You are on page 1of 7

‫في فبراير عام ‪ 1958‬دخلت سوريا مع مصر في اتحاد اندماجي‪ ،‬وعرفت الدولتان باسم‬

‫"الجمهورية العربية المتحدة" وكانت سوريا هي االقليم الشمالي‪ ،‬ومصر هي االقليم الجنوبي‪ .‬ورأت‬
‫إسرائيل في هذا االتحاد خطراً عظيما ً يتهدد أمنها في الشمال والجنوب ومن الشرق أيضا ً‪.‬‬
‫وحوصرت الدولة اليهودية بالجيوش العربية‪ ،‬ولم يتبق لها سوى البحر األبيض المتوسط – المنفذ‬
‫الوحيد اآلمن‪ ،‬فحصنته بالسفن وبالمدمرات‪ ،‬وزرعت غواصاتها بطول الساحل خوفا ً من حصار هذه‬
‫الجبهة بالقوات البحرية العربية‪ ،‬وأصبحت إسرائيل تعيش في حالة طوارئ دائما ً ال تدري من أية‬
‫جهة تأتيها الضربة الفجائية القاضية‪.‬‬
‫لذلك حرص ساستها – بواسطة أجهزة المخابرات – على عرقلة نمو هذا التطويق العربي من الشمال‬
‫والجنوب‪ ،‬ولعبت على كل األوتار إلفشاله والقضاء عليه‪ .‬ولم يكن بمستطاعها وقف الزحف العربي‬
‫إلنقاذ فلسطين المغتصبة‪ ،‬سوى باللجوء الى كل الحيل القذرة والتصرفات الوحشية إلرهاب العرب‪،‬‬
‫وبث الدعايات المسمومة إلخافتهم‪ ،‬وتصوير الجندي االسرائيلي والعسكرية االسرائيلية كأسطورة‬
‫في األداء والمهارة والقوة‪.‬‬
‫لذا فقد عمدت الى ترسيخ هذا االعتقاد لدى العرب بمحو ما يقرب من "‪ "293‬قرية فلسطينية‬
‫وإزالتها من فوق األرض والخريطة‪ ،‬وارتكاب أبشع المذابح في التاريخ دموية وبربرية ضد العرب‬
‫العزل في فلسطين‪ .‬هذا بجانب التكثيف اإلعالمي والنشاط الدبلوماسي للحد من يقظة روح الجهاد‪،‬‬
‫التي جاهدت قوى االستعمار على إسكاتها بالضغط على العرب وسد أفواههم‪ ..‬ومنع السالح عنهم‬
‫وإغراقهم في مشاكل داخلية معقدة ‪ . .‬كالجهل والتخلف والفقر‪ o‬والمرض‪ . .‬وإثارة الثورات الداخلية‬
‫طمعا ً في شهوة الوصول‪ o‬الى الحكم‪.‬‬

‫كل ذلك أدى الى إضعاف الجيوش العربية في حين كانت إسرائيل تتشكل وتقوى‪ ،‬وتغدق عليها الدول‬
‫االستعمارية الكبرى األسلحة المتطورة الحديثة التي صنعت إسرائيل‪ ،‬وزراعتها في قلب المنطقة‬
‫العربية لتقسمها الى نصفين – أفريقي وآسيوي – ال أمل في التقائهما إال بفناء إسرائيل‪.‬‬
‫من هنا كان الرعب األكبر إلسرائيل حينما قامت الوحدة في فبراير ‪ 1958‬بين الشطرين المنفصلين‬
‫في الشمال والجنوب‪ ،‬وربطهما اتحاد اندماجي وحكومة واحدة على رأسها الزعيم جمال عبد‬
‫الناصر‪ ،‬خاصة بعدما فشل زعماء اتفاق "سيفر" بفرنسا في العدوان الثالثي الغاشم على مصر في‬
‫أكتوبر ‪ ،1956‬والذي انتهى بخيبة أمل انجلترا وفرنسا وإسرائيل‪ ،‬وانسحابهم يمألهم الخزي والعار‪.‬‬
‫لذلك كان على إسرائيل أن تراقب اتحاد الشطرين‪ ،‬بل وتسعى الى معرفة أدق األسرار عنهما‪ . .‬لكي‬
‫تحتاط الى نفسها من مغبة تقويضها‪ o‬واجتياح األرض السليبة فجأة‪.‬‬

‫وكانت أن أرسلت الى مصر وسوريا بأمهر صائدي الجواسيس ‪ . .‬للبحث عن خونة يمدونها‬
‫بالمعلومات وبالوثائق السرية‪ ،‬فجندت مصريا ً خائنا ً من أصل أرمني اسمه "جان ليون توماس"‬
‫استطاع تكوني شبكة تجسس خطيرة في مصر‪ ،‬وأرسلت الى سوريا – إيلياهو كوهين – داهية‬
‫الجواسيس على اإلطالق‪ ،‬وأسطورة الموساد الذي ظل جسده معلقا ً في المشنقة ألربعة أيام في‬
‫دمشق‪ .‬واألرمن ‪. .‬جالية أقلية استوطنت مصر هربا ً من االضطهاد والتنكيل الذي تعرض له الشعب‬
‫األرمني ‪ . .‬وتعدادهم باآلالف في مصر ‪ ..‬امتزجوا بنسيجها االجتماعي وتزاوجوا فيما بينهم في‬
‫البداية‪ . .‬ثم اختلطت دماؤهم بالمصريين في مصاهرة طبيعية تؤكد هذا االمتزاج واالستقرار‪،‬‬
‫واحتفظوا فيما بينهم بعاداتهم وتقاليدهم وبلغتهم األصلية‪.‬‬

‫وتشير بعض المصادر أن تعدادهم في مصر يصل الى مائة ألف أرمني‪ ،‬يتمتعون بالجنسية المصرية‬
‫وبكامل الحقوق‪ ،‬وسمحت لهم السلطات بإصدار صحيفة باللغة األرمينية‪ ،‬تدعم ترابطهم وتذكرهم‬
‫بجذورهم‪.‬‬
‫اشتهر عن األرمن أنهم أناس درجوا على العمل والكفاح واالشتغال بالتجارة‪ ،‬لذلك‪ ..‬فأمورهم‬
‫الحياتية والمادية ممتازة‪ ..‬خاصة بعدما هيأ لهم المناخ المستقر في مصر فرص االنطالق والنجاح‪.‬‬
‫وكان "جان ليون توماس" أحد ابناء هذه الجالية‪ ،‬وقد عمل بالتجارة واالستيراد والتصدير‪ ،‬واستطاع‬
‫بعد عدة سنوات أن يجمع ثروة طائلة تؤمن له مستقبالً رائعاً‪ . .‬تدفعه إليه زوجته األلمانية "كيتي‬
‫دورث" فتغلغل داخل أوساط المجتمع الراقي يزهو بثمرة كده واجتهاده‪ .‬ولظروف عمله وقرابته‬
‫تعددت سفرياته الى ألمانيا الغربية إلنجاز أعماله‪.‬‬

‫هناك ‪ . .‬اقترب منه أحد صائدي الجواسيس المهرة‪ ،‬واشتم فيه رائحة ما غالبا ً هي نقطة ضعف من‬
‫خاللها يستطيع االلتفاف حوله‪ . .‬وتجنيده‪ ،‬ال سيما بعد تأكده من أن له عالقات واسعة في مصر‪.‬‬

‫ولم تخب حاسة الشم لدى ضابط المخابرات االسرائيلي الذي يتستر وراء شخصية رجل أعمال‪ .‬إذ‬
‫اكتشف هواية خاصة جداً عن توماس‪ . .‬وهي عشقه للجنس مع األطفال الصغار‪ .‬ففي غمرة مشاغله‬
‫وأعماله‪ ،‬سرعان ما ينقلب الى ذئب شره يبحث عن فريسة تشبع نهم شذوذه‪.‬‬

‫كان توماس بالفعل يعاني من هذا الداء‪ ،‬ويصاب أحيانا ً بتوترات عصبية وتقلبات مواجية حادة‪،‬‬
‫تظهر عادة في صورة ثورة على زوجته الجميلة‪ . .‬التي لم تكن تدرك السبب الحقيقي في هروب‬
‫الخادمات صغيرات السن من بيتها‪ ،‬وال يعدن إليه مرة ثانية؟ وفشلت كثيراً في الوصول‪ o‬الى إجابة‬
‫منطقية لذلك‪.‬‬

‫بياتريشيا اللذيذة‬

‫ولكي يزجوا به داخل دائرة الجاسوسية من أوسع األبواب‪ . .‬قذفوا اليه بطفلة يهودية يتيمة في‬
‫العاشرة من عمرها‪ ،‬طرقت باب شقته في فرانكفورت‪ ،‬وألنهم زرعوا الكاميرات واألجهزة السرية‬
‫بها واتخذوا من الشقة المجاورة مكمنا ً لتسجيل ما سيحدث ‪ ..‬أذهلتهم أغرب مطاردة بين جدران‬
‫الشقة الصغيرة‪ ،‬بين توماس الذئب الجائع‪ . .‬والطفلة الضعيفة التي كانت تبكي متوسلة إليه‪ ،‬فيتوسل‬
‫هو إليها أال تتركه يعاني أكثر من ذلك‪.‬‬

‫كان عاريا ً تماماً‪ ،‬يتصبب منه العرق الغزير وترتجف خلجات وجهه‪ ،‬وبدا في قمة ضعفه عندما هجم‬
‫على الطفلة‪ ،‬وصفعها‪ o‬في عنف فانخرست من الخوف‪ ،‬وشرع في الحال في تجريدها من مالبسها‬
‫حتى تعرت تماماً‪ ،‬وبدا واضحا ً ارتجاف أطرافها واضطراب أنفاسها الالهثة‪ ،‬فتحرر بسرعة من‬
‫مالبسه كأنه ال يصدق أن فريسة بين يديه‪ ،‬واحتضنها في لهفة الجائع وهو يأمرها أال تصده‪ ،‬أو‬
‫تعترض على ما يفعله بها‪.‬‬
‫وفوجئ بهم من حوله‪ ،‬انتزعوا الطفلة من بين يديه فانزوت ترتجف‪ ..‬بينما أخذ يرجوهم أال يصحبوه‬
‫عاريا ً للشرطة‪ .‬وأطلعوه على ما لديهم من أدلة شذوذه‪ ،‬فانهار‪ ..‬ووقع في لمح البصر على عقد يقر‬
‫فيه بتعاونه مع الموساد‪ ،‬وأنه على استعداد تام لتنفيذ ما يكلف به‪.‬‬
‫هذه هي الموساد ‪ ..‬تتبع أقذر الحيل للسيطرة على عمالئها وإخضاعهم‪ ،‬وهذا ليس بأمر جديد على‬
‫المخابرات االسرائيلية‪ ،‬فال شيء يهم طالما ستحقق مآربها وتجند ضعاف النفوس في كل زمان‬
‫ومكان‪.‬‬

‫في قمة مذلته وشذوذه لم تكن لديه القدرة على أن يفكر أو يقرر‪ ،‬إذ أن إرادته قد شلت ‪ . .‬وانقلب الى‬
‫شخص آخر بال عقل‪ . .‬فقد خلفته المحنة وأزهقته الصدمة‪ ،‬وبسهولة شديدة استسلم لضباط الموساد‬
‫يتحكمون بأعصابه‪ ..‬وابتدأوا في تدريبه وإحكام سيطرتهم عليه‪ ،‬وكتب في عدة صفحات بيده كل ما‬
‫لديه من معلومات اقتصادية يعرفها بحكم عمله وعالقاته‪ ،‬وأحاطوه بدائرة الخوف فلم يستطع‬
‫اإلفالت‪ ،‬وهددوا بقتل أفراد أسرته إذا ما عاد الى مصر وأبلغ السلطات‪ . .‬فقد كان من السهل إقناعه‬
‫بوجود عمالء لهم في القاهرة ينتظرون إشارة منهم ليقوموا بالالزم مع عائلته هناك‪.‬‬
‫وتأكيداً لذلك‪ . .‬أرسلوا باقة زهور الى منزله بمناسبة عيد ميالد ابنته‪ . .‬وكم كان فزعه شديداً عندما‬
‫اتصل بالقاهرة فتشكره ابنته على باقة الزهور التي أرسلها‪ ..‬وأصيب رجل األعمال المذعور بصدمة‬
‫عنيفة‪ ،‬وصرخ في هلع مؤكداً بأنه سيقوم بالعمل لصالحهم‪ . .‬وتركوه يسافر ملتاعا ً ومرعوبا ً يحمل‬
‫تكليفات محددة وأسئلة مطلوب إجاباتها‪ ،‬وكانوا على يقين أنه سقط في شباكهم ولن يمكنه اإلفالت‬
‫أبداً‪.‬‬

‫وفي الطائرة استغرقه تفكير عميق فيما صار إليه حاله‪ ،‬وهل يستطيع النجاة من هذا المأزق أم ال؟‬
‫واتصل فور وصوله بصديقه محمد أحمد حسن الذي يشغل منصبا ً حساسا ً في مدرسة المدفعية‬
‫بالقاهرة‪ ،‬وسأله عدة أسئلة تتصل بعمل جهاز المخابرات المصري‪ .‬وهل باإلمكان حماية شخص ما‬
‫تورط مع المخابرات االسرائيلية؟ وكانت إجابات محمد حسن إجابات قاطعة‪ ،‬تؤكد ان المخابرات‬
‫المصرية من أنشط أجهزة المخابرات في العالم بعد استحداثها وتدريب كوادرها بأقسامها المختلفة‪،‬‬
‫وحسبما يقال فهي تحمي المتورطين إذا ما تقدم باإلبالغ عما وقع لهم بالخارج‪.‬‬

‫لكن توماس لم يثق بكالمه‪ ،‬وظن انها دعاية يروجها ال أكثر‪ ..‬فتملكه الخوف من االنسياق وراء‬
‫دعاية لن تفيد‪ ،‬وحرص على المضي في طريق الخيانة حتى آخره‪ .‬بينما انشغل صديقه بالهدايا‬
‫الثمينة التي جلبها له ولم يسأله عن تفاصيل األمر‪ .‬أو عن ذلك الشخص المتورط مع الموساد‪.‬‬

‫لم يضيع توماس وقته في إثارة أعصابه بالتفكير والقلق‪ ..‬وشرع كما دربوه في دراسة أحوال‬
‫المحيطين به ليستكشف نقاط ضعف تمكنه من النفاذ اليهم‪ ،‬وكان أول من نصب شباكه حوله – محمد‬
‫أحمد حسين – الذي كان يدرك جيداً أن المخابرات المصرية أضافت اختصاصات وتكنولوجيا حديثة‬
‫تمكنها من تعقب الجواسيس والخونة‪.‬‬

‫تناسى الرجل العسكري كل ذلك وعاش في وهم ابتدعه‪ .‬ولم يعد يفكر سوى في نفسه فقط‪ . .‬وقد‬
‫طغت هدايا صديقه على أنسجة عقله‪ .‬كان ذلك في شهر أكتوبر عام ‪ 1958‬عندما نام ضميره نوم‬
‫الموات بال أدنى حياة أو رعشة من شعور‪ . .‬وأسلم مصيره بل حياته كلها لمغامرة طائشة قادته الى‬
‫الهالك‪.‬‬

‫وكانت "بياتريشيا" خطوة أولى في سلم الموت الذي ال مهرب منه وال منجي على اإلطالق‪. .‬‬
‫وبياتريشيا هذه راقصة ألمانية مقيمة بالقاهرة‪ . .‬تربطها بتوماس عالقة قديمة قبل زواجه من كيتي‪،‬‬
‫وفي حين انشغل عنها بعمله اضطر لتجديد عالقته بها بمجرد عودته‪ ،‬لتساعده في تجنيد محمد حسن‬
‫الذي كان يعرف عنه ميله الشديد للخمر والنساء‪.‬‬

‫فرحت الراقصة المثيرة بعودة توماس اليها وتقابلت األغراض والنوايا‪ . .‬وبعد سهرة ممتعة بأحد‬
‫النوادي الليلية‪ . .‬ارتسمت بخياالت محمد حسن صور متعددة لعالقته ببياتريشيا‪ ،‬أراد ترجمتها الى‬
‫واقع فعلي لكن راتبه الضئيل لم يكن ليكفي لإلنفاق على بيته‪ . .‬وعلى راقصة مثيرة تجتذب من‬
‫حولها هواة صيد الحسناوات‪ .‬وتكررت السهرات الرائعة‪ ،‬التي أصبحت تشكل شبه عادة لديه لم يكن‬
‫من السهل تبديلها أو االستغناء عنها‪ ،‬وأغرقته الراقصة في عشقها فازداد اندفاعا ً تجاهها‪ ،‬ولم يوقفه‬
‫سوى ضيق ذات اليد‪.‬‬

‫عند ذلك لم يكن أمامه سوى االلتجاء الى توماس ليستدين منه‪ ،‬وتضخم الدين حتى توترت حياة محمد‬
‫حسن‪ . .‬وانتهزها توماس فرصة سانحة الستغالله والضغط عليه فرضخ له في النهاية وسقط‬
‫مخموراً في مصيدة الجاسوسية‪ . .‬مستسلما ً بكامل رغبته مقابل راتب شهري – خمسين جنيها –‬
‫ً‬
‫خصصه له توماس لينفق على الفاتنة التي أغوته وأسكرته حتى الثمالة‪.‬‬
‫في المقابل لم يبخل محمد حسن بالمعلومات الحيوية عن مدرسة المدفعية‪ . .‬كأعداد الطالب بها‬
‫وأسماء المدربين والخطة االستراتيجية للتدريب‪ ..‬كل ذلك من أجل عيون الفاتنة الحسناء العميلة‪.‬‬

‫فيالها من سقطة ‪ ..‬ويالها من مأساة وخيبة !!‬

‫وفي الوقت الذي نشط فيه توماس كجاسوس يقوم بمهمته‪ ،‬تراءت له فكرة تجنيد عمالء آخرين تتنوع‬
‫من خاللهم المعلومات التي يسعى للوصول اليها‪ .‬فكان أن نصب شباكه حول مصور أرمني محترف‬
‫اسمه جريس يعقوب تانيليان – ‪ 43‬عاما ً ‪ ،‬واستطاع أن يسيطر عليه هو اآلخر بواسطة إحدى‬
‫الساقطات وتدعى – كاميليا بازيان – أوهمته كذبا ً بفحولة ال يتمتع بها سواه‪.‬‬

‫وألنه كان ضعيفا ً جنسيا ً‪ . .‬رأى رجولة وهمية بين أحضانها‪ ،‬فهي المرأة الوحيدة التي "أنعشت"‬
‫رجولته‪ ،‬وبالتالي فقد كان لزاما ً عليه إسباغ رجولة أخرى حولها‪ ،‬وهي اإلنفاق عليها بسخاء‪.‬‬

‫وفي غضون عدة أشهر استنزفته كاميليا مادياً‪ . .‬فاتبع مسلك محمد حسن باللجوء الى توماس‬
‫ليقرضه ماالً‪ ،‬فجنده في لحظات ضعفه وحاجته‪.‬‬

‫ولما اتسع نشاطه‪ ..‬استأجر توماس شقة بمنطقة روكسي باسم محمد حسن كانت تزهر بأنواع فاخرة‬
‫من الخمور‪ ،‬وتقام فيها الحفالت الماجنة التي تدعى اليها شخصيات عامة‪ ،‬تتناثر منها المعلومات‬
‫كلما لعبت الخمر بالرؤوس فتمايلت على صدور الحسان وتمرغت بين أحضانها‪ .‬وفي إحدى‬
‫حجرات الشقة أقام جريس تانيليان معمالً مصغراً لتحميض األفالم وإظهار الصور والخرائط‪ ،‬حيث‬
‫كان يجلبها محمد حسن من مقر عمله ويعيدها ثانية الى مكانها‪.‬‬

‫وذات مرة ‪ . .‬عرض توماس على محمد حسن فكرة السفر الى السويس بالسيارة‪ . .‬ثم الى بورسعيد‬
‫لتصوير المواقع العسكرية والتعرف عليها من خالل شروحه‪ . .‬ووافق األخير ورافقتهما كيتي التي‬
‫اطلعت على سر مهنة زوجها وشاركته عمله‪ .‬وكان محمد حسن دليالً لهما يشرح على الواقع أماكن‬
‫الوحدات العسكرية‪ ..‬فيقوم توماس بتصويرها من النافذة وتسجيلها على خريطة معه بينما تقود كيتي‬
‫السيارة‪.‬‬

‫المشهد العجيب‬

‫وعندما تعثرت أحوال "جورج شفيق دهاقيان" – ‪ 45‬عاما ً – تاجر المالبس‪ ،‬تدخل صديقه توماس‬
‫بطريقته الخاصة إلنقاذه‪ ،‬وكان المقابل تجنيده للعمل معه في شبكة الجاسوسية‪.‬‬

‫لم يعترض جورج كثيراً في البداية‪ ..‬فهو يعلم أنه ال يملك معلومات حيوية هامة تساوي مئات‬
‫الجنيهات التي أخذها من توماس مقابل إيصاالت ورهونات‪ .‬وقد كان توماس الخائن ينظر الى بعيد‪. .‬‬
‫الى ضابط كبير يقيم أعلى شقة جورج وتربطهما عالقات وطيدة‪ ،‬وكان له دور فعال فيما بعد‪.‬‬

‫وألن "بوليدور باب زوغلو" تاجر طموح يحلم بامتالك محل كبير للمجوهرات بوسط القاهرة ‪..‬‬
‫عرض الفكرة على توماس فأبدى موافقته وشجعه على المضي لتحقيق حلمه‪ ،‬والحلم تلزمه مبالغ‬
‫كبيرة‪ ،‬والخمر تلتهم حصيلة مكسبه أوالً بأول الى جانب السهرات الماجنة التي تستنزف الكثير من‬
‫رأسماله‪ .‬عند ذلك لم يجد توماس صعوبة تذكر في اصطياده أيضا ً بعدما رسم له خطوط الحلم‬
‫المرجو‪.‬‬

‫لقد رأى بوليدور أن ال شيء يجب أن يعوق تنفيذ حلمه الكبير ‪ ..‬حتى ولو كانت الخيانة هي الثمن‪.‬‬
‫هكذا مضى توماس يصطاد ضعاف النفوس‪ . .‬فيمدهم بالمال ويغرقهم في الخمر والجنس ويحصل‬
‫على مبتغاه من خاللهم‪ ..‬وانتعشت بذلك شبكة توماس في جمع المعلومات‪ ،‬ال يوقفها خوف من‬
‫السقوط أو من حبل المشنقة‪ .‬فالمخابرات االسرائيلية كانت تؤكد له في كل مرة يزور فيها ألمانيا أن‬
‫المخابرات المصرية خاملة ضعيفة‪ .‬نشأت منذ سنوات قليلة ولم تنضج بعد‪ ،‬ومهما أوتيت من علم‬
‫ومقدرة فمن المستحيل كشفه‪.‬‬

‫هذا االعتقاد سيطر عليه فأظهر وفاءه إلسرائيل وكراهيته للعرب ولكل ما هو عربي‪ .‬وكلما استدعوه‬
‫الى ألمانيا كانوا يعدون له وليمة يعشقها من الفتيات الصغيرات أو الغلمان‪ .‬ولم يعد يهمهم تصويره‬
‫في أوضاعه الشاذة مع الصغار بعد ذلك‪ . .‬فلقد سقط حتى أذنيه وتوسعت شبكته توسعا ً مذهالً حير‬
‫خبراء الموساد أنفسهم‪ ،‬إذ تعدت الشبكة حدود مصر الى دول عربية أخرى‪ ..‬بعدما ازداد توماس‬
‫علما ً بأدق فنون التجسس‪ . .‬وكيفية السيطرة على شركائه بسهولة بواسطة نقاط ضعفهم التي استغلها‬
‫بمهارة‪ ،‬وباألموال‪ o‬الطائلة التي ينفقها عليهم‪ ،‬وقد اشتدت حاجتهم اليها‪ ،‬وقد عرفوا أن لكل معلومة‬
‫ثمنا ً وقيمة‪.‬‬

‫وذات مرة عاد توماس من إحدى رحالته في ألمانيا وفي ذهنه صورة "جورج استماتيو" الموظف‬
‫بمحالت جروبي بالقاهرة‪.‬‬

‫كان استماتيو يشرف على حفالت العشاء التي كانت تقيمها رئاسة الجمهورية للضيوف‪ ،‬ومن خالل‬
‫دخوله لقصر الرئاسة بشكل رسمي‪ ،‬فقد كان يعد بمثابة سلة معلومات طازجة‪ ،‬تحوي كل ما يدور‬
‫في الحفالت الرسمية من أسرار وأخبار‪ ،‬ويمكن استخدام هذه المعلومات بشكل أو بآخر‪ ،‬إضافة الى‬
‫االستعانة باستماتيو في تنفيذ أية مخططات مستقبلية‪.‬‬

‫لذلك ‪ ..‬وجدها توماس فرصة ال تعوض ‪ ..‬وكان عنده إصرار متوحش لتجنيده هو اآلخر ليحصل‬
‫منه على معلومات‪ o‬تدر عليه مبالغ خيالية‪ ..‬خاصة وأن استماتيو – ‪ 53‬عاما ً – يعيش مأساة عجيبة‬
‫جداً‪ .‬إذ كان مصابا ً بالعنة المؤقتة أو عدم القدرة على الجماع إال بعد أن يجامعه رجل مثله‪ .‬حينئذ‬
‫تعود اليه رجولته ويأتي المرأة بمهارة‪.‬‬

‫اكتشف توماس هذا السر وأخذ يدبر للسيطرة عليه والدخول به لوكر الجواسيس الذي صنعه‪ .‬وعندما‬
‫عرض األمر على ضباط الموساد‪ . .‬تهللت أساريرهم وأمدوه بأجهزة حساسة دُرب عليها لتسجيل‬
‫هذا المشهد الشاذ العجيب‪ . .‬وعاونه جريس تانيليان في مهمته الى جانب بياتريشيا التي واقت على‬
‫تصوير المشهد للسيطرة على استماتيو‪.‬‬

‫كيرلس الوطني الشريف‬

‫في شقة روكسي تحولت إحدى حجرات النوم في شقة روكسي الى بالتوه‪ ،‬وقام أحد الشباب بدور‬
‫الرجل مع استماتيو المخمور‪ .‬وكان المشهد الغريب الذي تم تصويره – سببا ً لخضوعه‪ . .‬وسقوطه‬
‫في دائرة الجاسوسية غصبا ً عنه‪ .‬ومن خالله‪ ..‬تدفقت أسرار قصر الرئاسة وما يجري بين أروقته‪،‬‬
‫وما يتلقطه من أخبار وأسرار وحكايات ال تنشرها الصحف أو يعلم بها أحد‪.‬‬

‫داس توماس على كل القيم والمبادئ لتحقيق أغراضه‪ ..‬ووصل‪ o‬به األمر أنه قدم زوجته كيتي دورث‬
‫هدية الى بعض المحيطين به لتستخلص منهم أسراراً معينة‪ . .‬ولم يبخل بها على صديقه محمد حسن‬
‫الذي حمل إليه ذات مرة وثيقة هامة تحوي أسراراً غاية في الخطورة‪ ،‬أراد توماس تصويرها فطلب‬
‫منه محمد حسن الثمن‪ . .‬زوجته‪ ،‬وأمام رغبته وتصميمه لم يجد بداً من تحقيق مطلبه‪ ،‬وعلى فراشه‪.‬‬
‫ونعود مرة أخرى الى جورج شفيق دهاقيان ‪ . .‬التاجر الذي أنقذه توماس من اإلفالس‪ ،‬لقد كانت‬
‫تربطه جيرة وصداقة بضابط كبير بالقوات المسلحة اسمه "أديب حنا كيرلس" الحظ كيرلس تردد‬
‫جاره دهاقيان على منزله كثيراً في مناسبات عديدة وبدون مناسبات أيضاً‪ .‬وكان في كل مرة يناقشه‬
‫في أمور عسكرية حساسة ويحاول الحصول على إجابات الستفساراته‪ ..‬بل وإطالعه على لوحات‬
‫ووثائق عسكرية تؤكد شروحه‪.‬‬

‫الحظ كيرلس أيضا ً أن جاره يعيد طرح أسئلة بعينها سبق أن أجابه عليها‪ .‬وشك الضابط في األمر‪،‬‬
‫فهذا التاجر يريد إجابات تفصيلية ألمور عسكرية حساسة‪ . .‬وكلما أعرض عنه يزداد إلحاحا ً عليه‪. .‬‬
‫عندئذ‪ . .‬انقلب شكه الى يقين‪ . .‬وبال تردد حمل شكوكه الى جهاز المخابرات المصرية وأطلعهم على‬
‫كل ما دار من حوارات‪.‬‬

‫وبعد مراقبات دقيقة لدهاقيان ‪ ..‬أمكن التعرف على توماس والمترددين عليه‪ ،‬وكانت مفاجأة غاية في‬
‫الغرابة‪ . .‬إذ تكشفت شبكة جاسوسية خطيرة كان ال بد من معرفة كل أعضائها‪ .‬وفي خطة بالغة‬
‫السرية والحذر ‪ . .‬أمكن الزج بعناصر مدربة الى الشبكة فاتضح أن لها أذرعا ً أخطبوطية تؤلف‬
‫شبكة جاسوسية تمتد لتشمل دوالً عربية أخرى‪ ..‬تكونت بها خاليا على اتصال بفروع للموساد في كل‬
‫من ألمانيا وفرنسا وسويسرا وهولندا وإيطاليا‪ . .‬وكلها تعمل في تناسق مدهش‪ ،‬وتك ّون في مجملها‬
‫ست شبكات للجاسوسية في القاهرة واالسكندرية ودمشق‪.‬‬

‫وبالقبض على الخونة في ‪ 6‬يناير ‪ 1961‬اتضحت حقائق مذهلة ‪ ..‬فغالبية الجواسيس سقطوا في بئر‬
‫الخيانة بسبب االنحراف والشذوذ‪ .‬وكانت أدوات التجسس التي ضبطت عبارة عن خمس آالت‬
‫تصوير دقيقة‪ ،‬وحقيبة سفر ذات قاع سري‪ ،‬وعلبةسجائر جوفاء تخبئ به الوثائق واألفالم‪ ،‬وجهاز‬
‫إرسال متقدم وجد بسيفون الحمام بشقة خاصة بتوماس في جاردن سيتي‪.‬‬

‫وبموجب القرار الجمهوري رقم ‪ 71‬لسنة ‪ 1961‬شكلت محكمة أمن دولة عليا‪ . .‬يشمل اختصاصها‬
‫كل وقائع التجسس في مصل وسوريا "كانت الوحدة الزالت قائمة" وخالل ستة أشهر‪ ..‬بلغت جلسات‬
‫المحاكمة ‪ 83‬جلسة‪ ،‬وبلغ عدد صفحات ملف القضية حوالي ستة آالف صفحة‪ ،‬وأدلى ‪ 95‬شاهداً‬
‫بأقوالهم منهم الخبراء والفنيون والمختصون‪ ،‬أما عدد المتهمين من المصريين فكان ‪ 11‬متهما ً ومن‬
‫األجانب ‪ 6‬ودافع عنهم ‪ 33‬محامياً‪ ،‬وجرى ندب طابور طويل من خبراء مصلحة التزيف والتحليل‬
‫بالطب الشرعي‪ ،‬وخبراء الالسلكي واإللكترونيات‪ ،‬باإلضافة الى عدد كبير من الفنيين الذين انتدبوا‬
‫بمعرفة المحكمة‪ ،‬وعدد من المترجمين بالجهات الرسمية‪.‬‬

‫وفي ‪ 25‬أكتوبر ‪ 1961‬أصدرت المحكمة حكما ً بإعدام جان ليون توماس شنقاً‪ ،‬ومحمد حسن رميا ً‬
‫بالرصاص‪ ،‬وباألشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة على اآلخرين‪.‬‬

‫أما كيتي دورث فقد أفلتت من العقاب في مصر ألنها سافرت أللمانيا قبل القبض على أفراد الشبكة‬
‫بعدة أيام‪ ،‬لكن عقاب السماء كان أسرع‪ .‬إذ صدمتها سيارة مسرعة وقتلت‪ . .‬في الحال بأحد شوارع‬
‫فرانكفورت‪ . .‬بينما باتريشيا التي عوقبت بالسجن لمدة عامين‪ ،‬فقد أصيبت بسرطان في الثدي امتد‬
‫الى صدرها النافر المثير‪ . .‬والتهم هذا الجمال الرائع الذي استغل أسوأ استغالل في اصطياد الخونة‬
‫والجواسيس‪.‬‬

‫وفي إسرائيل تشكلت لجنة "قعادات" وهو اختصار السم "قعادات راشيل هاشيرو تيم" والمؤلفة من‬
‫رؤساء أجهزة المخابرات في إسرائيل ومستشاري رئيس الوزراء‪ . .‬لدراسة أسباب سقوط هذه‬
‫الشبكة ‪ ..‬التي كانت تمثل مصدراً حيويا ً يتدفق بالمعلومات االستراتيجية في الجمهورية العربية‬
‫المتحدة‪.‬‬
‫لقد كان هذا السقوط المفاجئ سببا ً في صدمة عنيفة لكبار قادة االستخبارات االسرائيلية‪ .‬إذ تبين لهم‬
‫بشكل قاطع أن هناك عقوالً عربية تستطيع إرباكهم‪ . .‬وتدمير مخططاتهم القذرة في المنطقة العربية‬
‫بحيث يج ّدون دائما ً في البحث عن أساليب جديدة متطورة‪ ،‬تذكي ذلك العالم السري الغامض ‪ ..‬عالم‬
‫المخابرات والجاسوسية‪!! . .‬‬

You might also like