Professional Documents
Culture Documents
"الجمهورية العربية المتحدة" وكانت سوريا هي االقليم الشمالي ،ومصر هي االقليم الجنوبي .ورأت
إسرائيل في هذا االتحاد خطراً عظيما ً يتهدد أمنها في الشمال والجنوب ومن الشرق أيضا ً.
وحوصرت الدولة اليهودية بالجيوش العربية ،ولم يتبق لها سوى البحر األبيض المتوسط – المنفذ
الوحيد اآلمن ،فحصنته بالسفن وبالمدمرات ،وزرعت غواصاتها بطول الساحل خوفا ً من حصار هذه
الجبهة بالقوات البحرية العربية ،وأصبحت إسرائيل تعيش في حالة طوارئ دائما ً ال تدري من أية
جهة تأتيها الضربة الفجائية القاضية.
لذلك حرص ساستها – بواسطة أجهزة المخابرات – على عرقلة نمو هذا التطويق العربي من الشمال
والجنوب ،ولعبت على كل األوتار إلفشاله والقضاء عليه .ولم يكن بمستطاعها وقف الزحف العربي
إلنقاذ فلسطين المغتصبة ،سوى باللجوء الى كل الحيل القذرة والتصرفات الوحشية إلرهاب العرب،
وبث الدعايات المسمومة إلخافتهم ،وتصوير الجندي االسرائيلي والعسكرية االسرائيلية كأسطورة
في األداء والمهارة والقوة.
لذا فقد عمدت الى ترسيخ هذا االعتقاد لدى العرب بمحو ما يقرب من " "293قرية فلسطينية
وإزالتها من فوق األرض والخريطة ،وارتكاب أبشع المذابح في التاريخ دموية وبربرية ضد العرب
العزل في فلسطين .هذا بجانب التكثيف اإلعالمي والنشاط الدبلوماسي للحد من يقظة روح الجهاد،
التي جاهدت قوى االستعمار على إسكاتها بالضغط على العرب وسد أفواههم ..ومنع السالح عنهم
وإغراقهم في مشاكل داخلية معقدة . .كالجهل والتخلف والفقر oوالمرض . .وإثارة الثورات الداخلية
طمعا ً في شهوة الوصول oالى الحكم.
كل ذلك أدى الى إضعاف الجيوش العربية في حين كانت إسرائيل تتشكل وتقوى ،وتغدق عليها الدول
االستعمارية الكبرى األسلحة المتطورة الحديثة التي صنعت إسرائيل ،وزراعتها في قلب المنطقة
العربية لتقسمها الى نصفين – أفريقي وآسيوي – ال أمل في التقائهما إال بفناء إسرائيل.
من هنا كان الرعب األكبر إلسرائيل حينما قامت الوحدة في فبراير 1958بين الشطرين المنفصلين
في الشمال والجنوب ،وربطهما اتحاد اندماجي وحكومة واحدة على رأسها الزعيم جمال عبد
الناصر ،خاصة بعدما فشل زعماء اتفاق "سيفر" بفرنسا في العدوان الثالثي الغاشم على مصر في
أكتوبر ،1956والذي انتهى بخيبة أمل انجلترا وفرنسا وإسرائيل ،وانسحابهم يمألهم الخزي والعار.
لذلك كان على إسرائيل أن تراقب اتحاد الشطرين ،بل وتسعى الى معرفة أدق األسرار عنهما . .لكي
تحتاط الى نفسها من مغبة تقويضها oواجتياح األرض السليبة فجأة.
وكانت أن أرسلت الى مصر وسوريا بأمهر صائدي الجواسيس . .للبحث عن خونة يمدونها
بالمعلومات وبالوثائق السرية ،فجندت مصريا ً خائنا ً من أصل أرمني اسمه "جان ليون توماس"
استطاع تكوني شبكة تجسس خطيرة في مصر ،وأرسلت الى سوريا – إيلياهو كوهين – داهية
الجواسيس على اإلطالق ،وأسطورة الموساد الذي ظل جسده معلقا ً في المشنقة ألربعة أيام في
دمشق .واألرمن . .جالية أقلية استوطنت مصر هربا ً من االضطهاد والتنكيل الذي تعرض له الشعب
األرمني . .وتعدادهم باآلالف في مصر ..امتزجوا بنسيجها االجتماعي وتزاوجوا فيما بينهم في
البداية . .ثم اختلطت دماؤهم بالمصريين في مصاهرة طبيعية تؤكد هذا االمتزاج واالستقرار،
واحتفظوا فيما بينهم بعاداتهم وتقاليدهم وبلغتهم األصلية.
وتشير بعض المصادر أن تعدادهم في مصر يصل الى مائة ألف أرمني ،يتمتعون بالجنسية المصرية
وبكامل الحقوق ،وسمحت لهم السلطات بإصدار صحيفة باللغة األرمينية ،تدعم ترابطهم وتذكرهم
بجذورهم.
اشتهر عن األرمن أنهم أناس درجوا على العمل والكفاح واالشتغال بالتجارة ،لذلك ..فأمورهم
الحياتية والمادية ممتازة ..خاصة بعدما هيأ لهم المناخ المستقر في مصر فرص االنطالق والنجاح.
وكان "جان ليون توماس" أحد ابناء هذه الجالية ،وقد عمل بالتجارة واالستيراد والتصدير ،واستطاع
بعد عدة سنوات أن يجمع ثروة طائلة تؤمن له مستقبالً رائعاً . .تدفعه إليه زوجته األلمانية "كيتي
دورث" فتغلغل داخل أوساط المجتمع الراقي يزهو بثمرة كده واجتهاده .ولظروف عمله وقرابته
تعددت سفرياته الى ألمانيا الغربية إلنجاز أعماله.
هناك . .اقترب منه أحد صائدي الجواسيس المهرة ،واشتم فيه رائحة ما غالبا ً هي نقطة ضعف من
خاللها يستطيع االلتفاف حوله . .وتجنيده ،ال سيما بعد تأكده من أن له عالقات واسعة في مصر.
ولم تخب حاسة الشم لدى ضابط المخابرات االسرائيلي الذي يتستر وراء شخصية رجل أعمال .إذ
اكتشف هواية خاصة جداً عن توماس . .وهي عشقه للجنس مع األطفال الصغار .ففي غمرة مشاغله
وأعماله ،سرعان ما ينقلب الى ذئب شره يبحث عن فريسة تشبع نهم شذوذه.
كان توماس بالفعل يعاني من هذا الداء ،ويصاب أحيانا ً بتوترات عصبية وتقلبات مواجية حادة،
تظهر عادة في صورة ثورة على زوجته الجميلة . .التي لم تكن تدرك السبب الحقيقي في هروب
الخادمات صغيرات السن من بيتها ،وال يعدن إليه مرة ثانية؟ وفشلت كثيراً في الوصول oالى إجابة
منطقية لذلك.
بياتريشيا اللذيذة
ولكي يزجوا به داخل دائرة الجاسوسية من أوسع األبواب . .قذفوا اليه بطفلة يهودية يتيمة في
العاشرة من عمرها ،طرقت باب شقته في فرانكفورت ،وألنهم زرعوا الكاميرات واألجهزة السرية
بها واتخذوا من الشقة المجاورة مكمنا ً لتسجيل ما سيحدث ..أذهلتهم أغرب مطاردة بين جدران
الشقة الصغيرة ،بين توماس الذئب الجائع . .والطفلة الضعيفة التي كانت تبكي متوسلة إليه ،فيتوسل
هو إليها أال تتركه يعاني أكثر من ذلك.
كان عاريا ً تماماً ،يتصبب منه العرق الغزير وترتجف خلجات وجهه ،وبدا في قمة ضعفه عندما هجم
على الطفلة ،وصفعها oفي عنف فانخرست من الخوف ،وشرع في الحال في تجريدها من مالبسها
حتى تعرت تماماً ،وبدا واضحا ً ارتجاف أطرافها واضطراب أنفاسها الالهثة ،فتحرر بسرعة من
مالبسه كأنه ال يصدق أن فريسة بين يديه ،واحتضنها في لهفة الجائع وهو يأمرها أال تصده ،أو
تعترض على ما يفعله بها.
وفوجئ بهم من حوله ،انتزعوا الطفلة من بين يديه فانزوت ترتجف ..بينما أخذ يرجوهم أال يصحبوه
عاريا ً للشرطة .وأطلعوه على ما لديهم من أدلة شذوذه ،فانهار ..ووقع في لمح البصر على عقد يقر
فيه بتعاونه مع الموساد ،وأنه على استعداد تام لتنفيذ ما يكلف به.
هذه هي الموساد ..تتبع أقذر الحيل للسيطرة على عمالئها وإخضاعهم ،وهذا ليس بأمر جديد على
المخابرات االسرائيلية ،فال شيء يهم طالما ستحقق مآربها وتجند ضعاف النفوس في كل زمان
ومكان.
في قمة مذلته وشذوذه لم تكن لديه القدرة على أن يفكر أو يقرر ،إذ أن إرادته قد شلت . .وانقلب الى
شخص آخر بال عقل . .فقد خلفته المحنة وأزهقته الصدمة ،وبسهولة شديدة استسلم لضباط الموساد
يتحكمون بأعصابه ..وابتدأوا في تدريبه وإحكام سيطرتهم عليه ،وكتب في عدة صفحات بيده كل ما
لديه من معلومات اقتصادية يعرفها بحكم عمله وعالقاته ،وأحاطوه بدائرة الخوف فلم يستطع
اإلفالت ،وهددوا بقتل أفراد أسرته إذا ما عاد الى مصر وأبلغ السلطات . .فقد كان من السهل إقناعه
بوجود عمالء لهم في القاهرة ينتظرون إشارة منهم ليقوموا بالالزم مع عائلته هناك.
وتأكيداً لذلك . .أرسلوا باقة زهور الى منزله بمناسبة عيد ميالد ابنته . .وكم كان فزعه شديداً عندما
اتصل بالقاهرة فتشكره ابنته على باقة الزهور التي أرسلها ..وأصيب رجل األعمال المذعور بصدمة
عنيفة ،وصرخ في هلع مؤكداً بأنه سيقوم بالعمل لصالحهم . .وتركوه يسافر ملتاعا ً ومرعوبا ً يحمل
تكليفات محددة وأسئلة مطلوب إجاباتها ،وكانوا على يقين أنه سقط في شباكهم ولن يمكنه اإلفالت
أبداً.
وفي الطائرة استغرقه تفكير عميق فيما صار إليه حاله ،وهل يستطيع النجاة من هذا المأزق أم ال؟
واتصل فور وصوله بصديقه محمد أحمد حسن الذي يشغل منصبا ً حساسا ً في مدرسة المدفعية
بالقاهرة ،وسأله عدة أسئلة تتصل بعمل جهاز المخابرات المصري .وهل باإلمكان حماية شخص ما
تورط مع المخابرات االسرائيلية؟ وكانت إجابات محمد حسن إجابات قاطعة ،تؤكد ان المخابرات
المصرية من أنشط أجهزة المخابرات في العالم بعد استحداثها وتدريب كوادرها بأقسامها المختلفة،
وحسبما يقال فهي تحمي المتورطين إذا ما تقدم باإلبالغ عما وقع لهم بالخارج.
لكن توماس لم يثق بكالمه ،وظن انها دعاية يروجها ال أكثر ..فتملكه الخوف من االنسياق وراء
دعاية لن تفيد ،وحرص على المضي في طريق الخيانة حتى آخره .بينما انشغل صديقه بالهدايا
الثمينة التي جلبها له ولم يسأله عن تفاصيل األمر .أو عن ذلك الشخص المتورط مع الموساد.
لم يضيع توماس وقته في إثارة أعصابه بالتفكير والقلق ..وشرع كما دربوه في دراسة أحوال
المحيطين به ليستكشف نقاط ضعف تمكنه من النفاذ اليهم ،وكان أول من نصب شباكه حوله – محمد
أحمد حسين – الذي كان يدرك جيداً أن المخابرات المصرية أضافت اختصاصات وتكنولوجيا حديثة
تمكنها من تعقب الجواسيس والخونة.
تناسى الرجل العسكري كل ذلك وعاش في وهم ابتدعه .ولم يعد يفكر سوى في نفسه فقط . .وقد
طغت هدايا صديقه على أنسجة عقله .كان ذلك في شهر أكتوبر عام 1958عندما نام ضميره نوم
الموات بال أدنى حياة أو رعشة من شعور . .وأسلم مصيره بل حياته كلها لمغامرة طائشة قادته الى
الهالك.
وكانت "بياتريشيا" خطوة أولى في سلم الموت الذي ال مهرب منه وال منجي على اإلطالق. .
وبياتريشيا هذه راقصة ألمانية مقيمة بالقاهرة . .تربطها بتوماس عالقة قديمة قبل زواجه من كيتي،
وفي حين انشغل عنها بعمله اضطر لتجديد عالقته بها بمجرد عودته ،لتساعده في تجنيد محمد حسن
الذي كان يعرف عنه ميله الشديد للخمر والنساء.
فرحت الراقصة المثيرة بعودة توماس اليها وتقابلت األغراض والنوايا . .وبعد سهرة ممتعة بأحد
النوادي الليلية . .ارتسمت بخياالت محمد حسن صور متعددة لعالقته ببياتريشيا ،أراد ترجمتها الى
واقع فعلي لكن راتبه الضئيل لم يكن ليكفي لإلنفاق على بيته . .وعلى راقصة مثيرة تجتذب من
حولها هواة صيد الحسناوات .وتكررت السهرات الرائعة ،التي أصبحت تشكل شبه عادة لديه لم يكن
من السهل تبديلها أو االستغناء عنها ،وأغرقته الراقصة في عشقها فازداد اندفاعا ً تجاهها ،ولم يوقفه
سوى ضيق ذات اليد.
عند ذلك لم يكن أمامه سوى االلتجاء الى توماس ليستدين منه ،وتضخم الدين حتى توترت حياة محمد
حسن . .وانتهزها توماس فرصة سانحة الستغالله والضغط عليه فرضخ له في النهاية وسقط
مخموراً في مصيدة الجاسوسية . .مستسلما ً بكامل رغبته مقابل راتب شهري – خمسين جنيها –
ً
خصصه له توماس لينفق على الفاتنة التي أغوته وأسكرته حتى الثمالة.
في المقابل لم يبخل محمد حسن بالمعلومات الحيوية عن مدرسة المدفعية . .كأعداد الطالب بها
وأسماء المدربين والخطة االستراتيجية للتدريب ..كل ذلك من أجل عيون الفاتنة الحسناء العميلة.
وفي الوقت الذي نشط فيه توماس كجاسوس يقوم بمهمته ،تراءت له فكرة تجنيد عمالء آخرين تتنوع
من خاللهم المعلومات التي يسعى للوصول اليها .فكان أن نصب شباكه حول مصور أرمني محترف
اسمه جريس يعقوب تانيليان – 43عاما ً ،واستطاع أن يسيطر عليه هو اآلخر بواسطة إحدى
الساقطات وتدعى – كاميليا بازيان – أوهمته كذبا ً بفحولة ال يتمتع بها سواه.
وألنه كان ضعيفا ً جنسيا ً . .رأى رجولة وهمية بين أحضانها ،فهي المرأة الوحيدة التي "أنعشت"
رجولته ،وبالتالي فقد كان لزاما ً عليه إسباغ رجولة أخرى حولها ،وهي اإلنفاق عليها بسخاء.
وفي غضون عدة أشهر استنزفته كاميليا مادياً . .فاتبع مسلك محمد حسن باللجوء الى توماس
ليقرضه ماالً ،فجنده في لحظات ضعفه وحاجته.
ولما اتسع نشاطه ..استأجر توماس شقة بمنطقة روكسي باسم محمد حسن كانت تزهر بأنواع فاخرة
من الخمور ،وتقام فيها الحفالت الماجنة التي تدعى اليها شخصيات عامة ،تتناثر منها المعلومات
كلما لعبت الخمر بالرؤوس فتمايلت على صدور الحسان وتمرغت بين أحضانها .وفي إحدى
حجرات الشقة أقام جريس تانيليان معمالً مصغراً لتحميض األفالم وإظهار الصور والخرائط ،حيث
كان يجلبها محمد حسن من مقر عمله ويعيدها ثانية الى مكانها.
وذات مرة . .عرض توماس على محمد حسن فكرة السفر الى السويس بالسيارة . .ثم الى بورسعيد
لتصوير المواقع العسكرية والتعرف عليها من خالل شروحه . .ووافق األخير ورافقتهما كيتي التي
اطلعت على سر مهنة زوجها وشاركته عمله .وكان محمد حسن دليالً لهما يشرح على الواقع أماكن
الوحدات العسكرية ..فيقوم توماس بتصويرها من النافذة وتسجيلها على خريطة معه بينما تقود كيتي
السيارة.
المشهد العجيب
وعندما تعثرت أحوال "جورج شفيق دهاقيان" – 45عاما ً – تاجر المالبس ،تدخل صديقه توماس
بطريقته الخاصة إلنقاذه ،وكان المقابل تجنيده للعمل معه في شبكة الجاسوسية.
لم يعترض جورج كثيراً في البداية ..فهو يعلم أنه ال يملك معلومات حيوية هامة تساوي مئات
الجنيهات التي أخذها من توماس مقابل إيصاالت ورهونات .وقد كان توماس الخائن ينظر الى بعيد. .
الى ضابط كبير يقيم أعلى شقة جورج وتربطهما عالقات وطيدة ،وكان له دور فعال فيما بعد.
وألن "بوليدور باب زوغلو" تاجر طموح يحلم بامتالك محل كبير للمجوهرات بوسط القاهرة ..
عرض الفكرة على توماس فأبدى موافقته وشجعه على المضي لتحقيق حلمه ،والحلم تلزمه مبالغ
كبيرة ،والخمر تلتهم حصيلة مكسبه أوالً بأول الى جانب السهرات الماجنة التي تستنزف الكثير من
رأسماله .عند ذلك لم يجد توماس صعوبة تذكر في اصطياده أيضا ً بعدما رسم له خطوط الحلم
المرجو.
لقد رأى بوليدور أن ال شيء يجب أن يعوق تنفيذ حلمه الكبير ..حتى ولو كانت الخيانة هي الثمن.
هكذا مضى توماس يصطاد ضعاف النفوس . .فيمدهم بالمال ويغرقهم في الخمر والجنس ويحصل
على مبتغاه من خاللهم ..وانتعشت بذلك شبكة توماس في جمع المعلومات ،ال يوقفها خوف من
السقوط أو من حبل المشنقة .فالمخابرات االسرائيلية كانت تؤكد له في كل مرة يزور فيها ألمانيا أن
المخابرات المصرية خاملة ضعيفة .نشأت منذ سنوات قليلة ولم تنضج بعد ،ومهما أوتيت من علم
ومقدرة فمن المستحيل كشفه.
هذا االعتقاد سيطر عليه فأظهر وفاءه إلسرائيل وكراهيته للعرب ولكل ما هو عربي .وكلما استدعوه
الى ألمانيا كانوا يعدون له وليمة يعشقها من الفتيات الصغيرات أو الغلمان .ولم يعد يهمهم تصويره
في أوضاعه الشاذة مع الصغار بعد ذلك . .فلقد سقط حتى أذنيه وتوسعت شبكته توسعا ً مذهالً حير
خبراء الموساد أنفسهم ،إذ تعدت الشبكة حدود مصر الى دول عربية أخرى ..بعدما ازداد توماس
علما ً بأدق فنون التجسس . .وكيفية السيطرة على شركائه بسهولة بواسطة نقاط ضعفهم التي استغلها
بمهارة ،وباألموال oالطائلة التي ينفقها عليهم ،وقد اشتدت حاجتهم اليها ،وقد عرفوا أن لكل معلومة
ثمنا ً وقيمة.
وذات مرة عاد توماس من إحدى رحالته في ألمانيا وفي ذهنه صورة "جورج استماتيو" الموظف
بمحالت جروبي بالقاهرة.
كان استماتيو يشرف على حفالت العشاء التي كانت تقيمها رئاسة الجمهورية للضيوف ،ومن خالل
دخوله لقصر الرئاسة بشكل رسمي ،فقد كان يعد بمثابة سلة معلومات طازجة ،تحوي كل ما يدور
في الحفالت الرسمية من أسرار وأخبار ،ويمكن استخدام هذه المعلومات بشكل أو بآخر ،إضافة الى
االستعانة باستماتيو في تنفيذ أية مخططات مستقبلية.
لذلك ..وجدها توماس فرصة ال تعوض ..وكان عنده إصرار متوحش لتجنيده هو اآلخر ليحصل
منه على معلومات oتدر عليه مبالغ خيالية ..خاصة وأن استماتيو – 53عاما ً – يعيش مأساة عجيبة
جداً .إذ كان مصابا ً بالعنة المؤقتة أو عدم القدرة على الجماع إال بعد أن يجامعه رجل مثله .حينئذ
تعود اليه رجولته ويأتي المرأة بمهارة.
اكتشف توماس هذا السر وأخذ يدبر للسيطرة عليه والدخول به لوكر الجواسيس الذي صنعه .وعندما
عرض األمر على ضباط الموساد . .تهللت أساريرهم وأمدوه بأجهزة حساسة دُرب عليها لتسجيل
هذا المشهد الشاذ العجيب . .وعاونه جريس تانيليان في مهمته الى جانب بياتريشيا التي واقت على
تصوير المشهد للسيطرة على استماتيو.
في شقة روكسي تحولت إحدى حجرات النوم في شقة روكسي الى بالتوه ،وقام أحد الشباب بدور
الرجل مع استماتيو المخمور .وكان المشهد الغريب الذي تم تصويره – سببا ً لخضوعه . .وسقوطه
في دائرة الجاسوسية غصبا ً عنه .ومن خالله ..تدفقت أسرار قصر الرئاسة وما يجري بين أروقته،
وما يتلقطه من أخبار وأسرار وحكايات ال تنشرها الصحف أو يعلم بها أحد.
داس توماس على كل القيم والمبادئ لتحقيق أغراضه ..ووصل oبه األمر أنه قدم زوجته كيتي دورث
هدية الى بعض المحيطين به لتستخلص منهم أسراراً معينة . .ولم يبخل بها على صديقه محمد حسن
الذي حمل إليه ذات مرة وثيقة هامة تحوي أسراراً غاية في الخطورة ،أراد توماس تصويرها فطلب
منه محمد حسن الثمن . .زوجته ،وأمام رغبته وتصميمه لم يجد بداً من تحقيق مطلبه ،وعلى فراشه.
ونعود مرة أخرى الى جورج شفيق دهاقيان . .التاجر الذي أنقذه توماس من اإلفالس ،لقد كانت
تربطه جيرة وصداقة بضابط كبير بالقوات المسلحة اسمه "أديب حنا كيرلس" الحظ كيرلس تردد
جاره دهاقيان على منزله كثيراً في مناسبات عديدة وبدون مناسبات أيضاً .وكان في كل مرة يناقشه
في أمور عسكرية حساسة ويحاول الحصول على إجابات الستفساراته ..بل وإطالعه على لوحات
ووثائق عسكرية تؤكد شروحه.
الحظ كيرلس أيضا ً أن جاره يعيد طرح أسئلة بعينها سبق أن أجابه عليها .وشك الضابط في األمر،
فهذا التاجر يريد إجابات تفصيلية ألمور عسكرية حساسة . .وكلما أعرض عنه يزداد إلحاحا ً عليه. .
عندئذ . .انقلب شكه الى يقين . .وبال تردد حمل شكوكه الى جهاز المخابرات المصرية وأطلعهم على
كل ما دار من حوارات.
وبعد مراقبات دقيقة لدهاقيان ..أمكن التعرف على توماس والمترددين عليه ،وكانت مفاجأة غاية في
الغرابة . .إذ تكشفت شبكة جاسوسية خطيرة كان ال بد من معرفة كل أعضائها .وفي خطة بالغة
السرية والحذر . .أمكن الزج بعناصر مدربة الى الشبكة فاتضح أن لها أذرعا ً أخطبوطية تؤلف
شبكة جاسوسية تمتد لتشمل دوالً عربية أخرى ..تكونت بها خاليا على اتصال بفروع للموساد في كل
من ألمانيا وفرنسا وسويسرا وهولندا وإيطاليا . .وكلها تعمل في تناسق مدهش ،وتك ّون في مجملها
ست شبكات للجاسوسية في القاهرة واالسكندرية ودمشق.
وبالقبض على الخونة في 6يناير 1961اتضحت حقائق مذهلة ..فغالبية الجواسيس سقطوا في بئر
الخيانة بسبب االنحراف والشذوذ .وكانت أدوات التجسس التي ضبطت عبارة عن خمس آالت
تصوير دقيقة ،وحقيبة سفر ذات قاع سري ،وعلبةسجائر جوفاء تخبئ به الوثائق واألفالم ،وجهاز
إرسال متقدم وجد بسيفون الحمام بشقة خاصة بتوماس في جاردن سيتي.
وبموجب القرار الجمهوري رقم 71لسنة 1961شكلت محكمة أمن دولة عليا . .يشمل اختصاصها
كل وقائع التجسس في مصل وسوريا "كانت الوحدة الزالت قائمة" وخالل ستة أشهر ..بلغت جلسات
المحاكمة 83جلسة ،وبلغ عدد صفحات ملف القضية حوالي ستة آالف صفحة ،وأدلى 95شاهداً
بأقوالهم منهم الخبراء والفنيون والمختصون ،أما عدد المتهمين من المصريين فكان 11متهما ً ومن
األجانب 6ودافع عنهم 33محامياً ،وجرى ندب طابور طويل من خبراء مصلحة التزيف والتحليل
بالطب الشرعي ،وخبراء الالسلكي واإللكترونيات ،باإلضافة الى عدد كبير من الفنيين الذين انتدبوا
بمعرفة المحكمة ،وعدد من المترجمين بالجهات الرسمية.
وفي 25أكتوبر 1961أصدرت المحكمة حكما ً بإعدام جان ليون توماس شنقاً ،ومحمد حسن رميا ً
بالرصاص ،وباألشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة على اآلخرين.
أما كيتي دورث فقد أفلتت من العقاب في مصر ألنها سافرت أللمانيا قبل القبض على أفراد الشبكة
بعدة أيام ،لكن عقاب السماء كان أسرع .إذ صدمتها سيارة مسرعة وقتلت . .في الحال بأحد شوارع
فرانكفورت . .بينما باتريشيا التي عوقبت بالسجن لمدة عامين ،فقد أصيبت بسرطان في الثدي امتد
الى صدرها النافر المثير . .والتهم هذا الجمال الرائع الذي استغل أسوأ استغالل في اصطياد الخونة
والجواسيس.
وفي إسرائيل تشكلت لجنة "قعادات" وهو اختصار السم "قعادات راشيل هاشيرو تيم" والمؤلفة من
رؤساء أجهزة المخابرات في إسرائيل ومستشاري رئيس الوزراء . .لدراسة أسباب سقوط هذه
الشبكة ..التي كانت تمثل مصدراً حيويا ً يتدفق بالمعلومات االستراتيجية في الجمهورية العربية
المتحدة.
لقد كان هذا السقوط المفاجئ سببا ً في صدمة عنيفة لكبار قادة االستخبارات االسرائيلية .إذ تبين لهم
بشكل قاطع أن هناك عقوالً عربية تستطيع إرباكهم . .وتدمير مخططاتهم القذرة في المنطقة العربية
بحيث يج ّدون دائما ً في البحث عن أساليب جديدة متطورة ،تذكي ذلك العالم السري الغامض ..عالم
المخابرات والجاسوسية!! . .