Professional Documents
Culture Documents
لقد ظل العالم العربي خارج التاريخ دهرال طويلل كأن لم يكن له هدف ،فاستسلم
المريض للمرض ،وفقد شعوره باللم حتى كأن المرض صار يؤلف جزءال من
كيانه .
وقبل ميلد القرن العشرين سمع من يذكره بمرضه ،ومن يحدثه عن العناية
اللهية التي استقرت على وسادته ،فلم يلبث أن خرج من سباته العميق ولديه
الشعور باللم .وبهذه الصحوة الخافتة تبدأ بالنسبة للعالم السلمي والعربي
حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها :النهضة .
ولكن ما مدلول هذه الصحوة ؟ إن من الواجب أن نضع نصب أعيننا )المرض(
بالمصطلح الطبي لكي تكون لدينا عنه فكرة سليمة ،فإن الحديث عن المرض أو
الشعور به ل يعني بداهة )الدواء) .
ونقطة النطلق هي أن الخمسين عاما ل الماضية تفسر لنا الحالة الراهنة التي
يوجد فيها العالم العربي اليوم ،والتي يمكن أن تفسر بطريقتين متعارضتين :
فهي من ناحية :النتيجة الموفقة للجهود المبذولة طوال نصف قرن من الزمان
من أجل النهضة .
وهي من ناحية أخرى :النتيجة الخائبة لتطور استمر خلل هذه الحقبة دون أن
تشترك الراء في تحديد أهدافه أو اتجاهاته .
ومن الممكن أن نفحص الن سجلت هذه الحقبة ،ففيها كثير من الوثائق
والدراسات ومقالت الصحف والمؤتمرات التي تتصل بموضوع النهضة هذه
الدراسات تعالج الستعمار والجهل هنا ،والفقر والبؤس هناك ،وانعدام التنظيم
واختلل القتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى ،ولكن ليس فيها تحليل منهجي
للمرض ،أعني دراسة مرضية للمجتمع العربي ،دراسة ل تدع مجالل للظن
حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون .
ففي الوثائق نجد أن كل مصلح قد وصف الوضع الراهن تبعا ل لرأيه أو مزاجه أو
مهنته .فرأى رجل سياسي كجمال الدين الفغاني أن المشكلة سياسية تحل
بوسائل سياسية ،بينما قد رأى رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة ل
تحل إل بإصلح العقيدة والوعظ ...الخ ...على حين أن كل هذا التشخيص ل
يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه .
وقد نتج عن هذا أنهم منذ مائة عام ل يعالجون المرض ،وإنما يعالجون
العراض ،وكانت النتيجة قريبة من تلك التي يحصل عليها طبيب يواجه حالة
مريض بالسل ،فل يهتم بمكافحة الجراثيم ،وإنما يهتم بهيجان الحمى عند
المريض .
والمريض نفسه يريد -ومنذ مائة عام -أن يبرأ من آلم كثيرة :من الستعمار
ونتائجه ،من المية بأشكالها ،من الفقر رغم غنى البلد بالمادة الولية ،من
الظلم والقهر والستعباد ،من ومن ،ومن ،وهو ل يعرف حقيقة مرضه ولم
يحاول أن يعرفه ،بل كل ما في المر أنه شعر باللم ،ول يزال اللم يشتد ،
فجرى نحو الصيدلية ،يأخذ من آلف الزجاجات ليواجه آلف اللم .
وليس في الواقع سوى طريقتين لوضع نهاية لهذه الحالة المرضية ،فإما
القضاء على المرض وإما إعدام المريض .لكن هناك من له مصلحة في
استمرار هذه الحالة المرضية سوالء أكان ممن هم في الخارج أو ممن يمثلونهم
في الداخل .
لقد دخل المريض إلى صيدلية الحضارة الغربية طالبا ل الشفاء ،ولكن من أي
مرض ؟ وبأي دواء ؟ وبدهي أننا ل نعرف شيئا ل عن مدة علج كهذا ،ولكن
الحالة التي تطرد هكذا تحت أنظارنا منذ نصف قرن ،لها دللة اجتماعية يجب
أن تكون موضع تأمل وتحليل .وفي الوقت الذي نقوم به بهذا التحليل يمكننا أن
نفهم المعنى الواقعي لتلك الحقبة التاريخية التي نحياها ،ويمكننا أيضا ل أن نفهم
التعديل الذي ينبغي أن يضاف إليها .
إن مشكلة النهضة تتحلل إلى ثلث مشكلت أولية :مشكلة النسان ،ومشكلة
التراب ،ومشكلة الوقت ،فلكي نقيم بناء نهضة ل يكون ذلك بأن نكدس
المنتجات ،وإنما بأن نحل هذه المشكلت الثلث من أساسها .
أولل :مشكلة النسان ...
ثانيا ل :مشكلة التراب ...
ثالثا ل :مشكلة الوقت ...
ل -1النسان :
إن المشروع الصلحي يبدأ بتغيير النسان ،ثم بتعليمه النخراط في الجماعة
ثم بالتنظيم فالنقد البناء .
وتبدأ عملية التطور من النسان لنه المخلوق الوحيد القادر على قيادة حركة
البناء ،وتحقيق قفزات
نوعية ،تمهيدلا لظهور الحضارة .أما المادة فمهما يكن من أمرها تكديسا ل
وزيادة ،فإنها تبقى تجميع كمي ل يعطي معنى كيفيا ل نوعيا ل ،إل بسلمة
استخدام النسان له). )201،200:8
فلكي يتحقق التغير في محيطنا يجب أن يتحقق أولل في أنفسنا وإل فإن العربي
لن يستطيع إنقاذ نفسه ول إنقاذ الخرين ،ثم إذا كان منهج الرسالة يقتضي
التغيير ،والتغيير يقتضي تغيير ما في النفوس أولل ...لقوله تعالى "إن ا ل
يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" )سورة الرعد ،الية ، (11 :وعندها
يجب على العربي أن يحقق بمفرده شروطا ل ثلثة :
-1أن يعرف نفسه .
-2أن يعرف الخرين ،وأن ل يتعالى عليهم وأن ل يتجاهلهم ))59،58:8
-3ويجب عليه في الشرط الثالث أن يعرف الخرين بنفسه ولكن بالصورة
المحببة ،بالصورة التي أجريت عليها كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية
من كل رواسب القابلية للستعمار والتخلف وأصناف التقهقر .
فالنسان هو الهدف وهو نقطة البدء في التغيير والبناء ،ومهما جرت محاولت
تحديثية بوساطة
الستعارة ،أو الشراء للمصنوعات ومنتجات التقنية ،فإن هذه المحاولت
ستكون عقيمة ،طالما أنها لم تبدأ من حيث يجب ،فالحل الوحيد منوط بتكوين
الفرد الحامل لرسالته في التاريخ ،والغني بأفكاره على حساب اشيائه
إن العلوم الخلقية والجتماعية والنفسية تعد اليوم أكثر ضرورة من العلوم
المادية فهذه تعتبر خطرلا في مجتمع مازال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم أو
يتجاهلونها ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده ،أشق كثيرال من صنع محرك أو
تقنية متطورة ،ومما يؤسف له ان حملة الشهادات العليا في هذه الختصاصات
هم الكثر عددلا في البلدان المتخلفة لكنهم لم يكونوا إل حملة أوراق يذكر فيها
ل على مسيرة التنمية والصلح ،فهم اختصاصهم النظري ،فصاروا عبئا ل ثقي ل
القادة في المجتمعات المتخلفة على الرغم من عجزهم عن حل أبسط المشكلت
بطريقة علمية عملية ،وإل لما تخلف مشروع النهضة حتى الوقت الحاضر ،
ونحن بحاجة إلى دروس في منهجية العمل في سائر مستويات عملنا .
فلتبدأ المنهجية اولل في مستوى الحديث المجرد ،لن كل عمل اجتماعي يقتضي
تبادل أفكار بين عدد من الشخاص .
إن الحوار هو أبسط صورة لتبادل الفكار ،وهو بذلك المرحلة التمهيدية
البسيطة لكل عمل مشترك فقواعد الحديث إذن ل تخص حسن الداب فقط ،بل
هي جزء رئيسي من تقنية العمل .ونحن نجد هذه الصلة ،بصورة رمزية ،في
العهد القديم عندما يقص علينا :كيف اصبح عمل القوم مستحيلل في تشييد برج
بابل ،عندما اختلفت ألسنتهم ،ففي هذه القصة نرى كيف يتعطل العمل بمجرد
ما تعطل تبليغ الفكار بالكلم .
فالقضية إذن ل تخص قواعد الحديث وحسن السلوك في المنتديات والمؤتمرات
والصالونات والمقاهي فحسب ،بل تخص مباشرة تقنية العمل من زاوية الفعالية
،فحيث ل يكون الحديث لمجرد التسلية ،يجب أن يخضع لقواعد العمل ،الذي
ليس في بداية ومرحلة تحضيرة ،سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات
وبعض الفكار ،وفي هذا المستوى ،يتداخل الجانب الخلقي والجانب المنطقي
ليكونا معا ل العمل الفعال أو العمل التافه) (40:8وأظن أننا ل نزال كأمة في
المستوى الثاني .
فليس من الضروري -ول من الممكن -أن يكون لمجتمع فقير ،المليارات من
الذهب كي ينهض ،وإنما ينهض بالرصيد الذي ل يستطيع الدهر ان ينقص من
قيمته شيئلا ،الرصيد الذي وضعته العناية اللهية بين يديه :النسان ،والتراب ،
والوقت) ،(60:2فالثورة ل ترتجل ،إنها إطراد طويل ،يحتوى ما قبل الثورة
والثورة نفسها ،وما بعدها والمراحل الثلث هذه ل تجتمع فيه بمجرد إضافة
زمنية ،بل تمثل فيه نموال عضويا ل وتطورال تاريخيا ل مستمرال ،وإذا حدث أي خلل
في هذا النمو وفي هذا التطور فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب المال)
. )12،11:2
فالثورة قد تتغير إلى "ل ثورة" بل قد تصبح "ضد الثورة" بطريقة واضحة
خفية ،والمر الذي ل يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أن مجتمعا ل
ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح -ما ضد الثورة -
طبقا ل لمبدأ التناقض تناقضا ل مستمرال .حتى في فترة ثورية نستطيع تتبع آثاره في
تاريخ كل الثورات .بحيث ل يغني أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما ،بل يجب
أن نتتبع حركتها ورقابتها بعد ذلك). )14،13:2
وطالما كانت الرادة الحضارية طوع الفكرة فإننا إزاء عصر التلقين المستبد
بتصوراتنا ومفاهيمنا نواجه انهيار هذه الرادة حتى ل تقوى على احتضان
المصير ،والصراع الفكري يجد إطاره الوسع في البلد المحكومة بشبكة من
اليحاءات ،تدلي بها مراصد الستعمار ،لتصنع متقلب الحداث وسوء منقلبها
حيال كل نهضة فاعلة في عالمنا العربي والسلمي .
فالمشكلة مشكلة أفكار في النهاية ،لننا بها ننظم خطانا في ثبات الديم ،وندفع
طاقتنا في مضاء العزيمة ،ونحشد وسائلنا في وثيق النجاز .
إن لكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها .وخيار العالم الغربي ذي الصول
الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به :نحو الشياء ،بينما
الحضارة العربية السلمية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها سبح خيارها
نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة :نحو الفكار .
والنسان حينما ينظم شبكة علقاته الجتماعية بوحي الفكرة في انبثاقها ،فإنه
يتحرك في مسيرته عبر الشخاص والشياء المحيطة به فيتخذ العالم الثقافي
إطاره في إنجاز هذه المسيرة ويأخذ طابعه تبعا ل للعلقة بين العناصر الثلثة
المتحركة :الشياء ،الشخاص ،الفكار .
فهناك توازن لبد منه بين هذه العناصر الثلثة يسكب مزيجها في قوالب النجاز
الحضاري ،فإذا ما استبد واحد من هذه العناصر وطغى على حساب العنصرين
الخرين فثمة أزمة حقيقية في مسيرة الحضارة تلقي بها خارج التاريخ فريسة
طغيان الشيء أو طغيان الشخص .
ففي بلد متخلف يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته ،تنشأ فيه عقد الكبت
والميل نحو التكديس الذي يصبح في الطار القتصادي إسرافا ل محضا ل .أما في
البلد المتقدم وطبقال لدرجة تقدمه ،فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته وينتج نوعا ل
من الشباع ،إنه يفرض شعورال ل يحتمل من الشؤم البادي من رتابة ما يرى
حوله ،فيولد مي ل
ل نحو الهروب إلى المام الذي يدفع النسان المتحضر دائما ل
إلى تغيير إطار الحياة وفق صرعات الموضة في كل شيء حوله .
لكن طغيان الشخص يؤدي إلى نتائج في الطار السياسي والجتماعي تهدم بنيان
الفكرة حينما تتجسد فيه .وكثيرلا ما تعمد مراصد الرقابة في حركة العالم الثالث
إلى دفع هذا التجاه المرضي إلى نهايته في عقول الجماهير لتحطم الفكرة
البناءة من وراء سقوط الشخاص الذين يمثلونها في النهاية ،وتدفع الجماهير
للبحث عن بديل للفكرة الصلية من الشرق والغرب عبر بطل جديد .
فعدم التوازن في العناصر الثلثة يفضي بنا على انهيار المجتمع ،والمجتمع
العربي السلمي يعاني في الوقت الحاضر بصورة خاصة من هذه التجاهات ،
لن نهضته لم ييخطط لها .ولم ييفكر بها بطريقة تأخذ بإعتبارها عوامل التبديد
والتعويق سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي ،وعلى الغلب الثنين
معا ل .
إن أهمية الفكار في حياة مجتمع معين تتجلى في صورتين :فهي إما ان تؤثر
بوصفها عوامل نهوض بالحياة الجتماعية ،وإما أن تؤثر على عكس ذلك
بوصفها عوامل ممرضة ،تجعل النمو الجتماعي صعبا ل أو مستحيلل .
وهنالك فض ل
ل عن ذلك جانب آخر لهمية الفكار في العالم الحديث :ففي القرن
التاسع عشر كانت العلقات بين المم والشعوب علقات قوة ،وكان مركز المة
يقدر بعدد مصانعها ،ومدافعها ،واساطيلها البحرية ،ورصيدها من الذهب ،ولكن
القرن العشرين قد سجل في هذا الصدد تطورال معلوما ل ،هو أنه قد أعلى من
الفكرة باعتبارها قيمة قومية ودولية .هذا التطور لم تشعر به كثيرال البلدان
المتخلفة ،لن عقدة تخلفها ذاتها قد نصبت في طريقها ضربا ل من الغرام السقيم
بمقاييس القوة أي بالمقاييس القائمة على )الشياء') .
فالنسان المتخلف وبسبب عقدة تخلفه يرد المسافة بين التقدم والتخلف إلى
نطاق )عالم الشياء( ،أو هو بتعبير آخر يرى أن تخلفه متمثل في نقص ماديه
من مدافع وطائرات ومصارف...الخ .
وبذلك يفقد مركب النقص لديه فاعليته الجتماعية ،إذ ينتهي من الوجهة
النفسية إلى التشاؤم كما ينتهي من الوجهة الجتماعية إلى تكديس المشكلت ،
فلكي يصبح مركب النقص لديه ففععالل مؤثرال ينبغي أن يرد النسان تخلفه إلى
مستوى الفكار ل إلى مستوى الشياء ،فإن تطور العالم الجديد دائما ل يتركز
اعتماده على المقاييس الفكرية .
ومشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه الفكار ،
ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة التوجيه ،فهو بصفة عامة قوة في
الساس ،وتوافق في السير ،ووحدة في الهدف ،فكم من طاقات وقوى لم
يتستخدم؛ لننا ل نعرف كيف ينكعتلها ،وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق
هدفها حين زحمتها قوى أخرى صادرة عن المصدر نفسه ،ومتجهة إلى الهدف
نفسه )(67:3
فالتوجيه هو تجنب السراف في الجهد وفي الوقت ،فهناك مليين السواعد
العاملة والعقول المفكرة في البلد السلمية صالحة لن تستخدم في كل وقت ،
والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل المكون من مليين السواعد والعقول ،في
أحسن ظروفه الزمنية والنتاجية .وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ
نحو الهدف المنشود .
فل يكفي مطلقا ل أن ننتج أفكارال ،بل يجب أن نوجهها طبقا ل لمهمتها الجتماعية
التي نريد تحقيقها)(67:3
إننا نرى في حياتنا اليومية جانبا ل كبيرال من الل فاعلية في أعمالنا ،إذ يذهب
جزء كبير منها في العبث وفي المحاولت الهازلة .
وإذا ما أردنا حصرلا لهذه القضية فإننا نرى سببها الصيل في افتقادها الضابط
الذي يربط بين الشياء ووسائلها ،وبين الشياء وأهدافها ،فثقافتنا ل تعرف
مثلها العليا وفكرتنا ل تعرف التحقيق ،وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله
وفي كل خطوة نخطوها )(87:3
إن الذي نقص العربي ليس منطق الفكرة ،ولكن منطق العمل والحركة ،وهو ل
يفكر ليعمل بل ليقول كلما ل مجردال ،بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين
يفكرون تفكيرال مؤثرال ويقولون كلما ل منطقيا ل من شأنه أن يتحول في الحال إلى
عمل ونشاط .
أما في مستوى المجتمع الذي يعيش أزمة ثقافية فإننا نستطيع حصر العديد من
الملحظات ويكفينا لذلك أن نرى بالعين المجردة ما يدور في حياته القتصادية
والسياسية.
إننا لو وضعنا سلما ل للقيم الثقافية جنبا ل إلى جنب مع السلم الجتماعي لقررنا
مبدئي ال أن السلمين يتجهان في التجاه نفسه من السفل إلى العلى أي أن
المراكز الجتماعية تكون تلقائيا ل موزعة حسب الدرجات الثقافية .
وهذه حقيقة نمارسها في حياة كل مجتمع ولو كان يواجه بعض الزمة الثقافية
على شرط أنها لم تبلغ درجة اللرجوع ،أما في المجتمع الذي بلغ هذه
الدرجة ،فإن السلمين ينعكسان ،الواحد بالنسبة للخر إنعكاسا ل تصبح معه
القاعدة الشعبية -على القل بمحافظتها على الخلق – أثرى ثقافيا ل من
قيادتها ،فمن يرقى درجات السلم ويأخذ مكانه ودوره الجتماعي في العالم
المتخلف ليس من أهل الدرجات العلمية الثقافية ،بل من يرضى عليه أولو المر
في السلطة)(94:3
لكن كيف نخلص النسان من الستعمار الثقافي ؟ والذي معناه استمرار
الستعمار السياسي والقتصادي إن النسان المطلوب تغييره من أجل تنشيط
عملية البناء الحضاري ل يمكن تغييره وتخليصه من الدونية باتجاه الخر
المستعمر ،إل إذا هيأنا له مناخا ل تربويا ل متحررال من النفوذ الستعماري وجوال
ثقافيا ل أصيلل .وشعورال متعاليا ل بالشخصية وعلى أي حال فإن الفرد منذ ولدته
في عالم من الفكار والشياء يعتبر معها في حوار دائم ،فالمحيط الثقافي
الداخلي الذي ينام النسان في ثناياه ويصحو ،والصورة التي تجري عليها
حياتنا اليومية يتفكعوين في الحقيقة إطارنا الثقافي الذي يخاطب كل تفصيل فيه
روحنا بلغة معلفزة ،ولكن سرعان ما تصبح بعض عباراتها مفهومة لنا
ولمعاصرينا ،عندما تفسرها لنا ظروف استثنائية تتصل مرة واحدة بعالم الفكار
وعالم الشياء وعالم العناصر ،فإذا بها تكشف عن مضمونها تماما ل كما كشفت
التفاحة لنيوتن عن سر الجاذبية )( 55:3
فالبداع والعطاء لن يكونا إل عندما نترك لعالم الفكار أن يحاول حل ل خفايا عالم
الشياء في هذه الحالة تتوالى الحلول تترى ،وبذلك تقوم النهضة العلمية في
مجتمع ما ،أما إذا كان عالم الفكار مستعارال فسيكون عنده قصور في الكشف ،
وتراوح المور العلمية مكانها .
وإذا أردنا أن ننشئ ذاتا ل جديدة لنسان اليوم في العالم العربي والسلمي ،
فيقتضي ذلك قبل كل شيء تنقية المحيط السروي ،والمدرسي ،والجتماعي
العام ،من الستعارات التي تحمل في طياتها هدفا ل إستعماريا ل تخريبيا ل ،يحاول
زرع التفقير والتجهيل والنحراف في مجتمعاتنا بشتى الوسائل ،وأهمها
استغلل غفلتنا )(222:8
ويتحدد دور ومكانة الفرد في أمته تبعا ل لعلقة المجتمع بالشياء أم بالشخاص
أم بالفكار ،إذ يمكن الشارة إلى أوجه التشابه بين بعض مظاهر النمو العقلي
عند الفرد ،والتطور النفسي – الجتماعي للمجتمع ،وهذا الخير يمر هو أيضا ل
بالعمار الثلثة
-1مرحلة الشيء .
-2مرحلة الشخص .
-3مرحلة الفكرة .
بيد أن النتقال هنا من مرحلة إلى مرحلة أخرى ليس بالوضوح الذي نراه عند
الفرد .فكل مجتمع مهما كان مستواه من التطور له عامله الثقافي المعقد ،ففي
نشاطه المتناغم هنالك تشابك بين العوالم الثلثة :الشياء والشخاص ،
والفكار ،ولكن يظل هنالك دائما ل رجحان لحد هذه العوالم الثلثة ،وبهذا
الرجحان الذي يظهر في سلوك المجتمع وفكره يتميز كل مجتمع عن سواه من
المجتمعات).(36:4
فالمجتمع المتخلف ليس موسوما ل حتما ل بنقص في الوسائل المادية )الشياء( ،
وإنما بافتقاره للفكار ،ويتجلى بصفة خاصة في طريقة استخدامه للوسائل
المتوفرة لديه ،بقدر متفاوت من الفاعلية ،وفي عجزه عن إيجاد غيرها ،
وعلى الخص في أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم طرحها على الطلق ،
عندما يتخلى عن أي رغبة ولو مترددة بالتصدي لها ،أما حاله مع عالم
الشخاص ،فإنه يدور حول شخص الزعيم فيجعل منه وثنا ل ييعبد .
ول خلص لمجتمع من تخلفه إل إذا كان عالم أشياءه وأشخاصه يدور حول
عالم الفكار ،فالثورة حين تخشى أخطاءها ليست بثورة ،وإذا هي اكتشفت خطأ
من أخطائها ثم التفتت عنه فالمر أدهى وأمر .
وفي هذا يقول ماركس :يجب دائما ل أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى ل
تلتهمنا ). (16،15:2
-فإن أي ثورة ،لن تستطيع تغيير النسان إن لم تكن لها قاعدة أخلقية قوية )
. (21:2
-إن الحوار بين المسؤولين والجماهير يعيد الجسر الذي يصل الشعب بالدولة،
وليس غريب ال في هذا المناخ من الثقة المتبادلة أن تتحقق المعجزات ،ولو كان
ثمنها مزيدلا من التقشف لن الصعوبات ل تزال بين عشية وضحاها بعصا
سحرية ) ،(24،23:2وعلينا أن نقدم الواجب قبل أن نطالب بالحقوق .
-أما الحق ...فما أغراها من كلمة ! إنها كالعسل يجذب الذباب ويجتذب
النتفاعيين والوصوليين والنتفاعين النتهازيين بينما كلمة الواجب ل تجتذب
غير النافعين الذين يسعون حقا ل لنهضة مجتمعهم ) .(29:2فالفرد في المجتمع
المتخلف يطالب بحقوقه قبل أن يقوم بواجباته ،بينما أداء الواجب هو الكفيل
الوحيد بالحصول على الحقوق ،فإذا أردت أن تصلح أمر الدولة اصلح نفسك )
(34:2
-2التراب :وهو العنصر الثاني الذي يشكل الحضارة مع النسان والوقت في
فكر مالك ابن نبي .
وحيث يتكلم عن التراب ل يبحث في خصائصه وطبيعته ،ولكن يتكلم عن
التراب من حيث قيمته الجتماعية ،وهذه القيمة الجتماعية للتراب مستمدة من
قيمة مالكيه ،فحينما تكون قيمة المة مرتفعة ،وحضارتها متقدمة ،يكون
التراب غالي القيمة ،وحيث تكون المة متخلفة – كما هو الحال اليوم -يكون
التراب على قدرها من النحطاط ،وذلك بسبب تأخر القوم الذين يعيشون عليه ،
فها هي رمال الصحراء تغزو بشراسة الحقول الخضراء على امتداد الوطن
العربي .فتترك أهلها يتامى بين يدي الصحراء المقفرة )(140:1
وبدهي أنه ل حل لهذه الزمة غير الشجرة ،لكن إذا كان النسان الزارع لهذه
الشجرة أو المؤتمن على رعايتها ،يعيش حالة تصحر داخلي ،فل أمل من
رؤية اللون الخضر مرة ثانية تحت نظر ويد إنسان كهذا .ولنا في سورية
تجربة لوقف التصحر يمكن أن نعتبرها متقدمة ،فسنويا ل يعلن المسؤولون أنه
تم غرس عشرات المليين من الغراس ،لكننا على يقين أن واقع الحال غير
ذلك سواء لعدم العناية المستمرة ،أو لعدم الدقة في الرقم الحصائي.
إن ترابنا العربي ل يزال بكرلا ،رغم كل أشكال النهب التي مورست عليه في
السطح أو في العمق من قبل الخرين ،وعلى الغلب بسبب إهمالنا له وبشكل
عدواني .
-3الوقت :وهو العنصر الثالث في تكوين الحضارة
إن الزمن نهر قديم يعبر العالم ،ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي
يعيش فيها كل شعب؛ والحقل الذي يعمل به وهذه الساعات التي تصبح تاريخا لل
هنا و هناك ؛ قد تصير عدما ل إذا مرت فوق رؤوس ل تسمع خريرها ،وإذا
قسنا الزمن بمقياس الساعات التائهة فالقرون ل تساوي شيئا ل)(59:2
ولكنه نهر صامت حتى إننا ننساه أحيانا ل ،وتنسى الحضارات في ساعات الغفلة
أو نشوة الحظ قيمته التي ل تعوض) ،(145:1وحينما ل يكون الوقت من أجل
الثراء أو تحصيل النعم الفانية ،أي حينما يكون ضروريا ل للمحافظة على
البقاء ،أو لتحقيق الخلود والنتصار على الخطار ،يسمع الناس فجأة صوت
الساعات الهاربة ،ويدركون قيمتها التي ل تعوض ،ففي هذه الساعات ل تهم
الناس الثروة أو السعادة أو اللم ،وإنما الساعات نفسها .فيتحدثون حينئذ عن
)ساعات العمل( ،فهي العملة الوحيدة المصقلة التي ل تبطل ،ول تسترد إذا
ضاعت ،إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع ،وأن يجدها المرء بعد ضياعها ،
ولكن ل تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة ،ول أن تستعيدها إذا مضت
)(146:1
وحظ الشعب العربي والسلمي من الساعات كحظ أي شعب متحضر ،ولكن
عندما يدق الناقوس مناديال الرجال والنساء والطفال إلى مجالت العمل في البلد
المتحضرة ...فأين يذهب الشعب ؟ تلكم هي المسألة المؤلمة ..فنحن في العالم
السلمي نعرف شيئال يسمى )الوقت(! .ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم ،
ولننا ل ندرك معناه ول تجزئته الفنية ؛ لننا ل ندرك قيمة أجزائه من ساعة
ودقيقة وثانية ،ولسنا نعرف إلى الن فكرة )الزمن( الذي يتصل اتصالل وثيقا ل
بالتاريخ ) (146:7وبتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والنتاج ،وهو
معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا ،هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد ،هو
مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط ،في تكوين المعاني والشياء .
فالتاريخ والحياة الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما ،فنحن في
حاجة ملحة إلى توقيت دقيق ،وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا .ويكون
ذلك بتحديد المنطقة التي ترويها ساعات معينة ،من الساعات الربع والعشرين
التي تمر على أرضنا يوميا ل )(147:1
إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ ،ل يجب أن يضيع هباء ،كما يهرب الماء من
ساقية خربة .ول شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب
العربي السلمي تماما ل قيمة هذا المر .ولكن بأية وسيلة تربوية ؟
إنه من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب! )
(147:1
إن شعب ال هذه حاله أحوج ما يكون إلى قدوة ،وطنية ،قيادية ،حازمة في تطبيق
القانون على الجميع ،ول تسمح لي انحراف عن مشروع النهضة التي تعلنه
ريثما يعتاد الفراد على هذا السلوك في حياتهم اليومية فتصبح ساعات العمل
حقيقية ومن خلل إنسان يستطيع استغلل الوقت على أكمل وجه نستطيع أن
نقول :أننا بدأنا نهضة عملية علمية حقيقية وفق خوارزميات التغيير الجتماعي
التي تناسبنا ،و النهضة ل تقوم إل بأيدي التقياء و الذكياء.
وقد أمعن مالك بن نبي في الحفر حول مشكلت التخلف المزمنة متجاوزا
الظواهر الطافية على السطوح إلى الجذور المتغلغلة في العماق،وباحثا عن
السنن والقوانين الكفيلة بتحول الشعوب من حالة العجز إلى القدرة والفعالية،
ومن مشكلة الستعمار إلى مرض القابلية للستعمار ،ومن حالة تكديس الشياء
إلى حالة البناء ،ومن المطالبة بالحقوق إلى القيام بالواجب أول ،والنتقال من
عالم الشياء والشخاص إلى عالم الفكار التي بها نبدأ بحل مشكلة التخلف،
ويجب أن نصل إلى قناعة حتمية بأن مفاتيح حل المشكلت هي في الذات ل عند
الخر