عمله ،وأخرج نور السلم من قلبه).
إن الدعوة للخذ بيد المذنب والعاصي في تصرفاته السلوكية ،إذا كان أصل اليمان في نفسه:
أهون بكثير من التعاون مع المبتدعة حال تمسكهم ببدعهم ،والمذنب أقل ضررًا من المبتدع من
وجوه ،منها:
(أن المذنب إنما ضرره على نفسه ،وأما المبتدع فضرره على الناس.
والمبتدع قد قعد للناس على صراط ال المستقيم يصدهم عنه ،والمذنب ليس كذلك.
والمبتدع قد قعد للناس على صراط ال المستقيم يصدهم عنه ،والمذنب ليس كذلك.
والمبتدع مناقض لما جاء به –صلى ال عليه وسلم ،-والعاصي ليس كذلك.
والمبتدع يقطع على الناس طريق الخرة ،والعاصي بطيء السير) (.)1
إن حذر العمل الجماعي السلمي من المبتدعة أصبح قاعدة تؤكد نفسها يومًا بعد يوم.
وإنها لقاعدة قديمة ،عمل بها ال ُفضَيْل بن عياض ،وأوجزها في كلمات رائعة ،فقال:
أحب أن يكون بيني وبين صاحب البدعة حصن من حديد .وصاحب البدعة ل تأمنه على
دينك ،ول تشاوره في أمرك).
إن هذا القول القديم ،ترجمة كاملة للمعنى الذي نقصده ،ولمبدأ التشدد في النتقاء ،صاغه
الفضيل في مَثل من المؤاكلة ،تقريبًا للفهم.
فقد بان إذن ،أن التشدد في النتقاء هو الحل الساسي للتأمين ضد الندفاعات العفوية ،وإن
أجزاء الحركة السلمية مدعوة إلى الستدراك السريع في هذا المجال.
بل الحق أن النتقال إلى هذا التشدد ستر واجب لسمعة السلم اليوم ،كما قال الفقيه الزاهد
الوزير العباسي ابن هبيرة الدوري السامرائي لبعض من يأمر بالمعروف:
(اجتهد أن تستر العصاة ،فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل السلم ،وأولى المور :ستر
العيوب) (.)1
ومن أهم أوصاف الستر الذي يطلبه ابن هبيرة :أن تحرم أعداء السلم من فرصة الشارة
إلى مثل هؤلء الضعفاء ،والتشهير بالدعوة من جراء تصديهم لمورها .وكلما دفعت التقي النقي إلى
الظهور دون الضعيف والمصلحي والمبتدع :كنت أكثر صونًا لسمعة السلم.
تصديهم لمورها .وكلما دفعت التقي النقي إلى الظهور دون الضعيف والمصلحي والمبتدع:
كنت أكثر صونًا لسمعة السلم.
بل ينبغي ما هو أشد من هذا ،فإنه من الواجب على الثقة أن ي َفوّت الفرصة على الضعيف إذا
جالسه بقصد أن يقال :جالسه الثقة فلن من الدعاة فهو ثقة ،وإنه لو لم يكن ثقة لما جالسه.
(كان اليهود يتعاطسون عند النبي –صلى ال عليه وسلم -يرجون أن يقول لهم :يرحمكم ال.
فيقول :يهديكم ال ويصلح بالكم) (.)1
فلو قال لهم :يرحمكم ال ،لقالوا للمسلمين :لو كنا ضالين لما دعا لنا بالرحمة.
وأيضًا ،فإن تنظيمنا ما هو بطبيب يداوي ،وإنما هو مستدرك يغتنم الفرص قبل أن يُحوّل
طول تسلط الطغيان سلبية المسلمين إلى استخذاء دائم ،ولذلك وجب عليه النتقاء والتخير للذكياء
الشجعان ،ومنع الجبناء وضعاف الشخصية وقليلي الذكاء من دخوله ،توفيرًا للجهود التربوية،
وإسراعًا في تحقيق الغايات ،مع التعويض بتعاون معهم خارج عن اللتزامات الدقيقة.
وليس في هذا المنع عدوان على هؤلء كما يظن البعض ،ول بخس لحقوقهم ،ول منع خير،
وإنما هو من باب التقوى في أمر الدعوة توجبه المصلحة ،وتؤكده التجارب ،ولهؤلء الضعاف
إسلمهم ،ول نبخل عليهم بحب ونصيحة ،ولكن أمر الدعوة شديد ل يصلح له إلّ الشداء الذكياء،
فمنعنا تقوى وانتقاؤنا عزم ،كما قال الشاعر:
صنيعة تقوى تلك ما دمتُ ناصحَة منعتُ ،وبعض المتع حزم وقوة
فبعض المنع ،وسد البواب بوجه الضعفاء ،إنما هو حزم وقوة تحركهما التقوى ،من دون غلو
في اتهام الناس ،أو سوء ظن ،أو شطط في التعامل.
إن تجمعًا ل ينتقي أعضاءه قد ينهار ،ل بأول عاصفة يتعرض لها ،بل بأول نسمة خفيفة
تفجؤه.
وبدونك يبقى هذا الفقه أحلمًا ،وأنت أنت الذي عندك تأويلها العملي وتطبيقها الواقعي.
ثوب الجهاد نشيطًا غير كسلنِ واخلع ثياب السى واليأس مرتديًا
()2
إن لم يكن منه بدٌ غير خشيان وأتقِن الموت فنّا كيف تجرعه
.17تركيز ل تكاثر.
وتكمن العاصمة الثانية في تجميع متناسب مع جهود المربين ،بحيث يمكن إسماعهم جميعًا
الكلم الموجه ،بتركيز مؤثر ،ومنع التأثيرات الخارجية عنهم.
فالنسان يحب الثراء الكمي والعددي ،في المال ،والعلوم ،والبنين ،والنصار ،في كل شيء.
وخطورة إهمالها تتأتى من أن إشباع الغريزة يؤدي إلى حصول (النشوة) في النسان ،والنشوة
حالة من حالت النفس تؤثر على العقل تأثيرًا سلبيًا ،فتجعله في ركود.
ومن هنا تصاحب النشوة اندفاعات غير مدروسة ،يشترك فيها الجميع ،القادة وتلميذهم ،لن
الحساس بالثراء يولد الطمئنان وإيحاءات الضمان.
معارك النفس
إن هذا التقرير يؤكد ما قلناه من صعوبة الحركة التي تخوضها الدعوة ،فإن ميدان المعركة هو
النفس النسانية بكل تعقيداتها ومتناقضاتها.
أنت تعيش وتتعامل مع نفس إنسانية ،فيها الغرائز .غرائز حب البقاء ،وحب التكاثر والثراء،
وإشباع الشهوات الجنسية .وفيها النزاعات :نزعات الثأر ،والحذر ،والدفاع عن عقيدتها ،وحب
شيوعها.
والمجتمع الذي أمامك هو مجموع هذه الغرائز والنزعات والميول والرغبات ،فإن لم تعرف
المداخل والبواب التي تدخل منها إلى هذا المجموع من الغرائز والنزعات المسمى ب(المجتمع) فإن
165
الفشل يصيبك حتمًا ،وإذا غالطت نفسك وتجاهلت هذه الغرائز والنزعات فلن يضير وجودها شيء،
وأنت ُتضَارّ.
ستبقى هي لنها وجت بإذن ال لتبقى ،أما أنت فستزول وتخونك حساباتك وتقديراتك لنك
خالفت الفطرة.
إن النفس النسانية هي ميدان كل هذه النقلبات الجتماعية والسياسية الكثيرة المتواصلة التي
يحدثنا عنها التاريخ القديم والحديث.
اندفاع وراء إشباع البطون ،أو إشباع الشهوة الجنسية أو طلب الترف.
اندفاع وراء إشاعة عقيدة اعتقدتها ،أو محاربة من يخالف هذه العقيدة ،بالمفهوم الواسع
للعقيدة ،من ُمثُلٍ وقيم ،حقة أو باطلة.
إنها اندفاعات مادية ومعنوية ،قد تجتمع وقد تنفرد .هؤلء هم البشر.
إن بعضهم قد وجد في نفسه المقدرة على توجيه الخرين نحو قس من هذه التصرفات التي
تساعد عليها الغرائز والفطر ،فسمينا عمله هذا( :تربية).
وإذن ،فإن معركتنا معركة تربوية ،أي أنها تقوى وتشتد كلما تعمقت التربية ،وأتقن المربي
عمله ،وتخبو جذوتها كلما فترت التربية ،وكانت سطحية.
أي أن الجهود التربوية لعدد محدود من القادة المربين إذا تركزت على التلميذ فإنها تكون
أعمق تأثيرًا فيهام كلما قلّ عددهم ،بتناسب طردي ،وتفتر ويقل تأثيرها كلما زاد عددهم.
ومع هبوط كمية التأثير يحصل الندفاع العفوي غير الهادف ،ثم القاصمة والمصرع.
166
وإذن ،فإن من صالح معركتنا أن ل يندفع الصنف القيادي المتولي لعملية التربية في تجميع
عدد من التلميذ أكبر مما تكفي له جهودهم التربوية ،ما دامت الدعوة في مراحلها الولى ،ول يكون
التوسع العددي إل في المراحل المتقدمة بعدما نضمن وجود تأثير تربوي غير مباشر يأتينا عن
طريق وسائل العلم الدعوية ،من كتب وصحافة وأشرطة مرئية وصوتية ،وعن طريق التحرك
الواسع المعلن لبعض قادة الدعوة ومفكريها وخطبائها.
وهذا هو الحل الثاني للوقاية من مصارع العفوية يمليه تحليل الظاهرة التربوية.
ولقد شهد تاريخ الحركة السلمية بالمس القريب تكاثرًا بالعدد على حساب النوعية أرهق
وألهى ،وأجبر دعاة اليوم على التعاظ ،وما اتزان التوسع إل وصية الغد.
نقول :إنها وصية الغد ،لما رأينا من نسيانها ،وإل فإنها الوصية القديمة للمام البنا –رحمه
ال ،-شدد عليها منذ سنة 1938في انعقاد المؤتمر الخامس ،في صورة توضيح لصناف الرجال،
أمام أعباء العمل ،وعدم إغناء الخيال من الصواب شيئًا ،وإنما هي (الصفوة) فحسب –كما سماها
المام ،واستعارها السيد من بعد -تحمل أعباء الجهاد.
يقول:
(أريد أن أكون صريحًا معكم للغاية ،فلم تعد تنفعنا إل المصارحة :إن ميدان القول غير ميدان
الخيال ،وميدان العمل غير ميدان القول ،وميدان الجهاد غير ميدان العمل ،وميدان الجهاد الحق غير
ميدان الجهاد الخاطئ.
يسهل على كثير أن يتخيلوا ،ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالً باللسان،
وإن كثيرين يستطيعون أن يعملوا ،ولكن قليلً منهم يقدرون على حمل أعباء الجهاد الشاق ،والعمل
العنيف ،وهؤلء المجاهدون ،وهم الصفوة القلئل من النصار ،قد يخطئون الطريق ول يصيبون
الهدف عن لم تتداركهم عناية ال ،وفي قصة طالوت بيان لما أقول.
فأعدّوا أنْفُسكم ،وأَ ْقبِلوا عليها بالتربية الصحيحة ،والختبار الدقيق ،وامتحنوها بالعمل ،والعمل
القوي البغيض لديها ،الشاق عليها ،وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها) (.)1
(يجب أل يشغلكم إقبال الجماهير عن تنظيم صفوفكم الداخلية ،وإعداد رجال يواجهون الشدائد
ويثبتون) (.)1
والحقيقة أن أهمية الصف الداخلي المتين ل تنحصر في معطيات صفته التنظيمية وسهولة
استثمار طاقاته المنسقة ،بل في تحقيقه (المجتمع التربوي) الذي يحتضن الجديد المتربي ويريه زيادة
المناظر السلمية ويحجب عنه رؤية الجاهلية والجاهليين وسماع أقوالهم ،فيبعد عن التأثر بتربية
أخرى غير إسلمية ،ولمثل هذا أوجب الغزالي –رحمه ال -المسارعة إلى كبت الفسق وحجب لئل
يؤثر منظره في نفوس المسلمين وقال:
(إنّ مشاهدة الفسق ُت َهوّن أمر المعصية على القلب ،وتُبطل نفرة القلب عنها) (.)2
وهذا يعني أيضًا أن بقاء بعض الفسق –بمعناه الشرعي -عالقًا بالشخاص الذين تُجمّعهم،
لعجز كفاياتنا وطاقاتنا التربوية التوجيهية عن إزالته عنهم وتحويلهم عنه لكثرة عددهم ،سوف يؤدي
إلى احتمال سريان عدواه إلى العناصر النظيفة ،لما في العيش الجماعي من المشاهدة التي تؤدي إلى
التقليد.
وعلى ذلك ،فإن جولت الداعية الضرورية بين الجماهير العامة مثلما تؤدي إلى تربيته عمليًا،
وإلى إغناء الدعوة بالعناصر الجديدة التي يكتشفها ،فإنها تؤدي أيضًا إلى احتمال تهوين أمر المعصية
على قلبه إذا انقطع إليها انقطاعًا طويلً ،لكثرة المعاصي في حياة العامة ،فوجب تردده على مجتمع
الدعاة الصافي ليرى من مناظر اليمان ما يضاد مناظر الفسق ،ويكون جائلً بين هذا المجتمع العام،
وبين هذا المجتمع الخاص الذي يرقق قلبه إن أضَرّ به الول ،وهذا ما يؤدي بالتالي إلى الحرص
على نقاوة هذا المجتمع الخاص ليؤدي مهمته التربوية هذه لكل داعية متجول بين العامة حين يفيء
إليه ،والنقاوة ل تحصل إلى باتزان التوسع.
فكما أن التوسع السريع يستهلك الطاقة الحاضرة ،فإنه يضعف الناتج القديم.
والداعية الحر ،المتفاعل مع التطورات والحاجات اليومية للحركة السلمية ،يرى عمر بن
الخطاب –رضي ال عنه -واقفًا أمامه في كل لحظة ،وهو يدعو دعاءه المشهور:
جزِ الثّقة).
جلَدِ الفاجر ،وعَ ْ
(اللهم إنّي أعوذُ بك من َ
فترتعش عضلته رهبة ،ويهفو قلبه رغبة ،ويسارع ليتخذ من المكانيات التربوية للعمل
الجماعي ما يرضي به ظن أبي حفص الفاروق ،فيعكف على توعية المين العاجز الساذج ،وترقيق
قلب ذي الجلدة الشغول المتهاون بأمر بعض العمال اليمانية ،لزداد –بهذا السد للنقص -عدد
الثقات الذين يجمعون بين الوعي والجلدة.
وهذا العنصر القوي المين هو خير من ينهض بأعباء الدعوة ،ول بد من تكميل صفة الجهاد
في المؤمن ،وتعميق إيمان المجاهد ،كما قال ال تعالى:
(عقد ال سبحانه الموالة بين المهاجرين والنصار ،وبين من آمن من بعدهم وهاجر إلى يوم
القيامة .والمهاجر من هجر ما نهى ال عنه ،والجهاد باق إلى يوم القيامة.
فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان ،إذ كان كثير من النفوس اللينة يميل إلى هجر
السيئات دون الجهاد .والنفوس القوية :قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات.
وإنما عقد ال الموالة لمن جمع بين الوصفين ،وهم أمة محمد –صلى ال عليه وسلم ،-الذين
آمنوا به إيمانًا صادقًا) (.)1
وتمكين كل داعية من الجمع بين الوصفين ،وتمكين القضية السلمية من استثمار حسنات
الطائفتين ،مهمتان أساسيتان لتربيتنا الحركية.
فللول ،صاحب اليمان ،القاعد ،أو صاحب الوعي ذي القلب القاسي :بما تتيحه التربية من
تكميل نقصه على يد من سبقه من الدعاة.
وتضيق الرض بمتحمسة الدعاة حين نلح في بيان اتزان التوسع في وقت طال فيه المسير،
ل يصيب الدعوة إن تخلت عن سباق العدد.
ويرون أن هناك ثمة فش ً
ول ننكر أن أخطاء الماضي قد حرمت الدعوة في أماكن متعددة من العالم السلمي من
فرص توسع وإنبثاث مأمون في محيط مستعد لتقبل الكلمة ،وأن أحزاب الضلل قد استغلت برود
دعاة السلم فتقدمت بمراحل عليهم ،ولكن الخطأ ل يستدرك بمثله ،وتقييم فشل الدعوة ونجاحها في
حقبة معينة ل يعتمد على إحصاء من استطاعت نقلهم من محيط التسيب إلى صفوفها ،ذلك أن الدعوة
طالما كانت سببًا في هداية آلف من الشباب وعصمتهم من الفجور والزيغ وإن لم يدخلوا صفوفها
لسباب مختلفة ،وهذا في ميزان السلم عظيم.
وطالما كانت الدعوة كالواحة في وسط الصحراء الموحشة المقفرة حين تأوي إليها جموع
المسافرين فينعمون بظلها ومائها ويأنسون بأهلها ،وكثير عدد أولئك الشباب الذين احتضنتهم الدعوة
في مراهقتهم ،واجتازت بهم فترة الشباب بسلم ،ورفلوا في ظلهاَ ،وَأنِسُوا بأهلها ،وإن أقعدهم
الترغيب والترهيب عن مواصلة السير معها.
وكم أوضحت الدعوة من شكّ وردت من تُهمة ،وأشادت بمناقب مظلوم ،وكل ذلك في الميزان
عظيم.
وإذن ،فإننا يجب أن ل ننظر بالمنظار القاتم الذي يولد اليأس في نفوس العاملين ،فإن الدعوة
لم تفشل ،وينتظر من عمل فيها أجر مدخر كبير إن شاء ال مثلما ينتظرهم جني ثمار كثير زرعوا
بذورها بالمس.
170
إن أُناسًا كثيرين ،بتأثير عمل الدعاة الماضي والحاضر ،تحتدم في نفوسهم معاني اليمان
والجاهلية ،هم الن في صراع نفسي داخلي عنيف غير منظور ،أيؤمنون ويقرّون بما يقول دعاة
السلم أم يبقون على ما هم عليه؟ .وهؤلء مصيرهم إلى اليمان حتما حين يتضح الحق أمامهم
اتضاحًا كافيًا ،في حادثة تهزهم هزّا ،وتخضهم خضًا ،فيتمحضون ،وينخرق حجاب الران عن القلب،
فيصل إليه النور .تمامًا كالسلم المفاجئ المأثور عن بعض الصحابة –رضي ال عنهم ،-كعُمر
حين دنا من الصّفا ،فسمع أُخته تتلو القرآن ،فصفا ،أو حمزة حين رجع من الصيد ،فسمع كلم
المؤامرة على رسول ال –صلى ال عليه وسلم ،-فآمن وكسر القيد.
كل ،فإن معاني اليمان كانت تحتدم في نفوسهم ،وكان هناك صراع نفسي ظل يتنامى حتى
فاض سيل الخير في تلك اللحظة.
ولئن حرصنا اليوم على عمق التربية ،والقتصار على الصفوة ،واتزان التوسعَ ،فِل ْلوَفَاء
بحاجة جحافل أهل الحتدام هؤلء يكون هذا الحرص ،وإنهم لفي سير إلينا ،وعمّا قريب يكون
الوصول ،والحادثة الهازّة الخاضّة خبيئة عند ال ،يرحم ال بها الصابرين ،ومن ل يؤمن بمثلها فهو
بحاجة إلى نظر في السيرة والتاريخ جديد....
171