You are on page 1of 31

‫حسن دوح ‪ ...

‬شهداء على الطريق‬


‫محتويات‬
‫‪ ١‬المقدمة‬ ‫‪‬‬
‫‪ ٢‬ومن هنا نبدأ‬ ‫‪‬‬
‫‪ ٣‬سيد شراقي‬ ‫‪‬‬
‫‪ ٤‬وفاء‬ ‫‪‬‬
‫‪ ٤.١ o‬يا أبت إن الجهاد فرض‬
‫‪ ٤.٢ o‬يا أبت لو كان غير الجنة آلثرتك‬
‫‪ ٥‬عمر شاهين‬ ‫‪‬‬
‫‪ ٦‬ذكرى شهيد لألستاذمحي الدين عطية‬ ‫‪‬‬
‫‪ ٧‬شهيد بئر السبع‬ ‫‪‬‬
‫‪ ٨‬عظمة األمومة‬ ‫‪‬‬
‫‪ ٩‬صالح المعلم ‪ ..‬والمقاتل‬ ‫‪‬‬
‫‪ ٩.١ o‬ال نقاتل إال بهذا الدين‬
‫‪ ١٠‬سيد منصور‬ ‫‪‬‬
‫‪ ١١‬أنا عائد ‪ ..‬أنا حي‬ ‫‪‬‬
‫‪ ١٢‬وشهداء‬ ‫‪‬‬
‫‪ ١٣‬ومات من مات‪...‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ١٤‬آل طفيل على أرض فلسطين‬ ‫‪‬‬

‫المقدمة‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫الرحْ مـَ ِن َّ‬
‫ّللاِ َّ‬
‫س ِم ه‬
‫بِ ْ‬

‫الصور التي أعرضها في هذا الكتيب هي بعض من كل ‪ ...‬وقد حدث مئات من أمثالها شهدتها وشهدت لها أرض‬
‫فلسطين الطيبة‪ ،‬وأرض مصر وما حولها من األرض المبتالة بدنس االستعمار والصهيونية وأحالفهما ‪...‬‬
‫األرض الطيبة ال بد أن تنبت نباتا طيبا طاهرا ‪...‬‬

‫وأرضنا التي سقاها اإلسالم من عذب أنهاره لن تكف بإذن هللا عن إمدادنا بأوفر وأنضج الثمار‪ ،‬ولسوف تشهد‬
‫هذه األرض قصصا جديدا ترجع الناس إلى عصر حمزة‪ ،‬ومصعب بن عمير‪ ،‬وسعد بن معاذ‪ ،‬وسعد بن عبيد وأم‬
‫عمارة وآالف من أمثالهم ‪ ...‬سوف يشهد الناس سير هؤالء الرجال األفذاذ شاخصة في إخوانهم الذين سلكوا‬
‫طريقهم ونهجوا منهجهم ‪...‬‬

‫وبغير هؤالء لن تكون أمة ولن يحيا شعب‪ ،‬ولن تبعث نهضة ولن تتحرر أرض ‪...‬‬

‫إن الذين أرادوا نزع إسالم "معركة فلسطين" كانوا وال يزالون من أخطر المتآمرين على فلسطين وعلى األمة‬
‫العربية واألمة اإلسالمية وليس أقل منهم تآمرا أولئك الذين حاصروا قضية فلسطين في "قطعة من األرض" وفي‬
‫"شعب فلسطين "فهذه القضية لم ولن تكون رهينة ركام من طين‪ ،‬وآالف من البشر ‪ ..‬إنها قضية أكبر من حدود‬
‫األرض التي أطلق عليها" فلسطين "وأضخم من اآلالف أو الماليين الذين سموا "الفلسطينيون" إنها قضية كل‬
‫أرض ارتفع على رباها مؤذن "كبر باسم هللا" وقضية كل إنسان هتف ملبيا "هللا أكبر ‪".‬‬

‫إن قدم "الصهيوني" وطئت كل بيت‪ ،‬وكل مسجد‪ ،‬وكل معهد‪ ،‬وكل مصنع‪ ،‬في أرض السبعمائة مليون ‪ ...‬وبهذا‬
‫المفهوم سوف تسقط كل الشعارات المزيفة التي تلوح بها "المنطقة العربية" سوف تسقط شعارات "الثورة‬
‫الفلسطينة" لتحل محلها "الثورة اإلسالمية" وسوف يضرب شعار "حزيران والجالء عن األرض المحتلة" ليحل‬
‫محله "جالء الصهيونية عن أرضنا"‪ ،‬وسوف تتوارى كل العبارات المزيفة اإلمبريالية والعنصرية‪،‬‬
‫واالستعمارية ‪ ...‬لتحل محلها شعار "الطهارة من الكفر" الكفر كل الكفر ‪...‬‬
‫ويوم أن تحتل المفاهيم الجديدة أنفسنا وأرضنا سوف يقفز الماضي كله ليعيش حاضرنا ‪ ...‬سوف نجد من بيننا من‬
‫يقاتل بروح بدر ال يشكو قلة الرجال أو المال ‪ ...‬وسوف يشتد العابد في أحراش نيجيريا‪ ،‬والرابض في جزر‬
‫أندونيسيا‪ ،‬والمتخفي بإيمانه في أوروبا وأمريكا لينضوي وتسقط اإلقليمية‪ ،‬ونعيش معركة إسالم جديد ومن هنا‬
‫نبدأ ‪ ...‬ولن ننتهي ‪...‬‬

‫إن الذين قاتلوا في فلسطين من أبناء مصر وسوريا في سنة ‪1948‬تجاوزوا إقليميتهم إلى دينهم ‪ ...‬إن أرض‬
‫مصر كانت مستعمرة إنجليزية ومع هذا كله مد ابن مصر المسلم يده اليمنى ليقذف حجرا في فم بريطانيا ومد‬
‫األخرى بحجر آخر في وجه عصابة زفاي وآرجون ‪ ...‬وإن شهداء الهند الذين قتلهم البوذيون يوم أن ثأروا‬
‫لحريق المسجد األقصى ال يعرفون عن "اإلمبريالية" و "الرجعية" و "التقدمية "شيئا‪ ،‬وإنما ذكروا رسولهم‬
‫وكأنه يصلي في المسجد األقصى ومن خلفه حشد النبيين‪ ،‬والمسجد األقصى يحرق عليهم ‪...‬‬

‫بشعار "إسالمية" المعركة سوف يتبدل كل شيء في المعركة ‪ ...‬سوف نجد حشودا زاخرة من أبناء بالل الحبشي‬
‫األسود‪ ،‬ومن أحفاد صهيب الرومي‪ ،‬ومن ذرية سلمان الفارسي‪ ،‬ومن أصالب أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ‪...‬‬
‫سوف نجد األسود واألبيض واألصفر وقد تجردوا من أصباغهم وجنسياتهم إلى دينهم وعقيدتهم ‪ ...‬وسوف تسقط‬
‫حدود التاريخ وحدود األرض وتتوارى نزعات الجنس واإلقليمية والوطنية‪ ،‬ويحتويها رحاب اإلسالم الكبير ‪...‬‬

‫ومن هنا نبدأ‬


‫إن تجربة ربع قرن من "الكفاح" ضد الصهيونية في" فلسطين "انتهت بهزيمة سبع دول عربية في سنة ‪1948‬‬
‫وشغفهم في سنة ‪1967‬وآالم وأحزان وخراب ال حدود له ‪ ...‬والسبب في هذا أن "الطرف العربي" جفل من‬
‫إعالن "إسالمية المعركة" فتخير لها أسماء أخرى أضلت المقاتل وأوهنت من سالحه وحددت آماله ‪ ..‬المقاتل‬
‫منى بوسام ونجمة ودرجة ولم يمن بشهادة وجنة ‪..‬فأهمته دنياه عن أخراه ‪ ..‬وأهمته العاجلة عن اآلجلة ‪.‬‬

‫نريد أن نعيش في عالم الشهداء‪ ،‬نرى الجنة وهي تفتح أبوابها عند باب المسجد األقصى ‪ ..‬ونرى أصحابنا‬
‫وإخواننا الكبار الذين سبقونا وسجلوا أروع وأعظم صفحات الخلود ‪ ..‬خلودهم في الجنة‪ ،‬وخلود دعوتهم في‬
‫األرض ‪...‬‬

‫وليسمح لي القارئ أن أعيش معه على هامش سيرة بعض هؤالء الرجال ‪ ...‬لنأخذ طرفا من سيرهم ونجعلها‬
‫‪...‬‬ ‫سيرتنا ومسيرتنا على الطريق‬

‫سيد شراقي‬
‫قليل من الناس من يستمتع بطبيعة سيد شراقي ‪ ...‬وقليل جدا من يدانيه في صبره وإخالصه وشجاعته ‪ ...‬نسمع‬
‫اآلن عن البطل "جيفارا" يمأل اسمه سماء هذه األمة ‪ ..‬ويتواثب الشباب وثبات عليه ليلحقوا بركب الثائر العظيم‬
‫‪ ..‬وشهيد البروليتاريا! أما سيد شراقي وأمثاله فتراب تذروه الرياح والعواصف !!‬

‫إن سيد شراقي وأمثاله إشراقة ومضت في سماء الشرق المظلمة فبهر نورها الجميع ‪...‬‬

‫الشباب المؤمن استهدى بهديها ومضى على طريقها ‪ ...‬أما أحالف الشيطان فأثاروا عاصفا من الدخان ليحجبوا‬
‫الشمس المشرقة ‪...‬‬

‫وقصة سيد شراقي يمكن أن أسجلها في كلمات ويمكن أن تتسع لها كتب ومجلدات ‪ ...‬الكلمات تقول ‪ ..‬فالح‪،‬‬
‫فقائد‪ ،‬فمعلم‪ ،‬فشهيد ‪ ...‬والكتاب يتسع فيفرد لكل كلمة بابا يفيض في ذكرى سيد ‪..‬‬

‫ولندخل لدنيا سيد من أوسط األبواب ‪...‬‬

‫بعد أن أعلن اإلخوان المسلمين عن فتح باب التطوع لحرب فلسطين في أوائل سنة ‪1948‬توافد الشباب والشيوخ‬
‫على دار اإلخوان لتحملهم إلى الميدان ‪ ..‬وبدأت معسكرات التدريب تباشر نشاطها‪ ،‬كما بدأت حملة إعالمية‬
‫كبرى لجمع التبرعات للحرب ‪...‬‬
‫سمع سيد شراقي بالدعاية الكبيرة للحرب وجمع التبرعات ‪ ..‬إال أنه لم يعجل بالحضور للقاهرة لتسجيل اسمه في‬
‫كشف المتطوعين‪ ،‬وانتظار دوره في الطابور ‪ ..‬بل تخط خطوات هادئة ومتعقلة‪ ،‬جمع بعض أبناء حوض نجيح‬
‫الذين يثق بإخالصهم ‪ ..‬وناقش معهم قضية فلسطين ‪...‬‬

‫وانتهى لقرار عجيب تفرد به من دون المقاتلين ‪..‬قال ألبناء القرية‪ ،‬وهم يتحلقون حوله في الدوار ‪ ...‬لم ال نجمع‬
‫التبرعات من اإلخوة واألقارب بما يفي ثمن السالح والتموين ‪ ...‬ثم يهيئ أنفسنا للتدريب ‪ ...‬ونتقدم بعد ذلك لدار‬
‫المركز العام لإلخوان ومعنا عدتنا من السالح والتموين ‪ ...‬وبذلك نقطع الطريق على الحجيج التي تعترض‬
‫طريق سفرنا ‪ ..‬وهي عدم توفر المال والسالح ‪...‬‬

‫وافق أبناء القرية على فكرة "الشيخ سيد" كما كانوا يسمونه علما بأن "الشيخ" لم يكن قد تجاوز الثالثين من‬
‫عمره‪ ،‬وبدأ الشباب العشرة بأنفسهم ثم بزوجاتهم وأهليهم يجمعون منهم القروش القليلة يقتطعونها من أقواتهم ‪...‬‬
‫حتى تجمع لكل مقاتل مبلغ يكفيه لزاد الطريق وثمن قطعة السالح ‪ ...‬وكان طبيعيا أن يختاروا الشيخ سيد أميرا‬
‫عليهم فهو قائد بفطرته وسليقته ‪..‬‬

‫وعلى الفور بدأ القائد يمارس وظيفته‪ ،‬فأرسل إلى قيادة اإلخوان رسالة‪ ،‬يخبرهم فيها بكل الخطوات التي قام بها‬
‫أبناء القرية‪ ،‬ومدى استعدادهم للسفر ألرض المعركة ‪ ...‬فلم يملك اإلخوان إال االستجابة لرغبة أبناء حوض نجيح‬
‫‪ ..‬لم يشأ الشيخ سيد أن يترك القوة المرافقة له تتبعه على غير هدى وعلم‪ ،‬فقد كان بعضهم ال يكاد يلم بالقراءة‬
‫والكتابة ‪ ..‬فبدأ معهم دراسة منظمة على هيئة مناقشات وقراءات‪ ،‬يدور أغلبها حول شرعية القتال وآدابه وثواب‬
‫المقاتل الشهيد ‪...‬‬

‫وكان تركيزه كبيرا على الشهادة يفيض في الحديث عنها ‪ ...‬ويحرص على أن يلزم نفسه بكل ما يؤهله لبلوغها‬
‫‪ ...‬كان يدقق في محاسبة قلبه على النية ويصفيها وينقيها من كل شائبة ‪ ..‬ويفرض على نفسه أسلوبا دقيقا في‬
‫العمل والسلوك ‪ ...‬وبنفس الفهم كان يحاول أن يستوعب كل شيء عن السالح وطريقة استعماله ‪ ..‬ثم االلتزام‬
‫المبصر بطاعة قادته واتباع أوامرهم بدقة ‪...‬‬

‫أما مسلكه الشخصي وعالقته بزمالئه المقاتلين فكان سيد رقيقا لينا سهال أليفا‪ ،‬يتسع قلبه لكل من يعرفه ‪ ..‬ومن‬
‫أبرز خصاله التواضع الجم فقد كان يشعرنا أنه يحتاج لمعونتنا للتعرف إلى أمر دينه ودنياه‪ ،‬كان يقول لنا إنه‬
‫فالح بسيط وليس له من زاد من الشهادات الدراسية والعلمية ‪ ...‬ثم يأخذ مجلس التالميذ ‪ ...‬وبعد أن يحصل على‬
‫حاجته يفيض عليك من الشكر وكأنك أعطيته كنزا من ذهب ‪..‬‬

‫وقد يكون سيد أوفر علما من محدثه ‪ ..‬أما إذا اضطرته الظروف ليجلس في مقام المعلم‪ ،‬فإنه يأخذ بأسلوب‬
‫سقراط في الدراسة ‪ ..‬ويحاول عن طريق التساؤل أن يصل إلى النتائج‪ ،‬حتى ال يشعرك بأنه أستاذك ‪ ...‬إن أكبر‬
‫ميزة أذكرها للشهيد سيد تطلعه للمعرفة والتماسه ألسبابها‪ ،‬والحرص عليها ‪ ..‬وأعنى بالمعرفة هنا كل ما يتصل‬
‫بها ‪ ...‬المعرفة بالتاريخ والفقه والسالح والطب والعلوم ‪ ..‬كان حريصا على أن يكون جامعة متحركة ‪...‬‬

‫قدر ألبناء حوض نجيح أن يكونوا ضمن أول كتيبة تدخل فلسطين‪ ،‬وهي الكتيبة التي رافقت الشهيدين محمد‬
‫فرغلي ويوسف طلعت ‪ ...‬واتخذت لها معسكرا في "النصيرات" منطقة تقع ما بين خان يونس وغزة ‪ ...‬وبدأ‬
‫رجال حوض نجيح يمارسون أعمالهم على أحسن وأكمل وجه ‪...‬‬

‫واندمجوا في عمليات القتال األولية‪ ،‬من استطالع لمواقع العدو ‪ ...‬إلى استكشاف للمناطق المحيطة بنا ‪ ...‬هذا عدا‬
‫التدريب العملي المتصل‪ ،‬وكان سيد شراقي متألقا في كل هذه العمليات ‪ ...‬يقفز فوق الحواجز العالية ويتخفى في‬
‫كثبان الرمال‪ ،‬ويبدع أيما إبداع في كل المناورات الحربية التي كنا نقوم بها ‪...‬‬

‫وعلى الرغم من ميزة الصمت التي كان يتحلى بها سيد شراقي إال أنه كان يفاتحني بكثرة برغبته في نزال العدو‬
‫‪ ..‬إال أنه كان يتردد كثيرا في اإللحاح على قادته حتى ال يخرج عن آداب الجندية ‪ ...‬ووقعت معركة "ديروم"‬
‫األولى ‪...‬‬

‫وكان سيد مكلفا بقيادة قوة البنادق والمرابطة على الجانب الغربي من المستعمرة ‪ ...‬فنفذ دوره بدقة في انتظار‬
‫صدور األوامر إليه ‪ ...‬ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان‪ ،‬فقد كشف ضوء الفجر مخططنا بالكامل‪ ،‬وتمكن العدو‬
‫من تصيد رجالنا الذين كانوا قد تقدموا من المستعمرة حتى هموا بدخولها ‪ ..‬واستشهد في هذه المعركة إثنا عشر‬
‫شابا مؤمنا ‪...‬‬

‫عدنا بعد المعركة إلى معسكرنا‪ ،‬وقد أخذ منا الحزن كل مأخذ على زمالئنا‪ ،‬أما سيد فكان حزنه على نفسه أشد‬
‫من حزنه على اآلخرين ‪ ..‬كان شعوره بأن هؤالء الشباب قد مضوا إلى حياة أسعد من حياتهم‪ ،‬يكاد يكون شعورا‬
‫بأن هؤالء الشباب قد مضوا إلى حياة أسعد من حياتهم‪ ،‬يكاد يكون شعورا حيا وحسيا‪ ،‬وأنهم ماضون إلى جنة‬
‫أرحب من أرضهم وديارهم ‪..‬‬

‫أما هو فال يزال مشدودا إلى األرض بضيقها وظالمها ‪ ...‬إنه في سجن الدنيا ‪ ..‬لقد كان يتمنى الخروج من هذا‬
‫السجن ولكن لم يوافق في جولته األولى ‪...‬‬

‫وكان الجولة الثانية والثالثة ‪ ...‬والمعارك تتابع ويعود سيد من جميع معارك فلسطين دون أن تمسه رصاصة‬
‫واحدة ‪ ...‬ويعود إلى تساؤله عن الشهادة والطريق الموصل إليها ‪ ..‬ولكنه ال يجرؤ على سؤال واحد كلما اقترب‬
‫من لسانه ابتعله وآثر السكوت ‪ ...‬كان السؤال الذي تنطق به عيناه ويكتمه لسانه لم حرمت الشهادة؟ كنت أقرأ هذا‬
‫السؤال في عينيه الباسمتين ‪.‬‬

‫ولكنه لفرط حرصه على أدبه مع هللا تعالى لم يستطع أن يبوح بما يختلج في صدره ‪...‬‬

‫قال لي ذات يوم إن أخانا ‪ ..‬قد استشهد!! ثم سكت طويال ‪ ..‬فقد ثقلت عليه العبارات ولم يستطع أن يطلقها ‪ ..‬وكان‬
‫أخونا هذا يؤثر الضحك كما كان مغرما بتقليد الديكة في صياحها ‪ ..‬وكأن لسان حال سيد يقول إن الشهيد إنسان‬
‫عادي ‪ ..‬وإن الشهادة يمكن أن ينالها حتى الذين ال يهتمون بها !!!‬

‫قال لي سيد ما قاله بعينيه ثم استسلم لتفكير عميق تحكمه انفعاالت وتساؤالت متكومة ‪...‬‬

‫وتقع أحداث أقرب ما تكون إلى الخيال منها إلى الحقيقة‪ ،‬وال يتسع المقام هنا ألتعرض لها تفصيال‪ ،‬ولكن أكتفي‬
‫بالقدر الذي يصلنا بسيرة سيد ومسيرته ‪ ..‬فقد صدرت أوامر من الحكومة المصرية للواء صادق القائد العام‬
‫للجيش في فلسطين بإلقاء القبض علينا في الميدان‪ ،‬وإرسالنا للطور مع إخواننا المدنيين الذين سبقونا إلى هناك‬
‫عقب مقتل رئيس الوزراء النقراشي‪ ،‬واستشهاد األستاذ حسن البنا مرشد اإلخوان ‪ ...‬ولكن القائد األبي يرفض‬
‫إطاعة األوامر ‪ ..‬وتتأزم األمور فنؤثر تسليم سالحنا للجيش بعد أن تم وقف إطالق النار نهائيا ‪...‬‬

‫وينتهي األمر بأن يحتجزنا القائد العام مضطرا في معتقل عسكري بمنطقة رفح إال أن يبقى على كل امتيازاتنا‬
‫العسكرية من راتب ورتب‪ ،‬وقد قام الرجل بزيارتنا أكثر من مرة في معتقلنا مواسيا لنا بل منح بعضنا أنواطا‬
‫وأوسمة عسكرية تقديرا لجهودهم في المعارك الحربية ‪...‬‬

‫كان سيد شراقي من بين المعتقلين ‪ ..‬إال أنه لم يكن غاضبا من االعتقال‪ ،‬بقد ما هو آسف ألن الفرصة قد أفلتت‬
‫منه ‪ ...‬فرصة االستشهاد ‪..‬‬

‫وفي المعتقل أشرقت نفسه بمعنى كبير ‪ ..‬أفاض عليه اطمئنانا وسكينة‪ ،‬فقد اعتبر المعتقل مدرسة صامتة تلقن في‬
‫الصبر والتحمل فتقبله بصدر رحب ‪ ...‬وتصل قلبه باألنبياء والرسل الذين سجنوا في سبيل هللا‪ ،‬تذكر قصة يوسف‬
‫‪..‬وتذكر معتقل الشعب الذي حوصر فيه الرسول عليه الصالة والسالم ‪ ...‬واسترجع تاريخ األئمة الذين سجنوا‬
‫في سبيل عقائدهم ‪ ..‬تذكر أحمد بن حنبل وابن تيمية ‪..‬‬

‫فسعد بصحبتهم جميعا ‪ ..‬ولكن هذه النشوة الروحية كانت تنحسر في نفسه إذا اقترب من األسالك الشائكة‬
‫المحيطة بالمعسكر‪ ،‬ومد بصره بعيدا إلى حيث تقوم القالع اليهودية في صحراء النقب ‪ ...‬كان لسان حاله يقول‬
‫لقد أقام قومنا بيننا وبين عدونا حاجزا !!‬

‫كان من برنامجنا في المعتقل عقد اجتماع دوري بعد صالة العصر من كل يوم نتبادل فيه اآلراء ونناقش مشاكلنا‬
‫العامة ونتدارس فيه أمر ديننا ودنيانا ‪ ..‬كان الحديث يمتد ما بين فقه العبادات إلى فقه الجهاد‪ ،‬وكان الشيخ سيد‬
‫يحرص على هذه الندوات حرصه على الصالة نفسها ‪ ..‬كان يفتح كل نوافذ قلبه وعقله لتلقي كل جديد ويثبته‬
‫بإحكام في أعماقه ‪ ..‬وبعد أن يفرغ من درسه يحاول استرجاع ما سمعه من زمالئه ليتأكد من صحته ‪..‬‬
‫وينتهي المعتقل بنهاية حكم إبراهيم عبد الهادي الذي خلف النقراشي في الحكم‪ ،‬وتفتح األبواب أمام المعتقلين‬
‫ليعودوا لبيوتهم ‪ ..‬ويرجع سيد إلى قريته الحبيبة "حوض نجيح" ويبدأ على الفور ممارسة مهنته الزراعية فيمسك‬
‫بالفأس طيلة النهار يضرب بها األرض ليخرج مخبؤها‪ ،‬حتى إذا غربت الشمس اجتمع بأبناء قريته يتدارس معهم‬
‫أمر دينهم يناقش مشاكلهم ‪..‬‬

‫ثم يفرغ نفسه مسترجعا الماضي ‪ ..‬فتلح عليه الذكريات وتؤرقه اآلمال ‪ ..‬فيلجأ لربه داعيا سائال في إلحاح أن‬
‫يهبه نعمة اللقاء به ‪..‬‬

‫وينصرم عامان بعد الخروج من المعتقل ‪ ..‬ويأتي عام ‪1951‬حافال بأخطر األحداث في تاريخ مصر ‪ ..‬فقد بلغت‬
‫الثورة المصرية أوج قوتها ‪ ..‬وحطم الشباب كل القيود التي كانت مفروضة عليه ‪ ..‬وتمرد على العرض وسدنته‬
‫من رجال األحزاب ‪ ..‬ورفض وجود االحتالل في أرضه وكان حزب الوفد ذكيا فأدرك أن الموج الهادر قد يقتلعه‬
‫من جذوره ‪ ..‬فسدد ضربة قاسية لخصومه وذلك بإلغائه معاهدة سنة ‪1936 ..‬فخرج الشباب بغير تنظيم لمواجهة‬
‫عدو مزود بأحدث األسلحة ‪..‬‬

‫وتنشب معارك ارتجالية ما بين أولئك الشباب وبين أكبر قوة ضاربة في الشرق األوسط ‪ ..‬ويفكر اإلخوان في‬
‫تنظيم عمليات حربية قوية لتحطيم كبرياء العدو وإرغامه على الجالء ‪ ...‬ويدب النشاط في شعب اإلخوان‪ ،‬فيتدافع‬
‫الشباب للتطوع‪ ،‬فيقع اختيار قادة اإلخوان على مجموعة من الشباب الذين سبق لهم التدريب في فلسطين وفي‬
‫الخاليا المنظمة ‪...‬‬

‫وبنفس األسلوب‪ ،‬وبنفس التفكير‪ ،‬وبنفس الهدوء جمع سيد رجال "حوض نجيح" ليواجه بهم "بريطانيا‬
‫العظمى !! "التقيت بسيد عند "تل بسطة" (جبل صغير يقع بالقرب من الزقازيق) حيث أعد اإلخوان مركزا‬
‫للتدريب وإلمداد الرجال ‪ ..‬وأبى سيد إال أن يدخل الميدان على أصول ثابتة فبدأ يسترجع التدريبات السابقة‬
‫ويضيف إليها ما يستجد في دنيا السالح ‪...‬‬

‫التقيت به عند مشارف تل بسطة ‪ ..‬وكان يقف على كومة من "قش األرز "ويداه تديران عصاه الصغيرة ‪ ..‬أما‬
‫عيناه فكانتا تدوران في عالم آخر تنشد شيئا بعيدا ‪ ..‬وإن كانت العشرون سنة الماضية قد أنستني الكثير من‬
‫األحداث الكبار‪ ،‬إال أن الذاكرة المنهكة ال تزال تسجل روعة المشاعر واألحاسيس التي كنا نستمتع بها ‪ ..‬كان‬
‫حبنا كبيرا ورائعا وممتعا ‪..‬‬

‫وكان أجمل ما فيه أننا كنا نسمع همس القلوب وخفقاتها ‪ ..‬كنا نستشف المشاعر واألحاسيس وكأننا نراها رؤيا‬
‫العين ‪ ..‬وهذا ما كان بيني وبين سيد فقد كنت أقرأ خلجات قلبه مرتسمة في عينيه‪ ،‬شاخصة في وجه السمح ‪..‬‬
‫كانت عيناه تؤكدان عزما وتصميما على أمر ما ‪ ..‬وتأمال في تحقيق رجاء تستعذبه النفس ‪ ...‬قال لي سيد بقلبه ما‬
‫تمتمت به شفتاه ‪ ..‬ألم يئن األوان؟‬

‫ونظر بعيدا بعيدا في األفق يحاول أن يستجلي جوابا واضحا ‪ ..‬ثم عاد ثانية يسألني عن نية المقاتل ‪ ..‬وعن‬
‫االستشهاد ‪ ..‬وعن رضاء هللا وكيف يتحقق وعن الصدق في العمل ‪ ..‬وعلى الرغم من إيماني بأن سيد كان على‬
‫علم بهذه األمور كلها‪ ،‬إال أنه كان يحب أن يستزيد علما ومعرفة ‪..‬‬

‫وفي أدب التالميذ حاولت استدراج سيد ليجيبني على كل أسئلته ‪ ..‬فقد شعرت أن زميلي وحبيبي يوشك على‬
‫الرحيل إن إشراق وجهه ينبئ بأن سيد لم يعد منا ‪ ..‬وكان وجهه يشرح صفات أهل الجنة ‪ ..‬فقط قدماه ترتبطان‬
‫بأمراس األرض وجسده مشدود إليها ‪ ..‬أما روحه فقد اتصلت باألسباب أسباب السموات ‪ ..‬والتحمت في إخاء‬
‫أبدى مع حمزة وأبى أيوب وإرتال الشهدات على الطريق الطويل ‪..‬‬

‫وكان استشهاد سيد على غير ما ينتظر وننتظر‪ ،‬فقد أصابته رصاصة خاطئة وهو يزحف فوق تالل بسطة حيث‬
‫كانت تجري مناورات عسكرية ‪ ..‬وأسند الرجل العظيم وفالح مصر الكريم‪ ،‬والمسلم الكبير سيد شراقي رأسه‬
‫فوق الرمال ورفع وجهه المشرق الباسم ليتلقى تهاني المالئكة ‪ ..‬عشت حيا عند ربك وعشت حيا في ضمير‬
‫‪...‬‬ ‫إخوانك ‪ ..‬وعشت حيا في قلب شعبك يا سيد‬

‫وفاء‬
‫دخل رجل على أبي بكر الصديق فرآه يحمل طفلة صغيرة بين يديه يدللها ويقبلها فقال له الرجل ‪ ...‬من هذه !!‬

‫قال أبو بكر وهو ينظر بحنان إلى الصغيرة‪" :‬هذه بنت رجل خير مني سعد بن الربيع كان من النقباء يوم العقبة‬
‫وشهد بدرا واستشهد يوم أحد ‪...".‬‬

‫يا أبت إن الجهاد فرض‬

‫يا أبت إن الجهاد فرض علي كما هو فرض عليك ‪ ..‬وقد واتتك من قبل أكثر من فرصة مارست فيها القتال ‪..‬‬
‫فهال هيأت لي فرصة مماثلة ‪..‬‬

‫ووقف الرجل حائرا يتقلب بين الفكر والعاطفة ‪ ..‬وكلمات زوجته ال تزال حية يتردد صداها في أذنه‪ ..‬إنها تلح‬
‫عليه لالكتفاء بسفره ألنه ال ترد له كلمة ‪..‬‬

‫واإلبقاء على ابنها محمد إلى جوارها ليقوم على رعايتها ‪ ..‬وأوالدها ‪..‬وأخيرا وجد نفسه يقف إلى جوار ابنه‬
‫متحديا عاطفة األبوة‪ ،‬طارحا حنان األمومة ‪ ..‬ألن فقهه للجهاد وممارسته له عمليا وفي فلسطين بالذات ‪ ..‬كان‬
‫أرجح في نفسه من كل عاطفة ولو كانت عاطفة األبوة واألمومة ‪...‬‬

‫لقد كان للشيخ عبد الخالق جوالت ومغامرات في فلسطين قبل أحداث سنة ‪ ،1948‬عمقت حب القتال في نفسه‪،‬‬
‫وحب فلسطين حتى إنه اختار شريكة حياته منها ‪ ..‬وهذه فرصة جديدة قد واتته بعد أن أعلن عن فتح باب التطوع‬
‫للحرب في دار اإلخوان المسلمين‪ ،‬فشد الرحال إلى القاهرة يصحبه ابنه ‪..‬‬

‫ثم لحق به ابن أخيه "أحمد الجميل"‪ ،‬وابن عمته "السيد عابدين" وكان نصيب الحاج عبد الخالق وابنه في الكتيبة‬
‫األولى بقيادة الشهيدين الشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت‪ ،‬وتحت إشراف الشهيد حسن البنا بنفسه ‪..‬‬

‫وفي النصيرات تقيم الكتيبة معسكرها الحربي ‪ ..‬وتبدأ على الفور بإعداد نفسها لمجابهة اليهود ‪ ..‬دراسة دقيقة‬
‫للمواقع‪ ،‬واستكشاف نقاط الضعف في العدو‪ ،‬مع مواصلة التدريب العملي ‪ ..‬أما أوقات الفراغ فكانت محشودة‬
‫بمناهج ثقافية وعلمية ‪..‬‬

‫وكان التسابق والمنافسة بين االبن وأبيه يثيران اإلعجاب ويبعثان على الزهو‪ ،‬وأشد ما تكون المنافسة عندما يقع‬
‫اختيار أحدهما للخروج لدورية استطالع أو دورية قتال ‪ ..‬ومن أطرف ما أذكره أن "محمدا" كلف بحراسة أحد‬
‫المواقع ‪..‬‬

‫فشاهد فرسا صغيرا شاردا يهرول نحو باب المعسكر ‪ ..‬فأطلق عليه النار فأرداه قتيال فلما سألناه عن سبب إطالق‬
‫النار على الفرس قال إنه خشي أن يكون أحد األعداء قد ربط نفسه ببطن الفرس ‪ ..‬أو أن يكون الفرس محشوا‬
‫بالديناميت لينفجر بالقرب منا فيروعنا ‪ ..‬واتخذ أفراد المعسكر من مقتل الفرس مادة تسلية لهم خاصة بعد أن‬
‫دفعنا ثمن الفرس القتيل لصاحبه ‪...‬‬

‫بدأ االستعداد لعملية حربية كبيرة‪ ،‬وهي اقتحام مستعمرة "كفار ديروم "بعد أن تم استكشافها ‪ ..‬وحشد لهذه العملية‬
‫أكفأ المحاربين وكان من بينهم األب واالبن ‪ ..‬األب يحمل بندقية‪ ،‬واالبن يحمل لغما لنسف المستعرة ‪..‬‬

‫وأقف بالقارئ قليال‪ ،‬وأستأذنه أن يصاحبني لصالة العشاء في مسجد بمنطقة الروضة بالكويت ‪ ..‬في هذا المسجد‬
‫سوف نصلي خلف رجل يدور حول السبعين يمتعك بسماع القرآن وهو يرتله في خشوع وسكينة ‪ ..‬هذا الرجل هو‬
‫الحاج عبد الخالق ‪ ..‬والد الشهيد محمد ‪ ..‬وهو ال يزال يحمل في صدره عزيمة الماضي‪ ،‬وصدق النية ‪ ..‬وشبابا لم‬
‫تهزمه األحداث الجسام التي هدت عزائم الرجال ‪...‬‬

‫وأهتبلها فرصة ألستوثق من سجل ذاكرتي الذي عبثت به األيام بل األعوام المثقلة بالمعاناة واآلالم‪ ،‬فأستجدي‬
‫ذاكرة الحاج عبد الخالق فيسجل البقية الباقية من القصة ‪ ..‬يقول طلب إلينا فضيلة المرشد (رحمه هللا)" أن نعد‬
‫أربعة رجال إعدادا كامال من كل مركز جهاد من مراكز اإلخوان ‪..‬‬
‫فعزمت أمري أن أكون من بينهم‪ ،‬وفاتحت ابني محمدا في األمر‪ ،‬فلما طلبت منه أن يخلفني في أهلي ‪ ..‬قال لي‬
‫ولم ال أذهب أنا وتبقى أنت!! ثم ردف قائال هل تمنعني من الجهاد في سبيل هللا فقلت له أما هذه فال‪ ،‬فالجهاد‬
‫فريضة من هللا ‪..‬‬

‫وتدخلت أمه لتحول بينه وبين السفر فقال لها‪" :‬يا أمي أحب األمور إلى نفسي أن ألقى ربي والدماء تنزف من‬
‫وجهي لونها لون الدم وريحها ريح المسك "فسكتت األم وودعتنا قريتنا الحبيبة "عرب الرمل" بقويسنا وداعا‬
‫حارا ‪ ..‬وفي المركز العام خلعنا مالبسنا الريفية‪ ،‬وارتدينا ثياب الحرب ‪ ..‬ثم مضينا إلى فلسطين ‪ ..‬وكانت أول‬
‫عملياتنا الهجوم على مستعمرة "ديروم ‪" ..‬‬

‫فأعددنا سالحنا وأنفسنا للمعركة ‪ ..‬وتقدم مني ابني محمد وقبل يدي وقال لي "ادع لي بالشهادة يا أبت ثم أوصاني‬
‫بما له وما عليه للناس فقلت له وهو يوصيني‪ ،‬ولم ال أكون أنا الشهيد وتبقى أنت من بعدي" فقال وهو يشخص‬
‫ببصره إلى السماء ‪" ..‬إنني رأيت نفسي في نومي وكأني طائر يحلق في السماء ثم ينزل بين أشجار كثيفة‬
‫ويعشش فيها ‪".‬‬

‫وهنا وجدتني أقف أمامه في خشوع وإجالل ‪ ..‬فابني سوف يصاحب األنبياء الصديقين والشهداء ‪ ..‬وقد يلحق بهم‬
‫بعد قليل ‪ ..‬فمألت عيني ونفسي منه‪ ،‬وارتويت من روحه ‪ ..‬وبسطت إليه يدي وأنا أدعو‪" :‬أستودع هللا دينك‬
‫وأمانتك‪ ،‬وخواتيم أعمالك ‪ ..‬أستودعك عند هللا يا بني يا محمد" ‪ ..‬ومضت كل ساعة ما أثقل وزنها في حياتي ‪..‬‬
‫ابني محمد سوف يختفي من دنياي ‪ ..‬ولن أراه ‪ ..‬لن أسمعه ‪..‬‬

‫لن أشم أنفاسه وأتعطر بها ‪ .‬لن أسمع كلمة "يا أبي" منه ‪ ..‬سوف أعيش وحدي ‪ ..‬ولن أجد من يقاسمني الجهاد‬
‫فإخوانه أطفال ال يصلحون لصحبتي في الميدان ‪.‬‬

‫واستسلمت لقضاء هللا ‪ ..‬وأسلمت أمري إليه‪ ،‬وضغطت على عواطفي بكل ما أوتيت من قوة اإلرادة ‪ ..‬فالموقف‬
‫أكبر وأجل من أن أستسلم للحزن والبكاء ‪ ..‬ووجدت آيات القرآن تنساب في أعماقي وتمسح برفقي كل آالمي‬
‫وتضع الطمأنينة والسكينة والرضا ‪ ..‬صدرت إلينا األوامر بالتقدم‪ ،‬فوثب الرجال في سرعة مذهلة إلى المستعمرة‬
‫وفي عينيها ‪..‬‬

‫إنها تحمل التآمر اليهودي على األمة اإلسالمية‪ ،‬ممتدا من المدينة المنورة إلى فلسطين عبر أربعة عشر قرنا من‬
‫الزمان ‪ ..‬هذه المستعمرة لم تزد عن كونها قلعة من قالع "بني النضير" أو "بني قينقاع" ‪ ..‬نفس السمة ونفس‬
‫الوصف الذي أورده القرآن الكريم "ال يقاتلونكم جميعا إال في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد‪،‬‬
‫تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ‪".‬‬

‫ويعود الحاج عبد الخالق بنا إلى المعركة فيقول‪ :‬تقدمت أنا وزمالئي من الموقع المحدد لنا ‪ ..‬ال تسترنا إال‬
‫شجيرات الشعير الجافة ففوجئنا بالرصاص يمرق من بيننا فظنناه من المستعمرة ولكن تبين لنا أن المزارعين‬
‫العرب ارتابوا في أمرنا فأطلقوا عدة رصاصات إلرهابنا ‪ ..‬فهتفت بهم "نحن عرب" فسكتوا ومضينا في طريقنا‬
‫‪ ..‬ولست هنا بسبيل وصف المعركة ‪ ..‬ولكن يكفيني في إيجاز أن أقول إن ظروفنا كثيرة لم تكن تمكننا من دخول‬
‫المستعمرة ‪..‬كان أهمها عامل الوقت ‪...‬‬

‫المهم أنا لم نتمكن من اقتحام األسالك ونسف أبراج الحراسة كما كان قدرا ‪ ..‬فغمرنا العدو بوابل من نيران مدافعه‬
‫الرشاشة وأصابت رصاصة غادرة قلب ابني محمد واستقرت أخرى في ذراع ابن أخي ‪ ..‬وانسحبت مع زمالئي‬
‫‪...‬‬ ‫‪ ..‬وكان لقاء وكان وداعا لمحمد ال أنساه‬

‫يا أبت لو كان غير الجنة آلثرتك‬

‫قال خيثمة سيد بني عمرو بن عوف البنه سعد قبيل غزوة بدر الكبرى‪" :‬ال بد أحدنا أن يقيم فآثرني بالخروج وأقم‬
‫أنت مع نسائنا" ‪ ..‬فأجابه سعد على الفور‪" :‬لو كان غير الجنة آلثرتك به‪ ،‬إني أرجو الشهادة في وجهي هذا ‪" ..‬‬
‫ولكأن السماء تسمع هذا الحوار األمين بين األب وابنه فاستجابت لرغبة االبن ولقي سعد ربه في بدر ‪...‬‬

‫ثم مضت األيام وتعاقبت الليالي وال تزال كلمات االبن تتجاوب أصداؤها في قلب الشيخ الكبير‪ ،‬حتى أقبلت أحد‬
‫فجمع الرسول صلى هللا عليه وسلم أصحابه يستشيرهم في الخروج‪ ،‬وكان من بينهم خيثمة الذي أشار على‬
‫الرسول برأي رآه ثم قال للرسول متوسال‪ :‬لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصا‪ ،‬وقد بلغ من حرصي‬
‫أن ساهمت وابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة‪ ،‬وقد كنت على الشهادة حريصا ‪..‬‬

‫وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول‪" :‬الحق بنا ترافقنا‬
‫في الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقا ‪" ..‬‬

‫وقد وهللا يا رسول هللا أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة‪ ،‬وقد كبرت سني ووهن عظمي‪ ،‬وأحب لقاء ربي‪،‬‬
‫فادع هللا يا رسول هللا أن هللا يرزقني الشهادة ‪..‬‬

‫دعا الرسول لخيثمة أن يرزقه الشهادة وتحققت دعوة الرسول وتحققت أمنية خيثمة ولقي الرجل ربه وهو يذب‬
‫األعداء عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يوم أحد ‪...‬‬

‫عمر شاهين‬
‫الشهيد الذي قاد أمته‬

‫كان قطعة من نفسي ‪ ..‬من حياتي‪ ،‬من قلبي ‪ ..‬كان أبي وأخي وابني‪ ،‬وأستاذي ‪..‬وكان وليت "كان" هذه لم تكن‬
‫حتى أسعد بعمر وأتوكأ على كتفه على الطريق الشاق العنيد ‪..‬‬

‫كان عمر نموذجا للشاب الذي يتمناه كل أب ليكون له ابنا ‪ ..‬وكل صديق ليكون له خليال ‪ ..‬وكال امرأة ليكون‬
‫رجلها ‪ ..‬وكل ابن ليكون ابن عمر ‪..‬‬

‫كل ما تحب أن تراه في شاب يمكنك أن تجده في عمر ‪ ..‬فيه جمال الرجولة بكل ما تحمله هذه العبارة ‪ ..‬قسمات‬
‫وجهه نضرة رائعة‪ ،‬عضالته قطعة من صلب‪ ،‬فارع الطول‪ ،‬سوي البنيان ‪ ..‬راسخ الخطوات مهيب النظرات ‪..‬‬
‫تتمثل فيه القوة والرقة ‪ ..‬اإلصرار والحنان ‪ ..‬والجمال والرجولة ‪..‬‬

‫كان عمر مجموعة من الرجال في رجل واحد ‪ ..‬إذا التمست الرجل التقى العابد وجدته فيه ‪ ..‬وإذا شئت بطال‬
‫رياضيا أثار إعجابك وحماسك ‪ ..‬وهو مع هذا كله محب للعلم والدرس مغرم بالتعمق في الفلسفة وعلم النفس في‬
‫غير جدل أو مراء ‪..‬‬

‫وأجمل ما في عمر طفولة روحه التي تتضح براءة طهرا في قسمات وجهه ‪ ...‬وكأن الرافعي يعنيه وهو يقول‪:‬‬
‫"إذا اكتملت للرجل رجولة أعماله عادت إليه طفولة روحه ‪".‬‬

‫وليسمح لي القارئ أن أبدأ الرحلة مع عمر شاهين بعد توقف القتال في فلسطين سنة ‪1948‬عدت من الميدان‬
‫لقضاء عطلة قصيرة وأداء بعض المهام الخاصة بالعمل ‪ ..‬إال أن ظروفا جدت على الميدان اضطرت القيادة‬
‫العامة للجيش إلصدار أوامرها إلينا بقطع اإلجازة والعودة فورا للعمل ‪..‬‬

‫فلبينا الطلب وتوجهنا إلى معسكر "هايكستب" بالعباسية‪ ،‬حيث استبقينا أكثر من أسبوعين في انتظار إقالع‬
‫الطائرة الحربية التي ستقلنا إلى "عمان "ومنها نتجه إلى حيث تحاصر القوات المصرية في الفالوجا في محاولة‬
‫لفك حصارها وإمدادها بالتموين ‪ ..‬ولكن لم نتمكن من أداء رسالتنا ألن حكومة األردن رفضت نزول طائرتنا في‬
‫أراضيها ‪.‬‬

‫كان عمر من بين أفراد هذه القوة ‪ ..‬وكان استعداده لمرافقة الحملة ال حدود له‪ ،‬على الرغم من أنه لم يكن قد بلغ‬
‫السابعة عشرة إال أن نشاطه وحيويته وإقباله على التدريب واستعداده النفسي‪ ،‬كانت له خير شفيع لدى قادته ‪..‬‬
‫وكان من رأيي إفساح المجال أمام أمثال عمر ليتلقوا تربية عملية في ميدان القتال‪ ،‬لتضاف لتربيتهم النظرية‬
‫والدراسية حتى تكتمل أسباب تربيتهم‪ ،‬إال أن بعض شباب اإلخوان كان لهم رأي آخر هو يميل إلى إشباع الشباب‬
‫بالتربية الثقافية أوال‪ ،‬ثم يفسح لهم حوار وناقش طويل مع عمر اضطره لموافقتهم والعودة إلى القاهرة لمواصلة‬
‫الدراسة ‪ ..‬وانطوت أول محاولة قام بها عمر ‪..‬‬
‫عاد عمر إلى مدرسته‪ ،‬ومضت كتيبتنا إلى الميدان عن طريق البر ألداء واجبها‪ ،‬ولكن لم يتسن لعمر مواصلة‬
‫دراسته‪ ،‬فقدت جدت أحداث في مصر دفعت بعمر وعشرات من أمثاله لقفص االتهام ثم للسجن بتهمة مقاومة‬
‫السلطة ونظام الحكم‪ ،‬وبعد اإلفراج عنه واصل دراسته إلى أن التحق بكلية اآلداب ‪...‬‬

‫وكان عام ‪1951‬حافال بأحداث كبيرة في مصر‪ ،‬فبعد إلغاء المعاهدة المصرية اإلنجليزية في أكتوبر سنة ‪،1951‬‬
‫تدافع الشعب المصري لطرد ‪ 60‬ألف جندي بريطاني من أرض القناة‪ ،‬التي عسكروا على ضفافها أكثر من‬
‫سبعين سنة ‪ ..‬وكان للجامعة دور قوي وفعال في هذه المعركة فقد تجمع الشباب الجامعي في معسكرات للتدريب‬
‫استعدادا للنزول لميدان القتال ‪..‬‬

‫وكانت فرصة عمر الذهبية ‪ ..‬فهو طالب بكلية اآلداب بالجامعة ومن حقه التدرب شأنه شأن غيره ‪ ..‬هذا إلى‬
‫جانب إيمان زمالئه باشتراكهم في المعركة ‪...‬‬

‫والذين رافقوا عمر في المعسكر يجمعون على أنه كان أبرز شخصية في كل شيء ‪ ..‬كان رائعا في تدريبه رائعا‬
‫في خلقه ‪ ..‬حتى إننا لم نملك إال أن نضعه في صفوف القادة فأسندنا إليه قيادة مجموعة من زمالئه ‪..‬‬

‫تعرض عمر لمحنة جديدة لم تكن في حسابه ‪ ..‬فبعد أن أكملنا فترة التدريب ‪..‬بدأنا نستعد للنزول للميدان ‪ ..‬ولما‬
‫كان تزاحم الشباب شديدا‪ ،‬لمنازلة العدو فقد تقرر إجراء قرعة بين طلبة اإلخوان المنتمين للمعسكر ‪ ..‬بشرط أن‬
‫يكونوا متكافئين في فرص التدريب ومؤهلين نفسيا وصحيا ‪..‬‬

‫وطرح اسم عمر شاهين في القرعة ولكنه لم يفز‪ ،‬فأصابته كآبة نفسية ارتسمت على قسماته البريئة حتى تأثر له‬
‫إخوانه‪ ،‬فتحايلوا بصورة ما ال أذكرها إلجراء قرعة أخرى فكان من الفائزين ‪..‬‬

‫فاندفع بكل مشاعره وعواطفه يهنئنا ويهنئ نفسه وأعلن إقامة حفلة بمناسبة نجاحه في القرعة وبلوغه العشرين‬
‫من عمره ‪...‬‬

‫تحركت قوة الجامعة في فجر أحد األيام حاملة أول فوج من المقاتلين إلى الشرقية حيث يقوم معسكر للتدريب في‬
‫فاقوس ‪ ..‬وبعد استكمال آخر مراحل التدريب انتشرت قواتنا على طول جبهة القناة ‪ ..‬وكان التل الكبير من نصيب‬
‫قوة عمر شاهين ‪...‬‬

‫انتقل شباب الجامعة الذين كانوا يوصفون بالرقة ونعومة العيش‪ ،‬إلى قرية بيوتها من الطوب وسعف النخيل‪،‬‬
‫وأسرتها من الجريد‪ ،‬ومصابيح الجاز تخلف القمر في غيبته‪ ،‬تاركين خلفهم المدينة بأضوائها وزينتها ‪..‬‬

‫وكانوا مع هذا فرحين ألبعد حد بحياتهم الجديدة ‪ ..‬واستكماال للتخفي لبسوا "الجالليب" و "الطواقي" واندسوا في‬
‫صفوف فالحي التل الكبير ‪...‬‬

‫بدأ عمر شاهين وزيله الشهيد أحمد المنيسي وعشرون طالبا‪ ،‬يعدون ألول معركة منظمة مع عدوهم ‪ ..‬وانتهوا‬
‫إلى خطة عملية بسيطة وهي اعتراض طريق قطار سكة حديد اعتاد على التردد فيما بين المعسكرات البريطانية‬
‫‪..‬‬

‫درس طالب الهندسة والزراعة والعلوم واآلداب والطب والحقوق الخطة بإحكام وأعملوا خبرتهم وعلمهم في رسم‬
‫خريطة المعركة ‪..‬‬

‫ثم قاموا بدراسة الموقع على الطبيعة‪ ،‬وحددوا أدوار كل واحد منهم بدقة فائقة ‪ ..‬وهنا برز شاب آخر كان يلتزم‬
‫الصمت والهدوء‪ ،‬وبرز كعمالق كبير يقف إلى جوار عمر وهو الشهيد أحمد المنيسي الطالب بكلية الطب وأحد‬
‫أبناء فاقوس (بلدة بالشرقية) ‪ ..‬وكان أحمد ال يقل روعة عن عمر ‪ ..‬كان إنسانا في كل تصرفاته ‪ ..‬يمأل قلبه الحب‬
‫والرقة والصفاء مع رجولة غامرة وشخصية قوية ‪...‬‬

‫وقف العمالقان حيث كان يقف أحمد عرابي ورجاله في وجه الزحف اإلنجليزي منذ سبعين سنة ‪ ..‬وقفا في تحد‬
‫وكبرياء تجللهما عظمة اإلسالم وتمألهما الثقة بالنفس ‪ ..‬وكأنهما يقوالن للستين ألف جندي بريطاني إننا جئناكم‬
‫لنثأر لجدنا عرابي ‪ ..‬ولن تجدوا فينا خائنا أو جبانا ‪...‬‬
‫ليلة وقوع معركة التل الكبير كنت في زيارة خاطفة للقوة التي يشرف عليها الشهيد عمر ‪ ..‬وكان لقاؤنا عجيبا‬
‫وحديثنا أعجب ‪ ..‬كان عمر منهكا من فرذ العمل طيلة يومه ‪ ..‬فاستلقى على أرض الغرفة وأرسل يديه إلى جانبيه‬
‫في استرخاء ‪ ..‬ونظر إلي بعينيه البريئتين ثم أجراهما على جسده الممدد‪ ،‬وكأنه يرسم نفسه في قبره وقال لي‬
‫مازحا‪ :‬يبدو أنها ستكون نصيبي هذه المرة فقلت له مداعبا‪ :‬بل هي من نصيبي أنا ‪..‬‬

‫ثم ابتسم في براءة واعتدل في جلسته‪ ،‬وهم أن يقف وأخذ يلوح بيديه في الفضاء ويقول‪ :‬ال‪ ،‬إنك ستقف هكذا‬
‫وتقول ‪ ..‬الشهيد عمر ‪ ..‬ثم أرسل ضحكة بريئة هزتني من أعماقي ‪..‬‬

‫(وصدق عمر فيما قال فقد ألقيت خطابا في ميدان األوبرا في رثائه وتذكرت ساعتها كل إشاراته ونبرات صوته‬
‫فكانت إلهام نفسي) ثم عاد عمر إلى هدوئه وسكينته وابتسامته الطيبة‪ ،‬فنظرت في وجهه وشعرت وقتها بمهابة‬
‫كبيرة له ‪..‬‬

‫شعرت بأن الشاب قد منح من قوة البصيرة ما جعله يستشف شيئا لم تدركه بصائرنا‪ ،‬فآثرت السكوت وانسحبت‬
‫من الغرفة تاركا إياه ليأخذ نصيبه من الراحة ‪..‬وألقيت نظرة على وجهه المشرق وكأني أودعه الوداع األخير ‪...‬‬

‫جرت أحداث ذلك اليوم في غيبتي‪ ،‬وقد سجلتها في كتاب آخر‪ ،‬ولكن الحقائق البسيطة التي سجلها زمالء الشهيد‬
‫تقول إن عمر وأحمد المنيسي ضربا أروع األمثلة في البطولة والفداء والصبر ‪ ..‬ومن مواقف عمر المشهودة‬
‫يومها أنه أصدر أوامره إلى إخوانه بعدم إطالق النار على الجنود اإلنجليز الذين تجمعوا حول المكان الذي تم فيه‬
‫نسف الخط الحديدي‪ ،‬ألنه الحظ بعض العساكر المصريين يقفون مع اإلنجليز لمعاينة "الحادث ‪" ..‬‬

‫ولكنه لجأ لحيلة لطيفة فقد ألقى بقنبلة صوتية تفرق على أثرها الجميع وأمكن تصيد عسكر العدو الشاردة ‪ ..‬كما‬
‫أصدر أوامره بعدم التعرض لسيارات اإلسعاف اإلنجليزية التي جاءت إلنقاذ جرحاهم في حين أن اإلنجليز‬
‫المتحضرين!! تركوا جثة عمر وأحمد وستة من أبناء الشرقية طعما للكالب ولكن الكالب كانت أكرم منهم‬
‫واحترمت جثث الشهداء فلم تمسها بسوء ‪...‬‬

‫انتهت معركة التل الكبير باستشهاد عمر وأحمد المنيسي وستة من شباب قرية التل الكبير‪ ،‬وأسر ستة من شباب‬
‫الجامعة ‪..‬‬

‫يقول األسرى إن اإلنجليز كانوا ينظرون بخوف شديد إلى عمر وهو مضرج بدمائه ‪ ..‬كانوا يتخيلونه حيا وقادرا‬
‫على مطاردتهم ‪ ..‬حتى إن بعضهم هم بوخذه مرارا بالحربة للتأكد من موته‪ ،‬بل إنهم كانوا حريصين على استيفاء‬
‫جثته‪ ،‬ولكن الضغط الشعبي المتزايد ومخافة االنتقام من اإلنجليز المقيمين بالقاهرة اضطرتهم لتسليمنا جثث قتالنا‬
‫‪..‬‬

‫كان لقاء ال أنساه ما حييت ‪ ..‬فقد اجتمعت مع الشهداء الستة في غرفة واحدة ‪ ..‬عشت معهم ساعة أقلب وجوههم‬
‫ألتعرف إلى قتلى الجامعة كان الستة ينادونني من سمائه العالية ‪ ..‬نداء مأل نفسي ومشاعري بالرهبة ‪ ..‬كان نداء‬
‫فرحا متهلال مغردا ‪ ..‬وكدت أسمع ترتيلهم وصدى قول هللا تعالى‪" :‬من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا هلل عليه‬
‫فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديال ‪".‬‬

‫حملنا الشهداء معنا ‪ ..‬إال أن أبناء الشرقية أبوا إال االستئثار بأبنائهم الستة ‪ ..‬أما القاهرة فقد خرجت عن بكرة أبيها‬
‫في موكب عمر شاهين كان عمر يومها قائد القاهرة بل قائد مصر كلها ‪.‬‬

‫كان زعيم أمة وخطيبها وأميرها ‪..‬‬

‫ووقفت يومها أردد صدى قلب عمر الكبير في حشد بلغ ثلث مليون مواطن عربي ‪ ..‬وال أذكر ما قلت ولكن قيل‬
‫لي إنك لم تكن تتكلم بلسانك ولكنك كنت لسان عمر وقلبه وروحه ‪..‬‬

‫ووقف وائل شقيق عمر يعلن في األمة إصراره على مواصلة مسيرة عمر ‪..‬‬

‫‪...‬‬ ‫رحم هللا عمر ورحم هللا رجاال يطمعون في مكانة عمر من هللا تعالى‬
‫ذكرى شهيد لألستاذمحي الدين عطية‬
‫زميل الشهيد في معركة القناة‬

‫الزمن ‪: 1951 – 1952‬‬

‫المكان‪ :‬التل الكبير – مصر‬

‫العدو‪ :‬فلول االستعمار اإلنجليزي ‪..‬‬

‫الفدائيون‪ :‬كتيبة جامعة القاهرة ‪...‬‬

‫‪ ...‬حنانيك يا ذكريات العمر‬ ‫الشهيد ‪:‬عمر شاهين‬

‫ورفقا بقلب ذوى وانفطر‬

‫هناك على الجدول المنحدر‬

‫ظالل النخيل وضوء القمر‬

‫شهود على دمعي المنهمر‬

‫هناك التقينا ونعم الرفيق‬

‫فتيا‪ ،‬أبيا ‪ ،‬ذكي البريق‬

‫شفيقا ‪ ،‬رهيفا ‪ ،‬كلحن رقيق‬

‫وفي صدره أمل يستفيق‬

‫بأعماقه ‪ ،‬ثورة تستعر‬

‫سرى بيننا كشعاع وليد‬

‫كرمز إلنسان جيل جديد‬

‫كحب تغنى بأحلى نشيد‬

‫كزرع روته دماء الشهيد‬

‫فشب بها ناميا‪ ،‬وازدهر‬

‫إلى أن تردد يوما ‪ ،‬ندا‬

‫ودمدم صوت يشق الفضاء‬

‫لصيحات شعب تحدى الفناء‬

‫ويقسم باهلل أن ينتصر‬


‫ودارت رحى الحرب ‪ ،‬ال ترحم‬

‫معارك يذكي لظاها الدم‬

‫وحقد العداء ناره تضرم‬

‫وفتياننا قدر ملهم‬

‫أتوا فوق ما يستطيع البشر‬

‫وقالوا رأيناه بين الصفوف‬

‫يحث خطاه بقلب لهوف‬

‫وبين المعاقل ليال يطوف‬

‫عمالقة في بطون الكهوف‬

‫وخلفهمو أمة تنتظر‬

‫ويوم أتى فجره كالغريب‬

‫بأنباء ليل عصيب رهيب‬

‫أفقنا‪ ،‬وأسماعنا تستريب‬

‫نسائل عنه وما من مجيب‬

‫سوى أدمع باألسى تنهمر‬

‫أحلم؟ وفتشت حولي أرى‬

‫أحقا؟ كا ظن قلبي جرى؟‬

‫أحقا قضيت؟ طواك الثرى؟‬

‫وكيف طعنت؟ وكيف انبرى؟‬

‫ذراعا لطيفك‪ ،‬لم ينكسر؟‬

‫وقالوا دم من دماه سرى‬

‫على الترب خط كالما يرى‬

‫حكاه الرواة بتلك القرى‬

‫حديث كفاح مرير جرى‬

‫على أرضهم‪ ،‬ثم لم يندثر‬


‫ودار الزمان على أرضنا‬

‫تضج ربانا بأعدائنا‬

‫فتلفظهم في بحار الفنا‬

‫كأن السماء استجابت لنا‬

‫وعمرك ما ضاع فينا هدر‬

‫وبعد ‪ ،‬رفيقك ماذا دهاه؟‬

‫وغرسكما ‪ ..‬يا ترى هل جناه؟‬

‫أتعلم كيف اكفهرت كف الحياة‬

‫كؤوس المرارة حتى سكر‬

‫لقد ضؤل الكون في وهمه‬

‫وغاضت مناهل أحالمه‬

‫سوى طائف طاف في نومه‬

‫يرتل أعذب أنغامه‬

‫مقاعد صدق‪ ،‬معا يا عمر‬

‫شهيد بئر السبع‬


‫كان وجهه هادئا رقيقا ينبئ عن سالم واستقرار نفسي ال حدود له‪ ،‬وكان ثغره باسما كثغر اإلسكندرية التي أنبتته‬
‫‪ ..‬أما خلقه فقد سعد به وبرفقته جميع زمالئه ببئر السبع ‪..‬‬

‫استيقظنا كعادتنا في الصباح لنؤدي صالة الفجر في فناء المدرسة التي كنا نعسكر فيها في بئر السبع ‪ ..‬وكان‬
‫كعادته قد سبقنا إلى المصلى لختم تهجده ‪ ..‬فقد كان من عادته قيام طرف من الليل يقف بين يدي ربه راكعا ساجدا‬
‫داعيا متبتال ‪.‬‬

‫بعد أن صلينا الصبح مال على أذني وقال في همس يظهر أن هللا قد أذن‪ ،‬قلت وفيم؟ قال في قبولي‪ ،‬فإنني رأيت‬
‫في ليلتي أنني أمرح وأرتع في حدائق شجراء تملؤها الزهور والرياحين ‪ ..‬وما أظنها إال بشير الجنة ‪.‬‬

‫لم أحاول الجدال معه فقد كانت قسمات وجهه تحملك على تصديق قوله ‪ ..‬فمألت عيني من النور الذي كان يشع‬
‫من وجهه وعينيه ‪ ..‬ثم تركته وانصرفت إلى عملي ‪...‬‬

‫وأقف عند هذا القدر من قصة "علي صبري" وأقدم للقارئ زميلي "علي صديق" الذي انتدبه القائد المحنك‬
‫الصاغ" محمود عبده "ليعد لمعركة بئر السبع ‪ ..‬يقول علي ‪:‬‬
‫كانت العملية التي وكلت إلى مجموعتنا التي ال تتجاوز الثمانية من شباب اإلخوان هي نسف كوبري يقع ما بين‬
‫مستعمرتين يهوديتين تقعان في قضاء بئر السبع ‪ ..‬وكان بطل القصة علي صبري من بيننا ‪..‬‬

‫خرجنا بليل نتحسس طريقنا عبر الوديان والجبال ‪ ..‬يتقدمنا رجل ن أبناء فلسطين األوفياء هو الحاج سالمة بن‬
‫سعيد ‪ ..‬وحملنا أمتعتنا على جمل قوي فالمسافة بعيدة من الموقع ‪..‬‬

‫كانت كشافات المستعمرات ترسل أضواءها القوية في كل اتجاه ‪ ..‬فتمزق ظالم الليل‪ ،‬وتكشف كل صغيرة وكبيرة‬
‫في بطن الوادي مما يضطرنا للتوقف طويال ‪..‬والتخفي في المغارات وخلف التباب ‪.‬‬

‫استطعنا أن نصل إلى أرض العملية قبل بزوغ ضوء الفجر ‪ ..‬وقمنا على الفور بحفر الخنادق ثم ثبتنا األلغام تحت‬
‫الجسر وفي جنباته ‪..‬‬

‫ولم تطلع الشمس علينا إال ونحن في غيابة الحفرة بحيث نرى العدو وال يستطيع أن يرانا ‪ ..‬وزيادة في االحتياط‬
‫وزعنا الطعام الجاف على جميع زمالئنا مخافة أن يطول بنا االنتظار ‪...‬‬

‫انتظرنا اليوم األول بنهاره وليله‪ ،‬نرقب حركات المستعمرات المحيطة بنا‪ ،‬فمنها وإليها تتردد المصفحات حاملة‬
‫التموين والعتاد ‪ ..‬ولكن شيئا لم يحدث‪ ،‬فانتظرنا اليوم الثاني ‪ ..‬ونحن راقدون في الخنادق وعيوننا تدور في‬
‫الوديان والسفوح باحثة عن الصيد الثمين ‪ ..‬وقلوبنا تنبض بذكر هللا وألسنتنا ال تكف عن الدعاء ‪.‬‬

‫وكان اليوم الثالث وهو يوم الجمعة ‪ ..‬يوما تاريخيا في حياتنا‪ ،‬ويوما فاصال في حياة الشهيد علي صبري ‪ ..‬فقد‬
‫أطلت علينا مصفحة ضخمة للعدو‪ ،‬كأنها قطعة من الجبل‪ ،‬تمشي في خيالء‪ ،‬فهي صاحبة تاريخ مشهود في‬
‫المنطقة ‪ ..‬تغير على القرى وتهاجم القوافل ‪ ..‬تعربد وتقتل بال قيود أو حدود ‪..‬‬

‫وال يستطيع أحد أن ينفذ إليها ‪ ..‬فرصاص البنادق والمدافع ال يمكنه أن ينفذ إلى قلبها الصلد ‪ ..‬تدحرجت الدبابة‬
‫من قلب الوادي وهي تهدر كالثور الهائج‪ ،‬وما أن مست الجسر "الكوبري" حتى زلزلت األرض من تحتها‬
‫وانشقت إلى نصفين‪ ،‬وهوت المصفحة الملعونة من عليائها إلى بطن الوادي ‪..‬‬

‫أما نحن فكاد انفجار اللغم يقتلعنا من أماكننا ‪ ..‬أما نشوتنا فلم يتسع لها الوادي وال الدنيا كلها ‪ ..‬نشوة النصر !!‬
‫ولو كنا في غير هذا الموقف لشق هتافنا عنان السماء ‪ ..‬ولكن للميدان حكمة ‪ ..‬وهو قادر على التحكم في‬
‫العواطف والمشاعر ‪...‬‬

‫كنا نتوقع من اليهود المتحصنين في المصفحة أن يخرجوا منها نجاة بأنفسهم‪ ،‬أو يسلموا لنا‪ ،‬أو حتى يطلقوا‬
‫نيرانهم تحذيرا لنا‪ ،‬ولكن شيئا من هذا لم يحدث‪ ،‬بل ران صمت غريب فقلنا ننتظر قليال لعل رءوس الشياطين‬
‫تظهر من المصفحة المتهالكة ‪ ..‬وأخيرا قررنا إرسال مجموعة القنابل التي كان يقودها الشهيد علي صبري‬
‫لتقصف المصفحة بقنابلها الشديدة االنفجار ‪..‬‬

‫كل هذا والمصفحة صامتة مستسلمة ‪ ..‬فاقتربنا منها الهوينى حتى تمكنا من الوثوب على ظهرها فوجدنا جميع من‬
‫بها قد هلكوا فانتزعنا سالحهم ‪ ..‬وعدنا على عجل إلى خنادقنا‪ ،‬ثم اتصلنا عن طريق الالسلكي بقائدنا محمود عبده‬
‫ليرسل إلينا نجدة تساعدنا على االنسحاب ألننا كنا نتوقع هجوما انتقاميا تشنه علينا المستعمرات المجاورة ‪...‬‬

‫وحدث ما توقعناه فقد هجم علينا العدو بقوة كبيرة في محاولة لاللتفاف حولنا وتطويقنا‪ ،‬وأرسلوا علينا وابال من‬
‫نيرانهم فلم نرد عليهم فظنوا أننا أفلتنا من قبضتهم ‪ ..‬فتجمعوا في عربات نقل الجنود ‪ ..‬وكانت فرصة هيأتها لنا‬
‫قوات عدونا فأخذنا نتصيدهم واحدا تلو اآلخر ‪...‬‬

‫ويقول علي صديق وهو يسترجع أحداث ما يقرب من ربع قرن ‪ ..‬أصدرت أوامري لقواتنا باالنسحاب ‪ ..‬فالعدو‬
‫قد تكاثر علينا وخشينا أن يتمكن من عزلنا عن قواتنا الرابضة في بئر السبع‪ ،‬وبدأت عملية االنسحاب وكانت‬
‫شاقة للغاية ‪ ..‬وهنا كانت السماء قد تفتحت عن آخرها لتستقبل منا خير رجالنا "الشهيد علي صبري" فقد تمكن‬
‫أحد قناصة اليهود من إصابته وهو يحمي انسحابنا ‪...‬‬
‫وأخيرا وصلت النجدة وولى اليهود األدبار فارين ‪ ..‬فجمعنا رجالنا وحملنا شهيدين بين أيدينا وعدنا إلى بئر سبع‬
‫‪...‬‬

‫انتهى علي صديق من روايته‪ ،‬ولن أجد ما أضيفه إليها ‪ ..‬إال أننا اجتمعنا في مسجد بئر السبع في ظهر يوم‬
‫الجمعة ومن حولنا أبناء البلدة الباسلة لنودع ابن اإلسكندرية الذي ترك دنياها المترفة وشواطئها الفاتنة ‪ ..‬ودفع‬
‫بشبابه الطاهر إلى الموت في سبيل هللا ورضي بتراب بئر السبع له مدفنا ‪ ..‬سعد به التراب‪ ،‬وفرحت به مالئكة‬
‫السماوات ‪ ..‬رحمه هللا ورحمنا جميعا ‪...‬‬

‫عظمة األمومة‬
‫ودع النعمان بن عمرو وسليم بن الحارث أمهما "السميراء بنت قيس" قبل خروجهما لموقعة أحد ‪ ..‬وهما يسأالنها‬
‫الدعاء ‪ ..‬ثم مضيا إلى أرض المعركة ‪..‬‬

‫استبطأت األم عودة ولديها فخرجت تسأل عن أخبارهما فقال لها الناس إن ابنيها قد استشهدا‪ ،‬فقالت دون تردد ما‬
‫فعل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فطمأنوها عليه ولكنها أصرت على رؤيته فلما رأته قالت‪ :‬كل مصيبة بعدك‬
‫جلل ‪ ..‬وقامت إلى ابنيها وحملتهما على ناقتها وانصرفت عائدة إلى المدينة فلقيتها عائشة فقالت لها‪ :‬ما وراءك‪،‬‬
‫قالت السميراء باطمئنان ‪:‬‬

‫أما رسول هللا بحمد هللا بخير لم يمت واتخذ من المؤمنين شهداء‪" :‬ورد هللا الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا‬
‫وكفى هللا المؤمنين القتال ‪".‬‬

‫فنظرت عائشة إلى القتيلين وقالت للسميراء‪ :‬ومن هؤالء ‪..‬‬

‫‪..‬‬ ‫قالت السميراء‪ :‬ابناي‬

‫صالح المعلم ‪ ..‬والمقاتل‬


‫لم يكن صالح حسن فردا عاديا من الذين يعدون في األمم بأيدي األخصائيين ‪..‬كأن آالفا من الرجال اجتمعت في‬
‫رجل واحد ‪ ..‬كان جامعة كبيرة للمعرفة ‪ ..‬كان معلما وداعيا‪ ،‬ورياضيا‪ ،‬وصحفيا‪ ،‬ومقاتال ‪ ..‬وأبا يمأل حياة بيته‬
‫حبا وخيرا وحنانا ‪..‬‬

‫والغريب في حياة صالح أنه استطاع أن يحقق نجاحا في كل ميدان طرقه ‪ ..‬حتى إنني عجبت وأنا أقرأ له بحثا‬
‫اقتصاديا ممتعا يحاجج فيه الدكتور محمود أبو السعود ‪ ..‬وعجبت أكثر لما فاتحني في مشروع إنشاء مجلة‬
‫لألطفال ‪ ..‬وكان يحمل بين يديه مجموعة قصص األطفال ‪..‬‬

‫وعلمت أنه استطاع أن يصور أفالما سينمائية تربوية ‪ ..‬واألمر الذي لم أستغربه هو أنه‪ ،‬وفي سن الثانية‬
‫واألربعين بدأ يخوض معارك عنيفة ضد الصهيونية‪ ،‬فتاريخه وتاريخ أسرته يشهدان له أمام هللا والناس بأنه نشأ‬
‫بطال شجاعا مقداما ال يهاب الموت ‪...‬‬

‫لقد فهم صالح المعنى األصيل للرياضة ‪ ..‬فهي ليست وسيلة لملء العضالت‪ ،‬واستعراض األكتاف ‪ ..‬وحمل‬
‫الكؤوس الفضية‪ ،‬وتسجيل االنتصارات ‪..‬‬

‫إن صالح أخذ الرياضة من مأخذها السليم ‪ ..‬إنها وسيلة وليست غاية ‪ ..‬إن الجسم الصحيح يستطيع أن يخدم العقل‬
‫والقلب ‪ ..‬ويعين الضعفاء ويأخذ بيد المحرومين ويضرب على يد المحرومين ‪..‬‬
‫إن الرياضة وسيلة لغاية ‪ ..‬وتأسيسا على هذه النظرية حمل صالح عضالته التي فتلها في معهد التربية العالي بعد‬
‫أن تخرج منه سنة ‪ ،1952‬واندفع بكل قواه ليدرب طلبة الجامعة األزهرية وطلبة جامعة عين شمس على التكتيك‬
‫العنيف ‪ ..‬ونجح صالح في أول خطوة إيجابية استغل فيها كفاءته واستعداده ‪..‬‬

‫وانطوت الصفحة األولى من حياة صالح عام ‪1952 ..‬وكانت الثانية في ميدان جديد عليه ‪ ..‬فقد ذهب إلى جنوب‬
‫السودان في "جوبا" وعمل مبشرا لدينه ودعوته ‪ ..‬وفي قلب األحراش جلس صالح معلما ومربيا واستطاع أن‬
‫يسهم في سد الطريق أمام التبشير األوروبي الزاحف ‪..‬‬

‫وتختنق السودان ‪ ..‬وتضيق الحياة هناك بصالح ‪ ..‬فيخرج منها وكله أسى ألنه ترك ميدانا شاغرا ال يمأله أحد ‪..‬‬
‫وولى وجهه شطر الشمال فوجد باب النيل مسدودا في وجهه ‪ ..‬فقرر ترك أفريقيا لحين وولى شطره شطر‬
‫الصحراء‪ ،‬وانتهى به األمر إلى الكويت‪ ،‬وظل يتقلب في مدارسها الثانوية معلما ومربيا ثم انتقل إلى دنيا األعمال‬
‫الحرة ‪..‬‬

‫ولكن الشيء الذي لم يغادر حياة صالح والذي لم تصرفه عنه كل مصاعب الحياة ‪ ..‬هو أنه خلق ليكون مربيا‬
‫ومقاتال ‪ ..‬مربيا لألجيال على منهج الكتاب والسنة بأسلوب تفرد به‪ ،‬فقد كان يرى أن الطالب في صغره إلى‬
‫الثانية عشرة من عمره ينبغي أن يتفرغ لدراسة األصول الحية لإلسالم‪ ،‬وال تقحم عليه أساليب العربية الزاحفة‬
‫من الغرب أو الشرق ‪..‬‬

‫أما حبه للقتال في سبيل هللا فقد كان أقوى في نفسه من كل شيء ‪ ..‬وكان ميدان فلسطين أحب إليه من غيره ‪ ..‬وقد‬
‫بدأ عمله في الميدان بدراسة قضية فلسطين من جميع جوانبها ‪ ..‬ثم قام بدراسة أرض المعركة واإللمام بكل‬
‫الظروف المحيطة بها ‪ ..‬وحتى يكون ظهره سليما أشبع أهله وولده الرغبة في الجهاد وحب االستشهاد ‪ ..‬حتى إنه‬
‫كان يمني أوالده بالذهاب لميدان العمليات إذا نجحوا في المدرسة ‪ ..‬وقد بر بوعده ألوالده وزوجته ‪...‬‬

‫ومن خالل البرقية التي أرسلها لجمال عبد الناصر أثناء العدوان الثالثي على مصر سنة ‪1956‬ندرك مدى تفهم‬
‫صالح للقضية التي يدافع عنها ‪ ..‬قال في برقيته‪" :‬إن هدف اليهود من االعتداء هو االستيالء على شرم الشيخ‬
‫وفتح طريق العقبة لالتصال بأفريقيا" وأظن واحدا منا ال ينكر اآلن مدى بعد نظرة صالح بعد أن تكشفت األمور‬
‫‪..‬‬

‫ونقطع الطريق عدوا ونلهث خلف صالح لنحاول أن نلحق به وهو يمضي قدما إلى قالع العدو الرابضة فوق‬
‫فلسطين الحبيبة ‪...‬‬

‫في أغسطس من سنة ‪1970 ..‬كانت وجهة صالح "كفار روبين" وليست جبال سويسرا أو مرتفعات لبنان أو‬
‫الزبداني في سوريا ‪ ..‬خرج صالح في رحلة طويلة وممتعة‪ ،‬ممتعة للنفس ‪..‬خرج من بيته ومن بين أفراخه‬
‫األربعة ‪..‬‬

‫ليغسل عار سنة ‪1948‬وسنة ‪1967‬ويرد لألمة اإلسالمية المنهكة أنفاسها ‪ ..‬ويحقق أمل الماليين الذين افتقدوا‬
‫وجود اليد المتوضئة في المعركة ‪ ..‬وظنوا أنها قطعت ولم تعد صالحة للعمل ‪ ..‬خرج صالح ليلة ‪ 18‬أغسطس‬
‫ليواجه تحديات العصابة التي نشرت في دنيا الناس الفساد والظلم والبغي ‪ ..‬ويتحدى معها جبروت الدول العظمى‬
‫التي صنعت من الظلم عدال ومن البغي حقا ‪ ..‬ومن عصابة الصهيونية دولة ‪ ..‬وأعطتها شهادة ميالد دولية ‪...‬‬

‫خرج صالح ليواجه هؤالء جميعا ‪ ..‬ويواجه معهم كل أساليب التآمر والخداع والدجل متخفية وراء الحرص‬
‫والكياسة والدبلوماسية رافعة رايات االستسالم باسم السالم !!‬

‫السالم مع شتيرن وزفاي ‪ ..‬وراجون !!‬

‫خرج صالح على رأس قوة من زمالئه يتحسسون الطريق إلى مستعمرة "كفار روبين" وتمكنوا من تركيز‬
‫أسلحتهم في مواجهة عدة مراكز‪ ،‬وبدأ القصف على المستعمرة وعلى مدينة بيسان ‪ ..‬وكانت ضربات ناجحة‬
‫أصابت أهدافها ‪ ..‬وحرصا على االستفادة من العملية‪ ،‬وتضليال للعدو أطلق نيران في عدة اتجاهات مما أثار‬
‫الذعر في كل مكان فجن جنون اليهود ‪..‬‬
‫ودفعوا بجنودهم في كل مكان يطلقون نيرانهم على أشباح األشجار وخلف المكامن ولكن صالح استطاع أن‬
‫يسحب رجاله إلى شرقي النهر بعد أن أدى رسالته على أحسن وجه ‪...‬‬

‫تمكن العدو من إرسال قوة إلى الجانب الشرقي ‪ ..‬وهو الجانب الذي كانت تعسكر فيه القوات النظامية ‪ ..‬والتي‬
‫انسحبت بعد الموافقة على مشروع روجرز !!‬

‫واستطاعت القوة اليهودية أن تطوق موقع انسحاب صالح ورجاله‪ ،‬وأغرقت المنطقة‪ ،‬بالقنابل الشديدة االنفجار‬
‫والرشاشات ‪ ..‬وتنفذ أول رصاصة إلى قلب "أبو جندل" ويمضي إلى ربه شهيدا‪ ،‬وتنفذ الثانية إلى "أبو عمر –‬
‫صالح حسن "ويصاب "شرحبيل" إصابة قاتلة ‪..‬‬

‫ولكن بقية من أنفاس تمكنهما من تتبع العدو الذي كان يحاول حمل قتاله وجرحاه إلى الضفة الغربية ‪ ..‬فتضغط‬
‫األصابع المنهكة على الزناد فيباركها هللا وتندفع منها طلقات إلى العدو الغافل فتصرع الكثير منهم‪" :‬وما رميت إذ‬
‫رميت ولكن هللا رمى ‪".‬‬

‫ويأبى هللا إال أن يضم صالح وشرحبيل إلى أحبائه الشهداء ‪ ..‬فتنزف جراحهما ما تبقى في قلبيهما الطاهرين‬
‫ويتمدد الجسدان على األرض الطيبة‪ ،‬وقد حملت كتف صالح راس زميله الشهيد شرحبيل ‪ ..‬وناما في سالم وأمن‬
‫وحب بعد أن أديا أروع رسالة على أحسن وجه وأكرم صورة‪ ،‬وتذكرني هذه الصورة بصحابيين جليلين هما‬
‫عمرو بن الجموح‪ ،‬وعبد هللا بن عمرو بن حرام‪ ،‬يوم أن مر عليهما الرسول صلى هللا عليه وسلم بعد أن قتال في‬
‫"أحد" فقال ‪:‬‬

‫"ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد" وبعد دقائق تصرخ الطائرات اليهودية وتزأر المدافع فترسل‬
‫نيرانها في كل مكان فتتحول األرض إلى قطع من اللهب ‪ ..‬كل هذا والشهداء الثالثة يرقدون في مواقعهم ‪..‬‬
‫وأرواحهم تطل في سخرية على الجبروت الكاذب !!‬

‫يستمر الحال كذلك طوال النهار وطرفا من الليل ‪ ..‬وكل تركيز العدو على مواقع الشهداء ‪ ..‬وبعد جهد جبار‬
‫يستطيع رجالنا األبطال أن يحملوا الشهداء ويعودون بهم إلى مواقعهم ‪...‬‬

‫ويتحلق الرجال حول جثة صالح والشهيدين شرحبيل "وأبو جندل" ويقف "عمرو" بن صالح صامتا يحاول أن‬
‫يغالب دمع على أبيه ‪ ..‬إن أباه قد أوصاه بأن يخلفه في أداء رسالته ‪ ..‬ويقوم مقامه ويتذكر أول درس تلقاه من‬
‫والده الصبر والثبات والتحمل فالطريق طويل وشاق ‪ ..‬ويقف تالمذة صالح وحوله يستذكرون دروسه ووصاياه‬
‫‪ ..‬إن وصيته األخيرة ‪..‬‬

‫تعتبر درسا ساميا رائعا ‪ ..‬وصية أودعناها صدور أبنائنا لقطعنا الشوط في أقصر وقت ‪ ..‬قال لزمالئه الذين كانوا‬
‫يعدون للمعركة ‪ ..‬وقد تشاغل بعضهم بسبب الزعماء الذين قبلوا مستسلمين مشروع روجرز ‪ ...‬قال لهم‪" :‬كفوا‬
‫عن هذا وركزوا أذهانكم في العدو والمعركة‪ ،‬واشغلوا أنفسكم بذكر هللا" ‪ ..‬فتعجب بعض زمالئه من نصيحته ‪..‬‬
‫فقال لهم ‪" ..‬هل يجوز أن نلتفت وسط الصالة لنسب هذا الزعيم أو ذاك ثم نستأنف صالتنا‪ ،‬هكذا الجهاد إنه أسمى‬
‫من أن يتدلني إلى ذكر هذا أو ذاك ‪...".‬‬

‫وكانت زوجة الشهيد قد رافقته في رحلته األخيرة‪ ،‬وأنزلها في مكان قريب من المعسكر ‪ ..‬فلما سمعت باستشهاده‪،‬‬
‫قالت‪" :‬هذا ما كنت أتوقعه ‪ ..‬فلقد رأى في منامه قبل استشهاده بأيام أنه يصعد فوق مئذنة عالية يتوجها نور ساطع‬
‫يمأل السماء كلها ‪ ..‬فلما قص علي رؤياه علمت أن هللا سوف يختاره شهيدا ‪".‬‬

‫وعاد صالح إلى مهجره في الكويت تحف به قلوب إخوانه وأحبابه وتالمذته ‪ ..‬رحمك هللا يا صالح ورحمنا‬
‫‪...‬‬ ‫جميعا‬

‫ال نقاتل إال بهذا الدين‬

‫وقف عبد هللا بن رواحة يخطب في ثالثة آالف من المسلمين انتدبهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لحرب الروم‬
‫وكان عدد الروم مائة ألف مقاتل فقال عبد هللا‪" :‬يا قوم وهللا إن التي تكرهون‪ ،‬للتي خرجتم تطلبون الشهادة‪ ،‬وما‬
‫نقاتل الناس بعدد وال قوة وال كثرة‪ ،‬وال نقاتلهم إال بهذا الدين الذي أكرمنا هللا به‪ ،‬فانطلقوا فإنما هي إحدى‬
‫الحسنيين‪ ،‬إما ظهور وإما شهادة"‪.‬فقال الناس قد وهللا صدق ابن رواحة ‪.‬‬

‫فلما قتل زيد بن حارثة وقتل من بعده جعفر بن عبد المطلب‪ ،‬وقف ابن رواحة يقول ‪:‬‬

‫يا نفس إال تقتلي تموتي‬

‫هذا حياض الموت قد صليت‬

‫وما تمنيت فقد لقيت‬

‫إن تفعلي فعلهما هديت‬

‫وإن تأخرت فقد شقيت‬

‫سيد منصور‬
‫كان من عادتنا إذا فرغنا من التدريب في معسكر "هايكستب" جلسنا في حلقة دراسة نقرأ القرآن‪ ،‬ونستمع لحديث‬
‫عن السيرة العطرة‪ ،‬ثم نتناول العديد من الموضوعات العلمية خاصة ما يتصل بالقضية التي هيأنا أنفسنا لها ‪...‬‬

‫وكان سيد منصور يحرص على هذه الدروس حرصه على التدريب الذي كان يتولى أهم شطر منه‪ ،‬وهو التدريب‬
‫على بث األلغام أو إعدام مفعولها ‪ ..‬كان يجلس في صفوف التالمذة المتطلعين إلى المعرفة‪ ،‬وكأن لسان حاله‬
‫يقول يجب على األساتذة أن يتعلموا كيف يجلسون في صفوف تالمذتهم ‪..‬‬

‫وكان يحسن الصمت كما يحسن الكالم ‪ ..‬ولكنه ينفتح بكل مشاعره إذا عرضنا في حديثنا لذكر الشهادة والشهداء‬
‫ومقامهم عند هللا ‪ ..‬كان يحاول أن يرسم نفسه على طريق الشهداء ‪ ..‬يسأل عن نواياهم ‪ ..‬وعزائمهم ‪ ..‬وسيرهم ‪..‬‬
‫وكل ما يتصل بأخبارهم ‪ ..‬ثم يستجمع هذه السير ليتخذ بينها طريقا له ‪...‬‬

‫وكنت كلما نظرت إليه تخيلته يمضي على األرض بقدم واحدة ‪ ..‬أما األخرى فتركض إلى الجنة في ثبات ‪..‬‬

‫ومضت ثالثة أسابيع‪ ،‬ولم تصدر األوامر إلينا بالتحرك ألداء الواجب المناط بنا فازداد قلق الخمسين شابا الذين‬
‫كانوا يعسكرون معنا في "هايكستب "وكان سيد أشدهم قلقا ‪ ..‬وكانت أنباء الفالوجا المحاصرة تلهب الثورة في‬
‫صدورنا جميعا ‪ ..‬إن جيشنا يعيش محنة قاسية‪ ،‬وهو يصرخ في األمة مستنجدا بأبنائها وشبابها ‪ ..‬ثم إن الجيش‬
‫كان قد استأنف القتال بعد نهاية الهدنة المشؤومة‪ ،‬ولكنه كان في وضع ال يحسد عليه‪ ،‬فقد اضطره العدو إلخالء‬
‫مواقع هامة‪ ،‬واالنسحاب إلى مراكز خلفية ‪..‬‬

‫وبدأت األسئلة الحائرة تدور فيما بيننا ‪ ..‬لم عجز الجيش المحاصر عن فك حصاره وفيه قيادة سميت وقتها‬
‫"بضبع الفالوجة" ولم عجز الجيش المصري كله عن فك هذا الحصار!! وأين الجيوش العربية السبع التي اتفقت‬
‫فيما بينها على سحق اليهود !!!‬

‫ثم صعد إلى القمة سؤال كبير‪ ،‬لم اختارنا القائد العام الجديد من دون الشعب؟ واصطفانا من بين كتائب الفدائيين‬
‫األخرى !!‬

‫واألجوبة السريعة والمتالحقة عن هذه االستفسارات تقول إن جيش الفالوجة كان يفتقد األسلحة الصالحة لمغامرة‬
‫فك حصار مضروب حوله بدقة وإتقان ‪ ..‬وإن الجيش كان متدهورا معنويا ولم يكن في وسع رجاله المجازفة‬
‫بحياتهم ‪..‬‬
‫وإن الجيوش السبعة كانت انعكاسا لألوضاع المتحكمة في دولهم ‪ ..‬كانت جيوش استعراضات واحتفاالت‬
‫ونياشين!! أما الجواب األمين فيكمن في إيماننا بأن الميدان العملي يحتاج لنوعية سيد منصور ‪ ..‬يحتاج لطالب‬
‫الشهادة دون أجر الدنيا من نياشين ورتب ومكافآت ‪...‬‬

‫انتهت فترة القلق بخبر مفزع طالعنا به قائد عام المعسكر على أثر إشارة تلقاها من عمان بأن ملك األردن رفض‬
‫نزول طائراتنا في أراضيه ‪ ..‬وكانت صدمة لمشاعرنا الملتهبة!! جيشنا يصرخ مستنجدا والعدو يخنقه بكل قوته!!‬
‫وقائد عام الجيوش العربية يرفض إنقاذه !!‬

‫ولكن ماذا نفعل؟ هل نتظاهر كما كنا نفعل في الجاعة إذا خنقت الحكومة حريتنا؟ إن ميدان القتال صورة عملية‬
‫للرفض وال بد من الدخول إليه ومن كل األبواب ‪ ..‬وال بد من قتل الخطيئة في شخص اليهود الذين يمثلون "تجمع‬
‫الصهيونية والصليبية ‪".‬‬

‫قمنا بتعديل خطتنا ‪ ..‬وهي تتلخص في الذهاب إلى غزة عن طريق السكة الحديد ثم نحاول من هناك شق صحراء‬
‫النقب‪ ،‬إلى الخليل‪ ،‬ومن هناك نكمل عمليتنا وهي فك حصار الفالوجة حسب الخطة المرسومة ‪ ..‬ونفذنا المرحلة‬
‫األولى ‪..‬ووصلنا إلى معسكر البريج "مخيم البريج اآلن "‬

‫وكنا قد استولينا عليه من اإلنجليز عقب جالئهم عن فلسطين في ‪ 15‬مايو سنة ‪ ،1948‬وبدأنا ندرس فكرة عبور‬
‫الصحراء‪ ،‬وما تتطلبه هذه المغامرة من جهود‪ ،‬وما قد تسببه من خسائر‪ ،‬ولكن كل هذه الدراسات انهارت بعدما‬
‫ترامت إلينا أنباء من أن اليهود تمكنوا من الهيمنة على الدروب المؤدية للخليل‪ ،‬وأنهم استطاعوا االستيالء على‬
‫قافلة بأسرها كانت في طريقها للخليل وأجهزوا على كل رجالنا ‪..‬‬

‫فاضطررنا للعدول عن الفكرة‪ ،‬وتركنا أمر إنقاذ الفالوجة وإمدادها بالتموين والسالح لقواتنا المرابطة في بيت‬
‫لحم‪ ،‬والتي كان يتولى شطرا منها أحد ضباط الجيش األفذاذ "معروف الحضري ‪".‬‬

‫بدأنا نعمل في قطاع غزة‪ ،‬وهو الجزء الذي تبقى لنا بعد الهدنة ‪ ...‬وكانت عملياتنا تنحصر على اإلغارة على‬
‫المستعمرات الراقدة في مواجهة القطاع‪ ،‬وقطع الطريق الذي يصل هذه المستعمرات‪ ،‬وذلك ببث األلغام في‬
‫الممرات الصحراوية والمرابطة في أوكار جانبية ‪ ..‬هذا باإلضافة إلى تلبية نداءات الجيش في كل العمليات‬
‫الفدائية باعتبارها فرقة كوماندوز ملحقة بالجيش ‪...‬‬

‫وبدأ سيد منصور ينطلق بكل طاقاته ‪ ..‬ال تكاد تفلت منه دورية قتال أو استطالع ‪ ..‬وقد كان التنافس على هذه‬
‫الدوريات شديدا ‪ .‬لدرجة اتهام القيادة "بالمحسوبية" ألنها آثرت جنديا على اآلخر في عدد الدوريات ‪ ..‬وكنا‬
‫نضعف أمام روعة التنافس بين شباب ال يتجاوز العشرين من عمره وبين آباء تجاوزوا األربعين ‪ ..‬أيهما أفضل !!‬

‫أما سيد منصور فكانت عيناه تتوسالن في صمت‪ ،‬فال نملك إال االستجابة لرغبته!! وكانت حجتنا أمام اآلخرين‬
‫أن سيد له خبرة ببث األلغام حتى أن الجيش نفسه كان يطلب إليه تدريب ضباطه على عملية بث األلغام وتفجيرها‬
‫‪...‬‬

‫علمنا ذات يوم أن اليهود سيغيرون على قرية مجاورة‪ ،‬وكانت العملية تحتاج لشباب سريع الحركة ‪ ..‬ولم يكن‬
‫أمامنا وقت "للمساومات" و "الوساطات "فانتدبنا عبد الرحمن البنان وكان في السابعة عشرة‪ ،‬وسيد منصور‬
‫وكان في الثالثين من عمره أو يزيد قليال ‪...‬‬

‫فانطلقنا في الوادي الفسيح ال يحميها إال الظالم المتراكم ودعاء المئات من زمالئهم المقيمين في المعسكر ‪..‬‬
‫وانتظرنا إلى منتصف الليل ولكن اإلخوان لم يعودا فران علينا صمت كثيف يسبق عادة نبأ استشهاد أحد الزمالء‬
‫‪..‬فوجفت قلوبنا وتحجرت الدموع في عيوننا ‪ ..‬فالميدان ال يسمح بإظهار العواطف بل على العكس يوصي‬
‫بحبسها ‪...‬‬

‫وفجأة تبددت أوهامنا ونحن نسمع وقع أقدام الرجلين وهما يقطعان الطريق إلى داخل المعسكر وقد حمل كل واحد‬
‫منهما مجموعة من الدجاج ‪ ...‬وكان منهكين لدرجة كبيرة ‪..‬‬
‫ومع هذا لم نعفهم من االستماع لمغامرتهم فتولى عبد الرحمن سرد أحداث القصة ‪ ..‬أما سيد فكان ينصت في‬
‫سكون ‪ ..‬وكأنه ال يعرف شيئا مما حدث ‪ ..‬وكان يسرح بين الحين واآلخر وكأنه يبحث عن مجهول يحاول‬
‫استكناهه ‪.‬‬

‫لم ننتظر على الدجاج حتى الصباح‪ ،‬بل عجلنا بإعداد عشاء دسم ونحن نستمع لعبد الرحمن وهو يقص علينا ما‬
‫حدث ‪ ..‬قال‪ :‬إن اليهود أغاروا على القرية فقلتوا من قتلوا‪ ،‬وحرقوا حصاد القرية‪ ،‬وسرقوا منها ما امتدت إليه‬
‫أيديهم ‪..‬‬

‫ثم حاولوا الهروب قبل أن نشعر بهم ‪ ..‬ولكننا تمكنا من اللحاق بهم وهم في طريق العودة إلى مخابئهم في‬
‫المستعمرات المجاورة ‪ ..‬واستطعنا أن ننال من عربة جيب كانت محملة بالمسروقات ومنها هذا الدجاج ‪..‬‬

‫أما خسائرنا فلم تكن سوى هذا البيريه ‪ ..‬وخلع من فوق رأسه غطاءها وأشار إلى ثقب رصاصة نفذت من خالله‬
‫‪ ..‬وقال ضاحكا وهو يشير إلى سيد الذي ظل ساهما مطرقا ‪ ..‬وعدنا برئيسنا كما ترون ‪ ..‬فتعشوا هنيئا لكم ‪...‬‬
‫وكان عشاء ضاحكا كما يقولون ‪...‬‬

‫ومضت فترة قصيرة على هذه الحادثة إلى أن امتحنا في أكبر معارك فلسطين ‪...‬‬

‫كان الجيش المصري قد مني بهزائم متالحقة بعد استئناف القتال‪ ،‬فقد تمكن العدو من تجهيز نفسه بأحدث‬
‫المعدات‪ ،‬كما عزز قواته بمحاربين أكفاء من جميع أنحاء العالم‪ ،‬وخاصة من أبناء أمريكا وأوروبا الغربية‬
‫والشرقية ‪..‬‬

‫وقيل وقتها إن روسا اشتركوا في المعارك التي وقعت بعد ذلك ‪ ..‬وقد انتشرت إشاعة طريفة في الجيش المصري‬
‫أن الروس يمتازون برءوس ضخمة ال يخترقها الرصاص ‪ ..‬ولذلك ال جدوى من قتالهم ‪...‬‬

‫لنقترب من معركة "تبة ‪ .. "86‬ولنكتف بالقدر الذي يقربنا من دور الشهيد سيد منصور ‪..‬‬

‫فلقد أعد اليهود خطة لفصل الجيش المصري المتمركز في غزة عن مراكز إمداداته في خان يونس ورفح‬
‫والعريش‪ ،‬وذلك بقطع الطريق ما بين غزة وخان يونس‪ ،‬وحشد لذلك أمهر قناصته وقدم لعملية الزحف بوابل من‬
‫نيران مدفعيته على اللواء المتمركز في هذه النقطة ‪ ..‬ثم تقدمت مصفحاته تكنس الطريق أمامها من فلول الجيش‬
‫التي بدأت الفرار من الساعات األولى لالشتباك ‪..‬‬

‫ويؤسفني هنا أن أعرض هذه الصورة عن جيشنا ‪ ...‬ولكن لألسف الشديد كانت هذه هي الحقيقة ‪ ..‬وعذره الوحيد‬
‫هو أن رائحة الخيانة والغدر من الحكومة والقصر وقيادة الجيش المركزية كانت قد فاحت في صفوفه‪ ،‬فأوهنت‬
‫من عزيمته القتالية وزلزلت من ثقته بنفسه ‪..‬‬

‫فهو يواجه عدوا مزودا بأسلحة قوية ومعنويات عالية ‪ ..‬أما هو فأسلحته الفاسدة كانت ترتد إلى صدره فتقتله قبل‬
‫أن تقتل عدوه ‪ ..‬ويكفي أن أضع هذه الحقائق البسيطة ‪ ..‬لقد كانت أسلحة الجيش التي زود بها بعد الهدنة عبارة‬
‫عن بنادق إيطالية ال تصلح الواحدة منها إلطالق أكثر من خمس رصاصات ثم ترتفع درجة حرارتها وتنشق‬
‫ماسورتها ‪..‬‬

‫أما الذخيرة فالصالح منها ال يزيد على العشر أما الباقي فال يحدث مفعوال ‪ ..‬فإذا أضفنا لهذا المستوى المعيشي‬
‫للجنود‪ ،‬لما تحاملنا على الجيش بهذا القدر فالجندي الذي تقدم له الطعمية كترفيه في ميدان القتال‪ ،‬حتى ترددت‬
‫أغنية صعيدية "جابولنا الترفيه يا بوي يا بوي عيش وطعمية يا بوي" هذا الجندي لن يجد له زادا معنويا أو ماديا‬
‫في مواجهة عدو ترعاه دول متحضرة وقوية ‪...‬‬

‫واستدراكا أقول إن الجندي كان على استعداد لتحمل شظف العيش لو قيل له إن دولته ال تملك غير هذا ‪ ..‬ولكن‬
‫كان يعلم مدى الخيانة المرابطة وراء أمثال هذه التصرفات ‪...‬‬

‫نعود إلى المعركة ‪ ..‬لنقول إن الجيش المصري كان قد أحيط به من كل جانب ‪ ..‬المدفعية تصليه بنيرانها ‪....‬‬
‫والقناصة تتصيد الضباط والمصفحات تطوقه ‪...‬‬
‫وكانت هذه األخبار تصلنا في معسكرنا "البريج" فنثور ونتهيج رغبة في إنقاذ إخواننا‪ ،‬ولكن جاء الفرج وتلقينا‬
‫رسالة مستعجلة من اللواء أحمد فؤاد صادق قائد عام الجيش المصري بالتحرك على وجه السرعة ‪ ..‬وعلى الفور‬
‫أعد األخ كامل الشريف قوة من ‪ 35‬شابا من شباب المعسكر ‪ ..‬كان من بينهم سيد منصور‪ ،‬وعبد الحميد خطاب‪،‬‬
‫وسيد عيد‪ ،‬وفوزي فارس ‪...‬‬

‫وصلنا ألرض المعركة في أدق مرحلة من مراحلها‪ ،‬وتمت عملية انتشار سريعة ‪ ..‬وتمركزنا في مناطق رئيسية‬
‫بحيث تمكنا من اكتشاف مراكز تجمعات العدو والدشم التي يسدد منها نيرانه إلى صدور رجالنا ‪.‬‬

‫وكان يوما ممطرا‪ ،‬شديدة البرودة‪ ،‬ومع هذا كانت سخونة المعركة تعطينا دفئا وحرارة‪ ،‬وطاقة رائعة ‪ ..‬وتذكرنا‬
‫يومها ما أنزله هللا في أرض بدر ‪:‬‬

‫"وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به‪ ،‬ويذهب عنكم رجز الشيطان‪ ،‬وليربط على قلوبكم‪ ،‬ويثبت به األقدام"‬
‫فنشطت قلوبنا وألسنتنا بالذكر والدعاء ونشطت عقولنا بالتدبير لتطويق العدو وكسر شوكته ‪...‬‬

‫كان تكتيك العدو في هذه المعركة إرهابنا وإلقاء الرعب في صدور جنودنا ثم تشتيتنا وتصيدنا بعد ذلك‪ ،‬فألقى‬
‫اآلالف من قنابل الهاون الصوتية والحارقة وشديدة االنفجار ‪..‬‬

‫وقد حقق نجاحا في الجولة األولى‪ ،‬فبدأ الجنود يتبعثرون في كل مكان واستحال على قيادة المعركة إعادة الضبط‬
‫والربط‪ ،‬بل إن كبار ضباط الجيش لم يجدوا مناصا من التخفي لتجنب قنابل اليهود وسخط الجنود الفارين‪ ،‬وأذكر‬
‫أنني التقيت باللواء علي عامر (الفريق) يرابط في حفرة في الخطوط األمامية ‪ ..‬وقلت للرجل إن بقاءك هنا ال‬
‫جدوى منه بعد أن فر الجنود ‪ ..‬قال لي ‪:‬‬

‫إنني ألتزم األوامر وكان الرجل في موقف ال يستطيع منه التقدم أو التراجع فآثر انتظار القضاء ‪...‬‬

‫سبق أن قلت إننا حاولنا التمركز في مواقع قريبة من تحصينات العدو‪ ،‬ومراكز إطالق نيرانه‪ ،‬ولكن لم يكن هذا‬
‫ليتم إال إذا قطعنا طريقا مكشوفا ومعرضا للنيران ‪ ..‬فطلبنا من قيادة الجيش السماح لنا بدبابتين لنتخذهما ساترا‬
‫متحركا نحتمي به إلى أن نتسلق تبة عالية ‪ ..‬ووافق القائد ‪ ..‬وبدأت قواتنا تتحرك خلف الساتر تكتنفها نيران العدو‬
‫من كل جانب ‪..‬‬

‫وفي ظالل دبابة مكشوفة كان يركض سيد منصور وعبد الحميد خطاب الطالب األزهري الذي لم يكن قد تجاوز‬
‫الثامنة عشرة‪ ،‬ونيران العدو تنفذ من بين أيديهما وتتساقط فوق رءوسهما‪ ،‬ودوي القنابل يزلزل األرض من‬
‫تحتهما‪ ،‬ومع هذا مضى سيد وعبد الحميد لغايتهما في إقدام وجرأة وتحد للعدو ‪..‬‬

‫وإصرار على مواجهته‪ ،‬ورغبة صادقة في لقاء هللا مع النبيين والصديقين والشهداء‪ ،‬ويشعر العدو بالخطر‬
‫المتحرك خلف الدبابة فيسدد جميع أسلحته في اتجاهها‪ ،‬ويركز عليها نيرانه ‪ ..‬وتطوق الدبابة بسحاب من الدخان‬
‫‪..‬‬

‫فيرتبك قائدها‪ ،‬وتضطرب عجلة القيادة في يده ‪ ..‬وتتحكم فيه وال يستطيع الهيمنة عليها‪ ،‬فتتدحرج الدبابة إلى‬
‫الوراء‪ ،‬ويسقط الرجالن تحتها فتعتصر جسد عبد الحميد وتضغط تروسها على النصف األسفل من سيد منصور‬
‫فتعجنه في الطين ‪ ..‬وتمضي المعركة ‪ ..‬ويتمكن الثالثون شابا من تغيير مجرى المعركة من هزيمة إلى نصر ‪..‬‬
‫ويشعر اليهود بصالبة العنصر الجديد الذي هبط فجأة ‪ ..‬واستطاع أن يقتحم عليهم مواقعهم ويغير في جرأة على‬
‫الدشم ويلتقي وجها لوجه بهم ‪..‬‬

‫والمعروف أن اليهودي ال يحتمل المواجهة‪ ،‬وال يصمد أمام المقاتل األصيل وصدق هللا العظيم‪" :‬ال يقاتلونكم‬
‫جميع إال في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى" فيضطر لالنسحاب‬
‫حامال معه قتاله وجرحاه ‪..‬‬

‫كانت األرض تسبح في بركة من الدم الذكي ممزوجا بماء المطر ‪...‬‬
‫وجثث القتلى تتناثر على التباب والطرقات وتحت أشجار التين الشوكي ‪ ..‬ومن بين هؤالء يرقد البطالن عبد‬
‫الحميد خطاب الذي أسلم روحه لربه‪ ،‬وعلى قيد خطوات منه يرقد نصف سيد منصور ساكنا مستسلما ‪.‬اقتربت‬
‫من سيد‪ ،‬وتحسست جسده‪ ،‬فإذا بنبض خافت ينبئ عن بقية حياة ‪ ..‬وفتح الرجل عينيه وأدارهما في وجهي وكأنه‬
‫يدعوني إليه فحنوت عليه إلى أن لثمت جبهته ‪..‬‬

‫فتمتم بعبارات ‪ ..‬فظننته يملي علي وصية ألبنائه الستة وزوجته‪ ،‬فأرهفت السمع فإذا به يردد عبارة واحدة‪" :‬اللهم‬
‫انصر دعوتنا ‪ ..‬اللهم بارك مرشدنا" ‪ ..‬ثم يقفل فمه قليال حتى يدفع عنه ماء المطر المتدفق من باب السماء ‪..‬‬
‫ويعود لدعائه يكرره في إلحاح ورجاء ‪..‬‬

‫ونسرع بطلب عربة إسعاف إلنقاذ سيد فيحضر رجال اإلسعاف بمحفاتهم ‪ ..‬ويهمون بسيد ليستخلصوه من الطين‬
‫فيستعصي عليهم ألن ساقيه كانتا قد امتزجتا بالطمي حتى صارتا قطعة واحدة ‪ ..‬فيحملونه بكل الطمي المتراكم‬
‫عليه ‪ ..‬ويمضون به إلى المستشفى العسكري ويقرر األطباء بتر الساقين الستخالص بقية الجسد وتجرى عملة‬
‫سريعة ‪ ..‬كان قضاء هللا أسرع منها ‪ ..‬وترتفع روح سيد متمتمة بالدعاء‪" :‬اللهم انصر دعوتنا ‪...".‬‬

‫ويسمع قائد الجيش اللواء فؤاد صادق بوفاة الجندي سيد منصور‪ ،‬فينزعج للنبأ ويحضر على الفور لمعسكرنا‬
‫ليقوم بنفسه بواجب العزاء في "الشهيد سيد منصور "ثم يصدر أعجب قرار وهو ترقية الجندي سيد منصور إلى‬
‫رتبة مالزم أول تقديرا لخدماته في الجيش ‪ ..‬والجزء الذي نسيته من القصة أن سيد منصور كان يقوم بتدريب‬
‫ضباط الجيش النظامي على طريقة بث األلغام وانتزاعها ‪...‬‬

‫قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بعد موقعة أحد‪" :‬من رجل ينظر إلى فعل سعد بن الربيع في األحياء أم في‬
‫األموات‪ ،‬فقال رجل من األنصار‪ :‬أنا أنظر لك ما فعل سعد ‪ ..‬وذهب الصحابي يلتمس سعد بن الربيع فوجده‬
‫جريحا وفي النزع األخير فقال سعد‪ :‬ما شأنك؟‬

‫فقال الرجل‪ :‬إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سأل أن أنظر في األحياء أنت أم في األموات فقال سعد ‪:‬أنا في‬
‫األموات فأبلغ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عني السالم‪ ،‬وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك‪ :‬جزاك هللا عنا خير‬
‫ما جزى نبيا عن أمته ‪ ..‬وأبلغ قومك عني السالم ‪..‬‬

‫وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه ال عذر لكم عند هللا إن خلص إلى نبيكم صلى هللا عليه وسلم وفيكم عين‬
‫‪".‬‬ ‫تطرف‬

‫أنا عائد ‪ ..‬أنا حي‬


‫هي قصة واقعية ‪ ..‬وليس لي من سبيل لتأكيدها إال ثقة القارئ فيما أكتب ‪ ..‬وأنا أعتبر أن الكلمة المكتوبة تظل‬
‫شاهدا على كاتبها ما عاشت الورقة في دنيانا ‪ ..‬وأما بين يدي هللا فهي شاهد قائم يدونها أهل صدق ال يكذبون‪" :‬ما‬
‫يلفظ من قول إال لديه رقيب عتيد ‪".‬‬

‫القصة فسرها الصالحون بأنها كرامة شهيد وهي ال تخضع لمنطق العقل والمقاييس العادية لألمور ‪ ..‬أما الماديون‬
‫فقالوا إنها ظاهرة غير عادية ‪ ..‬أما رأي فيها فهي درس خالد أراد هللا لنا أن نأخذه على يد شهيد ‪ ..‬درس صامت‬
‫لكنه أسمى من كل الدروس الناطقة ‪..‬‬

‫القصة وأحداثها تسحبنا إلى أواخر عام ‪1948‬حيث كنا نعسكر في مخيم البريج الواقع ما بين خان يونس وغزة ‪..‬‬
‫وكانت مهمتنا قد تجمدت بعد الهدنة المشؤومة ‪ ..‬وتحولنا من قوة مهاجمة إلى قوة مدافعة ‪ ..‬نلبي طلب القيادة إذا‬
‫دعتنا ألي عملية فدائية ‪...‬‬

‫وكانت قيادة الجيش قد نما إليها أن اليهود سوف يقومون بهجوم كبير في منطقة العوجة‪ ،‬مستهدفين احتالل بلدة‬
‫العريش وقطع الطريق على الجيش المصري المعسكر في قطاع غزة ‪ ..‬واحتشد الجيش المصري في منطقة‬
‫قريبة من العوجة‪ ،‬وكان نصيبنا قطاعا خاصا يقع على تبة عالية تقع على ميمنة الجيش‪ ،‬ولم يكن عددنا كبيرا ‪...‬‬
‫كنا في حدود الخمسين ‪..‬‬
‫كانت المعركة عنيفة وقاسية وقد أعد لها العدو كل إمكانياته وكانت معنوياته عالية بعد أن حقق انتصارات كثيرة‪،‬‬
‫وعلى العكس كانت قوات الجيش المصري بل والجيوش العربية كلها قد أصيبت بهزيمة نفسية شديدة ‪..‬‬

‫ولذلك لم تمض ساعات إلى والجيش الكبير قد ولى األدبار أمام عصابات اليهود‪ ،‬تاركا وراءه مئات العربات‬
‫والدبابات قد ولى األدبار أمام عصابات اليهود‪ ،‬تاركا وراءه مئات العربات والدبابات ممددة على طريق ال تقل‬
‫طوله عن ثالثة كيلو مترات‪ ،‬ولم تكن ظاهرة الفرار هذه غريبة عن ناظرنا فقد تكررت أمامنا الصورة عدة‬
‫مرات‪ ،‬ومرجع هذا كان لعدة عوامل أهمها انهيار معنويات الجيش المصري بعد أن خانته حكومته وأرسلت له‬
‫ذخيرة فاسدة في الميدان ‪ ..‬ثم تخلى "جيش جلوب" عن المعركة وغدره بالقوات العربية ‪ ..‬وأعني بجيش جلوب‬
‫الجيش األردني الذي كان يتولى قيادته قائد بريطاني "جلوب باشا ‪".‬‬

‫نعود إلى أرض المعركة ‪ ...‬فبعد أن هزم الجيش المصري وفر أمام العدو بقيت قواتنا في مواقعها في محاولة‬
‫لصد الهجوم ولكن تبين لنا أن األمر ليس يسيرا فقد ركز علينا العدو نيرانه ‪ ..‬وأصالنا بآالف القنابل وقام‬
‫بمحاولة لتطويقنا بعد أن انهارت كل أجنحة الجيش ‪..‬‬

‫حتى إنه تمكن من الوصول إلى منطقة قريبة من تلة كان يقوم على حراستها بعض رجالنا‪ ،‬وكان منهم بطل هذه‬
‫القصة "الشهيد علي الفيومي "الذي تمكن هو وزمالؤه من صد هجوم الجيش اليهودي وتعويق زحفه وحماية‬
‫ميمنتنا ‪ ..‬ولكن العدو ركز بشدة على التلة الصغيرة حتى سكتت نيرانها ‪ ..‬وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل‬
‫قررنا االنسحاب حتى ال تباد القوة عن آخرها إذا طلع عليها الفجر‪ ،‬ولكن تبين لنا فقدان أحد زمالئنا وهو علي‬
‫الفيومي ‪...‬‬

‫قال بعض زمالئه إنه أصيب‪ ،‬ولكنهم لم يتأكدوا من وفاته‪ ،‬وذهبنا في تفسير األمر مذاهب كثيرة‪ ،‬من قائل إنه‬
‫ذهب شهيدا‪ ،‬ورجع آخرون أن اليهود تمكنوا من أسره ‪...‬‬

‫وعدنا للعريش حيث نزلنا في معسكر إمداد الرجال‪ ،‬ولبثنا هناك اثني عشر يوما لم تغادرني صورة الفيومي في‬
‫يقظتي وال في منامي ‪ ..‬كان يزورني في الليل ويقول لي‪" :‬أنا عائد أنا حي ‪".‬‬

‫وعلى الرغم من تفسيرات إخواني الكثيرة للرؤيا فمن قائل أنه مع األسرى حي يرزق! وآخرون فسروها بأن‬
‫الصحراء التيه التي ابتلعت بني إسرائيل أربعين سنة قد لفته في دروبها المعقدة! والواقع أن هذه الصحراء غريبة‬
‫في تكوينها وهي كفيلة بأن تضل من يدخل إليها‪ ،‬وقد حدث أن ضللت الطريق فيها مع زميلي الضابط المهندس‬
‫الرائد محمود خليل ولم نهتد إلى معسكرنا إال بعد جهد كبير ‪...‬‬

‫نعود إلى قصة الشهيد‪ ،‬وإلى الرؤيا التي ظلت تطاردني طوال إقامتي في العريش ‪ ...‬والتي تأكدت في نفسي حتى‬
‫خيل إلي أنه قد يدخل علينا خيمتنا في أي لحظة ‪...‬‬

‫صدرت األوامر إلينا بالعودة إلى سد الروافع حيث يقوم قصر صغير للملك السابق فاروق فأسرعنا إلى هناك ‪..‬‬
‫وكان اليهود قد سلبوا القصر الذي كان الملك فاروق يعده لنفسه‪ ،‬ولم يتركوه إال هيكال يقف كالشبح ‪ ..‬وإن كنت ال‬
‫أنسى عبارة حفروها في مدخل القصر تقول العبارة ‪:‬‬

‫"ذكرى انهيار الجيش المصري" وسجلوا تحتها هذا التاريخ ‪/ 1949 1/1‬ثم رسم أحدهم صورة لجندي يهودي‬
‫وهو يركل بعنف جنديا مصريا ويطرده خارج فلسطين ‪ ..‬العبارة والصورة ‪ ..‬حفرها اليهود في نفسي أكثر عمقا‬
‫وبعدا مما فعلوه بالجدار ‪...‬‬

‫أصدر قائد اللواء الخامس "اللواء نعمة هللا" أوامره لنا باستكشاف القصيمة التي كان قد احتلها اليهود بعد هزيمة‬
‫الجيش ‪..‬‬

‫وكان الطريق إلى القصيمة محفوفا بالمخاطر فهو عبارة عن دروب عميقة تحفها جبال شاهقة‪ ،‬وفي إمكان أحد‬
‫القناصة اليهود أن يهيمن على الطريق كله‪ ،‬وبالتالي يعزل القرية الصغيرة‪ ،‬عن العالم ‪ ..‬ولذلك قطعنا الطريق‬
‫الموصل إلى القصيمة وهو حوالي عشرة أميال في أكثر من أربع ساعات‪ ،‬ألننا كنا نرسل بالكشاف الستطالع‬
‫الطريق الجبلي قبل التقدم في الوادي ‪..‬‬
‫وأخيرا وصلنا إلى قرية فلم نجد فيها إنسانا واحدا‪ ،‬لقد هرب أهلها جميعا والذوا بالجبال فتذكرت قول هللا تعالى‬
‫وأنا أطالع القرية المحطمة" ‪:‬وبئر معطلة وقصر مشيد ‪".‬‬

‫كان أول عمل قمنا به هو محاولة عن أهل القرية حتى نعيدهم لديارهم التي سلبها اليهود‪ ،‬ونؤمنهم فيها ‪ ..‬فأرسلنا‬
‫رجالنا في مسالك الجبال للبحث عنهم ‪..‬‬

‫ولعبت الصدفة دورها في آخر لحظة فقد عثرنا على أحد أبناء القرية وهو يحاول الهرب من بيته المخرب‪ ،‬وبيده‬
‫مصباح به بقية من زيت‪ ،‬وبعد أن طمأناه وهدأنا من روعه أرشدنا إلى مخابئ قومه‪ ،‬فذهبنا إليهم وأعدناهم في‬
‫أمان لقريتهم‪ ،‬بعد أن أدينا واجبنا الذي كلفنا به قائد اللواء وأمنا أبناء القرية ‪ ..‬عدنا إلى مركز القيادة حيث استقبلنا‬
‫اللواء نعمة اله بحفاوة كبيرة ‪..‬‬

‫وأذكر أنه قال لي إنني ال أدري كيف أكافئكم على مغامرتكم الكبيرة قلت له إنني آمل أال تعتقلونا ‪ ..‬فظهر‬
‫االمتعاض في وجه الرجل واستغرب ردي ‪..‬‬

‫فلما فسرت له تخوفاتي‪ ،‬وذكرت له طرفا من حملة االعتقاالت التي تعرض لها اإلخوان في مصر‪ ،‬على أثر حل‬
‫الجماعة ومقتل النقراشي سكت الرجل وهو يهز رأسه في أسف ‪ ..‬ومن عجائب القدر أن يتم اعتقالنا فيما بعد‬
‫وتسند حراسة معتقلنا لسرية من جنوده ‪..‬‬

‫وإن كنت أحب أن أسجل بإعجاب موقف جميع ضباط الجيش منا وعلى رأسهم اللواء فؤاد صادق أثناء اعتقالنا‪،‬‬
‫فقد كان تعاطفهم معنا ال حدود له‪ ،‬وعلى العكس من ذلك كان موقفهم من الحكومة ومن القصر‪ ،‬وأذكر عبارة‬
‫خالدة قالها اللواء فؤاد صادق‪" :‬لقد حاربنا شرتوك واحد في فلسطين وينتظرنا شراتيك كثيرة في مصر ‪".‬‬

‫ولنعد إلى قصتنا مع الشهيد حتى ال تستدرجنا الذكريات ‪ ..‬فبعد الحديث الذي دار بيني وبين اللواء نعمة هللا ‪ ..‬قال‬
‫لي الرجل وهو يشير إلى أعرابي يجلس القرفصاء بجوار إحدى الخيام إننا وجدنا هذا الرجل يتجول حول‬
‫مواقعنا‪ ،‬ثم طلب مني أن أقوم بالتحقيق معه – (وقد كنت طالبا بكلية الحقوق ‪).‬‬

‫عجبت من تكليف الرجل لي بهذه المهمة في حين كان حوله مئات من الضباط القادرين على أداء هذه المهمة‬
‫ولكنني امتثلت لألمر ‪ ...‬وحملت الرجل في العربة وانصرفت عائدا إلى معسكرنا في سد الروافع ‪ ..‬وبدأت أنفذ‬
‫أوامر القائد ‪..‬‬

‫من خالل استجوابي لألعرابي تبين لي أنه بسيط وساذج حتى كدت أصرف النظر عنه ‪ ..‬ولكن حانت مني التفاتة‬
‫إلى قدمه‪ ،‬فوجدته ينتعل حذاء عسكريا‪ ،‬فسألته عن مصدره فتردد كثيرا ثم قال لي إنه وجده في قدم قتيل فخلعه‬
‫منه ثم لبسه‪ ،‬فتأملت الحذاء ثانية فإذا به من األحذية التي كانت تصرفها لنا الجامعة العربية‪ ،‬قبل انضمامنا للجيش‬
‫النظامي ‪..‬‬

‫فأمرت الرجل على الفور بأن يخلع الحذاء وقلبته بين يدي‪ ،‬فالحظت وجود عبارة "عربية" محفورة في أسفل‬
‫النعل‪ ،‬وتذكرت على الفور أن الفيومي كان قد وضع عالمة لحذائه حتى ال يضيع بين األحذية‪ ،‬واختار اسم‬
‫الجامعة العربية ليسجله في أسفل الحذاء‪ ،‬احتقارا منه لموقف الجامعة العربية بسبب تصرفاتها النابية من القضية‬
‫الفلسطينية‪ ،‬وتصرفاتها المخزية من المجاهدين‪ ،‬كانت الجامعة تقدم لنا ثيابا بالية‪ ،‬وأطعمة أقرب ما تكون شبها‬
‫بحذاء الفيومي ‪..‬‬

‫وأسلحة قديمة عديمة الفائدة ‪ ..‬تأكد لي بعدها أن الحذاء مملوك للفيومي فعدت أشدد على األعرابي ليكشف لي عن‬
‫سر حصوله على الحذاء ‪ ..‬قال إنه وجد قتيال ملتحيا في أحد المواقع فأعجبه حذاؤه فسلبه إياه ‪ ..‬وإنه قام بدفن هذا‬
‫القتيل في موقع يستطيع أن يرشدنا إليه واشترط اإلفراج عنه فوعدناه بذلك ‪ ...‬وعلى الفور اصطحبنا الرجل في‬
‫سيارة جيب إلى الموقع الذي حدده ‪ ..‬وكنت مدفوعا بشوق ال حدود له أللتقي بالشهيد الحي الذي عاد إلينا ‪..‬‬

‫أشار الرجل إلى المكان الذي وارى فيه الشهيد‪ ،‬فأزحنا الرمال من فوقه ‪..‬والتقيت وجها لوجه بالثغر الباسم‪،‬‬
‫وكأن يد الموت الصفراء لم تمسه ‪..‬‬
‫حتى خيل إلينا أنه بعث حيا من قبره فجثوت عليه وقبلته وصافحته فما شممت نه رائحة الموت ‪ ..‬وجدتني أكلمه‬
‫بال وعي وانتظرت منه جوابا ‪ ..‬ولكن صمته كان أروع بيانا ‪.‬‬

‫حملنا الشهيد في عربتنا إلى مركز اللواء نعمة الذي اهتز من أعماقه وانفعل بشدة وهو يستمع للقصة من أولها ‪..‬‬
‫وأصر على أن يلف الشهيد في غطائه الخاص‪ ،‬وأن يحمل في عربته إلى مثواه األخير وودعه هو وضباطه‬
‫باحترام وإجالل ‪...‬‬

‫حملنا الشهيد إلى مقبرة قريبة من سد الروافع ‪ ..‬وكان شعوري بلقائه وبوداعه وبقصته أكبر من أي تصور ومن‬
‫أي خيال ‪ ..‬شعرت وكأن مواكب مالئكية كانت تحف بنعشه المتواضع ‪ ..‬وكانت فرحة به وهو ينضم إلى النبيين‬
‫والصديقين والشهداء ‪..‬‬

‫لقد عاد الفيومي إلينا وكان حيا كما وصفه ربه ‪...‬‬

‫"وال تحسبن الذين قتلوا في سبيل هللا أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ‪".‬‬

‫ونحن في طريقنا إلى المعسكر بعد أن وارينا الشهيد التراب‪ ،‬صدرت إلينا األوامر بالتحرك إلى موقع آخر ‪..‬‬
‫وكأن القدر كان على موعد معنا ليكتمل نسيج العجيبة ‪...‬‬

‫قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬والمسلمون يدفنون شهداء أحد" ‪:‬زملوهم بجراحهم فإني أنا الشهيد عليكم ما‬
‫‪"...‬‬ ‫من مسلم يكلم في سبيل هللا إال جاء يوم القيامة يسيل دما – اللون لون الزعفران والريح ريح المسك‬

‫وشهداء‬
‫وشهداء كثيرون عشت في كنفهم‪ ،‬واستمتعت بصحبتهم ‪ ..‬وتتلمذت على أيديهم ‪...‬كانوا عمالقة عصرهم ‪..‬‬
‫وأساتذة أجيالهم ‪ ..‬كانوا قبسا من الماضي أرسل إشعاعه إلى حاضرنا فتفتحت لهم القلوب ‪ ..‬وأشرقت بهم النفوس‬
‫كانوا بعضا من عمر وأبي بكر وعلي وعثمان ‪..‬‬

‫وكنا نسعى بين أيديهم في أمن نفسي تظلنا روحهم الشامخة من لفح الهجير ‪ ..‬وتدثرنا قلوبهم من عواصف الحياة‬
‫‪ ...‬وكنا لفرط داللنا نرتع ونلعب بين أيديهم مطمئنين إلى أبوة غامرة عامرة بالعطف والحنان ‪...‬‬

‫والعجيب في األمر أنهم كانوا من فرط تواضعهم يشعروننا بإلف وكأنه بعض منا‪ ،‬وأننا منهم في موضع الصديق‬
‫ال التلميذ ‪ ..‬وكان هذا يطعمنا لتسلق القمم العالية في محاولة للوصول ألبراجهم ‪ ..‬بل كان هذا يغري بعضنا‬
‫بالتطاول فيرى الغمام الخفيف وكأنه ركام ظالل ثقيل يحجب ضوء القمر ‪..‬‬

‫كان المتطاولون منا يرون هناتهم عظائم ال تغتفر‪ ،‬واللمم جرائم كبيرة ‪..‬وفي الواقع لم يكن هذا عيبنا ولكنه كان‬
‫انعكاسا طبيعيا فالمرآة الصافية يعكر صفاءها طفيف الغبار‪ ،‬والثوب األبيض تعيبه النكتة السوداء ‪.‬‬

‫أين ذهب هؤالء الرجال ‪...‬‬

‫يقول الجهالء إنهم ماتوا ‪ ..‬اختفوا من الحياة ‪ ..‬لفهم التراب ‪ ..‬ويقول العقالء ‪ ..‬بل هم أحياء في ضمير األحياء من‬
‫تالمذتهم ‪ ..‬إنهم يغمرون الدنيا بنورهم ‪ ..‬إنهم يسعون فيما بيننا ينثرون علينا الورود ويسقوننا من رحيق الحياة ‪..‬‬
‫ويعدوننا بزاد وفير على طول الطريق‪ ،‬إنهم وقاية لنا من عثرات الحياة‪ ،‬وحماية لنا من شراسة أنفسنا ‪ ..‬إنهم‬
‫حصننا نلوذ به من كر األعداء وضراوتهم ‪.‬‬

‫من قال إنهم ماتوا؟ إننا نسمع نبض قلوبهم تخفق في قلوبنا فتلهمنا الحب والخير والمعرفة ‪ ..‬إننا نحس بمسرى‬
‫أرواحهم فينا فتنتشي أرواحنا وتدفع األمل إلى النفوس الواهنة ‪...‬‬

‫من قال إنهم ماتوا؟ !‬


‫وكل هذا الذي نراه من صنع أيديهم ‪ ..‬مؤمنون يملؤون األرض تكبيرا وتهليال ‪ ....‬ومؤمنات رفضن مسلك إماء‬
‫عصرنا وقمن راكعات تائبات ‪ ..‬وشباب الموت أحب إليهم من الحياة يقتلون البغي ويقتلهم البغاة ‪ ..‬وأناس كثيرون‬
‫حاصرهم الظلم‪ ،‬وخنقهم الظالم وأحاط بهم جبروت اإلنسان فهم تبتل وضراعة ومصابرة ‪ ..‬وآخرون أنهكهم‬
‫السير‪ ،‬وأجهدهم الحمل فأبطأوا عن الموكب‪ ،‬ولكن األمل لم يزايلهم ‪ ..‬أما سقط المتاع فكنتم يا قادتنا أعلم بهم منا‬
‫‪ ..‬يغفر هللا لهم ‪...‬‬

‫من قال إنهم ماتوا؟ !‬

‫وليس من صوت قوي إال رجع صوتهم ‪ ..‬أن ال ‪ ..‬الرافضة ‪ ..‬كانت ملكهم في عصر "النعم" هي لغة من عداهم‬
‫‪ ..‬وعاشت "الال" يواجه بها تالمذتهم طواغيت عصرهم ‪ ..‬ال ظلم ال استعمار ال صهيونية ال شيوعية ال طغيان ‪..‬‬
‫ال ‪ ..‬ال ‪ ..‬ال ‪ ...‬أن "ال" تثبت حياتهم ‪ ..‬و "نعم" فقطع بموت أعدائهم ‪..‬‬

‫من قال إنهم ماتوا؟ !‬

‫وهم الذين تفردوا بثالثة أعمار ‪ ..‬عمر أنفقوه سخيا يعلمون ويجاهدون ويقودون موكب الشباب‪ ،‬وعمر امتد من‬
‫بعد رحيلهم فغطى األرض علما ومعرفة وخيرا ‪ ..‬وعمر خالد يحيونه عند هللا في رغد من عيش "أحياء عند‬
‫ربهم يرزقون ‪" ..‬أعمار ثالثة ‪...‬‬

‫من قال إنهم ماتوا؟ !‬

‫وهم يقتلون الظلم والبغي ‪ ..‬ويجهزون على كل أعدائهم ‪ ..‬ويرهبون من عاداهم وما أكثرهم ‪ ..‬لم يمت حسن وال‬
‫عبد القادر وال سيد وال اآلالف من تالمذتهم ‪ ..‬وحسن البنا‪ ،‬وسيد قطب‪ ،‬وعبد القادر عودة ‪ ...‬عناوين قضايا‬
‫هائلة تفجر عنها القرن العشرون ‪..‬‬

‫قضايا هائلة تشرح الصراع الجبار بين حلف اإلنسان وحلف الشيطان ‪ ..‬أراد الرجال أن يردوا أنفاس اإلنسانية‬
‫بعد طغيان الحيوانية الرهيبة ‪ ..‬وكان بيانهم‪" :‬تنزيل من التنزيل وقبس من نور الذكر الحكيم" ‪ ..‬لم يقولوا إنهم‬
‫خلقوا فكرا‪ ،‬أو جاءوا بمعجزة ‪...‬‬

‫ولكنهم قالوا إنهم مبلغون رسالة عن رسول هو رحمة مهداة للناس ‪ ..‬رحمة بهم ورحمة لهم ‪ ..‬وحددوا مهمتهم في‬
‫االلتزام بما قال وبما فعل الرسول ورفاقه ‪ ..‬فهم أتباع لمحجة بيضاء وطريق مستقيم ‪ ..‬وكان نداؤهم الجامع‪" :‬قل‬
‫هذه سبيلي أدعو إلى هللا على بصيرة أنا ومن اتبعن ‪ ."..‬وكان لندائهم وقع جميل في النفوس الصافية ‪ ..‬فأسرعت‬
‫مستجيبة لداعية الخير والحب ‪ ..‬ولكن الفزع تملك عبدة الطاغوت والذهب والجسد فأجلبوا بكل قواهم على الدعاة‬
‫المسالمين ‪..‬‬

‫وكان ال بد من وقوع الصراع بين الحق والباطل ‪ ..‬الحق يؤمن به آحاد مسالمون ‪ ..‬والباطل يدين له جبابرة‬
‫شرسون ‪ ..‬حاول الحق أن يدفع هجمة الباطل ‪..‬ولكن الباطل أغار بضراوة مخيفة فغرقت األرض بدماء زكية‬
‫‪...‬‬

‫وسؤال يطل من كل عاقل اإلجابة عنه ‪ ..‬من القاتل ومن المقتول ومن الميت؟‬

‫القاتل شيطان كبير ممتلئ حقدا وظلما وجهال ‪ ..‬القاتل هو ذلك األوروبي الجهول الذي غرق في ضالل ما سماها‬
‫"عقيدة دينية" فتصلب عليها فصار قطعة من الحديد األصم!! وحمل كرها وبغضا لكل معالم الخير الجديدة ‪ ..‬كره‬
‫محمدا دون أن يفهم أن محمدا هو حبيب المسيح وأخوه ‪..‬‬

‫وانتقل كرهه لمحمد إلى كل رجاله قديمهم وحديثهم ‪ ..‬والقاتل هو ذلك النفر الذين رفضهم موسى من قبل‪ ،‬وهرب‬
‫من بطشهم عيسى‪ ،‬وتصدى لهم محمد فأوجعهم في المدينة‪ ،‬فحملوا له ولصحبه ومن تبعه ثأرا ال يطفئه في لغتهم‬
‫إال الدم والقتل ‪...‬‬

‫والقاتل هو الذي انفك من إنسانيته‪ ،‬وهرب من مثاليته ‪ ..‬وحكم معدته وشهوته في عقله ومشاعره‪ ،‬وبنى له‬
‫محرابا هائال من الشهوات‪ ،‬وكانت ترانيمه وصلواته على قيثارة لينينية ستالينية وماوية ‪ ...‬وقاتل كبير يحمل كما‬
‫هائال من الغباء والبالهة‪ ،‬ولد ضخما فكان له خوار كخوار "عجل الذهب" يرفس بال وعي‪ ،‬ويقتل بال تفكير ‪...‬‬
‫ويحكم العالم بعصابات واشنطن وسفاحيها ‪..‬‬

‫ومن المقتول ‪ ..‬إنه ابن األرض الطيبة ‪ ..‬نسل النطفة النظيفة وارث العلم والفكر والحضارة ‪ ..‬الناطق بكلمة الحق‬
‫‪ ..‬الرافض لعبودية الرجل األبيض والفكر األحمر ‪ ..‬الداعي إلى الرقي اإلنساني فتنتقي سيادة اإلنسان ألخيه‬
‫اإلنسان‪" :‬قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أال نعبد إال هللا وال نشرك به شيئا وال يتخذ بعضنا‬
‫بعضا أربابا من دن هللا ‪" ..‬‬

‫المنادى بكلمة "هللا أحد" المعلن لعظمة األحد "هللا أكبر" المؤمن بكتبه "كتاب أنزلناه إليك" ورسله‪" :‬وما محمد‬
‫إال رسول قد خلت من قبله الرسل ‪".‬‬

‫إن هذا الداعي إلى هللا قتله داعية الشيطان ‪ ..‬ولو كان اسمه غير حسن‪ ،‬وغير سيد‪ ،‬وغير عودة لقتل ‪ ..‬المهم أن‬
‫يقتل هذا الداعية وكل داعية‪ ،‬والشركاء ‪ ..‬الشركاء في هذه الجريمة كثيرون ‪..‬كل الجهلة شركاء وكل المفسدين‬
‫شركاء ‪ ..‬وعبدة السلطان وعبدة المال كلهم شركاء ‪..‬‬

‫لقد وجد فيهم القتلة أداة طيعة في التنفيذ فأمدهم بأدواته‪ ،‬أعطاهم سلطانا وسلطهم به ضد "خصومه" !! وأغدق‬
‫عليهم ماال وإرهابا لحماية المال ‪ ..‬ونشر فيهم "فكرة" فكانوا ببغاوات عقلها في أذنيها ‪ ..‬وبالمال وبالسلطان‬
‫وبالجهل "المثقف" نبذ عرب مسلمون لعرب ومسلمين ‪ ..‬واتسعت حبال المشانق لألئمة واألعالم ‪ ..‬وقتل‬
‫الرجال !!‬

‫وكان يتما وكان مأتما ‪..‬‬

‫كان يتما لألبناء الذين كانوا يعيشون في رحاب األبوة ينعمون بعطفها وبرها وخيرها ‪ ..‬وجدوا أنفسهم بين يوم‬
‫وليلة في العراء تلفحهم الشمس وال ظالل ‪ ..‬ويقبض أنفاسهم البرد وال دفء ويتخطفهم اللصوص ‪ ..‬وتعضهم‬
‫الكالب ‪ ..‬وتنهشهم الذئاب وتلسعهم األفاعي ‪..‬‬

‫وجوع وعطش أقسى من فقدان الخبز والماء ‪ ..‬إنه جوع النفوس وظمأ القلوب ‪ ..‬وسرى اليتم في األمة كلها ‪..‬‬
‫وسواء أحست به أو لم تستشعره إال أن آثاره امتدت في حياتها ففاضت بسمة الحياة‪ ،‬وانطوى القلب على حزن‬
‫كبير ‪..‬‬

‫ونصت مأتم كبير في كل نفس استشعرت رحيل الرجال ‪ ..‬والتفت األمة بوشاح أسود ‪ ..‬وقامت أعمدة المأتم تظل‬
‫سيناء والقدس والجوالن تعلن حدادا على مقتل الرجال الذين قتلت فيهم كل كلمة الحق ‪ ..‬فأغرقت األمة في دماء‬
‫أبنائها ‪ ..‬غرقت سيناء في دماء أبنائها ألن كلمة "الال" ذبحت فانطلقت "النعم" تخضع الجميع لآلمر والناهي‬
‫وسحلت األمة على وجهها إلى نهايتها ‪...‬‬

‫وأفراح راقصة دقها أعداء كانوا يرابطون بالباب ‪ ..‬باب األمة الكبير كان الرفض اإلسالمي قد دفع بهم إلى‬
‫الخارج ‪ ..‬فلما قتل زعماء الرفض بدأ الكر من جديد ‪..‬‬

‫صحيح أن جيوشهم وأوكارهم وأعشاشهم كانت ال تزال تقيم في أرضنا وتسعى بيننا ‪ ..‬لكن الرفض كان لبقائهم‬
‫في نفوسنا وفي بيوتنا وفي عقولنا وفي أبنائنا ‪ ..‬لقد استطاع البنا وأصحابه أن يطردوهم بإسالمهم ‪ ..‬طردوهم من‬
‫عقول ونفوس الشباب ‪ ..‬ثم رفسوهم بأقدامهم ‪ ..‬دفعوهم عنا بمصحف وسيف‪ ،‬المصحف زكى النفوس والسيف‬
‫قطع الرءوس ‪.‬‬

‫كان دعاة الوطنية – وفيهم خيرون كثيرون – يستعينون بالشجر والحجر والنهر ليدفعوا غارة همج أوروبا علينا‬
‫‪ ..‬ولكن الرجال الكبار تنادوا بمحمد وموسى وعيسى‪ ،‬والكتاب المعلم‪ ،‬وحمزة وأم عمارة‪ ،‬تنادوا بهؤالء من فوق‬
‫الشجر والحجر والنهر فتدافع الناس من ورائهم يدفعون عن أنفسهم "إننا قطعة من أوروبا" ويتنادون بأن أوروبا‬
‫والعالم أرض هللا وهم مستخلفون عليها ‪..‬‬

‫فهي أرضهم باسم هللا وسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ..‬وعلى سنن أبي بكر وعمر وخالد رضي هللا عنه ‪..‬‬
‫هذا المعنى الغزير روع "سادة العالم" من البيض والحمر وزلزلت األرض من تحت أقدامهم وأوشكت قالعهم أن‬
‫تتداعى من فوق رءوسهم ‪ ...‬فتنادوا فيما بينهم‪ ،‬وبدأوا يستجمعون قواهم ونسوا أو تناسوا عداواتهم القديمة ‪..‬‬
‫وهبطوا علينا بكل أسلحتهم وخيانتهم وغدرهم ‪..‬‬

‫وكان همهم األكبر قطع الهامات الكبيرة ثم تمزيق الجسد ‪ ..‬وقتلوا البنا‪ ،‬وقطب‪ ،‬وعودة‪ ،‬وفرغلي‪ ،‬ويوسف ‪..‬‬
‫وشربوا كؤوسا مترعة بالدم الزكي الطاهر ‪ ..‬ورقصوا فوق األشالء والمزق البشرية ‪ ..‬وماتت األيدي القاتلة ‪..‬‬
‫ماتت في حياتها‪ ،‬وماتت في ضمائرها ‪...‬‬

‫وماتت في وطنها ووطنيتها ‪ ..‬وتكفنت في أوزارها وآثامها ‪ ..‬ماتت من حيث إرادة الحياة ‪ ...‬ماتت في كل مكان‬
‫وفي كل زمان ‪ ...‬ماتت في أرضها وفي كل أرض ‪ ..‬وماتت في زمانها وفي كل زمان ‪ ..‬قد يقال إن التاريخ‬
‫سيحفل بأسمائهم وآالئهم ‪..‬‬

‫والتاريخ ليس دليل حياة الناس وليس دليل خلود ‪ ..‬والخلود ليس ذكر االسم ولكنه بذكر الفعل ‪ ..‬وليس بذكر الفعل‬
‫وحده ولكن بذكر الصالح من الفعل‪ ،‬والفعل الصالح الذي يعطي الخلود هو العدل والخير والحق ‪ ..‬التاريخ بل‬
‫والقرآن ذكر اسم فرعون وموسى‪ ،‬ومحمد وأبي لهب‪ ،‬وإبراهيم وأبيه‪ ،‬ونوحا وابنه ‪ ،‬بل إن التاريخ دوى بأسماء‬
‫الطغاة ونسي أكثر الدعاة ‪ ..‬لقد ماتت األيدي القاتلة ‪ ..‬ماتت وانتهت ‪ ..‬لقد مات من مات وقتل من قتل ‪..‬‬

‫وتيتم من تيتم ‪ ..‬ورقص من رقص وبقي الميراث ‪ ..‬والوراثة ‪ ..‬وما أثقله من ميراث‪ ،‬وما أفدحها من تركة ‪..‬‬
‫ميراث كبير وثقيل ‪ ..‬أن تعلم وتعلم ‪..‬أن تجاهد وتصبر ‪ ..‬أن تحب وتكره ‪ ..‬أن تقاتل وتقتل ‪ ..‬أن تعيش حياتك‬
‫لدينك وللناس ‪ ..‬أن تسجن وتنفى وتتشرد ‪..‬‬

‫أن يعتل جسدك‪ ،‬ويخلو جيبك‪ ،‬ويطمع فيك الكالب والذئاب واألوباش ‪ ..‬وأمام هذا الميراث الثقيل ‪ ..‬تفلت الكثير‬
‫‪ ..‬وصبر القليل ‪ ..‬ومات من مات ‪...‬‬

‫ومات من مات‪...‬‬
‫تفلت الكثير تحت إلحاح الحياة ووفرة مطالبها ‪ ..‬وتحكم نسائها ودالل صغارها ‪ ..‬تفلتوا خوفا من طغيان الفتنة ‪..‬‬
‫ومطحنة الجوع والحرمان من العمل والخبز ‪ ..‬والتفريق ما بين الولد والزوج ‪ ..‬وفقدان األمن النفسي وإسراف‬
‫السلطة والسلطان في المطاردة واالتهام ‪..‬‬

‫وانتفاء العون من الصديق والقريب ‪ ..‬واستبطاء رحمة هللا استيئاسا ‪ ..‬واستبعاد رحمة الحاكم في غفلته ونسيانه ‪..‬‬
‫تفلت الرجال من هذا العبء الثقيل ووجدوا تعالت في خطأ السياسة "وخطأ القيادة" (وقد يكون هذا صحيحا ولكن‬
‫ما قولهم في موسى وهو يقتل خصمه‪ ،‬وما قولهم في محمد وهو يالم من ربه "عفا هللا عنك لم أذنت لهم" ‪ ..‬وما‬
‫قولهم في خالف عمر وأبي بكر في حرب المرتدين ‪ ..‬وقد يكون الخطأ في السياسة ومن القيادة مبررا لإلفالت‬
‫من الرباط الموقف ‪..‬‬

‫ولكن هل يعفى هذا من مسئولية العمل والدعوة واإلنفاق والجهاد في سبيل هللا ‪ ..‬وأرضنا تئن من وطء أقدام‬
‫األصفر واألحمر واألبيض ‪ ..‬ما نادانا هللا من خالل البنا أو سيد أو عودة‪ ،‬ولكنه نادانا بكتابه ومن خالل رسوله ‪..‬‬
‫والكتاب حجة قائمة والرسول سيرة حية صلى هللا عليه وسلم ‪...‬‬

‫وصبر القليل ‪ ..‬والقليل هؤالء هم الذين أدركوا أن البنا وغيره ما هم إال دعاة ‪ ..‬والرسول بعظمته ما هو إال مبلغ‬
‫"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" ‪" ..‬وما محمد إال رسول قد خلت من‬
‫قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‪ ،‬ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر هللا شيئا وسيجزي هللا‬
‫الشاكرين ‪" ...‬‬

‫عرفوا هذه الحقائق السهلة فغطوا يتمهم بالصبر ‪ ..‬واحتسبوا الطعن والجوع والفقر وشماتة العدو وتفلت الصديق‬
‫‪ ..‬والزوج واألخ واألهل دعوا واستغفروا للناس جميعا حتى لآلثمين الغافلين ‪ ..‬ورصدوا الدين وحده يعملونه في‬
‫أنفسهم وحياتهم ومعاشهم‪ ،‬ثم ينقلون ما علموا وما عملوا إلى كل أذن صاغية ونفس صافية ‪ ..‬ولم يلههم القيد عن‬
‫إبالغ كلمة الحرية ‪..‬‬
‫وعاشوا سني يوسف في سجنه وهو يهتف "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار" ‪ ..‬كانت‬
‫دعوتهم في صدور تنطلق إذا فتحت لها النوافذ‪ ،‬فإذا حيل بينها وبين اآلذان والقلوب تحولت إلى نجوى وضراعة‬
‫وأنس باهلل وتسليم بقضائه ‪:‬‬

‫"واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو واآلصال وال تكن من الغافلين" ‪ ..‬وشهد‬
‫الصابرون في تأملهم وضراعتهم مآل أرض‪ ،‬رفض الحاكمون بأمرهم فيها أن يكون األمر والنهي والحكم هلل‬
‫وحده ‪ ..‬رأوا بقلوبهم ثم بعيونهم مصير "النعم" في غيبة "الال" والتمسوا تفسيرا لما يرون فأسعفهم كتابهم "وتلك‬
‫القرى أهلكناهم لما ظلموا ‪" .. "..‬إن هللا ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ‪...".‬‬

‫وكان للصابرين إزاء هذا الحدث الجلل موقف ثابت أن يمضوا في العمل هلل ‪ ..‬محتسبين ما لقوا عند ربهم ‪..‬‬
‫رافضين جزاء الحياة الدنيا‪ ،‬إال أن يكون فيضا من هللا ‪ ...‬آملين أن يتجدد شباب األمة بإسالمها ‪ ..‬وتنهض برسالة‬
‫"الال" تتحدى بها جيوش الظالم الزاحفة وخفافيشه المتنطعة ‪..‬‬

‫وهتاف قلوبهم ونشيد صدورهم ونجوى نفوسهم ‪" ...‬يا قومنا أجيبوا داعي هللا وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من‬
‫رحمته ويغفر لكم ‪ "...‬واستقامت حياتهم على أسلوب سوي ‪ ..‬دمعة متحسرة بليل‪ ،‬وخطوة مباركة في نهار ‪..‬‬
‫وأمل في نصر أو لحاق بالصالحين من قومهم ‪..‬‬

‫"رجال صدقوا ما عاهدوا هللا عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديال" أما من ماتوا ‪ ..‬فلم‬
‫تكن لهم حياة من قبل ‪ ..‬كانوا حركة كاذبة وأسطورة خيالية ‪ ..‬امتأل فمها بالقول‪ ،‬تجعر وتنعر ‪ ..‬واتسعت أمعاؤها‬
‫لتأكل باسم الدعوة سحتا وظلما ‪ ..‬وغرقت في شهواتها ‪ ..‬وعلى سلم "الدعوة "صعدت إلى أعلى الكراسي‪ ،‬وعلى‬
‫سلم "الدعوة ركبت خيال من ذهب‪ ،‬وعلى سلم "الدعوة" صارت بوقا عاليا ‪ ..‬ولم يكن كل هذا إال عالمات فناء‬
‫وحشرجة أموات ‪..‬‬

‫وما أظنهم إال بناءين في مسجد "ضرار" ‪ ..‬رحم هللا الرجال ‪ ..‬رحمة من عند هللا ورحمة لما قدموا من فضل‬
‫وخير وما صبروا وصابروا وهم يجالدون طواغيت زمانهم ‪ ..‬ورحم هللا من تبعهم بإحسان ‪ ..‬ورحم هللا من "خلط‬
‫عمال صالحا وآخرسيئا" ورحم هللا من عاداهم من جهل وغباء ‪...‬‬

‫ورحم هللا آالفا قتلهم الظلم والظالمون ‪ ..‬قتلوهم بالسيف والقيد والجوع والمرض والحرمان واألسى ‪ ...‬ورحم هللا‬
‫شبابهم وشيوخهم ونساءهم ‪..‬‬

‫رحم هللا من قتل في فلسطين وفي القناة‪ ،‬وفي مصر ‪ ..‬وفي كل بلد عربي وإسالمي ‪..‬‬

‫ورحم هللا من قتله اليهود ومن قتله اإلنجليز ومن قتله الروس ومن قتله العرب "والمسلمون !!"‬

‫ورحم هللا رجاال مقيدين بأغالل يعيشون بين الموت والحياة‪ ،‬سجونهم قبور‪ ،‬وحريتهم سجون ‪ ..‬السيوف مسلطة‬
‫على رقابهم ‪ ..‬والخناجر تجتذ ألسنتهم ‪..‬ال يؤذن لهم بقول ‪ ..‬وال يسمع لهم إذا قالوا ‪..‬‬

‫يرصدهم أعداؤهم في غدوهم ورواحهم ‪ ..‬في بيوتهم وأعمالهم ‪ ..‬يتهددهم القتل والجوع ‪ ..‬غلقت دونهم أبواب‬
‫بيوتهم وأبواب أممهم فهم مشردون في األرض ‪..‬رحمهم هللا جميعا ‪ ..‬ورحم هللا أمة استذلها أذل إنسان ‪ ..‬يقتل‬
‫أبناءها ويستحيي نساءها‪ ،‬وينكل بصغارها وكبارها ‪..‬‬

‫ذبتهم الدنيا عن وجهها فألقوا بأوساخهم في أرضنا ‪ ..‬وأعانهم ويعينهم خلق كثيرون ليسوا من اإلنسان وال من‬
‫الحيوان في شيء ‪...‬‬

‫كل هؤالء يعيشون في أرضنا ويرتعون ويمرحون في ديارنا ونفوسنا ورءوسنا وهم في مأمن من حسن وسيد‬
‫وعودة ‪...‬‬

‫رحمها هللا ووهبها رجاال يخلفون الرجال يعيشون في أمتهم وألمتهم ‪ ..‬وعافاها ممن يقتل الرجال أو يذل الرجال‬
‫‪...‬‬
‫آل طفيل على أرض فلسطين‬
‫لو لم يحمل إلينا تاريخ التضحية والفداء إال قصة الطفيل بن عمرو الدوسي وابنه عمرو لكان في ذلك الكفاية فما‬
‫هي قصة األب واالبن ‪ ..‬األب رجل غني وسيد في قومه وشاعر أديب واالبن قطعة من األب ‪ ...‬إن قريشا كانت‬
‫حريصة على الحيلولة بين هذا الرجل وبين محمد خشية أن يسمع القرآن فيتذوقه فيؤمن به‪ ،‬فأحاطته بسياج قوي‬
‫من الرعاية‪ ،‬وسدت عليه جميع المسالك‪ ،‬حتى إنه كان يضع في أذنه خرقة فال يسمع حديث النبي ‪..‬‬

‫ولكن هذا األمر لم يطل على الشاعر المفكر ففتح أذنه ثم قلبه واستمع لآليات تنساب من قلب رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم فقال للرسول‪ :‬وهو يعلن إسالمه‪ :‬ما سمعت قوال قط أحسن من هذا وال أمرا أعدل منه ‪ ...‬ثم طلب من‬
‫الرسول أن يجعل له آية حتى يصدقه قومه إذا دعاهم لإلسالم ‪ ..‬فقيل إنه كان يرى له نور بين عينيه وبدأ الرجل‬
‫يعلن دعوته ‪ ..‬وكان أول من لقي أباه قال له ‪:‬‬

‫إليك عني يا أبتاه فلست مني ولست منك ‪..‬‬

‫فقال األب‪ .. :‬ولم يا بني ‪..‬‬

‫قال طفيل‪ :‬إني أسلمت واتبعت دين محمد ‪...‬‬

‫فقال األب‪ .. :‬ابني ديني دينك ‪...‬‬

‫ثم قام فاغتسل واستمع إلى القرآن من ابنه وأسلم ‪..‬‬

‫وجاء دور زوجته ‪ ..‬قال لها‪ :‬إليك عني فلست منك ولست مني ‪.‬‬

‫فقالت‪ :‬ولم بأبي أنت؟‬

‫فقال لها‪ :‬فرق بيني وبينك اإلسالم ‪.‬‬

‫فطلبت منه أن يعرض عليها اإلسالم‪ ،‬فأسمعها كالم هللا بعد أن تطهرت ‪ ..‬فأعلنت إسالمها ‪..‬‬

‫ولكن قبيلته تستعصي عليه فيعود للرسول يطلب منه أن يدعو له بالتوفيق في دعوته وهداية قومه فيدعو الرسول‪:‬‬
‫اللهم اهد دوسا وائت بها ‪...‬‬

‫ثم يوصيه‪ :‬اذهب إلى قومك فادعهم وارفق بهم ‪..‬‬

‫وتستجاب الدعوة ويستجيب لها قومه‪ ،‬ويذهب مع وفد من أصحاب الرسول ويحتفلون بإحراق "ذي الكفن" أكبر‬
‫صنم كان يعبده قومه ‪.‬‬

‫وينتقل الرسول إلى جوار ربه‪ ،‬ويرتد بعض الضعفاء فيجرد لهم أبو بكر حملة قوية‪ ،‬يكون من بينها طفيل فيقاتل‬
‫الرجل هو وابنه حتى يستشهد ويصاب ابنه بجروح ‪..‬‬

‫وفي اليرموك ‪ ..‬يندفع عمرو بكل إيجابية وصدق هزيمة يطارد فلول الروم إلى أن يسقط شهيدا على أرض‬
‫فلسطين ‪..‬‬

‫بهذا األسلوب وحده تحررت أرض هللا من "استعمار" المشركين واستغالل" اليهود ‪" ..‬واستبداد "األكاسرة"‬
‫وطغيان الرومان وبمثل هذا األسلوب سوف تتطهر من االستعمار واالستغالل واالستبداد والطغيان‪ ،‬فالكفر ملة‬
‫واحدة‪ ،‬وإن لبس أجمل ثياب الحضارة والمدنية‪ ،‬ووضع فوق رأسه تاج العلم والمعرفة ‪..‬‬
‫وأمسك بيده القنابل والصواريخ ‪ ..‬واإليمان لن توهنه مسيرة التاريخ ‪..‬لن تضعفه مسيرة أربعة عشر قرنا ‪..‬‬
‫والمؤمنون بوسعهم أن يعيشوا حاضرهم بإرادة آبائهم وأجدادهم فيتجدد فيهم عمرو وزيد وطفيل وحمزة وأم‬
‫عمار ‪..‬‬

‫والزمن دوار ‪ ..‬ودورة الفلك توشك أن تنتهي من حيث بدأت ‪ ..‬وما أظن أيامنا هذه إال قتامة ليل يوشك أن يبددها‬
‫صبح قريب ‪...‬‬

‫(تم بحمد هللا)‬

You might also like