Professional Documents
Culture Documents
بإحسان الحمد هلل حمداً حمداً ،والصالة والسالم على أشرف خلق اهلل وعلى آله وصحبه ومن تبعهم
إلى يوم الدين .أما بعـد:
لقد حذرنا ربنا-عز وجل -من هذه الصفة الذميمة وهي :األمن من مكره ،وحكى اهلل -تعالى -ذلك
عن أهل الخسران ،فدل ذلك أنها ليست من صفات أهل اإليمان ،فوجب الحذر من ذلك والخوف من
مكر اهلل -تعالى -وغضبه وبطشه وعقابه .
واألمن من مك ر اهلل -تع الى -طري ق ي ؤدي إلى جهنم وبئس المص ير ،وإذا أمن اإلنس ان من مك ر اهلل
-تعالى -ولم يراقبه في أقواله وأفعاله ،فيخشى عليه من الخسارة العاجلة واآلجلة كما قال -تعالى:-
{أَفَأ َِمنُواْ م ْكر الل ِّه فَالَ يأْمن م ْكر الل ِّه إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ
اس ُرو َن} ( )99سورة األعراف. ُْ ََُ َ َ َ َ
وسوف نقف مع هذا الموضوع في النقاط اآلتية:
أوالً :معنى األمن من مكر اهلل:
ق ال ابن حج ر-رحم ه اهلل :-األمن من مك ر اهلل يتحق ق باالسترس ال في المعاص ي م ع االتك ال على
1
الرحمة .
ق ال ال راغب-رحم ه اهلل : -مك ر اهلل -تع الى :-ص فة حقيق ة على م ا يلي ق بجالل اهلل وكمال ه ،ومن
لوازمها إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدنيا ،ولذلك قال أمير المؤمنين علي -رضي اهلل عنه :-من
وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه ُِم َكر به فهو مخدوع في عقله 2.
ثانياً :من مضار األمن من مكر اهلل:
-1األمن يجعل المؤمن غافالً عن طاعة اهلل ورضوانه.
-2األمن من مكر اهلل سبب لدخول النار.
-3ال يأمن من مكر اهلل إال القوم الخاسرون.
-4أنه كبيرة من كبائر الذنوب.
ثالثاً :حكم األمن من مكر اهلل:
تعالى(-ع ّد ذلك كبيرة هو ما
َ األمن من مكر اهلل -تعالى -كبيرة من الكبائر ،قال ابن حجر -رحمه اهلل
علمت من الوعيد الشديد الذي فيه ،بل جاء تسميته أكبر الكبائر .روى ابن أبي حاتم
َ أطبقوا عليه؛ لما
في تفس يره والبزار عن ابن عباس-رض ي اهلل عنهما :-أن رسول اهلل -صلى اهلل عليه وس لم -س ئل ما
الكب ائر؟ فق ال( :الش رك باهلل ،والي أس من روح اهلل ،واألمن من مك ر اهلل ،وه ذا أك بر الكب ائر) .قي ل:
3
واألشبه أن يكون موقوفاً ،وبكونه أكبر الكبائر صرح ابن مسعود كما رواه عبد الرزاق والطبراني.
وممن ع ده من الكب ائر اإلم ام ال ذهبي -رحم ه اهلل -في كتاب ه (الكب ائر) الكب يرة الثامن ة والس تون .4
وكذلك ابن تيمية وابن القيم وغيرهم.
رابعاً :النصوص الواردة في ذم األمن من مكر اهلل:
ِ ِ ِ ِ ِ
ْس نَا قال -تعالى{ :-أَفَأَم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى أَن يَأْتَي ُه ْم بَأ ُ
ْسنَا َبيَاتاً َو ُه ْم نَآئ ُمو َن* أ ََو أَم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى أَن يَأْتَي ُه ْم بَأ ُ
اس ُرو َن}.5 ضحى و ُهم يلْعبو َن * أَفَأ َِمنُواْ م ْكر الل ِّه فَالَ يأْمن م ْكر الل ِّه إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ
ُْ ََُ َ َ َ َ ُ ً َ ْ َ َُ
ق ال ابن جري ر -رحم ه اهلل( :-يق ول تع الى ذك ره :أف أمن ي ا محم د ه ؤالء ال ذين يك ذبون اهلل ورس وله
ويجحدون آياته استدراج اهلل إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة األبدان ورخاء العيش كما
اس تدرج ال ذين قص عليهم قصص هم من األمم قبلهم ،ف إن مك ر اهلل ال يأمن ه -يق ول :ال ي أمن ذل ك أن
يك ون اس تدراجاً ،م ع مق امهم على كف رهم وإص رارهم على معص يتهم( -إال الق وم الخاس رون) وهم
6
الهالكون) أ.هـ
اب ِم ْن َح ْي ُ
ث ِ ات أَن يَ ْخ ِس َ
ف اللّهُ بِ ِه ُم األ َْر َ
ض أ َْو يَأْتَي ُه ُم ال َْع َذ ُ
الس يِّئَ ِ ِ َّ ِ
وقال -تعالى{ :-أَفَ أَم َن الذ َ
ين َم َك ُرواْ َّ
الَ ي ْش عرو َن * أَو يأْ ُخ َذهم فِي َت َقلُّبِ ِهم فَم ا هم بِمع ِج ِزين* أَو يأْ ُخ َذهم َعلَى تَ َخ ُّو ٍ
ف فَ ِإ َّن َربَّ ُك ْم لَ ر ُؤ ٌ
وف َ ْ َ ُْ ْ َ ُ ُْ ْ َ ُْ َ ُُ
يم}.7 ِ
َّرح ٌ
قال ابن القيم -رحمه اهلل-في (الفوائد ص:)160
وأما المكر الذي وصف به نفسه فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله فيقابل مكرهم السيئ بمكره
الحسن ،فيكون المكر منهم أقبح شيء ،ومنه أحسن شيء؛ ألنه عدل ومجازاة.
وأما خوف أوليائه من مكره فح ّق ،فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيرون إلى الشقاء،
فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته.
وقوله( :أفأمنوا مكر اهلل) إنما هو في حق الفجار والكفار ،ومعنى اآلية :فال يعصي اهلل ويأمن من مقابلة
اهلل له على مكر السيئات بمكره به إال القوم الخاسرون.
والذي يخافه العارفون باهلل من مكره :أن يؤخر عنهم عذاب األفعال فيحصل منهم نوع اغترار ،فيأنسوا
بالذنوب ،فيجيئهم العذاب على غرة وفترة.).
خامساً :اآلثار الواردة في ذم األمن من مكر اهلل:
-1قال عبد اهلل بن مسعود -رضي اهلل عنه( :-إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف
8
أن يقع عليه ،وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا !) .
ط الن اس من رحم ة اهلل
-2وق ال علي ابن أبي ط الب -رض ي اهلل عن ه( :-إنم ا الع الم ال ذي ال يُقنِّ ُ
ؤمنهم من مكر اهلل).9
-تعالى -وال يُ ِّ
10
-3وقال الحسن البصري -رحمه اهلل -عن النفاق( :ما خافه إال مؤمن ،وال أمنه إال منافق).
-4وق ال الحس ن البص ري -أيض اً( :-الم ؤمن يعم ل بالطاع ات وه و مش فق َو ِج ٌل خ ائف ،والف اجر
11
يعمل بالمعاصي وهو آمن).
-5وعن إسماعيل بن رافع -رحمه اهلل -قالِ :من األمن ِمن مكر اهلل إقامة العبد على الذنب يتمنى
12
على اهلل المغفرة .
اللهم إن ا نع وذ ب ك من األمن من مك رك ،ونس ألك نفس اً طيب ة تع رف المع روف وتفعل ه ،وتع رف المنك ر
مرد مخ ٍز أو فاضح،
وتجتنبه ،اللهم إنا نعوذ بك من قول بال عمل ،ونعوذ بك من سوء الخاتمة ،ومن ٍّ
اللهم إنا نسألك بصيرة في الدين ،وحسن ظن مع حسن عمل ،ونعوذ بك من أم ٍن مع سوء عمل ،اللهم
أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ،وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا ،وأصلح آخرتنا التي فيها معادنا،
واجعل الحياة زياة لنا في كل خير ،واجعل الموت راحة لنا من كل شر ..إنك أنت العزيز الحكيم.
وآخر دعـ ـ ــوانا أن الحمــد هلل رب العالمين.
.فتح المجيد ص [1] 415
.تفسير ابن سعدي ص [2] 276
.صحيح البخاري ص 579برقم ،3030وصحيح مسلم ص 723برقم [3] 1739
.القول المفيد شرح كتاب التوحيد ( [4] )248 /2
.فتح المجيد ص [5] 416
.فتح المجيد ص [6] 416
.تفسير ابن كثير ( [7] )355 /6
[8] ( 10/ 459 - 460).
.ص 177برقم [9] 983
.فتح المجيد ص [10] 419 - 417
.ص 1153برقم [11] 2877
سنن الترمذي ( [12] - 79 1/3
دِين 1األلباني رحمه هللا في صحيح ُ
ححه الشيخ ناصر ال ّ
ص 504برقم ،3175وص َّ
)80.برقم 3401
رابط الموضوعhttps://www.alukah.net/sharia/0/24170/#ixzz65bi9rXK6 :
)(2/62
الضمير يعود على أهل القرى ،ألن ما قبلها قوله تعالى { :أفأمن أهل القري
أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القري أن يأتهم بأسنا ضحى
وهم يلعبون * أفأمنوا مكر اهلل فال يأمن مكر اهلل إال القوم الخاسرون }
[ .األعراف ]97،98،99 :
فقوله { :وهم نائمون } يدل على كمال األمن ألنهم في بالدهم ،وأن الخائف ال
ينام ،وقوله { :ضحى وهم يلعبون } يدل أيضا على كمال األمن والرخاء
وعدم الضيق ،ألنه لو كان عندهم ضيق في العيش لذهبوا يطلبون الرزق
.والعيش وما صاروا في الضحى -في رابعة النهار -يلعبون
واالستفهامات هنا كلها لإلنكار والتعجب من حال هؤالء ،فهم نائمون وفي
رغد ،ومقيمون على معاصي اهلل وعلى اللهو ،ذاكرون لترفهم ،غافلون عن
ذكر خالقهم ،فهم في الليل نوم ،وفي النهار لعب ،فبين اهلل -عز وجل -أن
هذه من مكره بهم ،ولهذا قال { :أفأمنوا مكر اهلل } ،ثم ختم اآلية بقوله :
{ فال يأمن مكر اهلل إال القوم الخاسرون } فالذي يمن اهلل عليه بالنعم والرغد
.والترف وهو مقيم على معصيته يظن أنه رابح وهو في الحقيقة خاسر
فإذا أنعم اهلل عليك من كل ناحية :أطعمك من جوع ،وآمنك من خوف ،
وكساك من عري ،فال تظن أنك رابح وأنت مقيم على معصية اهلل ،بل أنت
.خاسر ،ألن هذا من مكر اهلل بك
قوله { :إال القوم الخاسرون } .االستثناء للحصر ،وذلك ألن ما قبله مفرغ له
، .فالقوم فاعل ،والخاسرون صفتهم
وفي قوله تعالى { :فأمنوا مكر اهلل } دليل على أن اهلل مكرا ،والمكر هو
التوصل إلى اإليقاع بالخصم من حيث ال يشعر ،ومنه ما جاء في الحديث " :
).الحرب[ خدعة " (1)1
فإن قيل :كيف يوصف اهلل بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم ؟
__________
البخاري :كتاب الجهاد /باب الحرب خدعة ،ومسلم :كتاب الجهاد (1) /
.باب جواز الخداع في الحرب
)(2/63
قيل :إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر ،وأنه غالب على خصمه
،ولذلك ال يوصف اهلل به على اإلطالق ،فال يجوز أن تقول :إن اهلل ماكر ،
وإ نما تذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه مدحا ،مثل قوله تعالى { :ويمكرون
ويمكر اهلل } [ األنفال ، ] 30 :وقال تعالى { :ومكروا مكرا ومكرنا مكرا
وهم ال يشعرون } [النمل ، ] 50 :ومثل قوله تعالى { :فأمنوا مكر اهلل }
[ األعراف ، ]99 :وال تنفي عنه هذه الصفة على سبيل اإلطالق ،بل أنها في
المقام التي تكون مدحا يوصف بها وفي المقام التي ال تكون مدحا ال يوصف
.بها
.وكذلك ال يسمى اهلل بها ،فال يقال :إن من أسماء اهلل الماكر
وأما الخيانة ،فال يوصف اهلل بها مطلقا ألنها ذم بكل حال ،إذ إنها مكر في
موضع االئتمان ،وهو مذموم ،قال تعالى { :وإ ن يريدوا خيانتك فقد خانوا اهلل
.من قبل فأمكن منهم } [ األنفال ، ] 71 :ولم يقل :فخانهم
وأما الخداع ،فهو كالمكر يوصف به حيث يكون مدحا ،لقوله تعالى { :إن
المنافقين يخادعون اهلل وهو يخادعهم } [ النساء ، ] 142 :والمكر من الصفات
.الفعلية ،ألنها تتعلق بمشيئة اهلل -سبحانه
:ويستفاد من هذه اآلية
الحذر من النع التي يجلبها اهلل للعبد لئال تكون استدراجا ،ألن كل نعمة فلله
عليك وظيفة شكرها ،وهي القيام بطاعة المنعم ،فإذا لم تقم بها مع توافر النعم
، .فاعلم أن هذا من مكر اهلل
:تحريم األمن من مكر اهلل ،وذلك لوجهين
.األول :أن الجملة بصيغة االستفهام الدال على اإلنكار والتعجب
.الثاني :قوله تعالى { فال يأمن مكر اهلل إال القوم الخاسرون }
.وقوله { :ومن يقنط من رحمة ربه إال الضالون } [ .الحجر ] 56 :
.الموضوع الثاني مما اشتمل عليه هذا الباب القنوط من رحمة اهلل
.واستدل المؤلف له بقوله تعالى { :ومن يقنط من رحمة ربه }
)(2/64
اسم استفهام ،ألن الفعل بعدها مرفوع ،ثم إنها لم تكن لها جواب } : ،من {
والقنوط :أشد البأس ،ألن اإلنسان يقنط ويبعد الرجاء واألمل ،بحيث يستبعد
.حصول مطلوبه أو كشف مكروبة
قوله { :من رحمة ربه } .هذه رحمة مضافة إلى الفاعل ومفعولها محذوف ،
.والتقدير ( رحمة ربه إياه )
قوله { :إال الظالمون } .إال أداة حصر ،ألن االستفهام في قوله { :ومن يقنط
} .مراد به النفي ،و { الضالون } فاعل يقنط
والمعنى ال يقنط من رحمة اهلل إال الضالون ،والضال :فاقد الهداية ،التائه
الذي ال يدري ما يجب هلل سبحانه ،مع أنه سبحانه قريب الغير ،ولهذا جاء في
الحديث " :عجب ربنا من قنوط عباده ،وقرب غيره ،ينظر إليكم أزلين
.قنطين ،فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب " ()1
وأما معنى اآلية ،فإن إبراهيم عليه السالم لما بشرته المالئكة بغالم عليم قال
لهم { :أبشر تموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون * قالوا بشرنك بالحق فال
تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة اهلل إال الضالون } [ الحجر :
]56-54 .
فالقنوط من رحمة اهلل ال يجوز ،ألنه سوء ظن باهلل -عز وجل ،وذلك من
:وجهين
األول :أنه طعن في قدرته سبحانه ،ألن من علم اهلل على كل شيء قدير لم
.يستبعد شيئا على قدرة اهلل
الثاني :أنه طعن في رحمته سبحانه ،ألن من علم أن اهلل رحيم ال يستبعد أن
.برحمة اهلل سبحانه ،ولهذا كان القانط من رحمة اهلل ضاال
__________
اإلمام أحمد في " مسنده " ( ، ) 12 ،4/11وابن ماجة ( المقدمة (1) ) 1/64 ،
،ابن أب عاصم في " السنة " ( ، )554واآلجري في " الشريعة " (ص )95قال
.الشيخ اإلسالم ابن تيميه " :حديث حسن " ( الوسطية " ،ص )13
)(2/65
وال ينبغي لإلنسان إذا وقع في كربة أن يستبعد حصول مطلوبه أو كشف
مكروبة ،وكم من إنسان وقع في كربة وظن أن ال نجاة منها ،فنجاه اهلل
سبحانه :إما بعمل صالح سابق مثل ما وقع ليونس عليه السالم ،قال تعالى { :
فلوال أنه من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } [ الصافات :
، ]144أو بعمل الحق ،وذلك كدعاء الرسول -صلى اهلل عليه وسلم -يوم
.بدر ( )1وليلة األحزاب( ، )2وكذلك أصحاب الغار()3
وتبين مما سبق أن المؤلف رحمة اهلل أراد أن يجمع اإلنسان في سيره إلى اهلل
تعالى بين الخوف فال يأمن مكر اهلل ،وبين الرجاء[ فال يقنط من رحمته ،
فاألمن من مكر اهلل ثلم في جانب الخوف ،والقنوط من رحمته ثلم في جانب
.الرجاء
وعن ابن عباس ،أن رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -سئل عن الكبائر ؟
.فقال " :الشرك باهلل ،واليأس من روح اهلل ،واألمن من مكر اهلل " ()4
__________
خاري :كتاب المغازي /باب قوله تعالى ( :إذا تستغيثون ربكم (1) ، ) ..
.ومسلم :كتاب الجهاد /باب اإلمداد بالمالئكة في غزوة بدر
البخاري :كتاب المغازي /باب غزوة الخندق ،ومسلم :كتاب الجهاد (2) /
.باب استحباب الدعاء بالنصر
بالبخاري :كتاب األنبياء /باب حديث الغار ،ومسلم كتاب الذكر والدعاء )(3
/.باب قصة أصحاب الغار
البراز كما في " كشف األستار " ( ، )106وابن أبي حاتم في " التفسير " )(4
" .كما في " الدر المنشور " ( ، )2/148وقال " :إسناده حسن
" .وقال الثيثمي ( " : ) 1/104رواء البزار والطيرني ،ورجاله موثقون
)(2/66
قوله :في حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما " :أن رسول اهلل -صلى اهلل
عليه وسلم -سئل عن الكبائر " .جمع كبيرة ،والمراد بها :كبائر الذنوب ،
وهذا السؤال يدل على أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر ،وقد دل على ذلك
القرآن ،قال تعالى { :إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }
[النساء ، ] 31 :وقال تعالى { الذين يجتنبون كبائر اإلثم والفواحش } [النجم :
، ] 32 .والكبائر ليست على درجة واحدة ،فبعضها أكبر من بعض
واختلف العلماء :هل هي معدودة أو محدودة ؟
فقال بعض أهل العلم :إنها معدودة ،وصار يعددها ويتتبع النصوص الواردة
.في ذلك
وقيل إنها محدودة ،وقد حدها شيخ اإلسالم ابن تيميه رحمة اهلل ،فقال " :كل
ما رتب عليه عقوبة خاصة ،سواء كانت في الدنيا أو اآلخرة ،وسواء كانت
.بفوات محبوب أو بحصول مكروه " ،وهذا واسع جدا يشمل ذنوبا كثيرة
:ووجه ما قاله :أن المعاصي قسمان
قسم نهي عنه فقط ولم يذكر عليه وعيد ،فعقوبة هذا تأتي بالمعنى العام
للعقوبات ،وهذه المعصية مكفرة بفعل الطاعات ،كقوله -صلى اهلل عليه وسلم
" : -الصلوات[ الخمس ،والجمعة إلى الجمعة ،ورمضان إلى رمضان كفارة
لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " ( .)1وكذلك ما ورد في العمرة إلى العمرة (،)2
.والوضوء من تكفير الخطايا ( ،)3فهذه من الصغائر
وقسم رتب عليه عقوبة خاصة ،كاللعن ،أو الغضب[ ،أو التبرؤ من فاعله ،
أو الحد في الدنيا ،أو نفي اإليمان ،وما أشبه ذلك ،فهذه كبيرة تختلف في
.مراتبها
والسائل في هذا الحديث إنما قصده معرفة الكبائر ليجتنبها ،خالفا لحال كثير
.من الناس اليوم حيث يسأل ليعلم فقط ،ولذلك نقصت بركة علمهم
__________
..مسلم :كتاب الطهارة /باب الصلوات الخمس )(1
البخاري :كتاب العمرة /باب وجوب العمرة وفضلها ،ومسلم :كتاب )(2
.الحج /باب فضل الحج والعمرة
.مسلم :كتاب الطهارة /باب فضل الوضوء )(3
)(2/67
قوله " :الشرك باهلل " .ظاهر اإلطالق :أن المراد به الشرك األصغر واألكبر
،وهو الظاهر ،ألن الشرك األصغر أكبر من الكبائر ،قال ابن مسعود " :ألن
أحلف باهلل كاذبا أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقا " ( ،)1وذلك ألن سيئة
.الشرك أعظم من سيئة الكذب ،فدل على أن الشرك من الكبائر مطلقا
.والشرك باهلل بتضمن الشرك بربو بيته ،أو بألوهيته ،أو بأسمائه وصفاته
قوله " :اليأس من روح اهلل" .اليأس :فقد الرجاء ،والروح بفتح الراء قريب
من معنى الرحمة ،وهو الفرج والتنفيس ،واليأس من روح اهلل من كبائر
.الذنوب لنتائجه السيئة
قوله " :األمن من مكر اهلل " .بأن يعصي اهلل مع استدراجه بالنعم ،قال تعالى
{ :والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث ال يعلمون * وأملي لهم إن كيدي
.متين } [ األعراف ] 183 -182 :
وظاهر هذا الحديث :الحصر ،وليس كذلك :ألن هناك كبائر غير هذه ولكن
الرسول -صلى اهلل عليه وسلم -يجيب كل مسائل بما يناسب حاله ،فلعله
رأي هذا السائل عنده شيء من األمن من مكر اهلل أو اليأس من روح اهلل ،
فأراد أن يبين له ذلك وهذه مسألة ينبغي أن يفطن لها اإلنسان فيما يأتي من
النصوص الشرعية مما ظاهره التعارض ،فيحمل كل واحد منها علي الحال
.المناسبة ليحصل التآلف بين النصوص الشرعية
وعن ابن مسعود ،قال " :أكبر الكبائر :اإلشراك باهلل واألمن من مكر اهلل ،
.والقنوط من رحمة اهلل ،واليأس من روح اهلل " .رواه عبد الرزاق ()2
قوله في أثر ابن مسعود " :اإلشراك باهلل " :هذا أكبر الكبائر ،ألنه انتهاك
ألعظم الحقوق ،وهو حق اهلل تعالى الذي أوجدك وأعدك وأمدك ،فال أحد أكبر
.عليك نعمة من اهلل تعالى
.قوله " :األمن من مكر اهلل " .سبق شرحه
__________
تقدم (ص(1) )606
عبد الرزاق في " المصنف " ( ، )459 /10وابن جرير ((2) ، )5/26
.والطبراني في " الكبير " ()5783
)(2/68
قوله " :القنوط من رحم اهلل واليأس من روح اهلل " .المراد بالقنوط :أن
يستبعد رحمة اهلل ويستبعد حصول المطلوب ،والمراد باليأس هنا أن يستبعد
اإلنسان زوال المكروه ،وإ نما قلنا ذلك ،لئال يحصل تكرار في كالم ابن
.مسعود
والخالصة :أن السائر إلى اهلل يعتريه شيئان يعوقانه عن ربه ،وهما األمن من
مكر اهلل ،والقنوط من رحمة اهلل ،فإذا أصيب بالضراء أو فات عليه ما يجب ،
تجده أن لم يتداركه ربه يستولي عليه القنوط ويستبعد الفرج وال يسعى
ألسبابه ،وأما األمن من مكر اهلل ،فتجد اإلنسان مقيما على المعاصي مع توافر
.النعم عليه ،ويرى أنه على حق فيستمر في باطله ،فال شك أن هذا استدراج
***
:فيه مسائل
األولى :تفسير آية األعراف .الثانية :تفسير آية الحجر[ .الثالثة :شدة الوعيد
.فيمن أمن مكر اهلل .الرابعة :شدة الوعيد في القنوط
:فيه مسائل
األولى :تفسير آية األعراف .وهي قوله تعالى { :فأمنوا مكر اهلل فال يأمن
.مكر اهلل إال القوم الخاسرون } ،وقد سبق تفسيرها
الثانية :تفسير آية الحجر .وهي قوله تعالى { :ومن يقنط م رحمة ربه إال
.الضالون } ،وقد سبق تفسيرها
الثالثة :شدة الوعيد فيمن أمن مكر اهلل .وذلك بأنه من أكبر الكبائر ،كما في
.اآلية والحديث ،وتؤخذ من اآلية األولى ،والحديثين
.الرابعة :شدة الوعيد في القنوط ،تؤخذ من اآلية الثانية والحديثين
عناصر الدرس
اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ
اس ُرو َن). * قوله :باب قول اهلل تعالى( :أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ
اهلل فَالَ يأْمن م ْكر ِ
ُْ ََُ َ َ َ َ
* مناسبة الباب لكتاب التوحيد.
* بيان معاني مفردات اآلية.
ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه إِالَّ الضَّآلُّو َن) ….
ال َو َمن َي ْقنَ ُ
* قوله( :وقوله( :قَ َ
* تعريف ((المكر)) ،و ((القنوط)).
* قوله( :عن ابن عباس رضي اهلل عنهما ،أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سئل عن
الكبائر ،فقال( :الشرك باهلل ،واليأس من روح اهلل ،واألمن من مكر اهلل).
* مناسبة الحديث للباب ،وذكر ما يستفاد منه.
* قوله :وعن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال( :أكبر الكبائر :اإلشراك باهلل ،واألمن من مكر
اهلل ،والقنوط من رحمة اهلل ،واليأس من روح اهلل) رواه عبد الرزاق.
* مناسبة الحديثين للباب ،وذكر ما يستفاد منها.
* قوله( :فيه مسائل.):
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد.
قال شيخ اإلسالم محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى :في ضمن أبواب ((كتاب
اس ُرو َن}) اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ التوحيد))( .باب قول اهلل تعالى{ :أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ
اهلل فَالَ يأْمن م ْكر ِ
ُْ ََُ َ َ َ َ
هذا الباب هو الباب الرابع والثالثون( ،باب قول اهلل تعالى{ :أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ
اهلل فَالَ يَأ َْم ُن َم ْك َر َ َ
اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ
اس ُرو َن}). ِ
ُْ
( )76/1
مناسبة الباب للتوحيد لكتاب التوحيد أراد المصنف رحمه اهلل تعالى بهذا الباب التنبيه على
أن األمن من مكر اهلل والقنوط من رحمة اهلل من أعظم الذنوب ،وذكر كبيرتين من أعظم
الكبائر وهما :األمن من مكر اهلل ،والقنوط من رحمة اهلل .وأن كل منهما يُنافي كمال
التوحيد ،قد ينافي التوحيد من أصله ،وقد ينافي كمال التوحيد .وأن يجب على المسلم أن
وباب يتعلق بالخوف وهذا أشبه ما
باب يتعلق بالمحبة ٌ
ومر معنا ٌ
يجمع بين الخوف والرجاءّ ،
شرعا وجوبًا أن يجمع بين
يكون بما يتعلق بالرجاء ،ليدل على أن المسلم يجب عليه ً
المنزلتين منزلة الخوف والرجاء ،فال ُيغَلِّ ُ
ب الخوف على الرجاء وال العكس ،وسبق بيان
ظن
موجزا ،قال في ((المفردات)) :الرجاء ٌ حقيقة الخوف ،وأما الرجاء فنقول فيه قول ً
ظن يقتضي ظن .إذًا هو محله القلب ،وهذه أعمال القلوب ٌّ يقتضي حصول ما فيه مسرة ٌّ
{ما لَ ُك ْم اَل َت ْر ُجو َن لِلَّ ِه َوقَاراً} [نوح ]13 :قيل :ما لكم
حصول ما فيه مسرة .وقوله تعالىَّ :
{ما لَ ُك ْم اَل َت ْر ُجو َن لِلَّ ِه
ال تخافون .يعني أُطلق الخوف بمعنى الرجاء والعكس كذلكَّ ... ،
سر الرجاء هنا بالخوف ،ووجه ذلك أن الرجاء والخوف وقَاراً} ما لكم ال تخافون ٍ
حينئذ فُ ِّ َ
يتالزمان كل منهما مالزم لآلخر ،ال يوجد الخوف الصحيح إال مع الرجاء ،وال يوجد
الرجاء الصحيح إال مع الخوف ،ووجه ذلك أن الرجاء والخوف يتالزمان قال تعالى... :
ِ ِ
اهلل ما الَ يرجو َن} [النساء ]104 :فالرجاء ٍ
حاد ،قال ابن القيم رحمه اهلل {وَت ْر ُجو َن م َن َ َ ْ ُ
َ
تعالى :الرجاء ٍ
حاد يحدوا القلوب إلى بالد المحبوب وهو اهلل جل وعال والدار اآلخرة
ب لها السير .والفرق بين الرجاء والتمني أن التمني يكون مع الكسل يعني وعمل
ويُطَيِّ ُ
القلب لكن يكون مع الكسل ،التمني يكون مع الكسل ،وال يسلك بصاحبه طريق الجد
قلبي إال أن
عمل ٌواالجتهاد .والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل ،أي كل منهما ٌ
التمني ال يكون معه بذل جهد إنما يكون مع الكسل والتراخي ،وأما الرجاء فال بد من بذل
الجهد .قال ابن القيم :ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء ال يصح إال مع العمل ،ال يصح
راج إال مع العمل ،وأما دون عمل فهو تمني ألنه يكون كسالً ،فعالمة صحة أن يقال هذا ٍ
صالِحاً َواَل يُ ْش ِر ْك ِ ِ
الرجاء حسن الطاعة .قال تعالى{ :فَ َمن َكا َن َي ْر ُجو ل َقاء َربِّه َفلَْي ْع َم ْل َع َمالً َ
صالِحاً} إذًا ِ ِ
َحداً} [الكهف{ ،]110 :فَ َمن َكا َن َي ْر ُجو ل َقاء َربِّه َفلَْي ْع َم ْل َع َمالً َ
بِ ِعب َ ِ ِ
ادة َربِّه أ ََ
عند عدم العمل الصالح يدل على انتفاء الرجاء .إذًا عالمة صحة الرجاء هو العمل وحسن
فحينئذ انتفى الرجاء .قال رحمه اهلل تعالى: ٍ الطاعة ،فإذا لم يكن عمل وال حسن ٍ
طاعة ٌ
والرجاء ثالثة أنواع:
غرور مذموم .يعني منه ما هو محمود ،ومنه ما هو مذموم كالخوف
نوعان محمودان ،ونوعٌ ٌ
منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم ،والتوكل منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم.
( )76/2
( )76/3
ثم قال رحمه اهلل تعالى :فكل ٍ
محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء ،بل ال تكون المحبة
المحب
ِّ صحيحة إال إذا لزم منها أو تفرع عنها الخوف والرجاء ،وعلى قدر تمكنها من قلب
يشتد خوفه ورجاؤه .ثم قال رحمه اهلل تعالى :وبالجملة فالرجاء ضروري للمسلم لو فارقه
ٌ
أحوال :إما أن يكون دائر بين ٍ
ذنب يرجو غفرانه يعني المسلم له لحظةً لتلف أو كاد ،فإنه ٌ
وعيب يرجو إصالحهٍ مذنبًا ،وإما أن يكون غير ذلك ،فإنه دائر بين ٍ
ذنب يرجو غفرانه،
ٍ
وقرب من اهلل ومنزلة عنده ٍ
واستقامة يرجو حصولها ودوامها، صالح يرجو قبوله،
وعمل ٍٍ
يرجو وصوله إليها ،وال ينفك أح ٌد من السالكين عن هذه األمور أو بعضها .ثم قال :والرجاء
ٍ
حينئذ من لم من األسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه ،بل هو من أقوى األسباب.
يجعل لألسباب منزلةً -كما مر في التوكل ٍ -
حينئذ ال يتم عنده الرجاء البتة.
إذًا مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد أراد المصنف أن يبين أن ثَ َّم ترابط بين الرجاء
والخوف ،وأنه ال يصح كمال التعبد هلل تعالى إال أن يجمع للمسلم إال أن يجمع بين الخوف
والرجاء ،فأراد بهذه الترجمة التنبيه على الجمع بين مقام الرجاء والخوف إذ المؤمن يسير
إلى اهلل تعالى بين الخوف والرجاء كما دل على ذلك الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف
األمة ،فال يغَلِّب جانب الرجاء ٍ
حينئذ يأمن مكر اهلل ،وال يغلب جانب الخوف فييأس من ُ ُ
روح اهلل تعالى .قال بعض السلف :من عبد اهلل بالحب وحده فهو زنديق ،ومن عبد اهلل
بالخوف فهو حروري ،ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ،ومن عبده بالحب والخوف
مؤمن موح ٌد .وقد مر شرح هذه الجملة .وهذا هو مقام األنبياء والصديقين والرجاء فهو ٌ
ِ كما قال تعالى{ ... :أُولَئِ َ َّ ِ
ين يَ ْدعُو َن َي ْبَتغُو َن إِلَى َربِّ ِه ُم ال َْوسيلَةَ أ َُّي ُه ْم أَق َْر ُ
ب َو َي ْر ُجو َن ك الذ َ
ك َكا َن َم ْح ُذوراً} [اإلسراء ]57 :فجمع بين األمرين، َر ْح َمتَهُ َويَ َخافُو َن َع َذابَهُ إِ َّن َع َذ َ
اب َربِّ َ
{ويَ َخافُو َن َع َذابَهُ} وهذا هو الخوف ،والواو
{ي ْر ُجو َن َر ْح َمتَهُ} وهذا هو الرجاء َ ...
قولهَ :
هنا لمطلق الجمع .وذكر الوسيلة وهي التقرب إليه جل وعال ٍ
حينئذ ذكر أركان التعبد
الثالثة ،وهي :المحبة ،والخوف ،والرجاء .فابتغاء الوسيلة إليه هو التقرب بحبه وطاعته ،ثم
ذكر الرجاء والخوف وهذه أركان اإليمان ،أركان التعبد هلل تعالى ،وكلما قَ ِو َ
ي إيمان العبد
ويقينه قَ ِو َ
ي خوفه ورجاؤه مطل ًقا ،فهذه أعمال القلوب متالزمة وبعضها ينبني على بعض.
َّ ِ ِ ِ ِِ
شى اللَّهَ م ْن عبَاده الْعُلَ َماء} [فاطر ،]28 :وقال سبحانه{ :إِ َّن الذ َ
ين ُهم قال تعالى{ :إِنَّ َما يَ ْخ َ
ين ُهم بَِربِّ ِه ْم اَل يُ ْش ِر ُكو َن َّ ِ ِ ِ ِ َّ ِ ِ ِ
ين ُهم بآيَات َربِّ ِه ْم ُي ْؤمنُو َن * َوالذ َِّم ْن َخ ْشيَة َربِّ ِهم ُّم ْشف ُقو َن * َوالذ َ
اجعُو َن} [المؤمنون]60 :57 : * والَّ ِذين ي ْؤتُو َن ما آتَوا َّو ُقلُوب ُهم و ِجلَةٌ أ ََّن ُهم إِلَى ربِّ ِهم ر ِ
ْ َ َْ ُ َْ َ َ َُ
ومر قول عائشة رضي اهلل تعالى عنها أنه قالت :يا رسول اهلل هو الرجل يزني ويسرق
ويخاف أن يُعاقَب؟ قال«( :ال يا ابنة الصديق هو الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أال
يقبل منه») .رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه.
( )76/4
قال ابن القيم رحمه اهلل تعالى :والخوف من أجل منازل الطريق ،وخوف الخاصة أعظم من
خوف العامة .خوف الخاصة يعني أهل العلم أعظم من خوف العامة ،ثَ َّم فرق بين النوعين،
وعرفنا فيما سبق أن اإليمان الذي يكون على بصيرة ليس كاإليمان الذي يكون عن ٍ
تقليد،
كذلك الخوف الذي يكون عن بصيرة ليس كالخوف الذي يكون عن ٍ
تقليد ،فإيمان الخاصة
ال شك أنه أقوى من إيمان العامة ،وكل عمل القلبي للخاصة فهو أشد وأمكن من العمل
القلبي عند العامة ،فخوف الخاصة أعظم من خوف العامة وهم إليه أحوج وهو بهم أليق
مستقيما أو مائالً عن االستقامة ،يعني أراد أن يبين أثر
ً ولهم ألزم ،فإن العبد إما أن يكون
مستقيما على طاعة اهلل تعالى ،وإما أن يكون عنده
ً الخوف على العبد ،فالعبد إما أن يكون
بكل منهما ،فإن كان مائل عن االستقامة فخوف منشيء من االنحراف ،فما عالقة الخوف ٍ
العقوبة على ميله ألنه قد مال ،وال يصح اإليمان إال بهذا الخوف ،فحال اإلنسان إذا كان
مائالً عن االستقامة ٍ
حينئذ خوفه يكون من أن تنزل به وتحل به عقوبة الباري جل وعال ،وال
شأُ من ثالثة أمور ال يتم له الخوف من العقوبة عند
يصح اإليمان إال بهذا الخوف وهو َي ْن َ
ميالنه عن االستقامة إال بثالثة أمور:
أحدها :معرفته بالجناية وقبحها .يعني الذم الذي ال يعرف أنه قد وقع في ذم كيف يخشى
العقوبة؟ فال بد أن يعرف أوالً هذه الجناية وقبحها عند ربه جل وعال.
الذم وأن اهلل رتب على المعصية
الثاني :تصديق الوعيد يعني ما رتبه اهلل جل وعال على ذلك ّ
عقوبتها.
ٍ
حينئذ إذا الثالث :أنه ال يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا اكتسب الذنب،
حصلت عنده هذه األمور الثالثة أوالً معرفته بالذنب وقبحه ،وثانيًا تصديقه بالوعيد يعني
ب عن التوبة ،قد يموت وهو على ذنبه، العقوبة التي ُرِّتبَ ْ
ت على ذلك الذم ،ثالثًا أنه قد يُ ْح َج ُ
حينئذ هذه األمور الثالثة تستوجب الخوف من اهلل تعالى ،فبهذه قد يمكن لكنه ال يتوب ٍ
األمور الثالثة يتم له الخوف ،وبحسب قوتها وضعفها يكون قوة الخوف وضعفه ،هذا قبل
مانعا [وقد ٍ
الذنب ،فإذا عمله كان خوفه أشد ،وال شك في ذلك .حينئذ الخوف قد يكون ً
يكون] وذلك قبل الذنب ،وقد يكون ماذا؟ قد يكون بعد الذم خوفًا من حلول العقوبة به،
وبالجملة :فمن استقر في قلبه ذكر الدار اآلخرة وجزائها وذكر المعصية والتوعد عليها
وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح هاج من قلبه الخوف ،هاج من قلبه من الخوف ما ال
يملكه وال يفارقه حتى ينجو ،وأما إن كان مستقيما مع اهلل ٍ
حينئذ قد ال يكون عنده شيءٌ مما ً
يخافه من الذنب ،فخوفه يكون مع جريان األنفاس كذلك ال يفارقه الخوف ولو كان
مستقيما لعلمه بأن اهلل تعالى مقلب القلوب ،وما من ٍ
قلب إال وهو بين أصبعين من أصابع ً
الرحمن عز وجل فإن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه ،كما ثبت عن النبي -
ِ
ومقلب القلوب»). صلى اهلل عليه وسلم «( -وكانت أكثر يمينه ال
( )76/5
قال ابن السعدي رحمه اهلل تعالى :مقصود الترجمة أنه يجب على العبد أن يكون خائ ًفا من
جامعا بين هذه األعمال العظيمة ،إن نظر إلى ذنوبه وعدل اهلل وشدة
اهلل راجيًا له راغبًا راهبًا ً
عقابه َخ ِش َي ربه وخافه ،وإن نظر إلى فضله العام والخاص وعفوه الشامل رجا وطَ ِمع ،إن
ٍ
لطاعة رجا من ربه تمام النعمة وذلك بقبولها ،وخاف من ردها لتقصيره في ِّ
حقها ،وإن ُوفِّ َق
ٍ
بمعصية رجا من ربه َقبُول توبته ومحوها وخشي بسبب ضعف التوبة وااللتفات الذنب ابتلي
أن يعاقب عليها ،وعند النعم واليسار يرجو اهلل دوامها وزيادة منها والتوفيق لشكرها
ويخشى بإخالله بالشكر من سلبها ،إذا لم يشكر قد تُسلب ولو كانت إيمانًا ،وعند المكاره
ضا أن يُثِيبه اهلل عليها حين يقوم
والمصائب يرجو اهلل دفعها وينتظر الفرج لحلها ،ويرجو أي ً
بوظيفة الصبر ويخشى من اجتماع المصيبتين فوات األجر المحبوب وحصول األمر
المكروه إذا لم يوفق بالقيام بالصبر الواجب فالمؤمن الموحد في كل أحواله مالزم للخوف
والرجاء وهذه هو الواجب وهو النافع وبه تحصل السعادة ،فأراد المصنف رحمه اهلل تعالى
أن ُيَبيِّن كبيرتين وجودهما في قلب العبد يتعلق به فوات كل ما ذكره ابن القيم رحمه اهلل
تعالى ،وكذلك الشيخ ابن السعدي رحمه اهلل تعالى.
وعرفنا أن هذا الباب يشتمل على ذكر كبيرتين من الكبائر ،بل من أكبر الكبائر كما جاء في
حديث ابن عباس.
األولى :األمن من مكر اهلل.
والثانية :القنوط من رحمة اهلل تعالى .ولذلك ذكر اآلية األولى للداللة على الكبيرة األولى،
واآلية الثانية للداللة على الكبيرة الثانية .أما [المكر] األمن من مكر اهلل ،األمن ضد الخوف
صرف ،ثم يكون مرتبًا ٌ كما كر معنا ،والمكر هو صرف الغير عما يقصده ٍ
بحيلة أن يكون ثَ َّم
حينئذ صرف الغير حيلة فيجمع بين األمرين ،وال يشعر به الخصم إن كان ثَ َّم خصمٍ ، على ٍ
ٌ
بحيلة .قال في ((المفردات)) :وذلك ضربان :مكر محمود وذلك أن يتحرى عن ما يقصده ٍ
بحيلة قد يكون ألم ٍر جميل ،فيكون الجميل .يعني صرف الغير عن ما يقصده ٍ ٍ بذلك فعل
حينئذ يكون المكر مذموم .فإذا كان لفعل الجميل محمودا ،وقد يكون ألم ٍر قبيح ٍ ً المكر
محمودا وهذا النوع هو الذي يُوصف به الباري جل وعال ،وعلى ذلك قال: ً حينئذ صار ٍ
ِ
قبيح يعني يفعل ومذموم وهو أن يتحرى به فعل ٍ ٌ ين} [آل عمران]54 : {واهللُ َخ ْي ُر ال َْماك ِر َ
َ
الحيل وال يشعر بها الخصم من أجل إيقاعه لكنه يرجو من ذلك أمرا قبيحا فيكون ٍ
حينئذ ً ً
ِ ِِ {واَل يَ ِح ُ
السيِّ ُئ إِاَّل بأ َْهله} [فاطر ]43 :إذًا قالَ :
{واهللُ َخ ْي ُر يق ال َْم ْك ُر َّ مذموما .قال تعالىَ : ً
السيِّ ُئ إِاَّل بِأ َْهلِ ِه} دل ذلك {واَل يَ ِح ُ
يق ال َْم ْك ُر َّ ين} وصف نفسه بالمكر ،وكذلك قالَ :
ِ
ال َْماك ِر َ
ين َك َف ُرواْ} على أن المكر نوعان :منه ما هو مذموم ،ومنه ما هو محمود{ .وإِ ْذ يم ُكر بِ َ َّ ِ
ك الذ َ َ َْ ُ
{م َك ُروا
{و َم َك ُروا َم ْكراً َو َم َك ْرنَا َم ْكراً} [النملَ ،]50 :
[األنفال ]30 :وقال في األمرين َ
{و َم َك ْرنَا َم ْكراً} هذا
مذموم و َ
ٌ {م َك ُروا َم ْكراً} هذا محمود أو مذموم؟
َم ْكراً َو َم َك ْرنَا}َ ،
محمود .إذًا جمع بين األمرين.
( )76/6
مصرا على
قال بعضهم :من مكر اهلل إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدنيا مع كونه ً
المعصية ،فإذا ُم ِّك َن من أعراض الدنيا مع المعصية واإلصرار عليها ونقول :اإلصرار عليها
ألنه ال يلزم منه الوقوع في الذنب أن يحل به ما يكون مكره .قال بعض السلف :من ُو ِّس َع
عليه دنياه ولم يعلم أنه ُم ِك َر به فهو مخدوع عن عقله .وهو كذلك إذا ُو ِّس َع عليه دنياه يعني
أوتي من المال والجاه ولم يجعله في طاعة اهلل تعالى ولم يشك ِر اهلل تعالى بل أقام على
حينئذ يأتي الذم له ،وأما إذا لم يكن كذلك فال يُ َذ ّم أصالً. المعصية ٍ
ط يعني فَ ِع َل َي ْف َع ُل، ط ُقنُوطًا ،وقَنِ َ
ط َي ْقنَ ُ ط َي ْقنِ ُ
وأما القنوط فهو اليأس من الخير ،يقالَ :قنَ َ
ط من باب َف َع َل َي ْف ِع ُل ط َي ْقنِ ُويأتي َف َع َل َي ْف ِع ُل يعني بكسر النون وفتحها في المضارعَ ،قنَ َ
ط َي ْعلَ ُم ،جيء على البابين .القنوط بأن يعتقد أن اهلل تعالى ال يغفر له. ط َعلِ َم َي ْقنَ ُ
ُقنُوطًا ،وقَنِ َ
هكذا قال شيخ اإلسالم محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى :القنوط بأن يعتقد بأن اهلل ال
يغفر له إما بكونه إذا تاب ال يَقبل توبته هذا قنوط وهو أشد الخوف ،قلنا :الخوف قد يكون
مغلوب معها فهو ييأس من توبة
ٌ مذموما ،وإما أن يقول نفسه ال تطاوعه على التوبة بل هو
ً
نفسه .القنوط هو اليأس من الخير من رحمة اهلل تعالى ،وهذا كما ذكرنا ال يجوز ،بل هو
وأثرا ،واألثر له حكم
كبيرة من الكبائر .ذكر المصنف رحمه اهلل تعالى آيتين وحديثًا ً
المرفوع كما سيأتي .في اآلية األولى وهي ما جعلها ترجمة للباب وهي قوله تعالى:
اس ُرو َن}) معنى اآلية :أن اهلل تعالى لما ذكر اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ ({أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ
اهلل فَالَ يأْمن م ْكر ِ
ُْ ََُ َ َ َ َ
حال أهل القرى المكذبين للرسل َبيَّ َن أن الذي حملهم على ذلك هو األمن من عذاب اهلل
وعدم الخوف منه ،ثُ َّم َبيّن أن ذلك بسبب الجهل وال ِْغ ْلظَ ِة هلل تعالى فأمنوا مكر اهلل لَ َّما
استدرجهم بالسراء والنعم ،يعني أمنوا مكره فيما ابتالهم به من السراء والضراء بأن يكون
استدراجا .إذا حينئذ يكوناستدراجا إذا أنعم اهلل تعالى على العبد ولم يقم بشكر هذه النعمة ٍ
ً ً
أنعم على العبد النعم ولم يقم بشكرها ،والمراد بشكرها أن يعتقد أنها من عند اهلل تعالى،
ِّث} [الضحى ]11 :وأن يجعلها في طاعة اهلل {وأ ََّما بِنِ ْع َم ِة َربِّ َ
ك فَ َحد ْ ويعترف بذلك بلسانه َ
وم َّكنَهُ من ٍ ٍ
تعالى بجوارحه حينئذ يكون ذلك من كفران النعمة ،حينئذ إذا أعطاه اهلل تعالى َ
استدرجا ،يعني أ َِمنُوا مكره فيما ابتلهم به من السراء والضراء بأن ً حينئذ يكون ذلك النعم ٍ
اس ُرو َن}اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ يكون استدراجا .فقال سبحانه{ :أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ
اهلل فَالَ يأْمن م ْكر ِ
ُْ ََُ َ َ َ َ ً
فدل على وجوب الخوف من مكر اهلل ،ألنه قال{ :فَالَ [األعراف .]99 :أي الهالكونّ ،
اس ُرو َن} يعني الذي خسر ،والذي خسر وقع في ماذا؟ وقع في اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ
يأْمن م ْكر ِ
ُْ ََُ َ َ
تحريم لألمن من مكر اهلل .إذًا
ٌ أم ٍر محرم ،فدل على أن ضده يكون واجبًا ،ألن التحريم هنا
محرما ،هما متقابالن.
واجب ،واألمن من مكر اهلل يكون ً ٌ الخوف من مكر اهلل
( )76/7
قال الحسن البصري رحمه اهلل تعالى :من َو َّس َع عليه فلَ ْم َي َر أنه يمكر به فال رأي له .هذا
ُم َقيَّد كل ما يأتي عن السلف ُمطل ًقا يجب تقييده .من َو َّسع عليه يعني أعطاه اهلل تعالى النعم،
أعطاه المال والجاه ،فلم ير أنه يمكر به فلم ير هذا الذي وسع عليه أن اهلل تعالى يمكر به
فال رأي له ،لكن متى؟ إذا كان ُي َو َّس ُع عليه وال يشكر نعمة الباري ،أو يُوسع عليه وهو يُصر
حينئذ قابل النعمة بالكفر هذا هو الذي يصدق عليه كالم السلف. على المعاصيٍ ،
ط إال
قوما ق ُ
وقال قتادة( :بغت القوم أمر اهلل) .فاجأهم( ،بغت القوم أمر اهلل ،وما أخذا اهلل ً
وغ َّرتِ ِهم ونعمتهم ،فال تغتروا باهلل تعالى إنه ال َيغَْت ُّر باهلل إال القوم الفاسقون.
عند سلْوتِ ِهم ِ
ََ
رواهما ابن أبي حاتم.
وفي الحديث« :إذا رأيت اهلل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه» .وكالم السلف بعضه
مطلق ال بد من التقييد ،بأن يكون العبد على المعاصي فيعطيه اهلل تعالىٍ ،
حينئذ نقول :هذا
مستقيما على طاعة اهلل تعالى فهذا ٍ
معصية بل كان مكرا ،وأما إذا لم يكن على
ً الذي يكون ً
من النعم التي تُشكر «إذا رأيت اهلل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو
استدراج» .وهذا هو الصحيح هنا .رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم .يعني لو لم يصح
ٌ
الحديث بأن قيل بأنه ضعيف المعنى صحيح إذا أعطى اهلل العبد ما يحب أنت تحب أشياء
استدراجا. معاص ٍ
حينئذ نقول :هذا يُسمى من عرض الدنيا فأعطاك وأنت على ٍ
ً
وقال إسماعيل بن رافع :من األمن من مكر اهلل إقامة العبد على الذنب يتمنى على اهلل
المغفرة .يتمنى إ ًذا مجرد ٍ
عمل قلبي وال عمل معه ،ألن الفرق بين التمني والرجاء؟ قلنا:
عمل قلبي مشابهٌ للتمني،
التمني هو الكسل ،يتمنى على اهلل األماني وال يعمل ،والرجاء هو ٌ
لكنه ماذا؟ طلب حصول محبوب لكن يعمل معه ،عكس التمني ،ففسر السلف المكر
باستدراج اهلل العبد بالنعم إذا عصى ،هذا القيد ال بد منه ،إذا عصى ،ففسر السلف المكر
باستدراج اهلل العبد بالنعم إذا عصى ،وإمالئه له حتى يأخذه أخذ عزي ٍز مقتدر .قال المصنف:
مكر اهلل هو أنه إذا عصاه وأغضبه أنعم عليه بأشياء يظن أنها من رضاه عليه ،وهذا قد يدركه
ٍ
معصية فتأتيه أشياء مما يحبه اإلنسان من بعض الناس إن لم يدركه من نفسه ،يكون على
مكر وهو ٍ ٍ ٍ
ويرضاه ،حينئذ بل مما يسعى إليه يمكن منه وهو على معصية ،حينئذ نقول :هذا ٌ
استدراجا كما جاء النص بذلك.
ً من مكر اهلل تعالى ،ويسمى
( )76/8
قوله{ :أَفَأ َِمنُواْ} أي {أَفَأ َِم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى} [األعراف{ ... .]97 :أَفَأ َِمنُواْ} الواو هنا ترجع
ِ ِ ِ
إلى سابقها {أَفَأَم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى} لقوله قبل ذلك {أَفَأَم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى أَن يَأْتَي ُه ْم بَأ ُ
ْسنَا َبيَاتاً َو ُه ْم
اهلل} ... ضحى و ُهم يلْعبو َن * أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ ِ ِ ِ
َ َ ْسنَا ُ ً َ ْ َ َ ُ نَائ ُمو َن * أ ََو أَم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى أَن يَأْتَي ُه ْم بَأ ُ
[األعراف{ .]99 ،97 :أَفَأ َِمنُواْ} الواو يعود على {أ َْه ُل الْ ُق َرى} هذا هو الظاهر ،وقيل:
على أهل مكة وإن كان يعم القرى يشمل ألن المعنى هنا سواءٌ كان في أهل القرى التي
ت قبل أو في غيرها ،في كل زمان فيما سبق من العهود األنبياء والمرسلين ،وعهد النبي ذُكِ َر ْ
حينئذ نقول :المعنى هذه إذا -صلى اهلل عليه وسلم ،-ومما بعده إلى أن تقوم الساعةٍ ،
حينئذ حلت العقوبة ،فاالستفهام في هذه اآليات {أَفَأ َِم َن}{ ،أ ََو أ َِم َن}{ ،أَفَأ َِمنُواْ}
وجد ٍ
استفهام كله بمعنًى واحد ،وهو للتقريع والتوبيخ واإلنكار ،وهذا دل على أن ما ذُكِ َر محرم،
محرما ،إذًا األمن من مكر اهلل ِ
إذا ُحم َل االستفهام على اإلنكار دل على أن ما أنكره يكون ً
محرم لهذا الوجه ،وهو أحد الوجهين في تحريم ما ذُكِ َر .فاالستفهام في هذه اآليات للتقريع ٌ
والتوبيخ واإلنكار ... ،و {أ َْه ُل الْ ُق َرى} هم أهل القرى المذكورة قبله ،وقيل :المراد بالقرى
مكة وما حولها لتكذيبهم النبي -صلى اهلل عليه وسلم ،-والحمل على العموم أولى يعني
يعم ،يعم القرى المذكورة وما عداها ،والعموم إما باللفظ أو بالمعنى ال إشكال ،إما باللفظ
بأن يصدق عليه اللفظ مباشرةً ،أو بالمعنى بأن نقول :ال يدخل في اللفظ أهل مكة ومن
حولها ،أو مكة وما حولها ،وإنما إن فعلوا ما فعله أولئك القوم ٍ
حينئذ حلت عليهم العقوبة،
والحكم يكون واح ًدا ،وهذا ما يسمى بالعموم المعنوي وهو الصحيح ،وهو أشبه ما يكون
بحمل النظير على النظير ،أو القياس بنفي الفارق ،ال فرق ،كما نقول :المشركون في عهد
النبي -صلى اهلل عليه وسلم -فعلوا وفعلوا ُوجد المشركون هنا في هذا الزمان فعلوا مثل
ما فعلوا إذًا الحكم واحد فتشملهم اآليات ،إما باللفظ أو بالمعنى أو بنفي الفارق القياس
بنفي الفارق.
( )76/9
( )76/10
اس ُرو َن}) االستثناء هنا للحصر ،وذلك ألن ما قبله مفرغٌ له وقوله{( :إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ
ُْ
اس ُرو َن}) .قال{( :فَالَ يَأ َْم ُن َم ْك َر اسرو َن}) صفتهم ({إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ
ِ
ُْ ({الْ َق ْو ُم}) فاعل ،و ({الْ َخ ُ
اهلل إِالَّ الْ َق ْو ُم}) إال بعد ال ،دل على الحصر ،واالستثناء مفرغ ألن المستثنى منه محذوف ِ
حينئذ يكون استثناء مفرغًا من أعم األحوال ... ٍ وإذا حذف المستثنى منه في سياق النفي
اهلل}) دليل على اسرو َن}) صفتهم .وفي قوله{( :أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ ِ
َ َ ({الْ َق ْو ُم}) فاعل ،و ({الْ َخ ُ
وصف اهلل تعالى بالمكر ،وهو التوصل إلى اإليقاع بالخصم من حيث ال يشعرون،
غالب
والمحمود منه هو الذي يوصف به الباري جل وعال ألنه يدل على قوة الماكر ،وأنه ٌ
على خصمه ،ولذلك ال يوصف اهلل به على اإلطالق ،فال يقال إن اهلل ماكر إنما يكون ماذا؟
يمكر بمن مكر به ،أو برسله ،أو بالصالحين ،أو بنحو ذلكٍ ،
حينئذ يكون بالمقابلة ألنه هو
اسم
الذي يدل على االنتقام فيوصف اهلل تعالى بالمكر مقيَّ ًدا ال باإلطالق ،وال يشتق له منه ٌ
فال يقال الماكر ال يقال الماكر .إذًا يوصف اهلل تعالى بهذه الصفة وال يوصف به على
مدحا هذا إذا كان
ماكر ،وإنما تذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه ً
اإلطالق فيقال :إن اهلل ٌ
بالتقابل ،وال يقال مشاكلة ألن المشاكلة هذه نوع من أنواع المجاز .يُعبر بها ابن القيم
أحيانًا لكن قد يُريد بها معنى آخر ،لكن المشاكلة نوع من المجاز ،بمعنى أنه ال يتصف
بالمكر ،لكن قابل اللفظ باللفظ فحسب ،وأما المعنى فيكون خاليًا ،هذا المراد بالمشاكلة،
بمعنى أن المكر الذي وصف به القوم على حقيقته ،لكن اهلل تعالى ما مكر بهم وإنما قابل
فعلهم بفعل آخر ،ولذلك بعضهم يعبر يمكرون فجزآهم اهلل ،يعني جزآهم على ذنبهم
بالعقوبة ،وهذا ليس هو المكر ،وإنما المكر يكون فيه ماذا؟ يكون فيه نوع من الحيلة،
يستدرجهم شيئًا فشيئًا كأنه قد رضي عنهم ،ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ،فرق بين المعنيين،
كونه جازاهم على مكرهم بمعنى أنه عاقبهم كما يعاقب الزاني والمرابي وغير ذلك ،لكن،
ال ،ليس المراد هذا ،وإنما المراد أن اهلل تعالى استدرجهم شيئًا فشيئًا فأخذوه على ٍ
غرة
كيف أستدرجهم بمعنى أنهم أصروا على المعصية وأعطاهم ما يريدون ٍ
حينئذ أخذهم أخذ
{و َم َك ُروا
{ويَ ْم ُك ُرو َن َويَ ْم ُك ُر اهللُ} [األنفال ]30 :إ ًذا ليس من باب التقابلَ ،
عزيز مقتدر َ
عظيما التنوين للتعظيم،
{و َم َك ْرنَا َم ْكراً} ً
عظيما َ
مكرا ً
{م ْكراً} التنوين للتعظيم يعني ً
َم ْكراً}َ ،
تصريح بما
ٌ مكرا وهم ال يشعرون هذا تأكيد هذا
{و ُه ْم اَل يَ ْشعُ ُرو َن} ومكرنا ً
ولذلك قالَ :
دل عليه اللفظ ،وإال يعني يسمى بداللة التضمن ألن كونهم ال يشعرون هو معنى االستدراج
تصريحا بما دل عليه اللفظ ،والمكر من صفاته الفعلية ألنها ٍ
فحينئذ يكون وهو معنى المكر،
ً
تتعلق بمشيئة اهلل تعالى.
ففي اآلية التحذير من األمن بمكر اهلل وأنه من أعظ الذنوب.
ودلت اآلية على تحريمه من وجهين:
الوجه األول :أن الجملة بصيغة االستفهام الدال على التقريع والتوبيخ واإلنكار ،االستفهام
دل على التحريم.
( )76/11
( )76/12
( )76/13
اإللحاد كفر في الجملة كما سيأتي باب خاص في ذلك ،ومعنى اآلية التي ذكرها المصنف
ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه إِالَّ الضَّآلُّو َن}) أن اهلل تعالى لَ َّما بشر إبراهيم بشرته المالئكة
({و َمن َي ْقنَ ُ
َ
ش ُرو َن} [الحجر]54 : سنِي ال ِ
ْكَب ُر فَبِ َم ُتبَ ِّ ال أَب َّ ِ
ش ْرتُ ُموني َعلَى أَن َّم َّ َبولده إسحاق فقال{ :قَ َ َ
استبعادا لوقوع هذا في العادة كبير السن وزوجته كبيرة استبعاد ماذا؟ أنه ال يلد ال هو وال ً
استبعادا لوقوع هذا في العادة مع كبر السن منه
ً زوجته ،فلما بشروه بإسحاق استبعد ذلك
اك بِال َ
ْحقِّ} [الحجر ]55 :يعني الذي ال ريب فيه الحق الشيء ومن زوجته {قَالُواْ بَ َّ
ش ْرنَ َ
وموجودا وال ريب فيه ،بل هو أمر الذي إذا أراد شيئًا أن يقول له:
ً والزما
ً الذي يكون ثاتبًا
كن فيكون ،وإن َبعُ َد مثله في العادة التي أجراها ،فإن ذلك عليه يسير إذا أراده ،نعم ال
يُعجزه شيء البتة ،وهذه العادات إنما تكون ماذا؟ تكون هي الدارجة في األصل لكن قد
ين} أي من اآليسين من رحمة اهلل ،ثم قال ِِ
يخرقها الباري جل وعال{ ،فَالَ تَ ُكن ِّم َن الْ َقانط َ
ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه إِالَّ الضَّآلُّو َن}) يعني
ال َو َمن َي ْقنَ ُ
إبراهيم ذكر اآلية التي ذكرها المصنف ({قَ َ
هذا االستبعاد مني لم يصل بي إلى القنوط من رحمة اهلل وكيف إبراهيم الخليل وهو إمام
الموحدين يقنط من رحمة اهلل تعالى ،فأجابهم أنه ليس بقانط ولكن يرجو من اهلل الولد وإن
كان قد َك ُب َر وأسنت امرأته ،فإنه يعلم من قدرة اهلل ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم،
لكنه قال ذلك على وجه التعجب فحسب ،يعني شأنه شأن البشر ،يعني أمر فطري ،يعني
معتادا ،وإذا كان كذلك ٍ
حينئذ ال يُالم ال يُجعل ذلك عيبًا نظر إلى ماذا؟ نظر إلى ما كان ً
ونقصا ،لماذا؟ ألنه بشر ،وإذا كان كذلك فإذا تعجب من شيء ما مخالف للمعتاد من سنة ً
ِّي: ٍ
السد ّ نقصا منه عليه الصالة والسالم .قال ُّ
اهلل تعالى في الخلق حينئذ ال يكون ذلك ً
ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه} ،قال :من ييأس من رحمة ربه .رواه ابن أبو حاتم{( .إِالَّ
{و َمن َي ْقنَ ُ
َ
الضَّآلُّو َن}) قال بعضهم :المخطئون طريق الصواب أو الكافرون .الضال يُطلق ويراد به
الضالل الكامل من كل وجه ،وهو الكافر ،وقد يُطلق ويراد به ما دون ذلك ،فالمبتدع ضال
والعاصي المسلم ضال والكافر ضال والمشرك ضال كلهم ضالونٍ ،
حينئذ ما المراد هنا؟
يحتمل الوجهين ،كقوله{ :إِنَّهُ الَ ي ْيأَس ِمن َّرو ِح ِ
اهلل إِالَّ الْ َق ْو ُم الْ َكافِ ُرو َن} [يوسف.]87 : ْ َ ُ
وقيل{( :الضَّآلُّو َن}) المكذبون أو المخطئون الذاهبون عن طريق الصواب ،أي إنما
استبعدت الولد لكبر سني ال لقنوطي من رحمة اهلل ،قاله الشوكاني رحمه اهلل تعالى.
( )76/14
دلت اآلية على التحذير من القنوط من رحمة اهلل ،وأنه من أعظم الذنوب ،وألنه سوء ظن
باهلل عز وجل ألنه طعن في قدرة اهلل تعالى وعمومها ،وطعن في رحمة اهلل وشمولها ،وهو
شكا في القدرة أو في عمومها ،وإما كذلك ،قانطًا من رحمة اهلل ،قنط من رحمة اهلل إما ًّ
معا أنه يجب على ٍ ٌّ
شك في الرحمة أو في شمولها ،حينئذ يستوي األمران ،ودلت اآلية الثاني ً
المؤمن أن يجمع بين الخوف والرجاء ،فال ُيغَلِّب جانب الرجاء فيأمن مكر اهلل ،وال ُيغَلِّب
جانب الخوف فييأس من رحمة اهلل ،بل يكون خائ ًفا راجيًا ،يخاف ذنبه ويعمل لطاعة ربه
{و َي ْر ُجو َن َر ْح َمتَهُ َويَ َخافُو َن َع َذابَهُ} [اإلسراء.]57 :
ويرجو رحمة اهلل ،كما قال سبحانهَ :
وقال{ :يَ ْح َذ ُر اآْل ِخ َر َة َو َي ْر ُجو َر ْح َمةَ َربِِّه} [الزمر .]9 :ولذلك قلنا فيما مر معنا أنه يجمع
مقام واحد ،وقد ُي َقدِّم أحدهما على اآلخر للداللة على أنه ال بد من االعتدال ،ثم بينهما في ٍ
ِّم الخوف على الرجاء والعكس بالعكس وإال األصل
قد يكون لحال زيد من الناس أن ُي َقد َ
فيه االعتدال.
قال المصنف رحمه اهلل تعالى( :وعن ابن عباس رضي اهلل تعالى عنهما أن رسول اهلل -صلى
اهلل عليه وسلم -سئل عن الكبائر فقال« :الشرك باهلل ،واليأس من روح اهلل ،واألمن من
مكر اهلل»)( .سئل عن الكبائر فقال« :الشرك باهلل») ،يعني ذكر شيئًا من الكبائر ،ولم يُ ِر ِد
ثالث («ثالث خصال»)«( ،واليأس من روح اهلل ،واألمن من مكر
الحصر كما مر معنا ٌ
اهلل») الشاهد هو («واليأس من روح اهلل ،واألمن من مكر اهلل») هذا الحديث رواه البزار
وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بش ٍر عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول اهلل -صلى اهلل
عليه وسلم -كان متكئًا فدخل عليه رجل فقال :ما الكبائر؟ فقال« ... :الشرك باهلل».
وذكر الحديث ،ورجاله ثقات إال شبيب بن بش ٍر فقال ابن معين :ثقة .ولينه ابن أبي حاتم.
قال في ((التيسير)) :ومثل هذا يكون حسنًا وهو كذلك ،وقال ابن كثير :في إسناده نظر
واألشبه أنه موقوف .ولو كان موقوفًا له حكم المرفوع ألنه ال يقال بالرأي (أكبر الكبائر)
الحكم على الشيء ألنه من الكبائر محرم بل من الكبائرٍ ،
حينئذ يحتاج إلى وحي وال يكون
كذلك إال من جهة النبي -صلى اهلل عليه وسلم .-
قوله«( :الشرك باهلل») .وهذا ذكره أوالً وهو أكبر الكبائر وأظلم الظلم وأقبح القبيح ،إذ
مضمونه تنقيص رب العالمين وإلههم ومالكهم وخالقهم الذي ال إله إال هو ،وعدل غيره به،
ولهذا ال يُغفر إال لم يتب منه بخالف غيره من الذنوب ،فهي تحت مشيئة اهلل إن شاء غفرها
وإن شاء عذب بها ،ومر معنا معنى الشرك تقسيمه ونحو ذلك.
( )76/15
ثانيًا :قال«( :واليأس من روح اهلل»)َ .ر ْوح بفتح الراء بمعنى الرحمة وقريب من الرحمة،
والفرج والتنفيس«( ،واليأس من روح اهلل») أي قطع الرجاء واألمل من اهلل«( ،واليأس من
روح اهلل») قطع الرجاء واألمل من اهلل فيما يروبه ويقصده ويخافه ويرجوه ،يعني فيما
يفعله ،يفعل الشيء ويقطع األمل من اهلل تعالى ،يتوب إلى اهلل تعالى ويعتقد أن اهلل تعالى
سيرده ،نقول :هذا قطع للرجاء ،أو أن هذه التوبة لم يقبلها اهلل تعالى ،نقول :هذا قطع
اهلل إِنَّهُ الَ ي ْيأَس ِمن َّرو ِح ِ
اهلل إِالَّ الْ َق ْو ُم للرجاء وال يجوز .قال تعالى{ :والَ َت ْيأَسواْ ِمن َّرو ِح ِ
ْ َ ُ ْ ُ َ
الْ َكافِ ُرو َن} .وذلك كذلك إساءة ظن باهلل تعالى ،وجهل لسعة رحمته وجوده ومغفرته.
(«واألمن من مكر اهلل») هذا الثالث ،أي من استدراجه للعبد ،أو سلبه ما أعطاه من اإليمان
كالهما بمعنى ،فاهلل تعالى يستدرج العبد أو يسلبه ما أعطاه من النعم ،وذلك جهل باهلل
وبقدرته وثقة بالنفس وعجب بها.
دل الحديث على أن األمن من مكر اهلل واليأس من روح اهلل من الكبائرٍ ،
حينئذ وافق إذًا ّ
االستنباط الذي ذكره المصنف من اآليتين السابقتين.
قال المصنف رحمه اهلل تعالى( :وعن ابن مسعود رضي اهلل تعالى عنه قال :أكبر الكبائر
اإلشراك باهلل ،واألمن من مكر اهلل ،والقنوط من رحمة اهلل ،واليأس من روح اهلل .رواه عبد
الرزاق).
وعن ابن مسعود قال رفعه؟ لم يرفعه ،له حكم الرفع ،فهو باعتبار إسناده وعدمه قد يُسمى
أثرا ،وباعتبار أن له حكم المرفوع فهو حديث مرفوع للنبي -صلى اهلل عليه وسلم ،-فهوً
حكما ال حقيقةً.
مرفوع ً
..
نعم.
..
( )76/16
[ال ،ليس ابن عباس ابن مسعود]( .وعن ابن مسعود رضي اهلل تعالى عنه قال :أكبر الكبائر
اإلشراك باهلل) هل هذا اللفظ يُحمل على الشرك بنوعيه أو ال؟ لم نذكر هذه المسألة في
الحديث السابق («الشرك باهلل») ألننا قررنا فيما سبق أنه إذا أُطْلِ َق ِّ
الشرك باهلل في الشرع
ٍ
حينئذ نقول ماذا؟ محمول على األكبر ،لكن ا ِإل ْش َراك إِ ْف َعال بمعنى أنه مصدر ،والمصدر هو
معنى مشترك ليس بمعنى خاص ،ولذلك جاء هنا ماذا؟ اإلشراك باهلل في مقابل الشرك باهلل،
داخل في هذا الحكم أو ال؟ نجعله
األصغر ٌ
ُ األولى أن نجعل إن أردنا أن نذكر هل الشرك
في حديث ابن مسعود ال بحديث ابن عباس ،لماذا؟ ألنه ذكر أوالً هناك الشرك ،والشرك
مرادا به الشرك األكبر ،لكن اإلشراك إِ ْف َعال وإن كان السابق مصدرهكذا اللفظ يأتي ماذا؟ ً
مشابها للسابق في
ً مصدر قد يكونٌ لكن المصدر قد يكثر إطالقه بمعنى ،وإذا أُطْلِ َق
المصدرية لكن قد يكون له معنى آخر ،فال يَ ِر ُد في الشرع معنى اإلشراك ،هل يأتي في
القرآن أو جاء في القرآن لفظ اإلشراك؟ ما جاء لفظ اإلشراك ،أليس كذلك؟ وإنما جاء
حينئذ نأتي إلى هذا نقول :هل يشمل الشرك األصغر أم ال؟ نقول: ٍ الشرك ونحو ذلك،
الظاهر أنه يشمله ،في هذا التركيب نقول :الظاهر أنه يشمل الشرك األصغر ،ألن األصغر
إلي من أحلف بغيره صادقًا.
من أكبر الكبائر ،قال ابن مسعود :ألن أحلف باهلل كاذبًا أحب ّ
وذلك ألن [سيئة الكذب] سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب ،فدل على أن الشرك من
الكبائر مطل ًقا وهو كذلك ،الشرك األكبر والشرك األصغر ،ومر معنا أنه إذا قيل :حرام ال
يلزم أن يكون شر ًكا ،وإذا قيل :أكبر الكبائر ال يلزم أن ال يكون شر ًكا ،فالشرك محرم
وذنب ومعصية وكبيرة ومن أكبر الكبائر ،وهذه األوصاف كلها تطلق على الشرك ،قال
ماذا؟ (وعن ابن مسعود رضي اهلل تعالى عنه قال :أكبر الكبائر اإلشراك باهلل ،واألمن من
مكر اهلل ،والقنوط من رحمة اهلل) القنوط يعني يستبعد رحمة اهلل تعالى ويستبعد حصول
المطلوب( ،واليأس) كما مر ماذا؟ أنه يستبعد زوال المكروه[ ... .هذا األثر] .قال في
((التيسير)) :هذا األثر رواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود -وليس عن ابن
عباس -عن ابن مسعود .قال ابن كثير :وهو صحيح بال شك .يعني ثابت عنه ،وإذا كان
ضا.
كذلك فله حكم الرفع ألنه ال يقال بالرأي ،ورواه الطبراني أي ً
قوله( :أكبر الكبائر اإلشراك باهلل) .أي في ربوبيته أو عبادته وهذا محل إجماع( .واألمن من
مكر اهلل) سبق شرحه( ،والقنوط من رحمة اهلل) قال أبو السعادات :هو أشد اليأس من
الشيء .أشد اليأس لم يفسره باليأس ،وإنما أشد اليأس من الشيء ،فعلى هذا يكون الفرق
بين القنوط واليأس ،كالفرق بين االستغاثة والدعاء ،ما الفرق بين االستغاثة والدعاء؟ العموم
والخصوص المطلق ،كل استغاثة دعاء وال عكس ،كل يأس قنوط وال عكس ،فيكون
القنوط من اليأس بعضه كشأن االستغاثة من الدعاء كما االستغاثة من الدعاء ،وظاهر القرآن
أن اليأس أشد من القنوط ،ظاهر القرآن أن اليأس أشد من القنوط ،لماذا؟ ألنه حكم ألهله
بالكفر ،وألهل القنوط بالضالل ،وهذا واضح بين ،قوله( :واليأس من روح اهلل) .سبق
شرحه.
( )76/17
مناسبة الحديثين للباب :أنه يدل على أن األمن من مكر اهلل ،واليأس من رحمته من كبائر
الذنوب.
ويُستفاد من الحديثين تحريم األمن من مكر اهلل ،واليأس من روح اهلل وأنهما من أكبر
الكبائر ،أن الشرك أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ولذا بدأ به في الحديثين.
التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف ،فإذا خاف فال يقنط وال ييأس بل يرجو رحمة اهلل
تعالى.
ثم اعلم أنه ال يُظَ ّن أن الكبائر محصورة في هذين الحديثين فقط ،بل الكبائر كثيرة لكن
ذكر ما هو أكبرها ،أو من أكبرها ،وقد تقدم في حديث « ...اجتنبوا السبع الموبقات»
كالم نحو ذلك ،ولهذا قال ابن عباس :هي للسبعين أقرب منها للسبع .رواه ابن جرير وابن
أبي حاتم .وفي رواية :هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سب ٍع غير أنه ال كبيرة من استغفار وال
ض َّع َفهُ ،وقد َع َّرفُوها بما فيها ح ٌد في الدنيا أو وعيد في اآلخرة أو
صغيرة مع إصرار .بعضهم َ
نفي إيمان أو لعن أو غضب أو عذاب ،ومن بَ ِرأَ منه الرسول -صلى اهلل عليه وسلم -أو
قال« :ليس منا» .وما سوى ذلك صغائر ،يعني أن ما فيه ٌّ
حد أو لعن أو غضب أو نحو ذلك
بناء على الصحيح أن
فهو كبيرة ،وما لم يرد فيه وإنما جاء التحريم فحسب فهو صغيرة ً
الذنب ينقسم إلى كبائر وصغائر ،بل وأكبر كبائر وهي من جنس الكبائر ،ولعله مر كالمه
في ذلك فيما سبق ،وليس المراد أن الصغائر يتهاون بها ،ال بل كل المعاصي يجب اجتنابها،
فكم من صغيرة عادت كبيرة ،ولذلك ابن القيم رحمه اهلل تعالى يقول :الكبيرة قد تكون
صغيرة ،والصغيرة قد تكون كبيرة بحال القلب ،قد يرتكب الكبيرة وهو مستحي من خالقه
ويستحضر أن اهلل تعالى مطلع عليه ويخشى عقوبته ٍ
حينئذ هانت ،وقد يفعل الصغيرة وال
يبالي بالشيءٍ ،
حينئذ كبرت ،إذًا باعتبار الحال.
قوله( :رواه عبد الرزاق) هو ابن همام بن نافع الحميري موالهم أبو بكر الصنعاني الحافظ
المصنف الشهير ،سأل أحمد :أرأيت أح ًدا أحسن حديثًا من عبد الرزاق؟ قال :ال .روى عن
أبيه وعن عمه وهب ومعمر وغيرهم وعنه ابن عيينه ومعتمر وهما من شيوخه وأحمد
وإسحاق وخلق ،ولد سنة ستة وعشرين ومائة ومات ببغداد سنة إحدى عشر ومائتين ،هو
صنعاني لكن أصله ماذا؟ بغدادي ،لكن لما جاء إلى اليمن مكروا به فزوجوه فولد له فبقي.
قال المصنف رحمه اهلل تعالى( :فيه مسائل:
األولى :تفسير آية األعراف) وهي قوله{( :أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ
اهلل فَالَ يأْمن م ْكر ِ
اهلل إِالَّ الْ َق ْو ُم ََُ َ َ َ َ
وبيَّن أن الذي ِ
الْ َخاس ُرو َن}) .والمعنى أن اهلل ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسلَ ،
حملهم على ذلك كونهم أمنوا مكر اهلل.
ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه إِالَّ الضَّآلُّو َن}) ففيها ذم القنوط({و َمن َي ْقنَ ُ
(الثانية :تفسير آية الحجر)َ .
والحث على الرجاء ،واألولى فيها ذم األمن والحث على الخوف.
(الثالثة :شدة الوعيد فيمن أمن مكر اهلل)( .شدة الوعيد) أي أنه من الكبائر ،بل من أكبر
الكبائر.
(الرابعة :شدة الوعيد في القنوط) .أي لكونه من الكبائر أو من أكبر الكبائر كذلك معنى
النص السابق.
( )76/18
( )76/19