Professional Documents
Culture Documents
ٌّ أنا
بحثٌ يف الهوية الواقعية واملتخيلة لدى السلفيني
٩٧٨-٩٩٥٧-٤٨٤-٤٠-٨
تقديم
آنيا فيلر-شوك
املديرة املقيمة ،مؤسسة فريدريش إيربت /مكتب األردن والعراق.
3
مــن ضمــن أطــر عمــل مكتــب فريدريــش إيــرت -عــان املتعــددة
اإلســام الســيايس لتســليط الضــوء عــى مختلــف اتجاهــات وتيــارات
الحــركات اإلســامية وتأســيس خطــاب تعليمــي يف هــذا املجــال .حيــث
أطلقنــا سلســلة منشــورات حــول اإلســام الســيايس يف 2007بهــدف
توفــر املعلومــات بهــذا املجــال تفــي املعايــر األكادمييــة وتكــون متاحــة
ومفهومــة يف الوقــت ذاتــه .ومنــذ ذلــك الوقــت ،نــرت مؤسســة
فريدريــش إيــرت مثانيــة كتــب يف هــذه السلســلةتم تداولهــا عــى نطاق
واســع .عــاوة عــى ذلــك ،يدعــو مكتــب فريدريــش إيــرت خ ـراء مــن
كافــة أنحــاء املنطقــة ملناقشــة التطــورات التــي يشــهدها العــامل العــريب
حاليــا فيــا يتعلــق باألح ـزاب والحــركات اإلســامية.
مؤسســة فريدريــش ايــرت مؤسســة سياســية أملانيــة ناشــطة يف األردن
منــذ عــام ،1986تعمــل عــى تعزيــز قيــم الدميقراطيــة االجتامعيــة يف
جميــع أنحــاء العــامل .تنظــم مؤسســة فريدريــش إيــرت أنشــطة عــى
مواضيــع مختلفــة مــع أكــر مــن 90مكتــب حــول العــامل بــدءا ً مــن
تشــجيع العمــل النقــايب وحقــوق العــال ،لتنميــة قــدرات املجتمــع
الوطنــي ،إىل تعزيــز حقــوق اإلنســان والعديــد مــن القضايــا األخــرى.
يــود فريــق فريدريــش إيــرت -عــان التعبــر عــن امتنانهــم ملؤلــف
هــذا الكتــاب ،الدكتــور محمــد أبــو رمــان ،الــذي يقــدم بخربتــه وعملــه
الــدؤوب يف مجــال اإلســام الســيايس مســاهمة ال تقــدر بثمــن ملناقشــة
هــذا املوضــوع املهــم.
وكــا نشــكركم قراءنــا األعــزاء عــى اهتاممكــم املتواصــل مبنشــوراتنا
ونأمــل أن يضيــف كتــاب «أنــا ســلفي» لكــم قيمــة ثاقبــة يف حقــل
املعرفــة بالحــركات الســلفية.
4
إهداء
7
١١
٣٣
٤٣
٥١ -١
٦١
٦٩ ًّ
٧٦ ّ ّ -١
٨٢
٨٧ ٍ
٩٥
١٠٥
١١٣
١٢٠ -١
١٢٧
١٣٤
١٤٥
١٥٣ ًّ
١٥٩ ّ ١-
١٧٢
١٨١
١٨٨
١٩٣
١٩٩
٢٠٢ ١-
٢١٤
٢٢٧
٢٣٣
٢٣٥ ّ ١-
٢٤٤
٢٥٢
٢٦١
٢٦٣ -٥اﳌﺮاﺟﻊ
مقدمة
ّ
( )1محمــد أبــو رمــان ،حســن أبــو هنيــة ،الحــل اإلســامي يف األردن :اإلســاميون والدولــة
ورهانــات الدميقراطيــة واألمــن ،مركــز الدراســات االســراتيجية يف الجامعــة األردنيــة
ومؤسســة فريدريــش أيــرت ،عــان ،ط.2013 ،1
11
بالرغـم مـن ذلـك بقـي هاجـس التكرار قامئـاً يف املرحلـة األوىل من البحث،
قبـل العـودة امليدانية الثانية لألوسـاط السـلفية األردنية ،إذ كان السـؤال الذي
يلـح علي هـو :ما الفرق فيام إذا ق ّدم الباحثون املجتمع السـلفي والسـلفيني أم
ّ
قـ ّدم السـلفيون هـم أنفسـهم تلك الصـورة؛ طاملـا أ ّن النتيجة يفترض أن تكون
واحـدة أو متقاربـة جدا ً ،وهي التعريف بالسـلفيني؛ جامعـات ومجموعات لها
أيديولوجيـات وأفـكار ،تقوم بـأدوار معينة عىل الصعيد املجتمعي والسـيايس؟!
مـع مـرور الوقـت بـدأ هذا الهاجس يـذوب ويتالىش ،حتى تبخّـر يف النهاية،
بعدما تشـكّلت لدي قناعتان أو رؤيتان رئيسـتان:
القناعـة األوىل :هـي أنّنـا لسـنا أمـام حالـة ثابتـة -جامدة ،فاملشـهد السـلفي
متغير ومتحـرك ،سـواء عىل صعيد تحـول األفكار ،أو حتى عىل صعيد املامرسـة
االجتامعيـة والسياسـية والثقافيـة ،أو حتـى على صعيـد مـدى صالبـة الحالـة
الداخليـة للتيـارات واملجموعـات السـلفية؛ بـل إحـدى املفاجـآت الشـخصية
يل بأنّنـي وجـدت معرفتـي بالجامعـات واملجموعـات السـلفية قـد تقادمـت،
بالرغـم مـن أنّـه مل متـض على الزيـارة األوىل ومتابعتـي البحثيـة لهـذه الحالـة
سـنوات معـدودة قليلة!
القناعـة الثانيـة :التـي بـدأت تتجذّر وتتع ّمق عرب خطـوات البحث واملقابالت
والحـوارات التـي أجريتهـا مـع السـلفيني أنفسـهم ،وتتمثّـل بأنّـه رغـم مـا قـد
يبـدو مـن تشـابه وتكـرار لبعـض املعلومـات حـول الجامعـات والحـركات
السـلفية األردنيـة بين كتـاب «الحـل اإلسلامي» وهـذا الكتـاب؛ إالّ أ ّن املنظور
املنهجـي مهـم جـدا ً يف حالتنـا هـذه ،إذ يضعنـا أمـام تفاصيـل أخـرى وخيـوط
جديـدة إلدراك الحالـة السـلفية وفهمهـا ،تعيـد صـوغ األسـئلة املطروحـة يف
دراسـتها ،فتقديـم التجربـة السـلفية ،بواسـطة أفرادهـا مـن الداخـل ،متنحنـا
قـدرة على فهم أكبر للبنيـة النفسـية واملجتمعيـة -الداخلية ،وآليـات التكيّف
والتفكير والتحليـل الـذايت ،وفهـم التحـوالت والتطـورات التـي تحـدث داخـل
الحالـة نفسـها بصـورة أكثر تعبيرا ً عـن أصحابهـا وأفرادهـا ،هـذا مـن ناحيـة.
12
مـن ناحيـة أخـرى ،ال تقـل أهمية عـن األوىل ،فإنّه وبالرغم مـن الك ّم الهائل
والكبير مـن األدبيـات والكتابـات واألبحـاث عـن الحالـة السـلفية ،بخاصـة يف
اآلونـة األخيرة ،مـع بـروز السـلفية بصورة سـافرة واضحـة عىل الركح السـيايس
واملجتمعـي العـريب ،وتسـليط األضواء اإلعالميـة عليها واندماجهـا يف التفاعالت
السياسـية السـلمية وغير السـلمية ،فإنّنـا نكتشـف أ ّن دراسـتنا للسـلفية مـا
تـزال بحاجـة إىل منظـورات منهجيـة أخـرى لفهـم ظاهـرة الصعـود واالنتشـار
السـلفي بصـورة أفضل وأعمـق ،ذلك يتطلب االقتراب ،ميدانياً ،أكثر من اللغة
السـلفية واملجتمـع السـلفي والروايـة الذاتيـة لهـذه الحـركات وهـؤالء األفـراد
عـن أنفسـهم وأن نسـتمع منهـم مبـارشة لإلجابـات املطروحـة بحثياً وسياسـياً
وإعالميـاً وحتـى مجتمعياً!
رمبـا هـذه الفجـوة بني السـلفيني والنخب السياسـية واإلعالميـة العربية هي
أحـد األسـباب املهمـة يف حالـة اإلقصاء والنفـي املتبادل التـي نالحظها يف اآلونة
األخيرة ،فالسـلفي ينظـر إىل السياسـة واملجتمـع والتيـارات السياسـية األخـرى
بوصفهـم منحرفين عـن الخط اإلسلامي املسـتقيم ،أو أعدا ًء وخصومـاً ،واآلخر
ينظـر إىل السـلفيني بوصفهـم ظاهـرة غريبـة مقلقـة ،متثّـل عائقـاً أمـام التق ّدم
والتطـور وضـد الحداثة بصورهـا املختلفة!
تبـدو املفارقـة ،هنـا ،أ ّن كالًّ من السـلفيني و«اآلخرين» يعيشـون يف مجتمع واحد،
ورمبـا يكونـون يف أرسة أو عائلـة واحـدة ،لكـ ّن لغة الحـوار واالتصـال والتواصل تكاد
تكـون شـحيحة يف كثير مـن األحيـان ،وكثيرا ً مـا التقيـت أصدقـا ًء لديهم أشـقاء ذوو
اتجـاه سـلفي يُبـدون عـدم القـدرة عىل فهمهـم والتفاعـل معهم ،بل واالسـتغراب ملا
يحملونـه مـن أراء ومـا ميارسـونه مـن سـلوك ،وهـي إشـكالية تختزل ،كام سـنتحدث
الحقـاً ،يف إحـدى زواياهـا الرئيسـة ،أزمـة الهويـة يف املجتمعـات العربيـة واملسـلمة،
التـي مـا تـزال تعاين مـن اضطراب وتوتـر يف صوغ املعادلـة اآلمنة – إن جـاز التعبري-
أي
بين الديـن والتراث ورشوط الحداثـة والعصر والعـامل الذي نعيـش فيه ،لك ّنهـا – ّ
أزمـة الهويـة -تبـدو يف أوضـح صورها مـع الحالة السـلفية ،التي تتقمـص دور حامية
2
الديـن والدفـاع عنـه يف مواجهـة «التحديـات» والتهديدات التـي تواجهه!
( )2انظر :محمد أبو رمان ،السلفيون والربيع العريب :سؤال الدين والدميقراطية يف السياسة
13
مث ّـة واقعـة حدثـت معـي خلال إعـداد هذه الدراسـة ع ّززت مـن أهميتها
لدي ،وأكّدت -بالنسـبة يل -ما ميكن تسـميته بـ«فجوة املعرفة» بني السـلفيني ّ
والرشائح االجتامعية والواسـعة ،وتحديدا ً النخب السياسـية واإلعالمية ،إذ كنت
ضيفـاً يف إحـدى املؤسسـات املدنيـة ،أق ّدم محـارضة مع مجموعة من الشـباب
وتدريبي لهـم ،لبناء الطاقـات والقدرات،
ٍّ إعـدادي
ٍّ املتميزيـن ،يف نهايـة برنامـ ٍج
وكان موضـوع املحـارضة عـن الحـركات اإلسلامية يف األردن؛ مـا يشـمل جامعة
اإلخوان املسـلمني والسـلفيني وحـزب التحرير واتجاهات أخـرى متعددة.
مـا حـاز على اهتمام هـؤالء الشـباب ،وكان مصـدر اسـتغرابهم يف الوقـت
نفسـه ،هـو الحديـث عن االتجاهات السـلفية؛ ووجـدتُ نفيس مضطـ ّرا ً ،خالل
املحـارضة ،أن أوضّ ـح أكثر مـن مـ ّرة ،بسـبب نبرات االسـتغراب ،بأنّنـي أقـ ّدم
هـذه املجموعـات وأفكارهـا ورؤاهـا ،كما هـي ،ال أنقـد أو أؤيـد ،وأتـرك ذلـك
ي بعضهـم بـأن أوضّ ح موقفـي أو رأيي الشـخيص تجاه رص عل ّ
للحضـور ،حتـى أ ّ
هـذه املروحـة املتعـددة واملختلفة مـن األيديولوجيات والحركات اإلسلامية يف
األردن.
أجبـت ،باختصـا ٍر شـديد ،أنّنـي ال أص ّنـف نفسي باإلسلامي ،وال بالعلماين
املعـادي للديـن ودوره ،وأجـدين قريبـاً مـن األفـكار التـي يطرحهـا املفكّـر
األردين ،فهمـي جدعـان ،وبخاصـة يف كتابـه «يف الخلاص النهـايئ :مقـال يف
وعـود اإلسلاميني والعلامنيين والليرباليين» ،وهـو قريـب مـن خـط «العلامنية
املحافظـة» ،الـذي بـرز خلال األعـوام املاضيـة يف تركيـا ،عبر حـزب العدالـة
والتنميـة التريك ،وبصـورة محـ ّددة مـا يتعلّـق بـدور الديـن يف املجالين العـام
والخـاص ،وبعبـارة جدعـان «امل ُركّـب اإلسلامي العلماين الليبرايل.»!3
14
تفاجـأت باعتراض أحـد الحضـور بـأ ّن ذلـك الـرأي مخالـف لإلسلام نفسـه،
فالقـرآن يقـول «اليـوم أكملـت لكـم دينكـم وأمتمـت عليكـم نعتمـي ورضيت
لكـم اإلسلام ديناً» (سـورة املائدة ،)3:فالعلامنية ليسـت من اإلسلام ،واإلسلام
ٍ
مكتـف ال يحتـاج إىل ليرباليـة وعلامنيـة ليكتمـل بها، نظـام قائـم بذاتـه ،وهـو
وفقـاً للمتحدث!
سـألت الحضـور فيما إذا كانـوا يتفقـون معه بهـذا الرأي ،فكان الجـواب :إ ّما
فقلـت :إذا ً ،دعونـا نترك باقي األسـئلة ومنـارس معاً هذه
ُ اإليجـاب أو الصمـت.
التجربـة الفكرية.
«دعنـي أتفـق معـك ،بـأ ّن اإلسلام نظـام متكامـل ،وأ ّن العلامنيـة ليسـت من
اإلسلام ،مـا يعنـي أنّنا يجب أن نحتكـم إليه ،ال إىل الفلسـفات الغربية ،ودعني
أطـ ّور معـك هـذا الـرأي لنصـل إىل نتائجـه املنطقيـة؛ فاللـه عـز وجـل يقـول
«ومـن مل يحكـم مبـا أنـزل اللـه فأولئـك هـم الكافـرون» (املائـدة ،)44 :ويف آية
أخـرى «الظاملـون» (املائـدة ،)45 :وثالثـة «الفاسـقون» (املائـدة ،)47:والله عز
وجـل يقـول «أفحكـم الجاهليـة يبغـون ومـن أحسـن مـن اللـه حكماً ٍ
لقـوم
يوقنـون» (املائـدة ،)50:واللـه يقـول «ومـا كان ملؤمـن وال مؤمنـة إذا قىض الله
ورسـوله أمـرا ً أن يكـون لهـم الخرية مـن أمرهم» (سـورة األحـزاب ،)36:وغريها
مـن آيـات تؤكـد على إلزاميـة تطبيـق الرشيعـة اإلسلامية وعـدم جـواز تركهـا
والتخلي عنهـا ،وعلى أ ّن أي حكـم بغير الشرع هـو خـارج امللّـة ،أي حكـم
طاغـوت وكفـر ،أليـس كذلك؟»
فقـال :نعـم ،سـألت :مـا رأي الحضـور؟ فأجابـوا :نعـم ،وبعضهم بقـي صامتاً،
مـن دون أن يعترض ،فسـألت :مـا هـو ،إذن ،الحكـم الرشعـي يف الحـكّام
والحكومـات العربيـة املعـارصة التـي ال تحكـم مبـا أنـزل الله؟ أليس هـو الكفر
والضلال؟!
15
صمـت يف القاعـة ،ثـم أيّـد بعضهـم ذلـك ،وآخـرون :قالـوا الحكـم
ٌ فسـاد
ليـس إسلامياً ،لكـن الحـكام ال نحكـم عليهـم؛ قلـت « إذا ً؛ أهلاً بكـم يف مربع
السـلفية الجهاديـة ،فقـد قطعتـم خلال دقائـق معـدودة نصف الطريـق ،ولن
نختلـف على الباقـي كثريا».
مـا أردت أن أخلـص إليـه مـن هـذه الواقعـة؛ أ ّن الطريـق إىل «السـلفية»
والصيغـة الجهاديـة الراديكاليـة منهـا ،ليـس طريقـاً صعبـاً ،وال غريبـاً ،عندمـا
بـدت عالمـات التعجـب على الحضـور ،يف البدايـة ،بـل على النقيـض مـن
ذلـك هـو طريـق سـهل للغايـة ،ميكـن أن نقـف على بدايتـه يف كل لحظـة من
يومنـا ،ونحـن نسـتمع إىل خطيـب الجمعـة ،الذي يتحـ ّدث عـن «حتمية الحل
اإلسلام» ،أو أسـتاذ الرشيعـة الـذي يـد ّرس مـادة «مذاهـب فكريـة معارصة»،
انحرفـت عـن املنهـج اإلسلامي ،أو معلّـم املدرسـة أو الواعـظ يف الجامـع ،أو
حتـى املهنـدس والطبيـب املتديّـن ،أو حتـى الكاتـب واملؤلف الـذي يؤكّد عىل
أ ّن املسـتقبل هـو لإلسلام ،وعـن إفلاس الحضـارات الغربيـة واملعـارصة روحياً
وقيمياً..الـخ.
ليـس السـلفيون هـم الغربـاء أو املسـتغربني ،بـل ال نبالـغ إن قلنـا أ ّن
متوسـعة مـن «التسـلّف» يف العـامل العـريب ،وإذا كانـت هنالـك حالـة ممتـدة ّ
السـلفية مبثابـة الثقافـة الدينيـة السـائدة يف كثيرٍ مـن دول الخليـج ،فهـي –
اليـوم -حالـة قامئـة قويـة منتشرة يف املجتمعـات العربيـة األخـرى أيضـاً ،فيام
تعـاين «العلامنيـة» ومثقفوهـا مـن الرتاجع واالنحسـار مع امل ّد اإلسلامي ،الذي
بـدأ يأخـذ شـط ٌر كبي ٌر منـه يف األعـوام املاضيـة «طابعـاً سـلف ّياً».
رمبـا يذكّرنـا هـذا «املـ ّد السـلفي» بعبـارة طريفـة ألحـد شـيوخ السـلفية
يف مصر ،وهـو أبـو إسـحاق الحوينـي ،عندمـا اسـتهجن اسـتغراب اإلعالميين
والنخـب املثقفـة يف مصر مـن هـذا الحضـور السـلفي ،بعـد ثـورة 25ينايـر
،2011إذ قـال «يسـألوننا أيـن كنتـم من قبل؟! جوابنا لهم أنكـم كنتم يف زحل،
ومل تكونـوا تـرون النـاس يف األسـفل!». 4
16
ليـس األمـر بحاجـة إىل كبير عنـاء إلثباتـه! فلـم يكـن قـد مضى على
تأسـيس حزب النور السـلفي سـوى بضعة أشـهر ،حتى خاض السـلفيون معركة
االنتخابـات الترشيعيـة املرصيـة ،وكسروا حزبـاً عريقـاً ،مثل حـزب الوفد الذي
كان أحـد أكبر األحـزاب املرصيـة وأقدمهـا ،5أو عندمـا ننظر إىل املشـهد العريب
اليـوم لنرى السـلفيني هـم األكثر فعاليـة يف الثـورة السـورية أو حتـى يف دول
عربيـة أخـرى .فالسـلفية ثقافـة قويـة يف العـامل العـريب متتـد إىل االتجاهـات
األخـرى ،حتـى أ ّن باحثـاً متخصصـاً يف الحركات اإلسلامية يف مرص ،وهو حسـام
متّـام ،ألّـف كتابـاً عن «تسـلّف اإلخـوان» ،أي انتشـار األفكار السـلفية يف داخل
جامعـة إسلامية عريقـة ممتـدة ،مثـل جامعـة اإلخـوان املسـلمني .6ومـا علينا
مالحظتـه هنا أ ّن االنتشـار ليس للسـلفيني بوصفهم جامعـات أو مجموعات أو
اتجاهـات تتخـذ العبـاءة السـلفية عنوانـاً لهـا ،بـل األهم مـن ذلك هو انتشـار
األفـكار والتصـورات والثقافـة السـلفية يف املجتمعات العربية واملسـلمة اليوم!
السـلفية ليسـت أمـرا ً مسـتحدثاً ،وال غـزوا ً دينيـاً ملجتمعاتنـا وثقافتنـا
العربيـة ،فهـي تيـار عريض لـه تراثه الفقهـي والفكري والدعوي ،ومعه ترسـانة
مـن الكتـب والفتـاوى والتنظير الدينـي غير املنقطـع ،عبر القـرون والعصـور
اإلسلامية .وهـي ليسـت فقـط اتجاهـاً فكريـاً -فقهيـاً ،وقبـل ذلـك عقائديـاً،
حقّـق انتصـارا ً كبيرا ً على االتجاهات اإلسلامية األخرى ،وانتشر يف أرجاء العامل
العـريب فقـط؛ فزيـادة على ذلـك ،متثِّـل السـلفية حالـة معـارصة لهـا حضورها
امللحـوظ يف مختلـف مناحـي الحيـاة العربيـة!
مه ّمـة هـذه الدراسـة ،إذن ،االقتراب مـن «املجتمـع السـلفي» وتقريبه إىل
القـارئ مـن خلال روايتـه الذاتيـة ،عبر منهـج يقـوم – أساسـاً -على املقابالت
الخاصـة مع شـخصياته وأفـراده ،من ينتمون إليه ويتب ّنون السـلفية ،ليس فقط
معرفيـاً ،بـل حتـى سـلوكياً وثقافياً .فنحن أمـام اتجاه يزاوج بين الفكر والثقافة
والسـلوك واملامرسـة ،يتق ّمـص السـلفية يف قيمـه العليـا ،ومواقفـه ،وأفـكاره،
( )5املرجع نفسه ،ص.127-119
( )6حســام متــام ،تســلف اإلخــوان :تــآكل األطروحــة اإلخوانيــة وصعــود الســلفية يف جامعــة
اإلخــوان املســلمني ،مكتبة االســكندرية ،ط.2010 ،1
17
ويربـط مـا بين الدينـي -على املنهـج السـلفي وتفاصيل حياتـه اليوميـة .فهذا
املنهـج هـو الـذي يحكـم رؤيـة السـلفي لنفسـه ولتيـاره وللمجتمـع والدولـة
واملجتمعـات العربيـة واملسـلمة كافـة ،التي تدخل يف نطاق «األمة اإلسلامية»،
يف الرؤيـة السـلفية ،وكذلـك يف رؤيتـه للعـامل واملذاهـب املختلفة!
18
نطاق الدراسة ومجالها
مل يقـع اختيارنـا– بالضرورة -يف املقابلات على الشـخصيات املؤث ّـرة
واملشـهورة والنافـدة يف التيـار ،أو بعبـار ٍة أخـرى مل نهتـم بـأن نختـار القيـادات
املعروفـة ،فليـس ذلـك مقصـود الدراسـة ،بـل تع ّمدنـا ،قـدر اإلمـكان ،االبتعاد
عـن ذلـك لتتـاح لنـا فرصـة التعـ ّرف عىل تجـارب إنسـانية مـن الحيـاة اليومية
قـ ّررت االلتـزام بالسـلفية ومتثّلهـا يف أفكارهـا وحياتهـا ومواقفهـا ،لنطّلـع على
التيـار مـن الداخـل ،فالقيـادات– عـادةً -تكـون قـد وصلـت مرحلـة متق ّدمـة،
تـراوغ يف التعريـف بتفاصيـل ال تريدهـا أو تقـوم بإخفائهـا ،إلظهـار قـد ٍر أكبر
مـن التامسـك يف سيرتها وصورتهـا أمـام اإلعلام واملجتمـع واآلخريـن!
ذلـك ال ينفـي أ ّن هنالـك شـخصيات قياديـة ونخبوية التقيناها يف الدراسـة،
لكـن ليـس ملكانتهـا هذه ،إنّ ا ملـا تضيفه رواياتهـا من أضـواء مع ّمقة عىل هذه
التجربـة السـلفية عمومـاً .وقـد التزمنـا بهـذه الدراسـة بتقسـيم السـلفيني يف
األردن إىل ثالثـة اتجاهـات رئيسـة :االتجـاه التقليدي واالتجاه الحـريك واالتجاه
نقسـم االتجاهاتالجهـادي ،وإن ك ّنـا يف الفصـل األول -النظـري مـن الدراسـة ّ
السـلفية العربيـة إىل أربعـة ،نضيـف إليهـا االتجـاه الجامـي ،لكـ ّن المتـزاج
التقليـدي بالجامـي يف األردن ،يف سـياق واحد ،عرب مدرسـة محمـد نارص الدين
األلبـاين ،فوضعناهما يف اتجـاه واحد.
مـن الضروري اإلشـارة املنهجيـة ،هنـا ،بالرغـم مـن أنّنـا أفردنا الفصـل األول
املوسـع عن مفهوم السـلفية وتطـوره ،واتجاهاتهـا املختلفة، النظـري للحديـث ّ
قسـمنا االتجاهـات السـلفية يف األردن ،وفقـاً لهـذه الدراسـة ،إىل ثالثـة
إىل أننـا ّ
اتجاهـات رئيسـة ،وحددنـا الشـخصيات والتجـارب ضمن هـذه االتجاهات؛ إذ
أ ّن هـذا التقسـيم مهـم وأسـاس يف هـذه الدراسـة لتشـكيل فهـمٍ أفضـل وأكثر
عمقـاً لألمثلـة والتجـارب املطروحـة ،مـع إدراك القواسـم املشتركة املوضوعيـة
الكبيرة ،فهـو يتيـح لنـا معرفـة الفـروق بين هـذه التجـارب وانعكاسـاتها عىل
19
الشـخصيات والهويـات السـلفية ،وهـي فـروق مؤث ّـرة بين مـن يتخـذ منهجـاً
جهاديـاً أو تقليديـاً أو حتـى حركيـاً ،كما سـتالحظون معي يف الفصـل الختامي
مـن الكتاب.
نـدرك أ ّن هـذا التقسـيم (إىل تقليـدي وجهـادي وحـريك) يواجـه اعرتاضـات
ومالحظـات موضوعيـة ،وهـو ليس ح ّديّـاً ،فهنالك نقاط تداخـل وتقاطع كبرية،
لك ّنـه أفضـل املتـاح لتمييز االتجاهات الفاعلة يف املشـهد السـلفي ،وال نتحدث
مـؤشات رئيسـة؛ أوالً أن تكـون هنالك هنـا إالّ عـن اتجاهـات ،تتمثّـل بوجـود ّ
ً
رؤيـة أيديولوجيـة ،أو شـبه أيديولوجيـة حاكمـة ملجموعـة معينـة ،وثانيـا أن
تعبر عنهـا .فلا
تتمثـل يف تيـار أو جامعـة أو مجموعـة أو مؤسسـات معينـةّ ،
تدخـل يف نطـاق الدراسـة تفاصيل أخرى مـن الحالة السـلفية ذات طابع فردي
أو ال تتخـذ األيديولوجيـا السـلفية عنوانـاً ،فهنالـك أفكار سـلفية منترشة وأفراد
يتبنـون أجـزا ًء كبيرة مـن التصور السـلفي ،ومجموعات داخل حركات إسلامية
أخـرى تتب ّنـى السـلفية ،لكنها تخـرج عن نطاق بحثنـا ،طاملا أنّهـا ال تتوافر عىل
املقومين الرئيسين السـابقني (تبنـي واضـح لأليديولوجيـا السـلفية ،ومتثّل ذلك
عبر مجموعـة أو جامعـة أو اتجـاه معني).
مـن يدخـل يف مجـال البحـث هـو مـن يعـ ّرف نفسـه بالهويـة السـلفية (أنا
سـلفي) حاليـاً ،أو سـابقاً (كنـت سـلفياً) ،لنـدرس تجربتـه الذاتيـة وروايتـه مع
السلفية.
20
المنظور المنهجي :سيسيولوجيا
الهوية
املنظـور املنهجـي الـذي اسـتفادت منـه هـذه الدراسـة ،و َحكَـ َم زاويـة
الرؤيـة متثّـل يف مسـاهامت علماء االجتماع والنفـس االجتامعـي ومقترب
حقـل الدراسـات الثقافيـة يف موضـوع «الهويّـات» ،ومـا طـ ّوروه مـن مفاهيـم
ومصطلحـات لدراسـة الهويـات االجتامعيـة سـواء باالسـتفادة من علـم النفس
وتوسـيع نظرياتـه نحـو املجتمـع والجامعـات أو علـم األنرثوبولوجيـا.7
مقاربـات «سيسـيولوجيا الهويـة» هـي األكثر مالءمـة لهذه الدراسـة ،8التي
أدق بحث السـلفي عن هويتـه الثقافية تبحـث يف الهويـة السـلفية؛ أو بعبـار ٍة ّ
أصبحت سـلفياً؟ كيف رصتُ
ُ واملجتمعيـة والسياسـية :مـن أنـا؟ من هـو؟ ملـاذا
سـلفياً؟ متـى التزمـت بذلـك؟ ماذا يعنـي أنّني سـلفي؟ كيف تطـ ّورت تجربتي
مـع السـلفية؟ مـا هـي رؤيتـي للـذات واآلخريـن؟ مـن هـي الجامعـة التـي
أنتمـي إليهـا؟ كيف أرتّـب انتامءايت الشـخصية والفكرية واملجتمعيـة والثقافية
والسياسـية ،هـل التزامـي بالسـلفية هـو الـذي يحـ ّدد معاييري االجتامعيـة
والسـلوكية والسياسـية أم العكـس؟ ..الخ..
( )7ملزيــد مــن التفصيــل حــول املنهجيــة االجتامعيــة النقديــة العابــرة لالختصاصــات ،انظر:
البحــث النقــدي يف العلــوم االجتامعيــة ،مداخــات رشقيــة ــــ غربيــة عابــرة لالختصاصــات،
تحريــر :روجــر هيكــوك وآخــرون ،معهــد ابراهيــم أبــو لغــد للدراســات الدوليــة ــــ جامعــة
بــر زيــت ،ومعهــد علــم اإلنســان ــــ األكادمييــة النمســاوية للعلــوم ،الطبعــة األوىل،2011 ،
ص 7ــ .57
( )8انظــر حــول تطــور مفهــوم الهويــة وإشــكالياته يف الدراســات االجتامعيــة :كاتريــن
هالبــرن ،مفهــوم الهويــة وإشــكالياته ،ترجمــة الدكتــور إليــاس بلــكا ،مجلــة الكلمــة ،ع،46
شــتاء 2005وميكــن ق ـراءة املقــال عــى الرابــط التــايل:
http://www.kalema.net/v1/?rpt=587&art
21
سـاعدنا منظـور سيسـيولوجيا الهويـة ،أيضـاً ،عىل إدراك طبيعـة العالقة بني
الفـرد والجامعـة أو املجتمـع السـلفي ،الـذي ينتمـي إليـه ،فالهويـة تتكون من
مجموعـة مـن العوامل ،التي متنح اإلنسـان عىل الصعيديـن الفردي واملجتمعي
روابـط مـن الشـعور بالوجـود واالنتماء واملصير املشترك ،وهـو شـعور يضمن
اسـتمرارية الجامعـة ،ويحمـي كيانهـا ،فحينما يختفـي هـذا الشـعور تبـدأ
الجامعـة يف مواجهـة مصير التفـكك؛ فاملفهـوم السيسـيولوجي للهويـة قائـم
على تعريـف ومتثـل الجامعـات لنفسـها وصيـغ فهمهـا للروابـط التـي تقيمهـا
مـع غريهـا ،وملـا تعتقده مـن طبيعـة كينونتها؛ أي مـا ميثل بالنسـبة لها رضورة
لوجودهـا ،إذ ال تسـتمد الهويـة كينونتهـا مـن ذاتهـا فقـط ،بل من املفـارق لها
أيضـا؛ أي مما ينفصـل عنهـا وليـس فقـط مما يتصـل بهـا ،ومـن ثـم ال معنـى
ملطلـب الهويـة مبعـزل عـن التميز واالختلاف اللذيـن ميثلهام اآلخـر ،إذ تلعب
املسـافة بين األنا واآلخر دورا يف وعي الهوية ،سـواء يف انغالقهـا أو انفتاحها؛ إذ
ال تتحقـق للهويـة توازناتُهـا مـن خالل الـذات فقط ،بل أيضا من خلال اآلخر.9
اعتمدنـا يف املنظـور املنهجـي على دائـرة مـن املفاهيـم والفرضيـات التـي
تسـاعد على صـوغ األسـئلة املتعلقـة بالهوية عبر املـؤرشات اإلجرائيـة التالية:
أوالً -السـلفية بوصفهـا «تأكيـدا ً على الهويـة» كآليـة دفـاع يف مواجهـة
«العوملـة» وتحـ ّدي الحداثـة وضغوطـات العـامل املعـارص ،مبـا متليـه مـن قيـم
وثقافـة وسـلوكيات تقتحـم املجتمعـات التقليديـة وتضعهـا يف مواجهـة أسـئلة
مربكـة وقاسـية .فالسـلفية تنـدرج يف إطـار «النمـوذج التقليـدي» حين تدرك
الـذات السـلفية اآلخـر كــ «غريـب» ،على خلاف «النمـوذج الحديـث» الذي
ينظـر لآلخـر كــ «مثيـل» .10وتكـ ِّون السـلفية صـورة عـن اآلخـر ،مشـحونة
بالـدالالت والرمـوز واملعـاين ،وقبـل ذلـك تكـ ِّون صـورة عـن الـذات تعتبر
مرجعيـة يقـاس بهـا اآلخـر.
( )9انظــر :محمــد الغيــاين ،الهويــة واالختــاف يف قضايــا الديــن واملجتمــع :الهـــوية هــي
االختــاف ،عــى الرابــطhttp://www.mominoun.com :
( )10باتريــك ســافيدان ،الدولــة والتعــدد الثقــايف ،ترجمــة املصطفــى حســوين ،دار توبقــال
للنــر ،الطبعــة األوىل ،2011الــدار البيضــاء ،املغــرب ،ص .24
22
واسـتفدنا ،يف هـذا املجـال ،مـن مسـاهامت داريوش شـايغان ،يف اسـتنطاقه
للتسـاؤالت واإلشـكاليات التـي تثريهـا الحداثة والثقافـة الغربيـة املهيمنة أمام
املجتمعـات التقليديـة واملحليـة ،إذ فتح مسـارا جديدا يف تعيين الهوية القامئة
على الديـن ،التي شـكّلت املنطلـق االيديولوجـي للحركات األصولية اإلسلامية،
فطرحـت الهويـة االسلامية بوصفهـا األسـاس املوحـد والجامـع ملجمـل األمـم
التـي تدين باإلسلام.
ينطلـق شـايغان يف مناقشـته «معضلـة الهويـة» يف البلـدان االسلامية مـن
طبيعـة العالقـة بالحداثـة الغربيـة وكيفيـة التعاطي معهـا ،فالنخب املسـيطرة
يف البلـدان االسلامية رأت يف الحداثـة الغربيـة مجمـل التقنيـات الحديثـة،
فنقلتهـا اىل مجتمعاتهـا واجـرت تحديثـا وليـس حداثـة.
الهويـة ،بحسـب شـايغان ،مبثابـة «غطـاء أيديولوجـي ارتـكايس تعتمـده
ظـل التحـ ّوالت الدوليـة ،وذلـك كبديـل للحداثـة املجتمعـات الضعيفـة يف ّ
الكونيـة» ،وهـي بالتـايل ،صـورة مغلوطـة للـذات ،فالرفـض لقـراءة الواقـع
االجتامعـي يرتجـم لـدى هـذه املجتمعـات برفـض التجديـد والتمترس عنـد
العقليـات القدميـة ،بالهـرب اىل اسـتعادة العصر الذهبـي للحضـارة العربيـة
واالسلامية يف القـرون الوسـطى ،واالكتفـاء مبـا جـرى انتاجـه يف تلـك الفترة يف
مياديـن العلوم والفلسـفة ،فالفكر الرجعي ،بحسـب شـايغان ،يتميـز بـ«عبادة
البدايـات» ،التـي تؤسـس النظـر إىل الحداثـة بوصفهـا مؤامـرة.11
اسـتفدنا ،كذلـك ،مـن قـراءة كلـود دوبـار ملاكـس فيبر ،إذ ينطلـق مـن
للتغيرات املجتمعيّـة كافة ،متل ّمسـاً فقـدان الذات/
ّ عمليـة الرصـد االجتامعـي
الفـرد املامثلات املاضيـة (الطبقة ،الحـزب الجامهريي ،النقابة ،)... ،أي الشـكل
املجتمعـي الـذي بات-على ح ّد تعبيره -قدمياً ومجروحـاً ومنكـرا ً وضعيفاً ،فلم
يبـق أمـام هـذه الـذات سـوى الّلجـوء إىل الهويـة «البدائيـة» الثقافيـة« ،األنـا
االسـمية» ،ومـا يـأيت مـن الروابـط «األوليـة» األرسيـة ،الجامعاتية.
( )11داريــوش شــايغان ،أوهــام الهويــة ،ترجمــة محمــد عــي مقلــد ،دار الســاقي ،بــروت،
ط ،1993 ،1ص.31-5
23
إذ يعتقـد دوبـار بأنـه ليـس لألزمـة «الهوياتيـة» ومـا يرافقهـا مـن اكتئـاب
وانهيـارت عصبيـة وحنين إىل املـايض ،و«انطـواء على الـذات» ،جـذور نفسـية
تعـود للطفولـة املبكـرة أو لتاريـخ الشـخص فحسـب ،بـل لهـا أيضـاً إطـار
اجتامعـي وأسـباب موضوعيـة يف التاريـخ الحديـث ،متمثّلـة بخسـارات ماديـة
واضطرابـات يف العالقـات وبتغيير يف الذاتيـة.12
وهـذا املنظـور سـاعدنا على تقديم أحد تفسيرات بروز السـلفية وصعودها
وتب ّنيهـا ،على صعيـد األفـراد (الهويـات الفرديـة) ،فالجامعـات (الهويـات
االجتامعيـة).
ثانياً -االسـتفادة من مفهوم «أزمة الهوية» ،كأحد أدوات -فرضيات تفسير-
صعـود االتجـاه السـلفي يف العـامل العـريب اليـوم ،أي أ ّن السـلفية مبثابـة شـعور
بالتهديـد للهويـة الدينيـة أو الثقافيـة ،أو هـي ر ّد فعـل على «مرحلـة صعبـة»
متـر بهـا مجتمعـات أو أفـراد معينـون ،ومتثّل يف املحصلـة «تص ّدعـاً يف التوازن»
بين مكونـات متباينة ،سـواء كان هـذا التصدع ناجماً عن أسـباب اقتصادية أو
مجتمعيـة أو سياسـية ،أو حتـى عسـكرية ،كما يع ّرفها كلـود دوبار.13
ثالثاً -ترسـيم العالقة بني الفرد السـلفي والجامعة أو املجموعة السلفية التي
ينتمـي إليهـا ،بوصفهـا «الجامعـة املرجعيـة» أو الوحـدة االجتامعيـة املصغرة،
وتفاعلـه معهـا والـدور الـذي يقوم بـه ضمن هذا النسـق االجتامعـي ،وتفاعل
األفـراد السـلفيني ،الذيـن يشـكلون الجامعـات واملجموعـات السـلفية ،مـع
املجتمـع الـذي يحيـط بهـم ،ومالحظة كيف تؤث ّـر الجامعة السـلفية مبا تحدده
مـن مفاهيـم وأفـكار وقيـم على أدوار أفرادهـا وسـلوكهم تجـاه بقيـة األفـراد
واملجتمـع وموقفهـم مـن الدولـة والسـلطة .وقـد اسـتفدنا يف هـذا الجـزء مـن
مسـاهامت املقاربـة «التفاعليـة الرمزيـة» ،Symbolic Interactionism
ومدرسـة شـيكاغو تحديـدا ،ومسـاهامت أبـرز علامئهـا ،مثـل جـورج هربـرت
ميـد ،وإيرفين جوفمان وبيتر برجـور وهربـرت بلومر.14
( )12كلــود دوبــار ،أزمــة الهويــات :تفســر تحــول ،ترجمــة رنــدة بعــث ،املكتبــة الرشقيــة،
بــروت،ط ،2008 ،1ص.78-76
( )13كلود دوبار ،أزمة الهويات ،مرجع سابق ،ص.32-28
( )14انظــر :إيــان كريــب ،النظريــة االجتامعيــة مــن بارســونز إىل هابرمــاس ،مرجــع ســابق،
24
ٍ
فرضيـات رئيسـ ًة حـول مفهـوم الهويـة ،يف محاولـة طـ ّورت هـذه املقاربـة
تفسير الفعـل االجتامعي ،ضمـن األنسـاق االجتامعية ،عرب اسـتدعاء مفاهيم:
التفاعـل الرمـزي (عبر اللغة ،واملعـاين ،والصـور االجتامعية) ،والـدور ،الجامعة
املرجعيـة ،تأثير السـنني األوىل مـن حيـاة اإلنسـان على تطـوره ومراحلـه
املختلفـة ،وتعتمـد هـذه املقاربـة بصـورة رئيسـة على املالحظـة واالتصـال
املبـارش بـ«املبحوثين».15
أحـد املفاهيـم البـارزة يف الدراسـة يتمثّـل يف التفاعـل الرمـزي ،ومـا يعنينـا
هنـا هـو مـا طـ ّوره بعـض علماء االجتماع على هـذا املفهـوم مـن خلال
إدخـال «الصـور االنطباعيـة» لـدى الفـرد تجـاه الجامعـة واملجتمـع ،أي تأويل
الفعـل االجتامعـي لـدى األفـراد وفـق «تص ّورهم» لعالقتهم بالسـياق السـلفي
واملجتمعـي املعنـي ،16فال نكتفي بتوصيف السـلوك السـلفي ،بل نسـعى إىل ما
وراء ذلـك؛ كيـف يؤول السـلفي هذا السـلوك تجـاه جامعتـه واملجتمع بصورة
عامـة ،مـن خلال روايتـه الذاتية.
ساعدتنا هذه املقاربة عىل صوغ فرضيات ،تتمثل يف:
أ ّن الفـرد السـلفي يبنـي دوره وسـلوكه االجتامعـي تجـاه اآلخريـن ،العائلـة،
املجتمـع ،القـوى السياسـية واملجتمعية األخرى ،وفقاً ملا ميليـه عليه انتامؤه ،يف
أغلـب األحيـان ،ملجموعـة أو جامعـة أو حركة سـلفية ،فهو يقوم مبـا «يتص ّور»
ص.147-129
( )15انظــر حــول مقــوالت املدرســة التفاعليــة الرمزيــة ،إيــان كريــب ،النظريــة االجتامعيــة
مــن بارســونز إىل هابرمــاس ،ترجمــة :د .محمــد حســن علــوم ،مراجعــة :د .محمــد عصفــور،
سلســلة عــامل املعرفــة ،املجلــس الوطنــي للثقافــة والفنــون واآلداب يف الكويــت ،ع،244
نيســان ،1999ص ،147-129وانظــر كذلــك :كاتريــن هاليــرن ،مفهــوم الهويــة وإشــكالياته،
مرجــع ســابق.
( )16انظــر :غنــي نــارص حســن القريــي ،املداخــل النظريــة لعلــم االجتــاع ،دار صفــاء
للنــر والتوزيــع ،عــان ،ط ،2011 ،1ص.439-403
25
أنّـه مطالـب بـه من خالل هـذه الجامعة ،أو مـا تتوقعه الجامعـة منه ،ويؤول
سـلوكه وموقفـه مـن األشـياء واألشـخاص واآلخريـن ،ويبنـي روايتـه وفقـاً لهذا
االلتزام.
أ ّن التـزام السـلفي بهـذا املنهـج يف مرحلـة مبكّرة أكثر تأثريا ً ومتاسـكاً من تأثره
بـه يف مرحلـة متأخرة مـن عمره.
أهميـة املالحظـة واللقـاء املبـارش واملعاينـة يف اسـتنطاق الهوية السـلفية ،وهو
مـا قامـت بـه هـذه الدراسـة عمليـاً مـن خلال االعتماد بدرجـة رئيسـة على
املقابلات املبارشة.
رابعـاً -املقارنـة بين الهويـة السـلفية ،التـي ميكن اسـتنطاقها مـن الفصول
التاليـة ،ومـا تقـوم عليـه الهويات الحديثة األخـرى ،من قيم ثقافيـة واجتامعية
وسياسـية ،وقـد اسـتفدنا من مسـاهامت عـامل االجتماع الكندي ،أريـك تايلور،
يف تحديـده لسمات الهويـة الغربيـة الحديثـة ،التـي تقـوم على ثالثـة أسـس
رئيسـة؛ اكتشـاف أو ابتـكار الرسيـرة الداخلية ،علمنـة املجتمع ،تنميـة الحياة
العاديـة ،17ومعـه مسـاهامت صموئيـل هانتنجتـون يف تصميمـه ملسـتويات
الهوية بسمات شـخصية ،وسياسـية ،واقتصادية واجتامعية وثقافيـة وإقليمية،
إذ تضـع لنـا إطـارا ً ّ
يرسـم أبعـاد الهويـة املختلفـة ،ويسـمح لنـا بالتمييـز بين
العوامـل املختلفـة املؤثـرة على تحديـد الهويات السـلفية .
18
26
خامسـاً -تحديـد سمات الهوية السـلفية ،فيما إذا كانت أقـرب إىل االنفتاح
أم االنغلاق ،الحـوار واالعتراف باآلخر أم اإلقصاء ،ويف مدى تب ّني قيم التسـامح
الدينـي واملرونـة يف التعامـل مـع الخالفـات الدينيـة والعقائديـة أم العكـس،
واسـتفدنا هنـا من مسـاهامت علماء االجتامع يف موضوع سياسـات الهوية بني
االعتراف واالنفتـاح أو االنغلاق واإلقصاء وتفريـخ العنف والكراهيـة ،ويف هذا
املجال تبرز مسـاهمة أمارتيا صن.19
ويسـاهم تشـارلز تايلـور ،أيضـاً ،يف تفسيره لظاهـرة انبعـاث الهويـات
الثقافيـة عامليـاً ،إذ يُشـ ِّد ُد على فكرة الحاجة اىل سياسـة االعتراف ،التي تعتني
بقضيـة الهويـة والتبايـن الثقـايف ،وهـو أول مـن تطـرق إىل مفهـوم «سياسـة
االعتراف العـام».
وتقـوم فكـرة «الحاجـة اإلنسـانية اىل االعتراف» على أ َّن هوياتنـا يتـم
حـد مـا باالعتراف أو بعـدم االعتراف ،وغالبـاً مـا تتشـكل بفعـل تشـكيلها إىل ٍ
سـوء اعتراف اآلخريـن .لذلـك فـإ َّن شـخصاً أو جامعـ ًة مـا سـتعاين مـن رض ٍر
حقيقـي وتشـوي ٍه خطير إذا مـا كـ ّون املجتمـع املحيط بهـم صـورة ُمختَزِلة ،أو
ُمهينـة ،عنهـم ونَقَلهـا إليهـم يف الوقـت ذاتـه.20
حاولنـا اإلفـادة مـن أداة اسـتطالع الـرأي لرفـد هـذه الدراسـة بقـدر كبير
مـن النماذج والحاالت السـلفية التي تسـاهم يف دعـم أداة املقابلة الشـخصية
يف اسـتنطاق الهويـة السـلفية ،لكـ ّن هذه املحاولـة منيت بهزمية كبرية ،بسـبب
صعوبـة تقبـل كثير مـن السـلفيني اإلجابـة على االسـتطالع ،فلـم ننجـح إالّ
باسـتيفاء مـا يقـارب 33اسـتبانة بصعوبـة بالغـة ،إذ رفـض كثير من السـلفيني
( )19أمارتيــا صــن ،الهويــة والعنــف :وهــم املصــر الحتمــي ،ترجمــة ســحر توفيــق ،سلســلة
عــامل املعرفــة ،املجلــس الوطنــي الثقافــة والفنــون واآلداب ،الكويــت ،ع ،2008 ،352ص-17
.53
( )20انظــر :د .حســام الديــن عــي مجيــد ،إنبعــاث ظاهــرة الهويــات :ق ـراءة يف منظــور
املف ِّكــر الكنــدي تشــارلز تايلــور ،عــى الرابــط:
http://www.sotakhr.com/2006/index.php?id=18620
27
اإلجابـة عليهـا ،لـدوا ٍع أمنية ،بالرغم من عدم وجود خانة لالسـم يف االسـتطالع،
فيما رفـض آخـرون ذلـك تحـت وطـأة «نظريـة املؤامـرة» التـي تسـيطر على
رؤيتهـم تجـاه نوايـا اآلخريـن والباحثين واإلعالم ،فيما كان األكرث تجاوبـاً ،وإن
كان بنسـبة ضعيفـة أيضـاً ،هـم السـلفيون الحركيـون ،ورمبا هـذا يعكس ،بحد
ذاتـه ،كما سـنذكر الحقـاً ،بعـض السمات والفروقات بين الهويات السـلفية!
28
تقسيم الدراسة
قسـمنا الدراسـة إىل فصـل نظـري يف البدايـة يقـ ّدم لنـا تعريفـاً بالسـلفية
ّ
وتطو ّرهـا عبر التاريـخ ،واملرحلة املعارصة منهـا ،واالتجاهات السـلفية الحالية،
وسـمة كل اتجـاه وأفـكاره الرئيسـة ،وحججه.
فيما تناولـت فصـول الدراسـة الرئيسـة منـاذج وأمثلـة على الحالة السـلفية
وقسـمناها وفقـاً لالتجـاه الـذي تنتمـي إليـه يف األوسـاط السـلفية،
األردنيـةّ ،
فتنـاول الفصـل الثاين السـلفية التقليديـة ،والثالث السـلفية الجهاديـة ،والرابع
السـلفية الحركية.
خصصنـا الفصـل الخامـس لظاهـرة التح ّول من السـلفية إىل األفـكار األخرى،
ّ
سـواء كانت إسلامية أو حتـى علامنية.
وضعنـا يف كل فصـل خالصـات ونتائـج تُقـ ِّرب إلينـا سمات «الشـخصية
فخصصنـاه
السـلفية» ،التـي تعكسـها تلـك التجـارب .أ ّمـا الفصـل الختامـي ّ
للخالصـات ومحاولـة اسـتنباط معـامل الهويـة السـلفية الكليـة ،والهويـات
السـلفية الفرعيـة املختلفة ،من خالل التجارب املدروسـة ويف ضوء مسـاهامت
علماء االجتماع يف موضـوع الهويـة.
29
وبعد؛
هـذه الدراسـة هـي محاولـة لسبر غـور املجتمـع السـلفي مـن الداخل ،عرب
«روايتـه الذاتيـة» ،وتعتمـد بدرجة أوىل ،عىل شـهادات السـلفيني أنفسـهم عن
تجاربهـم الشـخصية مـع هـذا الفكـر ،مـا ميكِّننـا مـن إدراك أكرث عمقـاً لطبيعة
الشـخصية السـلفية وطبائعهـا .لكـن ،مـن زاوي ٍة أخـرى ،متنحنا هـذه التجارب،
أيضـاً ،فرصـة االطلاع على توجهـات مجموعات واسـعة ومنترشة من الشـباب
العـريب واملسـلم ،اختـارت «الطريـق السـلفي» ،يف البحـث عـن هويتهـا ،يف
آتـون األزمـات السياسـية واملجتمعيـة الطاحنـة ،فنحـن وإن ك ّنا نقـ ّدم يف هذه
الدراسـة تعريفـاً بالهوية السـلفية ،فإننا نقترب ،أيضاً ،من الشروط والحيثيات
والعوامـل الفاعلـة واملؤث ّـرة التـي تدفـع بالشـباب العـريب إىل هـذا االتجـاه
الفكـري أو ذاك ،وتب ّنـي مواقـف أيديولوجيـة والتحـول بين األفـكار والتيـارات
املهمت الرئيسـة لهذه الدراسـة؛ أي
واملبـادئ املختلفـة ،ورمبـا تلـك هي إحدى ّ
فهـم الحالـة ضمـن رشوطهـا االجتامعيـة واملوضوعيـة والواقعية.
30
فصل متهيدي
من هم السلفيون؟..
مقدمة
ّ
الحالـة السـلفية ،عمومـاً ،ال تفتقـد– فقط -إىل التنظيـم العاملي أو اإلقليمي،
أو حتـى األشـكال الحركيـة املوحـدة املحليـة يف البلاد العربيـة ،بـل تتسـم
باختالفـات داخليـة واسـعة وكبيرة (أوالً) على «رشعيـة» مـن هـو السـلفي،
و(ثانيـاً) وهـو األهـم تجـاه تعريـف الواقـع السـيايس واملوقـف مـن العمـل
السـيايس ،واستراتيجيات التغيير واإلصلاح ،مـا بين مجموعـات يقـوم الفقـه
السـيايس لديهـا على «مبـدأ طاعـة ويل األمـر» (قبول حكـم املتغلـب) ،وفئات
أخـرى على مبـدأ «املفاصلـة» (تكفير الحـكام والخـروج عليهـم).
السـلفية ،كذلـك ،ليسـت متجانسـة يف األيديولوجيـات واألفـكار ،بـل هـي
توجهـات وتيـارات متعـددة متنوعـة ،متباينـة ،ويف كثير من األحيـان متضاربة
يف اتجاهاتهـا السياسـية ،فهـي مصطلح فضفـاض يختلف تعريفه بني الدارسين
والباحثين ولهـا دالالت متعـددة ،مـا يفـرض على أي كاتـب أو باحـث عندمـا
يتحـدث عـن «السـلفية» أن يحـ ّدد التعريـف املقصـود بصـورة واضحة.21
يف اللغـة ،ابتـدا ًء ،يعـود مصطلح السـلفية إىل جذر «السـلف» ،ويف املعاجم
العربيـة ،مـادة «سـلف» ،السـالف :املتقـدم ،والسـلفية ،الجامعـة املتقدمـون،
ويقصـد بهـا – عنـد إطالقهـا -العصـور األوىل مـن اإلسلام ،بفـرض أنّهـا متثّـل
الوجـه الناصـع والصحيـح مـن فهـم أحـكام الديـن وترشيعاتـه وتطبيقاتـه،22
( )21انظــر :عبــد الغنــي عــاد ،الســلفية الجهاديــة… أو الفرقــة الناجيــة ،مجلــة الدفــاع
الوطنــي ،بــروت ،ع1 ،63ينايــر ،.2008الرابــط التــايل:
http://www.lebarmy.gov.lb/article.asp?ln=ar&id=18036
( )22أنــور أبــو طــه ،الســلف ّية -اتجاهــات وقضايــا ،وقــد اســتفدنا مــن بحثــه القيــم يف
تصنيفــات الســلفية ،وكذلــك البحثــن القيمــن للدكتــور فهمــي جدعــان حــول معنــى
الســلفية ،يف كتابــه «املــايض يف الحــارض :دراســات يف تشــكالت ومســالك التجربــة الفكريــة
العربيــة ،املؤسســة العربيــة للدراســات والنرش ،بــروت ،ط ،1997 ،1ص .104-79والســلفية
حدودهــا وتحوالتهــا ،مجلــة عــامل الفكــر ،املجلــد الســادس والعــرون ،ع 3و ،1988 ، 4
ص .96-61
33
وفقـاً للحديـث النبـوي «خير القـرون قـرين ،ثـم الذيـن يلونهـم.23»..
يف أدبيـات الفكـر السـيايس ،ينظـر باحثـون إىل السـلفية بوصفهـا «حركـ ًة
إصالحيـة» تسـعى للخـروج مـن حالـة الركـود العلمـي واالنهيـار السـيايس
والسـيطرة االسـتعامرية ،مـن خالل الدعـوة إىل إحياء الرتاث اإلسلامي ،والعمل
على اسـتعادة صـورة اإلسلام النقيـة ،وتطهيره مـن املامرسـات التـي علقـت
بـه تاريخيًّـا ،مـن البـدع والعوائـد والرشك ،وترسـيخ القيـم األخالقية اإلسلاميّة
األصيلـة».24
يف املقابـل ،يع ّرفهـا آخـرون بأنّهـا «نزعـة احتجاجيـة على التطـورات التي
طـرأت عىل مسـتويني من املسـتويات األساسـية للدين ،الفكـري والتعبدي» .إذ
تبلـورت النزعـة االحتجاجيـة السـلفية تاريخيـا مـن دون أن تطلق عىل نفسـها
مصطلـح «السـلفية» ،فلا نجـد يف تاريـخ الفـرق واملذاهـب هذه التسـمية ،يف
مقابـل أسماء فـرق عديدة ،كالشـيعة والخـوارج واملعتزلـة واملرجئة.25
االختلاف على تعريـف السـلفية ال يقـف عند حـدود الباحثني والدارسين
يف العلـوم االجتامعيـة والسياسـية؛ إذ يحتدم السـجال داخل الخطاب السـلفي
نفسـه بين تياراتـه املتعـددة ،التـي ت ّدعـي متثيلـه وتزعم أنّهـا التعبير الرشعي
عنـه ،وتدخـل يف سـجاالت على «من هـو املمثل الرشعـي لهـذا الخطاب؟»
فالسـلفيون التقليديـون يع ّرفونهـا بصـورة مغايـرة متامـاً عـن الجهاديين–
على سـبيل املثـال ،-فعلي الحلبـي ،أحـد الشـيوخ السـلفيني يف األردن ،يُخـرج
القاعـدة والجهاديين مـن عبـاءة السـلفية ،ويرفـض توصيفهم بذلـك ،ويع ّرفهم
بـ»التكفرييين» ،وأحفـاد الخـوارج .26ويعـ ّرف السـلفية بأنّهـا «دعـوة العلـم
34
والعبـادة والعقيـدة ،والسـلوك واملعاملات ،والرتبية واألخلاق .»..ث ّم يحددها
أجـل مـن أن تكـون حزباً ،أو حركة ،أو تنظيامً سـواء رسيـا! أو علنيا!!»،
بأنهـا « ّ
فيبعـد املنهـج السـلفي عـن العمـل الحـريك والحـزيب .ويؤطرهـا بصـورة أكثر
«أجـل مـن أن (تحصر!) نفسـها بجهـاد! ،أو (تحشر!) طاقاتهـا ّ حسماً بأنّهـا
يف السياسـة» ،فيسـتثني السـلفية الجهاديـة والعمـل السـيايس مـن مفهومـه
للسلفية .27
يتجـاوز مقبـل بـن هـادي الوادعـي ،شـيخ السـلفية التقليديـة يف اليمـن،
اآلخريـن ليضـع تعريفـاً إجرائيـاً ّ
مفصلاً للدعـوة السـلفية ومنهجهـا يف كتابـه
«هـذه دعوتنـا وعقيدتنـا» ،يحـ ّدد فيـه موقـف السـلفيني مـن الحـكام (عـدم
الخـروج عليهـم) ومـن األحـزاب اإلسلامية األخـرى (رفـض العمـل السـيايس)،
ضمـن حزمـة كاملـة مـن النقـاط يف تعريـف االتجـاه السـلفي.28
على الطـرف اآلخـر ،نجـد أبـو محمـد املقـديس (عصـام الربقـاوي) ،وهـو
مـن أبـرز منظّـري السـلفية الجهاديـة ،يعـ ّرف املقصـود بهـذا املصطلـح بالقول
«السـلفية الجهاديـة تيـار يجمـع بين الدعـوة إىل التوحيـد بشـموليته والجهاد
ألجـل ذلـك يف آن واحـد ،أو قـل هـو تيـار يسـعى لتحقيـق التوحيـد بجهـاد
الطواغيـت ..فهـذه هـي هويـة التيار السـلفي الجهـادي والتي متيزه عن سـائر
الحـركات الدعويـة والجهاديـة ،»..ثـم ينتقـد السـلفية التقليديـة متهماً إياهـا
بأنهـا تركـز على مـا يسـمى بــ«رشك القبـور» وتبتعـد عـن الواقـع السـيايس
الحـايل ،أو مـا يسـميه بــ»رشك القصـور» (أي الحـكام والترشيعـات املخالفـة
للرشيعـة اإلسلامية ،والتعـاون مـع الغرب مبـا يناقض عقيدة الـوالء والرباء لدى
السـلفيني) ،إذ يضيـف « ..بعـض الحـركات السـلفية تقـزم وتحصر دعـوة
الســلفية :دعــوة اإلميــان واألمــن واآلمــان املنهجيــة العلميــة الرتبويــة ،وكشــف اآلثــار
التدمرييــة لألفــكار التكفرييــة ،منشــورات منتديــات «كل الســلفيني» ،عــان ،ط،2011 ،1
ص.20-12
( )27املرجع السابق ص .40-39
( )28مقبــل بــن هــادي الوادعــي ،هــذه دعوتنــا وعقيدتنــا ،دار اآلثــار ،صنعــاء ،ط،2002 ،1
ص.17-9
35
التوحيـد على رشك التامئـم والتولـة والقبـور ،وال تتعـرض مـن قريـب أو بعيد
إىل رشك الحـكام واملرشعين والقوانين والقصـور ،بـل قـد تكـون ممن يسير يف
ركاب الحـكام ويعمـل عىل تثبيت عروشـهم ،كما أن بعض الحـركات الجهادية
تؤطـر جهادهـا وتحصره يف منطلقـات وطنيـة ،وترفـض رفضـا جازمـا وحاسما
أن تتعـدى بجهادهـا حـدود الوطن..فالتيـار السـلفي الجهـادي يخالـف هؤالء
29
وهـؤالء ومـن أجـل ذلك فهـو يدعـو إىل التوحيد بشـموليته ويف كل مـكان»..
هـذا االشـتباك واالختلاف حـول مفهوم السـلفية وتعريفها نظريـاً وواقعياً
هـو مـا دفـع يف السـنوات األخيرة باحثين إىل إضافـة وصـف ثـانٍ للتمييـز بني
الحركات والدعوات السـلفية؛ كأن يقال السـلفية العلمية ،التقليدية ،املحافظة،
املدرسـية أو املنظمـة ،الحركيـة ،اإلصالحيـة أو الجهادية...الـخ .فضلاً عـن أ ّن
السـلفية تكتسـب مسـميات وأوصـاف مختلفـة بحسـب الدولـة التـي تنتشر
فيهـا ،ففـي املغـرب هنالـك السـلفية العلمية والجهاديـة ،ويف الجزائر السـلفية
العلميـة ،ويف مصر سـلفيات علميـة وحركية ،ويف السـعودية السـلفية العلمية
واملدخليـة مقابـل تيـار الصحـوة ،ويف اليمن الحركيـة والوادعيـة ،وهكذا.
بالرغـم مـن هـذه الخارطـة الفكريـة املتشـعبة واملتداخلـة ،ميكننـا التمييـز،
عمومـاً ،اليـوم بني اتجاهات رئيسـة يف السـلفية املعارصة ،عىل األقل يف املشـهد
السـيايس العريب:
-االتجـاه األول؛ هـو الخـط املحافـظ أو العلمـي والدعـوي ،وقـد اختـار
الدعـوة والتعليـم ورفـض مبـدأ املشـاركة السياسـية ،مركـزا ً جهـوده على مـا
يعتبره تصحيحـاً للجوانـب العقائديـة والعلميـة والـرد على العقائـد واألفـكار
التـي يعتربهـا منحرفـة ،بصـورة رئيسـة عىل الفرق اإلسلامية األخرى (الشـيعة،
املعتزلـة والخـوارج) ،ويف داخل املجتمع السـني عىل العقائـد والفرق الصوفية،
واألشـاعرة واملاتريديـة ،وهـي يف أغلبهـا خالفـات دينيـة ،ذات طابـع عقائـدي.
( )29انظر :حوار مع أيب محمد املقديس عىل موقعه الرسمي منرب التوحيد والجهاد ،الرابط
التايل:
http://www.alsunnah.info/r?i=j37307wg
36
ميثـل هـذا الخـط بدرجـة واضحـة ،يف السـعودية كل مـن عبد العزيـز بن باز
ومحمـد بـن صالـح العثيمين ،ويف املغـرب رئيـس جمعيـة الدعـوة إىل الكتـاب
والسـنة محمـد بـن عبـد الرحمـن املغـراوي ،وقريـب مـن هـذا الخـط الشـيخ
نـارص الديـن األلبـاين يف األردن ،وجمعيـة أنصـار السـنة املحمديـة يف مرص.
-االتجـاه الثـاين؛ يقـف على ميين الخـط األول سياسـياً ،وهـو أكثر تشـددا ً
ضـد األحـزاب اإلسلامية نفسـها ،وتقـوم مقاربتـه السياسـية عىل مبـدأ «طاعة
أوليـاء األمـور» ،ورفـض املعارضـة السياسـية لهـم ،بوصفهـا خروجـاً بالكلمة أو
بالسـيف ،ويتخـذ دومـاً موقـف االنحيـاز للحكومـات ضـد الحركات اإلسلامية
األخـرى ،وضـد املعارضـة السياسـية ،ويـكاد يكـون متخصصـاً يف الـرد على
اإلسلاميني اآلخريـن ،وتحديـدا ً السـلفيني الذيـن اختـاروا طريـق العمـل أو
الخطـاب السـيايس املعـارض.30
ميثـل هـذا الخـط بصـورة واضحـة يف السـعودية أتبـاع محمـد بـن آمـان
الجامـي ،31وربيـع بـن هـادي املدخلي ،ويف اليمـن مقبـل بـن هـادي الوادعـي
وأتباعـه ،وأتبـاع نـارص الديـن األلبـاين يف األردن ،ويف الجزائـر عبـد املالـك بـن
رمضـان الجزائـري ،32ويف مصر أمثـال محمـد سـعيد رسلان ،وأسـامة القـويص
( )30انظــر :حــول هــذا االتجــاه :مجموعــة باحثــن ،الســلفية الجاميــة :عقيــدة الطاعــة
وتبديــع املختلــف ،مركــز املســبار للدراســات والبحــوث ،ديب ،ط ،2012 ،1أغلــب فصــول
الكتــاب.
ـجيال ملحمــد آمــان الجامــي حــول كتــب ســيد قطــب وحســن البنــا ،الرابــط ( )31انظــر :تسـ ً
التــايل (عــى موقعه الرســمي االلكــروين):
http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=159 ،
وقارن ذلك بحديثه عن جامعة اإلخوان املسلمني ،الرابط التايل:
http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=157 ،
وموقفه من السلفيني الحركيني ،عىل الرابط التايل:
http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=164 .
( )32انظــر :حــول رؤيــة الرمضــاين للدعــوة الســلفية مقالتــه «املرحلــة الذهبيــة للدعــوة
الســلفية يف الجزائــر» ،منقولــة مــن كتابــه مــدارك النظــر ،عــى الرابــط التــايل:
http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=560848.
37
وهشـام البيلي وطلعـت زهـران وغريهم ،ويف لبنـان عبد الهادي وهبي وسـعد
الديـن كبي.
-االتجـاه الثالـث؛ على الجهـة املقابلـة متامـاً يقـف تيـار آخـر ،السـلفية
الجهاديـة ،تقـوم مقاربتـه السياسـية على تكفري الحكومـات العربيـة العلامنية
املعـارصة وتبنـي التغيير الراديـكايل واملسـلّح يف أوقـات معينـة ،وميثّـل خطاب
هـذا التيـار الحاضنـة األيديولوجية لشـبكة القاعـدة ،ويتامهى متامـاً مع خطها
السـيايس والحريك.
مـن أبـرز ممثليـه ،فكريـاً ،يف األردن ،أبـو محمـد املقـديس ،وأبـو قتـاده
الفلسـطيني ،ويف املغـرب محمـد بـن محمـد الفـزازي ،وحسـن الكتـاين ،ويف
اليمـن أنـور العولقـي ،ويف سـوريا أبـو بصير الطرطـويس ،وخرجـت مـن رحمه
األيديولوجـي الجامعـات اإلسلامية التـي أجـرت مراجعـات ،مثـل الجامعـة
اإلسلامية والجهـاد يف مصر والليبيـة املقاتلـة يف ليبيـا ،تخلـت مبوجـب هـذه
املراجعـات عـن العمـل املسـلح.
-أمـا االتجـاه الرابـع؛ ويقـف يف الوسـط هـو تيـار سـلفي يجمـع مـا بين
العقائـد واألفـكار الدينيـة السـلفية مـن جهـة ،والعمـل الحـريك واملنظـم أو
حتـى السـيايس مـن جهـة أخـرى ،ويؤمـن باإلصلاح السـيايس وسـلمية التغيري،
حتـى وإن اختلفـت املجموعـات التـي متثلـه يف تعريـف الواقـع أو املوقف من
الحـكام ،إالّ أنّهـا تتفـق على العمـل السـيايس ومرشوعيـة املعارضـة ،ورفـض
الخيـار املسـلح يف إدارة الصراع الداخلي.
مـن أبـرز منظـري هـذا االتجـاه وممثليـه؛ عبـد الرحمـن عبـد الخالـق يف
الكويـت ،محمـد بـن رسور زيـن العابديـن (أو االتجـاه الـذي يطلـق عليـه
الرسوريـة) ،ومـا يسـمى بتيـار الصحـوة اإلسلامية يف السـعودية ،وجمعيتـا
الحكمـة الخرييـة واإلحسـان يف اليمـن ،والجمعيـات السـلفية يف الكويـت
والبحريـن ،وداعـي اإلسلام الشـهال يف لبنان ،والشـيخ محمد بن عبـد املقصود
وتيـاره الفكـري يف مصر.
38
يف مقابـل هـذه االختالفـات الواسـعة يف تعريـف املوقـف السـيايس
واستراتيجيات التغيير واإلصلاح ،تـكاد تتفـق «السـلفيات املعـارصة» عمومـاً
على خطـوط عامـة يف العقيـدة اإلسلامية وعلى مراجـع فقهيـة -تاريخيـة
معينـة ،مـع اختلاف قـراءة تراثهـم وأدبياتهـم ،ابتدا ًء مـن بروز أهـل الحديث
يف العصـور الوسـطى ،مـرورا ً بابـن تيميـة ،وصـوالً إىل محمـد بـن عبـد الوهاب
يف العصـور الحديثـة.
مثة قواسـم مشتركة بني السـلفيني –عموماً -يف العقيدة والفقه ،سـواء كانوا
ضـد العمـل السـيايس أو معـه ،أو ضـد األنظمـة أو معها ،وهذه األسـس تتمثل
عموماً يف:
منـح الجانـب العقائـدي أهميـة كبيرة يف مواقـف السـلفيني املختلفـة ،حتـى
السياسـية ،فهـم تاريخيـاً ميثلـون دائـرة أهـل السـنة والجامعـة ،وبصـورة أكثر
تحديـدا ً أهـل الحديـث ،وقـد تشـكلت هذه املدرسـة وهـذا التيار عبر القرون
املاضيـة ،يف إطـار الـرد على الفـرق والجامعات األخـرى التي يعتربهـا منحرفة،
مثـل :الشـيعة والخـوارج واملعتزلة من خارج أهل السـنة ،والصوفية واألشـاعرة
مـن داخـل أهل السـنة.
يلتـزم السـلفيون جميعـاً برؤيـة عقائديـة ميتافيزيقيـة موحدة ،مثـل القول أ ّن
اللـه يف السماء ،لـه يـد وعين ..يثبتونهـا لـه مبـا يليـق بـه ،وال يؤول السـلفيون
ذلـك ،كما يفعل األشـاعرة مـن أهـل السـنة والجامعة.33
مينـح السـلفيون جميعهـم قضية التوحيد موقعـاً مركزياً يف خطابهـم ،والتوحيد
ليـس مقصـورا ً على املوقـف فقـط مـن غير املسـلمني ،بـل حتـى مـن الفـرق
اإلسلامية التـي يعتربونهـا منحرفة ،فجزء كبير من أدبياتهـم متخصص يف رفض
مظاهـر الشرك لـدى الصوفيـة ،مثـل الطـواف حـول قبـور األوليـاء ،واعتقـاد
«مجســمة» أو «مشــبهة» أي ّ ( )33لذلــك يتهــم األشــاعرة وغريهــم الســلفيني بأنّهــم
يجســمون اللــه ويشــبهونه بخلقــه ،بينــا الفــرق األخــرى تــؤول هــذه الصفــات ،فعنــد
الحديــث عــن يــد اللــه يقولــون هــي القــدرة ،ويــرون أ ّن اللــه ليــس يف الســاء ،فهــو ال
يحــده مــكان وال زمــان ،وهــي عمومـاً قضايــا جدليــة يف كتــب العقائــد والفــرق اإلســامية.
39
عصمتهـم ،أو التوسـل بالنبـي (محمد صىل اللـه عليه وسـلم) ،لكنهم يختلفون
اليـوم بين من يركز على (الرشك التقليدي) ،مـن الطواف حول قبـور األولياء،..
والشرك الحديـث اتخـاذ قوانين ورشائـع أو أيديولوجيـات تصـادم الرشيعـة
اإلسلامية وال تقـر بوجـوب تطبيقها.34
مفهـوم االتبـاع ال االبتـداع ،هـو أحـد املفاهيم الرئيسـة لدى السـلفيني جميعاً،
فهـم يؤكـدون على أهمية اتباع الرسـول (صلى الله عليه وسـلم) والتـزام فهم
الصحابـة األوائـل يف تلقـي أمور الديـن ،وعدم االبتداع أو اختراع طقوس دينية
جديـدة ،مثـل األناشـيد وحلقـات الذكـر واملوالـد النبوية لـدى الصوفيـة ،ومن
هنـا ينبـع اهتاممهـم الكبري بالسـنة النبويـة وتصحيح األحاديـث وبعلم الجرح
والتعديل.
تقديـم النـص على العقـل ،إذ يؤكـد السـلفيون على قيمـة النـص (القـرآن
والسـنة) ،ويقدمـون يف حـال حـدث تناقـض بين «رصيـح النـص» و«صحيـح
العقـل» ،وإن كان ابـن تيميـة يسـتبعد متامـاً حـدوث هـذا التناقـض ،إال أ ّن
محوريـة النـص تبـدو يف أغلـب خطابهـم الدينـي والفكـري ،مقارنـ ًة بتيـارات
أخـرى ،مثـل املعتزلـة مثلاً الذيـن يقدمـون العقـل على النـص ،وكذلـك الحال
عنـد ابـن رشـد.
التمسـك واالهتمام بـ«السـنة» النبويـة ،ويطلـق شـيوخهم وتالميذهـم على
أنفسـهم مصطلـح «األثـري» ،نسـبة لآلثـر وهـي الروايـات املنسـوبة للرسـول
صلى اللـه عليـه وسـلم ،ويظهـر هـذا االهتمام على الهيئـة الشـخصية ،مثـل
ارتـداء الثـوب العـريب وإطالق اللحيـة ،وارتداء النسـاء ٍ
للباس أسـود كامل ،وإن
كانـوا يختلفـون يف «عـورة املـرأة» بين مـن يشـمل للوجـه والكفين ،كما هـي
( )34يعتــر شــيوخ وعلــاء ســلفيون أ ّن تحكيــم القوانــن الوضعيــة البرشيــة التــي تخالــف
رشع اللــه ،أو عــدم الرجــوع إىل الرشيعــة يف الربملانــات ،ولــدى الحــكام هــو رشك باللــه
وخــروج عــن اإلســام ،أل ّن أحــد أبــرز معــاين توحيــد اللــه منــح حــق الترشيــع ،وهــو
أنــه املــرع ،وال يجــوز أن يخــرج أي رشع أو يخالــف مــا جــاء يف القــرآن والســنة ،مــن
هنــا يكفــر هــذا االتجــاه الســلفي عموم ـاً العلامنيــن والليرباليــن والشــيوعيني واألنظمــة
الحاكمــة اليــوم ،وهــي موضــع خــاف كبــر مــع اتجاهــات ســلفية أخــرى.
40
الفتـوى السـعودية ،أو مـن دونهما كما هـي فتـوى نـارص الديـن األلبـاين.35
خلال القـرون املاضيـة هيمـن هاجـس «الفرقـة الناجيـة» على السـلفيني
عمومـاً ،وأخـذ مـدى واسـعاً يف أدبياتهـم وأفكارهـم ،وهـو مفهـوم مسـتل من
الحديـث النبـوي «افرتقـت اليهـود عىل إحدى وسـبعني فرقـة ،كلهـا يف النار إال
واحـدة ،وافرتقـت النصـارى على اثنتني وسـبعني فرقـة كلها يف النـار إال واحدة،
وسـتفرتق هـذه األمـة على ثالث وسـبعني فرقة ،كلهـا يف النار إال واحـدة». ويف
لفـظ «على ثلاث وسـبعني ملـة» ويف روايـة قالـوا: يـا رسـول اللـه ،مـن الفرقة
الناجيـة ؟ قـال «مـن كان عىل مثـل ما أنا عليـه اليوم وأصحـايب». ويف رواية قال
«هـي الجامعـة ،يد اللـه على الجامعة».
وسـنجد أهـل الحديـث سـابقاً والسـلفيني الحقـاً يتناقشـون باسـتفاضة حول
مفهـوم الفرقـة الناجية ،بني السـلفية التقليديـة التي تريد اختـزال هذه الفرقة
يف السـلفية التقليديـة ،يف مواجهـة الفـرق اإلسلامية األخـرى قدميـاً (الشـيعة،
الخـوارج ،املعتزلـة ،القدريـة ،الجربيـة ،)..وبعضهـم يخـرج حتى طوائف سـنية
مـن املفهـوم ،مثـل (األشـاعرة واملاتريدية) ،فيما البعض اآلخر يحاول «توسـيع
الدائـرة» لتشـمل «أهـل السـنة جميعـاً» ،وهـو نقـاش ميتـد الحقـاً لـدى أتبـاع
الجامـي واملدخلي للتأكيـد على أ ّن السـلفية التـي ميثلونهـا هي فقـط «الفرقة
الناجيـة» ،أمـا األحـزاب واملناهـج اإلسلامية األخـرى ،فهي مـن الفـرق الضالة،
إذ يقـول ربيـع بـن هـادي املدخلي «إذا درسـنا واقـع املسـلمني ومناهجهـم
وتأريخهـم؛ أعنـي ال ِفـ َرق اإلسلامية نجـد أ َّن من يَصـ ُدق عليهم ال ِفرقـة الناجية
أو الطائفـة املنصـورة أو أهـل الحديـث إمنـا هـم الذيـن يلتزمـون هـذا املنهـج
السـلفي الصحيـح القائـم على كتـاب اللـه وعىل سـنة رسـول الله».36 َّ
( )35هــذا االختــاف حــول حجــاب املــرأة ،بالرغــم أنــه جــزيئ ،إال أنــه أخــذ مــدى أوســع
يف الســعودية ،بخاصــة أن هنالــك خطابـاً علامنيـاً آخــر وحركــة نســوية تطالــب بتخفيــف
القبضــة الســلفية الصارمــة عــى إدارة الدولــة وتعاملهــا مــع شــأن املــرأة.
( )36انظــر :تفريــغ محــارضة «الفرقــة الناجيــة لربيــع بــن هــادي املدخــي» ،عــى موقعــه
االلكــروين3 ،ســيبتمرب ،2009الرابــط التــايل:
http://www.rabee.net/show_des.aspx?pid=5&id=268&gid=0.
41
ويضيـف املدخلي منتقـدا ً اتجاهـات سـلفية أخـرى يف السـعودية «شـبابُنا
ط ِّيـب خدعـوه وسـ َّخ ُروه جنـدا ً أعمـى ملحاربـة الحـق ،هـذا مـن مكائـد أهـل
بشـباب
ٍ البـدع ،ومثـار ُخط َِطهـم املاكـرة الخبيثـة ،حتـى وصلـوا إىل هـذاَ ،ز ُّجـوا
منتظـر أن يكـون جنـدا ً لإلسلام ،وجنـدا ً لهـذه الدعـوة ،أصبح جندا ً لفكر سـ ِّيد
قطـب ،والبنـا ،واملـودودي أهـل البدع والضلال».37
يف املقابـل ،يـرى السـلفيون الجهاديـون أ ّن الفرقـة الناجيـة أو «الطائفـة
املنصـورة» هـم الذيـن يجمعـون ما بين التوحيد وااللتـزام بـه ،وبإقامة «حكم
اإلسلام يف األرض» ومـا بين املرابطـة والجهاد والدفاع عن املسـلمني يف مواجهة
االحتلال الخارجي.38
لإلحاطـة باملناظـرات والتطـورات التـي شـهدتها السـلفية املعـارصة ،وصـوالً
إىل ثـورة الربيـع الدميقراطـي العـريب سـنتناول يف هـذا الفصـل التمهيـدي أهم
األفـكار الدينيـة والفكريـة للسـلفية التاريخية عمومـاً ،وأبرز رموزها وشـيوخها
يف التاريـخ اإلسلامي ،واملراحـل الرئيسـة لتطـور هـذه املدرسـة ،وصـوالً إىل
تقديـم تصـ ّور عـام مبـديئ عـن العقائـد والتوجهـات السـلفية.
( )37املرجــع نفســه .وكذلــك رد ربيــع بــن هــادي املدخــي عــى ســلامن العــوده ،الــذي
حــاول أن يوســع مفهــوم الفرقــة الناجيــة إىل أهــل الســنة ،عــى موقــع املدخــي بعنــوان
«الهجــوم عــى أهــل الحديــث ووصفهــم بصفــات تخرجهــم مــن الفرقــة الناجيــة» ،الرابــط
التــايل:
http://www.rabee.net/show_book.aspx?pid=1&id=376&bid=21&gid=0
إذ يقول املدخيل «والذي نعتقده أنه ال يوجد خري يف غري السلفيني؛ إال وهو يف السلفيني
أكرث وأفضل؛ فال يخرج يشء من الخري عنهم».
( )38انظــر أبــو قتــاده الفلســطيني ،معــامل الطائفــة املنصــورة ،عــى موقــع التوحيــد
والجهــاد االلكــروين ،الرابــط التــايل:
http://www.tawhed.ws/r?i=jqmdm3ht.
42
-1-
أهل الحديث« ..الفرقة الناجية»
43
«أصحـاب الحديـث» رأوا أن «السـلف الصالـح» مـن أصحـاب النبـي
هـم األوىل واألكثر موثوقيـة يف تأويـل النـص وإضاءتـه ،وعلى «الخلـف» (أي
الالحقين مـن املسـلمني) الرجـوع إليهـم كأصـل ومصـدر يف الفهـم والسـلوك
واالقتـداء .وحا ّجـوا – أي أهـل الحديـث -بأن تيـار الرأي والعقـل املتأثر بالروح
اإلغريقيـة ميكـن أن يرضب األسـس واألصـول املنهجية التي يقوم عليها اإلسلام
جـل مـا جـاء بـه «أهـل الـكالم» والـرأي واملناطقـة والفالسـفة يف
نفسـه ،وأن ّ
إعـادة قـراءة الديـن وتفسيره ،والتوفيـق بينـه وبين التراث العاملـي اآلخـر،
بصـورة خاصـة اإلغريقـي -الفلسـفي ،ليـس إال محدثـات مـن خـارج اإلسلام،
وبدعـاً ال بـد مـن الوقـوف يف وجههـا والتصـدي لهـا يف سـبيل الحفـاظ على
«اإلسلام األصيـل» يف مواجهـة األمـور الدخيلـة.40
تطـ ّورت السـلفية يف مواجهـة تيـار الرأي واالعتزال خالل الحقبة التأسيسـية
مـع اإلمـام أحمـد بن حنبـل (241هــ) يف القرن الثالـث الهجـري .وتعترب محنة
القـول بخلـق القـرآن يف زمن الخليفـة العبايس املأمون (يف عـام 218هـ) لحظة
تاريخيـة حاسـمة يف بلـورة النزعـة السـلفية ،يف مواجهـة النزعـة العقليـة التـي
تقـوم على مبـدأ التأويـل بـدالً مـن التسـليم وااللتـزام بظاهـر التنزيـل ،حينها
رفـض اإلمـام أحمـد بـن حنبـل القول بخلـق القرآن ،كما هو مذهـب املعتزلة،
وتعـرض للتعذيـب واالعتقـال هـو وأتباعـه ،لكنـه ثبـت على قولـه ،ما أكسـبه
مكانـ ًة متميـزة ،لـدى أهـل الحديث سـابقاً والسـلفيني الحقاً.41
وسنشـهد يف القـرن السـابع الهجـري مـع نهايـة الخالفـة العباسـية ،وعقب
سـقوط بغـداد على يـد التتـار عـام ( 656هــ) ،ظهـور نزعة سـلفية ثانيـة أكرث
نضجـا ووضوحـا على يد أحمـد ابن تيميـه ومدرسـته (728-661هــ) إذ ح ّمل
«أهـل البـدع» (من الجهميـة والقدريـة والباطنيـة والصوفية والفالسـفة)
( )40انظر حول امتداد السلفية ألهل الحديث واملعاين املتعددة للمصطلح :محمد أبو
رمان ،حسن أبو هنية ،السلفية املحافظة :اسرتاتيجية أسلمة املجتمع وسؤال العالقة
امللتبسة مع الدولة ،مؤسسة فريدريش أيربت ،عامن ،2010 ،ص.27-17
( )41انظر :محمد عامرة ،تيارات الفكر اإلسالمي ،دار الرشوق ،القاهرة ،ط ،1997 ،2ص
.161-128
44
مسـؤولية السـقوط والتدهـور العـام الـذي منيت بـه الدولة اإلسلامية حينها،
وكـ ّرس جـزءا ً كبريا ً من سـجاالته الفكرية واملعرفية يف الرد عىل الفرق اإلسلامية
األخـرى ،ويف تظهير العقيـدة السـلفية وبنـاء النظريـة املعرفيـة السـلفية يف
الفقـه والفكر والسياسـة.
متثّـل حقبـة ابـن تيميـة تطـورا ً مهماً ،يف تشـكّل اإلطار العقائـدي واملعريف
للسـلفية ،إذ طفحـت تلـك املرحلـة بالرصاعـات داخل اإلسلام ،ما بين املدارس
املختلفـة سـواء اإلسلامية الكبرى (الشـيعة ،الخـوارج ،املعتزلـة والسـنة) أو
داخـل البيـت السـني (بين أهـل الحديـث واألشـاعرة واملاتريديـة) ،فج ّنـد ابن
تيميـة قلمـه لتوضيـح منهـج أهـل السـنة ،يف وجه التيـارات اإلسلامية األخرى،
ومـن هنـا اكتسـب أهميـة اسـتثنائية داخل املدرسـة السـلفية.42
أصبحـت كتـب ابـن تيميـه وفتاويـه ،ومدرسـته الفكرية :ابن قيـم الجوزية،
الذهبـي ابـن كثري وغريهـم ،مبثابة بوصلة فكرية للتيار السـلفي سـابقاً والحقاً،
إذ تزخـر مكتبـة ابـن تيميـة بكتـب ومجلـدات كاملـة يف الـرد على الفـرق
اإلسلامية األخـرى ،سـواء مـن خـارج السـنة ،مثـل الشـيعة والقدريـة ،كام هي
الحـال يف «منهـاج السـنة» ،أو حتـى توضيـح العقيـدة السـلفية ضمـن الدائرة
السـنية يف كتابـه «العقيـدة الواسـطية» ،وغريهـا مـن كتـب تصـب يف االتجـاه
نفسه .
بلغـت السـلفية التاريخيـة مـع ابـن تيميه أوج نضوجهـا واكتاملها؛ وتبلور
«املنهـج السـلفي» وحـددت معـامل الطريـق لكافة السـلفيني الذين جـاؤوا من
بعـده وانتسـبوا إىل السـلفية ،ومتثلـت السـلفية التاريخية عرب قـرون عديدة يف
طائفة واسـعة مـن العلامء.43
( )42انظــر :حــول دور ابــن تيميــة يف تطويــر املنهــج الســلفي يف :عبــد الغنــي عــاد،
الحــركات اإلســامية يف لبنــان ،إشــكالية الديــن والسياســة يف مجتمــع متنــوع ،دار الطليعــة،
بــروت ،ط ،2006 ،1ص.268-265
( )43مثــل :أبــو جعفــر الطحــاوي (321هـــ) ،وابــن بطــة العكــري الحنبــي (387هـــ) ،وأبــو
بكــر أحمــد بــن الحســن البيهقــي (458هـــ) ،ويف موجــة ثانيــة نجــد أبــا شــامة املقــديس
(665هـــ) ،وابــن القيــم الجوزيــة (751هـــ) ،وابــن رجــب الحنبــي (795هـــ) ،ويف مرحلــة
45
يف العصر الحديـث بـرزت السـلفية الوهابيـة ،وقـد خرجـت مـن رحـم
السـلفية التاريخيـة ،يف مطلـع القـرن الثامـن عشر وامتـدت إىل أوائـل القـرن
التاسـع عشر عىل يد الشـيخ محمد بن عبد الوهاب يف شـبه الجزيـرة العربية،
فدعـا إىل التوحيـد ،ورفـض فكـرة الحلول واالتحـاد (يف العقيدة الدينيـة) ،وأكّد
مسـؤولية اإلنسـان ،ومنـع التوسـل بغير اللـه ،والدعـوة لفتـح بـاب االجتهـاد،
ورفـض التبرك بقبـور األوليـاء والصالحين واألنبيـاء ،وأحيـى تـراث ابـن تيميـة
يف التوحيـد والعقائـد ،ودخـل يف صـدام شـديد مـع الفـرق اإلسلامية األخـرى،
وتحديـدا ً الصوفيـة يف شـبه الجزيـرة العربيـة.
يعـ ُّد كتيـب «التوحيـد» ملحمـد بن عبـد الوهاب ،مبثابة مرجع أسـايس لدى
أغلـب السـلفيني ،إذ يوضّ ـح فيـه أصـول العقيـدة السـلفية يف مواجهـة العقائد
والفـرق اإلسلامية األخـرى ،التـي تجيـز أعماالً وأقـواالً يراها ابن عبـد الوهاب
مناقضـة للتوحيـد ،وكُ ِتبـت ٌ
رشوح للكتـاب ،الـذي يُـد ّرس يف حلقـات السـلفيني
وجامعاتهم.
تأثـر بدعوتـه علما ٌء مـن شـتى أنحـاء العامل اإلسلامي .مـن أبرزهم :محمد
نـوح الغلايت يف املدينـة املنورة (1803-1752م) ،وويل الديـن الدهلوي يف الهند
(1762-1702م) ،ومحمـد بـن علي الشـوكاين يف اليمـن (1834-1760م) ،ثـم
شـهاب الديـن محمـود األلويس يف العـراق (1854-1802م) ،وعثمان بن فودي
يف إفريقيا (ولـد يف 1756م).44
وأصبحـت «السـلفية» مـع الحركـة الوهابيـة ذات داللـة اصطالحيـة عىل
اتجـاه معين وآراء مخصوصـة يف السـاحة اإلسلامية الحديثـة ،وتعترب السـلفية
الحقــة بــرز ابــن أيب العــز الحنفــي (792هـــ) صاحــب رشح «العقيــدة الطحاويــة» ،وهــو
الــرح الــذي أصبــح عمــدة الســلفية التاريخيــة واإلطــار املرجعــي ملقوالتهــا النظريــة
العقديــة.
( )44انظــر :ألــرت حــوراين ،الفكــر العــريب يف عــر النهضــة ،1939-1798ترجمــة كريــم
عزقــول ،دار نوفــل ،بــروت ،1997 ،ص ،50-48وقــارن ذلــك بـــ :أحمــد الكاتــب ،الفكــر
الســيايس الوهــايب :قـراءة تحليليــة ،مكتبــة مدبــويل ،القاهــرة ،2008 ،ص ،43-15وكذلــك بـ:
محمــد عــارة ،تيــارات الفكــر اإلســامي ،مرجــع ســابق ،ص .261-253
46
الوهابيـة مـن الناحيـة الدينية «دعـوة إصالحية تطهريية» تسـعى للحفاظ عىل
الهويـة عبر التمسـك بظاهـر النـص ،وتقـوم على فهـم «شـبه لفظـي» لـه يف
جوانبـه العقديـة والرمزية و الشـعائرية.
خاضـت السـلفية الوهابيـة حربـاً مع الطرق الصوفية ومامرسـاتها الدينية،
متّهِمـ ًة إياهـا بالشـعوذة والخرافـة داعيـ ًة إىل الرجوع إىل نقـاء التوحيد وصفاء
العقيدة اإلسالمية.
سياسـياً ،جرى تقاسـم املجال العام بني آل سـعود وآل الشيخ منذ تأسيسها،
وذلك بتويل آل الشـيخ للجانب الديني ،وآل سـعود للجانب السـيايس ،واسـتند
موقـف السـلفية الوهابيـة مـن السـلطة السياسـية على موقـف السـلفية
التاريخيـة العـام الداعـي إىل وجـوب طاعـة الحكام.
تأثير التـزاوج بين السـلفية الوهابيـة والحكـم السـعودي سـيظهر الحقـاً
بصـورة أكثر وضوحـاً يف سـبعينيات القـرن العرشيـن ،مـع الفـورة النفطيـة،
والتوظيـف املتبـادل مـن الطرفني ،فآل سـعود وظفوا السـلفيني لخدمة أهداف
الدولـة ،والسـلفيون جعلـوا مـن هـذه العالقـة محـددا ً للمجال العـام يف داخل
الدولـة لفـرض رؤيتهـم الدينيـة يف املجتمـع وعلى األفـراد.
هذه العالقة مل تقف عند حدود السـاحة الداخلية ،بل فاضت إىل السياسـة
الخارجيـة ،إذ سـاهمت السـعودية يف نشر الفكـر السـلفي يف أنحـاء متعـددة
مـن العـامل ،كما سـاعدت الثـورة النفطيـة يف توفير دعـم مـايل كبير لألنشـطة
واملؤلفات واملؤسسـات السـلفية التي توزعت يف دول العامل العريب واإلسلامي،
وحتـى يف الـدول الغربيـة ،لـدى األقليات املسـلمة هناك.
مـع نهايـة القـرن التاسـع عشر وبدايـة القـرن العرشيـن تبلـور مـا يسـمى
بالسـلفية اإلصالحيـة أو العقالنيـة ،وبالرغم مـن أنّها تأثرت بالسـلفية الوهابية
والتاريخيـة ،يف زوايـا معينـة ،وتحديدا ً بالعودة إىل املصادر اإلسلامية الرئيسـة:
القـرآن والسـنة ،ورفـض البـدع الدينيـة املنتشرة ،ومواجهـة اإلغـراق الصويف يف
االبتعـاد عـن الواقـع وعـن تحدياتـه ،إالّ أ ّن النسـخة اإلصالحيـة مـن السـلفية
47
ركـ ّزت على نبـذ التقليـد وفتـح البـاب لالجتهاد ،ورفـض التعصـب املذهبي.
وتزامـن ظهـور الحركـة اإلصالحية يف لحظة انهيار الدولة العثامنية وتفككها،
والدخـول يف مرحلـة االحتـكاك بالغـرب ،مـع بـدء املرحلـة االسـتعامرية التـي
اجتاحـت العاملني العريب واإلسلامي ،مما أث ّر عىل توجهات السـلفية اإلصالحية
واجتهاداتهـا وصبغهـا بالـروح العقالنيـة املنفتحـة ،مقارنـة بالطابـع الداخلي
للسـلفية الوهابيـة ،فأصبحـت إشـكالية «التقـدم والتأخـر» وقضيـة اإلصلاح
الدينـي الشـغل الشـاغل لـرواد املدرسـة اإلصالحيـة ،فزاوجـوا بين نزوعهـم
العقلاين الواضـح املتأثـر بالعلـوم واملعـارف الغربيـة الحديثـة وبين أسـس
السـلفية الوهابيـة ،مـن التوحيـد الخالـص ورفـض التقليـد والبـدع ،ودعـوا إىل
«تحريـر» النـص الدينـي مـن التعصـب املذهبي الـذي كان منتشرا ً يف املدارس
اإلسلامية الحديثـة التـي كانـت تصر على االلتـزام مبذهـب معين يف الفقـه
والفتـوى والتعليـم.
كل من جامل الدين األفغاين(-1838 عىل الرغم من االختالف حول نسـبة ٍّ
1897م) ،ومحمـد عبده (1905-1849م) إىل مصطلح السـلفية اإلصالحية ،نظرا ً
الختلاف طرحهما للعقيـدة الدينيـة ،عـن السـلفيني عمومـاً .إال أ ّن تلميذهما
محمـد رشـيد رضـا (1935-1865م) كان أقـرب مـن حيـث املنهـج العقائـدي
للسـلفية التاريخيـة ،يف بدايـة حياته ،وانحاز للسـلفية الوهابية يف مرحلة ثانية.
ويطغـى على دور السـلفية اإلصالحيـة االسـتجابة للتحـدي الغـريب الحديث
للعـامل اإلسلامي ،إذ كانـت تسـعى إىل إصلاح الواقـع اإلسلامي املتخلـف،
والعنايـة مبشـكلة النهضـة والتقـدم وتحقيقهما أكثر مـن اشـتغالها مبشـكلة
الهويـة اإلسلامية ،التـي تهددهـا الحداثـة الغربيـة الحديثـة.45
نـادت السـلفية اإلصالحيـة -التـي شُ ـغلت بنهضـة األمـة -بضرورة االقتباس
مـن الغـرب يف الصناعات والعلوم املفيـدة باعتبارها أصيلة يف اإلسلام ،ولحاجة
( )45انظــر :محمــد أبــو رمــان ،بــن حاكميــة اللــه وســلطة األمــة :الفكــر الســيايس للشــيخ
محمــد رشــيد رضــا ،وزارة الثقافــة ،عــان ،مــروع القــراءة للجميــع (مكتبــة األرسة
األردنيــة) ،2010،ص.13-9
48
األمـة لهـا ملواجهـة التحديـات األوروبيـة ،ومل تكتف بإصلاح العقيـدة الدينية،
أو توحيـد الداخـل على آراء محـدودة يف االعتقـاد والعبادات ومحاربـة البدع،
كما فعلـت سـلفيات أخرى ،بـل اندفعت بحامس يف معالجة شـؤون املسـلمني
السياسـية واالجتامعيـة املتدهورة.
يف مرحلـة الحقـة ظهـر مـا اصطُلـح على تسـميته بالسـلفية الوطنيـة يف
ُعبر عـن تلـك الحـركات الدينيـة التـي كان محـور حركتهـا
املغـرب العـريب ،وت ِّ
مقاومـة االسـتعامر الغـريب لبلـدان املسـلمني والتصـدي لـه ،وذلك مـن منطلق
التزامهـا مبفهـوم الجهـاد اإلسلامي ومرشوعيتـه لصـد العـدوان واالحتلال،
والسـعي إلقامـة دولـة إسلامية وطنيـة عقـب أفـول االسـتعامر وتحقيـق
االسـتقالل.
ومـن أبـرز رموزهـا عبـد الحميـد بـن باديـس (1940-1889م) وجمعيـة
«العلماء املسـلمني» يف الجزائـر ،وعلال الفـايس (1974-1910م) ،والشـيخ أيب
شـعيب الـدكايل (1937-1878م) وشـيخ اإلسلام محمـد بـن العـريب العلـوي
باملغـرب (1964-1880م).
جمعـت السـلفية الوطنيـة بين الهـم النهضـوي واإلصالحـي والقضيـة
الوطنيـة التحرريـة .وكان ملحمـد بـن العـريب العلوي األثـر البـارز يف تبلور هذا
االتجـاه يف املغـرب ،فلـم يكتـف مبحاربـة الطريقـة الصوفيـة املوالية لسـلطات
الحاميـة ،بـل عمـد إىل مقاومة الحامية الفرنسـية مبارشة بالتشـهري بسياسـتها،
واسـتنهاض الهمـم للوقـوف يف وجههـا ،علاوة على التحاقـه بصفـوف الثـوار
يف الريـف ،ومواصلتـه منـارصة القضيـة الوطنيـة التحرريـة ،على الرغـم مـن
املضايقـات التعسـفية التـي تعـرض لهـا.46
( )46انظــر ترجمــة محمــد بــن العــريب العلــوي املوقــع االلكــروين لحركــة التوحيــد
واإلصــاح املغربيــة 10 ،حزيــران 2010عــى الرابــط التــايل:
http://www.alislah.ma/200922-58-11-07-10-/item/14704-
%D985%%D8%AD%D985%%D8%AF-%D8%A8%D986-%%D8%A7%D9%
84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D98%A-%D8%A7%D984%%D8%B9%D9
84%%D988%%D98%A.html.
49
تحولـت السـلفية يف املغـرب على يـد بـن العـريب العلـوي مـن سـلفية
تاريخيـة تقليديـة ،وهابيـة الطابـع -تبناهـا املخـزن (نظام الحكـم يف املغرب)
كأيديولوجيـة دينيـة -إىل سـلفية وطنيـة مناضلة كونت الجيـل األول من رجال
الحركـة الوطنيـة املغربيـة ،وقدمـت لهـم األسـاس الفكـري العـريب اإلسلامي
لتطلعاتهـم النهضويـة التحديثيـة ومواقفهـم السياسـية النضاليـة.47
بالرغـم من بروز السـلفية بصيغتهـا النهضوية واإلصالحية والوطنية يف بداية
القـرن العرشيـن يف شمال أفريقيـا بصـورة أساسـية ،إالّ أ ّن هـذه االتجاهـات
تراجعـت كثيرا ً خلال العقـود التاليـة ،وتحديـدا ً مـع صعـود جامعـة اإلخـوان
املسـلمني ،ثـم التيـارات الجهاديـة يف النصـف الثـاين مـن القـرن العرشين ،فيام
شـهدت العقـود األخيرة عـودة إىل الصيغـة الوهابيـة والتاريخية من السـلفية،
مرتبطـة بدرجـة كبيرة مـع الوفـرة املاليـة التـي شـهدها اقتصاد السـعودية ،يف
الحقبـة النفطية.
( )47انظــر حــول مــا يطلــق عليــه الســلفية املســتنرية ،محمــد عــارة ،تيــارات الفكــر
اإلســامي ،مرجــع ســابق ،ص .296-291
50
-2-
«السلفي الحائر» :شرك القبور أم
شرك القصور!
51
التـزم ابـن بـاز وابـن عثيمين ورفاقهـم بالطابـع الديني والعقائـدي للدعوة
السـلفية ،وسـاهموا يف نرشهـا وتعليمهـا يف الجامعات من خلال تأليف الكتب
وإصـدار الفتـاوى ،ويف أغلبهـا تركـز على التوحيد والعقيـدة ،والرد على الفرق
اإلسلامية األخـرى ،وتدريـس الحديـث وإعـادة تحقيـق وطبع الرتاث السـلفي
بصـورة خاصـة ،كتـب ابـن تيميـة وأحمـد بـن حنبل ومحمـد بن عبـد الوهاب
وغريهم.
بالرغـم مـن تأكيـد هيئـة كبـار العلامء بصـورة دامئة عىل «طاعـة ويل األمر»
ورفـض اشـتغال السـلفيني يف السياسـة ،والحكم على املعارضة هنـاك بالضالل،
إالّ أ ّن ذلـك مل مينـع تيـارا ً (على ميني الهيئة) مـن الظهور يف مرحلـة الثامنينيات
والبروز بصـورة أكثر تشـددا ً يف بدايـة التسـعينيات يف رفـض العمـل السـيايس
والحـزيب ،بـل والهجـوم على األحـزاب اإلسلامية األخـرى واتهامهـا بالخـروج
والضلال ،والتخصـص يف الـرد عليهـا وعلى روادهـا املعارصيـن ،مثـل :حسـن
البنـا وسـيد قطـب ،أحد رواد هذا التيار يف السـعودية محمد بـن آمان الجامي،
الـذي جـاء مـن الحبشـة ودرس يف السـعودية ،واسـتقر فيهـا منـذ سـبعينيات
القـرن العرشيـن ،واسـتقر بـه املطـاف مد ّرسـاً يف الجامعـة اإلسلامية باملدينـة
املنـورة ،واملسـجد النبوي.48
اشـتهر الجامـي وأتباعـه (أطلـق عليهم الحقـاً مصطلح الجاميـة) بالتعصب
للسـلفية واتخـاذ مواقـف متشـددة من الجامعات اإلسلامية األخـرى ،والتأكيد
على طاعـة أولياء األمـور يف الدول العربية ،ورفض املعارضة والخروج وتشـكيل
األحـزاب السياسـية بوصفها بدعاً ليسـت مـن الدين.49
يصرح يف خطبـه ومحارضاتـه ودروسـه مبعـاداة الجامعـات
كان الجامـي ّ
( )48انظــر الصفحــة الرســمية ملحمــد بــن آمــان الجامــي والتعريــف بــه ،عــى شــبكة
االنرتنــت ،الرابــط التــايل:
http://www.eljame.com/mktba/pageother.php?catsmktba=40.
( )49انظــر عــى ســبيل املثــال :محمــد بــن آمــان الجامــي ،قــرة عيــون الســلفية باإلجابــات
عــى األســئلة الكويتيــة ،الرابــط التــايل:
http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=3.
52
اإلسلامية ،اإلخـوان املسـلمني ،الدعـوة والتبليـغ ،والسـلفيني السياسـيني الذين
يعارضـون الحكومـات ،ويعلـن بوضـوح أ ّن السـلفية هـي املفهـوم الصحيـح
لإلسلام ،يدافـع عـن منهـج االبتعـاد عـن العمـل الحزيب والسـيايس والحـريك.50
يعتبر ربيـع بـن هـادي املدخلي أحد أبرز تالميذ محمد بـن آمان الجامي،
وهو سـعودي األصل من الجنوب ،وأصبح مدرسـاً يف الجامعة اإلسلامية الحقاً،
وتخصـص مـع شـيخه يف الـرد عىل اإلسلاميني والتصدي «للسـلفية السياسـية»،
والتأكيـد على مبدأ «طاعـة ويل األمر» ،ورفض املعارضة والخـروج عىل الحاكم،
والحـث عـن االبتعاد الكامل عن العمل السـيايس والحـزيب والحريك.
نجـد امتـداد هـذه املدرسـة بوضـوح يف اليمـن عبر مقبـل بـن هـادي
الوادعـي ،وهـو مينـي درس يف السـعودية وطـرد من هنـاك بدعوى اشتراكه يف
حركـة جهيمان عـام ،1981وهـو مـا ينفيـه بشـده ،ثـم عـاد واسـتقر يف اليمن
مـع بدايـة الثامنينيـات وبدأ بنرش السـلفية ،واكتسـب أنصارا ً وأتباعـاً ،يحملون
أفـكاره وآراءه.
أمـا يف األردن ،فبالرغـم مـن أ ّن نـارص الديـن األلبـاين أقـرب إىل خـط ابـن
بـاز وابـن عثيمين يف عـدم التدخـل يف السياسـة ،بـل عبارتـه الشـهرية هـي
«مـن السياسـة تـرك السياسـة» ،إالّ أ ّن مدرسـته وتالميـذه يقرتبون مـن االتجاه
الجامـي واملدخلي والوادعـي يف العالقـة مـع الحكومة واملوقف من اإلسلاميني
اآلخريـن ،وأصبـح لـه تالميـذ ووجـدت امتـدادا ً لهـا يف كثري من الـدول العربية
األخرى .51
( )50انظــر توثيــق لرشحــه معنــى الفرقــة الناجيــة عــى الرابــط التــايل ،عــى موقعــه
االلكــروين الرســمي:
http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=120
وكذلك الرابط التايل لفتواه حول الدخول يف الربملانات ،عىل الرابط التايل:
http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=413
( )51انظــر حــول هــذا التيــار :عبــد الغنــي عــاد ،الحــركات اإلســامية يف لبنــان ،مرجــع
ســابق ص.273
53
يف الثامنينيـات بـدأت مقاربـات سـلفية أخـرى بالبروز تـزاوج بين اإلميـان
بالعقائـد واملواقـف املعرفيـة والفكرية للسـلفية التقليديـة يف األحكام الرشعية
واملناهـج العلميـة الدينيـة ،لكّنهـا تختلـف معهـا يف املوقـف مـن الحـكام ويف
التعامـل مـع الشـأن السـيايس ،إذ ترفـض املقاربـات الجديـدة «اسـتنكاف»
السـلفيني عـن العمـل السـيايس والحـزيب بذريعـة «طاعـة ويل األمـر» ،أو أ ّن
هـذه املؤسسـات بـدع ومحدثـات غربيـة ليسـت إسلامية.
أحـد أبـرز وجـوه التيـار السـلفي الجديد (أصبح يطلق عليه الحقاً السـلفية
الحركيـة) هـو السـوري محمـد بـن رسور بـن نايـف بـن زيـن العابديـن ،الذي
كان عضـوا ً يف جامعـة اإلخـوان املسـلمني ،ثـم غـادر إىل السـعودية يف نهايـة
السـتينيات ،بعـد التضييـق على الجامعـة يف سـوريا ،وهنـاك عمـل مدرسـاً يف
مدينـة الربيـدة ،ثـم غادر يف السـبعينيات إىل الكويت ،قبل أن يسـتقر به املقام
الحقـاً يف لنـدن ،ويؤسـس هناك املنتـدى اإلسلامي ،ويصدر مجلة السـنة ،التي
أصبحـت مبثابـة املنبر اإلعالمـي والسـيايس لهـذا التيار ،وأخـذت صيتـاً كبريا ً يف
األوسـاط السـلفية يف حـرب الخليج عـام ،1991ومنعت حكومـات عربية عدة
مـن توزيـع املجلـة وتداولها.
خصـوم رسور (بصـورة رئيسـة أتبـاع محمـد الجامـي وربيـع املدخلي)
أخـذوا يطلقـون على مـن يتبنـي أفـكاره -املزاوجـة بين السـلفية والسياسـة-
بـ«الرسوريين» ،52وقـد بـدأت أفكار زين العابدين وتحليالته السياسـية ورؤيته
للتغيير ،تنتشر يف السـعودية ودول أخـرى ،وتأثر بها عدد مـن العلامء والدعاة
املعروفين الحقـاً ،مبـا يسـمى يف السـعودية «مشـايخ الصحـوة».
( )52قــارن ذلــك برفــض انخـراط الســلفيني يف العمــل الســيايس أو مــا يســمى بالرسوريــة،
بإجابــات ملقبــل بــن هــادي الوادعــي «هــذه هــي الرسوريــة فاحذروهــا» ،ميكــن االســتامع
لهــا عــى الرابــط التــايل:
http://www.muqbel.net/sounds.php?sound_id=6
عىل املوقع الرسمي له عىل شبكة االنرتنت ،وانظر الرد عىل ذلك مبقال ملحمد بن رسور
زين العابدين حول مسريته الدعوية والسياسية ،بعنوان «صفحات من املايض :الرسورية»،
عىل الرابط التايل:
http://www.sudanforum.net/showthread.php?t=72791
54
يف السـبعينيات ،وبصـورة أكثر وضوحـاً خلال الثامنينيـات مـن القـرن
املنصرم ،برز اسـم الشـيخ عبـد الرحمن عبـد الخالق ،وهو مصري األصل درس
يف الجامعـة اإلسلامية يف املدينـة املنـورة ،ثـم غـادر إىل الكويـت يف منتصـف
السـتينيات ليد ّرس هناك ،ويسـاهم يف تأسـيس جمعية إحياء الرتاث السـلفية،
مـع عـدد مـن السـلفيني ،ويقـ ّدم مقاربـة سـلفية جديـدة يف قضيـة التغيير
واإلصلاح واملوقـف مـن العمـل السـيايس.53
ويف كتابه «املسـلمون والعمل السـيايس» ،الذي جاء يف وقته مغايرا ً ألغلب
املقاربـات السـلفية التـي كانـت تسـتنكف عـن العمـل السـيايس ،يخالف عبد
الخالـق الفتـاوى واملواقـف السـلفية عمومـاً عندمـا يؤكد على رضورة الدخول
يف مضمار العمـل السـيايس وتشـكيل أحـزاب سياسـية وجمعيـات وتبنـي
الوسـائل الجديـدة يف التغيير بوصفهـا «مصالـح مرسـلة» ،ال يجـوز االسـتغناء
عنهـا ،ورضورة االسـتفادة مـن هامـش الدميقراطيـة يف الـدول التـي تسـمح
بذلـك ،حتـى لـو مل يكـن هنالـك «ضامنـات» باحترام نتائـج صناديـق االقرتاع،
طاملـا أ ّن اإلسلاميني ال ميتلكـون بديلاً عـن ذلـك.54
شـق مبكّـرا ً الطريق إىل العمل السـيايس داخل
وبالرغـم مـن أ ّن عبـد الخالق ّ
البيـت السـلفي ،وسـاهم يف خـوض السـلفيني هنـاك منـذ الثامنينيـات لغمار
التجربـة الحزبيـة ،بعيـدا ً عـن مقـوالت الطاعـة لـويل األمـر أو عـدم الدخـول
يف اللعبـة السياسـية ،إالّ أنّـه يف الوقـت نفسـه وقـف ضـد مبـدأ الخـروج على
الحاكـم ،الـذي حكـم أيديولوجيـا السـلفية الجهاديـة عمومـاً ،إذ كتـب عبـد
الخالـق ضـد اسـتخدام السلاح والعنـف ،مطالبـاً بااللتـزام بالخـط السـلمي يف
( )53انظــر حديــث عبــد الرحمــن عبــد الخالــق عــن ســرته الذاتيــة يف برنامــج مراجعــات
عــى قنــاة الحــوار ،الرابــط التــايل:
http://www.youtube.com/watch?v=15SuN8OB9NI&feature=related
( )54انظر رابط الكتاب عىل موقع الشبكة السلفية ،وهو موقع يتبنى أفكار عبد الخالق:
http://www.salafi.net
انظر رد محمد بن نارص الدين األلباين عليه يف املقطع املسموع التايل:
http://www.youtube.com/watch?v=BUACBaSQwG0
55
الدعـوة اإلسلامية.55
بالرغـم مـن إميـان كل مـن محمـد بـن رسور زيـن العابديـن وعبـد الرحمـن
عبـد الخالـق بالعمـل السـيايس ورفـض فتاوى «طاعـة ويل األمر» ،وعـدم تكفري
أو تضليـل املوقـف مـن الحزبيـة اإلسلامية ،إالّ أ ّن بـن رسور ،وفقـاً ملراقبين
لالتجاهـات السـلفية ،هـو أقـرب إىل الجمـع بين السـلفية واملدرسـة القطبيـة،
ويبـدو أكثر ح ّدة يف نقده لجامعة اإلخوان املسـلمني ،فيام يتسـم عبد الرحمن
عبـد الخالـق باالنفتـاح على اإلسلاميني عموماً ،56ميكـن مالحظة انعـكاس هذا
االختلاف بين الرجلين بوضـوح– الحقـاً -على السـلفية اليمنيـة ،إذ انشـقت
جمعيـة اإلحسـان املتأثـرة بأفـكار بن رسور عـن الحكمة اليامنيـة املتأثرة بعبد
الرحمـن عبـد الخالق.57
وتكمـن أهميـة عبـد الخالـق أنّه كان من أوائل السـلفيني املعارصين ،الذين
نظّـروا للمشـاركة السياسـية يف االنتخابـات الربملانيـة والعمـل العـام ،وأث ّـرت
أفـكاره على سـلفيي الكويـت والبحرين والسـودان ،منذ الثامنينيـات ،يف وقت
كانـت أغلـب الحـركات والجامعات السـلفية تعتـزل العمل الحزيب والسـيايس،
يفسر االسـتقبال الكبري
ورمبـا هـذا «املوقـف املبكّـر» لعبـد الخالـق هو الـذي ّ
( )55انظــر :عبــد الرحمــن عبــد الخالــق ،السياســة الرشعيــة يف الدعــوة إىل اللــه ،رشكــة
بيــت املقــدس للنــر والتوزيــع ،الكويــت ،ط ،2006 ،1ص ،405-337وهــو كتــاب يضــم
مجموعــة مــن الدراســات والكتــب التــي أصدرهــا عبــد الخالــق يف وقــت مب ّكــر.
( )56انظــر :مشــاري الذايــدي ،محمــد بــن رسور غــادر ســورية بعــد نكبــة اإلخــوان..
اســتقر وعلــم يف بريــدة ..خلــط حركيــة اإلخــوان بثوريــة قطــب بســلفية ابــن تيميــه،
جريــدة الــرق األوســاط 28 ،اكتوبــر ،2004ع .9466
ـر الباحــث أســامة شــحادة االختــاف بــن عبــد الخالــق وبــن رسور ،بــأ ّن عبــد ( )57يفـ ّ
الخالــق هــو ابــن املدرســة الســلفية يف األصــل ،بينــا محمــد بــن رسور ابــن املدرســة
اإلخوانيــة بنســختها القطبيــة ،وقــد بــرز جوهــر االختــاف بــن الرجلــن يف بدايــة
الثامنينيــات ،يف إفتــاء عبــد الخالــق بجــواز املشــاركة يف الحيــاة النيابيــة والربملانــات ،ودفاعه
عــن هــذا الخــط الفكــري ،بينــا كان زيــن العابديــن حينهــا يرفــض اللعبــة الدميقراطيــة
واالنتخابــات النيابيــة ،قبــل أن يعــود يف األعــوام األخــرة عــن هــذا الرأي.مقابلــة مــع أســامة
شــحادة يف مكتبــي يف مركــز الدراســات االس ـراتيجية بالجامعــة األردنيــة 23 ،مايــو .2012
56
الـذي حظـي بـه مـن السـلفيني يف مصر ،يف زيارتـه لهـا بعـد الثـورة ،يف بدايـة
العام .201258
يف بدايـة التسـعينيات وعلى وقـع االختلاف على املوقـف مـن حـرب
العـراق ،احتدمـت السـجاالت السـلفية الداخليـة مـع بـروز تيـار جديـد حـ ّرك
امليـاه الراكـدة يف السـعودية يعلـن عـدم جـواز االسـتعانة بالجيـوش الغربيـة
لتحريـر الكويـت مـن الجيـش العراقـي ،بخلاف فتـوى هيئـة كبـار العلماء،
وظهـر على رأس هـذا التيـار كل مـن د .سـفر الحـوايل (الـذي كتـب «وعـد
كيسـنجر واألهـداف األمريكيـة يف الخليـج» ،وقـ ّدم محارضات متعـددة يف رفض
هـذا التدخـل) ،ومعه سـلامن العودة وعائـض القرين ونارص العمـر ،وهو التيار
الـذي اصطلـح على تسـميته بـ «تيـار الصحـوة».59
تصـ ّدى ملهاجمـة هـذا التيـار مجموعـة الجامـي واملدخيل ،وبدأوا ينسـبون
أتباعـه إىل التأثـر مبحمـد بن رسور زين العابدين ،ومبحمد قطب ،شـقيق سـيد
قطـب ،الذي اسـتقر يف السـعودية يف الثامنينيـات ،ود ّرس يف جامعـة أم القرى،
وأرشف على رسـالة الدكتـوراه لسـفر الحـوايل عـن «ظاهـرة اإلرجـاء يف الفكـر
اإلسلامي» ،60وكان أحـد أبـرز محاورها قضية تحكيم الرشيعة اإلسلامية وربط
اإلميـان بالعمـل ،وفيهـا رد مبطـن على االتجـاه السـلفي الذي ال يكفـر الحكام
الذين ال يحكمون بالرشيعة اإلسلامية .61وكانت رسـالة املاجسـتري للحوايل عن
«العلامنيـة» ،62وكـرس جـزءا ً كبيرا ً من محارضاتـه وخطابه للتأكيـد عىل تحكيم
( )58املرجــع نفســه ،وانظــر حــول اســتقبال عبــد الرحمــن عبــد الخالــق يف القاهــرة الرابــط
التايل:
http://alwatan.kuwait.tt/ArticleDetails.aspx?Id=165110&YearQuarter=20121.
( )59انظــر :محمــود الرفاعــي ،املــروع اإلصالحــي يف الســعودية :قصــة الحــوايل والعــودة،
واشــنطن ،1995 ،ط ،1ص.34-11
( )60انظــر :ســفر بــن عبــد الرحمــن الحــوايل ،ظاهــرة اإلرجــاء يف الفكــر اإلســامي ،دار
الكلمــة للنــر والتوزيــع ،ط.1999 ،1
( )61انظــر حــول هجــوم التيــار الجامــي عــى الحــوايل والعــودة ،محمــود الرفاعــي،
املــروع اإلصالحــي يف الســعودية :قصــة الحــوايل والعــودة ،مرجــع ســابق ،ص .57-52
( )62انظــر :ســفر بــن عبــد الرحمــن الحــوايل ،العلامنيــة :نشــأتها وتطورهــا وتأثريهــا يف
57
الرشيعة اإلسالمية بوصفها قضية يف صميم التوحيد والعقيدة اإلسالمية.63
ومـزج خطـاب التيـار الجديـد (حينهـا) بين الدعـوة إىل تطبيـق أكثر جديّة
للرشيعـة اإلسلامية والدفـاع عن هويـة البالد يف مواجهـة الليرباليين ،واملطالبة
يف الوقـت نفسـه بإصالحـات سياسـية ،تعـزز مـن منـاخ الحريـات العامـة
واملشـاركة السياسـية والحـ ّد مـن الفسـاد املسـترشي ،وقامـوا بتوجيـه رسـائل
للملـك السـعودي تطالـب باإلصالحـات السياسـية واالقتصادية ،لكنهـا تدعو يف
الوقـت نفسـه إىل التـزام أكبر بالرشيعـة اإلسلامية.64
الصـدى الـذي نتـج عـن حركـة «الصحـوة» كان كبريا ً ،إذ أ ّن هـذا التيار جاء
مـن رحـم السـلفية السـعودية نفسـها ،لكنه بدأ يقـ ّدم خطابـاً فكرياً وسياسـياً
مختلفـاً عـن الخطـاب التقليـدي تجاه الحكم السـعودي من جهـة ،والنظرة إىل
العمـل السـيايس والعالقـة مع الحـركات اإلسلامية األخرى من جهـة ثانية.65
يف الفترة نفسـها ،بـرزت دعـوات شـبيهة يف السـعودية (متـزج بين النزعات
السـلفية والفكريـة اإلسلامية األخـرى) تطالـب باإلصلاح ،واضطـر عـدد مـن
أصحابهـا إىل الهجـرة إىل لنـدن بعـد الضغـوط التـي تعرضـوا لهـا مـن ِقبـل
الحكومـة السـعودية ،مثـل محمد املسـعري وسـعد الفقيه ،فيما انتهت حركة
الحـوايل والعـودة ورفاقهما إىل االعتقـال يف نهاية العـام ،1994بعد أن أصدرت
هيئـة كبـار العلامء فتوى ضـد أراءهام ،منحـت الرشعية (الضمنية) للسـلطات
السـعودية للـزج بهما يف السـجن إىل نهايـة العـام ،1999إذ أفـرج عنهما ،مـع
58
بقـاء قيـود كبيرة عىل نشـاطهام الدعـوي.66
بعـد خـروج الحـوايل والعـودة بـدت مالمـح تغير على خطابهما الفكـري
والسـيايس ،ونـزوع إىل التهدئـة مـع السـلطات السـعودية ،مـع بروز ما يسـمى
بالسـلفية الجهاديـة وصعـود القاعـدة يف السـعودية ،بخاصـة بعد أحـداث 11
كل مـن الحـوايل والعـودة بنقد القاعـدة وخطابهـا وعملياتها،
سـبتمرب ،إذ أخـذ ّ
وقامـا مـع آخريـن بتوزيـع رسـالة عنوانهـا «على أي أسـاس نتعايـش؟» يف
الـر ِّد على رسـالة املثقفين األميركان بعـد األحـداث بعنـوان «مـن أجـل مـاذا
نحـارب؟!».67
ميكن مالحظة الخارطة الواقعية للسـلفية الحركية ،عرب الجامعات السـلفية
التـي انخرطـت يف العمـل السـيايس يف الكويـت ،مثـل جمعيـة إحيـاء التراث،
ويف البحريـن جمعيـة الرتبيـة التـي تتبـع لها كتلـة األصالـة ،ويف األردن جمعية
الكتـاب والسـنة ،68ويف لبنـان مجموعـة محمـد الخضر (املنتـدى اإلسلامي
اللبنـاين للدعـوة والحـوار) ،69ويف اليمـن جمعيتـا الحكمـة اليامنيـة واإلحسـان،
ويف الجزائـر أتبـاع محمـد علي بلحـاج ،أحـد قـادة الجبهـة اإلسلامية لإلنقـاذ،
ويف السـعودية تيـار الصحـوة اإلسلامية ،مثـل :سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة
وعائـض القـرين وغريهم.
( )66انظــر حــول موقــف هيئــة كبــار العلــاء مــن الحــوايل والعــودة ومــا أثــر حولــه،
املرجــع الســابق ،ملحــق الوثائــق ،ص .170-161
( )67انظــر حــول الرســالة األمريكيــة :رضــوان الســيد ،الــراع عــى اإلســام :األصوليــة
واإلصــاح والسياســات الدوليــة ،دار الكتــاب العــريب ،بــروت ،ط ،2004 ،1ص .73-47وانظر
حــول بيــان «عــى أي أســاس نتعايــش؟” ومــا أثــر حولــه مــن نقاشــات :محمــد ســليامن،
رســالة مــن مكــة ،هــذه لغــة الحــوار بــن األمــم والشــعوب ،مجلــة العــر االلكرتونيــة3 ،
مايــو ،2002الرابــط التــايل:
http://alasr.ws/articles/view/2258/.
( )68انظــر :املوقــع الرســمي لجمعيــة الكتــاب والســنة عــى شــبكة االنرتنــت ،الرابــط
التــايل:
http://ktabsona.com/index.php?option=com_frontpage&Itemid=1
( )69انظر :أميمة عبد اللطيف ،اإلسالميون السنة يف لبنان ،مرجع سابق ،ص.13
59
يف التسـعينيات ،كذلك ،حدث تزاوج آخر ما بني الفكر الجهادي والسـلفي،
بـرز يف أوضـح صـوره الحركية عرب تنظيـم القاعدة ،وحاضنته ما سـمي بـ«التيار
السـلفي الجهـادي» ،الـذي جمـع مـا بين العقائـد الدينية السـلفية ،مـع التأثر
بأفـكار سـيد قطـب هنـا ،وتركيـزه على مفهـوم الحاكميـة ،واختيـار طريـق
«الجهـاد» بوصفـه الوسـيلة املرشوعـة الفاعلـة يف التغيير ،وقـام هـذا التيـار
بدمـج معركـة التغيير الداخلية (مع النظـم العربية= العدو القريـب) باملعركة
الخارجيـة (الواليـات املتحـدة= إرسائيل=الغـرب= العدو البعيـد) وفقاً لفرضية
أساسـية فحواهـا أ ّن هنالـك تواطؤا ً ودعامً مـن الواليات املتحـدة والغرب لهذه
النظـم وإرسائيـل ،وأ ّن االنتصـار عليهـا وكسـب الرشعيـة مـن الشـارع ،يتطلب
مهاجمـة القوى الكبرى التـي تدعمها.70
بالرغـم مـن هـذه الروافـد األربعـة األساسـية يف الواقـع السـلفي املعـارص
اليـوم (التقليديـة ،الجاميـة ،الجهاديـة والحركيـة) ،إالّ أنّـه مـن الصعوبـة مبكان
اختـزال وتقنين التيـارات واملجموعـات السـلفية ضمـن أطر محـ ّددة مضبوطة
يف هـذه املقاربـات ،فهنالـك حالـة مـن السـيولة والتداخـل مـا يخلـق مشـهدا ً
متشـظياً للسـلفية أقـرب إىل املقاربـات الفرعيـة والداخليـة التـي تتفـق هنـا
وتختلـف هنـاك ،وميكـن مالحظـة هـذه الظاهـرة بوضـوح يف كل مـن مصر
ولبنـان والكويـت.71
( )70انظــر :محمــد أبــو رمــان ،اإلصــاح الســيايس يف الفكــر اإلســامي :املقاربــات ،القــوى،
األولويــات ،االســراتيجيات ،الشــبكة العربيــة لألبحــاث والنــر ،بــروت ،ط ،2010 ،1ص
.260-255
( )71انظــر حــول الســلفيني يف لبنــان :عــاد عبــد الغنــي ،الحــركات اإلســامية يف لبنــان،
مرجــع ســابق ،ص .342 -309وقــارن ذلــك بتشــعب الخارطــة الســلفية يف لبنــان بــن
اتجاهــات فرعيــة عديــدة يف« :الســلفية اللبنانيــة :بــن فــي الجهــاد العاملــي وســهولة
التوظيــف الســوري» ،عــى الرابــط التــايل:
http://www.nowlebanon.com/Library/Files/ArabicDocumentation/salafist%20arabic2.pdf
60
خالصات واستنتاجات
لـو عرجنـا مـن التفاصيـل إىل الخطـوط العامـة لــ «الخطابـات السياسـية»
السـلفية ،سـنجد أنّنـا أمـام مسـاحات واسـعة مـن االتفـاق واالختلاف فيما
بينهـم ،وتحديـدا ً فيما يتعلّق مبلفين :األول الدولة السـلفية ومالمحهـا العامة،
والثانيـة هـي تعريـف الواقع السـيايس اليـوم وتحديـد استراتيجيات التغيري أو
اإلصلاح وصـوالً إىل الدولـة اإلسلامية -السـلفية املطلوبـة.
أوالً -الدولـة السـلفية؛ يتفـق السـلفيون جميعـاً ،مـن أقىص اليمني إىل اليسـار،
على التداخـل واالشـتباك بين الحقـل الدينـي والسـيايس ،بـل يعتبرون تطبيق
الرشيعـة وإقامـة الدولـة اإلسلامية أمـرا ً عقائديـاً يدخـل يف صلـب التوحيـد،
يفسر موقفهمواإلقـرار بصفـات األلوهيـة للـه تعـاىل ،أي حقـه يف الترشيع ،ما ّ
املتحفـظ مـن الدميقراطيـة ،سـواء باعتبارهـا بدعـة و«بضاعـة غربيـة» ليسـت
مـن اإلسلام يف يشء وتتناقـض معـه ،كما هـي حـال الجاميين ،أو بالقبـول
«الجـزيئ» أو املشروط لهـا ،مبـا ال يتناقـض مـع أحكام اإلسلام واإلقـرار بـ«حق
اللـه يف الترشيـع» ،وفقـاً التجاهـات سـلفية أخـرى ،مثـل السـلفية التقليديـة.
61
الدولـة السـلفية ملتزمـة بأحـكام اإلسلام ،وال تخرج عىل النصـوص الرشعية،
فيما فيـه نـص ،هذا يف التصـور العام ،أمـا جزئياً فيما يتعلق بحقـوق األقليات
واملـرأة واإلنسـان والحريـات الفرديـة والفنـون وغريهـا ،فهـي قـد تتبايـن بين
خطـاب سـلفي وآخـر ،وإن كان الجميع متفق عىل االلتزام بالرشيعة اإلسلامية
يف تأصيـل املوقـف من هـذه القضايا.
بالرغـم مـن ذلـك االتفـاق على «صـورة الدولة»؛ فـإ ّن هنالك اختالفاً سـلفياً
واسـعاً حـول «رشعيـة السـلطة السياسـية» ،فاالتجـاه الجامـي يغلِّـب مبـدأ
«طاعـة ويل األمـر» ،وينـزع نحـو «الواقعيـة» يف قبـول حكـم املتغلـب ،وال
يشـكك يف رشعيـة الحـكام مـا دامـوا «مسـلمني» (وهـذا موضـع اختلاف ،كما
سـيأيت) ،بينما هنـاك اتجاه يربط رشعية الحـكام باالنتخاب والشـورى وااللتزام
بالعقـد مـع األمـة ،حتـى وإن مل يكـن يقـول بـ»الخروج املسـلح» على الحكام،
لكنـه ال مينحهـم الرشعيـة فقـط ألنّهـم «مسـلمون»!
اتجـاه «طاعـة أوليـاء األمـور» ال مينـح قضيـة الحريـة السياسـية وحقـوق
اإلنسـان والحريـات العامـة أي أهميـة يف خطابه أو مواقفه السياسـية ،بل عىل
النقيـض مـن ذلـك يأخذ موقفاً سـلبياً مـن املعارضـة ،ويسـتبدلها بـ«النصيحة»
للحـكام ،ويرفـض الحزبيـة السياسـية ،معتبرا ً أنّهـا «بضاعـة غربيـة» والحـال
نفسـها بالنسـبة لالنتخابـات النيابيـة ومجالـس النـواب ،فيما يـرى اتجـاه آخر
(إصالحـي) أ ّن تطبيـق الرشيعـة يقتضي السماح بالحريـات العامـة واحترام
حقـوق اإلنسـان وضمان حـق املعارضـة وحريـة التعبير.72
( )72انظــر عــى ســبيل املثــال :فتــوى محمــد بــن آمــان الجامــي ،حــول حكــم االش ـراك
بالربملانــات واالنتخابــات ،عــى الرابــط التــايل:
http://www.alhawali.com/index.cfm?method=home.SubContent&contentID=955
إذ يــرى أ ّن الربملانــات ســلطة ترشيعيــة ،وهــو حــق اللــه ،وليــس البــر ،ويتســاءل «هــل
رشع ـاً؟» ،ويصــف مــا يحــدث يف املجالــس بأنــه «كفــر
يجــوز ملســلم أن يســمى نفســه م ّ
بكتــاب اللــه واســتهزاء بــه».
62
االتجـاه األول ،الـذي يغلّـب فقـه الطاعـة ،يسـتمد مواقفـه مـن االتجـاه
العام للرتاث السـيايس السـني ،الذي اسـتقر أغلبه عىل القبول بـ«األمر الواقع»
بعـد عصر الخلفـاء الراشـدين ،وفشـل الثـورات التي حاولـت التمـرد والخروج
على الحكمين األمـوي والعبـايس ،وباءت بالفشـل ،بل وانتهـت إىل فنت وأزمات
متتاليـة ،مـا جعـل كثيرا ً مـن الفقهـاء يفضـل القبـول بحكـم األمـر الواقع عىل
تسـويغ الخـروج خوفـاً مـن الفـوىض والدماء.
يف مرحلـة الحقـة؛ مـع العصر العبـايس الثـاين ،أضيـف سـبب آخـر للقبـول
باألمـر الواقـع ،وهـو ضعـف الخليفـة العـريب وبـروز العنصر الفـاريس والتريك
واململـويك العسـكري ،فخوفـاً من ضياع الخالفة أقـ ّر الفقهاء بـ«إمـارة التغلب»
مـع التشـديد– يف املقابـل -على رشط القرشـية يف اإلمامـة ،لحاميـة «الهويـة
العربيـة الدولـة اإلسلامية» يف «مقايضـة فقهيـة» مـع الواقـع السـيايس.73
القبـول بإمـارة التغلـب نجـد صـداه يف الفكـر السـلفي واضحـاً مـع أحـد
أقطابـه ومرجعياتـه ،ابـن تيميـة ،الذي تتسـم نظريتـه السياسـية بالواقعية ،إذ
يجعـل رشعيـة الخالفـة مرتبطـة بـ«أصحـاب الشـوكة» ،ويقر بـأ ّن الرشعية هي
للحاكـم الـذي ميتلـك السـيطرة على األرض ،ويتجـاوز الشروط التقليدية التي
يرسدهـا الفقهـاء ،مركـزا ً يف كتابه «السياسـة الرشعيـة إلصالح الراعـي والرعية»
على رشطـي :القـدرة واألمانة.74
( )73انظــر حــول االتجاهــات الفقهيــة الســنية يف مســألة رشعيــة الســلطة السياســية
والقبــول بســلطة املتغلــب :محمــد أبــو رمــان ،بــن حاكميــة اللــه وســلطة األمــة :الفكــر
الســيايس للشــيخ محمــد رشــيد رضــا ،مرجــع ســابق ،ص .147-86
( )74انظــر :حســن كوناكتــا ،النظريــة السياســية عنــد ابــن تيميــة ،دار اإلخــاء (الدمــام)
ومركــز الدراســات واإلعــام (الريــاض) ،ط ،2004 ،1ص.92-87
63
إالّ أ ّن أتبـاع الجامـي واملدخلي مـن السـلفيني املعارصيـن يتوسـعون يف
مبـدأ رفـض الخـروج على الحاكـم ،لـو كان مسـلامً ،ويف القبـول برشعيـة حكم
املتغلـب بـأن مي ّيزوا بين الخروج بالكلمة والسـيف ،أو بني الخـوارج القاعدين-
الذيـن يكفـرون الحـكام أو يخرجـون عليهم سياسـياً وليس بالسلاح ،والخوارج
الفاعلين ،معتربيـن أ ّن االثنين ميثلان خروجـاً على الحاكـم ومنازعـة لـه ،وهو
األمـر الـذي ال يجيزونـه ،ويعتربونـه منهـج الخوارج.
أ ّمـا االتجـاه السـلفي الحـريك ،ومعـه التقليـدي اآلخـر (مـن دون الجاميني)،
فهـو وإن كان ال يقـول بالخـروج املسـلح عىل الحكام املسـلمني ،إالّ أنه ال يضلل
املعارضـة أو يرفضهـا ،ويقـول بعـدم جـواز انتقـاد هـؤالء الحـكام ،بـل يتحدث
عـن وجـوب األمـر باملعـروف والنهـي عـن املنكـر ،أو االبتعـاد عـن الجانـب
السـيايس مـن زاويـة املصالـح واملفاسـد ،ال بسـبب عـدم جـواز انتقـاد الحكام.
ثانيـاً -حـول تعريـف الواقع واستراتيجيات التغيير؛ إن كان السـلفيون يتفقون
على رضورة إقامـة الدولـة اإلسلامية ،والقـول بتطبيـق أحـكام الرشيعـة
اإلسلامية ،وباعتبـار ذلـك جـزءا ً مـن العقيـدة ،إالّ أنهـم يختلفـون يف تعريـف
الواقـع السـيايس (قبـل الثـورات الدميقراطيـة العربيـة) ،وترسـيم استراتيجيات
اإلصلاح والتغيير نحـو إقامـة الدولـة السـلفية.
أغلـب التراث اإلسلامي السـيايس يقـر بعـدم الخـروج على الحـكام إذا
كانـوا مسـلمني ،حتـى لـو كانـوا فاسـقني أو ظاملني ،وهـي القاعـدة التي أعطت
أهميـة كبيرة ملسـألة االختالف السـلفي حـول األنظمـة العربية التي تشـكلت
يف مرحلـة مـا بعـد االسـتعامر ،فيما إذا كانـت أنظمة مسـلمة أم غري مسـلمة-
جاهليـة ،مـا يرتتـب عليه إباحـة الخـروج عليهـا أو العكس.
املفارقـة تكمـن هنـا؛ االختلاف وقع -أيضاً -يف عودة السـلفيني إىل ما كتبه
متسـك الجاميون وغريهم ابـن تيميـة ،بوصفه أحـد أبرز مراجعهـم الفكرية ،إذ ّ
بنصـوص البـن تيميـة تحـرم الخـروج على الحاكم «مـا دام يقيم الصلاة» ( تم
تفسيرها بأنـه مسـلم) ،و بقَـول ابـن تيمية «حاكم ظـامل خري من فتنـة تدوم».
متسـك الجهاديون ومعهم تيـار من الحركيني بفتـاوى ابن تيمية فيما ّ
64
يربـط فيهـا قضيـة القوانين والترشيعـات بتوحيـد األلوهيـة مـن جهـة،
ومبوقفـه العملي بتكفير التتـار لتحكيمهـم الياسـق (مجموعـة مـن القوانين
الخليطـة مـن الرشيعـة والتعاليـم التتاريـة) مـن جهـة أخـرى ،مـا ت ّم إسـقاطه
على القوانين الوضعيـة الحاليـة.75
سـنجد تأثري ابن تيمية عىل السـلفيني الجهاديني يف الفكر اإلسلامي املعارص،
كما يلتقـط حسـن كوناكتـا -يف تحول موضـوع التوحيـد إىل نـواة األيديولوجيا
السياسـية لدى الجامعات اإلسلامية املسـلحة يف مرص ضد السـلطات القامئة.76
وإذا كانـت الحالـة السـعودية تثري التباسـاً أكرث من غريهـا ،العتامد الرشيعة
اإلسلامية مبثابـة دسـتور البلاد وقوانينهـا ،واكتفـاء قيـادات الصحـوة السـلفية
باملطالبـة بالتطبيـق الصـارم للرشيعـة وإزالـة املخالفـات لهـا ،فـإ ّن موقـف
السـلفيني السـعوديني يتخـذ موقفـاً أكثر وضوحـاً عمومـاً تجـاه الحكومـات
العربيـة األخـرى التـي ال تطبـق الرشيعـة اإلسلامية ،كما هي الحـال يف كتيب
محمـد بـن إبراهيم آل الشـيخ بعنوان «رسـالة تحكيـم القوانين الوضعية» ،إذ
رح بكفـر الحاكـم بغير مـا أنزل اللـه بقوله «إن مـن الكفر األكرب املسـتبني، يص ّ
تنــزيل القانـون اللعين منــزلة ما نزل به الـروح األمني ،عىل قلـب محمد َصلَّ
اللـ ُه َعلَ ْيـ ِه َو َسـلَّ َم؛ ليكـون مـن املنذرين ،بلسـان عـريب مبني».77
ينقسـم موقـف السـلفيني -عمومـاً -مـن الحكام العرب الذيـن ال يحكمون
بالرشيعة اإلسلامية:
االتجـاه الجامـي واملدخلي ،ومعهـم نـارص الديـن األلبـاين يف األردن ال
يكفـرون الحـكام ،ألنهـم يضعون رشط «االسـتحالل» ،أي إقرار الحـكام بأنهم ال
يؤمنـون بتطبيـق الرشيعـة اإلسلامية ،وإذا انتفـت املوانـع من التكفير ،وهي:
( )75انظــر :حســن كوناكتــا ،النظريــة السياســية عنــد ابــن تيميــة ،مرجــع ســابق ،ص-195
.2010
( )76املرجع السابق ،ص .225-195
( )77انظر رشح سفر الحوايل للرسالة ولهذا النص عىل الرابط التايل:
http://www.alhawali.com/index.cfm?method=home.SubContent&contentID=955.
65
العـذر بالجهـل ،اإلكـراه ،عـدم القدرة ،وبني هـذا االتجاه موقفـه بوجوب طاعة
الحـكام على هـذه الفتـوى ،طاملـا أنهـم مسـلمون ،ويكتفـون بدعوتهـم إىل
تغيير مـا ال يتوافـق مـع الرشيعة اإلسلامية ،لكنهم قـد يكفرون بعـض الحكام
بدعـوى أنّهـم يتبنـون عقيـدة «كفريـة» معلنـة ،مثـل الخمينـي ،والقذايف.
االتجـاه الثـاين ،مثـل بعض السـلفيني الحركيين يف الكويت والدعوة السـلفية يف
االسـكندرية ،يكفـرون الحـكام العـرب ،ألنهـم ال يحكمون بالرشيعة اإلسلامية،
بصـورة عامـة ،وليسـت فرديـة ،فهـم يطلقون الوصـف عىل الفعل ال الشـخص،
ألنهـم يشترطون زوال «موانـع التكفير» ،لكنهـم يرتبـون عىل ذلك بـأن الحكم
القائـم ليس إسلامياً ،ويدعـون إىل رضورة التغيير واإلصالح.
االتجـاه الثالـث ،وهـو الجهـادي ،يكفـر الحكام العـرب ،ما يعني حتميـة الثورة
عليهـم ،وتغيير الواقـع ،ولـو بالقـوة ،طاملـا أن الحـكام أنفسـهم غير مسـلمني،
وإن كان منظـرو التيـار الجهـادي يضعـون رشط القـدرة على التغيير والخروج
على الحكام.
66
الفصل األول
سـنتع ّرف يف هـذا الفصـل على منـاذج وصـور ملجموعـات مـن الشـباب
السـلفيني ،ممـن ينتمـون إىل الدعـوة السـلفية التقليديـة ،أي تلـك التـي متثّـل
امتـدادا ً ملدرسـة الشـيخ نارص الديـن األلباين وتالميـذه ،وكانت باسـتمرار تعلن
بـأ ّن أهدافهـا علميـة وتربويـة ودعويـة بحتـة ،تقـوم على مبـدأ «التصفيـة
والرتبيـة» ،وترفـض الولـوج إىل العمـل السـيايس والحـزيب والتنظيمـي ،بصـورة
وتتمسـك بأولويـة تصحيـح العقائـد اإلسلامية ،وترسـيخ املفاهيـم ّ صارمـة،
السـلفية يف هـذا املجـال ،وتنقيـح علـوم الديـن ،واالهتمام بدرجة كبيرة بعلم
الحديـث النبـوي ،للتمييـز بين ما هـو صحيح وضعيـف ،وهو العلـم الذي برز
فيـه ومتيـز شـيخ هـذا االتجـاه محمـد نـارص الديـن األلبـاين.
نجـد يف أغلـب الحـاالت التـي نلتقـي فيها ،هنـا ،ونتابع تط ّورهـا ،أ ّن تجاربها
الشـخصية مـع هـذا التيـار ،تشترك يف أمـور رئيسـة أه ّمهـا أ ّن مـا دفعهم نحو
هـذا التيـار واالنخـراط فيه ،هـي «الغواية العلميـة» ،ابتـدا ًء ،إذ يتميز أصحاب
املنهـج السـلفي ،عـن باقـي املـدارس اإلسلامية األخـرى ،باالهتمام بالعلـوم
الرشعيـة ،والتثبـت مـن ص ّحـة األحاديـث ،والعـودة إىل النصـوص الرشعيـة
بصـورة مبـارشة ،السـتنطاق املوقـف الفقهي املطلـوب تجاه مختلـف األحداث
والقضايـا املحيطـة ،سـواء كانـت سياسـية أو اجتامعيـة أو حتـى شـخصية.
يبرز مـدى اهتمام التيـار السـلفي -التقليـدي (العلمـي) ،بالعلـوم الرشعية،
مـن خلال املنزلـة الرفيعـة واملركزيـة التـي يحتلهـا مفهـوم «طالـب العلم» يف
أوسـاط هـذا التيـار ،فبالرغم من عـدم وجود تنظيم مؤسسي ،أو بنية هرياركية
تجمـع أفـراد التنظيـم ،كما هـي الحـال عنـد الجامعـات واألحـزاب اإلسلامية
األخـرى ،فـإ ّن التمييـز يف املراتب ،عملياً ،يأيت بحسـب التعريـف املتداول ،ففي
املرتبـة األوىل يـأيت مصطلـح «الشـيخ» ،ويف الثانيـة «طالب العلـم» ،ويف املرتبة
الثالثـة «الدارسـون» ،وهـو تصنيـف عـام فضفـاض ،ال يوجـد تعريـف دقيـق
69
ومحـ ّدد لـكل مـن تلـك املصطلحـات ،وال يوجد هنالـك توافق حاسـم عىل من
يُعـ ّدون يف املنزلـة األوىل أو الثانيـة أو حتـى الثالثة ،وال حتـى أي إطار تنظيمي،
ملـن هـم داخـل التيـار أو خارجه!
إالّ أنّـه ،ومـن خلال النماذج ،التـي سـنطّلع عليهـا يف الصفحـات القادمـة،
سنكتشـف بـأ ّن الرتتيـب األكثر شـيوعاً ،يتمثّـل يف اعتبـار الشـيخ نـارص الديـن
األلبـاين ،الـذي أوجد هـذه االتجاه منذ قدومـه إىل األردن يف بداية الثامنينيات،
ميثّـل الشـيخ الرئيـس ،الـذي يحظـى مبوقـع رمـزي ومعنـوي ،وهالـة كبيرة،
وأصبـح تالميـذه املقربـون ،الحقـاً ،شـيوخ السـلفية يف األردن ،ومـن أبرزهـم:
محمـد إبراهيـم شـقره ،علي الحلبـي ،مشـهور حسـن ،سـليم الهلايل ،مـراد
شـكري ،محمـد موىس نصر.78
دب الخلاف بين أحـد أبـرز لكـن مـع وفـاة الشـيخ األلبـاين يف العـام ّ ،2000
تالميـذه ،وخليفتـه املنتظـر ،محمـد إبراهيم شـقره ،والتالميذ اآلخرين للشـيخ،
ومـن أبرزهـم علي الحلبي ومشـهور حسـن وسـليم الهلايل ،فت ّم إقصاء شـقرة
مـن التيـار ،والتشـهري بـه ،ثـم يف مرحلة الحقة أُخـرج مراد شـكري ،والحقاً ّ
دب
الخلاف بين سـليم الهاليل وعلي الحلبي ،فأُخـرج الهاليل من قيادة هـذا التيار،
كل مـن الشـيخ عيل الحلبي ومشـهور حسـن ،مع مجموعـة أخرى من وأصبـح ّ
أسـاتذة الرشيعـة يف الجامعـات األردنيـة مبثابـة املرجعيـة الدينيـة والفكريـة
لهـذا التيـار ،فبرزت أسماء جديـدة ،مثـل :الدكتـور باسـم الجوابـرة ،والدكتور
زيـاد العبـادي ،باإلضافـة إىل أسـاتذة رشيعة آخريـن ،مثل :محمـد موىس نرص،
وحسين العوايشة.79
بالرغـم مـن رفـض التيـار التقليـدي ألي صيغـة مـن الصيـغ الحركيـة
( )78حــول الســلفية التقليديــة أو املحافظــة أو العلميــة ،بحســب املصطلــح الــذي يطلقــه
الباحثــون عليهــا ،وتاريــخ تأسيســها وتطورهــا يف األردن ،انظــر :محمــد أبــو رمــان وحســن
أبــو هنيــة ،الحــل اإلســامي يف األردن :اإلســاميون والدولــة ورهانــات الدميقراطيــة واألمــن،
مركــز الدراســات االس ـراتيجية يف الجامعــة األردنيــة ومؤسســة فريدريــش أيــرت ،عــان،
ط ،2003 ،1ص234-230
( )79املرجع السابق ،ص243-240
70
والتنظيميـة ،بوصفهـا «بدعـاً» ،ليسـت مـن الديـن ،وخـارج املنهـج املتّبـع ،إالّ
أ ّن شـيوخ التيـار (الحلبـي ومشـهور حسـن ،وكان معهـم الهلايل سـابقاً) قامـوا
بتأسـيس مركـز األلبـاين للدراسـات ،الـذي أصبـح مبثابـة البوتقـة املؤسسـية
الرئيسـة للتيـار ،ويقـوم بإصـدار مجلة األصالـة وعقـد دورات ودروس يف العلم
الرشعـي ،ثـم أطلـق شـيوخ التيـار فضائيـة جديـدة ،هـي فضائية األثـر ،وتبث
دروسـهم وتوضّ ـح مواقفهـم ،باإلضافـة إىل مـن ميثّلـون معهـم الخـط الفكـري
نفسـه يف العـامل العـريب.
يف السـنوات األخيرة ،بـرزت ظواهـر جديـدة داخـل التيـار السـلفي ،يتمثّـل
أبرزهـا بحالـة االنشـقاقات والخصومات املتتالية والشـديدة يف أوسـاطه ،وهي
الحالـة التـي أدت إىل إقصـاء مجموعـة مـن القيـادات التقليديـة( ،تح ّدثنـا عن
محمـد شـقرة ،وسـليم الهاليل ومراد شـكري مـن تالميذ األلباين نفسـه) ثم مت ّرد
بعـض «طالب املشـايخ» الصاعديـن ،وصعـدت االختالفات والسـجاالت الحا ّدة
كل من الشـيخ عمر البطوش ،عمـر بن إبراهيم إىل السـطح ،كما نـرى يف حالـة ّ
آل عبـد الرحمـن ،امللقـب بـأيب طلحة (وهـم من تالميذ علي الحلبي ،سـابقاً)،
وعلى املنـوال نفسـه ،مثـة حالة مـن التململ وإرهاصـات التمـ ّرد املتعددة.
الظاهـرة الثانيـة تتمثّـل يف بـروز االختالفـات ،أيضـاً ،بين شـيوخ التيـار يف
األردن ،وبصـورة خاصـة علي الحلبـي ،الـذي يعـ ّد عملياً املمسـك بأ ِز ّمـة التيار
ومفاتيحـه ،وحلفائهـم يف السـعودية ،وبصـورة خاصـة الشـيخ ربيـع بـن هادي
املدخلي ،الـذي ميثّـل مـع تالميـذ األلباين امتدادا ً ملا يسـ ّمى باملدرسـة السـلفية
الجام ّيـة ،أي تلـك التـي ال تكتفـي بعدم االنخـراط يف العمل السـيايس والحزيب،
بـل واتخـاذ مواقـف حا ّدة من اإلسلاميني اآلخرين ،مبا يصـل يف بعض الدرجات
إىل تضليلهـم ،والقـول بوجـوب طاعـة ويل األمـر ،وعـدم جـواز أي صـورة مـن
صـور املعارضـة ،والتأكيـد دومـاً على وجـوب «النصيحـة الرسيّـة» للحاكـم،
واملواقـف املتشـ ّددة والحـا ّدة مـن املخالفين يف داخـل التيـار السـلفي نفسـه،
سـواء كانـوا مـن الجهاديين (يطلقـون عليهم وصـف الخـوارج والتكفرييني) ،أو
حتـى السـلفيني الحركيين أو اإلصالحيني ،مثل محمد رسور زيـن العابدين ،عبد
الرحمـن عبـد الخالـق ،د .سـلامن العـودة وسـفر الحـوايل ،وغريهم.
71
أ ّمـا الظاهـرة الثالثـة واملهمـة ،فتتمثّـل يف بـروز صـف جديـد مـن القيادات
الشـبابية يف أوسـاط هـذا التيـار ،وأغلبهـم ممـن أنهـوا الدراسـات العليـا يف
الرشيعـة اإلسلامية أو يف طريقهـم إىل ذلـك ،وهـي حالة جديدة ،بـل ومخالفة
متاماً للمراحل السـابقة من عمر التيار ،يف األردن ،عندما كان شـيوخه يسـخرون
مـن أسـاتذة الجامعـات ،ويقللـون مـن شـأن الشـهادات الجامعيـة ،بينما نرى
حاليـاً الجيـل القيـادي الصاعـد الجديـد يحـرص على نيـل الرشعيـة األكادميية،
فبإطاللـة خاطفـة على هـذا الجيـل سـنجد أسما ًء متداولـة مؤث ّـرة ،مـن ذوي
الشـهادات العليـا ،مثـل حمـزة املجايل ،محمـد الرمحي ،معاذ العوايشـة ،أحمد
أبـو سـيف ،محمـود محاديـن وغريهم.
يحمـل عـدد مـن القيـادات األكادمييـة الجديـدة يف األوسـاط السـلفية
التقليديـة بـذور «التمـ ّرد الناعـم» على املشـيخة الحاليـة ،عبر العـودة إىل
التأكيـد على مبـادئ الدعـوة الرئيسـة املعروفـة ،ويتمثّـل برفـض منـح الهالـة
الدينيـة السـلطوية ،ألي مـن الفقهـاء والعلماء الكبـار ،وهو ما جعـل من أهم
قضايـا املنهـج السـلفي رفض التعصـب املذهبي ،لك ّن بعض القيـادات الجديدة
تـرى بـأ ّن أبنـاء التيـار أصبحـوا يُضفـون هـذه الهالـة واملنزلـة االسـتثنائية ،بـل
وميارسـون التعصـب نحـو شـيوخ التيـار اليـوم.
تبـدو نقطـة الخالف السـابقة (بين الجيل القيادي األكادميي الجديد وشـيوخ
التيـار) مب ّررة ومنطقيـة ،لك ّنهـا تسـتبطن مـا قـد ال يقولـه هـؤالء األكادمييـون
رصاحـةً ،وهـو أ ّن الخالفـات التـي ظهرت بين قيـادات التيـار ،وأ ّدت إىل إقصاء
بعضهـا ،وهـي خالفـات اتخـذت طابعـاً خالفيـاً دينيـاً يف أحيـان ،لك ّنهـا يف
جوهرها ،كام يق ّر أشـخاص عديدون يف أوسـاط السـلفيني ،ذات طابع شـخيص،
وبعضهـا أخالقـي ،مرتبـط باألمـور املاليـة ،والنزاهـة العلميـة ،بـل واملصداقيـة
األدبيـة ،وهـي جوانـب يفترض أنّهـا على درجـة مـن األهميـة والخطـورة يف
تيـار ذي طابـع دينـي ،يدعـو إىل األخلاق والقيم ،على الصعيد الدعـوي العام،
والصعيـد الداخلي بين األفراد أنفسـهم.
72
على هـذا الصعيـد ،ولخطـورة وحساسـية الحديـث يف مثـل هـذه القضايـا،
فـإ ّن عـددا ً مـن أبنـاء هـذا التيار املطّلعين يشيرون إىل موضوع محـاط برسيّة
كاملـة ،وهـو مصـادر التمويـل ،بعضهـا داخلي وآخـر خارجـي ،وهـو املوضوع
الـذي يقـف وراء إقصـاء سـليم الهاليل ،وسـجن أحد أبـرز الدعـاة الصاعدين يف
التيـار ،أبـو طلحـة ،ويطـرح تسـاؤالت حـول طبيعـة العالقـة بين شـيوخ التيار
واملؤسسـة الرسـمية يف األردن ،واملؤسسـة الدينية الرسـمية يف اململكـة العربية
السعودية.
نتوسـع يف هـذا املوضـوع ،فهـو ليس رئيسـياً يف اهتامماتنا هنـا ،وال نجد لـن ّ
حديثـاً رصيحـا وموث ّقـا فيـه ،إالّ أنّـه تكفي اإلشـارة هنـا إىل ما أصبـح ميثّله من
ً ً
«ثقـب أسـود» يف مصداقيـة القيـادة العلميـة واألدبيـة للتيـار ،وعالقـة أفـراد
التيـار ببعضهم.
إذا أردنـا أن نراجـع ،بصـورة أكرث تحديدا ً ،ما سـبق ،عرب رسـم خارطة القيادة
العلميـة واألدبيـة للتيار ،فسـنجد أنّنا نتحدث عن الشـيخ الرئيس ،محمد نارص
الديـن األلبـاين ،الـذي اسـتقر يف األردن يف الثامنينيـات ،ثم بـدأت مجموعة من
التالميـذ واألتبـاع تلتـف حولـه ،وبرز خلال التسـعينيات الصـف األول املحيط
بالشـيخ ،ويف مقدمتهـم محمـد إبراهيـم شـقرة ،علي الحلبي ،مشـهور حسـن،
سـليم الهلايل ،مـراد شـكري ،حسين العوايشـة ،ود .محمـد مـوىس نصر ،لكن
خـرج بعـد وفـاة الشـيخ األلباين مـن هذا الصف ،كل من محمد شـقرة وسـليم
الهلايل ومـراد شـكري (خـرج سـابقاً) ،ومتـت إعـادة تشـكيل القيـادة العلميـة
الجديـدة مـن عيل الحلبي ،مشـهور حسـن ،د .زيـاد العبادي ،د .باسـم جوابره،
ويبـدو أ ّن د .حسين العوايشـه ،وإن كان يحظـى مبكانـة أدبيـة يف األوسـاط
السـلفية ،إالّ أنّـه ينـأى بنفسـه عن الخالفـات واإلشـكاليات الواقعية.
إىل جـوار هـذه القيـادة متتلـك شـخصيات سـلفية أخـرى مكانـ ًة خاصـة يف
أوسـاط السـلفية التقليديـة ،ولهـا دورهـا يف حسـم الخالفـات ،ومتثّل جـزءا ً من
«مرجعيـة الظـل» ،لكنهـا ليسـت بـارزة إعالميـاً ،وال تبـدو مهتمـة بذلـك ،وال
مـؤشا ً رئيسـاً على
متتلـك رصيـدا ً كبيرا ً مـن الكتـب واملنشـورات ،التـي متثّـل ّ
73
صعـود وبـروز القيـادات السـلفية ،ويف مقد ّمـة هـذه الشـخصيات ،صالـح طـه
(أبـو إسلام) ،والشـيخ رأفـت لطفـي ،الـذي يعمـل موظّفـاً يف رشكـة الكهربـاء
حـي
األردنيـة ،وعبداللـه املوصلي ،وهـو إمـام وخطيـب يف أحـد مسـاجد ّ
عمان ،والشـيخ غالـب السـاقي.80
الجاردنـز يف ّ
أ ّمـا الصـف األكادميـي السـلفي القيـادي الجديـد ،الـذي بـدأ بالبروز مـع
األلفيـة الجديـدة ،ويشـكّل جيلاً شـابّاً جديـدا ً يف التيـار ،فنجـد فيه أسماء كل
مـن د .حمـزة املجـايل ،ود .معـاذ العوايشـة ،ود .محمـد الرمحـي ،ود .محمـود
محاديـن ،ود .أحمـد أبو سـيف ،وتم إقصـاء بعض الشـباب الصاعدين من هذا
الجيـل مـن ِقبـل املشـيخة التقليديـة ،مـن أمثـال :عمـر البطـوش وأبـو طلحـة
السـلفي ،وهما إمامـان يف مسـاجد وزارة األوقـاف ،تع ّرضـا يف اآلونـة األخيرة
ملشـكالت يف العمـل ،ودخلا يف نـزاع مـع الـوزارة ،وإىل جـوار هـذه األسماء
البـارزة الجديـدة نجد يف مدينة السـلط أحمد قطيشـات ،وهو خطيب مسـجد
املركـز الثقـايف يف املدينة.
ليـس مـن املمكـن الحصـول على أرقـام دقيقـة تحـدد حجـم هـذا التيـار،
أو عـدد مـن ينتمـون إليـه ،فنحـن ال نتحـدث عـن منظّمـة وال مؤسسـة أو
حتـى حـزب سـيايس أو حركـة منظمة ،بـل عن تيار يتسـم يف عالقاتـه الداخلية
مبنطـق فضفـاض هالمـي ،بال أطر أو حـدود ثابتة ،تقوم العالقـة فيه عىل طابع
املشـيخة (الشـيخ ،طلاب العلـم ،التالميـذ) ،والصيغـة الغالبة على العالقة بني
أبنائـه «أدبيـة» و»معنويـة» ،وال توجـد أي صيغـة إلزاميـة ،إالّ أ ّن ذلك ال ينفي
أ ّن هـذه «السـلطة األدبيـة» ،ذات تأثير جوهـري عميق ،يف قضايـا مفصلية ،إذ
متتلـك القيـادة العلميـة ،املرجعيـة ،إعـادة هيكلـة وتصميـم الخطـاب الفكري
للتيـار ،وأولوياتـه ومواقفـه ،يف كل مرحلـة أو منعطف تاريخـي ،مثل األحداث
الجاريـة ،أو حتـى ترفيـع أسماء وإقصاء أخرى مـن صفوف القيـادة أو األفراد،
كما حـدث مـع النامذج املتعـددة التـي ذكرناهـا آنفاً.
( )80لقــاء مــع أحــد أف ـراد التيــار الســلفي التقليــدي ،رفــض ذكــر اســمه ،يف مكتبــي يف
مركــز الدراســات االســراتيجية يف الجامعــة األردنيــة ،عــان ،بتاريــخ .2013-12-23
74
ينتشر التيـار السـلفي يف محافظـات متعـددة يف اململكـة ،لكـن كثافتـه
وحضـوره البـارز يتب ّديـان يف العاصمـة عامن ،وبصـورة أكرث تحديـدا ً يف املناطق
الرشقية ،ذات الطابع الشـعبي ،والكثافة السـكانية األردنية -الفلسـطينية ،مثل
جبـل النصر ،حـي نـزال ،القويسـمة ،ويف محافظـة الزرقـاء ومدينـة الرصيفـة،
وبدرجـة أقـل يف محافظـات الشمال ،مثـل مدينـة إربـد ،بينام ال يحظـى التيار
بحضـور وانتشـار كبير يف مدينـة السـلط ،ومحافظـات الجنوب.
مـؤش جديـد عىل صعيد القيـادة ،إذ كانت أغلب يشير بعـض السـلفيني إىل ّ
القيـادات الجيـل السـابق مـن أصـول فلسـطينية ،وهـي حالـة طبيعيـة ،نظـرا ً
ملناطـق انتشـار التيـار وكثافـة حضـوره ،إالّ أ ّن األعـوام األخيرة شـهدت بـروز
قيـادات مـن أصـو ٍل رشق أردنيـة ،بصـورة الفتة ،مثل معـاذ العوايشـة ،محمود
محاديـن ،باسـم الجوابـرة ،زيـاد العبـادي ،عمـر البطـوش ،حمـزة املجايل.
سـنقرتب يف هـذا الفصـل مـن منـاذج مختلفـة يف هـذا التيـار ،عبر أربعـة
«حـي الطفايلـة» يف عمان،
ّ مسـتويات ،املسـتوى األول مجموعـة مـن أبنـاء
مـن تالميـذ علي الحلبـي ومشـهور حسـن ،وأغلبهـم مـن جيـل األربعينيـات،
واملسـتوى الثـاين الجيـل األكادميـي الجديـد ،عبر تجربـة د .معـاذ العوايشـة،
واملسـتوى الثالـث جيل الشـباب ،عرب تجربة شـابني ،األول هـو املهندس منترص
(يك ّنـي نفسـه بـأيب هـود السـلفي) ،والثاين هو فتحـي العيل اآلثري ،واملسـتوى
الرابـع املتمـرد على املشـيخة التقليديـة ،وسـنتناول مثـاالً عليه عمـر البطوش.
75
-1-
حي الطفايلة :االلتزام بمنهج
سلفيو ّ
«الشيوخ»
حي الطفايلة ،الذي اشـتهر خالل يف منـزل ألحـد أبنـاء الدعوة السـلفية ،يف ّ
السـنوات األخيرة بحراكه الشـعبي املطالـب باإلصالح السـيايس؛ بوصفه األعىل
سـقفاً واألكثر تح ّديـاً وعنـادا ً يف مواجهة الحكم ،التقينا بتسـعة مـن أبناء التيار
الحـي ،وتع ّرفنـا عىل معامل رحلتهم مع السـلفية؛ ملـاذا اختاروا
السـلفي يف هـذا ّ
هـذا املنهـج؟ كيـف؟ وما هي أبـرز آرائهم الفكريـة والدينية .
81
بالطبـع ،مثـل هـذا الرقـم يبـدو متواضعـاً متامـاً عندمـا نعرف أ ّن سـكان ّ
حي
الطفايلـة يبلغـون عشرات األالف ،لكـ ّن حجـم التيـار يقـاس بالتأثير الدعـوي
والدينـي والفكـري ،وليـس فقـط بعـدد الناشـطني ،فالقيمة التي يتحـدث عنها
هـؤالء األشـخاص ال تتمثـل بعمليـات تجنيـد أو تنظيـم ألشـخاص ،إنّ ا بانتشـار
األفـكار وتعميمهـا قـدر املسـتطاع ،وهـو مـا يعتبرون أنّهـم نجحـوا فيـه إىل
ـي الطفايلــة يف عــان ،بتاريــخ
( )81أجريــت هــذه املقابلــة يف منــزل أحــد هــؤالء يف حـ ّ
.2013-11-30
76
حـ ّد كبير خلال السـنوات املاضيـة ،إذ كانـت البدايـات صعبـة ،بخاصـة حرص
السـلفيني على االلتـزام بنمـط مـن التديـن الصـارم ،وااللتـزام بتعاليم اإلسلام،
حتـى لـو خالفت العـادات والظواهـر االجتامعية ،لكن مع مـرور الوقت أصبح
تقبـل املجتمـع لذلـك أكبر ،وثقـة النـاس بالدعـوة السـلفية ازدادت ،كما ترى
هـذه املجموعة.
ليـس مـن الصعوبـة أن تـدرك منـذ البدايـة بأنّنـا نتحـدث مـع مجموعـة
تلتـزم باملنهـج السـلفي التقليـدي -العلمـي ،فهـم يحضرون دروس الشـيخني؛
علي الحلبـي ومشـهور حسـن ،ويقرتبـون يف رؤيتهـم الدعويـة والفكريـة مبـا
يفتـي به شـيوخ الدعوة السـلفية ،ويلتزمون باألسـس الرئيسـة للمنهـج؛ الرتكيز
على العلـم الرشعـي ،رفـض االنخـراط يف العمـل التنظيمـي والحـزيب ،االهتامم
مبـا يعتربونـه تصحيـح املفاهيـم الدينيـة الخاطئـة يف املجتمـع.
الحـي؛ فهـم
ّ وفيما إذا كان هنالـك حضـور التجاهـات إسلامية أخـرى يف
يرون بأ ّن شـباب جامعة اإلخوان املسـلمني ناشـطون وفاعلون ،ولهم نشـاطات
متعـددة ،ويتحركـون بصـورة دائبـة لكسـب األنصـار ملواقفهـم السياسـية
املعارضـة للحكومـات ،فيما بـدأت تظهر إرهاصـات ملتأثرين باألفكار السـلفية
الحـي ،خلال الفترة األخيرة ،لك ّنهـم محـدودون وغير ّ الجهاديـة مـن أبنـاء
فاعلين على أرض الواقـع ،بينما دخـل بعض أفـراد املجموعـة السـلفية ،هذه،
بنقاشـات معهـم عبر العـامل االفترايض (االنرتنـت) حـول املوقـف مـن العمـل
السـيايس والحكومـات ومبـدأ الخروج على الحاكم ،الـذي ميثّل خطّاً ،بـل ح ّداً،
كبيرا ً فاصلاً بين موقـف السـلفيتني التقليديـة والجهاديـة.
الحـي ،يف التيـار السـلفي
ّ وبالرغـم مـن انخـراط املجموعـة السـلفية ،يف
التقليـدي عمومـاً ،ومشـاركة أبنائهـا يف املحـارضات والـدروس ،واللقـاء مـع
الشـيوخ املعروفين والتأثـر بهـم ،والتزامهـم بحضـور دروس أحد أبرز الشـيوخ
ٍ
مبسـجد يف الصاعديـن يف التيـار ،د .أحمـد أبـو سـيف ،الـذي يخطـب – أحياناً-
حـي الطفايلـة ،إالّ أنّهـم يؤكّدون
جبـل التـاج ،وهو مسـجد قريـب من أطراف ّ
عـدم اهتاممهـم أو اكرتاثهـم بالخالفـات ،التـي حدثـت يف أوسـاط التيـار منـذ
77
وفـاة األلبـاين ،فهـم ،عمومـاً ،يواظبون عىل سماع محارضات ودروس الشـيخني
مشـهور حسـن وعلي الحلبـي ،منـذ البدايـة ،ويتجنبـون متامـاً الحديـث يف
القضايـا اإلشـكالية التـي حدثـت ،ويـرون أنهـم «غير معنيين بهـا»!
الحـي ،للعودة إىل البدايات؛
يحفّزنـا هـذا النقاش مع املجموعة السـلفية يف ّ
كيـف تأثروا باملنهج السـلفي؟ وملاذا؟
يبرز ،هنـا ،تأثير ملحـوظ ألحـد أفـراد املجموعـة ،زيـد عـواد (أبـو أسـامة)،
وهـو يف األربعينيـات مـن عمـره ،كما هـي حـال أعمار أغلـب أفـراد هـذه
املجموعـة ،موظـف يف القطـاع العـام ،لكن مـن الواضـح أنّه أحد أهـم مفاتيح
حـي الطفايلـة.
تأسـيس هـذه املجموعـة ونشر الفكـر السـلفي يف ّ
حـي الطفايلة ،سـواء منذ
وبالرغـم مـن أ ّن أفـراد املجموعـة هـم مـن أبنـاء ّ
فترة قدميـة أو حديثة ،ويتشـابهون يف العديـد من الخصائـص االجتامعية ،فهم
غالبـاً مـن الطبقـة الوسـطى الدنيـا ،ومن عشـائر الطفيلـة ،ومن بيئـة محافظة
إجماالً؛ إالّ أ ّن تجاربهـم الفكريـة السـابقة متباينـة بعض اليشء.
هنالـك مـن كان قريبـاً مـن خـط جامعـة اإلخـوان املسـلمني ،ويشـارك يف
نشـاطات الجامعـة وأفكارهـا ومواقفهـا ،ومـن كان أقـرب إىل جامعـة التبليـغ،
ومـن مل تكـن لـه سـابقة بااللتـزام الدينـي نفسـه ،لك ّنهـم أجمعـوا على أ ّن مـا
أقنعهـم يف الدعـوة السـلفية ،ابتـدا ًء ،وشـكّل مصـدر الغوايـة واإلغراء األسـايس
هـو حـرص السـلفيني على العلـم الرشعـي وتركيزهـم على الشـؤون الدينيـة،
وبسـاطة الدعـوة وسـهولتها باعتامدهـا عىل «الدليـل الرشعي» (أي االسـتدالل
بالنصـوص مـن القـرآن والسـنة النبويـة) ،والتأكّـد مـن ص ّحـة التديّـن والتزامه
بالطريقـة الصحيحـة ،مـن خلال البحـث يف مـدى ص ّحـة األحاديـث ،واالبتعاد
التعصـب الحـزيب ،وعـدم خلـط الديـن بالسياسـية وباألهـواء الشـخصية ّ عـن
والسياسـية ،بخلاف األحـزاب والجامعـات اإلسلامية األخـرى ،التـي كان عـدد
مـن أبنـاء هـذه املجموعـة يتأثـر بهـا ،لك ّنهـا مل تكـن تعطـي العلـم الرشعـي
ودراسـته وتدريسـه أهميـة حقيقيـة ،وال تهتـم بالدليـل الرشعـي ،وال بربـط
مواقفهـا ومامرسـاتها بـه ،وتخلـط بين التعصـب السـيايس والحـزيب مـن جهـة
78
والديـن مـن جهـة أخـرى ،بـل تغلّـب يف أحيـان كثيرة االعتبـارات الحزبية عىل
االعتبـارات الدينيـة والفقهيـة.
أحـد أفـراد املجموعـة كان يتعـاون مـع اإلخـوان املسـلمني ،ويشـاركهم
يف نشـاطاتهم املختلفـة ،لك ّنـه اكتشـف مـع مـرور الوقـت عـدم اهتمام أفـراد
الجامعـة (اإلخـوان) بالعلـم الرشعـي ،وعـدم التزامهـم بصلـوات الجامعـة يف
املسـاجد ،وال بالتقيـد باألحـكام الرشعيـة ،فشـعر بأ ّن هنالـك «تسـيّباً» كبريا ً يف
التـزام أبنـاء الجامعـة ،مـا طرح لديـه شـكوكاً يف حرصهم عىل التديّـن الصحيح،
وشـعر بتغليبهـم االعتبـارات الحزبيـة على الجوانـب الدعويـة والدينيـة ،بينام
وجـد األمـر مختلفـاً بالكليـة لدى الدعـوة السـلفية ،التي تهتـم بالعلم الرشعي
وبااللتـزام الدينـي وبالتقيـد باألحـكام الرشعيـة ،وتبتعـد متامـاً عـن االعتبارات
السياسـية والحزبية.
والحـال نفسـها ،بالنسـبة لبعـض مـن كان يلتـزم مـع جامعـة التبليـغ ،خالل
حقبـة الثامنينيـات ،وقـد خـرج مـع تلـك الجامعـة إىل العديـد مـن املسـاجد
واملناطـق ،لك ّنـه مـع مـرور الوقـت بدأ ينزعج مـن عدم اهتمام الجامعة مبدى
ص ّحـة األحاديـث ،ومـن ضعـف مسـتوى العلـم الرشعـي لـدى أفرادهـا ،بـل
واختزالهـا اإلسلام فقـط بـ«الخروج يف سـبيل الله» ،ما جعله يبحـث عن تص ّور
آخـر للدعـوة وااللتـزام الدينـي ،ومل يجـد ذلـك يف جامعـة اإلخـوان املسـلمني،
فيام وجـده يف السـلفيني.
البدايـات العمليـة كانـت عبر الشـيخ زيـد عـ ّواد ،الـذي تأثر بالشـيخ رأفت
لطفـي ،وهـو موظـف يف رشكـة الكهربـاء ،أصبـح ،الحقـاً ،مـن املعروفين يف
أوسـاط التيـار السـلفي التقليـدي ،قـام زيـد بـدو ٍر أسـايس يف بنـاء نـواة التيـار
حـي الطفايلـة ،وأث ّـر على اآلخريـن .ومـع مـرور الوقـت تشـكّلت السـلفي يف ّ
هـذه املجموعـة السـلفية ،وسـاعد على التقـاء أفرادهـا وتآلفهـم عامـل الـدم
حي الطفايلـة يف التعريف والقرابـة والجيرة ،فأصبحـوا يقومون بـدو ٍر فاعل يف ّ
بالدعـوة اإلسلامية ،وفقـاً للمنهـج السـلفي ،ويحـرص أفرادهـا على حضـور
الـدروس العلميـة املتسلسـلة لـكل مـن مشـهور حسـن وعلي الحلبـي ،ويف
79
الجـوار خطـب ودروس أحمـد أبـو سـيف.
وبالرغـم مـن أن تعليـم أغلبهـم يقـع ما بني شـهادة الدبلـوم والثانوية ،فيام
يكمـل آخـر دراسـة بكالوريـوس الرشيعة اإلسلامية يف جامعة خاصـة ،إالّ أنّهم
حريصـون على مواكبـة التعليـم الرشعـي ،عبر الشـيوخ السـلفيني ،وأيضـاً مـن
خلال الفضائيـات السـلفية ،وتحديـدا ً فضائيـة األثر ،التـي متثّل التيار السـلفي
التقليـدي األردين ،باإلضافـة إىل فضائيـات أخـرى ،مثـل :البصيرة والرحمـة،
وبعضهـم يتابـع القنـوات العلميـة ،مثل ديسـكفري.
الحـي ،يف موقـع مختلـف متامـاً مـع الحـراك الشـبايب
ّ يقـف السـلفيون ،يف
املعـارض املعـروف ،الـذي يطالـب باإلصالحـات السياسـية والتغيير ،ويخـرج
يف مسيرات ومظاهـرات ،ويرفـع مـن سـقف شـعاراته السياسـية ،مـا أدى إىل
اعتقـاالت عـدة طالـت أفـرادا ً منـه ،لكـن بالرغـم مـن هـذا االختلاف مل يتح ّد
السـلفيون الحـراك ،ومل يقفـوا يف وجهـه عالنيـة ،إمنـا اكتفـوا بإبـداء مواقفهـم
الفكريـة منـه ،وهـي التـي تسـتند إىل رؤيـة التيـار السـلفي التقليـدي ،عموماً،
ضـد املظاهـرات واملسيرات ،وأي نشـاطات سياسـية معارضـة ،بوصفهـا إن مل
تكـن خروجـاً مسـلّحاً على الحاكـم اليـوم ،فإنّهـا تفضي إىل خـروج مسـلّح يف
الغـد ،كما يقـول أحـد السـلفيني يف جلسـتنا معهـم.
فاملوقـف السـلفي يـرى حرمـة املظاهـرات واملسيرات ،82ويضيـف إىل ذلـك
زيـد عـدوان «بأنّنـا قـد نتفـق مـع مطالـب الحـراك ،ورمبـا أهواؤنـا تدفعنا إىل
مشـاركتهم يف هـذه االحتجاجـات ،نظـرا ً للظـروف االقتصاديـة الصعبـة ،لكننـا
نضبـط أنفسـنا باألحـكام الرشعيـة ،التـي ال تجيـز ذلـك» .ويعقّـب آخـر مـن
( )82انظــر :محمــد أبــو رمــان ،ســلفيو األردن وثــورات الربيــع العــريب ،مركــز الجزيــرة
للدراســات ،لق ـراءة نــص التقريــر كام ـاً اقــرأ الرابــط التــايل:
http://studies.aljazeera.net/ResourceGallery/media/Documents/20122/22/7/
012722105741145580Jordanian%20Salafia.pdf
80
السـلفيني على هـذا املوقـف بالقـول «أغلـب املظاهـرات واملسيرات تخـرج
ألسـباب دنيويـة ،وال تجـد فيهـا مضمونـاً دينيـاً حقيقيـاً ،بـل كثير مـن هـؤالء
الشـباب ليـس ملتزمـاً أصلاً بأحـكام اإلسلام ،فكيـف نشـارك يف ذلـك؟»!
ويسـتحرض جلسـاؤنا السـلفيون ،يف هـذه الجلسـة ،األحاديـث النبويـة التـي
تحـثّ على الطاعـة ،وتحذّر مـن الخروج عىل الحـكّام ،وما قد يـؤدي إليه ذلك
مـن «فتنـة» ،ودمـاء وفوىض ،ويتسـاءل بعضهـم « أين نذهب بهـذه األحاديث
النبويـة الواضحـة يف تحريم املظاهـرات واالحتجاجات؟»!
أمـا عـن املوقـف مـن دخـول السـلفيني املرصيين يف مضامر العمل السـيايس
والحـزيب ،ومشـاركتهم يف االنتخابات النيابية ،فريفض أصحابنـا ذلك ،ويتوافقون
مـع رأي مشـايخهم مثـل علي الحلبـي ومشـهور حسـن ،اللذيـن رفضـا القبول
بالتجربـة املرصيـة ،ويؤكـد أصحابنـا عىل صحة هـذا املوقـف ،إذ ينقل أحدهم
عـن الشـيخ مشـهور قسـمه يف بدايـة هـذه التحـوالت يف موقف سـلفيي مرص
بـأ ّن «تجربتهـم ستفشـل» ،وينهـي السـلفي حديثه بـأ ّن «األحـداث أكدت عىل
صحـة هذا القسـم».
81
-2-
معاذ العوايشة :الجيل األكاديمي
الجديد
يف جلسـة أخـرى جمعتنـا مـع الدكتـور معـاذ العوايشـة وعـددا ً مـن أبنـاء
التيـار السـلفي ،ممن يسيرون حالياً يف طريـق إمتام دراسـاتهم العليا ،للحصول
على شـهادة الدكتـوراه يف الرشيعة اإلسلامية ،يف منزله املرتبط مبسـجد الهجرة
حـي النصر يف عامن.83
يف ّ
يف هذه الجلسـة سـنجد أنفسـنا أمام الجيل الجديد يف التيار ،ممن يحملون
أفـكارا ً جديـدة ورؤيـة نقديـة لواقـع التيـار على السـاحة األردنيـة ،بخلاف
حـي الطفايلـة التـي تتبنـى بصـورة كاملـة مواقـف وأفـكار مشـيخة
مجموعـة ّ
التيـار التقليدي.
الدكتـور معـاذ العوايشـة ،مـن مواليد العـام ،1975حصل مؤخـرا ً عىل درجة
الدكتـوراه يف الرشيعـة اإلسلامية مـن جامعـة الريمـوك ،وكان قـد حصـل على
املاجسـتري مـن األردنيـة ،والبكالوريوس من كليـة الدعوة وأصـول الدين (حالياً
كليـة يف جامعـة البلقـاء التطبيقيـة) ،وهـو إمـام مسـجد دار الهجـرة وخطيب
الجمعـة فيـه ،منذ مـ ّدة طويلة.
ولـد معـاذ يف السـعودية ،وأمضى فترة الدراسـة األوىل والطفولـة هناك مع
أرستـه ،فوالـده معلّـم للغـة العربيـة ،ولـه ميول سـلفية ،حرض معـاذ مع أرسته
إىل األردن مـع حـرب الخليـج الثانية ،وهو يف الصف التاسـع االبتـدايئ ،ليقطنوا
جبـل النرص ،ويكمل دراسـته يف األردن.
82
يف البدايـات ،الحـظ معـاذ تعدد الجامعات والحركات اإلسلامية يف املسـاجد،
حي جبل النرص نفسـه، وحتـى يف مدرسـته ،أبـو الهدى الصيـادي الحكومية ،يف ّ
وكانـت أجـواء االنتفاضـة الفلسـطينية تلقـي بظاللها على املشـهد األردين ،مع
قيـام عـدد من شـباب جامعة اإلخـوان املسـلمني بالتوجه نحـو األرايض املحتلة
يف عمليـات فدائيـة ،وكان خطـاب شـيوخ اإلخـوان يحظـى بحضـور كبير يف
األوسـاط الشعبية.
مل تطـل حيرة معـاذ تجـاه الحـركات اإلسلامية ،فتأثير ع ّمـه الدكتـور حسين
العوايشـة كان كبيرا ً عليـه يف البدايـة ،إذ كان ع ّمه أحد أبرز الشـيوخ السـلفيني
يف األردن ،ويحظـى بعالقـات وطيـدة مـع الشـيوخ السـلفيني اآلخريـن ،ويف
مقدمتهـم الشـيخ األلبـاين ،الـذي كان يقطـن هـو كذلـك يف جبـل النصر.
هـذه البيئـة االجتامعيـة املحيطـة أتاحـت ملعـاذ فرصـة اللقـاء والجلـوس
مـع كبار الشـيوخ السـلفيني مبكّـرا ً ،فكان يحرض جلسـاتهم الخاصة ودروسـهم
العامـة ،ويواظـب عليهـا ،يقترب مـن مجالـس األلبـاين ،ويتابـع دروس علي
الحلبـي ومشـهور حسـن ،ويحضر غالبـاً مجالـس ع ّمه ،فـكان منذ سـ ٍّن مبكّرة
منخرطـاً يف األوسـاط السـلفية ،وبالقـرب مـن القيـادات املعروفـة يف التيـار.
اندمـج معـاذ يف الـدروس العلميـة الرشعيـة السـلفية مبكّـرا ً ،وتعلّـم أصول
املنهـج والعلـم الرشعـي ،وعاش يف األوسـاط السـلفية خالل العقديـن املاضيني،
وتوسـعت دائـرة عالقاتـه والتحـق مبرحلـة البكالوريـوس بكليـة الرشيعـةّ ،
ومعارفـه بالطلاب السـلفيني يف الجامعـة خلال تلـك الفترة.
خلال تلـك الفترة ،يف التسـعينيات ،بـدأت االختالفـات السـلفية تطفـو على
السـطح ،وظهـرت السـجاالت بين االتجـاه التقليـدي واالتجاهـات «الرسورية»
والحركيـة ،وبـرز الخلاف بين علي الحلبـي ولجنـة البحـوث الرشعيـة يف هيئة
كبـار العلماء يف السـعودية حـول قضايـا اإلميـان ،ومـا تخلـل ذلـك مـن ردود
ونقاشـات علمية حـا ّدة.
83
تأث ّـر معـاذ بالخطـاب السـلفي الجديـد يف السـعودية ،الـذي كان يطرحه كل
مـن سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة ود .نـارص العمـر (يف النصـف األول مـن
التسـعينيات) ،لكـن األثـر األكبر ،كما يذكـر ،كان للجانـب الدعـوي ،فاسـتمع
ألغلـب محارضاتهـم ،عبر أرشطة الكاسـيت ،التـي كانت تنترش بصـورة كبرية يف
األوسـاط السـلفية واإلسلامية عموماً يف األردن ،وتجتذب اهتامماً واسـعاً وكبريا ً
يف األوسـاط السـلفية واإلسلامية عموماً.
مل يسـتمر األمر عىل هذا النحو؛ إذ دخل الشـيوخ السـلفيون الجدد (الحوايل
والعـودة والعمـر) يف خالفـات مـع الحكـم السـعودي ،وواجهـوا نقـدا ً كبريا ً من
التيـار السـلفي التقليـدي يف األردن ،ملـا أثـاروه مـن مواقـف سياسـية ،وقضايـا
تتعلّـق بـ«فقـه الواقـع» ،أو بعبارة أخرى املوقف السـلفي من العمل السـيايس
عمومـاً ،وانتهـى األمـر إىل اعتقالهـم ،وإصـدار هيئـة كبـار العلماء ،ممثلـة
بشـيوخها السـلفيني الكبـار ،أمثـال عبـد العزيـز بـن بـاز ومحمـد صالـح ابـن
عثيمين ،فتـوى بعـدم السماع لهـذا الخطـاب ،وهـو موقـف توافـق متامـاً مـع
مـزاج التيـار السـلفي التقليـدي األردين السـلبي مـن هـذا الخطاب.
بالرغـم مـن أ ّن معـاذ اسـتم ّر مـع التيـار التقليـدي ،وأصبـح أحـد «طلاب
العلـم» البارزيـن املؤث ّريـن فيـه ،ومـن الجيـل األكادميـي الجديـد ،بعـد أن أت ّم
ومتمسـكاً بأصـول هـذا املنهـج ،إالّ أنّـه طـ ّور رؤيتـه الفكرية،
ّ دراسـاته العليـا،
ذات الطابـع النقـدي مـع مـرور الوقت ،وقد تعـ ّززت بعد وفاة الشـيخ األلباين،
وتطـ ّورت مـع بـروز الخالفـات يف أوسـاط الشـيوخ الكبـار يف التيـار مـن جهـة،
ومـع التطـورات املتتاليـة املحيطـة مـن جهـة أخرى.
84
املنهـج والفكـرة ،إذ يرى العوايشـة أ ّن املنهج السـلفي يقوم على أهمية الدليل
الرشعـي ورفـض التعصـب املذهبـي والحـزيب أو لألشـخاص والشـيوخ ،وهـو ما
بـدأ يقـع فيـه السـلفيون ،يف بعـض األحيـان ،عبر الهالة الكبيرة التـي مينحونها
لشيوخهم!
متتـد هـذه الرؤيـة النقديـة إىل الشـعور بضعف الجانب الرتبوي يف أوسـاط
التيـار ،وعـدم االهتمام بـه ،مـا أ ّدى إىل اختلاالت كبيرة ،بالرغـم مـن أ ّن رؤية
الشـيخ األلبـاين للتغيير تقـوم عىل شـقني هام؛ التصفيـة (تنقيح العلـم الرشعي
وتصفيتـه مـن املفاهيـم واألفـكار واملعلومـات الخاطئـة والضعيفـة) والرتبيـة،
فاهتـم كثير مـن السـلفيني يف الجانـب األول وأهملـوا الجانـب الثـاين الرتبوي،
وهـو مـا ينبغي أن يُـر ّد االعتبـار له.
يُلقـي العوايشـة بنفسـه على جانب مـن «الخطوط الحمراء» -لدى شـيوخ
التيـار التقليـدي -عبر تسـاؤله عـن سـبب اإلرصار على رفض العمـل الجامعي
واملؤسسي ،مـا يجعـل التيـار السـلفي ضعيفـاً ومفـكّكاً وغير مؤث ّـر يف الحيـاة
السياسـية والعامـة ،بالرغـم مـن أ ّن حجم التيار كبير ،وميكن أن يُ ِ
حـدث تغيريا ً
ملحوظـاً ،فيما لو كان أكثر تنظيماً وفعالية.
وفقـاً لهـذا اإلدراك أسـس العوايشـة جمعيـة «منـار الهـدى» ،التـي تعنـى
بالعمـل الخيري واالجتامعـي والدعـوي ،وهـي رؤيـة يشـاركه فيهـا رفاقـه من
الجيـل األكادميـي السـلفي الجديـد ،ومتثّـل اخرتاقاً غري مبارش لسـطوة الشـيوخ
الكبـار الحاليين يف التيـار السـلفي ،مـن أمثـال علي الحلبي ومشـهور حسـن.
بالرغـم مـن عـدم ظهـور الخالفـات بني أبناء هـذا الجيل ومشـيخة التيار ،إالّ
أ ّن أبناء الوسـط السـلفي يدركون ذلك ،لك ّن انشـغال الشـيوخ بخالفات عميقة
دبّـت يف أوسـاطهم وبخالفـات أخـرى مـع الشـيخ ربيـع بـن هـادي املدخلي
جعلهـم يتج ّنبـون الدخـول يف مواجهة مـع هذا الجيل الجديـد ،فأصبح الخالف
كل بطريقتـه وباتجاهـه مـن دون أن مبثابـة «املسـكوت عنـه» حاليـاً ،ويعمـل ٌّ
يصطـدم مبارشة بالطـرف اآلخر!
85
ال يخفـي د .معـاذ عـدم مامنعتـه يف انخـراط السـلفيني يف العمـل السـيايس
والحـزيب ،إذ كان ذلـك سـيأيت بنفـع عـام ،ويخـدم املشروع اإلسلامي ،الـذي
يحملـه التيـار السـلفي ،ويطـ ّور موقفـه مـن الدميقراطيـة إىل درجـة قريبـة
مـن التجربـة املرصيـة ،عبر التمييـز بين الدميقراطيـة بوصفهـا آليـات ،مثـل
االنتخابـات وتـداول السـلطة ،وهـو أمـر مقبـول ،وبوصفهـا قيماً غربيـة ال بـد
مـن إقرارهـا ،وهـو مـا يتحفّـظ عليـه العوايشـة.
يح ّدد العوايشـة أولوياته يف املرحلة القادمة باملسـاهمة يف الوصول إىل أكرب
عـدد ممكن من الشـباب السـلفي املتعلّـم الجامعي ،والحاصل عىل الشـهادات
العليـا ،الـذي ميكـن أن يشـارك يف تعزيـز حضور التيـار ودوره يف املشـهد العام،
ويسـاعد يف انتشـاره يف املجتمـع ،ويف القيـام بأدوار أكبر يف املجال العام.
ليـس واضحـاً بعـد املـآل الـذي سـتصل إليـه رؤية العوايشـة ورفاقـه الجدد
وتالميـذه ،فيما إذا كانـت سـتنتهي إىل صـدام مـع املشـيخة التقليديـة ،أم أنّها
سـتعكس صعـود جيـل قيـادي جديد ميسـك بزمـام األمـور ويقود مسـار التيار
يف اتجـاه تصحيحـي مختلـف عن الوضـع القائـم حالياً!
86
-3-
منتم ،حائر
ٍ نماذج شبابية جديدة:
ومرواغ!
مـن النماذج التـي نقـف عليهـا يف أروقـة التيـار السـلفي ،وتنتمـي إىل جيـل
الشـباب ،مثـاالن يلقيـان الضـوء بصورة أكرب عىل الوسـط السـلفي ،والنقاشـات
العامـة فيـه ،واألفـكار التـي يحملها أبنـاء هذا التيـار ،فسنسـتمع يف الصفحات
القادمـة لـكل مـن املهنـدس منترص وفتحـي العلي لتجربتيهام مع السـلفية يف
السـنوات املاضية.
87
تالميذ الشـيخ السـلفي عيل الحلبي ،الذي كان يعطي دروسـاً يف العلم الرشعي
حـي وادي الحجـر ،يف مدينـة الزرقـاء (ثم انتقل درسـه
يف مسـجد البخـاري ،يف ّ
األسـبوعي الحقـاً إىل مسـجد عمر بـن الخطاب يف وسـط املدينة).
بـدأ الفتـى يواظـب على حضور دروس الشـيخ ،ومتابعتـه ،وبقي عىل هذه
الحـال قرابـة 4أعـوام ،وهـو يـدرس العلـوم الرشعيـة على يـد الحلبـي ،وغريه
مـن املشـايخ ،حتـى أصبـح معروفـاً لـدى الشـيخ الحلبـي ،والشـيوخ اآلخريـن
البارزيـن ،وانغمـس مـع مـرور الوقـت يف أوسـاط التيـار ،حتـى أصبـح مـن
وملماً بالتفاصيـل الدقيقة يف اإلشـكاليات
الحلقـة القريبـة مـن مشـيخة التيارّ ،
العلميـة والخالفـات الشـخصية ،واألرسار التـي تتـوارى وراءهـا!
ملاذا السـلفية؟ يجيب صاحبنا عىل ذلك بأنّها توافقت مع ميوله الشـخصية،
يف حبـه للعلـم واملعرفـة واهتاممـه باملسـائل التفصيليـة والدقيقة ،ما ينسـجم
متامـاً مـع طبيعـة املنـاخ السـلفي ،وهـو مـا يحيلـه إىل خلفيتـه االجتامعية ،إذ
نشـأ يف أرسة تحـب املعرفـة والعلم ،وتهتـم باألخبـار واألدب والثقافة ،فاملعرفة
مجبولـة يف حياتهـا اليومية.
يعترف فتحـي بـأ ّن ابتعـاد التيـار السـلفي التقليـدي عـن غمار السياسـة
واالشـتباك مـع الحكومـات سـبب رئيـس يف إقباله عليـه ،وبخاصة يف السـنوات
األخيرة ،التـي دخلـت فيهـا الحـركات اإلسلامية األخـرى ،مثـل اإلخـوان
والجهاديين ،يف صـدام مـع السـلطات العربيـة والواليـات املتحـدة األمريكيـة،
فمثـل هـذه األجـواء تدفـع مـن يفضّ ـل االبتعـاد عـن املشـكالت األمنيـة إىل
البحـث عـن تيـار إسلامي بعيـد عـن حالـة الصـدام هـذه.
السـبب الثالـث يتمثّـل يف ابتعـاد التيـار السـلفي ،عمومـاً ،عـن التعصـب
الحـزيب ،فهـو ال يحـ ّدد الفـرد يف إطـار تنظيمـي ،وال يقيـد أفـكاره ،كما هـي
حـال جامعـات إسلامية أخـرى ،وإن كان فتحي يقـ ّر بأ ّن «التعصب للمشـيخة
واألشـخاص واألمـراض الحزبيـة بدأت تنتقل إىل السـلفية ،يف السـنوات األخرية،
وهـو مـا ظهـر جل ّيـاً يف انفجـار الخالفـات بين الشـيوخ وعمليـات اإلقصـاء
واإلبعـاد التـي تحـدث بحـق بعـض االشـخاص مـن التيـار».
88
بعدمـا أتـ ّم فتحي دراسـة الدبلـوم ،زكّاه بعض السـلفيني للعمل عن قرب مع
الشـيخ سـليم الهلايل ،يف العام ،2007فبدأ يشـارك يف إدارة املواقـع االلكرتونية
التـي يرشف عليها الشـيخ ،ويسـاعده يف تحقيـق الكتب الرتاثيـة ،إالّ أن صاحبنا
وقـع يف حبائـل سـوء الطالـع ،إذ تف ّجرت الخالفـات بعد فرتة قصيرة من عمله،
بين الهلايل والحلبـي ،واشـتعلت الحرب اإلعالميـة واملعنوية بينهما ،فوقع هو
ضح ّيـة بين شـيخه الحلبـي ،الـذي درس على يديـه سـنوات طويلـة ،والهلايل،
الـذي بدأ يعمـل معه يف اآلونـة األخرية.
مـع ذلـك اسـتمر فتحـي (الـذي يلقّـب نفسـه بـأيب متعـب ،يف منتديـات
السـلفيني) يف العمـل مـع الشـيخ الهلايل ،قرابـة أربعـة أعـوام ،اكتسـب فيهـا
خبرة علميـة جديـدة ،لك ّنه أضـاف أيضاً إىل جعبتـه مزيدا ً مـن األرسار الخاصة
املرتبطـة بالخالفـات بين مشـايخ التيـار الكبـار.
فكّـر صاحبنـا بالهـروب إىل األمـام مـن أجـواء الخالفـات الداخليـة ،فقـرر
السـفر إىل السـعودية ،وتواصـل مـع تالميذ مق ّربني من الشـيخ ربيـع بن هادي
املدخلي ،أحـد أبـرز رمـوز املدرسـة الجاميـة هنـاك ،وهـي املدرسـة املعروفـة
باملوقـف املتشـدد ضـد العمـل السـيايس ومـن أي شـكل مـن أشـكال التجمـع
والتنظيـم ،وبتأكيدهـا على مبـدأ طاعـة ويل األمـر ،وباإلغـراق يف عمليـة
التصنيـف تجـاه اإلسلاميني اآلخريـن وحتـى السـلفيني ،وهـي املجموعـة ،التي
أعلنـت الحـرب يف مرحلـة مبكّـرة عىل التيـار السـلفي الصحوي يف السـعودية،
وكان ميثّلـه حينهـا سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة ونـارص العمـر وغريهـم.
وصل فتحي األثري إىل أوسـاط الشـيخ املدخيل وقد سـبقته الخالفات التي
انفجـرت بين هـذا الشـيخ وشـيخه الحلبـي ،رمبـا هـو قـدر الشـاب أو أنّـه هو
الـذي يسير وراء هـذه األقـدار ،وألنّـه كان يسـعى للحصـول عىل عمـل وإقامة
يف السـعودية ،قبـل صاحبنـا بنصيحـة مـن تالميـذ املدخلي بأن يصـ ّدر مقاالً يف
املنتديـات السـلفية ضد شـيخه الحلبـي ،ويبدو أنّـه وافق بعدما أصبـح معتادا ً
على هـذه اللغـة ،خلال فترة عملـه مـع الشـيخ سـليم الهلايل ،فكتـب مقـاالً
بعنـوان «اللمـع يف أن علي الحلبـي مـن أحـ ّط أهـل البـدع» ،وتبـدو املفارقـة،
89
هنـا ،يف أ ّن «هـذا املقـال أصبـح مـن أكثر املقـاالت شـهر ًة يف املنتديـات» ،كما
يـروي العلي ،بخاصـة أنّـه نقل فيه كالم املدخلي بحق الحلبي ووصفـه له بأنّه
«مـن أحـ ّط أهـل البدع».
مل يسـتفد فتحـي مـن هـذا املقـال شـيئاً ،وعـاد إىل األردن بعد فترة قصرية،
على وعـد من أحد الشـيوخ السـلفيني ،األردنيين (من أصول فلسـطينية) ،وهو
أسـامة عطايـا ،بـأ ّن يسـاعده يف تأمين اإلقامـة يف السـعودية ،وشـهدت تلـك
الفترة مللمـة خالفـات البيـت الداخلي السـلفي ،مـا سـاعد عىل عودتـه للعمل
عم قـام به الشـاب ،وض ّمه مـ ّرة أخرى إىل
مـع شـيوخ التيـار ،وتغـايض الحلبـي ّ
أروقـة التيـار وحلقاتـه القريبة.
خلال عملـه مـع الشـيخ سـليم الهلايل يف املواقـع االلكرتونيـة ،التـي يرشف
عليهـا ،كانـت املفارقـة أنّـه يعمـل أيضـاً مـع أسـامه عطايـا يف املواقـع التـي
يشرف عليهـا األخير ،بالرغـم من الرصاع الشـخيص الشـديد بني األخري وشـيوخ
السـلفية يف األردن ،إال أ ّن صاحبنـا رفـض عرضـاً بـأن يكتـب باسـم مسـتعار يف
موقـع أسـامة عطايـا ،ومل يتردد يف مهاجمـة األخير مبقـاالت الذعـة قاسـية،
مستنسـخاً األسـلوب السـلفي ،الـذي أصبـح معروفـاً بهـذه الكتابـات النقديـة
الالذعـة القاسـية يف لحظـات االختلاف واالفتراق!
ما يزال فتحي ،وهو اليوم يلج العقد الثالث من عمره ،منغمسـاً يف الوسـط
السـلفي ،ومق ّربـاً مـن املشـيخة التقليدية ،ويكتـب باسـتمرار يف منتديات «كل
السـلفيني» للشـيخ علي الحلبـي ،ويراقـب عن كثب مـا يحدث يف أروقـة التيار
ودهاليـزه مـن خالفـات ومـا ينفجـر مـن قضايـا جدليـة ،مـا يصعـد من أسماء
ملمً باملنهج السـلفي يف معاملـه الفكرية والعلمية
ومـا يهبـط منها ،وقـد أصبح ّ
وخفايـاه الواقعيـة ،ومام سـاعده عىل تحصيـل هذه الخربة الرثيـة واملكثّفة هو
انخراطـه يف التيـار يف مرحلة مبكّـرة من عمره.
90
النموذج السائد« :السلفي املنتمي»
املثـال الثـاين هـو منتصر ،مهنـدس ،من مواليد العام ،1987من سـكان حي
الجندويـل يف عمان الغربيـة ،ويعمـل حالياً مدرسـاً بديلاً يف الرتبيـة والتعليم،
ويفكّـر جليّـاً يف إكمال دراسـاته العليـا يف الهندسـة ،بعـد أن حصـل عىل درجة
البكالوريـوس مـن جامعـة البلقـاء التطبيقيـة ،وهـو مـن أرسة محافظـة ،مـن
الطبقة الوسـطى.85
بـدأت رحلـة منتصر ،الـذي يك ّنـي نفسـه بـأيب هـود األثـري ،مـع التجربـة
السـلفية بعد أن أنهى الثانوية العامة ،قبل ذلك كان هاوياً للغناء واملوسـيقى،
بخاصـة (الطبلـة) ،لك ّنـه بدأ يتحول نحـو التدين يف نهاية املرحلـة الثانوية ،ما ّرا ً
بالتصـ ّوف العا ّمـي ،يقـول «اسـتبدلت الغنـاء باألناشـيد ،والطبلـة بالـدف ،مـن
دون أن يحـدث ذلـك نقلـة حقيقيـة يف حيايت الشـخصية واليوميـة وأفكاري»!
إالّ أ ّن صاحبنـا رسعـان مـا تعـ ّرف يف الجامعـة على طلاب سـلفيني ،ومـن
املفارقـات أنّـه تأثـر يف الفترة األوىل بأحـد أبنـاء التيـار السروري (السـلفي
الحـريك) ،الـذي تتلمـذ على يـد الشـيخ سـلامن العـودة يف السـعودية ،فكانـا
يتناقشـان يف مسـائل الرشيعـة والقضايـا السياسـية املعـارصة.
يف الوقـت نفسـه كان منتصر يجلـس مع مؤذن املسـجد القريب من منزله،
وهـو أيضـاً سـلفي التو ّجـه ،مـا دفعـه إىل التفكري يف التعـ ّرف أكرث عىل املشـايخ
السـلفيني ،وعلى هذا التيـار ،وتحديد موقفـه بصورة أكرث موضوعيـة ووضوحاً.
بالفعـل ،بـدأ منتصر يحضر دروس الشـيخ مشـهور حسـن ،ويطّلـع على
الكتـب السـلفية ،مثـل كتـب محمـد بـن عبـد الوهاب واأللبـاين وابـن عثيمني،
ويتع ّمـق أكثر وأكثر يف معرفـة هـذه األوسـاط ،يف األثنـاء كان هـذا االقتراب
بقصـد املعرفـة أقـرب إىل االندمـاج يف التيـار ويف اإلمسـاك باملنهـج السـلفي،
فأصبـح مـع مـرور الوقت منخرطـاً يف الـدروس العلميـة ،مهتامً بأدبيـات التيار
وأفـكاره ،متبنيـاً لرؤيتـه املنهجيـة والفكريـة ،مـا انعكس عىل شـخصية صاحبنا
( )85جرى اللقاء يف مبنى صحيفة الغد يف عامن ،بتاريخ .3102-11-61
91
الشـاب ،سـواء يف اللبـاس أو منـط التديـن ،ويف موقفـه مـن القضايـا املحيطـة
والحـركات اإلسلامية املختلفـة.
ال تختلـف إجابـة أيب هـو ٍد السـلفي عن غريه يف السـبب الرئيـس الذي جعله
يفضّ ـل االتجاه السـلفي عىل غيره ،ويتمثل باالهتامم بالعلـم الرشعي واملعرفة،
وهـو مـا توافـق متامـاً مـع ميـول منتصر منـذ الصغـر ،فهـو محـب للمعرفـة
والتعليـم ،ووجـد لدى السـلفيني الحرض نفسـه على تعليم أمـور الدين ومتييز
األحاديـث الصحيحـة مـن الضعيفـة ،بخلاف الحركات اإلسلامية األخـرى ،مثل
جامعـة اإلخـوان وغريهـا ،التـي تعطـي الجانـب السـيايس والنشـاطات أهميـة
أكرب مـن العلـوم الرشعية.
انغمـس صاحبنـا السـلفي بصـورة كبيرة يف حلقـات العلـم الرشعـي ،التـي
يعقدهـا باسـتمرار شـيوخ التيـار الكبـار ،فحـرص على حضـور دروس الشـيخ
مشـهور والحلبـي وأيب إسلام بانتظـام ،وعىل حضور خطبة الجمعة عند الشـيخ
حمـزة املجـايل ،وهو من الشـخصيات األكادميية الصاعدة يف التيار ،يف مسـجده
على طريـق املطـار ،ويف الوقـت نفسـه أكـب منترص على القـراءة املنتظمة يف
الكتـب العلميـة والرشعية السـلفية.
تتطابـق أراء صاحبنـا مـع املواقـف املعروفة ملشـايخ التيار السـلفي ،بخاصة
يف املجـال السـيايس ،فهـو يرفـض العمل السـيايس والحزيب ،ويرفـض املظاهرات
واملسيرات ،ويـرى أنّهـا غير جائـزة رشعـاً ،فهـي تـؤدي إىل الفـوىض والفتنـة
واملشـكالت ،وترفـع مطالـب يف أغلبهـا ذات طابـع دنيـوي ،ال دينـي ،وهي وإن
كانـت سـلمية يف مواقفهـا األوليـة املعلنـة ،إالّ أنّهـا تـؤدي إىل الخروج بالسلاح
والعنـف يف مرحلـة الحقة.
أ ّمـا الدميقراطيـة فهـي ،وفقـاً لصاحبنـا ،مصطلح فضفاض ،غير محدد ،لكنها
يف جوهرهـا تعنـي حكم الشـعب ،بينام يف اإلسلام الحكم هو للكتاب والسـنة،
ويخطِّـئ منتصر التيار السـلفي املرصي ،الـذي قبل بالعمل الحـزيب ،مبا يخالف
املنهـج السـلفي وأصولـه املعروفـة ،وانخرطـوا يف االنتخابـات النيابيـة والعمـل
السـيايس ،بينما أغلـب الشـؤون السياسـية اليـوم تخالف الرشع اإلسلامي ،وال
92
يتوقـع أن يتمكـن السـلفيون هنـاك مـن تحقيـق أي نتائـج نوعيـة أو تغيير
حقيقـي ،إذ فشـل اإلخـوان املسـلمون يف ذلـك ،وهـم قـد سـبقوهم بعقـود يف
العمـل السـيايس والحزيب!
يـرى منتصر أن التغيير يحـدث عبر تغيير القاعـدة ،أي املجتمـع ،بتصحيـح
عقائـده الدينيـة ومفاهيمه اإلسلامية ،والدعوة والتعليم والرتبيـة ،حتى يصبح
املجتمـع نفسـه يف حالـة أقـرب للصلاح مـن الفسـاد ،ملتزمـاً بأحـكام اإلسلام،
ينبـذ الربـا واملح ّرمـات وملتزمـاً ذاتيـاً بشرع اللـه وأحكامـه ،فهـذا هـو املنهج
الصحيـح يف التـد ّرج يف اإلصلاح والتغيير ،مـا مي ّهـد الطريـق واقعيـاً وفعليـاً إىل
اسـتئناف الحيـاة اإلسلامية وتطبيـق الرشيعـة ،وهـو «حلـم» يعترف صاحبنـا
بـأ ّن تحقيقـه على املدى املنظور مـن الصعوبة مبـكان ،لك ّن محـاوالت اإلصالح
والحـ ّد مـن األرضار والفسـاد أفضل مـن الجلـوس أو اختيار املسـارات الخاطئة
يف التغيير والعمل.
ينحـاز صاحبنـا السـلفي إىل شـيوخ منهجـه يف موقفهـم مـن املعارضـة
رسا ً ،وعدم إظهـار املعارضة ،ويرى السياسـية ،بقولـه بضرورة مناصحة الحاكـم ّ
بـأ ّن السـلفيني الحركيين ،أمثـال سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة ،قـد خلطـوا
املنهـج السـلفي بالحزبيـة والحركيـة اإلخوانيـة ،وهـذا خطـأ ،وأدت حركتهـم
إىل مشـكالت كبيرة ،بلا نتائـج تذكـر ،أ ّمـا الجهاديـون فريفض أن يُطلـق عليهم
مصطلـح «السـلفيني» ،فهـو يراهـم تكفرييين ،بعيديـن عـن املنهـج السـلفي،
فالتقسـيامت الحاليـة للسـلفية ليسـت صحيحـة ،كام يـرى منتصر ،وبالرضورة
يـرى أ ّن املنهـج الوحيـد الصحيـح هـو منهـج السـلفية التقليديـة ،أ ّمـا املناهـج
األخـرى ففيهـا انحرافـات واختلاالت متعـددة.
ينسـجم منتصر مـع مشـيخة التيـار السـلفي حتـى يف املوقـف مـن ربيـع
املدخلي ،إذ يـرى بأنّه «شـ ّط كثريا ً يف التصنيف والر ّد على املخالفني ،ويف الجرح
والتعديـل والحكـم على اآلخريـن ،وانتقـل يف اآلونـة األخرية من الـر ّد عىل أهل
البـدع إىل الـرد على السـلفيني اآلخريـن ،الذين كانـوا أصدقـاءه باألمس»!
93
ما هو طموح صاحبنا املستقبيل؟..
على الصعيـد املجتمعـي أن يكـون املجتمـع أقـرب للصلاح والتديّـن منـه
إىل الفسـاد ،وأن يعـ ّم العلـم الرشعـي الصحيـح والتـزام النـاس بأحـكام الرشع
اإلسلامي .أ ّمـا على الصعيـد الشـخيص فريغـب بـأن يجمع مسـتقبالً بين عمله
يف الهندسـة أو دراسـاته العليـا يف هـذا املجـال مـن جهـة ،وأن يصبـح عاملـاً يف
العلـوم الرشعيـة يقـوم بتدريسـها لطلاب العلـم مـن جهـة أخرى.
تنسـجم الحياة الشـخصية لصاحبنا السـلفي مع معتقداته وأفكاره السـلفية،
فهـو ملتـزم بسـمته ،كأصدقائـه السـلفيني ،بإطلاق اللحيـة والحفـاظ على مـا
يعتربونـه «سـنناً يف الديـن» ،وعلى صلـوات الجامعـة يف املسـجد ،وعىل حضور
وعما يـراه مح ّرماً
الـدروس الدينيـة ،واالبتعـاد قـدر املسـتطاع عـن االختلاطّ ،
يف الرشيعـة اإلسلامية ،ويـرى حرمـة املوسـيقى ،ويشـاهد مـن التلفزيـون قناة
األثـر الفضائيـة والقنـوات العلميـة ،وميضي جـزءا ً كبريا ً مـن وقتـه يف العبادات
والعلـم الرشعي.
94
-4-
عمر البطوش :االنقالب على
األيديولوجيا التقليدية
95
ويتذكـر عمـر أ ّن والـده سـأل يف وقت سـابق أحد هؤالء الشـيوخ ،وهو عبد
العظيـم بـدوي ،مـن السـلفيني املرصيين املعروفين ،وكان يقيـم يف األردن ،عن
جامعـة التبليـغ ،فـكان رد األخير «فيهـا خري وهـي مرحلة ال بد أن تـأيت بعدها
مراحـل أخـرى» ،ما دفـع والده إىل التحـول الكامل نحو السـلفية!
عندمـا وصـل والـده إىل العقبـة كان قـد اسـتكمل التحـول نحـو السـلفية
والخـروج مـن جامعـة التبليـغ ،وهـو مـا تزامـن مـع تو ّجـه عمـر بدرجـة أكبر
نحـو التديّـن واملعرفـة الدينيـة .يصـف صاحبنا تلـك اللحظة املهمـة يف تجربته
الروحيـة والشـخصية بالقـول «عندمـا بـدأت التوجـه نحـو التديـن واملعرفـة
الدينيـة كان والـدي قـد انتقـل عمليـاً نحـو السـلفية ،فالتقينـا عنـد هـذه
النقطـة ،وجـدت يف مكتبتـه ومـا تحتويـه مـن كتـب سـلفية محفّـزا ً كبيرا ً يل
للقـراءة ،وبخاصـة وأنّنـي أحـب املطالعـة واملعرفة ،وتعـ ّزز ذلك التو ّجـه املبكّر
نحـو السـلفية مـع تحـوالت والـدي ،وحرصـه على تعليمي تعليماً دينيـاً قوياً،
وسـاعدت عالقـة والـدي بشـيوخ السـلفية وعلامئها وطلاب العلم على تعزيز
هـذه التوجهـات واقترايب أكرث مـن هذا املنـاخ والنقاشـات العلميـة التي تدور
فيه».
يبـدو أ ّن نـزوح عمـر املبكّـر إىل التديّـن وطلـب العلـم شـ ّجع والـده على
تعزيـز ذلـك التوجـه لديه ،فسـاعده كثريا ً عىل طلـب العلم ،ووضع لـه برنامجاً
علميـاً خاصـاً متوازنـاً بين العلـوم الدينيـة املختلفـة واللغـة العربيـة ،فأنجـز،
خلال سـنوات معدودة ،محطة مهمـة يف بنائه املعريف وقطع شـوطاً يف تجربته
الروحيـة والفكرية.
يتـول توجيهـه يف التـدرج يف القراءات والعلـوم الرشعية ،ومينحه
كان والـده ّ
وتول بنفسـه تدريس العقيـدة والحديث وأصول وجبـات متوازنـة من العلومّ ،
تـول صديـق لوالـده تدريسـه اللغـة العربيـة ،ومـن بين الكتـبالفقـه ،فيما ّ
األ ّوليـة التـي بـدأ بتعلّمهـا وقراءتهـا ،كتـاب «يف أصـول الفقه» ملحمد سـليامن
األشـقر ،وكتـاب «مصطلـح الحديـث» ملحمـود الط ّحـان ،و«النحـو الواضـح»،
باإلضافـة إىل عمليـة مسـتمرة متواصلـة مكثّفـة يف حفظ القـرآن الكريم وتعلّم
96
القـراءات املختلفـة فيه.
أنهـى عمـر الثانويـة العامـة ،وعمـل يف األوقـاف بعـد ذلـك ،وسـاعده يف
مهنتـه أنّـه وصـل إىل مرحلـة جيـدة من طلب العلـم الرشعي ،مـا تؤهله ملهمة
اإلمامـة ،ثـم التحـق ،الحقـاً ،بكليـة األمري الحسـن للعلـوم اإلسلامية ،التي كان
والـده يـد ّرس فيهـا ،عائـدا ً إىل مدينتـه الزرقـاء ،وتفـ ّرغ مـدة عامين (-2002
)2004لنيـل العلـوم الرشعيـة يف هـذه الكليـة.
وبالرغـم مـن أ ّن الطابـع الـذي يغلـب على االفتـاء العسـكري وشـيوخه،
منـذ مرحلـة تأسيسـه وتطويـره على يد الشـيخ نوح القضـاة ،وهو عـامل صويف
أشـعري ،هـو الطابـع امللتـزم باملذاهـب الفقهيـة ،وتفضيـل العقيدة األشـعرية
على السـلفية ،إالّ أ ّن عمـر مل يجـد صعوبـة يف االندمـاج بامل ُنـاخ الجديـد ،ألنّـه
تعلّـم عبر تجربـة والـده «عـدم التعصـب واالنفتـاح واملرونـة يف التعامـل مـع
املخالفين والقـدرة الج ّيـدة على االسـتامع للـرأي اآلخـر».
بعدمـا أنهـى دراسـته يف الكليـة عـاد للعمـل يف األوقـاف إماماً ملسـجد املزار
عمان (يف العـام
الجنـويب الكبير ،ثـم انتقـل للعمـل يف األوقـاف يف مسـاجد ّ
،)2006مـع اسـتمرار رحلتـه يف طلـب العلوم الرشعيـة واملعرفة ،شـعر بالرغبة
يف البحـث العلمـي والتأليـف ،وهـو شـعور طبيعـي لـدى أبنـاء التيار السـلفي
التقليـدي ،إذ أ ّن هـذه الخطـوة مبثابـة انتقـال مـن طـور التعلـم األويل إىل
التمكّـن يف طلـب العلـم ،وإيذان بصعود شـخصية جديـدة وانتقالها إىل مرحلة
جديـدة يف طلـب العلـم الرشعي ،نحـو مرحلـة متقدمة يف صفوف هـذا التيار.
يف هـذه اللحظـة تطـ ّورت لديـه فكـرة كتاب «كشـف األسـتار عما يف تنظيم
القاعـدة مـن أفـكار وأخطـار» ،الـذي صـدر يف العـام ،2007وكان صاحبنـا
محظوظـاً يف التوقيـت ،إذ كانـت القاعـدة تعيـش مرحلـة ذهبيـة يف العـراق،
وتـؤرق السـعودية ،فجـاء كتابـه مبثابة ر ّد سـلفي علمي عىل القاعـدة ،ما منحه
أهميـة لـدى املسـؤولني يف السـعودية تحديـدا ً ،إذ كانـت الحـرب اإلعالميـة يف
القنـوات املمولـة منهـا قـد بـدأت بقـوة ،فاسـتضافه اإلعالمـي املعـروف ،تـريك
الدخيـل ،يف أحـد أهـم الربامـج الحواريـة على قنـاة العربيـة حينهـا ،وهـو
97
«إضـاءات» ،ملناقشـة أفـكار كتابه الجديد ،واألول يف مسيرة التأليـف والبحث،
بالرغـم أ ّن صاحبنـا كان مـا يـزال يف بدايـة العقـد الثالـث مـن عمـره ،فيما
تخصـص ذلـك الربنامـج مبقابلـة الشـخصيات املهمـة واملفكريـن والسياسـيني
الكبار.
أصـداء الحلقـة كانـت أكبر بكثير مما تصـ ّور عمـر نفسـه ،إذ تفاجـأ بعـد
وقـت قصير باتصـال مـن الديـوان امللكي السـعودي ،وكان على الخـ ّط اآلخـر
مسـؤول بـارز يخبره برغبـة خـادم الحرمين بدعوتـه إىل السـعودية ومبقابلتـه
شـخصياً ،بعدمـا شـاهد برنامجـه وأُعجِـب بطريقتـه يف الطـرح ،وهـو مـا كان،
إالّ أ ّن الزيـارة مل تقتصر على لقـاء الرجـل األول يف النظـام ،بـل التقـى بأغلـب
املسـؤولني البارزيـن واألمـراء ،مثـل األمير متعب واألمير نايف بن عبـد العزيز
وابنـه األمير محمـد ،وحظـي باهتمام كبير أليـام عديـدة هناك.
عـاد عمـر إىل األردن ،وإىل عملـه يف اإلمامـة ،وقـد أغرتـه هـذه التجربـة ،وما
كتـب أخـرى يف االتجاه نفسـه ،فألّف
نالـه على أثرهـا مـن صيت ،على تأليف ٍ
كتـاب «إعلام األنام بسماحة وعدل اإلسلام وتحذيره من اإلرهـاب واإلجرام»،
وقـد طبعتـه وزارة الثقافـة ،وتولّـت نشره وتوزيعه ،ثـم ألّف كتابـاً آخر يرشح
فيـه «رسـالة عمان» ،التـي أطلقهـا األمير غـازي برعايـة ملكيـة وتهـدف إىل
تقديـم منـوذج أردين إسلامي يف التسـامح والتعدديـة بني املذاهـب والطوائف،
يف مواجهـة التطـرف الفكـري واأليديولوجـي ،بخاصـة بعـد تفجيرات عمان يف
العـام ،2005فصـدر كتابـه «إغاثـة اللهفان برشح رسـالة عمان» ،وتولت نرشه
وتوزيعـه أمانـة عمان الكربى.
أراد صاحبنـا اسـتكامل نجاحـه يف هـذه املؤلفـات ومـا وفّرتـه لـه من حضور
إعالمـي وموقـع يف املشـهد السـلفي يف تأسـيس مركـز متخصـص يف تدريـس
العلـوم الرشعيـة وقـراءات القـرآن الكريـم ،وهـو مـا حـدث فعلاً يف العـام
،2010فأنشـأ «مركـز اإلمـام ابـن عامر الشـامي للقـراءات القرآنية والدراسـات
حـي طرببـور قريبـاً مـن املسـجد الـذي ّ
يتـول اإلمامـة والخطابـة الرشعيـة» يف ّ
فيه .
98
إىل تلـك اللحظـة كانـت تجربتـه الروحيـة والفكرية والعلمية تسير يف خ ّط
محـ َدد واضـح ،ضمـن املسـار السـلفي التقليـدي ،عبر تلقـي العلـوم الرشعية،
واسـتكامل مراحـل مهمـة منهـا ،ثـم االنتقـال إىل مرحلـة طلب العلـم والبحث
العلمـي والتأليـف والتصنيـف ،مـا ميثـل درجـة متقدمـة يف أعراف هـذا التيار،
مـع صلـة جيـدة بالدولـة مـا جعلها تتبنـى كتبـه وتوزّعها.
ال نعـرف ،تحديـدا ً ،موقـف «املشـيخة السـلفية» التقليدية ،مـن هذا العبور
الرسيـع لصاحبنـا إىل مرحلـة طلـب العلـم والتأليف وتأسـيس مركـز متخصص
للدراسـات ،لكـن مل يكـن هنالـك قبـول علني واضـح أو تتويج رسـمي من قبل
هـذه املشـيخة للنجـم الجديد يف السماء السـلفية ،وال عدائية معلنـة ،فكانت
األمـور أشـبه بقبولـه والعمـل على احتوائـه ،بخاصـة بعـد الصيـت الـذي حاز
مت عالقتـه باألطراف الرسـمية!عليـه ،مـا ّ
رس؟
االنقالب الفكري :ما هو ال ّ
مـن السـهولة البالغـة ملـن يقـرأ صفحـة عمـر البطـوش عىل موقـع التواصل
االجتامعـي (الفيـس بـوك) أن يكتشـف حجـم االنقلاب الذي حـدث يف رؤيته
الفكريـة ،تحديـدا ً تجـاه الواقـع السـيايس العـريب ومنهـج التغيير السـلفي
املطلـوب ،فهـو يتحـ ّدث بقناعـات رصيحـة ،كما سـنالحظ الحقـاً ،فيما يتعلّق
رس هـذا االنقالب؟باملعارضـة والعمـل السـيايس واملوقف مـن الحكومات .فام ّ
يؤكّـد صاحبنـا أ ّن األفـكار التـي يتحـدث عنهـا اليـوم ليسـت جديـدة ،بـل
بـدأت معـه منـذ سـنوات ،عندمـا أخـذ يتفحـص ويعيـد النظـر يف قناعاتـه
املسـتمدة مـن تجربتـه مـع السـلفية التقليدية ،لكن هـذه املراجعـة الذاتية مل
يعبر عنهـا بوضـوح عبر صفحته على الفيـس بوك ،يف تنضـج إال مؤخـرا ً ،فبـدأ ّ
األشـهر القليلـة املاضية.
99
رمبـا مـا سـاعد عىل إخراج «املسـكوت عنـه» يف أفكاره الجديـدة هي أزمته
األخيرة مـع وزارة األوقـاف ،وإن كانـت بـدأت بعد االنقلاب ،إالّ أنّها سـاعدته
على «البـوح» بذلـك عبر صفحتـه ،وبالرغم من تزامـن أزمة األوقـاف مع هذه
التحـوالت ،إالّ أنّـه يسـتبعد وجـود جانـب متع ّمـد فيهـا مرتبـط بالتحـوالت،
حـي طرببـور،
فهـي يف ظاهرهـا أزمـة مـع لجنـة املسـجد الـذي يعمـل بـه يف ّ
وتواطـؤ مسـؤولني يف األوقـاف مـع اللجنـة ،لعـدم رضاهم عن االتجاه السـلفي
للبطـوش ،وانتهـت إىل قـرار وزيـر األوقـاف حينها ،عبد السلام العبـادي ،بنقله
مـن مسـجده ،األمـر الـذي رفضـه صاحبنـا ،ففقـد وظيفتـه يف األوقـاف ،وغادر
املسـجد الـذي كان يتـوىل اإلمامـة والخطابـة فيه منـذ أعوام.
يف حالـة عمـر ،طالـب العلم السـلفي البـارز ،الذي أصبح يف الفرتة السـابقة،
يعـ ّد مـن الصـف الثـاين الصاعـد يف االتجـاه التقليـدي ،فـإ ّن فصـل قناعاتـه
السياسـية عـن الدينيـة هـو أمـر يف غايـة الصعوبـة ،فهما متشـابكان مرتبطان
ارتباطـاً عضوياً ،فالسياسـة تقوم عىل النص الرشعـي والتأصيل الفقهي والفتوى
الدينيـة ،وإن كان الجانـب السـيايس هو الـذي طغى عىل هـذه التحوالت ،فإ ّن
لديـه ،أيضـاً ،أراء فقهيـة ورشعيـة يف جوانـب أخـرى تخالـف الفتاوى السـلفية
التقليديـة ،وقـد أصبـح أكثر وضوحـاً يف تب ّنيهـا واإلعلان عنهـا ،إذ يُ ِعـ ّد اليـوم
مجلّـدا ً كبيرا ً يف نقـد عـدد مـن فتـاوى الشـيخ األلبـاين ،ما يخلـق تصادمـاً بينه
وبين «الخطـوط الحمـراء» التقليدية!
رسعـت ثـورات الربيـع العـريب (التـي بـدأت مع بواكير العـام )2011إفراجه ّ
عـن هـذه القناعـات ،وتطويـر أسـئلة املراجعـة الذاتيـة لديـه؛ فتمثّـل السـؤال
الجوهـري يف بـؤرة الفكـر السـيايس التقليـدي باملوقـف مـن الحـكام ،إذ يقـول
«السـلفية التقليديـة تـرى وجوب طاعـة الحاكم ،وعدم جـواز الجهر مبعارضته،
وتتبنـى مبـدأ «النصيحـة الرسيّة» لـه ،يف مواجهـات املخالفـات واألخطاء ،لكن
بالنظـر إىل الواقـع فـإ ّن الطريقـة الوحيدة ملواجهـة هذه االنحرافـات واألخطاء
هـي العمـل السـيايس السـلمي املـدين ،إذ ال توجـد وسـيلة مقنعـة لتحقيـق
مبـدأ «النصيحـة» ،فذلـك ال يجـدي يف التغيير وال التأثير» .ثم يخلـص إىل « أ ّن
املشـاركة يف العمـل السـيايس أصبحت اليوم رضورة عرصيـة ،ومن خالل فهمي
100
ألصـول املنهـج السـلفي العـام فإنـه ال يناقـض مع مرشوعيـة العمل السـيايس،
بـل تلـك املشـاركة تسـاهم يف تقليل املفاسـد وجلـب املصالح».
وإذا كانـت الدميقراطيـة نظامـاً كفريـاً ،كما يـرى السـلفيون ،فيتسـاءل
ر؟»! حتـىصاحبنـا «مـا املانـع يف أن ننخـرط يف العمـل السـيايس لتقليـل الش ّ
الشـيخ األلبـاين ،وفقـاً لعمـر ،كان لـه رأي مغايـر ملـا اسـتقرت عليـه فتـاوى
السـلفيني اليـوم ،إذ أجـاب عندمـا سـئل عـن االنتخابـات النيابيـة بالقـول «إذا
كان هنالـك مسـلم صالـح فمـن بـاب تقليـل الشر ،نصـ ّوت لـه».
وإذا كان التقليديـون اليـوم يتبعـون مبـدأ «املشـاركة يف االنتخابـات مـن
دون الرتشـيح» ،اسـتنادا ً إىل هـذه الفتـوى ،فـإ ّن عمـر يتقـدم خطـوات لألمـام
قاطعاً مسـافة أوسـع عـن التيار التقليـدي ،بإعادة النظـر يف املوقف من العمل
الحـزيب نفسـه إذ يـرى بأ ّن السـلفيني يخلطون بين مفهوم الحزبيـة القائم عىل
التعصـب وتفريـق األمـة والصراع الداخلي وبين الحزبيـة القامئـة على العمل
السـيايس وتنميـة املجتمـع وتطويـر العمـل العـام وتنظيمـه ،وهـي الخالصـة
التـي وصـل إليها مـن خالل قراءتـه يف كتب اإلخـوان املسـلمني والتأصيل الذي
يسـتندون إليـه يف ولـوج العمـل الحزيب والسـيايس ،وبـات يتفق معهـم يف هذا
التمييز.
ليـس ذلـك فحسـب! بـل تصـل مراجعـات عمـر إىل حالـة مـن القطيعـة
الحقيقيـة مـع الفكـر التقليـدي الـدارج ،إذ وجـد أ ّن الشـعوب العربيـة قـادرة
على صناعـة التغيير والتحرك والدفاع عـن حقوقها وحرياتها ،كما أثبت الربيع
العـريب ،لكـن مـا كان يكبّلها هـي «تلك النظريات والفتـاوى يف طاعة ويل األمر،
واألطروحـات التـي تحـ ّد من حريـة التعبري والدفـع باتجاه اإلصالح السـيايس».
أمـا آراؤه التـي صدمـت أبنـاء التيـار التقليـدي وانعكسـت يف السـجال
على املنتديـات السـلفية ،مـا دفـع ببعـض طلاب العلـم مـن هـذا االتجـاه
للتصـ ّدي لـه ،فيخربنـا عنهـا هو بنفسـه «الخـروج على الحاكم محـ ّرم يف الفكر
التقليـدي ومرتبـط مبـا يعتبر «كفـرا ً بواحـاً» ،ومعلّـق بتربير آخر وهـو الخوف
مـن املفاسـد الكبيرة املرتتبـة على ذلـك ،إالّ أ ّن اإلشـكال املنهجـي والكبير أ ّن
101
السـلفيني يعتبرون هـذه مـن قضايـا اإلجماع بين العلماء والفقهاء املسـلمني
السـنة ،وهـو ما نقـرأه يف كتـب العقائد السـلفية واألدبيات الفقهيـة املعارصة.
لكـن هـذا اإلجماع غري صحيـح ،فهنالك اختالف بين العلامء والفقهـاء يف هذه
املسـألة ،مـا يعنـي أنّها من املسـائل الخالفية ،التـي تتعدد فيها اآلراء ،وليسـت
قضايـا محسـومة مرتبطـة بالعقيدة السـلفية ،فإذا أثبتنا االختلاف ،كام فعلت،
فإنّنـا نوسـع مـن دائـرة التنـوع داخل البيت السـني والسـلفي نفسـه».
يعترف صاحبنـا أ ّن الـرأي السـابق «أحدث ض ّجـة لدى التيـار التقليدي ونزل
كالزلـزال» ،وبالرغـم أنّـه يقـر ،كذلـك ،بأنّـه مـا يـزال يـرى عـدم الخـروج على
الحاكـم ،إالّ أنّـه ال يـرى ذلـك مبثابـة العقيـدة ،بـل مسـألة خالفيـة ،فضلاً أنّـه
مييـز بين العمـل املدين السـلمي ،مـن دون السلاح ،والعمـل العسـكري ،بينام
مشـايخ التيـار التقليـدي يضعونهما يف املنزلـة نفسـها ،فيرون بـأن مـن يخـرج
بالسلاح مـن «الخـوارج» ،ومـن يعـارض سـلمياً بأنّـه مـن «الخـوارج القعدة»،
أي أنّهـم يخرجونـه مـن دائـرة أهـل السـنة والجامعـة ،ويضعونـه يف مصـاف
فرقة الخـوارج.
( )87لقـاء مـع هـذا السـلفي ،الـذي فضل عدم ذكر اسـمه ،يف مكتبـي يف الجامعـة األردنية،
بتاريخ .3102-21-5
102
حدثـت محـاوالت الحتـواء املتمـرد الجديـد عبر املشـيخة السـلفية ،وتط ّوع
بعـض أبنـاء التيـار برتتيـب لقاء له مـع بعض الشـيوخ ملناقشـة اآلراء الجديدة،
لكنـه اعتـذر عـن ذلـك معلالً هذا املوقف بـأ ّن «الحوار ال يجـدي ،فالهدف منه
االحتـواء وليـس النقـاش العلمي والفكـري الحقيقي».
عندمـا وصلـت األمـور إىل ح ّد التطاول عليه شـخصياً يف بعض هذه املنتديات
أرسـل برسـالة غاضبة إىل الشـيوخ القامئني عليها ،بأنّه سـيتجه إىل القضاء املدين
والعشـائري ،فتوقفـت الحملـة مؤقتـاً ،لكنـه بالضرورة مل يعـد من املحسـوبني
على هـذا التيار مـع هذا التوجـه الجديد.
مـا يـزال يحتفـظ عمـر بنسـبة كبيرة مـن تالميـذه ومريديه ،الذين يدرسـون
عنـده العلـوم الرشعيـة ،فهـم – كما يقـول -نخبـة متميـزة نوعيـة ،إذ اهتـم
عـادة بالنوعيـة وليـس بالكميـة ،كما أنّه يتلقى رسـائل من بعض طلاب العلم
السـلفيني الجـدد ،يؤكـدون لـه موافقتهم ملـا يطرحـه ،لكنهم يعرتفـون أنّه أكرث
جـرأة منهـم على حسـم هـذه القضايـا ،والبـوح مبـا يقتنع بـه ويصـل إليه من
مواقـف وأراء رشعيـة وفقهية وسياسـية.
يعترف صاحبنـا ،كذلـك ،بـأ ّن هـذه املواقـف الجديـدة مل تؤ ّد فقـط إىل تغيري
موقـف التيـار التقليـدي منـه ،بـل قـد ينتهـي إىل موقـف مشـابه مـع األجهـزة
الرسـمية األردنيـة ،التي تحظـى بعالقة جيدة مع التيار التقليدي ،فذلك سـيج ّر
لـه خصومـاً وعـداوات كانت يف املـايض تع ّد رصيـدا ً وصداقـات وتحالفات!
عندمـا ينظـر صاحبنـا إىل التيـارات والتوجهـات السـلفية مـن حولـه؛ فإنّـه ال
يخفـي إعجابـه بنمـوذج أسـامة القـويص ،الشـيخ السـلفي املصري ،الـذي كان
مـن املحسـوبني على التيـار السـلفي التقليـدي ،لك ّنـه أصبـح مشـهورا ً اليـوم
بتمـرده على الفتـاوى السـابقة وجرأتـه يف التعبير عـن قناعاتـه حتـى وإن
خالفـت وصدمـت التيـار السـلفي عمومـاً ،مـا دفـع بالتقليديين إىل إخراجـه
مـن اعتباراتهـم ،واالنقلاب عليه بعدما كان أحد الشـيوخ املشـهورين ويحظى
مبوقـع مهـم يف هـذا التيـار ،ويُسـتقبل مـن شـيوخه يف األردن والـدول العربيـة
املختلفة!
103
بالرغـم مـن هـذا األعجـاب ،إال أنـه يختلـف مع مواقـف القويص السياسـية،
ويجـد نفسـه أقـرب إىل التيـار الحريك ،وشـخصيات مثل سـلامن العـودة ،الذي
كان يـراه باألمـس ضـاالً ،بينما يـرى فيـه اليـوم منوذجـاً متقدمـاً يف الدعـوة
السلفية.
هـذا االنحيـاز الجديـد دفعـه إىل إعـادة ترتيـب قراءاتـه ،فهـو يقـرأ اليـوم
لـكل مـن سـيد قطب ومحمـد قطـب ،وأيب األعىل املـودودي والكتـب الفكرية
التـي كان يبتعـد عنهـا يف املرحلـة السـابقة ،لكنـه يقرأهـا حالياً برؤيـة مختلفة
منفتحـة ،ويكمـل دراسـته الجامعيـة يف تخصـص الرشيعـة اإلسلامية ،بجامعـة
العلـوم اإلسلامية يف عامن.
واليـوم يشـعر بأنّـه منسـجم مـع نفسـه وتربيتـه املبتعـدة عـن التعصـب
واالنغلاق واتهـام اآلخريـن ،ويجـد نفسـه منفتحـاً على قبـول التعدديـة
واالختلاف بصـورة كبيرة وواسـعة ،ما مينحـه آفاقاً جديـدة يف التفكير والتحرر
مـن املواقـف املسـبقة مـن اآلخريـن.
بقـي أن نقـول يف نهايـة الحديـث عـن هـذه التجربـة بـأ ّن عمـر مـن مواليد
العـام ،1977مـن محافظـة الكـرك ،متـزوج وله أبنـاء ،ويدير حاليـاً مركز اإلمام
ابـن عامر للدراسـات الرشعيـة والقـراءات القرآنية.
104
خالصات واستنتاجات
مـن خلال التفكير يف التجـارب السـابقة ،ومـا متثلـه مـن منـاذج يف االتجاه
السـلفي التقليـدي ،نجـد أنّنا أمام قواسـم مشتركة عامة ،مع بعـض االختالفات
والتباينـات الطبيعيـة ،لكـن القاسـم املشترك األكبر بينها هـو «غوايـة العلم»،
فالسـبب الرئيـس ،الـذي دفـع بهـم إىل أحضـان السـلفية يتمثّـل فيما يظهـره
التيـار السـلفي مـن تقديـر كبري واهتمام جوهري مبوضـوع «العلـم الرشعي»،
أي علـم الديـن وأحكامـه ورشيعتـه ،مـا يجعل مـن التصنيف داخـل التيار يتم
على هـذا األسـاس؛ عـامل ،طالـب علـم ،ومتعلّم ،بـدالً مـن الرتـب والتصنيفات
الحزبيـة والتنظيميـة لـدى جامعـة اإلخـوان املسـلمني واألحـزاب اإلسلامية
األخرى.
محلاً
العلـم يف الحالـة السـلفية يُرتجـم إىل «سـلطة املعرفـة» ،ويكـون ّ
يحصـل قـدرا ً أكبر مـن املعرفة
للتنافـس يف التيـار بين األقـران والتالميـذ ،مـن ّ
العلميـة الدينيـة ،هـو مـن يرتقـي يف سـلّم التيـار .والعلـم الرشعـي ،كذلـك،
«سـلطة موازيـة» للسـلطة السياسـية واالجتامعيـة واملاليـة .فكام أ ّن املسـؤول
لديـه سـلطة سياسـية والغنـي لـه سـلطة ماليـة ،وشـيخ العشيرة لـه سـلطة
يفسر ذلـك أ ّن
اجتامعيـة؛ فـإ ّن السـلفي ميتلـك سـلطة علميـة بديلـة ،ورمبـا ّ
أغلـب السـلفيني يف البدايـة هـم مـن ذوي أصـول فلسـطينية ،مـن الطبقـة
محـدودة الدخـل ،يف املناطـق الشـعبية ،فبعض أبنـاء هذه الرشيحة سـيجدون
يف «سـلطة العلـم» تعويضـاً عن شـعورهم بالحرمان من السـلطات األخرى غري
املتاحـة ،وال القريبـة مـن التحقـق!
يضيـف أصحـاب تلـك التجـارب أسـباباً أخـرى دفعتهم إىل التيـار التقليدي،
منهـا مـا يتميـز بـه هذا التيار مـن الرتكيز عىل الشـأن الديني املحـض ،واالعتناء
بقضايـا التديّـن الفـردي واملجتمعـي ،أي التعاطـي مـع الشـأن الدينـي بوصفه
جوهـرا ً نق ّيـاً غير ملتبس باالعتبـارات السياسـية والحزبية والتنظيميـة ،التي ال
105
تـروق لكثير من الناس ،ويشـعرون أنّها تك ّدر عليهم رغبتهم باملامرسـة الدينية
النقيـة ،لذاتهـا ،وهـو مـا يتوافـر يف السـلفية التـي تهتـم على صعيـد املعرفـة
بالعلـم الدينـي املحـض ،العقيـدة والفقـه ،وتصحيـح األحاديـث النبويـة ،وتتم
ترجمـة ذلـك مبـارش ًة عرب السـلوك الشـخيص .فالسـلفي هـو متديّـن بطبيعته،
يلتـزم باألحـكام الرشعيـة ،على األقـل ظاهـرا ً ،سـواء يف حفاظـه على صلـوات
الجامعـة ،وااللتـزام بالسـنن النبويـة ،بالعبـادة واللبـاس وأسـلوب الحيـاة ،فهو
ينتمـي لهويـة دينية واضحة رصيحة ،يف قيمه االجتامعيـة والدينية ويف مواقفه
السياسـية وحياتـه الخاصـة ،كل ذلـك يتأسـس لديـه على «الفتـوى الرشعية»،
املبنيـة على «النـص» (القـرآن أو السـنة) ،أو عبر تأويـل ذلـك النـص مـن قبل
العلامء املسـلمني.
تشي التجـارب السـابقة ،أيضـاً ،بحضـور دور املسـاجد كأحـد أبـرز مصـادر
التجنيـد ،ودروس شـيوخ التيـار املعروفين ،ففـي جميـع تلـك الحـاالت ترددت
لدينا أسماء كل من نارص األلباين ،وعيل الحلبي ومشـهور حسـن ،وغريهم من
شـخصيات باتـت متثّـل اليوم املظلـة املرجعية للتيـار ،ومتلك السـلطة املعنوية،
فتقـ ّرر املسـار العـام لـه ،وتقـ ّرب أشـخاصاً وتب ّعـد آخريـن ،وتدخـل يف «امللّـة
السـلفية» البعـض وتخـرج البعـض اآلخـر ،وتصل األمـور ،يف بعـض األحيان ،إىل
حـروب داخليـة طاحنـة ،متـارس فيهـا أسـلحة اغتيال الشـخصية ،إلقصـاء بعض
املخالفين أو املتمرديـن على «املشـيخة التقليدية».
رمبـا هـذا الـدور الكبير لـ«مشـيخة التيـار» أصبـح بديلاً عن اإلطـار الحزيب
والتنظيمـي ،الـذي رفضـه السـلفيون بدعـوى أنّـه يـؤدي إىل الشـقاق والنـزاع،
لكـ ّن عـددا ً مـن شـباب الجيـل الصاعـد يالحظـون أ ّن «داء التعصـب» انتقـل
بالفعـل إىل التيـار عبر «املكانـة االسـتثنائية» ،التـي متنـح للمشـيخة التقليدية،
ومـا باتـت متلكـه اليـوم مـن سـلطة معنويـة أشـد وطـأة عىل أفـراد التيـار من
أي تنظيـم سـيايس أو حـزيب!
ومما جـذب بعـض األفـراد إىل التيـار السـلفي ،كذلـك ،أنّـه ال يصطـدم
بالدولـة ،وال ترتتـب عليـه تبعات أمنية ،أو مالحقات ،وال يشـعر أفـراده عموماً
106
بأنّهـم مهـددون يف لقمـة عيشـهم ووظائفهـم ،كما هي حـال أغلـب الحركات
اإلسلامية اليـوم ،التـي تقـع يف خنـدق املعارضـة؛ فالسـلفي يسـتطيع أن يكون
متدينـاً وأن يحافـظ عىل الصالة يف املسـاجد وأن يلتزم بحلقـات العلم الرشعي،
وأن يظهـر شـعائره وسـلوكه الدينـي ،مـن دون الشـعور بخـوف أو خشـية من
الحكومـة واألجهـزة األمنيـة ،فهـو كمـن ميتلـك «صكـوك بـراءة» عبر تزكيـة
شـيوخه ،لكونـه مـن أبنـاء هـذا التيـار املسـامل مـن جهـة ،وألنّـه أيضـاً يحمـل
سلاحاً مهماً ،يتمثّـل يف الفتـاوى التي تجعل مـن طاعة ويل األمـر واجباً رشعياً،
وترفـض املعارضـة وتح ّرم املسيرات واملظاهـرات واالحتجاجات ،وتحـ ّرم العمل
السـيايس والحـزيب ،مـن جهـة أخـرى ،فمثـل هـذا «العقـل السـلفي» هـو بحد
ذاتـه «ضامنـة» لصاحبـه أمـام السـلطات واألجهـزة األمنية!
التجربـة الفكريـة والروحيـة يف أروقـة السـلفية -التقليديـة متتـاز كذلـك
بالبسـاطة والوضـوح ،ورمبـا بعبـارة أخـرى بــ «الضحالـة»! ففـي النماذج التي
التقينـا بهـا ،مل تكـن لديهـا خلفيـات فكريـة وسياسـية وثقافيـة سـابقة متينـة،
فأغلبهـا إمـا تعـ ّرف على السـلفية مبكّـرا ً ،أو بعد تجربـة محدودة مـع تيارات
إسلامية ،لك ّننـا مل نقرأ عن تجربة يسـاري أو ليبرايل أو مناضل أو مثقف تحول
نحـو السـلفية التقليديـة ،فلـم تكـن هنالـك تضاريـس متعـددة يف التجـارب
السـابقة ،بـل على النقيـض من ذلك نجد أنّنـا أمام هويات محسـومة ،واضحة،
غير متوتـرة بين تجارب مختلفـة ومتباينـة ،وال نجد هنالك طموحات سياسـية
أو شـخصية اسـتثنائية ،فأغلـب هـذه التجـارب تذهب يف سـقف طموحها نحو
االرتقـاء داخـل التيـار إىل مرتبـة العلماء أو التط ّور الـذايت ،علميـاً وروحياً.
وتتقاطـع ضحالـة التجربة الروحية والفكرية السـلفية مـع إحدى أبرز البنى
املهيمنـة على العقـل السـلفي ،وتتمثـل يف تقديـس النـص وااللتـزام بظاهـره
ومنطوقـه ،والتقليل من أهمية العقل وشـأنه ،يف املعرفـة العلمية الدينية .فهم
يفتخـرون بأنّهـم امتـداد ألهـل الحديث ،ويسـخرون مـن املذاهـب العقلية يف
يتمسـكون بظاهر النصوص، اإلسلام ،مثـل املعتزلـة وغريهم ،وحتـى يف العقائد ّ
ويتجبنـون التأويـل ،كما هي حـال الفرق األخرى مثـل املعتزلة واألشـاعرة.
107
غلبـة االعتبـارات الظاهريـة أو الصوريـة ،عىل حد تعبري أهـل املنطق ،تتب ّدى
كذلـك يف السـلوك السـلفي ،واملامرسـة اليوميـة ،فاالهتمام األكرب هـو بااللتزام
باملظهـر ،يف اللبـاس والهيئـة (إطلاق اللحيـة ،لبـس الثـوب ،التحـدث باللغـة
العربيـة (حتـى بـدون إتقان يف كثير من الحـاالت) ،التقليد واملحـاكاة من قبل
التالميـذ للشـيوخ ،سـواء يف حـركات األجسـاد أو العبـارات والعـادات .بيـد أ ّن
هـذا االهتمام الكبير بالصـورة والظاهر ال يوازيـه يف الخطاب السـلفي اهتامم
مامثـل باملعنـى والباطـن ،والـدالالت الحقيقية للتجربـة الدينيـة والروحية!
ال يرتبـط أبنـاء التيـار ببعضهـم بصلات دامئـة أو تنظيميـة ،كما هـي الحال
يف تنظيمات أخـرى ،فهـم يتمتعـون مبرونـة شـديدة يف هـذا الشـأن ،ويعتمـد
التيـار ،غالبـاً ،يف عمليـات التعبئة الذاتيـة وتوجيه الرسـائل الداخلية واالتصالية
مـع املجتمـع ،بدرجـة رئيسـة على مـا ميتلكـه مـن وسـائل إعالميـة؛ مثـل
فضائيـة األثـر ،واملنتديـات السـلفية والـدروس العلميـة التي يعقدها املشـايخ
املعروفـون .ويف حـال كان هنالـك أمـور خاصة للحلقات الصلبـة يف التيار ،فيتم
نقلهـا عبر الصـف الثـاين ،بعـد املشـايخ ،يف املناطق املختلفـة ،إذ ميتلـك هؤالء
األشـخاص مفاتيـح التعامـل مع طالب العلـم املقربني ،فيتم نقل الرسـالة إليهم
بصـورة خاصـة ،أو يُعقـد اجتماع بين الشـيوخ الكبـار ،ويحضره البـارزون من
طلاب العلـم يف املحافظـات املختلفـة ،ويتـم عبره نقـل الرسـائل املطلوبة.
املبسـطة ،خارجيـاً ،إالّ أ ّن التيار ،كما رأينا ،يعاين
بالرغـم مـن هـذه الصـورة ّ
مـن أزمـة داخليـة طاحنـة خلال السـنوات املاضيـة ،فالخالفـات الكبيرة التـي
وقعـت يف أروقـة «املشـيخة التقليديـة» ،وارتبطـت يف كثري من األحيـان بقضايا
أخالقيـة ،متعلقـة باملـال والرسقـات العلميـة وغريها ،رضبت مصداقية مشـايخ
التيـار يف الصميـم ،وأ ّدت إىل إخراج عدد من األسماء البـارزة ،كام أ ّن الخالفات
بين املشـيخة التقليديـة وربيـع بن هـادي املدخلي ،وريـث املدرسـة الجامية،
أث ّـرت أيضـاً على رصيـد التيار يف األوسـاط السـلفية يف الخارج.
غير أن الرضبـة األكثر تأثيرا ً ،لكـن مداهـا مل يظهـر بعـد ،تتمثـل يف الجيـل
األكادميـي الجديـد الصاعـد ،الـذي بـدأ يتملمـل مـن «عقليـة الوصايـة» ،التـي
108
متارسـها املشـيخة التقليديـة ،وأخـذ يظهِـر بصـورة متدرجـة رغبتـه بالقيـام
مبراجعـة لحالـة التيـار والقناعات التـي حكمته خالل السـنوات املاضية ،ويعيد
النظـر مبصداقيـة القيادة املشـيخية الحاليـة وأهليتها لالسـتمرار يف هذا املوقع.
وإذا كانـت هنالـك حـاالت متـ ّرد واضحـة معلنـة على املشـيخة ،فـإ ّن «نـارا ً
هادئـة» تطبـخ بصـورة متأنيـة ،تتمثـل بنضـج وعـي الجيـل الجديد ،الـذي بدأ
يشـب على الطـوق ،ويدفـع باتجـاه تغيري املسـار السـلفي الراهن ،مبـا يخالف ّ
توجـه وقناعـات ومصالـح املشـيخة الحاليـة!
109
الفصل الثاين
بـرز مـا يُعـرف بتيار السـلفية الجهادية عىل السـاحة األردنية يف تسـعينيات
القـرن املـايض ،التـي مثّلـت تربـة خصبـة لنمـوه وصعـوده .قبـل ذلـك كانـت
األفـكار الجهاديـة مبعرثة بني اتجاهات إسلامية ووطنيـة مختلفة ،ومجموعات
صغيرة ،كان أغلـب اهتاممهـا منص ّباً على القضية الفلسـطينية ،من دون وجود
إطـار سـيايس وأيديولوجـي عام يشـملها جميعاً.88
مث ّـة عوامـل متعـددة خلقـت البيئـة الحاضنـة لنمـو التيـار وصعـوده يف
التسـعينيات يف البلاد ،يف مقدمتهـا عـودة «األردنيين األفغـان» وهـم يتملكهم
شـعور باالنتصـار على االتحـاد السـوفيتي ،يحملـون معهـم مشروع تطبيـق
الرشيعـة اإلسلامية ،ومرشوعيـة العمـل املسـلّح يف التغيير ،وتزامـن ذلـك مـع
حـرب الخليـج الثانيـة ،ومـا ولّدتـه مـن سـجاالت مرتبطـة بدخـول القـوات
الغربيـة إىل الخليـج العـريب ،وردود فعـل لـدى جيـل الشـباب دفعتهـم نحـو
انتـكاس التحـول الدميقراطـي يف
ُ املنحـى الراديـكايل ،وعـ ّزز مـن ذلـك النـزوع
األردن وتراجـع هـذا املسـار ،مـع إقـرار قانـون الصـوت الواحـد ،الـذي هـدف
إىل تحجيـم حضـور اإلخـوان يف املعادلـة السياسـية ،بالتزامن مـع دخول األردن
ومنظمـة التحريـر يف مفاوضـات السلام مـع إرسائيـل.
يف بدايـة التسـعينيات ظهـرت جامعـات عنـف إسلامية ،ذات طابع فضفاض
هالمـي ،أُطلـق على إحداهـا قضيـة «األفغـان األردنيين» ،والثانيـة «جيـش
محمـد» ،ثـم مـا سـمي بقضيـة النفير اإلسلامي (التـي اتهم بهـا النائبـان ليث
شـبيالت ويعقوب ق ّرش) .فيام ظهرت ،الحقاً ،قضايا محسـوبة عىل اإلسلاميني،
لك ّنهـا أيضـاً خـارج سـياق التيـار السـلفي الجهـادي ،مثـل قضيـة املوجـب،
ومتفجـرات عجلـون ،1996وقضيـة التجديـد اإلسلامي ،1995وقضيـة مؤتـة
( )88ملزيـد مـن التفصيـل حول السـلفية الجهادية وتطورها يف املشـهد األردين ،انظر :محمد
أبو رمان وحسـن أبو هنية ،الحل اإلسلامي يف األردن ،مرجع سـابق ،ص .113-382
113
العسكرية.
يف األثنـاء كان مسـار السـلفية الجهاديـة ينمـو يف اتجاه مختلـف ،منذ بداية
التسـعينيات ،وتط ّعـم مـع قـدوم مئـات اآلالف مـن األردنيين العائديـن مـن
الخليـج العـريب والكويـت ،بعـد حـرب الخليـج الثانية ،مـن بينهم أعـداد كبرية
مـن املتأثريـن بالفكر السـلفي.
تشـكّل التيـار السـلفي يف أحشـاء تلـك اللحظـة التاريخيـة ،ورمبـا عكـس
تداعياتهـا ،وذلـك خلال األعـوام األوىل مـن التسـعينيات ،عبر مجموعـات
متعـددة مـن الشـباب ،كثير منهم من طلاب الجامعات األردنية .ففي السـلط
ظهـرت مجموعـة الشـيخ عبـد الفتـاح الحيـاري ،الـذي تحـول نحـو التديـن
الراديـكايل بعدمـا كان بعيـدا ً عـن التديـن ،وأخـذ يدعـو إىل أفـكار «الحاكميـة
اإللهيـة» (أي الدعـوة إىل تطبيـق الرشيعـة اإلسلامية وتكفري الحاكـم بالقوانني
الوضعيـة غير املسـتمدة مـن الرشيعـة اإلسلامية) ،والتفـت حولـه مجموعـة
مـن شـباب مدينـة السـلط ،ويف الزرقـاء ظهـر الشـيخ «أبـو خالد» (الـذي اتّهم
الحقـاً بتنظيـم اإلصلاح والتحـدي ،)1997مـع أنّـه هاجر إىل الواليـات املتحدة
األمريكيـة ،ويف مخيـم إربـد تـر ّدد اسـم عدنان املنسي ،وغريهم مـن مجموعات
أخـرى مبعثرة يف مدينـة عمان.89
بالرغـم مـن عـدم وجـود صلات عميقـة تنظيميـة أو حركيـة بين هـذه
املجموعـات ،إالّ أ ّن الخيـط الفكـري الـذي كان يشـملها جميعـاً ،يتمثّل بالجمع
بين توجـه سـلفي عـام ،مـع تأث ّـر كبير بأفـكار سـيد قطـب ،بخاصـة قضيـة
الحاكميـة وتكفير األنظمـة العربيـة ،وقضية املفاصلـة؛ أي رفـض العمل داخل
النظـام السـيايس ،ورفـض الدميقراطيـة ،والتأكيـد على وجـوب إقامـة الدولـة
اإلسلامية وتطبيـق أحـكام الرشيعـة اإلسلامية.
( )89لقـاء مـع حسـن أبـو هنيـة ،الباحث يف شـؤون الحـركات اإلسلامية ،يف منزلـه بضاحية
حي نـزال ،بتاريـخ .3102-11-21
الياسـمني يف ّ
114
نقطـة التحـول الرئيسـة متثّلـت بظهـور شـخصية عصـام الربقـاوي ،أبـو
محمـد املقـديس ،وهـو أحـد العائديـن مـن الخليـج ،عرب إعلان السـلطات عن
كشـف تنظيـم «بيعـة اإلمـام» يف العـام ،1995الـذي يضـم املقـديس ،ومعـه
أحمـد فضيـل الخاليلـه (أبـو مصعـب الزرقـاوي) ،وعبـد الهادي دغلـس وخالد
(القسـام) ،ومجموعـة أخـرى مـن الشـباب.
العـاروري ّ
قبـل ذلـك كانـت كتـب املقـديس تنتشر بطريقـة رسيـة يف أنحـاء اململكـة،
ويتعـ ّرف عليهـا أبنـاء املجموعـات اإلسلامية الراديكاليـة املنتشرة ،ويف مق ّدمة
هـذه املنشـورات الكتـاب العمـدة يف أفـكار السـلفية الجهاديـة «ملّـة إبراهيم
وأسـاليب الطغـاة يف متييعهـا» ،وكتـاب «الكواشـف الجليـة يف كفـر الدولـة
السـعودية» ،فشـكّلت هـذه الكتـب الناظـم األيديولوجـي العـام ألبنـاء هـذه
املجموعـات الصغيرة املبعثرة ،التـي تحـ ّول أفرادهـا الحقـاً إىل جزء مـن التيار
الجديـد ،فبـدأ يتشـكّل ،وأصبـح يطلـق عليـه الحقـاً «السـلفية الجهاديـة».
جمعـت أفـكار املقـديس هـذا التيـار تحـت عنـوان رئيـس وهـو «التوحيـد
والجهـاد» ،فربـط موضـوع الحاكميـة بتوحيـد اللـه ،ويتمثّـل أحـد املفاهيـم
الرئيسـة يف «الطاغـوت» ،أي تكفير الحاكـم بغير الرشيعـة اإلسلامية ،أ ّمـا
الجهـاد ،فبوصفـه الطريـق الوحيـد للتغيير ،مـا يعني رفـض املناهج اإلسلامية
األخـرى.
بالرغـم مـن وجـود املقـديس يف السـجن مـع رفاقـه ،مـا بني العامين -1995
،1999إالّ أ ّن التيار كان ينترش يف خارج السـجن ،ويتجمع تحت أفكار املقديس
ومرجعيتـه الفكريـة ،فيما كانـت كتبـه وفتـاواه وآراؤه تترسب بطـرق مختلفة
إىل الخـارج ،وظهـرت يف األثنـاء قضايـا أخـرى ألبنـاء التيـار ،مـن بينهـا ما عرف
باإلصلاح والتحـدي ،التـي اتّهـم فيهـا «أبو خالد» (الـذي هاجر مـن الزرقاء إىل
أميركا) ،وأبـو قتـادة الفلسـطيني املقيم يف الخـارج ،مع مجموعة من الشـباب،
الذيـن حكمـوا مبحكمـة أمـن الدولة ،ثـم ب ّرأتهم محكمـة التمييز.
خلال التسـعينيات كانـت األحـداث تعـزز مـن حضـور هذا التيار يف املشـهد
األردين ،مـع الظـروف االقتصاديـة -االجتامعيـة والتوجـه نحـو الخصخصـة يف
115
الداخـل ،مـع أحـداث الجزائـر يف العـام ،1992مـن انقلاب عسـكري على
العمليـة الدميقراطيـة واملواجهـات بين اإلسلاميني والعسـكر ،ومجازر البوسـنة
والهرسـك وكوسـوفا والشيشـان ،فكانت تلك األحداث املختلفة تؤجج املشـاعر
وترسـخ القناعة
الدينيـة والحامسـية لـدى أفراد هذا التيار والشـباب اإلسلاميّ ،
بأهميـة الجهـاد يف املرحلـة املعارصة.
بالتزامن مع صعود شـخصية املقديس برزت شـخصية أبو قتادة الفلسـطيني،
عمـر محمـود أبـو عمـر ،وهـو يف األصل مـن سـكان رأس العني ،وكان محسـوباً
على السـلفية الحركيـة ،كما يـروي لنـا الحقـاً حسـن أبـو هنيـة ورفاقـه ،ثـم
تحـ ّول مـع السـفر إىل الخـارج ،نحـو الفكـر السـلفي الجهـادي ،إىل أن أصبـح
يف لنـدن أحـد أبـرز املنظِّريـن لهـذا التيـار يف العـامل العـريب ،وأخـذ الشـباب
السـلفي الجهـادي يتـداول مجلته «املنهـاج» مع كتبه ،بصورة رسيّـة يف األردن،
كما تواجـد لفترة محـدودة يف األردن أحـد منظّـري التيـار السـلفي الجهـادي
سـابقاً ،عبـد املنعـم حليمة« ،أبـو بصري الطرطـويس» ،قبل أن تطرده السـلطات
األردنية.
نقطـة التحـول الثانيـة متثّلـت يف خـروج أبـو مصعـب الزرقـاوي مـن األردن
إىل أفغانسـتان ،ثـم العـراق ،بعـد أن صـدر عفـو ملكي يف العام ،1999فسـافر
الزرقـاوي ومعـه عـدد مـن أبنـاء التيـار الجهـادي ،ثـم بـرز اسـمه يف العـراق
الحقـاً ،بعدمـا أصبـح زعيماً للقاعـدة هنـاك ،وأحـد أبـرز املطلوبين للواليـات
املتحـدة األمريكيـة ،إىل أن قُتـل يف غـارة أمريكيـة يف العـام ،2006بعد أن خطط
وأمـر بتنفيـذ أكبر تفجيرات يف تاريـخ األردن يف العـام ،2005عبر أفـراد مـن
جامعتـه العراقيين القادمين مـن العـراق.
منـذ تلـك الفترة انتقلت أبصار السـلفيون الجهاديون األردنيـون إىل الخارج،
نحـو سـاحات القتـال يف العـراق واليمـن ،وبعضهـم أفغانسـتان ،ثـم حاليـاً
سـورية ،التـي أصبحـت قبلـة للجهاديين األردنيين ،إذ يشـارك يف القتـال فيهـا،
ضمـن تنظيمات القاعـدة (جبهة النرصة والدولة اإلسلامية يف العراق والشـام-
داعـش) أكثر مـن 500فـرد ،ويأخذ األردنيون مواقـع قيادية ميدانيـة متقدمة،
116
وقُتـل منهـم إىل اآلن قرابـة 100شـخص.
يف األيـام األخيرة للزرقـاوي (يف العـام )2006بـرزت الخالفـات بينـه وبين
املقـديس ،الـذي كتـب رسـالة بعنـوان «الزرقـاوي :منـارصة ومناصحـة» ،ثـم
تطـ ّورت األمـور بعـد مقتـل األول إىل انقسـام التيـار بين مجموعتين ،األوىل
مـع املقـديس ،والثانيـة مـع ميراث الزرقـاوي ،جوهـر الخلاف كان يقـوم على
رؤيـة املقـديس ضـد العنـف يف األردن ،وهـو مـا طـ ّوره الحقـاً عبر اإلعلان عن
«سـلمية الدعـوة» ،ورفضـه للمغـاالة يف التكفير ،ورفـض التوسـع يف العمليـات
االنتحاريـة ،التـي متثّـل التكتيـك الرئيـس ،الـذي اعتمـده الزرقـاوي يف العـراق،
أ ّمـا التيـار اآلخـر ،ويقـوده حاليـاً عمر مهـدي زيـدان (يف مدينة إربـد) ،فريفض
ويتمسـك بإرث الزرقـاوي ومنهجه ،ويتهمّ اسـتثناء األردن من سـاحات الجهاد،
بالتخلي عـن األفـكار السـلفية الجهاديـة .
90
ّ املقـديس ومجموعتـه
تطـ ّور الخلاف وتجـذّر مـع الربيـع العـريب ،بينما كان املقـديس يف السـجن،
على خلفيـة قضايـا أمنيـة (وما يـزال) ،شـاركت املجموعـة الكبيرة املرتبطة به
يف اعتصامـات ومسيرات تطالـب باإلفـراج عن املعتقلني ،وهي سـابقة يف تاريخ
هـذا التيـار ،لكـ ّن هـذا التوجـه ،الـذي رفضتـه املجموعـة األخـرى ،انتهـى إىل
اعتقـال مئـات األفـراد مـن هـذه املجموعـة بعـد أن اصطدمـوا مـع األمن فيام
عـرف بأحـداث الزرقاء ،يف شـهر نيسـان .912011
تـزاوج الخلاف الداخلي مـع بـروز الخلاف يف سـورية بين جبهـة النصرة
و«داعـش» ،يف العـام ،2013وانحيـاز أميـن الظواهـري ،زعيـم القاعـدة األم،
إىل زعيـم جبهـة النصرة ،أيب محمـد الجـوالين ،إذ بـرزت رسـائل مـن كل مـن
املقـديس وأبـو قتـادة الفلسـطيني (الـذي ر ّحلتـه بريطانيـا إىل األردن ،ويحاكم
حاليـاً بتهمتين حكما فيهما غيابيـا؛ اإلصلاح والتحـدي واأللفية) ،تشي بتأييد
جبهـة النصرة ضـد داعـش ،بينما يقـف عمـر مهـدي ومجموعتـه مـع داعش
( )90حـول الخالفـات بين املقـديس والزرقـاوي ،انظـر :محمـد أبـو رمان وحسـن أبـو هنية،
الحـل اإلسلامي يف األردن ،مرجـع سـابق ،ص.223-113
117
ضـد الجبهة!91
يف الصفحـات القادمـة سـنقف عنـد ثالثـة أمثلـة مختلفـة ،األول ميثّـل أحـد
أفـراد السـلفية الجهاديـة الناشـطني والفاعلين ،وهـو الطبيـب األردين ،منيـف
سمارة ،والثـاين هـو أحـد أفـراد التيـار الجهـادي الفلسـطيني سـابقاً ،الـذي
حـاول ترشـيد خطـاب السـلفية الجهاديـة ،لكنـه وصـل أخيرا ً للقناعـة بعـدم
إمكانيـة ذلـك ،وبالطلاق مـع هذا الخط ،فشـارك يف تأسـيس ما سـمي بـ«تيار
األمـة» ،وهـو نعيـم التلاوي ،والثالث هو مؤيـد الطرياوي ،الذي تأثر بالسـلفية
الجهاديـة يف السـلط سـنوات طويلة ،قبـل أن يتحول يف قناعاته مؤخـرا ً ،ويتجه
نحـو رؤيـة إسلامية مختلفـة ،تجمـع بين أفـكار السـلفية الحركيـة ومدرسـة
اإلخوان املسـلمني.
وعلى هامـش هـذه القصـص والتجـارب الشـخصية ،سنسـتحرض مقتطفات
مـن قصـص أخـرى ،ونسـتدعي مـا يخـدم مهمـة هـذا الفصـل مـن تجـارب
شـخصية رفـض أصحابهـا اإلشـارة املبارشة إليهم يف الدراسـة ،ألسـباب شـخصية
وأمنية.
( )91يف تفاصيـل ذلـك؛ انظـر :تامـر الصمادي ،املقـديس يديـن داعـش مـن سـجنه ويهاجم
فتـاوى بيعـة أيب بكـر البغـدادي ،تقريـر نشر يف صحيفـة الحيـاة اللندنيـة ،بتاريـخ 41يناير
.4102
118
-1-
منيف سماره :الطريق المتدرّج نحو
السلفية الجهادية
يسـكن منيـف سماره ،الطبيـب العـام ،يف الزرقـاء ،وتقع عيادته الشـعبية
حـي وادي الحجـر مـن املدينـة نفسـها ،يف مبنـى متواضـع وبسـيط ،وبالح ّد يف ّ
األدىن مـن الديكـور والتجهيـزات الفنيـة واملاليـة واإلداريـة ،لكـ ّن األصدقـاء
واملق ّربين واألطبـاء املتدربين معـه يؤكّـدون لنـا بـأ ّن العيـادة دامئـاً مزدحمـة
باملـرىض ،ملـا يتمتـع بـه سماره من سـمعة جيـدة يف الكفـاءة واألمانـة ،ولألجر
القليـل ،الـذي يتقاضـاه مـن املراجعين ،فضلاً عن تربعـه بالعالج امل ّجـاين لكثري
مـن األرس الفقيرة واملحتاجـة!92
يف اآلونـة األخيرة يبـدو سماره منشـغالً يف أغلـب وقتـه بالعمـل اإلغـايث
لالجئين السـوريني ،إذ ال يكتفـي بتقديـم خدماتـه الطبيـة م ّجانـاً لهـم ،بـل
يسـاعد على تأمين األطبـاء اآلخريـن ،وعلى تقديم املسـاعدات املختلفـة لهم،
وال يخفـي شـعوره باملـرارة مـن تلكـؤ عـدد مـن زمالئـه األطبـاء مـن تقديـم
املسـاعدة الطبيـة الشـبيهة لهـؤالء امله ّجريـن مـن أرضهم ،ممـن ال ميلكون ماالً
وال قـدرة على تأمين العلاج املطلـوب.
ميتـاز سماره عـن غيره مـن أبنـاء التيـار السـلفي الجهـادي بأنّـه يتحـدث
وعما يؤمن به ،ويقـ ّدم رؤيته وهويتـه الفكرية
برصاحـة ووضـوح عـن أفكارهّ ،
واأليديولوجيـة بلا مواربـة ،وهـو معـروف يف األوسـاط االجتامعيـة واإلعالمية،
وحتـى السياسـية ،بوصفـه أحـد أبرز الناشـطني يف هذا التيار ،وممـن يجاهرون
بتب ّنـي طرحـاً فكريـاً جديدا ً ،يدفع نحو إعالن القبول بسـلمية الدعوة السـلفية
الجهاديـة يف األردن ،وبالتمييـز بين فقـه املمكنـات والواجبـات ،يف التعامل مع
( )92جرت املقابلة يف عيادته يف مدينة الزرقاء بتاريخ .3102-11-72
119
السـلطات واملجتمع.
منيـف سماره متـزوج مـن سـيدتني ،األوىل مـن الفليبين ،والثانيـة تحمـل
الجنسـية الفرنسـية ،ويؤكّـد بأنّـه ال يتردد ،بـل يحـرص على أن يحمـل أبنـاءه
املنهـج السـلفي الجهـادي ،وأن يسيروا يف الطريـق نفسـها التـي يسير عليهـا،
وإن كان هـو ممـن يخالفـون فتـوى املقـديس املعروفـة بعـدم تدريـس األبنـاء
يف املـدارس الحكوميـة والخاصـة ،يف كتابـه املعـروف «إعـداد الفـوارس يف
هجـر املـدارس» ،فسماره يـرى -بخلاف ذلـك -رضورة أن يُ ِتـ َّم أبنـاء السـلفية
الجهاديـة تعليمهـم ويحصلـوا عىل شـهاداتهم ،وال ينعزلوا عـن املجتمع ،ويجد
أ ّن املبررات التـي يتـم اجرتاحهـا يف االنعـزال عـن املـدارس غير مقنعـة ،إذ أ ّن
تطبيقهـا سـيؤدي إىل اعتـزال أبنـاء التيـار وعائالتهـم مختلـف جوانـب الحيـاة،
وهـذا أمـر غري ممكـن بالضرورة.
طبيبنـا هـو مـن مواليـد مدينـة جنين ،يف الضفـة الغربية ،يف العـام ،1964
كان والـده ضابطـاً يف الجيـش األردين ،وانتقـل مـع والـده وأرستـه إىل مدينـة
الزرقـاء يف العـام ،1967بعـد النكسـة ،إذ كان يعمـل والـده يف معسـكرات
الجيـش فيهـا ،ثـم انتقـل مـع عائلتـه إىل اإلمـارات ،حيـث انتقـل عمـل والـده
إىل هنـاك.
عـادوا مـن اإلمـارات إىل مدينـة الشـوبك ،يف جنـوب اململكـة ،إذ أنهـى
الثانويـة العامـة هنـاك ،ثـم غـادر للدراسـة الجامعيـة يف الفليبين ،يف العـام
،1984فأنهـى دراسـة البكالوريـوس يف األحيـاء يف العـام ،1989وبـدأ بعدهـا
بدراسـة الطـب هنـاك.
رحلتـه مـع الدعـوة السـلفية ،عموماً ،انطلقت مع بداية دراسـته الطب ،ومل
يكـن قبلهـا ملتزمـا بأي جامعة إسلامية ،وال حتـى ملتزماً من الناحيـة الدينية،
تأثـر يف البدايـة عبر مواعـظ كان يسـمعها مـن الدعـاة الناشـطني يف الفليبين،
خلال تلـك الفترة ،إذ كان الطلاب العـرب واملسـلمون والجمعيـات اإلسلامية
تعمـل بنشـاط كبير ،ولهـا العديـد مـن األعمال الخرييـة والدعويـة واإلغاثيـة،
فأخـذ طريقـه نحـو التدين ،مـع بداية التسـعينيات.
120
دخـول التديّـن عبر البوابة السـلفية جاء بسـبب النشـاط الكبير الذي كان
يقـوم بـه الدعـاة السـلفيون ،خلال تلـك الفترة ،الـذي سـاهم فيـه توفّـر املال
السـعودي ،وكانـت املرجعيـة الدينيـة والفقهيـة لطالـب الطـب ،يف البدايـات،
هـي هيئـة كبـار العلامء يف السـعودية ،مثل :ابـن باز وابن عثيمين ،ويف األردن
نـارص الديـن األلبـاين ،الـذي كان يتصـل بـه منيـف مسـتفرسا ً عـن األحـكام
الرشعية.
قبـل التزامـه كان طالـب الطـب رئيسـاً التحـاد الطلاب العـرب واألجانب يف
الجامعـة ،وعندمـا سـلك طريـق التديّـن ،عمـل على تأسـيس جمعية إسلامية
للطلبة العرب واملسـلمني يف الجامعة ،وانخرط يف النشـاطات الدعوية واإلغاثية
خـارج الجامعـة ،فاندمـج يف هـذه األوسـاط السـلفية واإلسلامية ،وأصبـح عىل
صلـة بالعديـد مـن الشـخصيات السـلفية ،وحتـى مـع مـن ينتمـون إىل جامعة
اإلخوان املسـلمني.
مل تكـن حتـى تلـك اللحظـة الخالفـات السـلفية الداخليـة قـد بـدأت ،لكـ ّن
بعـض النقاشـات التـي تظهـر يف العـامل العريب يف هذه األوسـاط بـدأت تترسب
إىل العاملين اإلسلاميني يف الفليبين ،وتزامـن ذلـك مـع خـروج السـوفييت مـن
أفغانسـتان ،وبـروز نشـوة الشـعور لدى املجاهديـن باالنتصار ،وتأث ّرهم نفسـياً
وفكريـاً بأجـواء الجهـاد ،التـي أراد متطوعـون عـرب أن ينقلوهـا إىل بالدهم أو
سـاحات أخرى.
شـهد منيـف خلال تلـك الفترة سـجاالت بين مـن بـدأوا يتبنـون األفـكار
السـلفية الجهاديـة ،وحتى من تجاوزوا ذلك إىل القـول بأفكار أقرب إىل التكفري
والهجـرة وبين منتسـبني إىل جامعـة اإلخـوان املسـلمني ،وقـد الحـظ أ ّن أحـد
أصدقائـه ،هـادي الغـول ،وهـو مـن أبنـاء مدينـة الزرقـاء ،ممن كانوا يدرسـون
هنـاك ،ذهـب بعيـدا ً يف تب ّنـي أفـكار الحاكميـة وتكفير األنظمـة العربية.
بـدأت قناعـات منيـف بفكـر السـلفية الجهاديـة يف تلـك األثنـاء ،إذ اطّلـع
على كتـاب أيب محمد املقديس «الكواشـف الجليـة يف كفر الدولة السـعودية»،
وكانـت أهميـة الكتـاب ،وفقـاً لرواية صاحبنـا ،أنّه «دفعه للتفكير يف أ ّن الدولة
121
التـي ت ّدعـي االلتـزام باإلسلام واملنهج السـلفي ليسـت دولة مسـلمة ح ّقاً ،كام
ك ّنـا نظ ّن».
يختـزل منيـف تفاصيـل تلك املرحلة ،لك ّنه يشير إىل عودة كثري من الشـباب
مـن أفغانسـتان ،متأثريـن بأفـكار الجهـاد وتجربتـه ،مـن جهـة ،وبـروز قضيـة
«الحاكميـة» بوصفهـا «نقطـة خلاف» مركزيـة يف األوسـاط السـلفية ،بين مـن
يكفّـرون الحـكام املسـلمني ،ألنّهـم ال يحكمـون بالرشيعـة اإلسلامية ،من جه ٍة
أخـرى ،ومـن يرفضـون تكفريهم ،وبالضرورة فإ ّن كل رأي من الرأيني السـابقني،
ينجـم عنـه متوالية رئيسـة مـن األحكام واألفـكار ،حول العالقة بهـذه األنظمة،
واملوقـف منهـا ،ومـن الجيـوش ،واألمن ،وأسـلوب التغيير املطلـوب يف التعامل
مـع هـذه األنظمة.
يف العـام 1994تـ ّم ترحيـل منيـف قبـل أن يُكمـل الفصـول العمليـة األخرية
مـن دراسـته الطـب ،مـن الفليبين إىل األردن ،على خلفيـة معرفتـه وعالقتـه
بأحـد أبـرز املرشفني على األعامل الخرييـة والدعوية هناك ،وهـو محمد جامل
خليفـة ،صهـر أسـامة بـن الدن ،كما تـ ّم يف العام نفسـه اعتقـال األردين ،هادي
الغـول يف الفليبين ،بذريعـة العالقـة مـع رمـزي يوسـف ،الكويتـي ذو األصـول
الباكسـتانية ،واملتّهـم بتفجير مبنـى التجـارة العاملـي يف العـام ،1993ومبحاولة
القيـام بسلسـلة تفجيرات إرهابيـة يف الفليبني والباكسـتان.
عـاد منيـف إىل األردن ،مر ّحلاً مـن الفليبين ،واعتقلتـه السـلطات األردنيـة
فـور وصولـه املطـار ،ومكـث يف االعتقـال ،الستكشـاف عالقتـه مبحمـد جمال
خليفـة ،الـذي كان معتقلاً حينهـا يف األردن ،على خلفيـة اتهامـه بالعالقـة
بتنظيـم إرهـايب ،دام اعتقـال صاحبنـا والتحقيـق معـه مـدة أسـبوع ،وكان جزء
مـن التحقيـق منصبّـاً على التحقّـق فيما إذا كانـت لـه عالقـات بالجامعـات
الجهاديـة يف الفليبين ،أو مبجموعـة رمزي يوسـف ،ثم أُ ِطلـق رساحه ،وأكمل ما
هـو مطلـوب منـه مـن فصـول تطبيقيـة وتدريبيـة لنيـل شـهادة الطب.
مل يكـن صاحبنـا قـد قطع صالتـه ،بعد ،بالتيار السـلفي التقليدي ،فبادر بعد
عودتـه إىل زيـارة علي الحلبـي ،وكانـت لـه صلات مبحمـد مـوىس نصر ،وهام
122
مـن أبـرز الشـخصيات التقليديـة يف األردن .ويتذكر منيف املناظرات السـاخنة
يف أوسـاط السـلفيني حينهـا ،بخاصة تلـك التي جمعت د .محمـد أبو رحيم مع
علي الحلبـي ،ومـا نجـم عـن هـذه الخالفات والسـجاالت مـن بـروز اتجاهات
متعـددة يف األوسـاط السـلفية ،ما بين تقليدية وحركيـة وجهادية.
يؤكّـد صاحبنـا أنّـه مل يكـن عىل صلة قوية بالتيار السـلفي الجهادي يف الفرتة
التـي تلـت عودتـه إىل األردن ،بالرغـم مـن أ ّن الحديـث معـه يؤكّد أنّـه حافظ،
يف الحـ ّد األدىن ،على اطلاع جيّـد مبـا يـدور يف السـاحة اإلسلامية ،والسـلفية،
وكان يراقـب السـجاالت واملناظـرات والقضايـا الخالفيـة ،ومـا ينشره املقديس،
ويقـرأ كتـاب «الـوالء والبراء» ملحمـد سـعيد القحطـاين ،وهـذا املفهـوم (أي
الـوالء والبراء) هـو مـن املفاهيـم املهمة يف تشـكيل الهويـة والعقلية السـلفية
الجهاديـة ،إذ يربـط بين التوحيـد والعقيـدة اإلسلامية ومبـدأ والء اإلنسـان
املسـلم للـه والديـن واملسـلمني والتربؤ مـن الكافريـن واملنافقين ،فيام يذهب
التيـار السـلفي الجهـادي يف توظيف هـذا املفهوم للتأكيد على رضورة التنارص
واملـواالة بين مـن يتبنـون فكـر الحاكميـة والجهـاد يف سـبيل اللـه ،ويكفـرون
بالحكومـات والدسـاتري واألنظمـة العربيـة (التـي يطلقـون عليهـا الطاغـوت؛
الـذي ميثّـل أحـد أهـم املفاهيـم املفتاحيـة املركزيـة التـي حـرص املقديس عىل
ترسـيخها ضمـن منهجه الفكـري).93
يـروي منيـف سماره اللحظـات األوىل مـن عالقتـه بقيـادات السـلفية
الجهاديـة ،عندمـا كان طبيبـاً يف مستشـفى الزرقـاء ،و ُعـرف بتديّنـه والتزامـه،
بالرغـم مـن عـدم وجـود صلات لـه حينهـا بالتيـار الجهـادي ،فـكان يـزوره
يف املستشـفى كل مـن عبـد الهـادي دغلـس وخالـد العـاروري وأبـو مصعـب
الزرقـاوي ،بعـد اإلفـراج عنهـم ،مـع عائالتهـم «لحـرص أبنـاء هـذا التيـار ،عىل
اختيـار طبيـب متديّـن مؤمتـن».
( )93انظـر حـول أيديولوجيـا السـلفية الجهاديـة ،محمـد أبو رمان وحسـن أبـو هنية ،الحل
اإلسلامي يف األردن ،مرجع سـابق ،ص.743-823
123
هـذه الزيـارات فتحـت البـاب أمام تشـكّل عالقـة خاصة بين الطبيب وتلك
الشـخصيات ،والدخـول يف نقاشـات وحـوارات متعـددة ،فاكتشـفت املجموعة
بعدهـا أ ّن هـذا الطبيـب ليـس فقط متديّناً ،كما كانوا يعتقدون ،بل يشـاركهم
يف العديـد مـن أفكارهـم ،ولـه خبرة جيـدة يف العمـل اإلسلامي يف الفليبين،
ويؤمـن مثلهـم مببـدأ الحاكميـة ،وبأصول الفكـر السـلفي الجهادي!
مل تتطـ ّور عالقـة منيـف سماره بالتيـار السـلفي الجهـادي كثيرا ً بعـد سـفر
هـذه املجموعـة إىل أفغانسـتان ،بسـبب انشـغاالته وعملـه يف مجـال الطـب،
يف عيادتـه الخاصـة ،التـي افتتحهـا بعـد ذلـك ،إالّ يف حـدود ضيّقـة عبر العالج
الطبـي ،واملناقشـات الفكرية والعلمية ،ويف الوقت نفسـه كان الطبيب يتع ّرض
بين الفينـة واألخـرى للتحقيـق واالسـتجواب ،ورمبـا االعتقـال من قبـل األجهزة
األمنية!
خلال السـنوات األخيرة ،وبعـد خـروج أيب محمـد املقـديس مـن السـجن
توطّـدت عالقـة الطبيـب منيـف سمارة بـه ،وأصبـح قريباً منـه ،يتناقـش معه
يف قضايـا املنهـج واملوقـف من األحـداث الجاريـة ،ويُرجع بعض أبناء السـلفية
الجهاديـة فكـرة إعلان املقـديس مبـدأ «سـلمية الدعـوة» إىل تأثير منيـف
سماره ،الـذي كان يسـعى إىل تطوير عالقة التيار السـلفي الجهـادي باملجتمع،
وتخفيـف الضغـوط األمنيـة عليـه ،والتمييـز بين املمكـن والواجـب يف قدرات
التيـار على السـاحة األردنية.
بالطبـع مثـل هـذه اآلراء واملواقـف الجديـدة على أبنـاء التيـار السـلفي
الجهـادي مل تكـن لتمـ ّر بسـهولة ،وقد نال سماره نصيبـاً من اتهامـات وتخوين
الطـرف اآلخـر ،املتشـدد ،يف التيـار الجهـادي لـه ،لكـ ّن ،عندما نسـأله عن هذه
االتهامـات ،ال يكترث بهـا ،ويـرى بـأ ّن «هـذه األفـكار هـي التـي ستسير عليها
أغلبيـة التيـار السـلفي الجهـادي يف نهايـة األمـر» ،فالتمييـز قـد بدأ يف أوسـاط
يتجلى ذلك بصـورة واضحة يف سـورية اليوم، التيـار العـام للسـلفية الجهاديـةّ ،
عبر االختالف بني الدولة اإلسلامية يف العراق والشـام من جهـة ،وجبهة النرصة
مـن جهـة أخـرى ،وهـو وإن كان يرفـض الدخـول يف تفاصيـل تلـك الزاويـة من
124
القـراءة ،إالّ أ ّن هـذه اإلشـارات تشي بوقوفـه إىل جانب جبهة النصرة ال الدولة
اإلسلامية يف العراق والشـام.
بالرغـم مـن التماس العقالنيـة والواقعيـة يف حديث الطبيب سماره ،ودوره
الحكيـم يف لحظـات األزمـات بين الدولة والتيـار الجهـادي ،إالّ أنّـه ،يف املقابل،
يبـدو صلبـاً واضحـاً يف موقفـه املؤمـن مبنهـج السـلفية الجهاديـة بوصفه منهج
«الطائفـة املنصـورة» ،وبالحفـاظ على أصول املنهـج يف التأكيد على الحاكمية،
وعلى كفـر األنظمـة العربيـة ،ورفـض الدسـاتري الوضعيـة املخالفـة للرشيعـة،
وبعـدم القبـول بالدميقراطيـة ،وبرفض تأسـيس أحـزاب سياسـية والعمل ضمن
إطـار النظام السـيايس.
لكـن «الصفقـة» التـي يق ّدمهـا سماره ،ويعتربهـا الطـرف اآلخـر مـن
السـلفية الجهاديـة مبثابـة مؤامـرة وخيانـة للمنهـج ،هـي التأكيـد عىل سـلمية
التيـار الجهـادي يف األردن ،وعـدم تب ّنيـه العنـف والعمـل املـادي يف التغيير ،أو
اسـتخدام السلاح يف إدارة الصراع الداخلي ،وهـو مـا يعطـي النظـام ضامنـة
وحصانـة عبر فتـوى من أحد أبرز رموز السـلفية الجهاديـة يف العامل ،أيب محمد
املقـديس ،ضـد العنـف والتفجيرات اإلرهابيـة ،ويف املقابـل يتيـح ألبنـاء التيـار
العمـل السـلمي ،والدعـوة مـن دون االصطـدام املبـارش بالدولة والنظـام .لكن
صاحبنـا يسـتدرك بـأ ّن مثل هـذه الدعوة هي تكتيكيـة مرحليـة مرتبطة بحالة
ي التيـار عـن العمـل املسـلّح ،بوصفـه أحـد السـاحة األردنيـة ،وال تعنـي تخل ّ
أركان املنهـج السـلفي الجهـادي.
هـذا على صعيـد املشـهد املحلي ،أ ّمـا اهتاممـه الرئيـس اليـوم فيتجـه
نحـو سـورية ،إذ يـرى بـأ ّن مـا يحـدث هنـاك سـيكون مفصليـاً وحاسماً على
صعيـد املنطقـة ومسـتقبلها ،وسـيؤكّد عىل مصداقيـة ما يطرحه التيار السـلفي
الجهـادي مـن تصـورات ومـا يتب ّنـاه مـن مواقـف ومـا يقـوم بـه مـن أعمال
مرتبطـة بسـاحات القتـال.
125
وال يخفـي سماره أ ّن مئـات مـن أفـراد التيـار خرجوا من األردن إىل سـورية،
وأ ّن قرابـة مائتين منهـم مـن الزرقـاء وجارتهـا الرصيفـة وحدهما ،ويؤكّـد بأ ّن
هنالـك مئـات آخرين يرغبون بالسـفر إىل هناك واملشـاركة يف القتال إىل جانب
«الفصائـل الجهاديـة» ،لكـن الظـروف الراهنة ال تسـمح لهم بذلك.
ال يبـدو مـا يقولـه الطبيـب ،منيـف سماره ،مفاجئـاً او صادمـاً فيما يتعلّق
مبدينـة الزرقـاء وجارتهـا الرصيفة ،بخصـوص حجم تغلغل أنصار التيار السـلفي
الجهـادي يف هـذه األحيـاء الشـعبية! فاملقـديس والزرقـاوي هما مـن سـكان
مدينـة الزرقـاء ،وكذلـك عـدد كبير مـن مفاتيـح هـذا التيـار يف األردن ،كما أ ّن
عـددا ً مـن أبنـاء التيـار ،الذين غـادروا للقتـال يف سـورية ،أصبحوا اليـوم ،أيضاً،
قيـادات ميدانيـة يف جبهـة النصرة ،املرتبطة بالقاعـدة ،وبعضهم انضـ ّم للدولة
اإلسلامية يف العـراق والشـام ،مثـل أبـو أنـس الصحابـة ،وأبـو جليبيـب (إيـاد
الطوبـايس) ،وهما قائـدان ميدانيـان يف الجبهـة ،وكالهما مـن هـذه األحيـاء
الشـعبية ،والدكتـور سـامي العريـدي ،وهـو حاصـل على درجـة الدكتـوراه يف
الرشيعـة اإلسلامية يف األردن ،وميثّـل أحـد املراجـع الفقهية املعتمـدة يف جبهة
النصرة ،بعـد أن سـافر هنـاك وانضـ ّم إليها.
126
-2-
نعيم التالوي« :زواج فاشل» مع
السلفية الجهادية
صاحبنـا الثـاين ،نعيـم التلاّوي ،مـن سـكان مدينـة الزرقـاء ،أيضـاً ، ،مـن
مواليـد مدينـة نابلـس يف العـام ،1962كان والـده ضابطـاً يف الجيـش األردين،
وانتقلـوا بعـد النكسـة إىل األردن ،ينتمـي إىل أرسة متدينـة ومحافظـة ،تعلّـم
ودرس يف األردن إىل أن أنهـى الثانويـة العامـة.94
أنهـى الثانويـة العامـة يف العـام ،1980وذهـب للدراسـة يف تركيـا ،وهنالـك
تعـ ّرف ،ابتـدا ًء ،على مجموعـة السـليامنية ،وهـم إسلاميون معنيـون بنشر
الوعـي اإلسلامي وقضايـا الفكـر ،ومـن ثـم انفتـح على الحـركات اإلسلامية
الناشـطة يف تركيـا ،ومـن بينهم املنتمـون إىل جامعة اإلخوان املسـلمني وغريهم
مـن مـدارس إسلامية ،وبدأ وعيه السـيايس ينضـج عرب أضالع ثالثـة؛ األول وهو
التديّـن واالنتماء لالتجاه اإلسلامي ،عمومـاً ،من دون االلتزام مبدرسـة مح ّددة،
والثـاين وهـو الجهـاد ،والثالـث القضيـة الفلسـطينية ،وكان يبحـث يف املشـهد
اإلسلامي العـام عـن تيار إسلامي جهادي ،يضـع القضية الفلسـطينية يف صلب
اهتامماتـه ،يف مواجهـة املشروع الصهيـوين ،ويجـد لـه قدمـاً راسـخة عىل أرض
فلسـطني ،لكنـه مل يعثر عليـه حينهـا يف التيـارات الوطنيـة الفلسـطينية ،وال يف
التيـارات اإلسلامية ،التـي كانـت تتبنى األيديولوجيا اإلسلامية مـن دون وجود
عمـل قـوي وكبير لها يف السـاحة الفلسـطينية!
تزامنـت بدايـة دراسـته الجامعية يف تركيا ،يف الهندسـة ،مع اندالع املواجهات
يف سـورية بين جامعـة اإلخوان املسـلمني والنظـام البعثي ،فوجد نفسـه مهتامً
( )94جـرت مقابلتـه يف مكتبـي مبركـز الدراسـات االستراتيجية يف الجامعـة األردنيـة بتاريـخ
.3102-11-12
127
لخلفيتـه الدينيـة والبيئـة اإلخوانيـة املحيطـة بـه يف تركيـا ،منشـغالً مبسـاندة
مجموعـة «الطليعـة املقاتلـة» يف سـورية ،وتعـ ّرف خالل تلك الفترة عىل بعض
الشـخصيات البـارزة يف هـذه املجموعـة ،وتأثـر ،يف الوقت نفسـه ،بأفكار سـيد
قطـب ،التـي كانـت تهيمن عىل هـذه املجموعـة اإلخوانية ،بصـورة أكرب ،فآمن
برؤيـة سـيد وتصـوره لقضايـا الحاكميـة والعمـل اإلسلامي ،ورؤيتـه ملفهـوم
الجهـاد وفلسـفته التـي تقـوم عىل إزالـة العقبـات ومواجهة الطواغيـت ،الذين
يقفـون يف وجـه الدعـوة وتحريـر اإلنسـان مـن عبودية غير الله.
يقـف نعيـم ،هنـا ،ليوضّ ـح لنـا مفهـوم الجهاد ،الـذي كان يتب ّنـاه ،وفهمه من
سـيد قطـب ،بأنّـه ليـس مـا يسـميه السـلفيون الجهاديـون بجهـاد النكايـة أو
جهـاد الشـكوى ،يف تأصيلهـم للعمليـات واألعمال التـي يقومـون بهـا ،بـل هو
الجهـاد الـذي يسـتند إىل مشروع سـيايس ،ويحمـل منظـورا ً متكاملاً ،وهدفـاً
استراتيجياً مح ّددا ً.
خلال تلـك الفترة مـن تعاونـه مـع «الطليعـة املقاتلـة» يف سـورية ،طـ ّور
صاحبنـا رؤيتـه اإلسلامية اسـتنادا ً ألفـكار سـيد قطـب وأيب األعلى املـودودي
ومالـك بـن نبـي ،وغريهـم مـن املفكريـن اإلسلاميني الكبـار ،وولـج إىل عمـق
النقاشـات والسـجاالت يف السـاحة اإلسلامية ،فتعـ ّرف على املـدارس الفكريـة
والدعويـة املختلفـة ،وأصبـح يبحث يف داخل املشـهد الفلسـطيني ،ويف خارجه
يف العـامل العـريب عـن مجموعـات أو أشـخاص يشـاركونه القناعـات واألفـكار
التـي وصـل إليهـا مـن رضورة الجمـع بين الوعـاء اإلسلام والطريـق الجهاديـة
واالهتمام بالقضيـة الفلسـطينية وخطـورة املشروع الصهيـوين.
وجـد نعيـم التلاوي مجموعـات مختلفـة ممـن يقرتبـون مـن هـذه الرؤيـة
الفكريـة ،وقـد متثّلـت بحركـة الجهـاد يف فلسـطني ،بقيـادة فتحـي الشـقاقي،
وكان األخير ،وقتهـا ،قـد ترجـم تأثـره بالثـورة اإليرانيـة عبر كتابـه املعـروف
«الخمينـي والحـل اإلسلامي» ،وتعـ ّرف صاحبنـا عىل مجموعـة الجهاد يف مرص،
ومجموعـة مـن املثقفين الفلسـطينيني اليسـاريني املاويين ،سـابقاً ،وشـارك يف
تأسـيس ما سـمي بـ«رسايـا الجهاد» يف العـام ،1983من الفلسـطينيني املؤمنني
128
بالجمـع بين املرشوع الجهادي واإلسلام وقضيـة التحرير الوطني الفلسـطيني،
وحينهـا مل تكـن حماس قـد تأسسـت كحركـة مقاومـة إسلامية ،إذ تـ ّم ذلك يف
العـام ،1988ومل تكـن حركـة الجهـاد قد بـدأت عملياتها العسـكرية ،فكان مث ّة
فـراغ يف هـذا الجانـب عملـت رسايـا الجهـاد على ملئه.
اختـار القامئـون على التنظيـم الجديـد أن يسـتخدموا غطـاء حركـة
فتـح ،لتوفير التمويـل والتدريـب ،وللوصـول إىل التسـهيالت املمكنـة إلنشـاء
معسـكرات التدريـب ،وكان مـن بين أعضـاء الرسايا ،قيـادات فكريـة معروفة،
مثـل منير شـفيق ووليـد سـيف وغريهـم.
عـاد صاحبنـا بعـد ذلـك إىل الضفـة الغربية إلمتام دراسـته يف جامعة الخليل،
وهنالـك عمـل على تعزيـز بنـاء تنظيـم «رسايـا الجهـاد» ،وتقويتـه ،لكـن بعد
عمليـة بـاب املغاربـة يف العـام ،1986وانكشـاف أمـره مـن قبـل السـلطات
اإلرسائيليـة خـرج إىل مصر ،وهنـاك تعـ ّرف عىل مجموعـة الجهاد ،الذيـن كانوا
قـد خرجـوا مـن السـجون ،ويحاولـون االلتحـاق بالجهـاد األفغـاين ،فسـاعدهم
على تأمين طريـق الوصـول إىل هنـاك ،والتمويـل اللازم لذلك.
129
بعـد 9أشـهر يف السـجن صـدر حكـم برباءتـه يف املحاكـم املرصيـة ،فغـادر
بعـد ذلـك إىل مالطـا ،ثـ ّم مبسـاعدة منير شـفيق تـم اسـتقباله والسماح لـه
بالدخـول إىل تونـس ،بعدمـا رفضـت الحكومـات العربيـة يف حينـه السماح له
بدخـول أراضيهـا ،وكانـت حينها تونس هي مقـر منظمة التحرير الفلسـطينية،
بعـد خروجهـا مـن لبنان.
مل يشـعر باالرتيـاح خلال إقامتـه يف تونـس ،إذ اطّلـع على حجـم الفـراغ
واألزمـة التـي وصلـت إليهـا منظمـة التحريـر الفلسـطينية ،فمكـث 6أشـهر،
عمان يف العـام ،1989
ثـم عـاد إىل تركيـا ،ومـن هنـاك عـاد بعـد 9أشـهر إىل ّ
إذ اعتقـل فـور وصولـه إىل املطـار ،وبقـي 3أشـهر رهنـاً للتحقيـق معتقالً لدى
جهـاز املخابـرات العامـة.
خـرج نعيـم وهـو مـا يـزال يحمل مشروع رسايا الجهـاد ،ويؤمـن بأهميته،
لك ّنـه تفاجـأ بأ ّن عـددا ً من القيادات الفكريـة قد تخلّت عـن التنظيم ،فبعضها
أصبـح مق ّربـاً مـن جامعة اإلخـوان املسـلمني ،مثل منري شـفيق ،بخاصـة بعدما
تأسسـت حماس ودخلـت الجامعـة على خـ ّط الجهـاد املسـلح يف فلسـطني،
والبعـض اآلخـر اختـار العمـل يف مجـال التأليـف واألدب ،مثـل وليـد سـيف،
وهكـذا بـدأ التنظيـم بالتفكك واالنحسـار.
حـاول نعيـم ترميـم مرشوعـه وفكرتـه عبر املشـاركة يف تأسـيس تنظيـم
عسـكري جديـد يف األردن ،أُطلـق عليه اسـم «جيش محمـد» ،وكان يضم مئات
مـن الشـباب اإلسلامي الناشـطني ،وهدفه الرئيـس هو نقل مشروع الجهاد إىل
فلسـطني ،والتشـبيك بين التنظيمات التـي تؤمـن بالعمـل الجهـادي يف العـامل
العـريب ،إالّ أ ّن إحـدى املجموعـات الصغيرة ضمـن جيـش محمد ت ّم اكتشـافها،
والقـي القبـض على أفرادهـا ،ومتّـت محاكمتهم بتهمة تشـكيل تنظيـم إرهايب،
فيما يؤكـد نعيـم أ ّن عـدد أعضـاء التنظيـم كانـوا أكبر مـن ذلـك ،إذ يصلـون
إىل املئـات ،إالّ أ ّن انكشـاف تلـك املجموعـة أ ّدى إىل إجهـاض الفكـرة نفسـها يف
البدايات!
130
يف مرحلة الحقة ،يف العام ،1994يروي نعيم أنّه سـعى إىل إقناع أسـامة بن
الدن ،وكان حينهـا يف السـودان ،بفكـرة «الجهـاد العاملـي» ،لكـن مل يكـن زعيـم
القاعـدة ،الحقـاً ،جاهـزا ً بعـد ملثل هـذا املرشوع العاملـي ولفكـرة املواجهة مع
الواليـات املتحـدة ،ومـا يقتضيـه ذلـك مـن تحـوالت فكريـة وسياسـية عميقة،
حدثـت بعـد ذلك لديـه ،ونتج عنها تأسـيس الجبهة العاملية ملقاومـة الصليبيني
واليهـود يف العام .1998
اعتُقـل صاحبنـا يف العـام 1995على خلفية قضية «التجديد اإلسلامي» (مع
صابـر مقبـل ،وخالـد عـدوان وعزمي الجيـويس) ،وهـي مجموعة كانـت تعمل
على نقـل مفهـوم الجهـاد ومرشوعـه السـيايس إىل فلسـطني ،وخرج بعـد ذلك
بالرباءة.
خلال تلـك األعـوام أي مـع عقـد التسـعينيات حدثـت تحـوالت عميقـة يف
املشـهد السـيايس العريب ،ومن ضمنها مفاوضات السلام وتوقيع اتفاق أوسـلو،
ثـم قيـام السـلطة الفلسـطينية ،وتخلي منظمة التحريـر الفلسـطينية عن خط
الكفـاح املسـلّح ،وتزامـن ذلـك مـع صعـود نجـم التيـارات السـلفية الجهادية،
يف السـاحة العربيـة عمومـاً ،واألردنيـة خصوصـاً ،وكان نعيـم قـد تعـ ّرف على
قيـادات هـذا التيـار الجديـد منـذ بدايـة التسـعينيات ،والتقى بهم يف السـجن
خلال فترة اعتقاله.
خلال التسـعينيات حـاول صاحبنـا عبر حـواره مع أبنـاء هذا التيـار الصاعد
إحـداث تغييرات جوهريـة يف مسـاره ،إذ كان يـرى أ ّن املشـكلة الكبرى التـي
يعـاين منهـا تتمثّل يف عدم وجود سـقف سـيايس واضح واقعي ملشروع الجهاد،
وتوظيـف طاقـات هـذا التيـار وتوجيـه اهتاممهـا نحـو املفاهيم واألفـكار التي
تتأسـس عليهـا رؤيتـه هـو للجهـاد ،املرتبط مبشروع سـيايس إسلامي متكامل،
ومبركزيـة القضيـة الفلسـطينية ،لذلـك سـعى إىل نقـل املشروع الجهـادي إىل
فلسـطني ،وتأسـيس مجموعـات تؤمـن بذلـك يف قطـاع غـزة والضفة.
131
اجرتاح البديل :العودة إىل فكرة «األمة»
خلال األعـوام األخيرة عمـل نعيـم مـع مجموعـة أخـرى من اإلسلاميني عىل
إعـادة تدشين املشروع الذي يؤمن بـه ،وهو الجهاد الذي يتأسـس عىل مفهوم
األمـة ،وميتلـك مرشوعـاً سياسـياً متدرجـاً ،ويعطـي القضية الفلسـطينية أهمية
مركزيـة ،وعلى هـذا األسـاس تـم تأسـيس تيـار األمة منـذ نهايـة التسـعينيات،
بعـد أن شـعر بـأ ّن جهوده مع التيار السـلفي الجهادي مل ِ
تـؤت الثامر املطلوبة.
انطلـق مـع مجموعـة حاكـم املطيري ،الداعيـة السـلفي الكويتـي املعروف،
يف الكويت واألردن وفلسـطني واليمن ،والسـعودية بتأسـيس قواعـد تيار األمة،
وهـو تيـار إسلامي ينطلـق من مفهـوم األمـة ،ومشروع الجهاد العـام ملواجهة
القـوى الدوليـة واملشروع الصهيـوين وإقامـة الدولـة اإلسلامية ،وأسـس التيـار
أحزابـاً باالسـم نفسـه يف العديـد مـن الدول العربيـة ،تنطلق من األسـس ذاتها.
أقـام تيـار األمـة يف العـام 2013مؤمتـرا ً كبيرا ً يف تركيـا ،حرضتـه مئـات
الشـخصيات مـن التيـار اإلسلامي ،ملناقشـة املوضـوع السـوري وأحـوال األمـة
اإلسلامية ،ووفقـاً لنعيـم أسـس تيـار األمـة يف سـورية لـواء األمـة للقتـال ضـد
الجيـش السـوري ،ويدعـم التيـار اليـوم العديـد مـن الفصائـل اإلسلامية ،مثـل
أحـرار الشـام ،ولـه جهـود متنوعـة يف داخـل األرايض السـورية.95
بالرغـم مـن تأكيـد نعيـم التلاوي على أنّـه مل ينتـم يف أي فترة إىل تيـار
السـلفية الجهاديـة ،إالّ أنّنـا بقـراءة تفاصيـل رحلتـه الروحيـة والفكريـة مـع
مشروع الجهـاد ،الـذي اسـتوىل على تفكيره ،بـدءا ً مـن مسـاعدته الطليعـة
املقاتلـة يف سـورية ،وصـوالً إىل تيـار األمـة اليـوم ،تضعنـا أمـام محاوالتـه
تطويـر رؤيـة املجموعـات السـلفية الجهاديـة نحـو األفـكار التـي يؤمـن بهـا،
خلال فترة التسـعينيات ،بعـد أن حصـل التـزاوج خلال األعـوام املاضيـة بين
املشروع السـلفي واملشروع الجهـادي ،مـا أنجب «السـلفية الجهاديـة»؛ إالّ أن
زواج صاحبنـا مـع هـذا املشروع السـلفي الجهادي واجه فشلاً ،عىل مـا يبدو،
( )95انظـر حـول تيـار األمـة ومؤمتـر تركيـا مقالة بسـام النارص «تيـار األمة :مشروع إحيايئ
واعـد ،صحيفـة الراية القطريـة.3102-01-1 ،
132
الختلاف أفـق القـراءة السياسـية بينهما ،مـا دفعـه إىل املشـاركة يف تأسـيس
تيـار األمـة ،ليكـون بوتقة أوسـع وأرحب مـن اإلطار السـلفي ،تشـمل العاملني
لإلسلام جميعـاً مـن أجـل تكريـس مفهـوم األمـة اإلسلامية ومشروع الجهـاد،
بينما يـرى بأ ّن السـلفية الجهادية افتقرت إىل هذا املرشوع السـيايس املطلوب،
وح ّجمـت معنـى الجهـاد وض ّيقـت مضامينـه وآفاقـه ،ثـم ح ّولتـه إىل ما يشـبه
الحالـة العسـكرية مـن دون أن متتلـك روافـع اجتامعيـة وثقافيـة وسياسـية!
ميكـن مالحظـة مـؤرشات الطلاق بين نعيـم والقيـادات السـلفية الجهادية،
عمومـاً ،يف األردن ،ليـس فقـط عبر النقد السـابق الذي نقرأه لـه ،بل حتى عرب
الهجـوم الـذي يشـنه أنصـار الزرقـاوي عليـه مـن جهـة ،وتأكيـد الطـرف اآلخر،
مجموعـة املقـديس ،بعـدم التواصـل معـه ومـع تيـاره األمـة ،بالرغـم مـن أ ّن
مق ّربين مـن نعيـم التلاوي يشيرون إىل دوره الحيـوي خالل السـنوات املاضية
يف تطويـر الرؤيـة األيديولوجيـة للقاعـدة ،وتلبيسـها أفقـاً سياسـياً ،مـن خلال
بعـض األدبيـات التـي تحدثـت عـن الجيـل الثـاين مـن القاعـدة ،أو عـن الرؤية
96
االستراتيجية لهـا يف السـنوات القادمة!
( )96انظـر ،على سـبيل املثـال ،بعـض املقـاالت التـي تهاجـم نعيـم التلاوي مـن أنصـار
السـلفية الجهاديـة ،تقريـر بعنـوان «دعـاء الشـيخ أبو محمـد املقديس يصيب نعيـم التالوي
بانفضـاح أمـره»! ،على أحـد املنتديـات الجهاديـة ،منتديـات روايـة ورش عـن نافـع ،الرابط
التـايلhttp://r-warsh.com/vb/showthread.php?p=529760:
133
-3-
مؤيد :الخروج اآلمن من أروقة
الجهاديين
يف الصفحـات القادمـة سـنجد أنفسـنا أمـام منـوذج آخـر ،مـن سـكان مدينـة
السـلط ،يبـدأ النشـاط والرحلـة مبكّـرا ً مـع التيـار السـلفي الجهادي ،ويسـتمر
معـه أعوامـا ،إىل أن ميـ ّر مبرحلـة من الشـكوك ،ثـم «الطحن الفكـري» بني هذا
املنهـج ومناهـج إسلامية أكثر اعتـداالً ،ثم يصـل يف مرحلة الحقـة إىل االنفتاح
على األفـكار األخـرى داخل الحركات اإلسلامية ،مـن صوفية وسـلفية إصالحية
ومدرسـة اإلخوان املسـلمني ،يف مامرسـة فكرية وشخصية اسـتمرت منذ أن كان
عمـره 14عامـاً إىل أن أصبـح عمـره اليـوم 31عاماً.
يح ّدثنا مؤيد كيف أصبح أحد أفراد السـلفية الجهادية؟ وملاذا؟ وكم اسـتمر
غير قناعاتـه ،الحقـاً ،ومـا هـي األفـكار والتصـورات
يف هـذه املرحلـة؟ وكيـف ّ
الجديـدة التـي يتب ّناهـا مؤيـد؟ ومـا هـي العوامـل والظـروف التـي صاحبتـه
خلال هـذه الرحلـة وأث ّـرت على خياراتـه وتحوالتـه الفكرية والنفسـية؟
134
فلسـطينية) يسـكنون مدينـة السـلط ،يقـ ّدر عددهـم بـآالف العائلات.97
بالرغـم مـن أ ّن مؤيّـد كان يصلي ،منـذ الصغـر ،إالّ أنّـه بـدأ يتأثـر بالفكـر
السـلفي الجهـادي ،منـذ السـن الرابـع عشر (بعـد 4أعـوام من اسـتقرارهم يف
حـي امليـدان ،بالقـرب منمدينـة السـلط) ،بعدمـا بـدأ يتردد على مسـجد يف ّ
منـزل العائلـة ،وتعـ ّرف هنـاك على مـؤذّن املسـجد ،رائـد خريسـات ،وهو من
رواد الفكـر السـلفي الجهادي يف مدينة السـلط ،وبدأ يسـتمع ألفـكاره ويندمج
شـيئاً فشـيئاً مـع املجموعـة التـي كانـت تلتـف حـول رائـد مـن كبـار وصغـار،
بعضهـم يبلـغ مـن العمـر 16عامـاً ،وآخـرون كبار ،لكـ ّن أصغرهم هـو مؤيد.98
( )97متـت املقابلـة يف مكتبـي مبركـز الدراسـات االستراتيجية يف الجامعـة األردنيـة بتاريـخ
.3102-11-31
( )98مـن املفيـد ،هنـا ،اإلشـارة إىل أ ّن رائـد خريسـات ،الـذي تأث ّر بـه مؤيـد يف البداية ،كان
يعمـل مؤذّنـاً ملسـجد امليدان ،وموظّفـاً يف وزارة األوقـاف ،وهو حاصل على الثانوية العامة،
اشـتغل يف وزارة األوقـاف ،بعدمـا تـرك القوات املسـلّحة ،عندمـا أخذ يتأثر باألفـكار الدينية،
التـي بـدأت تنتشر لـدى مجموعـة مـن شـباب مدينـة السـلط ،وأغلبهـا تنبع من فكر سـيد
قطـب ،وثيمتهـا األساسـية هـي «الحاكميـة» ،وتكفير الحـكام الذيـن ال يحكمـون مبـا أنـزل
اللـه ،ورفـض الدميقراطية.
واملفارقـة أ ّن مـن أشـعل هـذه الفكـرة يف مدينـة السـلط ،هـو شـخص اسـمه عبـد
الفتـاح الحيـاري ،كان غير ملتـزم ،ثم التـزم ،وبدأ بالتأثري عىل الشـباب بصـورة الفتة ،وتحول
حـي السلامل يف املدينـة ،إىل موئـل لكثير مـن الشـباب الجامعـي ويف منزلـه املتواضـع يف ّ
رشبـوا برسعة أفـكاره ،وبـدأوا يعيـدون تقييم مواقفهم وسـلوكهم الجيـش وغريهـم ،ممـن ت ّ
ووظائفهـم وعالقاتهـم ،بنـاء على الفكرة الجديدة ،وهـي الحاكمية وتكفري الحـكام والجيش
واألمـن ،كان مـن بين هـؤالء الشـباب مجموعة مـن الطلاب يف جامعة مؤتة العسـكرية ،يف
محافظـة الكـركُ ،سـجنوا ،وتـ ّم إنهاء دراسـتهم يف الجامعة ،وعسـكريون ُرفضوا مـن الخدمة
العسـكرية ،وطلاب جامعـات ،فكانـت ظاهـرة جديـدة بالكليـة على املدينـة وأهلهـا مـع
بدايـة التسـعينيات تحديـدا ً ،أي الفترة التـي تزامنـت مـع قـدوم عائلـة مؤيـد إىل السـلط
واسـتقرارها بها.
135
يقـول مؤيـد «كانـوا هـم أ ّول مـن صادفتهـم يف املسـجد ،بحكـم القـرب مـن
املنـزل ،ورمبـا إذا كانـوا إخوانـاً مسـلمني ألصبحـت أخـاً مسـلامً أو مـن جامعـة
التبليـغ ،أو أي جامعـة أخـرى ،لكـن كانـوا مـن أبنـاء هـذا التيـار ،ودخلـت إىل
تجربتـي اإلسلامية مـن خاللهم».
مل يكـن اندمـاج مؤيـد مـع املجموعـة اإلسلامية الجديدة يحتـاج إىل مراحل
متسلسـلة ،وال إىل خبرات وحلقـات متتالية ،كام هي حال الجامعات اإلسلامية
األخـرى ،بصـورة خاصة جامعة اإلخوان املسـلمني ،فالقضيـة املركزية لدى هذه
املجموعـة واضحـة ،متامـاً ،أ ّن الحكـم املوجـود يف العامل العـريب ،ويف األردن ،هو
ليـس حكماً إسلامياً ،بـل ينطبـق عليـه وصـف الطاغـوت ،وال يجـوز الخضوع
لـه ،ألنّـه ال يطبـق الرشيعـة اإلسلامية ،وال يجـوز منارصتـه أو مسـاعدته ،مـن
خلال العمـل يف األجهـزة العسـكرية واألمنيـة ،وال بد من نرش هـذا الفكر أمام
النـاس جميعـاً ،لريبـط املجتمـع قضيـة الحاكمية بالتوحيـد ،فلن تكون مسـلامً
حقّـاً ،إالّ عندمـا تقـ ّر بالحاكميـة للـه (أي حـق الترشيـع) ،مـا يعنـي رضورة أن
تكفـر بالحـكّام الحاليين ،وتتربأ من الدسـاتري والقوانين الوضعية.
األفـكار التـي كانـت تنـادي بهـا هـذه املجموعـة تتمثل يف خليط مـن أفكار
أيب محمـد املقـديس ،وقـد بدأت باالنتشـار عرب كتب ممنوعة مـن النرش ،تطبع
مل يـدم تأثير الحيـاري طويلاً على هـؤالء الشـباب ،إذ بـدأت تجمعات شـبيهة أخرى لهذا
التيـار تظهـر يف مناطـق مختلفـة مـن اململكـة ،يف عمان ،والزرقـاء ،وإربد ،يف الفرتة نفسـها،
ثـم بـرزت شـخصية أبـو محمد املقـديس ،القـادم بدوره مـن الكويت ،الـذي سـيصبح منظّرا ً
لهـذا التيـار يف السـنوات القادمـة ،ومعـه أبو مصعب الزرقـاوي ،فيُعتقالن مـع مجموعة من
رفاقهما ،على خلفيـة قضيـة بيعـة اإلمـام ،يف منتصـف التسـعينيات ،ليصبـح السـجن ،بحد
ذاتـه ،مجـاالً خصبـاً للقـاء والتجنيد والتعارف ،وهي السـنوات التـي منا فيها التيـار الجهادي
خـارج السـجون ،واكتسـب أنصـارا ً ،وأصبح من يؤمنـون بفكر الحاكمية يف مدينة السـلط ،أو
مـن تأثـروا بعبـد الفتـاح الحيـاري ،متأثرين باملقـديس ،ومنهم رائد خريسـات ،لكـن تأثرهم
األكبر كان بأيب مصعـب الزرقاوي.
136
وتصـ ّور برسيّـة ،وكتـاب معـامل يف الطريـق لسـيد قطـب ،وتجـارب الجامعـة
اإلسلامية يف مصر وأفكارها.
يقـول مؤيـد «مل نكـن نتعلّـم أمـورا ً جديـدة يف الديـن ،فقـط هـي صفحـة
واحـدة معروفـة مـن القـول بتكفير الحاكـم ،والهجـوم على فقهـاء السـلطان،
وتحريـم الدخـول يف األجهـزة العسـكرية واألمنيـة ،ومل يكـن يُعرف هـذا التيار
سـابقاً باسـم السـلفي الجهـادي ،إذ ظهـر هذا املصطلـح متأخرا ً ،إنّ ـا كنا نعتقد
أ ّن هـذا هـو اإلسلام ،وال يوجـد منهـج وال طريـق غريه»!
وتشرب األفـكارتزامنـت تلـك البدايـة مـع نهايـة الصـف السـابع ملؤيـدّ ،
الجديـدة مـع الصـف الثامـن ،إذ كان يـدرس يف مدرسـة «عقبـة بـن نافـع»
الحكوميـة ،يف وسـط مدينـة السـلط ،وأخـذ منذ تلك الفترة يعلن عـن أفكاره،
وغير مـن مالبسـه ،لريتـدي القميـص الطويل (الشـبيه الحـيّ ،
يف املدرسـة ،ويف ّ
باللبـاس األفغـاين) ،كما يفعـل أبنـاء التيـار ،وأصبـح يشـعر ،فعلاً ،أنّـه أحـد
أفـراده ،وأن هـؤالء هـم إخوانـه وعائلتـه الجديـدة.
بالطبـع ،مثـل هـذه التغيرات يف شـخصية مؤيـد ،وتحديـدا ً مـا يحملـه مـن
أفـكار جديـدة تحـارب الدولـة ،ومحاربـة منهـا ،وينظـر لهـا املجتمـع بأنّهـا
خطـرة ،أدت إىل مشـكالت للفتـى الصغير مـع عائلتـه ووالديـه ،الذيـن كانـوا
يشـعرون بالقلـق على ابنهـم ،وحـاول بـدوره فـرض رؤيتـه للتدين على أفراد
األرسة ،مـن تحريـم التلفـاز إىل لبـاس العائلـة ،ومشـكالت مـع إدارة املدرسـة،
التـي مل تكـن لرت ّحـب بالضرورة بدعوة ابن الصـف الثامن بهذه األفـكار عالنية
داخل أسـوارها.
أغلـب وقتـه كان ميضيـه مـع هـذه املجموعـة ،التـي أخـذ يـزداد عددهـا،
ليصـل إىل العشرات مـن الشـباب ،مـن مختلـف األعمار ،فيصلّـون معـاً،
ويجلسـون فترات طويلـة سـويةً ،ويلعبون كرة القدم ،ويذهبـون يف رحالت إىل
مناطق قريبة ،ويشتركون بالشـعور بأنّهـم ميثّلون الدعوة اإلسلامية الصحيحة،
ومبسـؤولية تبليـغ ذلـك للمجتمـع والعـوام.
137
مل يكـن األمـر سـهالً على الفتـى يف هـذا العمـر الصغير ،لك ّن األمر بالنسـبة
إليـه ميثّـل الطريـق الوحيد الصحيـح لاللتزام باإلسلام ،فهو أشـبه بـ«االنقالب»
الكامـل يف مواجهـة املفاهيـم االجتامعيـة والدينيـة السـائدة ،كما يـروي مؤيد
نفسـه «مـا أعرفـه منـذ أن كنـت صغيرا ً هـو أ ّن اليهـود هـم األعـداء ،أ ّمـا اآلن
فتغير األمـر أصبحـت أنظـر إىل نظـام الحكـم بأنّـه العـدو ،ولألجهـزة األمنيـة ّ
والجيوش».
وبالرغـم مـن أ ّن بعـض الهواجـس كانـت تـراود الفتـى الجهـادي عـن مـدى
ص ّحـة مـا يقـوم بـه ،إالّ أنّـه كان يطردهـا ،بعـد أن شـعر باالسـتقرار ودفء
الصداقـة مـع املجموعـة ،وأصبـح فـردا ً فيهـا ،فأصبحـوا هـم دائرتـه واملحيطني
بـه ،بالرغـم مـن أنّهـم مل يكونوا تنظيامً صلباً أو مؤسسـياً ،مثـل جامعة اإلخوان
املسـلمني ،وال حزبـاً سياسـياً ،لكـن سـطوة الفكـرة والصحبـة كانـت قويـة عىل
شـخصية مؤيـد ،بخاصـة أنّهـا كانـت طريّـة ،لصغر سـ ّنه!
أوغـل الفتـى يف تب ّنـي املنهـج ،واكتسـب جـرأة وشـجاعة مـع مـرور الوقـت،
للتعبري عن مواقفه ،ووجد نفسـه ُيسـك بامليكرفون يف أكرب مسـجد يف السـلط
(مسـجد السـلط الكبير) ،ليعلـن على املأل بـأن امللك كافـر ،ونظـام الحكم غري
إسلامي ،وهـو مل يتجـاوز الـ« »16عامـاً بقليل!
بـدأت املخابـرات العامـة باسـتدعاء مؤيـد منـذ تلـك الفترة ،وأخـذ يتعـ ّرض
للمضايقـة ،ويشـعر بخطـورة مـا يحملـه مـن أفـكار ،مـن الناحية األمنيـة ،وما
قـد تـؤدي إليـه مـن مشـكالت كبيرة يقـع بهـا ،وهو مـا يـزال يف املدرسـة ،ويف
الصـف العـارش ،أي مل يتجـاوز املرحلـة اإلعداديـة.
بعـد ذلـك بعـام واحـد ،ومـع دخولـه املرحلـة الثانويـة ،سـاعد انفتـاح مؤيد
على شـخصيات إسلامية ذات مناهـج أخرى يف هـ ّز قناعاته السـابقة ،وباملنهج
الـذي يحملـه ،فتعـ ّرف على أحـد الدعاة مـن جامعة اإلخـوان املسـلمني ،وهو
طالـب علـم رشعـي ذو ميـول صوفية ،ولديـه إطّالع ج ّيـد عىل العلـم ،فأُعجب
بأخالقـه وثقافتـه وهدوئـه وسـعة أفقه ،ورحابـة صدره.
138
ويف الوقت نفسـه ،ازدادت عالقته مع د .عبد الرزاق أبو البصل ،وهو أسـتاذ
جامعـي ،متخصـص يف الرشيعـة اإلسلامية ،من سـكان مدينة السـلط ،درس يف
السـعودية وعـاش فترة طويلـ ًة هنـاك ،قبـل أن يعـود يف النصـف الثـاين مـن
التسـعينيات إىل مدينـة السـلط ،ويعمـل أسـتاذا ً يف كليـة الرشيعـة يف جامعـة
الريمـوك ،ويلقـي الـدروس يف مسـجد السـلط الكبري.
ومع أ ّن الدكتور أبو البصل ينتمي إىل املدرسـة السـلفية ،لك ّنها السـلفية ذات
الطابـع الحـريك ،تُـوازن بين الجانـب العلمي والفقهـي من جهة وقـراءة الواقع
مـن جهـة أخـرى ،فلا تصطدم بالواقـع ،وال تدخـل يف مواجهات أكبر من طاقة
اإلنسـان ،وتتـدرج يف العلـم والفكـر ،وتـوازن بين األبعـاد الرتبويـة والسياسـية
واالجتامعية.
بـدأ مؤيّـد يعيـد النظـر ،بدرجـة كبرية ،مبا يحملـه من أفكار ،ويقـارن بني ما
يسـمعه مـن صديقـه الصـويف الجديد والشـيخ أبو البصـل وبني مـا يواجهه مع
التيـار الجهـادي ،مـن مسـار مسـكون مبنطـق الصـدام واملواجهـات مـع الدولة
والواقـع ،ومصير محكوم إما بالسـجن واالعتقـال أو التضييـق واملتابعة.
يقـول مؤيّـد «بالرغـم مـن صعوبة الطريق الذي أسير عليـه ،كنت أرى أنّني
أمـام خياريـن ال ثالـث لهما ،إ ّمـا االسـتمرار ،مـا يعنـي أنّنـي أحكـم عىل نفيس
مسـبقاً بالسـجن واالعتقـال واملطـاردة ،ومسـتقبل بلا أفـق حقيقـي ،وإ ّمـا أن
أتـرك الديـن بالكليـة ،كما فعـل آخـرون ،لكـن دخول الدكتـور أبـو البصل عىل
حيـايت أوجـد يل خيارا ً ثالثـاً ،وطريقـاً جديدا ً».
وصـل مؤيـد ،وهـو يف آواخـر عامـه الثامـن عشر ،إىل نتيجـة رئيسـة وهـي
أ ّن أصدقـاءه ومجموعتـه مـن أبنـاء التيـار الجهـادي ميلكـون عواطـف دينيـة
ج ّياشـة ،لكـن دعوتهـم تصطـدم بالواقـع وتتناقـض معـه ،فهـي مبثابـة انعـزال
كامـل عـن الدنيـا واألعمال والتجـارة والتعليـم والحيـاة العامـة.
تجلّـت املفارقـة بـأ ّن مؤيـد كان قـد دخل مرحلـة االعتقـاالت ،يف تلك الفرتة
التي بدأت تسـاوره فيها الشـكوك وتزداد حول سلامة النهج الذي يسير عليه،
139
فاعتُقـل للمـ ّرة األوىل وهـو مل يتـم ( )18عامـا مـدة ( )4أيـام ،وبعـد ذلك بـ()6
أشـهر ( 14يومـاً) ،وبعـد عـام اعتُقل ( )22يومـاً ،وبعدها االعتقـال الرابع ملدة
( )28يومـاً ،بعـد أن تـز ّوج بشـهرين ،عندمـا كان عمـره ( )19عامـاً ،ويقول أنّه
أتـ ّم حفـظ القـرآن الكريـم خلال فترات سـجنه واعتقالـه ،وكان يشـعر ،هـذه
املـ ّرة تحديـدا ً ،بأنّـه معتقـل ألفـكار مل يعـد يؤمـن بها قرارة نفسـه ،لكنـه –ويا
للمفارقـة ،مل يكـن يجـرؤ على االعتراف بذلك أمـام اآلخرين!
يف عامـه الــ( )19بـدأت عمليـة الطلاق فعليـاً بينـه وبين مرحلته السـابقة،
أو أفـكاره السـلفية الجهاديـة ،وبـدأ يشـعر أنّـه ممـ ّزق بين تناقضـات؛ فهـو
مـا يـزال محسـوباً على هـذا التيـار ،حتـى لـدى الدوائـر األمنيـة ،لكـ ّن أفكاره
تغيرت ،وبـدأ يشـعر مبثاليـة األفـكار السـابقة ،ويرغب بالقـرب أكرث وقناعاتـه ّ
مـن مجموعـات إسلامية أكرث اعتـداالً وواقعية ،لك ّنـه يف الوقت نفسـه ال يريد
أن يعلـن تغيير موقفـه ،حتـى ال يصطـدم بالجهاديني ،وال يدخـل يف حالة عداء
معهـم ،فـأراد أن ميسـك باملسـارين ،لكـ ّن ذلـك مـن الصعوبـة مبـكان ،فبـدأ
ينسـحب بالتدريـج مـن أروقـة التيار الجهـادي إىل اإلسلاميني اآلخريـنّ ،
ويفك
نفسـه بهـدوء مـن االرتباطات السـابقة ،وهـي العمليـة التي اسـتمرت قرابة 4
أعـوام ،أي منـذ أن كان عمـره 19عامـاً إىل أن وصـل 23عامـاً ،حتـى متكّـن من
الشـعور داخليـاً بأنّـه انفصـل روحيـاً وفكريـاً عـن مجموعته السـابقة!
عندمـا يراجـع مؤيـد تلـك املرحلة من حياته ،أي منـذ أن كان عمره 14عاماً
إىل أن أصبح 19عاماً ،أو منذ الصف السـابع إىل أن تزوج ،فإنّه يشـعر باملرارة،
إذ يـرى أنّـه خسر كثيرا ً خلال تلـك الفترة ،وأضـاع فرصتـه يف التعليـم املبكّر،
لذلـك عـاد إىل الدراسـة الجامعيـة ،يف مرحلـة البكالوريـوس ،بينما لـو اتخـذ
مسـارا ً فكريـاً آخـر كان ميكـن أن يكـون اآلن قد أت ّم دراسـة الدكتـوراه ،وتد ّرج
بصـورة أكبر يف امليـدان العلمي ،الذي يحبـه ويرغب به ،لك ّن تلـك الطموحات
مل تكـن مطروحـة وال مرشوعـة ،حينما كان يف التيـار السـلفي الجهـادي ،الذي
يتخاصـم مـع الجامعـات ومـع قطاع األعمال والعمل.
يحيـل «الجهـادي الصغير» العامـل الرئيس الـذي أ ّدى إىل انخراطه يف مرحلة
140
مبكّـرة يف التيـار السـلفي الجهـادي إىل سـ ّن املراهقـة ،ومـا يتوافـر عليـه مـن
«طاقـة كبيرة» لـدى الفتيـان ،وألنّـه نشـأ متديّنـاً منـذ الصغـر ،ومـن ثم سـلك
يف املنهـج الجهـادي ،فلـم يكـن متاحـاً أمامه ما يفعلـه املراهقـون اآلخرون من
وسـائل لترصيـف هـذه الطاقة املكبوتـة والهائلة ،سـواء يف التدخني أو الحديث
عـن الفتيـات أو حتـى مشـاهدة األفالم اإلباحيـة ،أو غريها من املامرسـات التي
يـرى التيـار الجهـادي حرمتهـا ،فلـم يجـد أمامه سـوى التعبري عن هـذه الطاقة
والتمسـك بـه ،وتحـ ّدي
ّ مـن خلال اإلرصار أكثر وأكثر على املنهـج الجهـادي
الدولـة والنظـام ،ملواجهـة مـا تفرضـه تلك السـ ّن مـن عواطف وغرائـز طبيعية
تذهـب باالتجـاه اآلخـر ،أي أ ّن الخيـار هـو التشـ ّدد الديني يف محاولـة للتغلّب
على تلـك الدوافع!
يفسر انخراطه وغريه من الفتيان والشـباب الصغار، يف هـذه الحالـة فـإ ّن ما ّ
ممـن كان يعرفهـم إىل هـذا االتجاه الفكـري هو ذلك الفراغ الكبري يف السـاحة،
إذ يغيـب حضـور العلامء والفقهـاء واملفكرين املعتدلني ،الذيـن ميلكون القدرة
على مخاطبـة الشـباب والفتيـان ويقدمـون رؤيـة إسلامية معـارصة معتدلـة،
مـا يفتـح البـاب أمـام أصحـاب األفـكار الجهاديـة ،الذيـن ميتـازون باالندفـاع
والعاطفـة الدينيـة الجيّاشـة ،فيملـؤون ذلـك الفـراغ ،كما حـدث معـه ،ومـع
بعـض رفاقـه يف التيـار الجهـادي من مدينة السـلط.
وإذا كان مؤيـد قـد أخـذ فرصتـه ملراجعـة األفـكار وإعـادة النظـر يف قناعاته
وتعديـل مسـار تطـوره الروحـي والفكـري ،كام سنرى يف املرحلة القادمـة ،فإ ّن
غيره مـن الشـباب الجهـادي الصغير ،سـارعوا إىل االنتقـال إىل مرحلـة أخـرى
يف مرحلـة مبكّـرة ،كما حـدث مـع معتصـم درادكـة ،الـذي غـادر مبـارشة بعد
الثانويـة العامـة إىل منطقـة كردسـتان العـراق (يف العـام ،)1999ليقاتـل هناك
إىل جـوار رائـد خريسـات ،الـذي كـ ّون مجموعـة جهاديـة أردنيـة تتحالـف مع
فصيـل جهـادي كـردي ضد األكـراد العلامنيين ،وقُتل معتصم بعد ذلك بشـهور
قليلة !
141
سنوات «الطحن الفكري»
كما أخربنـا مؤيـد؛ فقـد بـدأ مبراجعـة أفـكاره وغربلـة منهجـه الفكـري مـع
بلوغـه 18عامـاً ،إالّ أ ّن حالـة الصراع الداخلي الشـديد والتمـ ّزق بين قناعاتـه
الجديـدة وعواطفـه وصداقاتـه السـابقة بـدأت بصـورة أكرث وضوحا يف األشـهر
األخيرة مـن سـن الــ ،19واسـتمرت تلـك الحالـة معـه قرابـة 4أعـوام حتـى
سـن الــ ،23عندمـا انسـحب بهـدوء مـن صفـوف التيـار الجهـادي ،وانفتـح
على األفـكار الجديـدة يف السـاحة القريبـة مـن مدرسـة اإلخـوان الفكريـة ،أو
حتـى السـلفية املعتدلـة أو التقليديـة ،وهـي املرحلـة التـي يطلق عليهـا مؤيد
مصطلـح «الطحـن الفكـري» الـذايت!
يفسر مؤيـد عبـور مرحلـة الطحـن الفكـري ،يف أواخـر العـام الــ 19بطبيعة ّ
الضغـوط النفسـية التـي تعـ ّرض لهـا ،إذ تـز ّوج ،ثم بـدأ الكفاح من أجـل تأمني
التزاماتـه الجديـدة ،فعمل يف مطعم ،ومكتبة إسلامية ،وبائعـاً متج ّوالً لألرشطة
والكتـب الدينيـة على أبـواب املسـاجد ،ومما ض ّيق عليـه يف قدرته على توفري
تتوسـع فيه قامئة
تكاليـف حياتـه الزوجيـة هي طبيعـة املنهج الجهـادي ،الذي ّ
األعمال املح ّرمـة وغري املقبولـة رشعاً.
رمبـا مـا يقفـز عنـه مؤيـد يف تفسير هـذا التحـ ّول ،وهـو مـا قـد نصـل إليـه
باسـتنطاق تجربتـه ،هـو غيـاب رائـد خريسـات عن املشـهد ،وخروجـه للقتال
يف كردسـتان العـراق ،ثـم مقتلـه هنـاك ،مـع عـدد مـن شـباب مدينـة السـلط
الجهاديين .فخلال األعـوام السـابقة كان لشـخصية رائـد تأثري كبري على مؤيد،
وقـد نتجـاوز ذلـك إىل مصطلـح السـطوة ،فرائد هو مـن دفعه منـذ الصغر إىل
اعتنـاق الفكـر الجهـادي ،وكان ميثّـل بالنسـبة لـه األخ األكبر ،والحامـي ،الـذي
يدافـع عنـه إذا مـا تـو ّرط يف مشـكالت أو أزمـات مـع املجتمع املحلي أو رجال
األمـن ،وهـو مـا قد يعنـي أكرث مـن اآلخرين لفتـى يعيش يف السـلط ،ليس من
أبنـاء العشـائر ،فمثـل رائـد ميثّل سـندا ً مريحاً ومطمئنـاً للفتى ،لك ّنـه يف الوقت
نفسـه قيـدا ً مينعـه مـن التفكير يف تغيير املنهـج وتطويـر أفـكاره ،يك ال يخسر
مـن أصبـح ميثّل لـه شـخصية محوريـة يف حياته!
142
يف أواخـر العـام 1999خـرج رائـد خريسـات ومعـه مجموعـة مـن الشـباب
الجهـادي مـن مدينة السـلط إىل كردسـتان للقتـال هناك مـع الجهاديني األكراد
ضـد العلامنيين ،ثـم لحقـه عشرات مـن أبنـاء املدينـة ،وقُتـل عدد كبير منهم
يف السـنوات التاليـة ،ويف مقدمتهـم رائـد خريسـات نفسـه ،فيما بقـي هاجس
الهجـرة إىل الجهـاد يسـيطر على أبناء التيـار الجهادي يف مدينة السـلط وغريها
مـن مـدن ،بخاصة بعـد احتالل العـراق يف العـام .2003
تلـك الهجـرة أتاحـت ملؤيد مسـاحة أكرب من التفكير ،تحت وطأة الضغوط
املاليـة بعـد الـزواج ،والشـعور بالتوتـر الفكـري مـع املراجعـة الذاتيـة ملـا كان
كل ذلـك كان يدفع بـه إىل خارج التيـار الجهادي يؤمـن بـه مـن أفـكار الجهادّ ،
ً
نحـو أفـكار إسلامية متنحـه قـدرا اكرب مـن الراحة والهـدوء ،وتتناسـب أكرث مع
شـخصيته ،ذات الطابـع الـو ّدي املنفتـح ،البعيدة عـن العدائية والرشاسـة ،التي
ميتـاز بهـا أبناء التيـار الجهادي!
143
خالصات واستنتاجات
منحتنـا األمثلـة السـابقة ،يف األوسـاط السـلفية الجهاديـة ،ومـا ق ّدمتـه مـن
روايـات وتجـارب فكريـة وروحيـة شـخصية ،الفرصـة للتعـ ّرف أكرث على معامل
الشـخصية السـلفية الجهاديـة ،وهـي وإن كانت «حـاالت» محـدودة يف التيار،
إالّ أنّهـا تعكـس «منـاذج» ألمثلة مشـابهة أو قريبـة ،وبالرغم من أ ّن شـخصيات
رصت عىل عدم التعريف أخـرى التقينا بها رفضت تسـجيل تجاربها الخاصـة ،وأ ّ
بهـا أو اإلشـارة إليهـا يف هـذا الكتـاب ،إالّ أنّنـا سنسـتحرضها يف اسـتخراج هـذه
الخالصـات واالسـتنتاجات ،ويف الصفحـات الختاميـة يف هـذا الكتاب.
وبالرغـم مـن أ ّن الشـخصية «السـلفية الجهادية» تتشـابه مع تلـك التقليدية
والحركيـة بأنّهـا تصـاغ بصـورة كبيرة على أسـاس «الهويـة الدينيـة» ،إذ يأخـذ
الدين مسـاحة واسـعة من تشـكيل منظورها الفكري ،ومن مامرسـاتها اليومية
الواقعيـة ،إالّ أنّهـا تتخـذ أبعـادا ً جديـدة ،وامتـدادات واسـعة عـن الشـخصيتني
السـابقتني (التقليديـة والحركيـة) ،على الصعيـد الشـخيص واالجتامعـي
والسيايس.
البعـد األول يف الشـخصية الجهاديـة يتمثّـل بدرجـة أكبر من االنغلاق وبناء
جـدران الحاميـة الداخليـة مـن التأثيرات الخارجيـة ،فالسـلفي الجهـادي هـو
شـخص متديّـن ،شـديد االهتمام بااللتـزام العقائـدي والفكـري باملـدارك التـي
يؤمـن بهـا مـن «النـص الديني» (القـرآن والسـنة والفتاوى الرشعيـة) ،وحريص
على االلتـزام السـلويك بالشـعائر الدينيـة التع ّبديـة ،فهـو يحافـظ على صلاة
عما يظ ّنه مخالفاً
الجامعـة ،وباألخالقيـة الظاهريـة ،واالبتعاد يف سـلوكه املعلن ّ
للرشيعة اإلسلامية.
هـذه املدخلات تصنـع لدينـا شـخصية يف جوهرهـا النفسي متعاليـة على
الواقـع االجتامعـي املحيـط ،طاملـا أنّـه غير قائـم على معايير االلتـزام الديني،
وتتجسـد هذه السـمة أيديولوجياً فيما يصطلح
ّ كما تراهـا أيديولوجيـا التيـار،
145
عليـه سـيد قطـب ،ويتردد يف الخطاب الجهـادي عمومـاً ،بـ»اسـتعالء اإلميان»،
فاملؤمـن غير خاضـع لشـهواته الذاتيـة ،ومتحـرر مـن السـلطات االجتامعيـة
والسياسـية والثقافيـة السـائدة ،طاملـا أنّهـا – كما هـو غالـب -غير قامئـة عىل
املنظـور الدينـي -الرشعي.
هـذا الجانـب الشـعوري يف شـخصية السـلفي الجهـادي يقـوده إىل «عزلـة»
نفسـية -إراديـة عن املحيـط االجتامعي ،فهو وإن كان جسـدياً وفكرياً موجود،
ويعمـل على التغيير وميارس الدعـوة والتجنيـد ،إالّ أنّه حريص دامئـاً عىل عدم
تلبّـس شـخصيته مبـا يخالـف الرشيعـة ،سـواء عىل صعيـد عالقـات الصداقة أو
حتـى األرسة والقرابة واملحيـط االجتامعي.
ليسـت الشـخصية السـلفية الجهاديـة انطوائيـة ،باملعنـى السـيكولوجي
للكلمـة ،فنجـد كثريا ً مـن األمثلة ممن يختلطـون باملحيط ،وينشـطون بالدعوة
إىل الديـن ،كما يفهمونـه ،ويشـاركون يف تجمعـات متعـددة ،مثـل املناسـبات
االجتامعيـة ،لكـن مـن دون أن تج ّرهـم هـذه املشـاركة إىل التامهـي مـع هـذا
الواقع.
يرتتـب على هـذه األبعاد سـمة أخرى يف هذه الشـخصية تتمثـل يف أنّها ذات
بعـد أو اتجـاه واحـد ،فهي ترسـل ،غالباً وال تسـتقبل ،إالّ ما يتوافـق مع العقائد
تتغي ،يف األغلـب األعم،
تغير وال ّ
التـي تؤمـن بهـا ،إذ تعطـي ،تؤث ّـر ،وال تتأث ّـرّ ،
فمشـاركتها االجتامعيـة والنفسـية تدخـل يف حيّـز الدعـوة إىل اللـه ،والتجنيـد
والتأثري.
البعـد العقائـدي أحـد أهـم األسـس التـي مت ّيـز الجهـادي ،فهـو شـخصية
عقائديـة بامتيـاز ،مبـا يف ذلـك املنظـور السـيايس لـه ،فاملوقف مـن الحكومات
واألنظمـة واللعبـة السياسـية والدميقراطيـة واألحـزاب السياسـية األخـرى،
مبـا فيهـا األحـزاب اإلسلامية هـو موقـف مرتبـط بالعقيـدة والتوحيـد ،فهـذه
التيـارات والجامعـات والشـخصيات تقـع بين حـدود الكفـر والضالل والفسـق
والخـروج على أحـكام الديـن ،وجميعهـا خـارج دائـرة «الفرقـة الناجيـة» التي
تتمثّـل بالسـلفية الجهاديـة اليـوم ،وترتجم عرب «الفئـة املؤمنـة» الصادقة ،التي
146
تطالـب بأخـذ األسـباب ،ال بالنتائـج « ،ال يرضها من خذلها» ،سـواء كانت هذه
الجهـة الخاذلـة املتواطئـة مـن املجتمع أو السـلطة أو حتى األحزاب اإلسلامية
األخـرى ،فضلاً عـن التوجهـات العلامنيـة املتعددة.
وألننا أمام منظور عقائدي صارم ،ومواقف مسـبقة واضحة تتأسـس عليه،
فـإ ّن كثيرا ً مـن الجهاديين ليسـوا معنيين مبتابعـة تفاصيـل الحيـاة السياسـية
ووسـائل اإلعلام ،إالّ مبـا يتعلّـق بالقضايا الرئيسـة التـي يهتمون بهـا ،أو األخبار
متـس التيـار الـذي ينتمـون إليـه ،فكثري مـن أفراد هـذا التيار غير معنيني التـي ّ
بقـراءة الصحـف وال متابعـة الفضائيـات بصـورة مكثّفـة ،وال حتى املشـاركة يف
السـجاالت العامـة حول القضايا املختلفـة املتعددة ،إالّ مبقدار مـا يع ّزز ويثبت
ويؤكّـد «رؤيتهـم العقائدية»!
مثـل هـذه املحـ ّددات الواقعيـة؛ جعلت من «املنتديـات الجهادية» يف العامل
مهماً مـن اهتاممـات الشـخصية الجهاديـة ،خلال السـنوات االفترايض جـزءا ً ّ
األخيرة ،ويعـ ّزز هـذه األهميـة تزايـد دور االنرتنـت وقيمته يف بنـاء أيديولوجيا
التيـار ونرشهـا ،والتواصـل بين أبنائـه يف مختلـف املناطـق ،داخـل األردن
وخارجهـا ،بخاصـة أ ّن مئـات مـن «إخوانهـم» قـد خرجـوا للقتـال يف سـاحات
مختلفـة يف الخـارج ،ويضاعـف مـن أهميـة هـذه املنتديـات ذلـك املوقـف
السـلبي مـن العـامل الواقعـي ،فأصبـح االفترايض مبثابـة مجـال آخـر للتسـلية
والرتويـح لـدى هـذا التيـار ،واالسـتئناس بالحديـث مـع أبنـاء التيـار ومتابعـة
أخبارهـم واملشـاركة الوجدانيـة والفكريـة مبـا يحـدث مـع أبنائـه يف مختلـف
بقـاع العامل.
يف األشـهر املاضيـة أخـذت «املنتديـات الجهاديـة» مهمـة جديـدة تتمثّـل
يف السـجاالت داخـل التيـار الجهـادي نفسـه ،بعـد أن دبّـت الخالفـات يف
أوسـاطه ويف بيتـه الداخلي ،وانقسـم املنظّـرون املعروفـون وأبنـاء التيـار بين
مؤيـد لتنظيـم الدولـة اإلسلامية يف العـراق والشـام وقبلها الخـط األيديولوجي
أليب مصعـب الزرقـاوي ومؤيـد أليب محمـد املقـديس والظواهري والخـط العام
للقاعـدة؛ فأحـد أهـم املواقـع الجهاديـة اليـوم على شـبكة االنرتنـت مدونـة
147
«جريـر الحسـني» ،وهـي املد ّونـة التـي تعتقد أوسـاط واسـعة من هـذا التيار
أنّهـا تعـود ألحـد أبنائه وورثة خط الزرقـاوي يف مدينة إربد ،وهـو عمر مهدي،
الـذي يعلـن تأييـده لتنظيـم الدولـة االسلامية يف العـراق والشـام ويدافع عنه،
ويته ّجـم برشاسـة وبلغـة حادة عىل خط املقـديس ،ونداءات «سـلمية الدعوة»
على السـاحة األردنيـة ،ويقـف ضـد أي محـاوالت لتبنـي العمـل السـلمي أو
تأطير التيـار ،عبر مجلـس للشـورى أو تب ّنيـه ألدوات سـلمية ،مثـل املظاهرات
واملسيرات واالحتجاجـات ،كما حـدث يف األردن ،مـع بدايـات ثـورات الربيـع
العريب!
هـذا هـو اإلطـار العـام للشـخصية الجهاديـة ،لك ّنـه بالرغـم مما يبـدو عليه
مـن رصامـة خارجيـة ،يسـمح يف أروقـة هـذا التيـار بقـدر كبري مـن االختالفات
والتباينـات بين أفـراده ،بين اتجـاه يسـعى إىل تليينـه وتدويـر الزوايـا الحـا ّدة
وتخفيـف وطأتـه القاسـية واتجـاه آخـر يتشـدد فيـه ويغلقـه عـن املحيـط
الخارجـي.
عما يسـم ّيه بعـض علماء النفـس،هـذه التباينـات تنجـم ،بدرجـة رئيسـةّ ،
بـ«الشـخصية األسـاس» ،أو بعبـارة موازيـة ملـا ق ّدمنـاه بهذه الدراسـة؛ اختالف
الروافـد األوىل ألبنـاء التيـار ،وتبايـن الظروف االجتامعيـة والثقافية والنفسـية،
والتجارب الشـخصية!
فبالنظـر إىل التجـارب السـابقة ،وغريهـا ممـن التقينـاه أو تابعنـا تفاصيـل
تجربتـه ومسيرته ،نحـن أمـام منـاذج متعـددة؛ فهنالـك مـن آىت مـن خلفيـة
سياسـية أيديولوجيـة ،ليسـت إسلامية ،ذات طابـع علامين ،أو ليسـت سـلفية،
ذات جـذور جهاديـة وإخوانيـة ،ومثـل هـذا النمـوذج أكثر انفتاحـاً ومرونـة
وأقـل رصامـة مـن الناحيـة الشـكلية أو الظاهرية ،سـواء يف العالقـة مع املحيط
االجتامعـي أو التنويـع يف الوسـائل واألدوات يف التغيير واملواجهـة مع «األعداء
السياسـيني» ،سـواء كانـوا أنظمة سياسـية أو أجهـزة أمنية أو خصوماً سياسـيني.
مثـة رشيحـة واسـعة مـن أبنـاء التيـار أتـت مـن خلفيـة سـلفية ،سـواء كانت
تقليديـة أو حركيـة ،مثـل عمر يوسـف (أبـو أنس الشـامي) ،عمر محمـود (أبو
148
قتـادة الفلسـطيني) ،ومنـاذج أخـرى تفضّ ـل عدم ذكر اسـمها ،فهذه الشـخصية
وإن كانـت تتسـم بغلبـة الجانـب العقائدي ،إالّ أنّها تتوافـر – غالباً -عىل درجة
مـن العلـم الرشعـي ،مـا يجعلهـا أكثر اكرتاثـاً مبـا يـدور مـن أحـداث سياسـية
واجتامعيـة ،ومـا يحـدث من متغريات .لكـن حتى يف هذه الحالـة فإنّنا نجد أ ّن
«التجربـة الشـخصية» تـؤدي دورا ً كبريا ً يف تفسير التحول نحو التيـار الجهادي،
أو حتـى االنتقـال مـن أراء ومواقـف معينـة إىل أخـرى ضمن الدائـرة الجهادية
نفسها .
هنالـك رشيحـة جـاءت مـن خلفيـة ليسـت باإلسلامية ،وال باأليديولوجيـة،
وبعضهـا مـن تجربـة متناقضـة مـع االلتـزام الدينـي -األخالقي ،وفيام نـراه من
منـاذج تنتمـي لهـذا النمـط فإنّهـا شـخصية حا ّدة أكثر تشـ ّددا ً وانغالقـاً ،تنتقل
مـن النقيـض إىل النقيـض ،وتتمسـك باأليديولوجيـا الجهاديـة برصامـة فكريـة
وروحية وسـلوكية!
أ ّمـا عـن األسـباب التـي تدفـع بشـخص مـا إىل أحضـان هـذا التيـار ،فهنالك
فرضيـات تربـط بين ذلـك والظـروف االجتامعيـة واالقتصاديـة والسياسـية،
وسـبقت اإلشـارة إىل أ ّن التيـار يتمـ ّدد ،يف العـادة ،باألحياء الشـعبية واملخيامت
الفلسـطينية ،ويتغـذى على مشـاعر اإلحبـاط والفـراغ السـيايس ،واالسـتبداد
وتراجـع مناخـات حريـة التعبير والحريات العامة ،ويف أوسـاط الفقـر والبطالة
والحرمـان االجتامعـي ،ويأخـذ مـدى آخـر مـع عامـل القرابـة االجتامعيـة-
العشـائرية (التعاطـف والعصبيـة) ،العالقـات الشـخصية.
ال ميكـن اسـتبعاد دور النصـوص الدينيـة وقـدرة الخطاب السـلفي الجهادي
على توظيفهـا وتبسـيط الواقـع مبعادالت عقائدية محسـومة ،تسـتند إىل النص
الدينـي واالحتجـاج عىل ما آل إليه الواقع العام يف املجتمعات العربية ،سياسـياً
وثقافيـاً واجتامعيـاً واقتصاديـاً ،وحتـى عسـكرياً ،مـع أزمـة الرشعية السياسـية
العربيـة ،وعـدم القـدرة على مواجهـة التحديـات الداخليـة والخارجيـة ،ودور
القضيـة الفلسـطينية بتعزيـز هـذه املشـاعر ،إسلامياً بوجـه عـام ،وفلسـطينياً
بوجـه خـاص ،مـع هيمنـة الشـعور بالفسـاد على املـزاج االجتامعـي العـريب،
وغيـاب الخطابـات التنويريـة النهضويـة ونـدرة النماذج والقـدوات يف هـذا
149
املجال!
كل ذلـك مبثابـة عوامـل توضع عاد ًة لتفسير بروز هذا التيـار وصعوده خالل
السـنوات األخيرة ،وهـي فرضيـات ترقـى إىل درجـة البديهيـات لـدى باحثين
يف هـذا التيـار ومراقبين لـه ،يسردون أمثلـة ومـؤرشات متعـددة تؤكّـد صحـة
هـذه املقـوالت؛ إالّ أ ّن كل ذلـك مبثابـة املفتـاح الذهبـي للتجنيـد لـدى التيـار،
بينما يتمثّـل البـاب يف أمريـن ،األول هـي البيئـة االجتامعيـة الحاضنـة ،بـأن
تكـون هنالـك مناخـات اجتامعية ،أو بيئات ومـدن وأحياء توفـر رشوط الحياة
والنمـو ملثـل هـذه األفـكار ،والثـاين هـي البيئـة النفسـية الحاضنـة ،بـأن يكون
لـدى الفـرد اسـتعداد ،ألسـباب متعـددة ذاتيـة لخـوض املغامـرة والقبـول بهذا
الفكـر الراديـكايل ،وهـي عوامل تعود م ّرة أخـرى للتجارب الشـخصية ما تولّده
مـن حالـة نفسـية شـعورية متق ّبلـة لذلك!
150
الفصل الثالث
املجموعـة التـي سـنتع ّرف عليهـا يف الصفحات املقبلة ،تتأرجح ،يف األوسـاط
السـلفية ،بين املناهـج والكتـل أو التجمعات املختلفـة ،لك ّنها حاولت اشـتقاق
متوسـطاً بني السـلفية التقليدية،
طريـق ثالـث يف العقود املاضية ،يأخذ مسـارا ً ّ
التـي تنتمـي إىل مدرسـة الشـيخ نـارص الدين األلبـاين ،والحقاً تلـك التي أخذت
اتجاهـاً جهاديـاً ،متأثـر ًة مبـا يطرحـه عصـام الربقـاوي (أبـو محمـد املقـديس)،
بالرغـم أ ّن هـذا االتجـاه متاهى ،يف البدايات ،مع التيار السـلفي العام وشـيوخه
يف األردن والسـعودية ،عمومـاً ،وتقاطـع ،نسـبياً ،يف مرحلـة الحقة مع السـلفية
الجهاديـة ،ومـا يـزال إىل اليـوم يعمـل على تكريـس الرؤيـة السـلفية الثالثـة،
سـواء يف الخطـاب اإلعالمـي أو العمـل االجتامعي والدعوي والرتبـوي والخريي.
وبالعودة إىل جذور هذا التيار سنجد أ ّن الجهود املركزية النبثاقه متركزت يف
أحيـاء عمان الرشقية ،ويف األوسـاط األردنية -الفلسـطينية ،ووجـدت لها روافد
ومسـاحات جديـدة يف محافظـات أخـرى ،بصورة خاصـة يف الزرقـاء والرصيفة،
وميكـن مالحظـة أ ّن املجموعـة املركزيـة منها تأثرت يف عقـد الثامنينيات بأفكار
كل مـن عمـر محمـود (امللقـب بـأيب قتـادة الفلسـطيني) ،وحسـن أبـو هنيـه،
وكالهما مـن سـكّان حـي رأس العني ،كام سـنتناول الحقـاً ،بدرجة أكثر تفصيالً
مـع تجربـة حسـن أبو هنيـه ،وتحوله مـن السـلفية الحركية ،فالجهاديـة وأخريا ً
خروجـه مـن اإلطار السـلفي العام فكريـاً وروحياً!
ومتثّلـت البدايـات بتأثـر كل مـن عمـر محمـود وحسـن أبـو هنيـه يف نهايـة
السـبعينيات وبدايـة الثامنينيـات بالفكر السـلفي الو ّهايب ،عرب قـراءة مجموعة
مـن الكتـب واألدبيـات السـلفية ،ثـم انخـراط االثنين مـع مجموعـة مـن
حـي رأس العين يف تأسـيس مسـجد الخلفـاء الراشـدين ،بتعـاون أهلي أبنـاء ّ
مجتمعـي ،والبـدء بالتواجـد فيـه وإلقـاء الـدروس والتعريف بالفكر السـلفي،
فبـدأت تتشّ ـكل حولهما حلقـة مـن الشـباب الصغـار ،حينـذاك ،ويطـ ّورون
153
مسـاحة التفاعـل والتواصـل واالتصـال مـع التيـار السـلفي يف األردن ،بعـد أن
اسـتقر الشـيخ نـارص الديـن األلباين يف عمان ،يف منطقة جبل النصر ،من أحياء
عمان الرشقيـة يف بدايـة الثامنينيـات ،ثـم التوسـع يف مرحلـة التسـعينيات ،إىل
املحافظـات األخـرى ،ملعاينـة مـن يحملـون أفـكارا ً سـلفية شـبيهة بهـم ،بعـد
أن بـدأت عالمـات االختلاف بين رؤيتهـم للدعـوة وتالميـذ األلبـاين ،وتطلعـوا
إىل الخـارج ،تحديـدا ً الخليـج العـريب ،بخاصـة يف الكويـت ،حيـث مدرسـة عبد
الرحمـن عبـد الخالـق السـلفية الحركية ،والسـعودية بعـد أن بـدأت تجربة ما
يسـمى بالصحـوة اإلسلامية -السـلفية (على يد سـفر الحوايل وسـلامن العودة
ونـارص العمـر) بالبروز هناك.
خلال الثامنينيـات تأثـرت هـذه املجموعـة مبحمـود عبدالـرؤوف قاسـم
(املعـروف بالشـيخ أيب األمين) ،وهـو سـوري سـلفي ،كان يسـكن يف عمان
الرشقيـة ،لـه العديـد مـن املؤلفـات وعىل عالقـة مع شـيوخ سـلفيني معروفني،
وكان يعقـد حلقـات مـن الـدروس يف منزله ،ويركـز عىل قضايا الرتبيـة والدعوة
السـلفية والصراع الفكـري ،وله رؤيته الذاتية للرصاع الـدويل ،ويكرس جزءا ً من
مؤلفاتـه يف نقد الشـيوعية والحركات اإلسلامية ،التي يعتربهـا ،متأثرة بالتقاليد
الشـيوعية ،مثـل حـزب التحريـر اإلسلامي ،باإلضافـة إىل نقـده للصوفية.
بـدأت املجموعـة املكونـة مـن عمـر محمـود وحسـن أبـو هنيـه والشـباب
امللتفين حولهما بتكويـن وعي سـلفي جديد مـع منتصف الثامنينيـات مفارق
لرؤيـة األلبـاين ومدرسـته ،حـول املوقـف مـن العمـل السـيايس واملجتمعـي
والتنظيمـي ،وانبثـق عـن هـذا اإلدراك الجديـد تأسـيس «حركـة أهـل السـنة
والجامعـة» يف بدايـة التسـعينيات ،كما سـيخربنا حسـن أبـو هنيـه يف فصـل
قـادم ،وض ّمـت عشرات الشـباب السـلفي الباحـث عـن منهـج آخـر يؤمـن
بأهميـة العمـل التنظيمـي والثقـايف واملجتمعـي ،لكـن التجربـة مل تطـل كثيرا ً
ووقعـت بين فكي رفـض الدولة مـن جهـة ومحاربة االتجاه السـلفي العـام لها
مـن جهـة أخـرى ،ثم جـاءت هجرة عمر محمـود إىل خارج البلاد ،وتأثره الحقاً
بالسـلفية الجهاديـة ،مـا أث ّـر يف عـدد من أبناء هـذا التيار ودفعهـم إىل التقارب
مـع األيديولوجيـا الجهاديـة!
154
الثمـرة املؤسسـية األوىل لهـذه املجموعـة متثلـت بتأسـيس جمعيـة الكتاب
والسـنة يف العـام ،1993التـي أصبحـت الحقـاً اإلطـار التنظيمي للتيـار الحريك،
لك ّنهـا خضعـت الحقـاً لصراع من نـوع آخر ،داخيل ،مـع صعود التيار السـلفي
الجهـادي يف البلاد ،يف مرحلـة التسـعينيات ،إذ تأثر بهذه األفـكار مجموعة من
الشـباب ،وولجـت الجمعيـة منعرجات متعـددة ،متأثـرة بالخالفـات الداخلية،
إىل أن نجحـت إدارتهـا الجديـدة منـذ العـام 2003بالتخلـص مـن ذيـول هـذا
الصراع وتعريـف توجههـا بالحريك ،بعيدا ً عن تلبسـها بالفكـر الجهادي ،بخاصة
بعـد مغـادرة عمـر يوسـف ،أيب أنـس الشـامي ،األردن لينضـم إىل القاعـدة يف
العـراق يف العـام ،2003فتمكنـت الجمعيـة مـن إعادة التموضـع ضمن العمل
التعليمـي والثقـايف والخيري ،وافتتـاح فـروع متعـددة ومراكـز يف محافظـات
مختلفـة ،وركـزت نشـاطاتها خلال األعـوام األخيرة على املجـال الخيري يف
مسـاعدة الالجئين السـوريني يف األردن ،عبر املسـاعدات القطريـة والخليجيـة
عموماً.
بالرغـم مـن حسـمه املبكـر ،منـذ منتصـف التسـعينيات ،خالفه مع مدرسـة
الشـيخ األلبـاين ،إالّ أ ّن االتجـاه السـلفي الحـريك عـاىن خلال السـنوات الطويلة
املاضيـة مـن عدم وضوح هويته األيديولوجية وتشـتته بني االتجاهات السـلفية
املختلفـة ،وتداخلـه معهـا ،ومـن عـدم قدرتـه على ملّ شـمل مـن يؤمنـون بهذا
االتجـاه األيديولوجـي ضمـن كتلـة واحـدة منتظمـة ،ومـن غيـاب املرجعيـات
العلميـة والفكريـة لـه على الصعيد املحلي األردين.
نجـد أنفسـنا يف هـذا الفصـل مـع تجربـة زايـد إبراهيـم حماد ،الرئيـس
الحـايل لجمعيـة الكتـاب والسـنة ،وهشـام الزعبـي ،الرئيـس الحـايل لجمعيـة
االعتصـام السـلفية ،بعـد أن خـرج مـن جمعيـة الكتـاب والسـنة ،وهما مـن
الحلقـة االوىل مـن الشـباب املتأثريـن بعمر محمود وحسـن أبو هنيه والشـيخ
أيب األمين ،وتجربـة أسـامة شـحادة ،وهـو أحـد األعضـاء الفاعلين يف جمعيـة
الكتـاب والسـنة ،وأحمـد أبـو رمـان ،الذي تطـورت تجربتـه الفكريـة والروحية
مـن السـلفية التقليديـة إىل الحركيـة (مـع الشـيخ أيب أنس الشـامي) ،ثـم تأثره
باألفـكار الجهاديـة ،وعودتـه مؤخـرا ً لرؤيـة املدرسـة الحركيـة.
155
مـن الصعـب ،ضمـن خارطة متشـعبة هالمية لهذا االتجاه ،االدعـاء بأنّنا أمام
منظومـة أيديولوجيـة وفكريـة متامثلـة متامـاً ،فهنالـك مجموعات وشـخصيات
وجمعيـات داخـل هـذا االتجـاه ،وجـزر متف ّرقـة تتبايـن يف تصورهـا للتغيير
والعمـل واملوقـف مـن الواقـع السـيايس الراهـن ،وإن كان مـن املمكـن القـول
بـأ ّن االتجـاه الحـريك ،عمومـاً ،يتسـم ،فكريـاً ،بأنّـه يؤمـن بالعمـل املؤسسي
والحـريك والتنظيمـي ،ويفترق عـن السـلفية التقليديـة ،يف املوقف مـن العمل
السـيايس والحـزيب ،إذ بالرغـم مـن عـدم وجود حزب سـيايس سـلفي يف األردن،
إالّ أ ّن الفكـرة الجوهريـة لهـذا االتجـاه ال ترفـض ذلـك مبدئياً ،مثـل التقليديني
والجاميين ،بـل يرتبـط عدم تأسـيس حزب بشروط واقعية ،موضوعيـة وذاتية،
منهـا عـدم قـدرة أفـراد التيـار عىل تشـكيل كتلـة موحـدة ،وغيـاب املرجعيات
الفكريـة له.
أ ّمـا افتراق الحركيين عـن الجهاديين فيتمثـل ،بصـورة أساسـية ،بعـد تب ّنـي
الحركيين للعمـل الجهـادي ،بوصفـه منهـج التغيير الوحيـد ،بـل حرصهـم عىل
تأكيـد إميانهـم بالعمـل السـلمي والدعـوي واملؤسسي ،وإن كان موقفهـم مـن
الحـكام والحكومـات يتسـم بالضبابيـة وعـدم االتفـاق ،بين رأي يقترب مـن
أفـكار سـيد قطـب وإعلاء مبـدأ الحاكميـة ،وتكفير الحـكام الذيـن يحكمـون
بغير الرشيعـة اإلسلامية ،مـا ينطبـق على األنظمـة العربيـة القامئـة ،من دون
الوصـول إىل تبنـي العمـل املسـلّح ،كما هي حـال الجهاديين ،ورأي آخر يرفض
تكفير الحـكام ،ويف الوقـت نفسـه ال يقبـل مببـدأ «طاعـة ويل األمـر» ،وتضليل
املعارضـة السياسـية ،إذ يؤمن مبرشوعيـة املعارضة وبعدم مامنعـة مبدأ العمل
السـيايس عموماً.
إذا نزلنـا إىل الخارطـة الواقعيـة لهـذا التيـار ،يف املشـهد األردين ،وحاولنـا
اسـتنطاق التجمعـات والشـخصيات واالتجاهـات الفرعيـة فيه ،سـنجد أنفسـنا
أمـام شـبكة متداخلة ومتقاطعـة ،لكنها تفتقر إىل الوحـدة واملرجعية والتفاهم
على «منهـج» اإلصلاح ونظريـة صلبـة للعمـل العـام ،ويبرز يف هذا السـياق:
حي نـزال ،يف عامن الرشقية ،ولها
أوالً؛ جمعيـة الكتـاب والسـنة ،التـي تقع يف ّ
156
فـروع ومراكـز يف محافظـات مختلفـة ،تصـدر مجلـة القبلـة ،وتركـز يف األعـوام
األخيرة على العمـل الخيري والرتبـوي ،وتصـدر مجلـة «القبلـة» ،ومـن أبـرز
شـخصياتها ،زايـد إبراهيـم ،وأسـامة شـحادة ،ومحمـد الذويب ،وبسـام النارص،
ومجموعـة أخـرى مـن الشـباب ،لكنها ال تقـدم خطاباً فكريـاً إصالحيـاً واضحاً،
وال تطـرح رؤيتهـا لإلصلاح يف املشـهد املحيل.
حـي الزهـور ،يف عمان الرشقيـة ،ولهـا
ثانيـاً؛ جمعيـة االعتصـام ،وتقـع يف ّ
مراكـز متعـددة يف عمان ،وتعـد أصغر مـن الكتاب والسـنة ،وتركز على رعاية
األيتـام ،والعمـل الرتبـوي والتعليمـي ،وتفتقر إىل مـوارد مالية كبيرة ،ومن أبرز
شـخصياتها هشـام الزعبي.
ثالثـاً؛ شـخصيات سـلفية عامـة ،معروفـة بانتامئهـا لهذا التوجـه ،عىل اختالف
مواقفهـا وتصوراتهـا السياسـية والفكريـة ،مثـل إبراهيـم العسـعس ومحمـد
أبـو رحيـم ،وبعـض الشـخصيات األخـرى ،محسـوبة على مـا يسـمى بـ«الفكـر
السروري» ،نسـب ًة إىل الشـيخ السـوري املعـروف محمـد بـن نايـف رسور زين
العابدين.
رابعـاً؛ مجموعـة مـن األكادمييني ،من أسـاتذة الرشيعـة يف الجامعات األردنية،
منصب
ّ ممـن درسـوا يف السـعودية ،أو تأثـروا بالفكر السـلفي ،لكـن اهتاممهم
على العمـل األكادميـي فقـط ،وال ينخرطون يف السـجاالت الفكرية والسياسـية
العامـة ،وليـس لديهم حضور إعالمي يف املشـهد السـيايس.
بالعـودة إىل الحلقـة األوىل التـي تأثـرت مبحمود قاسـم (أيب األمني) ،وشـكّلت
النـواة الرئيسـة لهـذا االتجـاه ،فبالرغـم أ ّن رؤيتهـا أنجبـت جمعيـة الكتـاب
والسـنة ،إالّ أ ّن الشـخصيات الرئيسـة فيهـا غـادرت هـذا االتجـاه نحـو أفـكار
ومـدارس أخـرى؛ فعمر محمـود (أبو قتـادة) أصبح الحقاً أحد الرمـوز املعروفة
للسـلفية الجهاديـة يف العـامل ،وحسـن أبو هنيـه اتجه مؤخرا ً نحـو الخروج من
الدائـرة السـلفية عمومـاً ،حتـى عمـر يوسـف ،الذي انضـم إىل جمعيـة الكتاب
حـي مـاركا الشمالية ،تحـول هـو اآلخر إىل
والسـنة ،وتـرأس مركـز البخـاري يف ّ
السـلفية الجهاديـة ،والقاعـدة ،وقُ ِتـل يف العراق.
157
رب أتباعـه نحـواملفارقـة تبـدو أ ّن التيـار الحـريك مل يعـانِ فقـط مـن تس ّ
الجهاديـة ،بـل نجـد أن عـددا ً مـن أتباعه ،وممن كانوا يلتقون بالشـيخ القاسـم
(أيب األمين) اتجهـوا نحـو الطريـق األخرى املقابلـة ،أي الفكر الـذي يبتعد كلية
عـن العمـل السـيايس ،ويقترب مـن مبـدأ «طاعـة والة األمـور» ،وهو مـا ظهر،
الحقـاً ،عبر «مركـز اإلمام أبو عبـد الله الشـافعي» مع مجموعة الدكتور سـمري
مـراد الشـوابكة ،إمام مسـجد السـ ّنة ،يف عمان الرشقية.
نحـن ،إذا ً ،أمـام اتجـاه رخـوٍ ،أيديولوجيـاً وحركيـاً ،ليـس متامسـكاً ،وال صلباً،
لكنـه يعكـس وعيـاً مفارقـاً لالتجاهين التقليـدي والجهـادي ،وسـنطّلع عبر
التجـارب الشـخصية التاليـة على يشء مـن هـذه الحالـة يف املشـهد السـلفي
األردين.
158
-1-
زايد حماد :اإلبحار نحو «العمل الخيري»
حماد ،جانباً مـن التجربة الروحيـة والفكرية والواقعيةيقـ ّدم زايـد إبراهيـم ّ
لفـر ٍّد تب ّنـى مبكّـرا ً الفكر السـلفي الحريك ،يف مرحلة املدرسـة ،ثم خالل دراسـة
الدبلـوم ،وعبر الحيـاة العمليـة ،وبقـي ملتزمـاً يف هـذا املسـار ما يقـارب ثالثة
عقـود ونصـف ،لك ّنه وصل يف األشـهر األخيرة إىل قناعة جديـدة بأهمية العمل
الخيري وشـعو ٍر بالرغبـة يف التفـ ّرغ لـه على الصعيـد التط ّوعـي ،بعدمـا متكّن
خلال العقـد األخيرة مـن إعـادة هيكلـة جمعيـة الكتـاب والسـنة ،السـلفية
الحركيـة ،وتنشـيطها وتوسـيع مجـال عملها ونشـاطها ،واالبتعاد بهـا عن الخلط
الـذي وقـع ،سـابقاً ،بينها وبين أنصار التيـار السـلفي الجهادي!
بـدأت تجربـة زايـد (وهـو اليـوم يف الــسادسة واألربعين مـن عمـره) مـع
حي رأسالفكـر السـلفي يف مرحلـة الدراسـة الثانويـة ،وكان حينهـا من سـكّان ّ
العين ،يف عمان الرشقيـة ،فتعـ ّرف يف مسـجد الخلفـاء الراشـدين ،الـذي بنـي
الحـي ،على حسـن أبـو هنيه ،ثم على عمر محمـود (أيب قتادة حديثـاً يف ذلـك ّ
الفلسـطيني) ،وكان األخيران قـد قطعـا شـوطاً قصيرا ً يف التجربـة السـلفية ،يف
بداياتهـا يف األردن ،لكنهما كانـا يتميـزان بقـدر كبير من املعرفـة واالطالع عىل
األفـكار واملـدارس اإلسلامية ،وبالقـدرة على التأثير على الشـباب الصاعدين!
مـا شـ ّد زايـد إىل السـلفية أنّـه منـذ تلـك الفترة املبكّـرة من عمره (الدراسـة
الثانويـة) كان ميلـه الطبيعـي إىل البحـث عـن رأي الرسـول الكريـم (صىل الله
عليـه وسـلم) يف كل مسـألة مـن املسـائل الخالفيـة التي يسـمع عنهـا يف قضايا
العقيـدة والرشيعـة ،مـا دفـع بحسـن أبـو هنيـه إىل التنبـؤ مبكّـرا ً مبسـار زايد،
فأخبره «سـتكون سـلفياً ،طاملـا أنّـك تبحـث عـن الدليـل الرشعي وتهتم بسـنة
النبـي أكثر من اهتاممك مبا يقولـه الفقهاء والعلامء ،إذ كانـت حينها الخالفات
159
على أشـ ّدها بين أتبـاع املذاهـب الفقهية ،بخاصـة الشـافعية والحنفية»!
بـدأ مسيرته عبر حلقـات مـن الـدروس العلميـة التي كان يعقدها حسـن
الحي نفسـه) ،ويرشح فيها العقيدةأبو هنيه يف مسـجد الخلفاء الراشـدين (يف ّ
ً
الطحاويـة (السـلفية) ،ويُـد ِّرس قضايـا فقهيـة وعلوما رشعيـة مختلفة ،وأخذت
مجموعـة تتشـكل مـن زايد وأصدقائه يف هـذه الحلقة ،ممن تأثروا بحسـن أبو
هنيـه وعمـر محمـود ،وسـاهم يف تعزيـز التوجـه السـلفي املبكّـر لديـه أسـتاذ
الرتبية اإلسلامية يف مدرسـته.
سـنجد ،الحقـاً ،أ ّن زايـد يتم ّيـز بالنشـاط الحـريك ،والرغبة يف التغيير واإلنجاز
الواقعـي ،وهـو مـا انعكـس يف مرحلـة املدرسـة ،إذ كان مسـؤول االنضبـاط يف
املدرسـة ،وعضـوا ً يف املجموعـة الطالبيـة التـي سـميت بـ«أصدقـاء الرشطـة».
وبـدأ يدعـو إىل الفكـر السـلفي ويـوزّع الكتـب واملطويـات السـلفية على
الطلاب ،منـذ تلـك املرحلـة ،مع صديقه أسـامة شـحادة ،الـذي وإن كان أصغر
سـ ّناً ،إالّ أنّـه منـذ صغـره تب ّنى السـلفية.
161
باسـم االنتفاضـة الفلسـطينية (التـي كانـت تشـعل حماس الشـباب اإلسلامي
والشـارع العـريب خلال تلـك الفترة يف نهايـة الثامنينيـات).
احتـك بـه أحـد الطلاب وتحدثيف اليـوم الختامـي لتلـك البطولـة الكرويـة ّ
معـه بلغـة حـادة مخاطبـاً لـه بالقـول «ملـاذا ال تعقـدون بطولـة باسـم امللـك
الحسين بـن طلال؟!» ،أدرك زايـد أن الهـدف هـو افتعال مشـكلة معـه ،فقال
لـه «ومل ال ،سـنقيم بطولـة باسـم امللـك الحسين» ،فأجابه الطالـب املذكور بأن
عليـك تغيير اسـم البطولـة الحالية.
ونظـرا ً لألسـلوب الخشـن واالسـتفزاز مـن ذلـك الطالـب « تطـ ّور االحتـكاك
إىل بدايـة مشـاجرة كبيرة ،فاجتمـع العديـد مـن الطلاب (الشرق أردنيين)
ليقومـوا بضريب ،واسـتخدموا لغـة عنرصيـة وإقليميـة .فوقـف يف وجههـم
مجموعـة أخرى مـن الطالب (الرشق أردنيين أيضاً) ،وانتهت املشـاجرة ،لكنني
اسـتدعيت إىل املخابـرات ،وطُلبـت منـي االسـتقالة مـن اتحـاد الطلاب ،وهـذا
مـا فعلتـه ،وأنـا محكـوم بحالـة الصدمة واإلحباط ،مما جرى بينـي وبني أولئك
الطلاب ،واسـتنكفت عـن النشـاط الطلايب إىل أن أنهيـت دراسـتي يف الكليـة
(ملـدة عامني)».
خلال تلـك الفترة عـادت الحيـاة النيابيـة إىل األردن (يف العـام ،)1989ومل
يكـن هنالـك مرشـحون عن التيار السـلفي ،إالّ أ ّن كالًّ من عمر محمود وحسـن
أبـو هنيـه اتخـذا قـرارا ً بدعـم مرشّ ـحي اإلخـوان املسـلمني ،وسـاهم زايد خالل
تلـك الفترة يف حملـة الرتويـج ملرشـح اإلخـوان عـن تلـك املنطقـة ،وهـو عبـد
املنعـم أبـو زنط.
مل يكـن حينهـا عمـر محمـود (أبـو قتـادة الفلسـطيني) يكفّـر الدميقراطيـة
واملجالـس النيابيـة ،وقـام بـدور فاعـل يف حـي رأس العين الشـعبي الواسـع،
ذي األغلبيـة األردنيـة -الفلسـطينية ،يف تحفيـز النـاس على انتخـاب اإلخـوان
املسـلمني .ويف الوقـت نفسـه خالـف هـذا املوقف املزاج السـلفي العـام ألتباع
الشـيخ نـارص مـن جامعة اإلخوان املسـلمني ،وهـو املزاج الذي تطـ ّور الحقاً إىل
حالـة عـداء تجـاه الجامعـة ،واقتراب مـن الحكومة لـدى ذلـك االتجاه!
162
يسـتذكر زايـد تلـك املرحلـة ،حين كان يف بدايـة العرشينيـات ،وال يخفي أنّه
لغير جـزءا ً كبيرا ً مـن سـلوكه السـلفي تجـاه اآلخرين،
لـو عـاد إىل تلـك األيـام ّ
فالعالقـة يف مرحلـة الحقـة تحولـت مـع طلاب جامعـة اإلخـوان يف الكليـة إىل
عـداء ورصاع شـديد ،وطريقـة خطابـه مـع الطالبـات كانـت تتسـم بالحـ ّدة
والرصامـة ،ويضيـف ضاحـكاً «أسـتغرب كيـف كانـت الطالبـات يصمتن على
ترصفاتنـا الحـادة تلـك لـو رضبونـا حينهـا ،مل أكـن أللومهـ ّن اليـوم»!
مـن تلـك الترصفـات محاولـة فـرض رؤيتهـم السـلفية على طلاب الكليـة،
فـإذا رأوا أحدهـم مـع فتـاة يتجهمون ويسـتغربون ،وإذا طالـب بعض الطالب
برحلـة مختلطـة ،فتلـك جرميـة كبرى يرتكبهـا ،يضحـك صديقنـا ويقـول بـأ ّن
«املشـكلة حينهـا بأنّنـي كنـت أنـا مسـؤول اللجنـة االجتامعيـة املرشفـة على
هذه األنشـطة»!
يصـف مواقفهـم السـلفية خلال تلـك املرحلـة الدراسـية ،يف الكليـة،
بـ«الصداميـة الشـديدة» ،ويعيـد زايـد هـذا النـزوع إىل أ ّن «املشـايخ والدعـاة
الذيـن كنـا نعـود إليهـم مل يكونـوا ميتلكـون فقـه الواقـع املتعلـق بالجامعـات
والكليـات وطبيعتهـا ،فك ّنـا نريـد أن نفـرض أفكارنـا ومواقفنـا بالقـوة ،لدرجـة
أنّنـا يف إحـدى الليـايل قمنـا بإغـراق الكليـة بالشـعارات واليافطـات التـي تؤيد
االنتفاضـة الفلسـطينية ،فجـاءين يف اليـوم التـايل عميـد الكليـة محـاوالً نصحي
بـأ ّن هـذه الطريقـة الصداميـة قـد تـأيت بنتائـج عكسـية»!
يفسر زايـد تلـك الطريقـة الصداميـة ومحاولـة فـرض املواقـف بأنّهـم كانواّ
محكومين «بشـعور عميـق بأنّنـا كنا ننفّذ الديـن يف الكليـة واملجتمع ،فوصلت
األمـور إىل درجـة فـرض الفصـل بين الطلاب والطالبـات يف األنشـطة التـي
نشرف عليهـا» .بالرغـم من ذلـك كان صاحبنا يحظـى بانتخاب واسـع من قبل
الطالبـات ،ألنّـه كان يعـ ّوض هـذه املواقـف الصداميـة مبواقـف أخـرى واضحة
يف الدفـاع عـن حقـوق الطلبـة ويف القضايـا الخدماتيـة ،واألهم من هـذا وذاك
نشـاطه الكبير يف دعـم االنتفاضـة الفلسـطينية ،يف الكليـة ،مـا دفـع بالتيـارات
الفلسـطينية األخـرى ،إىل القبـول بهـذه الشـخصية السـلفية الجريئـة بالرغـم
163
مـن الخلاف األيديولوجـي معـه ،فـكان يتقدم زايد تلـك االتجاهـات جميعاً يف
دعـم االنتفاضة.
عمـل زايـد بعـد تخرجـه يف املكتـب اإلسلامي ،وهـو دار للنشر والتوزيـع
ميلكهـا زهير الشـاويش ،أحـد قيـادات جامعـة اإلخـوان املسـلمني ،وهـو ذو
توجـه سـلفي ،واسـتثمر صاحبنـا تلك املرحلة بالدراسـة والقـراءة والتع ّمق أكرث
يف الجانـب الفكـري ،واإلطاللـة على الحوارات والنقاشـات التـي كانت تدور يف
أروقـة املكتـب بين قيـادات التيـار السـلفي واإلخوان والشـخصيات اإلسلامية
عمن.والفكريـة التـي تـزور موقـع املكتـب يف «وسـط البلـد» يف ّ
خلال فترة التسـعينيات انضـ ّم زايد ،أيضاً ،إىل حركة أهل السـنة والجامعة
«حسـم» ،التـي أسسـها عمـر محمـود وحسـن أبـو هنيـه ،وشـارك الحقـاً يف
تأسـيس جمعية الكتاب والسـنة ،يف العام ( 1993وسـاعد يف عملها منذ البداية
يف الجانـب اإلداري ،فـكان محاسـباً للجمعيـة) ،مع املجموعة نفسـها ،وزاوج يف
تلـك الفترة بين القراءة واملشـاركة يف نشـاطات التيار السـلفي الحـريك الجديد
على السـاحة األردنيـة ،الـذي بـدأ ينتشر ويكتسـب مجموعـة مـن املؤيديـن
واملعـارف الجديـدة على الخـط الفكري نفسـه ،ويسـتفيد من تجربـة الصحوة
اإلسلامية يف السـعودية ،ومـا يصـدر عنهـا مـن أرشطـة كاسـيت تصـل عمان
وتبـاع بكميـات كبيرة ،نظرا ً لحجم التأثر الكبري بشـخصيات سـلفية «كارزمية»،
معارِضـة جديـدة يف السـعودية ،مثـل سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة ونـارص
العمـر وغريهـم ،ممن كان يشـعر أبنـاء التيار الحريك األردين أنّـه ميثلون امتدادا ً
لهـم ،وفـق مـا يسـ ّجله زايـد يف روايتـه لتجربتـه الفكريـة والروحيـة مـع هـذا
التيار.
كان شـيخ هـذا التيـار هـو عمـر محمـود ،ويقـف إىل جانبـه حسـن أبـو
هنيـه ،يقـول زايـد «مل يكـن عمر هـو أبا قتادة نفسـه الذي نعرفـه اليوم» ،فلم
يكـن الشـقاق والنـزاع مع التيـار التقليدي قد وصـل إىل املرحلـة الحالية ،وكان
أكثر مرونـة يف العالقـة مـع الجامعـات والحـركات اإلسلامية األخـرى ،ويسرد
تـؤش على مواقفـه خلال تلـك املرحلـة ،إذ يقـول « اسـتفتيته يف زايـد قصـة ّ
164
مسـألة دخـول طالبـات يف كتلتـي االنتخابيـة فوافـق ،وقلت له ذلـك يعني أننا
سـنجلس معهـن ونتناقـش ،فجـ ّوز ذلك».
مل تكـن قضيـة الحاكميـة هـي املهيمنـة على التيـار الجديـد ،الـذي يقـوده
عمـر محمـود ،بالرغـم مـن أن موقـف هذا التيار من صدام حسين كان سـلبياً،
وكتبـوا ورقـة تخالـف توجـه الدولـة واإلخـوان الـذي كان يقـوم على دعـم
الرئيـس العراقـي السـابق ،مـا خلق لهم مشـكالت حتـى مع املجتمـع واملصلّني
املتعاطفين مـع النظـام العراقي.
يعـود زايـد بذاكرتـه إىل تلـك الفترة ،إذ كانـوا حريصين على البحـث عـن
أوجـه الخلاف بينهـم وبني اإلخوان ،بسـبب الرصاع الكبري يف املسـاجد ،فوصلوا
إىل أ ّن «مـا مييزنـا عـن جامعـة اإلخوان املسـلمني هـو أنّنا مننح مسـألة العقيدة
والدليـل الرشعـي والتعليـم الدينـي أهميـة كبيرة مقارنـة بالجامعـة ،وكنا نرى
بـأ ّن اإلخـوان يحملـون عقيـدة أشـعرية (تغاير عقيـدة أهل السـنة والجامعة)،
وكان التنافـس والصـدام يف املسـاجد يجري مع أبناء جامعة اإلخوان املسـلمني،
فصـار السـلفيون يبحثـون عـن مواقـع االختلاف مع جامعـة اإلخوان بـدالً من
القواسـم املشرتكة»!
ثـم بـدأ هـذا التيـار (الحـريك) يتميـز عـن السـلفيني اآلخريـن باالتجـاه
نحـو العمـل الحـريك واملنظّم ،والحقـاً بعدم املامنعـة يف االنخراط يف السياسـة،
بالرغـم أنّهـم مل يؤسسـوا حزبـاً إىل اآلن ،لكـن املوقـف الفكـري والفقهـي كان
مغايـرا ً للمـزاج السـلفي لتالميـذ الشـيخ األلبـاين.
عمـل زايـد يف املكتـب اإلسلامي مـدة ثالثـة أعـوام ،وقـرأ خاللهـا العديـد
مـن الكتـب يف العقيـدة والحديـث والفكـر اإلسلامي ،وكتـب ألحـد السـلفيني
األردنيين ،ممـن أسسـوا جمعيـة الكتاب والسـنة ،من سـكان محافظـة الزرقاء،
وهـو حسـان عبـد املنـان ،وكان يذهب لالسـتامع لخطب الشـيخ محمد شـقرة
ودروس تالميـذ الشـيخ نـارص األلبـاين ،ومل يكـن يشـعر بـأن الخلاف مـع أتباع
الشـيخ األلبـاين وصـل إىل مرحلـة القطيعـة أو التاميـز الـكيل عنهم.
165
لك ّنـه بعـد ذلـك ،مـع منتصـف التسـعينيات ،بـدأ يـدرك متامـاً أ ّن االختلاف
بـات كبيرا ً يف أوسـاط التيـار السـلفي ،وأ ّن الجمعيـة لهـا خـط فكـري آخـر
مغايـر عـن مدرسـة الشـيخ األلبـاين ،وكان حينهـا مـع املجموعـة التـي تـدور
حـول جمعيـة الكتـاب والسـنة ،مثـل حسـن أبـو هنيه وبسـام النارص وهشـام
الزعبـي وأسـامة شـحادة ومحمد شـتات ،وحسـان عبـد املنان وأحمـد الكويتي
وإبراهيـم العسـعس وغريهـم.
الحـظ زايـد أ ّن الخلاف الكبير بين السـلفيني عمومـاً يتمثّـل يف املوقـف
مـن الحكومـات واألنظمـة القامئـة ،ومـا يرتتـب عىل ذلـك من موضـوع الجهاد
املسـلّح ،فهنالـك مجموعـة تـرى بـأ ّن الحاكـم مسـلم وال تتحـدث عـن الجهاد،
ومجموعـة أخـرى تكفّـر الحاكم وتصل إىل القول بالجهـاد ،عىل غرار الجامعات
اإلسلامية املرصيـة ،ومجموعـة ثالثـة تكفّـر الحاكـم وترفـض القبـول برشعيـة
الجهـاد يف إدارة الصراع الداخلي ،وآخـرون يتوقفـون يف املوقـف مـن الحاكـم،
فلا يقولـون بأنّـه مسـلم أو غري مسـلم.
خلال تلـك الفترة مل يقـف الفـرز واالختلاف عنـد حـدود العالقة مـع التيار
السـلفي التقليـدي ،بـل بـدأ حتـى يف أوسـاط جمعيـة الكتـاب والسـنة حـول
القضايـا السـابقة ،وكان ذلـك يشي ببدايـة بـروز السـلفية الجهادية يف املشـهد
األردين ،بخاصـة أ ّن عمـر محمـود الذي غادر البالد يف العام ،1991وهو سـلفي
حـريك ،أي قبـل تأسـيس جمعيـة الكتـاب والسـنة ،عاد صيتـه للبروز بعد عدة
أعـوام ،بعـد أن اسـتقر يف لنـدن ،لكن بوصفه أحـد أهم منظّري التيار السـلفي
الجهـادي ،ومفتـي الجامعـات الجهادية يف شمال أفريقيا!
تحـوالت عمـر محمـود مـع بـروز أيب محمـد املقـديس ،منظّـر السـلفية
الجهاديـة ،على ركـح السـاحة األردنيـة ،بالتزامـن مـع الـزج بشـيوخ الصحـوة،
سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة ونـارص العمـر ،يف السـجون لسـنوات طويلة يف
السـعودية ،كل ذلـك خلـق ارتبـاكاً كبيرا ً لـدى القامئين على جمعيـة الكتـاب
والسـنة ومرشوعهـا ،فبـدأت املجموعـة املتأثـرة بالخطـاب السـلفي الجهـادي
تبرز بوضـوح وتطغـى رؤيتهـا على صـورة الجمعيـة وموقعهـا على خارطـة
166
االتجاهـات اإلسلامية األردنيـة!
كان زايـد يشـعر بالقـرب أكثر مما تطـرح املدرسـة الحركيـة يف السـعودية،
بخاصة سـفر الحوايل ،فقرأ كتابه «ظاهرة اإلرجاء يف العامل اإلسلامي» ،واسـتمع
إىل أرشطـة سـفر الحـوايل املختلفـة ،وجـد أنّـه يتميّـز عما يطرحـه التقليديون
والجهاديـون ،ومـا يثـار بينهـم من سـجاالت ونقاشـات حا ّدة بين الطرفني.
على العمـوم مل يكـن يـرى زايد نفسـه يف وسـط هـذه االختالفـات الفكرية،
فنزوعـه أقـرب إىل الجانـب العملي واإلداري ،لكنـه اسـتم ّر يراقـب الخالفـات
داخـل الجمعيـة نفسـها ،مـا يدور من نقاشـات بني حسـن أبو هنيـه وإبراهيم
العسـعس وبسـام النـارص ،والحقـاً أحمـد الكويتـي ،ومـا يقـع مـن خالفـات
بينهـم ،مـا خلـق ر ّدة فعـل لديـه بأنّه قـ ّرر االنسـحاب الناعم الهـادئ واالبتعاد
عـن الجمعيـة ،ألنّهـا تفتقـر إىل القيـادة والهويـة الفكريـة ،مـا عـ ّرض الجمعية
ملواجهـة مـع املخابـرات ،واعتقـال العديـد مـن أعضائها باسـتمرار!
168
ملقابلـة املقـديس أو تبنـي أفكارهـم ،فكانـت قناعتـه مختلفـة متامـاً مـع هـذا
الطـرح الفكـري والدينـي!
بعـد اغتيـال الدبلومـايس فـويل اتهـم نائـب رئيـس الجمعيـة ،محمـد عمـر،
بتورطـه يف هـذه القضيـة ،يقـول « اسـتدعيت للمخابـرات العامـة ،وأخبروين
أنهـم أدركـوا بأنّنـي لسـت على عالقـة بالحادثـة ،لك ّنهـم أشـاروا إىل الوضـع
الخطير للجمعيـة مـع هـذا الحضـور للتيـار الجهـادي».
قـام زايـد بفصـل محمـد عمـر ،وتفاجـأ بـأن العضـو االحتيـاط هـو اآلخـر
قريـب مـن التيـار الجهـادي ،فقـرر االنقلاب عىل هذ الخـط والتخلـص منه يف
الجمعيـة ،والحـ ّد مـن وجـوده فيها ،وبدأ العمـل عىل االنتخابـات التالية ،وض ِّم
أعـداد كبيرة مـن األعضـاء الجـدد ،وهـو ما حـدث فعالً ،لكـن مـع اإلبقاء عىل
بعـض املق ّربين مـن الخـط الجهـادي يف مجلـس اإلدارة« ،حتى ال يقطـع الحبل
معهـم متاماً»!
بـدأ زايـد مـع الهيئـة اإلداريـة الثانيـة ،التـي يرأسـها ،العمـل على إنجـاز
مرشوعـه ،الـذي يقـوم عىل الخروج مـن األزمـة الفكرية الداخلية ،والتوسـع يف
عمـل الجمعيـة ،وافتتـاح فـروع ومراكـز مختلفـة ،والرتكيز عىل العمـل الرتبوي
والدعـوي والعلمـي والخيري ،وهـو مـا نجـح بـه بقـوة خلال أشـهر قليلـة،
فأسـس 4فـروع وعرشيـن مركـزا ً تابعـاً للجمعيـة.
إالّ أ ّن ذلـك مل يج ّنـب زايـد االصطـدام مـع التيـار الجهـادي ،إذ كان يتفاجـأ
بـأ ّن أغلـب املراكـز متأثـرة بالفكـر الجهـادي ،وتخلق له مشـكالت أمنيـة كبرية
مـع جهـاز املخابرات ،ويكتشـف ،الحقـاً ،بأ ّن ما تثيره األجهزة األمنيـة صحيحاً
حـول تغلغـل التيـار الجهـادي ،ثـم حدثـت مشـكالت حـول دور عمـر يوسـف
حـي مـاركا الشمالية ،وما
(أيب أنـس الشـامي) ،الـذي أسـس مركـز البخـاري يف ّ
يطرحـه واملجموعـة التـي تلتـف حولـه ،قبـل أن يسـتقيل منهـا ،ويذهـب إىل
العـراق ،ليصبـح هـو اآلخـر منظّـرا ً لقاعـدة العـراق بقيـادة الزرقاوي!
تلـك األحـداث عـ ّززت قناعـة زايد بضرورة تصفية وجود التيـار الجهادي يف
169
الجمعيـة بصـورة نهائيـة ،واالنقلاب الكامـل عليه ،فقـام بأهم حركـة يف تاريخ
الجمعيـة ،ومتثّلـت بفصـل مئـات األعضاء ،وإغلاق املراكز كافـة ،والتخلص من
مجموعـة «الرصيفـة» ،التـي كانـت متثّـل بـؤرة االتجـاه الجهـادي يف الجمعية،
وقـام بإعـادة هيكلـة الجمعيـة وعملهـا ونشـاطاتها ،متهيـدا ً النطالقـة أخـرى
بعيـدة متامـاً عـن التلبس مبـا يطرحـه السـلفيون الجهاديون!
يفسر صديقنـا هـذه الخطـوة بـأ ّن الجمعية كانت تعاين مـن فقدان الهوية َ
وضبابيـة الرؤيـة لتصورهـا لإلصلاح والتغيير والعمـل العـام ،فكانـت اإلدارة
تدعـو نائبـاً إللقـاء محارضة ،فيقوم أعضـاء الجمعية بتكفريه أمـام الناس ،وهذا
يتناقـض مـع مبـدأ العمـل االجتامعـي والعـام ،الذي يقـوم عىل تكويـن قاعدة
اجتامعيـة وبنـاء خطـوط التواصـل املجتمعـي ،وتقديـم خدمـات للجمهـور،
فمثـل هـذا الواقـع دفـع به إىل إنهـاء هذه الحالـة والبدء مبرحلـة جديدة تقوم
على تعريـف الهويـة بصـورة واضحة يف السـياق اإلصالحي ،ال الثـوري ،والعمل
السـلمي واملـدين ،والرتكيـز على الجوانب الخرييـة والتطوعيـة والدعويـة ،بدالً
مـن اإلغـراق يف الخالفـات الفكريـة أو املواجهـة األمنية مـع الدولة.
مـع األزمـة السـورية ،تدفـق مئـات اآلالف مـن الالجئين السـوريني إىل
األردن ،وأقيـم مخيـم الزعتري ،وضـم عشرات اآلالف منهم ،بينما انترش مئات
اآلالف يف محافظـات اململكـة ،شـكّلت هـذه اللحظـة التاريخيـة نقطـة انطالق
جديـدة يف عمـل جمعيـة الكتاب والسـنة ،إذ نشـطت بصورة فاعلـة وملحوظة
يف العمـل الخيري اإلغـايث ،وأصبحـت إحـدى أهـم املؤسسـات املعنيـة بهـذا
الشـأن على مسـتوى األردن ،بـل واملنطقـة ،تتلقـى املسـاعدات مـن جمعيـات
وتوسـعت يف هـذا املجـال،
خرييـة قطريـة وخليجيـة وتوزعهـا على الالجئينّ ،
فبـات جـزءا ً حيويـاً وأساسـياً مـن نشـاطها وعملهـا ،وشـكّل ذلـك نقطـة تحول
أخـرى؛ لكـن هـذه املـ ّرة عىل الصعيـد الشـخيص لزايد الـذي وجد نفسـه أخريا ً
يف هـذا امليـدان الكبير ،وبدأ يشـعر بالرغبة الشـديدة بالتفرغ لـه عىل الصعيد
التطوعـي ،باإلضافـة إىل مهنتـه ،بوصفـه محاسـباً يف رشكـة تعمـل يف القطـاع
اإلنشايئ.
170
اليـوم؛ عندمـا ينظـر صاحبنـا ،الـذي يبلغ مـن العمـر 46عاماً ،ولديه خمسـة
أبنـاء ،ويتم ّيـز يف مجـال آخـر وهـو رياضـة املالكمـة ،فهو حكـم دويل ،وحاصل
على مسـتوى عـا ٍل يف الرياضـة نفسـها ،إىل املسـتقبل يشـعر بأنّـه قـد وجـد
الشـاطئ ،الـذي يريـد أن يسـتقر فيـه ،وهـو العمـل الخيري ،ما يجعلـه يبتعد
بـه متامـاً عـن الخالفـات الفكريـة والسـجاالت األيديولوجية ،ويضعـه يف املجال
الـذي يرغـب فيـه؛ اإلدارة واملؤسسـية والنشـاط الواقعـي املنتـج عملياً!
171
-2-
أسامة شحادة :الشخصية السلفية
المتماسكة
172
البدايـات كانـت منـذ الصغـر ،فوالـده سـلفي وهكـذا هـي أجـواء العائلـة
التـي عـاش يف كنفهـا خالل فرتة الطفولة والشـباب ،يقول «نشـأت سـلفياً ،منذ
الصـف األول االبتـدايئ ،وأنـا أحضر دروس الشـيخ عبـد الرحمن عبـد الخالق»،
واألخير هـو أحـد أهـم رموز السـلفية يف العـامل العـريب ،كان يقيـم يف الكويت،
ومن مؤسسي جمعية الرتاث اإلسلامي ،ومحسـوب عىل التيار الحريك السـلفي.
نشـأ أسـامة ،إذا ً ،يف جـ ٍّو سـلفي ،فوالـده يف املنـزل ينقـل هـذا الفكـر ،ويهتم
بـه ،ويف املسـجد يسـتمع لـدروس الشـيوخ السـلفيني ،وبالرغـم أنّـه تع ّرف عىل
جامعـة اإلخـوان يف مرحلـة مبكـرة يف الجامـع ،منـذ املرحلـة اإلعداديـة ،إالّ انه
مل يجـد نفسـه منسـجامً مـع منهجهـم ،يف الكويـت ،بالرغـم مـن أنـه حـاول يف
تلـك الفترة التمـرد عىل نشـأته األوىل ،إالّ أ ّن قناعاته السـلفية تغلبت عىل تلك
املحاوالت!
سـاعد أسـامة على ذلـك أ ّن السـلفية الكويتيـة كانت متجاوزة كثريا ً لألسـئلة
األردنيـة واملرشقيـة ،إذ كانـت تؤمـن بالعمـل املؤسسي والتنظيمـي ،من خالل
جمعيـة إحيـاء التراث ،وتشـارك يف االنتخابـات ،وفقـاً ملنهـج عبـد الخالـق
ومؤلفاتـه ،فلـم يجـد أي ميـزة كبيرة للتيـارات األخـرى عليهـم.
تلـك التنشـئة املتينـة علميـاً وروحيـاً هي ما مييّز السـلفية ،كام يرى شـحادة،
حتـى عـن جامعـات إسلامية أخـرى ،فتمنـح السـلفي ترسـانة مـن األسـلحة
لحاميـة النفـس مـن االنـزالق يف طريـق خطـرة ،وتحمـي الدعـوة السـلفية من
االنجـرار وراء الدعـوات العاطفيـة أو االنفعـال غير املـدروس مـع التطـورات
السياسـية ،فاإلخـوان ،مثالً ،انجـ ّروا وراء الثـورة اإليرانية ،والجهاديـون تأثروا يف
التجـارب املسـلّحة ،فيما يجد السـلفي لديـه قواعد علمية وتقاليـد تضع أمامه
ضوابـط صارمـة يف املنهـج والتعامـل مـع األحداث.
مل يكن هاجس أسـامة يف مرحلة التشـكّل األوىل يف الكويت موضوع اإلصالح
والتغيير ،كما هـي حـال الجامعـات اإلسلامية األخـرى ،بـل كان البنـاء الذايت،
روحيـاً وعلميـاً وفكريـاً ،إذ كان يف مرحلـة التشـكّل والتأسـيس ،وتلـك حـال
الدعـوة السـلفية يف الكويـت ،التـي كانـت يف مرحلـة التأسـيس والتشـكّل يف
173
عقـد الثامنينيـات ،فجمعية إحياء الرتاث تأسسـت يف عام ،1984والسـلفيون مل
يشتركوا يف االنتخابـات والعمل السـيايس إال يف مرحلة متأخـرة من ذلك العقد.
تطـ ّورت شـخصيته عبر مراحـل متعـددة ،علميـاً وتربويـاً وروحيـاً ،ففـي
الكويـت عـاش إىل املرحلـة الثانويـة وأخـذ أصـول املنهـج العلمـي والرتبـوي
السـلفي ،عبر دراسـة الكتـب املعتمـدة واالسـتامع إىل شـيوخ املنهـج ،ويـرى
أ ّن ميـزة املرحلـة الكويتيـة أنّهـا وضعتـه يف صلـب البيئـة السـلفية والكتـب
واألفـكار السـائدة ،مثـل كتـب العقيـدة والحديـث والفقـه والدعـوة والرتبيـة،
وتط ّور بصورة متدرجة متامسـكة يف إمسـاكه بهذا املنهج ،سـواء عرب الكتب أو
الشـيوخ والحلقـات العلميـة التـي يعقدهـا تالميـذ شـيوخ السـلفيني.
يف املقابل ،يرى بأ ّن مشـكلة الحالة السـلفية يف األردن أنّها تفتقد إىل التوازن
الـذي كانـت متنحـه التجربـة الكويتيـة ،ففـي األردن ال توجـد مناهـج متدرجة
روحيـاً وفكريـاً وتربويـاً ،كما كانت عليه الحـال هناك ،يف جمعيـة إحياء الرتاث
اإلسلامي ،فتجـد اختلاالت وفجـوات كبيرة يف عملية بناء الشـخصية السـلفية
يف األردن ،وهـو مـا نجـا منـه أسـامة ،إىل درجـة كبيرة ،إذ اسـتكمل جـزءا ً كبريا ً
مـن حلقات شـخصيته السـلفية يف املرحلـة الكويتية!
175
إعدادهـا وطباعتهـا ،حتـى جـاءت أحـداث حـرب الخليـج يف العـام ،1991
عندهـا تشـتت املجموعـة« ،فعمـر محمود غـادر األردن ،وتحول نحو السـلفية
الجهاديـة ،وتأثـر به حسـن أبـو هنيه ،أما أنـا وعدنان الصوص ،فاسـتمرينا عىل
الفكـرة األساسـية ،وهـي العمـل الجامعـي والخيري».
ٍ
عالقات مـع جمعية الرتاث اإلسلامية يف الكويت، نسـجت هـذه املجموعـة
«ك ّنـا نلتقـي جميعـاً يف جمعيـة الكتاب والسـنة ،التي تأسسـت يف العام ،1993
ومل يكـن حسـن أبـو هنيـه حينهـا قـد تأثـر كثيرا ً بتحـوالت عمـر محمـود (أيب
قتادة الفلسـطيني)».
إالّ أ ّن بـروز التطـورات والسـجاالت يف «البيـت السـلفي» عـززت التصدعات
يف الجمعيـة ،بين أسـامة ومعـه عدنـان الصـوص واآلخريـن املتأثريـن بالفكـر
الجهـادي .ودخـل حينها أسـامة الخدمة العسـكرية ،ثم اشـتغل يف العمل الح ّر،
وانـزوى عـن جمعيـة الكتاب والسـنة لسـنوات ،بسـبب بـروز امليـول الجهادية
يف الجمعيـة ،مـع اسـتمراره يف الدعـوة الفرديـة واالهتمام بالدعـوة السـلفية،
مـع نسـج عالقاتـه مـع أشـخاص يتبنـون األفـكار نفسـها ،واسـتمر ابتعـاده عن
الجمعيـة قرابـة عقـد منذ العـام 1995إىل العـام .2005
مل مينعـه ابتعـاده عـن الجمعيـة مـن االسـتمرار يف العمـل الدعـوي السـلفي،
بصـورة مفـردة ،ينشر الكتيبـات واملطويـات السـلفية الدعوية ،يجمـع تربعات
وينشر هـذه األوراق ،فـكان على عـدم توافـق مـع تالميـذ األلبـاين مـن جهـة
واالتجـاه الجهـادي يف الجمعية من جهة ثانية ،وبـدأ اهتاممه يزداد يف موضوع
«التشـيع» ،وأخـذ يتخصـص يف هـذا املوضـوع ،الـذي يـراه مهامً وخطيرا ً ،ورمبا
يعكـس ذلـك جـذور التنشـئة السـلفية يف الكويـت ،حيـث الحضـور الكبير
للطائفـة الشـيعية هناك.
176
العودة إىل جمعية الكتاب والسنة
تطـ ّور اهتاممـه يف موضـوع خطورة التشـيع إىل إنشـاء مرصد خاص بالتشـيع
منـذ العـام ،2002ثـم بـدأ بإصـدار مجلـة خاصة بهـذا املوضوع ،وأسـس رشكة
الطمـوح الثقافيـة يف العـام ،2003التـي تعنـي بعقـد الـدروس واملحـارضات
والـدورات لشـيوخ الدعـوة السـلفية ،واسـتمرت إىل العـام ،2007ثـم أغلقهـا
لضعـف التمويل.
يف العـام 2005عـاد أسـامة إىل النشـاط يف جمعيـة الكتـاب والسـنة ،بعد أن
أعـاد زايـد حامد تشـكيل هويتها الفكريـة ،وتخلّص من االتجـاه الجهادي فيها،
وبـدأ صاحبنـا يتو ّجـه بعـد ذلك للكتابـة الصحافيـة ،واالهتامم باإلعلام ،وينرش
مقـاالت حاليـاً يف صحيفـة الغـد اليوميـة (الصفحـة الدينيـة) ،وبعـض املواقـع
االلكرتونيـة والصحـف العربية.
بالرغـم مـن أنـه يـرى رضورة تطويـر التيـار السـلفي ،علميـاً ودعويـاً ،إالّ أنّه
يـرى بـأ ّن االشـتغال يف املوضوع السـيايس ليـس أولوية للتيار الحـريك يف األردن،
ألنّـه ليـس مؤهلاً بعـد لهـذا املسـتوى مـن العمـل ومـا يرتبـه مـن التزامـات
كبيرة ،إذ يفتقـد إىل القيـادة واملرجعية والنضوج املطلوب للمامرسـة املتطورة.
يـرى أسـامة أن هنالـك «حالة سـيولة» عميقـة داخل البيت السـلفي عموماً،
مـع الثـورات العربيـة والثورة السـورية ،لكـن لدينـا اتجاهات رئيسـة ،فبالرغم
مـن أن التيـار السـلفي التقليـدي يتسـم برفـض الثـورات وبعـدم قبـول العمل
السـيايس ،ويصر عىل االنشـغال الكامل بالعلـم الرشعي ،إالّ أنّه ينشـطر ،حالياً،
على نفسـه ،فهنالـك مجموعـة مـن الشـباب يقدمـون طروحـات مختلفـة عن
املسـار العـام للتيار.
أمـا الخـط القريـب مـن التيـار الجهادي فهو يعيـش أيضاً حالة مـن االرتباك،
والحـال نفسـها تنطبـق على مـن يسـمون بـ«الرسوريين» ،فهـم بالرغـم مـن
اختالفهـم مـع السـلفيني اآلخريـن يف التأكيـد على أهميـة العمـل السـيايس
رون على عدم إبـراز هويتهم واملعـارض ،إالّ أنّهـم غير بارزيـن يف األردن ،ويص ّ
177
الفكريـة ،واملفارقـة ،كما يقـول أسـامة ،بـأ ّن البعـض يحسـب جمعيـة الكتاب
والسـنة على هـذا االتجـاه ،وهـذا غير صحيح.
على العمـوم ،هنالـك حالـة سـلفية كبيرة يف األردن ،وتتوافـر على توجهات
للعمـل الجامعـي ،لكنهـا ما تـزال تعاين من قصـور يف جوانب كثيرة يف الكفاءة
اإلداريـة والتنظيميـة واملرجعيـات املقبولـة مـن الجميـع ،التي تحظـى بتوافق
عام مـن مختلـف االتجاهـات واأللوان.
ويشير أسـامة ،يف هذا السـياق ،إىل صعود جيل األكادمييني يف التيار السـلفي
التقليـدي ،الـذي بـدأ يتحـرر قليلاً مـن عبـاءة مشـيخة التيـار ،ويـرى رضورة
تطويـر الواقـع السـلفي يف األردن ،مثـل مؤسسي جمعيـة التكافـل يف الرمثـا،
وهـي أكبر جمعيـة تنتمـي للتيـار التقليـدي ،وهنالـك جمعيـة الصحابـة يف
الكـرك ،ومجموعـة الدكتـور معـاذ العوايشـة ،وغريهـم.
179
هـذا وذاك يدفـع بصاحبنـا إىل خالصـة مهمـة تتمثّـل بـأ ّن هنالـك فجـوة
بين اسـتقرار املنهـج السـلفي دينيـاً وبين رؤيتهـم السياسـية ،التـي مـا تـزال
قيـد التطـ ّور والنضـوج ،بهـذا الخصـوص يؤيـد نظاماً سياسـياً يقوم على تداول
السـلطة واالنتخابـات النيابيـة ويحترم حقـوق اإلنسـان والحريـات العامـة.
يجـد أسـامة االتجـاه السـلفي األقـرب له يف مرص هو حـزب النور ،لك ّنه يرى
حاليـاً بـأ ّن سـلفيي األردن مل يصلـوا إىل مرحلـة تأسـيس حـزب سـلفي ،ويع ّرف
الثـورة يف سـورية بوصفهـا معركـة بني السـنة والشـيعة ،ويرى بـأ ّن ما حدث يف
مصر هـو انقالب عسـكري عىل حكم اإلسلاميني.
وعنـد مقاربـة صاحبنـا لألنظمـة الحاكمـة يف العامل العريب واإلسلامي باسـم
اإلسلام ،مـا بين الحكـم السـعودي واإليـراين وحركـة طالبـان يف افغانسـتان،
واإلسلامية العلامنيـة يف تركيـا ،فيرى أ ّن أفضـل املوجـود هـو النمـوذج التريك،
خير يف العيش تحت كنـف أي من هذه ملـا ق ّدمـه مـن إنجـازات واقعيـة ،وإذا ّ
األنظمـة فسـيختار تركيا.
180
-3-
هشام الزعبي :التباس الحركي
بالجهادي
181
الحـي الذي يسـكنه ،جبـل الزهور ،بالقرب مـن رأس العني،
سـاهم يف نقلهـا إىل ّ
يف عمان الرشقيـة.
الهـدف الرئيـس الـذي تأسسـت الجمعية لتحقيقه متثّل يف املجال املؤسسي
الثقـايف ،والنيّـة كانـت تتجـه لوضـع موسـوعة يف الحديـث النبـوي .لكـ ّن عمل
الجمعية توسـع وانشـغلت يف الخالفات الفكرية وتشـعبت األولويات واألفكار،
فبـدأ تجربتـه الفكريـة بهـذا املنـاخ السـلفي ،ومـع حالـة مؤسسـية ،جمعيـة
الكتـاب والسـنة «فأصبحـت ال أرى السـلفية إالّ عبر العمل املؤسسي املنظّم».
182
األلبانيـة» ،ويدفـع نحـو منهـج سـلفي سـيايس ذات صبغـة معارضـة ،متزج بني
روافـد متعـددة؛ التأثـر بأفـكار سـيد قطـب واملـودودي يف الحاكميـة ،وتكفير
الحـكّام «ممـن يبدلـون رشع اللـه» (وهـو يـر ّد بذلـك على مدرسـة األلبـاين
التـي ال تكفّرهـم) ،ويظهـر تأثير مالـك بـن نبـي (املفكـر الجزائـري املعـروف
صاحـب املقاربـة الثقافيـة التـي تركـز على التغيري املجتمعـي والـذايت والتحرر
مـن األوهـام الفكريـة ،وبنـاء الوعـي بأهميـة التغيير لـدى األمـة) ،ذي الفكـر
السـلفي اإلصالحـي ،يف طبعتـه املغاربيـة ،على أفـكار العسـعس.
شـعر صاحبنـا بقبـول ألفـكار العسـعس ،الـذي عمـل أيضاً توسـيع مسـاحة
االهتمام والرتكيـز ،باالنتقـال مـن مفهـوم «السـلفية» ،بوصفـه حلقـة مـن
حلقـات التغيير ،إىل مفهـوم األمـة ،الـذي يضـع املشروع اإلصالحي عىل سـكّة
املجتمـع والتغيير العـام ،وال يحصر نفسـه يف الدائـرة السـلفية ،وخالفاتهـا
الداخليـة ،وهـي الفكـرة التي تط ّورت الحقاً ،يف أوسـاط إسلامية ،كما رأينا مع
تجربـة نعيـم التلاّوي ،فأنتجـت «تيـار األمـة» ،الذي يقـوده الداعيـة الكويتي،
حاكـم املطيري ،ويرتكـز على مهمـة «رباعيـة الدفـع»؛ مفهـوم األمـة العابـر
للحـدود الجغرافيـة ،مركّـزا ً على العمـل الشـعبي املشترك ،ورفـض الهيمنـة
األمريكيـة والغربيـة بتحرير إرادة الشـعوب العربية واسـتقاللها ،ومواجهة حالة
االسـتبداد الداخلي ،ودعـم مقاومـة الشـعب الفلسـطيني.
183
مئـات السـلفيني ،ثـم اإلفـراج عـن أغلبهـم ،بعـد اشـتباكهم مـع قـوات األمن)،
وخضر أبـو هـورش (وهو من املتهمين واملحاكمين يف قضايا أمنيـة عىل خلفية
انتامئـه للسـلفية الجهادية).
حماد ،رئيـس جمعيـة الكتـاب مـا ال يقولـه هشـام عـن الخلاف مـع زايـد ّ
والسـنة ومجموعتـه ،أنّهـم كانـوا يـرون صاحبنـا يف منزلـة بين املنزلتين ،فهـو
يريـد الجمـع بين السـلفية الحركيـة ،وما تقـوم به مـن عمل مؤسسي ومنظّم،
وبين السـلفية الجهاديـة ومـا تطرحـه مـن أفـكار حـول الحاكميـة والجهـاد
حـي نـزال
والصـدام مـع السـلطات العربيـة ،فوقـع بين املجموعـة األوىل يف ّ
واملجموعـة الثانيـة يف مدينـة الرصيفـة ،وعندمـا متّـت إعـادة هيكلـة الجمعية
وتصفيـة نفـوذ التيـار الجهـادي فيهـا ،كان هشـام أحـد الذيـن خرجـوا نتيجـة
هـذا الخلاف الداخلي.
حي الزهور ،لكن
ّأسـس يف وقـت الحـق (العـام )2006جمعية االعتصام ،يف ّ
عمـل الجمعية توسـع الحقـاً ،وافتتح مراكـز متعددة ،يف الوحدات والقويسـمة
والجبيهـة وأحيـاء أخـرى يف عامن ،تهتم بدرجة رئيسـة يف رعايـة األيتام والعمل
الخيري والتطوعـي وتعليـم األطفـال الصغار ،وبناء املسـاجد ،وتتـوىل الجمعية
تدريـس العلوم الرشعيـة يف بعض املراكز.
ر هشـام على تعريـف جمعيتـه الجديـدة «االعتصـام» بأنّهـا تنتمـي يص ّ
إىل التيـار السـلفي الحـريك ،لكـن اهتامماتهـا واقعيـة مرتبطـة بالعمـل الدعوي
والخيري والرتبـوي ،وال تأبـه باالختالفـات الفكريـة أو الجانـب األيديولوجـي،
بصـورة كبيرة ،فيما يرى بـأ ّن الفارق بني جمعيتـه وجمعية الكتاب والسـنة أ ّن
«جمعيـة الكتـاب والسـنة أصبحت قريبة مـن الدولة ،تحرص على عدم إزعاج
املسـؤولني ،بينما جمعيتـه تحـرص على عـدم اسـتعداء الدولـة ويف والوقـت
نفسـه عـدم االقتراب منهـا ،أي على مسـافة حياديـة منها».
ومـن الواضـح أ ّن الهـدف مـن ذلـك ،وهـو املتـواري يف كالم صاحبنـا ،هـو
اإلمسـاك مبربعـات مـن العمـل والنشـاط ،مـن دون الصـدام مـع املؤسسـات
الرسـمية ،لكـن يف الوقت نفسـه عدم القبـول بإمالءاتها أو الخضـوع لرشوطها.
184
يجـد هشـام نفسـه قريبـاً مـن جمال الباشـا (أيب طلحـة) ،ويص ّنفـه بأنّـه
أقـرب إىل السـلفية الحركيـة ،بعـد ان عـاد مـن الكويـت يف بداية التسـعينيات،
واشـتهر بخطـب الجمعـة ،مؤث ّـرا ً يف أوسـاط السـلفيني حولـه ،إالّ أنّـه ُمنـع من
الخطابـة الحقـاً ،ويعمـل ،حاليـاً ،يف مهنـة أخـرى ،بينما يص ّنفـه آخـرون على
السـلفية الجهاديـة.
رمبـا ذلـك يقودنـا إىل معضلـة صاحبنـا ،بـل التيـار السـلفي الحـريك عمومـاً
يف األردن ،مـع عـدم وجـود تعريـف واضـح منضبـط لـه ،ال مـن الزاويـة
األيديولوجيـة وال حتـى الحركيـة ،فمصطلـح «حـريك» بـات يعنـي لدى هشـام،
وكثير مـن أبنـاء هـذا التيـار ،العمـل املنظّـم أو املؤسسي والجامعـي ،وهـو ما
يشترك بـه مـع زمالئـه القامئين على جمعيـة الكتـاب والسـنة ،لكـن االختالف
يتبـدى بوضـوح أكبر عنـد االقرتاب مـن الجانـب األيديولوجـي؛ فامذا سـيتب ّنى
هـذا «الكائـن املنظّـم» مـن أفـكار ضمن سـياقات االختلاف والتنازع السـلفي
الحاليـة؟ هل سـيضع مفهوم الحاكمية والسياسـة يف صلـب اهتامماته ،ويط ّوع
العمـل الخيري والرتبـوي والثقـايف يف خدمـة هـذه القضايـا ،أم يضـع املعادلـة
املعكوسـة ،يطـ ّوع أفـكاره مبـا يخـدم العمـل التطوعـي والخيري؟!
املسـألة ،إذا ً ،ال تقـف عنـد حـدود «الوعـاء» الحـريك و«التنظيمـي»؛ فـإذا مل
يكـن هنالـك ناظـم أيديولوجـي أو توافـق فكـري عميـق ،فـإ ّن ريـاح االختالف
سـتعصف بـه ،وسـيكون تعريـف مثـل هـذا االتجـاه غير منضبـط ،فهنالـك
مروحـة كبيرة مـن االختيـارات األيديولوجيـة املتباينـة ،ضمـن مـا يسـمى
بالتيـار الحـريك ،لدينـا املتأثـرون بأفـكار سـيد قطـب ،وآخـرون مبالك بـن نبي،
وآخـرون بعبـد الرحمـن عبـد الخالـق ،فيما هنالـك مـا يسـ ّمى بـ«الرسورية»،
فيما تختلـف األولويـات واملواقـف مـن قضايـا مهمـة مفتاحيـة ،مثـل واقـع
الحكومـات واألنظمـة القامئـة ،ومنهـج التغيير واإلصلاح االجتامعـي والثقـايف
والسـيايس ..الـخ.
185
بني املجتمع والسياسة واإلعالم
يشـاهد هشـام التلفزيون فيتابع األخبار بصورة خاصة ،والربامج االقتصادية
وبرامـج «التـوك شـو» يف الفضائيـات املحليـة ،يرفـض االختلاط يف املـدارس
والجامعـات ،إن أمكـن ،مـع قبولـه عمـل املـرأة ضمـن الضوابـط الرشعية.
يؤيـد الـزواج عـن طريـق الحـب ،وليـس مـع الـزواج التقليـدي ،وال يتشـدد
يف لبـاس املـرأة لكـن مع االلتـزام بالرشوط املحـددة يف الفقه اإلسلامي ،ويرى
حرمـة األغـاين واملوسـيقى ،ال يدخّـن ،يتابع كرة القـدم ،ال يرتـاد املقاهي ،بينام
أغلب وقته يف العمل التطوعي ،إذ سـاهم يف تأسـيس مجلس عشـائر الدوامية،
ويف عملـه يف جمعيـة االعتصـام ،واملراكـز التابعة لها.
يـرى بـأ ّن مشـكلة السـلفية أنّهـا تبدو بعيـدة عن املجتمع ،غير متواصلة وال
متصلـة بـه بصـورة عميقة ،فهـي يف حالة من «التعايل» عليـه ،ال يحرض أفرادها
بين النـاس والعشـائر املختلفـة ،وال يدركـون أهميـة هـذه األوزان االجتامعية،
وهـو املجـال الذي يجـد فيه هشـام أحد اهتامماته الرئيسـة.
ال يؤيـد هشـام تجربـة األحـزاب السـلفية يف مصر لنقـص الخربة السياسـية،
مـا أدى إىل تخبطهـم ،لك ّنـه مـن حيـث املبـدأ مـع تأسـيس حـزب سـلفي ،بعد
نضـوج التجربـة والخربة السياسـية.
يؤيـد هشـام العمـل يف إطـار الدميقراطيـة ،ضمن الظروف الراهنـة ،مرحلياً،
ففـي الوقـت الراهن ما هـو مطروح من خيار بني الدولة املدنيـة والدكتاتورية،
كما حـدث يف تركيـا ،فهـو يختـار الدميقراطيـة ،مـع مامرسـة الدعـوة املتدرجة
يف املجتمع.
بالرغـم أنّـه ال يسير يف مظاهـرات ومسيرات ،إالّ أنّـه مـع هـذه املامرسـة
السياسـية ،وال ميلك تصورا ً ّ
مفصالً لقضايا الفقه السـيايس اإلسلامي ،يف موضوع
األقليـات واملرأة.
186
يرفـض العمـل املسـلح يف التغيير الداخلي ،أل ّن التجـارب أثبتـت بأ ّن العمل
السـلمي قـادر على تحقيـق نتائـج مهمـة وكبيرة مـن دون الحاجة للجـوء إىل
السلاح ومـا يرتتـب عليـه مـن نتائـج خطيرة يف كثري مـن األحيان.
187
-4-
أحمد أبو رمان« :المسار الحائر»في
«التضاريس السلفية»
كان أحمـد عبـد الحليـم أبـو رمـان (مـن مواليـد العام )1973أقـرب للتأثر
بجامعـة اإلخـوان املسـلمني ،يف مرحلـة مبكّـرة مـن عمـره ،إذ أنّـه عـاش أغلب
حـي صويلـح ،الـذي يقـع شمال العاصمـة عمان ،يبعد كيلـو مرتات نشـأته يف ّ
العمنية األخيرة يف الطريق
قليلـة عـن مخيـم البقعـة لالجئني ،وميثـل املحطـة ّ
الحـي املعروف بحضور واضح فيـه لجامعة اإلخوانإىل محافظـة السـلط ،وهو ّ
املسـلمني ولقياداتهـم املحسـوبة عىل جنـاح الصقـور ،والفكر القطبـي ،مثل د.
محمـد أبـو فـارس ،ود .همام سـعيد ،ود .صلاح الخالدي ،واألخري هـو من كان
يشـعر صاحبنـا أنّـه األقـرب إليـه يف مرحلتـه املبكّـرة ،إذ كان إمام مسـجد عبد
الرحمـن بـن عـوف ،بجـوار منزله ،ويحرض أحمد دروسـه ،ويـداوم عىل حلقاته
العلميـة ،ويتواصـل معـه شـخصياً عن قرب.
التحـول نحـو السـلفية بـدأ مـع أحمـد ،خلال دراسـته يف كليـة املجتمـع،
يف تخصـص اإلدارة املاليـة ،عبر اختالطـه بأعـداد مـن السـلفيني القادمين مـن
حـي صويلـح ،بالتزامـن مـع منـع خطبـاء اإلخـوان مـن الكويـت ،بخاصـة يف ّ
الخطابة يف مسـجده واسـتبدالهم بالسـلفيني التقليديني .يف األثنـاء بدأت عالقة
أحمـد بهـذا التيار ،ومل يكن حينها مشـغوالً بانقسـاماته الداخليـة ،فكان يحرض
دروسـاً عنـد بعـض التقليديني ،مثل الشـيخ املصري أيب اليرس ،أحمد الخشّ ـاب،
مـن تالميـذ األلبـاين ،وعنـد الشـيخ أيب أنـس الشـامي ،عمر يوسـف ،الـذي كان
إمامـاً يف أحـد مسـاجد صويلـح ،يف منطقـة اإلرسـال ،مـع احتفـاظ صاحبنـا
بالعالقـة الجيـدة بصلاح الخالـدي وهـو وإن كان مـن اإلخـوان املسـلمني ،فإ ّن
عقيدته سـلفية.
188
ملاذا أصبحت سلفياً؟
رمبـا مـن القضايـا التـي جعلتـه يقترب من السـلفية أكثر من اإلخـوان ،أنّه
حي من أصول فلسـطينية»، مل يشـعر لـدى السـلفيني بـ«عقدة الشرق أردين يف ّ
فبخلاف اإلخـوان ،الذيـن يتشـككون أمنيـاً فيمـن أصولـه مـن عشـائر أردنيـة،
مثـل أحمـد ،الـذي ينتمـي إىل مدينة السـلط املجـاورة لصويلح ،فإ ّن السـلفيني
كانـوا أكثر قبـوالً لـه وانفتاحـاً معـه ،ويف الوقـت نفسـه مل يكـن ليقع بين ّ
فك
الكامشـة؛ ضغـوط األمـن وشـكوك اإلخوان.
عمـل أحمـد يف املكتبـة اإلسلامية ،يف مجـال اإلدارة والتحقيـق والنشر،
وتعـود ملكيتهـا لصهـر الشـيخ األلباين نفسـه ،وهو نظام سـكّجها ،ذلـك العمل
الـذي فتـح لـه نافذة واسـعة عىل التيار السـلفي ورمـوزه وقياداته ،مـن تالميذ
األلبـاين ،فالتقـى باأللبـاين نفسـه ،لكـن مل يتتلمـذ على يديـه ،وحضر دروس
العلـم ألغلـب طلبتـه ،وسـنح لـه عملـه الجديـد أن يطّلـع عـن قـرب وكثـب
على أرسار الخالفـات السـلفية والحلقـات الخاصـة الداخلية ،ويقترب أكرث من
الشـخصيات املهمـة يف هـذا التيـار ،التـي كانـت تشـارك يف نرش تـراث األلباين،
ونقـل جـزء كبير منـه مـن الطـور الشـفهي إىل الكتـايب ،عبر املكتبة اإلسلامية
املنـاط بهـا إمتـام هـذه املهمة.
سـاهم أحمـد ،مـع رفاقـه يف املكتبـة اإلسلامية ،يف تجميـع وتحريـر فتـاوى
األلبـاين ،عبر مجلـدات مـن الكتب ،ويف تحقيـق العديد من الكتـب الدينية ،ما
منحـه ثقافـة جيـدة يف الحديـث النبوي وتصحيحـه والعلم الرشعـي والتحقيق
والقضايـا الفقهيـة املختلفة.
هـذا االقتراب مـن شـيوخ السـلفية التقليديـة مل مينـع أحمـد مـن االنحيـاز،
الحقـاً ،إىل الفكـر الحـريك ،عندمـا بـدأت حالـة الفرز واالسـتقطاب يف األوسـاط
السـلفية ،فـكان تأثـره بشـيخه عمـر يوسـف (أيب أنـس الشـامي) يف عمان،
وبرمـوز الصحوة السـلفية يف السـعودية ،سـفر الحوايل وسـلامن العـودة ونارص
العمـر ،كبيرا ً وعميقاً ،فاصطـف يف خندق هذا التيار وتب ّنى تصوراته األساسـية.
189
كان أحمـد مق ّربـاً وقريبـاً مـن عمـر يوسـف ،وأنصـت إليـه ج ّيـدا ً حني كان
يبـدي تأملـه مـن مواقـف سـفر الحـوايل (الـذي كان ميثّـل منوذجاً وقـدوة لعمر
يوسـف) مـن أحـداث 11سـبتمرب ومـن القاعـدة ،ثـم تجلّـت صدمـة صاحبنـا
بصـورة جل ّيـة بسـفر عمـر يوسـف إىل العـراق والتحاقـه بالزرقاوي ،ثـم تح ّوله
الواضـح نحـو السـلفية الجهاديـة هناك.
يعرتف صاحبنا بالقول « إىل اآلن مل أسـتطع فهم تحول أيب أنس إىل السـلفية
الجهاديـة ،فقـد حضرت عنده األيام األخرية قبل سـفره دروسـاً علميـة ،وأخربنا
بنيتـه السـفر إىل السـعودية ليعمـل هنـاك بعـد اعتقالـه يف األردن والتضييـق
عليـه يف العمل».
191
خالصات واستنتاجات
193
الجامعـات املختلفـة ،ومـن كان تقليديـاً ،ورمبا نجد شـخصيات حركية تحولت،
ثـم عـادت ،وأخـرى اتجهـت نحـو الجهاديـة ،وثالثـة خرجـت مـن أفـق التيـار
السـلفي عمومـاً ،مبعنـى أننا أمام تجارب إنسـانية ،روحياً وفكريـاً ،أكرث خصوبة
وتعقيـدا ً مما بـدت عليـه الحالـة السـلفية التقليدية!
من الروافد املهمة للسـلفية الحركية يف األردن ،أولئك القادمون من الخليج
العـريب ،وتحديـدا ً األردنيـون مـن أصـول فلسـطينية مـن الكويـت ،فهـم كانـوا
مـوردا ً كبيرا ً ،سـواء للجهاديين أو الحركيين ،سـواء املتأثريـن بتجربـة السـلفية
الكويتيـة (عبـد الرحمـن عبد الخالـق) ،أو السـلفية الرسورية ،أو حتى سـلفية
الصحـوة يف السـعودية ،فبالرغـم مـن اختالفاتهـم ،فإنّهـم يلتقـون بين أطـراف
الطريـق السـلفي الحـريك الواسـع ،الذي يشـمل مروحـة متنوعـة ومتعددة من
األفـكار واآلراء املتباينـة تجـاه املوقـف مـن الحكومـات والدميقراطيـة ،لكنهـا
تتفـق على العمـل السـيايس ورفـض مبـدأ طاعـة ويل األمـر ،ويف الوقت نفسـه
رفـض اسـتخدام العنـف والسلاح يف الصراع الداخلي والتغيري السـيايس.
الهويـة السـلفية الحركيـة أكثر عرضـة للتحـوالت مـن غريهـا ،ألنّهـا تفتقـد
املرجعيـات الفكريـة والقيادات الروحية واالطر الجامعة عىل السـاحة األردنية،
لذلـك وجدنـا ظاهـرة التحوالت نحـو الجهادية بالدرجـة األوىل أو خـارج التيار
بـأرسه بدرجـة ثانيـة هـي ظاهـرة ملحوظـة لهـا حضورهـا يف تجـارب التيـار؛
حتـى أ ّن أهـم الشـخصيات املؤثـرة يف هـذا التيار مل تعد محسـوبة عليه! سـواء
مـع عمـر محمـود (أيب قتادة الفلسـطيني) ،حسـن أبو هنيه ،عمر يوسـف (أيب
أنـس الشـامي) ،فيما لدينا شـخصيات عديـدة أخرى متلبسـة بالتيـار الجهادي
وأخـرى بالتقليدي!
هويـة التيـار الحـريك باإلضافـة إىل أنّهـا تعـاين مـن االرتبـاك والغمـوض
والتوتـر ،الناجـم عـن عدم التوافـق عىل موقف محدد من الحـكام والحكومات
(فيما كانـت كافـرة أم عاصيـة) ومـا يرتتب عىل ذلـك من تحديد منهـج التغيري
(اعتماد املسـار الدميقراطـي أم السـلمي أم الرتبـوي والدعـوي) ،فهـي تعـاين،
أيضـاًـ مـن التبايـن يف املوقـف مـن أفـكار سـيد قطـب (مـدى محوريـة فكـرة
194
الحاكميـة يف فكـر التيـار وخطابه).
يقـع «العقـل الحـريك» يف مصيـدة التبـاس هويـة التيـار ،فهـو وإن كان أكرث
مرونـة وانفتاحـاً مـن العقـل التقليـدي يف التعامـل مـع النص الدينـي ،وتحديد
مفهـوم املعرفـة املطلوبـة والرضوريـة ،إذ يتوسـع بها ويخرج من نطـاق العلوم
الرشعيـة ،كما هـي الحـال لـدى التقليديني ،ويعود ذلـك لحضور مفهـوم «فقه
الواقـع» لـدى الحركيين ،الـذي يجعلهـم أكثر اهتاممـاً باألحـداث املحيطـة
والجاريـة ،سياسـياً وإعالميـاً ،إالّ أ ّن العقـل الحـريك يعـاين من تعـدد املرجعيات
الفكريـة وتباينهـا ،ومـن غيـاب مسـطرة أيديولوجيـة واحـدة ،يعود إليهـا أبناء
هـذا التيـار يف املوقـف مـن األحـداث والقضايـا الواقعية.
195
الفصل الرابع
يف هـذا الفصـل لدينـا تجربتـان تضيئـان زوايـا أخـرى مـن الصـورة ،يف
جانبين رئيسين؛
الجانـب األول؛ أنهما تق ّدمـان لنـا خارطـة الطريـق املعاكـس ،أي الخـروج
مـن السـلفية إىل األفـكار األخـرى ،سـواء كانـت إسلامية فضفاضـة أو علامنية،
فسـنالحظ كيـف أ ّن كالّ مـن نـارت خير وحسـن أبـو هنيـه أصبحـا سـلفيني،
بـل وفاعلين يف املشـهد السـلفي ،خلال سـنوات معـدودة ،ثـم كيـف تطـ ّورت
تجربتهما الفكريـة والروحيـة ،ودفعتهما للخـروج مـن السـلفية مـ ّرة أخـرى!
يف التجـارب السـابقة اكتشـفنا أ ّن هنالـك حالـ ًة مـن «السـيولة» الشـديدة
بين التيـارات واألفـكار السـلفية ،إىل درجـة ميكـن القـول بارتيـاح شـديد بـأ ّن
ظاهـرة «التحـول الداخلي» ،أي مـن السـلفية الحركيـة إىل التقليديـة أو
الجهاديـة أو التنقـل يف هـذه التضاريـس ليسـت أمـرا ً غريبـاً ،بل طبيعياً ،سـواء
عبر النماذج املشـهورة من السـلفية ،مثل عمر يوسـف (أيب أنس الشـامي) ،أو
عمر محمود (أيب قتادة الفلسـطيني) ،أو النامذج التي عايشـناها يف الصفحات
السـابقة مـن الكتـاب؛ مـع كثير من الحـاالت! أ ّمـا يف هـذا الفصل فنحـن أمام
«واقعـة تحـول» مختلفـة من السـلفية إىل الخـارج ،أي خارج العباءة السـلفية،
أيديولوجيـاً وواقعيـاً ،وهـي بالتـايل تتوافر على حيثيات وإشـارات أكرث قوة من
التحـول الداخيل السـلفي!
أ ّمـا الجانـب الثـاين؛ أنّهما ليسـتا تجربتين عابرتين! بـل عميقتين ،فنحـن
أمـام «منـاذج نخبويـة» على الصعيـد الثقايف والفكـري ،فكل من نارت وحسـن
ميتلـكان قـدرا ً مهماً مـن املعرفـة والفكـر والثقافـة ،وصلا إىل مرتبـة مميزة يف
األوسـاط السـلفية ،مكانـ ًة وعلماً ،ومل تكن عالقتهام بالسـلفية سـطحية عابرة،
بـل كانـت ترجمـة أمينـة لرحلـة روحيـة وفكريـة قلقـة ،اختلطت فيهـا األبعاد
199
الفكريـة األيديولوجيـة بالواقعيـة والسـلوكية ،وامتزجت خربة كليهما باللحظة
التاريخيـة واألحـداث التاريخيـة املهمـة املؤث ّرة ،سـواء عىل صعيـد تب ّنى املنهج
التخلي عنـه الحقاً!
ّ السـلفي أو
حسـن أبـو هنيـة مـن مواليـد عقـد السـتينيات ،أردين من أصول فلسـطينية،
ُولـد وعيـه عىل وقائع الصراع العريب -اإلرسائيلي واللجوء ،والهزائم العسـكرية
املتتاليـة والتناطـح األيديولوجـي يف العـامل العـريب ،عايـش الجامهرييـة القومية
واليسـارية والتحـول يف املـزاج الشـعبي نحـو االتجاه اإلسلامي مـرورا ً بأحداث
مفصليـة أخـرى ،مثـل الثـورة اإليرانيـة واغتيـال السـادات والحـرب األفغانيـة
وصـوالً إىل حـروب الخليـج ثـم أحداث 11سـبتمرب.
أ ّمـا نـارت خير فهـو مـن مواليـد عقـد السـبعينياتُ ،ولد وعيه السـيايس عىل
هزميـة صـدام حسين يف عـام ،1991والشـعور بالخديعة من الخطـاب الديني،
مـا دفعـه إىل االشـتباك مـع الخطـاب نفسـه ،الستكشـافه وتصفيـة الحسـاب
مـع اتجاهاتـه التـي خلقـت شـعور «الخديعـة» لديـه ،وصـوالً إىل البحـث عن
أرضيـة صلبـة لنهضـة وتنميـة مجتمعيـة ثقافيـة تخـرج الشـعوب العربيـة من
حالتهـا الراهنـة ،وهـو ما قـاده إىل رؤية نقديـة ملوقع الدين نفسـه يف املجتمع
والدولة والسياسـة!
تلـك التجربتـان تعكسـان ،مـن زاويـة أخـرى ،أزمـة األجيـال الشـابة العربية
يف متاهـات األيديولوجيـا والسياسـة ،والبحـث عـن الـذات والهويـة والطريـق
للخـروج مـن الواقـع املنكـوب باألزمـات والتخلـف والضعـف ،سـواء جرفتهـا
التجربـة نحـو الراديكاليـة الدينيـة والسياسـية أو قذفتهـا باالتجـاه اآلخـر ،أي
نحـو العلامنيـة التـي تـرى بـأ ّن الطريـق مختلـف متامـاً ميـر عبر تحجيـم دور
الديـن يف املجـال السـيايس ،وتقنني مهمتـه املطلوبة يف املجالني العـام والخاص،
مبـا يخـدم التحـرر الفكـري واملعـريف يف هـذه املجتمعـات!
لـكل منهـا خصوصيتـه الداخليـة ،كما ذكرنـا
هـي تجـارب روحيـة وفكريـة ّ
ٍ
أوقـات سـابقة ،ذلـك صحيـح؛ لكـن فيهـا جميعـاً مث ّـة عامـل مهـم حـارض يف
ومؤث ّـر وحيـوي ،وهـو «اللحظـة التاريخيـة»؛ فهـي التـي تدفـع بأعـداد كبيرة
200
نحـو السـلفية التقليديـة وأخرى باتجاه الحركيـة وثالثة نحـو الجهادية ،أو نحو
طريـق آخـر مختلـف متاماً!
كل من نارت وحسـن ،املوسـومة بالتحول إىل خارج لكن ما تتميّز به تجربة ّ
السـلفية ،أنّها مسـكونة بالسـؤال املعـريف والفكـري ،فكالهام مهتمان باملعرفة
والفكـر والثقافـة بدرجـة كبيرة ،ليـس فقـط على صعيـد العلـم الرشعـي ،كام
هـي حـال أغلـب السـلفيني ،بـل يف الثقافـات والفلسـفات الغربيـة والعربيـة
املختلفـة ،مـا مينحهما مذاقـاً خاصاً على التجارب السـابقة التي اطّلعنـا عليها!
201
-1-
حسن أبو هنية :عبور «السلفيات»
إلى اإلسالم اليساري الديمقراطي
مينحنـا حسـن أبـو هنيـة منوذجـاً انخـرط يف التأسـيس للحالة السـلفية يف
األردن ،منـذ البدايـات ،يف نهايـة عقـد السـبعينيات ،فاتخـذ مـع مجموعـة من
الشـباب السـلفي مسـارا ً مختلفاً عن الجامعة السـلفية الكربى ،مدرسـة الشـيخ
نـارص الديـن األلبـاين ،فسـعوا إىل تأسـيس تيار سـلفي حريك ،يسـتلهم املدرسـة
اإلصالحيـة ،وينقـل الدعـوة السـلفية نحو اإلطـار الجامعي واملؤسسي ،والعمل
السـيايس املعارض.99
كان أ ّول مـن أدخـل البعـد املؤسسي على العمـل السـلفي األردين ،ونسـج
مـع أصدقائـه شـبكة عالقـات مـع التيـار الحـريك خـارج البلاد ،لك ّنـه تحـت
وطـأة األحـداث التاريخيـة والتطـورات الكبيرة يف مرحلـة التسـعينيات،
وسياسـات التضييـق والعـداء التـي واجهها مع زمالئـه يف الدعـوة الحركية ،مال
نحـو السـلفية الجهاديـة ،بـل وجـد نفسـه خلال سـنوات ،مـن املسـاهمني يف
التأسـيس الفكـري والنظـري للتيـار الجهـادي الراديـكايل ،ونرش كتبـه وأدبياته،
وتطويـر رؤيتـه الفلسـفية ،ونقلـه مـن طور املحليـة إىل العاملية مـع نهاية عقد
التسـعينيات.
يف مرحلـة الحقـة ،استسـلم حسـن لقناعاتـه الجديـدة بأ ّن التيـار الجهادي
ذهـب بعيـدا ً عـن األهـداف التـي سـعى حسـن إىل تكريسـها يف رؤيتـه
االستراتيجية الجديـدة ،فقـرر االنعتـاق مـن أفـق السـلفية عمومـاً ،والتفـ ّرغ
ألفـكاره وقناعاتـه الفرديـة الفكريـة وتطوره الروحـي ،فك ّرس السـنوات األخرية
( )99أجريـت املقابلـة معـه على مرحلتين ،يف فنـدق كـراون بلازا ،عمان ،بتاريـخ -11-15
،2013و.2013-11-16
202
لدراسـة الحـركات اإلسلامية ونقدهـا ،والتأكيـد عىل عـدم التناقض بني اإلسلام
والدميقراطيـة ،وترسـيخ أهميـة القبـول واإلميـان بالتعدديـة الدينيـة والثقافيـة
والسياسـية ،والتخلـص متامـاً مـن الرؤيـة األحاديـة السـلفية ،واالنفتـاح على
الحـركات اإلسلامية الجديـدة ،والتطلـع باسـتمرار نحو املسـتقبل ،ال املايض ،يف
الدفـع نحـو الحريـة والتعدديـة والدميقراطيـة والعدالـة بوصفها قيماً وغايات
متثّـل جوهـر الفلسـفة اإلسلامية.
خلال الرحلـة املمتـدة منـذ نهايـة السـبعينيات إىل اليـوم ،أي قرابـة ثالثـة
عقـود مـن االنخـراط يف التجارب اإلسلامية ،بصـورة خاصة عىل صعيـد التنظري
والفكـر والعمـل املؤسسي ،مث ّـة عوامـل مهمـة أثـرت على تطـور التجربـة
الروحية والفكرية لحسـن ،يف مقدمتها خلفيته اليسـارية ومطالعاته الفلسـفية
والفكريـة الواسـعة يف الثقافـة الغربيـة والتراث اإلسلامي ،األحـداث الكربى يف
نهايـة السـبعينيات ،مثـل الثـورة اإليرانيـة حركـة جهيمان والحـرب األفغانيـة
وأحداث حامة يف سـورية ،مرورا ً ببداية التسـعينيات ،انهيار االتحاد السـوفيتي
وانتصـار املجاهديـن األفغـان ،حـرب الخليـج ،وانتكاسـة التجربـة الدميقراطيـة
الجزائريـة ،وصعـود الحركـة الجهاديـة ،وصـوالً إىل احـداث 11سـبتمرب .2001
صاحبنـا بـدأ يسـارياً يف مقتبـل العمر ،واسـتهل تجربته اإلسلامية باالنخراط
يف السـلفية ،ومـ ّر مـن الفكـرة التقليديـة ،إىل الحركيـة ،ثـم الجهاديـة ،ووصـل
بـه املطـاف إىل الخـروج متامـاً من السـلفية إىل األفق اإلسلامي العـام ،والتفرغ
للعمـل البحثـي والجهـد الفكري.
يـروي لنـا حسـن يف تجربتـه املكثّفـة الخصبـة املمزوجة بين العمل الفكري
والحـريك واملؤسسي؛ كيـف أصبـح سـلفياً؟ وملـاذا؟ وكيـف تطـورت رؤيتـه
وحدثـت تحوالتـه الواقعيـة ،ثـم ملاذا خـرج من رحم السـلفية؟ ومـا هي معامل
رؤيتـه الفكريـة الجديدة؟
203
البداية :املشاركة يف تأسيس السلفية الحركية ومأسستها
حـي رأس العين يف عمان الرشقيـة ،التـي متتـاز بالكثافـة السـكانية
نشـأ يف ّ
وبالطابـع الشـعبي ،وبحضـور األردنيني من أصول فلسـطينية ،مـن الالجئني من
الضفـة الغربيـة ومناطـق العـام ،1948جـاء مـع عائلتـه إىل عمان ،بعـد حرب
الحـي الشـعبي ،حين كانـت أجواء املدينة وأوسـاطها
،1967فاسـتقروا يف هـذا ّ
السياسـية ذات طابـع يسـاري وقومـي ،أمـا حالـة التديـن فكانـت ضعيفـة،
ومسـاجد عمان مل تكـن تتجـاوز عرشة مسـاجد ،أمـا اآلن فهي آالف املسـاجد.
ولد يف العام ،1963فنشـأ يف مرحلته األوىل يسـاري التوجه واألفكار ،وبقي
كذلـك حتـى العـام ،1979أي عندمـا بلـغ مـن العمـر 16عامـاً ،كان هنالـك
أحـداث كبرى يف نهايـة السـبعينيات ،قـد أدت إىل تحـول متـدرج يف املـزاج
االجتامعـي ،حتـى وصلنـا يف نهايـة السـبعينيات ،إىل انقلاب كامـل يف املـزاج
الشـعبي نحـو التيـار اإلسلامي ،وهو األمر الـذي ع ّززته مجموعـة من األحداث
الكبرى املتزامنـة مـع تلك الفرتة ،سـواء الجهـاد األفغاين ،يف نهاية السـبعينيات،
أو الثـورة اإليرانيـة يف العـام ،1979وحادثـة الحـرم املكي مع جهيمان يف العام
نفسـه ،أو حتـى اغتيال السـادات الحقـاً يف العام ،1981فتلـك التط ّورات كانت
مبثابـة اإلعلان عـن لحظـة تاريخيـة جديـدة تعطـي الحضـور الشـعبي للتيـار
اإلسالمي.
مل يعد مغرياً للشـاب الصغري أن يبقى يسـارياً ،فكانت مرحلة من التسـاؤالت
حـول اليسـار والقوميـة ومسـاءلة هـذه التيـارات التـي أوصلـت الشـعوب
للهزميـة ،فبـدأ التوجـه نحو التديّن والتيار اإلسلامي شـيئاً فشـيئاً ،وهـو ما ت ّوج
خلال تلـك األحـداث الكبيرة مـع نهايـة السـبعينيات ،فصنعت تلـك األحداث
والتحـوالت املفصليـة الحاسـمة يف املنطقة ،وما خلقته مـن صدمات واهتزازات
مفتـاح دخـول حسـن إىل البيت اإلسلامي يف نهاية السـبعينيات.
تو ّجـه حسـن ،مبـارشةً ،نحـو املسـاجد القريبـة ،ملـلء املسـاحة الواسـعة،
والتعـ ّرف على البيئـة التي ستشـكّل حاضن ًة ألفـكاره الجديـدة ،ومل يكن هنالك
الحي
حـي رأس العين ،الـذي يقطنـه ،فعمـل مـع عـدد مـن شـباب ّ مسـجد يف ّ
204
على تأسـيس مسـجد جديـد ،فبنوا مسـجد «الخلفـاء الراشـدين».
مل تكـن السـلفية ظاهـرة يف أواخـر السـبعينيات ،فهنالـك أفـراد معـدودون،
بينما كانـت الجامعـة املنتشرة الفاعلة هـي جامعة اإلخـوان املسـلمني ،وفيها
تيـاران األول إصالحـي والثـاين قطبـي ،لكـن حسـن مل ينسـجم مـع اإلخـوان
املسـلمني ،وال مـع حـزب التحرير اإلسلامي ،وهي الحركات ،التي كانت تشـكّل
حينهـا الحالـة اإلسلامية يف األردن ،فانخـرط مع جامعة التبليـغ فرتة قصرية من
الوقـت ،لكنـه وجـد ضالّتـه يف األفـكار السـلفية ،بالرغـم مـن عـدم وجـود تيار
عريـض يعبر عنهـا يف تلـك الفرتة.
كان عامـل اإلغـراء يف السـلفية ،بالنسـبة لـه ،يتمثّـل باهتاممهـا باملنهـج
العلمـي ،والبحـث عـن الدليـل الرشعـي ،وهـو مـا مل تكـن تعطيـه الجامعـات
اإلسلامية األخـرى أهميـة مشـابهة ،وبـدأ حسـن مـع أصدقـاء لـه ،أغلبهـم من
الحـي ،الـذي يقطـن بـه ،واألحيـاء املجـاورة يف عمان الرشقيـة ،ويف مقدمتهـم
ّ
صديقـه عمـر محمـود ،الـذي عـرف الحقـاً بـأيب قتـادة الفلسـطيني ،باالهتامم
بدراسـة السـلفية ،وطلبـوا كتبـاً مـن وزارة األوقـاف السـعودية ،فأرسـلت لهـم
أعـدادا ً كبيرة مـن كتـب ابـن تيميـة ومحمـد بـن عبـد الوهـاب واألدبيـات
السـلفية املختلفـة التـي كانـت توزعهـا اململكة السـعودية ،ما أتـاح لهم فرصة
واسـعة لقـراءة هـذا االتجـاه واإلبحـار فيـه.
مـع بدايـة الثامنينيـات حـدث تحـول مهـم مـع قـدوم الشـيخ نـارص الديـن
األلباين واسـتقراره يف األردن ،بالتزامن مع أحداث املواجهات الدامية يف سـورية
بين جامعـة اإلخوان املسـلمني والنظام هنـاك ،فجاء إىل األردن آالف السـوريني
اإلسلاميني ،ومنهـم شـخصيات ذات توجـه سـلفي ،من أبرزهم محمود القاسـم
(أيب األمين) ،وغـازي التوبـة وغريهـم ،ويضـاف إليهـم مجموعـة مـن قيـادات
اإلخـوان يف سـورية ،مـن ذوي التوجـه السـلفي ،مثـل عصـام العطـار وزهير
الشـاويش ،مـا أعطـى قـوة دفـع كبيرة لألفـكار السـلفية وأدى إىل صعودها يف
األردن ،منـذ بدايـة الثامنينيات.
205
التقـى حسـن وصديقـه عمـر محمـود (أبـو قتـاده) بالشـيخ نـارص الديـن
األلباين ،وحرضا دروسـه ،لكنهام يف الوقت نفسـه أخذا مبراسـلة شـخصيات من
التيـار الصحـوي الصاعـد يف السـعودية ،مثل سـفر الحـوايل ،الذي ميثـل االتجاه
السـلفي املسـ ّيس املعارض ،بخالف اتجاه السـلفية األلبانية ،التـي بدأت تتطور
وتنمـو يف األردن ،فاصطـدم حسـن وصديقـه أبو قتـاده مع الشـيخ األلباين بعد
جلسـات قليلة ،وكان السـبب يف ذلك موقف الشـيخ نارص السـلبي من العمل
الجامعي والنشـاط السـيايس ،ونظريتـه املعروفة بـ«التصفيـة والرتبية».
ونظـرا ً لخلفيـة حسـن اليسـارية ،مل يسـتطع قبـول انعـزال السـلفيني عـن
املشـهد التنظيمـي والسـيايس ،فـكان رأيـه مـع أيب قتـادة هـو رضورة تنشـيط
الحالـة السـلفية وانخراطهـا يف العمـل التنظيمـي والسـيايس ،فحصـل االختالف
بينهما وبين مدرسـة الشـيخ نـارص السـلفية التـي بـدأت تتشـكّل وتنتشر يف
مناطـق اململكـة.
بـدأ حسـن وأبـو قتـادة ومجموعـة أخرى تشـكلت حولهام بالعمـل والدعوة
للسـلفية ،منفصلين عـن اتجـاه األلبـاين ،وانطلقـوا مـن مسـجد الخلفـاء
الراشـدين ،الـذي قاموا بتأسيسـه ،وجابـوا محافظات اململكة ينشرون رؤيتهم،
إالّ أن الحالـة السـلفية مل تكـن مهيـأة للعمـل الجامعـي والسـيايس ،فامتـدت
عالقاتهـم مـع املجموعـات السـلفية خـارج اململكـة التـي تشـاطرهم املوقـف
املؤيـد للعمـل السـلفي الجامعـي ،مثل جمعية إحيـاء التراث يف الكويت ،التي
تأسسـت حينهـا يف الثامنينيـات مثـرة لرؤية الشـيخ عبـد الرحمن عبـد الخالق،
الـذي كان يختلـف مـع شـيوخ السـلفية يف العـامل العـريب ،بدعوتـه الواضحـة
وكتبـه التـي تؤكـد على رضورة العمـل الجامعـي ،وتواصـل حسـن ومجموعته
مع الشـيخ سـفر الحـوايل ومحمـد رسور زين العابديـن ،وميثلون جميعـا التيار
السـلفي ،الـذي أصبـح يطلـق عليـه الحقـاً التيـار السـلفي الحريك.
أسـس حسـن وأبـو قتـادة ومعهـم مجموعـة مـن الشـباب ،الذيـن يؤمنـون
باألفـكار نفسـها ،حركـة أطلقـوا عليهـا حركـة أهـل السـنة والجامعـة ،وكان
مركزهـا عمان ،لكـن كان هنالـك امتـداد لهـا يف محافظـة الزرقـاء ،وأخـذوا
206
يبحثـون عمـن يشترك معهـم يف هـذه التصـورات يف أنحـاء اململكـة.
الهـدف مـن الحركـة الجديدة هو تأسـيس التيار السـلفي اإلصالحي -الحريك،
واالهتمام باإلصلاح بروافـده املختلفـة ،الثقافيـة واالجتامعيـة والسياسـية،
ونشروا مجلـة أطلقـوا عليهـا مجلـة املنـار (أسـوة مبجلـة املنـار ،التـي أسسـها
شـيخ السـلفية اإلصالحيـة يف العصر الحديـث ،محمـد رشـيد رضـا) ،وأخـذوا
ميارسـون النشـاطات الدعويـة والخرييـة واالجتامعيـة والرياضيـة.
كان الهـدف بعيـد املـدى هـو إقامـة الدولـة اإلسلامية ،لكنهـم اختلفـوا
عـن السـلفية األلبانيـة بأنّهـم نظـروا إىل إقامـة الدولـة عبر منظومـة متكاملـة
مـن األفـكار والنشـاطات ،تشـمل الجوانـب االجتامعيـة والثقافيـة والسياسـية،
وكانـوا يسـعون إىل تأسـيس حـزب سـيايس الحقـاً ،لكـن يف تلـك الفترة ،بدايـة
التسـعينيات ،مل يكـن قانـون االحـزاب قـد صـدر ،فكان غري مسـموح بتأسـيس
األحـزاب السياسـية وال الجمعيـات.
قـام حسـن مـع مجموعـة من الشـباب مـن أبناء السـلفية الحركية بتأسـيس
جمعيـة الكتـاب والسـنة يف العـام ،1993مـع إقـرار قانـون األحـزاب ،وتحلـل
الدولـة مـن مرحلـة األحكام العرفيـة ،لكن الجمعية واجهت عـدا ًء من مختلف
األطـراف ،سـواء السـلفية التقليديـة -األلبانيـة ،أو حتـى الدولـة ،أو الجامعـات
اإلسلامية األخـرى ،مثـل جامعـة اإلخـوان املسـلمني ،فلـم يكـن املنـاخ العـام
مسـتعدا ً بعـد إلطلاق مشروع السـلفية الحركيـة ،وال بصعود جمعيـة الكتاب
والسـنة بوصفهـا البوتقـة املؤسسـية القانونيـة لهـذا التيار.
بـدأت املالحقـات األمنيـة واالعتقـاالت تطال أعضاء الجمعية ،ومنهم حسـن،
ونتيجـة العـداء والحصـار ،تشـتت املجموعـة التـي أسسـت الجمعيـة ،فذهب
بعضهـم باتجـاه االنخـراط يف الدولـة ،وآخـرون وجـدوا ضالتهـم يف السـلفية
الجهاديـة التـي بدأت تربز يف التسـعينيات يف اململكة ،وآخـرون تقوقعوا باتجاه
مغايـر متامـاً نحـو مـا يسـمى بالسـلفية الجاميـة ،التـي تؤكـد على طاعـة ويل
األمـر ،وترفـض االنشـغال بالسياسـية ،فرتاجعت فكـرة الجمعية وانكفـأ دورها،
وعانـت مـن التقوقع ،ودخلت يف إشـكالية الهوية ،مع بقاء مجموعة محسـوبة
207
على التيـار الجهـادي فيها ،مـا جعلها منقسـمة بين الحركيين واإلصالحيني من
جهـة ،والجهاديين من جهـة أخرى.
خلال فترة التسـعينيات مل ينقطـع حسـن عـن قراءاته املتنوعـة ،فكان يقرأ
يف التراث اإلسلامي ،ويحققـه ،ويف الفلسـفة وعلـم الـكالم ،والفلسـفة الغربية،
وحافـظ على رؤيتـه النقديـة ،حتـى تجـاه الحالـة السـلفية ،وكان مـا يـزال
محسـوباً عليها.
209
والجزائـر ،وهـو مـا دفع حسـن مع رفيقه أيب قتـادة إىل التنظير ملرحلة جديدة
لهـذه الحركـة تنقلها إىل مرحلـة العوملة ،بدالً من اإلغـراق يف الرصاعات املحلية
الخـارسة ،إذ كان منظـور تلـك الحـركات يركّـز على مفهـوم «العـدو القريب»،
بينما كان الصديقـان (أبـو هنيـه وأبـو قتادة) من أوائـل من دعـوا إىل االنتقال
نحـو «العـدو البعيـد» ،أي الواليـات املتحـدة ،والنظـرة العامليـة للصراع بين
التيـار الجهـادي واألنظمـة السـلطوية وحليفهـا الغريب!
سـاهم حسـن ،الـذي شـارك يف اجتماع غير معلـن يف العـام ،1994مـع
رفيقـه أيب قتـادة بتدشين فكـرة «عوملـة الحركـة الجهاديـة» ،وكان أول من دعا
إىل ذلـك ،عبر التأثير الخـاص على أيب قتـادة ،ومـن خلال مـا يكتـب األخير،
إالّ أ ّن هـذه الفكـرة ُر ِفضـت يف حينـه مـن الفصائـل الجهاديـة ،التـي أرصت
على البعـد املحلي يف الصراع ،وعىل مفهـوم «العـدو القريب» ،إىل أن فشـلت
تلـك الحـركات ،فالتقـط أسـامة بـن الدن فكـرة «العوملـة الجهاديـة» يف العـام
،1998عبر إعالنـه عـن تأسـيس الجبهـة العامليـة ملقاتلـة اليهـود والصليبيني يف
أفغانسـتان ،مـع أميـن الظواهري ،وكانت تلـك لحظة االنتقـال يف تاريخ الحركة
الجهاديـة والقاعـدة.
لكـن ،مـا حـدث الحقـاً ،مل يكـن مـا يريـده وينظّـر لـه حسـن ،إذ بـدالً مـن
مواجهـة املصالـح األمريكيـة والغربيـة يف املنطقـة ،وتكبيـد الواليـات املتحـدة
خسـائر كبيرة ،يدفعهـا ملراجعة حسـاباتها ،نقل ابـن الدن املعركـة إىل عقر دار
أميركا ،يف أحـداث 11سـبتمرب ،فكانـت قفـزة كبرية يف الهواء ،بعيـدا ً عن جوهر
الفكرة الرئيسـة.
كانـت أحـداث 11سـبتمرب نقطة التحول الجديدة يف أفكار حسـن وتوجهاته
الفكريـة ،إذ مل يكـن مؤيـدا ً لفكـرة «الجهـاد الهجومـي» ،ومـا يرتتـب عليه من
تداعيـات كبيرة ،مـن ناحيـة ،ومل يكـن متفقـاً عىل رشعيـة عملية سـبتمرب ،فيام
يتعلـق بجـواز قتـل املدنيين ،فشـعر صاحبنـا بفجوة كبرية واسـعة مـع املرحلة
الجديـدة للقاعـدة ،ومـا سـتؤول إليـه ،فقـرر قطـع أي عالقـة لـه بهـذه الحركة
ومآالتهـا ،سـواء عبر املسـاندة الفكريـة والفلسـفية أو حتـى على الصعيـد
210
الشـخيص ،ملـا أصبحـت عليـه حـال التيار الجهـادي من تطـرف دينـي وفكري،
ال يتفـق مـع طبيعتـه ورؤيته الفلسـفية والسياسـية.
يف تلك اللحظة التاريخية أصبحت «السـلفيات» يف العامل العريب أكرث وضوحاً
واسـتقطاباً ،فالقاعـدة دخلـت يف رصاع عاملـي شـديد ،والسـلفية األلبانية ،بعد
وفـاة الشـيخ نـارص ذهبت بصورة أوضـح نحو تأييـد النظم العربية ،والسـلفية
الحركيـة يف االنخـراط يف العمل العـام واملجتمعي والدعوي.
212
أصبـح اهتمام حسـن بإبـراز التعددية ورفض األحاديـة ،وبالتعددية الفقهية
والفكريـة والدينيـة والثقافيـة ،بوصفهـا عامـل قـوة ،وليـس ضعـف ،مـا يضـع
رؤيتـه يف حالـة مـن القطيعـة مـع الطـرح السـلفي عمومـاً ،الـذي يغـرق يف
رصاعـات املـايض واألحاديـة ،بينما يرى صاحبنـا أ ّن الرؤيـة اإلسلامية املطلوبة
هـي تلـك التـي تتطلّـع إىل األمـام ،لرتسـيخ الدميقراطيـة والحريـة والعدالة.
213
-2-
نارت خير :الطريق المعاكس ،من
السلفية إلى العلمانية
متثِّـل تجربـة الدكتـور نـارت محمـد خير الفكريـة منوذجـاً على الوعـي
املبكّـر بالسـلفية ،والتوغّـل يف املشـهد السـلفي واالرتقـاء بـه ،والوصـول إىل
مرحلـة متقدمـة فيه ،ثم االنسـحاب منـه إىل األفق العقلاين ،يف الفكر املعارص،
والتراث ،أو بعبـار ٍة ّ
أدق التحول نحـو اإلميان بالعلامنية معرفيـاً ،واالنفتاح عىل
األسـئلة العلميـة والفكرية ،يف حقول الدراسـات الفلسـفية واللغوية والرشعية،
مـع تـرك البـاب مفتوحـاً أمـام التجربـة الروحيـة والفكريـة للوصـول إىل املرفـأ
الـذي تقودهـا إليـه األسـئلة املعرفيـة املتحـررة مـن قيـود األيديولوجيـا ،وعدم
االلتـزام بـأي حـدود للتفكير النقـدي والحريـة يف البحث واالسـتنتاج.100
السـلفية مثّلـت مرحلـة مـن مراحـل تطـ ّور نـارت ،فشـق طريقـاً عريضـاً
يف األوسـاط السـلفية ،على الصعيـد الشـخيص ،والفكـري والعلمـي ،أيضـاً،
وبالرغـم مـن تجربتـه القصيرة ،التـي امتـدت أعوامـاً معـدودة ،إالّ أ ّن شـغفه
باملعرفـة والثقافـة والتفكير واألسـئلة النقدية دفعته إىل عمق الحالة السـلفية،
ولعل العامـل املهم والرئيـس ،الذي
واستكشـافها عـن قـرب ،ثـم اإلفالت منهـاّ ،
يعطينـا مفتـاح شـخصيته هـو السـؤال البحثـي والفضـول املعـريف والتفكير
النقـدي الدائـم ،مـا قـاده يف لحظـة مبكّـرة إىل السـلفية والتع ّمـق فيهـا ،وهـو
الـذي سـحبه نحـو زوايا مغايـرة للعقلية السـلفية السـائدة ،وعدم التسـليم أو
القبـول مبـا يعتبر مسـلّامت لدى هذا التيـار ،وما يزال هذا العامل (أي السـؤال
املعـريف) هـو املحـ ّرك الرئيـس لتجربة نـارت ،يتنقل بـه من بكالوريـوس العلوم
إىل بكالوريـوس الرشيعـة ،ثـم الدراسـات العليـا يف األدب العريب ويحـ ّط رحاله
يف النظريـات اللغويـة والتأويليـة..
214
يجيبنـا الدكتـور العلماين ،السـلفي سـابقاً ،نـارت؛ عبر الصفحـات التاليـة؛
كيـف أصبـح سـلفياً؟ وملـاذا؟ مـا هـي أبـرز مالمـح تلـك املرحلـة؟ ثـم كيـف
تجاوزهـا؟ وملـاذا؟ ومـا هـي املحطّـات التـي مـ ّر بهـا منـذ لحظـة الوصـول إىل
املسـاحة السـلفية ،خاللهـا ،بعدهـا ،وأيـن وصـل قطـار تجربتـه الفكريـة-
املعرفيـة الروحيـة اليـوم؟..
يعمـل نـارت ،حاليـاً ،مديـرا ً ملدرسـة يف وزارة الرتبيـة والتعليـم ،ومد ّرسـاً غري
متفـ ّرغ يف مركـز اللغـات يف الجامعة األردنية ،وكان يسـتعد حين أجريت هذه
املقابلـة معـه ملناقشـة الدكتـوراه يف األدب العـريب ،ويعـ ّد مـن أبنـاء الطبقـة
الوسـطى املرتفعـة ،التـي تـكاد تنهـار برأيه ،وهو مـن مواليد العـام ،1974من
سـكان منطقـة الجندويـل يف عمان ،ومـن أصول رشكسـية.
215
الخليـج ،ومـا بعدهـا ،إذ شـهدت تلـك الفترة تديّنـاً عامـاً ،وانتعاشـاً يف الحالـة
الدينيـة املجتمعيـة السـائدة ،مـع آمـال التحرر وخـوض معركة املصير الكربى،
وصعـود الـروح املعنويـة للشـعوب العربية ،ثم االنتكاسـة التـي حصلت ،فتلك
الحالـة كانـت سـبباً رئيسـاً يف انتقايل من التديّن الشـكيل الطقـويس (مجرد أداء
العبـادات) ،وكنـت حينهـا ،أي قبـل إنهاء املرحلـة الثانوية ،أتردد على الجامعة
األردنيـة ،مـع أصدقـاء يكربوننـي سـ ّناً ،وأسـتمع إىل أسـاتذة اإلخـوان البارزين،
الذيـن كانـوا مـلء السـمع والبصر للجامهير العربيـة ،لكـن مـا حصـل بعـد
الهزميـة مـن سـقوط وخيبـة أمـل كبيرة ،وسـقوط الحلـم ،هـو والدة شـعوري
الداخلي بأنّنـا خ ُِدعنـا ،وأنّنـا خضعنـا لألوهـام التـي مارسـها علينـا الخطـاب
الدينـي ور ّوجهـا ،خلال تلـك املرحلة»!
يف لحظـة الوعـي املبكّـر ،هـذه ،قـ ّرر صديقنـا الخـوض يف العلـوم الرشعيـة،
بصـورة دقيقـة ومنضبطـة ،وسـاعده على ذلـك ولعه املبكـر بالقـراءة واملعرفة
منـذ الصغـر ،إذ كان يقـرأ يف األدب والفلسـفة ،وتزامـن ذلـك مـع دخولـه
الجامعـة األردنيـة ،فغير تخصصه من الهندسـة إىل كلية العلوم ،إذ كان شـديد
الحـب للفيزيـاء والرياضيـات.
يف األثنـاء؛ ات ُِّخـذ القـرار الحاسـم ،على وقـع صدمـة الهزميـة« ،لـن أقبـل
بعـد اليـوم أن أكـون ضحيـة الخطابـات الدينيـة واألحلام الزائفـة» ،ومـن هنـا
بـدأت إرهاصـات املغامـرة الفكرية واملعرفيـة األوىل؛ الدخـول إىل بحور العلوم
الدينيـة ،بحثـاً عـن املعرفـة الصحيحـة .إالّ أ ّن املشـكلة التـي واجهـت صديقنـا
هـي أنّـه مل يكـن لديـه إملـام حينهـا بالخارطة الدينية السياسـية ،سـوى أسماء
وعناويـن عامـة ،فهنالـك سـلفيون وإخـوان ،وتزامـن ذلـك مـع عـودة مئـات
اآلالف مـن األردنيين مـن الكويـت ،مـن أبنـاء االتجاهـات اإلسلامية.
العامـل القـدري ،أو الصدفـة ،على حـد تعبري نارت ،لعـب دورا ً يف البداية ،إذ
كتـب يف العلـوم الرشعيـة ،فـكان بحوزتـه مبلـغ 280دينـار ،وألنه مل
قـ ّرر رشاء ٍ
ميتلـك الخبرة حينهـا ،يف رشاء الكتب واملصـادر والعناوين ،واألسـعار والطبعات
املختلفـة ،احتـاج إىل خبير يف هـذا املجـال ،فأرشـده أحـد األقـارب إىل شـخص،
216
عائـد مـن الكويـت يعمـل يف مجـال بيـع الكتـب ،ويوفرهـا بأرخـص األمثان يف
السـوق ،وكان هـذا الشـخص ذا اتجـاه سـلفي ،ويصلي يف مسـجد قريـب مـن
منـزل نـارت ،فأعانـه يف بنـاء مكتبـة مـن الكتـب الرشعيـة ،حينهـا كانـت يف
املسـجد مجموعـ ٌة مـن السـلفيني العائديـن مـن الكويـت ،وبدأ نـارت بحضور
الشـخصيات السـلفية يف مسـجد أسـامة بـن زيـد يف الجـوار ،والتعـ ّرف عليهـم
بالتزامـن مـع قـراءة الكتـب العلميـة -الدينية السـلفية.
أقلـع صاحبنـا يف رحلـة جـا ّدة إىل طلب العلم الرشعي والبحـث العلمي ،منذ
البدايـات ،فلـم يدخـل يف مرحلـة «العاميّة الدينيـة» ،إالّ فرتة قصيرة ،إذ تحكّم
مبيولـه وشـخصيته ذلـك الولـع العلمـي واملعـريف منـذ البدايـة ،ثـم بـدأ يلتقي
بشـيوخ السـلفية املعروفين ،الذين يأتون إىل املسـجد ،ويتعـ ّرف عليهم ،ومنهم
مؤسـس االتجـاه السـلفي يف األردن ،نارص الديـن األلباين.
كانـت الغوايـة يف السـلفية ،بدايـةً ،تتمثّـل يف تشـابه حبه للمعرفـة والعلم،
مـع تركيـز السـلفيني على أولويـة طلـب العلـم ،ومحوريـة ذلـك يف املنهـج
السـلفي ،فـكان مصطلـح «طالـب العلـم» لـه وقـع كبير بني أبنـاء هـذا التيار،
ويتوافـر على قـدر كبري من الرومانسـية ،بينام الحال مل تكـن كذلك مع جامعة
اإلخـوان واهتاممـات شـبابها يف النشـاطات الحركيـة ،ورمبا ذلك ما سـ ّبب عدم
حرصهـم على اسـتقطابه ،بينما اسـتقطبوا صديقه يف املسـجد والدراسـة ،وهو
مـا أثـار فضـول نارت ،ملـاذا يتجاهلـه اإلخـوان؟ ومل يحصل عىل جـواب إالّ بعد
سـنوات ،عندمـا خـرج صديقـه ذلـك مـن الجامعة ،وأخبره بأ ّن مسـؤول األرسة
اإلخوانيـة قـال لـه «صديقـك ،كثير السـؤال والقـراءة ،وهـذا ال يتناسـب مـع
املـزاج اإلخـواين ،فسـيكون مزعجـاً للجامعة»!
217
املحطة الثانية :التوغّل يف السلفية مع استئناف القلق املعريف
ولـج نـارت مرحلـة «اإلغراق» يف العلوم الرشعية والكتب السـلفية املرجعية،
وركّـز قراءاتـه على ابـن تيميـه ،يف مجلـدات الفتـاوى والرسـائل القصيرة ،مثل
الرسـالة التدمريـة ،والكتـب املختلفـة يف األصول ،فكان مهتامً بصورة رئيسـة يف
هـذا املجـال ،أي كتـب األصول؛ أصـول الفقه ،وأصـول الدين وغريهـا ،ويرى أ ّن
هـذا االهتمام رمبا هـو الذي قـاده ،الحقاً ،إىل تحـ ّوالت أخرى!
بعـد شـهرين فقـط ،قابـل الشـيخ نـارص الديـن األلبـاين ،الـذي جـاء إىل
حـي بيـادر وادي السير ،إللقـاء محـارضة ،ومل يكـن صاحبنـا قـد التقـاه سـابقاً، ّ
لكـ ّن الهالـة التـي يضفيهـا السـلفيون على األلبـاين ،كانـت قـد سـبقت رؤيتـه
لـه ،فالسـلفيون يضعـون الشـيخ األلبـاين يف منزلـة مرتفعة بني مراتـب العلامء،
بوصفـه عاملـاً يف الحديـث النبـوي ،هـذا العلـم الدقيـق ،وهـو علـم األوائـل،
ويـرون فيـه قامـة علميـة كبرية ،نادرة يف هـذا العرص؛ إالّ أ ّن نـارت مل يجد ،بعد
االسـتامع إىل الشـيخ ،ذلـك الشـعور! ومل ي َر نفسـه أمـام «حالة اسـتثنائية» ،وال
مشـدودا ً إىل تلـك الهالـة التـي يضفيهـا السـلفيون على األلبـاين!
تجـاوز نـارت تلـك الصدمـة األوىل ،إذ وجـد لغـة الشـيخ عادية ،بـل أقل من
عاديـة ،وصاحبنـا مسـكون باللغـة وحبهـا ،ومل يـ َر فيما يطرحـه الشـيخ ذلـك
العمـق االسـتثنايئ ،ومل يسـتمع إىل رؤى مفارقـة يف العلـوم ،فقـال (يف نفسـه)؛
«رمبـا تكـون املشـكلة عنـدي ،وليسـت عنـد الشـيخ» ،وهـو الجـواب ،الـذي
عززتـه إجابـة أصدقائـه لـه ،عندمـا بـاح لهـم مبشـاعره ،فأخبروه بـأ ّن مـا يزال
«طريّـاً يف العلـم ،ومل يـدرك بعـد القيمـة العلميـة الكبيرة للشـيخ األلبـاين»!
عكـف صاحبنـا ،بعـد ذلـك ،على طلـب العلـم ،وبقـي مصحوبـاً بالسـؤال
البحثـي واملعـريف ،فانكـب على كتب األصول ،وأصـول اللغة ،وأصـول الحديث،
ملـا للحديـث مـن قيمـة كبرى اعتبارية يف الوسـط السـلفي ،ثم بـدأ يلتقي مع
شـيوخ السـلفيني مـن الطبقة الثانيـة ،حينها ،ويسـتمع ملحارضاتهم ودروسـهم،
وتابـع التجربـة السـلفية ،مخرتقـاً مراحـل متتاليـة برسعـ ٍة قياسـية ،حتى أصبح
معـدودا ً مـن طلبـة العلم الرشعي ،ومعروفاً لدى شـيوخ التيـار وتالميذه ،وهي
218
مكانـة يحتـاج املـرء إىل فتر ٍة طويلـة مـن الوقـت والجهـد حتـى يصلهـا ،لكـن
ولـع نـارت بالعلـم والبحـث والقلـق الفكـري واملعـريف قـاده بخطـوات رسيعة
يف هـذا املجال.
أوغل نارت يف الوسـط السـلفي إىل العمق ،وتع ّرف عىل الشـيوخ املشـهورين،
مثـل علي الحلبـي وسـليم الهاليل ومشـهور حسـن ومحمـد أبو شـقره ،واألخري
كان صاحبنـا يحضر عنـده خطبـة الجمعة يف مسـجد صالح الديـن بالقرب من
مبنى رئاسـة الوزراء.
انتقـل نـارت خلال هـذه األعـوام القليلـة مـن مرتبـة التلمذة إىل املشـيخة،
طلاب ومريـدون ،وسـاعده يف ذلـك ،كما يعتقـد ،طبيعـة بنيتـه ٌ فأصبـح لـه
الجسـدية الكبيرة ،ولحيتـه ،وصورتـه امللتزمـة باللبـاس والسـلفي ،فبالرغم من
أن عمـره مل يكـن يتجـاوز بدايـة العرشينيـات ،إالّ أ ّن سـمته يوحـي بأنّـه يف
الثالثينيـات ،مـا كان يجعـل األمـر مقبـوالً لـدى أبنـاء التيـار!
بالرغـم مـن هـذه املكانـة املهمـة والرسيعـة التـي حققهـا نـارت يف الوسـط
السـلفي ،إالّ أنّـه مل يسـتقر معرفيـاً ،ومل يستسـلم لشـعور «التسـليم» الفكـري
والعلمـي ،آلراء السـلفيني ،وبقيت طبيعة أسـئلته مختلفـة ،وطريقته يف التفكري
مباينـة ملـا عليـه الحـال السـلفية ،فـكان يطـرح تسـاؤالت غير تقليديـة لديهم
عـن قضايـا مهمة وأساسـية يف املنهج السـلفي ،ما دفع بالشـيوخ السـلفيني من
تحذيـره من هـذا النـزوع النقدي!
يتذكـر صاحبنـا إحـدى أبـرز املسـائل اإلشـكالية التـي أثارهـا مـع الشـيوخ
السـلفيني ،وتتمثّـل يف صلـب علـم الحديـث ،وتعـارض مـع يطرحه السـلفيون،
عندمـا ناقـش موضـوع ضبـط الحديـث ،عنـد الصحابـة ،فسـأل الشـيوخ :إذا
سـلّمنا بـأ ّن الصحابـة ،كما يقـول العـامل املعـروف ابـن حجـر ،كلّهـم عـدول
وثقـات ،لنأخـذ عنهـم الحديـث النبـوي ،فكيف نسـلّم بأنّهـم جميعـاً ميتلكون
القـدرة على الضبـط؟! ،ونحن نعـرف أ ّن رشوط ص ّحة الحديث بأن يكون سـند
النقـل متواصلاً عبر الثقـات العـدول ،فتسـاءل نـارت «فيما إذا كنا نسـلّم بأ ّن
الصحابـة جميعهـم يضبطـون الحديـث ،أال ينسى أو يسـهو بعضهـم؟!».
219
قـ ّرر نـارت ،بعـد أن أنهـى دراسـة الفيزيـاء يف الجامعـة األردنيـة ،أن يكمـل
دراسـته الرشعية ،عرب الحصول عىل شـهادة البكالوريوس يف الرشيعة اإلسلامية،
مـن كليـة الدعـوة وأصـول الديـن (التي أصبحت الحقـاً كلية يف جامعـة البلقاء
التطبيقيـة) ،وكان هدفـه ليس طلـب العلم الرشعي ،فالدراسـة الجامعية ،وفق
اإلدراك السـلفي حينهـا ،ال تقـ ّدم العلـم الرشعـي املطلـوب ،لكـن مـا دفعه إىل
الحصـول على هذه الشـهادة هـو ما يسـميه بـ«الرشعية االجتامعيـة» ،حتى ال
يقـال لـه الحقـاً بأنـك تتحـدث يف الديـن ،وأنت غير متخصص يف هـذا املجال،
فـدرس يف الكليـة بالتزامـن مـع تدريسـه يف مراكـز علميـة ملـادة الفيزيـاء ،يك
يتمكـن من تأمين التزاماتـه املالية.
مـع حضـور «الهاجـس املعـريف» الدائم يف شـخصيته ،بدأ نارت يكتشـف بأ ّن
السـلفيني برغـم رجوعهـم الدائـم البن تيمية (الـذي يع ّد أهم مراجـع العقيدة
واملنهـج السـلفي تاريخيـاً) ،ال يعرفـون إالّ القليل عن أفـكاره ومنهجه ،وأغلبهم
ملماً بكثير مما كتبـه الشـيخ ،بخاصـة مـا يتعلّـق باملسـائل الجدليـة ليـس ّ
واإلشـكالية يف املعرفـة اإلسلامية ،مـع املخالفين يف التصـورات واآلراء الدينيـة،
ويـكاد يكـون كتـاب ابن تيميـه املعـروف «درء تعـارض العقل مـع النقل» غري
مقـرو ٍء لـدى أغلبهـم ،وال توجـد لديهـم إجابـات واضحـة عميقة حـول القضايا
اإلشـكالية والجدليـة حـول فكـر ابـن تيميـة وسـجاالته مـع املخالفين وردوده
على علماء الـكالم املعروفين ،فضعفـت ثقـة صاحبنـا بالوسـط السـلفي ،إنّ ـا
مفسرا ً ذلـك ،يف حينـه ،بضعـف السـلفيني
مل تتـآكل ثقتـه بالسـلفية نفسـهاّ ،
أنفسـهم ال مبشـكلة املنهج!
ازدادت أسـئلة صاحبنـا وشـكوكه يف الحالـة السـلفية مـع بـروز اتجاهـات
متعددة داخل الحالة نفسـها ،ما صاحب ذلك من نقاشـات داخلية وتسـاؤالت
حـول املنهـج ،فظهـرت السـلفيات املتعددة ،مثل مـا يعرف باالتجـاه الرسوري،
الـذي يختلـف مـع السـلفية العلميـة -التقليديـة يف املواقـف السياسـية مـن
الحكومـات والعمـل السـيايس ،وأثير يف منتصف التسـعينيات جـدل كبري حول
«فقـه الواقـع» لـدى السـلفيني ،مـع كتـاب الشـيخ السـعودي ،د .نـارص العمـر
«فقـه الواقـع» ،ودخلـت السـلفية الجهادية على خط الجدال ،وظهـر يف األفق
220
اختلاف عميق حـول املنهـج والطريقة!
يف األثنـاء التقـى نـارت برمـوز وشـيوخ االتجاهـات السـلفية األخـرى ،فقابل
أبـا محمـد املقـديس ،أحـد رمـوز السـلفية الجهاديـة ،يف بدايـة التسـعينيات،
قبـل أن يصبـح األخير معروفـاً ،وقـرأ صاحبنـا مخطوطـة كتابه املعـروف «ملّة
إبراهيـم وأسـاليب الطغـاة يف متييعهـا» ،الـذي يصـل فيه إىل تكفير الحكومات
والدسـاتري واألنظمـة والجيـوش العربيـة ،ويؤكّـد فيـه عىل محوريـة «الحاكمية
اإللهيـة» بوصفهـا مـن أركان التوحيـد ،ووصفـه مـن مل يلتزم بالحكم اإلسلامي
بـ«الطاغوت».
يف نهايـة تلـك املرحلـة ،وصـل نـارت إىل قناعـات تشي ببداية تحـول جديد،
تتمثّـل بشـعوره بـأ ّن جميـع االتجاهـات السـلفية الراهنـة تعـاين مـن ضعـف
التأصيـل العلمـي ،يف علـم أصـول الـكالم ،ويف أصـول الفقـه ،وبعـدم اإلملـام
بالعلـوم العقليـة ،وبضعـف البنيـة املنطقيـة ،بـل ومبالغتهـا يف تسـفيه العقـل
وأهميتـه يف امليـدان العلمـي واملعـريف.
تزاوجـت هـذه القناعـات مـع شـعور آخر بسـؤال املصداقية لدى السـلفيني،
ويذكـر أنّـه يف تلـك املرحلـة ظهـر كتاب صغري ،حظـي بأهمية كبرية يف الوسـط
السـلفي ،للشـيخ املعـروف ،د .سـفر الحـوايل ،حـول موقـف األشـاعرة (وهـم
اتجـاه إسلامي يخالـف السـلفيني يف قضايـا يف العقيـدة ،مثـل تأويـل األسماء
والصفـات وغريهـا ،وميثّـل خصماً لالتجـاه السـلفي يف الدائـرة السـنية) ،فوجد
صاحبنـا يف هـذا الكتـاب ،الـذي كان يعد فصـل الخطاب يف الرد عىل األشـاعرة،
الكثير مـن املالحظـات العلميـة واملغالطـات ،ولكـن األهـم هـو إسـاءة النقـل
مـن كتب األشـاعرة!
أيّـدت تلـك املالحظـات ،وغريهـا مـا كان عنـد نـارت مـن شـكوك عميقـة يف
املصداقيـة واألهليـة لـدى الوسـط السـلفي ،مـا ّأسـس لديـه يف العـام ،1993
بدايـة مرحلـة «النقـد املنهجـي العميق» للسـلفية ،لكن مل يكن مسـتعجالً عىل
النتائـج ،وأراد أن يأخـذ وقتـه الكامـل والـكايف لدراسـة األمـور ،والوصـول إىل
نتائـج عميقة.
221
عـاد نـارت بعـد ذلـك للرتكيـز يف القراءة عىل الفكر اإلسلامي خـارج الدائرة
السـلفية ،ولكتب الفلسـفة اإلسلامية ،والفلسـفات الغربية ،فقرأ ملحمد عامرة،
وطه جابر العلواين ،ومحمد سـليم العوا ،وملدرسـة «إسلامية املعرفية» -املعهد
العاملـي للفكـر اإلسلامي ،تلـك الكتابات التـي كان يرى فيها الجمـع بني ثوابت
اإلسلام ومتغيرات العصر وكان حريصـاً بدرجـة كبيرة على اللقـاء مـع هـؤالء
املفكريـن والتواصـل معهم عندما يـزورون األردن.
بيـد أ ّن أكثر مـا أث ّـر فيـه يف تلـك املرحلـة هما كتـايب «اإلسلام بين الرشق
الحـي» لروجيه جـارودي ،ألنهام
والغـرب» لعلي عـزت بيجوفيتش ،و«اإلسلام ّ
فتحـا عينـي صاحبنـا ،كما يقـول ،عىل أفـق جديد يف قـراءة اإلسلام والدين ،ما
يسـتجيب لألسـئلة الفلسـفية الحضاريـة التاريخيـة والحديثـة ،فقـراءة هذيـن
الكتابين يف العـام 1994فتحـت عينيـه على قراءة مزيـد من الكتب الشـبيهة،
والعـودة إىل االنكبـاب على الفلسـفة التـي كان يـداوم عليهـا ،قبـل مرحلتـه
السلفية.
بـدأت خلال تلـك املرحلـة عالقتـه بأبناء االتجاه السـلفي بالفتـور والرتاجع،
على صعيد العالقة اإلنسـانية ،وأصبحـوا يحذّرون منه ويشـكّكون فيه ،بدعوى
أنّـه «ف ُِتن بتلـك الثقافـات والكتـب التـي يقرأهـا» ،واسـتمرت هـذه املرحلـة
قرابـة عامين« ،وأسـتطيع أن أقـول بأنني أنهيت مـا بني العامين 1994و1996
عالقتـي باالتجـاه السـلفي ،وأنجزت التخلص فكرياً من تلـك املحطّة يف حيايت».
أغلـب صلات صاحبنـا انقطعـت بعـد ذلـك بالوسـط السـلفي ،إال مع بعض
األشـخاص األكثر سماح ًة ورحابـة صـدر باالختلاف ،لكـن األغلبيـة تخلـط بني
البعديـن الشـخيص والفكـري ،فانقلبـت العالقـة إىل جفـاء ،ثـم عـداء وتحذيـر
ألبنـاء التيـار مـن نـارت وما وصـل إليه.
222
املحطة الثالثة :استئناف مرشوع القلق الفكري واملعريف
نهايـة مرحلـة السـلفية آذنـت ببدايـة رحلـة جديـدة مـع االهتمام أكثر
بالدراسـات اللغويـة ،فعـاد إىل الجامعـة األردنيـة لدراسـة اللغـة العربيـة ،بعد
أن وصـل إىل قناعـة بأهميـة اللغـة ومـا تحتلـه مـن موقـع مركـزي يف السـؤال
الثقـايف ،وتحديـدا ً يف التعامـل مـع «النصـوص» ،وبعد أن شـعر بعـدم الجدوى
مـن املكـوث يف حقـل العلـوم الرشعية ،لضيق أفـق البحث فيهـا« ،فقلت :لعل
الدراسـات اللغويـة تكـون أرحـب وأكثر انفتاحاً».
أكمـل رحلتـه املعرفيـة يف الكتـب الرتاثيـة والعرصيـة ،ومـال إىل االتجاهات
االعتزاليـة ،ومـا تـزال فيـه بقايا مـن الفكر االعتـزايل ،كام يق ّر ،لكنه ال يسـتطيع
أن يصـف نفسـه بأنّـه «معتـزيل»؛ أل ّن الفكـر االعتـزايل ال يخـرج عـن النسـق
السـلفي باملجمـل ،ألنـه متصـل باملـايض ،بينما املعرفـة منفتحـة على الزمـان
واملـكان ومتصلـة بالبحـث والتطـ ّور والتجديـد ،وعـدم القبـول بفكـرة احتـكار
الصواب.
وعنـد سـؤال صاحبنـا :أيـن يضـع نفسـه اليوم ،وأين رسـت سـفينته يف بحور
الفكـر واملعرفـة والسـؤال البحثـي والنقدي ،هل يرى نفسـه إسلامياً أم ليربالياً
أم علامنياً؟
يجيـب على ذلـك بالقـول «يف لحظتـي الفكرية الراهنة ،أجـد نفيس علامنياً
فلسـفياً ،وليـس فقـط إجرائيـاً ،قد أكـون علامنياً جذريـاً» .ويكشـف أنّه بصدد
تأليـف كتـاب يف املرحلـة القادمـة يف جـدل الديـن والعلامنية ،يرتكـز فيه عىل
رؤيتـه للعلامنيـة بوصفهـا خيارا ً ابسـتمولوجياً جذرياً ،ال يسـتقيم مـع النزعات
التلفيقيـة أو التوفيقيـة ،وهـي سـمة التجربـة الفكريـة العربيـة يف الجمـع بني
التناقضـات من وجهـة نظره.
وعلى هـذا األسـاس الفكـري يرفـض نـارت الحديـث عـن «العلامنيـة
املؤسـلمة» ،مـن ناحيـة معرفيـة جذريـة ،ويـرى أنّه ال بـد من وجود حسـم يف
الخيـارات ،فمـن الصعـب أن تجمـع بين متناقضين ،بينهما فصـل مـن الزاوية
223
املعرفيـة ،فأغلـب املنتـج الفكـري العـريب يجمع بين التناقضات وينتقـل بينها،
مـن دون إحسـاس بهـذا األمـر!
ويؤمـن صاحبنـا بقـدرة السـؤال املنطقـي على تجـاوز العقبـات التي تقف
أمامـه ،ويـرى أ ّن السـبب يف املوقف السـلبي مـن املنطق يكمـن يف عدم إدراك
آليتـه بصورة عميقـة وصحيحة.
لكـن مـاذا عـن رؤيتـه ملوقـع الديـن يف الدولـة واملجتمـع ،ودوره يف الحيـاة
اليوميـة والسياسـية العربية؟
مييّـز نـارت بين العلامنيـة بوصفهـا موقفـاً معرفيـاً جذريـاً مـن الديـن مـن
جهـة ،وبين الفـرع اآلخـر الـذي يـأيت بعـد ذلـك وهـو مرتبـط مبـا يسـمى
بالرباغامتيـة أو الوظيفيـة؛ فقـد يكـون لـه موقـف جـذري معـريف مـن الديـن،
لكـن مـن الناحيـة الرباغامتيـة يسـتعني صاحبنـا مبقولة لجـون ديـوي ،وإن كان
يعترف بأنّهـا مختزلـة وصادمـة ،لك ّنهـا تؤسـس لرؤيته لهـذه القضيـة ،إذ يقول
ديـوي «اللـه موجـود إذا كان ذلـك يـؤدي إىل الخير والنفـع العـام» ،وهـو غري
موجـود إذا كان األمـر عكـس ذلـك ،مبعنـى االهتمام بالـدور الوظيفـي للدين،
وهـو يف مرشوعـه القـادم (عن جدل الديـن والعلامنيـة) ،فيقترح دورا ً وظيفياً
للديـن ،يقـوم على فكـرة «عقلنـة الديـن وروحنـة التديـن»!
يقـ ّر صاحبنـا بـأ ّن هـذا الـدور الوظيفـي للديـن ،قـد ال يلتقـي مـع املوقـف
املعـريف الجـذري للعلامنيـة ،لكـن طاملـا أنّنـا نواجـه الظاهـرة الدينيـة ،وأمـام
واقـع الثقافـة االنتشـارية للديـن ،التـي تتغلغل يف الحيـاة العامـة ويف مختلف
مجـاالت املعرفـة ،حتـى هنالـك مـن يـرى بـأ ّن الديـن يقـ ّدم جوابـاً يف حقـول
العلـوم البحتـة ،فهـذه الثقافـة مـن الصعـب التعامـل معهـا مبوقـف علماين
جـذري مـن الديـن« ،مـا مل تحـاول تقديـم اطروحـة وسـطية ،أو وسـيطة بين
اللحظـة العلامنيـة املرجـوة واللحظـة الدينيـة الحاليـة» ،عبر عقلنـة الديـن
مـن خلال تقديـم تفسير عقلي لألصـول الدينيـة ،أما مـا يخص سـلوك التدين
فالجـواب هـو اسـتثامر الطاقـة الروحية للدين ،ومـا تقدمه التجربـة الدينية يف
هـذا السـياق ،وهـذا املقرتح مسـتنبط ،كام يشير ،مما يقدمه روجيـه غارودي
224
الحـي».
يف كتابـه «اإلسلام ّ
يخلـص نـارت إىل رضورة الفصـل بين املعرفـة التـي نحتـاج فيهـا إىل معرفـة
دينيـة والتـي ال نحتـاج فيهـا إىل تلـك املعرفـة ،فهـو يرى أنـه ال حاجة للسـؤال
عـن املعرفـة الدينيـة يف املجـال السـيايس ،إذ يـرى أ ّن التجربـة السياسـية
اإلسلامية (أو بعبـارة أدق خبرة املسـلمني) هـي تجربـة علامنيـة منـذ اللحظة
األوىل ،مرتبطـة بالتجربـة املكانيـة والزمانيـة ،فهـو ال يؤمـن مبقولـة «املشروع
اإلسلامي» ،مبعنـى أن لـه صبغـة دينيـة ومرتبـط باملرجعيـة الدينيـة ،فهـو مـا
يتحفـظ عليه!
هـل هـذا يقودنـا إىل التنويـر بوصفـه خيـارا ً ميثـل الحلقـة الوسـيطة التـي
يتحـدث عنهـا صاحبنا؟
يطـرح نـارت ،هنـا ،التنويـر عبر وظيفتـه الوسـيطة ،وليـس بوصفـه خيـارا ً
نهائيـاً ،وإالّ فإنّـه سـيعيد إنتـاج الحالة واملشـكالت التـي جاء التنويـر لتبديدها
أصلاً! أي أ ّن التنويـر لديـه مبثابـة «خطـة عالجيـة مقصـودة ال لذاتهـا ،إنّ ـا
لغريهـا ،للحظـة قادمة ،نسـتطيع أن نخلـص الحالة الثقافية من هـذا االلتباس،
والوصـول إىل الفصـل الـذي يوجبـه املعيـار املعـريف التأصيلي» ،فهـو يقبـل
باإلطـار التنويـري على حـذر ،على أال يتـم تجاهـل األسـئلة الكبرى ،حتـى ال
يـؤول األمـر إىل اسـتعادة الحالـة السـلفية ،فشرط القبـول بالتنويـر كمرحلـة
انتقاليـة أن يكـون مرتافقـاً مع التأسـيس والتأثيث الجذري للسـؤال الذي يجب
أن يكـون فيما بعد.
يسـتدرك نـارت على مـا سـبق بالقـول :أ ّن هـذا التصـور قـد يحـدث الحقـاً،
ورمبـا ال ،لكـن ذلـك مـا يسـميه بخطتـه املعرفيـة ،يف هـذه اللحظـة الراهنـة،
فهـو ال يعـرف أيـن سـيذهب به قطـار البحث املعـريف بعد سـنوات ،لك ّن هذه
الرؤيـة تتثبـت لديـه منذ سـنوات.
يف النهايـة يكشـف لنـا نـارت بـأ ّن رحلتـه املعرفيـة ،هـذه ،مل يقـم بهـا وحده
يف املحطـات املتتاليـة ،إذ رافقـه مجموعـة مـن األصدقـاء عربهـا ،انتقـاالً مـن
225
الحالـة السـلفية ،وصـوالً إىل الدراسـات والقناعـات الجديـدة ،لك ّنـه كان دامئـاً
صاحـب السـبق واملبـادرة بينهـم على اقتحـام مناطـق املح ّرمات والقـدرة عىل
تجـاوز العقبـات ،وعـدم االستسلام والركـون إىل الراحـة ،بـل حافـظ باسـتمرار
على هاجسـه املعـريف وروحـه النقديـة البحثية!
226
خالصات واستنتاجات
الكلمـة األكثر تعبيرا ً عـن أمثلـة هـذا الفصـل هـي «ظاهـرة التحـول» ،لكن
هـذه املـ ّرة ليـس داخـل البيـت السـلفي ،بـل منـه إىل الخـارج ،بعـد رحلـة
فكريـة -روحيـة عميقـة ،وتـج طلاق مع املنهـج السـلفي يف تجلّياتـه الراهنة!
مصطلـح التحـول يف سـياق الحديـث عـن الهويـة ،ليـس جديـدا ً على العلوم
االجتامعية واإلنسـانية ،وال حتى يف حقل «السياسـات الدينية» ،فهنالك العديد
مـن األدبيـات التـي تناولـت التحول لكـن يف مسـتويات مختلفـة ،كالتحول من
ديـنٍ إىل آخـر ،أو مـن طائفـة أو مذهـب معين نحـو النقيـض أو املختلـف.101
حافل بنماذج متعـددة ،فثمة مفكرون كما أ ّن الفكـر العـريب اإلسلامي عموماً ُ
عـرب تح ّولـوا مـن العلامنية إىل اإلسلام السـيايس ،وتط ّورت كتاباتهـم عرب هذه
الرحلـة الفكريـة ،واألمثلـة متعـددة ،مثـل خالـد محمـد خالـد ،وسـيد قطـب،
ومحمـد عمارة ،ومنري شـفيق ،عـادل حسين ..،وغريهم.
كما أ ّن التحـول مـن السـلفية إىل أفـكا ٍر أخـرى مختلفـة ،سـواء يف إطـار
تجربتـي هذا الفصـل ،أيضاً
ّ الفكـر اإلسلامي أو نحـو العلامنيـة ،كما هـي حال
ليـس باألمـر املحـدث أو الغريـب ،فلدينـا يف السـعودية مجموعة مـن املثقفني
السـلفيني الذيـن اتجهـوا نحـو الليرباليـة وآخـرون نحـو آفاق أوسـع مـن الفكر
اإلسالمي.
وإذا أردنـا إجـراء دراسـة اسـتقصائية على التجـارب الفكريـة والثقافيـة
التـي خرجـت من العباءة السـلفية ،عىل صعيـد النخب واملثقفني والسياسـيني،
فسـنجد منـاذج كثيرة ومتعـددة ،بخاصـة يف السـعودية ،إذ متثّـل السـلفية أحد
( )101انظـر على سـبيل املثـال :أوليفيهـروا ،الجهـل املقـدس :زمـن ديـن بال ثقافـة ،ترجمة
صالـح األسـمر ،دار السـاقي ،بيروت ،ط ،2012 ،1إذ جـاءت أغلـب فصـول الكتاب ملناقشـة
ظاهـرة التحـول الدينـي وربطهـا بالسـؤال الثقـايف ،وكذلـك :هـاين نسيره ،املتحولـون دينيـا:
دراسـة يف ظاهـرة تغيير الديانـة واملذهـب ،مركـز أندلـس لدراسـات التسـامح ومناهضـة
العنـف ،القاهـرة ،ط.2009 ،1
227
أهـم أبعـاد املشـهد الدينـي والثقـايف هناك!
يف الحالـة السـلفية األردنيـة لدينـا منـاذج متعـددة لشـخصيات عبرت يف
رحلتهـا الفكريـة وتجربتهـا الروحيـة والشـخصية األعماق السـلفية ،ثـم ق ّررت
كل من حسـن أبو هنية التو ّجـه نحـو رؤى أخـرى ،فام ميكـن أن تضيفه تجربتا ّ
ونـارت خير أنّهما متنحاننـا إضـاءات أفضـل على هـذه التجـارب ومـا تعاينـه
مـن تحـول ذايت وأسـئلة فكريـة ومعرفيـة ،بالتـزاوج مـع متحيص تأثير اللحظة
التاريخيـة الواضـح وامللمـوس عىل أجيال من الشـباب ،ممـن وضعتهم األزمات
السياسـية يف عمق املشـهد السـلفي ،ثم خرجوا منه تحت وطأة عدم الشـعور
بـأ ّن هـذا املنهـج ميثّـل الجـواب الصحيـح على األزمـة القامئـة يف العـامل العريب
واإلسلامي اليوم!
كل
وليـس مـن الصعوبـة مبـكان أن نكتشـف بـأ ّن النتيجـة التـي يصـل إليها ّ
مـن حسـن ونـارت بعـد «الرحلـة السـلفية» ،وبالرغـم مـن اختلاف املدخالت
واملخرجـات ،تتمثـل يف أنّهما وجـدا عـدم اسـتجابة األفـكار السـلفية الراهنـة
وال الحالـة السـلفية األردنيـة لألسـئلة اإلصالحية التـي كانا يسـعيان إىل اإلجابة
عليهـا ،سـواء كان ذلـك على صعيـد التـزاوج مـع القيـم األساسـية؛ الحريـة
الفكريـة ،الرؤيـة النقديـة ،العدالة االجتامعيـة ،الدميقراطية ،والخـروج من قاع
التخلـف نحـو النهضـة اإلنسـانية واملجتمعيـة والتنميـة والتح ّرر من االسـتبداد
بصـوره املختلفـة وأشـكاله املتعـددة ،سياسـياً ودينيـاً وفكريـاً ووجدانياً.
النقد الكامن يف كال التجربتني للحالة السلفية يتمثّل يف التسطيح واالختزال
الـذي متارسـه يف ترسـيمها للطريـق الذي يفرتض أن تسـلكه مجتمعاتنا ،وتسير
عليـه ،سـواء يف عالقتهـا مـع الدين ومهمتـه الروحيـة واالجتامعية والسياسـية،
أو يف تغيير الواقع الراهن.
لـكل منهما ،كذلـك ،كانـت تحمـل هاجسـاً آخـر «الرحلـة السـلفية»ّ ،
يتمثّـل يف البحـث عـن الـذات والهويـة املطلوبـة يف آتـون األزمـات الراهنـة،
سـواء كان ذلـك بتمثّـل السـلفية هوي ًة لفرتة مـن الوقت ،أو الخـروج منها نحو
«اإلسلام اليسـاري الدميقراطـي» -حالـة حسـن ،أو العلامنية -حالـة نارت خري،
228
فنحـن أمـام جيـل يبحـث عـن هويتـه ويريـد تحقيق ذاتـه ،عىل صعيـد فردي
ومجتمعـي وحضـاري وإنسـاين ،ويف سـبيل ذلـك يتف ّحـص الشروط املطلوبـة،
فوصـل يف خالصـة تلـك الرحلـة إىل نتيجـة مختلفـة عـن النامذج األخـرى ،التي
ي عـن الهوية السـلفية ،وهو مـا يتوافق
عايشـناها يف الدراسـة ،عمومـاً ،بالتخل ّ
معهـم فيـه يف فصـل سـابق ،نعيـم التلاوي ،وإن كان اشـتباكه مـع الحالـة
السـلفية جـاء مغايـرا ً يف حيثياتـه وتفاصيلـه ،ثـم مخرجاتـه ،عما انتهـى إليـه
صاحبانـا يف هـذا الفصـل!
229
الفصل الختامي
233
األزمـة سياسـية أو اقتصاديـة أو فكريـة ،أو كانـت ناجمـة عـن املواجهـة بين
التقاليـد التاريخيـة املوروثـة أو الهويات التي تشـكلت محليا مـن جهة ،أو تلك
التـي تشـكلت تحـت ضغوطـات التحديـث والعوملـة مـن جهـ ٍة أخرى!
وسنسـتعني ،باإلضافة إىل التجارب السـابقة ،لبعض السـلفيني ،بعد ٍد محدو ٍد
مـن االسـتبيانات التـي وزّعناهـا على مجموعـات مختلفـة مـن السـلفيني يف
األردن ،فبالرغـم مـن أنّنـا نتحـدث فقـط عـن 33اسـتبانة؛ إالّ أنّهـا ستسـاعدنا
على إلقـاء مزيـد مـن الضـوء على هـذه النماذج والتجـارب ،وبخاصـة أ ّن
املجيبين على االسـتبيانات توزّعـوا بين االتجاهـات السـلفية الثالثـة الرئيسـة؛
التقليديـة ،والجهاديـة والحركيـة.
يناقـش هـذا الفصـل منظـور الهويّـة السـلفية ،مـن خلال طـرح جملة من
األسـئلة اإلشـكالية ومـن أهمها :ملـاذا أصبحت سـلفياً؟ وكيف أصبحت سـلفياً؟
ومـاذا يعنـي أنّنـي سـلفي (سـؤال األنا)؟ وكيـف أتعامل مـع (مسـألة اآلخر)؟!
تبي
ومـا يرتتـب عليهـا مـن نتائج يف متثيل وتجسـيد وترجمـة هذه الهويـة عرب ّ
سمات الشـخصية السـلفية األسـاس ،وتحققهـا على أرض الواقـع ،سـواء عبر
شـخصية الفـرد أو املجموعـة أو الجامعـة السـلفية ،وال نسـتخدم هنـا مفهـوم
الجامعـة باملعنـى التنظيمـي الحديـث بالضرورة ،بـل باملعنـى االجتامعـي
التقليـدي العـام ،الـذي يـدرس «املجتمـع السـلفي» وعالقته بأفـراده واملجتمع
األكبر املحيـط به.
234
-1-
موحدة أم هو ّيات متعددة؟
ّ هوية
قبـل البـدء بالحديـث عـن «الهويـة السـلفية» ،مـن بـاب أوىل أن نطـرح
السـؤال األكثر أهميـة؛ هل هنالك فعالً هويّة سـلفية واحـدة؟ أم هويّات ذريّة
تجسـد مالمح عامة
متعـ ّددة تعكـس حالـة «األزمـة» يف هـذه الهوية أكثر مام ّ
يتفـق عليها السـلفيون؟
إذا حاولنـا اإلجابـة على السـؤال السـابق ،من خالل النامذج السـابقة ،وعرب
الخطاب األيديولوجي للسـلفية ،وباالسـتناد إىل ما بني أيدينا من اسـتبيانات يف
تحديـد السمات العامـة املشتركة بين الجميع ،أو لنقـل بني األغلبيـة العظمى
مـن االتجاهـات السـلفية يف املجتمـع األردين ،سـوف نجـد أنّنـا نتحـدث،
عمومـاً ،عـن «دور فاعـل» للديـن يف تكويـن هـذه الهويـة وتحديـد توجهاتها،
فالسـلفي هـو شـخص يؤمن بـأ ّن للدين دور حاسـم يف تحديد تصـ ّورات األفراد
الالهوتيـة واأليديولوجيـة ،وضبط سـلوكياتهم ومامرسـاتهم االجتامعية ،كام أنه
يتحكـم يف اختياراتهـم األخالقيـة والقيميـة ،لكـن هـذا املعلـم رمبا تشترك فيه
«الهويـة السـلفية» نسـبياً مع الهويات اإلسلامية األخرى ،مثـل جامعة اإلخوان
املسـلمني ،وجامعـة التبليغ وغريهـا من الجامعات اإلسلامية ،وإذا كانت الحال
كذلـك ،فبماذا تتميّـز الهوية السـلفية ،عـن غريها؟
إذا تجاوزنـا التجـارب السـابقة وحاولنـا اسـتنطاق معامل الهوية -الشـخصية
السـلفية عبر االسـتبيانات املتوافـرة لدينا؛ ما هـي القضايا التي شـكّلت إجامعاً
أو شـبه إجامع بني السـلفيني من خالل اإلجابة عىل أسـئلة االسـتبيان املتعددة؟
على صعيـد التجنيـد والتأث ّـر ،وبغـض الطـرف عن االتجاه السـلفي ،هنالك
الحي ،وبعض الشـيوخ
دور محـوري يف أغلـب الحـاالت ملجتمع املسـجد وأبناء ّ
السـلفيني ،إذ أحـال كثي ٌر مـن السـلفيني إىل هـذه العوامـل حـول الطريقة التي
235
تع ّرفـوا بهـا عىل الدعوة السـلفية ،ضمـن كل اتجاه.
أ ّما عىل صعيد التط ّور واالنخراط يف العالقة مع االتجاه السلفي؛ فيختلف
ترتيـب األوليـات بين هـؤالء األفـراد ،فنجـد دورا ً حيويـاً للمشـايخ السـلفيني،
لـدى التقليديين ،يف تعزيـز عالقتهـم بالتيـار عبر طلـب العلـم الرشعـي ،ومـن
الحـج والعمـر ومتابعة القنـوات التلفزيونية الدينيـة ،بينام لدىخلال رحلات ّ
الحركيين تسـاهم املخيامت الصيفيـة ومراكز القرآن بدور حيـوي ،باإلضافة إىل
املشـايخ واألرشطـة الدينيـة والربامج التلفزيونيـة ،أ ّما الجهاديـون فباإلضافة إىل
والحـي ودور الشـيوخ ،ونظـرا ً للبعـد األمني ،فـإ ّن «اللقـاءات املنزلية»
ّ الجامـع
ً ً
تأخـذ دورا أساسـيا يف تأطير عالقـة الفـرد بالتيـار وهنـاك دور بـارز ألهميـة
اإلنرتنـت وشـبكات التواصل االجتامعـي الحديثة.
على صعيـد التنظير السـيايس؛ نجد التشـاكل واالقرتاب بين أغلب املجيبني
عنـد تعريـف الدولـة اإلسلامية ،إذ يتوافقـون على أنّهـا الدولـة التـي ت ُحكـم
بالرشيعـة اإلسلامية يف مختلـف مجـاالت الحيـاة ،إالّ أ ّن بعـض الحركيين
يضيفـون إليهـا االلتـزام مبعايير العدالة والنزاهـة ،أما الجهاديـون فيضيفون إىل
ذلـك بأنّهـا الدولـة التـي تعلن الجهـاد أو النفري يف سـبيل اللـه ،وال نجد حضورا ً
لـدى جميـع الحـاالت املدروسـة ملصطلح الدميقراطيـة والحريات العامـة ،مثالً،
يف تعريـف مفهـوم الدولة اإلسلامية!
ينقسـم السـلفيون ،كما هـو متوقّـع ،انعكاسـاً لالختالفـات األيديولوجيـة،
حـول املوقـف من السياسـة والعمـل الحـزيب والدميقراطيـة والتعددية وحقوق
األقليـات .فبينما يتجـه التقليديـون والجهاديـون ،عمومـاً وغالبـاً ،إىل رفـض
العمـل السـيايس بصيغتـه الراهنـة ،ورفـض األحـزاب السياسـية القامئـة ،ومـن
بينهـا اإلسلامية ،ورفـض الدميقراطيـة ،وتحديد حقوق األقليات ،مبـا ال يصل إىل
املواقـع العليـا يف الدولـة؛ فإ ّن الحركيني منقسـمون تجـاه الدميقراطية والحزبية
والعمـل السـيايس ،مـع وجـود أفضليـة للقبـول املشروط بتلـك املفاهيـم
واإلجـراءات.
على صعيـد الربنامـج االجتامعـي؛ تتفـق األغلبيـة العظمـى مـن السـلفيني
236
على عـدم جـواز االختلاط بين الرجل واملـرأة يف املـدارس والجامعـات وأماكن
العمـل ،وإن كانـت هنالـك أقليـة محـدودة تـرى جـواز بعـض ذلـك برشوط.
ال يسـتمع السـلفيون إىل الغناء واملوسـيقى ،فيكاد يكون هنالك إجامع عىل
تحرميهما ،فيما تجيزهما نسـبة محـدودة جـدا ً ( 3مـن )33بشروط ،وتقـف
األغلبيـة السـلفية مـع تحريم لعبة الشـ ّدة وكـرة القدم والشـطرنج ،بينام تقف
أقليـة معتبرة مـع قبول كـرة القـدم ،وبدرجة أقـل منها الشـطرنج برشوط.
السـلفي يـرى بـأ ّن إطلاق اللحيـة للرجـال واجـب ،فيما يـرى البعـض أنّـه
سـ ّنة ،ويتفق السـلفيون بوجوب اللبـاس الرشعي للمرأة ،لكنهم ينقسـمون بني
مـن يـرى وجـوب تغطيـة الوجـه مع اليديـن والكفني ،ومـن يـرى أ ّن ذلك ليس
واجبـاً ،وهـو انقسـام مرتبـط ،أيضـاً ،باختلاف الفتـوى بين الشـيوخ السـلفيني
أنفسهم.
معي،
عالقـة السـلفيني بالتلفزيـون ليسـت وطيـدة ،فهـي مح ّددة يف نطـاق ّ
عمومـاً ،إذ يجمـع املسـتجيبون على عـدم مشـاهدة األفلام واملسلسلات،
وينقسـمون بين مـن يشـاهد األخبـار والربامـج العلميـة ،ومـن ال يهتـم بذلك،
ومـن ال يشـاهد إالّ الربامـج الدينيـة .فيما نجـد نسـب ًة كبير ًة منهـم ،بخاصـة
التقليديين ،تتابـع القنوات الدينية السـلفية ،مثل قناة األثـر ،ووصال ،والبصرية،
والنـاس ،والرحمـة ،والرسـالة ،واملجـد ،وفور شـباب ،وشـذى الحريـة ،والروضة.
وتتابـع نسـبة جيدة من السـلفيني القنـوات اإلخبارية ،مثل الجزيـرة ،والجزيرة
مبـارش ،والعربيـة ،والبـي يب يس ،ونسـبة محـدودة القنـوات العلميـة ،مثـل
ناشـونال جيوغرافيـك ،والجزيـرة الوثائقيـة ،وبعضهـم يتابـع الربامـج الحواريـة
السياسـية على القنـوات املحلية.
يف عالقة املسـلمني باملسـيحيني ،يجمع السـلفيون عىل عدم جواز املشـاركة
يف احتفـاالت املسـيحيني الدينية ،ويختلفون يف املوقـف من الصداقة والعالقات
السياسـية واملشـاركة االجتامعية ،مثل األفراح واألحزان.
أ ّمـا مواقـف السـلفيني من الربنامج السـيايس فتبدو أكرث تباينـاً؛ إذ يختلفون
237
تجـاه العديـد من القضايـا ،مثل تطبيق الرشيعـة اإلسلامية ،فالجهاديون يرون
التطبيـق الكامـل الفـوري لهـا ،أمـا التقليديـون والحركيـون فمنقسـمون بين
التطبيـق على املـدى القريـب أو البعيـد ،ويختلـف السـلفيون حـول إمكانيـة
تطبيـق وإقامـة الحـدود الرشعيـة (مثـل قطع األيـدي والجلـد والرجـم) اليوم،
وعلى إجراء االنتخابات الربملانية والرئاسـية والبلديـة؛ لكنهم يف املقابل يكادون
يجمعـون على إلـزام الدولة اإلسلامية للمرأة املسـلمة باللبـاس الرشعي ،وعىل
إقامـة املصـارف اإلسلامية بديالً عـن البنـوك «الربوية».
يـكاد يجمـع السـلفيون على أ ّن الحـرب يف سـورية هـي حـرب عقائديـة،
لكنهم يختلفون يف املوقف من قضية مشـاركة الشـباب السـلفي األردين ،الذي
يغـادر إىل القتـال هنـاك ،فترى أغلبية السـلفيني أ ّن مـآل الثـورات الحالية هي
أنظمـة إسلامية يف نهايـة اليوم ،وينقسـمون يف املوقف تجاه انخراط السـلفيني
املرصيين يف العمـل الحـزيب والسـيايس هنـاك ،ويف املوقـف مـن املظاهـرات
واملسيرات والعمـل السـيايس واالحتجاجـات واإلعلام بوصفها أدوات ووسـائل
تغيري .
يختلـف السـلفيون ،كذلـك ،يف املوقـف مـن التسـوية السـلمية ،إذ يقترب
أغلـب الحركيين والجهاديين من رفض هذه التسـوية ،فيام ينقسـم التقليديون
بين القبـول بهـا ورفضهـا ،ويختلـف السـلفيون تجـاه تقييـم تجربـة جامعـة
اإلخـوان املسـلمني يف الحكـم ،إذ تـرى األغلبيـة أنّهـا فاشـلة ،بينما تـرى األقلية
أنّهـا حققـت نتائـج إيجابية.
تبـدو نتائـج هـذه االسـتبانات متوقعـة ومنطقيـة ،يف ضـوء قـراءة الخطابات
األيديولوجيـة للسـلفيني ،عموماً واالتجاهات السـلفية املتعـددة بصورة خاصة،
وتعـ ّزز هـذه النتيجـة النامذج ،التي تع ّرفنـا عليها يف هذه الدراسـة ،إالّ أ ّن ذلك
يُعي ُدنـا إىل السـؤال الـذي بدأنـا بـه هـذا الجـزء األخير مـن الدراسـة؛ فيما إذا
كانـت هـذه القواسـم املشتركة تضـع أسسـاً ملعـامل هوية سـلفية عامـة أم أنّها
أقـل مـن ذلك؟ّ
نجسـد هـذه «املشتركات» يف شـخصية واحـدة ،ونتعـ ّرف
دعونـا نحـاول أن ّ
238
عليهـا أكثر؛ إذا ابتعدنـا عـن املجـال السـيايس ،الـذي ميثّـل بـؤرة االختلاف
الجوهريـة بين هـذه االتجاهـات ،ونظرنـا إىل الشـخصية السـلفية مـن الزاوية
الدينيـة واملجتمعيـة ،فماذا سـنجد أمامنـا؟
سـنجد أ ّن مفتاح هذه الشـخصية هو االهتامم الكبري مبفهوم االلتزام الديني،
مقارنـ ًة بالتيـارات األخـرى؛ فالسـلفي هـو شـخص متديّـن ملتزم ،طقـويس ،ويف
األغلـب يهتـم باملظاهـر الدينيـة الظاهـرة أو الشـكلية ،أو مـا يسـميه بعـض
علماء االجتامع «السمات الظاهريـة» ،يف حني ميكن أن تأخذ هـذه االلتزامات
الفرديـة ،الشـخصية ،لـدى أبنـاء الجامعـات أو األحـزاب اإلسلامية األخـرى،
درجـ ًة أقـل مـن االهتمام ،يف مقابـل االهتمام بالعمـل السـيايس أو الحـزيب أو
التنظيمـي ،أي ميكـن التغـايض ،قليلاً عنهـا ،إىل درجـة معينـة ،فيما تأخذ عند
السـلفيني درجـة عليـا مـن االهتمام واألهمية.
الحظنـا هـذا االهتمام بالجانـب الطقـويس والتعبـدي وبالعلـم الرشعي عرب
التجارب السـابقة ،إذ كان السـبب ،الذي دفع بأعداد منهم إىل املسـار السـلفي
هـو البحـث عـن «النقـاء الديني» غير املتل ّبـس بالجانـب الحزيب أو السـيايس،
الـذي يـرون أنّه يسـم تجارباً إسلامي ًة أخرى.
السـمة الثانيـة تتمثّـل يف أ ّن السـلفي مينـح النصـوص الدينيـة والفتـاوى
الرشعيـة درجـة كبيرة مـن األهميـة ،مقارنـ ًة بالتيـارات اإلسلامية األخـرى.
واملقصـود بالنصـوص ،هنـا ،القـرآن الكريـم والسـ ّنة النبويـة ،التـي تأخـذ جانباً
كبيرا ً مـن األهميّـة لـدى السـلفيني ،سـواء يف االلتـزام الشـكيل -الظاهـري بهـا،
عبر الهيئـة واملظهـر والسـلوك ،أو حتـى تحقيـق كتـب املوروثـات (األحاديث)
السـنيّة ومتييـز الصحيـح من الضعيف فيهـا ،وهي قضية تتفاوت بني السـلفيني
واالتجاهـات السـلفية ،وتبـدو أكثر وضوحـاً وتجليّـاً يف السـلفية التقليديـة ،ثم
الحركيـة ،وأخيرا ً الجهادية.
تحتكـم الهويـة السـلفية ،عمومـاً ،إىل قيـمٍ رئيسـ ٍة تحكـم الهويـة السـلفية
العامـة ،تتمثّـل بتطبيـق الرشيعـة اإلسلامية (مـع االختلاف يف فهـم وإدراك
كيفيـة تطبيقهـا) .فالسـلفيون وإن اختلفوا يف املوقف من الحكام والسياسـيني،
239
ويف ترسـيم منهـج التغيير أو اإلصلاح املطلـوب ،ويف املوقـف مـن العمـل
السـيايس أو العسـكري ،فهـم مجمعون على تطبيق الرشيعة اإلسلامية وإقامة
الدولة اإلسلامية.
الشـخصية السـلفية ،عموماً ،تربط نفسـها بالرتاث والخربة اإلسلامية ،سـواء
عبر متثّـل دور الدفـاع عـن عقيـدة أهـل السـنة والجامعـة يف مواجهـة العقائد
والفـرق والتصـ ّورات األخـرى ،القديـم منها والجديد ،اإلسلامي وغري اإلسلامي،
فـإ ّن أراد السـلفي التعريـف بهويتـه ومنهجـه ،عـاد بـك مبـارش ًة إىل عصر
الصحابـة والتابعين ،وإىل الفقهـاء والعلماء املسـلمني السـابقني ،ثـم الالحقين
الذيـن ميثّلـون برأيـه هـذا املنهـج ،فث ّمـة حضـور بـارز البـن تيميـة وأحمد بن
حنبـل وابـن القيـم الجوزيـة ،يف املقابـل فـإن حضـور مـن يختلفـون مـع هـذا
املنهـج إ ّمـا محـدود أو سـلبي ،مثـل علماء الـكالم والفالسـفة املسـلمني ،كابـن
رشـد والغـزايل وابـن سـينا واملعتزلـة والخـوارج والشـيعة وغريهـم ،فهـم إ ّمـا
مغيّبـون أو خصـوم ومخطئـون يف التصـ ّور السـلفي للهويـة الذاتيـة.
حسـناً ،إذا كانـت هـذه هـي املعـامل العامـة التـي مت ّيـز ،عمومـاً ،الهويـة
السـلفية املشتركة ،فما هي مصـادر التوتّر وعدم االتفاق بني السـلفيني ،وكيف
تتجسـد هـذه املسـاحة يف الشـخصية السـلفية التـي نتعامـل معهـا؟ ميكـن أن ّ
نجـد أ ّن الشـخصية السـلفية مرتبكـة ،عمومـاً ،وبدرجـة رئيسـة ،يف التعامل
مـع التنظير السـيايس ،أوالً ،والواقـع الراهـن ،ثانيـاً؛ فهـذه الشـخصية تبدو غري
محـ ّددة فيما يخـص الدولـة اإلسلامية ،التـي تنشـد التعامـل معهـا ،فهـي غري
واضحـة ،متامـاً ،بخصـوص املوقف مـن تطبيق الرشيعة اإلسلامية مـ ّرة واحدة،
أو بالتـد ّرج على املـدى القريـب أو البعيـد ،ويف املوقـف من «إقامـة الحدود».
يبرز االرتبـاك ،بصـورة أكثر وضوحـاً ،يف املوقـف مـن االنتخابـات وقضايـا
الحريـات العامة وحقوق اإلنسـان والدميقراطية ،واملوقف من العمل السـيايس
واألحـزاب والتعدديـة السياسـية والدينيـة ،فهنالـك مـن يرفـض الدميقراطيـة
بصـورة مطلقـة ،ومـن يقبـل بها مـن باب «أقـل الرضريـن» ،ومن يراهـا أفضل
املوجـود ،وكذلـك الحـال مـع العمـل السـيايس ،فهنالـك مـن يؤيّـد انخـراط
240
السـلفيني يف التجربـة السياسـية املرصيـة ،لكـ ّن الحماس يبـدو أقـل للحالـة
األردنيـة ،وهكـذا سـنجد أ ّن الشـأن السـلفي يُضعـف كثيرا ً من وحدة واتسـاق
الشـخصية السـلفية العامـة.
الشـخصية السـلفية العامـة مرتبكـة ،أيضـاً ،يف ترسـيم أولوياتهـا األساسـية،
فبينما نجـد أ ّن التقليديين مينحـون «العلم الرشعـي» أهمية كبرى ،ويراهنون
على دوره يف عملية التغيري ،ويشـكّل السـلّم الرئيـس يف تحديد املواقع واألدوار
يف بنيـة هـذه االتجـاه ،نجد أ ّن الحريك يضيـف إليه العمل الدعـوي والتنظيمي
واملؤسسي ،أ ّمـا الجهـادي فيعطـي قضيتـي الحاكميـة والجهـاد أهميـة كبيرة،
السـلّ َم الرئيس يف
ومتثّـل تجربتـا السـجن والنفير (القتال يف السـاحات املتاحة) ُ
تحديـد املواقـع واألدوار يف هـذا التيـار أو املجتمـع املصغّر.
***
مـاذا لـو انتقلنـا إىل املسـتوى الجـزيئ أو الهويـات السـلفية الفرعيـة ،هـل
سـنجد أنفسـنا مـع هويّـات أكثر اتسـاقاً وانسـجاماً؟ ّ
أي لـو صغنـا السـؤال
بعبـارات أخـرى :هـل الهويـات التقليديـة ،والجهاديـة والحركيـة أكثر وضوحـاً
ومتاسـكاً مـن الهويـة السـلفية العامـة؟
لـو بدأنـا بالشـخصية السـلفية التقليديـة ،على صعيـد األفـراد واملجمـوع؛
سـنجد باإلضافـة إىل مـا ذكرنـاه مـن السمات العامـة ،أنّهـا تأخـذ موقفاً سـلبياً
مـن العمـل السـيايس ،إذ يحظـى الشـيوخ بسـلطة علميـة ومعنويـة ،يليهـم يف
الدرجـة التاليـة طلاب العلـم الرشعـي ،ثـم املبتدئين ،وأخيرا ً املريدين.
تتسـم الشـخصية السـلفية التقليديـة ،نسـبياً ،بالبسـاطة والحسـم ،فهـي،ّ
أوالً ،تعطـي النصـوص الرشعيـة مرتبـة عليـا وكذلـك الفتـاوى التـي تصـدر عن
املشـيخة السـلفية .وموقف هذه الشـخصية محسـوم من الدميقراطية والعمل
الحـزيب والسـيايس ،وتضـع العقل يف مرتبة ثانوية يف األمور الشـائكة ،فاالختالف
حتـى حـول النصـوص النبويـة ليـس يف مطابقتهـا للعقـل والزمـن ،بـل يف علـم
«الجـرح والتعديـل» ،أي األسـانيد والـرواة ،وهـو علـم يقـوم على الحفـظ ،ال
241
التحليـل والتفكير واإلبداع.
الشـخصية السـلفية التقليديـة قـد تكـون مبدعـة يف مجـاالت مختلفـة مـن
الحيـاة ،لك ّنهـا على الصعيـد الدينـي واملجتمعـي هـي شـخصية «محافظـة
تنفيذيـة» ،أي أنّهـا ليسـت مسـكونة باألسـئلة الفلسـفية يف العالقـة بين الدين
واملجتمـع والحداثـة والعوملـة والعقـل والنقـل ،ويف ّ
فـك االشـتباك فيما يتعلّق
بالعالقـة بين الديـن والدولـة والعلامنيـة واإلسلام ،فمثـل هـذه األسـئلة تـكاد
تكـون شـبه مغيّبـة لـدى املجتمـع السـلفي التقليـدي ،الـذي يقـع جوهـر
اهتاممـه وأولوياتـه يف العلـم الرشعـي ،ونشر العقائـد السـلفية ،مـن دون
الدخـول يف رصاع سـيايس مـع السـلطات ،وال يف نقـاش فكـري مع ّمـق حـول
األسـئلة الفلسـفية السـابقة يف املنتديـات الثقافيـة والفكريـة!
أ ّمـا عـن الشـخصية السـلفية الجهاديـة ،فهـي شـخصية ح ّديـة يف خطابهـا
ومواقفهـا السياسـية وسـلوكها االجتامعـي ،تنظـر إىل الديـن مـن منظـور شـبه
مطلـق ،تجمـع مـا بني االهتمام بااللتـزام الديني الـذايت الصارم وبين املواجهة
مـع مـا تعتبره انحرافـات يف املجتمـع من جهـة ،ومع النظـام والدوائـر األمنية
مـن جهـ ٍة أخـرى ،وتجد نفسـها دومـاً يف حالة صدام مـع البيئـة املحيطة ،فهي
يف صـدام مـع املحيـط االجتامعـي ،غير امللتـزم بالرؤيـة الجهادية ،وصـدام مع
األنظمـة العربيـة ،وصدام مـع الواليات املتحـدة األمريكية والغـرب ،وصدام مع
إيـران والشـيعة واملشروع الصفوي!
إذا عدنـا إىل شـخصية مؤيـد؛ فهـو يقـ ّدم لنا بوضوح األزمة النفسـية التي م ّر
بها قبل أن يق ّرر االنسـحاب تدريجياً من األوسـاط السـلفية الجهادية ،ويتحلّل
مما تلبّـس بـه من سمات هذه الشـخصيات والتزاماتهـا ،إذ بدأ يقـارن طريقة
تديّـن الجهاديين مـع التيـارات اإلسلامية األخرى ،التـي اسـتطاعت الجمع بني
الديـن والدنيـا ،والنجـاح يف االثنين معـاً ،والقـدرة على بنـاء مؤسسـات مدنية
مختلفـة ،ومتنـح قـدرا ً أكبر مـن املرونـة ألفرادهـا ،بينما السـلفي الجهـادي
محـارص متامـاً (أو يحـارص نفسـه) من البيئـة املحيطة.
نظـرا ً لهـذا التبايـن بين التيـار الجهـادي واملجتمـع املحيـط ،فـإ ّن املجتمـع
242
املصغـر (الجهـادي) حريـص دومـاً على التظافـر الداخلي ،وإقامـة عالقـات
وطيـدة بين أفـراده وأتباعـه ،وعلى التعـاون واملشـاركة الداخليـة الكبيرة ،فال
تجـد مناسـبة اجتامعيـة ألحـد أفـراد التيـار إالّ وهنالـك حضـور واسـع ألبنـاء
التيـار وأفـراده ،كام هي الحـال يف األفراح واألتراح ،أو حتى ما يسـمى بـ«عرس
الشـهيد» ،ملـن يقتلـون يف الخـارج ،مثـل العـراق وسـورية سـابقاً.
وطاملـا أ ّن القيمـة الكبرى واألوليـة لـدى أفراد هذا التيار هـي الجهاد ،نجد
أ ّن عيـون كثيرٍ مـن أبنائـه تتجـه صـوب السـاحات املفتوحـة يف تلـك املناطق،
فهـي التـي تسـتجيب لتشـكّلهم األيديولوجـي والنفسي ،ومتثّل البيئة املناسـبة
التـي يبحـث عنها أبنـاء التيار ،وهـذا البُعد النفسي واأليديولوجي هو السـبب
الـذي يقـف وراء سـفر املئـات مـن أبنائـه يف األردن إىل السـاحات املختلفـة،
وتحديـدا ً السـورية اليوم.
يف املقابـل ،نجـد أ ّن الشـخصية الحركيـة هـي األقـل وضوحاً ،واألكثر ارتباكاً
وقلقـاً بين النامذج السـلفية املختلفـة ،فهي مرتبكة أكرث تجاه التنظري السـيايس
واملوقـف مـن الدميقراطيـة والعمـل السـيايس والحـزيب ،وتجـاه مفهـوم الدولة
اإلسلامية ،وتجـاه املوقـف مـن الحكومـات العربيـة الراهنـة ،ومـن تحديـد
وسـائل التغيير والعمـل ومنهـج اإلصلاح ،ويف املوقـف مـن التيارات اإلسلامية
األخـرى ،مثـل التقليديين والجهاديين ،ويف مـدى االنفتـاح على الفكـر الغـريب
والحداثـة والعـامل والعوملـة والثقافـات األخرى.
الحظنـا كيـف أ ّن هـذا االرتبـاك والتوتـر يف الشـخصية الحركية ظهر بوضوح
لتعبر عن
على هويـة جمعيـة الكتـاب والسـنة ،التـي ّأسسـت يف العـام ّ 1993
هـذا التيـار وأفـكاره ،والحظنـا كيـف أ ّن التحول من أوسـاط هذا التيـار باتجاه
الجهاديين والتقليديين ،وحتـى إىل الخـارج متامـاً هـو ظاهـرة كبيرة ،تبدو أكرث
بـروزا ً من التيـارات األخرى.
243
-2-
السلفيون واألزمة أو «أزمة الهوية
السلفية»
244
والرأسمالية وغريهـا ،ثانيـاً اجتامعيـة عبر العـادات والقيـم الغربيـة واألفـكار
والتقنيـات واألمنـاط السـلوكية الجديـدة املرتبطـة بهـا ،والتـي تتعـارض مـع
الرشيعـة اإلسلامية أو مـا تعتبره التيـارات الدينيـة مبثابـة هجـوم على الهوية
االجتامعيـة الدينيـة ،وثالثـا اقتصادية ،مثل البنـوك واالسـتثامرات التي تتناقض
مـع الرشيعـة اإلسلامية ،ورابعـاً تعليميـة ،وخامسـاً إعالميـة ..وهكـذا دواليك!
ينجـرف املوقـف السـلفي نحـو ترسـيم العالقـة بين األنـا واآلخـر ،يف حـدود
الشـعور بتهديـد كبير لـ«هويـة الـذات» ،أو بعبـار ٍة أخـرى التصـدي ملهمـة
«الدفـاع عـن الـذات» يف مواجهـة تلـك األخطـار املنتشرة ،التـي أصابـت
املجتمعـات العربيـة واملسـلمة يف ثقافتها وقيمها ،وكأ ّن السـلفية تعيش معاناة
«جـرح الهويـة الرنجسي»!
تتبايـن درجـة االسـتجابات السـلفية السـلبية أو املتخ ّوفـة مـن تحـ ّدي
الحداثـة والتغريـب والعوملـة ،بين مـن يعتربها تحديـاً ومن يراهـا تهديدا ً ،من
يحـاول التك ّيـف الرسيـع بأقـل قـدر مـن الخسـائر ،ومـن يتصلّـب يف االنطـواء
على الـذات يف مواجهـة العواصـف املعارصة ،لكـ ّن ما يجمع هذه االسـتجابات
جميعـاً هـو النظـر إىل «اآلخـر» (ثقافيـاً ،سياسـياً ،فكريـاً )..،بوصفـه عـدوا أو
خصما أو تهديـدا ،ال بوصفـه مثيلاً أو تنوعـاً جديـدا ً ميكـن أن يثري الـذات
ويضيـف إليهـا قيماً وأبعـادا ً أخـرى ،أي أ ّن السـلفية – بالرغـم مـن تبايـن تلك
االسـتجابات -مبثابـة «آليـة دفاعيـة» ،تتجه نحـو الداخل ال إىل الخـارج عموماً.
يـزداد نفـوذ تلك التحديات والتهديدات يف الضغط عىل االسـتجابة السـلفية
يتحل به اآلخـر ،فيأخذ طابع الهيمنة والسـطوة والقوة
عبر عامـل القـوة الذي ّ
الصلبـة والناعمـة يف كثير مـن األحيـان يف مواجهـة حالـة مـن الضعـف الـذي
تعـاين منـه املجتمعـات العربية واملسـلمة ،وهو ما يحيلنـا إىل تعريف داريوش
شـايغان ،الـذي تح ّدثنـا عنـه يف مقدمـة الدراسـة (يف املنظور املنهجـي) ،عندما
وصـف الهويـة بأنّهـا مبثابـة «غطـاء أيديولوجـي ارتـكايس تعتمـده املجتمعات
الضعيفـة يف ظـل التحـوالت الدولية» ،فالسـلفية هي البديل للحداثـة الكونية،
لك ّنهـا ،كما يـرى شـايغان نفسـه ،هـي «صـورة مغلوطـة للـذات»؛ ملـاذا؟ أل ّن
245
رفـض قـراءة التحـوالت االجتامعيـة والتغيرات الكبيرة التـي تحـدث وعـدم
تقديـر عامـل الزمـن ومـا يحدثـه مـن تغييرات هائلـة يف مسـار املجتمعـات
وثقافاتهـا وقيمهـا يعكـس حالـة ضعـف وعجز وهـروب إىل األمام عبر محاولة
اسـتعادة «العصر الذهبـي» للحضـارات اإلسلامية يف القـرون الوسـطى ،إىل
البدايـات ،واالكتفـاء بهـا باالتـكاء على «أوهـام» املثاليـة واألفضليـة ،والحنين
بـدالً مـن مواجهـة التحديـات بـأدوات فاعلـة تـدرك عنـارص التحـول والتغيري،
وذلـك رمبـا مـا يسـم ّيه شـايغان بـ«عبـادة البدايـات» ،التـي تؤسـس النظـر إىل
الحداثـة بوصفهـا مؤامرة.102
يتعـ ّزز ذلـك الشـعور بتهديـد الهوية مـع حالة «األزمة» ،أيّـاً كانت تعبرياتها،
على صعيـد املجتمعـات واألفراد ،سـواء يف مواجهة حالة الهزمية العسـكرية أو
ظـروف اقتصاديـة وسياسـية ونفسـية صعبة؛ وقـد نجد مثل هذا التفسير عىل
الصعيـد التاريخـي يف مرحلـة مـا بعـد حرب الــ ،67وصعـود االتجاه اإلسلامي
اإلحيـايئ ،ملـلء الفـراغ ،الـذي أحدثتـه هزميـة األيديولوجيـا القوميـة يف تحقيق
أهدافهـا ووعودها للجامهير العربية.
صحيـح أ ّن الصعـود السـلفي مل يكـن متحـ ّررا ً مـن عامـل املـال والدعـم
الكبير ،الـذي قدمتـه السـعودية ،تحديـدا ً ،لنرش الدعوة السـلفية ومؤسسـاتها
ونشـاطاتها يف مختلـف أرجـاء املعمـورة ،ويف العـامل العـريب ،بصـور ٍة خاصة ،إالّ
أ ّن هـذا الدعـم جـاء كعامـل مسـاند وداعـم ،ومل يكـن ل ُيحـدث ذلـك التأثير
واملفعـول الكبير لـو أ ّن الرتبـة مل تكـن مناسـبة واألجـواء مهيـأة لنمـو هـذه
الحالـة بهـذه الصـورة امللحوظـة!
خلال العقـود املاضيـة ،نشـأت وصعـدت األجيـال العربيـة على وقـع
سلسـلة مـن الهزائـم العسـكرية واالنتكاسـات النفسـية الجامعية ،منـذ النكبة
الفلسـطينية عـام ،1948ونكسـة العـام ،1967فاجتيـاح بيروت عـام ،1982
والشـتات الفلسـطيني ،ثم حروب الخليـج املتتالية ،الحرب العراقيـة -اإليرانية،
اجتيـاح الكويـت ،1991ثم احتلال العراق عام ،2003وانعكسـت هذه األزمة
246
يف قلـب املعـادالت الداخليـة العربيـة وسـؤال الرشعيـة مـع إخفـاق األنظمـة
القامئـة يف إقنـاع الشـعوب بقدرتهـا على توفير مناخـات الحريـة والكرامـة
والعدالـة ،بـل قامـت بإغلاق الطريـق أمـام محـاوالت التغيير السـلمية ،مـع
تجريـم عملي لالنشـغال يف العمـل السـيايس والحـزيب.
بالتـزاوج مـع أسـئلة الكرامـة والرشعيـة واالنغلاق السـيايس التـي رضبـت
العديـد مـن املجتمعـات العربية مع بداية عقـد التسـعينيات ،ومرحلة التحول
نحـو الخصخصـة والقطـاع الخاص وبـروز األزمـات االقتصادية ومتـدد معضلتي
البطالـة والفقـر ،مـع انتشـار ظاهـرة األحيـاء العشـوائية ،مـا جعـل األزمـة
االقتصاديـة رافـدا ً بنيويـاً لتعزيز األزمة السياسـية ،يف جوار ذلـك كانت مفاعيل
األزمـة املقيمـة املرتبطـة بإشـكالية الهويـة الثقافيـة تفـرض أسـئلة صعبـة عىل
املجتمعـات وخصوصـا فئـة الشـباب بين ضغـوط الديـن والتراث مـن جهـة
واجتيـاح الثقافـة الغربيـة املعـارصة مـن جهـة أخرى.
تعـد ّدت ردود النخبـة الفكريـة والسياسـية العربيـة وتباينـت وتضاربـت
يف اإلجابـة على أسـئلة «األزمـة» -املحنـة العربيـة املعـارصة ،ومـا تفرضـه
مـن تحديـات؟ هـل املشـكلة يف املجتمعـات أم الحكومـات والسـلطات؟ هـل
البلاء يف العامـل الداخلي أم الخارجـي؟ وهـل أولوياتنـا هي يف العمـل الثقايف
واملجتمعـي أم السـيايس والحـزيب؟ أم العمـل املسـلح؟
أل ّن الجـواب العلماين ارتبـط بسـمعة سـيئة مـع نتائـج الفشـل التـي منيت
بهـا األنظمـة السياسـية الثوريـة واملحافظـة القامئـة والهزائـم املتتاليـة ،تلـك
التـي حاولـت إمـا اسـتبعاد الديـن من املجـال العـام أو تأطريه يف نطـاق خارج
السـلطة ،أو حتـى توظيفـه ضمـن أجنداتهـا السياسـية؛ مثـل هـذا الربط جعل
مـن الديـن والجـواب اإلسلامي مخرجـاً آخر لألجيـال الجديـدة املتتاليـة ،التي
ُولـد وعيهـا ونضـج على آتـون هـذه «املحنة»!
التفسير اإلسلامي للمحنـة املعارصة خاطب الوجـدان الديني للمجتمعات؛
السـبب هـو «البعـد عـن اللـه» ،وكانـت السـلفية هـي أحـد الروافـد الرئيسـة
للجـواب الدينـي ،وأل ّن السـلفية ليسـت لونـاً واحـدا ً ،فاقتسـمت التيـارات
247
السـلفية «الكعكـة املجتمعيـة»؛ فأخـذت السـلفية التقليديـة الرشيحـة
االجتامعيـة املسـاملة ،أو تلـك التـي تهـرب مـن إكراهـات الواقـع السـيايس
واالجتامعـي ،وأخـذت السـلفية الجهاديـة الشـباب الثـوري الراديـكايل األكثر
تأث ّـرا ً بهـذه الضغـوط ،فيما حاولـت السـلفية الحركيـة البحـث عـن الطريـق
الثالـث بين هذيـن الخياريـن!
لكـ ّن السـؤال املطـروح على صعيد الجواب السـلفي نفسـه؛ ملـاذا تراجعت
وتالشـت الرؤيـة السـلفية اإلصالحيـة املنفتحـة ،التي بـرزت مع بدايـات القرن
العرشيـن ،وهـي األكثر تفاعلاً وانفتاحـاً مـع أسـئلة الحداثـة واملشـكالت
االجتامعيـة والسياسـية والثقافيـة املعـارصة ،كما تبـ ّدى مـع رشـيد رضـا،
والسـلفية املغاربيـة الوطنيـة والسـلفية الشـامية يف مقابـل الصيغـة الراهنـة
مـن السـلفية املعـارصة ،التـي تقـ ّدم رؤية أقـل انفتاحـاً وتفاعالً مع املشـكالت
الواقعيـة الحاليـة؟
مث ّـة تفسيرات عـ ّدة لهـذا السـؤال ،تتضافـر معـاً ملحاولـة تقريـب اإلجابـة؛
يقـع يف مقدمـة هـذه التفسيرات «العامل السـعودي» ،إذ حرصـت الحكومات
السـعودية خلال العقـود املاضيـة على نشر السـلفية ،التـي تزاوجـت مـع
نظـام الحكـم هنـاك ،يف مواجهـة األفـكار القوميـة واليسـارية ،التـي سـادت
خلال عقـدي الخمسـينات والسـتينات ،ودفعـت هـذه الدولـة مـن أجـل ذلك
أمـوالً وبذلـت جهـودا ً كبيرة ،سـواء عبر الدعـم املـايل أو من خالل املؤسسـات
الدعويـة والتعليميـة (يف السـعودية والخـارج) التي اسـتقطبت عرشات اآلالف
مـن العاملين والدارسين ،أو يف نشر الكتـب واألدبيـات السـلفية.
«السـلفية السـعودية» تلبّسـت بالظـروف املحليـة السـعودية ،وبطبيعـة
الدولـة واملجتمـع هنـاك ،وتغلّـب عليهـا البعـد اإلحيـايئ ،بـدالً مـن اإلصالحي،
وأخـذت الطابـع التقليـدي ،قبـل أن تتحـ ّول مجموعـات سـلفية نحـو املنحـى
الجهـادي (مـع التـزاوج مـع التيـار الجهـادي) ،وأخـرى نحـو املنحـى الحـريك
(بتأثير الفكـر اإلخـواين).
248
نظـرا ً للقـرب الجغـرايف؛ فـإ ّن األردن تأث ّـر بالعامـل السـعودي ،والخليجـي
بصـورة عامـة ،مـع حركة العمـل والتعليم والدراسـة باتجـاه الخليـج ،وانخراط
مئـات اآلالف بهـذه الحركـة ،وحركة النشـاط السـلفي اإلقليمية ،واتسـاع مدى
الحـج والعمـرة ،ثم عـودة العاملني يف الخليـج ،مع بداية التسـعينيات،
ّ رحلات
مـا سـاعد على انبثاق وصعـود االتجاهـات السـلفية يف األردن خلال العقدين
األخرييـن بصـورة ملحوظـة وواضحة.
العامـل الثـاين الـذي سـاهم يف التحـول نحـو االنتقـال إىل الصيغة السـلفية
الراهنـة ،هـي اللحظـة التاريخيـة؛ إذ واجهت السـلفية اإلصالحية األوىل أسـئلة
مختلفـة وظروفـاً سياسـية مغايرة ،فـكان سـؤال النهضة واإلصلاح والتقدم هو
الطاغـي على النقاشـات والسـجاالت املجتمعـات والنخـب العربيـة؛ لكـن مـع
بـروز الدولـة اإلقليميـة وتشـكّل األنظمـة السياسـية الجديـدة ،بعـد الحـرب
العامليـة الثانيـة ،والصراع الـدويل والحـرب البـاردة ،واملعضلات الداخليـة،
كل ذلـك أعـاد صـوغ األسـئلة لتذهـب نحـو منحـى الهوية والهزائـم املتكـررة؛ ّ
والصراع السـيايس بني التيـارات األيديولوجية ليتـوارى سـؤال النهضة واإلصالح
وراء السـؤال اإلحيـايئ -الهويّـايت يف أغلـب املجتمعـات العربيـة.
العامـل الثالـث؛ الـذي يرتبـط بالعامـل الثـاين ،يتمثّـل بالظـروف العامـة،
املبسـط علىالتـي تدفـع إىل منـط مـن الجـواب االحتجاجـي والـر ّد الثقـايف ّ
التحديـات والتهديـدات واملشـكالت واملعضلات التـي تواجـه املجتمعـات
العربيـة؛ فاملدرسـة اإلصالحيـة ال تحمـل إجابات بسـيطة فورية حاسـمة ،بقدر
مـا تقـوم بعملية نقديـة للذات ،بينام املدرسـة اإلحيائية -السـلفية تقدم جواباً
محسـوماً ،بسـيطاً للشـارع ،فث ّمـة فرق بني أن تقول بأ ّن السـبب هـو البعد عن
اللـه وعـن اإلسلام الصحيـح ،والحل بالعودة إليه ،سـواء كان عبر تعظيم مهمة
العلـم الرشعـي النقلي أو الجهـاد يف مواجهة الهزمية العسـكرية ،وبني أن تقول
بـأ ّن لدينـا مشـكالت ثقافيـة ومجتمعيـة ،حتـى يف املـوروث الفقهـي والديني،
وعلينـا القيـام بعمليـة تنويـر وإصلاح دينـي داخليـة مسـتمرة لنط ّور أنفسـنا
لنتمكّـن مـن الوقـوف على أقدامنا وننافـس العـامل باملعرفـة والتقنية!
249
***
هـذه الخلفيـة التاريخيـة مبثابـة رشط رضوري لفهـم الحالـة السـلفية،
بصـورة عامـة ،والحالـة األردنيـة منهـا بصـورة خاصـة ،ففـي نهايـة اليـوم متثّل
السـلفية جوابـاً لسـؤال البحـث عـن الهويـة والـذات لألجيـال العربيـة يف ظـل
ظـروف طارئـة ،لكـن هـذه الحالة ليسـت آنيـة أو مؤقتـة ،فهي ما تـزال فاعلة
ومؤث ّـرة ،بـل رمبـا متتـد ظاللها عرب عقـود من الزمـن ،وتأخذ مدى واسـعاً ،وهو
مـا الحظنـاه بوضـوح يف حالـة حسـن أبـو هنية ،الـذي ُولد وعيه السـيايس عىل
النكسـة واللجـوء والهزميـة ،أو نـارت خري ،الـذي ُولد وعيه السـيايس عىل حرب
الخليـج ،1991والشـعور بالخديعـة مـن قبل خطـاب اإلخوان املسـلمني ،الذي
أوهمـه بالنصر ،فأخـذ يبحـث يف داخـل هـذا الخطـاب نفسـه عـن الطريـق
الصحيـح ،وعـن مصـدر تلـك الخديعـة والخلـل الكامـن يف الخطاب نفسـه!
هـذه الخلفيـة تحيلنـا ،مـ ّرة أخرى ،إىل سيسـيولوجيا الهوية ،وإىل رؤية كلود
دوبـار يف قراءتـه ملاكـس فيبر ،إذ يرى بأ ّن أزمـة الهوية وما يرافقهـا من اكتئاب
وانهيـارات عصبيـة وحنين إىل املـايض ،و«انطـواء على الذات» ليسـت مرتبطة
بجـذور نفسـية محضـة تعـود للطفولة املبكّرة أو تاريخ الشـخص فحسـب ،بل
لهـا أيضـاً «إطـار اجتامعـي» وأسـباب موضوعيـة يف التاريـخ الحديـث ،متمثّلة
بخسـارات ماديـة واضطرابـات يف العالقات وبتغيير يف الذاتية.103
على هـذا األسـاس مـن التفسير؛ فإ ّن السـلفية مبثابة ر ّد فعـل عىل «مرحلة
صعبـة» متـر بهـا مجتمعـات أو أفـراد معينـون ،ومتثّـل يف املحصلـة «تص ّدعاً يف
التـوازن بين مكونـات متباينـة» ،أيّاً كانت هذه الظروف؛ سـواء كانت سياسـية
أم اقتصادية أم نفسـية أم مجتمعية أم عسـكرية..الخ.104
( )103انظر :كلود ديبارت ،أزمة الهويات :تفسري تحول ،مرجع سابق ،ص.87-67
( )104املرجع السابق ،ص.87-67
250
ال يعنـي ذلـك ،بالضرورة ،الحكـم على السـلفية – إجماالً -بأنّهـا ر ّد فعـل
سـلبي أو تفاعـل خاطـئ مـع الظـروف والتحديـات واملخاطـر التـي تواجـه
املجتمعـات واألفـراد يف العـامل العـريب؛ إذ نحـن نتحـدث عـن أجوبـة سـلفية
متعـددة ،وصيـغ مختلفـة مـن التفاعـل ،ودرجـات متفاوتـة ،وعمليـة تحول يف
صمء
داخـل التيـارات نفسـها ،فليسـت الجامعـات واملجموعـات واألفراد كتلاً ّ
جامـدة متشـابهة متامـاً يف حالتهـا وسماتها ،إنّ ـا مـا نريـد ّ
التوصـل إليـه مـن
خلال هـذا املنظـور السيسـيولوجي أال نفصل بني السـلفية والشروط الواقعية
املحيطـة بهـا ،صعـودا ً وهبوطـاً ،وال بينهـا وبين األزمـة التاريخيـة الراهنة التي
منـت بهـا ،ونكتفي بدراسـة الخطـاب األيديولوجي مج ّردا ً من هذه االلتباسـات
التـي متثّـل مفتاحـاً مهماً يف إدراك وفهـم طبيعـة الحالـة السـلفية ،بوصفهـا
طريقـاً يف البحـث عن الـذات والهوية وسـط مناخ متخم باألزمـات والتحديات
واألسـئلة التـي تواجـه األفـراد واملجتمعـات العربيـة اليوم!
251
-3-
بين الماضي والحاضر والمستقبل
الحمولـة الدالليـة لكلمـة السـلفية تـؤرش ،بحد ذاتها ،إىل املايض واسـتلهامه
وتحكيمـه يف الواقـع املعـارص ،ورمبـا يف املسـتقبل ،فالسـلف هـم الرسـول
والصحابـة والتابعـون ،والعصور اإلسلامية األوىل الذهبيـة ،والدين الصحيح هو
مـا كانـوا عليـه ،واملهمـة اإلصالحيـة تتمثّـل بدرجـة رئيسـة يف إزالـة مـا علـق
بهـذا «الفهـم» لدى املسـلمني من تصـ ّورات مغلوطة ومشـ ّوهة ،وعلوم حرفت
اإلسلام عـن غاياتـه ومقاصـده الصحيحـة ،ويجـد السـلفي امتداده ،كما ذكرنا
يف الفصـل النظـري األول ،يف أهـل الحديـث ،الذيـن قامـوا باملهمـة التاريخيـة
بحاميـة العقيـدة الصحيحـة مـن األفـكار الخاطئـة والعقائـد الوافـدة ،التـي
تأث ّـرت بالفلسـفات اإلغريقيـة الوافـدة.
اليـوم ،يسـتأنف السـلفي معركـة «الهويـة الدينيـة» الصحيحة ،عبر التأكيد
على «كمال اإلسلام» وبتصحيـح املفاهيـم املغلوطـة ومواجهـة «تيـارات
االنحـراف» سـواء مـا كان منهـا موروثـاً مـن العصـور اإلسلامية املتأخـرة ،مثـل
الفـرق اإلسلامية املوسـومة بالضالّـة ،أو حتـى األفـكار املعـارصة الوافـدة ،مثل
العلامنيـة والشـيوعية والدميقراطيـة املوسـومة بالكافـرة.
مـن أجـل ذلـك ،فـإ ّن أحد املصطلحـات الرئيسـة يف اللغة السـلفية املتداولة
هـو مصطلـح «البدعـة» ،ويشير إىل مـا تـ ّم «إحداثـه مـن الديـن ،وهـو ليـس
السـ ّني،
منـه» ،وهـو مـا جاءت به الفـرق اإلسلامية األخرى ،من خـارج املجال ُ
مثـل املعتزلـة والخـوارج والشـيعة والفالسـفة ،أو مـن داخلـه ،مثـل الصوفيـة
ولعـل أوجـز مـا يختـزل هـذا املفهـوم وعلماء الـكالم واألشـاعرة واملاتريديـةّ ،
البنيـوي يف الرؤيـة السـلفية العبـارة املعروفـة «االتبـاع ال االبتـداع».
السلاح الفتّـاك ،الـذي يسـتخدمه السـلفيون ،لتحقيـق هـذه املهمـة ،رفـض
252
البـدع واملحدثـات يف الديـن ،يتمثّـل يف االهتمام الكبير الـذي تأخـذه قضيـة
التمييـز بين الصحيـح والضعيـف واملوضوع من كتب السـنة النبويـة املعروفة،
والرتكيـز على موضوعـة الجـرح والتعديـل يف سلسـلة رواة األحاديـث ،وهو ما
حـاز على االهتمام األكبر لـدى شـيوخ السـلفية التقليدية.
تأخـذ العقيـدة ،بدورهـا ،املوقـع األسـايس والرئيس يف بناء الهوية السـلفية،
فالتمييـز ،بالدرجـة األوىل بين مـن هـو سـلفي وليـس سـلفياً ،لـدى التيـار
التقليـدي يتعلـق باإللهيـات النظرية ،ويتمثّل يف السـؤال الجوهـري :أين الله؟،
فـإذا كان الجـواب :اللـه يف السماء ،فـإ ّن املجيـب يكـون قـد نجـح يف اجتيـاز
أحـد أهـم األسـئلة يف امتحـان الهويـة األسـاس ،ثم تتـواىل األسـئلة األخرى :هل
القـرآن كالم اللـه أم مخلـوق؟ هـل تثبـت للـه يديـن وسـمعاً وبصرا ً أم تـؤول
هـذه الصفـات ،كما تفعل األشـاعرة؟
تشـكل اإلجابـات السـابقة «املنظومـة العقائديـة» الرئيسـة لـدى السـلفية
عمومـاً؛ لكـن االختلاف يقـع بين السـلفيني عندمـا يقرتبـون ،بدرجـة رئيسـة
مـن القضايـا العقائديـة ذات األبعـاد والدالالت السياسـية ،املتعلقـة بااللهيات
العملية ،فالسـلفي التقليدي يضيف إىل الجوانب العقائدية عدم جواز الخروج
على الحاكـم املسـلم ،بينما الجهاديـون يـرون أ ّن أغلـب الحـكام والحكومـات
طيف مـن الحركيني يـرى ذلك، املعـارصة تقـع يف دائـرة الكفـر والضلال ،بينما ٌ
وطيـف آخـر منهـم يـرى جـواز الخـروج على الحاكـم الظـامل الفاجـر ،أو الذيٌ
ال ميتلـك الرشعيـة السياسـية ،مـع اشتراط القـدرة واإلمكانيـة الواقعيـة ،ومـع
ترجيـح كفّـة املصالـح عىل املفاسـد ،بأالّ يـؤدي الخروج عىل الحاكـم -أو بعبارة
معـارصة :الثـورة ،إىل مفاسـد ودمـاء وفـوىض ،وهـو مـا يصطلـح السـلفيون،
تاريخيـاً ،على تسـميته بـ«الفتنـة» ،وترجمتـه العبـارة املشـهورة «حاكـ ٌم ظلوم
خي ٌر مـن فتنـ ٍة تـدوم»! ،وهذه األسـئلة هي األسـاس يف تحديد الهويـة الفرعية
التـي متيـز السـلفية التقليديـة عـن الحركيـة عـن الجهادية.105
( )105ميكـن العـودة إىل تفاصيـل هـذه الخالفـات يف الفصـل النظـري األول مـن
الدراسـة.
253
تـزداد الخالفات وتتع ّمق يف األوسـاط السـلفية عندمـا يتم تعريف املقصود
أي معارضـة ،حتـى لو مبصطلـح الخـروج على الحاكـم؛ فالتقليديـون يعتبرون ّ
كانـت سـلمية ،وأي عمليـة تنظيـم حزبيـة ،مبثابـة مقدمـات أوليـة للخـروج
املسـلّح والفتنـة ،ويصفـون مـن يدعـو إىل املعارضـة السـلمية بـ«الخـوارج
القعـدة» ،أي ال يخرجونهـم مـن دائـرة «السـلفية» ،بـل مـن املجـال السـ ّني
بـأرسه ،فهـم كالخـوارج ،يكفّرون باملعـايص ،ويخرجون عىل طاعـة «و ّيل األمر».
يف مقابـل تهمـة «الخـوارج» يلقـي الجهاديـون يف وجـه التقليديين تهمـة
«اإلرجـاء»؛ أي الفصـل بين اإلميـان والعمل ،بعدم تكفري الحاكـم الذي ال يحكّم
رشع اللـه؛ فعلى النقيـض مـن التقليديين يـرى الجهاديـون بأ ّن مسـألة الحكم
تدخـل يف صميـم العقيـدة واإلميـان ،لكـن على قاعـدة معاكسـة متامـاً ،تتمثل
بالقـول بـأ ّن الحاكـم الـذي ال يطبـق الرشيعـة هـو حاكـم كافـر ،وبـأ ّن القبـول
بالقوانين الوضعيـة الراهنـة وتطبيقهـا هـو خـروج على الديـن ،أل ّن الحـق يف
الترشيـع هـو للـه ،وهـو مـن مقتضيـات التوحيد الرئيسـة.
يف املقابـل؛ تبـدو مسـألة العقيـدة والتنظير السـيايس ،لـدى الحركيين أكثر
تعقيـدا ً ،وليسـت موضـع اتفـاق كامـل يف أوسـاطهم ،لك ّنهـم يقفـزون ،عموماً،
عـن االنشـغال يف الخلاف يف تعريـف املوقـف مـن الحكومـات العربيـة
املعـارصة ،وهـل هـي مسـلمة أم كافـرة أم ضالـة ،إىل االتفاق على عدم إهامل
أو تجاهـل العمـل العـام ،وخصوصـا العمـل السـيايس ،ويبـدون أكثر انفتاحـاً
تجـاه اإلسلاميني اآلخريـن ،ويتقبلـون الخلاف واالختلاف يف هذه املسـألة ،وال
يقفـون عنـده بصـورة حـا ّدة ،كما يفعـل أشـقاؤهم التقليديـون والجهاديـون!
يدخـل يف صميـم املنظومـة العقائديـة السـلفية ،يف أبعادهـا السياسـية
واالجتامعيـة ،مفهـوم الـوالء والبراء؛ واملقصـود الـداليل لـه هـو رضورة مـواالة
الديـن والرسـول واملؤمنين والتبرؤ مما يخالـف ذلـك ومعـاداة أعداء اإلسلام،
لكـن السـلفيني يختلفـون يف تطبيـق ودالالت هـذا املفهـوم على أرض الواقـع
اليوم!
254
التقليديـون يضيفـون إىل الـوالء والبراء الـدالالت املرتبطـة بتعريفهـم هـم
لــلمفاهيم الصحيحـة والعقائـد السـليمة؛ فالبراء يكـون ،كذلـك ،مـن العقائد
الضالـة والفـرق املنحرفـة ،ويدخـل يف هـذا التعريـف ليـس فقـط الفـرق
اإلسلامية ،بـل حتـى االتجاهـات السـلفية التـي تتبنـى مـا يعتربونـه «عقائـد
الخـوارج» ،بينما الجهاديـون يدخلـون يف دائـرة البراء األنظمـة العربيـة
املعـارصة والدسـاتري والقوانين وعلماء السـوء والفـرق املنحرفـة عـن طريقهم
املتمثّـل بالحاكميـة واعتماد الجهـاد بوصفـه املسـار الوحيـد السـتعادة الحكم
اإلسلامي واعتبارهـم مـن «فـرق املرجئة» ،أ ّمـا الحركيـون فيمنحون قـدرا ً أكرب
مـن املرونـة يف التعامـل مـع مفهـوم الـوالء والبراء.
تكمـن أهميـة اسـتدعاء تلـك الخالفـات السـلفية -السـلفية يف عمليـة
ترسـيم حـدود «أنـا السـلفية» و«اآلخـر» ويف توضيـح طبيعـة العالقـة معـه؛
ومـن الضروري أن نتذكّـر ،هنـا ،مـا تحدثنـا بـه يف الفصـل النظري عـن مفهوم
«الفرقـة الناجيـة» ،فهـو مفهـوم محـوري ومفتاحـي يف بحثنـا هـذا عـن الهوية
السـلفية؛ إذ أنّـه أحـد املك ّونـات الرئيسـة للهويـة السـلفية ،عمومـاً ،وموضـع
اختلاف يف األوسـاط السـلفية ،يف تحديـد مـن هـي الفرقـة الناجيـة التـي تقع
تعب عـن جوهر وسـط مـا يزيـد عىل سـبعني فرقـة إسلامية أخرى ضالـة ،فهي ّ
«األنـا» السـلفية ،التـي تتمثـل يف حاميـة الدين ومتثّلـه يف مواجهـة االنحرافات
والضلاالت والتهديـد والتحـ ّدي ،سـواء كان مصـدر هـذه «الشرور» خارجياً ام
داخليّاً!
لكـن كيـف ن َُتجِـم ذلـك يف املشـهد السـلفي األردين؟ ..دعونـا نبـدأ برتسـيم
األنـا السـلفية التقليديـة وتعريفهـا لآلخـر الداخلي والعالقـة معـه؛ فالسـلفي
التقليـدي يـرى بأنّـه الوريـث الرشعـي ألهـل السـنة والجامعـة ،الـذي يحمـل
الفهـم الصحيـح لإلسلام ،ومـا عدا ذلـك فهي انحرافـات وضلاالت ،أو بتعريف
أبنـاء مقاربـة سيسـيولوجيا الهويـة :مـا عـدا ذلـك فهـو اآلخر.
مـن هـو «اآلخـر» لـدى السـلفي التقليـدي؟ هـو تاريخيـاً الفـرق اإلسلامية
الضالـة؛ ويدخـل يف هـذا التعريـف :الخـوارج والشـيعة واملعتزلـة ،ويف داخـل
255
وكل مـن قـال قـوالً يف
السـنة يدخـل األشـاعرة واملاتريديـة وعلماء الـكالمّ ،
العقائـد والشـعائر والرشائـع مبـا يخالـف الرؤيـة السـلفية.
وتتوسـع لـكل مـن هو ليسّ أ ّمـا يف الواقـع املعـارص؛ فمسـاحة اآلخـر تتمـ ّدد
سـلفياً تقليديـاً ،حتـى لـو كان ي ّدعـي االنتسـاب إىل السـلفية ،ويتسـ ّمى بهـا،
فاآلخـر ،باإلضافـة إىل تلـك الفـرق التاريخيـة ،هـو الفـرق واملذاهـب املعارصة،
سـواء كانـت داخليـة أم خارجيـة ،اإلخـوان املسـلمني والتحريـر والجهاديين
والحركيين والدميقراطيـة والعلامنيـة والشـيوعية والقوميـة واليسـارية ..الـخ.
ال يختلـف األمـر ،يف ترسـيم األنا واآلخر ،لدى الجهاديين ،فهم الفرقة الناجية،
التـي تحافـظ على الديـن ،لكـن يدخـل يف صميم هـذه الهوية مفهـوم الجهاد،
بوصفـه «ذروة سـنام اإلسلام» أو الفريضـة الغائبـة ،عىل حد تعريـف القيادي
الجهـادي املصري السـابق ،محمد عبد السلام فرج.
الفـرق جوهـري بني التقليدي والجهادي يف ترسـيم «األنـا» ،أل ّن ما عداها هو
«اآلخـر» ،فالجهاديـون يـرون األنـا يف أبنـاء التيار الجهـادي ،ويصوغـون ترتيب
الهويـة الجهاديـة على قاعـدة أولويـات مختلفـة ،ذات طابـع سـيايس؛ فالعدو
املرتبـص هـو «العـدو القريـب» (الحكومـات العربيـة) ،و«العـدو البعيـد»
(الواليـات املتحـدة األمريكيـة) ،ويضعـون أ ّوليـات الصراع واملعركـة واملواجهـة
معـه ،بينما يكتفـي التقليديون باملعركـة الفكريـة واملهمة العلميـة والدعوية.
أ ّمـا الحركيـون فهم مختلفون ،فيام بينهم ،يف ترسـيم حدود «األنا» و«اآلخر»؛
لكـن االتجـاه العـام يبـدو أكثر انفتاحـاً وأقـل تشـ ّددا ً يف مفهـوم «الفرقـة
الناجيـة» ،سـواء يف الوسـط السـلفي العـام ،أو حتـى يف التعامـل مـع «املجـال
السـ ّني» ،وإن كانـوا أقـل تسـامحاً مـع الفـرق اإلسلامية األخـرى ،ويقعـون
يف دائـرة االرتبـاك والتحفّـظ ،عمومـاً ،تجـاه املذاهـب املعـارصة ،وتحديـدا ً يف
املوقـف مـن الدميقراطيـة.
***
256
األفـكار والقناعـات السـابقة مبثابـة «عقائـد» وتصورات ميتلكها السـلفيون،
وتحديدهـم لهويّتهـم هـي مسـألة خاصـة بهـم ،كما هـي خاصة بـكل جامعة
ومجتمـع يبحـث عـن هويّتـه ،لكـ ّن اإلطاللة عليهـا واسـتحضارها يعنينـا ،هنا،
يف نطـاق البحـث يف الهوية السـلفية ،السـتنطاق نتائجها وداللتهـا وتأثريها عىل
عالقـة الهويـة السـلفية باملجتمـع والسياسـة؛ كيـف تو ّجـه السـلفي ملواجهـة
التحديـات واملشـكالت والتحديـات واألفـكار والتوجهـات األخرى؟..
تأسيسـاً على مـا سـبق؛ ميكـن صـوغ األسـئلة األخيرة يف هـذا البحـث؛ فيام
إذا كانـت الهويـة السـلفية مدعـاة لالنغلاق والتعصـب والتقوقـع على الذات
وإقصـاء اآلخـر أم على النقيـض مـن ذلـك لالنفتـاح والتسـامح والتفاعـل مـع
اآلخريـن على قاعـدة املصالـح املشتركة والعامة؟
ات أخـرى؛ هـل يبحث السـلفي يف ترسـيمه لهويّته عن «املشتركات» بعبـار ٍ
واملسـاحات الواسـعة مـن العالقـة بالعـامل املحيـط بـه أم العكـس يبحـث عـن
نقـاط االختلاف والتقاطـع والرصاع؟
إذا اعتمدنـا على مـا ق ّدمنـاه سـابقاً ،وتج ّنبنـا التكرار وتعريف املعـ ّرف ،فإ ّن
النتيجـة التـي ميكـن أن نخلص إليهـا باطمئنان هي:
أ ّن الهويـة السـلفية ،عمومـاً ،هـي «هويـة دفاعيـة» تتأسـس على منطق أو
آليـات «الدفـاع عـن الذات» ،وهـي هوية متّجهة إىل الداخـل تبحث عن النقاء
والطهوريـة ،مبعنـى أنّهـا هويـة «منقبضـة»« ،متقوقعـة» ،وإن اختلفـت درجة
التقوقـع واالنقبـاض بين االتجاهـات السـلفية املختلفـة ،فالحركيـون أقل شـأناً
يف ذلـك مـن غريهـم ،ورمبا ينطبـق عليهم ،أكرث ،مصطلـح «الهويـة املتحفّظة».
أ ّن الهويـة السـلفية هـي هويـة غير متسـامحة ،عمومـاً ،تجـاه اآلخـر؛ فهـي
ر ،الصـح والخطـأ ،على مفهوم تقـوم على ثنائيـة الحـق والباطـل ،الخير والش ّ
«الفرقـة الناجيـة»؛ وتقترب مـن حكـم اإلطلاق ال املسـطرة النسـبية يف قيـاس
العالقـة مـع «اآلخـر ،وهـي وفقاً ،لتعريـف أمارتيا صـن ،ال تقوم على االعرتاف
257
العـام ،بـل على اإلقصـاء ،106وال تنظـر لآلخـر مـن بـاب التنـوع والتعدديـة ،بل
مـن منظـور االختلاف ،ليس عىل قاعـدة التعاون والتفاعل ،بـل القلق والخوف
والخصومـة ،ويف أقـل تقديـر التحفّظ.
أ ّن اتجـاه الهويـة السـلفية هـو نحـو االختـزال والتسـطيح واالنقسـام ال
يفسر «الواقع الذ ّري» يف الوسـط السـلفي
التوسـع واالجتماع ،ورمبـا ذلـك مـا ّ
ّ
ويرسـمون عليها
األردين ،فالسـلفيون يبحثـون عـن حـدود االختلاف والتبايـنِّ ،
معـامل «األنـا» و»اآلخـر».
***
ليس من الرضوري أن تنعكس السمات والطبائع السـابقة للهوية السـلفية،
بصـورة حـا ّدة وواضحـة ،يف تفاعـل األفـراد والجامعات السـلفيني مـع املجتمع،
كما أنّهـا – كما ذكرنـا -ال تأخـذ يف تداعياتهـا وتجلّياتها مقاسـاً واحـدا ً مو ّحدا ً،
إذ تتبايـن بحسـب االتجـاه واألفـراد ،فهنالـك دو ٌر فاعـل يف التأثير على هـذه
التجليـات للعوامـل املوضوعيـة االجتامعيـة والسياسـية واالقتصاديـة ،كما
سـنذكر الحقـاً ،وهنالـك اختالفـات وتباينـات بين واقـع السـلفية والسـلفيني
بين املجتمعـات املختلفـة ،وإن كانـت هنالـك مسـاحات مشتركة بين هـذه
االتجاهـات ،إالّ أنّهـا تختلـف توسـعاً وانقباضـاً بين حالـة وأخـرى.
إالّ أنّنـا إذا اقترصنـا الحديـث هنـا على املشـهد السـلفي األردين ،ويف إطـار
الحديـث عـن بحث السـلفي عن هويته ،فمن الواضح أنّها شـخصية مشـدودة
إىل املـايض ،وإىل العصـور الجميلـة ،مـن حيث املبـدأ ،وهي شـخصية متقوقعة
على صعيـد مدى قبولهـا باآلخر الفكري والثقـايف واملجتمعـي ،وتغلّب الجانب
العقائـدي يف عالقتهـا مـع املجتمـع والسياسـة ،وإن كان الحركيون ،مـ ّرة أخرى،
أكثر مرونـة مـن التقليديين والجهاديني يف هـذا املجال.
تقـع إشـكالية هوية السـلفيني مـع املجتمعات العربية اليـوم بأنّهم ينظرون
إىل املسـتقبل بعيـون املـايض ،وليـس املقصـود هنـا بحـث السـلفي عـن جذور
( )106انظر :أمارتيا صن ،الهوية والعنف :وهم املصري الحتمي ،مرجع سابق ،ص .53-17
258
هويتـه يف التراث أو يف العصـور األوىل املثاليـة ،بالنسـبة إليـه ،لكـن يف سـجن
الهويـة يف حـدود املـايض ،ويف حـدود مـا أنتجـه وق ّدمـه على الصعيـد الدينـي
ودور الديـن يف املجالين الخـاص والعـام ،وهنـا يبرز التضارب الصارخ والسـافر
بين مقتضيـات هـذه الهويـة والتحـوالت االجتامعيـة والسياسـية والثقافيـة،
أو بعبـار ٍة أخـرى الواقـع والعصر ومـا يضعـه مـن رشوط االندمـاج والتك ّيـف
والتطـ ّور حتـى على صعيـد إدراك دور الديـن ومهمتـه وقدرتـه على تقديـم
األجوبـة الواقعيـة املمكنـة يف مواجهـة هـذه التحديـات.
ر ّد فعـل السـلفي يف تعريفـه للهويـة الدينيـة ال يقـوم على محاولـة تطويـر
هـذه الهويـة لتكـون قـادرة ومؤهلـة ملواجهـة «الواقـع» ،بـل هـو يف صميمـه
«إدانـة الواقـع»؛ وهنـا تبـدو معضلـة الهويـة السـلفية ،عمومـاً ،إذ هي تفرتض
– ابتـدا ًء -الصراع والتضـارب ،مـع إدراكهـا على أ ّن تغيير الواقـع والخروج من
اسـتحقاقات العصر مبثابـة مهمـة يف غايـة الصعوبـة ،وتتطلـب أن نعيـد صوغ
وإنتـاج كل مـا حولنـا ،ال العكـس مـن ذلـك أنفسـنا ،وطاملـا أ ّن هـذه املهمـة
ليسـت يف متنـاول اليـ ّد ،وبعيـدة التحقّـق ،فـإ ّن خيـار السـلفي إ ّمـا أن يكـون
الوصـول إىل أكبر قـدر مـن التكيّف واالنفتـاح ،ضمن هـذه الحـدود الهويّاتية،
وإ ّمـا االنغلاق على الـذات والجامعـة التـي ينتمـي إليهـا ،أو القيـام مبغامـرة
جارفـة مبحاولـة تغيير هـذا الواقـع املحيـط بالقوة!
يف نهايـة اليـوم يقـع السـلفي يف حالـة مـن التشـتت واالنفصـام بين
«الهويـة املتخيلـة» ،التـي ينتمـي إليهـا فكريـاً ،ويحـاول عربهـا التحايـل على
«غربتـه االجتامعيـة» عبر العالقة مع جامعتـه أو املجموعة التـي ينتمي إليها،
نفسر ذلكويحـ ّدد سـلوكه ومواقفـه على أسـاس هـذا التصـ ّور ،كام ميكـن أن ّ
عبر املقاربـة التفاعليـة االجتامعيـة ،107وبني الهويـة الواقعية التـي تضع الرؤية
السـلفية يف مواجهـة مـع املجتمـع والواقـع واسـتحقاقات العصر!
( )107انظـر حـول مقـوالت املقاربـة التفاعليـة الرمزيـة :أيـان كريـب ،النظريـة االجتامعية
مـن بارسـونز إىل هابرمـاس ،مرجـع سـابق ،ص.147-129
259
خاتمة
( )108انظـر :محمـد أبـو رمـان ،بين حاكميـة اللـه وسـلطة األمـة :الفكـر السـيايس للشـيخ
محمـد رشـيد رضـا ،وزارة الثقافـة ،عمان ،2010 ،ص.75-70
261
سـنجد رشـيد رضـا مرنـاً يف التعامل مـع التحديات الواقعيـة ورشوط العرص،
فيتحـدث عـن تغليـب العقـل عىل النقـل يف فهم النصـوص الرشعيـة ،يف بعض
األحيـان ،ويف القبـول بالبنـوك الربوية من باب الحاجـة العرصية ،109ويف رضورة
فتـح بـاب االجتهـاد ،والنقد الـذايت ،وإلقاء اللـوم عىل الفقهـاء والعلامء يف عدم
قدرتهـم على تقديـم حلول وإجابات إسلامية عىل املشـكالت القامئـة ،ما دفع
باألنظمـة والحكومات نحو القوانين الوضعية!110
ملـاذا نذهـب بعيـدا ً؟! لـو نظرنـا إىل موقـف التيـارات السـلفية املرصيـة من
ثـورة 25ينايـر 2011يف مصر ،التـي أسـقطت حكـم الرئيس مبارك ،سـنجد أ ّن
أغلـب هـذه التيارات أعـادت تعريف مواقفهـا األيديولوجية ورؤاها السياسـية
مبـا يتناسـب مـع التحـول يف الواقـع السـيايس ،وعملـت على «التكيّـف» مـع
الواقـع الجديـد ،مبـا فرضـه من تحديـات مختلفـة عن السـابقة.111
يف الخالصـة؛ فـإ ّن الواقـع -ورشوطـه ومتغرياتـه وإكراهاتـه -يسـاهم بصورة
فاعلـة ،غير مبـارشة ،يف صناعـة الهويـة السـلفية ،وتحديـد أبعادهـا وتجلياتها،
املفسرة لهـا هـو «األزمـة» ،وتختلـف طبيعـة االسـتجابة
ّ فأحـد أهـم العوامـل
والتكيـف مـع اختلاف رشوط األزمـة وحيثياتهـا وانعكاسـاتها على املجتمعات
العربية واملسـلمة!
262
اﻟﻤﺮاﺟﻊ
-۱
.۲۰۰۸ ،۳٥۲
-۲
.۲۰۱۰
-۳
.۱۹۸۸ ، ٤ ۳
ّ -٤
،۱
.۱۹۹۷
-٥
.۲۰۱۲ ،۱
-٦
۲٤٤
.۱۹۹۹
-۷
۲۰۱۱
-۸
.۲۰۱۱
-۹
.۲۰۱۰ ،۱
-۱۰
٢٦٣
الدراسات واإلعالم (الرياض) ،ط.2004 ،1
1111داريوش شايغان ،أوهام الهوية ،ترجمة محمد علي مقلد ،دار الساقي،
بيروت ،ط.1993 ،1
1212دور ابن تيمية في تطوير المنهج السلفي في :عبد الغني عماد ،الحركات
اإلسالمية في لبنان ،إشكالية الدين والسياسة في مجتمع متنوع ،دار
الطليعة ،بيروت ،ط.2006 ،1
1818صموائيل -ب -هنتكتون ،من نحن -التحديات التي تواجه الهوية األمريكية،
ترجمة حسام الدين خضور ،دار الحصاد – دمشق ،ط.2005 ،1
1919طه عبد الرحمن ،العمل الديني وتجديد العقل ،المركز الثقافي العربي،
بيروت ،ط.1997 ،2
2020عبد الحكيم أبو اللوز ،الحركات السلفية في المغرب 1971( ،ـ ،)2004
بحث انثروبولوجي سوسيولوجي ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت،
ط.2009 ، 1
2121عبد الرحمن عبد الخالق ،السياسة الشرعية في الدعوة إلى اهلل ،شركة بيت
المقدس للنشر والتوزيع ،الكويت ،ط.2006 ،1
264
2323غني ناصر حسين القريشي ،المداخل النظرية لعلم االجتماع ،دار صفاء
للنشر والتوزيع ،عمان ،ط.2011 ،1
2525كلود دوبار ،أزمة الهويات :تفسير تحول ،ترجمة رندة بعث ،المكتبة
الشرقية ،بيروت ،ط.2008 ،1
2727محمد أبو رمان ،بين حاكمية اهلل وسلطة األمة :الفكر السياسي للشيخ محمد
رشيد رضا ،وزارة الثقافة ،عمان ،مشروع القراءة للجميع (مكتبة األسرة
األردنية).2010،
2828محمد أبو رمان ،حسن أبو هنية ،الحل اإلسالمي في األردن :اإلسالميون
والدولة ورهانات الديمقراطية واألمن ،مركز الدراسات االستراتيجية في
الجامعة األردنية ومؤسسة فريدريش أيبرت ،عمان ،ط.2013 ،1
2929محمد عمارة ،تيارات الفكر اإلسالمي ،دار الشروق ،القاهرة ،ط.1997 ،2
3131مقبل بن هادي الوادعي ،هذه دعوتنا وعقيدتنا ،دار اآلثار ،صنعاء ،ط،1
.2002
265
المقابالت:
267