You are on page 1of 286

‫من أسرار البناء الداخلي في القرآن الكريم‬

‫التكاملية نظرة ثانية على القرآن‬


‫ظاهرة النسبية في القرآن الكريم‬
‫المستويات الموضوعية والنفعالية في القرآن الكريم‬
‫هل القرآن عربي؟‬
‫أثر القرآن الكريم في تشكيل الوعي الزمني عند العرب‬
‫استقراء العلوم الطبيعية في القرآن الكريم‬

‫محمد صبحي السويركي‬


‫‪swairky@hotmail.com‬‬

‫الطبعة الولى‬

‫‪1‬‬
‫إهداء‬
‫إلى‪:‬‬
‫بنات النبي ‪‬‬
‫وزوجاته الطاهرات‪..‬‬
‫والصحابيات الجليلت‪..‬‬
‫حبا وقربى ‪..‬‬

‫ثم لكل من‪:‬‬


‫الدكتورة أروى ناهض الرييسّ‪..‬‬
‫التي ملت غزة زهورا قرآنية‬

‫أم نضال فرحات‪..‬‬


‫أم الفلسطينيين جميعاا‪ ..‬على طريق الشهادة والفداء‬
‫وإلى‪:‬‬
‫كل بناتي وأخواتي الحافظات لكتاب ال في مدينتنا الحبيبة‪ ..‬غزة‬
‫وأخيرا إلى بناتي‪:‬‬
‫رزان‪ ،‬ابتهال‪ ،‬آلء‪ ،‬هالة‪..‬‬
‫وإبني الصغيرين‪ :‬محمد وصبحي!‬

‫لجميعهم ‪ ..‬أهدي هذا الكتاب‬

‫‪2‬‬
‫تقريظ‬
‫الدكتور‪ /‬محمد السقا عيد)‪(1‬‬
‫جمهورية مصر العربية‬
‫الخأ العزيز‪ /‬الباحث محمد صبحي السويركي‬
‫فلسطين الحبيبة‬
‫السلم عليكم ورحمة ال وبركاته‬
‫لقد اطلعت على أجزاء هامة من كتابكم القيم )من أسرار البناء الداخلي‬
‫في القران الكريم( وقد أعجبني ‪،‬بحق‪ ،‬هذا الطرح الشيق والجديد‪ ،‬وهذا ما‬
‫نحتاجه فعلا في هذه المرحلة‪..‬‬
‫فسر )على بركة ال( هذه الخطوات‪ ،‬والتي نسأل ال تعالى أن يجعلها‬
‫في ميزان حسناتكم‪..‬‬

‫وفقكم ال وسدد خطاكم على طريق الخير‬


‫والسلم عليكم ورحمة ال وبركاته‬

‫‪()1‬الدكتور محمد السقا عيد ‪ ،‬من مواليد دمياط عام ‪1963‬م‪ ،‬تخرج من كلية طب الزقازيق عام ‪1987‬م‪،‬‬
‫وحصل على ماجستير في طب وجراحة العيون عام ‪1995‬م‪ ،‬عضو الجمعية الرمدية المصرية‪ ،‬باحث في الطب‬
‫السلمي‪ ،‬تتركز كتاباته على المفاهيم الطبية والعلمية لمعطيات الكتاب الكريم والسنة النبوية المباركة‪ .‬له كتابات‬
‫عدة في هذا المجال نشرت في صحف ومجلت عربية مختلفة مثل‪" :‬العالم السلمي" "الرابطة" "المسجد"‬
‫"المجلة العربية" السعودية‪ .‬و"التوحيد" "الطباء" المصرية‪ .‬مجلة "الوعي السلمي" الكويتية‪ .‬مجلة "منار السلم"‬
‫الظبيانية‪ .‬مجلة "الهداية" البحرينية‪ .‬ومن مؤلفاته ‪ :‬حديث الدموع‪ .‬وله تحت الطبع ‪" :‬الفقه السلمي‪ ..‬وقضايا‬
‫طبية معاصرة"‪" .‬الماء وريد الحياة وشريانها"‪" ،‬البصمة بين العجاز والتحدي"‪" ،‬عجائب اللوان في عالم النسان"‬
‫وله العديد من البحاث المنشورة على موقع موسوعة العجاز العلمي في القرآن والسنة‪ ،‬منها‪" :‬العجاز في جسم‬
‫النسان" "معجزة السمع"‪" ،‬المعجزات الربانية في العين"‪" ،‬القلب ‪ ...‬نبض الحياة" "البرق وخطف البصر إشارات‬
‫طبية وهندسية" "البصمة بين العجاز والتحدي" "العجاز الطبي والدوائي" )عدة أجزاء(‪" ،‬الصيـ ــام بــين الفقــه‬
‫والطــب" "أسرار البكاء والدموع" و"القتل الرحيم "هل هو رغبة إنسانية أم دعوة شيطانية"؟؟ البريد اللكتروني‬
‫للدكتور محمد السقا عيد‪dr_mohamed_60@hotmail.com :‬‬

‫‪3‬‬
‫‪..‬ليست أكثر من محاولة!‪..‬‬
‫الحمد ل وكفى‪ ،‬وسلم على النبي الذي اصطفى‪ ،‬محمدد صلى ال عليه وسلم؛ نبيي الرحمة المهداة‬
‫والنعمة المسداة والسراج المنير وعلى آل بيته الطاهرين وصحبه أجمعين إلى يوم الدين‪ .‬وبعد‬
‫فلكي ل تختلط المور على البعض؛ ينبغي عليي أن أوضح ‪،‬منذ البداية‪ ،‬أن هذا الكتاب ليسّ‬
‫محاولة لتفسير القرآن الكريم )أو تفسير بعض آياته( ‪،‬وما ينبغي له أن يكون‪ ،‬بقدر ما هو محاولة‬
‫لرصد إشكالية العلقة بين العقل المسلم في هذا الزمن وبين القرآن الكريم‪ ..‬لنثبت ‪،‬من ثم‪،‬‬
‫وجود إمكانية لـ "ترميم العقل المسلم")‪ (1‬من خلل إعادة تفاعله مجددا مع هذا الكتاب‬
‫الكريم‪ ..‬وصولا إلى حالة "مشابهة" لحالة الجيل الول الذي تفاعل مع روح النص فأبدع‬
‫حضارة غير مسبوقة في مجالت الفقه والفكر والعمارة والفن‪ ..‬الخ‬
‫وهذا يقودنا إلى الزمة التي يعاني منها المسلمون اليوم‪ ،‬فهي وإن بدت أزمة "واقع"‬
‫و"أشياء" إل أنها في حقيقتها أزمة "عقل" و"فكر" و"مفاهيم"‪ ..‬انعكست على الواقع‬
‫فأفسدته!‪..‬‬
‫لنخلص ‪،‬من ثيم‪ ،‬إلى السؤال الجوهري في حياة المسلمين اليوم؛ والمتعلق بالطريقة التي‬
‫يمكن من خللها استعادة مجد هذه المة التي باتت اليوم على مفترق طرق تبحث فيه عن كيفية‬
‫النهوض واتقاء الفناء المزري؟؟!!‬
‫إن إيماننا بأن هذه المة ما وجدت إل لتسود‪ ،‬وما تتقهقر حينا إل لتعود إلى الرتقاء بقية‬
‫الحيان‪ ..‬ليقودنا إلى الخيار الوحيد المتاح أمامنا كأمة‪ :‬خيار النهوض‪ ،‬فالفناء لن يكون ‪،‬أبدا‪،‬‬
‫خيارا واقعيا في حياة أمة كأمة السلم!‪..‬‬
‫وعليه؛ فلم نجد إل القرآن الكريم دواء لترميم وإعادة تشكيل العقل المسلم وتوجيهه على‬
‫الطريق السليم‪ ،‬بعدما استيقنا أن القرآن الكريم هو دواء أرواحنا ونفوسنا‪..‬‬

‫‪ ()1‬يضاف إلى هذا إطلع غير المسلمين على بعض ملمح القرآن الكريم كي تكون مدخلا لهم للتعرف على‬
‫الدين السلمي من خلل إعمال العقل والتدبر في آياته‪ ،‬ومن هنا أضفنا مقالين مترجمين للنجليزية والفرنسية‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫والشكالية اليوم تتمثل في عدم إدراكنا لهمية هذا الجانب بشكدل كا د‬
‫ف‪ ،‬ونقصد‪ :‬عدم‬
‫إدراكنا أن الطريقة الوحيدة المتاحة أمامنا لعادة ترميم وتشكيل العقل المسلم اليوم إنما تتمثل‬
‫في عودته للتفاعل الواعي مع القرآن الكريم؛ في ظل شروط موضوعية مسبقة نضعها للعقل لكي‬
‫ل يضل ول يشقى‪ ..‬ومن هذه الشروط‪:‬‬
‫‪ ‬استعادة الثقة‪..‬‬
‫فغالبية المسلمين اليوم ليست لديهم الثقة الكافية بالنفسّ والتي تتمكنهم من النظر في كتاب‬
‫ال‪ ،‬وأن يكون لهم سهمم في فهمه ووعيه‪ ،‬حيث هناك من يعتقد بأن الجيل الول الذي قام على‬
‫فهم القرآن الكريم وتفسيره كان يمتلك مقومات أعلى مما يمتلكه بقية البشر! مكنته من تقديم‬
‫رؤاه ووجهات نظره حول القرآن‪ ..‬وفي مقابل إعلء الجيل الول هناك عملية مستمرة للتقليل‬
‫من قدر الذات‪..‬‬
‫لذا فقد آن الوان لن نفهم ونعي بأن لنا دورا في محاولة فهم هذا الكتاب الكريم‪ ،‬وبأننا‬
‫‪،‬من الناحية الموضوعية على وجه الخصوص‪ ،‬نمتلك أدوات بحث تتفوق على ما امتلكه الرعيل‬
‫الول من المفسرين‪ ،‬وبقي أن نعتني بالجانب الذاتي‪ ،‬وأول ما يجب أن نقوم به هو التغلب على‬
‫معتقدنا المدمر بأننا "ل نستطيع"‪ ..‬فمن البديهيات أن من يعتقد بأنه "ل يستطيع" هو فعلا‬
‫إنسان فاقد للقدرة على الفعل والنجاز! حتى لو امتلك فعليا الكثير من المهارات‪ ..‬وهنا نؤكد‬
‫على ضرورة استعادة الثقة‪..‬‬
‫‪ ‬القرآن‪ ..‬روعة تحتاج لسلمة القلب‪..!..‬‬
‫فقـد سـاد فـي هـذا الزمـن اعتقـاد بـأن المختصين فقـط هـم مـن يستطيعون فهـم القـرآن وإدراك‬
‫روعته وبعد مراميه‪ ،‬وهذا العتقـاد خـاطئ مـن أساسـه‪ ،‬فضـل عـن أنـه اعتقـاد خطير‪ ،‬حيـث يحـول‬
‫القرآن إلى كتاب للصفوة! ولساتذة الجامعات وطلب الدراســات العليــا‪ ،‬وهـذا العتقــاد كفيــل‬
‫بعزل الناس عن مصدر قوتهم‪..‬‬

‫‪5‬‬
‫ولنستمع للشهيد سيد قطب رحمـه الـ وهـو يعـرض هـذا المـر‪ ،‬واصـف ا لنـا الروعـة الـتي أحـسّ‬
‫ل‪) ..‬تلك أيام‪ ..‬ولقــد مضــت بــذكرياتها الحلــوة‪ ،‬وبخيالتهــا الســاذجة‪،‬‬
‫بها حين سمع القرآن طف ا‬
‫ت المعاهــد العلميــة‪ ،‬فق ـرأت تفســير القــرآن فــي كتــب التفســير‪ ،‬وســمعت‬
‫ثــم تلتهــا أيــامم‪ ،‬ودخل ـ ت‬
‫تفسيره من الساتذة‪ ،‬ولكني لم أجد فيما أقرأ أو أسمع ذلــك القـرآن اللذيــذ الجميـل الـذي كنـت‬
‫أجده في الطفولة والصبا(!!)‪.(1‬‬
‫ولعلنا هنا نضع اليد على أحـد أسـباب عزلـة النـاس عـن دينهـم‪ ،‬وقرآنهـم‪ ،‬حيـث تـم التنظيـر طـويل‬
‫)ولــو علــى مســتوى اللوعــي( إلــى ضــعة الجيــال الحاليــة فــي مقابــل الجيــل الول‪ ،‬وكــذلك تــم‬
‫التنظيـر كثيرا ل ـ "علـو قـدم المتعلميـن والكـاديميين "فـي التعامـل مـع القـرآن الكريـم وتعـذر ذلـك‬
‫على من عداهم مــن النــاس العـاديين‪ ..‬وهنـا نؤكــد علــى حقيقــة ان التفكــر فـي اليـات الكريمــة هـو‬
‫أمر مطلوب من قبل الجميع بل استثناء‪..‬‬
‫‪‬ل تنقضي عجائبه!‪..‬‬
‫إن الولوج إلى عالم القرآن من مداخله غير المعتادة المألوفة يجعلنا نرى جماله وكأننا‬
‫نراه للوهلة الولى‪ ،‬وهذا ما وجده "سيد قطب" عندما حاول الولوج إليه من مدخل جديد‬
‫غير معهود‪) :‬ووجدتني أشهد في نفسي مولد القرآن من جديد‪ ،‬لقد وجدته كما لم أعهده‬
‫من قبل أبدا‪..(2)(...‬‬
‫وعليه فإننا نشير هنا إلى ضرورة البحث الدائم والتفاعل المستمر بين عقل النسان‬
‫والقرآن‪ ،‬واللحظة التي ل يضيف فيها النسان إلى علمه بالقرآن علم ا وإلى وعيه وعي ا هي‬
‫لحظة مكررة ل تستحق أن تذكر عند ذكرنا للحياة!‪..‬‬
‫‪ ‬قراءة واعية‪..‬‬

‫‪ ()1‬التصوير الفني في القرآن‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ص ‪.7‬‬


‫‪ ()2‬التصوير الفني في القرآن‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ص ‪.8‬‬

‫‪6‬‬
‫فقد وصلنا إلى حالدة من عدم الثقة بالنفسّ بتنا معها نستورد ول نصدر‪ ،‬نقلد ول نبدع‪ ..‬وهذا‬
‫المر تحديدا يبدو أكثر ما يكون وضوحا في علقتنا بـالقرآن الكريم‪ ،‬فقد قنع الناس من القرآن‬
‫بالحسنات‪ ،‬فتراهم يقرءون ول يعون‪ ،‬ويقطعون الصفحات لكنهم ل يحصدون من معانيه إل‬
‫القريب‪ ..‬ذلك أننا فقدنا الشجاعة اللزمة للتفكر‪ ،‬والتدبر‪ ،‬وإعمال النظر!‪ ..‬والمطلوب منا‬
‫قراءة القرآن بوعي‪ ،‬وتدبر وتفكر‪ ،‬والبحث الدائم والدائم عما هو مستتر من معانيه‪ ،‬رائدنا في‬
‫هذا الية الكريمة } تقل لو نكانن الوبوحر ممنداادا لينكلمما م‬
‫ت نريبي لنننمفند الوبنوحتر قنـوبنل نأن نتننفند نكلمنما ت‬
‫ت‬ ‫ن‬ ‫ن ت‬ ‫و‬
‫نريبي نولنوو مج وئِـننا بمممثولممه نمندادا{ )الكهف‪(109:‬‬
‫‪ ‬تغيير منظور رؤيتنا للصواب والخطأ‬
‫إن من أهم ملمح أزمتنا الراهنة هي اختلط المفاهيم‪ ،‬فقد وضع البعض "الصواب" مقابل‬
‫"الحق" و"الخطأ" مقابل "الباطل"‪ ..‬وهذا شيء عجيب‪ ،‬ومريع في نفسّ الوقت!‪ ..‬فقد بتنا ل‬
‫ب أو عممل إل ونسمع بعد ذلك حملت التشهير ضد صاحبه‪ ،‬والعجيب أن تلك‬
‫يصدر كتا م‬
‫الحملت تتم لتفه السباب وأبسط الختلفات‪ ،‬ذلك أن البعض أصبح ل يطيق أن يرى‬
‫خطأ!‪ ..‬ونسي أن الخطأ من جبلة النسان‪ ،‬وتناسى أن "خير الخطائين التوابون"‪ ..‬وقد حدث‬
‫ل"‬
‫ذلك نتيجة إحلل المفاهيم مكان بعضها‪ ،‬فما كان "خطأ" )يمكن تحمله( بتنا نعتبره "باط ا‬
‫يتوجب علينا الستعاذة بال منه؛ ومقاومته ‪،‬من ثيم‪ ،‬بكل عنف!‪ ..‬وللسف ان هذه السياسة‬
‫الحمقاء لم تدع لنا ما نعتز به من درر تاريخنا‪ ،‬فمن المؤسف أن نسمع بعض الحمقى يهاجمون‬
‫رجال السلم‪ ،‬حتى أنهم لم يتورعوا عن مهاجمة رموز سامقة كالمام أبي حامد الغزالي‪ ،‬والشيخ‬
‫يوسف القرضاوي‪ ،‬والداعية التمجيد عمرو خالد‪ ..‬في سلسلة لن تنتهي إل بهدم تعرى هذا الدين‬
‫تعروة تعروة؛ بالساءة إلى رجاله‪.‬‬
‫إن هناك حاجة دائمة للتفاعل الواعي والمنصف مع حقائق هذا الدين؛ تفاعلا يكون‬
‫أكثر موضوعيدة وعقلنية‪ ،‬تناولا يجنبنا الغضب غير المبرر الذي تعامل من خلله البعض؛‬
‫حتى بتنا يكفر بعضنا بعضاا‪ ،‬ونخرج بعضنا بعض ا من ملة السلم لتفه السباب‪ ،‬وهو ما‬
‫يتنافى مع حقيقة المرونة التي أعطانا السلم إياها لنرى الحياة من خللها‪..‬‬

‫‪7‬‬
‫وهنا يأتي دور كتاب ال المجيد ليقدم لنا القدوة والمثل في هذا الشأن‪ ،‬وهو أقدس‬
‫نص‪ ،‬وأثبت حقيقة عرفناها‪ ..‬حيث يحتمل كتاب ال عز وجل تعدد الجتهادات في فهمه‪،‬‬
‫وإدامة النظر إليه بعيدن من الفكمر متجددة‪ ،‬وهو ما فهمه الولون‪.‬‬
‫يقول المام الغزالي عن القرآن الكريم‪) :‬فتفكر في القرآن‪ ،‬والتمسّ غرائبه‪ ،‬لتصادف فيه‬
‫مجاممع علم الولين والخرين وجملةن أوائله‪ ،‬وإنما التفكر فيه للتوصل من جملتمه إلى‬
‫تفصيله‪ ،‬وهو البحر الذي ل شاطئ له(…‬
‫وهنا يتضح لنا ما يغيب عنا اليوم؛ من ضرورة التفريق والتمييز بين طبيعة النص القرآني‬
‫ص بشري عداه‪،‬‬‫اللهي؛ والذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‪ ،‬وبين طبيعة أي ن د‬
‫والذي يحتمل كل وجوه القصور النساني‪ ،‬فالنص القرآني شيء‪ ،‬وتعليقات الناس‬
‫وشروحاتهم عليه شيئ آخر!! وهذا المر يجب أن يكون واضحا‪ ،‬بحيث يدفع الناس إلى‬
‫مزيدد من التقبل لمحاولت فهم القرآن بعين متجددة‪ ،‬ومزيد من التفاعل مع النص القرآني‬
‫بدون خوف زائد‪ ،‬من أن يؤدي الجتهاد البشري القاصر إلى الساءة للنص اللهي!‪ ..‬فهذا‬
‫المر لن يحدث‪ ،‬لنه من المفهوم مسبق ا أن الجتهاد البشري هو بطبيعته اجتهاد قاصر!‬
‫تقبل الختلف والتعامل معه بإيجابية‪..‬‬ ‫‪‬‬

‫إن تاريخنا السلمي التليد حافمل بالختلف حول المور الشرعية‪ ،‬وقد كان هذا المر‬
‫أكثر مدعاة للفخر منه إلى أي شيء آخر‪ ،‬فالختلف في المور الشرعية ‪-‬المباح‬
‫الختلف حولها‪ -‬هو من قبيل التيسير في أمور الدين‪ ،‬لكين الجانب الشيد روعةا في هذا‬
‫المنهج الراقي الذي أتحفنا به هذا الدين العظيم؛ هو قدرته على إيجامد منهادج للتعامل بين‬
‫الناس؛ ميكننا على الدوام من استيعاب نقيصة الختلف؛ فحيولها إلى نعمة!!‪..‬‬

‫‪8‬‬
‫ونورد فيما يلي وجه ا من وجوه الختلف حول قضية لم يكن من السهل الختلف‬
‫حولها! لنتأكد من عظمة هذا الدين وعظمة هذه المة‪ :‬فقد اختلف العلماء حول‪" :‬كيفية‬
‫وحي ال عز وجل إلى جبريل بالقرآن الكريم"‪ ،‬وقد كان هناك من العلماء من اعتقد بأن‬
‫جبريل قد تلقفه سماعا من ال ‪،‬عيز وجل‪ ،‬بلفظه المخصوص‪ .‬بينما قال آخرون بأن جبريل‬
‫حفظه من اللوح المحفوظ‪ .‬وفي رأدي ثال د‬
‫ث قيل بأن‪ :‬جبريل تألقي إليه المعنى؛ واللفاظ‬
‫لجبريل‪ ،‬أو لمحمد صلى ال عليه وسلم؟! ومن الثابت أن الرأي الول هو الصوب‪ ،‬وهو ما‬
‫عليه أهل السنة والجماعة)‪ (1‬ومع ذلك فقد وصلتنا وجهات النظر الخرى الضعيفة بكل‬
‫احترام!!‬
‫فلننظر إلى عظممة هذا المنهج القرآني في التعامل مع المور؟!‪.‬‬
‫وهنا نود أن نؤكد بأن علينا اليوم أن نقوم بواجب النظر في كتاب ال عز وجل حتى وإن‬
‫جاءت محاولتنا مشفوعة ببعض الخطاء‪ ،‬على اعتبار أننا بشر‪ ..‬وهل يتوقع البعض أن يأتي‬
‫العمل البشري كاملا تاما خاليا من الخطأ؟! وعليه فيجب على هذه المة أن تعيد النظر في‬
‫نظرتها للخطاء‪ ،‬وتغيير نظرتها لها واعتبارها جرائم يجب رجم أصحابها!‪ ..‬بل يجب النظر إلى‬
‫الخطاء على أساس أنها رافعة توصل للصواب‪.‬‬
‫وهنا نود التأكيد على طبيعة العمل الذي بين يدي القارئ الكريم‪ ،‬فهو عمل مليء بالنواقص‪،‬‬
‫حيث هو )أساساا( عبارة عن مجموعة من البحاث المختصرة)‪ (2‬ولشك أن الختصار في‬
‫ل‪..‬‬
‫كثير من الحيان يأتي مخ ا‬

‫‪ ()1‬أنظر كتاب مباحث في علوم القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪) ،34‬بتصرف بسيط(‪.‬‬
‫‪ ()2‬عدد من المباحث المنشورة في هذا الكتاب تشكل معا كتاب "هل القرآن عربي‪ :‬مقدمة في البناء الداخلي في‬
‫القرآن الكريم" وهو كتاب جاهز للطباعة منذ عدة أعوام‪ ،‬وقد قدم له في حينه فضيلة الدكتور يونسّ السطل‪،‬‬
‫وكذلك سعادة الدكتور عدنان قاسم‪ ..‬لكن الكتاب لم يطبع لعدم توفر القدرة المالية‪ ،‬وعليه تم تلخيصه في‬
‫مباحث مختصرة تم نشرها في مجلت وعلى شبكة المعلومات الدولية )النترنت( ولتنشر من ثم ضمن هذا‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫من جانب آخر فإن من عيوب هذا الكتاب أنه كثيرا ما لجأ إلى أسلوب إثارة السئِلة دون أن‬
‫يقدم لها إجابات‪ ..‬مكتفيا بما يمكن أن يحققه ذلك من دفمع القارئ للتفكير الجاد والعميق فيما‬
‫يتم طرحه‪ ..‬وعليه فإن كان لي من كلمدة أهمسّ بها في أذن القارئ الكريم فهي‪ :‬أن "كن صبورا‬
‫لدى قراءة هذا الكتاب حتى لو اضطررت لقراءته مرتين"!‬
‫وقبل أن أشرع في تقديم واجب الشكر لبعض أولئِك الذين يتوجب عليي شكرهم ‪،‬وهم كثر‪،‬‬
‫أود أن أقدم نبذة مختصرة جدا للموضوعات التي تم تناولها في هذا الكتاب؛ لعلها تقوم مقام‬
‫التيسير بين يدي الموضوعات ذاتها‪..‬‬
‫ففي الموضوع الول )التكاملية‪ :‬نظرة ثانية على القرآن الكريم( حاولنا أن نوضح بأنه‬
‫ولسباب تاريخية تتعلق بنشأة علم التفسير فقد تم الهتمام بالقرآن الكريم بصورة تجزيئِية‪،‬‬
‫حيث كان المفسرون الوائل زاهدين في وضع تفسير للقرآن الكريم لم يضعه رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ..‬وقد أيدى ذلك المنهج التجزيئِي إلى ضياع الكثير من الصور الكلية التي تتيحها‬
‫اليات الكريمة إذا ما نظر إليها المفسر على أنها مجموع واحد يمكن في كثير من المواضع أن‬
‫يشكل صورة كلية واحدة‪ ..‬ومن خلل هذا البحث تعرضنا لثلثة نماذج لصور كلية ظهرت لنا‬
‫بالنظر إلى اليات بشكل تكاملي‪..‬‬
‫ثم تعرضنا لـ "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم" ومن خللها حاولنا التوضيح بأن من مظاهر‬
‫التقصير في فهمنا للنص الكريم؛ أننا نحتكم فقط للمعاني الصطلحية القريبة والشائعة‬
‫وحدها‪ ..‬ول نحتكم إلى جملة المعاني اللغوية المحتملة للفظ؟!‪ ..‬مما يؤدي إلى ضياع الكثير‬
‫من الوجوه المحتملة والمشروعة لفهم النص‪ ،‬وأوضحنا أن أخذ جملة المعاني اللغوية "الممكنة"‬
‫و"المحتملة" و"المتاحة" للفظ معين بالحسبان )وهي متعددة كما تبين ذلك معجمات اللغة(‬
‫إنما يفتح آفاقا جديدة للنفتاح على النص الكريم‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫بعد ذلك تعرضنا لتساؤل بدا للبعض بديهيا‪ ،‬وبدا لنا أنه يستتر خلفه معنى خطير‪ ..‬هذا‬
‫السؤال هو‪ :‬هل الـقرآن عربيي؟! وقد تعرضنا له لن الكثيرين يفهمون "عروبة القرآن الكريم"‬
‫وكأنها رديف لمعناها القومي‪ ..‬مع أن تطبيق مفهوم "النسبية" الذي تحدثنا عنه مع بداية الكتاب‬
‫يجعل للعروبة معادن إضافية‪ ،‬دون نفي المعنى القريب )للعروبة( بالطبع‪ ..‬ومن المداخل الجديدة‬
‫للعروبة والتي أتاحتها أمامنا "ظاهرة النسبية" أمكننا أن نحل لغز مجموعة كبيرة من الكلمات‬
‫الواردة في القرآن الكريم )تناهز المائة كلمة( والتي اعتبرها البعض غير عربية!‪ ..‬فهل هي غير‬
‫عربية حقا؟!‪..‬‬
‫وفي المبحث التالي تعرضنا لـ "أثر القرآن الكريم في تشكيل الوعي الزمني عند العرب"‬
‫ومن خلله أوضحنا أن السلم لم يكن حدث ا عابرا في حياة العرب‪ ،‬بل كان له مجموعة من‬
‫التأثيرات التي غيرت في منهجية وطرق التفكير عند العرب‪ ..‬لجل ذلك فقد فاجأ المسلمون‬
‫العالنم بمناهجهم التأصيلية الفيذة وغير المسبوقة‪ ،‬والتي استخدموها للحفاظ على تراثهم الديني‬
‫والعلمي‪ ..‬وعليه؛ فقد تعرضنا لبع د‬
‫ض من ملمح النقلة المنهجية التي نقلها القرآن للناس‪ ،‬فغير‬
‫مفاهيمهم التي رأوا الشياء من خللها‪ ،‬وقد اتخذنا نظرتهم لمفهوم الزمن مثال على تلك‬
‫النقلة‪..‬‬
‫وفي المبحث الخير "الكيمياء ومنهج استقراء العلوم الطبيعية في القرآن الكريم" قمنا‬
‫باستقراء منهجي للكيمياء وبعض مصطلحاتها الواردة في القرآن الكريم‪ ،‬بحيث حاولنا أن‬
‫نقدم نموذج ا ‪،‬يمكن احتذاؤه‪ ،‬لستقراء العلوم الطبيعية المختلفة في القرآن الكريم‪..‬‬
‫وعليه ‪،‬ومن خلل موضوعات الكتاب مجتمعة‪ ،‬نكون قد قدمنا مزيج ا لطيفا ومتنوع ا‬
‫لمجموعة من العلوم؛ واستقرأنا بعض ما لها من علقة بالقرآن الكريم‪ ،‬بما يعبر عن شوق‬
‫وتشويق غامرين يمكن أن يحسّ بهما من يقرأ القرآن قراءة واعية عميقة ومتأملة‪..‬‬
‫وهنا أود أن أتقدم بالشكر الجزيل لسرة عوني داوود رحمه ال وأسكنه فسيح جنانه من دولة‬
‫المارات العربية المتحدة الشقيقة‪ ،‬والتي اختارت أن تبير فقيدها بطباعة هذا الكتاب على‬
‫نفقتها‪ ،‬داعيا ال عز وجل أن يجعل للمغفور له )بإذن ال( ولسرته خير الثواب‪.‬‬
‫وأشكر بإخلص وحرارة كل من‪/‬‬

‫‪11‬‬
‫أخي الشيخ سيد بركة على مساعدته لي في قراءة هذا العمل وتقييمه والتقديم له‪ ،‬شاكرا له‬
‫تشجيعه المستمر لي على طريق البحث والتي أفضت أخيرا إلى طباعة هذا العمل‪.‬‬
‫كما ل يفوتني أن أشكر ‪،‬وبحرارة‪ ،‬أخي وصديقي الستاذ‪ /‬فضل ياسين الذين تحمل‬
‫المشاق الشديدة لتوفير نفقات طباعة هذا الكتاب‪ ،‬والشكر الجزيل أيضا لخي عيسى شويدح‬
‫داعيا ال عز وجل لهما ولسرتيهما بالخير وأن يجعل لهما نصيب ا من أجر هذا العمل‪.‬‬
‫ويسعدني أن أتقدم بالشكر الخالص للستاذ الدكتور عدنان قاسم لما غمرني به من علمه‬
‫وتلطفه وسعة صدره لدى مراجعته وتقديمه لهذه المادة يوم أن كان يجمعها كتاب تحت‬
‫)هل القرآن عربي‪ :‬مقدمة في البناء الداخلي في القرآن الكريم( والتي تم تضمينها في هذا‬
‫الكتاب على هيئِة أبحاث متفرقة‪ ،‬فكان لتشجيعه أطيب الثر في دفعي لنجاز هذا العمل‪..‬‬
‫كما أقدم شكري الخالص لخي الدكتور‪ /‬محمد السقا عيد من جمهورية مصر العربية‪ ،‬الذي‬
‫أتحفني وتفضل عليي بتقريظه الهام لهذا الكتاب‪ ،‬داعيا ال عز وجل أن يجعل الدكتور عيد منارة‬
‫علم وهدى لمة السلم‪..‬‬
‫ول يغيب عني أن أتقدم بخالص الشكر لخي الكاتب والباحث )القرآني( صلح الدين أبو‬
‫عرفة )من الجناح الشمالي لفلسطين( على ما بذله لي من تشجيع مخلص لطباعة هذا الكتاب‬
‫ونشره؛ في وقت كنت فيه محتاجا لنصائحه الغالية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وأتقدم بالشكر الخاص والخالص لكل من الخت الباحثة الدكتورة "إيمان بوخبزة" من المغرب‬
‫الشقيق‪ ،‬التي قامت بترجمة العديد من أبحاث هذا الكتاب للفرنسية والمشاركة بأحدها في‬
‫"مؤتمر تطوان للعجاز العلمي")‪ (1‬والشكر الخالص كذلك للزميلة الباحثة درية محمد مكي‬
‫من جمهورية مصر العربية على ما بذلته من جهد في قراءة مسودة هذا العمل وإبداء العديد من‬
‫الملحظات المتخصصة عليه‪ ..‬كما أتقدم بشكري الخالص لطلب قسم اللغة النجليزية في‬
‫كلية اللغات والترجمة بجامعة المام محمد بن سعود السلمية‪ ،‬الذين قاموا بترجمة مقال‬
‫"ظاهرة النسبية في القرآن الكريم" إلى النجليزية ونشره‪ .‬وإن نسيت فلن أنسى أخي الستاذ‪/‬‬
‫فراس نور الحق )مدير موقع موسوعة العجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة( من سوريا‬
‫الشقيقة على ما يبذله ‪،‬باستمرار‪ ،‬من جهد للعناية بالبحاث القرآنية‪ ،‬وعلى نشره الجزء الكبر‬
‫من مادة هذا الكتاب على موقعه المتميز‪.‬‬
‫وأشكر بحرارة إبنتي العزيزة أريج البطش على مشاركتها لي هيم إخراج هذا العمل إلى حيز‬
‫الوجود‪ ،‬بما في ذلك قراءته وإبداء الملحظات الراقية عليه؛ مما مكنني من تدارك بعضها‪..‬‬
‫داعيا ال عز وجل أن يمنحها من علمه وبركته ومحبته‪.‬‬
‫متمني ا على القراء العزاء أن يزودوني بملحظاتهم على هذا الكتاب‪ ،‬وذلك بالكتابة لي على‬
‫بريدي اللكتروني‪ ،‬فلعلنا نتدارك في طبعات قادمة بعض ما فاتنا‪ .‬وإن كان لي من أمل‬
‫ورجاء‪ ..‬فأن يرحمنا ال؛ وأن يتجاوز عن سيئِاتنا‪ ،‬وأن يهدينا صراطا مستقيما‪..‬‬
‫وصيل اللهم على نبيك الخاتم محمد )صلى ال عليه وسلم( وعلى آل بيته الطهار إلى يوم‬
‫الدين‪ .‬وتجاوز عن أخطائنا وسيئِاتنا‪ ،‬وارحم والدينا‪..‬‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين‪..‬‬

‫محمد صبحي السويركي‬


‫‪swairky@hotmail.com‬‬
‫غزة في ليلة السابع والعشرين من رمضان ‪1426‬هـ‬

‫‪()1‬عقد المؤتمر بمدينة تطوان في المغرب الشقيق بتاريخ ‪ 26‬يونيو ‪.2005‬‬

‫‪13‬‬
‫الموافق ‪30/10/2005‬م‬

‫‪14‬‬
‫التكاملية‬
‫نظرة ثانية على القرآن الكريم!‬

‫ما الذي أردنا قوله في هذا البحث؟‬

‫)لسباب تاريخية ‪،‬تتعلق بنشأة علم التفسير‪ ،‬يمكننا‬


‫استيعاب حقيقة اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم بصورة‬
‫تجزيئِية‪ ،‬حيث كانوا زاهدين في وضع تفسير للقرآن الكريم‬
‫لم يضعه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ..‬وقد أدى ذلك‬
‫المنهج التجزيئِي إلى ضياع الكثير من الصور الكلية التي‬
‫تتيحها اليات الكريمة إذا ما نظر إليها المفسر على أنها‬
‫مجموع واحد يمكن في كثير من المواضع أن يشكل صورة‬
‫كلية واحدة‪..‬‬
‫هذا البحث يناقش ثلثة نماذج لصور كلية ظهرت لنا بالنظر‬
‫إلى اليات بشكل تكاملي(‬

‫‪15‬‬
‫التكاملية)‪(1‬‬
‫نظرة ثانية على القرآن الكريم!‬

‫تقديم‬
‫إن من أجيل النعم التي أنعم ال بها علينا أن أرسل إلينا رسول كريما بكتاب كريم‪ ،‬ويزيد هذا‬
‫المنر جللا أن الكتاب الذي أرسل به محمد )صلى ال عليه وسلم( يحمل سمة "المطلق" بحيث‬
‫يمكن اعتباره مطلقا من جهة كونه‪ :‬الحق‪ ،‬والصدق‪ ،‬والعجاز‪ ..‬فهو هو ما أوحى به ال عز‬
‫وجل‪ ،‬وما بيلغّ به المين جبريل‪ ،‬وما تليفظ به الحبيب محمد )صلى ال عليه وسلم( على أسماع كتبة‬
‫الوحي‪ ،‬وما تناقلته الشفاه الطاهرة جيلا بعد جيل‪ ،‬إلى أن وصلنا كما هو‪ :‬مبرءا من أية زيادة أو‬
‫نقصان!‪...‬‬
‫إن وجود نص بهذه الصفة تيعتبر أمرا غير عادي في حياة البشر‪ ،‬فليست هناك فكرة في حياة‬
‫شعب من الشعوب أو أمة من المم ‪،‬غير أمة السلم‪ ،‬تماثل أو تقترب من هذه الفكرة‪ ،‬وليسّ‬
‫لدى حضارة من الحضارات الخرى أي لون من ألوان التراث الذي يمكن أن يتميز بمثل هذا‬
‫الثبات والستمرار دون انقطاع؛ على أصوله الولى‪ ،‬كما لدينا من آيات وسور‪.‬‬

‫‪ ()1‬نشر هذا البحث في العدد الحادي والربعين من مجلة "الوحدة السلمية" )وهي مجلة شهرية إسلمية تصدر‬
‫عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان( وكذلك على صفحتها اللكترونية‬
‫‪http://www.alwahdaalislamyia.net/41/mohammad%20sobhi%20souirky.htm‬‬
‫كذلك نشر هذا البحث على موقع "موسوعة العجاز العلمي في القرآن والسنة على الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.55a.net/alswerkee/nsbea4.htm‬‬

‫‪16‬‬
‫ولقد تكفل ال عز وجل بحفظ هذا الكتاب المطهر }إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون{‬
‫بالكيفية التي هو أعلم بها‪ ،‬وبضمن ذلك ما قيضه ال عز وجل من جهود قيمة بذلها علماء المة‬
‫وأبناؤها المصطفين لهذه المهمة‪ ،‬والذين لم يدخروا من جهدهم جهدا؛ في سبيل الحفاظ على‬
‫هذا القرآن؛ على الصورة التي نزل عليها‪ ،‬ابتداء بما ابتدعوه من منهجية علمية فريدة اختصوا بها‬
‫القرآن وحده؛ وقد كان القرآن سببا في نشأة تلك المنهجية‪ ،‬والتي حاولوا من خللها الحفاظ‬
‫على هذا الكنز الثمين بعيدا عن الضياع أو النسيان؛ وبعيدا عن شبهة التحريف‪ ،‬بحيث ظل‬
‫القرآن على حاله الول }ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه{‪..‬‬
‫سّ عادل بالمسئِولية تجاه القرآن الكريم ‪،‬أيدى بهم‬
‫وقد أدى ما تمتع به أولئِك الرجال من ح د‬
‫ذلك إلى الحذر ‪،‬بل الحذر الشديد‪ ،‬في التعامل معه‪ ،‬ولم يكن الحذر ديدنهم وحدهم‪ ،‬بل إن‬
‫الطريقة التي تعامل من خللها رسول ال )صلى ال عليه وسلم( ‪‬مع آيات القرآن المنزلة تباع ا‬
‫إنما كانت تدل على قددر عظيم من الحرص والحذر‪ ،‬إذ حرص رسول ال )صلى ال عليه وسلم(‬
‫على تدوين اليات والسور حال تنزلها‪ ،‬وهو ما لم يفعله )صلى ال عليه وسلم( مع الحاديث‬
‫الشريفة‪ ،‬وقد اختط الصحابة الكرام من بعده )صلى ال عليه وسلم( نفسّ النهج المتميز بالحذر‪،‬‬
‫فعمد أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان ‪،‬رضي ال عنهما‪ ،‬إلى جمع القرآن الكريم ونسخه‬
‫وتوزيعه في آفاق الدولة السلمية‪..‬‬

‫‪17‬‬
‫هذا من حيث التعامل المادي مع القرآن الكريم‪ ،‬من حيث كونه نصوص ا مكتوبةا ومدونة‬
‫على أوراق أو جلود أو خشب أو حتى عظام حيوانات‪ ..‬إل أن الحرص قد دفع بهم إلى اتخاذ‬
‫إجراءات أشد؛ لجل الحفاظ عليه من ناحية تواتره الصوتي‪ ،‬والذي هو جزء ل يتجزأ من تواتره‬
‫بشكل عام)‪ (1‬فقاموا بابتداع التشكيل والتنقيط‪ ،‬وهي العملية التي ضمنت ‪،‬من بعد ذلك‪،‬‬
‫للسنة العرب الخذة بالغتراب عن لغتها‪ ..‬ضمنت لها أن تحافظ ولو على الحيد الدنى من‬
‫الصلة مع مصدر عظمة تلك اللغة‪ ،‬أل وهو القرآن الكريم‪...‬‬
‫إن مجموعة المثلة التي سنقوم بطرحها ‪،‬في هذا البحث‪ ،‬قد تحمل لنا بعض التوفيق من ال‬
‫عز وجل في محاولتنا للبرهان على أن القرآن الكريم الذي أخذ حقه من جهود العرب في سبيل‬
‫ظ بحقه الكامل من التدقيق والجتهاد في فهم‬
‫المحافظة عليه من التبديل والتحريف لم يح ن‬
‫معانيه وتقصي مراميه من قبل الجيال المتعاقبة‪...‬‬
‫نقول بان النماذج الثلثة التي سنطرحها قد تستطيع التأكيد والبرهان على أن ليات القرآن‬
‫الكريم ما يمكن أن تتفتح عنه من المعاني الجديدة والجليلة في حياة المة اليوم‪ ،‬ولجل أن‬
‫ندرك العلة التي أصابتنا اليوم وكانت سبب ا في الحد من قدرتنا على فهم القرآن الكريم وإصابة‬
‫المزيد من مراميه؛ فلبد من محاولة فهم الطريقة التي تعامل العلماء الوائل من خللها مع‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪ ()1‬لدى ذكر تواتر القرآن فإن فكر البعض يذهب إلى عملية تواتره الكتابي والمصحفي‪ ،‬إل أن هناك تواترا آخر ل‬
‫يقل أهمية عن ذلك‪ ،‬أل وهو التواتر الصوتي‪ ،‬فالعلة في التواتر هي بقاء أصوات القرآن على ما هي عليه‪ ،‬وأشكال‬
‫الكتابة المختلفة من حروف ونقاط وتشكيل إنما الغاية والغرض منها‪ :‬المحافظة على تلك الصوات كما هي‪،‬‬
‫ولبيان أهمية التواتر الصوتي فإن ألفاظا قرآنية مثل كلمة "مجريها" على سبيل المثال في قوله تعالى }بسم ال‬
‫مجريها ومرساها{ ل يمكن إظهار تواترها اعتمادا على شكل الكلمة المكتوبة‪ ،‬بل إن لها طريقة خاصة في قراءتها‪،‬‬
‫فالياء فيها تقع ‪،‬من حيث اللفظ‪ ،‬بين اللف والياء‪ ،‬وهي من حيث النطق تشبه حرف ‪ A‬في النجليزية‪ .‬وكما‬
‫ذكرنا آنفا فإن العلماء يؤكدون على عدم جواز حفظ القرآن بصورة منفردة‪ ،‬بل لبد من تلقيه عمن يتقن تواتره‪،‬‬
‫وذلك حفاظا على تواتره الصوتي‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ذكرنا أن المة جميعها قد تعاملت مع القرآن الكريم بقدر كبير من الحرص مخافة اختلطه‬
‫بغيره من النصوص‪ ،‬حيث بلغّ الحرص بالنبي )صلى ال عليه وسلم( أن اختص القرآن بالكتابة‬
‫الفورية حال تنزل الية أو السورة منه‪ ،‬دون أن يقوم بالمر ذاته مع السنة المطهرة‪ ،‬وقد بلغّ من‬
‫حرص المسلمين من بعده )صلى ال عليه وسلم( على عدم الجتراء على كتاب ال أن وجدنا رجل‬
‫كأبي بكر الصديق رضي ال عنه يقول‪) :‬أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب ال‬
‫ما لم يرد ال(‪..‬‬
‫وقد كانت تلك التحذيرات كافية لجعل التعامل مع هذا النص الكريم مقتصرا على قراءته‬
‫قراءة صحيحة خالية من عيوب التحريف أو التصحيف‪ ،‬والجتهاد في فهمه بما يوحي به ظاهر‬
‫النص‪ ،‬ولقد كان اهتمامهم ‪،‬رضوان ال عليهم‪ ،‬منصب ا على القرآن الكريم من حيث زمان‬
‫ومكان وسبب نزول اليات المختلفة‪ ،‬وتيروى أن علي ا ‪،‬كرم ال وجهه‪ ،‬كان يقول‪) :‬أيها الناس‪،‬‬
‫سلوني عن القرآن‪ ،‬فوالذي بعث محمدا بالحق ما من آية منه إل وأنا أعلم بها متى نزلت‪ ،‬وأين‬
‫نزلت‪ ،‬وفيم نزلت(‪.‬‬
‫فيما بعد؛ وبعد ازدياد غربة العرب عن لغتهم بسبب اختلطهم بالعراق الخرى‪ ،‬وبسبب‬
‫مقتل وموت العديدين ممن هم على صلة بالقرآن الكريم أوثق من غيرهم‪ ..‬بدت هناك حاجةم‬
‫ملحةم لتوضيح معاني القرآن الكريم؛ والتي بدأت شيئِا فشيئِا تصبح غريبة على أبناء العربية‪ .‬هنا‬
‫بدأ العلماء بالتعامل مع النص القرآني الكريم بالقراءة مضافا إليها بعض معاني اللفاظ التي‬
‫يمكن أن توشكل على قارئها‪ ،‬مع بقاء حرصهم الشديد على عدم القول في القرآن بآرائهم‬
‫الخاصة‪..‬‬
‫وهنا ‪،‬حسب اعتقادنا‪ ،‬نشأت مشكلة من أهم المشكلت التي أعاقت المسلمين فيما بعد‬
‫عن إدراك الملمح الفنية الكلية للقرآن الكريم‪ ،‬حيث بقي التعامل مع القرآن الكريم منصبا على‬
‫النواحي الفقهية والبلغية‪ ،‬وغلب عليه طابع التعامل الجزئي مع المفردات واللفاظ؛ دون أن‬
‫يتعداه إلى إدراك الجوامع المشتركة والصور الكلية الناتجة عن تفاعل المفردات مع بعضها؛ وبما‬
‫يشكله ذلك التفاعل من منظومات فنية متكاملة‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫ويصف الشهيد "سيد قطب" الجهود الجزئية التي بذلت للوصول إلى اللمحات الفنية في‬
‫القرآن الكريم بالقول‪) :‬وأيا ما كانت تلك الجهود التي بذلت في التفسير وفي مباحث البلغة‬
‫والعجاز فإنها وقفت عند حدود عقلية النقد العربي القديمة‪ ،‬تلك العقلية الجزئية التي تتناول‬
‫كل نص على حدة‪ ،‬أما مرحلة إدراك الخصائص العامة فلم يصلوا إليها أبدا ل في الدب ول في‬
‫القرآن‪ ،‬وبذلك بقي أهم مزايا القرآن الفنية مغفل خافيا…( ليخرج "سيد قطب" بنتيجة هامة‬
‫حول الساليب الواجب اتباعها للتعامل مع القرآن الكريم فيقول‪…) :‬أصبح من الضروري‬
‫لدراسة هذا الكتاب المعجز من منهج جديد‪ ،‬ومن بحث عن الصول العامة للجمال الفني فيه‪،‬‬
‫ومن بيان للسمات المطردة التي تميز هذا الجمال عن سائر ما عرفته اللغة العربية من أدب‪،‬‬
‫وتفسر العجاز الفني تفسيرا يستمد من تلك السمات المتفردة في القرآن الكريم)‪.(1‬‬

‫‪ ()1‬التصوير الفني في القرآن‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ص ‪.30‬‬

‫‪20‬‬
‫النموذج الول‪:‬‬
‫دعوة النور‪ ..‬في مجتمع ما حول الرسول)‪!!(1‬‬

‫يعتبر المثل أحد أغراض سبعة)‪ (2‬في القرآن الكريم‪ ،‬والمثل المضروب في‬
‫القرآن يمتد ‪،‬في حقيقة المر‪ ،‬إلى أبعد مما يبدو عليه ظاهريا‪ ،‬ونتيجة لعدم‬
‫إدراكنا لطبيعة ذلك المتداد فإن كثيرا من الغموض يمكن أن يكتنف تفسير‬
‫بعض اليات التي تشتمل على مثل تلك الساليب‪ .‬وسيتضح لنا هذا المر‬
‫بشكل جليي من خلل النموذج التالي‪..‬‬

‫‪ ()1‬نشر هذا البحث في العدد السادس والربعين من مجلة "الوحدة السلمية" ‪-‬بيروت وعلى صفحتها‬
‫اللكترونية على الرابط‪http://www.alwahdaalislamyia.net/46/souwairky.htm :‬‬
‫كذلك فقد نشر على موقع "موسوعة العجاز العلمي في القرآن والسنة" على شبكة المعلومات الدولية‪.‬‬
‫‪ ()2‬المر‪ ،‬والنهي‪ ،‬والوعد‪ ،‬والوعيد‪ ،‬والجدل‪ ،‬والقصص‪ ،‬والمثل‪ .‬أو من‪) :‬المر‪ ،‬والنهي‪ ،‬والحلل‪ ،‬والحرام‪،‬‬
‫والمحكم‪ ،‬والمتشابه‪ ،‬والمثال( ودليل العلماء على ذلك ما ورد عن ابن مسعود رضي ال عنه؛ عن النبيي صلى ال‬
‫ف واحد‪ ،‬ونزل القرآتن من سبعمة أبواب‪،‬‬‫ب واحدد‪ ،‬وعلى حر د‬ ‫ب الوتل ينزتل من با د‬
‫عليه وسلم أنه قال‪) :‬كان الكتا ت‬
‫على سبعة أحرف‪ :‬زجمر‪ ،‬وأممر‪ ،‬وحلمل‪ ،‬وحرامم‪ ،‬ومحكمم‪ ،‬ومتشابمه‪ ،‬وأمثال( أخرجه الحاكم والبيهقي‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫}إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ل يؤمنون ‪ ‬ختم ال‬
‫على قلوبهم وعلى سمعهم‪ ،‬وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ‪ ‬ومن‬
‫الناس من يقول آمنا بال وباليوم الخر وما هم بمؤمنين ‪ ‬يخادعون ال‬
‫والذين آمنوا وما يخدعون إل أنفسهم وما يشعرون ‪ ‬في قلوبهم مرض‬
‫فزادهم ال مرض ا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ‪ ‬وإذا قيل لهم ل‬
‫تفسدوا في الرض قالوا إنما نحن مصلحون ‪ ‬أل إنهم هم المفسدون ولكن‬
‫ل يشعرون ‪ ‬وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن‬
‫السفهاء‪ ،‬أل إنهم هم السفهاء ولكن ل يعلمون ‪ ‬وإذا لقوا الذين آمنوا‬
‫قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ‪ ‬ال‬
‫يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ‪ ‬أولئِك الذين اشتروا الضللة‬
‫بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين‪ ،‬مثلهم كمثل الذي استوقد‬
‫نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب ال بنورهم وتركهم في ظلمات ل يبصرون ‪‬‬
‫صم بكم عمي فهم ل يرجعون{)البقرة‪(18-6:‬‬
‫فإذا ما أخذنا قوله تعالى }مثلهم كمثل الذي استوقد نارا{ فسنجد بأن‬
‫النظرة التجزيئِية لليات)‪ (1‬ستملي علينا الربط بين }الذي استوقد نارا{ مع الذين‬
‫}اشتروا الضللة بالهدى{ في الية التي سبقتها والتي يقول ال عز وجل فيها‪:‬‬
‫}أولئِك الذين اشتروا الضللة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين{‪..‬‬
‫وعليه يكون الذي "استوقد نارا" إشارة إلى أولئِك الذين "اشتروا الضللة بالهدى"‬
‫أو هكذا سيظن البعض!‪..‬‬

‫‪ ()1‬نقصد بهذا المصطلح النظر إلى كل آية بمفردها وبمعزل عن اليات التي تسبقها أو تلحق بها‪ ،‬ويقصد به‬
‫كذلك‪ :‬النظر إلى اليات دون تتبع الصور الكلية التي ترسمها‪..‬‬

‫‪22‬‬
‫ويرتكز الذين قالوا بهذا على حقيقة أن التشبيه هنا إنما هو مجرد علقة‬
‫بين رمزين مفردين )المشبه والمشبه به( لكننا نميل إلى العتقاد بأن هذا الفهم‬
‫إنما أملته القراءة التجزيئِية للقرآن الكريم‪ ،‬أما القراءة التكاملية فيمكن أن يكون‬
‫لها رأي آخر؟!!‪..‬‬
‫إن المنهج التكاملي يعطينا فكرة أوضح عن علقة التشبيه الواردة في‬
‫اليات المشار إليها‪ ،‬فهي ليست كما تبدو ظاهريا مجرد علقة بين طرفين‬
‫)مشبه ومشبه به( بل هي صورة كاملة تقابلها صورةم كاملةم أخرى‪ ،‬لذا فلم يكن‬
‫عجيبا أن تمتد الصورة التمثيلية إلى آيات عديدة قبل الية المعنية التي ذكرناها‬
‫حيث تبدأ اليات في رسم الصورة الكلية!!‪.‬‬
‫ويتعاضد التمثيل القرآني في المثلة التي سنذكرها)‪ (1‬لتتضح لنا حقيقة أن‬
‫بعض أجزاء الصورة في المثل المضروب يمكن أن تظل خافية‪ ،‬غير تامة‬
‫الوضوح! وسنرى أن إشكالية عدم الفهم هنا إنما نتجت عن عدم مثول الصورة‬
‫كاملةا للفهام؛ بل تحذف بعض أجزائها‪ ،‬وتركت الصورة الكاملة ‪،‬لحكمة يعلمها‬
‫ال‪ ،‬تستشف استشفافا من خلل التفكر العميق‪.‬‬
‫من هنا كانت محاولة الوصول إلى المعاني الكاملة لليات أمرا عسيراا‪ ،‬إذا‬
‫ما ‪‬تم تجاهل الجزاء الخافية من الصورة المشار إليها‪ ،‬وكثيرا ما أيدت‬
‫محاولت فهم أمثال تلك اليات إلى إدراك جزئي لمعانيها!‪.‬‬
‫وفيما يتعلق بالصورة التمثيلية المبثوثة في بداية سورة "البقرة" وكيفية النظر‬
‫إليها؛ فلعل الصورة التي نحن بصددها تبدأ فعليا من قوله تعالى‪} :‬إن الذين‬
‫كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ل يؤمنون‪ ،‬ختم ال على قلوبهم‬
‫وعلى سمعهم‪ ،‬وعلى أبصارهم غشاوة{‪..‬‬

‫‪ ()1‬أوائل "البقرة" كما في النموذج الذي ندرسه هنا‪ ،‬وجزء كبير من سورة "العنكبوت" في النموذج الذي سندرسه‬
‫في صفحات قادمة‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫وهنا لبد من التوقف عند ما تم فهمه من قبل بعض المفسرين من أن‬
‫)الختم( في قوله تعالى}ختم ال على قلوبهم{إنما هو صفة للحالة التي أصبح‬
‫عليها القلب‪ ،‬وأن )الغشاوة(في قوله}وعلى أبصارهم غشاوة{صفة للحالة التي‬
‫صار عليها كل من السمع والبصر مجتمعين‪.‬‬
‫وقد جاء هذا الفهم الجزئي نتيجة لتجزيء الية إلى مقامين موضوعيين‬
‫هما‪ :‬مقام )الختم( }ختم ال على قلوبهم{ )أي‪ :‬طبع ال على قلوبهم فل يدخل‬
‫فيها النور(‪ ،‬والمقام الثاني هو مقام )التغشية( }وعلى سمعهم وعلى أبصارهم‬
‫غشاوة{ وقد أضفوا تلك الصفة على السمع والبصر مجتمعين!! )أي‪ :‬وعلى‬
‫أسماعهم وعلى أبصارهم غطاء( وهذا التفسير لمدلول اللفاظ المشار إليها‬
‫يتعارض مع الحقائق العلمية؛ ويتعارض كذلك مع المكانية الوحيدة التي تسمح‬
‫لنا برسم صورة كلية لليات كما سنري لحقاا‪ ،‬فضل عن أنه يتعارض وبشكل‬
‫أساسي مع ما جاء في سورة الجاثية‪ ،‬والذي يحمل نفسّ المعنى‪}:‬أفرأيت من‬
‫اتخذ إلهه هواه وأضله ال على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره‬
‫غشاوة{)الجاثية‪!(23:‬‬
‫فالدلة التي سقناها ‪،‬والدليل الخير تحديدا‪ ،‬والمستقى من سورة الجاثية‪،‬‬
‫توضح كلها وبشكل كامل أن الختم إنما هو للسمع وللقلب معا‪ ،‬بينما‬
‫الغشاوة للبصر وحده)‪ (1‬وهذا يتوافق مع الحقيقة العلمية الصرفة التي‬
‫سنبينها!!‪ ...‬ويتوافق مع ما يسمح لنا برسم الصورة اللطيفة والمتكاملة التي نحن‬
‫بصددها!!‪..‬‬

‫‪ ()1‬في مناسبة قادمة قد يكون من المناسب دراسة هذا المر كتطبيق على اختلف المستويات الموضوعية في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬والتي تقتضي إخلف نبرة القراءة تبعا لذلك الختلف!!‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫ومن البديهي أن المعنى السابق ‪،‬بما يتضمنه من ضرورة التفريق بين‬
‫"الختم" و"الغشاوة"‪ ،‬ل يتأتيان بدون فهم دقيق لمعاني اللفاظ‪ ،‬فالقرآن الكريم‬
‫قد فيرق بين نوعين مختلفين من مبطلت الحواس‪ ،‬الول‪ :‬وهو الختم )ويعني‬
‫الغلق المطبق( أما الثاني‪ :‬فهو "التغشية" أو "الغشاوة" والخير ل يجوز فهمه‬
‫على أساس أنه )إغلق مطبق( ومحكم كما الختم‪ ،‬بل هو )أي الغشاوة( إغلق‬
‫يسمح للعين أن ترى لكن بشكل ضبابي وجزئي‪ ،‬ويرتكز فهمنا هذا على جملة‬
‫المعاني اللغوية لكلمة "غشاوة" وكذلك استنادا إلى جملة معانيها في المواضع‬
‫المختلفة من القرآن الكريم‪ ،‬والتي تفيد جميعها أن الغشاوة ل يمكن أن تكون‬
‫تغطية كلية‪ ،‬بل هي حالة وسطية )بين حالتين طرفيتين(‪ ،‬وهو ما يتضح في‬
‫قوله تعالى‪} :‬إذ يغشيكم النعاس أمنة منه{ والنعاس هنا هو حالة وسطية بين‬
‫الصحو والنوم!‪ ..‬ومن هنا يمكن فهم النعاس على أنه حالة بين الصحو والنوم‬
‫كما أن الغشاوة على العين هي حالة بين البصار والعمى!!‪.‬‬
‫كذلك فإن الشارة العلمية لكلمة )غشاوة( يمكن أن تعزز فهمنا لهذه‬
‫اللفظة والذي بسطناه آنفاا‪ ،‬على أساس أنها حالة وسطية بين حالتين‪ ،‬فاللفظ‬
‫"غشاء" كثيرا ما يستخدم للتعبير عن خاصية "نصف النفاذ"‪ ،‬فغشاء الخلية‬
‫سمي غشاء لنه تينفتذ من جهة ويمنتع من جهة أخرى! وهناك أنواع من الغشية‬
‫يمكنها أن تمرر بعض الجزيئِات كأيونات الملح وتمنع مرور بعض الجزئيات‬
‫الخرى)‪.(1‬‬
‫والن؛ فإنه ومن خلل إدراكنا لليات عمل كل من حاستي السمع‬
‫والبصر‪ ،‬وفي ظل فهمنا للفروقات بين الذبذبات التي تسمع بها الذن )ذبذبة‬
‫صوتية( واختلفها عن الذبذبات التي ترى بها العين )ذبذبة ضوئية( فلبد من‬
‫طرح إمكانية أخرى للتعامل مع النص‪:‬‬

‫‪ ()1‬تمت الستفادة من ظاهرة النتشار الغشائي في صناعة أجهزة الكلى الصناعية لتنقية الدم في حال الفشل‬
‫الكلوي حيث باستطاعة تلك الجهزة أن تفصل اليونات عن محتويات الدم‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫من المعروف أن الذن تسمع بواسطة الذبذبات الصوتية المعبرة عن‬
‫الصوات‪ ،‬والتي تنتقل في الهواء بسرعة ‪ 320‬مترا في الثانية‪ ،‬وتلك الذبذبات‬
‫قادرة على النتقال في الهواء‪ ،‬والمواد السائلة‪ ،‬والصلبة مع وجود فروقات في‬
‫سرعة ذلك النتقال‪ ،‬ويمكن لتلك الذبذبات )الصوتية( أن تصل إلى الذن بدون‬
‫أن يكون للعوائق التي تعترضها كبير تأثير عليها أو القدرة على منعها‪ ،‬وعلى‬
‫سبيل المثال فإن وضع حاجز ما بين الذن ومصدر الصوت غير كا د‬
‫ف لمنع‬
‫عملية السمع!! إل أنه وعلى العكسّ من ذلك فإن ذبذبات الضوء يمكن منعها‬
‫‪،‬بسهولة‪ ،‬ذلك كون ذبذبات الضوء تسير في خطوط مستقيمة‪ ،‬ويكفي لمنع‬
‫العين من البصار أن نضع بينها وبين مصدر الضوء حاجزا‪ ،‬عندها ستفقد‬
‫العين قدرتها على البصار!‪.‬‬
‫من هنا فإن إبطال حاسة السمع ل يتم بتلك البساطة التي يتم بها إبطال‬
‫حاسة البصر‪ ،‬فبينما يكفي وضع حاجز ما أمام العين لمنعها من رؤية المرئيات؛‬
‫فإن هناك حاجة لغلق مداخل الذنين بشكل محكم لمنع النسان من‬
‫السمع‪ ،‬أي أن يختم عليهما!!‪..‬‬
‫من هنا كان لبد لنا من طرح السؤال التالي‪ :‬ماذا يمكن أن يحدث لو‬
‫فهمنا الية بشكل مخالف لما فهمه بعض المفسرين‪ ،‬وذلك بأن نجعل الختم‬
‫للقلب وللسمع مع ا }ختم ال على قلوبهم وعلى سمعهم{ وعندها ستصبح‬
‫الغشاوة ‪-‬حسب هذا الفهم‪ -‬للعين وحدها }وعلى أبصارهم غشاوة{حيث‬
‫الغشاوة هنا ليست تامة الحجب‪ ،‬مما يعتبر تفسيرا مقبول إذا ما تأملنا المثال‬
‫الذي نحن بصدده )النور والنار( وإل فكيف يمكن التيان بهذا المثال البصري‬
‫لقوم ل يبصرون أصل؟!!‪..‬‬

‫‪26‬‬
‫ومن المناسب هنا التأكيد على أن الذهاب في التفسير إلى الناحية التي ذهب إليها‬
‫البعض‪ ،‬وتم فيها الجمع بين مقامي "السمع" و"البصر" }وعلى سمعهم وعلى أبصارهم‬
‫غشاوة{ بحيث نجعل السمع والبصر مشتركين ‪‬في مستوى موضوعي واحد )هو الغشاوة(‬
‫إنما يتسبب في انهيار كل الصورة التمثيلية التي نريد إظهارها هنا‪ ،‬والتي نرى أن من‬
‫ضرورات تكونها وتشكلها أن يضاف السمع إلى القلب }ختم ال على قلوبهم وعلى‬
‫سمعهم{ في مستوى موضوعي واحد هو "الختم" فيما يبقى مقام )التغشية( مقصورا على‬
‫العين وحدها }وعلى أبصارهم غشاوة{!! ويستمر القرآن الكريم بعد ذلك في رسم الصورة‬
‫التمثيلية برسم عناصرها واحدا تلو الخر؛ فكان )الكافرون( عنصرا أساسيا أضيف إلى تلك‬
‫الصورة‪} :‬إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ل يؤمنون{ وتواصل اليات‬
‫عرض العناصر الخرى للصورة عنصرا بعد آخر‪ ،‬لتضيف ‪،‬من ثم‪ ،‬بعد ذلك عنصر‬
‫)المنافقين(‪}:‬ومن الناس من يقول آمنا بال وباليوم الخر وما هم بمؤمنين‪ ،‬يخادعون ال‬
‫والذين آمنوا وما يخدعون إل أنفسهم وما يشعرون{ ومن الواضح أن القرآن الكريم‬
‫‪،‬وهو يسعى حثيث ا لستكمال الصورة المرسومة هنا‪  ،‬فكأنما يقوم ‪،‬في‬
‫واقع الحال‪ ،‬برسم صورة تدريجية لعوامل بشرية تموج وتتصارع في المجتمع‬
‫البشري ذاته!!‪..‬‬
‫لجل ذلك فقد وجدنا القرآن الكريم ‪،‬ولجل إحداث حالة من التوازن‬
‫في الصورة المرسومة‪ ،‬وجدناه يبدأ بإضافة عناصر جديدة لكنها ذات طبيعة‬
‫مغايرة هذه المرة! إذ أن المجتمع البشري عادة ل يحتوي كفارا ومنافقين فقط؛‬
‫بل ل بد من وجود قوى أخرى تكون خيرة وفاعلة‪ ،‬فهي ل تفتأ تقدم النصح‬
‫الدائم لهؤلء وهؤلء بالعودة إلى طريق الرشاد‪..‬‬

‫‪27‬‬
‫ولننظر إلى تلك القوى الخيرة وهي تكاد تتوارى في زاويا الصورة‬
‫المخصصة للحديث عن المنافقين وتتراءى لنا في خلفيتها!! فجاء الحديث معبرا‬
‫عنها )القوى الخيرة( بصيغة الفعل المبني للمجهول )وإذا قيل( وكأنها إشارة إلى‬
‫أن الخير إنما هو قيمة بحد ذاته بغض النظر عن الجهة التي تحمله أو تقوله‬
‫به!!‪} ..‬وإذا قيل لهم ‪)‬أي للمنافقين( آمنوا كما آمن الناس‪} {...‬وإذا قيل لهم‬
‫ل تفسدوا في الرض قالوا إنما نحن مصلحون‪{...‬فمن الذي قال لهم وطلب‬
‫وسلم‪ ،‬وإنهم أتباعه المؤمنون الملتفون من حوله‪..‬‬ ‫صلى ال عليه‬ ‫منهم؟ إنه النبي ذاته‬
‫بكل تأكيد!‪.‬‬
‫وتظهر صورة الخيار في الصورة الكلية من خلل نصـحهم المتكـرر للشـرار‬
‫من كفار ومنافقين‪} :‬وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قــالوا أنــؤمن كمــا آمــن‬
‫الســفهاء{ وكأنمــا يحــاول النــص الكريــم إظهــار حركــة التــدافع المتماوجــة فــي حركــة‬
‫مجتمعية دائمة بين شدر طامغ يقابله نصمح دائم‪ ...‬وقد وجدنا الصــورة تعــود لتــتركز‬
‫عل ــى المن ــافقين م ــرة أخ ــرى}وإذا لق ــوا ال ــذين آمن ــوا ق ــالوا آمن ــا‪ ،‬وإذا خل ــوا إل ــى‬
‫شــياطينهم قــالوا إنــا معكــم إنمــا نحــن مســتهزئون؛ الـ يســتهزئ بهــم ويمــدهم فــي‬
‫طغيانهم يعمهون{ والتركيز هنا نابع من كون تلك الفئِة إنما هــي العنصــر الخطــر‬
‫تأثيرا والشد فتكا بالمجتمعات!!‪...‬‬
‫وعند هذه النقطـة يجـب الحـذر؛ إذ توشـك الموجـة أن تنقلـب علـى أعقابهـا‬
‫فتأخذ اتجاهــا آخـر!! والشــكالية تكمـن فــي الدقـة والرقـة والسلسـة الـتي يتــم مــن‬
‫خللها ذلك النقلب إلى الدرجة التي نصبح معهـا بحاجــة إلــى مزيــد مــن الدقـة‬
‫فـ ــي الحاسـ ــيسّ لجـ ــل رصـ ــد ذلـ ــك النقلب والشـ ــعور بـ ــه دون أن تعبـ ــث بـ ــه‬
‫أفهامنا!!‬

‫‪28‬‬
‫فبعد أن وصلنا إلى توصيف كامل للصورة المجتمعية سالفة الذكر وجدنا‬
‫القرآن الكريم يعقب على أحوال الفئِة الخيرة‪ ،‬فجاء تعقيبه على حال المنافقين‬
‫‪‬بقوله تعالى }أولئِك الذين اشتروا الضللة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما‬
‫كانوا مهتدين{‪..‬‬
‫ولننظر إلى اسم الشارة "أولئِك" المعبر عن ضمير الجمع الغائب‪ .‬وهنا‬
‫يجب الحذر والنتباه جيدا!‪ ..‬حيث أعقب هذه الية قولتهت تعالى}مثلهم كمثل‬
‫الذي استوقد نارا‪ {...‬وهي ‪،‬أيضا‪ ،‬حديث عن الجمع الغائب!! مما قد يلقي في‬
‫روع القارئ بأنها تشترك مع الية التي سبقتها في الجهة التي يتم الحديث‬
‫عنها )أي المنافقون( بينما الحقيقة مختلفة تماما!‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫إن المحك الحقيقي لدراك البعد غير الظاهر في القرآن الكريم ]"العمق"‬
‫ف للتعامل مع نص‬ ‫و"التكامل"( إنما يكمن في امتلك رهافة الحسّ بقدر كا د‬
‫ي‬
‫بمواصفات غير عادية وغير بشرية‪ ،‬مما سيمكن القارئ من إدراك لحظات‬
‫النقلب السلسة‪ ،‬ومواضع التغير غير المحسوبة‪ ،‬ولو امتلكنا تلك القدرة عندها‬
‫سندرك أن ‪ ‬السياق في اليات آنفة الذكر قد اتخذ وجهة أخرى غير تلك‬
‫التي اتخذها السياق العام لليات السابقة‪ ،‬وذلك بعد قوله تعالى }أولئِك الذين‬
‫اشتروا الضللة بالهدى{‪ ..‬حيث يجب علينا هنا إقفال القوسين اللذين يضمان‬
‫داخلهما طبقات المجتمع المتصارعة فيما بينها‪ ،‬وبإقفال هذين القوسين فيكون‬
‫علينا أن نفتح قوسين جديدين يضمان صورة تمثيلية جديدة‪ ،‬وبهذا يمكن‬
‫الدراك بأن كلمة "مثلهم" في قوله تعالى }مثلهم كمثل الذي استوقد نارا‪ {...‬ل‬
‫تعود على الية التي قبلها )أي على المنافقين( بل تعود على كل أجزاء الصورة‬
‫ما بين القوسين؟!! وبهذا فإن الذي استوقد النار لن يكون ‪،‬على الطلق‪ ،‬كافرا‬
‫أو منافقا كما ظن البعض!!‪ ..‬حيث يجب النظر إلى اليات التالية على أساس‬
‫أنها ضمن قوسين جديدين وبما يتماشى مع المفهوم الجديد!!‪.‬‬
‫إن خلل كالذي نعاينه هنا )الرؤية التجزيئِية للنص( إنما ينشأ عن عدد من‬
‫السباب‪ ،‬والتي منها‪ :‬تعجل اشتقاق الصورة التمثيلية من قبل البعض‪ ،‬حيث‬
‫جعلوا من }استوقد نارا{ امتدادا لـ }أولئِك الذين كفروا{ ولم يتم اللتفات إلى‬
‫التناقض الناشئ عن اختلف الضمائر )بل تم تبريره!!( بين ضمير المفرد في‬
‫}فلما أضاءت ما "حوله"{)‪ (1‬وضمير الجماعة في }ذهب ال "بنورهم"{ مع أن‬
‫التناقض بينهما بيمن واضح؟!!‬

‫‪()1‬لحظ‪ /‬أن القرآن استخدم }فلما أضاءت ما حوله{ وهي إشارة إلى أن العين ترى الشياء بالضوء الساقط عليها‬
‫وليسّ بضوء يخرج من العين ويسقط على الشياء كما كان يعتقد!‪..‬‬

‫‪30‬‬
‫إن محاولتنــا للتعامــل مــع هــذه الصــورة يــأتي مــدفوعا بالرغبــة فــي رؤيــة النــص‬
‫من زواياه المختلفة وليــسّ القتصــار علــى زاويــة واحــدة منــه‪ ،‬وهــي المحاولــة الــتي‬
‫س ــتمكننا ف ــي نهاي ــة المط ــاف م ــن رؤي ــة الجـ ـزاء الدقيق ــة م ــن الص ــورة والمختفي ــة‬
‫ف وإحكام‪ ..‬ولعل تلك المحاولة تشـكل أمامنـا أمل وحيـدا يمكننـا مـن خللـه‬ ‫بلط د‬
‫نفي التناقض الواضح بين الضمائر والذي أشرنا إليه قبل قليل!‪ .‬والنظرة الجديدة‬
‫تقتضـي النظـر إلـى الـذي }اسـتوقد نـارا{ علـى أسـاس أنـه ل يقابـل }الـذين اشتروا‬
‫الضللة بالهدى{ وإنما يقابل "داعي اليمان" المـذكور فـي ثنايـا اليـات‪ ،‬والـذي ل‬
‫يفتــأ ينصــح الكــافرين‪} :‬آمنــوا كمــا آمــن النــاس{ وهــو بهــذا إنمــا يمثــل النــبي‪ ،‬أو‬
‫الرسول‪ ،‬أو المؤمن بشـكل عـام!!‪ ..‬ويعــزز مــن توجهنــا هــذا فــي فهـم اليــات ‪‬مـا‬
‫تعرف عن الكافر بأنه لم تيعهد عليه بذل الجهد للوصول إلى النور! وهو المعنى‬
‫‪‬عينه الذي تشي به كلمة }استوقد{)‪ (2‬والتي تفصح عــن بــذل جهــد ل يتســتهان‬
‫به ليقاد النار للوصول إلى النور‪ ،‬وهو جهد ل يمكن أن ينسب للكافرين بأي‬
‫حــال‪ ،‬وإنمــا يمكــن أن يشــير إلــى الجهــد الجهيــد الــذي يبــذله النــبي أو الرســول‬
‫لبلغ الرسالة!‬

‫‪ ()2‬مما شاع من أساليب اللغة العربية في التعبير عن مقاصدها المختلفة أن إلحاق حرفي اللف والسين في أول‬
‫الكلمة يمكن أن يشير إلى "الجد في طلب الشيئ"‪ ،‬مثل )إستطعم‪ ،‬إستسقى‪ ،‬إستمطر‪ ،‬إستزل‪ ،‬إستعمر‪ ...‬الخ(‬
‫وعلى هذا فإن كلمة "استوقد" يمكن أن تفيد‪" :‬طلب الوقود وبذل الجهد في تحصيله"‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪..‬وتنجح المحاولة‪ ،‬وتبدأ الشـرارة الصـغيرة بـالتحول إلـى جـذوة مشـتعلة تنشـر‬
‫النور فيما حولها؛ كما يمكن لها أن تقدم النار‪ ،‬وهو تشبيه دقيق لما تــأتي بــه‬
‫الرس ــالت للن ــاس م ــن بش ــير ون ــذير!!‪ ..‬فلم ــا أن أض ــاء ه ــذا الن ــبي لق ــومه )وه ــم‬
‫طبقات المجتمع الملتفين من حوله( نور الهداية؛ عندها ذهب ال عز وجل بنور‬
‫أبصار الضالين منهم }فلما أضاءت ما حوله ذهب ال بنورهم{ ولــم يــذهب بنــور‬
‫الرسالة ذاتها!‪ ..‬لقد ذهب بنور عيونهم وحدهم‪ ،‬فكان أن تركهــم فــي ظلمــات ل‬
‫يبصرون!!‪..‬‬
‫لكن أين يمكن لتلك الصورة التمثيلية أن تنتهي؟‪..‬‬
‫إنها تنتهي بقوله تعالى‪} :‬فلما أضاءت ما حوله ذهب ال بنورهم فتركهم‬
‫في ظلمات ل يبصرون{ وهنا تكتمل الصورة التي كانت قد ابتدأت بقوله تعالى‬
‫}ختم ال على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة{!! وهي النقطة التي‬
‫بدأنا تحليلنا هذا من عندها‪ ،‬حيث قلنا بأن الختم الكامل إنما يكون على‬
‫القلوب والسماع‪ ،‬بينما ‪‬الغشاوة )الغلق الجزئي( كانت على البصار فحسب‪،‬‬
‫وقد تركت لهم تلك الغشاوة ‪‬بصيصا غائما كان من الممكن أن يهتدوا به لو‬
‫حسنت نواياهم! لكن لجاجتهم وترددهم جعلهم يفقدون المل الخير في الهداية‬
‫والنجاة‪ ،‬عندها كان الختم المطلق على كل حواسهم فكانوا كما قال ال‬
‫فيهم }وتركهم في ظلمات ل يبصرون‪ ،‬صم بكم عمي فهم ل يرجعون{ ‪..‬‬
‫وصدق ال العظيم‬

‫‪32‬‬
‫النموذج الثاني‬
‫المفاجأة!!‪ ..‬من فيوضات سورة العنكبوت)‪!!(1‬‬
‫تحدثنا في الصفحات الماضية عن أحد النماذج‬
‫القرآنية الصالحة للدللة على ضرورة اتباع منهج‬
‫شمولي متكامل لفهم القرآن الكريم‪ ،‬ونتحدث هنا‬
‫أيضا عن نموذج قرآني مشابه‪ ،‬للدللة على الطبيعة‬
‫الخاصة للنص القرآني الكريم‪ ،‬وعلى ضرورة تحلي‬
‫قارئ القرآن بالمعرفة الدقيقة للكيفية التي ينساب‬
‫النص الكريم من خللها‪ ،‬من أجل أن يتوصل قارئ‬
‫القرآن إلى الصورة الجمالية والفنية المتكاملة التي يطرحها‪ ،‬والتي غالبا ما تغيب عن أذهاننا‬
‫في حيمى تعاملنا التجزيئِي مع القرآن الكريم‪.‬‬
‫واليات التي نحن بصددها هنا هي من سورة "العنكبوت" وهي السورة التي تسترعي‬
‫انتباهنا بل وتحيرنا! وتجبرنا على الوقوف أمامها مبهورين؛ وذلك لغرابة التوظيف القرآني‬
‫لحدى الحشرات الغامضة‪ ،‬ذلك التوظيف المثير الذي يحتاج إلى وقفة تفكر وتأمل‪ .‬حيث‬
‫يقول عز من قائل‪:‬‬

‫‪ ()1‬نشر هذا المقال على موقع "موسوعة العجاز العلمي في القرآن والسنة" على الرابط‪:‬‬
‫‪www.55a.net/firas/arabic/ index.php?page=show_det&id=389‬‬
‫وكذلك في العدد )‪ (42‬من مجلة "الوحدة السلمية" الصادرة في بيروت‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫}وقانل الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبينلنا ولنوحممل خطاياتكم وما هوم‬
‫بحاملين من خطاياهم من شيدء إنهم لكاذبون ‪ ‬وليحملن أثقالهم وأثقالا‬
‫مع أثقاملهم ولتيسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ‪ ‬ولقد أرسلنا نوحا‬
‫ف سندة إل خمسين عاما فأخذهم الطوفان‬ ‫إلى قوممه فلبث فيهم أل ن‬
‫وهم ظالمون ‪ ...‬مثتل الذين اتخذوا من دون ال أولياءن كمثمل‬
‫ت اتخذت بيت ا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا‬ ‫العنكبو م‬
‫يعلمون{)العنكبوت‪..(41-12:‬‬
‫والن؛ دعونا نتوقف قليلا أمام هذا السير الغريب‪ ،‬والطلسم الغامض‪ ..‬فحيث ل يدري‬
‫س ما السر في تسمية سورةد بأكملها من سور القرآن الكريم باسم "العنكبوت" ينبغي أن‬
‫النا ت‬
‫نتوقف‪ ..‬وأن نتفكر‪ ،‬وأن نتأمل!!‪..‬‬
‫والقارئ المتأمل يظل متعجبا من الهدف الذي تأورد هذا المثال من أجله؛ أو ما الذي‬
‫أريد به‪ ،‬أو الدللة عليه!!‪ ..‬ما عدا المعاني القريبة والشذرات العلمية التي تفيض من‬
‫جوانب النص!! وقبل أن نخوض في عمق التحليل للنص القرآني المشار إليه؛ فلبد أن‬
‫نعرض لبعض الشارات حول حشرة العنكبوت‪ ،‬وهي الشارات التي قد تتلقي قليلا من‬
‫الضوء على الهدف الذي تم من أجله إيرادها على الصورة التي وردت عليها!‪.‬‬

‫خيوط وعناكب!!!‬
‫من المعلوم أن العناكب تتبع فصيلة "العنكبوتيات" وهي فئِة من الحيوانات الناجحة‬
‫والواسعة النتشار‪ ،‬والتي تضم العناكب والعقارب وما شابهها‪ .‬ومن أشهر "العنكبوتيات"‪:‬‬
‫العناكب‪ ،‬وكثير منها يعيش في منازلنا أو في جوارها‪ ،‬وأنسجتها المستديرة معروفة لنا جيدا‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ومن اللفت في موضوع العناكب أن الحشرات الخرى ل تسلم من شرها ساعة من‬
‫ليل أو نهار! فهي دائمة الترصد لفرائسها في ورديات نهارية وليلية! وتبدأ العناكب الليلية‬
‫صيدها بعد انتهاء عمل العناكب النهارية‪ ،‬وقد ابتكرت العناكب طرقا مختلفةا لقتناص‬
‫فرائسها‪ ،‬فبعضها ينقض على فريسته انقضاضا مباشراا‪ ،‬إل أن أشهر طرق القتناص لديها‬
‫يتم عن طريق ما تنصبه من شباك تتخايل للفرائسّ وكأنها زينة تلمع أمامها‪ ،‬فإذا ما اقتربت‬
‫منها وقعت فيها وكانت سببا في هلكها!!‪..‬‬
‫وتقوم العنكبوت بإنتاج الخيوط الحريرية من غدد خاصة بذلك وتوزعه مغازلها الصغيرة‪،‬‬
‫وتتنتتج النواع المختلفة من الغدد أنواعا خاصة بها من الحرير‪ ،‬وتنسج العناكب شباكها بدقة‬
‫من خيوط حريرية وفقا لتصاميم خاصة لها أشكال مختلفة‪.‬‬
‫وقد بحث العلماء في تراكيب المادة التي يفرزها العنكبوت فوصلوا إلى ما يدهش‬
‫العقول‪ ،‬فقد رأوا بعض العناكب تنسج خيوطا رقيقةا جداا‪ ،‬وقد وجد أن كل خيط من تلك‬
‫الخيوط مؤلف في حقيقته من أربعة خيوط أدق منه‪ ،‬وكل واحد من تلك الخيوط الربعة‬
‫مؤلف من ألف خيط! ووجدوا كذلك أن كل واحد من اللف يخرج من قناة مخصوصة في‬
‫جسم العنكبوت‪ ،‬وهذا المر يقود إلى العجب‪ ،‬فكيف يتسع جسم العنكبوت إلى ألف‬
‫ثقب‪ ،‬يخرج من كدل منها أربع من خيوط العنكبوت؟!‪.‬‬
‫وعليه؛ فإن خيط العنكبوت يتكون في مجمله من أربعة آلف خيط!!‬
‫وأعجب من ذلك كله أن بعض العلماء اللمان قد وجدوا أنه إذا ضم أربعة بليين من‬
‫تلك الخيوط إلى بعضها البعض فإن سمكها لن يتجاوز عندئدذ ستمك شعرةد واحدةد من شعر‬
‫رأس النسان!!‪ .‬ومن غريب ما نحن بصدده من الحديث عن بيت العنكبوت ما كشف عنه‬
‫العلم من القوة الكامنة في خيط العنكبوت‪ ،‬سواء من ناحية دقة غزله‪ ،‬أو قوة تحمله في‬
‫حال جمعه إلى بعضه بعضا‪ ،‬إلى درجة أن تلك الخيوط لو ضمت إلى بعضها فستصبح‬
‫سومك! وقد بدأ العلماء بالفعل يفكرون في‬
‫حينها أشد قوة من سلك من الفولذ له نفسّ ال ت‬
‫الكيفية التي يمكنهم معها استخدام تلك الخيوط لحياكة الردية الواقية من الرصاص‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫إن المدهش في تناول القرآن لهذا المر أن جميع الحقائق التي تم الكشف عنها ل‬
‫تصطدم ‪،‬سواء بشكل مباشر أو غير مباشر‪ ،‬مع ما جاء القرآن به‪ ،‬إذ يدهشنا أن القرآن‬
‫الكريم قد تحدث عن العنكبوت التي اتخذت )وليسّ اتخذ( بيتا‪ ،‬فجاء العلم الحديث‬
‫ليخبرنا بأن النثى بالفعل هي من تقوم باتخاذ البيت!‪...‬‬
‫ويدهشنا كذلك أن وجدنا القرآن الكريم يتحدث عن ضعف "بيت العنكبوت" ل عن‬
‫ضعف الخيط ذاته! وهذا ما أثبتته البحاث العلمية بالفعل‪ .‬وعلى الرغم مما يطرحه‬
‫"العنكبوت" و"بيته" من لغز )قد يبدو مناقضا لما هو معلوم لنا من خلل خبراتنا ومشاهداتنا‬
‫في عالم الطبيعة( إل أن ما يطرحه القرآن الكريم يبدو أشد غرابة؟!‪ ..‬فالنظر بشكل متكامل‬
‫إلى اليات القرآنية التي تحكي قصة العنكبوت؛ إنما يعطينا فرصة لوضع اليد على سدر‬
‫عجيب من أسرار الجتماع البشري على هذه الرض منذ بداية الخلق وإلى أن يرث ال‬
‫الرض ومن عليها!‪..‬‬
‫ولكي نتوصل إلى ذلك السر فلبد من متابعة اليات الكريمة بنفسّ تسلسلها الذي‬
‫تطرحه سورة "العنكبوت" إذ تبتدئ السورة بإحدى عشرة آية مدنية )بعكسّ بقية السورة‬
‫والتي هي مكية( والحد بين المدني والمكي في هذه السورة إنما هو الحيد الذي تبتدئ معه‬
‫الصورة التي نحن بصددها بالتشكل والرتسام‪ ،‬حيث تبدأ معالمها تلوح لنا ابتداء من الية‬
‫رقم)‪) (12‬وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم‪ {...‬وهذه المقولة‬
‫بالذات هي عقدة الحكاية التي نحن بصددها!‪..‬‬
‫وتتحدث اليات الحد عشر الولى عن رحلة النسان على الرض‪ ،‬مع ما يرافق ذلك‬
‫س أن تيتركوا أن يقولوا آمنا وهم ل تيفتنون‪،‬‬ ‫الوجود من فتدن ومرارات }أحس ن‬
‫ب النا ت‬
‫ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمين الت الذينن صدقوا وليعلمين الكاذبين{‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ولقد اعتبر القرآن الكريم تلك الفتن علمات ضرورية لثبات الصدق على طريق‬
‫الحق‪ .‬وتضع اليات الكريمة نقطتين مضيئِتين أساسيتين في رحلة النسان‪ ،‬وهما معلمان‬
‫من معالم الحق في رحلة النسان على ذلك الطريق‪ ،‬وهاتان النقطتان هما‪ :‬الحسان إلى‬
‫الوالدين واجتناب الشرك بال }ووصينا النسانن بوالديمه تحسنا‪ ،‬وإن جاهداك لتشرنك‬
‫بي ما ليسّ لك به علمم فل تطعهما{‪..‬‬
‫ثم تعود السورة لتلح على أذهاننا بحقيقة ذلك الطريق الذي يجب علينا أن نسلكه‬
‫ب‬‫س كعذا م‬ ‫س من يقوتل آمنا فإذا تأوذي في ا م‬
‫ل جعنل فتنةن النا م‬ ‫}ومن النا م‬
‫ال‪ !!{...‬ويخبرنا بالنهاية التي ستئِول إليها المور‪} :‬وليعلمين الت الذين آمنوا وليعلمين‬
‫المنافقين{‪..‬‬
‫إذن‪ ..‬فهو توصيف لرحلة النسان على الرض بما يتمايز فيه طريق الحق عن طريق‬
‫الضلل‪ ..‬وبما ينتج عنه من إيمان أو كفر‪ ،‬وبما تنتهي إليه من جنة أو جحيم!!‪..‬‬
‫ونفهم من سياق اليات أن تلك المقدمة إنما كانت ضرورة موضوعية ل غنى عنها؛‬
‫لعداد وتهيئِة السامع لما سيتم تقديمه من عرض خطير!!‪ ..‬هو رحلة البشرية جميعها‪:‬‬
‫بنماذجها‪ ،‬بشخوصها‪ ،‬بمقدماتها وبنتائجها‪ ،‬ببداياتها وبنهاياتها المتناقضة‪ :‬فريق في الجنة‬
‫وفريق في السعير!!‪..‬‬
‫ت بيتاا{‬
‫ت اتخذ و‬ ‫وهنا تبتدئ رحلتنا مع النموذج الذي نحن بصدده }كمثمل العنكبو م‬
‫ولنلحظ أن منهج "التكامل" الذي نتحدث عنه يرصد آية العنكبوت المشار إليها )ورقمها‬
‫‪ (41‬فيجعل بدايتها قبل ذلك بكثير؛ فبدايتها تحديدا هي الية)‪ ..(12‬ولكي ل نضيع في‬
‫التفاصيل فلنتذكر دائما أن كل حلقة من الحلقات التي تعرضها السورة إنما تمثل رحلة كل‬
‫نبي مع قومه‪ ،‬وتعرضها السورة من خلل خمسة عناصر أساسية )إل إذا اقتضت خصوصية‬
‫ما عرض الرواية من خلل بعض عناصرها فقط وليسّ جميعها( والعناصر التي نتحدث عنها‬
‫وتكاد تتكرر في قصة كل نبي مع قومه هي‪:‬‬
‫‪ -1‬وجود انحراف بشري عن خط الرسالة اللهية؛ نتيجة لما يزينه الشيطان في صدور‬
‫أوليائه‪ .‬وإرسال الرسل ‪،‬من ثيم‪ ،‬لتقويم ذلك النحراف‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫‪ -2‬تكذيب القوام المختلفة بالمرسلين إليهم‪.‬‬
‫‪ -3‬إيقاع ال العذاب بالمكذبين‪.‬‬
‫‪ -4‬يترك ال عز وجل في بيوت المكذبين آية تدل على ما حاق بهم من عقاب‪.‬‬
‫‪ -5‬يقيم ال عز وجل الحجة علينا حين يأمرنا بالنظر في اليات واستقاء العبرة منها!‪..‬‬
‫وضمن السياق العام للعناصر الخمسة التي أوردناها فسنجد أن الية )‪ (13‬من سورة‬
‫"العنكبوت" )بداية رسم الصورة الفنية بعد أن كانت الية ‪ 12‬مقدمة موضوعية لبد منها(‬
‫وتتحدث الية )‪ (13‬عن حلقة من حلقات السلسلة الرسالية‪ ،‬وواحدة من تجارب الرسل‬
‫على هذه الرض‪ ،‬فهي تتحدث عن رسالة نوح عليه السلم‪:‬‬
‫ف سندة إل خمسينن عاماا{‪..‬‬ ‫ث فيهم أل ن‬‫}ولقد أرسلنا نوح ا إلى قومه فلب ن‬
‫وتنتهي قصة قوم نوح عليه السلم بالحديث عن النهاية المأساوية للمكذبين‪:‬‬
‫}‪...‬فأخنذتهتم الطوفاتن وهم ظالمون{‪...‬‬
‫‪..‬ويتم القصد والغرض من إيراد القصة بأن تطلب اليات ممن يأتي من بعد أن يأخذ‬
‫العبرة مما حدث‪ ،‬وان يتعظ باليات التي تتركت في ديار المكذبين‪:‬‬
‫ب السفينمة وجعلناها آيةا للعالمين{!!‪..‬‬ ‫}فأنجيناهت وأصحا ن‬
‫ويشير القرآن الكريم إلى العلمات التي تركها العقاب في ديار الظالمين‪ ،‬وتجعل‬
‫اليات الكريمة من تلك العلمات معالم بارزة في هذه الرواية وفي كل رواية ستأتي‪ ،‬فهي‬
‫تعني‪ :‬العبرة والعظة‪ ،‬وتعني قيام الحجة اللهية واستمرارها على الخلق أجمعين ما بقيت‬
‫تلك العلمات واليات‪ ،‬حيث تقتضي العناية اللهية قيام الحجة قبل وقوع العقاب‪:‬‬
‫ث رسول{!!‪..‬‬ ‫}وما تكنا تمعذبينن حتى نبع ن‬
‫وبعد أن يتم إغلق الملف الول )الحلقة الولى في السلسلة( يتم فتح ملف آخر‪،‬‬
‫فإذا ما رحنا نقرأه بطريقة تكاملية وجدنا أن له ‪،‬تقريبا‪ ،‬نفسّ الملمح والتقاسيم‪ ،‬بل وله‬
‫نفسّ العناصر الساسية التي تحدثنا عنها‪:‬‬
‫}وإبراهيم إذ قانل لقوممه اعبدوا ال واتقوه‪..{...‬‬
‫وهذا هو العنصر الول من العناصر الخمسة التي ترسم ملمح الرواية النسانية!‪..‬‬

‫‪38‬‬
‫}فما كان جواب قومه إل أن قالوا اقتلوه أو حيرقوه{ وهذا هو العنصر‬
‫الثاني‪ ..‬حيث التكذيب بما يجيء به الرسل!‪..‬‬
‫وهنا يجدر بنا التوقف قليلا لنتعرف على خاصية مهمة يتميز بها النص القرآني الكريم‪،‬‬
‫وهي الخاصية التي كانت سببا ‪،‬في كثير من الحيان‪ ،‬في إعاقة العقل البشري ‪،‬بقدراته‬
‫المحدودة‪ ،‬عن المتابعة الدقيقة لما يلقيه النص في الروع من معاني‪ ،‬بما يشير إلى أن‬
‫"الحركة التركيبية للنص القرآني الكريم هي أسرع ‪،‬وبما ل يقاس‪ ،‬من الحركة التفسيرية‬
‫للعقل البشري"!‪ ..‬وتشتمل الحركة التركيبية الفريدة للنص القرآني على مجموعة من‬
‫عمليات التفرع عن الصل الواحد أو ما نطلق عليه بـ البتعاد عن "السياق" الصلي ثم‬
‫العودة إلى ذلك السياق مرة أخرى‪ .‬ويكمن عجز العقل البشري في‪ :‬عدم قدرته على التمييز‬
‫بين نقاط التفرع عن الصل ونقاط العودة إليه!!)‪ ..(1‬مما يجعل النص )من وجهة نظر‬
‫العقل( وكأنه مجموعة غير متجانسة من اليات؛ التي تعطي مجموعة غير متناسقة من‬
‫الشارات‪ ..‬مما ينتج عنه ‪،‬في كثير من الحيان‪ ،‬ضياع الخيط الصلي الذي يشد أزر‬
‫الرواية ويحدد اتجاهاتها!!‪..‬‬
‫وإذا ما طيبقنا مقولتنا حول "تفرع النص وعودته للتجمع من جديد" على اليات الواقعة‬
‫بين الية رقم )‪ (16‬والية رقم )‪ (23‬من السورة }وإبراهيم إذ قانل لقومممه اعبدوا ال‬
‫واتقوه ذلكم خيمر لكم إون تكنتم تعلمون{)الية ‪ (16‬إنما تعبدون من دون ال أوثانا‪...‬‬
‫)‪ (17‬وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم‪ (18)...‬أولم يروا كيف يبدئ ال الخلق ثم‬
‫يعيده)‪ (19‬قل سيروا في الرض فانظروا كيف بدأ الخلق‪ (20)...‬يعذب من يشاء ويرحم‬
‫من يشاء‪ (21)...‬وما أنتم بمعجزين في الرض‪ (22)...‬والذين كفروا بآيات ال ولقائه‬
‫أولئِك يئِسوا من رحمتي‪ (23)...‬فما كان جواب قومه إل أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه‬
‫ال من النار‪(24)..‬‬

‫‪ ()1‬نعتقد بأن هذا الموضوع يحتاج لدراسة منفصلة نظرا لهميته‪ ،‬ولما له من تأثير في فهم النص أو إعاقة فهمه!‬
‫إذا لم يتم النتباه إلى هذه الخاصية بشكل كا د‬
‫ف‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫وبالنظر لليات المشار إليها فسنجد أنها تتحدث عن أمور فرعية ليست من أصل‬
‫الرواية‪ ،‬لكنها ضرورية لرسم ملمحها على كل حال!!‪..‬‬
‫ولنتابع حركة اليات في حلقتها الثانية‪ ،‬والتي تتحدث عن نبي ال إبراهيم‪ ،‬لتكون لنا‬
‫نموذجا هاديا في كيفية استقراء اليات‪ ..‬ومن استقرائنا لليات المتفرعة سنلحظ أمرين في‬
‫غاية الهمية‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬هو أن التفاصيل الدقيقة الواردة في تجربة نبي ال إبراهيم إنما هي مجرد مثال‬
‫يمكن أن ينطبق على تجارب الخرين من أنبياء ال ورسله الكرام‪ ،‬لذا فلن تكون هناك‬
‫حاجة لتكرار ذكرها في التجارب التية‪.‬‬
‫وثاني تلك المور‪ :‬هو أن اليات المتفرعة عن السياق الصلي تحتوي في كثير من‬
‫الحيان على إشارات ل يمكن فهمها إذا ما انتزعت من سياقها‪ ،‬بل يتأتى ذلك فقط في‬
‫حالة النظر إليها ضمن السياق العام الذي تطرحه اليات‪ ،‬وهو المر الذي سنقوم به في‬
‫سياق تعاملنا مع النموذج الذي بين أيدينا‪ ..‬على سبيل المثال فإن الية الكريمة‪} :‬قل سيروا‬
‫في الرض فانظروا كيف بدأ الخلق‪){...‬الية ‪ (20‬وكذلك الية الكريمة }وزين لهم‬
‫الشيطان أعمالهم فصيدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين{))‪ (38‬ل يمكن فهمهما إل ضمن‬
‫السياق العام الذي سنخلص إليه في نهاية هذا التحليل!!‪..‬‬
‫وبعد أن يكون التفرع في قصة إبراهيم قد أبعدنا قليل عن الحبكة الساسية للقصة؛‬
‫فسنجد النص وقد عاد ليلتحم وليتوحد مع خطه الساسي من جديد‪} :‬فما كان جواب‬
‫ت لقودم يؤمنون{)‪...!!!(24‬‬‫قومه إل أن قالوا اقتلوه أو حرقوه‪ ،‬إن في ذلك ليا د‬
‫ي‬
‫وهنا وجدنا أن العناصر الخمسة التي تحدثنا عنها آنفا لم تكتمل هنا‪ ،‬ذلك أن الرواية‬
‫ستعود للتفرع مرة أخرى!!‪.‬‬
‫}وقال إنما اتخذتم من دون ال أوثان ا مودة بينكم‪){...‬الية‪..(25:‬‬

‫‪40‬‬
‫بل إن النص الكريم يأختذ منحاى مدهش ا وذلك حين يقوم بإيراد تجربة أخرى ضمن‬
‫تجربة لم ينتمه الحديث عنها بعد!! }فآمن له لوط‪ {..‬ونجد هنا نموذجا من النماذج التركيبية‬
‫الفريدة‪ ،‬فقد تأشرك لو م‬
‫ط وإبراهيم في حبكة قصصية واحدة‪ ،‬ولعل ذلك بسبب أن زمانهما‬
‫واحد‪ ،‬ومكانيهما متقاربان!‪...‬‬
‫ويستمر الستطراد في رسم الخيوط الثانوية للرواية وذلك من خلل رسم الملمح‬
‫الثانوية)‪ (1‬في حياة الرسل أنفسهم من حيث هم بشر يتزوجون‪ ،‬ويتناسلون‪} ،‬ووهبنا له‬
‫إسحنق ويعقوب‪} (27){..‬ولوطا إذ قانل لقومممه إنكم لتأتونن الفاحشنة‪ (28){...‬إلى أن تلتقي‬
‫الرواية المزدوجة لبراهيم ولوط بنهايتها الطبيعية والحتمية‪:‬‬
‫ب‬
‫ت من الصادقين‪ ،‬قال ر ي‬ ‫ب ال إن كن ن‬ ‫}فما كان جواب قومه إل أن قالوا ائتنا بعذا م‬
‫انصرني على القوم المفسدين‪} (30){...‬ولما جاءت رتستلنا إبراهينم بالبشرى قالوا إينا مهلكو‬
‫أهمل هذه القرية‪} ..(31){...‬إنا تمنزلون على أهمل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا‬
‫يفسقون{)‪} (34‬ولقد تركنا منها آيةا بينةا لقودم يعقلون{‪..‬‬
‫وباستقرار آية العقاب في ديار الهالكين تكون العناصر الخمسة للرواية قد اكتملت‪،‬‬
‫عندما ترك ال عز وجل اليات لقوم يعقلون!!‪...‬‬
‫وبعد كل هذا الستطراد في رسم ملمح قصة إبراهيم ولوط مع قومهما‪ ،‬يكون القرآن‬
‫الكريم قد أكمل ثلث حلقات من السلسلة الرسالية )نوح‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬ولوط(‪ ...‬لينتقل‬
‫النص ‪،‬بعد ذلك‪ ،‬إلى حلقة جديدة هي قصة أهل مدين ونبيهم شعيب‪ ..‬وفي هذا يقول عز‬
‫من قائل‪} :‬وإلى نموديننن أخاهم تشعيباا‪){...‬الية‪} ...(36:‬فكيذبوه فأخذتهتم الرجفةت فأصبحوا‬
‫في دارهم جاثمين{)الية‪...(37:‬‬

‫‪ ()1‬هي ملمح ثانوية قياسا على بنية الرواية القرآنية‪ ،‬وقياسا على الخط الصلي الذي تتحدث عنه‪ ،‬ول يعني ذلك‬
‫ثانوية الموضوعات التي تتحدث عنها‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ولدهشتنا فإن قصة شعيب مع قومه تنتهي بسرعة‪ ،‬حتى دون أن تكتمل عناصرها‬
‫الخمسة‪ ،‬بل تيعطف عليها )وبكلمات معدودة( قصة عاد وثمود‪ ،‬والتي تأتي ‪،‬هي كذلك‪،‬‬
‫في منتهى الختصار‪ ،‬لنفاجأ بالعودة إلى عنصر رئيسّ من عناصر كل رواية أل وهو النهاية‬
‫الحتمية‪ ،‬تلك النهاية التي تنطبق هنا على الحلقتين والقصتين معا‪:‬‬
‫}وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم‪..(38){...‬‬
‫ولعل الجمع بين الحلقتين في رواية واحدة قد جاء نتيجة لشتراكهما ‪،‬هذه المرة‪ ،‬في‬
‫نوع العقاب الذي أوقعه ال بهما!!‪..‬‬
‫ومشهد غريب هو ذلك الذي تنتهي به الية )‪!! (38‬‬
‫}وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم ونزيننن لهم الشيطاتن أعمانلهم‬
‫فصلدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين{)‪(38‬‬
‫فبشكل خاطف وجدنا اليات تنعطف انعطافا حادا لتتحدث عن الشيطان وزينته التي‬
‫يوقع الناس من خللها في شير أعمالهم‪ ،‬دون أن يكون السياق العام لليات يوحي أو ينبئ‬
‫بهذه النعطافة المفاجئِة‪ ،‬ولتنتهي الية بشكل أكثر غرابة }فصيدهم عن السبيمل وكانوا‬
‫تمستبصرين{)‪..(38‬‬
‫وكأن اليات تسخر من أولئِك الذين وقع العقاب عليهم‪ ،‬حيث كانوا منقادين إلى‬
‫أقدارهم بعيون مفتوحة‪ ،‬دون أن يكونوا قادرين على رؤية الخطار التي كانت محدقة بهم‪..‬‬
‫إذ لم يكونوا مبصرين!‪ ..‬بل كانوا مستبصرين‪ ،‬أي مجريد ميدعي بصيرة!!‪...‬‬

‫‪42‬‬
‫ولنلحظ أنه لم تكن هناك حاجة لبراز العنصر الخامسّ من عناصر هذه الرواية‬
‫المشوقة )المر بالنظر في اليات التي أبقاها ال في بيوت الظالمين( وذلك لسبب غاية في‬
‫البساطة! إذ لم تعد تلك اليات والعلمات قادرة على الثبات والبقاء في وجه عوامل الزمن‪،‬‬
‫وعوامل التعرية الجيولوجية‪ ،‬وكل العوامل الخرى التي يكسبها النسان بيديه!‪ ...‬فحيث‬
‫يتطاول الزمن فتنهد له الجبال هداا‪ ،‬وحيث تنكشف الرض كل يوم عن وجه جديد‪ ،‬وحيث‬
‫يسلب النسان أخاه النسان قدرته على التحرك بحرية فتتاح له فرصة النظر في اليات‪..‬‬
‫ساعتها يكون النسان قد تسلب ‪،‬عملياا‪ ،‬قدرته على النظر في اليات المنتشرة في أرجاء‬
‫الرض!‪ ..‬مما يترتب عليه سؤال في غاية الهمية‪:‬‬
‫هل تسقط ‪،‬والحالة هذه‪ ،‬حجة ال على الناس‪ ،‬وهو الحكم‪ ،‬العدل‪ ،‬الذي يقول في‬
‫ث رسول{؟!!…‬
‫محكم التنزيل‪} :‬وما تكنا تمعذبين حتى نبع ن‬
‫من هنا فإن تأمل للنموذج الخير الذي عرضناه )مدين‪ ،‬وعاد‪ ،‬وثمود( يكاد يكشف‬
‫عن قرب طرح المفاجأة التي تكاد تلجم الفواه‪ ،‬بل تكاد تذهب بالعقول؟!! لكن وقبل‬
‫ذلك كله تأتي اليات بحلقة أخيرة مختصرة )تجربة نبي ال موسى عليه السلم مع كل من‬
‫قارون وفرعون وهامان(‪ ،‬لتأتي اليات بعد ذلك بإجمال لهم وأبرز ما تم عرضه في‬
‫الحلقات السابقة؛ كلون من ألوان العرض الخير قبل طرح المفاجأة‪:‬‬
‫ت فاستكبروا في الرض‬‫}وقارونن وفرعونن وهامان‪ ،‬ولقد جاءهم موسى بالبيينا م‬
‫وما كانوا سابقين{‪..‬‬
‫ونلحظ هنا أن اليات الكريمة لم تجد حاجةا لستكمال العناصر الخمسة؛ بل اكتفت‬
‫بإيراد جزدء منها‪ ،‬ذلك أنه ل فائدة من طرح عناصر لن يكون لها فائدة عملية في حياة‬
‫الناس! فاليات قد ذهبت‪ ،‬والشواهد قد اندثرت‪ ،‬والدلئل كلها انقرضت‪ ،‬فماذا يكون‬
‫حال الناس؟‬

‫‪43‬‬
‫‪..‬لكن وقبل أن تتطرح الكلمةت الفصل؛ فإن القرآن الكريم يجمل كل ما تقدم من‬
‫نهايات أليمة في حياة القوام السالفين بالقول‪} :‬فكلا أخذنا بذنبممه‪ ،‬فمنهم من أرسلنا عليمه‬
‫ض‪ ،‬ومنهم من أغرقنا‪ ،‬وما كانن‬
‫حاصباا‪ ،‬ومنهم من أنخنذتوهت الصيحتة‪ ،‬ومنهم مون خسفنا به الر ن‬
‫ستهم يظلمون{)الية‪.(40:‬‬ ‫الت ليظلمهم ولكن كانوا أنف ن‬
‫وهنا تأتي مفاجأة هذه السورة؟؟!!‬
‫لتوضح لنا سر ذلك الختيار العجيب لتلك الحشرة؛ كي تكون محورا تدور حوله‬
‫أحداث السورة وتكون اسما لها‪:‬‬
‫}مثل الذين اتخذوا من دون ال أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا{)الية‪..(41:‬‬
‫والصورة التمثيلية المرسومة ابتداء من الية )‪ (41‬إنما يقصد من ورائها أن تكون صورة‬
‫فنية تقابل أختها التي رسمتها اليات المحصورة بين اليات)‪ (40-14‬وعليه؛ فهي ليست‬
‫مجرد إشارة عابرة ككل الشارات التي سبقتها‪ ..‬بل قصد منها أن تكون خلصة‬
‫الخلصات‪ ،‬ونهاية النهايات‪ ،‬وعبرة العبر!… فمن لم تحالفه قدرته وأقداره على النظر في‬
‫اليات التي تركها ال في بيوت الظالمين ‪،‬لي سبب كان‪ ،‬فإن حجة ال عز وجل لن‬
‫تسقط عنه‪ ،‬ذلك أن ال عز وجل )كرما منه ورحمة( قد بثها كاملة غير منقوصة في بيت‬
‫العنكبوت!!‬
‫فمن مينا من لم يير العنكبوت من قبل )يقابله الشيطان(؟!‪..‬‬
‫من منا من لم ينر الحشرات المخدوعات )يقابلها أولياء الشيطان( وقد تخايلت لها زينة‬
‫بيت العنكبوت من بعيد )يقابلها ما يزينه الشيطان لوليائه(‪..‬‬
‫ومن منا من لم يلمح الحشرة وهي تقترب مبصراة على غير بصيرة )وكانوا مستبصرين(‬
‫إلى أن تقع في حبائل العنكبوت وزينته )حبائل الشيطان بالنسبة للنسان(؟؟‬
‫ومن منا من لم يأ م‬
‫ت بيت العنكبوت بعد عدة أيام ليشاهد فيه آيات العذاب التي حلت‬
‫بالمخدوعين!!‬
‫إن التأمل في سورة العنكبوت يكشف عن عمق الملحمة التي ترسمها هذه السورة‪،‬‬
‫والتي هي عينها ملحمةت مستمرة تؤرخأ لنضال الرسل ومآل الرسالت‪..‬‬

‫‪44‬‬
‫وآية العنكبوت)‪ (1‬هي تلخيص معجز وبليغّ لتلك النتيجة‪ ..‬والتي تفيد أمرا واحدا في‬
‫غاية البلغة والهمية أل وهو أن حجة ال على عباده كانت‪ ،‬ول زالت‪ ،‬وستبقى قائمة!‪..‬‬

‫ومن أراد أن يتأكد فلينظر إلى بيت العنكبوت!!‬

‫‪ ()1‬أخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬العنكبوت شيطان‬
‫مسخها ال فمن وجدها فليقتلها"‪ .‬وأخرج ابن أبي حاتم عن مزيد بن ميسرة قال‪ :‬العنكبوت شيطان‪ .‬وروى القرطبي‬
‫في تفسيره عن علي أيض ا أنه قال‪ :‬طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيت يورث الفقر‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫النموذج الثالث‬
‫بين خلق الرض ودحوها‪ ..‬الحلقة المفقودة!!)‪(1‬‬

‫من خلل نموذج قرآني آخر؛ نواصل حديثنا‬


‫عن الضرورة القصوى التي تقضي بالنظر إلى آيات‬
‫القرآن الكريم نظرة تكاملية شاملة‪ ،‬بحيث يتسنى‬
‫لقارئ القرآن أن يتمتع بما تتضمنه تلك اليات من‬
‫جوانب فنية؛ يهددها الضياع إن لم يتم النظر إلى‬
‫اليات الكريمة من خلل هذا المنهج التكاملي‬
‫والشمولي الذي نتحدث عنه‪..‬‬
‫والنموذج الثالث الذي نتحدث عنه هنا يتناول قضية خلق الرض‪ ،‬وهي المسألة التي‬
‫تعرض لها القرآن الكريم في عددد كبيدر من آياته‪ ،‬حيث جاء الكثير منها تمجمل‪ ،‬بينما جاء‬
‫البعض منها تمفصل‪ .‬ومن دبديع ما قيل في شأن خلق الرض وتكونها ما تناولته اليات التي‬
‫نحن بصددها‪ ،‬حيث يقول عز من قائل‪:‬‬
‫}أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها‪ ،‬رفع سمكها فسواها‪ ،‬وأغطش ليلها وأخرج‬
‫ضحاها‪ ،‬والرض بعد ذلك دحاها{)النازعات‪.(31-28:‬‬

‫‪ ()1‬منشور على موقع "موسوعة العجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة" وكذلك في العدد )‪ (43‬من مجلة‬
‫"الوحدة السلمية" الصادرة في بيروت‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫وتفاجئِنا اليات بترتيب حلقاتها‪ ،‬وتدهشنا بشدة رونقها وروعة ألقها وجمالها؛ ذلك‬
‫أنها ‪،‬ورغم كونها موجهة بشكل أساسي للحديث عن خلق الرض؛ إل أنها لم تدخل إلى‬
‫صميم الموضوع بصورة مباشرة!‪ ..‬لكنها التفت على هذا المر التفافا لفتا فيه الكثير من‬
‫العجب والدهاش‪ .‬فعلى الرغم من أن الموضوع الساسي في هذه اليات هو الحديث عن‬
‫خلق الرض؛ إل أن الرض لم تشكل الولوية الولى في الطرح! إذ ابتدأت اليات‬
‫بالحديث عن خلق السماء‪ ،‬وعن العجاز في خلقها على الصورة التي هي عليها وذلك‬
‫بقوله عز وجل‪:‬‬
‫}أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها‪ ،‬رفع سمكها فسواها‪ ،‬وأغطش ليلها وأخرج ضحاها{‬
‫وعلى عكسّ ما قد يتبادر إلى الذهن فإن الحديث هنا ل يدور عن السماء بمعناها‬
‫الشامل) ‪ ( ‬والتي تضم بين جنباتها النجوم والكواكب؛ وهو المعنى عينه الذي تناولته آيات‬
‫أخرى مثل‪} :‬ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين{ نقول‪ :‬بأن‬
‫المعنى في اليات التي نحن بصددها }أم السماء بناها{ إنما تتحدث عن مضمون للسماء‬
‫مختلف تماما‪ ،‬فهي تتناول السماء بمعنى "الغلف الجوي"‪ ،‬حيث تعتبر السماء بهذا‬
‫المعنى )الغلف الجوي( جزءا من الرض وليسّ شيئِا مستقلا خارج ا عنها!!‪..‬‬
‫ول يعنينا هنا الدخول في تفاصيل الية بقدر ما يعنينا إظهار اللتفاتة الجمالية الكريمة‬
‫فيها‪ ..‬فكما نرى فإن الية بدأت توصيفها للرض وخلقها بالحديث عن بناء السماء‬
‫)الغلف الجوي(! }أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها‪ {...‬لتعرج بعد ذلك على الموضوع‬
‫الصلي أل وهو خلق الرض ذاتها‪:‬‬
‫}والرض بعد ذلك دحاها‪ ،‬أخرج منها ماءها ومرعاها‪ ،‬والجبال أرساها{‬
‫ومن عجيب هذه اليات أنها تتحدث عن }الرض بعد ذلك{ لكنها ل تفصح لنا عن‬
‫حال الرض "قبل ذلك"؟!!‬

‫‪ ()2‬سيتم تناول هذا المر بشكل تفصيلي في موضوع "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم"‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫وكأنها تقفز عن حلقة هامة من تاريخ هذا الكوكب الجميل‪ ،‬لجل أن يملها النسان‬
‫بعلمه وبفكره وخياله؛ أو أن يكتشفها من خلل إنجازاته العلمية على امتداد العصور؛ حيث‬
‫تمكن النسان أخيرا من اكتشاف الكثير من التفاصيل الجديدة حول خلق الرض والكيفية‬
‫التي تم ذلك الخلق وفقها‪..‬‬
‫ولستجلء بعض مقاصد القرآن الكريم من وراء هذا الوصف الغريب لتاريخ خلق‬
‫الرض وتكونها؛ فعلينا أن نعرض بقليل من التفصيل إلى نظرة النسان للرض على مر‬
‫العصور‪ ،‬حيث رآها النسان القديم تنبسط أمامه فسماها البسيطة! وما درى أنها عندما‬
‫تطول على سطحها المسافات فإنها تتكور!‬
‫إل أن النسان بدأت تتجمع لديه في عصوره المتأخرة أدلة كثيرة تشير إلى "كروية"‬
‫الرض؛ ومع ذلك فقد واجهت النسان ‪،‬في عصوره الولى‪ ،‬صعوبة بالغة للقتناع بتلك‬
‫الحقيقة‪..‬‬
‫وعلى الرغم من أن بعض فلسفة الغريق كانوا قد قالوا بدوران الرض إل أن الناس‬
‫قد ظلوا غير مصدقين‪ ،‬وظلوا على غير قناعة بحركة الرض ودورانها حول نفسها؛ لمدة‬
‫ألفي سنة إضافية! أي إلى أن جاء العالم البولندي "كوبرنيكسّ" في القرن السادس عشر‬
‫فأحيا النظرية القديمة‪.‬‬
‫على أن نظرية "كوبرنيكسّ" )والقائلة بدوران الرض حول نفسها( لم تمشع شيوعا كبيرا‬
‫إل عندما جاء العالم "جاليليو" فكشف الكثير من الحقائق التي عززت تلك النظرية‪ ،‬وقد‬
‫بقيت تلك الحقيقة )دوران الرض حول نفسها( في حكم النظرية إلى أن تم إثباتها بطريقة‬
‫عملية على يد عالم الفيزياء الفرنسي "فوكو" وقد استغرق البشرية مئِات السنين لتبدأ قناعة‬
‫الناس بكروية الرض!‪..‬‬
‫لكن ما كادت نظرية "كروية الرض" تستقر حتى عادت إلى الهتزاز من جديد! فقد‬
‫تبين ‪،‬لحقا‪ ،‬أن تلك الكروية ليست كاملة التكور! وأن الشكل الحقيقي للرض إنما هو‬
‫بيضاوي وليسّ كروي!‪...‬‬

‫‪48‬‬
‫لكن كيف تحدث القرآن الكريم عن هذا المر قبل تلك المساجلت بمئِات‬
‫السنين؟!‬
‫كما بيينا فقد ابتدأت اليات ‪،‬التي نحن بصددها‪ ،‬الحديث عن )السماء وبنائها( ولم‬
‫تبدأ بالحديث عن الرض ودحوها‪ ..‬أي جعلها بيضاوية)‪ ..(1‬والمدقق في اليات يجدها‬
‫تروي قصة كوكب الرض في بداية تكونه وتخلقه‪ ،‬إل أن تلك الرواية غلفتها بعض العناصر‬
‫الفنية!‬
‫فقد أغفلت تلك الرواية حلقتين من سلسلة حلقات خلق الرض‪ ،‬أما الحلقة الولى‬
‫المفقودة فهي تلك المتعلقة بالموضوع الساسي )خلق الرض( وكما أسلفنا فقد ابتدأت‬
‫اليات حديثها عن السماء وليسّ عن الرض‪ ،‬وهذه الحلقة مفهومة ضمنا!‪..‬‬
‫أما الحلقة الثانية المفقودة فهي تتعلق بالحالة التي كانت عليها الرض قبل أن‬
‫يدحوها ال عز وجل! فاليات تتحدث عن }والرض بعد ذلك دحاها{ وبهذا تكون قد‬
‫أغفلت الحالة التي سبقت "ذلك" ولم تعطنا اليات فكراة عما كانت عليه الرض "قبل‬
‫ذلك"؟!‪ .‬وكأن اليات قد اختصرت جزءا كبيرا من الرواية التي نحن بصددها‪ ،‬وذلك عندما‬
‫تحدثت عما آلت إليه حال الرض )إلى الشكل البيضاوي( دون الحديث عما كانت عليه‬
‫)الشكل الكروي( ذلك أن القرآن الكريم قد ترك للنسان مهمة استكمال بعض الحلقات‬
‫المفقودة‪ ،‬من خلل ما يبلغه في شتى مجالت العلوم!‪...‬‬
‫وفيما يلي نحاول إلقاء بعض الضوء على الحلقة المفقودة؛ وذلك بالستعانة ببعض‬
‫المفاهيم الفيزيائية الحديثة‪ ،‬والتي ستوضح لنا الكيفية التي تحولت الرض من خللها‬
‫الرض من شكلها الكروي إلى شكلها البيضاوي!!‪..‬‬

‫‪ ()1‬توضح المعاجم اللغوية أن كلمة دحاها تؤدى معنى أنه جعلها كالدحية أي كالبيضة لن الدحوة معناها بيضة‬
‫النعام أو مكان بيض النعام ويكون عادة مستدير الشكل‪ ،‬ول شك أن هذا يطابق شكل الرض الحقيقي الذي تدل‬
‫عليه البراهين النظرية والعملية‪ ،‬كما تؤكده الصور التي سجلتها آلت التصوير أثناء رحلت القمار الصناعية في‬
‫الفضاء‪ ،‬ولفظ دحا يدل على شيئِين هما البسط مع التساع والتكوير في التكوين‪ ،‬وهذه روعة في التعبير عن أن‬
‫الرض التي نراها أمامنا في الظاهر مبسوطة فسيحة الرجاء هي في واقع المر مستديرة كالبيضة‪ ،‬وهذا تقدير‬
‫العزيز الحكيم الذي أتقن كل شئ خلقه‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫الشمسّ أصل للكواكب جميع ا‬
‫هناك نظريات شتى تتحدث عن الكواكب السيارة ونشأتها‪ ،‬وهي تتفق على أن الشمسّ‬
‫إنما هي أم للكواكب التي نعرفها وأصل تكيونها!‪ ..‬ومن هذا المنظور فإن الرض إنما هي‬
‫إحدى بنات الشمسّ!‪.‬‬
‫ومن النظريات التي حاولت تفسير نشأة الكواكب‪ :‬نظرية "التصادم"؛ وتفترض هذه‬
‫النظرية اصطدام جرم سماوي بالشمسّ؛ مما نتج عنه تناثر بعض المادة الشمسية المنصهرة‬
‫حولها‪ ،‬وقد استمرت تلك الجزاء المتناثرة في الدوران حول الشمسّ )بما للشمسّ من‬
‫تأثير جاذب( وقد تبنى هذا الرأي العالم الفرنسي الكونت "دي بيفون"‪.‬‬
‫أما نظرية "النكماش الشمسي" ومبتدعها الفيلسوف اللماني "عمانويل كنت" فقد‬
‫زعمت أن أصل منشأ الكواكب هو الشمسّ بالفعل‪ ،‬لكن دون حدوث تصادم؛ وتزعم هذه‬
‫النظرية أن الكواكب السيارة قد نشأت نتيجة البرود التدريجي للشمسّ وتقلص حجمها‪.‬‬
‫وأيا كانت الحقيقة حول الكيفية التي تكونت المجموعة الشمسية وفقها؛ فإن هناك‬
‫شبه اتفاق على أن أصل تلك الكواكب إنما هو الشمسّ بالفعل‪ ،‬وأن الكواكب أول ما‬
‫تكونت كانت مادة منصهرة‪..‬‬
‫لكن ما الذي يعنيه كل هذا؟!‪..‬‬
‫قبل أن نجيب على السؤال المطروح دعونا نتوقف عند تساؤل من نودع آخر‪ :‬هل‬
‫شاهدتم ذات مرة قطرة ماء وهي تسقط من فوهة الصنبور؟ أو قطرة الزئبق وهي تتدحرج‬
‫على سطدح أملسّ وكأنها كرة من معدن؟‪ ...‬فإذا كنت ‪،‬عزيزي القارئ‪ ،‬قد شاهدت ذلك‬
‫بالفعل فالمر يحتاج إلى تعليل؛ فلماذا اتخذت قطرة الماء وقطرة الزئبق الشكل الكروي‬
‫ولم تتخذ أي شكل آخر؟!‪...‬‬
‫إن الجابة عن هذا السؤال يقدمها لنا علم الفيزياء؛ حيث من المعلوم أن المواد‬
‫‪،‬بشكل عام‪ ،‬ترتبط جزيئِاتها فيما بينها بقوى تسمى "قوى التماسك" وتكون قوى التماسك‬
‫تلك أكبر ما يمكن في المواد الصلبة؛ وتكون أقل ما يمكن في الغازات‪ ،‬بينما تكون‬
‫متوسطة القوة في المواد السائلة‪..‬‬

‫‪50‬‬
‫من ناحية أخرى تتأثر جزيئِات المواد السائلة بنوع آخر من القوى؛ والتي تدعى "قوى‬
‫التلصق" وهي القوى المتبادلة بين سطحين غير متجانسين‪ ،‬كالماء والهواء‪ ،‬أو الماء‬
‫وجدران الكأس الذي يحوي الماء على سبيل المثال‪ .‬وهذا النوع من القوى هو المتسبب‬
‫في جعل سطح الماء في الكأس ل يكون مستويا تماما‪ ،‬بل يرتفع عند الجوانب وينخفض‬
‫في الوسط!!‪..‬‬
‫وفي كل من حالتي قطرة الماء وقطرة الزئبق فإن قوى التماسك "الشيد" بين جزيئِات‬
‫المادة نفسها تكون أكبر من القوى المتبادلة بين جزيئِات المادة وما يلمسها من هواء‪،‬‬
‫فتكون محصلة ذلك نشوء توتر ما داخل قطرة السائل؛ وتدعى قوى التوتر تلك بـ "التوتر‬
‫السطحي"‪ ،‬وهذا يعني أن تحاول قطرة السائل النكماش على نفسها؛ وتقليل مساحة‬
‫سطحها إلى أقل مساحة ممكنة‪ ،‬ويعتبر الشكل الكروي شكل مثالي ا في هذه الحالة‪ ،‬إذ أنه‬
‫القل مساحة سطح بين الشكال الخرى‪ ..‬وهو ما يفسر ميل القطرة السائلة لن تتخذ‬
‫شكل الكرة!!‪..‬‬
‫إننا ومن خلل هذا المدخل نكون قد وصلنا إلى ما نريد الوصول إليه‪ ..‬وهو أن‬
‫كوكب الرض إنما كان في أول نشأته وانفصاله عن الشمسّ على هيئِة صهير اتخذ شكل‬
‫الكرة كاملة الكروية‪ ،‬والتي كان شكلها بالضبط كشكل قطرة الماء الساقطة من فوهة‬
‫الصنبور!‪..‬‬
‫لكن ما الذي حدث بعد ذلك لتتحول الرض عن كرويتها‪ ،‬ولتصبح بيضاوية؟!‬
‫وليصبح طول المحور الواصل بين قطبيها الشمالي والجنوبي يعادل ‪ 7900‬ميل‪ ،‬فيما‬
‫قطرها الستوائي )وهو المتعامد على المحور الول( طوله ‪ 7926‬ميل‪ ،‬بمعنى أن‪ :‬القطر‬
‫الستوائي يزيد على القطر القطبي بمقدار ‪ 26‬ميل؟!‪..‬‬

‫‪51‬‬
‫ولتفسير هذا التباين بين أطوال قطبي الكرة الرضية فلبد من الستعانة ‪،‬مرة أخرى‪،‬‬
‫بأحد قوانين علم الفيزياء‪ ،‬وهو قانون "القوى الطاردة المركزية" فمن المعلوم أن كل جسم‬
‫يدور حول مركزه )مثل الكرة الرضية( فإنه يكتسب قوة‪ ،‬وتعمل تلك القوة على طرد كتلة‬
‫الرض بعيدا عن المركز وباتجاه الطراف‪ ،‬يشبهها في ذلك أنك إذا ما أمسكت طرف‬
‫خيط في نهايته ثقل وبدأت تحركه حركة دورانية فإن الخيط يبدأ بالستقامة‪ ،‬ويبدأ الثقل‬
‫بالدوران حولك؛ محاول الفلت منك‪ ،‬وإذا ما حدث ذلك فإن الثقل المربوط بالخيط‬
‫سوف يطرد نفسه بعيدا عنك بفعل القوة التي اكتسبها‪..‬‬
‫وبتطبيق قانون "القوة الطاردة المركزية" على حالة الرض الدوارة فإن محيط الرض‬
‫عند خط الستواء يكون المنطقة الشد تعرضا لتأثير القوة الطاردة المركزية‪ ،‬بينما تقل تلك‬
‫القوة كلما اتجهنا ناحية القطبين‪ ،‬إلى أن تنعدم عند القطبين ذاتهما‪ .‬ونتيجة لتلك القوة فإن‬
‫الثقال عند خط الستواء تكون مدفوعة إلى الخارج بقوة أكبر من تلك الموجودة عند‬
‫القطبين؛ مما يعني اندفاع مادة الرض نحو الخارج‪ ،‬ويكون ذلك الندفاع أكبر ما يمكن‬
‫عند خط الستواء وشبه معدوم عند القطبين‪ ،‬وتكون النتيجة زيادة في طول القطر الستوائي‬
‫للرض وانضغاط القطر القطبي في الوقت ذاته؟!‪..‬‬
‫وإذا ما أضفنا إلى ذلك حقيقة أن سرعة دوران الرض حول نفسها عند نشأتها كانت‬
‫أضعاف سرعتها الحالية! حيث كانت الرض في ذلك الوقت تكمل دورتها حول نفسها في‬
‫زمن قدره أربع ساعات فقط! عوض ا عن أربع وعشرين ساعة في يومنا هذا‪..‬‬
‫وإذا ما وضعنا في اعتبارنا أن الرض وقت نشأتها كانت مثل كرة من عجين‪ ،‬مادتها‬
‫الصخر المنصهر‪ ،‬قبل أن تتجمد قشرتها‪ ،‬فإن هذا يعني أن قوى الطرد المركزي في ذلك‬
‫الوقت كانت تعادل القوى الحالية عدة أضعاف‪ ..‬وهنا يمكننا أن نتخيل تأثير قوى الطرد‬
‫المركزي على كرة من الصخور المنصهرة التي اتخذت لنفسها شكل الكرة‪ ..‬لقد كانت‬
‫نتيجة ذلك أن أصبحت الرض بيضاوية بعد أن كان كروية!‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫إن هذا التحول الغريب في حياة الرض لم يرصده بهذا الشكل الفني الرائع إل القرآن‬
‫الكريم؛ حيث لخص الحالة كلها تلخيصا معجزا عندما قال جل وعل‪} :‬والرض بعد ذلك‬
‫دحاها{ فهذه العبارة؛ وعلى الرغم من قصرها ومحدودية عدد كلماتها إل أنها تحتوي على‬
‫معنيين إعجازيين‪:‬‬
‫الول‪ :‬وهو ظاهر ويتحدث عن بيضاوية الرض‪ ،‬واستقرارها على ذلك الحال‪.‬‬
‫ف بشكل محكدم لطيف‪ ،‬حيث تم الحديث عن أن الرض‬ ‫الثاني‪ :‬فهو معنى مخت م‬
‫‪،‬وقبل أن تصبح بيضاوية‪ ،‬كانت على حالة أخرى‪ ،‬فجاءت بيضاويتها لتكون }بعد ذلك{‬
‫أي بعد ذلك الحال الذي كانت عليه في بداية تخلقها!!‪.‬‬

‫فسبحان ربنا في كل ما خلق‪ ،‬إليه أنبنا‪ ،‬وهو رب العرش العظيم‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫ظاهرة النسبية في القرآن الكريم‬

‫ما الذي أردنا قوله في هذا البحث؟‬

‫)عند نظرنا في آيات القرآن الكريم‪ ..‬لماذا‬


‫نحتكم للمعاني الصطلحية القريبة والشائعة‬
‫وحدها‪ ..‬ول نحتكم إلى جملة المعاني‬
‫اللغوية المحتملة للفظ؟!‪..‬‬
‫إن أخذ جملة المعاني اللغوية "الممكنة"‬
‫و"المحتملة" و"المتاحة" للفظ معين‬
‫بالحسبان )وهي متعددة كما تبين ذلك‬
‫معجمات اللغة( إنما يفتح آفاقا جديدة‬
‫للنفتاح على النص الكريم(‬

‫‪54‬‬
‫بين يدي الظاهرة‬

‫مع ازدياد تعقيدات الحياة وتشعباتها تزداد حاجتنا لفهم أنفسنا‪ ،‬ولفهم الواقع من حولنا‪،‬‬
‫وهي المهمة التي يمكن أن نوكلها لنفسنا بجدارة إن نحن أحسنا التعامل مع كتاب ال تعالى‪،‬‬
‫لكن ذلك التعامل يحتاج منا إمعان نظر‪ ،‬بحيث ل تبقى معارفنا الدينية مجرد تكرار لمعارف‬
‫آبائنا وأجدادنا)‪..(1‬‬
‫ولدى تمعننا في آيات كتاب ال فقد جذب انتباهنا جانب اعتبرناه في حينه جديرا بالدراسة‪،‬‬
‫بل اعتقدنا بأنه يخفي خلفه ظاهرة أصيلة من الظواهر التي يوحي بها النص القرآني الكريم‪ ،‬وتلك‬
‫الظاهرة هي "ظاهرة النسبية"‪ ..‬لكن وقبل أن نخوض في أمر تلك الظاهرة ؛ فلبد من بعض‬
‫التقديم بين يديها‪..‬‬

‫القرآن‪ :‬كلتم ال‬


‫تيعيرف القرآن الكريم بأنه "كلتم ال العربيي المثبت في اللوح المحفوظ للنزال‪ ،‬ثم المنيزل‬
‫بواسطة جبريل المين على سيدنا محمد)صلى ال عليه وسلم( للهداية والعجاز‪ ،‬وهو المنقوتل‬
‫إلينا بالتواتر؛ والمكتوب في المصاحف"‪.‬‬
‫وفي تعريف مبسط له يمكن القول بأنه‪:‬‬
‫"كلم ال المنيزل على محمدد )صلى ال عليه وسلم(؛ المتعبد بتلوته"‪.‬‬
‫والقرآتن لغاة‪ :‬مشتمق من مادة الفعل "قرأ")‪ (2‬والذي يأتي بمعنى‪ :‬الجمع والضيم‪.‬‬

‫‪ ()1‬هنا يمثل أمامنا أحد التحديات التي تواجه العقل المسلم في عالم اليوم‪ ..‬وحسب اعتقادنا فإن القيمة المنهجية‬
‫للنص القرآني في عالم اليوم ل تقل أهمية عن الفوائد الخرى التي يمكن أن يجنيها المسلم لدى قراءته للقرآن‪،‬‬
‫فللنص القرآني قدرة عجيبة على إعادة بناء منهجية العقل‪ ،‬لما يمتلكه النص الكريم من سمات تجعل منه النص‬
‫الوحيد ذا السمات المطلقة القابلة للقياس عليها‪.‬‬
‫‪ ()2‬قرأ الشيء‪ :‬جمعه وضم بعضه إلى بعض‪ .‬قرأ قراءاة وقرآنا‪ ،‬واقترأ الكتاب‪ :‬أي نطق بالمكتوب فيه أو ألقى‬
‫النظر عليه وطالننعه‪ ،‬أقرأن الرجنل‪ :‬أي جعله يقرأ‪ .‬استقرأ فلنا‪ :‬أي طلب إليه أن يقرأ‪ ،‬واستقرأ المور‪ :‬أي تتبعها‬
‫لمعرفة أحوالها وخواصها‪).‬المنجد في اللغة والدب والعلوم‪،‬ص ‪.(616‬‬

‫‪55‬‬
‫والقراءةت هي‪ :‬ضرم الحرو م‬
‫ف والكلما م‬
‫ت إلى بعضها‪ .‬والقرآن في الصل كالقراءة‪ ،‬مصدر‪:‬‬
‫قرأ؛ قراءة؛ وقرآناا‪ .‬قال تعالى‪} :‬إين علينا جمعه وقرآنه‪ ،‬فإذا قرأناه فاتبع قرآنه{)القيامة‪-17:‬‬
‫شكران‪ .‬تقول‪ :‬قرأته‬
‫‪ (18‬أي قراءته‪ .‬وهو مصدمر على وزن "تفعلن" )بالضم( كالتغفران‪ ،‬وال ت‬
‫قرءا وتقرآناا‪ ،‬بمعنى واحد‪.‬‬
‫وتيطلتق "القرآن" بالشتراك اللفظي على مجموع القرآن‪ ،‬وكذلك على كيل آيدة من آياته‪ ،‬فإذا‬
‫ت من يتلو آيةا من القرآن الكريم صيح أن تقول‪ :‬إنه يقرأت القرآن‪ ،‬مثال ذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫سمع ن‬
‫}وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا{)العراف‪.(204:‬‬
‫ب ال كملها‪ ،‬ولجممعمه ثمرنة‬
‫وقد تذكر كذلك بأن تسميته "قرآناا" إنما جاءت لجممعمه ثمرنة كت م‬
‫جميمع العلوم‪ ،‬كما أشار إلى ذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫}ونزلنا عليك الكتاب تبيان ا لكل شيء{)النحل‪..(89:‬‬
‫وقد تسمي القرآتن "قرآناا" كونه متلوا باللسنة‪ ،‬كما روعي في تسميته "كتاباا" كونه مدون ا‬
‫ف "القرآن" قولا يميزه عن غيره من الكتب المنيزلة‪ ،‬فهو )كلتم ال‬‫بالقلم‪ .‬وللعلماء في تعري م‬
‫المنيزل على محمد)صلى ال عليه وسلم(‪ ،‬المتعبد بتلوته(‪.‬‬

‫إعجاتز القرآن الكريم وسحتر بيانه‬


‫وللقرآن الكريم وجوه من العجاز التي ل تعد ول تحصى بحيث تعجز الكلمات عن‬
‫الحاطة بكل تلك الوجوه‪ ،‬لكين بعض ا من الكلمات التي أوجزت في وصفه تناولت "الغاية‬
‫الموضوعية" التي جاء القرآن الكريم لجل تحقيقها‪ ،‬فهو ‪،‬من هذا المتنانول‪ ،‬حجةت ال على‬
‫العالمين‪ ،‬والمستنتد الكبتر لشريعة السلم‪ ،‬وبثبوت حجة ال على البشر ثبتت الحجةت بضرورة‬
‫العمل‪..‬‬
‫وقد ثبتت حجةت ال على البشر بثبو م‬
‫ت إعجاز القرآن الكريم لكل من تحداهم ال من‬
‫العقلء‪ ،‬وهذه الحجة ل تقتصر على من نزل القرآن الكريم فيهم في العصر الول للنبوة‪ ،‬بل‬
‫ثبتت كذلك في حق من تنقل إليهم فيما بعد ‪،‬بالتواتر‪ ،‬وإلى يومنا هذا‪ .‬وقد ثبتت حجة ال عيز‬
‫وجيل على البشر بثبوت عجزهم أمامه وحيرتهم في مواجهته‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ف عليه‪ :‬اسمم للقصور وعدم الستطاعة عن فعل الشيء‪ .‬وهو‬ ‫و"العجز" حسبما هو تمتعار م‬
‫ضد "القدرة"‪ ،‬وإذا ثبت العجاز ظهرت قدرة التمعمجز‪ ،‬ويكون الهدف من العجاز‪ :‬إظهاتر‬
‫صدق النبيي )صلى ال عليه وسلم( في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في‬
‫معجزته الخالدة؛ وهي القرآن الكريم‪ ،‬وعجز الجيال المتتابعة من بعدهم‪ ،‬فالقرآن الكريم ‪،‬من‬
‫هذه الناحية‪ ،‬جاء بالتحدي الدائم والمستمر إلى يوم القيامة؛ في مواجهة الجين والنسّ؛ وذلك‬
‫ب مما نلزلنا على عبدنا فأتوا بسورةد من مثله‪،‬‬
‫عندما تحداهم أن يأتوا بمثله‪} :‬وإن كنتم في ري د‬
‫وادعوا شهداءكم من دون ال إن كنتم صادقين{)البقرة‪ ..(23:‬كذلك فقد تحيداهم أن يأتوا‬
‫ض من مثله‪} :‬قل فأتوا بعشر سودر مثله مفتريات{)هود‪..(13:‬‬
‫ببع د‬
‫ت عجتزهم أمام هذا التحدي؛ كان القول الفصل‪} :‬قل لئِن اجتمعت النسّ والجين‬ ‫وعندما ثب ن‬
‫ض ظهيراا{)السراء‪(88:‬‬ ‫ضهم لبع د‬
‫على أن يأتوا بمثمل هذا القرآن ل يأتون بمثله ولو كان بع ت‬
‫وأمام هذا العجاز؛ وذلك التحيدي‪ ..‬تعددت الراء حول إعجاز القرآن الكريم؛ والقدمر‬
‫المعجز منه‪ ،‬فقد ذهب المعتزلةت إلى أن العجاز يتعلق بجميع القرآن الكريم ل ببعضه أو بكل‬
‫سورة برأسها‪ .‬لكين آخرين ذهبوا إلى أن القليل والكثير منه تمعمجز؛ دون تقييد بسورة معينة‪ ،‬لقوله‬
‫ث مثله{)الطور‪.(34:‬‬ ‫تعالى‪} :‬فليأتوا بحدي د‬
‫وذهبت فئِةم ثالثةم إلى أن العجانز يتعلتق بسورةد تامدة ولو كانت قصيرة‪ ،‬أو قودمرها من الكلم؛‬
‫كآيدة واحدةد أو آيات‪.‬‬
‫كذلك وجدنا من ذهب إلى أن إعجاز القرآن الكريم ل يقتع في قددر معيدن منه فحسب؛ بل‬
‫ت حرومفه‪ ،‬ووقمع كلمامته‪ ،‬كما نجده في الية والسورة‪ ،‬فالقرآن‬
‫نجد ذلك العجاز في )أصوا م‬
‫ك قوية تسترعي النتباه إلى حقيقدة في غاية الهمية؛‬
‫كلم ال وكفى() (‪ ..‬وهي حجةم ‪،‬ول ش ي‬
‫‪1‬‬

‫وهي أن إعجاز القرآن الكريم لم يقتصر ‪ ،‬فقط‪ ،‬على الحقائق الموضوعية التي يطرحها‪ ،‬ول في‬
‫ي حتى على مستوى تناسمق‬‫قدراته البلغية وحسب‪ ،‬بل في تمتعه كذلك بإعجادز غيمر عاد ي‬
‫حرو م‬
‫ف الكلمة الواحدة!‪.‬‬
‫سحمر يأخذ بالقلوب واللباب‬
‫‪ ()1‬مباحث في علوم القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.297‬‬

‫‪57‬‬
‫لقد كان تأثيتر القرآن الكريم على كيل من سمعه تأثيرا عجيباا؛ إذ سحرت)‪ (1‬كلماتته قلونبهم؛‬
‫وسلبتهم عقولهم وألبابهم‪ ،‬وكان أعجب ما فيه أن خاصيته تلك كانت بالنسبة لهم أمرا غامض ا‬
‫غنير معتاد‪ ،‬ووجدوا فيه ظاهراة تكاد تكون ‪،‬بالنسبة لهم‪ ،‬غينر مفهوممة السباب!!‪..‬‬
‫ب أويل وهلدة من كلم النبيي )صلى ال عليه وسلم( وروحوا عن‬ ‫)ونزل القرآن فظينه العر ت‬
‫أنفسهم بانتظار ما أنمملوا أن يطلعوا عليه في آياته البيينات‪(2)(..‬‬
‫ولم يكن عجيب ا حينها أن تتباينن ردوتد أفعالمهم تجاهه‪ ،‬فمنهم من اطمأن إليه فآمن به‪ ،‬ومنهم‬
‫من جحد فكفر‪ ،‬ومنهم من لم يحسم المر فآثر النتظار لعل اليام تأتي بالنخبنـور!‪.‬‬
‫ولقد أثار القرآن الكريم ‪،‬ومنذ بداياته الولى‪ ،‬ردوند فعدل تميزت بالحيرة‪ ،‬فلم يكن من السهل‬
‫ب حقيقة إرسال نبيي افترضوا وجوب أن يكون واحدا من أرفمعهم مكاناة‪ ،‬أو‬ ‫‪،‬بداياة‪ ،‬استيعا ت‬
‫أكثمرهم مالا وولداا!!‪ ..‬أما محمد )صلى ال عليه وسلم( وما تميز به من مكاندة رفيعدة ‪،‬سواءا من‬
‫ل‪ ،‬فقد كان بالنسبة لهم آخر من يصلح لتلك‬ ‫سمبه أو أخلقه ‪،‬والتي لم يعرفوا لها مثي ا‬
‫حيث ن ن‬
‫المهمة!‬
‫}وقالوا لول نتـيزل هذا القرآن على رجدل من القريتين عظيم{)الزخرف‪...(31:‬‬
‫ولم يكن مهما ‪،‬بالنسبة لبعضهم‪ ،‬ما كان يتمتتع به محممد )صلى ال عليه وسلم( من رفيمع خصادل‬
‫صودمق حديث‪ ،‬إذ أضمروا له التكذيب حتى وإن كان صادقاا! )وميروا ينتظرون وهم تممعيدون له‬ ‫وم‬
‫التكذيب‪ ،‬تمتربصون به حالةا من تلك الحوال؛ فإذا هو قنمبيمل)‪ (3‬غيتر قبيمل الكلم‪ ،‬وطبمع غيتر‬
‫ع‪ ،‬وإذا عصمةم قويمة‪ ،‬وجمرةم‬‫طبمع الجسام‪ ،‬وديباجةم كالسماء في استوائها ل وهمي ول صد م‬
‫متوقدمة‪ ،‬وأممر فوق المر‪ ،‬وكلمم يحارون فيه بدءا وعاقبة()‪.(4‬‬

‫‪ ()1‬السحر المشار إليه هنا هو السحر بمعناه الطيب‪ ،‬وهو السحر الكلمي والذي يقصد به‪) :‬غرابة الكلم ولطافته‬
‫المؤثرة في القلوب؛ المحمولة إياها من حادل إلى حال( )المنجد في اللغة والدب والعلوم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.(323‬‬
‫‪ ()2‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.221‬‬
‫‪ ()3‬قبيل غير قبيل الكلم‪ :‬أي ليسّ مثل الكلم البشري‪ ،‬ول يشابهه‪.‬‬
‫‪ ()4‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.221‬‬

‫‪58‬‬
‫ك‬
‫ك في تلك اللحظات كان شريعةن الجميع ‪،‬إل من رحم رتبك‪ ،‬والش ت‬ ‫وباختصار؛ فإن الش ي‬
‫‪،‬في حيد ذاته‪ ،‬حمق مشروعم يمكن من خلله التمييز بين الصيل وبين ما كان ادعااء‪ ،‬لذا؛ فلم‬
‫ك تجاه محمد )صلى ال عليه وسلم( ودعوته بين عمر بن الخطاب‬
‫يكن مستغربا أن يجمنع الش ت‬
‫والوليد بن المغيرة!! إضافة إلى ما أصابهما من صددع وذهول نتيجة التأثير المحكم ليات‬
‫القرآن الكريم!‪.‬‬
‫ب التاريخ روايتين متشابهتين تؤرخان لسلم عمر بن الخطاب ‪،‬رضي ال عنه‬
‫وتنقتل لنا كت ت‬
‫ت‬
‫وأرضاه‪ ،‬الولى منهما لعطاء ومجاهد‪ ،‬نقلها ابن إسحق وقد جاء فيها على لسانه‪) :‬كن ت‬
‫ب خمدر في الجاهلية أحبها وأشربها‪ ،‬وكان لنا مجل م‬
‫سّ يجتمتع فيه‬ ‫ت صاح ن‬
‫للسلم تمباعداا‪ ،‬وكن ت‬
‫ت أريتد جلسائي أولئِك فلم أجد منهم أحداا‪ .‬فقلت‪ :‬لو أنني جئِت فلنا‬ ‫رجال قريش‪ ..‬فخرج ت‬
‫ت بها سبعا أو سبعين‪،‬‬ ‫ت فجئِته‪ ،‬فلم أمجوده‪ .‬قلت‪ :‬لو أنني جئِ ت‬
‫ت الكعبةن فطف ت‬ ‫الخيمار‪ .‬فخرج ت‬
‫ت المسجند أريتد أن أطوف بالكعبة‪ ،‬فإذا رسول ال)صلى ال عليه وسلم( قائمم يصلي‪ ،‬وكان إذا‬
‫فجئِ ت‬
‫صيلى استقبنل الشام‪ ،‬وجعل الكعبة بينه وبين الشام‪ ،‬واتخذ مكانه بين الركنين‪ :‬الركن السود‬
‫ت لمحمدد الليلةن حتى أسمنع ما يقول‪ .‬وقام‬ ‫والركن اليماني‪ .‬فقلت حين رأيته‪ :‬وال لو أني استمع ت‬
‫ت تحت‬ ‫ت من قمنبل المحوجر؛ فدخل ت‬ ‫ت منه أسمع؛ لريوعنه )أي لخيفنه( فجئِ ت‬ ‫بنفسي أنني لو دنو ت‬
‫ت القرآنن ريق له قلبي فبكيت ودخلني‬ ‫ثيامبها‪ ،‬وما بيني وبينه إل ثياب الكعبة‪ ،‬فلما سمع ت‬
‫السلم!‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ج تمتوشح ا سيفه؛ يريتد رسونل ال)صلى‬
‫والرواية الخرى تشير إلى أن عمر ‪،‬رضي ال عنه‪ ،‬خر ن‬
‫ب من أربعين بين رجادل‬ ‫د‬
‫ال عليه وسلم( ورهط ا من أصحابه قد اجتمعوا في بيت عند الصفا‪ ،‬وهم قري م‬
‫ونساء‪ ،‬وفي الطريق لقيه نعيم بن عبد ال فسأله عن وجهته؛ فأخبره بغرضه‪ ،‬فحيذره )أي نعيم(‬
‫بني عبد مناف‪ ،‬ودعاه أن يرجع إلى بعض أهله؛ مختنه)‪ (1‬سعيد بن زيد بن عمرو‪ ،‬وأخته فاطمة‬
‫بنت الخطاب زوج سعيد‪ ،‬فقد صبئِا عن دينهما‪ .‬فذهب إليهما عمر‪ ،‬وهناك سمع "نخيباباا" يتلو‬
‫ش بممخوتنممه سعيد‪ ،‬وشيج أخته فاطمة‪ ..‬ثم أخذ الصحيفة )بعد‬
‫عليهما القرآن‪ ،‬فاقتحم الباب‪ ،‬وبط ن‬
‫حوار( وفيها سورة "طه"‪ ،‬فلما قرأ صدرا منها قال‪) :‬ما أحسن هذا الكلم وأكرمه( ثم ذهب إلى‬
‫ت‬‫النبي )صلى ال عليه وسلم( فأعلن إسلمه‪ ،‬فكيبر النبي )صلى ال عليه وسلم( تكبيراة عرف أهل البي م‬
‫ت‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫م‬
‫من أصحابه أن عمرا قد أسلم) (‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ف مشابهة‪ ،‬وذلك من خلل ما‬ ‫كذلك فقد واجهت المعاندين والمستكبرين من قريش مواق ت‬
‫أحدثه القرآتن الكريتم من تأثيدر مزلزدل في نفوسهم‪ ،‬فقد حد ن‬
‫ث مثتل ذلك مع الوليد بن المغيرة؛‬
‫ت بممسوحمرها وأنلنمقها)‪ (3‬فانصر ن‬
‫ف مقهورا تمنساق ا تحت وطأة تأثيرها‪ ،‬حتى‬ ‫والذي أذهلته اليا ت‬
‫ف القرآنن الكرينم والحيرةت تأختذ بليبه وجنانه‪،‬‬
‫وجدناه ل يقوى على إنكار ما أصابه! ووجدناه يص ت‬
‫فأصبح ل يمتلك لنفسه حولا ول قوة‪ ،‬وسمعناه تيقتر تمعترفاا‪:‬‬
‫)فوا ل ما منكم رجدل أعلنم مني بالشعر ول بمنرنجمزهم ول بقصيده‪ ،‬ول بأشعار الجن‪ ..‬وال ما‬
‫يشبهت الذي يقوتله شيئِا من هذا‪ ،‬وال إين لقوله لحلوة‪ ،‬وإن عليه لطلوة‪ ،‬وإنه ليحطم ما تحته‪،‬‬
‫وإنه ليعلو وما تيعلى عليه(!!‪.‬‬

‫‪ ()1‬ختنه‪ :‬بكسر الخاء وتسكين التاء‪ ،‬أي‪ :‬زوج أخته‪.‬‬


‫‪ ()2‬عن سيرة ابن هشام‪ ،‬نقل عن التصوير الفني في القرآن‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ ()3‬تألقها‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫لكين اعترافه هذا لم يكن ليقننع قريشاا‪ ،‬فهو ‪،‬أي الوليد‪ ،‬لم يذيم القرآن‪ ،‬بل امتدحه!!‪ ..‬فلما‬
‫ي أعنانق اللفاظ‪ ،‬وأن يتلعب بالكلمات‪،‬‬
‫زادوا عليه من ضغوطهم؛ لم يجود مخرج ا إل أن يلو ن‬
‫فبدلا من أن يعترف بأن هذا السحر إنما يدل ‪،‬بالضرورة‪ ،‬على عدم بشرية مصدره‪ ،‬وجدناه‬
‫يتجاوب مع دعوة أبي جهدل له؛ والتي حرضه فيها بالقول‪) :‬وال ل يرضى قوتمك حتى تقول فيه(‬
‫)‪..(1‬‬
‫ف حقيقدة ما بغيمر‬
‫ب الملتويمة لوص م‬
‫وهنا تتجيلى قدرةت بعض البشر على التحايل! واتباع السالي م‬
‫ف به!‪ ..‬فجاءن ريد الوليد هذه المرة‪) :‬دعني أفكر فيه(‪ .‬فلما أون فيكر قال‪) :‬إون‬‫ب أن توص ن‬‫ما يج ت‬
‫هذا إل سحمر يؤثر‪ ،‬أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه(؟!‪.‬‬
‫وبهذا الرد يكون الوليد قد أفشى لنا ‪،‬عن غير قصدد بالطبع‪ ،‬سرا من السرار التي استأثر بها‬
‫القرآتن الكريم دون غيره من كلم العرب‪ ،‬ذلك هو الستحواذت الغريب؛ والسطوةت التي ل تريد؛‬
‫لكلمات ال على كيل من سمعها‪ ،‬بل لعل الوليد في استخدامه لتلك اللفاظ قد أسدى لنا خدمةا‬
‫أخرى كبيرة‪ ،‬فهو باستخدامه للفادظ من قبيل "مسوحور" قد أشار إلى ذلك المصدر الغامض؛‬
‫والمجهول لسحر القرآن الكريم‪ ،‬والذي ل يمكن إل أن يكون وجه ا من الوجوه التي استأثر بها‬
‫القرآن الكريم؛ فتميزت به لغته عن لغة البشر!‪.‬‬
‫وفي قودل )يمكتن تعميمه والبناء عليه( فإن ذلك التأثير الستحواذي المسيطر للقرآن الكريم‬
‫لم يكن أمرا مقصورا على عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ ،‬أو الوليد بن المغيرة‪ ،‬فلطالما ارتبط‬
‫ذلك النفعال تجاه القرآن الكريم بعلقدة جدليدة مع عامل آخر كان له أبلغّ الثر في تجلية تلك‬
‫الميزة وذلك السحر‪ ،‬ولم يكن ذلك العامل إل تلك المقدرةم اللغويمة العالية التي طالما تمييز بها‬
‫العرب في ذلك الوقت‪ ،‬والتي ميكنت لهم تسبتنل التفريق بين الصيل وما هو غير ذلك‪ ،‬تلك‬
‫المقدرة التي لو لم تتوجد ‪،‬في حينه‪ ،‬لما أمكن لنا ‪،‬أبداا‪ ،‬أن نشعر بإعجاز القرآن الكريم‪،‬‬
‫ولستوى لدينا حينها الغث والسمين!‪..‬‬

‫‪ ()1‬أي في القرآن‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫وأمام تلك السطوة المثيرة للنفعال؛ فلم يكن أمام بعض المستكبرين إل اختراع الحجج؛‬
‫ض لوصف القرآن‬‫الواحدة تلو الخرى‪ ،‬وشيق تسبتمل النكار‪ ،‬سبيلا في إثر آخر؛ فاتجه البع ت‬
‫الكريم بأنه‪} :‬أساطير الولين اكتتبها فهي تملى عليه بكراة وأصيل{)الفرقان‪..(5:‬‬
‫لكنهم ‪،‬هنا أيضاا‪ ،‬لم يفلحوا في إخفاء الثر العميق الذي أحدثه القرآن الكريم في‬
‫نفوسهم‪ ..‬فبوصفهم للقرآن الكريم بـ "الساطير" )بعد أن أطلقوا عليه صفة "السحر"(‬
‫وجدناهم قد أثبتوا عجنزتهم عن ريده إلى أصدل بييدن واضح‪ ،‬فهو بالنسبة لهم سحمر غير معلوم‬
‫المصدر! أو أسطورةم تأتيهم من أعماق التاريخ المجهول‪ ،‬فهم ل يملكون لها ريدا‪ ،‬ول يعرفون‬
‫لها تفسيراا!‪.‬‬

‫ث الحيرة‬
‫بيامن يور ت‬
‫من هنا؛ فقد تدرجت بهم الحيلةت لبتدامع الطرمق الكفيلمة بالتغلب على هذا السحر ومواجهة‬
‫سطوته‪ ،‬وعلى تلك الساطير ‪،‬بزعمهم‪ ،‬والتغلب عليها‪ ،‬وقادهم ذلك إلى تفكيدر جديد‪ :‬فما دام‬
‫تأثيرهت غامضا ل يجدي معه التعامل العقلي البحت؛ فليكن السبيل لمواجهته عدتم الستمامع إليه‬
‫ل!!‪:‬‬
‫أص ا‬
‫}وقال الذين كفروا ل تسمعوا لهذا القرآن‪ ،‬والغنووا فيه لعلكم تغلبون{)فصلت‪(26:‬‬
‫م‬
‫فغايةت غنلنبممهوم هنا أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم فرارا منه‪ ..‬وإنه لغل م‬
‫ب؛ وأي غلب؟!‪.‬‬
‫باختصار؛ فقد تجلت الحيرةت في كيل ردود الفعال التي فوجئِت بمننظومممه البديع‪ ،‬فمن آمن‬
‫كان في حيرةد من أمره؛ قبل أن يشرح ال صدره لليمان‪ ،‬ولعل من آمن ‪،‬فيما بعد‪ ،‬كان دائم‬
‫التساؤل تمتعجباا‪ :‬ما الذي فعله القرآن بي؟!…‬

‫‪62‬‬
‫ومن كذب على نفسه وخدعها )بوصفه للقرآن بالسحر ليختلص إلى نتيجة مفادها أن محمدا‬
‫سنهيدا)‪ (1‬متعجب ا يسائل‬ ‫م‬ ‫د‬
‫ليسّ أكثر من ساحر( كان في حيرة من أمره كذلك‪ ،‬ولعله قضى لياليه تم ن‬
‫نفسه‪ :‬أيةت قوةد تلك التي سيطرت عليي فجعلتني أذهب إلى ما ذهبت إليه؟!…‬
‫صيونرها في حيرتها ل‬ ‫د د‬
‫وقد بيين القرآتن الكريم ‪،‬في لقطات نادرة‪ ،‬ردوند أفعال الفئِة الخيرة‪ ،‬فن ن‬
‫س؛‬‫تكاد تثبت على حال‪ ،‬فهي متقلبةت الفكر‪ ،‬مبلبلةت الخاطر والوجدان‪ ،‬تتناوشها الوساو ت‬
‫ط عليها الفكاتر بغير ما انضباط!‪..‬‬‫وتختل ت‬
‫‪..‬ولننظر إلى اللقطات النفسية العجيبة التي عرضها القرآن‪ ،‬والتي تجلت في حججهم المبتورة‪:‬‬
‫}قد سمعنا‪}{...‬لو نشاء لقلنا مثل هذا‪}{...‬إن هذا إل أساطير الولين‪){...‬النفال‪(31:‬‬
‫}أضغاث أحلم‪}{...‬بل افتراه‪}{...‬بل هو شاعر{)النبياء‪(5:‬‬

‫ت القلقمة التي صيورت حالهم‪ ،‬فهي ل تكاد تقذفها اللمسنةت‬ ‫ولنتأمل الجممل القصيرمة؛ والعبارا م‬
‫تن‬
‫حتى تنقطع!!… وكأن القرآن الكريم ‪،‬وهو يرسم لنا ردود أفعالهم تلك؛ إنما يصيور لنا حالةا‬
‫تنطبتق على البشمر جميع ا عندما يتنكرون لما هو واضمح جليي‪ ،‬تلك الحالة التي إذا ما تلبست‬
‫د‬
‫قوما حيولتهم إلى حالة من القلق تتفقدهم توازنهم‪ ،‬فنراهم يتلجلجون في الوصف على غيمر هد ا‬
‫ى‪:‬‬
‫}قد سمعنا‪} ...{...‬لو نشاء لقلنا مثل هذا‪ ...{...‬الخ‪..‬‬

‫لكنهم ما إن يبدءوا باستعادة توازنهم‪ ،‬والسيطرة على انفعالتهم؛ حتى نجندهم يبدءون مرحلةا‬
‫ب مع سبق الصرار؛ وبغير ما‬
‫صراح هذه المرة؛ كذ م‬‫ب؛ لكنه كذب ت‬ ‫جديداة من مراحل النكمذ م‬
‫خجدل أو حياء!‪ ..‬وهي المرحلة التي انتهى إليها بعض من تنكر للرسالة المحمدية في مراحلها‬
‫الولى؛ حيث لجأوا إلى الدعاء ببشرية المصدر الذي تأخذ عنه القرآن الكريم‪ ،‬والدعاء بعدم‬
‫اختلفه عن أقوال البشر في شيء؟!‪:‬‬
‫}فقال إن هذا إل سحمر يؤثر‪ ،‬إن هذا إل قول البشر{)المدثر‪..(25-24:‬‬

‫سنهداا‪ ،‬أي بات مؤرقا وقد جافاه النوم‪.‬‬


‫ت تم ن‬
‫)( با ن‬
‫‪1‬‬

‫‪63‬‬
‫من هنا أمكننا أن ندرك تعمق ما أحدثه القرآن الكريم من تأثدير غير مسبوق في النفسّ المتلقية‬
‫ت به على حدد سواء‪ ،‬لكن تظتل أشيد صومر ذلك‬ ‫لياته‪ ،‬تلك التي آمنت‪ ،‬أو هاتيك التي نكنفنر و‬
‫التأثير وضوحا تلك الحيرة الكاملة؛ وذلك الجهل المطبق بماهية السير الذي ميكين للقرآن أن‬
‫تيحدث كيل ذلك الثر‪ ،‬ولعل ذلك السير هو ما ترك الجميع يتساءلون وهم حائرون‪ :‬أين يكمن‬
‫السر؟!‪..‬‬

‫أين يكمن السر؟!‬


‫سّ‬ ‫ت لغويدة رفيعة؛ ذا م‬
‫تح س‬ ‫فأين يكمن سر تلك الزلزلة التي أحدثها القرآن الكريم في كيانا د‬
‫ت ي‬
‫جمالسي تمرهف؟!‪..‬‬
‫‪..‬فهل كان السير كامنا في الموضوعات ذاتها؛ والتي تناولها القرآن الكريم في أول‬
‫صلب التشريعات التي أرساها؟‪..‬‬
‫عهده؟!‪ ..‬أم كان السير في ت‬
‫‪..‬أو لعله كان موجودا في تلك النبوءات المستقبلية التي تنبأ بها قبل حدوثها بسنوات؟!‪.‬‬
‫ت الكريممة الولى التي تنيزلت في مكة فلن نجد فيها هذا ول ذاك‪،‬‬
‫ئ اليا م‬
‫فإذا ما رحنا نستقر ت‬
‫فهي لم تكن تحتوي تشريعا تمحكماا‪ ،‬ول علوما كونيةا سابقة)‪ (1‬ولن نجد فيها إخبارا بالغيب يقع‬
‫بعد سنين‪ ،‬مثل ذلك الذي ورد في سورة "الروم")‪..(2‬‬
‫يجب إذون )أن نبحث عن "منبع السحر في القرآن" قبل التشريع المحكم‪ ،‬وقبل النبوءة‬
‫الغيبية‪ ،‬وقبل العلوم الكونية‪ ،‬وقبل أن يصبح وحداة مكتملةا تشمل هذا كله()‪...(3‬‬
‫ت له‬
‫وهنا لبد لنا من إعادة السؤال نكيراة أخرى‪ :‬ما الذي احتواه القرآن الكريم من أسرار ميكنن و‬
‫كيل ذلك التأثير الذي ل يريد؛ وجعلت له تلك السطوة التي ل تقهر؟!‪..‬‬

‫‪ ()1‬إل إشاراة خفيفةا في السورة الولى التي تحدثت عن خلق النسان من علق‪.‬‬
‫‪ ()2‬وهي السورة الرابعة والثمانون من حيث ترتيب النزول‪.‬‬
‫‪ ()3‬التصوير الفني في القرآن‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪64‬‬
‫ت الكريمة في‬ ‫لعل ما أحدث كل ذلك كان يتمثل في شحنا م‬
‫ت النفعال التي دفعتها اليا ت‬ ‫ي‬
‫ض النظر عن الموضوع المراد الخبار عنه!!‪..‬‬
‫قلوب من استمع إليها‪ ،‬بغ ي‬
‫‪..‬ولعله كان متمثلا في أسلوب الداء القرآني غير المسبوق‪ ،‬فحيث كان القوتم في مكة‬
‫أهنل تمماراةد ولتجاجدة في القول عن فصاحدة وبيان‪ ،‬تجتد في مكيي القرآن الكريم ألفاظ ا شديدنة‬
‫ف حروتفها نشرنر الوعيمد وألمسنةن العذاب‪ ،‬وكيل ذلك قد حدث بشكل‬ ‫القرمع على المسامع‪ ،‬تقذ ت‬
‫استعصى على الفهم‪ ،‬فضلا عن التحليل والتفسير‪) :‬وما درى عربيي واحمد من أولئِك‪ :‬لمنم جعنل‬
‫ضها النظر‪ ،‬ويشحتذ‬
‫الت في كتابه هذه المعاني المختلفة‪ ،‬وهذه الفنون المتعددة التي تيهيتج بع ت‬
‫ضها على الستقصاء()‪...(1‬‬ ‫ث بع ت‬ ‫ضها الفكر‪ ،‬ويتممكرن بع ت‬
‫ضها اليقين‪ ،‬ويبع ت‬ ‫بع ت‬
‫وكان هذا كتله يقال‪ ،‬وذلك كتله يقتع و )القونم في شغدل عن بيامن هذه الصورة بما يتملونه منها‬
‫في نفومسهم‪ ،‬وما يتحسونه منها في تشعومرهم‪ ،‬وهم نحيارى تمضطربون‪ ،‬أو تملبون مهمطعون()‪.(2‬‬
‫ولعل الصورنة الن قد بدأت بالتضاح‪ ،‬فكيل ذلك القدر من التأثير الذي أحدثه القرآن‬
‫الكريم ‪،‬ومنذ اللحظة الولى‪ ،‬لم يكن إل استجابةا لذلك السيمو القرآني‪ ،‬والذي أمكن إدراكه؛‬
‫وتذوقه؛ والنفعال به‪ ..‬بفضل ما كان للعرب ‪،‬في ذلك الوقت‪ ،‬من إتقادن لفنومن القراءةم‬
‫والستماع‪ ،‬مما مكن للنص القرآني أن تيظهنر كيل قتتدرامته الكامنة‪ ،‬وتجليامته اللطيفة‪ ،‬وأحاسيسه‬
‫الدافقة!‪.‬‬
‫واستمرت محاولت العلماء ‪،‬على مير العصور‪ ،‬للتعامل مع النص القرآني بحثا عن السرار‬
‫المخبوءة فيه‪ ،‬وذلك عبر محاولتهم الجابة على بعض التساؤلت المتعلقة بأسرار العجاز‬
‫المبثوثة فيه‪ ،‬وفيما إذا كان ذلك العجاز كامن ا في حروفه‪ ،‬أو في كلماته‪ ،‬أو هو في مجموع‬
‫آياته؟!‪ ..‬ليستقر بهم المطاف ‪،‬أخيراا‪ ،‬إلى أن كيل ما في القرآن عجيب‪ ،‬لكنهم استقروا على أن‬
‫مناط التحدي والعجاز في القرآن الكريم إنما هو في ناحيته البلغية‪ ،‬وهي الناحية التي تحيدى‬
‫القرآن الكريم بها العرب!‪..‬‬

‫‪ ()1‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.152‬‬


‫‪ ()2‬التصوير الفني في القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.23‬‬

‫‪65‬‬
‫بعض أشكال استعلء القرآن‬
‫ولتجلية هذا الجانب العجيب من جوانب استعلء القرآن الكريم على ما عداه من كلم‬
‫البشر؛ وجدنا أبا بكدر الباقلني يتناوتل النواحي البيانية فيه‪ ،‬مقارن ا بين نظومم القرآن الكريم ونظومم‬
‫ما عداه من الكلم قائلا فيه‪) :‬والذي يشتمتل عليه بديتع نظمه المتضممتن للعجاز وجومه‪ :‬منها ما‬
‫ج عن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬
‫يرجع إلى اتلجملة‪ ،‬وذلك أين نظنم القرآن ‪،‬على تصرف وجوهه؛ واختلف مذاهبه‪ ،‬خار م‬
‫المعهومد من نظام جميع كلمهم‪ ،‬ومباين للمألو م‬
‫ب يختص به؛‬ ‫ب خطامبهم‪ ،‬وله أسلو م‬ ‫ف من ترتي م‬ ‫ت م‬
‫ويتميتز في تصرفه عن أساليب الكلم المعتاد‪ ،‬وذلك أن الطرق التي يتقيتد بها الكلتم البديتع‬
‫المنظوتم تنقستم إلى‪ :‬أعاريض الشعر على اختلف أنواعه‪ ،‬ثم إلى‪ :‬أنوامع الكلمم الموزومن غيمر‬
‫ف الكلمم المعيدل التموسنجع‪ ،‬ثم إلى معددل موزودن غيمر تمسجع‪ ،‬ثم إلى ما‬ ‫المقفى‪ ،‬ثم إلى أصنا م‬
‫ت‬
‫ب‬‫ب فيه الصابةت والفادةت وإفهاتم المعاني المعتمرضة على وجده بديدع؛ وترتي د‬ ‫ل‪ ،‬فتتطل ت‬
‫تيرستل إرسا ا‬
‫ف‪ ،‬وإن لم يكن معتدلا في وزنه‪ ،‬وذلك شبيهم بجملة الكلم الذي ل يتـتنـنعيمتل تيتصنتع له‪(..‬‬ ‫لطي د‬
‫ج عن هذه الوجوه‪ ،‬وتمبايمن لهذه الطرق‪،‬‬ ‫م‬
‫ليقرر ‪،‬الباقلني‪ ،‬من ثيم‪) :‬وقد علمنا أن القرآنن خار م‬
‫ب‬ ‫ف كلمهم وأسالي م‬ ‫ب السجمع‪ ،‬وليسّ من قبيمل الشعمر‪ ،‬وتبين ‪،‬بخروجمه عن أصنا م‬ ‫فليسّ من با م‬
‫ي‬
‫صمل‬‫خطابهم‪ ،‬أنه خارج عن العادة‪ ،‬وأنه معجمز‪ ،‬وهذه خصوصيةم ترجع إلى جملمة القرآمن وتميمز حا م‬
‫ت‬ ‫م‬
‫في جميمعه()‪.(1‬‬
‫وكان المام "عبد القاهر الجرجاني" واحدا ممن تحدثوا عن إعجاز القرآن الكريم‪ ،‬وعن‬
‫تعيلق ذلك العجاز بنظم القرآن ذاته؛ وذلك في كتابه "دلئل العجاز"‪ .‬ونظرا لجهود المام‬
‫"الجرجاني" في استقراء العجاز القرآني؛ فقد اعتتمبر القرتن الخامسّ عصرا ذهبيا للعجاز‪ ،‬وقد‬
‫كان النتصار قن وـبـلنهت لمنلفمظ على المعنى؛ وذلك في القضية الجدلية "اللفظ والمعنى" في أيهما‬
‫تكون الفصاحة والبلغة؟!‪.‬‬

‫‪ ()1‬نقل عن كتاب مباحث في علوم القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.301‬‬

‫‪66‬‬
‫ولـ "ابن عطية" مقولةم رائعةم حول إعجاز ألفاظ القرآن الكريم يقول فيها‪) :‬وكتاب ال لو‬
‫ب على لفظدة أحسنن منها لم يوجود! ونحن يتبيتن لنا البراعةت‬
‫تنزعت منه لفظمة‪ ،‬ثم تأدير لساتن العر م‬
‫ن‬
‫م‬
‫في أكثره‪ ،‬ويخفى علينا وجتهها في مواضع‪ ،‬لقصورنا عن مرتبة العرب ‪،‬يومئِذ‪ ،‬في سلمة الذوق‬
‫وجودةم القريحة()‪.(1‬‬
‫وكان "مصطفى صادق الرافعي" ‪،‬رحمه ال‪ ،‬معتقدا بأن مظاهر العجاز في نظم القرآن‬
‫الكريم تتمثل في ثلثمة وجوه‪ :‬الحروف وأصواتها‪ ،‬الكلمات وحروفها‪ ،‬والتجنمل وكلماتها)‪.(2‬‬
‫صدف؛‬‫ظ القرآن الكريم إلى قسمين‪ :‬ال ي‬‫سم ألفا ن‬
‫أما الدكتور "محمد عبد ال دراز" فقد ق ي‬
‫وسماه "القشرة السطحية"‪ ،‬واللؤلؤة؛ وسماها "لب البيان القرآني"‪ ،‬ولما تكلم عن "القشرة‬
‫السطحية" لجمال اللفظ القرآني لحظ أنها تتألف من عنصرين مؤثرين‪:‬‬
‫ت ألفامظ القرآن الكريم وسكنامتها‪ ،‬وميدامتها‬
‫الول‪ :‬الجمال التوقيعي‪ :‬ويتمثل في توزيمع حركا م‬
‫ت‬
‫وغتينامتها‪.‬‬
‫أما الثاني‪ :‬فالجمال التنسيقي‪ :‬ويتمثل في رصف الحروف في الكلمات وتأليفها معاا)‪.(3‬‬
‫وحول المعجزة البيانيية في القرآن الكريم يقول الدكتور "عدنان زرزور"‪) :‬إن الكلم والبيان‬
‫هو ما امتاز به النسان‪ ..‬فجاءت معجزةت محمد )صلى ال عليه وسلم( بيانية‪ ،‬للشارة إلى أن هذه‬
‫الرسالة هي رسالة النسان‪ ،‬حيث كان النسان‪ ،‬وفي أي زمادن توجد‪ ...‬ولم يكن البياتن وقف ا على‬
‫لغدة من اللغات‪ ،‬أو أمدة من المم‪ ،‬لكين اختيانر لغمة العر م‬
‫ب لينزنل بها القرآن؛ وليحمنل بها إلى‬
‫العالنمم رسالةن النسان؛ يشيتر إلى فضيلدة بيانيدة جامعدة؛ امتاز بها اللساتن العربيي على كيل لسان(‬
‫)‪.(4‬‬

‫‪ ()1‬البيان في إعجاز القرآن‪ ،‬د‪.‬صلح الخالدي‪،‬دار عيمار‪،‬ص ‪،114‬نقل عن "فكرة إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫‪ ()2‬البيان في إعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.124‬‬
‫‪ ()3‬البيان في إعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.125-124‬‬
‫‪ ()4‬علوم القرآن الكريم‪ ،‬عدنان زرزور‪ ،‬ص ‪ ،254‬بتصرف)نقل عن البيان في إعجاز القرآن(‪ ،‬م سابق‪ ،‬ص ‪.142‬‬

‫‪67‬‬
‫من هنا؛ فقد أجمع الدارسون لهذا الجانب من علومم القرآن على رأدي لم يختلفوا حوله! أل‬
‫وهو فضيلةت اللغمة التي تنيزل بها القرآن الكريم على ما عداها‪ ،‬وعلى تمييمز القرآن الكريم وبلغتمه‬
‫من هذه الناحية‪..‬‬
‫ويقودنا هذا الجماع إلى البحث عن أسرار هذا البيان؛ وذلك عبر الغوص في أعمامق السئِلمة‬
‫الباحثمة عن سير اللغة؛ التي شيرفها ال عيز وجيل بأن حيملها كلمامته إلى عباده!‪.‬‬
‫ولئِن كان من المستحيل تناول وحصر كل أسرار السمو اللغوي الموجود في القرآن الكريم‬
‫من خلل كتا د‬
‫ب واحد؛ فإننا نخصص الصفحات التالية لتناول ظاهرة لغوية فريدة‪ ،‬يمكن تبيتـتنها‬
‫وتنـنتبتـتعها في ألفاظ القرآن الكريم؛ بحيث باتت ذات أثر كبير في تحديد معانيه‪ ..‬وهذه هي‬
‫"ظاهرة النسبية" في القرآن الكريم‪..‬‬

‫‪68‬‬
‫النسبية‪ :‬ظاهرة لغوية أصيلة!‬

‫ب مفردات الكلم البشري‪ :‬احتمال احتوامئها على وجوه متعددةد من المعاني‪،‬‬


‫إن من غرائ م‬
‫لذلك تصدتق عليها مقولة أنها مبنيةم وفق قاعدة "المحتوى النسبي المتدرج للمعاني"‪ ..‬والتي‬
‫يقصد بها‪" :‬إمكان احتواء اللفظ الواحد في اللغة على أكثر من معناى واحد‪ ،‬ولربما احتوى‬
‫ت متفاوتدة من المعاني‪ ،‬مما هو قريب فأبعد؛ فالبعد؛ والتي يجمتع بينها‬ ‫ظ الواحتد على درجا د‬
‫اللف ت‬
‫ي مشترك‪ ،‬كإطلقنا لفظةن "يد" للتعبير عن عددد كبيدر من المعاني‪ ،‬إذ يعبر هذا اللفظ‬ ‫جاممع لغو م‬
‫ت عديدةد ومعادن متفاوتة‪ ،‬كأن يصلح للتعبير عن "يد النسان"‪ ،‬ويصلح‬ ‫تعبيرا صادقا عن مسميا د‬
‫‪،‬كذلك‪ ،‬للتعبير عن ناحية تشريحية بيولوجية لكثير من الكائنات الحية؛ مهما علت في رتبتها أو‬
‫ت‪ ،‬وهو صالمح كذلك للتعبير عن معاني مجردة مثل‪" :‬التفضل بالنعمة" و"القدرة على‬
‫نستفلن و‬
‫الفعل"‪...‬‬
‫و"ظاهرة النسبية في القرآن الكريم"؛ نحسب)‪ (1‬أنها تشكتل قانونا عاما يحكتم ألفاظ القرآن‬
‫الكريم‪ ..‬فاللفظ ‪،‬بطبيعته‪ ،‬يمكنه أن يتدرج في قدرته على استيعاب المعاني‪ ،‬حيث يمكن للفدظ‬
‫ما )من الناحية النظرية على القل( أن يأخذ من المعاني القيم من صفر إلى ما ل نهاية!!‪..‬‬
‫فكلمة‪ :‬ينود‪ ،‬أو مروجول أو نعويون‪ ...‬الخ هي من اللفاظ التي يمكن أن ننسنبها إلى أدني الكائنات‬
‫الحية‪ ،‬فنقول‪ :‬يد القرد‪ ،‬وعين الفراشة‪..‬الخ‪ ،‬لكن يمكن لها ‪،‬في الوقت ذاته‪ ،‬أن تأخذ قيما‬
‫ل فونق أيديهم{)الفتح‪ (10:‬وكذلك قوله عز من قائل‪} :‬ولتصنع‬ ‫مطلقاة‪ ،‬كقوله تعالى‪} :‬يتد ا م‬
‫على عيني{)طه‪ (39:‬فاللفظ هنا واحد‪ ،‬لكين شتان بين دللته المختلفة!!‬
‫ول تقتصر "النسبية" على المدلولت المادية‪ ،‬بل تتعداها للقيم المعنوية‪ ،‬مثل العدل‪،‬‬
‫والرحمة‪ ،‬والقدرة‪ ..‬فهي صفات يمكن أن يتمتع النسان بنصي د‬
‫ب وافدر منها‪ ،‬إل أن قيمها‬
‫المطلقة مقصورة على ال عز وجل!‪..‬‬

‫‪ ()1‬ل يصلح ما نورده في هذا الكتاب للدللة القاطعة على صحة "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم"‪ ،‬إل أننا نتمنى‬
‫أن تثبت صحتها إما من خلل كتاب منفصل يخصص لهذه الغاية‪ ،‬وإما من خلل دراسات متخصصة يقوم بها‬
‫باحثون متخصصون في الدراسات القرآنية‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ولعل اللغة العربيية هي واحدة من أشيد اللغات قبولا لصفة المرونة‪ ،‬حيث تعتبر مرونتها معيارا‬
‫ظ الواحتد في العربيية يمكن أن تتنازعه عدةت‬
‫لخصوبة هذه اللغة وقدرتها على الستيعاب‪ .‬فاللف ت‬
‫ب مما تعارف عليه الناس في حياتهم العملية ونشاطاتهم اليومية‪ ،‬وأن‬ ‫د‬
‫معان‪ ،‬والتي منها ما هو قري م‬
‫يكون له في الوقت ذاته معناى ‪،‬أو عدة معادن‪ ،‬أخرى مما هو مستتمر خلف المعنى التعرفيي الشائع‪.‬‬
‫وتعتبر الحتمالت النظرية لمعاني لفدظ ما )والموجودة في معجمات اللغة( معاني محتملة له‪.‬‬
‫ع‬
‫فلفظة "الشريعة" ‪،‬على سبيل المثال‪ ،‬في معناها الشائع الذي تعارف عليه الناس‪ :‬ما شر ن‬
‫ال لعباده من أممر الدين)‪ .(1‬بينما تتقبل من المعاني اللغوية المحتملة معنى‪ :‬الطريقة‪ ،‬أو‬
‫المنهج‪ ..‬وهي جمتع شرائع؛ والتي تعني مورد الشاربة‪.‬‬
‫كذلك؛ فإلن "الفقه" يعني تعرف ا واصطلحاا‪) :‬العلم بالحكام الشرعية العملية المكتسبة من‬
‫أدلتها التفصيلية( بينما له من وجوه المعاني اللغوية المحتملة معاني‪ :‬العلم بالشيء؛ والفهم له‪،‬‬
‫وكذلك‪ :‬الحذق‪ ،‬والفطنة‪ ..‬وشتان ما بين المعنى الصطلحي)‪ (2‬وبين المعاني اللغوية ذات‬
‫البعاد‪ :‬المتدرجة في اتساعها؛ والمتعددة في مدلولتها؛ وحتى المطلقة في كثيدر من‬
‫الحيان!‪..‬‬
‫وتعتبر "ظاهرة النسبية" ‪،‬بشكل عام‪ ،‬الوجه المقابل لمشكلدة كثيرا ما أعاقت قدرتنا على‬
‫الفهم السليم لمراد الخرين من كلمهم )وهي صحيحة بالنسبة لكتاب ال عز وجل بوجه‬
‫خاص( إذ كثيرا ما أحدث الختذ بالمعاني القريبة ‪،‬للفدظ ما‪ ،‬خللا في الفهم لدى من يستمع‪،‬‬
‫ث معناى بعيداا‪ ،‬ويفهتم السامتع المعنى القريب!‪..‬‬
‫حيث نيقصتد المتحد ت‬
‫ومن المور الجديرة بالملحظة أين المعنى اللغوي المحدد والمقصود للفظ ما؛ كثيرا ما‬
‫فهمت دللته المحددنة نتيجةن اقترانه بقريندة تتعطي إيحاءا ما حول المعنى المقصود من بين جملة‬
‫الحتمالت الممكنة لذلك اللفظ‪..‬‬

‫‪ ()1‬من أمدر‪ ،‬ونهدي‪ ،‬وحلدل‪ ،‬وحرادم‪ ،‬وفرائض‪ ،‬وحدود‪..‬‬


‫‪ ()2‬الذي يشيتع عاداة في زمادن ومكادن معينين‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫لجل ذلك‪ ،‬وبغرض فهم المور على حقيقتها؛ وعلى كيل أوجهها المتاحة‪ ،‬كان ل بد لنا‬
‫‪،‬ونحن نتعامل مع المعاني القريبة للفدظ ما؛ عدم تجاهل جملة معانيه الخرى الممكنة مما هو‬
‫مستتمر أو بعيد!‪.‬‬
‫إنن حانجنتنا إلى تلك المرونة في فهم معاني اللفاظ )وهو جوهر ظاهرة النسبية( ل تقتصر‬
‫على اللفاظ المستخدمة في تعاملتنا اليومية؛ ومطالعاتنا العلمية‪ ،‬بل تتجلى ‪،‬أشد ما تتجلى‪،‬‬
‫لدى تعاملنا مع القرآن الكريم‪ ،‬حيث مرونةت اللغمة وقدرتتها اللنهائية على الستيعاب تمثتل واحداة‬
‫من أهم خصائص النص القرآني الكريم؛ ولعل بعض آيات)‪ (1‬القرآن الكريم قد أشارت إلى تلك‬
‫الخاصية‪.‬‬
‫ومن الجدير بالملحظة أنه وبدون قدرة اللفظ الواحد على استيعاب المعاني المتعددة؛ فإن‬
‫ص القرآني يمكن أن يفقند وميـنزنته اللهية! والمتمثلة في القدرة غير المحدودة للنص على‬
‫الن ي‬
‫احتواء المضامين واستيعابها‪ ،‬وقدرة اللفاظ على اختراق حواجز الزمان والمكان‪ ،‬تلك الميزة‬
‫التي يمكن أن تـوقنتل بين أيدي الناس إذا ما نحواو إلى تحديد معاني ألفاظ القرآن الكريم؛ ونقصرها‬
‫ص القرآني أن يحتملها!‪.‬‬‫ض الوجوه التي يمكتن للن ي‬‫على وجوه محددة ومحدودة؛ هي بع ت‬
‫وفي اعتقادنا فإن تلك "المرونة" أو "المقدرة على الستيعاب" أو "ظاهرة النسبية" ‪،‬سيمها ما‬
‫شئِت؛ ليست أمرا عارضا نجتده في بعض المواضع في القرآن الكريم دون غيرها)‪ (2‬بل هي تسلنة‬
‫من تسننه الصيلة التي ل تنفصل عنه‪ ،‬وصفةم ملتصقة به التصاق المفردات بمعانيها اللغوية!‪..‬‬
‫وسنحاوتل فيما يلي البرهنة على وجود ظاهرة "النسبية في القرآن الكريم" )كظاهرة عامة ل‬
‫تقتصر على ألفاظه فحسب( وذلك من خلل إيرادنا لمجموعدة من المثلة؛ والتي نعتقد بانطباق‬
‫مفهوم "النسبية" عليها‪ ،‬وهي أمثلة معروضةم هنا على سبيل المثال ل الحصر‪:‬‬
‫ض القرآتن الكريم لمفهوم "السماء" في آيا د‬
‫ت كثيرة‪ ،‬لكن المدقق فيها سيلحظ أنها ل‬ ‫يتعر ت‬
‫تشيتر دائم ا إلى نفسّ المعنى والمضمون‪ ،‬حيث تأخذ تلك اللفظة معاني متدرجة من الدنى إلى‬
‫العلى‪ ،‬ومما هو قريب إلى ما هو أبعد!‪.‬‬

‫)( }قل لو كان البحتر مدادا لكلمات ربي لننمفند البحتر قبل أن تنفيد كلما ت‬
‫ت ربي{)الكهف‪(109:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ()2‬أو هكذا يبدو لنا؛ إلى أن يتم إثبات هذا المر أو نفيه‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫فالسماء ‪،‬في واحدةد من حالتها القريبمة التي يطرحها القرآن الكريم‪ ،‬هي‪ :‬مكاتن نزول المطر‪:‬‬
‫}وأنزل من السماء ماء{)البقرة‪..(22:‬‬
‫ي المحيط بالرض‪} :‬ومن‬
‫ف الجو ي‬
‫ثم تبدأ معانيها بالتسامع لتشينر إلى معناى أرحب هو الغل ت‬
‫صيعتد في السماء{)النعام‪..(125:‬‬ ‫ضييقا حرجا كأنما ين ل‬
‫تيرد أن يضلنهت يجعل صدره ن‬
‫ثم يبدأ القرآن الكريم بإعطاء لفظة "السماء" معادن إضافية أبعد من كل ما ذكرناه)‪ (1‬تكون‬
‫ط‬‫ث القرآتن الكريم عن "سمادء" ترتب ت‬
‫فيه السماء ذات معنى شامل تمتسع‪ ،‬وذلك عندما يتحد ت‬
‫بعلقدة مكانية مع "النجم الثاقب" وفي هذا يقول ال عز وجل‪} :‬والسماء والطارق وما أدراك ما‬
‫الطارق‪ ،‬النجم الثاقب{)الطارق‪ (3-1:‬ول يخفى أن العلقة المكانية التي تربط بين "السماء"‬
‫من جهة و"النجم الثاقب" من الجهة الخرى هي علقة احتواء‪ ،‬فالسماء هنا هي الحييز المكاني‬
‫الذي تتواجد فيه النجوم‪ ،‬وهي القرينةت التي تشيتر إلى المعنى المقصود للسماء في هذه الية‪...‬‬
‫وهو معنى مقارب لما ورد في الية الكريمة }ولقد زيينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما‬
‫للشياطين{)الملك‪...(5:‬‬
‫ثم تمتتد "السماء" في معناها إلى ماهييدة مجهولدة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪} :‬ثم استوى إلى السمامء‬
‫ت في‬ ‫وهي تدخان فقال لها وللرض ائتيا طوع ا أو كره ا قالتا أتينا طائعين‪ ،‬فقضاهلن سبع سموا د‬
‫ن‬
‫يومين‪ ،‬وأوحى في كيل سمادء أمرها{)فصلت‪ (10:‬وهو معناى بحاجة إلى كثيدر من التدقيق‬
‫لدراكه على وجهه الصحيح!‪..‬‬

‫‪ ()1‬نود هنا أن نعقد صلة بين مفهوم "المحتوى النسبي" وبين مقدار المد اللزم في اللفاظ التي فيها مد متصل‬
‫سمماَءء نونما بنـننانها{)سورة الشمسّ الية‪ (5:‬وكذلك في كلمات مثل‪:‬‬
‫كما في لفظ سماء كما في قوله تعالى }مواَل س‬
‫}نجآنء{‪} ،‬قتـمرودء{‪} ،‬نهتؤلمء{‪..‬فمن المعروف أن المد فيها هو مد متصل )وهو ما جاء فيه بعد حرف المد همز‬
‫متصل به( أما حكمه فهو الوجوب‪ ،‬لجماع القراء على مده زيادة على ما فية من الطبيعي وإن تفاوت القراء في‬
‫مقدار هذه الزيادة‪ .‬ويمد من أربع إلى خمسّ حركات وصلا ووقف ا ‪ ،‬وست حركات إذا كانت همزته متطرفة ‪ .‬ونود‬
‫هنا أن نقترح ربط مقدار المد )أربع أو خمسّ أو ست( بالمحتوى النسبي للفظ‪ ،‬فالمعنى القريب )لكلمة سماء‬
‫على سبيل المثال( يمد أربعاا‪ ،‬والبعد فالبعد خمسا أو ستا‪ ..‬وهو اقتراح ل يغير من جوهر أو قيمة المد بقدر ما‬
‫يجعل عملية الختيار أكثر وعيا‪ ،‬وخاضعة للمعنى المتحصل للقارئ!‪ .‬وال بعد هذا اعلم‬

‫‪72‬‬
‫كذلك فإن لفظة "أرض" في القرآن الكريم ننحت نفسّ المنحى‪ ،‬ونسجت على نفسّ‬
‫المنوال‪ ،‬فقد وردت "الرض" في أحد معانيها لتشير إلى مكادن محدودد صالدح للرعي‪ ،‬وذلك في‬
‫قوله تعالى‪} :‬فذروها تأكتل في أرض ال{)هود‪ (64:‬والقرينة الموضحة للمعنى هنا هي‪ :‬الحييز‬
‫المكاني الذي يمكن أن ترعى فيه الدايبة!‪.‬‬
‫ثم وجدنا معانيها تمتتد لتتسنع لمعنى‪ :‬الرض الزراعية لبلدد ما‪ ،‬كما في قوله تعالى‪} :‬وإذ قلتم‬
‫ت الرض{)البقرة‪..(61:‬‬ ‫يا موسى لن نصبنر على طعادم واحد فادعت لنا ربك تيخر ت‬
‫ج لنا مما تنب ت‬
‫ض هنا ذات معناى أبعد وأرحب منها في المثال الول‪..‬‬
‫والر ت‬
‫ثم وجدنا مدلولها يتستع متجاوزا البلند الواحند ليفيند معنى‪" :‬البلد" وذلك كما في قوله‬
‫ل واسعةا فتهاجروا فيها{)النساء‪ (97:‬والقرينة هنا هي الفعل‬ ‫ضا م‬
‫تعالى‪} :‬ألم تكن أر ت‬
‫"فتهاجروا" والذي يعني التنقل من مكان إلى مكان‪ ،‬ومن بلدد إلى أخرى‪..‬‬
‫ى أوسع عندما أفاد تمصطلحا فلكيا حديثا هو "الكرة الرضية"‬
‫ثم وجدنا مضمونها يأختذ مد ا‬
‫أو "كوكب الرض" وذلك كما في قوله تعالى‪} :‬هو الذي خلق لكم ما في الرض جميعا ثم‬
‫استوى إلى السماء{)البقرة‪..(29:‬‬
‫والقرينة المشيرة إلى هذا المعنى هي اقتران الرض بالسماء‪ ،‬والذي يعني كل كوكب الرض‬
‫بما يحيط به من سماء‪ ،‬كذلك يمكن أن تكون طبيعة الخطاب في قوله تعالى }خلق لكم{‬
‫‪،‬وهي موجهة للعموم‪ ،‬قرينةا أخرى توضح المعنى المقصود‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ويمكن للفظتي "سماء" و "أرض" أن تردا لتفيدا معناى إضافيا غاية في التساع‪ ،‬كما في قوله‬
‫ت لولي اللباب{)آل‬ ‫تعالى‪}:‬إن في خلمق السموات والرض واختل م‬
‫ف الليمل والنهامر ليا د‬
‫ط بها من‬
‫عمران‪ (190:‬فمضمون الية الكريمة يمكن أن ينطبق على الكرة الرضية وما يحي ت‬
‫سماء‪ ،‬لكن يمكن له كذلك أن يتجاوز ذلك المعنى لينطبق على أرض كيل كوكب سييار من‬
‫ط بكدل منها من سمادء خاصدة‬
‫أمثال‪ :‬أرض المريخ‪ ،‬أرض الزهرة‪ ،‬وأرض المشتري‪...‬الخ بما يحي ت‬
‫به‪ ،‬وبهذا فإن المفاضلة في الية الكريمة )اختلف ظاهرتي الليل والنهار( يمكن أن تتجاوز‬
‫ب وأوسنع بين‬ ‫د‬ ‫د‬
‫المفاضلة بين الليل والنهار على كوكب الرض لتنطلق إلى مفاضلة ومقارنة أرح ن‬
‫ليل ونهار الكواكب المختلفة فيما بينها‪ ،‬حيث لكل أرض )كوكب( سماؤها الخاصة بها‪ ،‬ولعل‬
‫السماوات هنا قد جاءت جمع ا لتشير إلى اختلف سماء كل كوكب )أي غلفه الجوي( عن‬
‫غيرها من سموات الكواكب الخرى‪ ،‬أما الرض فقد جاءت مفردة لنها تشير إلى جنسّ‬
‫الرض‪ ،‬وقد يكون في ذلك إشارة إلى الصل الواحد لها جميعاا؟!)‪..(1‬‬
‫ولعل أعجب المواضع التي وردت فيها لفظتا "السماء" و "الرض" الوارد في سورة "هود"‪:‬‬
‫}فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها شهيق وزفير‪ ،‬خالدين فيها مادامت السموات والرض إل‬
‫ما شاء ربك{)هود‪ ..(107-106:‬فأية سموات وأية أرض تلك التي ستكون موجودة والناس‬
‫يعذبون في النار خالدين فيها؟!‪..‬‬
‫ضورتبها لنسبية المعاني في القرآن الكريم مفهوم أتمميية الرسول‬
‫كذلك من المثلة التي يمكن ن‬
‫)صلى ال عليه وسلم( فقد عبيرت اليات الكريمة عن تلك الصفة النبوية وذلك في قوله تعالى‪:‬‬
‫}الذين ينـتنمبعونن الرسونل النبلي الملي الذي يجدونه مكتوب ا عندهم في التوراة والنجيل{‬
‫)العراف‪..(157 :‬‬
‫ف عليه في عالمم اليوم هي أميةم تستمرد معناها من "المومة" فيقال‪:‬‬
‫و"الميتة" بمعناها المتعار ت‬
‫رجمل أميي؛ بمعنى‪ :‬أنه ل يعرف شيئِ ا وكأنه يوم ولدته أمه!‪ ،‬وهي في معناها الشائع تعبيـتر عن‬
‫المعنى المقابل لتقان القراءة والكتابة‪ ..‬فهل أرادت اليات الكريمة أن تشير إلى عدم قدرة‬
‫النبي )صلى ال عليه وسلم( على القراءة والكتابة؟!‪..‬‬

‫‪ ()1‬أصل الكواكب جميعا هو الشمسّ‪ ،‬فهن بناتها وهي أمهن!!‬

‫‪74‬‬
‫إين المفارقة ستزداتد وضوح ا مإذا علمنا أن صفةن "المية" قد تأشير إليها هنا في معر م‬
‫ض خطاب‬
‫ب العزة لبني إسرائيل }الذين يتبعون الرسول النبي المي الذي يجدونه مكتوب ا عندهم في‬
‫ري‬
‫التوراة والنجيل{)العراف‪(157:‬؟!‪ ..‬وهي قرينة في غاية الهمية!!‬
‫حيث يتبين لنا من سياق الية أن "المية" في هذا الموضع إنما هي علمةم أعطاها ال لبني‬
‫فهل تتعتبتر أميية النبي محمد )صلى ال عليه وسلم(‬
‫إسرائيل ليتعرفوا بها على نبيي آخر الزمان!!‪..‬‬
‫ي‬
‫)بمعنى عدم القراءة والكتابة( علمة مميزة يمكتن أن نيستدلل بها بنو إسرائيل على النبيي الخاتم‪،‬‬
‫نبيي آخر الزمان؟!‪ ..‬وقد وردت لفظة "أمي" كذلك في قوله تعالى‪} :‬قل يا أيها الناس إني رسول‬
‫ال إليكم جميعا‪ ،‬الذي له ملك السموات والرض ل إله إل هو يحيي ويميت فآمنوا بال ورسوله‬
‫النبي الميي الذي يؤمن بال وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون{)العراف‪..(158:‬‬
‫وفي هذا الموضع يمكن ملحظة المفهوم العالمي الذي يتحدث القرآن الكريم من خلله‪،‬‬
‫حيث يونجهت الحديث إلى الناس كافة‪ ،‬ويؤكدها بـ كلمة "جميعا" وكأن مفهوم "المية" هنا يقابل‬
‫نفسّ المفهوم النساني العام‪..‬‬
‫ب أتمميلةن‬
‫ى‪ ،‬وأن ننس ن‬ ‫إن مفهوم "النسبية" )الذي نناقشه هنا( يسمتح لنا أون نلقني نظراة أبعند مد ا‬
‫النبيي )صلى ال عليه وسلم( إلى لفظمة "أتيمة" ل إلى لفظة "أم"! وبالتالي فإين صفة النبيي الميي‬
‫ب معناى جديدا هو‪" :‬نبيي المة"‪ ،‬أو "نبي المم جميعاا"‪ ..‬وتصبح دللةا على النبييالخاتم‬ ‫تكتس ت‬
‫س كافة‪ ،‬وللعالمين جميعاا‪ ،‬وهو مفهوتم متأصل في القرآن الكريم‪ .‬فكثيرةم هي‬‫التمرسل للنا م‬
‫اليات التي تحمتل هذا المضمون؛ ومنها‪} :‬وما أرسلناك إل كافة للناس بشيرا ونذيراا{)سبأ‪:‬‬
‫‪ .(28‬وكذلك قوله تعالى‪} :‬وما أرسلناك إل رحمةا للعالمين{)النبياء‪(107:‬‬
‫لميية النبي محمد )صلى ال عليه وسلم( أن تصبح دليلا واضحا‬‫وبهذه الدللة فقط يتسنى ت‬
‫يستعين به بنو إسرائيل للتعرف على النبي الخاتم! فهو من هذه الناحية نبمي مرسمل للنا م‬
‫س جميعا‬
‫بعد أن كان النبياءت تيبعثون لقوامهم خاصة!!!‪..‬‬

‫‪75‬‬
‫ب مثالا إضافي ا واضح ا على "ظاهرة النسبية" في القرآن الكريم وذلك باللفظ "نكنفنر"‬ ‫ونضر ت‬
‫والذي ورد في القرآن الكريم بمعادن متعدددة؛ كان المعنى اللغوي لها)‪ (1‬قاسم ا تمشترك ا بينها‬
‫جميعاا)‪..(2‬‬
‫لقد ورد اللفظ "نكنفنر" في قوله تعالى‪} :‬أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لوتين مالا وولدا{‬
‫)مريم‪ ..(77:‬وهي تشير هنا إلى المعنى الصطلحي الدارج للكفر‪ ،‬والمتعارف عليه بين‬
‫الناس‪ ،‬والمستمد لغوي ا من معنيي‪" :‬التغطية" و"الستر"‪ ،‬وما تسمي الكافتر كافرا إل لتغطيته‬
‫وإخفائه ال ونـعتمم التي أنعنم الت بها عليه؛ وعدم اعترافه بها!‪..‬‬
‫لكن ليسّ كرل كافدر كافراا؟!!‪..‬‬
‫فقد وردت اللفظة عينها في القرآن الكريم لتفيند معناى آخر وذلك في قوله تعالى‪:‬‬
‫ظ بهم التكنفار{)الفتح‪(29:‬‬
‫ع ليغي ن‬
‫ب التزنرا ن‬ ‫م‬
‫}فاستوى على سوقه يعج ت‬
‫د‬
‫ب التكفانر نباتته{)الحديد‪(20:‬‬ ‫وكذلك في قوله تعالى‪} :‬كمثمل غيث أعج ن‬
‫فالكفار المقصودون هنا هم التزراع‪ ،‬والقرينة هنا واضحة حيث السياق كله يتحدث عن‬
‫النبات والزراعة والمطر‪ ..‬لكن لماذا تسمي المزارع كافرا في هذا الموضع؟!‪..‬‬
‫لقد سمي كذلك لنه هو مون يكفتر البذرنة )أي يغطيها( بالتراب!‪..‬‬
‫ث ليشينر إلى معناى نظنه تمختلفا عن سابقيه! وذلك في‬‫لكن اللفظ ذاته ورد في موضدع ثال د‬
‫ي‬
‫سّ‬
‫قوله تعالى‪} :‬يا أيها الذين آمنوا ل تتولوا قوما غضب ال عليهم‪ ،‬قد يئِسوا من الخرة كما يئِ ن‬
‫التكفاتر من أصحاب القبور{)الممتحنة‪..(13:‬‬

‫‪ ()1‬كفر‪ :‬تكفرا‪ ،‬كفر الشيء‪ :‬أي ستره وغطاه‪ ،‬يقال‪ :‬كفر درعه بثوبه‪ :‬أي غطاها به ولبسه فوقها‪) .‬المنجد في اللغة‬
‫والدب والعلوم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.(691‬‬
‫‪ ()2‬نؤكد مرة أخرى أن "ظاهرة النسبية" إنما تتعامل مع جملة معاني اللفظ في المعجم‪ ،‬والتي تأتي عادة متفاوتة من‬
‫القريب إلى البعيد فالبعد‪ ،‬وتحتمل جملة من المعاني )نظري ا على القل( تتراوح بين الصفر واللنهاية!!‬

‫‪76‬‬
‫فمن هم الكفار المقصودون في هذه الية)‪(1‬؟!‪ ..‬هل هم الكفار بالمعنى الول للفظ‪ ..‬أي‬
‫من يغطي نمنعنم ال ويخفيها ول يعترف بها؟! ولماذا اختتص الكافر باليأس من الموتى مع أن‬
‫المؤمنن أيضا يمكنه أن ييأس من أصحاب القبور كالكافر تماماا؛ ذلك أننا أمام حقيقة إنسانية‬
‫عامة ل يمكن نكرانها هي الموت!‪..‬‬
‫أم أن اللفظ يشير إلى الكفر بمعناه الثاني والذي يعني تغطية‪ :‬البذرة بالتراب انتظارا‬
‫لنباتها؟!‪ ..‬أم أن هناك معناى ثالث ا يمكن أن نضيفه إلى سابقيه؟!!‪..‬‬
‫من الواضح أن نظراة متسرعةا نلقيها على الية الكريمة المشاتر إليها سوف تدفعنا باتجاه‬
‫المعنى الول لكلمة "كافر" وهو المعنى الكثر شيوعاا؛ والكثر تعارفا عليه بين الناس‪ ..‬لكن‬
‫هل يمكن أن يوجد لهذا اللفظ معناى ثالث ا يكون تمشتق ا من الصل اللغوي‪ ،‬ول يكون مجرد‬
‫إسقادط لمعناى على آخر؟!‪..‬‬
‫لنبحث عن القرينة التي تحدثنا عنها سابقاا‪ ،‬والتي يمكنها أن تفيدنا في تحديد أي وجوه‬
‫ل‪ :‬من هم أصحاب القبور؟!‪..‬‬ ‫معاني اللفظ المذكور هي المقصودة‪ ،‬ولنسأل أنفسنا سؤا ا‬
‫والجواب‪ :‬هم الموات بالطبع!!‪..‬‬
‫ى‪ :‬فما علقة التكفار بالموات؟!‪..‬‬
‫ونسأتل أنفسنا مراة أخر ا‬
‫س علما بحقيقمة موته‪ ،‬فهو الذي‬
‫والجواب‪ :‬أن من نيدفن)‪ (2‬ميتا فهو كافمر له‪ ،‬وهو أكثتر النا م‬
‫يدفعه في حفرته‪ ،‬ويغطيه ‪،‬من ثلم‪ ،‬ليهيل عليه التراب بعد ذلك!!‪ ..‬والمعنى هنا يشترك مع غيره‬
‫من المعاني سالفمة الذكر )تغطية أنعم ال وسترها‪ ،‬وتغطية البذرة بالتراب( في أن جميعها تشترك‬
‫في الصل اللغوي الذي انبثقت عنه‪ ،‬أل وهو التغطية والستر؟!!‪ ..‬وهي وجوهت معادن متعددة‪،‬‬
‫ي واحد!!‪..‬‬
‫وذات مضامين نسبية للفظ لغو س‬

‫‪ ()1‬قال الحسن البصري في تفسيرها‪ :‬الكفار الحياء قد يئِسوا من الموات‪ ،‬وقال قتادة‪ :‬كما يئِسّ الكفار أن‬
‫ب القبور الذين ماتوا‪ ،‬وكذا قال الضحاك‪).‬تفسير القرآن العظيم‪،‬ج ‪ ،4‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.(457‬‬ ‫يرجع إليهم أصحا ت‬
‫‪ ()2‬أو هو الحانوتي بلهجة إخواننا المصريين‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫ومع اعتقادنا بأن ظاهرة "النسبية" في القرآن الكريم هي قانون عام؛ إل أننا نظن بأنها تناسب‬
‫المصطلحات الخاصة بالزمن بشكدل خاص؛ حيث لم يحدد القرآتن الكريم قيم ا محدداة لكثيدر‬
‫من اللفاظ ذات الدللة الزمنية؛ والمتداولةم بشكدل واسدع في حياتنا اليومية‪ ،‬ونعبر من خللها‬
‫عن قيم محددةد ثابتدة تختص بالوقت‪.‬‬
‫فالقرآن الكريم يتحدث عن "اليوم" لكنه ل يقصتد ‪،‬دائما‪ ،‬اليوم الذي نعرفه‪ ،‬والذي حدده‬
‫النسان حديث ا بمقدار الزمن الذي تستغرقه الكرة الرضية لكي تكمل دوراة كاملةا حول نفسها‪،‬‬
‫ث القرآن الكريم في هذا الشأن‬‫والمقيدر بأربدع وعشرين ساعة من زمننا الرضي‪ .‬وجرل حدي م‬
‫ت‬
‫)حول كلمة يوم( يتمحوتر حول مفهوم "اليوم الخر"‪} :‬يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى‬
‫ت تجري من تحتها النهاتر خالدين فيها{‬ ‫نورهم بين أيديهم وبأيمانممهم‪ ،‬بوشراتكم اليوم جنا د‬
‫ت ت ن‬ ‫و‬ ‫ت‬
‫)الحديد‪..(12:‬‬
‫وكذلك في قوله‪}:‬لن تنفعكم أرحاتمكم ول أولتدكم يوم القيامة يفصل بينكم{)الممتحنة‪(3:‬‬
‫والقرينة الموضحة للمعنى المقصود واضحةم في سياق اليتين المذكورتين‪.‬‬
‫لكلن كلمة "يوم" في القرآن الكريم ل يقتصر ورودها على المواضع غير محددة المضمون‬
‫كيوم القيامة‪ ،‬إذ يمكن أن يطال معناها ما تعارفنا عليه في حياتنا اليومية من معادن‪ ،‬وذلك باقترانها‬
‫بقريندة تتقيدها على وجده يفيتد هذا الفهم‪ ،‬وذلك كما في قوله تعالى‪} :‬إذا نودي للصلةم من يومم‬
‫الجمعة فاسعوا إلى ذكر ال{)الجمعة‪ (9:‬وقد تحمدد مفهوتم كلممة "يوم" هنا من خلل اقترانها‬
‫بكلمة "الجمعة" فهو إذن أحد أيام السبوع على كوكب الرض؟!‪ ..‬وهو عينه المعنى المراد في‬
‫قوله تعالى‪} :‬فانطلقوا وهم يتخافتون‪ ،‬أن ل يدخلنها اليوم عليكم مسكين{)القلم‪ (24:‬والقرينة‬
‫ث البشمر للبشر عما هم متعارفون عليه من أيام السبوع!‪..‬‬
‫في المثال الخير واضحمة‪ ،‬فهو حدي ت‬
‫أما الطلقات العجيبة لكلمة "يوم" في القرآن الكريم فهي تجعل منه مداة زمنيةا حائرة؟!‬
‫فهي ليست مما تعارفنا عليه نحتن سكان كوكب الرض‪ ،‬كما أنها ل تحمل قيمةا محدداة في حيد‬
‫ذاتها‪ ،‬بل جاءت لتحمنل قيمةا نسبياة)‪ (1‬وذلك كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫ح إليه في يودم كان مقداتره خمسنين ألف سنة()المعارج‪..(4:‬‬
‫ج الملئكةت والرو ت‬
‫}تعر ت‬
‫‪ ()1‬بالقياس إلى مدة اليوم على كوكب الرض!‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫ف سندة مما تعدون{)الحج‪...(47:‬‬ ‫وكذلك قوله تعالى‪} :‬وإن يوم ا عند ربك كأل م‬
‫ت واضحةا لمفاهيم فيزيائية حديثة حول "نسبية‬‫وهنا تبدو اليات الكريمة وكأنها تحمل إشارا د‬
‫ت‬
‫الزمن" والتي ناقشتها نظريةت النسبية لينشتاين بعد ذلك بمئِات السنين!!‪..‬‬
‫كذلك فإن مصطلح "الساعة" كان من المفاهيم الزمنية التي تحدث عنها القرآن الكريم‪،‬‬
‫لكنه لم يقصد به ‪،‬على الطلق‪ ،‬ما نتداوله اليوم من معانيها‪ ،‬فهو لم يقصد الفترة الزمنية‬
‫المكونة من ستين دقيقة!‪ ..‬بل قصد من ورائه ‪،‬في بعض المواضع‪ ،‬فتراة زمنيةا قصيراة نسبياا؛‬
‫وذلك كما في قوله تعالى‪} :‬لقد تاب ال على النبيي والمهاجرين والنصار الذين اتبعوه في ساعة‬
‫العسرة{)التوبة‪ ،(117:‬وكذلك قوله تعالى‪} :‬فإذا جاء أجلهم ل يستأخرون ساعة ول‬
‫يستقدمون{)العراف‪..(34:‬‬
‫وهي لم تأ م‬
‫ت في كيل المواضع لتعبنر عن نفسّ القيمة الزمنية القصيرة‪ ،‬بل إن أكثر إطلقاتها‬
‫قد جاءت لتخبنر عن يوم الهول العظيم‪} :‬ويوم تقوتم الساعةت يومئِذ يتفرقون{)الروم‪ (14:‬كذلك‬
‫قوله تعالى‪} :‬حتى إذا جاءتهم الساعة بغتةا قالوا يا حسرتنا{)النعام‪..(31:‬‬
‫وقد يبدو لنا ‪،‬في كثيدر من المواضع القرآنية‪ ،‬تلشي واختفاء الحدود الزمنية المعهودة لدينا‪،‬‬
‫ث عما سيأتي‬
‫فنرى في بعض المواضع أن اليات تتحدث عن المستقبل بصيغة الماضي‪ ،‬وتتحد ت‬
‫ب انتثرت‪ ،‬وإذا‬
‫كما لو أنه قد تنيم بالفعل! كما في قوله تعالى‪} :‬إذا السماءت انفطرت‪ ،‬وإذا الكواك ت‬
‫البحار فيجرت{)النفطار‪ (3-1:‬وقوله تعالى‪}:‬إذا السماء انشقت{)النشقاق‪ (1:‬والية‬
‫الكريمة‪}:‬وسيق الذين اتقواو ربهم إلى الجنة زمرا‪ ،‬حتى إذا جاءوها وتفتحت أبواتبها وقال لهم‬
‫خزنتها سلمم عليكم طبتم فادخلوها خالدين{)الزمر‪ (73:‬وهي ‪،‬بل شك‪ ،‬ظاهرةم تستحتق‬
‫التوقف عندها من خلل دراسدة متأنيدة واعية تفرد لهذا الغرض‪.‬‬
‫ولعل من ملمح "ظاهرة النسبية" في القرآن الكريم استخدام بعض الدوات اللغوية ‪،‬في‬
‫بعض المواضع‪ ،‬للتعبير عن معادن غير تلك التي شاع استخدام تلك الدوات للتعبير عنها!!‪.‬‬
‫فالفعل "كان" ‪،‬على سبيل المثال‪ ،‬والذي شاع استخدامه للتعبير عن حدوث فعدل ما في‬
‫الزمن الماضي‪ ،‬قد ورد في مواضنع معيندة من القرآن الكريم للتعبير عن‪" :‬الحقيقة الثابتة" والتي‬
‫ل علقة لها بالتحولت الزمنية؛ كقوله تعالى‪:‬‬

‫‪79‬‬
‫}وكان ال غفورا رحيماا{)الحزاب‪(50:‬‬
‫وكذلك قوله تعالى‪} :‬كنتم خير أممة تأخرجت للناس{)آل عمران‪(110:‬‬
‫ض على سبيل البهام‪،‬‬ ‫حيث أشير إلى أن المقصود من ورائها هو وجوتد شيدء ما في زمادن ما د‬
‫وليسّ فيه دليمل على نعنددم سابق‪ ،‬ول على انقطاع طارئ‪.‬‬
‫كذلك من ملمح ظاهرة النسبية‪ ،‬استخدام الحرف "ثم" ‪،‬ذو الدللة الزمنية المعروفة)‪(1‬؛‬
‫واستعماله بشكل غير مألوف‪ ،‬ففي الوقت الذي يرتد فيه هذا الحرف في بعض المواضع لتكونن‬
‫له دللةم زمنيةم واضحةم كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫}وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةا ثم اتخذتم العجنل من بعده وأنتم ظالمون{)البقرة‪(52-51:‬‬
‫وجدناه في مواضع أخرى يفتقتر إلى تلك الدللة‪ ،‬وليتجاونز مهمة "التعبير عن الزمن" إلى‬
‫مهمدة جديدةد هي‪" :‬التعبير عن الربط الموضوعي" بين كيانين موضوعيين‪ ،‬ولتصبح الدللة‬
‫الزمنية )وفق الستخدام الجديد( ذات قيمة هامشية غير ذات أهمية!‪.‬‬
‫مثاتل ذلك‪ :‬التعبير غير المألوف في قوله تعالى‪} :‬وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال‬
‫بيوت ا ومن الشجر ومما يعرشون )ثم( تكلي من كيل الثمرات{)النحل‪(68:‬‬
‫فحرف )ثم( هنا إنما يقوم بمهمة الربط الموضوعي بين مقامين موضوعيين هما مقام )اتخاذ‬
‫البيوت( و مقام )الكل( ولو دققنا النظر فسنجتد أون ليست هناك علقة ترات د‬
‫ب زمندي بين عملية‬
‫)اتخاذ البيوت( وبين عملية )الكل(‪ ،‬إذ ل تيعقول أن يظنلل النحتل بدون أكل إلى أن ينتهي من‬
‫عملية اتخاذ البيوت! وهي العملية التي تيعتقد أنها استنفدت آلف السنين لتستقنر على حالها‬
‫النهائي؛ بعد تنقلها من الجبال‪ ،‬إلى الشجر‪ ،‬وإلى ما يعرشون!!‪..‬‬

‫‪ ()1‬يستخدم حرف "ثم" عاداة للتعبير عن تعاتقب حدثين من الناحية الزمنية‪ ،‬كأن نقول‪ :‬دخل التلميتذ الفصنل ثم‬
‫تبعهم المدرس‪ ،‬وتفيد التعاقب مع التراخي‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫إن النظر إلى حرف )ثم( من خلل المنظور الجديد )الذي ل يشترط الدللة الزمنية فيه( من‬
‫شأنه أن يلقي مزيدا من الضوء على بعض المواضع في القرآن الكريم غير كاملة الوضوح بالنسبة‬
‫لنا كبشر‪ ،‬في الطار الزمني الذي نعيش فيه وذلك مثل قوله تعالى ‪} :‬الذي خلق السموات‬
‫والرض وما بينهما في ستة أيام )ثم( استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا{)الفرقان‪:‬‬
‫‪..(59‬‬
‫بقي أن نذكر أين "ظاهرة النسبية" في القرآن الكريم هي المبرر الوحيد لصلحية ألفاظنا‬
‫"المحدودة" للتعبير عن معادن "مطلقة" فالدين ‪،‬أي دين‪ ،‬مجاتله عالم الغيب "المطلق" لكن‬
‫ذلك ل يعني انفصاله عن عالم الواقع "النسبي والمحدود" وهو في الوقت الذي يتناوتل فيه غينر‬
‫التمدنرك من المعاني المطلقة؛ فإنه يتعامل في الوقت ذاته مع المدرك والمحسوس في حياة‬
‫الناس‪ ،‬لذلك كان من المنطقي أن يقمرن القرآتن الكريم بين هاتين الحقيقتين فيأتي بهما في آيدة‬
‫واحدة‪:‬‬
‫}الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلة{)البقرة‪(3:‬‬
‫فاليمان هنا يمسّ عالم الغيب‪ ،‬بينما الصلة حقيقةم من حقائق الواقع المحسوس!‪ ..‬وهو ما‬
‫يوضح حقيقةن أن‪ :‬المعاني المحتملة للفدظ ما يمكن أن تكون جيد متباعدة عن بعضها؛ وذلك إذا‬
‫ما تم استخدام تلك اللفظة للتعبير عن معنيين من عالمين مختلفين يفصل بينهما كيل ذلك‬
‫التباعد‪ ،‬كأن يكون الول غيبيا والخر محسوس!‪..‬‬
‫من هنا فقد زادت الحاجة لدينا للتفريق بين الوجوه المتعددة والمحتملة للفدظ ما‪ ،‬لن‬
‫الخلط بين تلك الوجوه كثيرا ما كان يؤدي إلى خلل خطير في الفهم‪ ..‬مثال ذلك ما كان‬
‫يحدث عندما يتم فهم صفات ال عز وجل )وهي غيب( على ضوء فهمنا وإدراكنا لمعاني تلك‬
‫الصفات في عالمنا المادي المحسوس!‪.‬‬
‫المهم هنا هو أننا أصبحنا الن ندرتك جيدا مدى حاجتنا إلى إرساء قاعدة "المحتوى النسبي‬
‫المتدرج لللفاظ" والتي بدونها ل يمكن لنا أن نقترب من فهم النص القرآني على وجهه‬
‫الصحيح‪..‬‬

‫‪81‬‬
‫إن ما يبدو لنا واضح ا الن هو أن تجاهل قاعدة "النسبية" في القرآن الكريم؛ إنما‬
‫سيجعل المرءن أسيرا للمعاني القريبة لللفاظ‪ ،‬بما ينعكسّ سلب ا على طريقة إدراكنا لمعاني‬
‫اليات فيحيد من آفاقها!‪ ..‬ولعلنا ندرك اليوم حاجتنا إلى إفراد تلك الظاهرة بدراسة خاصة‬
‫بها‪ ،‬تجلي معناها‪ ،‬وتقدم مزيدا من الشرح والتوضيح لمثلتها‪ ،‬وهو العمل الذي يحتاج إلى‬
‫الكثير من الجهد والوقت‪.‬‬
‫وفيما يلي نورد ترجمة مقتضبة باللغة النجليزية لهذا البحث؛ الذي قامت على ترجمته إلى‬
‫النجليزية قسم اللغة النجليزية في كلية اللغات والترجمة بجامعة المام محمد بن سعود‬
‫السلمية‪ .‬وقد نقلنا الترجمة حرفيا‪.‬‬

‫‪82‬‬
Al-Imam Mohammed Bin Saud Islamic University
College of Languages and translation
Department of English

The Phenomenon of Relativism(1)


One of the miracles of human speech is that one word might
bear various possibilities in meanings. They match to the idea that they
are built upon the rule: “relative content of meaning” which means that
one word or expression might bear more than one meaning, a near and
a far one. The sole utterance might possess different degrees of the same
meaning; the near, the far, the farther and the farthest. It the same in
the use of the word “hand” to express and refer to a variety of truthful
meanings. It might be referring to a human hand, or to a certain
anatomic biological field of knowledge referring to certain living objects
or creatures whether high or low in ranking. The same word might also
refer to bounty, awarding, power or capability to act.
The words a “hand”, a “leg” or an “eye” etc… among other
words and expressions that refer to the mere living creatures. We say
hand of the monkey, leg of the bee, eye of the butterfly ..etc. In the same
time they can be used to address ultimate values.
Allah The Almighty says “ ……the hand of Allah is over their hands”
(Fath , verse 10)
Allah The Almighty says “ ……in order that you may be brought up
under my eye” (Taha, verse: 20)
The same word is used to refer to two far fetched meanings.
Relativity is not limited to material significances but they ascend to
moral values such as justice, compassion and capability…etc. They are
attributes which man can enjoy the most of which. However, the
ultimate values refer only to God The Almighty.

‫)( قام على ترجمة هذا الجزء من بحث "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم" قسم اللغة النجليزية في كلية اللغات‬1
.‫ وقد نقلنا الترجمة حرفيا‬.‫والترجمة بجامعة المام محمد بن سعود السلمية‬

83
Arabic language id one of the most flexible meanings. Flexibility
is considered a standard criterion of this language and its ability to
overwhelm meanings. The sole utterance in Arabic can be used in
different usages of meaning among which are the near one that is used
and known by people in their practical activities of life, and the far one
or ones hidden under the letters of the common word. The possible
meanings of a certain word in lexicons are considered possible not
ultimate meanings.
In the following lines we are going to identify the presence of the
phenomenon of “Relativity in the Glorious Quran” as a general
phenomenon that is not limited to its wording. It will be possible
through the following examples we are going to provide and which we
consider to be applicable to the concept of relativity. They include but
not limited to the following:
The Glorious Quran uses the concept of “ the sky’ in many
verses. Yet, contemplating and auditing in them, we conclude that they
do not mean the same implication in all cases. This word takes grading
meanings from near to far and from lower to higher levels.
The sky in one of the near cases set in the Glorious Quran is the place
(clouds) from which rain falls.
Allah The Almighty says “ ……and sent down water (rain) from the
sky” (Baqara, verse: 22)
The meanings begin to enlarge to refer to atmosphere surrounding the
earth:
Allah The Almighty says “ …… and whomsoever He wills to send a
stray, He makes his breast closed and constricted asif he is climbing up
to the sky…..” (Ana’m , verse 125)
The word “sky” is then given wider and vaster additional
meanings far from what is mentioned above to refer to vast and
comprehensive one. It is expressed in the relation between the sky and
the stars as Allah The Almighty says “ ……By the heaven, and At Taeik
(the night –comer) i.e. the bright star * and what will make you know
what At Tarik (the night- comer) is? * it is the star of piercing bright )
(Tarik , verse 1-3)
It is clear that the relation of place represented in these verses
joins between the sky and the stars on one hand. On the other hand, the
sky is the limit of place in which the star might range and exist. It is also
the evidence that refer to the meaning of the verse…..i.e. the one
approaching the other meaning represented in the following verse:

84
Allah The Almighty says “ ……and indeed we have adorned
thenearest heaven with lamps and we have made such lamps (as)
missiles to drive way the Shayateen (Devils)and have prepared for them
the torment of blazing fire.” (Mulk , verse 5)
That meaning of the sky is extended to an unknown entity as
Allah The Almighty says “ ……then he rose over (Istawa) towards the
heaven when it was smoke , and said to it and the earth; “Come both
for your willing or unwillingly. “They both said, “ We come willingly”
(Fussilat, verse 11)
This meaning needs a lot of contemplation so as to recognize
them in perfect way.
One of the examples of relativism of the meanings of the
Glorious Quran is the concept of Illiteracy of the Prophet. The Glorious
verses of the Quran expressed this verse.
Allah The Almighty says “ ……those who follow the message of
the Messenger, the Prophet, who can neither read nor write (i.e.
Mohammed) whom they find written in the Torah and the Gospel “
(A’raf , verse 157)
Illiteracy in the full meaning of today’s concept derives its
meaning from motherhood “relation of some one to his mother” it is
said that an illiterate person to refer to someone who does not know any
thing as if he were just delivered to life by his mother. Similarly, the
word is used to express the opposite meaning of perfection in reading
and writing. Does the Glorious Verse want to refer to in ability of the
Messenger (SSAS) to read or write? This will be better obvious if we
know that the attribute of illiteracy is used in addressing the Children
of Israel by Allah The Almighty saying : “those who follow the message
of the Messenger, the Prophet, who can neither read nor write (i.e.
Mohammed) whom they find written in the Torah and the Gospel “
(A’raf , verse 157)
Therefore it is clear that illiteracy in this respect is a sign given
by Allah to the Children of Israel by which they might recognize the
Prophet of the Last of times.?!
The term illiterate is mentioned in Allah The Almighty says “
……Say (O Mohammed) O mankind ! Verily, I am sent to you all as the
Messenger of Allah to whom belongs the domain of the heaven and the
earth. None has the right to be worshipped but He. It is He who gives
life and causes death. So believe in Allah and His Messenger
(Mohammed) the Prophet who can neither read nor write.” (A’raf ,
verse 158)

85
In this position, the international concept dealt with in the verses
of the Glorious Quran, can be noticed. All human beings are addressed
by this speech. This is emphasized by the use of the term “all”
The concept of As Sa’ah (The Hour) is one of the time concepts
used in the glorious Quran to refer not only to the current use of the
word which is relatively short duration of sixty minutes but to shorter
periods of time as said in Allah The Almighty says “….. and every
nation has its appointed term ; when their term comes, neither can they
delay it it nor can they advance it an hour (or a
moment)”(A’raf,verse34)
It did not express the same relatively small time duration in all
positions. It is more ultimate as it also came to express the enormous
panic of the Day of Judgment.
Allah The Almighty says “ ……until of a sudden, the Hour (signs
of death) is on them, and they say: ‘ Alas for us! We gave no thought to
it’” (An’am , verse 31)

86
‫الموضوعي والنفعالي في القرآن الكريم‬
‫)مقدمة في العجاز الصوتي في القرآن الكريم(‬

‫ما الذي أردنا قوله في هذا البحث؟‬

‫إذا ما رجعنا إلى النص القرآني الكريم لنحاول استشفاف الخاصية‬


‫البشرية المتعلقة بالميل البشري إلى اللغة النفعالية؛ واستجابة‬
‫القرآن الكريم بشكل مطلق لتلك الناحية‪ ..‬فسنجد عندها أن‬
‫النص القرآني الكريم ‪،‬بالفعل‪ ،‬لم يتنزل ليلبي متطلبات الجانب‬
‫الموضوعي وحسب‪ ،‬بل جاء تمشربا ‪،‬بشكل عجيب‪ ،‬بالقيمة‬
‫الوجدانية والنفعالية!! إلى الدرجة التي يمكن معها القرار بأن‬
‫النص القرآني )وفي نموذج وحيد( قد أشبع ‪،‬بالفعل‪ ،‬كل أشواقنا‬
‫وتطلعاتنا الشعورية والنفعالية!! بالضافة إلى قيامة بإشباع الناحية‬
‫الموضوعية!‪..‬‬
‫ومن أجل الوفاء بهذين الجانبين )الموضوعي والنفعالي( فلبد‬
‫وأن يرتل القرآن الكريم بطريقة صحيحة وجميلة تظهر ما فيه من‬
‫تفاوت بين مستوياته الموضوعية والنفعالية المختلفة!‬

‫الموضوعي والنفعالي في القرآن الكريم‬

‫‪87‬‬
‫)ما الذي يعنيه تواتر القرآن(؟‬

‫يتميز القرن الكريم على ما عداه من نصوص في كونه معجزا‪ ،‬ومن جهة كونه منقول إلينا‬
‫بالتواتر‪ ،‬مما يعني عدم حدوث أية تغييرات عليه مهما كانت طفيفة‪ ،‬وإن من شأن ذلك أن يثبت‬
‫حجية القرآن في حق متبعي الرسالة المحمدية إلى يومنا هذا‪ ،‬ومن المفيد هنا أن نذكر "التواتر"‬
‫في معناه الصطلحي‪ ،‬والذي يفيد‪) :‬أن يأخذه ‪،‬أي القرآن‪ ،‬عن النبي )صلى ال عليه وسلم( جممع‬
‫يستحيل أن يتوافقوا على الكذب‪ ،‬ثم يأخذه عنهم جمع كذلك؛ حتى يصلوا به إلينا وإلى من‬
‫بعدنا من الجيال اللحقة(‪.‬‬

‫التواتر الكتابي )المصحفي(‬


‫لقد كان أول ما فعله النبي )صلى ال عليه وسلم( لدى تنزل آيات القرآن عليه أنه أمر‬
‫قال )صلى ال عليه‬ ‫بكتابتها)‪ (1‬ومما تيروى عن البراء أنه قال‪ :‬لما نزلت آية }ل يستوي القاعدون{‬
‫وسلم( ‪) :‬أدعت لي زيداا‪ ،‬وليجئ باللوح)‪ (2‬والدواة ‪-‬ثم قال‪ -‬اكتب‪} :‬ل يستوي القاعدون{‪.‬‬
‫وقد كان من نتيجة ذلك أن تحفظ القرآن الكريم في عهده )صلى ال عليه وسلم( في الصحف‪،‬‬
‫والتي تجمعت في عهد أبي بكر الصيديق رضي ال عنه ورتبت‪.‬‬

‫‪ ()1‬ذكروا أنه صلى ال عليه وسلم قال لمعاوية‪) :‬ألق الدواة‪ ،‬وحرف القلم‪ ،‬وانصب الياء‪ ،‬وفيرق السين‪ ،‬ول تعور الميم‪،‬‬
‫سن ال‪ ،‬وميد الرحمن‪ ،‬وجيود الرحيم‪ ،‬وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر له(‪ ،‬و نقل ابن المبارك عن‬ ‫وح ي‬
‫شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال‪) :‬ما للصحابة ول لغيرهم في رسم القرآن ول شعرة واحدة( وقد التمسّ العلماء‬
‫للرسم العثماني أسرارا دللة على معان خفية دقيقة كزيادة "الياء" في كتابة "أييد" من قوله تعالى }والسماء بنيناها‬
‫بأييد وإنا لموسعون{)الذاريات‪ (47:‬إذ كتبت "بأييد" وذلك لليماء إلى تعظيم قوة ال التي بنى بها السماء‪ ،‬وأنها‬
‫ل تشبهها قوة على حيد القاعدة المشهورة‪ ،‬وهي‪" :‬زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى"(!‪.‬‬
‫‪ ()2‬اللوح‪ :‬هو ما كان يكتب عليه من حجر رقيق‪ ،‬وعظم مسطح‪ ،‬وجريد‪ ...‬الخ‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫وقد حمل المسلمون القرآن في صدورهم في عالم ازدحم بالجهاد والمواجهة؛ حيث‬
‫استشهد الكثيرون من حفظة القرآن‪ ،‬إل أن اشتداد القتل بالقراء يوم اليمامة كان أشد ما دفع‬
‫عمر بن الخطاب للشارة على أبي بكر الصيديق )رضي ال عنهما( بجمع الصحف التي كتب‬
‫عليها القرآن الكريم‪ ،‬حيث أنيطت تلك المهمة بالصحابي "زيد" رضي ال عنه؛ وقد جاء في‬
‫ب عاقمل ل نتهمك‪ ،‬وقد كنت تكتب الوحي‬
‫كتاب التكليف من أبي بكر لزيد ما يلي ‪" :‬إنك شا م‬
‫لرسول ال )صلى ال عليه وسلم( فتتبع القرآن فاجموعه"‪.‬‬
‫وهنا يشرح "زيد" طبيعة المهمة التي أنيطت به فيقول‪" :‬فتتبعت القرآن أجمعتهت من العصب‬
‫واللخاف)‪ (1‬وصدور الرجال"!‪ .‬وقد أتاح العمل الذي قام به "زيد" للمسلمين فرصة المحافظة‬
‫عل النص المكتوب؛ لكن المشكلة التي واجهها المسلمون كانت انحصار المستفيدين من‬
‫ذلك العمل في مكان واحد هو المدينة المنورة‪ ،‬أما الفاق الخرى للدولة السلمية مترامية‬
‫الطراف فقد بدأت تعاني من مشكلة عدم تطابق قراءة القارئين مع النص المكتوب‪ ،‬وقد أدى‬
‫ذلك إلى اشتداد اختلف الناس في قراءة القرآن!‪..‬‬
‫وكما أشار "عمر بن الخطاب" من قبل على "أبي بكر الصديق" بأن يجمع الصحف في‬
‫مصحف واحد فقد أشار "حذيفة" على "عثمان بن عفان" رضي ال عنهما بالمسارعة إلى إدراك‬
‫الناس قبل أن يختلفوا حول القرآن نتيجة للوضاع التي استجدت‪ .‬فأرسل عثمان لحفصة رضي‬
‫ال عنها)‪ (2‬وأمر "زيدا بن ثابت" و"سعيدا ابن العباس" و"عبد ال بن الزبير" و"عبد الرحمن بن‬
‫الحارث بن هشام" فنسخوها‪ ،‬ثم أرسل إلى كل أفدق من الفاق الستة)‪ (3‬بصحف ما نسخوا‪،‬‬
‫واستبقى مصحف ا في المدينة‪ ،‬وأمر بما مسوى تلك النسخ من صحيفة أو مصحف أن يحرق‪ ،‬وقد‬
‫كانت تلك النسخ الستة من المصحف سند القرآن الكيد؛ حيث لم يكتب فيها غيره‪ ،‬بل وصل‬
‫المر بهم حدا أن جيردوا معه تلك النسخ من "الستعاذة" و"آمين" فلما توارثه الخلف عن‬
‫السلف كان هذا تواترا قاطع ا بأن ما فيه هو القرآن‪ ،‬وما ليسّ فيه فليسّ بقرآان!!‪.‬‬

‫‪ ()1‬العصب‪ :‬جريد النخل‪ ،‬واللخاف‪ :‬الحجارة البيضاء الرقيقة‪.‬‬


‫‪ ()2‬وقد كان عندها صحف القرآن الكريم التي تم جمعها‪.‬‬
‫‪ ()3‬مكة‪ ،‬والشام‪ ،‬والبصرة‪ ،‬والكوفة‪ ،‬واليمن‪ ،‬والبحرين‪ ،‬والمدينة‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫وقد تم التمام لما قام به "عثمان" رضي ال عنه من جمع القرآن وذلك بما قام به "أبو السود‬
‫الدؤلي" بأمر من "علي بن أبي طالب" كيرم ال وجهه‪ ،‬حيث قام الول بوضع قواعد النحو صيانة‬
‫وسلمة للنطق‪ ،‬وضبطا للقرآن الكريم‪ ،‬حيث اعتبر ذلك بدايةا لعلم "إعراب القرآن"‪ .‬وتعتبر‬
‫المصاحف المتداولة بين أيدينا اليوم نسخة طبق الصل عن المصحف الصلي الذي جمعة أبو‬
‫بكر‪ ،‬ونسخه عثمان‪ ،‬إذا ما استثنينا من ذلك بعض الضافات الشكلية كوضع النقاط على‬
‫الحروف ووضع علمات التشكيل‪.‬‬

‫التواتر السمعي للقرآن الكريم‬


‫وفيما يتعلق بتواتر القرآن فقد اتضح أن كل الجهود التي بذلت واستثمرت في عملية جمع‬
‫القرآن ونسخه والمحافظة على شكله الكتابي لم تكن كافية لجعل الجيال المتلحقة تحافظ‬
‫على قرآنها سليما خاليا من التحريف‪ ،‬فقد اتضح أن كل ذلك لم يضمن الطريقة المثلى للقراءة؛‬
‫حيث أن للقرآن طريقة توقيفية في قراءته نقلت عن النبي )صلى ال عليه وسلم( مثلها مثل هيئِة‬
‫كتابته؛ ل تتم القراءة الصحيحة له دون إدراكها‪ ،‬وتعتبر جزءا ل يتجزأ من إعجازه‪.‬‬
‫ومما يؤكد أصالة ذلك الجانب )التواتر السمعي( أن الرسول )صلى ال عليه وسلم( كان يقرأ‬
‫على صحابته ما تنزل عليه من القرآن ليتقنوا سماعهم له‪ ،‬كذلك فلم يكن النبي )صلى ال عليه‬
‫وسلم( يكتفي بالقراءة لسماع صحابته )القراءة الشفهية(‪ ،‬بل كان ‪،‬أيضا‪ ،‬يحب أن يستمع إليه‬
‫من أفواه صحابته؛ تعويدا لهم على قراءته بالشكل الصحيح؛ من ذلك أنه طلب )صلى ال عليه‬
‫وسلم( من "ابن مسعود" ذات يوم أن يقرأ عليه‪ ،‬فقرأ عليه سورة "النساء"حتى وصل إلى قوله‬
‫تعالى}فكيف إذا جئِنا من كل أمة بشهيد وجئِنا بك على هؤلء شهيدا{)النساء‪ (41:‬فقال‬
‫عندها )صلى ال عليه وسلم(‪):‬حسبك الن(فإذا عيناه )صلى ال عليه وسلم( تذرفان)‪.(1‬‬

‫‪ ()1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫وتتضح الهمية القصوى لهذا الجانب التوقيفي )التواتر السمعي( من حقيقة أن جبريل عليه‬
‫السلم كان يعارض)‪ (1‬النبي )صلى ال عليه وسلم( القرآن مرة في العام‪ ،‬وعارضه في العام الخير‬
‫من حياته مرتين؛ بذلك أخبر رسول ال )صلى ال عليه وسلم( ابنته فاطمة رضي ال عنها قائلا لها‪:‬‬
‫)كان جبريل يعارضني بالقرآن كل سنة‪ ،‬وإنه عارضني مرتين‪ ،‬ول أراه إل حضر أجلي(! وكأن في‬
‫ذلك تأكيد عل أهمية التواتر السمعي وأصالته!‪ .‬وكان الناس إبان صحة ألسنتهم‪ ،‬وتوارث‬
‫ضبطهم للقرآن الكريم بالسليقة ل يحتاجون لمن يضبط لهم قراءتهم‪ ،‬حتى فسدت اللسنة‬
‫آخر القرن الول‪..‬‬
‫لجل ذلك فقد قام في كل عصدر أئمةم ممن اجتمع فيهم حفظ القرآن بقراءته؛ والفهم‬
‫الصحيح لمعناه‪ ،‬والمعرفة الكاملة بلغة العرب‪ ،‬فتصدوا لضبط ألفاظه‪ ،‬ووضعوا قواعد لقراءته‪،‬‬
‫فكان كل إمام يقرأ بما تواتر عنده من القراءات‪ ،‬وكل تلك القراءات المتواترة مسموع من النبي‬
‫)صلى ال عليه وسلم( وداخل في نطاق الحرف السبعة التي نزل القرآن بها‪.‬‬
‫لكن التواتر المكتوب "المصحفي" وإن كان قد منع كل ما أمكن أن يلحق بالقرآن الكريم‬
‫ف وتزوير وحذف وإضافة على النسخ المكتوبة‪ ،‬فإن مخاطر إضافية ظلت محدقة؛ أل‬ ‫من تحري د‬
‫وهي اللحن فيه‪ ،‬وتغيير هيئِات اللفاظ وإزاحتها عن الهيئِة التي تنيزلت عليها‪ ،‬وقد ساهمت حالة‬
‫الضعف التي أصابت العرب ‪،‬من جهة ارتباطهم بلغتهم‪ ،‬في زيادة حجم تلك المخاطر‪ ،‬وقد‬
‫أحال ‪،‬ذلك الضعف‪ ،‬قراءة القرآن واستيعاب مراميه إلى مهمة محفوفة بالمخاطر؛ وهنا نشأت‬
‫الحاجة إلى وضع المزيد من الضوابط التي يتم من خللها المحافظة على تواتر القرآن الكريم‪،‬‬
‫لكن من الناحية السمعية هذه المرة‪ ،‬فكانت قواعد التلوة والتجويد التي حددت مواقع تلك‬
‫الحكام)‪ (2‬وجعلت منها أساسا قابلا للدرس والحفظ يمكن تناقله وتعلمه من جيدل إلى جيل‪.‬‬

‫‪ ()1‬المعارضة هي أن يقرأ أحدهما ويستمع الخر‪.‬‬


‫‪()2‬حسبما حددتها التلوة الصحيحة المتواترة عن النبي )صلى ال عليه وسلم(‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫وقد كان العرب الوائل بغير ما حاجة إلى تنقيط الخط العربي‪ ،‬أو تشكيله‪ ،‬اكتفاء بما تكيون‬
‫لديهم من معارف لغوية بالسليقة‪ ،‬إل إن الجيال الجديدة فقدت تلك السليقة‪ ،‬وعلى أثر ذلك‬
‫فقدت المة قدرتها على التعامل المرن مع لغة تميزت دائما بمرونتها وروعتها‪ ،‬بل إن عصور‬
‫النحطاط قد قادت المة إلى غربة كاملة عن تلك المفاهيم‪ ،‬فلجأ الحريصون على ذلك التراث‬
‫إلى إيجاد قواعد جديدة للغة‪ ،‬فتم تنقيط الحروف للتمييز بينها‪ ،‬ثم تم تشكيلها‪ ،‬وبالمثل؛ فقد‬
‫تم تقعيد أحكام التلوة على هيئِة قواعد تدرس مثل كل العلوم الخرى‪ ،‬لكن؛ وعلى الرغم من‬
‫كل تلك الجهود؛ فقد ظلت المشكلة قائمة‪ ،‬وتمثلت في حقيقة أن العلم بتلك الحكام قد‬
‫أصبح أمرا ضروريا لقراءة القرآن وفهمه‪ ،‬وهو المر الذي لم يكن متوفرا في كل الحيان‪،‬‬
‫بالضافة إلى أن العلم بتلك الحكام كثيرا ما اتخذ لنفسه هيئِة جامدة ل تيعلم الحكمة من‬
‫ورائها‪ ،‬فأصبحت تمارس من قبيل التقليد‪ ،‬لذا فقد فقدت عملية قراءة القرآن الجزء الكبر من‬
‫قدرتها على إعطاء الثمرة المطلوبة منها‪ ،‬وقد غدت تلك الحكام )التي لم يعد يفهمها على‬
‫وجهها الصحيح إل المتعلم والمثقف( شرطا أساسيا للفهم‪ ،‬وبالتالي لم تعد مهمة فهم القرآن‬
‫قابلة للتحقق بمجرد القراءة‪ ،‬بل صار لزاما علينا أن نوفر شروطا موضوعية أخرى‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫وبوضع تلك الضوابط والمداومة على تطبيقها بشكلها الصحيح؛ فقد تعاون "التواتر‬
‫السماعي" و"التواتر المصحفي" على حفظ القرآن الكريم‪ ،‬وساهم في انتقاله متواترا جيل بعد‬
‫جيل‪ .‬لكن التواتر السماعي كان عليه المعيول في تحديد كيفية النطق بألفاظ القرآن الكريم؛‬
‫وكيفية أدائه على قواعد القراءة؛ التي دونها العلماء فيما بعد على هيئِة أحكام ضابطة للتلوة‬
‫والترتيل‪ ..‬من هنا كان المعيول بالنسبة للقرآن الكريم على السماع والقراءة معا! بخلف‬
‫الحديث الشريف؛ لن المر في القرآن الكريم يتعلق بالمعنى وبكيفية أداء اللفظ‪ ،‬بعكسّ‬
‫الحديث ‪،‬الشريف‪ ،‬الذي تجوز روايته بالمعنى بشرودط عيرفها المحدثون‪ .‬ومن هنا أمكن إدراك‬
‫الحكمة في "عدم جواز الحفظ من المصحف من غير معلم" يصحح للقارئ نطقه وأداءه؛ كما‬
‫يقوم به الناس الن حول الكعبة وفي المساجد‪ ،‬فما تواتر هو القرآن‪ ،‬وما لم يتواتر ‪-‬مما اتدمعني‬
‫أنه قرآن‪ -‬فليسّ بقرآن! بل هو قراءة شاذة وإن توفرت فيها صحة السند وموافقة خط‬
‫المصحف المام واللغة العربية(!)‪.(1‬‬
‫ولعل هذا المنهج المرتكز على رؤيدة وتصودر واضحين للغة)‪ (2‬هو ما يفسر لنا المنهج العربي‬
‫في جمع اللغة واستقرائها عن طريق "الرواية" و"المشافهة"؛ وحديثهم المستفيض عن‬
‫"السماع"‪ ،‬ومنهج علم القراءات في التلقي والعرض‪ ،‬وهو يفسر لنا أيضا تخصيصهم كتبا تعالج‬
‫قضية "التصحيف والتحريف" مع ما تلفت إليه العبارة من الشتقاق من "الصحف" و"الحروف"‬
‫لنها أخطاء ناجمة عن "الكتابة" وكذلك ذيمهم من يأخذ اللغة عن طريق "الصحف" ل عن طريق‬
‫السماع)‪.(3‬‬

‫‪ ()1‬تواتر القرآن الكريم وتبعاته وثمراته‪ ،‬الدكتور أحمد فهمي أبو سينة‪ ،‬كتاب ندوة المحاضرات‪ ،‬رابطة العالم‬
‫السلمي‪.1392 ،‬‬
‫‪ ()2‬على أنها‪" :‬أصوات" ملفوظة قبل أن تكون حروفا مكتوبةا ومنظوراة!‪.‬‬
‫‪ ()3‬فقه اللغة في الكتب العربية‪ ،‬د‪ .‬عبد ال الراجحي‪ ،1974 ،‬ص ‪.63‬‬

‫‪93‬‬
‫ويبدو أن الرأي السابق والمتعلق بتعلم القرآن الكريم كان نابع ا من إدراك الولين لحقيقة‬
‫اللغة العربية‪ ..‬لغة القرآن الكريم‪ ..‬وإلى أن العبرة والمعيول بالنسبة للعربية إنما هو الجانب‬
‫السمعي ل الكتابي‪ ،‬بحيث تم التأكيد على وسائل التعلم التي يتحقق من خللها ضبط ذلك‬
‫الجانب والمحافظة عليه‪.‬‬
‫يقول "ابن فارس" في باب "القول في مأخذ اللغة"‪) :‬تؤخذ اللغة اعتيادا كالصبيي العربي‬
‫يسمع أبويه وغيرهما‪ ،‬فهو يأخذ اللغة عنهم على مر الوقات‪ ،‬وتؤخذ تلقنا من مليقن‪ ،‬وتؤخذ‬
‫سماعا من الرواة الثقات ذوي الصدق والمانة توتقى المظنون()‪..(1‬‬
‫وبالجملة‪ ،‬فإن التعبد بفهم معاني القرآن الكريم يجب أن يكون مقرونا بالتعبد في تصحيح‬
‫ألفاظه‪ ،‬وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالنبي )صلى ال عليه وسلم(‪.‬‬
‫وكما ذكرنا سابقا فقد تم ضبط الجانب السمعي للقرآن الكريم بتمييز تلك الهيئِات من‬
‫القراءة‪ ،‬واعتبار تلك )غير الحائزة على شروط التواتر السماعي والمصحفي( قراءاة شاذة‪..‬‬
‫من هنا فقد تصدى لهذا المر علماء اعتبروا القراءات)‪ (2‬علما أفرغوا فيه جهدهم‪ ،‬حيث‬
‫اعتبروا المتواتر من القراءات ما تحقق فيها شرط موافقتها للمصحف المام؛ لنه كتب من غير‬
‫نقط وشكل‪ ،‬وأمكن أن يسعها جميعها‪ ،‬وإنما عرف التمييز بينها بالسماع‪.‬‬

‫‪ ()1‬الصاحبي‪ ،‬ابن فارس‪.(63-62 ،‬‬


‫‪ ()2‬القراءات هي اختلف أوجه النطق بالقرآن سواء أكان في جوهر اللفظ كالحروف والحركات‪ ،‬أو في كيفية‬
‫الداء كالمد‪ ،‬والقر والتفخيم‪ ،‬والترقيق‪ ،‬والفتح‪ ،‬والمالة‪ .‬والعلماء على أن القراءات هي‪ :‬متواترة‪ ،‬وآحاد‪ ،‬وشاذة‪،‬‬
‫وجعلوا السبعة متواترة‪ ،‬والحاد الثلث المتممة لعشرها‪ ،‬ثم ما يكون من قراءات الصحابة رضي ال عنهم مما ل‬
‫يوافق ذلك‪ ،‬وما بقي منها فهو شاذ‪ ،‬والقراءات التي تواترت هي‪ :‬قراءة نافع بن نعيم من أتباع التابعين قارئ مكة‬
‫المكي‪ ،‬وعبد ال بن كثير التابعي قارئ المدينة‪ ،‬وأبي عمرو بن العلء المازني من أتباع التابعين قارئ البصرة‪ ،‬وعبد‬
‫ال بن عمر التابعي قارئ الشام‪ ،‬وعاصم بن أبي النجود التابعي‪ ،‬وحمزة بن حبيب الزيات‪ ،‬وعلي بن حمزة الكسائي‬
‫من قيراء الكوفة‪ ،‬وأبي جعفر يزيد بن القعقاع‪ ،‬وييعقوب بن أسحق الحضرمي‪ ،‬وخلف بن هشام‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫والتواتر لبد منه فيما يرجع إلى "جوهر اللفظ" )أي حروفه؛ وحركاته؛ وسكناته( وما يرجع‬
‫إلى "كيفية الداء" لن الذين نقلوا القرآن الكريم نطقوا بالنوعين جميع ا وتأخذ عنهم‪ ،‬وزعم "ابن‬
‫الجزري" و"الشوكاني" أنه ل يشترط التواتر في قرآنية القراءات‪ ،‬بل يكتفى بصحة السند‬
‫ي حادث على خلف ما أجمع عليه‬
‫وموافقتها لخط المصحف المام واللغة العربية‪ ،‬وهذا رأ م‬
‫القدامى من علماء المسلمين‪.‬‬
‫من هنا كان لزاما علينا اللتفات إلى حقيقة أن‪ :‬المقصود بالتواتر على وجهه الصحيح ليسّ‬
‫‪،‬فقط‪ ،‬مجرد التواتر الكتابي )أو المصحفي(؛ بل "التواتر السماعي" أيضا‪ ،‬والذي يعني‪:‬‬
‫وسلم(" والتواتر الول‬ ‫"ضرورة تلوة القرآن الكريم كما تنزل على محمد )صلى ال عليه‬
‫)المصحفي( يسهل ضبطه‪ ،‬فالمصحف قد تكفل ال بحفظه سورا وآيات‪ ،‬حيث تم تواتر‬
‫المصحف بشكل متصل ومستمر منذ اللحظة التي تنزل فيها وإلى يومنا هذا بطريق الكتابة‪..‬‬
‫أما التواتر السماعي ‪،‬والذي يعتبر سرا من أسرار القرآن‪ ،‬فهو أكثر صعوبة‪ ،‬إذ لم تكن‬
‫ط قدمر‬
‫الوسيلة )التي تتكفل بنقل ذلك التواتر جيلا إلى جيل( موجوداة باستمرار‪ ،‬لذا فقد أحا ن‬
‫كبيمر من الضبابية بهذا الجانب من التواتر‪ ،‬حتى بتنا ننظر إلى مسألة تجويد القرآن وترتيله وكأن‬
‫المقصود منها فقط "إضفاء مزيد من الجمال اللفظي والداء الفني على كتاب ال الكريم"!! مع‬
‫أن ترتيل القرآن يجب النظر إليه كواحد من وجوه العجاز التي تتضفي مزيدا من الوضوح على‬
‫الجانب الموضوعي والمزيد من الجمال على الداء الفني‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫وبرسوخأ قاعدة التواتر على وجهيها )المصحفي والسمعي( فقد صار القرآن الكريم حجةا‬
‫قطعيةا في حق من لم يسمعه مباشرة من النبي )صلى ال عليه وسلم(‪ ،‬وحجية ذلك التواتر ‪،‬سواء‬
‫من ناحية الجوهر أو الكيفية التي يتم الداء وفقها‪ ،‬إنما تأتي لتسلد الباب أمام إمكانية تحريف‬
‫كلماته وحروفه؛ سواء أكان ذلك من جهة مخارجها أو من جهة صفاتها‪ ،‬فقد ضبط علماء‬
‫القراءة مخرج كل حرف وصفاته‪ ،‬فبيينوا مثلا أن الهمزة تخرج من أقصى الحلق‪ ،‬والحاء تخرج‬
‫من وسطه‪ ،‬والباء من بين الشفتين‪ ،‬وبينوا صفة كل حرف من تفخيم وترقيق وقلقلة‬
‫واستطالة‪..‬الخ‪ ،‬إلى الدرجة التي دعت العلماء إلى اعتبار القراءنة بغير تجويدد لحنا!)‪..(1‬‬

‫‪()1‬اللحن خلل يطرأ على اللفاظ‪ ،‬منه الجلي ومنه الخفي‪ ،‬والجلي‪ :‬هو ما يخل باللفظ إخلل ظاهرا يشترك في‬
‫معرفته علماء القراءة وغيرهم‪ ،‬وذلك كالخطأ العرابي أو الصرفي‪ .‬أما الخفي‪ :‬فهو ما يخل باللفظ إخلل يختص‬
‫بمعرفته علماء القراءة وأئمة الداء الذين تلقوه من أفواه العلماء وضبطوه من ألفاظ الداء‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫من هنا؛ يمكننا أن ندرك الضرورة القصوى لمعرفة الشكل الصحيح الذي يجب أن يؤدى‬
‫القرآن به)‪ (1‬سواء فيما يتعلق بالتواتر المصحفي أو الجانب الخر )الذي قد يفوق الول‬
‫أهمية( والمتعلق بالتواتر السمعي)‪ (2‬وهذا يفتح أمامنا مجالا للفتراض بأن ضررا حقيقيا يمكن‬
‫أن يلحق بنا إذا ما انتهينا إلى وضع ننسى معه حقيقة أن "التواتر السمعي" إنما هو جانب توقيفي‬
‫أصيل في القرآن الكريم)‪ (3‬وإذا ما نسينا تلك الحقيقة فستصبح أحكام التلوة ‪،‬حينها‪ ،‬مجرد‬
‫هيئِات صوتية ل تدل على أية مضامين؟! وإن من شأن الخلل بتلك الهيئِة أن يخل بمضامين‬
‫القرآن ذاته‪ ،‬ويصبح الترتيل ‪،‬عندها‪ ،‬مجرد موسيقى مصاحبة للنص ل نعرف لها فائدة!!‪..‬‬
‫ونتوقف عند هذا التساؤل لنتعرف على بعض المباحث اللغوية المتعلقة بإعجاز القرآن الكريم‪،‬‬
‫ذلك أن إعجاز القرآن الكريم إنما يرتبط برباط ل ينفصم مع اللغة ذاتها‪..‬‬

‫لغة القرآن الكريم‪ :‬صوتية أم مكتوبة؟!‬

‫‪ ()1‬فيما يتعلق بهذا المر فقد شاعت بعض القراءات التي هي أبعد ما يكون عن الداء الصحيح للقرآن‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫"الترعيد" وهو أن يرعد القارئ صوته‪ ،‬حتى أنهم وصفوا من يقوم به وكأنه يرعد من البرد أو اللم‪ ،‬ومنه "الترقيص"‬
‫وهو أن يروم السكوت على الساكن ثم ينقر مع الحركة وكأنه في عددو أو هرولة‪ ،‬و "التطريب" وهو أن يترنم‬
‫بالقرآن ويتنغم به فيمد في غير مواضع المد‪ ،‬ويزيد في الميد إن أصاب موضعه‪ ،‬ومنه كذلك "التحزين" وهو أن‬
‫يأتي بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع‪ ،‬ومنه "الترديد" وهو ريد الجماعة على القارئ في ختام‬
‫قراءته بلحدن واحدد على وجده من تلك الوجوه‪.‬‬
‫‪ ()2‬المقصود به اللحن في قراءة القرآن‪ .‬وإن من القراءات التي اعتبرت لحنا ما أدخل عليها من ألحان الحداء‬
‫والغناء والرهبانية‪ ،‬فمنهم من كان يدس من ذلك دسا خفيا‪ ،‬ومنهم من كان يجهر به حتى يسلخه‪ ،‬فمن هذا قراءة‬
‫الهيثم }أما السفينة فكانت لمساكين{)الكهف( فإنه كان يختلسّ الميد اختلسا يخرجه عن طبيعته‪ ،‬فكان يقرأها‬
‫سكينن(‪ ،‬وإنما سلخه من صوت الغناء كهيئِة اللحن في قول الشاعر‪:‬‬ ‫م‬
‫)لنم ن‬
‫نعتا يوافق عندي بعض )مفيها(‬ ‫أما القطاة فإيني سوف أنعتها‬
‫وهو يقصد بالطبع )ما فيها( فإن كان ذلك يصلح غناء فهو بالقطع ل يصلح في قراءة القرآن لن المد وقدره إنما‬
‫هو جزء من المعنى‪ ،‬فضل عن أنه أمر توقيفي ل يجوز النقص منه أو الزيادة عليه‪.‬‬
‫‪ ()3‬يعتبر رسم القرآن الكريم وثيقة هامة تتضح من خللها خصائص الخط العربي في صدر السلم‪ ،‬وفيه نجد‬
‫كلمات مثل )الرحمن‪ ،‬طه‪ ،‬اسحق‪ ،‬هرون( مكتوبة دون حروف مد‪ ،‬وتعكسّ طريقة كتابة هذه السماء النهج العربي‬
‫القديم في تدوين الصوامت فقط دون تدوين الحركات الطويلة والقصيرة‪ ،‬لكن كتابة هذه الكلمات على هذا النحو‬
‫ل تعكسّ كيفية نطقها‪ ،‬وهي لم تنطق آنذاك إل كما وصلت إلينا في القراءات القرآنية‪ ،‬ومن هنا نبعت أهمية‬
‫الجانب السمعي على الجانب المكتوب الذي ل يعبر ‪،‬في كثير من الحيان‪ ،‬عن المطلوب نطقه في النص‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫ت يعبر كل قوم‬
‫لقد عيرف اللغوي العربي”ابن جني” )‪392‬هـ( اللغة بقوله‪) :‬حيد اللغة أصوا م‬
‫عن أغراضهم(‪ ..‬وهو تعريف يثير دهشة الباحثين البعيدين عن تطور الحياة العلمية العربية‪ ،‬لنه‬
‫يقترب اقترابا شديدا من كثير من تعريفات المحدثين للغة‪ ،‬ولنه يشتمل على معظم الجوانب‬
‫التي عرضها "علم اللغة" في العصر الحديث‪.‬‬
‫ويمكن اعتبار القرآن الكريم )جوانبه الصوتية على وجه الخصوص( السبب البرز في ذلك‬
‫التطور‪ ،‬ومن الحقائق المقررة )أن الدرس الصوتي عند العرب من آصل الجوانب التي تناولوا‬
‫فيها دراسة اللغة‪ ،‬ومن أقربها إلى المنهج العلمي؛ ذلك أن أساس هذا الدرس مبني على‬
‫القراءات القرآنية‪ ،‬وهو علم وإن كان متأخرا )من حيث الوضع النظري( عن بعض العلوم العربية‬
‫الخرى كالنحو؛ فإنه أسبق منها من حيث الواقع العملي()‪.(1‬‬
‫ويمكن القرار ‪،‬بسهولة‪ ،‬أن قراءة القرآن هي التي جعلت علماء العربية القدماء يتأملون‬
‫أصوات اللغة ويلحظونها هذه الملحظة "الذاتية" التي أنتجت ‪،‬في وقت مبكر جداا‪ ،‬دراسة‬
‫طيبة للصوات العربية ل تبتعد كثيرا عما يقرره المحدثون‪ .‬وحين نقول إن "ملحظة الصوات‬
‫ملحظة ذاتية كانت في فترة مبكرة قد نشأت عن طريق قراءة القرآن" إنما نذكر عمل أبي‬
‫السود الدؤلي في ضبط القرآن الكريم بالنقط من خلل ملحظة حركة الشفتين)‪ .(2‬ول يمضي‬
‫وقت طويل حتى يقدم لنا "الخليل ابن أحمد" أول تصنيف للصوات حسب "موضع النطق" أو‬
‫حسب "الحياز والمخارج" وتصنيفه هذا يؤدي به إلى تقسيم الصوات إلى ما يعرف الن‬
‫بالصوات الصامتة والحركات()‪.(3‬‬

‫‪ ()1‬فقه اللغة في الكتب العربية‪ ،‬د‪ .‬عبده الراجحي‪ ،1974 ،‬ص ‪.129‬‬
‫‪()2‬بقوله لكاتبه ‪:‬إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه إلى أعله‪ ،‬وإن ضممت فمي فانقط نقطة بين‬
‫يدي الحرف‪ ،‬وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف‪.‬‬
‫‪ ()3‬فقه اللغة في الطتب العربية‪ ،‬د‪ .‬عبه الراجحي‪ ،‬ص ‪.130‬‬

‫‪98‬‬
‫ومن المثير للدهشة في تعريف”ابن جني” للغة هو أنه قد قصرها على "الصوات" وأخرج منها‬
‫"الكتابة"‪ ،‬وهو دليل واضح على أن علماء العربية لم يكونوا يدرسون اللغة باعتبارها لغةا‬
‫"مكتوبة"؛ وإنما باعتبارها لغةا "منطوقاة" قائمةا على "الصوات"‪ ،‬وهو الرأي الذي يتفق عليه‬
‫علماء اللغة المحدثون؛ الذين يعتقدون بأن تعبير "اللغة المكتوبة" هو تعبير ل يمكن قبوله إلي‬
‫على سبيل المجاز‪ ،‬فاللغة ‪،‬علمياا‪ ،‬ذات طبيعة صوتية‪ ،‬وهو ما فهمه”ابن جني” وأمثاله من علماء‬
‫اللغة منذ قرون‪..‬‬
‫ومن وجهة نظر اللغويين فإن "اللغة المكتوبة" ليست نوعا آخر من "اللغة الطبيعية"‪ ،‬إنما‬
‫المر عبارة عن رموز بصرية )ناقصة وتمولمبسة في كثير من الحوال( للرموز الصوتية‪ ..‬مهما كان‬
‫نوع هذه الرموز البصرية صوري ا أو مقطعي ا أو فونيمياا‪ ،‬فاللغة شيءم والكتابة شيءم آخر()‪.(1‬‬
‫ومن الواضح أن هناك خلط ا كبيرا يقع فيه الكثيرون حين ل يميزون بين الصوات والكتابة‪،‬‬
‫أو بين اللغة في صورتها المسموعة وبين اللغة وقد كتبت بحروف‪ ،‬والمتفق عليه أن اللغة هي‬
‫ظاهرة صوتية‪ ،‬بمعنى‪ :‬أن الصل في اللغة أنها نظام من الرموز الصوتية المنطوقة التي يتعامل بها‬
‫النسان‪ ،‬وقد تعامل النسان باللغة آلف السنين قبل أن يكتبها‪ ..‬فاللغة تقوم أساس ا على‬
‫الصوت‪ ،‬وأما الكتابة فهي ظاهرة حضارية()‪ (2‬وهناك العديد من اللغات التي ل يكتبها أبناؤها‬
‫لغاية اليوم كاللغة المهرية‪ ،‬والنوبية‪ ،‬وكذلك مئِات من اللغات الفريقية‪.‬‬

‫‪ ()1‬موجز تاريخ علم اللغة في‪ ،‬تأليف‪ :‬ر‪ .‬هـ‪ .‬روبنز‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬أحمد عوض‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬ص ‪)9‬المترجم(‪.‬‬
‫‪()2‬مدخل إلى علم اللغة‪ ،‬د‪ .‬محمود فهمي حجازي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،1978 ،‬ص ‪)31‬بتصرف(‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫ومن الواضح أن الكتابة العربية بتقاليدها المعروفة والكتابة المستخدمة في تدوين اللغات‬
‫الوروبية على النحو المعروف لنا‪ ،‬وكذلك كل الكتابات المتداولة في العالم قديما وحديثا هي‬
‫مجرد محاولة تقريبية لتسجيل الواقع الصوتي لهذه اللغات()‪ (1‬وقد يبلغّ الختلف بين اللغة‬
‫المنطوقة ومحاولة تدوينها حدا بعيدا في بعض اللغات كالوروبية المعاصرة‪ ،‬حيث نجد بعض‬
‫الصوات تدون بأكثر من رمز كتابي واحد‪ ،‬ففي تدوين اللغة النجليزية نجد في الكلمات‬
‫‪ Photo‬و ‪ For‬صوتا معينا تبدأ به كلتا الكلمتين‪ ،‬ورغم هذا فتدوين هذا الصوت يختلف‬
‫في كلتا الكلمتين‪ ،‬ويرجع هذا الختلف إلى تاريخ كلتا الكلمتين‪ ،‬فكلمة ‪ For‬في النجليزية‬
‫هي كلمة أصيلة موروثة‪ ،‬لكن كلمة ‪ Photo‬هي كلمة وافدة عليها من اللغة اليونانية)‪ (2‬فالكتابة‬
‫في حالت كثيرة ل تمثل النطق تمثيل مباشرا‪ ،‬ولكنها تعكسّ جوانب من تاريخ الكلمة‪ ،‬والمر‬
‫صحيح بالنسبمة للخط العربي كما نكتبه اليوم‪ ،‬فهناك أحرف تظهر ‪،‬نطقا‪ ،‬في مواضع لتختفي في‬
‫مواضع أخرى‪ ،‬وخذ على سبيل المثال كلمة )ابن( والتي يظهر فيها حرف اللف إذا ما جاءت‬
‫الكلمة مستقلة‪ ،‬فإذا ما أضيف حرف الفاء إلى أول الكلمة مثل )فابن( فإن اللف تختفي نطقا‬
‫وتستقر كتابة‪ ،‬لذلك فقد تم التفريق بين اللف التي ل تظهر في سياق الكلم بمصطلح )ألف‬
‫الوصل( تمييزا لها عن همزة القطع التي ل تختفي وتظل دائما في الكلمة العربية‪ ،‬وعليه؛ فإن‬
‫هناك اختلفا في النطق بين )قال أحمد( و )قال اخرج( ففي العبارة الولى نلحظ أننا نطقنا‬
‫بكلمة )قال( التي تنتهي بحركة قصيرة هي الفتحة‪ ،‬ثم جئِنا بعد ذلك بكلمة )أحمد( ونطقنا‬
‫بالهمزة باعتبارها أول أصوات هذه الكلمة‪ ،‬لكن على عكسّ ذلك جاءت العبارة الثانية‪ ،‬فالنطق‬
‫الفصيح لها يجعلنا ننطق بعد اللم والفتحة التالية لها صوت الخاء مباشرة دون أن ننطق باللف‪.‬‬

‫‪()1‬مدخل إلى علم اللغة‪ ،‬د‪ .‬محمود فهمي حجازي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،1978 ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪()2‬لعل في هذا بعض التفسير لختلف الرسم القرآني عن الكتابة العربية العادية‪ ،‬حيث الرسم القرآني يعبر عن‬
‫مطابقة الرسم للنطق كما شاء ال وليسّ كما يعرف البشر!!‬

‫‪100‬‬
‫ويمكن القول أن اللغة المكتوبة ما هي إل عبارة عن رموز مرئية يعبر كمل منها عن "أسرة"‬
‫كاملة )وليسّ عن موحدة واحدة( من وحدات أصغر منها هي "الوحدات الصوتية"‪ ،‬و)فقط( من‬
‫خلل هذه الوحدات الصوتية يمكن تحميل النص المكتوب بشتى ألوان العواطف والمشاعر‬
‫والحاسيسّ!! فنبرات الفرح‪ ،‬والحزن‪ ،‬والسى‪ ،‬واللم‪...‬الخ والتي ل يمكن تلمسها من خلل‬
‫النص المكتوب‪ ،‬وتعتبر تلك المشاعر والعواطف جزء أساسي ا في أي نص مقروء‪ ،‬ويعتبر التعبير‬
‫عنها أثناء قراءة النص القرآني الكريم جزء ل يتجزأ من وفاء القارئ للنص حقه‪ ،‬ويجب اللتفات‬
‫كذلك إلى أن التعبير بواسطة الحروف المكتوبة إنما هو وسيلة ‪،‬ناقصة وقاصرة‪ ،‬لدراك اللغة‪،‬‬
‫ت المكتوبةت لم تخصص رموزا كتابيةا لجميع الفونيمات‬
‫وذلك إذا ما علمنا أن البجديا ت‬
‫ض أن ذلك المر هو واحد من عيوب تسجيل اللغة بواسطة الكتابة‪،‬‬ ‫المنطوقة‪ ،‬ويعتبتر البع ت‬
‫فالجنبي الذي يتعلم اللغة العربية بواسطة المكنتاب؛ ل يستطيع أن يدرك فروع فونيم حرف النون‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬ولذلك فإنه سينطقها أو يحاول نطق كل تفرعاتها بطريقة واحدة‪ .‬من هنا‬
‫أمكن إدراك الحكمة في عدم جواز الحفظ من المصحف من غير معلم يصحح للقارئ نطقه‬
‫وأداءه!‪.‬‬
‫وباعتبارنا للغة على أنها أصوات )وليسّ فقط ما يكتب منها( فإنه يحضرنا قول "ماريو باي"‬
‫من أن )عدد الصوات التي يمكن لجهاز النطق النساني أن ينتجها لم يمكن حصره أو تقديره‬
‫على وجه الدقة حتى الن‪ ،‬وهذا يرجع إلى أن أقل انحراف في المخرج يمكن أن يعطي نتائج‬
‫مختلفة تدركها الجهزة الحساسة مثل السبكتروجراف أو مسجل تردد الموجات الصوتية‪ ،‬إن لم‬
‫تدركها الذن()‪..(1‬‬

‫‪ ()1‬أسسّ علم اللغة‪) ،‬هامش المدخل لعلم اللغة‪ ،‬للدكتور رمضان عبد الوهاب‪ ،‬ص ‪.(60‬‬

‫‪101‬‬
‫ومعنى قولنا أن اللغة في أصلها منطوقة أن العتبار إنما هو لكل ما يتم التلفظ به‪ ،‬وليسّ فقط‬
‫ما تتم كتابته‪ ،‬فكلمة "محمد" على سبيل المثال )والتي تحتوي ‪،‬من الناحية الكتابية‪ ،‬على أربعة‬
‫أحرف( إنما تتكون في حقيقة المر من وحدات صوتية أكثر‪ ،‬وهي‪ :‬صوت الميم‪ ،‬ثم صوت‬
‫الضمة‪ ،‬ثم صوت الحاء‪ ،‬ثم صوت الفتحة‪ ،‬ثم صوت الميم‪ ،‬ثم صوت الفتحة‪ ،‬ثم صوت‬
‫الدال؛ على الترتيب‪ .‬ولعل كتابة كلمة "محمد" باللغة النجليزية أكثر تعبيرا عن الفونيم من‬
‫اللغة العربية‪ ،‬ذلك أن العربية تستعيض عن بعض الفونيمات المنطوقة بحركات تشكيل كالفتحة‬
‫والضمة والكسرة والسكون!‪.‬‬
‫من هنا يمكننا الفتراض أن اللغة الواحدة والمكونة من عدد محدود من الوحدات‬
‫الصوتية)‪ (1‬تمكننا من تأليف وتكوين مليين الكلمات المختلفة‪ ،‬وذلك عن طريق النساق‬
‫المختلفة لهذه الوحدات الصوتية في المواقع المختلفة‪ ،‬فالكلمات )كتب(‪) ،‬بكت(‪) ،‬تكب(‪،‬‬
‫ظ ممكنة من الناحية النظرية‪ ،‬وهي تتكون من نفسّ الوحدات‬
‫)بتك(‪) ،‬تبك(‪) ،‬كبت( كلها ألفا م‬
‫الصوتية ولكنها تختلف في ترتيب هذه الوحدات داخل الكلمة‪ .‬وبعض هذه الكلمات موجودة‬
‫فعلا في واقع اللغة العربية؛ والبعض الخر غير موجود مع أنه ممكن من الناحية النظرية‪..‬‬
‫وهكذا نجد أن العدد المحدود من الوحدات الصوتية ‪،‬في أية لغة‪ ،‬يمكن أن يكيون مليين‬
‫الكلمات‪ ،‬لكين كل لغة تختار من هذه الحتمالت الممكنة –نظريا‪ -‬عدة آلف فقط()‪ (2‬وهي‬
‫الكلمات التي نجدها في المعجمات اللغوية لتلك اللغة!!‪..‬‬
‫* * *‬
‫وهكذا تتضح لنا أهمية "التواتر السمعي" للقرآن الكريم‪ ،‬حيث أن أي انحراف في اللفظ‬
‫ينتج شيئِا آخر غير القرآن الكريم حتى لو تشابه معه من الناحية الكتابية!!‪..‬‬

‫‪ ()1‬يتراوح عددها في أكثر اللغات بين الثلثين والربعين‪ ،‬وهو ما اصطلح عليه بالحروف الهجائية‪.‬‬
‫‪()2‬مدخل إلى علم اللغة‪ ،‬د‪ .‬محمود فهمي حجازي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،1978 ،‬ص ‪)19‬بتصرف‬
‫بسيط(‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫‪..‬وهو ما يدفعنا إلى استجلء المزيد من النقاط الهامة التي تحيط بالنص القرآني المجيد‪،‬‬
‫والمتعلقة بالنواحي الموضوعية والنفعالية للنص الكريم‪ ،‬والتي تجيب في نهاية المطاف على‬
‫سؤال في غاية الهمية أل وهو‪ :‬لماذا يتوجب علينا أن نرتل القرآن‪ ،‬وإذا ما أردنا إعادة طرح‬
‫السؤال بصيغة أخرى فيتوجب علينا القول‪ :‬ما الذي يضفيه الترتيل على النص الكريم للتمييز‬
‫بين المستويات الموضوعية والنفعالية فيه؟‪.‬‬
‫لكن قبل الخوض في تلك الجوانب الصيلة في القرآن الكريم فيجب التعرض ولو بقليل من‬
‫التفصيل لنواحي أساسية في اللغة العربية‪ ،‬وهي النواحي "المنطقية" الكتابية‪ ،‬و"النفعالية"‬
‫السماعية‪.‬‬

‫"منطقية" اللغة و "انفعالها"!!‬


‫كما يرى بعض علماء اللغة)‪ (1‬فإن اللغة في واقع الحال ليست لغة واحدة بل اثنتان!‪ ،‬ففيما‬
‫تعبر الولى عن لغة "منطقية" تعبر الخرى عن لغة "انفعالية" وفيما تعبر الولى عن “القيمة‬
‫الموضوعية” تعبر الثانية عن ”القيمة النفعالية” في أي نص‪..‬‬
‫ولعلنا في مناقشتنا للتواتر الكتابي والسمعي في القرآن الكريم نكون قد وضعنا الناحية‬
‫الكتابية وجها لوجه أمام ما يقابلها؛ أل وهو‪ :‬اللغة "المنطقية" أو "الموضوعية"‪ ،‬بينما نكون قد‬
‫وضعنا الناحية السمعية أمام مثيلتها "النفعالية"‪ ،‬وكأنما التعبير المكتوب يكون كافيا للتعبير عن‬
‫الناحية الموضوعية في النص‪ ،‬بينما النواحي "النفعالية" فيه ل يمكن التعبير عنها إل من خلل‬
‫السمات "الصوتية" و"السمعية" للنص!‪.‬‬

‫‪ ()1‬اللغة لفندريسّ‪) 185 ،‬هامش المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪ ،‬د‪ .‬رمضان عبد التواب‪ ،‬ص‬
‫‪.(142‬‬

‫‪103‬‬
‫ونجد في بعض اللغات ‪،‬كالفرنسية‪ ،‬أن هناك بون ا شاسع ا بين اللغة المتكلمة واللغة‬
‫المكتوبة‪ ،‬بحيث ل يتم التكلم إطلقا بما تتم كتابته! ويمكن إيجاز المر وزيادته وضوح ا‬
‫بالقول‪ :‬إن عملية النطق بالمكتوب كثيرا ما تحمل معها انفصاما )مقصودا( في الترتيب‬
‫المنطقي للجملة المكتوبة؛ بحيث يتحول ترتيبها المنطوق إلى شكل آخر مختلف تماما عنه في‬
‫الترتيب المكتوب‪ ،‬ويتجلى الفرق بين اللغتين )المنطقية( و)النفعالية( عندما نقارن اللغة‬
‫المكتوبة باللغة المنطوقة‪ ،‬وهي الشكالية التي كثيرا ما يعبر عنها بإشكالية "الفصحى"‬
‫و"العامية"‪.‬‬
‫وكمثال حيي على عملية "إعادة الترتيب" التي تمر بها اللغة المكتوبة أثناء تحولها إلى الشكل‬
‫المنطوق فإنك؛ وبدلا من أن تتوجه إلى شخص ما باللغة الفصحى قائل له‪) :‬يجب عليك‬
‫المجيء سريعا( فإنك تخاطبه بالعامية قائل له‪) :‬تعال بالعجل!(‪ ..‬الخ من المثلة‪ ،‬وتتجسد‬
‫الختلفات بين اللغتين "المكتوبة" و"المنطوقة" في فصل وفصم تعرى الترتيب المنطقي لجزاء‬
‫الجملة المكتوبة؛ وإعادة ترتيبها ‪،‬من ثيم‪ ،‬وفق أولويات جديدة! فل يعود فيها ذلك الترتيب‬
‫المنطقي الذي تمليه قواعد النحو‪...‬الخ‪.‬‬
‫ولكي تتضح الفروقات بين هذا وذاك فلبد من التساؤل حول الغاية التي يسعى إليها النسان‬
‫من وراء "إعادة ترتيب الجملة" بنقلها من شكلها المكتوب إلى شكلها الجديد المنطوق؟!‬
‫يمكن وصف الجابة بأنها غاية في العمق؛ إلى جانب كونها غاية في البساطة!‪..‬‬
‫فالشكل الجديد )المنطوق( عادة ما يكون أكثر استجابة للمنطق النفعالي المختزن في‬
‫النفسّ!! ففي الشكل الجديد؛ ل يتم ترتيب الفكار ترتيبا موضوعيا بل وفقا لهميتها الذاتية‬
‫والنفعالية للمتكلم ذاته؛ وأهمية العناصر المختلفة ‪،‬التي يدور الحديث عنها‪ ،‬بالنسبمة له‪ ،‬ومن‬
‫الهمية النسبية لتلك العناصر مقارنة ببعضها بعضا تكتسب عملية إعادة تشكيل اللغة ‪،‬بين‬
‫المكتوب والمنطوق‪ ،‬جمالها ومنطقها وشرعيتها!!‪..‬‬

‫‪104‬‬
‫إل أن تلك العملية )إعادة ترتيب ألفاظ الجملة( ‪،‬وإن كانت مشروعة في اللغات في بعض‬
‫الحيان‪ ، ،‬فإن تلك الحاجة تنتفي وتفقد شرعيتها لدى تعاملنا مع نص واحد وحيد هو النص‬
‫ل‪ ،‬لعادة الترتيب بغرض إبراز النواحي‬
‫القرآني الكريم‪ ،‬حيث ل توجد هناك حاجة ‪،‬أص ا‬
‫النفعالية‪ ،‬فالنص القرآني يبرز النواحي النفعالية بقدر ما يتوجب إبرازها‪ ،‬بحيث أن القارئ له ل‬
‫يجد في نفسه ميل لتلك العملية!!‬

‫التنغيم في اللغة!‪..‬‬
‫تعتبر اللغة ‪،‬بشكل عام‪ ،‬شكل من أشكال التعبير عن درجة رقي مجتمع ما‪ ،‬لكن وأيا كان‬
‫شكلها )اللغة( فهي ل تعبر عن الكمال في أدوات التواصل بين البشر‪ ،‬فاللغة في المجتمع‬
‫البدائي غير المتحضر ‪،‬على سبيل المثال‪ ،‬تكون محدودة اللفاظ والتراكيب والخيال‪ ،‬ول‬
‫يكون لها من المرونة ما يسمح لها بالتساع لكثير من فنون القول‪ ،‬وهي كثيرة المفردات فيما‬
‫يتعلق بالشياء المحسوسة والمور الجزئية‪ ،‬قليلة اللفاظ التي تدل على المعاني الكلية‪ ،‬وكثيرا‬
‫ما تخلو اللفاظ في المجتمع البدائي من الدقة؛ بحيث يكثر فيها اللبسّ والبهام‪ ،‬وهي غالبا ما‬
‫تعبر عن ضرورات الحياة اليومية‪ ،‬ولذلك كانت جملها قصيرة وروابطها قليلة‪ ،‬وتعتمد اعتمادا‬
‫كبيرا على الشارات اليدوية ولغة الجسم لعطاء المعنى المقصود‪ ،‬حيث تعتبر الحركات‬
‫والشارات جزءا مكمل للغة المنطوقة ليصال المعاني المراد إيصالها‪.‬‬
‫وقصور اللغة عن التعبير عما في النفسّ ليسّ مقصورا على اللغات البدائية‪ ،‬حيث كثيرا ما‬
‫ظهر هذا المر في المجتمعات الحديثة أيضا؛ وذلك حين تعجز اللغة عن حمل كافة الدللت‬
‫"الموضوعية" و"النفعالية" التي يريد المتكلم إيصالها لمن يستمع إليه‪ ،‬عندها يقع المرء في‬
‫حالة يصعب وصفها‪ ،‬وهي الحالة التي تزداد صعوبة إذا ما كان المتحدث مستعمل لجهاز‬
‫الهاتف‪ ،‬أو إذا ما كان متحدثا إلى الخرين في أجواء تسودها الظلمة!!؛ حيث يفتقد ساعتها‬
‫القدرة على إكمال المعاني اللفظية بحركات جسده)‪..(1‬‬
‫‪ ()1‬أية رسالة اتصالية نحاول إيصالها للخرين لها ثلثة وجوه‪ :‬الول‪ :‬هو‪" :‬معنى" أو "مضمون" الرسالة‪ .‬والثاني‬
‫هو الجانب "الصوتي" فيها )ارتفاعا وانخفاضا وتفصيل لللفاظ عن بعضها‪ ..‬الخ( والثالث هو "المرئي" ونقصد به‬
‫)الحركات الجسمية التي يستخدمها المتحدث لتوضيح وإكمال رسالته( وقد وجد أن وصول رسائلنا وفهمها بنجاح‬

‫‪105‬‬
‫وقد تعرض”ابن جني” لمثل تلك الحالة حين قال‪) :‬وقال لي بعض مشايخنا رحمه ال‪ :‬أنا ل‬
‫أحسن أن أكلم إنسانا في الظلمة(؟!)‪.(1‬‬
‫والحالة التي نحن بصددها‪ ،‬والتي تعني في جوهرها قصور اللغة ‪،‬بشكل عام‪ ،‬عن إيصال‬
‫المضامين الموضوعية والنفعالية للخرين تحتم علينا التعرف على بعض الوسائل التي‬
‫يستخدمها النسان لكمال الصورة اللفظية الناقصة‪ ،‬وهنا لبد لنا من التعرف على مصطلح مهم‬
‫وهو "التنغيم" والذي يعني )رفع الصوت وخفضه في أثناء الكلم للدللة على المعاني المختلفة‬
‫للجملة الواحدة()‪.(2‬‬
‫وبكلمات أخرى فإن "التنغيم" يعني تحميل الكلمات الملفوظات بشحنات انفعالية تحدد‬
‫الوجهة التي يرمي إليها المتكلم‪ ،‬فنفسّ الجملة يمكن أن تستخدم للتعبير عن مجموعة من‬
‫الغراض‪ ،‬وما يميز غرض عن آخر هو التنغيم فقط!!‪..‬‬
‫مثال ذلك قولنا‪) :‬ل يا شيخ( وهو تعبير إذا ما أخذ بشكله الحيادي )الشكل المكتوب(‬
‫فإنه يصلح للتعبير عن مجموعة متعددة من الغراض‪ ،‬مثل دللته على "النفي" أو "التهكم" أو‬
‫"الستفهام" وغير ذلك‪ .‬كذلك فإن للتنغيم القدرة على التمييز بين الغراض "الخبرية" عن‬
‫"الستفهامية" فنغمة الصوت وحدها هي التي تميز بين الغراض اللغوية المختلفة!‪.‬‬

‫من قبل الخرين إنما يعتمد بنسبة‪ ،%38 ،%7 :‬و ‪ %55‬على كل من‪ :‬جانب المضمون‪ ،‬الجانب الصوتي‪،‬‬
‫والجانب المرئي لمرسل الرسالة على التوالي‪ ..‬وهي علة إضافية تدفع باتجاه ترتيل القرآن وحسن أدائه حيث‬
‫الترتيل هو عناية بالجانب الصوتي‪ ،‬الذي يتوقف عليه نجاح وصول الرسالة بنسة ‪ %38‬في حال وجود جانب‬
‫مرئي‪ ،‬ويتجاوز هذه النسبة ليصل إلى ‪ %80‬في حال عدم وجود الجانب المرئي‪ ،‬كأن نستمع إلى شخص في‬
‫الذاعة مثل‪ ،‬فنجاح رسالة هذا الشخص في الوصول للمستمعين تعتمد بنسبة تقترب من ‪ %80‬على الجانب‬
‫الصوتي لديه!‪.‬‬
‫‪ ()1‬الخصائص ‪ ،1/247‬هامش المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪ ،‬ص ‪ ،130‬مرجع سابق(‬
‫‪ ()2‬المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪ ،‬د‪ .‬رمضان عبد التواب‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1985،‬ص ‪.106‬‬

‫‪106‬‬
‫والتنغيم ‪،‬بتعبير أديق‪ ،‬هو إضافة ظلل للفظ ما )أو مجموعة اللفاظ( ليست موجودة فيه‬
‫ل!! بحيث تستطيع تلك الظلل )الصوتية( أن توجه اللفظ إلى اتجاهات معنوية جديدة!‬
‫أص ا‬
‫وأنت تحسّ هذا من نفسك إذا تأملته وذلك أن تكون في مدح إنسان والثناء عليه‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫"كان وال رجل!" فتزيد في قوة اللفظ "ال" وتتمكن في تمطيط اللم‪ ،‬وإطالة اللفظ بها‬
‫ل‪ ،‬أو شجاعاا‪ ،‬أو كريماا‪ ،‬أو نحو ذلك‪..‬‬
‫وعليها‪ ،‬أي‪ :‬رجلا فاض ا‬
‫ومن غرائب ما يضفيه "التنغيم" على اللفظ أنه يجعله تمحتمملا لوجهيه المتناقضين!!‪ ..‬فأنت‬
‫تقول‪" :‬سألناه فوجدناه إنسانا!"‪ .‬وتتميكتن الصوت بـ "إنسان"‪ ،‬فتستغني بذلك عن وصفه بقولك‪:‬‬
‫إنسانا سمحا أو جوادا أو نحو ذلك‪ .‬وكذلك إذا ذممته ووصفته بالضيق قلت الشيء نفسه‪:‬‬
‫"سألناه فوجدناه إنسانا!"‪ ..‬لكنك تزوي وجهك وتقيطبه!؟‪ ،‬فيغني ذلك عن قولك‪ :‬إنسانا لئِيما‪،‬‬
‫أو لمحزا‪ ،‬أو مبيخل‪ ،‬أو نحو ذلك)‪.(1‬‬
‫وقد ورد مثال ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى }ثم صيبوا فوق رأسه من عذاب الحميم‬
‫* ذق إنك أنت العزيز الكريم{)الدخان‪ (49-48:‬ومن الواضح أن التنغيم هنا أمر في غاية‬
‫الحيوية لتبيين الغرض من الخطاب‪ ،‬والذي انصرف عن موضوعه الصلي )التكريم( إلى غرض‬
‫آخر مختلف تماما هو )السخرية(!‪..‬‬
‫ولعل من الغراض الساسية للترتيل أن تتضح أمثال هذه الغراض على حقيقتها!!‪ .‬لكن‬
‫“التنغيم" ليسّ المؤثر الوحيد الذي يمكن إضافته ‪-‬وإضفاؤه‪ -‬على النص ليصبح أكثر تعبيرا‬
‫عن الشحنة العاطفية والدفق النفعالي المرافق للحدث! إذ يمكن إضفاء المزيد من الحيوية‬
‫على اللفظ ليصبح أكثر ملمسة للمعنى؛ وذلك بتغيير نبرة الصوت‪ ،‬أو سرعته‪ ،‬أو بالتشديد‬
‫على هذه الكلمة أو تلك دون غيرها من سائر الكلم!‪.‬‬

‫‪ ()1‬الفقرات ما بين القواس من كتاب المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪ ،‬د‪ .‬رمضان عبد التواب‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ ،1985،‬ص ‪.107-106‬‬

‫‪107‬‬
‫ولعل من الغراض الساسية لهذه الدراسة هو أن نبين ما للنفعال من أثر أساسي واضح في‬
‫تبيين وتوضيح الغراض الموضوعية للنص )القرآن الكريم على وجه الخصوص( فإظهار‬
‫النفعال)‪ (1‬ليسّ شيئِا زائدا يمكن التخلي عنه كما يعتقد البعض‪ ،‬بل إن إهماله يلغي جزءا كبيرة‬
‫من القيمة الموضوعية المتضمنة في النص ذاته‪..‬‬
‫ويدلل "فندريسّ" على ملزمة النفعال للتعبير عن الفكار ذاتها بقوله‪) :‬فمن النادر عندما‬
‫تتسابق في ذهننا )ونحن بصدد التعبير عن فكرة ما( عدة عبارات مختلفة‪ ،‬أن تكون إحدى هذه‬
‫العبارات عقلية محضة‪ ،‬وأن تعبر عن استدلل منطقي بحت‪ ،‬أو أن تصور حقيقةا أو حادثا ما في‬
‫بساطته العارية من كل لباس‪ ،‬فإنني أرى حادثا يقع أمامي فأصيح راثيا لحال صاحبه‪) :‬آه!‬
‫المسكين!(‪ ،‬وأقابل صديقا لم أكن أتوقع لقاءه فأقول له‪) :‬أنت! هنا!(‪..‬الخ فهذه الجمل ذات‬
‫قيمة انفعالية عالية‪ ،‬واضحة كل الوضوح‪ ،‬فإذا صيغت في لغة المنطق الجدلية صارت‪) :‬أرثي‬
‫لهذا المسكين( أو )يدهشني أن أراك هنا(‪.‬‬

‫‪ ()1‬بترتيل القرآن ترتيل صحيحا‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫ومن هذا المنطلق فإن اللغة ‪،‬من وجهة نظر علماء النفسّ‪ ،‬ل يصح أن تدرس على أنها أداة‬
‫عقلية فحسب‪ ،‬لن النسان كما أنه يتكلم ليصوغ أفكاره‪ ،‬فهو يتكلم ليؤثر في غيره من الناس‪،‬‬
‫وليعبر عن أحاسيسه ومشاعره وعواطفه‪ ،‬فهو يعبر باللغة عن نفسه كما يعبر عن آرائه‪ ،‬بل إنه‬
‫ل( ل‬
‫يمكن القول بأن التعبير عن أية فكرة بتعبير ما )مهما كان ذلك التعبير شائعا أو عاميا مبتذ ا‬
‫يخلو مطلق ا من العناصر النفعالية‪ ،‬إل إذا استثنينا اللغة والتفكير العلميين؛ حيث يجب أن‬
‫تكون تلك اللغة معبراة عن الفكرة المحضة؛ والحقيقة المجردة الخالية من النفعالت النفسية‪..‬‬
‫ب علياا( بدا وكأنني أعبتر ‪،‬بكل بساطة‪ ،‬عن علقة بين شخصين‬
‫ل‪) :‬حامد يضر ت‬
‫فإذا ما قلت مث ا‬
‫يجمع بينهما حدث الضرب‪ ،‬وهذا كل ما يزودني به التحليل المنطقي المزعوم‪ ،‬لكن في الواقع‬
‫إن مثل هذه الجملة ل يمكن مطلقا أن تكون مجرد عبارة منطقية يعبر بها عن علقة ما؛ إذ أني‬
‫أضيف إليها دائما ألوانا انفعالية‪ ،‬فضرب "حامد" لـ "علي" ل يمكن أن يكون عديم الثر بالنسبمة‬
‫س بنفسي لما قلته‪ ،‬لهذا فإن مثل هذه الجملة ذات قيمة انفعالية‬
‫لي‪ ،‬إذ لو لم يكن له مسا م‬
‫تختلف اختلفا كبيرا عن تلك القيمة التي تكون لها لو كنت قد قرأت تلك العبارة في كتاب‬
‫من كتب التاريخ يدور فيه الحديث عن ملك ما اسمه "حامد" وملك آخر اسمه "علي" ل‬
‫يعنيني من أمرهما شيء‪ ،‬ذلك أن القصص التاريخي موضوعي دائما‪ ،‬وهذا هو السبب الذي‬
‫يجعل الدارس للتاريخ ل يتأثر بالفظائع التي يرتكبها البشر؛ لنه يراها تقع في ماض سحيق‪،‬‬
‫بعكسّ شعورنا ونحن نقرأ خبرا لجريمدة وقعت في مدينتنا!!‪.‬‬
‫والعلقة بين "الموضوعي" و"النفعالي" )في القصص القرآني على سبيل المثال( تختلف‬
‫عما هي عليه حين نقرأ قصة من قصص التاريخ‪ ،‬بل ل نجاوز الحقيقة إن نحن قلنا بوجوب ذلك‬
‫الختلف! فتجريد الموضوع القرآني من ظلله "النفعالية" يحول القرآن الكريم إلى شيء آخر‬
‫مختلف!!‪ ..‬غير الذي أراده ال لنا‪:‬‬
‫شمعر ممونهت تجتلوتد المذينن ينوخ ن‬
‫شوونن نربلـتهوم ثتلم‬ ‫ث كمنتاابا رمتن ن‬
‫شابماها لمنثانمني تنـوق ن‬ ‫}ال لهت نـلزنل أنوحسن الوحمدي م‬
‫نن ن‬
‫م‬
‫ضلول ال لهت فننما‬ ‫شاء نونمن يت و‬‫ك تهندى ال لمه ينـوهمدي بممه نمون ين ن‬ ‫تنمليتن تجتلوتدتهوم نوقتـتلوبتـتهوم إمنلى مذوكمر ال لمه نذل ن‬
‫م‬
‫لنهت ممون نهادد{)الزمر‪..(23:‬‬

‫‪109‬‬
‫وحسب رأينا ‪،‬المتواضع‪ ،‬فإن قوله تعالى }يهدي به من يشاء{ هو أممر متعلق بقدرة قارئ‬
‫القرآن على تلوته حق تلوته‪ ،‬والتي تقتضي منه تلوين مستوياته الموضوعية بمستويات انفعالية‬
‫موافقة ومناسبة لها! مما يترتب عليه تحقق واكتمال التأثر بالقرآن عقليا وانفعاليا!‪.‬‬
‫وبكل ارتياح يمكننا القول بأن القرآن الكريم بطبيعته )من الناحية الشعورية النفعالية( ل‬
‫يقبل "الحياد" حتى وإن أتى موضوعه ‪،‬في كثير من الحوال‪ ،‬بصيغة الماضي؛ مما يطال به أزمنة‬
‫غابرة وأقواما سابقين‪ ،‬فالمطلوب منا حقا هو تفجير الدفق "النفعالي" في نفسّ قارئ القرآن؛‬
‫بالتوازي مع قراءته الموضوعية له‪ ،‬ذلك أن كل ما يحتويه القرآن الكريم من أغراض موضوعية‬
‫إنما يرتبط ‪،‬في نهاية المطاف‪ ،‬بمصير النسان ومآله‪ ،‬وهو ما يوجب علينا إيلء الناحية‬
‫النفعالية فيه اهتماما يتناسب مع أهميتها‪ ،‬بحيث تجعلنا نتناوله تناولا ‪،‬تمتجدداا‪ ،‬تتجلى فيه تلك‬
‫القيمة بأصدق تجلياتها!!‪..‬‬
‫وإذا ما رجعنا إلى النص القرآني الكريم لنحاول استشفاف شيء مما يتعلق بتلك الخاصية‬
‫البشرية المتعلقة بـ "الميل البشري إلى اللغة النفعالية" واستجابة القرآن الكريم بشكل مطلق‬
‫لها؛ فسنجد عندها إن النص القرآني الكريم ‪،‬بالفعل‪ ،‬لم يتنزل ليلبي متطلبات الجانب‬
‫الموضوعي وحسب‪ ،‬بل جاء تمشرب ا ‪،‬بشكل عجيب‪ ،‬بالقيمة النفعالية!! إلى الدرجة التي يمكن‬
‫القرار معها بأن النص القرآني‪ ،‬وفي نموذج وحيد‪ ،‬قد أشبع ‪،‬بالفعل‪ ،‬كل أشواقنا وتطلعاتنا‬
‫الشعورية والنفعالية!! فل نجد في أنفسنا حاجةا لعادة ترتيب النص؛ تلبية لجوانب النفعال‬
‫فينا كما نفعل مع النصوص الخرى!؟؟‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫"القيمة الموضوعية" و "القيمة النفعالية"‬

‫لنعد الن للسؤال الذي كنا قد طرحناه مع بداية موضوعنا هذا‪ ،‬أل وهو‪ :‬لماذا نرتل‬
‫القرآن؟‪ ..‬وللجابة عن هذا السؤال دعونا نفترض أن أية لفظة يمكن أن تحتوي على نوعين‬
‫من "المحتوى" أو "المضمون"‪..‬‬
‫الول‪ :‬المحتوى )أو المضمون( الموضوعي‪ :‬وهو المعبر عن المعنى الموضوعي للفظ‪..‬‬
‫مثال‪ :‬الكلمات‪ :‬حب‪ ،‬كره‪ ،‬سماء‪ ،‬أرض‪ ،‬غيم‪ ،‬مطر‪ ،‬حرب‪ ..‬الخ فكل كلمة منها تحمل‬
‫معنى في ذاتها وتستدعيه لدى ذكرها وتدل عليه‪ ،‬ويمكن البحث عن المعاني في المعاجم‬
‫اللغوية‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬المحتوى النفعالي‪ :‬ويحدد نوع ومقدار ما تثيره تلك الكلمة من انفعال وجداني‬
‫في نفسّ المتلقي‪ ..‬فكل كلمة من الكلمات السابقة تثير مشاعر الطمئِنان أو النقباض‪..‬‬
‫الخ لدى القارئ‪ ،‬وتتناسب شدة تلك المشاعر مع القيمة الموضوعية التي يتضمنها اللفظ‪.‬‬
‫ومن الناحية النظرية؛ يمكن للفظ ما أن يحمل قيما موضوعية أو انفعالية إيجابية أو‬
‫سلبية‪ ،‬فكلمة "ال‪" ،‬حق" "رحمة" و"حب" تحمل مضامين تثير في النفسّ أحاسيسّ‬
‫وجدانية انفعالية إيجابية مطمئِنة ومريحة }أل بذكر ال تطمئِن القلوب{ نظرا لما تحتويه من‬
‫معامن موضوعية إيجابية‪ ،‬بينما كلمات مثل‪" :‬شيطان" "باطل" "حرب" و"شر" تثير في النفسّ‬
‫مشاعر وجدانية انفعالية سلبية)‪ (1‬نظرا لما تحمله من معادن موضوعية سلبية‪.‬‬
‫بينما هناك نوع ثالث من اللفاظ التي تحمل مضامين موضوعية وانفعالية حيادية مثل‬
‫حروف الجر على سبيل المثال‪ ،‬والتي ل تحتوي معنى تدل عليه بذاتها‪..‬‬

‫‪ ()1‬من المور العجيبة في هذا المجال ما أثبته العالم الياباني "ماسارو إيموتو" من أن بلورات الماء )بعد تجميده(‬
‫تتأثر بالمشاعر النسانية‪ ،‬حيث قام "إيموتو" بأخذ عينات من الماء من مصادر مختلفة وقام بفحص بلوراتها فوجد‬
‫أن شكل البلورة يختلف من مصدر إلى آخر‪ ،‬الغريب في المر أن شكل البلورة قد تأثر بمشاعر النسان الموجهة‬
‫نحو الماء سواء أكانت إيجابية أم سلبية‪ ،‬فإن أنت رحت تقرأ على الماء أو تحدثه! بكلمات جميلة مثل‪ :‬حب‪،‬‬
‫تقدير‪ ..‬الخ تصبح البلورة في غاية الجمال‪ ،‬بينما توجيه كلمات سلبية أو نابية للماء كأن تخاطبه بقولك‪:‬‬
‫"أكرهك"‪" ..‬سوف أقتلك"‪ ..‬الخ يجعل من شكل البلورة في غاية القبح‪ ..‬وهذا المر مثبت وموثق من خلل‬
‫مؤلفات وصور حقيقية قام المؤلف الياباني بنشرها وموجودة أيضا على شبكة المعلومات الدولية‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫صل وتوضح‬
‫وعليه؛ فإننا نفترض هنا أن التلوة الصحيحة للقرآن الكريم يجب أن تتف ي‬
‫وتظهر المستويات الموضوعية والنفعالية المختلفة بشكدل واضح‪ ..‬وأن تعطي كل مستو ا‬
‫ى‬
‫موضوعي مستواه النفعالي المناسب‪ ..‬وذلك من خلل مستويات صوتية متباينة‪.‬‬
‫‪..‬فل يستوي موضمع تيذكر فيه اسم ال وموضع تيذكر فيه الشيطان )ول العزة ولرسوله‬
‫وللمؤمنين(‪ ..‬وليسّ مقامم متذكر فيه الرحمة كمقادم يذكتر فيه العذاب!!‪..‬‬
‫وقارئ القرآن ل يمكن له أن يكون حياديا أمام ما تعرضه اليات‪ ،‬فلبد وأن يكون ذا‬
‫ف واضدح تجاه ما يمر به من موضوعات‪ ،‬وهذا الموقف هو المسبب للنفعال نتيجة‬ ‫موق د‬
‫طرح مواقف ومستويات موضوعية متباينة‪ ..‬وهذا الموقف الذهني والعقلي ناشئ أساسا‬
‫عن عوامل داخلية في النص )وليست خارجه( ولبد لها أن تظهر في طريقة الداء‪..‬‬
‫فكيف يمكن لمؤمن أن يكون حياديا تجاه هذه القصة على سبيل المثال؟؟‬
‫ب نونحنفوفنناتهنما بمننوخدل نونجنعولننا‬ ‫ب لنتهم لمثنلا لرتجلنويمن نجنعولننا لننحمدمهنما نجلنتنـويمن ممون أنوعننا د‬ ‫ضمر و‬‫}نوا و‬
‫م‬ ‫م م‬ ‫بن وـيـننـتهنما نزوراعا * كمولنتا الونجلنتنـويمن آتن و‬
‫ت أتتكلننها نولنوم تنظولوم مونهت نشويائِا نوفنلجورننا خللنتهنما نـنهارا * نونكانن لنهت‬
‫ك نمالا نوأننعرز نـنفارا* نوندنخنل نجنلتنهت نوتهنو نظالممم يلننـوفمسمه‬ ‫صامحبممه نوتهنو يتنحاموترهت أنننا أنوكثنـتر ممن ن‬ ‫م‬
‫ثننممر فنـنقانل ل ن‬
‫خيـارا يم ونـنها‬‫ت إمنلى نريبي لنمجندلن ن و‬ ‫سانعةن نقائمنمةا نولنمئِن رمدد ر‬ ‫نقانل نما أنظترن نأن تنمبيند نهمذهم أنبنادا* نونما أنظترن ال ل‬
‫ب ثتلم ممن نرطونفدة ثتلم نسلوانك‬ ‫ك ممن تـرا د‬
‫ن‬ ‫ت مبالمذي نخلننق ن‬ ‫صامحبتهت نوتهنو يتنحاموترهت أننكنفور ن‬ ‫تمننقلنابا* نقانل لنهت ن‬
‫ت نما نشاء ال لهت ل‬ ‫ك قتـول ن‬ ‫ت نجنلتن ن‬ ‫نرتجلا * لمكلنا تهنو ال لهت نريبي نول أتوشمرتك بمنريبي أننحادا* نولنوول إموذ ندنخول ن‬
‫ك نويتـورمسنل‬ ‫خيـارا يمن نجنلتم ن‬
‫سى نريبي نأن يتـوؤتمينمن ن و‬ ‫ك نمالا نونولنادا* فنـنع ن‬ ‫قتـلونة إملل مبال لمه مإن تـنرمن أنننا أنقنلل ممن ن‬
‫صبمنح نماتؤنها غنووارا فنـنلن تنوستنمطينع لنهت طنلنابا *‬ ‫صمعيادا نزلناقا * أنوو يت و‬ ‫صبمنح ن‬ ‫سنماء فنـتت و‬ ‫نع نوليـنها تحوسنباانا يمنن ال ل‬
‫ب نكلفويمه نعنلى نما نأننفنق مفينها نومهني نخاموينةم نعنلى عتترومشنها نوينـتقوتل نيا لنويتنمني‬ ‫وأتمحي ن م‬
‫ط بمثننممره فنأن و‬
‫صبننح يتـنقلي ت‬ ‫ن‬
‫لنوم أتوشمروك بنريبي أننحادا{)الكهف‪(42-32:‬‬ ‫م‬
‫فكيف لقارئ القرآن أن يعبر عن عدم حياديته‪ ،‬وإعلن انتمائه للقيم المعروضة أمامه؟!‬

‫‪112‬‬
‫هنا يتضح لنا أن على قارئ القرآن تلوته متأثرا به‪ ،‬وأن يظهر هذا التأثر في طريقة‬
‫التلوة ذاتها‪ ،‬فعليه أن يتأثر بآيات القرآن وعدا ووعيدا }ويخرون للذقان يبكون ويزيدهم‬
‫خشوعا{)السراء‪ (109:‬فيفرح ويسر ليات الوعد كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫ت ترتستل نربيـننا مبالونحيق نوتنوتدواو نأن تمولتكتم الونجنلةت تأومرثوـتتتمونها بمنما تكنتتوم‬
‫}لننقود نجاء و‬
‫تنـوعنمتلونن{ )العراف‪(43:‬‬
‫ل‪ ،‬كما في قوله تعالى‪:‬‬ ‫ويحزن ويبكي ليات الوعيد فزع ا ورهبةا وهو ا‬
‫ب لنندى الونحننامجمر نكامظممينن نما ملللظالمممينن ممون‬ ‫م م‬ ‫م‬
‫} نونأنذورتهوم ينـوونم المزفنة إمذ الوتقتلو ت‬
‫ع{)غافر‪(18:‬‬ ‫نحمميدم نول نشمفيدع يتنطا ت‬
‫وفي حديث ابن مسعود قال‪ :‬قال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم )اقرأ عليي القرآن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسول ال؛ أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال‪ :‬نعم‪ ..‬إني أحب أن أسمعه من غيري‪،‬‬
‫فقرأت سورة "النساء" حتى أتيت إلى هذه الية‪}:‬فكيف إذا جئِنا من كيل أمة بشهيد وجئِنا‬
‫ت فإذا عيناه تذرفان()‪.(1‬‬
‫بك على هؤلء شهيدا{)النساء‪ (41:‬قال‪:‬حسبك الن‪ .‬فالتف ي‬
‫لقد اعتبر البعض التوازن بين الناحيتين الموضوعية والنفعالية للنص القرآني جزءا ل‬
‫يتجزأ من العجاز فيه‪ ،‬ويوجد ذلك )أي العجاز( في إقناع العقل وإمتاع العاطفة‪ ،‬بما يفي‬
‫بحاجة النفسّ البشرية تفكيرا ووجدانا في تكافدؤ واتزان‪ ،‬فل تطغى قوة التفكير على قوة‬
‫الوجدان‪ ،‬ول قوة الوجدان على قوة التفكير)‪.(2‬‬
‫وفي الصفحات القادمة سنتعرض لمجموعة من النماذج التحليلية لعدد من اليات‪ ،‬والتي‬
‫سنبين من خللها تصاعد خط “القيمة النفعالية” في النص المجيد‪ ،‬وترافقها مع تصاعد‬
‫“القيمة الموضوعية” له‪..‬‬

‫)( أخرجه البخاري وغيره‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مباحث في علوم القرآن‪ ،‬مناع القطان‪ ،‬دار المريخ للنشر‪ ،1988 ،‬ص ‪.301‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪113‬‬
‫نماذج تحليلية‬
‫نموذج للدللة على‬
‫تأثر القيمة الموضوعية )المعنى( بالقيمة النفعالية‬
‫)التلوة وتنوع الداء(‬
‫لنأخذ نموذجا للدراسة للدللة على تباين المستويات الموضوعية في النص القرآني‪،‬‬
‫وكيف أن التعبير عن هذا التباين من خلل التلوة الصحيحة يؤثر في معاني اليات‪ ،‬بحيث‬
‫تصبح التلوة أمرا جوهرياا‪ ،‬ل مجرد زينة شكلية‪..‬‬
‫وهو ما نجده في الية الكريمة من سورة "آل عمران"‪:‬‬
‫سّ‬
‫ت نولنوي ن‬ ‫ضوعتتـنها تأننثى نوال لهت أنوعلنتم بمنما نو ن‬
‫ضنع و‬ ‫ب إميني نو ن‬ ‫ت نر ي‬ ‫ض ن وعتـنها نقالن و‬
‫}فنـلنلما نو ن‬
‫شوينطامن‬‫ك نوذتيريلـتنـنها ممنن ال ل‬
‫لننثى نوإميني نسلمويتتـنها نموريننم موإميني أتمعيتذنها بم ن‬ ‫اللذنكتر نكا ت‬
‫اللرمجيمم{)آل عمران‪(36:‬‬
‫ففي التفسير )أي لما ولدتها قالت على وجه التحسر والعتذار يا رب إنها أنثى‪ ،‬قال‬
‫ابن عباس‪ :‬إنما قالت هذا لنه لم يكن تيقبل في النذر إل الذكور‪ ،‬فقبل ال مريم؛ قال تعالى‬
‫}وال أعلم بما وضعت{ أي وال أعلم بالشيء الذي وضعت‪ ،‬قالت ذلك أو لم تقله‪.‬‬
‫}وليسّ الذكر كالنثى{ أي ليسّ الذكر الذي طلبته كالنثى التي توهبتها‪ ،‬بل هذه أفضل‪،‬‬
‫والجملتان معترضتان من كلمه تعالى تعظيما لشأن هذه المولودة()‪..(1‬‬

‫‪ ()1‬صفوة التفاسير‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.198‬‬

‫‪114‬‬
‫لكن علمات استفهام ترتسم حول الجملتين العتراضيتين؛ وعلى من تعودان؟ خصوصا‬
‫الية الكريمة }وليسّ الذكر كالنثى{ وفي رأينا المتواضع فإن في الية المذكورة تعميم يطال‬
‫كلل ذكدر وكلل أنثى؛ وليست مخصصة لمريم كما قال بذلك البعض‪ ،‬ولو كانت من قوله‬
‫تعالى )كما ذكر آنفا( لكان فيها شبهة التمييز ضد أحد الطرفين‪ :‬الذكر والنثى‪ .‬وما نعتقده‬
‫سّ اللذنكتر نكا ت‬
‫لننثى‬ ‫ت نولنوي ن‬ ‫ضوعتتـنها تأننثى نوال لهت أنوعلنتم بمنما نو ن‬
‫ضنع و‬ ‫ب إميني نو ن‬
‫ت نر ي‬
‫هنا أن الية }…نقالن و‬
‫نوإميني نسلمويتتـنها نموريننم‪ {..‬ليست جميعها من كلم أم مريم‪ ،‬بل جمعت الية مستويين‬
‫موضوعيين مختلفين عبر الول عن كلم أم مريم‪ ،‬بينما اعترض كلنمها جملة تعقيبية من ال‬
‫ى موضوعدي أعلى‪ ،‬والخطورة هنا‬ ‫عز وجل}وال أعلم بما وضعت{ والتي هي بمثابة مستو ا‬
‫هي في عدم تحديد الحدود الفاصلة بين كلم أم مريم وكلم ال‪ ،‬فإذا ما اعتقدنا بوحدة‬
‫المستوى الموضوعي بين }وال أعلم بما وضعت{ }وليسّ الذكر كالنثى{ )بوحدة القائل(‬
‫أصبحت الية وكأنها إقرار من ال عز وجل بعدم تكافؤ الذكر والنثى‪ ،‬لكننا إذا ما رددنا‬
‫}وليسّ الذكر كالنثى{ ليعود على أم مريم )أي إلحاقها بمستوى موضوعي يعود على أم‬
‫مريم( فسيكون في ذلك الكثير من النصاف في فهم النص‪.‬‬
‫والمر نفسه ينطبق على الية الكريمة }وقالوا اتخذ ال ولدا‪ ،‬سبحانه{)البقرة‪(116:‬‬
‫حيث تقع علمة "الوقف أولى" بعد كلمة "ولدا"‪ ،‬مما يعني أن التوقف اختياري‪ ،‬مع أولوية‬
‫للتوقف‪ ،‬فإن لم يرد القارئ التوقف فعليه أن يغير في النبرة‪ ،‬وإل تحولت كلمة "سبحانه"‬
‫إلى قودل يعود على من اتخذ من دون ال ولدا!!‬
‫وما يهمنا هنا هو أن نشير إلى ضرورة إخلف نبرة القراءة بين المستويين المذكورين‬
‫ليعبرا عن اختلف المستويات الموضوعية التي تحدثنا عنها!‪ ..‬فالية }وال أعلم بما‬
‫وضعت{ تقرأ بطريقة تعبر عن مستوى موضوعي يليق بجلل القائل‪ :‬وهو ال عز وجل‪ ،‬بينما‬
‫}وليسّ الذكر كالنثى{ تقرأ بطريقة تعبر عن مستوى موضوعي آخر مختلف يتناسب مع‬
‫المستوى الموضوعي لم مريم‪ ..‬وهكذا دواليك‪..‬‬

‫نموذج‪ :‬انهيار مفاجئ في القيمة الموضوعية‬

‫‪115‬‬
‫بتأثير قيمة انفعالية مفاجئِة!‬
‫لنتأمل معا الية التالية‪:‬‬
‫}وضرب لنا مثلا ‪،‬ونسي خلقه‪ ،‬قال من يحيي العظام وهي رميم{)يسّ‪(78:‬‬
‫إن “القيمة الموضوعية” في الية السابقة كان بالمكان أن تكتمل حتى لو جاءت‬
‫الية على النحو التالي )وضرب لنا مثل‪ ،‬قال‪ :‬من يحيي العظام وهي رميم( وهو نص كان‬
‫بإمكانه أن يفي بغرض الخبار؛ لو كان الخبار ‪،‬فقط‪ ،‬هو كل ما قصد إليه القرآن من‬
‫مرادم‪.‬‬
‫لكن ‪،‬وكما هو واضح‪ ،‬فإن “القيمة الموضوعية” ‪،‬التي هدفت اليةت إلى بنائها كلمةا‬
‫بعد كلمة‪ ،‬ترافقت مع ‪،‬قيمة انفعالية متصاعدة‪ ..‬لكن القيمة النفعالية ‪،‬في حقيقة المر‪،‬‬
‫ت مترافقةا معها! وقد شيكلت }ونسي خلقه{ نقطة‬ ‫جاءت سابقةا للقيمة الموضوعية‪ ،‬ولم تأ م‬
‫الذروة للقيمة النفعالية تلك!‪ .‬بحيث يمكن ان نطلق عليها "نقطة انهيار مفاجئ"!!‬
‫وبهذا فإن “القيمة النفعالية” التي أضافتها المفردتان }ونسي خلقه{ قامت بعملية‬
‫نسف مسبقة للقيمة الموضوعية الممثلة لحجة الخصم‪ ،‬حتى قبل أن يتم طرحها!! وكأنها‬
‫جاءت لتولد لدى القارئ شعورا بعدم جدوى الستماع إلى بقية ذلك اللغو!‪..‬‬
‫وهنا فإن “القيمة النفعالية” التي يحملها النص استطاعت أن تضيف ما لم يكن‬
‫بالمكان إضافته؛ حتى من خلل المزيد والمزيد من اللفاظ والعبارات؟!‪.‬‬

‫نموذج عدم الستقرار النفسي‬


‫الناشئ عن عدم الستقرار العقائدي!‬
‫يرسم القرآن الكريم خلصة الشعور بعدم الستقرار النفسي‪ ،‬الناشئ عن عدم‬
‫الستقرار العقائدي وذلك في قوله تعالى‪:‬‬
‫}ومن الناس من يعبد ال على حرف‪ ،‬فإن أصابه خير اطمأن به‪ ،‬وإن أصابته فتنة‬
‫انقلب على وجهه‪ ،‬خسر الدنيا والخرة{)الحج‪(11:‬‬

‫‪116‬‬
‫فإذا ما رحنا نحاول تحليل اليات السابقة تحليلا موضوعيا‪-‬انفعاليا فسنجد حينها أن‬
‫المفردات التي تعتبر مفاتيح التعبير الموضوعي في الية هي‪) :‬يعبد‪ ،‬حرف‪ ،‬خير‪ ،‬اطمأن‪،‬‬
‫فتنة‪ ،‬انقلب‪ ،‬وجهه‪ ،‬خسر‪ ..‬وكذلك المقابلة بين "الدنيا" و"الخرة"(‪..‬‬
‫أما “القيمة النفعالية” في الية فترتسم نتيجة الجمع بين )يعبد( )ولها قيمة انفعالية‬
‫إيجابية( وكلمة )حرف( )ولها قيمة انفعالية شبه حيادية( فتكون القيمة النفعالية الكلية‬
‫)عبادة على حرف( وهي قيمة انفعالية سلبية!‪.‬‬
‫وتنتج القيمة النفعالية الكلية كذلك من الجمع بين مفردة )خير( )ولها قيمة انفعالية‬
‫إيجابية( و)فتنة( )ولها قيمة انفعالية سلبية(‪ ،‬ومقابلتهما مع مفردة )اطمأن( )لها قيمة انفعالية‬
‫إيجابية( و المفردة )انقلب( )لها قيمة انفعالية سلبية( وهي ألفاظ ترسم تذبذب ا انفعالي ا‬
‫صاعدا وهابطاا!‪ ..‬وتزداد "القيمة النفعالية السلبية الجمالية" للتعبير المشار إليه بإضافتها‬
‫إلى “القيمة النفعالية” المتولدة عن كلمة )وجهه( )والتي تمثل قيمة إيجابية أساساا‪ ،‬لن‬
‫الوجه موضع تشريف من النسان( فإذا أضيفت “القيمة النفعالية” الخاصة بالوجه إلى ما‬
‫قبلها تضاعفت “القيمة النفعالية الكلية” السلبية!‪.‬‬
‫كذلك فإن الجمع بين القيم النفعالية للمفردات )خسر( )الدنيا( و)الخرة( يعبر عن‬
‫قيمة شعورية انفعالية عارمة‪ ،‬حيث تعبر عن الخسران الشامل والمبين‪.‬‬

‫نموذج السخرية؛ والدهشة‪ ،‬وعدم التصديق!‬


‫}…باب ا من السماء…{!!‪..‬‬
‫يشخص القرآن الكريم حالة العناد والمكابرة لدى الكافرين وذلك في قوله تعالى‪:‬‬
‫}ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون‪ ،‬لقالوا‪ :‬إنما سيكرت أبصارنا‪ ،‬بل‬
‫نحن قوم مسحورون{)الحجر‪(15:‬‬

‫‪117‬‬
‫ويمثل الشطر الول من الية }ولو فتحنا عليهم باب ا من السماء{ ميل ناحية “القيمة‬
‫الموضوعية” على الرغم من أنه ل يخلو من قيمة انفعالية تتمثل في الكلمات )فتحنا(‬
‫)بضمير المتكلم العائد على الذات اللهية( و)بابا( و)السماء( وهي تمثل )مجتمعاة( مقدار‬
‫ما يمكن أن يتحقق من الستجابة اللهية‪.‬وهي مفاتيح سوف تحقق قيمة انفعالية مضاعفة‬
‫لما سيأتي بعدها‪.‬‬
‫}فظلوا فيه يعرجون{ ل تعتبر هذه الصورة جزءا من الصورة الخبرية )والخط الساسي‬
‫للرواية( التي يريد القرآن أن يخبرنا بها‪ ،‬بل هي صورة جانبية تعقيبية؛ الغرض منها تحقيق‬
‫ذروة “القيمة النفعالية” لما سيأتي بعدها! وهي توضح أن الستجابة اللهية )بفتح "باب‬
‫في السماء( لم تظول في حيز الخيال‪ ،‬أو الوهم‪ ،‬أو النظرية‪ ،‬بل أصبحت حقيقة واقعة‬
‫ينطلقون إليها ليعاينوها ويختبروها بصورة عملية‪ ،‬فها هم قد انطلقوا إلى ذلك الباب فهم فيه‬
‫يعرجون!‪ ..‬لكن “القيمة النفعالية” التي تريد الية تحقيقها لم تصل ‪،‬حتى هذه اللحظة‪،‬‬
‫إلى ذروتها بعد‪ ،‬وإنما ستأتي عندما تتواصل بقية الية فنصل إلى‪} :‬لقالوا‪ :‬إنما سيكرت‬
‫أبصارنا{! }بل نحن قوم مسحورون{!!‪..‬‬
‫وتتحقق الدهشة هنا )التي تمثل إحدى قمم وتذرى القيمة النفعالية الكلية( وذلك‬
‫نتيجة المقابلة بين الشطر الول من الية والشطر الذي نحن بصدده هنا‪} :‬إنما تسكرت‬
‫أبصارنا{‪..‬‬
‫وتظل وتيرة "القيمة النفعالية" تتذبذب صاعدة هابطة لتصل ذروتها الكلية وذلك عندما‬
‫نراهم يتراجعون عن حجتهم تلك‪ ،‬وكأنما أدركوا عدم مناسبتها‪ ..‬ولننظر إلى تلك الكلمة‬
‫الجميلة "بل" وهي المفردة التي تمتلك )منفردة( قيمةا موضوعية وانفعالية حيادية‪ ،‬لكنها هنا‬
‫‪،‬وفي سياق الية‪ ،‬تساهم في رسم “القيمة النفعالية” المراد رسمها وإبرازها بما يفيد‪:‬‬
‫العجب والدهشة من حججهم!!‪ ..‬إذ يقومون هنا هم بأنفسهم بنقض حججهم السابقة‬
‫خيط ا خيط ا وذلك من خلل استخدام التعبير "بل" والذي يقوم باستدراك ضعف الحجة‬
‫السابقة بما يفيد نفي )وإن شئِت فقل‪ :‬نسف( الحجة السابقة لعتقادهم بعدم كفايتها!‪..‬‬

‫‪118‬‬
‫لكن الخاتمة الجميلة للية }بل نحن قوم مسحورون{ تنحو بـ ”القيمة النفعالية” من‬
‫جهة "العجب" و"الدهشة" إلى ناحية أخرى هي "الستهزاء" و"السخرية" فحجتهم الجديدة‬
‫لم تكن سوى ادعاء أجوف بعدم الحول والقوة‪ ،‬فهذه القوة التي تتحكم في تصرفاتهم‬
‫ومصائرهم ليست معلومة المصدر! )حسب ادعائهم(‪ ..‬بل هي سحر غير مفهوم‪.‬‬

‫نموذج الضيق والقلق‬


‫}وجرين بهم بريح طيبة{!‪...‬‬
‫ويستمر القرآن الكريم في تصوير الحاسيسّ والمشاعر البشرية في كل لحظاتها )ولعل‬
‫أعلى نوع من أنواع التناسق تنبهوا إليه )أي العلماء( هو هذا التناسق النفسي بين الخطوات‬
‫المتدرجة في بعض النصوص‪ ،‬والخطوات النفسية التي تصاحبها()(‪.‬‬
‫ونجد القرآن الكريم هنا يصورها في لحظات الضيق وساعات الخطر‪:‬‬
‫}هو الذي يسيركم في البر والبحر‪ ،‬حتى إذا كنتم في الفلك‪ ،‬وجرين بهم بريح طيبة‪،‬‬
‫ج من كل مكان‪ ،‬وظينوا أنهم تأحيط بهم‪،‬‬
‫ف‪ ،‬وجاءهم المو ت‬
‫وفرحوا بها‪ ،‬جاءتها ريمح عاص م‬
‫دعوا ال مخلصين له الدين{)يونسّ‪(22:‬‬
‫وهذه الية عجيبة في إيقاعاتها النفسية‪ ،‬فهي ترسم المشاعر والنفعالت البشرية وهي‬
‫تضيق شيئِا فشيئِاا‪ ،‬فهي ‪،‬لعجبها وغرابتها‪ ،‬لم تبدأ بوصف حالة النسان ابتداء من موطن‬
‫الخطر ذاته‪ ،‬بل ابتعدت عنه قليلا لتصوره ‪ ،‬بداياة‪ ،‬وهو في حالته الطبيعية‪ ،‬فابتدأت به وهو‬
‫يسرح ويمرح ‪،‬سواء في البر أو البحر‪ ،‬لتقفز قفزاة موضوعيةا أخرى؛ جاءت مترافقةا مع قفزةد‬
‫ت‬ ‫ت‬
‫انفعاليدة إضافية‪ ،‬تتمثل في نقل مسرح الحداث‪ ،‬من سعة البر والبحر إلى محدودية‬
‫المكان‪ ..‬إلى الفلك المحمول؟!‪ .‬وهنا تبدأ “القيمة النفعالية” بالتكيون‪ ،‬فنحن قد انتقلنا‬
‫من عموم النسانية إلى خصوص نوعيدة محددةد منها‪ ،‬وهم تلك الفئِة التي ل تعرف ال إل‬
‫وقت الشيدة!‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫ولحوظ النتقال العجيب في الية؛ من ضمير المخاطب الذي يخاطب العام }حتى‬
‫إذا كنتم‪ {..‬إلى ضمير الغائب الذي يخاطب الخاص‪} ..‬وجرين "بهم"{ فالخطاب القرآني‬
‫هنا حمذمر من التعميم‪ ،‬فهذه الحالة يقع فيها بعض الناس ل كلهم‪ ..‬ولعل القرآن الكريم أراد‬
‫من قلب الضمير )من المخاطب إلى الغائب( }"كنتم" في الفلك‪ ،‬وجرين "بهم"{!! مجاراة‬
‫عنصر الحركة في النص! فبابتعاد التفول م‬
‫ك براكبيها يبدأ النص بالشارة إليهم كغائب مبتعد ل‬
‫كحاضر مخاطب؟!‪..‬‬
‫}وجرين بهم بريدح طيبة‪ ،‬وفرحوا بها…{ ومع هذا الجريان السلسّ‪ ،‬والريح الطيبة‬
‫المبشرة بكل خير‪ ،‬تتحقق حالة الفرح لديهم‪ ..‬لتبدأ اليات بالعداد لرسم ذروة النفعال‬
‫التي‪ ،‬فيتضاعف الحساس بالضيق إذا ما سبقته السعة! فبعد كل تلك الحاسيسّ اليجابية‬
‫نجد قمةا من قمم النفعال؛ والمتمثلة بهبوب عاصف الريح‪ ،‬لكن تلك القمة لم تكن‬
‫الذروة! فها هو الموج يجيئِهم من كل مكان ليقذف بهم إلى كل مكان!! وتتحقق ذروة‬
‫النفعال عندما تستطيع الكلمات أن تحمل معها وصفا دقيقا لنتقال حالة الضطراب من‬
‫محيطهم إلى دخيلة نفوسهم‪ ..‬وعند هذه اللحظة تتحقق القناعة لديهم }أنهم قد أحيط‬
‫بهم{!‪..‬‬
‫وهنا نجد القيم النفعالية "المنتشرة" و"المنبثة" في ثنايا الية سرعان ما تتجمع وتتحد‬
‫في "قيمة انفعالية كلية" تهيئ المسرح لعرض "القيمة الموضوعية" المرجوة‪ ،‬والمتمثلة في‬
‫قوله تعالى }دعوا ال مخلصين له الدين{ فلول ما رسمته الكلمات السابقة من قيم انفعالية‬
‫جزئية )سرعان ما اتحدت في قيمة انفعالية كلية( لما أمكن فهم ذلك الموقف المتمثل‬
‫بانطلق ألسنتهم بالدعاء والتضرع إلى ال!!‪..‬‬

‫نموذج الطمئِنان والسكينة والرضى!‬


‫}يا أيتها النفسّ المطمئِنة…{‬

‫‪120‬‬
‫ومن أجمل القيم النفعالية في القرآن الكريم ما تصوره اليات من معاني الطمئِنان‬
‫والرجوع إلى ال وذلك في قوله تعالى‪} :‬يا أيتها النفسّ المطمئِنة‪ ،‬ارجعي إلى ربك راضية‬
‫مرضية‪ ،‬فادخلي في عبادي وادخلي جنتي{)الفجر‪(30-27:‬‬
‫ولو دققنا النظر في الية المشار إليها لوجدنا مجموعة من القيم النفعالية التي لن‬
‫تكون حصيلتها إل سيلا من الطمئِنان والسكينة‪ ،‬وتتمثل القيمة النفعالية الكلية نتيجة‬
‫تعاضد القيمة النفعالية لكل من‪] :‬النفسّ )حيادية(‪ ،‬المطمئِنة )إيجابية( "النفسّ المطمئِنة"‬
‫)إيجابية(‪ ،‬إرجعي )إيجابي نوع ا ما(‪ ،‬ربك )إيجابي(‪" ،‬إرجعي إلى ربك" )إيجابي جداا(‪،‬‬
‫أدخلي )إيجابي‪ ،‬بعكسّ أخرجي(‪ ،‬عبادي )إيجابي ولنتوقف عند نسبة العباد ل( "أدخلي في‬
‫عبادي" )إيجابي جداا(‪ ،‬جنتي )إيجابي جداا(‪" ،‬وادخلي في جنتي" )إيجابي جداا(!‬
‫بالضافة إلى أسلوب النداء الذي افتتحت به الية‪" ،‬يا أيتها النفسّ" ولتكون المحصلة‬
‫النفعالية إيجابية جداا‪ ،‬والتي تساهم في تحقيق الغرض الموضوعي للية‪ ..‬وهو بث السكينة‬
‫والطمئِنان!!‬

‫نموذج الخسران والفقد والعدم!‬


‫}فجعلناه هباءا منثوراا{!!‪..‬‬
‫أما عن معاني الخسران‪ ،‬والفقد‪ ،‬وعدم الجدوى؛ فيتحدث القرآن الكريم واصفا‬
‫أعمال المجرمين بقوله تعالى‪:‬‬
‫}وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثوراا{)الفرقان‪(23:‬‬
‫فقد جاءت كلمة "هباء" لتمثل نقطة ارتكاز أساسية يبلغّ التعبير النفعالي عندها ذروته‬
‫وغاية مداه‪ ،‬ثم ليتم تجاوز ذلك الحيد عندما أضيف إليه اللفظ "منثورا"! وبذا فقد تحقق‬
‫للنص الغنى في المحتوى الموضوعي والنفعالي معاا!‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫وبمزيد من التدقيق في النص السابق نلحظ أن جمع وضم اللفاظ إلى بعضها بعض ا‬
‫يؤدي إلى حصيلتين الولى‪ :‬موضوعية؛ والخرى انفعالية‪ ،‬ونجد أن ذروة الشعور بالقيمة‬
‫الموضوعية تكتمل عند كلمة "هباء"‪ ،‬بينما تكون ذروة الحساس بـ“القيمة النفعالية” عند‬
‫كلمة "منثورا"!‪.‬‬
‫وهنا نود ان نشير إلى ضرورة أن يشعر قارئ القرآن الكريم بهذه القيم الموضوعية‬
‫والنفعالية المتصاعدة والهابطة باستمرار‪ ،‬في رحلة مستمرة لبناء قيم موضوعية وانفعالية‬
‫كلية‪ ..‬تمر على قلب قارئ القرآن مطلقةا كل مشاعر الخشوع والعودة إلى ال‪..‬‬

‫‪122‬‬
‫هل الـقرآن عربيي؟!‬

‫ما أردنا قوله في هذا البحث؟‬


‫كثيرون يفهمون "عروبة القرآن الكريم" وكأنها رديف لمعناها‬
‫القومي‪ ..‬مع أن تطبيق مفهوم "النسبية" الذي تحدثنا عنه آنفا‬
‫يجعل للعروبة معادن إضافية‪ ،‬دون نفي المعنى القريب بالطبع‪..‬‬
‫ومن المداخل الجديدة للعروبة والتي تتيحها أمامنا "ظاهرة‬
‫النسبية" يمكننا أن نحل لغز مجموعة كبيرة من الكلمات‬
‫الواردة في القرآن الكريم )تناهز المائة كلمة( والتي اعتبرها‬
‫البعض غير عربية!‪..‬‬
‫فهل هي غير عربية حقا؟!‪..‬‬
‫هذه الدراسة تحاول الجابة على هذا السؤال!!‬

‫‪123‬‬
‫هل الـقرآن عربيي؟!‬

‫تمهيد‬
‫"هل القرآن عربي" مادة توقعنا )حين نشرها( أن تثير نوعا من الجدل‪ ،‬نظرا لطبيعة صياغة‬
‫العنوان‪ ،‬حيث هال البعض أن يصاغ عنوان البحث في صيغة استفهامية؛ حيث بدا المر وكأننا‬
‫نضع علمات استفهام حول حقيقة أكيدة من حقائق القرآن الكريم أل وهي عروبته!‪..‬‬
‫وهنا يهمنا أن نوضح بأن الستفهام هنا ل يعني النفي بقدر ما يمثل دعوة للتوقف قليل‬
‫للتأمل وإعمال الفكر‪ ،‬مستأنسين بالية الكريمة }أإلهم مع ال{ والتي ل يقصد بها النفي وإنما‬
‫تأكيد حقيقة عدم وجود آلهة إل ال‪.‬‬
‫إل أنه وعلى الرغم من كل ذلك فإن المسألة الجوهرية في هذا الجدل لزالت قائمة‪ ،‬وتتمثل‬
‫في حقيقة أن هناك الكثير من المواقف المسبقة التي يحملها الناس تجاه أمور معينة في حياتهم‪.‬‬
‫وعلى الرغم من اختلفنا الواضح مع من يريد "تجميد النص" إل أننا ل نشك لحظة في طهارة‬
‫الدوافع؛ وحسن النوايا‪ ،‬ول نشك لحظة أن رغبة من يخالف إنما هي نابعة )في غالب الحيان(‬
‫من حرص شديد للحفاظ على هذا النص الكريم من عبث العابثين!!‪.‬‬
‫إن المسألة الكثر أهمية هنا هي أن أسلوب الدفاع المستميت ‪،‬من قبل البعض‪ ،‬عما هو‬
‫قائم؛ والميل نحو رفض كل جديد؛ إنما هو منهج يتناقض تناقض ا تاما مع روح القرآن الكريم‪،‬‬
‫الذي يمتلك طبيعة خاصة هي أحوج ما تكون إلى التفكر المستمر المفضي إلى الكتشاف‬
‫الدائم‪.‬‬
‫والعنوان هنا )هل القرآن عربي( يختصر المسألة التي نطرحها هنا‪ ،‬والتي نؤكد من خللها‬
‫على ضرورة العمال الدائم للنظر والتفكر المستمر في النص‪ .‬من هنا كانت رغبتنا في‬
‫المحافظة على هذا العنوان الذي بدا للبعض "إشكاليا" ليسّ عنادا‪ ،‬ول مكابرة؛ بل لنه يختصر‬
‫كل ما أردنا قوله‪ ،‬ويعبر عن الشكالية التي أردنا أن نفضي بها إلى القارئ العزيز‪ ،‬ولم يكن‬
‫العنوان ‪،‬على الطلق‪ ،‬ترف ا فكري ا أو محاولة لجذب النتباه!‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫ما أردنا قوله هنا هو أن الحقائق البديهية في القرآن الكريم )عروبة القرآن كمثال( تحتاج إلى‬
‫مزيد من التفكر والتدبر‪ ،‬ل لنفي بداهتها‪ ،‬بل بسبب كونها تمتلك وجوها أكثر تعقيدا مما تبدو‬
‫عليه للوهلة الولى‪ ،‬وأردنا أن نلفت النتباه إلى أننا لو تعاملنا مع القرآن الكريم على أساس أنه‬
‫نص عادي؛ بسيط‪ ،‬وسهل‪ ..‬فماذا يتبقى من إعجاز النص؟!‪..‬‬
‫إننا لو تعاملنا مع القرآن الكريم بمثل تلك الروح )التبسيط المخل( فسنكون ‪،‬ساعتها‪ ،‬قد‬
‫ظلمنا النص القرآني؛ فيما يبدو وكأنه ادعاء من قبلنا بأن ما أراد ال عز وجل أن يوصله إلينا من‬
‫خلل القرآن هو ‪،‬فقط‪ ،‬ما فهمناه نحن منه بالفعل!!‪.‬‬
‫فمن يمكنه أن يدعي مثل هذا الدعاء؟!‪..‬‬
‫إن مفهوم "العروبة" في القرآن الكريم هو أحد تلك المثلة التي تبدو للناظرين بصورة معينة‪،‬‬
‫فإن رحنا نتأمله بدا بصورة أخرى تثير العجاب‪ ،‬وحاولنا ‪،‬من خلله‪ ،‬إيراد وجهة نظرنا حول‬
‫بعض اللفاظ غير العربية؟!! التي ادعى البعض وجودها في القرآن الكريم‪ ..‬ودعونا من هنا‬
‫نبدأ!‪..‬‬

‫عروبة القرآن في أقوال المفسرين‬

‫‪125‬‬
‫تعددت كتب التفسير منذ تنيزل القرآن الكريم وإلى الن‪ ،‬لكلن سمةا بارزاة تظهتر واضحةا‬
‫للمقامرن بينها‪ ،‬أل وهي اعتماتد متأمخمرها على متقمدممها في كثيدر من الوجوه‪ ،‬بحيث يمكن للباحث‬
‫أن يلحظ بعضا من التكرار في تلك الكتب إذا ما راح يبحث عن تفسير لمسألدة بعينها‪ ،‬وهذا ما‬
‫سنلحظه عندما نتنقل من تفسيدر لخر لنتعرف على الكيفية التي تناول المفسرون معاني العروبة‬
‫في القرآن من خللها‪.‬‬
‫وقد تناول المام القرطبي اليةن الكريمة }إنا أنزلناه قرآن ا عربييا لعلكم تعقلون{)يوسف‪(2:‬‬
‫وذلك بقوله‪) :‬يجوز أن يكون المعنى‪ :‬إنا أنزلنا القرآن عربييا ‪...‬‬
‫أي مجموعاا‪ .‬و"عربيياا" ‪ ،‬أي تيقرأت بلغمتكم يا معشر العرب()‪.(1‬‬
‫أما الية الكريمة‪} :‬وكذلك أنزلناه حكم ا عربيياا{)الرعد‪ (37:‬فقد تشابهت القوال في‬
‫تفسيرها‪ ،‬وقد تناولها البعض بالقول‪) :‬وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الحزاب‪ ،‬كذلك‬
‫صنفه بذلك لنه أنزله على محمد )صلى ال عليه وسلم( وهو عربيي‪.‬‬ ‫أنزلناه حكما عربيياا‪ ،‬وإنما نو ن‬
‫ب على الرسل بلغاتهم؛ كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيياا()‪..(2‬‬ ‫وقيل‪ :‬وكما أنزلنا التكتت ن‬
‫صلرفنا فيه من‬
‫أما عن معنى العروبة الوارد ذكرها في سورة "طه" }وكذلك أنزلناه قرآن ا عربييا و ن‬
‫الوعيد{)طه‪ (113:‬فقد تناولها المفسرون بقولهم‪) :‬أي بلغمة العرب()‪..(3‬‬
‫أما عن معاني العروبة في سورة "الزمر"‪} :‬قرآنا عربييا غير ذي عوج لعلهم يتقون{)الزمر‪(28:‬‬
‫ض علمامء التفسير‪) :‬أي حال كونه قرآنا عربييا ل اختل ن‬
‫ف فيه بوجده من الوجوه‪،‬‬ ‫فقد قال عنها بع ت‬
‫ول تعارض‪ ،‬ول تناقض()‪.(4‬‬

‫‪ ()1‬تفسير القرآن العظيم القرطبي‪ ،‬مجلد ‪ ،5‬ص ‪.105‬‬


‫‪ ()2‬تفسير القرآن العظيم للقرطبي‪ ،‬مجلد ‪ ،5‬ص ‪.285‬‬
‫‪ ()3‬تفسير القرآن العظيم للقرطبي‪ ،‬مجلد ‪ ،6‬ص ‪.162‬‬
‫‪ ()4‬صفوة التفاسير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.78‬‬

‫‪126‬‬
‫أما عن معاني العروبة في سورة "الشورى"‪} :‬وكذلك أوحينا إليك قرآن ا عربيياا{)الشورى‪(7:‬‬
‫فقد قيل فيها‪) :‬أي وكما أوحينا إليك وإلى من قبلك هذه المعاني؛ فكذلك أوحينا إليك قرآن ا‬
‫عربييا بييناه بلغة العرب()‪.(1‬‬
‫وعن معناها الوارد ذكره في سورة "الزخرف" }إنا جعلناه قرآنا عربييا لعلكم تعقلون{‬
‫)الزخرف‪ (3:‬قال بعض المفسرين‪) :‬أي أنزلناه بلسان العرب‪ ،‬لن كيل نبيي تأنزل كتاتبه بلسامن‬
‫قومه‪ .‬قاله سفيان الثوري وغيره‪ .‬قال مقاتل‪ :‬لساتن أهل السماء عربيي()‪.(2‬‬
‫ب مصيدمق لسانا عربييا لينذر الذين ظلموا{)الحقاف‪ (12:‬فقد‬ ‫أما الية الكريمة }وهذا كتا م‬
‫ب قبله‪ ،‬بلسادن عربيي فصيح‪،‬‬‫ب عظيتم الشأن‪ ،‬مصدمق للكت م‬ ‫جاء في تفسيرها‪) :‬وهذا القرآن كتا م‬
‫فكيف ينكرونه وهو أفصتح بياناا‪ ،‬وأظهتر برهاناا()‪(3‬‬
‫وجاء فيها كذلك قولهم‪) :‬أي فصيحا بيـنن ا واضحاا()‪..(4‬‬
‫وإذا ما رحنا نتميلى فيما سبق من تفسيدر لليات التي تحدثت عن معنى العروبة في القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬فسنجتدها جميعا قد تحدثت عن المعاني القريبة المباشرة للفظة "عربيي" والتي تطال‪:‬‬
‫جنسية النبيي محمد صبى ال عليه وسلمم‪ ،‬الجنسية اللغوية للعرب‪ ،‬وتنيزل كيل كتاب سماوي‬
‫بلسان القوم الذين نتـيزل إليهم‪ ،‬وتنزل القرآن ‪،‬من ثم‪ ،‬بالعربية‪..‬‬
‫لكن‪ ..‬هل هذا كله هو ما أراد القرآن أن يخبرنا به؟‪..‬‬
‫ولو كان هذا هو كل ما أريد الخبار به؛ فلم كل هذا التكرار في شأن حقائق بسيطة ومباشرة‬
‫يدركها النسان العادي‪ ،‬حتى وإن كان طفلا في السادسة من عمره؟!!‪..‬‬

‫‪ ()1‬تفسير القرآن العظيم للقرطبي‪ ،‬مجلد ‪ ،8‬ص ‪.7‬‬


‫‪ ()2‬تفسير القرآن العظيم للقرطبي‪ ،‬مجلد ‪ ،8‬ص ‪.57‬‬
‫‪()3‬صفوة التفاسير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.195‬‬
‫‪()4‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.200‬‬

‫‪127‬‬
‫ليسمح لنا القارئ الكريم بأن يظيل هذا السؤاتل تمعلق ا دون إجابة إلى أن نتعرف على حال‬
‫العرب والعربيية قبل تنزل القرآن؟!‪..‬‬

‫ب والعربيية قبل تنيزل القرآن‬


‫العر ت‬
‫بعد تناولنا لمفهوم "العروبة" في القرآن الكريم ‪،‬حسب أقوال بعض المفسرين‪ ،‬يمكننا الن‬
‫أن نحدد لنفسنا قاعداة آمنةا نرتكز عليها خلل رحلتنا في التعامل مع اليات الكريمة السابقة؛‬
‫وتسمح لنا ‪،‬في الوقت نفسه‪ ،‬بمزيدد من الستقراء لمعاني "العروبة" في القرآن الكريم‪ .‬ولنفترض‬
‫بدايةا أن هذه القاعدة يمكن أن تنص على ما يلي‪) :‬إن البحث عن معادن إضافية للفاظ القرآن‬
‫الكريم يجب أل يكون هدفه ‪،‬بأي حال من الحوال‪ ،‬نفلي المعاني الخرى الواردة في التفاسير‬
‫المختلفة‪ ،‬ول نفلي المعاني القريبة التي يذهب إليها الذهتن ابتدااء‪ ،‬بل إن هدفه هو استدعاء‬
‫المزيد من المعاني البعيدة‪ ،‬التي نظن أن اللفظ القرآني يمكن أن يحتملها ويتسع لها( وهو ما‬
‫قصدناه لدى حديثنا عن "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم"‪..‬‬
‫وإذا ما استقر بنا المتر على هذا المبدأ؛ جانز لنا حينها أن نسأنل أنفنسنا‪ :‬وهل للعروبة في‬
‫القرآن معادن أخرى يمكن أن تذهب إلى ما هو أبعد من معانيها القريبة التي تعيرضنا لها؟!‪...‬‬

‫‪128‬‬
‫ض بسيدط لما كان يعنيه كمل من‬
‫لنحاول الجابة على هذا التساؤل من خلل استعرا د‬
‫ب‬
‫مصطلحويي "العروبة" و"العربيية" على أرض الواقع قبل تنيزل القرآن الكريم‪ ..‬حيث كان العر ت‬
‫قبل تنيزله قد بلغوا مبلغا من الفصاحمة والبلغمة لم تيعرف في تاريخهم من قبل؛ فكانوا )قد أطالوا‬
‫شوعنر وافتينوا فيه‪ ،‬وتوافى عليه من شعرائممهم أفرامد معدودون‪ ،‬كان كرل واحدد منهم كأنه عصمر من‬
‫ال ي‬
‫ض عليه من الصبمغّ والرونق()‪.(1‬‬
‫ضه ومعانيه‪ ،‬وما نف ن‬ ‫تاريخه‪ ،‬بما زاد في محاسنمه وابتد ن‬
‫ع من أغرا م‬
‫ولم تكن حالةت اللغة العربيية في ذلك الوقت حالةا عادياة؛ بل تجاوزت ذلك لتكون في أفضمل‬
‫حالمتها حتى في العصور التي تلت ذلك‪ ،‬والتي بلغّ مجتد العرب فيها شأوا بعيدا )ولما تبعث‬
‫فيهم محمد)صلى ال عليه وسلم( وخاطبهم بالقرآن كانوا في مستوى بياندي رفيع؛ بل كانوا في أرفع‬
‫ب في عهد المويين‬ ‫مستوى في البيان والفصاحة والبلغة؛ لم يصله أحفاتدهم في عصومر الد م‬
‫والعباسيين والندلسيين والمماليك()‪.(2‬‬
‫والعلم ‪،‬بتاريخ العرب وأدب لغتهم )قبل البعثة النبوية الشريفة( يزيدنا معرفةا بحقيقة ما كانت‬
‫عليه تلك اللغة من رفعدة وسميو‪ ،‬إذ وصلت العربيية إلى قمة التهذيب في لسامنها‪ ،‬وجمعت خينر‬
‫ب جداول الفصاحة‪ ،‬وإدارة‬ ‫ب والمفاخرة بالشعر والنثر‪ ،‬حتى انتهى مص ت‬ ‫لهجامتها من أسوامق الد م‬
‫الكلم بالبيان؛ في لغة)‪ (3‬قريش‪.‬‬

‫‪ ()1‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.205‬‬


‫‪ ()2‬البيان في إعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫‪ ()3‬يجدر أن يكون واضحا أن كثيرا من المواضع التي وردت فيها كلمة "لغة" في هذه الدراسة إنما قصدنا من‬
‫ورائها معنى "اللهجة"‪ ،‬وليسّ ما نتداوله اليوم من دللتها على لغة كاملة مستقلة كاللغة‬
‫العربية‪،‬النجليزية‪،‬والفرنسية‪.‬الخ‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫ولعل كيل تلك المسيرة إنما كانت تهيئِةا للنبأ العظيم الذي يوشك أن ترتيج له أنحاءت الجزيرة‬
‫ث في تاريخ العرب وآدابهم؛ وينفتذ إلى‬‫العربيية‪ ،‬وتمرتكزا لظهار إعجازه وارتفاعه )وكل من يبح ت‬
‫ذلك من حيث تنفتذ الفطنة‪ ،‬وتتأتى حكمةت الشياء؛ فإنه يرى كيل ما سبق على القرآن من أممر‬
‫الكلمم العربيي وتاريخه إنما كان توطيدا له‪ ،‬وتهيئِةا لظهوره‪ ،‬وتناهيا إليه‪ ،‬وتدربةا لصلحهم به‪،‬‬
‫وليسّ في الرض أمةم كانت تربيتها لغويةا غير أهل هذه الجزيرة‪ ...‬ثم كان لهم من تهذيب اللغة‪،‬‬
‫ت ما جعل‬ ‫واجتماعهم على نمط من القرشية يرونه مثالا لكمال الفطرة‪ ،‬وأوخمذهم في هذا السم م‬
‫و‬
‫ضها تناكمر في اللغة‪ ،‬فقامت‬
‫ف من اللسان‪ ،‬ول يعتر ت‬ ‫الكلمة نافذاة في أكثمرهم؛ ل يصيدها اختل م‬
‫فيهم بذلك دولةت الكلم‪ ،‬ولكنها بقيت بل ملك حتى جاءهم القرآن()‪.(1‬‬
‫لكن هل يعني ذلك كمالا مطلق ا للعربيية في ذلك الوقت؟‪ ..‬وهل عنى تطابق ا كاملا بين لغة‬
‫العرب )أو لغاتهم بتعبير أصح( وبين لغة القرآن الكريم التي تنيزل بها فيما بعد؟!!‪..‬‬

‫عروبة؟‪ ..‬لكن بأي معنى؟!‬

‫‪ ()1‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.205‬‬

‫‪130‬‬
‫للجابة على هذا السؤال لبد من تناول هذا الموضوع من نفسّ الزاوية التي بدأنا منها‪ ،‬زاوية‬
‫ض‪" :‬إمكانية تعدد المعاني للفمظ الواحد"‪ ،‬وإذا ما اتخذنا لنفسنا هذا المنحى؛ فإننا سنجد‬ ‫تفتر ت‬
‫لزاما علينا التفريق بين معنيين مختلفين من معاني العروبة‪:‬‬
‫الول‪ :‬هو العروبة بمعناها "البشري" "القومي" وهو معناى "نسبي" أقرب ما يكون إلى معاني‬
‫الكمال البشري‪ ،‬لكنه ‪،‬وبدون أدنى شك‪ ،‬لم يكن نموذج ا مطلق ا للكمال؟!!‪.‬‬
‫أما المعنى الثاني‪ :‬فهو العروبة بمعناها "القرآني"‪ ،‬والذي يمثتل ‪،‬حسب اعتقادنا‪ ،‬الحيد‬
‫"المطلق" من حدود المعاني الممكنة لهذا اللفظ)‪ ،(1‬وهو وفق هذا التصور يبتعد ابتعادا كبيرا‬
‫عما نعرفه من المعاني النسبية للعروبة‪.‬‬

‫‪ ()1‬إن جوهر ما نتحدث عنه هنا هو‪ :‬ما يمكن أن نطلق عليه "النسبية"‪ ،‬والتي تعني اشتمال اللفظ الواحد على‬
‫مجموعة من المعاني المتدرجة في قيمتها‪ ،‬والتي يمكن أن تتراوح بين الحيد الدنى والحد العلى من حيث المعنى‪،‬‬
‫ويمكن الرجوع إلى المعاني المحتملة للفظ في في معجمات اللغة‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫ووفق هذا التصنيف؛ فإن العربيية الولى )والتي كانت موجوداة قبل البعثة المحمدية( لم‬
‫تتطابق تطابق ا كاملا مع لغة القرآن‪ ،‬سواءا من ناحيتي الكيم )عدد المفردات( أو الكيف‪ .‬وتيعتبتر‬
‫القرآتن الكريم النموذج الشيد وضوحا في تجسيده للحالة الثانية )اللغة بمعناها المطلق( إذ‬
‫امتازت هذه اللغة )العربية القرآنية( ‪،‬دون غيرها‪ ،‬بخاصية العجاز في ذاتها‪ ،‬سواء أعلمنا‬
‫بحقيقة ذلك التميز أم لم نعلم!‪.‬‬
‫من هنا؛ يمكن لنا أن نفهم ماهية السير الذي اكتنف مسألة وقوف العرب )وهم أهل العربيية(‬
‫أمام الظاهرة القرآنية وهم عاجزين مبهوري النفاس؛ ل يدركون لتلك الظاهرة تعليلا أو تفسيراا‪،‬‬
‫وقد كانت حالةت العجمز التي أصابتهم مؤشرا ذا مغزى؛ ل على عجز النسان فحسب‪ ،‬بل على‬
‫ب عن معارضمة القرآن مع توفر الدواعي؛ عجمز للغمة العربييمة في‬‫عجز اللغة أيضاا‪) :‬وعوجتز العر م‬
‫ريعامن شبابها‪ ،‬وعنفوان قوتها(!!)‪..(1‬‬

‫‪ ()1‬مباحث في علوم القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.292‬‬

‫‪132‬‬
‫من هنا يجب الحذر من اعتقادد خاطدئ مفاده أن القرآن الكريم كان إعجازا وتعجيزا للعرب‬
‫وحدهم‪ ،‬فحقيقة الممر أنه كان إعجازا وتعجيزا لهم وللغتهم في الوقت ذاته‪ ،‬والتي إن قيدر لها‬
‫‪،‬في ذلك الوقت‪ ،‬أن تبلنغّ حيد الكمال في الستجابة لغراض التعبير البشري؛ إل أنها كانت‬
‫‪،‬بل شك‪ ،‬قاصراة عن الستجابة لتحدي التيان بن د‬
‫ص يماثتل نص القرآن الكريم أو يشابهه!!‪.‬‬
‫وصحيمح قولنا‪ :‬إن لغة القرآن الكريم كانت عربيية‪ ،‬لكن الكثر صحةا ألن لغة القرآن الكريم‬
‫كانت )في تفاصيلها الدقيقة( بعيداة كيل البعد عن عربيية العرب في ذلك الوقت‪ ،‬وكثيرا ما غابت‬
‫هذه الحقيقة عن أذهاننا نتيجةا لعدم تفريقنا بين وجهين من وجوه العربيية هما‪ :‬العربيية البشرية‬
‫)ببعدها النسبي(‪ ،‬والخر الرباني )بأبعاده المطلقة(‪ .‬والخير يعني وجود كيان متميز للعربيية‬
‫ف تمام الختلف عن العربيية بوجهها البشري المعروف‪.‬‬ ‫يختل ت‬
‫ل)‪...(1‬؟!‪.‬‬
‫والعربيية بمعناها المطلق تعني وجه ا آخر هو أشيد مقدراة وأكثر تكاملا وجما ا‬
‫ليسّ اختلفا في التركيب فحسب؟!‬

‫‪ ()1‬لعلنا في اعتبارنا لوجود عربية بأبعادد مطلقدة تتجاوز العربية البشرية نكون قد ذهبنا نفسّ المذهب الذي ذهب‬
‫إليه أبو القاسم حاج حمد في "العالمية السلمية الثانية" حين طبق نفسّ المعايير على التاريخ النساني فقال‪:‬‬
‫)مفهوم الحركة في التاريخ البشري ل تستوي خصائصه المرحلية في القرآن على التعاقبات الطبقية المتولدة عن‬
‫بعضها عبر منهجية الصراع كما هو الحال في تجربة الحضارة الوروبية‪ .‬بل تستوي كأشكال دائرية بدءا من‬
‫الشكل "الفردي" إلى الشكل "القومي" إلى الشكل "العالمي"‪ .‬أي أن التطور البشري يمر عبر هذه المراحل‬
‫الثلث‪ .‬المرحلة الولى هي المرحلة الدمية‪ ،‬والمرحلة الثانية هي المرحلة السرائيلية‪ ،‬والمرحلة الثالثة هي المرحلة‬
‫العربية خارج معنى اللفظ القومي )أي خارج ما يعنيه المعنى الصطلحي للعروبة(‪) .‬العالمية السلمية الثانية‪ ،‬لبي‬
‫القاسم حاج حمد‪ ،‬دار المسيرة‪ ،‬ص ‪.(105‬‬

‫‪133‬‬
‫لقد اعتقد البعض أن تمييـنز "عربيية القرآن" )بحدودها المطلقة( عن "عربيية العرب" )بحيدها‬
‫النسبيي( إنما يكمن ‪،‬فقط‪ ،‬في الروح التركيبية )الكيفية( التي ميزت النص القرآني على الدوام‪،‬‬
‫والتي‪) :‬لم تتعرف قط في كلدم عربسي غير القرآن‪ ،‬وبها انفرد نظتمه‪ ،‬وخرج مما تيطيقه الناس‪،‬‬
‫ولولها لم يكن بحيث هو‪ ،‬كأنما توضع جملةا واحداة ليسّ بين أجزامئها تفاو م‬
‫ت أو تباين‪ ،‬إذ تراه‬
‫ب إلى نظمم الكلممة وتأليفها‪ ،‬ثم إلى تأليف هذا النظم ‪ ...‬وخرج معنى تلك الروح‬ ‫ينظتر في التركي م‬
‫صفةا واحداة هي صفة إعجازه في جملة التركيب()‪..(1‬‬
‫ونتيجةا لتشابه)‪ (2‬أوليات التركيب )الحروف والكلمات( بين وجهي العربية )الرباني‬
‫والبشري(؛ فقد نشأ عن ذلك اعتقامد ‪،‬نحسبه خاطئِاا‪ ،‬مفاده أن اللغتين في كلتا الحالتين هي‬
‫واحدة؛ وبأن الفارق الوحيد بين الوجهين إنما يكمن في الناحية التركيبية فحسب‪ ،‬وموطن الخطأ‬
‫في ذلك هو اعتقادهم بأن‪) :‬اللغة التي نزل بها القرآتن معجزا قادرةم ‪،‬بطبيعتها‪ ،‬أن تحتمل هذا‬
‫القدر الهائل من المفارقة بين كلمين‪ :‬كلمم هو الغايةت في البيان فيما تطيقه القوى البشرية ‪،‬وهو‬
‫كلم العرب‪ ،‬وكلمم يقطع هذه القوى البشرية ببيادن ظاهر المباينة له من كيل الوجوه‪ ،‬ويعجزها‬
‫عن معارضته‪ ،‬وهو كلم ال‪...(3)(...‬‬
‫ووفق ذلك العتقاد ‪،‬الذي ل نؤيده‪ ،‬فقد تم القفز عن حقيقة التشكيل المعجز للغة القرآن‬
‫بذاتها‪ ،‬وتميزها عن الوجه الخر للعربيية )ببعدها البشري( سواءا من حيث الكم أو الكيف‪..‬‬

‫‪ ()1‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.325‬‬


‫‪()2‬حيث الحروف هي نفسّ الحروف‪ ،‬والكلمات والساليب تكاد تكون هي نفسها‪.‬‬
‫‪ ()3‬البيان في إعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.91‬‬

‫‪134‬‬
‫وتكشف هذه المفارقة )العتقاد بتطابق العربييتين( جانب ا من الجوانب التي لم يتم التعامل‬
‫صين ‪،‬القرآني والبشري‪ ،‬إل من‬
‫معها بالقدر الكافي من الهتمام‪ ،‬حيث لم يتم التمييز بين الن ي‬
‫حيث اختلف النواحي التركيبية والكيفية بينهما؛ دون اللتفات إلى حقيقة أن تلك الفوارق ل‬
‫تقتصر على الناحية )التركيبية( فحسب؛ بل تشتمتل ‪،‬كذلك‪ ،‬على فوارق تمسّ الجوانب الكميية‬
‫)من حيث عدد اللفاظ ونوعيتها(‪ .‬وتمسّ كذلك الجوانب النوعية )من حيث الساليب()‪(1‬‬
‫في كسل منهما‪..‬‬
‫من هنا يتضح لنا عدتم دقة ما تم تداوله؛ من أن القرآن الكريم قد جاء فعلا بلغدة كانت‬
‫موجوداة ‪،‬بكل تفاصيلها‪ ،‬في حياة العرب! ويتضح لنا كذلك ضرورة إعادة النظر في تلك‬
‫المقولة لتفيد أن "عربية القرآن هي عربية العرب لكن على وجه الجمال"‪.‬‬
‫إننا نعتقد بأين دراسة تلك الحقيقة بشكل مفصل يمكن أن تيريسنخ حقيقةن وجود فوارق بين‬
‫العربيية التي تنيزل بها القرآن الكريم وبين عربيية العرب‪ ،‬وأن تمييـنز كلمم ال عيز وجيل عن كلم‬
‫العرب آنذاك لم يكن كامنا ‪،‬فقط‪ ،‬في جوانبه البيانية والتركيبة‪ ،‬بل تيضاف إلى ذلك تميزه من‬
‫حيث النواحي الكمية أيضا‪ .‬وبغرض البرهان على تلك الحقيقة فلنعود إلى نفسّ السؤال‪ :‬هل‬
‫تنيزل القرآن الكريم ‪،‬حقاا‪ ،‬بلغدة كانت موجوداة ‪،‬بكل تفاصيلها‪ ،‬في حياة العرب؟!‪..‬‬

‫أية عربيية تلك التي كانت قبل القرآن؟!‬


‫من النبديمهيي القول أن القرآن الكريم قد تنيزل باللغة العربيية‪ ،‬وأن العربيية هي لغةت العرب‪ ،‬وما‬
‫من عاقل ينكتر تلك الحقيقة!‪ ..‬لكون دعونا نتساءل عن‪ :‬ماهيية اللغة التي نكتب أو نتحدث بها‬
‫اليوم؟‪ ..‬وعندها سوف يجيبنا البعض‪ :‬إنها العربيية الفصحى!!‪ .‬ولو أعدنا السؤال مراة أخرى؛‬
‫لريد علينا البعض‪ :‬نحن نتكلم بلغة القرآن؟!‪..‬‬

‫‪ ()1‬نشير هنا إلى بعض ما جاء به القرآن الكريم وكان مخالف ا لما تعارفت عليه العرب من أساليب اللغة )وكم من‬
‫قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثيمر منهم ولم تيعتبر إنكاترهم‪ ،‬كإسكان }بارئكم{ و }يأمركم{ وخفض‬
‫}والرحام{ ونصب }ليجزي قوما{ والفصل بين المضافين في }قتل أولدهم شركائهم{ وغير ذلك() مباحث في‬
‫علوم القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.(191‬‬

‫‪135‬‬
‫فإن كينا نحن اليوم نتكلم باللغة التي تنيزل بها القرآن الكريم؛ فهل كان العرب قبل البعثة‬
‫المحمدية يتكلمون نفسّ اللغة؟!‪.‬‬
‫ب قبائنل متفرقاة‪ ،‬وكانوا يتكلمون لغةا يطلقون عليها "العربيية"‬
‫قبل مجيء السلم كان العر ت‬
‫ف فيما بينها‪ ،‬والختلف بين لسان قبيلة‬ ‫لكين القبائنل العربييةن المختلفةن كانت تمتلك ألسنةا تختل ت‬
‫وأخرى كان يمكن أن يضيق أو يتسع‪ ،‬فيتشابه لسامن مع آخر‪ ،‬حتى تكاد تكون الفوارق بينهما‬
‫ت للعربيية بصلة!‬
‫ف بين اللسانين حتى ليتظنلن أن واحدا منهما ل يتم ت‬
‫ل تذكر‪ ،‬وقد يتستع الختل ت‬
‫…‬
‫لكين ذلك التباين بين ألسنة القبائل العربية ولهجاتها لم يمنع من أن يكون لها )للقبائل( من‬
‫ب العرب في شبه الجزيرة العربيية‪ ،‬وكان للسانها )أي‬
‫ش هي قل ت‬
‫يتصدتر صفوفها‪ ،‬فكانت قري ت‬
‫لهجتها( الصدارة بين ألسنة العرب جميعاا‪ ،‬فكأنها القاسم المشترك بين تلك اللسنة جميعها‪.‬‬

‫لغة مشتركة‬
‫ولقد هيأت عدةت عوامل دينية وتاريخية لقريش وللسانها أن يكونا على مثل تلك الهمية‪،‬‬
‫ف‬‫وكان من أهم تلك العوامل‪ :‬جواتر البيت‪ ،‬وسقايةت الحاج‪ ،‬وعمارةت المسجد الحرام‪ ،‬والشرا ت‬
‫ب للغات العرب جميعاا‪ ..‬ولم‬ ‫ش بمنزلمة ال م‬
‫على التجارة‪ ..‬لجل ذلك؛ فقد أتنومزلت لهجةت قري د‬
‫ش ذاتتها‪ ،‬فقد كانت قريش‬‫يكن ذلك النزال ليتيم بغير ما سندد من خصائص امتازت بها لغةت قري د‬
‫ت رديئِدة‬
‫أفصح العرب ألسناة‪ ،‬وأخلصهم لغاة‪ ،‬وأعذبهم بياناا‪ ،‬وقد ارتفعت )قريش( عن لهجا د‬
‫ت‬‫ت بذلك لغتتهم؛ بل أصبحت قاسما مشتركا يجمع شتا ن‬ ‫سلمنم و‬ ‫اعترضت في مناطق العرب؛ ف ن‬
‫العرب في ذلك الوقت‪..‬‬

‫‪136‬‬
‫وقد كان للعامل الديني أبلنغّ الثمر في جعمل لغمة قري د‬
‫ش لغةا مشتركةا لكل القبائل العربيية؛ لكنه‬
‫لم يكن عاملا وحيدا في تشكيل تلك الهمية‪ ،‬فالعامل القتصادي ‪،‬كذلك‪ ،‬كان له دومر هام‪:‬‬
‫إذ )كان القرشيون يتمتعون بسلطادن اقتصاددي كبير؛ لنهم كانوا من أمهمر العناصر العربيية‬
‫ي‬
‫ط التجار ر‬‫وأنشمطها‪ ،‬وفي يدهم جزءم كبيمر من تجارة الجزيرة العربيية‪ ،‬وقد أتاح لهم هذا النشا ت‬
‫ثراءا كبيراا؛ بحيث تسنى لهم احتضان الدين‪ ..‬المر الذي أعطاهم سلطان ا سياسي ا قوياا‪ .‬لهذا‬
‫كله فقد كانت اللغةت القرشيةت أقوى اللغا م‬
‫ت أثرا في تكيون اللغة العربيية المشتركة()‪.(1‬‬
‫ويتحدث علماء اللغة)‪ (2‬عن "عوامل قيام اللغات المشتركة"‪ ،‬وتيرجعون ذلك إلى‪ :‬التفوق‬
‫السياسي؛ والديني؛ والقتصادي؛ والدبي؛ والجتماعي‪ ..‬ويضربون لذلك مثلا باللغة العربيية‪،‬‬
‫ف فيما بينها في كثيدر من‬‫ت كثيردة‪ ،‬تختل ت‬
‫فقد انقسمت اللغة العربية منذ أقدم عصورها إلى لهجا د‬
‫ي‬
‫الظواهر الصوتية والدللية‪ ،‬كما اختلفت في مفرداتها وقواعدها؛ تبع ا للقبائل المختلفة التي‬
‫تنـتنمحتد ظروتفها الطبيعيةت والجتماعيتة؛ أو حسب تباين تلك الظروف‪ ،‬وهم يعتقدون ‪،‬أي علماء‬
‫اللغة‪ ،‬بأن بروز لغدة مشتركدة )كلغمة قريش( بين تلك القبائل؛ إنما جاء نتيجةا لفرص الحتكاك‬
‫الكثيرة‪ ،‬من تجاومر تلك القبائل‪ ،‬وتجارةد فيما بينها‪ ،‬وتنـننـتقملها في طلب الكل والمرعى‪ ،‬أو‬
‫تجمعها في مواسم الحج‪ ،‬والمعاملت التجارية في السواق‪ ،‬واللقاء في الحروب الهلية‬
‫والغزوات وأيام العرب‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ..‬وعندما اشتبكت تلك اللهجات في صرادع لغودي؛ كان‬
‫صها من لهجمة قريش؛ تلك اللهجة التي تفوقت على‬
‫النصر فيه للغدة مشتركدة استمدت أبرنز خصائم م‬
‫سائر اللهجات الخرى‪ ،‬فأصبحت لغةن الدب؛ بمشوعمره ونثره‪ ،‬ولغةن الدين‪ ،‬ولغةن السياسة‬
‫والقتصاد‪.‬‬

‫‪ ()1‬المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪ ،‬د‪ .‬رمضان عبد التواب‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1985،‬ص ‪168‬‬
‫بتصرف‪.‬‬
‫‪ ()2‬المدخل إلى علم اللغة ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.167‬‬

‫‪137‬‬
‫ومن الهمية بمكان أن نذكر هنا أن لسانن قريش إنما كان القرب )من بين ألسنمة العرب‬
‫جميعاا( إلى مفهومنا الحاضر حول "العربيية الفصحى" بحيث باتت لغة قريش تعتبر )على وجه‬
‫الجمال( رديفا للغة العربيية‪ ،‬ولعل تلك الصالة اللغوية ‪،‬التي حافظ عليها لساتن قريش‪ ،‬ترجتع‬
‫في كثيدر من أسبامبها إلى الظروف الجغرافية التي عاشت عليها قريش‪ ،‬فقد ترعرعت بوادد غمير ذي‬
‫زردع‪ ،‬مكين لها المحافظةن على أصالمة اللغة‪ ،‬فلم تفقد لغةت قريش ما تفقده اللغا ت‬
‫ت ‪،‬عاداة‪ ،‬من‬
‫طبائع لغاتها بالختلط مع القوام الخرى‪..‬‬
‫ض والعامنل المشترك بين القبائل العربيية‬
‫ب الناب ن‬
‫من هنا؛ وكما أن قريشا قد ميثلت القل ن‬
‫جميعها؛ فقد مثيل لساتنها الحيد الدنى الذي أمكن للقبائل العربيمة أن تجتمع عليه‪ ،‬ومثلل في‬
‫الوقت ذاته الحيد العلى مما يمكن تسميته باللغة العربيية لكن ببعدها "النساني" و"البشري"‪..‬‬
‫وهنا يتأكتد لنا واضح ا ما ذهبنا إليه من أن تنيزل القرآن الكريم بلغة قريش؛ إنما تيقصد به ‪،‬في‬
‫حقيقة المر‪ ،‬القول‪) :‬على الغلب( ول يعني انطباق لغة قريش على اللغة العربيية الفصحى‬
‫انطباقا كاملا )أو العكسّ( يؤكد هذا المر ما ذكره ابن عبد البر في "التمهيد"‪) :‬قول من قال‪:‬‬
‫نزل القرآن بلغة قريش‪ ،‬معناه عندي‪" :‬في الغلب"؛ لن لغةن غيمر قري د‬
‫ش موجودةم في جميع‬
‫القرآن‪ ،‬من تحقيمق الهمز ونحوه‪ ،‬وقري ت‬
‫ش ل تهمز(!)‪.(1‬‬

‫نعم بلغة قريش‪ ...‬ولكن؟!‬

‫‪ ()1‬البرهان للزركشي‪) ،‬هامش المدخل لعلم اللغة‪ ،‬للدكتور رمضان عبد الوهاب‪ ،‬ص ‪.(58‬‬

‫‪138‬‬
‫ب للعربيية الفصحى التي نعرفها اليوم‪ ،‬والتي يمثلها‬
‫إذون فلساتن قريش‪ ،‬كان اللسانن القر ن‬
‫القرآتن الكريتم خينر تمثيل‪ ،‬لكين هذا التقارب الكبير بين لغة قريش واللغة العربيية الفصحى )التي‬
‫تنيزل بها القرآن الكريم فيما بعد( يجب أل ينسنينا حقيقةن أن لغة قريش‪ ،‬وعلى الرغم من اقترابها‬
‫الكبير من اللغة العربيية بمفهومها المعروف لنا اليوم إل أنهما ل تتطابقان مع بعضهما تطابقا‬
‫ت بما كان موجودا‬ ‫ل! بل ينبغي التشديد هنا على حقيقة أن القرآن الكريم عندما تنيزل لم يأ م‬
‫كام ا‬
‫عند قريش وحدها؛ بل جاء ‪،‬أيضا‪ ،‬ممثلا للعديد من لهجات العرب وألسنتها‪ ،‬وقد تممثلت تلك‬
‫ت كبيدر بين هذه اللغة‬‫اللهجات في القرآن الكريم بالعديد من مفرداتها وألفاظها؛ لكن بتفاو د‬
‫وتلك‪ ،‬وقد كانت لهجةت قريش الوفر حظا من بين لهجات العرب جميعاا‪ ،‬وما لم يكن موجوادا‬
‫في لغة قريش كان موجودا عند غيرها من العرب‪ ،‬وهكذا كان‪.‬‬

‫لغات)‪ (1‬العرب والعربيية الفصحى‬


‫عندما نطلتق هذه التسمية )أي‪ :‬لغة الفصحى( على اللغة العربيية فإن ما نقصده هو ذلك‬
‫اللسان الذي نزل به القرآن الكريم‪ ،‬والذي جاء به الحديث الشريف‪ ،‬والشعر الجاهلي كذلك‪،‬‬
‫وهو اللسان ‪،‬عينه‪ ،‬الذي ل نزال ‪،‬حتى اليوم‪ ،‬نتختذ منه لسانن أد د‬
‫ب وعلدم ودين‪..‬‬
‫وقد تتدعى اللغةت الفصحى في كثيدر من الحيان‪ ،‬بـ "القرشية" لغلبة خصائص قريش عليها‪.‬‬
‫ف‬
‫كما تتسمى أحيان ا أخرى بـ "الحجازية" وذلك لن عامةن القبائل الحجازية لم تكن تختل ت‬
‫ش في شيدء تيذكر‪..‬‬‫لهجاتتها عن لهجمة قري د‬

‫‪ ()1‬عندما نطلق مصطلح "لغة" هنا فإننا نقصد المعنى الذي كان سائدا قديماا‪ ،‬ويمكن أن نطلق عليه )اللسان(‬
‫كذلك‪ ،‬وهو مصطلمح يقابتل في معناه مصطلح "اللهجة" المتداول في أيامنا‪ ،‬ول نقصد به اللغة بمعناها المعاصر‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫لكن هل العربيية الفصحى التي تجمعنا اليوم هي لغة قبيلدة معيندة من قبائل العرب؟‪ ..‬والجواب‬
‫هو بالنفي‪ ،‬فعربييتنا الفصحى اليوم ليست لهجةن قبيلدة بعينها‪ ،‬بل هي مزيمج لطي م‬
‫ف من اختيادر أنيدق‬
‫ت عربييدة كثيردة‪ ،‬أهمها؛ القرشية )الحجازية( والتميمية‪ ،‬وقد كان مما تمييزت به‬
‫لخصائص لهجا د‬
‫ش وأهل الحجاز أنهم كانوا ل ينبرون )أي‪ :‬ل يهمزون( في كلمهم‪ ،‬وذلك عكسّ ما‬ ‫لغةت قري د‬
‫كانت عليه القبائتل النجدية؛ كقبيلة "تميم"‪.‬‬
‫ت وتضخيممها‪ ،‬على حين كانت‬ ‫ظ ‪،‬كذلك‪ ،‬أن تميم ا كانت تميل إلى تفخيمم الصوا م‬ ‫ويلح ت‬
‫ت‬
‫قريش تميتل إلى ترقيمقها‪ ،‬وهذا الختلف أثمر من اختلف البيئِتين البدوية والحضرية‪ ،‬ففي لغة‬
‫أهل الحجاز كانت كلمة "ساق" تتنطق )بالسين( بينما تلفظ في لغة تميم ‪ :‬صاق )بالصاد( وقد‬
‫جاءت الفصحى لتتوافق مع لغة أهل الحجاز ولتستقر على "ساق" في لفظها‪.‬‬
‫وبعد هذا الستطراد حول مفهوم "العربيية الفصحى" وعلقته باللهجات )اللغات( العربيية‬
‫التي كانت موجوداة قبل تنيزل القرآن؛ فإننا )وابتداء من هذه النقطة( يمكننا أن نستقر على‬
‫حقيقة وجود وجهين مختلفين من وجوه اللغة العربيية‪.‬‬
‫الول‪ :‬وهو العربيية ببعدها المطلق وبمعناها الغيبي القرآني‪.‬‬
‫أما الخر‪ :‬فهو العربيية ببعدها النسبي وبمعناها البشري‪ ،‬القومي‪ ،‬والنساني‪..‬‬
‫ومن الواضح لنا الن أن لهجات العرب جميمعها ‪،‬والتي كانت موجوداة زمن تنيزل القرآن‪ ،‬إنما‬
‫هي عبارة عن أجزاء من كيل واحدد يمثل المعنى الشمل للعروبة‪ ،‬بتفاوت في كمبنمر تلك الجزاء أو‬
‫صغرها‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫عودةم إلى الصل؟!‪..‬‬
‫إن ما أصبح واضح ا لنا الن هو أن القرآن الكريم عندما تنيزل على محمد)صلى ال عليه وسلم(‬
‫إنما كان يعيتد التلحم للغة العربيية بواقعها التجزيئِي القبلي والبشري الذي كان سائدا آنذاك؛‬
‫ب إلى أصملها القرآني‪ ،‬ذلك التلحم الذي أفلح ‪،‬فيما‬ ‫د‬
‫وذلك تمهيدا لعادتها إلى صورة هي أقر ت‬
‫بعد‪ ،‬في القضاء على عصبية اللسان عند قبائل العرب‪ .‬وهناك دلئتل كثيرةم تشيتر إلى أن اللغة‬
‫العربيية التي تنيزل القرآن الكريم بها؛ إنما كانت رابط ا جامع ا بين اللهجات التي كانت موجوداة‬
‫آنذاك‪ ،‬حيث صارت تلك اللهجات فيما بعد )"عناصر لغوية" تنتسب إلى قبائل معينة وقد‬
‫ى من الفصاحة مقرمر ومعروف()‪...(1‬‬
‫دخلت اللغة الموحدة‪ ،‬وأصبح لها مستو ا‬

‫‪ ()1‬فقه اللغة في الكتب العربيية‪ ،‬د‪ .‬عبده الراجحي‪ 1974،‬ص ‪.110‬‬

‫‪141‬‬
‫ومن الثابت أن القرآن الكريم كان انتقائي ا في تعامله مع تلك اللغات )اللهجات( إذ لم تكن‬
‫لغات العرب متساويةا في حجم مساهمتها في الكيان اللغوي الجديد )لغمة القرآن(؛ إل أن‬
‫مساهمة لغة قريش كان لها اليد الطولى في هذا المجال؛ إلى الدرجة التي صيح معها القول أن‬
‫القرآن الكريم قد تنيزل بلغة قريش!‪ .‬والعلماء يذكرون أن لكثر هذه اللغات في القرآن الكريم‬
‫الكلمة والكلمتين إلى الكلمات القليلة!!‪.‬‬
‫لكن ‪،‬وحسب رأينا‪ ،‬فإين العبرنة التي يجب استقاؤها ‪،‬من وراء تمثيل اللغات )اللهجات(‬
‫العربية المختلفة في لغة واحدة ‪،‬هي لغة القرآن‪ ،‬ل تكمن )أي العبرة( في عدد اللفاظ التي تم‬
‫استقاؤها من لغدة بعينها‪ ،‬بل في دللة ذلك الستقاء!! فالدللة هنا واضحة؛ وتذهب بنا إلى أين‬
‫ي جاممع؛ وهو أعرم وأشمتل من كيل ما‬
‫الكيان اللغوي الجديد )عربيية القرآن( إنما هو كيامن لغو م‬
‫كان موجودا قبله‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫ويمكننا الفتراض أن عمليةت الدمج التي تمت بين العناصر اللغوية الخاصة بالقبائل العربيية‬
‫في لغدة واحدةد )هي لغة القرآن( لم يكن يعني ‪،‬بأي حادل من الحوال‪ ،‬مجرد وراثة لغة القرآن‬
‫للسنة العرب؛ وذلك عبر جمعها في لسادن واحد‪ ،‬وإنما يعني أن اللغةن الجديدنة قد جاءت لتر ن‬
‫ث‬
‫الصنل الول؛ الذي انبثقت عنه كيل تلك اللغات منذ قديم الزمان؟!‪.‬‬

‫بين النسبي والمطلق‪ :‬نتائج أولية؟!‬


‫مما بسطناه آنف ا حول الحيد النسبي للعروبة )ألسنة متعددة( والحيد المطلق لها )لسان‬
‫واحد( يمكننا أن نخلص إلى النتائج الولية التالية‪:‬‬

‫‪143‬‬
‫‪ -1‬عندما تنيزل القرآتن الكريم بالعربيية فقد كان هناك بون ا شاسع ا بين العربيية التي جاء بها وبين‬
‫العربيية )البشرية( التي كانت سائدة آنذاك‪ ،‬فلم تكن لغةت القرآن الكريم واحدة من تلك اللغات‬
‫بعينها‪ ،‬كما أنها لم تكن مجرد "مجمودع جبردي جامدد" لتلك اللهجات في كيادن لغودي جامدع‬
‫جديد!!‪.‬‬
‫‪ -2‬عندما نتحدث عن عروبة القرآن وعربييته‪ ،‬فنحن ل نقصد مجرد الجمع الجبري للهجات‬
‫العربيية التي كانت موجوداة في ذلك الوقت‪ ،‬إذ إن فموعنل القرآن الكريم وتأثيره لم يقتصر على‬
‫مجرد إعادة توحيمد اللغات )اللهجات( العربية في لغدة واحددة؛ بل تعداه إلى استكمال جوانب‬
‫النقص في تلك اللغة )كما سنرى لحقا(‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫‪ -3‬مما يؤكد أن الوضع اللغوي العربيي قبل تنيزل القرآن لم يكن هو الصل في اللغة‪ ،‬وأن عربييةن‬
‫القرآن وحدها كانت هي الصل الذي يتوجب التمسك به دائم ا وأبداا؛ أنه وبمجرد استقرار‬
‫اللغة العربيية ‪،‬بمفهومها القرآني‪ ،‬انتفت الحاجةت إلى الرخصة التي تسمح بتداومل لغدة جزئيدة أقلل‬
‫جودة! وقد تمثلت تلك النقلة فيما قام به عثمان بن عفان رضي ال عنه عندما أمر بكتابة‬
‫ف واحدد فقط)‪ ،(1‬وتركت القراءة بالحرف السيتة الخرى‪ ،‬مما‬ ‫المصحف الشريف على حر د‬
‫ليست واجبة‪ ،‬ولو أوجب رسوتل ال)صلى ال عليه‬ ‫يستبيتن معه أن القراءة بالحرف السبعة)‪(2‬‬
‫وسلم( على المة القراءة بها جميعا لوجب نقل كل حر د‬
‫ف منها نقلا متواترا تقوم به الحيجة‪.‬‬ ‫ت ي‬

‫ف واحدد وقراءةد واحدة‪ ،‬وقد قانم بإرسال‬


‫‪ ()1‬مما يروى أن عثمان بن عفان رضي ال عنه قد جمع الناس على مصح د‬
‫ن ن‬
‫نسدخ منها إلى كيل أفق من آفاق دولة السلم‪ ،‬واحتبسّ بالمدينة نسخةا واحداة هي مصحفه المسمى "المام"‪ ،‬ثم‬
‫أمنر أن يحرنق ما عدا تلك النسخ من صحيفدة أو مصحف‪ .‬وقد أجمع الصحابة رضوان ال عليهم على تأييد‬
‫ت المةت ذلك بالطاعة‪.‬‬
‫صنيعه‪ ،‬وتنـلنيق و‬
‫‪ ()2‬يجب التأكيد هنا على أن القراءات السبع )بل العشر( كلها متواترةم تقوم بها الحجة‪ ،‬أما الشاذة فهي أربع‬
‫قراءات غير متواترة ول تقوم بها حجة‪ ،‬مع التأكيد مرة أخرى على حقيقة أن القراءات السبع ل تعني الحرف‬
‫السبعة التي نحن بصددها هنا‪ ،‬وأين اللفظ "سبعة" هنا إنما هو من قبيل التشابه فقط‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫‪ -4‬بالضافة إلى مهمته الساسية المتمثلة في توحيد الدين النساني؛ فلم يكن عجب ا أن يكون‬
‫للقرآن الكريم هدف ا آخر أل وهو توحيد اللغة النسانية)‪1‬ا(! تلك المهمة التي ابتدأها بتوحيد‬
‫ش إلى لغدة‬
‫اللهجات العربيية ذاتها‪ ،‬وذلك بتوسيع القاسم المشترك فيما بينها‪ ،‬وليتجاوز لغةن قري د‬
‫أعيم وأشمل تجمع بين لغات العرب‪ ،‬وليجعنل ذلك المفهوم تمنطلنقه نحو توحيد البشرية كلها‬
‫تحت لواء العروبة القرآنية‪ ،‬والتي جاءت لتعلن )إنما العربيية اللسان( فقد حطم هذا المفهوم ما‬
‫كان سائدا من معادن جزئيدة للعروبة‪ ،‬فحيولها عن معناها القبلي البشري إلى معناها الديني الرباني‪،‬‬
‫والذي يتيتح الفرصةن لكيل من يتعلتم لسانن القرآن الكريم أن يكون عربييا خالصاا!‪.‬‬
‫والن‪...‬‬
‫فلعلنا نكون قد أوضحنا أن اللغة التي جاء بها القرآن الكريم لم تكن متطابقةا مع لغدة من‬
‫اللغات العربية التي كانت سائداة آنذاك تمام النطباق‪ ،‬لكنها كانت تتشابه معها ‪،‬مجرد تشابه‪،‬‬
‫وانفردت عربيية القرآن عن عربيية العرب في كونها لغةا واحداة موحداة غير مجزأة‪ ،‬بعكسّ الواقع‬
‫اللغوي الذي كان سائدا آنذاك‪.‬‬

‫‪ ()1‬كما سنرى في الصفحات القادمة‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫لكن هل اقتصر دور القرآن الكريم على فعله المحلي؛ والذي تمثل في توحيد أشتات وفروع‬
‫اللغة العربيية‪ ،‬والتي كانت أجزاؤها متناثرة بين القبائل العربيية المختلفة؟‪..‬‬
‫ولو كان القرآن الكريم قد اقتصر دوره على ذلك الجمع لشتات العربية؛ فهل يصلتح ذلك‬
‫كشاهدد على حقيقة اختلف العربيية القرآنية عن العربيية البشرية؟‪..‬‬
‫لتبيان حقيقة الدور )العالمي( الذي قام به والثر الذي أحدثه القرآن الكريم في مجال‬
‫استكمال حقيقة اللغة العربيية؛ فعلينا أن ننتقل إلى زاويدة جديددة‪ ،‬نحاول من خللها إلقاءن شعاع‬
‫إضافي من الضوء على هذا الموضوع؟! لكنه شعاع آت من خارج الدائرة العربية هذه المرة‪،‬‬
‫فماذا تراه يكون؟!!‪..‬‬

‫ظاهرة مثيرة‪ ..‬ووجهة نظر تحاول القتراب؟!!‬

‫‪147‬‬
‫لو اقتصر دوتر القرآن الكريم على توحيد اللهجات العربيية في إطادر لغوي جامدع فما أشبه‬
‫ذلك بأفعامل البشر!‪ ..‬ولقد ذكرنا ‪،‬فيما مضى‪ ،‬أن القرآن الكريم ‪،‬وفي سبيل استكمال العربيية‬
‫لمعناها المطلق‪ ..‬قد قام ‪،‬بداية‪ ،‬بما يمكن أن نطلق عليه )عملية تجميع محلية( لشتات‬
‫اللهجات العربيية‪ ،‬وذلك بهدف إرجاعها إلى أصلها الذي كانت عليه قبل أن تتفرق إلى لهجات‪.‬‬
‫ومع تنزل آيات القرآن الكريم أمكن ملحظة ظاهرةد مثيرةد أطال العلماء التوقف عندها‪ ،‬وقد‬
‫أكيدت تلك الظاهرة حقيقة أن القرآن الكريم لم يقتصور دوره على عملية الجمع المحلية‬
‫لشتات اللغة العربية‪ .‬وقد تمثلت تلك الظاهرة في مجموعة من اللفاظ الغامضة التي حفل بها‬
‫ب على استخدامها! وقد شكلت تلك اللفاظ ظاهراة فريداة‬ ‫م‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬والتي لم يعتد العر ت‬
‫تباينت تجاهها الراء؛ واستعصت على كل تفسير مقنع! وقد عيد العلماء من تلك اللفاظ من‬
‫غير لغات العرب أكثر من مائة لفظة‪ ،‬اعتقدوا أنها ترجتع في أصولها إلى لغات الفرس والروم‬
‫سريان والعبران والقبط!‪.‬‬
‫والنبط والحبش والبربر وال ت‬
‫ومن أمثلة تلك اللفاظ‪" :‬برهان" وهي لفظةم حبشية)‪" (1‬كاهن" وهي لفظةم عبرية)‪" ،(2‬قلم"‬
‫وهي لفظةم يونانية‪ ،‬و"زيت" وهي لفظةم آرامية)‪.(3‬‬

‫‪ ()1‬اللغة الحبشية هي واحدة من لغات الفرع الجنوبي للغة الساميية‪ ،‬والذي يضم العربيية الشمالية‪ ،‬و العربيية‬
‫الجنوبية‪ ،‬وقد نشأت اللغات الساميية في الحبشة نتيجة لهجرة عربيية جنوبية من جزيرة العرب إلى شرق أفريقيا‪.‬‬
‫)مدخل إلى علم اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪(93-92‬‬
‫‪ ()2‬اللغة العبرية هي إحدى اللهجات الكنعانية‪ ،‬تعلمتها مجموعة من السيويين عندما هاجروا إلى أرض فلسطين‪،‬‬
‫فاكتسبوا لهجة كنعانية سائدة في فلسطين‪ ،‬وذلك في القرن الثاني عشر قبل الميلد‪ ،‬وقد ظلت العبرية لغة الحياة‬
‫اليومية في هذه المنطقة حوالي ستة قرون‪ ،‬إلى أن حلت محلها لهجات آرامية في نفسّ المنطقة‪ ،‬وقد ارتبطت اللغة‬
‫العبرية بالدين اليهودي بعد أن انتهت من الستخدام في الحياة اليومية‪) .‬نفسّ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.(88‬‬
‫‪ ()3‬اللغة الرامية هي واحدة من اللغات التي يجمعها الصل الساميي‪ ،‬وهي معروفة على مدى القرون الثلثين‬
‫الماضية‪ ،‬وليسّ هناك لغة آرامية موحدة‪ ،‬بل تنوعت في كيل فترة زمنية تنوعا بعيداا‪ ،‬وكان منها‪ :‬آرامية الدولة‪،‬‬
‫السريانية‪ ،‬ولهجات آرامية أخرى حديثة‪) .‬نفسّ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪(90‬‬

‫‪148‬‬
‫وفي محاولة من قبل البعض لتقديم تفسيدر لوجود تلك اللفاظ في القرآن الكريم فقد ذهب‬
‫ظ جديدة(!)‪..(1‬‬
‫إلى أنها إنما )وردت في القرآن؛ لنه ل يسد مسيدها إل أن تتوضع لمعانيها ألفا م‬
‫وهذا التعليل )الذي يحاول تفسير وجود تلك الكلمات في القرآن بعيلة افتقار العربيية إلى ما يسد‬
‫ح غير جاد!‪ ،‬وغير موفق! حسب اعتقادنا‪ ..‬فكيف بلغدة غنيدة‬ ‫مسيدها في العربية( هو طر م‬
‫اصطفاها ال عيز وجل لتحمل كلماته وآخر رسالته أن تعجز كيل ذلك العجز؟!‪..‬‬
‫تعليمل غريب؟!‪...‬‬
‫سّ‬
‫ب كذلك؛ لن السئِلة التي تيثيرها إنما هي من ذلك النوع الذي يم ر‬ ‫والتعليل السابق غري م‬
‫ب فيدميه؛ ويترك فيه أثرا ل يزول‪ ،‬ويدفعنا إلى التساؤل القملق‪ :‬أعجز القرآن الكريم أن يأتني‬
‫القل ن‬
‫ت أخرى؟!‪...‬‬ ‫بألفاظ عربية الصل تفي المعنى المراد حقه؛ حتى يستعيرها من لغا د‬
‫ي‬
‫ول تتوقف السئِلة‪ ،‬بل تزداد حيرتتنا حين نضطر إلى طرح المزيد منها‪ :‬هل تعريب كلمدة‬
‫أجنبيدة يجعلها عربيية!!؟؟‪ ..‬وإذا افترضنا أن ذلك ممكن‪ ،‬وأنها قد أصبحت عربييةا بالفعل؛ فهل‬
‫يمكن أن تصبح تلك اللفظة جزءا من نسيج القرآن الكريم الذي قضى ال فيه أن يكون حكما‬
‫عربياا؟؟!!‪ ..‬وهل يمكن للفاني أن يعبر عن الزليي؟! وهل يمكن للتراب أن يصبح بمثل ذلك‬
‫الشراق؟! وهل يمكن لكلدم هو من اصطلح البشر واختراعهم أن يحمل للبشمر مراد ال ر ي‬
‫ب‬
‫البشر؟!‪.‬‬
‫إن التساؤل في حد ذاته حمق مشروعم ومكفومل لجميمع البشر‪ ،‬لن التساؤل هو الطريقة التمثلى‬
‫لبلوغ المعرفة‪ ،‬مما يفسر بروز )ظاهرة التساؤل( منذ عهد النبوة الول‪ .‬وقد كانت تساؤلت‬
‫مشابهة لتساؤلتنا التي نطرحها هنا قد برزت وفرضت نفسها واستوقفت البعض زمن النبيي )صلى‬
‫ال عليه وسلم(‪..‬‬

‫‪ ()1‬إعجاز القرآن‪ ،‬مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬طبعة دار الكتاب العرب‪ ،‬ص ‪.72‬‬

‫‪149‬‬
‫فمما تيروى أن أعرابي ا قد حضر إلى رسول ال)صلى ال عليه وسلم( ليسأله عن بعض ألفاظ‬
‫القرآن الكريم التي لم تكن معروفةا للعرب في ذلك الحين‪ ،‬من أمثال الكلمات‪ :‬يهزأ‪ ،‬وقسورة‪،‬‬
‫وتكنبارا‪ ،‬وتعجاب‪ ..‬فما كان من النبيي )صلى ال عليه وسلم( إل أن استبقاه‪ ،‬وبينما هو على تلك‬
‫ل آخر ليسأل رسول ال)صلى ال عليه وسلم( عن أمر ما‪ ،‬فلما تباطأ عنه النبي )صلى‬
‫الحال حضر رج م‬
‫ي‬
‫ال عليه وسلم( ويجهن الرجتل حديثه للنبي قائل له‪" :‬أتهزأ بي يا ابن قسورة العرب‪ ،‬وأنا شيمخ تكيبارا‪،‬‬
‫إن هذا لشيءم تعجاب"‪ .‬فكان ذلك القول بمثابة ريد غير مباشر على تساؤلت العرابي‪ ،‬فالنبيي‬
‫)صلى ال عليه وسلم( لم يتولل الرد عليها بنفسه‪ ،‬ولعل طريقة الرد تلك تتعد من أبدع ما جاء به هذا‬
‫الدين العظيم‪ ،‬فتلك التساؤلت التي حملها العرابي كانت آتيةا من زمدن آخر غير ذلك الزمن‪،‬‬
‫وتلزمها معرفةم أخرى غير المعرفة الراهنة آنذاك‪ ،‬ومع ذلك فإين النبيي )صلى ال عليه وسلم( لم ينهر‬
‫ولم تكن إجابته )صلى ال‬ ‫العرابي قائلا له‪" :‬لقد أخطأت يا أعرابي‪ ،‬إنها عربيية مائة بالمائة‪"...‬‬
‫عليه وسلم( من قبيل‪" :‬إذهب أيها العرابي‪ ،‬إن هذا السؤال أكبر من أن تفهم الجابة عنه"!‪..‬‬

‫‪150‬‬
‫وكما كان السؤال عن تلك اللفاظ الغامضة مشروع ا فقد ظل ذا إلحاح‪ ،‬وبقي يراوتد أهنله‬
‫على نمير السنين‪ ،‬مما اضطر البعض ‪،‬في محاولدة منه لتفسير وجودها‪ ،‬إلى القول‪ :‬بأن‪" :‬المر‬
‫كله ل يعدو أن يكون تشابها بين العربيية وغيرها"!!‪.‬‬
‫وعتلينل المر تاراة أخرى بأن‪" :‬اللغات الخرى هي التي أخذت هذه الكلمات عن العربيية"‪.‬‬
‫أما من قال بأن تلك الكلمات عربيية ‪،‬كابن فارس‪ ،‬فلم يكن له من الدليل إل القول‪) :‬فأما قولنا‬
‫إنه ليسّ في كتاب ال تعالى شيءم بغير لغة العرب فلقوله تعالى‪} :‬إنا جعلناه قرآن ا عربيياا{‪..‬‬
‫س أن في القرآن ما ليسّ بلغمة العرب؛ حتى ذكروا لغةن‬ ‫)ويواصل ابن فارس حديثه( وايدعى نا م‬
‫الرومم والقبمط والنبط‪ .‬فحدثني أبو الحسين محمد بن هارون قال‪ :‬أخبرنا علمي بن عبد العزيز؛‬
‫عن عليي بن المغيرة الثرم قال‪ :‬قال أبو عبيدة‪ :‬إنما تأنزل القرآتن بلسادن عربيي مبين‪ ،‬فمن نزنعنم أين‬
‫فيه غير العربيية فقد أعظم القول()‪.(1‬‬

‫هل تأخذ اللغات من بعضها؟‪..‬‬

‫‪ ()1‬الصاحبي‪.60-59 ،‬‬

‫‪151‬‬
‫وكأن تلك التفسيرات لم تكن كافية لظهار المر على حقيقته؛ فحاول علماءم آخرون تفسير‬
‫وجود تلك اللفاظ في القرآن بأن نظروا إلى المر من زاويدة أخرى تتقتر مبدأ أوخمذ اللغات من‬
‫بعضها؛ فقد ذكر الثعالبي ‪،‬على سبيل المثال‪ ،‬ألفاظا دخلت إلى العربيية من الفارسية والرومية‪،‬‬
‫س دون العرب فاضطرت العرب إلى‬ ‫م‬
‫وذلك في قوله‪) :‬فصمل في سياقة أسماء تفريدت بها الفر ت‬
‫تعريبها أو تركها كما هي‪ ،‬فمن الواني‪ :‬الكوز‪ ،‬البريق‪ ،‬الطست‪ ،‬الخوان‪ ،‬الطبق‪ ..‬وكذلك‬
‫بعض ا مما نسبه بعض الئمة إلى اللغة الرومية‪ :‬الفردوس وتعني‪ :‬البستان)‪ ،(1‬القسطاس وتعني‪:‬‬
‫الميزان‪ ،‬السجنجل وتعني‪ :‬المرآة‪ ،‬البطاقة وتعني‪ :‬رقعة فيها رقم المتاع‪ .(2)(..‬وقد سلك "أبو‬
‫الفتح" نفسّ المسلك حين أقير ذلك المبدأ‪ ،‬وأشار إلى مظاهر انتقال الكلمات الجنبية إلى‬
‫العربيية‪ ،‬وكيفية هذا النتقال‪.‬‬

‫‪ ()1‬الكلمة بعد الشرطة المائلة هي المعنى المقابل في العربية‪.‬‬


‫‪ ()2‬فقه اللغة‪.146-145 ،‬‬

‫‪152‬‬
‫إن لم تكن عربيية‪ ..‬فماذا تكون إذن؟!‪..‬‬
‫إذا أردنا أن نستبق الحداث فإننا سوف نقرر أن كيل تبرير ذهب إلى عدم عروبة تلك اللفاظ‬
‫هو تبريمر غير صحيح‪ ،‬فالحقيقة المؤكدة هي أن تلك اللفاظ إنما هي عربييةم مائة وواحد في‬
‫ت أخرى غير العربيية؛ إنما‬ ‫المائة؟!‪ .‬وإن كل العتقادات السائدة والتي مفادها أنها أتتنا من لغا د‬
‫ي‬
‫هي اعتقادات خاطئِة من أساسها‪ ..‬لكن أين الدليل على ذلك؟!!‪..‬‬

‫ألفاظ غامضة!!‪..‬‬
‫لقد تعرضنا في الصفحات السابقة لمجموعة من دوائر الفعل القرآني لستكمال حقيقة اللغة‬
‫العربية‪ ،‬بما في ذلك فعله في الطـار المحلي المتمثل في تجميـع فـروع اللغة العربية ذاتها‪ ،‬والتي‬
‫كانت متناثرة في مجموعة من اللهجـات‪ ،‬مما يمكننا من التوجـه لمحاولـة تفسيـر وجود مجموعة‬
‫ل بأس بها من اللفـاظ التي اعتقد البعض بأنها ألفاظ غامضة‪ ،‬وغريبة‪ ،‬وغير عربية!!‪..‬‬
‫ولمحاولة سبر أغوار هذه المسألة فلنحاوول التعرف على نموذج من النماذج المعبرة عن‬
‫تاريخ تطور اللغة النسانية‪ ،‬وذلك بالتعامل مع فردع من فروعها‪ ،‬وأسرةد من تأسرها ذات الهمية‬
‫الخاصة‪ ،‬أل وهي أسرةت اللغات الساميية‪ ،‬مع البحث عن العلئق التي تربط بينها وبين اللغة العربيية‬
‫إن وجدت!‪ ..‬لعلنا بعد ذلك نقدتم تفسيرا لوجود تلك اللفاظ الغامضة!!‪ ،‬والتي ايدعى البعض‬
‫عدم عروبتها؟!…‬

‫‪153‬‬
‫اللغات الساميية ‪ ..‬أفراد لسرة واحدة!!‬
‫تتطلق كلمةت "السامييين" على مجموعدة من المم التي سكنت أجزاءا من غرب آسيا وشرنق‬
‫أفريقيا منذ غابر الزمان‪ ،‬وهذه الجزاء هي على سبيل الحصر‪ :‬الجزيرة العربيية‪ ،‬والشام‪،‬‬
‫والعراق‪ ،‬وسيناء‪ ،‬وبلد الحبشة)‪ ..(1‬واللسن الساميية هي جتملةت اللسن التي تكلمت بها المتم‬
‫الساميية؛ المندثتر منها كالكديية والسبئِية‪ ،‬أو الباقي منها إلى يومنا هذا كالعربيية والعبرية‬
‫والسريانية‪.‬‬

‫مهتد اللغات الساميية‬

‫‪ ()1‬الوجيز في فقه الغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.71‬‬

‫‪154‬‬
‫لسر اللغوية" وحدنة الصمل العرقيي للمم الناطقة بألسنة من أسرةد واحدة‪،‬‬
‫ض نظريةت "ا ت‬
‫تفتر ت‬
‫ض إلى العتقاد بوحدة الصل المعرقي الواحد للشعب الساميي؛ الذي انبثقت عنه‬ ‫مما يدعو البع ن‬
‫الشعوب الساميية‪ .‬وقد اختلف العلماء في جدلهم حول "المهد الصليي" للسامييين‪ ،‬إذ اعتقد‬
‫ب إلى أين‬
‫البعض بأنه أرض أرمينية بالقرب من حدود كردستان‪ ،‬لكين العلمة "غويدي" يذه ت‬
‫ض أن بلد الحبشة‬‫جنوب العراق ‪،‬على نهر الفرات‪ ،‬كان المهد الول للسامييين‪ .‬ويزعتم البع ت‬
‫هي الموطن الول للسامييين‪ ،‬كما يزعم غيرهم أن ذلك الموطن إنما كان بلد اليمن أو القسم‬
‫الجنوبي الغربي من جزيرة العرب‪ ..‬وأرجح القوال ‪،‬والتي يكاد الجماع ينعقد عليها‪ ،‬هو أن‬
‫جزيرة العرب كانت الموطنن الصليي لكل الشعوب الساميية‪ ،‬ويستدلون على ذلك بأمور عيدة‪،‬‬
‫ح بخروج الكثير من المم الساميية من هذه الجزيرة‪ ،‬مثل‬
‫صير ن‬
‫منها‪ :‬أن التاريخ القديم قد ن‬
‫ب عليها‬
‫الكديين‪ ،‬والراميين‪ ،‬والكنعانيين‪ ،‬وغيرهم‪ ...‬كذلك أن جميع المم الساميية تغلت ت‬
‫ت البداوةم والخلق والطبائع الصحراوية)‪.(1‬‬‫صفا ت‬
‫ولنحاول الن أن نتتبنع الفرضية التي كاد الجماع ينعقد حولها ‪،‬كما أشرنا‪ ،‬والتي تشيتر إلى‬
‫أن الجزيرة العربيية كانت موطن ا أصلي ا لتلك اللسنة جميعها؛ وذلك من خلل تتبع خط سيركل‬
‫شعاع خرج من الجزيرة العربيية وتحديد مكان استقراره بعد ذلك‪ ،‬ولنحاول ‪،‬من ثيم‪ ،‬الوصول إلى‬
‫ضتح نوع العلقة التي ربطت بين تلك اللسنة جميعاا‪.‬‬ ‫نتيجدة تتو ي‬

‫الجوامع المشتركة بين اللغات القديمة‬

‫‪ ()1‬الوجيز في فقه اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪) 73‬بتصرف(‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫يعتبر العرب فرع ا من فروع العرق الساميي‪ ،‬وهم سكان شبه الجزيرة التي تعرفت باسمهم‪ ،‬ول‬
‫تيعلم بدايةت الزممن الذي سكن فيه العر ت‬
‫ب في ذلك المكان‪ ،‬والظاهر أنهم كانوا سكانها الصلييين‬
‫منذ عصور ما قبل التاريخ‪ .‬ومما يجدر ذكره هنا هو أن مناهل اللغة العربيية تعوتد في جذورها إلى‬
‫الماضي السحيق لشبه الجزيرة العربيية‪ ،‬وهي‪) :‬أكثر قمندماي من تسمية حنملنمة هذا اللقب ذاته ‪،‬أي‬
‫ف الرلحمل والحضر ‪،‬التي كانت تقطن قديم ا شبه الجزيرة‬ ‫ت قبائتل الرلحمل ونص ت‬‫العرب‪ ،‬فقد أطولننق و‬
‫العربيية والبراري المتاخمة لفلسطين وسوريا وما بين الرافدين‪ ،‬على نفسها ألقاب سللتها‬
‫وقبائلها أو اتحاداتها القبلية‪ ،‬وكانت الشعوب المجاورة فقط هي التي تطلق على هذه القبائل‬
‫تسميةا عامةا "العرب"()‪.(1‬‬
‫ف لكل سكان الجزيرة؛ سواءا الحاضر منهم والبادي‪ ،‬وينقستم اللساتن‬
‫والعربيي هو وص م‬
‫ضها في الجنوب‪ ،‬وعاش البعض الخر منها في‬ ‫العربيي إلى عددد كبيدر من اللهجات التي عاش بع ت‬
‫الشمال‪ ،‬وبعضها باد واندثر‪ ،‬وبعضها لزال حيا إلى اليوم‪ .‬ومن لهجات العربيية اللهجة‬
‫الثموديية‪ ،‬واللحيانيية‪ ،‬والصفويية‪ ،‬والجاهليية‪ ،‬والعربيية الجنوبيية‪ ،‬واللهجة الفصحى)‪ :(2‬والتي‬
‫ص لهجمة قري د‬
‫ش عليها‪ ،‬كما إنها تتدعى أحيان ا بالحجازية‪،‬‬ ‫تتسمى أحيان ا بالقرشية‪ ،‬لغلبمة خصائ م‬
‫ش في شيء‪ .‬ومهما يكن من أوممر‬ ‫ف عن لهجة قري د‬‫وذلك للن عامةن القبائمل الحجازيمة لم تكون تختل ت‬
‫التسمية؛ فإن ما نعنيه بالفصحى هو تلك اللهجة التي نزل بها القرآتن الكريم‪ ،‬والتي جاء بها‬
‫الحديث الشريف‪ ،‬والشعر الجاهلي‪ ،‬والتي ل نزال ‪،‬حتى اليوم‪ ،‬نتختذ منها لسانن ديدن وعلدم‬
‫وأدب‪.‬‬
‫وتجدر الشارة هنا إلى أن الفعل الول للقرآن الكريم قد تناول تلك الفروع المحلية‬
‫بالتجميع‪ ،‬حيث تنزل بلغة عربية فصحى هي خليط من تلك اللسنة جميعها‪.‬‬
‫اللغات الساميية من غير العربيية‬

‫‪ ()1‬دراسات في تاريخ الثقافة العربيية‪ ،‬خالدوف وآخرون‪ ،‬دار التقدم‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫‪ ()2‬تعرضنا لها سابقاا‪ ،‬ونتعرض لها هنا باختصار للضرورة الموضوعية‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫سمبها إلى لغدة أم واحدة؛ هي العربيية‪ ،‬والتي‬ ‫م‬ ‫د‬
‫تعيرفنا على مجموعة من اللهجات التي تنتهي بنن ن‬
‫تتعتبر ‪،‬بدورها‪ ،‬واحداة من لغات السرة الساميية‪ ،‬وقد لحظنا تاراة ما بين تلك اللهجات )في‬
‫اللسان العربيي( من فروقات تمييـتزها عن بعضها البعض‪ ،‬وكذلك ما يجمتع بينها من تشابه تاراة‬
‫أخرى‪ .‬وقد بات الن ضروريا أن نـوعمر ن‬
‫ض ‪،‬بقليل من التفصيل‪ ،‬للعائلة الكبيرة‪ ،‬التي تتعتبتر العربيية‬
‫أحند أفرادها‪ ،‬لكي نتبين أن عملية تجميع الفروع المحلية للغة قد ترافقت مع عملية مشابهة‪ ،‬تم‬
‫بموجبها عملية تجميع أخرى ولكن بشكل أقل وضوحا‪ ،‬حيث استعادت اللغة العربية بعضا من‬
‫كنوزها المفقودة!!‪ ..‬وليست تلك العائلة سوى "أسرة اللغات الساميية"‪.‬‬
‫لقد تناول "علم اللغات المقارن" بالدراسة والتحليل مجموعةا من اللغات التي تنتمي إلى‬
‫ف واضدح للغات يتم تقسيمها‬ ‫تأسرةد لغويدة واحدة‪ ،‬ويعتمتد البح ت‬
‫ث المقارن على وجومد تصني د‬
‫بموجبه إلى أتمسر تلغوية‪ ،‬ولم تكن القرابةت بين اللغات معروفةا على نحدو علمدي دقيدق إلى أن‬
‫اكتتمشفت اللغةت السنسكريتية في الهند‪ ،‬حيث تقورنت مع اليونانية واللتينية؛ فثبت ‪،‬من خلل‬
‫تلك المقارنات‪ ،‬وجوتد قرابدة لغويدة بين تلك اللغات‪ ،‬وأنها ترجع إلى أصدل قديدم واحد‪.‬‬
‫وما من خلف حول‪ :‬التناسب المتبادل‪ ،‬وحتى التقارب الشديد بين لغات الفرع الساميي‪.‬‬
‫ف والنحتو؛ والرصيتد الساستي القاموستي لهذه اللغات ملمنح‬ ‫ب الصوتتي؛ والصر ت‬ ‫وتيظهتر التركي ت‬
‫تشابه مدهشة‪ ،‬فهناك حوالي ‪ 300‬كلمة مشتركة للرصيد الساسي القاموسي تموثبتةا لجميع‬
‫المجموعات التي تنقستم إليها اللغات الساميية الحية والمهملة)‪.(1‬‬

‫‪ ()1‬دراسات في تاريخ الثقافة العربيية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.20‬‬

‫‪157‬‬
‫ت كبيرة هي‪ :‬الشمالية الغربية "أو الشمالية"‪،‬‬ ‫ت الساميةت إلى ثلث مجموعا د‬ ‫وتنقستم اللغا ت‬
‫ي‬
‫والشمالية الشرقية "أو الشرقية"‪ ،‬والجنوبية الغربية "أو الجنوبية"‪ .‬وتعرد اللغات الساميية من أقدم‬
‫اللغات النسانية التي وصلت إلينا مدونة‪ ،‬فاللغة الكديية في أرض النهرين قد تدونت منذ سنة‬
‫ت سامييدة‬
‫‪2500‬ق م‪ ،‬وهي بهذا من أقدم اللغات المدونة‪ ،‬وقد وصلت إلينا نصوص مدونةت بلغا د‬
‫م‬ ‫ي‬
‫ب من خمسدة وأربعين قرناا‪،‬كما يوعمر ت‬
‫ف العالتم‬ ‫عبـنر ما يقر ت‬
‫د‬
‫مختلفة منذ هذا التاريخ المبكر و ن و‬
‫ت سامييدة حيية أهمها‪ :‬العربيية‪ ،‬والمهرية‪ ،‬ومنها العبرية الحديثة‪ ،‬واللهجات‬ ‫ث عدنة لغا د‬
‫الحدي ت‬
‫الرامية الحديثة‪ ،‬والتمهرية‪ ،‬والتجرية‪ ،‬والتجرينية)‪.(1‬وفيما يلي نلقي بعض الضوء على بع م‬
‫ض‬
‫اللغات الساميية‪.‬‬
‫أ‪ -‬الكديون ولسانهم‪:‬‬
‫وتينسبون إلى منطقدة تقتع في جنوب العراق تتدعى )أكيد( ويسميهم آخرون بالبابليين؛ نسبةا‬
‫إلى "بابل"؛ وهي المدينة التي بنـننـووها وجعلوها عاصمةا لهم‪ ،‬كما يسميهم آخرون بالكلدانيين؛‬
‫نسبةا إلى إحدى السر التي حكمت "بابل" خلل تاريخها الطويل‪.‬‬
‫أما عن أصل هؤلء القوم )على اختلف السماء التي أطلقت عليهم( فهم قبائتل ساميية‬
‫ف في ذلك‪ ،‬واستقرت تلك القبائل‬ ‫خرجت من الجزيرة العربية‪ ،‬أو من ناحيمة سورية ‪،‬على خل د‬
‫ي‬
‫في العراق وأقامت فيه‪ ،‬وقد تكتمنبت اللغةت الكديية بواسطة الخط المسماري؛ الذي استعير من‬
‫اللسان الشومري‪ ،‬وقد تبين من خلل فحص الخط المسماري أن أبجديته ل تحتوي إل على‬
‫ثمانية عشر حرفا فقط‪ ،‬أما حروف التضخيم)‪) (2‬والتي تتعتبتر من أبرز سمات اللسن الساميية(‬
‫فل أثر لها في البجدية المسمارية‪.‬‬
‫ظ الكدية ببعض‬
‫أما عن مظاهر التشابه بين اللغتين الكديية والعربيية؛ فقد لوحظ احتفا ت‬
‫مظاهر العراب التي تيعتقد أنها من خصائص اللسان الساميي الول‪ ،‬والذي تخلصت منه‬
‫اللسنةت الساميية الخرى ما عدا العربيية الفصحى‪ .‬وحركات العراب في الكديية اثنتان هما‬
‫الضمةت والكسرة‪.‬‬

‫‪()1‬مدخل إلى علم اللغة‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،1978‬ص ‪.83‬‬


‫‪ ()2‬الطاء‪ ،‬الظاء‪ ،‬الضاد‪ ،‬وحروف الحلق‪ ،‬والعين‪ ،‬والغين‪ ،‬والهاء‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫ب‪ -‬الكنعانيون ولسانهم‪:‬‬
‫وهذه القبائل الساميية تيعتقد بأنها هي أيض ا قد خرجت من الجزيرة العربيية؛ وذلك نحو سنة‬
‫‪ 2500‬قبل الميلد‪ ،‬حيث حيطت في بلد الشام‪ ،‬وقد أيسسوا فيها مجموعتين من الممالك‪،‬‬
‫الولى‪ :‬كانت مجموعةا داخليةا انقرضت سريعا بوصول العنصر الرامي والسرائيلي‪ .‬أما الثانية‪:‬‬
‫فكانت مجموعةا ساحليةا ظيلت تقاوم حتى القرن الميلدي الول‪ .‬كما أسسوا لهم مستعمرا د‬
‫ت‬ ‫ت‬
‫في الخارج؛ كان من أشهرها مملكة "قرت حدش") ( أي )قرطاجنة( والتي تقتع في شمال‬
‫‪1‬‬

‫أفريقيا‪ .‬يشار إلى أن كيل آثار اللسان الكنعاني ‪،‬سواءا ما توجد منها في وطنهم أو ما توجد في‬
‫ض‬
‫ب اللسان الكنعاني من اللسان العبري‪ ،‬وهو ما دعا بع ن‬ ‫مستعمراتهم)‪ (2‬تدل على معظنمم قتـور م‬
‫ي إن هو إل لهجةا من لهجات اللسان الكنعاني‪ ،‬أو أن‬ ‫العلمامء إلى العتقاد بأن اللسان العبر ي‬
‫العبري والكنعاني لسامن واحد ل اثنان)‪..(3‬‬
‫ج‪ -‬العبريون ولسانهم‪:‬‬
‫ويتراد بهم جملة الشعوب التي ترقى بأنسابها إلى نبيي ال إبراهيم الخليل عليه السلم‪ ،‬وهم‪:‬‬
‫بنو يعقوب‪ ،‬وبنو إسماعيل‪ ،‬وبنو مدين‪ ،‬والعمالقة‪ ،‬وآل داود‪ ،‬وأهل مؤاب وعمون‪ ..‬وإذا ما‬
‫تأطلقت كلمةت "العبريين" فل تنصرف إل إلى أبناء يعقوب وحدهم‪ ،‬أي بني إسرائيل)‪..(4‬‬
‫ف بهذا‬
‫ي شديتد الشبه باللسان الكنعاني‪ ،‬بل إنه في الزمنة القديمة لم يكون تيعر ت‬
‫واللساتن العبر ر‬
‫ف العهد القديم تنعته باللسان اليهودي مراة‪ ،‬وباللسان الكنعاني مراة أخرى‪ .‬ومن‬‫صتح ت‬
‫السم‪ ،‬ف ت‬
‫الملحظ كذلك وجود أوجه شبده كثيرةد بين اللسانين العبري والعربيي؛ أكثر منها بين الخير وبين‬
‫أي لسادن ساميي آخر‪ ،‬فكثير من قواعد النحو والصرف والمفردات هي هي في كل اللسانين!!‪.‬‬
‫د‪ -‬الراميون ولسانهم‪:‬‬

‫ظ "حدش" في اللغة الكنعانية بأنه كان أصلا لكلمة "حداش" بالعبرية‪ ،‬والتي تعني "جديد" ولعل‬ ‫‪ ()1‬يوحي اللف ت‬
‫اللفظ في الكنعانية والعبرية مأخوذم عن كلمة "حديث" بالعربيية والتي تعني الجديد أيضا‪.‬‬
‫‪ ()2‬تقع مستعمرتهم "قرطاجنة" بالقرب من تونسّ حالياا‪.‬‬
‫‪ ()3‬إن الحقيقة الكثر أهمية هنا هي أنه وعلى فرض أن اللسانين الكنعاني والعبري لسانان مختلفان‪ ،‬فهل من‬
‫المنطقي ان نتساءل إن كانا قد نشآ من أصل واحد وشجرة واحدة أم ل؟!‪.‬‬
‫‪ ()4‬الوجيز في فقه اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.81‬‬

‫‪159‬‬
‫وهم قبائتل سامييةم هاجرت من الجزيرة العربيية إلى نواحي بلد الشام حوالي القرن الخامسّ‬
‫ف سندة من هجرة الكنعانيين الذين سبقوهم‪ ،‬وكما أن أسباب هجرة‬ ‫عشر قبل الميلد‪ ،‬أي بعد أل م‬
‫الرهاط الشورية والبابلية والكنعانية من بلد الجزيرة العربيية ل تزال مجهولةا إلى الن‪ ،‬فإننا‬
‫كذلك ل نعلتم شيئِا عن السباب التي حملت القبائل الرامية المتوحشة على الخروج من‬
‫ب والمفوكر لكل سكان العراق والشام وجزدء‬
‫بلدهم التمقفرة‪ .‬وقد غدا اللساتن الرامي لسانن الد م‬
‫من الناضول لعدة قرون)‪.(1‬‬
‫أما "النبطية" فقد اختلف العلماء في نسبهم‪ ،‬فقال البعض‪ :‬هم آراميون‪ ،‬بدليل اتخاذهم‬
‫ب؛ بدليل أعلم رجالهم وأصنامهم‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫الرامية لغةا لهم في نقوشهم‪ ،‬وقال آخرون‪ :‬هم عر م‬
‫"العزى" و"اللت" و"أمة اللت" و"أذينة" و"أسد" و"أوس" و"عبدة" و"أوس ال"‪...‬الخ‪،‬‬
‫ويؤيتد هؤلء قولنهم بدليدل آخر‪ :‬هو أن النبط)‪ (2‬انتشروا في بلدد عربييدة؛ حتى عرفت مملكتهم‬
‫في سيناء باسم "بترا" العربيية‪.‬‬

‫هل يوجد يثمة علقة؟!‪ ..‬هذا هو السؤال!!‬


‫وبعد هذا الستعراض للسنة السرة الساميية‪ ..‬فلنعد إلى نف د‬
‫سّ السؤال الذي كينا قد طرحناه‬
‫من قبل‪ :‬هل يوجد ما هو مشترك بين اللغات الساميية جميعها؟‬
‫وهل هناك ثيمة علقة بين اللسان العربيي واللسنة الساميية الخرى؟!‪ ..‬وماذا يقول علم‬
‫اللغات المقارن عن تلك العلقة؟‬

‫‪ ()1‬الوجيز في فقه اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.86-85‬‬


‫‪()2‬ويسميهم العرب بالنباط والنبيط أيضاا‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫وللجابة على هذه التساؤلت إجابة موضوعية؛ فلبد من العودة إلى علم اللغات المقارن‬
‫لستفتائه في هذا المر‪ ،‬حيث يتناول ذلك العلم بالبحث النواحي الصوتية الموجودة في اللغات‬
‫ل(؛ وذلك تبغية التوصل إلى قواعد‬‫المختلفة؛ والمنتمية إلى أسرةد لغويدة واحدة )كالساميية مث ا‬
‫مطردة تفسر التغييرات الصوتية التي طرأت عليها على مدى الزمن‪ ،‬والتي أيدت إلى انقسام اللغة‬
‫ت كثيرة؛ انقسمت ‪،‬بدورها‪ ،‬إلى فروع لغوية إضافية‪.‬‬ ‫ت ولغا د‬
‫الواحدة إلى لهجا د‬
‫ولقد ديل علم اللغات المقارن على أن هناك مجموعةا من الصوات التي استمرت في كيل‬
‫لغات السرة الواحدة دون تغييدر يذكر‪ ،‬فاللغات الساميية ‪،‬على سبيل المثال‪ ،‬ظيل بها صوت‬
‫"الراء" بدون تغيير‪ .‬وعلى العكسّ من ذلك فإن هناك أصواتا قد خضعت لتغييرات بعيدة‬
‫المدى؛ والتي منها صوت "الضاد" الذي اختفى بمضي الوقت من كيل اللغات الساميية باستثناء‬
‫اللغة العربيية!‪.‬‬
‫كما يتناول علم اللغات المقارن )بالضافة إلى الناحية الصوتية( بناءن الكلمة ذاتها؛ من‬
‫حيث‪ :‬الوزان‪ ،‬والسوابق)‪ ،(1‬واللواحق)‪ (2‬ووظائفها المختلفة‪ ،‬حيث تعتبر دراسة الجملة‬
‫الخبرية )فعلية كانت أو اسمية( موضوع ا أساسي ا في اللغات الساميية‪ ،‬كما ويتناول "علم الدللة‬
‫المقارن" في اللغات الساميية كيل ما يتعلق بتاريخ الكلمات وتأصيلها‪ ،‬وقد توجد أن هناك جامع ا‬
‫مشتركا بين كيل تلك اللغات يتمثل في عددد كبيدر من الكلمات المشتركة؛ نجدها في كيل‬
‫ي "إدوارد‬
‫اللغات الساميية؛ تاراة بنفسّ المعنى؛ وأخرى بمعناى مقارب‪ .‬ولقد كان العالتم اللغو ت‬
‫سابير" مؤمن ا بوجومد علقدة مشتركدة بين اللغات‪.‬‬

‫‪ ()1‬السوابق مثل الميم في العربيية‪ ،‬وهي تنكيون ‪،‬على سبيل المثال‪ ،‬اسم الفاعل من غير الثلثي مثل‪:‬تمكمرم‪ ،‬واسم‬
‫المفعول منه ‪ :‬تمكنرم‪.‬‬
‫‪ ()2‬اللواحق في العربيية كثيرة‪ ،‬ومنها اللواحق الخاصة بجمع المذكر السالم سواء أكان منتهيا بـ )ون( في الرفع‪ ،‬أو‬
‫)ين( في النصب والجر‪ ،‬وكذلك جمع المؤنث السالم والذي ينتهي بالحرفين )ـات(‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫ث عددا من اللغات السامييمة الحيمة؛ والتي من أهمها‪ :‬العربيية‪،‬‬
‫ف العال نتم الحدي ت‬
‫وقد نعر ن‬
‫والمهرية‪ ،‬والعبرية الحديثة‪ ،‬واللهجات الرامية الحديثة‪ ،‬والتمهرية‪ ،‬والتجرية‪ ،‬والتجرينية‪ ،‬حيث‬
‫تيعتقد بأن كل هذه اللغات قد نشأت ‪،‬عبر مراحل من التغير‪ ،‬عن لغدة واحدةد مشتركدة لم تصل‬
‫ص منها‪ ،‬وهي اللغة التي يسميها الباحثون باسم "اللغة الساميية الولى")‪.(1‬‬ ‫إلينا نصو م‬
‫ب منذ قديم الزمان قد أدركوا وجوند مثل تلك العلقة‪ ،‬ولم تكن اللغات الساميية‬ ‫وكان العر ت‬
‫مجهولةا تمام ا بالنسبة لهم‪ ،‬فقد فطنن الخليتل بن أحمد إلى العلقة بين الكنعانية والعربيية فقال‪:‬‬
‫وكنعان بن سام بن نوح تينسب إليه الكنعانيون‪ ،‬وكانوا يتكلمون لغةا تضارع العربيية‪ .‬كما عرف أبو‬
‫ف فيها ‪،‬وهي الفتحة الطويلة في أواخر‬ ‫عبيد القاسم بن سلم اللغةن السريانية وأدانة التعري م‬
‫كلماتها‪.‬‬
‫كذلك فقد أدرك ابن حزدم الندلسيي علقةن القربى بين العربيية والعبرية والسريانية؛ فقال‪ :‬نمون‬
‫تنندبنـنر العربيية والعبرانية والسريانية أيقنن أن اختلفها إنما هو من تبديل ألفامظ الناس على طومل‬
‫ف البلدان‪ ،‬ومجاورةم المم‪ ،‬وأنها لغةم واحدةم في الصل!!‪..‬‬ ‫الزمان‪ ،‬واختل م‬
‫ويقول المام السهيلي‪ :‬وكثيرا ما يقتع التفاتق بين السرياني والعربيي‪ ،‬أو يقاربه في اللفظ‪.‬‬
‫كما عرف أبو حيان الندلسي اللغة الحبشية؛ وأدرك العلقة بينها وبين العربيية‪ ،‬وأيلف فيها تأليف ا‬
‫ت على كيفية نموسبنمة الحبش؛ في كتابنا ‪،‬عن هذه اللغة‪ ،‬المسمى بـ‬ ‫ل‪ ،‬فقال‪) :‬وقد تكلم ت‬
‫مستق ا‬
‫"جلء الغبش على لسان الحبش" وكثيرا ما تتوافتق اللغتان‪ ،‬لغةت العرب ولغةت الحبش‪ ،‬في ألفاظ‪،‬‬
‫ف المضارعة‪ ،‬وتامء التأنيث‪ ،‬وهمزةم التعدية()‪.(2‬‬ ‫وفي قواعد من التركيب نحموياة‪ ،‬كحرو م‬
‫و ن‬
‫ونحن ندرك اليوم أن العرب الذين نعنرفوا بوجود تلك العلقة؛ لم يصيبوا دائم ا في تفسيرها‬
‫على الوجه الصحيح!! فوجدنا” ابن فارس” ‪،‬مثل‪ ،‬يتساءل ذات مرة‪ :‬ما هي اللغة التي عيلمها‬
‫ال لدم؟ ومتى اختلفت اللغات؟ وكيف كان هذا الختلف؟‪..‬‬

‫‪ ()1‬مدخل إلى علم اللغة‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،1978‬ص ‪.83‬‬


‫‪ ()2‬هامش كتاب المدخل إلى علم اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.202+201‬‬

‫‪162‬‬
‫ب عليها بالقول‪ :‬بأن ال عيز وجل قد علينم آدنم كيل اللغات‪ ،‬وأن الختلف قد‬
‫ووجدناه يجي ت‬
‫حدث بعد الطوفان؟!!‪ .‬وننقل على لسانه‪) :‬تيروى أن أول من كتب الكتاب العربيي والسريانيي‬
‫والكتب كلها آدتم ‪،‬عليه السلم‪ ،‬قبل موته بثلثمائة سنة‪ ،‬كتبها من طيدن وطبننخه‪ ،‬فلما أصا ن‬
‫ب‬
‫ض الغرتق وجد كرل قودم كتابا فكتبوه‪ ،‬فأصاب إسماعيتل ‪،‬عليه السلم‪ ،‬الكتاب العربيي)‪.(1‬‬ ‫الر ن‬
‫وقد نقل “ابن جني” مثل هذا الرأي عن آخرين من أصحاب مذهب التوقيف؛ ويميل فيه إلى‬
‫أن‪) :‬ال سبحانه عللم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات‪ ،‬العربيية‪ ،‬والفارسية‪،‬‬
‫والسريانية‪ ،‬والعبرية‪ ،‬والرومية‪ ،‬وغير ذلك من سائر اللغات()‪..(2‬‬
‫كذلك فقد أدرك المستشرقون وجوند علقدة ما بين لغا د‬
‫ت بعينها مثل العربيية والعبرية‬
‫والسريانية‪ .‬وقد بدأت "هولندة" في القرن الثامن عشر على يد "شولتنسّ" بمقارنة العبرية‬
‫بالعربيية‪ ،‬وجاء بعده كيل من "إيفالد" و"ألسهورن" فأيلفا في اللغة العبرية مستخدمين العربيية في‬
‫المقارنة‪ ،‬كما حاونل مثنل ذلك "نولدكه" في الرامية‪ .‬وفي عام ‪1890‬م أيلف "وليم رايت" كتابه‬
‫"محاضرات في النحو المقارن للغات الساميية"‪ .‬كما أيلف بعده بعادم كمل من "لجارد" و"بارت"‬
‫كتابهما "بحوث في أبنية السماء الساميية"‪ .‬وألف "لندبرج" كتاب "النحو المقارن للغات‬
‫الساميية”‪ ،‬وألف "تسمرن" كتابه الذي سماه "النحو المقارن للغات الساميية" ونشره في برلين‬
‫ف كتابه الضخم‬‫سنة ‪1898‬م‪ .‬كما كتب في هذا الفن المستشرتق "كارل بروكلمان" إوذ أل ن‬
‫"الساس في النحو المقارن للغات الساميية" وهو في جزأين‪.‬‬

‫الخصائص المشتركة بين اللغات الساميية‬


‫لقد كان من نتائج استخدامنا لعلم اللغات المقارن أن خرجنا بنتيجة هامة مفادها‪ :‬أن اللغات‬
‫الساميية تتفق فيما بينها في مجموعدة من الخصائص الصوتية‪ ،‬والصرفية‪ ،‬والنحوية‪ ،‬والدللية‪،‬‬
‫وتكون هذه الخصائص أشلد ما تكون وضوحا في اللغات الساميية القديمة‪ ،‬ومن خلل تلك‬
‫المقارنة يمكننا أن نخلص إلى أن أهم الخصائص المشتركة بين اللغات الساميية هي‪:‬‬

‫‪ ()1‬ابن فارس‪ ،‬الصاحبي‪.34 ،‬‬


‫‪ ()2‬الخصائص‪.1/41 :‬‬

‫‪163‬‬
‫أ‪ -‬أننا نجد في اللغات السامية مجموعةن أصوا م‬
‫ت الحلق)‪ (1‬وهذه المجموعة موجودةم في‬ ‫ي‬
‫ت في بعض اللغات الساميية أيدت إلى‬ ‫شكلها الكامل في اللغة العربيية‪ ،‬وقد حدثت لها تغييرا م‬
‫ضها‪ ،‬وهذا التداخل واضمح في لغدة كالعبرية مث ا‬
‫ل‪ ،‬إذ حيل فيها صوت "النعويمن" محل‬ ‫تداخل بع م‬
‫صوتين هما "العين" و"الغين" وهذا يعني أن الكلمات العبرية التي تحتوي على حرف "العين"‬
‫ت النعويمن أو صوت الغنوين؛‬
‫ت تضتم صو ن‬
‫يمكن أن يقابلها في العربيية ‪،‬من الناحية الشتقاقية‪ ،‬كلما م‬
‫حيث ل "غين" في العبرية‪.‬‬
‫ب‪ -‬توجد في اللغات السامية مجموعةت أصوا د‬
‫ت مطبقة)‪ (2‬والتي تشترتك من الناحية النطقية‬ ‫ي‬
‫في ارتفاع اللسان درجةا أثناء النطق بها مع اتخاذه شكلا تمقعراا‪ ،‬وقد توجد الصوات المطبقة في‬
‫اللغات السامية الخرى بعددد أقلل من العربية‪ ،‬فحرف الصاد في العبرية)‪ (3‬يقابل ثلثةن أصوا د‬
‫ت‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫عربييدة هي‪ :‬الصاد‪ ،‬والضاد‪ ،‬والظاء‪ ،‬فأيةت كلمدة عربييدة بها صامد أو ضامد أو ظاء‪ ،‬يكون مقابلها في‬
‫اللغة العبرية ‪،‬إن وجد‪ ،‬كلمةم تضتم الصاند العبرية‪ ،‬وإذا نظرنا إلى اللغات الساميية وجدنا أن الضاد‬
‫العربيية تقابتل صادا في اللغة الكديية والوجاريتية والعبرية‪ ،‬فكلمةت "أرض" في العربيية تقابلها‬
‫كلمةت ‪ ersetu‬في الكديية‪ ،‬وكلمةت ‪ ars‬في الوجاريتية‪ ،‬وكلمةت ‪ eres‬في العبرية‪.‬‬
‫ج‪ -‬تتشابه اللغات السامية فيما بينها في أن بناءت الكلممة يقوم على أساس الصوامت والوزن‪،‬‬
‫ط بالصوامت‪ .‬فالكلمات‪ :‬فنـنعنل‪ ،‬و فموعول‪ ،‬وفامعل‪ ،‬يرتبط‬
‫ومعنى هذا أن المعنى الساسي يرتب ت‬
‫معناها الساسي بالفاء‪ ،‬والعين‪ ،‬واللم؛ وهي الصوامت‪ ،‬أما الوزن )مثل فاعل( فيحدتد المعنى‬
‫الدقينق للكلمة؛ بأن يدل مثلا على من قام بالفعل‪.‬‬
‫د‪ -‬تتشابه اللغات الساميية في أنها تنقستم ‪،‬من حيث الجنسّ النحوي‪ ،‬إلى مذكر ومؤنث‪،‬‬
‫ومن حيث العدد إلى مفرد ومثنى)‪ (4‬وجمع‪ ،‬وتتشابه كذلك من ناحية النهايات العرابية وهي‬
‫الرفع‪ ،‬والنصب‪ ،‬والجر‪.‬‬

‫‪ ()1‬مجموعة أصوات الحلق هي‪ :‬العين‪ ،‬الغين‪ ،‬الحاء‪ ،‬الخاء‪ ،‬الهاء‪ ،‬والهمزة‪.‬‬
‫‪ ()2‬مجموعة الصوات المطبقة هي الصاد‪ ،‬الطاء‪ ،‬الضاد‪ ،‬والظاء‪.‬‬
‫‪ ()3‬المختلف من ناحية النطق عن العربيية قليل‪.‬‬
‫‪ ()4‬حدث تغيير في بعض اللغات بحيث قل فيها استخدام المثنى وأصبح استخدامه مقصورا على الشياء‬
‫الموجودة في الواقع الخارجي في شكل ثنائي مثل اليدين والرجلين‪ ،‬واللغة العبرية مثال حي على ذلك‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫هـ‪ -‬تتشابه اللغات الساميية الساسية فيما بينها من حيث وجود عددد كبيدر من المفردات‬
‫الساسية المشتركة فيما بينها‪ ،‬ويمكن تقسيم هذه المفردات إلى المجموعات التالية‪:‬‬
‫ظ تختص بجسم النسان مثل‪) :‬رأس‪ ،‬عين‪ ،‬يد‪ ،‬رجل‪ ،‬شعر‪ ..‬الخ(‪..‬‬
‫* ألفا م‬
‫ظ خاصةم بالنبات والحيوان مثل‪) :‬قمح‪ ،‬سنبلة‪ ،‬كلب‪ ،‬ذئب‪ ..‬الخ(‪.‬‬
‫* ألفا م‬
‫ع‪ ..‬الخ(‪.‬‬
‫ت‪ ،‬قانم‪ ،‬زر ن‬
‫* تتشابه كذلك بعض الفعال الساسية مثل‪) :‬نولنند‪ ،‬ما ن‬
‫* وتتشابه اللغات الساميية فيما بينها كذلك في العداد الساسية )من ‪ (10-2‬وفي حروف‬
‫الجر الساسية مثل‪):‬ممون‪ ،‬على‪ ،‬في(‪.‬‬

‫مربط الفرس!!!‬
‫ت متعددةد‬‫من هنا‪ ،‬وبعد كل ما استعرضناه‪ ،‬فإن الباحث يكون آمنا حين يقرر‪) :‬انتماء لغا د‬
‫ظ‬‫إلى أصدل مشتردك إذا نونجند تماثلا كافي ا في تركيبامتها النحوية‪ ،‬ومفردامتها الساسية‪ ،‬وإذا لح ن‬
‫ضها من بعض كلما اتجهنا إلى الوراء()‪.(1‬‬ ‫ب بع م‬
‫ازدياند تقر م‬
‫وعلى ضوء ما وجدناه من تشابده كبيدر بين اللغات الساميية؛ وفي ضوء المعلومات المتوفرة‬
‫لدينا والتي تتشيتر إلى أن الجزيرة العربيية كانت أصلا لها جميعاا‪ ،‬فل مفير من القرار بوجود علقدة‬
‫ما بين تلك اللغات جميعها‪ ،‬وأن هناك أصلا مشترك ا يجمع بينها تكون جميعها قد نشأت‬
‫عنه؟!!‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي تتمتع فيه مسألة التشابه بين اللغات الساميية بأهميدة معتبرةد ‪،‬هي أكبر من أن‬
‫يتم تجاهلها‪ ،‬فإن لها قيمةا مضاعفةا تنتصب أمامنا عندما نتوقف لنتساءل فيما بيننا وبين أنفسنا‬
‫عن السر الذي اكتنف وجود ألفادظ)‪ (2‬بعينها في القرآن الكريم؛ والتي اعتبرها البعض غريبةا عنه‬
‫ظ عربييةم مائة بالمائة‪،‬‬
‫وعن لغته العربية!‪ ..‬لكننا الن ‪،‬وفي ضوء ما تم طرحه‪ ،‬يتضح لنا بأنها ألفا م‬
‫وكل ما فعله القرآن الكريم هو أنه استعادها بعد أن تناثرت هنا وهناك وبعد أن كاد يطويها‬
‫النسيان؟!!‪.‬‬

‫‪ ()1‬حاشية كتاب المدخل إلى علم اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.199‬‬
‫‪ ()2‬ذكرنا آنف ا أن عددها يتجاوز المائة لفظة‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫ولتعزيز هذه النتيجة؛ فلنتأمل المفاجأة التي فاجأنا بها القرآن الكريم عندما أورد كلمة‬
‫"تميدكر"‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪} :‬فهل من ميدكر{)‪ ..(1‬وكان البعض قد اعتقد أن كلمة "تميدمكر"‬
‫هي لتينية؟! لكن يتضح لنا الن أنها عربية أصيلة وتعني "الذكر"!!…‬
‫ت وضع للناس للذي ببكةن‬ ‫كذلك فاجأنا مرة أخرى عندما قرأنا قوله تعالى‪} :‬إن أول بي د‬
‫تمباركاا{)آل عمران‪ ،(96:‬حيث ذكر القرآن الكريم تلك المدينة هنا باسدم لها لم يكن متداولا‬
‫بين العرب‪ ،‬وقد ذكرها في موضدع آخر باسمها الذي تعرفت به وقت التنزيل‪ ،‬حيث قال عز من‬
‫ف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطمن مكةن من بعد أن أظفركم عليهم{‬ ‫قائل‪} :‬وهو الذي ك ي‬
‫)الفتح‪ (24:‬لكين المفاجأة سوف تتلشى إذا علمنا أن "بكة" هو السم الهيروغليفي لمكة‪،‬‬
‫وهو السم المناسب للتعبير عن الحالة الولى التي جاءت لتتحدث عن أول بيت توضع للناس‪،‬‬
‫فهو اسم لمكة وقت وضع البيت!! وهو اسمم يراعي عربيية القرآن بقدر ما يراعي البعد الزمني‬
‫والتاريخي في هذا الموضوع!!!‪.‬‬
‫ومن المثلة التي فاجأت العرب كذلك وأثارت دهشتهم ما وجدوه وهم يتلون الية‬
‫الكريمة}كأنهم حممر مستنفرة‪ ،‬فرت من قسورة{)المدثر‪(51-50:‬وسبب الدهشة هو أن‬
‫القسورة اسمم للسد لكن في الحبشية؟! وحيق لتلك الدهشة أن تزول؛ وللحيرة أن تختفي بعدما‬
‫علمنا أن كلمة "قسورة" إنما هي كلمةم عربيةم صميمةم قبل أن تكون حبشية!!‬
‫ت واضحدة لوجود عشرات اللفاظ المشابهة‬ ‫وعلى نفسّ المنوال؛ يمكننا الن إيجاد تفسيرا د‬
‫والتي وردت في القرآن الكريم‪ ،‬مما بدا في حينه غريب ا على لغة العرب؛ وذلك من أمثال كلمة‪:‬‬
‫"صابئ"‪ ،‬و"صابي" وهي لفظةم هيروغليفية وتعني "مهدي" وقد وردت في القرآن الكريم في قوله‬
‫تعالى‪} :‬إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئِين)‪ (2‬من آمن بال واليوم الخر{‬
‫)البقرة‪.(62:‬‬
‫‪) ()1‬القمر‪.(15،17،22،32،40،51:‬‬
‫‪ ()2‬اختلفت القوال بصددهم فقال سفيان الثوري‪ :‬الصابئِون قوم بين المجوس واليهود والنصارى وليسّ لهم دين‪،‬‬
‫وقال ابن جرير‪ :‬أن الصابئِين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمسّ‪ ..،‬وقال أبو جعفر الرازي‪ :‬بلغني أن الصابئِين قوم‬
‫يعبدون الملئكة‪ ،‬ويقرءون الزبور ويصلون للقبلة‪ ،‬وقال ابن أبي حاتم‪ :‬الصابئِون قوم مما يلي العراق بكوثى‪ ،‬وهم‬
‫يؤمنون بالنبيين كلهم‪ ،‬ويصومون من كيل سنة ثلثين يوما‪ ،‬ويصلون إلى اليمن كيل يوم خمسّ صلوات‪..‬الخ()تفسير‬
‫القرآن العظيم‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.(148‬‬

‫‪166‬‬
‫وتتشابه ‪،‬كذلك‪ ،‬كلمةت "حنيف" في اللغتين العربيية والهيروغليفية‪ ،‬والحنيف هو "الذي‬
‫أسلم وجهه ل" وهنا ل يقتصتر التشابه بين اللغتين على مجرد التشابه اللغوي‪ ،‬بل يتجاوزه إلى‬
‫معناى عقائدي أرحب هو إسلم الوجه ل!‪...‬‬
‫كما أن الكلمة الهيروغليفية "مو")‪ (1‬تتشابه مع كلمة "ماء" بالعربيية‪ ،‬مما يوحي بالصل‬
‫ف جيدا في العبرية‪ ،‬وهو يجمتع‬
‫الواحد لكلتيهما‪ ،‬وقد اشتتق منها استم النعلنوم "موشي" والمعرو ت‬
‫بين لفظتي الماء والسحر‪ ،‬وقد ورد اسم العلم "موسى" في القرآن الكريم )‪ (129‬مرة‪ ،‬كما في‬
‫قوله تعالى‪} :‬وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون{)البقرة‪...(53:‬‬
‫ب" في العربيية‪ ،‬وقد وردت‬ ‫م‬
‫كذلك تتشابه كلمةت "نحنتب" في الهيروغليفية مع كلمة "نحطن و‬
‫الخيرةت في قوله تعالى‪} :‬وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباا{)الجن‪.(15:‬‬
‫ظ كثيرةم أخرى من أمثال‪" :‬الخرت" والتي تقابلها "الخرة" في العربيية‪ ،‬وكذلك‬
‫وهناك ألفا م‬
‫"قرارة" والتي تقابلها في العربيية "دار القرار"!!‪...‬‬

‫العربية والعبرية‪ ..‬الصمل والفرع!!‬


‫والتشابه بين العربيية والعبرية )على وجه الخصوص( كبيمر جداا‪ ،‬وهو أكبتر من أن تخطئِه‬
‫العيون أو أن تتجاهله اللباب‪ ،‬إلى الدرجة التي يمكن معها الطمئِنان إلى وجهمة النظمر القائلة بأن‬
‫العبرية إن هي إل واحداة من لهجات العرب!!‪ ..‬بل إن العبرية ‪،‬وبسبب حالة النغلق التي‬
‫فرضها أهلها على أنفسهم؛ قد تمكنت من المحافظة على أصالمة كثيدر من اللفاظ ذات الصل‬
‫العربيي! والتي هي في غاية التعبير عن المعاني المقصودة من ورائها؛ كلفظة‪" :‬دين" والتي تعني‬
‫في العبرية "القضاء" أو "الحساب" وقد وردت كلمة "دين" في القرآن الكريم لتشير إلى نفسّ‬
‫المعنى‪} :‬مالك يوم الدين{)الفاتحة‪(4:‬أي مالك يوم القضاء والحساب‪ .‬ووردت بالمعنى ذاته‬
‫في قوله تعالى‪}:‬يومئِدذ يوفيهم الت ديننـتهتم الحق{)النور‪ (25:‬أي يوفيهم حسابهم!‪..‬‬

‫‪ ()1‬لم ترد في القرآن الكريم بهذا الشكل الحرفي‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫أما كلمة "مسـمفر" في العبرية‪ ،‬والتي تعني "كتاب" فهي كلمةم معروفةم في العربيية جيدا؛ وتتلف ت‬
‫ظ‬
‫"مسوفر" بتسكين الفاء‪ ،‬وجمعها "أسفار"‪ ،‬وقد وردت في قوله تعالى‪} :‬نمثنتل الذين تحيملوا التوراةن‬
‫ثم لم يحملوها كمثمل الحمامر يحمتل أسفاراا{)الجمعة‪..(5:‬‬
‫أما الكلمة العبرية "مشولتتوون" والتي تعني السلطة والحكم؛ فما هي إل اللفظ المحيرف للكلمة‬
‫العربية‪" :‬سلطان"! وقد وردت في قوله تعالى‪} :‬يا معشر الجين والنسّ إن استطعتم أن تنفذوا‬
‫من أقطار السموات والرض فانفذوا ل تنفذون إل بسلطان{)الرحمن‪..(33:‬‬
‫أما كلمة "عنان" في العبرية والتي تعني الغيم‪ ،‬فلها نفسّ المعنى في العربيية‪ ،‬إل أن كلمة‬
‫ل‪ ،‬لكن المتذوقين للغة العربيية كثيرا ما يستخدمون‬
‫"غيم" في العربيية هي أكثر شيوعا واستعما ا‬
‫هذا اللفظ الفصيح‪ ،‬كما في قولهم‪) :‬عنان السماء(!!‪.‬‬
‫وتتضح عروبةت اللفاظ المذكورة إذا ما درسناها في ضوء إمكانية الشتقاق منها‪ ،‬وهو ما يدل‬
‫ت أخرى ل تكتسب‬ ‫ظ الواردنة إلينا من لغا د‬
‫ظ عربييةم أصيلة؛ إذ ألن اللفا ن‬
‫بشكل قاطع على أنها ألفا م‬
‫ن وميـنزنة الشتقاق منها‪ ،‬فدخوتل كلمة "كمبيوتر" ‪،‬على سبيل المثال‪ ،‬إلى اللغة العربيية لتدل على‬
‫ت إضافية‪ ،‬بينما يمكن الشتقاق من‬ ‫جهاز الحاسوب ل يعني أننا نستطيع أن نشتق منها كلما د‬
‫ت أخرى ككلمة‪ :‬قلم )قنـلينم‪ ،‬يتـنقلمتم(‪ ،‬و برهان‬‫ض ‪،‬خطأ‪ ،‬أنها مأخوذةم من لغا د‬
‫ت اعتقند البع ت‬ ‫كلما د‬
‫)بنـورنهنن‪ ،‬يتـبنـورمهتن( مما يدل دللة قاطعة على عروبتها!!‪..‬‬
‫ح إمكانيةا جديةا لن تكون اللغات التي تنسبت إليها‬ ‫ص إليها تطر ت‬
‫من هنا فإن النتيجةن التي نخل ت‬
‫تلك اللفاظ إنما هي في حقيقتها مجرتد فرودع لمرلغة العربيية)‪ (1‬وأنها قد اشتقت جميعها من لغة‬
‫أصليية هي العربية والتي تيحتمل)‪ (2‬أن تكون هي اللغة الصليية للنسانية جمعاء!!‪..‬‬

‫‪ ()1‬صدر في جمهورية مصر العربية قبل عدة سنوات كتاب أثار كثيرا من الجدل‪ ،‬وهو بعنوان "الهيروغليفية تفسر‬
‫القرآن"‪ ،‬ويذهب مؤلفه الباحث سعد عبد المطلب العدل إلى أن الحرف المقطعة في القرآن الكريم والتي تفتتح‬
‫بها بعض سورة؛ إنما هي عبارة عن حروف صوتية هيروغليفية‪ ،‬وقد أثار الكتاب كثيرا من الجدل‪ ،‬إذ أن التسليم‬
‫بهذا المر يؤدي بالضرورة إلى التسليم بأن القرآن الكريم يحتوي على ما هو غير عربي!‪ ..‬ومع احترامنا لجتهاد‬
‫مؤلف ذلك الكتاب‪ ،‬وعلى الرغم من عدم قراءتنا له‪ ،‬إل أننا نبقى على رأينا بأن كل ما في القرآن هو عربي‪ ،‬وبأن‬
‫العربية إنما هي أصل للهيروغليفية وليسّ العكسّ!‪..‬‬
‫‪ ()2‬نحن هنا ل نجزم لن الجزم يحتاج إلى برهان‪ ،‬ونحن نعتقد بأن هناك احتمالا في أن تكون كيل اللغات‬
‫النسانية هي من أصل واحد‪ ،‬ويفسر البعد بين السر المختلفة للغات بأن عملية انشقاق اللغة قد حصل في‬
‫ل‪ :‬ما هو التفسير لتشابه بعض اللفاظ حتى بين اللغات‬ ‫أوقات مبكرة من عمر البشرية‪ ،‬وإل فللمتشكك نطرح سؤا ا‬

‫‪168‬‬
‫وقد تناول القرآتن الكريتم الصنل المشترنك الذي يجمتع الخلنق كللهم‪ ،‬وذلك حين تحدث عن‬
‫خلمق البشمر أمةا واحدة‪ ،‬ثم توتزمعهم أمم ا مختلفة؛ وانشقاق اللغة الواحدة ‪،‬من ثيم‪ ،‬بينهم‪ ،‬وقد‬
‫ث الت النبيين‬
‫س أمةا واحداة فبع ن‬
‫ض القرآتن الكريتم لهذه الحقيقة في قوله تعالى‪} :‬كان النا ت‬
‫نعنر ن‬
‫ب بالحق{)البقرة‪..(213:‬‬ ‫م‬
‫مبشرين ومنذرين؛ وأنزنل معهم الكتا ن‬
‫د‬
‫وأخيرا… فإن ما وصلنا إليه من مفهوم جديدد للعربيية؛ والذي )قد( يرشحها لن تكون أصلا‬
‫لكل ما جاء بعدها من لغات؛ إنما يرسي مفهوم ا جديدا للعروبة التي جاء القرآن الكريم واصف ا‬
‫نفسه بها!‪..‬‬
‫ت من الوقات‪ ،‬فقط إرسادء المفهوم‬
‫‪ ..‬فعروبةت القرآن الكريم لم يكن المقصود منها ‪،‬في وق د‬
‫ب والذي يفيد النتماء العرقي لجنسّ العرب‪ ،‬ونعتقد بأن اليات الكريمة التي تحدثت عن‬ ‫قري د‬
‫عروبة القرآن لم تكن تقصد أن تنسب القرآن للعرب كجنسّ؛ بقدمر ما كانت تقصد نسبة العر ن‬
‫ب‬
‫أنفسهم للغمة القرآن الكريم؛ لن عروبة الخير هي الصل!!‪.‬‬
‫بل إن القرآن الكريم وهو تيريستخ مفهونم احتوائه على أصمل لغات البشرية جمعاء؛ إنما تيعزز‬
‫احتمالت أن تكون اللغة العربيية المقصودة في القرآن الكريم إنما هي اللغةت التي أوحاها ال عيز‬
‫وجيل لدم عليه السلم }وعلم آدم السماء كلها{)البقرة‪ (31:‬والتي توزعت على أمم البشرية‬
‫جمعاء فيما بعد‪.‬‬

‫المتباعدة‪ ،‬مثل‪ :‬أرض والتي تقابلها ‪ EARTH‬في النجليزية‪ ،‬كذلك التشابه بين لفظتي فردوس العربيية و‬
‫‪ Paradise‬في النجليزية والتي تعني الجنة‪،‬كما أن هناك تشابه ا بين لفظة "غرس" في العربيية ولفظة ‪ GRASS‬والتي‬
‫تعني عشب في النجليزية‪ ...‬وكذلك التشابه في اسم العلم "آدم" )أبو البشر( بين العربيية والنجليزية‪ ..‬الخ‪..‬‬
‫وكلها مجرد نماذج قريبة تشير إلى ضرورة دراسة هذا الحتمال دراسة واعية جادة‪..‬‬

‫‪169‬‬
‫ومن هذا المنظور؛ والذي يشير إلى أن مجموعةا كبيراة من اللغات )التي اعتقدنا خطأا بأنها ل‬
‫ت للعربية بصلة( إنما تشكل ‪،‬في حقيقة المر‪ ،‬روافد لصدل لغودي واحدد هو العربية ببعدها‬‫تم ي‬
‫الرباني؛ وأن عملية إعادة توحيد تلك الروافد في لغدة واحدة )هي في أصلها من عند ال( إنما‬
‫يضارعت في معناه حقيقةن استكمال الدين في هذا الوجود!‪ ..‬وذلك عبر توحيد الرسالت‬
‫واستكمالها في رسالدة واحدةد خاتمة‪ ،‬والتي قال فيها رسول ال)صلى ال عليه وسلم(‪) :‬مثلي‬
‫ومثتل النبيامء من قبلي كمثمل رجدل ابتنى بيت ا فأحسنه وأجمله إل موضنع لبندة من زاوية‪ ،‬فجعنل‬
‫س يطوفون به؛ ويعجبون منه؛ ويقولون‪ :‬لول هذه اللبنة‪ ،‬فأنا اللبنة‪ ،‬وأنا خاتم النبيين()متفق‬
‫النا ت‬
‫عليه(‪.‬‬

‫توحيد الدين واللغة‪ ..‬وجهان لحقيقة واحدة!!‬


‫وفي ضومء ما نطرحه هنا يمكننا الولوج إلى حقيقة هامة مفادها أن توحيد الدين في رسالدة‬
‫خاتمدة ‪،‬هي السلم‪ ،‬إنما ترافق مع حقيقة أخرى تمثلت في إعادة توحيد اللغمة أيضاا! ليصبحا‬
‫فيما بعد دللةا على جوهدر عالمدي واحدد هو رسالة السلم‪ .‬فبتنيزل القرآن الكريم بالعربيية لم تعتمد‬
‫ث التحوتل الذي أصبح‬ ‫ب وحدهم‪ ،‬بل أصبحت لغةن الدين الجامع‪ ،‬وهنا حد ن‬ ‫العربييةت لغةن العر م‬
‫بموجبه كيل من يتكلتم العربييةن عربييا؛ حتى لو لم تكن الدماءت العربيةت تجري في عروقه! إذ أصبحت‬
‫اللغةت خيارا إنساني ا عاما )وليست خاصة بعرق معين( وتمرادف ا لخيار للدين‪ .‬وصدق رسول‬
‫ال)صلى ال عليه وسلم( حيث قال‪) :‬إنما العربيية اللسان(‪.‬‬

‫إرث إنساني مشترك!!‬

‫‪170‬‬
‫وإذا ما استقر بنا المتر على ما وصلنا إليه؛ فإن القرآن الكريم ‪،‬بأبعاده الرسالية المختلفة‪،‬‬
‫يمكنه أن يفتح لنا آفاق ا رحبةا ونوافنذ واسعةا لستشراف العالمية التي جاء السلم ليمارس‬
‫وظيفته في ساحاتها‪ ،‬فالقرآن الكريم ‪،‬وفق هذا المنطق‪ ،‬يحتوي على ألفاظ تحمل في ثناياها كيل‬
‫معاني الدهشة! إذ وعلى الرغم من كونها ألفاظا عربيةا خالصة؛ إل أنها تمثتل ‪،‬في الوقت ذاته‪،‬‬
‫ت عزيزاة مثيراة للنفعال لدى أقوادم آخرين! وتمثتل تلك اللفاظ ‪،‬في‬‫إرث ا أثيرا محبباا؛ وذكريا د‬
‫الوقت ذاته‪ ،‬بعض ا من مسيرة التاريخ النساني المشترك!؟‪..‬‬
‫سّ غينر العرب؛ تماما بقدر مساسها للعرب‬‫لقد آن الوان أن ندرك أين عربيية القرآن الكريم تم ت‬
‫أنفسهم‪ ،‬فورود كلمدة واحدةد في القرآن الكريم من لغدة قديمة؛ تيعتبر تشريفا لتلك اللغة ولهلها‬
‫جميعاا‪ ،‬ذلك أنهم وجدوا ‪،‬أخيراا‪ ،‬ضالتهم المنشودة!! وجدوا لغتهم الضائعة؛ ولو كان ذلك من‬
‫خلل كلمدة واحدة مبثوثة في ثنايا اليات هنا أو هناك؟!‪.‬‬

‫العروبة‪ ..‬أبعاد نسبية متعددة!!‪..‬‬


‫ي في القرآن الكريم؛‬
‫ب اللغو ت‬
‫لكن؛ وبعيدا عن الشارات التي يمكن أن يوحي بها الجان ت‬
‫والذي تيعبتر عن العروبة في مستواها الدنى وبمعناها المتداول في حياتنا اليومية؛ فإن المستوى‬
‫العلى للعروبة يمكن أن تيمثتل مفهوم ا مطلق ا لها‪ ،‬وقد جاء ذلك المفهوم ل ليكون إخبارا عن‬
‫اللغة التي تنيزل بها القرآن الكريم‪ ،‬بل ليكون صفةا موضوعيةا مقترنةا بالنص القرآني ذاته‪ ،‬ويمكن‬
‫للعروبة ‪،‬وفق هذا التصور‪ ،‬أن تذهب مذهبا تكون معه صفةا لذلك الجمع المحكم للقرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وهو ما يميتز كلنم ال عن كلم البشر‪ .‬والعروبة)‪ (1‬وفق هذا التصور تتشابه وعروبة‬
‫العرب بمعناها القومي )ذات المضمون النسبي( لكنها ل تنطبق عليها انطباق ا كاملا بأي‬
‫حادل!!‪.‬‬

‫ب عتتروبةا وعروبية ونعنرابة ونعنربا و عتتروبا‪ :‬تكلم بالعربيية ولم يلحن‪ /‬كان عربييا‬
‫)( عرب‪ :‬عرب عربا الطعام‪ :‬أكله‪ ،‬دنعتر ن‬
‫‪1‬‬

‫سنه وأفصح ولم‬ ‫فصيحا‪ .‬نعمرب الرجل‪ :‬فصح بعد لكنة في لسانه‪ ،‬نعيرب عنه لسانه‪ :‬أبان وأفصح‪ ،‬أعرب كلمه‪ :‬ح ي‬
‫ب بالكلم‪ :‬بينه‪ .‬أعرب الرجل‪ :‬لم يلحن في الكلم‪ .‬العتورب و النعنرب‪ :‬جيل من الناس بلدهم شبه‬ ‫يلحن‪ .‬أعر ي‬
‫ب‪ :‬كرائم سالمة من الهجنة‪ .‬العربيية‪ :‬مؤنث‬ ‫ا‬
‫ر‬ ‫جزيرة شرقي البحر الحمر‪ .‬رجل عمرب‪ :‬فصيح‪ .‬خيل أو إبل م‬
‫ع‬
‫م‬ ‫ن‬
‫العربيي‪ /‬اللغة العربيية‪ :‬ما نطق به العرب‪) .‬المنجد في اللغة والدب والعلوم‪،‬ص ‪.(495‬‬

‫‪171‬‬
‫ومما يدفع للعتقاد بأن العروبة في القرآن الكريم إنما تقصد بها جانب الفصاحة والبيان ولم‬
‫يقصد بها ‪،‬فقط‪ ،‬العروبة ببعدها القومي؛ ما قاله ابن أبي حاتم)‪) :(1‬حدثنا أبي‪ ،‬حدثنا عبد ال بن‬
‫أبي بكر العتكي‪ ..‬قال‪ :‬بينما رسول ال)صلى ال عليه وسلم( مع أصحابه في يوم دجن إذ قال لهم‪:‬‬
‫)كيف ترون بواسقها؟( قالوا‪ :‬ما أحسن وأشلد تراكمها‪ .‬قال‪) :‬فكيف ترون قواعدها؟( قالوا‪ :‬ما‬
‫سننها وأشيد تمكننها‪ .‬قال‪) :‬فكيف ترون جونها؟( قالوا‪ :‬ما أحسنه وأنشلد سواده‪ .‬قال‪:‬‬
‫أح ن‬
‫)فكيف ترون رحاها استدارت؟( قالوا‪ :‬ما أحسنها وأشلد استدارتها‪ .‬قال‪) :‬فكيف ترون بنـورقنـنها‪:‬‬
‫ض أم نخوفمو أم يشتق شقاا؟(‪ .‬قالوا‪ :‬بل يشتق شقاا‪ .‬قال‪) :‬الحياء الحياء إن شاء ال( قال )أي‬
‫أومي م‬
‫ب‬‫ت الذي هو أعر ن‬ ‫ابن أبي حاتم(‪ :‬فقال رجمل‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬بأبي وأمي‪ ،‬ما أفصحك‪ ،‬ما رأي ت‬
‫منك؟!!‪ ..‬قال‪ :‬فقال‪) :‬حيق لي؛ وإنما تأنزنل القرآتن بلساني‪ ،‬وال يقول‪} :‬بلسادن عربيي تمبين{‪..‬‬

‫ط واضمح ل لبسّ فيه!‪.‬‬


‫والربط هنا بين الفصاحة وعروبة القرآن الكريم رب م‬

‫‪ ()1‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ج ‪ ،3‬ص ‪..462‬‬

‫‪172‬‬
‫أثر القرآن الكريم‬
‫في تشكيل الوعي الزمني عند العرب‬

‫ما الذي أردنا قوله في هذا البحث؟‬

‫لم يكن السلم حدث ا عابرا في حياة العرب‪،‬‬


‫بل كان له مجموعة من التأثيرات التي غيرت‬
‫في منهجية التفكير لدى العرب وفي طرق‬
‫تفكيرهم‪..‬‬
‫لجل ذلك فقد فاجأ المسلمون العالنم‬
‫بمناهجهم التأصيلية الفيذة‪ ،‬التي استخدموها‬
‫للحفاظ على تراثهم الديني والعلمي‪..‬‬
‫وفي هذا المقال نرى بعضا من ملمح النقلة‬
‫المنهجية التي نقلها القرآن للناس‪ ،‬فغير‬
‫مفاهيمهم التي رأوا الشياء من خللها‪ ،‬وقد‬
‫اتخذنا نظرتهم لمفهوم الزمن مثال على تلك‬
‫النقلة‪(..‬‬

‫‪173‬‬
‫أثر القرآن الكريم‬
‫في تشكيل الوعي الزمني عند العرب)‪(1‬‬

‫تمهيد‬
‫ب يومها نظرةت عميقة إلى داخل‬
‫كان الذي يحكم العر ن‬ ‫عندما تبعث محمد )صلى ال عليه وسلم(‬
‫ت متفتحدة وأحاسيسّ مرهفة‪ .‬أعانهم على ذلك ما جادت به‬
‫ذواتهم‪ ،‬وذلك من خلل ذوا د‬
‫قرائتحهم من ديوان الشعر؛ الذي سجلوا من خلله أديق تفاصيل حياتهم؛ سواء على المستوى‬
‫الذاتي )الفردي( أو على المستوى الجماعي المتمثل بالقبيلة‪..‬‬
‫وشاء ال عز وجل أن يتفضل على هذه المة بنعمة السلم والقرآن‪ ،‬حيث أحدث الخير‬
‫ت ظاهردة؛‬
‫في نفوس العرب وقلوبهم مسارب عميقة‪ .‬ولم يقتصر فعله على ما أحدثه من تأثيرا د‬
‫سّ‬
‫تمثلت في منظومة الخلق والعبادات والمعاملت‪ ،‬لكن اتضح بعد أعوام قليلة أنه قد م ي‬
‫عقولهم وأفئِدتهم وطرق تفكيرهم فأعاد تشكيلها وصياغتها من جديد!‪..‬‬
‫لقد كان للقرآن الكريم تأثيرا عجيباا‪ ،‬إذ فتح عيون العرب وقلوبهم على ما حولهم من مظاهر‬
‫لقة بعد أن كانت تتجه دائما إلى ذواتهم‪ ،‬فإذا الرض من حولهم غير الرض؛‬
‫كونية خ ي‬
‫والسماوات‪ ،‬وإذا كتل الشياء من حولهم ليست ما عهدوه‪ ،‬فلم تعد الرض مرابع للقبيلة بقدر‬
‫ما أصبحت مرتع ا خصب ا للتفكر ولمعان النظر‪ ،‬يحدوهم في رحلتهم تلك قوله تعالى‪} :‬قل‬
‫سيروا في الرض فانظروا كيف بدأ الخلق{ ولتتتخنذ )اليات( بعد ذلك تمرتكزا لدراسة التاريخ‬
‫وآثار الغابرين‪..‬كذلك لم تعد السماء ما كانت عليه‪ ،‬إذ لم تعد مجرد موطدن لقمدر أشبه ما يكون‬
‫بوجه الحبيبة‪ ،‬بل تحولت صفحتها إلى ساعة زمنية تتحسب بها أعمار الغابرين وعبادات‬
‫المقبلين‪ ..‬فكيف تأتي لتلك العقول أن تتأثر بالقرآن الكريم بمثل ذلك القدر! وكيف كان‬
‫للقرآن الكريم مثل ذلك التأثير؟!‪..‬‬

‫‪ ()1‬هذه الدراسة مدينة بالعديد من أفكارها لكتاب "دراسات في تاريخ الثقافة العربيية" خالدوف وآخرون‪ ،‬وقد‬
‫وجب التنويه اعترافا بالحق لهله‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫النسان وثلثية "عناصر الحضارة"‬

‫لقد خلق ال ‪،‬عز وجل‪ ،‬النسان واستخلفه في الرض ليعمرها‪ ،‬والعمران للرض هو عينه ما‬
‫اصطلح علي تسميته بـ "الحضارة" إل أن "العمارة" و "العمران" تتضمن بين ثناياها "فضيلة‬
‫التوجه نحو وجه ال الكريم" مصداقا لقوله تعالى‪:‬‬
‫}اعبدوا ال ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها{)هود‪(61:‬‬
‫ولكي ينشأ العمران )أو التحضر( في مكان ما؛ فلبد من توفر مجموعدة من العوامل التي‬
‫تعتبر أساسية لنشأة أية حضارة‪..‬‬
‫ويعتبر "النسان" العنصر الول من العناصر الواجب توافرها لنشأة التحضر والعمران في‬
‫مكان ما‪ ..‬ويحدد القرآن الكريم السمتين الساسيتين للعنصر النساني المنشئ للحضارة‬
‫وذلك بقوله‪:‬‬
‫}سنريهم آياتنا في الفاق وفي أنفسهم{)فصلت‪(53:‬‬
‫سّ؛ الذي تيرسل عينا‬
‫وتصور الية الكريمة "إنسان الحضارة" بأنه ذلك الكائن مرهف الح ي‬
‫على ذاته يستبطنها؛ ويرسل الخرى على العالم المحيط به؛ في محاولدة منه لكتشاف ذلك‬
‫العالم واستكناه أسراره!!‪..‬‬
‫أما العنصر الثاني من عناصر الحضارة؛ فهو عنصر "التراب"‪ ،‬وهو إطلق مجازي يقصد به‬
‫"جميع المكانات المادية اللزمة لنشوء الحضارة"‪ ،‬والتي تتضمن‪ :‬المصادر الطبيعية والمواد‬
‫الخام‪ ،‬مصادر الطاقة بأنواعها )متجددة وغير متجددة( البنية التحتية من وسائل اتصال‬
‫ومواصلت‪..‬الخ‬
‫وقد تعرض القرآن الكريم لبعض تلك المكانات على اختلفها وذلك في قوله عز وجل‪:‬‬
‫}وسخر لكم الشمسّ والقمر كل يجري لجل مسمى{)الرعد‪(2:‬‬
‫}وسخر لكم الفلك في البحر بأمره وسخر لكم النهار{)إبراهيم‪(32:‬‬
‫}وسخر لكم الليل والنهار والشمسّ والقمر والنجوم مسخرات بأمره{)النحل‪..(12:‬‬
‫}وسخر لكم ما في السموات والرض جميع ا منه{)الجاثية‪..(13:‬‬

‫‪175‬‬
‫وهو تسخير يفيد ‪،‬في مجمله‪ ،‬كافة الموارد الطبيعية اللزمة لقيام الحضارة من‪ :‬طاقة‪ ،‬موارد‬
‫مائية‪ ،‬وسبل مواصلت‪..‬الخ‪..‬‬
‫ومن نافل القول أن استثمار تلك المكانات المادية )التراب( إنما يحتاج إلى إنسادن تمبدع‬
‫يستلهم الدور المنوط به في الحياة ليحققه‪ ،‬ويعرف معنى "التسخير" اللهي لتلك الموارد فيقوم‬
‫به؛ وهي المعرفة اللزمة لتفاعل النسان والطبيعة من حوله لكي يجعل من مواردها معين ا له على‬
‫تحقيق رسالته‪ ..‬لكن المكانات المادية المسخرة لخدمة النسان وتحقيق أهدافه؛ إنما هي‬
‫عرضةم للضياع إن لم تصادف النسان الواعي لحدود دوره؛ المبدع في تصوراته؛ والمقيدر لنعم‬
‫ال عليه‪..‬‬
‫ومع كل هذا فإن اجتماع هذين العنصرين )النسان والتراب( ل يضمنان إنشاء الحضارة‬
‫ونشر العمران‪ ،‬فهما بحاجدة إلى رابدط أو ناظدم ينتظمهما معاا‪ ،‬وهذا الرابط ليسّ في حقيقته إل‬
‫عنصر "الوقت" ويجب أل يطوف في خيالنا المعنى البسيط والقريب لهذا المصطلح‪ ،‬ذلك أن‬
‫نظرة النسان للوقت إنما تتوقف عليها كل تصرفاته‪ :‬حيال نفسه؛ وحيال غيره؛ وحيال كل ما‬
‫هو موجود من حوله‪ ،‬وقد تضمنت الية الكريمة ذلك المعنى }وسارعوا إلى مغفرة من ربكم{‬
‫إشارة هامة إلى ضرورة استغلل عنصر الوقت بحيث يتم اكتساب أكبر قدر من العمل في أقل‬
‫وقت ممكن!!‪.‬‬
‫وسنحاول في هذه الدراسة المتواضعة أن نقوم بتوصيف الدور الريادي الذي قام به القرآن‬
‫الكريم في سبيل "إعادة تشكيل" و"نم ونـنهنجة" العقل العربي في مجال التعامل مع الوقت‪ ،‬وذلك‬
‫كمقدمة لبد منها لعادة تشكيل بنية الوعي الحضاري لسكان شبه الجزيرة العربية‪.‬‬
‫بكلمات أخرى‪:‬‬

‫‪176‬‬
‫نريد أن نقوم بعملية استبطان للوعي الذاتي لدى النسان العربي قبل البعثة؛ ومحاولة توصيف‬
‫كيفية تعامله مع عنصر الوقت؛ والكيفية التي تغير وفقها ذلك الوعي ‪،‬بعد ذلك‪ ،‬نتيجةا لتفاعل‬
‫العقل العربي مع القرآن‪.‬‬

‫بين منهجين‪ :‬طبيعي وموضوعي‬


‫يتميز النسان عما حوله من مظاهر الكون الجامدة بكونه مخلوقا حياا‪ ،‬يأكل‪ ،‬ينام يتنفسّ‪،‬‬
‫يتزاوج‪ ،‬ويتحرك‪ ..‬وجميعها مظاهر لحياة ذلك الكائن‪ ..‬ومع ازدياد معرفة النسان بذاته بدأ‬
‫يتضح له بأن جميع العمليات الحيوية التي تتم داخل جسده تتم وفق وتيرة منتظمة؛ تتكرر كل‬
‫أربع وعشرين ساعة‪ ،‬يحكمها في ذلك ساعة زمنية بيولوجية دقيقة‪ ،‬تحدد ابتداء العمليات‬
‫الحيوية؛ وتصاعدها المتدرج؛ وصولا إلى ذروتها‪ ،‬استعدادا لبلوغها نهايتها الطبيعية‪ ،‬ولتبدأ مرة‬
‫أخرى من جديد‪.‬‬
‫ولم يكن غريب ا ‪،‬والحالة هذه‪ ،‬أن ينام النسان في وقت محدد؛ وأن يستيقظ في نفسّ ميعاد‬
‫استيقاظه كل يوم‪ ..‬الخ ليتكرر ذلك النظام الحيوي على توالي اليام‪ ،‬وإذا ما تغير نظام عيش‬
‫ل‪ ،‬أو العمل في ورديات مسائية( فإن اضطرابا يمكن أن‬
‫النسان بفعل أي طارئ )كالسفر مث ا‬
‫يطرأ على عمل تلك الساعة‪ ،‬ويظل ذلك الضطراب قائما ومسيطرا على حياة النسان إلى أن‬
‫يعتاد على نظام حيوي جديد تتم عملياته الحيوية وفقه‪ ..‬وهذا هو ما نطلق عليه اسم "الزمن‬
‫الطبيعي" أو "الحيوي" أو "البيولوجي"‪..‬‬

‫‪177‬‬
‫ومما يتميز به الزمن الطبيعي البيولوجي أنه يتكون لدى الكائن الحي نتيجة عوامل داخلية‬
‫بحتة)‪ (1‬وتؤثر )أو تتأثر( به أحاسيسّ النسان‪ ،‬فعلى سبيل المثال فإن الحالة النفسية للشخص‬
‫تؤثر في طريقة حسابه لهذا النوع من الزمن‪ ..‬سواء في حالت الفرح أو الحزن!‪..‬‬
‫ومما يتميز به الزمن الطبيعي ‪،‬كذلك‪ ،‬أنه زمن "فردي"‪ ،‬بمعنى‪ :‬أن تأثيره يكون محصورا في‬
‫الشخص ذاته؛ ول يتعداه إلى الخرين‪ ،‬وتختلف طريقة الحساس بهذا الزمن من شخص لخر‬
‫بفعل الفروقات الفردية المتعلقة بالحالة المزاجية‪ ،‬وبفعل الحالة النفسية كذلك‪ .‬وقد وجدنا أن‬
‫الشاعر العربي امرئ القيسّ قد تأثرت قدرته على الحساس بهذا النوع من الوقت نظرا للحالة‬
‫سّ معها‬
‫النفسية والمزاجية الصعبة التي عاشها في لحظة من اللحظات‪ ،‬إلى الدرجة التي أح ي‬
‫بتوقف الزمن كلي ا عن الحركة؛ وهو ما ظهر في أبياته الشعرية‪:‬‬
‫بصبح وما الصباح منك بأمثل‬ ‫أل أيها الليل الطويل أل انجل‬
‫بكيل مغار الفتل تشيدت بيذبـل‬ ‫فيا لك من ليدل كأن نجومـه‬
‫من هنا؛ فل يعتبر الزمن الطبيعي )الفردي( ناظما ‪،‬بطبيعته‪ ،‬لحياة الفراد؛ أو باعثا ومحفزا‬
‫لحركتهم الجماعية في الحياة؛ بل يقتصر دوره على كونه محرك ا لمشاعر الفراد تجاه ما يموج‬
‫حولهم من أحداث‪ ،‬فتأتي انعكاسات تلك الحداث على مرايا نفوسهم وقد تلونت بطبيعة ذلك‬
‫الزمن؛ ومتأثرة به!‪..‬‬

‫‪ ()1‬صحيح بأن الزمن البيولوجي هو زمن داخلي بالنسبة للنسان إل أنه أصبح شائعا اليوم ان الضوء تحديدا هو ما‬
‫يقوم بتنظيم الساعة البيولوجية للكائنات‪ ،‬فإذا ما تغيرت دورة الضوء لسبب من السباب اضطربت حينها الساعة‬
‫البيولوجية للنسان‪ ،‬على سبيل المثال‪ :‬فغن انتشار الضوء الصناعي الذي أحال الليل نهارا سبب للنسان الكثير‬
‫من الضطراب في النوم‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫كذلك فمما يتميز به الزمن )البيولوجي( الطبيعي أنه "غير تراكمي" فهو ‪،‬من هذه الناحية‪،‬‬
‫يصلح للتعامل مع عواطف الناس ومشاعرهم؛ لكنه غير صالح لتوصيف وقياس الظواهر‬
‫الموضوعية في حياتهم)‪ (1‬والسبب في عدم صلحيته لذلك ينبع من كون الطبيعة من حولنا‬
‫ذات طبيعة تراكمية مستمرة!! بمعنى‪ :‬أن أحداثها ممتدة مستمرة ومتصلة‪ ،‬ويمثل حاضرها‬
‫امتدادا طبيعيا لماضيها‪ ،‬ولننظر ‪،‬مثل‪ ،‬إلى الجبال من حولنا؛ حيث تعتبر السلسل الحالية‬
‫امتدادا طبيعي ا لعمليات جيولوجية استغرقت آلف السنين ‪،‬ولزالت مستمرة‪ ..‬الخ‪ ،‬فكل تلك‬
‫الظواهر ابتدأت مع ابتداء تخلق كوكب الرض أو وجدت في مرحلة لحقة لتلك البداية ول‬
‫زالت مستمرة في تكيونها وانحللها حتى يومنا هذا‪ ،‬حيث يعتبر وجودها الحالي استمرارا‬
‫لوجودها الماضي‪..‬‬
‫وللدللة على الطبيعة "التراكمية" لزمن الظواهر الطبيعية )الزمن الموضوعي( فإن عينةا من‬
‫اليورانيوم المشع يمكن أن تفيدنا في تقدير عمر الرض؛ وذلك من خلل قياس نسبة الرصاص‬
‫في العينة؛ والمتحول عن المادة الصلية وهي اليورانيوم)‪..(2‬‬
‫أما فيما يتعلق بنشأة الحضارات النسانية وتطورها؛ فقد كان الزمن الموضوعي ‪،‬باستمرار‪،‬‬
‫عنصرا ل يمكن الستغناء عنه لقامة تلك الحضارات وتطويرها‪ ،‬حيث أن طريقة حساب الوقت‬
‫في تلك الحالة إنما هي جزء ل يتجزأ من إدراك النسان للقوانين الطبيعية اللزم معرفتها لدراك‬
‫كنه الحياة وطريقة عملها‪ .‬ويمكن القول أن جميع المم التي استطاعت أن تنشئ حضارات‬
‫متميزة خاصة بها إنما كان ذلك بفعل التوظيف الصحيح والناجع للعناصر الثلثة ‪،‬آنفة الذكر‪،‬‬
‫مجتمعة‪..‬‬

‫‪ ()1‬على سبيل المثال ل يمكن التعامل مع العلوم من خلل الزمن البيولوجي‪ ،‬فالتغيرات الطبيعية والتفاعلت‬
‫الكيميائية مثل تحتاج لمفهوم الزمن الموضوعي للتعامل معها‪..‬‬
‫‪()2‬ومن المعروف أن اليورانيوم ينحل بالشعاع؛ بحيث تتحول نصف الكمية منه إلى رصاص خلل فترة زمنية معينة‬
‫تدعى "فترة عمر النصف"‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫ظ من الحضارة والمدنية إنما كان مرجع ذلك ‪،‬من جملة‬
‫وعليه؛ فإن المم التي لم يكن لها ح م‬
‫عوامل أخرى‪ ،‬افتقارها إلى التوافق والتناغم بينها وبين الطبيعة من حولها‪ ،‬ففيما تكون نظرة‬
‫أولئِك القوم إلى أنفسهم وطريقة تفكيرهم فيما حولهم محكومة بالزمن البيولوجي‪ ،‬فإن العالم من‬
‫حولهم يتحرك وفق قوانين موضوعية بحتة!!‪..‬‬
‫لقد كان إحساس النسان العربي في شبه الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية الشريفة‬
‫إحساس ا بسيطا‪ ..‬إحساسا بيولوجي ا طبيعي ا أكثر منه "موضوعياا"‪ .‬ولم يكن العرب في ذلك‬
‫استثناء بين المم‪ ،‬إذ أن الحساس البيولوجي أو "الطبيعي" بالزمن كان ‪،‬ول يزال‪ ،‬السمة البارزة‬
‫التي تميز المجتمعات البدائية والقبلية‪.‬‬
‫ومع استقرارنا على حقيقة أن ما كان يحكم السلوك العربي قبل السلم إنما كان أساسه‬
‫إحساس عميق بالذات؛ نتج عنه منهج طبيعي بيولوجي في مراقبة العالم المحيط؛ فيمكننا أن‬
‫نستنتج بأن تلك الطريقة في مراقبة الحياة والتفاعل معها قد ألقت بظللها على مجموعة من‬
‫المفاهيم الذهنية التي كانت تراود العرب قبل البعثة المحمدية‪ ،‬حيث كان للحياة ‪،‬بالنسبة لهم‪،‬‬
‫اعتبارات ذهنية نفعية واضحة‪..‬‬
‫والحياة في عرف النسان العربي قبل البعثة لم تكن تعدو أن تكون امتدادا ذهني ا نابع ا من‬
‫الجذر اللغوي لكلمة )حيي( والذي يعني بيولوجيا‪" :‬قيام الجسم بوظائفه الحيوية"‪ ،‬وعليه؛ فإن‬
‫"الحياة" لم تكن تتجاوز كونها "وجودا بيولوجياا" للنوع النساني؛ وهي أقدم دللة ‪،‬كما يبدو‪،‬‬
‫للحياة‪..‬‬
‫ويمكننا هنا المقارنة بين "المفهوم النفعي البيولوجي" )المشار إليه آنفا( وبين مفهوم آخر‬
‫يعكسّ الدراك "التاريخي" "الثقافي" لوجود المجموع النساني‪ ،‬وهو مشتق من الجذر اللغوي‬
‫"نعنمنر"‪ ،‬وهي كلمة ترتبط و"العمران" بوثيق صلة‪ ،‬وفيها الكثير من الدللت التي تتناول "طبيعة‬
‫الزمن" و"نمط القتصاد"؛ و"الروابط المشتركة" بين الفراد‪ ..‬ومن هذا الجذر بالذات اشتقت‬
‫الكلمات الدالة على مظاهر الحضارة الزراعية )عامر‪ ،‬عامرة‪ ،‬عمارة‪ ،‬عمران( وقد ورد هذا‬
‫المصطلح في القرآن الكريم للتعبير عن الحياة البشرية بسماتها النسانية‪:‬‬
‫}يود أحدهم لو يعيمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر{)البقرة‪(96:‬‬

‫‪180‬‬
‫و}وما يعمر من معمر ول ينقص من عمره إل في كتاب{)فاطر‪(11:‬‬
‫كذلك فقد استخدم القرآن الكريم هذا المصطلح لوصف النشاط الجمل في حياة الجنسّ‬
‫النساني؛ وهو النشاط المتمثل في بعث الحياة في بيوت ال‪:‬‬
‫}إنما يعمر مساجد ال من آمن بال واليوم الخر{)التوبة‪(18:‬‬
‫ولعل من أسباب تفرد وتميز "العمران" على "الحياة" أن الولى تأتي متضمنةا الثانية؛ وتتفوق‬
‫عليها بأنها تأتي مشحونة بمضمون إنساني واضح!‪.‬‬
‫ومع تركيز القرآن الكريم على الطبيعة "الموضوعية" للوجود من حولنا؛ فهو لم يحاول أن‬
‫يلغي العتبارات "الذاتية" للحياة النسانية النابضة والمستشعرة لذلك الوجود‪ ،‬بل لقد جعل من‬
‫الدراك اللطيف للوجود أمرا مستحيلا بدون ذات إنسانية مرهفة! فالوجود الموضوعي ‪،‬من هذه‬
‫الناحية‪ ،‬إنما هو امتداد طبيعي ومتقدم لدراكنا البيولوجي لطبيعة ذلك الوجود‪ ،‬ولعل الرتباط‬
‫بين شطر الية الكريمة‪}:‬وال خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا‪ ،‬وما تحمل كل‬
‫ضنمون في شطرها الخر‪:‬‬
‫أنثى ول تضع إل بعلمه‪){...‬فاطر‪ (11:‬وارتباطها بالوجود التمتن ن‬
‫}‪...‬وما يعمر من معيمر ول ينقص من عمره إل في كتاب{)فاطر‪ ..(11:‬ما يشير إلى الصلة‬
‫الواضحة بين "الدراك البيولوجي" وما يترتب عليه من إدراك "موضوعي" "ثقافي" للوجود!‪.‬‬
‫والحساس الذاتي البيولوجي )كما يصوره القرآن الكريم( يعتبر مرحلة سابقة على بدء الدراك‬
‫الموضوعي الواسع للوجود‪ ،‬لكن الدراك البيولوجي يجب أل يلغي الدراك الموضوعي بحال‬
‫من الحوال‪..‬‬
‫ومن هنا ندرك أن القرآن الكريم قد دمج بين الدراكين‪" :‬الذاتي" و"الموضوعي"‪ ..‬للوصول‬
‫إلى مزيج لطيف من الدراك الشامل للوجود من حولنا!‪.‬‬

‫من نتائج الدراك البيولوجي للوجود‬


‫)الدراك الحادي(‬

‫‪181‬‬
‫لقد كان من نتائج سيادة مفهوم "الزمن الذاتي" "البيولوجي" في حياة النسان العربي قبل‬
‫السلم؛ أن انعدم الوعي الجماعي لديهم؛ إلي في حدوده الضيقة؛ التي لم تكن تتجاوز القبيلة‬
‫كمفهوم دال على الجماعة‪ ،‬ول يوجد في الثار المخطوطة لمرحلة ما قبل السلم )والتي تعود‬
‫إلى سكان شبه الجزيرة العربية بما في ذلك الصابئِة الحميريين( مصطلح يدل على كامل مساحة‬
‫شبه الجزيرة‪ ،‬فقد كانت "شبه الجزيرة العربية" بالنسبة لكل قبيلة عبارة عن الرض التي تقطنها!‬
‫أو التي تمارس خللها وفي إطارها عملية الترحال‪ ،‬وقد وقر في أذهانهم أن وراء حدود قبيلتهم‬
‫تقع أرا د‬
‫ض لقبائل غريبة ‪،‬معادية عادة‪..‬‬
‫كذلك فقد أعاقت المسافات الشاسعة لشبه الجزيرة العربية تشكل الوعي بوحدة وتكامل‬
‫أرض الجزيرة العربية‪ ،‬وقد شكل ذلك الدراك المنقوص للجغرافيا سبب ا مباشرا دفع باتجاه عدم‬
‫التفاعل مع تلك الجغرافيا‪ ،‬صاحبه تأخر مقابل في أساليب الستثمار المثلى لخيراتها‪ ،‬وهو ما‬
‫انعكسّ في صورة عجز عن إقامة الحضارة؛ اللهم في حدودها الدنيا المتمثلة في رقيي كبير في‬
‫مجال الشعر!‪..‬‬
‫وإذا ما أردنا استجلء حقيقة نظرة النسان العربي قبل البعثة إلى ما حوله من مظاهر الطبيعة‪،‬‬
‫وتبتين "المنظور الزمني الضيق" الذي نظر إلى تلك الظواهر من خلله؛ فلن نجد أفضل من‬
‫الشعر )ديوان العرب( وسيلة لجلء تلك الحقيقة‪ ،‬حيث تمثلت شبه الجزيرة العربية قبل‬
‫السلم رابطة "ثقافية" واحدة‪ ،‬وتنمثننل التعبيتر الكثتر أهمية عن هذه الثقافة في تكيون اللغة‬
‫الدبية العامة؛ وتطور الشعر المكتوب‪ ،‬والذي اعتتمبر من قبل الجميع ‪،‬آنذاك‪ ،‬محرزا عام ا للتعبير‬
‫عن الذات‪.‬‬
‫وعلى الرغم من الخصوصية القبلية لكل شاعر من شعراء شبه الجزيرة العربية قبل السلم؛‬
‫ت عامة لشبه الجزيرة العربية‪ ،‬بحيث يكون‬‫إل أنهم كانوا جميعا ينظمون شعرا يحمل سما د‬
‫مفهوم ا لكل قبائلها؛ ويحمل السمات العامة والقواسم المشتركة فيما بين قبائلها‪ ،‬وقد عكسّ‬
‫ذلك توافقا كبيرا بين تلك القبائل تجاه كل ما يتعلق باللغة‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫ولقد اعتتبر الشعتر منذ القدم أرشيف ا للعرب‪ ،‬بحيث يكاد يكون الوسيلة الرئيسة والوحيدة‬
‫للتعبير عن الذات في مرحلة ما قبل الكتابة‪ ،‬ويمكن اعتباره المنهل الهم ‪،‬والكثر موثوقية‪ ،‬في‬
‫التعبير عن أوضاع العرب آنذاك‪ .‬لجل ذلك فقد اعتنى العرب بشعرائهم عنايةا فائقةا ل يدانيها‬
‫إل عنايتهم بمحاربيهم! إذ كثيرا ما اضطرت القبائل العربية للدفاع عن نفسها ‪،‬ثقافياا‪ ،‬أمام‬
‫الخصوم‪ ،‬ولم يكن المدافعون عن حياضها هذه المرة إل الشعراء!!‪..‬‬

‫قضايا واهتمامات‬
‫النسان العربي قبل البعثة‬
‫كان الشعراء العرب قبل البعثة النبوية الشريفة يتناولون في أشعارهم قضايا ذات مضمون‬
‫ذاتي قبلي إنساني؛ يسترجع التصورات الروحانية لتراث القبيلة‪ ،‬أو يشرح نشوء عناصر الثقافة‬
‫والمعيشة والعادات والشرائع؛ أما المعلومات ذات المضمون الكوني الموضوعي؛ فلم يتم‬
‫إثباتها ضمن معارفهم القابلة للتناقل من جيدل إلى جيل!‪.‬‬
‫كذلك فقد كان النسان العربي قبل السلم مرهف الحساس تجاه ذاته‪ ،‬شديد النفعال‬
‫تجاه واقعه‪ ،‬تيرى ذلك في أشعارهم التي اهتمت بتصوير تلك المشاعر والحاسيسّ‪.‬‬
‫وفي أبيات "عبده التميمي")‪ (1‬نجد تصويرا صادقا لتلك النفعالت‪:‬‬
‫ت بأن قصري حفراة‬ ‫لقد علم ت‬
‫غـبراء يحملني إليها شرجـتع‬
‫فبكى بناتي شجونهين وزوجتي‬
‫والقـربون إليى ثم تصيدعـوا‬
‫ومثله قول "طرفة بن العبد"‪:‬‬
‫ت فـانعيني بما أنا أهله‬
‫فإن مـ ي‬

‫‪ ()1‬شاعر من النصف الول للقرن السابع الميلدي‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫ب يا ابنة معبد‬
‫وتشيقي عليي الجي ن‬
‫ول تجعليني كـامردئ ليسّ همه‬
‫كهيمي ول تيغني مغنائي ومشهدي‬
‫والمتأمل للشعر العربي قبل السلم يجد أنه كان انعكاسا أصيلا للنسان ذاته؛ بتركيبته‬
‫النفسية المفعمة بالفرادة والخصوصية‪ ،‬إذ كانت أشعارهم تؤصل لحاسيسّ عارمة بالزمن‬
‫الطبيعي "البيولوجي" شديد المساس بالمتحدث ذاته‪ ،‬إلى الدرجة التي تحول معها الشعر إلى‬
‫مهمة "التأريخ للحداث الخاصة" في حياة الشعراء‪.‬‬
‫كذلك فقد رصد النسان العربي ‪،‬قبل البعثة الشريفة‪ ،‬معالم الزمن البيولوجي من خلل‬
‫رصده لـ "علمات الحياة النسانية" بعمومها‪ ،‬مستخدم ا في ذلك مصطلحات تدل على النشاط‬
‫الحيوي النساني‪ ،‬أو تتعلق به‪.‬‬
‫ويمكن أن نلحظ في شعر نهاية القرن السادس والربع الول من القرن السابع تقوية الهتمام‬
‫‪،‬تدريجياا‪ ،‬بالخصائص الزمنية للوصف‪ ،‬حيث باتت أشعارهم مفعمة بالشارات "الزمنية"‬
‫المختلفة‪.‬‬
‫وقد مر تشكل مفهوم الزمن )الذاتي البيولوجي( لدى النسان العربي قبل السلم بأطوار‬
‫كان الشعر في حينه دائم الشارة إليها‪ ،‬فكانت المظاهر الطبيعية البيولوجية أشد ما استوقف‬
‫الشعراء في ذلك الوقت‪ ،‬تلك المظاهر التي تصيب ‪،‬عادة‪ ،‬الجسد النساني؛ والتي يساهم‬
‫الزمن ‪،‬بشكل طبيعي‪ ،‬في تشكلها‪.‬‬
‫على سبيل المثال فقد حفلت أشعارهم بوصف مظاهر الشيخوخة‪ ،‬وهي العلمات التي ترتبط‬
‫طبيعيا بالزمن؛ فقد وصفوا "الشيب"؛ وأوردوا مظاهر "العجز والفناء"‪ ،‬وتناولوا ‪،‬من ثم‪" ،‬عدم‬
‫أزلية الحياة"‪ ،‬فخلصوا إلى حقيقة أن حياة النسان إنما هي عبارة عن مجموعة من "الدوار‬
‫البيولوجية" المتتابعة من‪) :‬ولدة‪ ،‬نضج‪ ،‬شيخوخة‪ ،‬عجز‪ ،‬فوفاة‪.(..‬‬
‫ونقرأ ‪،‬كمثال‪ ،‬ما قاله "عمر بن قميئِة" لنرى كل تلك المظاهر ولو بصورة مقتضبة‪:‬‬

‫‪184‬‬
‫فنمزنعت تكتم وقالـت عجبـ ا‬
‫أن رأتني تغييـنر اليوم حــالي‬
‫يـا ابنة الخير إنما نحن رهـمن‬
‫لصـروف اليـام بعد الليالي‬
‫ومما يؤكد مذهبهم "الذاتي" في النظر للطبيعة والحياة من حولهم؛ أنهم كانوا يؤرخون‬
‫للعلمات الهامة في حياتهم )من ولدة‪ ،‬وموت‪..‬الخ( بالدللة عليها بما يقترن بها من أحداث‬
‫تحل بشكل طبيعي في مجرى حياة النسان‪ ..‬وليسّ أكثر دللة على ذلك من اقتران السنة التي‬
‫ولد فيها النبي محمد )صلى ال عليه وسلم( والتأريخ للميلد الشريف مقترنا بعام الفيل!‬

‫الموقف من الحياة والموت‬


‫كمؤشر على الموقف من الزمن بشكل عام‬
‫"الوجود هو الحياة ذاتها؛ لكنه ل يتعداها‪..!!"..‬‬
‫لقد كان هذا هو اعتقاد العرب قبل البعثة النبوية الشريفة‪ ،‬مما عنى لهم أن انقضاء "الحياة"‬
‫بالموت إنما يعني ‪،‬بالضرورة‪ ،‬انقطاع الزمن وانتهاء "الوجود" ذاته‪ ،‬ذلك الوجود الذي غالبا ما‬
‫كانت تتحدد ملمحه بعلمات "الحياة" ذاتها عبر مراحلها المختلفة‪ ،‬حيث كثيرا ما استعيض‬
‫عن الزمن بمصطلحات تدل على النشاط الحيوي للنسان‪ ،‬أو تتعلق ‪،‬بذلك النشاط‪ ،‬على أقل‬
‫تقدير!‪.‬‬
‫ويمكن الفتراض اليوم بأن مفهوم الزمن عند العرب قبل السلم إنما كان تعبيرا مقابلا‬
‫ومكافئِا لصفة "الوجود" النساني على الرض! دون أن يشمل البعاد "الغيبية" التي كشف‬
‫عنها السلم فيما بعد)‪ (1‬وقد كان النسان العربي قبل البعثة المحمدية الشريفة يؤمن أن انتهاء‬
‫الحياة بالموت يوقف الزمنن بالفعل وينهيه!‪.‬‬

‫‪ ()1‬وهي مراحل وجود غيبي قبل الوجود الرضي وبعد انتهاء الحياة‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫ويبرز مفهومهم للزمن من خلل اهتمام موروثهم الشعري والنثري المنقول عن الحقب‬
‫السابقة للسلم بكل النوعين من الزمن )"الماضي" و "الحاضر" على حدد سواء( على اعتبار‬
‫أنهما أجزاء طبيعية لمادة الحياة التي يعرفها العربي ويدرك كنهها جيداا‪ ،‬إل أن إدراكهم توقف‬
‫)بل عجز( عن استكناه الزمن ببعده "المستقبلي"!!؛ كون الموت يشكل حائلا وحاجزا بين‬
‫ماضي وحاضر النسان ‪،‬من جهة‪ ،‬وبين مستقبله "ذي الطبيعة الغيبية" من الجهة الخرى‪ ،‬حيث‬
‫يخرج ‪،‬الخير‪ ،‬بإحاسيسهم من إطارها "الذاتي" الذي اعتادوا عليه إلى إطار جديد ل يعرفون‬
‫عنه شيئِاا؛ أل وهو الزمن الغيبي "ما وراء الموضوعي"‪ ،‬وهو ما لم يتسنن للعرب أن يدركوه في‬
‫ذلك الوقت!‪.‬‬
‫وبنفسّ المنطق الذي تعامل النسان العربي قبل السلم من خلله مع قضية "الموت" تعامل‬
‫من خلله أيض ا مع قضية "القدر" حيث يشكل كلهما نوع ا من الدراك المستقبلي للزمن‪ ،‬وقد‬
‫بقي موقف النسان العربي ‪،‬تجاه "القدر" ضبابيا غير واضح!! إذ ظل خاضعا لنفسّ المعايير‬
‫النية السائدة‪ ،‬والتي جاء السلم ‪،‬فيما بعد‪ ،‬ليضيف إليها أبعادا إضافية كانت غير معروفة‬
‫حتى ذلك الحين‪.‬‬
‫ويتلخص موقف النسان العربي ‪،‬قبل البعثة‪ ،‬حيال "القدر" في أنه ظل غير قادر على‬
‫استيعابه )أي استيعاب القدر( لعجزه عن التنبؤ بما رسمه وبما احتواه في رحم الغيب‪ ،‬وبقي‬
‫العربي على اعتقاده بأن "القدر يعمل كقوة فطرية عمياء"!!‪.‬‬
‫ول يمكننا تفسير موقف النسان العربي من القدر وفهم ذلك الموقف بالشكل الصحيح‬
‫إل على ضوء إدراكنا لحقيقة أن الصورة الذهنية للبعد الغيبي )ما وراء الموضوعي( كانت غائبة‬
‫عن مداركهم تمام الغياب‪ ،‬ولعل في أبيات "زهير بن أبي سلمى" ما يوضح الصورة المهتزة‬
‫والغائمة لموقف النسان العربي تجاه "القدار"‪:‬‬
‫رأيت المنايا خبط عشواء من تتصب‬
‫تمته ومن تخطئ تيعمر فـيـهـرم‬

‫‪186‬‬
‫ولقد كان موقفهم هذا بعيدا كل البعد عما جاء به السلم لحقا‪ ،‬من أن القدار إنما هي‬
‫إرادة ال ومشيئِته التي كتبها على العباد‪ ،‬مصداق ا لقوله تعالى‪}:‬قل لن يصيبنا إل ما كتب ال لنا‬
‫وعلى ال فليتوكل المؤمنون{)التوبة‪ (51:‬وتحقيقا لقوله تعالى }إن ال عنده علم الساعة‪ ،‬وينزل‬
‫الغيث‪ ،‬ويعلم ما في الرحام‪ ،‬وما تدري نفسّ ماذا تكسب غدا‪ ،‬وما تدري نفسّ بأي أرض تموت‬
‫إن ال عليم خبير{)لقمان‪ ..(34:‬وبذا فقد انتفت العشوائية العمياء عن مصير النسان؛ لتستقر‬
‫المور على ما يشاء ال ‪،‬للنسان‪ ،‬ويرضى‪.‬‬

‫النهج العربي قبل السلم‬


‫وآلية تحويل "الموضوعي" إلى "ذاتي"‬
‫إذا ما رحنا نتأمل اللغة ‪،‬أية لغة‪ ،‬فسنجد أن أهم ما يميزها‪ :‬وجود نوعين من المعاني)‪ (1‬لكل‬
‫لفظ من ألفاظها‪ ،‬الول‪ :‬وهو المعنى اللغوي‪ ،‬حيث كثيرا ما تتعدد المعاني اللغوية للفظ‬
‫الواحد؛ يشهد على ذلك مجموعة اللفاظ الموجودة في معجمات اللغة إذا ما رحنا نبحث عن‬
‫المعنى اللغوي للفظ من اللفاظ‪..‬‬
‫أما النوع الخر من المعاني؛ فهو "الصطلحي"‪ ،‬وهو معناى محدد للفظ المقصود‪ ،‬ويتميز‬
‫هذا المعنى بصفتي‪ :‬الدقة والوضوح‪ ،‬كما يتميز بكونه يعقد في أذهان الناس رابطةا ذهنيةا شديدة‬
‫الحكام بين اللفظ ومعناه في زمادن ومكادن بعينهما‪..‬‬

‫‪ ()1‬سنتعرض لهذا المر بشيء من التفصيل حين نعرض لموضوع "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم"‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫ويمكن للمعنى الصطلحي للكلمة أن يتغير بين وق د‬
‫ت وآخر‪ ،‬ومن منطقة لخرى‪ ،‬حيث‬
‫يمكن أن ينتشر معناى معين ويشيع من جملة المعاني اللغوية المحتملة؛ وذلك على حساب‬
‫المعاني الخرى‪ .‬على سبيل المثال فإن كلمة "عصابة" قد استخدمت فيما سبق للتعبير عن‬
‫معنى جميل هو "الجماعة" ومنه ما ورد عن رسول ال )صلى ال عليه وسلم( )اللهم إن تهلك هذه‬
‫العصابة فلن تعبد في الرض( لكن تحولا قد طرأ على معنى ذلك اللفظ في أيامنا هذه‪ ،‬فأصبح‬
‫يشير إلى العصابة بمعنى "جماعة الشرار"!!‪..‬‬
‫والحديث عن المعاني اللغوية والمعاني الصطلحية لللفاظ هو المدخل الطبيعي الذي‬
‫يمكن أن ننساب من خلله لنلمسّ الطريقة التي تعامل بها العرب مع مصطلحات زمانهم‪ ،‬وعن‬
‫مقاصدهم من وراء استخدامهم للفاظ بعينها‪ ،‬وهل أنهم قصدوا من وراء استخدامهم لها ما‬
‫نقصده نحن اليوم من معانيها الصطلحية؟!‪..‬‬
‫إن توقفا متأنيا أمام هذا المر سيفيد بأن العرب لم تكن تنقصهم اللفاظ‪ ،‬ذلك أن لغتهم قد‬
‫تميزت بالقوة والفرادة‪ ،‬وتوفر لهم من الفصاحة والبيان ما لم يتوفر لغيرهم‪ ،‬لكن يستوقفنا أن‬
‫اللفاظ آنئِذ لم تكن تعني لهم ‪،‬بالضرورة‪ ،‬ما تعنيه لنا اليوم! بل ظلت تلك اللفاظ ذات ارتباط‬
‫وثيق بذات العربي وطبيعته النفسية‪ ،‬أي أنه قد عاد وأخضع تلك اللفاظ لمقاييسه الذاتية‪،‬‬
‫ونقلها من مربع "الزمن الموضوعي" إلى مربع "الزمن الذاتي" والبيولوجي أو الطبيعي؛ شديد‬
‫التعبير عن نفسه وذاته هو!‪...‬‬

‫‪188‬‬
‫ى لفظي ا محددا هو‪ :‬زمن‬
‫على سبيل المثال؛ فلنأخذ كلمة "يوم" والتي تعني لنا اليوم محتو ا‬
‫الدورة الكاملة للرض حول نفسها‪ ،‬والذي يقدر بحوالي أربع وعشرين ساعة من الزمن الرضي‪.‬‬
‫فماذا كانت تعني كلمة "يوم" بالنسبة للنسان العربي قبل البعثة؟!‪ ..‬وهل عنت لديهم )يوما‬
‫مقداره أربعا وعشرين ساعة(؟!! بالتأكيد ل؛ لكننا سنجد أن معناه قد مال لديهم باتجاه المعنى‬
‫اللغوي؛ حيث أشارت الكلمة )من جملة ما أشارت إليه( إلى‪" :‬زمن اليوم" وبشكل خاص‬
‫الفترات النهارية‪ ،‬وكان المصطلح نفسه يشير كذلك إلى‪" :‬فترة من اليوم" دون أية علقة بزمن‬
‫شروق أو غروب الشمسّ!‪ .‬ومن جملة معاني "اليوم" في معاجم اللغة‪" :‬الوقت من طلوع‬
‫الفجر إلى غروب الشمسّ"‪ .‬وتعني كذلك‪" :‬الوقت مطلقاا"‪ ،‬أيام ال‪ :‬أي "نمنعنمهت ونمنقنمته"‪ ،‬وأيام‬
‫العرب‪" :‬وقائعها وحروبها"‪.‬‬
‫كذلك فقد استعمل العرب وحدات توقيت أخرى تشتمل على مضاعفات اليوم‪ ،‬وذلك وفق ا‬
‫لوحدة ثلثية هي )ثلث ليال( وقد كانت تشكل وحداة توقيتيةا شائعة الستعمال‪ ،‬وقد جعل‬
‫العرب لكل ثلث ليال من الشهر تسمية خاصة بها؛ واحتفلوا باليام الثلثة المعتمة الخيرة غير‬
‫المقمرة من كل شهر كنهاية له‪ .‬ولعل ميلهم لستعمال تلك الوحدة قد نبع من احتياجات ذاتية‬
‫بحتة‪ ،‬حيث كانت تمثل لهم قيمة هامة من الناحية الجتماعية‪ ،‬مثل مدة ضيافتهم للضيف‪.‬‬
‫ومثلت ‪،‬تلك الوحدة‪ ،‬كذلك فترة زمنية ذات مغزى في قوانينهم الجنائية العشائرية‪..‬‬
‫ولم يقتصر تعاملهم الفضفاض مع "التوقيت" على كلمة "يوم" ومضاعفاتها‪ ،‬بل اتخذت‬
‫مسألة التوقيت ‪،‬بعمومها‪ ،‬طبيعة ذاتية؛ فضفاضة؛ غير موضوعية‪ .‬على سبيل المثال فقد اتخذ‬
‫العرب من موسم الحج السنوي علمة من علمات التوقيت‪ ،‬وعليه؛ فقد شاع لديهم استخدام‬
‫مصطلح "حجة" والذي عنى لهم حينذاك‪" :‬الفترة الزمنية ما بين موسم الحج والذي يليه" وهي‬
‫تعادل امتداد سنة قمرية كاملة‪ :‬ومنه قول عمر بن القميئِة‪:‬‬
‫كأني وقد جاوزت تسعين حجةا‬
‫خلعت بها يومـ ا معـذار لجامي‬

‫‪189‬‬
‫وقول زهير بن أبي سلمى‪:‬‬
‫وقفت بها من بعد عشرين حجة‬
‫فليا عرفت الدار بـعد توهم‬
‫من هنا يمكن التأكيد على أن اصطلح العرب على تلك اللفاظ لتدلهم على مرادد زمني‬
‫معين إنما جاء في سياق ارتباط تلك المفاهيم ارتباطا وثيقا بذواتهم؛ وممارساتهم؛ وعاداتهم‬
‫التي كانوا عليها‪..‬‬
‫على سبيل المثال فإن اصطلحهم على كلمة "حجة" لتمثل "السنة" أو "العام" إنما نبع من‬
‫موسم الحج السنوي؛ والذي يعتبر من أقدس أيام العرب وأهمها على الطلق‪..‬‬
‫وما بين "يوم" و "عام" فقد أقيـيتت العرب لحياتها بالحداث الهامة التي اعترضت لهم‪ ،‬وقد‬
‫انقسمت الوحدة الخيرة )الحجة( إلى وحدات زمنية أصغر‪ ،‬مع بقاء "العامل الذاتي" قاسما‬
‫مشترك ا يجمع بينها جميع ا فقد انقسم العام )الحجة( لديهم إلى اثني عشر شهرا‪ :‬ثمانية منها‬
‫متحللة؛ وأربعة منها تحتروم‪ ،‬وقد اتجه العرب إلى حروبهم وغزو بعضهم البعض طوال الشهر‬
‫الثمانية المحللة‪ ،‬إل أنهم التزموا بالربعة الخرى وأبقوا عليها كأشهر محرم فيها القتال‪ .‬وقد‬
‫ابتدأت الشهر العربية بالمحرم وانتهت بـ "ذي الحجة" فجاءت أسماؤها مشتقة من صميم‬
‫حياتهم وعاداتهم‪ .‬ومن استقرائنا للشعر العربي يمكننا أن نجد أن هذا النوع من التوقيت الزمني‬
‫قد استخدم في أصقاع مختلفة من الجزيرة العربية وذلك في القرن الخامسّ وحتى منتصف القرن‬
‫السابع الميلدي‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫شواهد قرآنية‬
‫على الحساس الزمني البيولوجي عند العرب‬
‫عندما تنزل القرآن الكريم على محمد بن عبد ال )صلى ال عليه وسلم( كان العرب قد اشتهروا‬
‫بفصاحتهم؛ وفروسيتهم؛ ورقة مشاعرهم التي تجلت في أشعارهم التي لم تنتجمد البشريةت بأريق‬
‫منها‪ ،‬وقد تنزل القرآن الكريم آيات وسور؛ كانت تراعي المستويات النفسية والموضوعية لدى‬
‫من أتت لمخاطبتهم‪ ،‬وهو ما يتجلى في السمات الساسية والملمح العامة التي ميزت كل من‬
‫القرآن المكي والمدني‪ ،‬حيث بدا وكأن كلا منهما )المكي والمدني( يخاطب إنسان ا مختلفاا!‬
‫فحيث كان القوم في مكة في جاهلية تعمى وتصم‪ ،‬يعبدون الوثان‪ ،‬ويشركون بال‪ ،‬وينكرون‬
‫ع زاجراة‪،‬‬
‫الوحي‪ ،‬ويكذبون بيوم الدين‪..‬الخ؛ حيث كان القوم كذلك؛ نزل الوحي المكي‪ :‬قوار ن‬
‫وشهبا منذراة‪.‬‬
‫وعلى العكسّ من ذلك فقد وجدنا اليات المدنية‪ :‬طويلة المقاطع؛ أتت أقل إفعام ا‬
‫بالنفعال)‪ (1‬وقد جاءت السور المدنية لتفصل أصول التشريع‪ ،‬وتضع قواعد المجتمع‬
‫والدولة‪ ..‬الخ؛ وهذا هو الطابع العام للقرآن المدني‪.‬‬
‫ولعل الفوارق بين القرآن المكي و المدني تجسد الفوارق التي طرأت ‪،‬فيما بعد‪ ،‬فميزت بين‬
‫إنسان ما قبل البعثة وإنسان ما بعدها!! ففي حين كان الول مفعم ا بالعواطف والنفعالت‬
‫الجياشة؛ صار الثاني إنسان ا مفكراا؛ فكان دائم التأمل في ذاته‪ ،‬كثير النظر في الكون من حوله‪،‬‬
‫مما أننهلنهت لن يصبح صانع حضارة من الطراز الول!‪..‬‬

‫صر العبارات مؤشرا على حالة نفسية مفعمة بالنفعال‪.‬‬ ‫م‬


‫)( يعتبر ق ن‬
‫‪1‬‬

‫‪191‬‬
‫وقبل أن تنجح الدعوة السلمية في إنتاج نموذجها النساني الفريد؛ كان القرآن الكريم‬
‫يخاطب القوم ‪،‬الذين نتـيزل القرآن فيهم‪ ،‬مراعي ا خصوصياتهم؛ متمهلا عليهم في ضعفهم‪،‬‬
‫فخاطبهم على قدر عقولهم وقلوبهم؛ دون إهمادل لمقتضيات الرسالة التي جاءت لترفعهم إلى‬
‫مصا مد‬
‫ف جديمدد ينطلقون منه لتغيير معالم الوجود من حولهم!!‪..‬‬
‫ولقد صور القرآن الكريم ما كان عليه العرب قبل البعثة أجمل تصوير‪ ،‬فها هو يصور منطقهم‬
‫المرتكز على نظرة مادية خالصة للحياة؛ لقد كانت نظرتهم لما حولهم نظرة قريبة الغور؛ وذات‬
‫رؤية طبيعية بيولوجية؛ فقد كانت قضايا جدلهم الدائم من نوعية‪:‬‬
‫}أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون{)الصافات‪)(16:‬سورة مكية(‬
‫وايدعوا‪}:‬ما هي إل حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إل الدهر{)الجاثية‪)(24:‬مكية(‬
‫وكما يشير القرآن الكريم فإن العرب ‪،‬قبل البعثة‪ ،‬راقبوا الحياة وملمحها الساسية من خلل‬
‫ملمحها البيولوجية الخالصة‪ ،‬وقد رأوا فيها مشهدا سينتهي حتما بالموت!!‪.‬‬

‫الزمن في القرآن الكريم‬


‫تحدثنا فيما مضى عن الزمن البيولوجي وارتباطه بالمشاعر والحاسيسّ الداخلية للنسان‪،‬‬
‫وتحدثنا كذلك عن عدم صلحية ذلك النوع من التوقيت لرصد الظواهر الموضوعية التي‬
‫تحدث في الطبيعة من حولنا‪ ،‬ذلك أن الطبيعة نفسها محكومة بزمن موضوعي ذا طبيعة تراكمية‬
‫يمكننا من مراقبتها وحسابها بدقة؛ بعكسّ الزمن البيولوجي الذي يتخذ لنفسه شكل الدورات‬
‫المتعاقبة التي تبدأ دائما من نقطة الصفر لتعود إليه!‪..‬‬

‫‪192‬‬
‫وعرفنا كذلك أن الزمن الموضوعي يشكل العلقة بين الفرد ومحيطه‪ ،‬وهو صالح لقياس‬
‫الظواهر الكونية والحقائق العلمية؛ كونه ذا طبيعة تراكمية‪ ،‬فهو‪ :‬مستمر؛ متواصل؛ وممتد من‬
‫الماضي عبر الحاضر وإلى المستقبل‪.‬‬
‫أما عن الزمن المطروح قرآنيا فهو "متصل" و "مستمر"‪ ..‬ل ينفصل فيه الماضي عن‬
‫الحاضر؛ ول ينفصلن بمجموعهما عن المستقبل)‪.(1‬‬
‫لكن العلقة التي تربط بين أجزاء هذا المتداد لم تكن مجرد علقة ذهنية موضوعية‬
‫فحسب‪ ،‬بل تجاوزت ذلك لتصبح علقة تقرير مصير‪ ،‬فالماضي ليسّ مجرد أحداث تذكر‬
‫بغرض الدراسة الكاديمية فحسب‪ ،‬لكنها تمتلك قيمة انفعالية وأخلقية عالية؛ يمكن أن تساهم‬
‫في تعديل مسار الحاضر لجل مستقبل إنساني أفضل!!‪.‬‬
‫ولقد تذكر الزمن "الماضي" في القرآن الكريم على أساس أنه "مذكرى" و"عبرة" للستفادة‬
‫منها في الحياة الحاضرة‪ ،‬بينما ظل المستقبل الموضوعي )المستقبل بصيغته الرضية وليسّ‬
‫ت جيد عاديمة!! فلم يحتفل القرآن به‪ ،‬ولربما يرجع ذلك إلى القناعة‬
‫المستقبل الخروي( ذا سما د‬
‫التي ظل السلم يحاول ترسيخها لدى أتباعه‪ ،‬أل وهي أن "المستقبل بيد ال"‪ ،‬وأن قدرة‬
‫النسان على التحكم به هي قدرة مشكوك فيها! لذلك فقد وجدنا القرآن الكريم يؤكد دائم ا‬
‫على أسلوب عيش يرتكز على‪:‬‬
‫}ول تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إل أن يشاء ال{)الكهف‪(23:‬‬
‫وقد تأكد هذا المعنى بقوله تعالى‪:‬‬
‫سّ بأي أرض تموت{)لقمان‪(34:‬‬
‫سّ ماذا تكسب غدا‪ ،‬وما تدري نف م‬
‫}وما تدري نف م‬

‫منهج قرآني‬

‫‪ ()1‬المستقبل بشقيه‪ :‬سواء المستقبل الرضي‪ ،‬أو المستقبل بمعنى "ما بعد الموت"‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫)الذاتي في إطار الموضوعي(‬
‫كما رأينا فيما سبق فإن القرآن الكريم قد ساير العرب في المراحل المختلفة لتطورهم‬
‫الفكري والتصوري‪ ،‬فأورد الحجج التي ساقها المغرقون منهم في النظرة المادية للحياة؛ وقد‬
‫أوردها كما هي‪}:‬أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون{)الصافات‪)(16:‬مكية(وأورد كذلك‬
‫ادعاءهم‪}:‬ما هي إل حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إل الدهر{)الجاثية‪(24:‬‬
‫إل أن القرآن الكريم سعى في الوقت ذاته لتقديم "الحياة الدنيا" بصورة وارفة ظليلة‪ ،‬وذلك‬
‫بعرضها من خلل منظورها الديني؛ حيث لم يقدمها للعرب بوجهها المادي السافر الذي ما‬
‫عرفوا غيره‪ ،‬كما لم يقدمها في صورتها التجريدية البحتة التي ترتفع عن مستوياتهم العقلية‬
‫وتصوراتهم النية‪ ،‬بل لجأ إلى تصويرها على الصورة التي خبروها؛ لكن في سياق موضوعي غير‬
‫ذلك الذي عرفوه واعتادوا عليه!! فلم تعد "الحياة" و"الموت" مجرد تكرار يبدأ لينتهي‪ ،‬كما‬
‫صوروهما حين قالوا‪} :‬نموت ونحيا وما يهلكنا إل الدهر{ بل أصبح للحياة والموت سياق آخر‬
‫مختلف؛ إذ أصبح لهذا التتابع ‪،‬من الحياة والموت‪ ،‬نتيجة تراكمية يمكن ملمستها والبناء‬
‫عليها!‪..‬‬
‫وفي هذا السياق فإن ملحظة هامة تستوقفنا‪ ،‬وهي أن القرآن الكريم قد استخدم نفسّ‬
‫اللفظ الذي استخدموه )الدهر( بفارق أن السياق القرآني قد أتى ضمن إطار موضوعي مغاير‪،‬‬
‫فحمل المعنى إلى اتجاه آخر مختلف غير ذلك الذي كان يقصده العرب!!‬

‫‪194‬‬
‫وبالعودة إلى قواميسّ اللغة فسنجد أن كلمة "دهر" تحتمل‪" :‬المد المحدود" كما تحتمل‬
‫كذلك‪" :‬الزمان الطويل"! وحسب رأينا فإن السياق وحده هو من سيحدد أي المعنيين هو‬
‫المراد‪ ،‬وفي الحالة الولى }نموت ونحيا وما يهلكنا إل الدهر{ فقد قرنوا "الدهر" بحياتهم‬
‫هم‪ ،‬لذا فإن معناه هنا يتجه ناحية "المد المحدود"‪ ،‬أما في الحالة الخرى فقد أوردها القرآن‬
‫الكريم مقترنة بحياة النسان من حيث هو إنسان )ليسّ شخصا بعينه( }هل أتى على النسان‬
‫حين من الدهر لم يكن شيئِ ا مذكورا{)النسان‪..(1:‬‬
‫من هنا فإننا نميل إلى أن الحالة الثانية هي ذات طبيعة موضوعية تراكمية!‪..‬‬
‫كذلك فقد سعى السلم ‪،‬من خلل المنهجية القرآنية‪ ،‬إلى رفع المستوى التصوري‬
‫والعقائدي للعرب؛ حيث بدأ القرآن الكريم بالدمج بين طبيعتهم البسيطة قريبة الغور وبين‬
‫المقامات ‪،‬الموضوعية‪ ،‬العالية التي يريد أن يرفعهم إليها! وذلك من خلل دمج تصوراتهم‬
‫‪،‬ذات الطبيعة الجزئية‪ ،‬ضمن سياقات موضوعية تصورية جديدة‪ ،‬وهنا تبدأ الحداث )التي‬
‫كانت تتراءى لهم في شكلها الجزئي( تتعرض لهم ضمن سياقات جديدة أعطتها امتدادا‬
‫واضحا! مثال ذلك الية التي جاءت لتعرض الموت والحياة في سياق جديد أكثر امتداداا‪:‬‬
‫}ول يملكون موت ا ول حياة ول نشورا{)الفرقان‪(3:‬‬
‫فلم يعد الموت والحياة مجرد مظهرين من مظاهر الوجود البشري على الرض؛ بل أصبح‬
‫لذلك الوجود امتدادا إضافيا واسعاا؛ يتمثل في "البعث" و"النشور" وهي من التصورات‬
‫العقائدية المستجدة على حياة العرب!‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫من الجدير ذكره هنا أن سورة "الفرقان" التي أضافت هذا المتداد التصوري الجديد هي‬
‫سورة مكية وتحتل المرتبة )‪ (42‬من حيث ترتيب النزول‪ ،‬ولعل ترتيبها في بداية الثلث الثاني من‬
‫القرآن الكريم يفسر النقلة الرائعة التي أحدثها القرآن الكريم في حياة العرب! حيث نقلهم من‬
‫التصورات الجزئية إلى تصورات جديدة أكثر تكامل؛ وكان أشد ما ميز تلك التصورات تكونها‬
‫من أجزاء عديدة لكن ضمن إطار موضوعي واحد يجمعها!!‪ ..‬نجد تأييدا وتأكيدا لذلك فيما‬
‫ذهب إليه القرآن الكريم من تصويره للحقائق الموضوعية المحيطة بالعرب بكيفيدة تمكنهم من‬
‫فهمها؛ مع محاولة دائبة منه لرفعهم من الدنى إلى السمى‪ ،‬ومن المادي إلى التجريدي‪..‬‬
‫ولنتأمل قوله تعالى‪:‬‬
‫}واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الرض فأصبح‬
‫هشيم ا تذروه الرياح وكان ال على كل شيء مقتدرا{)الكهف‪(45:‬‬
‫ففي سورة تقع في المرتبة )‪ (69‬من حيث ترتيب النزول تتجسد الحياة كنبا د‬
‫ت تتتابع‬
‫مراحله المختلفة أمام أعين الناظرين‪ ،‬وهو تصوير قريب من أذهان وعقليات العرب آنذاك‪ ،‬لكن‬
‫أضيف إلى الصورة أبعاد جديدة‪ ،‬وذلك عندما تم تصوير الحياة على أنها تلك الممتدة‬
‫والمستمرة استمرار نزول المطر‪ ،‬مستفتحا الحديث عنها بفعل مسند إلى الذات اللهية‬
‫}أنزلناه{ ومختتما باسم ال القدير }وكان ال على كل شيء مقتدرا{ وهذا هو السياق الصحيح‬
‫الذي يجب النظر إلى الحياة من خلله!!‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫إل أن القرآن الكريم ‪،‬وعلى الرغم من إقراره لذلك النوع من التعامل مع الطبيعة من حولنا‬
‫)إن أتى في سياقه الموضوعي الدايل على قوانين السببية( إل أنه أوضح ‪،‬في الوقت ذاته‪ ،‬أن‬
‫ورود ذلك التعامل في غير سياقه الموضوعي الصحيح إنما يمثل طريقة تعامل المجتمعات‬
‫البدائية غير المتحضرة مع المفردات في عالم الشهادة‪ ،‬وهي طريقة تتميز بإنكارها لعالم الغيب‬
‫في كثير من الحيان‪ ،‬وذلك حين قال‪} :‬وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي‬
‫رميم{)يسّ‪..(78:‬‬
‫مما سبق نخلص إلى القول بأن النسان العربي ‪،‬قبل البعثة وبعدها‪ ،‬قد تنازعته نزعتان‬
‫مختلفتان؛ كانت الولى منهما تشده إلى أعماق ذاته‪ ،‬فتلونت بتأثيرها كل مفردات الوجود‬
‫المحيط به‪ ،‬بينما حاولت الخرى أن تجذب فكره إلى ما يحيط به من ظواهر وأشياء؛ يجمع‬
‫بينها أنها تسير وفق قوانين وسنن موضوعية ل تتأخر ول تتخلف‪.‬‬
‫ما الذي فعله القرآن بالعرب؟!!‬

‫تحدثنا فيما مضى عن النقلة النوعية التي أحدثها القرآن الكريم في حياة العرب‪ ،‬ولم تكن‬
‫تلك النقلة مقصورة على ما أضافه القرآن الكريم من مغزى لحياتهم‪ ،‬ولم تقتصر كذلك على‬
‫مجموعة العبادات ونظم المعاملت التي قدمها لهم‪ ،‬لكن الفعل الهم كان في مجال‬
‫"المنهج"‪ ،‬وندرك اليوم بأن التحولت الحقيقية في حياة المم إنما هي تلك القائمة على أساس‬
‫إيجاد منهج جديد ل على إضافة طقوس جديدة إلى حياة الناس!!‪..‬‬

‫نقلة على مستوى المفاهيم!‬

‫‪197‬‬
‫لقد كان القرآن الكريم المحرك الول للنقلة الموضوعية التي حدثت في المجتمع العربي‬
‫في زمن البعثة؛ فحركت إحاسيسه تأثرا وتأثيراا‪ ،‬ونقلته من دائرة الحساس الذاتي الضيق إلى‬
‫دائرة المراقبة الموضوعية الواسعة ‪،‬والواعية في الوقت ذاته‪ ،‬لما يحيط به‪.‬‬
‫وقد ترافقت نقلة القرآن الكريم للعرب مما هو "ذاتي" باتجاه ما هو "موضوعي" مع نقلة‬
‫إضافية نقلتهم من مفهوم "القبيلة" الضيق إلى مفهوم "المة" المتسع والقابل دائما للتساع‪.‬‬
‫وقد ترافقت تلك النقلة مع عملية نحت وتوصيف للمصطلحات بشكل يضمن لها معانيها‬
‫الموضوعية‪.‬‬
‫ولقد كان من جملة ما فعله السلم بالعرب أن نقلهم من "النفعال" بالحياة من خلل‬
‫الحاسيسّ الذاتية؛ إلى مرحلة "الفعل" وذلك من خلل مراقبة التراكم الزمني المستمر في‬
‫الظواهر المحيطة‪ ..‬وبمساعدة هذا المنهج الموضوعي في النظر إلى الحياة؛ أصبح الزمن جزءا‬
‫من أية ظاهرة يعايشها النسان‪ ،‬وأصبح واضحاا‪ :‬عدم إمكانية إدراك أية ظاهرة إدراكا حقيقيا إل‬
‫من خلله؛ ولم يعد الزمن )التوقيت للشياء( مجرد انعكاس للظاهرة المحيطة على صفحة‬
‫الحاسيسّ الذاتية للنسان؛ بل تأريخ ا لبداية الظاهرة والمراحل المختلفة لتطورها‪.‬‬
‫وفيما يلي بعض من مظاهر النقلة الموضوعية التي أحدثها القرآن الكريم في حياة العرب‪:‬‬

‫نقلة موضوعية في مجال التدوين !‬

‫‪198‬‬
‫تحدثنا فيما سبق عما مثله الشعر من قيمة في حياة العرب بحيث غدا ديوانا لهم‪ ،‬ذلك أنه‬
‫قام بدور التدوين للحداث الهامة في حياتهم‪ ،‬وهي المهمة التي يفترض بالكتابة أن تؤديها وأن‬
‫تقوم بها‪ ،‬إل أن الشعر ظل عاجزا عن القيام بمهمة التدوين تلك؛ لكونه أداة تدوين للنفعالت‬
‫والحاسيسّ وليسّ من طبيعته التدوين لما هو موضوعي‪ ،‬فهو ل يصلح ‪،‬على سبيل المثال‪،‬‬
‫لتدوين العلوم أو التأريخ للحداث بصورة موضوعية!‪.‬‬
‫وقد ظلت قبائل شبه الجزيرة العربية قبل السلم مكتفية بالشعر؛ بحيث بقيت عملي ا دونما‬
‫كتابة‪ ،‬رغم أنها عاشت قرونا متجاورة مع شعوب ذات حضارات قديمة ذات كتابات متطورة!‪.‬‬
‫وفيما يتعلق بأثر السلم على حركة التدوين فقد كان له أثر حاسم في ذلك التوجه الموضوعي‬
‫نحو التدوين؛ ولدى نظرنا اليوم إلى تلك النعطافة الهامة في تاريخ العرب سيتشكل لدينا انطباع‬
‫وكما لو أن العرب قد دخلوا إلى مرحلة الكتابة بدون مقدمات!! حيث صاروا ‪،‬وخلل وقت‬
‫قصير جداا‪ ،‬متقنين لكتابة متطورة واسعة‪ ،‬بل إن فضيلة "إتقان الكتابة" قد تحولت من "التجربة‬
‫المجدية" إلى "فضيلة دينية" يشهد على ذلك إطلق سراح السرى مقابل تعليم أطفال‬
‫المسلمين القراءة والكتابة‪.‬‬
‫ولعل المؤثر الهم في نشأة حركة التدوين والتجاه نحو الكتابة ما أمر به رسول ال )صلى ال‬
‫عليه وسلم( من تدويدن للقرآن الكريم؛ وقد نشأ عن ذلك التوجه حركة أرشفة واسعة؛ ساهمت في‬
‫حفظ التراث العربي قبل السلم )الشعر على وجه الخصوص( لكن مما يؤسف له أن تلك‬
‫الحركة لم تستطع أن تنقذ إل التراث المتأخر القريب من بعثة السلم‪ ،‬فقد كتب "هشام‬
‫ل‪" :‬لم يحفظ العرب من أشعارها إل ما كان قبيل السلم"‪..‬‬
‫الكلبي") ( في هذا الصدد قائ ا‬
‫‪1‬‬

‫‪ ()1‬وهو أحد البحاثة العظام لمرحلة ما قبل السلم على تخوم القرنين الثامن والتاسع الميلديين‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫ما نريد قوله هنا هو أن حركة التدوين تلك لم تكن إل وجه ا من وجوه النقلة النوعية‬
‫والموضوعية التي أحدثها القرآن في حياة العرب‪ ،‬حيث قادتهم تلك النقلة من مرحلة "استبطان‬
‫الذات" إلى النطلق الواسع باتجاه المحيط‪ ،‬وكذا النفتاح على الطبيعة؛ والذي قادهم بدوره‬
‫إلى التفوق في العلوم المختلفة كالفلك والطبيعة والكيمياء والطب!!الخ‪...‬‬

‫نقلة نوعية في مجال التأريخ!‬


‫ومما أضافه القرآن الكريم للبنية الثقافية للعرب أن أعطاهم بعدا جديدا للزمن يتمثل في‬
‫إدراك أعمق لما يمثله "الماضي" بالنسبة لهم وانعكاسه على حاضرهم ومستقبلهم‪ ،‬فلم تعد‬
‫المور بالنسبة لهم مقصوراة على مجرد كون التاريخ مخزونا للذاكرة المنقولة مشافهة )لغياب‬
‫التدوين( إذ أصبح للماضي ‪،‬بفضل القرآن الكريم‪ ،‬بعدا موغل في عمق التاريخ؛ مرتكزا ‪،‬في‬
‫الوقت ذاته‪ ،‬على قاعدة واسعة من القصص الذي يؤرخأ للنسانية ابتداء من آدم عليه السلم؛‬
‫مرورا بأنبياء ال ورسله عبر المراحل الزمنية المختلفة‪.‬‬
‫ولم تتوقف المساهمة القرآنية في مجال التأريخ عند الجانب الكمي للقصص التاريخي‪ ،‬بل‬
‫تعدته إلى الجانب المنهجي‪ ،‬إذ قيدم القرآن الكريم للنسان العربي منهجا جديدا غير مسبوق‬
‫في البحث الواعي والمنظم عن المعرفة التاريخية وتراكمها‪ ،‬وقد ارتكزت المنهجية المستجدة‬
‫على رؤية حضارية جديدة‪:‬‬
‫ف نكانن نعاقمبنةت الوتمنكيذمبينن{)النعام‪(11:‬‬ ‫}قتول مسيترواو مفي النور م‬
‫ض ثتلم انظتترواو نكوي ن‬
‫وقد أصبحت لعملية البحث آلية منهجية يدعمها نشاط مويجه ومنظم‪ ،‬وبدلا من النقل عبر‬
‫مخزون الذاكرة؛ أصبح النشاط الخاص باكتساب المعرفة التاريخية؛ وحفظها؛ ونقلها من ثيم؛‬
‫مهنةا في حيد ذاتها‪ .‬وفي هذا المجال يحسب للقرآن الكريم منهجه المتكامل؛ والذي تم بفضله‬
‫اللمام بعلم التأريخ كجزء من عملية متكاملة؛ الهدف السمى لها إقامة بنيان الدين وعمران‬
‫الحياة‪.‬‬
‫التقويم الهجري‬

‫‪200‬‬
‫كمظهر من مظاهر النقلة النوعية في حياة العرب‬
‫لقد كان للنقلة المنهجية والتصورية في حياة العرب ثمارا حلونة الطعم؛ وضعتهم على أولى‬
‫درجات التحضر والكتشاف‪ ،‬وذلك تمهيدا للنطلق إلى نواحي العالم الربع؛ متسلحين‬
‫ب جديدد للتقويم‪،‬‬
‫بحرارة التوجه وبنور الرسالة‪ ..‬ولقد كانت هناك ضرورات ملحة لبتداع أسلو د‬
‫والذي اعتبر بدوره أساسا راسخا من أساسات التحضر والعمران‪ ،‬حيث أدرك المسلمون ضرورة‬
‫أن تيستقى التقويم الجديد من القيم الذاتية للمة الناشئِة!‪.‬‬
‫وتعتبر بداية التقويم الهجري في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مظهرا من مظاهر تأثر‬
‫العقلية العربية تأثرا منهجيا بالقرآن الكريم؛ وبداية تحولها من المنهج الذاتي )البيولوجي(‬
‫المتمحور حول الذات إلى المنهج الكوني )الموضوعي( المتجه إلى العالم المحيط‪ ،‬ويعتبر‬
‫التقويم الهجري حدا فاصلا بين مرحلتين من مراحل تطور الوعي العربي في شبه الجزيرة العربية‪.‬‬
‫وبدخول التقويم الهجري إلى حياة العرب فقد نما نوعم من التوافق بين طريقة تفكير النسان‬
‫العربي وبين قوانين الكون من حوله‪ ،‬وقد أصبح للتاريخ ‪،‬بفضل التقويم الجديد‪ ،‬حصيلة تراكمية‬
‫نفت عنه صفة النقطاع‪ ،‬حيث كانت الحصيلة ‪،‬في التقويم الذاتي‪ ،‬تختفي دائما في نهاية العام‬
‫لتعاود الظهور في العام الذي يليه‪ ،‬ولقد مهد التقويم الجديد لعملية تدوين ناجحة‪ ،‬ارتكزت على‬
‫أسلوب تراكمي في حساب الوقت‪ ،‬وبفضل التقويم الهجري فقد أصبح للدراسات التاريخية‬
‫قيمة إضافية تعدت كونها مجرد أحداث ذات مضامين أخلقية‪ ،‬لتتحول إلى ناحية التأريخ‬
‫للحداث في إطارها الزمني والموضوعي الذي وقعت فيه!‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫ليعلموا عدد السنين والحساب!‬
‫كذلك فقد تعامل القرآن الكريم مع العرب بكيفية متدرجة ميزت منهجه في إحداث التغيير‪،‬‬
‫وفي مجال "التراكم الزمني" فإن المنهج القرآني لم يخرج عن تلك القاعدة‪ ،‬إذ تعامل مع العرب‬
‫‪،‬بداية‪ ،‬وفق ما درجوا عليه من تحكيدم لنطباعاتهم الذاتية‪} :‬والقمر قدرناه منازل حتى عاد‬
‫كالعرجون القديم{)يسّ‪ (41)(39:‬من حيث ترتيب النزول( وكما نلحظ في هذه الية فإن‬
‫التراكم الزمني منعدم‪ ،‬حيث يتخذ القمر لنفسه ‪،‬في هذه الحالة‪ ،‬مجموعة من القيم )المنازل(‬
‫التي تقع بين أكبر قيمة له )البدر( وأقل قيمة )المحاق(‪ ،‬مما يشكل دورة كاملة تبدأ لتنتهي‬
‫وذلك في دورات متتابعة مقدارها شهر قمري واحد!!‪..‬‬
‫كذلك فقد طرحت سورة الفرقان )‪ 42‬من ترتيب النزول( مفهوم ا مشابها }ألم تر إلى ربك‬
‫كيف ميد الظيل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمسّ عليه دليل{)الفرقان‪ (45:‬وتطرح الية‬
‫توقيتا صالحا لجزء من النهار‪ ،‬ذلك أنه مرتبط بالفترة المحصورة بين شروق الشمسّ وغروبها‪،‬‬
‫ويعتبر هذا التوقيت نوعا من التوقيت "الذاتي" ل الموضوعي‪ .‬إل أن سورة تنزلت لحقا حملت‬
‫دلئل أوضح في مجال النتقال من "الذاتي" باتجاه "الموضوعي"‪ ،‬ومن "التكرار" إلى‬
‫"التراكم"!! وذلك حين قال الحق تبارك وتعالى‪} :‬هو الذي جعل الشمسّ ضياء والقمر نورا‬
‫وقيدره منازل ولتعلموا عدد السنين والحساب{)يونسّ‪ (51))(5:‬من حيث ترتيب النزول( فل‬
‫يكتفي القرآن الكريم في هذه الية بالحض على مراقبة الظواهر الكونية في حركتها المتكررة‬
‫ض كذلك على بدء النظر إلى الحصيلة التراكمية الناشئِة عن‬
‫)حركة الشمسّ والقمر( بل يح ي‬
‫مجموع تلك الحركة }عدد السنين{ و}الحساب{!‪..‬‬

‫‪202‬‬
‫وأخيرا بدأت المور تتضح وكأنها قد استقرت على الجمع بين النظرتين )التراكم(‬
‫و)التكرار( وذلك كما يبدو لنا في قوله تعالى‪} :‬يسألونك عن الهيلة قل هي مواقيت للناس‬
‫والحج{)البقرة‪ 87)(189:‬من حيث ترتيب النزول(‪..‬‬
‫فكأنما "مواقيت للناس" قد أفادت التراكم‪ ،‬ذلك أن "مواقيت" هنا هي كلمة غير معرفة‬
‫تفيد كافة أنواع التوقيت‪ ،‬بما في ذلك التوقيت التراكمي الموضوعي‪ ،‬مثال على ذلك أن حاصل‬
‫جمع إثني عشر شهرا من الشهور العربية يعطي سنةا هجريةا واحدة‪ .‬أما قوله تعالى "والحج" )أي‬
‫مواقيت للحج( فكأنما هي إشارة إلى خصوصية شهر "ذي الحجة" بين أشهر السنة العربية؛‬
‫وهو هنا توقيت من النوع الول "الذاتي" "المتكرر"‪..‬‬

‫الزمن الغيبي "ما وراء الموضوعي"‬


‫تحدثنا فيما سبق عن نوعين من الزمن‪ ،‬الول‪ :‬الزمن )البيولوجي(؛ والخر‪ :‬أطلقنا عليه اسم‬
‫الزمن )الموضوعي(‪ ،‬وبذا يبقى أن نعرض للنوع الخير؛ وهو الزمن "ما وراء الموضوعي"‪ ..‬وهو‬
‫زمن غير محدد الماهية‪ ،‬ونوعيته غير معتادة في حياة الناس‪ ،‬تحدث عنه القرآن الكريم فإذا‬
‫العرب أمام أمدر لم يعهدوه من قبل‪ ،‬لكن كان له أكبر الثر في تكوين نظرتهم للحياة‪..‬‬
‫وقبل أن نتحدث عن هذا النوع من الزمن؛ نحب أن نعرض ‪،‬بشيء من اليجاز‪ ،‬لنظرية‬
‫"النسبية" الخاصة بالعلمة آينشتين‪ ،‬والهدف من إيرادها هنا أن ستعطي للقارئ الكريم فكرة ما‬
‫حول غموض الزمن "ما وراء الموضوعي" حتى وفقا للمعايير البشرية!‪..‬‬

‫‪203‬‬
‫والنسبية لينشتاين )وإن كانت قد ناقشت الزمن من وجهة نظر موضوعية بحتة( إل أنها لم‬
‫تعتبره أمرا يختص بالمفاهيم الغيبية غير المدركة بشرياا‪ ،‬ورغم ذلك فإن تقديمها له )أي تقديم‬
‫النظرية للزمن( لم يختل من إثارة للحيرة والغرابة‪ ،‬ويبقى أن القرآن الكريم قد سبق كل تلك‬
‫النظريات في طرحه لمثل هذا النوع من الزمن والغريب على أفهامنا‪ ..‬سواء من خلل بعض‬
‫اليات التي عرضت لموضوع الزمن‪ ،‬أو من خلل ما عرضه القرآن الكريم حول بعث النسان‬
‫بعد موته‪.‬‬
‫الزمن غير الموضوعي‬
‫ونظرية النسبية)‪ (1‬لينشتين‬
‫ولد ألبرت آينشتين في الرابع عشر من مارس ‪ 1879‬في مدينة "أولم" التابعة للمانيا‬
‫الجنوبية حينذاك‪ ،‬ولم يكن الطفل "ألبرت" الصغير فذاا‪ ،‬بل لقد استغرق تعليمه النطق وقت ا‬
‫ل!‪ ،‬حتى لقد خشي ذووه أن يكون به جينة‪ ،‬وقد نشأ وفي بنيته ضعف‪ ،‬مما جعله يميل إلى‬ ‫طوي ا‬
‫حب الختلء بنفسه منذ نعومة أظفاره‪..‬‬
‫ويعتبر العام ‪1905‬م عاما مميزا في تاريخ العالم آنذاك‪ ،‬إذ كان كل شيدء فيه يوحي بقرب‬
‫اندلع الحرب العالمية الولى‪ ،‬وفي تلك السنة وضع آينشتين نظريته "النسبية الخاصة"‬
‫ونظريات أخرى‪ ،‬وقد عكف بعد ذلك على تطوير تلك النظرية؛ وحاول عرضها في المحافل‬
‫العلمية المختلفة‪ ،‬فكان الحضور في كل مرة يهللون ويطربون ويعلو وجوههم البموشر‪ ،‬فنشوة‬
‫لقاء آينشتين غايةم في ذاتها؛ حتى وإن لم يفهموا نظريته التي يطرحها!‪..‬‬

‫‪ ()1‬يرجى هنا التفريق بين مفهومين للنسبية‪ ،‬الول‪ :‬ظاهرة النسبية في القرآن الكريم‪ ،‬وهو مفهوم لغوي تحدثنا عنه‬
‫في بداية الكتاب‪ ،‬ويتعلق باحتمال وجود مجموعة من المعاني النسبية للفظ الواحد‪ ،‬أما نسبية آينشتاين فهي نظرية‬
‫لها علقة بعلم الفيزياء‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫ولم يكن آينشتين تيفاجأ بالسئِلة التي يطرحها الحضور‪ ،‬إل أنها جميع ا كانت تشير إلى عدم‬
‫فهمهم لتلك النظرية‪ .‬فماذا تعني مقولة "نسبية الزمن"؟ أو "نسبية المكان"؟ مما دفعه في إحدى‬
‫المرات لن يجيبهم مازحا‪) :‬لقد كان الناس من قبل يعتقدون أنه لو اختفت جميع الشياء‬
‫المادية من العالم لبقي "الزمان" و"المكان" مع ذلك‪ ..‬وأما نظرية النسبية فإنها ترى أن "الزمان"‬
‫و"المكان" يختفيان أيض ا هما وسائر الشياء(!‪..‬‬
‫وعلى الرغم من أن إجابة آينشتين لم تختل من دعابة؛ إل أنها أوجزت في وصف مفهوم‬
‫"نظرية النسبية" والتي تعني أن الزمن غير موجود وغير قائم بذاته‪ ،‬وأن لكل ظاهرة أو مكان في‬
‫الكون زمنه الخاص!!‪ ..‬حتى على الرض فإن الزمن غير منتظم‪ ،‬بمعنى أن أيام العام ليست‬
‫متساوية‪ ،‬وأن مساواتها إنما ينبع من رغبتنا في تنظيم حياتنا على كوكب الرض‪ ..‬وهذا يعني أن‬
‫سكان كوكب عطارد ‪،‬لو توجدوا‪ ،‬فستكون لهم فكرة مغايرة عن الزمن؛ تختلف عن فكرتنا نحن‬
‫سكان الرض‪ ،‬ذلك أن عطارد )وهو أسرع الكواكب السيارة وأقربها إلى الشمسّ( يدور حول‬
‫الشمسّ في ‪ 88‬يوما من أيامنا الرضية‪ ،‬ويدور دورة واحدة حول محوره في نفسّ المدة‪،‬‬
‫وهكذا؛ فإن اليوم والسنة يتساويان على سطح ذلك الكوكب السيار!‪ .‬والغريب هو أن المفهوم‬
‫نفسه كان موجودا عند "أبيقور" قبل أكثر من ألفي عام‪ ،‬وذلك حين أجاب على سؤال حول‬
‫)هل عسانا أن نفكر بالزمان والمكان لو محقت كل الشياء التي ننظر إلى الزمان والمكان من‬
‫خللها(‪ .‬فكان جوابه‪) :‬ل وجود للزمان بذاته‪ ،‬بل وجوده بالشياء المحسوسة وحدها‪ ،‬تلك‬
‫الشياء التي نشأت عنها فكرة الماضي والحاضر والمستقبل‪ ،‬إن الزمان ل يمكن تصوره بذاته‬
‫مستقلا عن حركة الشياء أو سكونها(‪.‬‬

‫نسبية الزمن وعلقتها بسرعة الضوء‬

‫‪205‬‬
‫ولنسبية الزمن علقة كبيرة بسرعة الضوء‪ ،‬فسرعة الضوء هي التي تؤدي إلى ذلك التداخل‬
‫الغريب بين كل من مفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل! فلو كانت سرعة الضوء لحظية‬
‫بحيث تغمر الكون كله دفعةا واحداة كلمح البصر لكان الزمن مطلقاا؛ وواحدا في كل أجزاء‬
‫الكون؛ لكن ومع حقيقة كون الضوء الوسيلة الوحيدة لنقل ظواهر الطبيعة من حولنا من مكان‬
‫لخر؛ وفي ضوء حقيقة أن سرعة الضوء محدودة )‪(300.000‬كم‪/‬ث؛ فإن من شأن ذلك أن‬
‫يجعل الزمن نسبياا‪ ،‬لن الضوء الذي ينقل الحادثات من مكان إلى آخر يستغرق وقتا‪ ،‬فلكل‬
‫عالم زمانه المحلي الخاص به‪.‬‬

‫التداخل بين‬
‫مفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل‬
‫ولجلء هذه النقطة الغريبة )تداخل الزمنة( فلنفترض وجود ثلثة كواكب )أ‪ ،‬ب‪ ،‬ج( تقع‬
‫على خط مستقيم واحد‪ ،‬ويفصل بينها مسافات ضوئية معينة )مائة سنة ضوئية بين كل كوكب‬
‫والخر على سبيل المثال(‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫ج‬ ‫ب‬ ‫أ‬

‫‪206‬‬
‫وعلى فرض حدوث انفجار في الكوكب )أ( فإن الكوكب )ب( بحاجة إلى مائة عام لكي‬
‫تصله ومضة النفجار! ومعنى ذلك أن الكوكب )أ( سيظل مرئي ا يتلل من قبل سكان الكوكب‬
‫)ب( وذلك لمدة مائة عام بعد النفجار! وفي اللحظة التي يتم فيها رصد النفجار من قبل‬
‫سكان الكوكب)ب( )بعد مائة عام من حدوثه بالفعل( فستكون تلك اللحظة بالذات ما د‬
‫ض‬
‫بالنسبة للكوكب)أ( وحاضرا بالنسبة للكوكب )ب( وستكون حدثا سيحدث في المستقبل‬
‫بالنسبة للكوكب)ج( والذي ستبلغه ومضة النفجار بعد مائة عام أخرى من لحظة بلوغها‬
‫للكوكب)ب(؟! وبعد مائتي عام من لحظة حدوثها على الكوكب )أ(‪ .‬وهذا المثال يعطينا فكرة‬
‫واضحة عن مفهوم "الزمن المحلي" وحقيقة أن لكل كوكب زمنه الخاص‪.‬‬

‫الزمن وعلقته بالسرعة‬

‫‪207‬‬
‫ويستتبع القول بمفهوم "الزمن المحلي" نتائج يصعب على العقل قبولها! فمعنى ذلك أن‬
‫لجسم النسان كذلك زمنه الخاص‪ ،‬ويدفعنا ذلك إلى الستنتاج بأن الشخص المتحرك حركة‬
‫بطيئِة "يشيخ" قبل الشخص المتحرك حركة سريعة! بل إن الشخص الذي يتحرك بسرعة الضوء‬
‫يعيش خارج الزمن!!‪ ..‬وكيما نوضح ذلك بطريقة محسوسة؛ نقتبسّ المثال التالي‪ :‬لنفترض أن‬
‫رحالة فلكي ا غادر الرض بسرعة تساوي )‪ (1/20.000‬من سرعة الضوء‪ ،‬وقضى ذلك الرحالة‬
‫عامين متنقلا في سياحة فضائية‪ ،‬المفاجأة ستقع إذا ما عاد ذلك الرحالة إلى الرض‪ ،‬لنه سيجد‬
‫ساعتها أن العامين اللذين قضاهما في مركبته يقابلهما قرنان كاملن مرا على سكان الرض‬
‫تبدلت فيهما كل معالمها!!‪ ..‬إن هذه الرحلة الخيالية ‪،‬بالذات‪ ،‬ستكون منطلقنا للدخول إلى‬
‫عالم "ما وراء الموضوعي" كما عرضه القرآن الكريم‪..‬‬

‫ما وراء الموضوعي في القرآن الكريم‬


‫يصور لنا القرآن الكريم حقيقة الوجود كوجهي العملة الواحدة‪ ،‬والوجه الول للوجود هو‪:‬‬
‫"عالم الشهود" أما الخر فهو وجومد في "عالم الغيب"‪..‬‬
‫والوجه الول من الحقيقة يمثله وجودنا في عالمنا الرضي؛ بكل ما فيه من موجودات؛ سواء‬
‫أوصلت إليها مداركنا أم لم تصل‪ ،‬كذلك يشمل هذا النوع من الوجود كل الموجودات الكونية‬
‫التي لن يقدر للنسان أن يصل إليها أبدا؛ بسبب قصور إمكانياتنا عن إدراكها؛ ذلك أنها تظل‬
‫منتمية إلى نفسّ العالم الذي ننتمي إليه في رحلة الحياة الدنيا‪ ،‬وتخضع لنفسّ القوانين‪...‬‬

‫‪208‬‬
‫أما الوجه الخر لحقيقة الوجود فهو وجود في "عالم الغيب"‪ ،‬وهو وجود غير تمدرك بالنسبة‬
‫لنا؛ بسبب قصورنا عن إدراك حقيقته‪ ،‬ولعدم امتلكنا ‪،‬أصل‪ ،‬القدرة على التعامل معه‪ .‬وما بين‬
‫حياة النسان على الرض وانتهائها بالموت؛ فإن عالما مجهولا كان قبل ذلك‪ ،‬وعالما آخر‬
‫سيعقبه‪ .‬فالحياة الدنيا في التصور السلمي ليست البداية؛ إذ كان للنسان ‪،‬قبل ذلك‪ ،‬وجود‬
‫في عالم الغيب }وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم{‪ ..‬والحياة الدنيا لن تكون‬
‫نهايتها العدم؛ ذلك أن وجودا جديدا سيكون في عالم ل ندري عنه شيئِا‪.‬‬
‫من هنا فإن القرآن الكريم )وفي سعيه لتزويد النسان بتصورات متكاملة( وجدناه يدمج‬
‫"الغيب" بحركة "الواقع" فشيكل لنا دائرة متكاملة؛ ترسم للنسان نقطتي "البدء" و"المنتهى"‬
‫في رحلته نحو وجه ال الكريم‪} :‬إن إلى ربك الرجعى{)العلق‪} (8:‬يا أيها النسان إنك كادح‬
‫إلى ربك كدحا فملقيه{)النشقاق‪..(6:‬‬

‫‪209‬‬
‫ويصور القرآن الكريم الحضور الكامل للغيب في عالم الشهادة؛ فالنسان )كما يعرضه‬
‫القرآن( لم يترك سدى تتناوشه الوساوس والهموم‪ ،‬فقد كان ال قريبا منه دائما‪ ،‬تتنزل عليه‬
‫رحماته‪ ،‬وتتنزل عليه ملئكته‪ ..‬وهنا نبدأ بالتعرف على بعض ملمح الزمن "ما وراء الموضوعي"‬
‫كما عرضه القرآن الكريم‪ ..‬فقد أورد القرآن الكريم آيات كريمة ل يمكن ادعاء فهمها إل على‬
‫ضوء حقيقة ما علمناه ‪،‬أخيرا‪ ،‬من أن الكون بالفعل هو مفكك من الناحية الزمنية‪ ،‬وبأن لكل‬
‫ظاهرةد )ولكل عالدم( زمنه الخاص؛ غير الملزم للعوالم الخرى؛ بحيث تتداخل تلك العوالم دون‬
‫أن تتعارض! ول يعني توجهنا نحو هذه اليات ‪،‬من خلل هذا المنظور‪ ،‬أننا نحاول تقديم تفسير‬
‫لها‪ ،‬وكل ما نطمح إليه هنا إنما هو محاولة القتراب منها ومحاولة تفهمها‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫لقد تحدث القرآن الكريم عن عوالم مختلفة تتم فيها المور بسرعات مختلفة كذلك! إذ‬
‫يقول عز من قائل في هذا الشأن‪} :‬يدبر المر من السماء إلى الرض ثم يعرج إليه في يوم كان‬
‫مقداره ألف سنة مما تعدون{)السجدة‪(5:‬‬
‫ومع أن بعض التأويلت تذهب إلى أن اللف سنة إنما المقصود بها هو يوم القيامة؛ إل أنه ل‬
‫شيء يقطع بأن هذا هو التفسير الوحيد! وهو ما يسري كذلك على قوله عز وجل في آية أخرى‪:‬‬
‫}ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف ال وعده‪ ،‬وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون{‬
‫)الحج‪ ..(47:‬والية الشيد وضوحا فيما يختص بنسبية الزمن هي تلك التي تتحدث عن‬
‫"معراج الملئكة" إلى السماء‪ ،‬وذلك في قوله تعالى }تعرج الملئكة والروح إليه في يوم كان‬
‫مقداره خمسين ألف سنة{)المعارج‪(4:‬‬
‫ولو طبقنا ما ذهبنا إليه آنفا من أن "خمسين ألف سنة" من زمن الرض يقابله يوم واحد من‬
‫زمن "الملئكة والروح" فسسنجد أمامنا عندئدذ إشارة واضحة تنم عن سرعة مواكبة الغيب‬
‫لحركة الواقع في حياة الناس!!‪..‬‬
‫‪..‬فقد تحدث القرآن الكريم ‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬عن الستجابة الربانية السريعة لدعاء‬
‫المؤمنين ‪،‬في بدر‪ ،‬وتنزل الملئكة لنصرتهم }إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم‬
‫ف من الملئكة مردفين{)النفال‪ (9:‬وهنا يكون الستغراب! فكيف تأتي استجابة ال عز‬ ‫بأل د‬
‫وجل لدعاء المؤمنين بهذه السرعة مع أن تنزل الملئكة التمثنبيمتين سيستغرق ألف سنة مما نعيده‬
‫نحن البشر؟!‪ ..‬والمر يمكن النظر إليه من زاوية أخرى‪ ..‬فلو فرضنا أن النسبة بين زمن الحدث‬
‫على الرض وزمن تنزل الملئكة هو ‪ ،1:50,000‬وأن تنزل الملئكة يمكن أن يحدث أسرع‬
‫بخمسين ألف مرة من سرعة استغاثة المؤمنين‪ ،‬فلنا أن نتخيل حينها سرعة استجابة ال لدعاء‬
‫المؤمنين وتنزل الملئكة المثبتين!!‪.‬‬
‫والمر هنا ل يعدو أن يكون مثال إضافي ا واضح ا على ما أوردناه من تمتع العوالم المختلفة‬
‫بأزمنتها الخاصة التي ل تلتقي مع زمن العوالم الخرى ول تتعارض معها‪ ،‬وقد ضربنا له مثالا‬
‫بذلك الرحالة الذي قضى عامين مرتحل فلما عاد إلى الرض وجد أن قرنين من الزمان قد مرا‬
‫عليها‪ ،‬فكيف تسنى استيعاب قرنين كاملين في عامين؟!‪..‬‬

‫‪211‬‬
‫من هنا نجد أن القرآن الكريم قد تحدث عن ظاهرة "نسبية الزمن" في ثناياه‪ ،‬إل أنه كان من‬
‫الصعب آنذاك فهمها على وجهها الصحيح‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫الكيمياء‬
‫ومنهج استقراء العلوم الطبيعية في القرآن الكريم‬

‫ما الذي أردنا قوله في‬


‫هذا البحث؟‬

‫)في هذا البحث قمنا باستقراء منهجي‬


‫للكيمياء وبعض مصطلحاتها الواردة في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬بحيث حاولنا أن نقدم‬
‫نموذجا يمكن احتذاؤه لستقراء العلوم‬
‫المختلفة في القرآن الكريم(‬

‫‪213‬‬
‫العلوم الطبيعية‬

‫‪214‬‬
‫ومنهج تدبر القرآن الكريم)‪(1‬‬

‫‪ ()1‬هذا البحث عبارة عن تلخيص لكتاب "الكيمياء الحديثة في ضوء القرآن الكريم" والصادر عن دار القرآن في‬
‫القاهرة‪ ،‬وقد قامت الباحثة إيمان بو خبزة بترجمة العديد من هذه أبحاثه إلى الفرنسية‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫الولوج للسلم من باب العلم يعتبر قصة بحد ذاته‪ ،‬كثيرا ما تجلت من خللها أهمية‬
‫الستعانة بالعلوم الطبيعية لقرار اليمان وتثبيت الفؤاد‪ ،‬فأمام عاصفة الشك التي يمكن أن‬
‫تعصف بإيمان المرء يمكن أن تكون العلوم الطبيعية ودراستها بابا صالحا للولوج منه إلى عالم‬
‫أكثر استقرارا‪ ..‬وفي مثل تلك الجواء العاصفة قد يجد المرء من العلوم الطبيعية وسيلة صالحة‬
‫لدراك اليقين‪ ،‬وهي الوسيلة القادرة ‪،‬ول شك‪ ،‬على إثبات حقيقة أن ديننا هو من عند ال‪ ،‬وبأن‬
‫ما نزل من عند ال هو الحق بالفعل‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫ولسبب كامن في طبيعة العصر الذي نحيا فيه؛ فقد أمست محاولة الولوج إلى اليمان من‬
‫باب العلم حاجة ماسة‪ ،‬إذ لم يعد ممكنا تجاهل كل هذا الكم المتراكم من المعلومات التي‬
‫تخص العلوم المختلفة‪ ،‬ول ذلك التقدم المادي الناتج عن تلك الثورة‪ ،‬والتي باتت تواجه إيمان‬
‫النسان بالتحدي‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫ومثلما كانت السمة المادية في وقت من الوقات‪ ،‬وكذلك الكتشافات العلمية التي حققها‬
‫الغرب في القرن الخير؛ عقبة في طريق استقرار اليمان بال وبالغيب في النفوس؛ فقد كانت‬
‫الهزيمة السياسية الماحقة التي أصابت المة السلمية )والمتمثلة بسقوط نظامها السياسي(‬
‫دافعا إضافيا باتجاه اللجوء إلى العلوم الطبيعية وذلك للتغلب على آثار تلك الزمة؛ والتي تعطل‬
‫قبلها دماغ المة عن التفكير؛ فتوقفت بعدها ملكاتها عن البداع!‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫لكل ذلك فقد شكل التجاه إلى العلوم الطبيعية المختلفة نوع ا من التوازن الداخلي في‬
‫أعماق الفرد والجماعة؛ مما مكن الفرد والمجتمع ‪-‬في وقت من الوقات‪ -‬من المحافظة على‬
‫ثقتهم بدينهم وحضارتهم‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫إن حالة "رد الفعل" )التي تمثلت في اتجاهنا في وقت من الوقات ناحية العلوم الطبيعية‬
‫وجوعملها دليلا على الحقيقة الدينية( كان يمثل حالةا غير عادية‪ ،‬وغير أصيلة‪ ،‬إذ الصل أن‬
‫تيستدل بالحقيقة الدينية على ما عداها ل العكسّ‪ ،‬لكن مع ذلك فقد ساهم التوجه نحو تلك‬
‫العلوم في إيجاد زوايا جديدة تينظر للنص القرآني من خلها‪ ،‬مما ميكن ‪،‬في نهاية المطاف‪ ،‬من‬
‫إحداث الثر المطلوب؛ والمتمثل في إدراك الحاجة لتجاوز الزمة الحضارية‪ ،‬لكن مع كل ذلك‬
‫فقد بقي التوجه للعلوم الطبيعية ‪،‬لثبات صدق الحقيقة الدينية‪ ،‬بقي تمعبرا عن جانب غير‬
‫أصيل‪ ،‬ول يمثل "الفعل" بقدر ما يعبر عن "رد الفعل"‪ ،‬وظل تمعبرا عن الستجابة لمواجهة حالة‬
‫الزمة التي لزمت المة خلل القرن الخير‪.‬‬
‫وفي الونة الخيرة فإن اختلف ا ما قد طرأ على تلك الحالة‪ ،‬حالة "رد الفعل"‪ ،‬إذ بدأنا ‪،‬شيئِ ا‬
‫فشيئِاا‪ ،‬نستعيتد الثقة بالذات‪ ،‬وبدأنا ‪،‬شيئِ ا فشيئِاا‪ ،‬نفقد الثقة في الحضارة المادية برمتها‪ ،‬ابتداء‬
‫بالفكر الذي وضع الدين موضع التهام؛ ونربننطه بعلقة تناقض ومواجهة مع العلم‪ ،‬وقد بدأ الدين‬
‫في استعادة ما فقده من اعتبار؛ وجاء ذلك كنتيجة مباشرة لتضاح حدود قدرة أدوات تحصيل‬
‫المعرفة‪ ،‬وحدود إمكانيات أدوات الستكشاف‪ ،‬وبالتالي فإن العلم قد ساهم مساهمة مباشرة‬
‫في رد العتبار للدوات المقترحة من قبل الدين‪ ،‬بل إن العلم قد أثبت أن "اليمان بالغيب" إنما‬
‫هو حقيقة "موضوعية" بحتة تفرضها محدودية الوسائل‪ ،‬ومحدودية القدرات البشرية‪ ،‬وذلك‬
‫حين تم الكشف عن أن ما يمكن لحواس النسان أن تحيط به من محسوسات ل يتعدى أن‬
‫يكون نسبة ضئِيلة جدا مما يمكن للنسان أن يدركه‪.‬‬
‫والضافة ذات المغزى هنا هي أن الحقيقة الدينية قد أصبحت مقبولة‪ ،‬ليسّ فقط من وجهة‬
‫نظر أصحابها )ممن يؤمنون بالغيب( بل من وجهة نظر علمية بحتة كذلك!!‪.‬‬

‫جدلية العلقة بين اليمان والوعي‬

‫‪220‬‬
‫حين أنزل ال عز وجل كتابه الكريم على نبيه محمد )صلى ال عليه وسلم( تووجهت دعوة‬
‫السلم بالمعارضة التقليدية التي كانت توانجه بها كل دعوة جديدة‪ ،‬وقد حملت دعوةت السلم‬
‫في حينه الكثير مما يمكن أن يثير حفيظة رجالت المجتمع التقليديين؛ الذين كثيرا ما حركتهم‬
‫مصالحهم الشخصية‪ ،‬وقد احتج المعارضون للدعوة الجديدة بما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم‬
‫ج بذلك الميراث دون تفكر أو تدبر‪ ،‬فقال عز‬
‫من دين‪ ،‬فننـنعى القرآتن الكريم عليهم الحتجا ن‬
‫وجل في محكم التنزيل‪:‬‬
‫}وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل ال قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا‪ ،‬أولو كان آباؤهم ل‬
‫يعقلون شيئِا ول يهتدون{)البقرة‪(170:‬‬
‫وفي آية أخرى يشير القرآن الكريم إلى حالة الصرار من قبلهم على مواصلة السير على‬
‫ذلك النهج من الضلل }بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة‪ ،‬وإنا على آثارهم مهتدون{)الزخرف‪:‬‬
‫‪(22‬‬
‫ولم يكن ذلك النهج من المعاندة فريداا! إذ ووجه به وبمثله كرل نبي من النبياء؛ وكل رسول‬
‫من الرسل‪ ،‬بل أصبح تسنةا بشرياة؛ كثيرا ما رسمت صورة العلقة بين اليمان ونقيضه‪:‬‬
‫}وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إل قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على‬
‫أمة‪ ،‬وإنا على آثارهم مقتدون{)الزخرف‪(23:‬‬
‫فوجــدنا اليــات الكريمــة تــبين ماهيــة التبــاع؛ ووجــوب أل يكــون إل فيمــا تعرفــت هــدايته مــن‬
‫رسالدة أو تنزيل‪} :‬وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل ال{ وقد نعى القرآن الكريم على نقيض مــا تنــزل بــه‬
‫القرآن فقال عز من قائل‪:‬‬
‫}وبرزوا ل جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إينا كنا لكم تبعا{)إبراهيم‪(21:‬‬
‫ويقول في آية أخرى‪} :‬وإذ يتحايجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم‬
‫تبعا{)غافر‪ (47:‬وهذا التفريق بين معنيين من "التباع" تؤكده اليات الكريمة حينما تتحدث‬
‫عن نوع مقابل‪:‬‬
‫}واتبعوا النور الذي أنزل معه‪ ،‬أولئِك هم المفلحون{)العراف‪(157:‬‬

‫‪221‬‬
‫وكذلك‪} :‬قل هذه سبيلي أدعو إلى ال على بصيرة أنا ومن اتبعني‪ ،‬وسبحان ال‪ ،‬وما أنا من‬
‫المشركين{)يوسف‪(108:‬‬
‫فالنموذج الذي تقدمه اليات للتباع المقبول هو "اتباع النور" و "اتباع الرسول"‪ ،‬والتباع‬
‫"على بصيرة"‪ .‬وقد وجدنا اليات الكريمة تقدم نموذجا متكاملا لما يدعوه القرآن الكريم بـ‬
‫"السبيل"‪ ،‬والذي يجمع الصورة المتثلى لكدل من "الداعي" و"الدعوة" و"الستجابة"‪ ،‬فهو سبيمل‬
‫تظلله الهداية؛ لن هدفه وغايته هو ال‪ ،‬وهو سبيل تسبق فيه "البصيرتة" "الدعونة" ذاتها‪ ،‬ويسبق‬
‫فيه الفهتم والدراتك الحركةن نفسها‪ ،‬وهذا السبيل من التباع هو الذي يرتقي بالمة؛ فيحول الكيم‬
‫المهمل فيها إلى كيفية فاعلة‪ ،‬ولن يتم كتل هذا إل بالوقوف الدائم والمستمر على ضفة اليمان‬
‫مستحضرين كل أدوات "التفكر" و "التدبر" و "التبصر"!‪.‬‬
‫فـ "التفكر" و"التدبر" إذن هما أداتان لبلوغ ما هو صواب‪ ،‬لكن الصابة ليست هدف ا‬
‫مضمونا في كل الحالت‪ ،‬والمة التي تتوقع الصابة في كل حالت اجتهادها؛ هي أمة ل تدرك‬
‫حقيقة النسان ودوره في هذه الحياة‪..‬‬

‫‪222‬‬
‫كما أن معرفة المكانيات الحقيقية للنسان تعزز حقيقة وجود كون خارج الحواس؛ وقد حبا‬
‫ال النسان بمجموعة من الحواس ميكنته من إدراك جزدء من الحقيقة التي تحيط به‪ ،‬وما يميز‬
‫تلك الحواس هو محدودية قدرتها‪ ،‬فالعين البشرية ‪،‬على سبيل المثال‪ ،‬تدرك المرئيات حسب‬
‫طول الموجة المنبعثة منها‪ ،‬وما اللوان التي تراها العين إل تعبيرا عن أطوال مختلفة للموجات‬
‫المنبعثة من تلك الجسام‪ .‬وتقع الموجات المرئية بين )‪ (7600-4000‬أنجستروم)‪ (1‬والتي‬
‫تمثتل ما يمكن رؤيته من أشياء‪ ،‬ومعنى ذلك أن كل الجسام التي تنبعث منها موجات تحت‬
‫ذلك الطول الموجي )وتقع بين )‪ (4000-3000‬أنجستروم‪ ،‬وتعرف بالشعة فوق‬
‫البنفسجية( ل يمكن رؤيتها بواسطة العين البشرية المجردة‪ ،‬وينطبق المر كذلك على الشعة‬
‫تحت الحمراء التي يقع الطول الموجي لها فوق )‪ (7600‬أنجستروم؛ فل يمكن رؤيتها بالعين‬
‫المجردة كذلك‪.‬‬
‫إن محدودية المكانيات والقدرات البشرية على إدراك الحقائق من حولنا تمثل عجزا‬
‫متأصل في النسان‪ ،‬وتيبرتر هذا العجز ‪-‬جزئياا‪ -‬حاجةن النسامن الدائمة إلى "التوبة" والتي‬
‫يعرضها الديتن كفعدل بشردي لتدارك النقص والخطأ الناشئِين عن الضعف الموروث في جبلة هذا‬
‫المخلوق‪ ،‬وتينظر إليها كاجتهادد إنساندي للتغلب على السلبيات الناشئِة عن النحراف عن طريق‬
‫ت لتعذيب النسان بقدر ما جاءت لتضع أمامه‬ ‫الرشاد‪ ..‬ولؤكد حقيقة أن الديان السماوية لم تأ م‬
‫ب عينيه علمات الهداية والرشاد‪.‬‬
‫صن‬‫سبيلا سويا يسير عليه‪ ،‬ولتضع نت و‬
‫ض علينا القبول بحقيقة إمكانية وقوعنا ‪،‬كبشر‪ ،‬في‬
‫إن إدراكنا لحدود بشريتنا وإنسانيتنا يفر ت‬
‫الخطاء‪ ،‬لذلك فقد أطلق أسلفنا على هذا النشاط البشري اسم "الجتهاد" وهي التسمية‬
‫الموضوعية المعبرة عن بذل أقصى الجهد لترجيح تحقيق الصواب دون نفي إمكانية الوقوع في‬
‫الخطأ!‪.‬‬

‫‪ ()1‬يتكون الطيف الموجي من عدة فئِات حسب أطوالها‪ ،‬والتي تبدأ بـالشعة الكونية "كوزميك"‪ ،‬جاما‪ ،‬أشعة‬
‫إكسّ‪ ،‬الشعة فوق البنفسجية‪ ،‬الشعة المرئية‪ ،‬الشعة تحت الحمراء‪ ،‬وموجات التلفاز‪ ،‬و الراديو‪ .‬وتقاس تلك‬
‫الموجات بوحدة النجستروم )*‪ ،(A‬وهي مشتقة من السنتيميتر‪ ،‬والذي يعادل ‪ 10‬مرفوعة إلى الس ثمانية‬
‫أنجستروم‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫إن المطلوب من المة اليوم هو أن تعود لسيرتها الولى؛ بما حباها عيز وجل من قدرة على‬
‫إحداث الفعل والمبادرة به‪ ،‬وتتمثل تلك العودة في إعادة تفعيل أدمغة أبناء المة لتبدأ بالتفكير‬
‫الحر والمبدع من جديد‪ ،‬لكن تلك العودة تظل تتوانجه بعدد من العقبات‪..‬‬
‫إن تلك العودة تقتضي منا النسحاب من الضطراب إلى الثبات‪ ،‬وهذا يقتضي منا تحليل‬
‫كل ما يقع تحت أيدينا إنطلق ا من قاعدة ثابتة‪.‬‬

‫عقبات في طريق الوعي‬


‫إن قارئ القرآن الكريم عرضة لعدد كبير من العقبات التي يمكن أن تواجهه وتمنعه من‬
‫الوصول إلى معاني القرآني الكريم ومراميه‪..‬‬
‫أما العقبة الولى التي تواجهه وتمنعه من الولوج إلى أسرار جماله فهي‪ :‬فقدان حسّ التذوق‬
‫للغة‪ ،‬وقد أدى ذلك إلى فقدان مفردات القرآن لمعانيها‪ ،‬وتحتول تأخرى إلى كلمات غريبة على‬
‫قارئه؛ مع أنها تحمل مضامين النص القرآني‪ ،‬وقد أيدى ذلك كله إلى حالة من الضبابية وعدم‬
‫الفهم لما يطرحه القرآن الكريم من أحكام وتوجيهات‪ ،‬فكانت النتيجة النهائية‪ :‬هجران القرآن‬
‫من الناحية الفعلية‪ ،‬وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الحالة حين قال‪:‬‬
‫ب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا{)الفرقان‪(30:‬‬ ‫}وقال الرسول يا ر ي‬
‫وقد أدت تلك الحالة إلى أن أصبحت عملية القراءة غير مقترندة دائم ا بالفهم‪ ،‬وأصبح عدم‬
‫فهم القرآن عامل من عوامل التثبيط لعملية القراءة‪ ،‬مما أدى إلى تكريسّ شبه دائم لحالة‬
‫الجفاء والهجران بين النسان المسلم والقرآن‪.‬‬
‫ولعل تلك المشكلة )المتمثلة بحالة "الهجران" والتي أصبحت تغلف علقة المسلم بدينه‬
‫وبكتاب ربه( لعلها تلقي بظلل كثيفة من المسئِولية تدفع كل مهتم ليجاد السبل الكفيلة‬
‫بالتغلب على تلك الحالة‪ ،‬والتي تعتبر مظهرا من مظاهر السقوط الحضاري؛ والتي تعني في‬
‫أفدح وجوهها فقدان النسان لداة الفهم‪ ،‬أداة التعبير‪ ،‬وأداة التفاعل مع المحيط أخذا وعطااء‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫لكن المشكلة ‪،‬وبسبب طبيعتها المعقدة‪ ،‬فإننا ل نرى شيئِا واحدا يمكن أن نفعله منفردا‬
‫يكون كفيل بحلها‪ ،‬وقد يكون جزءا من الحل تغيير المناهج الدراسية بكاملها‪ ،‬وإعادة بنائها‬
‫من جديد على أسسّ مستقيمة‪ ،‬خصوصا تلك المناهج الخاصة بمراحل التعليم الساسي‪،‬‬
‫بحيث تتم إعادة اكتشاف وتأهيل اللفاظ الواردة في القرآن الكريم؛ بما يعنيه ذلك من دمدج لها‬
‫في المناهج المختلفة‪ ،‬وإذا ما حدث ذلك فسوف يكون سهلا على التلميذ‪ ،‬الطالب‪،‬‬
‫الموظف‪ ،‬العامل‪ ،‬ربة البيت‪ ،‬سوف يكون من السهل عليهم جميع ا قراءة القرآن‪ ،‬وإدراك الحد‬
‫الدنى المطلوب توفره لحداث عملية الفهم‪ ،‬مما سيضعنا ‪،‬حتماا‪ ،‬في المكان السليم الذي‬
‫نستطيع من خلله استعادة القدرة على "تدبر" النص والنفعال به والتفاعل معه‪.‬‬
‫إن طلب الوصول إلى حالة "التدبر" يجب أل يفهم منه أننا نسعى ليصال الجميع إلى مواقع‬
‫"الجتهاد" في فهم وتفسير القرآن الكريم‪ ،‬بل إن غرضنا هو العودة للتذكير بحقيقة أن القرآن‬
‫الكريم هو كتاب منيزل من عند ال تعالى؛ ليتم فهمه والتعامل معه بصورة مباشرة من قبل‬
‫المؤمنين به‪ ،‬وأل يستقر أمر فهمه على مجرد طبقة من رجال الدين التي تحتكر فهمه‪ ،‬وتملي‬
‫كيفية تطبيقه‪ ،‬كما حدث مع الديان الخرى!‪.‬‬
‫أما العقبة الثانية التي تقف في طريق التفاعل بين العقل والنص القرآني الكريم فهي عقبة من‬
‫نودع آخر‪ ،‬إنها العقبة النفسية والتي تتمثل في خوف بعض قراء القرآن من إعمال العقل فيه وتدبر‬
‫آياته‪ ،‬اعتقادا منهم بأن أعمال العقل في النص من شأنه إفساد قداسته! وقد أدى الحرص‬
‫المبالغّ فيه على "عدم المسّ بقداسة النص القرآني" إلى التضحية بالمحصلة المتوخاة من وراء‬
‫تلك القراءة؛ وهي إحداث حالة من التفاعل مع النص والنفعال به؛ بحيث يتسنى للنص فيما‬
‫بعد أن يكون عامل تأثير في مجريات حياة النسان‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫وعلى الرغم من صحة القول بأن "للنص القرآني قداسة تفرض محاذير خاصة عند التعامل‬
‫معه" إل أنه لمما يتنافى مع طبيعته أيضا أن تؤدي تلك المحاذير إلى إخماد روح التفاعل ما بين‬
‫القرآن الكريم وقارئه‪ ،‬وإن من شأن تلك الحساسية أن تكون أمرا مقبولا إذا ما مورست في‬
‫حدود تؤدي إلى المحافظة عليه من العبث‪ ،‬لكن ل يجوز ‪-‬ول بأي حال من الحوال‪ -‬السماح‬
‫ف حالة انفعال العقل مع النص‪ ،‬والتي ستؤدي حتم ا إلى تعطيل حركة‬
‫لتلك المحاذير أن توق ن‬
‫النسان باتجاه ربه‪.‬‬
‫إنه لمما يؤسف له أن تلك الحساسية في التعامل مع النص القرآني ‪-‬وفي ظل حالة الضعف‬
‫التي عانت منها المة‪ -‬قد أدت إلى حالة فعلية من الجفاء بين المة ومصدر قوتها‪ ،‬وقد‬
‫ساهمت تلك الحالة في توقف حركة "الجتهاد" والتي يعادل توقفها توقف الحياة ذاتها!‪.‬‬
‫إذن؛ فإن محاولت تحقيق الهدف المرجو من وراء "تدبر" آيات القرآن الكريم يمكن أن‬
‫تضع "القارئ" بين محذورين؛ أولهما‪" :‬اقتحام النص" بدون امتلك ناصية العلم‪ ،‬وفهم اللغة‬
‫العربية على وجه الخصوص‪ ،‬والخر‪ :‬محذور قراءة النص –فقط‪ -‬ابتغاء تحصيل الجر‪،‬‬
‫والقراءة بهذه الطريقة‪ ..‬إن جاءت من العامة كانت مقبولة‪ ،‬لكن ل يمكن قبولها من العلماء‬
‫الذين أعطاهم ال عيز وجل نعمة العلم‪ ،‬إذ على أولئِك أن يقرأوا النص القرآني الكريم بتدبر‬
‫وتفكر وفهم‪.‬‬

‫الغنى الموضوعي في النص القرآني‬


‫إين محمدا )صلى ال عليه وسلم( نبي آخر الزمان‪ ،‬ومعجزته القرآن الكريم‪ ،‬وهي المعجزة‬
‫الباقيتة؛ المستمرتة؛ الخالدة‪ ...‬فكان لبد وأن تتسع آياته لكل ما يطرأ أو يستجد في حياة البشر‬
‫وفي دنيا الناس من تغيرات‪ ،‬والعلم والكتشافات هي جزء من تلك التغيرات‪..‬‬

‫‪226‬‬
‫ب تعبدد وهداية‪ ،‬لكنه لم يختل من شذرات وإشارات إلى أشياء أخرى في‬ ‫والقرآن الكريم كتا ت‬
‫مجالت العلوم النسانية والطبيعية المختلفة‪ ،‬فهو لم يخل من إشارا د‬
‫ت تنم ر‬
‫ت بصلة لعلم الفلك‪،‬‬ ‫ت‬
‫أو الجيولوجيا‪ ..‬الخ‪ ،‬لذلك فهي تتعرد وجها آخر متجددا من وجوه العجاز‪ ،‬ودليلا من دلئل‬
‫ت به بشمر من عند نفسه‪ ،‬وقد جاءت الشارات لتغطي المعارف‬ ‫الثبات بأن هذا القرآن لم يأ م‬
‫النسانية كافة؛ بحيث يصعب على بشدر عادي أن يحيط بمجال تنوعها؛ فضلا عن إدراك‬
‫أسرارها!! والسر في ذلك كما توضحه هذه الية وأخواتها‪:‬‬
‫}ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك{ )آل عمران‪(44:‬‬
‫واليات تأتي في تمام الوضوح وكمال التعبير؛ معبراة عن أن ما جاء به محمد )صلى ال عليه‬
‫وسلم( لم يكن لبشر أن يحيط به لول فضل ال في أن يرسل للبشر نورا يهديهم‪:‬‬
‫}وكذلك أوحينا إليك روح ا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ول اليمان‪ ،‬ولكن جعلناه‬
‫نورا نهدي به من نشاء من عبادنا{)الشورى‪(52:‬‬
‫وتتعدد المواضيع التي تغطيها اليات الكريمة‪ ،‬لكن القصص القرآني يجمعه جامع‪ :‬الحاطة‬
‫بكل معاني الكمال؛ ذلك أنه مثلما وصفه عز وجل بأنه }أحسن القصص{‪..‬‬
‫وهو أحسن القصص في كل سورةد من سوره‪ ،‬وكل آيدة من آياته‪ ،‬وكل كلمدة من كلماته‪ ،‬وكل‬
‫حر د‬
‫ف من حروفه … فالتحسن هنا إنما ينسحب على القرآن الكريم بكامله‪ ،‬وقد جاء في افتتاح‬
‫سورة "يوسف"‪:‬‬
‫}نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن{)يوسف‪(3:‬‬

‫معجزة خالدة ودللت مذهلة!!‬


‫إن واحدة من الدللت المذهلة لهذه المعجزة الخالدة يشي بها فهرس سور القرآن الكريم؛‬
‫والذي يتناول مواضيع متعددة ومختلفة‪ ..‬فهو يذكر من الحيوانات‪ :‬البقرة‪ ،‬النعام‪ ،‬الفيل!!‪..‬‬
‫ومن السماء والجناس‪ :‬يونسّ‪ ،‬هود‪ ،‬يوسف‪ ،‬إبراهيم‪ ،‬طه‪ ،‬مريم‪ ،‬النساء‪ ،‬النبياء‪ ،‬المؤمنون‪،‬‬
‫لقمان‪ ،‬يسّ‪ ،‬محمد‪ ،‬نوح‪ ،‬النسان‪ ،‬قريش‪ ،‬الناس!!‪...‬‬

‫‪227‬‬
‫أما الظواهر الطبيعية والفلك فسجيلها في فهرس القرآن الكريم جرد حافل‪ ،‬فضلا عما احتوته‬
‫اليات ذاتها من إشارات‪ ،‬فمن أسماء السور التي حملت تلك الشارات‪ :‬الرعد‪ ،‬الدخان‪،‬‬
‫النجم‪ ،‬القمر‪ ،‬المعارج‪ ،‬التكوير‪ ،‬النفطار‪ ،‬النشقاق‪ ،‬البروج‪ ،‬الطارق‪ ،‬الفجر‪ ،‬الشمسّ‪ ،‬الليل‪،‬‬
‫الضحى‪ ،‬الزلزلة‪ ،‬العصر‪ ،‬الفلق!!‪..‬‬
‫وفي الحداث ذات الدللة في مسيرة اليمان جاءت سور‪ :‬السراء‪ ،‬الكهف‪ ،‬الروم‪،‬‬
‫الحزاب‪ ،‬الفتح!!‪..‬‬
‫ومن أسماء الحشرات اختيرت أعلم السور‪ :‬النحل‪ ،‬النمل‪ ،‬العنكبوت!!‪ ..‬وهناك سور‬
‫كاملة حملت أسماء لشعائر تعبدية مثل‪ :‬الحج والجمعة!!‪..‬‬
‫إضافة إلى العديد من السور التي صورت أخلق ا بعينها يمكن أن تتلبسّ النسان؛ فجاءت‬
‫السور‪ :‬المطففين‪ ،‬المنافقون‪ ،‬الماعون‪ ،‬الكافرون!!‪ ..‬لكن سورة عجيبة حملت اسم ا أشد إثارة‬
‫للعجب‪ ،‬هي سورة "الحديد"!!!‪ ..‬إذ لم تحمل سورة أخرى من سور القرآن الكريم اسما‬
‫لمسماى يجمعه والحديد وجه شبه‪ ،‬مما يقطع بأن الحديد فيه ما ليسّ في غيره مما يعلمه ال ول‬
‫نعلمه)‪ (1‬وكل ما نعلمه من تلك الحكمة أن ال عيز وجل قال فيه‪:‬‬
‫س شديد ومنافتع للناس{)الحديد‪(25:‬‬
‫}وأنزلنا الحديد فيه بأ م‬

‫‪ ()1‬حين تطرق المفسرون قديما إلى ما في الحديد من منافع للناس؛ لم يتدور في خلدهم أن تلك المنافع ستطال‬
‫جسم النسان ذاته!!‪ ،‬حيث توجدت ذرات الحديد في هيموجلوبين الدم‪ ،‬ووجد أن للهيموجلوبين أهمية خاصة في‬
‫عملية التنفسّ؛ فهو يساعد على نقل الكسجين من الرئة إلى أنسجة الجسم المختلفة‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫لقد كان مما شيد انتباهي إلى أهمية إجراء هذا البحث وجود ذلك السم العجيب لتلك‬
‫ب‬‫السورة‪ ..‬سورة "الحديد"‪ ..‬ثم ما لبثت لفظة "نحاس" أن أضيفت إلى مخزون ما هو جاذ م‬
‫للنظر من مفردا د‬
‫ت حفل بها القرآن الكريم‪ ،‬فزادت من تأثير ذلك السم لتلك السورة‪ ،‬سورة‬
‫ظ جديدةم أن أضيفت إلى قائمة الحيرة والندهاش!!‪ ،‬إذ وردت ‪-‬على‬
‫"الحديد"‪ ،‬وما لبثت ألفا م‬
‫سبيل المثال‪ -‬لفظة "ذيرة" وقد وردت بمعناها المباشر الذي هو أقرب ما يكون إلى الستخدام‬
‫العلمي والعملي في عالم اليوم‪ ،‬بعد أن انصرفت عن معناها اللغوي الذي تفهمت به حين تنزلها‬
‫أو كادت أن تنصرف عنه‪ ،‬لندرك بعد هنيهة أنها وردت بصورة أشد عجباا؛ فقد وردت في كل‬
‫مواضع ورودها بلفظ "مثقال ذيرة"‪ ..‬ولم ترد كلمة "ذيرة" مجردة ولو لمرة واحدة! وهما‬
‫المصطلحان اللذان يمكن لمختص في علم الكيمياء أن يفرق بينهما بسهولاة؟!!‪.‬‬
‫إنها تلك اللفاظ ‪-‬وغيرها كثير‪ -‬مما له علقة وثيقة بعلم الكيمياء؛ والتي دفعتني جميعها‬
‫باتجاه البحث عنها؛ وعن مواطن الرتباط بين ما عرفناه عنها وبين ما جاء به القرآن الكريم منذ‬
‫خمسة عشر قرنا من الزمان؛ حيث ضم بين دفتيه العديد من اللفاظ ذات اليحاء الموضوعي‪،‬‬
‫والتي تنتظر أن نسلط عليها أضواء التخصص؛ لنفهم المراد منها‪ ،‬دون أن يؤثر ذلك على‬
‫المهمة الساسية التي نـنزنل القرآن من أجلها‪ ..‬أن يكون كتاب هداية يحمل بين طياته رسالة‬
‫الرحمة‪.‬‬
‫إننا ومن خلل ما ذهبنا إليه في هذا البحث أردنا أن نثبت أمرا صار في حكم البنندمهي‪ ،‬أل‬
‫وهو أنه "ليست لدى البشر ‪-‬في زمن بعينه‪ -‬قدرة مطلقة لتفسيركل ما ورد في القرآن الكريم‪،‬‬
‫بل إن هناك ضرورة لخذ عامل الزمن بعين العتبار" ومن هنا يمكن فهم ما ذهب إليه بعض‬
‫العلماء حين قال‪) :‬من هنا ندرك أن مفسري القرآن قد أخطأوا حتماا‪ ،‬وطيلة قرون في تفسير‬
‫بعض اليات التي لم يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إلى معناها الدقيق‪ ،‬إين ترجمة هذه اليات‬
‫وتفسيرها بشكل صحيح لم يكن ممكن ا إل بعد ذلك العصر بكثير‪ ،‬أي في عصر قريب منا‪،‬‬
‫ذلك يتضمن أن المعارف اللغوية المتبحرة ل تكفي لفهم هذه اليات القرآنية‪ ،‬بل يجب‪،‬‬
‫بالضافة إليها‪ ،‬امتلك معارف علمية شديدة التنوع()‪.(1‬‬

‫‪ ()1‬موريسّ بوكاي‪ ،‬القرآن الكريم والتوراة والنجيل والعلم‪ ،‬ص ‪145‬و ‪.146‬‬

‫‪229‬‬
‫وعلى الرغم من اتفاقنا مع القتباس الخير؛ والذي يفيد بعدم استبعاد حدوث أخطاء في‬
‫إصابة مرامي القرآن الكريم؛ بسبب محدودية ما يحمله زمن معين من انكشاف لعلوم ومعارف‬
‫بعينها؛ إل أننا نجد أن من النصاف التأكيد هنا على أن تلك الخطاء ل تقلل من قيمة جهود‬
‫العلماء واجتهاداتهم في محاولتهم لفهم مرامي النص‪ ،‬بل يجب علينا هنا التركيز على ضرورة‬
‫استيعاب حقيقة هامة‪ ،‬وهي أن الجهد البشري مجبول دائم ا باحتمالت الصابة أو الخطأ‪ ،‬وأن‬
‫احتمال الخطأ ليسّ سبب ا كافي ا لوقف الجتهاد ومحاولة متابعة ما بدأوه من جهود‪.‬‬
‫ت إلى بعض العلوم بصلة؛ يجب‬
‫وأخيرا‪ :‬فإن نظرتنا لما يقدمه القرآن الكريم من لمحات تم ت‬
‫أن تكون محكومة بإدراك حقيقي لحقيقة "عدم وجود علقة بين اليحاءات التي وردت في‬
‫القرآن الكريم وبين أية معرفة بشرية يكون قد حققها العرب في تلك الحقبة من تاريخهم‪ ،‬حيث‬
‫لم يكن العرب قد حققوا تلك النتائج في مجال العلوم التجريبية‪ ،‬بل على العكسّ من ذلك؛‬
‫فلقد برعوا في فنون اللغة وأساليب البيان‪ ،‬التي كانت مناط تحدي القرآن الكريم لهم‪ ،‬بل إن‬
‫الحقيقة الثابتة اليوم يوردها السيد "موريسّ بوكاي" وتتحدث عن أن‪) :‬فترة تنزيل القرآن‪ ،‬أي‬
‫تلك التي تمتد على عشرين عام ا تقريب ا قبل وبعد عام الهجرة )‪622‬م( كانت المعارف العلمية‬
‫في مرحلة ركود منذ عدة قرون‪ ،‬كما أن عصر الحضارة السلمية النشط مع الزدهار العلمي‬
‫الذي واكبها كان لحقا لنهاية تنزيل القرآن‪ .‬إن الجهل بهذه المعطيات الدينية والدنيوية هو‬
‫الذي سمح بتقديم القتراح الغريب الذي سمعت )الكلم لزال للسيد بوكاي( بعضهم‬
‫يصوغونه أحيانا‪ ،‬والذي يقول‪ :‬إنه إذا كان في القرآن دعاوى ذات صفة علمية مثيرة للدهشة‬
‫فسبب ذلك هو تقدم العلماء العرب على عصرهم‪ ،‬وأن محمدا )صلى ال عليه وسلم( بالتالي قد‬
‫استلهم دراساتهم‪ ...‬إن من يعرف‪ ،‬ولو يسيراا‪ ،‬تاريخ السلم؛ ويعرف أيضا أن عصر الزدهار‬
‫الثقافي والعلمي في العالم العربي في القرون الوسطى لمحق لمحمد )صلى ال عليه وسلم( ولن‬
‫يسمح لنفسه بإقامة مثل هذه الدعاوى الوهمية()‪.(1‬‬

‫‪ ()1‬موريسّ بوكاي‪ ،‬القرآن الكريم والتوراة والنجيل والعلم‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫قد يكون فيما استعرضناه وما سنعرض له في سياق هذا الكتاب ما يعيد التذكير بحقيقة أن‬
‫اللمام بكل ما جاء به القرآن الكريم من مواضيع لم يكن ليتوفر لبشر دون أن يكون على اتصادل‬
‫مباشدر بخالدق مطلدع على الغيب؛ متص د‬
‫ف بالعلم والحكمة‪ ،‬لكن المر ل يقتصر على تلك الفائدة‬
‫وحدها‪ ،‬بل يمكن له أن يحمل لنا المزيد من الدللت‪.‬‬
‫إن وجود مثل تلك الشارات يؤكد حقيقة الحالة الخاصة للنص القرآني الكريم؛ وقدرته‬
‫الفائقة على التساع واستيعاب الزمن الحادث بكل ما يحفل به من تطورات واكتشافات‪ ،‬لكن‬
‫ذلك الستيعاب ل يعني أن يصبح الغرض من قراءة القرآن الكريم وتعلمه أن نعلم الناس علوم‬
‫الحياة كعلم الذيرة أو الفلك!! بل يجب النظر إليها على أنها إشارات إلهية مستمرة ومتواصلة‬
‫على مدى الدهر لثبات صدق الرسالة‪ ،‬ولتثبيت قلوب المؤمنين باليمان‪:‬‬
‫}وليربط على قلوبكم‪ ،‬ويثبت به القدام{)النفال‪(11:‬‬

‫‪231‬‬
‫ين د‬
‫ص آخر‬ ‫م‬
‫ص القرآنتي سلسنل الرتابة والجمود التي يمكن أن يحفل بها أ ت‬
‫وبذلك يقطتع الن ت‬
‫نتيجةا لجمود ألفاظه وغموض تعبيراته‪ ،‬فالنص القرآني إنما هو نص متجدد‪ ،‬ويمكن للمتدبر‬
‫لياته أن يرى المزيد من إعجازه طالما كان هناك ما يمكن أن تطلع عليه الشمسّ‪.‬‬

‫جوانب‬
‫من الكيمياء في القرآن الكريم‬

‫‪232‬‬
‫إذا أخذنا بالمنهج الذي قمنا ببسطه في الصفحات السابقة‪ ،‬وقمنا بتطبيقه في مجال علم‬
‫الكيمياء كنموذج لستقراء العلوم الطبيعية في القرآن الكريم ودراسته في ضوء الحقائق العلمية‬
‫المعروفة في علم الكيمياء)‪(1‬؛فإن أول ما سيسترعي انتباهنا في هذا المجال هو أن القرآن‬
‫الكريم قد غطى طيفا واسعا من تفرعات هذا العلم؟!‪ ..‬مبتدئين بالذيرة ذاتها والتي استأثرت‬
‫وحدها بفرع مستقل من فروع علم الكيمياء هو )الكيمياء الذرية(‪ .‬وتعتبرالذرة أصغر جزء من‬
‫أجزاء العنصر ويستمد منها صفاته‪ ،‬بل إن القرآن الكريم قد جذب النظنر إلى حقيقة وجود ما هو‬
‫أصغر من ذلك الجزء‪:‬‬
‫}ول أصغر من ذلك ول أكبر إل في كتاب مبين{)يونسّ‪(61:‬‬
‫وكأنه يريد أن يسترعي انتباهنا إلى تبنية الذيرة ذاتها! من حيث احتواؤها على إلكترونات‪،‬‬
‫وبروتونات‪ ،‬ونيوترونات‪ ..‬الخ‪..‬‬

‫‪) ()1‬عرف النسان الكيمياء منذ بدأ استعمال المعادن‪ ،‬لذلك فالكيمياء علم قديم قدم النسان‪ ،‬ويمتد تاريخه‬
‫القديم إلى بدء الخليقة‪ ،‬ولقد اشتركت أكثر المم والحضارات القديمة في إقامة صرح هذا العلم‪ ،‬وقد ازدهرت‬
‫العلوم الكيماوية في العصر الحديث بعد النهضة الوروبية وإلى الوقت الحاضر‪ ،‬وتفرع إلى عدة فروع أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬الكيمياء العضوية ‪ : Organic Chemistry‬وتختص بدراسة مركبات عنصر الكربون‪ ،‬وهو فرع مهم من‬
‫فروع الكيمياء؛ ويمسّ مباشرة حياتنا اليومية‪ ،‬وقد كان قديما يعتقد بأن المركبات العضوية تتكون فقط داخل‬
‫الحجيرات الحية بفعل "قوة حية"‪ ،‬ولكن هذا العتقاد لم يدم طويل‪ ،‬فقد استطاع العالم “فوهلر” سنة ‪1828‬م‬
‫تحضير اليوريا‪- ،‬وهو مركب عضوي يتكون داخل جسم الكائن الحيي كناتج نهائي لتمثيل الزلليات ويلفظ خارج‬
‫الجسم بواسطة الدرار‪ -‬من مادة غير عضوية وهي سيانات المونيوم‪ ،‬وهذه المحاولة كانت نقطة تحول هامة في‬
‫تقدم علم الكيمياء‪.‬‬
‫‪ -2‬الكيمياء غير العضوية ‪ : Inorganic Chemistry‬وتختص بدراسة كل العناصر ومركباتها ما عدا مركبات‬
‫عنصر الكربون‪.‬‬
‫‪ -3‬الكيمياء الفيزيائية ‪ :Physical Chemistry‬وتختص بتطبيق القواعد الرياضية والفيزيائية على دراسة‬
‫الظواهر الكيميائية‪.‬‬
‫‪ -4‬الكيمياء الحيوية ‪ :Bio-Chemistry‬وتدرس الظواهر الحيوية من الوجهة الكيماوية‪).‬وهي تدرس كذلك‬
‫مكونات الخليا الحية على اختلف أنواعها وكذلك التفاعلت البيوكيماوية التي تحدث فيها(‪.‬‬
‫‪ -5‬الكيمياء الصناعية ‪ :Industrial Chemistry‬وتختص بتطبيق المعرفة الكيميائية في الصناعة‪ ،‬ومن أهم‬
‫فروعها الكيمياء الهندسية‪) .‬ورد هذا التصنيف في كتاب "معالجة وصيانة الثار"‪ ،‬باهرة عبد الستار أحمد القيسي‪،‬‬
‫والصادر عن المؤسسة العامة العراقية للثار والتراث‪.(1981،‬‬

‫‪233‬‬
‫ثم ارتقى القرآن الكريم بنا درجة فشيد انتباهنا إلى مجموعة العناصر! ومن الناحية الكيميائية‬
‫فإن العنصر الواحد يمتلك ذرات متشابهة‪ ،‬لكن القرآن الكريم وهو يعرض لنا نماذج لبعض‬
‫العناصر فقد أعطى اهتماما خاصا لبعضها‪ ،‬والتي تعرف علميا بمجموعة "المعادن" فذكر منها ‪:‬‬
‫الذهب‪ ،‬الفضة‪ ،‬الحديد‪ ،‬النحاس‪..‬‬
‫ثم عاد القرآن الكريم ليرتقيي بنا درجةا أخرى على سيلم المعارف العلمية الخاصة بعلم‬
‫الكيمياء؛ فأورد بعد "العناصر" بعض ا من "المركبات"! فقد وردت لفظة "ملح" ووردت كذلك‬
‫لفظة "ماء")‪ (1‬وهما لفظتان تعبران عن مركبين من المركبات الكيماوية‪.‬‬
‫إن القرآن الكريم وهو يتناول كل هذه الطتنرف؛ لم يتناولها بوصفه كتابا شارحا للكيمياء‪،‬‬
‫وهذا المر متوقع في ضوء ما ذكرناه من حقيقة أن القرآن الكريم ليسّ كتاب ا مهمته تعليم الناس‬
‫علوم الطبيعة وما شابه‪ ،‬لكن من المقاصد التي يجب أن تؤخذ بالحسبان لدى التعامل مع القرآن‬
‫الكريم؛ أن تنجذب عقوتلنا وأرواتحنا إلى هذا التنوع الواسع‪ ،‬وهذا التعدد العجيب‪ ،‬وهذا التدرج‬
‫اللمتناهي في شتى درجات اللون؛ والعمق؛ والتساع‪ ..‬لنبدأ ‪-‬من ثم‪ -‬رحلة البحث عن‬
‫التفاصيل!‪.‬‬
‫وفي هذا البحث فقد حاولنا أن نقتطف من مجنان القرآن ورودا‪ ،‬ومن بساتينه قطوف ا تراءت‬
‫لنا متناثرة في ثناياه‪ ..‬تنوعت بين الذرة‪ ،‬والماء‪ ،‬والحديد والنحاس‪ ،‬والذهب‪ ،‬والفضة‪ ،‬إضافة‬
‫إلى مجموعة متنوعة من الموضوعات التي تجمعها الكيمياء في عقد واحد‪..‬‬
‫وقد قصدنا أن نورد في ثنايا بحثنا عددا من الضاءات؛ كانت كل واحدة منها تتناول سرا‬
‫من أسرار العجاز القرآني‪ ،‬حيث كشفت كل واحدة منها عن سر لبد من بذل المحاولت‬
‫الجادة لتتبعه واستجلئه في سور القرآن الكريم وآياته كلها‪.‬‬
‫وقد قصدنا )من تناولنا للموضوعات الواردة في هذا البحث( إيراد اليات الكريمة المتعلقة‬
‫بها جميعها‪ ،‬مع إيراد بعض الملحظات والشرح ‪،‬إن أمكن‪ .‬ومن المأمول أن يكون واضح ا بأن‬
‫إيراد تلك اليات بهذا الشكل إنما قصد منه أن تكون هادي ا لمن أراد تناول تلك الموضوعات‬
‫بعد ذلك بمزيد من التفصيل‪.‬‬

‫‪ ()1‬سنأتي على ذكر كليهما فيما بعد بالتفصيل‪.‬‬

‫‪234‬‬
235
‫الذيرة في القرآن الكريم‬

‫الذيرة في اللغة هي‪) :‬واحدةت الذر‪ ،‬وهي النمل الصغار‪ ،‬وقيل‪ :‬رأس النملة‪ ،‬وقيل‪:‬الذيرة؛‬
‫الخردلة‪ .‬وقيل‪ :‬كل جزدء من أجزاء الهباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمسّ من كوةد أو غيرها‪:‬‬
‫ذيرة‪ ،‬والمراد من الكلم )ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‪ (..‬أن ال‪-‬عيز وجل‪ -‬ل يظلم كثيرا ول‬
‫ل‪ ،‬أي ل يبخسهم من ثواب أعمالهم؛ ول يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذيرة فضل عما فوقها(‬
‫قلي ا‬
‫)‪.(1‬‬
‫وقال بعض أهل اللغة‪) :‬إن الذيرة هو أن يضرب الرجل بيده على الرض؛ فما علق من التراب‬
‫فهو الذيرة‪ ،‬وقيل‪ :‬الذر ما تيرى في شعاع الشمسّ من الهباء()‪.(2‬‬

‫ليست "ذرة"‪ ..‬بل "مثقال ذرة"!!‬


‫أما عن الـ "ذيرة" في القرآن الكريم؛ فقد وردت‬
‫تمننيكيرة في كل مواضع ورودها؛ وجاءت في كافة‬
‫مواضعها مقترنة بكلمة "مثقال")‪ (3‬بما يفيد وجود‬
‫علقة عضوية بين اللفظين‪ ،‬بحيث يؤديان مع ا إلى‬
‫ما تقصد إليه من معنى‪..‬‬
‫وقد وردت لفظة "ذرة" في المواضع الكريمة التالية‪:‬‬
‫ك حسنةا يضاعفها{)النساء‪(40:‬‬ ‫}إن ال ل يظلم مثقال ذيرة‪ ،‬وإن ت ت‬
‫ب عن ربك من مثقال ذيرةد في الرض ول في السماء‪ ،‬ول أصغنر من ذلك ول‬ ‫}وما يعز ت‬
‫ب مبين{)يونسّ‪(61:‬‬ ‫أكبر إل في كتا د‬
‫ن‬
‫د‬
‫ب عنه مثقاتل ذيرة في السموات ول في الرض{)سبأ‪(3:‬‬ ‫}ل يعز ت‬

‫‪ ()1‬فتح القدير‪ ،‬محمد بن علي بن محمد الشوكاني‪ ،‬المجلد الول‪ ،‬ص ‪.467‬‬
‫‪ ()2‬فتح القدير‪ ،‬المجلد الخامسّ‪ ،‬ص ‪.479‬‬
‫‪ ()3‬المثقال مفعال من الثقل‪ ،‬كالمقدار من القدر‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫}ل يملكون مثقال ذيرةد في السموات ول في الرض{)سبأ‪(22:‬‬
‫}فمن يعمل مثقال ذيرةد خيرا يره{)الزلزلة‪(7:‬‬
‫}ومن يعمل مثقال ذيرةد شرا يره{)الزلزلة‪(8:‬‬
‫ويجدر أن نلحظ هنا أن استخدام اللفظ "ذيرة" قد جاء في القرآن الكريم مقترنا دائما‬
‫بكلمة "مثقال"‪ ،‬والتي تيقصد بها "وزن"‪ ،‬وأن التعبير القرآني }مثقال ذيرة{ يقابله بدقة المصطلح‬
‫الكيميائي "الوزن الذري")‪(1‬؟!!‪.‬‬
‫فلماذا جاءت كلمة "ذيرة" مقترنةا ‪-‬وفي كل المواضع‪ -‬مع كلمة "مثقال"؛ ولم تجئ ‪-‬ولو‬
‫لمرة واحدة‪ -‬لتعبر عن الذيرة ككيان‪ ،‬أو حجم‪ ،‬أو شكل‪ ،‬أو ما شابه؟‪ ..‬وهل هناك ما يمكن أن‬
‫نستشفه من هذا القتران؟!‪..‬‬
‫يمكن الجتهاد لمحاولة فهم السبب‪ ،‬وذلك بدراسة الذرة عبر ثلثة اتجاهات‪:‬‬
‫ما تيستشف من دللت اقتران اللفظين "مثقال" و "ذيرة"‪.‬‬
‫ما تيستشف من دللت )الدقة و التوازن(‪ ،‬وذلك في ضوء دراسة النظريات المختلفة التي‬
‫تصف بنية الذيرة‪.‬‬
‫ما تيستشف من دللت الية الكريمة }ول أصغر من ذلك ول أكبر{‪.‬‬
‫ولكي نصل إلى كل ذلك؛ فلنحاوول التعرف على الذيرة كما قيدمها لنا علم الكيمياء‪.‬‬

‫الذرة وإشكالية الحجم!!‬

‫‪ ()1‬هو مجموع أوزان البروتونات والنيوترونات معا‪ ،‬مع إهمال أوزان اللكترونات لضآلتها‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫إذا سألت متخصص ا في علم الكيمياء عن الذيرة؛ فإن واحداة من الملحظات التي سيبديها‬
‫لك‪ :‬أن هناك إشكالية ما في التعامل مع هذا المصطلح المدعو بـ "الذيرة"؟! ذلك أين الذيرة إذا‬
‫تأخذت من ناحية حجمها؛ فهي تعني كل ما في الكون من حجوم هائلة من المادة‪ ،‬بينما إذا‬
‫دققنا في المر بنظرةد علميدة بحتة؛ فإننا سندرك أن غالبية تلك الحجوم إنما هي عبارة عن‬
‫فراغ؟!‪ ..‬بل فراغات شاسعة؛ تحتلها كميات صغيرة جدا من المكونات المادية)‪ (1‬لذا فإن‬
‫أصدق ما يمكن وصف الذيرة به؛ هو التعبير عنها قياس ا إلى وزنها‪ ،‬وليسّ إلى أي شيدء آخر‪،‬‬
‫وبمصطلح "الوزن الذري" تحديدا؟! والذي يعبر عن وزن محتوياتها من بروتونات‬
‫ونيوترونات)‪ .(2‬لكن؛ ولكي يتسنى لنا إدراك هذا المر؛ فلنحاوول القتراب من الذيرة بوزنها‬
‫وحجمها متناقضي الدللة؟!‪.‬‬

‫نماذج لتفسير بنية الذرة‬


‫لقد مر الفكر النساني خلل رحلته بمراحل عديدة من أجل إدراك كنه الذيرة وطبيعة‬
‫تكوينها‪ ،‬وفي كل مرةد كان العلم يضع تصورا لها ولبنيتها كان يعود ليدرنك أن ذلك التصور يحفل‬
‫بأخطاء قاتلة؟! لو كانت موجوداة )أي الخطاء(على أرض الواقع لكانت كفيلةا بإنهاء الوجود‬
‫ض لثل د‬
‫ث‬ ‫بشكل ل يمكن تصوره!‪ .‬وقد وضعت عدة نماذج وتصورات لتوضيح بنية الذيرة أعمر ت‬
‫منها بشكل مختصر‪:‬‬
‫)أ( بنية الذيرة حسب نموذج “رذرفورد” ‪:‬‬
‫وضع العالم “رذرفورد” تصوره للذيرة؛ وذلك في العام ‪1911‬م‪ ،‬وينص ذلك التصور على ما‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬الذيرة تشبه المجموعة الشمسية في تكوينها؛ وتتكون من نواة مركزية )مثل الشمسّ( تدور‬
‫حولها اللكترونات في مدارات مختلفة وتشبه في ذلك الكواكب في المجموعة‬
‫الشمسية‪.‬‬

‫‪()1‬الفراغ إلى المادة في الذرة ‪:1‬ألف مليون طن أي ‪10×1‬أس ‪15‬‬

‫‪ ()2‬يمكن إهمال أوزان اللكترونات نظرا لضآلتها‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫‪ -2‬حجم الذيرة في معظمه فراغ‪.‬‬
‫‪ -3‬معظم كتلة الذيرة )أي وزنها( مركزة في نواتها‪ ،‬ول تحتسب كتلة اللكترونات لنها ضئِيلةا‬
‫جدا إذا ما قورنت بكتلة النواة التي تحتوي على البروتونات والنيوترونات‪.‬‬
‫‪ -4‬تتكون الذرة من نواة مركزية ؛ يدور في فلكها إلكترونات في مدارات مختلفة‪ ،‬ويمكن تشبيه‬
‫النواة بالشمسّ‪ ،‬واللكترونات بالكواكب الدوارة بانتظام حولها‪.‬‬
‫وقد واجهت ذلك النموذج العديد من العتراضات العلمية‪ ،‬ففروض هذا النموذج‬
‫)والمتعلقة بدوران اللكترون حول النواة( تتعارض تعارضا جوهريا مع فروض النظرية‬
‫الكهروديناميكية )نظرية أرنشو ‪(Earnshaw‬؛ حيث أنه وبموجب هذه النظرية‪ :‬ل يمكن‬
‫لنظام ساكن من الشحنات الكهربائية أن يكون في حالة توازن‪ ،‬فاللكترونات في الذرة يجب أن‬
‫تتحرك وتتعجل نحو النواة‪ ،‬وبالتالي فإنها ونتيجة لذلك تشع جزءا من طاقتها‪ .‬وعملياا؛ فإن هذا‬
‫يعني استمرار النقص ‪،‬وبشكل تدريجي‪ ،‬في نصف قطر دوران الجسيم المتحرك حول النواة؛‬
‫وذلك تبعا لنقص طاقته‪.‬‬
‫والمعنى الوحيد الذي يقدمه هذا العتراض هو أن فروض نظرية “رذرفورد” –لو كانت‬
‫صحيحة‪ -‬فإن ذلك يعني بأن على اللكترون أن يدور حول النواة في مسار حلزوني يصغر شيئِ ا‬
‫فشيئِا ‪،‬بسبب نقص طاقة اللكترون‪ ،‬مما ينتهي به في نهاية المطاف ملتصقا بالنواة؟!‪.‬‬
‫ويعني هذا المر أن تفقد الذيرة فراغها الهائل؛ والذي يعطي لها بنيتها وحجمها‪ ،‬ولنا أن‬
‫نتخيل تأثير ذلك المر على الذرة إذا علمنا أن كثافة مادة النواة)‪ (1‬يمكن أن تصل إلى مائة‬
‫مليون طن لكل سنتيمتر مكعب!! وهذا يعني أن كل مائة مليون طن من المادة التي نعرفها؛‬
‫يمكن أن تتحول إلى سنتيمتر مكعب واحد حجماا؛ وذلك في حال فقدت ذرات تلك المادة‬
‫الفراغات الهائلة الموجودة بداخلها‪ ،‬مما يسمح لنا بالقول عندئدذ بأن هذا المر لو حدث؛ فإن‬
‫الكرة الرضية بكامل مادتها يمكن أن تتحول إلى حجم صغير جدا من المادة!‪ ..‬لكن مع‬
‫احتفاظها بنفسّ الوزن؟!؟!‪.‬‬

‫‪ ()1‬هو وزن حجم معين من مادة الذيرة بدون فراغات حيث وزن الذرة هو وزن النواة تقريبا‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫ولفهم هذا الموضوع جيدا لبد من الستماع إلى صدى السؤال‪ :‬لماذا يأخذ الوزن القليل‬
‫من المادة كل هذا الحجم الهائل؟!‪ ..‬وللجابة على هذا السؤال يجب علينا أن نتعرف على‬
‫مبدأ "عدم التأكد" للعالم هيزنبرغ‪.‬‬
‫يعتبر هذا المبدأ واحدا من المبادئ الهامة في علم الكيمياء‪ ،‬والذي جاء في إطار النظرية‬
‫الذرية الحديثة)‪ (2‬وهو يلقي الضوء على هيكلية الذيرة وبنيتها الفراغية‪ ،‬وينص هذا المبدأ على‬
‫أنه‪) :‬يستحيل من الناحية العملية تحديد مكان اللكترون وسرعته في نفسّ الوقت(‪.‬‬
‫أما عن المعنى البسيط لهذا المبدأ؛ فهو التأكيد على استحالة تحديد مكان اللكترون حول‬
‫النواة وسرعته في نفسّ الوقت‪ ،‬ذلك أنه ولتحديد المكان بشكل دقيق فلبد من إيقاف الحركة‬
‫وتحديد السرعة‪ ،‬ولكي يحدث هذا فلبد من تثبيت وضع اللكترون في مكان محدد‪ ،‬وهذا‬
‫المر مستحيل من الناحية العملية!‪.‬‬
‫لكن ما الذي يريد أن يخبرنا به "هيزنبرغ" من خلل هذا المبدأ؟!‬
‫إن المعنى الكامن في هذا المبدأ هو أن اللكترون يدور حول النواة بسرعات عاليدة جدا‬
‫يصعب تخيلها‪ ،‬بحيث تؤثر تلك السرعة ‪،‬غير العادية‪ ،‬على طبيعة إدراكنا للذيرة ذاتها من ناحية‬
‫الحجم!‪ .‬لكن ماذا تعني تلك السرعة من الناحية العملية؟!‬
‫إن تلك السرعة الهائلة لللكترونات حول النواة هي التي تجعل للذيرة )التي غالبية حجمها‬
‫فراغ( تجعلها ذات بنية وهيكل محددين يمكن رؤيتهما والتعامل معهما‪ ،‬وكلنا يعلم مدى تأثير‬
‫الزيادة في السرعة على تحديد الشكل‪ ،‬إذ يمكنك رؤية أسلك عجلة الدراجة الهوائية‪ ،‬أو‬
‫سنابل المروحة الكهربائية أثناء دورانها بشكل بطيء‪ ،‬لكن المر يصبح أكثر صعوبة عند زيادة‬
‫السرعة‪ ،‬بحيث تتحول أمام ناظريك إلى مسطح دائري مصمت يصعب اختراقه؟!… وهذا‬
‫شبيه بما يحدث للذرة بالضبط‪.‬‬

‫‪ ()2‬يتم التطرق إليها لحقا بشيء من التفصيل‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫من هنا يمكننا أن نتخيل تأثير السرعة العالية لللكترونات على تشكيل بنية الذيرة‪ ،‬وتحديد‬
‫حجمها وهيكلها‪ ،‬مما يتيح للكترون واحد وحيد يدور حول نواة ذيرة الهيدروجين أن يتواجد‬
‫‪،‬في نفسّ الوقت‪ ،‬في جميع نقاط سحابة إلكترونية كروية الشكل تحيط بتلك النواة‪ ،‬ويعطي‬
‫ذلك ذيرة الهيدروجين تبنية تكروية مادية‪ ،‬ويعطيها كذلك حجما ملموسا يمكن التعامل معه!!‪.‬‬
‫وعلى نفسّ المنوال فإن ‪ 26‬إلكترون تدور حول نواة ذيرة الحديد؛ تعطي الحديد كل هذا‬
‫القدر من الصلبة؛ على الرغم من الفراغات الهائلة التي تفصل إلكتروناته ومداراته عن بعضها‬
‫البعض!‪ .‬من هنا جاز لنا العتقاد بأن وزن الذيرة )وهو ثابت حتى لو فقدت الذيرة كل الفراغات‬
‫الموجودة فيها( هو واحد من ثوابتها؛ بعكسّ حجمها الذي يتكون في غالبيته من كدم هائدل من‬
‫الفراغ!‪.‬‬
‫"مثقال ذرة" بنسبة ‪%100‬‬
‫ومن هنا أيضا يمكننا أن نتفهم تركيز اليات القرآنية بنسبة ‪ %100‬من مواضع ورودها على‬
‫أن تكون لفظة "ذرة" مقترنة دائما بكلمة "مثقال"‪ ،‬المر الذي يعطي بعض الدللة حول الدقة‬
‫غير العادية التي تكتنف أسلوب القرآن الكريم وكذلك دقة ألفاظه‪ ،‬والتي تشكل وجه ا من وجوه‬
‫العجاز فيه‪.‬‬
‫وأخيرا نختتم هذا المبحث الخاص بالذرة في القرآن الكريم بتوجيه خطابنا لمن ييدعون بأن‬
‫القرآن الكريم ‪،‬لدى ذكره للذرة‪ ،‬لم يقصد الذيرة بمعناها الصطلحي المتعارف عليه في علم‬
‫الكيمياء‪ ،‬فنقول‪ :‬صحيح إن القرآن الكريم عندما تنيزل قد تفهمت فيه كلمة "ذيرة" بمعناها‬
‫اللغوي‪ ،‬لكن إذا ما توقفنا بكلمات القرآن الكريم وألفاظه فقط عند المعاني التي كانت مفهومة‬
‫حين تنزله؛ فأين يكمن الفضل في القرآن الكريم على ما عداه؟!!‪..‬‬
‫إنه يكمن في "القدرة الفائقة" على التجدد؛ واستيعاب المزيد من المضامين التي تطرأ عبر‬
‫توالي السنين‪ ،‬بحيث يمكن فهمه بدون تناقض في كل زمادن ومكادن إلى يوم القيامة‪..‬‬

‫‪241‬‬
L’atome dans le coran(1)
Mohammed Swairky
Traduit par
Iman Mustafa Boukhobza
Le mot atome a été mentionné dans le coran dans les sourates
suivantes :
« Certes, Allah ne lèse (personne), fût-ce du poids d'un atome. S'il est
une bonne action, Il la double, et accorde une grosse récompense de Sa
part. » Les femmes Sourate 4, 40
« Tu ne te trouveras dans aucune situation, tu ne réciteras aucun
passage du Coran, vous n'accomplirez aucun acte sans que Nous soyons
témoin au moment où vous l'entreprendrez. Il n'échappe à ton seigneur
ni le poids d'un atome sur terre ou dans le ciel, ni un poids plus petit ou
plus grand qui ne soit déjà inscrit dans un livre évident. » Jonas,
Sourate 10, 61
« Ceux qui ne croient pas disent : "L'Heure ne nous viendra pas" .
Dis : "Par mon Seigneur! Très certainement, elle vous viendra. [Mon
Seigneur] le Connaisseur de l'Inconnaissable. Rien ne Lui échappe fût-il
du poids d'un atome dans les cieux, comme sur la terre. Et rien n'existe
de plus petit ni de plus grand, qui ne soit inscrit dans un Livre explicite.
» Saba, sourate 34, 3
« Dis : "Invoquez ceux qu'en dehors d'Allah vous prétendez [être des
divinités]. Ils ne possèdent même pas le poids d'un atome, ni dans les
cieux ni sur la terre. Ils n'ont jamais été associés à leur création et Il n'a
personne parmi eux pour Le soutenir". » Saba, sourate 34, 22.
« Quiconque fait un bien fût-ce du poids d'un atome, le verra, »
«et quiconque fait un mal fût-ce du poids d'un atome, le verra.»
La secousse, Sourate 99, 7 et 8 Il est important de noter que le mot
atome dans le coran était toujours mentionné avec le mot poids
«Mithkal», ce mot en arabe a un correspondant en chimie qui est: La
mass atomique ou le poids atomique. Ceci n’explique pas l’atome
comme entité, volume, ou forme.
On peut essayer de comprendre, la raison de la combinaison de ces
deux mots, en se concentrant dans trois directions:
1. Pourquoi cette combinaison entre les deux mots: atome et poids?

،‫ "الذرة في القرآن الكريم" وقد قام على ترجمته الخت الباحثة الدكتورة إيمان بوخبزة‬:‫)( الترجمة الفرنسية لمقال‬1
:‫نقلناه حرفيا عن موقع "موسوعة العجاز العلمي في القرآن والسنة" على الرابط‬
http://www.55a.net/firas/french/index.php?page=show_det&id=47

242
2. En se basant sur les différentes théories atomiques, qu’est ce qu’on
peut tirer de ceci point de vue précision et équilibre
3. Qu’est ce qu’on peut tirer du verset «Et rien n'existe de plus petit
ni de plus grand» ‫ول أصغر من ذلك ول أكبر‬
L’atome et le volume:
Dans la chimie, il y avait toujours le problème de compréhension de
l’atome et son volume.Il s’agit des vides gigantesques occupés par des
masses très petites. Donc la meilleure méthode de décrire un atome
serait celle qui est relative à son poids et non pas a son volume ou autre
characteristiques.
Exemples des théories atomiques:
La compréhension de l’atome et de ses constituants et de son monde
a passé à travers des étapes différentes. Plusieurs théories ont été
postulées:
a- Ruterford
b- Bohr
c- La nouvelle théorie atomique.
A- Le modèle de Rutherford: En 1911, Rutherford a postulé une
théorie pour comprendre l’atome. Sa théorie consistait en:
1. Il y a une similitude entre l’atome est le système solaire. L’atome se
forme des électrons qui tournent autour d’un noyau comme les planètes
qui tournent autour du soleil.
2. Le volume de l’atome ce n’est qu’un vide.
3. La masse ou le poids de l’atome sont concentrés dans son noyau.
Celle des électrons est négligeable si on la compare à celle du noyau
formé par des protons et des neutrons.
Cette théorie a eu beaucoup d’opposition d’un point de vue
scientifique, spécialement la partie qui concerne le mouvement des
électrons autour du noyau. Ce mouvement ne peut pas exister selon les
lois thermodynamiques. Selon cette théorie, il ne peut pas y avoir un
système de charge électronique en équilibre. Les électrons dans l’atome
doivent entrer en mouvement en se dirigeant vers le noyau.
Pratiquement, cela veut dire qu’il y a une diminution continue du rayon
de l’atome jusqu'au point ou l’électron rencontre le noyau.
B- Le modèle de Bohr:
En 1913, Bohr a rectifié le modèle de Rutherford. Sa nouvelle théorie
peut se résumer dans les points suivants:
1- Le noyau de l’atome est chargé positivement.

243
2- Le nombre des électrons qui portent une charge négative et qui
tournent autour du noyau le long des orbites est équivalent au nombre
des protons qui portent une charge positive et qui se trouvent dans le
noyau.
3- Les électrons tournent autour du noyau avec une vitesse très
grande. Ces électrons sont sous l’influence de deux forces équivalentes
dans leurs valeurs opposées dans leurs directions.
a. Une force de répulsion qui pousse les électrons vers l’extérieure.
b. Une force d’attraction entre les électrons et les protons.
Le bilan de ces forces est nul.
4-Les électrons tournent autour du noyau avec une vitesse très
grande sans perdre ou gagner de l’énergie.
5-Les électrons tournent autour du noyau le long des niveaux
energitiques bien déterminés.
6- L’électron a une énergie bien déterminée qui dépend de la distance
entre le noyau et la localisation de cet électron.
7- Dans sa position d’équilibre, l’électron tourne autour du noyau le
long d’un niveau energitique convenable. Lors de son excitation,
l’électron gagne une énergie supplémentaire et peut se déplacer à un
niveau energitique plus haut. Dans le cas contraire, quand l’électron
perd de l’énergie, son déplacement cette fois est de son niveau
enegitique à un niveau plus bas. Ce déplacement s’accompagne d’une
émission d’un rayonnement avec une fréquence et une longueur d’onde
bien déterminée.
Par conséquent, Bohr a ajouté quelques rectifications à la théorie de
Rutherford. Cela a donné plus d’explication et de précision pour mieux
comprendre le monde de l’atome.

244
C-La nouvelle théorie atomique:
La nouvelle théorie atomique a apparu après introduction de
quelques corrections et rectifications:
1- la double nature de l’électron «Dual nature»
2- Le principe d’incertitude d’Heseinberg.
3- Le mouvement de l’électron.
Il n’était plus suffisant de considérer l’électron comme une entité de
charge négative et d’une masse négligeable qui tourne autour du noyau
le long des orbites. Il faut maintenant prendre en considération le
caractère d’une onde. L’électron maintenant est une entité matérielle
considérée comme une onde.
En utilisant la théorie d’incertitude d’heisemberg, Il est devenu
impossible de parler d’une location bien déterminée d’un électron
autour du noyau. Mais on parle maintenant de la probabilité de trouver
un électron dans l’espace autour du noyau.
Donc, il a apparu une nouvelle explication au mouvement de
l’électron. On parle maintenant d’un nuage électronique au lieu du
mouvement d’un électron autour du noyau. Le nuage électronique
montre la position d’un électron et la probabilité de son existence
autour du noyau.
Conclusion:
D’après la graduation précédente dans la compréhension du monde
de l’atome. La connaissance humaine de l’atome s’est développée
jusqu’à la théorie atomique moderne. Par conséquent, ce qu’on a
trouvé dans le coran concernant l’atome ce n’est qu’une preuve que ce
que le Prophète Mohammed a apporté doit être de la part de Dieu.
Les différentes théories atomiques se sont déplacées d’une
connaissance primitive du mouvement des électrons le long des orbites
bien déterminées autour du noyau. Ce développement de la
connaissance a ajouté une meilleure explication de «tawazune»
(équilibre) et «alkest» (justuce). Cette connaissance s’est développée du
mouvement des électrons autour du noyau le long des orbites, jusqu’au
concept du nuage électronique.
Dans le coran, les deux mots poids et atome «mithkal dara» montre
la justice. Dieu nous a donné une unité de justice. Dieu nous a donné
une unité de peser les choses, c’est celle du poids d’un atome. Cette
unité c’est un exemple de précision et de certitude pour que la justice
puisse s’appliquer dans notre monde.

245
Donc, le coran nous a présenté le poids de l’atome comme un
exemple de justice. La science de son coté l’a utilisé comme une unité de
précision et de certitude.
La dernière leçon qu’on peut tirer c’est celle de la combinaison des
deux versets «poids d’un atome» avec «ni un poids plus petit ou plus
grand», ici, le coran nous pousse à utiliser l’observation dans l’univers.
Le coran nous guide à chercher tous ce qui est petit et tout ce qui est
grand. Ceci est une recherche infinie. Ces résultats et ces recherches
peuvent être résumés dans quelques mots. C’est ceux que Dieu est le
dieu des sciences et des connaissances. C’est lui le dieu de la justice.

246
‫مجموعة‬
‫العناصر المعدنية في القرآن الكريم‬

‫‪247‬‬
‫من المصطلحات الكثر شهرة في مجال علم الكيمياء ما يطلق عليه "العنصر" وجمعها‬
‫"عناصر" وشهرتها تنبع من أهميتها في مجال الكيمياء‪ ،‬بل في كل مجالت الحياة من حولنا‪،‬‬
‫فالعنصر هو اللبنة الساسية لتشكيل المركبات‪ ،‬والعنصر يشترط فيه أن يكون مكونا من نوع‬
‫واحد من الذرات!‪ ..‬وعلى هذا فإن العناصر تتكون من ذرات متجانسة‪ ،‬وأهم العناصر المعادن‬
‫والتي منها‪:‬‬

‫‪248‬‬
‫معدن الذهب‬

‫‪249‬‬
‫يعتبر الذهب من العناصر الكيميائية النفيسة وذلك لمجموعة من الخواص التي يتميز بها‪،‬‬
‫والتي من أهمها‪ :‬ما يبديه من ثبات كيميائي في وجه العوامل الكيميائية المختلفة‪ ،‬فهو ثابت في‬
‫وجه أكسجين الجو‪ ،‬وبخار الماء‪ ،‬والحماض‪ ،‬والقلويات‪ ،‬ومواد قليلة هي القادرة على إحداث‬
‫تأثيرات على عنصر الذهب‪ ،‬مثل‪ :‬الماء الملكي؛ والذي يتكون من أحماض الكبريتيك‬
‫والنيتريك بنسب مختلفة‪ .‬وقد ورد عنصر "الذهب" في القرآن الكريم ثماني مرات‪ ،‬جاء اللفظ‬
‫ت منها‪ ،‬وكانت مواضع وروده كما يلي‪:‬‬
‫منيكرا في س ي‬

‫‪250‬‬
‫}يحلون فيها من أساور من ذهب{)الكهف‪(31:‬‬
‫ت تجري من تحتها النهار‪ ،‬تيحلون فيها من أساور من ذه د‬
‫ب{)الحج‪(23:‬‬ ‫}جنا د‬
‫}يحلون فيها من أساور من ذه د‬
‫ب ولؤلؤا‪ ،‬ولباسهم فيها حرير{)فاطر‪(33:‬‬
‫}فلول تألقي عليه أسورةم من ذهب‪ ،‬أو جاء معه الملئكةت مقترنين{)الزخرف‪(53:‬‬

‫‪251‬‬
‫ب{)الزخرف‪(71:‬‬ ‫ف من ذه د‬‫}يطاف عليهم بصحا د‬
‫وفي واحدد من مواضع ورودها جاءت منكرة ومنونة‪:‬‬
‫‪} -6‬إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن تيقبل من أحدهم ملء الرض ذهباا{)آل عمران‪:‬‬
‫‪(91‬‬
‫أما اللفظة المعيرفة ‪-‬الذهب‪ -‬فقد وردت في القرآن الكريم مرتين‪ ،‬جاءت في كليهما مقترنة‬
‫بمعدن الفضة‪ ،‬وجاءا في الموضع الول ليعبرا عن قيمتهما ‪-‬الذهب والفضة‪ -‬من حيث‬
‫كوتنهما زيناة)‪ (1‬ومتاعا في الحياة الدنيا‪.‬‬

‫‪ ()1‬ترجع قيمة كل من الذهب والفضة ونفاستهما جزئيا إلى ندرتهما في الطبيعة‪ ،‬وكذلك إلى الجهود المبذولة في‬
‫استخلصهما‪ ،‬لكن تلك القيمة ترجع كذلك إلى ما يبديه كل منهما من خواص كيميائية‪ ،‬تتمثل في عدم وجود‬
‫إمكانية لكسدتهما بواسطة أكسجين الهواء الجوي‪ ،‬وبمقارنة جهد الكسدة والختزال لكل من الذهب والفضة‬
‫مع جهد الكسدة والختزال للحديد أو النحاس نجد أن هناك إمكانية لتدفق اللكترونات من الخيريومن باتجاه‬
‫ذرات الكسجين‪ ،‬مما يعني صدأ كل منهما‪ ،‬وهو ما ل يحدث في حالة الذهب أو الفضة‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫عند دراسة الماء يجب أن نفصل تصنيف الماء فالماء هو‬
‫أصل كل ما هو موجود من نباتات ويجب أل ننسى تركيب‬
‫السكريات والنشويات والسلييلوز التي كلها عبارة عن‬
‫كربون وماء!!‬
‫‪} -1‬زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة{‬
‫)آل عمران‪(14:‬‬
‫أما الموضع الخر فوردا فيه معبرين عن "قيمة اقتصادية معطلة"‪.‬‬
‫‪} -2‬والذين يكنزون الذهب والفضة‪ ،‬ول ينفقونها في سبيل ال فبشرهم بعذاب أليم{)التوبة‪:‬‬
‫‪(34‬‬

‫‪253‬‬
‫معدن الفضة‬
‫تعتبر الفضة الخأ الشقيق للذهب‪ ،‬وذلك لشتراكها معه في مجموعة من الخواص‬
‫والمميزات والتي من أهمها الندرة في الطبيعة والثبات النسبي في مواجهة العوامل والظروف‬
‫الكيميائية ‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫وقد ورد ذكر معدن الـفضة في القرآن الكريم ست مرات على وجه الجمال‪ ،‬واحدة منها‬
‫‪-‬على القل‪ -‬تحتاج إلى توقف وإمعان نظر‪ ،‬وإلى معرفة علمية مختصة للوصول إلى معناها‬
‫المقصود‪ ،‬وهي التي تتحدث عن جعل ال عز وجل لبيوت الكافرين تستقنفا من فضة‪.‬‬
‫‪} -1‬ولول أن يكون الناس أمةا واحداة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضدة‪،‬‬
‫ومعارج عليها يظهرون{)الزخرف‪(33:‬‬

‫‪255‬‬
‫ولبد هنا من طرح السؤال التالي‪ :‬لماذا الفضة بالذات؟‪..‬‬
‫وقد ورد في تفسير هذه الية‪) :‬أي ولول أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة‬
‫من الرزق‪ ،‬ويصيروا أمة واحدة في الكفر‪ ،‬لخصصنا هذه الدنيا بالكفار‪ ،‬وجعلنا لهم القصور‬
‫الشاهقة المزخرفة بأنواع الزينة والنقوش‪ ،‬سقفها من الفضة الخالصة()‪.(1‬‬

‫‪) ()1‬صفوة التفاسير‪ ،‬محمد علي الصابوني‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.(157‬‬

‫‪256‬‬
‫ث آيا د‬
‫ت أخرى تحدثت عن الفضة كمعدن نفيسّ؛ حيث هو شكمل من أشكال تكريم ال‬ ‫وثل ت‬
‫عيز وجيل لعباده المؤمنين في الجنة‪ ،‬فهي أكواب‪ ،‬وأساور‪ ..‬الخ‪ ..‬حيث قال عز من قائل‪:‬‬
‫ب كانت قواريرا{)النسان‪(15:‬‬‫ف عليهم بآنيدة من فضدة وأكوا د‬
‫‪} -2‬ويطا ت‬
‫‪} -3‬قوارير من فضدة قيدروها تقديرا{)النسان‪(16:‬‬
‫‪} -4‬وحلوا أساور من فضدة‪ ،‬وسقاهم ربهم شراب ا طهورا{)النسان‪(21:‬‬

‫‪257‬‬
‫أما السم المعيرف لهذا المعدن النفيسّ ‪-‬الفضة‪ -‬فقد ورد في القرآن الكريم مرتين؛ وقد‬
‫جاء اللفظ المعيرف للفضة مقترن ا مع اللفظ المعرف للذهب في كل الموضعين)‪(1‬؛وجاءا في‬
‫الموضع الول ليعبرا عن قيمتهما ‪-‬الذهب والفضة‪ -‬من حيث كومنهما زينةا ومتاعا في الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬أما الموضع الخر فوردا فيه معبرين عن "قيمة اقتصادية معطلة"‪.‬‬

‫‪) ()1‬آل عمران‪ (14:‬و )التوبة‪ (34:‬وقد سبق التطرق لهما عند الحديث عن معدن الذهب‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫معدن الحديد‬
‫يعتبر الحديد واحدا من العناصر المعدنية ذات الهمية الواسعة في حياة النسان‪ ،‬وذلك لما‬
‫يتميز به من وفرة كبيرة نسبيا في الطبيعة‪ ،‬وكذلك نتيجة لمجموعة الخواص الفيزيائية والكيميائية‬
‫التي يتميز بها هذا العنصر‪ ،‬وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم تمنكرة تارة ومعيرفة أخرى‪،‬‬
‫فقد وردت كلمة "حديد" في موضعين كما يلي‪:‬‬

‫‪259‬‬
‫}ولهم مقامع من حديد{)الحج‪(21:‬‬
‫وقد تفسرت بأن )لهم مطارق وسياط من الحديد تيضربون بها()‪.(1‬‬
‫ووردت في الية )‪ (22‬من سورة "ق" بمعنى القوة والنفاذ }لقد كنت في غفلة من هذا‪،‬‬
‫فكشفنا عنك غطاءك‪ ،‬فبصرك اليوم حديد{ أي ‪ :‬فبصرك اليوم قوي نافذ‪ ،‬ومن هنا اكتسب‬
‫الحديد أهم صفاته وهي صفة القوة والنفاذ‪.‬‬
‫أما اللفظ المعيرف فقد ورد في ثلثة مواضع‪.‬‬

‫‪ ()1‬صفوة التفاسير‪ ،‬محمد علي الصابوني‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.286‬‬

‫‪260‬‬
‫‪} -1‬آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا‪ ،‬حتى إذا جعله نارا قال‬
‫آتوني أفرغ عليه قمطورا‪ ،‬فما اسطاعوا أن يظهروه‪ ،‬وما استطاعوا له نقبا{)الكهف‪(96:‬‬
‫وقد جاء فيها ‪) :‬أي أعطوني قطع الحديد‪ ،‬واجعلوها لي في ذلك المكان‪ ،‬حتى إذا ساوى‬
‫بين جانبي الجبلين }قال انفخوا{ أي انفخوا بالمنافيخ عليه‪} .‬حتى إذا جعله نارا{ أي جعل‬
‫ب‬
‫ذلك الحديد المتراكم كالنار بشدة الحماء }قال آتوني أفرغ عليه قطرا{ أي أعطوني أص ي‬
‫عليه النحاس المذاب‪ .‬قال الرازي‪ :‬ليما أتوه بقطع الحديد وضع بعضها على بعض حتى صارت‬
‫ب‬
‫بحيث تسد ما بين الجبلين إلى أعلهما‪ ،‬ثم وضع المنافيخ عليها حتى إذا صارت كالنار ص ي‬
‫عليها النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا()‪.(1‬‬
‫‪ -2‬وورد اللفظ المعيرف كذلك في الية الكريمة }وألنا له الحديد{)سبأ‪ ،(10:‬ويطالعنا‬
‫المفسرون فيما يختص بهذه الية بقولهم‪) :‬أي جعلناه لينا ليعمل به ما شاء‪ .‬قال الحسن‪ :‬صار‬
‫الحديد كالشمع يعمله من غير نار‪ .‬وقال السدي‪ :‬كان الحديد في يده كالطين المبلول‬
‫والعجين والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار ول ضرب بمطرقة()‪.(2‬‬
‫‪ -3‬وأخيرا‪ :‬فقد وردت لفظة "الحديد" في الية الكريمة‪:‬‬
‫}وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس{)الحديد‪.(25:‬‬
‫وقد ورد في معني هذه الية‪ ،‬أي‪) :‬وخلقنا وأوجدنا الحديد فيه بأس شديد‪ ،‬لن آلت‬
‫الحرب تتتخذ منه‪ ،‬كالدروع‪ ،‬والرماح‪ ،‬والتروس‪ ،‬والدبابات‪ ،‬وغير ذلك‪} .‬ومنافع للناس{ أي‬
‫وفيه منافع كثيرة للناس كسكك الحراثة‪ ،‬والسكين‪ ،‬والفأس‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬وما من صناعة إل‬
‫والحديد آلة فيها‪ ..‬وأراد بالحديد جنسه من المعادن؛ قاله الجمهور()‪.(3‬‬

‫معدن النحاس‬

‫‪ ()1‬صفوة التفاسير‪ ،‬محمد علي الصابوني‪،‬ج ‪،2‬ص ‪.206‬‬


‫‪ ()2‬فتح القدير‪ ،‬محمد بن علي بن محمد الشوكاني‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.315‬‬
‫‪ ()3‬صفوة التفاسير‪ ،‬محمد علي الصابوني‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.329‬‬

‫‪261‬‬
‫ورد ذكر معدن النحاس)‪ (1‬في القرآن الكريم بتعبيرات مختلفة‪ ،‬فقد أشير إليه بـلفظه الصريح‬
‫أي‪" :‬نحاس"‪ ،‬فقال عيز وجل‪:‬‬
‫س فل تنتصران{)الرحمن‪(35:‬‬‫}يرسل عليكما شواظ من نادر ونحا م‬
‫وتعبر عنه كذلك بألفاظ أخرى من أمثال "قمطورا" وذلك في الية الكريمة‪:‬‬
‫}قال آتوني تأفرغ عليه قمطورا{)الكهف‪(96:‬‬
‫وأشير إلى معدن النحاس كذلك بالتعبير المركب "عين المقوطر"‪ ،‬وذلك في الية الكريمة‪:‬‬
‫}وأسلنا له عين المقوطر{)سبأ‪(12:‬‬

‫‪ ()1‬مما يستوقف النسان في هذا العصر أن القرآن الكريم قد أشار إلى الفوائد القريبة لهذه المعادن‪ ،‬لكن لعل في‬
‫تلك الشارات إلى تلك المعادن بالذات هي دعوة للنسان للبحث عن مزيد مما يخصها من معارف‪ ،‬وقد وجد أن‬
‫النحاس موجود في تركيب جسم النسان ذاته‪ ،‬فهو يدخل في تركيب أنزيم السيتو كروم أوكسيديز‬
‫‪ Cytochrome Oxidase‬الذي له دور في عملية التنفسّ‪ ،‬ويتواجد النزيم السابق في الميتوكوندريا‪ ،‬وهو‬
‫ذو أهمية في عمليات الكسدة والختزال‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫وفي كلتا حالتيه الخيرتين }قمطورا{ و }عين المقوطر{ ‪-‬و فيما يبدو لنا‪ -‬فإن اللفاظ قد‬
‫جاءت لتعبر عن الحالة السائلة لمعدن النحاس )الصهير( بينما تم التعبير عن حالته الصلبة‬
‫باللفظ "نحاس" كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫س)‪ (2‬فل تنتصران{)الرحمن‪(3)(35:‬‬ ‫}يرسل عليكما شواظ) ( من نادر ونحا م‬
‫‪1‬‬

‫وقد وردت "عين المقوطر" و"قمطورا" للدللة على الحالة الطبيعية الثانية للنحاس؛ وهي )الحالة‬
‫السائلة( أو "الصهير"‪.‬‬

‫"النحاس" و "القطر"‪ ..‬إسم لكل حالة طبيعية؟!‬

‫‪ ()1‬اللهب الذي ل دخان فيه‪ .‬أو هو لهب النار الحامية‪.‬‬


‫‪ ()2‬قال ابن عباس‪} :‬نحاس{ هو الدخان الذي ل لهب فيه‪) .‬صفوة التفاسير‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.(296‬‬
‫‪ ()3‬تم تناول هذه الية بشيء من التفصيل في ص )‪ (89‬من الكتاب‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫يتوافق ما ذهبنا إليه بشأن اختلف تسمية معدن النحاس باختلف حالته الطبيعية )صلب‪-‬‬
‫سائل( مع حالت مشابهة تم فيها استخدام ألفادظ مختلفدة للتعبير عن الحالت الطبيعية‬
‫الفيزيائية المختلفة لنفسّ المادة‪ ،‬فالماء مثلا في حالته السائلة يدعى "ماء" لكنه إذا تحول‬
‫للحالة الصلبة صار ثلجاا‪ ،‬ول نقول "ماءا مجمداا" ثم إذا تحول إلى الحالة الغازية صار "بخاراا"‬
‫لذا فإنه من قبيل الدقة اللغوية أن يفرق القرآن الكريم بين حالتي الصلبة والسيولة للنحاس‪ ،‬وأن‬
‫تيعبر عن كل حالدة بما يناسبها من ألفاظ‪.‬‬
‫وعلى الرغم من اعتقاد بعض المفسرين بأن "عين المقوطر" قد تكون عينا تخرج نحاسا من‬
‫الرض‪ ،‬حيث جاء قولهم في الية الكريمة }وأسلنا له عين القطر{ أي‪) :‬أسلنا له عين النحاس‬
‫كما ألنا الحديد لداود‪ ،‬وقال قتادة‪ :‬أسال ال له عينا يستعملها فيما يريد()‪..(1‬‬
‫على الرغم من ذلك العتقاد فإننا نميل إلى أن كلمة "عين" هنا قد ل تعني ما يتبادر إلى‬
‫ج نحاسا سائل من باطن الرض؛ بل قد تكون إشارة‬
‫الذهن للوهلة الولى؛ من أنها عين تخر ت‬
‫س في حالته السائلة‪،‬‬
‫دقيقة للدللة على أن النحاس )الذي هو موضوع النقاش هنا( إنما هو نحا م‬
‫وهي بهذا تتشابه مع عين الماء في سيولتها‪ ،‬وليسّ في مصدر خروجها من باطن الرض!‪..‬‬

‫‪ ()1‬فتح القدير‪ ،‬محمد بن علي الشوكاني‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.316‬‬

‫‪264‬‬
‫وتتعاضد هذه الشارة مع الشارة السابقة التي تم التعبير فيها عن النحاس بـاللفظ "قمطورا"‬
‫لتعطيا نفسّ المعنى ونفسّ الدللة؛ من أن النحاس هنا هو النحاس المنصهر وليسّ النحاس في‬
‫حالته الصلبة‪.‬‬
‫أما المواضع التي وردت فيها اللفاظ "قمطورا" و "عين المقوطر" والمعبرة عن النحاس في حالته‬
‫السائلة‪ ،‬فكانت‪:‬‬
‫أ‪ -‬الية الكريمة‪} :‬حتى إذا جعله نارا قال آتوني تأفرغ عليه قمطورا‪ ،‬فما اسطاعوا أن يظهروه‪،‬‬
‫وما استطاعوا له نقباا{)الكهف‪.(18:‬‬
‫ب‪ -‬وكذلك الية الكريمة‪} :‬ولسليمان الريح‪ ،‬غتتدتوها شهمر ورواحها شهر‪ ،‬وأننسولنا له عين‬
‫المقوطر{)سبأ‪(13-12:‬‬
‫أما الملحظات التي تستوقف القارئ لهذه اليات فهي‪ :‬أن القرآن الكريم قد فيرق بين‬
‫طريقتي إعداد المعدنين للستعمال‪ ،‬فاستخدم للحديد التعبيرات }حتى إذا جعله ناراا{ )أي‬
‫كالنار من شدة الحماء( و }وألينا له الحديد{ )أي جعلناه لينا ليعمل به ما شاء( بينما استخدم‬
‫للنحاس اللفظ }قمطورا{ كما عبر عنه كذلك بـ قوله‪}:‬أسلنا له عين المقوطر{ وكلهما يشير إلى‬
‫النحاس المذاب‪ ،‬أي في حالته السائلة‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫ول شك في أن التفريق بين المعدنين من حيث تصرفهما وانفعالهما بالحرارة تيعرد وجه ا من‬
‫وجوه العجاز القرآني‪ ،‬لنه لو كان القرآن الكريم من عند غير ال لما أمكن لبشدر التمييز بين‬
‫اللفاظ من حيث مناسبتها لحالت هذين المعدنين ودرجات انصهارهما‪ ،‬فمحمد )صلى ال عليه‬
‫وسلم( ‪-‬في البدء والمنتهى‪ -‬لم يكن حدادا أو سباكا يعمل في سباكة المعادن وصهرها فيعرف‬
‫ذلك بالتجربة!؟‪.‬‬
‫لكن ماذا يعني لنا استخدام اللفظين )ألن( و )أسال( من الناحية الكيميائية؟!‬

‫التوزيع اللكتروني‬
‫وعلقته بالخواص الحرارية لمعدني الحديد والنحاس)‪(1‬‬
‫لكي نستجلي غموض هذا المر فلبد من إيراد المزيد من الحقائق حول بنية الذيرة وتوزيع‬
‫اللكترونات في مداراتها المختلفة‪ ،‬وذلك تمهيدا للقاء الضوء على التوزيع اللكتروني لكدل من‬
‫معدني الحديد والنحاس‪.‬‬

‫‪ ()1‬تمت ترجمة هذه المادة إلى الفرنسية تحت عنوان "الحديد والنحاس في القرآن الكريم"‪ ،‬حيث قامت الباحثة‬
‫المغربية الدكتورة "إيمان بوخبزة" بترجمتها وتقديمها لمؤتمر العجاز في القرآن الكريم‪ ،‬والذي انعقد في مدينة‬
‫تطوان بالمغرب بتاريخ ‪.26/6/2005‬‬

‫‪266‬‬
‫كما أشرنا سابق ا فإن الذرة تتكون من نواة تتركز فيها الشحنة الموجبة )البروتونات(‪،‬‬
‫بالضافة إلى أجسام متعادلة الشحنة تدعى )النيوترونات(‪ ،‬والتي لها نفسّ وزن )البروتونات(‪،‬‬
‫وتشكل النيوترونات والبروتونات ‪،‬مجتمعاة‪ ،‬الوزن الكلي والفعلي للذيرة‪.‬‬
‫يدور حول النواة مجموعة من اللكترونات مساوية للبروتونات من حيث العدد ومقدار‬
‫الشحنة‪ ،‬وتختلف شحنة اللكترون عن شحنة البروتون في كونها سالبة‪ ،‬وتكاد اللكترونات‬
‫تكون معدومة الوزن)‪.(1‬‬
‫ونظرا لتساوي أعداد الشحنات الموجبة )البروتونات( مع أعداد الشحنات السالبة‬
‫)اللكترونات( ونظرا لتضاد نوعية تلك الشحنات؛ فلم يكن غريبا ‪،‬والمر كذلك‪ ،‬أن تيقال‪ :‬إن‬
‫الذيرة )الذيرة وليسّ اليون( متعادلة كهربياا‪ ،‬لكن يمكن للذيرة ‪،‬خلل التفاعلت الكيميائية‪ ،‬أن‬
‫تفقد إلكترون ا أو أكثر فتتغلب الشحنة الموجبة على السالبة في المقدار؛ وتتحول الذيرة إلى أيون‬
‫موجب‪ ،‬ويمكن للذيرة كذلك أن تكتسب إلكترونا أو أكثر وأن تتحول بالتالي إلى أيون سالب‪.‬‬
‫تعتبر النواة وما فيها من بروتونات ونيوترونات ذات تأثير هامشي في التفاعلت الكيميائية‬
‫العادية‪ ،‬ولكنها مكان التفاعلت النووية‪ ،‬وتعتبر اللكترونات ‪،‬في المدار الخارجي على وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬صاحبة التأثير الكبر في التفاعلت الكيميائية؛ بالضافة إلى ما تبديه من تأثير على‬
‫الصفات الفيزيائية )الطبيعية(؛ مثل حالت الصلبة أو السيولة أو الغازية‪ ،‬وتكون ذات تأثير‬
‫واضح في الفلزات على وجه الخصوص‪ ،‬فهي تؤثر في صفات التوصيل الحراري‪ ،‬التوصيل‬
‫الكهربي‪ ،‬درجة النصهار‪ ،‬درجة اللمعان‪ ...‬الخ‪.‬‬

‫‪ ()1‬يعادل وزن اللكترون )‪ (1/1840‬من وزن البروتون تقريباا‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫وكما أسلفنا فإن اللكترونات تتوزع حول النواة بشكل محدد ودقيق‪ ،‬ويتحدد موضع كل‬
‫إلكترون حول النواة حسب أربعة متغيرات)‪ (1‬ويمكن للكترونين مختلفين أن يتجاورا فيتشابها‬
‫في ثلثة من تلك المتغيرات؛ لكن ل يمكن لهما أن يتشابها ‪،‬على الطلق‪ ،‬في المتغير الرابع‪،‬‬
‫لن التشابه في المتغير الرابع سيعني حينئِدذ أن يتواجد هذان اللكترونان في نفسّ المكان في‬
‫ذات الوقت‪ ،‬وأن يدورا حول نفسيهما في نفسّ التجاه؛ وهذا أمر مستحيل‪ ،‬إذ لبد لهما أن‬
‫يختلفا ‪،‬على القل‪ ،‬فيما يسمى بعدد الكم المغزلي )‪ (Spin‬والذي يعني‪ :‬دوران أحدهما مع‬
‫حركة عقارب الساعة‪ ،‬ودوران الخر ضد حركة عقارب الساعة‪ ،‬حيث يأخذ الول إشارة موجبة‪،‬‬
‫بينما يميز الخر عنه بإشارة سالبة‪ ،‬وهما بهذا يمكن تشبيههما بأخوين شقيقين‪ ،‬يمكن لهما أن‬
‫يتشابها ‪-‬من حيث التسمية‪ -‬في ثلثة من عناصر السم الرباعي‪ ،‬لكن ول بأي حال يمكن‬
‫لهما أن يتشابها في العنصر الرابع‪ ،‬وإن حدث ذلك فهو يعني أن يأخذ الخوان نفسّ السم‪،‬‬
‫وهذا مستحيل!!‪.‬‬
‫ومــن المعلــوم أن اللكترونــات تتــوزع حــول أنويــة الــذرات فــي مســتويات طاقــة رئيســية )أغلفــة(‬
‫وهــذه المســتويات أو الغلفــة تقــدر بســبعة أغلفــة فــي حالــة الــذرات المســتقرة‪ .‬ول يمكــن لي‬
‫مستوى رئيسي أن يستوعب أكثر مــن عــدد محــدد مــن اللكترونــات‪ ،‬ويتحــدد هــذا العــدد حســب‬
‫رقم المستوى ذاته‪ ،‬ولو افترضنا أن رقم المســتوى )‪ (2)(n‬فــإن عــدد اللكترونــات الــذي يســتطيع‬
‫كل مستوى أن يستوعبه هو ‪ 2:‬مضروبا في )مربع رقم المستوى(‪.‬‬

‫‪ () 1‬المتغيرات الربعة التي تحدد وضع إلكترون وحالته هي‪ :‬مكانه بالنسبة للمستويات الرئيسية‪ ،‬مكانه بالنسبة‬
‫للمستويات الفرعية ضمن "مستوى رئيسي" معين‪ ،‬مكانه في مدار )أوربيتال( معين يقع تحت "مستوى فرعي"‬
‫معين‪ ،‬وأخيرا‪ :‬اتجاه دوران اللكترون حول نفسه مع أو ضد اتجاه دوران عقارب الساعة‪.‬‬
‫‪ ()2‬ويطلق عليه اسم )عدد الكم الرئيسي( )يشار إليه بالعداد‪ ...3 ،2 ،1 :‬لغاية العدد ‪ 7‬ابتداء من المستوى‬
‫القرب للنواة‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫إلكترون‬ ‫‪2‬‬ ‫]‪=[2(1)×2‬‬ ‫فالمستوى الول يتشبع بعدد‬
‫إلكترون‬ ‫‪8‬‬ ‫]‪= [2 (2)×2‬‬ ‫بينما يستوعب المستوى الثاني عدد‬
‫إلكترون‬ ‫‪18‬‬ ‫]‪=[2 (3)×2‬‬ ‫ويتشبع المستوى الثالث بالعدد‪:‬‬
‫أما المستوى الرئيسّ الرابع فإن أقصى عدد من اللكترونات يمكن أن يستوعبه =‬
‫‪ 32 =2 (4)×2‬إلكترون‪،‬وهكذا‪...‬‬
‫وقد توجد أن مستويات الطاقة الرئيسية )الغلفة( يمكن أن تنقسم في داخلها إلى مستويات‬
‫فرعية )تحت أغلفة(‪ ،‬وقد أطلق على "تحت الغلفة" اسم )عدد الكم الثانوي(‪ ،‬وتيشار إليها‬
‫بالحرف اللتينية)‪ (s) (1‬و )‪ (p‬و )‪ (d‬و )‪ (f‬وهكذا‪...‬‬
‫وقد توجد أن المستوى الرئيسّ الول)‪) (1‬القرب إلى النواة( يحتوي على مستوى فرعي‬
‫واحد هو )‪.(s‬‬
‫والمستوى الرئيسّ الثاني يحتوي على مستويين فرعيين )تحت أغلفة( أعطيت الحرف‬
‫اللتينية )‪ (s‬و)‪.(p‬‬
‫أما المستوى الرئيسّ الثالث فقد وجد أنه يتكون من مستويات فرعية )تحت أغلفة( عددها‬
‫ثلثة‪ ،‬أعطيت الحرف اللتينية )‪ (s‬و )‪ (p‬و )‪.(d‬‬
‫أما المستوى الرئيسي الرابع فيحتوي على أربعة مستويات فرعية )تحت أغلفة( هي‪ (s) :‬و)‬
‫‪ (p‬و)‪ (d‬و)‪ .(f‬وهكذا دواليك حتى المستوى الرئيسّ السابع‪.‬‬
‫وما أوجزناه هنا يطرح السؤال التالي‪ :‬ما علقة عدد الغلفة بما نحن بصدده من دراسة‬
‫لصفات الحديد و النحاس؟!‪..‬‬

‫‪ ()1‬كما سبق وأن أوضحنا فإن المدارات التي تدور اللكترونات حول النواة في نطاقها تنقسم إلى مستويات رئيسية‬
‫)أغلفة( يمكن أن تصل إلى سبعة‪ ،‬لكن وجد أن تلك المستويات الرئيسية )تحت الغلفة( تنقسم في داخلها إلى‬
‫تحت مستويات )تحت أغلفة( اتفق على أن تعطى تلك المدارات )تحت الغلفة( الحرف اللتينية‪(s):‬و)‪(p‬و)‬
‫‪(d‬و )‪.(f‬‬

‫‪269‬‬
‫والجواب هو أن الصفات التي يبديها أي عنصر من العناصر إنما يحددها عدد اللكترونات‬
‫التي تدور حول النواة‪ ،‬وكيفية توزيعها في المستويات المختلفة‪ ،‬والمستوى الخير على وجه‬
‫الخصوص!‪.‬‬
‫ولنحاول الن تبسيط المور وذلك بشرح كيفية توزيع اللكترونات حول الذرات المختلفة؛‬
‫ولنبدأ بأبسط الذرات على الطلق وهي ذيرة غاز الهيدروجين‪.‬‬
‫تتركب ذرة الهيدروجين من‪ :‬نواة تحتوى على بروتون واحد‪ ،‬ونيوترون واحد‪ ،‬أما بالنسبة‬
‫لللكترونات ‪،‬وهو ما يهمنا هنا‪ ،‬فتحتوي ذيرة الهيدروجين على إلكترون واحد يتواجد في‬
‫المستوى الرئيسّ الول‪ ،‬وبمراعاة قراءة معادلة التوزيع من اليسار إلى اليمين؛ يكون توزيعه‬
‫اللكتروني كما يلي‪:‬‬
‫‪1(s)1‬‬
‫ولنقفز الن إلى عنصر عدد إلكتروناته )‪ (11‬وهو عنصر نشط وفعال يعرف باسم‬
‫الصوديوم‪ ،‬حيث سنجد أن توزيعه اللكتروني هو‪:‬‬
‫‪1(s)2 , 2(s)2 2(p)6 3(s)1‬‬
‫فماذا يعني هذا التوزيع؟‬
‫إنه يعني أن المستوى الرئيسي الول )العدد "‪ ”1‬الموجود إلى يسار الرمز( يحتوي على‬
‫مستوى فرعي واحد )‪ (s‬وهو مشبع بإلكترونين‪ ،‬أما المستوى الرئيسي الثاني )العدد "‪”2‬‬
‫الموجود إلى يسار الرمز( فهو يحتوي على مستويين فرعيين )‪ (2s‬و )‪ ،(2p‬ويشغله ثمانية‬
‫إلكترونات )‪ (2‬و )‪ (6‬على التوالي‪ ،‬أما المستوى الرئيسّ الثالث )العدد "‪ ”3‬الموجود إلى‬
‫يسار الرمز( فإن اللكترون الوحيد المتبقي يتخذ له مكان ا في )‪(3s‬؛ مما يعني أن هناك إلكترون ا‬
‫وحيداا‪ ،‬تتنسب إليه فعالية الصوديوم‪ ،‬مكانه في المستوى الفرعي الخير )‪.(3s‬‬
‫ت الن إلى الفلزين محور النقاش‪ ،‬وهما الحديد والنحاس‪ ،‬ولنتعرف على توزيع‬ ‫ولنأ م‬
‫اللكترونات حول النواة لكل منهما؛ ونبدأ بالحديد‪:‬‬
‫‪Fe26 = 1(s)2 , 2(s)2 2(p)6 , 3(s)2 3(p)6 , 4(s)2 , 3(d)6‬‬

‫‪270‬‬
‫ولنقم الن بتوزيع اللكترونات في المدار الفرعي الخير ]‪ ،[6(d)3‬حيث يتكون هذا‬
‫الدمار من خسمة صناديق )أوربيتال( يكمن لكمل منها أن يتلئ ف أقصى طاقته بإلكمتوني يزدوجان معاا‪ ً،‬ويلغي عندمئذ كل منهما التأثي الغناطيسمي‬
‫للخآر‪:‬‬
‫‪3d 6‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫التوزيع اللكتروني للمدار الفرعي الخير لذيرة الحديد ‪Fe26‬‬
‫فإذا ما احتتل أحد الصناديق بإلكترون واحد فإن ذلك اللكترون يكون له تأثير مغناطيسي‬
‫)سالب أو موجب(‪..‬‬
‫ومن هذا التوزيع اللكتروني المشار إليه نلحظ أن لذيرة الحديد أربعة إلكترونات منفردة في‬
‫مدارها الخير‪ ،‬ويكون لهذه اللكترونات الربعة تأثيرا مغناطيسيا يعادل مجموع تأثير أربعة‬
‫إلكترونات‪..‬‬
‫ونتوقف عند هذه النقطة لنتناول معدن النحاس‪ ،‬لكن دون أن ننسى أن هناك في المدار‬
‫الخير لمعدن الحديد أربعة إلكترونات منفردة!‪.‬‬
‫وبنفس الطريقة فلنحاول التعرف على التوزيع اللكمتون لعدمن النحاس؛ وذلك لجل القارنة بينه وبي فلز الدميدم من حيث تأثي الرارة على‬
‫كل منهما؛ ودرجة النصهار على وجه الخآصوص‪:‬‬
‫‪3d 9‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫التوزيع اللكتروني للمدار الفرعي الخير لذيرة النحاس ‪Cu29‬‬
‫من التوزيع السابق لللكترونات في المدار الفرعي الخير لذيرة النحاس نجد أن لتلك الذيرة‬
‫إلكترونا واحدا منفردا في مدارها الخير‪ ،‬ويكون التأثير المغناطيسي لللكترونات المنفردة في‬
‫ذرة النحاس يعادل تأثير إلكترون واحد فقط!‪ ..‬بعكسّ الحديد الذي يمتلك تأثر أربعة من‬
‫اللكترونات المنفردة!!‬
‫مما سبق وبمقارنة توزيع اللكترونات في المدار الخير لكل من ذرتي الحديد والنحاس‬
‫نلحظ ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬أن المدار الفرعي الخير للحديد يحتوي على أربعة إلكترونات منفردة‪ ،‬يقابله إلكترون‬
‫واحد في ذيرة النحاس‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫‪ -2‬اللكترونات الربعة في ذرة الحديد واللكترون الوحيد في ذرة النحاس؛ تعتبر صاحبة‬
‫التأثير الكبر على الخواص الكيميائية والفيزيائية لكليهما‪ ،‬بحيث تعتمد عليها إمكانية‬
‫تكوين روابط فلزية )معدنية( بين ذرات العنصر نفسه‪.‬‬
‫‪ -3‬تكتسب تلك الفلزات قوة صلبتها وارتفاع درجة انصهارها من عدد اللكترونات السائبة‬
‫في المدار الخير‪ ،‬والتي تتجمع على هيئِة سحب إلكترونية تتحكم في الخواص الفيزيائية‬
‫للعنصر مثل‪ :‬درجة النصهار‪ ،‬درجة التوصيل‪ ،‬اللمعان‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫مما سبق يتأكد لنا بأن التوزيع اللكتروني لكدل من فلزي الحديد والنحاس يؤكد حقيقة أن‬
‫درجة انصهار الحديد أعلى من درجة انصهار النحاس‪ ،‬بسبب وجود أربعة إلكترونات منفردة في‬
‫مداره الخير؛ مقارنة بإلكترون واحد في المدار الخير للنحاس‪ ،‬وهذا المر هو حقيقة واقعة إذ‬
‫تبلغّ درجة انصهار الحديد )‪ 1535‬درجة مئِوية( بينما تبلغّ درجة انصهار النحاس )‪1083.4‬‬
‫درجة مئِوية(!‬
‫من هنا جاز لنا أن نتخيل بأن تعريض الحديد والنحاس لمصدر حراري واحد سيؤدي إلى‬
‫"إسالة" النحاس‪ ،‬وعندها يكون الحديد قد "لن" فقط!‪.‬‬
‫والنتيجة النهائية التي نخرج بها من هذا الشرح هي أن هناك دقة غير بشرية في استخدام‬
‫اللفاظ }ألينا{ ومصدرها الليونة و}أسلنا{ ومصدرها السيولة‪ ،‬وأن ذلك التفريق لم يكن ليتأيتى‬
‫لبشر مهما أوتي من العلم‪.‬‬

‫زاوية أخرى للنظر؟!‪...‬‬


‫أما الزاوية الخرى التي نتناول معدني الحديد والنحاس بالدراسة من خللها؛ فهي تلك‬
‫المتعلقة بالمنهج الذي اتبع لتفسير اليات التي جاءا في سياقها‪ ،‬ولنا هنا ملحظتان‪:‬‬
‫هل يمكن أن نكون قد أخطأنا؟!!‬

‫‪272‬‬
‫الملحظة الولى‪ :‬للوهلة الولى يبدو وكأننا قد وقعنا في تناقض‪ ،‬وذلك حين فيرقنا بين‬
‫الحالتين الطبيعيتين )الصلبة والسائلة( لمعدن النحاس‪ ،‬واعتبارنا أن اللفظ "نحاس" يختص‬
‫بالحالة الطبيعية الولى )الصلبة(‪ ،‬وأن اللفظين "قمطورا" و"عين المقوطر" يختصان بالحالة الطبيعية‬
‫الثانية )السائلة(‪.‬‬
‫ويخالف ما ذهبنا إليه آنف ا ما قال به بعض المفسرين؛ واعتبارهم أن ما قصد إليه من وراء‬
‫كلمة "نحاس" في قوله تعالى }يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس‪ {...‬إنما هو )نحاس مذاب‬
‫يصب على رءوسكم يوم القيامة()‪.(1‬‬
‫لكن ما بدا هنا وكأنه تناقض لم يكن الملحظة الوحيدة التي وجب التوقف عندها‪ ،‬فلكي‬
‫نستطيع الوصول إلى ما هو أقرب للصواب؛ لبد لنا من النظر إلى تلكم اليات برمتها من زاوية‬
‫جديدة‪.‬‬
‫يقول ال تعالى في محكم التنزيل‪:‬‬
‫}يا معشر الجن والنسّ إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والرض‬
‫ظ من‬
‫فانفذوا‪ ،‬ل تنفذون إل بسلطان‪ ،‬فبأي آلء ربكما تكذبان‪ ،‬يرسل عليكما شوا م‬
‫س فل تنتصران{)الرحمن‪(35-33:‬‬
‫نار ونحا م‬

‫‪ ()1‬صفوة التفاسير‪ ،‬محمد علي الصابوني‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.298‬‬

‫‪273‬‬
‫وكما يتضح من الية الكريمة فإن الخطاب هنا موجه للثقلين‪ ،‬أي الجن والنسّ‪ ،‬وقد اعتبر‬
‫بعض المفسرين أن الخطاب قد وجه لهما‪) :‬إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات‬
‫والرض هاربين من ال‪ ،‬فارين من قضائه‪ ،‬فاخرجوا منها‪ ،‬وخيلصوا أنفسكم من عقابه‪ ،‬والمر‬
‫للتعجيز }ل تنفذون إل بسلطان{ أي ل تقدرون على الخروج إل بقوة وقهر وغلبة‪ ،‬وأينى لكم‬
‫ذلك؟ قال ابن كثير‪ :‬معنى الية أنكم ل تستطيعون هرب ا من أمر ال وقدره‪ ،‬بل هو محيط بكم ل‬
‫تقدرون على التخلص من حكمه‪ ،‬أينما ذهبتم أحيط بكم‪ ،‬وهذا في مقام الحشر حيث الملئكةت‬
‫محدقةم بالخلئق سبع صفوف من كل جانب‪ ،‬فل يقدر أحمد على الذهاب إل بسلطان‪ ،‬أي إل‬
‫ظ من نار{ أي يرسل عليكما يوم القيامة لهب النار الحامية‬
‫بأمر ال }يرسل عليكما شوا م‬
‫}ونحاس{ أي ونحاس مذاب يصب فوق رءوسكم‪ .‬قال مجاهد‪ :‬هو الصفر المعروف يصب‬
‫على رءوسكم يوم القيامة( أ ‪ .‬هـ)‪.(1‬‬
‫والمنظر هنا يتنازعه تفسيران‪ :‬أحدهما‪ :‬يصفه بأنه خاص بيوم الحشر‪...‬‬
‫والخر يقدمه لنا من خلل نظرة مستحدثة‪ ،‬تشبعت بالنجازات التي قدمتها الحضارة‬
‫النسانية؛ ومن معالمها‪ :‬النطلق إلى آفاق الكون الواسع‪ ،‬عبر رحلت فضائية وصلت إلى‬
‫سطح القمر‪ ،‬والمريخ…الخ‪ ،‬ومن خلل ما وصلت إليه المناظير العملقة التي نفذت إلى أعماق‬
‫الكون بمئِات بل مليين السنوات الضوئية‪.‬‬
‫وفي معرض تقييم كلتا وجهتي النظر؛ فقد عاب بعض العلماء النظرة الثانية )التفسير العلمي(‬
‫ل‪) :‬جنح بعض المتأخرين في هذه اليام إلى تفسير الية تفسيرا خاطئِاا‪ ،‬فزعموا أن النسان‬
‫قائ ا‬
‫ف لقوال‬
‫يمكنه الصعود إلى السماوات وإلى الكواكب‪ ،‬وفسروا "السلطان" بالعلم‪ ،‬وهو مخال م‬
‫المفسرين‪ ،‬ويرده سياق الية وسباقها‪ ،‬فإن الية سيقت لبيان أهوال الخرة وشدائدها بدليل قوله‬
‫تعالى }سنفرغ لكم أيها الثقلن{ وقوله بعدها }يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس{ وقد اتفق‬
‫المفسرون على أنها في الخرة()‪.(2‬‬

‫‪ ()1‬صفوة التفاسير‪ ،‬محمد علي الصابوني‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.298‬‬


‫‪ ()2‬صاحب كتاب صفوة التفاسير‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬حاشية ص ‪.297‬‬

‫‪274‬‬
‫وهاتان النظرتان تعبران عن رؤيدة نموذجيدة لمنظر واحد؛ وقد اختلفت فيه الراء‪ ،‬لكن ما نريد‬
‫إثباته هنا هو أن هذا الختلف هو أمر طبيعي نشأ ‪،‬بشكل أساسي‪ ،‬نتيجة امتلك النسان‬
‫المعاصر لحصيلدة هامدة من العلوم النظرية والتجريبية‪ ،‬أعطته المزيد من الفق الذي يمكن أن تيرى‬
‫من خلله النص‪.‬‬
‫لذلك فل مفر من طرح مجموعة من الفكار‪ ،‬لمحاولة الوصول إلى ما هو أقرب إلى‬
‫الصواب‪ ،‬مستذكرين أن القدسية تنسحب على النص وحده‪ ،‬أما فهمه؛ ففيه اجتهاد‪.‬‬
‫والزاوية التي نريد دراسة النص من خللها‪ ،‬هي ما تحمله ألفاظه من مدلولت‪ ،‬ولنا هنا عدة‬
‫ملحظات‪:‬‬
‫‪ -1‬الذين قالوا بتعلق المر بيوم الحشر؛ فسروا كلمة }تنفذوا{ على أنها محاولة للهروب من ال‬
‫ومن قضائه‪ ،‬ولبد هنا من النظر إلى ما تعطيه كلمة }تنفذوا{ من معنى وإيحاء)‪ (1‬وسنجد حينها‬
‫أنها تعطي مدلولا هو أقرب إلى معنى "الختراق" و"الجتياز" منه إلى معنى "الهروب"‪.‬‬
‫‪ -2‬إذا ما حاولنا المقابلة بين كلمة "تنفذوا" بمعناها الذي ذهب إليه البعض ‪،‬أي الهروب‪ ،‬وبين‬
‫ما ورد في القرآن الكريم تمعبمرا عن نفسّ المعنى ‪،‬أي المفرار‪ ،‬لوجدنا أن القرآن الكريم قد عرض‬
‫لمعنى المفرار في عدة مواضع‪ ،‬فجاءت هي ومشتقاتها كما يلي‪:‬‬
‫}ففررت منكم لما خفتكم{)الشعراء‪(21:‬‬
‫}قل لن ينفعكم المفرار إن فررتم من الموت أو القتل{)الحزاب‪(16:‬‬
‫ت من قسورة{)المدثر‪(51:‬‬
‫}كأنهم تحتممر مستنفرة‪ ،‬فر و‬
‫}قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملقيكم{)الجمعة‪(8:‬‬
‫}ففروا إلى ال إيني لكم منه نذير مبين{)الذاريات‪(50:‬‬
‫}لو اطلعت عليهم لوليت منهم مفراراا{)الكهف‪(18:‬‬
‫}وما هي بعورة‪ ،‬إن يريدون إل مفراراا{)الحزاب‪(13:‬‬
‫}فلم يزدهوم دعائي إل مفراراا{)نوح‪(6:‬‬
‫‪ ()1‬وردت كلمة "النفاذ" في المعجم الوسيط بمعنى‪ :‬جواز الشيئ عن الشيئ والخلوص منه‪ ،‬كالنفوذ ومخالطة‬
‫السهم جوف الرمية وخروج طرفه من الشق الخر‪ .‬أما "النفاذ" فقد ورد في لسان العرب بمعنى‪ :‬الجواز‪ ،‬وفي‬
‫ت‪ :‬أي تجوزت‪.‬‬ ‫المحكم‪ :‬جواز الشيء والخلوص منه‪ .‬تقول‪ :‬نـنفوذ ت‬

‫‪275‬‬
‫}يوم يفر المرء من أخيه{)عبسّ‪(34:‬‬
‫}يقول النسان يومئِدذ أين المفر{)القيامة‪(10:‬‬
‫وبالرجوع لليات حسب ترتيبها نجد أنها تناولت عددا من أنواع المفرار من أمثال‪) :‬مفرار‬
‫الخوف‪ ،‬المفرار من الموت أو القتل‪ ،‬مفرار البهائم من بعضها‪ ،‬الفرار من الموت‪ ،‬المفرار إلى ال‪:‬‬
‫بمعنى اللجوء والعودة إليه‪ ،‬مفرار الرعب‪ ،‬المفرار من المعركة‪ ،‬المفرار من الهداية والصرار على‬
‫الضلل‪ ،‬المفرار من الخأ والخليل‪ ،‬العجز عن المفرار الناشئ عن الحيرة والرتباك(‪ ...‬ونلحظ‬
‫هنا أن النوعين الخيرين هما مما يصيب النسان يوم الحشر‪.‬‬
‫وإذا ما قارينا هذه اليات بالية التي نحن بصددها }إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار‬
‫السموات{ لوجدنا أن هناك اختلف ا بين ا في كيفية التناول‪ ،‬وكما يبدو جلي ا فإن اللفاظ "تنفذوا"‬
‫و "فانفذوا" و "تنفذون" )والتي وردت في الية المشار إليها( قد جاءت لوصف حالة وحيدة من‬
‫نوعها لم تتكرر في موضع آخر من القرآن الكريم‪ ،‬مما يحمل على العتقاد بأن النفاذ هنا لم‬
‫يقصد به "الهروب" أو "المفرار"‪ ،‬وإنما قصد به نوع خاص وفريد من النفاذ‪ ،‬أو الختراق‪ ،‬والذي‬
‫يمكن أن يكون مقصودا به النفاذ إلى العالم الخارجي‪.‬‬
‫‪ -3‬إن التعبير الوارد في الية الكريمة محور النقاش }أن تنفذوا من أقطار السموات‬
‫والرض{ تيفهم منه بشكل واضح وجود مكان هو )السماوات والرض( ول ينطبق هذا المر‬
‫على يوم الحشر‪ ،‬حيث تكون الصورة قد اختلفت إلى ما ل نعلمه‪ ،‬ففي ذلك اليوم لن نجد‬
‫ض غير الرض‬
‫الرض التي نعرفها‪ ،‬ول السماوات‪ ،‬وذلك بنص اليات الكريمة‪} :‬يوم تتبدل الر ت‬
‫والسماوات‪ ،‬وبرزوا ل الواحد القهار{)إبراهيم‪ (48:‬والية‪ } :‬يوم نطوي السماء كطي السجل‬
‫للكتب{)النبياء‪(104:‬‬
‫‪ -4‬إن ما يدفع على العتقاد بأن ما أشارت إليه اليات }إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار‬
‫السماوات والرض‪ {...‬هو ما نعرفه من سموات وأرض )وليسّ موقف ا آخر من مواقف يوم‬
‫الحشر( هو أن سورة "الرحمن" قد تحدثت من بدايتها عن عدة موضوعات كان من بينها‬
‫السماوات والرض‪ ،‬ويقطع هذا المر بأن المقصود بالسماوات والرض في كل الموقعين واحد‬
‫من حيث المعنى‪ ،‬وهما السماوات والرض المعروفتان لنا في حياتنا الدنيا‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫والنتيجة النهائية التي يمكن تحصيلها هنا بعد دراستنا للية الكريمة }يا معشر الجن‬
‫والنسّ{ هي أن التعبير القرآني }أقطار السموات والرض{ إنما قصد به أمر في الحياة الدنيا‬
‫وليسّ يوم الحشر‪.‬‬
‫لكل السباب السابقة تتضح الحاجة إلى إعادة النظر في التفسير الذي أورده بعض‬
‫المفسرين وذهبوا فيه إلى أن المقصود بالية الكريمة }يا معشر الجن والنسّ{ هو موقف من‬
‫مواقف يوم القيامة‪ ،‬ول مفر من إضافة احتمال أن يكون المقصود من الية الكريمة هو ما ذهب‬
‫إليه بعض العلماء؛ من أن اليات تصف محاولت الجن والنسّ للنفاذ إلى العالم الخارجي‪،‬‬
‫ومن هنا نحاول أن نخلص إلى ما يمكن أن تكون قد ذهبت إليه اليات من معنى؛ والذي قد‬
‫يكون‪) :‬لقد كتب ال عيز وجل على الجن والنسّ أن يكونوا حبيسي جبلتهم التي فطرهم ال‬
‫عليها‪ ،‬لكن ستكون هناك محاولت من قبل الجن لختراق أقطار السماوات‪ ،‬ومحاولت من‬
‫النسّ لختراق أقطار الرض‪ ،‬وحين تتم تلك المحاولت فإن نتيجتها مرهونة بـسلطان ال الذي‬
‫هو "إرادته" و"مشيئِته"‪ ،‬وينبه عيز وجل الثقلين إلى أن محاولتهم تلك ستواجه بعقبات‪ ،‬إذ‬
‫سيواجه الجن بنار حارقة وشهب ثاقبة‪ ،‬وسيواجه النسان بعقبات تتمثل في الكتل السابحة في‬
‫الفضاء من شهب و نيازك(‪.‬‬
‫وإذا ما اتفقنا على وجود مشروعية لوجهة النظر هذه‪ ،‬فلعل ذلك يعني أن ما تقصد إليه من‬
‫لفظة "نحاس" يشابه في معناه ما ذهب إليه الجمهور بالنسبة للحديد حين قالوا‪) :‬وأراد بالحديد‬
‫جنسه من المعادن()‪ (1‬وعندها يمكن النظر للنحاس على أساس أنه )أريد بالنحاس جنسه من‬
‫المعادن( وهنا يمكن تخيل )مليين المليين من الشهب والنيازك المنطلقة في الفضاء كأنها‬
‫الرصاص والقنابل المنهمرة()‪.(2‬‬

‫إنتهى‬
‫ل تضنوا علينا بملحاظاتكم‬

‫‪ ()1‬صفوة التفاسير‪ ،‬محمد علي الصابوني‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.329‬‬


‫‪ ()2‬العلوم الطبيعية في القرآن‪ ،‬يوسف مروة‪ ،‬دار ومكتبة الهلل‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪.171‬‬

‫‪277‬‬
‫محمد صبحي السويركي‬
‫‪swairky@hotmail.com‬‬

‫ول تنسونا وآباءنا من طيب دعائكم‬

‫‪278‬‬
‫مراجع بحث الكيمياء‬
‫‪ .1‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ .2‬صفوة التفاسير‪ ،‬محمد علي الصابوني‪ ،‬دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع‪.‬‬
‫‪ .3‬في ظلل القرآن‪ ،‬سيد قطب‪.‬‬
‫‪ .4‬فتح الرحمن في تفسير القرآن‪ ،‬عبد المنعم أحمد تعيلب‪.‬‬
‫‪ .5‬فتح القدير محمد بن علي بن محمد الشوكاني‪ ،‬طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫‪ .6‬المعجم المفهرس للفاظ القرآن الكريم‪ ،‬محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار الريان للتراث‪.‬‬
‫‪ .7‬العلوم الطبيعية في القرآن‪ ،‬يوسف مروة‪ ،‬دار ومكتبة الهلل‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ .8‬القرآن الكريم والتوراة والنجيل والعلم‪ ،‬موريسّ بوكاي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ .9‬مع ال في السماء‪ ،‬د‪ .‬أحمد زكي‪ ،‬ص ‪ ،40‬حاشية ‪.4‬‬
‫‪ .10‬معالجة وصيانة الثار‪ ،‬باهرة عبد الستار أحمد القيسي‪ ،‬المؤسسة العامة للثار والتراث‪،‬‬
‫العراق‪.(1981 ،‬‬
‫‪ .11‬الكيمياء العضوية‪ ،‬ب‪ .‬بافلوف و أ‪ .‬نيرينتلييف‪ ،‬دار مير للطباعة والنشر‪.‬‬
‫مناهج الكيمياء لمرحلة الدراسة الثانوية‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫فهرست‬

‫‪280‬‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫‪2‬‬ ‫إهداء‬ ‫‪-‬‬
‫‪3‬‬ ‫تقديم بقلم‪ /‬الشيخ‪ /‬السيد حسين بركة – فلسطين‬ ‫‪-‬‬
‫‪6‬‬ ‫تقريظ بقلم الدكتور‪ /‬محمد السقا عيد‪ /‬جمهورية مصر العربية‬ ‫‪-‬‬
‫‪7‬‬ ‫ليست أكثر من محاولة!‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪16‬‬ ‫التكاملية )نظرة ثانية على القرآن الكريم(‬ ‫‪-‬‬
‫‪21‬‬ ‫النموذج الول‪ :‬دعوة النور‪ ..‬في مجتمع ما حول الرسول!‬ ‫‪-‬‬
‫‪30‬‬ ‫النموذج الثاني‪ :‬المفاجأة!!‪ ..‬من فيوضات سورة العنكبوت!‬ ‫‪-‬‬
‫‪41‬‬ ‫النموذج الثالث‪ :‬بين خلق الرض ودحوها‪ ..‬الحلقة المفقودة!‬ ‫‪-‬‬
‫‪48‬‬ ‫ظاهرة النسبية في القرآن الكريم‬ ‫‪-‬‬
‫‪49‬‬ ‫بين يدي الظاهرة‬ ‫‪-‬‬
‫‪49‬‬ ‫القرآن‪ :‬كلتم ال‬ ‫‪-‬‬
‫‪50‬‬ ‫إعجاتز القرآن الكريم وسحتر بيانه‬ ‫‪-‬‬
‫‪52‬‬ ‫سحمر يأخذ بالقلوب واللباب‬ ‫‪-‬‬
‫‪56‬‬ ‫ث الحيرة‬
‫بيامن يور ت‬ ‫‪-‬‬
‫‪57‬‬ ‫أين يكمن السر؟!‬ ‫‪-‬‬
‫‪59‬‬ ‫ض من أشكال استعلء القرآن‬
‫بع م‬ ‫‪-‬‬
‫‪62‬‬ ‫النسبية ‪ ..‬ظاهرة لغوية أصيلة‬ ‫‪-‬‬
‫‪75‬‬ ‫‪The Phenomenon of Relativism‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪79‬‬ ‫الموضوعي والنفعالي )مقدمة في العجاز الصوتي في القرآن الكريم(‬ ‫‪-‬‬
‫‪80‬‬ ‫)ما الذي يعنيه تواتر القرآن(؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪80‬‬ ‫التواتر الكتابي )المصحفي(‬ ‫‪-‬‬
‫‪82‬‬ ‫التواتر السمعي للقرآن الكريم‬ ‫‪-‬‬
‫‪87‬‬ ‫لغة القرآن الكريم‪ :‬صوتية أم مكتوبة؟!‬ ‫‪-‬‬
‫‪92‬‬ ‫"منطقية" و"انفعالية" اللغة‬ ‫‪-‬‬
‫‪94‬‬ ‫التنغيم في اللغة‬ ‫‪-‬‬
‫‪99‬‬ ‫القيمة الموضوعية والنفعالية‬ ‫‪-‬‬
‫‪102‬‬ ‫نماذج تحليلية‬ ‫‪-‬‬
‫‪102‬‬ ‫نموذج للدللة على تأثر القيمة الموضوعية )المعنى( بالقيمة النفعالية‬ ‫‪-‬‬

‫‪281‬‬
‫‪103‬‬ ‫نموذج‪ :‬انهيار مفاجئ في القيمة الموضوعية بتأثير قيمة انفعالية مفاجئِة!‬ ‫‪-‬‬
‫‪104‬‬ ‫نموذج عدم الستقرار النفسي الناشئ عن عدم الستقرار العقائدي‬ ‫‪-‬‬
‫‪105‬‬ ‫نموذج السخرية؛ والدهشة‪ ،‬وعدم التصديق!‬ ‫‪-‬‬
‫‪106‬‬ ‫نموذج الضيق والقلق )وجرين بهم بريح طيبة!…(‬ ‫‪-‬‬
‫‪108‬‬ ‫نموذج الطمئِنان والسكينة والرضى! }يا أيتها النفسّ المطمئِنة…{‬ ‫‪-‬‬
‫‪109‬‬ ‫نموذج الخسران والفقد والعدم! )فجعلناه هباءا منثوراا!!‪(..‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪110‬‬ ‫هل الـقرآن عربيي؟!‬ ‫‪-‬‬
‫‪111‬‬ ‫تمهيد‬ ‫‪-‬‬
‫‪113‬‬ ‫عروبة القرآن في أقوال المفسرين‬ ‫‪-‬‬
‫‪114‬‬ ‫ب والعربيية قبل تنيزل القرآن‬
‫العر ت‬ ‫‪-‬‬
‫‪116‬‬ ‫عروبة؟‪ ..‬لكن بأي معنى؟!‬ ‫‪-‬‬
‫‪118‬‬ ‫ليسّ اختلفا في التركيب فحسب؟!‬ ‫‪-‬‬
‫‪119‬‬ ‫أية عربيية تلك التي كانت قبل القرآن؟!‬ ‫‪-‬‬
‫‪120‬‬ ‫لغة مشتركة‬ ‫‪-‬‬
‫‪122‬‬ ‫نعم بلغة قريش‪ ...‬ولكن؟!‬ ‫‪-‬‬
‫‪122‬‬ ‫لغات العرب والعربيية الفصحى‬ ‫‪-‬‬
‫‪123‬‬ ‫عودةم إلى الصل؟!‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪124‬‬ ‫بين النسبي والمطلق‪ :‬نتائج أولية؟!‬ ‫‪-‬‬
‫‪126‬‬ ‫ظاهرة مثيرة‪ ..‬ووجهة نظر تحاول القتراب؟!!‬ ‫‪-‬‬
‫‪128‬‬ ‫تعليمل غريب؟!…‬ ‫‪-‬‬
‫‪129‬‬ ‫هل تأخذ اللغات من بعضها؟‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪130‬‬ ‫إن لم تكن عربيية‪ ..‬فماذا تكون إذن؟!‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪130‬‬ ‫ألفاظ غامضة!!‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪131‬‬ ‫اللغات الساميية ‪ ..‬أفراد لسرة واحدة!!‬ ‫‪-‬‬
‫‪131‬‬ ‫مهتد اللغات الساميية‬ ‫‪-‬‬
‫‪132‬‬ ‫الجوامع المشتركة بين اللغات القديمة‬ ‫‪-‬‬
‫‪133‬‬ ‫اللغات الساميية من غير العربيية‬ ‫‪-‬‬
‫‪134‬‬ ‫الكديون ولسانهم‬ ‫‪-‬‬
‫‪134‬‬ ‫الكنعانيون ولسانهم‬ ‫‪-‬‬

‫‪282‬‬
‫‪135‬‬ ‫العبريون ولسانهم‬ ‫‪-‬‬
‫‪135‬‬ ‫الراميون ولسانهم‬ ‫‪-‬‬
‫‪136‬‬ ‫هل يوجد يثمة علقة؟!‪ ..‬هذا هو السؤال!!‬ ‫‪-‬‬
‫‪139‬‬ ‫الخصائص المشتركة بين اللغات الساميية‬ ‫‪-‬‬
‫‪140‬‬ ‫مربط الفرس!!!‬ ‫‪-‬‬
‫‪143‬‬ ‫العربية والعبرية‪ ..‬الصمل والفرع!!‬ ‫‪-‬‬
‫‪145‬‬ ‫توحيد الدين واللغة‪ ..‬وجهان لحقيقة واحدة!!‬ ‫‪-‬‬
‫‪146‬‬ ‫إرث إنساني مشترك!!‬ ‫‪-‬‬
‫‪146‬‬ ‫العروبة‪ ..‬أبعاد نسبية متعددة!!‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪148‬‬ ‫أثر القرآن الكريم في تشكيل الوعي الزمني عند العرب‬ ‫‪-‬‬
‫‪149‬‬ ‫تمهيد‬ ‫‪-‬‬
‫‪150‬‬ ‫النسان وثلثية "عناصر الحضارة"‬ ‫‪-‬‬
‫‪152‬‬ ‫بين منهجين‪ :‬طبيعي وموضوعي‬ ‫‪-‬‬
‫‪156‬‬ ‫من نتائج الدراك البيولوجي للوجود )الدراك الحادي(‬ ‫‪-‬‬
‫‪157‬‬ ‫قضايا واهتمامات النسان العربي قبل البعثة‬ ‫‪-‬‬
‫‪159‬‬ ‫الموقف من الحياة والموت كمؤشر على الموقف من الزمن بشكل عام‬ ‫‪-‬‬
‫‪161‬‬ ‫النهج العربي قبل السلم وآلية تحويل "الموضوعي" إلى "ذاتي"‬ ‫‪-‬‬
‫‪164‬‬ ‫شواهد قرآنية على الحساس الزمني البيولوجي عند العرب‬ ‫‪-‬‬
‫‪165‬‬ ‫الزمن في القرآن الكريم‬ ‫‪-‬‬
‫‪166‬‬ ‫منهج قرآني )الذاتي في إطار الموضوعي(‬ ‫‪-‬‬
‫‪169‬‬ ‫ما الذي فعله القرآن بالعرب؟!!‬ ‫‪-‬‬
‫‪169‬‬ ‫نقلة على مستوى المفاهيم‬ ‫‪-‬‬
‫‪170‬‬ ‫نقلة موضوعية في مجال التدوين‬ ‫‪-‬‬
‫‪171‬‬ ‫نقلة نوعية في مجال التأريخ‬ ‫‪-‬‬
‫‪171‬‬ ‫التقويم الهجري كمظهر من مظاهر النقلة النوعية في حياة العرب‬ ‫‪-‬‬
‫‪172‬‬ ‫ليعلموا عدد السنين والحساب‬ ‫‪-‬‬
‫‪173‬‬ ‫الزمن الغيبي "ما وراء الموضوعي"‬ ‫‪-‬‬
‫‪174‬‬ ‫الزمن غير الموضوعي ونظرية النسبية لينشتين‬ ‫‪-‬‬
‫‪175‬‬ ‫نسبية الزمن وعلقتها بسرعة الضوء‬ ‫‪-‬‬

‫‪283‬‬
‫‪176‬‬ ‫التداخل بين مفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل‬ ‫‪-‬‬
‫‪176‬‬ ‫الزمن وعلقته بالسرعة‬ ‫‪-‬‬
‫‪177‬‬ ‫ما وراء الموضوعي في القرآن الكريم‬ ‫‪-‬‬
‫‪180‬‬ ‫الكيمياء ومنهج استقراء العلوم الطبيعية في القرآن الكريم‬ ‫‪-‬‬
‫‪181‬‬ ‫العلوم الطبيعية ومنهج تدبر القرآن الكريم‬ ‫‪-‬‬
‫‪182‬‬ ‫جدلية العلقة بين اليمان والوعي‬ ‫‪-‬‬
‫‪185‬‬ ‫عقبات في طريق الوعي‬ ‫‪-‬‬
‫‪187‬‬ ‫الغنى الموضوعي في النص القرآني‬ ‫‪-‬‬
‫‪188‬‬ ‫معجزة خالدة ودللت مذهلة!!‬ ‫‪-‬‬
‫‪192‬‬ ‫جوانب من الكيمياء في القرآن الكريم‬ ‫‪-‬‬
‫‪195‬‬ ‫الذيرة في القرآن الكريم‬ ‫‪-‬‬
‫‪195‬‬ ‫ليست "ذرة"‪ ..‬بل "مثقال ذرة"!!‬ ‫‪-‬‬
‫‪196‬‬ ‫الذرة وإشكالية الحجم!!‬ ‫‪-‬‬
‫‪197‬‬ ‫نماذج لتفسير بنية الذرة‬ ‫‪-‬‬
‫‪200‬‬ ‫"مثقال ذرة" بنسبة ‪%100‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪201‬‬ ‫‪L’atome dans le coran‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪204‬‬ ‫مجموعة العناصر المعدنية في القرآن الكريم‬ ‫‪-‬‬
‫‪205‬‬ ‫معدن الذهب‬ ‫‪-‬‬
‫‪206‬‬ ‫معدن الفضة‬ ‫‪-‬‬
‫‪207‬‬ ‫معدن الحديد‬ ‫‪-‬‬
‫‪209‬‬ ‫معدن النحاس‬ ‫‪-‬‬
‫‪209‬‬ ‫"النحاس" و "القطر"‪ ..‬إسم لكل حالة طبيعية؟!‬ ‫‪-‬‬
‫‪211‬‬ ‫التوزيع اللكتروني وعلقته بالخواص الحرارية لمعدني الحديد والنحاس‬ ‫‪-‬‬
‫‪216‬‬ ‫زاوية أخرى للنظر؟!…‬ ‫‪-‬‬
‫‪217‬‬ ‫هل يمكن أن نكون قد أخطأنا؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪223‬‬ ‫فهرست‬ ‫‪-‬‬

‫‪284‬‬
‫المؤلف في سطور‬
‫محمد صبحي محمد السويركي‪..‬‬
‫من مواليد مدينة غزة بتاريخ ‪ ،12/7/1963‬عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين منذ العام ‪1991‬م‪ ،‬يحمل‬
‫درجة البكالوريوس في العلوم )كيمياء( من الجامعة السلمية بغزة‪ ،‬وكذلك دبلوم خاص في الكيمياء العضوية من‬
‫جامعة القصى )كلية التربية الحكومية سابقا( ويعمل حاليا مديرا لدائرة التدريب بوزارة العدل‪ -‬غزة‬

‫إنتاجات فكرية‬
‫أي دور وأية حركات )كتاب منشور )‪1994‬م(‬ ‫‪.1‬‬
‫"الكيمياء الحديثة في ضوء القرآن الكريم" )دار القرآن بالقاهرة( وترجمت بعض موضوعاته‬ ‫‪.2‬‬
‫للفرنسية‬
‫"تكنولوجيا الورق وسبل العناية بالكتب والمخطوطات" )جاهز للنشر(‬ ‫‪.3‬‬
‫وقد نشر للمؤلف العديد من المقالت والدراسات على النترنت وفي مجلة "الوحدة السلمية‬ ‫‪.4‬‬
‫الصادرة في بيروت‪ ،‬بالضافة لما نشر له في الصحف والمجلت الفلسطينية‪.‬‬

‫بعض المقالت المنشورة‬


‫"الحركة السلمية والعمل السياسي في المرحلة القادمة" )الوطن ‪" /(1994‬كنت معهم ‪ ...‬؟" "القدس"‬
‫و"الكرامة ‪"/ "1994‬نحو إسلم لمعترك الحضارة" "القدس" و"الكرامة" ‪" /1994‬اغتيال رابين‪ ..‬الكلمات التي‬
‫لم تتقل"نشر في مجلة "آفاق إسلمية"‪" /1995‬الحركة السلمية وتحديات المستقبل" "الوطن"‪" /1995‬السلم‬
‫وتحيديات القرن الحادي والعشرين" "الراية"‪" /1996‬كرمل‪..‬خطوة لها ما بعدها" "النهار" ‪" /1996‬ليغفر لك‬
‫الرب يا غيزة‪" "!!..‬القدس ‪" /1996‬حركة حماس بعد تحرير الشيخ ياسين‪ ..‬إلى أين؟!!" "القدس"‪/1997‬‬
‫"مذبحة القصر وبوابات العالم العربي لدخول قرن جديد" "القدس" ‪1997‬م‪" /‬ما الذي يراد لمنا حواء؟!" نشر‬
‫على حلقتين في جريدة "القدس"‪..1998‬‬
‫أدب ونقد‬
‫‪.2000‬‬ ‫)من حكايات أطفال فلسطين( مجموعة قصصية للطفال وهي غير منشورة‪،‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪2002‬‬ ‫وجه آخر للبنفسج‪ ،‬دراسة نقدية لديوان )كل على حدة( لدنيا المل إسماعيل‬ ‫‪-2‬‬
‫“أغمضوا عيونكم فأسراركم على وشك الفتضاح" دراسة نقدية لمجموعة قصصية لهبة الزيان ‪2002‬‬ ‫‪-3‬‬
‫‪2002‬‬ ‫"رجل وثماني عشرة امرأة" قصة قصيرة‬ ‫‪-4‬‬
‫منتهى الشر" قصة قصيرة نشرت على موقع القصة العربية‪.‬‬ ‫‪-5‬‬
‫لم يمت‪ /‬ملك آخر‪ /‬عندما ضحك البنفسج‪ ..‬قصص غير منشورة‬ ‫‪-6‬‬

‫‪285‬‬
‫الشراف على إنتاج فيلم كرتون بعنوان )سلم والمطر(‬ ‫‪-7‬‬

‫ورشات تدريبية‬
‫كيف تجعل من نفسك إنسانا متميزا ورشة تدريبية )‪ 30‬ساعة تدريبية(‬ ‫‪(1‬‬
‫تم عقد ‪ 30‬ورشة منها في مؤسسات مختلفة في قطاع غزة‪.‬‬
‫ورشة تدريبية )‪ 30‬ساعة تدريبية(‬ ‫تنمية المواهب البداعية الكتابية لدى الناشئِة‬ ‫‪(2‬‬
‫ورشة تدريبية )‪ 15‬ساعة تدريبية(‬ ‫مهارات التواصل غير اللفظي )لغة الجسم(‬ ‫‪(3‬‬
‫ورشة تدريبية )‪ 50‬ساعة تدريبية(‬ ‫إعداد وتدريب المدربين‬ ‫‪(4‬‬
‫ورشة تدريبية )‪ 30‬ساعة تدريبية(‬ ‫إعداد السيرة الذاتية والمقابلة الشخصية للعمل‬ ‫‪(5‬‬
‫ورشة تدريبية )‪ 20‬ساعة تدريبية(‬ ‫البلوغ والمراهقة وكيفية التعامل معهما؟‬ ‫‪(6‬‬
‫ورشة تدريبية )‪ 30‬ساعة تدريبية(‬ ‫خلق النسان بين العلم والقرآن‬ ‫‪(7‬‬
‫ورشة تدريبية )‪ 15‬ساعة تدريبية(‬ ‫الزوجية في القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪(8‬‬

‫‪286‬‬

You might also like