1 منذ أيام يفكر أنه ال بد أن يحسم أمره ،ولكن شعو ًرا عميقًا بعدم قدرته عىل تحمل أي حدث درامي جديد يف حياته ،حافظ عىل توتره وارتباكه دون قدرة عىل الحسم .هذا األسبوع الرابع تقري ًبا منذ عودته للقاء غادة ،خطيبته السابقة ،الخامس عىل آخر مرة تحدث مع والده، الثامن عىل رسالة مديره ،الحادي عرش عىل انفصاله عن غادة ،ورمبا كام يعلم الجميع ،الثامن عرش عىل الحدث الكبري. منذ ما يقرب من شهرين ،يف نهار صيفي شديد الحرارة ،مبقهى شبه فارغ ،أخربته غادة برغبتها يف االنفصال .كانت األسابيع األخرية أكرث فرتات عالقتهام فتو ًرا ،دون معارك ،ينجرفان بعي ًدا عن بعضهام، بوعي تام ،وبدون قدرة ،أو رغبة كافية ،للمقاومة .أنهكتمها املعارك الطويلة ،ورمبا هذا ما أخر بعض اليشء لحظة املصارحة ،علم كل منها أنها ال بد آتية بعدما حدث ،وظال يراكامن قوتهام لخوضها. أرخت غادة جناحيها بجوار مقعدها ،تدىل شعرها األسود الطويل مرتخ ًيا عىل الجناحني كأنه اكتسب ،أخ ًريا ،صديقًا جدي ًدا“ .أطلبلك حاجة؟” ،يعلم أنها ستطلب قهوة تريك زيادة ،أجابته بتوقعه ،وسار
4 تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر
هو لجلب القهوة لها والشاي له .فكر وهو يقف أمام النادل أن هذه اللحظات رمبا تكون األخرية لعالقتهام ،تلكأ وهو ينظر لقامئة املقهى ،حتى سأله النادل عن طلبه فأجاب .وقف منتظ ًرا تحضري الطلب ،وهو يرتب كلامته يف عقله مرة أخرية قبل أن يلقيها إليها. أخذ القهوة والشاي إىل طاولتهام ،وجلس يف مواجهتها ،وليس بجوار املقعد القريب منها كام اعتادا .فكرت أنه إذن مستعد للمواجهة. منذ سبعة أسابيع مل يتبادال سوى الحديث الرتيب عن أخبار أيامهام ،بحذر من الطرفني عن الغوص أبعد من ذلك ،حتى أنهام قليل ما تحدثا عن الحدث الكبري نفسه .كانت ما زالت ممتنة له ً عىل وقوفه بجوارها يف مرضها .ومل ترد مواجهته بعد أن اسرتدت هي عافيتها ،وغاص هو يف اكتئابه الدوري الذي ضاعفه الحدث وتبعاته. ثقيل عليه ،وخاف تقابال مرة واحدة خالل هذه األسابيع ،كان اللقاء ً أن تستعجل هي املواجهة ،لكنها كانت أرأف به من ذلك .ورمبا ما شجعه للقائها أخ ًريا أنه أحب أن يراها بجناحيها الجديدين .كانت من املحظوظني الذين نبتت لهم أجنحة .والده حينها كان ال يزال مريضً ا، ورمبا أسهم ذلك أيضً ا يف تأجيلها للمواجهة .من كان يعلم أن كل ما حدث كان ممك ًنا؟ يف أيامهام األوىل ،تبادال السؤال املعتاد عن أي قوة خارقة يحب كل منهام امتالكها .هو ،كغالبية الذكور ،قال إنه يحب أن يكون غري مريئ ،ليتلصص عىل السيدات يف بيوتهن ،بينام أجابت أنها تحب أن تكون لها القدرة عىل الطريان ،تتنقل بني البلدان كام تريد ،وتنام كل يوم يف بلد جديد .أحدهام عىل األقل تحقق حلمه. أخذت غادة تنظر إىل قهوتها منهمكة ،كأنها تبحث يف داخلها عن يشء ما عزيز لديها ،بينام أخذ هو يحرك امللعقة داخل الشاي
5 تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر
يف دوائر بال نهاية ،كأنه يتمنى أن يتوه داخلها .سمعها تأخذ شهيقًا طويل ،ثم أتاه صوتها: ً -محمد؟ توترت موجات الشاي مع صوتها ،لكنه حاول االستمرار يف صنعها، استمرت: -الزم نتكلم؟ سحب امللعقة من الشاي ،نظر يف عينيها ،أخذ شهيقًا أطول من شهيقها ،ورد: -هننفصل؟ أربكها برسعته يف املواجهة ،فصمتت .دفن رأسه يف الطاولة ،ال يصدق أن ذلك يحدث ،سمع بكاءها ،دمعة واحدة خرجت من عينه دون أن يرفع رأسه .استمر ذلك بضع دقائق حتى هدأ كليهام .مسح دمعته قبل أن يرفع رأسه ،وحني رفعها بكت مرة أخرى .اخترص طويل، املواجهة ،دون حتى أن تبدأ هي يف الكالم .راوغ كل منهام ً وبدا له أنه ال دا ٍع للمراوغة بعدما أصبحت املواجهة محتومة ،فحاول أن يقلل زمنها قدر املستطاع .بعد هدوء طويل ،سألته بحنان مل يستطع النفاذ إىل قلبه: -هتبقى كويس؟ دفن رأسه يف الطاولة مرة أخرى .لن يكون يف حالة جيدة ،يعلامن ذلك .حنانها الوقتي لن يشعره بالدفء ،وهو يعلم أنها ستنفلت منه بعد قليل ،وسيفقد أحد مصادر طأمنينته القليلة .تذكر جلسته بجوارها يف املستشفى منذ شهور قليلة ،عندما ظن أنه سيفقدها لألبد .كان والدها بجواره يبيك ،بينام يضع هو يده عىل كتفه مطمئ ًنا
6 تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر
إياه أنهام لن يفقداها أب ًدا .ها هو يفقدها اليوم .بىك ،فبكت ،ثم محاول تكسري الحزن الذي يغلف لقاءهام ،قال لها: ً -مكتوب علينا الدراما داميًا ابتسمت ،وانقطع بكاؤه .ظال جالسني دون كالم .وباتفاق ضمني ناتج عن طول العرشة ،قاما مرة واحدة وغادرا املقهى .سارا بجوار بعضهام البعض ،صامتني ،متباطئني القرتابهام من بيتها ،حيث تعيش بعي ًدا عن أهلها ،البيت الذي شهد أجمل لحظاتهام .حني صارا أمامه أخ ًريا ،نظرت إليه كأنها تحاول احتضانه ،فرتاجع للوراء بحركة مرسحية. انحنى ،رفع قبعة وهمية من فوق رأسه ،ولوح بها كأنه يحيى جمهور مرسحية منتهية .حاول أن تكون تلك نهاية اليوم ويذهب كل منها طويل ،وقبلت رأسه، يف طريقه ،لكنها اقرتبت منه بعزمية واحتضنته ً وطارت. 2 تبدو بعض الطرق واضحة ج ًدا ،كأن الحارض وجد ليستمر ،ثم يزيلها الضباب ،ويزول لتظهر طرق جديدة ،وتزول .مل يغادر منزله طوال أسبوع ،مل يحدث غادة منذ لقائهام األخري ،يتصل به يوم ًيا زمالؤه يف العمل ،جامل ورشبيني بالذات ،مطمئنني عليه ،ومستفرسين عن عدم حضوره ،يف األغلب مل يكن يرد عليهم .كان تائ ًها يف غابة اكتئابه ،نامئًا أغلب اليوم ،مل يقابل أح ًدا طيلة األسبوع .قرر مرتني أنه سيستيقظ ويذهب لعمله ككاتب إعالنات ،لكنه يف الصباح كان يفقد نفسه يف الغابة مرة أخرى ،ويحاول بقية اليوم أن يعرث عليها. يف األسبوع التايل ،وبهمة مفاجئة ،غادر منزله متوج ًها للعمل. أحسن بتحسن غري مربر يف حالته النفسية ،سار للعمل رغم طول الطريق كأنه يحتفي بخروجه من الغابة .قابله الجميع برتحاب زائد،
7 تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر
حتى املدير نفسه ،أحمد حربية ،مل يسأله عن غيابه .حرض اجتام ًعا صباحيًا ،وشارك ببعض األفكار ،وبعد انتهاء االجتامع جلس يف مكتبه قليل ،لعب ماتش فيفا وخرسه ،ثم خرج للبلكونة لتدخني سيجارة. ً أتت ندى يف إثره وأشعلت سيجارة بدورها ،ثم سألته عن صحته. “كنت تعبان شوية األسبوع اليل فات ،بس كويس دلوقتي” .سألته عن أخبار غادة خطيبته فراوغ ،وتذكر حينها أنه ما زال يلبس دبله خطوبته ،املحفور عليها جملة غادة التي اختارتها نصف مامزحة “تعلم الطيور منذ صغرها إىل أين ستهاجر” .ناسيًا وجود ندى متا ًما خلع دبلته ،وفكر لوهلة أن يقذف بها للشارع ،لكنه وضعها يف جيبه، ثم انتبه لنظرة ندى املستغربة: -بيحصل يف أحسن العائالت مل يخربها أكرث من ذلك .نظرت إليه متعاطفة ،ضامة شفتيها، متحازنة: -أنا موجودة داميًا ،لو حابب تتكلم غادر البلكونة ،دخل مكتبه ،وضع حاسوبه يف حقيبته ،ثم خرج من املكتب ومل يعد إليه. 3 عن طريق معارف مشرتكني ،عرف ندى قبل أن يعرف غادة .كون تجاهها يف لحظة ما مشاعر قوية ،رسعان ما جرفتها غادة .لكنهام ظال، لفرتة ،صديقني مقربني لدرجة مربكة لشخصني منغمسني يف عالقتني جديتني ،قبل أن يصبحا زمالء عمل بتاريخ شخيص مشرتك مفتوح عىل احتاملية إعادة توطيد الصداقة .كلمته ندى يف املساء متسائلة إن كانت أزعجته يف يشء ،نفى“ :أنا بس مش يف أفضل حااليت” .سألته
8 تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر
عن إمكانية أن تأيت لبيته لتطمنئ عليه ،أخربها أال داعي ذلك ،أرصت وجاءت. فتحت شباك الصالة مبجرد دخولها“ ،مش كفاية كآبة يا بني”. “ترشيب حاجة؟”“ ،تقصد شاي طب ًعا” ،أجابت مبتسمة .ذهب لتحضري الشاي وهو يسري يف غابته ،ثم عاد .جلست بجواره ،نظر إليها من داخل غابته ،فبدت بعيدة ج ًدا ،سألها: -عاملة إيه يف الدنيا؟ -انتا اليل عامل إيه؟ -بعافر أهو .انفصلت أنا وغادة من أسبوع .فمش يف أحسن حااليت -حاجة معينة حصلت؟ -أل عادي ،الزمن -حكيم برده حتى وانتا مكتئب هز كتفيه محاولً االبتسام ،قطعت الصمت: -والطريان؟ -والطريان كل من يعرفه هو وغادة يعلم أنها ممن أصبحوا قادرين عىل الطريان بعد الحدث الكبري .زميل آخر يف العمل ،هو إبراهيم ،غادر العمل والبلد كلها مبجرد أن استطاع الطريان هو اآلخر .بالنسبة ملن استطاعوا الطريان ،كانت عالقتهم باآلخرين تشعرهم باملحارصة وبالقيود ،حتى أكرث العالقات أصالة ال ميكنها النجاة بسهولة من انفتاح عامل ميلء باحتامالت ال تنتهي أمام أحد أطرافها دون اآلخر. انفصال مشاب ًها ،ليس ألن ً ندى نفسها عانت من أسابيع قليلة
9 تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر
صديقها ،مصطفى املنياوي ،استطاع الطريان كغادة ،ولكن ألنه أحب واحدة تستطيع الطريان ،وكانت خطته أن يتعلق بها ويذهبا م ًعا إىل مكان جديد ،بعيد. -كلنا كدا قالت ندى بأىس صادق ،وتنهدت .ربت عىل شعرها“ ،متزعليش”. “أنا كويسة ،وتجاوزت املوضوع ،انتا بتفكر يف إيه؟”. فعل -مش عارف ً -هتيجي الشغل بكرا طيب؟ -ماعتقدش ،حاسس إين محتاج أغري حيايت ،مش عاوز أفضل أدور يف نفس الساقية لألبد -بس الشغل لطيف ،وكلهم بيحبوك صمت ،وصمتت .إن مل يكن قاد ًرا عىل الطريان فعىل األقل ما زال بإمكانه التنقل .مفارقة أن يفكر يف ذلك وهو غري قادر عىل مغادرة غابته ،أو رمبا بسبب ذلك تحدي ًدا .عدل من جلسته لوضع أفقي، ووضع رأسه عىل ركبتها ،وأغمض عينيه. باتت ندى عنده ،دون أن يحدث بينهام أي يشء ،وعندما أيقظته للعمل اعتذر ،لكنه رشب معها شاي الصباح ،دون أن يتبادال كال ًما كث ًريا ،احتضنته مودعة: -هتكون أحسن ،متخافش غادرت .لكنها ستعود كث ًريا. 4 لطاملا أربكه وجود مصطفى املنياوي يف محيطه .خليط من الغرية املبهمة وعدم االحرتام الرصيح ،غرية مبهمة عىل ندى التي نظريًا
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 10
ليست أكرث من صديقته ،وعدم احرتام رصيح نتيجة لغرور مصطفى غري املربر .طبيب شاب ،من أرسة مدينية ميسورة ،دون أي صفات شخصية بارزة ،مل يتجاوز إحساس املراهقني املتفوقني دراس ًيا وطبق ًيا عىل زمالئهم ،ورمبا بسبب إحساسه العميق باالستحقاق ،مل يرتك أب ًدا ما يظن أنه له .مل تكن ندى بالطبع تشارك محمد انطباعه عن مصطفى ،وترى يف إحساسه باالستحقاق ميزة ال ميكن إغفالها ،جريء، ومبادر ،ويتحرك يف الحياة بثقة من مل ينكرس أب ًدا ،وتنرش ثقته هذه الطأمنينة يف من حوله .حتى غروره رأت فيه ندى رهانًا عىل املستقبل، أكرث منه فخ ًرا بوضع طبقي معني ،رهان مقامر ،لكنه يصاحب دو ًما أولئك الذين يحققون األشياء العظيمة .ورغم أنه من املمكن القول إن مصطفى خيار آمن متا ًما ،فإنه كان بالنسبة لندى خيا ًرا يفتح باب املغامرة الشغوفة يف الدنيا .دامئًا لديه مشاريع عمالقة ،له عرشات الهوايات ،بجانب عمله طبي ًبا ،يكتب الروايات ،يشارك يف عروض مرسحية ،يسافر يف السنة عدة مرات ومعه ندى. مدهش كيف يختلف تفسري نفس الصفات لنفس الشخص بحسب موقع الشخص املفرس منه ،فحتى محمد ال ميكنه أن يدعي أنه مل يستفد أب ًدا من جرأة مصطفى ،خاصة حني كانوا يف أحد املدن الساحلية واكتشفت غادة أن أحد من يجلسون بجوارهم يلتقط صو ًرا لها .اشتبك محمد مع الشاب ،الذي تداعى لنرصته خمسة شبان مفتويل العضالت من نوعية هؤالء الذين ميتلئ كل “جيم” بهم .كان هذا االشتباك الجسدي األول ملحمد يف حياته بعي ًدا عن قريته ،بعي ًدا عن حسني والتعلب ومحمد عبد الحميد والقط واألعرج ،وبعي ًدا عن جامعته ،عن غانم والرتبو والرتوليل ونظرية ،وعن أماين .وبغريزة مدافع الكرة الذي كانه ،صد اللكامت بيده ،وسدد بعض الركالت هنا
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 11
وهناك .ارتفعت األحزمة ،وبينام يتلقى عدة لكامت يف وجهه وبطنه، سمع بعض املقاعد تتكرس ،ندى وغادة ترصخان وتحاوالن املشاركة يف االشتباك بال نجاح يذكر ،حني ظهر املنياوي ،ليؤدى واحدة من أفضل مرسحياته. 5 يف الطفولة ،كل حدث مؤسس .حيث الكلامت ما زالت بال دالالت، وتكسبها األحداث دالالتها األصلية .كلام سمع محمد كلمة “شلوت”، قفز إىل ذهنه مشهد طريان أرشف يف الهواء .كانوا يف صباح كل جمعة يلعبون يف أرض واسعة ،وعندما وجدوها مليئة بأشولة القطن ،ذهبوا إىل مكان واسع آخر اقرتحه عليهم التعلب .املكان يف منتصف بيوت ال يعرفون فيها أح ًدا ،كانوا غرباء ،وبعد نصف ساعة تجمع أطفال املنطقة ليطردوهم .مل يكن حسني معهم ليقود املعركة ،فتطوع التعلب بالقيادة املؤقتة .وعندما رآهم األطفال اآلخرون متحمسني للمعركة ،نادوا إخوتهم األكرب .بدأت املعركة كأي معركة كربى مببارزة فردية ،لكن يف حركة تخلو من املروءة ،أحد كبار األطفال األعداء استفرد بحارس مرماهم ،القط ،ورضبه .يف هذه اللحظة جرى أرشف بكل قوته بطول امللعب ،وقفز يف الهواء وهو يسدد ركلة إىل رأس العدو .قوانني معارك األطفال بسيطة ،لكن حكيمة .يف كل األحوال ستُرضب ،عليك فقط أن “تعلم” عىل عدوك ،ترتك فيه جر ًحا ظاه ًرا، أما من رضب من أكرث فهذا أمر جديل ،خاصة أن مجموعة محمد هي من تلقت النصيب األكرب من الرضب .غضب األعداء من مهارة أرشف، الذي كان يلعب الكونغ فو ،تحلقوا حوله فجرى بقية الفريق إلنقاذه، فضبوا ،حتى أن التعلب قائد املعركة فر منها رسي ًعا واختفى أثره.ُ محارصين بني البيوت وال مهرب ،وال حكمة لدى األطفال األعداء
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 12
لوضع حد للمعركة ،حاول أرشف ،ألن الحرب خدعة ،أن ينقض عىل أصغرهم ويهددهم برضبه ،لكنهم منعوه وكتفوه .أمسك محمد بأكرب طوبة وجدها وحاول إلقائها عليهم فكتفوه هو اآلخر ،وهكذا خرس فريقهم قياداته الثالث .لكن ،وككل املعارك الكربى ،وحني يبدو أن األمور قد حسمت ،ظهر التعلب ،وبجواره األسطورة ،محمد متويل. 6 تردد وهو يفكر يف أن يبعث لغادة يستفرس عن أخبارها ،وفكر أنه بعد غادة ال يعرف ملن يشيك اكتئابه ،رغم أن هذه الشكوى تحدي ًدا كانت تضايقها دامئًا .خرج من البيت وسار دون هدى يف الشوارع ،بينام يسري عقله دون هدى يف غابته ،كان يسري يف عاملني يف الوقت نفسه .يف غابته كانت األشجار كثيفة ،كل حدث حصل له أنبت شجرته الخاصة .وجود غادة كان مينحه طريقًا يف الغابة يسري فيه ،متلمسا حبل صوتها ،ليصل إليها ،فبأي صوت يهتدي اآلن. مل تكن لديه فكرة عن بديل عمله ،كل الفرص املتاحة مشابهة ج ًدا ملا يفعله ،ولن متنحه الشعور بالتنقل الذي يرجوه .شعر باقرتابه من الشوارع التي تؤدي لبيتها فسار راج ًعا حتى وصل بيته ،ومبجرد وصوله وضع رأسه عىل الرسير ونام. أيقظه رنني الهاتف ،أخربته أمه بنقل أبيه للمستشفى ،أزمة قلبية أخرى .لبس برسعة وذهب إليهم ،كانت أمه أخته وأعاممه وأخواله جميعهم هناك ،أو عىل األدق من تبقى منهم .رأى خاله األصغر عىل باب املستشفى ،مرخ ًيا جناحيه ،يدخن سيجارة .سأله عن حالة أبيه، “إن شاء الله خري” .تركه وصعد ألمه ،احتضنها ،طأمنها أن كل يشء سيكون عىل ما يرام .أخرجته الصدمة من الغابة ،وأصبح يف العامل.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 13
تبادل الحديث مع أعاممه وأخواله ،سلم عىل غانم الذي أىت مرس ًعا، أخته جالسة دون حراك تبيك ،طأمنها ،بثقة مفرطة ناتجة عن شعوره الوقتي بالهروب من الغابة ،أن أباها سيغادر املستشفى غ ًدا عىل قدميه .صدق هو نفسه ما قاله ،وذهب للطبيب فقط زيادة تأكيد. فعل يف تحسن ،ورمبا حتى يغادر اليوم. أخربه الطبيب أن أباه ً عاد ألعاممه وأخربهم ،حمد عمه الكبري الله ،وقال: -اتنني كتري برده ،ربنا أرحم من كدا كان يشري لوفاة عمه سعيد ،أوسط إخوته ،الذي مات قريبًا يف أزمة املرض الخطري .كان عمه سعيد أقرب أعاممه لقلبه ،بحيويته وظرفه واستعداده الدائم للمساعدة وتحمل مسؤولية كل يشء .مل يكن بجواره يف مرضه ،مل يغادر املستشفى التي بها غادة وقتها إال للعمل ثم يعود إليها ،وينام يف املستشفى. ظل باملستشفى طيلة الليل ،نام هناك ،ويف الصباح غادر هو وأمه مع أبيه لبيت والده .استقبلتهم أخته الصغرى فرحة ،والده منهك، لكنه سعيد بنجاته ،ومازح ابنته التي ما زالت قلقة: -مش أبويك اليل يروح بالسهولة دي بني يوم وليلة قىض اليوم كله بجوار أبيه ،خصمه التاريخي ،عالقتهام متوترة منذ مراهقته ،مراهقة محمد بالطبع وليس أبيه .ولطبيعة أرستهام املتحفظة يف التعبري عن مشاعرها ،مل يستطع أحدهام أن يعيد وصل ما انقطع ،كانا يحمالن خصومة ذابلة مل تعد ذات معنى منذ سنوات طويلة حني انتقل للعيش مبفرده .ورغم ذبولها ،مل توات أيًا منها الجرأة ليخلعها من الرتبة نهائ ًيا ويقيض عليها. يف الليل ،دعته أمه للبيات ،لكنه خاف إن طال مكوثه لديها أن
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 14
تسأله عن غادة وأسباب االنفصال ،فاعتذر محت ًجا بأنه ال بد أن قليل، يذهب إىل عمله يف الصباح ،وحاسوبه هناك يف بيته .تضايقت ً متكنت مبرور الوقت من التسليم بأن ابنها الكبري قد طار بعي ًدا عنها. 7 علم مبرض غادة من والدها .كان املرض الخطري ،الذي مل يعرف أحد طبيعته ،قد بدأ يف االنتشار عىل مستوى العامل ،حمى ووجع جسدي ال يحتمل خاصة يف الظهر .كانت قصص وفيات املرض وإصاباته هي الخرب األول يف كل النرشات والجرائد ،ورغم مرور شهر كامل عىل بدايته مل يعرف األطباء ما هو وال كيف ينترش ،وال حتى كيف يبحثون عن عالج له .تاه قلبه منه حني أخربه أبوه مبرضها ،كانا متعاركني قبلها، غري معاركهام التقليدية ،كانت املعركة األخري ،عن األزمة الصامتة التي بدأت منذ العالقة ،وفضل هو كعادته أن يتجاوزها دون خوض معركتها للنهاية .ذهب رسي ًعا للمستشفى ،أبوها قلق وكذلك إخوتها األربعة ،محمد وأحمد ومصطفى ومحمود ،كلهم عىل اسم من أسامء الرسول ،تحقيقًا لنذر جدتهم بعد وفاة أول ابن لوالد غادة ،إميانًا منها أن ذلك سيحميهم ويدخل الربكة للبيت .غادة كانت ثالثة األرسة بعد محمد وأحمد .إخوتها كلهم جالسني عىل مقاعد املستشفى بال توتر ظاهر ،عكس والدهم ،وبسكون تام ،عكس والدهم أيضً ا. -أنا لسه مفقتش من موت أمها قال والدها ثم زفر ،وكاد يبيك .وجد محمد نفسه يف دور الشخص الهادئ الواثق مضط ًرا ،وهو الدور الذي طاملا التصق به دو ًما إال مع غادة. هي من اقرتحت عليه بعد فرتة قصرية من الحديث اإللكرتوين أن
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 15
يلتقيا .وقتها كان يخزن مشاعر قوية تجاه ندى .لكنهام تقابال .بدت أشجع وأكرث اقتحا ًما عىل الحقيقة ،مقتحمة للدرجة التي جعلتها خجول لدرجة ما. ً -سمعت عن حكاية الست اليل كانت بتخون جوزها مع عرشين واحد ،فجوزها اتجنن دا ،عرشين واحد يا مفرتية ،بتفتكرهم ازاي دي كانت هذه افتتاحية حديثها ،غمرت النكات الجنسية اللقاء كله، أغلبها من جانبها .يف ما بعد ستقول له إنها حاولت يف البداية أن تكرس حدة غرابة اللقاء ،لكنها مل تعرف الحقًا كيف توقف نفسها. بعدها بثالث ساعات كانا يسريان يف الشوارع يعلقان عىل صدور قليل جميع السيدات وهام يضحكان ،وهو يرجوها أن تخفض صوتها ً يك ال يسمعها أحد .قالت له إنها ميكن أن تأيت ملكتبه لتجلس معه طويل ،مكشوفقليل قبل أن يخرجا املرة القادمة ،ترتدي فستانًا أزرق ً ً الذراعني ،مفتوح الرقبة ،وينسدل ،لألسف الشديد ،شال طويل من رقبتها ليغطي مقدمة صدرها ،بداية غريبة .ضاعت مشاعره تجاه ندى ذلك اليوم. -مش هتقوم انتا تروح تنام؟ سأله والدها يف املستشفى ،أجابه بالنفي .رجع إخوتها للبيت وظل ووالدها منتظرين .خصومة خامدة أخرى ،مرجأة حتى حني. ناما عىل أكتاف بعضهام البعض. 8 نظر لدبلته املوضوعة بجانب الرسير ،كان مرتا ًحا لنجاة والده، إىل أين تعلم الطيور أنها ستهاجر يا غادة .ندم اآلن أنهام مل يتحدثا أكرث يف لقائهام األخري ،هكذا ترك نفسه فريسة سهلة لتداعي أفكار
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 16
ال ميكنه إيقافه :إىل أين ستطري غادة ،ما خطتها ،هل قابلت أح ًدا ما وأعجبها ،أين هي اآلن ،هل يتصل بها ليطمنئ عليها ،ألن يبدو مث ًريا للرثاء إن أخربها مبرض والده ليرسق بعض االهتامم منها؟ رمبا سمعت عن تعب والده من أصدقاء مشرتكني ،فلامذا مل تتصل به؟ هو كان ليحدثها وفو ًرا ويكون إىل جوارها .رمبا تكون قد طارت خارج البالد كلها ،طار النوم من عينيه ،بعث برسالة إىل ندى يسألها إن كان بإمكانها أن تلتقيه اآلن ،ردت“ ،الساعة اتنني ونص بالليل يا محمد، خلينا نتقابل بكرا ،إنت عامل إيه؟”. مل يرد ،حاول النوم بال جدوى ،القراءة بال جدوى ،مشاهدة طويل عليه يف الغابة ،األشجار كثيفة، مسلسل بال جدوى .مر الليل ً ماذا فعل يف حياته ليحارص هنا .حاول تسلق بعض األشجار ليعرف اتساع الغابة دون نجاح ،تجول يف الغابة ليضيع وقته .بدا لنفسه جبانًا أكرث من أي وقت مىض ،ملاذا أعجبت به غادة من البداية؟ هل خدعها مشهده الوقور والهادئ ومل ت َر الحطام الذي يخفيه؟ ماذا عمل آخر ،وسيعود مهزو ًما إىل حقق يف حياته حتى اآلن؟ لن يجد ً عمله الحايل .لن يستطيع أن يغري حياته أب ًدا ،ما دام سيظل هو هو، ينتقل بخرابه الداخيل من مكان إىل آخر ،يثري اإلعجاب للوهلة األوىل، حتى إذا اقرتب أحد منه بالدرجة الكافية ورأى خراب روحه فعل مثل غادة وابتعد .تعلم الطيور ،منذ صغرها ،إيل أين ستهاجر من غابته. 9 مل ينم غري ساعتني ،لكنه استحم ليفيق ملقابلة ندى .اتصل به عدة أصدقاء آخرين مطمئنني عليه ،ومل يجبهم .رشب فنجانني قهوة، وغادر منزله.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 17
يد عىل كتفه ثم “مستني حد يا أستاذ؟” ،يد ندى وصوتها املرح. أدرك ملاذا أحبها ذات يوم“ ،القطر ،بس شكله اتأخر أوي” ،رد عليه مساي ًرا مرحها ،ثم سارا دون اتجاه محدد .حكت عن العمل وسؤال الزمالء عنه ،سألته عن أخباره ،متى يعود ،مضت ثالث أسابيع منذ غادر. -مش عارف -طب وناوي تعمل إيه؟ -مش عارف أمسكت يده واحتضنتها ،كأنه فعل اعتادت عليه ،وأكملت املسرية صامتة .كيف يقطع إذن هذا الصمت الذي تسبب فيه؟ هل يسألها عن صديقها السابق ،عن أخبار زمالء العمل ،هل يحيك لها ما يشعر به وهو داخل الغابة ،أخبار “الطائرين” التي ال تتوقف الصحف عن نرشها منذ الحدث الكبري ،بدا حلم اإلنسانية يتحقق أخ ًريا ،ال عباس بن فرناس وآلته ،وال البالونات ،وال الطائرات ،أناس حقيقيون بأجنحة حقيقية يستطيعون الطريان .قليلون ج ًدا هم من شفوا من املرض ليكتشفوا أجنحتهم النابتة تلك ،خمسون ألفًا عىل مستوى العامل كله ،أغلبهم يف منطقة الرشق األوسط ،اعتربهم العامل بداية لعامل جديد ،فحصلوا جمي ًعا عىل تسهيالت غري مسبوقة يف كل يشء ،حتى أن غالبية الدول منحتهم إذنًا دامئا لدخولها .مئات املراكز البحثية راسلتهم ليكونوا جز ًءا من البحث عن الطفرة غري املسبوقة، الكثري من الوكاالت اإلعالنية الحقتهم كذلك ،وكل الرشكات العاملية أحبت أن يكون جزء من موظفيها من ذوي األجنحة ليكونوا جز ًءا من صورتها ،حتى أن الحكومة هنا عينت وزيرة بيئة شابة ،ال يؤهلها أي يشء سوى جناحاها.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 18
-رسحان يف إيه؟ سألته ندى ،وأكملت “ومتقوليش مش عارف تاين” .ابتسم، طويل، ً “بتأمل يف الوجود والعدم” ،أجاب ماز ًحا ،نظر حوله ،سارا اقرتح أن يجلسا يف مكان ما لتسرتيح ،جلسا يف أقرب مقهى ،طلبت شيشة وقهوة ،وطلب شايه املعتاد دون سكر .هي من جعلته يف وقت ما مدخ ًنا رش ًها للشيشة ،ال تجلس يف مكان دون أن تطلبها ،يف البداية كان يأخذ منها بعض األنفاس ،ثم صار يطلب واحدة لنفسه، لكنه أقلع عن ذلك منذ صداقته بغادة التي يضايقها دخان الشيشة. يضايقها أيضً ا دخان السجائر ،لكنه أخربها حني اقرتحت عليه اإلقالع عن التدخني ،أنه ترك الشيشة بالفعل وسيحاول التقليل من السجائر، امتعضت ،فأخربها “معليش بقى ،مش كل ما يتمناه اإلنسان يدركه”. جلس بجوارها ،وأخذ يصنع الدوائر يف شايه ،متا ًما كام فعل مع غادة آخر مرة. -بتفكر تشتغل إيه طيب؟ -طيار -يابني بتكلم جد -صياد -اتكلم جد -صياد طيور قال ماز ًحا ،ثم أحزنته إجابته .فكر يف “الطائرين” وهم يرخون أجنحتهم صاعدين إىل الطائرات .رغم قوة أجنحتهم ،فإنهم أضعف من أن يعربوا مسافات طويلة ج ًدا دون راحة .أتته صورة غادة نامئة يف طائرة ،جناحها بجوارها ،مالك طائر كسول ،رمبا لو حصل الحدث
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 19
الكبري يف زمن آخر العتربهم الناس سحرة وأعدموهم ،أو اعتربوهم جنسا آخر غري البرش وقدسوهم ،لكن األطباء أكدوا أن “الطائرين” ً مجرد برش عاديني بطفرة جينية غري مفهومة ومل يحدث مثلها من قبل، لكنهم قادرون عىل التزاوج من البرش غري الطائرين ،مع احتامالت متساوية لألطفال ،رمبا يكونوا طائرين ورمبا ال. -رسحت تاين -مش هرجع الشغل يا ندى ،دي الحاجة الوحيدة اليل أنا متأكد منها -أيوا ،هتعمل إيه يعني ،استنى فيه لحد ما تدور عىل حاجة تانية فعل ،مل يعمل يف حياته إال يف هذه املهنة ،وأشهر ماذا سيعمل ً مهندسا مرة أخرى ً قليلة يف مكتب والده كمهندس مدين ،لن يعمل بالتأكيد ،رمبا كان ليصلح كصائد طيور يف زمن ما ،ال يعلم بالضبط إن كانت هذه مهنة أم ال ،وال يعلم حتى إن كان ليحتملها .كان يجيد التصويب عىل املرمى من بعيد يف كرة القدم ،دامئًا ما جعله حسني الخيار األول يف لعب الكرات الثابتة ،هل يكفيه هذا؟ هل أتته الفكرة فعل ،هو الذيكمجاز عن مالحقته لغادة؟ هل يريدها أن تسقط ً سحره انطالقها الدائم املخالف لطبيعته متا ًما؟ إن كانت الطيور تعلم ِ تظاهرت بالهجرة إ ّيل يا غادة ثم منذ صغرها أين ستهاجر ،فلامذا ِ انطلقت إىل مكان آخر؟ نفسا قويًا ،كح بعده مبارشة .هلسحب الشيشة من ندى وأخذ ً يواعد ندى؟ ليس باستطاعته اآلن أن يعطي أي مخلوق أي يشء ،ال يشء لديه ،وحي ًدا يف الغابة يبحث عن ممر ما إىل الخارج .كل يشء بعيد ،كيف يخطط لحياته وهو محارص هنا.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 20
عندما عاد لبيته ،أرسل رسالة قصرية لغادة. “أمتنى تكوين بخري .معرفش إذا كان صح أبعتلك ولال أل. وحشتيني” .ظل محدقًا يف هاتفه ينتظر ردها ،وملا يئس ،نام .لن ترد عليه إال بعد أسابيع. 10 صحيح أنه املدهش ،كام تقول إحدى العبارات التي ال يذكر محمد أين قرأها ،أن يقع اثنان من كل مليارات الناس يف هذا العامل يف حب بعضهام البعض يف نفس اللحظة ،ولكنه مدهش بنفس الدرجة كيف يتمكن اثنان أن يتوقفا عن ذلك يف اللحظة ذاتها .فغال ًبا ما تتسبب شخصا قبل أن مآس عاطفية بال نهاية .تحب ً فروق التوقيت هذه يف ٍ يحبك بأسابيع قليلة ،ورمبا يتسبب حبك املبكر ذلك نفسه يف تعطيل حب اآلخر لك ،ألنه يرى جانبك األكرث هشاشة .وباملثل ،قد يسبب توقف حب شخص لك قبل أن تتوقف أنت بقليل ،يف أن تحارب وحدك أفكار الرفض والفشل وانعدام الثقة بالنفس ،رغم أنك تعرف جي ًدا أن العالقة كانت تسري إىل هذا املصري .محظوظة ندى بحسن توقيتاتها دامئًا ،كأنها موهبة ربانية صقلتها التجارب والدنيا ،ففي اللحظة التي أعدها مصطفى إلخبارها برغبته يف االنفصال ،كانت اللحظة التي تالىش يف قلبها أي أثر لحبه .هل رأت عالمات االنهيار واضحة وأخذت يف التخلص من مشاعرها يو ًما بعد يوم ،حتى يكون حبل توقيتها مثال ًيا هكذا؟ أم أنها املوهبة نفسها التي ترى يف الحب ً إن قطعه شخص ما ،أصبح مقطو ًعا من الطرفني يف اللحظة نفسها؟ عىل العموم ،ستثبت األيام أن حتى أكرث املوهوبني يف اختيار توقيتاتهم مثل ندى ،قد يخونهم التوقيت أحيانًا.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 21
11 عندما اتفقا عىل الخطوبة ،كانت غادة من اقرتح أن يكتب كل منهام جملة ما عىل دبلة اآلخر .قالت ذلك بعدما حرضت جملتها قليل واقرتح “ ،ال يخطئ الطري أب ًدا مكان بيته” ،كتنويعة بالفعل ،فكر ً عىل جملتها .اتهمته بالترسع وعدم اإلبداع وعدم أخذ األمر بالجدية الكافية ،فعاد للبيت وأرسل إليها سبعة اقرتاحات: -م ًعا ،ال ميكن ليشء أن يوقفنا -يعلم القلب ،حني يعلم القلب -األشياء الجميلة وجدت لتبقى -أرق من طائر ،وأقوى من عاصفة -طريي يا طيارة طريي -يسكن املرء حيث يسكن قلبه -ما تبطل متيش بحنية ليقوم زلزال ردت برسالة قصرية“ ،بس كدا ،دا آخر اإلبداع ،مش انتا شغلتك يا بني تكتب كالم يعلق مع الناس؟” ،مل يعرف مباذا يجيب ،أرسل لها وجه ضاحك و”اختاري انتي” ،فاقرتحت أن تكتب عىل دبلتها نفس الجملة التي اختارتها له .مل تكن تقرتح متا ًما ،بل تخربه مبا سيحدث، وهو ،بالطبع ،ما حدث. 12 رمبا تكون السعادة عمى مؤقت عن احتامالت الحارض املستقبلية، استغراق تام يف االحتامل األجمل للاميض املتحقق لتوه ،واختفاء تام للغابة .يف املستشفى ،يف اليوم الذي اكتشف فيه األطباء أن نتوئني
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 22
ظهرا عند حافتي كتفيها ،كاد يطري من املفاجئة .لقد صارت من الفئة املحظوظة .كانت األخبار كلها مهتمة بالحدث ،أجنحة تظهر لبعض من أصيبوا باملرض .رصخ فر ًحا ،جرى يف املستشفى ،احتضن إخوتها، اتصل بأمه يطمئنها ،ثم بأخته ،وحتى بأبيه الذي ال يتصل به أب ًدا، بندى ،بزمالء العمل ،هل هذه هي السعادة؟ دخل غرفتها ،واحتضنها ألول مرة أمام أبيها ،الذي تظاهر بعدم مالحظة ذلك واالنخراط يف حديث جانبي مع أحد أبنائه ،بينام ابتسم إخوتها ،فيام تضايق محمد ،أكرث إخوتها تشد ًدا ،لكنه مل يعرب عن ذلك. بىك من الفرحة أيضً ا ألول مرة يف حياته .وعندما ذهب للعمل ،أحرض تورتة كبرية واحتفل يف املكتب بالحدث .كانت عاصفة الفرح التي تسبق الهدوء الذي يسبق العاصفة. 13 جلس بجوار أخته يف املستشفى ،أبوه مرة أخرى ،مل يكن متأك ًدا هذه املرة من أن كل يشء سيسري عىل ما يرام ،أمه أيضً ا أحست بذلك، إخوتها ،أخواله ،كلهم بجوارها ،وكذلك أعاممه .رشعت أخته يف البكاء، ثم أمه ،ثم سالت عينا عمه األصغر .خرج من املستشفى ،وقف بجوار خاله الطائر وأشعل سيجارة: -تفتكر هتعدي يا خالو؟ -كل يشء بيعدي -انتا فاهم قصدي -ربنا معانا جلس عن ميينه يف العزاء بعده سلسة أعاممه ،محمد أول طابور العزاء .برتتيب مختلف كانوا جالسني منذ أسابيع قليلة يف نفس
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 23
املكان يف عزاء عمه سعيد ،كان والده عن ميينه وقتها ،وخاله الطائر مل يزل حينها يف املستشفى .مل ينم أي منهم ،أخذت أيديهم تصافح املعزين بشكل ميكانييك .حرض أصدقاؤه منذ الصباح وانتهوا من أغلب اإلجراءات .مل يق َو عىل حمل النعش ،لكنه أرص ،حمله عدة مرات ،وأخذ يبدل دوره بني أصدقائه وأعاممه وأخواله .حسني صديق طفولته أول من حرض ،مل يلتقيا من سنوات ،ومحمد غانم وعبد الرحمن سعيد حرضا مبكرين أيضً ا ،وهاهم واقفني أمامه يف العزاء. ولوهلة ،ظن أنه رأى “التعلب” أيضً ا .وقف أصدقاؤه يتحدثون يف أمور تكتيكية مع أصحاب الفرش وامليكروفونات واملقرئ. مل يكن أبوه يو ًما ممن يجيدون الترصف يف األمور االجتامعية ،ورمبا هذا ما جعله يقول له بصوت واهن متا ًما يف املستشفى أكرث الجمل كليشيهية“ ،خد بالك من أمك وأختك” .أربكت الجملة كليهام ،أمسك دموعه ورد عليه: -ياعم بالش دراما ،انتا زي الفل أهو خرج من الغرفة ،وجلس عىل مقعد وبىك. أخذ املعزين يتناقصون بعد ربع القرآن السادس“ ،ربع كامن ولال إيه” ،سأله محمد غانم .سأل عمه األكرب بدوره ،أخربه عمه“ ،خليهم ربعني” .يف بداية العزاء شاهد ندى من بعيد ،كادت تدخل عزاء الرجال ،فأشار صامتًا إىل مدخل بيتهم حيث عزاء السيدات ،ترددت يبق غري ثم دخلت .حاسب أصدقاؤه املقرئ وأصحاب الفرش ،مل َ الدائرة األقرب ،أعاممه وأخواله وأصدقاؤه الثالثة ،جلسوا يف دائرة، وتكلم أعاممه عن طفولة والده ،أخواله أخذوا ينسحبون للبيت حيث أمه .تذكر ندى ،فاستأذنهم ودخل. كانت تحتضن أخته .أمه يف عباءة سمراء وحجاب يظهر بعض
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 24
شعرها ،عكس عادتها .صديقاتها بجوارها ،وأخواله يتحركون يف البيت بحرية .مدت ندى يدها: -البقية يف حياتك يا محمد -حياتك الباقية ،شك ًرا إنك جيتي مل تعرف كيف ميكنها االستمرار يف الكالم فأكملت احتضان أخته. أمه صامتة ،قبل رأسها وخرج ألصدقائه .استأذن أعاممه قائلني إنهم سيكونوا موجودين يف الصباح الباكر .اقرتح أصدقاؤه أن يذهبوا لقهوة قريبة ،قال إنه يريد أن ينام ،جلسوا دون كالم ،رأى ندى تخرج ،نظرت إليه فذهب إليها: ِ -شك ًرا إنك جيتي -لو عزت حاجة يف أي وقت كلمني ،هاجي بكرا برده ،هو دا وقت مش مناسب ،بس أنا اكتشفت إنك مش قايل ملامتك إنك استقلت من الشغل -كل يشء يف وقته -كلمني -أكيد جلس مرة أخرى ،حوله حسني ومحمد غانم ،يف هذا الصمت، وهو منهك متا ًما ،تذكر غادة. 14 ارتدت غادة فستانًا أحمر قص ًريا يف الخطوبة ،شعرها منسدل عىل ظهرها الخايل من األجنحة ،حولها إخوتها األربعة وصديقاتها ووالدها، وهو معه والده وأخته ووالدته وندى وغانم وبعض زمالء العمل.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 25
كان بيتهم واس ًعا واستوعب بسهولة العدد القليل .كان مرتبكًا أكرث منه سعي ًدا ،هي فرحانة ،رقص إخوتها ،ثم سحبوه لريقص معهم ،ثم سحبوها .اخذ ينقل قدميه بهدوء ويهز كتفيه ،تذكر أماين واملؤامرة الغربية فابتسم .أمه سعيدة ،أبوه هادئ ،أخته يف فستانها األزرق وحجابها اللبني ،رقصت يف البداية بتحفظ لوجود والدهم ،ثم امتلكت الصالة ،ونافست غادة ،لحظتها أحس بالسعادة ،نهرتها أمه بعينيها لكنها مل تكرتث ،ملحت غادة ذلك فأخذت بيدها ورقصت معها، ووقف هو يهز كتفيه بينام إخوتها يرقصون بكامل طاقتهم .طلبت منه والدته العودة ملقعده ،عاد وعادت غادة وهدأ الجميع .تكلم والده بصوت جهوري متامسك ،لعله فكر كث ًريا ليبدو بهذا التامسك: -الحمد لله رب العاملني ،والصالة والسالم عىل أرشف املرسلني، سيدنا محمد ،احنا يرشفنا يا أستاذ أمجد إننا نطلب إيد بنتكم غادة البننا املهندس محمد -واحنا يرشفنا النسب يا أستاذ محمود -نقرا الفاتحة ونلبس الدبل .قرأوا الفاتحة ،ثم تقدمت أمه بالشبكة ،ألبس غادة سلسلة وخامتًا ،ثم دبلة الخطوبة املنقوش عليها من الداخل ،وهو يقول بجدية مامزحة :أظن الطيور كدا مش محتاجة تهاجر خالص. 15 أرسل له مديره يخربه أنه يف ظل تغيبه ثالثة أسابيع عن العمل، سيضطر لو استمر ذلك لفصله .مل يرد عىل رسالته ،كان يف غابته يقطع شجرة فتنبت أخرى أكرب ،يقطع مسافات طويلة ثم يعود لنفس نقطة بدايته .أال تنتهي تلك الغابة أب ًدا؟ مل ترد غادة عىل رسالته قط ،فكر
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 26
مرات كثرية أن يبعث لها برسالة أخرى ،ومل يفعل ،يلتقي بندى كل يوم تقريبًا بعد انتهاء عملها ،كل يوم ترجوه أن يعود لعمله ،كل يوم تسأله عن خطط ،تبعث له بفرص عمل ،يكلمه زمالء العمل ليخرجوا م ًعا وال يرد عليهم ،بات عدة أيام لدى محمد غانم ،صديق الجامعة، ال يتكلامن غال ًبا ،يلتقي حسني يف األسبوع مرة يجلسان عىل القهوة يدخنان الشيشة ،التي عاد إليها اآلن .يف إحدى املرات كتب رسالة عىل هاتفه لغادة “بعادك يا جميل طول ،ودا ،إحصائ ًيا ،أول بعاد بيطول” ،ثم مسحها. بعد خروجها من املستشفى ،ذهبت لبيت والدها ،زارها هناك، كان جناحاها ال يزاالن صغريين ج ًدا ،كان ال يزال فر ًحا بنجاتها .غادر إخوتها الغرفة وتركوهام وحدهام ،ال زالت متأملة ،حن إليها ،وأمسك يدها: -مش بتفكر تسافر؟ -أسافر؟ ليه؟ -نغري حياتنا ونعيش حياة أوسع يف مكان أجمل -مالها حياتنا كدا؟ -روتينية وبنعمل نفس الحاجات وهنفضل نعملها لحد ما نعجز -أيوا ،وإيه الوحش يف كدا ،مادام بنعمل اليل عاوزينه ومبسوطني -مانا عاوزة أسافر معاك وهننبسط أكرت مل تكن تلك خطته أب ًدا ،كان مرتا ًحا يف عمله ويف عالقته بها: -يا بنتي ،ماحنا مبسوطني أهو -هننبسط أكرت
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 27
-قومي بس وطريي كدا وهنشوف -متاخدش كالمي بهزار ،بتكلم جد ،انا هسافر -هتسافري لوحدك يعني؟ -مانا بقولك نسافر سوا كانت تلك أحد معاركها الدامئة معه ،هذه املرة وجد يف استعجال املعركة تلمي ًحا لقدرتها الجديدة .قبل املستشفى كانا يف معارك متتالية ،إحداها بالطبع عن السفر ،أخرى عن مكان بيت الزواج، ثالثة عن عدم طموحه يف العمل والرضا بنفس مكانه الذي يعمل به منذ سنوات ،رابعة عن سقوطه الدائم يف دوامات اكتئابه دون العودة للطبيبة النفسية التي زارها مرة ومل يكررها ،سابعة عن ميله لتجنب النقاشات. -املهم دلوقتي تبقي كويسة قليل ثم انرصف ،ومل يلتقيا قبل صمتا ،دخل إخوتها ،تحدث معهم ً مرة االنفصال إال مرة واحدة. 16 بعد ثالثة أيام من العزاء ،قبلته ندى .مل يكن توقيتًا مثال ًيا .كانت من القبل التي يعلم املرء بعد منتصفها ،رغم جاملها ،أن األمور ستبدأ بعدها يف التدهور .اعتذرت. -أب ًدا .دي حاجة جميلة خالص شاهدته هو وغادة ،يف بداية عالقتهام ،وهام يقبالن بعضهام يف املكتب .غادر الجميع ،ووجداها فرصة سانحة .دخلت فجأة ،كانا أمامها ،ضحك متوت ًرا ،فضحكت ندى ،ثم غادة.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 28
احتوى املكتب األليف كث ًريا من مغامراتهام األوىل“ ،قفشهام” أكرث من شخص ،وبأدرينالني البدايات تجاوزا األمر دو ًما .احتوى أيضً ا كث ًريا من معاركها ،بل وأكرث معاركها صمتًا ،التي مل يتحدثا فيها سوى مرة واحدة. فعل للتوتر ،كانت يشء جميل -مفيش داعي ً نجت صداقته مع ندى من الكثري من املواقف املربكة ،ومن يدري ،رمبا تنجو من هذا القبلة أيضً ا .بالوقت متكنت أن ترث جزئيًا بعضً ا من قدرة صوت غادة عىل إخراجه من غابته .ومل يرد أن يفقد هذا الصوت مجد ًدا .تنجو العالقات املربكة بقدرة طرفيها عىل رؤية مكمن ارتباكها والتعامل معه ،مل يكونا أب ًدا “مجرد أصدقاء” ،لكن بوسعهام الترصف هكذا .الحميمية الزائدة ميكن ترصيفها يف تدخل غريب واقتحامي يف حياة بعضهام البعض ،االنجذاب الجنيس يتحول لنكات جنسية أو حديث شديد رصاحة عن تجاربهام .واملهارة يف معرفة أي نقطة بالضبط يجب أن يتوقف املرء عندها قبل أن يورط نفسه يف يشء ال ميكن ترصيفه. -الشغل عامل إيه؟ رسدت حكايات طويلة متقطعة عن جميع الزمالء ،وحديث مديره الدائم عنه .ترتدي تيشريت أبيض خفيفًا ،نص كم ،يعطي فكرة واضحة عن الوعود السخية التي يخبئها ،قدم عىل قدم ،عالمة عىل ارتياح مؤقت رغم اللحظة السابقة ،تجلس بجواره ،رقبتها شديدة البياض ،طاملا أغرته لسبب ما بعضها ،شعرها شديد الطول ،يبدو دامئًا مغامرة غري موثوقة يف شوارع القاهرة ،شفتاها مكتنزتان حمراوان بسبب أحمر الشفاة ،واآلن يعلم أنهام شهيتان كرقبتها متا ًما .اقرتب منها وذاقهام مرة أخرى .ملح نظرتها إليه“ ،حبيت أتأكد” ،قبلته،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 29
توقفا بعد ذلك ،دون توتر ،ودون خطة واضحة ملا سيحدث بعد ذلك .بعدها بأسبوع سيجدان نفسيهام يف موقف أكرث إرباكًا ،سيأخذ مكانة هذا اللقاء كأعىل نقاط ارتباك عالقتهام. 17 ال يذكر تحدي ًدا متى بدأ اكتئابه ،كأنه جزء من هويته التي كرب عليها ،يذكر أنه كان يفكر يف االنتحار وهو يف املرحلة اإلعدادية، رصا فيها، يضحك اآلن من الغابات القصرية الصغرية التي كان محا ً مقارنة بغابته الكثيفة العالية التي يوجد بها اآلن .كربت معه الغابة وتنوعت أشجارها ،رمبا هذه بقية جينات أجداده الفالحني .أوقات قليلة يف حياته التي وجد نفسه خارج الغابة ،وحينها كان يشعر أصيل فيه .أخف ،ولكن ال يشء مييزه عن بالفراغ ،كأنه فقد شيئًا ً اآلخرين ،أحد السائرين يف الحياة .تشعره غابته أنه ميتلك شيئًا ما ال ميكن ألحد أن يطلع عليه ،جرح يف هويته ال يراه إال هو ،هذا الجزء هو ما يجعله مختلفًا تحدي ًدا .شق طريقه مرة خاللها إىل غادة ،سألته الطبيبة النفسية يف لقائهام الوحيد عن سبب مجيئه اآلن تحدي ًدا: -خطيبتي أرصت -دي هيا ،انتا جاي انتا ليه ،عاوز توصل إليه؟ فعل ،يحب أن تكون أيامه خفيفة ،متواصلة ،دون أن ال يعلم ً يجلس يف غرفته أيا ًما طويلة يفكر يف االنتحار .حياته نفسها جيدة، امرأة يحبها بجواره ،عائلة متامسكة ،عمل مستقر ،لكن تبدو هذه األشياء أحيانًا حني تنظر لها من الغابة ،كأشياء اعتيادية عدمية املعنى، روتني يومي تفعله بالنيابة عن شخص آخر .أحيانًا كثرية ال يشعر تجاه غادة بأي يشء ،ال انجذاب وال حب وال مودة ،طأمنينة خافتة ليس إال،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 30
ولوال األيام القليلة التي يكون فيها خارج غابته ،لشك يف قدرته عىل مبادلة اآلخرين أي مشاعر حقيقية. -عاوز أكون موجود رد عليها .كتبت له دوائني ،وأن يعود لها األسبوع القادم .مل يفعل، وظن أنه لن يراها ثانية أب ًدا. 18 -بيقولك هيطلعوا قانون جديد للطريان ،للناس اليل بتطري ،مفيش طريان بالليل بعد اتنارش ،وأي طريان أكرت من 100كيلو الزمله ترصيح وعليه رضيبة هرتوح للمواصالت العامة نفث محمد غانم أنفاس الشيشة بعد جملته ،جاء يف األخبار ليل .مل يهدأ رجل طائ ًرا اصطدم بالفتة إعالنية بينام يطري ً باألمس أن ً الحديث عن الطائرين ،ورمبا لن يهدأ أب ًدا .قالت إحدى الصحف أن امرأة طائرة حامل يف شهرها الثالث ،والعامل كله مرتقب لريى طبيعة املولود الجديد ،أهو طائر أم ال .منذ أيام قال فريق طبي أمرييك إنه وجد عال ًجا نهائيًا للمرض الخطري ،الذي يسمونه اآلن مرض األجنحة .مل تعد هناك حاالت مرضية كثرية ،والقليل ممن تبقى يظهر يف الصحف ليقول إنه يفضل املغامرة بتحمل املرض مع إمكانية أن يصبح طائ ًرا، عىل أن يشفى متا ًما ويعود كام كان. غانم أكرث أصدقائه تقليدية ،إن حكمنا باملظاهر .تزوج من زميلتهم سمر خالل عامه األخري يف الجامعة ،لديه ولدان ،سامر وباسم ،مهندس مدين يف رشكة إنشائية ،أخذ مكانه يف الحياة وريض به ،سمر تركت العمل مؤقتًا حني حملت بسامر ،ومل تعد إليه .أقىص مغامراتها أنها جربا الحشيش مرة م ًعا ،والخمر مرة أخرى ،ومن
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 31
هذين املرتني نسج غانم عرشات النظريات عن الفرق بني االثنني، دليل دامغًا عىل اختالفها عن اآلخرين. فيام اعتربت سمر التجربتني ً يف شقتهام الواسعة بعامرة أبيه ،خصصا غرفة له ،قائلني مبزاح إنهام يعتربانه ابنهام الثالث .عارض االثنان تركه للعمل ،وكل مرة يدعوه غانم للعودة للعمل كمهندس .سامر يقوله له “أنكل محمد” ،وباسم األصغر يدعوه باسمه مبارشة .لطاملا كان حظه جي ًدا يف أصدقائه، حتى حسني صديق الطفولة أىت وحده عزاء والده كأنهام مل يفرتقا يو ًما. -بس كله إال الشيخ اليل طلع يقوللك إن األجنحة دي حكمها زي اإليد للستات ،والزم الستات تغطيها ،الله طب ما هيطريوا ازاي يا عم الشيخ؟ ردت غادة عىل رسالته التي أرسلها منذ أسابيع ،باألمس فقط، بشكل أكرث دقة ،أرسلت له رسالة جديدة “البقاء لله ،قلبي معاك فعل ،لسه عارفه حالً ،عمو كان بالنسبة يل زي بابا ،أمتنى تكون ً أحسن ،ولو حابب نتكلم أو نتقابل أي وقت قوليل ،أنا موجودة أي وقت” .ما زال يفكر يف الرد املناسب ،ال يعلم إن كان يريد مقابلتها ،أو يريد مقابلتها لكن يخاف من نتيجة ذلك .أن تزيح غادة صوت ندى مرة ثانية ،ثم تختفي ،ليجد نفسه بال صوت يرشده. -طب وطراطيف الريش دي الشيخ هيعتربها زي الصوابع ولال إيه؟ مل يعلم حتى اآلن أي فانتازيات جنسية جديدة خلقتها األجنحة، يشء جديد عىل البرشية ،ورمبا يستغرق األمر وقتًا إلدماجه يف املعرفة الجنسية وتقلباتها .مل يفكر يف أجنحة غادة بهذا الشكل ،صورتها يف عقله ما زالت دون أجنحة ،لكن كل يشء يتغري.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 32
19 تبدو األمور يف الغابة هادئة متا ًما بعد قبلة ندى ،كأن طريقًا وهم ًيا يكاد ينفتح ،ال يراه ،ولكن حدسه يخربه أنه قد يخرج من هنا قليل .أسند رأسه لشجرة وفكر :ملاذا ال توجد حيوانات يف غابته؟ حتى ً الغابة املجازية ميكنها أن تشتت نفسها ببعض الحيوانات العابثة هنا وهناك. أي فكرة إذن ميكن أن تكون األسد ،امللك الوهمي للغابة املتخيلة؟ أنه لن يبادل أحد مشاع ًرا حقيقية أب ًدا ،أم أن حياته كلها مجرد تكرار ملاليني الحيوات األخرى دون وعد بأي إمكانية أجمل؟ يعرف أيها سيكون القرد ،فكرته عن نفسه ،مرة كمظلوم ،مرة كشخص مؤ ٍذ ،مرة كشخص فارغ ،فكرة تتنقل بسهولة من شجرة إىل شجرة .هل ميكن أن تكون فراشة يف هذه الغابة؟ هل تصلح املواقف اليومية املربكة الصغرية مثل الخطأ يف الهم باحتضان أحد ميد يديه فقط للسالم؟ هاجس خفيف ،يعكر املزاج ،يجذبك إليه ثم يختفي فجأة ،قبل أن تجده مرة ثانية يف املوقف املربك الجديد .يعلم متا ًما ما هو الفيل، جميل ومسامل ًا، الثقيل الذي يزلزل األرض وهو مييش ،ومع ذلك يبدو ً الفيل الذي يتجاهله عىل الدوام. 20 ما الذي يجعلنا نتعلق بأشخاص آخرين؟ فكر محمد ،وهو ينام يف بيت محمد غانم تلك الليلة ،كيف يقع ذلك بسهولة ويرس كأنه طويل؟ نقع يف مراهقتنا يف الحب كأننا خرباء فيه، يشء تدربنا عليه ً تعصف عواطفنا بنا دون تدرج ،كوحش كارس كان موجو ًدا عىل الدوام ،وليس كشجرة تكرب يو ًما بيوم ،كام نحاول أن نفعل حني نظن
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 33
أنفسنا ناضجني ،لنجد الوحش يهاجمنا بغتة ،وتتهاوى دفاعاتنا أمامه، قليل. لكن عندنا من الخربة ما يجعلنا نقاوم ً هاجمه الوحش للمرة األوىل وهو يف املرحلة اإلعدادية ،قبلها كان يقول إنه يحب “سهر” زميلته يف االبتدايئ ،لكن مبجرد هجوم الوحش عليه أدرك الفرق ،هذا هو الحب دون شك .اآلن يفهم األشعار الرومانسية التي يحفظها ،ويفهم مشاعر املحبني يف الروايات الكالسيكية ،اآلن هو شخص يف العامل ميكنه أن يقع يف الحب كأبطال املالحم الكربى ،وكعامة الناس يف الوقت نفسه .ينتظر ظهورها يف الدرس ،يسلك يف عودته من املدرسة الطريق الذي مير ببيتها لعله يلمحها ،ويحاول ،كعادة املراهقني ،أن يكتب الشعر .اآلن مالمح “إميان” باهتة يف عقله ،ال يذكر سوى أنها كانت أطول منه ،مندفعة، ميالة للعراك دامئًا ،شاركه يف حبها “حسني” صديق الطفولة ،سارا مرة واحدة خلفها وهم عائدين من الدرس ،ولسبب ما قال لها حسني إن محمد يحبها ،فشكته هو للمدرس ومل تشك حسني .خاض معه املدرس أكرث حوارات طفولته غرابة ،قال له أستاذ أحمد إن الصعود للقمة سهل ،كثريون يفعلون ذلك ،األصعب أن تظل عىل القمة وال تقع ،وقال إنه سيسامحه هذه املرة ألنه ولد متفوق ولديه مستقبل ينتظره ،رشط أال يكرر ذلك .مل يفعل شيئًا ليك ال يكرره ،أحبها فقط، وحتى حسني هو من أخربها بحبه .طلب املدرس من محمد أن يعده فعل ،وبالفعل توقفوعد رجالة أنه سيتوقف عن حبها ،وعده بذلك ً عن حبها. بعدها بعام كامل ،حني رأى مصادفة بينام يلعب الكرة يف الشارع، سهر تعرب يف منتصف امللعب وتضم كتبها إىل صدرها ،وتضحك ،ودا ًعا أهل ،مرة أخرى ،يا سهر. إميانً ،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 34
21 رمبا سيخلو أي تاريخ رسمي أو شعبي للنسوية من هذه الجملة التي كتبتها إميان عىل سبورة فصل ثالثة ثالث سنة 2003يف قرية صغرية باألقاليم :النساء قادمات .بعد أربع سنوات من توقفه عن حبها ،ها هي تعود إليه ،يف فصل مشرتك لطالب علمي رياضة .ال يذكر بالضبط املعركة الحامية التي دارت بني الوالد والبنات ،والتي عىل إثرها كتبت إميان الجملة عىل السبورة يف تحد رصيح للوالد .يف الفسحة اجتمع الوالد اجتام ًعا ذكوريًا للتشاور الجامعي يف كيفية الرد، يجدر أن نذكر هنا أن الفصل كان خال ًيا من “النسور” ،وهو اللفظ الشعبي القروي الدارج وقتها ملا أصبحوا اآلن يسمون “األشباح” ،ولذا بعد اقرتاحات حامسية لتقطيع كراسات البنات أو لكرس تختهم ،اتفق الجميع عىل اقرتاح أحمد جرب بتحوير جملة إميان لتصبح “النساء قادمون” ،كتلميح مبطن إىل عدم جامل البنات يف الفصل ،حتى أنهم يشبهون الوالد .لكن الدقة واملوضوعية تقتيض أيضً ا أن نقر بعدم صحة ذلك عىل اإلطالق ،عىل األقل يف ما يخص محمد ،الذي كان قد وقع يف غرام اثنتني من زميالته يف الفصل ،حبه األول إميان ،وحبه الثاين ،واألول نظريًا إن استبعدنا نظرية الوحش ،سهر. تقتيض الدقة أيضً ا أن وضع محمد هذا كان ينطبق بحذافريه عىل صديق طفولته “حسني” ،الذي ،وبدون اتفاق ،وبشكل عجيب متا ًما، انتقل من حب إميان ،املحاربة ،إىل حب “سهر” الهادئة ،رغم أنه رس إىل محمد مرة يف الفسحة ،وبأىس شديد ،وبلغة وقحة يصعب أ ّ إعادة استخدامها ،أن سهر رغم جاملها الشديد تفتقد للتضاريس التي يفضلها يف اإلناث. امتلك حسني ،مبعايري هرمونات ثانوي ،عدة مميزات عن محمد،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 35
مهاجم ممتازًا لفريق املدرسة ،صوت ممتاز يؤهله ليكون املقرئ ً كان واملنشد واملغني الرسمي للمدرسة .محمد كان أيضً ا أحد أعضاء فريق املدرسة لكرة القدم ،لكنه كان مداف ًعا ،ولهذا ناد ًرا ما سنحت له احتفال بهدف يسجله يف املباريات ،بينام ينظر ً الفرصة ليخلع قميصه لسهر يف الدور الثالث مثل حسني .يف املقابل ،امتاز عن حسني بحسه الساخر ،املهذب ،وبقدرته عىل الكالم الهادئ مع البنات ،دون أن يدع هرموناته تتحكم فيه متا ًما .ميزة أخرى ،ولكن هذه كانت هدية مجانية غري مربرة من حسني ،أن األخري ،وكام فعل متا ًما من أربع سنوات ،أخرب سهر ،التي يحبها هو أيضً ا ،أن محمد يحبها ،ثم رجع إىل الخلف ليشاهد أثر جملته التي ستغري متا ًما تاريخ النسوية يف فصل ثالثة ثالث يف قرية باألقاليم. 22 هناك عدة طرق الختيار مهنة جديدة ،أن تفعل شيئًا تحبه ،مغام ًرا بالفشل وباكتشاف أنك لست باملهارة التي تفرتضها يف نفسك ،وأن تفعل شيئًا يقول الجميع إنك ماهر فيه بالفعل .جرب محمد الخيار األول ،اندفع للعمل ككاتب إعالنات عندما أخربته ندى ،وهي تسمع شكواه املتكررة من كرهه للهندسة ،أنه يصلح للعمل مثلها ،وأن قفشاته ميكن بسهولة تحويلها لشكل تجاري ،يخلصه من الهندسة ويكسبه بعض املال .اختار هذا الطريق ،ليس ألنه خيش من أن يفعل ما يحبه ،لكنه ألنه مل يكن لديه يف أي يوم من األيام مهنة يتمنى أن يحلم بها ،كان متفوقًا يف دراسته ،وبشكل طبيعي اختار الهندسة كوالده .متنى بالطبع أن يصبح شاع ًرا ،لكنه اكتشف مبك ًرا ج ًدا ،ودون حاجة لخوض املغامرة ،أنه شاعر شديد الرداءة ،يحرف بعض القصائد التي يحفظها ،ليس أكرث ،هناك نغمة يف عقله ميكن رص الكلامت
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 36
عليها ،ليس إال .وأكرث محاوالته الشعرية املبكرة نجا ًحا ،ليست تلك الرومانسية التي كتبها إلميان أو لسهر ،بل قصيدة عامية متهكمة مليئة بالكلامت البذيئة ،عن مدريس املدرسة ،والتي يف الحقيقة كانت أقرب لشتائم مسجوعة منها لقصيدة .كان هذا منذ أكرث من عرش سنوات ،اآلن وهو يف بدايات الثالثني ،مستقل ،دون عمل ،ودون رغبة للعودة إىل عمله ،مل تكن لديه فكرة كيف يختار مهنة جديدة .لكن مبا أنه كاتب ،كاتب إعالنات لكن كاتب ،فكر أن يكتب رواية ،ونظ ًرا لكل ما سبق ،ومبجازات واضحة لدرجة الفجاجة ،قرر أن يكتب رواية عن عباس بن فرناس. 23 ال يعلم أحد من أين انطلقت تلك الشائعة بالضبط ،أن الناس ميكنهم أن ينبتوا أجنحة إذا استمروا يف التدرب عىل القفز أوقات ًا طويلة .انترشت تلك الفكرة خاصة بني األطفال ،الذين أصبحت تراهم يف كل الشوارع يقفزون بأعىل ما ميكنهم .يبدو األمر طريفًا حتى ورجال يفعلون ذلك ،لكنها عىل العموم ظاهرة غريً ترى شبابًا ونسا ًء مؤذية .بدأت تنترش أيضً ا أخبار عن تعرض “الطائرين” ملضايقات يف الشوارع ناتجة عن فضول عام لرؤيتهم يطريون ،حتى التجأ الكثريون منهم للبس معاطف طويلة تخفي أجنحتهم .ال يزال بإمكانك ،ببعض التحديق ،أن متيز من ميتلك جنا ًحا من حركة يديه وطبيعة مشيته، وبالنسبة للبعض ،من “أثر النعمة الجديدة” عليه. خلعت غادة معطفها وشالها ،وعلقتهام عىل مقعدها يف نفس الكافيه الذي التقيا فيه املرة السابقة .بعض ريش جناحيها مصبوغ بالربتقايل ،بشكل يالئم بعض خصالت شعرها القصري املصبوغة .مل تر ِخ جناحيها هذه املرة بجوارها ،بل وضعتهام أمامها عىل الطاولة
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 37
بجوار يديها .هذه املرة امتلك الشجاعة ليلمس بيديه جناحيها ،شعر برعشتها القصرية حني ملس جناحها ،ابتسمت: فعل -البقية يف حياتك ،ربنا يرحمه كان راجل مفيش زيه ،آسفة ً إين مكنتش موجودة جنبك مهام خفت وجود األب يف حياته ،يظل قاد ًرا ،أغلب األوقات ،عىل إعطائنا وعد الطأمنينة الذي يعطيه الحبل املشدود عىل الوسط أثناء تسلق الجبال ،أننا لن نسقط مرة واحدة ،يشء ما سيتدخل يف اللحظة األخرية إلنقاذنا .رمبا يكون ذلك الشعور مجرد بقايا لشعورنا الطفويل تجاههم حني بدوا لنا كليي القدرة وبإمكانهم حل كل يشء .الشعور الذي تكرسه الحياة بالتدريج ،ونحن نكرب ،لنشاهدهم وهم ينكرسون أو يرتبكون أو حتى يشعرون بالحرج .نشارك نحن أنفسنا يف كرس هذا الشعور ،حني نتمرد عليهم مراهقني ،محاولني خلع الحبل من وسطنا واالنطالق يف مغامرة الحياة وحدنا .مترد محمد عىل والده كالجميع، حني اختار منط حياة مغاي ًرا ،وحني ذهب لخطبة سهر دونه وهو يف الصف األول الجامعي ،وحني ترك الهندسة .اآلن ،ال ميكنه التفلت من حبل مل يعد موجو ًدا ،وعليه أن يتأقلم أنه اآلن ،بوصية أبيه ،هو الحبل الذي يربط أمه وأخته .لكل مرء حبال عديدة ،حبال ثخينة تربطه بأقرب أصدقائه ،حبال أوهن تربطه بزمالئه ومعارفه ،حبال تربطه مبن يحبهم .ما مييز حبال األهل عن كل تلك الحبال أنها ،مهام بلغت رغبة املرء يف ذلك ،ال ميكنه قطعها متا ًما ،مهام حاول .وحني تنتهي بنهايتهم ،تفقد حرية االنفالت من الحبل ،التي حاربت من أجلها طويل ،معناها .ها هو منفلت إىل األبد دون حبل والده ،ميكن وصف ً هذا الشعور بأشياء كثرية ،ليس من بينها أنه شعور بالحرية. فعل .أكيد كان عندك مشاغلك، -حياتك الباقية ،ربنا يرحمه ً
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 38
واملهم إنك موجودة دلوقتي. تتمكن بعض العالقات من صنع حبال ثخينة مبا يكفي لتنجو من كل يواجهها ،تصري أضعف لكنها تظل موجودة ،رمبا هذا ما يجعل عالقته بغادة غري قابلة للتحلل التام ،حبل ما يربط بينهام، قد يفرتقان ،ويخوض كل منهام عالقة جديدة مع شخص آخر ،وقد يحاوالن حتى يف وقت ما ،حني يلتقيان صدفة ،أن يتعامال كمعارف قدمية ال أكرث ،لكنهام سيظالن متوترين بفعل إحساسهام بذلك الحبل الذي ال يريد أن ينقطع. وضعت يدها وجناحها األمينني عىل يده تعب ًريا عن املواساة ،حكت له عن طريانها الطويل بني املدن ،عن عروض العمل التي تنهال عليها، “هبقى موديل أخ ًريا” ،ضحكت .تتحدث االنجليزية والفرنسية بطالقة بحكم دراستها يف مدارس أجنبية .مل يعرف كيف ميكنه أن يطرح عليها السؤال الذي يؤرقه ،ثم باندفاع: -شفتي حد الفرتة اليل فاتت؟ اهتز جناحها عىل يده هزة قصرية ،رمبا فكرت بسحبه استعدا ًدا ملعركة ،لكنها مل تفعل: -أيوه ،حد كان معايا يف رحالت الطريان اليل بنطلعها كل شوية -بتحبيه؟ -لسه يادوب بادئني نتعرف عىل بعض ،مفيش حاجة جدية .انتا عامل إيه يف الدنيا ،سمعت إنك سبت الشغل؟ -آه وبكتب رواية -واو ،رواية مرة واحدة ،عن إيه يا ترى؟ لن يقول لها بالطبع إنها عن عامل وفيلسوف وشاعر حاول الطريان
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 39
منذ مئات السنني ،وخلدت محاولته شعب ًيا كبالهة انتقصت من حقه كعامل جاد ،وليس مجرد مغامر مجنون ،فهي تستطيع بسهولة أن تطري فعل ،دون مغامرة ،ودون حسابات ،وبأجنحة حقيقية. ً -رواية عن حياة عامل فلك يف األندلس ،فنتازيا تاريخية أخربها قبل اللقاء أن ندى ستحرض ،يك يئد أي احتاملية لحديث جاد .تأخرت ندى ،لكنها ستحرض بعد قليل لتخلق ارتباكًا مل يكن يف حسبان أي من ثالثتهم. 24 “هنسيب حبل ورا األوتوبيس ملا نيجي منيش ،اليل ميلحقش األوتوبيس ميسك يف الحبل ويحصلنا” ،كانت تلك نكتة حسني املفضلة فعل أن ماجد بصفته املنظم الفعيل ألغلب رحالت املدرسة .النكتة ً حسن ،أحد طلبة فصل أوىل خامس ،قال له يف اليوم التايل لرحلة االسكندرية ،إنه أىت متأخ ًرا ومل يجد أي حبل .متامسكًا ودون أن فعل ،ولكن الحبل مل يكنحبل ًيضحك أو يبتسم ،رد حسني أنه ترك ً طويل كفاية ليغطي املسافة بني قريتهم واإلسكندرية ،وأنه ،ماجد، ً أىت ،ليس فقط بعد أن غادر األتوبيس ،ولكن بعد مغادرة الحبل أيضً ا، ووعده“ :املرة الجاية هنجيب حبل أطول”. حبل وراءه ،كانت يف األتوبيس ،الذي غادر القرية دون أن يخلف ً سهر يف املقعد السادس عىل اليمني بجوار الشباك .محمد ،كصديق لحسني ،يف الصف الثاين ،أمامهم ثالثة مدرسني ،وأخصايئ اجتامعي، والسائق .استحوذ حسني عىل امليكروفون طوال الرحلة ،مرة يغني، مرة ينظم مسابقات ،مرة يقول نكتة ،وبعقله الذيك كان يرى الحبل الذي ميتد بني محمد وسهر .راضيًا بهزميته املتعمدة ،طلب من محمد
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 40
أن يقول قصيدة .دون تردد ،أمسك محمد امليكروفون ،نظر لسهر ،ثم تىل قصيدة رومانسية: “فوق العادة أين حني أراك يشتعل حريق القلب جراء بسمتك املعتادة فتهب دموع العني تحاول إخامده ويذوب الكلم عىل شفتي ويحتل الصمت مكانه وتحاول شفتي إبعاده ويغمزين صديقي يقول مالك تصمت فجأة ..غري العادة فأجيب بصمت هذا كله فوق العادة” عندما انتهى علق حسني وهو ينظر لسهر ضاحكًا ضحكة ذات مغزى مزدوج “بس مني يسمع ياعم محمد ،سقفوا” .قائد فطري، دون مجهود ،بصوته الجميل ،جسده املمشوق الريايض ،وتفوقه الدرايس ،وذكائه االجتامعي املدهش ،بدا حسني ملحمد دو ًما ال يعرف قدر نفسه ،يرىض بأقل ما يستطيعه أو يستحقه .تويف والده وهو طفل يف الصف الخامس االبتدايئ ،ذهب له محمد ليجلس معه ،بىك
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 41
رجل ناض ًجا بشكل ال محمد ومل يبك حسني ،كان يحاول أن يكون ً يليق بسنه .ال يذكر محمد أن حسني كان يذكر أباه يف أحاديثه ،إال ناد ًرا ج ًدا ،مرة وهم يتسلقون إحدى أشجار التوت بعدما هربوا من املدرسة اإلعدادية ،قال حسني وهو يف أعىل فرع يف الشجرة ،بينام محمد وإبراهيم متويل وعبد الرحمن سعيد متفرقني عىل غصون أشجار مجاورة أقل ارتفا ًعا: -أبويا الله يرحمه هو اليل علمني أطلع الشجر “الله يرحمه ،خلف قرد” ،غضب حسني ،وقفز من شجرته لشجرة إبراهيم الذي قال ذلك ،تعلق بغصن ،ثم سقط ،وتدخل كل من محمد وعبد الرحمن سعيد ليلجام غضبه ،ثم نيس األربعة األمر كله فور رؤيتهم لصاحب األرض وهو يجري من داخل حقله تجاههم ملو ًحا بفأسه ملعاقبتهم عىل رسقة شجرته. يف رحلة اإلسكندرية ،يف القلعة ،قال محمد لسهر ،أمام حبيبته السابقة والنسوية املشاكسة إميان ،إنه يريد أن يتزوجها .ردت إميان “جواز مني يابوشخة انتا” ،تورد خد سهر ،وصمتت .مل يكن أبناء القرى الصغرية وبناتها مؤهلني للتعامل مع تلك املواقف ،أقىص مراحل الصياعة وقتها أن يبتسم ولد وبنت لبعضهام ،هذا إن استبعدنا سرية “التعلب” من املوضوع .كانت االبتسامة فت ًحا كب ًريا مبعايري القرية، كامل حتى أن محمد عرفة ،تالتة رابع ،ظل حديث املدرسة أسبو ًعا ً ألنه تجرأ وتحدث مع ريم عىل هاتف املنزل ملدة أربع ثوان .األربع انتقاصا من مغامرته ،بل ً حكم بأثر رجعي عىل عرفة أو ثوان ليست ً تدوين دقيق لحكايته“ ،اتصلت كذا مرة ،أمها اليل كانت برتد ،فبقفل، ملا ردت هي قلتلها عاملة إيه يف املذاكرة ،قالتيل الحمد لله بذاكر، رأسا عىل عقب ،وصل لريم وبعدين قفلت السكة” .انقلبت املدرسة ً
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 42
أن عرفة “فضحها يف املدرسة” ،أخربت والدها صاحب ورشة إصالح السيارات عىل الطريق ،الذي أقسم أنه سيقتل عرفة .اعتذر عرفة لوالدها ،ثم اعتذر والده وعمه وذهب بصحبة زوجته لبيت ريم لالعتذار الرسمي ،ووعد والد ريم ،املعلم سعد ،بأنه سيكرس الهاتف عىل رأس محمد ،وهو ما فعله ،ثم خصص مدير املدرسة ذو القبضة الحديدية افتتاحية الطابور ملدة أسبوع كامل للحديث عن حرمة االختالط .وألن األيام نهر ال يتوقف ،نيس الجميع كل ذلك بعد أن نفذ “التعلب” فعلته التي تضاءل بجوارها كل يشء. 25 اشتهر إبراهيم متويل بـ “التعلب” منذ أن أحرز سبعة أهداف منفر ًدا يف املباراة التي جمعت بني فريق املدرسة لكرة القدم واملدرسة املجاورة ،وال ميكن الفصل هل اكتسب إبراهيم صفاته الثعلبية بسبب اسم الشهرة يف محاولة منه ليكون خليقًا بهذا اللقلب ،أم أنه كان وصفًا مبك ًرا صائ ًبا من مدرس الرتبية الرياضية الشاب للمدرسة األوىل، الذي أقسم إبراهيم برحمة أمه أنه عرض عليه االنتقال للمدرسة األخرى ،واع ًدا إياه أنه سيغششه بنفسه يف كل االمتحانات مقابل أن يلعب لفريق املدرسة ،يف خطة طموح ليكسب بطولة املحافظة لكرة القدم. أسمر ،طويل ،نحيف ،سليط اللسان ،متهكم ،أول من علمهم فتح املطواة قرن الغزال التي رسقها من أخيه األكرب أسطورة املدرسة “محمد متويل” ،مشاكس ،وظريف ،ولطاملا أخرجهم من املواقف املحرجة التي أمالها عليهم إحساسهم الخاطئ بالنضج املبكر .يكذب بثقة وثبات ،أخرب مرة مدير املدرسة ،الذي قفشهم وهم يتسلقون سور املدرسة ليحرضوا مباراة اتفقوا عليها مع فريق من القرية املجاورة،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 43
أنهم شاهدوا ول ًدا يرضب فتاة صغرية ،وأنه رآها بعينه تنزف ،وأنهم ومتحمسا ،مصدقًا قصته التي فربكها ً ذاهبون لنجدتها .كان غاضبًا، لتوه ،حتى أن مدير املدرسة ربت عىل كتفيه محي ًيا إياه عىل شهامته، وقال له إن األصح أن يخربه هو أو أحد املدرسني ليتدخلوا ،قاطعه التعلب بنفس ثباته: -الزم نلحق البت ال متوت نادى املدير مدرسني آخرين وأخربهم أن يذهبوا مع فريق التسلل لنجدة الفتاة ،بحثوا يف كل الشوارع دون أن يجدوا لها ،بالطبع ،أي أثر ،استمر التعلب يف غضبه ،حاول املدرسون تهدئته دون جدوى، اكتسب التعلب بسبب هذه الحادثة احرتام املدير ،االحرتام الذي سيخفف عنه العقاب حني قفشه أستاذ مجدي مدرس اللغة العربية، وهو يطلع مجموعة من الزمالء عىل إحدى املجالت اإلباحية التي كان يبيعها .مل يصدق أي مدرس قوله إنه يحاول تحسني لغته اإلنجليزية. التعلب أيضً ا كان عزوة الشلة ،يكفيهم يف أي خناقة أن يرصح أنه أخو األسطورة محمد متويل حتى تنتهي الخناقة قبل أن تبدأ ،وإن بدأت ،فهم متيقنون أنهم سيتمكنون من االنتقام برسعة ،هذا ما يعرفه كل تالميذ املدرسة .الجانب الذي مل يعرفه عن التعلب سوى أصدقاؤه املقربون كان ميوله الفنية ،ومل يعرف حتى أعضاء الشلة نفسها من أين اكتسبها أو تعلمها ،فوجئوا به مرة ،وهم يف بيته، يريهم لوحتني ،األدق رسمتني عىل ورق رسم طويل ورخيص ،بالقلم الرصاص ،إحداهام رسم لفارس يشبهه متا ًما ،عىل حصان أبيض ،ميسك بيده اليمنى مطواة ،وباليرسى يرفع رقبة فارس خصم يشبه مدير املدرسة .اللوحة األخرى تصور أمنية وهي تقف مستندة إىل بوابة طويل ج ًدا باملعايري املدينية، ً املدرسة بدالل ،تلبس فستانًا قص ًريا،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 44
يظهر قدميها ،وترتدي حجابًا يظهر بعض خصالت شعرها ،مع مبالغة كاريكاتورية ،ولكن يسهل تفسري منشأها ،ملنحنيات جسدها الناضج، وتدخن سيجارة ،فيام يقف التعلب يلعب باملطواة“ .لو أهلها عرفوا بالصورة دي ،هيقتلوك” ،أخربه حسني ،نصحه عبد الرحمن بتمزيق حال ،بينام كان رأي محمد أنه عىل األقل يجب أال يريها اللوحة ً ألي أحد غريهم تجنبًا ملا ال يحمد عقباه ،فأمنية ،يف النهاية ،كمحمد متويل ،إحدى أساطري املدرسة. 26 تكمن قوة مشاعرنا يف اإلعجاب اآلخرين ،سواء كانوا أصدقاء أو عشاق ،يف افرتاض ضمني بعدم تكراريتهم ،أو عىل األقل بعدم تكرارية ما نراه ممي ًزا بهم .رأى محمد زميلته أمنية يف أول يوم له يف مدرسة الثانوي ،بجواره رشيف القط أحد زمالئه “النسور” ،تريت وقميصا واس ًعا يجاهد ً حجابًا ال يسمح لشعرة واحدة منها بالظهور، يك ال يظهر فتنتها دون نجاح كبري ،وجيبة طويلة ،بها فتحة قصرية ج ًدا أعىل القدم لتسهل الحركة ،تحتها رشاب طويل ليقتل أي احتاملية ظهور لسابقها“ .فتحة دي ولال كتب كتاب” ،قال رشيف ألمنية ،مل تلتفت ،أعاد رشيف جملته ،فالتفتت وابتسمت ابتسامة مربكة .وصل إعجاب محمد برشيف يف هذه اللحظة إىل أعىل درجاته .يف الفسحة سيفقد رشيف إعجاب محمد لألبد حني يرى األخري أنور البحريي يقول نفس الجملة ألمنية وتبتسم له نفس االبتسامة ،انضم لالثنني محمد البحريي يف نهاية اليوم الدرايس ،حني قال نفس الجملة وفاز بنصيبه من االبتسامات .كام يعلم الكل اآلن ،مل تكن هذه االبتسامة تحمل وع ًدا أكي ًدا بالقرب. يف طابور اليوم التايل ،كان طالب الفصول كلها ينظرون للثالثة
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 45
نسور :أنور والبحريي والقط .أنور يده يف الجبس ،البحريي فقد سنتيه األماميتني ،وجه القط يحمل الصقة للجروح عىل ميني فمه ،أخذ ثالث غرز لتخييط الجرح .أما أمنية فقد ارتدت للمرة األوىل يف تاريخ مدرسة الثانوي املعارص بنطلونًا ضيقًا ،ومل يجرؤ أحد ،يف نفس اليوم، أن يفتح فمه بكلمة ،بل وارتعد كل من ملحته أمنية ينظر إليها. يف القرية الصغرية ،الكل يعلم شهرة عائلتها التي يكفي اسمها وحده للتدليل عليه“ :عائلة الحانويت” .أخو أمنية األكرب يف السجن منذ سنة كاملة ،أبوها صاحب املقهى الوحيد يف القرية وبطل جميع مالحم العائلة ،إخوتها الثالثة اآلخرين مسجلني خطر ،عمها تويف يف املعركة التاريخية بني العائلة وعائلة من القرية املجاورة ،إثر نزاع عىل ري األرض .الثالثة ،أنور والبحريي والقط ،كانوا يعلمون ذلك متا ًما قبل أن يندفعوا بحامقة ملعاكستها ،وحده رشيف الذي قرر عدم االستسالم بسهولة ،وبعد الفسحة حىك لزمالئه أن أمنية قالت له “ألف سالمة” ،هذه عالمة حنان أكيد .وبنفس الغباء ،قرر بعد املدرسة أن يذهب ويقف أمام بيتها ،ليختلس نظرة إليها وهي تنرش فعل ورآها ،ويف اليوم التايل ،كان الغسيل بشعرها ،نجحت خطته ً يقف يف الطابور فخو ًرا وهادئًا ،ويزين وجهه جرح جديد. 27 وقف عباس بن فرناس هادئًا أمام القايض ،وحوله الشهود له وعليه ،اتهمه خصومه بالشعوذة والسحر ،وبالطبع ،بالزندقة ،بسبب تجاربه التي يجريها يف بيته ،ورمبا بسبب عالقته املتينة بقرص الحاكم األموي عبد الرحمن بن هشام يف األندلس .من أصول أمازيغية ،مهتم بالفلك والطب والفلسفة والشعر ،أحرض القايض األمري األموي ليشهد بنا ًء عىل طلب بن فرناس .يوم مشهود ،ورمبا قال ابن فرناس لنفسه،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 46
بينام ينظر لخصومه :السحر والشعوذة؟ مل تروا شيئًا بعد. 28 رمبا يكون هناك يشء ملهم يف الفشل كام هناك إلهام للنجاح، مباذا فكر عامل اللغة العربية املعترب إسامعيل بن حامد الجوهري ،وهو بعد أكرث من مائة عام عىل وفاة عباس بن فرناس هناك يف األندلس، يصعد سطح داره يف نيسابور ببالد فارس ،يرتدى جناحني من الخشب، وينادي يف الناس :لقد صنعت ما مل أُسبق إليه وسأطري الساعة ،ثم قتيل؟ يسقط ً عىل األغلب نفس طريقة التفكري هي ما دفعت أنور والبحريي، بعدما رأيا جرح رشيف الجديد ،أن يقفا أمام بيت أمنية ليناال ما ناله. وبغض النظر عن أنهام مل ينال حظ رؤية شعر أمنية األسود الطويل، حسب وصف رشيف ،فإنهام ناال جرا ًحا جديدة ،وقفا فخورين بها يف الطابور ،ومن هنا بدأت وفود الطالب إىل بيت أمنية طيلة العام الدرايس .كل يوم ينضم طالب جديد ،بجرح يف وجهه أو يد مكسورة أو لكمة يف عينيه ،إىل زمرة الفاشلني الفخورين ،حتى أنه يف ذروة انتشار هذا الطقس ،أصبح ناد ًرا أن تجد طال ًبا دون جراح ظاهرة، وكلام ازدادت الجراح ،ازداد التفاف الطالب حول رشيف كأب روحي، وازداد سطوع أمنية يف املدرسة ،حتى قرر مدير املدرسة ،ذات يوم، أن يضع نهاية لهذه امللحمة. 29 يف املدرسة املشرتكة يف القرية الصغرية ،حيث ال مدرسة ثانوية أخرى ،وحيث كل شخص يعرف عائلة الشخص اآلخر ،فرض مدير املدرسة قبضته كحاكم حديدي ،حيث مغامرات املراهقة وعواطفها
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 47
تواجه بالعقاب الفوري .يحب الحديث الطويل ،حتى أن محمد ال يذكر اآلن أين بالضبط كان يجد مدير مدرسة ثانوية بقرية صغرية باألقاليم مواضيع كافية لخطبه التي تطول فتأكل الحصة األوىل ونصف الثانية يف أغلب األحيان ،وتلتهم الحصة الثالثة يف األوقات العصيبة ،مثل إعالنه نهاية ملحمة أمنية ،وتعليقه عىل فعلة التعلب، وقراراته الصارمة بعد معركة “وجبات التغذية” .يف تلك األيام، كانت “وجبة التغذية” التي توزع عىل التالميذ عبارة عن برتقالة ورغيفي خبز وقطعة حالوة طحينية وقطعتي جبنة مثلثات .عبد القادر التالوي ،طالب تالتة خامس ،كان من الطالب املسؤولني عن توزيع التغذية ،وانترشت أخبار أنه يحجب قطع الحلوى الطحينية لصالح فصله .انتفض محمد عبد الحميد ،من طالب تالتة سابع عىل ذلك ،واشتبك مع عبد القادر ،ثم اتفق االثنان أن يؤجال اشتباكهام، كالرجال ،إىل نهاية اليوم الدرايس ،ويتقابال يف ملعب البلدة الكبري. انترش الخرب ،تضامن فصل كل منهام مع زميله ،وجذب كل فصل، بعالقاته املختلفة ،بعض الفصول األخرى إىل صفه .وحني رن جرس املدرسة إيذانًا بالخروج ،خرجت غالبية الطالب ،وال ًدا وبنات ًا ،من جميع الصفوف إىل امللعب ليشهدوا الحدث .يف البداية كان الظن أن املعركة ستكون بني الطالبني ويكتفي البقية بالتشجيع ،لكن وجود البنات فاقم من هرمونات الوالد ،فقرر كل شخص قادر عىل املعركة أن يختار أحد األطراف .بنزعته البطولية والفروسية تزعم حسني، رغم أنه يصغر كال املتعاركني بسنة كاملة ،جانب أنصار محمد عبد الحميد ،وبشكل تلقايئ انضم إليه التعلب والقط ومحمد الذي كان له سبب إضايف الختيار صف عبد الحميد ،بينام كان عىل رأس أنصار عبد القادر التالوي واحد من القالئل الذين شهدوا موقعة الكوبري
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 48
وبطل معركة املطاوي املفتوحة ،حامده الغول .وقفت البنات عىل جوانب امللعب ،الذي مل يكن أكرث من قطعة أرض ترابية واسعة، واصطف الطرفان كأنهم يف إحدى املعارك القدمية ،دون سيوف وخيول ،وباتفاق جامعي صامت دون مطاوي أو أحزمة .مل يعلم أحد طقوس بدء املعركة ،كيف سيشتبك الحشدان م ًعا ،ولذا تفاوض وفد بقيادة عبد الحميد وحسني مع وفد بقيادة عبد القادر وحامده ،عىل ولكل اختيار قواعد االشتباك :رجل لرجل ،ال يشتبك اثنان ضد واحدٍّ ، غرميه يف املعركة .أما االستسالم فبسيط ،كل من يريد االستسالم عليه أن يقول أنا خرست .اقرتحوا يف البداية أنه لو انترص جيش عبد القادر يكون له كل الحلوى الطحينية والربتقال طيلة الفصل الدرايس ،ولو انترص جيش عبد الحميد يكون له ذلك .وبعدما رشح لهم حسني استحالة تطبيق ذلك ،أصبح االتفاق أن انتصار جيش عبد القادر يعني بقاء الوضع كام هو عليه بزيادة الربتقال لفصله فقط ،وخصم الربتقال من فصل عبد الحميد ،ولو حدث العكس يحرم جيش عبد القادر من االثنني .وملزيد من الشفافية والنزاهة ،اختار الطرفان حكمني ليكونا شاهدين عىل االنسحابات وتطبيق القواعد :أحمد الفار ،تالتة أول، ومحمود األشول ،تانية سابع .وحني تدخلت إميان باقرتاح أنها يجب أن تكون الحكم ،كتم الجميع ضحكاتهم. 30 يسري اإلنسان وهو يالحق مئات الحبال يف يده ،حبال الصداقة، حبل يجذبه والحب ،األهل ،العمل ،الطموح ،املغامرة .يف طريقه يجد ً بعي ًدا عن بقية الحبال ،فيكون عليه االختيار .ليس من السهولة أن حبل يفلت من يدك وأنت تالحقه سنني طويلة ،ماذا ستفعل بكل ترتك ً هذا الطريق الذي قطعته إذن؟ تلك الفكرة تجعل البعض ميسكون
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 49
حبل ال يريدونه ملجرد أنهم أطالوا إمساكه ،البعض ينىس كل بقوتهم ً ذلك الطريق كأنه مل يكن ويرتك الحبل ،البعض ،متفلسفًا ،يقول إنه لوال مالحقته للحبل من البداية مل يكن ليصل إىل ما وصل إليه .وال يعفيه ذلك من نغزة الحنني. 31 تبدو صداقات محمد القريبة له كأنها سباق تتابع ،كل صديق مقرب ،وقبل أن ينسحب ويرتك الحبل ،يسلمه لشخص آخر .هكذا أعطى حسني الحبل لغانم. مل يكن غانم شخصية قيادية كحسني ،وبدا عىل الداوم ملن ال يعرفه كشخص تقليدي متا ًما ،لكن هذه التقليدية الظاهرية نفسها كانت متده بالثقة يف العامل ،بأنه يعرف قوانينه ،وعازم عىل قبولها، كل يشء مفهوم .وعىل عكس حسني الذي يواجه الدنيا بشجاعته وجاذبيته الشخصية ،أو التعلب الذي يواجه املآزق بخياله الواسع، كان غانم يواجه املشاكل عىل أرض الواقع ألنه يعرف دو ًما حلها شخصا آخر من املمكن أنالحقيقي ،ولو مل يعرف الحل ،فهو يعرف ً يعرفه .ثباته عىل أرض الواقع هو ما أعطاه الهدوء الكايف ليقرتح عىل محمد أن يذهب معه لخطبة سهر ،بعدما رفض والد محمد الذهاب قائل له يف ضجر “متصغرنيش معاك يف لعب العيال دا”. ً لبس كالهام بدلة كاملة بربطات عنق أنيقة ،تعطرا ،حمل محمد باقة الورد من املحل التي جاء بها غانم يف عربته من القاهرة ،ومعها علبة الشيكوالتة التي حملها هو ،ودون أن يحصال عىل موعد مسبق. يف الحقيقة ،أخرب محمد سهر أنه سيأيت يف هذا املوعد ،ولكن أباها رفض أن يلتقي مبحمد دون أبيه ،ويجدر هنا التذكري بأن غانم صحيح
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 50
واع بأهمية األعراف االجتامعية ،إال أنه أيضً ا شاب تسوقه حامسته أحيانًا .طرقا باب بيت سهر ،فتحت لهام أختها سهري دون حجاب، تعرف محمد جي ًدا ،وتعرف ملاذا جاء ،جرت رسي ًعا إىل الداخل لتضع حجابها وهي تقول بصوت عال “بابا ،بابا” .دخال ،وفتح كل منهام أزرار البدلة ،دخل الحاج أحمد ،بقامته الفارعة وجسده الضخم ،يف مالبس الضيق ،سلم عليهام يف امتعاض ،ثم ألقى بجسده عىل الكنبة بقوة كأنه يعاقبها .للمرة الثانية خالل عامني فقط يجد نفسه يجلس نفس الجلسة بنفس الغضب ،ودون أن يخفف من حدة نظرته املحتقرة ملحمد ،قال “خري” .يف هذه اللحظة ،وبينام يهم محمد بالكالم ،أدرك غانم الخطأ الذي وقعا فيه ،لكنه مل يدرك مدى فداحته .وقع الرتبو، دون مبالغة ،من الضحك حني أخربوه عام حدث. 32 ملاذا يسمى محمود حامد بالرتبو؟ ال يعلم أحد ،تعامل معها الجميع كحقيقة ،لعلها شهرة اكتسبها من قريته ثم أىت بها مفتخ ًرا. من هؤالء الذين تعج الجامعات بهم وقد صمموا مسبقًا أن يخوضوا كل مغامرات حياتهم خالل هذه الفرتة ،ورمبا ألنه شديد الذكاء ،أو شديد الغباء حسب معيار الحكم ،فقد أحاط نفسه مبجموعة من العقالنيني الذين يحسبون حساباتهم كاملة قبل اإلقدام عىل أي يشء. شديد الذكاء إن اعتربنا انه إذن وضع نظا ًما لألمان يكبت نزعته املغامرة فال يهلك نفسه ،ويف نفس الوقت يجعله خوفهم يحظى بسهولة بلقب مغامر الشلة .شديد الغباء ،ألنه بهذه الطريقة لن تكون حياته الجامعية مغامرة بالدرجة التي يتمناها. بدأ مبغامرات بسيطة ،يتغيب عن املحارضة مثل أن يتسلل لغرفة الدكتور ويكتب اسمه يف الحضور ،ثم خطا خطوة أخرى أهم ،حني
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 51
كان أول من بادر منهم للحديث مع البنات .وتحدي ًدا ،ألن الحياة دو ًما لها منطقها الخاص ،كانت أول من تحدث معها مروة ،ثم بفضل اجتامعية املرحة أصبحت شلتهم ،وهو أمر نادر الحدوث يف املجموعات التي تبدأ عضويتها بذكور فقط ،متساوية جندريًا ،محمد وغانم والرتبو ،ومروة وعبري وأماين ،قبل أن ينضم إليهم الرتوليل لريجح كفة الذكور حتى حني .محمد يف مرحلة النقاهة من سهر، وجامل ،من أن ميتلك أي من محمد وغانم والرتبو ً أماين أكرث حدة، الشجاعة لطلب مواعدتها ،من الفتيات الاليت تدرك من النظرة األوىل أن جميع الدفعة ستقع يف حبها ،وال أمنية يف زمانها ،وأن عرشات الشعراء متوسطي املوهبة سيسكبون كل موهبتهم يف كتابة القصائد لها ،قبل أن يكتشفوا محدودية موهبتهم وتقذفهم الحياة لدروب أكرث منطقية من الشعر .ورمبا من حقيقة أنه كُتب عليها أن تحرتف الرفض بسبب كمية طالبي القرب منها ،اكتسبت أماين حدتها القاسية. ميكنك بسهولة ،ببعض البصرية والتجربة ،أن ترى املستقبل ،الشاب املرشق الواثق يف نفسه الذي يتقدم إىل أماين بعد أن وضع خطته، ستتكرس أحالمه بعد أقل من أربع دقائق .املعيد الذي يدللها ،تعلم أنه سيعرض عليها الزواج بعد أقل من شهر ،وسرتفضه .حتى الرتوليل، ملك الكوميديا ،ستسقط قفشاته رصيعة عىل األرض ،قبل أن يستسلم للحقيقة ويقرر االنضامم للشلة كأحد أفرادها ،وليس كحبيب ألماين. كانت “أماين” جوهرة الشلة ،امتيازهم ،مكمن شعورهم الجامعي بالتفوق عىل بقية زمالئهم ،رسولتهم للتفاوض مع الدكاترة لتخفيف االمتحانات ،برهانهم الساطع يف وجه من يقلل من جامل بنات هندسة ،تدريبهم األقىس عىل لجم هرموناتهم ،واألهم طب ًعا من كل ذلك ،بوابتهم الواسعة لعامل املغامرات.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 52
33 سيذكر محمد بعد سنوات طويلة ،وبينام يتلقى اللكامت يف وجهه وجسده ،ويسمع طرقعة الكرايس املتكرسة ،يف مدينة ساحلية ،وحوله ترصخ غادة وندى ،أماين بالذات .حني ظهر املنياوي ،بهدوء وثقة وحوله اثنان ال يعرف أيًا منهام ،وأمسك برقبة من يرضب محمد ،ودون أي ملحة غضب أو تردد ،طلب منه بطاقته ،ثم طلب بطاقات الجميع مبا فيهم محمد .ظل مرافقاه صامتني ال يتحركان إال حني يأمرهام بجمع البطاقات .حدست ندى وغادة نوعية املرسحية التي يؤديها فصمتتا ،أحرض له أحد مرافقيه كرس ًيا ليجلس ،أخذ يلعب بالبطاقات يف يده ويتحدث يف الهاتف إىل شخص ما ،ميليه بيانات البطاقات. أنزل الهاتف عن أذنه وسأل محمد عن سبب املعركة ،أخربه ،طلب هاتف املتعارك اآلخر الذي يحمل الصور ،تصفح الصور ،ثم قال كأنه يحدث نفسه ،جناية انتهاك خصوصية ورشوع يف قتل وترويع اآلمنني. ارتبك املتعارك ،وأخربه أنه مجرد سوء تفاهم .تجاهله املنياوي وقال للشخص اآلخر عىل الهاتف “ال دا موضوع كبري يا باشا ،ابعتيل عربيتني حالً ” .ترجاه املتعاركون أن يلم املوضوع ،رفض ،وبشجاعة مكتسبة اندمجت غادة وندى يف املرسحية وطالبتا املنياوي بعدم العفو عن أحد .وبعد جدال طويل من الجميع أخربهم املنياوي ،وهو ما زال محتفظًا بهواتفهم ،باالنرصاف اآلن بعد أن يقدموا اعتذارهم لغادة ومحمد ،ففعلوا ذلك“ .التليفون دا دليل دلوقتي ،مقدرش أرجعه ليكو ،هحاول أمل املوضوع ،لكن عامة بياناتكم معايا ،ممكن تالقوين فعل، طالب منكم الحضور عندي يف خالل اليومني الجايني” ،انرصفوا ً وحني زال كل أثر ألشباحهم من الطريق ،قام من الكريس ،وقدم مرافقيه ألصدقائه الثالثة“ ،دكتور أحمد قاسم ،ودكتور إسامعيل
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 53
صبحي ،عيون أعيان فرقة مرسح طب القرص العيني” .ابتسم محمد، وفكر أن التعلب كان سيفرح مبشاهدة هذه املرسحية وستكون له العديد من التدخالت الدرامية لتحسينها ،سببت له هذه الفكرة كآبة لحظية. 34 تجاوز الوقت الحصة الثالثة واملدير مستمر يف كلمته ،التالميذ جلسوا عىل األرض مفرتشني كتبهم يف وجوم ،والتعلب غري موجود ليضحكهم بتعليقاته رغم أن الحديث كله يدور حوله .نهر ساكن من الطلبة ،كالنهر الذي علمهم فيه التعلب العوم .بعي ًدا عن املدرسة ،وسط األرايض الزراعية تسللوا بقيادته ،ثم خلعوا مالبسهم، ونزلوا .يذكر محمد شكل أشجار املوز املحيطة مبكان نزولهم ،ومرأى السيارات عىل الكوبري البعيد .حىك لهم التعلب أنه يجيء هنا كث ًريا وحده ويستمتع بالعوم ،حىك البعض عن أسطورة النداهة الجميلة التي تسكن يف النهر ،كتم الجميع خوفهم واستمروا يف املجيء والعوم ،ورسقة “أسبطة املوز” من األرض املجاورة .املوز ما زال أخرض صل ًبا ،لكن التعلب يقول ،وهو يقطع إحدى السباطات ،إنه يستمر يف النضج يف البيت .مل يجرب محمد ذلك ،وال يزال حتى اآلن غري متأكد من املعلومة ،وحتى لو علم بعدم صحتها ،كيف يخرب التعلب الجالس هناك يف الحياة األخرى ،بخطئه؟ مغامرته األخرية مل تجد من يحك عنها ،كان وحي ًدا“ ،وندهته النداهة”. اقرتبت الفسحة واملدير مستمر يف عظته عن املوت والحياة، خالصة فلسفته يلقيها إىل الطلبة الواجمني الحزاين ،أصوات بكاء الطالبات الواضحة حفزت بكاء الطلبة ،وشجعهم بكاء حسني عىل عدم كبت دموعهم ،حتى عبد القادر التالوي بىك.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 54
35 مع كل من حسني ومحمد ،وقع عبد القادر يف حب سهر .زُهد األول الغريب الذي جعله يعرتف لسهر بحب محمد لها دون أن يعرتف بحبه هو ،أخرجه من املنافسة .بقي عبد القادر ،الضخم محب املعارك الذي تتعجب للوهلة األوىل ،كيف ميكن لهذا اإلنسان أن يسقط فريسة للحب بسهولة ،ويف حب من؟ ليست أمنية األنثى األسطورية ،وال مها املقتحمة سليطة اللسان ،التي حىك لهم التعلب مرة أنه قبلها مستحلفًا إياهم بعدم إخبار أي أحد ،وال إميان النسوية التائهة يف األرياف ،بل سهر الوديعة الهادئة. علم محمد بحب عبد القادر يف الوقت نفسه الذي علمت فيه سهر ،وهو الوقت نفسه الذي علمت فيه املدرسة كلها ،إذ أنه أعلن عن حبه ،مختطفًا امليكروفون من يد رئيس اإلذاعة املدرسية ،أحمد جودت“ ،أنا بحبك يا سهر” .توترت األجواء لوهلة ثم علت الضحكات، بكت سهر ،وفصل عبد القادر أسبوعني من املدرسة ،ظل خاللهام ينتظرها كل يوم خارج املدرسة ،صامتًا كوحش مهزوم .بعدها بشهر سيذهب بصحبته والده لخطبتها ،لينهزما م ًعا .تغيب بعدها أسبو ًعا عن املدرسة ،ثم عاد .السايرب الجديد ،األول يف القرية ،كنس مأساته العاطفية من طاولة األحداث املهمة يف املدرسة. 36 هناك لحظات مفصلية يف الحياة تدرك فيها أنها لن تعود كام كانت قبلها ،افتتاح السايرب كان إحدى هذه اللحظات بالنسبة للمدرسة. ميتلك القليلون يف القرية جهاز كمبيوتر ،عدد أقل يستخدمون هاتفهم املنزيل لالتصال باإلنرتنت ،أقل منهم من يتصفحونه بحرية للبحث عام
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 55
يريد كل املراهقني البحث عنه .السايرب كان ثورة املحرومني .ميتلك السايرب األستاذ محمد الفار ،والد أحمد الفار ،تالتة أول ،يجلس عىل أحد الكومبيوترات يراقب ما يفتحه كل مراهق تسوقه هرموناته ،ثم يطرده فو ًرا من السايرب إن حاول الوصول إىل ما يريد .يتبادل معه الجلوس يف السايرب ومراقبة املراهقني أخوه محمود الفار .هذا النظام الصارم للمراقبة والتوجيه وحفظ األخالق كان به ثغرة واحدة ،حني يذهب أستاذ محمد الفار لعمله اإلداري يف إحدى القرى املجاورة مرتني يف األسبوع ،ويكون أخوه محمود ال يزال يف عمله أيضً ا ،هنا يتألق أحمد الفار ورشيف القط ،مصادفة لغوية ليست مقصودة. يومي االثنني واألربعاء يتسلل عرشات الطلبة من املدرسة بعد الفسحة للذهاب إىل السايرب بقيادة الفار ،أمامهم ساعات قليلة قبل وصول الفار الكبري .القط ،الذي يدخل عىل اإلنرتنت من منزله، يوجه الطلبة للمواقع املرغوبة ،يتحلق كل ستة أو سبعة حول جهاز واحد .مرة واحدة حدث أن تعطلت جميع الكومبيوترات ما عدا شخصا حول جهاز واحد،واحد فقط ،فتحلق الجميع أكرث من أربعني ً يحاول كلهم مشاهدة ما يحدث ،حتى أن أحد الواقفني بالخلف كان يرصخ عال ًيا “هو فيه إيه تحت الحصان ،أنا مش شايف” ،فيتربع القط بقص ما يحدث بصوت عال .استمرت هذه الثغرة مدة شهر ونصف كاملني ،حتى قفشهم يف مرة أستاذ محمد الفار ،الذي عاد مبك ًرا من عمله ليشهد الفضيحة :مراهقون كرث متحلقني حول كل جهاز ،ابنه جالس أمام جهاز وحده يشاهد ما يشاهدون .وقف أحمد الفار جام ًدا يف مكانه ،حاول الجميع إغالق ما يشاهدونه والتظاهر مبشاهدة شخص آخر ،رشيف القط فصل الكهرباء عن جهازه ،وكذلك فعل حسني ومحمد .لوهلة بدا للجميع أن األمور ميكن حلها ،قبل أن
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 56
يدخل عليهم املدير بنفسه يف السايرب ،معه ثالثة مدرسني آخرين .مل تكن عودة أستاذ محمد الفار إذن محض صدفة .مثل لحظة افتتاح السايرب ،كانت لحظة دخول املدير لحظة لن تعود األشياء ملا قبلها أب ًدا ،ومثلهام لحظة دخول الرتبو إىل السياسة. 37 تخطئ األحكام املسبقة كث ًريا ،هي مخزون الحكمة الشعبية التي قد يهدر الزمن بصريتها ،لكنها تصيب كث ًريا أيضً ا .التحق غانم ومحمد بتخصص هندسة مدنية ،غانم ليعمل برشكة أبيه ،ومحمد ألن مجموعه يف السنة اإلعدادية يف الكلية مل يرتك أمامه خيارات كثرية .الرتبو ،مبصادفة لغوية أخرى ،التحق بقسم امليكانيكا ،الرتوليل بقسم االتصاالت ،أماين ،كام قد يتوقع أي أحد يعرف تقسيامت كلية الهندسة الجندرية ،قسم العامرة ،بعد فشل غانم ومحمد يف استاملتها لقسم املدين ،محاججني بأن القسمني متشابهني وليكونوا مع بعضهم البعض“ ،ال أنا مش هقف تحت الشمس ويف املواقع”. هكذا ،ورغم ثبات شلتهم األصلية ،تفرعت شلل أخرى من كل قسم. غانم ومحمد ضام إليهام بعض املحمدات اآلخرين ،محمد محسن ومحمد بحار ،أماين ضمت إليها أحمد فرشة ،والفرشة اسم شهرته، وكذلك هدى وماجدة ،واألكرث أهمية للمستقبل :سمر .الرتبو انضم إىل الشاكوش ومسامر ،وهام اسام شهرة يف مصادفة لغوية ثالثة. حاول الرتوليل محاولة جدية أن يغري االسمني ليكونا املطرقة واملنجل، ألنهام أيضً ا أعضاء يف املجموعة اليسارية يف الكلية .وأخ ًريا ،وليس آخ ًرا ،انضم الرتوليل إىل حسام مدحت ،الذي يطلب من الجميع أن ينادوه بالباشمهندس حسام ويناديه الرتوليل دو ًما بالدكتور ،وسلوى كامل “سلوىغربية ،أو كام يناديها الرتوليل وهو ينكز الرتبو ،باسمها ً
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 57
مؤامرة غربية” ،الذي تم اختصاره بالوقت إىل مؤامرة غربية ،املؤامرة الغربية الوحيدة التي سيسقط الرتبو يف فخها. 38 يف الجامعة ،وجد محمد نفسه يف الغابة للمرة األوىل ،وحي ًدا مندهشً ا ،سيحاول بعدها أن يتذكر لحظات من طفولته تشبه وجوده يف الغابة ،لكن إحساسه الحاسم بها كان يف الجامعة .بعد انقطاع حبله مع سهر ،ظل يف غرفته أكرث من أسبوعني ال يخرج منها ،حتى أن والده ابتلع شامتته يف الفشل املتوقع الذي حذره منه لهذه القصة وحاول مواساة ابنه“ ،البنات كترية ،والحياة لسه قدامك واسعة، وهتكرب وهتفتكر القصة دي وتضحك” .يعلم محمد صحة كالم والده، لكن الغابة ال تهتز لقوة املنطق ،وال تختفي مبجرد إثبات وجودها يف املكان الخطأ .توفر الغابة تربة خصبة لنمو متسارع ومدهش لنباتات فكرية صغرية .املواقف املربكة يف الحياة االجتامعية ،التي متوت نبتتها يف اإلنسان بعد أقل من ساعة ،تصري شجرة كبرية تثمر أفكا ًرا عن الفشل االجتامعي وعدم القدرة عىل معارشة الناس والبقاء وحي ًدا لألبد ،درجات سيئة يف امتحان غري مهم تصري أفكا ًرا عن الفشل الدرايس ،وعدم القدر عىل إكامل التعليم ،واملستقبل املهني املظلم، انقطاع حبل سهر يصري عالمة مؤكدة عىل الحظ السيئ يف الحياة بديل له منطقه الخاص،وانعدام األمل يف أي شئ .تخلق الغابة عامل ًا ً الذي يبدو للمحارص داخلها بأنه املنطق السليم الوحيد ،وأن من هم خارج الغابة ال يرون األمور عىل حقيقتها كام يراها هو ،وكلام رصا داخلها فرتة أطول ،تغذت عىل أفكاره وتوسعت أكرث ظل محا ً واستطالت أشجارها. أخته ،رضوى ،بذكاء الفتيات الصغريات ترسد عيوب سهر ،أمه
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 58
تخربه كل ساعة بفتاة جديدة أجمل ميكنه خطبتها ،أبوه يقول له أن ينزل مع أصحابه يفعل شيئًا ما دام ال يريد الذهاب للجامعة ،أصدقاؤه يتصلون به كل يوم مقرتحني دو ًما مغامرة جديدة .لكن الغريب يف الغابة أن املرء يحتاج لكثري من الفكر واملجهود ليسمع كل هذه األًصوات ،وليعرث عىل امتدادات حبالها ليتمكن من مراوغة محارصته، ليتمكن من إنبات زهرة ما يف قلبه تحثه عىل املقاومة ،زهرة ال تنبت يف الغابة بسهولة ،وتحتاج لتجميع كل قوتك لجعلها تكرب ،وحني تكرب، ستساعدك عىل محاربة الغابة ،وتضع يف يدك أطراف الحبال التي ستخرجك منها ،وهي عملية سيضطر محمد لخوضها كث ًريا يف حياته. 39 يف البداية ،تبدو لنا حبال حياتنا القليلة ج ًدا متامسكة ممتدة، ميكننا الحدس بنهايتها ،ثم تكرث وتتشابك بعضها ببعض .يوهن الزمن بعضها ،ويقطع البعض اآلخر ،حتى أننا يف لحظة ما قد نكتشف أن أغلب الحبال التي منسكها جديدة ،ويف كل مرة نكتشف فيها ذلك، نقع يف نفس الخطأ ،ونعتقد أننا سنالحق الحبال الجديدة لألبد، فينقطع بعضها ومنسك بحبال جديدة أخرى .يضعف حبل حسني وعبد الحميد ،وتختفي حبال القط والفار وعرفة وسهر وأمين وإميان وأمنية وحكيم والفخراين ،يظهر حبل غانم والرتبو والرتوليل وأماين ومحسن وبحار ،ينقطع أغلبها ليفسح مكانًا يف قبضة اليد ملحمد طه وندا ومحمود وعمرو وإسامعيل وعبد الرحمن ومينى ،ثم تنقطع هي األخرى فيمسك محمد بحبال صفوت ومها وصالح وآدم وسهري ودينا ،وتنفلت ،لتظهر غادة وندى وحربية وأسامة واالسطى ويحيى ومنري ورقية وجامل ورشبيني ويارس ودعاء وإبراهيم وعالء وصبحي ومنصور وأنور وبالل وعادل وإرساء .بعض الحبال تشدنا إليها بأقىص
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 59
قوة لحظة انقطاعها ،قرب حميمي ،كاحتضان أخري ،ال تحتمله .بعضها يترسب من األيدي روي ًدا روي ًدا ،حتى أننا نأخذ وقتًا يك ندرك انفالته، ورمبا هذا ما يجعل اللقاءات املفاجئة مبن أفلتت حبالهم من أيدينا مربكة ،تحتضن أحدهم بود حقيقي وتتعاهدان عىل اللقاء مجد ًدا، مدركني متا ًما أن هذا اللقاء لن يحدث ،فلم يعد هناك حبل يربطكام. بعض الحبال ينفلت بقوة فجأة فيجرح أيدينا ،التعلب ودينا والرتوليل فعل؟ وأماين ،أين أماين ً 40 رأى محمد أماين آخر مرة يف فرح غانم وسمر ،مل يتوقع أي منهم قليل املؤامرة حضورها .جلس ثالثتهم ومعهم الرتبو متحفزين ،ألهتهم ً الغربية وهي تشعل القاعة برقص شديد الرباعة والحسية املوترة للحضور ،ما شجع شلة ميكانيكا ،الرتبو وشاكوش ومسامر ،الذين انضم إليهم مبرور الوقت يف الكلية حديدي والعتال ،عىل أداء وصلة رقص شعبية قرروا يف منتصفها أن يحرضوا غانم إليهم ويلقوه يف الهواء عدة مرات ،انضم إليهم بحار ثم محمد ومحسن ومعاذ واثنان من إخوة غانم ،محمود ومصطفى ،ثم انضمت دينا إىل املؤامرة الغربية، ثم ماجدة ،وأخ ًريا ،وبعد طول انتظار ،أماين .بدأت رقصتها متحفظة نتيجة للتحفز املتبادل ،ثم قررت وجذبت سمر ،وإمعانًا يف محاولة كرس التحفز ،خلعت الطبقة األوىل من حجابها وتحزمت بها ،ودخلت يف منافسة حامية مع املؤامرة الغربية ،ما أجرب كل الذكور عىل التوقف عن الرقص وبدء التشجيع .امتلكت املؤامرة الغريبة الجرأة واملبادرة والحسية ،ورمبا لوال معزتها الشديدة العتربناها حسية فجة أكرث مام يحتمل سياق الفرح ،لكن أماين ،كعادتها ،امتلكت الجامل والهدوء واإلغراء القاتل الناتج عن مترس طويل يف الرفض.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 60
شجع محمد وغانم ومحسن والرتبو وبحار ،بالطبع ،املؤامرة الغربية يف انفالتها ،بينام شجع أغلبية الحضور ،غري املدركني لتعقيدات املوقف ،أماين وساحريتها .محمد مصطفى ،الشهري مبحمد نظرية ،الوحيد ممن يدركون تعقيدات األمور ،شجع أماين .كعادته تحمس أكرث من الالزم ،ودخل يف املنافسة مجر ًدا عن أي يشء يؤهله لذلك ،لكنه ،كالكثريين ،كان قد وقع يف غرام أماين التي يراها للمرة األوىل ،وكالكثريين ،كان مستع ًدا لإليغال يف الحامقة أكرث من ذلك لنيل إعجابها. 41 محمد طه ،كان من أواخر من انضموا للشلة يف ومضتها األخرية قبل االنهيار ،اشتهر مبحمد نظرية ،كام حىك لهم ،منذ الثانوي ،يف أحد أكرث املدارس الثانوية شعبية وشهرة يف القاهرة ،كان زمالئه ،مدفوعني بالصعود الدرامي ،للسلفية وقتها ،يناقشون خطر الشيعة والشيوعية، حاول أن يرشح لهم أن الشيعة والشيوعية شيئان مختلفان ،الشيعة مذهب ديني إسالمي ،بينام الشيوعية نظرية أيدلوجية يف السياسة واالقتصاد ،فأسموه محمد نظرية .مات اسم شهرته متا ًما حتى ،تعرف عىل شلتهم يف السنة الرابعة من الجامعة ،وحىك لهم هذه القصة، فتم إعادة إحياء االسم ،أصبح مرة أخرى ،محمد نظرية. نظرية كان من األشخاص املفضوحني يف ذوقهم الشخيص للجامل، فالحب ،رغم أنه يبدو أحيانًا معق ًدا ج ًدا ،يبدو يف حاالت أخرى بسيطًا ومتوق ًعا أكرث من الالزم ،ينجذب نظرية بوضوح للبنات رقيقات الجامل ،الاليت يصلحن ،مبعايري ظاهرية ،ليكن بطالت قصص الحب العذري .مشكلة هذه املعايري ،أنها ظاهرية فقط ،وبالتايل كان يفاجئ يف كل مرة ،بحقيقة أنها مثلام تخفي غلظة عبد القادر التالوي رقة
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 61
قلبه ،فأحيانًا يخبئ الجامل الهادئ ،كجامل أماين ،خلفه صخب قلب ال ميكن مجاراته .ولذلك يف فرح غانم ،ومبجرد أن رأى محمد ،حامسة نظرية ،يف الرقص ،لنيل اإلعجاب ،أدرك أن مأساة عاطفية جديدة يف إطار التكون. 42 بعض العوامل يف بدايتها تكون ساحرة ج ًدا وتعدك بأنها أبدية ،لكنها رسعان من تنتهي ،يجيد بعض الناس التعرف عىل بدايات العوامل، يستفيدون منها ،وعندما يلمحون بداية أفولها ،تكون لهم القدرة عىل ملح بدايات عامل جديد آخر ،فريحلون لهم ،ليتمتعوا ببداياته ،البعض اآلخر ،يعميه شغفه بالعامل عن مالحظة أفوله ،فيستمر فيه فرتة أطول ال تسمح له باالنتقال لعامل بادئ ثان ،بل يلحقه متأخ ًرا يف منتصفه، بعد أن ذهبت كل خرياته ملقتحميه األوائل ،فيحاول االستثامر فيه بكل قوته ،وال يدرك أنه هذا العامل هو اآلخر سيبدأ يف األفول قريبًا. النموذجني هذين من األشخاص هم مناذج مثالية ،أما أغلب الناس فيجمعون الصفتني م ًعا يف الغالب ،يكتشفون عامل ًا بدايته ،ينعمون كامل فيه ،وال يرون أفوله،بخرياته ،لكنهم يسثتمرون وجودهم ً فيتحولون تدريجيًا من مكتشفني أذكياء إىل أشباح عامل انتهى ،البعض ينتقل لكل عامل يف بدايته دون أن يتمتع ،من كرثة تنقله بني العوامل، بخريات أي عامل ،محمد بحار ،للصدفة اللغوية ،كان من هؤالء الناس. عندما انضم للمرة األوىل ،ملحمد وغانم ،يف السنة الثانية من الكلية ،كان منتم ًيا ألحد جامعات العمل الخريي التابعة ألحد الدعاة الشباب ،يف السنة الثالثة ،انضم ألحد جامعات اإلسالم السيايس، يف السنة الرابعة ،وعندما بدا أن السلفية يف طريقها لهزمية اإلسالم السيايس انضم إليهم ،أطال لحيته وقرص بنطلونه لكنه مل ينقطع عن
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 62
لقاءاتهم املختلطة ،وإن كان يرفض حينها السالم باليد عىل البنات، وأخ ًريا يف السنة الخامسة ،حيث فرح غانم وسمر ،كان قد انضم للرتبو وشاكوس ومسامر يف جامعتهم اليسارية ،لكن بسبب توتره الفكري هذا نفسه ،كان صديقًا ألغلب طالب الكلية ،بكل صفوفهم ،مل يكن يف أي من تقلباته متعجرفًا ،محتفظًا بشخصية هادئة ،وحس ساخر، جعله واعيًا بغرابة ما يفعله ،ويستخدمه كمصدر للنكت ،قاط ًعا الطريق عىل أي شخص آخر يريد فعل ذلك ،واملهم أنه يف كل تقلباته تلك ،كان مغر ًما باملؤامرة الغربية ،التي هي نفسها ،كانت مغرمة بتقلباته ،دون أن تتقلب معه ،ال أعتقد أنه ميكن اعتبار عالقتهام عالقة صداقة ،أو صحوبية ،أو حب ،هي يشء آخر ،أحدهام يدور يف كل مكان ،ويحتاج أن يظل يشء يف حياته ثابتًا كتأكيد لهويته ،وهي دليل عىل حياة بعيدة صاخبة ،تشعرها تجد يف حكاياته وتنقالته ً بالدفء وبإمكانية أن يتغري عاملها يف يوم ما ،تقبالتها قصرية ،ورمبا لن تتذكر من سنوات الكلية كلها ،سوى بحار والرتبو. 43 بعض الحبال حني تنفلت منا ،ينفلت معها منطقية وجودها يف سريتنا .كأنها حدثت لشخص آخر نحمل ذكرياته ،بعضها اآلخر يظل يف أيدينا دو ًما لكنه مؤمل وضاغط ،حتى أننا نفضل التظاهر بأنه ال يحدث ،لتقليل الرتاجيديا بينام نقص حكاياتنا ،رغم أن هذه الحبال تحدي ًدا ،هي ،بالذات ،من ميكنها تفسري ملاذا رصنا نحن .رمبا نخاف من التعري أمام اآلخرين ،هكذا دون حامية من حكايات طويلة ،قد تكون حقيقية ،لكنها هامشية يف سريتنا ،الحياة واسعة ،وبقدرة كل منا ،أن يكتب سريته يف رواية شديدة الطول ،وميحو منها بشكل كامل، ما هو أكرث جوهرية ،كأنه يكتب سريته هذه تحدي ًدا ليخفيها متا ًما.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 63
الرتوليل كان كوميديان الشلة ،أرسعهم بديهة يف التقاط املفارقات ميل لتحويل كل يشء إىل أضحوكة ،حتى أنه عندما واإلفيهات ،أكرثهم ً رأى الرتبو ،ألول مرة وهو يسري يف مظاهرة يف الجامعة مع اليساريني، هتف بصوت عايل“ ،يحيا الرفيق ستالني ،وكل الرفاق أجمعني” ،مل يهتف قليل يف وراءه أحد ألنها كانت مظاهرة لفلسطني .أحيانًا كان يتجاوز ً مثل يف أحد معارض الرتبو يف الجامعة للتعريف بتاريخ قادة سخريتهً ، الحركة االشرتاكية التاريخيني ،ويف غفلة من الرتبو وشاكوش ومسامر، وضع الرتوليل صورة له باألبيض واألسود وسط صور القادة ،وتحت الصورة تعليق قصري “ترولليفسيك :صاحب نظرية الثورة النامئة”، مرت هذه املشاغبات لصداقته الوطيدة مع الرتبو ،وألنها مل تكن عدوانية ،كان ذك ًيا ،وبالتايل ابتعد متا ًما عن أي مشاغبة مع اإلسالميني، “مالهمش يف اإلفيه” حسب قوله ،مل يكن اليساريني أصحاب إفيه، لكنه كان صديقهم ال أكرث ،مامل مير هي سخريته من األساتذة ،الدكتور محمد كامل عىل األخص ،يف محارضته ،كان كلام ذكر الدكتور كامل كلمة املوجة وهو يرشح شيئًا عن املوجات الكهرومغناطيسية ،أخذ الرتوليل يعني “املوجة ماشية ورا املوجة عاوزة تطولها” ،طرد من قائل املحارضة ،يف املحارضة التالية ،يف وسط املحارضة قاطع الدكتور ً “دكتور أنا جعان”“ ،انتا عبيط يابني ،أعملك ايه يعني؟”“ ،جعان وعاوز موجة” ،رسب يف املادة. الرتوليل ككل األذكياء ممن ال يريدون من أحد أن يعرف شيئًا عن حياتهم الشخصية ،مل يكن يتهرب أب ًدا من أن يحيك عن حياته ،عرشات املواقف املضحكة والغريبة عن بيته وإخوته ،تفاصيل التفاصيل حتى تشعر أنك تعرف عن حياته أكرث مام تعرف نفسك ،كان بار ًعا ،كأنه تدرب طول حياته عىل تلك املراوغة ،فلم يدر أحد من أصدقاء عن
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 64
حياته الحقيقية شيئًا إال بعد فوات األوان. 44 الشخص الوحيد الذي يذكر محمد بالرتوليل ،رغم كل االختالفات فبدل من بينهم ،هي أماين ،لكن أماين كانت تتبع اسرتاتيجية أخرىً ، أن تغرقك يف تفاصيل التفاصيل حتى تتقني مخطئًا أنها مل ترتك شيئًا لتخربك إياه ،كانت دو ًما ما تتنقل بني القصص دون إكاملها ،تصل لذروتها بحامسة ثم تحرش بداية قصة أخرى وتبدأ فيها ،مع وعد ضمني كل فرتة أنها ستعود لتكمل ما بدأته ،وحني تعود للقصة األوىل، قليل ثم تحرش بداية قصة مختلفة ،وتوغل فيها ،فتنتظر عىل تستمر ً األقل أن تنهي قصتها الثانية ،فتخرتع ثالثة ،فال تدع لديك إال بعض املقتطفات من هنا وهناك عن حياتها ،مقتطفات ال ميكنك بسهولة أن تربطها ،خاصة وأنها أحيانًا ألغراض إرباكك قد تغري عامدة بعض األسامء لتتهم ذاكرتك ،ورغم كل القطيعة التي بينهام ،منذ حادثة الرتوليل. مثل أنها كانت دو ًما تشرتك يف مسابقاتكان يعرفون عن أماين ً أوائل الطلبة ،ويف إحدى رحالتهم ملدرسة أخرى يف تلك املسابقات، وقع أحد الطالب يف حبها مبارشة ،حسب حكايتها ،كانت هذه املرة األوىل ،التي تدرك فيها فتنتها ،الطالب ،والذي بالطبع مل تكن تذكر اسمه ،أعلن لها عن حبه يف منتصف املسابقة ،وألنه يعرف اسم مدرستها ،أخربها أنه سيظل ينتظرها أمامها عىل الداوم ،وحسب حكاية أماين ،أنه فعل ما هو أغبى من ذلك ،أغبى حتى من مدرس الرياضيات يف مدرستها الثانوية ،الذي ذهب لخطبتها وهي يف الصف الثالث اإلعدادي .امتألت قصص أماين دو ًما باملحبني املهزومني ،قصص مل يكن أي منهم ليصدقها لوال أنهم يشاهدون مثلها وهي تحدث
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 65
كل أمامهم كل يوم ،بل وأصبحوا من كرثة هذه القصص ضجرين من متابعتها ،كأنهم اكتسبوا من طول قربهم من أماين ،نفس قسوتها. ورمبا ألن نظرية مل يعايش كل التجارب التي عايشوها مع أماين ،كان فعل، مستع ًدا للمغامرة ،ويف مفاجآة للجميع ،بدا لهم ،أنه سيفعلها ً سيجعل أماين تحبه. 45 انضم نظرية لشلتهم يف أواخر السنة الرابعة ،وقبل األخرية من الكلية .يف أيامه األوىل بالكلية ،كانت لديه خطة بسيطة ليختار بني ميوله اإلسالمية وقتها وبني رغبته يف االنطالق ،الخطة هي أن يرتك األمر للقدر ،قرر إن متكن من مصادقة بنت خالل شهر من بداية الدراسة ،فهذا ممتاز ،إن مل يتمكن سينضم ألحد الجامعات اإلسالمية، وألن اسمه محمد ،قذفه يف سكشن كله محمدات ،أصبح إسالم ًيا، لكنه أيضً ا استمر يف كتابة الشعر .شعره كام سمعوه ألول مرة كان مغرقًا يف الرومانسية متأث ًرا بشكل واضح بشعر فاروق جويدة ،يف الفرتة التي عرفوه فيها ،كان قرر ترك اإلسالميني ،وألنه مل يعرف كيف يخرب أصدقائه اإلسالميني بذلك ،كان يغلق هاتفه عىل الدوام ،وال يحرض أغلب املحارضات ،وإن حرضها مضط ًرا ،كان يرسع بالهرب واالحتامء بشلتهم ،متحص ًنا ببعد شلتهم عن كليته ،فقد كان طال ًبا بكلية الصيدلة ،كان الرتبو هو من أدخله للشلة ،تعرف الرتبو عليه من نادي للقراءة يف الجامعة ،كان قد أسسه أحد الليرباليني القالئل، النادي كان ليرباليًا كفاية ليجتمع فيه اليساريني واإلسالميني املهتمني بالقراءة ،نظرية كان وقتها مغر ًما بإلهام زميلته يف الكلية ،وقصة تعرفه عىل إلهام هذه وحدها كانت ،حتى قصة أماين ،حكايته األثرية التي ال ميل منها.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 66
يحيك نظرية أن إلهام اسرتعت انتباهه أول مرة ،وهو يحاول تشتيت مصعب عنها .مصعب كان أحد رفاقه اإلسالميني ،غري أنه، وألن اإلنسان خطاء ،كان يكلم البنات ،وهو ما استدعى بحسب نظرية القيام بالعديد من االجتامعات ،التي ال يعلم عنها مصعب شيئًا ،فيام بينهم لبحث كيفية تقوم مصعب ،اتفقوا أخ ًريا عىل خطة بسيطة ،كلام رأى أحد منهم مصعب يحادث فتاة ،يذهب إليه أحد منهم ويخربه أنه بحاجة للحديث معه يف موضوع مهم ،وهكذا يسلم كل منهم مصعب إىل اآلخر فال يجد مصعب وقتًا كافيًا للحديث مع البنات ،وبالوقت تنهار عالقته بهن ،مل تنجح الخطة يف هدفها ،لكنها نجحت يف تعريف نظرية بإلهام ،ففي أحد املرات التي تدخل فيها لسحب مصعب من حديثه مع فتاة ما ،هي إلهام ،جذبه وجهها بدل من يسحب مصعب وقف مع االثنني ليتبادل الرقيق ،حتى أنه ً الحديث ،وبحسب تحليله ،رمبا استدعت وقفته تلك ،العديد من االجتامعات األخرى ،ألنه الحظ بعدها بأيام قليلة ،أن أصدقائه كان ينفذون الخطة التي اتفقوا عليها بخصوص مصعب ،واجههم فتوقفت الخطة ،ومل يعرفوا ما العمل ،بل وأخذ رفاقهم يتسللون واح ًدا تلو اآلخر إليهم ،حتى كونوا شلة ما أسامها بقية إسالميي الكلية “بتوع البنات” ،مل يكونوا يفعلون شيئًا سوى الحديث العادي واليومي مع زميالتهم ،لكنهم أصبحوا معضلة عويصة رفاقهم ،حتى اكتشف إسالميي الكلية أن إسالم ،وهو ليس من “بتوع البنات” ،بدأ يرشب السجائر ،فأصبح لالجتامعات أجندة جديدة. 46 أحد الدروس األوىل التي نتعلمها يف الحياة ،أن األشياء ،أحيانًا، عكس األشخاص ،تولد كبرية ثم تصغر ،تزاحمها أحداث جديدة ،وتأخذ
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 67
مكان الصدارة ،سباق تتابع آخر ،ومع تبدل األولويات ،ومهام بلغت عزميتنا ،تتميع بالوقت أحكامنا الصلبة الناتجة عن تلك األحداث ،ال يعالج الزمن كل شئ ،لكنه يشغلنا بجراح جديدة. يف األيام التالية للفرح ،أخذ “نظرية” يخترب األجواء يف الشلة ومدى تسامحهم مع عزمه التقرب من أماين ،كانت غضبهم منها أوهنه الوقت ،وبدئوا يف التفكري أنه رمبا مل تكن هي املخطئة متا ًما، مازال حضورها موت ًرا ،ماداموا مل يتحدثوا معها يف ما حدث للرتوليل، وهو أمر كانوا يتحاشونه جمي ًعا .استغل ترددهم وجذبها للشلة مرة ثانية .وحني جلست بينهم ،أخ ًريا بعد طول انقطاع ،متكن نظرية ،دون قصد ،من كرس التوتر املحيط بها ،بخلق مشهد مربك آخر ،إذ أنهم يف وسط جلستهم م ًعا وهم يختارون كلامتهم بدقة وحرص ليك ال تفتح أي منها سرية الرتوليل ،قرر نظرية أن يقول ألماين أنه كتب قصيدة لها، وبرعونة تام ،وأمام الجمهور غري املناسب ،بدأ يف إلقائها: إليك و قد خضبتني آىت ِ دماء الكفاح و وجد الغرام غرامى ِ بحبك يا عمر قلبى غرا ٌم توارى وراء الغامم و ما مات أب ًدا و لكن توارى و يوماً سآيت أزيح الغيام و أكشف للكون عن طهر حبك و أحيى زمانًا يرى ىف املنام و أغمض عينى بال أى ٍ خوف و ِ لقياك بالحلم أغىل مرام
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 68
ولدهشتهم جمي ًعا ،أماين ،صاحبة كأس العامل يف الرفض ،وألن حتى أمهر األبطال ال يكونوا دامئًا يف أفضل أيامهم ،ورمبا أيضً ا ألنه من أعادها ملكانها ،ورمبا ألنها مازالت متأثرة مبا حدث للرتوليل ،ورمبا ألسباب أخرى ال نعلمها ،كام ال نعلم كل يشء عن أماين ،مل ترفضه متا ًما ،مل تقبله أب ًدا ،لكن شيئًا ما يف نظرتها ،أقنعه أنها تخربه “ميكنك أن تفعل أفضل من ذلك” ،كان ذلك كافيًا له متا ًما ،ليعطيه الشجاعة الرتكاب الحامقة املقبلة. 47 يحدث لنا كث ًريا أن ننىس إسم شخص ظللنا نلتقيه كل يوم لسنوات، وربطتنا به حبال قوية متعددة ،ثم دار الزمن وتفلتت الحبال ،حتى أننا نشعر أن إسمه قريبًا ج ًدا من عقلنا لكن ال حبل هناك لنشده به .حدث هذا ملحمد حني قابل نظرية بعد فرتة طويلة من الجامعة، عرف وجهه من بعيد ،ويف املسافة القليلة التي تفصله عنه وهام يسريان تجاه بعضهام البعض ،أخذ يشحذ عقله ليتذكر االسم ،يذكر إسم فكاهيًا يدل عىل الفكر ،هل كان فكرة؟ مبدأ؟ أطروحة؟ أنه كان ً ثم تذكر قصة نظرية عن بدايات الجامعة وكيف أنه وجد نفسه يف سكشن كله محمدات ،هو عىل األقل محمد ،وميكن تجاوز إسم شهرته ،يف املقابل نظرية ،وكام ميكننا أن نحدس ،كانت ذاكرته جيدة، تبادال األسئلة املكررة ،عرف محمد أن نظرية ،اآلن يعمل ككاتب يف إحدى املجالت ،له ديوان شعر منشور باسم “ترنو عيوين لحلم جميل” ،وطفلة “أسمى” ،تذكر كنيته وسط الحديث ،فامزحه “أسمى نظرية يف العامل” ،وضحك ،مل يسأله عن زوجته ،الصديقة األسطورية القدمية ،وتحاىش نظرية الحديث عنها ،وسأل محمد يف املقابل، ماذا يحدث يف حياته؟ ،أجابه محمد أنه ترك الهندسة مثله ،وأنه
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 69
يعمل اآلن ككاتب إعالنات ،حىك له عن املكتب ،عن حبيبته غادة، عن خطوبته األسبوع املقبل ،عزم عىل الخطوبة ،بل ،ومخالفًا لعهد السكوت الضمني عنها ،قال له أن يحرض أسمى واملؤامرة الغربية معه ،وابتسام ،واحتضنا بعضهام ،كالهام يعلم أن نظرية واملؤامرة الغربية لن يحرضا الخطوبة ،لكن كالهام أيضً ا يعلم أن الدعوات طقسا الزيفة واللقاءات املوعودة التي لن تحدث ،ليست مجرد ً اجتامع ًيا بال معنى ،بل محاولة ذكية لعدم إفالت الحبل نهائ ًيا ،فمن يدري من سيحتاج ماذا من من يف املستقبل؟ وما كان يدري محمد وقتها أن املؤامرة الغربية ،بذاتها ،التي أصبحت أ ًما ألسمى نظرية، مازال لها دور محوري يف حياته ،وستؤديه. 48 مدهش كيف تشكل أحداث عشوائية ج ًدا جز ًءا كب ًريا من حياتنا، أحداث ال نخطط لها ،وال تبدو للوهلة األوىل ذات قيمة كبرية، لكنها من تصنعنا ،قد ًميا عرف محمد صديقه املقرب حسني ،بصدفة كاملة ،أىت متأخ ًرا عن اليوم األول يف املدرسة ،ومل يكن يف الفصل مكانًا خال ًيا إال بجوار حسني ،وبنفس الصدفة ،سيسأله شاب ما أمام الكلية يف اليوم ،عن مكان املحارضة ،ثم سيقرتح عليه أن يذهبا م ًعا إلحضار يشء يأكلونه من الكافيرتيا قبل املحارضة ،وهكذا سيدخل محمد غانم حياته ،يف املكتب الذي يعمل به ،كان األمر مختلفًا .كان مؤسيس الرشكة ،مدفوعني بروح الستارت أب ،أن يخلقوا جوا حميم ًيا يف املكتب ،يوجد باملكتب بالي استيشن ،وتليفزيون يشاهدون فيه الدوريات األوروبية ،وطاولة بنج بونج ،كان محمد قد أىت للعمل باملكتب عن طريق ندى ،لكنه كان يجلس يف غرفة أخرى ،غرفة الكتاب ،حيث جامل ومحمد ويحيى ورشبيني ،بينام ندى معها
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 70
وأسامة ودعاء ورقية وعمرو ومنال يف غرفة السوشيال ميديا ،أنور ومنري وعادل وريشة ونجم يف غرفة املصممني ،وهكذا خلق التقسيم املهنى للمكتب ،الشلل ،شلة محمد ،وشلة ندى ،وشلة أنور ،بينام يحوم كل من حربية وعالء ويارس وصبحي وإبراهيم واالسطى ،بني كل الشلل. الجو الحميمي للمكتب قد يشعرك لوهلة أنها شلة واحدة كبرية متامسكة ،وستحتاج لبعض الوقت ،لتدرك تقسيامتها الفرعية .الطيور أصيل من أي شلة ،إال الحامئة بني الشلل ،ورغم أنها ال تشكل جز ًء ً أنها ما تجعل من املمكن اعتبارها كلها شلة كبرية ،يف داخل كل شلة، األسطى هو العامل املشرتك األكرب ،ألنه من ينقل الحكايات من غرفة هائل من الحكايات،كم ً ألخرى ،وهو بحكم مهنته السابقة ميتلك ً ال ميكن القطع بصحتها .هناك دامئًا ،قصص عن نساء حاولن إغرائه، القصص األكرث تكرا ًرا ،هي ملدام نارميان ،التي كان يعمل سائقًا لزوجها األجنبي ،البيضاء ،البضة ،للدقة مل يستخدم هذه الكلمة يف وصفها، لكنها تفي باملطلوب ،التي كانت دو ًما تستدعيه ليصلح أشيا ًء يف شقتها ،بعدها تأيت مدام سميحة ،التي كانت حكايتها أغرب من أن تكون صحيحة أو ملفقة يف الوقت نفسه ،ثم نساء أخريات أقل تكرا ًرا ودامئًا ما يستخدم حكايتهم كمقدمة يصل منها إلحدى حكاياته مع حاول جر قدميه نارميان أو سميحة ،قصص أقل توات ًرا عن رجال ً للرذيلة ،وقام برضبهم وجعلهم عربة ملن يعترب ،بل وحتى قصص عن السحر ،مثل قصته عن الرجلني ،الذين أخذا يتلوان جملة غريبة وهام يركبان معه ،أقسم أنهام كانا يقرآن القرآن باملقلوب ،ثم قدم له أحدهم قطعة شيكوالتة ،سأاله عن اسمه ،فأخربهم باسم خاطئ، وأخذهم إىل طريق مخترص يؤدي إىل منطقته ،لتبدأ الحفلة الكبرية،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 71
قصصه عن األجانب عادة ما تنتهي بدخولهم إىل اإلسالم ،مثلام تنتهي قصص شبابه عىل نجاحه يف رضب مجموعة شباب كانوا يعتدون عىل فتاة ،حكاء بارع ،ذيك ،يفهم من أمامه ،يجيد الترصف يف كل املواقف ،حتى أنك تجد صعوبة أحيانًا كثرية يف عدم تصديق حكايته، ولو فعلت ذلك ،أي شككت يف قصصه ،فذلك فقط ،لتحمسه أكرث، أصال ،حني قاطعه يارس ساخ ًرا من خلقه لقصة نارميان، بهذه الطريقة ً قال له االسطى متحديًا “بقى مش مصدقني ،أمال لو حكتلك قصة مدام سميحة هتقول ايه” ،ثم بدأ يف الحكاية. 49 يف النظرة األوىل ،ال تبدو القصص املثرية موزعة بالتساوي بني الناس ،ميتلك البعض مئات منها ،وال ميلك آخرين أي شئ .عندما تناقشوا يف املكتب يف هذا األمر ،مدفوعني بسحر حكاية سميحة، خرجوا بنظريتني ،وهام بالرتتيب: “ -نظرية الحيك” لجامل ،الذي رأى أن الجميع يتعرضون ملئات القصص يف حياتهم ،وتقع املهمة كاملة عىل الفرد ليحول كل قصة منها إىل حكاية مثرية ،قد يضطر أحيانًا الخرتاع بعض التفاصيل ،أو حجب بعضها ،ليجعلها مثرية أكرث ،هو ال ميتلك حياة مثرية أكرث من اآلخرين ،لكنه ميتلك املوهبة. “ -نظرية الشعور بالغربة” لرشبيني ،الذي وافق جامل أن كل فرد تحدث له األشياء ،لكن الحاسم يف قدرته عىل تحويلها لقصص مثرية، ليست موهبته الحكائية ،بل شعوره بالغربة الذي يحفز عقله ليلتقط األشياء الغريبة ،الشعور بالغربة قد يحفزه االنتقال من بيئة إىل بيئة أخرى ،فتفقد البيئة االجتامعية األوىل بداهتها وتتحول قصصها
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 72
العادية ج ًدا إىل قصص مثرية ،لهذا كث ًريا ما تبدأ الحكايات بانتقال أو سفر أو حدث غريب ،أي أن االنفصال عن “العامل العادي” هو رشط لكل قصة. بجوار عملهم اليومي ،كان املكتب دو ًما بيئة مناسبة للتفلسف الزائد يف أمور الحياة ،حتى أنهم جلسوا فيام قد يبدو للمشاهد البعيد ،كاجتامعات جادة طويلة ،ملناقشة أشياء مثل التمركز األفضل يف موقف مزدحم ،الطريقة املناسبة للتعامل مع سياس العربات ،أي الشخصيات التاريخية تظن أنك قد تتمكن من مواعدتها ،أو للتفكري يف تطبيقات قد تدر عليهم فجأة الربح الرسيع ،تطبيق يساعدك يف تذكر هل أغلقت باب بيتك أم ال ،تطبيق يسحب عدد كلامتك التي قلتها يف اليوم ،تطبيق يساعدك يف فهم اإلفيهات املنترشة ويرشح لكل امليمز الحديثة ،تطبيق يساعدك يف اختيار مالبسك ،وألن الحياة رسيعة والناس متشابهون أكرث مام يرغبون ،كانوا يفاجئون ببعض فعل فيغمرهم الندم عىل عدم العمل ،ويقرتحون أفكارهم تتحقق ً تطبيقات جديدة ،حتى توصلوا ذات يوم للتطبيق الذي نال رضاهم فعل ،لكن قبل أن تتغري حياتهم ،وبسبب أنه جمي ًعا ،وسيغري حياتهم ً كان لكل يوم يف املكتب مسألته الفلسفية الخاصة ،ما فكروا يف كتابة مسلسل يحيك يومياتهم يف املكتب ،طرحت الفكرة للمرة األوىل ،من قبل رقية ،بعد وقعة السمك ،التي كان بطلها عالء. 50 أغلب من املكتب ،رمبا لو استثنينا ،حربية كمدير للمكان ومنري، ال يعرفون بالضبط ،ماذا يعمل عالء ،يعملون بجواره منذ عامني رسا ،وكل كاملني ،وال يدري أحدهم ماذا يفعل تحدي ًدا ،عمله ليس ً مرة ميازحونه يف األمر ،يخربهم بعمله ،ثم ينسون.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 73
لو كان جامل ورشبيني هام فالسفة املكتب ،ومحمد ومنري ممثل للذكاء والتفوق الدرايس الدائم، وأنور هم الفنانني ،وأسامة ً ودعاء صاحبة القبضة الحديدية ،ورقية هي الراعي الرسمي للنميمة واأللعاب الجامعية ،وريشة ونجم ممثلني لروح الشباب ،وحريبة حكيم القرية ،فإن عالء هو مغامر املكتب. قبل أن يجئ للعمل يف املكتب ،عمل عالء كمزارع يف أحد حقول العنب بإيطاليا ،وقبلها كمصور شارع يف أمريكا ،وقبل ذلك كمدرب سباحة يف إحدى القرى السياحية ،وقبلها بصاحب محل إلصالح السيارات بالقاهرة. دخل عالء املكتب وهو يحمل يف يده سنارة صيد حديثة أوتوماتيكية ،ويحمل حقيبة بالستيكية مليئة بالسمك ،يرتدي شورت قصري وقميص واسع مشجر ونظارة شمس ،يف الصالة حيث دخل عالء كان جامل يتشاجر مع منري بصوت عايل بعد فوز األخري عليه يف البالي ستيشن ،منري بجوار ادعائه الحصول عىل لقب أطيب شخص يف العامل عام ،2014فهو أيضً ا أمهر العبي الفيفا يف املكتب ،بينام رقية منفردة بأسامة تحيك له ما حدث ألنور باألمس ،وهي حكاية طويلة أخرى ،حربية يلعب مباراة بنج بونج يف مواجهة أنور ،يحكم بينها يحيى ،محمد ورشيبني ينتظران دورهام يف البنج بونج ،منال ترصخ يف شخص ما يف الهاتف ،وصبحي وإبراهيم ينتظران دورهام يف البالي ستيشن .ندى ودعاء ويارس وعادل وعمرو واألسطى يف البلكونة يدخنون السجائر .بالضبط ،كام فكرت أنت ،ال أحد يعرف تحدي ًدا متى يعمل الناس يف هذا املكتب. ألقى عالء حقيبة السمك عىل األرض ،خلع نظارته بشكل سيناميئ مقصود ،ووقف صامتًا ،فخو ًرا ،وبهدوء املنترصين ينتظر أن يسأله أحد،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 74
دون أن يسأل جاء األسطى من البلكونة ،حمل شبكة الصيد ودخل بها إىل املطبخ ،وهو يصيح عاليًا موجها كالمه للجميع “هعملكم أحىل أكلة سمك كلتوها يف حياتكم” ،انضم إليه يف املطبخ صبحي وإبراهيم ،وكام يليق بزعيم ،وزع حربية األوامر ،يحيى ينزل لرشاء العيش والجرائد ،محمد وجامل ،يساعدان صبحي وإبراهيم واألسطى يف الطبخ ،رقية وأسامة لرشاء الرز والليمون ومتطلبات السلطة ،منري يستعد ليلعب معه ماتش فيفا .جلس عالء منتظ ًرا دوره يف البالي ستيشن ،يعلم بخربته يف املكتب ،أن الوقت املناسب للحكاية ليس اآلن. 51 تتعارض القبضة الحديدية لدعاء ،مع شكل مكتبها ،املكتظ بالحيوانات املطاطية وألعاب األطفال ،الرصاحة تتطلب أن دعاء ليست بالرضورة ذات قبضة حديدية أصيلة ،أي قبضة حديدية ناتجة عن رغبة يف التحكم باآلخرين ،بل ناتجة عن عدم تكيفها مع طريقة عمل املكتب .فهي كشخصية ،شخصية مرحة وودودة وتحب الهزار والقعدات الحلوة ،لكنها تنىس كل ذلك ،عندما تجد من طلبت منهم مهام محددة ،يرتكون العمل ليلعبوا ماتش فيفا، أو يجلسون يف جامعات ليناقشوا األزمة الفلسفية يف مبدأ السفر منغمسا يف النقاش، ً عرب الزمن ،تشكو لحربية ،الذي يكون هو نفسه ويعدها بحل املشكلة .مشكلتها األوىل ظهرت يف املكتب حني وجدت زرافتها البالستيكية موضوعة عىل مكتب آخر ،وعىل الزرافة يجلس قردها البالستييك بدوره ،ويف مواجهة الزرافة فيلها وعليه أسد ،مل يضايقها ذلك ،ما ضايقها هو أن أحد ألعابها ،وكانت لعبة قرد يحمل موزة ميكن إطالقها كسهم ،ملقاة عىل األرض ،ومل تجد املوزة ،عندها
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 75
انتبهت ملحمد. محمد كان أحد هؤالء األشخاص ،الذين ال يعرفون كيف يجلسون هادئني وال يفعلون شيئًا ،يجب عىل الداوم أن يلعب بشئ ما يف يديه ،حتى أنه كث ًريا ما كان يلعب بسكاكني املطبخ بينام ينتظر غليان املاء وهو يعمل الشاي ،يلتقط السكينة ثم يلقيها مرة أخرى للهواء. يف الجامعة ،كان غانم دو ًما يجربه عىل الجلوس يف املقعد الخلفي لسيارته ،حتى ال يشتته عن الطريق بينام هو يلعب يف التابلوه واملرايات ،حني قالت دعاء “أنا عاوزة املوزة بتاعتي” ،تذكر الرتوليل فعل عن رحمه الله وهو يقول للدكتور “أنا عاوزة موجة” ،بحث ً املوزة وأعطاها لها ،ووعدها بأال يلعب بألعابها مرة أخرى ،ثم انرصف وهو يحمل الزرافة بني يديه ويقذفها يف الهواء ،حينها عرفت دعاء كيف ميكنها أن تعالج هذه األزمة 52 للحياة طريقتها يف التطبيع مع الفقد ،وبشكل ما ،ميكن القول أن الحياة بأكملها هي مترين طويل يف التعامل مع الفقد .وألن وجودنا محدود زمن ًيا ،فنحن نعيش حياتنا بفقدها ،وتكتمل حياتنا حني نفقدها متا ًما .التعلب مل ينقذه خياله ،والرتوليل مل يساعده حسه الساخر عىل املراوغة ،ويف اليوم التايل لوفاتهام ،استمرت الحياة ،حتى قليل ،ثم شغلتهم الدنيا ،وجودنا املحدود زمن ًيا،أن أصدقائهم حزنوا ً يحد ،بدوره ،من قدرتنا عىل توقري خسائرنا ،يذكر محمد ،وداع أمه ألخوها األكرب ،عيل ،وهي ترى نعشه يخرج من املسجد ،مل تلطم أم تصوت ،بل رصخت بصوت عايل ج ًدا ليسمعه أخيها يف العامل اآلخر، “مع السالمة يا أستاذ عيل” ،كان يكربها بعرشين عا ًما ،ومل تناديه أب ًدا سوى باألستاذ ،حتى يف وداعه األخري.
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 76
يذكر أيًضً ا والدة الرتوليل ،الحاجة أمينة ،وهي تقطع صمتها أمامه هو وأصدقائه ،لتحدث نفسها قائلة بصوت مسموع “ملحقتش أزعل عليك يا حبيبي ،سامحني” ،كان يف انتظارها بعد وفاة الرتوليل أحداث جسام أخرى ،جعلتها مشتتة بني التعامل معها وبني توقري حزنها .هل من هذه الفكرة أىت طقس نصب عزاء للميت يف أربعينه ،كوعد له أننا مل ننساك رغم مرور األيام؟ ليست الخسائر كلها مساوية ،فبعضها يلدنا مرة ثانية ،ألن أنفسنا املاضية قد رحلت برحيل ما فقدناه ،ومرة أخرى نجد أنفسنا نتعلم امليش والحديث ،بعضها ننساه بعد ساعة ،أو نضحك حني نذكر حزننا مثل حني نفقد شيئًا نحبه ،كقلم أو حقيبة، لفقده ،كنا نبيك صغا ًرا ً وقد نبيك حتى أمام واجهات املحالت مربكني أمهاتنا ألننا نبىك فقدان ما مل منتلكه وال تريد األمهات رشاءه لنا ،وحني نكرب يواسينا أصدقاؤنا حني نفقد عالقة كنا نجد فيها أنفسنا ،أن تلك الخغادة مكسب متخفي ،وأننا سنصري أفضل ،وأحيانًا يكون حديثهم منطق ًيا، فعل ،لكن كام هي خسائرنا مكتوبة علينا، بل وأحيانًا نصري أفضل ً دون قدرة عىل أن ننقذ كل يشء نحبه ،مكتوب علينا أيضً ا أن نحزن، وأن ننىس ،وأن تتواىل حياتنا ،فقدان يتبع فقدان ،ونسيان يتبع نسيان، ورمبا يكون الحنني ،هو طريقتنا يف التعامل ليس مع الفقد ،لكن مع نسيان الفقد ،يجرحنا الفقد ،ويجرحنا نسيانه كاتهام لنا بعدم الوفاء، والحنني طريقتنا لنتذكر ،بني حني وآخر ،ما فقدناه ،ولنذكر انفسنا أننا مل ننىس متا ًما ،وقد يكون هذا ما يخلق الطأمنينة الغريبة التي يضفيها الحنني عىل ذكريات مل تكن بهذا الجامل. 53 مل يكن املكتب يجيد التعامل مع الفقد ،كأن أفراده ال ميكن
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 77
مثل منذ ترك أحمد العمل ليلتحق بعمل آخر يف استبدالهم بسهولةً . رشكة خليجية ،وكل شهر يأيت مكانه كاتب آخر ،وال يستطيع التكيف مع املكان ،فيرتك العمل .واليوم األول لكل شخص من هؤالء ،بحسب رقية ،يصلح ليكون حلقة منفصلة يف مسلسلها عن املكتب ،خاصة مثل اليوم األول ملجد. ً قبل أن يجئ مجد للمكتب ،اتفق الجميع ،عىل القيام بتطفيشه من املكتب ،كانوا يتحولون بالوقت لشلة تحمي نفسها من كل ما هو خارجها .حريبة بالطبع ،بصفته من عني مجد ،كان خارج املؤامرة. رقية زعيمتها .عند دخول مجد للعمل ،تظاهروا جمي ًعا باالنشغال، أو بشكل أدق ،تظاهروا بالعمل ،ويتملص كل منهم حني يحاول مجد فتح سكة للكالم معه .دعونا نحلل املعركة بينهم وبني مجد، يف جهة املؤامرة وزعيمتها رقية ،ميتلكون هم املكان وألفته ،يتحركون براحتهم أكرث ،يعرفون بعضهم البعض جي ًدا ج ًدا ،وكلهم متدخلون يف حيوات بعض الشخصية ،بشكل زائد ،بجوار هذا فهم محبني لإلفيه، وبدت خطة تطفيش مجد ،لعبة جديدة عليهم ،وعليه تجربتها، خطة كان ميكن لها أن تنجح بسهولة ،لوال أن مجد بدوره ميتلك مترسا منهم بكثري يف مميزات اسرتاتيجية يف هذه املعركة ،هو أكرث ً معارك املكاتب ،وخناقات الشلل ،أكرب منهم يف السن ،جسده الريايض املمشوق ،يجعله حر الحركة يف أي مكان ،تربطة عالقة عمل سابقة بحربية وصبحي وإبراهيم ،واألهم طب ًعا ،باألسطى ذات نفسه ،وبجوار كل ذلك ،كم هائل من الحكايات املثرية مع فنانني والعبني وراقصات، يكاد ينافس بها األسطى بجاللة قدره ،لوال أن حكاياته كانت صحيحة فعل ،ومصورة يف غالبها ،بل ،وتأمل ،أخي املؤمن ،كم العامل أوضتنيً وصالة ،يتقاطع بعضها بالفعل مع حكايات األسطى ،وليس أي تقاطع،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 78
إحدى هذه التقاطعات تحدث مع حكاية سميحة نفسها. لكن ،ليك يبدأ أمجد حكاياته ويخرتق حصاره ،ينبغي أن يجعلهم يستمعون من البداية ،االسطى قام عن طيب خاطر بهذه املهمة، بدأ يحيك عن الشاب الفرنيس الذي جاء مرص ال يعرف حتى القراءة بالعربية ،وعمل كجامع للقاممة بإحدى املناطق القريبة من بيته، والقصة امللحمية للصعود الطبقي لهذا الشاب ،مبساعدة األسطى قائل له “ماتيو زبالة بالطبع ،يف منتصف الحكاية دعا مجد للتدخلً ، مانتا عارفه يا أستاذ مجد” ،فالتقط مجد الحبل برباعة. 54 لو كان املكتب مسلسل تليفزيوين كام تقول رقية ،لكانت قصة الحب املمتدة والكوميدية واملليئة بالغرائب والتطوارات فيه قصة منال واألسطى .منال هي الوريث الرشعي ملكانة أمنية وأماين يف حياة محمد .وبشكل عام ميكننا القول أن هناك نوعني من األشخاص يف العامل ،ميكن معرفتهم من خالل تعاملهم مع التفاصيل الصغرية، البعض يتجاوز التفاصيل ويهتم بالصورة الكربى ،والبعض ميتلك الحامسة الكافية ليدخل معارك عىل كافة جبهات التفاصيل ،منال من النوع الثاين .تعيد طلباتها من املطاعم دامئًا ألخطاء بسيطة ،أحيانًا يكون الطعام غري ساخن كفاية ،أحيانًا نسوا أن يضعوا املالعق ،دامئًا تتحدث يف التليفون ،تشكو شيئًا ما لشخص ما ،وألن األسطى هو مسئول املطبخ ،فقد أصبح خصمها املثايل الدائم ،القهوة باردة ،الكباية غري مغسولة كفاية ،املطبخ غري نظيف ،مل يرصح األسطى بحبه طب ًعا، ولكنه كان يصطنع الخطأ تلو اآلخر ،لتحدث املعركة مع منال ،كان متعاركًا مبه ًرا يعرف كيف يخلق معركة مثالية ،كبرية كفاية لتخلق
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 79
بدورها حميمية تجمعهام ،حتى لو كانت حميمية كارهة ،وليست كبرية كفاية لتصنع كراهية حقيقية ،فقط كراهية وغضب خجولني ميكن هزميتهم كل يوم ،لكن ،وكام قلنا ،حتى أكرث األشخاص مهارة يخطئون أحيانًا ،وأحيانًا يكلفهم خطأهم ذلك كل شئ. 55 جاءت فكرة التطبيق يف أحد اجتامعاتهم لرسد أحالمهم ،حكت ندى أنها حلمت أن املرتو الذي تركبه كان يسري يف البحر وليس تحت األرض ،وأن أغلب من فيهم ،كانوا أسامكًا عاقلة ،ذاهبة إىل عملها أو عائدة منه ،بعض األسامك منهكة ،بعضها اآلخر األكرث شبابًا يقف يف جامعات ،ويحاول نيل اإلعجاب ،حينها حىك منري أنه أيضً ا حلم ذات مرة بأنه يف استاد كرة قدم وأن الالعبني كانوا أسامكًا ،وأنه يذكر جي ًدا أن حلمي ،أحد أصدقاء طفولته ،قال له غاض ًبا “أسامك البلطي كلها مالهاش يف الكورة” ،قفزت الفكرة إىل ذهن نجم ،وقبل أن تختمر، اقرتح أن يصنعوا تطبيقًا يكون عبارة عن موسوعة لألحالم ،كل شخص يكتب حلمه ،وتكون هناك تصنيفات لألحالم ،أحالم يف البحر ،يف السامء ،يف املايض ،يف املستقبل ،أحالم حيوانات ،التقط محمد الخيط واقرتح أن يكون التطبيق به آلية لجمع األحالم إىل بعضها ،وينشئ من املتشابه منها عامل كامل ،وكل حلم يضيف تفصيلة جديدة لهذا العامل ،وبهذه الطريقة يكون لدى العامل وسيلة ليحكم أخ ًريا ،إذا كانت األحالم جز ًءا من عامل كامل آخر أم ال ،ويكون بوسع كل فرد أن يتتبع شخصا آخر يف العامل كانً حلمه يف هذه العوامل ،ولعله يكتشف أن فعل ،واقرتح أن يكون اإلسم “عامل األحالم” ،رد يحيى يف نفس الحلم ً “أو بحلم بيك” ،تدخل جامل تدخله املثقف املعتاد “باألمس حلمت بك” ،عرشات االقرتاحات تتقافز يف الغرفة ،حتى قال حربية بصوته
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 80
الهادئ الواثق “حلمي حلمك” ،وبدأت املغامرة. 56 بعض الرشكات تنجح ألن املسئولني عنها موهوبني ج ًدا ومليئني باألفكار الجيدة ،بعضها تنجح ألنهم إداريني ماهرين لديهم خطط واضحة واسرتاتيجيات تطور عملوها عليها كفاية ويرتكون عملية اإلبداع ملن هم أكرث منهم موهبة ،بعضها ،يف حالة رشكة “،44 املعادي ،الدور السابع” ،وهو اإلسم الكامل والرسمي والحقيقي، والذي ال يصدقه أحد ،للرشكة ،ينجح بدعاء الوالدين ،وألن الرزق يعطيه الله ملن يشاء. تحمس حسن وقاسم ،مؤسيس الرشكة ،لفكرة التطبيق ،وبشكل فوري ،اتصلوا بأحد أصدقائهم الذي يدير رشكة برمجة ،ليبعث خمسة مربمجني من عنده ليشاركوا يف املرشوع ،وكان هذا أحد أسعد أيام الرشكة ،فالخمسة كانوا إناث ًا ،رزان ونهى ووالء وجنى وماهينور، وعالجوا إذن “عدم التوازن الجندري” يف املكتب ،وهو عدم توازن غري موتر ألن الصدفة ان جميع من املكتب عدا ثالثة أو اربع أشخاص متزوجون أو يف عالقات طويلة مستقرة ،وبالطبع خلقت البطالت الخمس الجدد بيئة خصبة للمزيد من حلقات املسلسل. يف اليوم األول لقدومهن ،أو “يوم املرأة العاملي” كام اقرتح رشيبني، اختفى امليكرويف من املطبخ .اكتشف األسطى هذا يف اليوم التايل ليوم املرأة ،وكمدمنني لالجتامعات ،اجتمعوا كلهم ملناقشة الحدث، تحدث األسطى ،وقبل أن يكمل قصته ،وبعض القصص تنتهي أرسع من املتوقع ،قال عادل “اه امليكرويف أنا اديته لوالء” .أعجب عادل بوالء ،وفيام يقفان يف املطبخ قالت أن امليكرويف يسهل كل شئ،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 81
وأنها تتمنى أن يكون عندها واحد ،فتح عادل در ًجا ما من املطبخ، أخرج كرتونة ،شد فيشة امليكرويف من الكهرباء ،وحمله ووضعه يف فعل، الكرتونة ،وقال لها “ خديه هدية” ،واألغرب أنها فعلت ذلك ً لكن األكرث غرابة هو ما ستفعله نهى. 57 لنكن موضوعيني ،ما فعله عادل كان غري ًبا يف درجته وليس يف نوعه .فإحساس “امتالك املكان” الذي قال حسن وقاسم دو ًما أنهم يحبون أن يسود املكان ،كان طاغ ًيا دامئًا ،وناج ًحا أكرث مام توقع مثل أعطى غادة ماكينة القهوة الفرنساوي ،عندما املنشئني .محمد ً أخربته أنها تصنع قهوة ممتازة ،واألسطى أعطى منال سخان الشاي عندما أخربته بأنها كلام اشرتت واح ًدا لبيته يتعطل يف اليوم التايل، ورقية أعطت زوجها بالل كرس ًيا من املكتب ليك ال يعمل يف البيت من الرسير ،ومنري أخذ مروحة أرضية يف بيته ،وكل من يف املكتب تقريبًا أعطى نسخة من مفاتيح املكتب لرشكاء حياتهم ،حتى أن جامل ،قبل أن تحدث موقعة املفاتيح ،طرح نظرية تقول أن احتامل أن ميتلك أي شخص عشوايئ يف القاهرة نسخة من مفاتيح املكتب ،أكرث من واحد من كل ألف ،وأن أي شخص يحمل أكرث من عرشة مفاتيح معه، فاحتامل واحد يف املائة أن يكون مفتاح مكتبهم موجو ًدا فيهم. عادل أحد القالئل “السنجل” يف املكتب ،ولهذا تزعمت رقية لجنة ملحاولة الوصل بينه وبني والء ،ضمت يف عضويتها أسامة وندى .ويف اليوم التايل ليوم املرأة ،اختفى جهاز التليفزيون. 58 مع قدوم شلة املربمجات ،أضيف لالجتامعات العشوائية يف
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 82
املكتب ،اجتامع عصف ذهني ثابت للتفكري يف تطبيق”حلمي حلمك”، كل يحيك حلمه يف البداية ثم يناقشون أفكار تطوير التطبيق .اقرتح محمد أن يضيفوا عىل تجميع األحالم يف عوامل ،رسومات توضيحية لكل عامل منها ،اسكتش بسيط لكل حلم ،ثم يجمعون هذه االسكتشات، بدل من ذلك أناعرتض أنور لصعوبة رسم كل هذه األحالم ،واقرتح ً يضيفوا خاصية اختيارية لريسم كل فرد يكتب حلمه اسكتش بسيط للحلم ،ويف املراحل املتطورة من التطبيق رمبا ميكن حينها رسم يشء مجمع لألحالم القريبة من بعضها ،ثم للعوامل القريبة من بعضها، حتى يصبح يف وقت مام خلق عوامل األحالم الكاملة. تاريخ ًيا ،تنتهي اجتامعات املكتب غال ًبا بتفرعها إىل نقاشات جانبية واسعة يدرك الجميع مبرور الوقت أنها تعني انتهاء االجتامع، دون أن يوقف ذلك أي من النقاشات الجانبية ،فقط يخرج البعض من الغرفة أو وبالوقت ينتهي “شكل االجتامع” بعدما انتهى جوهره من فرتة. النقاشات الجانبية نفسها كانت تتفرع دامئًا بنفس الشكل ،محمد يحادث ندى عن أخبارها ،أسامة يتحدث إىل رقية عن أخبار النميمة يف املكتب ،حربية يناقش جامل يف خرب عميل ما ،رشبيني يدخل يف تحدي شتائم مع يحيى ،واألكرث سخونة ،منال تتعصب عىل األسطى يف أي شئ .هذا كله اختلف منذ “يوم املرأة”. هناك بعض األشخاص ميتلكون القدرة عىل أن يصبحوا “زعامء القعدة” مبهارتهم يف الحيك وقدرتهم املميزة عىل مقاطعة من يقاطعهم بسالسة وعدم ترك حبل الكالم يفلت منهم بسهولة ،ويف مرحلة ما قبل استقرار “الشلل” ،يحدث رصاع بني شخصني أو أكرث عىل زعامة القعدة ،يشد كل منها الحبل بكل قوته ،يقاطعان بعضهام،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 83
يحاول كل منها أن تبدو حكايته أذىك أو أكرث إثارة ،وتحدث تلك املعركة الصاخبة دون إعالن ،وأحيانًا حتى دون إدراك للمتعاركني داخلها بأنها تحدث ،بالوقت يرتك أحدهام الحبل لآلخر ،يكتفي مبقاطعته بني الحني واآلخر ،يحيك حكايته قبل أن يأيت الزعيم أو بعد أن يرحل .األكرث مثابرة من املهزومني يخلق نقاشً ا فرع ًيا يكون هو زعيمه ،والنقاشات الفرعية نفسها لها ثالث أنواع ،األول وهو التفرع العادي كام يحدث يف االجتامعات، الثاين مثابرة املهزومني ،النوع الثالث هو ما تصنعه نهى. 59 النساء الخمسة أتوا محملني بقصص أخرى عن مكتبهم األصيل، لديهم دامئًا مقارنات بني كل يشء هنا وهناك ،أبطال آخرون ،ومالحم أخرى ،يشبهون عادل هنا بوليد هناك ،ومحمد هنا بجالل هناك، ومنال بهاجر ،ولديهم ،كالجميع ،أسطورتهم الخاصة ،مهاب الحمش. مهاب الحمش ،وهو باملناسبة ،خطيب نهى ،للمصادفة أيضً ا ،هو زميل محمد يف الكلية ،أصغر منه بدفعة ،مل يكن بعي ًدا عنه ج ًدا، وإن مل تجئ فرصة مناسبة لحكايته ،كان أحد أعضاء شلة ميكانيكا، الرتبو وشاكوش ومسامر ،رغم أنه من قسم اتصاالت ،وأصغر منهم، متحمسا ،وهو من رسم بعض لوحات املعرض الفنيً لكنه كان يساريًا الذي وضع فيه الرتوليل رحمه الله صورته باألبيض واألسود كأحد زعامء الثورة الروسية .يذكر محمد أنه يف الكلية كان الحمش يخوض متحمسا أيضً ا ً نقاشات طويلة ج ًدا مع نظرية ،فالحمش وقتها كان للعلم كراية للتقدم ،أو ما نطلق عليه تنويري ،ونظرية كان ممن مييلون لرؤية تلك الحامسة للعلم ،أحد مخلفات القرن التاسع عرش،
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 84
التي يجب تجاوزها .لكن الحق أن حامسة الحمش ،مل تكن من بقايا القرن التاسع عرش ،كانت من بقايا حامسة مغامراته يف الثانوي، وهي مغامرات تحتاج لقعدة طويلة أخري ،املهم أن الحمش ،ويشبه نظرية يف ذلك ،حصل عىل لقبه “الحمش” ،يف معركة “املليحة”، واستمر لقبه يف الجامعة ،ثم يف عمله ،ولذلك عندما رآه محمد للمرة يف املكتب وهو يزور نهى ،تعجب كيف متكن من إعادة إنتاج حامسته للدرجة التي تجعله اآلن بنفس درجة حامسته يف الكلية، وإن كانت حامسته الحالية مرتبطة مبعارضه الفنية التي يقيمها يف الشارع ويسميها “أهو” ،وب”نهى” طب ًعا ،واألهم ،بعد إذن نهى وبعد االعتذار إليها ،بربنامجه عىل اليوتيوب “عىل بايل” ،وهو برنامج يومي ،من عرشين دقيقة ،يتكلم فيه الحمش بشكل عشوايئ عن أي يشء يقرتحه عليه الجمهور ،وبتوقف عن الكالم فجأة بعد عرشين دقيقة بالثانية .الحمش أحد هؤالء األشخاص الذين يفعلون األشياء يف أوقاتها الصحيحة ،وألنه ال يزيف حامسته ،فال ميكن اتهامه بأنه يجري وراء الشهرة ،مرن ومتعدد االهتاممات ويقفز من هوية إىل أخرى كأنه يلعب يف حوش روضة أطفال ،ينجح يف كل يشء يفعله ،لكنه ال يكمل مساره فيه ،متواضع ،وذيك ،ومرح ،ويستحيل تقري ًبا ،أن تتوقع أي غابة تختفي خلف هذه الواحة املرحة من الحياة ،لن تتوقع ،لكن نهى ستحيك يو ًما كل شئ. 60 كيف ميكن لحكاية أن تنتهي؟ الحكايات الحقيقية ،غال ًبا ال تنتهي، أي ال ينتهي أبطالها لألبد ،لكنهم يتشعبون يف طرق مختلفة ،فيصبح من العسري إكامل حكاياتهم كحكاية واحدة ،ولحكاية حكايتهم
تعلم الطيور ،منذ صغرها ،أين ستهاجر 85
نفسها ،ينبغي افرتاض نقطة التشعب هذه .هل انتهت حكاية الرتوليل رحمه الله بوفاته؟ لو كانت الحكاية هي البطل وليس الرتوليل فهي مل تنته ،ما انتهى هو دور الرتوليل فيها .حياتنا كلها عبارة عن تدخل يف حكاية طويلة ،مل تبدأ من عندنا ،وال تنتهي إلينا ،يف سباق التتابع قليل ثم نسلمها آلخرين ليفعلوا الطويل هذا نأخذ الراية ونجري بها ً الدور نفسه ،وبهذا املعنى فكل حكاية تبدأ دامئًا يف منتصفها ،وتنتهي يف منتصفها ،بسبب التمدد الالنهايئ ألطرافها .مل نعرف إال منتصف حكاية أمنية ،ونتفًا من حكايات أماين ،الكثري من حكايات األسطى التي تشبه حكايات الرتوليل يف كونها تغفل ما هو أكرث جوهرية ،من سيحيك مغامرات التعلب التي مل يحكيها؟ قبل أن يكون حسني قائ ًدا للمدرسة ،كان قبله محمد متويل ،وقبله سمري وعرشات القادة اآلخرين ،وقبلهم طالب يذهبون ملدارس يف أصل أحد أساسيات حياتها، مدن مجاورة ،ثم أجيال مل تكن املدرسة ً بل الحقل ،وقبل الحقل ،رمبا كانت هجرة من مكان آلخر .يف القرية عائالت كثرية ألقابها تشري إىل أماكن أخرى ،املنياوي واملنويف واألجاوي والبحريي والسوهاجي ،وغال ًبا وقبل أن يأتوا لهذا املكان ،كانت ألقابهم هناك ،بدورها ،تشري إىل أماكن ثالثة ،يف كل مكان كانوا غرباء حطوا رحالهم للتو ،وتوجب عليهم أن يعلنوا انتامئهم ليشء ثابت، وبتعاقب الرتحال ،تتعاقب االنتامءات وتتغري ،ومبرور عدة أجيال، ينىس األصل األول ،ورمبا لهذا كان العرب مغرمني بحفظ األنساب، كأنهم يتحدون سيولة الزمن ،لكن حتى هم كانوا يجدون حدو ًدا لقدرتهم عىل تتبع األنساب ،يقف يقينهم عند نقطة فيفرتضون ما بعدها ،لكن النسب اليقيني يظل ثابتًا ،كلنا آلدم ،وآدم من تراب ،كام قال الرسول يف خطبة الوداع.