You are on page 1of 1

‫النيل والفرات‪:‬‬

‫عرفت كلمة "جيوسياسية" منذ ابتكارها في السنة األخيرة من القرن التاسع عشر‪ ،‬من قبل السويدي األستاذ في العلوم السياسية‪،‬‬
‫رودولف كجيل (‪ ،)1922-1864‬حسب األمكنة واألزمنة‪ ،‬تقلبات متنوعة ومرتبطة بالمعنى الذي أعطي لها وباالستخدام الذي‬
‫استعملت فيه‪ .‬وقد كثر استخدامها في ألمانيا خاصة وفي العالم األنكلو‪-‬ساكسوني حتى الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وحملت بعد‬
‫الحرب تهمة كونها ميّزت األعمال التي كانت قد أوحت للنازيين في ألمانيا بسياستهم الخارجية وتحميلهم مسؤولية كبيرة في‬
‫انتدالع النزاع‪ .‬كما أوقف استخدامها غداة المعارك‪ .‬حتى أنها استبعدت من اإلطار التعليمي في ألمانيا وفرنسا‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬إذا‬
‫كانت الكلمة قد اختفت بشكل شبه كامل من القاموس العلمي‪ ،‬فقد استمر استخدامها من قبل السياسيين بالمعنى الذي سيتم تحديد‪X‬‬
‫الحقاً‪ ،‬كما كانت توجد قبل ظهورها‪ .‬كما لم يكن مفاجئا ً أن يعيد الصحافيون ثم الباحثون إدخالها في نهاية سبعينات القرن‬
‫الماضي‪ ،‬دون شك في معان مختلفة في بعض األحيان وشيئا ً فشيئا ً عممت استخدامها وسائل اإلعالم‪ .‬ففي مقاربة أولى‪ ،‬يمكن‬
‫القول أن الجغرافية السياسية‪ ،‬كما يمكن تحديدها استناداً إلى األعمال التي تؤدي إليها‪ ،‬تستهدف دراسة التفاعالت بين المساحة‬
‫الجغرافية وحاالت التعارض بين القوى الناشئة فيها‪ .‬فيترجم تأثير الموقع بالقيود التي يفرضها أو بالفرص التي يتيحها أمام‬
‫المزاحمات السلطوية‪.‬‬

‫وتعتبر هذه القيود والفرص للتبدل‪ ،‬وترتبط بالقدرات التقنية للمرحلة وبالوسائل البشرية والمالية القابلة لالستخدام من قبل سلطة‬
‫معينة‪ :‬فهذه الذراع البحرية التي كانت باألمس تحمي وتعزل‪ ،‬هي اليوم قابلة لالجتياز بسهولة إذا كانت الدول الواقعة على‬
‫ضفافها تستطيع القيام بذلك تقنيا ً وماليا ً‪ ،‬وإذا كانت لديها اإلدارة السياسية‪ .‬كما تتأثر الجغرافية السياسية المعاصرة بتاثيرات‬
‫الحاضر والماضي للمزاحمات السلطوية على المساحة الجغرافية السياسية‪ .‬فتوجد هذه المزاحمات في جميع المجتمعات‪ ،‬حتى‬
‫في المجتمعات التي لم تكن قد شكلت دوالً بعد‪ ،‬وتشهد مشكالت حكم داخلية وخارجية تستدعي حالً لها‪ ،‬األمر الذي يدفعها‬
‫لممارسة السياسة بالمعنى الواسع‪ .‬لكن مع تشدد الدولة في الشرق األدنى‪ ،‬قبل حوالي ثالثة آالف عام قبل عصرنا‪ ،‬اكتسبت‬
‫المساحة بعداً جيوسياسيا ً دائما ً‪ .‬ومنذ ذاك الوقت لم تعد المساحة مكونة ومحددة فقط بتنوع الموقع الطبيعي وتنوع السكان؛ بل‬
‫كذلك بممارسة أشكال السيادة الحكومية المتنافسة‪.‬‬

‫وبخصوص هذه األشكال‪ ،‬فالمساحة هي المسرح والرهان ألشكال المزاحمة؛ ومن أجل زيادة قوتها المادية وكذلك الرمزية‪،‬‬
‫جيري التزاحم للسيطرة عليها بالحروب والتحالفات أو التفاوض؛ وتقام حدود سياسية دائمة ودقيقة ومحكمة إلى حد معين‪،‬‬
‫فتساهم في داخلها بتنويع المساحة بأدواتها الخاصة في الرقابة واإلدارة هكذا شكلت المساحة‪ ،‬حسب النظرة الجيوسياسية‪ ،‬رهانا ً‬
‫وأرضية النتشار القوة‪ .‬ورهانا ً لمراقبة المسارب االستراتيجية والموارد الحيوية‪ ،‬وكذلك ألقاليم ومناطق رمزية‪ ،‬كأرضية‬
‫تحرك للقوة المحلية واإلقليمية والعالمية‪ .‬لكن هذه األشكال من التزاحم السلطوي التي يحاول المفهوم الجيوسياسي وصفها‬
‫وشرحها ليست هي نزاعات مصالح "موضوعية" فقط‪ ،‬في معنى نزاعات عائدة لحاجات حيوية حقيقية أو مزعومة‪ ،‬للفوز بها‬
‫من أجل بقاء الكيان السياسي؛ بل كذلك في نزاعات متصلة بمناطق متصورة‪ ،‬يعني مناطق "متخيلة"‪ ،‬أنها حاملة لقيم متوارثة‬
‫من جيل آلخر لدى سكانها أو الطامعين بها أو الذين يصفونها في المجتمعات التقليدية‪ X،‬وذات الطابع المقدس بوسائل التكيف‬
‫الثقافي الدولة الحديثة والمدرسة ووسائل اإلعالم‪ .‬بَيْد أن من بيدهم السلطة السياسية يستخدمون ويوجهون هذه الوسائل التي هم‬
‫أنفسهم خدعوا بها في بعض األحيان من أجل تحقيق تمويه أهدافهم االستراتيجية‪ .‬وبكالم آخر‪ ،‬يمكن الذهاب إلى درجة التأكيد‪،‬‬
‫كما فعلت تبيري مونبريا؛ أن الجيوسياسي هو "الجزء من الجغرافية السياسية الذي يهتم بااليديولوجيات المتصلة باألقاليم‪.‬‬

‫في هذا اإلطار يأتي هذا الكتاب الذي يتناول دراسة موضوعية حول متعلقات الجغرافية السياسية منذ بداياتها إلى اآلن‪ .‬وت ّم‬
‫تقسيم الكتاب ضمن محاور ثالث جاءت عناوينها على الشكل التالي‪-1 :‬تاريخ متحرك (من الممارسة إلى المفهوم‪ ،‬من البدايات‬
‫إلى االنحرافات)‪-2 ،‬الجغرافية السياسية المعاصرة (مفاهيم جديدة وسياق جديد)‪-3 ،‬الجيوسياسية المعاصرة (مظاهر االستمرار‬
‫والتغير والتحول)‪.‬‬

You might also like