Professional Documents
Culture Documents
على الطريق - حسن دوح
على الطريق - حسن دوح
المقدمة
يم
الر ِح ِ
الرحْ مـَ ِن َّ
ّللاِ َّ
س ِم ه
بِ ْ
الصور التي أعرضها في هذا الكتيب هي بعض من كل ...وقد حدث مئات من أمثالها شهدتها وشهدت لها أرض
فلسطين الطيبة ،وأرض مصر وما حولها من األرض المبتالة بدنس االستعمار والصهيونية وأحالفهما ...
األرض الطيبة ال بد أن تنبت نباتا طيبا طاهرا ...
وأرضنا التي سقاها اإلسالم من عذب أنهاره لن تكف بإذن هللا عن إمدادنا بأوفر وأنضج الثمار ،ولسوف تشهد
هذه األرض قصصا جديدا ترجع الناس إلى عصر حمزة ،ومصعب بن عمير ،وسعد بن معاذ ،وسعد بن عبيد وأم
عمارة وآالف من أمثالهم ...سوف يشهد الناس سير هؤالء الرجال األفذاذ شاخصة في إخوانهم الذين سلكوا
طريقهم ونهجوا منهجهم ...
وبغير هؤالء لن تكون أمة ولن يحيا شعب ،ولن تبعث نهضة ولن تتحرر أرض ...
إن الذين أرادوا نزع إسالم "معركة فلسطين" كانوا وال يزالون من أخطر المتآمرين على فلسطين وعلى األمة
العربية واألمة اإلسالمية وليس أقل منهم تآمرا أولئك الذين حاصروا قضية فلسطين في "قطعة من األرض" وفي
"شعب فلسطين "فهذه القضية لم ولن تكون رهينة ركام من طين ،وآالف من البشر ..إنها قضية أكبر من حدود
األرض التي أطلق عليها" فلسطين "وأضخم من اآلالف أو الماليين الذين سموا "الفلسطينيون" إنها قضية كل
أرض ارتفع على رباها مؤذن "كبر باسم هللا" وقضية كل إنسان هتف ملبيا "هللا أكبر ".
إن قدم "الصهيوني" وطئت كل بيت ،وكل مسجد ،وكل معهد ،وكل مصنع ،في أرض السبعمائة مليون ...وبهذا
المفهوم سوف تسقط كل الشعارات المزيفة التي تلوح بها "المنطقة العربية" سوف تسقط شعارات "الثورة
الفلسطينة" لتحل محلها "الثورة اإلسالمية" وسوف يضرب شعار "حزيران والجالء عن األرض المحتلة" ليحل
محله "جالء الصهيونية عن أرضنا" ،وسوف تتوارى كل العبارات المزيفة اإلمبريالية والعنصرية،
واالستعمارية ...لتحل محلها شعار "الطهارة من الكفر" الكفر كل الكفر ...
ويوم أن تحتل المفاهيم الجديدة أنفسنا وأرضنا سوف يقفز الماضي كله ليعيش حاضرنا ...سوف نجد من بيننا من
يقاتل بروح بدر ال يشكو قلة الرجال أو المال ...وسوف يشتد العابد في أحراش نيجيريا ،والرابض في جزر
أندونيسيا ،والمتخفي بإيمانه في أوروبا وأمريكا لينضوي وتسقط اإلقليمية ،ونعيش معركة إسالم جديد ومن هنا
نبدأ ...ولن ننتهي ...
إن الذين قاتلوا في فلسطين من أبناء مصر وسوريا في سنة 1948تجاوزوا إقليميتهم إلى دينهم ...إن أرض
مصر كانت مستعمرة إنجليزية ومع هذا كله مد ابن مصر المسلم يده اليمنى ليقذف حجرا في فم بريطانيا ومد
األخرى بحجر آخر في وجه عصابة زفاي وآرجون ...وإن شهداء الهند الذين قتلهم البوذيون يوم أن ثأروا
لحريق المسجد األقصى ال يعرفون عن "اإلمبريالية" و "الرجعية" و "التقدمية "شيئا ،وإنما ذكروا رسولهم
وكأنه يصلي في المسجد األقصى ومن خلفه حشد النبيين ،والمسجد األقصى يحرق عليهم ...
بشعار "إسالمية" المعركة سوف يتبدل كل شيء في المعركة ...سوف نجد حشودا زاخرة من أبناء بالل الحبشي
األسود ،ومن أحفاد صهيب الرومي ،ومن ذرية سلمان الفارسي ،ومن أصالب أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ...
سوف نجد األسود واألبيض واألصفر وقد تجردوا من أصباغهم وجنسياتهم إلى دينهم وعقيدتهم ...وسوف تسقط
حدود التاريخ وحدود األرض وتتوارى نزعات الجنس واإلقليمية والوطنية ،ويحتويها رحاب اإلسالم الكبير ...
نريد أن نعيش في عالم الشهداء ،نرى الجنة وهي تفتح أبوابها عند باب المسجد األقصى ..ونرى أصحابنا
وإخواننا الكبار الذين سبقونا وسجلوا أروع وأعظم صفحات الخلود ..خلودهم في الجنة ،وخلود دعوتهم في
األرض ...
وليسمح لي القارئ أن أعيش معه على هامش سيرة بعض هؤالء الرجال ...لنأخذ طرفا من سيرهم ونجعلها
... سيرتنا ومسيرتنا على الطريق
سيد شراقي
قليل من الناس من يستمتع بطبيعة سيد شراقي ...وقليل جدا من يدانيه في صبره وإخالصه وشجاعته ...نسمع
اآلن عن البطل "جيفارا" يمأل اسمه سماء هذه األمة ..ويتواثب الشباب وثبات عليه ليلحقوا بركب الثائر العظيم
..وشهيد البروليتاريا! أما سيد شراقي وأمثاله فتراب تذروه الرياح والعواصف !!
إن سيد شراقي وأمثاله إشراقة ومضت في سماء الشرق المظلمة فبهر نورها الجميع ...
الشباب المؤمن استهدى بهديها ومضى على طريقها ...أما أحالف الشيطان فأثاروا عاصفا من الدخان ليحجبوا
الشمس المشرقة ...
وقصة سيد شراقي يمكن أن أسجلها في كلمات ويمكن أن تتسع لها كتب ومجلدات ...الكلمات تقول ..فالح،
فقائد ،فمعلم ،فشهيد ...والكتاب يتسع فيفرد لكل كلمة بابا يفيض في ذكرى سيد ..
بعد أن أعلن اإلخوان المسلمين عن فتح باب التطوع لحرب فلسطين في أوائل سنة 1948توافد الشباب والشيوخ
على دار اإلخوان لتحملهم إلى الميدان ..وبدأت معسكرات التدريب تباشر نشاطها ،كما بدأت حملة إعالمية
كبرى لجمع التبرعات للحرب ...
سمع سيد شراقي بالدعاية الكبيرة للحرب وجمع التبرعات ..إال أنه لم يعجل بالحضور للقاهرة لتسجيل اسمه في
كشف المتطوعين ،وانتظار دوره في الطابور ..بل تخط خطوات هادئة ومتعقلة ،جمع بعض أبناء حوض نجيح
الذين يثق بإخالصهم ..وناقش معهم قضية فلسطين ...
وانتهى لقرار عجيب تفرد به من دون المقاتلين ..قال ألبناء القرية ،وهم يتحلقون حوله في الدوار ...لم ال نجمع
التبرعات من اإلخوة واألقارب بما يفي ثمن السالح والتموين ...ثم يهيئ أنفسنا للتدريب ...ونتقدم بعد ذلك لدار
المركز العام لإلخوان ومعنا عدتنا من السالح والتموين ...وبذلك نقطع الطريق على الحجيج التي تعترض
طريق سفرنا ..وهي عدم توفر المال والسالح ...
وافق أبناء القرية على فكرة "الشيخ سيد" كما كانوا يسمونه علما بأن "الشيخ" لم يكن قد تجاوز الثالثين من
عمره ،وبدأ الشباب العشرة بأنفسهم ثم بزوجاتهم وأهليهم يجمعون منهم القروش القليلة يقتطعونها من أقواتهم ...
حتى تجمع لكل مقاتل مبلغ يكفيه لزاد الطريق وثمن قطعة السالح ...وكان طبيعيا أن يختاروا الشيخ سيد أميرا
عليهم فهو قائد بفطرته وسليقته ..
وعلى الفور بدأ القائد يمارس وظيفته ،فأرسل إلى قيادة اإلخوان رسالة ،يخبرهم فيها بكل الخطوات التي قام بها
أبناء القرية ،ومدى استعدادهم للسفر ألرض المعركة ...فلم يملك اإلخوان إال االستجابة لرغبة أبناء حوض نجيح
..لم يشأ الشيخ سيد أن يترك القوة المرافقة له تتبعه على غير هدى وعلم ،فقد كان بعضهم ال يكاد يلم بالقراءة
والكتابة ..فبدأ معهم دراسة منظمة على هيئة مناقشات وقراءات ،يدور أغلبها حول شرعية القتال وآدابه وثواب
المقاتل الشهيد ...
وكان تركيزه كبيرا على الشهادة يفيض في الحديث عنها ...ويحرص على أن يلزم نفسه بكل ما يؤهله لبلوغها
...كان يدقق في محاسبة قلبه على النية ويصفيها وينقيها من كل شائبة ..ويفرض على نفسه أسلوبا دقيقا في
العمل والسلوك ...وبنفس الفهم كان يحاول أن يستوعب كل شيء عن السالح وطريقة استعماله ..ثم االلتزام
المبصر بطاعة قادته واتباع أوامرهم بدقة ...
أما مسلكه الشخصي وعالقته بزمالئه المقاتلين فكان سيد رقيقا لينا سهال أليفا ،يتسع قلبه لكل من يعرفه ..ومن
أبرز خصاله التواضع الجم فقد كان يشعرنا أنه يحتاج لمعونتنا للتعرف إلى أمر دينه ودنياه ،كان يقول لنا إنه
فالح بسيط وليس له من زاد من الشهادات الدراسية والعلمية ...ثم يأخذ مجلس التالميذ ...وبعد أن يحصل على
حاجته يفيض عليك من الشكر وكأنك أعطيته كنزا من ذهب ..
وقد يكون سيد أوفر علما من محدثه ..أما إذا اضطرته الظروف ليجلس في مقام المعلم ،فإنه يأخذ بأسلوب
سقراط في الدراسة ..ويحاول عن طريق التساؤل أن يصل إلى النتائج ،حتى ال يشعرك بأنه أستاذك ...إن أكبر
ميزة أذكرها للشهيد سيد تطلعه للمعرفة والتماسه ألسبابها ،والحرص عليها ..وأعنى بالمعرفة هنا كل ما يتصل
بها ...المعرفة بالتاريخ والفقه والسالح والطب والعلوم ..كان حريصا على أن يكون جامعة متحركة ...
قدر ألبناء حوض نجيح أن يكونوا ضمن أول كتيبة تدخل فلسطين ،وهي الكتيبة التي رافقت الشهيدين محمد
فرغلي ويوسف طلعت ...واتخذت لها معسكرا في "النصيرات" منطقة تقع ما بين خان يونس وغزة ...وبدأ
رجال حوض نجيح يمارسون أعمالهم على أحسن وأكمل وجه ...
واندمجوا في عمليات القتال األولية ،من استطالع لمواقع العدو ...إلى استكشاف للمناطق المحيطة بنا ...هذا عدا
التدريب العملي المتصل ،وكان سيد شراقي متألقا في كل هذه العمليات ...يقفز فوق الحواجز العالية ويتخفى في
كثبان الرمال ،ويبدع أيما إبداع في كل المناورات الحربية التي كنا نقوم بها ...
وعلى الرغم من ميزة الصمت التي كان يتحلى بها سيد شراقي إال أنه كان يفاتحني بكثرة برغبته في نزال العدو
..إال أنه كان يتردد كثيرا في اإللحاح على قادته حتى ال يخرج عن آداب الجندية ...ووقعت معركة "ديروم"
األولى ...
وكان سيد مكلفا بقيادة قوة البنادق والمرابطة على الجانب الغربي من المستعمرة ...فنفذ دوره بدقة في انتظار
صدور األوامر إليه ...ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان ،فقد كشف ضوء الفجر مخططنا بالكامل ،وتمكن العدو
من تصيد رجالنا الذين كانوا قد تقدموا من المستعمرة حتى هموا بدخولها ..واستشهد في هذه المعركة إثنا عشر
شابا مؤمنا ...
عدنا بعد المعركة إلى معسكرنا ،وقد أخذ منا الحزن كل مأخذ على زمالئنا ،أما سيد فكان حزنه على نفسه أشد
من حزنه على اآلخرين ..كان شعوره بأن هؤالء الشباب قد مضوا إلى حياة أسعد من حياتهم ،يكاد يكون شعورا
بأن هؤالء الشباب قد مضوا إلى حياة أسعد من حياتهم ،يكاد يكون شعورا حيا وحسيا ،وأنهم ماضون إلى جنة
أرحب من أرضهم وديارهم ..
أما هو فال يزال مشدودا إلى األرض بضيقها وظالمها ...إنه في سجن الدنيا ..لقد كان يتمنى الخروج من هذا
السجن ولكن لم يوافق في جولته األولى ...
وكان الجولة الثانية والثالثة ...والمعارك تتابع ويعود سيد من جميع معارك فلسطين دون أن تمسه رصاصة
واحدة ...ويعود إلى تساؤله عن الشهادة والطريق الموصل إليها ..ولكنه ال يجرؤ على سؤال واحد كلما اقترب
من لسانه ابتعله وآثر السكوت ...كان السؤال الذي تنطق به عيناه ويكتمه لسانه لم حرمت الشهادة؟ كنت أقرأ هذا
السؤال في عينيه الباسمتين .
ولكنه لفرط حرصه على أدبه مع هللا تعالى لم يستطع أن يبوح بما يختلج في صدره ...
قال لي ذات يوم إن أخانا ..قد استشهد!! ثم سكت طويال ..فقد ثقلت عليه العبارات ولم يستطع أن يطلقها ..وكان
أخونا هذا يؤثر الضحك كما كان مغرما بتقليد الديكة في صياحها ..وكأن لسان حال سيد يقول إن الشهيد إنسان
عادي ..وإن الشهادة يمكن أن ينالها حتى الذين ال يهتمون بها !!!
قال لي سيد ما قاله بعينيه ثم استسلم لتفكير عميق تحكمه انفعاالت وتساؤالت متكومة ...
وتقع أحداث أقرب ما تكون إلى الخيال منها إلى الحقيقة ،وال يتسع المقام هنا ألتعرض لها تفصيال ،ولكن أكتفي
بالقدر الذي يصلنا بسيرة سيد ومسيرته ..فقد صدرت أوامر من الحكومة المصرية للواء صادق القائد العام
للجيش في فلسطين بإلقاء القبض علينا في الميدان ،وإرسالنا للطور مع إخواننا المدنيين الذين سبقونا إلى هناك
عقب مقتل رئيس الوزراء النقراشي ،واستشهاد األستاذ حسن البنا مرشد اإلخوان ...ولكن القائد األبي يرفض
إطاعة األوامر ..وتتأزم األمور فنؤثر تسليم سالحنا للجيش بعد أن تم وقف إطالق النار نهائيا ...
وينتهي األمر بأن يحتجزنا القائد العام مضطرا في معتقل عسكري بمنطقة رفح إال أن يبقى على كل امتيازاتنا
العسكرية من راتب ورتب ،وقد قام الرجل بزيارتنا أكثر من مرة في معتقلنا مواسيا لنا بل منح بعضنا أنواطا
وأوسمة عسكرية تقديرا لجهودهم في المعارك الحربية ...
كان سيد شراقي من بين المعتقلين ..إال أنه لم يكن غاضبا من االعتقال ،بقد ما هو آسف ألن الفرصة قد أفلتت
منه ...فرصة االستشهاد ..
وفي المعتقل أشرقت نفسه بمعنى كبير ..أفاض عليه اطمئنانا وسكينة ،فقد اعتبر المعتقل مدرسة صامتة تلقن في
الصبر والتحمل فتقبله بصدر رحب ...وتصل قلبه باألنبياء والرسل الذين سجنوا في سبيل هللا ،تذكر قصة يوسف
..وتذكر معتقل الشعب الذي حوصر فيه الرسول عليه الصالة والسالم ...واسترجع تاريخ األئمة الذين سجنوا
في سبيل عقائدهم ..تذكر أحمد بن حنبل وابن تيمية ..
فسعد بصحبتهم جميعا ..ولكن هذه النشوة الروحية كانت تنحسر في نفسه إذا اقترب من األسالك الشائكة
المحيطة بالمعسكر ،ومد بصره بعيدا إلى حيث تقوم القالع اليهودية في صحراء النقب ...كان لسان حاله يقول
لقد أقام قومنا بيننا وبين عدونا حاجزا !!
كان من برنامجنا في المعتقل عقد اجتماع دوري بعد صالة العصر من كل يوم نتبادل فيه اآلراء ونناقش مشاكلنا
العامة ونتدارس فيه أمر ديننا ودنيانا ..كان الحديث يمتد ما بين فقه العبادات إلى فقه الجهاد ،وكان الشيخ سيد
يحرص على هذه الندوات حرصه على الصالة نفسها ..كان يفتح كل نوافذ قلبه وعقله لتلقي كل جديد ويثبته
بإحكام في أعماقه ..وبعد أن يفرغ من درسه يحاول استرجاع ما سمعه من زمالئه ليتأكد من صحته ..
وينتهي المعتقل بنهاية حكم إبراهيم عبد الهادي الذي خلف النقراشي في الحكم ،وتفتح األبواب أمام المعتقلين
ليعودوا لبيوتهم ..ويرجع سيد إلى قريته الحبيبة "حوض نجيح" ويبدأ على الفور ممارسة مهنته الزراعية فيمسك
بالفأس طيلة النهار يضرب بها األرض ليخرج مخبؤها ،حتى إذا غربت الشمس اجتمع بأبناء قريته يتدارس معهم
أمر دينهم يناقش مشاكلهم ..
ثم يفرغ نفسه مسترجعا الماضي ..فتلح عليه الذكريات وتؤرقه اآلمال ..فيلجأ لربه داعيا سائال في إلحاح أن
يهبه نعمة اللقاء به ..
وينصرم عامان بعد الخروج من المعتقل ..ويأتي عام 1951حافال بأخطر األحداث في تاريخ مصر ..فقد بلغت
الثورة المصرية أوج قوتها ..وحطم الشباب كل القيود التي كانت مفروضة عليه ..وتمرد على العرض وسدنته
من رجال األحزاب ..ورفض وجود االحتالل في أرضه وكان حزب الوفد ذكيا فأدرك أن الموج الهادر قد يقتلعه
من جذوره ..فسدد ضربة قاسية لخصومه وذلك بإلغائه معاهدة سنة 1936 ..فخرج الشباب بغير تنظيم لمواجهة
عدو مزود بأحدث األسلحة ..
وتنشب معارك ارتجالية ما بين أولئك الشباب وبين أكبر قوة ضاربة في الشرق األوسط ..ويفكر اإلخوان في
تنظيم عمليات حربية قوية لتحطيم كبرياء العدو وإرغامه على الجالء ...ويدب النشاط في شعب اإلخوان ،فيتدافع
الشباب للتطوع ،فيقع اختيار قادة اإلخوان على مجموعة من الشباب الذين سبق لهم التدريب في فلسطين وفي
الخاليا المنظمة ...
وبنفس األسلوب ،وبنفس التفكير ،وبنفس الهدوء جمع سيد رجال "حوض نجيح" ليواجه بهم "بريطانيا
العظمى !! "التقيت بسيد عند "تل بسطة" (جبل صغير يقع بالقرب من الزقازيق) حيث أعد اإلخوان مركزا
للتدريب وإلمداد الرجال ..وأبى سيد إال أن يدخل الميدان على أصول ثابتة فبدأ يسترجع التدريبات السابقة
ويضيف إليها ما يستجد في دنيا السالح ...
التقيت به عند مشارف تل بسطة ..وكان يقف على كومة من "قش األرز "ويداه تديران عصاه الصغيرة ..أما
عيناه فكانتا تدوران في عالم آخر تنشد شيئا بعيدا ..وإن كانت العشرون سنة الماضية قد أنستني الكثير من
األحداث الكبار ،إال أن الذاكرة المنهكة ال تزال تسجل روعة المشاعر واألحاسيس التي كنا نستمتع بها ..كان
حبنا كبيرا ورائعا وممتعا ..
وكان أجمل ما فيه أننا كنا نسمع همس القلوب وخفقاتها ..كنا نستشف المشاعر واألحاسيس وكأننا نراها رؤيا
العين ..وهذا ما كان بيني وبين سيد فقد كنت أقرأ خلجات قلبه مرتسمة في عينيه ،شاخصة في وجه السمح ..
كانت عيناه تؤكدان عزما وتصميما على أمر ما ..وتأمال في تحقيق رجاء تستعذبه النفس ...قال لي سيد بقلبه ما
تمتمت به شفتاه ..ألم يئن األوان؟
ونظر بعيدا بعيدا في األفق يحاول أن يستجلي جوابا واضحا ..ثم عاد ثانية يسألني عن نية المقاتل ..وعن
االستشهاد ..وعن رضاء هللا وكيف يتحقق وعن الصدق في العمل ..وعلى الرغم من إيماني بأن سيد كان على
علم بهذه األمور كلها ،إال أنه كان يحب أن يستزيد علما ومعرفة ..
وفي أدب التالميذ حاولت استدراج سيد ليجيبني على كل أسئلته ..فقد شعرت أن زميلي وحبيبي يوشك على
الرحيل إن إشراق وجهه ينبئ بأن سيد لم يعد منا ..وكان وجهه يشرح صفات أهل الجنة ..فقط قدماه ترتبطان
بأمراس األرض وجسده مشدود إليها ..أما روحه فقد اتصلت باألسباب أسباب السموات ..والتحمت في إخاء
أبدى مع حمزة وأبى أيوب وإرتال الشهدات على الطريق الطويل ..
وكان استشهاد سيد على غير ما ينتظر وننتظر ،فقد أصابته رصاصة خاطئة وهو يزحف فوق تالل بسطة حيث
كانت تجري مناورات عسكرية ..وأسند الرجل العظيم وفالح مصر الكريم ،والمسلم الكبير سيد شراقي رأسه
فوق الرمال ورفع وجهه المشرق الباسم ليتلقى تهاني المالئكة ..عشت حيا عند ربك وعشت حيا في ضمير
... إخوانك ..وعشت حيا في قلب شعبك يا سيد
وفاء
دخل رجل على أبي بكر الصديق فرآه يحمل طفلة صغيرة بين يديه يدللها ويقبلها فقال له الرجل ...من هذه !!
قال أبو بكر وهو ينظر بحنان إلى الصغيرة" :هذه بنت رجل خير مني سعد بن الربيع كان من النقباء يوم العقبة
وشهد بدرا واستشهد يوم أحد ...".
يا أبت إن الجهاد فرض علي كما هو فرض عليك ..وقد واتتك من قبل أكثر من فرصة مارست فيها القتال ..
فهال هيأت لي فرصة مماثلة ..
ووقف الرجل حائرا يتقلب بين الفكر والعاطفة ..وكلمات زوجته ال تزال حية يتردد صداها في أذنه ..إنها تلح
عليه لالكتفاء بسفره ألنه ال ترد له كلمة ..
واإلبقاء على ابنها محمد إلى جوارها ليقوم على رعايتها ..وأوالدها ..وأخيرا وجد نفسه يقف إلى جوار ابنه
متحديا عاطفة األبوة ،طارحا حنان األمومة ..ألن فقهه للجهاد وممارسته له عمليا وفي فلسطين بالذات ..كان
أرجح في نفسه من كل عاطفة ولو كانت عاطفة األبوة واألمومة ...
لقد كان للشيخ عبد الخالق جوالت ومغامرات في فلسطين قبل أحداث سنة ،1948عمقت حب القتال في نفسه،
وحب فلسطين حتى إنه اختار شريكة حياته منها ..وهذه فرصة جديدة قد واتته بعد أن أعلن عن فتح باب التطوع
للحرب في دار اإلخوان المسلمين ،فشد الرحال إلى القاهرة يصحبه ابنه ..
ثم لحق به ابن أخيه "أحمد الجميل" ،وابن عمته "السيد عابدين" وكان نصيب الحاج عبد الخالق وابنه في الكتيبة
األولى بقيادة الشهيدين الشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت ،وتحت إشراف الشهيد حسن البنا بنفسه ..
وفي النصيرات تقيم الكتيبة معسكرها الحربي ..وتبدأ على الفور بإعداد نفسها لمجابهة اليهود ..دراسة دقيقة
للمواقع ،واستكشاف نقاط الضعف في العدو ،مع مواصلة التدريب العملي ..أما أوقات الفراغ فكانت محشودة
بمناهج ثقافية وعلمية ..
وكان التسابق والمنافسة بين االبن وأبيه يثيران اإلعجاب ويبعثان على الزهو ،وأشد ما تكون المنافسة عندما يقع
اختيار أحدهما للخروج لدورية استطالع أو دورية قتال ..ومن أطرف ما أذكره أن "محمدا" كلف بحراسة أحد
المواقع ..
فشاهد فرسا صغيرا شاردا يهرول نحو باب المعسكر ..فأطلق عليه النار فأرداه قتيال فلما سألناه عن سبب إطالق
النار على الفرس قال إنه خشي أن يكون أحد األعداء قد ربط نفسه ببطن الفرس ..أو أن يكون الفرس محشوا
بالديناميت لينفجر بالقرب منا فيروعنا ..واتخذ أفراد المعسكر من مقتل الفرس مادة تسلية لهم خاصة بعد أن
دفعنا ثمن الفرس القتيل لصاحبه ...
بدأ االستعداد لعملية حربية كبيرة ،وهي اقتحام مستعمرة "كفار ديروم "بعد أن تم استكشافها ..وحشد لهذه العملية
أكفأ المحاربين وكان من بينهم األب واالبن ..األب يحمل بندقية ،واالبن يحمل لغما لنسف المستعرة ..
وأقف بالقارئ قليال ،وأستأذنه أن يصاحبني لصالة العشاء في مسجد بمنطقة الروضة بالكويت ..في هذا المسجد
سوف نصلي خلف رجل يدور حول السبعين يمتعك بسماع القرآن وهو يرتله في خشوع وسكينة ..هذا الرجل هو
الحاج عبد الخالق ..والد الشهيد محمد ..وهو ال يزال يحمل في صدره عزيمة الماضي ،وصدق النية ..وشبابا لم
تهزمه األحداث الجسام التي هدت عزائم الرجال ...
وأهتبلها فرصة ألستوثق من سجل ذاكرتي الذي عبثت به األيام بل األعوام المثقلة بالمعاناة واآلالم ،فأستجدي
ذاكرة الحاج عبد الخالق فيسجل البقية الباقية من القصة ..يقول طلب إلينا فضيلة المرشد (رحمه هللا)" أن نعد
أربعة رجال إعدادا كامال من كل مركز جهاد من مراكز اإلخوان ..
فعزمت أمري أن أكون من بينهم ،وفاتحت ابني محمدا في األمر ،فلما طلبت منه أن يخلفني في أهلي ..قال لي
ولم ال أذهب أنا وتبقى أنت!! ثم ردف قائال هل تمنعني من الجهاد في سبيل هللا فقلت له أما هذه فال ،فالجهاد
فريضة من هللا ..
وتدخلت أمه لتحول بينه وبين السفر فقال لها" :يا أمي أحب األمور إلى نفسي أن ألقى ربي والدماء تنزف من
وجهي لونها لون الدم وريحها ريح المسك "فسكتت األم وودعتنا قريتنا الحبيبة "عرب الرمل" بقويسنا وداعا
حارا ..وفي المركز العام خلعنا مالبسنا الريفية ،وارتدينا ثياب الحرب ..ثم مضينا إلى فلسطين ..وكانت أول
عملياتنا الهجوم على مستعمرة "ديروم " ..
فأعددنا سالحنا وأنفسنا للمعركة ..وتقدم مني ابني محمد وقبل يدي وقال لي "ادع لي بالشهادة يا أبت ثم أوصاني
بما له وما عليه للناس فقلت له وهو يوصيني ،ولم ال أكون أنا الشهيد وتبقى أنت من بعدي" فقال وهو يشخص
ببصره إلى السماء " ..إنني رأيت نفسي في نومي وكأني طائر يحلق في السماء ثم ينزل بين أشجار كثيفة
ويعشش فيها ".
وهنا وجدتني أقف أمامه في خشوع وإجالل ..فابني سوف يصاحب األنبياء الصديقين والشهداء ..وقد يلحق بهم
بعد قليل ..فمألت عيني ونفسي منه ،وارتويت من روحه ..وبسطت إليه يدي وأنا أدعو" :أستودع هللا دينك
وأمانتك ،وخواتيم أعمالك ..أستودعك عند هللا يا بني يا محمد" ..ومضت كل ساعة ما أثقل وزنها في حياتي ..
ابني محمد سوف يختفي من دنياي ..ولن أراه ..لن أسمعه ..
لن أشم أنفاسه وأتعطر بها .لن أسمع كلمة "يا أبي" منه ..سوف أعيش وحدي ..ولن أجد من يقاسمني الجهاد
فإخوانه أطفال ال يصلحون لصحبتي في الميدان .
واستسلمت لقضاء هللا ..وأسلمت أمري إليه ،وضغطت على عواطفي بكل ما أوتيت من قوة اإلرادة ..فالموقف
أكبر وأجل من أن أستسلم للحزن والبكاء ..ووجدت آيات القرآن تنساب في أعماقي وتمسح برفقي كل آالمي
وتضع الطمأنينة والسكينة والرضا ..صدرت إلينا األوامر بالتقدم ،فوثب الرجال في سرعة مذهلة إلى المستعمرة
وفي عينيها ..
إنها تحمل التآمر اليهودي على األمة اإلسالمية ،ممتدا من المدينة المنورة إلى فلسطين عبر أربعة عشر قرنا من
الزمان ..هذه المستعمرة لم تزد عن كونها قلعة من قالع "بني النضير" أو "بني قينقاع" ..نفس السمة ونفس
الوصف الذي أورده القرآن الكريم "ال يقاتلونكم جميعا إال في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد،
تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ".
ويعود الحاج عبد الخالق بنا إلى المعركة فيقول :تقدمت أنا وزمالئي من الموقع المحدد لنا ..ال تسترنا إال
شجيرات الشعير الجافة ففوجئنا بالرصاص يمرق من بيننا فظنناه من المستعمرة ولكن تبين لنا أن المزارعين
العرب ارتابوا في أمرنا فأطلقوا عدة رصاصات إلرهابنا ..فهتفت بهم "نحن عرب" فسكتوا ومضينا في طريقنا
..ولست هنا بسبيل وصف المعركة ..ولكن يكفيني في إيجاز أن أقول إن ظروفنا كثيرة لم تكن تمكننا من دخول
المستعمرة ..كان أهمها عامل الوقت ...
المهم أنا لم نتمكن من اقتحام األسالك ونسف أبراج الحراسة كما كان قدرا ..فغمرنا العدو بوابل من نيران مدافعه
الرشاشة وأصابت رصاصة غادرة قلب ابني محمد واستقرت أخرى في ذراع ابن أخي ..وانسحبت مع زمالئي
... ..وكان لقاء وكان وداعا لمحمد ال أنساه
قال خيثمة سيد بني عمرو بن عوف البنه سعد قبيل غزوة بدر الكبرى" :ال بد أحدنا أن يقيم فآثرني بالخروج وأقم
أنت مع نسائنا" ..فأجابه سعد على الفور" :لو كان غير الجنة آلثرتك به ،إني أرجو الشهادة في وجهي هذا " ..
ولكأن السماء تسمع هذا الحوار األمين بين األب وابنه فاستجابت لرغبة االبن ولقي سعد ربه في بدر ...
ثم مضت األيام وتعاقبت الليالي وال تزال كلمات االبن تتجاوب أصداؤها في قلب الشيخ الكبير ،حتى أقبلت أحد
فجمع الرسول صلى هللا عليه وسلم أصحابه يستشيرهم في الخروج ،وكان من بينهم خيثمة الذي أشار على
الرسول برأي رآه ثم قال للرسول متوسال :لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصا ،وقد بلغ من حرصي
أن ساهمت وابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة ،وقد كنت على الشهادة حريصا ..
وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول" :الحق بنا ترافقنا
في الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقا " ..
وقد وهللا يا رسول هللا أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة ،وقد كبرت سني ووهن عظمي ،وأحب لقاء ربي،
فادع هللا يا رسول هللا أن هللا يرزقني الشهادة ..
دعا الرسول لخيثمة أن يرزقه الشهادة وتحققت دعوة الرسول وتحققت أمنية خيثمة ولقي الرجل ربه وهو يذب
األعداء عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يوم أحد ...
عمر شاهين
الشهيد الذي قاد أمته
كان قطعة من نفسي ..من حياتي ،من قلبي ..كان أبي وأخي وابني ،وأستاذي ..وكان وليت "كان" هذه لم تكن
حتى أسعد بعمر وأتوكأ على كتفه على الطريق الشاق العنيد ..
كان عمر نموذجا للشاب الذي يتمناه كل أب ليكون له ابنا ..وكل صديق ليكون له خليال ..وكال امرأة ليكون
رجلها ..وكل ابن ليكون ابن عمر ..
كل ما تحب أن تراه في شاب يمكنك أن تجده في عمر ..فيه جمال الرجولة بكل ما تحمله هذه العبارة ..قسمات
وجهه نضرة رائعة ،عضالته قطعة من صلب ،فارع الطول ،سوي البنيان ..راسخ الخطوات مهيب النظرات ..
تتمثل فيه القوة والرقة ..اإلصرار والحنان ..والجمال والرجولة ..
كان عمر مجموعة من الرجال في رجل واحد ..إذا التمست الرجل التقى العابد وجدته فيه ..وإذا شئت بطال
رياضيا أثار إعجابك وحماسك ..وهو مع هذا كله محب للعلم والدرس مغرم بالتعمق في الفلسفة وعلم النفس في
غير جدل أو مراء ..
وأجمل ما في عمر طفولة روحه التي تتضح براءة طهرا في قسمات وجهه ...وكأن الرافعي يعنيه وهو يقول:
"إذا اكتملت للرجل رجولة أعماله عادت إليه طفولة روحه ".
وليسمح لي القارئ أن أبدأ الرحلة مع عمر شاهين بعد توقف القتال في فلسطين سنة 1948عدت من الميدان
لقضاء عطلة قصيرة وأداء بعض المهام الخاصة بالعمل ..إال أن ظروفا جدت على الميدان اضطرت القيادة
العامة للجيش إلصدار أوامرها إلينا بقطع اإلجازة والعودة فورا للعمل ..
فلبينا الطلب وتوجهنا إلى معسكر "هايكستب" بالعباسية ،حيث استبقينا أكثر من أسبوعين في انتظار إقالع
الطائرة الحربية التي ستقلنا إلى "عمان "ومنها نتجه إلى حيث تحاصر القوات المصرية في الفالوجا في محاولة
لفك حصارها وإمدادها بالتموين ..ولكن لم نتمكن من أداء رسالتنا ألن حكومة األردن رفضت نزول طائرتنا في
أراضيها .
كان عمر من بين أفراد هذه القوة ..وكان استعداده لمرافقة الحملة ال حدود له ،على الرغم من أنه لم يكن قد بلغ
السابعة عشرة إال أن نشاطه وحيويته وإقباله على التدريب واستعداده النفسي ،كانت له خير شفيع لدى قادته ..
وكان من رأيي إفساح المجال أمام أمثال عمر ليتلقوا تربية عملية في ميدان القتال ،لتضاف لتربيتهم النظرية
والدراسية حتى تكتمل أسباب تربيتهم ،إال أن بعض شباب اإلخوان كان لهم رأي آخر هو يميل إلى إشباع الشباب
بالتربية الثقافية أوال ،ثم يفسح لهم حوار وناقش طويل مع عمر اضطره لموافقتهم والعودة إلى القاهرة لمواصلة
الدراسة ..وانطوت أول محاولة قام بها عمر ..
عاد عمر إلى مدرسته ،ومضت كتيبتنا إلى الميدان عن طريق البر ألداء واجبها ،ولكن لم يتسن لعمر مواصلة
دراسته ،فقدت جدت أحداث في مصر دفعت بعمر وعشرات من أمثاله لقفص االتهام ثم للسجن بتهمة مقاومة
السلطة ونظام الحكم ،وبعد اإلفراج عنه واصل دراسته إلى أن التحق بكلية اآلداب ...
وكان عام 1951حافال بأحداث كبيرة في مصر ،فبعد إلغاء المعاهدة المصرية اإلنجليزية في أكتوبر سنة ،1951
تدافع الشعب المصري لطرد 60ألف جندي بريطاني من أرض القناة ،التي عسكروا على ضفافها أكثر من
سبعين سنة ..وكان للجامعة دور قوي وفعال في هذه المعركة فقد تجمع الشباب الجامعي في معسكرات للتدريب
استعدادا للنزول لميدان القتال ..
وكانت فرصة عمر الذهبية ..فهو طالب بكلية اآلداب بالجامعة ومن حقه التدرب شأنه شأن غيره ..هذا إلى
جانب إيمان زمالئه باشتراكهم في المعركة ...
والذين رافقوا عمر في المعسكر يجمعون على أنه كان أبرز شخصية في كل شيء ..كان رائعا في تدريبه رائعا
في خلقه ..حتى إننا لم نملك إال أن نضعه في صفوف القادة فأسندنا إليه قيادة مجموعة من زمالئه ..
تعرض عمر لمحنة جديدة لم تكن في حسابه ..فبعد أن أكملنا فترة التدريب ..بدأنا نستعد للنزول للميدان ..ولما
كان تزاحم الشباب شديدا ،لمنازلة العدو فقد تقرر إجراء قرعة بين طلبة اإلخوان المنتمين للمعسكر ..بشرط أن
يكونوا متكافئين في فرص التدريب ومؤهلين نفسيا وصحيا ..
وطرح اسم عمر شاهين في القرعة ولكنه لم يفز ،فأصابته كآبة نفسية ارتسمت على قسماته البريئة حتى تأثر له
إخوانه ،فتحايلوا بصورة ما ال أذكرها إلجراء قرعة أخرى فكان من الفائزين ..
فاندفع بكل مشاعره وعواطفه يهنئنا ويهنئ نفسه وأعلن إقامة حفلة بمناسبة نجاحه في القرعة وبلوغه العشرين
من عمره ...
تحركت قوة الجامعة في فجر أحد األيام حاملة أول فوج من المقاتلين إلى الشرقية حيث يقوم معسكر للتدريب في
فاقوس ..وبعد استكمال آخر مراحل التدريب انتشرت قواتنا على طول جبهة القناة ..وكان التل الكبير من نصيب
قوة عمر شاهين ...
انتقل شباب الجامعة الذين كانوا يوصفون بالرقة ونعومة العيش ،إلى قرية بيوتها من الطوب وسعف النخيل،
وأسرتها من الجريد ،ومصابيح الجاز تخلف القمر في غيبته ،تاركين خلفهم المدينة بأضوائها وزينتها ..
وكانوا مع هذا فرحين ألبعد حد بحياتهم الجديدة ..واستكماال للتخفي لبسوا "الجالليب" و "الطواقي" واندسوا في
صفوف فالحي التل الكبير ...
بدأ عمر شاهين وزيله الشهيد أحمد المنيسي وعشرون طالبا ،يعدون ألول معركة منظمة مع عدوهم ..وانتهوا
إلى خطة عملية بسيطة وهي اعتراض طريق قطار سكة حديد اعتاد على التردد فيما بين المعسكرات البريطانية
..
درس طالب الهندسة والزراعة والعلوم واآلداب والطب والحقوق الخطة بإحكام وأعملوا خبرتهم وعلمهم في رسم
خريطة المعركة ..
ثم قاموا بدراسة الموقع على الطبيعة ،وحددوا أدوار كل واحد منهم بدقة فائقة ..وهنا برز شاب آخر كان يلتزم
الصمت والهدوء ،وبرز كعمالق كبير يقف إلى جوار عمر وهو الشهيد أحمد المنيسي الطالب بكلية الطب وأحد
أبناء فاقوس (بلدة بالشرقية) ..وكان أحمد ال يقل روعة عن عمر ..كان إنسانا في كل تصرفاته ..يمأل قلبه الحب
والرقة والصفاء مع رجولة غامرة وشخصية قوية ...
وقف العمالقان حيث كان يقف أحمد عرابي ورجاله في وجه الزحف اإلنجليزي منذ سبعين سنة ..وقفا في تحد
وكبرياء تجللهما عظمة اإلسالم وتمألهما الثقة بالنفس ..وكأنهما يقوالن للستين ألف جندي بريطاني إننا جئناكم
لنثأر لجدنا عرابي ..ولن تجدوا فينا خائنا أو جبانا ...
ليلة وقوع معركة التل الكبير كنت في زيارة خاطفة للقوة التي يشرف عليها الشهيد عمر ..وكان لقاؤنا عجيبا
وحديثنا أعجب ..كان عمر منهكا من فرذ العمل طيلة يومه ..فاستلقى على أرض الغرفة وأرسل يديه إلى جانبيه
في استرخاء ..ونظر إلي بعينيه البريئتين ثم أجراهما على جسده الممدد ،وكأنه يرسم نفسه في قبره وقال لي
مازحا :يبدو أنها ستكون نصيبي هذه المرة فقلت له مداعبا :بل هي من نصيبي أنا ..
ثم ابتسم في براءة واعتدل في جلسته ،وهم أن يقف وأخذ يلوح بيديه في الفضاء ويقول :ال ،إنك ستقف هكذا
وتقول ..الشهيد عمر ..ثم أرسل ضحكة بريئة هزتني من أعماقي ..
(وصدق عمر فيما قال فقد ألقيت خطابا في ميدان األوبرا في رثائه وتذكرت ساعتها كل إشاراته ونبرات صوته
فكانت إلهام نفسي) ثم عاد عمر إلى هدوئه وسكينته وابتسامته الطيبة ،فنظرت في وجهه وشعرت وقتها بمهابة
كبيرة له ..
شعرت بأن الشاب قد منح من قوة البصيرة ما جعله يستشف شيئا لم تدركه بصائرنا ،فآثرت السكوت وانسحبت
من الغرفة تاركا إياه ليأخذ نصيبه من الراحة ..وألقيت نظرة على وجهه المشرق وكأني أودعه الوداع األخير ...
جرت أحداث ذلك اليوم في غيبتي ،وقد سجلتها في كتاب آخر ،ولكن الحقائق البسيطة التي سجلها زمالء الشهيد
تقول إن عمر وأحمد المنيسي ضربا أروع األمثلة في البطولة والفداء والصبر ..ومن مواقف عمر المشهودة
يومها أنه أصدر أوامره إلى إخوانه بعدم إطالق النار على الجنود اإلنجليز الذين تجمعوا حول المكان الذي تم فيه
نسف الخط الحديدي ،ألنه الحظ بعض العساكر المصريين يقفون مع اإلنجليز لمعاينة "الحادث " ..
ولكنه لجأ لحيلة لطيفة فقد ألقى بقنبلة صوتية تفرق على أثرها الجميع وأمكن تصيد عسكر العدو الشاردة ..كما
أصدر أوامره بعدم التعرض لسيارات اإلسعاف اإلنجليزية التي جاءت إلنقاذ جرحاهم في حين أن اإلنجليز
المتحضرين!! تركوا جثة عمر وأحمد وستة من أبناء الشرقية طعما للكالب ولكن الكالب كانت أكرم منهم
واحترمت جثث الشهداء فلم تمسها بسوء ...
انتهت معركة التل الكبير باستشهاد عمر وأحمد المنيسي وستة من شباب قرية التل الكبير ،وأسر ستة من شباب
الجامعة ..
يقول األسرى إن اإلنجليز كانوا ينظرون بخوف شديد إلى عمر وهو مضرج بدمائه ..كانوا يتخيلونه حيا وقادرا
على مطاردتهم ..حتى إن بعضهم هم بوخذه مرارا بالحربة للتأكد من موته ،بل إنهم كانوا حريصين على استيفاء
جثته ،ولكن الضغط الشعبي المتزايد ومخافة االنتقام من اإلنجليز المقيمين بالقاهرة اضطرتهم لتسليمنا جثث قتالنا
..
كان لقاء ال أنساه ما حييت ..فقد اجتمعت مع الشهداء الستة في غرفة واحدة ..عشت معهم ساعة أقلب وجوههم
ألتعرف إلى قتلى الجامعة كان الستة ينادونني من سمائه العالية ..نداء مأل نفسي ومشاعري بالرهبة ..كان نداء
فرحا متهلال مغردا ..وكدت أسمع ترتيلهم وصدى قول هللا تعالى" :من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا هلل عليه
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديال ".
حملنا الشهداء معنا ..إال أن أبناء الشرقية أبوا إال االستئثار بأبنائهم الستة ..أما القاهرة فقد خرجت عن بكرة أبيها
في موكب عمر شاهين كان عمر يومها قائد القاهرة بل قائد مصر كلها .
ووقفت يومها أردد صدى قلب عمر الكبير في حشد بلغ ثلث مليون مواطن عربي ..وال أذكر ما قلت ولكن قيل
لي إنك لم تكن تتكلم بلسانك ولكنك كنت لسان عمر وقلبه وروحه ..
ووقف وائل شقيق عمر يعلن في األمة إصراره على مواصلة مسيرة عمر ..
... رحم هللا عمر ورحم هللا رجاال يطمعون في مكانة عمر من هللا تعالى
ذكرى شهيد لألستاذمحي الدين عطية
زميل الشهيد في معركة القناة
استيقظنا كعادتنا في الصباح لنؤدي صالة الفجر في فناء المدرسة التي كنا نعسكر فيها في بئر السبع ..وكان
كعادته قد سبقنا إلى المصلى لختم تهجده ..فقد كان من عادته قيام طرف من الليل يقف بين يدي ربه راكعا ساجدا
داعيا متبتال .
بعد أن صلينا الصبح مال على أذني وقال في همس يظهر أن هللا قد أذن ،قلت وفيم؟ قال في قبولي ،فإنني رأيت
في ليلتي أنني أمرح وأرتع في حدائق شجراء تملؤها الزهور والرياحين ..وما أظنها إال بشير الجنة .
لم أحاول الجدال معه فقد كانت قسمات وجهه تحملك على تصديق قوله ..فمألت عيني من النور الذي كان يشع
من وجهه وعينيه ..ثم تركته وانصرفت إلى عملي ...
وأقف عند هذا القدر من قصة "علي صبري" وأقدم للقارئ زميلي "علي صديق" الذي انتدبه القائد المحنك
الصاغ" محمود عبده "ليعد لمعركة بئر السبع ..يقول علي :
كانت العملية التي وكلت إلى مجموعتنا التي ال تتجاوز الثمانية من شباب اإلخوان هي نسف كوبري يقع ما بين
مستعمرتين يهوديتين تقعان في قضاء بئر السبع ..وكان بطل القصة علي صبري من بيننا ..
خرجنا بليل نتحسس طريقنا عبر الوديان والجبال ..يتقدمنا رجل ن أبناء فلسطين األوفياء هو الحاج سالمة بن
سعيد ..وحملنا أمتعتنا على جمل قوي فالمسافة بعيدة من الموقع ..
كانت كشافات المستعمرات ترسل أضواءها القوية في كل اتجاه ..فتمزق ظالم الليل ،وتكشف كل صغيرة وكبيرة
في بطن الوادي مما يضطرنا للتوقف طويال ..والتخفي في المغارات وخلف التباب .
استطعنا أن نصل إلى أرض العملية قبل بزوغ ضوء الفجر ..وقمنا على الفور بحفر الخنادق ثم ثبتنا األلغام تحت
الجسر وفي جنباته ..
ولم تطلع الشمس علينا إال ونحن في غيابة الحفرة بحيث نرى العدو وال يستطيع أن يرانا ..وزيادة في االحتياط
وزعنا الطعام الجاف على جميع زمالئنا مخافة أن يطول بنا االنتظار ...
انتظرنا اليوم األول بنهاره وليله ،نرقب حركات المستعمرات المحيطة بنا ،فمنها وإليها تتردد المصفحات حاملة
التموين والعتاد ..ولكن شيئا لم يحدث ،فانتظرنا اليوم الثاني ..ونحن راقدون في الخنادق وعيوننا تدور في
الوديان والسفوح باحثة عن الصيد الثمين ..وقلوبنا تنبض بذكر هللا وألسنتنا ال تكف عن الدعاء .
وكان اليوم الثالث وهو يوم الجمعة ..يوما تاريخيا في حياتنا ،ويوما فاصال في حياة الشهيد علي صبري ..فقد
أطلت علينا مصفحة ضخمة للعدو ،كأنها قطعة من الجبل ،تمشي في خيالء ،فهي صاحبة تاريخ مشهود في
المنطقة ..تغير على القرى وتهاجم القوافل ..تعربد وتقتل بال قيود أو حدود ..
وال يستطيع أحد أن ينفذ إليها ..فرصاص البنادق والمدافع ال يمكنه أن ينفذ إلى قلبها الصلد ..تدحرجت الدبابة
من قلب الوادي وهي تهدر كالثور الهائج ،وما أن مست الجسر "الكوبري" حتى زلزلت األرض من تحتها
وانشقت إلى نصفين ،وهوت المصفحة الملعونة من عليائها إلى بطن الوادي ..
أما نحن فكاد انفجار اللغم يقتلعنا من أماكننا ..أما نشوتنا فلم يتسع لها الوادي وال الدنيا كلها ..نشوة النصر !!
ولو كنا في غير هذا الموقف لشق هتافنا عنان السماء ..ولكن للميدان حكمة ..وهو قادر على التحكم في
العواطف والمشاعر ...
كنا نتوقع من اليهود المتحصنين في المصفحة أن يخرجوا منها نجاة بأنفسهم ،أو يسلموا لنا ،أو حتى يطلقوا
نيرانهم تحذيرا لنا ،ولكن شيئا من هذا لم يحدث ،بل ران صمت غريب فقلنا ننتظر قليال لعل رءوس الشياطين
تظهر من المصفحة المتهالكة ..وأخيرا قررنا إرسال مجموعة القنابل التي كان يقودها الشهيد علي صبري
لتقصف المصفحة بقنابلها الشديدة االنفجار ..
كل هذا والمصفحة صامتة مستسلمة ..فاقتربنا منها الهوينى حتى تمكنا من الوثوب على ظهرها فوجدنا جميع من
بها قد هلكوا فانتزعنا سالحهم ..وعدنا على عجل إلى خنادقنا ،ثم اتصلنا عن طريق الالسلكي بقائدنا محمود عبده
ليرسل إلينا نجدة تساعدنا على االنسحاب ألننا كنا نتوقع هجوما انتقاميا تشنه علينا المستعمرات المجاورة ...
وحدث ما توقعناه فقد هجم علينا العدو بقوة كبيرة في محاولة لاللتفاف حولنا وتطويقنا ،وأرسلوا علينا وابال من
نيرانهم فلم نرد عليهم فظنوا أننا أفلتنا من قبضتهم ..فتجمعوا في عربات نقل الجنود ..وكانت فرصة هيأتها لنا
قوات عدونا فأخذنا نتصيدهم واحدا تلو اآلخر ...
ويقول علي صديق وهو يسترجع أحداث ما يقرب من ربع قرن ..أصدرت أوامري لقواتنا باالنسحاب ..فالعدو
قد تكاثر علينا وخشينا أن يتمكن من عزلنا عن قواتنا الرابضة في بئر السبع ،وبدأت عملية االنسحاب وكانت
شاقة للغاية ..وهنا كانت السماء قد تفتحت عن آخرها لتستقبل منا خير رجالنا "الشهيد علي صبري" فقد تمكن
أحد قناصة اليهود من إصابته وهو يحمي انسحابنا ...
وأخيرا وصلت النجدة وولى اليهود األدبار فارين ..فجمعنا رجالنا وحملنا شهيدين بين أيدينا وعدنا إلى بئر سبع
...
انتهى علي صديق من روايته ،ولن أجد ما أضيفه إليها ..إال أننا اجتمعنا في مسجد بئر السبع في ظهر يوم
الجمعة ومن حولنا أبناء البلدة الباسلة لنودع ابن اإلسكندرية الذي ترك دنياها المترفة وشواطئها الفاتنة ..ودفع
بشبابه الطاهر إلى الموت في سبيل هللا ورضي بتراب بئر السبع له مدفنا ..سعد به التراب ،وفرحت به مالئكة
السماوات ..رحمه هللا ورحمنا جميعا ...
عظمة األمومة
ودع النعمان بن عمرو وسليم بن الحارث أمهما "السميراء بنت قيس" قبل خروجهما لموقعة أحد ..وهما يسأالنها
الدعاء ..ثم مضيا إلى أرض المعركة ..
استبطأت األم عودة ولديها فخرجت تسأل عن أخبارهما فقال لها الناس إن ابنيها قد استشهدا ،فقالت دون تردد ما
فعل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فطمأنوها عليه ولكنها أصرت على رؤيته فلما رأته قالت :كل مصيبة بعدك
جلل ..وقامت إلى ابنيها وحملتهما على ناقتها وانصرفت عائدة إلى المدينة فلقيتها عائشة فقالت لها :ما وراءك،
قالت السميراء باطمئنان :
أما رسول هللا بحمد هللا بخير لم يمت واتخذ من المؤمنين شهداء" :ورد هللا الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا
وكفى هللا المؤمنين القتال ".
والغريب في حياة صالح أنه استطاع أن يحقق نجاحا في كل ميدان طرقه ..حتى إنني عجبت وأنا أقرأ له بحثا
اقتصاديا ممتعا يحاجج فيه الدكتور محمود أبو السعود ..وعجبت أكثر لما فاتحني في مشروع إنشاء مجلة
لألطفال ..وكان يحمل بين يديه مجموعة قصص األطفال ..
وعلمت أنه استطاع أن يصور أفالما سينمائية تربوية ..واألمر الذي لم أستغربه هو أنه ،وفي سن الثانية
واألربعين بدأ يخوض معارك عنيفة ضد الصهيونية ،فتاريخه وتاريخ أسرته يشهدان له أمام هللا والناس بأنه نشأ
بطال شجاعا مقداما ال يهاب الموت ...
لقد فهم صالح المعنى األصيل للرياضة ..فهي ليست وسيلة لملء العضالت ،واستعراض األكتاف ..وحمل
الكؤوس الفضية ،وتسجيل االنتصارات ..
إن صالح أخذ الرياضة من مأخذها السليم ..إنها وسيلة وليست غاية ..إن الجسم الصحيح يستطيع أن يخدم العقل
والقلب ..ويعين الضعفاء ويأخذ بيد المحرومين ويضرب على يد المحرومين ..
إن الرياضة وسيلة لغاية ..وتأسيسا على هذه النظرية حمل صالح عضالته التي فتلها في معهد التربية العالي بعد
أن تخرج منه سنة ،1952واندفع بكل قواه ليدرب طلبة الجامعة األزهرية وطلبة جامعة عين شمس على التكتيك
العنيف ..ونجح صالح في أول خطوة إيجابية استغل فيها كفاءته واستعداده ..
وانطوت الصفحة األولى من حياة صالح عام 1952 ..وكانت الثانية في ميدان جديد عليه ..فقد ذهب إلى جنوب
السودان في "جوبا" وعمل مبشرا لدينه ودعوته ..وفي قلب األحراش جلس صالح معلما ومربيا واستطاع أن
يسهم في سد الطريق أمام التبشير األوروبي الزاحف ..
وتختنق السودان ..وتضيق الحياة هناك بصالح ..فيخرج منها وكله أسى ألنه ترك ميدانا شاغرا ال يمأله أحد ..
وولى وجهه شطر الشمال فوجد باب النيل مسدودا في وجهه ..فقرر ترك أفريقيا لحين وولى شطره شطر
الصحراء ،وانتهى به األمر إلى الكويت ،وظل يتقلب في مدارسها الثانوية معلما ومربيا ثم انتقل إلى دنيا األعمال
الحرة ..
ولكن الشيء الذي لم يغادر حياة صالح والذي لم تصرفه عنه كل مصاعب الحياة ..هو أنه خلق ليكون مربيا
ومقاتال ..مربيا لألجيال على منهج الكتاب والسنة بأسلوب تفرد به ،فقد كان يرى أن الطالب في صغره إلى
الثانية عشرة من عمره ينبغي أن يتفرغ لدراسة األصول الحية لإلسالم ،وال تقحم عليه أساليب العربية الزاحفة
من الغرب أو الشرق ..
أما حبه للقتال في سبيل هللا فقد كان أقوى في نفسه من كل شيء ..وكان ميدان فلسطين أحب إليه من غيره ..وقد
بدأ عمله في الميدان بدراسة قضية فلسطين من جميع جوانبها ..ثم قام بدراسة أرض المعركة واإللمام بكل
الظروف المحيطة بها ..وحتى يكون ظهره سليما أشبع أهله وولده الرغبة في الجهاد وحب االستشهاد ..حتى إنه
كان يمني أوالده بالذهاب لميدان العمليات إذا نجحوا في المدرسة ..وقد بر بوعده ألوالده وزوجته ...
ومن خالل البرقية التي أرسلها لجمال عبد الناصر أثناء العدوان الثالثي على مصر سنة 1956ندرك مدى تفهم
صالح للقضية التي يدافع عنها ..قال في برقيته" :إن هدف اليهود من االعتداء هو االستيالء على شرم الشيخ
وفتح طريق العقبة لالتصال بأفريقيا" وأظن واحدا منا ال ينكر اآلن مدى بعد نظرة صالح بعد أن تكشفت األمور
..
ونقطع الطريق عدوا ونلهث خلف صالح لنحاول أن نلحق به وهو يمضي قدما إلى قالع العدو الرابضة فوق
فلسطين الحبيبة ...
في أغسطس من سنة 1970 ..كانت وجهة صالح "كفار روبين" وليست جبال سويسرا أو مرتفعات لبنان أو
الزبداني في سوريا ..خرج صالح في رحلة طويلة وممتعة ،ممتعة للنفس ..خرج من بيته ومن بين أفراخه
األربعة ..
ليغسل عار سنة 1948وسنة 1967ويرد لألمة اإلسالمية المنهكة أنفاسها ..ويحقق أمل الماليين الذين افتقدوا
وجود اليد المتوضئة في المعركة ..وظنوا أنها قطعت ولم تعد صالحة للعمل ..خرج صالح ليلة 18أغسطس
ليواجه تحديات العصابة التي نشرت في دنيا الناس الفساد والظلم والبغي ..ويتحدى معها جبروت الدول العظمى
التي صنعت من الظلم عدال ومن البغي حقا ..ومن عصابة الصهيونية دولة ..وأعطتها شهادة ميالد دولية ...
خرج صالح ليواجه هؤالء جميعا ..ويواجه معهم كل أساليب التآمر والخداع والدجل متخفية وراء الحرص
والكياسة والدبلوماسية رافعة رايات االستسالم باسم السالم !!
خرج صالح على رأس قوة من زمالئه يتحسسون الطريق إلى مستعمرة "كفار روبين" وتمكنوا من تركيز
أسلحتهم في مواجهة عدة مراكز ،وبدأ القصف على المستعمرة وعلى مدينة بيسان ..وكانت ضربات ناجحة
أصابت أهدافها ..وحرصا على االستفادة من العملية ،وتضليال للعدو أطلق نيران في عدة اتجاهات مما أثار
الذعر في كل مكان فجن جنون اليهود ..
ودفعوا بجنودهم في كل مكان يطلقون نيرانهم على أشباح األشجار وخلف المكامن ولكن صالح استطاع أن
يسحب رجاله إلى شرقي النهر بعد أن أدى رسالته على أحسن وجه ...
تمكن العدو من إرسال قوة إلى الجانب الشرقي ..وهو الجانب الذي كانت تعسكر فيه القوات النظامية ..والتي
انسحبت بعد الموافقة على مشروع روجرز !!
واستطاعت القوة اليهودية أن تطوق موقع انسحاب صالح ورجاله ،وأغرقت المنطقة ،بالقنابل الشديدة االنفجار
والرشاشات ..وتنفذ أول رصاصة إلى قلب "أبو جندل" ويمضي إلى ربه شهيدا ،وتنفذ الثانية إلى "أبو عمر –
صالح حسن "ويصاب "شرحبيل" إصابة قاتلة ..
ولكن بقية من أنفاس تمكنهما من تتبع العدو الذي كان يحاول حمل قتاله وجرحاه إلى الضفة الغربية ..فتضغط
األصابع المنهكة على الزناد فيباركها هللا وتندفع منها طلقات إلى العدو الغافل فتصرع الكثير منهم" :وما رميت إذ
رميت ولكن هللا رمى ".
ويأبى هللا إال أن يضم صالح وشرحبيل إلى أحبائه الشهداء ..فتنزف جراحهما ما تبقى في قلبيهما الطاهرين
ويتمدد الجسدان على األرض الطيبة ،وقد حملت كتف صالح راس زميله الشهيد شرحبيل ..وناما في سالم وأمن
وحب بعد أن أديا أروع رسالة على أحسن وجه وأكرم صورة ،وتذكرني هذه الصورة بصحابيين جليلين هما
عمرو بن الجموح ،وعبد هللا بن عمرو بن حرام ،يوم أن مر عليهما الرسول صلى هللا عليه وسلم بعد أن قتال في
"أحد" فقال :
"ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد" وبعد دقائق تصرخ الطائرات اليهودية وتزأر المدافع فترسل
نيرانها في كل مكان فتتحول األرض إلى قطع من اللهب ..كل هذا والشهداء الثالثة يرقدون في مواقعهم ..
وأرواحهم تطل في سخرية على الجبروت الكاذب !!
يستمر الحال كذلك طوال النهار وطرفا من الليل ..وكل تركيز العدو على مواقع الشهداء ..وبعد جهد جبار
يستطيع رجالنا األبطال أن يحملوا الشهداء ويعودون بهم إلى مواقعهم ...
ويتحلق الرجال حول جثة صالح والشهيدين شرحبيل "وأبو جندل" ويقف "عمرو" بن صالح صامتا يحاول أن
يغالب دمع على أبيه ..إن أباه قد أوصاه بأن يخلفه في أداء رسالته ..ويقوم مقامه ويتذكر أول درس تلقاه من
والده الصبر والثبات والتحمل فالطريق طويل وشاق ..ويقف تالمذة صالح وحوله يستذكرون دروسه ووصاياه
..إن وصيته األخيرة ..
تعتبر درسا ساميا رائعا ..وصية أودعناها صدور أبنائنا لقطعنا الشوط في أقصر وقت ..قال لزمالئه الذين كانوا
يعدون للمعركة ..وقد تشاغل بعضهم بسبب الزعماء الذين قبلوا مستسلمين مشروع روجرز ...قال لهم" :كفوا
عن هذا وركزوا أذهانكم في العدو والمعركة ،واشغلوا أنفسكم بذكر هللا" ..فتعجب بعض زمالئه من نصيحته ..
فقال لهم " ..هل يجوز أن نلتفت وسط الصالة لنسب هذا الزعيم أو ذاك ثم نستأنف صالتنا ،هكذا الجهاد إنه أسمى
من أن يتدلني إلى ذكر هذا أو ذاك ...".
وكانت زوجة الشهيد قد رافقته في رحلته األخيرة ،وأنزلها في مكان قريب من المعسكر ..فلما سمعت باستشهاده،
قالت" :هذا ما كنت أتوقعه ..فلقد رأى في منامه قبل استشهاده بأيام أنه يصعد فوق مئذنة عالية يتوجها نور ساطع
يمأل السماء كلها ..فلما قص علي رؤياه علمت أن هللا سوف يختاره شهيدا ".
وعاد صالح إلى مهجره في الكويت تحف به قلوب إخوانه وأحبابه وتالمذته ..رحمك هللا يا صالح ورحمنا
... جميعا
وقف عبد هللا بن رواحة يخطب في ثالثة آالف من المسلمين انتدبهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لحرب الروم
وكان عدد الروم مائة ألف مقاتل فقال عبد هللا" :يا قوم وهللا إن التي تكرهون ،للتي خرجتم تطلبون الشهادة ،وما
نقاتل الناس بعدد وال قوة وال كثرة ،وال نقاتلهم إال بهذا الدين الذي أكرمنا هللا به ،فانطلقوا فإنما هي إحدى
الحسنيين ،إما ظهور وإما شهادة".فقال الناس قد وهللا صدق ابن رواحة .
فلما قتل زيد بن حارثة وقتل من بعده جعفر بن عبد المطلب ،وقف ابن رواحة يقول :
سيد منصور
كان من عادتنا إذا فرغنا من التدريب في معسكر "هايكستب" جلسنا في حلقة دراسة نقرأ القرآن ،ونستمع لحديث
عن السيرة العطرة ،ثم نتناول العديد من الموضوعات العلمية خاصة ما يتصل بالقضية التي هيأنا أنفسنا لها ...
وكان سيد منصور يحرص على هذه الدروس حرصه على التدريب الذي كان يتولى أهم شطر منه ،وهو التدريب
على بث األلغام أو إعدام مفعولها ..كان يجلس في صفوف التالمذة المتطلعين إلى المعرفة ،وكأن لسان حاله
يقول يجب على األساتذة أن يتعلموا كيف يجلسون في صفوف تالمذتهم ..
وكان يحسن الصمت كما يحسن الكالم ..ولكنه ينفتح بكل مشاعره إذا عرضنا في حديثنا لذكر الشهادة والشهداء
ومقامهم عند هللا ..كان يحاول أن يرسم نفسه على طريق الشهداء ..يسأل عن نواياهم ..وعزائمهم ..وسيرهم ..
وكل ما يتصل بأخبارهم ..ثم يستجمع هذه السير ليتخذ بينها طريقا له ...
وكنت كلما نظرت إليه تخيلته يمضي على األرض بقدم واحدة ..أما األخرى فتركض إلى الجنة في ثبات ..
ومضت ثالثة أسابيع ،ولم تصدر األوامر إلينا بالتحرك ألداء الواجب المناط بنا فازداد قلق الخمسين شابا الذين
كانوا يعسكرون معنا في "هايكستب "وكان سيد أشدهم قلقا ..وكانت أنباء الفالوجا المحاصرة تلهب الثورة في
صدورنا جميعا ..إن جيشنا يعيش محنة قاسية ،وهو يصرخ في األمة مستنجدا بأبنائها وشبابها ..ثم إن الجيش
كان قد استأنف القتال بعد نهاية الهدنة المشؤومة ،ولكنه كان في وضع ال يحسد عليه ،فقد اضطره العدو إلخالء
مواقع هامة ،واالنسحاب إلى مراكز خلفية ..
وبدأت األسئلة الحائرة تدور فيما بيننا ..لم عجز الجيش المحاصر عن فك حصاره وفيه قيادة سميت وقتها
"بضبع الفالوجة" ولم عجز الجيش المصري كله عن فك هذا الحصار!! وأين الجيوش العربية السبع التي اتفقت
فيما بينها على سحق اليهود !!!
ثم صعد إلى القمة سؤال كبير ،لم اختارنا القائد العام الجديد من دون الشعب؟ واصطفانا من بين كتائب الفدائيين
األخرى !!
واألجوبة السريعة والمتالحقة عن هذه االستفسارات تقول إن جيش الفالوجة كان يفتقد األسلحة الصالحة لمغامرة
فك حصار مضروب حوله بدقة وإتقان ..وإن الجيش كان متدهورا معنويا ولم يكن في وسع رجاله المجازفة
بحياتهم ..
وإن الجيوش السبعة كانت انعكاسا لألوضاع المتحكمة في دولهم ..كانت جيوش استعراضات واحتفاالت
ونياشين!! أما الجواب األمين فيكمن في إيماننا بأن الميدان العملي يحتاج لنوعية سيد منصور ..يحتاج لطالب
الشهادة دون أجر الدنيا من نياشين ورتب ومكافآت ...
انتهت فترة القلق بخبر مفزع طالعنا به قائد عام المعسكر على أثر إشارة تلقاها من عمان بأن ملك األردن رفض
نزول طائراتنا في أراضيه ..وكانت صدمة لمشاعرنا الملتهبة!! جيشنا يصرخ مستنجدا والعدو يخنقه بكل قوته!!
وقائد عام الجيوش العربية يرفض إنقاذه !!
ولكن ماذا نفعل؟ هل نتظاهر كما كنا نفعل في الجاعة إذا خنقت الحكومة حريتنا؟ إن ميدان القتال صورة عملية
للرفض وال بد من الدخول إليه ومن كل األبواب ..وال بد من قتل الخطيئة في شخص اليهود الذين يمثلون "تجمع
الصهيونية والصليبية ".
قمنا بتعديل خطتنا ..وهي تتلخص في الذهاب إلى غزة عن طريق السكة الحديد ثم نحاول من هناك شق صحراء
النقب ،إلى الخليل ،ومن هناك نكمل عمليتنا وهي فك حصار الفالوجة حسب الخطة المرسومة ..ونفذنا المرحلة
األولى ..ووصلنا إلى معسكر البريج "مخيم البريج اآلن "
وكنا قد استولينا عليه من اإلنجليز عقب جالئهم عن فلسطين في 15مايو سنة ،1948وبدأنا ندرس فكرة عبور
الصحراء ،وما تتطلبه هذه المغامرة من جهود ،وما قد تسببه من خسائر ،ولكن كل هذه الدراسات انهارت بعدما
ترامت إلينا أنباء من أن اليهود تمكنوا من الهيمنة على الدروب المؤدية للخليل ،وأنهم استطاعوا االستيالء على
قافلة بأسرها كانت في طريقها للخليل وأجهزوا على كل رجالنا ..
فاضطررنا للعدول عن الفكرة ،وتركنا أمر إنقاذ الفالوجة وإمدادها بالتموين والسالح لقواتنا المرابطة في بيت
لحم ،والتي كان يتولى شطرا منها أحد ضباط الجيش األفذاذ "معروف الحضري ".
بدأنا نعمل في قطاع غزة ،وهو الجزء الذي تبقى لنا بعد الهدنة ...وكانت عملياتنا تنحصر على اإلغارة على
المستعمرات الراقدة في مواجهة القطاع ،وقطع الطريق الذي يصل هذه المستعمرات ،وذلك ببث األلغام في
الممرات الصحراوية والمرابطة في أوكار جانبية ..هذا باإلضافة إلى تلبية نداءات الجيش في كل العمليات
الفدائية باعتبارها فرقة كوماندوز ملحقة بالجيش ...
وبدأ سيد منصور ينطلق بكل طاقاته ..ال تكاد تفلت منه دورية قتال أو استطالع ..وقد كان التنافس على هذه
الدوريات شديدا .لدرجة اتهام القيادة "بالمحسوبية" ألنها آثرت جنديا على اآلخر في عدد الدوريات ..وكنا
نضعف أمام روعة التنافس بين شباب ال يتجاوز العشرين من عمره وبين آباء تجاوزوا األربعين ..أيهما أفضل !!
أما سيد منصور فكانت عيناه تتوسالن في صمت ،فال نملك إال االستجابة لرغبته!! وكانت حجتنا أمام اآلخرين
أن سيد له خبرة ببث األلغام حتى أن الجيش نفسه كان يطلب إليه تدريب ضباطه على عملية بث األلغام وتفجيرها
...
علمنا ذات يوم أن اليهود سيغيرون على قرية مجاورة ،وكانت العملية تحتاج لشباب سريع الحركة ..ولم يكن
أمامنا وقت "للمساومات" و "الوساطات "فانتدبنا عبد الرحمن البنان وكان في السابعة عشرة ،وسيد منصور
وكان في الثالثين من عمره أو يزيد قليال ...
فانطلقنا في الوادي الفسيح ال يحميها إال الظالم المتراكم ودعاء المئات من زمالئهم المقيمين في المعسكر ..
وانتظرنا إلى منتصف الليل ولكن اإلخوان لم يعودا فران علينا صمت كثيف يسبق عادة نبأ استشهاد أحد الزمالء
..فوجفت قلوبنا وتحجرت الدموع في عيوننا ..فالميدان ال يسمح بإظهار العواطف بل على العكس يوصي
بحبسها ...
وفجأة تبددت أوهامنا ونحن نسمع وقع أقدام الرجلين وهما يقطعان الطريق إلى داخل المعسكر وقد حمل كل واحد
منهما مجموعة من الدجاج ...وكان منهكين لدرجة كبيرة ..
ومع هذا لم نعفهم من االستماع لمغامرتهم فتولى عبد الرحمن سرد أحداث القصة ..أما سيد فكان ينصت في
سكون ..وكأنه ال يعرف شيئا مما حدث ..وكان يسرح بين الحين واآلخر وكأنه يبحث عن مجهول يحاول
استكناهه .
لم ننتظر على الدجاج حتى الصباح ،بل عجلنا بإعداد عشاء دسم ونحن نستمع لعبد الرحمن وهو يقص علينا ما
حدث ..قال :إن اليهود أغاروا على القرية فقلتوا من قتلوا ،وحرقوا حصاد القرية ،وسرقوا منها ما امتدت إليه
أيديهم ..
ثم حاولوا الهروب قبل أن نشعر بهم ..ولكننا تمكنا من اللحاق بهم وهم في طريق العودة إلى مخابئهم في
المستعمرات المجاورة ..واستطعنا أن ننال من عربة جيب كانت محملة بالمسروقات ومنها هذا الدجاج ..
أما خسائرنا فلم تكن سوى هذا البيريه ..وخلع من فوق رأسه غطاءها وأشار إلى ثقب رصاصة نفذت من خالله
..وقال ضاحكا وهو يشير إلى سيد الذي ظل ساهما مطرقا ..وعدنا برئيسنا كما ترون ..فتعشوا هنيئا لكم ...
وكان عشاء ضاحكا كما يقولون ...
ومضت فترة قصيرة على هذه الحادثة إلى أن امتحنا في أكبر معارك فلسطين ...
كان الجيش المصري قد مني بهزائم متالحقة بعد استئناف القتال ،فقد تمكن العدو من تجهيز نفسه بأحدث
المعدات ،كما عزز قواته بمحاربين أكفاء من جميع أنحاء العالم ،وخاصة من أبناء أمريكا وأوروبا الغربية
والشرقية ..
وقيل وقتها إن روسا اشتركوا في المعارك التي وقعت بعد ذلك ..وقد انتشرت إشاعة طريفة في الجيش المصري
أن الروس يمتازون برءوس ضخمة ال يخترقها الرصاص ..ولذلك ال جدوى من قتالهم ...
لنقترب من معركة "تبة .. "86ولنكتف بالقدر الذي يقربنا من دور الشهيد سيد منصور ..
فلقد أعد اليهود خطة لفصل الجيش المصري المتمركز في غزة عن مراكز إمداداته في خان يونس ورفح
والعريش ،وذلك بقطع الطريق ما بين غزة وخان يونس ،وحشد لذلك أمهر قناصته وقدم لعملية الزحف بوابل من
نيران مدفعيته على اللواء المتمركز في هذه النقطة ..ثم تقدمت مصفحاته تكنس الطريق أمامها من فلول الجيش
التي بدأت الفرار من الساعات األولى لالشتباك ..
ويؤسفني هنا أن أعرض هذه الصورة عن جيشنا ...ولكن لألسف الشديد كانت هذه هي الحقيقة ..وعذره الوحيد
هو أن رائحة الخيانة والغدر من الحكومة والقصر وقيادة الجيش المركزية كانت قد فاحت في صفوفه ،فأوهنت
من عزيمته القتالية وزلزلت من ثقته بنفسه ..
فهو يواجه عدوا مزودا بأسلحة قوية ومعنويات عالية ..أما هو فأسلحته الفاسدة كانت ترتد إلى صدره فتقتله قبل
أن تقتل عدوه ..ويكفي أن أضع هذه الحقائق البسيطة ..لقد كانت أسلحة الجيش التي زود بها بعد الهدنة عبارة
عن بنادق إيطالية ال تصلح الواحدة منها إلطالق أكثر من خمس رصاصات ثم ترتفع درجة حرارتها وتنشق
ماسورتها ..
أما الذخيرة فالصالح منها ال يزيد على العشر أما الباقي فال يحدث مفعوال ..فإذا أضفنا لهذا المستوى المعيشي
للجنود ،لما تحاملنا على الجيش بهذا القدر فالجندي الذي تقدم له الطعمية كترفيه في ميدان القتال ،حتى ترددت
أغنية صعيدية "جابولنا الترفيه يا بوي يا بوي عيش وطعمية يا بوي" هذا الجندي لن يجد له زادا معنويا أو ماديا
في مواجهة عدو ترعاه دول متحضرة وقوية ...
واستدراكا أقول إن الجندي كان على استعداد لتحمل شظف العيش لو قيل له إن دولته ال تملك غير هذا ..ولكن
كان يعلم مدى الخيانة المرابطة وراء أمثال هذه التصرفات ...
نعود إلى المعركة ..لنقول إن الجيش المصري كان قد أحيط به من كل جانب ..المدفعية تصليه بنيرانها ....
والقناصة تتصيد الضباط والمصفحات تطوقه ...
وكانت هذه األخبار تصلنا في معسكرنا "البريج" فنثور ونتهيج رغبة في إنقاذ إخواننا ،ولكن جاء الفرج وتلقينا
رسالة مستعجلة من اللواء أحمد فؤاد صادق قائد عام الجيش المصري بالتحرك على وجه السرعة ..وعلى الفور
أعد األخ كامل الشريف قوة من 35شابا من شباب المعسكر ..كان من بينهم سيد منصور ،وعبد الحميد خطاب،
وسيد عيد ،وفوزي فارس ...
وصلنا ألرض المعركة في أدق مرحلة من مراحلها ،وتمت عملية انتشار سريعة ..وتمركزنا في مناطق رئيسية
بحيث تمكنا من اكتشاف مراكز تجمعات العدو والدشم التي يسدد منها نيرانه إلى صدور رجالنا .
وكان يوما ممطرا ،شديدة البرودة ،ومع هذا كانت سخونة المعركة تعطينا دفئا وحرارة ،وطاقة رائعة ..وتذكرنا
يومها ما أنزله هللا في أرض بدر :
"وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ،ويذهب عنكم رجز الشيطان ،وليربط على قلوبكم ،ويثبت به األقدام"
فنشطت قلوبنا وألسنتنا بالذكر والدعاء ونشطت عقولنا بالتدبير لتطويق العدو وكسر شوكته ...
كان تكتيك العدو في هذه المعركة إرهابنا وإلقاء الرعب في صدور جنودنا ثم تشتيتنا وتصيدنا بعد ذلك ،فألقى
اآلالف من قنابل الهاون الصوتية والحارقة وشديدة االنفجار ..
وقد حقق نجاحا في الجولة األولى ،فبدأ الجنود يتبعثرون في كل مكان واستحال على قيادة المعركة إعادة الضبط
والربط ،بل إن كبار ضباط الجيش لم يجدوا مناصا من التخفي لتجنب قنابل اليهود وسخط الجنود الفارين ،وأذكر
أنني التقيت باللواء علي عامر (الفريق) يرابط في حفرة في الخطوط األمامية ..وقلت للرجل إن بقاءك هنا ال
جدوى منه بعد أن فر الجنود ..قال لي :
إنني ألتزم األوامر وكان الرجل في موقف ال يستطيع منه التقدم أو التراجع فآثر انتظار القضاء ...
سبق أن قلت إننا حاولنا التمركز في مواقع قريبة من تحصينات العدو ،ومراكز إطالق نيرانه ،ولكن لم يكن هذا
ليتم إال إذا قطعنا طريقا مكشوفا ومعرضا للنيران ..فطلبنا من قيادة الجيش السماح لنا بدبابتين لنتخذهما ساترا
متحركا نحتمي به إلى أن نتسلق تبة عالية ..ووافق القائد ..وبدأت قواتنا تتحرك خلف الساتر تكتنفها نيران العدو
من كل جانب ..
وفي ظالل دبابة مكشوفة كان يركض سيد منصور وعبد الحميد خطاب الطالب األزهري الذي لم يكن قد تجاوز
الثامنة عشرة ،ونيران العدو تنفذ من بين أيديهما وتتساقط فوق رءوسهما ،ودوي القنابل يزلزل األرض من
تحتهما ،ومع هذا مضى سيد وعبد الحميد لغايتهما في إقدام وجرأة وتحد للعدو ..
وإصرار على مواجهته ،ورغبة صادقة في لقاء هللا مع النبيين والصديقين والشهداء ،ويشعر العدو بالخطر
المتحرك خلف الدبابة فيسدد جميع أسلحته في اتجاهها ،ويركز عليها نيرانه ..وتطوق الدبابة بسحاب من الدخان
..
فيرتبك قائدها ،وتضطرب عجلة القيادة في يده ..وتتحكم فيه وال يستطيع الهيمنة عليها ،فتتدحرج الدبابة إلى
الوراء ،ويسقط الرجالن تحتها فتعتصر جسد عبد الحميد وتضغط تروسها على النصف األسفل من سيد منصور
فتعجنه في الطين ..وتمضي المعركة ..ويتمكن الثالثون شابا من تغيير مجرى المعركة من هزيمة إلى نصر ..
ويشعر اليهود بصالبة العنصر الجديد الذي هبط فجأة ..واستطاع أن يقتحم عليهم مواقعهم ويغير في جرأة على
الدشم ويلتقي وجها لوجه بهم ..
والمعروف أن اليهودي ال يحتمل المواجهة ،وال يصمد أمام المقاتل األصيل وصدق هللا العظيم" :ال يقاتلونكم
جميع إال في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى" فيضطر لالنسحاب
حامال معه قتاله وجرحاه ..
كانت األرض تسبح في بركة من الدم الذكي ممزوجا بماء المطر ...
وجثث القتلى تتناثر على التباب والطرقات وتحت أشجار التين الشوكي ..ومن بين هؤالء يرقد البطالن عبد
الحميد خطاب الذي أسلم روحه لربه ،وعلى قيد خطوات منه يرقد نصف سيد منصور ساكنا مستسلما .اقتربت
من سيد ،وتحسست جسده ،فإذا بنبض خافت ينبئ عن بقية حياة ..وفتح الرجل عينيه وأدارهما في وجهي وكأنه
يدعوني إليه فحنوت عليه إلى أن لثمت جبهته ..
فتمتم بعبارات ..فظننته يملي علي وصية ألبنائه الستة وزوجته ،فأرهفت السمع فإذا به يردد عبارة واحدة" :اللهم
انصر دعوتنا ..اللهم بارك مرشدنا" ..ثم يقفل فمه قليال حتى يدفع عنه ماء المطر المتدفق من باب السماء ..
ويعود لدعائه يكرره في إلحاح ورجاء ..
ونسرع بطلب عربة إسعاف إلنقاذ سيد فيحضر رجال اإلسعاف بمحفاتهم ..ويهمون بسيد ليستخلصوه من الطين
فيستعصي عليهم ألن ساقيه كانتا قد امتزجتا بالطمي حتى صارتا قطعة واحدة ..فيحملونه بكل الطمي المتراكم
عليه ..ويمضون به إلى المستشفى العسكري ويقرر األطباء بتر الساقين الستخالص بقية الجسد وتجرى عملة
سريعة ..كان قضاء هللا أسرع منها ..وترتفع روح سيد متمتمة بالدعاء" :اللهم انصر دعوتنا ...".
ويسمع قائد الجيش اللواء فؤاد صادق بوفاة الجندي سيد منصور ،فينزعج للنبأ ويحضر على الفور لمعسكرنا
ليقوم بنفسه بواجب العزاء في "الشهيد سيد منصور "ثم يصدر أعجب قرار وهو ترقية الجندي سيد منصور إلى
رتبة مالزم أول تقديرا لخدماته في الجيش ..والجزء الذي نسيته من القصة أن سيد منصور كان يقوم بتدريب
ضباط الجيش النظامي على طريقة بث األلغام وانتزاعها ...
قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بعد موقعة أحد" :من رجل ينظر إلى فعل سعد بن الربيع في األحياء أم في
األموات ،فقال رجل من األنصار :أنا أنظر لك ما فعل سعد ..وذهب الصحابي يلتمس سعد بن الربيع فوجده
جريحا وفي النزع األخير فقال سعد :ما شأنك؟
فقال الرجل :إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سأل أن أنظر في األحياء أنت أم في األموات فقال سعد :أنا في
األموات فأبلغ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عني السالم ،وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك :جزاك هللا عنا خير
ما جزى نبيا عن أمته ..وأبلغ قومك عني السالم ..
وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه ال عذر لكم عند هللا إن خلص إلى نبيكم صلى هللا عليه وسلم وفيكم عين
". تطرف
القصة فسرها الصالحون بأنها كرامة شهيد وهي ال تخضع لمنطق العقل والمقاييس العادية لألمور ..أما الماديون
فقالوا إنها ظاهرة غير عادية ..أما رأي فيها فهي درس خالد أراد هللا لنا أن نأخذه على يد شهيد ..درس صامت
لكنه أسمى من كل الدروس الناطقة ..
القصة وأحداثها تسحبنا إلى أواخر عام 1948حيث كنا نعسكر في مخيم البريج الواقع ما بين خان يونس وغزة ..
وكانت مهمتنا قد تجمدت بعد الهدنة المشؤومة ..وتحولنا من قوة مهاجمة إلى قوة مدافعة ..نلبي طلب القيادة إذا
دعتنا ألي عملية فدائية ...
وكانت قيادة الجيش قد نما إليها أن اليهود سوف يقومون بهجوم كبير في منطقة العوجة ،مستهدفين احتالل بلدة
العريش وقطع الطريق على الجيش المصري المعسكر في قطاع غزة ..واحتشد الجيش المصري في منطقة
قريبة من العوجة ،وكان نصيبنا قطاعا خاصا يقع على تبة عالية تقع على ميمنة الجيش ،ولم يكن عددنا كبيرا ...
كنا في حدود الخمسين ..
كانت المعركة عنيفة وقاسية وقد أعد لها العدو كل إمكانياته وكانت معنوياته عالية بعد أن حقق انتصارات كثيرة،
وعلى العكس كانت قوات الجيش المصري بل والجيوش العربية كلها قد أصيبت بهزيمة نفسية شديدة ..
ولذلك لم تمض ساعات إلى والجيش الكبير قد ولى األدبار أمام عصابات اليهود ،تاركا وراءه مئات العربات
والدبابات قد ولى األدبار أمام عصابات اليهود ،تاركا وراءه مئات العربات والدبابات ممددة على طريق ال تقل
طوله عن ثالثة كيلو مترات ،ولم تكن ظاهرة الفرار هذه غريبة عن ناظرنا فقد تكررت أمامنا الصورة عدة
مرات ،ومرجع هذا كان لعدة عوامل أهمها انهيار معنويات الجيش المصري بعد أن خانته حكومته وأرسلت له
ذخيرة فاسدة في الميدان ..ثم تخلى "جيش جلوب" عن المعركة وغدره بالقوات العربية ..وأعني بجيش جلوب
الجيش األردني الذي كان يتولى قيادته قائد بريطاني "جلوب باشا ".
نعود إلى أرض المعركة ...فبعد أن هزم الجيش المصري وفر أمام العدو بقيت قواتنا في مواقعها في محاولة
لصد الهجوم ولكن تبين لنا أن األمر ليس يسيرا فقد ركز علينا العدو نيرانه ..وأصالنا بآالف القنابل وقام
بمحاولة لتطويقنا بعد أن انهارت كل أجنحة الجيش ..
حتى إنه تمكن من الوصول إلى منطقة قريبة من تلة كان يقوم على حراستها بعض رجالنا ،وكان منهم بطل هذه
القصة "الشهيد علي الفيومي "الذي تمكن هو وزمالؤه من صد هجوم الجيش اليهودي وتعويق زحفه وحماية
ميمنتنا ..ولكن العدو ركز بشدة على التلة الصغيرة حتى سكتت نيرانها ..وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل
قررنا االنسحاب حتى ال تباد القوة عن آخرها إذا طلع عليها الفجر ،ولكن تبين لنا فقدان أحد زمالئنا وهو علي
الفيومي ...
قال بعض زمالئه إنه أصيب ،ولكنهم لم يتأكدوا من وفاته ،وذهبنا في تفسير األمر مذاهب كثيرة ،من قائل إنه
ذهب شهيدا ،ورجع آخرون أن اليهود تمكنوا من أسره ...
وعدنا للعريش حيث نزلنا في معسكر إمداد الرجال ،ولبثنا هناك اثني عشر يوما لم تغادرني صورة الفيومي في
يقظتي وال في منامي ..كان يزورني في الليل ويقول لي" :أنا عائد أنا حي ".
وعلى الرغم من تفسيرات إخواني الكثيرة للرؤيا فمن قائل أنه مع األسرى حي يرزق! وآخرون فسروها بأن
الصحراء التيه التي ابتلعت بني إسرائيل أربعين سنة قد لفته في دروبها المعقدة! والواقع أن هذه الصحراء غريبة
في تكوينها وهي كفيلة بأن تضل من يدخل إليها ،وقد حدث أن ضللت الطريق فيها مع زميلي الضابط المهندس
الرائد محمود خليل ولم نهتد إلى معسكرنا إال بعد جهد كبير ...
نعود إلى قصة الشهيد ،وإلى الرؤيا التي ظلت تطاردني طوال إقامتي في العريش ...والتي تأكدت في نفسي حتى
خيل إلي أنه قد يدخل علينا خيمتنا في أي لحظة ...
صدرت األوامر إلينا بالعودة إلى سد الروافع حيث يقوم قصر صغير للملك السابق فاروق فأسرعنا إلى هناك ..
وكان اليهود قد سلبوا القصر الذي كان الملك فاروق يعده لنفسه ،ولم يتركوه إال هيكال يقف كالشبح ..وإن كنت ال
أنسى عبارة حفروها في مدخل القصر تقول العبارة :
"ذكرى انهيار الجيش المصري" وسجلوا تحتها هذا التاريخ / 1949 1/1ثم رسم أحدهم صورة لجندي يهودي
وهو يركل بعنف جنديا مصريا ويطرده خارج فلسطين ..العبارة والصورة ..حفرها اليهود في نفسي أكثر عمقا
وبعدا مما فعلوه بالجدار ...
أصدر قائد اللواء الخامس "اللواء نعمة هللا" أوامره لنا باستكشاف القصيمة التي كان قد احتلها اليهود بعد هزيمة
الجيش ..
وكان الطريق إلى القصيمة محفوفا بالمخاطر فهو عبارة عن دروب عميقة تحفها جبال شاهقة ،وفي إمكان أحد
القناصة اليهود أن يهيمن على الطريق كله ،وبالتالي يعزل القرية الصغيرة ،عن العالم ..ولذلك قطعنا الطريق
الموصل إلى القصيمة وهو حوالي عشرة أميال في أكثر من أربع ساعات ،ألننا كنا نرسل بالكشاف الستطالع
الطريق الجبلي قبل التقدم في الوادي ..
وأخيرا وصلنا إلى قرية فلم نجد فيها إنسانا واحدا ،لقد هرب أهلها جميعا والذوا بالجبال فتذكرت قول هللا تعالى
وأنا أطالع القرية المحطمة" :وبئر معطلة وقصر مشيد ".
كان أول عمل قمنا به هو محاولة عن أهل القرية حتى نعيدهم لديارهم التي سلبها اليهود ،ونؤمنهم فيها ..فأرسلنا
رجالنا في مسالك الجبال للبحث عنهم ..
ولعبت الصدفة دورها في آخر لحظة فقد عثرنا على أحد أبناء القرية وهو يحاول الهرب من بيته المخرب ،وبيده
مصباح به بقية من زيت ،وبعد أن طمأناه وهدأنا من روعه أرشدنا إلى مخابئ قومه ،فذهبنا إليهم وأعدناهم في
أمان لقريتهم ،بعد أن أدينا واجبنا الذي كلفنا به قائد اللواء وأمنا أبناء القرية ..عدنا إلى مركز القيادة حيث استقبلنا
اللواء نعمة اله بحفاوة كبيرة ..
وأذكر أنه قال لي إنني ال أدري كيف أكافئكم على مغامرتكم الكبيرة قلت له إنني آمل أال تعتقلونا ..فظهر
االمتعاض في وجه الرجل واستغرب ردي ..
فلما فسرت له تخوفاتي ،وذكرت له طرفا من حملة االعتقاالت التي تعرض لها اإلخوان في مصر ،على أثر حل
الجماعة ومقتل النقراشي سكت الرجل وهو يهز رأسه في أسف ..ومن عجائب القدر أن يتم اعتقالنا فيما بعد
وتسند حراسة معتقلنا لسرية من جنوده ..
وإن كنت أحب أن أسجل بإعجاب موقف جميع ضباط الجيش منا وعلى رأسهم اللواء فؤاد صادق أثناء اعتقالنا،
فقد كان تعاطفهم معنا ال حدود له ،وعلى العكس من ذلك كان موقفهم من الحكومة ومن القصر ،وأذكر عبارة
خالدة قالها اللواء فؤاد صادق" :لقد حاربنا شرتوك واحد في فلسطين وينتظرنا شراتيك كثيرة في مصر ".
ولنعد إلى قصتنا مع الشهيد حتى ال تستدرجنا الذكريات ..فبعد الحديث الذي دار بيني وبين اللواء نعمة هللا ..قال
لي الرجل وهو يشير إلى أعرابي يجلس القرفصاء بجوار إحدى الخيام إننا وجدنا هذا الرجل يتجول حول
مواقعنا ،ثم طلب مني أن أقوم بالتحقيق معه – (وقد كنت طالبا بكلية الحقوق ).
عجبت من تكليف الرجل لي بهذه المهمة في حين كان حوله مئات من الضباط القادرين على أداء هذه المهمة
ولكنني امتثلت لألمر ...وحملت الرجل في العربة وانصرفت عائدا إلى معسكرنا في سد الروافع ..وبدأت أنفذ
أوامر القائد ..
من خالل استجوابي لألعرابي تبين لي أنه بسيط وساذج حتى كدت أصرف النظر عنه ..ولكن حانت مني التفاتة
إلى قدمه ،فوجدته ينتعل حذاء عسكريا ،فسألته عن مصدره فتردد كثيرا ثم قال لي إنه وجده في قدم قتيل فخلعه
منه ثم لبسه ،فتأملت الحذاء ثانية فإذا به من األحذية التي كانت تصرفها لنا الجامعة العربية ،قبل انضمامنا للجيش
النظامي ..
فأمرت الرجل على الفور بأن يخلع الحذاء وقلبته بين يدي ،فالحظت وجود عبارة "عربية" محفورة في أسفل
النعل ،وتذكرت على الفور أن الفيومي كان قد وضع عالمة لحذائه حتى ال يضيع بين األحذية ،واختار اسم
الجامعة العربية ليسجله في أسفل الحذاء ،احتقارا منه لموقف الجامعة العربية بسبب تصرفاتها النابية من القضية
الفلسطينية ،وتصرفاتها المخزية من المجاهدين ،كانت الجامعة تقدم لنا ثيابا بالية ،وأطعمة أقرب ما تكون شبها
بحذاء الفيومي ..
وأسلحة قديمة عديمة الفائدة ..تأكد لي بعدها أن الحذاء مملوك للفيومي فعدت أشدد على األعرابي ليكشف لي عن
سر حصوله على الحذاء ..قال إنه وجد قتيال ملتحيا في أحد المواقع فأعجبه حذاؤه فسلبه إياه ..وإنه قام بدفن هذا
القتيل في موقع يستطيع أن يرشدنا إليه واشترط اإلفراج عنه فوعدناه بذلك ...وعلى الفور اصطحبنا الرجل في
سيارة جيب إلى الموقع الذي حدده ..وكنت مدفوعا بشوق ال حدود له أللتقي بالشهيد الحي الذي عاد إلينا ..
أشار الرجل إلى المكان الذي وارى فيه الشهيد ،فأزحنا الرمال من فوقه ..والتقيت وجها لوجه بالثغر الباسم،
وكأن يد الموت الصفراء لم تمسه ..
حتى خيل إلينا أنه بعث حيا من قبره فجثوت عليه وقبلته وصافحته فما شممت نه رائحة الموت ..وجدتني أكلمه
بال وعي وانتظرت منه جوابا ..ولكن صمته كان أروع بيانا .
حملنا الشهيد في عربتنا إلى مركز اللواء نعمة الذي اهتز من أعماقه وانفعل بشدة وهو يستمع للقصة من أولها ..
وأصر على أن يلف الشهيد في غطائه الخاص ،وأن يحمل في عربته إلى مثواه األخير وودعه هو وضباطه
باحترام وإجالل ...
حملنا الشهيد إلى مقبرة قريبة من سد الروافع ..وكان شعوري بلقائه وبوداعه وبقصته أكبر من أي تصور ومن
أي خيال ..شعرت وكأن مواكب مالئكية كانت تحف بنعشه المتواضع ..وكانت فرحة به وهو ينضم إلى النبيين
والصديقين والشهداء ..
لقد عاد الفيومي إلينا وكان حيا كما وصفه ربه ...
"وال تحسبن الذين قتلوا في سبيل هللا أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ".
ونحن في طريقنا إلى المعسكر بعد أن وارينا الشهيد التراب ،صدرت إلينا األوامر بالتحرك إلى موقع آخر ..
وكأن القدر كان على موعد معنا ليكتمل نسيج العجيبة ...
قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،والمسلمون يدفنون شهداء أحد" :زملوهم بجراحهم فإني أنا الشهيد عليكم ما
"... من مسلم يكلم في سبيل هللا إال جاء يوم القيامة يسيل دما – اللون لون الزعفران والريح ريح المسك
وشهداء
وشهداء كثيرون عشت في كنفهم ،واستمتعت بصحبتهم ..وتتلمذت على أيديهم ...كانوا عمالقة عصرهم ..
وأساتذة أجيالهم ..كانوا قبسا من الماضي أرسل إشعاعه إلى حاضرنا فتفتحت لهم القلوب ..وأشرقت بهم النفوس
كانوا بعضا من عمر وأبي بكر وعلي وعثمان ..
وكنا نسعى بين أيديهم في أمن نفسي تظلنا روحهم الشامخة من لفح الهجير ..وتدثرنا قلوبهم من عواصف الحياة
...وكنا لفرط داللنا نرتع ونلعب بين أيديهم مطمئنين إلى أبوة غامرة عامرة بالعطف والحنان ...
والعجيب في األمر أنهم كانوا من فرط تواضعهم يشعروننا بإلف وكأنه بعض منا ،وأننا منهم في موضع الصديق
ال التلميذ ..وكان هذا يطعمنا لتسلق القمم العالية في محاولة للوصول ألبراجهم ..بل كان هذا يغري بعضنا
بالتطاول فيرى الغمام الخفيف وكأنه ركام ظالل ثقيل يحجب ضوء القمر ..
كان المتطاولون منا يرون هناتهم عظائم ال تغتفر ،واللمم جرائم كبيرة ..وفي الواقع لم يكن هذا عيبنا ولكنه كان
انعكاسا طبيعيا فالمرآة الصافية يعكر صفاءها طفيف الغبار ،والثوب األبيض تعيبه النكتة السوداء .
يقول الجهالء إنهم ماتوا ..اختفوا من الحياة ..لفهم التراب ..ويقول العقالء ..بل هم أحياء في ضمير األحياء من
تالمذتهم ..إنهم يغمرون الدنيا بنورهم ..إنهم يسعون فيما بيننا ينثرون علينا الورود ويسقوننا من رحيق الحياة ..
ويعدوننا بزاد وفير على طول الطريق ،إنهم وقاية لنا من عثرات الحياة ،وحماية لنا من شراسة أنفسنا ..إنهم
حصننا نلوذ به من كر األعداء وضراوتهم .
من قال إنهم ماتوا؟ إننا نسمع نبض قلوبهم تخفق في قلوبنا فتلهمنا الحب والخير والمعرفة ..إننا نحس بمسرى
أرواحهم فينا فتنتشي أرواحنا وتدفع األمل إلى النفوس الواهنة ...
وليس من صوت قوي إال رجع صوتهم ..أن ال ..الرافضة ..كانت ملكهم في عصر "النعم" هي لغة من عداهم
..وعاشت "الال" يواجه بها تالمذتهم طواغيت عصرهم ..ال ظلم ال استعمار ال صهيونية ال شيوعية ال طغيان ..
ال ..ال ..ال ...أن "ال" تثبت حياتهم ..و "نعم" فقطع بموت أعدائهم ..
وهم الذين تفردوا بثالثة أعمار ..عمر أنفقوه سخيا يعلمون ويجاهدون ويقودون موكب الشباب ،وعمر امتد من
بعد رحيلهم فغطى األرض علما ومعرفة وخيرا ..وعمر خالد يحيونه عند هللا في رغد من عيش "أحياء عند
ربهم يرزقون " ..أعمار ثالثة ...
وهم يقتلون الظلم والبغي ..ويجهزون على كل أعدائهم ..ويرهبون من عاداهم وما أكثرهم ..لم يمت حسن وال
عبد القادر وال سيد وال اآلالف من تالمذتهم ..وحسن البنا ،وسيد قطب ،وعبد القادر عودة ...عناوين قضايا
هائلة تفجر عنها القرن العشرون ..
قضايا هائلة تشرح الصراع الجبار بين حلف اإلنسان وحلف الشيطان ..أراد الرجال أن يردوا أنفاس اإلنسانية
بعد طغيان الحيوانية الرهيبة ..وكان بيانهم" :تنزيل من التنزيل وقبس من نور الذكر الحكيم" ..لم يقولوا إنهم
خلقوا فكرا ،أو جاءوا بمعجزة ...
ولكنهم قالوا إنهم مبلغون رسالة عن رسول هو رحمة مهداة للناس ..رحمة بهم ورحمة لهم ..وحددوا مهمتهم في
االلتزام بما قال وبما فعل الرسول ورفاقه ..فهم أتباع لمحجة بيضاء وطريق مستقيم ..وكان نداؤهم الجامع" :قل
هذه سبيلي أدعو إلى هللا على بصيرة أنا ومن اتبعن ."..وكان لندائهم وقع جميل في النفوس الصافية ..فأسرعت
مستجيبة لداعية الخير والحب ..ولكن الفزع تملك عبدة الطاغوت والذهب والجسد فأجلبوا بكل قواهم على الدعاة
المسالمين ..
وكان ال بد من وقوع الصراع بين الحق والباطل ..الحق يؤمن به آحاد مسالمون ..والباطل يدين له جبابرة
شرسون ..حاول الحق أن يدفع هجمة الباطل ..ولكن الباطل أغار بضراوة مخيفة فغرقت األرض بدماء زكية
...
وسؤال يطل من كل عاقل اإلجابة عنه ..من القاتل ومن المقتول ومن الميت؟
القاتل شيطان كبير ممتلئ حقدا وظلما وجهال ..القاتل هو ذلك األوروبي الجهول الذي غرق في ضالل ما سماها
"عقيدة دينية" فتصلب عليها فصار قطعة من الحديد األصم!! وحمل كرها وبغضا لكل معالم الخير الجديدة ..كره
محمدا دون أن يفهم أن محمدا هو حبيب المسيح وأخوه ..
وانتقل كرهه لمحمد إلى كل رجاله قديمهم وحديثهم ..والقاتل هو ذلك النفر الذين رفضهم موسى من قبل ،وهرب
من بطشهم عيسى ،وتصدى لهم محمد فأوجعهم في المدينة ،فحملوا له ولصحبه ومن تبعه ثأرا ال يطفئه في لغتهم
إال الدم والقتل ...
والقاتل هو الذي انفك من إنسانيته ،وهرب من مثاليته ..وحكم معدته وشهوته في عقله ومشاعره ،وبنى له
محرابا هائال من الشهوات ،وكانت ترانيمه وصلواته على قيثارة لينينية ستالينية وماوية ...وقاتل كبير يحمل كما
هائال من الغباء والبالهة ،ولد ضخما فكان له خوار كخوار "عجل الذهب" يرفس بال وعي ،ويقتل بال تفكير ...
ويحكم العالم بعصابات واشنطن وسفاحيها ..
ومن المقتول ..إنه ابن األرض الطيبة ..نسل النطفة النظيفة وارث العلم والفكر والحضارة ..الناطق بكلمة الحق
..الرافض لعبودية الرجل األبيض والفكر األحمر ..الداعي إلى الرقي اإلنساني فتنتقي سيادة اإلنسان ألخيه
اإلنسان" :قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أال نعبد إال هللا وال نشرك به شيئا وال يتخذ بعضنا
بعضا أربابا من دن هللا " ..
المنادى بكلمة "هللا أحد" المعلن لعظمة األحد "هللا أكبر" المؤمن بكتبه "كتاب أنزلناه إليك" ورسله" :وما محمد
إال رسول قد خلت من قبله الرسل ".
إن هذا الداعي إلى هللا قتله داعية الشيطان ..ولو كان اسمه غير حسن ،وغير سيد ،وغير عودة لقتل ..المهم أن
يقتل هذا الداعية وكل داعية ،والشركاء ..الشركاء في هذه الجريمة كثيرون ..كل الجهلة شركاء وكل المفسدين
شركاء ..وعبدة السلطان وعبدة المال كلهم شركاء ..
لقد وجد فيهم القتلة أداة طيعة في التنفيذ فأمدهم بأدواته ،أعطاهم سلطانا وسلطهم به ضد "خصومه" !! وأغدق
عليهم ماال وإرهابا لحماية المال ..ونشر فيهم "فكرة" فكانوا ببغاوات عقلها في أذنيها ..وبالمال وبالسلطان
وبالجهل "المثقف" نبذ عرب مسلمون لعرب ومسلمين ..واتسعت حبال المشانق لألئمة واألعالم ..وقتل
الرجال !!
كان يتما لألبناء الذين كانوا يعيشون في رحاب األبوة ينعمون بعطفها وبرها وخيرها ..وجدوا أنفسهم بين يوم
وليلة في العراء تلفحهم الشمس وال ظالل ..ويقبض أنفاسهم البرد وال دفء ويتخطفهم اللصوص ..وتعضهم
الكالب ..وتنهشهم الذئاب وتلسعهم األفاعي ..
وجوع وعطش أقسى من فقدان الخبز والماء ..إنه جوع النفوس وظمأ القلوب ..وسرى اليتم في األمة كلها ..
وسواء أحست به أو لم تستشعره إال أن آثاره امتدت في حياتها ففاضت بسمة الحياة ،وانطوى القلب على حزن
كبير ..
ونصت مأتم كبير في كل نفس استشعرت رحيل الرجال ..والتفت األمة بوشاح أسود ..وقامت أعمدة المأتم تظل
سيناء والقدس والجوالن تعلن حدادا على مقتل الرجال الذين قتلت فيهم كل كلمة الحق ..فأغرقت األمة في دماء
أبنائها ..غرقت سيناء في دماء أبنائها ألن كلمة "الال" ذبحت فانطلقت "النعم" تخضع الجميع لآلمر والناهي
وسحلت األمة على وجهها إلى نهايتها ...
وأفراح راقصة دقها أعداء كانوا يرابطون بالباب ..باب األمة الكبير كان الرفض اإلسالمي قد دفع بهم إلى
الخارج ..فلما قتل زعماء الرفض بدأ الكر من جديد ..
صحيح أن جيوشهم وأوكارهم وأعشاشهم كانت ال تزال تقيم في أرضنا وتسعى بيننا ..لكن الرفض كان لبقائهم
في نفوسنا وفي بيوتنا وفي عقولنا وفي أبنائنا ..لقد استطاع البنا وأصحابه أن يطردوهم بإسالمهم ..طردوهم من
عقول ونفوس الشباب ..ثم رفسوهم بأقدامهم ..دفعوهم عنا بمصحف وسيف ،المصحف زكى النفوس والسيف
قطع الرءوس .
كان دعاة الوطنية – وفيهم خيرون كثيرون – يستعينون بالشجر والحجر والنهر ليدفعوا غارة همج أوروبا علينا
..ولكن الرجال الكبار تنادوا بمحمد وموسى وعيسى ،والكتاب المعلم ،وحمزة وأم عمارة ،تنادوا بهؤالء من فوق
الشجر والحجر والنهر فتدافع الناس من ورائهم يدفعون عن أنفسهم "إننا قطعة من أوروبا" ويتنادون بأن أوروبا
والعالم أرض هللا وهم مستخلفون عليها ..
فهي أرضهم باسم هللا وسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ..وعلى سنن أبي بكر وعمر وخالد رضي هللا عنه ..
هذا المعنى الغزير روع "سادة العالم" من البيض والحمر وزلزلت األرض من تحت أقدامهم وأوشكت قالعهم أن
تتداعى من فوق رءوسهم ...فتنادوا فيما بينهم ،وبدأوا يستجمعون قواهم ونسوا أو تناسوا عداواتهم القديمة ..
وهبطوا علينا بكل أسلحتهم وخيانتهم وغدرهم ..
وكان همهم األكبر قطع الهامات الكبيرة ثم تمزيق الجسد ..وقتلوا البنا ،وقطب ،وعودة ،وفرغلي ،ويوسف ..
وشربوا كؤوسا مترعة بالدم الزكي الطاهر ..ورقصوا فوق األشالء والمزق البشرية ..وماتت األيدي القاتلة ..
ماتت في حياتها ،وماتت في ضمائرها ...
وماتت في وطنها ووطنيتها ..وتكفنت في أوزارها وآثامها ..ماتت من حيث إرادة الحياة ...ماتت في كل مكان
وفي كل زمان ...ماتت في أرضها وفي كل أرض ..وماتت في زمانها وفي كل زمان ..قد يقال إن التاريخ
سيحفل بأسمائهم وآالئهم ..
والتاريخ ليس دليل حياة الناس وليس دليل خلود ..والخلود ليس ذكر االسم ولكنه بذكر الفعل ..وليس بذكر الفعل
وحده ولكن بذكر الصالح من الفعل ،والفعل الصالح الذي يعطي الخلود هو العدل والخير والحق ..التاريخ بل
والقرآن ذكر اسم فرعون وموسى ،ومحمد وأبي لهب ،وإبراهيم وأبيه ،ونوحا وابنه ،بل إن التاريخ دوى بأسماء
الطغاة ونسي أكثر الدعاة ..لقد ماتت األيدي القاتلة ..ماتت وانتهت ..لقد مات من مات وقتل من قتل ..
وتيتم من تيتم ..ورقص من رقص وبقي الميراث ..والوراثة ..وما أثقله من ميراث ،وما أفدحها من تركة ..
ميراث كبير وثقيل ..أن تعلم وتعلم ..أن تجاهد وتصبر ..أن تحب وتكره ..أن تقاتل وتقتل ..أن تعيش حياتك
لدينك وللناس ..أن تسجن وتنفى وتتشرد ..
أن يعتل جسدك ،ويخلو جيبك ،ويطمع فيك الكالب والذئاب واألوباش ..وأمام هذا الميراث الثقيل ..تفلت الكثير
..وصبر القليل ..ومات من مات ...
ومات من مات...
تفلت الكثير تحت إلحاح الحياة ووفرة مطالبها ..وتحكم نسائها ودالل صغارها ..تفلتوا خوفا من طغيان الفتنة ..
ومطحنة الجوع والحرمان من العمل والخبز ..والتفريق ما بين الولد والزوج ..وفقدان األمن النفسي وإسراف
السلطة والسلطان في المطاردة واالتهام ..
وانتفاء العون من الصديق والقريب ..واستبطاء رحمة هللا استيئاسا ..واستبعاد رحمة الحاكم في غفلته ونسيانه ..
تفلت الرجال من هذا العبء الثقيل ووجدوا تعالت في خطأ السياسة "وخطأ القيادة" (وقد يكون هذا صحيحا ولكن
ما قولهم في موسى وهو يقتل خصمه ،وما قولهم في محمد وهو يالم من ربه "عفا هللا عنك لم أذنت لهم" ..وما
قولهم في خالف عمر وأبي بكر في حرب المرتدين ..وقد يكون الخطأ في السياسة ومن القيادة مبررا لإلفالت
من الرباط الموقف ..
ولكن هل يعفى هذا من مسئولية العمل والدعوة واإلنفاق والجهاد في سبيل هللا ..وأرضنا تئن من وطء أقدام
األصفر واألحمر واألبيض ..ما نادانا هللا من خالل البنا أو سيد أو عودة ،ولكنه نادانا بكتابه ومن خالل رسوله ..
والكتاب حجة قائمة والرسول سيرة حية صلى هللا عليه وسلم ...
وصبر القليل ..والقليل هؤالء هم الذين أدركوا أن البنا وغيره ما هم إال دعاة ..والرسول بعظمته ما هو إال مبلغ
"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" " ..وما محمد إال رسول قد خلت من
قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ،ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر هللا شيئا وسيجزي هللا
الشاكرين " ...
عرفوا هذه الحقائق السهلة فغطوا يتمهم بالصبر ..واحتسبوا الطعن والجوع والفقر وشماتة العدو وتفلت الصديق
..والزوج واألخ واألهل دعوا واستغفروا للناس جميعا حتى لآلثمين الغافلين ..ورصدوا الدين وحده يعملونه في
أنفسهم وحياتهم ومعاشهم ،ثم ينقلون ما علموا وما عملوا إلى كل أذن صاغية ونفس صافية ..ولم يلههم القيد عن
إبالغ كلمة الحرية ..
وعاشوا سني يوسف في سجنه وهو يهتف "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار" ..كانت
دعوتهم في صدور تنطلق إذا فتحت لها النوافذ ،فإذا حيل بينها وبين اآلذان والقلوب تحولت إلى نجوى وضراعة
وأنس باهلل وتسليم بقضائه :
"واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو واآلصال وال تكن من الغافلين" ..وشهد
الصابرون في تأملهم وضراعتهم مآل أرض ،رفض الحاكمون بأمرهم فيها أن يكون األمر والنهي والحكم هلل
وحده ..رأوا بقلوبهم ثم بعيونهم مصير "النعم" في غيبة "الال" والتمسوا تفسيرا لما يرون فأسعفهم كتابهم "وتلك
القرى أهلكناهم لما ظلموا " .. "..إن هللا ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ...".
وكان للصابرين إزاء هذا الحدث الجلل موقف ثابت أن يمضوا في العمل هلل ..محتسبين ما لقوا عند ربهم ..
رافضين جزاء الحياة الدنيا ،إال أن يكون فيضا من هللا ...آملين أن يتجدد شباب األمة بإسالمها ..وتنهض برسالة
"الال" تتحدى بها جيوش الظالم الزاحفة وخفافيشه المتنطعة ..
وهتاف قلوبهم ونشيد صدورهم ونجوى نفوسهم " ...يا قومنا أجيبوا داعي هللا وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من
رحمته ويغفر لكم "...واستقامت حياتهم على أسلوب سوي ..دمعة متحسرة بليل ،وخطوة مباركة في نهار ..
وأمل في نصر أو لحاق بالصالحين من قومهم ..
"رجال صدقوا ما عاهدوا هللا عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديال" أما من ماتوا ..فلم
تكن لهم حياة من قبل ..كانوا حركة كاذبة وأسطورة خيالية ..امتأل فمها بالقول ،تجعر وتنعر ..واتسعت أمعاؤها
لتأكل باسم الدعوة سحتا وظلما ..وغرقت في شهواتها ..وعلى سلم "الدعوة "صعدت إلى أعلى الكراسي ،وعلى
سلم "الدعوة ركبت خيال من ذهب ،وعلى سلم "الدعوة" صارت بوقا عاليا ..ولم يكن كل هذا إال عالمات فناء
وحشرجة أموات ..
وما أظنهم إال بناءين في مسجد "ضرار" ..رحم هللا الرجال ..رحمة من عند هللا ورحمة لما قدموا من فضل
وخير وما صبروا وصابروا وهم يجالدون طواغيت زمانهم ..ورحم هللا من تبعهم بإحسان ..ورحم هللا من "خلط
عمال صالحا وآخرسيئا" ورحم هللا من عاداهم من جهل وغباء ...
ورحم هللا آالفا قتلهم الظلم والظالمون ..قتلوهم بالسيف والقيد والجوع والمرض والحرمان واألسى ...ورحم هللا
شبابهم وشيوخهم ونساءهم ..
رحم هللا من قتل في فلسطين وفي القناة ،وفي مصر ..وفي كل بلد عربي وإسالمي ..
ورحم هللا من قتله اليهود ومن قتله اإلنجليز ومن قتله الروس ومن قتله العرب "والمسلمون !!"
ورحم هللا رجاال مقيدين بأغالل يعيشون بين الموت والحياة ،سجونهم قبور ،وحريتهم سجون ..السيوف مسلطة
على رقابهم ..والخناجر تجتذ ألسنتهم ..ال يؤذن لهم بقول ..وال يسمع لهم إذا قالوا ..
يرصدهم أعداؤهم في غدوهم ورواحهم ..في بيوتهم وأعمالهم ..يتهددهم القتل والجوع ..غلقت دونهم أبواب
بيوتهم وأبواب أممهم فهم مشردون في األرض ..رحمهم هللا جميعا ..ورحم هللا أمة استذلها أذل إنسان ..يقتل
أبناءها ويستحيي نساءها ،وينكل بصغارها وكبارها ..
ذبتهم الدنيا عن وجهها فألقوا بأوساخهم في أرضنا ..وأعانهم ويعينهم خلق كثيرون ليسوا من اإلنسان وال من
الحيوان في شيء ...
كل هؤالء يعيشون في أرضنا ويرتعون ويمرحون في ديارنا ونفوسنا ورءوسنا وهم في مأمن من حسن وسيد
وعودة ...
رحمها هللا ووهبها رجاال يخلفون الرجال يعيشون في أمتهم وألمتهم ..وعافاها ممن يقتل الرجال أو يذل الرجال
...
آل طفيل على أرض فلسطين
لو لم يحمل إلينا تاريخ التضحية والفداء إال قصة الطفيل بن عمرو الدوسي وابنه عمرو لكان في ذلك الكفاية فما
هي قصة األب واالبن ..األب رجل غني وسيد في قومه وشاعر أديب واالبن قطعة من األب ...إن قريشا كانت
حريصة على الحيلولة بين هذا الرجل وبين محمد خشية أن يسمع القرآن فيتذوقه فيؤمن به ،فأحاطته بسياج قوي
من الرعاية ،وسدت عليه جميع المسالك ،حتى إنه كان يضع في أذنه خرقة فال يسمع حديث النبي ..
ولكن هذا األمر لم يطل على الشاعر المفكر ففتح أذنه ثم قلبه واستمع لآليات تنساب من قلب رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم فقال للرسول :وهو يعلن إسالمه :ما سمعت قوال قط أحسن من هذا وال أمرا أعدل منه ...ثم طلب من
الرسول أن يجعل له آية حتى يصدقه قومه إذا دعاهم لإلسالم ..فقيل إنه كان يرى له نور بين عينيه وبدأ الرجل
يعلن دعوته ..وكان أول من لقي أباه قال له :
وجاء دور زوجته ..قال لها :إليك عني فلست منك ولست مني .
فطلبت منه أن يعرض عليها اإلسالم ،فأسمعها كالم هللا بعد أن تطهرت ..فأعلنت إسالمها ..
ولكن قبيلته تستعصي عليه فيعود للرسول يطلب منه أن يدعو له بالتوفيق في دعوته وهداية قومه فيدعو الرسول:
اللهم اهد دوسا وائت بها ...
وتستجاب الدعوة ويستجيب لها قومه ،ويذهب مع وفد من أصحاب الرسول ويحتفلون بإحراق "ذي الكفن" أكبر
صنم كان يعبده قومه .
وينتقل الرسول إلى جوار ربه ،ويرتد بعض الضعفاء فيجرد لهم أبو بكر حملة قوية ،يكون من بينها طفيل فيقاتل
الرجل هو وابنه حتى يستشهد ويصاب ابنه بجروح ..
وفي اليرموك ..يندفع عمرو بكل إيجابية وصدق هزيمة يطارد فلول الروم إلى أن يسقط شهيدا على أرض
فلسطين ..
بهذا األسلوب وحده تحررت أرض هللا من "استعمار" المشركين واستغالل" اليهود " ..واستبداد "األكاسرة"
وطغيان الرومان وبمثل هذا األسلوب سوف تتطهر من االستعمار واالستغالل واالستبداد والطغيان ،فالكفر ملة
واحدة ،وإن لبس أجمل ثياب الحضارة والمدنية ،ووضع فوق رأسه تاج العلم والمعرفة ..
وأمسك بيده القنابل والصواريخ ..واإليمان لن توهنه مسيرة التاريخ ..لن تضعفه مسيرة أربعة عشر قرنا ..
والمؤمنون بوسعهم أن يعيشوا حاضرهم بإرادة آبائهم وأجدادهم فيتجدد فيهم عمرو وزيد وطفيل وحمزة وأم
عمار ..
والزمن دوار ..ودورة الفلك توشك أن تنتهي من حيث بدأت ..وما أظن أيامنا هذه إال قتامة ليل يوشك أن يبددها
صبح قريب ...