You are on page 1of 39

‫ٍ‬

‫بإحسان‬ ‫الحمد هلل حمداً حمداً‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف خلق اهلل وعلى آله وصحبه ومن تبعهم‬
‫إلى يوم الدين‪ .‬أما بعـد‪:‬‬
‫لقد حذرنا ربنا‪-‬عز وجل‪ -‬من هذه الصفة الذميمة وهي‪ :‬األمن من مكره‪ ،‬وحكى اهلل ‪-‬تعالى‪ -‬ذلك‬
‫عن أهل الخسران‪ ،‬فدل ذلك أنها ليست من صفات أهل اإليمان‪ ،‬فوجب الحذر من ذلك والخوف من‬
‫مكر اهلل‪ -‬تعالى‪ -‬وغضبه وبطشه وعقابه ‪.‬‬
‫واألمن من مك ر اهلل ‪-‬تع الى‪ -‬طري ق ي ؤدي إلى جهنم وبئس المص ير‪ ،‬وإذا أمن اإلنس ان من مك ر اهلل‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬ولم يراقبه في أقواله وأفعاله‪ ،‬فيخشى عليه من الخسارة العاجلة واآلجلة كما قال ‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫{أَفَأ َِمنُواْ م ْكر الل ِّه فَالَ يأْمن م ْكر الل ِّه إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬
‫اس ُرو َن} (‪ )99‬سورة األعراف‪.‬‬ ‫ُْ‬ ‫ََُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫وسوف نقف مع هذا الموضوع في النقاط اآلتية‪:‬‬
‫‪ ‬أوالً‪ :‬معنى األمن من مكر اهلل‪:‬‬
‫‪ ‬ق ال ابن حج ر‪-‬رحم ه اهلل‪ :-‬األمن من مك ر اهلل يتحق ق باالسترس ال في المعاص ي م ع االتك ال على‬
‫‪1‬‬
‫الرحمة‪ .‬‬
‫ق ال ال راغب‪-‬رحم ه اهلل‪ : -‬مك ر اهلل ‪-‬تع الى‪ :-‬ص فة حقيق ة على م ا يلي ق بجالل اهلل وكمال ه‪ ،‬ومن‬
‫لوازمها إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدنيا‪ ،‬ولذلك قال أمير المؤمنين علي ‪-‬رضي اهلل عنه‪ :-‬من‬
‫وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه ُِم َكر به فهو مخدوع في عقله‪  2.‬‬
‫‪ ‬ثانياً‪ :‬من مضار األمن من مكر اهلل‪:‬‬
‫‪   -1‬األمن يجعل المؤمن غافالً عن طاعة اهلل ورضوانه‪.‬‬
‫‪   -2‬األمن من مكر اهلل سبب لدخول النار‪.‬‬
‫‪   -3‬ال يأمن من مكر اهلل إال القوم الخاسرون‪.‬‬
‫‪   -4‬أنه كبيرة من كبائر الذنوب‪.‬‬
‫‪ ‬ثالثاً‪ :‬حكم األمن من مكر اهلل‪:‬‬
‫تعالى‪(-‬ع ّد ذلك كبيرة هو ما‬
‫َ‬ ‫األمن من مكر اهلل ‪-‬تعالى‪ -‬كبيرة من الكبائر‪ ،‬قال ابن حجر ‪-‬رحمه اهلل‬
‫علمت من الوعيد الشديد الذي فيه‪ ،‬بل جاء تسميته أكبر الكبائر‪ .‬روى ابن أبي حاتم‬
‫َ‬ ‫أطبقوا عليه؛ لما‬
‫في تفس يره والبزار عن ابن عباس‪-‬رض ي اهلل عنهما‪ :-‬أن رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وس لم‪ -‬س ئل ما‬
‫الكب ائر؟ فق ال‪( :‬الش رك باهلل‪ ،‬والي أس من روح اهلل‪ ،‬واألمن من مك ر اهلل‪ ،‬وه ذا أك بر الكب ائر)‪ .‬قي ل‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫واألشبه أن يكون موقوفاً‪ ،‬وبكونه أكبر الكبائر صرح ابن مسعود كما رواه عبد الرزاق والطبراني‪.‬‬
‫وممن ع ده من الكب ائر اإلم ام ال ذهبي ‪-‬رحم ه اهلل‪ -‬في كتاب ه (الكب ائر) الكب يرة الثامن ة والس تون‪ .4 ‬‬
‫وكذلك ابن تيمية وابن القيم وغيرهم‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬النصوص الواردة في ذم األمن من مكر اهلل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْس نَا‬ ‫قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬أَفَأَم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى أَن يَأْتَي ُه ْم بَأ ُ‬
‫ْسنَا َبيَاتاً َو ُه ْم نَآئ ُمو َن* أ ََو أَم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى أَن يَأْتَي ُه ْم بَأ ُ‬
‫اس ُرو َن}‪.5 ‬‬ ‫ضحى و ُهم يلْعبو َن * أَفَأ َِمنُواْ م ْكر الل ِّه فَالَ يأْمن م ْكر الل ِّه إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬
‫ُْ‬ ‫ََُ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ً َ ْ َ َُ‬
‫ق ال ابن جري ر ‪-‬رحم ه اهلل‪( :-‬يق ول تع الى ذك ره‪ :‬أف أمن ي ا محم د ه ؤالء ال ذين يك ذبون اهلل ورس وله‬
‫ويجحدون آياته استدراج اهلل إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة األبدان ورخاء العيش كما‬
‫اس تدرج ال ذين قص عليهم قصص هم من األمم قبلهم‪ ،‬ف إن مك ر اهلل ال يأمن ه ‪-‬يق ول‪ :‬ال ي أمن ذل ك أن‬
‫يك ون اس تدراجاً‪ ،‬م ع مق امهم على كف رهم وإص رارهم على معص يتهم‪( -‬إال الق وم الخاس رون) وهم‬
‫‪6‬‬
‫الهالكون) أ‪.‬هـ‪ ‬‬
‫اب ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ث‬ ‫ِ‬ ‫ات أَن يَ ْخ ِس َ‬
‫ف اللّهُ بِ ِه ُم األ َْر َ‬
‫ض أ َْو يَأْتَي ُه ُم ال َْع َذ ُ‬
‫الس يِّئَ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬أَفَ أَم َن الذ َ‬
‫ين َم َك ُرواْ َّ‬
‫الَ ي ْش عرو َن * أَو يأْ ُخ َذهم فِي َت َقلُّبِ ِهم فَم ا هم بِمع ِج ِزين* أَو يأْ ُخ َذهم َعلَى تَ َخ ُّو ٍ‬
‫ف فَ ِإ َّن َربَّ ُك ْم لَ ر ُؤ ٌ‬
‫وف‬ ‫َ ْ َ ُْ‬ ‫ْ َ ُ ُْ‬ ‫ْ َ ُْ‬ ‫َ ُُ‬
‫يم}‪.7 ‬‬ ‫ِ‬
‫َّرح ٌ‬
‫قال ابن القيم ‪-‬رحمه اهلل‪-‬في (الفوائد ص‪:)160‬‬
‫وأما المكر الذي وصف به نفسه فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله فيقابل مكرهم السيئ بمكره‬
‫الحسن‪ ،‬فيكون المكر منهم أقبح شيء‪ ،‬ومنه أحسن شيء؛ ألنه عدل ومجازاة‪.‬‬
‫وأما خوف أوليائه من مكره فح ّق‪ ،‬فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيرون إلى الشقاء‪،‬‬
‫فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬أفأمنوا مكر اهلل) إنما هو في حق الفجار والكفار‪ ،‬ومعنى اآلية‪ :‬فال يعصي اهلل ويأمن من مقابلة‬
‫اهلل له على مكر السيئات بمكره به إال القوم الخاسرون‪.‬‬
‫والذي يخافه العارفون باهلل من مكره‪ :‬أن يؤخر عنهم عذاب األفعال فيحصل منهم نوع اغترار‪ ،‬فيأنسوا‬
‫بالذنوب‪ ،‬فيجيئهم العذاب على غرة وفترة‪.).‬‬
‫خامساً‪ :‬اآلثار الواردة في ذم األمن من مكر اهلل‪:‬‬
‫‪    -1‬قال عبد اهلل بن مسعود ‪-‬رضي اهلل عنه‪( :-‬إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف‬
‫‪8‬‬
‫أن يقع عليه‪ ،‬وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا !)‪ .‬‬
‫ط الن اس من رحم ة اهلل‬
‫‪    -2‬وق ال علي ابن أبي ط الب ‪-‬رض ي اهلل عن ه‪( :-‬إنم ا الع الم ال ذي ال يُقنِّ ُ‬
‫ؤمنهم من مكر اهلل)‪.9‬‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬وال يُ ِّ‬
‫‪10‬‬
‫‪           -3‬وقال الحسن البصري ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬عن النفاق‪( :‬ما خافه إال مؤمن‪ ،‬وال أمنه إال منافق)‪.‬‬
‫‪    -4‬وق ال الحس ن البص ري ‪-‬أيض اً‪( :-‬الم ؤمن يعم ل بالطاع ات وه و مش فق َو ِج ٌل خ ائف‪ ،‬والف اجر‬
‫‪11‬‬
‫يعمل بالمعاصي وهو آمن)‪.‬‬
‫‪    -5‬وعن إسماعيل بن رافع ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬قال‪ِ :‬من األمن ِمن مكر اهلل إقامة العبد على الذنب يتمنى‬
‫‪12‬‬
‫على اهلل المغفرة‪ .‬‬
‫اللهم إن ا نع وذ ب ك من األمن من مك رك‪ ،‬ونس ألك نفس اً طيب ة تع رف المع روف وتفعل ه‪ ،‬وتع رف المنك ر‬
‫مرد مخ ٍز أو فاضح‪،‬‬
‫وتجتنبه‪ ،‬اللهم إنا نعوذ بك من قول بال عمل‪ ،‬ونعوذ بك من سوء الخاتمة‪ ،‬ومن ٍّ‬
‫اللهم إنا نسألك بصيرة في الدين‪ ،‬وحسن ظن مع حسن عمل‪ ،‬ونعوذ بك من أم ٍن مع سوء عمل‪ ،‬اللهم‬
‫أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا‪ ،‬وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا‪ ،‬وأصلح آخرتنا التي فيها معادنا‪،‬‬
‫واجعل الحياة زياة لنا في كل خير‪ ،‬واجعل الموت راحة لنا من كل شر‪ ..‬إنك أنت العزيز الحكيم‪.‬‬
‫وآخر دعـ ـ ــوانا أن الحمــد هلل رب العالمين‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر الزواجر البن حجر (‪.)1/87‬‬


‫‪ - 2‬المفردات للراغب (ص‪.)471‬‬
‫‪ - 3‬الزواجر البن حجر (‪. )1/89‬‬
‫‪ - 4‬الكبائر للذهبي (ص‪ )199‬تحقيق مشهور حسن محمود ‪.‬‬
‫‪ - 5‬األعراف ‪.99 – 97‬‬
‫‪ - 6‬جامع البيان للطبري ( ‪. )6/141‬‬
‫‪ - 7‬النحل ( ‪.) 47 – 45‬‬
‫‪ - 8‬البخاري – ترقيم فتح الباري ‪.)6308 ( 11‬‬
‫‪ - 9‬إحياء علوم الدين ( ‪.)4/153‬‬
‫‪ - 10‬تفسير ابن كثير ( ‪.)2/234‬‬
‫‪ - 11‬فتح الباري (‪.)1/135‬‬
‫‪ - 12‬انظر موسوعة نظرة النعيم ‪ )9/3999‬بتصرف‪ ‬‬
‫ل ا ْل ُق َرى أَنْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ِن أَ ْ‬ ‫األمن مِن‪ ‬مكر هللا‪ ،‬والقنوطَ مِن رحمة هللا‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أَ َفأَم َ‬ ‫َ‬ ‫فإنَّ مِن الذنوب العظيمة عند هللا‬
‫ل ا ْل ُق‪َ 1‬رى أنَْ‬ ‫ُ‬ ‫‪1‬‬‫ه‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ِن‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫أ‬‫و‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫﴿‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪1‬ائمون‪،‬‬ ‫‪1‬‬ ‫ن‬ ‫وهم‬ ‫اًل‬ ‫لي‬ ‫‪1‬ا‬‫‪1‬‬‫ونكالن‬ ‫‪1‬‬
‫ا‬ ‫‪1‬ذابن‬ ‫‪1‬‬‫ع‬ ‫أي‪:‬‬ ‫]؛‬ ‫‪97‬‬ ‫‪1‬راف‪:‬‬ ‫‪1‬‬‫[األع‬ ‫ِمونَ ﴾‬ ‫م نَ‪11‬ائ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫س َنا بَيَاتًا َو ُ‬ ‫م بَ ْأ ُ‬ ‫يَ ْأتِيَ ُه ْ‬
‫ش‪1‬غلهم وغفلتهم‪﴿ ،‬أَ َف‪11‬أَم ُِنوا َم ْك‪َ 1‬ر‬ ‫م يَ ْل َع ُبونَ ﴾ [األعراف‪]98 :‬؛ أي‪ :‬في نهارهم وهم في ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫حى َو ُ‬ ‫ض ً‬ ‫س َنا ُ‬ ‫م بَ ْأ ُ‬ ‫يَ ْأتِيَ ُه ْ‬
‫خاس ُِرونَ ﴾ [األعراف‪]99 :‬؛ أي‪ :‬بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫ْ ُ‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫اَّل‬ ‫إ‬
‫ِ ِ‬ ‫ه‬ ‫َّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫هف َ َ ُ َ َ‬
‫ك‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َاَل‬ ‫اللَّ ِ‬
‫هللا عليهم الن َعم‬ ‫َ‬
‫ذِبين لل ُّرسل كقوم نوح وعاد وثم‪1‬ود أغ‪َ 1‬دق ُ‬ ‫حال سهوهم وغفلتهم‪ ،‬وذلك أن هؤالء القوم المك ّ‬
‫جا مِن هللاِ ‪ ،‬أو أن ي‪11‬أتيهم الع‪11‬ذاب في أي لحظ‪11‬ة‪1،‬‬ ‫والخيرات مع عصيانهم هلل‪ ،‬فاس َتب َعدوا أن يكون مك ًرا واس‪11‬تدرا ً‬
‫وغرتهم ونقمتهم‪ ،‬فال تغ‪11‬ت ُّروا باهلل[‬ ‫َّ‬ ‫أمر هللاِ ‪ ،‬وما أَخذ هللا قو ًما إال عند سلوتهم‬ ‫م ُ‬ ‫َت القو َ‬ ‫قال قتادة رحمه هللا‪ :‬بَغ َ‬
‫‪]1.‬‬
‫‪ ‬‬
‫ه﴾‪( ،‬ه‪1‬ذه اآلي‪1‬ة الكريم‪1‬ة‬ ‫قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه هللا في تعليقه على قول‪1‬ه‪﴿ :‬أَ َف‪1‬أَم ُِنوا َمكْ‪َ 1‬ر اللَّ ِ‬
‫فيها من التخويف البليغ على أن العبد ال ينبغي له أن يكون آم ًنا على ما مع‪11‬ه مِن اإليم‪11‬ان‪ ،‬ب‪11‬ل ال ي‪11‬زال خائ ًف‪11‬ا‬
‫ثب ّت قل‪11‬بي على‬ ‫َوجاًل أنْ ُيبتلى ببليَّة تسلب ما معه من اإليم‪1‬ان‪ ،‬وأن ال ي‪1‬زال داعيً‪11‬ا بقول‪11‬ه‪ :‬ي‪11‬ا مقلِّب القل‪1‬وب ِ‬
‫الشرّ عند وقوع الفتن‪ ،‬فإن العبد ول‪11‬و بلغَت ب‪11‬ه الح‪11‬ال م‪11‬ا‬ ‫ِ‬ ‫دينك‪ ،‬وأن يعمل ويسعى في كل سبب يخلِّصه من‬
‫‪.‬بلغَت فليس على يقين مِن السالمة)[‪ .]2‬ا هـ‬
‫‪ ‬‬
‫ه﴾‪ ‬دلي‪1‬ل على أن هللِ ‪ ‬مك‪ً 1‬را‪ ،‬والمك‪1‬ر ه‪1‬و‬ ‫قال الشيخ ابن عثيمين رحمه هللا‪( :‬في قوله تع‪1‬الى‪﴿ :‬أَ َف‪1‬أَم ُِنوا َمكْ‪َ 1‬ر اللَّ ِ‬
‫التوصُّل إلى اإليقاع بالخصم مِن حيث ال يش ُعر‪ ،‬ومنه جاء في الحديث‪(( :‬الحرب خدع‪1‬ة))‪ ،]3[1‬ف‪1‬إنْ قي‪1‬ل‪ :‬كي‪1‬ف‬
‫ل على ق‪َّ 1‬وة الم‪11‬اكر‪ ،‬وأن‪11‬ه‬ ‫صف هللا بالمكر مع أن ظاهره أنه م‪11‬ذموم؟!‪ ‬قي‪11‬ل‪ :‬إنَّ المك‪11‬ر في مح ِل ّ‪11‬ه محم‪11‬ود ي‪11‬د ُّ‬ ‫يو َ‬
‫صف هللا ب‪11‬ه على اإلطالق‪ ،‬فال يج‪11‬وز أن نق‪11‬ول‪ :‬إنَّ هللا م‪11‬اكر‪ ،‬وإنم‪11‬ا ن‪11‬ذكر ه‪11‬ذه‬ ‫غالب‪ 1‬على خصمه‪ ،‬ولذلك ال ُيو َ‬
‫ُ‪11‬ر الل َُّه﴾ [األنف‪11‬ال‪ ،]30 :‬ومث‪11‬ل قول‪11‬ه‬ ‫مك ُ‬ ‫ُ‪11‬رونَ َويَ ْ‬ ‫مك ُ‬ ‫حا مث‪11‬ل قول‪11‬ه تع‪11‬الى‪َ ﴿ :‬ويَ ْ‬ ‫الص‪11‬فة في مق‪11‬ام تك‪11‬ون في‪11‬ه م‪11‬د ً‬ ‫ِّ‬
‫ش‪ُ 11‬ع ُرونَ ﴾ [النم‪11‬ل‪ .]50 :‬ومث‪11‬ل قول‪11‬ه تع‪11‬الى‪﴿ :‬أَ َف‪11‬أَم ُِنوا َمكْ‪َ 11‬ر‬ ‫َ ْ‬ ‫ي‬ ‫اَل‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫و‬
‫َ ً َ ُ ْ‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ْ‪11‬‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫‪11‬ا‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫م‬
‫َ َ ُ َ ً َ َ َْ‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ْ‪11‬‬‫ك‬ ‫م‬ ‫وا‬ ‫‪11‬ر‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫﴿‬ ‫‪ ‬‬ ‫تع‪11‬الى‪:‬‬
‫ه﴾‪[ ‬األعراف‪ ،]99 :‬وال ُتن َفى عنه ه‪1‬ذه الص‪11‬فة على س‪1‬بيل اإلطالق‪ ،‬ب‪1‬ل إنه‪11‬ا في المق‪1‬ام ال‪1‬ذي تكُ‪1‬ون في‪1‬ه‬ ‫اللَّ ِ‬
‫مى هللا بها فال يقال‪ :‬إنَّ مِن‬ ‫صف بها‪ ،‬وكذلك ال يس َّ‬ ‫حا ال يو َ‬ ‫صف بها‪ ،‬وفي المقام الذي ال تكون فيه مد ً‬ ‫حا ُيو َ‬ ‫مد ً‬
‫‪.‬أسماء هللا الماكر[‪ .]4‬ا هـ‬
‫‪ ‬‬
‫روى اإلمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر رضي هللا عنه؛ أن النبي صلى هللا عليه وس‪11‬لم ق‪11‬ال‪:‬‬
‫رأيت هللا ُيعطي العب َد مِن الدنيا‪ 1‬على معاصيه ما يحب‪ 1،‬فإنما هو استدراج))‪ ،‬ثم تال رسول هللا ص‪11‬لى هللا‬ ‫َ‬ ‫((إذا‬
‫َ‬
‫م بَ ْغ َتة فإِذَا‬ ‫ً‬ ‫اه ْ‬ ‫خذْ نَ ُ‬ ‫َ‬
‫ما أو ُتوا أ َ‬ ‫ُ‬ ‫حوا بِ َ‬ ‫َ‬
‫ح َّتى إِذَا ف ِر ُ‬ ‫ي ٍء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫اب ُك ِ ّ‬ ‫َ‬
‫م أ ْب َو َ‬ ‫َ‬
‫ح َنا َعل ْي ِه ْ‬ ‫ه ف َت ْ‬ ‫َ‬ ‫سوا َما ُذكّ ُِروا بِ ِ‬ ‫ما ن َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عليه وسلم‪﴿ :‬فل َّ‬
‫ِسونَ ﴾‪[ ‬األنعام‪ .]44 :‬وقال إسماعيل بن رافع‪ :‬األ ْمن مِن مكر هللا إقامة العبد على ال‪11‬ذنب يتم َّنى على‬ ‫م ُم ْبل ُ‬ ‫ه ْ‬‫ُ‬
‫حة األب‪11‬دان‪ ،‬ورغ‪11‬د‬ ‫بعض الس‪11‬لف المك‪11‬ر ب‪11‬أن هللا يس‪11‬تدرجهم ب‪11‬النِّعم إذا عص‪1‬وه؛ مِن ص‪َّ 1‬‬ ‫ُ‬ ‫فسر‬ ‫َّ‬ ‫هللا المغفرة‪ ،‬وقد‬
‫خ‪َ 1‬ذ ا ْل ُق‪َ 1‬رى‬ ‫ك إِذَا أَ َ‬ ‫خ‪ُ 1‬ذ َربِّ‪َ 1‬‬ ‫ك أَ ْ‬ ‫أخذ عزي‪1‬ز مقت‪1‬در[‪ ،]5‬ق‪1‬ال تع‪1‬الى‪َ ﴿ :‬و َك‪َ 1‬ذلِ َ‬ ‫ملي لهم ثم يأخذهم ْ‬ ‫وي ْ‬
‫العيش‪ ،‬وغيرها‪ُ ،‬‬
‫ِيد﴾ [هود‪]102 :‬‬ ‫ٌ‬ ‫د‬ ‫ش‬ ‫ٌ َ‬ ‫ِيم‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ه‬
‫ْ ُ‬‫ذ‬ ‫َ‬ ‫خ‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫نَّ‬ ‫إ‬ ‫ة‬
‫َ ٌ ِ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ظ‬ ‫ِي‬
‫َ‬ ‫ه‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫واليأس منه‪ ‬وأن هللا يغفر له ويرحمه‪ ،‬وهو يقاب‪11‬ل األ ْمن مِن‬ ‫ُ‬ ‫ج‪،‬‬ ‫أما القنوط مِن رحمة هللا فهو استبعاد العب ِد ال َف َر َ‬
‫الض‪1‬الُّونَ ﴾‪[ ‬الحج‪11‬ر‪ ،]56 :‬وق‪11‬ال‬ ‫َّ‬ ‫ه إِاَّل‬ ‫ة َربِّ‪ِ 1‬‬ ‫م‪ِ 1‬‬ ‫ح َ‬ ‫ِن َر ْ‬ ‫طم ْ‬ ‫ن يَ ْق َن‪ُ 1‬‬ ‫ل َو َم ْ‬ ‫مكر هللا‪ ،‬وكالهما ذنب عظيم‪ ،‬ق‪1‬ال تع‪1‬الى‪َ ﴿ :‬ق‪1‬ا َ‬
‫ه‪َ 1‬و‬ ‫جمِي ًع‪11‬ا إِنَّ ُه ُ‬ ‫وب َ‬ ‫ه إِنَّ اللَّ َه يَ ْغف ُِر ال ُّذ ُن َ‬ ‫ة اللَّ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ِن َر ْ‬ ‫م اَل تَ ْق َنطُوا م ْ‬ ‫ِه ْ‬ ‫س َرفُوا َعلَى أَ ْن ُفس ِ‬ ‫ِين أَ ْ‬ ‫ِي الَّذ َ‪1‬‬ ‫عبَاد َ‬ ‫ُل يَا ِ‬‫تعالى‪﴿ :‬ق ْ‬
‫ِيم﴾ [الزمر‪]53 :‬‬ ‫ُ‬ ‫ح‬ ‫الر‬
‫ُ ُ َّ‬ ‫ور‬ ‫ف‬ ‫غ‬
‫َ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ا‬‫‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪:‬قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتابه فتح المجيد‬
‫ه إِاَّل‬ ‫ن َم ْك َر اللَّ ِ‬ ‫ه فَاَل يَ ْأ َم ُ‬ ‫ه إِاَّل الضَّالُّونَ ﴾‪[ ‬الحجر‪ ،]56 :‬مع قوله‪﴿ :‬أَ َفأَ ِم ُنوا َم ْك َر اللَّ ِ‬ ‫ة َربِّ ِ‬ ‫م ِ‬‫ح َ‬ ‫ِن َر ْ‬ ‫طم ْ‬ ‫ن يَ ْق َن ُ‬ ‫ل َو َم ْ‬ ‫قوله‪َ ﴿ :‬قا َ‬
‫هللا أن يقن‪1‬ط مِن رحمت‪1‬ه‪ ،‬ب‪1‬ل يك‪1‬ون خائفً‪1‬ا‬ ‫من خ‪1‬اف َ‬ ‫خاس ُِرونَ ﴾ [األعراف‪ ]99 :‬دليل على أن‪1‬ه ال يج‪1‬وز لِ َ‬ ‫ا ْل َق ْو ُم ا ْل َ‬
‫م‬ ‫ه‬
‫َ ِّ ِ ُ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ى‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫‪1‬ونَ‬ ‫غ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ب‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ونَ‬ ‫ع‬‫ُ‬ ‫‪1‬د‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ِين‬
‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َّ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ِ‪1‬‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ُ‬
‫أ‬ ‫﴿‬ ‫‪ ‬‬ ‫تع‪1‬الى‪:‬‬ ‫ق‪1‬ال‬ ‫رحمت‪1‬ه‪،‬‬ ‫ويرج‪1‬و‬ ‫هللا‪،‬‬ ‫بطاع‪1‬ة‬ ‫ويعم‪1‬ل‬ ‫ذنوب‪1‬ه‪،‬‬ ‫يخ‪1‬اف‬ ‫راجيًا‪،‬‬
‫‪1‬ل‬‫ْ ِ‬ ‫‪1‬‬‫ي‬ ‫َّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ء‬
‫َ‬ ‫‪1‬ا‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫آ‬ ‫ِت‬
‫ٌ‬ ‫ن‬ ‫‪1‬ا‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫و‬ ‫‪1‬‬‫ه‬
‫َّ ْ ُ َ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫﴿‬ ‫‪ ‬‬ ‫تع‪1‬الى‪:‬‬ ‫‪1‬ال‬ ‫‪1‬‬ ‫وق‬ ‫‪.‬‬ ‫]‬ ‫‪57‬‬ ‫‪1‬راء‪:‬‬ ‫‪1‬‬‫[اإلس‬ ‫﴾‬ ‫‪1‬ه‬‫‪1‬‬
‫َ ُ‬ ‫ب‬ ‫َا‬
‫ذ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ُونَ‬ ‫ف‬ ‫‪1‬ا‬ ‫خ‬‫َ‬ ‫ي‬‫و‬ ‫ه‬
‫َ ْ ََ ُ ََ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫ر‬ ‫ونَ‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫ُ ْ َ ُ ََْ ُ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُّه‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ة‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا ْل َوس‬
‫ِي‬
‫ه﴾ [الزمر‪ ،]6[]9 :‬قال الحسن‪ 1‬البصري‪ :‬المؤمن يعمل بالطاعات‪ 1‬وهو‬ ‫م َة َربِّ ِ‬ ‫ح َ‬‫جو َر ْ‬ ‫خ َر َة َويَ ْر ُ‬‫حذ َُر اآْل ِ‬ ‫ج ًدا َو َقائِ ً‬
‫ما ي َ ْ‬ ‫سا ِ‬
‫َ‬
‫‪.‬مشفق خائف َوجِل‪ ،‬والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن[‪]7‬‬
‫‪ ‬‬
‫مونِي‬ ‫ش ‪ْ 1‬ر ُت ُ‬‫ل أَبَ َّ‬ ‫بشرته‪ 1‬المالئكة بابن‪11‬ه إس‪11‬حاق ‪َ ﴿ :-‬ق‪11‬ا َ‬ ‫وقال تعالى حاكيًا عن خليله إبراهيم عليه السالم ‪ -‬لما َّ‬
‫سنُّه وسِنُّ زوجت‪11‬ه اس‪11‬تبعد أن‬ ‫ش ُِرونَ ﴾ [الحجر‪]54 :‬؛ ألن العادة أن الرجل إذا كبر ِ‬ ‫م ُتبَ ّ‬ ‫ِي ا ْلكِبَ ُر َفبِ َ‬
‫سن َ‬ ‫َعلَى أَنْ َم َّ‬
‫ق‪[ ﴾1‬الحج‪11‬ر‪ ،]55 :‬ال‪11‬ذي ال ريب في‪11‬ه‪،‬‬ ‫ح ِّ‬ ‫ك بِ‪11‬ا ْل َ‬ ‫ش ْرنَا َ‬ ‫يولد له منها‪ ،‬وهللا على كل شيء قدير‪ ،‬فقالت المالئكة‪﴿ :‬بَ َّ‬
‫ِين﴾ [الحج‪11‬ر‪ ]55 :‬أي‪ :‬من اآليس‪11‬ين‪ ،‬وق‪11‬ال‬ ‫ِن ا ْل َق‪11‬انِط َ‪1‬‬ ‫ُن م َ‬ ‫فإن هللا إذا أراد شي ًئا فإنما يقول له كن فيكون‪﴿ ‬فَاَل تَك ْ‬
‫ه إِاَّل الضَّالُّونَ ﴾ [الحج‪11‬ر‪ ،]56 :‬فإن‪11‬ه يعلم من قدرت‪11‬ه وحكمت‪11‬ه م‪11‬ا‬ ‫ة َربِّ ِ‬
‫م ِ‬‫ح َ‬ ‫ِن َر ْ‬ ‫طم ْ‬ ‫ن يَ ْق َن ُ‬ ‫ل َو َم ْ‬‫تعالى حاك ًيا عنه‪َ ﴿ :‬قا َ‬
‫‪.‬هو أبلغ من ذلك وأعظم‬
‫‪ ‬‬
‫س‪1‬ئل عن أك‪11‬بر الكب‪11‬ائر؟‬ ‫روى عبد الرزاق في مص َّنفه من حديث‪ 1‬ابن مسعود رضي هللا عنه موقو ًفا علي‪11‬ه؛ أن‪11‬ه ُ‬
‫‪ .‬فقال‪( :‬الشرك باهلل‪ ،‬واليأس من روح هللا‪ ،‬واألمن من مكر هللا‪ ،‬والقنوط من رحمة هللا)[‪]8‬‬
‫‪ ‬‬
‫اء﴾‬‫ش‪ُ 1‬‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك لِ َ‬
‫ه َويَ ْغف ُِر َم‪11‬ا ُدونَ َذلِ‪َ 1‬‬ ‫ك بِ ِ‬ ‫ش َر َ‬‫والشرك باهلل أعظم الذنوب عند هللا‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِنَّ اللَّ َه اَل يَ ْغف ُِر أَنْ ُي ْ‬
‫[النساء‪ ، ]48 :‬واليأس من روح هللا أي‪ :‬قطع الرجاء واألمل من هللا فيما يخافه ويرج‪11‬وه‪ ،‬ف‪11‬إذا ك‪11‬ان في كرب‪11‬ة أو‬
‫ل به وبسعة رحمت‪11‬ه وج‪11‬وده ومغفرت‪11‬ه‪ ،‬ق‪11‬ال تع‪11‬الى عن نب ِي ّ‪11‬ه‬ ‫ن باهلل‪ ،‬وجه ٌ‬ ‫ش َّدة يستبعِد زوالَها‪ ،‬وذلك إساءة ظ ٍّ‬
‫كاف ُِرونَ ﴾ [يوسف‪]87 :‬‬ ‫ه إِاَّل ا ْل َق ْو ُم ا ْل َ‬‫ِن َر ْوحِ اللَّ ِ‬ ‫سم ْ‬ ‫‪.‬يعقوب عليه السالم‪﴿ :‬إِنَّ ُه اَل يَ ْيأَ ُ‬
‫‪ ‬‬
‫س ننه‪ ،‬من حديث أنس رضي هللا عنه؛ أن النبي صلى هللا علي‪11‬ه وس‪11‬لم دخ‪11‬ل على ش‪11‬اب‬ ‫روى الترمذي في ُ‬
‫وهو في الموت‪ ،‬فقال‪((:‬كيف تجدك؟))‪ 1‬قال‪ :‬وهللا يا رسول هللا‪ ،‬إني أرجو هللا‪ ،‬وإني أخاف ذنوبي‪ ،‬فقال رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬ال يجتمعان في قلب عب ٍد في مثل ه‪11‬ذا الم‪11‬وطن إال أعط‪11‬ا ُه هللا ُم‪11‬ا يرج‪11‬و‪ ،‬وآمن‪11‬ه‬
‫‪.‬مما يخاف))‪]9[1‬‬
‫‪ ‬‬
‫مع بين الخوف والرجاء‪ ،‬فإذا خاف فال يقنط وال ييأس‪ ،‬بل يرجو رحم‪11‬ة هللا‪ ،‬وك‪11‬ان الس‪11‬لف‬ ‫وفي هذا الحديث‪ 1‬الج ْ‬
‫حة الخوف‪ 1،‬وفي المرض الرجاء‬ ‫ّ َّ‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫و‬ ‫يق‬ ‫أن‬ ‫ون‬ ‫ُّ‬ ‫ب‬ ‫‪.‬يستح‬
‫‪ ‬‬
‫فس‪َ 1‬د القلب[‪،]10‬‬ ‫َ‬ ‫قال أبو سليمان الداراني‪ :‬وينبغي للقلب أن يك‪1‬ون الغ‪1‬الب‪ 1‬علي‪1‬ه‪ ‬الخ‪1‬وف‪ ،‬ف‪1‬إذا غلب الرج‪1‬اء‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم قبل موت‪11‬ه‬ ‫سمعت النب َّ‬ ‫ُ‬ ‫روى مسلم في صحيحه‪ ،‬من حديث‪ 1‬جابر رضي هللا عنه قال‪:‬‬
‫الظن باهلل عز وجل))[‪]11‬‬ ‫َّ‬ ‫حسن‪1‬‬ ‫أحدكم‪ 1‬إال وهو ُي ْ‬ ‫ُ‬ ‫يموتن‬
‫َّ‬ ‫‪.‬بثالثة أيام يقول‪(( :‬ال‬
‫‪ ‬‬
‫ل هللا ص‪11‬لى‬ ‫سألت رس‪11‬و َ‬ ‫ُ‬ ‫س ننه‪ ،‬من حديث عائشة زوج النبي صلى هللا عليه وسلم قالت‪:‬‬ ‫روى الترمذي في ُ‬
‫م الذين‬ ‫ه ُ‬ ‫َ‬
‫ة﴾ [المؤمنون‪ ،]60 :‬قالت عائشة‪ 1:‬أ ُ‬ ‫جل ٌ‬‫َ‬ ‫م َو ِ‬ ‫ُوب ُه ْ‬ ‫ِين ُي ْؤ ُتونَ َما آتَ ْوا َو ُقل ُ‬ ‫َّ‬
‫هللا عليه وسلم عن هذه اآلية‪َ ﴿ ‬والذ َ‪1‬‬
‫دِيق‪ ،‬ولكنهم الذين‪ 1‬يصومون ويص‪11‬لون ويتص‪َّ 1‬دقون‪ ،‬وهم يخ‪11‬افون‬ ‫صّ ّ‬‫بنت ال ِ‬ ‫َ‬ ‫يشربون الخمر ويسرقون؟ قال‪(( :‬ال يا‬
‫‪.‬أن ال يقبل منهم‪ ،‬أولئك الذين‪ُ 1‬يسارعون في الخيرات))‪]12[1‬‬
‫‪ ‬‬
‫مد وعلى آله وصحبه أجمعين‬ ‫ب العالمين‪ ،‬وصلَّى هللا وسلَّم على نب ِي ّنا مح َّ‬ ‫‪.‬والحمد هلل ر ّ ِ‬
‫ُ‬

‫‪ ‬‬
‫‪.‬فتح المجيد ص ‪[1] 415‬‬
‫‪.‬تفسير ابن سعدي ص ‪[2] 276‬‬
‫‪.‬صحيح البخاري ص ‪ 579‬برقم ‪ ،3030‬وصحيح مسلم ص ‪ 723‬برقم ‪[3] 1739‬‬
‫‪.‬القول المفيد شرح كتاب التوحيد ( ‪[4] )248 /2‬‬
‫‪.‬فتح المجيد ص ‪[5] 416‬‬
‫‪.‬فتح المجيد ص ‪[6] 416‬‬
‫‪.‬تفسير ابن كثير ( ‪[7] )355 /6‬‬
‫‪[8] ( 10/ 459 - 460).‬‬
‫‪.‬ص ‪ 177‬برقم ‪[9] 983‬‬
‫‪.‬فتح المجيد ص ‪[10] 419 - 417‬‬
‫‪.‬ص ‪ 1153‬برقم ‪[11] 2877‬‬
‫سنن الترمذي ( ‪[12] - 79 1/3‬‬
‫دِين‪ 1‬األلباني رحمه هللا في صحيح ُ‬
‫ححه الشيخ ناصر ال ّ‬
‫ص ‪ 504‬برقم ‪ ،3175‬وص َّ‬
‫‪ )80.‬برقم ‪3401‬‬
‫رابط الموضوع‪https://www.alukah.net/sharia/0/24170/#ixzz65bi9rXK6  :‬‬

‫‪ :‬هذا الباب اشتمل على موضوعين‬


‫‪ .‬األول ‪ :‬األمن من مكر اهلل‬
‫‪.‬والثاني ‪ :‬القنوط من رحمة اهلل ‪ .‬وكالهما طرفا نقيض‬
‫‪ .‬واستدل المؤلف لألول بقوله تعالى ‪ { :‬أفأمنوا }‬

‫)‪(2/62‬‬

‫الضمير يعود على أهل القرى ‪ ،‬ألن ما قبلها قوله تعالى ‪ { :‬أفأمن أهل القري‬
‫أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القري أن يأتهم بأسنا ضحى‬
‫وهم يلعبون * أفأمنوا مكر اهلل فال يأمن مكر اهلل إال القوم الخاسرون }‬
‫‪ [ .‬األعراف ‪]97،98،99 :‬‬
‫فقوله ‪ { :‬وهم نائمون } يدل على كمال األمن ألنهم في بالدهم ‪ ،‬وأن الخائف ال‬
‫ينام ‪ ،‬وقوله ‪ { :‬ضحى وهم يلعبون } يدل أيضا على كمال األمن والرخاء‬
‫وعدم الضيق ‪ ،‬ألنه لو كان عندهم ضيق في العيش لذهبوا يطلبون الرزق‬
‫‪ .‬والعيش وما صاروا في الضحى ‪ -‬في رابعة النهار ‪ -‬يلعبون‬
‫واالستفهامات هنا كلها لإلنكار والتعجب من حال هؤالء ‪ ،‬فهم نائمون وفي‬
‫رغد ‪ ،‬ومقيمون على معاصي اهلل وعلى اللهو ‪ ،‬ذاكرون لترفهم ‪ ،‬غافلون عن‬
‫ذكر خالقهم ‪ ،‬فهم في الليل نوم ‪ ،‬وفي النهار لعب ‪ ،‬فبين اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬أن‬
‫هذه من مكره بهم ‪ ،‬ولهذا قال ‪ { :‬أفأمنوا مكر اهلل } ‪ ،‬ثم ختم اآلية بقوله ‪:‬‬
‫{ فال يأمن مكر اهلل إال القوم الخاسرون } فالذي يمن اهلل عليه بالنعم والرغد‬
‫‪ .‬والترف وهو مقيم على معصيته يظن أنه رابح وهو في الحقيقة خاسر‬
‫فإذا أنعم اهلل عليك من كل ناحية ‪ :‬أطعمك من جوع ‪ ،‬وآمنك من خوف ‪،‬‬
‫وكساك من عري ‪ ،‬فال تظن أنك رابح وأنت مقيم على معصية اهلل ‪ ،‬بل أنت‬
‫‪ .‬خاسر ‪ ،‬ألن هذا من مكر اهلل بك‬
‫قوله ‪ { :‬إال القوم الخاسرون } ‪ .‬االستثناء للحصر ‪ ،‬وذلك ألن ما قبله مفرغ له‬
‫‪ ، .‬فالقوم فاعل ‪ ،‬والخاسرون صفتهم‬
‫وفي قوله تعالى ‪ { :‬فأمنوا مكر اهلل } دليل على أن اهلل مكرا ‪ ،‬والمكر هو‬
‫التوصل إلى اإليقاع بالخصم من حيث ال يشعر ‪ ،‬ومنه ما جاء في الحديث ‪" :‬‬
‫‪).‬الحرب[ خدعة " (‪1)1‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬كيف يوصف اهلل بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم ؟‬
‫__________‬
‫البخاري ‪ :‬كتاب الجهاد ‪ /‬باب الحرب خدعة ‪ ،‬ومسلم ‪ :‬كتاب الجهاد ‪(1) /‬‬
‫‪ .‬باب جواز الخداع في الحرب‬

‫)‪(2/63‬‬
‫قيل ‪ :‬إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر ‪ ،‬وأنه غالب على خصمه‬
‫‪ ،‬ولذلك ال يوصف اهلل به على اإلطالق ‪ ،‬فال يجوز أن تقول ‪ :‬إن اهلل ماكر ‪،‬‬
‫وإ نما تذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه مدحا ‪ ،‬مثل قوله تعالى ‪ { :‬ويمكرون‬
‫ويمكر اهلل } [ األنفال ‪ ، ] 30 :‬وقال تعالى ‪ { :‬ومكروا مكرا ومكرنا مكرا‬
‫وهم ال يشعرون } [النمل ‪ ، ] 50 :‬ومثل قوله تعالى ‪ { :‬فأمنوا مكر اهلل }‬
‫[ األعراف ‪ ، ]99 :‬وال تنفي عنه هذه الصفة على سبيل اإلطالق ‪ ،‬بل أنها في‬
‫المقام التي تكون مدحا يوصف بها وفي المقام التي ال تكون مدحا ال يوصف‬
‫‪.‬بها‬
‫‪ .‬وكذلك ال يسمى اهلل بها ‪ ،‬فال يقال ‪ :‬إن من أسماء اهلل الماكر‬
‫وأما الخيانة ‪ ،‬فال يوصف اهلل بها مطلقا ألنها ذم بكل حال ‪ ،‬إذ إنها مكر في‬
‫موضع االئتمان ‪ ،‬وهو مذموم ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬وإ ن يريدوا خيانتك فقد خانوا اهلل‬
‫‪ .‬من قبل فأمكن منهم } [ األنفال ‪ ، ] 71 :‬ولم يقل ‪ :‬فخانهم‬
‫وأما الخداع ‪ ،‬فهو كالمكر يوصف به حيث يكون مدحا ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬إن‬
‫المنافقين يخادعون اهلل وهو يخادعهم } [ النساء ‪ ، ] 142 :‬والمكر من الصفات‬
‫‪ .‬الفعلية ‪ ،‬ألنها تتعلق بمشيئة اهلل ‪ -‬سبحانه‬
‫‪ :‬ويستفاد من هذه اآلية‬
‫الحذر من النع التي يجلبها اهلل للعبد لئال تكون استدراجا ‪ ،‬ألن كل نعمة فلله‬
‫عليك وظيفة شكرها ‪ ،‬وهي القيام بطاعة المنعم ‪ ،‬فإذا لم تقم بها مع توافر النعم‬
‫‪ ، .‬فاعلم أن هذا من مكر اهلل‬
‫‪ :‬تحريم األمن من مكر اهلل ‪ ،‬وذلك لوجهين‬
‫‪ .‬األول ‪ :‬أن الجملة بصيغة االستفهام الدال على اإلنكار والتعجب‬
‫‪ .‬الثاني ‪ :‬قوله تعالى { فال يأمن مكر اهلل إال القوم الخاسرون }‬
‫‪ .‬وقوله ‪ { :‬ومن يقنط من رحمة ربه إال الضالون } ‪ [ .‬الحجر ‪] 56 :‬‬
‫‪ .‬الموضوع الثاني مما اشتمل عليه هذا الباب القنوط من رحمة اهلل‬
‫‪ .‬واستدل المؤلف له بقوله تعالى ‪ { :‬ومن يقنط من رحمة ربه }‬

‫)‪(2/64‬‬

‫اسم استفهام ‪ ،‬ألن الفعل بعدها مرفوع ‪ ،‬ثم إنها لم تكن لها جواب ‪ } : ،‬من {‬
‫والقنوط ‪ :‬أشد البأس‪ ،‬ألن اإلنسان يقنط ويبعد الرجاء واألمل ‪ ،‬بحيث يستبعد‬
‫‪ .‬حصول مطلوبه أو كشف مكروبة‬
‫قوله ‪ { :‬من رحمة ربه } ‪ .‬هذه رحمة مضافة إلى الفاعل ومفعولها محذوف ‪،‬‬
‫‪ .‬والتقدير ( رحمة ربه إياه )‬
‫قوله ‪ { :‬إال الظالمون } ‪ .‬إال أداة حصر ‪ ،‬ألن االستفهام في قوله ‪ { :‬ومن يقنط‬
‫‪ } .‬مراد به النفي ‪ ،‬و { الضالون } فاعل يقنط‬
‫والمعنى ال يقنط من رحمة اهلل إال الضالون ‪ ،‬والضال ‪ :‬فاقد الهداية ‪ ،‬التائه‬
‫الذي ال يدري ما يجب هلل سبحانه ‪ ،‬مع أنه سبحانه قريب الغير ‪ ،‬ولهذا جاء في‬
‫الحديث ‪ " :‬عجب ربنا من قنوط عباده ‪ ،‬وقرب غيره ‪ ،‬ينظر إليكم أزلين‬
‫‪.‬قنطين ‪ ،‬فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب " (‪)1‬‬
‫وأما معنى اآلية ‪ ،‬فإن إبراهيم عليه السالم لما بشرته المالئكة بغالم عليم قال‬
‫لهم ‪ { :‬أبشر تموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون * قالوا بشرنك بالحق فال‬
‫تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة اهلل إال الضالون } [ الحجر ‪:‬‬
‫‪]56-54 .‬‬
‫فالقنوط من رحمة اهلل ال يجوز ‪ ،‬ألنه سوء ظن باهلل ‪ -‬عز وجل ‪ ،‬وذلك من‬
‫‪ :‬وجهين‬
‫األول ‪ :‬أنه طعن في قدرته سبحانه ‪ ،‬ألن من علم اهلل على كل شيء قدير لم‬
‫‪ .‬يستبعد شيئا على قدرة اهلل‬
‫الثاني ‪ :‬أنه طعن في رحمته سبحانه ‪ ،‬ألن من علم أن اهلل رحيم ال يستبعد أن‬
‫‪ .‬برحمة اهلل سبحانه ‪ ،‬ولهذا كان القانط من رحمة اهلل ضاال‬
‫__________‬
‫اإلمام أحمد في " مسنده " (‪ ، ) 12 ،4/11‬وابن ماجة ( المقدمة ‪(1) ) 1/64 ،‬‬
‫‪ ،‬ابن أب عاصم في " السنة " (‪ ، )554‬واآلجري في " الشريعة " (ص‪ )95‬قال‬
‫‪ .‬الشيخ اإلسالم ابن تيميه ‪ " :‬حديث حسن " ( الوسطية " ‪ ،‬ص ‪)13‬‬

‫)‪(2/65‬‬

‫وال ينبغي لإلنسان إذا وقع في كربة أن يستبعد حصول مطلوبه أو كشف‬
‫مكروبة ‪ ،‬وكم من إنسان وقع في كربة وظن أن ال نجاة منها ‪ ،‬فنجاه اهلل‬
‫سبحانه ‪ :‬إما بعمل صالح سابق مثل ما وقع ليونس عليه السالم ‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬‬
‫فلوال أنه من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } [ الصافات ‪:‬‬
‫‪ ، ]144‬أو بعمل الحق ‪ ،‬وذلك كدعاء الرسول ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬يوم‬
‫‪ .‬بدر (‪ )1‬وليلة األحزاب(‪ ، )2‬وكذلك أصحاب الغار(‪)3‬‬
‫وتبين مما سبق أن المؤلف رحمة اهلل أراد أن يجمع اإلنسان في سيره إلى اهلل‬
‫تعالى بين الخوف فال يأمن مكر اهلل ‪ ،‬وبين الرجاء[ فال يقنط من رحمته ‪،‬‬
‫فاألمن من مكر اهلل ثلم في جانب الخوف ‪ ،‬والقنوط من رحمته ثلم في جانب‬
‫‪ .‬الرجاء‬
‫وعن ابن عباس ‪ ،‬أن رسول اهلل ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬سئل عن الكبائر ؟‬
‫‪.‬فقال ‪ " :‬الشرك باهلل ‪ ،‬واليأس من روح اهلل ‪ ،‬واألمن من مكر اهلل " (‪)4‬‬
‫__________‬
‫خاري ‪ :‬كتاب المغازي ‪ /‬باب قوله تعالى ‪ ( :‬إذا تستغيثون ربكم ‪(1) ، ) ..‬‬
‫‪ .‬ومسلم ‪ :‬كتاب الجهاد ‪/‬باب اإلمداد بالمالئكة في غزوة بدر‬

‫البخاري ‪ :‬كتاب المغازي ‪ /‬باب غزوة الخندق ‪ ،‬ومسلم ‪ :‬كتاب الجهاد ‪(2) /‬‬
‫‪ .‬باب استحباب الدعاء بالنصر‬
‫بالبخاري ‪ :‬كتاب األنبياء ‪ /‬باب حديث الغار ‪ ،‬ومسلم كتاب الذكر والدعاء )‪(3‬‬
‫‪/.‬باب قصة أصحاب الغار‬
‫البراز كما في " كشف األستار " (‪ ، )106‬وابن أبي حاتم في " التفسير " )‪(4‬‬
‫‪" .‬كما في " الدر المنشور " (‪ ، )2/148‬وقال ‪ " :‬إسناده حسن‬
‫‪ " .‬وقال الثيثمي ( ‪ " : ) 1/104‬رواء البزار والطيرني ‪ ،‬ورجاله موثقون‬

‫)‪(2/66‬‬

‫قوله ‪ :‬في حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما ‪ " :‬أن رسول اهلل ‪ -‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ -‬سئل عن الكبائر "‪ .‬جمع كبيرة ‪ ،‬والمراد بها ‪ :‬كبائر الذنوب ‪،‬‬
‫وهذا السؤال يدل على أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر ‪ ،‬وقد دل على ذلك‬
‫القرآن ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }‬
‫[النساء ‪ ، ] 31 :‬وقال تعالى { الذين يجتنبون كبائر اإلثم والفواحش } [النجم ‪:‬‬
‫‪ ، ] 32 .‬والكبائر ليست على درجة واحدة ‪ ،‬فبعضها أكبر من بعض‬
‫واختلف العلماء ‪ :‬هل هي معدودة أو محدودة ؟‬
‫فقال بعض أهل العلم ‪ :‬إنها معدودة ‪ ،‬وصار يعددها ويتتبع النصوص الواردة‬
‫‪ .‬في ذلك‬
‫وقيل إنها محدودة ‪ ،‬وقد حدها شيخ اإلسالم ابن تيميه رحمة اهلل ‪ ،‬فقال ‪ " :‬كل‬
‫ما رتب عليه عقوبة خاصة ‪ ،‬سواء كانت في الدنيا أو اآلخرة ‪ ،‬وسواء كانت‬
‫‪ .‬بفوات محبوب أو بحصول مكروه " ‪ ،‬وهذا واسع جدا يشمل ذنوبا كثيرة‬
‫‪ :‬ووجه ما قاله ‪ :‬أن المعاصي قسمان‬
‫قسم نهي عنه فقط ولم يذكر عليه وعيد ‪ ،‬فعقوبة هذا تأتي بالمعنى العام‬
‫للعقوبات ‪ ،‬وهذه المعصية مكفرة بفعل الطاعات ‪ ،‬كقوله ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪ " : -‬الصلوات[ الخمس ‪ ،‬والجمعة إلى الجمعة ‪ ،‬ورمضان إلى رمضان كفارة‬
‫لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " (‪ .)1‬وكذلك ما ورد في العمرة إلى العمرة (‪،)2‬‬
‫‪ .‬والوضوء من تكفير الخطايا (‪ ،)3‬فهذه من الصغائر‬
‫وقسم رتب عليه عقوبة خاصة ‪ ،‬كاللعن ‪ ،‬أو الغضب[ ‪ ،‬أو التبرؤ من فاعله ‪،‬‬
‫أو الحد في الدنيا ‪ ،‬أو نفي اإليمان ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬فهذه كبيرة تختلف في‬
‫‪ .‬مراتبها‬
‫والسائل في هذا الحديث إنما قصده معرفة الكبائر ليجتنبها ‪ ،‬خالفا لحال كثير‬
‫‪ .‬من الناس اليوم حيث يسأل ليعلم فقط ‪ ،‬ولذلك نقصت بركة علمهم‬
‫__________‬
‫‪ ..‬مسلم ‪ :‬كتاب الطهارة ‪ /‬باب الصلوات الخمس )‪(1‬‬
‫البخاري ‪ :‬كتاب العمرة ‪ /‬باب وجوب العمرة وفضلها ‪ ،‬ومسلم ‪ :‬كتاب )‪(2‬‬
‫‪ .‬الحج ‪ /‬باب فضل الحج والعمرة‬
‫‪ .‬مسلم ‪ :‬كتاب الطهارة ‪ /‬باب فضل الوضوء )‪(3‬‬

‫)‪(2/67‬‬
‫قوله ‪ " :‬الشرك باهلل " ‪ .‬ظاهر اإلطالق ‪ :‬أن المراد به الشرك األصغر واألكبر‬
‫‪ ،‬وهو الظاهر ‪ ،‬ألن الشرك األصغر أكبر من الكبائر ‪ ،‬قال ابن مسعود ‪ " :‬ألن‬
‫أحلف باهلل كاذبا أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقا " (‪ ،)1‬وذلك ألن سيئة‬
‫‪ .‬الشرك أعظم من سيئة الكذب ‪ ،‬فدل على أن الشرك من الكبائر مطلقا‬
‫‪ .‬والشرك باهلل بتضمن الشرك بربو بيته ‪ ،‬أو بألوهيته ‪ ،‬أو بأسمائه وصفاته‬
‫قوله ‪ " :‬اليأس من روح اهلل" ‪ .‬اليأس ‪ :‬فقد الرجاء ‪ ،‬والروح بفتح الراء قريب‬
‫من معنى الرحمة ‪ ،‬وهو الفرج والتنفيس ‪ ،‬واليأس من روح اهلل من كبائر‬
‫‪ .‬الذنوب لنتائجه السيئة‬
‫قوله ‪ " :‬األمن من مكر اهلل " ‪ .‬بأن يعصي اهلل مع استدراجه بالنعم ‪ ،‬قال تعالى‬
‫‪ { :‬والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث ال يعلمون * وأملي لهم إن كيدي‬
‫‪ .‬متين } [ األعراف ‪] 183 -182 :‬‬
‫وظاهر هذا الحديث ‪ :‬الحصر ‪ ،‬وليس كذلك ‪ :‬ألن هناك كبائر غير هذه ولكن‬
‫الرسول ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬يجيب كل مسائل بما يناسب حاله ‪ ،‬فلعله‬
‫رأي هذا السائل عنده شيء من األمن من مكر اهلل أو اليأس من روح اهلل ‪،‬‬
‫فأراد أن يبين له ذلك وهذه مسألة ينبغي أن يفطن لها اإلنسان فيما يأتي من‬
‫النصوص الشرعية مما ظاهره التعارض ‪ ،‬فيحمل كل واحد منها علي الحال‬
‫‪.‬المناسبة ليحصل التآلف بين النصوص الشرعية‬
‫وعن ابن مسعود ‪ ،‬قال ‪ " :‬أكبر الكبائر ‪ :‬اإلشراك باهلل واألمن من مكر اهلل ‪،‬‬
‫‪.‬والقنوط من رحمة اهلل ‪ ،‬واليأس من روح اهلل " ‪ .‬رواه عبد الرزاق (‪)2‬‬
‫قوله في أثر ابن مسعود ‪ " :‬اإلشراك باهلل " ‪ :‬هذا أكبر الكبائر ‪ ،‬ألنه انتهاك‬
‫ألعظم الحقوق ‪ ،‬وهو حق اهلل تعالى الذي أوجدك وأعدك وأمدك ‪ ،‬فال أحد أكبر‬
‫‪ .‬عليك نعمة من اهلل تعالى‬
‫‪ .‬قوله ‪ " :‬األمن من مكر اهلل " ‪ .‬سبق شرحه‬
‫__________‬
‫تقدم (ص‪(1) )606‬‬

‫عبد الرزاق في " المصنف " (‪ ، )459 /10‬وابن جرير (‪(2) ، )5/26‬‬
‫‪ .‬والطبراني في " الكبير " (‪)5783‬‬

‫)‪(2/68‬‬

‫قوله ‪ " :‬القنوط من رحم اهلل واليأس من روح اهلل " ‪ .‬المراد بالقنوط ‪ :‬أن‬
‫يستبعد رحمة اهلل ويستبعد حصول المطلوب ‪ ،‬والمراد باليأس هنا أن يستبعد‬
‫اإلنسان زوال المكروه ‪ ،‬وإ نما قلنا ذلك ‪ ،‬لئال يحصل تكرار في كالم ابن‬
‫‪ .‬مسعود‬
‫والخالصة ‪ :‬أن السائر إلى اهلل يعتريه شيئان يعوقانه عن ربه ‪ ،‬وهما األمن من‬
‫مكر اهلل ‪ ،‬والقنوط من رحمة اهلل ‪ ،‬فإذا أصيب بالضراء أو فات عليه ما يجب ‪،‬‬
‫تجده أن لم يتداركه ربه يستولي عليه القنوط ويستبعد الفرج وال يسعى‬
‫ألسبابه ‪ ،‬وأما األمن من مكر اهلل ‪ ،‬فتجد اإلنسان مقيما على المعاصي مع توافر‬
‫‪ .‬النعم عليه ‪ ،‬ويرى أنه على حق فيستمر في باطله ‪ ،‬فال شك أن هذا استدراج‬
‫***‬
‫‪ :‬فيه مسائل‬
‫األولى ‪ :‬تفسير آية األعراف ‪ .‬الثانية ‪ :‬تفسير آية الحجر[ ‪ .‬الثالثة ‪ :‬شدة الوعيد‬
‫‪ .‬فيمن أمن مكر اهلل ‪ .‬الرابعة ‪ :‬شدة الوعيد في القنوط‬
‫‪ :‬فيه مسائل‬
‫األولى ‪ :‬تفسير آية األعراف ‪ .‬وهي قوله تعالى ‪ { :‬فأمنوا مكر اهلل فال يأمن‬
‫‪ .‬مكر اهلل إال القوم الخاسرون } ‪ ،‬وقد سبق تفسيرها‬
‫الثانية ‪ :‬تفسير آية الحجر ‪ .‬وهي قوله تعالى ‪ { :‬ومن يقنط م رحمة ربه إال‬
‫‪ .‬الضالون } ‪ ،‬وقد سبق تفسيرها‬
‫الثالثة ‪ :‬شدة الوعيد فيمن أمن مكر اهلل ‪ .‬وذلك بأنه من أكبر الكبائر ‪ ،‬كما في‬
‫‪ .‬اآلية والحديث ‪ ،‬وتؤخذ من اآلية األولى ‪ ،‬والحديثين‬
‫‪ .‬الرابعة ‪ :‬شدة الوعيد في القنوط ‪ ،‬تؤخذ من اآلية الثانية والحديثين‬

‫شرح كتاب التوحيد للحازمي‬

‫عناصر الدرس‬
‫اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬
‫اس ُرو َن)‪.‬‬ ‫* قوله‪ :‬باب قول اهلل تعالى‪( :‬أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ‬
‫اهلل فَالَ يأْمن م ْكر ِ‬
‫ُْ‬ ‫ََُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫* مناسبة الباب لكتاب التوحيد‪.‬‬
‫* بيان معاني مفردات اآلية‪.‬‬
‫ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه إِالَّ الضَّآلُّو َن) …‪.‬‬
‫ال َو َمن َي ْقنَ ُ‬
‫* قوله‪( :‬وقوله‪( :‬قَ َ‬
‫* تعريف ((المكر))‪ ،‬و ((القنوط))‪.‬‬
‫* قوله‪( :‬عن ابن عباس رضي اهلل عنهما‪ ،‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سئل عن‬
‫الكبائر‪ ،‬فقال‪( :‬الشرك باهلل‪ ،‬واليأس من روح اهلل‪ ،‬واألمن من مكر اهلل)‪.‬‬
‫* مناسبة الحديث للباب‪ ،‬وذكر ما يستفاد منه‪.‬‬
‫* قوله‪ :‬وعن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال‪( :‬أكبر الكبائر‪ :‬اإلشراك باهلل‪ ،‬واألمن من مكر‬
‫اهلل‪ ،‬والقنوط من رحمة اهلل‪ ،‬واليأس من روح اهلل) رواه عبد الرزاق‪.‬‬
‫* مناسبة الحديثين للباب‪ ،‬وذكر ما يستفاد منها‪.‬‬
‫* قوله‪( :‬فيه مسائل‪.):‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‪ :‬في ضمن أبواب ((كتاب‬
‫اس ُرو َن})‬ ‫اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬ ‫التوحيد))‪( .‬باب قول اهلل تعالى‪{ :‬أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ‬
‫اهلل فَالَ يأْمن م ْكر ِ‬
‫ُْ‬ ‫ََُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫هذا الباب هو الباب الرابع والثالثون‪( ،‬باب قول اهلل تعالى‪{ :‬أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ‬
‫اهلل فَالَ يَأ َْم ُن َم ْك َر‬ ‫َ َ‬
‫اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬
‫اس ُرو َن})‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُْ‬

‫( ‪)76/1‬‬

‫مناسبة الباب للتوحيد لكتاب التوحيد أراد المصنف رحمه اهلل تعالى بهذا الباب التنبيه على‬
‫أن األمن من مكر اهلل والقنوط من رحمة اهلل من أعظم الذنوب‪ ،‬وذكر كبيرتين من أعظم‬
‫الكبائر وهما‪ :‬األمن من مكر اهلل‪ ،‬والقنوط من رحمة اهلل‪ .‬وأن كل منهما يُنافي كمال‬
‫التوحيد‪ ،‬قد ينافي التوحيد من أصله‪ ،‬وقد ينافي كمال التوحيد‪ .‬وأن يجب على المسلم أن‬
‫وباب يتعلق بالخوف وهذا أشبه ما‬
‫باب يتعلق بالمحبة ٌ‬
‫ومر معنا ٌ‬
‫يجمع بين الخوف والرجاء‪ّ ،‬‬
‫شرعا وجوبًا أن يجمع بين‬
‫يكون بما يتعلق بالرجاء‪ ،‬ليدل على أن المسلم يجب عليه ً‬
‫المنزلتين منزلة الخوف والرجاء‪ ،‬فال ُيغَلِّ ُ‬
‫ب الخوف على الرجاء وال العكس‪ ،‬وسبق بيان‬
‫ظن‬
‫موجزا‪ ،‬قال في ((المفردات))‪ :‬الرجاء ٌ‬ ‫حقيقة الخوف‪ ،‬وأما الرجاء فنقول فيه قول ً‬
‫ظن يقتضي‬ ‫ظن‪ .‬إذًا هو محله القلب‪ ،‬وهذه أعمال القلوب ٌّ‬ ‫يقتضي حصول ما فيه مسرة ٌّ‬
‫{ما لَ ُك ْم اَل َت ْر ُجو َن لِلَّ ِه َوقَاراً} [نوح‪ ]13 :‬قيل‪ :‬ما لكم‬
‫حصول ما فيه مسرة‪ .‬وقوله تعالى‪َّ :‬‬
‫{ما لَ ُك ْم اَل َت ْر ُجو َن لِلَّ ِه‬
‫ال تخافون‪ .‬يعني أُطلق الخوف بمعنى الرجاء والعكس كذلك‪َّ ... ،‬‬
‫سر الرجاء هنا بالخوف‪ ،‬ووجه ذلك أن الرجاء والخوف‬ ‫وقَاراً} ما لكم ال تخافون ٍ‬
‫حينئذ فُ ِّ‬ ‫َ‬
‫يتالزمان كل منهما مالزم لآلخر‪ ،‬ال يوجد الخوف الصحيح إال مع الرجاء‪ ،‬وال يوجد‬
‫الرجاء الصحيح إال مع الخوف‪ ،‬ووجه ذلك أن الرجاء والخوف يتالزمان قال تعالى‪... :‬‬
‫ِ ِ‬
‫اهلل ما الَ يرجو َن} [النساء‪ ]104 :‬فالرجاء ٍ‬
‫حاد‪ ،‬قال ابن القيم رحمه اهلل‬ ‫{وَت ْر ُجو َن م َن َ َ ْ ُ‬
‫َ‬
‫تعالى‪ :‬الرجاء ٍ‬
‫حاد يحدوا القلوب إلى بالد المحبوب وهو اهلل جل وعال والدار اآلخرة‬
‫ب لها السير‪ .‬والفرق بين الرجاء والتمني أن التمني يكون مع الكسل يعني وعمل‬
‫ويُطَيِّ ُ‬
‫القلب لكن يكون مع الكسل‪ ،‬التمني يكون مع الكسل‪ ،‬وال يسلك بصاحبه طريق الجد‬
‫قلبي إال أن‬
‫عمل ٌ‬‫واالجتهاد‪ .‬والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل‪ ،‬أي كل منهما ٌ‬
‫التمني ال يكون معه بذل جهد إنما يكون مع الكسل والتراخي‪ ،‬وأما الرجاء فال بد من بذل‬
‫الجهد‪ .‬قال ابن القيم‪ :‬ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء ال يصح إال مع العمل‪ ،‬ال يصح‬
‫راج إال مع العمل‪ ،‬وأما دون عمل فهو تمني ألنه يكون كسالً‪ ،‬فعالمة صحة‬ ‫أن يقال هذا ٍ‬
‫صالِحاً َواَل يُ ْش ِر ْك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرجاء حسن الطاعة‪ .‬قال تعالى‪{ :‬فَ َمن َكا َن َي ْر ُجو ل َقاء َربِّه َفلَْي ْع َم ْل َع َمالً َ‬
‫صالِحاً} إذًا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َحداً} [الكهف‪{ ،]110 :‬فَ َمن َكا َن َي ْر ُجو ل َقاء َربِّه َفلَْي ْع َم ْل َع َمالً َ‬
‫بِ ِعب َ ِ ِ‬
‫ادة َربِّه أ َ‬‫َ‬
‫عند عدم العمل الصالح يدل على انتفاء الرجاء‪ .‬إذًا عالمة صحة الرجاء هو العمل وحسن‬
‫فحينئذ انتفى الرجاء‪ .‬قال رحمه اهلل تعالى‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫الطاعة‪ ،‬فإذا لم يكن عمل وال حسن ٍ‬
‫طاعة‬ ‫ٌ‬
‫والرجاء ثالثة أنواع‪:‬‬
‫غرور مذموم‪ .‬يعني منه ما هو محمود‪ ،‬ومنه ما هو مذموم كالخوف‬
‫نوعان محمودان‪ ،‬ونوعٌ ٌ‬
‫منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم‪ ،‬والتوكل منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم‪.‬‬

‫( ‪)76/2‬‬

‫رجل عمل بطاعة اهلل على نو ٍر من اهلل فهو ٍ‬


‫راج لثوابه‪ ،‬يعني‬ ‫فاألوالن يعني المحمودان رجاء ٍ‬
‫ذنب‪ ،‬إما يستشعره من نفسه فعمل بطاعة اهلل على نو ٍر‬‫هذا نشأ على االستقامة ولم يقع منه ٌ‬
‫راج لثوابه‪ ،‬ورجل أذنب ذنوبًا ثم تاب منها فهو راجي لمغفرة اهلل تعالى وعفوه‬
‫من اهلل فهو ٍ‬
‫صالحا ويعمل بطاعة اهلل تعالى فهو‬
‫ً‬ ‫رجل يعمل‬
‫وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه‪ .‬إ ًذا إما ٌ‬
‫يرجوا ثواب اهلل تعالى وما عنده من ٍ‬
‫كرم‪ ،‬ورجل أذنب ذنوبًا فهو يرجو رحمت ربه ومغفرة‬
‫ربه‪.‬‬
‫والثالث النوع الثالث المذموم‪ :‬رجل ٍ‬
‫متماد في التفريق والخطايا يعني ليس ثَ َّم ما يدل على‬ ‫ٌ‬
‫صحة رجائه‪ ،‬علمنا أن صحة الرجاء إنما يدل عليها حسن الطاعة والعمل هذا ٍ‬
‫متماد في‬
‫التفريق والخطايا يرجو رحمة اهلل بال عمل ٍ‬
‫حينئذ يكون رجائه مجرد دعوى‪ ،‬فهذه هو‬
‫الغرور والتمني والرجاء الكاذب‪ ،‬ال يقبل دعواه في ذلك‪.‬‬
‫سئل أحمد بن عاصم ما عالمة الرجاء في العبد؟ قال‪ :‬أن يكون إذا أحاط به اإلحسان أُلْ ِه َم‬
‫الشكر إ ًذا عمل الطاعة جاءته النعمة فشكر اهلل تعالى‪ .‬إ ًذا ُو ِج َد العمل راجيًا لتمام النعمة من‬
‫ٍ‬
‫فحينئذ ُو ِج َد منه ما يدل على صحة‬ ‫اهلل عليه في الدنيا واآلخرة وتمام عفوه عنه في اآلخرة‪،‬‬
‫رجائه‪.‬‬
‫قال ابن القيم رحمه اهلل تعالى‪ :‬الرجاء من أجل المنازل وأعالها وأشرفها‪ ،‬وعليه وعلى‬
‫الحب والخوف مدار السير إلى اهلل تعالى‪ .‬ومر معنا ذلك أن العبادة ال تكون قائمة أو أن‬
‫أساس التعبد هلل تعالى إنما هو غاية الحب مع غاية الذل‪ ،‬وقد مدح اهلل تعالى أهله وأثنى‬
‫عليهم‪ ،‬ثم قال رحمه اهلل تعالى‪ :‬وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء بمعنى أن ثم‬
‫راج‬ ‫تالزم بين المحبة والرجاء‪ ،‬فيزداد الرجاء بازدياد المحبة والعكس بالعكس‪ ،‬فكل ٍ‬
‫محب ٍ‬
‫راج‬
‫محب ٍ‬‫خائف بالضرورة‪ ،‬اجتمعت فيه ثالثة األركان في صحة التعبد هلل تعالى‪ ،‬فكل ٍّ‬
‫ٌ‬
‫خائف بالضرورة فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه‪ ،‬وكذلك خوفه فإنه يخافه‬
‫ٌ‬
‫سقوطه من عينه وطرد محبوبه له وإبعاده واحتجابه وطرد محبوبه له وإبعاده واحتجابه عنه‪،‬‬
‫ذاتي للمحبة‪ ،‬فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه‪ ،‬فإذا لقيه‬ ‫ٍ‬
‫وخوفه أشد خوف‪ ،‬ورجائه ٌ‬
‫ووصل إليه اشتد الرجاء له‪ ،‬لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من ألطاف محبوبه‬
‫وبره وإقباله عليه‪ ،‬ونظره إليه بعين الرضا وتأهيله في محبته وغير ذلك مما ال حياة للمحب‬
‫وال نعيم وال فوز إال بوصوله إلى محبوبه‪ ،‬فرجاؤه أعظم ٍ‬
‫رجاء وأتمه‪.‬‬

‫( ‪)76/3‬‬
‫ثم قال رحمه اهلل تعالى‪ :‬فكل ٍ‬
‫محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء‪ ،‬بل ال تكون المحبة‬
‫المحب‬
‫ِّ‬ ‫صحيحة إال إذا لزم منها أو تفرع عنها الخوف والرجاء‪ ،‬وعلى قدر تمكنها من قلب‬
‫يشتد خوفه ورجاؤه‪ .‬ثم قال رحمه اهلل تعالى‪ :‬وبالجملة فالرجاء ضروري للمسلم لو فارقه‬
‫ٌ‬
‫أحوال‪ :‬إما أن يكون‬ ‫دائر بين ٍ‬
‫ذنب يرجو غفرانه يعني المسلم له‬ ‫لحظةً لتلف أو كاد‪ ،‬فإنه ٌ‬
‫وعيب يرجو إصالحه‬‫ٍ‬ ‫مذنبًا‪ ،‬وإما أن يكون غير ذلك‪ ،‬فإنه دائر بين ٍ‬
‫ذنب يرجو غفرانه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وقرب من اهلل ومنزلة عنده‬ ‫ٍ‬
‫واستقامة يرجو حصولها ودوامها‪،‬‬ ‫صالح يرجو قبوله‪،‬‬
‫وعمل ٍ‬‫ٍ‬
‫يرجو وصوله إليها‪ ،‬وال ينفك أح ٌد من السالكين عن هذه األمور أو بعضها‪ .‬ثم قال‪ :‬والرجاء‬
‫ٍ‬
‫حينئذ من لم‬ ‫من األسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه‪ ،‬بل هو من أقوى األسباب‪.‬‬
‫يجعل لألسباب منزلةً ‪ -‬كما مر في التوكل ‪ٍ -‬‬
‫حينئذ ال يتم عنده الرجاء البتة‪.‬‬
‫إذًا مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد أراد المصنف أن يبين أن ثَ َّم ترابط بين الرجاء‬
‫والخوف‪ ،‬وأنه ال يصح كمال التعبد هلل تعالى إال أن يجمع للمسلم إال أن يجمع بين الخوف‬
‫والرجاء‪ ،‬فأراد بهذه الترجمة التنبيه على الجمع بين مقام الرجاء والخوف إذ المؤمن يسير‬
‫إلى اهلل تعالى بين الخوف والرجاء كما دل على ذلك الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف‬
‫األمة‪ ،‬فال يغَلِّب جانب الرجاء ٍ‬
‫حينئذ يأمن مكر اهلل‪ ،‬وال يغلب جانب الخوف فييأس من‬ ‫ُ ُ‬
‫روح اهلل تعالى‪ .‬قال بعض السلف‪ :‬من عبد اهلل بالحب وحده فهو زنديق‪ ،‬ومن عبد اهلل‬
‫بالخوف فهو حروري‪ ،‬ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ‪ ،‬ومن عبده بالحب والخوف‬
‫مؤمن موح ٌد‪ .‬وقد مر شرح هذه الجملة‪ .‬وهذا هو مقام األنبياء والصديقين‬ ‫والرجاء فهو ٌ‬
‫ِ‬ ‫كما قال تعالى‪{ ... :‬أُولَئِ َ َّ ِ‬
‫ين يَ ْدعُو َن َي ْبَتغُو َن إِلَى َربِّ ِه ُم ال َْوسيلَةَ أ َُّي ُه ْم أَق َْر ُ‬
‫ب َو َي ْر ُجو َن‬ ‫ك الذ َ‬
‫ك َكا َن َم ْح ُذوراً} [اإلسراء‪ ]57 :‬فجمع بين األمرين‪،‬‬ ‫َر ْح َمتَهُ َويَ َخافُو َن َع َذابَهُ إِ َّن َع َذ َ‬
‫اب َربِّ َ‬
‫{ويَ َخافُو َن َع َذابَهُ} وهذا هو الخوف‪ ،‬والواو‬
‫{ي ْر ُجو َن َر ْح َمتَهُ} وهذا هو الرجاء ‪َ ...‬‬
‫قوله‪َ :‬‬
‫هنا لمطلق الجمع‪ .‬وذكر الوسيلة وهي التقرب إليه جل وعال ٍ‬
‫حينئذ ذكر أركان التعبد‬
‫الثالثة‪ ،‬وهي‪ :‬المحبة‪ ،‬والخوف‪ ،‬والرجاء‪ .‬فابتغاء الوسيلة إليه هو التقرب بحبه وطاعته‪ ،‬ثم‬
‫ذكر الرجاء والخوف وهذه أركان اإليمان‪ ،‬أركان التعبد هلل تعالى‪ ،‬وكلما قَ ِو َ‬
‫ي إيمان العبد‬
‫ويقينه قَ ِو َ‬
‫ي خوفه ورجاؤه مطل ًقا‪ ،‬فهذه أعمال القلوب متالزمة وبعضها ينبني على بعض‪.‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫شى اللَّهَ م ْن عبَاده الْعُلَ َماء} [فاطر‪ ،]28 :‬وقال سبحانه‪{ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫ين ُهم‬ ‫قال تعالى‪{ :‬إِنَّ َما يَ ْخ َ‬
‫ين ُهم بَِربِّ ِه ْم اَل يُ ْش ِر ُكو َن‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ُهم بآيَات َربِّ ِه ْم ُي ْؤمنُو َن * َوالذ َ‬‫ِّم ْن َخ ْشيَة َربِّ ِهم ُّم ْشف ُقو َن * َوالذ َ‬
‫اجعُو َن} [المؤمنون‪]60 :57 :‬‬ ‫* والَّ ِذين ي ْؤتُو َن ما آتَوا َّو ُقلُوب ُهم و ِجلَةٌ أ ََّن ُهم إِلَى ربِّ ِهم ر ِ‬
‫ْ َ َْ‬ ‫ُ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬
‫ومر قول عائشة رضي اهلل تعالى عنها أنه قالت‪ :‬يا رسول اهلل هو الرجل يزني ويسرق‬
‫ويخاف أن يُعاقَب؟ قال‪«( :‬ال يا ابنة الصديق هو الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أال‬
‫يقبل منه»)‪ .‬رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه‪.‬‬

‫( ‪)76/4‬‬

‫قال ابن القيم رحمه اهلل تعالى‪ :‬والخوف من أجل منازل الطريق‪ ،‬وخوف الخاصة أعظم من‬
‫خوف العامة‪ .‬خوف الخاصة يعني أهل العلم أعظم من خوف العامة‪ ،‬ثَ َّم فرق بين النوعين‪،‬‬
‫وعرفنا فيما سبق أن اإليمان الذي يكون على بصيرة ليس كاإليمان الذي يكون عن ٍ‬
‫تقليد‪،‬‬
‫كذلك الخوف الذي يكون عن بصيرة ليس كالخوف الذي يكون عن ٍ‬
‫تقليد‪ ،‬فإيمان الخاصة‬
‫ال شك أنه أقوى من إيمان العامة‪ ،‬وكل عمل القلبي للخاصة فهو أشد وأمكن من العمل‬
‫القلبي عند العامة‪ ،‬فخوف الخاصة أعظم من خوف العامة وهم إليه أحوج وهو بهم أليق‬
‫مستقيما أو مائالً عن االستقامة‪ ،‬يعني أراد أن يبين أثر‬
‫ً‬ ‫ولهم ألزم‪ ،‬فإن العبد إما أن يكون‬
‫مستقيما على طاعة اهلل تعالى‪ ،‬وإما أن يكون عنده‬
‫ً‬ ‫الخوف على العبد‪ ،‬فالعبد إما أن يكون‬
‫بكل منهما‪ ،‬فإن كان مائل عن االستقامة فخوف من‬‫شيء من االنحراف‪ ،‬فما عالقة الخوف ٍ‬
‫العقوبة على ميله ألنه قد مال‪ ،‬وال يصح اإليمان إال بهذا الخوف‪ ،‬فحال اإلنسان إذا كان‬
‫مائالً عن االستقامة ٍ‬
‫حينئذ خوفه يكون من أن تنزل به وتحل به عقوبة الباري جل وعال‪ ،‬وال‬
‫شأُ من ثالثة أمور ال يتم له الخوف من العقوبة عند‬
‫يصح اإليمان إال بهذا الخوف وهو َي ْن َ‬
‫ميالنه عن االستقامة إال بثالثة أمور‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬معرفته بالجناية وقبحها‪ .‬يعني الذم الذي ال يعرف أنه قد وقع في ذم كيف يخشى‬
‫العقوبة؟ فال بد أن يعرف أوالً هذه الجناية وقبحها عند ربه جل وعال‪.‬‬
‫الذم وأن اهلل رتب على المعصية‬
‫الثاني‪ :‬تصديق الوعيد يعني ما رتبه اهلل جل وعال على ذلك ّ‬
‫عقوبتها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حينئذ إذا‬ ‫الثالث‪ :‬أنه ال يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا اكتسب الذنب‪،‬‬
‫حصلت عنده هذه األمور الثالثة أوالً معرفته بالذنب وقبحه‪ ،‬وثانيًا تصديقه بالوعيد يعني‬
‫ب عن التوبة‪ ،‬قد يموت وهو على ذنبه‪،‬‬ ‫العقوبة التي ُرِّتبَ ْ‬
‫ت على ذلك الذم‪ ،‬ثالثًا أنه قد يُ ْح َج ُ‬
‫حينئذ هذه األمور الثالثة تستوجب الخوف من اهلل تعالى‪ ،‬فبهذه‬ ‫قد يمكن لكنه ال يتوب ٍ‬
‫األمور الثالثة يتم له الخوف‪ ،‬وبحسب قوتها وضعفها يكون قوة الخوف وضعفه‪ ،‬هذا قبل‬
‫مانعا [وقد‬ ‫ٍ‬
‫الذنب‪ ،‬فإذا عمله كان خوفه أشد‪ ،‬وال شك في ذلك‪ .‬حينئذ الخوف قد يكون ً‬
‫يكون] وذلك قبل الذنب‪ ،‬وقد يكون ماذا؟ قد يكون بعد الذم خوفًا من حلول العقوبة به‪،‬‬
‫وبالجملة‪ :‬فمن استقر في قلبه ذكر الدار اآلخرة وجزائها وذكر المعصية والتوعد عليها‬
‫وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح هاج من قلبه الخوف‪ ،‬هاج من قلبه من الخوف ما ال‬
‫يملكه وال يفارقه حتى ينجو‪ ،‬وأما إن كان مستقيما مع اهلل ٍ‬
‫حينئذ قد ال يكون عنده شيءٌ مما‬ ‫ً‬
‫يخافه من الذنب‪ ،‬فخوفه يكون مع جريان األنفاس كذلك ال يفارقه الخوف ولو كان‬
‫مستقيما لعلمه بأن اهلل تعالى مقلب القلوب‪ ،‬وما من ٍ‬
‫قلب إال وهو بين أصبعين من أصابع‬ ‫ً‬
‫الرحمن عز وجل فإن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه‪ ،‬كما ثبت عن النبي ‪-‬‬
‫ِ‬
‫ومقلب القلوب»)‪.‬‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم ‪«( -‬وكانت أكثر يمينه ال‬

‫( ‪)76/5‬‬

‫قال ابن السعدي رحمه اهلل تعالى‪ :‬مقصود الترجمة أنه يجب على العبد أن يكون خائ ًفا من‬
‫جامعا بين هذه األعمال العظيمة‪ ،‬إن نظر إلى ذنوبه وعدل اهلل وشدة‬
‫اهلل راجيًا له راغبًا راهبًا ً‬
‫عقابه َخ ِش َي ربه وخافه‪ ،‬وإن نظر إلى فضله العام والخاص وعفوه الشامل رجا وطَ ِمع‪ ،‬إن‬
‫ٍ‬
‫لطاعة رجا من ربه تمام النعمة وذلك بقبولها‪ ،‬وخاف من ردها لتقصيره في ِّ‬
‫حقها‪ ،‬وإن‬ ‫ُوفِّ َق‬
‫ٍ‬
‫بمعصية رجا من ربه َقبُول توبته ومحوها وخشي بسبب ضعف التوبة وااللتفات الذنب‬ ‫ابتلي‬
‫أن يعاقب عليها‪ ،‬وعند النعم واليسار يرجو اهلل دوامها وزيادة منها والتوفيق لشكرها‬
‫ويخشى بإخالله بالشكر من سلبها‪ ،‬إذا لم يشكر قد تُسلب ولو كانت إيمانًا‪ ،‬وعند المكاره‬
‫ضا أن يُثِيبه اهلل عليها حين يقوم‬
‫والمصائب يرجو اهلل دفعها وينتظر الفرج لحلها‪ ،‬ويرجو أي ً‬
‫بوظيفة الصبر ويخشى من اجتماع المصيبتين فوات األجر المحبوب وحصول األمر‬
‫المكروه إذا لم يوفق بالقيام بالصبر الواجب فالمؤمن الموحد في كل أحواله مالزم للخوف‬
‫والرجاء وهذه هو الواجب وهو النافع وبه تحصل السعادة‪ ،‬فأراد المصنف رحمه اهلل تعالى‬
‫أن ُيَبيِّن كبيرتين وجودهما في قلب العبد يتعلق به فوات كل ما ذكره ابن القيم رحمه اهلل‬
‫تعالى‪ ،‬وكذلك الشيخ ابن السعدي رحمه اهلل تعالى‪.‬‬
‫وعرفنا أن هذا الباب يشتمل على ذكر كبيرتين من الكبائر‪ ،‬بل من أكبر الكبائر كما جاء في‬
‫حديث ابن عباس‪.‬‬
‫األولى‪ :‬األمن من مكر اهلل‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬القنوط من رحمة اهلل تعالى‪ .‬ولذلك ذكر اآلية األولى للداللة على الكبيرة األولى‪،‬‬
‫واآلية الثانية للداللة على الكبيرة الثانية‪ .‬أما [المكر] األمن من مكر اهلل‪ ،‬األمن ضد الخوف‬
‫صرف‪ ،‬ثم يكون مرتبًا‬ ‫ٌ‬ ‫كما كر معنا‪ ،‬والمكر هو صرف الغير عما يقصده ٍ‬
‫بحيلة أن يكون ثَ َّم‬
‫حينئذ صرف الغير‬ ‫حيلة فيجمع بين األمرين‪ ،‬وال يشعر به الخصم إن كان ثَ َّم خصم‪ٍ ،‬‬ ‫على ٍ‬
‫ٌ‬
‫بحيلة‪ .‬قال في ((المفردات))‪ :‬وذلك ضربان‪ :‬مكر محمود وذلك أن يتحرى‬ ‫عن ما يقصده ٍ‬
‫بحيلة قد يكون ألم ٍر جميل‪ ،‬فيكون‬ ‫الجميل‪ .‬يعني صرف الغير عن ما يقصده ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بذلك فعل‬
‫حينئذ يكون المكر مذموم‪ .‬فإذا كان لفعل الجميل‬ ‫محمودا‪ ،‬وقد يكون ألم ٍر قبيح ٍ‬ ‫ً‬ ‫المكر‬
‫محمودا وهذا النوع هو الذي يُوصف به الباري جل وعال‪ ،‬وعلى ذلك قال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫حينئذ صار‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫قبيح يعني يفعل‬ ‫ومذموم وهو أن يتحرى به فعل ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ين} [آل عمران‪]54 :‬‬ ‫{واهللُ َخ ْي ُر ال َْماك ِر َ‬
‫َ‬
‫الحيل وال يشعر بها الخصم من أجل إيقاعه لكنه يرجو من ذلك أمرا قبيحا فيكون ٍ‬
‫حينئذ‬ ‫ً ً‬
‫ِ ِِ‬ ‫{واَل يَ ِح ُ‬
‫السيِّ ُئ إِاَّل بأ َْهله} [فاطر‪ ]43 :‬إذًا قال‪َ :‬‬
‫{واهللُ َخ ْي ُر‬ ‫يق ال َْم ْك ُر َّ‬ ‫مذموما‪ .‬قال تعالى‪َ :‬‬ ‫ً‬
‫السيِّ ُئ إِاَّل بِأ َْهلِ ِه} دل ذلك‬ ‫{واَل يَ ِح ُ‬
‫يق ال َْم ْك ُر َّ‬ ‫ين} وصف نفسه بالمكر‪ ،‬وكذلك قال‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫ال َْماك ِر َ‬
‫ين َك َف ُرواْ}‬ ‫على أن المكر نوعان‪ :‬منه ما هو مذموم‪ ،‬ومنه ما هو محمود‪{ .‬وإِ ْذ يم ُكر بِ َ َّ ِ‬
‫ك الذ َ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫{م َك ُروا‬
‫{و َم َك ُروا َم ْكراً َو َم َك ْرنَا َم ْكراً} [النمل‪َ ،]50 :‬‬
‫[األنفال‪ ]30 :‬وقال في األمرين َ‬
‫{و َم َك ْرنَا َم ْكراً} هذا‬
‫مذموم و َ‬
‫ٌ‬ ‫{م َك ُروا َم ْكراً} هذا محمود أو مذموم؟‬
‫َم ْكراً َو َم َك ْرنَا}‪َ ،‬‬
‫محمود‪ .‬إذًا جمع بين األمرين‪.‬‬

‫( ‪)76/6‬‬

‫مصرا على‬
‫قال بعضهم‪ :‬من مكر اهلل إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدنيا مع كونه ً‬
‫المعصية‪ ،‬فإذا ُم ِّك َن من أعراض الدنيا مع المعصية واإلصرار عليها ونقول‪ :‬اإلصرار عليها‬
‫ألنه ال يلزم منه الوقوع في الذنب أن يحل به ما يكون مكره‪ .‬قال بعض السلف‪ :‬من ُو ِّس َع‬
‫عليه دنياه ولم يعلم أنه ُم ِك َر به فهو مخدوع عن عقله‪ .‬وهو كذلك إذا ُو ِّس َع عليه دنياه يعني‬
‫أوتي من المال والجاه ولم يجعله في طاعة اهلل تعالى ولم يشك ِر اهلل تعالى بل أقام على‬
‫حينئذ يأتي الذم له‪ ،‬وأما إذا لم يكن كذلك فال يُ َذ ّم أصالً‪.‬‬ ‫المعصية ٍ‬
‫ط يعني فَ ِع َل َي ْف َع ُل‪،‬‬ ‫ط ُقنُوطًا‪ ،‬وقَنِ َ‬
‫ط َي ْقنَ ُ‬ ‫ط َي ْقنِ ُ‬
‫وأما القنوط فهو اليأس من الخير‪ ،‬يقال‪َ :‬قنَ َ‬
‫ط من باب َف َع َل َي ْف ِع ُل‬ ‫ط َي ْقنِ ُ‬‫ويأتي َف َع َل َي ْف ِع ُل يعني بكسر النون وفتحها في المضارع‪َ ،‬قنَ َ‬
‫ط َي ْعلَ ُم‪ ،‬جيء على البابين‪ .‬القنوط بأن يعتقد أن اهلل تعالى ال يغفر له‪.‬‬ ‫ط َعلِ َم َي ْقنَ ُ‬
‫ُقنُوطًا‪ ،‬وقَنِ َ‬
‫هكذا قال شيخ اإلسالم محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‪ :‬القنوط بأن يعتقد بأن اهلل ال‬
‫يغفر له إما بكونه إذا تاب ال يَقبل توبته هذا قنوط وهو أشد الخوف‪ ،‬قلنا‪ :‬الخوف قد يكون‬
‫مغلوب معها فهو ييأس من توبة‬
‫ٌ‬ ‫مذموما‪ ،‬وإما أن يقول نفسه ال تطاوعه على التوبة بل هو‬
‫ً‬
‫نفسه‪ .‬القنوط هو اليأس من الخير من رحمة اهلل تعالى‪ ،‬وهذا كما ذكرنا ال يجوز‪ ،‬بل هو‬
‫وأثرا‪ ،‬واألثر له حكم‬
‫كبيرة من الكبائر‪ .‬ذكر المصنف رحمه اهلل تعالى آيتين وحديثًا ً‬
‫المرفوع كما سيأتي‪ .‬في اآلية األولى وهي ما جعلها ترجمة للباب وهي قوله تعالى‪:‬‬
‫اس ُرو َن}) معنى اآلية‪ :‬أن اهلل تعالى لما ذكر‬ ‫اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬ ‫({أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ‬
‫اهلل فَالَ يأْمن م ْكر ِ‬
‫ُْ‬ ‫ََُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫حال أهل القرى المكذبين للرسل َبيَّ َن أن الذي حملهم على ذلك هو األمن من عذاب اهلل‬
‫وعدم الخوف منه‪ ،‬ثُ َّم َبيّن أن ذلك بسبب الجهل وال ِْغ ْلظَ ِة هلل تعالى فأمنوا مكر اهلل لَ َّما‬
‫استدرجهم بالسراء والنعم‪ ،‬يعني أمنوا مكره فيما ابتالهم به من السراء والضراء بأن يكون‬
‫استدراجا‪ .‬إذا‬ ‫حينئذ يكون‬‫استدراجا إذا أنعم اهلل تعالى على العبد ولم يقم بشكر هذه النعمة ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أنعم على العبد النعم ولم يقم بشكرها‪ ،‬والمراد بشكرها أن يعتقد أنها من عند اهلل تعالى‪،‬‬
‫ِّث} [الضحى‪ ]11 :‬وأن يجعلها في طاعة اهلل‬ ‫{وأ ََّما بِنِ ْع َم ِة َربِّ َ‬
‫ك فَ َحد ْ‬ ‫ويعترف بذلك بلسانه َ‬
‫وم َّكنَهُ من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تعالى بجوارحه حينئذ يكون ذلك من كفران النعمة‪ ،‬حينئذ إذا أعطاه اهلل تعالى َ‬
‫استدرجا‪ ،‬يعني أ َِمنُوا مكره فيما ابتلهم به من السراء والضراء بأن‬ ‫ً‬ ‫حينئذ يكون ذلك‬ ‫النعم ٍ‬
‫اس ُرو َن}‬‫اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬ ‫يكون استدراجا‪ .‬فقال سبحانه‪{ :‬أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ‬
‫اهلل فَالَ يأْمن م ْكر ِ‬
‫ُْ‬ ‫ََُ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬
‫فدل على وجوب الخوف من مكر اهلل‪ ،‬ألنه قال‪{ :‬فَالَ‬ ‫[األعراف‪ .]99 :‬أي الهالكون‪ّ ،‬‬
‫اس ُرو َن} يعني الذي خسر‪ ،‬والذي خسر وقع في ماذا؟ وقع في‬ ‫اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬
‫يأْمن م ْكر ِ‬
‫ُْ‬ ‫ََُ َ َ‬
‫تحريم لألمن من مكر اهلل‪ .‬إذًا‬
‫ٌ‬ ‫أم ٍر محرم‪ ،‬فدل على أن ضده يكون واجبًا‪ ،‬ألن التحريم هنا‬
‫محرما‪ ،‬هما متقابالن‪.‬‬
‫واجب‪ ،‬واألمن من مكر اهلل يكون ً‬ ‫ٌ‬ ‫الخوف من مكر اهلل‬

‫( ‪)76/7‬‬

‫قال الحسن البصري رحمه اهلل تعالى‪ :‬من َو َّس َع عليه فلَ ْم َي َر أنه يمكر به فال رأي له‪ .‬هذا‬
‫ُم َقيَّد كل ما يأتي عن السلف ُمطل ًقا يجب تقييده‪ .‬من َو َّسع عليه يعني أعطاه اهلل تعالى النعم‪،‬‬
‫أعطاه المال والجاه‪ ،‬فلم ير أنه يمكر به فلم ير هذا الذي وسع عليه أن اهلل تعالى يمكر به‬
‫فال رأي له‪ ،‬لكن متى؟ إذا كان ُي َو َّس ُع عليه وال يشكر نعمة الباري‪ ،‬أو يُوسع عليه وهو يُصر‬
‫حينئذ قابل النعمة بالكفر هذا هو الذي يصدق عليه كالم السلف‪.‬‬ ‫على المعاصي‪ٍ ،‬‬
‫ط إال‬
‫قوما ق ُ‬
‫وقال قتادة‪( :‬بغت القوم أمر اهلل)‪ .‬فاجأهم‪( ،‬بغت القوم أمر اهلل‪ ،‬وما أخذا اهلل ً‬
‫وغ َّرتِ ِهم ونعمتهم‪ ،‬فال تغتروا باهلل تعالى إنه ال َيغَْت ُّر باهلل إال القوم الفاسقون‪.‬‬
‫عند سلْوتِ ِهم ِ‬
‫ََ‬
‫رواهما ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫وفي الحديث‪« :‬إذا رأيت اهلل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه»‪ .‬وكالم السلف بعضه‬
‫مطلق ال بد من التقييد‪ ،‬بأن يكون العبد على المعاصي فيعطيه اهلل تعالى‪ٍ ،‬‬
‫حينئذ نقول‪ :‬هذا‬
‫مستقيما على طاعة اهلل تعالى فهذا‬ ‫ٍ‬
‫معصية بل كان‬ ‫مكرا‪ ،‬وأما إذا لم يكن على‬
‫ً‬ ‫الذي يكون ً‬
‫من النعم التي تُشكر «إذا رأيت اهلل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو‬
‫استدراج»‪ .‬وهذا هو الصحيح هنا‪ .‬رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم‪ .‬يعني لو لم يصح‬
‫ٌ‬
‫الحديث بأن قيل بأنه ضعيف المعنى صحيح إذا أعطى اهلل العبد ما يحب أنت تحب أشياء‬
‫استدراجا‪.‬‬ ‫معاص ٍ‬
‫حينئذ نقول‪ :‬هذا يُسمى‬ ‫من عرض الدنيا فأعطاك وأنت على ٍ‬
‫ً‬
‫وقال إسماعيل بن رافع‪ :‬من األمن من مكر اهلل إقامة العبد على الذنب يتمنى على اهلل‬
‫المغفرة‪ .‬يتمنى إ ًذا مجرد ٍ‬
‫عمل قلبي وال عمل معه‪ ،‬ألن الفرق بين التمني والرجاء؟ قلنا‪:‬‬
‫عمل قلبي مشابهٌ للتمني‪،‬‬
‫التمني هو الكسل‪ ،‬يتمنى على اهلل األماني وال يعمل‪ ،‬والرجاء هو ٌ‬
‫لكنه ماذا؟ طلب حصول محبوب لكن يعمل معه‪ ،‬عكس التمني‪ ،‬ففسر السلف المكر‬
‫باستدراج اهلل العبد بالنعم إذا عصى‪ ،‬هذا القيد ال بد منه‪ ،‬إذا عصى‪ ،‬ففسر السلف المكر‬
‫باستدراج اهلل العبد بالنعم إذا عصى‪ ،‬وإمالئه له حتى يأخذه أخذ عزي ٍز مقتدر‪ .‬قال المصنف‪:‬‬
‫مكر اهلل هو أنه إذا عصاه وأغضبه أنعم عليه بأشياء يظن أنها من رضاه عليه‪ ،‬وهذا قد يدركه‬
‫ٍ‬
‫معصية فتأتيه أشياء مما يحبه‬ ‫اإلنسان من بعض الناس إن لم يدركه من نفسه‪ ،‬يكون على‬
‫مكر وهو‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ويرضاه‪ ،‬حينئذ بل مما يسعى إليه يمكن منه وهو على معصية‪ ،‬حينئذ نقول‪ :‬هذا ٌ‬
‫استدراجا كما جاء النص بذلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫من مكر اهلل تعالى‪ ،‬ويسمى‬

‫( ‪)76/8‬‬

‫قوله‪{ :‬أَفَأ َِمنُواْ} أي {أَفَأ َِم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى} [األعراف‪{ ... .]97 :‬أَفَأ َِمنُواْ} الواو هنا ترجع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إلى سابقها {أَفَأَم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى} لقوله قبل ذلك {أَفَأَم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى أَن يَأْتَي ُه ْم بَأ ُ‬
‫ْسنَا َبيَاتاً َو ُه ْم‬
‫اهلل} ‪...‬‬ ‫ضحى و ُهم يلْعبو َن * أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫ْسنَا ُ ً َ ْ َ َ ُ‬ ‫نَائ ُمو َن * أ ََو أَم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى أَن يَأْتَي ُه ْم بَأ ُ‬
‫[األعراف‪{ .]99 ،97 :‬أَفَأ َِمنُواْ} الواو يعود على {أ َْه ُل الْ ُق َرى} هذا هو الظاهر‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫على أهل مكة وإن كان يعم القرى يشمل ألن المعنى هنا سواءٌ كان في أهل القرى التي‬
‫ت قبل أو في غيرها‪ ،‬في كل زمان فيما سبق من العهود األنبياء والمرسلين‪ ،‬وعهد النبي‬ ‫ذُكِ َر ْ‬
‫حينئذ نقول‪ :‬المعنى هذه إذا‬ ‫‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،-‬ومما بعده إلى أن تقوم الساعة‪ٍ ،‬‬
‫حينئذ حلت العقوبة‪ ،‬فاالستفهام في هذه اآليات {أَفَأ َِم َن}‪{ ،‬أ ََو أ َِم َن}‪{ ،‬أَفَأ َِمنُواْ}‬
‫وجد ٍ‬
‫استفهام كله بمعنًى واحد‪ ،‬وهو للتقريع والتوبيخ واإلنكار‪ ،‬وهذا دل على أن ما ذُكِ َر محرم‪،‬‬
‫محرما‪ ،‬إذًا األمن من مكر اهلل‬ ‫ِ‬
‫إذا ُحم َل االستفهام على اإلنكار دل على أن ما أنكره يكون ً‬
‫محرم لهذا الوجه‪ ،‬وهو أحد الوجهين في تحريم ما ذُكِ َر‪ .‬فاالستفهام في هذه اآليات للتقريع‬ ‫ٌ‬
‫والتوبيخ واإلنكار‪ ... ،‬و {أ َْه ُل الْ ُق َرى} هم أهل القرى المذكورة قبله‪ ،‬وقيل‪ :‬المراد بالقرى‬
‫مكة وما حولها لتكذيبهم النبي ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،-‬والحمل على العموم أولى يعني‬
‫يعم‪ ،‬يعم القرى المذكورة وما عداها‪ ،‬والعموم إما باللفظ أو بالمعنى ال إشكال‪ ،‬إما باللفظ‬
‫بأن يصدق عليه اللفظ مباشرةً‪ ،‬أو بالمعنى بأن نقول‪ :‬ال يدخل في اللفظ أهل مكة ومن‬
‫حولها‪ ،‬أو مكة وما حولها‪ ،‬وإنما إن فعلوا ما فعله أولئك القوم ٍ‬
‫حينئذ حلت عليهم العقوبة‪،‬‬
‫والحكم يكون واح ًدا‪ ،‬وهذا ما يسمى بالعموم المعنوي وهو الصحيح‪ ،‬وهو أشبه ما يكون‬
‫بحمل النظير على النظير‪ ،‬أو القياس بنفي الفارق‪ ،‬ال فرق‪ ،‬كما نقول‪ :‬المشركون في عهد‬
‫النبي ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬فعلوا وفعلوا ُوجد المشركون هنا في هذا الزمان فعلوا مثل‬
‫ما فعلوا إذًا الحكم واحد فتشملهم اآليات‪ ،‬إما باللفظ أو بالمعنى أو بنفي الفارق القياس‬
‫بنفي الفارق‪.‬‬

‫( ‪)76/9‬‬

‫منصوب على الظرفية‪ ،‬وبعضهم‬


‫ٌ‬ ‫بيات وهو الليل على أنه‬ ‫{أَن يأْتِي ُهم بأْسنَا بياتًا} أي وقت ٍ‬
‫َ َ ْ َ ُ ََ‬
‫{و ُه ْم نائِ ُمو َن} فالجملة في محل نصب حال‪ ،‬وهذا يدل على كمال‬ ‫وجها آخر َ‬‫َج َّو َز فيه ً‬
‫{و ُه ْم نائِ ُمو َن} أراد اهلل تعالى أن يؤكد أنهم‬
‫األمن‪ ،‬ما وجهه؟ القائد ينام؟ القائد ال ينام‪ ،‬إذًا َ‬
‫في كمال ليس في األمن فحسب‪ ،‬وإنما في كمال األمن من مكر اهلل تعالى ولذلك في الليل‬
‫ينامون‪ ،‬وفي النهار ضحو ًة يلعبون‪ ،‬وهذا شأن من؟ شأن اآلمن‪ ،‬بل الذي بلغ غاية األمن {أ ََو‬
‫ض ًحى َو ُه ْم َيل َْعبُو َن} الضحى ضحوة النهار‪ ،‬وجملة‬
‫ْسنَا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أَم َن أ َْه ُل الْ ُق َرى أَن يَأْتَي ُه ْم بَأ ُ‬
‫ضا‬ ‫{يل َْعبُو َن} في محل ٍ‬
‫نصب على الحال أي يشتغلون بما ال يعود عليهم من فائدة‪ ،‬وهذا أي ً‬ ‫َ‬
‫يدل على كمال األمن والرخاء وعدم الضيق‪ ،‬وإال لذهبوا يطلبون الرزق والعيش وما صاروا‬
‫وقديما كان هذا وقته فقط ويرجع ال يعملون في‬
‫ً‬ ‫في هذا الوقت يلعبون ألنه وقت العمل‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كسب دل على أنهم ليسوا في‬ ‫سائر اليوم‪ ،‬فكونهم يلعبون في هذا الوقت الذي هو وقت‬
‫ضيق‪ ،‬يعني عندهم من المال ما يكفيهم‪ ،‬ففي الليل نائمون وفي النهار يلعبون‪ ،‬واالستفهام‬ ‫ٍ‬
‫كما قلنا هنا للتوبيخ والتقريع ‪{ ...‬أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ‬
‫اهلل}‪ .‬كذلك االستفهام للتقريع والتوبيخ‬ ‫َ َ‬
‫واإلنكار ما هم عليه من أماني ما ال يُؤمن من مكر اهلل بهم وعقوبته لهم‪ ،‬وفي تكرير‬
‫االستفهام قال الشوكاني‪ :‬أو أمنوا‪{ ،‬أَفَأ َِم َن} ‪ ..‬إلى آخره‪ ،‬تكرير االستفهام زيادة تقري ٍر‬
‫إلنكار ما أنكره عليهم‪ ،‬يعني كرر االستفهام هنا في ثالث مواضع‪ ،‬كل آية يفتتحها‬
‫باالستفهام‪ ،‬وهو لإلنكار‪ .‬إذًا كرر اإلنكار عليه ثالث مرات‪ ،‬هذا يدل على ماذا؟ على شدة‬
‫اهلل إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬
‫اس ُرو َن} أي‬ ‫ما ذكر‪ .‬ثم بين حال من أمن مكر اهلل فقال‪{ :‬فَالَ يأْمن م ْكر ِ‬
‫ُْ‬ ‫ََُ َ َ‬
‫الذين أفرطوا في الخسران ووقعوا في وعيده الشديد‪ ،‬وقيل‪ :‬مكر اهلل هنا هو استدراجه في‬
‫النعمة والصحة واألولى حمله على ما هو أعم من ذلك‪.‬‬

‫( ‪)76/10‬‬

‫اس ُرو َن}) االستثناء هنا للحصر‪ ،‬وذلك ألن ما قبله مفرغٌ له‬ ‫وقوله‪{( :‬إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬
‫ُْ‬
‫اس ُرو َن})‪ .‬قال‪{( :‬فَالَ يَأ َْم ُن َم ْك َر‬ ‫اسرو َن}) صفتهم ({إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬
‫ِ‬
‫ُْ‬ ‫({الْ َق ْو ُم}) فاعل‪ ،‬و ({الْ َخ ُ‬
‫اهلل إِالَّ الْ َق ْو ُم}) إال بعد ال‪ ،‬دل على الحصر‪ ،‬واالستثناء مفرغ ألن المستثنى منه محذوف‬ ‫ِ‬
‫حينئذ يكون استثناء مفرغًا من أعم األحوال ‪...‬‬ ‫ٍ‬ ‫وإذا حذف المستثنى منه في سياق النفي‬
‫اهلل}) دليل على‬ ‫اسرو َن}) صفتهم‪ .‬وفي قوله‪{( :‬أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫({الْ َق ْو ُم}) فاعل‪ ،‬و ({الْ َخ ُ‬
‫وصف اهلل تعالى بالمكر‪ ،‬وهو التوصل إلى اإليقاع بالخصم من حيث ال يشعرون‪،‬‬
‫غالب‬
‫والمحمود منه هو الذي يوصف به الباري جل وعال ألنه يدل على قوة الماكر‪ ،‬وأنه ٌ‬
‫على خصمه‪ ،‬ولذلك ال يوصف اهلل به على اإلطالق‪ ،‬فال يقال إن اهلل ماكر إنما يكون ماذا؟‬
‫يمكر بمن مكر به‪ ،‬أو برسله‪ ،‬أو بالصالحين‪ ،‬أو بنحو ذلك‪ٍ ،‬‬
‫حينئذ يكون بالمقابلة ألنه هو‬
‫اسم‬
‫الذي يدل على االنتقام فيوصف اهلل تعالى بالمكر مقيَّ ًدا ال باإلطالق‪ ،‬وال يشتق له منه ٌ‬
‫فال يقال الماكر ال يقال الماكر‪ .‬إذًا يوصف اهلل تعالى بهذه الصفة وال يوصف به على‬
‫مدحا هذا إذا كان‬
‫ماكر‪ ،‬وإنما تذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه ً‬
‫اإلطالق فيقال‪ :‬إن اهلل ٌ‬
‫بالتقابل‪ ،‬وال يقال مشاكلة ألن المشاكلة هذه نوع من أنواع المجاز‪ .‬يُعبر بها ابن القيم‬
‫أحيانًا لكن قد يُريد بها معنى آخر‪ ،‬لكن المشاكلة نوع من المجاز‪ ،‬بمعنى أنه ال يتصف‬
‫بالمكر‪ ،‬لكن قابل اللفظ باللفظ فحسب‪ ،‬وأما المعنى فيكون خاليًا‪ ،‬هذا المراد بالمشاكلة‪،‬‬
‫بمعنى أن المكر الذي وصف به القوم على حقيقته‪ ،‬لكن اهلل تعالى ما مكر بهم وإنما قابل‬
‫فعلهم بفعل آخر‪ ،‬ولذلك بعضهم يعبر يمكرون فجزآهم اهلل‪ ،‬يعني جزآهم على ذنبهم‬
‫بالعقوبة‪ ،‬وهذا ليس هو المكر‪ ،‬وإنما المكر يكون فيه ماذا؟ يكون فيه نوع من الحيلة‪،‬‬
‫يستدرجهم شيئًا فشيئًا كأنه قد رضي عنهم‪ ،‬ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬فرق بين المعنيين‪،‬‬
‫كونه جازاهم على مكرهم بمعنى أنه عاقبهم كما يعاقب الزاني والمرابي وغير ذلك‪ ،‬لكن‪،‬‬
‫ال‪ ،‬ليس المراد هذا‪ ،‬وإنما المراد أن اهلل تعالى استدرجهم شيئًا فشيئًا فأخذوه على ٍ‬
‫غرة‬
‫كيف أستدرجهم بمعنى أنهم أصروا على المعصية وأعطاهم ما يريدون ٍ‬
‫حينئذ أخذهم أخذ‬
‫{و َم َك ُروا‬
‫{ويَ ْم ُك ُرو َن َويَ ْم ُك ُر اهللُ} [األنفال‪ ]30 :‬إ ًذا ليس من باب التقابل‪َ ،‬‬
‫عزيز مقتدر َ‬
‫عظيما التنوين للتعظيم‪،‬‬
‫{و َم َك ْرنَا َم ْكراً} ً‬
‫عظيما َ‬
‫مكرا ً‬
‫{م ْكراً} التنوين للتعظيم يعني ً‬
‫َم ْكراً}‪َ ،‬‬
‫تصريح بما‬
‫ٌ‬ ‫مكرا وهم ال يشعرون هذا تأكيد هذا‬
‫{و ُه ْم اَل يَ ْشعُ ُرو َن} ومكرنا ً‬
‫ولذلك قال‪َ :‬‬
‫دل عليه اللفظ‪ ،‬وإال يعني يسمى بداللة التضمن ألن كونهم ال يشعرون هو معنى االستدراج‬
‫تصريحا بما دل عليه اللفظ‪ ،‬والمكر من صفاته الفعلية ألنها‬ ‫ٍ‬
‫فحينئذ يكون‬ ‫وهو معنى المكر‪،‬‬
‫ً‬
‫تتعلق بمشيئة اهلل تعالى‪.‬‬
‫ففي اآلية التحذير من األمن بمكر اهلل وأنه من أعظ الذنوب‪.‬‬
‫ودلت اآلية على تحريمه من وجهين‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن الجملة بصيغة االستفهام الدال على التقريع والتوبيخ واإلنكار‪ ،‬االستفهام‬
‫دل على التحريم‪.‬‬
‫( ‪)76/11‬‬

‫نسا َن لَِفي ُخ ْس ٍر *‬ ‫{وال َْع ْ ِ‬


‫ص ِر * إ َّن اإْلِ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الثاني‪ :‬قوله‪{( :‬يَأ َْم ُن َم ْك َر اهلل إِالَّ الْ َق ْو ُم الْ َخاس ُرو َن})‪َ ،‬‬
‫آمنُوا َو َع ِملُوا} [العصر‪ ]3 :1 :‬اإليمان واجب‪ ،‬ألنه يحصل به ماذا؟ النجاة من‬ ‫َّ ِ‬
‫إِاَّل الذ َ‬
‫ين َ‬
‫محرم‪ ،‬وهكذا‬
‫ٌ‬ ‫الخسران‪ ،‬وما حصل به النجاة من الخسران واجب‪ ،‬وما حصل به الخسران‬
‫ما بعد اإليمان‪ .‬إذًا دل ذلك على التحريم من وجهين ({إِالَّ الْ َقوم الْ َخ ِ‬
‫اس ُرو َن}) فإثبات‬ ‫ُْ‬
‫محرما‪ ،‬وسيأتي النص في حديث ابن عباس واألمن‬ ‫الخسران هنا دليل على أنهم قد فعلوا ً‬
‫من مكر اهلل أنه ما أكبر الكبائر‪.‬‬

‫( ‪)76/12‬‬

‫ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه إِالَّ الضَّآلُّو َن}) من‬


‫ال َو َمن َي ْقنَ ُ‬
‫قال المصنف رحمه اهلل تعالى‪( :‬وقوله‪{ :‬قَ َ‬
‫هذه اسم استفهام ألن الفعل بعدها مرفوع أو مجزوم؟ مرفوع‪ ،‬وليس بمجزوم‪ ،‬لو كان‬
‫مرفوعا يدل على‬ ‫بمجزوم فهو مرفوع‪ ،‬فكونه‬ ‫ٍ‬ ‫مجزوما لقلنا ماذا؟ لقلنا‪ :‬شرطية‪ ،‬لكنه ليس‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه إِالَّ الضَّآلُّو َن}) ال يقنط‬
‫({و َمن َي ْقنَ ُ‬
‫أنها استفهامية‪ ،‬وهي مضمنةٌ معنى النفي َ‬
‫({من َّر ْح َم ِة َربِِّه}) رحمة مضافة هنا إلى الفاعل‪ ،‬من رحمة ربه‬ ‫أح ٌد إال الضالون‪ .‬وقوله‪ِ :‬‬
‫مرارا المصدر يضاف إلى الفاعل أو يضاف‬ ‫إياه‪[ ،‬من الذي] رحمة هذا مصدر‪ ،‬ومر معنا ً‬
‫حينئذ ُت َقدِّر المحذوف‪ ،‬رحمة يرحم‪،‬‬ ‫يتعدى ٍ‬ ‫إلى المفعول‪ ،‬إن أضيف إلى أحدهما وكان َّ‬
‫الرب فاعل الرحمة‪ .‬إ ًذا المفعول محذوف‪ ،‬هكذا تفسره‪ ،‬إذا أشكل عليك تأتي ٍ‬
‫بفعل‬
‫مضارع في محل المصدر‪ ،‬ثم منزلة ما بعده‪ ،‬يرحم ربه‪ ،‬إذًا الرب هو الذي يرحم‪ .‬يرحم‬
‫َم ْن؟ إياه‪ ،‬ومن يقنط من رحمة ربه إياه‪ ،‬إياه الضمير يعود إلى َم ْن‪ .‬قوله‪{( :‬إِالَّ الضَّآلُّو َن}) إال‬
‫ط}) المراد به النفي كما ذكرنا‪ ،‬و‬ ‫أداة حص ٍر ألن االستفهام في قوله‪َ :‬‬
‫({و َمن َي ْقنَ ُ‬
‫({الضَّآلُّو َن}) فاعل يقنط‪ ،‬كذلك يقنط الضالون‪ ،‬والضالون فاعل يقنط‪ ،‬والمعنى ال يقنط‬
‫من رحمة اهلل إال الضالون‪َ ،‬نبَّهَ المصنف بهذه اآلية على الجمع بين الرجاء والخوف‪ ،‬يعني‬
‫{و َي ْر ُجو َن َر ْح َمتَهُ َويَ َخافُو َن َع َذابَهُ}‬
‫الدليل هنا على كون في شأن هذا الباب وإال مر معنا‪َ :‬‬
‫[اإلسراء‪ ]57 :‬في دليل واحد‪ ،‬لكن هنا يكون مركبًا من اآليتين‪َ ،‬نبَّه المصنف بهذه على‬
‫الجمع بين الرجاء والخوف فإذا خاف فال يقنط من رحمة اهلل بل يرجوها مع العمل الصالح‪،‬‬
‫اه ُدواْ فِي َسبِ ِ‬
‫يل‬ ‫اج ُرواْ َو َج َ‬
‫ين َه َ‬
‫َّ ِ‬
‫آمنُواْ َوالذ َ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫بعمل كما قال تعالى‪{ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫ال رجاء إال ٍ‬
‫اهلل} ‪[ ...‬البقرة‪ ]218 :‬ذكر كم عمل؟ آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اهلل ‪...‬‬ ‫ِ‬
‫يم} أولئك‬ ‫اهلل واهلل غَ ُف ِ‬ ‫ك} المذكورون الموصفون بما ذُكِر {يرجو َن ر ْحم َ ِ‬ ‫{أ ُْولَئِ َ‬
‫ور َّرح ٌ‬
‫ت َ ُ ٌ‬ ‫َ َْ ُ َ َ‬
‫ت ِ‬
‫اهلل}‪ ،‬أما‬ ‫ك َي ْر ُجو َن َر ْح َم َ‬‫الذين فعلوا اإليمان وفعلوا الجهاد وفعلوا الهجرة ‪{ ...‬أ ُْولَئِ َ‬
‫الذي ال يفعل فال يرجوا كاآلية التي ذكرناها في سورة الكهف فذكر سبحانه أنهم يرجون‬
‫رحمة اهلل مع االجتهاد في األعمال الصالحة‪ ،‬فأما الرجاء مع اإلصرار على المعاصي فذاك‬
‫من غرور الشيطان‪ ،‬وهو الرجاء المذموم الذي ذكره ابن القيم فيما سبق‪ ،‬وأما القنوط‬
‫مر ‪ -‬اليأس من الخير‪ ،‬وفسره بعضهم باستبعاد الفرج واليأس منه‪ ،‬فرجه بعيد‬
‫فمعناه ‪ -‬كما ّ‬
‫والمغفرة بعيدة والرحمة بعيدة وقل ما شت من أفعال اهلل تعالى المحمودة وكلها محمودة‬
‫فيستبعدها ٍ‬
‫حينئذ يكون قد وقع في القنوط‪ ،‬فال يرجو كرم اهلل وجوده ورحمته ومغفرته‪ ،‬بل‬
‫كل هذه يستبعدها ويستبعد الفرج نقول‪ :‬هذا يسمى قنوطًا‪ ،‬فهو استبعاد الفرج واليأس منه‬
‫ذنب عظيم منافيان‬
‫وسوء الظن باهلل تعالى‪ ،‬وهو يقابل األمن من مكر اهلل تعالى وكالهما ٌ‬
‫لكمال التوحيد الواجب‪ ،‬وقد ينافيان أصل التوحيد‪ ،‬ألنه قد يصل به الحال إلى أن يسلب‬
‫الباري جل وعال عن هذه األوصاف ٍ‬
‫حينئذ يقع في اإللحاد‪ ،‬فإذا وقع في اإللحاد‪.‬‬

‫( ‪)76/13‬‬

‫اإللحاد كفر في الجملة كما سيأتي باب خاص في ذلك‪ ،‬ومعنى اآلية التي ذكرها المصنف‬
‫ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه إِالَّ الضَّآلُّو َن}) أن اهلل تعالى لَ َّما بشر إبراهيم بشرته المالئكة‬
‫({و َمن َي ْقنَ ُ‬
‫َ‬
‫ش ُرو َن} [الحجر‪]54 :‬‬ ‫سنِي ال ِ‬
‫ْكَب ُر فَبِ َم ُتبَ ِّ‬ ‫ال أَب َّ ِ‬
‫ش ْرتُ ُموني َعلَى أَن َّم َّ َ‬‫بولده إسحاق فقال‪{ :‬قَ َ َ‬
‫استبعادا لوقوع هذا في العادة كبير السن وزوجته كبيرة استبعاد ماذا؟ أنه ال يلد ال هو وال‬ ‫ً‬
‫استبعادا لوقوع هذا في العادة مع كبر السن منه‬
‫ً‬ ‫زوجته‪ ،‬فلما بشروه بإسحاق استبعد ذلك‬
‫اك بِال َ‬
‫ْحقِّ} [الحجر‪ ]55 :‬يعني الذي ال ريب فيه الحق الشيء‬ ‫ومن زوجته {قَالُواْ بَ َّ‬
‫ش ْرنَ َ‬
‫وموجودا وال ريب فيه‪ ،‬بل هو أمر الذي إذا أراد شيئًا أن يقول له‪:‬‬
‫ً‬ ‫والزما‬
‫ً‬ ‫الذي يكون ثاتبًا‬
‫كن فيكون‪ ،‬وإن َبعُ َد مثله في العادة التي أجراها‪ ،‬فإن ذلك عليه يسير إذا أراده‪ ،‬نعم ال‬
‫يُعجزه شيء البتة‪ ،‬وهذه العادات إنما تكون ماذا؟ تكون هي الدارجة في األصل لكن قد‬
‫ين} أي من اآليسين من رحمة اهلل‪ ،‬ثم قال‬ ‫ِِ‬
‫يخرقها الباري جل وعال‪{ ،‬فَالَ تَ ُكن ِّم َن الْ َقانط َ‬
‫ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه إِالَّ الضَّآلُّو َن}) يعني‬
‫ال َو َمن َي ْقنَ ُ‬
‫إبراهيم ذكر اآلية التي ذكرها المصنف ({قَ َ‬
‫هذا االستبعاد مني لم يصل بي إلى القنوط من رحمة اهلل وكيف إبراهيم الخليل وهو إمام‬
‫الموحدين يقنط من رحمة اهلل تعالى‪ ،‬فأجابهم أنه ليس بقانط ولكن يرجو من اهلل الولد وإن‬
‫كان قد َك ُب َر وأسنت امرأته‪ ،‬فإنه يعلم من قدرة اهلل ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم‪،‬‬
‫لكنه قال ذلك على وجه التعجب فحسب‪ ،‬يعني شأنه شأن البشر‪ ،‬يعني أمر فطري‪ ،‬يعني‬
‫معتادا‪ ،‬وإذا كان كذلك ٍ‬
‫حينئذ ال يُالم ال يُجعل ذلك عيبًا‬ ‫نظر إلى ماذا؟ نظر إلى ما كان ً‬
‫ونقصا‪ ،‬لماذا؟ ألنه بشر‪ ،‬وإذا كان كذلك فإذا تعجب من شيء ما مخالف للمعتاد من سنة‬ ‫ً‬
‫ِّي‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫السد ّ‬ ‫نقصا منه عليه الصالة والسالم‪ .‬قال ُّ‬
‫اهلل تعالى في الخلق حينئذ ال يكون ذلك ً‬
‫ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه}‪ ،‬قال‪ :‬من ييأس من رحمة ربه‪ .‬رواه ابن أبو حاتم‪{( .‬إِالَّ‬
‫{و َمن َي ْقنَ ُ‬
‫َ‬
‫الضَّآلُّو َن}) قال بعضهم‪ :‬المخطئون طريق الصواب أو الكافرون‪ .‬الضال يُطلق ويراد به‬
‫الضالل الكامل من كل وجه‪ ،‬وهو الكافر‪ ،‬وقد يُطلق ويراد به ما دون ذلك‪ ،‬فالمبتدع ضال‬
‫والعاصي المسلم ضال والكافر ضال والمشرك ضال كلهم ضالون‪ٍ ،‬‬
‫حينئذ ما المراد هنا؟‬
‫يحتمل الوجهين‪ ،‬كقوله‪{ :‬إِنَّهُ الَ ي ْيأَس ِمن َّرو ِح ِ‬
‫اهلل إِالَّ الْ َق ْو ُم الْ َكافِ ُرو َن} [يوسف‪.]87 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬
‫وقيل‪{( :‬الضَّآلُّو َن}) المكذبون أو المخطئون الذاهبون عن طريق الصواب‪ ،‬أي إنما‬
‫استبعدت الولد لكبر سني ال لقنوطي من رحمة اهلل‪ ،‬قاله الشوكاني رحمه اهلل تعالى‪.‬‬

‫( ‪)76/14‬‬
‫دلت اآلية على التحذير من القنوط من رحمة اهلل‪ ،‬وأنه من أعظم الذنوب‪ ،‬وألنه سوء ظن‬
‫باهلل عز وجل ألنه طعن في قدرة اهلل تعالى وعمومها‪ ،‬وطعن في رحمة اهلل وشمولها‪ ،‬وهو‬
‫شكا في القدرة أو في عمومها‪ ،‬وإما‬ ‫كذلك‪ ،‬قانطًا من رحمة اهلل‪ ،‬قنط من رحمة اهلل إما ًّ‬
‫معا أنه يجب على‬ ‫ٍ‬ ‫ٌّ‬
‫شك في الرحمة أو في شمولها‪ ،‬حينئذ يستوي األمران‪ ،‬ودلت اآلية الثاني ً‬
‫المؤمن أن يجمع بين الخوف والرجاء‪ ،‬فال ُيغَلِّب جانب الرجاء فيأمن مكر اهلل‪ ،‬وال ُيغَلِّب‬
‫جانب الخوف فييأس من رحمة اهلل‪ ،‬بل يكون خائ ًفا راجيًا‪ ،‬يخاف ذنبه ويعمل لطاعة ربه‬
‫{و َي ْر ُجو َن َر ْح َمتَهُ َويَ َخافُو َن َع َذابَهُ} [اإلسراء‪.]57 :‬‬
‫ويرجو رحمة اهلل‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ :‬‬
‫وقال‪{ :‬يَ ْح َذ ُر اآْل ِخ َر َة َو َي ْر ُجو َر ْح َمةَ َربِِّه} [الزمر‪ .]9 :‬ولذلك قلنا فيما مر معنا أنه يجمع‬
‫مقام واحد‪ ،‬وقد ُي َقدِّم أحدهما على اآلخر للداللة على أنه ال بد من االعتدال‪ ،‬ثم‬ ‫بينهما في ٍ‬
‫ِّم الخوف على الرجاء والعكس بالعكس وإال األصل‬
‫قد يكون لحال زيد من الناس أن ُي َقد َ‬
‫فيه االعتدال‪.‬‬
‫قال المصنف رحمه اهلل تعالى‪( :‬وعن ابن عباس رضي اهلل تعالى عنهما أن رسول اهلل ‪ -‬صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ -‬سئل عن الكبائر فقال‪« :‬الشرك باهلل‪ ،‬واليأس من روح اهلل‪ ،‬واألمن من‬
‫مكر اهلل»)‪( .‬سئل عن الكبائر فقال‪« :‬الشرك باهلل»)‪ ،‬يعني ذكر شيئًا من الكبائر‪ ،‬ولم يُ ِر ِد‬
‫ثالث («ثالث خصال»)‪«( ،‬واليأس من روح اهلل‪ ،‬واألمن من مكر‬
‫الحصر كما مر معنا ٌ‬
‫اهلل») الشاهد هو («واليأس من روح اهلل‪ ،‬واألمن من مكر اهلل») هذا الحديث رواه البزار‬
‫وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بش ٍر عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول اهلل ‪ -‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ -‬كان متكئًا فدخل عليه رجل فقال‪ :‬ما الكبائر؟ فقال‪« ... :‬الشرك باهلل»‪.‬‬
‫وذكر الحديث‪ ،‬ورجاله ثقات إال شبيب بن بش ٍر فقال ابن معين‪ :‬ثقة‪ .‬ولينه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫قال في ((التيسير))‪ :‬ومثل هذا يكون حسنًا وهو كذلك‪ ،‬وقال ابن كثير‪ :‬في إسناده نظر‬
‫واألشبه أنه موقوف‪ .‬ولو كان موقوفًا له حكم المرفوع ألنه ال يقال بالرأي (أكبر الكبائر)‬
‫الحكم على الشيء ألنه من الكبائر محرم بل من الكبائر‪ٍ ،‬‬
‫حينئذ يحتاج إلى وحي وال يكون‬
‫كذلك إال من جهة النبي ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪.-‬‬
‫قوله‪«( :‬الشرك باهلل»)‪ .‬وهذا ذكره أوالً وهو أكبر الكبائر وأظلم الظلم وأقبح القبيح‪ ،‬إذ‬
‫مضمونه تنقيص رب العالمين وإلههم ومالكهم وخالقهم الذي ال إله إال هو‪ ،‬وعدل غيره به‪،‬‬
‫ولهذا ال يُغفر إال لم يتب منه بخالف غيره من الذنوب‪ ،‬فهي تحت مشيئة اهلل إن شاء غفرها‬
‫وإن شاء عذب بها‪ ،‬ومر معنا معنى الشرك تقسيمه ونحو ذلك‪.‬‬

‫( ‪)76/15‬‬

‫ثانيًا‪ :‬قال‪«( :‬واليأس من روح اهلل»)‪َ .‬ر ْوح بفتح الراء بمعنى الرحمة وقريب من الرحمة‪،‬‬
‫والفرج والتنفيس‪«( ،‬واليأس من روح اهلل») أي قطع الرجاء واألمل من اهلل‪«( ،‬واليأس من‬
‫روح اهلل») قطع الرجاء واألمل من اهلل فيما يروبه ويقصده ويخافه ويرجوه‪ ،‬يعني فيما‬
‫يفعله‪ ،‬يفعل الشيء ويقطع األمل من اهلل تعالى‪ ،‬يتوب إلى اهلل تعالى ويعتقد أن اهلل تعالى‬
‫سيرده‪ ،‬نقول‪ :‬هذا قطع للرجاء‪ ،‬أو أن هذه التوبة لم يقبلها اهلل تعالى‪ ،‬نقول‪ :‬هذا قطع‬
‫اهلل إِنَّهُ الَ ي ْيأَس ِمن َّرو ِح ِ‬
‫اهلل إِالَّ الْ َق ْو ُم‬ ‫للرجاء وال يجوز‪ .‬قال تعالى‪{ :‬والَ َت ْيأَسواْ ِمن َّرو ِح ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الْ َكافِ ُرو َن}‪ .‬وذلك كذلك إساءة ظن باهلل تعالى‪ ،‬وجهل لسعة رحمته وجوده ومغفرته‪.‬‬
‫(«واألمن من مكر اهلل») هذا الثالث‪ ،‬أي من استدراجه للعبد‪ ،‬أو سلبه ما أعطاه من اإليمان‬
‫كالهما بمعنى‪ ،‬فاهلل تعالى يستدرج العبد أو يسلبه ما أعطاه من النعم‪ ،‬وذلك جهل باهلل‬
‫وبقدرته وثقة بالنفس وعجب بها‪.‬‬
‫دل الحديث على أن األمن من مكر اهلل واليأس من روح اهلل من الكبائر‪ٍ ،‬‬
‫حينئذ وافق‬ ‫إذًا ّ‬
‫االستنباط الذي ذكره المصنف من اآليتين السابقتين‪.‬‬
‫قال المصنف رحمه اهلل تعالى‪( :‬وعن ابن مسعود رضي اهلل تعالى عنه قال‪ :‬أكبر الكبائر‬
‫اإلشراك باهلل‪ ،‬واألمن من مكر اهلل‪ ،‬والقنوط من رحمة اهلل‪ ،‬واليأس من روح اهلل‪ .‬رواه عبد‬
‫الرزاق)‪.‬‬
‫وعن ابن مسعود قال رفعه؟ لم يرفعه‪ ،‬له حكم الرفع‪ ،‬فهو باعتبار إسناده وعدمه قد يُسمى‬
‫أثرا‪ ،‬وباعتبار أن له حكم المرفوع فهو حديث مرفوع للنبي ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،-‬فهو‬‫ً‬
‫حكما ال حقيقةً‪.‬‬
‫مرفوع ً‬
‫‪..‬‬
‫نعم‪.‬‬
‫‪..‬‬

‫( ‪)76/16‬‬

‫[ال‪ ،‬ليس ابن عباس ابن مسعود]‪( .‬وعن ابن مسعود رضي اهلل تعالى عنه قال‪ :‬أكبر الكبائر‬
‫اإلشراك باهلل) هل هذا اللفظ يُحمل على الشرك بنوعيه أو ال؟ لم نذكر هذه المسألة في‬
‫الحديث السابق («الشرك باهلل») ألننا قررنا فيما سبق أنه إذا أُطْلِ َق ِّ‬
‫الشرك باهلل في الشرع‬
‫ٍ‬
‫حينئذ نقول ماذا؟ محمول على األكبر‪ ،‬لكن ا ِإل ْش َراك إِ ْف َعال بمعنى أنه مصدر‪ ،‬والمصدر هو‬
‫معنى مشترك ليس بمعنى خاص‪ ،‬ولذلك جاء هنا ماذا؟ اإلشراك باهلل في مقابل الشرك باهلل‪،‬‬
‫داخل في هذا الحكم أو ال؟ نجعله‬
‫األصغر ٌ‬
‫ُ‬ ‫األولى أن نجعل إن أردنا أن نذكر هل الشرك‬
‫في حديث ابن مسعود ال بحديث ابن عباس‪ ،‬لماذا؟ ألنه ذكر أوالً هناك الشرك‪ ،‬والشرك‬
‫مرادا به الشرك األكبر‪ ،‬لكن اإلشراك إِ ْف َعال وإن كان السابق مصدر‬‫هكذا اللفظ يأتي ماذا؟ ً‬
‫مشابها للسابق في‬
‫ً‬ ‫مصدر قد يكون‬‫ٌ‬ ‫لكن المصدر قد يكثر إطالقه بمعنى‪ ،‬وإذا أُطْلِ َق‬
‫المصدرية لكن قد يكون له معنى آخر‪ ،‬فال يَ ِر ُد في الشرع معنى اإلشراك‪ ،‬هل يأتي في‬
‫القرآن أو جاء في القرآن لفظ اإلشراك؟ ما جاء لفظ اإلشراك‪ ،‬أليس كذلك؟ وإنما جاء‬
‫حينئذ نأتي إلى هذا نقول‪ :‬هل يشمل الشرك األصغر أم ال؟ نقول‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫الشرك ونحو ذلك‪،‬‬
‫الظاهر أنه يشمله‪ ،‬في هذا التركيب نقول‪ :‬الظاهر أنه يشمل الشرك األصغر‪ ،‬ألن األصغر‬
‫إلي من أحلف بغيره صادقًا‪.‬‬
‫من أكبر الكبائر‪ ،‬قال ابن مسعود‪ :‬ألن أحلف باهلل كاذبًا أحب ّ‬
‫وذلك ألن [سيئة الكذب] سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب‪ ،‬فدل على أن الشرك من‬
‫الكبائر مطل ًقا وهو كذلك‪ ،‬الشرك األكبر والشرك األصغر‪ ،‬ومر معنا أنه إذا قيل‪ :‬حرام ال‬
‫يلزم أن يكون شر ًكا‪ ،‬وإذا قيل‪ :‬أكبر الكبائر ال يلزم أن ال يكون شر ًكا‪ ،‬فالشرك محرم‬
‫وذنب ومعصية وكبيرة ومن أكبر الكبائر‪ ،‬وهذه األوصاف كلها تطلق على الشرك‪ ،‬قال‬
‫ماذا؟ (وعن ابن مسعود رضي اهلل تعالى عنه قال‪ :‬أكبر الكبائر اإلشراك باهلل‪ ،‬واألمن من‬
‫مكر اهلل‪ ،‬والقنوط من رحمة اهلل) القنوط يعني يستبعد رحمة اهلل تعالى ويستبعد حصول‬
‫المطلوب‪( ،‬واليأس) كما مر ماذا؟ أنه يستبعد زوال المكروه‪[ ... .‬هذا األثر]‪ .‬قال في‬
‫((التيسير))‪ :‬هذا األثر رواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود ‪ -‬وليس عن ابن‬
‫عباس ‪ -‬عن ابن مسعود‪ .‬قال ابن كثير‪ :‬وهو صحيح بال شك‪ .‬يعني ثابت عنه‪ ،‬وإذا كان‬
‫ضا‪.‬‬
‫كذلك فله حكم الرفع ألنه ال يقال بالرأي‪ ،‬ورواه الطبراني أي ً‬
‫قوله‪( :‬أكبر الكبائر اإلشراك باهلل)‪ .‬أي في ربوبيته أو عبادته وهذا محل إجماع‪( .‬واألمن من‬
‫مكر اهلل) سبق شرحه‪( ،‬والقنوط من رحمة اهلل) قال أبو السعادات‪ :‬هو أشد اليأس من‬
‫الشيء‪ .‬أشد اليأس لم يفسره باليأس‪ ،‬وإنما أشد اليأس من الشيء‪ ،‬فعلى هذا يكون الفرق‬
‫بين القنوط واليأس‪ ،‬كالفرق بين االستغاثة والدعاء‪ ،‬ما الفرق بين االستغاثة والدعاء؟ العموم‬
‫والخصوص المطلق‪ ،‬كل استغاثة دعاء وال عكس‪ ،‬كل يأس قنوط وال عكس‪ ،‬فيكون‬
‫القنوط من اليأس بعضه كشأن االستغاثة من الدعاء كما االستغاثة من الدعاء‪ ،‬وظاهر القرآن‬
‫أن اليأس أشد من القنوط‪ ،‬ظاهر القرآن أن اليأس أشد من القنوط‪ ،‬لماذا؟ ألنه حكم ألهله‬
‫بالكفر‪ ،‬وألهل القنوط بالضالل‪ ،‬وهذا واضح بين‪ ،‬قوله‪( :‬واليأس من روح اهلل)‪ .‬سبق‬
‫شرحه‪.‬‬

‫( ‪)76/17‬‬

‫مناسبة الحديثين للباب‪ :‬أنه يدل على أن األمن من مكر اهلل‪ ،‬واليأس من رحمته من كبائر‬
‫الذنوب‪.‬‬
‫ويُستفاد من الحديثين تحريم األمن من مكر اهلل‪ ،‬واليأس من روح اهلل وأنهما من أكبر‬
‫الكبائر‪ ،‬أن الشرك أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ولذا بدأ به في الحديثين‪.‬‬
‫التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف‪ ،‬فإذا خاف فال يقنط وال ييأس بل يرجو رحمة اهلل‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ثم اعلم أنه ال يُظَ ّن أن الكبائر محصورة في هذين الحديثين فقط‪ ،‬بل الكبائر كثيرة لكن‬
‫ذكر ما هو أكبرها‪ ،‬أو من أكبرها‪ ،‬وقد تقدم في حديث ‪« ...‬اجتنبوا السبع الموبقات»‬
‫كالم نحو ذلك‪ ،‬ولهذا قال ابن عباس‪ :‬هي للسبعين أقرب منها للسبع‪ .‬رواه ابن جرير وابن‬
‫أبي حاتم‪ .‬وفي رواية‪ :‬هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سب ٍع غير أنه ال كبيرة من استغفار وال‬
‫ض َّع َفهُ‪ ،‬وقد َع َّرفُوها بما فيها ح ٌد في الدنيا أو وعيد في اآلخرة أو‬
‫صغيرة مع إصرار‪ .‬بعضهم َ‬
‫نفي إيمان أو لعن أو غضب أو عذاب‪ ،‬ومن بَ ِرأَ منه الرسول ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬أو‬
‫قال‪« :‬ليس منا»‪ .‬وما سوى ذلك صغائر‪ ،‬يعني أن ما فيه ٌّ‬
‫حد أو لعن أو غضب أو نحو ذلك‬
‫بناء على الصحيح أن‬
‫فهو كبيرة‪ ،‬وما لم يرد فيه وإنما جاء التحريم فحسب فهو صغيرة ً‬
‫الذنب ينقسم إلى كبائر وصغائر‪ ،‬بل وأكبر كبائر وهي من جنس الكبائر‪ ،‬ولعله مر كالمه‬
‫في ذلك فيما سبق‪ ،‬وليس المراد أن الصغائر يتهاون بها‪ ،‬ال بل كل المعاصي يجب اجتنابها‪،‬‬
‫فكم من صغيرة عادت كبيرة‪ ،‬ولذلك ابن القيم رحمه اهلل تعالى يقول‪ :‬الكبيرة قد تكون‬
‫صغيرة‪ ،‬والصغيرة قد تكون كبيرة بحال القلب‪ ،‬قد يرتكب الكبيرة وهو مستحي من خالقه‬
‫ويستحضر أن اهلل تعالى مطلع عليه ويخشى عقوبته ٍ‬
‫حينئذ هانت‪ ،‬وقد يفعل الصغيرة وال‬
‫يبالي بالشيء‪ٍ ،‬‬
‫حينئذ كبرت‪ ،‬إذًا باعتبار الحال‪.‬‬
‫قوله‪( :‬رواه عبد الرزاق) هو ابن همام بن نافع الحميري موالهم أبو بكر الصنعاني الحافظ‬
‫المصنف الشهير‪ ،‬سأل أحمد‪ :‬أرأيت أح ًدا أحسن حديثًا من عبد الرزاق؟ قال‪ :‬ال‪ .‬روى عن‬
‫أبيه وعن عمه وهب ومعمر وغيرهم وعنه ابن عيينه ومعتمر وهما من شيوخه وأحمد‬
‫وإسحاق وخلق‪ ،‬ولد سنة ستة وعشرين ومائة ومات ببغداد سنة إحدى عشر ومائتين‪ ،‬هو‬
‫صنعاني لكن أصله ماذا؟ بغدادي‪ ،‬لكن لما جاء إلى اليمن مكروا به فزوجوه فولد له فبقي‪.‬‬
‫قال المصنف رحمه اهلل تعالى‪( :‬فيه مسائل‪:‬‬
‫األولى‪ :‬تفسير آية األعراف) وهي قوله‪{( :‬أَفَأ َِمنُواْ م ْكر ِ‬
‫اهلل فَالَ يأْمن م ْكر ِ‬
‫اهلل إِالَّ الْ َق ْو ُم‬ ‫ََُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫وبيَّن أن الذي‬ ‫ِ‬
‫الْ َخاس ُرو َن})‪ .‬والمعنى أن اهلل ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل‪َ ،‬‬
‫حملهم على ذلك كونهم أمنوا مكر اهلل‪.‬‬
‫ط ِمن َّر ْح َم ِة َربِِّه إِالَّ الضَّآلُّو َن}) ففيها ذم القنوط‬‫({و َمن َي ْقنَ ُ‬
‫(الثانية‪ :‬تفسير آية الحجر)‪َ .‬‬
‫والحث على الرجاء‪ ،‬واألولى فيها ذم األمن والحث على الخوف‪.‬‬
‫(الثالثة‪ :‬شدة الوعيد فيمن أمن مكر اهلل)‪( .‬شدة الوعيد) أي أنه من الكبائر‪ ،‬بل من أكبر‬
‫الكبائر‪.‬‬
‫(الرابعة‪ :‬شدة الوعيد في القنوط)‪ .‬أي لكونه من الكبائر أو من أكبر الكبائر كذلك معنى‬
‫النص السابق‪.‬‬

‫( ‪)76/18‬‬

‫كالما طيبًا قال‪ :‬والقنوط من رحمة اهلل واليأس من‬


‫هنا ابن السعدي رحمه اهلل تعالى ذكر ً‬
‫روحه سببان محذوران‪ .‬ابن السعدي كما تعلمون في ‪(( ...‬القول السديد)) عالج أو شرح‬
‫((كتاب التوحيد)) لكن من حيث المعاني ال من حيث األلفاظ‪ ،‬ال يقول قال كذا وقصد به‬
‫اللب‬
‫كذا كما هو عليه صاحب ((التيسير))‪ ،‬و ((فتح المجيد)) وغيره‪ ،‬ال إنما ذكر ماذا؟ ّ‬
‫الخالصة للباب‪ ،‬فلذلك قررنا في أول الكتاب أنه مما ينبغي العناية به كتاب يتعلق باأللفاظ‬
‫ومن أحسنها وأجودها حاشية ابن القاسم رحمه اهلل تعالى ألنه اختصر ((التيسير)) واختصر‬
‫((فتح المجيد)) وزاد عليهما‪ ،‬وأما من حيث المعاني فال بد من العناية بـ ((القول السديد))‬
‫البن السعدي‪ .‬قال هنا‪ :‬والقنوط من رحمة اهلل واليأس من روحه سببان محذوران‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يُسرف العبد على نفسه‪ ،‬يعني بالذنوب‪ ،‬ويتجرأ على المحارم‪ ،‬يعني على‬
‫صر عليها ويصمم على اإلقامة على المعصية‪ ،‬ويقطع طمعه من رحمة اهلل‬
‫المحرمات‪ ،‬فيُ ّ‬
‫ألجل أنه مقيم على األسباب التي تمنع الرحمة‪ .‬يعني يعلم من نفسه أنه مسرف‪ ،‬ثم يقع في‬
‫نفسه أن اهلل تعالى كل ٍ‬
‫سبب جعله ألن يُقلع عن هذه المعاصي أنه مقطوع‪ ،‬ولذلك قال‪:‬‬
‫ألجل أنه مقيم على األسباب التي تمنع الرحمة‪ ،‬ويقطع طمعه من رحمة اهلل ألجل أنه مقيم‬
‫الزما‪،‬‬
‫على األسباب التي تمنع الرحمة‪ ،‬فال يزال كذلك حتى يصير له هذا وص ًفا وخل ًقا ً‬
‫لماذا ال تتوب؟ قال‪ :‬أنا مسرف وعندي َوعندي وعندي‪ .‬إ ًذا نظر إلى ماذا؟ إلى كثرة ما‬
‫الزما له‪ ،‬وهذا غاية ما يريده‬
‫عنده‪ ،‬ثم قطع أسباب الرحمة فبقي على ذلك وصار خل ًقا ً‬
‫الشيطان من العبد‪ ،‬ومتى وصل إلى هذا الحد لم ُي ْر َجى له خير إال بتوبة نصوح وإقالع‬
‫قوي‪.‬‬
‫إذًا هذا السبب هو اإلسراف إسراف العبد على نفسه‪ ،‬ثم يقطع كل ٍ‬
‫رجاء يتعلق باهلل تعالى‬
‫وي َعظِّ ُم جانب ما هو عليه‪.‬‬
‫ُ‬
‫األمر الثاني‪ :‬أن يقوى خوف العبد بما جنت يداه من الجرائم‪ ،‬ويضعف علمه بما هلل من‬
‫واسع الرحمة‪ ،‬يعني خوف وغلو فيه كما مر معنا أن الخوف إذا قطع ٍ‬
‫حينئذ أوقعه في‬
‫القنوط من رحمة اهلل‪ ،‬ويضعف علمه بما هلل من واسع الرحمة والمغفرة‪ ،‬ويظن بجهله أن اهلل‬
‫ال يغفر له وال يرحمه ولو تاب وأناب‪ ،‬وتضعف إرادته فييأس من الرحمة‪ ،‬وهذا من‬
‫المحاذير الضارة الناشئة من ضعف علم العبد بربه‪ ،‬وما له من الحقوق‪ ،‬ومن ضعف النفس‬
‫وعجزها ومهانتها‪.‬‬
‫قال رحمه اهلل تعالى‪ :‬فلو عرف هذا ربه ولم يخلد إلى الكسل لعلم أن أدنى سع ٍي يوصله إلى‬
‫ربه وإلى رحمته وجوده وكرمته‪.‬‬
‫ضا سببان مهلكان‪:‬‬
‫ثم قال‪ :‬ولألمن من مكر اهلل أي ً‬
‫أحدهما‪ :‬إعراض العبد عن الدين ال يتعلمه وال يعمل به‪ ،‬إعراض العبد عن الدين وغفلته عن‬
‫مقصرا عن الواجبات‬
‫ضا غافالً ً‬
‫معرفة ربه وما له من الحقوق‪ ،‬وتهاونه بذلك فال يزال معر ً‬
‫منهم ًكا في المحرمات حتى يضمحل خوف اهلل من قلبه‪ ،‬يعني كلما استمر وتجرأ في‬
‫المعاصي زال الخوف شيئًا فشيئًا‪ ،‬وهذا قد يكون ُم ْد َر ًكا‪ ،‬وال يبقى في قلبه من اإليمان‬
‫شيء‪ ،‬ألن اإليمان يحمله على خوف اهلل وخوف عقابه الدنيوي واألخروي‪.‬‬

‫( ‪)76/19‬‬

‫مغرورا بعمله فال يزال به جهله حتى‬


‫ً‬ ‫السبب الثاني‪ :‬أن يكون العبد عاب ًدا جاهالً ُم ْع َجبًا بنفسه‬
‫يدل بعمله ويزول الخوف عنه‪ ،‬يعمل وال يخاف‪ ،‬ويرى أن له عند اهلل المقامات العالية‬
‫فيصير أمانًا من مكر اهلل متكالً على نفسه الضعيفة‪ ،‬ومن هنا يُخذل ويحال بينه وبين التوفيق‬
‫إذ هو الذي جنى على نفسه‪.‬‬
‫قال رحمه اهلل‪ :‬فبهذا التفصيل تعرف منافاة هذه األمور للتوحيد‪ ،‬إما من أصله وإما من‬
‫كماله الواجب‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫وصلَّى اهلل وسلَّم على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬

You might also like