Professional Documents
Culture Documents
دان براون - الجحيم PDF
دان براون - الجحيم PDF
دان براون
Dan Brown
ترجمة
زينة إدريس
مراجعة وتحرير
مركز التعريب والبرمجة
يتضمن هذا الكتاب ترجمة األصل اإلنكليزي
Inferno
ً ّ
حقوق الترجمة العربية مرخص بها قانونيا من المؤلف
بمقتضى االتفاق الخطي الموقّع بينه وبين الدار العربية للعلوم ناشرون ،ش.م.ل.
Copyright © 2013 by Dan Brown
All rights reserved
Arabic Copyright © 2013 by Arab Scientific Publishers, Inc. S.A.L
الطبعة األولى
ISBN: 978-614-02-0871-1
يمنع نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية أو الكترونية أو ميكانيكية
بما فيه التسجيل الفوتوغرافي والتسجيل على أشرطة أو أقراص مقروءة أو بأية وسيلة نشر أخرى
بما فيها حفظ المعلومات ،واسترجاعها من دون إذن خطي من الناشر.
إن اآلراء الواردة في هذا الكتاب ال تعبر بالضرورة عن رأي الدار العربية للعلوم ناشرون ش .م .ل
جميع األعمال الفنّية ،واألدبية ،والعلمية ،والمراجع التاريخية المذكورة في هذه الرواية حقيقية.
صة تملك مكاتب في سبع دول .وقد ت ّم تغيير اسمها العتبارات األمن والخصوصية. "الكونسورتيوم" من ّ
ظمة خا ّ
الحقوني لسنوات .وإصرارهم أبقاني تحت األرض ...أجبرني على العيش في المطهر ...أكدح مختبئا ً مثل وحش
قابع تحت األرض.
أنا الظلّ.
هنا فوق األرض ،أنظر إلى الشمال ،لكنّني أعجز عن إيجاد طريق مباشر إلى الخقاص ...فجبال األبينين تحجب
أولى أشعّة الفجر.
أمر خلف القصر ،ببرجه ذي الفُرجات وساعته ذات العقرب الواحد ...أسير بين الباعة في الصباح الباكر في ّ
بياتزا دي سان فيرينتسي التي تصدح بأصواتهم الخشنة وتفوح فيها رائحة القامبريدوتو والزيتون المشوي.
مررت أمام متحف بارغيلّو ،ث ّم اتّجهت غربا ً نحو برج باديا ،ألجد نفسي أمام ّ
البوابة الحديدية عند أسفل الدّرج.
أرتقي الدرجات األخيرة ،وأصل إلى األعلى وأنا أترنّح على شفير الموت في هواء الصباح الرطب .أندفع إلى
جدار بطول قامتي ،وأسترق النظر من خقال الشقوق .أرى في األسفل المدينة المباركة التي جعلتُها ملجأ ً لي م ّمن
أبعدوني.
ي الخضراوين الصافيتين ،وتتج ّهمأقف اآلن محاصراً ،وظهري مستند على الحجر البارد .يحدّقون في أعماق عين ّ
بالشر" .أنت تعرف أنّنا نملك أساليبنا الخا ّ
صة .يمكننا إجبارك على ّ تعابيرهم التي لم تعد تتملّقني ،بل تتوعّد
إخبارنا بمكانه".
تحتي ،على مسافة بعيدة جدًّا ،انتشرت أسطح القرميد األحمر مثل بحر من نار فوق الحقول ،منيرة األرض
الجميلة التي عاش عليها العمالقة في ما مضى ...جيوتو ،دوناتيلو ،برونيليسكي ،مايكل أنجلو ،بوتيتشيلّي.
ي فوق الحافّة.
دفعت أصابع قدم ّ
أيّها الجهلة العنيدون! أال ترون المستقبل؟ أال تدركون جمال ما فعلته وضرورته؟
سأقوم بك ّل سرور بهذه التضحية األخيرة ...ومعها سأقضي على آخر آمالكم بإيجاد ما تبحثون عنه.
على بعد مئات األقدام في األسفل ،أخذت الساحة المرصوفة بالحصى تتألأل مثل واحة هادئة .كم أتوق إلى مزيد
لكن الوقت هو السلعة الوحيدة التي ال يمكنني شراؤها؛ حتّى بثروتي الفاحشة.
من الوقتّ ...
في هذه الثواني األخيرة ،حدّقت إلى الساحة ،ولمحت صورة أجفلتني.
رأيت وجهك.
ي عبر الظقال ،بعينين حزينتين ،لكنني رأيت فيهما احتراما ً لما حقّقته .أنت تفهمين أ ّنه ليس لد ّ
ي كنت تحدّقين إل ّ
ي حماية تحفتي.الخيار .حبًّا بالجنس البشري ،عل ّ
أخذ وجهك يكبر اآلن ...منتظر ًا ...يلمع تحت مياه البحيرة الحمراء بلون الدم ،التي ال تعكس النجوم.
للمرة األخيرة.
تضرعت ّ
ّ هكذا ،أشحت بنظري عن عينيك وحدّقت إلى األفق .فوق هذا العالم المثقل بالهموم،
إلهي الحبيب ،أرجو أن يتذ ّكر العالم اسمي ليس كخاطئ ،بل على أ ّنني المنقذ الذي تعرف حقيقته .وأرجو أن يفهم
البشر الهدية التي تركتها لهم.
هديتي هي المستقبل.
هديتي هي الخقاص.
هديتي هي الجحيم.
سمع النغدون كلماتها وكأنّها نطقت بها داخل رأسه .ناداها" :من أنت؟" .لكن ،لم يصدر عنه أ ّ
ي صوت.
تقدّم النغدون خطوة باتّجاه النهر ،لكنّه رأى مياهه بلون الدم ،وكانت عميقة جدًّا؛ حيث إنه يتعذّر عليه اجتيازها.
عندما نظر مجدّدا ً إلى المرأة ذات الوشاح ،كانت الجثث واألجساد عند قدميها قد تضاعفت .أصبحت اآلن
تصورها ...يحترق
ّ يتلوى وهو يُحتضر ،ويموت بأشكال ال يمكن بالمئات ،ال بل باآلالف .بعضها ما زال حيًّا؛ ّ
ّ
بالنار ،أو يُدفن في البراز ،أو يلتهم بعضه بعضاً .كان بمقدوره سماع أصداء الصرخات الحزينة للبشر المعذبين
وهي تتردّد عبر المياه.
اقتربت منه المرأة ،مادّة يديها النحيلتين ،وكأ ّنها تطلب المساعدة .صرخ النغدون مجدّداً" :من أنت؟!".
لم تجبه المرأة ،بل مدّت يدها ونزعت الوشاح ببطء عن وجهها .كانت رائعة الجمال ،لكنّها أكبر سنًّا م ّما تخيّل؛
ي ،وعينان عميقتان ربّما في العقد السادس من عمرها ،جليلة وقويّة ،مثل تمثال .كان لديها فكّ صارم وقو ّ
يتموج على كتفيها .تدلّت من عنقها تميمة من القازورد على شكل وحنونان ،وشعر أجعد طويل فضّي اللون؛ ّ
ملتف حول صولجان .شعر النغدون أنّه يعرفها ...ويثق بها .لكن كيف؟ ولماذا؟
ّ ثعبان
تتلويان في الهواء .كانتا تنتميان على ما يبدو إلى روح مسكينة د ُفنت
أشارت إلى ساقين بارزتين من األرض ّ
رأسا ً على عقب حتّى وسطها .رأى على فخذ الرجل حرفا واحدا مكتوبا بالوحل.R :
ً ً ً
فجأة ،بدأ يش ّع منها ضوء أبيض ...ويزداد إشراقاً .ث ّم أخذ جسدها بأكمله ّ
يهتز بشدّة ،قبل أن يصدر صوت صاخب
متحولة إلى آالف الشظايا المنيرة.
ّ كالرعد ،وتنفجر
وجد نفسه بمفرده في غرفة مغمورة بالضوء .كان الهواء عابقا ً برائحة الكحول الطبّيّة الحادّة ،فيما تناهى إليه
لكن ألما ً حادًّا منعه من ذلك .نظر إليها ورأى إبرة صوت آلة يرافق إيقاع قلبه .حاول تحريك ذراعه اليمنىّ ،
مصل معلّقة بساعده.
ف ِّّكر.
ظقام وحسب.
اندفع رجل بمقابس طبّية إلى الغرفة ،وقد أثار قلقه على ما يبدو الصوت المتسارع الصادر عن آلة مراقبة القلب.
كث ،وعينين لطيفتين يطغى عليهما الهدوء ،تحت حاجبيه العريضين.كان يمتاز بلحية مشعّثة ،وشارب ّ
تعرضت لحادث؟".
قال النغدون" :ماذا ...جرى؟ هل ّ
وضع الرجل الملتحي إصبعه على شفتيه ،ث ّم اندفع إلى الخارج ،ونادى أحدهم.
لكن تلك الحركة سبّبت له ألما ً حادًّا في جمجمته .أخذ أنفاسا ً عميقة ،وترك األلم يمضي .بعد ذلك،
التفت النغدونّ ،
راح يعاين محيطه ٍّ
بتأن ومنهجية.
كانت غرفة المستشفى تحتوي على سرير واحد .ال أزهار ،وال بطاقات .رأى النغدون مقابسه على طاولة قريبة،
مطويّة وموضوعة داخل كيس شفّاف .وكانت مغ ّ
طاة بالدماء.
مروعاً.
يا إلهي .ال بدّ أ ّنه كان حادثاً ّ
التفت ببطء شديد إلى النافذة القريبة من سريره .كان الظقام مخيّما ً في الخارج ،ما يعني أنّه الليل .لم يستطع
النغدون أن يرى سوى انعكاس صورته على الزجاج؛ كان يبدو غريبا ً وشاحبا ً ومنهكاً ،وموصوالً باألنابيب
واألسقاك ،ومحاطا ً بالمعدّات الطبّية.
فحول نظره إلى داخل الغرفة مجدّداً .عاد الطبيب برفقة امرأة هذه ّ
المرة. الممرّ ،
ّ سمع أصواتا ً في
بدت المرأة في أوائل العقد الثالث من عمرها .كانت ترتدي مقابس طبّية زرقاء ،وقد عقدت شعرها األشقر الكثيف
على شكل ذيل حصان ،فراح يتأرجح خلفها وهي تمشي.
ابتسمت في وجه النغدون وهي تدخل ،وقالت" :أنا د .سيينّا بروكس .سأعمل مع د .ماركوني الليلة".
ّ
هز النغدون رأسه بضعف.
تنقّلت د .بروكس بقامتها الطويلة والرشيقة بمشية رياضي واثق .بدت امرأة أنيقة؛ حتّى بمقابسها الطبّية .وعلى
أن بشرتها تبدو ناعمة على نحو غير ي أثر لمساحيق التجميل عن وجهها ،الحظ النغدون ّ الرغم من غياب أ ّ
عادي ،وال تشوبها شائبة؛ سوى شامة صغيرة فوق شفتيها .نظر عينيها الب ّنيتين بدا خارقا ً على نحو غير اعتيادي،
وكأنّه ين ّم عن عمق تجربة نادرا ً ما يكتسبها شخص في مثل سنّها.
قالت وهي تجلس بجانبه" :ال يتقن د .ماركوني اإلنكليزية ،لذلك طلب منّي أن أمأل استمارة دخولك" .ابتسمت له
مجدّداً.
خفّضت د .بروكس الضوء ،وبدت عليها الدهشة ،كما فوجئ الطبيب ذو الحاجبين الكثَّين.
تردّدت ث ّم قالت" :في الواقع ...لم تكن تملك بطاقة هوية عندما وصلتَ الليلة .كنت ترتدي سترة من ماركة هاريس
تويد ،وتنتعل حذاء سوميرست ،لذلك اعتقدنا أنك بريطاني".
أ ّكد لها النغدون قائقاً" :أنا أميركي" .لكنّه كان مرهقا ً جدًّا ليشرح لها أنّه يفضّل المقابس التي تمتاز بجودة
الخياطة.
ي ألم؟".
"هل تشعر بأ ّ
أجاب النغدون" :رأسي" ،وكان ألم رأسه قد تفاقم بسبب ضوء المصباح .لحسن الح ّ
ظ ،وضعته الطبيبة في جيبها
قبل أن تمسك بيد النغدون وتتح ّقق من نبضه.
تذ ّكر النغدون مجدّدا ً الحلم الغريب وتلك المرأة المحاطة بالجثث .من يبحث يجد" .رأيت كابوساً".
"ماذا كان؟".
ي فكرة عن سبب
ي تعبير على وجه د .بروكس ،بل اكتفت بتدوين مقاحظات على ورقة" .هل لديك أ ّ
لم يظهر أ ّ
هذا الكابوس المخيف؟".
قالت وهي تكتب" :حسناً ،سيّد النغدون .أودّ أن أطرح عليك عددا ً من األسئلة الروتينية .أ ّ
ي يوم من أيّام األسبوع
هو اليوم؟".
ف ّكر النغدون للحظة ث ّم أجاب" :إ ّنه يوم السبت .أذكر أنّني كنت أسير اليوم في حرم الجامعة ...متو ّجها ً إللقاء
سلسلة من المحاضرات بعض الظهيرة ث ّم ...هذا آخر ما أذكره .هل سقطت؟".
دونت د .بروكس مقاحظة أخرى" .هل ث ّمة من علينا االتّصال به؟ زوجة؟ أوالد؟".
ّ
أجاب النغدون تلقائياً" :ال أحد" .لطالما استمتع بالوحدة واالستققالية اللتين توفّرهما له حياة العزوبية التي
ي بعض الزمقاء الذين يقر اآلن أنّه يفضّل وجود وجه مألوف إلى جانبه في هذا الظرف" .لد ّ اختارها ،مع أنّه ّ
يمكنني االتّصال بهم ،لكنّني بخير".
"س ّيد النغدون ،عندما وصلت الليلة ،كنت تتمتم بكقام ما مرارا ً وتكراراً" .ث ّم التفتت إلى د .مالكوني ،الذي حمل
آلة التسجيل وضغط على أحد األزرار.
يتحرك ،وسمع النغدون صوته المرتجف ،وهو يتمتم تكرارا ً بالجملة نفسهاVe… sorry. Ve… " :
ّ بدأ الشريط
."sorry
ير سوى المرأة ذات الوشاح .كانت تقف على ضفّة نهر أحمر بلون الدم
بحث النغدون في ظقام ذاكرته ،ولم َ
محاطة بالجثث واألجساد التي تلفظ أنفاسها األخيرة .عادت إليه رائحة الموت ،وداهمه إحساس مفاجئ بالخطر...
ليس عليه فحسب ...بل على جميع الناس .تسارع طنين اآلالت ،فتصلّبت عضقاته ،وحاول الجلوس.
وضعت د .بروكس يدا ً حازمة على صدره ،وأجبرته على االستلقاء مجدّداً .ث ّم ألقت نظرة على الطبيب الملتحي
الذي تو ّجه إلى طاولة مجاورة ،وبدأ يحضّر شيئاً.
انحنت د .بروكس فوق النغدون وهمست قائلة" :سيّد النغدون ،القلق حالة شائعة مع إصابات الدماغ ،لكن عليك
ي إثارة ،بل تمدّد واسترح .ستكون بخير ،وستسترجعتعرض نفسك أل ّ تتحرك ،وال ّ
ّ أن تبقي نبض قلبك بطيئاً .ال
ذاكرتك ببطء".
عاد الطبيب اآلن حامقاً حقنة ،أعطاها لبروكس التي ض ّخت محتوياتها في أنبوب المصل الموصول بذراع
النغدون.
مجرد مهد ّئ خفيف لتهدئة أعصابك ومساعدتك على تح ّمل األلم" .ث ّم وقفت لتخرج مضيفة: ّ شرحت له قائلة" :هذا
ي شيء ،فاضغط على الزر المجاور ّ أ إلى احتجت وإن النوم. من ً ا قسط خذ النغدون. "ستكون بخير ،سيّد
لسريرك".
في الظقام ،شعر النغدون بالدواء المخدّر يسري في جسده على الفور تقريباً ،ويعيده إلى تلك البئر العميقة التي
خرج منها .قاوم هذا اإلحساس ،وحاول أن يجبر عينيه على البقاء مفتوحتين في ظقام غرفته .حاول الجلوس،
أن جسده ثقيل كاإلسمنت.لكنّه شعر ّ
بينما كان النغدون يتقلّب ،وجد نفسه مجدّدا ً في مواجهة النافذة .بعدما انطفأ مصباح الغرفة ،اختفى انعكاس
صعة بالنجوم في البعيد. صورته عن الزجاج الداكن ،لتح ّل مكانه سماء مر ّ
وسط محيط من األبراج والقبب ،هيمنت واجهة ملكية واحدة على حقل النغدون البصري .كان المبنى عبارة عن
قلعة حجرية مهيبة ،مع سور مثلّم وبرج يعلو ثقاثمائة قدم ،ث ّم ينتفخ عند ق ّمته ،ويبرز إلى الخارج على شكل شرفة
ضخمة ذات فرجات.
هبّ النغدون جالسا ً على سريره ،فيما غزت األوجاع رأسه .قاوم األلم المبرح وثبّت نظره على البرج.
كان النغدون يعرف جيّدا ً هذا البناء العائد إلى القرون الوسطى.
مع األسف ،كان يقع أيضا ً على بعد أربعة آالف ميل من ماساتشوستس.
في وقت سابق من هذه الليلةُ ،منيت مه ّمتها األصلية بفشل ذريع.
راح رأس روبرت النغدون ينبض ألماً .جلس على سريره في المستشفى ،وراح يضغط تكرارا ً على ّ
زر
االتصال .وعلى الرغم من المهدّئات التي دخلت جسده ،إالّ ّ
أن قلبه كان ينبض بعنف.
أسرعت د .بروكس عائدة ،وشعرها يتمايل على ظهرها" .هل أنت بخير؟".
ّ
هز النغدون رأسه بحيرة" .هل أنا في ...إيطاليا!؟".
"كقاّ!" .وأشار عبر النافذة إلى المبنى الضخم البعيد" .بل عرفت قصر فيكيو".
أضاءت د .بروكس المصباح مجدّداً ،فاختفت سماء فلورنسا .اقتربت من سريره ،وهمست بصوت منخفض:
لكن د .ماركوني أ ّكد ّ
أن دماغك بحالة جيّدة". "سيّد النغدون ،ال داعي للقلق .أنت تعاني من فقدان طفيف للذاكرةّ ،
دخل الطبيب الملتحي مسرعا ً هو اآلخر؛ على األرجح بعدما سمع الرنين .تحقّق من آلة مراقبة القلب ،في حين
تحدّثت معه الطبيبة الشابّة بلغة إيطالية سريعة ،وذكرت شيئا ً عن ّ
أن النغدون كان "أجيتاتو" عندما علم أنّه في
إيطاليا.
ف ّكر النغدون غاضباً :اهتاجت أعصابي؟ باألحرى ذُهلت! راح األدرينالين الذي غزا جسده يتصارع مع
ي يوم نحن؟!".المهدّئات .سألها" :ماذا جرى لي؟ في أ ّ
قالت" :ك ّل شيء على ما يرام .نحن في صباح يوم االثنين ،الثامن عشر من مارس".
االثنين! أجبر النغدون عقله على استعادة الصور األخيرة التي استطاع تذ ّكرها؛ كان يمشي وحده في حرم جامعة
هارفرد ،في البرد والظقام ،إللقاء سلسلة من المحاضرات مساء يوم السبت .هل كان ذلك قبل يومين؟! تملّكه ذعر
ي شيء عن المحاضرة أو ما بعدها .ال شيء .عندئذ تسارع طنين اآلالت.أكبر اآلن عندما حاول أن يتذ ّكر أ ّ
مرر الطبيب يده على لحيته وواصل تعديل اآلالت ،في حين جلست د .بروكس بالقرب من النغدون مجدّداً.
ّ
طمأنته بصوت لطيف" :ستكون بخير .لقد بيّن التشخيص أنّك مصاب بفقدان انتكاسي للذاكرة ،وهو أمر شائع جدًّا
ي ضرر مشوشة أو مفقودة ،لك ّنك لن تعاني من أ ّ
مع صدمات الرأس .قد تكون ذكريات األيّام القليلة الماضية ّ
دائم" .توقّفت قليقاً ث ّم تابعت" :هل تذكر اسمي ّ
األول؟ ذكرته عندما دخلت".
كان األلم الذي استبدّ برأس النغدون يكاد ال يطاق ،وبصره على المدى القريب ظ ّل ضبابياً" .ماذا ...حدث؟ كيف
وصلت إلى هنا؟".
سألها وقد بدأ طنين اآلالت يتسارع مجدّداً" :كيف وصلت إلى هنا؟!".
أجابت د .بروكس ،بعد أن تبادلت نظرة عصبية مع زميلها" :حسناً ،ال تضطرب ،سأخبرك" .أصبح صوتها أكثر
جدّية" .سيّد النغدون ،منذ ثقاث ساعات ،دخلت غرفة الطوارئ عندنا مترنّحاً ،وكان رأسك ينزف ،ث ّم سقطت
أرضا ً على الفور .ال يعرف أحد من أنت ،وال كيف وصلت إلى هنا .كنت تتمتم باإلنكليزية ،فطلب منّي د.
ماركوني المساعدة .أنا هنا في إجازة ،وقد أتيت من بريطانيا".
شعر النغدون وكأنّه قد استيقظ في لوحة لماكس إرنست .ما الذي أفعله في إيطاليا؟ عادة ،يأتي النغدون إلى هنا
أحيانا ً في شهر يونيو إللقاء محاضرة عن الفنون ،لكنّهم اآلن في شهر مارس.
انحنت د .بروكس فوقه مثل المقاك ،وهمست" :أرجوك سيّد النغدون ،صدمات الرأس إصابات حسّاسة في
الساعات األربع والعشرين األولى .عليك أن ترتاح ،وإالّ تسبّبت لنفسك بضرر بالغ".
تحدّث الصوت بلغة إيطالية سريعة .لم يفهم النغدون ما قيل ،لكنّه رأى الطبيبين يتبادالن نظرة استغراب .أم إ ّنه
الخوف؟
"لكن هذا غريب .فنحن لم نكن نعرف اسمك ،حتّى إنّك لست مس ّجقاً بعد في نظام المستشفى".
ّ بدت غير واثقة.
قاوم النغدون المس ّكنات ،ورفع نفسه على نحو أخرق للجلوس على سريره" .إن كان ث ّمة شخص ما هنا ،فقا بدّ
أنّه يعرف ما حدث".
هز رأسه على الفور وأشار إلى ساعته .فالتفتت إلى النغدون ،وشرحت نظرت د .بروكس إلى د .ماركوني الذي ّ
قائلة" :هذه وحدة العناية المر ّكزة .ال يُسمح ألحد بالدخول قبل الساعة التاسعة صباحا ً على األقلّ .سيخرج د.
ماركوني ليرى من الزائر وماذا يريد".
ابتسمت د .بروكس بصبر ،وأخفضت صوتها ،ث ّم انحنت أكثر وقالت" :سيّد النغدون ،ث ّمة بعض األمور التي
ي كان ،من اإلنصاف أن تعرف جميع الوقائع. تجهلها عن الليلة الماضية ...وع ّما حدث لك .قبل أن تتحدّث مع أ ّ
أظن أنّك قو ّ
ي بما فيه الكفاية بعد ."- لكن لألسف ،ال ّ
ّ
وكأن ي وقائع!؟" .وخزته إبرة المصل في ذراعه ،وشعر سألها النغدون وهو يكافح لدفع نفسه إلى الجلوس" :أ ّ
جسده يزن عدّة مئات من الباوندات" .ك ّل ما أعرفه هو أنّني في مستشفى في فلورنسا ،وأنّني وصلت وأنا ّ
أكرر
عبارة آسف جدًّا."...
ّ
الحق بمعرفة ما يجري!". أل ّح عليها النغدون وهو يرمق الطبيبين بغضب" :ماذا إذاً؟ لد ّ
ي
مرت فترة صمت طويلة .أخيراً ،أعطى د .ماركوني زميلته الشابّة الجميلة اإلذن بإيماءة من رأسه .تن ّهدت د.
ّ
ّ
ي بهدوء ،اتفقنا؟". ً
بروكس واقتربت من سريره أكثر" .حسنا ،سأخبرك بما أعرفه ...وستصغي إل ّ
هز النغدون رأسه ،وسبّبت له تلك الحركة ألما ً في جمجمته بأكملها .تجاهل األلم ،وانتظر سماع اإلجابة.
ّ
"مرت رصاصة على سطح رأسك ،وسبّبت لك على األرجح تكلّمت د .بروكس بشكل مضطرد ولكن بسرعةّ .
ارتجاجاً .أنت محظوظ ألنك ما زلت على قيد الحياة .لو أنها كانت أق ّل انخفاضا بإنش واحد "...وهزت رأسها
ّ ً ّ
متأسّفة.
ي النار؟
حدّق إليها النغدون غير مصدّق .أحدهم أطلق عل ّ
الممر إثر جدال اندلع في الخارج .يبدو ّ
أن من أتى لزيارة النغدون يرفض االنتظار. ّ تعالت أصوات غاضبة في
سمع النغدون على الفور بابا ً ثقيقاً في آخر البهو ينفتح فجأة .ث ّم ما لبث أن رأى شخصا ً يسير في الرواق.
من دون تردّد ،وقف د .ماركوني عند الباب لمنع الزائرة من المرور .رفع يده كما يفعل الشرطي ،وأمرها قائقاً:
"فيرما!".
لم تتوقّف الغريبة خطوة واحدة ،بل أخرجت مسدّسها الكاتم للصوت ،وو ّجهته مباشرة إلى صدر د .ماركوني،
وأطلقت النار.
شاهد النغدون مرعوبا ً كيف تر ّنح د .ماركوني نحو الخلف ،وانهار على أرض الغرفة ،ممسكا ً بصدره ،وقد ّ
تلوث
معطفه األبيض بالدماء.
الفصل 3
على بعد خمسة أميال من الساحل اإليطالي ،أبحر يخت فخم بطول 677قدما ً يدعى مينداسيوم عبر الضباب الذي
خيّم قبيل الفجر فوق أمواج البحر األدرياتيكي .كان اليخت ذو الهيكل الشبحي مطليًّا باللون الرمادي المعدني الذي
أضفى عليه هالة سفينة عسكرية.
كان اليخت الذي يتجاوز ثمنه 788مليون دوالر أميركي يحتوي على وسائل الراحة المعتادة كافّة؛ منتجع،
أن تلك التسهيقات لم تكن ذات أه ّمية صة طائرة مروحية .غير ّ غواصة شخصية ،ومن ّ حوض سباحة ،قاعة سينماّ ،
بالنسبة إلى مالكها الذي استلم اليخت قبل خمس سنوات ،وأزال على الفور ك ّل وسائل الترفيه تلك ،ليقيم عوضا ً
عنها مركز قيادة إلكترونيًّا عسكريًّا مصفّحاً.
تض ّمن جهاز أمن اليخت وحدة صغيرة من الجنود الخاضعين لتدريب عسكري ،ونظامين لكشف الصواريخ،
وترسانة من أحدث األسلحة المتوفّرة .ومع بقيّة العاملين على متنه -من طبّاخين ،وع ّمال نظافة وخدمة -يرتفع
عدد طاقمه اإلجمالي إلى أكثر من أربعين شخصاً .كان مينداسيوم ،في الواقع ،مبنى المكاتب المتن ّقل الذي يدير
مالكه إمبراطوريته من على متنه.
عرف بين مو ّ
ظفيه بلقب "العميد" وحسب .وكان رجقاً ممتلئاً ،قصير القامة ،ذا بشرة سمراء وعينين غائرتين.
صة
وكان مظهره غير المهيب وأسلوبه المباشر مناسبين لشخص جنى ثروة كبيرة من خقال تقديم مجموعة خا ّ
السرية على هوامش المجتمع المظلمة.
ّ من الخدمات
مرتزق بقا رحمة ،أداة الخطيئة ،عميل الشيطان ،لكنّه لم يكن أيًّا من ذلك .كان العميد
ِّ أُطلقت عليه ألقاب كثيرة:
ببساطة يقدّم لزبائنه فرصة لتحقيق طموحاتهم ورغباتهم من دون عواقب .أ ّما كون الجنس البشري خ ّ
طا ًء
بطبيعته ،فهذه ليست مشكلته.
على الرغم من المناوئين له واعتراضاتهم األخقاقية ،كانت مبادئ العميد ثابتة .فقد بنى سمعته ،والكونسورتيوم
نفسه ،على قاعدتين ذهبيتين.
بتاتاً.
لم يسبق للعميد في حياته المهنية أن حنث بوعد أو تراجع عن تنفيذ اتّفاق مطلقاً .كانت كلمته ثابتة ،ال بل ضمانة
أن التراجع عنها لم يكن مطروحا ً على اإلطقاق. حقيقية .ومع أنّه عقد صفقات ندم عليها الحقاً ،إالّ ّ
في تلك اللحظة ،كان ينتظر سماع خبر من عميل ميداني معيّن.
صائية القوية بتسريحة سبايكي التي تميّزها .فايينثا التي خدمته بشكل ممتاز حتّى هذه
ف ّكر بفايينثا وهو يتخيّل األخ ّ
المه ّمة ،ارتكبت خطأ ً في الليلة الماضية كانت له عواقب وخيمة .كانت الساعات الستّ الماضية عبارة عن
فوضى ،ومحاولة يائسة الستعادة السيطرة على الوضع.
أن خطأها نتج عن سوء الح ّظ؛ هديل حمامة غير متو ّقع.
زعمت فايينثا ّ
ظ .ك ّل أفعاله كانت منسّقة لتجنّب العشوائية واستبعاد عامل الح ّ
ظ .فالقدرة على التح ّكم أن العميد ال يعتقد بالح ّ
غير ّ
ُّ
هي مجال اختصاصه؛ يجب توقع ك ّل االحتماالت ،واستباق ك ّل ردود الفعل ،وصياغة الوضع بحسب النتيجة
والسرية ،وبفضله امتلك مجموعة مذهلة من الزبائن؛ مليارديرات، ّ المرغوبة .كان لديه سج ّل نظيف من النجاح
رجال سياسة ،مشايخ ،وحتّى حكومات بأكملها.
من جهة الشرق ،بدأت خيوط الصباح األولى تطفئ النجوم المنخفضة في األفق .وقف العميد على سطح اليخت،
وانتظر بصبر خبرا ً من فايينثا يفيد ّ
أن مه ّمتها قد نُفّذت على أكمل وجه.
الفصل 4
أن الزمن قد توقّف.
للحظة ،شعر النغدون ّ
تمدّد د .ماركوني على األرض بقا حراك ،والدم يسيل من صدره .قاوم النغدون المهدّئات التي تجري في دمه،
ى كبيرة عبر الرواق ،لتقطع األمتار األخيرة التي
ونظر إلى القاتلة بشعرها المسماري ،التي ما زالت تتقدّم بخط ً
تفصلها عن باب غرفته المفتوح .عندما اقتربت من عتبة الباب ،نظرت إلى النغدون ورفعت مسدّسها باتّجاهه...
مستهدفة رأسه.
هُرعت د .بروكس على الفور بنظرات مذعورة وانحنت قرب زميلها النازف ،محاولة إيجاد نبضه .سعل د.
ماركوني ،فتدفّقت الدماء من فمه وسالت على خدّه ولحيته الكثيفة ،ث ّم فارق الحياة.
في الخارج ،انصبّ وابل من الرصاص على الباب المعدني ،ومألت صيحات الذعر القاعة.
بطريقة ما ،عادت الحركة إلى جسد النغدون .فقد تغلّب خوفه وحدسه على المهدّئات .وحين حاول النزول من
أن رصاصة قد اخترقت الباب وأصابته، ظن للحظة ّالسرير على نحو أخرق ،شعر بألم حارق في ساعده األيمنّ .
أن إبرة المصل ما زالت فيه .كان األنبوب البقاستيكي مغروزا ً في ساعده،
لكن عندما نظر إلى ساعده ،أدرك ّ
الحار بدأ بالفعل يتدفّق منه.
ّ والدم
كانت د .بروكس ال تزال منحنية فوق جثّة ماركوني وهي تبحث عن نبض ،والدموع تتج ّمع في عينيها .فجأة،
زرا قد ضُغط في داخلها ،وقفت ونظرت إلى النغدون ،وتغيّرت تعابيرها أمام عينيه ،وتصلّبت مقامحها ّ
وكأن ًّ
المتمرسة التي تتقن التعامل مع األزمات.
ّ الشابّة لترتدي قناع طبيبة الطوارئ
أمسكت بذراعه وجذبته عبر الغرفة .كانت أصوات الرصاص والفوضى ما زالت تتردّد في الردهة ،بينما حاول
تحرك! كانت األرض باردةلكن جسده المخدّر تجاوب ببطءّ . أن عقله متنبّه ّ النغدون التقدّم بخطى مترنحة .شعر ّ
تحت قدميه ،ولم يكن رداء المستشفى الرقيق كافيا ً لتغطية قامته بطوله البالغ ستّ أقدام .شعر بالدم يسيل على
ساعده ويتج ّمع في كفّه.
عادت حاملة سترته ،وأقفلت باب الح ّمام بسرعة .في تلك اللحظة بالضبط ،فُتح باب الغرفة.
أمسكت الطبيبة الشابّة بزمام األمور .فاجتازت الح ّمام الصغير متو ّجهة إلى باب ثان ،وفتحته ،ث ّم أدخلت النغدون
الممر،
ّ إلى غرفة إنعاش مجاورة .تردّدت أصوات الرصاص في الخلف ،بينما أطلّت د .بروكس برأسها إلى
وأمسكت بسرعة بذراع النغدون ،وسحبته عبر الرواق باتّجاه أحد السقالم .سبّبت الحركة المفاجئة بعض الدوار
لقانغدون الذي شعر أنّه سيُغمى عليه في أ ّ
ي لحظة.
كانت الثواني الخمس عشرة التالية ضبابية ...نزول سقالم ...تعثّر ...سقوط .أ ّما األلم الذي استبدّ برأس النغدون،
أن بصره أصبح أكثر ضبابية ،وكانت عضقاته ثقيلة ،وك ّل حركة من حركاته أشبه بردّ فعل فكان ال يطاق .شعر ّ
متأ ّخر.
أنا في الخارج.
بينما كانت د .بروكس تقوده عبر زقاق مظلم بعيدا ً عن المبنى ،داس النغدون على شيء حادّ وسقط ،مرتطما ً
بقوة .جاهدت لمساعدته على الوقوف مجدّدا ً على قدميه وهي تحت ّج بصوت عال على إعطائه مخدّراً.بالرصيف ّ
المرة ،تركته على األرض وركضت إلى الشارع وهي عندما اقتربا من نهاية الزقاق ،تعثّر النغدون مجدّداً .هذه ّ
تصيح لشخص ما من بعيد .لمح النغدون المصابيح الخضراء الباهتة لسيّارة أجرة مركونة أمام المستشفى .غير
ولوحت بذراعيها بعنف .أخيراً ،أضيئتأن سائقها كان نائماً .صاحت د .بروكس ّ تتحرك ،ال بدّ ّ
ّ ّ
أن السيّارة لم
وتحركت السيّارة ببطء نحوهما.ّ المصابيح األمامية،
خلف النغدون ،فُتح باب في الزقاق ،تبعه صوت خطى سريعة تقترب .التفت فرأى المرأة ذات المقابس السوداء
تتّجه بسرعة نحوه .حاول الوقوفّ ،
لكن الطبيبة أمسكت به ،وأجبرته على الصعود إلى المقعد الخلفي لسيّارة
الفيات .فتمدّد نصفه على المقعد ونصفه على أرض السيّارة ،في حين أسرعت د .بروكس خلفه وأغلقت الباب.
التفت السائق النعسان وحدّق إلى الثنائي غريب األطوار الذي هبط في سيّارته؛ شابّة بمقابس طبّية ورجل برداء
ممزق وذراع نازفة .من الواضح أنّه كان على وشك طردهما من سيّارته عندما انفجرت مرآة مستشفى شبه ّ
ُ
السيّارة الجانبية .في تلك اللحظة ،خرجت المرأة بمقابسها الجلدية السوداء من الزقاق شاهرة مسدّسها .أطلق
الرصاص مجدّدا ً مصدراً صوت هسهسة ،وفي اللحظة نفسها أمسكت د .بروكس برأس النغدون ودفعته إلى
األسفل .تح ّ
طمت نافذة السيّارة الخلفية ،وأمطرتهما بالزجاج.
عندما انعطفوا في أحد الشوارع ،جلست د .بروكس وأمسكت بذراع النغدون النازفة .كان األنبوب البقاستيكي
بارزا ً من ثقب في جلده.
أطاعها النغدون .في الخارج ،تقاحقت أمام عينيه قبور مهجورة في الظقام .بدا مقائما ً أن ّ
يمروا في تلك اللحظة
من أمام مقبرة .شعر النغدون بأصابع الطبيبة تتحسّس األنبوب برفق ،قبل أن تنتزعه من دون سابق إنذار.
شعر بألم صاعق يبلغ رأسه مباشرة ،قبل أن يفقد وعيه تماماً.
الفصل 5
حول رنين الهاتف نظر العميد عن ضباب البحر األدرياتيكي ،فعاد بسرعة إلى مكتبه.
ّ
أضاءت شاشة الكمبيوتر على مكتبه ،مبلغة إيّاه بورود اتّصال من هاتف شخصي مش ِّفّر للصوت يحمل اسم
،Swedish Sectra Tiger XSوكانت قد ت ّمت إعادة توجيه المكالمة عبر أربعة أجهزة توجيه (راوتر) ال
يمكن تعقّبها ،قبل وصلها باليخت.
وضع الس ّماعتين ،ث ّم أجاب بكلمات بطيئة ودقيقة" :معك العميد ،تفضّل".
شعر العميد بنبرة عصبية غير معتادة في صوتها .نادرا ً ما كان العمقاء الميدانيون يتحدّثون مع العميد مباشرة،
ومن النادر أكثر أن يبقوا في وظيفتهم بعد كارثة كتلك التي وقعت في الليلة الماضية.
مع ذلك ،طلب العميد أن يقوم عميل في الموقع بالمساعدة على معالجة األزمة ،وكانت فايينثا الشخص األنسب
لهذه المه ّمة.
ي خبر جديد".
قالت فايينثا" :لد ّ
فر النغدون
للتصرف باحتراف .قالت" :لقد ّ
ّ مجردا ً من العاطفة؛ في محاولة واضحة
ّ عندما تكلّمت ،كان صوتها
ومعه الغرض".
صة،تحت العميد بطابقين يقع مركز التح ّكم اآلمن لليخت ،هناك جلس المنسّق الورنس نولتون في حجرته الخا ّ
سارة .فقد كان توتّر العميد ملموسا ً في اليومين
أن اتصال العميد المشفّر قد انتهى .أمل أن تكون األخبار ّ
والحظ ّ
ّ ّ
األخيرين ،حيث شعر كل عامل على متن اليخت أن عمليّة ها ّمة تجري.
المخاطر عالية على نحو ال يصدّق ،ويستحسن أن تن ّفذ فايينثا العمليّة كما ينبغي هذه ّ
المرة.
وتحول إلى
ّ كان نولتون معتادا ً على تنسيق خطط اللعب الموضوعة بعناية .إالّ ّ
أن هذا السيناريو بالذات انهار
فوضى ،فتولّى العميد األمور شخصياً.
كان زبونهم قد أقدم على االنتحار منذ بضعة أيّام في فلورنساّ ،
لكن الكونسورتيوم ما زال لديه عدد كبير من
بغض النظر عن الظروف .وكما
ّ صة عهد بها الرجل إلى هذه المن ّ
ظمة الخدمات العالقة ،وهي عبارة عن مهام خا ّ
ي أن أطيعها .هذا ما ف ّكر به نولتون، هي العادة دائماً ،ينوي الكونسورتيوم تنفيذها من دون تردّد .لد ّ
ي أوامر عل ّ
وهو ينوي االمتثال لها تماما ً .خرج من حجرته الزجاجية العازلة للصوت ،وعبر عددا من الحجرات األخرى؛
ً
ظفين يعملون على جوانب أخرى من المه ّمة بعضها شفّاف والبعض اآلخر محجوب ،وفيها كان عدد من المو ّ
نفسها.
عبر نولتون غرفة التح ّكم الرئيسة بهوائها الخفيف المعالَج ،وأومأ بتحيّة للفريق التقني ،ث ّم دخل قبوا ً صغيراً
يحتوي على حوالى عشر خزنات حديدية .فتح إحداها ،وأخرج محتوياتها التي كانت عبارة عن شريحة ذاكرة
ملف فيديو كبير ،كان الزبون قد أمر بتحميله براقة .بحسب البطاقة المرفقة بها ،تحتوي الذاكرة على ّ حمراء ّ
لوسائل اإلعقام الكبرى في وقت محدّد صباح الغد.
ططسيكون التحميل المجهول المصدر غدا ً أمرا ً بسيطاً ،لكن تطبيقا ً لبروتوكول الملفّات الرقمية كافّة ،كان المخ ّ
الملف اليوم؛ أي قبل أربع وعشرين ساعة من تسليمه ،للتأ ّكد من ّ
أن ّ االنسيابي قد أشار إلى ضرورة مراجعة هذا
الكونسورتيوم قد حصل على الوقت الكافي للقيام بك ّل ما يلزم من تشفير أو تجميع أو استعدادات أخرى قد تكون
مطلوبة قبل تحميله في الوقت المحدّد.
عاد نولتون إلى حجرته الشفّافة وأغلق الباب الزجاجي الثقيل ،فعزل نفسه عن العالم الخارجي.
فتحولت حجرته على الفور إلى حجرة محجوبة .حفاظا ً على الخصوصية ،كانت جميع ّ قلب بدّالة في الجدار،
المكاتب الزجاجية على متن المينداسيوم مبنية من زجاج "الجسيمات المعلّقة" .فمن الممكن التح ّكم بسهولة بشفافية
هذا النوع من الزجاج من خقال تطبيق أو إزالة تيّار كهربائي يقوم إ ّما برصف أو بَ ْعثرة مقايين الجسيمات الدقيقة
ي ،والمعلّقة داخل اللوح الزجاجي.
الشبيهة بالعص ّ
الملف ليبدأ
ّ صة ،وأدخل شريحة الذاكرة في الكمبيوتر ،ث ّم ضغط على
اختفى نولتون في عزلة حجرته الخا ّ
بتقييمه.
سرعان ما طغى اللون األسود على شاشته ...وبدأت مكبّرات الصوت تصدر صوت خرير مياه .ظهرت ببطء
صورة على الشاشة ...وكانت باهتة وغامضة .ث ّم بدأ مشهد يتبلور من الظقام ...داخل كهف ...أو غرفة ضخمة.
كانت أرضية الكهف غارقة تحت المياه ،وكأ ّنها بحيرة تحت األرضّ .
لكن الغريب هو ّ
أن المياه بدت مضيئة...
أن الضوء صادر من داخلها. كما لو ّ
لم يسبق لنولتون أن رأى شيئا ً كهذا .كانت المغارة بأكملها مضاءة بلون غريب مائل إلى االحمرار ،وجدرانها
مكسوة بانعكاسات لولبية للمياه المترقرقة .ما هذا المكان؟
ّ الشاحبة
مع استمرار عرض الشريط ،بدأت الكاميرا تميل إلى األسفل وتهبط بشكل عمودي ،نحو المياه مباشرة ،إلى أن
اخترقت السطح المضيء .اختفت أصوات خرير المياه ،وح ّل مكانها صمت مخيف تحت الماء .واصلت الكاميرا
طاة بالطمي.هبوطها ،لمسافة عدّة أقدام تحت الماء ،إلى أن توقّفت ور ّكزت على أرض الكهف المغ ّ
في هذا المكان ،وفي هذا التاريخ ،تغيّر العالم إلى األبد.
ملوحا ً
ممرا خاليا ً بين مبنيين سكنيين .هبّ هواء الفجر ّ
استند إلى جسد د .بروكس النحيل ،واجتاز وهو يترنّح ًّ
برداء المستشفى ،وشعر النغدون بالهواء البارد يقامس جسده في أماكن غير معهودة.
ترك المهدّئ أثره على عقله الذي لم يكن أق ّل ضبابية من بصره .شعر النغدون وكأنّه تحت الماء ،يحاول ّ
شق
طريقه عبر عالم لزج ومعتم .دفعته سيينّا بروكس إلى األمام وهي تدعمه ّ
بقوة مثيرة لقاستغراب.
قالت" :انتبه للدّرج" .فأدرك النغدون أنّهما وصقا إلى مدخل جانبي للمبنى.
تمسّك النغدون بالدرابزين ،وأخذ يدفع نفسه إلى األعلى متعثّراً؛ درجة درجة .كان جسده ثقيقاً جدًّا ،حيث
اضطرت د .بروكس إلى دفعه بجسدها .عندما وصقا أمام أحد األبواب ،ضغطت على بعض األرقام على لوحة ّ
ُ
قديمة صدئة ،وفتح الباب.
لكن بقاط األرض بدا مثل س ّجادة ناعمة مقارنة بالرصيف الخشن في الخارج. الجو في الداخل أكثر دفئاًّ ،
لم يكن ّ
ي ،ث ّم أدخلت النغدون إلى حجرة بحجم حجرةّ للط ً قاقاب ً ا باب وفتحت ّق، يض مصعد إلى النغدون بروكس قادت د.
مرة وحلوة شائعة في إيطاليا مثل رائحة قهوة
الهاتف العا ّم .ش ّم في الداخل رائحة سجائر إم إس التي تمتاز برائحة ّ
اإلسبريسو الطازجة .فساعدته الرائحة على تصفية ذهنه بعض الشيء .ضغطت د .بروكس على أحد األزرار،
وراحت سلسلة من التروس المتعبة تدور وتصلصل فوق رأسيهما.
ال تنظر.
اتّكأ على الجدار محاوالً التقاط أنفاسه .آلمته ذراعه ،وعندما نظر إليها ،رأى ك ّم سترته مربوطا ً بشكل فوضوي
يجرها خلفه على األرض؛ بالية وقذرة.حول ذراعه مثل ضمادة .أ ّما بقيّة السترة فكان ّ
عادت إليه رؤيا مألوفة؛ المرأة ذات الوشاح ،والتميمة ،والشعر الفضّي المج ّعد .كما في الحلم السابق ،كانت تقف
تتلوى .تحدّثت مع النغدون بصوت متوسّل :من يبحث يجد! على ضفّة نهر من الدماء ،ومحاطة بجثث وأجساد ّ
بأن عليه إنقاذها ...إنقاذهم جميعاً .فالسيقان شبه المدفونة رأسا ً على عقب كانت
سيطر على النغدون إحساس ّ
ترتخي ...واحدة تلو األخرى.
ّ
هز النغدون رأسه ،والعرق يسيل من جبينه.
مرا من أمام توقّف المصعد ،وفتحت د .بروكس الباب .عادا يمشيان مجدّداً ،هذه ّ
المرة في رواق ضيّق ومظلمّ .
الممر ،انحنت وأخرجت مفتاحا ً من تحت نبتة
ّ نافذة ،بدت منها أسطح منازل فلورنسا في ضوء الفجر .عند آخر
بدت متع ّ
طشة إلى الماء ،وفتحت أحد األبواب.
وقفت للحظة وأغمضت عينيها ،ث ّم تنفّست بعمق وكأنّها تسيطر على نفسها .استدارت ،وساعدت النغدون على
دخول مطبخ صغير متواضع يحتوي على طاولة من الفورمايكا وكرسيَّين قدي َمين.
أخرجت العلبة وأفرغت ستّ كبسوالت بيد النغدون قائلة" :هذا كافيين ،أتناوله عندما أعمل في نوبات ليلية ،كهذه
الليلة".
قالت له" :امضغها .فبهذه الطريقة ستدخل جسدك على نحو أسرع وتساعد على إبطال مفعول المهدّئات".
مرة الطعم؛ فهي معدّة كما هو واضح بدأ النغدون يمضغ األقراص ،فتقلّص وجهه على الفور .كانت األقراص ّ
البراد وأعطت النغدون نصف زجاجة من الشراب .فأخذها شاكرا ً وتناول منها
لتُبتلع كما هي .فتحت د .بروكس ّ
جرعة كبيرة.
أمسكت الطبيبة ذراعه اليمنى ،ونزعت عنها ضمادة القماش التي استحدثتها من سترته ،ووضعتها على الطاولة،
ث ّم بدأت تتف ّحص جرحه .عندما أمسكت بذراعه ،شعر النغدون بيديها ترتجفان.
قالت" :ستعيش".
للتو .قال لها" :د .بروكس ،علينا االتّصال بشخص ما. تمنّى النغدون أن تكون بخير .فقد ّ
مرا بتجربة صعبة جدًّا ّ
القنصلية ...الشرطة ...أحد ما".
هزت رأسها موافقة" .يمكنك أيضا ً التوقّف عن مناداتي د .بروكس ،فاسمي هو سيينّا".
ّ
لست بخير .كان شعره األسود الكثيف مش ّعثاً ،وعيناه محتقنتين بالدماء ومتعبتين .في حين بدأت لحيته تنمو.
فتحت سيينّا الحنفية ،ووضعت يد النغدون المصابة تحت الماء البارد .شعر بألم حادّ ،لكنّه أبقاها في مكانها.
أخرجت سيينّا منشفة نظيفة ،ووضعت عليها بعض الصابون المضادّ للبكتيريا" .يُستحسن أالّ تنظر".
بدأت سيينّا تفرك جرحه بعنف؛ حيث شعر بألم مبرح في ذراعه ،فضغط على ف ّكه ليمنع نفسه من الصراخ
احتجاجاً.
قالت وهي تشدّ أكثر" :أنت ال تريد أن تصاب بعدوى .باإلضافة إلى ذلك ،إن كنت تنوي إبقاغ السلطات ،فعليك
أن تكون أكثر تنبّهاً .وال شيء ين ّ
شط إفراز األدرينالين مثل األلم".
ثوان كاملة قبل أن يبعد يده أخيراً .كفى! بالفعل شعر أنّه أقوى وأكثر يقظة .لقد طغى ألم
ٍ تح ّمل النغدون عشر
ذراعه على ألم رأسه تماماً.
قالت" :هذا جيّد" .ث ّم أغلقت حنفية الماء وجفّفت ذراعه بمنشفة نظيفة .بعد ذلك ،وضعت ضمادة صغيرة على
للتو ،أمر سبّب له إزعاجا ً عميقاً.
الجرح ،لكن في أثناء ذلك ،انشغل ذهن النغدون بأمر الحظه ّ
منذ ما يقرب أربعة عقود ،يضع النغدون ساعة ميكي ماوس قديمة ،هي هدية من والديه .كان وجه ميكي الباسم
يلوح بذراعيه يذ ّكره دائما ً باالبتسام أكثر وأخذ األمور بجدّية أقلّ.
الذي ّ
قال النغدون" :ساعتي ...لقد اختفت!" .شعر من دونها بالنقص فجأة" .هل كانت معي عندما وصلت إلى
المستشفى؟".
ظف نفسك .سأعود بعد نظرت إليه سيينّا غير مصدّقة ،وقد د ُهشت لقلقه على أمر كهذا" .ال أذكر أنّني رأيتها .ن ّ
بضع دقائق ،وسنحاول إيجاد طريقة لمساعدتك" .استدارت للذهاب ،ث ّم توقّفت عند الباب ونظرت إلى عينيه
أتصور
ّ المنعكستين على صفحة المرآة" .في هذا الوقت ،أقترح عليك أن تف ّكر جيّدا ً بسبب رغبة أحدهم في قتلك.
األول الذي ستطرحه عليك السلطات". أنّه السؤال ّ
عار .سأذهب ألحضر لك بعض المقابس .مقاسك من مقاس جاري"ال يمكنك التحدّث مع الشرطة وأنت شبه ٍ
تقريباً .وبما أنّه كلّفني بإطعام ق ّ
طته في أثناء سفره ،فهو مدين لي".
بعد ذلك ،خرجت سيينّا.
حاول أن يتذ ّكر ...لكن عبثاً .لم يجد في عقله سوى الفراغ .ك ّل ما يعرفه النغدون هو أنّه في فلورنسا ،وأنّه
مصاب بجرح في رأسه خلّفته رصاصة.
ي لحظة ليجد نفسه جالسا ً فيما راح يحدّق إلى عينيه المتعبتين ،تساءل ع ّما إذا كان من الممكن أن يستيقظ في أ ّ
صص للقراءة في منزله ،حامقاً كأسا ً فارغة ،ونسخة عن األرواح الميتة ،ليذ ّكر نفسه أنّه ال على كرسيّه المخ ّ
ينبغي أبدا ً الجمع بين الشراب وغوغول .
][1
الفصل 7
ولف منشفة حول خصره .وبعدما غسل وجهه بالماء ،لمس بحذر الملوث بالدماءّ ،
ّ خلع النغدون رداء المستشفى
سوى شعره المشعّث فوقشديد القطب في الجزء الخلفي من رأسه .كانت مقامسة الجلد مؤلمة ،غير أنّه عندما ّ
وأحس أخيرا ً ّ
أن الضباب ينجلي عن ذهنه. ّ اإلصابة ،اختفت تماماً .بدأت أقراص الكافيين تأخذ مفعولها،
فجأة ،بدأ يشعر باالختناق في الح ّمام الخالي من النوافذ ،فخرج إلى الردهة ،وتو ّجه تلقائيًّا إلى بقعة من الضوء
الممر .كانت الغرفة عبارة عن مكتب مؤقّت؛ مؤثّث بطاولة مكتب ّ الطبيعي الذي دخل عبر باب مفتوح جزئيًّا في
وصف من الكتب الموضوعة على األرض ،وحمداً هلل ...نافذة. ّ دوار با ٍل،
ي ّرخيصة ،وكرس ّ
في البعيد ،بدأت الشمس التوسكانية تقامس بأش ّعتها بر َجي المدينة العاليين -برج األجراس ،برج باديا -ومتحف
سرته رؤية الطيفبارغيلّو .ضغط النغدون جبينه على الزجاج البارد .كان هواء شهر مارس قارساً ،لذلك ّ
الكامل ألشعة الشمس التي بدأت ترتفع اآلن فوق السفوح.
في قلب األفق ،بدأت تظهر قبّة جبلية من القرميد األحمر ،ق ّمتها مزيّنة بكرة نحاسية مذ ّهبة تلمع مثل منارة .إيل
دوومو .لقد صنع برونيليسكي التاريخ المعماري عندما ص ّمم تلك القبّة الضخمة .واآلن ،بعد أكثر من خمسمائة
عام ،ما زال البناء الشامخ الذي يبلغ ارتفاعه 771قدما ً في مكانه ،وكأنّه عمقاق ال يبارح بياتزا ديل دوومو.
سن المراهقة ...حين دخل أكاديمية كان النغدون قد افتُتن بتمثال مايكل أنجلو داوود عندما رآه ّ
للمرة األولى في ّ
الفنون الجميلة ...وتنقّل ببطء بين تماثيل كتيبة مايكل أنجلو الحزينة ،بريدجوني ...ث ّم شعر ببصره ينجذب إلى
األعلى ،رغما ً عنه ،إلى تحفة فنّية بطول سبع عشرة قدماً .أثار تمثال داوود الضخم ،بجسده العضلي القافت،
للمرة األولى ،إالّ أنّه بالنسبة إلى النغدون ،كانت وضعية داوود العبقرية هي التي
زوار المتحف ّذهول معظم ّ
بأن داوود مائل إلى اليمينّ ،
وأن أسرت اهتمامه .فقد استخدم مايكل أنجلو تقليد كونترابوستو الكقاسيكي لإليحاء ّ
ي وزن تقريباً؛ في حين أنها كانت في الواقع تحمل أطنانا ً من الرخام.
ساقه اليسرى ال تحمل أ ّ
كان تمثال داوود هو الذي ولّد لدى النغدون التقدير الحقيقي لعظمة النحت .تساءل اآلن ع ّما إذا كان قد زار تلك
التحفة خقال األيّام األخيرة ،إالّ أنّه لم يتذ ّكر سوى استيقاظه في المستشفى ورؤيته طبيبا ً بريئا ً يُقتل أمام عينيه.
آسف جدًّا .آسف جدًّا.
كان اإلحساس بالذنب الذي استبدّ به مثيراً لقاشمئزاز تقريباً .ماذا فعلت؟
بينما كان واقفا ً عند النافذة ،لمح بطرف عينه جهاز كمبيوتر محمول على المكتب قربه .أدرك النغدون فجأة ّ
أن ما
حدث له في الليلة الفائتة ال بدّ أن يكون قد نُشر في الصحف.
لم يجبه أحد .ال بدّ أنّها ما زالت في شقّة جارها تبحث عن مقابس.
أضاءت شاشة سيينّا ،لتظهر في الخلفية صورة "الغيمة الزرقاء" القياسية في نظام ويندوز .ففتح النغدون على
الفور صفحة غوغل إيطاليا ،وطبع فيها روبرت النغدون.
ظهرت صفحة من نتائج البحث أمامه؛ المئات من المقاالت المتعلّقة بقانغدون ،من كتب ومحاضرات .ليس هذا ما
أبحث عنه.
أن النغدون لم يجد شيئا ً جديداً ،وبالتأكيد ال شيء يفسّر مأزقه الحالي .ماذا
امتدّت القائحة على عدّة صفحات ،غير ّ
حدث في الليلة الماضية؟ واصل النغدون بحثه ،ودخل موقع فلورنتين؛ وهي صحيفة إنكليزية تُنشر في فلورنسا.
قرأ العناوين ،واألقسام المتعلّقة باألخبار العاجلة ،وصفحة الشرطة ،وصادف مقاالت عن حريق في إحدى الشقق،
وفضيحة اختقاس حكومية ،وأخبارا ً عن جرائم ّ
متنوعة.
توقّف عند خبر عاجل ومبالغ فيه عن أحد مسؤولي المدينة الذي توفّي في الليلة الفائتة في الساحة خارج
جراء نوبة قلبية .لم يُذكر اسم المسؤول بعد ،كما أنّه لم يُشتبه بحادث مدبّر.
الكاتدرائية من ّ
أخيراً ،لم يعرف النغدون ما عليه فعله ،فدخل حساب بريده اإللكتروني التابع لجامعة هارفرد ،وتح ّقق من
الرسائل؛ متسائقاً ع ّما إذا كان سيجد أجوبة هناك .لم يجد سوى الرسائل المعتادة من زمقائه ،وطقاّبه ،وأصدقائه،
ومعظمها يشير إلى مواعيد في األسبوع القادم.
ّ
وكأن ال أحد يعرف برحيلي.
تصاعدت شكوك النغدون ،فأطفأ الكمبيوتر وأغلقه .كان على وشك أن يغادر الغرفة عندما لمح شيئاً .على زاوية
مكتب سيينّا ،وفوق مجموعة من المجقاّت الطبّية القديمة واألوراق ،رأى صورة بوالرويد .كانت الصورة عبارة
عن لقطة لسيينّا بروكس وزميلها الطبيب الملتحي ،وهما يضحكان في رواق المستشفى.
ف ّكر النغدون ،إ ّنه د .ماركوني .وشعر بالذنب وهو يتناول الصورة ويتف ّحصها.
عندما أرجع النغدون الصورة إلى مكانها ،فوجئ بكتيّب أصفر اللون فوق مجموعة المجقاّت ،هو عبارة عن
إعقان لحفلة من مسرح لندن غلوب .بحسب الغقاف ،يتناول اإلعقان إنتاجا ً لمسرحية شكسبير حلم ليلة صيف...
التي نُ ّ
ظمت منذ حوالى 61سنة تقريباً.
تناول النغدون الكتيّب ،فتناثرت كومة من قصاصات الصحف على المكتب .حاول إرجاعها إلى مكانها بسرعة،
لكن عندما فتح الكتيّب -عند الصفحة التي كانت القصاصات فيها -جمد في مكانه.
كانت الصورة لممثّلة طفلة تمثل دور عفريت شكسبير .ال يمكن أن تكون الفتاة الصغيرة قد تجاوزت الخامسة،
وشعرها األشقر معقود في شكل ذيل حصان.
كانت النبذة تروي باستفاضة مآثر تلك الطفلة المعجزة ،سيينّا بروكس ،التي تتمتّع بذكاء غير اعتيادي ،والتي
حفظت في ليلة واحدة أدوار ك ّل الشخصيات ،وغالبا ً ما لقّنت زمقاءها أثناء البروفات ّ
األولية .من هوايات تلك
الطفلة التي لم تتجاوز الخامسة العزف على الكمان ،والشطرنج ،والبيولوجيا ،والكيمياء .الفتاة ابنة لزوجين ثريَين
السن إلى شخصية شهيرة في األوساط العلمية .إذ قامت ّ تحولت منذ تلكمن بقاكهيث ،إحدى ضواحي لندن .وقد ّ
وهي في الرابعة من عمرها بالتغلّب على بطل في الشطرنج ،وكانت تقرأ بثقاث لغات.
ف ّكر النغدون :يا إلهي ،سيي ّنا .هذا يفسّر بعض األشياء.
خريجي هارفرد ،وكان طفقاً معجزة يدعى شاو كريبكي تعلّم في السادسة من تذ ّكر النغدون واحدا ً من أشهر ّ
عمره العبرية ،وقرأ جميع أعمال ديكارت قبل أن يبلغ الثانية عشرة .مؤ ّخراً ،قرأ النغدون عن ظاهرة تدعى
سن الحادية عشرة شهادة جامعية بمعدّل ،0.8وفاز بلقب البطولة الوطنية فيموشي كاي كافالين الذي ُمنح في ّ
ً الفنون الحربية ،وفي ّ
سن الرابعة عشرة ،نشر كتابا بعنوان يمكننا أن ننجح.
تناول النغدون قصاصة صحيفة أخرى ،تظهر فيها صورة لسيينّا وهي ّ
بسن السابعة :طفلة معجزة بمعدّل ذكاء
.680
أن معدّل الذكاء يصل إلى هذا االرتفاع .بحسب المقال ،كانت سيينّا بروكس عازفة كمان
لم يكن النغدون يعرف ّ
ّ
موهوبة ،وتستطيع إتقان لغة جديدة في غضون شهر واحد ،وتعلم نفسها علم التشريح والفيزيولوجيا.
نظر إلى قصاصة أخرى من مجلّة طبّية :مستقبل الفكر :لم تُخلق ك ّل العقول متساوية.
في هذا المقال ،ظهرت صورة سيينّا التي بلغت ربّما العاشرة من عمرها وهي تقف بشعرها المعقود إلى الخلف
أن الفحوصات التي أجريت على م ّخ سيينّا بجانب جهاز طبّي كبير .ويتض ّمن المقال مقابلة مع طبيب يشرح ّ
كشفت أنّه مختلف فيزيائياً عن الم ّخ الطبيعي .فهو أكبر حجما ً في حالتها ،وأكثر انسيابية؛ حيث يستطيع معالجة
المحتوى البصري والمكاني بطرق ال يمكن لمعظم الكائنات البشرية أن تبدأ حتّى بفهمها .وشبّه الطبيب الميزة
بنمو خلوي سريع على نحو غير عادي في دماغها ،شبيه بالسرطان ،غير أنّه الفيزيولوجية التي تتمتّع بها سيينّا ّ
ً
نمو سريع ألنسجة الدماغ المفيدة عوضا عن الخقايا السرطانية القاتلة.ّ
التفوق.
لعنة ّ
صة عبقرية صغيرة تدعى سيينّا بروكس حاولت المرة على صورة ،بل يروي ق ّلم يكن المقال يحتوي هذه ّ
تعرضت للمضايقة بسبب اختقافها .تحدّث المقال عن العزلة التي يعاني منها االلتحاق بالمدارس العادية ،لكنّها ّ
فيتعرضون في كثير من األحيان
ّ األشخاص الموهوبون الذين ال تستطيع مهاراتهم االجتماعية مواكبة ذكائهم،
للنبذ.
سن الثامنة ،وتم ّكنت بفضل ذكائها من االختفاء والعيش بمفردهااستنادا ً إلى المقال ،هربت سيينّا من منزلها في ّ
ً ّ
لعشرة أيّام .عُثر عليها في أحد فنادق لندن الراقية ،حيث تظاهرت أنها ابنة أحد النزالء ،فسرقت مفتاحا ،وكانت
تطلب خدمة الفنادق على حساب شخص آخر .على ما يبدو ،أمضت األسبوع في قراءة 9188صفحة من كتاب
غرايز أناتومي .وعندما سألتها السلطات عن سبب قراءتها كتبا ً طبّية ،أخبرتهم أنّها تريد أن تعرف عن مشكلة
دماغها.
ذاب قلب النغدون حزنا ً على الفتاة الصغيرة .لم يستطع أن يتخيّل مدى الوحدة التي يعاني منها طفل بهذا
ي المقاالت ،وتوقّف ليلقي نظرة أخيرة على صورة سيينّا حين كانت في الخامسة من عمرها االختقاف .أعاد ط ّ
ً
وهي تؤدّي دور العفريت .عليه أن يعترف ،نظرا إلى طريقة لقائه السريالية بسيينّا هذا الصباحّ ،
أن تق ّمصها دور
العفريت الشرير المحفّز لألحقام بدا ذكيا ً بشكل غريب .وتمنّى لو يستطيع -على غرار الشخصيات المسرحية -
مجرد حلم.
ّ أن يستيقظ اآلن ببساطة ويدّعي ّ
أن تجاربه األخيرة كانت
أعاد النغدون القصاصات إلى مكانها بحذر وأغلق الكتيّب ،وشعر بكآبة غير متوقّعة وهو يقرأ المقاحظة على
المغلّف :حبيبتي ،ال تنسي أبد ًا أ ّنك معجزة.
نظر إلى الرمز المألوف الذي يزيّن غقاف الكتيّب .كان عبارة عن الرسم اليوناني القديم نفسه الذي يُستخدم لتزيين
معظم إعقانات المسرحيات حول العالم؛ رمز يرجع إلى 6188عام أصبح مرادفا ً للمسرح الدرامي.
نظر النغدون إلى الوجهين اللذين يحدّقان إليه؛ واحد كوميدي واآلخر تراجيدي ،وسمع فجأة همهمة غريبة في
أحس بألم حادّ في جمجمته ،وتراءت له صور قناع أمام عينيه .شهق
ّ وكأن سلكا ً يُشدّ في عقله ببطء.
ّ أذنيه،
بقوة ،ويمسك برأسه.
ّ عينيه ويغمض المكتب ي
ّ كرس على يجلس وهو يديه ورفع النغدون،
كانت المرأة ذات الشعر الفضّي والتميمة تناديه مجدّدا ً من الضفّة المقابلة لنهر الدماء .اخترق صراخها اليائس
سمع بوضوح على الرغم من أصوات المعذّبين والمحتضرين الذين كانوا يتلوون أمامه على مدّ الهواء اآلسن ،و ُ
النظر .رأى النغدون مجدّدا ً الساقين المقلوبتين اللتين تحمقان الحرف ،Rوالجسد شبه المدفون الذي ّ
يحرك ساقيه
يائسا ً في الهواء.
شعر النغدون برغبة عارمة لمساعدتها ...ومساعدة الجميع .ناداها بذعر عبر نهر الدماء ،من أنت؟!
مجدّداً ،مدّت المرأة يديها ونزعت الوشاح ليظهر وجهها الجميل الذي رآه النغدون سابقاً.
فجأة ،ظهرت صورة هائلة فوقها في السماء ،عبارة عن قناع مخيف ،ذي أنف طويل معقوف ،وعينين خضراوين
ناريتين ،أخذتا تحدّقان إلى النغدون.
بقيت صورة المرأة ذات الشعر الفضّي والقناع ذي األنف المعقوف في ذهنه .أنا الحياة ،أنا الموت .حاول أن يبعد
الصورة عن عقله ،لكنّها ترسّخت فيه بشكل دائم .على المكتب أمامه ،حدّق إليه قناعا اإلعقان.
لكن ،ما من مجيب .لم تعد بعد .بعد رنّتين فقط ،ردّ المجيب اآللي.
أعلن صوت سيينّا بمرح في الرسالة الصوتية المس ّجلة باللغة اإليطالية" :ألو ،هذه أنا ،الرجاء ترك رسالة وسأقوم
باالتصال مجدّداً".
صدرت رنّة ،أعقبها صوت امرأة مذعورة تركت رسالة بلكنة أوروبية شرقية ثقيلة .وتردّد صدى صوتها في
القاعة.
"سيينّا ،أنا دانيكوفا .أين أنت؟! هذا فظيع! صديقك د .ماركوني قد مات! المستشفى مصاب بالجنون! الشرطة
هنا! والناس يقولون إنّك هربت إلنقاذ مريض؟! لماذا؟! أنت ال تعرفينه! اآلن تريد الشرطة التحقيق معك! وقد
أن المعلومات خاطئة؛ عنوان مزيّف ،ال أرقام ،تأشيرة عمل مزيّفة .لذلك لن يعثروا ملف التوظيف! أعرف ّ أخذوا ّ
ً
عليك اليوم ،لكنّهم سيجدونك قريبا! أنا أحاول تحذيرك .آسفة جدًّا سيينّا".
انتهت المكالمة.
لقد عادت.
بعد قليل ،صدح المجيب اآللي" :سيينّا ،أنا دانيكوفا .أين أنت؟!".
أجفل النغدون لعلمه بما ستسمعه سيينّا .في تلك األثناء ،أعاد اإلعقان إلى مكانه ،ورتّب المكتب ،ث ّم تسلّل عائداً
عبر الرواق إلى الح ّمام ،وقد شعر بعدم االرتياح لتطفّله على ماضي سيينّا.
أضافت" :عندما تنتهي ،تعال إلى المطبخ .أريدك أن ترى شيئا ً ها ًّما قبل االتصال بأحد".
تو ّجهت سيينّا متعبة عبر الرواق إلى غرفة النوم المتواضعة .أخرجت من الخزانة سروال جينز أزرق وقميصاً،
وأخذتهما معها إلى ح ّمامها.
دربت نفسها على االعتماد على العقل للتغلّب على المصاعب ،إالّ
لم تنقص سيينّا التحدّيات في حياتها .ومع أ ّنها ّ
أن مأزقها الحالي سبّب لها اضطرابا ً عميقاً.
ّ
وضعت الشعر المستعار جانباً ،وغسلت وجهها ويديها .وبعدما ج ّففت بشرتها ،بدّلت مقابسها وأعادت الشعر
المستعار وثبّتته بعناية .لم يكن اإلحساس بالشفقة على النفس من األمور التي تسمح بها سيينّا ،لكن اآلن ،عندما
تج ّمعت الدموع في عينيها ،أدركت أنّها لن تتم ّكن من كبحها.
وهكذا بكت.
متنوعة عرف أنّها غير شرعية.خقال السنوات العشر التي أمضاها نولتون في الكونسورتيوم ،نفّذ مه ّمات غريبة ّ
ي شيء للحفاظ
ّ أ ُ
ل فع الوحيد فالتحلّي باألخقاق الرمادية كان أمراً شائعا ً في الكونسورتيوم ،لكونه من ّ
ظمة مبدؤها
على وعد قُطع لعميل.
نتابع ح ّتى النهاية ،من دون طرح أسئلة ،ومهما كان الثمن.
أن إمكانيّة تحميل هذا الفيديو سبّبت لنولتون االضطراب .في الماضي ،مهما تكن المهام الغريبة التي نؤدّيها، غير ّ
كنّا نفهم دائما ً منطق العمليّة ...ونستوعب دوافعها ...ونفهم النتيجة المرغوبة.
غير ّ
أن هذا الفيديو محيّر.
استند نولتون إلى ظهر كرسيّه ،وأعاد تشغيل الشريط ،على أمل أن يلقي العرض الثاني مزيدا ً من الضوء على
المشهد .رفع الصوت ،واستعدّ لمشاهدة العرض الممتدّ على تسع دقائق.
المرة السابقة ،بدأ الشريط بصوت خرير مياه في الكهف الغريب المليء بالمياه ،والمغمور بضوء أحمر
كما في ّ
وللمرة
ّ ّ
مرة أخرى ،غاصت الكاميرا تحت سطح الماء المضيء ،لتكشف أرض الكهف المغطاة بالطمي. مخيفّ .
النص المنقوش على اللوحة المغمورة بالمياه:
ّ نولتون قرأ الثانية،
في هذا المكان ،وفي هذا التاريخ ،تغيّر العالم إلى األبد.
رؤية توقيع زبون الكونسورتيوم على اللوحة المصقولة سبّبت له االضطراب .ذاك التاريخ هو الغد ...وهذا األمر
أن ما أعقب ذلك هو الذي أثار أعصابه فعقاً.
أقلق نولتون كثيراً .غير ّ
مالت الكاميرا اآلن إلى اليسار لتكشف شيئا ً مذهقاً يعوم تحت الماء ،بالقرب من اللوحة تماماً.
يتموج في المياه وقد ثُبّت إلى األرض بسلك قصير .كان الجسم هنا ،كان ث ّمة جسم كروي من البقاستيك الرقيق ّ
الشفاف الرقيق مثل فقاعة صابون ضخمة ،يعوم وكأنّه بالون تحت الماء ...لم يكن منفوخا ً بالهيليوم ،بل بسائل
أن السائل الغامض يدور هقامي بنّي مائل إلى االصفرار .كان الكيس منتفخاً ،وبدا أنّه بقطر قدم تقريباً ،كما بدا ّ
ببطء داخله ،وكأنّه عين عاصفة تكبر بصمت.
شعر نولتون بالعرق يتصبّب منه ،ربّاه! فقد بدا الكيس مخيفا ً أكثر في ّ
المرة الثانية التي رآه فيها.
بعد ذلك ،ظهرت صورة جديدة؛ جدار الكهف الرطب يترقرق بانعكاس مياه البحيرة المضيئة عليه .على الجدار،
ظهر ظلّ ...ظ ّل رجل ...واقف في الكهف.
جلس نولتون بقا حراك ،حابسا ً أنفاسه ،وهو يستمع إلى الظلّ.
أنا الظلّ.
ي أن أتحدّث إلى العالم من أعماق األرض ،منفيًّا في هذا الكهف المعتم الذي
بعدما أصبحت تحت التراب ،عل ّ
تتج ّمع فيه مياه حمراء بلون الدم في بحيرة ال تعكس النجوم.
الجحيم.
لكن ،حتّى في هذا المكان ،أشعر بوقع أقدام النفوس الجاهلة التي تقاحقني ...والتي لم يكن ليردعها رادع عن
إحباط أفعالي.
قد تقولون ،سامحهم ،فهم ال يدرون ماذا يفعلون .لكن ،تأتي لحظة في التاريخ ال يعود الجهل معها أمراً مغفوراً...
لحظة وحدها الحكمة تملك فيها القدرة على الغفران.
مع ذلك ،ما زال ث ّمة من يطاردونني وكأنني كلب؛ يغذّيهم اعتقاد راسخ بأنّني مجنون .ها هي الجميلة ذات الشعر
الفضّي تجرؤ على وصفي بالوحش! شأنها شأن رجال الدين العميان الذين ناضلوا من أجل موت كوبيرنيكوس،
تنعتني بالشيطان ،ويتملّكها الذعر ألنّني استرقت نظرة إلى الحقيقة.
أنا خقاصكم.
أنا الظلّ.
الفصل 11
قالت سيينّا" :اجلس ،أودّ أن أطرح عليك بعض األسئلة".
صة بجار سيينّا ،وكانت مناسبة لهعندما دخل النغدون المطبخ ،شعر أنّه أكثر ثباتاً .كان يرتدي سترة بريوني الخا ّ
قرر شراء حذاء إيطالي عندما يعود إلى بقاده.إن الحذاء كان مريحاً ،حيث ّتماماً .حتّى ّ
سيينّا كذلك ،بجمالها الطبيعي ،تغيّرت بعدما بدّلت مقابسها ،وارتدت سروال جينز ضيّقا ً وسترة قشدية اللون،
وكقاهما كانا مناسبين لقامتها الرشيقة .ما زال شعرها معقودا ً إلى الخلف على شكل ذيل حصان ،غير أنّها بدت
أن عينيها حمراوان ،وكأنّها كانت تبكي ،فتملّكه
أكثر رقّة بعدما نزعت المقابس الطبّية الجادّة .الحظ النغدون ّ
إحساس عارم بالذنب.
"سيينّا ،أنا آسف .سمعت الرسالة الهاتفية .ال أعرف ماذا أقول".
أصبحت نبرتها أكثر حزماً ،معيدة إلى ذاكرته المقاالت التي قرأها ّ
للتو عن ذكائها ونضوجها السابق ألوانه.
قالت وهي تشير إليه للجلوس" :أريدك أن تف ّكر .هل تذكر كيف وصلنا إلى هذه الشقّة؟".
لم يكن النغدون واثقا ً من أه ّمية هذا السؤال ،غير أنه أجاب وهو يجلس أمام الطاولة" :بسيّارة أجرة .كان أحدهم
يطلق النار علينا".
"وهل تذكر عدد األعيرة النارية التي أطلقت عندما كنت في السيّارة؟".
سؤال غريب" .أجل ،اثنان .أحدهما أصاب المرآة الجانبية ،واآلخر كسر زجاج السيّارة الخلفي".
"ماذا أرتدي؟".
كان النغدون قادرا ً على التذ ّكر تماماً" .أنت تنتعلين حذاء منخفضا ً أسود ،وترتدين جينزا ً أزرق وسترة بلون
القشدة ياقتها على شكل .Vشعرك أشقر ،بطول الكتفين ،ومربوط إلى الخلف .وعيناك بنّيتان".
س ّر ّ
ألن ذاكرته التخيّلية تعمل بشكل طبيعي. فتح النغدون عينيه وتف ّحصها ،و ُ
أن حالة فقدان الذاكرة لديك انتكاسية ،وأنّك ال "هذا جيّد .فذاكرتك البصرية المعرفية ممتازة؛ األمر الذي يؤ ّكد ّ
تعاني من ضرر دائم في عمليّة التذ ّكر .هل تذ ّكرت شيئا ً جديداً عن األيّام القليلة الماضية؟".
"حسناً ...أعتقد ّ
أن هذا يضاهي :أنا فيشنو ،مد ِّ ّمر العالم".
ذرية.
هذه الجملة قالها روبرت أوبنهايمر عندما اختبر ّأول قنبلة ّ
سألته سيينّا محتارة" :هذا القناع ذو األنف المعقوف ...والعينين الخضراوين ...هل لديك أ ّ
ي فكرة عن سبب
استحضار ذهنك تلك الصورة؟".
لكن هذا النمط من األقنعة كان شائعا ً جدًّا في العصور الوسطى" .صمت قليقاً ث ّم أضاف" :إنّه يدعى
"إطقاقاًّ .
قناع الطاعون".
شرح لها النغدون باختصار أنّه في عالم الرموز ،كان القناع ذو المنقار الطويل ،بشكله الفريد ،مرادفا ً للموت
األسود؛ أي الطاعون القاتل الذي اجتاح أوروبا عام 9788تقريباً ،موديا ً بحياة ثلث الس ّكان في بعض المناطق.
أن صفة "األسود" إشارة إلى اسوداد بشرة الضحايا بسبب الغرغرينا والنزيف الذي يحدث تحت اعتقد كثيرون ّ
لكن في الواقع ،تشير هذه الصفة إلى الخوف العميق من انتشار الوباء بين الس ّكان.
الجلدْ .
أضاف النغدون" :أ ّما بالنسبة إلى القناع ذي المنقار الطويل ،فكان األطبّاء في القرون الوسطى يضعونه تجنبا ً
النتقال الوباء إليهم في أثناء معالجتهم المصابين .واليوم ،ال نراه سوى في كرنفال البندقية ،ليذ ّكرنا بحقبة كئيبة
من تاريخ إيطاليا".
سألته سيينّا بصوت مرتجف اآلن" :وهل أنت واثق أنّك رأيت أحد هذه األقنعة في هذيانك؟ قناع طبيب يعالج من
مرض الطاعون من القرون الوسطى؟".
كانت سيينّا عابسة بطريقة أوحت لقانغدون أنّها تحاول إيجاد أفضل السبل إلخباره بنبأ سيّئ" .والمرأة تقول لك
باستمرار :من يبحث يجد؟".
"روبرت ،عندما وصلت في الليلة الماضية إلى المستشفى ،كنت تحمل شيئا ً غريبا ً في جيبك .هل تذكره؟".
الملوثة
ّ "كنت تحمل شيئاً ...مثيرا ً لقاستغراب .وجدته صدفة عندما كنّا ّ
ننظفك" .أشارت إلى سترة النغدون
بالدماء ،والتي كانت موضوعة على الطاولة" .ما زال في جيبك ،يمكنك إلقاء نظرة عليه".
نظر النغدون إلى سترته بريبة .على األقلّ ،هذا يفسّر السبب الذي جعلها تعود إلحضار سترتي .أمسك بالسترة
الكرة .أخيراً ،التفت إليها وهزّ
الملوثة بالدماء ،وبحث في ك ّل جيوبها ،الواحد تلو اآلخر .لكنّه لم يجد شيئاً .فأعاد ّ
ّ
كتفيه قائقاً" :ال يوجد شيء هنا".
السري؟".
ّ "وماذا عن الجيب
سري في سترتي".
ي جيب ّ
"ماذا؟ ليس لد ّ
"حقًّا؟!" .بدا عليها االستغراب" .إذاً ،هل هذه سترة ...شخص آخر؟".
ف ّكر ،واثق تماماً .في الواقع ،هذه سترة كامبرلي المفضّلة لديه.
قلبها على الجهة األخرى ،وأظهر لسيينّا العقامة التي تحمل رمزه المفضّل في عالم الموضة ،كرة مزيّنة بثقاث
عشرة جوهرة على شكل أزرار يعلوها صليب مالطي.
دع األمر لقاسكوتلنديين الستحضار المحاربين المسيحيين على قطعة قماش صغيرة.
قالت وهي تأخذ منه السترة" :أنا أصدّقك .واآلن ،أنت انظر".
ما هذا؟!
كان النغدون واثقا ً أنّه لم يسبق له رؤية هذا الجيب الذي ت ّم إخفاؤه بطريقة ناجحة تماماً.
"إذاً ،أعتقد أنّه لم يسبق لك رؤية ...هذا؟" .مدّت سيينّا يدها إلى داخل الجيب ،وأخرجت غرضا ً معدنيا ً مصقوالً،
ووضعته بلطف بين يدَي النغدون.
"حسناً ،مع األسف ،أنا أعرف ما هذا .وأنا واثقة تماما ً أنّه السبب الذي يدفع أحدهم لمحاولة قتلك".
صة على متن المينداسيوم ،وهو يشعر بقلق متزايد كلّما ف ّكر ّ
أن عليه تحميل هذا أخذ نولتون يمشي في حجرته الخا ّ
الفيلم للعالم صباح الغد.
أنا الظلّ؟
أن هذا العميل تحديدا ً أصيب باضطراب نفسي خقال األشهر األخيرة ،غير ّ
أن هذا الفيلم يؤ ّكد سرت شائعات عن ّ
الشائعات من دون أدنى شكّ .
أدرك نولتون أنّه ال يملك سوى خيارين؛ إ ّما أن يج ّهز الشريط من أجل تسليمه غداً كما وعد الكونسورتيوم ،أو أن
يأخذه إلى الطابق العلوي ليراه العميد ويعطي رأيه بهذا الشأن.
ف ّكر نولتون ،غير أ ّنني أعرف رأيه .إذ لم يسبق له أن رأى العميد يتّخذ أ ّ
ي إجراء غير الذي وعد به .سيقول لي
ي أل ّنني سألت.
ح ّمل هذا الشريط للعالم ،من دون طرح أسئلة ...وسيثور غضبه عل ّ
المشوه مجدّداً:
ّ بصوت مكتوم ،تحدّث الظ ّل
عصر النهضة.
والدة جديدة.
ومع ذلك ،تتجرأ الجاهلة ذات الشعر الفضّي على نعتي بالوحش؟ أما زالت تجهل رياضيات المستقبل؟ واألهوال
التي سيجلبها؟
أنا الظلّ.
أنا خقاصكم.
وها أنا أقف في أعماق هذا الكهف ،وأحدّق عبر البحيرة التي ال تعكس النجوم .هنا في هذا المكان الغارق ،يكمن
الجحيم تحت المياه.
كانت األسطوانة المعدنية المصقولة ناعمة ،يبلغ طولها حوالى ستّة إنشات ،وهي مستديرة من الطرفين ،مثل
طوربيد صغير.
قالت له سيينّا" :قبل أن تتعامل مع هذا الشيء بخشونة ،ربّما يستحسن أن تنظر إلى الطرف اآلخر" .ث ّم ابتسمت
وأضافت" :قلت لي إنّك أستاذ في علم الرموز ،أليس كذلك؟".
أعاد النغدون تركيزه إلى األنبوب ،وراح يقلّبه بيديه إلى أن وقع نظره على رمز أحمر زا ٍه يظهر على جانبه.
أن عددا ً قليقاً من الصور الثمينة لديه القدرة على زرع الخوف في
بصفته طالبا ً في علم األيقونات ،كان يعرف ّ
ً العقل البشري فوراً ...غير ّ
أن الرمز الذي رآه يأتي حتما على رأس القائحة .كانت ردّة فعله عميقة ومباشرة؛
حيث وضع األنبوب على الطاولة ،واستند إلى ظهر كرسيّه.
مرة ّ
أن هذا الرمز سيّئ السمعة ص ّممته شركة داو للكيميائيات في سيتينيات القرن المنصرم كان النغدون قد قرأ ّ
ليح ّل مح ّل مجموعة من الرسومات التحذيرية التي كانت مستخدمة في السابق .وعلى غرار جميع الرموز
الناجحة ،كان بسيطا ً ومميّزا ً ويسهل نسخه .هذا الرمز الحديث الذي يشير إلى "الخطر البيولوجي" ،ويستحضر
ك ّل أنواع المخاطر من ك ّماشات سرطان البحر إلى خناجر النينجا ،قد أصبح رمزا ً عالميا ً يشير إلى الخطر في
جميع اللغات.
قالت سيينّا" :هذه األسطوانة الصغيرة أنبوب بيولوجي .وهي تُستخدم لنقل مواد خطرة .نراها أحيانا ً في المجال
الطبّي .يوجد داخلها أنبوب إسفنجي يمكن إدخال أنبوب عيّنات فيه من أجل النقل اآلمن .في هذه الحالة."...
عامل كيميائي قاتل ...أو ربّما ...فيروس؟" .صمتت قليقاً ث ّم
"أظن أنّه ِّ
ّ وأشارت إلى رمز الخطر البيولوجي،
أضافت" :أُحضرت أولى عيّنات فيروس اإليبوال من أفريقيا في أنبوب مشابه".
لم يكن هذا ما أراد النغدون سماعه" .لكن ،ماذا يفعل هذا الشيء في سترتي! أنا أستاذ في تاريخ ّ
الفن ،لماذا أحمل
شيئا ً كهذا؟!".
قالت سيينّا" :أيًّا يكن مصدره ،فهو أنبوب على درجة عالية من الجودة ،مصفّح بالتيتانيوم ،وال يمكن اختراقه
أظن أنّها قضية حكومية" .ث ّم أشارت إلى رقعة سوداء بحجم الطابع البريدي تظهر إلى جانب رمز حتّى باألشعّةّ .
تعرضه للسرقة.
ّ أو األنبوب ضياع حال في أمني تدبير هاّ نإ البصمات، على ف للتعر
ّ "هذه الخطر البيولوجي.
فهذه األنابيب ال يمكن أن تُفتح سوى من قبل شخص محدّد".
أن عقله يعمل بالسرعة الطبيعية ،إالّ أنّه ما زال يحتاج إلى بعض الوقت لقاستيعاب.
أن النغدون شعر اآلن ّ
ومع ّ
كنت أحمل عبوة مختومة تحتوي على سقاح بيولوجي.
"عندما وجدت هذه العبوة في سترتك ،أردت أن أريها للدكتور ماركوني على انفراد ،لكنّني لم أتم ّكن من ذلك قبل
صصة للبصمات خقال غيابك عن الوعي ،لكنّني لم أكن أجرب إبهامك على المنطقة المخ ّأن تستيقظ .ف ّكرت أن ّ
ي فكرة ع ّما يوجد في األنبوب ،و ."-
أملك أ ّ
هز النغدون رأسه" ،من المستحيل أن يكون هذا الشيء مبرمجا ً لكي أفتحه أنا .فأنا ال أعرف شيئا ً"إبهامي؟!"ّ .
ً
عن الكيمياء البيولوجية .ولم يسبق لي أن رأيت شيئا مثله من قبل".
فجأة ،صدرت طقطقة عالية من أنبوب التيتانيوم ،فأرجع النغدون يده وكأ ّنها احترقت .سحقاً .حدّق إلى العبوة التي
بدت وكأ ّنها على وشك أن تُفتح من تلقاء نفسها وتبدأ بإطقاق غاز قاتل .بعد ثقاث ثوان ،صدرت طقطقة أخرى،
وكأنها تُقفل مجدّداً.
تن ّهدت الطبيبة الشابّة ،وبدا عليها التوتّر" .حسناً ،من الواضح أنّك الحامل المقصود لألنبوب".
بالنسبة إلى النغدون ،بدا السيناريو بأكمله غير منطقي" .هذا مستحيلّ .أوالً ،كيف تم ّكنت من إدخال هذا األنبوب
المعدني عبر أمن المطار؟".
نظر النغدون إلى عيني سيينّا" .ك ّل ما أعرفه سيينّا هو أنّك أنقذت حياتي .لذلك ،سأعالج هذه المسألة كما
تريدين".
هزت رأسها بامتنان واقتربت من النافذة ،ووقفت تحدّق إلى الشارع في األسفل" .حسناً ،هذا ما يجب علينا فعله".
ّ
وضعت سيينّا خ ّ
طة سريعة .كانت بسيطة ،وذكية ،وآمنة.
انتظر النغدون إلى أن قامت بتشغيل خدمة حجب رقم المتّصل على هاتفها الخلوي ،وأجرت اتصاالً .كانت
أصابعها نحيلة ،لكنّها ّ
تحركت بثبات.
تكلّمت بلكنة إيطالية ممتازة" :قسم االستعقامات؟ من فضلك أودّ الحصول على رقم القنصلية األميركية في
فلورنسا".
انتظرت قليقاً ،ث ّم ّ
دونت بسرعة رقم هاتف.
أعطت النغدون رقم الهاتف مع هاتفها الخلوي" .تفضّل .هل تذكر ما عليك قوله؟".
حول المكالمة إلى مكبّر الصوت ،ووضع الهاتف على الطاولة لكي تسمع سيينّا .أجابت رسالة صوتية مس ّجلة تقدّمّ
معلومات عا ّمة عن خدمات القنصلية ،وساعات العمل التي ال تبدأ قبل الساعة 0:78صباحاً.
نظر النغدون إلى الساعة المعلّقة على الجدار .كانت تشير إلى السادسة صباحاً.
تابع التسجيل اآللي" :في الحاالت الطارئة ،يمكنكم طلب الرقم 77للتحدّث مع المو ّ
ظف الليلي".
أجاب صوت متعب باللغة اإليطالية" :هنا القنصلية األميركية ،معكم المو ّ
ظف الليلي".
أجاب الرجل بإنكليزية أميركية اللكنة" :بالطبع" .وبدا عليه بعض االنزعاج بسبب اضطراره إلى االستيقاظ.
"كيف يمكنني مساعدتك؟".
"هقاّ أعطيتني رقم جواز سفرك من فضلك؟" .وتثاءب الرجل بصوت مسموع.
"روبرت النغدون".
سمع حفيف ،تقاه صوت أصابع الرجل وهي تطبع على لوح مفاتيح .صدرت طنّة عن جهاز الكمبيوتر ،ث ّم ساد ُ
الصمت ،قبل أن تعود األصابع للطباعة مجدّداً .صدرت طنّة أخرى ،تبعتها ثقاث طنّات عالية.
"حسنا ً سيّدي ،اسمك مرفق بإشارة تأمرني بتحويلك فورا ً إلى مدير القنصل العا ّم" .وصمت الرجل ،وكأنّه هو
نفسه لم يصدّق" .ابقَ على الخ ّ
ط".
"انتظر ،هل يمكنك إخباري ."-
يرن مجدّداً.
راح الهاتف ّ
أخذ النغدون نفسا ً عميقاً ،وتحدّث بهدوء ووضوح قدر اإلمكان" .سيّد كولينز ،اسمي روبرت النغدون .أنا
تعرضت إلطقاق نار .أحتاج إلى المساعدة .أودّ المجيء إلى القنصلية
أميركي في زيارة إلى فلورنسا وقد ّ
األميركية حاالً ،هل يمكنك مساعدتي؟".
من دون تردّد ،أجاب الصوت العميق" :الحمد هلل أنّك على قيد الحياة سيّد النغدون .كنّا نبحث عنك".
الفصل 12
القنصلية تعرف بوجودي هنا؟!
بالنسبة إلى النغدون ،جلب له هذا الخبر قدراً كبيرا ً من الراحة على الفور.
تحدّث معه السيّد كولينز الذي قدّم نفسه على أنّه مدير القنصل العا ّم بنبرة حازمة ومهنية ،إالّ أنّه لمس شيئا ً من
اإللحاح في صوته" .سيّد النغدون ،علينا التحدّث فوراً ،وبالطبع ليس هاتفياً".
قال النغدون وهو ينظر عبر النافذة إلى الفندق الصغير الذي أشارت إليه سيينّا منذ لحظات" :أنا في فندق صغير
يدعى بينسيوني ال فيورينتينا" .وأعطى كولينز عنوان الشارع.
تتحرك من مكانك ،وابقَ في غرفتك .سيأتي شخص ما فوراً إلحضارك .ما هو رقم
ّ أجاب الرجل" :ممتاز .ال
الغرفة؟".
"حسناً .انتظر عشرين دقيقة" .ث ّم أخفض كولينز صوته وقال" :سيّد النغدون ،يبدو أنّك مصاب ومرتبك ،لكن
ي أن أعرف ...أما زالت بحوزتك؟". عل ّ
المموه ليس له سوى معنى واحد .نظر إلى األنبوب البيولوجي الموضوع على
ّ بحوزتي! شعر النغدون ّ
أن السؤال
طاولة المطبخ وأجاب" :أجل ،سيّدي .ما زالت بحوزتي".
تن ّهد كولينز بصوت مسموع" .عندما لم نسمع منك شيئاً ،افترضنا ...في الواقع ،بصراحة ،افترضنا األسوأ .أشعر
تتحرك .سيطرق أحدهم بابك بعد عشرين دقيقة". ّ باالرتياح اآلن .ابقَ مكانك ،وال
للمرة األولى منذ أن استيقظ في المستشفى .القنصلية تعلم بما يجري ،وقريباً سأحصل
شعر النغدون باالسترخاء ّ
ّ
على أجوبة .أغمض عينيه وتن ّهد ،وشعر أنه كائن بشري اآلن .لم يكن صداعه قد فارقه بعد.
قالت سيينّا بنبرة ممازحة" :كان هذا الحديث مخابراتيا ً جدًّا ،هل أنت جاسوس؟".
في تلك اللحظة ،لم يكن النغدون يعرف من يكون .ففقدان يومين كاملين من ذاكرته ليجد نفسه في هذا الوضع
ظف قنصلي في فندق صغير. الغريب أمر لم يستطع فهمه ،إالّ أنّه اآلن ...على بعد عشرين دقيقة من موعد مع مو ّ
نظر إلى سيينّا ،وأدرك أنّهما على وشك االفتراق ،غير أنّه شعر أنّه ما زالت ث ّمة مسائل عالقة بينهما .تذ ّكر
الطبيب الملتحي في المستشفى الذي مات على األرض أمام عينيها ،وهمس قائقاً" :سيينّا ،صديقك ...د.
ماركوني ...أشعر بأسف رهيب".
ّ
هزت رأسها بكآبة.
أن وضعك في المستشفى ليس طبيعياً ،وفي حال حدوث "كما أنّني آسف أل ّنني ّ
ورطتك في هذا األمر .أعرف ّ
تحقيق."...
جلسا بصمت لدقيقة كاملة ،وازداد الهواء ثققاً بينهما ،وكأ ّنهما يرغبان في الكقام لكنّهما ال يجدان ما يقوالنه .إنّهما
غريبان في النهاية ،جمع بينهما القدر في لقاء قصير وغريب ،وقد وصقا إلى مفترق طرق ،وعلى ك ّل منهما
الذهاب في سبيله اآلن.
قال النغدون أخيراً" :سيينّا ،عندما أح ّل هذا األمر مع القنصلية ،إن كان ث ّمة ما أستطيع القيام به لمساعدتك...
أرجوك".
مع مرور الوقت ،نظرت سيينّا بروكس عبر نافذة المطبخ ،وتساءلت إلى أين سيقودها هذا النهار .أيًّا يكن ما
سيحدث ،لم يكن لديها أدنى شكّ أنّه بحلول اليوم التالي ،سيبدو عالمها مختلفا ً كثيراً.
أن األدرينالين هو المسؤول عن إحساسها على األرجح ،لكنّها وجدت نفسها منجذبة على نحو غريب إلى أدركت ّ
ً ً
البروفيسور األميركي .فباإلضافة إلى كونه وسيما ،بدا فعقا طيّب القلب .في حياة أخرى ،ربّما كان روبرت
النغدون شخصا ً تستطيع أن تكون معه.
متضررة.
ّ ف ّكرت ،لن يرغب بي أبد ًا .فأنا
بينما كانت تطرد تلك األفكار من رأسها ،لفت نظرها شيء ما في الخارج .استقامت ،وضغطت وجهها على
الزجاج ،وراحت تحدّق إلى الشارع" .روبرت ،انظر!".
أخرجت مسدّسا ً مألوفاً ،وتحقّقت من كاتم الصوت ،ث ّم أعادته إلى جيب السترة .بعد ذلك ،مشت برشاقة ،ودخلت
الفندق.
تدفّق األدرينالين في جسده مشتّتا ً أفكاره مجدّداً" .هل يعقل أن ترسل حكومة بقادي شخصا ً لقتلي!".
مرة أخرى الكلمات التي كان يتمتم بها عندما وصل مترنّحا ً إلى المستشفى.
تذ ّكر النغدون ّ
قالت سيينّا" :أنت لست بمأمن هنا .كقانا لسنا بمأمن هنا" .وأشارت إلى الشارع مضيفة" :لقد رأتنا تلك المرأة
أن حكومتك والشرطة تحاوالن تع ّقبي .شقّتي مستأجرة بعقد إيجار باسم نفر من المستشفى معاً .وأنا متأ ّكدة ّ
ونحن ّ
حولت انتباهها إلى األنبوب البيولوجي الموضوع على الطاولة ي في النهاية" .ث ّم ّ ّ
شخص آخر ،لكنهم سيعثرون عل ّ
وقالت" :عليك أن تفتح هذا حاالً".
قالت سيينّا" :مهما يكن ما يوجد في ذلك األنبوب فقا بدّ من وجود رمز تعريف ،أو ملصق وكالة ،أو رقم هاتف،
ي شيء .أنت بحاجة إلى المعلومات ،وأنا كذلك؛ فحكومتك قتلت صديقي!". أ ّ
تأثّر النغدون بسبب األلم الذي بدا في صوت سيينّا ،فأومأ مدركا ً أ ّنها محقة" .نعم ،أنا ...آسف جدًّا" .وأجفل وهو
مرة أخرى .التفت إلى األنبوب الموضوع على الطاولة ،متسائقاً عن األجوبة التي قد يكشف يسمع تينك الكلمتين ّ
عنها" .قد يكون فتح هذا الشيء خطرا ً جدًّا".
الدراجة السوداء المركونة خارج الفندق .لم تكن المرأة قد خرجت بعد ،لكنّها
نظر النغدون عبر النافذة إلى ّ
أن النغدون ليس في الداخل .وتساءل ع ّما ستكون عليه خطوتها التالية ...وكم ستستغرق منسرعان ما ستكتشف ّ
الوقت قبل أن تطرق على باب الشقّة.
اتّخذ النغدون قراره .حمل أنبوب التيتانيوم ،ووضع إبهامه على المنطقة البيومترية متردّداً .عندئذ ،فُتح األنبوب
مصدرا ً طقطقة عالية.
قبل أن ينغلق األنبوب مجدّدا ً من تلقاء نفسه ،أدار النغدون نصفيه باتّجاهين معاكسين .بعد ربع دورة ،طقطق
األنبوب مجدّداً ،وعرف النغدون ّ
أن ال عودة إلى الوراء.
بتعرق في يديه وهو يواصل فتح األنبوب .استدار النصفان بسقاسة وهو يواصل فتحهما ،وشعر وكأنّه على شعر ّ
ّ
وشك فتح دمية روسية ثمينة؛ باستثناء أنه ال يملك فكرة ع ّما يوجد داخلها.
بعد خمس دورات ،فُتح النصفان .أخذ النغدون نفسا ً عميقا ً وفصلهما عن بعضهما بلطف .اتّسعت الفجوة بين
طاط اإلسفنجي .وضعه النغدون على الطاولة .كانت الحشوة الواقية تشبه النصفين ،وانزلق قلبها المصنوع من الم ّ
إلى حدّ ما طابة كرة القدم الطويلة.
ال شيء.
ثنى النغدون قليقاً أعلى الغقاف الواقي ،ليكشف أخيراً ع ّما يوجد داخله.
حدّقت سيينّا إلى المحتوى ،ث ّم رفعت رأسها وبدا عليها االستغراب" .حتماً ،ليس هذا ما توقّعته".
كان السومريون هم الذين اخترعوا األختام األسطوانية عام 7188ق.م ،لتكون ّأول أشكال الطباعة بالنقش الغائر.
كان الختم يزيَّن بزخرفات ،ويت ّم تجويف قلبه األسطواني ،حيث يمكن إدخال محور فيه ودحرجته مثل أسطوانة
متكرر من الرموز ،أو الصور ،أو
ّ الطقاء الحديثة ،وذلك على الطين أو الف ّخار الرطب ،من أجل "طبع" شريط
النصوص.
أن هذا الختم نادر وقيّم بقا شكّ ،إالّ أنّه لم يفهم مع ذلك لماذا يوضع في علبة من التيتانيوم وكأنّه
أدرك النغدون ّ
سقاح بيولوجي.
نظر النغدون إلى سبعة حروف منحوتة تحت الصورة .كان النقش المزخرف مكتوبا ً وكأنّه على مرآة ،كما هو
حال جميع األختامّ ،
لكن النغدون قرأ بسهولة حروف النقش.SALIGIA :
ّ
هز النغدون رأسه ،وشعر بقشعريرة لدى سماعه الكلمة بصوت عا ٍل" .إنّها كلمة التينية ابتكرها الفاتيكان في
العصور الوسطى لتذكير المسيحيين بالخطايا السبع المميتة .ساليدجيا اختصار للكلماتsuperbia, " :
."avaritia, luxuria, invidia, gula, ira, and acedia
عبست سيينّا وترجمت" :الكبرياء ،الجشع ،الشهوة ،الحسد ،الشراهة ،الغضب ،والكسل".
وحول نظره إلى الختم متسائقاً مجدّدا ً عن سبب حفظه في أنبوب بيولوجي وكأنّه يش ّكل خطورة.
ابتسم النغدونّ ،
قالت سيينّا" :اعتقدت أنّه من العاج ،لكنّه مصنوع من العظام" .دفعت القطعة األثرية إلى ضوء الشمس ،وأشارت
يتكون في خطوط متقاطعة على شكل ألماس مع تصدّعات شفّافة ،أ ّما إلى الخطوط الموجودة عليها" .فالعاج ّ
فتتكون من هذه التصدّعات المتوازية والندب الداكنة".
ّ العظام
تناول النغدون الختم وتف ّحص النقوش عن كثب .كانت األختام السومرية األصلية تحمل نقوش شخصيات بدائية
أن هذا الختم يحمل نقوشا ً متقنة أكثر بكثير .خ ّمن النغدون أنّه ينتمي إلى العصور
وكتابات مسمارية .غير ّ
أن زخرفاته توحي بعقاقة مثيرة لقاضطراب مع الصور التي يهذي بها. الوسطى .أضف إلى ذلك ّ
متكرر" ،وأشار إلى أحد نقوش الختم" .فالشيطان ذو الرؤوس الثقاثة الذي يأكلّ قال النغدون بتج ّهم" :موضوع
رجاالً صورة شائعة في العصور الوسطى؛ إنّه أيقونة تقترن بالموت األسود .فاألفواه الثقاثة ترمز لمدى قدرة
الطاعون على الفتك بالناس".
نظرت سيينّا بقلق إلى رمز الخطر البيولوجي الظاهر على األنبوب.
أقر على مضض تتكرر منذ الصباح من دون أن يكترث النغدون لذلك .هكذاّ ،
أن اإلشارات إلى الطاعون ّ يبدو ّ
بوجود عقاقة أخرى" .تمثّل كلمة ساليدجيا الخطايا الجماعية للجنس البشري ...وهي ،بحسب المبادئ الدينية التي
كانت تلقَّن في القرون الوسطى ."-
أكملت سيينّا الجملة" :السبب الذي عاقب هللا الناس من أجله بالموت األسود".
قال النغدون" :ث ّمة شيء ما في الداخل ،ويبدو أنّه مصنوع من الزجاج" .قلب األسطوانة رأسا ً على عقب للتحقّق
فاهتز شيء صغير في الداخل ،وتدحرج من طرف إلى آخر ،مثل كرة موضوعة داخل ّ من الطرف اآلخر،
أنبوب.
ما هذا؟!
ّ
هز النغدون رأسه وحدّق بحذر إلى طرف العبوة" .يبدو ّ
أن الفتحة مسدودة بشيء ...معدني" .ربّما هو غطاء
أنبوب اختبار؟
أظن ذلك" .قلب األنبوب مجدّدا ً لتف ّحص الطرف الزجاجي ،فتكرر الصوت .بعد لحظة ،حصل للزجاج في
"ال ّ
ّ
األسطوانة شيء غير متوقع على اإلطقاق.
تتحرك!".
ّ حملقت سيينّا مذهولة" .روبرت ،توقّف! ال
الفصل 14
وقف النغدون جامدا ً تماماً؛ يده معلّقة في الهواء ،وهو يحمل األسطوانة بثبات .من دون أدنى شكّ ،كان الزجاج
ّ
وكأن محتوياته قد استيقظت فجأة. الموجود في طرف األنبوب يتو ّهج...
اقتربت سيينّا وقد تسارعت أنفاسها .لوت رأسها وتأ ّملت الجزء المرئي من الزجاج داخل األنبوب العظمي.
قلب النغدون األنبوب بلطف ،رأسا ً على عقب .فتدحرج الشيء الصغير على طول األنبوب ،وتوقّف.
محرضة".
ّ أعلنت سيينّا" :ال بدّ أنّه أنبوب اختبار يحتوي على كرة
المحرضة مألوفة لدى النغدون ،فهي تُستخدم في عبوات رذاذ الطقاء ،وتساعد على تحريك المادّة
ِّ ّ كانت الكرات
خض العبوة.
ّ عند
قالت سيينّا" :من المر ّجح أنّه يحتوي على مر ّكب كيميائي فوسفوري ،أو كائن بيولوجي مضيء يتو ّهج عند
تحفيزه" .كانت أفكار مختلفة تراود النغدون .فرغم أنّه رأى عصيًّا تتو ّهج بضوء كيميائي ،وعوالق مضيئة
ي من هذه بيولوجيا ً تتو ّهج عندما يقتحم قارب ما بيئتها ،إالّ أنّه كان واثقا ً ّ
أن هذه األسطوانة ال تحتوي على أ ّ
ّ
مرات إلى أن تو ّهج ،ث ّم و ّجه الطرف المضيء إلى كفّه .وكما توقع ،ظهر ضوء األشياء .قلّب األنبوب برفق عدّة ّ
خفيف مائل إلى االحمرار على جلده.
واصل ّ
هز األنبوب ،ث ّم تو ّجه إلى المقبس وأطفأ مصباح الغرفة ،فخيّم الظقام على المطبخ نسبيًّا .قال وهو يواصل
شر فاراداي". قوته" :هذا ليس أنبوب اختبار ،بل إنه مؤ ّ ّ
هز األنبوب بأقصى ّ
بدأ طرف األداة يتو ّهج بشدّة ،فنظر النغدون إلى سيينّا وابتسم قائقاً" :حان وقت العرض".
شر العظيم إلى بقعة خالية على جدار المطبخ .وعندما أضاء الجدار ،شهقت سيينّا .إالّ ّ
أن النغدون كان و ّجه المؤ ّ
هو من فوجئ أكثر.
سلّط على الجدار عبارة عن بقعة حمراء صغيرة ،بل كان صورة حيّة وواضحة انبعثت من
لم يكن الضوء الذي ُ
األنبوب وكأنّه جهاز قديم لعرض الشرائح.
المروع الذي رآه أمامه على الجدار .ال عجب أ ّنني كنت أرى
ّ يا إلهي! ارتجفت يد النغدون وهو ينظر إلى المشهد
صور موت.
إلى جانبه ،وضعت سيينّا يديها على فمها ،وخطت خطوة إلى األمام ،وقد هالها ما تراه.
كانت التحفة المنعكسة أمامه -ال مابّا ديل إنفيرنو -من صنع أحد عمالقة عصر النهضة اإليطالية ،ساندرو
صلة لعالم ما تحت األرض ،خارطة الجحيم ،وش ّكلت إحدى أكثر الرؤى بوتيتشيلّي .وكانت عبارة عن خارطة مف ّ
فظاعة لما بعد الموت .كانت تلك اللوحة القاتمة ،والكئيبة ،والمرعبة تستوقف الناس حتّى في يومنا هذا .فخقافا ً
للوحة بريمافيرا ،أو والدة فينوس النابضة باأللوان والحياة ،رسم بوتيتشيلّي خارطة الجحيم بدرجات كئيبة من
ألوان األحمر ،والبنّي الداكن ،والبن ّ
ي.
وللمرة األولى منذ استيقاظه في مستشفى غريب -شعرّ فجأة ،عاد الصداع المؤلم يعتصر رأس النغدون ،إالّ أنّه -
أن إحدى قطع األحجية قد سقطت في مكانها .من الواضح ّ
أن هلوساته المخيفة أثارتها رؤية هذه اللوحة الشهيرة. ّ
ف ّكر ،ال بدّ أ ّنني كنت عاكفاً على دراسة لوحة بوتيتشي ّلي ،خارطة الجحيم .لكنّه ال يذكر السبب.
أن مصدر تلك اللوحة هو ما بدأ يثير اضطراب النغدون على نحو أن اللوحة بحدّ ذاتها كانت مزعجة ،إالّ ّمع ّ
أن اإللهام الذي ولّد هذه التحفة الكئيبة لم ينشأ في عقل بوتيتشيلّي نفسه ...بل
متزايد .فقد كان النغدون يعرف جيّدا ً ّ
في عقل شخص عاش قبله بمائتي عام.
في الواقع ،كانت خارطة الجحيم التي رسمها بوتيتشيلّي عبارة عن تكريم لعمل أدبي يرجع إلى القرن الرابع
ومروعة للجحيم ما زال صداها يتردّد
ّ تحول الحقا ً إلى أشهر األعمال األدبية في التاريخ ...رؤية مشهورة
عشرّ ،
حتّى يومنا هذا.
إنفيرنو دانتي.
صصا ً للخدمة ،واختبأت على سطح الفندق الصغير .كان في الجهة المقابلة من الشارع ،تسلّقت فايينثا سلّما ً مخ ّ
ّ
النغدون قد أعطى رقم غرفة ال وجود له ،ومكان لقاء وهميًّا للشخص الذي تكلم معه في القنصلية؛ وهي تقنية
معروفة تتيح له تقييم الوضع قبل أن يكشف مكانه الحقيقي .وعادة ،يت ّم اختيار الموقع المزيّف ألنّه يقع على مرأى
من المكان الفعلي.
وجدت فايينثا نقطة مراقبة جيّدة على السطح يمكنها أن تط ّل منها على المنطقة بأكملها .ببطء ،أخذت تمسح
بنظرها المبنى السكني المقابل.
عرضت العميلة الميدانية فايينثا ك ّل شيء للخطر ،ومع أنّها ستخضع للتحقيق عند انتهاء هذه المه ّمة ،إالّ ّ
أن لقد ّ
العميد ما زال بحاجة إليها.
سمع خطوات سريعة خلفه ،فاستدار ليرى إحدى المحلّقات اللواتي يعملن لديه تصل مسرعة.
قالت الهثة" :سيّدي ،لدينا معلومات جديدة" .بدا صوتها حادًّا على نحو غير معهود" .يبدو ّ
أن روبرت النغدون
دخل حساب بريده اإللكتروني من عنوان بروتوكول إنترنت غير محجوب" .صمتت ،ث ّم نظرت إلى عيني العميد
وأضافت" :أصبح بإمكاننا تتبّع موقع النغدون بدقّة".
التصرف الغبي .هذا يغيّر ك ّل شيء .جمع أصابعه وحدّق إلى الساحل ،وأخذ يف ّكر في
ّ ذُهل العميد من هذا
العواقب" .هل لدينا أخبار عن فريق المراقبة والدعم؟".
كان كتاب الجحيم ،أو إنفيرنو ،الذي يُعتبر أحد أبرز األعمال األدبية في العالم ،واحداً من الكتب الثقاثة التي تؤلّف
عمل دانتي أليغييري ،الكوميديا اإللهية ،وهي قصيدة ملحمية من 902677بيتاً ،تصف رحلة دانتي المخيفة إلى
عالم ما تحت األرض ،مروراً بالمطهر ،إلى أن يصل أخيراً إلى الجنّة .ومن بين الكتب الثقاثة ،أي إنفيرنو،
وبورغاتوريو ،وباراديزو ،كان الكتاب األ ّول هو األكثر انتشاراً وحضورا ً في الذاكرة.
تصوراتّ األول من القرن الرابع عشر ،وأعاد فيه تعريف ألّف دانتي أليغييري كتابه إنفيرنو في بدايات العقد ّ
القرون الوسطى للعقاب اإللهي .لم يكن قد سبق لمفهوم الجحيم أن أسر الناس بهذه الطريقة الممتعة .لكن ،بعد
مروعاً،
المجرد للجحيم ووضعه في إطار واضح ومخيف؛ كان ّ ّ عزز عمل دانتي المفهوم عشية وضحاهاّ ،
وملموساً ،وال يُنسى .وال عجب أ ّنه بعد إصدار القصيدة ،شهدت الكنيسة الكاثوليكية ارتفاعا ً هائقاً في أعداد
صورها دانتي للجحيم. الحضور من قبل خطأة مذعورين سعوا إلى تجنّب الهقاك في النسخة المحدّثة التي ّ
في هذه اللوحة التي رسمها بوتيتشيلّي ،ت ّم تصوير رؤية دانتي المرعبة للجحيم على شكل قمع تحت األرض
تتدرج فيه المعاناة؛ مشهد مخيف من النار والكبريت ومياه الصرف الص ّحي والوحوش ،فضقاً عن الشيطان نفسه ّ
الذي ينتظر في المركز .تتألّف الحفرة من تسعة مستويات مختلفة؛ هي حلقات الجحيم التسع ،وفيها يت ّم إلقاء
الخطأة بحسب فداحة خطيئتهم .على مقربة من السطح ،تهبّ على أصحاب الشهوات رياح أبدية ،ترمز إلى
عجزهم عن السيطرة على رغباتهم .تحتهم ،يُجبر الشرهون على االستلقاء على وجوههم في مياه الصرف
صر المهرطقون في توابيت مشتعلة ،ويُحكم الص ّحي القذرة ،لتمتلئ أفواههم بقذارتهم .وعلى مستوى أعمق ،يحا َ
عليهم بالنار األبدية .وهكذا ،يتضاعف العذاب كلّما انخفض المستوى.
خقال القرون السبعة منذ نشر الكتاب ،ألهمت رؤية دانتي للجحيم أعماالً أخرى ،وترجمات ،وأعماالً أدبية مختلفة
من قبل عدد من أعظم العقول المبدعة في التاريخ .هكذا كتب لونغفيلو ،وتشوسر ،وماركس ،وميلتون ،وبالزاك،
وبورخس ،وحتّى عدد من البابَوات نصوصا ً مستندة إلى إنفيرنو دانتي .كما ألّف مونتيفيردي ،وليزت ،وفاغنر،
وتشايكوفسكي ،وبوتشيني مقطوعات موسيقية مرتكزة على عمل دانتي ،وكذلك فعلت واحدة من موسيقيات
العصر المفضّقات لدى النغدون؛ لورينا ماكينيت .حتّى ّ
إن العالم المعاصر من ألعاب الفيديو وتطبيقات آي باد لم
يوفّر موضوعات ذات صلة بدانتي.
تواقا ً إلى مشاطرة طقاّبه الثراء الرمزي النابض بالحياة لرؤية دانتي ،لذلك كان يعطيهم في بعض
كان النغدون ّ
المتكررة لدى دانتي واألعمال التي استُلهمت منه على ّ
مر القرون. ّ األحيان مادّة عن الصور
قالت سيينّا وهي تقترب من الصورة الظاهرة على الجدار" :روبرت ،انظر!" .وأشارت إلى منطقة قريبة من
المصور على شكل قمع.
ّ أسفل الجحيم
أشارت سيينّا بحماسة أكبر" .انظر! ألم تقل إنّك رأيت هذا وأنت تهذي؟!".
ير شيئاً .كان جهاز العرض الصغير يخسر طاقته؛ حيث ر ّكز النغدون نظره إلى حيث أشارت سيينّا ،لكنّه لم َ
بقوة مجدّداً .عندئذٍ ،وضعه بحذر على مسافة أبعد من
بقوة إلى أن ش ّع ّ
بخض الجهاز ّ
ّ بدأت الصورة تتقاشى .فقام
الجدار ،على طرف طاولة المطبخ الصغيرة؛ حيث انعكست منه صورة أكبر .اقترب النغدون من سيينّا ،ووقف
جانبا ً لتأ ّمل الخارطة المتو ّهجة.
أشارت سيينّا مجدّدا ً إلى الحلقة الثامنة" .انظر .ألم تقل إنّك رأيت في هلوساتك ساقَين بارزتين من األرض رأسا ً
على عقب ،تحمقان الحرف R؟" .ث ّم لمست بقعة محدّدة على الجدار ،وأضافت" :ها هما!".
مرات عديدة وهو يتأ ّمل هذه اللوحة ،كان الخندق العاشر من الماليبولغي يع ّج بخطأة نصفكما الحظ النغدون ّ
لكن الغريب في هذه النسخة هو ّ
أن الساقين تحمقان مدفونين رأسا ً على عقب ،سيقانهم بارزة فوق األرضّ .
الحرف ،Rمكتوبا ً بالطين؛ تماما ً كما رآه النغدون في هذيانه.
يا إلهي! حدّق النغدون جيّدا ً إلى هذا التفصيل الصغير" .هذا الحرف ...Rغير موجود بالتأكيد في لوحة
بوتيتشيلّي األصلية!".
تبع النغدون إصبعها إلى خندق آخر من الخنادق العشرة ،ليرى الحرف Eمكتوبا ً على جثّة كاذب ،رأسه مثبّت
إلى الوراء.
بدأت تظهر أمامه أحرف أخرى ،مكتوبة على خطأة موجودين في الخنادق العشرة للماليبولغي .رأى الحرف C
لص تعضّه األفاعي باستمرار ...والحرف Aعلى مغرر يقوم الشياطين بجلده ...وحرف Rآخر على ّعلى ّ
سياسي فاسد غارق في بحيرة من القطران المغلي.
قال النغدون بيقين" :هذه األحرف غير موجودة بالتأكيد في لوحة بوتيتشيلّي األصلية .لقد ت ّم تعديل هذه الصورة
رقمياً".
حول نظره إلى الخندق األعلى من الماليبولغي ،وبدأ يقرأ األحرف نزوالً ،عبر ك ّل من الخنادق العشرة ،من
ّ
األعلى إلى األسفل.
C… A… T… R… O… V… A… C… E… R
ّ
هزت سيينّا رأسها نافية" .كما أ ّنها ليست التينية .ال أعرف معناها".
قالت بتش ّككCatrovacer" :؟ ال تبدو لي اسماً .لكن انظر هناك" .وأشارت إلى إحدى الشخصيات العديدة
الموجودة في الخندق الثالث.
أحس بقشعريرة .فقد رأى بين حشود الخطأة في الخندق الثالث صورة أيقونية ّ عندما نظر النغدون إلى الصورة،
من العصور الوسطى ،عبارة عن رجل يرتدي معطفا ً ويضع قناعا ً ذا أنف طويل يشبه المنقار ،وعينين ميتتين.
قناع الطاعون.
سألته سيينّا" :هل تتض ّمن لوحة بوتيتشيلّي األصلية طبيب طاعون؟".
كانت معرفة النغدون باللغة اإليطالية محدودة ،لكنّها كافية لفهم معنى الجملة" .ال يمكن لمح الحقيقة إالّ عبر عيون
الموت".
وقف االثنان بصمت ،في حين بدأت الصورة تتقاشى أمامهما ببطء .ف ّكر النغدون ،ما زال إنفيرنو دانتي مصدر
إلهام للتحف الف ّنية منذ عام .9778
كانت المادّة التي يعطيها النغدون عن دانتي تتض ّمن دائما ً جزءا ً كامقاً عن األعمال الفنّية المستلهمة من إنفيرنو.
فباإلضافة إلى خارطة الجحيم الشهيرة التي رسمها بوتيتشيلّي ،صنع رودان منحوتته الرائعة التي تحمل اسم
الظقال الثقاثة من أبواب الجحيم ...وقام سترادانوس بتصوير فليجياس وهو يجذّف بين الجثث الغارقة في نهر
صور بوغرو مشهداً إباحيا ًستيكس ...ونرى خطأة الشهوة لدى ويليام بقايك تعصف بهم رياح أبدية ...في حين ّ
ّ
غريبا ً يُظهر دانتي وفيرجيل وهما يشاهدان ر ُجلين عاريَين يتعاركان ...ونرى األرواح المعذبة لدى بايروس
كالبرد من الجمر وقطرات النار ...كذلك ،يملك سالفادور دالي سلسلة غريبة جدًّا من األلوان َ جالسة تحت سيل
تصور
ّ ً
المائية والكليشيهات الخشبية ...هذا فضقا عن مجموعة دوريه الضخمة من النقوش باألبيض واألسود التي
ك ّل شيء؛ من نفق المدخل إلى الجحيم ...إلى الشيطان المجنّح نفسه.
أن تأثير رؤية دانتي الشاعرية للجحيم لم يقتصر على أه ّم الفنّانين عبر التاريخ .على ما يبدو ،لقد ألهمت
يبدو اآلن ّ
ملحمته شخصا ً آخر؛ نفسا ً منحرفة عمدت إلى تعديل لوحة بوتيتشيلّي الشهيرة رقمياً ،مضيفة إليها عشرة حروف،
وطبيب طاعون ،ووقّعتها بعبارة مشؤومة عن رؤية الحقيقة عبر عيون الموت .بعد ذلك ،قام هذا الفنّان بتخزين
الصورة على جهاز عرض عالي التقنية ،موضوع في قطعة عظام مزيّنة بنقش مخيف.
ي في
لمحرك قو ّ
ّ بينما كانت سيينّا واقفة مع النغدون في المطبخ يف ّكران في الخطوة التالية ،تردّد هدير غير متوقّع
طع إلطارات تتوقّف فجأة ،وأبواب سيّارة تصفق. الشارع ،تبعه صوت متق ّ
ي عقامة .تدفّق من داخلها فريق من الرجال ،يرتدون رأت سيارة فان سوداء متوقّفة في الشارع وال تحمل أ ّ
جميعا ً البذالت السوداء ،ويضعون شارات دائرية خضراء على أكتافهم اليسرى .حملوا بنادقهم اآللية وتقدّموا
ي تردّد ،اندفع أربعة جنود نحو مدخل المبنى السكني.
على نحو عسكري عنيف .ومن دون أ ّ
صاحت سيينّا وقد تج ّمد الدم في عروقها" :روبرت! ال أعرف من هم ،لكنّهم عثروا علينا!".
في الشارع ،صاح العميل كريستوف برودر ،مصدرا ً األوامر إلى رجاله وهم يسرعون إلى المبنى .كان رجقاً
قوي البنية ،منحه تاريخه العسكري إحساسا ً راسخا ً بالواجب ،وعلّمه احترام التسلسل القيادي .كان يعرف مه ّمته،
ويدرك المخاطر التي تنطوي عليها.
ظمة التي يعمل لحسابها تتض ّمن أقساما ً عديدة ،إالّ ّ
أن الشعبة التي ينتمي إليها برودر ،أي شعبة المراقبة كانت المن ّ
يتحول الوضع إلى "أزمة". ّ ّ ُ
والدعم ،ال تستدعى إال عندما
بينما اختفى الرجال في المبنى السكني ،وقف برودر مراقبا ً المدخل ،ث ّم أخرج جهاز االتصال واتصل بالمسؤول.
قال" :أنا برودر .نجحنا في تعقّب النغدون عبر عنوان بروتوكول اإلنترنت لجهازه .فريقي دخل اآلن .سأبلغكم
عندما يصبح بين أيدينا".
على ارتفاع عدّة طوابق فوق برودر ،على سطح بينسيوني ال فيورينتينا ،حدّقت فايينثا غير مصدّقة إلى العمقاء
الذين اندفعوا إلى داخل المبنى السكني.
قوض مه ّمتها
مررت يدها عبر شعرها ،وقد فهمت فجأة عواقب مه ّمتها الفاشلة في الليلة الماضية .هديل حمامة ّ
ّ
تحول اآلن إلى كابوس فعلي. بأكملها وأخرجها عن السيطرة .ما بدأ كمه ّمة بسيطةّ ...
تمتمت" :سيّدي ،فريق المراقبة والدعم هنا! رجال برودر يمألون المبنى السكني المقابل!".
انتظرت الجواب ،لكن عندما أتى ،لم تسمع سوى نقرات حادّة على الخ ّ
ط ،تبعها صوت إلكتروني قال بهدوء" :لقد
صل".
بدأ بروتوكول التن ّ
أخفضت فايينثا الهاتف ،ونظرت إلى الشاشة في الوقت الذي انطفأ فيه الجهاز.
شحب وجهها ،وحاولت إجبار نفسها على قبول ما آلت إليه األمور .لقد قطع الكونسورتيوم ك ّل روابطه بها.
صل م ّني.
لقد تمّ التن ّ
مشوشة بالصور الكئيبة لجحيم دانتي وهو يندفع من الباب إلى ردهة المبنى السكني.
كانت أفكار روبرت ما زالت ّ
حتّى تلك اللحظة ،تم ّكنت سيينّا بروكس من التغلّب على توتّرها الصباحي الكبير بسلوك هادئ .زال اآلن إثر
الخوف الحقيقي.
ُ انفعال لم يسبق النغدون أن رآه لديها من قبل
طاطي الخفيف .كان جهاز العرض الصغير الموضوع تبعها النغدون عن قرب ،وأسرع خلفها منتعقاً حذاءه الم ّ
في جيب سترته األمامي يرتطم بصدره وهو يركض .ومضت في رأسه األحرف الغريبة التي تزيّن الحلقة الثامنة
من الجحيم .CATROVACER :تخيّل قناع الطاعون والجملة الغريبة :ال يمكن لمح الحقيقة إ ّال عبر عيون
الموت.
حاول النغدون أن يربط بين هذه العناصر المتباعدة ،لكنّها بدت له بقا معنى في تلك اللحظة .عندما توقّف أخيراً
عند أحد الطوابق ،كانت سيينّا هناك تصغي إلى األصوات .سمع النغدون الخطوات التي تصعد الدّرج من
األسفل.
كانت سيينّا قد أنقذت حياة النغدون في وقت سابق من هذا اليوم .لذلك ،وبما أنّه ال يملك أي خيار غير الوثوق
بالمرأة ،أخذ نفسا ً عميقا ً واندفع خلفها على الدّرج.
نزال طابقا ً آخر ،وأصبحت أصوات األحذية أقرب بكثير؛ تتردّد على بعد طابق أو طابقين تحتهما.
وقبل أن يتم ّكن النغدون من االعتراض ،مدّت سيينّا يدها وشدّته بعيدا ً عن الدّرج ،عبر رواق خال وطويل،
ّ
تتوزع فيه األبواب المغلقة.
همست سيينّا" :أحتاج إلى سترتك" .ونزعت السترة التي يرتديها النغدون .بعد ذلك ،أجبرت النغدون على
تتحرك".
ّ االنحناء خلفها في إطار باب متراجع قليقاً" .ال
الممر المعتم.
ّ ظهر الجنود على الد ّرج متّجهين إلى األعلى ،لكنّهم توقّفوا عندما رأوا سيينّا في
صاحت بهم سيينّا باإليطالية بنبرة تأنيب" :باهلل عليكم! ما هذه الجلبة؟".
حدّق الرجقان ،غير متأ ّكدَين م ّما ينظران إليه.
طت رأسها وكتفيها بسترته السوداء ،فبدت السترة وكأنها وشاح امرأة عجوز .كما أن سيينّا غ ّ
أدرك النغدون اآلن ّ
ً
أحنت ظهرها ،ووقفت بطريقة حجبت النغدون المنحني خلفها في الظلّ .وبعدما تغيّر شكلها تماما ،اقتربت خطوة
وراحت تصيح مثل امرأة عجوز مجنونة.
رفع أحد الجنديَّين يده ،وأشار إليها للعودة إلى شقّتها" .سينيورا ،عودي إلى بيتك حاالً!".
ّ
وتهز يدها بغضب" .لقد أيقظتم زوجي المريض!". قامت سيينّا بخطوة أخرى وهي تترنّح،
في تلك اللحظة ،رفع الجندي اآلخر بندقيته وو ّجهها نحوها مباشرة" .توقّفي وإالّ أطلقت النار!".
واستمرت بشتمهما من دون رحمة وهي تتراجع إلى الخلف بعيداً عنهما.
ّ توقّفت سيينّا فوراً،
نزال إلى الطابق الذي يعلو الردهة ،وهناك كان يوجد جنديان آخران استققاّ المصعد ّ
للتو .وفي الشارع ،وقف
جندي آخر يراقب بجانب الفان ،وبدت عضقاته المفتولة واضحة تحت بذلته السوداء .أسرعت سيي ّنا والنغدون
بهدوء نحو الطابق السفلي الذي كان مظلما ً وتفوح منه رائحة القذارة .تو ّجهت سيينّا نحو زاوية ُركنت فيها
دراجة بثقاث عجقات تجمع بين والدراجات النارية .توقّفت أمام ترايك فضّية ،هي عبارة عن ّ
ّ دراجات السكوتر ّ
مررت يدها الرشيقة تحت صصة للكبارّ . والدراجة الهوائية ذات العجقات الثقاث المخ ّ
ّ دراجة الفيسبا اإليطاليةّ
المحرك.
ّ الحاجز األمامي ونزعت علبة مغناطيسية صغيرة .كان بداخلها مفتاح ،أدخلته وشغّلت
الدراجة .شعر أنّه غير ثابت على المقعد الصغير ،فراح يتل ّمس جانبَي
بعد ثوان ،جلس النغدون خلفها على ّ
الدراجة بحثا ً عن شيء ما يتمسّك به.
ّ
قالت له سيينّا" :ليس هذا وقت الخجل" .ث ّم أمسكت بيديه ولفّتهما حول خصرها النحيل" .عليك أن تتمسّك جيّداً".
ربّاه!
بقوة إلى اليسار عند تقاطع طرق ،وشعر النغدون أ ّنه ينزلق ،وكافح ليحافظ على توازنه.
انعطفت سيينّا ّ
ي!".
"انحن عل ّ
ِّ صاحت به:
انحنى النغدون إلى األمام ،واستعاد توازنه ،في حين انطلقت سيينّا في شارع أكبرّ .
مرا من أمام عدد من المباني
قبل أن يستعيد النغدون أنفاسه.
تجاوز النغدون وسيينّا عددا ً من المباني ،وكانا يقتربان من تقاطع رئيس عندما انطلقت األبواق أمامهما .فجأة،
ظهر أمامهما فان أسود المع ،انعطف عند الزاوية على عجلتين ،واجتاز التقاطع ،وأسرع متّجها ً نحوهما مباشرة.
كان الفان يشبه تماما ً فان الجنود الذين اقتحموا المبنى السكني.
بقوة إلى اليمين ،وضغطت على المكابح ،فارتطم صدر النغدون بظهرها وهي تتوقّف
على الفور ،انحرفت سيينّا ّ
المحرك.
ّ بعيدا ً عن األنظار خلف شاحنة مركونة على جانب الطريق .أوقفت ّ
الدراجة خلف الشاحنة ،وأطفأت
هل رأونا!؟
أن ر ّكابه لم يروهما إطقاقاً .لكن في أثناء مروره ،لمح النغدون شخصا ً في
مر الفان من دون تردّد ،وبدا واضحا ً ّ
ّ
الداخل.
على المقعد الخلفي ،كانت ث ّمة امرأة مسنّة جذّابة جالسة بين جنديَين وكأنّها أسيرة .بدت عيناها مرتخيتين ،ورأسها
يتمايل كما لو أنّها تهذي أو ت ّم تخديرها .وكانت هناك تميمة تتدلى من سلسلة حول عنقها ،في حين تدلّى شعرها
الطويل الفضّي على ظهرها.
مرتين ،ث ّم دخل مكتبه وتناول زجاجة شراب معتّق منذ خمسين عاماً .ومن دون أن يصبّ دار على سطح اليخت ّ
كأساً ،وضع الزجاجة وأدار لها ظهره؛ مذ ّكرا ً نفسه أنّه ما زال يملك زمام السيطرة.
كان البحر هادئا ً في ذلك اليوم الذي وصل فيه الزبون إلى مينداسيوم بواسطة طائرته المروحية الخا ّ
صة .كان
الزائر ،وهو شخصية مشهورة في مجاله ،يبلغ السادسة واألربعين من عمره ،ويمتاز بأناقته ،وطوله الفارع،
وعينيه الخضراوين الثاقبتين.
قال له الرجل" :كما تعرف ،نصحني صديق مشترك باالستعانة بخدماتك" .مدّ الزائر ساقيه الطويلتين ،واسترخى
وكأنّه في منزله وهو جالس في مكتب العميد الفخم" .لذلك ،سأخبرك بما أريده".
لعبة أطفال.
بإمكان الكونسورتيوم أن يوفّر له ذلك عن طريق تأمين هوية مزيّفة ،ومكان آمن ومجهول تماما ً يستطيع فيه
ط عن الغرض من الخدمة التي يقدّمها، بسرية تا ّمة؛ أيًّا يكن ذلك العمل .لم يسأل الكونسورتيوم ق ّ
إنجاز عمله ّ
ّ
ولطالما فضّل أن يعرف أقل قدر ممكن من المعلومات عن األشخاص الذين يعمل من أجلهم.
لمدّة عام كامل ،ومقابل أرباح هائلة ،أ ّمن العميد جنّة آمنة لصاحب العينين الخضراوين الذي تبيّن أنّه عميل
ي اتصال بينه وبين العميد ،وكان يدفع جميع فواتيره في الوقت المحدّد. مثالي .لم يحدث أ ّ
فجأة ،اتّصل الزبون ،وطلب مقابلة العميد شخصياً .ونظرا ً إلى مبلغ المال الكبير الذي دفعه حتّى ذلك الوقت ،شعر
العميد أنّه مضطر لمقابلته.
بالكاد وجد شبها ً بين الرجل األشعث الذي وصل إلى اليخت والرجل األنيق والثابت الذي عقد معه صفقة قبل عام
خقا .طغت نظرة جامحة على عينيه الخضراوين اللتين تميّزتا بحدّتهما في السابق .بدا ...مريضا ً تقريباً.
ملف زبونه ،وتأ ّمل صورة المرأة الجذّابة ذات الشعر الفضّي .قال العميد" :أجل ،شيطانتك ذات
نظر العميد إلى ّ
وسنستمر في القيام
ّ الشعر الفضّي .كلّنا نعرف أعداءك .مهما تكن ّ
قوتها ،أبقيناها بعيدة عنك لمدّة عام كامل،
بذلك".
يلف خصقاً من شعره الدهني حول أصابعه" .ال تنخدع بجمالها ،إنّها ّ
عدو راح صاحب العينين الخضراوين ّ
خطير".
ي هي أو أحد شياطينها."...
قال الزبون" :إن عثرت عل ّ
طمأنه العميد قائقاً" :لن يفعلوا .ألم نبعدك عن أعينهم طوال هذا الوقت ،ووفّرنا لك ك ّل ما طلبته؟".
قال الرجل" :بلى .لكنّني سأنام ملء جفنَي إن "...صمت هنيهة محاوالً استجماع أفكاره" .أريد أن أتأ ّكد أنّكم
ستنفّذون أمنياتي األخيرة مهما حدث لي".
"وما هي؟".
مدّ الرجل يده إلى داخل حقيبة ،وأخرج منها مغلّفا ً صغيرا ً مختوماً" .محتويات هذا المغلّف تؤ ّمن الوصول إلى
خزنة في فلورنسا .داخل الخزنة ،ستجد غرضا ً صغيراً .إن أصابني مكروه ،فأنا أريدك أن تسلّم هذا الشيء نيابة
عنّي .إنّه هدية".
لعدوتك؟".
نظر إليه العميد ،وسأله" :أهو هدية ّ
"ستكون هذه الهدية أكثر من شوكة في خاصرتها" .وومضت عيناه بوحشية" .ستكون شوكة صغيرة ذكية،
الخاص بها ...رفيقها إلى وسط جحيمها".
ّ مصنوعة من العظام .ستكتشف أ ّنها خارطة ...أنّها فيرجيل
أل ّح الرجل قائقاً" :سيكون التوقيت حرجا ً جداً .إذ ال ينبغي تسليم الهدية قبل األوان .عليك أن تحتفظ بها حتى"...
صمت ،وقد شرد فجأة.
وقف الرجل فجأة ،ومشى ليقف خلف مكتب العميد ،ث ّم أمسك بقلم أحمر ورسم دائرة حول تاريخ على روزنامة
العميد الشخصية" .حتّى هذا اليوم".
شدّ العميد عضقات ف ّكه ،وزفر مبتلعا ً استياءه إزاء غرابة أطوار هذا الرجل ،وقال" :مفهوم .لن أفعل شيئا ً قبل
هذا اليوم ،وفيه سيُسلّم الغرض الموضوع في الخزنة ،أيًّا تكن ماهيّته ،إلى صاحبة الشعر الفضّي .أعدك بذلك".
وعدّ األيّام على روزنامته حت ّى وصل إلى اليوم المحاط بالدائرة الغريبة" .سأنفّذ رغبتك بعد أربعة عشر يوما ً
بالضبط".
دون المقاحظات القازمة لضمان تنفيذ رغبات الزبون حرفياً. تناول العميد المغلّف ووضعه في ّ
ملف الرجل ،ث ّم ّ
ّ
ومع أنّه لم يصف طبيعة الشيء الموجود في الخزنة ،إال أن العميد فضّل عدم المعرفة .فعدم االكتراث هو حجر
ّ
الزاوية في فلسفة الكونسورتيوم .قدّم الخدمة من دون طرح أسئلة أو إصدار أحكام.
"أجل في الواقع" .مدّ يده إلى جيبه وأخرج شريحة ذاكرة صغيرة حمراء اللون .وضعها أمام العميد وقال" :هذا
ملف فيديو .أريد أن يت ّم تحميله لوسائل اإلعقام العالمية".
ّ
سأله العميد ،مشيرا ً إلى الدائرة على روزنامته" :في التاريخ نفسه؟".
أجاب الزبون" :في التاريخ نفسه ،وليس قبل ذلك بلحظة واحدة".
ودون العميد المعلومات على ورقة مرفقة بشريحة الذاكرة" .هذا ك ّل شيء إذاً؟" .ث ّم وقف محاوالً إنهاء
"مفهوم"ّ .
االجتماع.
بدت عينا الزبون الخضراوان شاردتين تماما ً اآلن" .بعد أن تسلّم هذا الفيلم ،سأصبح رجقاً مشهوراً جدًّا".
ف ّكر العميد ،أنت رجل مشهور منذ اآلن ،نظرا ً إلى إنجازاته الرائعة.
تستحق بعضا ً من هذا الفضل ،فخدماتك هي التي م ّكنتني من إنتاج تحفتي ...التي ستغيّر العالم.
ّ قال الرجل" :وأنت
يجب أن تكون فخورا ً بدورك".
أجاب العميد بنفاد صبر متزايد" :أيًّا تكن تحفتك ،أنا مسرور ألنّك حصلت على الخصوصية القازمة من أجل
إنتاجها".
"تعبيرا ً عن شكري ،أحضرت لك هدية وداع" .ومدّ الرجل األشعث يده إلى حقيبته" .إنها كتاب".
تساءل العميد ع ّما إذا كان هذا الكتاب هو التحفة األثرية التي كان الزبون يعمل عليها طوال هذا الوقت" .وهل
أنت من ألّف هذا الكتاب؟".
"كقاّ" .ث ّم رفع مجلّدا ً ضخما ً ووضعه على الطاولة" .على العكس تماماً ...ت ّم تأليف هذا الكتاب من أجلي".
أن هذا الكتاب ُأ ّلف من أجله؟ كان المجلّد عبارة رمق العميد المجلّد الذي أخرجه الزبون من حقيبته مستغرباًّ .
يظن ّ
عن عمل أدبي كقاسيكيُ ...كتب في القرن الرابع عشر.
حول انتباهه إلى المجلّد الضخم الموضوع أمامه .مدّ أصابعه بتردّد ،ورفع الغقاف الجلدي ،وقرأ .كانت
بعد ذلكّ ،
افتتاحية الكتاب مكتوبة بأحرف كبيرة؛ حيث احتلّت الصفحة األولى بأكملها.
الجحيم
في األيّام التالية ،شعر العميد بتوتّر غير معهود حين تذكر زبونه .فقد بدا الرجل غير طبيعي يوم مجيئه .مع ذلك،
ي حوادث ،على الرغم من اإلحساس الذي راوده. مر الوقت من دون وقوع أ ّ ّ
لكن ،قبل اليوم الموعود تماماً ،وقعت سلسلة من األحداث السريعة والمأساوية في فلورنسا .حاول العميد التعامل
مع األزمة ،لكن سرعان ما خرجت األمور عن سيطرته .وبلغت األزمة ذروتها بصعود عميله إلى برج باديا.
أعطى العميد المغلّف الذي يحتوي على رموز الخزنة لفايينثا .وسافرت هذه األخيرة إلى فلورنسا إلحضار
الغرض الموجود في الداخل .لكن ،عندما اتّصلت به فايينثا ،كانت تحمل أخبارا ً مفاجئة وخطيرة على حدّ سواء.
فقد وجدت الخزنة فارغة ،وأفلتت من االعتقال بصعوبة .بطريقة ما ،علمت ذات الشعر الفضّي بما يجري،
ي شخص يحاول فتحها. واستخدمت نفوذها للوصول إلى الخزنة ،وإصدار مذ ّكرة توقيف ّ
بحق أ ّ
كان ذلك قبل ثقاثة أيّام.
أراد الزبون أن يش ّكل ذلك الشيء الغامض إهانته األخيرة للمرأة ذات الشعر الفضّي؛ أن يكون بمثابة صوت
يبلُغها من القبر.
منذ ذلك الوقت والكونسورتيوم يخوض صراعا ً يائساً؛ استخدم فيه ك ّل موارده لتنفيذ رغبات الزبون األخيرة،
ولحماية نفسه على حد سواء .في خض ّم ذلك ،تجاوز الكونسورتيوم عددا ً من الخطوط الحمراء التي يعرف العميد
أنّه ال يستطيع العودة بعدها إلى الوراء .واآلن ،مع ك ّل ما يجري في فلورنسا ،حدّق العميد إلى مكتبه وتساءل ع ّما
يخبّئه له المستقبل.
على روزنامته ،كان الزبون قد خربش بعنف دائرة حمراء تحدّق إليه اآلن ،حلقة من الحبر األحمر تحيط بيوم
خاص على ما يبدو.
ّ
غد ًا.
في الطابق السفلي من اليخت ،أخرج المنسّق لورنس نولتون شريحة الذاكرة الحمراء الصغيرة من جهاز
الكمبيوتر ووضعها أمامه على الطاولة .كان الفيديو من أغرب ما رآه حتّى اآلن.
شعر باالنزعاج على نحو غير معهود ،فوقف وراح يذرع حجرته الصغيرة ذهابا ً وإياباً ،متسائقاً ع ّما إذا كان
عليه مشاركة الفيلم الغريب مع العميد.
غير أنّه قال لنفسه :قم بعملك وحسب ،من دون أسئلة وال أحكام.
ودون مه ّمة محدّدة على جدول أعماله .غداً ،وكما طلب الزبون ،سيح ّمل الفيديو لوسائل
طرد الفيلم من ذهنهّ ،
اإلعقام.
الفصل 18
توصف جادة نيكولو ماكيافيلي بأ ّنها أجمل جادات فلورنسا .فبانعطافاتها الواسعة على شكل Sالتي ّ
تتعرج بين
المساحات الخضراء المحاطة باألسيجة والمظلّلة باألشجار الوارفة ،تُعتبر مفضّلة لدى راكبي ّ
الدراجات وهواة
سيّارات الفيراري.
تمسّك النغدون جيّداً ،فيما راح ذهنه يعصف بصور محيّرة لجحيم دانتي ...والوجه الغامض المرأة جميلة ذات
للتو محاصرة بين جنديَين ضخمين على المقعد الخلفي للفان.
شعر فضّي رآها ّ
ف ّكر النغدون :أيًّا تكن تلك المرأة ،لقد أصبحت لديهم اآلن.
"بك ّل تأكيد".
فجأة ،تساءل النغدون ع ّما إذا كان اعتذاره الغريب مو ّجها ً للمرأة ذات الشعر الفضّي .ف ّكر وهو يشعر بتقلّص في
أحشائه ،هل خذلتها بشكل من األشكال؟
أن سقاحا ً حيويا ً قد انتُزع من ترسانته .لم أعد أتذ ّكر .كان ذا مخيلة خصبة منذ طفولته،
شعر النغدون كما لو ّ
لذلك ،كان يعتبر ذاكرته من الممتلكات الفكرية التي يعتمد عليها كثيرا ً في حياته .بالنسبة إلى رجل معتاد على
تذ ّكر ك ّل التفاصيل الدقيقة لما يراه حوله ،بدا العيش من دون ذاكرة أشبه بمحاولة الهبوط بطائرة في الظقام من
دون رادار.
هز النغدون رأسه ،وهو يف ّكر بكلمة catrovacerالتي ظهرت أمام خلفية من الجثث واألجساد التي ّ
تتلوى في ّ
جحيم دانتي.
ما من مدينة على وجه األرض أكثر ارتباطا ً بدانتي من فلورنسا .لقد ولد دانتي أليغييري في فلورنسا ،ونشأ في
فلورنسا ،وأغرم -بحسب األسطورة -ببياتريس في فلورنسا ،كما أنّه نفي بقسوة من منزله في فلورنسا ،وظ ّل
يهيم في األرياف اإليطالية لسنوات ،وهو يتوق بشدّة إلى بيته.
كتب دانتي عن المنفى :عليك أن تترك ك ّل ما تحبّه .فهذا ّأول السهام التي يطلقها المنفى.
بينما كان النغدون يتذ ّكر هذه الكلمات من النشيد السابع عشر للباراديزو ،نظر إلى اليمين ،وحدّق عبر نهر آرنو
إلى األبراج البعيدة لفلورنسا القديمة.
تخيّل خارطة المدينة القديمة؛ متاهة من السيّاح ،واالزدحام ،والسيّارات التي تتزاحم في الشوارع الضيّقة حول
مباني فلورنسا الشهيرة من كاتدرائيات ،ومتاحف ،ودور عبادة ،وأسواق .ف ّكر أنّه إن تر ّجل هو وسيينّا عن
الدراجة ،فبإمكانهما االختفاء بين حشود الناس.
ّ
قال النغدون" :علينا الذهاب إلى المدينة القديمة .إن كان ث ّمة أجوبة ،فسنجدها هناك على األرجح .ففلورنسا
القديمة كانت عالم دانتي بأكمله".
وافقت سيينّا ،وقالت له" :كما أ ّننا سنكون بمأمن أكبر هناك ،وسنجد الكثير من األماكن لقاختباء فيها .سأتو ّجه إلى
بورتا رومانا ،ومنها يمكننا عبور النهر".
النهر ،ف ّكر فيه النغدون وهو يشعر برعدة خوف .فرحلة دانتي الشهيرة إلى الجحيم بدأت أيضا ً بعبور نهر.
دواسة الوقود ،وانطلقت مسرعة ،في حين أخذ النغدون يراجع في ذهنه صور الجحيم ضغطت سيينّا على ّ
ّ
واألموات والمحتضرين وخنادق الماليبولغي العشرة مع طبيب الطاعون والكلمة الغريبة؛ .catrovacerفكر
مليا ً في الكلمات المكتوبة تحت الخارطة ،ال يمكن لمح الحقيقة إ ّ
ال عبر عيون الموت ،وتساءل ع ّما إذا كانت تلك
العبارة مقتبسة عن دانتي.
ال أعرفها.
تحول دانتي أليغييري إلى أحد الرموز الحقيقية في التاريخ ،وألهب أفكار جمعيات دانتي في مختلف أنحاء العالم. ّ
ت ّم تأسيس أقدم فرع أميركي عام 9009في كامبردج ،ماساتشوستس ،على يد هنري وادوورث لونغفيلو .فقد كان
شاعر نيو إنغقاند الشهير ّأول أميركي يترجم الكوميديا اإللهية ،وبقيت ترجمته واحدة من أكثر الترجمات تقديراً
وانتشارا ً حتّى يومنا هذا.
صصا ً في أعمال دانتي إلقاء خطاب في مناسبة ها ّمة استضافتها أقدم جمعيات دانتيطلب من النغدون بصفته متخ ّ ُ
ّ
في العالم؛ جمعية دانتي أليغييري في فيينا .نُظم الحدث في أكاديمية فيينا للعلوم .وكان الراعي ّ
األول ،وهو عالم
ثري وعضو في جمعية دانتي ،قد تم ّكن من حجز قاعة األكاديمية التي تض ّم 6888مقعد.
عندما وصل النغدون ،استقبله مدير المحاضرة واصطحبه إلى الداخل .وعند مرورهما بالردهة ،لم يستطع
النغدون سوى أن يقاحظ الحروف الخمسة المطلية بأحجام عمقاقة على الجدار الخلفي.
همس المدير" :هذا العمل للوكاس تروبيرغ .إنّه أحدث تحفنا الف ّنية .ما رأيك؟".
النص ذا األحرف الضخمة ،ولم يعرف بماذا يجيب" .في الواقع ...ضربات فرشاته فخمةّ ،
لكن ّ رمق النغدون
إتقانه للصيغة الشَرطية يبدو ضعيفاً".
رمقه المدير بنظرة مربكة ،وأمل النغدون أن يكون اتصاله بالجمهور أفضل.
مزيد من التصفيق.
استخدم النغدون جهاز تح ّكم عن بعد ،وراح يعرض سلسلة من صور دانتي ،كانت األولى لوحة شخصية للشاعر
وهو يقف عند أحد األبواب ،حامقاً كتاب فلسفة ،رسمها أندريا ديل كاستانيو.
قال النغدون" :دانتي أليغييري .عاش هذا الكاتب والفيلسوف الفلورنسي بين عامي 9611و .9769في هذه
اللوحة ،كما في ك ّل صوره ،يعتمر قبّعة حمراء ضيّقة ذات غطاء لألذنين .وقد ّ
تحولت هذه القبّعة مع عباءته
القرمزية إلى أشهر الصور المستنسخة لدانتي".
م ّرر النغدون صورا ً للوحة بوتيتشيلّي التي رسمها لدانتي من صالة أوفيتزي ،والتي تُظهر أبرز مقامح دانتي؛ أي
لكن بوتيتشيلّي أضاف
ف ّكه الثقيل وأنفه المعقوف" .هنا ،يظهر وجه دانتي الفريد مجدّدا ً محاطا ً بالقبّعة الحمراءّ ،
إليه إكليل غار رمزاً لخبرته في الفنون الشعرية ،وهو رمز تقليدي مستمدّ من اليونان القديمة ويُستعمل حتى اليوم
ّ
في االحتفاالت لتكريم الشعراء والحائزين على جوائز نوبل".
مرر النغدون بسرعة عددا ً من الصور األخرى؛ كلّها تُظهر دانتي بقبّعته وعباءته الحمراوين ،وإكليل الغار، ّ
وأنفه البارز" .إليكم هذا التمثال من بياتزا دي سانتا كروتشي ...وبالطبع ،اللوحة الجدارية المنسوبة إلى جوتو في
كنيسة بارغيلو".
ترك النغدون اللوحة الجدارية على الشاشة ومشى إلى وسط المسرح.
"كما تعرفون من دون شكّ ،اشتهر دانتي بتحفته األدبية العمقاقة ،الكوميديا اإللهية ،التي تش ّكل رواية حيّة وقاسية
لنزول الكاتب إلى الجحيم ،مرورا ً بالمطهر ،ومن ث ّم صعوده إلى الجنّة .وفقا ً للمعايير الحديثة ،ال تشتمل الكوميديا
ي شيء كوميدي ،بل س ّميت كوميديا لسبب مختلف تماماً .ففي القرن الرابع عشر ،كان األدب اإللهية على أ ّ
اإليطالي -بحسب شروطه -ينقسم إلى فئتين :تراجيديا تمثّل األدب الراقي ،وتُكتب باللغة اإليطالية الرسمية.
والكوميديا التي تمثّل األدب المتد ّني ،وتُكتب باللغة العا ّمية ،وتُو ّجه لعا ّمة الشعب".
تابع النغدون" :كما يشير العنوانُ ،كتبت الكوميديا اإللهية باللغة العا ّمية ،لغة الشعب .ومع ذلك ،دمجت ببراعة
الدين والتاريخ والسياسة والفلسفة واالجتماع في نسيج خيالي ،ظ ّل -على الرغم من ثقافته -مفهوما ً تماما ً
إن األسلوب الذي اتّبعه دانتي في الكتابة ش ّكل وتحول العمل إلى أحد أعمدة الثقافة اإليطالية ،حيث ّ
ّ للجماهير.
أساس اللغة اإليطالية الحديثة".
صمت النغدون قليقاً ليترك مجاالً الستيعاب كقامه ،ث ّم همس" :يا أصدقائي ،من المستحيل المبالغة في وصف
تأثير عمل دانتي أليغييري .فعبر التاريخ بأكمله ما من عمل أدبي ،أو فنّي ،أو موسيقي فاق الكوميديا اإللهية في
إلهام أعمال تكريم ،أو تقليد ،أو تحليل".
بعد سرد أسماء المجموعة الواسعة من المل ّحنين ،والفنّانين ،واألدباء الذين ألّفوا أعماالً مستندة إلى ملحمة دانتي،
تأ ّمل النغدون الحضور وقال" :أخبروني اآلن ،هل لدينا كتّاب هنا الليلة؟".
ارتفع حوالى ثلث أيادي الحاضرين .حدّق النغدون إليهم مدهوشاً .يا إلهي ،إ ّما أ ّنني أقف أمام أفضل جمهور على
أن النشر اإللكتروني نجح فع ً
قا. وجه األرض ،أو ّ
"حسناً ،كما يعرف جميع الكتّاب الحاضرين هنا ،ما من شيء يقدّره الكاتب أكثر من الدعاية المبالغ فيها؛ أي ذلك
صص لدفع اآلخرين إلى شراء كتابك .في العصور الوسطى ،كانت السطر الوحيد الذي يكتبه شخص نافذ ،والمخ ّ
الدعاية المغالى فيها موجودة أيضاً .وقد حصل دانتي على بعض منها".
غيّر النغدون الصورة المعروضة" .أال تودّون أن تظهر جملة كهذه على غقاف كتابكم؟".
-مايكل أنجلو
قال النغدون" :أجل ،إنّه مايكل أنجلو نفسه الذي تعرفونه من كنيسة سيستين وتمثال داوود .فإضافة إلى كون
مايكل أنجلو رسّاما ً ون ّحاتا ً بارعاً ،كان أيضا ً شاعرا ً ها ًّما .فقد نشر حوالى ثقاثمائة قصيدة ،بما فيها قصيدة بعنوان
"دانتي" ،وأهداها إلى الرجل الذي كانت رؤيته الصارخة للجحيم مصدر إلهام للوحة مايكل أنجلو ،يوم القيامة .إن
لم تصدّقوني ،فاقرأوا النشيد الثالث من جحيم دانتي ،ث ّم قوموا بزيارة كنيسة سيستين .فوق المذبح تماماً ،ستجدون
هذه الصورة المألوفة".
مرر النغدون الصور ليصل إلى تفصيل مخيف لوحش ضخم يؤرجح مجذافا ً عمقاقا ً فوق أناس يرتعدون خوفاً. ّ
"هذا مراكبي دانتي الجه ّنمي ،شارون ،يضرب ر ّكابا ً نهمين بواسطة مجذاف".
انتقل النغدون بعد ذلك إلى صورة جديدة تُظهر تفصيقاً ثانيا ً في لوحة مايكل أنجلو ،هو عبارة عن رجل
مصلوب" .هذا هامان األجاجي ،الذي مات شنقا ً بحسب الكتاب المقدّس .لكن في قصيدة دانتي ت ّم صلبه .وكما
ترون هنا ،في كنيسة سيستين ،اختار مايكل أنجلو رواية دانتي عوضا ً عن رواية الكتاب المقدّس" .ابتسم النغدون
وأخفض صوته هامساً" :ال تخبروا البابا".
ضحك الحشد.
بدّل النغدون الصورة" .وهذا ما يقودنا إلى سبب وجودنا هنا الليلة".
ظهر اآلن على الصورة عنوان محاضرته :كوميديا دانتي :رموز الجحيم.
مشى النغدون على طرف المسرح ،وتف ّحص الحضور" .إن كنّا ننوي الذهاب في جولة إلى الجحيم ،فأنا أفضّل
أن نستخدم خارطة .وما من خارطة لجحيم دانتي أكثر دقّة وكماالً من تلك التي رسمها ساندرو بوتيتشيلّي".
لمس جهاز التح ّكم عن بعد ،فظهرت لوحة بوتيتشيلّي المخيفة ،مابا ديل إنفيرنو ،أمام الحضور .ارتفع أنين عدد
من الموجودين مع استيعاب الناس لمختلف األهوال التي تجري في ذلك الكهف األرضي الذي يتّخذ شكل قمع.
التفت النغدون ،وأشار إلى الزاوية العلوية اليسرى للوحة" .ستبدأ رحلتنا من هنا ،من فوق األرض؛ حيث يمكنكم
رؤية دانتي بلباسه األحمر ،مع دليله ،فيرجيل ،واقفا ً خارج أبواب الجحيم .من هناك ،سنتّجه نزوالً ،عبر الحلقات
التسع لجحيم دانتي ،إلى أن نلتقي في نهاية المطاف وجها ً لوجه مع."...
انتقل النغدون بسرعة إلى صورة جديدة ،هي عبارة عن صورة مكبّرة للشيطان كما رسمه بوتيتشيلّي في هذه
مروع ذي ثقاثة رؤوس يأكل ثقاثة أشخاص ،ك ّل في فم من أفواهه الثقاثة.
اللوحة نفسها ،وكان عبارة عن مخلوق ّ
أعلن النغدون" :هذه لمحة عن أحد األماكن التي سنزورها .هذه الشخصية المخيفة هي النقطة التي ستنتهي عندها
رحلة الليلة .إنّها الحلقة التاسعة في الجحيم ،وفيها يسكن الشيطان .لكن "...صمت قليقاً ،ث ّم أضاف" :الوصول إلى
هناك جزء من المتعة وحسب ،لذلك دعونا نرجع قليقاً إلى الخلف ...ونعود إلى أبواب الجحيم التي تبدأ رحلتنا
عندها".
دوى صوت الفرامل ،واختفى الحضور من أمام عيني النغدون .شعر بجسده يندفع إلى األمام ويصطدم بظهر ّ
سيينّا مع توقّف ّ
الدراجة وسط جادة ماكيافيلي.
ترنّح النغدون ،وكان ذهنه ال يزال مشغوالً بأبواب الجحيم التي تلوح أمامه .وعندما استجمع أفكاره ،أدرك أين
هو في الواقع.
أشارت سيينّا إلى بورتا رومانا التي تقع على بعد 788ياردة أمامهما ،وهي ّ
البوابة الحجرية القديمة التي كانت
مدخل فلورنسا القديمة وقالت" :روبرت ،لدينا مشكلة".
الفصل 19
وقف العميل برودر في الشقّة المتواضعة وحاول أن يفهم ما يراه .من الذي يعيش هنا؟ كان األثاث قليقاً وغير
ظم؛ وكأنّها شقّة طالب أُثّثت بمبلغ زهيد.
من ّ
عبَر برودر الرواق ،متسائقاً ع ّما إذا كانت الشرطة المحلّية قد اعتقلت النغدون .كان برودر يفضّل ح ّل هذه
طر إلى طلب مساعدة الشرطة المحلّية التي وضعت لكن فرار النغدون لم يترك لديه الخيار ،فاض ّ األزمة بتكتّمّ ،
فالدراجة السريعة التي تجوب متاهة شوارع فلورنسا ستُفلت بسهولة من فانات برودر ّ حواجز على الطرقات.
التي تمتاز بنوافذ ثقيلة وصلبة من البوليكاربونات ،وإطارات مقاومة للرصاص؛ األمر الذي يجعلها قوية ولكنّها
لكن من ّ
ظمة برودر تملك نفوذاً كبيرا ً على بطيئة .الشرطة اإليطالية معروفة بأنها غير متعاونة مع الغرباءّ ،
الشرطة ،والقنصليات ،والسفارات .طلباتنا أوامر.
دخل برودر الغرفة الصغيرة التي يقف فيها أحد رجاله أمام كمبيوتر محمول مفتوح ،وطبع بعض األحرف
المكسوة بقفّازي القاتكس .قال الرجل" :هذا هو الجهاز الذي استخدمه النغدون لدخول بريده اإللكتروني
ّ بأصابعه
والقيام ببعض األبحاث .ما زالت الملفّات موجودة".
قال الفنّي" :ال يبدو أنّه كمبيوتر النغدون ،بل إنه مس ّجل بالحرفين ّ
األولين س .س .سأحصل على االسم الكامل
بعد قليل".
انتظر برودر ،وانجذب نظره إلى كومة األوراق على المكتب .تناولها وراح يتصفّح األوراق غير االعتيادية؛
اإلعقان القديم من مسرح لندن غلوب وبعض مقاالت الصحف .كلّما قرأ برودر ازداد دهشة.
حمل الوثائق ،وعاد إلى الردهة ،واتّصل برئيسه .قال" :أنا برودرّ .
أظن أنّني عرفت هوية الشخص الذي يساعد
النغدون".
مرت سيّارات الشرطة أمامها باالتّجاه على بعد ميلين ،استقلّت فايينثا ّ
دراجتها البي إم دبليو وغادرت المكانّ .
المعاكس مشغّلة صفّارات إنذارها.
صل م ّني.
ف ّكرت ،لقد تمّ التن ّ
الدراجة يساعدها على تهدئة أعصابها .غير أنّه لم ينجح في ذلك اليوم.
محرك ّ
ّ عادة ،كان هدير
وتدرجت في الرتب من وحدة الدعم األساسيّة ،إلى ّ عملت فايينثا لصالح الكونسورتيوم لمدّة اثني عشر عاماً،
منسّقة استراتيجية ،إلى أن أصبحت أخيرا ً عميلة ميدانية عالية الرتبة .مهنتي هي ك ّل ما أملك .كان العمقاء
السرية ،والسفر الدائم ،والمهام طويلة األمد؛ وكلّها تعزلهم عن الحياة الحقيقية
ّ الميدانيون يعيشون حياة من
ي عقاقات.وتمنعهم من إقامة أ ّ
قالت لنفسها :إ ّنني أعمل على هذه المه ّمة منذ عام .وكانت عاجزة عن التصديق ّ
أن العميد قد استبعدها بهذه
القسوة.
أشرفت فايينثا لمدّة اثني عشر شهرا ً على خدمات الدعم المقدّمة لزبون الكونسورتيوم نفسه؛ ذلك العبقري أخضر
العينين وغريب األطوار الذي أراد "االختفاء" وحسب لمدّة من الزمن لكي يتم ّكن من العمل بعيداً عن أنظار
أعدائه ومنافسيه .نادرا ً ما كان يتنقّل ،بل أمضى معظم وقته وهو يعمل خفية .لم تكن طبيعة ذلك العمل معروفة
نص عقدها على إبقاء الرجل بعيدا ً عن أنظار األشخاص النافذين الذين يحاولون العثور عليه.
لفايينثا التي ّ
نفّذت فايينثا مه ّمتها على أكمل وجه ،وسار ك ّل شيء على ما يرام.
منذ ذلك الحين ،أخذت حالة فايينثا النفسية ووضعها المهني بالتدهور .أصبحت خارج الكونسورتيوم اآلن.
صل ،يتحتّم على العميل التخلّي عن مه ّمته الحالية فوراً وإخقاء "المنطقة" مباشرة .ففي
عند تفعيل بروتوكول التن ّ
ّ ً
صل منه الكونسورتيوم تماما .والعمقاء يعرفون ذلك ،وال يخاطرون مع المنظمة؛ ألنّهم حال ت ّم اعتقاله سيتن ّ
شهدوا بأنفسهم قدرة الكونسورتيوم على تحريف الواقع بما يناسب احتياجاته.
قالت لنفسها :أنت تبالغين .فأساليب الكونسورتيوم أرقى بكثير من القتل بدم بارد.
حدسها هو الذي دفعها إلى الهرب عن سطح الفندق خفية في اللحظة التي رأت فيها فريق برودر يصل ،وتساءلت
ع ّما إذا كان حدسها هو الذي أنقذها.
بينما أسرعت فايينثا شماالً عبر جادة فيالي ديل بودجو إمبريالي ،أدركت الفرق الذي أحدثته الساعات األخيرة.
ففي الليلة الماضية ،كانت تسعى إلى الحفاظ على وظيفتها .أ ّما اآلن فهي تسعى إلى الحفاظ على حياتها.
الفصل 21
بوابة بورتا رومانا الحجرية التي بنيت عامكانت فلورنسا في الماضي محاطة بسور ،وكان مدخلها األساسي هو ّ
.9761وفي حين د ُ ّمر سور المدينة منذ قرون ،إالّ ّ
أن بورتا رومانا ما زالت قائمة حتّى هذا اليوم ،والسيّارات
مقوسة تمتدّ عبر الحصن الهائل.تدخل عبر أنفاق عميقة ّ
البوابة نفسها عبارة عن حاجز بارتفاع 18قدماً ،مصنوع من اآلجر والصخر القديم ،وما زال البابان الخشبيان
ّ
الضخمان اللذان يبقيان مفتوحين دائما ً في وجه حركة المرور موجودين .تلتقي أمام هذين البابين ستّ طرقات
يصور امرأة تخرج من بوابة المدينة حاملة رزمة
ّ وتمر حول مستديرة عشبية يقف فيها تمثال لبيستوليتو
ّ رئيسة،
كبيرة على رأسها.
أن ّبوابة فلورنسا كانت في ما مضى موقع فييرا دايأن هذه المنطقة تشهد اليوم كابوسا ً من ازدحام السير ،إالّ ّ
مع ّ
ّ
يجبرونهن على كونتراتي ،أي مهرجان العقود الذي يقوم فيه اآلباء ببيع بناتهم ضمن عقد زواج ،وغالبا ً ما كانوا
مغر من أجل الحصول على مهر عا ٍل.
الرقص بشكل ٍ
ف ّكر النغدون :ال يمكن أن يكون ك ّل هذا من أجلنا .هل يعقل ذلك؟
دراج يتصبّب عرقا ً آتيا ً من جادة ماكيافيلي ،بعيدا ً عن الزحام .كان يركب ّ
دراجة هوائية ،ويمدّ ساقيه اقترب منهما ّ
العاريتين أمامه.
التفتت سيينّا إلى النغدون ،وقد بدا عليها التج ّهم" :إنّه حاجز للشرطة العسكرية".
دوت صفّارات اإلنذار خلفهما ،فاستدارت سيينّا إلى الخلف وحدّقت إلى جادة ماكيافيلي ،وقد كسا الخوف تعابيرّ
وجهها.
إ ّننا محاصران .هذا ما ف ّكر فيه النغدون وهو يتف ّحص المنطقة بحثا ً عن مخرج؛ كتقاطع طرق ،أو حديقة ،أو
صة إلى اليسار ،وجدار حجري عا ٍل إلى اليمين.
ير سوى منازل خا ّ زقاق ،لكنّه لم َ
هتف النغدون" :هناك" .وأشار إلى موقع بناء خا ٍل على بعد ثقاثين ياردة يحتوي على خقاّطة إسمنت يمكن أن
تؤ ّمن لهما غطاء.
قالت سيينّا" :اتبعني" .وأسرعت باتّجاه حجرة صغيرة لألدوات موضوعة بين الشجيرات أمام الجدار الحجري.
أدرك النغدون أنّها ليست حجرة أدوات ،وتقلّص أنفه اشمئزازاً وهما يقتربان .إ ّنه ح ّمام ن ّقال.
عندما وصلت سيينّا والنغدون إلى ح ّمام الع ّمال ،سمعا أصوات سيّارات الشرطة وهي تقترب .حاولت سيينّا فتح
يتحرك من مكانه .كان مقفقاً بسلسلة ثقيلة .أمسك النغدون بذراع سيينّا وسحبها خلف الحجرة، ّ الباب ،إالّ أنّه لم
مجبرا ً إيّاها على إقحام جسدها في المجال الضيّق الذي يفصل بين الح ّمام والجدار .بالكاد كان المكان يتّسع لهما،
أن الهواء كان كريه الرائحة وثقيقاً. كما ّ
مرت سيّارة سوبارو فورستر سوداء ُكتبت على جانبها كلمةانزلق النغدون خلفها ،وفي اللحظة نفسها ّ
مرت السيّارة ببطء من أمام مخبئهما.
ّ .CARABINIERI
ف ّكر النغدون غير مصدّق ،الشرطة العسكرية اإليطالية! وتساءل ع ّما إذا كان هؤالء الضبّاط قد تلقّوا أوامر
بإطقاق النار على الفور.
همست سيينّا" :ث ّمة من يقاحقنا بجدّية ،وقد عثر علينا تقريباً".
تساءل النغدون بصوت عا ٍل" :جي بي إس؟ ربّما كان المسقاط الصغير يحتوي على جهاز تعقّب".
هزت سيينّا رأسها نافية" .صدّقني ،لو كان من الممكن تعقّب ذلك الشيء ،لوجدنا الشرطة فوقنا في هذه اللحظة".
ّ
تحرك النغدون محاوالً الوقوف بشكل مريح في ذلك المكان الضيّق .فوجد نفسه وجها ً لوجه أمام مجموعة من ّ
ّ
المارة على الحائط الخلفي للح ّمام النقال.
ّ الرسومات الجدارية األنيقة التي خربشها
اإليطاليون هم أهلها.
قالت سيينّا التي عرفت ما يدور في خلده كما يبدو" :إتقاف الممتلكات العامة ال يبدو بهذا الشكل في أنحاء إيطاليا
كافة ،غير ّ
أن معهد فلورنسا للفنون يقع على الجانب اآلخر من هذا الجدار".
تأكيدا ً لكقامها ،ظهرت مجموعة طقاّب من بعيد ،ومشى الطقاب نحوهما حاملين حقائبهم الفنّية تحت أذرعهم.
كانوا يثرثرون ،ويشعلون السجائر ،ويتساءلون عن سبب وجود الحاجز الذي أقيم عند بورتا رومانا أمامهم.
انحنى النغدون وسيينّا لكي ال يراهما الطقاّب .وفي أثناء ذلك ،خطرت لقانغدون فكرة غير متوقّعة.
الدراج الذي مدّد ساقيه العاريتين أمامه ،لكن ،أيًّا يكن الحافز،
ربّما كان السبب هو رائحة القذارة البشرية ،أو ّ
ً
ومض في ذهن النغدون عالَم الماليبولغي القذر والسيقان العارية التي تبرز من األرض رأسا على عقب.
التفت فجأة نحو رفيقته" .سيينّا ،في نسختنا عن الخارطة ،كانت السيقان التي ّ
تلوح في الهواء موجودة في الخندق
العاشر ،أليس كذلك؟ في أدنى مستويات الماليبولغي؟".
للحظة ،عاد النغدون بذاكرته إلى فيينا عندما كان يلقي محاضرته .كان واقفا ً على المسرح ،قبل لحظات فقط من
تصور غيريون؛ الوحش المجنّح بذيله السا ّم ،الذي
ّ ختام المحاضرة ،بعد أن عرض على الحضور منحوتة لدوريه
يعيش فوق الماليبولغي تماماً.
أجابها بحماسة" :في نسختنا عن الخارطة ،التفاصيل الفنّية مختلفة!" .أخرج المسقاط من جيب سترته ّ
وهزه بقدر
ي صفّارات اإلنذار كان ما أتاح له ضيق المجال الذي يقف فيه .أحدثت الكرة في الداخل صوتا ً عالياًّ ،
لكن دو ّ
أعلى" .أيًّا يكن من صنع هذه الصورة ،فقد أعاد ترتيب مستويات الماليبولغي!".
عندما بدأ الجهاز يتو ّهج ،و ّجهه النغدون إلى المساحة المس ّ
طحة أمامهما .فظهرت خارطة الجحيم ،وتو ّهجت
بوضوح في الضوء الخفيف.
ف ّكر النغدون بخجل ،بوتيتشي ّلي على جدار ح ّمام ن ّقال .ال شكّ ّ
أن لوحات بوتيتشيلّي لم تُعرض يوما ً في مكان أق ّل
رقيا ً من هذا .نظر النغدون إلى الخنادق العشرة ،وبدأ ّ
يهز رأسه بحماسة.
صاح" :أجل ،هذه اللوحة خاطئة! يجب أن يكون الخندق العاشر للماليبولغي مليئا ً بالكذّابين السقيمين ،وليس
بأشخاص مدفونين رأسا ً على عقب .فالخندق العاشر هو للكذّابين وليس للكهنة االستغقاليين!".
أظن ّ
أن هذه هي همس النغدون ."Catrovacer" :ورمق األحرف الصغيرة التي أضيفت إلى ك ّل مستوى" .ال ّ
الكلمة المقصودة من األحرف".
على الرغم من اإلصابة التي محت ذكريات النغدون عن اليومين السابقين ،إالّ أنّه يشعر اآلن ّ
أن ذاكرته تعمل
بشكل ممتاز .أغمض عينيه ،واستحضر نسختي الخارطة في عقله لتحليل الفوارق .كانت التغييرات التي طرأت
وكأن حجابا ً قد نُزع فجأة عن عينيه.
ّ على الماليبولغي أق ّل م ّما تخيّل النغدون ...إالّ أنّه شعر
"حقًّا!".
تردّدت أصوات ضحك من الجانب اآلخر من الح ّمام النقّال .كانت مجموعة أخرى من الطقاّب ّ
تمر في الجوار،
متنوعة .استرق النغدون النظر من خلف الحجرة بحذر ،وراقبهم وهموكان أفرادها يمزحون ويثرثرون بلغات ّ
نتحرك .سأشرح لك في الطريق".
ّ أن "علينا الشرطة. عناصر يبتعدون .بعد ذلك ،تف ّحص المكان بحثا ً عن
هزت سيينّا رأسها معترضة" :في الطريق؟ لن نتم ّكن أبدا ً من عبور بورتا رومانا!".
ّ
نفخ أحد الشباب الموشومين دخان سيجارته وأجاب بنبرة ساخرة" :نون بارليامو إيتاليانو" .كانت لكنته فرنسية.
وبّخت إحدى الفتيات صديقها الموشوم ،وأشارت بتهذيب نحو بورتا رومانا قائلة باإليطالية" .إلى األمام مباشرة".
خرجت سيينّا من دون أن يراها أحد من خلف الح ّمام النقّال ،وتو ّجهت نحو النغدون .اقتربت الفتاة الرشيقة من
المجموعة ،فأحاط النغدون كتفيها بذراعه وقال" :هذه شقيقتي سيي ّنا .إنّها أستاذة فنون".
تجاهلهم النغدون وتابع قائقاً" :أتينا إلى فلورنسا بحثا ً عن فرص عمل ممكنة في مجال التدريس .هل يمكننا السير
معكم؟".
مشت المجموعة باتجاه الشرطة المتمركزة عند بورتا رومانا .في أثناء ذلك ،راحت سيينّا تتحدّث مع الطقاّب ،في
حين مشى النغدون في وسط المجموعة ،متفاديا ً األنظار.
ف ّكر ،من يبحث يجد ،وتسارع نبضه وهو يتخيّل خنادق الماليبولغي العشرة.
أن هذه األحرف العشرة تش ّكل جوهر أكثر األلغاز غموضا ً في عالم ّ
الفن؛ أحجية .Catrovacerأدرك النغدون ّ
ُ ًّ
مضت عليها قرون من الزمن من دون أن تجد حقا .ففي عام ،9117استخدمت هذه الحروف العشرة لكتابة
طليت على ارتفاع 088قدم عن رسالة على الجزء العلوي من أحد جدران باالتزو فيكيو الشهير في فلورنساُ .
ّ
األرض ،وكانت بالكاد مرئية من دون منظار .بقيت مخبّأة هناك على مرأى الجميع لقرون من الزمن ،حتى
سبعينيات القرن العشرين؛ إلى أن رآها خبير فنّي أصبح مشهورا ً اليوم ،وأمضى عقودا ً في محاولة اكتشاف
سرا حتّى اليوم.
معناها .لكن ،على الرغم من النظريات العديدة ،بقي مغزى الرسالة ًّ
بالنسبة إلى النغدون ،بدا الرمز أرضا ً مألوفة؛ مينا ًء آمنا ً في هذا البحر الهائج والغريب .ففي النهاية ،كان تاريخ
الفن واألسرار القديمة عالَما ً معروفا ً بالنسبة إلى النغدون أكثر بكثير من األنابيب المحتوية على خطر بيولوجي ّ
والبنادق القاتلة.
قال الشابّ الموشوم" :ربّاه ،أيًّا يكن من يبحثون عنه ،فقا بدّ أنّه ارتكب جرما ً فظيعاً".
بوابة معهد الفنون الواقعة إلى اليمين ،والتي تج ّمع عندها حشد من الطقاّب لمراقبة ما
وصلت المجموعة إلى ّ
ّ
يجري عند بورتا رومانا .كان رجل األمن عند باب المعهد يلقي نظرة خاطفة على بطاقات الطقاب وهم يدخلون،
لكنّه بدا بوضوح أكثر انشغاالً بما يجري مع الشرطة.
دوى صوت فرامل عا ٍل في الساحة مع توقّف فان أسود مألوف عند بورتا رومانا.
ّ
ي كلمة ،استغ ّل هو وسيينّا الفرصة ،وتسلّقا
التفوه بأ ّ
لم يكن النغدون بحاجة إلى إلقاء نظرة أخرى .لذا ،من دون ّ
البوابة مع أصدقائهما الجدد.
عبر ّ
كان الطريق المؤدّي إلى معهد الفنون رائع الجمال ،ال بل كان ملكيًّا تقريباً .ش ّكلت أشجار السنديان الضخمة
مزود
الموزعة على الجانبين قنطرة ،بدا من تحتها المبنى البعيد الذي كان عبارة عن بناء أصفر باهت ضخمّ ، ّ
ّ
بثقاثة أبواب ،وتمتد أمامه مساحة عشبية بيضاوية واسعة.
عرف النغدون ّ
أن هذا المبنى ت ّم التكليف ببنائه من قبل األسرة الشهيرة نفسها التي هيمنت على سياسة فلورنسا
خقال القرون الخامس عشر ،والسادس عشر ،والسابع عشر.
أسرة ميديتشي.
االسم نفسه أصبح رمزا ً لفلورنسا .خقال فترة الحكم الممتدّة على ثقاثة قرون ،جمعت أسرة ميديتشي الحاكمة
ثروة خيالية وتمتّعت بنفوذ هائل ،فأنتجت أربعة با َبوات ،وملكتين لفرنسا ،وأكبر مؤسّسة مالية في أوروبا بأكملها.
وحتّى هذا اليوم ،تستخدم المصارف الحديثة طريقة المحاسبة التي ابتكرها آل ميديتشي؛ أي النظام المزدوج
للدائن والمدين.
أن اإلرث األعظم الذي تركه آل ميديتشي لم يكن في المال وال في السياسة ،بل في الفنون .ربّما كان أفراد غير ّ
ّ ّ ً ّ
تلك األسرة الفلورنسية من أكثر رعاة الفن بذخا في العالم؛ إذ أمروا بإنتاج أعمال فنية سخية غذت عصر النهضة.
وتمتدّ الئحة المستنيرين الذين تلقّوا دعم أسرة ميديتشي من دافنشي إلى غاليليو إلى بوتيتشيلّي .فلوحة هذا األخير
الشهيرة ،والدة فينوس ،كانت بطلب من لورينزو دي ميديتشي الذي أراد إهداء ابن ع ّمه لوحة مثيرة ليعلّقها فوق
سريره كهدية زفاف.
كان لورينزو دي ميديتشي -المعروف اليوم باسم لورينزو العظيم نظراً إلى كرمه -فنّانا ً وشاعراً هو نفسه ،وقيل
إنّه كان يتمتّع بنظر ثاقب .عام ،9001أُعجب لورينزو بعمل ن ّحات فلورنسي شابّ ،ودعاه لقانتقال إلى قصر
ميديتشي لكي يتم ّكن من ممارسة حرفته وسط الفنون الجميلة ،والشعر العظيم ،والثقافة العالية .تحت رعاية
ميديتشي ،ترعرع الشابّ المراهق ،وقام بإنتاج أشهر منحوتاته في التاريخ؛ بييتا ،وداوود .نعرفه اليوم باسم مايكل
أنجلو ،العمقاق المبدع الذي يوصف أحيانا ً بأنّه أعظم هدية من آل ميديتشي إلى الجنس البشري.
سر لو عرفت ّ
أن المبنى القائم أمامه، أن األسرة كانت ست ُ ّ
بالفن ،تخيّل النغدون ّ
ّ نظرا ً إلى شغف أسرة ميديتشي
الذي بناه آل ميديتشي أساسا ً كإسطبل للخيول ،قد ّ
تحول اليوم إلى معهد فنون يض ّج بالحياة .هذا الموقع الهادئ
الذي يلهم فنّاني عصرنا الشباب ت ّم اختياره لبناء إسطبقات أسرة ميديتشي بسبب قربه من أجمل أماكن ركوب
الخيل في فلورنسا.
حدائق بوبولي.
نظر النغدون إلى يمينه فرأى غابة من رؤوس األشجار التي تظهر من خلف جدار عا ٍل .كانت حدائق بوبولي
الشاسعة مكانا ً سياحيا ً معروفاً .لم يشكّ النغدون أنّه إن تم ّكن هو وسيينّا من دخول الحدائق ،فإنّهما سيعبرانها،
ويدخقان المدينة القديمة من دون أن يُكتشف أمرهما .فالحدائق شاسعة وال تخلو من المخابئ؛ غابات ،متاهات،
أن اجتياز حدائق بوبولي سيقودهما في النهاية إلى باالتزو بيتي؛ القلعة الحجرية التي كانت مغاور ،تماثيل .واأله ّم ّ
ّ
المقر الرئيس لدوقية ميديتشي ،والتي ظلت بغرفها البالغ عددها 908غرفة من أه ّم األماكن ّ في ما مضى
السياحية في فلورنسا.
أشار النغدون بهدوء إلى السور العالي الذي يحيط بالحدائق ،وسأل الطقاّب" :كيف يمكننا دخول الحدائق؟ أودّ أن
نتجول في المعهد".
ّ تراها أختي قبل أن
هز الشابّ الموشوم رأسه قائقاً" :ال يمكنكما دخولها من هنا .مدخلها يقع بعيداً؛ عند قصر بيتّي .عليكما المرور
ّ
عبر بورتا رومانا وااللتفاف من هناك".
قالت وهي تبتسم للطقاّب وتداعب شعرها األشقر" :هيّا ،هل تعنون أنّكم ال تتسلّلون إلى الحدائق للتدخين
والتسلية؟".
تدرسي هنا" .ث ّم رافق سيينّا إلى جانب المبنى،بدا الشابّ الموشوم مدهوشا ً تماما ً اآلن" .سيّدتي ،عليك حتما ً أن ّ
صة قديمة خلفها .اصعدا إلى السطح، وأشار إلى موقف سيّارات خلفي" .هل ترين تلك السقيفة إلى اليسار؟ ث ّمة من ّ
ومنه يمكنكما القفز إلى الجانب اآلخر من الجدار".
تحركت سيينّا فوراً ،ث ّم نظرت إلى النغدون بابتسامة متعالية وقالت" :هيّا يا أخي بوب .أم ّ
إن سنّك لم تعد تسمح ّ
لك بالقفز من فوق سور؟".
الفصل 22
ّ
وكأن العالم أسندت المرأة ذات الشعر الفضّي رأسها على الزجاج المقاوم للرصاص وأغمضت عينيها .شعرت
يدور من حولها .فالعقاقير التي أعطوها إيّاها سبّبت لها الدوار.
مع ذلك ،كانت لدى الحارس المسلّح الجالس قربها أوامر صارمة :يجب تجاهل احتياجاتها حتّى إتمام مه ّمتهم
أن األوان سيفوت قريباً.
بنجاح .ومن أصوات الفوضى الصادرة حولها ،يبدو واضحا ً ّ
بدأ الدوار يزداد حدّة اآلن ،وأصبحت تعاني من مشاكل في التنفّس .وبينما راحت تقاوم موجة جديدة من الغثيان،
تساءلت عن كيفية إيجادها نفسها في هذه الظروف السريالية .من الصعب عليها في وضعها الحالي اإلجابة عن
هذا السؤال المعقّد ،لكنّها تعرف تماما ً أين بدأ ك ّل شيء.
نيويورك.
منذ عامين.
ظمة الص ّحة العالمية ،وهو مركز مرموق سافرت إلى مانهاتن من جنيف ،وكانت تشغل هناك منصب مديرة من ّ
ّ
صصة في األمراض المعدية وانتشار األوبئة ،تلقت دعوة إلى جدًّا تحتلّه منذ عشر سنوات تقريباً .وبصفتها متخ ّ
مركز األمم المتّحدة إللقاء محاضرة عن تقييم خطر األمراض المعدية في بلدان العالم الثالث .كان حديثها متفائقاً
ظمة الص ّحة ومطمئناً ،وأشارت فيه إلى عدد من أنظمة الكشف المبكر الحديثة والخطط العقاجية التي وضعتها من ّ
ظمات .وفي نهاية المحاضرة ،صفّق لها الجمهور بحرارة. العالمية وغيرها من المن ّ
بعد انتهاء المحاضرة ،وبينما كانت تتحدّث في القاعة مع بعض األكاديميين ،أتى مو ّ
ظف في األمم المتّحدة ،يحت ّل
مركزا ً مرموقا ً كما بدا من بطاقته الدبلوماسية ،وقطع عليها حديثها.
"د .سينسكي ،اتّصل بنا مجلس العقاقات الخارجية .ث ّمة من يرغب في التحدّث معك .السيّارة تنتظرك في
الخارج".
شعرت د .إليزابيث سينسكي بالحيرة وبشيء من التوتّر .غير أنّها اعتذرت وحملت حقيبة سفرها وانصرفت.
وبينما أسرعت سيّارة الليموزين عبر جادة فيرست أفينيو ،راح توتّرها يتصاعد.
صا .كان من بين أعضائه أُسّس مجلس العقاقات الخارجية في عشرينيات القرن المنصرم ،وش ّكل ّ
خزانا ً فكريا ً خا ًّ
السابقين ك ّل وزراء الخارجية تقريباً ،وأكثر من ستّة رؤساء جمهورية ،ومعظم أعضائه من رؤساء السي آي إيه،
وأعضاء في مجلس الشيوخ ،وقضاة ،فضقاً عن سقاالت عريقة أسطورية تحمل أسماء مثل مورغن ،وروثشيلد،
وروكفيلير .ذلك الجمع الفريد بين الفكر ،والنفوذ السياسي ،والثروة أضفى على مجلس العقاقات الخارجية سمعة
الخاص األقوى نفوذا ً على وجه األرض".
ّ مميّزة على أنّه "النادي
ظمة الص ّحة العالمية .فالسنوات التي أمضتها على رأس لم تكن إليزابيث غريبة عن هذا العالم بصفتها مديرة من ّ
تستحق مؤ ّخرا ً تنويها ً من مجلّة معروفة ذكرتها من بين
ّ ظمة -باإلضافة إلى طبيعتها الصريحة -جعلتها المن ّ
ُ ً
األشخاص العشرين األكثر نفوذا في العالم .وكتبت تحت صورتها العبارة التالية :وجه الص ّحة العالمية؛ وهي
جملة وجدتها مثيرة للسخرية نظرا ً ألنّها كانت طفلة دائمة المرض.
عانت من حالة ربو حادّة حين كانت في السادسة من عمرها ،فت ّمت معالجتها بجرعة عالية من عقار جديد واعد،
وكان ّأول عقار في العالم يرتكز على الغلوكورتيكوييد ،أو هرمونات الستيروييد .نجح هذا الدواء في عقاج
أن األعراض الجانبية غير المتوقّعة للدواء لم تظهر سوى بعد سنوات،
أعراض الربو على نحو عجائبي ،غير ّ
ً ّ عندما وصلت سينسكي إلى ّ
سن البلوغ ...إذ لم تظهر عليها أعراض الحيض قط .لن تنسى أبدا الصدمة التي
أن الضرر الذي أصاب أصيبت بها في عيادة الطبيب عندما كانت في التاسعة عشرة من عمرها ،وعرفت ّ
جهازها التناسلي دائم.
سرحت إليزابيث شعرها الفضّي بسرعة ،ونظرت إلى وجهها في المرآة .سرعان ما توقّفت السيّارة ،وساعدها
ّ
ي مزدحم من مانهاتن.
ّ ح في الرصيف إلى الخروج على السائق
قال السائق" :سأنتظرك هنا .يمكننا الذهاب مباشرة إلى المطار عندما تصبحين جاهزة".
كان المركز الرئيس لمجلس العقاقات الخارجية في نيويورك عبارة عن مبنى نيوكقاسيكي غير الفت لقانتباه يقع
في الزاوية بين الحديقة العا ّمة والشارع الثامن والستّين ،وقد كان في ما مضى منزالً ألحد رؤساء شركة ستاندرد
ي إشارة إلى هدفه الفريد.
أويل .تناسب شكله الخارجي بتناغم مع محيطه األنيق ،من دون أ ّ
حيّتها مو ّ
ظفة استقبال قائلة" :د .سينسكي ،من هنا من فضلك .إنّه بانتظارك".
ممر أنيق إلى باب مغلق ،طرقت عليه المرأة قبل أن تفتحه وتشير حسناً ،لكن من هو؟ تبعت مو ّ
ظفة االستقبال في ّ
إلليزابيث بالدخول.
كانت غرفة االجتماعات الصغيرة المعتمة مضاءة بوهج شاشة فيديو فقط .أمام الشاشة ،جلس رجل طويل ونحيل.
ومع أنّها لم تتم ّكن من رؤية وجهه ،إالّ أنّها شعرت ّ
بقوة نفوذه.
رحب بها الرجل بصوت حادّ" :د .سينسكي ،شكرا ً لمجيئك" .بدا من لكنته أنّه ينتمي إلى بلد إليزابيث األ ّم،
سويسرا ،أو ربّما ألمانيا.
ألن نتعارف؟ جلست إليزابيث .الصورة الغريبة التي تظهر على الشاشة لم تساعدها على تهدئة أعصابها .ما هذا؟
قال الرجل" :كنت موجودا ً في محاضرتك هذا الصباح .أتيت من مسافة بعيدة ألستمع إليك .كان أداؤك مؤثّراً".
أجابت" :شكراً".
"اسمحي لي بالقول أيضا ً إنّك أكثر جماالً م ّما تخيّلت ...على الرغم من سنّك ورؤيتك قصيرة النظر لعالم
الص ّحة".
فغرت إليزابيث فاها من شدّة الدهشة .كان التعليق مهينا ً تماماً .سألته وهي تحدّق في الظقام" :عذراً! من أنت؟
ولماذا استدعيتني إلى هنا؟".
أجاب الظ ّل النحيل" :اعذريني على دعابتي الفاشلة .الصورة على الجدار ستشرح لك سبب وجودك هنا".
قال الرجل" :هذه لوحة للفنّان العظيم دوريه .إنّها تجسّد تفسيره المتشائم لرؤية دانتي أليغييري للجحيم .أتمنّى أن
ألن هذا هو ما سيؤول إليه حالنا" .صمت والتفت نحوها ببطء مضيفاً" :دعيني أخبرك لماذا". تجديها مريحةّ ...
لم تشعر إليزابيث باالرتياح إزاء نبرته المتصاعدة ووقفته العدوانية ،فلم تقل شيئاً.
تابع يقول وهو يقترب منها" :فرضياً ،إن كانت سماكة الورقة األصلية تبلغ 98/9ملمّ ،
وكررت هذه العمليّة...
لنقل :خمسين ّ
مرة ...فهل تعرفين كم ستبلغ سماكة هذه الكدسة من األوراق؟".
توتّرت إليزابيث ،وأجابت بعدائية أكثر م ّما أرادت" :أجل .ستبلغ 98/9ملم ضرب 618وهذا ما يس ّمى التقدّم
الهندسي .هل لي أن أعرف ماذا أفعل هنا؟".
وهز رأسه بإعجاب" .أجل .وهل تعرفين كم ستكون تلك القيمة فعلياً؟ هل تعرفين كم سيبلغ طول تلك
ابتسم الرجل ّ
مرة فقط المسافة بين
ّ خمسين مضاعفتها بعد طولها "سيعادل أضاف: م
ّ ث هنيهة صمت األوراق؟". الكدسة من
األرض ...والشمس".
للنمو الجيومتري شيء تتعامل معه طوال الوقت في عملها .دوائر العدوى...
ّ فالقوة الهائلة
لم تفاجأ إليزابيثّ .
ي مجهود إلخفاء انزعاجها" :أعتذر إن بدوت
ّ أ تبذل أن دون من قالت . الوفيات تقديرات المعدية... تكرر الخقايا
ّ
ّ
ساذجة ،لكنني لم أفهم وجهة نظرك بعد".
عاد يمشي مجدّداً" .تأ ّملي هذا .استغرق س ّكان األرض آالف السنوات؛ من فجر البشرية وحتّى أوائل القرن التاسع
عشر ،ليبلغوا مليار نسمة .ث ّم فجأة ،تضاعف عددهم خقال مائة عام ليبلغوا ملياري نسمة في عشرينيات القرن
مرت خمسون عاما ً حتّى تضاعف عددهم إلى أربعة مليارات في سبعينيات القرن العشرين .بعد ذلك ،بالكاد ّ
ً ّ
العشرين .وكما تتخيّلين ،نحن نتجه نحو المليارات الثمانية قريبا .اليوم فقط ،أضاف الجنس البشري ربع مليون
نسمة إلى س ّكان األرض .ربع مليون .وهذا يحدث يوميًّا ،سواء أكان الطقس ممطرا ً أو مشمساً .حاليًّا ،نضيف ك ّل
عام ما يعادل س ّكان ألمانيا بأكملها".
هذا سؤال وقح آخر ،مع أنّها معتادة على التعامل مع العدوانية بدبلوماسية في عملها" .واحد وستّون عاماً".
شرين الكاثوليك الذين راحوا يحذّرون أجابها الرجل ساخراً" :آه ،أجل! ومشى في أعقابكم جيش أكبر من المب ّ
األفريقيين من أنّهم إن استعملوا وسائل منع الحمل فسيذهبون إلى الجحيم .تعيش أفريقيا مشكلة بيئية جديدة اليوم؛
فهناك حقول تفيض بالواقيات الذكرية غير المستعملة".
أن الكاثوليك المعاصرين بدأواقاومت إليزابيث إلمساك لسانها عن الكقام .كان محقًّا في هذه النقطة ،غير ّ
يعارضون تد ّخل الفاتيكان في مسألة تحديد النسل .فقامت ميليندا غايتس ،وهي كاثوليكية ملتزمة ،بتخصيص 118
مليون دوالر لتسهيل الوصول إلى وسائل تحديد النسل في مختلف أنحاء العالم؛ مخاطرة بإثارة غضب كنيستها.
أن بيل وميليندا غايتس يستحقّان تكريما ً عظيما ً بسبب جهودهما الرامية إلى
ولطالما أشارت إليزابيث سينسكي إلى ّ
تحسين الص ّحة العالمية .لكن مع األسف ،إن المؤسّسة الوحيدة القادرة على صيانة الص ّحة قد فشلت في رؤية
الطبيعة المسيحية لجهودهما.
ي أم إلهانتي؟".
ردّت عليه بعنف" :سؤال واحد .هل أحضرتني إلى هنا إللقاء محاضرة عل ّ
أصبح الصوت لطيفا ً على نحو غريب" :ال هذا وال ذاك .أحضرتك إلى هنا ألعمل معك .ال شكّ أنّك تفهمين ّ
أن
االنفجار الس ّكاني مشكلة ص ّحية .لكن ما أخشاه هو أنّك ال تفهمين أنّه سيؤثّر في روح اإلنسان نفسها .فتحت وطأة
سيتحولون إلى لصوص إلطعام أسرهم .ومن لم يف ّكروا في القتل ّ الضغط الس ّكاني ،من لم يف ّكروا في السرقة مطلقا ً
يوما ً سيقتلون من أجل تربية صغارهم .ك ّل خطايا دانتي المميتة :الطمع ،والشره ،والخيانة ،والقتل ،إلخ...
ستتوالى ،وستطفو على سطح البشرية ،وستتفاقم بسبب اختفاء وسائل الراحة .إنّنا نواجه معركة ضدّ روح
اإلنسان".
أن الحياة ستصبح صعبة على نحو متعاظم في السنوات المقبلة .فمساوئ االنفجار "حسناً ،يمكنني أن أؤ ّكد لك ّ
الس ّكاني ال تقتصر على االستياء الروحي .ث ّمة مقطع لماكيافيلي ."-
"أجل" ،قاطعته وتلت ما تذكره من مقولته الشهيرة" .عندما تع ّج ك ّل مقاطعة في العالم بس ّكان ال يستطيعون البقاء
ظمة يعرف فإن العالم سيط ّهر نفسه" .حدّقت إليه مضيفة" :ك ّل من في المن ّ
حيث هم ،وال االنتقال إلى مكان آخرّ ...
هذه المقولة".
أن ماكيافيلي تابع متحدّثا ً عن األمراض التي تش ّكل الطريقة الطبيعية للتطهير الذاتي
"جيّد .إذاً ،ال بدّ أنّك تعرفين ّ
للعالم".
"أجل .وكما ذكرت في حديثي ،نحن ندرك العقاقة المباشرة بين الكثافة الس ّكانية واحتمال انتشار األوبئة على
نطاق واسع ،إالّ أنّنا نبتكر باستمرار وسائل كشف وطرق عقاج حديثة .والمن ّ
ظمة على ثقة من أنّنا سنتم ّكن من
منع انتشار األوبئة في المستقبل".
قال الرجل وهو يضحك على نحو غريب" :د .سينسكي ،أنت تتحدّثين عن مكافحة األوبئة وكأنّها أمر جيّد".
ظمة الص ّحة العالمية ،أي أفضلي .ها أنا أقف مع رئيسة من ّمحام يدافع عن قضيته" :أصغي إل ٍّ قال وقد بدا وكأنّه
ظمة تقديمه .وهذه فكرة مخيفة في الواقع .عرضت عليك هذه الصورة عن البؤس الداهم الذي من يمكن للمن ّ
للنمو الس ّكاني الجامح" .وأشار إلى كدسة
ّ صد بنا" .أعاد عرض صورة الجثث" .ذ ّكرتك ّ
بالقوة المخيفة يتر ّ
األوراق الصغيرة" .كما شرحت لك أنّنا على شفير انهيار روحي" .صمت ث ّم التفت إليها مباشرة" .وما هو
شاشة ذباب على جوابك؟ وسائل لمنع الحمل في أفريقيا" .أطلق الرجل ضحكة ساخرة" .هذا أشبه بالتلويح بك ّ
كوكب انحرف عن مساره .لم تعد القنبلة الموقوتة تُتكتك .لقد انفجرت أساساً ،ومن دون اتّخاذ تدابير جذرية،
ستصبح الرياضيات األسّية هي ما يحكم العالم ...وستكون حاكما ً حقوداً .ستُحضر رؤية دانتي للجحيم إلى بارك
أفينيو ...جموعا ً غفيرة تتخبّط في قذارتها .إنها غربلة كونية ّ
نظمتها الطبيعة بنفسها".
سألته إليزابيث بنبرة الذعة" :حقًّا؟ أخبرني إذا ً بحسب رؤيتك لمستقبل مستدام ،ما هو العدد المثالي لس ّكان
األرض؟ ما هو العدد السحري الذي يستطيع الجنس البشري احتماله بقا حدود ...وعلى نحو مريح نسبيًّا؟".
ي عا ِّلم بيولوجيا بيئي أو عالم إحصائيات سيخبرك ّ
أن أفضل فرصة ابتسم الرجل الطويل وقد أعجبه السؤال" .أ ّ
ّ
يستمر على المدى الطويل هي بعدد سكان يقارب أربعة مليارات". ّ للجنس البشري لكي
وأظن ّ
أن األوان قد فات على ذلك". ّ أجابته إليزابيث" :أربعة مليارات! لقد بلغنا سبعة مليارات اآلن،
وقفا في فسحة مليئة بالطحالب ونبات السرخس عند أطراف غابة صغيرة .كان باالتزو بيتي محجوبا ً تماما ً عن
أنظارهما من هذه البقعة ،فشعر النغدون أنّهما أبعد ما يكون عن القصر .لكن على األقلّ ،لم يكن ث ّمة ع ّمال أو
سيّاح في هذه الساعة المبكرة.
مكسو بالحصى يمتدّ على نحو جميل نزوالً في الغابة أمامهما .في المكان الذي تختفي
ّ حدّق النغدون إلى طريق
فيه الطريق بين األشجار ،ينتصب تمثال رخامي في موقع ممتاز لجذب األنظار .لم يفاجأ النغدون ،فحدائق
بوبولي نتاج مواهب التصميم الفريدة التي تمتّع بها ك ّل من نيكولو تريبولو ،وجورجيو فاساري ،وبيرناردو
بوونتالينتي الذين أنتجوا معا ً هذه التحفة الهندسية الممتدّة على مساحة 999آكر.
قال النغدون مشيرا ً إلى الطريق" :إن اتّجهنا نحو الشمال الشرقي فسنصل إلى القصر .وهناك يمكننا االختقاط
أظن ّ
أن القصر يفتح أبوابه عند الساعة التاسعة". بالسيّاح والخروج من دون أن يرانا أحدّ .
ير سوى معصمه الخالي الذي كانت تحتلّه ساعة ميكي نظر النغدون إلى معصمه للتحقّق من الوقت ،لكنّه لم َ
ماوس سابقاً .تساءل ع ّما إذا كانت ال تزال في المستشفى مع بقيّة أغراضه ،وع ّما إذا كان سيتم ّكن من
استرجاعها.
وقفت سيينّا في مكانها ،ونظرت إليه بتحدٍّ" .روبرت ،قبل أن نقوم بخطوة أخرى ،أريد أن أعرف إلى أين نحن
ذاهبان .ماذا عرفت هناك؟ وماذا عن حلقات الماليبولغي؟ قلتَ إنّها ليست بالتسلسل الصحيح؟".
أشار النغدون إلى الغابة الممتدّة أمامهما" .لنبتعد ّأوالً عن األنظار" .قادها عبر الطريق الذي ينعطف عند تجويف
مغلق؛ "غرفة" بلغة الهندسة المعمارية للمناظر الطبيعية .كان المكان يحتوي على بعض المقاعد ،فضقاً عن
نافورة صغيرة .وكان الهواء تحت األشجار أكثر برودة بقا شكّ .
يكتف
ِّ بقوة" .سيينّا ،أيًّا يكن من صنع هذه الصورة الرقمية ،فهو لم أخرج النغدون المسقاط من جيبه وبدأ ّ
يهزه ّ
بإضافة أحرف إلى الخطأة في الماليبولغي ،بل غيّر ترتيب الخطايا" .وقف على المقعد ،وو ّجه المسقاط عند
ّ
المسطح بجانب سيينّا. ّ
بوتيتشيلي بصورة باهتة على المقعد قدميه ،فظهرت خارطة
ّ
الموزعة على خنادق الماليبولغي أشار النغدون إلى المنطقة المدرجة عند أسفل القمع" .هل ترين األحرف
العشرة؟".
بحثت سيينّا عنها على الصورة وقرأتها من األعلى إلى األسفل."catrovacer" .
"لكنّك أدركت ّ
أن الخنادق العشرة ليست بالترتيب الصحيح؟".
"ال ،بل األمر أسهل من ذلك في الواقع .لو شبّهنا هذه المستويات بمجموعة من عشر بطاقات من أوراق اللعب،
فهي لم تُخلط كثيراً ،بل ت ّم قطعها ّ
مرة واحدة .وبعد القطع ،بقيت األوراق بالترتيب الصحيح ،لكنّها بدأت عند
للمغررين الذين
ّ نص دانتيّ ،
إن الخندق العلوي هو البطاقة الخطأ" .أشار النغدون إلى الخنادق العشرة" .بحسب ّ
المغررين ...في األسفل؛ في الخندق السابع".
ّ تجلدهم الشياطين .لكن في هذه النسخة ،نجد
C
A
T
R
O
V
A
C
E
R
C
A
T
R
O
V
A
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
C
E
R
قالت بسرعة" :حسناً."Catrova. Cer ،
"أجل .إن أعدنا البطاقات إلى ترتيبها الصحيح ،فعلينا ببساطة إعادة هذا الجزء إلى األعلى".
كرر النغدون بصوت عا ٍل ."Cer Catrova" :صمت قليقاً ث ّم أعاد نطق األحرف ودمجها معاً.
ّ
ً ً
" ."Cercatrovaأخيرا ،لفظها مجدّدا وفصل الكلمة في منتصفها."Cerca… trova" .
هتفت سيينّا" :هذه هي الجملة التي كنت تسمعها في هذيانك! المرأة ذات الوشاح كانت تطلب منك دائما ً أن تبحث
أن الكلمتين Cerca trovaكانتا موجودتين فيلتجد!" .قفزت واقفة" .روبرت ،هل تدرك معنى ذلك؟ هذا يعني ّ
ال وعيك! هل تدرك ذلك؟ ال بدّ أ ّنك ف ّككت رموز هذه الجملة قبل وصولك إلى المستشفى! لقد رأيت على األرجح
هذه الصورة الموجودة في المسقاط من قبل ...لكنّك نسيت!".
حق .فقد كان ير ّكز انتباهه على الشيفرة بحدّ ذاتها ،ولم يخطر في باله ق ّ
ط أنّه سبق له أن أدرك النغدون أنّها على ّ
مر بك ّل ذلك.
ّ
إن الخارطة تشير إلى مكان محدّد في المدينة القديمة ،لكنّني لم أفهم بعد إلى أين".
"روبرت ،قلتَ ّ
ّ
هزت كتفيها حائرة.
ابتسم النغدون وف ّكر ،أخير ًا ث ّمة شيء ال تعرفه سيي ّنا" .كما يبدو ،تشير هذه الكلمة تحديداً إلى لوحة جدارية
شهيرة معلّقة في قصر باالتزو فيكيو؛ جدارية جورجيو فاساري التي تحمل عنوان باتاليا دي مارتشانو في قاعة
الخمسمائة .في أعلى اللوحة تقريباً ،وبأحرف بالكاد مرئية ،كتب فاساري بأحرف صغيرة جدًّا .cerca trova
ي دليل حاسم".ث ّمة نظريات كثيرة عن سبب ذلك ،لكن لم يت ّم اكتشاف أ ّ
فجأة ،ارتفع صوت طائرة صغيرة فوقهما ،بدت وكأ ّنها قد ظهرت من العدم ،وبدأت تحلّق في أجواء الغابة .كان
الصوت قريبا ً جدًّا ،حيث تج ّمد النغدون وسيينّا في مكانهما في اللحظة التي ّ
مرت فيها الطائرة.
عندما ابتعدت الطائرة ،حدّق النغدون من بين األشجار وقال" :إنّها مروحية دمية" .وتنفّس الصعداء وهو يشاهد
الطائرة التي يبلغ طولها ثقاث أقدام ،ويت ّم التح ّكم بها السلكيا ً ،وهي تميل في ّ
الجو .بدت أشبه ببعوضة عمقاقة
غاضبة.
همست قائلة" :هذه ليست دمية ،بل إنها طائرة استطقاع من دون طيّار .إنّها ّ
مزودة على األرجح بكاميرا فيديو
تُرسل صورا ً حيّة إلى ...شخص ما".
توتّر فكّ النغدون وهو يشاهد المروحية تعود إلى المكان الذي أتت منه؛ بورتا رومانا ومعهد الفنون.
أن شخصا ً ما في معهد الفنون قد رآنا وأخبر عنّا .علينا االبتعاد من
قالت سيينّا وهي تتقدّم على الطريق" :ال بدّ ّ
هنا حاالً".
مع ابتعاد الطائرة نحو أطراف الحدائق ،قام النغدون بمحو األحرف التي كتبها على الطريق بقدمه ،ث ّم أسرع
خلف سيينّا .تزاحمت في ذهنه أفكار عن ،cerca trovaوجدارية جورجيو فاساري ،وما قالته سيينّا عن أنّه
سبق له أن ف ّكك رموز رسالة المسقاط .اطلبوا تجدوا.
فجأة ،وبينما كانا يدخقان فسحة أخرى ،خطرت في ذهن النغدون فكرة مفاجئة ،فتوقّف على الطريق المحاط
باألشجار ،وبدا الذهول على وجهه.
"أال ترين؟!" .كان النغدون يبتسم اآلن" .لم أكن أتأسّف ،بل كنت أردّد اسم الفنّان؛ فا ...ساري ،فاساري!".
الفصل 24
بقوة.
ضغطت فايينثا على الفرامل ّ
دراجتها صوتا ً عالياً ،وتركت أثرا ً طويقاً على اإلسفلت في جادة بودجو إمبريالي ،ث ّم توقّفت أخيراً بشكل
أصدرت ّ
صف طويل من السيّارات .كانت جادة بودجو في حالة جمود. ّ مفاجئ خلف
ي وقت لهذا!
ليس لد ّ
ظ لم يفارقها على ما يبدو .فالطريق التي اختارتها لدخول المدينة القديمة كانت مغلقة .لم تكن أن سوء الح ّ
غير ّ
الممر
ّ صف السيّارات ،وأسرعت عبر ّ بدراجتها إلى أحد جانبي
فايينثا في مزاج يسمح لها باالنتظار ،فانحرفت ّ
الضيّق إلى أن تم ّكنت من رؤية تقاطع الطرق المسدود .رأت أمامها مستديرة مقطوعة ّ
تتوزع منها ستّ طرق
رئيسة .كانت تلك بورتا رومانا؛ أحد أكثر التقاطعات ازدحاما ً في فلورنسا ،كما أنّها الباب المؤدي إلى المدينة
القديمة.
الحظت فايينثا ّ
أن المنطقة بأكملها تع ّج بعناصر الشرطة الذين أقاموا حاجز تفتيش .وبعد لحظات ،رأت في وسط
المعمعة مشهدا ً أدهشها؛ رأت فانا أسود مألوفا يقف حوله عدد من العمقاء الذين يرتدون مقابس سوداء،
ً ً
ويصدرون األوامر للسلطات المحلّية.
إ ّال إذا...
ابتلعت فايينثا لعابها بصعوبة ،ولم تجرؤ على تخيّل ذلك االحتمال .هل يعقل أن يكون النغدون قد أفلت من برودر
أيضاً؟ بدا ذلك غير وارد ،وذلك ّ
ألن فرص الهرب كانت معدومة تقريباً .غير ّ
أن النغدون لم يكن يعمل بمفرده،
وقد عرفت فايينثا بنفسها ّ
أن المرأة الشقراء واسعة الحيلة.
ظهر في الجوار ضابط شرطة يتنقّل من سيّارة إلى أخرى ،ويُبرز صورة لرجل وسيم ،شعره بنّي كثيف .عرفت
أن الصورة لروبرت النغدون ،فتسارعت نبضات قلبها. فايينثا فورا ً ّ
حرا!
ما زال النغدون ًّ
األول :الهرب.
الخيار ّ
صل منها بسبب ذلك .إن كانت محظوظة فستواجه استجوابا ً لقد تسبّبت فايينثا بفشل مه ّمة حرجة للعميد ،وت ّم التن ّ
رسمياً ،وستنتهي مهنتها على األرجح .أ ّما إن لم تكن كذلك ،وأساءت تقدير خطورة رئيسها ،فقد تمضي بقيّة
حياتها هاربة ،ومتسائلة ع ّما إذا كان رجال الكونسورتيوم يتربّصون بها.
لديك خيار آخر اآلن.
أكملي مه ّمتك.
ف ّكرت ونبضها يتسارع ،إن فشل برودر في إيجاد النغدون ،ونجحت أنا...
أن االحتمال بعيد .لكن ،إن تم ّكن النغدون من التم ّلص من برودر تماماً ،وتم ّكنت فايينثا من التد ّخل عرفت فايينثا ّ
ي خيار سوى إعادتها إلى وظيفتها. وإنهاء المه ّمة ،فستتف ّرد بإنقاذ الكونسورتيوم ،ولن يكون أمام العميد أ ّ
قوة عاملة غير محدودة ،فضقاً عن مجموعة واسعة من الوسائل بتصرفه ّّ لن يكون األمر سهقاً .إذ يملك برودر
ّ
التكنولوجية الواسعة المستخدمة للمراقبة .أ ّما فايينثا فتعمل بمفردها .غير أنها تملك معلومة واحدة ال يعرفها
برودر ،أو العميد ،أو الشرطة.
دواسة السرعة ،واستدارت 908درجة ،ث ّم عادت من حيث أتت .ف ّكرت وهي تتخيّل الجسر الواقع ضغطت على ّ
إلى الشمال ،بونتي ألي غراتسيي .ث ّمة أكثر من طريق يؤدي إلى داخل المدينة القديمة.
الفصل 25
راح النغدون يف ّكر مذهوالً :لم يكن اعتذار ًا ،بل كان اسم ف ّنان.
ردّدت سيينّا وهي تعود خطوة كاملة إلى الوراء" :فاساري ،الفنّان الذي خبّأ عبارة cerca trovaفي لوحته
الجدارية".
أن هذا االكتشاف سلّط الضوء على المأزق الغريب الذي وجد نفسه ابتسم النغدون .فاساري .فاساري .صحيح ّ
فيه ،إالّ أنّه كان يعني أيضا ً ّ
أن النغدون لن يتساءل بعد اآلن عن اإلثم الفظيع الذي ارتكبه ...والذي كان يعتذر عنه
باستفاضة.
"روبرت ،من الواضح أنّك رأيت لوحة بوتيتشيلّي هذه قبل إصابتك بالرصاصة ،وعرفت أنّها تحتوي على شيفرة
تشير إلى جدارية فاساري .لهذا السبب استيقظت وأنت تردّد اسمه!".
حاول النغدون أن يح ّلل معنى كلّ ذلك .كان جورجيو فاساري فنّاناً ،ومهندسا ً معمارياً ،وأديبا ً عاش في القرن
للفن في العالم" .فعلى الرغم من مئات اللوحات التي مؤرخ ّ
"أول ّالسادس عشر .وغالبا ً ما وصفه النغدون بأنّه ّ
رسمها فاساري ،وعشرات المباني التي ص ّممها ،كان أه ّم آثاره هو كتابه المبدع ،حياة أنجح الرسّامين،
والن ّحاتين ،والمهندسين المعماريين ،الذي يض ّم سيرا ً لفنّانين إيطاليين ،وما زالت قراءته حتّى هذا اليوم مطلوبة
من تقامذة تاريخ ّ
الفن.
أعادت عبارة cerca trovaفاساري إلى محور النقاشات قبل حوالى ثقاثين عاماً؛ عندما ت ّم اكتشاف "رسالته
السرية" في أعلى لوحته الجدارية المترامية في قاعة الخمسمائة في قصر فيكيو .ظهرت األحرف الصغيرة على ّ
علم حربي أخضر ،وكانت بالكاد مرئية في فوضى مشهد المعركة .ومع أنّه لم يت ّم االتّفاق حول السبب الذي دفع
فاساري إلى إضافة هذه الرسالة الغريبة إلى لوحته ،إالّ ّ
أن النظرية األكثر شيوعا ً تفيد أنّها إشارة لألجيال القادمة
إلى وجود جدارية مفقودة لليوناردو دافينشي مخبّأة في فجوة من ثقاثة سنتمترات خلف ذلك الجدار.
كانت سيينّا تنظر من بين األشجار بعصبية" .ث ّمة أمر لم أفهمه بعد .إن لم تكن تعتذر ...فلماذا يحاول هؤالء
األشخاص قتلك؟".
أن الوقت قد حان التّخاذ القرار .لم يفهم كيف يمكن للوحة عقا صوت طائرة المراقبة مجدّداً ،فأدرك النغدون ّ
فاساري ،باتاليا دي مارتشانو ،أن تكون على عقاقة بإنفيرنو دانتي ،أو بالطلقة التي أصيب بها في الليلة الفائتة.
ومع ذلك ،رأى أخيرا ً طريقا ً واضحا ً أمامه.
.Cerca trova
تراءت لقانغدون مجدّدا ً المرأة ذات الشعر الفضّي وهي تناديه من الضفّة األخرى للنهر .الوقت ينفد! إن كان ث ّمة
أجوبة ،فقد شعر النغدون أنّه سيجدها في قصر فيكيو.
طاسين اإلغريق الذين كانوا يصطادون الكركند في الكهوف المرجانية في عاد إليه في تلك اللحظة َمثَل قديم للغ ّ
جزر بحر إيجة .حين تسبح في نفق مظلم ،فستصل إلى نقطة القاعودة؛ عندما يصبح نفَسك غير كافٍ لتعود
أدراجك .عندئذٍ ،سيكون خيارك الوحيد هو السباحة إلى األمام نحو المجهول ...والصقاة إليجاد مخرج.
اقتربت الطائرة أكثر ،وشعر النغدون للحظة أنّه منهك تماماً .فعندما أدرك أنّه لم يكن يقول "آسف جدًّا" ،أصبح
هربه من الشرطة بقا معنى بالنسبة إليه.
نظرت إليه سيينّا بفزع" .روبرت ،كلّما توقّفت حاول شخص ما إطقاق النار عليك! يجب أن تعرف ما أنت
متورط فيه .يجب أن تنظر إلى جدارية فاساري وتدعو لكي تنعش ذاكرتك .ربّما ستساعدك على معرفة مصدر
ّ
هذا المسقاط وسبب وجوده معك".
تذ ّكر النغدون المرأة بشعرها السبايكي التي قتلت د .ماركوني بدم بارد ...والجنود الذين أطلقوا النار عليهما...
والشرطة العسكرية اإليطالية المتج ّمعة عند بورتا رومانا ...واآلن طائرة المراقبة التي تبحث عنهما في حدائق
بوبولي .غرق في الصمت ،ودلّك عينيه المتعبتين وهو يف ّكر بالخيارات المتاحة أمامه.
قالت سيينّا" :روبرت ،ث ّمة أمر آخر ...شيء لم يبد ُ ذا أه ّمية ،لكنّني أجده مه ًّما اآلن".
"ما األمر؟".
بدا التوتّر على وجه سيينّا" .عندما وصلت إلى المستشفى ،كنت تهذي وتحاول التواصل".
"أجل .لكن ،قبل ذلك ...قبل أن نحضر آلة التسجيل ،أي في اللحظات األولى من وصولك ،قلت شيئا ً آخر ما زلت
مرة واحدة ،لكنّني متأ ّكدة م ّما فهمته".
أذكره .قلته ّ
"ماذا قلت؟".
نظرت سيينّا إلى الطائرة ومن ث ّم إلى النغدون" .قلت :أنا أملك المفتاح إليجاده ...إن فشلت ،فمصيرنا الموت".
تابعت سيينّا" :ظننت أنّك كنت تعني الشيء الموجود في سترتك ،لكنّني لم أعد واثقة اآلن".
إن فشلت ،فمصيرنا الموت؟! تلك الكلمات صعقت النغدون .تراءت له صور الموت التي تقاحقه في هذيانه...
إنفيرنو دانتي ،رمز الخطر البيولوجي ،طبيب الطاعون .مجدّداً ،توسّلت إليه المرأة الجميلة ذات الشعر الفضّي
من على ضفّة النهر .من يبحث يجد! الوقت ينفد!
أعاده صوت سيينّا إلى الواقع" .أيًّا يكن ما يشير إليه هذا المسقاط ...وأيًّا يكن ما تحاول إيجاده ،فقا بدّ أنّه خطير
للغاية .فاألشخاص الذين يسعون إلى قتلنا "...ارتجف صوتها ،وحاولت تمالك نفسها" .ف ّكر باألمر .لقد أطلقوا
ي أنا أيضاً ،مع أنّني بريئة .ال يبدو أن ث ّمة من يسعى إلى التفاوض .حتّى ّ
إن عليك النار في وضح النهار ...وعل ّ
حكومتك انقلبت عليك ...اتّصلت بهم لطلب المساعدة ،فما كان منهم إالّ أن أرسلوا شخصا ً لتصفيتك".
حدّق النغدون إلى األرض ساهماً .سواء أكانت القنصلية األميركية قد أبلغت القاتلة بمكان النغدون ،أو قامت
فإن هذا األمر لم يعد مه ًّما .وذلك أل ّن النتيجة هي نفسها؛ حكومتي ليست إلى
القنصلية نفسها بإرسال القاتلةّ ،
جانبي.
نظر النغدون إلى عيني سيينّا ،ورأى فيهما شجاعة وتصميماً .بماذا ورطتها؟ "أتمنّى لو كنت أعرف ما نبحث
عنه .فذلك سيساعدنا على وضع األمور في نصابها".
أن فكرة ظلّت تزعج النغدون .إن فشلت ،فمصيرنا الموت .منذ الصباح وهو كان من الصعب دحض ح ّجتها .غير ّ
يصادف رموزا ً للموت ،من الخطر البيولوجي ،إلى الطاعون ،إلى جحيم دانتي .صحيح أنّه ال يملك دليقاً واضحا ً
ع ّما يبحث عنه ،إالّ أنّه من السذاجة عدم التفكير في احتمال اشتمال هذا الوضع على مرض قاتل أو خطر
بيولوجي واسع النطاق .لكن ،إن كان ذلك صحيحاً ،فلماذا تحاول حكومته القضاء عليه؟
ي ف ّكر النغدون بالمرأة ذات الشعر الفضّي" .هنالك أيضا ً تلك المرأة التي أراها في أحقامي .أشعر ّ
أن عل ّ
إيجادها".
قالت سيينّا" :إذاً ،ثق بأحاسيسك .ففي حالتك ،يُعتبر عقلك الباطن أفضل بوصلة لديك .فهذا من علم النفس
األساسي؛ إن كان إحساسك يش ّجعك على الوثوق بهذه المرأة ،فأنا أعتقد أنّه عليك فعل ما تقوله لك".
بعزيمة صلبة ،التفت وبدأ يدرس محيطه؛ محاوالً إيجاد طريقة للخروج من الحدائق.
كانا يقفان تحت األشجار ،عند طرف ساحة واسعة مفتوحة ،تتقاطع فيها عدّة طرق .على مسافة بعيدة إلى
يسارهما ،رأى النغدون بحيرة على شكل هقال تض ّم جزيرة صغيرة مزيّنة بأشجار الليمون وبتمثال .ف ّكر ،إنها
ّ
تصور حصانا ً يقفز وهو نصف مغمور بالماء.ّ اإليزولوتّو ،وعرف المنحوتة الشهيرة لبيرسيوس التي
قال النغدون" :قصر بيتّي بهذا االتّجاه" ،وأشار إلى الشرق بعيدا ً عن الجزيرة؛ باتّجاه الطريق الرئيس للحديقة،
أي فيتّولوني ،الذي يمتدّ من الشرق إلى الغرب عبر الحديقة بأكملها .كان طريق فيتّولوني بمساحة طريق
باتّجاهين ،تحيط به أشجار السرو الطويلة التي يرجع عمرها إلى أربعمائة عام.
قالت سيينّا وهي ترمق الطريق المكشوف وتشير إلى الطائرة التي تحوم في األجواء" :ال يوجد غطاء هنا".
المرة إلى سياج بمحاذاة بداية فيتّولوني .كان الجدار العشبي الكثيف يحتوي على فتحة صغيرة ّ
مقوسة. أشار هذه ّ
خلف الفتحة ،امتدّ طريق ضيّق للمشاة كان عبارة عن نفق يمتدّ بموازاة فيتّولوني .كان ذلك النفق محاطا ً من
بصف من شجر السنديان الذي ت ّم تشذيبه بعناية منذ القرن السابع عشر ليش ّكل قنطرة فوق الطريق، ّ الجانبين
ويؤ ّمن ظقاًّ .كان اسم ذلك الطريق ،ال تشيركياتا ،ويعني حرفيا ً "الدائرة" أو "القنطرة" ،بسبب األشجار التي
تظلّله وتجعله شبيها ً بالبرميل ،باإليطالية تشيركي.
أسرعت سيينّا إلى الفتحة وحدّقت إلى النفق الظليل ،ث ّم التفتت فورا ً إلى النغدون وقالت مبتسمة" :هذا أفضل".
ومن دون إضاعة المزيد من الوقت ،دخلت عبر الفتحة وأسرعت بين األشجار.
لطالما اعتبر النغدون نفق ال تشيركياتا من أكثر األماكن أمانا ً في فلورنسا .لكن اليوم ،وهو يشاهد سيينّا تختفي في
طاسين اإلغريق الذين يسبحون في األنفاق المرجانية ويصلّون إليجاد مخرج. الممر المظلم ،ف ّكر مجدّدا ً بالغ ّ
ّ
على بعد نصف ميل ،خارج معهد الفنون ،مشى العميل برودر بين حشد من رجال الشرطة والطقاّب ،ور ّكز
صائي المراقبة فينظره الجليدي على الحشود المغادرة أمامه .تو ّجه إلى مركز القيادة المؤقّت الذي أقامه أخ ّ
محرك الفان األسود.
ّ فريقه على غطاء
صائي وهو يعطي برودر شاشة لوحية" :هذه الصورة أُخذت منذ بضع دقائق بواسطة كاميرا الطائرة".
قال األخ ّ
روبرت النغدون.
سيينّا بروكس.
قال العميل" :تقوم السلطات المحلّية بإغقاق ك ّل المخارج ،وستبدأ عمليّة التمشيط".
نظر ببطء إلى نافذة الفان السميكة المصنوعة من البوليكاربونات ،ورأى من خقالها المرأة ذات الشعر الفضّي
جالسة على المقعد الخلفي.
العقاقير التي أعطوها إيّاها شلّت حواسها من دون شكّ ؛ أكثر م ّما تخيّل برودر .ومع ذلك ،كما يبدو من نظرة
الخوف في عينيها ،ما زالت تفهم تماما ً ما يجري حولها.
راقبها النغدون وهي تغوص مجدّدا ً في األرض ،وعرف أنّهما يقتربان .لقد وصقا إلى نهاية نفق ال تشيركياتا،
وراحا يركضان عبر مرج مفتوح في أيكة من شجر الفلّين .كانا ينظران اآلن إلى أشهر نافورة طبيعية في
يصور نبتون ممسكا ً برمحه الثقاثي .كانت هذه النافورة تُعرف ّ بوبولي؛ تمثال ستولدو لورينزي البرونزي الذي
بين المحلّيين باسم نافورة الشوكة ،وتُعتبر موقعا مركزيًّا في الحدائق.
ً
توقّفت سيينّا عند طرف األيكة ،وحدّقت إلى األعلى عبر أغصان األشجار" .ال أرى الطائرة".
ي اتّجاه نذهب؟".
التزود بالوقود .هذه فرصتنا ،بأ ّ
ّ اضطروا إلى
ّ قالت سيينّا" :ال بدّ أ ّنهم
قادها النغدون إلى اليسار ،وبدآ بهبوط منحدر .عندما خرجا من بين األشجار ،بدا قصر بيتّي.
مع ذلك ،كانت واجهة قصر بيتّي الواقعة على بعد ربع ميل تقريبا ً تهيمن على المشهد ،ممتدّة إلى اليمين واليسار.
المقوسة .تقليدياً،
ّ أضفت الزخرفة الخارجية على المبنى هيبة قوية ،زادت من حدّتها النوافذ المغلقة والفتحات
ُضطر ك ّل من يقف في الحدائق إلى النظر إلى األعلى ّ كانت القصور الرسمية تقع على أرض مرتفعة؛ حيث ي
أن الموجودين في حدائق أن قصر بيتّي كان مبنيا ً في منخفض قرب نهر آرنو ،ما يعني ّ لرؤية القصر .غير ّ
بوبولي ينظرون إلى األسفل لرؤية القصر.
أن هذا التأثير كان أكثر دراماتيكية .وصف أحد المهندسين المعماريين القصر على أنّه يبدو وكأنّه من بناء
غير ّ
وتكومت في األسفل على شكل متراس أنيق. ّ وكأن الحجارة الضخمة قد تدحرجت إلى أسفل الجرف ّ الطبيعة...
أن هيكل قصر بيتّي بحجارته المتينة كان مهيباً؛ إلى درجة ّ
أن على الرغم من هذا الموقع الضعيف في الوادي ،إالّ ّ
مرة كقاعدة له عندما كان في فلورنسا.
نابليون استخدمه ّ
قالت سيينّا مشيرة إلى أقرب أبواب القصر" :انظر ،لدينا أخبار طيّبة".
كان النغدون قد رأى المشهد أيضاً .ففي هذا الصباح الغريب ،لم يكن مشهد القصر بحدّ ذاته هو المفرح ،بل
السيّاح الذين يتدفّقون من المبنى إلى الحدائق السفلية .كان القصر مفتوحاً ،ما يعني ّ
أن النغدون وسيينّا لن يواجها
ي مشاكل في التسلّل إلى الداخل ،وعبور المبنى لتفادي الحدائق .عرف النغدون أنهما عندما يخرجان من أ ّ
القصر ،فسيريان نهر آرنو إلى اليمين ،وخلفه أبراج المدينة القديمة.
وصقا أخيرا ً إلى الجهة الخلفية للقصر ،وأبطآ من سيرهما ،حيث اختلطا مع السيّاح األوائل لذلك اليوم .تقدّما
الزوار لقاستمتاع باحتساء قهوة الصباح في بعكس التيّار ،ونزال عبر نفق ضيّق إلى الفناء الذي جلس فيه بعض ّ
مقهى القصر .كان الهواء عابقا ً برائحة القهوة الطازجة ،فتاق النغدون فجأة إلى الجلوس واالستمتاع بفطور
الممر الحجري الواسع المؤدّي إلى مدخل القصر الرئيس. ّ هادئ .ليس اليوم مناسباً ،ف ّكر وهما يسرعان ويدخقان
مع اقترابهما من المدخل ،اصطدم النغدون وسيينّا بحشد أكبر من السيّاح الذين اجتمعوا عند الباب لرؤية شيء ما
في الخارج .حدّق النغدون من بين الحشود إلى الفناء الممتدّ أمام القصر.
المتفرجين.
ّ عند أسفل التلّ ،رأى النغدون ما يجذب أنظار
في بياتزا دي بيتّي ،وصلت ستّ سيّارات للشرطة من ك ّل االتجاهات .تدفّق منها جيش صغير من الضبّاط الذين
صعدوا الت ّل شاهرين أسلحتهم ،ث ّم انتشروا لتأمين واجهة القصر.
الفصل 27
عندما دخلت الشرطة قصر بيتّي ،كانت سيينّا والنغدون قد ابتعدا؛ إذ عادا أدراجهما إلى داخل القصر فراراً من
الشرطة .أسرعا عبر الباحة والمقهى الذي بدأت الجلبة تنتشر فيه ،وراحت األعناق تشرئبّ في محاولة لتحديد
مصدر الض ّجة.
وجدت هي والنغدون النفق الضيّق نفسه الذي استخدماه للخروج من الحدائق ،فاندفعا إليه من دون تردّد وصعدا
األدراج .كان الدّرج يميل في آخره على طول جدار دعم عا ٍل .هكذا ،عندما أسرعا بصعود الدّرج ،راح الجدار
درين على أن يطقاّ من فوقه على حدائق بوبولي الشاسعة.
يقصر بجانبهما ،إلى أن أصبحا قا َ
أمسك النغدون بذراع سيينّا فورا ً وأرجعها إلى الخلف؛ ليختبئا خلف جدار الدعم .كانت سيينّا قد رأت المشهد
أيضاً.
نحن محاصران!
أن لقاءها روبرت النغدون سيؤدّي بها إلى هذه الحال .هذا يفوق ما تو ّقعته .عندما غادرتطّ ،لم تتخيّل سيينّا ق ّ
فرا من امرأة ذات تسريحة سبايكي تحمل مسدّساً .أ ّما اآلن ،فهما
سيينّا المستشفى مع النغدون ،اعتقدت أنّهما ّ
أن فرص النجاة معدومة تقريباً. يهربان من فريق عسكري كامل ،ومن السلطات اإليطالية .بدأت اآلن تدرك ّ
مسورة ،تماما ً مثل "...وصمت فجأة ،ثم نظر نحو الشرق" .تماما ً قال النغدون" :ال ّ
أظن ذلك ،فهذه الحديقة مدينة ّ
مثل ...الفاتيكان" .وش ّع وجهه بوميض أمل غريب.
قال وهو يحثّها على اإلسراع في الجري معه اآلن" :االحتمال ضئيل ،لكن ،قد تكون ث ّمة طريقة للخروج من
هنا".
فجأة ،ظهر أمامهما شخصان بعدما انعطفا عند زاوية الجدار ،وكادا أن يرتطما بهما .كانا يرتديان مقابس سوداء،
فاعتقدت سيينّا للحظة مخيفة أ ّنهما الجنديان اللذان التقتهما في المبنى السكني .غير أنّهما تابعا طريقهما ،فعرفت
سائحين إيطاليين كما يبدو من مقابسهما الجلدية األنيقة.
َ مجرد
ّ أنّهما
خطرت فكرة لسيينّا ،فأمسكت بذراع أحد السائ َحين ،ث ّم ابتسمت وسألته بلطف بالغ ،وبإيطالية سريعة عن اتّجاه
صالة األزياء الشهيرة في القصر؟ وأضافت أنّها وشقيقها قد تأ ّخرا على جولة خا ّ
صة.
ابتسم لهما الرجل ،وبدا متل ّهفا ً للمساعدة .ث ّم أرشدهما إلى المكان مشيرا ً إلى الغرب ،على طول الجدار؛ تماما ً
بعكس االتّجاه الذي كان النغدون ينظر إليه.
قال النغدون" :علينا الوصول إلى ذلك الطريق" .مشيرا ً عبر ساحة مفتوحة إلى طريق يمتدّ على منحدر آخر،
بعيدا ً عن القصر .كان طريق الحصى محميا ً بأشجار ضخمة تحجبهما عن أعين السلطات التي راح عناصرها
يهبطون التلّ ،على بعد مائة ياردة فقط.
أن فرص عبورهما الساحة للوصول إلى الطريق ضئيلة جدًّا .كان السيّاح متج ّمعين هناك ،يشاهدون رأت سيينّا ّ
الشرطة بفضول .أ ّما الطائرة ،فعاد هديرها يُسمع مجدّدا ً ويقترب.
قال النغدون" :هذه فرصتنا الوحيدة" .ث ّم أمسك بيدها وشدّها نحو الساحة ،وهناك بدآ يتسلّقان بين حشود السيّاح.
قاومت سيينّا رغبتها في الركض ،كما أمسك النغدون يدها بحزم ،وأخذ يمشي بسرعة ولكن بهدوء.
عندما وصقا إلى الطريق أخيراً ،نظرت سيينّا إلى الخلف لترى ما إذا كان أمرهما قد ُكشف .كان ك ّل رجال
الشرطة ملتفتين إلى االتّجاه اآلخر ،وهم ينظرون إلى األعلى وقد جذب انتباههم صوت الطائرة المقتربة.
ظهرت أمامهما اآلن من فوق األشجار سماء فلورنسا القديمة ،وبدت واضحة أمامهما مباشرة .رأت سيينّا قبّة
دوومو الحمراء ،وق ّمة برج جرس جوتّو الخضراء والحمراء والبيضاء .كما لمحت للحظة ق ّمة باالتزو فيكيو الذي
يبدو وجهتهما المستحيلة .لكن ،عندما هبطا الطريق المنحدِّر ،حجب السور العالي المشهد عن أعينهما مجدّداً.
عندما وصقا إلى أسفل التلّ ،كانت سيينّا مقطوعة األنفاس ،وتتساءل ع ّما إذا كان النغدون يملك فكرة عن
مكسوة بالحصى
ّ لكن النغدون انعطف بثقة إلى اليسار ،إلى باحةاتّجاههما .كان الطريق يؤدّي مباشرة إلى متاهةّ ،
البيضاء ،ودار حولها مختبئا ً خلف سياج ظليل من األشجار العالية .كانت تلك الباحة خالية ،وكأنّها موقف سيّارات
للمو ّ
ظفين ،وليست الستقبال السيّاح.
الزم النغدون المحيط النباتي ،وتقدّم إلى األمام مباشرة نحو الجدار الممتدّ أمامهما .راحت سيينّا تبحث عن باب
تر سوى زاوية تحتضن أبشع تمثال رأته في حياتها. مفتوح ،لكنّها لم َ
يصور قزما ً عاريا ً وبدينا ً يمتطي سلحفاة عمقاقة .وكان الماء يقطر من فم السلحفاة كما لو أنها
ّ كان التمثال
مريضة.
قال النغدون من دون أن يتوقّف" :أعرف ،هذا تمثال براكيو دي بارتولو ،وهو قزم شهير في البقاط .برأيي،
يجب وضعه في حوض االستحمام العمقاق".
انعطف النغدون إلى اليمين ،متّجها ً إلى درج لم تره سيينّا حتّى اآلن.
أهو مخرج؟!
فعندما انعطفت عند الزاوية ونزلت الدّرج خلف النغدون ،أدركت أنّهما يتو ّجهان نحو طريق مسدود محاط
بجدران يبلغ ارتفاعها ضعفي ارتفاع سور الباحة.
ّ
وكأن الحت من مدخل الكهف هوابط شبيهة بالخناجر .في الداخل ،كانت األشكال الجيولوجية الملتوية تقطر ما ًء
ّ
وكأن الصخور قد التهمتها .المشهد ويتحول إلى أشكال تتض ّمن أعضاء بشرية ناتئة من الجدران؛
ّ الحجر يذوب
ّ
بأكمله ذ ّكر سيينّا بخارطة الجحيم لبوتيتشيلي.
واستمر بالركض مباشرة نحو مدخل الكهف .كان قد ذكر منذ قليل شيئا ً عن مدينة
ّ لسبب ما ،بدا النغدون متماسكاً،
لكن سيينّا واثقة أنّه ما من كهوف مخيفة داخل جدران الكرس ّ
ي الرسولي. الفاتيكانّ ،
مع اقترابهما ،رأت سيينّا السطح المع ّمد الممتدّ فوق المدخل؛ مجموعة غريبة من الهوابط والحجارة الغامضة التي
ومطوقتين بدرع مزيّن بستّ كرات ،أو با ّ ِّله ،وهو شعار أسرة ميديتشي
ّ بدت كما لو أ ّنها تحيط بامرأتين مستلقيتين
الشهيرة.
فجأة ،انعطف النغدون إلى اليسار ،بعيدا ً عن المدخل ،باتّجاه شيء لم تره سيينّا في البداية ،كان عبارة عن باب
صغير رمادي اللون يقع إلى يسار الكهف .كان بابا ً خشبيا ً متداعياً ،بدا قليل األه ّمية ،وكأنّه باب مخزن أو غرفة
للمعدّات.
"تبًّا!" .بدا القلق اآلن في عيني النغدون ،واختفى األمل الذي راوده في البداية" .كنت آمل ."-
ومن دون سابق إنذار ،تردّد هدير الطائرة بصوت عا ٍل خلف الجدران العالية .التفتت سيينّا فرأت الطائرة تحلّق
فوق القصر وتش ّق طريقها في السماء نحوهما.
أن النغدون رآها هو أيضاً ،ألنّه أمسك بيد سيينّا واندفع باتّجاه الكهف .اختفيا عن األنظار في الوقت
ال بدّ ّ
ّ
المناسب تحت الهوابط المتدلية من المغارة.
ف ّكرت سيينّا :يا لها من نهاية مناسبة! ها نحن نقتحم أبواب الجحيم.
الفصل 28
دراجتها النارية .كانت قد دخلت المدينة القديمة عبر جسر بونتي ألّي
على بعد ربع ميل شرقاً ،ركنت فايينثا ّ
مرت على بونتي فيكيو ،وهو جسر المشاة الشهير الذي يربط قصر بيتّي بالمدينة القديمة .وبعد أن غراتسيي ،ث ّم ّ
ّ ً
بالدراجة ،اجتازت الجسر سيرا على األقدام ،واختلطت بالسيّاح الذين أتوا للتنزه في الصباح الباكر.
ّ قيّدت خوذتها
أن النغدون يعرف مظهرها. هبّ نسيم آذار المنعش على النهر ،وداعب شعر فايينثا القصير؛ األمر الذي ذ ّكرها ّ
فتوقّفت عند أحد الباعة على الجسر واشترت قبّعة بايسبول من ماركة آمو فيرينزي ،ث ّم أخفضتها فوق وجهها.
سوت سترتها الجلدية التي بدا المسدّس من تحتها ،واتّخذت مقعدا ً قريبا ً من وسط الجسر ،ث ّم اتّكأت بطريقة طبيعية
ّ
على عمود مواجه لقصر بيتّي .من مكانها ،كان باستطاعتها مراقبة ك ّل المشاة الذين يعبرون نهر آرنو باتّجاه قلب
فلورنسا.
يتجول سير ًا على األقدام .إن وجد طريقة لقالتفاف حول بورتا رومانا ،فهذا الجسر هو
قالت لنفسها :النغدون ّ
طريقه األكثر منطقية لدخول المدينة القديمة.
إلى الغرب ،باتّجاه قصر بيتّي ،سمعت صفّارات سيّارات الشرطة ،وتساءلت ع ّما إذا كان ذلك نذير خير أم سوء.
سمع فجأة
ي مؤشر لما يجريُ ، أما زالوا يبحثون عنه؟ أم قبضوا عليه؟ وبينما أرهفت فايينثا السمع بحثا ً عن أ ّ
صوت جديد؛ هدير عا ٍل صادر من مكان ما في األعلى .نظرت تلقائيا ً نحو السماء ،ورأت على الفور الطائرة
الصغيرة التي يت ّم التح ّكم بها عن بعد وهي ترتفع فوق القصر ث ّم تنحدر لتقامس رؤوس األشجار متّجهة نحو
الزاوية الشمالية الشرقية لحدائق بوبولي.
طائرة مراقبة من دون طيّار .هذا األمر أعطى فايينثا شيئا ً من األمل .ما دامت هذه الطائرة في ّ
الجو ،فهذا يعني
ّ
أن برودر لم يجد النغدون بعد.
كانت الطائرة تقترب بسرعة .من الواضح أنّها تراقب الزاوية الشمالية الشرقية للحدائق ،وهي المنطقة األقرب
إلى جسر فيكيو وموقع فايينثا ،م ّما أعطاها مزيداً من التشجيع.
لكن ،بينما كانت فايينثا تراقب المشهد ،غابت الطائرة فجأة عن األنظار ،وانخفضت خلف الجدار الحجري العالي.
سمعتها وهي تحوم في مكان ما تحت ّ
خط األشجار ...م ّما يشير إلى أنّها وجدت شيئا ً ذا أه ّمية.
الفصل 29
ف ّكر النغدون وهو مختبئ في المغارة المعتمة مع سيينّا ،من يبحث يجد .بحثنا عن مخرج ...ووجدنا طريقاً
مسدود ًا.
ش ّكلت النافورة في وسط الكهف غطاء جيّداً .لكن ،بينما كان النغدون يسترق النظر من خلفها ،شعر ّ
أن األوان قد
فات.
للتو فوق موقعهما ،وتوقّفت خارج الكهف ،ث ّم راحت تحوم هناك على ارتفاع عشر
كانت الطائرة قد انخفضت ّ
أقدام فقط فوق األرض ،بمواجهة المغارة ،وهي تهدر بحدّة كما لو أنها حشرة غاضبة ...تنتظر االنقضاض على
فريستها.
بقوة على الجدران الصخرية .لم يصدّق النغدون أ ّنهماكان هدير الطائرة يص ّم اآلذان داخل الكهف ،ويرتدّ ّ
أن الهرب منها غير مجدٍ .ماذا يفعقان اآلن؟ هل ينتظران؟ محتجزان من قبل طائرة آلية صغيرة ،إالّ أنّه أدرك ّ
أن الباب ال يُفتح كانت خ ّ
طته األصلية المتمثّلة بعبور الباب الرمادي الصغير معقولة إلى حدّ ما ،غير أنّه لم يدرك ّ
سوى من الداخل.
اعتادت عينا النغدون على ظقام المغارة ،فأخذ يراقب محيطه الغريب ،ويتساءل ع ّما إذا كان ث ّمة مخرج آخر .لم
شر بالخير .فداخل المغارة كان مزيّنا ً بالمنحوتات الحيوانية والبشرية التي تتآكلها الجدران الغريبة على
ير شيئا ً يب ّ
َ
مراحل متفاوتة .نظر النغدون يائسا ً إلى السقف الذي تتدلّى منه الهوابط على نحو مخيف.
كانت مغارة بونتالينتي -التي تحمل اسم مهندسها بيرناردو بونتالينتي -أغرب مكان في فلورنسا .بنيت كمكان
الزوار الشباب في قصر بيتّي ،وهي تتألّف من ثقاث غرف مزيّنة بالفانتازيا الواقعية وبهندسة قوطية لتسلية ّ
مفرطة؛ مؤلّفة م ّما بدا أنّها تح ّجرات وخفّاف] [2تقطر منها المياه ،وتبدو كما لو أنّها تتآكل األشكال العديدة
المنحوتة أو تنضح بها .في أيّام حكم أسرة ميديتشي ،أضيف إلى المغارة الماء الجاري على الجدران ،والذي ساهم
الحارة ،وإضفاء شكل مغارة حقيقية عليها. ّ في تبريد المكان خقال فصول الصيف التوسكانية
زوار هذه المغارة في عصر النهضة حين يرون مروحية حقيقية تحلّق في
تساءل النغدون ع ّما سيف ّكر فيه ّ
األعلى؛ هي التي كانت حلم ليوناردو دافينشي.
في تلك اللحظة بالضبط ،توقّف هدير الطائرة .لم ينخفض صوته تدريجيًّا ،بل ...توقّف فجأة.
أن الطائرة قد هبطت على األرض .كانت اآلن استغرب النغدون ،فاسترق النظر من خلف النافورة ،ورأى ّ
متوقّفة في الساحة المرصوفة بالحصى ،وتبدو أق ّل خطرا ً بكثير ،ال سيّما ّ
وأن عدسات الفيديو الشبيهة بالدبابيس
كانت مو ّجهة بعيدا ً عنهما ،نحو الباب الرمادي الصغير.
سرعان ما زال إحساس النغدون باالطمئنان .فعلى بعد مائة ياردة خلف الطائرة ،وعلى مقربة من تمثال القزم
والسلحفاة ،رأى ثقاثة جنود مسلّحين يهبطون الدّرج ،متو ّجهين مباشرة نحو المغارة.
بزة سوداء مألوفة ،ويضعون شارات خضراء على أكتافهم .أ ّما قائدهم ،بعضقاته المفتولة كان الجنود يرتدون ّ
وعينيه الباردتين ،فذ ّكر النغدون بقناع الطاعون الذي كان يراه وهو يهذي.
أنا الموت.
ي مكان.
لم يلمح النغدون الفان أو المرأة الغامضة ذات الشعر الفضّي في أ ّ
أنا الحياة.
مع اقتراب الجنود ،توقّف أحدهم عند أسفل الد ّرج ،واستدار إلى الخلف ،وذلك ليمنع نزول أ ّ
ي كان إلى المكان.
أ ّما الجنديان اآلخران ،فواصقا التقدّم نحو المغارة.
بالتحرك مجدّداً؛ على الرغم من أنّهما يؤ ّخران المحتوم وحسب .فتراجعا زاحفَين إلى المغارة
ّ بدأ النغدون وسيينّا
الثانية التي كانت أصغر ،وأعمق ،وأكثر ظلمة .هي أيضا ً كانت تهيمن عليها تحفة فنّية مركزية تمثّل عاشقَين
متشابكَين ،اختبأ خلفها اآلن النغدون وسيينّا.
في الظلّ ،تأ ّمل النغدون قاعدة التمثال ،ثم راقب اقتراب الجنود .عندما وصل الجنديان إلى الطائرة ،توقّف أحدهما
وانحنى لحملها وتف ّحص الكاميرا.
تساءل النغدون ،هل حدّد الجهاز موقعنا؟ وشعر أنّه يعرف اإلجابة.
أ ّما الجندي الثالث ،ذو العضقات المفتولة والعينين الباردتين ،فظ ّل يسير بإصرار باتّجاه النغدون .اقترب الرجل
إلى أن أصبح تقريبا ً عند مدخل الكهف .سيدخل .استعدّ النغدون لقابتعاد خلف التمثال وإخبار سيينّا ّ
أن األمر قد
انتهى .لكن ،في تلك اللحظة ،حدث أمر لم يتوقّعه.
ف ّكر ،إ ّنه الباب الرمادي الصغير .ال بدّ أ ّنه يعرف إلى أين يؤدّي.
لطالما رغب حارس قصر بيتّي ،إرنيستو روسّو ،أن يلعب كرة القدم األوروبية .لكن في سنه البالغة تسعة
أن حلم الطفولة لن يتحقّق أبداً .خقال السنوات الثقاث الماضية،
وعشرين عاماً ،وبوزنه الزائد ،بدأ يقتنع أخيرا ً ّ
عمل إرنيستو هنا حارسا ً في قصر بيتّي ،والزم دائما المكتب الصغير نفسه ،ومارس العمل الممل نفسه.
ّ ً
اعتاد إرنيستو على السيّاح الفضوليين الذين يطرقون على الباب الرمادي الصغير خارج المكتب الذي يعمل فيه،
وكان يتجاهلهم عادة إلى أن يتوقّفوا .غير ّ
أن الطرقات كانت اليوم حادّة ومتواصلة.
انزعج وحاول أن ير ّكز مجدّدا ً على تلفازه الذي كان يشاهد عليه إعادة عرض لمباراة كرة قدم صاخبة؛ فيورنتينا
الممر الضيّق
ّ أن الطرقات أخذت تعلو .أخيراً ،شتم السيّاح ونهض من أمام مكتبه ،وسلكضدّ جوفينتوس .غير ّ
الممر،
ّ ً ّ
باتّجاه الصوت .في منتصف الطريق ،توقف عند الحاجز الفوالذي الضخم الذي يبقى مغلقا في هذا
باستثناء ساعات محدّدة.
تحرك جانباً .بعد عبوره ،اتّبع البروتوكول ،وأعاد إغقاق الحاجز خلفه ،ثم
السري وفتح الحاجز الذي ّ
ّ أدخل الرقم
تو ّجه بعد ذلك نحو الباب الرمادي.
صاح باإليطالية من خلف الباب ،على أمل إسماع الطارق" :الباب مغلق! ال يمكنكم الدخول!".
استمر.
ّ بيد ّ
أن الطرق
صر إرنيستو على أسنانه .يا إلصرار أهالي نيويورك .فالسبب الوحيد وراء نجاح فريق ريد بولز لكرة القدم على
ّ
مدربي أوروبا. ّ
المسرح العالمي هو أنه سرق أفضل ّ
تواصلت الطرقات ،ففتح إرنيستو الباب على مضض ،ودفعه بضعة إنشات" .الباب مغلق!".
توقّفت الطرقات أخيراً ،ووجد إرنيستو نفسه وجها ً لوجه أمام جندي بارد العينين إلى حدّ جعل إرنيستو يتراجع
خطوة إلى الخلف .رفع الرجل بطاقة رسمية تحمل اختصارا ً لم ّ
يتعرف عليه إرنيستو.
خلف الجندي ،رأى جنديا ً آخر منحنيا ً يعالج ما بدا أنّه طائرة هيليكوبتر صغيرة كلعب األطفال .وعلى مسافة
منهما ،رأى جنديا ً ثالثا ً يحرس الدّرج .كما سمع صفّارات اإلنذار لسيّارات الشرطة في الجوار.
سأل الجندي بلكنة غير نيويوركية حتماً" :هل تتكلّم اإلنكليزية؟" .أهو أوروبي؟
"ممتاز .أبقه مقفقاً ،وال تدع أحدا ً يدخل أو يخرج منه .هل هذا واضح؟".
ف ّكر إرنيستو ،تقنياً ،يُعتبر هذا الباب في هذه األيّام مخرجاً ،ولهذا السبب ليس له مقبض من الخارج .لكنّه فهم
قصد الرجل" .أجل ،هذا الباب هو المدخل الوحيد .ما من طريق آخر" .فالمدخل األصلي في القصر قد أُغلق منذ
سنوات عديدة.
البوابات التقليدية؟".
"وهل ث ّمة مخارج خفية أخرى لحدائق بوبولي غير ّ
السري الوحيد".
ّ "كقاّ سينيوري .األسوار تحيط بالمكان كلّه .هذا هو المخرج
هز الجندي رأسه قائقاً" :شكرا ً لمساعدتك" .وأشار إلرنيستو لكي يقفل الباب.
ّ
الممر ،وفتح الحاجز الفوالذي وعبره ،ث ّم أقفله خلفه ،وعاد لمتابعة مباراة
ّ أطاع إرنيستو مستغرباً ،ث ّم عاد عبر
كرة القدم.
الفصل 31
استغ ّل النغدون وسيينّا الفرصة؛ إذ بينما كان الجندي مفتول العضقات يطرق على الباب ،زحفا إلى منطقة أعمق
في المغارة ،واختبآ في الغرفة األخيرة .كانت هذه الغرفة الصغيرة مزيّنة بالفسيفساء ،وتض ّم في وسطها منحوتة
بالحجم الطبيعي لفينوس وهو يستح ّم ،ويبدو وكأنّه ينظر بتوتّر من فوق كتفه.
كان النغدون وسيينّا مختبئين اآلن عند أقصى قاعدة التمثال الضيّقة ،ينتظران وهما يحدّقان إلى الرواسب الكلسية
الوحيدة الصاعدة إلى األعلى على أعمق جدار في المغارة.
صاح جندي من مكان ما في الخارج" :ك ّل المخارج مغلقة!" .كان يتحدّث بلغة إنكليزية لم يستطع النغدون تحديد
لكنتها" .شغّل الطائرة مجدّداً .سأتفقّد هذا الكهف".
ثوان ،تردّدت خطوات ثقيلة في المغارة .اقتربت بسرعة عبر الغرفة األولى ،وارتفع صداها وهي تتقدّم إلى
ٍ بعد
الغرفة الثانية متو ّجهة نحوهما مباشرة.
الممر الحصوي باتّجاه المغارة .قال الرجل وهو يلهث" :حدّدنا هويتهما!
ّ سمع النغدون شخصا ً يركض على
للتو مع سائ َحين .منذ دقيقتين ،سألهما الرجل والمرأة عن اتّجاه صالة األزياء في القصر ...التي تقع في
تحدّثنا ّ
الطرف الغربي من القصر".
نظر النغدون إلى سيينّا التي الحت على وجهها ابتسامة باهتة.
التقط الجندي أنفاسه ،وتابع قائقاً" :المخارج الغربية هي المخارج األولى التي أغلقت ...وأنا واثق أنّنا
حاصرناهما داخل الحدائق".
سمع صوت الطائرة وهي ترتفع مجدّداً ،ث ّم ع ّم الصمت التا ّم.
ارتفعت أصوات الخطوات المبتعدة على الحصى ،و ُ
ماذا ينتظر؟!
قال الجندي فجأة" :أنا برودر ،لقد حاصرناهما .سأعطيكم التأكيد قريباً".
كان الرجل يجري اتصاالً هاتفياً ،وبدا صوته قريبا ً على نحو مثير لألعصاب ،كما لو أنه يقف بجانبهما تماماً.
كانت المغارة تؤدّي دور مكبّر للصوت يجمع ك ّل األصوات وير ّكزها في آخر المغارة.
أن شقّة المرأة مستأجرة بعقد
للتو أخبار من فريق الطبّ الشرعي .يبدو ّ
ي المزيد .وصلتني ّ تابع برودر يقول" :لد ّ
فرعي .وهي غير مؤثّثة بالكامل ،ومن الواضح أنها تعيش فيها لمدّة قصيرة .وجدنا األنبوب ،لكننا لم نعثر على
ّ ّ
نظن أنّه ما زال بحوزة النغدون".
المسقاط .أك ّرر لم نعثر على المسقاطّ .
ف ّكر النغدون باتصاله بالقنصلية األميركية ،وتذ ّكر حديثه الهاتفي ،ووصول المرأة التي حاولت قتله .يبدو ّ
أن تلك
المدربين.
ّ المرأة قد اختفت واستُبدلت بفريق كامل من الجنود
كان صوت خطوات الجندي على األرض الصخرية على بعد عشرين خطوة فقط ،ويزداد اقتراباً .كان الرجل قد
دخل الغرفة الثانية ،وإن واصل التقدّم حتّى النهاية ،فسيعثر عليهما بالتأكيد خلف قاعدة التمثال.
أجفلت سيينّا قرب النغدون ،ونظرت إلى األعلى؛ متوقّعة أن ترى الجندي يحدّق إليها .لكنّها لم َ
تر أحداً.
تابع الصوت الذي بدا على بعد عشر أقدام تقريباً" :إنّهم يفحصون حاسبها المحمول اآلن .ليس لد ّ
ي تقرير بعد،
لكنّه بالتأكيد اآللة نفسها التي دخل النغدون من خقالها حسابه البريدي التابع لجامعة هارفرد".
عند سماع ذلك ،التفتت سيينّا إلى النغدون غير مصدّقة ،ونظرت إليه مصدومة ...ث ّم ظهرت على وجهها تعابير
تعرض للخيانة.
من ّ
صعق النغدون أيضاً .أهكذا تع ّقبونا؟! لم يخطر له ذلك في ذلك الوقت .كنت أحتاج إلى المعلومات وحسب! قبلُ
أن يتم ّكن النغدون من التعبير عن أسفه ،أشاحت سيينّا بوجهها الذي أصبح جامدا ً عنه.
قال الجندي الذي وصل إلى مدخل الغرفة الثالثة ،وأصبح على بعد ستّ أقدام فقط من النغدون وسيينّا" :هذا
صحيح" .خطوتان بعد وسيراهما بالتأكيد.
أعلن قائقاً وهو يقترب خطوة أخرى" :بالضبط" .فجأة ،توقّف قائقاً" :انتظر لحظة".
"انتظر ،لم أعد أسمع صوتك" .ث ّم تراجع بضع خطوات إلى الغرفة الثانية" .االتصال ضعيف "...أصغى للحظة
ث ّم أجاب" :أجل ،أوافقك .لكنّنا على األق ّل أصبحنا نعرف مع من نتعامل".
استرخى النغدون ،ث ّم التفت إلى سيينّا التي لمعت عيناها بمزيج من الخوف والغضب.
أشاحت سيينّا بنظرها بعيداً ،وحدّقت إلى الرواسب الصاعدة كروية الشكل على الجدار الخلفي .لم يقل أحد منهما
شيئا ً لدقيقة تقريباً .تساءل النغدون ع ّما إذا كانت سيينّا تذكر األغراض الموضوعة على مكتبها؛ بما فيها اإلعقان
لمسرحية حلم ليلة صيف ،وقصاصات الصحف عن حياتها كعبقرية صغيرة .هل تشكّ أ ّنه رآها؟ لم تسأله شيئاً،
وعقاقة النغدون بها مضطربة بما فيه الكفاية أساساً ،لذا امتنع عن ذكر األمر.
كررت سيينّا بصوت ضعيف بالكاد سمعه النغدون" :أصبحوا يعرفون من أنا" .خقال الدقائق العشر التالية، ّ
أخذت سيينّا عدّة أنفاس بطيئة كما لو أنها تحاول استيعاب هذا الواقع الجديد .في أثناء ذلك ،شعر النغدون ّ
أن
تصميمها يزداد صقابة.
ومن دون سابق إنذار ،نهضت واقفة وقالت" :علينا الذهاب .لن يمضي وقت طويل قبل أن يكتشفوا أنّنا لسنا في
صالة األزياء".
"مدينة الفاتيكان".
"عذراً؟".
"فهمت أخيرا ً ما كنت تعنيه ،وما القاسم المشترك بين مدينة الفاتيكان وحدائق بوبولي" .وأشارت باتّجاه الباب
الرمادي الصغير" .هذا هو المدخل ،أليس كذلك؟".
هز النغدون رأسه مجيباً" :في الواقع ،هذا هو المخرج .لكنّني تخيّلت أنّنا نستطيع المحاولة .لسوء الح ّ
ظ ،لن ّ
نتم ّكن من المرور" .كان النغدون قد سمع ما فيه الكفاية من حديث الحارس مع الجندي ليدرك ّ
أن هذا الباب ليس
خيارا ً مطروحا ً للمحاولة.
قالت سيينّا وقد عادت النبرة الماكرة إلى صوتها" :لكن ،إن استطعنا المرور ،فهل تعرف ما يعنيه ذلك؟".
مرتين من فنّان عصر النهضة نفسه".
وظهرت ابتسامة على شفتيها" .يعني ذلك أنّك حصلت اليوم على المساعدة ّ
ضحك النغدون ّ
ألن الفكرة نفسها خطرت له منذ دقائق" .فاساري .فاساري".
اتّسعت ابتسامة سيينّا ،وشعر النغدون أنّها سامحته؛ حاليًّا على األقلّ .أعلنت قائلة بنبرة جادّة بعض الشيء:
"أظ ّنها إشارة من السماء .علينا عبور ذلك الباب".
طقطقت سيينّا أصابعها ،وتو ّجهت إلى خارج المغارة" .كقاّ ،بل سأتحدّث معه" .التفتت إلى النغدون ،وقد عاد
البريق إلى عينيها" .ثق بي بروفيسور ،يمكنني أن أكون مقنعة جدًّا عندما أريد".
استمرت الطرقات.
ّ
لم يكن إرنيستو غبياً .كان يعرف أن ث ّمة مشاكل هذا الصباح؛ بوجود سيّارات الشرطة والجنود ،لكنّه ليس من
يتورطون في مسائل ال ته ّمهم مباشرة.
ّ األشخاص الذين
أن الجندي شخص ذو أه ّمية ،وليس من الحكمة تجاهله على األرجح .فمن الصعب في هذه لكن ،من الواضح ّ
األيّام إيجاد وظائف في إيطاليا؛ حتّى لو كانت وظائف مملّة .هكذا ،استرق نظرة أخيرة إلى المباراة ،ث ّم تو ّجه إلى
الباب.
ما زال ال يصدّق أنّه يتقاضى راتبا ً مقابل الجلوس في هذا المكتب الصغير طوال اليوم ومشاهدة التلفاز .وقد
مرتين في اليوم أن تصل مجموعة من األشخاص المه ّمين بعد زيارة صالة أوفيتزي ،فيلقي عليهم يصدف ّ
إرنيستو التحية ،ث ّم يفتح الحاجز الفوالذي ،ويسمح لهم بالمرور عبر الباب الرمادي الصغير لتنتهي جولتهم في
حدائق بوبولي.
اآلن ،مع تواصل الطرقات وازديادها حدّة ،فتح إرنيستو الحاجز ،وعبره ،ث ّم أغلقه وأقفله خلفه.
إالّ ّ
أن أحدا ً لم يجب ،بل تواصلت الطرقات.
أخيراً ،فتح الباب متوقّعا ً أن يرى النظرة نفسها الخالية من الحياة التي واجهته قبل لحظات.
ّ
لكن الوجه الذي رآه عند الباب كان أكثر جاذبية بكثير.
حيّته امرأة شابّة جميلة بابتسامة لطيفة وقالت" :تشاو" .ث ّم أعطته ورقة مطوية ،فمدّ يده تلقائيا ً ألخذها .وفي
مجرد قطعة من النفايات ،أمسكت المرأة رسغه بيديها الرشيقتين ّ اللحظة التي أمسك فيها الورقة وأدرك أنّها
كف يده تماماً.وضغطت إبهامها على العظم تحت ّ
وكأن س ّكينا ً قطع رسغه .وتبع ذلك اإلحساس خدر كهربائي .اقتربت المرأة منه ،وازداد الضغط،
ّ شعر إرنيستو
فعادت دورة األلم مجدّداً .ترنّح إلى الخلف محاوالً تحرير رسغهّ ،
لكن ساقيه تخدّرتا وانهارتا تحته ،فركع على
ركبتيه.
ظهر رجل يرتدي مقابس داكنة عند الباب ،ث ّم انس ّل إلى الداخل ،وأغلق الباب الرمادي خلفه بسرعة .مدّ إرنيستو
لكن يدا ً ناعمة ضغطت على عنقه ،فتقلّصت عضقاته ،ولم يعد قادراً على يده إلى جهاز القاسلكي الذي يحملهّ ،
التنفّس .أخذت المرأة جهاز القاسلكي ،واقترب الرجل الطويل الذي بدا أنّه ال يق ّل عن إرنيستو خوفاً.
قالت الشقراء بنبرة عمليّة للرجل الطويل" :ديم ماك .إنّها نقاط ضغط صينية .ث ّمة سبب وجيه لبقائها منذ ثقاث
ألفيات".
همست المرأة إلرنيستو باإليطالية وهي تخفّف الضغط عن عنقه" :نحن ال نريد إيذاءك".
لكن الضغط عاد فجأة ،وتقلّصت عضقاته ،فشهق من
التحررّ ،
ّ خف فيها الضغط ،حاول إرنيستو
في اللحظة التي ّ
ّ ً
شدّة األلم ،وعجز تقريبا عن التنفس.
قالت" :نريد المرور" .وأشارت إلى الحاجز الفوالذي الذي أغلقه إرنيستو خلفه لحسن الح ّ
ظ" .أين المفتاح؟".
مر الرجل الطويل من أمامهما نحو الحاجز وتف ّحص آلية عمله ،ثم قال للمرأة بلكنة أميركية" :إنّه قفل مر ّكب".
ّ
مخوالً ."-
أجاب" :لست ّ
حدث شيء ما عند أعلى عموده الفقري ،وشعر بخدر في جسده بأكمله.
عندما استعاد إرنيستو وعيه ،شعر أنّه كان يستيقظ ويغيب عن الوعي تكرارا ً لعدّة دقائق .تذ ّكر حديثاً ...ش ّكات من
جره؟ ك ّل شيء ضبابي.
األلم ...وربّما ت ّم ّ
عندما استعاد وعيه تماماً ،رأى مشهدا ً غريباً .كان حذاؤه مرميا ً قربه على األرض ،ورباطه منزوع .عندئذ أدرك
أنّه بالكاد يستطيع الحراك .كان ممدّدا ً على جانبه ،ويداه مقيّدتان خلفه وكذلك قدماه؛ برباط حذائه كما يبدو .حاول
أن لحظة الخوف الفعلية أتت بعد لحظة عندما نظر الصراخ ،لكنّه لم يستطع .فقد كان فمه محشوا ً بجاربه .غير ّ
إلى األعلى ،ورأى عرضا ً لمباراة كرة القدم على تلفازه .أنا في مكتبي ...عبرت الحاجز؟!
الممر ...ليختفي صوتها تماما ً بعد قليل .مستحيل! بطريقة ما ،قامت
ّ سمع إرنيستو خطوات بعيدة تركض في
السري لفتح قفل الحاجز المؤدّي إلى
ّ الرقم كشف فعله: لعدم ف ّ
ظ و
ُ الذي الوحيد المرأة بإقناع إرنيستو بفعل الشيء
رواق فاساري الشهير.
الفصل 31
شعرت د .إليزابيث سينسكي بنوبات متسارعة من الغثيان والدوار .كانت غارقة في المقعد الخلفي للفان المركون
أمام قصر بيتّي .وكان الجندي الجالس قربها يراقبها بقلق متزايد.
قبل لحظات ،تصاعد صوت من السلكي الجندي يذكر شيئا ً عن صالة أزياء ،فأيقظ إليزابيث من سباتها الذهني
الذي سيطرت عليه صورة الوحش ذي العينين الخضراوين.
كانت ذكرياتها قد عادت إلى الغرفة المعتمة في مجلس العقاقات الخارجية في نيويورك ،حين راحت تصغي
هناك إلى هذيان الغريب الغامض الذي قام باستدعائها .راح الرجل يتنقّل في مقدّمة الغرفة ،وانعكس ظلّه الطويل
المروعة لألجساد العارية المحتضرة المستلهمة من إنفيرنو دانتي.
ّ على الصورة
استنتج قائقاً" :على أحدنا أن يخوض هذه الحرب ،وإالّ فسيكون هذا مستقبلنا .فعلم الرياضيات يضمن ذلك .يحوم
الجنس البشري اآلن في مطهر تسوده المماطلة والتردّد ،والطمع الشخصيّ ...
لكن حلقات الجحيم تنتظر تحت
أقدامنا اللتهامنا جميعاً".
كانت إليزابيث ما زالت مصعوقة من األفكار الوحشية التي طرحها الرجل .ولم تعد قادرة على االحتمال ،فقفزت
واقفة" .ما تقترحه هو ."-
"أنت مجنون!".
قال مشيرا ً إلى الصورة الجديدة" :وبالحديث عن الضباع ،هذه مجموعة من الضباع التي ّ
تطوق حاليًّا الجنس
البشري ...وهي تقترب بسرعة".
ّ
المنظمة في العام الماضي ،يحدّد فوجئت إليزابيث برؤية تلك الصورة المألوفة .كانت عبارة عن مخطط نشرته
المشاكل البيئية األساسيّة التي ترى المن ّ
ظمة ّ
أن لها التأثير األعظم على الص ّحة العالمية.
الطلب على الماء العذب ،حرارة السطح عالمياً ،نفاد طبقة األوزون ،استهقاك موارد البحار ،انقراض األنواع،
تر ّكز ثاني أكسيد الكربون ،قطع األشجار ،وتبدّل مستويات البحار.
شرات السلبية ترتفع خقال القرن الماضي .غير أنّها اآلن تعلو بوتيرة متسارعة ومخيفة.
كانت جميع هذه المؤ ّ
طط؛ اإلحساس بالعجز .فهي عالمة ،وتعتقد بفاعليةكان ردّ فعل إليزابيث هو نفسه ك ّلما رأت هذا المخ ّ
طط رسم صورة مخيفة ليس للمستقبل البعيد فحسب ،بل لمستقبل قريب جدًّا. اإلحصائيات ،وهذا المخ ّ
لسنوات عديدة ،ظ ّل العجز عن اإلنجاب يقاحق إليزابيث سينسكي .لكن ،عندما ترى هذا المخ ّ
طط ،تشعر بالراحة
ألنّها لم تنجب طفقاً إلى هذا العالم.
بحق أ ّمنا الطبيعة ارتفاعا ً أسياً" .صمت أعلن الرجل قائقاً" :خقال السنوات الخمسين األخيرة ،ارتفعت خطايانا ّ
طط ،عقد ظمة الص ّحة العالمية هذا المخ ّ هنيهة ث ّم أضاف" :وأنا أخشى على الجنس البشري .عندما نشرت من ّ
سياسيو العالم وسماسرة السلطة وعلماء البيئة اجتماعات ق ّمة عاجلة ،حاولوا فيها تقييم المشاكل األكثر خطورة
التي يمكننا أن نتأ ّمل في حلّها .والنتيجة؟ وضعوا رؤوسهم بين أيديهم وبكوا ًّ
سرا .أ ّما علناً ،فأ ّكدوا لنا أنّهم يعملون
على إيجاد حلول ،إالّ ّ
أن هذه المسائل معقّدة".
"أكثر تعقيداً؟ في الواقع ،ليس كذلك! ما من شيء أبسط .إن كنت تريدين مزيدا ً من الماء العذب لك ّل نسمة فأنت
بحاجة إلى عدد أق ّل من البشر على سطح األرض .وإن كنت تريدين خفض انبعاثات السيّارات ،فأنت إذاً بحاجة
إلى عدد أق ّل من السائقين .أ ّما إن كنت تريدين أن تستعيد المحيطات ثروتها السمكية ،إذا ً يجب أن يكون الناس
الذين يتناولون السمك أق ّل عدداً!".
عينيك! نحن على شفير انتهاء البشرية ،في حين يجلس قادة ِّ حدّق إليها وأصبحت نبرته أكثر شراسة" .افتحي
العالم في غرف االجتماعات ويطلبون إجراء دراسات حول الطاقة الشمسية ،وإعادة تدوير النفايات ،والسيارات
الهجينة! كيف يعقل أالّ تري أنت ذلك رغم كونك عالمة وذات ثقافة عالية؟ استنفاد طبقة األوزون ،وقلّة المياه،
والتلوث ليست المرض ،بل األعراض .المرض هو االنفجار الس ّكاني .وما لم نواجه هذه المشكلة مباشرة ،فإنّنا ّ
النمو".
ّ نكتفي بوضع شريط الصق على ورم سرطاني سريع
ي!".
قالت باشمئزاز" :جريء؟! ليست هذه هي الكلمة المناسبة ،بل إنها باألحرى جنون ّ
أن المن ّ
ظمة ستتعاون معك ...لبحث فكرة كهذه؟". "أتظن ّ
ّ حدّقت إليه إليزابيث بذهول.
ي اللحاق بطائرتي".
كانت إليزابيث قد سمعت ما فيه الكفاية .لذا ،وقفت فجأة وقالت" :عل ّ
قام الرجل الطويل بخطوة تهديدية باتّجاهها ،معيقا ً طريقها" .هذا تحذير .بتعاونك أو من دونه ،يمكنني استكشاف
هذه الفكرة بسهولة".
ردّت عليه" :وهذا تحذير منّي :أنا أعتبر هذه الفكرة تهديدا ً إرهابيا ً وسأتعامل معها على هذا األساس" .تناولت
هاتفها.
ضحك الرجل قائقاً" :هل ستبلغين عنّي ألنّني تحدّثت بفرضيات؟ لسوء الح ّ
ظ ،عليك تأجيل اتصالك .فهذه الغرفة
ي إشارة في هاتفك". صنة إلكترونياً .لن تجدي أ ّ
مح ّ
ال أحتاج إلى إشارة أيّها المجنون .رفعت إليزابيث هاتفها ،وقبل أن يدرك الرجل ما يجري ،التقطت صورة
لوجهه .انعكس الوميض على عينيه الخضراوين ،وشعرت للحظة ّ
أن وجهه مألوف.
قالت" :كائنا ً من تكون ،فقد أخطأت بإحضاري إلى هنا .ما إن أصل إلى المطار حتّى أكون قد اكتشفت هويتك،
ظمة الص ّحة العالمية ،ومركز مكافحة األمراض ،والمركز األوروبي للوقاية وستكون على الئحة المراقبة في من ّ
ي مواد،من األمراض ومكافحتها؛ كإرهابي بيولوجي محتمل .ستكون أعيننا عليك ليل نهار .وإن حاولت شراء أ ّ
ي مكان".فسنعرف ذلك .وإن بنيت مختبراً ،فسنعرف به أيضاً .ال يمكنك االختباء في أ ّ
مطوالً بصمت مشوب بالتوتّر ،وكأنّه على وشك االنقضاض على هاتفها .أخيراً ،استرخى وخطا وقف الرجل ّ
جانبا ً بعد أن رسم على وجهه ابتسامة مخيفة .ث ّم قال" :إذا ،يبدو أن رقصتنا قد بدأت".
ّ ً
الفصل 32
إيل كوريدويو فاساريانو ،أو رواق فاساري رواق ص ّممه جورجيو فاساري عام 9110بأمر من الحاكم
ممر آمن من مكان سكنه في قصر بيتّي إلى مكتبه
األول ،وذلك لتأمين ّ
الميديتشي ،الدوق األكبر كوزيمو ّ
اإلداري ،عبر نهر آرنو ،في قصر فيكيو.
اليوم ،ما زال رواق فاساري يُستعمل كجنّة آمنة ،ليس ألرستقراطيي أسرة ميديتشي بل للتحف الفنّية .فنظراً إلى
طول امتداد مساحة الجدران اآلمنة ،ش ّكل الرواق مخبأ ً للوحات فنّية نادرة ال تعدّ وال تحصى ،فاضت عن صالة
يمر الرواق عبرها.
أوفيتزي الشهيرة التي ّ
صة .عصر ذلك اليوم ،توقّف لتأ ّمل المجموعة الممر قبل بضع سنوات ضمن جولة خا ّ ّ كان النغدون قد عبر هذا
مرات ليط ّل ّ
المذهلة من اللوحات ،بما في ذلك أكبر مجموعة من البورتريهات الذاتية في العالم .كما توقف عدّة ّ
الممر المرتفع.
ّ للمارين عبره بتتبّع تقدّمهم عبر ذلك
ّ المتفرقة في الرواق ،التي تسمح
ّ من األبواب
لكن ،هذا الصباح ،عبر النغدون وسيينّا الرواق عدواً ،بهدف االبتعاد عن مطارديهم قدر اإلمكان .تساءل
النغدون :كم سيستغرق اكتشاف أمر الحارس المقيّد؟ وكلّما تقدّما أكثر ،شعر أنّهما يزدادان قربا ً م ّما يبحثان عنه.
الممر إنجازاً
ّ أصبح هدير طائرة المراقبة بعيدا ً عنهما اآلن .كلّما تقدّما في النفق ،تذ ّكر النغدون كم ش ّكل هذا
معماريا ً طموحاً .كان رواق فاساري ،الذي يرتفع فوق المدينة ويمتدّ بطولها تقريباً ،أشبه بثعبان عريض ّ
يتلوى
ي باللون األبيضالممر الضيّق المطل ّّ عبر األبنية ،من قصر بيتّي ،عبر نهر آرنو ،إلى قلب فلورنسا القديمة .يبدو
وكأنّه يمتدّ إلى ما ال نهاية ،وينعطف أحيانا ً إلى اليمين أو اليسار لتجنّب عائق ،لكنه يتقدّم دائما نحو الشرق ...فوق
ً ّ
نهر آرنو.
تردّدت فجأة أصوات في الرواق ،فتوقّفت سيينّا .توقّف النغدون أيضاً ،ووضع يده على كتفها لتهدئتها ،ث ّم أشار
إلى نوافذ قريبة.
السيّاح في األسفل.
اقترب النغدون وسيينّا من النافذة ،وأدركا أنّهما فوق جسر فيكيو حاليًّا ،ذلك الجسر الحجري الذي يرجع إلى
القرون الوسطى ،والذي يش ّكل ًّ
ممرا للمشاة لدخول المدينة القديمة .تحتهما ،كان السيّاح األوائل لذلك اليوم
يستمتعون بالسوق التي تقام على الجسر منذ القرن الخامس عشر .معظم الباعة اليوم من ت ّجار الذهب
والمجوهرات ،لكن لم يكن الحال كذلك دائماً .ففي األساس ،ش ّكل الجسر مكانا ً لسوق اللحوم الكبيرة التي تقام في
الجزارين من بيع اللحوم على الجسر عام 9117؛ بعدما تسلّلت رائحة اللحم الفاسد عبر ّ الهواء الطلق ،لكن ت ّم منع
رواق فاساري ،وهاجمت أنف الدوق األكبر الحسّاس.
أن هذا الجسر شهد أيضا ً أبشع جرائم فلورنسا .ففي عام ،9691رفض شابّ نبيل يدعى يذكر النغدون ّ
بونديلمونتي زواجا ً ت ّم ترتيبه من قبل أسرته ألنّه يرغب في الزواج م ّمن يُحبّها فعقاً .وبسبب هذا القرار ،قُتل
بوحشية على هذا الجسر.
اعتُبر موته لمدّة طويلة "الجريمة األكثر دموية في فلورنسا"؛ أل ّنها سبّبت نزاعا ً بين فصيلتين سياسيتين قويتين -
أن الخقاف السياسي الذي نتج عن هما غيلف وغيبيلين -شنّتا حربا ً ضروسا ً ضدّ بعضهما لقرون من الزمن .وبما ّ
ذلك أدّى إلى نفي دانتي من فلورنسا ،خلّد الشاعر بمرارة ذلك الحدث في الكوميديا اإللهية :يا بونديلمونتي ،بسبب
مشورة آخرين ،نكثتَ بعهد الزواج ،وجررت علينا هذه الويقات!
حتّى هذا اليوم ،يمكن إيجاد ثقاث لوحات منفصلة بالقرب من موقع الجريمة ،تذكر ك ّل منها بيتا ً من النشيد 91في
باراديزو دانتي .تقع إحداها عند مدخل جسر فيكيو ،وتحتوي على العبارة المشؤومة التالية:
حول النغدون نظره من الجسر إلى المياه الداكنة التي يمتدّ فوقها .شرقاً ،بدا البرج الوحيد لقصر فيكيو.
ّ
أن النغدون وسيينّا لم يقطعا سوى نصف الطريق عبر نهر آرنو ،إالّ أنّه لم يكن لديه أدنى شكّ في أنّهما قد
ومع ّ
تجاوزا منذ وقت طويل نقطة القاعودة.
على بعد ثقاثين قدما ً في األسفل ،فوق جسر فيكيو المرصوف بالحصى ،راحت فايينثا تتف ّحص حشود الوافدين،
للتو من فوق رأسها.
مرت ّ من دون أن تتخيّل إطقاقا ً ّ
أن فرصة نجاتها الوحيدة ّ
الفصل 33
في أعماق المينداسيوم ،جلس الفنّي نولتون وحده في حجرته وحاول عبثا ً التركيز على عمله .بعدما استبدّ به
الذعر ،عاد لمشاهدة شريط الفيديو ،وأمضى الساعة األخيرة وهو يحلّل ذلك الشريط الذي يستغرق عرضه تسع
دقائق والذي تراوح بين العبقرية والجنون.
أصغى نولتون إلى الصوت المكتوم ،وحاول أن يف ّكك شيفرة تلك اللغة المعقّدة .في منتصف الحديث تقريباً ،أصبح
الظ ّل أكبر حجما ً فجأة ،وارتفع صوت المياه.
إن لم تت ّم السيطرة على الجنس البشري ،فإنّه سيصبح مثل طاعون ،أو سرطان ...ستتعاظم أعدادنا مع ك ّل جيل
واألخوة ...لتكشف القناع عن الوحوش التي
ّ إلى أن تختفي وسائل الراحة الدنيوية التي كانت تغذّي فينا الفضيلة
تعيش في داخلنا ...فنحارب حتّى الموت إلطعام صغارنا.
هذا ما ينتظرنا.
مع انقضاض المستقبل علينا ،تغذّيه رياضيات مالتوس القاسية ،فإ ّننا نترنّح فوق الحلقة األولى من الجحيم،
ونستعدّ للغوص فيها أسرع م ّما تخيّلنا يوماً.
صل إلى معلومات عن رياضي أوقف نولتون الفيديو .رياضيات مالتوس؟ أجرى بحثا ً سريعا ً على اإلنترنت وتو ّ
وديموغرافي إنكليزي بارز من القرن التاسع عشر يدعى توماس روبرت مالتوس ،اشتُهر بتوقّعه انهياراً عالميًّا
بسبب االنفجار الس ّكاني.
كانت النبذة عن حياة مالتوس تتض ّمن مقتطفا ً من كتابه رسالة عن مبدأ الس ّكان أثار قلق نولتون:
قوة األرض على إنتاج الغذاء لإلنسان حيث ينبغي للموت المبكر أن يزور الجنس القوة الس ّكانية تفوق بكثير ّ
إن ّ ّ
البشري بشكل أو بآخر .فرذائل الجنس البشري وسائل ناشطة وفاعلة لخفض عدد الس ّكان .إنّها النذير في جيش
المروع بنفسها .لكن في حال فشلها في حرب اإلبادة هذه ،تتقدّم األمراض
ّ الدمار العظيم ،وغالبا ً ما تنهي العمل
الموسمية واألوبئة والطاعون بمستويات مخيفة ،وتمسح اآلالف وعشرات اآلالف .وفي حال بقي النجاح
وتسوي بضربة واحدة قوية أعداد الس ّكان مع ك ّمية
ّ منقوصاً ،تأتي المجاعة المحتومة التي تحت ّل مؤ ّخر الجيش،
الغذاء المتوفّرة في العالم.
نظر نولتون مجدّدا ً إلى صورة الظ ّل بأنفه المعقوف ،وكان قلبه ينبض ّ
بقوة.
إن لم تتمّ السيطرة على الجنس البشري ،فإ ّنه سيصبح مثل سرطان.
إن لم تتمّ السيطرة على الجنس البشري .لم تُعجب هذه العبارة نولتون.
تحركت بجرأة.
لذلكّ ،
فأنا خقاصكم.
أنا الظلّ.
يرتفع برج المبنى الوحيد من الوسط ،من قلب القلعة المربّعة ،مضفيا ً عليها شكقاً مميّزاً .وقد أصبح رمزاً فريداً
لفلورنسا.
كمقر للحكومة اإليطالية ،وهو يفرض على زائريه مجموعة مهيبة من التماثيل الذكورية .يقف ّ ت ّم بناء القصر
ً ً
تمثال نبتون بعضقاته المفتولة للن ّحات أمانّاتي عاريا فوق أربع أفراس بحر؛ رمزا لهيمنة فلورنسا على البحر.
وتقف نسخة لتمثال داوود لمايكل أنجلو -الذي يعدّ واحدا ً من أجمل التماثيل للشخصيات العارية في العالم -بك ّل
مجده عند مدخل القصر .ينض ّم إلى تمثال داوود تمثاالن لهرقل وكاكوس ،وهما تمثاالن ذكوريان أكثر ضخامة.
زوار القصر أكثر ومع التماثيل المرافقة لتمثال نبتون ،يصبح مجموع التماثيل للشخصيات العارية التي تستقبل ّ
من عشرة.
عادة ،كانت زيارات النغدون إلى قصر فيكيو تبدأ هنا في ساحة سينيوريا ،التي كانت دائما ً -على الرغم من كثرة
تماثيل العراة الذكور -ساحته المفضّلة في أنحاء أوروبا كافة .وال تُعتبر زيارة الساحة كاملةً من دون ارتشاف
فنجان إسبريسّو في كافيه ريفوار ،تتبع ذلك زيارة ألسود ميديتشي في لودجيا داي النتزي ،وهو معرض
منحوتات موجود في الساحة في الهواء الطلق.
طط النغدون ورفيقته لدخول قصر فيكيو عبر رواق فاساري ،كما كان دوقات أسرة ميديتشي أ ّما اليوم ،فيخ ّ
يمر فوق الجسور والطرقات والمباني
يفعلون في أيّامهم؛ متجاوزين صالة أوفيتزي الشهيرة عبر الرواق الذي ّ
لكن النغدون ما زال متل ّهفا ً
ي خطوات خلفهماّ ،ليؤدّي مباشرة إلى قلب القصر القديم .حتّى تلك اللحظة ،لم يسمعا أ ّ
للخروج من الرواق.
ها قد وصلنا .أدرك النغدون ذلك وهو يرمق الباب الخشبي الثقيل أمامهما .هذا مدخل القصر القديم.
أن الباب يض ّم قفقاً آليا ً ها ًّما ،إالّ أنّه مج ّهز بعارضة دفع أفقية توفّر مخرجا ً طارئاً ،وتمنع في الوقت نفسه
مع ّ
ي شخص من الجهة األخرى من الرواق من دون مفتاح. دخول أ ّ
وضع النغدون أذنه على الباب وأصغى .لم يسمع شيئا ً من الجانب اآلخر ،فوضع يديه على العارضة ودفعها
بلطف.
عندما فُتح الباب الخشبي بضعة إنشات ،استرق النغدون النظر عبره ،فوجد ُمختلًى صغيراً وخاليا ً وهادئاً.
لقد دخلنا.
وقف النغدون وسيينّا في ال ُمختلى الهادئ؛ في مكان ما داخل قصر فيكيو ،وانتظر النغدون للحظة محاوالً تحديد
ممر طويل يش ّكل زاوية مستقيمة مع ال ُمختلى .إلى اليسار ،على مسافة منهما ،تردّدت موقعه .امتدّ أمامهما ّ
ّ
أصوات في الرواق ،وكانت هادئة ومرحة .كان قصر فيكيو -شأنه شأن مبنى الكابيتول في الواليات المتحدة -
أن األصوات المتناهية إليهما هي أصوات موقعا ً سياحيا ً ومكتبا ً حكوميًّا في الوقت نفسه .في تلك الساعة ،ال بد ّ ّ
الموظفين المدنيين الذين يدخلون ويخرجون من المكاتب استعدادا ً لذلك اليوم. ّ
ّ
هز النغدون رأسه" .ال يمكننا المرور خفية".
"إنّهم مو ّ
ظفون حكوميون ،لن يهت ّموا بنا .ما عليك سوى أن تمشي وكأنّك تنتمي إلى هذا المكان".
وسوت بلطف سترة النغدون وياقته" .أنت تبدو أنيقا ً جدًّا روبرت" .ث ّم ابتسمت ّ
وسوت قميصها، مدّت سيينّا يديها ّ
وانطلقت.
أسرع النغدون خلفها ،وسارا باتّجاه الحجرة .عندما دخقا ،بدأت سيينّا تتحدّث بإيطالية سريعة عن المزارع
وتحرك يديها بشغف وهي تتكلّم .سارا بجانب الجدار الخارجي ،على مسافة من اآلخرين .ود ُهش النغدون حين ّ
أن أيًّا من المو ّ
ظفين لم يعرهما انتباهاً. الحظ ّ
أن هذه الشابّة عانت في ماضيها أكثر م ّما يعرف؛ وهذا ما ولّد لديه إحساسا ً عميقا ً بالذنب
شعر النغدون مجدّدا ً ّ
ورطها في هذا المأزق الخطير .غير أنّه ذ ّكر نفسه أنّه لم يعد يستطيع فعل شيء اآلن؛ باستثناء الخروج منه. ألنّه ّ
ع لرؤية الضوء.
واصل السباحة عبر النفق ...واد ُ
ِّ
عندما اقتربا من الزاوية ،حذّرها النغدون قائقاً" :ربّما كانت الغرفة ال تزال مقفلة" .فرغم ّ
أن قاعة الخمسمائة
وجهة سياحية شعبية ،إالّ ّ
أن القصر لم يبد ُ مفتوحا ً للسيّاح بعد في هذا الوقت من الصباح.
كان النغدون قد سمع الصوت؛ هديرا ً عاليا ً آتيا ً من وراء الزاوية .ال تقولي لي إ ّنها طائرة مراقبة داخلية .استرق
النغدون النظر بحذر من زاوية الباب .على بعد ثقاثين ياردة ،رأى الباب الخشبي البسيط جدًّا الذي يش ّكل مدخل
ظ ،وقف أمام الباب مباشرة حارس يدفع آلة كهربائية لصقل األرض بحركة دائرية قاعة الخمسمائة .لسوء الح ّ
حذرة.
حارس الباب.
تحول انتباه النغدون إلى الرموز الثقاثة الظاهرة على الفتة بقاستيكية خارج الباب .كانت الرموز معروفة ألق ّل
ّ
علماء الرموز خبرة .فهي صور عالمية لكاميرا فيديو ُرسمت عليها إشارة ،Xوكوب ُرسمت عليه إشارة ،X
وشكلين أحدهما أنثوي واآلخر ذكوري.
تولّى النغدون المسألة ،فتقدّم نحو الحارس ،وبدأ يهرول وهو يقترب .ث ّم أسرعت سيينّا خلفه.
نظر إليهما الحارس وبدت عليه الدهشة" .سينيوري؟!" .ورفع يديه مشيرا ً إلى النغدون وسيينّا بالتوقّف.
ابتسم النغدون للرجل ابتسامة مشوبة باأللم ،وأقرب إلى الغمزة ،وأشار معتذرا ً إلى الرمزين عند الباب .ثم أعلن
قائقاً" :تويليتّي" ،مع أنّة في صوته .لم يكن ذلك سؤاالً.
تردّد الحارس للحظة ،وبدا على وشك رفض طلبهما ،لكنه عندما رأى النغدون يقف أمامه منزعجاًّ ،
هز رأسه
متعاطفا ً معه وسمح لهما بالمرور.
عندما وصقا إلى الباب ،نظر النغدون إلى سيينّا وغمزها قائقاً" :التعاطف لغة عالمية".
الفصل 35
في وقت من األوقات ،كانت قاعة الخمسمائة أكبر قاعة في العالم .فقد بنيت عام 9010لتكون قاعة اجتماع
للمجلس األكبر للجمهورية ،كونسيليو مادجوري ،المؤلّف من خمسمائة عضو ،ومنه استمدّت اسمها .بعد بضع
األول -الذي كان
األول ،ت ّم تجديد القاعة وتوسيعها بشكل كبير .واختار كوزيمو ّ
سنوات ،وبأمر من كوزيمو ّ
الرجل األوسع نفوذا ً في إيطاليا -جورجيو فاساري العظيم ليكون المهندس والمشرف على المشروع.
قام فاساري بإنجاز هندسي استثنائي .فرفع السقف األصلي إلى حد ّ كبير ،وسمح للضوء الطبيعي بدخول القاعة
تحول المكان إلى صالة عرض أنيقة لبعض
موزعة على الجوانب األربعة للغرفة؛ حيث ّ من خقال نوافذ عالية ّ
أجمل التحف في فلورنسا في مجال الهندسة المعمارية ،والنحت ،والرسم.
بالنسبة إلى النغدون ،كانت أرض هذه القاعة دائما ً ّأول ما يلفت نظره؛ أل ّنها تُظهر على الفور ّ
أن هذا المكان ليس
عادياً .فالبقاط القرمزي ذو األطراف السوداء أضفى على تلك المساحة الممتدّة على اثني عشر ألف قدم مربّعة
متانة ،وعمقاً ،وتوازناً.
نظر النغدون إلى الطرف اآلخر من القاعة ببطء .هناك اصطفّت أمام الجدار ستّ منحوتات تمثّل ك ّفارات هرقل،
كما لو كانت كتيبة من الجنود .تجاهل النغدون عمدا ً تمثالي هرقل وديوميدس اللذين يتشابك جسداهما العاريان في
مباراة مصارعة غريبة ،لطالما سبّبت القشعريرة لقانغدون.
كان تمثال مايكل أنجلو الذي يخطف األنفاس ،عبقري النصر ،مريحا ً أكثر للبصر ،وكان يقع إلى اليمين ،ويهيمن
الكوة المركزية للجدار الجنوبي .كانت تلك المنحوتة التي يبلغ طولها تسع أقدام تقريبا ً مخ ّ
صصة لقبر البابا على ّ
يوليوس الثاني المفرط في التحفّظ ،والملقّب بالبابا الرهيب .لطالما سخر النغدون من هذا األمر ،نظرا ً لموقف
يصور التمثال توماسو داي كافاليري ،الشابّ الذي أغرم به مايكل أنجلو معظم ّ الفاتيكان من الشذوذ الجنسي .إذ
سنوات حياته ،وألّف من أجله أكثر من ثقاثمائة قصيدة.
هز النغدون رأسه ،وتذ ّكر زيارته األولى إلى هذا المكان ،بمناسبة حفل موسيقي كبير للموسيقى الكقاسيكية ض ّمّ
صصة في األصل لقاجتماعات ّ
عازفة البيانو المشهورة مارييل كايمل .فرغم أن هذه القاعة الكبيرة كانت مخ ّ
صة مع الدوق األكبر ،إالّ أنّها تحتضن اآلن الموسيقيين والمحاضرين المشهورين وحفقات العشاء؛ السياسية الخا ّ
المؤرخ الفنّي ماوريسيو سيراتشيني إلى متحف غوتشي .في بعض األحيان ،يتساءل النغدون ع ّما كان ّ من
صة الصارمة مع الرؤساء التنفيذيين وعارضات األزياء. األول سيشعر به حيال مشاركة قاعته الخا ّ
كوزيمو ّ
نظر النغدون إلى اللوحات الضخمة التي تزيّن الجدران .تض ّمن تاريخها الغريب تقنية رسم تجريبية فاشلة
لليوناردو دي فينشي ،أدّت إلى "تحفة ذائبة" .كما شهدت القاعة أيضا ً مباراة فنّية أشرف عليها بييرو سوديريني
حرضا عمقاقَين من عمالقة عصر النهضة هما مايكل أنجلو وليوناردو ضدّ بعضهما ،وطلبا وماكيافيلي اللذان ّ
منهما رسم جداريات على حائطين متقابلين في القاعة نفسها.
لكن اليوم ،كان النغدون أكثر اهتماما ً بتحفة تاريخية واحدة في القاعة.
.Cerca trova
أن فاساري ومساعديه قاموا -خقال أعمال تجديد القاعة -بإعادة أجاب النغدون" :كلّها تقريباً" .فقد كان يعرف ّ
رسم ك ّل ما فيها ،من جداريات الجدران األصلية ،إلى األلواح التسعة والثقاثين التي تزيّن السقف "المعلّق"
الشهير.
لكن النغدون أشار إلى جدارية إلى أقصى اليمين قائقاً" :لكن ،تلك هي ما أتينا من أجله؛ معركة مارتشانو".
ّ
خمس وخمسين قدما ً وارتفاع يتجاوزٍ كانت المواجهة العسكرية هائلة حتماً ،إذ امتدّت اللوحة على مساحة بطول
ارتفاع ثقاثة طوابق .طغت عليها ظقال مائلة إلى االحمرار من البنّي واألخضر ،وكانت عبارة عن مشهد عنيف
يظهر فيه الجنود المتقاتلون ،واألحصنة ،والرماح ،والرايات التي تتصادم على سفح تلّ.
السرية؟".
ّ همست سيينّا" :فاساري ،فاساري .في مكان ما هناك تختبئ رسالته
هز النغدون رأسه وهو يُمعن النظر إلى الجزء العلوي من الجدارية الضخمة؛ محاوالً تحديد مكان العلم األخضرّ
الذي كتب عليه فاساري رسالته الغامضة؛ .cerca trovaقال النغدون مشيرا ً إلى تلك المنطقة" :يستحيل تقريبا ً
رؤيتها من هنا من دون منظار ،لكن في وسط الجزء العلوي ،إن نظرت تحت المزرعتين تماما ً على سفح التلّ،
ث ّمة علم صغير أخضر و ."-
قالت سيينّا" :رأيته!" .وهي تشير إلى الجزء العلوي األيمن ،في المكان المقصود تماماً.
اقترب االثنان من الجدارية الشاهقة ،وراح النغدون يحدّق إليها بك ّل مجدها .ها قد وصقا أخيرا ً إلى هناّ ،
لكن
أن النغدون ليس واثقا ً من سبب وجودهما في هذا المكان .وقف بصمت لدقائق طويلة، المشكلة الوحيدة اآلن هي ّ
محدّقا ً إلى تفاصيل تحفة فاساري.
ي قالت سيينّا" :روبرت ،ليس لدينا الكثير من الوقت .عليك أن تف ّكر .هل تذ ّكرك اللوحة بشيء؟ هل ت ُ ّ
حرك فيك أ ّ
ذكريات على اإلطقاق؟".
أن الجدارية تتض ّمن ربّما جثّة تحدّق بعينيها الميتتين إلى إشارة أخرى في اللوحة ...أو حتّى إلى
اعتقد النغدون ّ
ي منها جديرة ّ
مكان آخر في القاعة .لكن ،لسوء الحظ ،رأى النغدون عشرات الجثث في الجدارية ،ولم تكن أ ّ
باالهتمام أو تو ّجه نظرها نحو شيء معيّن.
حاول أن يتخيّل خطوطا ً تربط جثّة بأخرى ،وتساءل ع ّما إذا كان شكل معيّن سيظهر من ذلك .لكن ،ال شيء
إطقاقاً.
راح رأس النغدون يعصف مجدّدا ً وهو يفتّش في أعماق ذاكرته .في مكان ما هناك ،ظ ّل صوت المرأة ذات
الشعر الفضّي يردّد هامساً :من يبحث يجد.
مرات وحاول تحرير نفسه من ك ّل األفكار أجبر نفسه على إغماض عينيه وراح يتن ّفس ببطءّ .
حرك كتفيه عدّة ّ
الواعية ،على أمل أن يستعين بحدسه.
آسف جدًّا.
فاساري.
.Cerca trova
ال يمكن لمح الحقيقة إ ّال عبر عيون الموت.
أخبره حدسه من دون أدنى شكّ أنّه يقف في المكان الصحيح .ومع أنّه لم يكن واثقا ً من السبب ،إالّ أنّه شعر أنّه
على بعد لحظات من إيجاد ضالّته.
حدّق العميل برودر بشرود إلى السراويل والقمصان المخملية الحمراء في صندوق العرض أمامه ،وأخذ يشتم في
سره .كان فريقه قد فتّش صالة األزياء بأكملها ،من دون العثور على أ ّ
ي أثر لقانغدون وسيينّا. ّ
ف ّكر بغضب ،منذ متى يستطيع أستاذ في الجامعة اإلفقات من شعبة المراقبة والدعم؟ أين ذهب هذان االثنان!
أ ّكد أحد رجاله" :لقد ت ّم إقفال جميع المخارج .االحتمال الوحيد المتبقّي هو أنّهما ما زاال في الحدائق".
أن النغدون وسيينّا وجدا طريقة أخرى للخروج. أن ذلك بدا منطقياًّ ،
لكن برودر شعر ّ ومع ّ
الجو ،وأخبِّر السلطات المحلّية بتوسيع رقعة البحث خارج األسوار" .اللعنة!
قال بنبرة حادّة" :أ ِّعد الطائرة إلى ّ
عندما اندفع الرجال لتنفيذ األوامر ،تناول بروده هاتفه واتّصل بالمسؤول .قال" :أنا برودر .أخشى أنّنا أمام مشكلة
خطيرة ،ال بل عدد من المشاكل في الواقع".
الفصل 36
ال يمكن لمح الحقيقة إ ّال عبر عيون الموت.
أخذت سيينّا ّ
تكرر هذه الكلمات وهي تبحث في ك ّل إنش من مشهد المعركة الطاحنة ،على أمل إيجاد شيء.
ي منها نبحث؟!
عن أ ّ
تساءلت ع ّما إذا كانت عيون الموت تشير إلى الجثث المتع ّفنة المنتشرة في أوروبا بسبب الموت األسود.
فجأة ،خطرت في بال سيينّا قصيدة قديمة من أيّام الطفولة :خاتم حول الوردة .حفنة من األزهار .رماد ،رماد.
نتساقط كلّنا.
كانت تنشد تلك القصيدة في المدرسة في إنكلترا إلى أن سمعت أنّها ترجع إلى عهد وباء الطاعون الذي انتشر في
أن الخاتم حول الوردة يشير إلى بثرة وردية كانت تظهر على الجلد ث ّم تحيط بها حلقة، لندن عام .9111ويُزعم ّ
وهذا ما يد ّل على التعرض لإلصابة .وكان المرضى يحملون قبضة من األزهار في جيوبهم إلخفاء رائحة
أجسادهم المتحلّلة ،فضقاً عن رائحة المدينة نفسها التي يسقط فيها مئات ضحايا الطاعون يوميًّا ،ث ّم يت ّم حرق
جثثهم.
قال النغدون فجأة ،وهو يستدير إلى الجدار المقابل" :حبًّا باهلل".
"هذا هو اسم اللوحة التي كانت معروضة هنا في الماضي .حبًّا باهلل".
شاهدت سيينّا حائرة كيف هُرع النغدون عبر القاعة إلى باب زجاجي صغير حاول فتحه ،لكنّه وجده مقفقاً .ألصق
وجهه بالزجاج ،وأحاطه بيديه ليحدّق إلى ما وراءه.
أيًّا يكن ما يبحث عنه النغدون ،أملت سيينّا أن يجده بسرعة .فقد ظهر الحارس ّ
للتو ،وبدت عليه ريبة متزايدة لدى
رؤيته النغدون يحاول فتح باب مقفل.
لو ستوديولو.
خلف الباب الزجاجي ،تماما ً مقابل عبارة cerca trovaالخفية في قاعة الخمسمائة ،تقع غرفة صغيرة من دون
األول ذات سقف مقبّب يُشعر
سري لفرانشيسكو ّ نوافذ .كانت هذه الغرفة المستطيلة التي ص ّممها فاساري كمكتب ّ
من في داخلها أنّه موجود في صندوق كنز هائل.
بالطبع ،كان قلب الستوديولو يزخر بالتحف الجميلة .أكثر من ثقاثين لوحة نادرة تزيّن الجدران والسقف ،وقريبة
من بعضها بعضاً؛ حيث تخلو جدران الغرفة من الفراغ تقريباً .سقوط إيكاروس ...قصة رمزية للحياة البشرية...
الطبيعة تقدم بروميثيوس باألحجار الكريمة المذهلة...
حدّق النغدون عبر الزجاج إلى القاعة الرائعة وهو يهمس" :عيون الموت".
السرية لم تكن هي التي أثارت اهتمام النغدون .عوضا ً عن ذلك ،تذ ّكر تحفة جريئة من ّ
الفن ّ الممرات
ّ ّ
لكن
المعاصر رآها معروضة هناك تحت عنوان حبًّا باهلل .كان صاحب هذه التحفة المثيرة للجدل هو داميان هيرست،
وأحدثت ض ّجة كبيرة عندما عُرضت في ستوديولو فاساري الشهير.
مكسو بالكامل
ّ كانت التحفة عبارة عن جمجمة بشرية بالحجم الطبيعي مصنوعة من البقاتينوم الصلب ،سطحها
بأكثر من ثمانية آالف ألماسة المعة .كان األثر مذهقاً .فقد كان محجرا العينين الفارغان يشعّان بالضوء والحياة،
حيث تجاور رمزان متناقضان؛ الحياة والموت ...الجمال والرعب؛ األمر الذي ولّد تأثيراً مثيرا ً لقاضطراب .ومع
أن ذكريات النغدون عنها ولّدت لديه أن جمجمة هيرست األلماسية قد أزيلت منذ وقت طويل من لو ستوديولو ،إالّ ّ ّ
فكرة.
المتكررة في إنفيرنو دانتي ،أشهرها هو العقاب القاسي الذي ناله الكونت أوغولينو
ّ كانت الجماجم من المواضيع
شرير إلى األبد.
في أدنى حلقات الجحيم؛ إذ ُحكم عليه بنخر جمجمة رئيس أساقفة ّ
أن لو ستوديولو الغامض بني على طريقة "خزانة للتحف" .فجميع لوحاته تقريبا ً كانت ّ
مزودة كان النغدون يعلم ّ
سرية ،حيث يمكن أن تُفتح لتكشف عن خزائن خفية خلفها ،كان الدوق يخبّئ فيها مقتنيات غريبة ته ّمه؛ بفتحة ّ
ّ ّ
كعيّنات معدنية نادرة ،وريش جميل ،وأحفور كامل لصدفة بحرية ،حتى إنه احتفظ كما يُزعم بعظم ساق راهب
مزيّنة بالفضّة يدوياً.
ي جمجمة أن جميع محتويات الخزائن قد أزيلت منذ وقت طويل ،ولم يسمع ّ
قط عن أ ّ ّ
الحظ ،يعتقد النغدون ّ لسوء
معروضة هنا باستثناء تحفة هيرست.
صفق بعنف عند الطرف اآلخر من القاعة .ث ّم اقترب وقع خطوات سريعة في
انقطع حبل أفكاره بفعل باب ُ
الصالة.
هتفت وقد بدا عليها اإلحراج" :بروفيسور النغدون! أنا آسفة جدًّا! لم أعرف أنّك هنا .مرحبا ً بك ّ
مرة أخرى!".
جف حلق النغدون ،لكنّه ابتسم بتهذيب للمرأة التي اقتربت منه وتمتم قائقاً" :صباح ...الخير .كيف حالك؟".
ّ
ضحكت وهي تضع يدها على بطنها" .منهكة؛ فقد أمضت كاتالينا الصغيرة الليلة كلها وهي ترفس" .نظرت
المرأة في أرجاء الغرفة ،وبدا عليها االستغراب" .إيل دوومينو لم يذكر أنّك ستعود اليوم .أفترض أ ّنه معك؟".
يبدو ّ
أن المرأة الحظت حيرته ،فطمأنته قائلة" :ال بأس ،ك ّل من في فلورنسا ينادونه بهذا اللقب ،فهو ال يمانع" .ث ّم
نظرت حولها وسألته" :أهو من أدخلك؟".
قالت سيينّا وهي تقترب منهما" :أجل ،لكن كان لديه فطور عمل ،وقال إنّك ال تمانعين إن بقينا إللقاء نظرة على
المكان" .مدّت سيينّا يدها بحماسة مضيفة" :أنا سيينّا ،شقيقة روبرت".
الخاص".
ّ صافحت المرأة سيينّا على نحو رسمي مبالغ فيه" .أنا مارتا ألفاريز .كم أنت محظوظة بدليلك
صمتت المرأة فجأة متأ ّملة سيينّا ،ثم قالت" :هذا غريب ،لكنّني ال أرى أ ّ
ي شبه بينكما ،باستثناء طول القامة
ربّما".
شعر النغدون بخطر داهم .إ ّما أن يغتنم الفرصة اآلن أو يخسرها إلى األبد.
قاطعها النغدون آمقاً أن يكون قد سمع اسمها بشكل صحيح" :مارتا ،أنا آسف إلزعاجك .لكن ،في الواقعّ ...
أظن
أنّك تعرفين على األرجح سبب وجودي هنا".
ضاقت عيناها وهي تجيب" :كقاّ ،في الواقع ،ال يمكنني أن أتخيّل ما تفعله هنا".
"بروفيسور ،أنا أمزح! بالطبع أعرف سبب عودتك .بصراحة ،ال أعرف لماذا تجدونه ساحرا ً إلى هذا الحدّ .لكن،
أظن أنّك أتيت لتريه ألختك ،أليسبما أنّك أمضيت قرابة الساعة مع إيل دوومينو هناك في الليلة الماضية ،فأنا ّ
كذلك؟".
راح قلب النغدون ينبض وهو ينظر إلى شرفة الطابق الثاني الواقعة في الجزء الخلفي من القاعة .هل كنت هناك
البارحة؟ لم يتذ ّكر شيئاً .كان يعرف ّ
أن الشرفة ،باإلضافة إلى كونها تقع على االرتفاع نفسه لعبارة cerca
،trovaفهي تش ّكل أيضا ً مدخقاً إلى متحف القصر الذي كان النغدون يزوره كلّما أتى.
كانت مارتا على وشك أن تقودهما عبر القاعة عندما توقّفت ،وكأنّها تعيد النظر في األمر" .بروفيسور ،هل أنت
واثق أنّنا ال يمكن أن نجد شيئا ً أق ّل كآبة لنريه ألختك الجميلة؟".
ابتسمت مارتا بخجل ونظرت إلى النغدون" .بروفيسور ،هل تريدني أن أخبر أختك عنه ،أم تفضّل إخبارها
بنفسك؟".
كاد النغدون أن يرقص طربا ً أمام هذه الفرصة" .بالتأكيد ،مارتا ،فلتخبريها ك ّل شيء عنه".
التفتت مارتا إلى سيينّا ،وبدأت تتحدّث ببطء شديد" .ال أعرف ما قاله لك أخوك ،لكنّنا ذاهبون إلى المتحف لرؤية
قناع غير مألوف إطقاقاً".
أجابت مارتا" :كقاّ ،ليس قناع طاعون .بل إنه قناع مختلف تماماً ،يس ّمى قناع الموت".
شهق النغدون بصوت مسموع ،فالتفتت إليه مارتا عابسة ،اعتقادا ً منها على األرجح أنّه يبالغ في ردّ فعله في
محاولة منه إلخافة أخته.
الجص
ّ مجرد قالب من
ّ قالت" :ال تصغي ألخيك .فأقنعة الموت كانت شائعة جدًّا في القرن السادس عشر .إنّها
لوجه المرء يؤخذ بعد بضع دقائق من وفاته".
قناع الموت .شعر النغدون أنّها لحظة الوضوح األولى منذ استيقاظه في فلورنسا .جحيم دانتيcerca ...
...trovaالنظر عبر عيون الموت .القناع!
وضع النغدون يده على كتف سيينّا وأجاب بهدوء قدر اإلمكان" :لشاعر إيطالي شهير يدعى دانتي أليغييري".
الفصل 38
أشرقت شمس البحر األبيض المتوسّط على سطح المينداسيوم الذي راح يتأرجح فوق أمواج البحر األدرياتيكي.
شعر العميد أنّه مستنزف وهو يُفرغ كأس الشراب الثانية في جوفه ،ويحدّق بشرود من نافذة مكتبه.
كان هذا اإلحساس غريبا ً على العميد .ففي عالمه ،كان يعتمد دائما ً على بوصلة موثوقة -البروتوكول -ولم يسبق
له معها أن ض ّل الطريق .لقد م ّكنه البروتوكول من اتّخاذ قرارات صعبة من دون النظر إلى الوراء.
صل من فايينثا ،وقد نفّذه العميد من دون تردّد .سأتعامل معها فور انتهاء هذه
البروتوكول هو الذي فرض التن ّ
األزمة.
والبروتوكول هو الذي فرض على العميد أن يعرف أق ّل قدر من المعلومات عن زبائنه .فقد ّ
قرر منذ وقت طويل
أن الكونسورتيوم ليس مسؤوالً عن محاكمتهم من الناحية األخقاقية.
ّ
قدِّّم الخدمة.
ثق بالعميل.
على غرار مديري معظم الشركات ،كان العميد يقدّم ببساطة خدماته على افتراض أنّها ستُنفَّذ في إطار القانون.
صصة للتقامذة ،وال ففي النهاية ،ال تُعتبر شركة فولفو مسؤولة عن األ ّمهات اللواتي يسرعن في األماكن المخ ّ
تُعتبر شركة ديل مذنبة إن قام أحدهم باستخدام حواسبها اإللكترونية الختراق حساب مصرفي.
اآلن ،مع ك ّل هذه الحوادث المتتالية ،أخذ العميد يصبّ جام غضبه على الشخص الموثوق الذي اقترح على
الكونسورتيوم التعامل مع هذا الزبون.
في ذلك الحين ،أ ّكد له قائقاً" :سيكون المجهود قليقاً والمكسب سهقاً .فالرجل بالغ الذكاء ،وهو نجم في مجاله،
وفاحش الثراء .ك ّل ما يحتاج إليه هو االختفاء لعام أو اثنين .يريد شراء بعض الوقت بعيدا ً عن األعين للعمل على
مشروع ها ّم".
وافق العميد من دون أن يف ّكر كثيراً .فتأمين مخابئ لفترات طويلة كان دائما ً مصدرا ً لمكاسب سهلة ،والعميد يثق
بحدس ذلك الشخص.
اآلن ،في أعقاب الفوضى التي سبّبها هذا الرجل ،وجد العميد نفسه يروح ويجيء أمام زجاجة الشراب ،ويعدّ
األيّام حتّى تنتهي مسؤولياته تجاه هذا العميل.
أجاب" :نعم".
قال نولتون بصوت مشوب بالتوتّر" :سيّدي ،لم أشأ إزعاجك بذلك ،لكن كما تعلم ،يتو ّجب علينا تحميل شريط
فيديو إلى وسائل اإلعقام غداً".
"نعم ،سيّدي".
وبّخه العميد مضيفاً" :أنت لم تعيّن هنا كناقد سينمائي ،بل لتفي بالوعود .قم بعملك".
ال بدّ ّ
أن برودر قد قبض عليه.
بدأت تتخيّل على مضض التحقيق الذي ستخضع له في الكونسورتيوم ،ال بل أسوأ من ذلك.
أدرك عدد ال يحصى من األهداف أنّه عندما يضع الكونسورتيوم عينه على شخص ما ،تصبح الخصوصية وهماً.
إنّها مسألة وقت وحسب.
كانت فرصتها الوحيدة لنيل العفو تكمن بمنافسة برودر ...لكنّها أدركت منذ البداية ّ
أن األمر بعيد االحتمال.
دراجتها النارية ،غير أنّها سمعت فجأة صوتا ً بعيداً ...هديراً عاليا ً مألوفاً.
استدارت فايينثا على مضض نحو ّ
المرة قرب الطرف األقصى نظرت إلى األعلى باضطراب ،وفوجئت بطائرة المراقبة تحوم مجدّدا ً في ّ
الجو ،هذه ّ
لقصر بيت ّي .شاهدت فايينثا الطائرة وهي تقوم بدورات يائسة حول القصر.
الجو ال تعني سوى شيء واحد. ّ
إن إعادة الطائرة إلى ّ
أخرج هدير الطائرة الحادّ د .إليزابيث سينسكي من هذيانها مجدّداً .عادت طائرة المراقبة إلى األجواء؟ لكن،
ظننت...
تحركت على مقعدها الخلفي في الفان ،وكان العميل الشابّ نفسه ما زال جالسا ً قربها .أغمضت عينيها من جديد
ّ
مكافحة األلم والغثيان .غير أنّها كافحت الخوف بضراوة أكبر.
الوقت ينفد.
عدوها انتحر ،إالّ أنّها ما زالت تراه في منامها وهو يلقي عليها محاضرات في ظقام مجلس العقاقات
أن ّ مع ّ
الخارجية.
ومضت عيناه الخضراوان وهو يعلن قائقاً :ال بدّ ألحد أن يتّخذ تدبيرا ً جريئاً .إن لم يكن نحن ،فمن سيقوم بذلك؟
وإن لم يكن اآلن ،فمتى؟
أدركت إليزابيث أنّه كان يجدر بها إيقافه في ذلك الوقت؛ عندما أتيحت لها الفرصة .لن تنسى أبدا ً كيف خرجت
من ذلك االجتماع مسرعة ،واستقلّت سيّارة الليموزين وهي ترغي وتزبد في طريقها إلى مطار جون كينيدي
الدولي عبر مانهاتن .كانت متل ّهفة لمعرفة من يكون هذا المجنون ،فأخرجت هاتفها الخلوي لتتف ّحص الصورة
المفاجئة التي التقطتها له.
عندما رأت الصورة ،شهقت بصوت عا ٍل .كانت د .إليزابيث سينسكي تعرف تماما ً من يكون هذا الرجل .الجيد في
لكن المشكلة هي أنّه عبقري في مجاله ،وشخص بالغ الخطورة إن ّ
قرر أن أن تعقّبه سيكون سهقاً جدًّاّ .
األمر ّ
يكون كذلك.
ما من شيء أكثر إبداعاً ...أو تدميراً ...من عقل المع لديه هدف.
عند وصولها إلى المطار بعد ثقاثين دقيقة ،كانت قد اتصلت بفريقها ووضعت اسم الرجل على الئحة المراقبة ضدّ
اإلرهاب البيولوجي في ك ّل وكالة ذات صلة في العالم؛ وكالة المخابرات المركزية ،ومركز مكافحة األمراض،
والمركز األوروبي للوقاية من األمراض ومكافحتها ،والمن ّ
ظمات الشقيقة كافة في جميع أنحاء العالم.
"المعذرة؟" .كانت إليزابيث تعرف أنّه ما من أحد يستطيع الوصول إلى المعلومات المتعلّقة بسفرها.
أسقطت إليزابيث حقيبتها .هو هنا! كيف؟! التفتت متف ّحصة الوجوه حولها.
قالت المو ّ
ظفة" :لقد رحل ،لكنّه أراد إعطاءك هذه" .وأعطت إليزابيث قطعة مطوية من الورق.
فتحت إليزابيث الورقة بيدين مرتجفتين وقرأت المقاحظة المكتوبة بخ ّ
ط اليد.
هي ألولئك
"مارتا ،هل أنت واثقة أنّك ال ترغبين في استخدام المصعد؟" .بدا روبرت النغدون قلقاً ،وأشار إلى المصعد
الزوار ذوو االحتياجات الخاصة.
الصغير المجاور الذي أضيف إلى القصر ليستخدمه ّ
أُجفل النغدون لدى سماعه تعليقها" .آه ،صحيح .نسيت أنّني ذكرت ذلك".
في الليلة الماضية ،وبينما استق ّل مرافق النغدون البدين إيل دوومينو المصعد ،رافق النغدون مارتا على الدّرج.
ي صغير في بئر مهجورة؛ األمر الذي سبّب له خوفا ً من
في الطريق ،أخبرها بالتفصيل عن سقوطه وهو صب ّ
األماكن الضيّقة.
اآلن ،وبينما سبقتهما شقيقة النغدون األصغر سنًّا ،وشعرها يتمايل خلفها ،ارتقى النغدون ومارتا الدرج ببطء،
مرات لكي تتم ّكن من التقاط أنفاسها .قالت" :تفاجئني رغبتك في رؤية القناع مجدّداً .فمن بين ك ّل وتوقّفا عدّة ّ
القطع المتواجدة في فلورنسا ،تُعتبر هذه القطعة األق َّل إثارة لقاهتمام".
هز النغدون كتفيه من دون اكتراث" .عدت أساسا ً لكي تراه سيينّا .بالمناسبة ،شكرا ً لك على السماح لنا بالدخولّ
مجدّداً".
كانت سمعة النغدون كافية إلقناع مارتا بفتح الصالة من أجله في الليلة الماضيةّ ،
لكن مرافقة إيل دوومينو له
كانت تعني أ ّنها ال تملك الخيار.
إغناتسيو بوزوني ،المعروف بلقب إيل دوومينو ،شخصية مشهورة في عالم فلورنسا الثقافي .كان إغناتسيو مدير
متحف موزيو ديل أوبرا ديل دوومو منذ مدّة طويلة ،ويشرف على مختلف نواحي الموقع التاريخي األبرز في
فلورنسا ،إيل دوومو ،وهو اسم الكاتدرائية الضخمة بقبّتها الحمراء التي تهيمن على تاريخ فلورنسا وسمائها .أدّى
شغفه بهذا المعلم التاريخي ،باإلضافة إلى وزنه الذي يقارب أربعمائة باوند ،واالحمرار الطاغي على وجهه ،إلى
اكتسابه لقب إيل دوومينو ،أي "القبّة الصغيرة".
عندما وصقا اآلن إلى أعلى الدّرج ،وضعت مارتا يديها على وركيها وتنفّست بعمق .كانت سيينّا قد وصلت إلى
الشرفة ،ووقفت تُط ّل من هناك على قاعة الخمسمائة.
قالت مارتا وهي تلهث" :هذا مكاني المفضّل لرؤية القاعة .من هنا ،تحصلين على منظور مختلف تماما ً للوحات
أن شقيقك أخبرك عن الرسالة الغامضة في تلك اللوحة هناك؟" .وأشارت بيدها نحو اللوحة. أظن ّ
الجداريةّ .
ّ
هزت سيينّا رأسها بحماسة قائلة."cerca trova" :
بينما التفت النغدون يتأ ّمل القاعة ،راحت مارتا تراقبه .تحت الضوء الصادر من نوافذ القاعة ،لم يكن من الممكن
أن النغدون ال يبدو جذّابا ً كما كان في الليلة الماضية .أعجبتها بذلته الجديدة ،لكنّه كان بحاجة إلى أالّ تقاحظ ّ
إن شعره الذي كان كثيفا ً ومرتّبا ً في الليلة الماضية ،بدا مش ّعثا ً هذا
حقاقة ،كما بدا وجهه شاحبا ً ومتعباً .حتّى ّ
الصباح ،وكأنّه لم يستحم بعد.
التفتت مارتا إلى الجدارية قبل أن تثير انتباهه .قالت" :نحن نقف تقريبا ً عند مستوى cerca trovaبالضبط.
المجردة".
ّ يمكنكما تقريبا ً رؤية الكلمات بالعين
لم يبد ُ على شقيقة النغدون أنّها مهت ّمة بالجدارية ،إذ قالت" :أخبريني عن قناع الموت لدانتي .لماذا هو موجود في
قصر فيكيو؟".
هزت الشابّة الشقراء الجميلة كتفيها مجيبة" :ما يتعلّمه الجميع في المدارس .دانتي شاعر إيطالي اشتُهر بكتابة
ّ
الكوميديا اإللهية التي تصف رحلة تخيّلها عبر الجحيم".
أجابت مارتا" :هذا صحيح إلى حدّ ما .في القصيدة ،ينجو دانتي من الجحيم ويتابع رحلته عبر المطهر؛ إلى أن
أن رحلته مقسّمة إلى ثقاثة أجزاء :إنفيرنو، يصل أخيرا ً إلى الجنّة .إن قرأ ِّ
ت الكوميديا اإللهية ،فستكتشفين ّ
ّ
بورغاتوريو ،وباراديزو" .الجحيم ،المطهر ،والجنة .أشارت إليهما مارتا ليتبعاها على الشرفة باتجاه مدخل
"لكن سبب وجود هذا القناع في قصر فيكيو ال عقاقة له بالكوميديا اإللهية ،بل بالتاريخ .فقد عاش دانتي ّ المتحف.
ً
لكن تغييرا طرأ ً ً
في فلورنسا ،وأحبّها بقدر ما يمكن إلنسان أن يحبّ مدينة .كان فلورنسيا بارزا وواسع النفوذّ ،
طرد خارج أسوار المدينة و ُمنع من العودة على السلطة السياسية ،وأيّد دانتي الطرف الخطأ .وهكذا ت ّم نفيه ،ف ُ
إليها".
وقوست ظهرها توقّفت مارتا اللتقاط أنفاسها مع اقترابهم من مدخل المتحف .وضعت يديها مجدّدا ً على وركيها ّ
أن نفي دانتي هو السبب الذي يجعل قناع موته يبدو حزينا ً إلى
إلى الخلف وهي تتابع حديثها" .يدّعي بعض الناس ّ
أن وجهه الحزين سببه امرأة تدعى ي نظرية أخرى .فأنا رومنسية بعض الشيء ،وأعتقد ّ هذا الحد ّ ،لكن لد ّ
ً
بياتريتشي .فقد أمضى دانتي حياته بأكملها مغرما بشابّة تدعى بياتريتشي بورتيناري .لكن مع األسف ،كانت
أن دانتي لم يكن مجبرا ً على العيش بعيداً عن مدينته الحبيبة فحسب ،بل
متزوجة من رجل آخر؛ ما يعني ّّ الشابة
ً ً ّ ً
وعن المرأة التي أحبّها بعمق أيضا .وشكل حبّه لبياتريتشي موضوعا مركزيا في الكوميديا اإللهية".
قالت سيينّا بنبرة توحي أنّها لم تسمع كلمة واحدة" :هذا مثير لقاهتمام .لكنّني لم أفهم حتّى اآلن لماذا يت ّم االحتفاظ
بهذا القناع هنا في القصر؟".
وجدت مارتا إلحاح الشابّة غريبا ً ويفتقد بعض الشيء إلى التهذيب .فاستأنفت سيرها وتابعت تقول" :في الواقع،
عندما توفّي دانتي كان ال يزال منفياً ،ود ُفنت جثّته في رافينّا .لكن ،بما ّ
أن حبّه الحقيقي ،بياتريتشي ،د ُفنت في
فإن إحضار قناع موته إلى هنا بدا نوعا ً من التكريم الصادق لذلكأن دانتي أحبّ فلورنسا كثيراًّ ، فلورنسا ،وبما ّ
الرجل".
قالت سيينّا التي بدت أخيرا ً راضية بالجواب" :كم هذا لطيف .شكرا ً لك".
مسن بتعب ونظر إلى ساعته ،ثم قال لها باإليطالية مبتسماً:
ّ سمعت خشخشة مفاتيح ،ث ّم فُتح الباب .ابتسم لها رجل
ُ
"الوقت مبكر بعض الشيء".
أوضحت مارتا سبب مجيئها بإيماءة نحو النغدون ،فش ّع وجه الرجل على الفور" .سينيوري! بينتورناتو!" .أه ً
قا
بعودتك!
دخلوا بهوا ً صغيراً ،ث ّم قام الحارس بتعطيل جهاز اإلنذار قبل أن يفتح بابا ً آخر أثقل وزناً .عندما فُتح الباب ،دخل،
ث ّم أشار لهم للدخول بحركة بذراعه" .إيكو إيل موزيو!" .تفضّلوا إلى المتحف!
ص ّمم في األساس كمكاتب حكومية .لهذا السبب ،عوضا ً عن كون المتحف صالة واسعة
يحت ّل المتحف مكانا ً ُ
ومفتوحة ،كان عبارة عن متاهة من الغرف متوسّطة الحجم واألروقة التي تحيط بنصف المبنى.
قالت لسيينّا" :قناع دانتي موجود عند الزاوية .إنّه معروض في غرفة ضيّقة تدعى النديتو ،هي في األساس م ّ
جرد
ممر بين غرفتين أكبر حجماً .وقد ُحفظ في خزانة أثرية معلّقة على الجدار ،األمر الذي يبقيه بعيدا ً عن األنظارّ
يمرون من أمامه من دون مقاحظته!". ّ ار الزو
ّ من الكثير السبب، لهذا منه. تقتربي أن إلى
هزت سيينّا رأسها بأدب ،وواصلت التقدّم إلى األمام هي أيضاً .بالكاد كانت مارتا قادرة على مواكبتهما .عندما
ّ
ّ ً ّ
وصلوا إلى الغرفة الثالثة ،أصبحت متأخرة عنهما قليقا ،فتوقفت في النهاية.
نادت وهي تلهث" :بروفيسور ،ربّما ...تودّ أن تري أختك ...شيئا ً من القاعة ...قبل أن نرى القناع؟".
التفت النغدون الذي بدا وكأنّه يعود إلى الواقع من مكان بعيد" .المعذرة؟".
أشارت مارتا وهي تلهث إلى خزانة عرض مجاورة" .هذه واحدة من أولى ...النسخ المطبوعة للكوميديا اإللهية".
عندما رأى النغدون مارتا وهي تمسح العرق عن جبينها وتحاول التقاط أنفاسها ،شعر بعذاب الضمير" .مارتا،
النص أمرا ً رائعاً".
ّ سامحيني! بالطبع ،سيكون إلقاء نظرة خاطفة على
أسرع النغدون عائداً ،وترك مارتا تقودهما إلى خزانة العرض األثرية .كان في داخلها كتاب مجلّد بغقاف جلدي
با ٍل ،ومفتوح على صفحة عنوان مزخرفة :ال ديفينا كوميديا :دانتي أليغييري.
قال النغدون ،وقد بدت عليه الدهشة" :ال أصدّق ،أنا أعرف هذه الصفحة األمامية .لكنّني لم أكن أدري أنّكم
تملكون إحدى نسخ نومايشتر األصلية".
ف ّكرت مارتا حائرة :بالطبع تدري .لقد أريتك إيّاها في الليلة الماضية!
قال النغدون بسرعة لسيينّا" :في أواسط القرن الخامس عشر ،أصدر جوهان نومايشتر ّأول نسخة مطبوعة من
هذا العمل .ت ّمت طباعة عدّة مئات من النسخ ،لكن لم يبقَ منها سوى اثنتي عشرة نسخة تقريباً .وهي نادرة جدًّا".
أن النغدون كان يؤدّي دوراً ليتباهى أمام شقيقته الصغرى .ورأت في ذلك قلّة لياقة من جانب
بدا لمارتا اآلن ّ
بروفيسور مشهور بتواضعه األكاديمي.
عرضت مارتا قائلة" :هذه النسخة موجودة هنا على سبيل اإلعارة من مكتبة لورنس .إن لم تقوما بزيارتها بعد،
فعليكما القيام بذلك .يوجد هناك درج رائع من تصميم مايكل أنجلو ،يؤدّي إلى ّأول قاعة قراءة عامة في العالم.
كانت الكتب تُقيَّد هناك بالمقاعد لكي ال يسرقها أحد .وبالطبع ،الكثير من تلك الكتب نسخ فريدة في العالم".
قالت سيينّا وهي تنظر إلى أرجاء المتحف" :رائع .هل القناع من هذا الطريق؟".
ِّلم َ العجلة؟ كانت مارتا بحاجة إلى دقيقة أخرى الستعادة أنفاسها" .أجل ،لكن ربّما يه ّمك أن تري هذا" .وأشارت
صة مشاهدة في العوارض الخشبية ،يمكن كوة باتّجاه درجٍ صغير يختفي في السقف" .يؤدّي هذا الدرج إلى من ّ
إلى ّ
يسرني االنتظار هنا إن كنتما ترغبان في ."- ّ
اإلطقال منها على سقف فاساري الشهير المعلقّ .
قاطعتها سيينّا قائلة" :رجاء مارتا .أودّ رؤية القناع؛ فوقتنا ضيّق بعض الشيء".
حدّقت مارتا إلى الشابّة الجميلة حائرة .لم تعجبها إطقاقا ً طريقة الغرباء في مناداة اآلخرين بأسمائهم األولى.
سرها :أنا سينيورا ألفاريز ،وأنا أقدّم لك خدمة.ف ّكرت في ّ
لم تضع مارتا مزيدا ً من الوقت في إعطاء معلومات لقانغدون وشقيقته اللذين شقّا طريقهما عبر غرف القاعة
باتّجاه القناع .في الليلة الماضية ،أمضى النغدون وإيل دوومينو نصف ساعة تقريبا ً في الحجرة الضيّقة وهما
يتأ ّمقان القناع .استغربت مارتا حينذاك من فضول الرجلين إزاء القطعة ،وسألتهما ع ّما إذا كان اهتمامهما بها
لكن النغدون وإيل دوومينو تكتّما، يتعلّق بسلسلة األحداث غير االعتيادية التي أحاطت بالقناع خقال العام الفائتّ .
ولم يقدّما لها جوابا ً يذكر.
س ّرت مارتا
أثناء اقترابهم من الحجرة ،بدأ النغدون يشرح ألخته العمليّة البسيطة المستخدمة لصنع قناع الموتُ .
لدى سماعها وصفه الدقيق الذي لم يكن يشبه ادّعاءه الكاذب أنّه لم يسبق له أن رأى نسخة المتحف النادرة من
الكوميديا اإللهية.
شرح النغدون قائقاً" :بعد وقت قصير من الوفاة ،يمدّد الميت ،ويُدهن وجهه بزيت الزيتون .بعد ذلك توضع طبقة
ط الشعر حتّى العنق .ما إنطي ك ّل شيء؛ الفم ،واألنف ،والجفنين ،من خ ّ الجص الرطب على البشرة ،وتغ ّّ من
الجص إلى نسخة
ّ هذا ل يتحو
ّ وهكذا، .ً ا ّد د مج الجص
ّ فيه ُصبّ ي كقالب ُستخدم يو بسهولة ُرفع ي ىّ تح الجص
ّ بّ ل يتص
صلة تماما ً عن وجه الميت .كانت هذه الممارسة شائعة االستخدام لتخليد ذكرى شخصيات بارزة وعباقرة من مف ّ
أمثال دانتي ،وشيكسبير ،وفولتير ،وتاسّو ،وكيتس ،وجميعهم حصلوا على أقنعة موت".
أعلنت مارتا عند وصولهم إلى األنديتو" :ها قد وصلنا أخيراً" .وقفت جانباً ،وأشارت لشقيقة النغدون بالدخول
ّأوالً" .القناع موجود في خزانة العرض المعلّقة على الجدار إلى يسارك .أرجو منك البقاء خارج الدعامات".
شكرتها سيينّا ودخلت الرواق الضيّق ،ث ّم مشت باتّجاه خزانة العرض ،وحدّقت إلى الداخل .اتّسعت عيناها على
الفور ،ونظرت إلى أخيها بتعبير طغى عليه الرعب.
أنّت مارتا وقالت لنفسها :كم يبالغ .تبعتهما إلى الداخل .لكن ،عندما حدّقت إلى الخزانة ،شهقت هي أيضا ً بصوت
عا ٍل .أوه ميو ديو! يا إلهي!
توقّعت مارتا ألفاريز رؤية وجه دانتي الميت المألوف أمامها ،لكنّها لم َ
تر عوضا ً عن ذلك سوى قلب الخزانة
طن بالساتان األحمر والمسمار الذي يعلَّق عليه القناع عادة.
المب ّ
وضعت مارتا يدها على فمها وحدّقت برعب إلى الخزانة الفارغة .تسارعت أنفاسها وأمسكت بإحدى الدعامات
لتستند إليها .أخيراً ،أبعدت نظرها بصعوبة عن الخزانة الفارغة واستدارت نحو الحارسين الليليين الواقفين عند
المدخل الرئيس.
قال الحارس لمارتا وهو يُعيد السماعة إلى مكانها" :ستصل الشرطة خقال عشرين دقيقة!".
سألته" :بعد عشرين دقيقة! لدينا هنا عمليّة سرقة لتحفة فنّية كبرى".
كانت مارتا تعرف أنّه ث ّمة قطع أكثر قيمة بكثير في المتحف كان يمكن أن تُسرق ،لذلك حاولت أن تشكر هللا على
المرة األولى التي يشهد فيها تاريخ المتحف عمليّة سرقة .ح ّتى إ ّنني ال أعرف البروتوكول
ذلك .لكن ،هذه هي ّ
الم ّتبع في هذه الحالة!
شعرت مارتا بالضعف فجأة ،ومدّت يدها لقاستناد إلى إحدى الدعامات.
بدا حارسا الصالة مربكَين وهما يرويان لمارتا أحداث الليلة الماضية وما فعقاه بالضبط :عند حوالى الساعة
العاشرة ،دخلت مارتا مع إيل دوومينو والنغدون .وبعد مدّة قصيرة ،خرج الثقاثة معاً .فأعاد الحارسان إقفال
األبواب ،وضبط جهاز اإلنذار .وعلى حدّ علمهما ،لم يدخل أحد أو يخرج من القاعة منذ تلك اللحظة.
صاحت مارتا باإليطالية" :هذا مستحيل! لقد كان القناع في الخزانة عندما غادرنا في الليلة الماضية .لذلك ،ال شكّ
ّ
أن أحدهم قد دخل القاعة منذ ذلك الحين!".
نر أحداً".
رفع الحارسان أيديهما ،وبدت عليهما عقامات الحيرة" .لم َ
اآلن ،وبانتظار وصول الشرطة ،ذهبت مارتا بأسرع ما سمح لها به جسدها باتّجاه غرفة المراقبة .وسار النغدون
وسيينّا خلفها بتوتّر.
ف ّكرت مارتا :ستُظهر لنا كاميرات المراقبة بالتحديد من دخل إلى هنا في الليلة الماضية!
على مسافة من القصر ،على جسر فيكيو ،ابتعدت فايينثا إلى الظ ّل مع وصول عنصرين من الشرطة أخذا
مزودَين بصور لقانغدون.
شطان المنطقة ّيم ّ
مع اقتراب الضابطين من فايينثا ،تصاعد صوت من جهازي القاسلكي اللذين يحمقانهما .كان عبارة عن نشرة
ي روتينية لجميع رجال الشرطة .كان اإلعقان موجزا ً وباللغة اإليطاليةّ ،
لكن فايينثا فهمت مغزاه :يجب على أ ّ
عنصر متوفّر في منطقة قصر فيكيو أن يتو ّجه ألخذ إفادة في متحف القصر.
ي اهتمام.
لم يعر الضابطان البيان الذي أثار اهتمام فايينثا أ ّ
لقد وقعت كارثة الليلة الماضية التي د ّمرت حياتها المهنية في األروقة خارج قصر فيكيو تماماً.
واصلت الشرطة نشرتها بلغة إيطالية غير مفهومة بالنسبة إليها في معظمها ،باستثناء كلمتين برزتا بوضوح:
دانتي أليغييري.
توتّر جسدها على الفور .دانتي أليغييري؟! بالتأكيد هذا ليس محض صدفة .التفتت باتّجاه قصر فيكيو ورأت برجه
المطل فوق أسطح المباني المجاورة.
بغض النظر عن التفاصيل ،عملت فايينثا محلّلة ميدانية لمدّة طويلة ،حيث أصبحت تعرف ّ
أن الصدفة أمر أق ّل
يتصور أغلب الناس .متحف قصر فيكيو ...ودانتي؟ ال بدّ ّ
أن لهذا األمر عقاقة بقانغدون. ّ شيوعا ً بكثير م ّما
واآلن ،في ضوء النهار ،تساءلت فايينثا ع ّما إذا كان النغدون قد عاد إلى المنطقة المحيطة بقصر فيكيو إليجاد ما
يبحث عنه .كانت واثقة أنّه لم يعبر هذا الجسر لدخول المدينة القديمة .وعلى الرغم من وجود الكثير من الجسور
األخرى ،غير أنّها بدت بعيدة جدًّا ليذهب إليها سيراً على األقدام من حدائق بوبولي.
ويمرون من تحت الجسر .قرأت على القارب عبارة سوسييتاّ تحت الجسر ،رأت طاقما ً من أربعة رجال يجذّفون
كانوتيري فيرنزي/نادي فلورنسا للتجذيف .راحت المجاذيف البيضاء والحمراء المميّزة تعلو وتنخفض بانسجام
تا ّم.
هل يمكن أن يكون النغدون قد استق ّل القارب؟ يبدو هذا االحتمال بعيداً ،لكنّها شعرت ّ
أن عليها عدم تجاهل بقاغ
الشرطة المتعلّق بقصر فيكيو.
تلوح بها دليلة سياحية في محاولة لقيادة مجموعة من السيّاح عبر جسر
التفتت فايينثا ورأت كرة برتقالية زاهية ّ
فيكيو.
قالت المرأة بحماسة وهي ترفع كرتها في الهواء وتو ّجه أنظار الجميع إلى األعلى" :فوقكم تقع أكبر تحفة من
تحف فاساري".
أن هناك طابقا ً ثانيا ً يمتدّ فوق المتاجر مثل شقّة ضيّقة.
لم تقاحظ فايينثا األمر من قبل ،لكن يبدو ّ
قالت الدليلة" :رواق فاساري .يبلغ طوله تقريبا ً كيلومترا ً واحداً ،وكان يؤدّي دور ّ
ممر آمن ألسرة ميديتشي بين
قصر بيتّي وقصر فيكيو".
ذُهلت فايينثا عندما أدركت وجود البناء الشبيه بالنفق الممتدّ فوقها .كانت قد سمعت عن هذا الرواق ،لكنّها لم
تعرف عنه الكثير.
إذ ًا ،إنه يؤدّي إلى قصر فيكيو؟
تابعت الدليلة" :قلّة من األشخاص الذين لديهم عقاقات مع شخصيات ها ّمة يمكنهم دخول هذا الرواق اليوم .إنه
صالة فنّية رائعة تمتدّ من قصر فيكيو إلى الزاوية الشمالية الشرقية لحدائق بوبولي".
جلست مارتا أمام الشاشة التي كانت أساسا ً تعرض مشاهد سابقة .ظهرت عليها صورة باهتة باألسود واألبيض
لألنديتو ،مأخوذة من فوق الباب .أشار الزمن الظاهر على الشاشة إلى ّ
أن المشاهد ترجع إلى ما قبل ظهيرة يوم
أمس؛ أي تحديدا ً قبل أربع وعشرين ساعة ،قبل أن يفتح المتحف أبوابه ،وقبل مدّة طويلة من وصول النغدون في
ذلك المساء مع إيل دوومينو الغامض.
سرع الحارس الشريط ،ورأى النغدون مجموعة من السيّاح الذين راحوا يتدفّقون بسرعة داخل األنديتو ،ويتنقلون ّ
بحركة سريعة .لم يكن القناع مرئيا ً من تلك الزاوية ،لكن من الواضح أنّه ما زال معروضا ً في الخزانةّ ،
ألن
السيّاح كانوا يتوقّفون تكرارا ً لرؤيته والتقاط الصور قبل متابعة جولتهم.
تواصل العرض بشكل أسرع ،وبدأت ظقال ما بعد الظهيرة تظهر في الغرفة .دخل السيّاح وخرجوا إلى أن بدأت
تتفرق ،ث ّم تختفي تماماً .مع مضي الوقت متجاوزا ً الساعة الخامسة مسا ًء ،انطفأت أضواء المتحف ،وع ّم
الحشود ّ
الهدوء.
أمرت مارتا قائلة" :ضا ِّعف السرعة" ،وانحنت في كرسيّها وهي تحدّق إلى الشاشة.
سرع الحارس العرض ،وتقدّم الزمن بسرعة ،إلى أن عاد المتحف ليش ّع باألنوار حوالى الساعة العاشرة مسا ًء.
ّ
بعد دقيقة ،ظهرت صورة مارتا ألفاريز الحامل .كان يتبعها عن قرب النغدون الذي دخل مرتديا ً سترة هاريست
إن ساعة ميكي ماوس بدت من تحت ك ّم الخاص .حتّى ّ
ّ ي ،ومنتعقاً حذاءه
تويد كامبرلي المألوفة مع سروال كاك ّ
قميصه وهو يمشي.
شعر النغدون باضطراب عميق وهو يشاهد نفسه يفعل أشياء ال يذكرها إطقاقاً .هل كنت هنا في الليلة الماضية...
ورأيت قناع الموت؟ بطريقة ما ،بين تلك اللحظة وهذه ،فقَدَ مقابسه وساعة ميكي ماوس ويومين من حياته.
مع استمرار الشريط بعرض المشاهد ،اقترب هو وسيينّا من مارتا والحارسين إللقاء نظرة أفضل .تواصل
العرض الصامت مظهرا ً النغدون ومارتا وهما يقتربان من خزانة العرض ويتأ ّمقان القناع .في أثناء ذلك ،ظهر
ظ ّل كبير على الباب خلفه ،ث ّم تقدّم رجل بدين للغاية وظهر في الصورة .كان يرتدي سترة داكنة ،ويحمل حقيبة،
وبالكاد تم ّكن من العبور عبر الباب .مقارنة بكرشه الضخمة ،بدت مارتا الحامل نحيلة.
خقال السنوات الفائتة ،استشار النغدون إغناتسيو بشأن تحف فنّية ومعلومات تاريخية متعلّقة بإيل دوومو ،أي
لكن زيارة قصر فيكيو بدت خارج مجال إغناتسيو .مع ذلك ،وباإلضافة إلى كون البازيليك المسؤول عنهاّ .
الفن في فلورنسا ،فقد كان شديد الحماسة لدانتي وواحدا ً من تقامذته.
إغناتسيو بوزوني شخصية نافذة في عالم ّ
أن تسجيل الكاميرات يتض ّمن الصوت أيضاً .عمّ ك ّنا نتحدّث؟ وعمّ ك ّنا نبحث؟!
تمنّى النغدون لو ّ
في تلك اللحظة ،تجاوز النغدون الدعامات ،وانحنى أمام خزانة العرض مباشرة؛ حيث أصبح وجهه على بُعد
بضعة إنشات فقط من الزجاج .عندها ،تد ّخلت مارتا على الفور ،وأخذت توبّخه كما يبدو ،في حين تراجع
النغدون وهو يعتذر.
قالت مارتا وهي تنظر إليه من فوق كتفها" :أعتذر أل ّنني كنت صارمة جدًّا .لكن كما قلت لك في ذلك الوقتّ ،
إن
أصر مالك القناع على بقاء الناس خلف الدعامات .حتّى إنّنا ال
ّ خزانة العرض قطعة أثرية حسّاسة للغاية .وقد
نسمح لمو ّ
ظفينا بفتح الخزانة إن لم يكن موجوداً".
استغرق النغدون بعض الوقت حتّى استوعب كقامها .مالك القناع؟ اعتقد النغدون ّ
أن القناع ملك للمتحف.
ظهر أثر المفاجأة أيضا ً على سيي ّنا التي قالت على الفور" :أليس المتحف هو مالك القناع؟".
هزت مارتا رأسها نافية ،وأعادت نظرها إلى الشاشة" .عرض أحد األثرياء شراء قناع دانتي من مجموعتنا، ّ
وتركه معروضا ً هنا دائماً .وبما أنّه عرض ثروة صغيرة لقاء ذلك ،قبلنا بسرور".
قالت سيينّا" :لحظة واحدة ،دفع ثمن القناع ...وسمح لكم باالحتفاظ به؟".
قالت مارتا" :كان الواهب رجقاً غير عادي؛ تلميذاً حقيقيا ً لدانتي ،غير أنّه ...إلى حدّ ما ...فاناتيكو" .متع ّ
صب؟
بالنسبة إلى النغدون ،كان االسم مألوفا ً على نحو بعيدّ ،
لكن سيينّا أمسكت بذراع النغدون وشدّت عليها ّ
بقوة،
وبدت كما لو أنّها رأت شبحاً.
قالت بتردّد وقد شحب وجهها" :آه ،أجل ...بيرتراند زوبريست ،الكيميائي الحيوي الشهير الذي جنى ثروة كبيرة
سن مبكرة" .صمتت هنيهة البتقاع لعابها ،ث ّم مالت باتّجاه النغدون وهمست في
من االختراعات البيولوجية في ّ
أذنه" :زوبريست هو من اخترع مجال التقاعب بالسقاالت الجرثومية".
لم يكن النغدون يملك أدنى فكرة عن معنى ذلكّ ،
لكن العبارة تنذر بالشؤم ،ال سيّما في ضوء موجة الصور
ّ ّ
المنطوية على األوبئة والموت التي تقاحقه .تساءل ع ّما إذا كانت سيينا تعرف هذا القدر عن زوبريست ألنها على
ا ّ
طقاع واسع في مجال الطبّ ...أو ألنّهما كانا طفلين معجزة .هل يتابع العلماء أعمال بعضهم بعضاً؟
"المعذرة؟".
بأن عدد س ّكان العالم يرتفع ،والناس يعيشون لمدّة أطول ،وثرواتنا الطبيعية
"في األساس ،هذا اعتراف رياضي ّ
مروع .كان زوبريست ّ نحو على معالمجت انهيار إلى سوى ّي د يؤ لن الحالي تتضاءل .وتتوقّع المعادلة ّ
أن الوضع
يتعرض لحدث ما يؤدي إلى موت جماعي" .تن ّهدت ً
أن الجنس البشري لن يعيش قرنا آخر ...ما لم ّ قد توقّع علنا ً ّ
إنسيينّا بتعب ،ونظرت إلى عيني النغدون مضيفة" .في الواقع ،نُقل عن زوبريست قوله في إحدى المرات ّ
أفضل ما حدث ألوروبا هو الموت األسود".
واقشعر جسده وهو يتذ ّكر مجدّدا ً صورة قناع الطاعون .كان يحاول منذ الصباح أن
ّ حدّق إليها النغدون مصدوماً،
يقاوم فكرة ّ
أن مأزقه الحالي مرتبط بوباء قاتل ...لكن مع الوقت ،يصعب عليه رفض هذه الفكرة.
ال شكّ أنّه من المنفر أن يقوم بيرتراند زوبريست بوصف الطاعون األسود بأنّه أفضل ما حدث ألوروباّ .
لكن
المؤرخين ذكروا المنافع االجتماعية واالقتصادية طويلة األمد للموت الجماعي الذي
ّ النغدون يعرف ّ
أن الكثير من
شهدته أوروبا في القرن الرابع عشر .فقبل الطاعون ،كان االكتظاظ الس ّكاني والمجاعة واألزمة االقتصادية هي
لكن االنتشار المفاجئ للطاعون -ومع أنّه كان مريعا ً -كان ف ّعاالً في خفض
الصفات التي ميّزت عصر الظلماتّ .
األولي ّ
المؤرخين ،شكل ذلك العام َل ّّ ً
أعداد الس ّكان ،وإيجاد وفرة من الغذاء والفرص .واستنادا إلى الكثير من
لمجيء عصر النهضة.
عندما تذ ّكر النغدون رمز الخطر البيولوجي على األنبوب الذي احتوى على الخارطة المعدّلة لجحيم دانتي،
أن المسقاط الصغير صنعه شخص ما ...وبيرتراند زوبريست ،الكيميائي الحيوي سرت رعدة في جسده :إذ ال بدّ ّ
شحا ً منطقياً.
صب لدانتي ،يبدو اآلن مر ّ والمتع ّ
"سرع هذا الجزء" ،وبدت متل ّهفة لتجاوز القسم الذي يتف ّحص فيه النغدون وإغناتسيو
ّ أمرت مارتا الحارس قائلة:
بوزوني القناع لمعرفة من اقتحم المتحف وسرقه.
على الشاشة ،بدت مارتا واقفة خلف الرجلين وهي تنقل ثقلها من ِّرجل إلى أخرى على نحو متسارع ،وتتف ّحص
ساعتها تكراراً.
فجأة ،اختفت مارتا عن الشاشة ،فأبطأ الحارس الفيديو إلى السرعة الطبيعية.
قالت مارتا" :ال بأس .أذكر أنّني ذهبت إلى الح ّمام".
هز الحارس رأسه ومدّ يده مجدّداً لتسريع الشريط ،لكن قبل أن يفعل ،أمسكت مارتا بذراعه" .توقّ ْ
ف!". ّ
كان النغدون قد رأى ذلك أيضاً .ما الذي يجري حباً باهلل؟!
بدا النغدون على الشاشة وهو يمدّ يده إلى جيب سترة التويد ويُخرج زوجا ً من القفّازات الطبّية ،ويرتديهما.
صدرت عن مارتا ألفاريز شهقة رعب ،قبل أن تضع يديها على وجهها.
لم يكن النغدون يق ّل عنها رعبا ً وهو يشاهد نفسه يمدّ يديه إلى الخزانة ،ويمسك بقناع دانتي ويخرجه.
صاحت مارتا" :ديو مي سالفي!" .ث ّم نهضت على قدميها واستدارت لمواجهة النغدون" .كوزا فاتو؟ بيركي؟".
ماذا فعلت؟ لماذا؟
قبل أن يتم ّكن النغدون من اإلجابة ،أخرج أحد الحارسين بيريتا أسود وسدّده مباشرة إلى صدر النغدون.
ربّاه!
أصر النغدون ،وهو يدعو لكي يكون ما يقوله صحيحاً" :أخرجته للحظة واحدة فقط ،إغناتسيو أ ّكد لي أنّك لن
ّ
تمانعي!".
لم تجبه مارتا .بدت مذهولة ،وهي تحاول بوضوح أن تتخيّل السبب الذي دفع النغدون ليكذب عليها ...وكيف
تم ّكن من الوقوف قربهم بهدوء ومشاهدة الشريط وهو يعلم بما يحتويه.
همست سيينّا" :روبرت ،انظر! لقد وجدتَ شيئاً!" .ظ ّل انتباه سيينّا مر ّكزا ً على الفيديو؛ محاولة إيجاد أجوبة على
الرغم من تلك الورطة.
على الشاشة ،كان النغدون اآلن يحمل القناع ويو ّجهه نحو الضوء ،وبدا اهتمامه منجذبا ً لشيء في الجهة الخلفية
للتحفة.
من تلك الزاوية للكاميرا ،وللحظة خاطفة ،حجب القناع المرفوع وجه النغدون جزئيا ً على نحو أصبحت فيه عينا
وأحس
ّ ال عبر عيون الموت، القناع على خ ّ
ط واحد مع عيني النغدون .تذ ّكر عبارة ال يمكن لمح الحقيقة إ ّ
بقشعريرة.
لم يكن النغدون يملك أدنى فكرة ع ّما كان ينظر إليه في الجهة الخلفية للقناع .لكن في تلك اللحظة ،عندما أخبر
مرة تلو األخرى .وبدأ يهزّ
ظارته وينظر إلى القناع ّ إغناتسيو بما اكتشفه ،فوجئ الرجل البدين ،وراح يبحث عن ن ّ
بقوة ويذرع الغرفة ذهابا ً وإيابا ً في حالة من التوتّر.
رأسه ّ
فجأة ،نظر الرجقان إلى األعلى لدى سماعهما على األرجح صوتا ً في الرواق ،ال بدّ أنّه كان صوت مارتا العائدة
من الح ّمام .فأسرع النغدون وأخرج من جيبه كيسا ً كبيرا ً وضع فيه قناع الموت قبل أن يعطيه إلغناتسيو الذي
وضعه -بتردّد واضح -داخل حقيبته .سارع النغدون إلى إغقاق باب الخزانة األثرية الفارغة ،ث ّم خرج الرجقان
إلى الردهة لمقاقاة مارتا قبل أن تكتشف فعلتهما.
ترنّحت مارتا واستندت إلى الطاولة وهي تقول بحدّة" :ال أفهم! أنت وإغناتسيو بوزوني سرقتما قناع دانتي!".
قال النغدون محاوالً االرتجال قدر اإلمكان" :كقاّ .لدينا إذن من المالك بإخراج القناع من المبنى لليلة واحدة".
"أجل ،لقد وافق السيّد زوبريست على السماح لنا بفحص بعض العقامات على الجهة الخلفية للقناع! اجتمعنا به
عصر أمس!".
راحت عينا مارتا تقدحان شرراً" .بروفيسور ،أنا واثقة تماما ً أنّكما لم تجتمعا ببيرتراند زوبريست عصر أمس".
وضعت سيينّا يدها على ذراع النغدون وهي تتن ّهد قائلة" :روبرت ...منذ ستّة أيّام ،ألقى بيرتراند زوبريست بنفسه
من أعلى برج باديا ،على بعد مسافة قصيرة من هذا المكان".
الفصل 42
دراجتها النارية شمال قصر فيكيو ودارت حول ساحة بياتزا ديقاّ سينيوريا سيراً على
كانت فايينثا قد تركت ّ
األقدام .وفي أثناء مرورها بين تماثيل لودجا داي النتسي المعروضة في الهواء الطلق ،لم تتم ّكن سوى من
أن جميع التماثيل ذات موضوع واحد :عرض عنيف لهيمنة الرجل على المرأة. مقاحظة ّ
اختطاف السابينيات.
اختطاف بوليكسينا.
أن سقاحها مخبّأ ،ث ّم تو ّجهت عبر المدخل .تبعت اإلشارات المتّجهة أحكمت إغقاق سترتها حول عنقها ،وتأ ّكدت ّ
ومرت عبر قاعتين مزخرفتين قبل أن ترتقي درجا ً كبيرا ً يؤدّي إلى الطابق الثاني.إلى متحف القصرّ ،
ال شكّ ّ
أن النغدون هنا.
قادت اإلشارات المؤدّية إلى المتحف فايينثا إلى صالة ضخمة مزخرفة هي قاعة الخمسمائة ،التي ّ
توزع فيها
السيّاح متأ ّملين اللوحات الجدارية الهائلة المرسومة على الجدران .لم تكن فايينثا مهت ّمة بتأ ّمل الفنون الموجودة في
هذا المكان ،بل بحثت عن إشارة أخرى تشير إلى المتحف ،ووجدتها عند أقصى الزاوية اليمنى للغرفة ،وكانت
تشير إلى الدّرج.
وفيما كانت تعبر القاعة ،رأت مجموعة من طقاّب الجامعة متجمهرين حول منحوتة واحدة ،وهم يضحكون
ويلتقطون الصور .وقرأت على اللوحة :هرقل وديوميديس.
تصور بطلَي األساطير اليونانية ،كقاهما عاريان ،ويخوضان مباراة مصارعة .كان هرقل يحمل ّ كانت المنحوتة
ديوميديس رأسا ً على عقب مستعدًّا إللقائه أرضاً ،في حين بدا ديوميديس وكأنّه يقول" :هل أنت واثق أنّك ترغب
في رميي؟".
أبعدت عينيها عن التمثال الغريب ،وراحت تصعد الدّرج بسرعة متّجهة إلى المتحف.
وصلت إلى شرفة عالية تط ّل على القاعة ،ورأت هناك عددا ً من السيّاح الذين ينتظرون أمام مدخل المتحف.
قال لها أحد السيّاح بمرح وهو يط ّل من خلف كاميرا الفيديو" :تأ ّخر فتح القاعة".
ف ّكرت فايينثا ،إ ّنه قادم ألخذ إفادة .أشارت مشية الرجل الهادئة إلى أنّه يأتي استجابة التّصال روتيني ،وال يشبه
على اإلطقاق أولئك الرجال الذين يبحثون عن النغدون عند بورتا رومانا.
أن الشرطة المحلّية وبرودر لم يدركوا ذلك إ ّما أن تكون فايينثا قد أخطأت في ظنّها ّ
أن النغدون في القصر ،أو ّ
بعد.
وصل الشرطي إلى أعلى الدّرج ،وتقدّم نحو مدخل المتحف ،فاستدارت فايينثا وتظاهرت أ ّنها تنظر من إحدى
النوافذ .فنظرا ً إلى ما جرى معها وإلى طول ذراع العميد ،حاولت أن تتجنّب أ ّ
ي مخاطرة.
راح قلب فايينثا ينبض بعنف عندما توقّف الضابط خلفها مباشرة .أدركت ّ
أن الصوت صادر من جهازه القاسلكي.
في تلك اللحظة ،لمحت من النافذة شيئا ً أسود يكبر حجمه في السماء .كان يطير باتّجاه قصر فيكيو آتيا ً من حدائق
بوبولي.
أدركت فايينثا أنّها طائرة المراقبة .برودر يعرف ،وهو آت إلى هنا.
كان منسّق الكونسورتيوم ،الورنس نولتون ،ما زال يلوم نفسه على اتصاله بالعميد .أدرك أنّه لم يكن يجدر به أن
يقترح عليه مشاهدة فيلم الزبون قبل تحميله إلى وسائل اإلعقام غداً.
المحتوى ال يه ّمنا.
البروتوكول هو المرجع.
ّ
المنظمة .ال تسأل ،بل ن ّفذ ما زال نولتون يتذ ّكر الشعار الذي يعلّمونه للتقنيين الشباب عندما يبدأون بالعمل في
وحسب.
وضع على مضض بطاقة الصقة حمراء لتذكيره بتلك المه ّمة في الصباح الباكر ،وتساءل ع ّما ستفعله وسائل
اإلعقام بتلك الرسالة الغريبة .هل ستعرضها أساساً؟
لم يكن زوبريست شخصية ناجحة جدًّا في عالم الطبّ البيولوجي فحسب ،بل ذاع صيته مؤ ّخرا ً أيضا ً نتيجة إقدامه
على االنتحار في األسبوع الفائت .وهذا الشريط الذي يستغرق عرضه تسع دقائق سيبدو وكأنّه رسالة من القبر.
ونظرا ً إلى درجة تشاؤمه ،سيستحيل تقريبا ً على الناس إيقافه.
سينتشر هذا الشريط كالنار في الهشيم بعد دقائق من إطقاقه.
الفصل 43
خرجت مارتا ألفاريز من غرفة المراقبة المزدحمة غاضبة ،وتركت النغدون وشقيقته الف ّ
ظة تحت تهديد السقاح.
اقتربت من إحدى النوافذ ،وحدّقت إلى بياتزا ديقاّ سينيوريا ،فشعرت باالرتياح لدى رؤيتها سيّارة شرطة مركونة
أمام القصر.
لم تفهم مارتا لماذا يقوم رجل محترم في مهنته مثل روبرت النغدون بخداعها على هذا النحو الصارخ ،واستغقال
اللباقة المهنية التي تحلّت بها لسرقة تحفة أثرية ال تقدّر بثمن.
أرادت أن تُسمع إغناتسيو رأيها بفعلتهما بصراحة ،فتناولت هاتفها الخلوي واتصلت بمكتب إيل دوومينو الذي
كان يبعد مسافة قصيرة عن موزيو ديل أوبرا ديل دوومو.
كانت مارتا ودودا ً مع سكرتيرة إغناتسيو ،لكنّها اليوم ليست في مزاج مناسب لتبادل الحديث" :أوجينيا ،أنا مارتا.
أريد التحدّث مع إغناتسيو".
ح ّل صمت غريب في الطرف اآلخر ،ث ّم بدأت السكرتيرة فجأة تبكي بشكل هستيري.
للتو على
قالت لها مارتا" :أوجينيا ،اهدئي" .وحاولت أن تحافظ على هدوئها وهي تشرح لها بسرعة ما شاهدته ّ
تسجيل كاميرات المراقبة العائدة للقصر :سرقة قناع دانتي على يد إغناتسيو وروبرت النغدون المحتجز اآلن
تحت تهديد السقاح.
لم تعرف مارتا ما هو ردّ الفعل الذي توقّعته من أوجينيا ،لكنّها بالتأكيد لم تتوقّع ما سمعته.
سمع النغدون عبر الباب المفتوح هدير طائرة المراقبة اآلتي من بعيد ،مصحوبا ً بعويل صفّارات اإلنذار المقتربة.
لقد عثروا علينا .قالت مارتا للحارسين" :وصلت الشرطة" .وأرسلت أحدهما لمرافقة السلطات إلى المتحف .فيما
بقي اآلخر حامقاً سقاحه المو ّجه إلى النغدون.
فوجئ النغدون بمارتا تقول له بدهشة" :ث ّمة من يريد التحدّث معك .لكن عليك الوقوف هناك اللتقاط الشبكة".
خرجت المجموعة من غرفة المراقبة الضيّقة إلى القاعة المغمورة بأش ّعة الشمس المتسلّلة من النوافذ الكبيرة
أن النغدون ما زال تحت تهديد السقاح ،إالّ أنّهالمطلّة على مشهد رائع لبياتزا ديقاّ سينيوريا في األسفل .ومع ّ
شعر باالرتياح لخروجه من تلك الغرفة الضيّقة.
تناوله النغدون بتردّد ،ووضعه على أذنه" .نعم؟ أنا روبرت النغدون".
قالت المرأة في محاولة للتكلّم باإلنكليزية" :سينيوري ،أنا أوجينيا أنتونوتشي ،سكرتيرة إغناتسيو بوزوني .التقينا
ليلة أمس عندما أتيتَ إلى مكتبه".
بدأت المرأة تنتحب وهي تتحدّث بصوت مليء بالحزن" .اتصل بي إغناتسيو قبل أن يموت .لقد ترك لي رسالة
وطلب منّي إسماعك إيّاها .سأشغّلها لك".
سمع النغدون حفيفاً ،وبعد لحظات ،بلغ مسمعه تسجيل صوتي ضعيف إلغناتسيو بوزوني.
قال الرجل الذي بدا بوضوح أنّه يتألّم" :أوجينيا ،احرصي أرجوك على إسماع النغدون هذه الرسالة .أنا في
يئن ألماً ،وح ّل صمت طويل .وعندما تحدّث أظن أنّني سأتم ّكن من العودة إلى المكتب" .أخذ إغناتسيو ّ
ورطة ،وال ّ
مجدّداً ،كان صوته أكثر ضعفا" .روبرت ،أتمنى أن تكون قد فررت .ما زالوا يقاحقونني ...وأنا ...أنا لست بخير.
ّ ً
أن إيل دوومينو يستجمع ما تب ّقى له من طاقة،أحاول الوصول إلى طبيب ،لكن "...ح ّل صمت طويل آخر ،كما لو ّ
ي جيّداً .ما تبحث عنه بأمان .األبواب مفتوحة أمامك ،لكن عليك أن تسرع. قبل أن يتابع قائقاً" :روبرت ،أصغِّ إل ّ
الجنّة خمس وعشرون" .صمت مجدّداً ث ّم همس" :بالتوفيق".
ث ّم انتهت الرسالة.
"أجل ،بعضه".
بفوهة المسدّس تضغط على جانبه ،فالتفت ليرى الحارس المسلّح على بعد بضعة إنشات يرفع يده
شعر النغدون ّ
األخرى مطالبا ً بهاتف مارتا.
أعطى النغدون الحارس الهاتف ،ث ّم قال لسيينّا" :لقد توفّي إغناتسيو بوزوني بسكتة قلبية في الليلة الماضية بعد
وأظن أنّه ترك لي
ّ مغادرته هذا المتحف" .صمت قليقاً ث ّم أضاف" :القناع بأمان ،فقد خبّأه إغناتسيو قبل أن يموت.
فكرة عن مكانه" .الج ّنة .61
ومض األمل في عيني سيينّا .لكن ،عندما التفت النغدون إلى مارتا بدت متش ّككة.
قال النغدون" :مارتا ،يمكنني أن أعيد إليك قناع دانتي ،لكن عليك أن تتركيني أخرج من هنا فوراً".
ضحكت مارتا بصوت عا ٍل" .لن أفعل شيئا ً كهذا! أنت من سرق القناع! والشرطة على وشك الوصول ."-
قاطعتها سيينّا قائلة باإليطالية بصوت عا ٍل" :سينيورا ألفاريز ،نحن آسفان ،لكنّنا لم نكن صادقَين معك".
ظهرت الدهشة على وجه مارتا أيضاً ،مع أنّها بدت ناتجة عن اكتشافها ّ
أن سيينّا أصبحت تتحدّث فجأة بلغة
إيطالية سليمة.
تابعت سيينّا بإيطالية سلسة" :أنا آسفة .لقد كذبنا عليك بشأن أمور كثيرة".
بدا الحارس حائرا ً بقدر ما بدت مارتا؛ مع أنّه ظ ّل ثابتا ً على موقفه.
أخذت سيينّا تتكلّم اآلن بسرعة ،باإليطالية ،وأخبرت مارتا أنّها تعمل في مستشفى في فلورنساّ ،
وأن النغدون
ً وصل في الليلة الماضية مصابا ً بعيار ناري في الرأس ،وشرحت لها كيف ّ
أن النغدون ال يذكر شيئا عن األحداث
التي جلبته إلى هنا ،وأنّه فوجئ بشريط الفيديو مثل مارتا تماماً.
عندما رأت مارتا القطب تحت شعر النغدون المش ّعث ،جلست على حافة النافذة وأحاطت وجهها بيديها لعدّة ثوان.
سرق خقال وجودها في المتحف .ليس هذا فحسب، خقال الدقائق العشر األخيرة ،اكتشفت مارتا ّ
أن قناع دانتي قد ُ
صين هما بروفيسور أميركي محترم وزميلها الفلورنسي الذي تثق به ،والذي أصبح اآلن بل عرفت أيضا ً ّ
أن الل َّ
إن الشابّة سيينّا بروكس التي ظنّتها شقيقة روبرت النغدون األميركية
في عداد األموات .باإلضافة إلى ك ّل ذلكّ ،
ذات العينين الكبيرتين ،هي في الواقع طبيبة ،وتعترف بالكذب ...وتقوم بذلك بلغة إيطالية فصيحة.
قال النغدون بصوته العميق والمتف ّهم" :سأعيد إليك القناع ،أنا أعدك .لكن ،ال يمكنني فعل ذلك ما لم تسمحي لنا
بالخروج .الوضع معقّد ،وعليك أن تخلي سبيلنا حاالً".
أن مارتا كانت تريد استعادة القناع الثمين ،إالّ أنّها لم تكن تنوي السماح ألحد بالذهاب .أين الشرطة؟! نظرت مع ّ
أن رجال الشرطة لم يصلوا إلى المتحف إلى سيّارة الشرطة الوحيدة المتوقّفة في بياتزا ديقاّ سينيوريا .يبدو غريبا ً ّ
أن أحدا ً ما يستخدم منشارا ً كهربائياً ،والصوت يزداد
بعد .سمعت مارتا أيضا ً أزيزا ً غريبا ً من بعيد؛ كما لو ّ
ارتفاعاً.
ما هذا؟
سقاً" :مارتا ،أنت تعرفين إغناتسيو .ما كان ليخرج القناع من دون سبب وجيه .ث ّمةتابع النغدون كقامه متو ّ
متورط بشيء رهيب .والّ ّ ّ
مستقر .نظن أنه
ّ ً
صورة أكبر هنا .فمالك القناع بيرتراند زوبريست كان رجقا غير
وقت لشرح ك ّل ذلك ،لكنّني أتوسّل إليك أن تثقي بنا".
حدّقت إليه مارتا بصمت .فك ّل ذلك بدا بالنسبة إليها بقا أ ّ
ي معنى.
قالت سيينّا وهي تسلّط على مارتا نظرة باردة" .سيّدة ألفاريز ،إن كنت تهت ّمين بمستقبلك ومستقبل طفلك ،فعليك
أن تسمحي لنا بالخروج حاالً".
ازداد األزيز العالي قرباً ،وعندما أطلّت مارتا من النافذة ،لم تستطع رؤية مصدر الصوت ،لكنّها رأت شيئا ً آخر.
لصف طويل من سيّارات الشرطة التي ّ في بياتزا ديقاّ سينيوريا ،افترقت الحشود إلى الجانبين مفسحة الطريق
وصلت من دون صفّارات إنذار ،تقودها سيّارتا فان سوداوان توقّفتا خارج أبواب القصر .ث ّم قفز منها جنود بالز ّ
ي
األسود ،وهُرعوا إلى القصر حاملين بنادق كبيرة.
شعرت مارتا بالخوف .ما الذي يجري؟!
فجأة ،ارتفع األزيز ،وتراجعت مارتا فجأة عندما لمحت طائرة هيليكوبتر صغيرة ترتفع بمستوى النافذة.
الجو على بعد ال يزيد عن عشر ياردات ،وكأنّها تحدّق إلى األشخاص الموجودين في القاعة.
حامت اآللة في ّ
مزودة بأسطوانة طويلة سوداء في المقدّمة. ً
كانت عبارة عن آلة صغيرة ،ال يتجاوز طولها ياردة واحدة تقريباّ ،
موجهة إليهم مباشرة.
ّ وكانت األسطوانة
أتيرا!" .ركعت تحت حاجب النافذة، صاحت سيينّا" :ستطلق النار! ستا بير سباراري! انبطحوا جميعاً! تو ّتي ّ
وصوب سقاحه تلقائيا ً نحو اآللة
ّ وحذت مارتا حذوها تلقائيا ً بعد أن استبدّ بها الخوف .ركع الحارس أيضاً،
الصغيرة.
أن النغدون ما زال واقفا ً ويحدّق إلى سيينّا باستغراب ،ومن الواضح أنّه ال
رأت مارتا من مكانها تحت النافذة ّ
لمجرد لحظة ،قبل أن تقفز واقفة مجدّداً ،وتمسك النغدون من معصمه، ّ ي خطر .انخفضت سيينّا يصدّق وجود أ ّ
ّ ً
وتشدّه نحو الردهة .وبعد لحظة ،كانا يهربان معا باتجاه المدخل الرئيس للمبنى.
استدار الحارس على ركبتيه مثل قنّاص ،ورفع سقاحه باتّجاه الردهة مستهدفا ً الثنائ ّ
ي الهارب.
قالت سيينّا" :أسرعْ!" .واندفعت مع النغدون نحو الطريق الذي أتيا منه .كانت تأمل أن يتم ّكنا من الوصول إلى
أن فرصتهما معدومة.المدخل قبل أن يجدا نفسيهما وجها ً لوجه مع الشرطة .لكنّها أدركت ّ
ساورت النغدون شكوك مشابهة .فجأة ،توقّف عند تقاطع واسع من األروقة وقال" :لن نتم ّكن من الهرب من هذا
الطريق".
ممر قصير ينتهي كما يبدو عند غرفة صغيرة خافتةبدا النغدون شاردا ً وهو ينظر إلى اليسار؛ حيث امتدّ ّ
مكسوة بالخرائط القديمة ،وفي وسطها ُوضعت كرة أرضية حديدية ضخمة .نظر ّ اإلضاءة .كانت جدران الغرفة
بقوة أكبر. ّ
النغدون إلى الكرة المعدنية ،وبدأ يهز رأسه ببطء ،ومن ث ّم ّ
"ماذا؟!".
تهيمن على المجموعة الهائلة من الخرائط كرة أرضية ضخمة تحت ّل وسط الغرفة .هذه الكرة المعروفة باسم مابّا
تتحرك
ّ دوارة في العالم في أيّامها ،ويقال إنّها
موندي ،والتي يبلغ طولها ستّ أقدام ،كانت أكبر كرة أرضية ّ
طة أخيرة للسيّاح الذين يزورون قاعات القصربمجرد لمسها .اليوم ،تش ّكل هذه الكرة األرضية مح ّ
ّ بسقاسة
وغرفه ،ويصلون إلى هذه الغرفة ،ليدوروا فيها حول العالم ث ّم يعودوا أدراجهم من حيث أتوا.
وصل النغدون وسيينّا الهثَين إلى قاعة الخرائط .ارتفعت أمامهما مابّا موندي على نحو مهيبّ ،
لكن النغدون لم
ي انتباه ،بل ر ّكز نظره على جدران الغرفة.يعرها أ ّ
أن طلبه لم يفاجئ سيينّا التي أسرعت تبحث عن خارطة أرمينيا على الجدار األيمن في الغرفة.
من الواضح ّ
وبدأ النغدون على الفور بحثا ً مشابها ً على الجدار األيسر ،وهو ّ
يشق طريقه حول الغرفة.
أين أرمينيا؟
السرية" التي قام بها هنا قبل بضع سنوات ضبابية مقارنة
ّ الممرات
ّ كانت ذكريات النغدون عن "الجولة في
بذكرياته التخيّلية الحيّة عادة .ويرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى الكأس الثانية من شراب غاجا نيبيولو الذي تناوله على
أن كلمة نيبيولو تعني "الضباب الخفيف" .مع ذلك ،ما زال الغداء قبل القيام بالجولة .والمضحك في األمرّ ،
صية فريدة.
اطلع على خارطة في هذه الغرفة هي خارطة أرمينيا ،وكانت تمتاز بخا ّ النغدون يذكر أنّه ّ
ف ّكر النغدون ،أعرف أنّها هنا ،وتابع بحثه في مجموعة الخرائط التي ال تنتهي.
التفت النغدون نحوها ،وكانت تقف في الزاوية اليمنى للغرفة .فاندفع نحوها ،بينما وقفت سيينّا جانبا ً مشيرة إلى
خارطة أرمينيا بتعبير بدا وكأنّه يقول" :وجدنا أرمينيا ،فماذا بعد؟".
لم يكن النغدون يملك الوقت للتفسير .وعوضا ً عن ذلك ،مدّ يديه وأمسك بإطار الخارطة الخشبي الضخم ،ث ّم شدّه
نحوه .فانفصلت الخارطة عن الجدار بأكملها وفُتحت مثل باب في الغرفة ،ومعها جزء كبير من الجدار واإلطار
ي.
ممر خف ّ
الخشبي ،لتكشف خلفها عن ّ
ومن دون تردّد ،اندفعت سيينّا عبر الفتحة ،ودخلت بقا خوف ذلك المكان المظلم .تبعها النغدون ،ث ّم سارع إلى
ي خلفهما.
إغقاق الباب الجدار ّ
الممر بوضوح.
ّ الممرات الخلفية ،إال أنّه كان يذكر هذا
ّ على الرغم من ذكريات النغدون الضبابية عن الجولة في
ي ،وهو عالم غير مرئي ،موجود خلف جدران قصر فيكيو ،ال يدخله سوى لقد دخل هو وسيينّا ّ
للتو القصر الخف ّ
ومقربيه.
ّ الدوق الحاكم
قال النغدون" :لن تعيقهم لمدّة طويلة ،لكنّنا لن نحتاج إلى أكثر من ذلك .اتبعيني".
عندما فُتحت خارطة أرمينيا أخيراً ،اندفع العميل برودر ورجاله عبر ا ّ
لممر الضيّق ،متو ّجهين إلى الباب الخشبي
الممر .وعندما عبروه ،شعر برودر بهبّة من الهواء البارد ،كما أعماه ضوء الشمس
ّ عند الطرف اآلخر من
الساطع للحظات.
كان قد وصل إلى ممشى خارجي يمتدّ على طول سطح القصر .تأ ّمل الطريق المؤدّي مباشرة إلى باب آخر يبعد
حوالى خمسين ياردة ،ويؤدّي مجدّدا ً إلى داخل المبنى.
نظر برودر إلى يسار الممشى .هناك ،ارتفع سقف قاعة الخمسمائة المقبّب مثل جبل .يستحيل المرور .التفت
الممر محاط بجرف شاهق .الموت المح ّتم.
ّ برودر اآلن إلى اليمين ،ورأى ّ
أن
اندفع برودر ورجاله عبر الممشى باتّجاه الباب الثاني ،في حين راحت طائرة المراقبة تحوم كالنسر فوق
الرؤوس.
عندما دخل برودر ورجاله عبر الباب ،توقّفوا فجأة ،وأوشكوا على السقوط فوق بعضهم.
وجدوا أنفسهم في حجرة صغيرة ال مخرج لها باستثناء الباب الذي دخلوا منه .وكان فيها مكتب خشبي وحيد
موضوع أمام الجدار .فوقهم ،بدت الرسومات الغريبة المرسومة على سقف الحجرة كما لو أنّها تحدّق إليهم
ساخرة.
ي نوافذ خفيّة .ثم اقترب وقرأ القافتة بنفسه. نظر برودر حوله لكنّه لم َ
ير أ ّ
اقترب وتف ّحص الفتحة التي بدت صغيرة جدًّا وال تسمح بمرور شخص بحجم النغدون .ضغط برودر وجهه على
ي شخص الهرب من هنا .فمن الجهة األخرى ،لم يكن ث ّمة شيء الشبَك وحدّق عبره ،وتأ ّكد بنفسه أنّه ال يمكن أل ّ
سوى الفراغ الذي يهبط عدّة طوابق وصوالً إلى قاعة الخمسمائة.
المكسوة
ّ وفي األسفل ،في قاعة الخمسمائة ،التفت السيّاح وعناصر الشرطة وحدّقوا جميعا ً إلى الفتحة الصغيرة
السري يُستخدم اآلن
ّ أن مكتب الدوقة المخرم في أعلى الجدار .يبدو من الصوت الصادر من األعلى ّ
ّ بالشبك
متوحش.
ّ لحيوان كقفص
الممر.
ّ لكن سيينّا فوجئت بقانغدون يتو ّجه إلى السلّم الذي عُلّقت فوقه الفتة أوشيتا فييتاتا ،عوضا ً عن التقدّم عبر
ّ
همست محتارة" :روبرت ،القافتة تقول إنّه ال مخرج من هنا! ظننت أنّنا نريد النزول إلى األسفل!".
قال النغدون وهو ينظر إلى الخلف من فوق كتفه" :صحيح .لكن ،أحيانا ً عليك الصعود إلى األعلى ...لكي تنزلي
إلى األسفل" .غمزها مش ّجعا ً وأضاف" :أال تذكرين ّ
سرة الشيطان؟".
لم تكن سيينّا تذكر الكثير عن إنفيرنو باستثناء خيبتها إزاء حركات الجاذبية المنافية للعقل عند مركز األرض .إذ
أن عبقرية دانتي ال تتض ّمن فهما ً لفيزياء قوى النواقل.
يبدو ّ
وصقا إلى أعلى السلّم ،وفتح النغدون الباب الوحيد الذي وجده .كان قد ُكتب عليه :ساال داي مودي ّلي دي
أركيتي ّتورا.
كانت الحجرة صغيرة وعادية ،وتحتوي على سلسلة من األطر التي تعرض نماذج خشبية لتصاميم فاساري
الهندسية لداخل القصر .بالكاد الحظت سيينّا النماذج ،ألنّها لم َ
تر سوى شيء واحد ،وهو ّ
أن الغرفة ال تحتوي
على أبواب ،وال على نوافذ؛ كما سبق أن أعلنت القافتة ...ال يوجد مخرج.
همس النغدون" :في أواسط القرن الرابع عشر ،تولّى دوق أثينا السلطة على هذا القصر ،وبنى هذا الطريق
تعرض للهجوم .يس ّمى هذا السلّم سلّم دوق أثينا ،وهو يقود إلى فتحة صغيرة في شارع السري للهرب في حال ّ
ّ
جانبي في األسفل .إن وصلنا إلى هناك ،فلن يرانا أحد ونحن نخرج" .وأشار إلى إحدى الرسومات قائقاً:
"انظري ،هل ترين الباب هنا جانباً؟".
قالت سيينّا ساخرة" :أنا أرى السلّم روبرت ،ولكنّه من الجهة المقابلة للقصر تماماً .لن نتم ّكن أبداً من الوصول إلى
هناك".
تناهى إليهما صوت حطام مفاجئ من األسفل ،فأدركا أنّه ت ّم اختراق خارطة أرمينيا ّ
للتو .وقفا جامدَين وهما
ّ ّ الممر ،والذين لم يف ّكر أ ّ
ي منهم بصعود السلم المتجه إلى األعلى... ّ يصغيان إلى وقع أقدام الجنود المندفعين عبر
والذي يحمل الفتة ُكتب عليها :ال يوجد مخرج.
عندما هدأت األصوات في األسفل ،تو ّجه النغدون بثقة بين المعروضات؛ مباشرة باتّجاه ما بدا أنّه خزانة كبيرة
في الجدار المقابل .كانت الخزانة بمساحة ياردة مربّعة تقريباً ،ومثبّتة على ارتفاع ثقاث أقدام فوق األرض .من
دون تردّد ،أمسك النغدون بالمقبض وفتح الباب.
بدا الباب وكأنّه يفصلهما عن كهف فارغ ...كما لو كان يؤدّي إلى عالم آخر ال يسوده سوى الظقام.
تناول مصباحا ً معلّقا ً على الجدار بجانب الفتحة ،وبعد ذلك تسلّق وعبَ َر الفتحة بخفّة وحيوية مفاجئة ،واختفى في
جحر األرنب.
الفصل 46
سره ،ال سو ّفي ّتا ،الع ّلية األكثر إثارة على وجه األرض.
ف ّكر النغدون في ّ
ما إن وجد موطئ قدم ثابتا ً على سطح أفقي متين ،حتى رفع المصباح وترك أش ّعته تخترق الظقام.
امتدّ أمام ناظريه نفق بدا بقا نهاية ،مؤلّف من شبكة خشبية من المث ّلثات والمستطيقات التي تش ّكل تقاطع األعمدة،
والحزم ،واأللواح ،وغيرها من العناصر البنيوية التي تؤلّف الهيكل غير المرئي لقاعة الخمسمائة.
اآلن ،بعد أن أصبح النغدون داخل العلّية ،فوجئ من مدى الشبه بين هذا ّ
الفن المعماري وذلك المستخدم في بناء
حظائر نيو إنغقاند القديمة.
تسلّقت سيينّا الفتحة أيضاً ،وثبّتت نفسها على العارضة الخشبية قربه ،وبدا عليها الضياع .راح النغدون ّ
يحرك
المصباح إلى األمام في أرجاء المكان إلعطائها فكرة عن هذا المشهد غير المألوف.
الممر الطويل وتحدّث بصوت خافت" .يمتدّ هذا المكان مباشرة فوق قاعة الخمسمائة .إن تم ّكنا
ّ أشار النغدون إلى
من الوصول إلى الطرف اآلخر ،فأنا أعرف كيف نذهب إلى سلّم دوق أثينا".
ألقت سيينّا نظرة متش ّككة إلى متاهة العوارض والدعامات الممتدّة أمامها .كانت الطريقة الوحيدة الجتياز الع ّلية
هي بالقفز بين الدعامات مثل األطفال الذين يقفزون على س ّكة حديد .كانت الدعامات كبيرة ،وك ّل منها تتألّف من
عدد كبير من العوارض الخشبية المجموعة معا ً بواسطة مشابك حديدية عريضة لتش ّكل حزما ً متينة .كانت كبيرة
لكن التحدّي يكمن في المسافة الفاصلة بين الدعامات والتي بما يكفي؛ حيث يستطيع المرء الوقوف عليها متوازنا ًّ .
تفوق قدرتهما على القفز بينها بأمان.
المكسوة بالغبار الممتدّة تحتهما وقالت" :أال يمكننا النزول إلى هناك والسير عليها؟".
ّ أشارت سيينّا إلى المساحة
هذا إن كنت تريدين السقوط عبر إحدى لوحات فاساري في قاعة الخمسمائة.
قال النغدون بهدوء ،لكي ال يخيفها" :في الواقع ،ث ّمة طريقة أفضل" .وبدأ يسير على الدعامة باتّجاه العمود
المركزي للعلّية.
في زيارته السابقة ،وباإلضافة إلى إطقالته عبر نافذة غرفة النماذج الهندسية ،قام باستكشاف العلّية سيراً على
األقدام ،ودخل عبر باب يقع في الطرف اآلخر من العلّية .وحسبما يذكر من تلك الزيارة ،ث ّمة لوح متين يمتدّ على
طول العمود المركزي للعلّية ،ويتيح للسيّاح الوصول إلى سطح كبير وسط هذا المكان للمشاهدة.
لكن ،عندما وصل النغدون إلى وسط الدعامة ،وجد لوحا ً ال يشبه إطقاقا ً ذاك الذي يذكره من جولته.
عوضا ً عن اللوح المتين السياحي ،وجد خليطا ً من األلواح المتصدعة التي تش ّكل زاوية أفقية مع العوارض
الخشبية مؤلّفة ممشى بدائياً ،أقرب ما يكون إلى حبل بهلوان منه إلى جسر.
قال النغدون وهو يرمق األلواح الضيّقة بريبة" :يبدو وكأنّنا نستطيع السير على هذا اللوح".
ّ
هزت سيينّا كتفيها بقا اكتراث" :ليس أسوأ من البندقية في موسم الفيضانات".
أدرك النغدون أنّها محقّة إلى حدّ ما .ففي آخر رحلة قام بها إلى البندقية ،غرقت ساحة سان مارك تحت مياه
بارتفاع قدم ،واض ُ
ط ّر إلى السير من فندق دانييلي إلى البازيليك على األلواح الخشبية الممدودة على قطع من
تعرض حذائه للبلل أسهل بكثير من السقوط عبر تحفة من عصر إن احتمال ّالطوب ودالء مقلوبة .بالطبعّ ،
النهضة ومقاقاته حتفه.
أبعد النغدون الفكرة عن ذهنه ،ومشى على اللوح الضيّق بثقة مزيّفة أمل أن تهدّئ من روع سيينّا إن كانت تخفي
بقوة وهو يمشي على ّأول لوح .عندما اقترب من قلقها .مع ذلك ،وعلى الرغم من شكله الواثق ،كان قلبه ينبض ّ
تقوس اللوح الخشبي بفعل ثقله ،وأصدر صريرا ً مخيفاً ،فمشى بسرعة إلى أن وصل أخيرا إلى الجهة
ً الوسطّ ،
المقابلة وإلى األمان النسبي الذي توفّره الدعامة الثانية.
تن ّهد النغدون ،ث ّم استدار إلنارة طريق سيينّا وتقديم الدعم المعنوي لها الذي قد تحتاج إليه .لكنها كما يبدو لم تكن
سلّط الضوء على اللوح الخشبي ،حتّى عبرته ببراعة مثيرة لإلعجاب .تح ّمل بحاجة إلى شيء من ذلك .فما إن ُ
ثوان.
ٍ اللوح وزن جسدها النحيل بسهولة ،ولحقت به خقال
تش ّجع النغدون واستدار ،ثم اجتاز اللوح التالي .أ ّما سيينّا ،فانتظرت إلى أن وصل إلى الدعامة الثانية وأصبح
قادرا ً على االستدارة إلنارة طريقها ،ث ّم تبعته .وهكذا ،أخذا يتنقّقان بسرعة بإيقاع ثابت؛ شخصان يتنقّقان الواحد
تلو اآلخر على ضوء مصباح واحد .من مكان ما في األسفل ،ارتفع صوت أجهزة القاسلكي التي تستخدمها
الشرطة عبر نسيج السقف الرقيق ،فابتسم النغدون ابتسامة باهتة .إنّنا نحوم فوق قاعة الخمسمائة بخفّة ومن دون
أن يرانا أحد.
أن إغناتسيو لم يشأ على ما يبدو الكشف عن مكان "أجل ...لكنّه استخدم شيفرة لذلك" .وشرح لها النغدون بسرعة ّ
القناع على المجيب اآللي ،ولهذا السبب أعطاه المعلومات بطريقة مشفّرة" .ذكر الجنّة التي أعتقد أنّها إشارة إلى
القسم األخير من الكوميديا اإللهية .قال تحديداً :الجنّة خمس وعشرون".
نظرت إليه سيينّا قائلة" :ال بدّ أنّه يعني النشيد الخامس والعشرين".
قال النغدون" :أوافقك في ذلك" .فالنشيد يعادل الفصل ،وتُستخدم الكلمة بسبب التقليد الذي كان سائداً ،والذي يقوم
على "إنشاد" القصائد الملحمية .تشتمل الكوميديا اإللهية بمجملها على مائة نشيد ،وهي مقسّمة إلى ثقاثة أقسام.
إنفيرنو 70-9
بورتاغوريو 77-9
باراديزو 77-9
تابع النغدون قائقاً" :ث ّمة المزيد .فآخر ما قاله لي إغناتسيو كان :األبواب مفتوحة أمامك ،لكن عليك أن تسرع".
صمت هنيهة ،ونظر إلى سيينّا ث ّم أضاف" :يشير النشيد الخامس والعشرون على األرجح إلى موقع معيّن هنا في
أن لهذا المكان أبواباً".
فلورنسا .ويبدو ّ
"أجل .لهذا السبب علينا قراءة النشيد الخامس والعشرين من الج ّنة" .ث ّم ابتسم لها ابتسامة مليئة باألمل وقال" :هل
يصدف أنّك تعرفين الكوميديا اإللهية بأكملها عن ظهر قلب؟".
نظرت إليه مصدومة وقالت" :أربعة عشر ألف بيت من الشعر اإليطالي القديم الذي قرأته وأنا طفلة!"ّ .
هزت
فمجرد طبيبة".
ّ رأسها مضيفة" :أنت من يملك ذاكرة عجيبة بروفيسور ،أ ّما أنا
مشجعا ً في الظقام؛
ّ واصقا طريقهما بصمت ،واجتازا عددا ً من العوارض الخشبية .أخيراً ،رأى النغدون شكقاً
شة التي يسيران عليها تؤدّي مباشرة إلى سطح أكثر متانة بكثير محاط صة المشاهدة! كانت األلواح اله ّ
من ّ
ّ
صة ،فبإمكانهما متابعة السير على الممشى إلى أن يخرجا من العلية عبر باب يذكر بالدرابزين .إن صعدا إلى المن ّ
النغدون أنّه قريب جدًّا من سلّم دوق أثينا.
صة ،نظر النغدون إلى السقف المعلّق تحتهما بثماني أقدام .حتّى هذه اللحظة ،كانت ك ّل
مع اقترابهما من المن ّ
أن اللوحة اآلتية كانت أكبر بكثير من اللوحات األخرى. اللوحات المعلّقة تحتهما متساوية المساحة .غير ّ
األول.
قال النغدون لنفسه :تمجيد كوزيمو ّ
كانت هذه اللوحة الدائرية الكبيرة أه ّم لوحات فاساري ،وهي اللوحة المركزية في قاعة الخمسمائة بأكملها .غالبا ً
ما كان النغدون يعرض صوراً لهذا العمل على طقاّبه ،ويشير إلى أوجه الشبه بينها وبين لوحة تمجيد واشنطن
مجرد مفهوم
ّ في مبنى الكابيتول األميركي ،التي تذ ّكر ّ
أن أميركا الوليدة قد اقتبست عن إيطاليا أكثر بكثير من
الجمهورية.
لكن اليوم ،كان النغدون مهت ًّما باجتياز اللوحة أكثر من اهتمامه بدراستها .وبينما كان يسرع ،التفت قليقاً ليهمس
لسيينّا أ ّنهما على وشك الوصول.
عندئذ ،زلّت قدمه اليمنى عن وسط اللوح الخشبي ،وح ّ
ط نصف حذائه المستعار على حافّة اللوح ،فالتوى كاحله،
وترنّح إلى األمام متعثّراً ،وحاول أن يستعيد توازنه بسرعة.
ّ
لكن األوان كان قد فات.
بقوة ،وامتدّت يداه إلى األمام في محاولة للوصول إلى الدعامة المعترضة ،فسقط منفقد ارتطمت ركبتاه باللوح ّ
ط على النسيج الذي أمسك به كالشبك .بالكاد تم ّكن النغدون منيده المصباح الذي هوى في الظقام تحتهما ،وح ّ
طم على بعد ثماني أقدام تحتهما ،على اإلطاردفع نفسه إلى األمام؛ إلى الدعامة التالية ،في حين سقط اللوح وتح ّ
األول.
الخشبي المحيط بلوحة فاساري ،تمجيد كوزيمو ّ
أن سيينّا كانت تقف على الدعامة خلفهفي الضوء الباهت الصادر من المصباح في األسفل ،رأى النغدون ّ
ي وسيلة للعبور .أخبرته عيناها بما يعرفه أساساً .ال شكّ ّ
أن الض ّجة التي أحدثها اللوح محاصرة ،من دون أ ّ
الخشبي قد فضحت أمرهما.
قال الرجل الذي يحمل كاميرا الفيديو ممازحا ً عندما تردّد صدى الصوت في األسفل" :أهي جرذان في العلّية؟".
ف ّكرت فايينثا وهي تنظر إلى اللوحة الدائرية التي تحت ّل وسط السقف ،جرذان كبيرة .تسلّلت غيمة صغيرة من
وكأن شخصا ً ما
ّ الغبار من بين األطر الخشبية ،وكانت فايينثا متأ ّكدة من أنّها رأت انتفاخا ً طفيفا ً في القماش.
يضغط عليه من الجهة األخرى.
صة
قال الرجل وهو يرمق االنتفاخ الذي بدا في اللوحة" :ربّما أوقع أحد عناصر الشرطة مسدّسه من على من ّ
المشاهدة .ع ّم يبحثون برأيك؟ فهذه الحركة مريبة جدًّا".
"بالتأكيد" .وأشار إلى مدخل المتحف مضيفاً" :عند عبور ذلك الباب ،ث ّمة باب يؤدّي إلى ممشى في العلّية .يمكنك
رؤية عمل فاساري لدى وقوفك على الدعائم الخشبية .إنّه ال يصدَّق".
تردّد صوت برودر فجأة في أرجاء قاعة الخمسمائة" .أين هما إذاً؟!".
عادت أنظار فايينثا إلى االنتفاخ الذي بدا في اللوحة الممتدّة فوق رأسها.
شكرت صاحب الكاميرا ،وتو ّجهت بسرعة إلى مدخل المتحف .كان الباب مغلقاً ،لكن بوجود ضبّاط الشرطة
الذين يدخلون ويخرجون ،ف ّكرت أنّه قد ال يكون مقفقاً.
بينما كان يراقب ما يحصل ،أخذ يحكّ عنقه مجدّداً .كان الرجل قد أصيب بطفح جلدي في الليلة الماضية ،وبدا ّ
أن
وضعه يتفاقم مع ظهور بثور صغيرة على ف ّكه ،ورقبته ،وخدّيه ،وجفنيه.
ظف نفسه ،نظر إلى سيّارتي الفان السوداوين المركونتين خارج القصر .كان الفان األقرب يحتوي على بعدما ن ّ
سين على المقعد الخلفي.
شخصين جال َ
أ ّما الثاني فكان امرأة أكبر سنًّا ،لكنّها جميلة جدًّا وذات شعر ف ّ
ضي ،تضع سلسلة حول عنقها تتدلى منها تميمة
على صدرها.
داخل الفان ،أخذت د .إليزابيث سينسكي تنظر بشرود إلى الساحة خارج القصر ،وتتساءل كيف ّ
تأزمت األمور
ووصلت إلى هذا الحدّ.
تتحركي".
ّ ي المرافق لها .كان يمسك بساعدها ويحمل حقنة" .ال
التفتت إلى الجند ّ
ظارة وربطة عنق أنيقة ،في حين وبينما كانت تغمض عينيها ،رأت رجقاً يتف ّحصها من بين الظقال .كان يضع ن ّ
بدا وجهه مليئا ً بالبثور وأحمر اللون .شعرت للحظة أنّها تعرفه ،لكن عندما فتحت عينيها إللقاء نظرة أخرى ،كان
الرجل قد اختفى.
الفصل 48
في ظقام العلّية ،أصبح النغدون وسيينّا منفصلَين عن بعضهما بمسافة عشرين قدما ً من الفراغ .تحتهما بثماني
استقر اللوح على اإلطار الخشبي الذي يثبّت قماش لوحة فاساري .أ ّما المصباح الكبير -الذي ما زال
ّ أقدام،
ً ً ً
مضا ًء -فهبط على اللوحة نفسها ،مسبّبا انخفاضا صغيرا فيها؛ مثل حجر سقط على الشبكة.
همس النغدون" :هل يمكنك سحب اللوح الموجود خلفك لبلوغ هذه الدعامة؟".
نظرت سيينّا إلى اللوح وأجابت" :ليس من دون سقوط الطرف اآلخر على اللوحة".
هذا ما كان النغدون يخشاه .فآخر ما يحتاجان إليه اآلن هو إسقاط لوح خشبي بمقاس اثنين بستّة فوق لوحة
فاساري.
تتحرك جانبيا ً على الدعامة ،متو ّجهة إلى الجدار الجانبي .قام النغدون بالمثل،
ّ ي فكرة" ،وبدأت قالت سيينّا" :لد ّ
في حين أصبحت ك ّل خطوة أكثر خطورة مع ابتعادهما عن ضوء المصباح .عندما وصقا إلى الجدار الجانبي،
غرقا في ظقام تا ّم.
همست سيينّا" :هناك" ،وأشارت إلى الظقام المخيّم تحتهما" .ال بدّ ّ
أن طرف اإلطار مثبّت على الجدار .يجب أن
يتح ّمل وزني".
قبل أن يتم ّكن النغدون من االعتراض ،نزلت سيينّا عن الدعامة ،واستخدمت سلسلة من العوارض الخشبية كسلّم.
هبطت على طرف اإلطار الخشبي فأصدر صريرا ً واحداً ،لكنّه ظ ّل متماسكاً .بعد ذلك ،بدأت تتقدّم ببطء على
طول الجدار ،باتّجاه النغدون ،وكأنّها تسير على حافة مبنى عا ٍل .صدر صرير آخر عن اإلطار.
عندما وصلت سيينّا إلى منتصف الطريق ،واقتربت من الدعامة التي يقف عليها في الظقام ،تجدّد األمل فجأة في
قلب النغدون ،وشعر أ ّنهما قد ينجحان في الخروج من هنا في الوقت المناسب.
صفق باب ،وارتفع وقع خطوات سريعة تقترب على طول فجأة ،وفي مكان ما في الظقام المخيّم أمامهماُ ،
ّ ّ
الممشى .ظهر ضوء مصباح يمسح المكان ،ويقترب مع ك ّل ثانية .عندئذ ،شعر النغدون أن آماله تتحطم .فث ّمة
ت باتّجاههما ،ويسلك الممشى الرئيس ليقطع عليهما طريق الفرار. شخص آ ٍ
استمري بالسير على طول الجدار ،فث ّمة مخرج في الطرف اآلخر .أ ّما أنا
ّ همس تلقائياً" :سيينّا ،تابعي التقدّم.
فسأعترض طريق القادم".
لكن روبرت انطلق عائدا ً أدراجه على الدعامة باتّجاه العمود المركزي للعلّية ،وترك سيينّا في الظقام ،تتقدّم على
ّ
طول الجدار الجانبي ،تحته بثماني أقدام.
أعماه وهج المصباح ،فرفع يديه فورا ً في إشارة استسقام .لم يشعر يوما ً في حياته بضعف أكبر مما شعر به وهو
يحاول التوازن فوق قاعة الخمسمائة ،وقد بهره ضوء ساطع.
انتظر النغدون طلقة رصاص ،أو أمرا ً صارماً ،لكن لم يواجهه سوى الصمت .بعد قليل ،ابتعد الشعاع عن وجهه،
وبدأ باستكشاف الجزء المظلم خلفه ،بحثا ً عن شيء ما ...أو شخص آخر .عندما ابتعد الشعاع عن عينيه ،تم ّكن
ي شكّ في ّ
أن من رؤية الشخص الذي يعترض طريقه .كانت امرأة نحيلة ،ترتدي مقابس سوداء .لم يكن لديه أ ّ
قبّعة البايسبول التي تضعها على رأسها تخفي شعرها السبايكي.
توتّرت عضقات النغدون فورا ً في حين داهمت ذهنه صور الدكتور ماركوني الذي مات في المستشفى.
حاول النغدون خداعها بالنظر بعيد ًا عن سيينّا من فوق كتفه ،إلى الظقام الذي أتيا منه" .ال عقاقة لها بهذه
المسألة .أنت تسعين ورائي".
يتضرع إلى هللا لكي تكون سيينّا قد تقدّمت على طول الجدار .فإن تم ّكنت من التسلّل إلى ما وراء
ّ أخذ النغدون
صة المشاهدة ،فستنجح عندها في العبور إلى الممشى المركزي بهدوء ،خلف المرأة التي تقاحقه ،وستتو ّجه من ّ
نحو الباب.
رفعت القاتلة مصباحها مجدّدا ً وتف ّحصت العلّية الخالية خلفه .وفي اللحظة التي ابتعد فيها الوهج عن عيني
النغدون ،لمح فجأة شكقاً خلفها في الظقام.
كانت سيينّا تتقدّم بالفعل فوق الدعامة باتّجاه الممشى المركزي ،لكن لسوء الح ّ
ظ ،لم تكن تبعد سوى عشر ياردات
من المرأة.
ي جيّدا ً بروفيسور .إن أردت أن تعيش ،فأنا أقترح أن تثق بي .فقد انتهت مه ّمتي ولم يعد
همست القاتلة" :أصغِّ إل ّ
ي سبب إليذائك .أصبحنا أنا وأنت في فريق واحد ،وربّما كنت أعرف كيف أساعدك". لد ّ
أن سيينّا ظلّت في مكانها ،إذ قبعت في الظ ّل وراحت تراقب بصمت.
غير ّ
فتّشت عينا فايينثا في الظقام خلف النغدون .لكن ،أين ذهبت؟ هل انفصقا؟
كان على فايينثا إيجاد طريقة لمنع الهار َبين من الوقوع بين يدَي برودر .هذا أملي الوحيد.
ي جيّداً .ليس من صالحك الوقوع بين أيدي غامرت فايينثا وهمست قائلة" :سيينّا ،إن كنت تسمعينني ،فأصغي إل ّ
الرجال الموجودين في األسفل .لن يكونوا لطفاء إطقاقاً .أعرف طريقا للهرب ،ويمكنني مساعدتك .ثقي بي".
ً
تحدّاها النغدون قائقاً" :تثق بك؟!" .ارتفع صوته فجأة حيث أصبح مسموعا ً لك ّل من يقف بجواره" .أنت قاتلة!".
"سيينّا ،الوضع معقّد ،لكنّني أستطيع إخراجك من هنا .ف ّكري بالخيارات المتاحة أمامك ،أنت محاصرة ،وليس
ي خيار".
لديك أ ّ
قال النغدون بصوت عا ٍل" :لديها خيار ،وهي ذكية بما فيه الكفاية لقابتعاد عنك قدر اإلمكان".
ومن دون تردّد ،مدّت يدها إلى سترتها وأخرجت المسدّس الكاتم للصوت.
بقيت سيينّا قابعة في الظ ّل بقا حراك على مسافة ال تتجاوز عشر ياردات خلف المرأة التي واجهت النغدون ّ
للتو.
التعرف عليها .شعرت سيينّا بالرعب عندما رأتها تشهر السقاح نفسه
ّ حتّى في الظقام ،لم يكن من الممكن عدم
الذي استخدمته لقتل د .ماركوني.
صة المشاهدةوبالفعل ،تقدّمت المرأة خطوتين باتّجاه النغدون ،وتوقّفت عند الدرابزين المنخفض الذي يحيط بمن ّ
األول .كانت القاتلة اآلن أقرب ما تكون من النغدون .رفعت مسدّسها وو ّجهته
فوق لوحة فاساري ،تمجيد كوزيمو ّ
مباشرة إلى صدر النغدون.
كان االهتزاز غير المتوقّع لأللواح تحت قدمي فايينثا كافيا ً لينحرف اتّجاه مسدّسها وهي تطلق النار .وحتّى عندما
أن المسدّس لم يعد مو ّجها ً نحو النغدون.
ضغطت على الزناد ،أدركت ّ
يقترب بسرعة.
استدارت فايينثا في مكانها ،وانحرف سقاحها 908درجة باتّجاه المهاجم ،ورأت وميضا ً من الشعر األشقر في
الظقام في اللحظة التي اصطدم بها فيها شخص ما بك ّل سرعته .هسهس المسدّس مجدّداًّ ،
لكن المهاجم انحنى تحت
بقوة ورفعها نحو األعلى.
مستوى فوهة السقاح وصدمها ّ
صةبقوة بالدرابزين المنخفض لمن ّ
ارتفعت قدما فايينثا عن األرض ،واصطدم الجزء األوسط من جسدها ّ
ّ
المشاهدة .وفيما اندفع صدرها فوق الدرابزينّ ،لوحت بذراعيها في محاولة للتمسّك بشيء ما لتجنب السقوطّ ،
لكن
األوان كان قد فات؛ فقد سقطت من فوق الحافّة.
تمدّدت فايينثا على ظهرها حائرة ،وحدّقت إلى مهاجمها .كانت سيينّا بروكس تنظر إلى األسفل من فوق
الدرابزين .فتحت فايينثا فمها مذهولة لتتكلّم ،لكن فجأة ،سمعت صوت ّ
تمزق عاليا ً تحتها.
ث ّم سقطت مجدّداً.
بعد ذلك ،وإثر صدمة مفاجئة ،تقاشى عالم فايينثا وح ّل مكانه الظقام.
ّ
الممزقة في األسفل .على أرض قاعة الخمسمائة ،تمدّدت في األعلى ،حدّق النغدون غير مصدّق إلى اللوحة
تتكون قرب رأسها بركة داكنة من الدماء ،في حين ظلّت يدها ممسكة
المرأة بقا حراك ،وسرعان ما بدأت ّ
بالمسدس.
نظر النغدون إلى سيينّا التي وقفت محدّقة إلى األسفل ،وقد شلّها المشهد .بدت على وجهها آثار الصدمة" .لم أكن
أقصد."...
ثوان،
ٍ في الطرف اآلخر من المبنى ،نزل النغدون وسيينّا من العلّية وهما يلهثان ،واندفعا عبر أحد األبواب .خقال
السرية التي قام بها سابقاً.
ّ الممرات
ّ الكوة الصغيرة المخبّأة خلف ستارة قرمزية .تذ ّكرها من جولة
وجد النغدون ّ
الطابق األرضي.
همست سيينّا التي لم تفارقها آثار الصدمة بعد" :يمكنني سماع أصوات الشارع خلف الباب .ماذا يوجد في الجهة
األخرى؟".
أجاب النغدون" :فيا ديقاّ نينّا" .وتخيّل الشارع المزدحم بالمشاة" .لكن ،قد تكون الشرطة هناك".
ّ
الحظ هزت سيينّا رأسها ،وبدا على وجهها تصميم كئيب" .لم أكن أرغب في أن تراني هكذا روبرت .لكن ،لسوء ّ
هذا ما أنا عليه" .فجأة ،مدّت سيي ّنا يدها وأمسكت بشعرها األشقر ،ث ّم أرجعت رأسها إلى الخلف ،فانزلق شعرها
بأكمله بحركة واحدة.
أن سيينّا تضع شعرا ً مستعاراً ،ومن شكلها من دونه على السواء.
تراجع النغدون إلى الوراء وقد أجفل من حقيقة ّ
كانت سيينّا بروكس في الواقع صلعاء تماماً ،رأسها أملس وشاحب مثل مريضة سرطان تخضع لعقاج كيميائي.
أهي مريضة فوق ك ّل ذلك؟
انحن" .حملت الشعر المستعار ،وبدا بوضوح أنّها تنوي وضعه على رأس
ِّ قالت" :أعلم ،إنّها ق ّ
صة طويلة .واآلن
النغدون.
أهي جادّة؟! انحنى النغدون على مضض ،ووضعت سيينّا الشعر المستعار على رأسه .بالكاد الءم مقاس رأسه،
سوته قدر اإلمكان ،ث ّم تراجعت إلى الخلف وقيّمت الشكل .لم يرضها تماماً ،فمدّت يدها وحلّت ربطة عنقه،لكنّها ّ
ث ّم رفعتها إلى جبينه وشدّتها مثل منديل لتثبّت بها الشعر المستعار.
بعد ذلك ،بدأت سيينّا تعمل على شكلها ،فش ّمرت عن ساقيها ،وأخفضت جوربيها حتّى كاحليها .عندما وقفت ،بدت
تحولت سيينّا بروكس الجميلة إلى فتاة حليقة الرأس .كان التغيير الذي طرأ على
على شفتيها ابتسامة ساخرة .لقد ّ
الممثّلة الشكسبيرية السابقة مذهقاً.
تصرف وكأنّك
ّ قالت" :تذ ّكر ّ
أن لغة الجسد تكشف عن شخصية المرء بنسبة تسعين بالمائة .لذلك ،عندما تمشي،
راقص روك متقدّم في السن.
ف ّكر النغدون :يمكنني تمثيل دور شخص متقدّم في السن ،لكن ،راقص روك؟! لست واثقاً من ذلك.
وقبل أن يتم ّكن النغدون من مجادلتها ،رفعت مزالج الباب الصغير وفتحته .أخفضت رأسها ،وخرجت إلى
المكسو بالحصى ،فتبعها النغدون على يديه ورجليه تقريباً ،وخرج إلى ضوء النهار.
ّ الشارع المزدحم
باستثناء نظرات االستغراب التي ألقاها عليهما المارة لدى رؤيتهم هذين الشخصين غير المتناسقين يخرجان من
ثوان ،كان النغدون وسيينّا
ٍ ق عليهما أحد نظرة ثانية .وفي غضون
الباب الصغير في أساس قصر فيكيو ،لم يل ِّ
يتّجهان شرقاً ،وقد ابتلعهما الحشد.
ظارة بلوم باريس يحكّ بشرته وهو يمشي بين الحشود؛ محافظا ً على مسافة آمنة خلفأخذ الرجل الذي يضع ن ّ
روبرت النغدون وسيينّا بروكس .على الرغم من تن ّكرهما الذكي ،فقد رآهما وهما يخرجان من الباب الصغير
ويتجهان إلى فيا ديقاّ نينّا ،وعرفهما فوراً.
مبان فقط قبل أن يتعب ،ويبدأ صدره بإيقامه؛ األمر الذي أجبره على أخذ أنفاس سطحية .شعر
ٍ تبعهما مسافة عدّة
وكأنّه يتلقّى لكمة في صدره.
صر على أسنانه وقاوم األلم ،وأجبر نفسه على تركيز انتباهه مجدّدا ً على النغدون وسيينّا وهو يواصل تعقّبهما
ّ
في شوارع فلورنسا.
الفصل 51
أشرقت شمس الصباح تماماً؛ ملقية ظقاالً طويلة أسفل الوديان الضيّقة الممتدّة بين أبنية فلورنسا القديمة .كان
أصحاب المحال التجارية قد بدأوا يفتحون األبواب المعدنية التي تحمي محالّهم ،وكان الهواء مثققاً بعبير إسبريسّو
الصباح والكورنيتّي الطازجة.
وبينما قاد النغدون سيينّا شماالً عبر فيا داي ليوني الضيّق ،واجه صعوبة في االعتياد على مظهر رأسها األصلع.
ذ ّكره هذا التغيّر الجذري الذي طرأ على شكلها أنّه بالكاد يعرفها .كانا يتو ّجهان إلى بياتزا ديل دوومو؛ الساحة
التي عُثر فيها على إغناتسيو بوزوني ميتا ً بعد مكالمته األخيرة.
قال إغناتسيو وهو يلهث ،روبرت ما تبحث عنه بأمان .األبواب مفتوحة أمامك ،لكن عليك اإلسراع .الج ّنة خمس
وعشرون .بالتوفيق.
سره ،وكان ال يزال مستغربا ً من كيفية تذ ّكر إغناتسيو الج ّنة خمس وعشرونّ ،
كرر النغدون هذه الجملة في ّ
ّ ّ ّ
نص دانتي بما فيه الكفاية ليشير إلى نشيد معيّن .ال بد أن ذلك النشيد يحتوي على شيء يتذكره بوزوني
بوزوني ّ
النص ،وهو أمر يمكن
ّ جيّداً .وأيًّا يكن ذلك ،عرف النغدون أنّه سيجده بسرعة؛ حالما يضع يديه على نسخة عن
ّ
الموزعة أمامهما. فعله بسهولة في عدد من األماكن
بدأ الشعر المستعار الذي يصل إلى كتفه يسبّب له الحكاك .ومع أنّه وجد نفسه سخيفا ً بهذا التن ّكر ،إالّ أنّه ّ
يقر ّ
أن
فكرة سيينّا المرتجلة كانت خدعة جيدة .فما من أحد شكّ فيهما ،وال حتّى تعزيزات الشرطة التي هُرع عناصرها
للتو من أمامهما في طريقهم إلى باالتزو فيكيو.
ّ
كانت سيينّا تسير قربه بصمت منذ عدّة دقائق ،فنظر إليها النغدون للتأ ّكد من أنّها على ما يرام .بدت على بعد
أميال ،وكأنّها على األرجح تحاول تقبّل فكرة أنها قد قتلت ّ
للتو المرأة التي كانت تقاحقهما.
قال لها بخفّة ،على أمل إبعاد تفكيرها عن صورة المرأة ذات ق ّ
صة السبايكي الممدّدة على أرض القصر" :أعطيك
ليرة لمعرفة ما تف ّكرين فيه".
خرجت سيينّا من تأ ّمقاتها ببطء وقالت" :كنت أف ّكر بزوبريست وأحاول تذ ّكر ما أعرفه عنه".
صلتِّ؟".
"وإالم تو ّ
"معظم ما أعرفه مستمدّ من رسالة مثيرة للجدل كتبها قبل بضع سنوات .وقد علقت في ذهني .ففي المجتمع
الطبّي ،سرعان ما انتشرت كالوباء" .ث ّم غمزته مضيفة" :أعتذر على سوء اختياري للكلمات".
النمو
ّ "أعلن في رسالته أساسا ً ّ
أن الجنس البشري على شفير االنقراض ،وما لم تقع كارثة تخفض بشكل كبير
الس ّكاني في العالمّ ،
فإن جنسنا لن يعيش مائة عام أخرى".
"كانت رسالة صارخة .فاإلطار الزمني المتوقّع كان أكثر بكثير من التقديرات السابقة ،إالّ أنّه مدعوم ببعض
كون لنفسه أعداء كثرا ً عندما أعلن أنه يجب على األطبّاء التوقّف عن ممارسة البيانات العلمية القوية جدًّا .لقد ّ
ّ الطبّ ّ
ألن تمديد فترة حياة اإلنسان ال يؤدّي سوى إلى تفاقم المشكلة السكانية".
فهم النغدون اآلن لماذا انتشرت المقالة كالنار في الهشيم بين أعضاء المجتمع الطبّي.
تعرض زوبريست لقانتقادات فورا ً من جميع الجهات؛ سواء أكانت من السياسيين، تابعت سيينّا" :بطبيعة الحالّ ،
ً
ظمة الص ّحة العالمية .وجميعهم سخروا منه واعتبروه مجنونا يحاول أن ينشر الذعر، أو رجال الدين ،أو من ّ
ذريتهم فعليا ً نهاية الجنس البشري .وأوضح وامتعضوا كثيرا ً من قوله ّ
إن شباب اليوم إن اختاروا التوالد ،فستشهد ّ
ّ
زوبريست وجهة نظره بقوله إنه إن ت ّم ضغط الحياة البشرية على األرض إلى ساعة واحدة ...فنحن اآلن في
الثواني األخيرة منها".
لكن أكبر ردّ فعل عنيف ضدّ زوبريست جاء عندما أعلن ّ
أن تقدّمه في مجال "بالفعل ،وقد سبّبت ض ّجة كبيرةّ .
الهندسة الوراثية سيكون مفيدا ً للبشرية أكثر بكثير؛ إن استُخدم ليس لعقاج المرض ،وإنّما إلنشائه".
"ماذا؟!".
شعر النغدون بالذعر وهو يستحضر صورا ً لفيروسات هجينة وغريبة ما إن يت ّم إطقاقها حتّى يستحيل إيقافها.
تحول زوبريست من كونه واحدا ً من النخبة في عالم الطبّ إلى شخص منبوذ قالت سيينّا" :خقال سنوات قليلة ّ
تماماً؛ إلى لعنة" .صمتت ،وظهرت على وجهها تعابير الشفقة" .ال عجب حقًّا أنّه أقدم على االنتحار .واألمر
أن أطروحته صحيحة على األرجح".المحزن أكثر هو ّ
ّ
محق؟!". أوشك النغدون على السقوط" .عفواً! هل تعتقدين أنّه
رفعت سيينّا كتفيها وشرحت قائلة" :روبرت ،من وجهة نظر علمية بحتة ،أي من وجهة نظر منطقية ومن دون
مشاعر ،يمكنني التأكيد من دون أدنى شكّ أنّه بغياب التغيير الجذريّ ،
فإن نهاية جنسنا قادمة ،وبسرعة .لن يكون
ذلك بفعل حريق ،وال بسبب نهاية العالم ،وال نتيجة حرب نووية ...بل سيحدث بسبب انهيار تا ّم ناتج عن ازدياد
عدد الناس على هذا الكوكب .فالرياضيات غير قابلة للجدل".
تصلّب النغدون.
قالت" :لقد درستُ قدرا ً ال بأس به من علم األحياء ،ومن الطبيعي لألنواع أن تنقرض نتيجة اكتظاظ أعدادها في
بيئتها .تخي ّْل مستعمرة من الطحالب التي تعيش في بركة صغيرة في الغابة ،وتستمتع بالتوازن التا ّم للمغذّيات في
ي رادع ،ستتكاثر هذه الطحالب بصورة عشوائية ،وستغطي سطح البركة بأكمله، البركة .في حال عدم وجود أ ّ
نمو المغذّيات في البركة .بعد استنزاف ك ّل ما هو متوفّر في تلك البيئة ،سرعان حيث تحجب نور الشمس وتمنع ّ
ما ستموت تلك الطحالب وتختفي من دون أن تترك أثراً" .تن ّهدت مضيفة" :من الممكن جدًّا أن يكون مصير
مماثل منتظرا ً البشرية ،وذلك أسرع بكثير م ّما تخيّل أ ّ
ي منّا".
تصوره وحسب .فالعقل البشري يملك آلية دفاع بدائية عن األنا تنفي ك ّل
ّ "هذا ليس مستحيقاً روبرت ،لكن يصعب
الحقائق التي تُنتج ضغطا ً كبيرا ً يصعب على الدماغ التعامل معه .وهذا يدعى اإلنكار".
نظرت سيينّا إلى األعلى بسأم وقالت" :كم هذا جميل! لكن صدّقني ،ما أقوله حقيقي جدًّا .فاإلنكار جزء حيوي من
اآللية التي يستخدمها اإلنسان للتح ّمل .من دونه ،كنّا سنستيقظ ك ّل صباح مرعوبين من مختلف الطرق التي قد
نموت بها .عوضا ً عن ذلك ،تقوم عقولنا بحجب مخاوفنا الوجودية من خقال التركيز على الضغوط التي يمكننا
التعامل معها؛ مثل الوصول إلى العمل في الوقت المحدّد ،أو دفع الضرائب .ولو واجهنا مخاوف وجودية على
نطاق أوسع ،فإنّنا ننبذها بسرعة ونعيد التركيز على المهام البسيطة والتفاهات اليومية".
تذ ّكر النغدون دراسة أجريت عبر اإلنترنت على طقاّب في بعض جامعات آيفي ليغ ،وأظهرت ّ
أن المستخدِّمين
األكثر ذكاء أيضا ً يُظهرون ميقاً تلقائيا ً إلى اإلنكار .فاستنادا ً إلى الدراسة ،يقوم معظم طقاّب الجامعات ،بعد النقر
على مقال محبط حول ذوبان جليد القطب الشمالي أو انقراض األنواع ،بالخروج بسرعة من تلك الصفحة لصالح
أخبار تافهة تط ّهر عقولهم من الخوف .وتتض ّمن الخيارات المفضّلة أبرز األخبار الرياضية ،ومشاهد فيديو
مضحكة عن القططة ،وأخبار المشاهير.
قال النغدون" :في األساطير القديمة ،يُعتبر اإلنكار مظهرا ً من مظاهر الغطرسة والكبرياء .فما من رجل أكثر
كبرياء من ذاك الذي يعتقد أنّه في مأمن من مخاطر العالم .وقد وافق دانتي على ذلك بوضوح ،واعتبر الكبرياء
إحدى الخطايا السبع المميتة ...كما عاقب المتغطرسين في أعمق حلقة من حلقات الجحيم".
ف ّكرت سيينّا للحظة ث ّم قالت" :يتّهم زوبريست في مقالته الكثير من قادة العالم بأنهم في حالة إنكار شديد ...وأنهم
يدفنون رؤوسهم في الرمال .وقد انتقد بشدّة من ّ
ظمة الص ّحة العالمية".
"ال شكّ ّ
أن انتقاداته قد انعكست ضدّه".
صب ديني يقف على ناصية الشارع ،ويحمل الفتة ُكتب عليها :النهاية
"كان ردّ فعلهم أنهم ساووا بينه وبين متع ّ
قريبة".
صمت النغدون ،وشعر مجدّدا ً أنّه غريب عن سيينّا في تلك اللحظة ،وحاول أن يفهم هذا المزيج الغريب من
الشغف والموضوعية الذي تتحلّى به.
يمران أمام الواجهة الحجرية البسيطة لمتحف بارغيلّو الواقع إلى اليمين.
نظر النغدون إلى األعلى ،ورأى أنّهما ّ
خلفه ،ارتفع برج باديا المسنّن فوق المباني المحيطة به .حدّق إلى أعلى البرج ،وتساءل عن سبب قفز زوبريست
منه ،وتمنّى أالّ يكون السبب أمرا ً فظيعا ً فعله وال يريد مواجهة ما هو آتٍ.
طورها قالت سيينّا" :يحبّ نقّاد زوبريست اإلشارة إلى المفارقة الكامنة في ّ
أن الكثير من التقنيات الوراثية التي ّ
تساهم اليوم في تمديد متوسّط العمر المتوقّع بشكل كبير".
"األمر الذي يؤدّي إلى تفاقم المشكلة الس ّكانية".
مرة علنا ً إنّه يتمنّى لو يستطيع إعادة الجنّي إلى القمقم ،ومحو بعض مساهماته في
"بالضبط .قال زوبريست ذات ّ
أن هذا األمر منطقي من الناحية األيديولوجية .فكلّما طالت حياتنا ،س ّخرنا قدراً
إطالة العمر البشري .وأفترض ّ
أكبر من الموارد لدعم المسنّين والمرضى".
أن 18بالمائة من تكاليف الرعاية الص ّحية في الواليات المتّحدة تُنفق لدعم هز النغدون رأسه موافقاً" :قرأت ّ
مرة ّ ّ
المرضى في األشهر الستّة األخيرة من حياتهم".
أومأ النغدون قائقاً" :هذا هو الصراع بين أبولو وديونيسوس ،وهي معضلة شهيرة في األساطير القديمة .إنّها
المعركة القديمة بين العقل والقلب اللذين غالبا ً ما يريدان الشيء نفسه".
أن هذه اإلشارة األسطورية تُستخدم اليوم في اجتماعات المدمنين لوصف المدمن الذي كان النغدون قد سمع ّ
يحدّق إلى الكأس ،وعقله يعرف أن الشراب سيؤذيهّ ،
لكن قلبه يتوق إلى الراحة التي سيجدها فيه .كانت الرسالة
تقول كما يبدو :ال تشعر أنّك وحيد ،فحتّى أبطال األساطير يعيشون هذا النزاع.
"المعذرة؟".
نظرت إليه سيينّا قائلة" :أخيرا ً تذ ّكرت عنوان مقالة زوبريست."?Who Needs Agathusia :
لم يسبق لقانغدون أن سمع بكلمة أغاثوسيا ،لكنّه حاول أن يخ ّمن استناداً إلى الجذور اليونانية للكلمة؛ أغاثوس
وثوسيا" .أغاثوسيا ...هل تعني التضحية الجيّدة؟".
"تقريباً .معناها في الواقع هو التضحية بالذات من أجل الصالح العا ّم" .صمتت ث ّم أضافت" :وتُعرف أيضا ً
باالنتحار الخيّر".
صة أب مفلس أقدم على االنتحار لكي تتم ّكن أسرته من
مرة في ق ّفي الواقع ،كان النغدون قد سمع بهذه الكلمة ّ
ّ ّ
قبض تأمينه على الحياة ،والثانية عند وصف سفاح متسلسل نادم أنهى حياته ألنه عاجز عن السيطرة على ميله
إلى القتل.
لكن المثال األكثر فظاعة الذي يذكره النغدون كان في رواية Logan’s Runالصادرة عام ،9117والتي ّ
تصور مجتمعا ً مستقبليا ً يوافق فيه الجميع بسرور على االنتحار في ّ
سن الحادية والعشرين؛ وبالتالي التمتعّ ّ
السن يضغطان على موارد هذا الكوكب المحدودة. ّ بشبابهم بالكامل من دون ترك ازدياد أعدادهم أو تقدّمهم في
ّ
"سن االنتحار" من الحادية والعشرين إلى الثقاثين؛ في إن الفيلم المستند إلى الرواية رفَع
وكما يذكر النغدونّ ،
محاولة من دون شكّ لجعل الفيلم أكثر قبوالً لدى جمهور شبّاك التذاكر الحيوي الذي تتراوح أعمار أفراده بين
الثامنة عشرة والخامسة والعشرين.
قال النغدون" :إذاً ،بالنسبة إلى عنوان مقالة زوبريست ...لست واثقا ً من أنّني أفهمه .من يحتاج إلى أغاثوسيا؟ هل
كان يطرح سؤاالً ساخرا ً يعني فيه من يحتاج إلى االنتحار الخيّر؟ جميعنا".
ّ
هز النغدون رأسه من دون أن يفهم.
ظمة الص ّحة العالمية .في تلك المقالة ،يثور زوبريست ضدّ مديرة المن ّ
ظمة ،د. " WHOاختصار السم من ّ
إليزابيث سينسكي التي تحت ّل ذلك المنصب منذ سنوات عديدة .واستنادا ً إلى زوبريست فإنّها ال تأخذ مسألة
أن مديرتها سينسكي تُقدم إن المن ّ
ظمة ستكون أفضل لو ّ السيطرة على أعداد الس ّكان بجدّية .قال في تلك المقالة ّ
على االنتحار".
تذ ّكر النغدون المقاالت التي قرأها عن سيينّا؛ الطفلة المعجزة التي يبلغ معدّل ذكائها 680والتي تمتاز بوظائف
فكرية خارقة .وتساءل ع ّما إذا كانت تتحدّث عن نفسها أيضا ً وهي تتحدّث عن زوبريست .كما تساءل :كم
بسرها؟
ستحتفظ ّ
أمامه ،رأى النغدون المعلم الذي يبحثان عنه .بعد عبور فيا داي ليوني ،قادها النغدون إلى تقاطع شارع ضيّق
جدًّا ،هو أقرب إلى زقاقُ .كتب على القافتة في األعلى :فيا دانتي أليغييري.
قال النغدون" :يبدو أنّك تعرفين الكثير عن الدماغ البشري .هل هذا مجال تخ ّ
صصك في دراسة الطبّ ؟".
"كقاّ ،لكن عندما كنت صغيرة ،كنت أقرأ كثيراً .واهتممت بعلم الدماغ ألنّني كنت أعاني من بعض ...المشاكل
الطبّية".
تستمر.
ّ نظر إليها النغدون بفضول؛ آمقاً أن
قالت سيينّا بهدوء" :كان دماغي ...ينمو بشكل مختلف عن معظم األطفال؛ األمر الذي سبّب لي بعض ...المشاكل.
أمضيت وقتا ً طويقاً وأنا أحاول أن أفهم مشكلتي ،وخقال ذلك تعلّمت الكثير عن علم األعصاب" .نظرت إلى
عيني النغدون وأضافت" :نعم ،الصلع مرتبط بحالتي الطبّية".
عندما وصقا إلى الزقاق المظلل بهوائه البارد ،ف ّكر النغدون بك ّل ما عرفه ّ
للتو عن زوبريست ومواقفه الفلسفية
المثيرة للقلق.
عاد إلى ذهنه سؤال طرحه على نفسه تكراراً ،فأخذ يتساءل بصوت عا ٍل" :أولئك الجنود الذين يحاولون قتلنا ،من
هم؟ هذا غير منطقي .إن كان زوبريست قد وضع وباء محتمقاً هناك ،أال يجب أن يكون الجميع على الجانب
نفسه؛ يعملون على إيقافه؟".
"ليس بالضرورة .قد يكون زوبريست منبوذا ً من قبل المجتمع الطبّي ،لكن لديه على األرجح حشدا ً غفيراً من
شر ال بدّ منه إلنقاذ الكوكب .ك ّل ما نعرفه هو ّ
أن أولئك المؤيّدين إليديولوجيته؛ أناسا ً يوافقون على ّ
أن اإلعدام ّ
الجنود يحاولون أن يضمنوا تح ّقق رؤية زوبريست".
صبينصا به من األتباع؟ ف ّكر النغدون بذلك االحتمال .بالطبع ،التاريخ مليء بمتع ّ هل يملك زوبريست جيشاً خا ًّ
أن سفينة فضائية تنتظرهم خلف وبأفراد طوائف قتلوا أنفسهم بسبب أنواع عديدة من المفاهيم الجنونية؛ كاالعتقاد ّ
النمو الس ّكاني ترتكز على األق ّل على العلم.
ّ أن يوم الحساب بات وشيكاًّ .
إن التك ّهنات حول الحدّ من القمر ،أو ّ
ً
لكن ،ث ّمة شيء لدى أولئك الجنود ال يبدو صحيحا بالنسبة إلى النغدون.
نظرت إليه سيينّا ،وتأ ّملته بعينيها البنّيتين" .روبرت ،ليس نشر وباء ...بل إنقاذ العالم" .ثم صمتت قبل أن تضيف:
"طرح بيرتراند زوبريست في مقالته سؤاالً افتراضيا ً واضحا ً جد ًّا أثار ض ّجة كبيرة .أريدك أن تجيب عنه".
"ما هو السؤال؟".
"تساءل زوبريست :إن كان باستطاعتك أن تضرب بسوط وتقتل عشوائيا ً نصف س ّكان العالم ،فهل ستفعل ذلك؟".
"بالطبع ال".
فإن الجنس البشري سينقرض خقال األعوام "حسناً .لكن ،ماذا لو قيل لك إنّك إن لم تضرب بذلك السوط اآلنّ ،
المائة القادمة؟" .صمتت قليقاً ث ّم تابعت قائلة" :هل ستفعل ذلك عندئذ؟ حتّى لو كان ذلك يعني مقتل أصدقائك،
وأسرتك ،وربّما مقتلك أنت أيضاً؟".
قالت" :هذا سؤال افتراضي .هل ستقتل نصف س ّكان العالم اليوم من أجل الحؤول دون انقراض البشر؟".
ّ
هزت سيينّا رأسها قائلة" :كما سبق وقلت .اإلنكار".
الفصل 51
يقع كازا دي دانتي في فيا سانتا مارغريتا ،ويسهل إيجاده بفضل القافتة الكبيرة المعلّقة على الواجهة الحجرية في
منتصف الزقاق :موزيو كازا دي دانتي (متحف منزل دانتي).
رمقت سيينّا القافتة بتش ّكك" .هل نحن ذاهبان إلى بيت دانتي؟".
قال النغدون" :ليس تماماً .فقد عاش دانتي في منزل يقع عند ناصية الشارع ،وهذا المكان هو أقرب إلى ...متحف
مرة بدخول المتحف ،إذ دفعه الفضول إلى االطقاع على المجموعة الفنّية التي تبيّن لدانتي" .غامر النغدون ذات ّ
ّ
أنّها مج ّرد نسخ من أعمال مشهورة من جميع أنحاء العالم ذات صلة بدانتي ،إال أنّه كان من المثير لقاهتمام
رؤيتها مجموعة تحت سقف واحد.
ظهر األمل فجأة على وجه سيينّا" .هل تعتقد أنّهم يعرضون نسخة قديمة عن الكوميديا اإللهية هناك؟".
النص
ّ أن لديهم محقاًّ لبيع الهدايا يبيع ملصقات ضخمة تحتوي على
ضحك النغدون وأجاب" :كقاّ .لكنّني أعرف ّ
الكامل للكوميديا اإللهية مطبوعا ً بأحرف مجهرية".
ي لن تسعفاني ،لذلك سيتوجب عليك أن تقرئي عنّي". "أعرف ،لكنّها أفضل من ال شيء .المشكلة هي ّ
أن عين ّ
قال رجل عجوز باإليطالية حين رآهما يقتربان من الباب" :إنّه مقفل ،فاليوم عطلة".
شعر النغدون فجأة باالرتباك من جديد .نظر إلى سيينّا وسألها" :أليس اليوم هو ...االثنين؟".
ّ
هزت رأسها موافقة وقالت" :يفضّل أهل فلورنسا أخذ العطلة األسبوعية يوم االثنين".
هز رأسه أخيراً" .ث ّمة مكان قريب يجتمع فيه هواة دانتي .وأر ّجح أنّه ث ّمة من يملك بينهم
ف ّكر النغدون للحظة ،ث ّم ّ
نسخة يمكننا أن نستعيرها".
حذّرته سيينّا قائلة" :قد يكون مقفقاً على األرجح ،فك ّل األماكن في البلدة تقريبا ً تنقل يوم العطلة إلى غير يوم
األحد".
أجابها النغدون مبتسماً" :هذا المكان ال يحلم بفعل شيء من هذا القبيل ،ألنّه كنيسة".
على بعد خمسين ياردة خلفهما ،اختبأ المصاب بالطفح الجلدي الذي يضع قرطا ً ذهبيا ً بين الحشد ،واتّكأ على أحد
أن الطفح الجلدي الذي غزا وجهه يصعب عليه الجدران؛ متلذّذا ً بفرصة التقاط أنفاسه .لم يتحسّن تنفّسه ،كما ّ
ظارة بلوم باريس ،ودلّك جفنيه بلطف بك ّم قميصه؛ محاوالً ساسة فوق عينيه .نزع ن ّتجاهله ،ال سيّما المنطقة الح ّ
تتحركان ،فأجبر نفسه على اللحاق بهما ،وهو
ّ عدم إيذاء بشرته .وعندما وضع الن ّ
ظارة مجدّداً ،رأى طريدتيه
يتنفّس ببطء قدر اإلمكان.
مبان خلف النغدون وسيينّا ،وقف العميل برودر في قاعة الخمسمائة أمام الجثّة المح ّ
طمة للمرأة ٍ على بعد عدّة
المألوفة جد ًّا بشعرها السبايكي ،والتي كانت ممدّدة على األرض .جثا قربها وتناول مسدّسها ،ث ّم نزع بعناية ص ّمام
األمان قبل إعطائه إلى أحد رجاله.
مرات في الطرف اآلخر قبل أن يجيب الصوت الذي بدا بعيداً تناول برودر هاتفه وطلب رقماًّ .
رن الهاتف ثقاث ّ
مستقر.
ّ وغير
تحدّث برودر ببطء ليتأ ّكد من فهم ك ّل كلمة يقولها" .ما زلنا نحاول إيجاد النغدون والفتاة .لكن ،ث ّمة ّ
تطور آخر".
صمت برودر قبل أن يضيف" :إن كان صحيحا ً ...فهو يغيّر ك ّل شيء".
راح العميد يسير في مكتبه مقاوما ً إغراء يحثّه على صبّ كأس أخرى من الشراب؛ مجبرا ً نفسه على مواجهة هذه
األزمة المتفاقمة وهو بكامل وعيه.
قبل عام ،أتى العا ِّلم الوراثي الشهير بيرتراند زوبريست إلى متن المينداسيوم وطلب مكانا ً آمنا ً ليعمل فيه .في ذلك
المرة
ي سيضاعف ثروته الفاحشة .فهذه ليست ّ سر ّ
طط لتطوير عقار طبي ّ أن زوبريست يخ ّ الوقت ،تخيّل العميد ّ
األولى التي تت ّم فيها االستعانة بالكونسورتيوم من قبل علماء ومهندسين مصابين بجنون العظمة ،يفضّلون العمل
في عزلة شديدة لكي ال تت ّم سرقة أفكارهم.
أن أعضاء من ّ
ظمة الص ّحة العالمية قد على هذا األساس ،قبِّل العميد تقديم خدماته إلى الزبون ،ولم يفاجأ عندما علم ّ
ظمة نفسها ،د .إليزابيث سينسكي ،جعلت من أن مديرة المن ّ
بدأوا يبحثون عنه .كما أنّه لم يف ّكر كثيرا ً عندما اكتشف ّ
تحديد موقع ذلك العميل مه ّمة شخصية.
لكن ،قبل أسبوع من انتهاء العقد ،تم ّكنت سينسكي من إيجاد زوبريست في فلورنسا ،وسافرت إلى هناك ،وراحت
للمرة األولى في حياته المهنية في توفير الحماية التي وافق
تقاحقه إلى أن أقدم على االنتحار .وهكذا ،فشل العميد ّ
عليها ،وأصبحت هذه الحادثة تطارده ،باإلضافة إلى الظروف الغريبة التي صاحبت وفاة زوبريست.
فضّل االنتحار ...على الوقوع بين أيديهم؟
بعد وفاته ،قامت سينسكي بمصادرة شيء من خزنة زوبريست ،وأصبح الكونسورتيوم في مواجهة مع سينسكي
في فلورنسا؛ يخوض مطاردة خطيرة من أجل إيجاد...
إيجاد ماذا؟
رف الكتب ،ووقع نظره على المجلّد الثقيل الذي أعطاه زوبريست إيّاه قبل أسبوعين.
نظر العميد تلقائيا ً إلى ّ
الكوميديا اإللهية.
تناول العميد الكتاب ،وحمله إلى مكتبه ،ث ّم أسقطه محدثا ً صوتا ً عالياً .فتحه بأصابع غير ثابتة على الصفحة
األولى ،وقرأ اإلهداء مجدّداً.
حول نظره إلى الدائرة الحمراء الزاهية التي رسمها الزبون على روزنامته،
مرات أخرى ،ث ّم ّ
قرأ اإلهداء ثقاث ّ
والتي تحدّد تاريخ الغد.
العالم يشكرك؟
مطوالً.
استدار وحدّق إلى األفق ّ
ما زالت تلك المكالمة تحيّر العميد .فنولتون واحد من أفضل رجاله ،وهذا الطلب ال يتّفق أبداً مع طبعه؛ فهو يفهم
البروتوكول جيّداً ،واقتراحه تجاوزه ٌ
أمر غريب.
للمرة األولى بياتريتشي بورتيناري ،المرأة بحسب ما هو معروف ،في هذه الكنيسة ،وفي ّ
سن التاسعة ،رأى دانتي ّ
تزوجت بياتريتشي من ّ
التي أغرم بها من النظرة األولى ،والتي تاق قلبه إليها طوال حياته .لسوء حظ دانتيّ ،
رجل آخر ،ث ّم توفيّت في ّ
سن الشباب ،حين كانت في الرابعة والعشرين من عمرها.
تزوج دانتي من غي ّما دوناتي ،وكان ذلك سوء اختيار من جانب دانتي، في هذه الكنيسة أيضاً ،وبعد بضع سنواتّ ،
ّ ً
أن الزوجين أنجبا أطفاال ،إال أنّهما لم يُظهرا أ ّ
ي مودّة تجاه حتّى بنظر الكاتب والشاعر العظيم بوكاتشو .فمع ّ
ي منهما متل ّهفا ً لرؤية اآلخر مجدّداً.
بعضهما .وحتّى بعد نفي دانتي ،لم يبد ُ أ ّ
إن حبّ حياة دانتي كان وبقي دائما ً الراحلة بياتريتشي بورتيناري التي بالكاد عرفها دانتي ،إالّ ّ
أن ذكراها ّ
ً
سيطرت عليه وأصبح شبحها ملهما ألعماله العظيمة.
إن ديوان دانتي الشهير ال فيتا نوفا يزخر بأبيات عن "بياتريتشي المباركة" .كما يبدو شغفه بها واضحا ً هكذاّ ،
يصور بياتريتشي على أنّها المنقذة التي تقود دانتي عبر الجنّة .وفيّ على نحو أكبر في الكوميديا اإللهية؛ حيث
العملَين األدب َيين الشعر َيين ،يتوق دانتي إلى حبيبته بعيدة المنال.
شق النغدون وسيينّا طريقهما عبر شوارع فلورنسا القديمة باتّجاه الكنيسة ،وظلّت األزقّة تضيق إلى
هذا الصباحّ ،
ممرات للمشاة .من وقت إلى آخر ،كانت سيّارة محلّية ّ
تمر عبر تلك المتاهة من األزقّة مجرد ّّ تحولت إلى
أن ّ
وتُجبر المشاة على االلتصاق بالجدران أثناء مرورها.
قال النغدون لسيينّا" :تقع الكنيسة عند ناصية الشارع" .وتمنّى أن يتم ّكن أحد السيّاح في الداخل من مساعدتهما.
ألن سيينّا استعادت شعرها المستعار،
أن فرص العثور على شخص صالح أصبحت أفضل اآلن؛ ّ كان يعرف ّ
متحولين من راقص روك وحليقة رأس ،إلى أستاذ في الجامعة وشابة ّ واسترجع ك ّل منهما شخصيته المعتادة؛
أنيقة.
عندما دخقا زقاقا ً أضيق ،هو فيا ديل بريستو ،تف ّحص النغدون مختلف المداخل .كان من الصعب دائما ً تحديد
آخرين؛ حيث يمكنألن المبنى نفسه صغير جدًّا ،وغير مزخرف ،كما أ ّنه محاصر بين مبن َيين َ
موقع الكنيسة ّ
ً
يمر من دون مقاحظته .والغريب أنّه من األسهل غالبا إيجاد هذه الكنيسة ليس بواسطة العينين...
للمرء بسهولة أن ّ
بل األذنين.
من خصائص ال كييزا دي سانتا مارغريتا داي تشيركي أنّها تستضيف تكرارا ً حفقات موسيقية .وفي حال عدم
ي وقت.الزوار بالموسيقى في أ ّ مقررّ ،
تبث الكنيسة تسجيقات لتلك الحفقات لكي يستمتع ّ وجود حفل ّ
مثلما توقّع النغدون ،تناهى إلى سمعه صوت الموسيقى وهما يمشيان في الزقاق ،وراح يعلو ّ
باطراد؛ إلى أن
أصبح هو وسيينّا أمام المدخل .كانت اإلشارة الوحيدة إلى أنّهما في المكان الصحيح الفتة صغيرة تتناقض تماما ً
مع القافتة الحمراء الزاهية لمتحف موزيو كازا دي دانتي ،وتعلن بتواضع ّ
أن هذه كنيسة دانتي وبياتريتشي.
عندما دخل النغدون وسيينّا الكنيسة المعتمة ،أصبح الهواء أكثر برودة ،وارتفع صوت الموسيقى .كان المبنى من
الداخل صارما ً وبسيطاً ،وأصغر م ّما يذكر النغدون .لم يجدا في الداخل سوى حفنة من السيّاح الذين يتحدّثون ،أو
يكتبون ،أو يجلسون في هدوء على المقاعد مستمتعين بالموسيقى ،أو متف ّحصين المجموعة الغريبة من األعمال
الفنّية.
التفت النغدون إلى اليسار تلقائياً ،وحدّق إلى قبر بياتريتشي بورتيناري المتواضع .كان هذا القبر هو السبب
أن هدفهم ليس رؤية القبر نفسه بل رؤية شيء شهيراألساسي الذي يدفع الناس إلى زيارة هذه الكنيسة ،مع ّ
موضوع بجانبه.
س ّلة الخوص.
كالعادة هذا الصباح ،كانت سلّة الخوص البسيطة موضوعة بجانب قبر بياتريتشي .وكالعادة هذا الصباح أيضاً،
الزوار إلى بياتريتشي نفسها. ّ
بخط اليد من أحد ّ كانت تطفح بأوراق مطوية ،ك ّل منها رسالة مكتوبة
قبل سنوات عديدة ،وبينما كان النغدون في خض ّم بحث حول كتاب يؤلّفه عن تاريخ ّ
الفن ،توقّف في هذه الكنيسة
وترك رسالة في السلّة ،لم يطلب فيها من ملهمة دانتي منحه الحبّ الحقيقي ،بل إعطاءه بعضا من اإللهام الذي
ً
م ّكن دانتي من كتابة مجلّده الضخم.
استدار النغدون ،فرأى سيينّا تتحدّث بصوت عال مع السيّاح الذين التفتوا إليها جميعا ً وبدا عليهم القلق.
ابتسمت سيينّا للجميع بلطف وسألتهم باإليطالية ع ّما إذا كان أحدهم يملك بالصدفة نسخة عن الكوميديا اإللهية.
وهزوا رؤوسهم في إشارة نفي ،فطرحت السؤال باإلنكليزية ،لكن من و ّجه إليها الحاضرون نظرات استغرابّ ،
دون جدوى.
في تلك اللحظة ،التفتت امرأة مس ّنة كانت تجلس قرب المذبح ،وهسهست بحدّة باتّجاه سيينّا رافعة إصبعها على
شفتيها طلبا ً للصمت.
ّ
لكن األمر يختلف اليوم.
سين بالقرب من مدخل الكنيسة .كان رأس الرجل األصلع منحنيا ً إلى وقع نظر النغدون على زوجين مسنّين جال َ
األمام ،وقد المس ذقنه صدره .من الواضح أنّه يأخذ غفوة .أ ّما المرأة الجالسة بجانبه فكانت مستيقظة تماماً ،يتدلّى
من أذنيها سلكان أبيضان لسماعتين تختفيان تحت شعرها الرمادي.
وهزت رأسها بفخر ،ث ّم همست بلكنة بريطانية" :يا له من جهاز فائق الذكاء! لقد أشرق وجه المرأة العجوز فورا ً ّ
أهداني إيّاه ابني ،وكنت أستمع إلى بريدي اإللكتروني .هل تصدّق ذلك؟ أستمع إلى بريدي اإللكتروني! هذا الكنز
الصغير يقرأ لي الرسائل .فعيناي المسنّتان ال تساعدانني كثيراً".
"آه ،يا لها من مأساة! هل حاولت إيجاده عبر استخدام ميزة هاتف أيفون؟ يقول ابني ."-
"بالطبع!" .سحبت السماعتين من أذنيها ،ووضعت الجهاز بين يديه" .ال مشكلة على اإلطقاق يا عزيزي".
شكرها النغدون وتناول الهاتف .وبينما راحت تخبره كم ستحزن لو أضاعت هاتفها ،فتح النغدون نافذة بحث
زر مكبّر الصوت .عندما أصدر الهاتف رنّة واحدة ،قال النغدون.
غوغل وضغط على ّ
بدت الدهشة على وجه المرأة التي لم تكن تعرف بعد بتلك الميزة .عندما بدأت النتائج بالظهور على الشاشة
الصغيرة ،ألقى النغدون نظرة سريعة على سيينّا التي كانت تتف ّحص بعض المواد المطبوعة الموضوعة بالقرب
من سلّة الرسائل المو ّجهة إلى بياتريتشي.
على مسافة غير بعيدة من سيينّا ،كان ث ّمة رجل يضع ربطة عنق ويركع في الظلّ ،ويصلّي بتركيز ،خافضا ً رأسه
إلى األسفل .لم يستطع النغدون رؤية وجهه ،لكنّه شعر باألسى على الرجل الوحيد الذي خسر محبوبته على
األرجح ،وأتى إلى هذا المكان طلبا ً للراحة.
نظرت إليه المرأة المسنّة ،وأبدت بعض القلق حيال ارتفاع كلفة تصفّح اإلنترنت في الخارج ،فشعر النغدون ّ
أن
فرصته ستكون قصيرة ،ور ّكز باهتمام على الصفحة المفتوحة أمامه.
لكن الضوء الخافت الصادر من الكنيسة جعل الشاشة المضيئة أكثر وضوحاً. النص مكتوبا ً بأحرف صغيرةّ ،
ّ كان
فرح النغدون ألنّه وقع صدفة على ترجمة ماندلباوم ،وهي ترجمة معاصرة وشعبية قام بها البروفيسور األميركي
الراحل أالن ماندلباوم .وبفضل هذه الترجمة المذهلة ،نال ماندلباوم أعلى تكريم في إيطاليا ،وهو الصليب الرئاسي
أن ترجمة ماندلباوم أق ّل شاعرية من ترجمة لونغفيلوي ،إالّ أ ّنها مفهومة أكثر
لوسام نجمة التضامن اإليطالي .ومع ّ
بكثير.
لم تكن شاشة األيفون الصغيرة تعرض سوى ستّة أسطر في وقت واحد .وبينما بدأ النغدون يقرأ ،أخذ يتذ ّكر
النص .في بداية النشيد ،61ذكر دانتي الكوميديا اإللهية نفسها ،والكلفة المادّية التي تكبّدها لكتابتها ،كما ذكر أمله
ّ
المؤلم في أن تتغلّب قصيدته الجميلة على قسوة المنفى الذي أبعده عن مدينته الجميلة فلورنسا ووحشيته.
النشيد 61
أن فلورنسا الجميلة هي الوطن الذي تاق إليه دانتي وهو يؤلّف الكوميديا اإللهية،
أن هذا المقطع يش ّكل تذكيرا ً ّ
مع ّ
أن النغدون لم يجد فيه إشارة إلى مكان محدّد في المدينة.إالّ ّ
قاطعته المرأة وهي ترمق هاتفها بقلق مفاجئ" :ماذا تعرف عن الرسوم المفروضة على البيانات؟ تذ ّكرت ّ
للتو ّ
أن
ابني طلب منّي أن أكون حذرة لدى تصفّح اإلنترنت في الخارج".
أ ّكد لها النغدون أنّه ال يحتاج إلى أكثر من دقيقة ،وعرض أن يسدّد لها كلفة استخدامه الهاتف .لكن ،مع ذلك ،شعر
أنّها لن تسمح له أبدا ً بقراءة النشيد 61المؤلّف من مائة بيت.
طنة إلى صفقة سياسية عُرضت على دانتي من قبل أعدائه. تذ ّكر النغدون قليقاً هذا المقطع أيضاً ،وفيه إشارة مب ّ
إن "الذئاب" الذين نفوا دانتي من فلورنسا أخبروه أنّه ال يستطيع العودة إلى المدينة إالّ إن وافق بحسب التاريخّ ،
ّ
على تح ّمل الخزي العلني ،المتمثل بالوقوف أمام جماعة كبيرة وحده في جرن المعمودية ،وهو ال يرتدي سوى
رداء من الخيش اعترافا ً بذنبه.
للتو ،يقول دانتي ،بعدما رفض الصفقة ،إنّه إن عاد يوما ً ما إلى جرن معموديته ،فلن
النص الذي قرأه النغدون ّ
ّ في
ً ً ً
يكون مرتديا ثوب الخيش الذي يرتديه المذنبون ،بل سيكون واضعا إكليقا من الغار يليق بالشعراء.
حدّق النغدون إلى تلك الكلمات ،وشعر أنّه في غمرة بحثه عن مكان محدّد ،كادت أن تفوته إشارة واضحة في
األبيات األولى.
كانت فلورنسا موطنا ً لواح ٍد من أجران المعمودية األشهر في العالم ،الذي استُخدم ألكثر من سبعمائة عام لتعميد
الفلورنسيين الصغار ،ومن بينهم دانتي أليغييري.
تذ ّكر النغدون على الفور المبنى الذي يحتوي على الجرن .كان صرحا ً رائعا ً مث ّمن الزوايا ،يُعتبر من نواحٍ عديدة
أكثر جماالً من الكاتدرائية نفسها .وتساءل اآلن ع ّما إذا كان قد قرأ ما فيه الكفاية.
هل يمكن أن يكون هذا المبنى هو المكان الذي يشير إليه إغناتسيو؟
فجأة ،ومض في ذهن النغدون ضوء ذهبي مع تجسّد صورة جميلة في خياله ،أبواب برونزية رائعة ،تلمع وتتألّق
تحت شمس الصباح.
ابتسم النغدون ابتسامة متعبة وتو ّجه إلى الباب قائقاً" :في الواقع ،إن عرفت أين تبحثين فستجدين ّ
أن فلورنسا
رائعة بحدّ ذاتها".
الفصل 53
سأعود كشاعر ...إلى جرن معموديتي.
تردّدت كلمات دانتي في ذهن النغدون وهو يقود سيينّا شماالً في الزقاق الضيّق المعروف باسم فيا ديلّو ستوديو.
مع ك ّل خطوة كانا يتقدّمان فيها إلى وجهتهما ،كان يشعر بثقة أكبر أنّهما على الطريق الصحيح ،وأنّهما ابتعدا عن
مطارديهما.
عندما اقتربا من نهاية الزقاق الشبيه بالصدع ،بدأ النغدون يسمع أصوات الحركة منخفضة الوتيرة أمامه .فجأة،
انتهى الزقاق ليخرجا منه إلى ساحة مترامية األطراف.
كانت هذه الساحة الشاسعة ،بشبكتها المعقّدة من األبنية ،مركز فلورنسا الديني قديماً .أ ّما اليوم ،فأصبحت أقرب
الزوار الذين يتج ّمعون حول كاتدرائيةإلى مركز للسيّاح ،وكانت قد بدأت تع ّج بالحافقات السياحية وحشود ّ
فلورنسا الشهيرة.
بعدما وصل النغدون وسيينّا إلى الجزء الجنوبي من الساحة ،أصبحا بمواجهة جانب الكاتدرائية ،برخامها رائع
ّ
وبالفن المستخدم في بنائها. األلوان من األخضر ،والوردي ،واألبيض .كانت الكاتدرائية تخطف األنفاس بحجمها
وكانت تمتدّ باالتّجاهين لمسافات بعيدة جدًّا كما يبدو؛ إذ يعادل طولها تقريبا ً طول نصب واشنطن ممدّدا ً على
جانبه.
على الرغم من تخلّي الكنيسة عن الزخرفة الحجرية التقليدية أحادية اللون لصالح المزيج غير المألوف لأللوان
أن الهيكل كان يمتاز بنمط قوطي صافٍ ؛ كقاسيكي ،وقوي ،ومتين .يعترف النغدون أنّه في زيارته الصارخة ،إالّ ّ
ً
األولى إلى فلورنسا وجد الهندسة المعمارية للكاتدرائية مبهرجة تقريبا .لكن في الزيارات التالية ،أخذ يدرس البناء
لساعات متواصلة ،وقد أسرته على نحو غريب تأثيراته الجمالية غير المألوفة ،إلى أن أصبح أخيرا ً يقدّر جمال
الكاتدرائية الخقاّب.
لم يقتصر عطاء كاتدرائية إيل دوومو ،المس ّماة أيضا ً سانتا ماريا ديل فيوري ،على توفير لقب إلغناتسيو
بوزوني ،بل اعتُبرت لفترة طويلة القلب الروحي لفلورنسا ،كما اشتمل تاريخها على قرون من الدراما واإلثارة.
إذ تراوح ماضي البناء المتقلّب بين المناقشات الطويلة والشرسة حول جدارية فاساري المكروهة ،التي تحمل اسم
يوم القيامة ،والتي تغ ّ
طي الجهة الداخلية للقبّة ...والمنافسة الحامية الختيار مهندس إلنهاء القبّة نفسها.
في نهاية المطاف ،فاز فيليبّو برونيلّيسكي بالعقد المربح ،وأكمل بناء القبّة التي كانت الكبرى في ذلك الزمن.
وحتّى هذا اليوم ،يمكن رؤية برونيلّيسكي نفسه في منحوتة ،جالسا ً خارج باالتزو داي كانونيتشي ،يتأ ّمل تحفته
راضياً.
هذا الصباح ،عندما نظر النغدون إلى القبّة الحمراء التي ش ّكلت إنجازا ً معماريا ً في زمانها ،تذ ّكر اليوم الذي ّ
قرر
ظة بالسيّاح ال تختلف عن األماكن الخانقة التي تواجد أن سقالمها الضيّقة المكت ّ
فيه بحماقة اعتقاء القبّة ليكتشف ّ
ّ ّ
فيها .مع ذلك ،كان النغدون ممتنًّا للمحنة التي عاناها وهو يتسلق "قبّة برونيليسكي" ألنها ش ّجعته على قراءة
ّ
كتاب مس ٍّل لروس كينغ يحمل العنوان نفسه.
أبعد النغدون نظره عن القبّة ،ليدرك أنّه توقّف لتأ ّمل البناء" .آسف على ذلك".
أن السيّاح بدأوا يتدفّقون
واصقا التقدّم سالكَين محيط الساحة .أصبحت الكنيسة إلى يمينهما اآلن ،والحظ النغدون ّ
من أبوابها الجانبية ،وهم يشطبون الكنيسة من الئحة األماكن التي سيزورونها.
ارتفع أمامهما برج األجراس الذي ال يمكن إخطاؤه ،وهو المبنى الثالث في مج ّمع الكاتدرائية .كان معروفا ً باسم
ع مجاالً للشكّ في أنّه ينتمي إلى الكاتدرائية المجاورة له .فقد كان البرج المربّع،
برج جرس جوتّو ،وهو ال يد ُ
بألوان واجهته الوردية والخضراء والبيضاء المشابهة أللوان الكاتدرائية ،يرتفع في السماء على علو شاهق
يقارب ثقاثمائة قدم .لطالما د ُهش النغدون من صمود هذا البناء طوال قرون ،على الرغم من الزالزل وسوء
ألن ق ّمته تحمل أجراسا ً يتجاوز وزنها عشرين ألف باوند.
الجوية ،ال سيّما مع ثقل وزنه ،وذلك ّ األحوال ّ
مشت سيينّا بجانبه بسرعة ،وهي تتأ ّمل بعصبية السماء خلف برج األجراس ،بحثا ً كما يبدو عن طائرة مراقبة،
لكنّها لم تجد شيئا ً في األجواء .كان الحشد كثيفاً؛ حتّى في هذه الساعة المبكرة ،وحرص النغدون على البقاء في
الوسط.
بصف من فنّاني الكاريكاتير الواقفين أمام حوامل الرسم يرسمون صوراًّ مرا
عندما اقتربا من برج األجراسّ ،
ّ
كرتونية للسيّاح .مراهق يقف على لوح تزلج ،فتاة ذات أسنان كأسنان الحصان تحمل عصا الكروس ،وعروسان
يقبّقان بعضهما على ظهر وحيد قرن .وجد النغدون أنّه من الممتع السماح بهذا النشاط في المكان نفسه الذي
ي.
الخاص به وهو صب ّ ّ وضع فيه مايكل أنجلو حامل الرسم
تابع النغدون وسيينّا طريقهما حول قاعدة برج جوتّو ،ث ّم انعطفا يميناً ،واجتازا الساحة المفتوحة مباشرة أمام
الكاتدرائية .في هذا المكان ،كانت الحشود أكثر كثافة ،وكان السيّاح من مختلف أنحاء العالم يو ّجهون كاميرات
الملونة.
ّ هواتفهم وآالت الفيديو نحو األعلى لتصوير الواجهة الرئيسة
ألن انتباهه كان مر ّكزا ً على مبنى أصغر بكثير ظهر أمامه ّ
للتو .أمام بالكاد نظر النغدون إلى األعلى ،وذلك ّ
مدخل الكاتدرائية مباشرة ،يقع البناء الثالث واألخير في مج ّمع الكاتدرائية.
ططة مثل الكاتدرائية ،وتمتاز عن المبنى كانت المعمودية ذات الواجهة المزيّنة باأللوان المتعدّدة واألعمدة المخ ّ
األكبر حجما ً بشكلها القافت :بناء مث ّمن األضقاع .ادّعى البعض أنّها تشبه قالب حلوى مؤلّفا ً من طبقات؛ إذ إنّها
تتألّف من ثقاثة طوابق مميّزة يعلوها سقف أبيض منخفض.
أن النغدون يعتبر المعمودية أحد أروع األبنية في فلورنسا ،إالّ أنّه يجد أن اختيار الموقع غير عادل إلى حدّ مع ّ
ي مكان آخر على وجه األرض ،كانت هذه المعمودية ستش ّكل مركز االهتمام .أ ّما هنا ،فإ ّنها تبدو أق ّل ما .ففي أ ّ
شأنا ً في ظ ّل المبنيين الشاهقين المجاورين لها.
لقرون عديدة ،استضاف هذا البناء مث ّمن األضقاع مراسم عمادة عدد ال يحصى من الشخصيات البارزة ،وكان
دانتي واحدا ً منهم.
استغرقت تلك األبواب المصنوعة من البرونز المذ ّهب والتي يتجاوز طولها خمس عشرة قدماً ،من لورنزو
غيبيرتي ما يزيد عن عشرين عاما ً إلتمامها .كانت مزخرفة بعشر لوحات لشخصيات مستمدّة من التوراة ،وذلك
بجودة عالية دفعت فاساري إلى وصف األبواب على أنّها "كاملة بقا أ ّ
ي شكّ من جميع النواحي ...وأروع تحفة
على وجه األرض".
أن شهادة مايكل أنجلو هي التي منحت األبواب لقبا ً ظ ّل حيا ً حتى هذا اليوم .إذ أعلن الفنان الشهير أنّها جميلة
غير ّ
جدًّا.
الفصل 54
التوراة بالبرونز .هذا ما ف ّكر فيه النغدون وهو يتأ ّمل الباب الجميل الذي يقف أمامه.
ومؤرخي ّ
الفن، ّ ولّدت المجموعة المذهلة من اللوحات الفردية على ّ
مر القرون ما يشبه مسابقة شعبية بين الفنانين
خاض الجميع خقالها -بدءا ً من بوتيتشيلّي إلى النقاد المعاصرين -جداال حول "اللوحة األكثر جماال" .وكانت
ً ً
اللوحة الفائزة ،باإلجماع العام عبر القرون ،لوحة يعقوب وعيسو ،اللوحة الوسطى في العمود األيسر التي
أن النغدوناختيرت بحسب المزاعم نظرا ً إلى العدد المذهل من األساليب الفنية التي استخدمت في صنعها .غير ّ
أن السبب الفعلي وراء هيمنة اللوحة على اللوحات األخرى هو اختيار بوتيتشيلّي لها لتوقيع اسمه عليها. يعتقد ّ
قبل بضع سنوات ،ذهب إغناتسيو بوزوني مع النغدون بفخر لرؤية هذه األبواب ،واعترف له بخجل أنّه بعد
ّ
وتلوث الهواء ،تم استبدال األبواب المذ ّهبة بهدوء بأخرى مقلدة،
نصف ألفية من التعرض للفيضانات ،والتخريبّ ،
واحتُفظ باألبواب األصلية في موزيو ديل أوبرا ديل دوومو لترميمها .فامتنع النغدون بتهذيب عن إخبار بوزوني
أنّه يدرك تماما ً أنّهما يتأمقان أبوابا ً مزيّفةّ ،
وأن هذه النسخة في الواقع هي المجموعة الثانية من أبواب غيبيرتي
"المزيّفة" التي يراها .إذ وقع على النسخة األولى عن طريق الصدفة؛ بينما كان يجري بحثا ً حول متاهات
كاتدرائية غريس في سان فرانسيسكو ،واكتشف أنّه ت ّم استعمال نسخة عن أبواب غيبيرتي لمدخل الكاتدرائية منذ
أواسط القرن العشرين.
بينما كان النغدون واقفا ً أمام تحفة غيبيرتي ،استرعت انتباهه لوحة إعقانية معلقة في الجوار ،كتبت عليها جملة
إيطالية بسيطة أفزعنه.
ال بيستي نيرا .كانت العبارة تعني "الموت األسود" .قال النغدون لنفسه :يا إلهي ،أنا أجده أينما ذهبت! بحسب
اللوحة ،ت ّم التكليف بصنع الباب امتنانا ً لنجاة فلورنسا إلى حدّ ما من الطاعون.
أجبر النغدون نفسه على التركيز على الباب ،في حين ترددت كلمات إغناتسيو في ذهنه مجدّداً .األبواب مفتوحة
أمامك ،لكن عليك أن تسرع.
مزوداً
وقفت سيينّا قربه على رؤوس أصابعها ،محاولة النظر من بين الحشد .قالت" :الباب المواجه لنا ليس ّ
بمقبض ،أو بقفل ،أو أي شيء".
ف ّكرت سيينّا وهي تلوي شفتيها ،ث ّم قالت" :إذاً ،من بعيد ...ال يمكن ألحد أن يعرف إن كانت األبواب مقفلة أم ال".
أومأ النغدون موافقاً" .آمل أن يكون هذا بالضبط ما ف ّكر فيه إغناتسيو".
مشى بضع خطوات إلى اليمين ،وألقى نظرة على الجهة الشمالية للمبنى ،فرأى هناك بابا ً أق ّل زخرفة ،هو باب
السياح .وقف عنده رجل يد ّخن سيجارة وقد بدا عليه الملل ،وراح يصرف السياح الذين أتوا يستفسرون باإلشارة
إلى الفتة علّقت على المدخل :أبيرتورا .97:88-97:88
ف ّكر النغدون مسروراً ،ال تُفتح األبواب قبل عدّة ساعات .ولم يدخل أحد بعد.
نظر تلقائيا ً إلى معصمه ،وتذ ّكر مجدّداً فقدانه ساعة ميكي ماوس.
عندما عاد إلى سيينّا ،وجدها بين مجموعة من السياح الذين أتوا اللتقاط الصور من وراء السور الحديدي البسيط
الذي ت ّم بناؤه على مسافة عدّة أقدام من األبواب ،لمنع السياح من االقتراب من تحفة غيبيرتي كثيراً.
صنعت بوابة السور من الحديد المطاوع األسود ،وتعلوها مسامير مطلية بماء الذهب .وهذا السور يشبه السور
البسيط الذي غالبا ً ما يحيط بالمنازل في الضواحي .والغريب ّ
أن القافتة اإلعقامية التي تصف أبواب الجنة لم
تعلّق على األبواب نفسها ،بل على هذا السور العادي جدًّا.
أن القافتة تسبب أحيانا ً إرباكا ً للسياح .وبالفعل ،أتت في تلك اللحظة امرأة مكتنزة ترتدي
كان النغدون قد سمع ّ
مقابس أنيقة ،ث ّم نظرت إلى القافتة ،وحملقت عابسة إلى السور الحديدي ،قبل أن تقول ساخرة" :أبواب الجنة؟
تبًّا ،تبدو مثل سياج وجار كلبي!" .ث ّم انصرفت قبل أن يتم ّكن أحد من الشرح لها.
مدّت سيينّا يدها وأمسكت البوابة ،ث ّم نظرت على نحو غير الفت لقانتباه عبر القضبان إلى القفل الموجود في
الخلف.
التفتت إلى النغدون بدهشة وهمست قائلة" :انظر ،القفل في الخلف غير موصد".
نظر النغدون عبر القضبان وأدرك أنّها محقة؛ فقد كان القفل مثبّتا ً ليبدو أنّه مقفل ،لكن عندما تف ّحصه عن كثب،
عرف أنّه مفتوح حتماً.
نظر النغدون إلى مصراعي الباب البرونزيين خلف السور .إن كان إغناتسيو قد ترك فعقاً أبواب المعمودية
مفتوحة ،فما عليه سوى دفعهاّ .
لكن التحدّي يكمن في الدخول من دون لفت أنظار ك ّل الموجودين في الساحة ،بمن
وحراس الدوومو.
ّ فيهم من دون شكّ الشرطة
فجأة ،صاحت امرأة في الجوار" :انظروا! سوف يقفز!" .كان صوتها مليئا ً بالرعب" .هناك ،على برج
األجراس!".
أن المرأة التي تصرخ لم تكن سوى ...سيينّا .كان تقف على بعد خمس ياردات ،وتشير
استدار النغدون ورأى ّ
بإصبعها إلى برج األجراس وهي تصيح" :هناك في األعلى! سوف يقفز!".
تو ّجهت ك ّل األنظار إلى األعلى ،وبدأ أشخاص آخرون يقفون بجوارها ويشيرون وينادون بعضهم بعضاً.
"أحدهم سيقفز؟!".
"أين؟!".
"ال أراه!".
ثوان حتّى ع ّم الذعر أرجاء الساحة ،وأخذ الجميع يحدقون إلى ق ّمة البرج .انتشر الذعر
ٍ لم يستغرق األمر سوى
في الساحة كالنار في الهشيم ،إلى أن اشرأبّت ك ّل األعناق وارتفعت ك ّل األيادي مشيرة إلى البرج.
بعد ذلك ،استدارا معا ً وأغلقا الباب الضخم الذي أطلق صوت جلجلة قويًّا .على الفور ،تقاشت األصوات والجلبة
اآلتية من الخارج ،وخيّم الصمت المطبق.
أشارت سيينّا إلى عارضة خشبية طويلة متروكة على األرض عند أقدامهما ،من الواضح أنّها تستخدم كمزالج يتم
إسقاطه في قوسين من جانبي الباب .قالت" :ال بدّ ّ
أن إغناتسيو قد أزاله من أجلك".
رفعا العارضة معاً ،وأسقطاها في مكانها ،وأقفقا بالفعل أحد أبواب الج ّنة ...وحبسا نفسيهما في الداخل.
مطوالً بصمت ،متّكئين على الباب وهما يلتقطان أنفاسهما .مقارنة بضجيج الساحة ،كان
وقف النغدون وسيينّا ّ
قلب المعمودية غارقا ً في السكينة.
خارج معمودية سان جوفانّي ،مشى صاحب نظارة بلوم باريس وربطة عنق بيزلي بين حشود السياح ،متجاهقاً
نظرات من الحظوا طفحه الجلدي.
للتو إلى الباب البرونزي الذي اختفى وراءه النغدون ورفيقته الشقراء بذكاء .حتى من الخارج ،كان
كان قد وصل ّ
ي الباب وهو يوصد من الداخل. قد سمع دو ّ
كانت الساحة تستعيد أجواءها الطبيعية ببطء .فالسياح الذين كانوا يحدقون إلى األعلى بترقّب ،فقدوا اهتمامهم
بعدما أدركوا عدم وجود أحد ينوي القفز ،وتابع الجميع طريقهم.
تورمت أنامله اآلن وبدأت تتشقّق .فأدخل يديه في جيبيه لمنع نفسه من
عاوده الحكاك مجدداً ،وأخذ الطفح يتفاقمّ .
ً
حكّ بشرته .عاوده األلم في صدره عندما بدأ يدور حول المبنى مث ّمن األضقاع بحثا عن مدخل آخر.
وحين وصل إلى الزاوية ،شعر بألم حاد بين ساقيه ،وأدرك أنّه يحكّ مجدّداً.
الفصل 55
بحسب األسطورة ،عند دخول معمودية سان جوفانّي ،من المستحيل عدم النظر إلى األعلى .وعلى الرغم من
مجيء النغدون إلى هذه القاعة مرات عديدة ،فقد شعر اآلن بجاذبية المكان ،وترك نظره يصعد إلى السقف.
في األعلى ،امتدّ سقف المعمودية المقبّب على أكثر من ثمانين قدما ً من جهة إلى أخرى ،وراح يلمع ويومض كما
لو كان مصنوعا ً من الجمر .عكس سطحه الذهبي عنبري اللون الضوء المحيط به على نحو غير متسا ٍو من أكثر
من مليون قطعة سمالتي؛ وهي عبارة عن قطع فسيفساء دقيقة غير مقصوصة يدويا ً من زجاج السيليكا المصقول،
لتصور مشاهد من الكتاب المقدّس.
ّ ت ّم ترتيبها في ست حلقات متّحدة المركز
اخترق النور الطبيعي القاعة ،مضفيا ً دراما صارخة على الجزء العلوي منها ،وذلك عبر فتحة مركزية شبيهة
بتلك الموجودة في البانثيون في روما ،وعبر سلسلة من النوافذ العميقة الصغيرة والمرتفعة التي تلقي أشعّة من
الضوء المر ّكز والمتماسك إلى حد تبدو معه وكأنها صلبة؛ مثل عوارض بنيوية مشيّدة وفقا ً لزوايا متغيّرة.
عندما مشى النغدون مع سيينّا في القاعة ،استحوذت عليه فسيفساء السقف األسطورية التي تشبه إلى حدّ كبير ما
وصفه دانتي في الكوميديا اإللهية.
ف ّكر النغدون :لقد رأى دانتي أليغييري هذا في طفولته .إ ّنه إلهام من األعلى.
ثبّت النغدون نظره اآلن على محور لوحة الفسيفساء .فوق المذبح الرئيس مباشرة ،ارتفعت صورة ليسوع المسيح
تصور الشيطان.
ّ بطول سبعٍ وعشرين قدماً ،تظهره وهو جالس ،باإلضافة إلى لوحة فسيفسائية أخرى
لطالما أجفل النغدون كلّما رأى هذه الصورة التي حدّق إليها دانتي أليغييري الصغير قبل أكثر من سبعمائة عام،
فأرعبته وألهمته الحقا ً بذلك التصوير الحي لما يختبئ في الحلقة األخيرة من الجحيم.
تصور الفسيفساء في األعلى شيطانا ً ذا قرون يلتهم كائنا ً بشريا ً بدءاً من رأسه .فيما تدلّت ساقا الضحية من فم
ّ
تتلوى في ماليبولغي دانتي.
الشيطان على نحو شبيه بسيقان الخطأة نصف المدفونين التي ّ
على رأسه ثقاثة وجوه ...يسيل من أذقانه الثقاثة دم مزبد ...يستعمل أفواهه الثقاثة كمطاحن ...يلتهم الخطأة ك ّل
ثقاثة معاً.
المروع ،حاول أن يتخيّل تأثير الفسيفساء على دانتي الشابّ الذي كان يأتي
ّ بينما كان النغدون يحدّق إلى المشهد
مرة يصلّي فيها .لكن هذا الصباح،
ّ لّ ك في إليه ّق د يح وهو الشيطان ويرى عام، للصقاة في هذه الكنيسة عاما ً بعد
أن الشيطان يحدّق إليه مباشرة ،وداهمه إحساس بعدم االرتياح. شعر النغدون ّ
أخفض نظره بسرعة إلى شرفة الطابق الثاني للمعمودية والقاعة ،وهي المكان الوحيد الذي يُسمح فيه للنساء
بمشاهدة مراسم التعميد ،ومنها إلى التابوت المعلّق للبابا يوحنا الثالث والعشرين ،الذي تتمدّد جثّته على ارتفاع
عا ٍل في الجدار ،وكأنّه من ساكني الكهوف أو موضوع خدعة قام بها ساحر.
أخيراً ،وصل نظره إلى بقاط األرض المزخرف الذي يعتقد كثيرون أنّه يشتمل على إشارات إلى علم الفلك في
القرون الوسطى .ترك بصره يتن ّقل فوق األشكال المعقّدة السوداء والبيضاء إلى أن بلغ وسط القاعة.
ها هو أخير ًا ،هذا ما ف ّكر فيه النغدون وهو يُحدّق إلى المكان الذي ُ
ع ّمد فيه دانتي أليغييري في النصف الثاني من
القرن الثالث عشر .أعلن قائقاً" :سأعود كشاعر ...إلى جرن معموديتي" .وتردّد صوته في القاعة الخالية" .ها
هو".
بدا على سيينّا االضطراب وهي ترمق وسط األرض ،حيث يشير النغدون" .لكن ...ال يوجد شيء هنا".
يتبق شيء سوى مساحة بنّية مائلة إلى االحمرار ذات شكل مث ّمن األضقاع .هذه المنطقة العادية جدًّا بجوانبها
لم َّ
الثمانية تتناقض بوضوح مع أرضية القاعة المزخرفة ،وتشبه كثيرا ً فجوة كبيرة .وفي الواقع ،هذا ما هي عليه
بالضبط.
أن جرن المعمودية األصلي كان عبارة عن حوض كبير مث ّمن األضقاع يقع في وسط شرح لها النغدون بسرعة ّ
أن أجران المعمودية الحديثة عبارة عن أحواض مرتفعة ،كانت األجران القديمة أقرب هذه القاعة تماماً .وفي حين ّ
إلى حوض عميق للماء يت ّم فيه غمر المع ّمدين بشكل أعمق .تساءل النغدون كيف كانت هذه القاعة تبدو بينما
األطفال يصيحون خوفا ً وهم يُغمرون فعليًّا في حوض المياه الباردة الذي كان موجودا ً في وسطها.
قال النغدون" :كان التعميد باردا ً ومخيفاً؛ حتّى إنّه كان خطيراً .فحسب المزاعم ،قفز دانتي ّ
مرة في الجرن إلنقاذ
طفل يغرق .على ك ّل حال ،ت ّمت تغطية الجرن األصلي في مرحلة ما في القرن السادس عشر".
بدأت سيينّا تنظر في أرجاء القاعة بقلق واضح" .لكن ،إن كان جرن معمودية دانتي قد اختفى ...فأين خبّأ
إغناتسيو القناع؟!".
فهم النغدون سبب توتّرها .في الواقع ،ال تفتقر هذه القاعة الضخمة إلى المخابئ؛ خلف األعمدة والتماثيل والقبور،
وداخل المحاريب ،وعلى المذبح ،وحتّى في الطابق العلوي.
بوابة مزخرفة ،كانت ث ّمة قاعدة سداسية من الرخام المنحوت ،تشبه مذبحا ً صغيراً أو صة مرتفعة وراء ّ
على من ّ
طاولة .كان سطحها الخارجي مليئا ً بالنقوش الدقيقة؛ حيث بدا شبيها ً باللؤلؤ .وفوق القاعدة الرخامية ،كان ث ّمة
سطح خشبي مصقول يبلغ قطره حوالى ثقاث أقدام.
ابتسم النغدون .بالضبط ،هذا ليس مذبحاً أو طاولة .كان السطح الخشبي في الواقع عبارة عن غطاء للقاعدة
المجوفة.
ّ
ّ
هز النغدون رأسه وقال" :لو ّ
أن دانتي يع َّمد اليوم ،فسيت ّم ذلك في هذا الحوض هنا" .ومن دون إضاعة الوقت،
ّ ً ً
أخذ النغدون نفسا عميقا ووضع يديه على الغطاء الخشبي ،وشعر بالترقب وهو يستعدّ لفتحه.
أمسك النغدون طرفي الغطاء بإحكام ورفعه جانباً ،مبعدا ً إيّاه بحذر عن القاعدة الرخامية ،قبل أن يضعه على
األرض بجانب الجرن .بعد ذلك حدّق إلى التجويف المظلم بعرضه البالغ قدمين.
وقف النغدون على حافة جرن المعمودية ،وحدّق إلى قناع الموت األصفر الشاحب الذي كان ينظر إلى األعلى
المكسوة بالتجاعيد .كان األنف المعقوف والذقن البارز ال لبس فيهما.
ّ بمقامحه
دانتي أليغييري.
جثا النغدون لينظر عن كثب .كان عمق الجرن يبلغ عدّة أقدام ،وكان أقرب إلى بئر عمودية منه إلى حوض
ضحل ،إذ تنخفض جدرانه بحدّة إلى القعر بشكله سداسي األضقاع الذي كان مليئا ً بالمياه .والغريب ّ
أن القناع بدا
معلّقا ً في منتصف المسافة إلى األسفل ...وكأنّه يطفو على سطح الماء بسحر ساحر.
ي كلمة وهما يقفان جنبا ً إلى جنب ،محدّقين إلى وجه دانتي أليغييري الذي ما زال
تفوه النغدون وسيينّا بأ ّ
لم ي ّ
محفوظا ً في الكيس المصنوع من النايلون ،وكأنّه مختنق .وللحظة ،ذ ّكرت صورة الوجه الذي يحدّق إلى األعلى
في حوض مليء بالماء النغدون بتجربته المخيفة في طفولته عندما سقط في قعر بئر وراح يحدّق إلى األعلى
يائساً.
طرد الفكرة من عقله ،ث ّم مدّ يده بعناية وأمسك القناع من الجانبين ،حيث ينبغي أن تكون أذنا دانتي .على الرغم
الجص القديم كان أثقل م ّما توقّع .رفع القناع وأخرجه من
ّ أن القناع كان صغيرا ً بالمقاييس الحديثة ،إالّ ّ
أن من ّ
الجرن ،ث ّم حمله عاليا ً لكي يتم ّكن من تف ّحصه هو وسيينّا عن كثب.
حتّى من خقال الكيس ،بدا القناع نابضا ً بالحياة .فك ّل تجاعيد وجه الشاعر العجوز ومقامحه ت ّم التقاطها بواسطة
شق قديم في الوسط ،كان القناع بحالة ممتازة. الجص الرطب .وباستثناء ّ
ّ
كان النغدون ينوي أن يقوم بذلك أساساً .فقد أظهر شريط تسجيل المراقبة في قصر فيكيو بوضوح اكتشافهما هو
وإغناتسيو شيئا ً في الجهة األخرى للقناع؛ شيئا ً ها ًّما جدًّا دفع الرجلين إلى الخروج من القصر مع القطعة األثرية.
الهش وهو يقلبه على وجهه فوق في راحة يده اليمنى لكي
ّ صيحرص النغدون جيّدا ً على عدم إسقاط القناع الج ّ
والمكسو بالتجاعيد الذي يبدو من الخارج ،كان باطن القناع أملس تماماً.
ّ ّ
المسن يتف ّحصا باطنه .خقافا ً لوجه دانتي
ص إلضفاء شيء من المتانة إلى هذه القطعة ً
وبما أنّه لم يُصنع ليوضع على الوجه ،كان باطنه مملوءا بالج ّ
الحسّاسة؛ م ّما جعل الباطن عبارة عن سطح أجوف خا ٍل من المقامح ،وكأنّه وعاء حساء.
لم يعرف النغدون ما الذي كان يتوقّع وجوده في باطن القناع ،لكن بالتأكيد ليس هذا.
ال شيء.
ي فكرة ،وشدّ الكيس على القناع ليراه بوضوح .ال يوجد شيء هنا! تصاعد إحباط ف ّكر النغدون ،ليست لد ّ
يأ ّ
تلونا ً ّ ّ ً
النغدون وهو يرفع القناع إلى الضوء ويتف ّحصه عن كثب .وعندما أمال القناع قليقا ،ظن للحظة أنه لمح ّ
باهتا ً بالقرب من الجزء األعلى؛ خ ًّ
طا من العقامات ممتدًّا أفقيا ً على باطن جبين دانتي.
أهي شوائب طبيعية؟ أو ربّما ...شيء آخر .استدار النغدون على الفور ،وأشار إلى لوح رخامي ّ
مزود بمفاصل
على الجدار خلفهما .قال لسيينّا" :ابحثي هناك عن بعض المناشف".
بدا التش ّكك واضحا ً على تعابير سيينّا ،لكنّها أطاعته ،وفتحت الخزانة ذات الباب الخف ّ
ي ووجدت فيها ثقاثة أشياء:
ص ّمام للتح ّكم بمستوى المياه في الجرن ،ومفتاح للضوء للتح ّكم بالمصباح فوق الجرن ،و ...عدد من المناشف
الكتّانية.
قال وهو يرمق المناشف" :جيّد ،هقاّ حملت القناع للحظة" .نقل القناع بلطف إلى يدي سيينّا ،ث ّم بدأ بالعمل.
ّأوالً ،أعاد النغدون الغطاء سداسي الشكل إلى سطح الجرن الذي سرعان ما استعاد شكل الطاولة الشبيهة بالمذبح.
بعد ذلك ،تناول عددا ً من المناشف الكتّانية من الخزانة وفرشها على الطاولة وكأنّها مفرش مائدة .أخيراً ،أضاء
طى بالمناشف. المصباح الموجود فوق الجرن ،فأضاء مكان التعميد وسطع فوق سطح الطاولة المغ ّ
وضعت سيينّا القناع على غطاء الجرن بحرص ،في حين أخرج النغدون المزيد من المناشف التي استخدمها مثل
قفّازي الفرن إلخراج القناع من الكيس ،مع الحرص على عدم لمسه بيديه مباشرة .بعد لحظات ،كان قناع دانتي
موضوعا ً تحت الضوء ،ووجهه إلى األعلى ،ال يحجبه شيء ،مثل رأس مريض مخدّر على طاولة العمليّات.
ُضع
الجص من حدّة ثنايا الشيخوخة وتجاعيدها .لم ي ِّ
ّ بدا سطح القناع أكثر إرباكا ً في الضوء ،وضاعف تغيّر لون
النغدون الوقت ،بل استخدم قفّازيه المرتجلين لقلب القناع على وجهه.
مصفرا.
ًّ بدا باطن القناع أكثر شبابا ً بكثير من سطحه الخارجي ،فقد كان نظيفا ً وأبيض اللون وليس قديما ً أو
أمالت سيينّا رأسها ،وبدت عليها الحيرة" :أال تبدو لك هذه الجهة جديدة أكثر؟".
بالفعل ،كان اختقاف اللون واضحا ً أكثر م ّما تخيّل النغدونّ ،
لكن هذه الجهة بالتأكيد بعمر الجهة األخرى نفسه.
يتعرض آلثار الشيخوخة
ّ ولم العرض، خزانة قال" :إنّها شيخوخة متفاوتة .فقد ت ّمت حماية باطن القناع بفضل
الناجمة عن ضوء الشمس" .ذ ّكر النغدون نفسه بمضاعفة درجة كريم الوقاية من الشمس الذي يستخدمه.
قالت سيينّا وهي تنحني فوق القناع" :لحظة واحدة ،انظر! هنا على الجبين! ال بدّ ّ
أن هذا ما رأيتماه أنت
وإغناتسيو".
التلون الذي لمحه قبل قليل من خقال الكيس ،والذي كان عبارة
نظر النغدون إلى السطح األبيض األملس؛ إلى ّ
عن خ ّ
ط باهت من العقامات الممتدّة أفقيا ً على باطن جبين دانتي .لكن ،تحت الضوء الساطع ،رأى النغدون
صنع إنسان.
أن هذه العقامات لم تكن شوائب طبيعية ...بل من ُ بوضوح ّ
بالكاد سمعها النغدون ،فقد كان يتساءل :من كتب هذا؟ أهو شخص من حقبة دانتي؟ يبدو هذا األمر غير محتمل.
المؤرخين سيكتشف األمر منذ زمن طويل خقال عمليّة التنظيف والترميم المنتظمة التي
ّ في تلك الحالة ،كان أحد
أن النغدون لم يسمع بذلك ق ّ
ط. كان القناع يخضع لها ،وكانت الكتابة عندها ستتحول إلى جزء منه .غير ّ
بيرتراند زوبريست.
النص
ّ كان زوبريست مالك القناع ،ويستطيع بالتالي أن يطلب الوصول إليه على انفراد كلّما أراد ذلك .ربّما كتب
على باطن القناع مؤ ّخراً وأعاده إلى الخزانة األثرية من دون معرفة أحد .فقد قالت لهما مارتا :مالك القناع ال
يسمح لمو ّظفينا بفتح الخزانة من دون وجوده.
لكن ذلك االحتمال سبّب لها اضطرابا ً واضحاً .قالت" :هذا غير منطقي .إن بدا على سيينّا أنّها قبلت تفسيرهّ ،
ّ
الخاص بدانتي ،وأنه تكبّد عناء ابتكار ذلك
ّ سرا بكتابة شيء ما على باطن قناع الموت أن زوبريست قام ًّ صدّقنا ّ
المسقاط الصغير لإلشارة إلى القناع ...فلماذا لم يكتب إذاً شيئا ً أكثر وضوحاً؟ برأيي ،هذا ال معنى له! هل بحثنا
أنا وأنت عن هذا القناع ،لكي ال نجد سوى هذا؟".
لكن النغدون شعر باإلثارة المألوفة إللهام وشيك ،بعدما أدرك على الفور تقريبا ً ّ
أن هذه األحرف السبعة ستخبره ّ
بك ّل ما يحتاج إلى معرفته عن الخطوة التالية التي تنتظره هو وسيينّا.
عقاوة على ذلك ،كان قد اكتشف رائحة خفيفة تصدر من القناع ،رائحة مألوفة كشفت له السبب وراء اللون األكثر
للجص ...وهذا االختقاف ال عقاقة له بالشيخوخة وال بأشعّة الشمس.
ّ بياضا ً للجهة الباطنية
هز النغدون رأسه ببطء ،وهو يتأ ّمل السطر المؤلّف من سبعة أحرف متشابهة نُقشت بعناية وبخ ّ
ط أنيق على باطن ّ
جبين دانتي.
PPPPPPP
ابتسم النغدون بهدوء ونظر إليها" .أقترح أن نفعل بالضبط ما تطلبه منّا هذه الرسالة".
حملقت به سيينّا وسألته" :سبعة !Pرسالة!".
خارج معمودية سان جوفانّي ،مسح الرجل ذو ربطة العنق أظفاره بمنديله كما مسح البثور على عنقه .حاول
تجاهل األلم الحارق في عينيه ونظر إلى وجهته.
مدخل السيّاح.
خارج الباب ،وقف رجل منهك يرتدي سترة ويد ّخن سيجارة وقام بإعادة توجيه السيّاح الذين لم يتم ّكنوا من فهم
الجدول الزمني للمبنى ،والذي كان مكتوبا ً بالتوقيت الدولي.
أبيرتورا .97:88-97:88
تحقّق الرجل المصاب بالطفح الجلدي من ساعته .كانت تشير إلى 98:86صباحاً .هذا يعني ّ
أن المعمودية ستبقى
مغلقة لساعتين أخريَين .راقب الحارس لبعض الوقت ،ث ّم اتّخذ قراره .فنزع الحلقة الذهبية من أذنه ووضعها في
جيبه ،ث ّم أخرج محفظته وتحقّق من محتوياتها .باإلضافة إلى بطاقات االئتمان ورزمة من األوراق النقدية
باليورو ،كان يحمل أكثر من ثقاثة آالف دوالر نقداً.
لحسن الح ّ
ظّ ،
إن الطمع خطيئة عالمية.
الفصل 57
… Peccatum … Peccatum … Peccatum
دوى صوته عبر مكبّرات الصوت" :لقد هبطنا اآلن عبر حلقات الجحيم التسع إلى مركز األرض ،وأصبحنا وجها ًّ
لوجه مع الشيطان نفسه".
مرر النغدون سلسلة من الصور للشيطان ذي الرؤوس الثقاثة من أعمال فنّية مختلفة؛ خارطة بوتيتشيلّي،
ّ
ملوثا ً بدم ضحاياه
فسيفساء معمودية فلورنسا ،والشيطان األسود المخيف ألندريا دي تشوني الذي يبدو فراؤه ّ
القرمزي.
مرر النغدون مزيدا ً من الصور ،إلى أن وصل إلى صورة عرضها سابقاً ،أال وهي لوحة دومينيكو دي ميكيلينو ّ
تصور دانتي بردائه األحمر واقفا ً خارج جدران فلورنسا" .وإن نظرتم بعناية ...فسترون
ّ من داخل الدوومو التي
تلك النجوم".
أشار النغدون إلى السماء المليئة بالنجوم الممتدّة فوق رأس دانتي وأضاف" :كما ترون ،تتألّف السماء من سلسلة
من تسع دوائر متّحدة المركز تحيط باألرض .وتهدف هذه البنية المؤلّفة من تسع طبقات للجنّة إلى عكس الحلقات
متكرراً لدى دانتي".
ّ التسع للعالم السفلي وإحداث توازن معها .وكما الحظتم على األرجح يُعتبر الرقم تسعة رقما ً
صمت النغدون ،وتناول رشفة من الماء ،ث ّم ترك الحضور يلتقطون أنفاسهم بعد هبوطهم المخيف وخروجهم
النهائي من الجحيم.
"إذاً ،بعد تح ّمل أهوال الجحيم ،ال بدّ أنّكم متح ّمسون جميعا ً لقانتقال إلى الجنّة .لكن مع األسف ،ال شيء بسيط في
عالم دانتي" .تن ّهد بشكل دراماتيكي مضيفاً" :للصعود إلى الجنّة ،علينا جميعاً ،من الناحية المجازية والفعلية على
السواء ،أن نتسلّق جبقاً".
أشار النغدون إلى لوحة ميكيلينو .في األفق ،خلف دانتي ،يستطيع الحضور رؤية جبل واحد مخروطي الشكل
تدرجات تزداد
مرات ،يتصاعد في ّ يصعد إلى السماء .كما يبدو أنه طريق يدور حول الجبل بشكل لولبي تسع ّ
ويمرون بشتّى أنواع الكفّارات على الطريق.
ّ ضيقا ً نحو األعلى .على طول الطريق ،يمشي أشخاص عراة ببؤس،
أعلن النغدون قائقاً" :أقدّم لكم جبل المطهر .مع األسف ،هذا الصعود المرهق عبر تسع حلقات هو الطريق
الوحيد من أعماق الجحيم إلى أمجاد الجنّة .على هذا الطريق ،ترون النفوس التائبة وهي تصعد ،وك ّل منها تدفع
الثمن المناسب لخطيئة معيّنة .على الحسودين أن يصعدوا وأعينهم مغمضة لكي ال يطمعوا بشيء ،وعلى
الفخورين أن يحملوا صخورا ً ضخمة على ظهورهم لكي ينحنوا بتواضع ،وعلى الشرهين أن يصعدوا من دون
طعام أو ماء ليتض ّوروا جوعاً ،وعلى أصحاب الشهوات أن يصعدوا عبر ألسنة النيران الحارقة لتط ّهرهم من
حرارة العواطف ."...صمت مضيفاً" :لكن ،قبل أن يتاح لكم هذا الشرف العظيم لتسلّق الجبل والتط ّهر من
ذنوبكم ،عليكم التحدّث مع هذا الكائن".
"كقاّ".
ّ
وكأن ابتسم النغدون قائقاً" :يبدو أنّه ث ّمة من يعرف دانتي" .أشار مجدّدا ً إلى اللوحة" .أعرف ّ
أن األمر يبدو
نص دانتي ،يستخدم المقاك الذي يحرس لكن الحال ليس كذلك .فبحسب ّ المقاك يطعن هذا المسكين في جبينهّ ،
المطهر طرف سيفه لكتابة شيء ما على جبين ك ّل من الوافدين إليه قبل دخولهم .وال بد أنّكم تتساءلون ع ّما
يكتبه".
مرات .هل يعرف صمت النغدون لزيادة اإلثارة ث ّم قال" :الغريب في األمر أنّه يكتب حرفا ً واحداًّ ...
يكرره سبع ّ
مرات على جبين دانتي؟".أحدكم ما هو الحرف الذي يكتبه المقاك سبع ّ
ابتسم النغدون" .أجل ،الحرف .Pوهذا الحرف يعني بيكاتوم ،وهي كلمة التينية تعني خطيئة .وكتابته سبع ّ
مرات
ترمز إلى سيبتيم بيكاتا مورتاليا ،أي ."-
"بالضبط .بالتالي ،فقط بصعود ك ّل مستوى من مستويات المطهر يمكنك التكفير عن خطاياك .مع ك ّل مستوى
تصعده ،يقوم مقاك بتطهير إحدى الخطايا من جبينك إلى أن تبلغ الق ّمة ،وتصل بجبين خا ٍل من األحرف السبعة...
وبروح مط ّهرة من الخطايا" .ث ّم غمز مضيفاً" :فذلك المكان ال يس ّمى مطهرا ً من دون سبب".
خرج النغدون من أفكاره لرؤية سيينّا التي وقفت أمام جرن المعمودية محدّقة إليه .قالت وهي تعيده إلى الوقت
إن هذه األحرف السبعة تحمل رسالة؟ هل تخبرنا بما علينا فعله؟".الحاضر وتشير إلى قناع دانتي" :أتقول ّ
أن بيرتراند زوبريست ،الذي كان مولعا ً بدانتي ،يعرف عن األحرف Pالسبعة ختم النغدون" :من الواضح ّ
وعملية إزالتها عن الجبين كوسيلة للتقدّم نحو الجنّة".
أن بيرتراند زوبريست وضع تلك األحرف على القناع ألنّه يريدنا ...أن نمسحهابدا التش ّكك على سيينّا" .أتعتقد ّ
عن قناع الموت؟ أهذا ما تعتقد ّ
أن علينا فعله؟".
"أدرك ّ
أن ."-
"روبرت ،حتّى لو مسحنا هذه األحرف ،فكيف سيساعدنا ذلك؟! سينتهي بنا األمر مع قناع خا ٍل تماماً".
"ربّما" .ث ّم ابتسم ابتسامة مليئة باألمل وأضاف" :وربّما ال .أعتقد ّ
أن هذا الشيء يحتوي على أكثر م ّما تراه
ً العين" .وأشار إلى القناع" .هل تذكرين أنّني قلت ّ
إن باطن القناع أفتح لونا بسبب الشيخوخة المتفاوتة؟".
"أجل".
"ربّما كنت مخطئاً .إذ يبدو تفاوت األلوان صارخا ً جد ًّا حيث ال يمكن اعتباره بفعل الشيخوخة ،كما ّ
أن النسيج
الخلفي مسنّن".
"مسنّن!".
"ال أفهم".
"بالتأكيد ،إنّها مادّة يستخدمها الرسّامون لتأسيس اللوحات "-توقّفت بعد أن بدأت تفهم على ما يبدو.
قال النغدون" :بالضبط .يستخدمون الجيسّو لتكوين سطح أبيض نظيف وخشن ،وفي بعض األحيان لتغطية
لوحات غير مرغوب فيها إن أرادوا إعادة استخدام القماش".
"هذا األمر يفسّر الخشونة واختقاف اللون .كما قد يفسّر لماذا أراد منّا أن نزيل األحرف السبعة".
قال لها النغدون وهو يرفع القناع إلى مستوى وجهها" :ش ّمي رائحته".
بدا االشمئزاز على وجه سيينّا وسألته" :هل رائحة الجيسّو تشبه رائحة كلب مبلّل؟".
"ليس ك ّل أنواعه .فالجيسّو العادي رائحته مثل رائحة الطبشور .أ ّما هذا النوع فهو جيسّو األكريليك".
أمالت سيينّا رأسها جانباً ،وشعر النغدون أنّها بدأت تفهم .انتقل نظرها ببطء إلى القناع ،ومنه فجأة إلى النغدون،
"أتظن أن ث ّمة شيئا ً تحت الجيسّو؟".
ّ وقالت وهي تحملق:
يغطي الجرن ورفعته جانباً .حملت منشفة كتّانية نظيفةأمسكت سيينّا بالغطاء الخشبي سداسي الشكل الذي ّ
وغمستها في ماء التعميد ،ث ّم أعطت النغدون المنشفة المبلّلة قائلة" :افعل ذلك بنفسك".
وضع النغدون القناع المقلوب على وجهه في راحة يده اليسرى ،وأمسك بالمنشفة المبلّلة .عصر فائض الماء،
وبدأ يمسح بها باطن جبين دانتي ،ويبلّل المنطقة التي ُكتبت عليها األحرف السبعة .وبعد أن ربّت عليها عدّة ّ
مرات
بسبّابته ،أعاد تغميس المنشفة في الجرن وتابع محاوالته؛ فبدأ الحبر األسود بالزوال.
نظرت إلى األعلى ومن ث ّم إلى القناع .وبينما تابع النغدون مسح باطن القناع بالماء ،بدأ الجص األصلي يظهر
المصفر أكثر انسجاما ً مع توقعات النغدون لتحفة بهذا القدم .عندما اختفى الحرف
ّ تحت طبقة الجيسّو ،وكان لونه
األخير من األحرف السبعة ،جفّف مكانها بمنشفة نظيفة وحمل القناع لتتم ّكن سيينّا من رؤيته.
تماماً ،كما توقّع النغدون ،كانت طبقة الجيسّو تخفي شيئا ً تحتها ،هو عبارة عن طبقة أخرى من الكتابة؛ تسعة
للجص األصلي.
ّ أحرف مكتوبة مباشرة على السطح األصفر الشاحب
النص الذي ظهر تحت األحرف السبعة؛ كلمة واحدة مكتوبة على باطن جبين دانتي.
ّ وأنا أيضاً .تأ ّمل النغدون
المسكون
حول النغدون نظره إلى األعلى ،إلى فسيفساء الشيطان الذي يلتهم األشخاص الملعونين الذين لم يتم ّكنوا من ربّماّ .
تطهير أنفسهم من الخطيئة ق ّ
ط .دانتي ...مسكون؟ ال يبدو هذا الكقام منطقياً.
قالت سيينّا وهي تأخذ القناع من بين يدي النغدون وتتف ّحصه عن كثب" :ال بدّ ّ
أن ث ّمة المزيد" .بعد لحظة ،أخذت
ّ
تهز رأسها قائلة" :بالفعل ،انظر إلى أطراف الكلمة ...ث ّمة المزيد من الكلمات من الجانبين".
نظر النغدون إلى القناع مجدّداً ،ورأى ظقاًّ باهتا ً لكلمات إضافية تبدو عبر الجيسّو الرطب من جان َبي كلمة
المسكون.
تناولت سيينّا المنشفة بحماسة ،وواصلت مسح باطن القناع حول الكلمة ،إلى أن برز ّ
نص أكبر ،مكتوب بشكل
مقوس.
ّ
أطلق النغدون صفرة خافتة" .يا أيّها المسكون بالحكمة ...تأ ّمل التعاليم المخبّأة هنا ...وراء حجاب أبيات غامضة
جدًّا".
عندما أخرجت سيينّا المنشفة من المياه ،كانت تقطر ما ًء ،وبالكاد عصرتها قبل أن تضعها في وسط القناع وتحفّه
ظف وعاء حساء. كما لو أنّها تن ّ
"النص يغ ّ
طي باطن القناع بأكمله! وهو مكتوب بـ "...صمتت ،وأمالت رأسها ّ أعلنت وهي تتف ّحص باطن القناع:
إلى اليسار ،ث ّم أدارت القناع إلى اليمين ،وكأ ّنها تحاول القراءة بشكل جانبي.
أنهت سيينّا تنظيف القناع ،ثم جفّفته بمنشفة نظيفة ،ووضعته أمامه لكي يتم ّكنا من رؤية النتيجة معاً.
النص يذ ّكر على نحو غريب بجبل المطهر بطريقه اللولبي إلى الجنّة .حدّد عا ِّلم الرموز فوراً نوع الخ ّ
ط ّ طكان خ ّ
أن عدد الدورات بدءاً من الكلمة األولى، اللولبي بدقّة .أرخميدسي ،متناظر ،با ّتجاه عقارب الساعة .كما الحظ ّ
"يا" ،ووصوالً إلى النقطة األخيرة في الوسط مألوف.
تسعة.
ّ
وكأن النص .يبدو
ّ أتعرف على هز النغدون رأسه نافياً" .ال ّ
أظن ذلك .إنّها مكتوبة بطريقة مشابهة ،لكنّني لم ّ ّ
شخصا ً ما يحاول تقليد أسلوب دانتي".
أومأ النغدون برأسه موافقاً .كان هذا ظنّه هو أيضاً .فبتعديله خارطة الجحيم لبوتيتشيلّي ،أظهر زوبريست ميله
إلى التعاون مع األساتذة الكبار وتعديل األعمال الفنّية العظيمة بما يتناسب مع احتياجاته.
"بقيّة الكلمات غريبة جدًّا" .قال النغدون ذلك وهو يدير القناع ويقرأ" .يتحدّث عن ...قطع رؤوس الخيل...
واقتقاع عظام عمياء "...تابع القراءة حتى وصل إلى السطر األخير الذي كان مكتوبا ً في دائرة ضيّقة في وسط
القناع ،وصدرت عنه شهقة خافتة" .كما أنّه يذكر مياها ً حمراء كالدم".
ق ّ
طبت سيينّا حاجبيها" .كما في الرؤى التي ظهرت فيها ذات الشعر الفضّي؟".
النص بحيرة .مياه حمراء كالدم ...مياه البحيرة التي ال تعكس النجوم؟
ّ ّ
هز النغدون رأسه ،وهو يتأ ّمل
همست وهي تقرأ من فوق كتفه وتشير إلى كلمة في منتصف الدائرة اللولبية" :انظر ،هذا مكان معيّن".
النص بسرعة .كان ث ّمة ذِّكر لواحدة من أكثر المدن إثارة وفرادة في
ّ وجد النغدون الكلمة التي فاتته عندما قرأ
ً ّ
أحس بقشعريرة لعلمه أن هذه المدينة هي أيضا المدينة التي أصيب فيها دانتي أليغييريّ أن النغدونالعالم .غير ّ
بالمرض القاتل الذي قضى عليه.
البندقية.
تأ ّمل النغدون وسيينّا األبيات الرمزية بصمت للحظات عدّة .كانت القصيدة مقلقة ومخيفة ،ويصعب تفكيك
أن استخدام كلمتي دوج] [3وبحيرة ،أ ّكد لقانغدون من دون أدنى شكّ ّ
أن القصيدة تشير بالفعل إلى رموزها .كما ّ
قاض ّأول من أهلها ّ
البندقية ،تلك المدينة اإليطالية الفريدة المؤلفة من مئات األقنية المترابطة التي حكمها لقرون ٍ
عُرف باسم دوج.
قالت سيينّا ،وهي تقرأ معه" :إ ّنها تشير إلى مكان تحت األرض".
ّ
هز النغدون رأسه باضطراب ،وقرأ السطر التالي.
اهبط إلى أعماق القصر الغارق ...فهناك ،في الظقام ،ينتظر الوحش القابع في العالم السفلي.
قال الرجل الذي كسا وجهه طفح جلدي" :غراتسيي مي ّلي" .شكر ًا جزي ً
قا.
"تشينكوي مينوتي" .ذ ّكره بذلك وهو يفتح بتكتّم الباب الموصد مسافة تكفي فقط لمرور الرجل إلى الداخل.
أغلق الحارس الباب على الرجل الذي أصبح في الداخل ،وحجب بذلك ك ّل األصوات اآلتية من الخارج .خمس
دقائق .في البداية ،رفض الحارس أن يشفق على الرجل الذي اد ّعى أنّه أتى من الواليات المتّحدة للصقاة في
معمودية سان جوفانّي أمقاً في الشفاء من مرضه الجلدي الرهيب .لكن في النهاية ،أتاه إلهام بالتعاطف معه،
ساعده على ذلك من دون شكّ مبلغ خمسمائة دوالر دفعها له لقاء تمضية خمس دقائق وحده في المعمودية...
باإلضافة إلى خوفه المتزايد من وقوف هذا الرجل بمرضه الذي يبدو معديا ً قربه خقال الساعات الثقاث التالية
بانتظار موعد فتح األبواب.
اآلن ،وبينما راح الرجل يتنقّل خلسة في القاعة ذات األضقاع الثمانية ،نظر إلى السقف تلقائياً .تبًّا .لم يسبق له أن
رأى شيئا ً كهذا .شيطان بثقاثة رؤوس يحدّق إليه مباشرة؛ م ّما دفعه إلى خفض بصره بسرعة إلى األرض.
بينما كان الرجل يتف ّحص القاعة ،وقع بصره على المذبح الرئيس .كان عبارة عن كتلة رخامية ضخمة مستطيلة
المتفرجين على مسافة منها.
ّ الشكل ،يحيط بها حاجز إلبقاء
أن أحد حبال الحاجز كان يتأرجح بخفّة ...وكأنّه
بدا المذبح وكأنّه المخبأ الوحيد في القاعة بأكملها .أضف إلى ذلك ّ
تعرض لقاهتزاز. ّ
خلف المذبح ،اختبأ النغدون وسيينّا بصمت .بالكاد وجدا الوقت لجمع المناشف المتّسخة وإعادة الغطاء إلى سطح
الجرن ،قبل أن يختبئا خلف المذبح الرئيس ،وقد حمقا القناع معهما .كانا ينويان االختباء هناك إلى أن تمتلئ
الغرفة بالسيّاح ،ليتسلّقا بعد ذلك خلسة بين الحشود.
يلف القاعة ،سمع النغدون وقع خطى شخص واحد يمشي على األرض الحجرية.
بعدما عاد الصمت ّ
الحراس دخل إللقاء نظرة على القاعة قبل فتحها أمام السيّاح اليوم؟
أهو أحد ّ
لم يجد الوقت الكافي إلطفاء المصباح فوق جرن المعمودية ،وتساءل ع ّما إذا كان الحارس سيقاحظ ذلك .راحت
الخطوات تتنقّل بسرعة باتّجاههما قبل أن تتوقّف أمام المذبح ،قرب الحبل الذي ّ
مر النغدون وسيي ّنا من فوقه ّ
للتو.
فجأة ،ارتفع صوت الرجل بغضب" :روبرت ،هذا أنا .أعرف أنّك هنا .اخرج حاالً واشرح لي ما فعلته".
الفصل 59
ال جدوى من إنكار وجودي.
أشار النغدون لسيينّا لكي تبقى مختبئة ،حاملة قناع دانتي الذي أعاد وضعه في الكيس.
بعد ذلك ،نهض النغدون على قدميه ببطء .وقف مثل كاهن خلف مذبح المعمودية ،وحدّق إلى رعيّته المؤلّفة من
أن طفحا ً جلديًّا غريبا ً غزا وجهه رجل واحد .كان الغريب الواقف أمامه رجقاً بنّي الشعر ،يضع ن ّ
ظارة أنيقة ،غير ّ
المتورمتان تقدحان شررا ً ويبدو عليهما االرتباك.
ّ وعنقه .أخذ يحكّ بعصبية رقبته المتهيّجة ،فيما كانت عيناه
يمر من فوق الحبل ويقترب منه" :أخبرني حاالً ،ماذا تفعل روبرت؟!" .كانت لكنته أميركية.
سأله وهو ّ
شعر النغدون بشيء مألوف في عيني الرجل ...وربّما صوته أيضاً .لقد التقيته ...بطريقة ما ،في مكان ماّ .
كرر
النغدون طلبه بهدوء" .أرجوك ،أخبرني من أنت وكيف أعرفك؟".
سأله الرجل وهو يواصل حكّ عنقه وخدّيه اللذين كساهما االحمرار والقروح" :لماذا لم تتصل؟! ومن هي المرأة
التي رأيتك تدخل معها؟ هل أصبحت تعمل لحسابها اآلن؟".
وقفت سيينّا بجانب النغدون ،وتولّت الشرح للغريب" .د .فيريس؟ أنا سيينّا بروكس ،وأنا طبيبة أيضاً .أعمل هنا
في فلورنسا .لقد أصيب البروفيسور النغدون بعيار ناري في رأسه .إنّه يعاني اآلن من فقدان الذاكرة االنتكاسي،
وال يعرف من تكون وال ما جرى معه في اليومين الماضيين .أنا هنا لمساعدته".
تردّدت أصداء كلمات سيينّا في المعمودية الخالية ،في حين أمال الرجل رأسه في حيرة ،وكأنّه لم يستوعب معنى
ما قالته تماماً .بعد لحظة من الدهشة ،تراجع خطوة إلى الوراء ،واستند إلى أحد أعمدة الحاجز.
هز رأسه وكأنّه يحاول وضع قطع األحجية في مكانها" .ظننّا أنّكهمس القادم الجديد" :روبرت ،ظننّا أنّكّ "...
انتقلت إلى الطرف اآلخر ...وأنّهم ربّما قاموا برشوتك ...أو تهديدك ...لم نعرف بالضبط!".
قالت سيينّا" :أنا الوحيدة التي تكلّم معها .ك ّل ما يعرفه هو أنّه استيقظ في الليلة الماضية في المستشفى الذي أعمل
أن هناك رؤى رهيبة تراوده؛ فيها جثث ،وضحايا طاعون ،وامرأة فيه ،وصادف أشخاصا ً يحاولون قتله .كما ّ
ذات شعر فضّي وتميمة على شكل ثعبان تقول له ."-
قال الرجل" :إليزابيث! هذه د .إليزابيث سينسكي! روبرت ،إنّها المرأة التي جنّدتك لمساعدتنا!".
قالت سيينّا" :إذاً ،في هذه الحالة آمل أن تكون على علم بأنها في ورطة .فقد رأيناها في فان مليء بالجنود ،وبدت
وكأنّها مخدّرة أو شيء من هذا القبيل".
هز الرجل رأسه ببطء مشيرا ً إلى معرفته باألمر ،وأغمض عينيه .عندئذ ،بدت أجفانه منتفخة وحمراء.
ّ
"ماذا ح ّل ببشرتك؟ تبدو كما لو أ ّنك قد التقطت عدوى ما .هل أنت مريض؟".
أن النغدون تساءل عن الشيء نفسه. ظا إلى درجة الوقاحة ،إالّ ّأن سؤال سيي ّنا كان بالتأكيد ف ًّ
فوجئ الرجل .ومع ّ
والمتقرحة مثيراً
ّ الحمراء الرجل بشرة منظر كان اليوم، واجهها التي الطاعون إلى اإلشارات فنظرا ً إلى كثرة
للقلق.
غامرت سيينّا بسؤاله" :أخبرني ،هل يعني لك اسم بيرتراند زوبريست شيئاً؟".
جمد الرجل ،وبدا كما لو أنّه يقف وجها ً لوجه أمام الشيطان ذي ّ
الرؤوس الثقاثة.
للتو رسالة منه .وهي تشير إلى مكان في البندقية .هل يعني لك ذلك شيئاً؟".
قالت سيينّا" :نعتقد أنّنا وجدنا ّ
بدا االضطراب في نظرات الرجل الذي صاح قائقاً" :يا إلهي ،أجل! بك ّل تأكيد! إلى أين تشير؟!".
أخذت سيينّا نفسا ً وهي تستعدّ كما يبدو بوضوح إلخبار الرجل بك ّل شيء عن القصيدة اللولبية التي اكتشفاها ّ
للتو
لكن النغدون وضع يده تلقائيا ً على يدها إلسكاتها .يبدو هذا الرجل بالتأكيد حليفا ً لهما ،لكن بعد أحداث
على القناعّ ،
إن ربطة العنق التي يضعها الرجل تذ ّكره هذا اليوم ،لم يعد النغدون يرغب في أن يثق بأحد .باإلضافة إلى ذلكّ ،
بشيء ما ،ويشعر أنّه قد يكون الرجل نفسه الذي رآه يصلّي في كنيسة دانتي الصغيرة قبل قليل .هل كان يتع ّقبنا؟
"أنا آسف ...مع د .بروكس .فتبعتكما على أمل معرفة ما تفعله بالضبط".
"أجل ،كنت أحاول أن أعرف ما الذي تفعله ،لكنّني لم أفهم شيئاً! غادرتَ الكنيسة مثل رجل لديه مه ّمة محدّدة،
أن الوقت قد حان للمواجهة ،فرشوت فقمتُ بتع ّقبكما .وعندما رأيتكما تتسلّقان إلى داخل المعمودية ،رأيت ّ
الحارس ليسمح لي بالدخول لبضع دقائق".
تظن أنّني قد انقلبت ضدّكم!".
أشار النغدون" :يا لها من خطوة غريبة إن كنت ّ
ي شعور أنّك ال يمكن أن تفعل ذلك .فشيء كهذا ال يصدر عن البروفيسور روبرت هز الرجل رأسه نافياً" .كان لد ّّ
ّ ً
النغدون .كنت واثقا من وجود تفسير آخر .لكن ،فقدان الذاكرة!! إنه أمر ال يصدّق ،لم يكن من الممكن أن يخطر
على بالي مطلقاً".
ي أكثر من خمس دقائق .علينا الخروج من هنا فوراً .إن بدأ الرجل يحكّ جلده بعصبية مجدّداً" .اسمع ،ليس لد ّ
كنت قد عثرت عليك ،فباستطاعة من يحاولون قتلك إيجادك أيضاً .ث ّمة الكثير من األمور التي ال تفهمها .علينا
ال .لكن علينا الخروج من فلورنسا خلسة .فالناس الذين يحتجزون د .سينسكي ...أولئك الذهاب إلى البندقية ،حا ً
الذين يقاحقونك ...لديهم أعين في ك ّل مكان" .وأشار إلى الباب.
تمسّك النغدون بموقفه ،وشعر أخيرا ً أنّه يستطيع الحصول على بعض اإلجابات" .من هم الرجال ذوو المقابس
السوداء؟ ولماذا يحاولون قتلي؟".
عبس النغدون لدى سماعه هذه اإلجابة التي لم ترق له تماماً .أشار إلى سيينّا واقتادها جانباً ،ث ّم تحدّث معها
بصوت خافت" .هل تثقين به؟ ما رأيك؟".
نظرت سيينّا إلى النغدون كما لو أنّه مجنون" .رأيي أنّه ينتمي إلى من ّ
ظمة الص ّحة العالمية! وأعتقد أنّه فرصتنا
للحصول على إجابات!".
نظرت إليه غير مصدّقة" :شيء آخر؟! روبرت ،هذا ليس طاعوناً؛ إن كان هذا ما يشغل بالك .حبًّا باهلل ،الرجل
يتهور بالخروج ونشره بين الناس". طبيب .لو كان يعاني من مرض فتّاك ،ويعرف أنّه معدٍ ،فهو لن ّ
ف ّكرت سيينّا للحظة ث ّم أجابت" :إذاً ،أخشى أنّه قُضي علينا أنا وأنت ...وكذلك ك ّل من في هذه المنطقة".
"أنا أحاول أن أكون صريحة وحسب" .ث ّم أعطته الكيس الذي يحتوي على القناع" .يمكنك أن تحمل صديقنا
الصغير".
عندما التفتا إلى د .فيريس الحظا أنّه ينهي مكالمة هاتفية بصوت خافت.
للمرة
قال الرجل" :اتصلت بسائقي ،سيقاقينا أمام "-صمت د .فيريس وهو يحدّق إلى يدي النغدون ،ويرى ّ
األولى وجه دانتي أليغييري الميت.
في عالم نشر الكتب ،كانت المستجدّات الليلية الطارئة نادرة جدًّا؛ مثل النجاح بين ليلة وضحاها .توتّر فوكمان،
فقام من سريره وأسرع إلى مكتبه.
"ألو" .كان الصوت الذي أجابه مألوفا ً وعميقاً" .جوناس ،الحمد هلل أنّك في المنزل ،معك روبرت .آمل أالّ أكون
قد أيقظتك".
"أنا أواجه بعض المتاعب جوناس ،وأحتاج إلى خدمة" .بدا صوت النغدون متوتّراً" .وهي تتض ّمن الحصول
صة بشركة نت جيتس".
على بطاقتك الخا ّ
ضحك فوكمان غير مصدّق" :نت جيتس! روبرت ،نحن نعمل في نشر الكتب ،وال يمكننا الوصول إلى الطائرات
صة".
الخا ّ
"جوناس ،سأدفع تكاليف الرحلة مهما بلغت ،أعدك بذلك .هل سبق أن أخلفت بوعدي يوماً؟".
باستثناء مرور ثقاث سنوات على انتهاء مهلتك؟ مع ذلك شعر فوكمان باإللحاح في نبرة النغدون" .أخبرني ،ماذا
يجري؟ سأحاول مساعدتك".
ي الوقت ألشرح ،لك ّنني أحتاج فعقاً إلى هذه الخدمة منك .إنّها مسألة حياة أو موت".
"ليس لد ّ
عمل فوكمان مع النغدون لمدّة طويلة ،حيث أصبح يعرف حسّه الساخر بالمرح ،لكنّه لم يجد أ ّ
ي أثر للمزاح في
نبرة النغدون القلقة في تلك اللحظة .يبدو الرجل جادًّا .تن ّهد فوكمان ،واتّخذ قراره .مديري المالي سيقتلني .بعد
صة.
دون تفاصيل طلب رحلة النغدون الخا ّ ثقاثين ثانية ،كان فوكمان قد ّ
سأله النغدون ،بعد أن شعر بتردّد الناشر ودهشته إزاء تفاصيل الرحلة" :هل ك ّل شيء على ما يرام؟".
أجاب فوكمان" :أجل ،لكنّني ظننت أنّك في الواليات المتّحدة .وقد فوجئت لدى معرفتي أنّك في إيطاليا".
قال النغدون" :وأنا كذلك .شكرا ً جوناس .أنا في طريقي إلى المطار اآلن".
يقع مركز العمليّات األميركية لشركة نت جيتس في كولومبس ،في والية أوهايو ،وهو مج ّهز بفريق طيران على
مدار الساعة.
تسوي
للتو مكالمة هاتفية من صاحب دار نشر في نيويورك .قالت وهي ّ كانت مديرة المركز ،ديب كير ،قد تلقّت ّ
ّ السّماعتين وتطبع اسم مح ّ
طتها" :لحظة واحدة ،سيّدي .من الناحية الفنية ،ستكون هذه الرحلة رحلة أوروبية ،لكن
يمكنني المساعدة في ذلك" .أرسلت بسرعة رسالة إلى نظام نت جيتس أوروبا ،الذي يقع في باتشو دي أركوس،
في البرتغال ،وتحقّقت من موقع طائراته في إيطاليا ومحيطها.
أن لدينا طائرة سيتايشن إكسيل متمركزة في موناكو ،يمكن إرسالها إلى فلورنسا خقالقالت" :حسنا ً سيّدي ،يبدو ّ
ساعة فقط .هل تُعتبر هذه المدّة مقائمة للسيّد النغدون؟".
أجاب الرجل الذي بدا متعبا ً ومنزعجا ً بعض الشيء" :لنأمل ذلك .شكرا ً جزيقاً".
قالت ديب" :العفو .هل يريد السيّد النغدون السفر إلى جنيف؟".
"على ما يبدو".
واصلت ديب الطباعة ،ث ّم قالت أخيراً" :ك ّل شيء جاهز .ت ّم التأكيد على ّ
أن السيّد النغدون سينطلق من قاعدة
الجوية في لو ّكا ،التي تقع على بعد حوالى خمسين ميقاً غرب فلورنسا .ستنطلق الطائرة عند الساعة تاسّينيانو ّ
الجوية قبل عشر دقائق .لم تطلب ّ ً
99:68صباحا ،بالتوقيت المحلي .وعلى السيّد النغدون الحضور إلى القاعدة ّ
صة بجواز السفر .ك ّل شيء جاهز إذاً .هل ترغب بشيء برياً ،وال خدمة طعام ،وقد أعطيتني المعلومات الخا ّ نققاً ّ
آخر؟".
"هذا من دواعي سروري .تصبح على خير" .أنهت ديب االتصال ،والتفتت إلى الشاشة إلتمام الحجز .أدخلت
صة بجواز سفر روبرت النغدون ،وكانت على وشك المتابعة عندما ظهر على شاشتها مربّع المعلومات الخا ّ
تحذير أحمر .قرأت ديب الرسالة بذهول.
حاولت إدخال بيانات جواز سفر النغدون مجدّداً ،فعاد التحذير إلى الظهور .كان هذا التحذير سيظهر على
ي خطوط طيران في العالم لو حاول النغدون أن يحجز مكانا ً على متن رحلة طيران. كمبيوتر أ ّ
أنهى العميل برودر المكالمة ،وبدأ يأمر رجاله بالعودة إلى سيّارات الفان.
صة إلى جنيف ،وستنطلق الطائرة خقال أق ّل من ساعة من قاعدة يتحرك .سيستق ّل طائرة خا ّ
ّ أعلن قائقاً" :النغدون
الجوية ،على بعد خمسين ميقاً غرباً .إن انطلقنا اآلن ،فبإمكاننا الوصول إلى هناك قبل إققاع الطائرة".
لو ّكا ّ
في تلك اللحظة ،أسرعت سيّارة فيات سيدان مستأجرة باتّجاه الشمال على طول فيا داي بانزاني ،مغادرة بياتزا
لتشق طريقها باتّجاه مح ّ
طة قطار سانتا ماريا نوفيقاّ في فلورنسا. ّ ديل دوومو
على المقعد الخلفي ،جلس النغدون وسيينّا من دون أن يلفتا األنظار ،في حين احت ّل د .فيريس المقعد األمامي
بجانب السائق .كانت سيينّا هي التي ابتكرت فكرة حجز إحدى طائرات نت جيتس .إن حالفهم الح ّ
ظ ،فسيشتّتون
طة قطارات فلورنسا بأمان ،المحطة التي ستكون من دون شكّ انتباه السلطات لمدّة كافية تسمح لهم بعبور مح ّ
ّ مليئة برجال الشرطة .لحسن الح ّ
ظ ،لم تكن البندقية تبعد سوى ساعتين على متن القطار ،والسفر بالقطار المحلي
ال يتطلّب جواز سفر.
سره :أتم ّنى أن يكون مح ًّقا حيال مرضه .ونظر إلى بشرة الرجل وهو يتخيّل ك ّل الجراثيم التي
فكر النغدون في ّ
ً
تطوف في السيّارة الصغيرة .حتّى أنامله بدت منتفخة وحمراء .أخيرا ،أبعد النغدون القلق عن ذهنه ونظر من
النافذة.
مروا من أمام فندق باليوني الذي غالبا ً ما يستضيف ف ّعاليات مؤتمر للفنون عند اقترابهم من مح ّ
طة القطارّ ،
يحضره النغدون ك ّل عام .عندما رآه ،أدرك أنّه على وشك فعل شيء للمرة األولى في حياته.
مقر من ّ
ظمة الص ّحة العالمية كنقطة انطقاق له اختيار يتّسم طلعا ً على الرمزية ،واختياره ّ كان زوبريست رجقاً م ّ
ً
بالرغبة في االنتقام؛ نظرا إلى معركته مع سينسكي التي امتدّت لعام كامل .مع ذلك ،إن كان يبحث عن مكان
يطلق فيه الوباء ،تعتبر جنيف خيارا ً سيّئاً .فمقارنة بمدن أخرى ،تُعدّ العاصمة السويسرية معزولة جغرافياً،
ظة وأكثر دفئاً .وجنيف تعلو أكثر من ألف قدم وباردة في هذا الوقت من العام .ومعظم األوبئة تحتاج إلى بيئة مكت ّ
عن مستوى البحر ،وبالكاد يمكن اعتبارها مكانا ً مقائما ً لنشر وباء؛ مهما بلغ حقد زوبريست عل ّ
ي.
أن وجهة البروفيسور األميركي الغريبة ليست سوى نقطة يبقى السؤال إذاً :ماذا سيفعل النغدون هناك؟ غير ّ
تصرفاته غير المفهومة التي بدأت الليلة الماضية .وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها سينسكي،
ّ جديدة في الئحة
صل إلى تفسير منطقي لسلوكه. إالّ أنّها وجدت صعوبة في التو ّ
تتعرف سينسكي على النغدون سوى منذ بضعة أيّام ،لكنّها تجيد عادة الحكم على األشخاص ،وترفض بالطبع ،لم ّ
أن رجقاً مثل روبرت النغدون سيضعف أمام إغراء المال .لكنّنا فقدنا االتصال به منذ ليل أمس .وها هو
تصديق ّ
اآلن يتنقّل من مكان إلى آخر خلسة مثل المحتالين .هل ت ّم إقناعه بطريقة من الطرق أن أفعال زوبريست منطقية؟
ّ
أفزعتها هذه الفكرة ،لكنّها رفضتها قائلة لنفسها :أعرف سمعته جيّداً .إنّه أفضل من ذلك.
للمرة األولى قبل أربع ليا ٍل على متن طائرة نقل C-130استُخدمت كمركز
التقت سينسكي روبرت النغدون ّ
تنسيق متنقّل لمن ّ
ظمة الص ّحة العالمية.
طت الطائرة في مدرج هينسكوم ،على بعد أق ّل من خمسة عشر ميقاً كانت الساعة قد تجاوزت السابعة عندما ح ّ
من كامبردج ،ماساتشوستس .لم تكن سينسكي تعرف ما الذي تتوقعه من األكاديمي الشهير الذي اتصلت به هاتفياً،
لكنّها ُ
س ّرت عندما رأته يمشي بثقة في الجزء الخلفي من الطائرة ،ث ّم يحيّيها بابتسامة هادئة.
تشرفت بلقائك".
"بروفيسورّ ،
كان النغدون رجقاً طويل القامة ،ذا مظهر حضاري ،وصوت عميق .افترضت سينسكي ّ
أن مقابسه الحالية هي
المقابس التي يرتديها في الجامعة؛ سترة تويد ،مع سروال كاكي ،وحذاء جلدي .وهذا منطقي؛ نظرا ً ّ
ألن الرجل
أُحضر من الجامعة من دون سابق إنذار .كما أنّه يبدو أصغر سنًّا وأكثر لياقة بكثير م ّما تخيّلت؛ األمر الذي ذ ّكر
إليزابيث بسنّها .إنّني ّ
بسن والدته.
أشار النغدون إلى مساعدها الجاد ّ الذي أرسلته إلحضاره" :صديقك لم يترك لي الخيار".
قال النغدون وهو يرمق الققادة" :يا لها من تميمة جميلة .أهي من القازورد؟".
هزت سينسكي رأسها ،ونظرت إلى الحجر األزرق الذي يمثّل الرمز األيقوني ألفعى ملتفّة حول عصا عمودية. ّ
"إنّه الرمز الحديث للطبّ .وكما تعرف بالتأكيد ،يس ّمى صولجان هرمس".
نظر النغدون إلى األعلى فجأة ،وكأنّه يرغب في قول شيء ما.
انتظرت .نعم؟
يبدو أنّه بدّل رأيه ،واكتفى باالبتسام بتهذيب قبل أن يغيّر الموضوع" .إذاً ،لماذا أنا هنا؟".
أشارت إليزابيث إلى قاعة اجتماعات مرتجلة حول طاولة من الستانلس ستيل" .اجلس من فضلك .أودّ أن أريك
شيئاً".
تو ّجه النغدون إلى الطاولة ،والحظت إليزابيث أنّه على الرغم من حيرة البروفيسور وفضوله إزاء هذا االجتماع
ي اضطراب .هذا رجل مرتاح على وضعه .وتساءلت ع ّما إذا كان هذا االسترخاء السري ،إالّ أنّه لم يبد عليه أ ّ
ّ
سيبدو عليه عندما يكتشف سبب استدعائه إلى هنا.
انتظرت إليزابيث إلى أن جلس النغدون في مكانه ،ث ّم عرضت عليه من دون مقدّمات الشيء الذي صادرته هي
وفريقها من خزنة في فلورنسا منذ أق ّل من اثنتي عشرة ساعة.
مطوالً قبل إعطائها مل ّخصا ً ع ّما تعرفه أصقاً .كان ختما ً أسطوانيا ً قديما ً يمكن
تأ ّمل النغدون األسطوانة الصغيرة ّ
استعماله للطباعة .وكان يحمل صورة شنيعة لشيطان بثقاثة رؤوس مع كلمة واحدة.saligia :
بدت الحيرة على وجه النغدون" .حسناً ...هل ث ّمة سبب تريدين من أجله أن أتف ّحص هذا الشيء؟".
تصرفها ،لكن قبل أن يتم ّكن من السؤال ،بدأ طرف األسطوانة يتو ّهج ،فو ّجهته إلى بقعة ملساء
ّ استغرب النغدون
من العازل على جدار الطائرة.
أعلن قائقاً" :إنّها خارطة الجحيم لبوتيتشيلّي الذي رسمها استناداً إلى إنفيرنو دانتي .مع أنّني ّ
أظن أ ّنك تعرفين ذلك
على األرجح".
للتعرف على اللوحة ،وفوجئت ّ هزت إليزابيث رأسها موافقة .كانت قد قامت هي وفريقها ببحث على اإلنترنتّ
ّ ّ
عندما عرفت أنها إحدى لوحات بوتيتشيلي؛ الفنان المعروف بأعماله القامعة والمثالية ،مثل والدة فينوس والربيع.
يصوران الخصوبة ووالدة الحياة؛ األمر الذي ذ ّكرها بالحادث
ّ أحبّت سينسكي العملين على الرغم من أنّهما
التراجيدي الذي جعلها عاجزة عن اإلنجاب ،وهو مصدر األسف الوحيد في حياتها المنتجة جدًّا.
بدا على النغدون االنزعاج للمرة األولى في تلك الليلة" .ألهذا السبب استدعيتني؟ اعتقدت أنّها حالة طارئة".
"إنّها كذلك".
تتعرفي على لوحة معيّنة ،فعليك االتصال بالمتحف الذي تن ّهد النغدون" .د .سينسكي ،عموماً ،إن أردت أن ّ
يحتوي على اللوحة األصلية .في هذه الحالة ،كان عليك االتصال بالمكتبة الرسولية في الفاتيكان .فالفاتيكان يملك
عددا ً من رسّامي األيقونات القامعين الذين ."-
"الفاتيكان يكرهني".
فوجئ النغدون وقال" :أنت أيضاً؟! ظننت أ ّنني الوحيد المكروه لديهم".
أن انتشار وسائل منع الحمل هو مفتاح الص ّحة العالمية ،سواء أتم ابتسمت بحزن" .تشعر من ّ
ظمة الص ّحة العالمية ّ
ّ
النمو السكاني".
ّ ً
استخدامها لمكافحة األمراض المتناقلة جنسيا مثل اإليدز ،أو للحدّ من
"تماماً .لقد أنفقوا مجهودا ً هائقاً ومبالغ طائلة إلقناع العالم الثالث بشرور وسائل منع الحمل".
قال النغدون مبتسماً" :آه ،أجلَ .من أفضل من حفنة من الذكور العازبين في الثمانين من عمرهم لتعليم الناس
كيفيّة ممارسة الجنس؟".
هزت األسطوانة إلعادة شحنها ث ّم سلّطت الصورة على الجدار مجدّداً" .بروفيسور ،أل ِّ
ق نظرة فاحصة على هذه ّ
اللوحة".
مشى النغدون نحو الصورة وهو يتأ ّملها فيما كان يقترب .فجأة ،توقّف في مكانه" .هذا غريب ،لقد ت ّم تعديلها".
لم يستغرق منه اكتشاف ذلك وقتا ً طويقاً" .أجل ،وأريد منك إخباري بما تعنيه التغييرات".
سكت النغدون ،وراح يتأ ّمل الصورة بأكملها ،ويتوقّف عند األحرف العشرة التي ّ
تكون كلمة ...catrovacer
ومن ث ّم قناع الطاعون ...والجملة الغريبة عند طرف اللوحة عن "عيون الموت".
"في الواقع ،ك ّلما عرفتَ أق ّل كان ذلك أفضل لك .لكنّني آمل أن تتم ّكن من تحليل هذه التعديقات وإخبارنا
بمعناها" .وأشارت إلى مكتب في الزاوية.
"هنا؟ اآلن؟".
أن هذا مزعج ،لكنّني ال أستطيع أن أشدّد بما فيه الكفاية على أهمية هذا األمر بالنسبة ّ
هزت رأسها قائلة" :أعلم ّ
إلينا" .صمتت ث ّم أضافت" :يمكن القول إنّها مسألة حياة أو موت".
تأ ّملها النغدون بقلق" .تفكيك هذه الرموز قد يستغرق وقتاً .لكن ،إن كان هذا األمر مه ًّما ."-
قاطعته سينسكي قبل أن يغيّر له" :شكرا ً لك .هل ث ّمة من ترغب في االتصال به؟".
ممتاز .أجلسته سينسكي قرب مكتب ،وأعطته المسقاط وأوراقا ً وقلما ً وجهاز كمبيوتر محموالً متّصقاً بقمر
اصطناعي آمن .بدت الحيرة على النغدون حيال السبب الذي دفع من ّ
ظمة الص ّحة العالمية إلى االهتمام بلوحة
معدّلة لبوتيتشيلّي إلى هذا الحدّ ،إالّ أنّه نفّذ العمل بإخقاص.
اعتقدت د .سينسكي أنّه سيحتاج إلى ساعات متواصلة لدراسة اللوحة ،لذلك جلست إلنجاز أعمال خا ّ
صة بها .من
مرت عشر دقائق عندماويدون مقاحظات على أوراقه .وبالكاد ّ
ّ وقت إلى آخر ،كانت تسمعه وهو ّ
يهز المسقاط
وضع النغدون قلمه وأعلن قائقاً."cerca trova" :
أسرعت سينسكي وجلست بالقرب منه ،ث ّم راحت تصغي إليه بإعجاب وهو يشرح عن مستويات جحيم دانتي
وكيف ت ّم تبديلها ،وأنّه لو أعيد ترتيبها بالتسلسل الصحيح ،فستظهر العبارة اإليطالية .cerca trova
قال النغدون وهو يتأ ّملها جيّداً" :لقد شحب لونك .هل أفهم ّ
أن هذه هي الرسالة التي كنت تنتظرينها؟".
ظفون آخرون في من ّ
ظمة الص ّحة العالمية يتج ّمعون حوله ،متل ّهفين إلى أخذ النغدون يحكّ ذقنه ،في حين بدأ مو ّ
ّ ّ
معرفة المزيد من المعلومات" .ليس صراحة ...كقا ،مع أنني أملك فكرة جيّدة عن المكان الذي ينبغي لك أن تبدئي
منه".
لكن مو ّ
ظفيها كانوا أق ّل تح ّكما ً بانفعاالتهم؛ إذ راحوا يتبادلون فغرت فمها ،وبذلت جهدها لعدم إظهار ردّ فعلهاّ .
نظرات الدهشة .تناول أحدهم هاتفا ً وأجرى اتصاالً ،في حين أسرع آخر إلى مقدّمة الطائرة.
بدت الحيرة على النغدون" .ما سبب دهشتكم؟ أهو شيء ما قلته؟".
أجاب ."cerca trova" :وروى لها باختصار لغزا ً قديما ً ينطوي على لوحة جدارية لفاساري في قصر فيكيو.
عدوها قد قفز
مجرد صدفة أن يكون ّ
ّ ف ّكرت سينسكي بعدما سمعت ما فيه الكفاية ،فليكن .من الواضح أنّها ليست
مبان من قصر فيكيو في فلورنسا. ٍ منتحرا ً على مسافة بضعة
قالت" :بروفيسور ،عندما رأيت تميمتي في وقت سابق وقلتُ إ ّنها صولجان هيرمس ،شعرت أنّك أردت قول
شيء ما لكنّك تردّدت ،وبدوت كما لو أنّك غيّرت رأيك .ما الذي كنت ترغب في قوله؟".
هز النغدون رأسه قائقاً" :ال شيء ،هذا غباء .في بعض األحيان يصبح األستاذ بداخلي متعجرفا ً بعض الشيء".
ّ
حدّقت إليه وأل ّحت قائلة" :أنا أسأل ألنّني أريد أن أعرف إن كان بإمكاني الوثوق بك .ماذا أردت أن تقول؟".
ت ّ
إن التميمة هي الرمز القديم للطبّ ،وهذا ابتلع النغدون لعابه ،وق ّح قبل أن يقول" :ليس األمر ذا أه ّمية ،قل ِّ
صحيح .لكن ،عندما أسميتها صولجان هيرمس ارتكبت خطأ ً شائعا ً جدًّا .فصولجان هيرمس يوجد فيه ثعبانان
يلتفّان حول الصولجان وأجنحة في األعلى .أ ّما تميمتك فيظهر فيها ثعبان واحد من دون أجنحة .هذا الرمز يدعى
."-
"صولجان أسكليبيوس".
"عفواً؟".
مرة أخرى .فالصدق التا ّم هو الطريقة الوحيدة التي يمكننا أن نعمل بها معا ً على هذه المسألة".
"ال تفعل ذلك ّ
"كقاّ روبرت ،لم ينت ِّه عملنا .أريدك أن ترافقني إلى فلورنسا لمساعدتي على إيجاد شيء".
هز النغدون رأسه رافضاً" :ال يه ّم ما تقولينه لي .أنا ال أريد السفر إلى فلورنسا".
ّ
صة على متن القطار السريع تحتوي على أربعة مقاعد جلدية اآلن ،جلس مع سيينّا ود .فيريس في مقصورة خا ّ
ي .حجز فيريس المقصورة بأكملها مستخدما ً بطاقته االئتمانية ،باإلضافة إلى ابتياعه مياها ًوطاولة قابلة للط ّ
متنوعة من السندويشات التي التهمها النغدون وسيينّا بعدما اغتسقا في الح ّمام المرفق
معدنية ومجموعة ّ
بالمقصورة.
استقر الثقاثة في القطار المتو ّجه إلى البندقية في رحلة تستغرق ساعتين ،التفت د .فيريس فورا ً إلى قناع
ّ بعدما
دانتي الموضوع على الطاولة بينهم داخل الكيس" .علينا أن نعرف على وجه التحديد إلى أين يقودنا هذا القناع في
البندقية".
أضافت سيينّا بإلحاح" :وبسرعة .إنّه على األرجح أملنا الوحيد للحؤول دون انتشار وباء زوبريست".
قال النغدون وهو يضع يده بحماية على القناع" :لحظة واحدة .لقد وعدت بإعطاء بعض األجوبة حول األيّام
أن من ّ
ظمة الص ّحة العالمية جنّدتني في كامبردج األخيرة فور ركوبنا القطار بأمان ،وحتّى اآلن ،ك ّل ما أعرفه هو ّ
للمساعدة على تفكيك الشيفرة الموجودة في نسخة زوبريست عن خارطة الجحيم .لكنّك لم تخبرني شيئا ً بخقاف
ذلك".
بدا االنزعاج على د .فيريس الذي عاد يحكّ وجهه وعنقه مجدّدا ً وقال" :من الواضح أنّك محبط .وأنا متأ ّكد أنّه من
المزعج عدم تذ ّكر ما جرى معك ،لكن من الناحية الطبّية "...ونظر إلى سيينّا ليستمدّ منها الدعم ث ّم تابع" :أوصيك
بشدّة بعدم صرف طاقتك على محاولة تذ ّكر تفاصيل ال تذكرها .فمع ضحايا فقدان الذاكرة ،من األفضل ترك
الماضي منسيًّا".
أن غضبه يتصاعد" :ترك الماضي منسيًّا! تبًّا! أنا بحاجة إلى بعض األجوبة! لقد أحضرتني شعر النغدون ّ
ي وخسرت عدّة أيّام من حياتي! أريد أن أعرف اآلن ما جرى!". تعرضت لطلق نار ّ ّ
منظمتكم إلى إيطاليا ،وفيها ّ
ّ
محق .ليس من تد ّخلت سيينّا ،وتك ّلمت بصوت هادئ في محاولة منها لتهدئة أعصابه" :روبرت ،د .فيريس
المناسب بالتأكيد أن ترهق نفسك بفيض المعلومات دفعة واحدة .ف ّكر بالتفاصيل الصغيرة التي تذكرها ،أي المرأة
تتلوى في خارطة الجحيم .لقد تزاحمت تلك الصور في ذهنك ذات الشعر الفضّي ،ومن يبحث يجد ،والجثث التي ّ
ً ً
في سلسلة من الذكريات التي ال يمكن السيطرة عليها ،وتركتك عاجزا تقريبا .وإن بدأ د .فيريس بإخبارك بتفاصيل
يحرك ذلك ذكريات أخرى ،وقد تعود هلوساتك مجدّداً .فقدان الذاكرة االنتكاسي حالة خطيرة،
األيّام السابقة ،فقد ّ
ً ً ً ّ
ومن شأن إثارة ذكريات في غير محلها أن تسبّب لك اضطرابا نفسيا كبيرا".
بتشوش كبير .لكن في هذه اللحظة بالذات ،نريد أن تكون حالتك النفسية في ّ أضاف فيريس" :ال بدّ أنّك تشعر
ي قُدماً .من المه ّم جدًّا أن نعرف ما يحاول هذا القناع إخبارنا به".
أحسن حال لكي نتم ّكن من المض ّ
ّ
هزت سيينّا رأسها.
قال فيريس بتعاطف" :بروفيسور ،من الواضح أنّك متردّد في الوثوق بي ،وهذا مفهوم نظرا ً إلى ك ّل ما مررت
به .فاالرتياب وانعدام الثقة من اآلثار الجانبية لفقدان الذاكرة".
ف ّكر النغدون :هذا منطقي ،على اعتبار أ ّنني ال أثق ح ّتى بعقلي.
قالت سيينّا ممازحة ،في محاولة واضحة لتلطيف األجواء" :بالحديث عن االرتياب ،عندما رأى النغدون الطفح
ظن أنّك مصاب بالطاعون".
الجلدي الذي تعاني منه ّ
اتّسعت عينا فيريس المنتفختان ،وانفجر ضاحكاً" .هذا الطفح الجلدي؟ صد ّقني بروفيسور ،لو كنت أعاني من
الطاعون ،لما كنت عالجته بمضادّات الهيستامين التي اشتريتها من دون وصفة طبّية" .ث ّم أخرج من جيبه أنبوبا ً
صغيراً ،ووضعه أمام النغدون .كان عبارة عن أنبوب نصف فارغ للكريم المضادّ للح ّكة.
قال النغدون وهو يشعر بالغباء" :آسف على ذلك ،فقد كان يوما ً طويقاً".
تمر أمام عينيه في لوحةالتفت النغدون نحو النافذة ،وأخذ يراقب المشاهد الصامتة للريف اإليطالي التي راحت ّ
مسالمة .أصبحت كروم العنب والمزارع أكثر ندرة اآلن عندما حلّت سفوح جبال األبينين مح ّل السهول .قريباً،
المتعرج ،ث ّم سيهبط مجدّداً ويتّجه شرقا ً نحو البحر األدرياتيكي.
ّ سيعبر القطار الطريق الجبلي
ف ّكر في ّ
سره :أنا متو ّجه إلى البندقية ألبحث عن وباء.
بعد هذا اليوم الغريب ،شعر النغدون أنّه يتنقّل في مكان مؤلّف من أشكال غامضة من دون تفاصيل معيّنة؛ كما لو
لكن النغدون شعر كما لو أنّه استيقظ في
أن الكوابيس توقظ الناس عادةّ ...
كان في كابوس .ومن المفارقات ّ
كابوس.
نظر إليها النغدون ،وارتسمت على فمه شبه ابتسامة" .أف ّكر أنّني سأستيقظ في المنزل بعد قليل وأكتشف أن ما
مجرد حلم سيّئ".
ّ يحصل كان
نظرت إليه سيينّا وقالت" :ألن تفتقدني إن استيقظت واكتشفت أنّني لم أكن حقيقية؟".
ربتت على ركبته وقالت" :توقّف عن أحقام اليقظة بروفيسور ،وهيّا إلى العمل".
حول النغدون نظره على مضض إلى وجه دانتي أليغييري المجعّد الذي كان يحدّق إليه من على الطاولة .تناول ّ
النص اللولبي:
ّ من ل األو
ّ السطر إلى قعره؛ إلى ّق د ح م
ّ ث به،َ ل ق و ي ص
ّ الج القناع
على بعد مائتي ميل أمام القطار السريع ،بقي المينداسيوم راسيا ً في البحر األدرياتيكي .في األسفل ،سمع لورنس
وتحول الجدار إلى زجاج شفّاف .في الخارج ،رأى
ّ زرا تحت مكتبه،نولتون طرقة على زجاج حجرته ،فلمس ًّ
رجقاً أسمر قصير القامة.
العميد.
"أجل سيّدي".
سره ،إ ّنه بخير ،وأجبر نفسه على التركيز على األبيات.
قال النغدون في ّ
إن افتتاحية قصيدة زوبريست مأخوذة حرفيا ً من إنفيرنو دانتي ،وهي تلفت انتباه
قال النغدون" :كما ذكرت سابقاًّ ،
أن الكلمات تنطوي على معنى أعمق". القارئ إلى ّ
تابع النغدون" :عموماً ،يقسم علماء رمزية القرون الوسطى تحليقاتهم إلى فئتين :النص والصورة ...ويشكل
النص المحتوى الحرفي للعمل ،في حين تعتبر الصورة الرسالة الرمزية".
قال فيريس بحماسة" :حسناً .إذاً ،استهقال القصيدة بهذا البيت ."-
"شيء من هذا القبيل ،أجل" .أعاد النغدون نظره إلى النص وتابع القراءة بصوت عا ٍل.
قال النغدون" :أنا لست واثقا ً بشأن رؤوس الخيل وعظام العمياء ،لكن يبدو أنّه علينا تحديد مكان دوج معيّن".
أجاب النغدون" :أو تمثال ،أو لوحة .مضت قرون على وجودهم".
كان دوج البندقية شبيها ً بالدوق في الدويقات اإليطالية األخرى ،وقد تولّى أكثر من مائة منهم حكم البندقية على
مدار ألف عام ،بدءا ً من عام 117ق.م .انتهت سقالتهم في القرن الثامن عشر ،مع استيقاء نابوليون على المدينة،
المؤرخين.
ّ لكن أمجادهم ونفوذهم ما زالت مثار افتتانّ
خاص؟".
ّ سألته سيينّا وهي ترمق القصيدة" :وهل تعرف ما إذا كان ث ّمة دوج يعتبر خطيرا ً على نحو
نظر النغدون إلى البيت المقصود .ابحث عن دوج البندقية الخائن" .ليس على حدّ علميّ ،
لكن القصيدة لم تستخدم
كلمة خطير بل خائن .وثمة فرق بينهما ،على األق ّل في عالم دانتي .فالخيانة إحدى الخطايا السبع المميتة؛ ال بل
أسوأها ،والخائن ينال عقوبته في الحلقة التاسعة واألخيرة من الجحيم".
يعرفها دانتي هي خيانة شخص محبوب .من أشهر األمثلة على هذه الخطيئة في التاريخ خيانة يهوذا الخيانة كما ّ
ً ً
لحبيبه يسوع ،وهو عمل اعتبره دانتي مشينا إلى حدّ أنّه نفى يهوذا إلى نواة الجحيم األكثر عمقا ،وهي حلقة أطلق
عليها اسم جودي ّكا ،المستمدّ من اسم ساكنها.
ّ
هزت سيينّا رأسها موافقة" .هذا يحدّ من االحتمقات" .صمتت وتأ ّملت النص" .لكن البيت التالي يتحدّث عن دوج
قطع رؤوس الخيل؟" .ونظرت إلى النغدون" .هل ث ّمة دوج ذبح أحصنة؟".
قالت سيينّا وهي تأخذ منه الهاتف" :فهمت .سأجري بحثا ً عن دوجات البندقية مع أحصنة مذبوحة وعظام عمياء".
ث ّم بدأت تطبع بسرعة على لوح المفاتيح الصغير.
أجاب النغدون" :إ ّنها كلمة قديمة تعني الهيكل الذي تحميه آلهة الفنون والعلوم .ففي عصر اإلغريق ،كان
الموزيون مكانا ً يجتمع فيه المستنيرون لمشاركة أفكارهم ،ومناقشة األدب ،والموسيقى ،والفن .بُني ّأول موزيون
على يد بطليموس في مكتبة اإلسكندرية قبل قرون من والدة المسيح ،ث ّم تم تأسيس المئات منه في مختلف أنحاء
العالم".
قال فيريس وهو ينظر إلى سيينّا بشيء من األمل" :د .بروكس ،هقاّ تحقّقت من وجود موزيون في البندقية؟".
قال النغدون مبتسماً" :في الواقع ،ث ّمة العشرات منها ،وهي تس ّمى اآلن متاحف".
كان النغدون قد بدأ أساسا ً بالتفكير بمختلف متاحف البندقية المعروفة؛ غاليري ديل أكاديميا ،كاريتزونيكو،
كوريرّ .
لكن أيًّا منها لم يكن يناسب الوصف. باالتزو غراسّي ،مجموعة بيغي غوغنهايم ،موزيو ّ
هز النغدون رأسه" .تماما ً مثل متحف الفاتيكان .واأله ّم أنّه مشهور بأنّه مزخرف من الداخل بكامله بالبقاط
الذهبي".
أن سان مارك هو الموزيون الذهبي الذي تشير إليه القصيدة.هز النغدون رأسه موافقاً ،ولم يعد لديه أدنى شكّ في ّ
لقرون من الزمن ،أطلق أبناء البندقية على سان مارك اسم ال كييزا دورو ،أي الكنيسة الذهبية .وبرأي النغدون،
ي كنيسة أخرى في العام. ّ
إن داخلها أجمل من أ ّ
أضاف فيريس" :قيل في القصيدة اركع هناك ،والكنيسة هي المكان المنطقي للركوع".
راحت سيينّا تطبع بسرعة مجدّداً" .سأضيف سان مارك إلى البحث .ال بدّ أنها المكان الذي يجب أن نبحث فيه عن
الدوج".
عرف النغدون أنّهم سيجدون العديد من الدوجات في سان مارك التي كانت فعليا ً بازيليك الدوجات .وشعر
بالتفاؤل وهو يعود لقراءة القصيدة.
تساءل النغدون :خرير المياه؟! هل توجد مياه تحت بازيليك سان مارك؟ أدرك أنّه من الغباء طرح سؤال كهذا.
وتتسرب إليها المياه .تخيّل النغدون البازيليك،
ّ فالمياه موجودة تحت المدينة بأكملها .ك ّل مباني البندقية تغرق ببطء
يتصور المكان الذي يمكن الركوع فيه واإلصغاء إلى خرير المياه .وماذا نفعل عندما نسمعه؟ ّ وحاول أن
قال النغدون الذي أزعجته الصورة" :حسناً ،كما يبدو ،يجب أن نتبع صوت خرير المياه ...إلى أن نصل إلى
قصر غارق".
أخذ فيريس يحكّ وجهه بعصبيّة" .ما معنى وحش من العالم السفلي؟".
أجابته سيينّا ،وهي تواصل الطباعة" :أي تحت األرض ،العالم السفلي يعني تحت األرض".
أن للكلمة أبعادا ً تاريخية تقترن باألساطير والوحوش .إنّها فئة كاملة من اآللهة
قال النغدون" :إلى حدّ ما ،مع ّ
والوحوش ،مثل إرينيس وهيكات وميدوزا .وقد سميت كذلك أل ّنها تعيش تحت األرض وتقترن بالجحيم" .سكت
النغدون ث ّم أضاف" :تاريخياً ،تخرج هذه الكائنات من تحت األرض إلى السطح ،لتعيث فساداً في عالم البشر".
ح ّل صمت طويل ،وشعر النغدون أنّهم يفكرون بالشيء نفسه .ال شكّ ّ
أن هذا الوحش القابع في العالم السفلي...
ليس سوى طاعون زوبريست.
قال النغدون محاوالً البقاء في االتّجاه الصحيح" :على ك ّل حال ،من الواضح أنّنا نبحث عن موقع تحت األرض؛
األمر الذي يفسّر البيت األخير من القصيدة الذي يشير إلى البحيرة التي ال تعكس النجوم".
حق .فالقصيدة تشير إلى ظقام القصر الغارق .سبق أن قالت سيينّا وهي ترفع نظرها عن هاتف فيريس" :معك ّ
أن قصر الدوج مرتبط بالبازيليك؟ هذا يعني ّ
أن ذينك البناءين فيهما الكثير م ّما تذكره القصيدة؛ موزيون ذكرت ّ
الحكمة المقدّسة ،قصر ،إشارة إلى دوج .وهما موجودان في بحيرة البندقية الرئيسة ،على مستوى البحر".
فكر النغدون ث ّم سألها" :أتعتقدين ّ
أن القصر الغارق هو قصر الدوج؟".
" ِّل َم ال؟ فالقصيدة تطلب منّا ّأوالً الركوع في بازيليك سان مارك ،ومن ث ّم اتباع صوت خرير المياه .ربّما كان
صوت خرير المياه يقودنا إلى قصر الدوج المجاور ،وربّما كان أساسه غارقاً".
مرات عديدة ،وهو يعرف أنّه بناء ضخم جدًّا .إنّه عبارة عن مج ّمع مترامي
قام النغدون بزيارة قصر الدوج ّ
األطراف من األبنية ،يض ّم متحفا ً كبيراً ،ومتاهة حقيقية من الغرف والشقق والباحات ،وشبكة سجون واسعة جدًّا
مؤلفة من عدّة أبنية.
لكن البحث على غير هدى في ذلك القصر سيستغرق منّا أيّاماً .لذلك أقترح قال النغدون" :قد تكونين على ّ
حقّ ،
أن ننفّذ تعليمات القصيدة حرفياً .سنذهب ّأوال إلى بازيليك سان مارك ،وسنعثر على قبر أو تمثال ذلك الدوج
ً
الخائن ،ث ّم سنركع".
أجابها متن ّهداً" :بعد ذلك ،سندعو من أعماق قلوبنا لكي نسمع خرير المياه ...ولكي يقودنا إلى مكان معيّن".
خقال الصمت الذي تقا ذلك ،تخيّل النغدون وجه إليزابيث سينسكي القلق كما رآها وهو يهذي ،وهي تقول له:
أن الجنود ذوي المقابسالوقت ينفد .من يبحث يجد! وتساءل عن مكانها اآلن ...وع ّما إذا كانت بخير .ال بدّ ّ
السوداء قد أدركوا اآلن أنّه تم ّكن من الفرار هو وسيينّا .كم سيمضي من الوقت قبل أن يلحقوا بنا؟
عندما نظر النغدون مجدّدا ً إلى القصيدة ،اجتاحته موجة من اإلنهاك .تأ ّمل البيت األخير ،وخطرت له فكرة
تستحق الذكر .البحيرة التي ال تعكس النجوم .قد ال تكون ذات صلة ببحثهم ،لكنّه قرر
ّ أخرى .تساءل ع ّما إذا كانت
البوح بها" .ث ّمة أمر آخر يجب أن أذكره".
بدت الدهشة على سيينّا ،في حين سأله فيريس" :وما هي تلك الكلمة؟".
أشار النغدون إلى آخر النص الذي كتبه" .إنّها الكلمة نفسها التي تنتهي بها هذه القصيدة ،نجوم" .ث ّم حمل قناع
دانتي وأشار إلى وسط النص الحلزوني تماماً.
تابع يقول" :واألهم أنّه في ختام اإلنفيرنو نجد دانتي يصغي إلى خرير المياه داخل ّ
شق ويتبعه عبر فتحة ...تقوده
إلى خارج الجحيم".
في الظقام ،أغمض النغدون عينيه وحاول أن يريح ذهنه .ف ّكر :قد يكون زوبريست مجنوناً ،لك ّنه يملك حتماً فهماً
عميقاً لدانتي.
الفصل 64
شعر لورنس نولتون بارتياح عارم.
أخرج نولتون شريحة الذاكرة القرمزية فورا ً وأدخلها في الكومبيوتر .كانت رسالة زوبريست الغريبة التي
يستغرق عرضها تسع دقائق قد أثقلت كاهله ،ورغب كثيرا ً في أن تشاهدها عينان غير عينيه.
توقّفت الكاميرا ث ّم مالت إلى األسفل نحو سطح البحيرة ،قبل أن تغوص تحت الماء عدة أقدام ،لتكشف عن لوحة
التيتانيوم المثبّتة باألرض.
في هذا المكان ،وفي هذا التاريخ ،تغيّر العالم إلى األبد.
أجفل العميد قليقاً ،وهمس وهو يرمق التاريخ" :غداً .وهل نعرف أين يقع هذا المكان؟".
مالت الكاميرا اآلن إلى اليسار ،ليظهر الكيس المغمور بالمياه ،والمحتوي على سائل بنّي مائل إلى االصفرار.
خيّم صمت غير مريح على الحجرة مع تواصل عرض الشريط .بعد قليل ،أظلمت الشاشة ،ث ّم ظهر ظ ّل ذو أنف
معقوف على جدار الكهف وبدأ يتحدّث بلغة غامضة.
أنا الظلّ...
ي أن أتحدّث إلى العالم من أعماق األرض ،منفيًّا في هذا الكهف المعتم الذي
بعدما أصبحت تحت التراب ،عل ّ
تتج ّمع فيه مياه حمراء بلون الدم في بحيرة ال تعكس النجوم.
الجحيم.
حول العميد نظره عن الشاشة وقال" :الجحيم؟".
ّ
تابع الظ ّل ذو األنف المعقوف حديثه لعدّة دقائق ،وذكر األوبئة ،وحاجة الس ّكان إلى التطهير ،ودوره المه ّم في
صناعة المستقبل ،ومعركته ضدّ أرواح جاهلة كانت تحاول إيقافه ،والقلّة الققائل الذين أدركوا ّ
أن الح ّل الجذري
هو السبيل الوحيد إلنقاذ هذا الكوكب.
مهما كانت طبيعة هذه الحرب ،فإن نولتون كان يتساءل طيلة الصباح ع ّما إذا كان الكونسورتيوم يقاتل مع الطرف
الخاطئ.
تابع الصوت.
ينام الجحيم تحتي ،يستعدّ للخروج من رحمه المائي ...تحت العين الساهرة للوحش القابع في العالم السفلي بك ّل
ضراوته.
على الرغم من فضائلي ،أنا مثلكم ،لست غريبا ً عن الخطيئة .حتّى إنّني ارتكبت أسوأ السبع التي ال يجد سوى قلّة
منجى من إغوائها.
الغرور.
بتسجيل هذه الرسالة ،استسلمت إلغراء الغرور ...ألضمن أن يعرف العالم ما فعلته.
و ِّل َم ال؟
على البشرية أن تعرف مصدر خقاصها ...اسم من أغلق أبواب الجحيم المفتوحة إلى األبد!
قوة الجاذبية ،غير قابلة للنقاش .ازدهار الحياةتمر ،تصبح النتيجة مؤ ّكدة أكثر .فالرياضيات ،مثل ّ
مع ك ّل ساعة ّ
ي ،سواء أكان خيّرا ً أم شريراً،
األسّي نفسه الذي قضى تقريبا ً على البشرية سيكون خقاصها .فجمال الكائن الح ّ
يكمن في أنّه يتبع قانون الطبيعة برؤية فريدة.
قال العميد بصوت منخفض بالكاد بلغ مسمعي نولتون" :هذا يكفي".
"سيّدي؟".
"أوقف الفيلم".
"لقد رأيت ما فيه الكفاية" .بدا العميد شاحباً ،وراح يذرع الحجرة ذهابا ً وإيابا ً لعدّة دقائق ث ّم قال فجأة" :علينا
االتصال بـ ."FS-2080
كان هذا الرمز يشير إلى أحد معارف العميد الموثوقين ،وهو الشخص نفسه الذي أحال زوبريست إلى
أن العميد يلوم نفسه في هذه اللحظة ألنّه وثق بحكم .FS-2080فالتعامل مع
الكونسورتيوم كزبون .ال شكّ ّ
بيرتراند زوبريست أحدث فوضى عارمة في عالم الكونسورتيوم المتوازن.
أن السلسلة المتقاحقة من الكوارث المحيطة بزوبريست تتفاقم ،ليس بالنسبة إلى الكونسورتيوم وحده ...بليبدو ّ
ربّما بالنسبة إلى العالم بأسره.
قال العميد" :علينا أن نكتشف نوايا زوبريست الحقيقية .أريد أن أعرف ما الذي صنعه بالضبط ،وإن كان حقيقياً".
أدرك نولتون أنّه إن كان ث ّمة من يعرف اإلجابات عن هذه األسئلة فسيكون .FS-2080فما من أحد يعرف
ي نوع
بيرتراند زوبريست على نحو أفضل .حان الوقت ليخرق الكونسورتيوم البروتوكول ،ويحاول أن يعرف أ ّ
من الجنون قام بدعمه خقال العام الفائت من دون قصد.
قال نولتون" :بالطبع سيدي ،إن أردتم االتصال ،فعليكم تو ّخي الحذر الشديد".
لمعت شرارة الغضب في عيني العميد الذي أخرج هاتفه قائقاً" :لقد تجاوزنا مرحلة الحذر منذ وقت طويل".
جلس صاحب ربطة العنق الكشميرية ونظارة بلوم باريس بين رفيقيه في السفر في مقصورة قطار فريتشارجينتو
صة ،وبذل ما في وسعه لكي ال يحكّ بشرته .كما شعر أ ّن األلم في صدره قد تفاقم أيضاً.
الخا ّ
مع خروج القطار من النفق أخيراً ،حدّق الرجل إلى النغدون الذي فتح عينيه ببطء ،وكأنّه يعود من بعيد .وراحت
سيينّا الجالسة بجانبه ترمق الهاتف الذي وضعته من يدها عندما دخل القطار النفق وانقطعت اإلشارة.
كان الرجل يعرف الرنّة جيداً ،فمدّ يده إلى الهاتف فوراً ،ورمق الشاشة المضيئة ،محاوالً إخفاء دهشته.
ي الردّ على هذه المكالمة".
وقف وقال" :المعذرة ،والدتي مريضة وعل ّ
هز النغدون وسيينّا رأسيهما بتف ّهم ،في حين استأذن الرجل وغادر الحجرة مسرعا ً باتّجاه ح ّمام قريب.
ّ
أن الوضع قد تغيّر .لقد انقلب المشهد فجأة رأسا ً على عقب ،وهو بحاجة إلى بعض الوقت لتمالك نفسه.
أدرك ّ
أرخى الرجل ربطة عنقه وحدّق إلى وجهه المليء بالبثور في المرآة .الوضع أسوأ م ّما توقّع .لكن ،لم يكن وجهه
ما يقلقه ،بالمقارنة مع صدره.
يا إلهي!
مزرق .بدا السواد في الليلة الماضية بحجم كرة غولف ،لكنّه اآلن
ّ كانت بشرته وسط صدره مصبوغة بلون أسود
أصبح بحجم برتقالة .لمس تلك المنطقة المؤلمة وأغمض عينيه.
أعاد تزرير قميصه بسرعة؛ على أمل إيجاد القوة الكافية إلتمام ما عليه فعله.
أخذ عدّة أنفاس عميقة مؤلمة؛ على أمل تهدئة أعصابه .علم ّ
أن عليه الحفاظ على هدوئه؛ إن كان يرغب في إبقاء
نواياه خفيّة.
لم يكن الرجل غريبا ً على الخداع ،لكن قلبه كان ينبض بعنف .أخذ نفسا ً عميقا ً آخر بقلب خافق .ذ ّكر نفسه :أنت
تقوم بخداع الناس منذ سنوات ،هذا عملك.
اتّخذ إجراء احتياطيا ً أخيرا ً قبل أن يغادر الحمام ،ونزع بطارية الهاتف المحمول للتأ ّكد من ّ
أن الهاتف لم يعد
يعمل.
يبدو شاحباً؛ هذا ما ف ّكرت فيه سيينّا عندما عاد الرجل المصاب بالطفح الجلدي إلى المقصورة وجلس متن ّهداً.
بعدما حصلت سيينا على ك ّل المعلومات التي يمكن أن يبوح بها الرجل عن وضعه ،قررت تغيير الموضوع.
"أحتاج إلى هاتفك مجدداً ،إن لم يكن لديك مانع ،أريد متابعة البحث عن الدوج .ربما يمكننا إيجاد بعض األجوبة
قبل الذهاب إلى سان مارك".
قال" :ال مشكلة" .وأخرج الهاتف من جيبه وتحقّق من الشاشة" .آه ،تباً .كانت البطارية شبه فارغة خقال
المكالمة ،ويبدو أنّها فرغت تماماً" .نظر إلى ساعته" :سنصل إلى البندقية قريباً ،ما علينا سوى االنتظار".
على بعد خمسة أميال من الساحل اإليطالي ،على متن المينداسيوم ،راقب نولتون العميد بصمت وهو يسير في
محيط الحجرة مثل حيوان في قفص .بعد المكالمة الهاتفية ،من الواضح ّ
أن العميد قد استغرق في التفكير .ونولتون
يعرف جيدا ً أنّه ال يجدر به أن ّ
يتفوه بكلمة في هذه الحالة.
أخيراً ،تحدّث الرجل األسمر ،وكان صوته في غاية التوتّر" .ليس لدينا أ ّ
ي خيار ،علينا مشاركة هذا الفيلم مع د.
إليزابيث سينسكي".
جمد نولتون في مكانه وحاول إخفاء دهشته .الشيطانة ذات الشعر الفضّي؟ تلك التي ساعدنا زوبريست لكي
يتم ّلص منها لمدّة عام؟ "حسنا ً سيّدي .هل عل ّ
ي إيجاد طريقة إلرسال الفيلم إليها عبر البريد اإللكتروني؟".
"ربّاه ،كقاّ! هل سنخاطر بتسريب الفيلم إلى الناس؟ سيُحدث ذلك هستيريا جماعية .أريد منك إحضار د .سينسكي
إلى متن هذه السفينة بأسرع ما يمكن".
حدّق إليه نولتون وهو عاجز عن التصديق .يريد إحضار مديرة منظمة الصحة العالمية إلى متن المينداسيوم؟
"سيّدي ،هذا الخرق لبروتوكول السرية قد ."-
ما زالت الخسارة مؤلمة .ما زالت الليلة التي التقيا فيها أشبه بحلم سحري.
يناير ،قبل ست سنوات ...لكن ،يبدو كما لو أن اللقاء قد حصل باألمس .كنت أمشي بين الثلوج في شارع
إن شيئاً لن يثنيني عن تحقيق
ماغنيفيسانت مايل الذي تعصف فيه رياح عاتية .على الرغم من البرد ،قلت لنفسي ّ
هدفي .هذه الليلة هي فرصتي لسماع بيرتراند زوبريست يتحدّث ...شخصياً.
كنت قد قرأت ك ّل ما كتبه الرجل ،وشعرت بالسعادة ألنني أملك إحدى البطاقات الخمسمائة التي طبعت لهذه
المناسبة .عندما وصلت ،شعرت بالذعر لدى رؤيتي القاعة شبه خالية .هل ألغي الخطاب بسبب سوء األحوال
الجوية؟
أخير ًا وصل.
دخل بقامته الفارعة ووقف على المسرح .نظر إلى القاعة الخالية التي لم يكن فيها سوى عشرة تقريباً من معجبيه؛
األمر الذي أشعرني بالخجل.
فجأة ،ومن دون سابق إنذار ،انفجر ضاحكاً ولمعت عيناه الخضراوان .قال" :فلتذهب هذه القاعة الخالية إلى
الجحيم .فندقي قريب ،لنذهب إلى هناك!".
ضحك الموجودون ،وتوجهنا إلى الفندق المجاور .اجتمعنا هناك وطلب الشراب .أتحفنا زوبريست بقصص عن
أبحاثه ،وصعود نجمه ،وأفكاره حول مستقبل الهندسة الجينية .ثمّ انتقل إلى الحديث عن موضوع شغفه مؤخر ًا؛
أال وهو الفلسفة ما وراء اإلنسانية.
لم أتخيل أن يكون "عبقري علم الوراثة" شخصاً كاريزماتياً وجذاباً إلى هذا الحدّ .ك ّلما نظرت إليه ،أشعلت ف ّ
ي
عيناه الخضراوان إحساساً غير متو ّقع ...جاذبية عميقة.
تفرقت المجموعة ،واستأذن الحاضرون للعودة إلى الواقع .وبحلول منتصف الليل ،أصبحنا
مع انقضاء الليلّ ،
بمفردنا أنا وبيرتراند زوبريست.
قلت له وقد أ ّثر الشراب في تركيزي" :شكر ًا لك على هذه الليلة .أنت أستاذ رائع".
ي مكان".
ابتسم ومال نحوي ،فتقامست ساقانا" :هذا الغزل قد يقودك إلى أ ّ
من الواضح أن الغزل لم يكن مقائماً .لكن ،كانت ليلة جليدية في فندق خا ٍل .وبدا وكأن العالم بأسره قد توقف.
قال زوبريست" :ما رأيك؟ هل نتناول كأساً في غرفتي؟".
تس ّمرت من المفاجأة ،وعرفت أ ّنني أبدو كغزال فاجأته أضواء سيارة.
شعرت باحمرار وجهي ،وكافحت ألخفي انفعاالتي التي تراوحت بين اإلحراج ،واإلثارة ،والخوف .قلت" :في
ي رجل". الواقع ،بصراحة ،لم يسبق لي أن كنت مع أ ّ
ابتسم زوبريست واقترب أكثر" :ال أعرف ما الذي كان ّ
يؤخرك ،لكن أودّ أن أكون ّ
األول".
في تلك اللحظة ،تقاشت ك ّل مخاوف الطفولة المكبوتة ...تبخرت في ثلوج الليل.
شعرت معه ّ
أن ك ّل شيء في هذا العالم صحيح .تمدّدت هناك وحدقت من النافذة إلى الثلوج المتساقطة ،وعرفت
أ ّنني سأتبع هذا الرجل إلى أي مكان.
أبطأ القطار السريع من سرعته فجأة ،وأخرج FS-2080من تلك الذكريات الهانئة إلى الواقع المحبط.
ذ ّكرت مياه الغونا فينيتا FS-2080بالرحلة البحرية التي قام بها مع زوبريست إلى هنا ...صورة مسالمة ّ
تحولت
إلى ذكرى مرعبة منذ أسبوع.
ف ّكرت سينسكي -وهي ما زالت عاجزة عن تصديق ما يجري -لقد انقلب ك ّل شيء رأساً على عقب.
صة التيمنذ نصف ساعة ،اقتحموا المطار الصغير العتراض النغدون الذي كان ينبغي أن يستق ّل الطائرة الخا ّ
ّارين يذرعان المدرج ذهابا ً وإيابا ً وهما يتحققان
ّ طلبها .لكن ،عوضا ً عن إيجاد البروفيسور ،وجدوا الطائرة مع طي َ
لكن النغدون لم يصل.من الوقتّ .
كانت جالسة على المقعد الخلفي في السيارة كالعادة عندما دخل العميل برودر مدهوشا ً وأعطاها هاتفه.
"طلب إخبارك ّ
أن لديه معلومات ها ّمة عن بيرتراند زوبريست".
لكن من ّ
ظمتي مسؤولة عن إخفاء بيرتراند زوبريست عنك طوال العام "د .سينسكي ،لم يسبق لنا أن التقيناّ ،
الفائت".
أخذ الرجل نفسا ً عميقاً ،ث ّم تحدّث بنبرة خافتة" :سيكون لدينا أنا وأنت متّسع من الوقت لمناقشة أخقاقيات أفعالي.
أعلم أنّك ال تعرفينني ،لك ّنني أعرف الكثير عنك .كان زوبريست يدفع لي مبالغ طائلة ألخفيه عنك وعن اآلخرين
ظمتي وأتّصل بك أل ّنني أعتقد ّ
أن الخيار الوحيد أمامنا هو طوال العام الفائت .وها أنا اآلن أخرق بروتوكول من ّ
التعاون .أخشى أن يكون بيرتراند زوبريست قد ارتكب أمرا ً فظيعاً".
لم تستطع سينسكي أن تتخيّل من يكون هذا الرجل" .ألم تدرك ذلك سوى اآلن؟".
حاولت سينسكي أن ّ
تهز خيوط العنكبوت" .من تكون؟".
أجفلت سينسكي عند سماعها اسم النغدون ،وأصغت بذهول إلى شرحه الغريب لألحداث .يبدو ّ
أن هذا الرجل كان
متواطئا ً مع ّ
عدوها خقال العام الماضي ،لكنها عندما استمعت إلى التفاصيل ،شعرت ّ
أن عليها الوثوق به.
ي خيار آخر.
ليس لد ّ
تعاونهما أدّى إلى استخدام طائرة نت جيتس "الخالية" .وهكذا ،كانت سينسكي والجنود يسرعون باتجاه البندقية.
فعلى حدّ قول ذاك الرجل ،كان النغدون ورفيقاه متّجهين إلى هناك اآلن؛ على متن القطار .وقد تأ ّخر الوقت
لكن هذا الرجل يدّعي أنّه يعرف إلى أين يتو ّجه النغدون.
الستدعاء السلطات المحليةّ ،
ساحة سان مارك؟! شعرت سينسكي بالقشعريرة وهي تتخيّل حشود الناس في أكثر األماكن اكتظاظا ً في البندقية.
"كيف عرفت ذلك؟".
في أثناء تو ّجه الطائرة إلى مطار ماركو بولو في البندقية ،حاملة على متنها سينسكي والجنود الستّة ،أخذت
سينسكي تف ّكر بروبرت النغدون .فقد ذاكرته! لم يعد يذكر شيئاً!! مع ّ
أن هذا الخبر يفسّر العديد من األشياء ،إالّ
أنّه سبّب لسينسكي عذابا ً أكبر بسب توريط ذلك األكاديمي الكبير في هذه األزمة.
عندما قامت سينسكي بتجنيد النغدون قبل يومين تقريباً ،لم تسمح له حتّى بالعودة إلى البيت ليجلب جواز سفره.
وعوضا ً عن ذلك ،قامت بالترتيبات القازمة لمروره بشكل هادئ عبر مطار فلورنسا ،باعتباره أحد معارف
ّ
منظمة الص ّحة العالمية.
أن هذه الطائرة من دون نوافذ؟ كانت تُستعمل حتّى وقت قريب كوسيلة نقل عسكرية".
"بروفيسور ،أنت تدرك ّ
التفت إليها النغدون بوجه شاحب" .أجل ،الحظت ذلك منذ دخولي إليها .أنا ال أرتاح في األماكن المغلقة".
سبق لسينسكي أن أخبرت النغدون عن مواجهتها مع زوبريست في مجلس العقاقات الخارجية ،وعن شغف
الرجل بمعادلة االنهيار الس ّكاني ،وتعليقاته المنتشرة على نطاق واسع حول الفوائد العالمية للطاعون ،واأله ّم من
ذلك؛ عن اختفائه تماما ً خقال العام الماضي.
سألها النغدون" :كيف يمكن لشخص معروف مثله البقاء مختفيا ً طوال هذه المدة؟".
"لقد تلقّى قدرا ً كبيرا ً من المساعدة المهنية؛ ربّما حتّى من حكومة أجنبية".
"إنّها الحكومات نفسها التي تحاول شراء رؤوس حربية نووية من السوق السوداء .ال َ
تنس ّ
أن الوباء الف ّعال هو
ّ ّ
ويستحق ثروة .من الممكن أن يكون زوبريست قد كذب على شركائه وأكد لهم ّ
أن السقاح البيوكيميائي األمثل،
وباءه يمتاز بنطاق محدود .قد يكون هو الشخص الوحيد الذي يعرف ماهية اختراعه".
سكت النغدون.
تابعت سينسكي" :على ك ّل حال ،إن لم يكن السبب هو السلطة أو المال ،فقد يكون ث ّمة من ساعد زوبريست ألنّه
ي شيء من أجله .لقد كان واسع الشهرة ،وألقىيعتقد بأيديولوجيته .فهو لم يكن يفتقر إلى األتباع المستعدين لفعل أ ّ
محاضرة في جامعتكم منذ مدّة قصيرة".
"في هارفرد؟".
تناولت سينسكي قلماً ،وكتبت على طرف صورة زوبريست التي التقطتها له الحرف Hمع عقامة زائد .وسألته:
"أنت بارع في تحليل الرموز .هل تعرف هذا الرمز؟".
+H
همس النغدون" :بالتأكيد .فقبل بضع سنوات ،كان منتشرا ً في ك ّل أرجاء الجامعة ،واعتقدت أنّها محاضرة
كيميائية".
ضحكت سينسكي" .كقاّ ،هذا رمز للق ّمة التي عُقدت عام 6898تحت عنوان ،Humanity-plusوهو أكبر
تج ّمع للحركة ما وراء اإلنسانية".
"على غرار ك ّل التغييرات ،هذه مسألة درجات .عملياً ،نحن نهندس أنفسنا منذ سنوات بفضل اللقاحات التي
نطورها ،والتي تجعل األطفال أكثر مناعة تجاه أمراض معيّنة ...كشلل األطفال ،والجدري ،والتيفوئيد .لكن الفرق
ّ
أن اكتشافات زوبريست في مجال هندسة السقاالت الجرثومية ستجعل هذه المناعة موروثة ،وذلك ألنّها هو ّ
وستزود ك ّل األجيال القاحقة بمناعة ضدّ المرض".
ّ ستؤثّر على المتلقّي على مستوى السقالة الجرثومية،
أن زوبريست -شأنه شأن العديد من أعضاء الحركة العابرة لإلنسانية -يعتقد قالت سينسكي" :أوافقك تماماً .غير ّ
أنّه من واجب البشر استخدام ك ّل الوسائل المتاحة؛ كالتعديل الجيني للسقاالت الجرثومية مثقاً ،لكي يتحسّنواّ .
لكن
أن تكويننا الجيني مترابط ،حيث إن إزالة سمة بشرية واحدة قد تؤدّي إلى تغيّر في مئات السمات المشكلة هي ّ
األخرى؛ محدثة نتائج كارثية ربّما".
في أربعينيات القرن الماضي ،عكف العلماء النازيون على دراسة تكنولوجيا أطلقوا عليها اسم علم تحسين النسل،
وحاولوا من خقالها استخدام الهندسة الوراثية البدائية لزيادة معدّل والدات األشخاص الذين يملكون "صفات
وراثية مرغوبا ً فيها" ،وخفض معدّل المواليد ذوي الصفات "غير المرغوبة".
أقرت سينسكي" :ث ّمة أوجه شبه .ومع أنّه من الصعب أن نتخيل كيف يمكن للمرء أن يهندس عرقا ً بشريا ً جديداً، ّ
إالّ أن الكثير من األشخاص األذكياء يعتقدون أنّه من الضروري لبقائنا أن نبدأ بهذه العمليّة .فأحد المساهمين في
مجلّة الحركة ما بعد اإلنسانية وصف الهندسة الجينية للسقالة الجرثومية بأنّها الخطوة التالية الواضحة ،كما ادّعى
أنّها تجسّد اإلمكانات الحقيقية لجنسنا" .سكتت سينسكي ث ّم أضافت" :مع ذلك ،تنشر المجلّة نفسها مقالة تحت
عنوان :أخطر فكرة في العالم".
قال النغدون" :أعتقد أنّني أوافقهم ،على األق ّل من وجهة نظر اجتماعية ثقافية".
"ماذا تقصد؟".
"أفترض أن تلك التعديقات الجينية -شأنها شأن الجراحة التجميلية -ستكون مكلفة".
"هذا يعني أن التعديقات الجينية التي سيتم تشريعها ستوجد فورا ً عالما ً من األشخاص الذين يملكون المقدرة
وآخرين ال يملكونها .نحن نعاني أساسا ً من شرخ متعاظم بين األغنياء والفقراء ،وستأتي الهندسة الجينية لتوجد
أن نسبة الواحد بالمائة تلك هي فعليا ً جنس ّ
متفوق؛ عرقا ً من البشر الخارقين و ...عرقا ً دونيا ً بنظرهم .تخيلي فقط ّ
من حيث الذكاء ،والقوة ،والصحة أيضاً .سيكون ذاك الوضع وضعا ً مثاليا ً للعبودية والتطهير العرقي".
ابتسمت سينسكي لألكاديمي الوسيم الجالس قربها" .بروفيسور ،لقد فهمت فوراً حقيقة ما أعتقد أنّه أخطر أوجه
الهندسة الجينية".
"ربّما فهمت ذلك ،لكن زوبريست ما زال يحيرني .فالفكر الذي يعتقد به يبدو أنّه يسعى إلى تحسين البشرية،
وجعلنا أكثر صحة ،وعقاج األمراض القاتلة ،وزيادة العمر .إالّ أن آراء زوبريست حيال الزيادة السكانية تؤيد
قتل الناس كما يبدو .أال تبدو لك أفكاره حيال ما بعد اإلنسانية والزيادة السكانية متعارضة؟".
تن ّهدت سينسكي .كان السؤال وجيهاً ،ومع األسف ،جوابه واضح ومزعج" .اقتنع زوبريست من أعماق قلبه
بالحركة ما وراء اإلنسانية؛ أي تحسين األنواع بواسطة التكنولوجيا .لكنّه اقتنع أيضا ً ّ
أن جنسنا البشري سينقرض
يتحرك أحد منّاّ ،
فإن أعدادنا الزائدة ستقضي علينا قبل أن ّ قبل أن تتاح له الفرصة لتحقيق ذلك .في الواقع ،إن لم
تتاح لنا الفرصة إلدراك فوائد الهندسة الجينية".
فوجئ النغدون وسألها" :إذاً ،أراد زوبريست خفض أعداد البشر ...لشراء المزيد من الوقت؟".
مرة بالمحتجز على سفينة يتضاعف عدد ر ّكابها ك ّل ساعة ،في حين أنّه
هزت سينسكي رأسها موافقة" .شبّه نفسه ّ ّ
ً
يحاول يائسا صنع قارب نجاة قبل أن تغرق السفينة بفعل وزنها" .صمتت هنيهة ث ّم أضافت" :فاقترح إلقاء نصف
الر ّكاب في البحر".
أن التدبير الجذري المتمثّل في خفض عدد الس ّكان سيتذ ّكره الناس يوما ً ما على أنّه عمل "لكن زوبريست يعتقد ّ
ّ
ّ
بطولي ...على أنه اللحظة التي اختار فيها الجنس البشري البقاء".
وأن زوبريست لم يكن بمفرده .فعندما مات ،أصبح بطقاً بالنسبة إلى الكثير من الناس .ال أدري من "ال سيّما ّ
سنواجه عندما نصل إلى فلورنسا ،لكن علينا تو ّخي الحذر .لن نكون الوحيدين الذين يبحثون عن هذا الوباء .لذا،
حفاظا ً على سقامتك ،ال يجب أن يعرف أحد أنّك ذاهب إلى إيطاليا بحثا ً عنه".
أبعدت سينسكي شعرها الفضّي الطويل إلى الخلف ونظرت إلى النغدون قائلة" :من يبحث يجد ،بروفيسور.
الوقت ينفد".
صص تو ّجهت سينسكي نحو مخزن في الطائرة ،وأحضرت األنبوب األكثر أمانا ً في ّ
منظمة الص ّحة العالمية ،المخ ّ
مزودا ً بقفل بيومتري.
للمواد الخطرة ،وكان ّ
ال يمكن أن يحمل هذا المسقاط على مرأى من الناس .ف ّكرت للحظة ،ث ّم عادت إلى المخزن وأحضرت مشرطا ً
سريا ً بحجم األنبوب. وعدّة تقطيب ،وقامت بدقّة ومهارة بصنع ّ
شق في بطانة سترة النغدون وخاطت فيها جيبا ً ّ
فإن الر ّكاب الذين يصلون إلى البندقية ال يمشون سوى أن المح ّ
طة تقع في الطرف الغربي لغران كانالّ ، بما ّ
ّ
خطوة واحدة خارج المحطة ،ويجدون أنفسهم وسط مناظر البندقية ،وروائحها ،وأصواتها المميّزة.
بالنسبة إلى النغدون ،كان الهواء دائما ً ّأول ما يلفت انتباهه؛ ذلك النسيم العذب المن ّكه برائحة البيتزا التي يعدّها
صف
ّ طة .اليوم ،هبّ الهواء من الشرق ،وحمل معه رائحة وقود الديزل المنبعثة من باعة الشارع خارج المح ّ
يلوحون بأيديهم ّ
طويل من زوارق التاكسي المتوقفة في الجوار في مياه غران كانال .راح عشرات الب ّحارة ّ
ويدعون السيّاح على أمل إغرائهم برحلة على متن مراكب التاكسي ،أو الغوندول ،أو الزوارق البخارية ،أو
صة.المراكب السريعة الخا ّ
ف ّكر النغدون وهو يرمق االزدحام المائي :فوضى في الماء .بطريقة ما ،بدا االزدحام الذي يثير الجنون في
بوسطن جميقاً هنا في البندقية.
على مرمى حجر في القناة ،ترتفع قبّة سان سيميوني بي ّكولو في السماء بلونها الصدئ .كانت الكنيسة واحدة من
أكثر الكنائس انتقائية على الصعيد المعماري في أنحاء أوروبا كافة .فقبّتها شديدة االنحدار على نحو غير اعتيادي
أن أعمدتها الرخامية بنيت على طراز المدخل اإلغريقي وحرمها المستدير هما من النمط البيزنطي ،في حين ّ
الكقاسيكي للبانثيون الروماني .ويعلو المدخل الرئيس مثلث رائع من الرخام المزخرف الذي يض ّم مجموعة من
التماثيل.
تمر قرب أدراج الكنيسة.البندقية متحف في الهواء الطلق .هذا ما ف ّكر فيه النغدون وهو ينظر إلى قناة الماء التي ّ
إ ّنها متحف يغرق ببطء .مع ذلك ،بدا احتمال الغرق غير ها ّم مقارنة بالخطر الذي يتربّص اآلن بالمدينة.
نص القصيدة المكتوبة على باطن قناع دانتي ،وتساءل عن المكان الذي ستقودهم إليه تلك األبيات .كان قد عاد إليه ّ
ّ
لف القناع بالجرائد ،بنا ًء على اقتراح سيينا ،ووضعه في خزانة شخصية ّ
بالنص المكتوب في جيبه ،لكنه ّ
ّ احتفظ
أن هذا المخبأ غير مناسب إطقاقا ً لتلك التحفة الثمينة ،إالّ أنّه أكثر أمنا ً من حمل ذلك
طة القطار .ورغم ّ في مح ّ
والتجول به في مدينة مليئة بالماء.
ّ القناع الثمين
كانت سيينّا قد سبقته مع فيريس ،وأخذت تشير إلى قارب التاكسي .نادته قائلة" :روبرت ،ليس لدينا وقت طويل".
أسرع النغدون باتجاههما ،مع أنّه بصفته محبًّا للهندسة المعمارية وجد صعوبة في اإلسراع عبر غران كانال؛
فتجارب البندقية التي تعدّ أكثر إمتاعا ً من الصعود على متن الزورق البخاري رقم 9قليلة؛ وهو وسيلة النقل
المائي الرئيسة في المدينة ،ويستحسن أن يكون ذلك ليقاً ،وأن يجلس المرء في الهواء الطلق لتأ ّمل الكاتدرائيات
يمر من أمامها.
والقصور المضاءة وهو ّ
ف ّكر النغدون :لن نركب الفابوري ّتو اليوم .فالزوارق البخارية معروفة ببطئها ،والتاكسي المائي سيكون أسرع .مع
ّ
محطة القطار طويقاً جدًّا في تلك اللحظة. صف مراكب التاكسي خارج ّ األسف ،بدا
لم يكن فيريس بمزاج يسمح له باالنتظار ،فأخذ األمور على عاتقه .لذا ،دفع مبلغا ً سخياً ،وطلب ليموزين مائية،
أن ذلك الزورق مفرطوهي عبارة عن زورق مصقول مصنوع من خشب ماهوغاني جنوب أفريقي .ومع ّ
صة وسريعة ،ولن تستغرق أكثر من ربع ساعة للوصول إلى ساحة سان مارك أن الرحلة ستكون خا ّ األناقة ،إالّ ّ
عبر غران كانال.
كان السائق رجقاً وسيما ً للغاية ،يرتدي بذلة أرماني متقنة الصنع .بدا أقرب إلى نجم سينمائي منه إلى سائق ،لكن
في النهاية هذه هي البندقية ،أرض األناقة اإليطالية.
قال الرجل وهو ير ّحب بهم ويغمز سيينّا" :ماوريتسيو بيمبوني .ماذا تشربون؟".
شكرته سيينّا ،وطلبت منه بإيطالية سريعة إيصالهم إلى ساحة سان مارك بأسرع ما يمكن.
همس النغدون وهو يقرأ اسم القدّيسة على النقش بجانب الكنيسة" :القدّيسة لوتشيا ،عظام العمياء".
نظرت إليه سيينّا" :عفواً؟" .أملت أن يكون قد عرف شيئا ً عن القصيدة الغامضة.
قال النغدون" :ال شيء .خطرت لي فكرة غريبة ،لكنّها قد ال تكون هامة" .ث ّم أشار إلى الكنيسة وقال" :هل ترين
يصور القديسين المسيحيين ،وتذ ّكرت
ّ النقش؟ القدّيسة لوتشيا مدفونة هناك .أحيانا ً ألقي محاضرات عن ّ
الفن الذي
ّ
أن القدّيسة لوتشيا هي قدّيسة العميان".
صة؟" .نظر إليهم السائق وصاح تد ّخل ماوريتسيو قائقاً" :أجل ،القدّيسة لوتشيا هي قدّيسة العميان! أال تعرفون الق ّ
المحرك" .كانت لوتشيا جميلة جدًّا ويرغب فيها ك ّل الرجال .لذلك ،ومن فرط حبّها هلل،
ّ ليعلو صوته على صوت
وحفاظا ً على عذريتها ،قامت باقتقاع عينيها".
أضاف ماوريتسيو" :مكافأة لها على تضحيتها ،أعطاها هللا عينين أكثر جماالً!".
صة القدّيسة لوتشيا ،إالّ أنّها تتحدّث كلّها عن لوتشيا التي اقتلعت عينيها
على الرغم من وجود روايات عديدة لق ّ
رائعتي الجمال ،ووضعتهما على طبق ،وقدّمتهما بتح ٍدّ إلى الرجل الذي طلب يدها قائلة له :إنهما أكثر ما رغبتَ
أن لوتشيا استلهمت هذا العمل من الكتاب المقدّس كما فيه ...واآلن ،أنا أتوسّل إليك أن تتركني بسقام!" .والغريب ّ
يقال.
الحظ النغدون ّ
أن هذه الكلمة نفسها هي المستخدمة في القصيدة .ابحث عن دوج البندقية الخائن الذي ...اقتلع
عظام العمياء.
حيّرته هذه المصادفة ،وتساءل ع ّما إذا كانت تلك إشارة مشفّرة إلى ّ
أن القدّيسة لوتشيا هي العمياء المذكورة في
القصيدة.
هتف النغدون ،مشيرا ً إلى كنيسة سان جيريميا" :ماوريتسيو ،هل رفات القدّيسة لوتشيا موجودة في تلك
الكنيسة؟".
أجاب ماوريتسيو وهو يقود بمهارة بإحدى يديه وينظر إلى الخلف للتحدّث مع ر ّكاب زورقه ،متجاهقاً االزدحام
توزعت على أن رفاتها ّلكن معظمها ليست هنا .فقد كانت القدّيسة لوتشيا محبوبة إلى حدّ ّ
أمامه" :بعضها ،أجلّ .
كنائس في مختلف أنحاء العالمّ .
لكن أهل البندقية هم أكثر من يحبّ القدّيسة لوتشيا بالطبع ،ولذلك نحتفل ."-
صاح فيريس" :ماوريتسيو! القدّيسة لوتشيا هي العمياء ،وليس أنت .انظر أمامك!".
ضحك ماوريتسيو والتفت إلى األمام في الوقت المناسب ليتفادى بمهارة االصطدام مع زورق آ ٍ
ت باالتجاه
المعاكس.
نظرت سيينّا إلى النغدون" :إالم ترمي؟ الدوج الخائن الذي اقتلع عظام العمياء؟".
ث ّم روى لسيينّا وفيريس باختصار حكاية رفات القدّيسة لوتشيا ،أي عظامها ،التي كانت األكثر غرابة من بين
قصص القدّيسين .إذ يُزعم أنّه عندما رفضت لوتشيا الجميلة عرض رجل واسع النفوذ للزواج ،أبلغ عنها ،وت ّم
أن رفاتها تمتاز بقوى ألن جلدها كان مقاوما ً للنار .واعتُقد ّ
لكن جسدها لم يحترق -بحسب األسطورة ّ - حرقهاّ ،
وأن من يملكها يعيش حياةً طويلة على نحو غير مألوف.
صةّ ،خا ّ
"صدّقي أو ال تصدّقي .أجل ،لهذا السبب انتشرت رفاتها في مختلف أنحاء العالم .وحاول زعماء أقوياء أللفيتين
مرات ،وقُسّمت أكثر سرقت جثّتها عدّة ّ ّ
السن والموت بامتقاك عظام القدّيسة لوتشيا .ف ُ من الزمن محاربة التقدّم في
مرت بين أيدي عشرة أشخاص نافذين في التاريخ على األقل". أن عظامها ّي قدّيس في التاريخ .ويُعتقد ّ
من أ ّ
ابحث عن دوج البندقية الخائن الذي قطع رؤوس الخيل ...واقتلع عظام العمياء.
قال النغدون" :هذا ممكن" .ث ّم أدرك أ ّن دانتي ذكر القدّيسة لوتشيا بوضوح في قصيدة الجحيم ،وكانت واحدة من
النساء الثقاث المباركات ،لي تري دو ّني بينيدي ّتي ،اللواتي ساعدن على استدعاء فيرجيل لمساعدة دانتي على
الخروج من العالم السفلي .وبذلك يكون دانتي قد وضع القدّيسة لوتشيا بمنزلة امرأتين تمتازان بمكانة عالية جدًّا.
ّ
هزت سيينّا رأسها موافقة" .وهذا ما يضيّق الئحة البحث بشكل كبير" .نظرت إلى فيريس مضيفة" :هل أنت واثق
أن هاتفك ال يعمل؟ ربّما استطعنا إجراء بحث على اإلنترنت من أجل ."- ّ
قال النغدون" :سنصل قريباً ،وأعتقد أنّنا سنجد بعض األجوبة في بازيليك سان مارك".
كانت بازيليك سان مارك قطعة األحجية الوحيدة التي بدت مؤ ّكدة بالنسبة إلى النغدون .موزيون الحكمة المقدّسة.
ظ ،سيكتشف كان النغدون يعتمد على البازيليك الكتشاف هوية الدوج الغامض ...ومن هناك ،مع شيء من الح ّ
أيضا ً القصر الذي اختاره زوبريست لنشر الوباء منه .فهناك ،في الظقام ،ينتظر الوحش القابع في العالم السفلي.
حاول النغدون أن يطرد من ذهنه صور الطاعون ،لكن عبثاً .غالبا ً ما تساءل :كيف كانت هذه المدينة الرائعة في
ذروتها ...قبل أن يوهنها الطاعون بما فيه الكفاية ليستولي عليها العثمانيون ،ومن بعدهم نابوليون؟ كيف كانت
البندقية في زمن ش ّكلت فيه المركز التجاري ألوروبا بأسرها؟ من دون أدنى شكّ ،لم تكن في العالم أي مدينة
تضاهيها جماالً وال شعب يضاهي شعبها ثروة وثقافة.
أن حبّ الس ّكان للكماليات األجنبية هو الذي جلب لهم الدمار؛ وذلك ّ
ألن الطاعون القاتل انتقل من من المفارقاتّ ،
الصين إلى البندقية بسبب جرذان اختبأت على متن السفن التجارية .وهكذا ،انتقل الطاعون نفسه الذي قضى على
ثلثي س ّكان الصين إلى أوروبا ،وسرعان ما أودى بحياة ثلث السكان ،ولم ّ
يفرق بين العجزة والشباب ،أو بين
الفقراء واألغنياء.
شي الطاعون .فمع انعدام األراضي الجافّة لدفن كان النغدون قد قرأ وصفا ً لحياة الناس في البندقية خقال تف ّ
اضطروا
ّ ظت بعض األماكن بالجثث إلى حدّ ّ
أن الع ّمال الموتى ،أو قلّتها ،عامت الجثث المنتفخة في األقنية ،واكت ّ
ّ
جرها مثل جذوع األشجار إليصالها إلى البحر .بدا للناس أن الصقاة لم تعد تجدي إلطفاء غضب الطاعون. إلى ّ
أن الجرذان هي التي تسبّبت بالوباء ،كان األوان قد فات .مع ذلك ،طبّقت البندقية وعندما أدرك مسؤولو المدينة ّ
مرسوما ً يقضي بأن ترسو ك ّل السفن الوافدة بعيدا ً عن الشاطئ لمدّة أربعين يوما ً قبل أن يُسمح لها بإفراغ حمولتها.
وحتّى هذا اليوم ،ما زال العدد أربعون ،أي كارانتا باإليطالية ،يُستخدم للتذكير بأصول كلمة كارانتينا.
مع تقدّم الزورق بسرعة أكبر عند أحد منعطفات القناة ،ظهرت مظلّة حمراء زاهية ترفرف في الهواء ،وجذبت
انتباه النغدون بعيدا ً عن أفكار الموت السوداء باتّجاه بناء أنيق من ثقاثة طوابق يقع إلى اليسار.
ي فيأن ذلك القصر الجميل المبن ّ أن النغدون لم يفهم مطلقا ً معنى الكلمات المكتوبة على الفتة الكازينو ،إالّ ّ
مع ّ
صا؛ قبل أن ً ً ّ
عصر النهضة شكل جزءا من مشهد البندقية منذ القرن السادس عشر .كان في ما مضى قصرا خا ًّ
يصبح كازينو ،وشهد عام ،9007على وفاة الموسيقار ريتشارد فاغنر الذي سقط ميتا ً إثر إصابته بذبحة قلبية بعد
وقت قصير من تأليف أوبرا بارسيفال ،وذلك في إحدى قاعات القصر.
ط أزرق اللون، بعد الكازينو ،إلى اليمين ،ظهرت واجهة على نمط الباروكي تحمل الفتة أكبر حجما ً تعلن بخ ّ
للفن الحديث .قبل سنوات ،دخل النغدون المتحف ،ورأى تحفة غوستاف كليمت - كابيسارو :المعرض الدولي ّ
القبلة -عندما كانت معروضة على سبيل اإلعارة من فيينا .أبهره ذلك العمل الرائع ،وولّد لديه شغفا ً بأعمال
ّ
بالفن الحديث مدى الحياة. الفنّان .وحتّى هذا اليوم ،ما زال يعترف بفضل متحف كابيسارو في إثارة اهتمامه
أمامهم ،ارتفع جسر ريالتو الشهير الذي يقع في منتصف الطريق إلى ساحة سان مارك .عندما اقتربوا منه
وأوشكوا على المرور من تحته ،نظر النغدون إلى األعلى ،ورأى شخصا ً وحيداً يقف بقا حراك وراء الدرابزين،
ويحدّق إليهم بوجه متج ّهم.
كان الوجه طويقاً ،ورمادي البشرة ،ويمتاز بعينين باردتين وأنف طويل معقوف.
مر القارب من تحت الجسر ،وأدرك النغدون أنّه لم يكن سوى سائح يضع واحدا ً من مئات أقنعة الطاعون التي ّ
تباع ك ّل يوم في سوق ريالتو المجاورة.
لكن اليوم ،لم يبد ُ ذلك القناع ساحراً على اإلطقاق.
الفصل 69
الممر المائي في البحر .تشرف على
ّ تقع ساحة سان مارك في أقصى الطرف الجنوبي لغران كانال ،حيث يصبّ
هذا التقاطع الخطير قلعة مثلّثة الشكل تحمل اسم دوغانا دامار ،وتض ّم مكتب الجمارك البحرية ،وقد استُخدم برج
المراقبة فيها لحراسة البندقية من الغزو الخارجي في ما مضى .اليوم ،استُبدل برج المراقبة بكرة ذهبية ضخمة
ودوارة لتحديد اتّجاه الرياح؛ تذ ّكر الب ّحارة المتّجهين إلى المحيط بتقلّب األقدار.
ّ
مر
بينما كان ماوريتسيو يو ّجه القارب األنيق نحو آخر القناة ،بدا لهم البحر بأمواجه المتقاطمة .كان النغدون قد ّ
مرات عديدة من قبل ،لكن على متن زورق بخاري أكبر بكثير .ولذلك شعر بشيء من عدم االرتياح بهذه الطريق ّ
مع تمايل قاربهم فوق األمواج العالية.
للوصول إلى أحواض ساحة سان مارك ،يجب أن يعبر قاربهم بحيرة مفتوحة تزدحم بمئات القوارب من األنواع
صة ،وسفن سياحية ضخمة .شعر النغدون وكأنّهم كافة؛ يخوت فاخرة ،وناققات نفط ،ومراكب شراعية خا ّ
يخرجون من طريق ريفي إلى الطريق السريع.
مرت من أمامهمبدا القلق أيضا ً على سيينّا التي رمقت بخوف السفينة السياحية المؤلّفة من عشرة طوابق ،والتي ّ
في تلك اللحظة على بعد ال يتجاوز ثقاثمائة ياردة .كان سطح السفينة يزدحم بالر ّكاب الواقفين قرب الدرابزين
ليلتقطوا صوراً لساحة سان مارك من المياه .خلف تلك السفينة ،كان ث ّمة ثقاثة مراكب أخرى تتحيّن الفرصة
للمرور من أمام أشهر المعالم السياحية في البندقية .كان النغدون قد سمع أنّه في السنوات األخيرة ،تضاعف عدد
إن أعدادا ً ال تحصى منها تعبر القناة ليل نهار.
السفن بسرعة؛ حيث ّ
تأ ّمل ماوريتسيو من خلف المقود السفن القادمة ،ث ّم نظر إلى اليسار ليحدّد موقع الحوض القريب" .هل تريدون
النزول عند مطعم هاري؟" .وأشار إلى المطعم الشهير باختراع البيلّيني" .إنه ال يبعد عن سان مارك سوى مسافة
قصيرة سيرا ً على األقدام".
قال فيريس؛ مشيرا ً إلى أحواض ساحة سان مارك" .كقاّ ،أوصلنا إلى هناك".
تمر بين المراكب األخرى إلى أن وصلت إلى الحوض المقصود .بدت المحركات ،وبدأت الليموزين ّ
ّ عقا صوت
ّ
بمبان سكنية عائمة تقذف الزوارق الصغيرة خلفها كما لو أنها قطع فلين.
ٍ مروا قربها أشبه
السفن التي ّ
فوجئ النغدون عندما رأى عشرات الغوندوالت األخرى تعبر الطريق نفسه .بدت المراكب التي يبلغ طول الواحد
منها نحو أربعين قدما ً تقريبا ً ووزنه حوالى ألف وأربعمائة باوند ،ثابتة في وجه األمواج على نحو الفت .كان يقود
صة على الجانب األيسر من مؤ ّخر السفينة ،ويرتدي القميص كقاًّ منها غناديلي ثابت القدمين ،يقف على من ّ
ّ
طط باألبيض واألسود ،ويجذّف بمجذاف واحد معلق على الحافة اليمنى للمركب .حتّى في المياه التقليدي المخ ّ
أن السبب يعود إلى بناء القارب غير الهائجة ،كان واضحا ً ّ
أن ك ّل غوندول ينحرف إلى اليسار .وقد علم النغدون ّ
ً
المتناظر .فجسم الغوندول ينحرف إلى اليمين ،بعيدا على الغناديلي ،وذلك لمقاومة ميل القارب نحو اليسار بفعل
التجذيف من الجانب األيمن.
نظر النغدون إلى الشاطئ مترامي األطراف أمامه ،الذي تلتقي عنده حديقة صغيرة مش ّجرة بأطراف الحوض.
فوق األشجار ،ارتفع برج جرس سان مارك المستدق بأحجاره الحمراء تحت السماء الصافية ،وبدا على سطحه
تمثال ذهبي يحدّق إلى األسفل من على ارتفاع ثقاثمائة قدم.
في مدينة تخلو من المباني الشاهقة بسبب ميل تلك المباني إلى الغرق ،يؤدّي برج جرس سان مارك دور منارة
وممراتها .إذ تكفي نظرة إلى السماء لكي يرى المسافر التائه
ّ مقاحية لك ّل من يغامر في متاهة قنوات البندقية
أن هذا البرج الشاهق انهار عام 9186مخلّفا ً
طريق العودة إلى ساحة سان مارك .ما زال النغدون ال يصدّق ّ
كومة هائلة من الركام في ساحة سان مارك .ولم تسفر الكارثة سوى عن ضحية واحدة ،أال وهي ق ّ
طة.
تحيط المقاهي الجميلة ،والفنادق الفخمة ،وحتّى كنيسة أنطونيو فيفالدي بالمنتزه الذي يبدأ عند األرسنال؛ وهي
صصة لبناء السفن .هناك ،كانت رائحة الصنوبر المتصاعدة من نسغ األشجار الساحة القديمة في البندقية المخ ّ
المغلي الذي يستخدمه بنّاؤو السفن لسد الثغرات في مراكبهم تمأل الهواء .ويزعم أن زيارة ذلك المكان بالذات هي
ّ ّ
التي ألهمت دانتي أليغييري باستخدام أنهار الزفت المغلي كوسيلة للتعذيب في جحيمه.
اصطف ما ال يق ّل عن مائة غوندول أسود أمام الضفة التي تلتقي فيها ساحة سان مارك بالبحر ،والتي تمتدّ
ّ اليوم،
على طول 788ياردة .كانت األمواج تؤرجح المراكب التي راحت تعلو وتهبط أمام أبنية البياتزا الرخامية.
مع اقتراب ماوريتسيو من وجهتهم ،رأى النغدون الساحة األساسيّة مزدحمة بالناس .كان نابوليون قد وصف
ساحة سان مارك بأنّها "قاعة استقبال أوروبا" .وكما يبدو ،تض ّم هذه "القاعة" عدداً كبيرا ً جدًّا من الضيوف .بدت
البياتزا وكأ ّنها ستغرق تحت ثقل معجبيها.
لم يعرف النغدون ما إذا كان خوفها ناتجا ً عن اختيار زوبريست موقعا ً يمتاز بهذه الكثافة الس ّكانية إلطقاق
أن زوبريست كان محقًّا في التحذير من مخاطر الزيادة الس ّكانية.وبائه ...أم ألنّها شعرت ّ
تستقبل البندقية عددا ً هائقاً من السياح ك ّل عام؛ يقدّر بنحو ثلث واحد بالمائة من سكان العالم ،وقد بلغ هذا العدد
حوالى عشرين مليون زائر في العام .6888ومع مليار النسمة الذين أضيفوا إلى سكان األرض منذ ذلك العام،
تئن اآلن تحت ثقل ثقاثة مقايين زائر إضافي ك ّل عام .والبندقية -شأنها شأن هذا الكوكب -ذات فإن المدينة ّ
ّ
مساحة محدودة .ويوما ً ما ،لن تعود قادرة على استيراد ما فيه الكفاية من الطعام ،وعلى التخلّص من نفاياتها،
ألسرة لجميع الناس الذين يرغبون في زيارتها.
وتأمين عدد كافٍ من ا ّ
أصبحت الليموزين اآلن أمام ساحة سان مارك ،وارتفع قصر الدوج إلى يمينهم بشكل مهيب ،حيث هيمن على
الشاطئ.
يش ّكل القصر نموذجا ً ممتازا ً عن الهندسة القوطية في البندقية ،ومثاالً لألناقة والرق ّ
ي المعماري .ال يمكن تشبيه
أبراجه بأبراج قصور فرنسا أو إنكلترا .فقد بُني القصر بشكل مستطيل ،حيث يؤ ّمن أكبر مساحة ممكنة في الداخل
الحتواء أفراد حكومة الدوج الكبيرة ومساعديه.
من المحيط ،كانت واجهة القصر البيضاء الضخمة المبنية من الحجر الجيري ستبدو جافّة لوال أنّه ت ّم تخفيف هذا
التأثير عبر إضافة أروقة ،وأعمدة ،ولوجيا ،وثقوب رباعية .تمتدّ النماذج الهندسية المصنوعة من الجير الوردي
على الجهة الخارجية للقصر بأكمله لتذ ّكر النغدون بقصر الحمراء في إسبانيا.
عندما اقتربوا من المرسى أكثر ،الحظ فيريس مجموعة من الناس أمام القصر .كان المحتشدون متج ّمعين على
تمر بين جزأين من قصر الدوج.جسر ،وهم جميعا ً يشيرون إلى قناة ضيّقة في األسفل ّ
ظ ،ورأى النفق الجميل الذي يمتدّ بين مبنيين .جسر التن ّهدات ،تذ ّكر النغدون أحدنظر النغدون إلى الجسر المكت ّ
أفقامه المفضلة في شبابه ،ليتل رومانس ،المستند إلى أسطورة تزعم أنّه إن قبّل العاشقان بعضهما تحت هذا
الجسر عند مغيب الشمس ،في الوقت الذي تُقرع فيه أجراس سان مارك ،فسيحبّان بعضهما إلى األبد .علقت هذه
أن بطلة الفيلم كانت ممثّلة
الفكرة الرومانسية العميقة في ذهن النغدون طوال حياته .بالطبع ،لم يكن أمراً سيئا ً ّ
ّ
ويقر أنّه لم يتخلص
ّ جديدة في الرابعة عشرة من عمرها تدعى ديان الين ،وقد افتُتن بها النغدون على الفور...
تماما ً من هذا االفتتان حتّى اليوم.
للتو .كان
صاح ماوريتسيو لقائد أحد الغوندوالت لينتبه فيما كان يدخل الليموزين الحوض الذي غادره الغوندول ّ
قد وجد بقعة خالية أمام فندق دانييلي ،على بعد مائة ياردة فقط من ساحة سان مارك وقصر الدوج.
ألقى ماوريتسيو حبقاً حول دعامة ،ث ّم قفز إلى الشاطئ .وعندما ثبّت الليموزين ،عاد ومدّ يده إلى القارب لمساعدة
الر ّكاب على النزول.
جوا ،وصلت إليزابيث سينسكي قبل عشر دقائق من الوقت المحدّد ،وهي اآلن تعبر
الخاص ًّ
ّ بفضل مزايا السفر
البحيرة على متن مركب أسود من نوع دوبوا SR52بقاكبيرد ،أرسله الغريب الذي اتصل بها.
العميد.
شعرت سينسكي ،بعد جلوسها الطويل على المقعد الخلفي لسيارة الفان طوال اليوم ،بالنشاط في الهواء الطلق
مرت ساعتان تقريبا ً منذ آخر
المشبع برائحة البحر .التفتت نحو الهواء المالح ،وتركته يداعب شعرها الفضّيّ .
وللمرة األولى منذ الليلة الماضية شعرت أنّها عادت إلى طبيعتها.
ّ حقنة تلقّتها،
مع تقدّم القارب ،الحت في األفق جزيرة كبيرة إلى اليمين ،انتشرت على سواحلها مباني الطوب ومداخن
المصانع .مورانو ،الشهيرة بمصانع نفخ الزجاج القامع.
منذ سنوات ،عندما كانت في ك ّلية الطبّ ،أتت إلى البندقية مع خطيبها ،وقاما بزيارة متحف الزجاج في مورانو.
هناك ،رأى خطيبها زينة جميلة لغرف األطفال من الزجاج ،فعلّق ببراءة أنّه يرغب في تعليق واحدة مثلها يوما ً ما
سرا مؤلما ً لفترة طويلة ،فأخبرته أخيراً بإصابتها بالربو
في غرفة طفلهما .عندئذ ،شعرت بالذنب أل ّنها خبّأت عنه ًّ
في طفولتها والعقاجات المرتكزة على الغلوكوكورتيكوييد التي ُوصفت لها ود ّمرت جهازها التناسلي.
حول قلب ذلك الشابّ إلى حجر .لكن بعد أسبوع واحد،
لم تعرف إليزابيث ما إذا كان عدم صدقها أو عقمها ما ّ
غادرت البندقية من دون خاتم الخطوبة.
ذكراها الوحيدة من تلك الرحلة هي التميمة التي تعلّقها حول عنقها ،كان صولجان أسكليبيوس رمزاً للطبّ ،الطبّ
الفاشل في حالتها ،لكنّها تضعها منذ ذلك الحين.
اليوم ،لم تجد جزر البندقية رومانسية ،ولم تولّد قراها المعزولة فيها أحاسيس الحبّ ،بل ذ ّكرتها بمستعمرات
الكارانتينا التي أقيمت فيها في الماضي في محاولة للتصدّي للموت األسود.
المينداسيوم؟
اقتربوا من السفينة تدريجيًّا ،ورأت سينسكي على متنها رجقاً قصير القامة ،أسمر البشرة ،يراقبهم عبر المنظار.
صة الخلفية للمينداسيوم ،نزل الرجل السلّم الستقبالهم.
عندما وصل القارب إلى المن ّ
أن يديه ناعمتان وال تناسبان يدي ب ّحار" .د .سينسكي ،أهقاً بك .أشكرك
صافحها الرجل بتهذيب ،والحظت ّ
لمجيئك .اتبعيني من فضلك".
صعدت المجموعة عدّة طوابق ،ولمحت سينسكي في طريقها عدة حجرات يعمل فيها أشخاص .كانت هذه السفينة
الغريبة مليئة بالناس ،وكلّهم يعملون.
على ماذا؟
محركات السفينة وهي تدور ،ث ّم ظهر أثر عميق في الماء عندما
ّ تابعوا صعودهم ،وسمعت سينسكي في أثناء ذلك
يتحرك مجدّداً.
ّ بدأ اليخت
قال الرجل للجنود" :أودّ التحدّث مع د .سينسكي على انفراد" .ث ّم نظر إليها مضيفاً" :إن كان هذا يناسبك".
ّ
هزت إليزابيث رأسها موافقة.
قال برودر" :سيّدي ،أتمنّى أن يقوم طبيب السفينة بفحص د .سينسكي ،فهي تعاني من ."-
مطوالً ،ث ّم أشار إلى طاولة طعام وشراب تحضّر على سطح المركب" .استرح قليقاً ،فأنت
رمق العميد برودر ّ
ً
بحاجة إلى ذلك .ستعود إلى اليابسة قريبا".
ومن دون قول المزيد ،استدار العميد وقاد سينسكي إلى مكتب أنيق ،ث ّم أغلق الباب خلفهما.
رفضت بإيماءة من رأسها وهي ال تزال تحاول استيعاب محيطها الغريب .من يكون هذا الرجل؟ ماذا يفعل هنا؟
ذهب الرجل إلى مكتبه وتناول كتابا ً ضخماً" .أودّ أن تلقي نظرة على هذا".
اقتربت منه سينسكي ونظرت إلى المجلّد .جحيم دانتي؟ تذ ّكرت صور الموت المرعبة التي عرضها عليها
زوبريست في لقائهما األخير في مجلس العقاقات الخارجية.
"واآلن؟".
لم تكن سينسكي في مزاج مقائم للتلميحات" .سيّدي ،أنا ال أعرفك وال أعرف ما تفعله على هذه السفينة ،لكنّك
تدين لي بتفسير .أخبرني لماذا أخفيت رجقاً مقاحقا ً من قبل من ّ
ظمة الص ّحة العالمية".
على الرغم من نبرة سينسكي الحادّة ،أجابها الرجل هامساً" :أدرك أنّنا كنّا نعمل أنا وأنت ألهداف متعارضة،
لكنّني أقترح أن ننسى الماضي .برأيي ،المستقبل هو ما يحتاج إلى اهتمامنا الفوري".
عندئذ ،تناول الرجل شريحة ذاكرة حمراء صغيرة وأدخلها في جهاز الكمبيوتر ،ث ّم أشار لها لتجلس قائقاً" :لقد
أعدّ بيرتراند زوبريست هذا الفيلم على أمل أن أنشره له غداً".
تواصل الفيلم ،ومالت الكاميرا إلى األسفل ،ث ّم غاصت في الماء ،ور ّكزت الصورة على أرض الكهف المغ ّ
طاة
بالطمي .هناك في القعر ،ظهرت لوحة مستطيلة المعة تحمل نقشا ً لتاريخ واسم.
في هذا المكان ،وفي هذا التاريخ ،تغيّر العالم إلى األبد.
تن ّهد العميد وبدا عليه القلق والخيبة" .د .سينسكي ،كنت آمل أن أجد عندك جوابا ً عن هذا السؤال".
على بعد ميل واحد ،من على ممشى ريفا ديلي سكيافوني المقابل للبحر ،تغيّر مشهد البحر قليقاً .فمن يمعن النظر،
البر من ناحية الشرق .كان متّجها ً اآلن إلى ساحة سان مارك.ير يختا ً رماديا ً ضخما ً يقترب من ّ
َ
هناك ،كانت حشود السياح كثيفة جدًّا حيث يتعذّر اختراقها ،فشعر النغدون باالختناق بين الناس الذين يقتربون
لتصوير العمودين الضخمين القائ َمين عند حدود الساحة.
فوق أحد العمودين ،رأى تمثاالً غريبا ً للقدّيس ثيودور؛ إذ يقف بفخر مع التنّين المذبوح بحسب األسطورة
الشهيرة ،الذي بدا دائما ً بالنسبة إلى النغدون أقرب إلى تمساح.
فوق العمود الثاني ،كان ث ّمة رمز معروف للبندقية ،األسد المجنّح .يمكن رؤية األسد المجنّح في مختلف أنحاء
المدينة وهو يضع إحدى قوائمه بفخر على كتاب مفتوح نُ ِّقشَت عليه بالقاتينية عبارة Pax tibi Marce,
.evangelista meusبحسب األسطورة ،قال هذه الكلمات مقاك عند وصول سان مارك إلى البندقية ،وأخبره
أن جثّته ستدفن هنا يوما ً ما .وقد استخدمت هذه األسطورة الملفّقة الحقا ً من قبل أهالي البندقية لتبرير سرقة رفات
ّ
سان مارك من اإلسكندرية ،وإعادة دفنه في بازيليك سان مارك .ظ ّل األسد المجنّح حتّى هذا اليوم رمز المدينة،
ويمكن رؤيته في ك ّل مكان.
أشار النغدون إلى اليمين عبر ساحة سان مارك وقال" :ما رأيكما أن نفترق هنا ونلتقي عند مدخل البازيليك؟".
وافق االثنان اآلخران ،وأخذوا جميعا ً يمشون عند أطراف الحشد متّبعين الجدار الغربي لقصر الدوج في الساحة.
بدت حمائم البندقية الشهيرة في أفضل حال ،على الرغم من القوانين التي تمنع إطعامها .كان بعضها ينقر األرض
قرب أقدام السياح ،في حين انقضّت حمائم أخرى على المقاهي المفتوحة لقاستيقاء على الخبز الموضوع في
سقال وإزعاج النُّد ُل .خقافا ً لمعظم ساحات أوروبا ،لم تكن هذه الساحة مربّعة ،بل على شكل .Lكانت الجهة
األكثر قصرا ً المعروفة باسم بياتزي ّتا تربط البحر ببازيليك سان مارك .بعد ذلك ،تنعطف الساحة بزاوية تسعين
درجة وتمتدّ من البازيليك إلى متحف كورير .لكن ،عوضا ً عن االمتداد بشكل مستقيم ،تتخذ الساحة شكل مربع
شبه منحرف وغير منتظم ،يضيق إلى حدّ كبير عند أحد أطرافه .وهذا الشكل جعل البياتزا تبدو أطول م ّما هي
عليه في الواقع ،بسبب شبكة البقاط التي تمتدّ على حدود األكشاك األصلية لت ّجار الشارع في القرن الخامس
عشر.
بينما تابع النغدون طريقه نحو الزاوية التي تنعطف الساحة عندها ،رأى أمامه مباشرة الزجاج األزرق لبرج
ساعة سان مارك؛ وهو البرج الشاهق نفسه الذي رمى جايمس بوند من فوقه أحد األشرار في فيلم مونراكر.
في اللحظة التي دخل فيها النغدون الساحة المحمية ،استطاع أن يقدّر أه ّم مزايا تلك المدينة وأكثرها فرادة.
الصوت.
ففي ظ ّل غياب السيّارات والعربات ذات المحركات بأنواعها كافّة ،كانت البندقية تمتاز بانعدام ازدحام حركة
المرور المعتادة ،وغياب قطارات األنفاق ،وأبواق السيّارات؛ األمر الذي يترك مساحة سمعية للمزيج غير اآللي
ي مركزمن األصوات البشرية ،وهديل الحمام ،وعزف الكمنجة في المقاهي المفتوحة .بدت البندقية مختلفة عن أ ّ
حضري في العالم.
مع تسلّل أشعة شمس ما بعد الظهيرة إلى ساحة سان مارك من الغرب ،ملقية ظقاالً طويلة عبر الساحة
المرصوفة ،نظر النغدون إلى برج األجراس الشاهق الذي هيمن على الساحة وعلى أفق البندقية القديمة .كان
مجرد فكرة تواجده هناك سبّبت له االرتعاش ،فأخفض رأسهّ الطابق العلوي من البرج مكت ًّ
ظا بمئات األشخاص.
وتابع سيره وسط البحر البشري.
لكن فيريس كان متأ ّخرا ً عنهماّ ،
فقررت أن تقسم فرق المسافة تم ّكنت سيينّا بسهولة من اللحاق بقانغدونّ ،
أن المسافة بينهم أصبحت أكبر ،فنظرت إلى الخلف بنفاد صبر .أشار فيريس إلى صدره ،وطلببالنصف .غير ّ
منها متابعة التقدّم.
أطاعته سيينّا وحثّت خطاها خلف النغدون إلى أن غاب فيريس عن نظرها .لكن ،راودتها شكوك غريبة في ّ
أن
فيريس كان يتأ ّخر عمداً...
تعلّمت سيينّا منذ زمن طويل أن تثق بحدسها .ولهذا ،اختبأت جانباً ،واسترقت النظر من بين الحشود خلفها بحثا ً
عن فيريس.
أين ذهب؟!
شعرت وكأنّه لم يعد يحاول حتّى اللحاق بهما .تأ ّملت الوجوه ،وأخيرا ً رأته .فوجئت حين رأته متوقّفاً ،وقد انحنى
وراح يضغط على أزرار هاتفه.
ي في القطار.
لقد كذب عل ّ
سرية إلى أحد ما؟ أم يجري بحثا ً من وراء ظهرها؟ هل يحاول ح ّل لغز
تساءلت ع ّما يفعله .هل يبعث برسالة ّ
قصيدة زوبريست قبل النغدون وسيينّا؟
كانت على بعد خمسين ياردة من البازيليك عندما شعرت بيد قوية تشدّ سترتها من الخلف.
بقوة ،ومن الواضح أنّه ركض للحاق بها .رأت في عينيه نظرة خوف
كان الرجل المصاب بالطفح الجلدي يلهث ّ
لم تعهدها من قبل.
قال لها وهو يتن ّفس بصعوبة" :آسف ،لقد ضعت في الزحام".
في اللحظة التي نظرت فيها سيينّا إلى عينيه ،عرفت أنّه يخفي شيئاً.
صف
ّ عندما وصل النغدون إلى بازيليك سان مارك ،استغرب عدم وجود مرافقيه خلفه .فوجئ أيضا ً بسبب غياب
السياح الذين ينتظرون عادة ً لدخول الكنيسة .غير أنّه أدرك ّ
أن معظم السيّاح يشعرون بالخمول في هذا الوقت من
ً ويقررون ّ
التنزه في الساحات ،أو شرب القهوة عوضا عن محاولة استكشاف ّ العصر بعد وجبات الباستا الثقيلة،
المزيد من المعالم التاريخية.
فحول نظره إلى مدخل البازيليك أمامه .يُتّهم البناء أن سيينّا وفيريس سيصقان في أ ّ
ي لحظةّ ، افترض النغدون ّ
ً ّ
ألن واجهته تحتلها بأكملها تقريبا مجموعة من خمسة مداخلالمفرطة في اإلرباك ،وذلك ّ
ِّ أحيانا ً بأنّه يمتاز بمداخله
ومزودة بأعمدة مزخرفة وقناطر مقبّبة وأبواب برونزية مفتوحة تجعل البناء يبدو مضيافا ً على نحو ال
ّ مجوفة، ّ
جدال فيه.
تُعتبر بازيليك سان مارك من أجمل نماذج العمارة البيزنطية في أوروبا ،إذ تمتاز بشكلها الناعم والغريب .خقافا ً
ألبراج نوتردام أو شارتر ،بدت البازيليك مهيبة ،ولك ّنها أكثر تواضعاً .كان عرضها يزيد عن طولها ،وتعلوها
خمس قبب بيضاء تضفي عليها جماالً مميّزا ً يجعلها أشبه بقالب حلوى الميرينغ؛ كما تذكر بعض الكتيّبات
السياحية.
على سطح الكنيسة ارتفع تمثال لسان مارك يط ّل على الساحة التي تحمل اسمه ،ويضع قدميه على قنطرة مطلية
باألزرق الداكن ومزيّنة بنجوم ذهبية .أمام هذه الخلفية ،يظهر األسد المجنّح الذهبي الذي يُعتبر جالب ح ّ
ظ للمدينة.
لكن ،تحت األسد الذهبي ،تعرض سان مارك أشهر كنوزها؛ وهو عبارة عن أربعة أحصنة نحاسية كانت في تلك
اللحظة تلمع تحت الشمس.
ي لحظة في الساحة قد نُهبت -شأنها شأن الكثير من الكنوز كان تلك الخيول التي تبدو وكأ ّنها تستعدّ للقفز في أ ّ
الموجودة في البندقية -من القسطنطينية في أثناء الحمقات الصليبية .وثمة تحفة أخرى تمت سرقتها من
القسطنطينية معروضة تحت األحصنة في الزاوية الجنوبية الغربية للكنيسة ،وهي عبارة عن تمثال منحوت من
الحجر الس ّماقي .كان التمثال يفتقد إلى قدم ُكسرت أثناء نهبه من القسطنطينية في القرن الثالث عشر .وفي
ستينيات القرن العشرين ،ت ّم العثور بأعجوبة على القدم في إسطنبول ،فطالبت البندقية بالجزء المفقود من التمثال،
لكن السلطات التركية أجابت برسالة بسيطة :أنتم سرقتم التمثال ،ونحن سنحتفظ بقدمنا. ّ
علّقت عليه مجموعة من أقنعة البندقية .كان نظر النغدون إلى مصدر الصوت فرأى غجرية تحمل عموداً طويقاً ُ
معظمها من أقنعة فولتو إنتيرو البيضاء الكاملة التي تضعها النساء في الكارنفال .ورأى بينها أيضا ً مجموعة من
أن ما استحوذ على انتباه األقنعة النصفية والمثلّثة وقناع موريتّا .على الرغم من مجموعتها النابضة باأللوان ،إالّ ّ
ع واحد أسود اللون مائل إلى الرمادي ،معلّق على أعلى العمود .شعر النغدون ّ
أن العينين الميتتين النغدون قنا ٌ
تحدّقان إليه مباشرة من فوق األنف الطويل المعقوف.
طبيب الطاعون .أشاح النغدون بنظره عنه ،وذلك ألنّه لم يكن بحاجة إلى من يذ ّكره بسبب وجوده في البندقية.
وهز رأسه قائقاً باإليطالية" :إنّها جميلة جدًّا ،لكن كقاّ ،شكراً".
ابتسم ّ
شعر النغدون ّ
أن الصور تتزاحم فجأة في عقله؛ أحصنة سان مارك ،أقنعة البندقية ،والكنوز المنهوبة من
القسطنطينية.
ذ ّكرته هذه األحصنة األربعة الرائعة ،بأعناقها الجميلة وأطواقها الرائعة ،بأمر مفاجئ وغير متوقّع يفسّر عنصراً
حيويا ً في القصيدة الغامضة الموجودة على قناع دانتي.
مرة حفل زفاف في مزرعة رونيميد التاريخية في نيوهامشاير .تض ّمن االحتفال عرضا ً كان النغدون قد حضر ّ
مذهقاً لفرقة الخيل المسرحية يحمل اسم "خلف القناع" .كان عرضا ً جميقاً قام خقاله الخيّالون بأداء رائع مرتدين
ي البندقي ،وأخفوا وجوههم خلف أقنعة فولتو إنتيرو .استخدمت الفرقة خيوالً فريزيانية جميلة ،لم يسبق الز ّ
لقانغدون أن رأى خيوالً بحجمها .راحت تلك الخيول الضخمة تعدو في الحقل بعضقاتها القوية ،وحوافرها
المكسوة بالوبر ،وأعرافها الطويلة تتطاير خلف أعناقها الطويلة الجميلة.
ّ
لشدّة جمال تلك الخيول ،أجرى بحثا ً عنها على اإلنترنت بعد عودته ،واكتشف أنّها كانت مفضّلة لدى ملوك
القرون الوسطى في الحروب ،وكانت على وشك االنقراض في السنوات األخيرة .كان اسمها األصلي إيكوس
روبوستوس ،وهي تس ّمى اليوم خيوالً فريزيانية؛ نسبة إلى موطنها األصلي ،فريزالند ،وهي مقاطعة ألمانية تُعتبر
مسقط رأس الفنّان القامع س .م .إيشير.
قوة أجساد الخيول الفريزيانية األولى ،ش ّكلت مصدر إلهام لخيول سان مارك في البندقية .واستنادا ً إلى يبدو ّ
أن ّ
تعرضا ً للسرقة عبر
ّ يةّ نالف التحف "أكثر أصبحت هاّ نأ ّ د ح إلى ًّا د ج جميلة مارك سان خيول كانت لموقع، ا
التاريخ".
أن هذا الشرف المشكوك فيه ينتمي إلى مذبح غينت ،فقام بزيارة سريعة لموقع ARCA لطالما اعتقد النغدون ّ
الفن شيئا ً بهذا الخصوص ،لكنّها أوردت سرداً
للتأ ّكد من هذه النظرية .لم تؤ ّكد جمعية البحوث في الجرائم ضدّ ّ
موجزا ً عن تاريخ تلك المنحوتات التي كانت هدفا ً للنهب والسرقة.
ت ّمت صناعة الخيول النحاسية األربعة في القرن الرابع على يد ن ّحات يوناني مجهول الهوية على جزيرة كيوس،
وبقيت هناك إلى أن نقلها ثيودوسيوس الثاني إلى القسطنطينية لعرضها في الهيبودروم .وفي الحملة الصليبية
الرابعة ،عندما نهب جنود البندقية القسطنطينية ،طلب الدوج الحاكم نقل التماثيل الثمينة بحرا ً إلى البندقية ،وشكل
ّ
ذلك إنجازا ً مستحيقاً نظرا ً لوزنها وحجمها .وصلت الخيول إلى البندقية عام ،9610ونُصبت أمام واجهة
كاتدرائية سان مارك.
بعد نصف ألفية ،في عام ،9717استولى نابليون على البندقية وأخذ األحصنة لنفسه .فنُقلت إلى باريس،
وعُرضت فوق قوس النصر .أخيراً ،عام ،9091وبعد هزيمة نابليون في واترلو والحكم عليه بالنفي ،ت ّم إنزال
األحصنة عن قوس النصر ونقلها بحرا ً إلى البندقية ،ليعاد نصبها على الشرفة األمامية لبازيليك سان مارك.
أن ما ّ
اطلع عليه على الموقع اإللكتروني تض ّمن مقطعا ً أن النغدون كان ّ
مطلعا ً على تاريخ األحصنة ،إالّ ّ ومع ّ
فاجأه.
أضيفت األطواق التزيينية إلى أعناق األحصنة عام 9680من قبل أبناء البندقية إلخفاء المكان الذي قُطعت فيه
رؤوسها لتسهيل نقلها عبر السفينة من القسطنطينية إلى البندقية.
أمر الدوج بقطع رؤوس أحصنة سان مارك! بدا هذا مستحيقاً.
سمع صوت سيينّا تناديه" :روبرت؟!".
"نعم؟".
"القصيدة ال تشير إلى خيول حيّة" .أشار النغدون إلى واجهة سان مارك حيث أضاءت أشعّة الشمس أربعة
تماثيل نحاسية" .بل تشير إلى هذه الخيول!".
الفصل 73
على متن المينداسيوم ،جلست د .سينسكي مرتعشة بعدما شاهدت الفيديو في مكتب العميد .ومع أ ّنها رأت أموراً
مخيفة في حياتها ،إالّ ّ
أن هذا الفيلم الغامض الذي أعدّه بيرتراند زوبريست قبل انتحاره جعل أطرافها باردة
كالثلج.
استمر بالتحدّث
ّ على الشاشة ،أخذ الظ ّل ذو األنف المعقوف يتمايل فوق جدار رطب في كهف تحت األرض.
بفخر عن تحفته التي أسماها الجحيم ،والتي ستنقذ العالم عبر خفض عدد سكانه.
ليحمنا هللا .قالت بصوت مرتجف" :علينا ...علينا إيجاد ذلك المكان قبل فوات األوان".
فجأة ،أصبح الظل أكبر على الجدار الرطب إلى أن اقترب الشخص ،ووقف أمام الكاميرا.
تبًّا.
كانت سينسكي تحدّق إلى طبيب طاعون بزيّه الكامل؛ مع العباءة السوداء والقناع المخيف .اقترب الرجل من
الكاميرا ،ومأل الشاشة على نحو مخيف.
همس قائقاً" :أحلك األماكن في الجحيم هي ألولئك الذين يحافظون على حيادهم في األزمات األخقاقية".
كانت تلك هي الجملة التي تركها لها في المطار عندما هربت منه في نيويورك منذ عام خقا.
عندئذٍ ،نزع زوبريست القناع والقبعة وكشف عن وجهه .تصلبت إليزابيث لدى رؤيتها العينين الخضراوين
مرة في ظقام مجلس العقاقات الخارجية .كانتا تمتازان بالشغف نفسه ،لكنّهما
المألوفتين اللتين رأتهما آخر ّ
تومضان اآلن بشيء آخر؛ حماسة جنون.
اقترب زوبريست أكثر ،وحدّق إلى الكاميرا بنظرة عميقة ،ث ّم تحدّث بصوت منخفض ،وكأنّه يتحدث مع عشيقته.
همس" :يا حبّي ،يا حبّي الغالي ،أنت سعادتي ،أنت خقاصي .أنت من ساعدني على الخروج من الهاوية وأمدّني
بالقوة لفعل ما فعلته".
تابع زوبريست كقامه ،وتردّد صدى همسه في الكهف الذي يتحدّث فيه" :أنت ملهمي ودليلي ،فيرجيل
وبياتريتشي على السواء ،وهذه التحفة لك بقدر ما هي لي .إن لم نجتمع مجددا ً أنا وأنت ،فسأجد السقام في معرفة
أنّني تركت المستقبل بين يديك الحنونين .لقد انتهى عملي هنا وحانت الساعة ألصعد إلى األعلى ...وأعانق
النجوم".
توقّف زوبريست عن الكقام ،وتردّد صدى كلمة النجوم للحظة في الكهف ،ث ّم انتهى الفيلم.
أظلمت الشاشة.
أطفأ العميد الجهاز ،وسألها ع ّما إذا كانت تعرف هذا المكانّ ،
فهزت رأسها نافية.
"أظن أنّني أعرف الشخص الذي كان زوبريست يعشقه ،كان يحبّ شخصا ً يحمل االسم الشيفري FS-
ّ قال العميد:
."2080
ّ
هزت رأسها مجيبة" :بك ّل تأكيد".
أخذ قلب سينسكي ينبض بعنف .فرغم أنّها ال تعرف هوية الشخص ،إالّ أنّها عرفت إالم يشير الرمز .فقد كانت
المن ّ
ظمة تراقب أسماء مشابهة منذ سنوات.
شرحت له قائلة" :ببساطة ،هذه الحركة تمثّل فلسفة ترى أنّه يجب على البشر استخدام ك ّل أشكال التكنولوجيا
المتاحة لهندسة جنسنا وجعله أقوى؛ أي البقاء لألقوى".
ي انفعال.
لم يبد على العميد أ ّ
تابعت" :عموماً ،تتألّف الحركة من أشخاص مسؤولين ،وعلماء ،وأصحاب رؤى يتح ّملون المسؤولية األخقاقية.
أن الحركة ال تتقدّم بالسرعة الكافية .إنّهم مف ّكرون يعتقدون
لكن ،كما يحصل في ك ّل حركة ،هناك مجموعة تعتقد ّ
وأن على أحدهم اتخاذ إجراء جذري إلنقاذ مستقبل الحياة على وجه األرض". أن نهاية العالم أصبحت وشيكةّ ،
ّ
"بالضبط .إنّه قائد الحركة .فباإلضافة إلى ذكائه الحادّ ،كان جذّابا ً للغاية ،وكتب مقاالت عديدة جمعت حوله عدداً
صبين أسماء شيفرية مؤلفة جميعها من حرفين وأربعة كبيرا ً من المؤيّدين .اليوم ،يستخدم الكثير من أتباعه المتع ّ
للتو".
أرقام .مثل ،BA-2105 ،DG-2064أو االسم الذي ذكرته ّ
"."FS-2080
هزت رأسها" .قد يكون هذا اسما ً شيفريا ً ألحد أعضاء الحركة".
ّ
ي معنى؟".
"وهل لألرقام واألحرف أ ّ
ي منها".
قالت سينسكي" :انقر على أ ّ
نقر العميد على ّأول صفحة في القائمة ،وتبيّن أنّها صفحة ويكيبيديا تعرض صورة لرجل إيراني وسيم يدعى
فيريدون م .إسفاندياري ،وتصفه بأنّه كاتب وفيلسوف ،وهو مؤسّس الحركة ما وراء اإلنسانية .ولد عام ،9178
ويرجع إليه الفضل في نشر الفلسفة ما وراء اإلنسانية ،فضقاً عن توقّعه بالتو ّ
صل إلى أطفال األنابيب ،والهندسة
الجينية ،والعولمة.
مطوالً.
عندما أنهى العميد القراءة ،وقف وتو ّجه نحو النافذة ،وحدّق بشرود إلى البحر ّ
همس أخيراً؛ وكأنّه يف ّكر بصوت عال" :إذاً ،حبّ زوبريست من أتباع الحركة ...ما وراء اإلنسانية".
"من دون شك .ال أعرف مع األسف َمن يكون بالضبط ،لكن ."-
قاطعها العميد وهو يحدّق إلى البحر" :هذه هي الفكرة .أنا أعرف ،أعرف بالضبط من يكون".
الفصل 74
ّ
وكأن الهواء نفسه مصنوع من الذهب. يبدو
سبق لقانغدون أن زار العديد من الكاتدرائيات الرائعة في حياته ،لكنّه اعتبر دائما ً أجواء كييزا دورو في سان
إن مجرد استنشاق هواء سان مارك يجعل منك مارك فريدة من نوعها .وبحسب المزاعم التي سادت لقرونّ ،
شخصا ً أكثر ثراء .ليس مجازيا ً فحسب ،بل فعليا ً أيضاً.
ذرات الغبار التي تحوم في مكسو بطبقة سميكة من بقاط الذهب القديم ،ويقال ّ
إن الكثير من ّ ّ فالمكان في الداخل
ّ
الهواء في الواقع غبار ذهب فعلي .هذا الغبار الذهبي وضوء الشمس الساطع المتسلل من النافذة الغربية الكبيرة
جوا نابضا ً بالحياة يساعد المصلّين على بلوغ الغنى الروحي .وفي حال استنشقوا الهواء بعمق،يولّدان ًّ
ّ ً
ى دنيويا يتمثل في تذهيب رئاتهم.
فسيكتسبون غن ً
في هذه الساعة من النهار ،تسلّلت أشعة الشمس المنخفضة عبر النافذة الغربية ،وانتشرت فوق رأس النغدون مثل
الحرير المش ّع .شهق النغدون رغما ً عنه بسبب شدة إعجابه بالمكان ،وشعر ّ
أن ردّ فعل سيينّا وفيريس كان
مشابهاً.
ي طريق؟".
همست سيينا بجانبه" :من أ ّ
أشار النغدون إلى درج يقود إلى األعلى .كان متحف الكنيسة في الطابق العلوي ،ويحتوي على معروضات
أن هذه الخيول ستكشف لهم قريبا ً هوية الدوج الغامض الذي قطع
عديدة تتعلق بخيول سان مارك .اعتقد النغدون ّ
رؤوس الخيل.
أن فيريس ما زال يكافح ليتنفّس ،والتقى نظره نظر سيينا التي كانت تحاول جذبأثناء صعودهم الدّرج ،الحظ ّ
وتحرك فمها بكقام غير مفهوم .وقبل
ّ ّ ً
انتباهه منذ بضع دقائق .بدا تعبيرها حذرا وهي تومئ برأسها باتجاه فيريس
أن يستوضح منها ،نظر إليهما فيريس ،فالتفتت سيينّا إليه مباشرة.
ّ
هز فيريس رأسه ،وراح يصعد بسرعة أكبر.
ف ّكر النغدون :يا لها من مم ّثلة موهوبة .لكن ،ماذا تحاول أن تقول لي؟
عندما وصلوا إلى الطابق الثاني ،امتدّت تحتهم البازيليك بأكملها .كان المبنى قد شيّد على شكل صليب يوناني،
وكان شكله مربّعا ً أكثر من سان بيتر أو نوتردام .فبوجود المسافة القصيرة التي تفصل بين صحن الكنيسة
قوة ومتانة ،كما امتازت برحابة أكبر. والمذبح ،بدت كنيسة سان مارك أكثر ّ
لكن ،لكي ال تبدو الكنيسة مضيافة على نحو مبالغ فيه ،وضع المذبح خلف حاجز مع ّمد .وهو يُعتبر من أكبر
المذابح قيمة في العالم ،ويس ّمى باال دورو .يحمي المذبح غطاء أنيق يعرض إحدى أثمن القطع في العالم؛ أال وهي
النسيج الذهبي الشهير ،أو باال دورو .إنّه عبارة عن غطاء فضّي مذ ّهب ال يعتبر نسيجا ً إالّ من حيث كونه مزيجا ً
من أعمال سابقة -هو في األساس ميناء بيزنطي -منسوجة كلّها في إطار قوطي واحد .ونظرا ً إلى ما يحتويه
الزمرد،
ّ النسيج الذهبي من ألف وثقاثمائة لؤلؤة ،وأربعمائة حجر من العقيق ،وثقاثمائة حجر ياقوت ،فضقاً عن
والجمشت ،والياقوت ،فإنّه يُعتبر -باإلضافة إلى خيول سان مارك -من أروع كنوز البندقية.
ي كنيسة شرقية مبنية على النمط البيزنطي في أوروبا أو الغرب. من الناحية المعمارية ،تشير كلمة بازيليك إلى أ ّ
تش ّكل بازيليك سان مارك نسخة طبق األصل عن بازيليك الرسل لجوستينيان في القسطنطينية ،وهي تعتبر شرقية
ُ
أن الكتيّبات السياحية غالبا ً ما تقترحها كبديل عن زيارة المساجد التركية ،وذلك ألن
النمط كثيراً ،إلى درجة ّ
الكثير من تلك المساجد كان كاتدرائيات بيزنطية ت ّم تحويلها إلى دور عبادة للمسلمين.
أن زيارة كنيسة سان مارك يمكن أن تش ّكل بديقاً عن زيارة المساجد التركية أن النغدون ال يعتقد أبداً ّ
ومع ّ
السرية في الجناح
ّ بالفن البيزنطي يمكن أن ترضيه زيارة الغرف ّ أن شغف المرء يقر ّ
أن عليه أن ّ ّ
الرائعة ،إال ّ
األيمن لهذه الكنيسة؛ الذي ُخبّئ فيه كنز سان مارك ،وهو عبارة عن مجموعة من 607أيقونة ثمينة ،وحجر
كريم ،وكؤوس ت ّم االستيقاء عليها في أثناء نهب القسطنطينية.
ألن البازيليك اليوم كانت هادئة نسبياً .فهي ما زالت تحتوي على حشود من الناس ،لكنّهم وجدوا س ّر النغدون ّ ُ
للتحرك على األقلّ .قاد النغدون كقاًّ من فيريس وسيينا إلى النافذة الغربية التي يمكن للزوار أن يخرجوا
ّ متّسعا ً
ي ،إالّ أنّه ما زال
منها ويروا األحصنة على الشرفة .على الرغم من ثقة النغدون بقدرتهم على إيجاد الدوج المعن ّ
يشعر بالقلق إزاء الخطوة التالية ،أي تحديد مكان الدوج .قبره؟ تمثاله؟ قد يحتاج ذلك إلى بعض المساعدة ،نظراً
إلى وجود مئات التماثيل في الكنيسة والقبو ،وكذلك القبور التي تمتد على طول الجهة الشمالية للكنيسة.
رأى موظفة شابة تقود عددا ً من الزوار في جولة ،فسألها قائقاً" :المعذرة ،هل إتّوري فيو موجود هنا اليوم؟".
نظرت المرأة إلى النغدون وأجابت باإليطالية" :إتّوري فيو؟ بالطبع .لكن ،ألست روبرت النغدون؟".
كان النغدون قد ظهر مع القيّم على المتحف ،إتّوري فيو ،في فيلم وثائقي عن البازيليك ،وبقيا على تواصل منذ
ذلك الحين .شرح لسيينّا قائقاً" :ألّف إتّوري كتابا ً عن هذه البازيليك ،ال بل عدّة كتب في الواقع".
كانت سيينّا ال تزال تبدو متوتّرة إزاء فيريس الذي بقي على مقربة منهما ،في حين قاد النغدون مرافقَيه نحو
النافذة الغربية التي يمكن مشاهدة الخيول عبرها .عندما وصلوا ،كانت عضقات الحيوانات قد أصبحت مرئية
تحت أشعة شمس العصر .على الشرفة ،استمتع السياح بقربهم من األحصنة وبالمشهد الرائع لساحة سان مارك.
هتفت سيينّا مشيرة إلى األحصنة التي بدت من النافذة" :ها هي!".
أجابها النغدون" :ليس بالضبط .هذه ليست سوى نسخة عن تلك األصلية الموجودة في الداخل حفاظا ً عليها".
ممر إلى حجرة ساطعة اإلضاءة تحتوي على مجموعة مشابهة من أربعة أحصنة بدت وكأ ّنها تقفز
ث ّم قادهما عبر ّ
باتجاههم أمام خلفية من القناطر.
مرة يرى فيها النغدون هذه الخيول عن كثب ،يُعجب كثيرا ً بمدى إتقان صنعها ودقّة تفاصيلها .ضاعف من ك ّل ّ
ّ ّ
قوة هذا المظهر المؤثر الصدأ األخضر الذهبي الذي غطى سطحها تماماً .بالنسبة إلى النغدون ،ذ ّكرته رؤيته هذه
ّ
الخيول األربعة محفوظة تماما ً على الرغم من ماضيها الصاخب بأه ّمية الحفاظ على ّ
الفن العظيم.
كان النغدون قد أخبر سيينّا وفيريس بهذه المعلومة التي قرأها على موقع .ARCA
قال النغدون مشيرا ً إلى لوحة تفسيرية معلّقة في الجوار" :هذا ما يبدو".
ابتسم النغدون وصافح الرجل" .أحب أن أفاجئك إتّوري .تبدو بأحسن حال .هذان صديقاي؛ د .بروكس ود.
فيريس".
حيّاهما إتّوري ث ّم تراجع إلى الخلف متأ ّمقاً النغدون" .أتسافر مع طبيبين؟ هل أنت مريض؟ وماذا عن مقابسك؟
تحولت إلى إيطالي؟". هل ّ
قال النغدون وهو يضحك" :ال هذا وال ذاك .قصدتك طلبا ً لمعلومات عن الخيول".
بدا االستغراب على إتّوري" .هل ث ّمة شيء ال يعرفه البروفيسور الشهير؟".
ضحك النغدون" .أريد أن أعرف هويّة من قطع رؤوس الخيل لنقلها أثناء الحمقات الصليبية".
أن النغدون قد سأل عن بواسير الملكة" .ربّاه ،روبرت ،نحن ال نتحدث عن ذلك .إنذُعر إتّوري فيو كما لو ّ
أردت رؤية رؤوس مقطوعة ،فبإمكاني أن أريك كارمانيوال أو ."-
لكن تاريخيا ً ال توجد أدلّة قاطعة تشير إلى قال إتّوري مدافعاً" :لم يحدث ذلك ق ّ
ط .سمعت هذه اإلشاعات بالطبعْ ،
أن دوجا ً معينا ً ."-
ّ
قال النغدون" :إتّوري ،أرجوك ،أخبرني .استنادا ً إلى اإلشاعة ،من هو الدوج الذي فعل ذلك؟".
وضع إتّوري ن ّ
ظارته وتأ ّمل النغدون" .حسناً ،بحسب اإلشاعة ،ت ّم نقل خيولنا الحبيبة بأمر من الدوج األكثر ذكاء
وخداعا ً في البندقية".
"خداعاً؟".
"أجل ،الدوج الذي خدع الجميع في الحمقات الصليبية" .نظر إلى النغدون متابعاً" :الدوج الذي أخذ أموال الدولة
لإلبحار إلى مصر ...لكنّه توجه عوضا ً عن ذلك إلى القسطنطينية ونهبها".
"أجلّ ،
لكن العالم كبير ،والتاريخ طويل .يمكنني االستعانة بصديق".
إن سبب طول عمره هو العمل "عاش هذا الدوج لقرن من الزمن تقريباً ،وكان ذلك أمرا ً عجيبا ً في زمانه .وقيل ّ
الشجاع الذي قام به عندما استرجع عظام القدّيسة لوتشيا من القسطنطينية وأعادها إلى البندقية .كانت القدّيسة
لوتشيا قد خسرت عينيها ."-
قالت سيينا وهي تنظر إلى النغدون الذي تبادرت إلى ذهنه الفكرة نفسها" :اقتلع عظام العمياء!".
نظر إتّوري إلى سيينّا باستغراب" :إلى حدّ ما ،أجل".
بدا الضعف فجأة على فيريس ،كما لو أنّه ما زال متعبا ً من المسافة التي قطعها عبر البياتزا والدّرج.
أن الدوج أحب القدّيسة لوتشيا كثيرا ً ألنه كان أعمى هو أيضاً .في سن التسعين،
قال إتّوري" :وأودّ أن أضيف ّ
وقف في هذه الساحة ،أعمى البصر ،ودعا إلى االنضمام إلى الحمقات الصليبية".
أن ذاكرة النغدون التخيلية كانت أكثر اعتيادا ً على الصور ،تذ ّكر فوراً تحفة فنية ،هي عبارة عن لوحة
بما ّ
ً ّ ً ً
تصور دوجا أعمى وعجوزا ،يرفع ذراعيه إلى األعلى وهو يحث حشدا من الناس على ّ لغوستاف دوري،
االنضمام إلى الحملة الصليبية .كان عنوان لوحة دوري واضحا ً في ذهنه :داندولو يدعو إلى الحملة الصليبية.
خلع إتّوري ن ّ
ظارته ،وف ّكر للحظة" .دعيني أتذ ّكر ،ث ّمة عدد كبير من الدوجات ."-
وقبل أن ينهي إتّوري حديثه ،اقتربت منه موظفة يبدو عليها الخوف واقتادته جانباً ،ث ّم همست شيئا ً في أذنه .تفاجأ،
واندفع فورا ً إلى الدرابزين لينظر إلى األسفل .بعد قليل ،التفت نحو النغدون.
جنود يرتدون مقابس سوداء .شعر النغدون بيديه تتصلّبان على الدرابزين.
نادته سيينا بإلحاح أكبر" :روبرت ،ث ّمة خطب ما! ساعدني!".
أين هي؟
وسرعان ما وقعت عيناه على سيينّا وفيريس .كانت سيينّا منحنية على األرض أمام خيول سان مارك فوق د.
فيريس ...الذي كان منهارا ً ويعاني من تشنجات في صدره.
الفصل 75
صاحت سيينّا" :أعتقد أنّه يعاني من نوبة قلبية!".
ماذا جرى له؟! بالنسبة إلى النغدون ،حدث ك ّل شيء في لحظة واحدة .فمع وصول الجنود وسقوط فيريس على
األرض شعر النغدون للحظة أنّه مشلول وغير واثق لمن يجب أن يعطي انتباهه.
انحنت سيينّا فوق فيريس وحلّت ربطة عنقه ،ث ّم فتحت عددا ً من أزرار قميصه لمساعدته على التنفّس .لكن ،عندما
أبعدت القميص عن صدره ،أطلقت صيحة خوف ،ووضعت يدها على فمها وهي تتراجع إلى الخلف ،وتحدّق إلى
صدره العاري.
ّ
وكأن صدره قد أصيب بطلقة مدفع. كانت هناك دائرة سوداء مزرقّة بحجم برتقالة كبيرة على صدر فيريس .بدا
قالت سيينّا وهي تنظر إلى النغدون مصدومة" :إنّه مصاب بنزيف داخلي ،لهذا السبب كان يعاني من مشاكل في
التنفّس طوال النهار".
يهز رأسه محاوالً الكقام ،لكن لم يصدر عنه سوى أزيز خافت .بدأ السياح يتجمعون حولهم ،وشعر
أخذ فيريس ّ
أن الوضع على وشك أن يخرج عن السيطرة. النغدون ّ
تحولت نظرة التفاجؤ والخوف على وجه سيينّا إلى غضب ،فحدّقت إلى فيريس وقالت" :كنت تكذب
سرعان ما ّ
علينا ،أليس كذلك؟".
حاول فيريس أن يتكلّم لكنّه لم يستطع .فبحثت سيينّا في جيوبه وأخرجت هاتفه ومحفظته اللذين دسّتهما في جيبها،
ونظرت إليه نظرة اتّهامية.
في تلك اللحظة ،اندفعت امرأة إيطالية عجوز بين الحشد ،وصاحت بغضب قائلة لسيينّا" :الي كولبيتو أل بي ّتو!".
بقوة على صدرها.وحركت قبضتها ّ ّ
لكن سيينّا قالت" :كقاّ! التنفّس االصطناعي سيقتله! انظري إلى صدره!" .ث ّم التفتت إلى النغدون وقالت:
ّ
"روبرت ،علينا الخروج من هنا حاالً".
نظر النغدون إلى فيريس الذي كان ينظر إليه بيأس وتوسّل ،وكأنّه يرغب في قول شيء له.
قالت سيينّا" :إنّه ليس مصابا ً بنوبة قلبية ،ثق بي .سنرحل حا ً
ال".
مع ازدياد الحشد كثافة ،بدأ السياح يصيحون طلبا ً للمساعدة .فأمسكت سيينّا بذراع النغدون ّ
بقوة مفاجئة وشدّته
بعيدا ً عن تلك الفوضى ،ث ّم أخرجته إلى الشرفة.
للحظة ،لم ير النغدون شيئاً .فقد كانت الشمس أمام عينيه مباشرة ،تغيب خلف الطرف الغربي لساحة سان مارك،
حيث غمرت الشرفة بأكملها بضوء ذهبي .قادت سيينّا النغدون إلى اليسار ،على طول شرفة الطابق الثاني،
وتسلّقا من بين السياح الذين خرجوا لتأ ّمل البياتزا والنسخة المزيّفة من خيول سان مارك.
عندما خرجا أمام البازيليك ،كانت البحيرة أمامهما مباشرة .لكن في المياه ،رأى النغدون يختا ً حديثا ً جدًّا ،أشبه
بسفينة حربية مستقبلية.
انعطفا بعد ذلك إلى اليسار على طول الشرفة ،متجهين نحو الزاوية الجنوبية الغربية للبازيليك ،باتجاه المبنى
ألن الدوجات كانوا يعلّقون المراسيم هناكالملحق الذي يربط البازيليك بقصر الدوج ،والمس ّمى "باب الورق" ّ
ليقرأها الشعب.
طبعت في ذهن النغدون ،وشعر فجأةليس مصاباً بنوبة قلبية! كانت صورة صدر فيريس األسود واألزرق قد ُ
ً بالخوف من إمكانية سماعه تشخيص سيينّا لمرض الرجل الفعلي .باإلضافة إلى ذلك ،شعر ّ
أن أمرا ما تغيّرّ ،
وأن
سيينّا لم تعد تثق بفيريس .ألهذا السبب كانت تحاول لفت نظري منذ قليل؟
فجأة ،توقفت سيينّا وانحنت فوق الدرابزين األنيق لتط ّل على زاوية منعزلة في ساحة سان مارك في األسفل.
التفت روبرت نحو البازيليك ،ورمق الباب الحديدي الثقيل المصنوع من الحديد المطاوع والزجاج خلفهما
مباشرة .كان السياح يدخلون ويخرجون ،وبحسب تقدير النغدونّ ،
إن عبور ذلك الباب سيعيدهما إلى داخل
المتحف على مقربة من الجزء الخلفي للكنيسة.
لم تستطع سيينّا أن تتخيّل ما الذي يف ّكر فيه النغدون عندما أعادها إلى داخل البازيليك .عبرا المتحف محاو َلين
االبتعاد عن الحشود ،وكان الكثيرون منهم ينظرون إلى وسط المتحف؛ باتجاه الجلبة التي تدور حول فيريس.
استرق النغدون النظر إلى المرأة اإليطالية المسنّة الغاضبة التي كانت تقود جنديَين يرتديان مقابس سوداء إلى
الشرفة ،وترشدهما على الطريق التي حاول النغدون وسيينّا الهرب عبرها.
ف ّكر النغدون :علينا أن نسرع .وتأ ّمل الجدران إلى أن وجد أخيرا ً ما كان يبحث عنه بالقرب من جدار عُرض
عليه عدد كبير من الس ّجادات.
كان الجهاز المثبّت على الجدار ذا لون أصفر زا ٍه مع ملصق أحمر اللون ُكتب عليهALLARME :
.ANTINCENDIO
"يمكننا التسلّل مع الحشود" .مدّ النغدون يده وجذب مقبض الجهاز ،غير ّ
أن شيئا ً لم يحدث .قبل أن يعيد التفكير
بقوة حيث تح ّ
طم زجاج األسطوانة الصغيرة في الداخل. في األمر ،شدّه إلى األسفل ّ
حدّقت إليه سيينّا كما لو أنّه مجنون" .روبرت ،نحن في كاتدرائية قديمة مليئة بالسياح! هل ّ
تظن ّ
أن أجهزة
ي مجنون بتشغيلها؟".
الحريق العامة هذه تعمل عندما يرغب أ ّ
"أنت في أوروبا ،ولدينا هنا عدد أق ّل من المحامين" .ث ّم أشارت خلف النغدون مضيفة" :كما أ ّننا لم نعد نملك
الوقت".
التفت النغدون إلى الباب الزجاجي الذي دخقا منه ورأى الجنديين عائدين من الشرفة .عرف النغدون الجندي
الذي أطلق النار عليهما عندما هربا من شقة سيينّا.
تم ّكن النغدون وسيينّا من االبتعاد عن أنظارهما ،ووصقا إلى درج حلزوني ينزل إلى الطابق السفلي .عندما
وصقا إلى منبسط الدّرج ،وقفا في الظلّ .رأيا من هناك عددا ً من الجنود الذين يحرسون المداخل ،ويمسحون
بأنظارهم القاعة بأكملها.
همست سيينّا مشيرة إلى الفتة ُكتبت عليها عبارة الدخول ممنوع" :الدّرج يتّجه إلى األسفل" .كان الدّرج يهبط في
دوامة تزداد ضيقا ً إلى حيث يسود الظقام الدامس.ّ
ف ّكر النغدون :هذه فكرة سيّئة .سرداب تحت األرض من دون مخرج.
فوجئ النغدون .فقد كان قبو سان مارك مختلفا ً عن الكثير من األماكن األخرى المشابهة ألنّه يش ّكل أيضا ً كنيسة
ناشطة تقام فيها قداديس منتظمة أمام رفات سان مارك.
أهذا ممكن؟! حاول النغدون أن يتذ ّكر زياراته السابقة إلى هذا المكان ،وف ّكر ّ
أن سيينّا ترى على األرجح لوكس
إتيرنا ،وهو ضوء كهربائي يبقى مضا ًء عند قبر سان مارك في وسط القبو .لكن ،مع اقتراب الخطوات ،لم يعد
لديه الوقت للتفكير .فتجاوز القافتة أيضاً ،ث ّم وضع راحة يده على الجدار الخشن متل ّمسا ً طريقه نحو األسفل.
كانت سيينّا بانتظاره عند أسفل الد ّرج .خلفها ،كان الظقام يغمر المكان .كان السرداب عبارة عن حجرة تحت
األرض ذات سقف حجري منخفض جدًّا مدعّم بأعمدة قديمة وقناطر الطوب المقبّبة .ف ّكر النغدونّ :
إن وزن
البازيليك بأكملها يرتكز على هذه األعمدة .أشعرته تلك الفكرة باالختناق.
أشارت سيينّا إلى نوافذ علوية صغيرة في الجدار وهمست" :كنتُ محقّة".
كان النغدون قد نسي أمر وجود مناور في القبو .كانت المناور مص ّممة للسماح بدخول الضوء والهواء النقي إلى
هذا القبو ،وذلك عبر فتحات عميقة تمتدّ لتصل إلى ساحة سان مارك في األعلى .كان زجاج النوافذ مدعّما ً بالحديد
أن النغدون شكّ في أن يكون فتحها ممكنا ً من الداخل ،إالّ أنّها كانت بارتفاع
في خمس عشرة دائرة متشابكة .ومع ّ
الكتف ويمكن عبورها بصعوبة .حتّى لو تمكنا بطريقة ما من عبور النافذة إلى المنور ،فسيكون الخروج منها
ّ
أمرا ً مستحيقاً؛ ألنّها على عمق عشر أقدام ومقفلة بإحكام بغطاء آمن من األعلى.
في الضوء الخافت المتسلّل من تلك النوافذ ،بدا قبو الكنيسة أشبه بغابة مضاءة بنور القمر؛ بسبب األعمدة الشبيهة
بجذوع األشجار ،والتي تلقي ظقاالً على األرض .نظر النغدون إلى وسط القبو ،ورأى شمعة واحدة تضيء قبر
سان مارك .كان من تحمل الكنيسة اسمه ممدّدا ً في تابوت حجري وراء المذبح ،وكانت أمامه صفوف من المقاعد
تجلس عليها عادة القلّة المحظوظة التي تت ّم دعوتها إلى الصقاة هنا في قلب عالم البندقية المسيحي.
فجأة ،رأى النغدون ضوءا ً خافتا ً قربه .التفت ووجد سيينّا تحمل هاتف فيريس وقد أضيئت شاشته.
قالت سيينّا وهي تضغط على األزرار" :كان يكذب حيال أمور كثيرة" .عبست ّ
وهزت رأسها قائلة" :ال توجد
إشارة .ظننت أ ّننا نستطيع ربّما إيجاد موقع قبر إنريكو داندولو" .تو ّجهت إلى إحدى النوافذ وحملت الهاتف عاليا ً
قرب الزجاج للحصول على إشارة.
ف ّكر النغدون ،إنريكو داندولو.لم يجد الفرصة للتفكير بالدوج بسبب هربهما المفاجئ .لكن ،على الرغم من هذا
فإن زيارتهم إلى كنيسة سان مارك أدّت غرضها ،وكشفت عن هوية الدوج الخائن الذي قطع رؤوس المأزقّ ،
الخيل ...واقتلع عظام العمياء.
مع األسف ،لم يكن النغدون يملك فكرة عن موقع القبر ،وإتّوري فيو لم يكن يعرف أيضاً .إ ّنه يعرف هذه
البازيليك مثل راحة يده ...وعلى األرجح قصر الدوج أيضاً .لكن ،بما أنّه لم يذكر فوراً مكان القبر لقانغدون فهذا
يد ّل على أنّه غير موجود على مقربة من سان مارك أو قصر الدوج.
أين هو إذ ًا؟
نظر النغدون إلى سيينّا ،فوجدها واقفة على مقعد نقلته ووضعته تحت إحدى النوافذ .كانت قد فتحت النافذة
وحملت هاتف فيريس عاليا ً في الهواء الطلق.
تسربت أصوات ساحة سان مارك من األعلى ،فتساءل النغدون فجأة ع ّما إذا كان ث ّمة طريق إلى الخارج .رأى ّ
ي خلف المقاعد ،وف ّكر في ما إذا كان من الممكن رفعها ووضعها تحت أحد المناور. صفًّا من الكراسي القابلة للط ّ
ربّما كانت األغطية العلوية تُفتح من الداخل أيضاً؟
أسرع نحو سيينّا ،لكن ما إن سار بضع خطوات حتّى فوجئ بضربة قوية على جبينه دفعته إلى الخلف .ركع على
ركبتيه معتقدا ً أنّه ّ
تعرض لهجوم ،ث ّم أدرك ّ
أن طوله يزيد عن ارتفاع القناطر التي بُنيت بحسب الطول العادي قبل
أكثر من ألف عام.
سانكتوس ماركوس.
مطوالً .لم يكن اسم مارك هو الذي فاجأه ،بل اللغة التي ُكتب بها ،أي القاتينية.
حدّق إلى النقش ّ
بعد هذا اليوم الطويل الذي انغمس فيه في إيطاليا المعاصرة ،شعر باالرتباك لدى رؤيته اسم سان مارك مكتوبا ً
بالقاتينية .لقد ذ ّكره ذلك ّ
أن اللغة المستعملة في زمن وفاة سان مارك كانت لغة اإلمبراطورية الرومانية.
ففي أوائل القرن الثالث عشر ،أي في زمن إنريكو داندولو والحملة الصليبية الرابعة ،كانت لغة السلطة هي
القاتينية .بالتالي ،ال يمكن أن يكون الدوج الذي حقّق مجدا ً كبيرا ً لإلمبراطورية الرومانية بإعادة االستيقاء على
القسطنطينية قد دفن باسم إنريكو داندولو ...بل باسمه القاتيني.
هنريكوس داندولو.
أن ذلك اإللهام أتاه وهو راكع في كنيسة ،إالّ
في تلك اللحظة ،خطرت في بال النغدون صورة قديمة منسية .ومع ّ
أن السبب على األرجح ذكرى عادت إليه فجأة .كانت الصورة التي خطرت في بال النغدون هي السم أنّه عرف ّ
داندولو القاتيني المنقوش على لوح رخامي قديم مدمج في أرضية مزخرفة.
هنريكوس داندولو.
ذُهل النغدون وهو يتذ ّكر شاهدة قبر الدوج البسيطة .لقد كنت هناك .كما ذكرت القصيدة ،كان إنريكو داندولو
مدفونا ً بالفعل في متحف ذهبي ،موزيون الحكمة المقدّسة ،لكنّه ليس بازيليك سان مارك.
قالت سيينّا وهي تنزل عن المقعد وتقترب منه" :لم أستطع إيجاد إشارة".
قال لها" :لست بحاجة إليها .فالموزيون الذهبي للحكمة المقدّسة "...وأخذ نفسا ً عميقاً" .لقد ...ارتكبتُ خطأً".
مر السنوات ،لكن ما يحدث اآلن أمام عينيها لم يكنرأت الكثير من األمور الغريبة في ساحة سان مارك على ّ
يجري في الساحة ...بل تحتها .لفت انتباهها صوت عا ٍل عند قدميها ،فحدّقت عبر فتحة في أحد الغطاءين
ورفع منها كرسي الحديديين إلى منور ضيّق ،ربّما يبلغ عمقه عشر أقدام تقريباً .فُتحت النافذة في أسفل المنور ُ
قابل للطي ،راح يحتكّ بالرصيف.
سرح على شكل ذيل حصان ،بدت وكأنّها تُدفع من األسفل لتتسلّق
تبعت الكرسي امرأة جميلة ذات شعر أشقر م ّ
الفتحة الضيّقة.
وقفت الشقراء على قدميها ونظرت إلى األعلى مباشرة ،لتفاجأ بالغجرية التي راحت تحدّق إليها عبر فتحة الغطاء
المعدني .وضعت المرأة الشقراء إصبعها على فمها وابتسمت بتوتّر ،ث ّم فتحت الكرسي وصعدت عليه ،ومدّت
يديها إلى الغطاء.
نظر هو أيضا ً إلى األعلى ،ورأى الغجرية عبر فتحة الغطاء الحديدي .بعد ذلك ،تبادل موقعه بصعوبة مع المرأة
الشقراء وتسلّق الكرسي المتزعزع .كان أطول قامة منها ،وعندما مدّ يديه إلى األعلى ،تم ّكن من نزع الترباس
الموجود تحت الغطاء .وقف على رؤوس أصابعه ،ووضع يديه على الغطاء ،ورفعه إلى األعلى .ارتفع الغطاء
إنشا ً تقريبا ً قبل أن يهبط مجدّداً.
ولوحت بها .كان هذا المبلغ يفوق ما تكسبه البائعة من بيع األقنعة
أخرجت الشقراء مائة يورو من محفظة رجل ّ
فهزت رأسها ورفعت إصبعين .عندئذ أخرجت الشقراء ورقة نقدية في ثقاثة أيّام .كانت بارعة في المساومةّ ،
ثانية.
ظ الذي هبط عليها فجأة ،فوافقت على مساعدتهما ،وحاولت أن تبدو غير آبهة وهي تنحني لم تصدّق المرأة الح ّ
وتمسك بقضبان الغطاء ،وتنظر إلى عيني الرجل لكي يتعاونا معاً.
عندما بدأ الرجل برفع الغطاء مجدّداً ،سحبت الغجرية الغطاء إلى األعلى بذراعيها القويتين بفعل سنوات من حمل
بضاعتها ،إلى أن ارتفع ...نصف المسافة .وعندما اعتقدت أنّهما نجحا ،سمعت صوت تح ّ
طم تحتها ،واختفى
الرجل ،ليغرق مجدّدا ً في المنور مع انهيار الكرسي تحته.
القوة، ازداد ثقل الغطاء بين يديها على الفور ،وظنّت أ ّنها ستسقطهّ ،
لكن الوعد بالحصول على مائتي يورو منحها ّ
فنجحت في رفعه ليسقط على األرض محدثا ً صوتا ً عالياً.
نظرت الغجرية إلى األسفل وهي تلهث ،ورأت فوضى وأجزاء الكرسي المح ّ
طم .نهض الرجل مجدّداً ،ونفض
مقابسه ،في حين مدّت يدها إلى المنور مطالبة بمالها.
هزت المرأة الشقراء رأسها بسرور ،ورفعت ورقتين نقديتين فوق رأسها .حاولت الغجرية التقاطهما ،لكنّها كانت ّ
بعيدة جدًّا.
سمعت ضوضاء ،وتعالت أصوات غاضبة من داخل البازيليك .أصيب الرجل والمرأة بالذعر ،وابتعدا عن
فجأةُ ،
النافذة.
تولّى الرجل ذو الشعر الداكن األمور ،فقرفص وأمر المرأة بحزم بوضع قدمها على يديه ليرفعها نحو األعلى.
لتحرر يديها في محاولة للوصول إلى
ّ نفّذت طلبه ،فرفعها نحو فتحة المنور .وضعت األوراق النقدية في فمها
طرف الفتحة .رفعها الرجل أكثر فأكثر ...إلى أن وصلت يداها إلى الحافة.
بمجهود كبير ،خرجت إلى الساحة كما لو كانت تصعد من حوض سباحة .أعطت الغجرية المال ،ث ّم استدارت
على الفور لمساعدة الرجل.
أ ّما المرأة الشقراء فحدّقت إلى األسفل مصدومة ،وفاضت عيناها بالدموع .همست" :أنا آسفة ،روبرت" .ث ّم
أضافت" :آسفة على ك ّل شيء".
بعد قليل ،راحت المرأة تركض مسرعة بين الناس ،وشعرها األشقر يتأرجح خلف ظهرها .اجتازت زقاق
ميرتشيريا ديل أورولودجو ...واختفت في قلب البندقية.
الفصل 77
أعاد صوت خرير المياه روبرت النغدون إلى وعيه .ش ّم رائحة مواد التعقيم الممزوجة بهواء البحر المالح وشعر
بالعالم يتمايل تحته.
أين أنا؟
قبل دقائق ،اشتبك مع ذراعين قويتين حاولتا إخراجه من المنور وإعادته إلى القبو .واآلن ،لم يعد يشعر بأرض
سان مارك الباردة تحته ...بل بفراش وثير.
فتح عينيه ،وتأ ّمل محيطه ،فرأى غرفة صغيرة طبّية المظهر ،ذات نافذة واحدة .ظ ّل يشعر أنّه يتمايل.
كان آخر ما يذكره النغدون هو أ ّنه مس ّمر على أرض القبو من قبل جنود يرتدون المقابس السوداء ويقولون له
بغضب" :توقّف عن محاولة الهرب!".
صاح النغدون عندئذ طالبا ً المساعدة ،في حين حاول الجنود كتم صوته.
ّ
فهز شريكه رأسه على مضض" .قم بذلك".
عندها شعر النغدون بأصابع قوية تضغط بخبرة واضحة على شرايين عنقه .وبعدما عثرت على بقعة محدّدة،
ثوان ،زاغ نظر النغدون ،وفقد وعيه.
ٍ بقوة .وفي غضون
ضغطت األصابع ّ
لكن العالم عاد يتّضح أمام عينيه .ك ّل ما يستطيع قوله إنّه
لم يعرف النغدون كم مضى من الوقت منذ ذلك الحينّ ،
في غرفة رعاية طبّية على متن سفينة ما .شعر من محيطه المعقّم ورائحة الكحول أنّه عاش هذه الحالة مسبقاً،
وكأنّه دار دورة كاملة واستيقظ كما حدث في الليلة الماضية على سرير مستشفى غريب ،مع ذكريات ّ
مشوشة.
ف ّكر بسيينّا ،وتذ ّكر عينيها البنّيتين اللطيفتين اللتين راحتا تنظران إليه والندم والخوف يمآلنهما .تمنّى أن تكون قد
هربت وتم ّكنت من الخروج من البندقية بأمان.
كان النغدون قد أخبرها أنّهما في البلد الخاطئ بعدما أدرك مكان قبر إنريكو داندولو .فالموزيون الغامض
المذكور في القصيدة لم يكن في البندقية ...بل على مسافة بعيدة جدًّا .تماما ً كما حذّر ّ
نص دانتي ،كان المعنى
الفعلي مخبًّا "تحت حجاب أبيات غامضة جدًّا".
َّ
تتسن له الفرصة. كان النغدون ينوي شرح ك ّل شيء لسيينّا بعد هربهما من القبو ،لكن لم
قال الجندي" :نريد منك معلومات ،وليس لدينا وقت كافٍ ".
"كقاّ ،لقد استخدمنا تقنية تثبيت من الجودو تدعى شيم وازا ،ولم نقصد إيذاءك".
ضاقت عينا الرجل" :لو أردت أن أصيب عمودك الفقري لفعلت .لقد أطلقت رصاصة واحدة في محاولة إلصابة
إطار الدراجة الخلفي؛ ألتم ّكن من إيقافك .فقد تلقّيت أوامر لقاتصال بك ومعرفة سبب سلوكك الغريب".
وقبل أن يتم ّكن النغدون من استيعاب كقامه ،دخل جنديان آخران واقتربا من سريره.
عرفها النغدون فوراً .إنّها المرأة التي كان يراها وهو يهذي .كانت جميلة ،ذات شعر فضّي طويل وتضع حول
عنقها سلسلة تتدلى منها تميمة زرقاء من القازورد .لقد سبق له أن رآها أمام بحر من الجثث ،لذلك استغرق بعض
الوقت ليصدّق أنّها تقف أمامه بلحمها ودمها.
ابتسمت المرأة عندما وصلت إليه ،وقالت" :بروفيسور النغدون ،الحمد هلل أنّك بخير" .جلست وفحصت نبضه.
"عرفت أنّك مصاب بفقدان ذاكرة ،هل تذكرني؟".
تأ ّمل النغدون المرأة لبعض الوقت" .راودتني ...أحقام عنك ،مع أنّني ال أذكر أنّنا التقينا".
مالت المرأة نحوه ،وبدا على وجهها التعاطف" .اسمي هو إليزابيث سينسكي .أنا مديرة من ّ
ظمة الص ّحة العالمية،
وقد جنّدتك لمساعدتي على العثور على ."-
"كقاّ ،بل استيقظت في أحد المستشفيات مع مسقاط صغير غريب ،ورؤى كن ِّ
ت فيها تقولين لي :من يبحث يجد.
وهذا ما كنت أحاول فعله عندما حاول هؤالء الرجال قتلي" .وأشار النغدون إلى الجنود.
أجاب النغدون" :سقامتي! أنا أسير على متن هذه السفينة!" .وأنت كذلك!
ّ
هزت المرأة رأسها بتف ّهم" .أخشى أنّه بسبب فقدانك ذاكرتكّ ،
فإن الكثير م ّما سأشرحه لك سيسبّب لك االستغراب.
أن الوقت قصير ،والكثير من الناس يحتاجون إلى مساعدتك". غير ّ
"ينتمي العميل برودر ورجاله إلى شعبة المراقبة والدعم ،التابعة للمركز األوروبي للوقاية من األمراض
ومكافحتها".
نظر النغدون إلى الميداليات المعلّقة على بذالتهم .الوقاية من األمراض ومكافحتها؟!
صصة في كشف خطر األمراض المعدية واحتوائها .إ ّنهم أساسا ً فريق األسلحة تابعت" :مجموعتهم متخ ّ
والتكتيكات الخاص لتخفيف المخاطر الصحية الحادّة وواسعة النطاق .وكنت أملي الوحيد في تحديد المرض الذي
اخترعه زوبريست ،لذلك عندما اختفيت ،كلّفت فريق المراقبة والدعم بإيجادك ...لقد استدعيتهم إلى فلورنسا لتقديم
المساعدة لي".
أومأت برأسها" .بإعارة من المركز األوروبي .في الليلة الفائتة ،عندما اختفيت وتوقّفتَ عن االتصال ،ظننا ّ
أن
مكروها ً قد أصابك .لكن ،هذا الصباح ،اكتشف فريقنا التقني أنّك دخلت حساب بريدك اإللكتروني في جامعة
هارفرد ،فعرفنا أنّك على قيد الحياة .وحتّى تلك اللحظة ،كان تفسيرنا الوحيد لسلوكك الغريب هو أ ّنك أصبحت
تعمل لحسابهم ...وأنّه ربّما عُرض عليك مبلغ كبير من المال لكي تجد الوباء من أجل شخص آخر".
"صحيح .هذا سيناريو غير محتمل ،لكنّه كان التفسير المنطقي الوحيد .ونظراً إلى خطورة الوضع ،لم نشأ
المخاطرة .بالطبع ،لم نتخيّل ّ
قط أنّك تعاني من فقدان الذاكرة .لذلك ،عندما عرف الفريق التقني أنّك دخلت بريدك
اإللكتروني ،تعقّبنا عنوان بروتوكول اإلنترنت ،وعثرنا على الشقّة في فلورنسا وتو ّجهنا إليها .لكنّك هربت على
دراجة مع تلك المرأة ،م ّما ضاعف من شكوكنا بأنّك تعمل لحساب جهة أخرى". متن ّ
فوجئ النغدون" .لكنّنا مررنا بجانبكم! رأيتك جالسة على المقعد الخلفي لسيارة فان سوداء ،ومحاطة بالجنود.
اعتقدت أنك أسيرة لديهم .بدا عليك أنّك تهذين ،وكأنّك مخدّرة".
محق ...كانوا يعطونني دوا ًء" .صمتت ث ّم أضافت" :لكن ،أل ّنني أمرتهم
ّ فوجئت د .سينسكي" .رأيتنا؟! أنت
بذلك".
تمدّد النغدون على سريره بعصبية .كنت أهرب طوال اليوم من من ّظمة الص ّحة العالمية ،أي األشخاص أنفسهم
الذين ج ّندوني في األساس.
لكن شيئا ً ما استوقفه .نظر إلى برودر؛ الرجل الذي أطلق عليه النار هذا
أراد النغدون أن يقول لها إنّه بعيد جدًّاّ ،
الصباح وأوشك أن يخنقه بعد ساعات .بالنسبة إلى النغدون ،كانت الحقائق تتبدّل على نحو سريع جدًّا ،حيث إنّه
لم يعد يعرف من عليه أن يصدّق.
تردّد النغدون.
قال برودر بنفاد صبر" :سيّدي! من الواضح أنّك تعرف شيئاً ...أخبرنا أين هو! فأنت ال تفهم ما الذي سيحدث".
التفتت سينسكي إلى الرجل غاضبة" .عميل برودر ،هذا يكفي" .ث ّم التفتت مجدّدا ً إلى النغدون وتحدّثت معه
بلطف" .نظرا ً إلى ما مررت به ،أنا أتف ّهم تماما ً االرتباك الذي تشعر به ،وتردّدك في الوثوق بنا" .صمتت قليقاً
ّ
"لكن وقتنا ضيّق ،وأنا أطلب منك أن تثق بي". وحدّقت إلى عينيه.
وقف عند الباب رجل قصير القامة ،وأنيق المظهر ،ذو بشرة سمراء داكنة .تأ ّمل النغدون بهدوءّ ،
لكن هذا األخير
رأى الخطر في نظراته.
أومأت سينسكي لقانغدون لكي يقف" .بروفيسور ،هذا رجل أفضّل أالّ أتعاون معهّ ،
لكن الوضع خطير على نحو
لم يترك لي أي خيار آخر".
نهض النغدون متردّداً ،ث ّم وقف واستغرق بعض الوقت ليستعيد توازنه.
قال الرجل وهو يتّجه نحو الباب" :اتبعني ،ث ّمة ما أريد أن أريك إيّاه".
توقّف الرجل ،وانقبضت أصابعه" .األسماء ليست مه ّمة .يمكنك مناداتي العميد .أنا أدير من ّ
ظمة ...ويؤسفني القول
إنّها أخطأت في مساعدة بيرتراند زوبريست على تحقيق أهدافه .أنا أحاول اآلن تصحيح ذلك الخطأ قبل فوات
األوان".
رمق الرجل النغدون بنظرة حادّة" .سأريك شيئا ً لن يترك لديك أدنى شكّ في أنّنا جميعا ً في الخندق نفسه".
الفصل 78
تبع النغدون الرجل في متاهة من األروقة الضيّقة تحت سقف اليخت ،مع د .سينسكي والجنود الذين مشوا خلفه
صف واحد .عندما اقتربت المجموعة من أحد السقالم ،تمنّى النغدون أن يصعدوا إلى ضوء النهار ،إالّ أ ّنهم
ّ في
نزلوا إلى مستوى أعمق في السفينة.
عندما أصبحوا في أحشاء اليخت ،قادهم العميد عبر مجموعة من الحجرات الزجاجية ،بعضها ذو زجاج شفّاف،
والبعض اآلخر محجوب .وكان في ك ّل حجرة عدد من الموظفين الذين يعملون بجدّيّة على الحواسب اإللكترونية
أو يتحدّثون عبر الهواتف من دون أن تسمع أصواتهم بفضل عازل للصوت .من الحظ منهم مرور المجموعة،
أن الرجل األسمر أومأ لهم مطمئنا ً وتابع طريقه.
بدا عليهم القلق لرؤية غرباء في هذا الجزء من السفينة .غير ّ
أخيراً ،وصل مضيفهم إلى قاعة اجتماعات كبيرة ودخلوا جميعاً .ضغط الرجل على ّ
زر و ُحجب الزجاج فجأة.
فوجئ النغدون الذي لم يسبق له أن رأى شيئا ً كهذا.
ف ّكر النغدون :ال يمكن اعتبارها تسمية نبيلة .فالمينداسيوم هو اإلله الذي يسود ك ّل البسودولوغوي؛ أي الشياطين
صصة في التزوير ،والكذب ،واالفتراء. المتخ ّ
أخرج الرجل شريحة ذاكرة حمراء صغيرة ووضعها في كمبيوتر موصول بشاشة إل سي دي كبيرة مس ّ
طحة.
أضاءت الشاشة في حين خفتت إضاءة المصابيح فوق رؤوسهم.
قال مضيفهم" :هذا الفيلم من إعداد بيرتراند زوبريست الذي طلب منّي نشره غداً".
شاهد النغدون الفيلم الغريب وهو عاجز عن التصديق ...كهف يحتوي على بحيرة ...غاصت فيها الكاميرا...
المكسو بالطمي ،إلى أن ظهرت لوحة ُكتب عليها :في هذا المكان ،وفي هذا التاريخ ،تغيّر
ّ ووصلت إلى القعر
العالم إلى األبد.
يا إلهي! التفت النغدون إلى سينسكي في ظقام الغرفة ،لكنّها كانت تحدّق إلى األرض بشرود ،ويبدو أنّه سبق لها
أن شاهدت الفيلم ولم تعد قادرة على مشاهدته مجدّداً.
مالت الكاميرا اآلن إلى اليسار ،وذُهل النغدون عندما رأى تحت سطح الماء فقاعة ،هي عبارة عن كيس شفّاف
من النايلون يحتوي على سائل جيقاتيني بنّي مائل إلى االصفرار يتمايل في القعر .بدا الكيس الرقيق مثبّتا ً
باألرض لكي ال يرتفع إلى السطح.
تتموج ببطء...
تأ ّمل النغدون الكيس وهو يتساءل عن ماهيّته .رأى محتوياته ّ
تج ّمدت الصورة ،وبدا الكيس أشبه بغيمة من السائل معلّقة تحت الماء.
لكن السؤال إلى متى سيصمد ذلك الكيس" .أشارت إلى عقامة صغيرة تابعت قائلة" :أعتقد أنّك تعرف ما هذاّ .
على الكيس الشفّاف وقالت" :مع األسف ،تخبرنا هذه العقامة عن المادة التي صنع منها الكيس .هل تستطيع
قراءتها؟".
حدّق النغدون جيّدا ً إلى الكلمة التي بدت أنّها تشير إلى العقامة التجارية :سوليوبلون.
هزت سينسكي رأسها بكآبة" :لقد اتصلنا بال ُمصنّع وعلمنا منه مع األسف أنّهم يص ّنعون عشرات الدرجات ّ
المختلفة من هذه األكياس التي يستغرق ذوبانها بين عشر دقائق إلى عشرة أسابيع؛ اعتماداً على الدرجة .وتعتمد
أن زوبريست أخذ هذه العوامل في وتيرة الذوبان أيضا ً على نوع المياه وحرارتها ،لكن ال شكّ لدينا في ّ
أن هذا الكيس سيذوب بحلول ."- نظن ّ
الحسبان" .صمتت ث ّم أضافت" :ونحن ّ
قاطعها العميد" :يوم غد .غدا ً هو التاريخ الذي حدّده زوبريست على روزنامتي ،وهو أيضا ً التاريخ المذكور على
اللوحة".
عادت الصورة إلى الحياة ،وأظهرت الكاميرا المياه المتو ّهجة وظقام الكهف .لم يكن لدى النغدون أدنى شكّ في
ّ
أن هذا هو المكان المذكور في القصيدة .البحيرة التي ال تعكس النجوم.
كان المشهد يذ ّكر بصور من جحيم دانتي ...كنهر كوسيتوس الذي يتدفّق عبر كهوف العالم السفلي.
ومكسوة بالطحالب؛
ّ فإن مياهها موجودة داخل جدران شديدة االنحدار، أيًّا يكن المكان الذي تقع فيه هذه البحيرةّ ،
أن الكاميرا لم تظهر سوى زاوية صغيرة من م ّما دفع النغدون إلى االعتقاد أنّها من صنع اإلنسان .شعر أيضا ً ّ
ذلك المكان الواسع ،وهي فكرة دعمها وجود ظقال عمودية باهتة جدًّا على الجدار .كانت الظقال شبيهة باألعمدة
التي تفصل بينها مسافات متساوية.
ّ
إن سقف هذا الكهف مدعّم باألعمدة.
خقال الدقائق التالية ،شاهد النغدون أفظع فيلم رآه في حياته .من الواضح أنّه هذيان عبقري مجنون ،ومناجاة من
بيرتراند زوبريست الذي يظهر في مظهر طبيب طاعون .كان مليئا ً بإشارات إلى جحيم دانتي ،ويحمل رسالة
النمو الس ّكاني يخرج عن السيطرة ويهدّد بقاء الجنس البشري وتوازنه.
ّ واضحة جد ًّاّ :
إن
"إنّني تركت المستقبل بين يديك الحنونين .لقد انتهى عملي هنا وحانت الساعة ألصعد إلى األعلى ...وأعانق
النجوم".
أن كلمات زوبريست األخيرة تشبه كثيراً األبيات األخيرة من إنفيرنو دانتي.
مع انتهاء الشريط ،عرف النغدون ّ
كانت تعابير وجه إليزابيث سينسكي جامدة وهي تقف وتداعب تميمتها بتوتّر" .بروفيسور ،من الواضح ّ
أن وقتنا
أن الكيس ي حاالت مرضية ،لذلك نحن نفترض ّ ضيّق جدًّا .النبأ السعيد الوحيد هو أنّه لم يت ّم حتّى اآلن اكتشاف أ ّ
ما زال سليماً .غير أنّنا ال ندري أين يجب أن نبحث عنه .علينا إبطال هذا الخطر باحتواء الكيس قبل ذوبانه.
لذلك ،ال بدّ من أن نعرف مكانه فورا ً".
وقف العميل برودر وحدّق إلى النغدون بتركيز" .نحن نفترض أ ّنك أتيت إلى البندقية ألنّك عرفت ّ
أن زوبريست
قد خبّأ وباءه هنا".
حدّق النغدون إلى الوجوه المحيطة به التي سيطر عليها الخوف .كان الجميع ينتظرون أعجوبة؛ حيث تمنّى لو ّ
أن
لديه أخبارا ً أفضل ليقدّمها إليهم.
أعلن قائقاً" :نحن في البلد الخاطئ .ما تبحثون عنه موجود على بعد ألف ميل تقريبا ً من هنا".
محركات المينداسيوم التي راحت تعمل بأقصى سرعتها معيدة إيّاهم إلى مطار ّ ارت ّجت أحشاء النغدون مع
البندقية .على متنها ،دارت حركة محمومة .اندفع العميد وهو يصيح باألوامر لطاقمه ،فيما تناولت سينسكي هاتفها
واتصلت بطاقم طائرة C-130التابعة لمن ّ
ظمة الص ّحة العالمية ،وطلبت منهم االستعداد لإلققاع من مطار البندقية
بأسرع وقت ممكن .أ ّما العميل برودر فجلس أمام الحواسب المحمولة محاوالً التنسيق مع فريق دولي في المدينة
التي يقصدونها.
عندما عاد العميد إلى قاعة االجتماعات ،سأل برودر" :هل من معلومات من سلطات البندقية؟".
هز برودر رأسه نافياً" .ال أثر لها .إنّهم يبحثون عنهاّ ،
لكن سيينّا بروكس قد اختفت". ّ
أنهت سينسكي مكالمتها الهاتفية وانض ّمت إلى الحديث" .ألم يت ّم العثور عليها؟".
نظر العميد إلى النغدون وقال" :بروفيسور ،ث ّمة أمور ال تعرفها عن اآلنسة بروكس".
الفصل 79
راحت سيينّا تمشي مسرعة بين السيّاح على جسر ريالتو ،ث ّم أخذت تركض متّجهة إلى الغرب على طول ممشى
فوندامنتا فين كاستيلّو المواجه للقناة.
ما زالت ترى عينيه اليائستين وهما تحدّقان إليها بينما كان الجنود يسحبونه عبر المنور إلى القبو .لم يكن لديها
أن الذين أمسكوا به سرعان ما سيقنعونه ،بطريقة أو بأخرى ،بكشف ك ّل ما عرفه. أدنى شكّ في ّ
أن سيينّا اشتاقت إليه منذ اآلن .هنا ،وسط حشود البندقية ،شعرت بوحدة مألوفة.
الغريب ّ
كانت سيينّا تتميّز بذكاء استثنائي ،لذلك أمضت شبابها وهي تشعر أنّها غريبة في أرض غريبة ...وكأنّها كائن
لكن أبناء جيلها كانوا منغمسين في تفاهات ال تكون صداقاتّ ، فضائي مسجون في عالم غير عالمه .حاولت أن ّ
لكن معظم الراشدين بدوا بالنسبة إليها أطفاالً كباراً
تثير اهتمامها .حاولت أن تحترم من هم أكبر سنًّا منهاّ ،
ي فضول أو اهتمام به. ّ أ يملكون يفتقرون إلى أبسط المبادئ لفهم العالم من حولهم ،وال
وهكذا ،تعلّمت سيينّا بروكس كيف تصبح شبحاً .تعلّمت كيف تكون حرباء ،وممثّلة ،ووجها ً عاديا ً بين الوجوه .وال
أن شغفها القديم بالتمثيل على المسرح نشأ من حلمها في أن تصبح شخصا ً آخر؛ شخصا ً طبيعيًّا.شكّ لديها في ّ
ساعدها دورها في مسرحية شيكسبير ،حلم ليلة صيف ،على اإلحساس بأنّها جزء من شيء ما .كما ّ
أن الممثلين
أن فرحتها كانت قصيرة ،وتب ّخرت في اللحظة التي غادرت فيها المسرح فياألكبر سنًّا دعموها بتواضع .غير ّ
ّ
ليلة االفتتاح وواجهت الحشود اإلعقامية المدهوشة ،في حين تسلل زمقاؤها بهدوء من الباب الخلفي.
سن السابعة ،قرأت سيينّا ما فيه الكفاية لتعرف أنّها مصابة باكتئاب عميق .وعندما أخبرت والديها ،بدا عليهما
في ّ
الذهول كعادتهما إزاء غرابة ابنتهما .ومع ذلك ،قاما بإرسالها إلى طبيب نفسي ،فطرح عليها الكثير من األسئلة
التي سبق لها أن طرحتها على نفسها ،ث ّم وصف لها مزيجا ً من األميتريبتيلين والكلورديازيبوكسيد.
شعرت سيينّا بالغضب ،فقفزت قائلة" :أميتريبتيلين؟! أريد أن أكون أكثر سعادة وليس جثّة حية!".
ظ ّل الطبيب النفسي هادئا ً أمام نوبة غضبها ،وعرض عليها اقتراحا ً آخر" .سيينّا ،إن كنت تفضّلين عدم استخدام
نجرب مقاربة مختلفة .يبدو أنّك عالقة في حلقة مفرغة من التفكير بنفسك وبعدم انتمائك إلى
األدوية ،يمكننا أن ّ
العالم".
أجابت سيينّا" :هذا صحيح .أحاول أن أتوقّف عن ذلك ،لكنّني ال أستطيع!".
ابتسم بهدوء" .هذا طبيعي .فمن المستحيل جسديا ً على العقل البشري عدم التفكير بشيء .وذلك ّ
ألن األرواح تتوق
وتستمر بالبحث ع ّما يغذّي تلك العاطفة ،سواء أكان جيّدا ً أم سيّئاً .ومشكلتك أنّك تعطين عقلك الغذاء
ّ إلى العاطفة،
الخاطئ".
لم يسبق لسيينّا أن سمعت أحدا ً يتكلم عن العقل بهذه العبارات الميكانيكية ،األمر الذي أثار اهتمامها على الفور.
"وكيف أعطيه غذا ًء مختلفاً؟".
قال" :عليك تحويل تركيزك الفكري .أنت حاليًّا تف ّكرين بنفسك ،وتتساءلين عن سبب عدم انسجامك مع العالم من
حولك ...وهذا ليس مناسبا ً لك".
أجابته مجدّداً" :هذا صحيح ،لكنّني أحاول ح ّل المشكلة .أحاول االنسجام ،وال يمكنني أن أح ّل هذه المشكلة إن لم
أفكر بها".
أن التفكير بالمشكلة ...هو مشكلتك" .واقترح عليها الطبيب أن تحاول تحويل تركيزها عن ضحك مجيباً" :أعتقد ّ
صة ...واالهتمام بالعالم من حولها ...وبمشاكله.
نفسها ومشاكلها الخا ّ
حولت طاقتها من الشعور باألسف على نفسها إلى الشعور باألسف على اآلخرين .فأصبحت تقوم بأعمال خيرية، ّ
والمشردين ،وتقرأ الكتب للعميان .وما فاجأها ّ
أن الناس لم يقاحظوا اختقافها ،بل فرحوا ّ وتساعد المحتاجين
باهتمامها بهم.
عملت سيينّا بجهد أكبر ك ّل أسبوع ،ولم تتمكن من النوم بسهولة ألنّها أدركت ّ
أن الكثير من الناس يحتاجون إلى
مساعدتها.
كان زمقاؤها يقولون لها" :سيينّا ،تم ّهلي! ال يمكنك إنقاذ العالم!".
تعرفت على أعضاء في مجموعة خيرية محلّية ،دعوها لقانضمام إليهم في رحلة
خقال عملها في الخدمة العامةّ ،
لمدّة شهر إلى الفيليبين ،فاستغلّت الفرصة على الفور.
تخيلت أنّهم سيقومون بإطعام صيادين أو مزارعين فقراء في األرياف التي قرأت أنّها تمتاز بجمال جيولوجي
فريد؛ ببحارها وسهولها الخقابة .لذلك ،عندما استقرت المجموعة بين حشود الناس في مدينة مانيقاّ ذات الكثافة
صعقت سيينّا .لم يسبق لها أن رأت هذه الدرجة من الفقر.
السكانية األعلى في العالمُ ،
مقابل ك ّل شخص تطعمه سيينّا ،كان ث ّمة مئات األشخاص اآلخرين الذين يحدّقون إليها بأعين يائسة .كانت مانيقاّ
التلوث ،كما تمارس فيها تجارة الجنس على نحو تعاني من ازدحام سير يمتدّ ستّ ساعات ،ومن نسبة خانقة من ّ
فظيع ،ومعظم العاملين فيها هم أساسا ً من األطفال ،والكثيرون منهم باعهم أهلهم على أمل أن يجدوا على األق ّل
من يطعمهم.
شعرت بتوتّر كبير ،وراحت تركض في شوارع المدينة بين الناس ،وتدفعهم من طريقها بحثا ً عن هواء نظيف.
شعرتُ ّ
أن األجساد البشرية تخنقني!
أن األعين تتر ّكز عليها مجدّداً .لم أعد أنسجم مع الناس .كانت طويلة القامة ،وفاتحة
بينما كانت تركض ،أحسّت ّ
ّ
مسرح على شكل ذيل حصان يتأرجح خلفها .فحدّق إليها الرجال وكأنها عارية. ّ البشرة ،ذات شعر أشقر
عندما تعبت أخيراً ،لم تعرف كم ركضت أو إلى أين وصلت .مسحت الدموع عن عينيها ،ووجدت نفسها في حي
المكوم فوق بعضه بعضاً .خيّم على المكان
ّ فقير جدًّا ،منازله مصنوعة من الصفائح المعدنية وورق الكرتون
صراخ األطفال والروائح الكريهة.
استدارت فرأت ثقاثة رجال يقتربون منها ولعابهم يسيل كالذئاب .عرفت فوراً أنّها في خطر ،وحاولت التراجع،
لكنّهم أحاطوا بها مثل حيوانات مفترسة.
لكن أحدا ً لم يكترث .رأت على بعد مسافة قصيرة امرأة عجوزاً جالسة على إطار سيّارة
صاحت طالبة النجدةّ ،
يرف لها جفن عندما بدأت سيينّا تصرخ.
ّ شر بصلة متع ّفنة بس ّكين صدئة .غير ّ
أن المرأة لم وهي تق ّ
وجروها إلى داخل كوخ صغير ،عرفت تماما ً ما الذي سيجري ،لذلك استبدّ بها خوف ّ حين أمسك بها الرجال
قوة ،لكنّهم كانوا أقوى منها ،فثبّتوها على فراش قديم متّسخ.
ّ من تيت أو رهيب .قاومت بك ّل ما
ّ
الممزق ،حيث أوشكت على االختناق .بعد ذلك ،مدّدوها مزقوا ثيابها ،وعندما صرخت ،وضعوا في فمها قميصها ّ
على بطنها والتصق وجهها في السرير المتعفّن.
على الرغم من ك ّل شكوكها ومعتقداتها السابقة ،وجدت نفسها تدعو ...تدعو من قلبها.
يجردونها من مقابسها .ث ّم اقترب منها أحدهم ،وراح العرق يقطر على
سمعت وهي تدعو الرجال يضحكون وهم ّ
ظهرها.
وتحول الضحك إلى صراخ غضب وخوف .فجأة،ّ أخيراً ،وبعدما اعتقدت ّ
أن أمرها قد انتهى ،ابتعد عنها الرجل
ويلوث الفراش ببقع حمراء. ّ
أن العرق الذي كان يقطر على ظهرها أصبح يتدفقّ ... شعرت ّ
عندما استدارت سيينّا لترى ما يجري ،رأت المرأة العجوز تحمل بيدها البصلة والس ّكين الصدئة ،وتقف قرب
مهاجمها الذي ينزف بشدّة من ظهره.
فجمعت سيينّا كفّيها معا ً وأغمضت عينيها ،ث ّم أحنت رأسها في حركة احترام .وعندما فتحت عينيها ،كانت المرأة
قد اختفت.
هكذا ،غادرت سيينّا الفيليبين على الفور ،من دون أن تودّع بقيّة أعضاء المجموعة .لم تخبر أحدا ً بما جرى معها.
لكن الوضع ازداد سوءاً .أمضت أشهرا ً وهي تعاني من الكوابيس، أملت أن يساعدها تجاهل الحادثة على نسيانهاّ ،
تدربت على الفنون الحربية ،ومع أنّها أتقنت بسرعة مبادئ ديم ماك ،إالّ أنّها
ي مكانّ . ولم تعد تشعر باألمان في أ ّ
ظلّت تشعر أ ّنها في خطر.
أخيراً ،لم يعد أمامها خيار سوى حقاقة شعرها .على األقلّ ،لن تبدو عجوزاً ،بل ستبدو مريضة بكلّ بساطة .تجنّبا ً
لذلك ،قامت بشراء شعر مستعار على شكل ذيل حصان ،وهكذا أحسّت أنّها عادت تشبه نفسها مجدّداً.
متضررة.
ّ أصبحتُ بضاعة
طي تلك التجربة ،سافرت إلى أميركا ،ودرست الطبّ .لطالما كان لديها ميل إلى الطبّ ، وفي محاولة يائسة لتخ ّ
وأملت أن يساعدها ذلك على اإلحساس بأنّها ذات فائدة ...أ ّنها تقوم بشيء على األق ّل لتخفيف المعاناة في هذا
العالم.
على الرغم من ساعات الدراسة الطويلة ،كانت الدراسة سهلة بالنسبة إليها .وبينما كان أصدقاؤها يدرسون ،كانت
تقوم بالتمثيل بدوام جزئي لكسب بعض المال .لم تمثّل في مسرحيات شيكسبير بالطبعّ ،
لكن مواهبها اللغوية
وقدرتها على الحفظ جعلت التمثيل بالنسبة إليها ملجأ ً تنسى فيه من تكون ...وتصبح شخصاً آخر.
ي شخص.
أ ّ
حاولت سيينّا الهرب من نفسها منذ أن أصبحت قادرة على الكقام .في طفولتها ،تخلّت عن اسمها األساسي،
فيليسيتي ،واعتمدت اسمها الثاني ،سيينّا .فاسم فيليسيتي يعني "محظوظة" ،وكانت تعرف أنّها ليست كذلك.
نوبة الذعر التي أصابتها في شوارع مانيقاّ المكتظة جعلتها تهتم بالزيادة السكانية في العالم .وهكذاّ ،
تعرفت على
كتابات بيرتراند زوبريست ،وهو مهندس جيني قدّم نظريات تقدّمية جدًّا بشأن سكان العالم.
ي شخص آخر ،وكلّما قرأت عن أدركت أنّه عبقري وقرأت عنه الكثير .لم يسبق لسيينّا أن شعرت بذلك حيال أ ّ
تتعرف على توأم روحها .ذ ّكرتها مقالته "ال يمكنك إنقاذ العالم" بما كان يقوله لها الناس
زوبريست ،أحسّت أ ّنها ّ
أن زوبريست كان يعتقد العكس تماماً.عندما كانت طفلة ...غير ّ
كتب زوبريست :يمكنك إنقاذ العالم .إن لم يكن أنت من ينقذه فمن سيفعل؟ وإن لم يكن اآلن فمتى؟
طلعت على توقّعاته التي تنذر بكارثة عظمى وبانهياردرست سيينّا معادالت زوبريست الرياضية بعناية ،وا ّ
ّ ّ
ى عا ٍل ،لكنها شعرت بتوتر متعاظم وهي ترى المستقبل بأكمله وشيك لألجناس .كانت تحبّ التو ّقعات على مستو ً
أمامها...كما تتوقّعه الرياضيات ...على نحو بديهي ...وحتمي.
أن هذه الفكرة أخافتها ،إالّ أنّها أصبحت مهووسة بزوبريست ،تشاهد أفقامه ومحاضراته ،وتقرأ ك ّل ما يكتبه.
ومع ّ
وعندما سمعت أنّه سيلقي محاضرة في الواليات المتّحدة ،عرفت ّ
أن عليها الذهاب لرؤيته .وفي تلك الليلة ،تغيّر
عالمها بكامله.
أضاءت وجهها ابتسامة وهي تستعيد مجدّدا ً تلك األمسية الساحرة التي تذ ّكرتها جيّدا ً قبل ساعات وهي جالسة في
القطار مع النغدون وفيريس.
كنت قد قرأت ك ّل ما كتبه الرجل ،وشعرت بالسعادة ألنني أملك إحدى البطاقات الخمسمائة التي طبعت لهذه
المناسبة .عندما وصلت ،شعرت بالذعر لدى رؤيتي القاعة شبه خالية .هل ألغي الخطاب بسبب سوء األحوال
الجوية؟
أخيرا ً وصل.
دخل بقامته الفارعة ووقف على المسرح .نظر إلى القاعة الخالية التي لم يكن فيها سوى عشرة تقريبا ً من معجبيه؛
األمر الذي أشعرني بالخجل.
فجأة ،ومن دون سابق إنذار ،انفجر ضاحكا ً ولمعت عيناه الخضراوان وقال" :فلتذهب هذه القاعة الخالية إلى
الجحيم .فندقي قريب ،لنذهب إلى هناك!".
ضحك الموجودون وتوجهنا إلى الفندق المجاور .اجتمعنا هناك وطلب الشراب .أتحفنا زوبريست بقصص عن
أبحاثه ،وصعود نجمه ،وأفكاره حول مستقبل الهندسة الجينية .ث ّم انتقل إلى الحديث عن موضوع شغفه مؤخراً،
أال وهو الفلسفة ما وراء اإلنسانية.
لم أتخيل أن يكون "عبقري علم الوراثة" شخصا ً كاريزماتيا ً وجذابا ً إلى هذا الحدّ .كلّما نظرت إليه ،أشعلت ف ّ
ي
عيناه الخضراوان إحساسا ً غير متوقّع ...جاذبية عميقة.
تفرقت المجموعة ،واستأذن الحاضرون للعودة إلى الواقع .وبحلول منتصف الليل ،أصبحنا
مع انقضاء الليلّ ،
بمفردنا أنا وبيرتراند زوبريست.
قلت له وقد أثّر الشراب في تركيزي" :شكرا ً لك على هذه الليلة .أنت أستاذ رائع".
ي مكان".
ابتسم ومال نحوي فتقامست ساقانا" :هذا الغزل قد يقودك إلى أ ّ
من الواضح أن الغزل لم يكن مقائماً .لكن ،كانت ليلة جليدية في فندق خا ٍل ،وبدا وكأن العالم بأسره قد توقف.
تس ّمرت من المفاجأة ،وعرفت أنّني أبدو كغزال فاجأته أضواء سيارة.
شعرت باحمرار وجهي ،وكافحت ألخفي انفعاالتي التي تراوحت بين اإلحراج ،واإلثارة ،والخوف .قلت" :في
ي رجل". الواقع ،بصراحة ،لم يسبق لي أن كنت مع أ ّ
ابتسم زوبريست واقترب أكثر" :ال أعرف ما الذي كان يؤ ّخرك ،لكن أودّ أن أكون ّ
األول".
في تلك اللحظة ،تقاشت ك ّل مخاوف الطفولة المكبوتة ...تبخرت في ثلوج الليل.
همس قائقاً" :استرخي سيينّا" .وتعرفت معه على أحاسيس لم أتخيّل وجودها.
ي مكان.
وسأتبعه إلى أ ّ
الفصل 81
على متن المينداسيوم ،تمسّك النغدون بالدرابزين الخشبي المصقول ،وحاول تثبيت قدميه المرتجفتين والتقاط
أنفاسه .كان الهواء قد أصبح أكثر برودة ،وعرف من هدير الطائرات التجارية المنخفضة أنّهم اقتربوا من مطار
البندقية.
وقف العميد ود .سينسكي بجانبه بصمت ،وأعطياه بعض الوقت الستجماع أفكاره .ما عرفه النغدون في األسفل
أربكه وأزعجه إلى حدّ ّ
أن سينسكي أخرجته إلى السطح الستنشاق الهواء العليل.
على الرغم من هواء البحر ،لم يشعر النغدون بالصفاء الذهني .اكتفى بالتحديق إلى األثر الذي يتركه اليخت في
الماء ،محاوالً فهم ما سمعه ّ
للتو.
بحسب العميد ،كانت سيينّا بروكس وبيرتراند زوبريست عشيقين منذ مدّة طويلة ،وقد عمقا معا ً في حركة ّ
سرية
تدعى الحركة ما وراء اإلنسانية .كان اسمها فيليستي سيينّا بروكس ،وتحمل أيضا ً االسم الشيفري ...FS-2080
المكون من األحرف األولى من اسمها والعام الذي ستبلغ فيه عامها المائة.
ّ
ي في العام الماضي وطلبت قال العميد" :عرفتُ سيينّا بروكس من مصدر آخر ،ووثقت بها .لذلك عندما أتت إل ّ
أن ذلك الزبون هو بيرتراند زوبريست الذي أراد أن أوفّر له مكانا ً التعرف على زبون ثري وافقتُ .تبيّن لي ّ ّ منّي
يتعرض للقرصنة ...أو يجري يطور تكنولوجيا جديدة ،وال يرغب في أن ّ آمنا ً يعمل فيه على تحفته .افترضتُ أنّه ّ
ي أسئلة ،لكنّ أ عليه أطرح لم العالمية... ةحّ الص مةظّ لمن األخقاقية متطورا ً يتعارض مع األنظمة
ّ بحثا ً جينيا ً
ً
صدّقني ،لم يخطر لي يوما أنّه يخترع ...وبا ًء".
اكتفى النغدون ّ
بهز رأسه بشرود ...وحيرة.
ظمتي ك ّل ما يحتاج تابع العميد" :كان زوبريست من هواة دانتي ،لذلك اختار فلورنسا لقاختباء فيها .أ ّمنت له من ّ
سري ،ومسكن ،وقنوات اتّصال آمنة ،كما أ ّمنت له شخصا ً يحضر له الطعام وك ّل احتياجاته؛ بدءاً إليه؛ من مختبر ّ
من األمن ووصوالً إلى شراء الطعام والمعدّات .لم يستخدم زوبريست بطاقاته االئتمانية مطلقاً ،ولم يظهر علنا ً
زودناه بطرق للتخفّي ،وبأسماء مزيّفة ،ووثائق ّ
مزورة على اإلطقاق ،لذلك كان من المستحيل تعقّبه .حتّى إنّنا ّ
للسفر من دون أن يتعرف عليه أحد .وهذا ما فعله على ما يبدو عندما خبّأ الكيس القابل للذوبان".
نظر إليه النغدون ،وقال بصعوبة" :عفواً! ظننت أنّك قلت إ ّنهما حبيبان".
مضطر
ّ قال العميد" :حاولت سيينّا االتصال بي للحصول عن معلومات عنه ،لكنّني رفضت الردّ عليها .فأنا
الحترام رغبات الزبون".
تابعت سينسكي" :منذ أسبوعين ،دخل زوبريست أحد مصارف فلورنسا واستأجر خزنة من دون أن يكشف عن
تعرف علىالتعرف على الوجوه التابع للمصرف قد ّّ أن برنامجاسمه .بعد خروجه ،عرف فريق المراقبة لدينا ّ
بيرتراند زوبريست الذي كان متن ّكرا ً حينها .طار فريقي إلى فلورنسا ،واستغرق أسبوعا ً إليجاد الخزنة التي كانت
فارغة ،لكنّنا وجدنا فيها دليقاً على أنّه اخترع وبا ًء شديد العدوى ،وخبّأه في مكان آخر".
سكتت سينسكي ،ث ّم أضافت" :كنّا يائسين للعثور عليه .في الصباح التالي ،وقبل شروق الشمس ،وجدناه يمشي
على ضفّة نهر آرنو ،فطاردناه على الفور .عندها هرب إلى برج باديا ،ورمى نفسه من فوقه".
قالت سينسكي" :كما تبيّن لنا ،كانت سيينّا تبحث عنه أيضاً .اكتشفت بطريقة ما أ ّننا في فلورنسا ،فتتبّعت ّ
تحركاتنا
وأظن ّ
أن رؤيتها ّ ظنًّا منها أنّنا عثرنا عليه .لكن مع األسف ،كانت موجودة عندما قفز زوبريست من البرج،
حبيبها وأستاذها ينتحر سبّبت لها صدمة شديدة".
عجز النغدون عن استيعاب ك ّل ذلك .فالشخص الوحيد الذي وثق به في هذه القضية كان سيينّا ،وها هما يخبرانه
أن سيينّا أيّدت زوبريست في سعيه إلى اختراع الوباء.
أنّها ليست الشخص الذي تدّعيه .لم يستطع تصديق ّ
كانت قد سألته :هل تقدم على قتل نصف سكان العالم اليوم إلنقاذ جنسنا من االنقراض؟
ي...
قالت سينسكي" :عندما مات زوبريست ،استخدمت نفوذي لفتح الخزنة ،فوجدت فيها رسالة مو ّجهة إل ّ
باإلضافة إلى ذلك الجهاز الصغير الغريب".
"بالضبط .وقال في رسالته إنّه يريد أن أكون ّأول من يذهب إلى نقطة االنطقاق التي لن يجدها أحد من دون أن
يتبع خارطة الجحيم التي وضعها بنفسه".
تذ ّكر النغدون لوحة بوتيتشيلّي المعدّلة التي عرضها المسقاط الصغير.
قال العميد" :كان زوبريست قد طلب مني تسليم د .سينسكي محتويات الخزنة ،لكن ليس قبل صباح غد .لذلك،
عندما استلمت المحتويات قبل األوان ،أخذنا نقاحقها الستعادتها وتنفيذ مشيئة زبوننا".
قالت سينسكي" :رأيت أنّني لن أتم ّكن من فهم الخارطة في الوقت المناسب ،لذلك طلبت مساعدتك .هل تذكر اآلن
شيئا ً من ذلك؟".
إغناتسيو بوزوني.
قال العميد" :في الواقع ،حدث شيء ما بالفعل .ففي محاولة منّا الستعادة المسقاط ،أرسلت خلفكما عميلة تدعى
فايينثا ،تع ّقبتك من المطار ث ّم فقدت أثرك في بياتزا ديقا سينيوريا" .عبس مضيفاً" :فقدانها أثرك كان خطأ ً فادحاً،
تجرأت فايينثا على إلقاء اللوم على طائر".
وقد ّ
"المعذرة؟".
مرت مجموعة من السيّاح. "هديل حمامة .على حدّ قولها ،كانت في موقع ممتاز ،تراقبك من ّ
كوة مظلمة عندما ّ
ّ
إن هديل حمامة سمع فجأة من نافذة فوق رأسها ،األمر الذي دفع السياح إلى التوقف وحجبك عن نظرها. قالت ّ
هز رأسه باشمئزاز" .على ك ّل حال ،فقدت أثركوعندما تم ّكنت من التسلل إلى الزقاق مجدداً ،كنت قد اختفيت"ّ .
عثرت عليك مجدّداً ،وكنت حينها برفقة رجل آخر".
لعدة ساعات .أخيراًَ ،
فكر النغدون :إغناتسيو .ال بدّ أننا كنا نغادر القصر حاملين القناع.
تبعتكما إلى بياتزا ديقا سينيوريا ،لكنّكما رأيتماها على ما يبدوّ ،
وقررتما الهرب منها باتجاهين مختلفين".
وجد النغدون ذلك منطقيا ً .لهذا السبب هرب إغناتسيو وخبّأ القناع في المعمودية قبل أن تباغته نوبة قلبية.
ي؟".
"هل أطلقت النار عل ّ
"كقا ،بل كشفت عن نفسها قبل األوان .استجوبتك قبل أن تعرف شيئاً .أردنا أن نعرف إن كنت قد فككت شيفرة
ضل الموت على ذلك".
الخارطة أو أخبرت د .سينسكي بما تريد معرفته .لكنك رفضت قول أي شيء .قلت إنك تف ّ
كنت أبحث عن طاعون ف ّتاك! ال بد أ ّنني ظننتكم مرتزقة تسعون إلى الحصول على سقاح بيولوجي!
فجأة ،أبطأ اليخت من سرعته مع اقترابه من رصيف التحميل التابع للمطار .على مسافة منهم ،رأى النغدون
طائرة النقل C-130وهي تتزود بالوقود .كان هيكل الطائرة يحمل اسم منظمة الصحة العالمية.
أن فريق الدعم المؤ ّهل الوحيد المتوفّر خقال في تلك اللحظة وصل العميل برودر ،وبدا متج ّهماً" .عرفت ّ
للتو ّ
الساعات الخمس القادمة هو فريقنا ،ما يعني أ ّننا سنكون بمفردنا".
أجاب برودر بتعب واضح" :ليس بعد .بما أنّنا ال نملك موقعا ً محدّدا ً حتى اآلن ،ال يمكنهم فعل شيء .باإلضافة
أن عملية االحتواء تتجاوز خبرتهم ،وقد يتسببون بضرر أكبر". إلى ّ
تهز رأسها بعبارة أساسية تشكل أحد مبادئ األخقاقيات الطبية" :أوالً ،ال تتس َّبب باألذى".
همست سينسكي وهي ّ
قال برودر" :ولم نعرف شيئا ً بعد عن سيينّا بروكس" .نظر إلى العميد وسأله" :هل تعلم إن كان لديها معارف في
البندقية يمكنهم مساعدتها؟".
أجاب" :ال يفاجئني ذلك .فزوبريست لديه أتباع في ك ّل مكان ،وبحسب معرفتي بها ،ستستخدم ك ّل الموارد المتاحة
لتنفيذ األوامر التي تلقتها".
أن سيينّا تعرف المكان الذي نتو ّجه إليه ،إنّها تعرف أين يقع الموزيون الذهبي للحكمة
قال النغدون" :أخشى ّ
المقدّسة".
إن ك ّل ما أخبرتها به هو أنّكما في البلد
سألته سينسكي بقلق" :ماذا؟! فهمت أنّك لم تجد الفرصة إلخبارها! قلتَ ّ
الخاطئ!".
قال النغدون" :هذا صحيح ،لكنها تعرف أنّنا نبحث عن قبر إنريكو داندولو ،ولن يلزمها سوى إجراء بحث بسيط
على اإلنترنت .وعندما تجد القبر ...لن يكون الكيس بعيدا ً عن متناولها .فالقصيدة توصي باتباع خرير المياه إلى
القصر الغارق".
أجابته سينسكي" :لست واثقة من ذلك ،فوسيلة النقل التي نستخدمها بطيئة ،ويبدو ّ
أن سيينا ال تفتقر إلى الموارد".
ما إن رسا المينداسيوم ،حتى وجد النغدون نفسه يحدّق إلى الطائرة التي تنتظرهم .بالكاد بدت قادرة على
ً
الطيران ،كما أنّها من دون نوافذ .أيعقل أن أكون قد سافرت على متن هذا الشيء من قبل؟! لم يتذ ّكر شيئا على
اإلطقاق.
فجأة ،شعر النغدون بالغثيان ،ولم يعرف ما إذا كان السبب هو تمايل اليخت أو فكرة السفر على متن الطائرة
المغلقة .فقال لسينسكي" :لست واثقا ً من أنّني أستطيع السفر".
"السموم؟! ع ّم تتحدّثين؟".
أشاحت سينسكي بنظرها .من الواضح أنّها باحت بأكثر م ّما كانت تريد البوح به.
شعر النغدون بموجة من الخوف تجتاحه وهو يتخيّل صدر فيريس األسود عندما انهار على أرض البازيليك.
"ما مشكلتي؟".
سره :ك ّلنا نودّ ذلك ،لكن ال يستطيع أحد رؤية الساحر.
قال العامل في ّ
كان جورجيو فينشي يعمل من خلف الكواليس ،وال يتحدث مع الزبائن إالّ نادراً ،وبموعد مسبق .فنظراً إلى ثروته
الفاحشة ونفوذه الواسع ،كان يسمح لنفسه ببعض النزوات الغربية ،مثل شغفه بالوحدة .ولهذا ،كان يتناول الطعام
بمفرده ،ويسافر بمفرده ،ويتذ ّمر دائما ً من ارتفاع أعداد السياح في البندقية .لم يكن من الناس الذين يحبّون الرفقة.
"جورجيو هنا .إنّه موجود في الطابق األعلى ،لقد رأيت مصباحه مضا ًء .أنا صديقته ،ولد ّ
ي حالة طارئة".
بدا على المرأة إلحاح واضح .إ ّنها تدّعي أ ّنها صديقته! "هقاّ أعطيتني اسمك".
ي متّسع من الوقت".
"أعطه هذه ،بسرعة أرجوك .ليس لد ّ
ِّ قالت:
أخذ المو ّ
ظف الورقة إلى األعلى ووضعها أمام جورجيو الذي كان منحنيا ً فوق آلة الخياطة.
همس" :سينيوري ،ث ّمة من ترغب في رؤيتك .تقول إنّها حالة طارئة".
مدّ الرجل يده وتناول الورقة من دون أن يتوقف عن العمل ،ث ّم قرأها.
قالت له سينسكي قبل قليل :وضعك الص ّحي أكثر تعقيد ًا بقليل من ّ
مجرد إصابة في الرأس.
تسارع نبضه وهو يف ّكر في ما يمكن أن تخبره به ،إالّ أنّها كانت مشغولة بمناقشة استراتيجيات االحتواء مع فريق
المراقبة والدعم ،فيما كان برودر يتحدّث عبر الهاتف مع وكاالت حكومية عن سيينّا بروكس محاوالً إيجادها.
سيي ّنا...
ما زال النغدون يحاول أن يصدق أنّها متورطة في ك ّل هذا .مع ارتفاع الطائرة في الجو ،أتى الرجل الذي يسمي
نفسه العميد وجلس أمام النغدون" .طلبت منّي د .سينسكي أن ...أوضح لك حالتك".
قال العميد" :كما سبق وقلت ،بدأ ك ّل شيء عندما كشفت فايينثا نفسها لك قبل األوان .لم نكن نعرف كم أحرزتَ
من تقدّم لصالح د .سينسكي ،أو مقدار المعلومات التي أخبرتها إياها .خفنا أن تعرف سينسكي بمكان ذلك الشيء
قبل الوقت المحدد ،وأن تصادره أو تدمره .لذلك ،أردنا أن تعمل لصالحنا ...لكن مع األسف ،كشفنا أوراقنا قبل
األوان ...وفقدت ثقتك بنا".
شعر النغدون بالضياع" .كيف تجعلون شخصا ً ما يثق بكم ...بعد خطفه واستجوابه؟".
بدا على الرجل عدم االرتياح" .بروفيسور ،هل سمعت بمجموعة جديدة من األدوية تعرف باسم بينزوديازيبين؟".
"إنّها سقالة من األدوية التي تستعمل ألغراض متعددة ،منها عقاج التوتر بعد الصدمات .كما تعرف ،عندما يعاني
شخص ما من صدمة عنيفة ،كحادث سيارة أو اعتداء جنسي ،من شأن الذكريات طويلة األمد أن تسبب له أذى
كبيراً .باستخدام هذه العقاقير ،أصبح بإمكان علماء األعصاب عقاج التوتر الناجم عن الصدمات قبل حدوثه".
أصغى إليه النغدون صامتاً ،من دون أن يفهم إلى أين سيؤدي هذا الحديث.
ثمان وأربعين
ٍ تابع العميد" :عندما تتكون ذكريات جديدةّ ،
تخزن تلك األحداث في الذاكرة قصيرة األمد لمدة
ساعة ،قبل أن تنتقل إلى الذاكرة بعيدة األمد .وباستخدام خلطات جديدة من البينزوديازيبين ،يستطيع المرء بسهولة
تتحول تلك الذكريات الجديدة إلى ذكريات طويلة األمد".
ّ إنعاش الذاكرة قصيرة األمد ...وإلغاء محتوياتها قبل أن
حدّق النغدون إلى الرجل قصير القامة بعدم تصديق".هل جعلتني أفقد ذاكرتي؟".
تن ّهد العميد محرجاً" .أخشى ذلك ...بالوسائل الكيميائية .إنّها آمنة جداً ،لكنها تمسح محتويات الذاكرة قصيرة
األمد" .صمت مضيفاً" :عندما غبت عن الوعي ،تمتمت بشيء عن الطاعون ،وافترضنا أن ذلك ناتج عن رؤيتك
صور المسقاط .لم نتخيل مطلقا ً أن يكون زوبريست قد اخترع وبا ًء حقيقياً .كما أ ّنك كنت تردّد جملة فهمناها على
أنّها اعتذار :آسف جداً .آسف جداً".
أن ذلك كان ك ّل ما عرفه عن المسقاط حتى ذلك الوقت .تشيركا تروفا" .لكن ...ظننت أنّني فقدت
فاساري .ال بدّ ّ
ي".
ذاكرتي نتيجة اإلصابة في رأسي .شخص ما أطلق النار عل ّ
هز العميد رأسه نافياً" .لم يطلق عليك أحد النار ،بروفيسور .لم ّ
تتعرض إلصابة في رأسك". ّ
المتورم في رأسه" .ما هذا إذاً؟" .أبعد شعره لكي يُظ ِّهر المنطقة
ّ "ماذا؟!" .وامتدّت يد النغدون تلقائيا ً إلى الجرح
الحليقة من رأسه.
"إنّها جزء من الوهم .صنعنا شقا ً صغيرا ً في فروة رأسك ث ّم أغلقناه بالقطب .كان يجب أن تصدّق أنّك ّ
تعرضت
لقاعتداء".
صاح النغدون" :ث ّمة من يريد قتلي!" .التفت إليه ك ّل من كان على متن الطائرة" .لقد رأيت الطبيب في المستشفى
-د .ماركوني -يقتل أمامي بدم بارد!".
قال العميد" :هذا ما رأيته ،لكن هذا ليس ما جرى .فايينثا تعمل لحسابي .وهي موهوبة في هذا النوع من العمل".
مطوالً ،وتذ ّكر الطبيب الذي انهار على األرض ،وسال الدم من صدره بلحيته البيضاء
حدّق النغدون إلى الرجل ّ
وحاجبيه الكثّين.
"كان مسدس فايينثا محشوا ً بالمفرقعات التي تف ِّ ّجر عند إطقاقها سائقاً بلون الدم على صدر د .ماركوني .إنّه بخير
بالمناسبة".
أجابه" :كانت عبارة عن مسرح مرتجل .بروفيسور ،أعرف أنّه من الصعب عليك استيعاب ك ّل ذلك .كنّا نعمل
مضطرين إلى إتقان ك ّل شيء .عندما استيقظت ،رأيت ما أردنا أن
ّ بسرعة ،ولم تكن بكامل وعيك ،لذلك لم نكن
تراه؛ مستشفى ،وبضعة ممثّلين ،ومشهد هجوم فاشقاً".
"لقد اخترتُ العمل معها .فاألولوية كانت حماية مشروع الزبون من د .سينسكي ،وكنّا أنا وسيينّا نتشارك تلك
الرغبة .لكي تكسب سيينّا ثقتك ،أنقذتك من القاتل ،وساعدَتك على الهرب إلى زقاق خلفي .كان التاكسي المنتظر
ومزودا ً هو أيضا ً بمفرقعة يمكن التح ّكم بها عن بعد على الزجاج الخلفي لتوليد التأثير النهائي
ّ في األسفل تابعا ً لنا،
وأنتما تهربان .اصطحبك التاكسي إلى شقة ج ّهزناها على عجل".
شقة سيي ّنا البسيطة .فهم النغدون اآلن لماذا بدت الشقة وكأنّها أُثّثت بمفروشات مستعملة .كما فهم كيف صدف ّ
أن
"جار" سيينّا يملك مقابس تناسبه تماماً.
كان ك ّل شيء مدبّراً.
حتّى االتصال اليائس من صديقة سيينّا في المستشفى كان مزيّفاً .سيي ّنا ،أنا دانيكوفا!
قال العميد" :عندما اتصلتَ بالقنصلية ،استخدمت رقما ً أعطتك إياه سيينّا .وقد أوصلك بالمينداسيوم".
قال له موظف القنصلية المزيّف :ابقَ مكانك ،سأرسل إليك شخصاً ما على الفور .وعندما ظهرت فايينثا ،رأتها
سيينّا في الشارع وقامت بربط األمور ببعضها .روبرت ،حكومتك تحاول قتلك! ال يمكنك االتصال بالسلطات!
أملك الوحيد معرفة الرسالة التي يحملها المسقاط.
لقد نجح العميد ومنظمته الغامضة ،أيًّا تكن ماهيتها ،بجعل النغدون يتوقف عن العمل لحساب سينسكي ويعمل
لحسابهم .كانت المسرحية متقنة.
لقد تقاعبت بي سيي ّنا تماماً .أحزنته هذه الفكرة أكثر م ّما أغضبته ،فقد صار مولعا ً بها بعد ذلك الوقت القصير
لكن السؤال الذي أزعجه هو كيف يمكن لروح ذكية ودافئة مثل سيينّا أن تقتنع إلى هذا الحدّ الذي أمضياه معاًّ .
بح ّل زوبريست الجنوني للكثافة السكانية.
كانت سيينّا قد قالت له :يمكنني التأكيد من دون أدنى شكّ أ ّنه بغياب تغيير جذريّ ،
فإن نهاية جنسنا قادمة...
فالرياضيات غير قابلة للجدل.
سأل النغدون وهو يتذكر إعقانات شيكسبير وقصاصات الجرائد التي تتحدّث عن ذكائها الخارق" :وماذا عن
المقاالت عن سيينّا؟".
أجاب العميد" :حقيقية .فأفضل األكاذيب تشتمل على أكبر قدر ممكن من الواقع .لم يكن لدينا الوقت الكافي لترتيب
ك ّل شيء ،لذلك كان كمبيوتر سيي ّنا وأوراقها الشخصية الحقيقية هي ك ّل ما نملك .لم يكن يجدر بك رؤيتها إالّ إن
شككت بهوية سيينّا".
الخاص بها".
ّ قال النغدون" :وال استخدام الكومبيوتر
قط أن يعثر فريق سينسكي على شقتها .لذلك "أجل ،تلك هي اللحظة التي فقدنا فيها زمام األمور .لم تتوقّع سيينّا ّ
الدراجة النارية ،وحاولت مواصلة عندما وصل الجنود ،ذُعرت واضطرت إلى االرتجال .هربت معك على ّ
ّ ّ
صل من فايينثا .إال أن هذه األخيرة خالفت
ي خيار سوى التن ّ الكذبة .وعندما فشلت المه ّمة بأكملها ،لم يعد لد ّ
واستمرت بمقاحقتك.
ّ البروتوكول
قال النغدون ":لقد أوشكت على قتلي" .وروى للعميد ما جرى في قصر فيكيو ،عندما شهرت فايينثا مسدّسها
وو ّجهته إلى صدر النغدون .هذا لن يؤلم سوى للحظة واحدة ...لك ّنه خياري الوحيد .بعد ذلك ظهرت سيينّا
ودفعتها من على الدرابزين ،فسقطت فايينثا ميتة.
صمت العميد مف ّكراً ،ث ّم تابع يقول" :ال أعرف ما إذا كانت سيينّا قد أرادت قتلها فعقاً أم حاولت منعها من إطقاق
النار .فقد بدأت أدرك أنّني ال أعرف سيينّا بروكس".
وافقه النغدون قائقاً في ّ
سره :وال أنا .مع أنّه عندما يتذكر نظرة الصدمة والندم على وجه المرأة الشابّة ،يشعر ّ
أن
ما فعلته بالعميلة كان غلطة.
شعر النغدون بوحدة رهيبة ،فالتفت إلى النافذة ،وتاق إلى النظر إلى العالم في األسفل ،لكنّه لم َ
ير سوى جدار
الطائرة.
ي الخروج من هنا.
عل ّ
بدا البروفيسور األميركي كمن انتزع عن األرض بفعل إعصار ،ث ّم دار في الهواء ،وألقي على أرض غريبة.
نادرا ً ما يكتشف ضحايا الكونسورتيوم حقيقة األحداث المدبّرة التي شهدوها ،وعندما يفعلون ،ال يكون العميد
حاضرا ً لرؤية نتائج الصدمة .واليوم ،باإلضافة إلى إحساسه بالذنب تجاه النغدون ،يشعر الرجل بمسؤوليته عن
األزمة الحالية.
اآلن يطير العميد إلى عين العاصفة ،إلى مركز ما قد يكون طاعونا ً قاتقاً قد يهز العالم بأكمله .وإن خرج حيا ً من
ك ّل ذلك ،فلن يحتمل الكونسورتيوم النتائج ،بل سيواجه اتّهامات وتحقيقات ال نهاية لها.
أهذه هي نهايتي؟
الفصل 83
احتاج النغدون إلى تنشق الهواء ،وشعر أن الطائرة تطبق على أنفاسه.
ي وتستغلني.
كانت تمثل عل ّ
ترك العميدَ من دون قول شيء ،وتو ّجه إلى مقدمة الطائرة .كان باب قمرة القيادة مفتوحاً ،فأنعشه الضوء
الطبيعي .وقف عند الباب ،من دون أن يراه الطيّارون ،وترك نور الشمس يغمر وجهه بالدفء .شعر ّ
أن الفضاء
المفتوح أمامه نعمة من السماء ،فقد بدت السماء الزرقاء الصافية مسالمة ودائمة...
ال شيء يدوم .ذ ّكر نفسه بذلك وهو ما زال يكافح لتقبّل احتمال وقوع الكارثة الوشيكة.
أن سلوك الرجل قد تغيّر تماماً ،إذ يبدو أكثر استرخا ًء.
شعر النغدون ّ
قال النغدون" :لكن ظننت ...في الواقع ...لم أعد أعرف بماذا أف ّكر".
ابتسم فيريس بتعاطف" .لقد سمعتَ الكثير من األكاذيب اليوم ،لذلك جئت أعتذر .كما أصبحت تعرف ،أنا ال أعمل
ظمة الصحة العالمية ،ولم أحضرك من كامبريدج". لصالح من ّ
"صحيح .أرسلني لتقديم المساعدة الميدانية العاجلة لك ولسيينّا ...للفرار من فريق المراقبة والدعم".
موظف في ّ
منظمة الص ّحة العالمية، ّ قال النغدون وهو يتذكر كيف ظهر فيريس في المعمودية ،وأقنع النغدون أنّه
كما س ّهل لهما االنتقال من فلورنسا والفرار من فريق سينسكي" :إذا ً أعتقد أنّك قمت بعملك على أكمل وجه .من
الواضح أنّك لست طبيباً".
هز الرجل رأسه نافياً" .كقا ،لكنني أديت هذا الدور اليوم .كانت مه ّمتي تتمثّل في حماية سيينّا واالستمرار بالكذبة
ّ
إلى أن تكتشف إلى أين يشير المسقاط .فقد كان العميد ينوي إيجاد تحفة زوبريست وحمايتها من سينسكي".
قال النغدون الذي ما زال يشعر بالفضول حيال الطفح الجلدي الذي يعاني منه فيريس ونزيفه الداخلي" :ألم تكن
تعرف أنّه وباء؟".
مجرد كذبة أخبرتك إيّاها سيينّا ،فجاريتكما .اصطحبتكما إلى
ّ "بالطبع ال! عندما ذكرتَ الوباء ،اعتقدت أن األمر
القطار المتو ّجه إلى البندقية ...ث ّم تغير ك ّل شيء فجأة".
"وكيف ذلك؟".
"FS-2080؟".
"آسف ،أقصد سيينّا بروكس .هذا هو االسم الشيفري الذي اختارته لهذه العمليّة .يبدو أنّها تقنية تستخدمها الحركة
ما وراء اإلنسانية .ولم يكن العميد قادرا ً على الوصول إلى سيينّا سوى من خقالي".
قال النغدون" :تلك هي المكالمة الهاتفية التي تلقّيتها في القطار ،حين ادّعيت ّ
أن أمك مريضة".
"بالطبع .لم أكن أستطيع التحدّث مع العميد أمامكما .أخبرني عن الفيلم ،فشعرت بالذعر .كان يأمل أن تكون سيينّا
تعرضت للخداع هي أيضاً ،لكن عندما أخبرته أنّكما تتحدّثان عن األوبئة طوال الوقت ،وال تنويان التخلّي عن قد ّ
عدوتنا .طلب منّي إخباره عن مكاننا في
أن سيينّا وزوبريست متواطئان .عندئذ ،أصبحت ّ المه ّمة ،عرف ّ
البندقية ...وقال إنّه سيرسل فريقا ً العتقالها .أوشك العميل برودر على القبض عليها في بازيليك سان مارك...
لكنّها تم ّكنت من الفرار".
حدّق النغدون إلى األرض بشرود .ما زال يرى عيني سيينّا الجميلتين وهما تحدّقان إليه قبل فرارها.
قال الرجل" :إنّها قوية .لم ترها على األرجح وهي تهاجمني في البازيليك".
"تهاجمك!".
أظن أنّها حركة من الفنون القتالية .وبما أنّني كنت أساسا ً مصابا ً في تلك المنطقة،
"لم أعرف ما الذي أصابنيّ .
شعرت بألم مبرح .استغرقت خمس دقائق الستعادة أنفاسي .في ذلك الوقت ،كانت سيينّا قد اصطحبتك إلى الشرفة
ي من الشهود ما حدث".
قبل أن يكشف أ ّ
تذكر النغدون المرأة اإليطالية العجوز التي صاحت في وجه سيينّا" ،الي كولبيتو آل بيتّو!" وقامت بحركة عنيفة
على صدرها.
في ذلك الوقت أجابتها سيينّا :ال يمكنني! فالتن ّفس االصطناعي سيقتله! انظري إلى صدره!
"أحضرني رجال سينسكي إلى المينداسيوم وقاموا بمعالجتي .طلب منّي العميد تقديم الدعم ألنّني الشخص الوحيد
الذي أمضى اليوم وقتا ً مع سيينّا غيرك".
ّ
هز النغدون رأسه وقد عاد انتباهه إلى الطفح الجلدي ،وسأله" :هذا يعني ّ
أن الطفح الجلدي ،وإصابة صدرك ليسا
نتيجة."...
وهز رأسه نافياً" .ال أعرف ما إذا كانوا قد أخبروك بعد ،لك ّنني أدّيت اليوم دور
"الطاعون؟" .ضحك فيريس ّ
طبيبين".
"المعذرة؟".
إن سبب هذا يرجع إلى أنك من أحضرني من كامبريدج ...وأصبحت أعرف ّ
أن "بالفعل ،ربّما عيناك .وقلت لي ّ
هذا ليس صحيحاً."...
"بدوت لك مألوفا ً أل ّننا التقينا ،لكن ليس في كامبريدج" .تأ ّمل الرجل النغدون" .في الواقع ،كنت ّأول رجل رأيتَه
عندما استيقظت في المستشفى هذا الصباح".
تخيّل النغدون غرفة المستشفى الصغيرة المعتمة .كان يشعر حينها بالدوار وال يرى بوضوح ،وكان واثقا ً ّ
أن ّأول
رجل رآه عندما استيقظ طبيب أكبر سنًّا ذو وجه شاحب ،وحاجبين كثّين ،ولحية رمادية ،وال يتحدّث سوى
اإليطالية.
قال النغدون" :كقاّ .د .ماركوني كان ّأول شخص رأيته عندما ."-
قاطعه الرجل قائقاً بإيطالية ممتازة" :سكوزي بروفيسوري ،أال تتذ ّكرني؟" .أحنى ظهره مثل رجل عجوز،
ومرر أصابعه على حاجبين خياليين ولحية رمادية غير موجودة" .سونو إيل دو ّتور ماركوني".ّ
"لهذا السبب بدت عيناي مألوفتين .لم يسبق لي أن وضعت لحية مزيفة وحاجبين مزيفين ،ولم أكن أعرف أ ّنني
متخوفَين
ّ أعاني من التحسّس تجاه المادة القاصقة .أنا واثق أنّكما ذُعرتما عندما رأيتماني ...ال سيّما وأنّكما كنتما
من احتمال وجود وباء".
ي فايينثا قال الرجل مشيرا ً إلى الضمادات المحيطة بصدره" :وما زاد األمور سوءا ً ّ
أن المفرقعة التي أطلقتها عل ّ
أصابتني من زاوية خاطئة؛ األمر الذي سبّب لي كسرا ً في أحد أضقاعي .لهذا السبب كنت أعاني من صعوبة في
التنفّس طوال النهار".
أن الوقت قد حان لكي أجلس" .ث ّم أضاف وهو ينصرف" :يبدو أنّني لن أتركك
أظن ّ
تن ّهد الرجل" .في الواقعّ ،
ي حال".بمفردك على أ ّ
التفت النغدون فرأى د .سينسكي متّجهة نحوه ،وشعرها الفضّي الطويل يتدلّى خلف ظهرها" .بروفيسور ،كنت
أبحث عنك".
لكن النغدون لمح وميض أمل في عينيها .يبدو أ ّنها وجدت شيئاً. كانت مديرة من ّ
ظمة الص ّحة العالمية منهكةّ ،
قالت سينسكي عندما وصلت إليه" :أنا آسفة أل ّنني تركتك .كنّا ننسّق ونقوم ببعض األبحاث" .أشارت إلى باب
القمرة المفتوح" .أرى أنّك حصلت على بعض نور الشمس".
ّ
هز النغدون كتفيه" .طائرتك بحاجة إلى نوافذ".
ابتسمت له بتعاطف" .بالحديث عن الضوء ،أتمنّى أن يكون العميد قد ألقى بعضا ً منه على األحداث األخيرة".
"أجل ،مع ّ
أن التفاصيل ال تدعو إلى السرور".
محق" .ث ّم نظرت حولها للتأكد من أنّهما بمفردهما ،قبل أن تضيف هامسة" :ثق بي ،ستكون نتائج ذلك
ّ "أنت
خطيرة عليه وعلى منظمته .سوف أحرص على ذلك .لكن في هذه اللحظة ،علينا التركيز على تحديد مكان ذلك
الكيس قبل ذوبانه وانتشار الوباء".
كان النغدون يتخيّل البناء المهيب منذ أن اكتشف أمره .موزيون الحكمة المقدّسة.
للتو أمرا ً مثيرا ً لقاهتمام .فقد اتصلنا بمؤرخ محلي .لم يعرف سبب سؤالنا عن قبر داندولو
قالت سينسكي" :عرفت ّ
بالطبع ،لكنني سألته ع ّما إذا كان يعرف ما يوجد تحت القبر ،واحزر ما قاله" .ابتسمت مضيفة" :مياه".
"بالضبط".
في تلك اللحظة ،على بعد أقل من ميل من ساحل البندقية ،وعلى جزيرة ليدو ،انطلقت طائرة سيسنا سيتايشن
موستانغ من مدرج مطار نيتشيلّي وارتفعت في سماء الليل.
لم يكن صاحبها ،مصمم األزياء المعروف جورجيو فينشي على متنها ،لكنّه أعطى طيّاره أوامر باصطحاب
المسافرة الجميلة إلى حيث ترغب.
الفصل 84
خيّم الليل على العاصمة البيزنطية القديمة.
على شاطئ بحر مرمرة ،أضاءت أنوار المساجد والمنارات السماء .حان وقت ال ِّعشاء ،وكانت مكبّرات الصوت
في المدينة تصدح باألذان.
حث المؤمنون خطاهم متّجهين إلى المساجد ،تابع اآلخرون في المدينة حياتهم .جلس طقاّب الجامعات
وفي حين ّ
يحتسون الشراب ،وعقد رجال األعمال الصفقات ،في حين نادى الباعة على توابلهم وس ّجاداتهم ،وراقب السياح
ك ّل ذلك بإعجاب.
كان ذلك العالَم عالَما ً مقسوماً؛ مدينة تتنازعها قوى متعارضة؛ دينية وعلمانية ،قديمة وحديثة ،شرقية وغربية.
كانت هذه هي المدينة التي تش ّكل ملتقى أوروبا وآسيا فعليًّا ،وجسرا ً بين العالم القديم والعالم األقدم.
إسطنبول.
لم تعد تلك المدينة عاصمة تركيا ،غير أنّها كانت عبر العصور مركز ثقاث إمبراطوريات مختلفة :البيزنطية،
تنوعا ً على وجه األرض .فمن قصر توبكابي ،إلىوالرومانية ،والعثمانية .لهذا السبب ،تُعتبر من األماكن األكثر ّ
المسجد األزرق ،إلى قصر األبراج السبعة ،تزخر هذه المدينة بالحكايات الفلكلورية عن المعارك واألمجاد
والهزائم.
الليلة ،عاليا ً في السماء فوق الناس المحتشدين في المدينة ،كانت طائرة C-130تحلّق متّجهة إلى مطار أتاتورك.
على متنها ،جلس النغدون على مقعد خلف الطيّارين ،وراح يحدّق عبر النافذة باسترخاء.
اآلن ،رأى إلى يمينه أضواء إسطنبول التي بدت من األعلى شبه جزيرة متأللئة في ظقام بحر مرمرة .كان هذا
متعرج ومظلم.
ّ هو الجزء األوروبي الذي يفصله عن الجزء اآلسيوي شريط
مضيق البوسفور.
للوهلة األولى ،يبدو مضيق البوسفور وكأنّه جرح عميق يقسم إسطنبول إلى نصفين .لكن في الواقع ،يعرف
أن ذلك المضيق يش ّكل شريان حياة التجارة في إسطنبول .فباإلضافة إلى منحه المدينة شاطئين عوضا ً النغدون ّ
عن شاطئ واحد ،يتيح البوسفور مرور السفن من البحر األبيض المتوسّط إلى البحر األسود ،ويجعل المدينة
مح ّ
طة بين عال َمين.
مع هبوط الطائرة عبر طبقة من الضباب ،أخذ النغدون يبحث بعينيه عن المبنى الذي أتوا من أجله.
كما تبيّن ،لم يُدفن إنريكو داندولو -دوج البندقية الخائن -في البندقية ،بل في قلب المدينة التي فتحها عام
...9686أي المدينة الممتدّة تحتهم .لقد د ُفنت رفات داندولو في أجمل بناء في المدينة ،بناء بقي حتّى هذا اليوم
جوهرة تاج المنطقة.
آيا صوفيا.
بنيت آيا صوفيا في األساس عام 718م ،وظلّت كاتدرائية أرثوذكسية شرقية حتّى عام ،9680عندما قام إنريكو
داندولو خقال الحملة الصليبية الرابعة باالستيقاء على المدينة وتحويلها إلى كنيسة كاثوليكية .الحقاً ،في القرن
تحولت إلى مسجد ،وبقيت دار عبادة إسقامية الخامس عشر ،وبعد فتح القسطنطينية على يد السلطان مح ّمد الفاتح ّ
وتحول إلى متحف.
ّ حتّى عام 9171؛ عندما ت ّمت علمنة المبنى
لم تكن آيا صوفيا مزخرفة ببقاط ذهبي أكثر من سان مارك فحسب ،بل يعني اسمها حرفيا ً "الحكمة المقدّسة".
تخيّل النغدون المبنى المهيب ،وف ّكر أنّه في مكان ما تحته ،في بحيرة مظلمة يوجد كيس ّ
يتموج تحت الماء،
ويذوب ببطء ،استعدادا ً لتحرير محتوياته.
كانت سينسكي قد أخبرته في وقت سابق ،وهي تشير إليه ليتبعها إلى مكان عملهاّ :
"إن الطوابق السفلية من المبنى
للتو .هل سبق لك أن سمعت عن فيلم وثائقي لمخرج يدعى غوكسيل مغمورة بالماء .ولن تصدّق ما اكتشفناه ّ
غولينسوي؟".
"اكتشفت هذا الفيلم في أثناء البحث عن آيا صوفيا .لقد أعدّه غولينسوي عن المبنى قبل بضع سنوات".
أجابت عندما وصقا إلى مكان العمل" :أجل ،لكنّها ليست كهذا" .أدارت الكمبيوتر المحمول نحوه مضيفة" :اقرأ".
جلس النغدون أمام الشاشة ،وقرأ المقالة التي كانت تض ّم مصادر عدّة ،وتناقش أحدث أفقام غولينسوي :في
أعماق آيا صوفيا.
عندما بدأ النغدون يقرأ ،أدرك فورا ً سبب حماسة سينسكي .فالكلمتان األوليان ش ّكلتا مفاجأة بالنسبة إليه .الغوص؟
الغوص تحت آيا صوفيا :عثر المخرج غوكسيل غولينسوي وفريق الغوص االستكشافي على أحواض بعيدة
مغمورة بالماء على عمق مئات األقدام تحت هذا المبنى التاريخي السياحي.
واكتشفوا أثناء ذلك الكثير من العجائب المعمارية ،بما فيها قبور ألطفال ترجع إلى 088عام ،فضقاً عن أنفاق
مغمورة بالماء تربط بين آيا صوفيا ،وقصر توبكابي ،وقصر تكفور ،والملحقات تحت األرضية لسجون أنيماس.
أن ما يوجد تحت آيا صوفيا أكثر إثارة بكثير م ّما هو فوق السطح" .ووصف كيف يشرح غولينسوي" :أعتقد ّ
ّ
استلهم فكرة الفيلم بعدما رأى صورة قديمة لباحثين يفحصون أساسات آيا صوفيا على متن زورق ،ويجذفون
بالقرب من جدار كبير مغمور بالماء جزئيًّا.
أن المكان يحتوي على جيوب هوائية قالت سينسكي" :من الواضح أنّك عثرت على المبنى الصحيح! ويبدو ّ
ضخمة يمكن الوصول إلى الكثير منها من دون غطس ...األمر الذي يفسّر ما رأيناه في فيلم زوبريست".
قال النغدون" :المحتويات ...هل لديك فكرة عن ماهيتها؟ أعني بالضبط .أعلم أنّنا نتعامل مع مرض ،لكن ."-
أن المحتويات بيولوجية أكثر من كونها كيميائية ،أي إنّها كائن حي .بسبب قال برودر" :يشير تحليلنا للفيلم إلى ّ
حجم الكيس الصغير ،نفترض ّ
أن المادة معدية جدًّا ولديها القدرة على التكاثر عند تحريرها؛ سواء أت ّم ذلك عبر
لكن االحتمالين واردان".الماء أو الهواء .لسنا واثقين بعدّ ،
قالت سينسكي" :نحن اآلن نجمع معلومات عن حرارة طبقة المياه في المنطقة ،ونحاول تقييم أنواع المواد المعدية
أن زوبريست كان يتمتع بموهبة استثنائية ،ومن المحتمل التي يمكن أن تعيش في تلك األماكن تحت األرض .غير ّ
أن يكون قد أعدّ مرضا ً ذا مزايا فريدة .وأعتقد أنّه اختار هذا الموقع لسبب ما".
هز برودر رأسه مستسلما ً وأعطى بسرعة تقييمه آللية نشر المرض ،أي الكيس القابل للذوبان ،والتي بدأواّ
يفهمون مدى الذكاء الذي تنطوي عليه تدريجياً .فبتعليق الكيس تحت األرض وتحت الماء ،أوجد زوبريست بيئة
حضانة ثابتة على نحو استثنائي ،تمتاز بحرارة مياه مستقرة ،وغياب أشعة الشمس ،هذا فضقاً عن العازل
الحركي والخصوصية التامة .وباختيار الكيس المناسب ،ترك زوبريست الوباء لينضج لمدة معينة قبل أن يتحرر
في الوقت المحدد.
هبوط الطائرة أعاد النغدون إلى الواقع .خفّف الطيارون من سرعة الطائرة بسرعة ،ث ّم قادوها إلى حظيرة
طائرات بعيدة ،وأوقفوها هناك.
فكّ حزامه واقترب من سينسكي في الوقت الذي كان الجميع يستعدّون فيه للتر ّجل من الطائرة .سألها النغدون:
"أين الجميع؟ أين فريق من ّ
ظمة الص ّحة العالمية؟ والسلطات التركية؟ هل سبقونا إلى آيا صوفيا؟".
نظرت إليه سينسكي بارتباك" .في الواقع ،قررنا عدم إبقاغ السلطات المحلية تجنّبا ً النتشار الذعر بين الناس ،ال
وأن أفضل أعضاء فريق الدعم والمراقبة موجودون معنا". سيّما ّ
بالفعل ،رأى النغدون برودر وفريقه في الجوار يج ّهزون حقائب سوداء تحتوي على المعدّات القازمة كافة؛ من
المقابس البيولوجية ،إلى أجهزة التنفس ،ومعدات الكشف اإللكترونية.
رفع برودر حقيبته على كتفه واقترب منهما قائقاً" :سننطلق .سندخل المبنى ،ونبحث عن قبر داندولو حتى نجده،
ث ّم ستصغي إلى خرير المياه كما تشير القصيدة ،وعندئذ سنقيّم الوضع أنا وفريقي ونقرر ما إذا كان يجدر بنا
االتصال بالسلطات للحصول على الدعم".
صة لمديرة من ّ
ظمة الص ّحة العالمية وجيش من الجنود الذين يرتدون كاد النغدون أن ينفجر ضاحكاً" .زيارة خا ّ
المقابس الواقية؟! أال تعتقدين ّ
أن هذا األمر سيثير االستغراب؟".
قالت سينسكي" :سيبقى فريق المراقبة والدعم في السيّارة ،في حين سندخل أنا وأنت وبرودر لتقييم الوضع.
صة ليست لي بل لك أنت". ولمعلوماتك ،الزيارة الخا ّ
"أستميحك عذراً؟!".
أن أستاذا ً أميركيا ً شهيرا ً أتى مع فريق أبحاث لكتابة مقالة عن رموز آيا صوفياّ ،
لكن "أخبرتُ القيّم على المتحف ّ
ً
الطائرة تأ ّخرت خمس ساعات .وبما أنّه سيغادر مع فريقه غدا ،فإنّنا نأمل ."-
طلبت سينسكي من العميد وفيريس البقاء على متن طائرة C-130مع عدد من موظفي من ّ
ظمة الص ّحة العالمية
ومواصلة البحث عن سيينّا بروكس.
أن سيينّا ستتم ّكن من الوصول إلى إسطنبول في الوقت المناسب ،إالّ أ ّنهم ّ
تخوفوا من أن أحدا ً لم يصدق فعقاً ّ
ومع ّ
احتمال قيامها باالتصال بأحد أتباع زوبريست في تركيا وطلب مساعدته لتنفيذ خطة زوبريست قبل تد ّخل فريق
سينسكي.
هل يمكن ح ًّقا أن ترتكب سيي ّنا جريمة قتل جماعي؟ ما زال النغدون يرفض تقبّل ك ّل ما حدث .كان هذا يؤلمه،
لكنّه مجبر على قبول الحقيقة .أنت لم تعرفها ،يا روبرت .لقد تقاعبت بك.
بدأ مطر خفيف باالنهمار على المدينة ،وشعر النغدون فجأة بالتعب وهو يصغي إلى صوت المسّاحات .إلى
يمينه ،في بحر مرمرة ،رأى أضواء يخوت فخمة وسفن كبيرة تدخل ميناء المدينة وتخرج منه .على طول
الواجهة البحرية ،ارتفعت المنارات المضاءة أمام المساجد المقبّبة التي تذ ّكر ّ
أن الدين مترسّخ في إسطنبول؛ حتى
لو كانت مدينة حديثة وعلمانيّة.
ّ
وتشق وتمر بين بساتين جميلة وحدائق تاريخية ،لتعبر ميناء ينيكابي،ّ تط ّل جادة كينيدي على مشاهد رائعة للبحر،
ً ً
طريقها بين حدود المدينة ومضيق البوسفور ،ث ّم تتجه شماال حول القرن الذهبي .هناك ،عاليا فوق المدينة ،يقبع
ضقاً لدى قصر توبكابي؛ معقل العثمانيين .بتلك اإلطقالة االستراتيجية على مضيق البوسفور ،يعتبر القصر مف ّ
السياح الذين يزورونه لتأمل المناظر الطبيعية ومجموعة الكنوز العثمانية الهائلة التي تتض ّمن عباءة وسيفا ً يقال
ي مح ّمد (ص) نفسه. إنّهما يخ ّ
صان النب ّ
عرف النغدون أنّهم لن يصلوا إلى ذلك المكان وهو يتخيّل مقصدهم؛ أي آيا صوفيا التي تقع خارج وسط المدينة
على مسافة غير بعيدة.
االنفجار السكاني.
الطاعون.
ومع أنّه فهم تماما ً إلى أين تتو ّجه بعثة المراقبة والدعم ،إالّ أنّه لم يستوعب األمر سوى اآلن .نحن ذاهبون إلى
المصفر ،وتساءل عن كيفيّة
ّ نقطة االنطقاق .تخيّل الكيس الذي يذوب ببطء ،والذي يحتوي على السائل البنّي
تورطه بكل هذا.
ّ
كانت القصيدة الغريبة التي اكتشفها هو وسيينّا على باطن قناع دانتي هي التي قادته إلى هنا ،إلى إسطنبول .أرسل
النغدون فريق الدعم والمراقبة إلى آيا صوفيا ،وعرف ّ
أن مه ّمة كبيرة تنتظرهم.
أن هذا المشهد هو الذي ألهم زوبريست لتأليف قصيدته ،مع أنّه يبدو في هذه الحالة ّ
أن زوبريست من الواضح ّ
قلَب ك ّل شيء رأسا ً على عقب .سيتبع النغدون واآلخرون صوت خرير المياه ،لكن خقافا ً لدانتي ،لن يخرجوا من
الجحيم ...بل سيدخلونه.
مع مرور الفان في شوارع إسطنبول الضيقة وأحيائها المكتظة ،بدأ النغدون يفهم المنطق العجيب الذي دفع
زوبريست إلى اختيار إسطنبول كمركز لوبائه.
مرات عديدة في تاريخها ،وخسرت أعدادا ً هائلة من س ّكانها .في الواقع ،خقال عانت إسطنبول من األوبئة ّ
ّ
المرحلة األخيرة من الموت األسود ،س ّميت هذه المدينة معقل الطاعون في اإلمبراطورية ،وقيل إن المرض كان
وتصور عدّة لوحات عثمانية شهيرة سكان المدينة وهم يحفرون ّ يقتل أكثر من عشرة آالف شخص ك ّل يوم.
األرض لدفن أكوام من الجثث في الحقول المجاورة لتقسيم.
تمنّى النغدون أن يكون كارل ماكس قد أخطأ حين قال" :التاريخ يعيد نفسه".
مر أشخاص منشغلون بأعمالهم المسائية .رأى امرأة تركية جميلة تنادي أطفالها لتناول
في الشوارع الممطرةّ ،
ّ ً
العشاء ،ورجلين عجوزَ ين يحتسيان القهوة في أحد مقاهي الرصيف ،وزوجين أنيقين يمشيان يدا بيد تحت مظلة،
ورجقاً يتر ّجل من الحافلة ويركض حامقاً صندوق الكمنجة تحت سترته وقد تأخر عن إحدى الحفقات كما يبدو.
وجد النغدون نفسه يتأمل وجوه الناس ويحاول أن يتخيل تفاصيل حياة ك ّل منهم.
انعطف الفان إلى اليمين ،إلى جادة تورون ،وللحظة اعتقد النغدون أنّهم وصلوا إلى مقصدهم .ظهر إلى يساره في
الضباب مسجد عظيم.
سرعان ما أدرك أنّه المسجد األزرق عندما رأى البناء المؤلّف من ستّة طوابق ،ومآذنه المبنية على شكل أققام
أن الجمال الخرافي لمآذن المسجد األزرق كان مصدر إلهام مرة ّ
رصاص ،بشرفاتها العديدة .كان النغدون قد قرأ ّ
قصر سندريقا في عالم ديزني .يستمدّ المسجد األزرق اسمه من بحر البقاط األزرق الذي يزيّن جدرانه الداخلية.
عرف النغدون أنّهم اقتربوا مع تقدّم الفان الذي انعطف إلى جادة كاباساكال ،وع َبر الساحة الواسعة في حديقة
السلطان أحمد التي تقع بين المسجد األزرق وآيا صوفيا وتشتهر بإطقالتها على المعلمين.
حدق النغدون عبر الزجاج األمامي المبلّل بماء المطر وهو يبحث في األفق عن آيا صوفياّ ،
لكن المطر وأضواء
أن حركة السير في الجادة بدا أنّها توقفت.
السيّارات جعلت الرؤية صعبة .واألسوأ من ذلك ّ
أعلن السائق" :ث ّمة حدث ما ،حفلة موسيقية حسبما أعتقد .ربّما كانت متابعة الطريق سيرا ً على األقدام أسرع".
وهكذا ،تر ّجل ك ّل من برودر والنغدون وسينسكي من الفان ،وتابعوا طريقهم سيرا ً على األقدام في الحديقة.
وفّرت أشجار حديقة السلطان أحمد بأغصانها الوارفة مظلّة من األمطار المتزايدة مع تقدّم المجموعة عبرها.
كانت الطرقات مليئة بالقافتات التي تو ّجه السياح إلى مختلف معالم الحديقة ،كالمسلّة المصرية من األقصر،
وعمود الثعبان من معبد أبولو في ديلفي ،وعمود مليون الذي كان يش ّكل في الماضي "نقطة الصفر" التي تقاس
منها ك ّل المسافات في اإلمبراطورية البيزنطية.
أخيراً ،خرجوا من بين األشجار ووصلوا إلى حوض دائري يقع في وسط الحديقة .وقف النغدون ونظر شرقاً.
آيا صوفيا.
كان البناء الضخم يلمع بفعل المطر ،وبدا مدينة بحدّ ذاته .ارتفعت قبّته المركزية التي كانت عريضة ومط ّعمة
باللون الفضّي فوق مجموعة من القبب األخرى .حدّدت زواياه األربع أربع منارات ،تحتوي ك ّل منها على شرفة
واحدة ومستدقّة فضّية ،وارتفعت فوق زوايا المبنى ،بعيدا ً عن القبّة المركزية؛ حيث بدت وكأنّها ال تنتمي إلى بناء
واحد.
توقف سينسكي وبرودر مندهشين وارتفعت أنظارهما إلى األعلى ...في حين حاوال استيعاب ضخامة المبنى.
قال برودر غير مصدّق" :يا إلهي ،هل سنفتّش ...هذا؟".
الفصل 86
شعر العميد أنّه أسير وهو يذرع أرض الطائرة المتوقّفة على أرض المدرج .لقد وافق على المجيء إلى إسطنبول
لمساعدة سينسكي على إيجاد ح ّل لألزمة قبل خروجها عن السيطرة تماماً.
ما إن هبطت الطائرة في مطار أتاتورك ،حتّى غادرتها سينسكي مع فريقها وأمرت العميد والعدد القليل من
موظفيه بالبقاء على متنها.
مجردا ً من ك ّل نفوذه.
ّ كان معتادا ً منذ مدّة طويلة على أن يكون هو السيّد ،والسلطة العليا ،لكنّه وجد نفسه فجأة
وها هو اآلن محتجز على متن طائرة نقل من دون نوافذ ،حيث بدأ يتساءل ع ّما إذا كان قد خسر حسن ح ّ
ظه...
وع ّما إذا كانت هذه الحالة التي وصل إليها نتيجة حياة عاشها في الخداع.
لم يكن العميد الشخص الوحيد في العالم الذي يبيع األكاذيب ،إالّ أنّه جعل نفسه السمكة الكبرى في الحوض .كانت
األسماك األخرى بالنسبة إليه من فصيلة أخرى في األساس ،ويكره التشبّه بها.
تتوفر على شبكة اإلنترنت شركات وشبكات وهمية صنعت ثروات في مختلف أنحاء العالم من خقال توفيرها
ّ
أمرهن .كانت تلك المنظمات -البارعة في صناعة األكاذيب ّ
أزواجهن من دون أن يُكشف طريقة للزوجات لخيانة
-تعد بإيقاف الزمن لمدّة وجيزة لكي يتمكن زبائنها من الفرار من األزواج أو الزوجات أو األطفال ،كما تزيّف
عقود أعمال ،ومواعيد أطبّاء ،وحتّى حفقات زفاف ،وكلّها تتض ّمن دعوات هاتفية ،ومنشورات ،وتذاكر سفر،
صة ّ
ترن في الشركة الوهمية ،ويردّ عليها أشخاص يدّعي ك ّل ونماذج حجز في الفنادق ،وحتّى أرقام هواتف خا ّ
منهم أنّه عامل االستعقامات أو الشخص المقصود.
ط في مثل تلك التفاهات ،ولم يستلم سوى عمليات خداع على نطاق واسع ،وقدّمأن العميد لم يضع وقته ق ّ
غير ّ
خدماته لمن يستطيع دفع مقايين الدوالرات من أجل الحصول على أفضل النتائج؛ من حكومات ،ومؤسسات
كبرى ،وأشخاص مهمين فاحشي الثراء.
لكي يحقّق أولئك الزبائن أهدافهم ،كانوا يجدون في متناولهم أصول الكونسورتيوم كافة ،وموظفيه ،وخبرته،
وإبداعه .لكن األه ّم من ك ّل ذلك أنّهم كانوا يحصلون على اإلنكار ،أي التأكيد على أنّه أيًّا تكن الكذبة التي لُفّقت
لدعم عمليّة الخداع ،فلن يُذكر اسمهم.
سواء أكان الهدف دعم سوق بورصة ،أو تبرير حرب ،أو الفوز في انتخابات ،أو استدراج إرهابي للخروج من
فإن سماسرة السلطة في العالم يعتمدون على معلومات مضلّلة هائلة للمساعدة على خداع الرأي العام.
مخبئهّ ،
لطالما جرت األمور كذلك.
في ستينيات القرن الماضي ،أسس الروس شبكة تجسس وهمية كاملة .أعطت معلومات استخبارية مزيّفة
اعترضها البريطانيون لسنوات .وفي عام ،9107قامت القوات الجوية األميركية بتصنيع خدعة متقنة لتحويل
أن العراقسرية في روسويل ،في نيو ميكسيكو .ومؤخراً ،ت ّم دفع العالم إلى االعتقاد ّ
طم طائرة ّ االنتباه عن تح ّ
يملك أسلحة للدمار الشامل.
لمدّة ثقاثة عقود تقريباً ،ساعد العميد أشخاصا ً نافذين على حماية سلطتهم والحفاظ عليها ومضاعفتها .ومع أنّه
حرص على اختيار األعمال التي تُعرض عليه ،إالّ أنّه خشي دائما ً من أن يخطئ يوما ً في اختيار الزبون.
فبنظر العميد ،كل انهيار يرجع إلى لحظة واحدة؛ لقاء صدفة ،أو قرار خاطئ ،أو نظرة في غير محلّها.
في حالته ،ترجع تلك اللحظة إلى عشرة أعوام مضت تقريباً؛ عندما وافق على توظيف طالبة طبّ تبحث عن
تحولت بفضل مواهبها الفذّة إلى عميل
عمل يوفّر لها المال .كانت تلك الطالبة هي سيينّا بروكس ،وسرعان ما ّ
أساسي في الكونسورتيوم.
عملت لديه مدّة عامين تقريباً ،وكسبت مبلغا ً كبيرا ً من المال ساعدها على دفع أقساط الجامعة .فجأة ،أعلنت أنّها
ترغب في التوقّف .وقالت إنّها تريد أن تنقذ العالم ،وال يمكنها فعل ذلك هنا.
لكنّها عادت بعد عشر سنوات تقريباً ،وأحضرت زبونا ً فاحش الثراء.
بيرتراند زوبريست.
في الجوار ،أصبح النقاش حاميا ً بين المجتمعين إلى طاولة االجتماعات على متن الطائرة ،حيث كان موظفو
من ّ
ظمة الص ّحة العالمية يتحدّثون ويتجادلون عبر الهاتف.
صاح أحدهم" :سيينّا بروكس؟! هل أنت واثق؟" .ثم أضاف بعدما أصغى قليقاً" :حسناً ،أعطني التفاصيل.
سأنتظر".
توتّر ك ّل الحاضرين.
هزت المرأة رأسها" .هذا مستحيل .إن مطار نيتشيلّي صغير جدًّا ،وال تنطلق منه أ ّ
ي رحقات ،وال يستقبل سوى ّ
جوالت محلية بالطائرات المروحية ."-
صة متوقفة في نيتشيلّي .ما زالوا يبحثون في
أن سيينّا بروكس قد تم ّكنت من الوصول إلى طائرة خا ّ
"يبدو ّ
ً
األمر" .أعاد السماعة إلى أذنه مجدّدا" .أجل ،أنا معك .ماذا لديك؟" .وفيما كان يصغي إلى المعلومات ،راحت
كتفاه تنخفضان تدريجيًّا إلى أن جلس على أحد المقاعد" .فهمت ،شكراً" .وأنهى المكالمة.
قال أحدهم" :إذا ً اتصل بمركز قيادة النقل الجوي األوروبي ،واطلب منهم تحويل مسار الطائرة".
ظلّت أللف عام تقريبا ً أكبر كنيسة في العالم .وحتّى هذا اليوم ،من الصعب تخيّل بناء أكبر منها .عندما رآها
النغدون مجدداً ،تذ ّكر أنّه عند انتهاء بناء آيا صوفيا ،تراجع اإلمبراطور جوستينيان وأعلن بفخر" :لقد ّ
تفوقتُ
عليك يا سليمان!".
تقدّمت سينسكي وبرودر نحو المبنى الضخم الذي بدا كما لو كان يزداد حجما ً كلما اقتربوا منه.
لدى اقترابهم من الواجهة الجنوبية ،نظر النغدون إلى اليمين ،إلى القبب الثقاث البارزة من المبنى ،والتي تبدو
كما لو أنها زوائد .كانت تلك هي أضرحة السقاطين ،وأحدهم هو مراد الثالث الذي قيل إنّه أنجب أكثر من مائة
طفل.
ّ
رن الهاتف المحمول ،فردّ عليه برودر باقتضاب" :هل من أخبار؟".
أصغى إلى التقرير ،ث ّم هز رأسه من دون تصديق" :كيف حصل ذلك!؟" .تنهد مضيفاً" :حسناً ،أبقني على
ا ّ
طقاع .نحن على وشك الدخول" .ث ّم أنهى االتصال.
ألن سيينّا تم ّكنت من الوصول إلى تركيا والفرار من البندقية ،وهي اآلن تخاطر بحياتها من أجل
فوجئ النغدون ّ
طة بيرتراند زوبريست.إنجاح خ ّ
بدا القلق على سينسكي أيضا ً التي أخذت نفسا ً عميقا ً وكأنها تستعدّ لطرح المزيد من األسئلة على برودر ،بيد أنّها
ي طريق نسلك؟". صمتت والتفتت إلى النغدون" .أ ّ
أشار النغدون إلى اليسار ،حول الزاوية الجنوبية الغربية للمبنى" .نافورة الوضوء تقع هناك".
كانت نقطة اللقاء مع القيم على المتحف عند نافورة جميلة استخدمت في الماضي للوضوء قبل أداء الصقاة.
يلوح بذراعيه بحماسة قائقاً: اقترب رجل تركي مبتسم من تحت قبة مث ّمنة األضقاع تغ ّ
طي النافورة .كان ّ
"بروفيسور ،أنا هنا!".
قال بلكنة ثقيلة" :مرحباً ،اسمي ميرسات" .كان صوته يفيض حماسة .كان رجقاً نحيقاً وخفيف الشعر ،يضع
نظارة ويرتدي بذلة رمادية" .هذا شرف كبير لي".
صافحه النغدون قائقاً" :الشرف لي .شكرا ً لك على استقبالنا بهذا الشكل العاجل".
"أهقاً بكم!".
صافحته إليزابيث قائلة" :أنا إليزابيث سينسكي" .ث ّم أشارت إلى برودر" :وهذا كريستوف برودر .نحن هنا
لمساعدة البروفيسور النغدون .أنا آسفة على تأخر الطائرة ونشكرك على استقبالك لنا".
تساءل النغدون :حقاً؟ عرفت اآلن المكان الوحيد في العالم الذي يحتفظ بهذا الكتاب.
أسرعت المجموعة عبر الباحة ،وعبرت مدخل السياح المعتاد ،ث ّم تابعت طريقها إلى ما كان في األساس المدخل
الرئيس للمبنى ،والذي يمتاز بثقاث قناطر متراجعة ذات أبواب برونزية ضخمة.
كان باستقبالهم حارسان مسلّحان .لدى رؤيتهما ميرسات ،قام الحارسان بفتح الباب.
شكرهما ميرسات بإحدى عبارات الشكر التركية العديدة التي كان النغدون يعرفها.
دخلت المجموعة ،وأقفل الحارسان الباب خلفهم ،فتردد صوت إغقاق الباب داخل المبنى.
كان النغدون والباقون يقفون اآلن في صحن آيا صوفيا ،وهو عبارة عن قاعة انتظار شائعة في الكنائس
المسيحية.
توجهوا نحو باب آخر فتحه ميرسات .رأى النغدون خلفه صحنا ً آخر؛ أكبر من األول بقليل .فتذكر ّ
أن آيا صوفيا
تضم مستويين من الحماية من العالم الخارجي.
كان هذا الصحن يمتاز بقدر أكبر من الزخرفة ،وكأنه يُ ِّعدّ الزائر لما ينتظره .كانت جدرانه مصنوعة من الحجر
المصقول الذي توهج تحت ضوء الثريات األنيقة .من الجهة األخرى ،رأى النغدون أربعة أبواب ،تعلوها
فسيفساء رائعة أثارت إعجابه.
عندما وصل ميرسات إلى الباب ،توقّف وهمس" :قبل أن ندخل ،أودّ أن أعرف إن كان ث ّمة مكان معين ترغبون
في رؤيته".
"أجل".
قال النغدون بتهذيب" :أدرك ذلك ،لكنّنا سنكون ممت ّنين لك إن أخذتنا إلى هناك".
مطوالً ،ث ّم نظر إلى األعلى ،إلى الفسيفساء الموجودة فوق الباب مباشرة والتي كان
تأمل ميرسات النغدون ّ
النغدون يتأ ّملها بإعجاب .كانت عبارة عن صورة للمسيح ترجع إلى القرن التاسع عشر ،وهي صورة أيقونية
يحمل فيها المسيح العهد الجديد بيده اليسرى ويبارك بيده اليمنى.
همس ميرسات بنبرة تواطؤ" :ال تقلق بروفيسور ،لن أخبر أحدا ً عن السبب الحقيقي لوجودك هنا".
فهز كتفيه من دون أن يفهم شيئاً ،في حين فتح ميرسات بابا ً
نظرت سينسكي وبرودر إلى النغدون باستغرابّ ،
وأدخلهم منه.
الفصل 88
وصف البعض المكان بأنّه ثامن العجائب في العالم ،وشعر النغدون وهو واقف هناك أنّه يوافقهم تماماً.
كانت القاعة ضخمة جدًّا؛ إلى درجة أنّها تنافس أعظم الكاتدرائيات في أوروبا .وكان النغدون يعرف ّ
أن
ضخامتها ترجع جزئيا ً إلى الوهم؛ وهو تأثير جانبي ناتج عن مخطط األرض البيزنطي ،مع ناووس مركزي
يجعل داخل القاعة يتركز في غرفة مربعة واحدة عوضا ً عن امتداده على أربع أذرع متصالبة ،مثل النمط المعتمد
في الكاتدرائيات القاحقة.
كان النغدون قد رأى هذا الجو الذهبي مصورا ً بدقة في عمل فني واحد على يد جون سينجر سارجنت .وال عجب
ّ
أن األلوان التي استخدمها الفنان األميركي في لوحته الشهيرة قد اقتصرت على ظقال لون واحد.
الذهب.
غالبا ً ما كانت القبّة الذهبية القامعة تس ّمى "قبّة السماء نفسها" ،وكانت مدعمة بأربع قناطر كبيرة ،ترتكز بدورها
على سلسلة من أنصاف القبب واألجزاء الغائرة ،وتستند هذه الدعائم على طبقة تنازلية أخرى من أنصاف القبب
األصغر حجماً؛ األمر الذي يولّد تأثير سلسلة من األشكال المعمارية التي تشق طريقها من السماء إلى األرض.
امتدت كذلك من السماء إلى األرض -وإن بطريقة مباشرة أكثر -أسقاك طويلة؛ امتدّت من القبّة مش ّكلة ركيزة
لبحر من الثريات القامعة التي بدت معلقة على علو منخفض فوق األرض ،حيث يوشك الزوار ذوو القامات
ألن األضواء ترتفع أكثر من اثنيالطويلة على االرتطام بها .لكن هذا الوهم ناتج أيضا ً عن ضخامة المكان ،وذلك ّ
عشر قدما ً عن األرض.
نظر النغدون إلى برودر وسينسكي اللذين كانا يحدقان إلى األعلى ،قبل أن يخفضا أنظارهما إلى األرض.
ضحك النغدون ،في حين أشار لهم الرجل إلى المذبح األساسي الذي تعلوه فسيفساء كبيرة للمسيح ،ويحيط بها
قرصان كبيران يحمقان كلمتي هللا ومحمد بالخط العربي.
شرح ميرسات" :لتذكير الزوار بمختلف استعماالت هذا المبنى ،يعرض المتحف صوراً أيقونية مسيحية ترجع
إلى العهد الذي كانت فيه آيا صوفيا بازيليك ،فضقاً عن تحف إسقامية من الزمن الذي كانت فيه مسجداً" .ابتسم
بفخر مضيفاً" :على الرغم من االحتكاكات بين الديانتين في عالم الواقع ،إالّ ّ
أن رموزهما تنسجم تماماً .أعلم أنّك
توافقني الرأي بروفيسور".
أن ك ّل الصور األيقونية المسيحية طليت باللون األبيض عندما أصبح وافقه النغدون بإيماءة من رأسه ،وتذكر ّ
البناء مسجداً .واسترجاع الرموز المسيحية إلى جانب الرموز اإلسقامية ش ّكل تأثيراً فاتناً ،ال سيما ّ
وأن أساليب ك ّل
من فنّاني الديانتين متناقضة تماماً.
ففي حين تفضّل التقاليد المسيحية رسم صور حرفية لرموزها الدينية ،كان اإلسقام ير ّكز على علم الخ ّ
ط واألشكال
الهندسية لتمثيل جمال الكون .فبحسب التقليد اإلسقامي ،وحده هللا هو القادر على خلق الحياة ،وال يجوز لإلنسان
رسم صور للحياة ،سواء أكانت هلل ،أو األشخاص أو حتى الحيوانات.
تذكر النغدون كيف حاول شرح ذلك لطقاّبه" :لو كان مايكل أنجلو مسلماً ،لما أقدم مطلقا ً على رسم هللا على سقف
الكنيسة السيستانية ،بل لكتب اسمه وحسب .فتصوير هللا يعتبر تجديفاً".
"ك ّل من الديانتين اإلسقامية والمسيحية تر ّكز على الرموز ،أي على الكلمة .في المسيحية ،أصبحت الكلمة جسداً.
لهذا ،كان تصوير الكلمة في شكل بشري أمرا ً مقبوالً .أ ّما في اإلسقام ،فلم تصبح الكلمة جسداً ،لذلك يجب أن تبقى
كلمة ...فتم تصوير الرموز الدينية في كتابات".
يومذاك ،أوجز أحد طقابه ذلك التاريخ المعقّد بمقاحظة هامشية دقيقة ومرحة" :المسيحيون يحبون الوجوه ،أ ّما
المسلمون فيحبّون الكلمات".
تابع ميرسات مشيرا ً إلى أنحاء القاعة الرائعة" :هنا أمامنا ،نرى مزيجا ً فريداً للمسيحيّة واإلسقام".
وأشار بسرعة إلى االنصهار بين الرموز في المحراب الضخم .في الجوار ،ارتفع منبر اإلمام الذي يشبه ذاك
صة -على غرار منصة الجوقة الذي تلقى من عليه العظات المسيحية .كذلك ،كان البناء المجاور الذي يشبه المن ّ
المسيحية -هو في الواقع المكان الذي يقف عليه المؤذن ليدعو إلى الصقاة.
قال ميرسات" :المساجد والكاتدرائيات متشابهة جداً .فعادات الشرق والغرب ليست متعارضة بقدر ما قد يظن
البعض!".
قال برودر بنفاد صبر" :ميرسات؟ نودّ حقا ً رؤية قبر داندولو إن أمكن".
قال النغدون" :إلى األعلى؟ أليس داندولو مدفونا ً في القبو؟" .كان النغدون يذكر القبر ،لكنّه ال يذكر موقعه
بالضبط .فتخيّل مكانا ً مظلما ً تحت األرض.
استغرب ميرسات السؤال" :كقاّ بروفيسور .قبر إنريكو داندولو في الطابق العلوي بكل تأكيد".
سريا ً عنها .وال شكّ أنّه يعرف أنّها تقع في الطابق الثاني ،فلماذا فوجئ؟
ظن أنّه يكتب شيئا ً ّ
ّ
األول" :طابق واحد بعد وسنصل إلى قبر إنريكو داندولو ،وبالطبع "-صمت
قال بمرح عندما صعدوا إلى الطابق ّ
ورمق النغدون مضيفاً" :إلى فسيفساء دييسيس الشهيرة".
لكنّه لم يجد أ ّ
ي بادرة اهتمام.
عندما وصلوا أخيرا ً إلى الطابق الثاني ،قادهم ميرسات إلى اليمين على طول الشرفة التي تطل على مناظر خقابة
للحرم في األسفل .مشى النغدون في المقدمة ،وحاول حصر تركيزه.
قبر داندولو.
بدا القبر تماما ً كما تذ ّكره؛ قطعة مستطيلة من الرخام األبيض ،مدمجة في األرضية الحجرية ،ومحاطة بالدعائم
والسقاسل.
هنريكوس داندولو
لحق الثقاثة اآلخرون بقانغدون الذي تجاوز الحاجز ،ووقف أمام القبر تماماً.
روعت ميرسات ،وضع النغدون يديه على القبر وأخفض رأسه ،وعندئذ الحظ أنّه بدا وكأنه يسجد. وفي خطوة ّ
ً
هذه الحركة أذهلت ميرسات الذي صمت تماما ،وخيّم الهدوء على المبنى بأكمله.
أخذ النغدون نفسا ً عميقاً ،ث ّم أدار رأسه إلى اليمين ،ووضع أذنه اليسرى فوق القبر .شعر ببرودة الحجر تحت
بشرته.
كان الصوت الذي سمعه يتردّد عبر األرض واضحا ً وضوح الشمس.
يا إلهي.
شعر كما لو ّ
أن خاتمة جحيم دانتي تتردّد من األسفل.
تخ ّ
طى برودر السقاسل ،وركع بالقرب من النغدون ليصغي بدوره .بعد قليل ،راح يهز رأسه هو أيضاً.
اآلن ،بعدما سمعا خرير المياه ،بقي سؤال واحد :إلى أين يتجه الماء؟
فجأة ،تزاحمت في ذهن النغدون صور لكهف شبه مغمور بالمياه ،يسوده ضوء أحمر مخيف ...يقع في مكان ما
تحتهم.
عندما نهض النغدون وعاد من فوق السقاسل ،كان ميرسات يحدق إليه باستغراب واضح.
ي سؤاالً ها ًّما جداً قال النغدون" :ميرسات ،أنا آسف .كما ترى ،هذا وضع غير اعتيادي .ال وقت للشرحّ ،
لكن لد ّ
عن هذا المبنى".
ّ
هز ميرسات رأسه" .تفضّل".
"يمكننا أن نسمع هنا ،عند قبر داندولو ،خرير جدول مياه يتدفق تحت األرض .نريد أن نعرف أين يجري هذا
الماء".
استغرب ميرسات" .ال أفهم .يمكن سماع جريان الماء في ك ّل مكان في آيا صوفيا".
فوجئ الجميع.
قال ميرسات" :أجل ،ال سيّما عندما تمطر .فمساحة أسطح آيا صوفيا تبلغ حوالى مائة ألف قدم مربعة ،وهذه
تصرف مياه المطر ،وهو أمر غالبا ً ما يستغرق أياماً .عادة ،يتساقط المطر مجدداً قبل أن ينتهي
ّ األسطح يجب أن
أن آيا صوفيا ترتكز على كهوف تحتوي إن صوت خرير المياه شائع هنا .ربّما كنت تعرف ّ التصريف .لذلكّ ،
على الماء .حتى إنّه ث ّمة وثائقي ."-
قال النغدون" :أجل ،أجل ،لكن هل يذهب هذا الماء إلى مكان محد ّد؟".
أجاب ميرسات" :بالطبع ،يصبّ في المكان نفسه الذي تصبّ فيه ك ّل المياه التي تهطل على آيا صوفيا؛ في ّ
خزان
المدينة".
ّ
"الخزان؟ على مسافة قريبة من هنا ،شرق هذا المبنى ،يس ّمى يريباتان سأله ميرسات بنبرة مشوبة بالخوف:
ساراي".
تساءل النغدون ،ساراي؟ مثل توبكابي ساراي؟ كانت القافتات التي تشير إلى قصر توبكابي منتشرة في ك ّل مكان
في طريقهم إلى هنا" .لكن ...أال تعني كلمة ساراي قصر؟".
ّ
الخزان القديم يريباتان ساراي ،ومعناه القصر الغارق". قال ميرسات" :بلى ،اسم
الفصل 91
كان المطر ينهمر بغزارة عندما خرجت المجموعة من آيا صوفيا مع دليلها المربَك.
يبدو ّ
أن خزان المدينة ،يريباتان ساراي ،يقع على مقربة من المسجد األزرق ،نحو الشمال.
ي خيار سوى إخباره بهويّاتهم ،وأنهم أتوا لتطويق أزمة صحية محتملة داخل القصر
لم يكن أمام سينسكي أ ّ
الغارق.
قادهم ميرسات عبر الحديقة المظلمة قائقاً" :من هنا!" .أصبحت آيا صوفيا خلفهم اآلن ،ومآذن المسجد األزرق
تلمع أمامهم.
أسرع العميل برودر إلى جانب سينسكي ،وراح يتحدث عبر الهاتف مع رجاله ،ويأمرهم بمقاقاته عند مدخل
الخزان .قال وهو يلهث" :يبدو ّ
أن زوبريست استهدف خزان المدينة .سأحتاج إلى مخطط لجميع األقنية الداخلة
والخارجة من الخزان .سنطبق بروتوكوالت العزل واالحتواء كاملة ،وسنحتاج إلى حواجز فيزيائية ومادية ،مع -
".
قاطعه ميرسات" :مهقاً ،لقد أسأت فهمي .لم يعد الخزان يحتوي على مخزون مياه المدينة!".
شرح ميرسات" :قديماً ،كان الخزان يحتوي على الماء ،لكننا نستخدم اآلن الوسائل الحديثة".
قال ميرسات" :بالطبع! الماء يتجمع هناك وحسب ،ث ّم يتسرب الحقا ً إلى داخل األرض".
تبادل الثقاثة نظرات قلق .لم تعرف سينسكي ما إذا كان يجدر بها أن تشعر باالرتياح أم القلق .إن لم يكن الناس
يشربون هذه المياه بانتظام ،فلماذا اختار زوبريست تلويثها؟
قال ميرسات" :عندما حدّثنا وسائل تخزين المياه منذ عقود ،لم يعد الخزان مستخدماً ،بل أصبح عبارة عن بركة
كبيرة تحت األرض ،ولم يعد اليوم سوى معلم سياحي".
التفتت سينسكي إلى ميرسات .معلم سياحي! "مهقاً ...هل ينزل الناس إلى الخزان؟".
كان الوباء الذي ينتقل عبر الهواء من بين السيناريوهات التي فكرت فيها سينسكي لبعض الوقت ،لكن عندما
أن الخزان يحتوي على مياه المدينة العذبة ،أملت أن يكون زوبريست قد صنع وباء ينتقل عبر المياه. علمت ّ
فالبكتيريا التي تعيش في الماء قوية ومقاومة لعوامل الطقس ،لكنها بطيئة االنتشار.
بسرعة كبيرة.
قال برودر" :بما أنّه ينتقل عبر الهواء ،فهذا يعني أنّه فيروس على األرجح".
وافقته سينسكي الرأي؛ إ ّنه فيروس .هذا هو الوباء األسرع انتشار ًا الذي يمكن أن يختاره زوبريست.
كان نشر الوباء تحت المياه أمرا ً غير معتاد ،لكن ث ّمة الكثير من أشكال الحياة التي تمضي فترة حضانتها في
السائل ،ث ّم تنتقل إلى الهواء؛ كالبعوض ،وجراثيم العفن ،والبكتيريا التي تسبب مرض المحاربين ،والسموم
الفطرية ،وحتّى البشر .تخيّلت سينسكي الفيروس وهو ينتشر في مياه الخزان ...ث ّم يتصاعد بخار المياه في الهواء
الرطب.
كان ميرسات يحدق عبر الشارع المزدحم بقلق .تبعت سينسكي اتجاه نظراته فرأت مبنى باللونين األحمر
واألبيض ،بابه الوحيد مفتوح ،وقد بدا منه درج .رأت عددا ً من الناس الذين يرتدون مقابس أنيقة ينتظرون في
الخارج حاملين المظقات ،في حين قام حارس بمراقبة مرور الزوار الذين يهبطون الدّرج.
رأت سينسكي األحرف الذهبية على المبنى ،وشعرت بضيق مفاجئ في صدرها .إن كان هذا النادي يدعى
الخزان ،وبني في العام 167م ،فهذا يفسر القلق الذي بدا على وجه ميرسات.
قال" :يبدو ّ
أن القصر الغارق ...يستقبل حفلة موسيقية الليلة".
عندما وصلوا إلى باب الخزان ،لم يتمكنوا من الدخول بسبب وجود مجموعة من الزوار الذين ينتظرون أن يسمح
لهم بالدخول لحضور الحفلة الموسيقية .ثقاث نساء يرتدين العباءات ،وسائحان يمسكان بيدي بعضهما ،ورجل
يرتدي بذلة رسمية .كانوا متجمعين عند المدخل ،وهم يحاولون اتّقاء المطر.
سمعت سينسكي نغمات موسيقى كقاسيكية للموسيقار بيرليوتز تتصاعد من األسفل .لكنّها أحسّت أنّها ال تنسجم
إطقاقا ً مع شوارع إسطنبول.
لدى اقترابهم من المدخل ،أحسّت بهواء دافئ يخرج من المكان؛ يهبّ من أعماق األرض إلى خارج الكهف
المغلق .لم يجلب الهواء معه إلى السطح صوت الكمنجات فحسب ،بل روائح الرطوبة وجموع الناس.
قالت" :انتظر ،الفريق آتٍ ،وال يمكنك تفتيش هذا المكان بمفردك" .وأشارت إلى القافتة المعلقة على الجدار
بجانب الباب ،مضيفة" :فالخزان ضخم جدًّا".
كانت القافتة تصف قاعة تحت األرض بحجم كاتدرائية ،يعادل طولها طول ملع َبي كرة قدم تقريباً ،ويتجاوز
ارتفاع سقفها مائة ألف قدم مربّعة ،تدعمه غابة من 771عمودا ً رخامياً.
قال النغدون وهو يقف على بعد عدّة ياردات" :انظرا ،لن تصدّقا ذلك".
التفتت سينسكي إلى حيث أشار النغدون إلى ملصق حفلة موسيقية معلّق على الجدار.
الليلة ،وعميقا ً تحت األرض ،كانت أوركسترا إسطنبول تعزف أشهر سيمفونية للموسيقار؛ سيمفونية دانتي التي
استوحاها من نزول دانتي إلى الجحيم وعودته منه.
قال النغدون وهو يقرأ الملصق" :إنّها تُعزف هنا منذ أسبوع ،وهذا حفل م ّجاني قدّمه واهب مجهول".
أدركت سينسكي هوية ذلك الواهب .لقد استخدم زوبريست خطة عمليّة وحشية .فهذا األسبوع من الحفقات
الموسيقية المجانية سيغري آالف السيّاح اإلضافيين بالنزول إلى هذا الخزان ...لتن ّ
شق الهواء الموبوء ،ومن ث ّم
العودة إلى منازلهم في بلدان أخرى.
التفت برودر إلى سينسكي" .اتصلي بالسلطات المحلية .فنحن سنحتاج إلى دعمهم أيًّا يكن ما سنجده .عند وصول
أعضاء الفريق ،اطلبي منهم االتصال بي إلعطائهم آخر المعلومات .سأنزل ألحاول العثور على ذلك الشيء".
سألته سينسكي" :هل ستنزل من دون جهاز تنفّس؟! ماذا لو كانت المادة قد ّ
تسربت؟".
عبس برودر ،ورفع يده أمام الهواء الساخن الذي يهبّ من الداخل" .أكره قول ذلك ،لكن في هذه الحالة ،أعتقد ّ
أن
ك ّل من في هذه المدينة قد التقط العدوى مسبقاً".
كانت سينسكي تفكر في األمر نفسه ،لكنّها لم تجرؤ على قول ذلك أمام النغدون وميرسات.
أضاف برودر" :باإلضافة إلى ذلك ،أعرف ما الذي سيحصل للنّاس عندما يدخل فريقي بالمقابس الواقية .سننشر
الذعر بينهم".
"أيًّا تكن نواياها ،فهي بارعة في اللغات ،وربّما كانت تتكلم التركية".
"إذاً؟".
قال النغدون" :سيينّا على علم بالمعاني الرمزية في القصيدة التي تشير إلى قصر غارق .وباللغة التركية ،القصر
الغارق يشير حرفيا ً إلى "...وأشار إلى الفتة يريباتان ساراي مضيفاً ..." :هنا".
وافقته سينسكي" .هذا صحيح .ربّما عرفت ذلك ولم تذهب أساسا ً إلى آيا صوفيا".
لشق الكيس قبل احتوائه ،فهيسره" .حسناً ،إن كانت في األسفل وتخطط ّ
نظر برودر إلى الباب وهو يشتم في ّ
ربّما لم تصل إليه بعد .فالمكان كبير جدًّا ،وهي على األرجح ال تعرف أين تبحث .ومع ك ّل هذا االزدحام ،ربّما لم
تتمكن بعد من الغوص من دون أن يقاحظها أحد".
رأى برودر مجموعة أخرى من الزوار المقتربين ،فأومأ للحارس أنّه آتٍ.
ما إن دخل النغدون وبدأ ينزل الد ّرج خلف برودر حتّى شعر بالهواء الرطب يندفع نحوهما من أحشاء الخزان.
حمل النسيم المشبع بالرطوبة معه نغمات سيمفونية دانتي ورائحة مألوفة ومنفرة ...ناتجة عن تج ّمع حشود الناس
في مكان ضيق.
الموسيقى.
كان كورس األوركسترا ينشد اآلن مقطعا ً معروفا ً من قصيدة دانتي ،مشدّدا ً على ك ّل حرف فيه.
تصاعدت تلك الكلمات الست ،األشهر في إنفيرنو دانتي من أسفل الدّرج ،مثل رائحة الموت.
ّ
الخزان على مدّ النظر وكأنها رقعة زجاج داكنة ،وساكنة ،وملساء؛ مثل جليد أسود في بركة قطبية. امتدت أرض
ارتفعت من الماء ،في صفوف مرتّبة ،المئات والمئات من األعمدة الدورية الضخمة التي تعلو ثقاثين قدما ً لدعم
السقف المقبّب .كانت األعمدة مضاءة من األسفل بسلسلة من المصابيح الحمراء التي جعلتها تشبه جذوع األشجار
المضاءة في الظقام.
توقف النغدون وبرودر عند أسفل الدّرج ،وراحا يتأمقان الفراغ المظلم أمامهما .بدا المكان وكأنّه يتوهج بضوء
أن تنفسه أصبح سطحياً.
أحمر .وبينما كان النغدون يتأ ّمله ،شعر ّ
رأى النغدون حشودا ً بعيدة إلى اليسار .كان الحفل الموسيقي يجري عميقا ً في مكان تحت األرض ،وكان
الحاضرون جالسين على منصات واسعة .جلس عدّة مئات من المشاهدين في حلقات أحادية المركز ت ّم ترتيبها
حول األوركسترا ،في حين وقف مائة آخرون في محيطها .واتخذ المزيد من المشاهدين مواقع لهم على المماشي
القريبة ،متّكئين على الدرابزين المتين ،وهم يحدقون إلى المياه ويصغون إلى الموسيقى.
وجد النغدون نفسه يتفحص الوجوه بحثا ً عن سيينّا .لم يجد لها أثراً ،بل رأى أشخاصا ً يرتدون البذالت الرسمية
واألثواب والعباءات ،كما رأى سياحا ً يرتدون السراويل القصيرة والقمصان القطنية .لقد تجمع عدد ٌ كبير من
البشر في هذا المكان تحت الضوء القرمزي ،وبدوا بالنسبة إلى النغدون وكأنّهم في احتفال جماعي غامض.
أن سيي ّنا إن كانت هنا ،فمن المستحيل تقريباً العثور عليها.
أدرك بينه وبين نفسه ّ
فأحس
ّ مر بهما رجل ضخم الجثة ،وصعد الدّرج وهو يق ّح .التفت برودر نحوه وراقبه بعناية، في تلك اللحظةّ ،
ّ ً ّ
النغدون بدغدغة خفيفة في حلقه ،لكنه كان واثقا أنه يتخيل.
خطا برودر على الممشى بحذر ،وهو يفكر في الخيارات المتاحة أمامهما .بدا الطريق الممتد أمامه أشبه بمدخل
الممرات بدوره إلى عدّة فروع؛ مش ّكقاً
ّ وتفرع ك ّل من تلك
ّ تفرع الممشى في ثقاثة اتجاهات، متاهة ضخمة؛ إذ ّ
ّ
متاهة عائمة فوق الماء ،تتخللها األعمدة الممتدّة إلى أعماق المبنى المظلم.
األول من تحفة دانتي :وجدتُ نفسي في غابة مظلمة ،وذلك أل ّنني أضعت الطريق المستقيم.
تذ ّكر النغدون النشيد ّ
حدق النغدون إلى الماء من فوق الدرابزين .كانت بعمق أربع أقدام تقريباً ،وصافية على نحو الفت .حتّى ّ
إن بقاط
القاع كان مرئياً ،وتغطيه طبقة رقيقة من الطمي.
نظر برودر إلى األسفل بسرعة ،ث ّم جال بنظره في أرجاء المكان" .هل ترى شيئا ً يشبه المكان الذي ظهر في فيلم
زوبريست؟".
ك ّل شيء .هذا ما ف ّكر فيه النغدون وهو يتأ ّمل الجدران الرطبة المحيطة بهما .أشار إلى أبعد زاوية في الخزان،
"أظن أنّه في مكان ما هناك".
ّ إلى أقصى اليمين ،بعيدا ً عن منصة األوركسترا.
ي كان أن يختبئ ليقاً من دون أن يراه أحد؛ وهذا ما فعله أثناء سيرهما ،أدرك النغدون أنّه من السهل بالنسبة أل ّ
زوبريست على األرجح لتصوير فيلمه .وبالطبع ،إن كان قد قدّم م ّجانا ً هذا األسبوع من الحفقات الموسيقية،
فبإمكانه ببساطة أن يطلب تمضية بعض الوقت بمفرده في الخزان.
ي أه ّمية.
لم تعد لذلك أ ّ
ى أسرع ،وكأنّه يجاري السيمفونية التي أخذ إيقاعها يتخذ سلسلة من األنغام منخفضة
راح برودر يمشي بخط ً
اإليقاع شيئا ً فشيئاً.
تأمل النغدون الجدران الشاهقة المكسوة بالطحالب إلى يمينهما ،محاوالً مقارنتها بما رأوه في فيلم زوبريست .عند
ك ّل فرع من الممشى ،كانا يتجهان نحو اليمين ،مبتعدَين عن الحشد إلى أبعد زاوية في الكهف .نظر النغدون إلى
الخلف ،وذُهل حين أدرك المسافة التي قطعاها.
تقدما وهما يهروالن ،وتجاوزا حفنة من الزوار الذين كانوا يتجولون في المكان .لكن ،عندما وصقا إلى أعماق
الكهف ،أصبح المكان خالياً.
شعر النغدون باإلحباط نفسه .كان يذكر الفيلم جيّداً ،لكنّه ال يرى هنا شيئا ً مميّزاً رآه في الفيلم.
الموزعة على الممشى أمامهما .كانت إحداها تشير إلى سعة الخزان التي تبلغّ تأمل النغدون القافتات المضاءة
واحدا ً وعشرين مليون غالون ،في حين أشارت أخرى إلى عمود غير مشابه لبقية األعمدة أُخذ من مبنى مجاور
أثناء عملية البناء .وعرضت الفتة أخرى مخ ّ
ططا ً لنقش قديم لم يعد موجوداً؛ عين الطائر الباكية التي تبكي على
ك ّل العبيد الذين لقوا حتفهم أثناء بناء الخزان.
أشار النغدون إلى القافتة التي تحمل إشارة سهم واسم وحش أنثى مريع.
الميدوزا ==>
تحول من ينظر
أخذ قلب النغدون ينبض بعنف .فقد كانت الميدوزا إحدى األرواح المخيفة على شكل أفعى ،والتي ّ
إليها إلى حجر ،إالّ أنّها كانت أيضا ً عضوا ً بارزا ً بين أرواح البانثيون اليوناني التي تعيش تحت األرض ...وهي
صة معروفة بوحوش العالم السفلي. فئة خا ّ
اهبط إلى أعماق القصر الغارق...
أن تلك القافتة تشير إلى الطريق ،فراح يركض على الممشى الخشبي .بالكاد استطاع برودر أدرك النغدون ّ
المتعرج في الظقام ،متّبعا ً اإلشارات التي تقود إلى الميدوزا .أخيراً ،وصل إلى
ّ الممشى يسلك مجاراته وهو
صة مشاهدة بالقرب من قاعدة الجدار األيمن للخزان. طريق مسدود عند من ّ
أن الرأس مقلوب بوضعية الملعونين ،وتذ ّكر خارطة الجحيم لبوتيتشيلّي ،والخاطئين الذين كان
أدرك النغدون ّ
مصيرهم الماليبولغي.
وصل برودر الهثاً ،ووقف إلى جانب النغدون عند الدرابزين محدّقا ً إلى الميدوزا المقلوبة بذهول.
أن هذا الرأس المنحوت -الذي يؤدي اآلن دور قاعدة تدعم أحد األعمدة -قد نُهب من مكاناشتبه النغدون في ّ
الشريرةّ .
لكن ّ يجردها من قواها
بأن ذلك ّ ْ
أن سبب قلب رأس الميدوزا هو االعتقاد ّ آخر واستُخدم هنا .وال شكّ في ّ
النغدون لم يستطع أن يبعد األفكار المروعة التي كانت تقاحقه.
إنفيرنو دانتي ،الخاتمة ،مركز األرض حيث تنقلب الجاذبية ويصبح ما هو في األعلى في األسفل.
انحنى النغدون فوق الدرابزين بخوف ،وترك نظره يتبع االتجاه الذي ينظر إليه التمثال؛ إلى الزاوية الخالية من
القصر الغارق.
فجأة ،أدرك ّ
أن هذا هو الموقع.
وقف النغدون قرب الدرابزين وقال له" :ك ّل شيء جاهز ،لم يرك أحد".
التفت برودر مواجها ً رأس الميدوزا المقلوب الذي ش ّع بالضوء األحمر .بدا الوحش المقلوب أكبر حجما ً عندما
أصبح برودر بمستواه.
همس النغدون" :اتبع االتجاه الذي ينظر إليه الميدوزا .كان زوبريست مولعا ً بالرمزية والعناصر المسرحية...
ولن أفاجأ إن وضع تحفته مباشرة في خ ّ
ط البصر القاتل للميدوزا".
مع تردد أنغام سيمفونية دانتي بعيداً ،أخرج برودر مصباحه المقاوم للماء وأنزله تحت السطح ،ث ّم أضاءه .سطع
شعاع تحت الماء ،وأضاء أرض الخزان أمامه.
وقف النغدون قرب الدرابزين وهو يشعر بضيق في حلقه .كان هواء الخزان الرطب يفوح برائحة العفن ويشعره
باالختناق .مع تقدّم برودر في البحيرة ،أخذ البروفيسور يطمئن نفسه ّ
بأن ك ّل شيء سيكون على ما يرام.
مع ذلك ،شعر النغدون أنّه على وشك فقدان أعصابه .فبسبب خوفه من األماكن المغلقة ،عرف أنّه سيشعر بالتوتّر
هنا مهما تكن الظروف .أنا تحت سقف يزن آالف األطنان من التراب ...ال تدعمه سوى أعمدة متداعية.
أبعد الفكرة عن ذهنه ،ونظر خلفه ليتأكد من أنّهما لم يلفتا نظر أحد.
ال أحد.
مماش أخرى وينظرون باالتجاه المعاكس؛ إلى األوركسترا .ولم ٍ كان األشخاص الوحيدون في الجوار يقفون على
أن أحدا ً منهم الحظ برودر وهو يمشي في المياه في هذه البقعة البعيدة.
يبد ُ ّ
نظر النغدون مجدّدا ً إلى برودر الذي كان مصباحه يتحرك أمامه مضيئا ً الطريق.
في أثناء ذلك ،الحظ النغدون فجأة حركة إلى يساره؛ شكقاً أسود اللون خرج من الماء أمام برودر .استدار
النغدون وحدق إلى الظقام ،وكأنّه يتوقع رؤية وحش أسطوري يخرج من تحت الماء.
متموج على ارتفاع ثقاثين قدما ً على الجدار .بدا الشكل مشابها ً لطبيب الطاعون
ّ في الزاوية البعيدة ،بدا شكل أسود
الذي ظهر في فيلم زوبريست.
كان الظ ّل قد ظهر لدى مرور برودر من أمام مصباح مغمور في البحيرة؛ تماما ً مثلما ظهر ظ ّل زوبريست في
الفيلم.
هز برودر رأسه وواصل التقدم .مشى النغدون على طول الدرابزين بموازاته .مع ابتعاد العميل ،استرق النغدون ّ
أن أحداً لم ير برودر ،فلم يقاحظ شيئاً.
نظرة أخرى إلى األوركسترا ليتأكد من ّ
دماء!
ي ألم ،إالّ أنّه بدأ يبحث عن إصابة أو ردّ فعل ناتج عن سموم غير مرئية منتشرة في الهواء.
لم يشعر النغدون بأ ّ
تحقّق من أنفه ،وأظفاره ،وأذنيه.
استغرب وجود الدماء ،وراح يبحث حوله ليتأكد أنّه بمفرده على الممشى الخالي.
نظر مجدّدا ً إلى البقعة ،والحظ وجود جدول صغير يتجمع عند قدميه .يبدو ّ
أن السائل األحمر يأتي من مكان ما
أمامه ويسيل على الممشى المائل.
فكر النغدون :ث ّمة جريح هناك .نظر إلى برودر بسرعة ،ورآه يقترب من وسط البحيرة.
مشى النغدون على الممشى بسرعة؛ متبعا ً الجدول .ومع اقترابه من نهاية الممشى ،أصبح خط السائل أعرض .ما
أن الجدول يتحول إلى تيار صغير .راح يهرول إلى أن وصل إلى نهاية الذي يجري؟ في هذه اللحظة ،أدرك ّ
الممشى.
طريق مسدود.
في تلك اللحظة ،رأى النغدون السائل األحمر يسيل عن الممشى ويقطر في البحيرة ،فأدرك أنّه أخطأ في تقديره.
ليست دماء.
لقد اجتمعت المصابيح الحمراء ،والضباب األحمر على المماشي ،وصبغت هذا السائل بلون أحمر.
إ ّنه ّ
مجرد ماء.
عوضا ً عن الشعور باالرتياح ،بعث هذا االكتشاف في نفسه خوفا ً كبيراً .حدق إلى بركة الماء ،وبدأ يرى آثار
أقدام حوله.
استدار النغدون لمناداة برودر ،لكنّه كان بعيداً ،وكان صوت الموسيقى يص ّم اآلذان .فجأة ،شعر النغدون بوجود
شخص ما قربه.
ببطء ،استدار النغدون نحو الجدار الذي ينتهي عنده الممشى .على بعد عشر أقدام ،رأى شكقاً ملفوفا ً بالسواد،
يقطر منه الماء .وقف الشكل بقا حراك.
ث ّم تحرك فجأة.
خرج من مخبئه ،وارتفع رأسه الغامض إلى األعلى بعد أن كان منخفضاً.
كان لباس امرأة إسقامي تقليدي يغطي الجسد بأكمله .لكن ،مع التفات الرأس نحو النغدون ،رأى عينين داكنتين
تحدقان إليه.
عرفها فوراً.
فجأة ،خرجت سيينّا بروكس من مخبئها ،وراحت تركض .دفعت النغدون على األرضّ ،
وفرت على الممشى
الخشبي.
الفصل 93
في البحيرة ،وقف برودر فجأة ،إذ سقط ضوء المصباح على لوحة معدنية أمامه في قعر الخزان.
لوحة زوبريست.
كانت المياه صافية إلى حدّ أنّه استطاع رؤية تاريخ الغد:
في هذا المكان ،وفي هذا التاريخ ،تغيّر العالم إلى األبد.
تذ ّكر فيلم زوبريست ،وو ّجه الضوء إلى يسار اللوحة بحثا ً عن الكيس .عندما أضاء المصباح قعر الماء المظلم،
حدّق برودر إلى هناك بارتباك.
ي كيس.
ال يوجد أ ّ
حول الضوء إلى اليسار ،إلى البقعة التي ظهر فيها الكيس في فيلم الفيديو؛ لكنّه لم يجد شيئاً.
ّ
مجرد وهم.
ّ للحظة ،تساءل برودر ع ّما إذا كان هذا التهديد -شأنه شأن كثير من األمور التي حدثت اليوم -
أخيرا ً رآه.
إلى يسار اللوحة ،وقع نظره على خيط مرتخٍ في الماء ،بالكاد كان مرئيا ً في قعر البحيرة .بدا الخيط أشبه بدودة
ميتة .كان طرفه معلّقا ً بقطعة صغيرة من الكيس القابل للذوبان.
حدّق برودر إلى الكيس الشفّاف .كان الجزء المعلّق بالخيط مثل عقدة بالون منفجر.
في الخارج ،راحت سينسكي تصيح عبر جهاز القاسلكي وقد أصبحت في منتصف الدّرج المؤدي إلى الخزان:
كرر ،لم أفهم!".
"أيّها العميل برودرّ ،
داهمها الهواء الدافئ الذي تصاعد باتجاه الباب المفتوح .في الخارج ،وصل فريق الدعم والمراقبة ،وكان أعضاؤه
يستعدون خلف المبنى في محاولة إلبقاء معدّاتهم بعيدة عن األنظار بانتظار أوامر برودر.
ماذا؟! تمنّت سينسكي أن تكون قد أخطأت في الفهم وهي تندفع على الدّرج نحو األسفل .أمرته قائلة عندما اقتربت
من األسفل" :أ ِّعد ما قلته!" .كان صوت الموسيقى قد أصبح أعلى.
اندفعت سينسكي إلى األمام ،وأوشكت على السقوط عند أسفل الدّرج .كيف يعقل هذا؟!
شعرت د .سينسكي بالعرق البارد يتصبّب منها وهي تنظر إلى محيطها وتحاول تقييم الوضع .عبر الضباب
األحمر ،رأت الماء الذي تصاعدت منه مئات األعمدة .واأله ّم من ذلك أنّها رأت الناس.
مئات الناس.
حدقت سينسكي إلى الحشد غير المدرك لما يجري ،والمحتجز في ف ّخ زوبريست تحت األرض .أتى ردّ فعلها
عفوياً" .أيها العميل برودر ،اصعد فوراً ،سنخلي المكان حاالً".
أتى ردّ برودر فورياً" :حتما ً ال! أغلقوا الباب! ال تسمحوا ألحد بالخروج من هنا!".
كانت إليزابيث سينسكي معتادة على أن تُنفَّذ أوامرها من دون مساءلة بصفتها مديرة من ّ
ظمة الص ّحة العالمية.
للحظة ،ظنّت أنّها أساءت فهم العميل برودر .أغلقوا الباب؟!
صاح برودر بصوت أعلى" :د .سينسكي! هل تسمعينني؟! أغلقوا الباب اللعين!".
ّ
محق .ففي وجه وباء محتمل ،االحتواء لكن ذلك لم يكن ضرورياً .إذ عرفت سينسكي أنّه
كرر برودر تعليماتهّ ،ّ
هو الح ّل األفضل.
مدت سينسكي يدها تلقائيا ً وأمسكت بتميمتها القازوردية .التضحية بالقليل إلنقاذ الكثير .بتصميم كبير ،رفعت
القاسلكي إلى شفتيها" .حسناً ،سأعطي األمر بإغقاق الباب".
عندما كانت سينسكي على وشك االلتفات إلعطاء األمر بإغقاق المكان ،شعرت فجأة بجلبة بين الناس.
على مسافة غير بعيدة ،رأت امرأة ترتدي عباءة سوداء تركض مسرعة باتّجاهها ،وباتجاه الباب ،وهي تدفع
الناس الذين يعترضون طريقها.
عادت أنظار سينسكي إلى المرأة التي كانت تقترب بسرعة وهي تصيح للناس بشيء ما بالتركية .لم تكن سينسكي
تفهم اللغة التركية ،لكن نظرا ً إلى حالة الذعر التي كانت تنشرها بين الناس ،بدت كمن يصيح "حريق!" في
مسرح مكت ّ
ظ.
وهكذا ،ع ّم الذعر بين الحشود ،ولم تعد المرأة والنغدون وحدهما من يركض باتّجاه الدّرج ،بل الجميع.
عندما وصل النغدون إلى زاوية الدّرج ،رأى سينسكي في الوسط وهي تصعد إلى األعلى وتصيح طالبة إغقاق
الباب .اندفعت سيينّا في أعقابها ،تشق طريقها بعباءتها الثقيلة المبت ّلة.
راح النغدون يصعد الدّرج ك ّل ثقاث درجات معا ً ليلحق بسيينّا .رأى فوقه باب الخزان الثقيل المزدوج يُغلق ببطء
شديد.
أمسكت سيينّا بسينسكي ،وتمسّكت بها لتجاوزها وللوصول إلى الباب ،فتعثّرت سينسكي وسقطت على ركبتيها،
وارتطمت تميمتها بالدرجات اإلسمنتية وانكسرت إلى نصفين.
كانت سيينّا على بعد عدّة أقدام منه وحسب ،لكنّها سبقته إلى الباب الذي لم يكن ينغلق بسرعة كافية .وهكذا،
تم ّكنت سيينّا من االنزالق بجسدها النحيل عبر الفتحة الضيقة.
أن عباءتها علقت بين مصراعي الباب ،واستوقفتها على بعد لحظات من الحرية .حاول النغدون اإلمساك غير ّ
بها ،فشدّ العباءة إلى الخلف إليقافها ،لكنّها كافحت بجنون ،ووجد نفسه فجأة يمسك بين يديه كومة قماش مبتلة.
الشق الصغير سيينّا بروكس وهي تسرع في الشارع ،ورأسها األصلع يلمع تحت المصابيح.
ّ رأى النغدون عبر
كانت ترتدي سروال الجينز والقميص نفسيهما اللذين كانت ترتديهما طوال النهار .فجأة ،شعر النغدون بإحساس
عارم بالخيانة.
تعالت صيحات الرعب على الدّرج ،وتحول صوت الموسيقى إلى جلبة من األصوات المتنافرة .شعر النغدون
بضغط متزايد على ظهره ،وبألم في قفصه الصدري المضغوط على الباب.
فجأة ،فُتح مصراعا الباب عنوة ،واندفع النغدون في الليل كما تطير الفلّينة التي تسدّ زجاجة الشراب .تعثّر على
الرصيف ،وأوشك أن يسقط .خلفه ،تدفق بحر الناس من داخل األرض مثل النمل الهارب من وكر مسموم.
التفت النغدون وحدق إلى الشارع بحثا ً عن سيينّا ،غير أنّه لم ير سوى السيّارات واألضواء.
أخيراً ،لمح رأسا ً أصلع يلمع في الظقام ويختفي عند زاوية أحد المباني.
نظر خلفه بحثا ً عن أحد أعضاء الفريق أو الشرطة ،لكنّه لم يجد أيًّا منهم.
في األسفل ،في أعماق الخزان ،وقف العميل برودر بمفرده في الماء الذي غمره حتّى وسطه .كانت أصوات
الفوضى تتردد في الظقام في حين ّ
شق السياح والموسيقيون طريقهم نحو األعلى واختفوا على الدّرج.
أدرك مرعوبا ً ّ
أن الباب لم يُغلق .لقد فشلت تدابير االحتواء.
الفصل 94
ثوان
ٍ لم يكن النغدون عدّا ًء ،لكن سنوات من السباحة منحت ساقيه القوة .وصل إلى ناصية الشارع خقال
واستدار ،فوجد نفسه في جادة أكبر .فتش األرصفة بنظرة سريعة.
كان المطر قد توقّف ،ومن الزاوية التي يقف فيها استطاع أن يرى الشارع بإضاءته الساطعة .ما من مكان
لقاختباء.
توقّف النغدون ،ووضع يديه على وسطه ،وراح يتأمل الشارع وهو يلهث .كانت الحركة الوحيدة التي لفتت
انتباهه ناجمة عن إحدى حافقات اسطنبول الحديثة على بعد خمسين ياردة أمامه.
بدا األمر خطرا ً جداً .هل يُعقل أن تحتجز نفسها في حافلة وهي تعرف ّ
أن الجميع يبحثون عنها؟ لكن ،إن كانت
أن أحدا ً لم يرهاّ ،
ومرت الحافلة أمامها صدفة ،فمن الممكن أن تغتنم تلك الفرصة... تعتقد ّ
ربما.
اندفع النغدون نحو رجل عجوز يقف خارج أحد المطاعم تحت خيمة.
التفت الرجل إلى الحافلة وسكت للحظة ،ث ّم أجاب" :إنّها تتّجه نحو جسر غاالتا .تغادر المدينة القديمة ،وتعبر
الممر المائي".
صدر أنين عن النغدون ،وحاول مجددا ً البحث عن سيينّا ،لكنه لم يجد لها أثراً .وبدالً من ذلك ،سمع عويل
سيارات الشرطة مع اندفاعها من أمامه باتجاه الخزان.
نظر النغدون مجددا ً إلى الحافلة وعرف أنّه سيغامر؛ لكن ال خيار آخر لديه.
حارس عنده
ٌ أجاب" :كقا سيدي ،ث ّمة حالة طارئة وأحتاج إلى مساعدتك" .ثم أشار إلى الرصيف الذي أوقف
سيارة َ بينتلي فضية" .أهذه سيارتك؟".
"أجل ،لكن"-
طّ ،
لكن كارثة حدثت ،وهذه مسألة حياة أو موت". قال النغدون" :أحتاج إلى أن تقلّني .أعرف أنّنا لم نلتق ق ّ
اجتاز عددا ً من المباني قبل أن يصبح خلف الحافلة مباشرة .انحنى النغدون إلى األمام ،وحدّق من النافذة األمامية.
كانت األضواء خافتة في الداخل ،ولم ير سوى أشكال باهتة.
أخرج الرجل هاتفا ً خلويا ً من جيبه ،وأعطاه إيّاه ،قبل أن يدرك النغدون أنّه ال يعرف بمن يتّصل .لم يكن يملك
أرقام سينسكي أو برودر ،واالتّصال بمكاتب من ّ
ظمة الصحة العالمية في سويسرا سيستغرق وقتا ً طويقاً.
ي مكان في إسطنبول".
أجاب الرجل ،911" :من أ ّ
مطوالً .وأخيراً ،أجابه صوت مس ّجل بالتركية واإلنكليزية ورجاه أن اتصل النغدون بالرقم ،وانتظرّ .
رن الهاتف ّ
ينتظر؛ نظرا ً إلى ضغط المكالمات .تساءل النغدون ع ّما إذا كان سبب الضغط هو األزمة في الخزان.
كان القصر الغارق اآلن في حالة فوضى عارمة .تخيل برودر وهو يقف في الماء ،متسائقاً ع ّما اكتشفه هناك.
شعر أنّه يعرف ما جرى.
أمامهما ،توقفت الحافلة عند إحدى المحطات ،فتوقّف سائق البنتلي خلفها ،على بعد حوالى خمسين قدماً؛ األمر
الذي منح النغدون إمكانية رؤية الركاب وهم يصعدون وينـزلون .تر ّجل من الحافلة ثقاثة أشخاص فقط -كلّهم
رجال -فتأ ّملهم النغدون بعناية ،ال سيّما وأنّه يعرف مهارة سيينّا في التنكر.
فجأة رآها.
في الجزء الخلفي من الحافلة ،رأى كتفين نحيلتين يعلوهما رأس حليق.
مع انطقاق الحافلة مجدّداً ،انطفأت األضواء الداخلية .في ثانية خاطفة ،رأى الرأس األصلع يلتفت إلى الخلف قبل
أن يختفي في الظقام ،وينظر عبر نافذة الحافلة الخلفية.
انخفض النغدون على مقعده .هل رأتني؟ كان سائق البنتلي قد انطلق خلف الحافلة ّ
مرة أخرى.
انخفض الطريق اآلن نـزوالً باتجاه المياه ،ورأى النغدون أمامه أضواء جسر منخفض يمتد فوق الماء .بدا الجسر
مزدحما ً بالسيارات تماماً .في الواقع ،كانت المنطقة المحاذية له مكتظة بأكملها.
قال الرجل" :هذا بازار التوابل .إنّه منطقة شعبية جدّا ً في الليالي الممطرة".
أشار الرجل إلى الشاطئ .هنا ،ارتفع مبنى عا ٍل جدّا ً في ظ ّل أحد أجمل مساجد إسطنبول؛ المسجد الجديد -إن لم
يكن النغدون مخطئا ً -نظرا ً إلى مئذنتيه الشهيرتين .بدا بازار التوابل أكبر من معظم المراكز التجارية األميركية،
ورأى النغدون الناس يدخلون ويخرجون من بابه الضخم الذي تعلوه قنطرة قديمة.
رفع السماعة إلى أذنه" .نعم ،ألو! اسمي روبرت النغدون .أنا أعمل مع من ّ
ظمة الص ّحة العالمية .لديكم أزمة في
خزان المدينة ،وأنا أتعقب الشخص المسؤول .إنّها في حافلة بالقرب من بازار التوابل ،والحافلة متجهة إلى"-
مصابيح المكابح!
التفت السائق ،وتوقفت البنتلي فجأة خلف الحافلة مباشرة .أضيئت المصابيح الداخلية ،ورأى النغدون سيينّا
بوضوح تا ّم .كانت واقفة عند الباب الخلفي وهي تشدّ حبل التوقّف الطارئ تكراراً ،طالبة التر ّجل من الحافلة.
أن سيينّا رأت أيضا ً االزدحام على جسر غاالتا وخشيت أن يلحق بها.
أدرك النغدون أنّها رأته .ال شكّ في ّ
لكن سيينّا كانت قد نـزلت من الحافلة ،وأخذت تسرع هاربة في ظلمة الليل .فأعاد الهاتف إلى
فتح بابه بسرعةّ ،
صاحبه قائقاً" :أخبر الشرطة بما جرى ،واطلب منهم تطويق هذه المنطقة!"
ّ
هز الرجل رأسه بقلق واضح.
ث ّم اندفع خلف سيينّا التي كانت تتّجه مباشرة إلى بازار التوابل المكت ّ
ظ.
الفصل 95
يرجع تاريخ إنشاء بازار التوابل في إسطنبول إلى ثقاثمائة عام مضت ،وهو واحد من أكبر األسواق المغلقة في
ثمان وثمانين حجرة مقنطرة مقسّمة إلى مئات األكشاك ،يبيع
ٍ العالم .بني على شكل ،Lويتألف المج ّمع الكبير من
فيها التجار المحلّيون مجموعة مذهلة من األطايب من مختلف أنحاء العالم؛ من توابل ،وفاكهة ،وأعشاب،
والحلوى التركية التي تشتهر بها إسطنبول.
باب البازار عبارة عن قنطرة قوطية ضخمة ،ويقع عند تقاطع بازار تشيتشيك وشارع تاهميس ،ويقال إنّه يشهد
مرور أكثر من ثقاثمائة ألف زائر يوميّاً.
وصلت سيينّا إلى الباب ،واختلطت بالحشد .تسلّلت بين الناس ،وشقّت طريقها إلى الداخل .في اللحظة التي عبرت
فيها المدخل ،التفتت إلى الخلف ،فرأى النغدون في عينيها نظرة فتاة صغيرة مذعورة ...ويائسة.
صاح" :سيينّا!".
لحق بها النغدون بصعوبة ،إلى أن رآها إلى يسار الزقاق الغربـي للبازار.
رأى إلى جانبه سقاالً مليئة بالتوابل :الكاري الهندي ،والزعفران اإليراني ،والشاي الصيني؛ التي ش ّكلت بألوانها
نفقا ً من األصفر ،والبنّي ،والذهبـي .مع ك ّل خطوة ،ش ّم النغدون رائحة جديدة؛ رائحة الفطر ،والجذور ّ
المرة،
والزيوت المسكية؛ كلّها تفوح في الهواء مع كورس من األصوات يص ّم اآلذان من مختلف لغات العالم .كانت
النتيجة موجة عارمة من المحفّزات الحسية ...إزاء نهر من البشر.
آالف الناس.
ّ
ويشق طريقه إلى أعماق فجأة شعر النغدون باالختناق ،وأوشك على فقدان وعيه ،قبل أن يسيطر على نفسه،
البازار .رأى سيينّا أمامه تُبعد الناس من طريقها ّ
بقوة .من الواضح أنّها مص ّممة على الوصول إلى النهاية ...مهما
كلّفها ذلك.
هل يفعل ذلك لتحقيق العدالة؟ فنظرا ً إلى ما فعلته سيينّا ،ال يعرف النغدون العقاب الذي ينتظرها إن قُبض عليها.
أريد أجوبة.
على بعد عشر ياردات ،كانت سيينّا متو ّجهة إلى المخرج الغربـي للبازار .نظرت خلفها ّ
مرة أخرى ،وبدا عليها
الخوف لدى رؤيتها النغدون قريبا ً منها بهذا الشكل .وعندما التفتت مجدّدا ً إلى األمام ،تعثّرت وسقطت.
ارتطمت سيينّا بكتف شخص ما أمامها .وعندما سقطت ،مدّت يدها بحثا ً عن شيء ما تتمسّك به .لك ّنها لم تجد
سوى صندوق من الكستناء المج ّففة ،فتمسّكت به يائسة ،حيث سقط فوقها وتناثرت محتوياته على األرض.
احتاج النغدون إلى ثقاث خطوات ليصل إلى المكان الذي سقطت فيه .لكنّه لم يجد على األرض سوى الصندوق
المقلوب والكستناء .أ ّما سيينّا ،فلم يكن لها أ ّ
ي أثر.
أين ذهبت؟!
أخذ النغدون يدور في مكانه ،لك ّنها اختفت .وعندما وقع نظره على المخرج الغربـي على بعد خمس عشرة ياردة
أن سقوطها لم يكن حادثا ً عرضيًّا على اإلطقاق.
أمامه،عرف ّ
راح يركض باتّجاه المخرج ،ووجد نفسه عند ساحة ضخمة مزدحمة بالناس أيضاً .حدق إلى الساحة باحثا ً عنها
من دون جدوى.
أمامه مباشرة ،عند الطرف األقصى لطريق سريع متعدّد المسارات ،امتدّ جسر غقاتا فوق مياه القرن الذهبـي.
ارتفع إلى يمينه المسجد الجديد بمئذنتيه الجميلتين .وإلى يساره ،كانت الساحة ...مكت ّ
ظة بالناس.
سمع أصوات أبواق سيّارات أمامه؛ باتّجاه الطريق الذي يفصل بين الساحة والبحر .رأى سيينّا على بعد مائة
ياردة تركض بين السيّارات المسرعة ،وتفلت بصعوبة من بين شاحنتين .كانت متّجهة نحو البحر.
إلى يسار النغدون ،على شاطئ القرن الذهبـي ،كانت حركة السير ناشطة جدّاً؛ حافقات ،سيّارات أجرة ،مراكب.
انطلق النغدون بسرعة عبر الساحة باتجاه الطريق السريع .وعندما وصل ،قفز نحو الطريق السريع فيما كانت
أضواء السيّارات المقتربة ال تزال بعيدة عنه بعض الشيء ،وتم ّكن من عبور الطريق ّ
األول من بين عدة طرقات
سريعة متعدّدة االتّجاهات بأمان .خقال الثواني الخمس عشرة التالية ،تم ّكن من االنتقال من جهة إلى أخرى بين
السيّارات المسرعة واألبواق الغاضبة ،وهو يتقدم تارة ،ويتوقّف تارة أخرى؛ إلى أن وصل أخيرا ً إلى شاطئ
المكسو باألعشاب.
ّ البحر
مع أنّه كان ال يزال يراها ،إالّ أنّها أصبحت بعيدة عنه كثيراً .رآها تعبر موقف سيّارات األجرة والحافقات
وتتو ّجه إلى حوض السفن مباشرة .هناك ،رأى عددا ً كبيرا ً من المراكب التي تدخل وتخرج؛ بدءا ً من السفن
صة ،والمراكب السريعة .على صفحة المياه،السياحية ،ووصوالً إلى مراكب األجرة ،وزوارق الصيد الخا ّ
انعكست أضواء المدينة المشعّة في الشاطئ الغربـي للقرن الذهبـي .عرف أنّه في حال وصلت سيينّا إلى هناك،
فعلى األرجح لن يتمكن أبدا ً من إيجادها.
عندما وصل النغدون أخيرا ً إلى الواجهة البحرية ،التفت إلى اليسار ،واندفع على طول الممشى الخشبـي ،على
نحو فاجأ السياح الذين اصطفّوا بانتظار أدوارهم لتناول العشاء على متن أسطول من المراكب الجميلة المزينة
التي تلمع بفعل األضواء والزخرفات الذهبية.
رأى سيينّا أمامه .لم تعد تركض ،بل توقفت أمام أحد المراكب الخاصة ،وراحت تتكلم مع صاحبه.
أن سيينّا تمارس قدرتها على اإلقناع على شابّ وقف على متن مركبه مستعدًّا لقانطقاق .كان
عندما اقترب ،الحظ ّ
لكن صاحب المركب رفض بحزم، ً ّ
الشاب يبتسم بتهذيب وهو يهز رأسه رافضا ،فيما واصلت سيينّا كقامهاّ .
واستدار مستعدا ً للرحيل.
مع اقتراب الشاب ،ابتعدت سيينّا جانباً ،ث ّم أمسكت بمعصمه ،واستغلت اندفاعه إللقائه في البحر .بعد لحظات ،عام
الرجل على سطح الماء ،وهو يمطرها بسيل من الشتائم التركية.
لقد رحلت.
بجواره ،خرج صاحب المركب من الماء ،ث ّم انطلق مسرعا ً لقاتصال بالشرطة.
شعر النغدون بوحدة غريبة وهو يشاهد مصابيح المركب المسروق تختفي عن ناظريه شيئا ً فشيئاً .كذلك ،كان
المحرك يبتعد أيضاً.
ّ صوت
المحرك.
ّ تساءل النغدون ع ّما إذا كانت قد أطفأت
أن مصابيح المركب لم تعد تبتعد ،بل صارت تتأرجح بخفّة في مكانها بفعل األمواج .لسبب ما ،توقّفت
الحظ ّ
سيينّا.
المحرك الخفيف.
ّ أصغى جيّداً ،وتم ّكن من سماع هدير
انتظر النغدون.
المحرك للعمل بشيء من التردّد في البداية ،ومن ث ّم بحزم أكبر .ذُهل النغدون وهو يرى المركب
ّ فجأة ،عاد
يستدير متجها ً نحوه مجدّداً.
إ ّنها عائدة.
مع اقتراب المركب ،رأى النغدون سيينّا تقف أمام الدفّة ،محد ّقة إلى األمام بشرود .على بعد ثقاثين ياردة ،خفّفت
المحرك.
ّ للتو .بعد ذلك أطفأت
السرعة ،وأعادت المركب بأمان إلى الرصيف الذي غادرته ّ
خيّم الصمت.
الخزان ،وحد ّقت إلى الكهف الخالي .شعرت بضيق في صدرها ّ وقفت سينسكي عند أسفل الدرج المؤدّي إلى
تعرضت للفيروس على األرجح ،إالّ أنّها شعرت باالرتياح فيبسبب جهاز التنفس الذي كانت تضعه .مع أنّها ّ
البذلة الواقية وهي تدخل مع الفريق إلى ذلك المكان الكئيب .كانوا يرتدون بذالت بيضاء ويضعون خوذا ً عازلة،
رواد الفضاء في سفينة فضائية غريبة.
حيث بدوا أشبه بفريق من ّ
أن مئات الناس في األعلى يشعرون بالذعر ،وأن الكثيرين منهم خضعوا للعقاج بسبب اإلصابات عرفت سينسكي ّ
إن بعضهم غادروا المنطقة بأكملها .فشعرت أنّها محظوظة أل ّنها خرجت من هذه
التي نتجت عن تزاحمهم .حتى ّ
الحادثة برضّة في ساقها وتميمة مكسورة.
كان الباب في األعلى قد أوصد تماماً ،وأصبح تحت حراسة السلطات المحلّية .توقّعت سينسكي حدوث نـزاع
لكن هذا االحتمال زال تماما ً عندما رأى عناصر الشرطة فريق
حول السلطة مع وصول الشرطة المحليةّ ،
مزودين بمعدّات الوقاية ،وسمعوا تحذيرات سينسكي من احتمال وجود وباء.
المراقبة والدعم ّ
حدّقت مديرة من ّ
ظمة الص ّحة العالمية إلى غابة األعمدة وف ّكرت :إنّنا بمفردنا ،ال أحد يرغب في النـزول إلى هنا.
خلفها ،رأت عميلين يفرشان رقعة بولييوريثان ضخمة على أسفل الدرج ويثبّتانها على الجدار بواسطة الحرارة،
في حين وجد آخران مساحة مفتوحة على أحد المماشي الخشبية ،وبدآ بتثبيت مجموعة من المعدّات اإللكترونية،
وكأنّهما يستعدّان لتحليل مسرح جريمة.
ف ّكرت سينسكي :هذا بالضبط ما هو عليه هذا المكان؛ إنه مسرح جريمة.
لحق النغدون بسيينّا في ليل المدينة ،ولم تعرف سينسكي بعد ما ح ّل بهما.
وقف العميل برودر على الممشى الخشبـي ،محدّقا ً بشرود إلى رأس الميدوزا المقلوب ،ومتسائقاً عن الخطوة
التالية.
وحدهما سيي ّنا والنغدون كانا موجودَين في نقطة االنطقاق ،وهما اآلن في مكان ما في المدينة.
كان برودر يف ّكر في أمر آخر ش ّكل ثغرة في تسلسل األحداث؛ فهو لم يجد أثرا ً للكيس في الماء .لكن ،إن كانت
سيينّا قد ش ّقته بركله أو تمزيقه ،فقا بدّ أن يجد بقاياه في المكان.
شا ً
غير أنّه لم يجد شيئاً ،ك ّل آثاره اختفت .ومن غير المحتمل أن تكون سيينّا قد حملته معها؛ ألنّه أصبح اآلن ه ّ
جدّاً.
أن ث ّمة حلقة مفقودة ،لكنّه ر ّكز على استراتيجية احتواء جديدة تستلزم اإلجابة عن سؤال حيوي.
شعر ّ
وزعها أعضاء فريقه على المماشي على مسافات هذا ما ستجيب عنه أجهزة كشف الفيروس المحمولة التي ّ
متباعدة من البحيرة .ت َستخدِّم هذه األجهزة المعروفة بوحدات PCRما يس ّمى تفاعل البوليميراز المتسلسل ،لكشف
ي عدوى فيروسية. وجود أ ّ
ي حركة في المياه ،ونظرا ً إلى مرور وقت وجيز وحسب ،كان واثقا ً ّ
أن األجهزة تحلّى العميل باألمل .فمع غياب أ ّ
ستكشف عن منطقة عدوى ضيّقة نسبيّاً ،وسيقومون باحتوائها بالمواد الكيميائية المناسبة وبتقنية االمتصاص.
ّ
الموزعون في أنحاء الخزان باإليجاب. أشار العمقاء
انحنى المحلّلون وبدأوا بتشغيل أجهزتهم الفردية .أخذ ك ّل جهاز يحلّل عيّنة من نقطة مختلفة على مسافات متباعدة
من لوحة زوبريست المغمورة.
بدأت اآللة األكثر قربا ً من برودر تومض بضوء أحمر ،فتوتّرت عضقاته ،ونظر إلى اآللة التالية.
ك ّ
قا.
تردّدت الهمسات في أرجاء الكهف .رأى برودر مرعوبا ً كيف راحت األجهزة تومض باللون األحمر الواحد تلو
اآلخر.
نظرت إليه بعينين دامعتين وهي تقول" :أنا واثقة أنّك تكرهني".
قالت بصوت خافت" :أعرف ،أنا آسفة .كنت أحاول فعل الصواب".
"بنشر الوباء؟!".
بدا االرتباك في عيني سيينّا" .الكيس القابل للذوبان! ال أعرف ع ّما تتحدّث .روبرت ،لقد ذهبت إلى هناك للحؤول
دون انتشار فيروس بيرتراند ...لسرقته وإخفائه إلى األبد ...لكي ال يتمكن أحد من تحليله ،حتّى سينسكي
ظمة".والمن ّ
أخذت سيينّا نفسا ً طويقاً ثم قالت" :ث ّمة أمور كثيرة ال تعرفها ،لكن األوان فات اآلن .لقد تأخرنا كثيراً يا روبرت.
ي فرصة". لم نحصل على أ ّ
سيتحرر قبل يوم غد! هذا هو التاريخ الذي اختاره زوبريست ،ولو لم
ّ "بلى ،حصلنا فرصة! لم يكن الفيروس
تنـزلي إلى الماء"-
صاحت سيينّا" :روبرت ،أنا لم أح ّرر الوباء! عندما نـزلت إلى الماء كنت أحاول إيجاده ،لكن األوان فات .لم يعد
يوجد شيء هناك".
ّ
"لكن هذا قد "أعرف ،وال ألومك" .ومدّت يدها إلى جيبها وأخرجت منشورا ً رطباً ،وقدّمته لقانغدون مضيفة:
يساعد ،وجدته قبل أن أنـزل إلى البحيرة".
تناول الورقة وفتحها .كانت تتضمن برنامج الحفلة الممتدّ على سبعة أيام.
وأول حفلة من الحفقات السبع قرأ النغدون التواريخ تكراراً .لسبب ما ،اعتقد ّ
أن هذه الليلة كانت ليلة االفتتاحّ ،
لكن هذا المنشور يروي قصة مختلفة.التي تهدف إلى إغراء الناس بدخول الخزان الموبوءّ .
هزت سيينّا رأسها" :فوجئت مثلك .لقد انتشر الوباء يا روبرت .مضى أسبوع على ذلك".
قال" :هذا غير ممكن .غدا ً هو التاريخ .صنع زوبريست لوحة نقش عليها تاريخ الغد".
"أجل ،رأيتها في الماء".
تن ّهدت سيينّا قائلة" :روبرت ،أنا أعرف بيرتراند جيداً؛ أكثر م ّما اعترفت لك به .لقد كان عا ِّلماً .أصبحت اآلن
المدون على اللوحة ليس تاريخ إطقاق الوباء ،بل تاريخ شيء آخر؛ شيء أكثر أهمية بالنسبة ّ أن التاريخ أعرف ّ
إلى تحقيقه هدفه".
"وما هو؟".
"إنّه تاريخ اإلشباع العالمي ،أي تاريخ انتشار الفيروس في أنحاء العالم كافة ...وانتقال العدوى إلى جميع الناس".
شعر النغدون بالذعر بسبب تلك الفكرة ،لكنه مع ذلك اشتبه في أنّها تكذب .إذ كانت قصتها تحتوي على ثغرة
كبيرة ،وقد أثبتت سيينّا براعتها في الكذب.
حدّق إليها وقال" :ث ّمة مشكلة واحدة سيينّا .إن كان الوباء قد سبق له أن انتشر في جميع أنحاء العالم ،فلماذا لم
يمرض أحد حتّى اآلن؟".
ّ
"ألن "...توقفت الكلمات في حلقها" .بيرتراند لم يصنع وباء" .وامتألت عيناها بالدموع التفتت إليه مجددا ً ببطء.
مجدّداً" :بل شيئا ً أكثر خطورة بكثير".
الفصل 98
على الرغم من األوكسيجين الذي عبر في جهاز التنفّس ،شعرت إليزابيث سينسكي بالدوارّ .
مرت خمس دقائق
منذ أن كشفت األجهزة النقاب عن الحقيقة المرعبة.
أن الكيس ذاب في األسبوع الماضي ،على األرجح في ليلة االفتتاح التي علمت سينسكي أنّها كانت من الواضح ّ
تختف البقايا القليلة من الكيس ألنها غلّفت بمادة الصقة لتثبيت الكيس بالخيط.
ِّ ولم منذ سبعة أيام.
ي إمكانية لعزل الفيروس ،انكبّ العمقاء على تحليل العيّنات في المختبر المؤقت الذي أقيم في
اآلن ،وبغياب أ ّ
صل األجهزة سوى إلى حقيقة مؤ ّكدة واحدة لم تفاجئ أحداً.
الخزان .حتّى تلك اللحظة ،لم تتو ّ
خقافا ً للبكتيريا أو العدوى الكيميائية ،ينتشر الفيروس بين الناس بسرعة مذهلة .فالفيروسات طفيليات بسلوكها،
ي وتعلق على الخلية المضيفة في عملية تسمى االمتزاز أو االمتصاص الكيميائي .بعد ذلك، تدخل جسد الكائن الح ّ
تقوم بحقن الحمض النووي أو الحمض الريبـي النووي الخاص بها في تلك الخلية ،وتجنّد الخلية التي اجتاحتها ،ث ّم
مرات .وعندما يصبح عدد النسخ كافياً ،تقوم جزيئات الفيروس الجديدة بقتل تجبرها على استنساخ الفيروس عدّة ّ
الخلية واختراق جدارها ،ث ّم تسرع للعثور على خقايا جديدة مضيفة تهاجمها ،وهكذا تتكرر العمليّة.
بعد ذلك ،يزفر المصاب بالعدوى أو يعطس ،مرسقاً رذاذا ً تنفسيا ً من جسده ،فتبقى هذه ّ
الذرات معلقة في الهواء
إلى أن يتنشقها مضيفون آخرون للفيروس ،وهكذا تبدأ العمليّة مجدّداً.
ف ّكرت سينسكي وهي تتذ ّكر الرسوم البيانية التي عرضها عليها زوبريست ،والتي توضح االنفجار السكاني :هذا
هو النمو األسّي .يستخدم زوبريست النمو المتسارع للفيروسات لمكافحة النمو المتسارع للسكان.
غير ّ
أن السؤال المل ّح اآلن هو ما سيكون عليه سلوك الفيروس.
يعمل فيروس إيبوال على إضعاف قدرة الدم على التخثّر ،م ّما يؤدي إلى نـزيف متواصل .ويتسبّب فيروس هانتا
بفشل رئوي ،في حين تؤدّي مجموعة كاملة من الفيروسات المعروفة باسم الفيروسات الورمية إلى اإلصابة
بمرض السرطان .أ ّما فيروس نقص المناعة البشرية فيهاجم الجهاز المناعي ،مسبّبا ً مرض األيدز .وال يخفى على
أحد في المجتمع الطبـي أنّه لو كان فيروس نقص المناعة البشرية ينتقل في الهواء ،ألدّى ذلك إلى انقراض الجنس
البشري بكامله.
أيّا ً تكن أعراضه ،من الواضح أنّها تستغرق وقتا ً للظهور ...فالمستشفيات المجاورة لم تبلغ حتّى اآلن عن مرضى
يعانون من أعراض غير عادية.
ذهبت سينسكي إلى المختبر طلبا ً إلجابات عن تساؤالتها .رأت برودر واقفا ً قرب الدرج ،بعد أن وجد إشارة
هاتفية ضعيفة .كان يتحدّث مع شخص ما بصوت منخفض.
أسرعت إليه ،ووصلت في الوقت الذي كان ينهي فيه مكالمته.
سرية هذهتراوحت مقامح برودر بين عدم التصديق والرعب وهو يقول" :حسناً ،فهمت .مجدّداً ،أشدّد على ّ
المعلومات .ال أريد أن يراها أحد غيرك في هذه المرحلة .اتصل بـي عندما تعرف المزيد ،شكراً" .ث ّم أنهى
االتصال.
أجابها" :اضطررت إلى ذلك .الشخص الذي اتصلت به سيتكتّم على الموضوع ،فنحن بحاجة إلى معلومات أفضل
من تلك التي سيوفرها لنا هذا المختبر".
نظرت سينسكي إلى العمقاء الذين يأخذون عيّنات من الماء ويحلّلونها بواسطة األجهزة اإللكترونية المحمولة .إ ّنه
ّ
محق.
تابع برودر" :ذلك العا ِّلم موجود في مختبر لألحياء المجهرية مج ّهز بالكامل ،وقد أ ّكد لي وجود فيروس مع ٍد
للغاية ،ولم يسبق له أن رآه".
لم تقل سيينّا شيئا ً منذ أن غادرت المركب وأشارت إلى النغدون ليتبعها بعيداً عن حوض السفن ،على طريق
هادئ مرصوف بالحصى؛ بعيدا ً عن المياه وأعين الناس.
لكن النغدون شعر بانفعاالت عديدة تعصف داخلها .سمع صفّارات اإلنذار
كانت سيينّا قد توقفت عن البكاءّ ،
أن سيي ّنا قد الحظتها .كانت تحدّق إلى األرض بشرود ،وهي تسمع وقع خطواتهما تنطلق بعيداًْ ،
لكن ال يبدو ّ
المنتظمة على الحصى.
دخقا حديقة صغيرة ،وقادته سيينّا نحو مجموعة كثيفة من األشجار عزَ لتهما عن العالم .جلسا على مقعد يط ّل على
الماء .على الشاطئ المقابل ،تألأل برج غاالتا فوق المباني السكنية الهادئة المنتشرة على سفح التلّ .بدا العالم
مسالما ً جدّا ً من هنا ،ومختلفا ً جدّا ً ع ّما يجري في الخزان .توقع النغدون أن تكون سينسكي وأعضاء فريقها قد
أدركوا أنّهم وصلوا إليقاف الوباء متأ ّخرين.
ي ّأوالً أن
ي وقت كافٍ روبرت .قريبا ً ستجدني السلطات .لكن ،عل ّ
بجانبه ،حدّقت سيينّا إلى البحر .قالت" :ليس لد ّ
أخبرك بالحقيقة ...كاملة".
ّ
هز النغدون رأسه بصمت.
مسحت سيينّا دموعها ،والتفتت نحوه .قالت" :كان بيرتراند زوبريست ...حبّي ّ
األول ،ث ّم أصبح أستاذي".
فوجئت ،لك ّنها تابعت حديثها ،وكأنّها تخشى أن تفقد شجاعتها" .كنت في ّ
سن يافعة ،فسحرتني أفكاره .كان
لكن أحداً ً
وأن نهاية مرعبة ووشيكة جدّا تنتظرناّ ،
أن الجنس البشري على شفير االنهيارّ ... بيرتراند مثلي ،يعتقد ّ
ال يجرؤ على تقبّل ذلك".
"قضيتُ طفولتي بأكملها وأنا أرغب في إنقاذ العالم .لكنّني لم أكن أسمع سوى عبارة واحدة :ال يمكنك إنقاذ العالم،
لذلك ال تض ّحي بسعادتك وأنت تحاولين القيام بذلك" .سكتت ،وقاومت دموعها قبل أن تتابع" :ث ّم التقيت بيرتراند
أن إنقاذ العالم أمر ممكن فحسب ...بل يعتبر ذلك واجبا ً أخقاقياً .ع ّرفني
الذي كان رجقاً وسيما ً والمعاً ،ال يعتقد ّ
على دائرة كاملة من األشخاص الذين يف ّكرون بالطريقة نفسها ،ويتمتعون بالذكاء وبقدرات ذهنية هائلة ...إنهم
للمرة األولى في حياتي ،لم أعد حينها أشعر أنّني وحيدة روبرت". أشخاص قادرون فعقاً على تغيير المستقبلّ .
تابعت سيينّا بصوت يزداد انفعاالً" :لقد عانيت من أمور فظيعة في حياتي؛ أمور كان من الصعب عل ّ
ي
ومررت يدها المرتجفة على رأسها ،قبل أن تسيطر على نفسها وتلتفت إليه مجدّداً.
تجاوزها "...أشاحت بنظرها ّ
إن الشيء الوحيد الذي ساعدني على االستمرار هو اعتقادي أنّنا قادرون على أن نكون
"ربّما لهذا السببّ ،
أفضل ...على اتّخاذ إجراء لتجنّب مستقبل كارثي".
"بالتأكيد .كان لدى بيرتراند أمل ال حدود له في الجنس البشري .كان يعتقد أنّنا نعيش على شفير عصر متألق لما
تحول حقيقي .كان لديه عقل مستقبلي ،وعينان تريان على مدى بعيد؛ على نحو يعجز بعد البشرية ،وهي حقبة ّ
عنه كثيرون .لقد فهم القوى الهائلة للتكنولوجيا ،واعتقد أنّه بعد بضعة أجيال ،سيصبح جنسنا مخلوقا ً مختلفا ً تماماً؛
وقوة وتعاطفاًّ .
لكن المشكلة الوحيدة هي أنّنا لن نعيش بما فيه الكفاية لتحقيق محسّنا ً جينيا ً ليكون أكثر ص ّحة وذكاء ّ
ذلك".
هزت رأسها موافقة" .كارثة مالتوس .كان بيرتراند يقول لي إنّه يشعر وكأنّه سان جورج الذي يحاول ذبح وحش ّ
من العالم السفلي".
"مجازياً ،أجل .الميدوزا وفئة كاملة من كائنات العالم السفلي التي تعيش تحت األرض أل ّنها على صلة مباشرة
بأ ّمنا األرض .على الصعيد الرمزي ،غالبا ً ما ترمز وحوش العالم السفلي إلى"-
قالت سيينّا" :أجل ،الخصوبة .استخدم بيرتراند عبارة وحش العالم السفلي لإلشارة إلى التهديد الذي يتربّص
بخصوبتنا .وصف تكاثرنا بأنّه وحش يلوح في األفق ...وحش علينا احتواؤه على الفور ،قبل أن يقضي علينا
كلّنا".
أدرك النغدون؛ رجولتنا تهدّدنا .إ ّنها الوحش الذي يتربّص بنا" .وكيف حارب بيرتراند هذا الوحش؟".
قالت بنبرة دفاعية" :افهم أرجوك ،هذه المشاكل ال يسهل حلّها .فاالنتقاء يكون دائما ً عمليّة فوضوية .الرجل الذي
يقطع ساق طفل في الثالثة من عمره مجرم رهيب ...لكن ،إن كان ذلك الرجل طبيبا ً يحاول إنقاذ حياة الطفل
المرين .وأعتقد ّ
أن المصاب بالغرغرينا ...فعندها يختلف األمر .في بعض األحيان ،يكون الخيار هو أحلى ّ
لكن وسائله "...ونظرت بعيداً ،وهي على وشك االنهيار. بيرتراند كان لديه هدف نبيلّ ...
همس النغدون بلطف" :سيينّا ،أريد أن أفهم ك ّل هذا .أريد أن تشرحي لي ما فعله بيرتراند .ما الذي نشره في
العالم؟".
نظرت إليه سيينّا ،وبدا في عينيها البنّيتين خوف واضح .همست" :لقد أطلق فيروساً؛ نوعا ً محدّداً جدّاً من
الفيروسات في الواقع".
"ابتكر بيرتراند شيئا ً يُعرف باسم ناقل فيروسي .إنّه فيروس مص ّمم إلدخال معلومات جينية إلى الخلية التي
يهاجمها" .سكتت لتسمح له باستيعاب الفكرة" .عوضا ً عن قتل الخلية المضيفة ...يقوم الفيروس الناقل ...بإدخال
حمض نووي محدّد مسبقا ً إلى تلك الخلية ،حيث يعدّل جينوم الخلية".
كافح النغدون ليفهم معنى كقامها .هذا الفيروس يعدّل حمضنا النووي؟
تسرب هذا الفيروس إلى مياه الخزان بدأت سلسلة منأغمضت سيينّا عينيها للحظة ،ث ّم همست" :روبرت ،عندما ّ
ً
شق الهواء أصيب بالفيروس .أصبح مضيفا له ...وتواطأ من دون أن يعرف التفاعقات .ك ّل من نـزل إلى هناك وتن ّ
لنقل الفيروس إلى اآلخرين؛ مسبّبا ً انتشارا ً متسارعا ً للمرض الذي امتدّ ليصل إلى جميع أنحاء الكرة األرضية
اآلن ،وانتشر كالنار في الهشيم .اآلن ،أصبح جميع س ّكان الكرة األرضية حاملين للفيروس ،أنت ،أنا ...الجميع".
كرر سؤاله" :وما الذي يفعله بنا؟".
نهض النغدون عن مقعده ،وبدأ يمشي أمامها بعصبيةّ .
صمتت سيينّا لمدّة طويلة" .الفيروس يجعل الجسد البشري ...عقيماً .لقد ابتكر بيرتراند وباء عقم".
صعق النغدون .فيروس يسبّب لنا العقم! عرف أنّه ث ّمة فيروسات يمكن أن تسبّب العقم ،لكنّه لم يتخيّل وجود
ُ
ّ ً
فيروس ينتقل عبر الهواء ويستطيع فعل ذلك من خقال التعديل وراثيا ...بدت له هذه الفكرة وكأنها تنتمي إلى عالم
آخر؛ مستقبل غريب ومرير.
قالت سيينّا" :غالبا ً ما حلم بيرتراند بوجود فيروس كهذا ،لكنّني لم أتخيل أن يحاول اختراعه ...أو أن ينجح في
صدمت .حاولت يائسة ثنيه عن فعل ذلك ،والتوسّل إليه لتدميرذلك .عندما وصلتني رسالته وعلمت بما قام بهُ ،
اختراعه ،لكنّني وصلت متأ ّخرة".
قال النغدون بعد أن تم ّكن من الكقام أخيراً" :مهقاً ،إن كان الفيروس يسبّب العقم لجميع الناس فلن تكون هناك
أجيال جديدة ،وسيبدأ الجنس البشري باالنقراض ...على الفور".
لكن االنقراض ليس هدف بيرتراند ،بل العكس تماماً .لذلك ابتكر فيروسا ً يعمل بشكل أجابته" :هذا صحيحّ .
ّ
عشوائي .فعلى الرغم من توطن فيروس إنفيرنو في الحمض النووي لدى جميع البشر ،وانتقاله من جيل إلى جيل،
إالّ أنّه لن يكون ناشطا ً سوى لدى نسبة من الس ّكان .بكلمات أخرى ،ك ّل من على هذه األرض يحملون الفيروس
اآلن ،لكنّه لن يسبّب العقم سوى لجزء ت ّم اختياره عشوائياً".
ي ...جزء؟".
سألها النغدون وهو ال يصدق" :أ ّ
"كما تعلم ،كان بيرتراند ير ّكز كثيرا ً على الموت األسود؛ الطاعون الذي قتل من دون تمييز ثلث سكان أوروبا.
برأيه ،الطبيعة تعرف كيف تط ّهر نفسها .عندما أجرى بيرتراند حساباته على العقم ،د ُهش عندما اكتشف أن معدّل
وفيات الطاعون -أي واحد من ثقاثة -هو النسبة المطلوبة تماما ً لبدء غربلة الس ّكان بمعدل يمكن التح ّكم به".
ف ّكر النغدون في ّ
سره :هذا وحشي.
"خفض الموت األسود عدد الس ّكان ،وم ّهد الطريق أمام عصر النهضة .وبيرتراند ابتكر فيروس إنفيرنو كحافز
أن المصابين بالمرض لن يموتوا ،بل معاصر للتجدّد العالمي؛ إنّه موت أسود ما وراء إنساني ،والفرق هو ّ
سيصبحون عُقماء بك ّل بساطة .إن انتشر فيروس بيرتراند كما يتوقع له أن يفعل ،فيصاب ثلث سكان العالم
بالعقم ...وسيظلّون عُقماء طوال حياتهم .وهكذا ،سيكون األثر مماثقاً للجينة المنحسرة ...التي تنتقل إلى األبناء
لكنّها ال تمارس تأثيرها سوى على نسبة صغيرة منهم".
ارتجفت يدا سيينّا وهي تتابع" :في رسالة بيرتراند لي ،بدا فخورا ً بنفسه وهو يقول إنّه يعتبر إنفيرنو حقاًّ أنيقا ً
أن هذه أقر ّ وإنسانيا ً جدّا ً للمشكلة" .دمعت عيناها مجدّداً ،فمسحتهما وتابعت" :مقارنة بأعراض الموت األسودّ ،
ظ بالمرضى والمحتضرين ،ولن تتعفّن الجثث في المقاربة تتّسم بشيء من التعاطف .فالمستشفيات لن تكت ّ
أن الناس سيتوقّفون عن إنجاب الكثير من الشوارع ،ولن يحزن األحياء على فراق أحبّائهم .ك ّل ما سيحدث هو ّ
مطردا ً في نسبة الوالدات؛ إلى أن تبدأ أعدادنا باالنخفاض" .صمتت ث ّم أضافت: األطفال .سيشهد كوكبنا انخفاضا ً ّ
"سيكون األثر أكبر من أثر الطاعون الذي اقتصر على خفض أعدادنا لمدّة وجيزة؛ مؤدّيا ً إلى انخفاض مؤقّت في
طط الزيادة السكانية .مع إنفيرنو ،ابتكر بيرتراند حقاًّ طويل األمد؛ حقاًّ دائماً ...حقاًّ ما وراء إنساني .كان مخ ّ
مهندسا ً جينيا ً للسقالة الجرثومية .لقد ح ّل المشكلة من جذورها".
همس النغدون" :هذا إرهاب جيني ...إنّه يغيّر ما نحن عليه وما كنّا عليه من الجذور".
لقد أعاد زوبريست تصميم جنسنا ...حاول إنقاذنا عبر تحويلنا إلى بشر أق ّل خصوبة.
أخذ النغدون نفسا ً عميقا ً وحدّق إلى البوسفور .شعر أنّه يتأرجح مثل الزوارق التي تبحر بعيداً .كانت صفّارات
فأحس ّ
أن الوقت ينفد. ّ اإلنذار تقترب؛ آتية باتّجاه الرصيف،
قالت سيينّا" :أفظع ما في األمر ليس العقم الذي يسببه إنفيرنو بل قدرته على فعل ذلك .فالناقل الفيروسي الذي
ينتقل عبر الهواء يش ّكل قفزة نوعية عبر الزمن .لقد نقلَنا زوبريست فجأة من عصور الظقام في مجال الهندسة
التطور ،ومنح الجنس البشري القدرة على إعادة تعريفّ الجينية ،وأطلقَنا في المستقبل مباشرة .فقد فتح عمليّة
ي من القمقم ،ومن المستحيل إعادته .صنع بيرتراند مفاتيح تعديل العرق البشري ...وإن نوعنا .لقد خرج الجن ّ
وقعت هذه المفاتيح في األيادي الخاطئة ،كان هللا في عوننا .لم يكن ينبغي ابتكار هذه التكنولوجيا من األساس.
لذلك ،عندما قرأت رسالة بيرتراند التي شرح لي فيها كيف حقّق أهدافه ،قمت بإحراقها ،ث ّم قررت العثور على
الفيروس وتدمير ك ّل أثر له".
قال النغدون بصوت مشوب بالغضب" :ال أفهم ،إن كنت تريدين تدمير الفيروس ،فلماذا لم تتعاوني مع د.
ّ
ومنظمة الص ّحة العالمية؟! كان عليك االتصال بمركز مكافحة األمراض أو بخبير ما". سينسكي
"هل أنت جادّ؟! الوكاالت الحكومية هي آخر الكيانات التي يجب أن تضع يدها على هذه التكنولوجيا! ف ّكر في
األمر ،روبرت .في التاريخ البشري ،ك ّل تكنولوجيا متطورة اكتشفها العلم تحولت إلى سقاح؛ بدءا ً من النار،
ووصوالً إلى القوة النووية ،وكانت دائما ً بين أيادي الحكومات .ما مصدر أسلحتنا البيولوجية برأيك؟ لقد نتجت
ظمة الص ّحة العالمية ومركز مكافحة األمراض .وتكنولوجيا بيرتراند -أي عن أبحاث أجريت في منظمات مثل من ّ
الفيروس الوبائي المستخدم كناقل جيني -أقوى سقاح ابتُكر على وجه األرض .فهو يم ّهد الطريق لفظائع ال يمكن
تخيلها ،بما في ذلك األسلحة البيولوجية المستهدفة .تخيّل وباء يهاجم فقط األشخاص الذين يحتوي رمزهم الجيني
على عقامات عرقية معينة .إنّه يتيح إمكانية التطهير العرقي على المستوى الجيني!".
"أنا أتف ّهم مخاوفك سيينّا .لكن ،أال يمكن استخدام هذه التكنولوجيا ألهداف خيّرة أيضاً؟ أليس هذا االكتشاف عظيما ً
بالنسبة إلى الطبّ الجيني؟ أال يشكل طريقة جديدة إلعطاء تلقيحات عالمية مثقاً؟".
من بعيد ،سمع النغدون صوت طائرة مروحية تحلّق في الهواء .نظر عبر األشجار إلى الخلف ،باتجاه بازار
التوابل ،ورأى مصابيح طائرة تحوم فوق الت ّل متو ّجهة نحو حوض السفن .بدا التوتّر على سيينّا التي قالت وهي
ي الذهاب .أعتقد أنّني أستطيع عبور الجسر سيرا ً على األقدام،
تقف وتنظر نحو الغرب باتجاه جسر أتاتورك" :عل ّ
ومن هناك ،سأذهب إلى"-
"روبرت ،عدت ألنّني شعرت أنّني أدين لك بتفسير .وها قد حصلتَ عليه".
ي خيار آخر؟ بدت سيينّا وكأنّها تتقلّص أمامه .سألته وهي تشاهد الطائرة المروحية ّ
تمر فوق الماء" :وهل لد ّ
ي".
سيز ّجون بـي في السجن إن عثروا عل ّ
ت لم تفعلي شيئا ً خاطئا ً سيينّا .لست أنت من صنع هذا الفيروس ...ولس ِّ
ت من أطلقه". "أن ِّ
"صحيح .لكنّني بذلت ما في وسعي لمنع من ّ
ظمة الص ّحة العالمية من إيجاده .إن لم ينت ِّه بـي األمر في سجن تركي،
فسأواجه محكمة دولية بتهمة اإلرهاب البيولوجي".
مع اقتراب هدير الطائرة ،نظر النغدون إلى الرصيف .كانت الطائرة تحوم هناك ،مسلّطة أضواء مصابيحها على
الزوارق.
ي رجاء ،أنا أعرف أنّك عانيت الكثير ،وأنّك خائفة ،لكن ف ّكري بالصورةقال النغدون بنبرة لطيفة" :أصغي إل ّ
الكبيرة .بيرتراند هو من صنع هذا الوباء ،وأنت حاولت إيقافه".
"صحيح ،واآلن انتشر الفيروس .سيحتاج المجتمعان العلمي والطبّي إلى فهم ك ّل شيء عنه ،وأنت الشخص
الوحيد المؤ ّهل لفعل ذلك .ربّما كانت ث ّمة طريقة إلبطاله ...أو لقاستعداد لمواجهته" .و ّجه إليها النغدون نظرات
حادّة مضيفاً" :سيينّا ،العالم يحتاج إلى معرفة ما تعرفينه ،وال يمكنك االختفاء ببساطة".
تقدّم منها روبرت وأحاطها بذراعيه .شعر بجسدها يرتجف ،كما شعر بضعفها .همس بصوت منخفض" :سيينّا،
لن أسمح لك بالهرب .عليك أن تبدئي عاجقاً أم آجقاً بالوثوق بشخص ما".
أخذت تنتحب قائلة" :ال أستطيع ...لم أعد أعرف كيف أفعل ذلك".
أمرهم الطيار وهو يتّجه نحو الباب" :ابقيا جالسين على مقاعديكما ،إنّهم رجال الشرطة التركية .لقد توقفوا ّ
للتو
خارج الطائرة".
هز الطيّار رأسه نافياً" .سيّدي ،هذه الطائرة متوقّفة في مطار تركي ،وإلى أن تغادر األجواء التركية ينبغي لها أن
ّ
تخضع لقوانين هذا البلد" .بعد ذلك ،تو ّجه الطيّار إلى باب الطائرة وفتحه.
أعطى الضابط الطيار ورقتين" .هاتان مذ ّكرتا اعتقال .يجب أن يأتي هذان المسافران معنا".
قال العميد للطيّار" :اتّصل بدكتور سينسكي ،نحن في مه ّمة دولية عاجلة".
نظر أحد الضابطين إلى العميد وقال ساخراً" :د .إليزابيث سينسكي؟! مديرة ّ
منظمة الص ّحة العالمية؟ هي التي
أمرت باعتقالكما".
أجاب العميد" :هذا مستحيل .لقد أتينا أنا والسيّد فيريس إلى تركيا لمساعدة د .سينسكي".
قال الضابط الثاني" :إذاً ،لقد أحسنتما فعقاً .اتّصلت بنا د .سينسكي ،وأبلغتنا أ ّنكما متواطئان في مؤامرة إرهابية
بيولوجية على األراضي التركية" .ث ّم أخرج األصفاد مضيفاً" :ستأتيان معنا إلى مركز الشرطة لقاستجواب".
بعد ثقاثين ثانية ،وجد نفسه هو وفيريس مكبّلَين باألصفاد ،وقد ت ّم اقتيادهما إلى خارج الطائرة ،ودفعهما للجلوس
على المقعد الخلفي لسيارة سيدان سوداء .انطلقت السيّارة على المدرج مبتعدة ،ومتجهة نحو زاوية بعيدة من
المطار .وهناك توقفت عند سياج سبق لها أن اخترقته عندما دخلت أرض المطار .ما إن عبرت السيّارة من فتحة
المخربة وتوقفت قرب مبنى قديم للخدمة.
ّ صصة آلليات المطار في السياج ،حتّى انطلقت عبر مساحة مخ ّ
أن أحداً ال يتبعهم ،خلعا ز ّ
ي الشرطة ورميا تر ّجل الضابطان من السيّارة وراقبا المنطقة .وعندما اطمأنّا إلى ّ
الثياب جانباً ،ث ّم ساعدا فيريس والعميد على التر ّجل من السيّارة ،ونـزعا األصفاد من أيديهما.
قال أحد العميلين مشيرا ً إلى فان أبيض مركون في الجوار" :مفاتيح السيّارة موجودة تحت ّ
الدواسة .ث ّمة حقيبة
على المقعد الخلفي تحتوي على ك ّل ما طلبته؛ فيها وثائق سفر ،ومبالغ نقدية ،وهواتف مسبقة الدفع ،ومقابس،
فضقاً عن بعض األغراض األخرى التي رأينا أنّكما قد تحتاجان إليها".
ما كانت سينسكي لتسمح لي بالذهاب مطلقاً .هذا ما ف ّكر فيه العميد واستعدّ له في أثناء رحلته إلى إسطنبول .لذا،
أرسال رسالة إلكترونية إلى الفرع المحلّي للكونسورتيوم ،وأشار إلى أنّه قد يحتاج هو وفيريس إلى المساعدة على
الفرار.
صعد الرجقان إلى الفان األبيض ،وبحث العميد بين محتويات الحقيبة لقاطمئنان إلى وجود الوثائق المطلوبة.
أخرج قبّعة بايسبول ووضعها على رأسه ،ث ّم وجد زجاجة شراب صغيرة.
رمق العميد زجاجة الشراب ،وف ّكر في االنتظار حتّى الغد .لكنّه تذ ّكر كيس زوبريست ،وتساءل ع ّما سيكون عليه
الغد.
أن األيّام القادمة ستطغى عليها أخبار كارثة أدّى فيها دوراً ها ّما ً جدّاً .ما كان
شعر العميد بالضياع وهو يفكر في ّ
لهذا األمر أن يحدث لوالي.
ي حال.
استمتِّع ،فأيّامك معدودة على أ ّ
فجأة ،أضاءت الظقام مصابيح زرقاء ،وأحاطت بهما سيّارات الشرطة من ك ّل حدب وصوب.
مفر منهم.
ال ّ
مع اقتراب ضبّاط الشرطة التركية من الفان شاهرين أسلحتهم ،أخذ العميد جرعة أخيرة من شرابه ،ث ّم رفع يديه
فوق رأسه.
المرة ،عرف تماما ً ّ
أن ضبّاط الشرطة ليسوا من رجاله. هذه ّ
الفصل 111
مقر السفارة السويسرية في وان ليفينت بقازا ،في ناطحة سحاب عصرية للغاية .ويش ّكل المبنى المقعّر يقع ّ
بواجهته الزجاجية الزرقاء بناء مستقبلي الطراز في أفق المدينة القديمة.
حدّقت سينسكي من النافذة إلى أضواء المدينة ،وشعرت بوحدة بالغة .مدّت يدها تلقائيا ً إلى عنقها باحثة عن
تميمتها ،لكنّها لم تجدها .كانت اآلن موضوعة على مكتبها وقد انقسمت إلى نصفين.
للتو تنسيق سلسلة من االجتماعات الطارئة التي ستعقد في جنيف في الساعات أنهت مديرة من ّ
ظمة الص ّحة العالمية ّ
ّ
المقبلة .كان عدد من الوكاالت في طريقه إلى هناك اآلن ،وخططت سينسكي للسفر إلى هناك خقال وقت قصير
من أجل إطقاعهم بنفسها على تفاصيل ما جرى .لحسن الحظ ،قام أحد الموظفين الليليين بإحضار كوب كبير من
القهوة التركية لها ،وسرعان ما أتت عليه.
أط ّل شابّ من باب مكتبها المفتوح" .سيّدتي ،لقد أتى روبرت النغدون لرؤيتك".
دخل النغدون ،لكنّها بالكاد عرفته .كانت مقابسه متّسخة ،وشعره مشعّثاً ،وعيناه متعبتين وغائرتين.
صلنا إلى هذا االستنتاج .لم تس ّجل أعراض حتى اآلن ،لكنّنا أخذنا عيّنات وبدأنا بإجراء ّ
هزت رأسها" .أجل ،تو ّ
ّ
فحوصات مكثفة عليها .مع األسف ،سنحتاج إلى أيّام أو أسابيع لنفهم ماهيّة هذا الفيروس ...وما قد يسبّبه للبشر".
"ابتكر زوبريست فيروسا ً ينتقل عبر الهواء ،إنّه فيروس قادر على تعديل الحمض النووي البشري".
وقفت فجأة ،وسقط كرسيّها في أثناء ذلك" .مستحيل! ما الذي يدفعك إلى هذا االعتقاد؟".
استندت سينسكي بيديها على المكتب ،وحدّقت إلى النغدون بضياع" .ألم تهرب؟".
حرة على متن مركب في البحر ،وكان من السهل بالنسبة إليها أن تختفي إلى األبد .لكنّها "بالطبع فعلت .كانت ّ
ف ّكرت ،وعادت بملء إرادتها .سيينا تريد المساعدة لح ّل هذه المشكلة".
ّ
ضحكت سينسكي قائلة" :اعذرني ،لكنّني ال أميل إلى الوثوق باآلنسة بروكس ،ال سيّما عندما تدّعي أمراً كهذا".
شعرت سينسكي باإلنهاك فجأة ،وكافحت لتحليل كقام النغدون .ذهبت نحو النافذة ،وحدّقت إلى المدينة .فيروس
أقرت أنّها تنطوي على شيء من ناقل يعدّل الحمض النووي؟ على الرغم من استحالة الفكرة وفظاعتها ،إالّ أنّها ّ
أن أق ّل تعديل في جينة واحدة سيترك آثاراً المنطق .ففي النهاية ،كان زوبريست مهندسا ً جينياً ،ويعرف تماما ً ّ
إن مرض التكيّس كارثية على الجسم؛ كاإلصابة بالسرطان ،أو فشل عضوي ،أو اضطرابات في الدم .حتّى ّ
ّ
الليفي البغيض ،الذي يغرق ضحيته بالسائل المخاطي ،ناجم عن تعديل ضئيل جدّا ً في جينة من ِّظمة على
الكروموزوم السابع.
صصون اآلن بعقاج هذه األمراض الوراثية بفيروسات ناقلة بدائية يت ّم حقنها في جسم المريض مباشرة. بدأ المتخ ّ
وتت ّم برمجة هذه الفيروسات غير المعدية لقانتقال في جسم المريض وإدخال حمض نووي بديل يعدّل األجزاء
أن هذا العلم الجديد -على غرار ك ّل العلوم -يشتمل على جانب مظلم .فمن شأن نتائج الفيروس المتضررة .غير ّ
الناقل أن تكون إيجابية أو مد ِّ ّمرة ...بحسب نوايا المهندس .إن ت ّمت برمجة أحد الفيروسات على نحو خبيث
متضرر إلى الخقايا السليمة ،فستكون النتائج مد ّمرة .عقاوة على ذلك ،إن ُ
ص ّمم ذلك ّ إلدخال حمض نووي
الفيروس ليكون معديا ً ولينتقل عبر الهواء...
صل إلى إجابة سيستغرق أسابيع .فالشيفرة البشرية الوراثية عبارة عن متاهة ال حدود لها من عرفت ّ
أن التو ّ
التعديقات الكيميائية ،وتفتيشها بأكملها للعثور على تعديل معيّن قام به زوبريست سيكون كالبحث عن إبرة في
ي مكان على هذا الكوكب تقع تلك الكومة. قش ...حتّى من دون أن نعرف في أ ّ
كومة ّ
سألها بهدوء" :هل سمعتني؟ أرادت سيينّا تدمير هذا الفيروس؛ مثلك تماماً".
ي .قبل موت زوبريست بوقت قصير ،كتب رسالة "أظن أنّه يتو ّجب عليك أن تصغي إل ّ
ّ تن ّهد النغدون ووقف قائقاً:
لسيينا ،وشرح لها فيها ما فعله .أخبرها بما سيسببه هذا الفيروس ...وكيف سيهاجمنا ...وكيف سيح ّقق غاياته".
أن هذا الفيروس"عندما قرأت سيينّا وصف زوبريست لما فعله ،شعرت بالرعب .أرادت إيقافه ،واعتبرت ّ
خطير ،وال يجب أن يصل إليه أحد ،بما في ذلك ّ
منظمة الص ّحة العالمية .أال تفهمين؟ كانت سيينّا تحاول تدمير
الفيروس ...وليس إطقاقه".
"نحتاج إلى تلك الرسالة! فالتفاصيل ستوفّر علينا أشهرا ً من البحث لفهم هذا الشيء وكيفيّة التعامل معه".
هز النغدون رأسه" .أنت لم تفهمي .عندما قرأت سيينّا رسالة زوبريست ،ذعرت وأحرقتها فوراً .أرادت أن
ّ
تضمن عدم"-
ضربت سينسكي بيدها على المكتب ،وصاحت غاضبة" :د ّمرت الشيء الوحيد الذي يمكن أن يساعدنا على
مواجهة هذه األزمة! وتطلب منّي الوثوق بها!"
"أنا أفهم أنّني أطلب الكثير نظرا ً إلى أفعالها .لكن ،عوضا ً عن إبعادها قد يكون من األفضل أن نتذ ّكر ّ
أن سيينا
تتمتع بقدرات عقلية خارقة؛ بما في ذلك قدرتها على الحفظ .ماذا لو كانت تستطيع إعادة كتابة رسالة زوبريست
من أجل مساعدتك؟"
هزت سينسكي رأسها قائلة" :حسنا ً بروفيسور .في هذه الحالة ،ماذا تقترح؟".
أشار إلى فنجان قهوتها الفارغ" .أقترح أن تطلبـي لي فنجانا ً من القهوة ...وتصغي إلى شرط سيينّا الوحيد".
تسارع نبض سينسكي ،ونظرت إلى الهاتف" .هل تعرف كيفيّة االتصال بها؟".
"أجل".
"أظن ّ
أن هذا هو الشيء المناسب وفي النهاية ،ما الذي ستخسرينه؟". ّ قال النغدون:
أعطته سينسكي الهاتف" .إن كان ما تقوله صحيحاً ،فأنا أعطيك وعدا ً بذلك .اتّصل بها رجاء".
فوجئت سينسكي عندما تجاهل النغدون الهاتف .وعوضا ً عن االتصال ،نهض وخرج من المكتب قائقاً إنّه سيعود
للتو .لحقت به سينسكي باستغراب ،ورأته وهو يتوجه إلى قاعة االنتظار ،ويفتح بابا ً زجاجياً ،ث ّم يتو ّجه نحو
ّ
المصعد .للحظة ظنّت أنّه راحل ،لكنّه عوضا ً عن طلب المصعد ،ذهب إلى ح ّمام السيّدات.
بعد بضع لحظات ،عاد مع امرأة بدت في أوائل عقدها الثالث .احتاجت سينسكي إلى لحظات طويلة لتقبّل ّ
أن
المرأة هذه هي فعقاً سيينّا بروكس .فالمرأة الجميلة ذات الشعر األشقر التي رأتها خقال النهار تبدّلت تماماً .إذ
أصبحت صلعاء.
أن لدينا الكثير لنتناقش حوله ،لكنّني أرجو أن تسمحي لي ّأوالً بقول شيء
قالت سيينّا بسرعة" :سامحيني ،أعرف ّ
ها ّم".
ي شخص آخر أنّنا جنس ظمة الص ّحة العالمية ،وتعرفين أكثر من أ ّتابعت بصوت ضعيف" :سيّدتي ،أنت مديرة من ّ
نمونا خرج عن السيطرة .حاول زوبريست لسنوات عديدة مناقشة هذا الواقع مع على شفير االنهيار ...وذلك ّ
ألن ّ
ظمات عديدة اعتقد أنّها قادرة على إحداث تغيير ،مثل معهد أشخاص نافذين بمن فيهم حضرتك .قام بزيارة من ّ
قط شخصا ً ّ
تجرأ على مناقشة ح ّل فعلي. ورلدواتش ،ونادي روما ،ومجلس العقاقات الخارجية ...لكنّه لم يجد ّ
جميعكم رددتم بخطط لتثقيف الناس عن وسائل منع الحمل ،والحوافز الضريبية لألسر األصغر حجماً ،وحتّى
بالحديث عن استعمار القمر! لذلك ال عجب أن يفقد بيرتراند صوابه".
ي رد فعل.
حدّقت إليها سينسكي من دون أن يبدو عليها أ ّ
أخذت سيينا نفسا ً عميقاً" :د .سينسكي ،لقد أتى بيرتراند إليك شخصياً ،وتوسّل إليك لإلقرار أنّنا أمام أزمة
داهمة ...ورجاك للتحاور معه .لكنك عوضا ً عن اإلصغاء إلى أفكاره ،اعتبرته مجنوناً ،وأدرجت اسمه على الئحة
ألن أشخاصا ً مثلك
المراقبة ،ونفيته تحت األرض" .سيطر االنفعال على صوت سيينّا" .مات بيرتراند وحيداًّ ،
ًّ
أن الظروف الكارثية التي نعيشها تستلزم في الواقع حقا غير مريح. رفضوا فتح أذهانهم بما فيه الكفاية لإلقرار ّ
ك ّل ما فعله زوبريست هو قول الحقيقة ...لذلك أصبح منبوذاً" .مسحت سيينّا دموعها ،ونظرت إلى سينسكي.
"صدّقيني ،أنا أعرف معنى الوحدة ...فأسوأ أشكال الوحدة هو العزلة التي تنجم عن سوء الفهم .بإمكان هذا
الشعور أن يجعل الناس يفقدون إحساسهم بالواقع".
خيّم الصمت.
مطوالً ،ث ّم جلست وقالت بهدوء" :آنسة بروكس ،أنت محقّة .ربما لم أصغِّ من قبل "...ووضعت
تأملتها سينسكي ّ
ذراعيها على المكتب ونظرت مباشرة إلى سيينّا" .لكنني سأصغي إليك اآلن".
الفصل 112
دقّت الساعة الواحدة صباحا ً في بهو القنصلية السويسرية منذ مدّة طويلة.
امتأل دفتر المقاحظات الصغير على مكتب سينسكي بالنصوص ،واألسئلة ،والرسوم البيانية المكتوبة بخ ّ
ط اليد .لم
ي كلمة أو حركة ألكثر من خمس دقائق ،بل وقفت أمام النافذة وحدقت تصدر عن مديرة من ّ
ظمة الصحة العالمية أ ّ
إلى سماء الليل.
خلفها ،جلس النغدون وسيينا ينتظران وهما يرتشفان قهوتهما التركية التي مألت رائحتها الغرفة.
شعرت سيينّا بقلبها ينبض وهي تتساءل ع ّما تفكر فيه سينسكي بعدما سمعت الحقيقة الف ّجة كاملة .فيروس بيرتراند
هو وباء عقم .سيصاب ثلث سكان العالم بالعقم.
خقال الحديث ،راقبت سيينّا انفعاالت سينسكي المتتالية التي كانت ملموسة على الرغم من تحفّظها .بدت عليها
أن زوبريست قد صنع بالفعل فيروسا ً ناققاً ينتقل عبر الهواء .ث ّم ظهر أمل عابر عندما
ّأوالً الصدمة عندما تقبّلت ّ
ّ
أخبرتها أنّه ال يهدف إلى قتل الناس .بعد ذلك ...خيّم الرعب ببطء على مقامحها عندما اتضحت لها الحقيقة،
أن ما كشفته لها عن الفيروس الذيأن أعدادا ً هائلة من سكان األرض سيصابون بالعقم .من الواضح ّ وأدركت ّ
ّ
يهاجم خصوبة البشر أثر فيها على صعيد شخصي.
بالنسبة إلى سيينّا ،شعرت باالرتياح بعد أن باحت بكل شيء عن رسالة بيرتراند .لم يعد لد ّ
ي أسرار.
خرجت سينسكي من أفكارها ببطء .التفتت إليهما قائلةً" :سيينّا ،ستساعدنا معلوماتك على وضع خ ّ
طة للتعامل مع
هذه األزمة .أنا أقدّر صراحتك .فكما تعلمين ،ت ّمت مناقشة الفيروسات الوبائية الناقلة على صعيد نظري؛ كطريقة
لتتطور".
ّ لتلقيح شرائح كبيرة من السكان ،لكن الجميع يعتقدون ّ
أن هذه التكنولوجيا تحتاج إلى سنوات عديدة
هزت رأسها وتابعت" :اعذريني ،لكن ك ّل هذا يبدو لي حاليّا ً وكأنّه خيال علمي".
ّ
ف ّكرت سيينّا :هذا غير مستغرب .فك ّل قفزة نوعية في الطبّ بدت على هذا النحو؛ البينيسيلين ،والتخدير ،واألشعّة
والمرة األولى التي نظر فيها البشر عبر المجهر ورأوا خلية تنقسم.
ّ السينية،
حدّقت سينسكي إلى مقاحظاتها ،ث ّم أضافت" :عندما أصل إلى جنيف بعد ساعات ،سأواجه عاصفة من األسئلة.
األول من دون شكّ هو ما إذا كانت ث ّمة طريقة إلبطال الفيروس".
وسيكون السؤال ّ
األول يتمثّل في تحليل الفيروس وفهمه جيداً ،ومن ث ّم محاولة هندسة سقالة
تابعت سينسكي" :أعتقد أن الح ّل ّ
أخرى منه؛ سقالة نعيد برمجتها إلعادة حمضنا النووي إلى ما كان عليه سابقاً" .لم يبد على سينسكي التفاؤل وهي
تنظر إلى سيينّا" .ال أعرف بعد ما إذا كان من الممكن صنع فيروس مضادّ .لكن ،من الناحية النظرية ،أحبّ أن
أعرف رأيك في ذلك".
فهز البروفيسور رأسه باعثا ً إليها برسالة واضحة جدّاً :بما أ ّنك وصلترأيي؟ نظرت سيينّا إلى النغدون تلقائياًّ ،
إلى هذه النقطة ،عبّري عن رأيك ،وقولي الحقيقة كما ترينها.
التفتت سيينّا إلى سينسكي وتحدثت بصوت واضح وقوي" .سيّدتي ،لقد عشت في عالم الهندسة الجينية مع
ّ
بيرتراند لسنوات عديدة .كما تعلمين ،الجينوم البشري بنية حسّاسة للغاية ...مثل بيت من بطاقات الورق .كلما
أدخلنا عليه تعديقات تضاعفت احتماالت تعديل البطاقة الخاطئة والتسبّب بانهيار البنية بأكملها .باعتقاديّ ،
إن
محاولة إبطال ما فعله زوبريست تنطوي على خطر كبير .لقد كان برتراند يتمتّع بموهبة ورؤية استثنائية ،كما
كان متقدّما ً على زمقائه بسنوات .وحاليّاً ،لست واثقة أنّه ث ّمة من يمكن أن نثق به إلى حدّ تركه يعبث بالجينوم
فإن تجربته تشتمل على خطر نقل عدوى البشري على أمل إصقاحه .وحتّى لو صنعتم شيئا ً وظننتم أنّه قد ينجحّ ،
جديدة إلى السكان".
فوجئت سينسكي إلى حدّ ما بما سمعته ،وقالت" :هذا صحيح تماماً ،لكن ث ّمة مسألة أه ّم .ربما كنّا ال نرغب في
إبطاله".
ألن سينسكي ضحكت بتعب وأضافت" :هذا ليس ما توقّعت سماعه منّي،
أن صدمة سيينّا كانت واضحةّ ،ال بدّ ّ
أليس كذلك؟".
ي أن أتوقّعه".
"أظن أ ّنني لم أعد واثقة م ّما يجب عل ّ
ّ ّ
هزت سيينّا رأسها نافية.
"إذاً ،ربّما سأفاجئك مجدّداً .فكما سبق وذكرت ،سيجتمع قادة الوكاالت الصحية من مختلف أنحاء العالم في جنيف
طة عمل .لم يسبق أن ن ّ
ظم اجتماع بهذه األه ّمية خقال سنوات عملي خقال ساعات لمناقشة هذه األزمة ،وإعداد خ ّ
ظمة" .ونظرت إلى الطبيبة الشابّة مضيفة" :سيينّا ،أودّ أن تكوني حاضرة في ذلك االجتماع".في المن ّ
فوجئت سيينّا" :ماذا؟ أنا لست مهندسة جينية ،وسبق لي أن أخبرتك بك ّل ما أعرفه" .وأشارت إلى دفتر
مقاحظاتها" .ك ّل ما لد ّ
ي موجود هنا في مقاحظاتك".
ي جدال مج ٍد حول هذا الفيروس يحتاج إلى سياق .يجب على د. تد ّخل النغدون قائقاً" :هذا غير صحيح .سيينّا ،أ ّ
أن لديك موقفا ً ّ
سينسكي وفريقها وضع إطار أخقاقي لتقييم تدابيرهم تجاه هذه األزمة .ومن الواضح أنها تعتقد ّ
فريدا ً تضيفينه إلى ذلك الحوار".
أجابها" :كقاّ على األرجح ،وهذا سبب إضافي لذهابك .أنت واحدة من مجموعة جديدة من المف ّكرين ،ولديك رأي
مخالف .لذلك يمكنك مساعدتهم على فهم عقلية أشخاص من أمثال بيرتراند ،عقلية علماء المعين لديهم قناعات
قوية ،ويقومون بالمبادرة بأنفسهم".
األول".
"لم يكن بيرتراند ّ
ظمة الص ّحة العالمية النقاب عن مختبرات يعمل فيهاقالت سينسكي" :كقاّ ،ولن يكون األخير .ك ّل شهر ،تكشف من ّ
العلماء في مناطق رمادية من العلم؛ بدءا ً من التقاعب بالخقايا الجذعية البشرية ،إلى إنتاج مخلوقات وهمية...
أجناس هجينة غير موجودة في الطبيعة .هذه األمور مخيفة ،فالعلم يتقدم بسرعة متجاوزاً ك ّل الخطوط الحمراء".
متحول.
ّ وافقتها سيينّا .فمؤخراً ،قام عالمان فيروسيان محترمان هما فوشيه وكواوكا ،باختراع فيروس H5N1
صائيي أن نية الباحثَين كانت أكاديمية بحتة ،إالّ ّ
أن اختراعهما الجديد يمتاز بقدرات أثارت قلق أخ ّ على الرغم من ّ
ً ً ّ
األمن البيولوجي ،وولدت جداال حاميا على اإلنترنت.
قالت سينسكي" :أخشى أن يزداد الوضع سوءا ً مع مرور الزمن ،فنحن نبتكر تكنولوجيات جديدة ال يمكن تخيّلها".
أضافت سيينّا" :وفلسفات جديدة أيضاً .فالحركة ما وراء اإلنسانية على وشك الخروج من الظ ّل إلى العلن .ومن
التطورية ...واستخدام
ّ أن البشر لديهم واجب أخقاقي يفرض عليهم المشاركة في العمليّةمبادئها األساسيّة ّ
التكنولوجيات الجديدة من أجل تقدّم الجنس البشري ،ووالدة كائنات بشرية أفضل وأكثر ص ّحة وقوة وذكاء .قريباً،
سيصبح ك ّل شيء ممكناً".
"أال تظنّين ّ
أن هذه المعتقدات تتعارض مع عمليّة التطور".
صمتت سينسكي وهي تف ّكر في كقامها" .إذا ً برأيك ،علينا استقبال هذه األدوات بأذرع مفتوحة؟".
"إن لم نفعل ،فإنّنا ال نستحق الحياة؛ تماما ً مثل إنسان الكهف الذي يتجمد من البرد خوفا ً من إشعال النار".
تردّد صدى هذه العبارة في الغرفة لمدّة طويلة قبل أن يتم ّكن أحد من الكقام.
كان النغدون هو من كسر جدار الصمت" .ال أقصد أن أبدو قديم الطراز ،لكنّني نشأت على نظريات داروين ،وال
التطور الطبيعية".
ّ يمكنني سوى أن أتساءل عن الحكمة في محاولة تسريع عمليّة
قاطعتها سينسكي" :سيينّا ،لقد تأ ّخرنا .علينا الذهاب .لكن ،أوالً أريد منك إيضاح أمر أخير .قلت عدّة مرات هذه
شريراً ...وإنّه يحبّ الجنس البشري ،وك ّل ما في األمر أنّه يتوق إلى إنقاذنا منإن زوبريست لم يكن ّ الليلة ّ
الهقاك ،إلى حدّ أنّه أباح لنفسه اتّخاذ مثل هذه التدابير الجذرية".
انحنت سيينّا على المكتب ،وأجابت بنبرة جادة" :د .سينسكي ،كما سبق وقلت لك ،أعتقد ّ
أن أفعال بيرتراند كانت
متهورة وخطرة للغاية .ولو تم ّكنت ،ألوقفته على الفور .يجب أن تصدّقيني".
ّ
مدّت سينسكي يديها ،وأمسكت بيدي سيينّا بلطف" .أنا أصدّقك سيينّا .أنا أصدّق ك ّل كلمة قلتها".
الفصل 113
في مطار أتاتورك ،كان الهواء قارسا ً قبيل الفجر .خيّم ضباب خفيف فوق المكانّ ،
ولف المدرج حول المهبط
الخاص.
ّ
قال الرجل الذي استقبل الثقاثة في مبنى متواضع" :نحن جاهزون عندما تأمرين سيدتي".
ّ
هزت سينسكي رأسها باستحسان" .وماذا عن المسألة األخرى التي ناقشناها؟".
شكرت سينسكي الرجل الذي خرج وتو ّجه عبر المدرج إلى الطائرة ،ث ّم التفتت إلى النغدون قائلة" :هل أنت واثق
أنّك ال ترغب في االنضمام إلينا؟" .ابتسمت بتعب وأرجعت شعرها الفضّي الطويل إلى الخلف.
أجابها مازحاً" :نظرا ً إلى الوضع ،لست واثقا ً م ّما يمكن أن يقدّمه أستاذ في الفنون".
قال النغدون بصوت خافت" :أشكرك على الوثوق بها .فأنا أشعر أنّها افتقدت إلى ذلك في حياتها".
"أعتقد أنّنا سنتعلّم أنا وسيينّا بروكس الكثير من بعضنا" .ث ّم مدّت يدها مودّعة" :بالتوفيق ،بروفيسور".
"سنحتاج إلى ذلك" ،ث ّم أشارت إلى سيينّا" :سأعطيكما بضع دقائق بمفردكما .أرسلها عندما تصبح جاهزاً".
فيما كانت سينسكي متجهة إلى المدرج ،مدّت يدها بشرود إلى جيبها وأخرجت نصفي التميمة المكسورة ،ث ّم
ضغطت عليهما.
ناداها النغدون من خلفها" :ال تتخلّي عن صولجان أسكليبيوس ذاك ،يمكن إصقاحه".
وقفت سيينا بمفردها أمام النافذة ،محدقة إلى أضواء المدرج الذي بدا معتما ً في الضباب تحت السحب المتراكمة.
فوق برج مراقبة بعيد ،رفرف العلم التركي بفخر ،بلونه األحمر الذي يحمل رمزي الهقال والنجمة .أثران من
آثار اإلمبراطورية العثمانية ما زاال موجودين بفخر في العالم المعاصر.
بعد لحظات ،التفتت سيينّا نحوه" .كما أنّني أتمنّى لو ترافقنا إلى جنيف".
أجابها" :هذا لطف منك ،لكنّك ستكونين مشغولة بالحديث عن المستقبل ،وآخر ما تحتاجين إليه هو أستاذ جامعة
قديم الطراز".
شعرت باإلحراج وهي تقف أمامه" .حسناً ،على األق ّل أنت تعرف أين تجدني" .رفعت كتفيها مضيفة" :أعني...
إن رغبت في رؤيتي مجدّداً".
"سيسرني ذلك".
ّ ابتسم قائقاً:
فجأة ،شعرت سيينّا وهي تحدّق إلى البروفيسور األميركي بعاطفة قويّة ومفاجئة .فوقفت على رؤوس أصابعها،
وعانقته .وعندما ابتعدت ،كانت عيناها مبلّلتين بالدموع .همست" :سأفتقدك إليك".
بقيا على هذه الحال للحظات لم يرغبا في أن تنتهي .أخيراً ،قال النغدون" :ث ّمة مثل قديم ...غالبا ً ما ينسب إلى
دانتي نفسه "...وصمت هنيهة ث ّم قال" :تذ ّكر الليلة ...ألنّها بداية الخلود".
ي هدفاً". قالت وقد بدأت دموعها تسيل على وجهها" :شكرا ً لك روبرت .أخيراً ،أصبحت أشعر ّ
أن لد ّ
بقوة أكبر" .قلت دائما ً إنّك ترغبين في إنقاذ العالم سيينّا .قد تكون هذه فرصتك".
ض ّمها النغدون إليه ّ
ابتسمت واستدارت مبتعدة .مشت بمفردها نحو الطائرة ،وف ّكرت في ك ّل ما جرى ...وفي ك ّل ما قد يجري في
المستقبل.
كررت بينها وبين نفسها :تذ ّكري الليلة ...أل ّنها بداية الخلود.
ّ
للتو عندما دخل النغدون الكاتدرائية وجلس على أحد المقاعد .شعر
كانت جنازة إغناتسيو بوزوني قد بدأت ّ
بالسرور ّ
ألن جنازة بوزوني تقام في هذا المكان الذي يتجاوز الزمن ،والذي اهت ّم به إغناتسيو لسنوات عديدة.
على الرغم من واجهة الكاتدرائية التي تنبض بالحياة ،كان داخلها صارما ً وخاليا ً وكئيباً .مع ذلك ،بدت الكاتدرائية
اليوم كما لو كانت في احتفال .من جميع أنحاء إيطاليا ،توافد المسؤولون الحكوميون ،واألصدقاء ،والزمقاء من
الفن إلى الكاتدرائية لتذ ّكر ذلك الرجل المرح الذي أطلقوا عليه بحبّ لقب إيل دوومينو.
عالم ّ
كانت أجواء الجنازة استثنائية ،إذ تخلّلتها تعليقات مرحة من األصدقاء وأفراد األسرة .فأشار أحد الزمقاء إلى ّ
أن
الخاص -سوى حبّه للسباغيتي بولونييزي وبودينو
ّ لفن عصر النهضة ال يجاريه -باعترافه حبّ بوزوني ّ
الكاراميل.
تجول النغدون داخل المعزون وراحوا يروون أحداثا ً من حياة إغناتسيو ،في حين ّ ّ بعد انتهاء المراسم ،اختلط
الدوومو ،وهو يتأ ّمل التحف الفنية التي أحبّها إغناتسيو كثيراً ...لوحة فاساري الممتدّة تحت القبّة ،ونوافذ دوناتيلوّ
الملونة ،وساعة أوتشي ّلو ،والفسيفساء التي تزيّن األرض والتي غالبا ً ما يغفلها الزائرون.
ّ وغيبيرتي
بعد قليل ،وجد نفسه أمام وجه مألوف ،وجه دانتي أليغييري .ظهر الشاعر العظيم في الجدارية األسطورية
لميكيلينو ،واقفا ً أمام جبل المطهر ،حامقاً بين يديه تحفته الكوميديا اإللهية.
تساءل النغدون رغما ً عنه ع ّما كان من الممكن أن يف ّكر فيه دانتي لو علم بتأثير قصيدته الملحمية في العالم بعد
قرون من الزمن ،في مستقبل ما كان الشاعر الفلورنسي نفسه من الممكن أن يتخيّله.
تذ ّكر آراء الفقاسفة اإلغريق األوائل في الشهرة .لقد وجد الحياة الدائمة .فما دام اسمك يُذكر ،فلن تموت أبد ًا.
عاد في بداية المساء إلى فندق برونيلّيسكي الفخم عبر ساحة سانت إليزابيتّا .وعندما وصل إلى غرفتهُ ،
س ّر
لوصول الطرد الكبير الذي كان بانتظاره.
أن إليزابيث سينسكي قد استخدمت نفوذها أن النغدون فوجئ باحتواء الصندوق على أشياء إضافية .إذ يبدو ّ غير ّ
صة؛ أي قميصه ،والسروال الستعادة عدد أكبر من األغراض التي طلبها .كان الصندوق يحتوي على مقابسه الخا ّ
الكاكي ،وسترة هاريس تويد ،كلّها نظيفة ومكوية بعناية .حتّى ّ
إن حذاءه كان هناك ،نظيفا ً ومل ّمعاً .وجد أيضا ً
محفظته في الصندوق.
أن غرضا ً أخيرا ً فاجأ النغدون ودفعه إلى الضحك .كان ردّ فعله ناتجا ً عن الراحة التي غمرته الستعادته...
غير ّ
ال سيّما وأنّه يعني له الكثير.
خرج النغدون من الفندق ،وحمل الرزمة الحسّاسة في كيس من أكياس الفندق ،بعدما اقترضه من عامل
االستقبال .كان المساء دافئا ً على نحو غير اعتيادي ،حيث ضاعف من الطابع الخيالي لنـزهته في شارع فيا داي
كالتسايولي ،نحو برج قصر فيكيو الوحيد.
عندما وصل ،تحقّق لدى مكتب األمن من ورود اسمه على الئحة األشخاص الذين يفترض بهم مقابلة مارتا
ألفاريز .تو ّجه إلى قاعة الخمسمائة التي كانت ال تزال تع ّج بالسياح .وصل في الوقت المحدّد ،وتوقّع رؤية مارتا
عند المدخل ،لكنّها لم تكن هناك.
ابتسم الموظف ابتسامة عريضة" .سينيورا ألفاريز؟! ليست هنا! أنجبت طفلة! كاتالينا! إنها جميلة جدّاً!".
نظر النغدون حوله بعناية ،ث ّم تس ّلل عبر الحاجز إلى المكان المظلم .مدّ يده داخل الكيس ،وأخرج الرزمة ،ث ّم
صي ال يزال في الكيس األصلي الذي أُخذ فيه ،بعدما ت ّمت استعادته -نـزع عنها الغقاف الواقي .كان القناع الج ّ
بطلب من النغدون -من خزائن مح ّ
طة القطار في البندقية .بدا القناع بحالة ممتازة ،باستثناء شيء واحد؛ قصيدة
أضيفت إلى باطنه بشكل لولبـي أنيق.
أغلق النغدون الخزانة ،ووقف للحظة متأ ّمقاً وجه دانتي الشاحب الذي بدا أقرب إلى شبح في الغرفة المظلمة .ها
قد عدتَ أخير ًا.
وقبل أن يغادر الغرفة ،نـزع النغدون الحاجز والقافتة عن الباب .عندما وصل إلى القاعة ،توقّف للتحدّث مع
مو ّ
ظفة شابّة.
قال لها" :سينيورينا ،عليكم إضاءة المصابيح فوق قناع دانتي ،فمن الصعب جدّاً رؤيته في الظقام".
ظفة التي اندفعت إلى األعلى ،في حين تسلّل النغدون من المتحف بهدوء.
بدا االرتباك على وجه المو ّ
خاتمة
على ارتفاع أربعة وثقاثين ألف قدم فوق خليج بيسكاي المظلم ،انطلقت طائرة أليتاليا المتجهة إلى بوسطن غربا ً
تحت ضوء القمر.
على متنها ،جلس روبرت النغدون حامقاً بين يديه نسخة ورقية عن الكوميديا اإللهية .كان إيقاع القصيدة المقترن
أن كلمات دانتي تتدفّق من الصفحة، محركات الطائرة قد أدخله في حالة أشبه بالتنويم المغناطيسي .شعر ّّ بهدير
ً
صيصا في هذه اللحظة.وتتردّد في قلبه كما لو أنّها قد كتبت له خ ّ
قوة الروح البشرية وقدرتها على مواجهة التحديات ،مهما تذ ّكر ّ
أن قصيدة دانتي ليست عن بؤس الجحيم ،بل عن ّ
بلغت صعوبتها.
في الخارج ،ارتفع البدر ساطعا ً في السماء ،ومنافسا ً بجماله ك ّل األجسام السماوية األخرى .حدّق النغدون إلى
الفضاء ،تائها ً في أفكاره حول ك ّل ما جرى في األيّام القليلة الماضية.
أحلك األماكن في الجحيم هي ألولئك الذين يحافظون على حيادهم في األزمات األخقاقية .لم يتّضح له معنى هذه
الجملة إلى هذا الحدّ قبل اآلن :عند الشدائد ،التراخي هو الخطيئة الكبرى.
عرف النغدون أنّه ارتكب هذه الخطيئة هو نفسه؛ شأنه شأن مقايين الناس .فحين يتعلّق األمر بظروف هذا العالم،
أصبح اإلنكار وباء مستفحقاً .وقد تع ّهد النغدون لنفسه بعدم نسيان ذلك أبداً.
مع تقدّم الطائرة غرباً ،ف ّكر النغدون في المرأتين الشجاعتين الموجودتين اآلن في جنيف ،لتواجها المستقبل
ببسالة ،وتعالجا تعقيدات هذا العالم المتغيّر.
أطفأ المصباح فوق رأسه ،ونظر إلى الفضاء للمرة األخيرة .في الخارج ،أسدل ليل جديد ستاره على عالم
مختلف ،وأصبحت السماء بساطا ً مزدانا ً بالنجوم.
عن الكاتب
دان براون هو مؤلّف شيفرة دافينشي؛ إحدى الروايات األكثر انتشارا ً في العالم ،فضقاً عن الكتب األكثر مبيعاً؛
الرمز المفقود ،مقائكة وشياطين ،حقيقة الخديعة ،الحصن الرقمي .يعيش في نيو إنغلند مع زوجته.
انتهى
] [1نيكوالي فاسيلفيتش غوغول ،كاتب روسي يعدّ من آباء األدب الروسي.