You are on page 1of 87

‫‪1‬‬ ‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر‬

‫‪2‬‬ ‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر‬


‫تعلم الطيـــور‪ ،‬مـنذ‬
‫صغرها‪ ،‬أين ستهاجر‬
‫بالل عالء‬

‫‪2020‬‬

‫صورة الغالف‪ :‬محمد أنور‬

‫‪3‬‬ ‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر‬


‫‪1‬‬
‫منذ أيام يفكر أنه ال بد أن يحسم أمره‪ ،‬ولكن شعو ًرا عميقًا بعدم‬
‫قدرته عىل تحمل أي حدث درامي جديد يف حياته‪ ،‬حافظ عىل توتره‬
‫وارتباكه دون قدرة عىل الحسم‪ .‬هذا األسبوع الرابع تقري ًبا منذ عودته‬
‫للقاء غادة‪ ،‬خطيبته السابقة‪ ،‬الخامس عىل آخر مرة تحدث مع والده‪،‬‬
‫الثامن عىل رسالة مديره‪ ،‬الحادي عرش عىل انفصاله عن غادة‪ ،‬ورمبا‬
‫كام يعلم الجميع‪ ،‬الثامن عرش عىل الحدث الكبري‪.‬‬
‫منذ ما يقرب من شهرين‪ ،‬يف نهار صيفي شديد الحرارة‪ ،‬مبقهى‬
‫شبه فارغ‪ ،‬أخربته غادة برغبتها يف االنفصال‪ .‬كانت األسابيع األخرية‬
‫أكرث فرتات عالقتهام فتو ًرا‪ ،‬دون معارك‪ ،‬ينجرفان بعي ًدا عن بعضهام‪،‬‬
‫بوعي تام‪ ،‬وبدون قدرة‪ ،‬أو رغبة كافية‪ ،‬للمقاومة‪ .‬أنهكتمها املعارك‬
‫الطويلة‪ ،‬ورمبا هذا ما أخر بعض اليشء لحظة املصارحة‪ ،‬علم كل منها‬
‫أنها ال بد آتية بعدما حدث‪ ،‬وظال يراكامن قوتهام لخوضها‪.‬‬
‫أرخت غادة جناحيها بجوار مقعدها‪ ،‬تدىل شعرها األسود الطويل‬
‫مرتخ ًيا عىل الجناحني كأنه اكتسب‪ ،‬أخ ًريا‪ ،‬صديقًا جدي ًدا‪“ .‬أطلبلك‬
‫حاجة؟”‪ ،‬يعلم أنها ستطلب قهوة تريك زيادة‪ ،‬أجابته بتوقعه‪ ،‬وسار‬

‫‪4‬‬ ‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر‬


‫هو لجلب القهوة لها والشاي له‪ .‬فكر وهو يقف أمام النادل أن‬
‫هذه اللحظات رمبا تكون األخرية لعالقتهام‪ ،‬تلكأ وهو ينظر لقامئة‬
‫املقهى‪ ،‬حتى سأله النادل عن طلبه فأجاب‪ .‬وقف منتظ ًرا تحضري‬
‫الطلب‪ ،‬وهو يرتب كلامته يف عقله مرة أخرية قبل أن يلقيها إليها‪.‬‬
‫أخذ القهوة والشاي إىل طاولتهام‪ ،‬وجلس يف مواجهتها‪ ،‬وليس بجوار‬
‫املقعد القريب منها كام اعتادا‪ .‬فكرت أنه إذن مستعد للمواجهة‪.‬‬
‫منذ سبعة أسابيع مل يتبادال سوى الحديث الرتيب عن أخبار‬
‫أيامهام‪ ،‬بحذر من الطرفني عن الغوص أبعد من ذلك‪ ،‬حتى أنهام‬
‫قليل ما تحدثا عن الحدث الكبري نفسه‪ .‬كانت ما زالت ممتنة له‬ ‫ً‬
‫عىل وقوفه بجوارها يف مرضها‪ .‬ومل ترد مواجهته بعد أن اسرتدت هي‬
‫عافيتها‪ ،‬وغاص هو يف اكتئابه الدوري الذي ضاعفه الحدث وتبعاته‪.‬‬
‫ثقيل عليه‪ ،‬وخاف‬ ‫تقابال مرة واحدة خالل هذه األسابيع‪ ،‬كان اللقاء ً‬
‫أن تستعجل هي املواجهة‪ ،‬لكنها كانت أرأف به من ذلك‪ .‬ورمبا ما‬
‫شجعه للقائها أخ ًريا أنه أحب أن يراها بجناحيها الجديدين‪ .‬كانت من‬
‫املحظوظني الذين نبتت لهم أجنحة‪ .‬والده حينها كان ال يزال مريضً ا‪،‬‬
‫ورمبا أسهم ذلك أيضً ا يف تأجيلها للمواجهة‪ .‬من كان يعلم أن كل ما‬
‫حدث كان ممك ًنا؟‬
‫يف أيامهام األوىل‪ ،‬تبادال السؤال املعتاد عن أي قوة خارقة يحب‬
‫كل منهام امتالكها‪ .‬هو‪ ،‬كغالبية الذكور‪ ،‬قال إنه يحب أن يكون غري‬
‫مريئ‪ ،‬ليتلصص عىل السيدات يف بيوتهن‪ ،‬بينام أجابت أنها تحب أن‬
‫تكون لها القدرة عىل الطريان‪ ،‬تتنقل بني البلدان كام تريد‪ ،‬وتنام كل‬
‫يوم يف بلد جديد‪ .‬أحدهام عىل األقل تحقق حلمه‪.‬‬
‫أخذت غادة تنظر إىل قهوتها منهمكة‪ ،‬كأنها تبحث يف داخلها‬
‫عن يشء ما عزيز لديها‪ ،‬بينام أخذ هو يحرك امللعقة داخل الشاي‬

‫‪5‬‬ ‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر‬


‫يف دوائر بال نهاية‪ ،‬كأنه يتمنى أن يتوه داخلها‪ .‬سمعها تأخذ شهيقًا‬
‫طويل‪ ،‬ثم أتاه صوتها‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬محمد؟‬
‫توترت موجات الشاي مع صوتها‪ ،‬لكنه حاول االستمرار يف صنعها‪،‬‬
‫استمرت‪:‬‬
‫‪ -‬الزم نتكلم؟‬
‫سحب امللعقة من الشاي‪ ،‬نظر يف عينيها‪ ،‬أخذ شهيقًا أطول من‬
‫شهيقها‪ ،‬ورد‪:‬‬
‫‪ -‬هننفصل؟‬
‫أربكها برسعته يف املواجهة‪ ،‬فصمتت‪ .‬دفن رأسه يف الطاولة‪ ،‬ال‬
‫يصدق أن ذلك يحدث‪ ،‬سمع بكاءها‪ ،‬دمعة واحدة خرجت من عينه‬
‫دون أن يرفع رأسه‪ .‬استمر ذلك بضع دقائق حتى هدأ كليهام‪ .‬مسح‬
‫دمعته قبل أن يرفع رأسه‪ ،‬وحني رفعها بكت مرة أخرى‪ .‬اخترص‬
‫طويل‪،‬‬
‫املواجهة‪ ،‬دون حتى أن تبدأ هي يف الكالم‪ .‬راوغ كل منهام ً‬
‫وبدا له أنه ال دا ٍع للمراوغة بعدما أصبحت املواجهة محتومة‪ ،‬فحاول‬
‫أن يقلل زمنها قدر املستطاع‪ .‬بعد هدوء طويل‪ ،‬سألته بحنان مل‬
‫يستطع النفاذ إىل قلبه‪:‬‬
‫‪ -‬هتبقى كويس؟‬
‫دفن رأسه يف الطاولة مرة أخرى‪ .‬لن يكون يف حالة جيدة‪ ،‬يعلامن‬
‫ذلك‪ .‬حنانها الوقتي لن يشعره بالدفء‪ ،‬وهو يعلم أنها ستنفلت‬
‫منه بعد قليل‪ ،‬وسيفقد أحد مصادر طأمنينته القليلة‪ .‬تذكر جلسته‬
‫بجوارها يف املستشفى منذ شهور قليلة‪ ،‬عندما ظن أنه سيفقدها‬
‫لألبد‪ .‬كان والدها بجواره يبيك‪ ،‬بينام يضع هو يده عىل كتفه مطمئ ًنا‬

‫‪6‬‬ ‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر‬


‫إياه أنهام لن يفقداها أب ًدا‪ .‬ها هو يفقدها اليوم‪ .‬بىك‪ ،‬فبكت‪ ،‬ثم‬
‫محاول تكسري الحزن الذي يغلف لقاءهام‪ ،‬قال لها‪:‬‬ ‫ً‬
‫‪ -‬مكتوب علينا الدراما داميًا‬
‫ابتسمت‪ ،‬وانقطع بكاؤه‪ .‬ظال جالسني دون كالم‪ .‬وباتفاق ضمني‬
‫ناتج عن طول العرشة‪ ،‬قاما مرة واحدة وغادرا املقهى‪ .‬سارا بجوار‬
‫بعضهام البعض‪ ،‬صامتني‪ ،‬متباطئني القرتابهام من بيتها‪ ،‬حيث تعيش‬
‫بعي ًدا عن أهلها‪ ،‬البيت الذي شهد أجمل لحظاتهام‪ .‬حني صارا أمامه‬
‫أخ ًريا‪ ،‬نظرت إليه كأنها تحاول احتضانه‪ ،‬فرتاجع للوراء بحركة مرسحية‪.‬‬
‫انحنى‪ ،‬رفع قبعة وهمية من فوق رأسه‪ ،‬ولوح بها كأنه يحيى جمهور‬
‫مرسحية منتهية‪ .‬حاول أن تكون تلك نهاية اليوم ويذهب كل منها‬
‫طويل‪ ،‬وقبلت رأسه‪،‬‬ ‫يف طريقه‪ ،‬لكنها اقرتبت منه بعزمية واحتضنته ً‬
‫وطارت‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫تبدو بعض الطرق واضحة ج ًدا‪ ،‬كأن الحارض وجد ليستمر‪ ،‬ثم‬
‫يزيلها الضباب‪ ،‬ويزول لتظهر طرق جديدة‪ ،‬وتزول‪ .‬مل يغادر منزله‬
‫طوال أسبوع‪ ،‬مل يحدث غادة منذ لقائهام األخري‪ ،‬يتصل به يوم ًيا‬
‫زمالؤه يف العمل‪ ،‬جامل ورشبيني بالذات‪ ،‬مطمئنني عليه‪ ،‬ومستفرسين‬
‫عن عدم حضوره‪ ،‬يف األغلب مل يكن يرد عليهم‪ .‬كان تائ ًها يف غابة‬
‫اكتئابه‪ ،‬نامئًا أغلب اليوم‪ ،‬مل يقابل أح ًدا طيلة األسبوع‪ .‬قرر مرتني أنه‬
‫سيستيقظ ويذهب لعمله ككاتب إعالنات‪ ،‬لكنه يف الصباح كان يفقد‬
‫نفسه يف الغابة مرة أخرى‪ ،‬ويحاول بقية اليوم أن يعرث عليها‪.‬‬
‫يف األسبوع التايل‪ ،‬وبهمة مفاجئة‪ ،‬غادر منزله متوج ًها للعمل‪.‬‬
‫أحسن بتحسن غري مربر يف حالته النفسية‪ ،‬سار للعمل رغم طول‬
‫الطريق كأنه يحتفي بخروجه من الغابة‪ .‬قابله الجميع برتحاب زائد‪،‬‬

‫‪7‬‬ ‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر‬


‫حتى املدير نفسه‪ ،‬أحمد حربية‪ ،‬مل يسأله عن غيابه‪ .‬حرض اجتام ًعا‬
‫صباحيًا‪ ،‬وشارك ببعض األفكار‪ ،‬وبعد انتهاء االجتامع جلس يف مكتبه‬
‫قليل‪ ،‬لعب ماتش فيفا وخرسه‪ ،‬ثم خرج للبلكونة لتدخني سيجارة‪.‬‬ ‫ً‬
‫أتت ندى يف إثره وأشعلت سيجارة بدورها‪ ،‬ثم سألته عن صحته‪.‬‬
‫“كنت تعبان شوية األسبوع اليل فات‪ ،‬بس كويس دلوقتي”‪ .‬سألته‬
‫عن أخبار غادة خطيبته فراوغ‪ ،‬وتذكر حينها أنه ما زال يلبس دبله‬
‫خطوبته‪ ،‬املحفور عليها جملة غادة التي اختارتها نصف مامزحة‬
‫“تعلم الطيور منذ صغرها إىل أين ستهاجر”‪ .‬ناسيًا وجود ندى متا ًما‬
‫خلع دبلته‪ ،‬وفكر لوهلة أن يقذف بها للشارع‪ ،‬لكنه وضعها يف جيبه‪،‬‬
‫ثم انتبه لنظرة ندى املستغربة‪:‬‬
‫‪ -‬بيحصل يف أحسن العائالت‬
‫مل يخربها أكرث من ذلك‪ .‬نظرت إليه متعاطفة‪ ،‬ضامة شفتيها‪،‬‬
‫متحازنة‪:‬‬
‫‪ -‬أنا موجودة داميًا‪ ،‬لو حابب تتكلم‬
‫غادر البلكونة‪ ،‬دخل مكتبه‪ ،‬وضع حاسوبه يف حقيبته‪ ،‬ثم خرج‬
‫من املكتب ومل يعد إليه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫عن طريق معارف مشرتكني‪ ،‬عرف ندى قبل أن يعرف غادة‪ .‬كون‬
‫تجاهها يف لحظة ما مشاعر قوية‪ ،‬رسعان ما جرفتها غادة‪ .‬لكنهام ظال‪،‬‬
‫لفرتة‪ ،‬صديقني مقربني لدرجة مربكة لشخصني منغمسني يف عالقتني‬
‫جديتني‪ ،‬قبل أن يصبحا زمالء عمل بتاريخ شخيص مشرتك مفتوح عىل‬
‫احتاملية إعادة توطيد الصداقة‪ .‬كلمته ندى يف املساء متسائلة إن‬
‫كانت أزعجته يف يشء‪ ،‬نفى‪“ :‬أنا بس مش يف أفضل حااليت”‪ .‬سألته‬

‫‪8‬‬ ‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر‬


‫عن إمكانية أن تأيت لبيته لتطمنئ عليه‪ ،‬أخربها أال داعي ذلك‪ ،‬أرصت‬
‫وجاءت‪.‬‬
‫فتحت شباك الصالة مبجرد دخولها‪“ ،‬مش كفاية كآبة يا بني”‪.‬‬
‫“ترشيب حاجة؟”‪“ ،‬تقصد شاي طب ًعا”‪ ،‬أجابت مبتسمة‪ .‬ذهب لتحضري‬
‫الشاي وهو يسري يف غابته‪ ،‬ثم عاد‪ .‬جلست بجواره‪ ،‬نظر إليها من‬
‫داخل غابته‪ ،‬فبدت بعيدة ج ًدا‪ ،‬سألها‪:‬‬
‫‪ -‬عاملة إيه يف الدنيا؟‬
‫‪ -‬انتا اليل عامل إيه؟‬
‫‪ -‬بعافر أهو‪ .‬انفصلت أنا وغادة من أسبوع‪ .‬فمش يف أحسن‬
‫حااليت‬
‫‪ -‬حاجة معينة حصلت؟‬
‫‪ -‬أل عادي‪ ،‬الزمن‬
‫‪ -‬حكيم برده حتى وانتا مكتئب‬
‫هز كتفيه محاولً االبتسام‪ ،‬قطعت الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬والطريان؟‬
‫‪ -‬والطريان‬
‫كل من يعرفه هو وغادة يعلم أنها ممن أصبحوا قادرين عىل‬
‫الطريان بعد الحدث الكبري‪ .‬زميل آخر يف العمل‪ ،‬هو إبراهيم‪ ،‬غادر‬
‫العمل والبلد كلها مبجرد أن استطاع الطريان هو اآلخر‪ .‬بالنسبة ملن‬
‫استطاعوا الطريان‪ ،‬كانت عالقتهم باآلخرين تشعرهم باملحارصة‬
‫وبالقيود‪ ،‬حتى أكرث العالقات أصالة ال ميكنها النجاة بسهولة من‬
‫انفتاح عامل ميلء باحتامالت ال تنتهي أمام أحد أطرافها دون اآلخر‪.‬‬
‫انفصال مشاب ًها‪ ،‬ليس ألن‬
‫ً‬ ‫ندى نفسها عانت من أسابيع قليلة‬

‫‪9‬‬ ‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر‬


‫صديقها‪ ،‬مصطفى املنياوي‪ ،‬استطاع الطريان كغادة‪ ،‬ولكن ألنه أحب‬
‫واحدة تستطيع الطريان‪ ،‬وكانت خطته أن يتعلق بها ويذهبا م ًعا إىل‬
‫مكان جديد‪ ،‬بعيد‪.‬‬
‫‪ -‬كلنا كدا‬
‫قالت ندى بأىس صادق‪ ،‬وتنهدت‪ .‬ربت عىل شعرها‪“ ،‬متزعليش”‪.‬‬
‫“أنا كويسة‪ ،‬وتجاوزت املوضوع‪ ،‬انتا بتفكر يف إيه؟”‪.‬‬
‫فعل‬
‫‪ -‬مش عارف ً‬
‫‪ -‬هتيجي الشغل بكرا طيب؟‬
‫‪ -‬ماعتقدش‪ ،‬حاسس إين محتاج أغري حيايت‪ ،‬مش عاوز أفضل أدور‬
‫يف نفس الساقية لألبد‬
‫‪ -‬بس الشغل لطيف‪ ،‬وكلهم بيحبوك‬
‫صمت‪ ،‬وصمتت‪ .‬إن مل يكن قاد ًرا عىل الطريان فعىل األقل ما زال‬
‫بإمكانه التنقل‪ .‬مفارقة أن يفكر يف ذلك وهو غري قادر عىل مغادرة‬
‫غابته‪ ،‬أو رمبا بسبب ذلك تحدي ًدا‪ .‬عدل من جلسته لوضع أفقي‪،‬‬
‫ووضع رأسه عىل ركبتها‪ ،‬وأغمض عينيه‪.‬‬
‫باتت ندى عنده‪ ،‬دون أن يحدث بينهام أي يشء‪ ،‬وعندما أيقظته‬
‫للعمل اعتذر‪ ،‬لكنه رشب معها شاي الصباح‪ ،‬دون أن يتبادال كال ًما‬
‫كث ًريا‪ ،‬احتضنته مودعة‪:‬‬
‫‪ -‬هتكون أحسن‪ ،‬متخافش‬
‫غادرت‪ .‬لكنها ستعود كث ًريا‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫لطاملا أربكه وجود مصطفى املنياوي يف محيطه‪ .‬خليط من الغرية‬
‫املبهمة وعدم االحرتام الرصيح‪ ،‬غرية مبهمة عىل ندى التي نظريًا‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪10‬‬


‫ليست أكرث من صديقته‪ ،‬وعدم احرتام رصيح نتيجة لغرور مصطفى‬
‫غري املربر‪ .‬طبيب شاب‪ ،‬من أرسة مدينية ميسورة‪ ،‬دون أي صفات‬
‫شخصية بارزة‪ ،‬مل يتجاوز إحساس املراهقني املتفوقني دراس ًيا وطبق ًيا‬
‫عىل زمالئهم‪ ،‬ورمبا بسبب إحساسه العميق باالستحقاق‪ ،‬مل يرتك‬
‫أب ًدا ما يظن أنه له‪ .‬مل تكن ندى بالطبع تشارك محمد انطباعه عن‬
‫مصطفى‪ ،‬وترى يف إحساسه باالستحقاق ميزة ال ميكن إغفالها‪ ،‬جريء‪،‬‬
‫ومبادر‪ ،‬ويتحرك يف الحياة بثقة من مل ينكرس أب ًدا‪ ،‬وتنرش ثقته هذه‬
‫الطأمنينة يف من حوله‪ .‬حتى غروره رأت فيه ندى رهانًا عىل املستقبل‪،‬‬
‫أكرث منه فخ ًرا بوضع طبقي معني‪ ،‬رهان مقامر‪ ،‬لكنه يصاحب دو ًما‬
‫أولئك الذين يحققون األشياء العظيمة‪ .‬ورغم أنه من املمكن القول‬
‫إن مصطفى خيار آمن متا ًما‪ ،‬فإنه كان بالنسبة لندى خيا ًرا يفتح باب‬
‫املغامرة الشغوفة يف الدنيا‪ .‬دامئًا لديه مشاريع عمالقة‪ ،‬له عرشات‬
‫الهوايات‪ ،‬بجانب عمله طبي ًبا‪ ،‬يكتب الروايات‪ ،‬يشارك يف عروض‬
‫مرسحية‪ ،‬يسافر يف السنة عدة مرات ومعه ندى‪.‬‬
‫مدهش كيف يختلف تفسري نفس الصفات لنفس الشخص‬
‫بحسب موقع الشخص املفرس منه‪ ،‬فحتى محمد ال ميكنه أن يدعي‬
‫أنه مل يستفد أب ًدا من جرأة مصطفى‪ ،‬خاصة حني كانوا يف أحد املدن‬
‫الساحلية واكتشفت غادة أن أحد من يجلسون بجوارهم يلتقط‬
‫صو ًرا لها‪ .‬اشتبك محمد مع الشاب‪ ،‬الذي تداعى لنرصته خمسة شبان‬
‫مفتويل العضالت من نوعية هؤالء الذين ميتلئ كل “جيم” بهم‪ .‬كان‬
‫هذا االشتباك الجسدي األول ملحمد يف حياته بعي ًدا عن قريته‪ ،‬بعي ًدا‬
‫عن حسني والتعلب ومحمد عبد الحميد والقط واألعرج‪ ،‬وبعي ًدا عن‬
‫جامعته‪ ،‬عن غانم والرتبو والرتوليل ونظرية‪ ،‬وعن أماين‪ .‬وبغريزة‬
‫مدافع الكرة الذي كانه‪ ،‬صد اللكامت بيده‪ ،‬وسدد بعض الركالت هنا‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪11‬‬


‫وهناك‪ .‬ارتفعت األحزمة‪ ،‬وبينام يتلقى عدة لكامت يف وجهه وبطنه‪،‬‬
‫سمع بعض املقاعد تتكرس‪ ،‬ندى وغادة ترصخان وتحاوالن املشاركة يف‬
‫االشتباك بال نجاح يذكر‪ ،‬حني ظهر املنياوي‪ ،‬ليؤدى واحدة من أفضل‬
‫مرسحياته‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫يف الطفولة‪ ،‬كل حدث مؤسس‪ .‬حيث الكلامت ما زالت بال دالالت‪،‬‬
‫وتكسبها األحداث دالالتها األصلية‪ .‬كلام سمع محمد كلمة “شلوت”‪،‬‬
‫قفز إىل ذهنه مشهد طريان أرشف يف الهواء‪ .‬كانوا يف صباح كل جمعة‬
‫يلعبون يف أرض واسعة‪ ،‬وعندما وجدوها مليئة بأشولة القطن‪ ،‬ذهبوا‬
‫إىل مكان واسع آخر اقرتحه عليهم التعلب‪ .‬املكان يف منتصف بيوت‬
‫ال يعرفون فيها أح ًدا‪ ،‬كانوا غرباء‪ ،‬وبعد نصف ساعة تجمع أطفال‬
‫املنطقة ليطردوهم‪ .‬مل يكن حسني معهم ليقود املعركة‪ ،‬فتطوع‬
‫التعلب بالقيادة املؤقتة‪ .‬وعندما رآهم األطفال اآلخرون متحمسني‬
‫للمعركة‪ ،‬نادوا إخوتهم األكرب‪ .‬بدأت املعركة كأي معركة كربى مببارزة‬
‫فردية‪ ،‬لكن يف حركة تخلو من املروءة‪ ،‬أحد كبار األطفال األعداء‬
‫استفرد بحارس مرماهم‪ ،‬القط‪ ،‬ورضبه‪ .‬يف هذه اللحظة جرى أرشف‬
‫بكل قوته بطول امللعب‪ ،‬وقفز يف الهواء وهو يسدد ركلة إىل رأس‬
‫العدو‪ .‬قوانني معارك األطفال بسيطة‪ ،‬لكن حكيمة‪ .‬يف كل األحوال‬
‫ستُرضب‪ ،‬عليك فقط أن “تعلم” عىل عدوك‪ ،‬ترتك فيه جر ًحا ظاه ًرا‪،‬‬
‫أما من رضب من أكرث فهذا أمر جديل‪ ،‬خاصة أن مجموعة محمد هي‬
‫من تلقت النصيب األكرب من الرضب‪ .‬غضب األعداء من مهارة أرشف‪،‬‬
‫الذي كان يلعب الكونغ فو‪ ،‬تحلقوا حوله فجرى بقية الفريق إلنقاذه‪،‬‬
‫فضبوا‪ ،‬حتى أن التعلب قائد املعركة فر منها رسي ًعا واختفى أثره‪.‬‬‫ُ‬
‫محارصين بني البيوت وال مهرب‪ ،‬وال حكمة لدى األطفال األعداء‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪12‬‬


‫لوضع حد للمعركة‪ ،‬حاول أرشف‪ ،‬ألن الحرب خدعة‪ ،‬أن ينقض عىل‬
‫أصغرهم ويهددهم برضبه‪ ،‬لكنهم منعوه وكتفوه‪ .‬أمسك محمد بأكرب‬
‫طوبة وجدها وحاول إلقائها عليهم فكتفوه هو اآلخر‪ ،‬وهكذا خرس‬
‫فريقهم قياداته الثالث‪ .‬لكن‪ ،‬وككل املعارك الكربى‪ ،‬وحني يبدو أن‬
‫األمور قد حسمت‪ ،‬ظهر التعلب‪ ،‬وبجواره األسطورة‪ ،‬محمد متويل‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫تردد وهو يفكر يف أن يبعث لغادة يستفرس عن أخبارها‪ ،‬وفكر‬
‫أنه بعد غادة ال يعرف ملن يشيك اكتئابه‪ ،‬رغم أن هذه الشكوى‬
‫تحدي ًدا كانت تضايقها دامئًا‪ .‬خرج من البيت وسار دون هدى يف‬
‫الشوارع‪ ،‬بينام يسري عقله دون هدى يف غابته‪ ،‬كان يسري يف عاملني‬
‫يف الوقت نفسه‪ .‬يف غابته كانت األشجار كثيفة‪ ،‬كل حدث حصل له‬
‫أنبت شجرته الخاصة‪ .‬وجود غادة كان مينحه طريقًا يف الغابة يسري‬
‫فيه‪ ،‬متلمسا حبل صوتها‪ ،‬ليصل إليها‪ ،‬فبأي صوت يهتدي اآلن‪.‬‬
‫مل تكن لديه فكرة عن بديل عمله‪ ،‬كل الفرص املتاحة مشابهة‬
‫ج ًدا ملا يفعله‪ ،‬ولن متنحه الشعور بالتنقل الذي يرجوه‪ .‬شعر باقرتابه‬
‫من الشوارع التي تؤدي لبيتها فسار راج ًعا حتى وصل بيته‪ ،‬ومبجرد‬
‫وصوله وضع رأسه عىل الرسير ونام‪.‬‬
‫أيقظه رنني الهاتف‪ ،‬أخربته أمه بنقل أبيه للمستشفى‪ ،‬أزمة قلبية‬
‫أخرى‪ .‬لبس برسعة وذهب إليهم‪ ،‬كانت أمه أخته وأعاممه وأخواله‬
‫جميعهم هناك‪ ،‬أو عىل األدق من تبقى منهم‪ .‬رأى خاله األصغر عىل‬
‫باب املستشفى‪ ،‬مرخ ًيا جناحيه‪ ،‬يدخن سيجارة‪ .‬سأله عن حالة أبيه‪،‬‬
‫“إن شاء الله خري”‪ .‬تركه وصعد ألمه‪ ،‬احتضنها‪ ،‬طأمنها أن كل يشء‬
‫سيكون عىل ما يرام‪ .‬أخرجته الصدمة من الغابة‪ ،‬وأصبح يف العامل‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪13‬‬


‫تبادل الحديث مع أعاممه وأخواله‪ ،‬سلم عىل غانم الذي أىت مرس ًعا‪،‬‬
‫أخته جالسة دون حراك تبيك‪ ،‬طأمنها‪ ،‬بثقة مفرطة ناتجة عن شعوره‬
‫الوقتي بالهروب من الغابة‪ ،‬أن أباها سيغادر املستشفى غ ًدا عىل‬
‫قدميه‪ .‬صدق هو نفسه ما قاله‪ ،‬وذهب للطبيب فقط زيادة تأكيد‪.‬‬
‫فعل يف تحسن‪ ،‬ورمبا حتى يغادر اليوم‪.‬‬ ‫أخربه الطبيب أن أباه ً‬
‫عاد ألعاممه وأخربهم‪ ،‬حمد عمه الكبري الله‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬اتنني كتري برده‪ ،‬ربنا أرحم من كدا‬
‫كان يشري لوفاة عمه سعيد‪ ،‬أوسط إخوته‪ ،‬الذي مات قريبًا يف‬
‫أزمة املرض الخطري‪ .‬كان عمه سعيد أقرب أعاممه لقلبه‪ ،‬بحيويته‬
‫وظرفه واستعداده الدائم للمساعدة وتحمل مسؤولية كل يشء‪ .‬مل‬
‫يكن بجواره يف مرضه‪ ،‬مل يغادر املستشفى التي بها غادة وقتها إال‬
‫للعمل ثم يعود إليها‪ ،‬وينام يف املستشفى‪.‬‬
‫ظل باملستشفى طيلة الليل‪ ،‬نام هناك‪ ،‬ويف الصباح غادر هو وأمه‬
‫مع أبيه لبيت والده‪ .‬استقبلتهم أخته الصغرى فرحة‪ ،‬والده منهك‪،‬‬
‫لكنه سعيد بنجاته‪ ،‬ومازح ابنته التي ما زالت قلقة‪:‬‬
‫‪ -‬مش أبويك اليل يروح بالسهولة دي بني يوم وليلة‬
‫قىض اليوم كله بجوار أبيه‪ ،‬خصمه التاريخي‪ ،‬عالقتهام متوترة‬
‫منذ مراهقته‪ ،‬مراهقة محمد بالطبع وليس أبيه‪ .‬ولطبيعة أرستهام‬
‫املتحفظة يف التعبري عن مشاعرها‪ ،‬مل يستطع أحدهام أن يعيد وصل‬
‫ما انقطع‪ ،‬كانا يحمالن خصومة ذابلة مل تعد ذات معنى منذ سنوات‬
‫طويلة حني انتقل للعيش مبفرده‪ .‬ورغم ذبولها‪ ،‬مل توات أيًا منها‬
‫الجرأة ليخلعها من الرتبة نهائ ًيا ويقيض عليها‪.‬‬
‫يف الليل‪ ،‬دعته أمه للبيات‪ ،‬لكنه خاف إن طال مكوثه لديها أن‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪14‬‬


‫تسأله عن غادة وأسباب االنفصال‪ ،‬فاعتذر محت ًجا بأنه ال بد أن‬
‫قليل‪،‬‬
‫يذهب إىل عمله يف الصباح‪ ،‬وحاسوبه هناك يف بيته‪ .‬تضايقت ً‬
‫متكنت مبرور الوقت من التسليم بأن ابنها الكبري قد طار بعي ًدا عنها‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫علم مبرض غادة من والدها‪ .‬كان املرض الخطري‪ ،‬الذي مل يعرف أحد‬
‫طبيعته‪ ،‬قد بدأ يف االنتشار عىل مستوى العامل‪ ،‬حمى ووجع جسدي‬
‫ال يحتمل خاصة يف الظهر‪ .‬كانت قصص وفيات املرض وإصاباته هي‬
‫الخرب األول يف كل النرشات والجرائد‪ ،‬ورغم مرور شهر كامل عىل‬
‫بدايته مل يعرف األطباء ما هو وال كيف ينترش‪ ،‬وال حتى كيف يبحثون‬
‫عن عالج له‪ .‬تاه قلبه منه حني أخربه أبوه مبرضها‪ ،‬كانا متعاركني قبلها‪،‬‬
‫غري معاركهام التقليدية‪ ،‬كانت املعركة األخري‪ ،‬عن األزمة الصامتة‬
‫التي بدأت منذ العالقة‪ ،‬وفضل هو كعادته أن يتجاوزها دون خوض‬
‫معركتها للنهاية‪ .‬ذهب رسي ًعا للمستشفى‪ ،‬أبوها قلق وكذلك إخوتها‬
‫األربعة‪ ،‬محمد وأحمد ومصطفى ومحمود‪ ،‬كلهم عىل اسم من أسامء‬
‫الرسول‪ ،‬تحقيقًا لنذر جدتهم بعد وفاة أول ابن لوالد غادة‪ ،‬إميانًا منها‬
‫أن ذلك سيحميهم ويدخل الربكة للبيت‪ .‬غادة كانت ثالثة األرسة بعد‬
‫محمد وأحمد‪ .‬إخوتها كلهم جالسني عىل مقاعد املستشفى بال توتر‬
‫ظاهر‪ ،‬عكس والدهم‪ ،‬وبسكون تام‪ ،‬عكس والدهم أيضً ا‪.‬‬
‫‪ -‬أنا لسه مفقتش من موت أمها‬
‫قال والدها ثم زفر‪ ،‬وكاد يبيك‪ .‬وجد محمد نفسه يف دور الشخص‬
‫الهادئ الواثق مضط ًرا‪ ،‬وهو الدور الذي طاملا التصق به دو ًما إال مع‬
‫غادة‪.‬‬
‫هي من اقرتحت عليه بعد فرتة قصرية من الحديث اإللكرتوين أن‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪15‬‬


‫يلتقيا‪ .‬وقتها كان يخزن مشاعر قوية تجاه ندى‪ .‬لكنهام تقابال‪ .‬بدت‬
‫أشجع وأكرث اقتحا ًما عىل الحقيقة‪ ،‬مقتحمة للدرجة التي جعلتها‬
‫خجول لدرجة ما‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬سمعت عن حكاية الست اليل كانت بتخون جوزها مع عرشين‬
‫واحد‪ ،‬فجوزها اتجنن دا‪ ،‬عرشين واحد يا مفرتية‪ ،‬بتفتكرهم ازاي دي‬
‫كانت هذه افتتاحية حديثها‪ ،‬غمرت النكات الجنسية اللقاء كله‪،‬‬
‫أغلبها من جانبها‪ .‬يف ما بعد ستقول له إنها حاولت يف البداية أن‬
‫تكرس حدة غرابة اللقاء‪ ،‬لكنها مل تعرف الحقًا كيف توقف نفسها‪.‬‬
‫بعدها بثالث ساعات كانا يسريان يف الشوارع يعلقان عىل صدور‬
‫قليل‬
‫جميع السيدات وهام يضحكان‪ ،‬وهو يرجوها أن تخفض صوتها ً‬
‫يك ال يسمعها أحد‪ .‬قالت له إنها ميكن أن تأيت ملكتبه لتجلس معه‬
‫طويل‪ ،‬مكشوف‬‫قليل قبل أن يخرجا املرة القادمة‪ ،‬ترتدي فستانًا أزرق ً‬
‫ً‬
‫الذراعني‪ ،‬مفتوح الرقبة‪ ،‬وينسدل‪ ،‬لألسف الشديد‪ ،‬شال طويل من‬
‫رقبتها ليغطي مقدمة صدرها‪ ،‬بداية غريبة‪ .‬ضاعت مشاعره تجاه‬
‫ندى ذلك اليوم‪.‬‬
‫‪ -‬مش هتقوم انتا تروح تنام؟‬
‫سأله والدها يف املستشفى‪ ،‬أجابه بالنفي‪ .‬رجع إخوتها للبيت‬
‫وظل ووالدها منتظرين‪ .‬خصومة خامدة أخرى‪ ،‬مرجأة حتى حني‪.‬‬
‫ناما عىل أكتاف بعضهام البعض‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫نظر لدبلته املوضوعة بجانب الرسير‪ ،‬كان مرتا ًحا لنجاة والده‪،‬‬
‫إىل أين تعلم الطيور أنها ستهاجر يا غادة‪ .‬ندم اآلن أنهام مل يتحدثا‬
‫أكرث يف لقائهام األخري‪ ،‬هكذا ترك نفسه فريسة سهلة لتداعي أفكار‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪16‬‬


‫ال ميكنه إيقافه‪ :‬إىل أين ستطري غادة‪ ،‬ما خطتها‪ ،‬هل قابلت أح ًدا‬
‫ما وأعجبها‪ ،‬أين هي اآلن‪ ،‬هل يتصل بها ليطمنئ عليها‪ ،‬ألن يبدو‬
‫مث ًريا للرثاء إن أخربها مبرض والده ليرسق بعض االهتامم منها؟ رمبا‬
‫سمعت عن تعب والده من أصدقاء مشرتكني‪ ،‬فلامذا مل تتصل به؟‬
‫هو كان ليحدثها وفو ًرا ويكون إىل جوارها‪ .‬رمبا تكون قد طارت خارج‬
‫البالد كلها‪ ،‬طار النوم من عينيه‪ ،‬بعث برسالة إىل ندى يسألها إن كان‬
‫بإمكانها أن تلتقيه اآلن‪ ،‬ردت‪“ ،‬الساعة اتنني ونص بالليل يا محمد‪،‬‬
‫خلينا نتقابل بكرا‪ ،‬إنت عامل إيه؟”‪.‬‬
‫مل يرد‪ ،‬حاول النوم بال جدوى‪ ،‬القراءة بال جدوى‪ ،‬مشاهدة‬
‫طويل عليه يف الغابة‪ ،‬األشجار كثيفة‪،‬‬
‫مسلسل بال جدوى‪ .‬مر الليل ً‬
‫ماذا فعل يف حياته ليحارص هنا‪ .‬حاول تسلق بعض األشجار ليعرف‬
‫اتساع الغابة دون نجاح‪ ،‬تجول يف الغابة ليضيع وقته‪ .‬بدا لنفسه‬
‫جبانًا أكرث من أي وقت مىض‪ ،‬ملاذا أعجبت به غادة من البداية؟ هل‬
‫خدعها مشهده الوقور والهادئ ومل ت َر الحطام الذي يخفيه؟ ماذا‬
‫عمل آخر‪ ،‬وسيعود مهزو ًما إىل‬
‫حقق يف حياته حتى اآلن؟ لن يجد ً‬
‫عمله الحايل‪ .‬لن يستطيع أن يغري حياته أب ًدا‪ ،‬ما دام سيظل هو هو‪،‬‬
‫ينتقل بخرابه الداخيل من مكان إىل آخر‪ ،‬يثري اإلعجاب للوهلة األوىل‪،‬‬
‫حتى إذا اقرتب أحد منه بالدرجة الكافية ورأى خراب روحه فعل مثل‬
‫غادة وابتعد‪ .‬تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬إيل أين ستهاجر من غابته‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫مل ينم غري ساعتني‪ ،‬لكنه استحم ليفيق ملقابلة ندى‪ .‬اتصل به‬
‫عدة أصدقاء آخرين مطمئنني عليه‪ ،‬ومل يجبهم‪ .‬رشب فنجانني قهوة‪،‬‬
‫وغادر منزله‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪17‬‬


‫يد عىل كتفه ثم “مستني حد يا أستاذ؟”‪ ،‬يد ندى وصوتها املرح‪.‬‬
‫أدرك ملاذا أحبها ذات يوم‪“ ،‬القطر‪ ،‬بس شكله اتأخر أوي”‪ ،‬رد عليه‬
‫مساي ًرا مرحها‪ ،‬ثم سارا دون اتجاه محدد‪ .‬حكت عن العمل وسؤال‬
‫الزمالء عنه‪ ،‬سألته عن أخباره‪ ،‬متى يعود‪ ،‬مضت ثالث أسابيع منذ‬
‫غادر‪.‬‬
‫‪ -‬مش عارف‬
‫‪ -‬طب وناوي تعمل إيه؟‬
‫‪ -‬مش عارف‬
‫أمسكت يده واحتضنتها‪ ،‬كأنه فعل اعتادت عليه‪ ،‬وأكملت‬
‫املسرية صامتة‪ .‬كيف يقطع إذن هذا الصمت الذي تسبب فيه؟ هل‬
‫يسألها عن صديقها السابق‪ ،‬عن أخبار زمالء العمل‪ ،‬هل يحيك لها‬
‫ما يشعر به وهو داخل الغابة‪ ،‬أخبار “الطائرين” التي ال تتوقف‬
‫الصحف عن نرشها منذ الحدث الكبري‪ ،‬بدا حلم اإلنسانية يتحقق‬
‫أخ ًريا‪ ،‬ال عباس بن فرناس وآلته‪ ،‬وال البالونات‪ ،‬وال الطائرات‪ ،‬أناس‬
‫حقيقيون بأجنحة حقيقية يستطيعون الطريان‪ .‬قليلون ج ًدا هم من‬
‫شفوا من املرض ليكتشفوا أجنحتهم النابتة تلك‪ ،‬خمسون ألفًا عىل‬
‫مستوى العامل كله‪ ،‬أغلبهم يف منطقة الرشق األوسط‪ ،‬اعتربهم العامل‬
‫بداية لعامل جديد‪ ،‬فحصلوا جمي ًعا عىل تسهيالت غري مسبوقة يف كل‬
‫يشء‪ ،‬حتى أن غالبية الدول منحتهم إذنًا دامئا لدخولها‪ .‬مئات املراكز‬
‫البحثية راسلتهم ليكونوا جز ًءا من البحث عن الطفرة غري املسبوقة‪،‬‬
‫الكثري من الوكاالت اإلعالنية الحقتهم كذلك‪ ،‬وكل الرشكات العاملية‬
‫أحبت أن يكون جزء من موظفيها من ذوي األجنحة ليكونوا جز ًءا من‬
‫صورتها‪ ،‬حتى أن الحكومة هنا عينت وزيرة بيئة شابة‪ ،‬ال يؤهلها أي‬
‫يشء سوى جناحاها‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪18‬‬


‫‪ -‬رسحان يف إيه؟‬
‫سألته ندى‪ ،‬وأكملت “ومتقوليش مش عارف تاين”‪ .‬ابتسم‪،‬‬
‫طويل‪،‬‬
‫ً‬ ‫“بتأمل يف الوجود والعدم”‪ ،‬أجاب ماز ًحا‪ ،‬نظر حوله‪ ،‬سارا‬
‫اقرتح أن يجلسا يف مكان ما لتسرتيح‪ ،‬جلسا يف أقرب مقهى‪ ،‬طلبت‬
‫شيشة وقهوة‪ ،‬وطلب شايه املعتاد دون سكر‪ .‬هي من جعلته يف‬
‫وقت ما مدخ ًنا رش ًها للشيشة‪ ،‬ال تجلس يف مكان دون أن تطلبها‪ ،‬يف‬
‫البداية كان يأخذ منها بعض األنفاس‪ ،‬ثم صار يطلب واحدة لنفسه‪،‬‬
‫لكنه أقلع عن ذلك منذ صداقته بغادة التي يضايقها دخان الشيشة‪.‬‬
‫يضايقها أيضً ا دخان السجائر‪ ،‬لكنه أخربها حني اقرتحت عليه اإلقالع‬
‫عن التدخني‪ ،‬أنه ترك الشيشة بالفعل وسيحاول التقليل من السجائر‪،‬‬
‫امتعضت‪ ،‬فأخربها “معليش بقى‪ ،‬مش كل ما يتمناه اإلنسان يدركه”‪.‬‬
‫جلس بجوارها‪ ،‬وأخذ يصنع الدوائر يف شايه‪ ،‬متا ًما كام فعل مع‬
‫غادة آخر مرة‪.‬‬
‫‪ -‬بتفكر تشتغل إيه طيب؟‬
‫‪ -‬طيار‬
‫‪ -‬يابني بتكلم جد‬
‫‪ -‬صياد‬
‫‪ -‬اتكلم جد‬
‫‪ -‬صياد طيور‬
‫قال ماز ًحا‪ ،‬ثم أحزنته إجابته‪ .‬فكر يف “الطائرين” وهم يرخون‬
‫أجنحتهم صاعدين إىل الطائرات‪ .‬رغم قوة أجنحتهم‪ ،‬فإنهم أضعف‬
‫من أن يعربوا مسافات طويلة ج ًدا دون راحة‪ .‬أتته صورة غادة نامئة‬
‫يف طائرة‪ ،‬جناحها بجوارها‪ ،‬مالك طائر كسول‪ ،‬رمبا لو حصل الحدث‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪19‬‬


‫الكبري يف زمن آخر العتربهم الناس سحرة وأعدموهم‪ ،‬أو اعتربوهم‬
‫جنسا آخر غري البرش وقدسوهم‪ ،‬لكن األطباء أكدوا أن “الطائرين”‬ ‫ً‬
‫مجرد برش عاديني بطفرة جينية غري مفهومة ومل يحدث مثلها من قبل‪،‬‬
‫لكنهم قادرون عىل التزاوج من البرش غري الطائرين‪ ،‬مع احتامالت‬
‫متساوية لألطفال‪ ،‬رمبا يكونوا طائرين ورمبا ال‪.‬‬
‫‪ -‬رسحت تاين‬
‫‪ -‬مش هرجع الشغل يا ندى‪ ،‬دي الحاجة الوحيدة اليل أنا متأكد‬
‫منها‬
‫‪ -‬أيوا‪ ،‬هتعمل إيه يعني‪ ،‬استنى فيه لحد ما تدور عىل حاجة تانية‬
‫فعل‪ ،‬مل يعمل يف حياته إال يف هذه املهنة‪ ،‬وأشهر‬ ‫ماذا سيعمل ً‬
‫مهندسا مرة أخرى‬
‫ً‬ ‫قليلة يف مكتب والده كمهندس مدين‪ ،‬لن يعمل‬
‫بالتأكيد‪ ،‬رمبا كان ليصلح كصائد طيور يف زمن ما‪ ،‬ال يعلم بالضبط إن‬
‫كانت هذه مهنة أم ال‪ ،‬وال يعلم حتى إن كان ليحتملها‪ .‬كان يجيد‬
‫التصويب عىل املرمى من بعيد يف كرة القدم‪ ،‬دامئًا ما جعله حسني‬
‫الخيار األول يف لعب الكرات الثابتة‪ ،‬هل يكفيه هذا؟ هل أتته الفكرة‬
‫فعل‪ ،‬هو الذي‬‫كمجاز عن مالحقته لغادة؟ هل يريدها أن تسقط ً‬
‫سحره انطالقها الدائم املخالف لطبيعته متا ًما؟ إن كانت الطيور تعلم‬
‫ِ‬
‫تظاهرت بالهجرة إ ّيل يا غادة ثم‬ ‫منذ صغرها أين ستهاجر‪ ،‬فلامذا‬
‫ِ‬
‫انطلقت إىل مكان آخر؟‬
‫نفسا قويًا‪ ،‬كح بعده مبارشة‪ .‬هل‬‫سحب الشيشة من ندى وأخذ ً‬
‫يواعد ندى؟ ليس باستطاعته اآلن أن يعطي أي مخلوق أي يشء‪ ،‬ال‬
‫يشء لديه‪ ،‬وحي ًدا يف الغابة يبحث عن ممر ما إىل الخارج‪ .‬كل يشء‬
‫بعيد‪ ،‬كيف يخطط لحياته وهو محارص هنا‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪20‬‬


‫عندما عاد لبيته‪ ،‬أرسل رسالة قصرية لغادة‪.‬‬
‫“أمتنى تكوين بخري‪ .‬معرفش إذا كان صح أبعتلك ولال أل‪.‬‬
‫وحشتيني”‪ .‬ظل محدقًا يف هاتفه ينتظر ردها‪ ،‬وملا يئس‪ ،‬نام‪ .‬لن ترد‬
‫عليه إال بعد أسابيع‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫صحيح أنه املدهش‪ ،‬كام تقول إحدى العبارات التي ال يذكر محمد‬
‫أين قرأها‪ ،‬أن يقع اثنان من كل مليارات الناس يف هذا العامل يف حب‬
‫بعضهام البعض يف نفس اللحظة‪ ،‬ولكنه مدهش بنفس الدرجة كيف‬
‫يتمكن اثنان أن يتوقفا عن ذلك يف اللحظة ذاتها‪ .‬فغال ًبا ما تتسبب‬
‫شخصا قبل أن‬
‫مآس عاطفية بال نهاية‪ .‬تحب ً‬ ‫فروق التوقيت هذه يف ٍ‬
‫يحبك بأسابيع قليلة‪ ،‬ورمبا يتسبب حبك املبكر ذلك نفسه يف تعطيل‬
‫حب اآلخر لك‪ ،‬ألنه يرى جانبك األكرث هشاشة‪ .‬وباملثل‪ ،‬قد يسبب‬
‫توقف حب شخص لك قبل أن تتوقف أنت بقليل‪ ،‬يف أن تحارب‬
‫وحدك أفكار الرفض والفشل وانعدام الثقة بالنفس‪ ،‬رغم أنك تعرف‬
‫جي ًدا أن العالقة كانت تسري إىل هذا املصري‪ .‬محظوظة ندى بحسن‬
‫توقيتاتها دامئًا‪ ،‬كأنها موهبة ربانية صقلتها التجارب والدنيا‪ ،‬ففي‬
‫اللحظة التي أعدها مصطفى إلخبارها برغبته يف االنفصال‪ ،‬كانت‬
‫اللحظة التي تالىش يف قلبها أي أثر لحبه‪ .‬هل رأت عالمات االنهيار‬
‫واضحة وأخذت يف التخلص من مشاعرها يو ًما بعد يوم‪ ،‬حتى يكون‬
‫حبل‬
‫توقيتها مثال ًيا هكذا؟ أم أنها املوهبة نفسها التي ترى يف الحب ً‬
‫إن قطعه شخص ما‪ ،‬أصبح مقطو ًعا من الطرفني يف اللحظة نفسها؟‬
‫عىل العموم‪ ،‬ستثبت األيام أن حتى أكرث املوهوبني يف اختيار توقيتاتهم‬
‫مثل ندى‪ ،‬قد يخونهم التوقيت أحيانًا‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪21‬‬


‫‪11‬‬
‫عندما اتفقا عىل الخطوبة‪ ،‬كانت غادة من اقرتح أن يكتب كل‬
‫منهام جملة ما عىل دبلة اآلخر‪ .‬قالت ذلك بعدما حرضت جملتها‬
‫قليل واقرتح‪ “ ،‬ال يخطئ الطري أب ًدا مكان بيته”‪ ،‬كتنويعة‬
‫بالفعل‪ ،‬فكر ً‬
‫عىل جملتها‪ .‬اتهمته بالترسع وعدم اإلبداع وعدم أخذ األمر بالجدية‬
‫الكافية‪ ،‬فعاد للبيت وأرسل إليها سبعة اقرتاحات‪:‬‬
‫‪ -‬م ًعا‪ ،‬ال ميكن ليشء أن يوقفنا‬
‫‪ -‬يعلم القلب‪ ،‬حني يعلم القلب‬
‫‪ -‬األشياء الجميلة وجدت لتبقى‬
‫‪ -‬أرق من طائر‪ ،‬وأقوى من عاصفة‬
‫‪ -‬طريي يا طيارة طريي‬
‫‪ -‬يسكن املرء حيث يسكن قلبه‬
‫‪ -‬ما تبطل متيش بحنية ليقوم زلزال‬
‫ردت برسالة قصرية‪“ ،‬بس كدا‪ ،‬دا آخر اإلبداع‪ ،‬مش انتا شغلتك‬
‫يا بني تكتب كالم يعلق مع الناس؟”‪ ،‬مل يعرف مباذا يجيب‪ ،‬أرسل لها‬
‫وجه ضاحك و”اختاري انتي”‪ ،‬فاقرتحت أن تكتب عىل دبلتها نفس‬
‫الجملة التي اختارتها له‪ .‬مل تكن تقرتح متا ًما‪ ،‬بل تخربه مبا سيحدث‪،‬‬
‫وهو‪ ،‬بالطبع‪ ،‬ما حدث‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫رمبا تكون السعادة عمى مؤقت عن احتامالت الحارض املستقبلية‪،‬‬
‫استغراق تام يف االحتامل األجمل للاميض املتحقق لتوه‪ ،‬واختفاء تام‬
‫للغابة‪ .‬يف املستشفى‪ ،‬يف اليوم الذي اكتشف فيه األطباء أن نتوئني‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪22‬‬


‫ظهرا عند حافتي كتفيها‪ ،‬كاد يطري من املفاجئة‪ .‬لقد صارت من الفئة‬
‫املحظوظة‪ .‬كانت األخبار كلها مهتمة بالحدث‪ ،‬أجنحة تظهر لبعض‬
‫من أصيبوا باملرض‪ .‬رصخ فر ًحا‪ ،‬جرى يف املستشفى‪ ،‬احتضن إخوتها‪،‬‬
‫اتصل بأمه يطمئنها‪ ،‬ثم بأخته‪ ،‬وحتى بأبيه الذي ال يتصل به أب ًدا‪،‬‬
‫بندى‪ ،‬بزمالء العمل‪ ،‬هل هذه هي السعادة؟‬
‫دخل غرفتها‪ ،‬واحتضنها ألول مرة أمام أبيها‪ ،‬الذي تظاهر بعدم‬
‫مالحظة ذلك واالنخراط يف حديث جانبي مع أحد أبنائه‪ ،‬بينام ابتسم‬
‫إخوتها‪ ،‬فيام تضايق محمد‪ ،‬أكرث إخوتها تشد ًدا‪ ،‬لكنه مل يعرب عن ذلك‪.‬‬
‫بىك من الفرحة أيضً ا ألول مرة يف حياته‪ .‬وعندما ذهب للعمل‪ ،‬أحرض‬
‫تورتة كبرية واحتفل يف املكتب بالحدث‪ .‬كانت عاصفة الفرح التي‬
‫تسبق الهدوء الذي يسبق العاصفة‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫جلس بجوار أخته يف املستشفى‪ ،‬أبوه مرة أخرى‪ ،‬مل يكن متأك ًدا‬
‫هذه املرة من أن كل يشء سيسري عىل ما يرام‪ ،‬أمه أيضً ا أحست بذلك‪،‬‬
‫إخوتها‪ ،‬أخواله‪ ،‬كلهم بجوارها‪ ،‬وكذلك أعاممه‪ .‬رشعت أخته يف البكاء‪،‬‬
‫ثم أمه‪ ،‬ثم سالت عينا عمه األصغر‪ .‬خرج من املستشفى‪ ،‬وقف بجوار‬
‫خاله الطائر وأشعل سيجارة‪:‬‬
‫‪ -‬تفتكر هتعدي يا خالو؟‬
‫‪ -‬كل يشء بيعدي‬
‫‪ -‬انتا فاهم قصدي‬
‫‪ -‬ربنا معانا‬
‫جلس عن ميينه يف العزاء بعده سلسة أعاممه‪ ،‬محمد أول طابور‬
‫العزاء‪ .‬برتتيب مختلف كانوا جالسني منذ أسابيع قليلة يف نفس‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪23‬‬


‫املكان يف عزاء عمه سعيد‪ ،‬كان والده عن ميينه وقتها‪ ،‬وخاله الطائر‬
‫مل يزل حينها يف املستشفى‪ .‬مل ينم أي منهم‪ ،‬أخذت أيديهم تصافح‬
‫املعزين بشكل ميكانييك‪ .‬حرض أصدقاؤه منذ الصباح وانتهوا من‬
‫أغلب اإلجراءات‪ .‬مل يق َو عىل حمل النعش‪ ،‬لكنه أرص‪ ،‬حمله عدة‬
‫مرات‪ ،‬وأخذ يبدل دوره بني أصدقائه وأعاممه وأخواله‪ .‬حسني صديق‬
‫طفولته أول من حرض‪ ،‬مل يلتقيا من سنوات‪ ،‬ومحمد غانم وعبد‬
‫الرحمن سعيد حرضا مبكرين أيضً ا‪ ،‬وهاهم واقفني أمامه يف العزاء‪.‬‬
‫ولوهلة‪ ،‬ظن أنه رأى “التعلب” أيضً ا‪ .‬وقف أصدقاؤه يتحدثون يف‬
‫أمور تكتيكية مع أصحاب الفرش وامليكروفونات واملقرئ‪.‬‬
‫مل يكن أبوه يو ًما ممن يجيدون الترصف يف األمور االجتامعية‪ ،‬ورمبا‬
‫هذا ما جعله يقول له بصوت واهن متا ًما يف املستشفى أكرث الجمل‬
‫كليشيهية‪“ ،‬خد بالك من أمك وأختك”‪ .‬أربكت الجملة كليهام‪ ،‬أمسك‬
‫دموعه ورد عليه‪:‬‬
‫‪ -‬ياعم بالش دراما‪ ،‬انتا زي الفل أهو‬
‫خرج من الغرفة‪ ،‬وجلس عىل مقعد وبىك‪.‬‬
‫أخذ املعزين يتناقصون بعد ربع القرآن السادس‪“ ،‬ربع كامن ولال‬
‫إيه”‪ ،‬سأله محمد غانم‪ .‬سأل عمه األكرب بدوره‪ ،‬أخربه عمه‪“ ،‬خليهم‬
‫ربعني”‪ .‬يف بداية العزاء شاهد ندى من بعيد‪ ،‬كادت تدخل عزاء‬
‫الرجال‪ ،‬فأشار صامتًا إىل مدخل بيتهم حيث عزاء السيدات‪ ،‬ترددت‬
‫يبق غري‬
‫ثم دخلت‪ .‬حاسب أصدقاؤه املقرئ وأصحاب الفرش‪ ،‬مل َ‬
‫الدائرة األقرب‪ ،‬أعاممه وأخواله وأصدقاؤه الثالثة‪ ،‬جلسوا يف دائرة‪،‬‬
‫وتكلم أعاممه عن طفولة والده‪ ،‬أخواله أخذوا ينسحبون للبيت حيث‬
‫أمه‪ .‬تذكر ندى‪ ،‬فاستأذنهم ودخل‪.‬‬
‫كانت تحتضن أخته‪ .‬أمه يف عباءة سمراء وحجاب يظهر بعض‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪24‬‬


‫شعرها‪ ،‬عكس عادتها‪ .‬صديقاتها بجوارها‪ ،‬وأخواله يتحركون يف البيت‬
‫بحرية‪ .‬مدت ندى يدها‪:‬‬
‫‪ -‬البقية يف حياتك يا محمد‬
‫‪ -‬حياتك الباقية‪ ،‬شك ًرا إنك جيتي‬
‫مل تعرف كيف ميكنها االستمرار يف الكالم فأكملت احتضان أخته‪.‬‬
‫أمه صامتة‪ ،‬قبل رأسها وخرج ألصدقائه‪ .‬استأذن أعاممه قائلني إنهم‬
‫سيكونوا موجودين يف الصباح الباكر‪ .‬اقرتح أصدقاؤه أن يذهبوا لقهوة‬
‫قريبة‪ ،‬قال إنه يريد أن ينام‪ ،‬جلسوا دون كالم‪ ،‬رأى ندى تخرج‪ ،‬نظرت‬
‫إليه فذهب إليها‪:‬‬
‫‪ِ -‬شك ًرا إنك جيتي‬
‫‪ -‬لو عزت حاجة يف أي وقت كلمني‪ ،‬هاجي بكرا برده‪ ،‬هو دا‬
‫وقت مش مناسب‪ ،‬بس أنا اكتشفت إنك مش قايل ملامتك إنك‬
‫استقلت من الشغل‬
‫‪ -‬كل يشء يف وقته‬
‫‪ -‬كلمني‬
‫‪ -‬أكيد‬
‫جلس مرة أخرى‪ ،‬حوله حسني ومحمد غانم‪ ،‬يف هذا الصمت‪،‬‬
‫وهو منهك متا ًما‪ ،‬تذكر غادة‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫ارتدت غادة فستانًا أحمر قص ًريا يف الخطوبة‪ ،‬شعرها منسدل عىل‬
‫ظهرها الخايل من األجنحة‪ ،‬حولها إخوتها األربعة وصديقاتها ووالدها‪،‬‬
‫وهو معه والده وأخته ووالدته وندى وغانم وبعض زمالء العمل‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪25‬‬


‫كان بيتهم واس ًعا واستوعب بسهولة العدد القليل‪ .‬كان مرتبكًا أكرث‬
‫منه سعي ًدا‪ ،‬هي فرحانة‪ ،‬رقص إخوتها‪ ،‬ثم سحبوه لريقص معهم‪ ،‬ثم‬
‫سحبوها‪ .‬اخذ ينقل قدميه بهدوء ويهز كتفيه‪ ،‬تذكر أماين واملؤامرة‬
‫الغربية فابتسم‪ .‬أمه سعيدة‪ ،‬أبوه هادئ‪ ،‬أخته يف فستانها األزرق‬
‫وحجابها اللبني‪ ،‬رقصت يف البداية بتحفظ لوجود والدهم‪ ،‬ثم امتلكت‬
‫الصالة‪ ،‬ونافست غادة‪ ،‬لحظتها أحس بالسعادة‪ ،‬نهرتها أمه بعينيها‬
‫لكنها مل تكرتث‪ ،‬ملحت غادة ذلك فأخذت بيدها ورقصت معها‪،‬‬
‫ووقف هو يهز كتفيه بينام إخوتها يرقصون بكامل طاقتهم‪ .‬طلبت‬
‫منه والدته العودة ملقعده‪ ،‬عاد وعادت غادة وهدأ الجميع‪ .‬تكلم‬
‫والده بصوت جهوري متامسك‪ ،‬لعله فكر كث ًريا ليبدو بهذا التامسك‪:‬‬
‫‪ -‬الحمد لله رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم عىل أرشف املرسلني‪،‬‬
‫سيدنا محمد‪ ،‬احنا يرشفنا يا أستاذ أمجد إننا نطلب إيد بنتكم غادة‬
‫البننا املهندس محمد‬
‫‪ -‬واحنا يرشفنا النسب يا أستاذ محمود‬
‫‪ -‬نقرا الفاتحة ونلبس الدبل‪ .‬قرأوا الفاتحة‪ ،‬ثم تقدمت أمه‬
‫بالشبكة‪ ،‬ألبس غادة سلسلة وخامتًا‪ ،‬ثم دبلة الخطوبة املنقوش‬
‫عليها من الداخل‪ ،‬وهو يقول بجدية مامزحة‪ :‬أظن الطيور كدا مش‬
‫محتاجة تهاجر خالص‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫أرسل له مديره يخربه أنه يف ظل تغيبه ثالثة أسابيع عن العمل‪،‬‬
‫سيضطر لو استمر ذلك لفصله‪ .‬مل يرد عىل رسالته‪ ،‬كان يف غابته يقطع‬
‫شجرة فتنبت أخرى أكرب‪ ،‬يقطع مسافات طويلة ثم يعود لنفس نقطة‬
‫بدايته‪ .‬أال تنتهي تلك الغابة أب ًدا؟ مل ترد غادة عىل رسالته قط‪ ،‬فكر‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪26‬‬


‫مرات كثرية أن يبعث لها برسالة أخرى‪ ،‬ومل يفعل‪ ،‬يلتقي بندى كل‬
‫يوم تقريبًا بعد انتهاء عملها‪ ،‬كل يوم ترجوه أن يعود لعمله‪ ،‬كل يوم‬
‫تسأله عن خطط‪ ،‬تبعث له بفرص عمل‪ ،‬يكلمه زمالء العمل ليخرجوا‬
‫م ًعا وال يرد عليهم‪ ،‬بات عدة أيام لدى محمد غانم‪ ،‬صديق الجامعة‪،‬‬
‫ال يتكلامن غال ًبا‪ ،‬يلتقي حسني يف األسبوع مرة يجلسان عىل القهوة‬
‫يدخنان الشيشة‪ ،‬التي عاد إليها اآلن‪ .‬يف إحدى املرات كتب رسالة‬
‫عىل هاتفه لغادة “بعادك يا جميل طول‪ ،‬ودا‪ ،‬إحصائ ًيا‪ ،‬أول بعاد‬
‫بيطول”‪ ،‬ثم مسحها‪.‬‬
‫بعد خروجها من املستشفى‪ ،‬ذهبت لبيت والدها‪ ،‬زارها هناك‪،‬‬
‫كان جناحاها ال يزاالن صغريين ج ًدا‪ ،‬كان ال يزال فر ًحا بنجاتها‪ .‬غادر‬
‫إخوتها الغرفة وتركوهام وحدهام‪ ،‬ال زالت متأملة‪ ،‬حن إليها‪ ،‬وأمسك‬
‫يدها‪:‬‬
‫‪ -‬مش بتفكر تسافر؟‬
‫‪ -‬أسافر؟ ليه؟‬
‫‪ -‬نغري حياتنا ونعيش حياة أوسع يف مكان أجمل‬
‫‪ -‬مالها حياتنا كدا؟‬
‫‪ -‬روتينية وبنعمل نفس الحاجات وهنفضل نعملها لحد ما نعجز‬
‫‪ -‬أيوا‪ ،‬وإيه الوحش يف كدا‪ ،‬مادام بنعمل اليل عاوزينه ومبسوطني‬
‫‪ -‬مانا عاوزة أسافر معاك وهننبسط أكرت‬
‫مل تكن تلك خطته أب ًدا‪ ،‬كان مرتا ًحا يف عمله ويف عالقته بها‪:‬‬
‫‪ -‬يا بنتي‪ ،‬ماحنا مبسوطني أهو‬
‫‪ -‬هننبسط أكرت‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪27‬‬


‫‪ -‬قومي بس وطريي كدا وهنشوف‬
‫‪ -‬متاخدش كالمي بهزار‪ ،‬بتكلم جد‪ ،‬انا هسافر‬
‫‪ -‬هتسافري لوحدك يعني؟‬
‫‪ -‬مانا بقولك نسافر سوا‬
‫كانت تلك أحد معاركها الدامئة معه‪ ،‬هذه املرة وجد يف استعجال‬
‫املعركة تلمي ًحا لقدرتها الجديدة‪ .‬قبل املستشفى كانا يف معارك‬
‫متتالية‪ ،‬إحداها بالطبع عن السفر‪ ،‬أخرى عن مكان بيت الزواج‪،‬‬
‫ثالثة عن عدم طموحه يف العمل والرضا بنفس مكانه الذي يعمل به‬
‫منذ سنوات‪ ،‬رابعة عن سقوطه الدائم يف دوامات اكتئابه دون العودة‬
‫للطبيبة النفسية التي زارها مرة ومل يكررها‪ ،‬سابعة عن ميله لتجنب‬
‫النقاشات‪.‬‬
‫‪ -‬املهم دلوقتي تبقي كويسة‬
‫قليل ثم انرصف‪ ،‬ومل يلتقيا قبل‬
‫صمتا‪ ،‬دخل إخوتها‪ ،‬تحدث معهم ً‬
‫مرة االنفصال إال مرة واحدة‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫بعد ثالثة أيام من العزاء‪ ،‬قبلته ندى‪ .‬مل يكن توقيتًا مثال ًيا‪ .‬كانت‬
‫من القبل التي يعلم املرء بعد منتصفها‪ ،‬رغم جاملها‪ ،‬أن األمور ستبدأ‬
‫بعدها يف التدهور‪ .‬اعتذرت‪.‬‬
‫‪ -‬أب ًدا‪ .‬دي حاجة جميلة خالص‬
‫شاهدته هو وغادة‪ ،‬يف بداية عالقتهام‪ ،‬وهام يقبالن بعضهام يف‬
‫املكتب‪ .‬غادر الجميع‪ ،‬ووجداها فرصة سانحة‪ .‬دخلت فجأة‪ ،‬كانا‬
‫أمامها‪ ،‬ضحك متوت ًرا‪ ،‬فضحكت ندى‪ ،‬ثم غادة‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪28‬‬


‫احتوى املكتب األليف كث ًريا من مغامراتهام األوىل‪“ ،‬قفشهام” أكرث‬
‫من شخص‪ ،‬وبأدرينالني البدايات تجاوزا األمر دو ًما‪ .‬احتوى أيضً ا كث ًريا‬
‫من معاركها‪ ،‬بل وأكرث معاركها صمتًا‪ ،‬التي مل يتحدثا فيها سوى مرة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫فعل للتوتر‪ ،‬كانت يشء جميل‬ ‫‪ -‬مفيش داعي ً‬
‫نجت صداقته مع ندى من الكثري من املواقف املربكة‪ ،‬ومن‬
‫يدري‪ ،‬رمبا تنجو من هذا القبلة أيضً ا‪ .‬بالوقت متكنت أن ترث جزئيًا‬
‫بعضً ا من قدرة صوت غادة عىل إخراجه من غابته‪ .‬ومل يرد أن يفقد‬
‫هذا الصوت مجد ًدا‪ .‬تنجو العالقات املربكة بقدرة طرفيها عىل رؤية‬
‫مكمن ارتباكها والتعامل معه‪ ،‬مل يكونا أب ًدا “مجرد أصدقاء”‪ ،‬لكن‬
‫بوسعهام الترصف هكذا‪ .‬الحميمية الزائدة ميكن ترصيفها يف تدخل‬
‫غريب واقتحامي يف حياة بعضهام البعض‪ ،‬االنجذاب الجنيس يتحول‬
‫لنكات جنسية أو حديث شديد رصاحة عن تجاربهام‪ .‬واملهارة يف‬
‫معرفة أي نقطة بالضبط يجب أن يتوقف املرء عندها قبل أن يورط‬
‫نفسه يف يشء ال ميكن ترصيفه‪.‬‬
‫‪ -‬الشغل عامل إيه؟‬
‫رسدت حكايات طويلة متقطعة عن جميع الزمالء‪ ،‬وحديث‬
‫مديره الدائم عنه‪ .‬ترتدي تيشريت أبيض خفيفًا‪ ،‬نص كم‪ ،‬يعطي فكرة‬
‫واضحة عن الوعود السخية التي يخبئها‪ ،‬قدم عىل قدم‪ ،‬عالمة عىل‬
‫ارتياح مؤقت رغم اللحظة السابقة‪ ،‬تجلس بجواره‪ ،‬رقبتها شديدة‬
‫البياض‪ ،‬طاملا أغرته لسبب ما بعضها‪ ،‬شعرها شديد الطول‪ ،‬يبدو دامئًا‬
‫مغامرة غري موثوقة يف شوارع القاهرة‪ ،‬شفتاها مكتنزتان حمراوان‬
‫بسبب أحمر الشفاة‪ ،‬واآلن يعلم أنهام شهيتان كرقبتها متا ًما‪ .‬اقرتب‬
‫منها وذاقهام مرة أخرى‪ .‬ملح نظرتها إليه‪“ ،‬حبيت أتأكد”‪ ،‬قبلته‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪29‬‬


‫توقفا بعد ذلك‪ ،‬دون توتر‪ ،‬ودون خطة واضحة ملا سيحدث بعد‬
‫ذلك‪ .‬بعدها بأسبوع سيجدان نفسيهام يف موقف أكرث إرباكًا‪ ،‬سيأخذ‬
‫مكانة هذا اللقاء كأعىل نقاط ارتباك عالقتهام‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫ال يذكر تحدي ًدا متى بدأ اكتئابه‪ ،‬كأنه جزء من هويته التي كرب‬
‫عليها‪ ،‬يذكر أنه كان يفكر يف االنتحار وهو يف املرحلة اإلعدادية‪،‬‬
‫رصا فيها‪،‬‬ ‫يضحك اآلن من الغابات القصرية الصغرية التي كان محا ً‬
‫مقارنة بغابته الكثيفة العالية التي يوجد بها اآلن‪ .‬كربت معه الغابة‬
‫وتنوعت أشجارها‪ ،‬رمبا هذه بقية جينات أجداده الفالحني‪ .‬أوقات‬
‫قليلة يف حياته التي وجد نفسه خارج الغابة‪ ،‬وحينها كان يشعر‬
‫أصيل فيه‪ .‬أخف‪ ،‬ولكن ال يشء مييزه عن‬ ‫بالفراغ‪ ،‬كأنه فقد شيئًا ً‬
‫اآلخرين‪ ،‬أحد السائرين يف الحياة‪ .‬تشعره غابته أنه ميتلك شيئًا ما ال‬
‫ميكن ألحد أن يطلع عليه‪ ،‬جرح يف هويته ال يراه إال هو‪ ،‬هذا الجزء‬
‫هو ما يجعله مختلفًا تحدي ًدا‪ .‬شق طريقه مرة خاللها إىل غادة‪ ،‬سألته‬
‫الطبيبة النفسية يف لقائهام الوحيد عن سبب مجيئه اآلن تحدي ًدا‪:‬‬
‫‪ -‬خطيبتي أرصت‬
‫‪ -‬دي هيا‪ ،‬انتا جاي انتا ليه‪ ،‬عاوز توصل إليه؟‬
‫فعل‪ ،‬يحب أن تكون أيامه خفيفة‪ ،‬متواصلة‪ ،‬دون أن‬ ‫ال يعلم ً‬
‫يجلس يف غرفته أيا ًما طويلة يفكر يف االنتحار‪ .‬حياته نفسها جيدة‪،‬‬
‫امرأة يحبها بجواره‪ ،‬عائلة متامسكة‪ ،‬عمل مستقر‪ ،‬لكن تبدو هذه‬
‫األشياء أحيانًا حني تنظر لها من الغابة‪ ،‬كأشياء اعتيادية عدمية املعنى‪،‬‬
‫روتني يومي تفعله بالنيابة عن شخص آخر‪ .‬أحيانًا كثرية ال يشعر تجاه‬
‫غادة بأي يشء‪ ،‬ال انجذاب وال حب وال مودة‪ ،‬طأمنينة خافتة ليس إال‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪30‬‬


‫ولوال األيام القليلة التي يكون فيها خارج غابته‪ ،‬لشك يف قدرته عىل‬
‫مبادلة اآلخرين أي مشاعر حقيقية‪.‬‬
‫‪ -‬عاوز أكون موجود‬
‫رد عليها‪ .‬كتبت له دوائني‪ ،‬وأن يعود لها األسبوع القادم‪ .‬مل يفعل‪،‬‬
‫وظن أنه لن يراها ثانية أب ًدا‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫‪ -‬بيقولك هيطلعوا قانون جديد للطريان‪ ،‬للناس اليل بتطري‪ ،‬مفيش‬
‫طريان بالليل بعد اتنارش‪ ،‬وأي طريان أكرت من ‪ 100‬كيلو الزمله ترصيح‬
‫وعليه رضيبة هرتوح للمواصالت العامة‬
‫نفث محمد غانم أنفاس الشيشة بعد جملته‪ ،‬جاء يف األخبار‬
‫ليل‪ .‬مل يهدأ‬
‫رجل طائ ًرا اصطدم بالفتة إعالنية بينام يطري ً‬
‫باألمس أن ً‬
‫الحديث عن الطائرين‪ ،‬ورمبا لن يهدأ أب ًدا‪ .‬قالت إحدى الصحف أن‬
‫امرأة طائرة حامل يف شهرها الثالث‪ ،‬والعامل كله مرتقب لريى طبيعة‬
‫املولود الجديد‪ ،‬أهو طائر أم ال‪ .‬منذ أيام قال فريق طبي أمرييك إنه‬
‫وجد عال ًجا نهائيًا للمرض الخطري‪ ،‬الذي يسمونه اآلن مرض األجنحة‪ .‬مل‬
‫تعد هناك حاالت مرضية كثرية‪ ،‬والقليل ممن تبقى يظهر يف الصحف‬
‫ليقول إنه يفضل املغامرة بتحمل املرض مع إمكانية أن يصبح طائ ًرا‪،‬‬
‫عىل أن يشفى متا ًما ويعود كام كان‪.‬‬
‫غانم أكرث أصدقائه تقليدية‪ ،‬إن حكمنا باملظاهر‪ .‬تزوج من‬
‫زميلتهم سمر خالل عامه األخري يف الجامعة‪ ،‬لديه ولدان‪ ،‬سامر‬
‫وباسم‪ ،‬مهندس مدين يف رشكة إنشائية‪ ،‬أخذ مكانه يف الحياة وريض‬
‫به‪ ،‬سمر تركت العمل مؤقتًا حني حملت بسامر‪ ،‬ومل تعد إليه‪ .‬أقىص‬
‫مغامراتها أنها جربا الحشيش مرة م ًعا‪ ،‬والخمر مرة أخرى‪ ،‬ومن‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪31‬‬


‫هذين املرتني نسج غانم عرشات النظريات عن الفرق بني االثنني‪،‬‬
‫دليل دامغًا عىل اختالفها عن اآلخرين‪.‬‬
‫فيام اعتربت سمر التجربتني ً‬
‫يف شقتهام الواسعة بعامرة أبيه‪ ،‬خصصا غرفة له‪ ،‬قائلني مبزاح إنهام‬
‫يعتربانه ابنهام الثالث‪ .‬عارض االثنان تركه للعمل‪ ،‬وكل مرة يدعوه‬
‫غانم للعودة للعمل كمهندس‪ .‬سامر يقوله له “أنكل محمد”‪ ،‬وباسم‬
‫األصغر يدعوه باسمه مبارشة‪ .‬لطاملا كان حظه جي ًدا يف أصدقائه‪،‬‬
‫حتى حسني صديق الطفولة أىت وحده عزاء والده كأنهام مل يفرتقا‬
‫يو ًما‪.‬‬
‫‪ -‬بس كله إال الشيخ اليل طلع يقوللك إن األجنحة دي حكمها‬
‫زي اإليد للستات‪ ،‬والزم الستات تغطيها‪ ،‬الله طب ما هيطريوا ازاي‬
‫يا عم الشيخ؟‬
‫ردت غادة عىل رسالته التي أرسلها منذ أسابيع‪ ،‬باألمس فقط‪،‬‬
‫بشكل أكرث دقة‪ ،‬أرسلت له رسالة جديدة “البقاء لله‪ ،‬قلبي معاك‬
‫فعل‪ ،‬لسه عارفه حالً ‪ ،‬عمو كان بالنسبة يل زي بابا‪ ،‬أمتنى تكون‬ ‫ً‬
‫أحسن‪ ،‬ولو حابب نتكلم أو نتقابل أي وقت قوليل‪ ،‬أنا موجودة أي‬
‫وقت”‪ .‬ما زال يفكر يف الرد املناسب‪ ،‬ال يعلم إن كان يريد مقابلتها‪ ،‬أو‬
‫يريد مقابلتها لكن يخاف من نتيجة ذلك‪ .‬أن تزيح غادة صوت ندى‬
‫مرة ثانية‪ ،‬ثم تختفي‪ ،‬ليجد نفسه بال صوت يرشده‪.‬‬
‫‪ -‬طب وطراطيف الريش دي الشيخ هيعتربها زي الصوابع ولال‬
‫إيه؟‬
‫مل يعلم حتى اآلن أي فانتازيات جنسية جديدة خلقتها األجنحة‪،‬‬
‫يشء جديد عىل البرشية‪ ،‬ورمبا يستغرق األمر وقتًا إلدماجه يف املعرفة‬
‫الجنسية وتقلباتها‪ .‬مل يفكر يف أجنحة غادة بهذا الشكل‪ ،‬صورتها يف‬
‫عقله ما زالت دون أجنحة‪ ،‬لكن كل يشء يتغري‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪32‬‬


‫‪19‬‬
‫تبدو األمور يف الغابة هادئة متا ًما بعد قبلة ندى‪ ،‬كأن طريقًا‬
‫وهم ًيا يكاد ينفتح‪ ،‬ال يراه‪ ،‬ولكن حدسه يخربه أنه قد يخرج من هنا‬
‫قليل‪ .‬أسند رأسه لشجرة وفكر‪ :‬ملاذا ال توجد حيوانات يف غابته؟ حتى‬ ‫ً‬
‫الغابة املجازية ميكنها أن تشتت نفسها ببعض الحيوانات العابثة هنا‬
‫وهناك‪.‬‬
‫أي فكرة إذن ميكن أن تكون األسد‪ ،‬امللك الوهمي للغابة املتخيلة؟‬
‫أنه لن يبادل أحد مشاع ًرا حقيقية أب ًدا‪ ،‬أم أن حياته كلها مجرد تكرار‬
‫ملاليني الحيوات األخرى دون وعد بأي إمكانية أجمل؟ يعرف أيها‬
‫سيكون القرد‪ ،‬فكرته عن نفسه‪ ،‬مرة كمظلوم‪ ،‬مرة كشخص مؤ ٍذ‪ ،‬مرة‬
‫كشخص فارغ‪ ،‬فكرة تتنقل بسهولة من شجرة إىل شجرة‪ .‬هل ميكن‬
‫أن تكون فراشة يف هذه الغابة؟ هل تصلح املواقف اليومية املربكة‬
‫الصغرية مثل الخطأ يف الهم باحتضان أحد ميد يديه فقط للسالم؟‬
‫هاجس خفيف‪ ،‬يعكر املزاج‪ ،‬يجذبك إليه ثم يختفي فجأة‪ ،‬قبل أن‬
‫تجده مرة ثانية يف املوقف املربك الجديد‪ .‬يعلم متا ًما ما هو الفيل‪،‬‬
‫جميل ومسامل ًا‪،‬‬
‫الثقيل الذي يزلزل األرض وهو مييش‪ ،‬ومع ذلك يبدو ً‬
‫الفيل الذي يتجاهله عىل الدوام‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫ما الذي يجعلنا نتعلق بأشخاص آخرين؟ فكر محمد‪ ،‬وهو ينام‬
‫يف بيت محمد غانم تلك الليلة‪ ،‬كيف يقع ذلك بسهولة ويرس كأنه‬
‫طويل؟ نقع يف مراهقتنا يف الحب كأننا خرباء فيه‪،‬‬
‫يشء تدربنا عليه ً‬
‫تعصف عواطفنا بنا دون تدرج‪ ،‬كوحش كارس كان موجو ًدا عىل‬
‫الدوام‪ ،‬وليس كشجرة تكرب يو ًما بيوم‪ ،‬كام نحاول أن نفعل حني نظن‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪33‬‬


‫أنفسنا ناضجني‪ ،‬لنجد الوحش يهاجمنا بغتة‪ ،‬وتتهاوى دفاعاتنا أمامه‪،‬‬
‫قليل‪.‬‬
‫لكن عندنا من الخربة ما يجعلنا نقاوم ً‬
‫هاجمه الوحش للمرة األوىل وهو يف املرحلة اإلعدادية‪ ،‬قبلها‬
‫كان يقول إنه يحب “سهر” زميلته يف االبتدايئ‪ ،‬لكن مبجرد هجوم‬
‫الوحش عليه أدرك الفرق‪ ،‬هذا هو الحب دون شك‪ .‬اآلن يفهم‬
‫األشعار الرومانسية التي يحفظها‪ ،‬ويفهم مشاعر املحبني يف الروايات‬
‫الكالسيكية‪ ،‬اآلن هو شخص يف العامل ميكنه أن يقع يف الحب كأبطال‬
‫املالحم الكربى‪ ،‬وكعامة الناس يف الوقت نفسه‪ .‬ينتظر ظهورها يف‬
‫الدرس‪ ،‬يسلك يف عودته من املدرسة الطريق الذي مير ببيتها لعله‬
‫يلمحها‪ ،‬ويحاول‪ ،‬كعادة املراهقني‪ ،‬أن يكتب الشعر‪ .‬اآلن مالمح‬
‫“إميان” باهتة يف عقله‪ ،‬ال يذكر سوى أنها كانت أطول منه‪ ،‬مندفعة‪،‬‬
‫ميالة للعراك دامئًا‪ ،‬شاركه يف حبها “حسني” صديق الطفولة‪ ،‬سارا مرة‬
‫واحدة خلفها وهم عائدين من الدرس‪ ،‬ولسبب ما قال لها حسني‬
‫إن محمد يحبها‪ ،‬فشكته هو للمدرس ومل تشك حسني‪ .‬خاض معه‬
‫املدرس أكرث حوارات طفولته غرابة‪ ،‬قال له أستاذ أحمد إن الصعود‬
‫للقمة سهل‪ ،‬كثريون يفعلون ذلك‪ ،‬األصعب أن تظل عىل القمة وال‬
‫تقع‪ ،‬وقال إنه سيسامحه هذه املرة ألنه ولد متفوق ولديه مستقبل‬
‫ينتظره‪ ،‬رشط أال يكرر ذلك‪ .‬مل يفعل شيئًا ليك ال يكرره‪ ،‬أحبها فقط‪،‬‬
‫وحتى حسني هو من أخربها بحبه‪ .‬طلب املدرس من محمد أن يعده‬
‫فعل‪ ،‬وبالفعل توقف‬‫وعد رجالة أنه سيتوقف عن حبها‪ ،‬وعده بذلك ً‬
‫عن حبها‪.‬‬
‫بعدها بعام كامل‪ ،‬حني رأى مصادفة بينام يلعب الكرة يف الشارع‪،‬‬
‫سهر تعرب يف منتصف امللعب وتضم كتبها إىل صدرها‪ ،‬وتضحك‪ ،‬ودا ًعا‬
‫أهل‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬يا سهر‪.‬‬
‫إميان‪ً ،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪34‬‬


‫‪21‬‬
‫رمبا سيخلو أي تاريخ رسمي أو شعبي للنسوية من هذه الجملة‬
‫التي كتبتها إميان عىل سبورة فصل ثالثة ثالث سنة ‪ 2003‬يف قرية‬
‫صغرية باألقاليم‪ :‬النساء قادمات‪ .‬بعد أربع سنوات من توقفه عن‬
‫حبها‪ ،‬ها هي تعود إليه‪ ،‬يف فصل مشرتك لطالب علمي رياضة‪ .‬ال‬
‫يذكر بالضبط املعركة الحامية التي دارت بني الوالد والبنات‪ ،‬والتي‬
‫عىل إثرها كتبت إميان الجملة عىل السبورة يف تحد رصيح للوالد‪ .‬يف‬
‫الفسحة اجتمع الوالد اجتام ًعا ذكوريًا للتشاور الجامعي يف كيفية الرد‪،‬‬
‫يجدر أن نذكر هنا أن الفصل كان خال ًيا من “النسور”‪ ،‬وهو اللفظ‬
‫الشعبي القروي الدارج وقتها ملا أصبحوا اآلن يسمون “األشباح”‪ ،‬ولذا‬
‫بعد اقرتاحات حامسية لتقطيع كراسات البنات أو لكرس تختهم‪ ،‬اتفق‬
‫الجميع عىل اقرتاح أحمد جرب بتحوير جملة إميان لتصبح “النساء‬
‫قادمون”‪ ،‬كتلميح مبطن إىل عدم جامل البنات يف الفصل‪ ،‬حتى أنهم‬
‫يشبهون الوالد‪ .‬لكن الدقة واملوضوعية تقتيض أيضً ا أن نقر بعدم‬
‫صحة ذلك عىل اإلطالق‪ ،‬عىل األقل يف ما يخص محمد‪ ،‬الذي كان‬
‫قد وقع يف غرام اثنتني من زميالته يف الفصل‪ ،‬حبه األول إميان‪ ،‬وحبه‬
‫الثاين‪ ،‬واألول نظريًا إن استبعدنا نظرية الوحش‪ ،‬سهر‪.‬‬
‫تقتيض الدقة أيضً ا أن وضع محمد هذا كان ينطبق بحذافريه عىل‬
‫صديق طفولته “حسني”‪ ،‬الذي‪ ،‬وبدون اتفاق‪ ،‬وبشكل عجيب متا ًما‪،‬‬
‫انتقل من حب إميان‪ ،‬املحاربة‪ ،‬إىل حب “سهر” الهادئة‪ ،‬رغم أنه‬
‫رس إىل محمد مرة يف الفسحة‪ ،‬وبأىس شديد‪ ،‬وبلغة وقحة يصعب‬ ‫أ ّ‬
‫إعادة استخدامها‪ ،‬أن سهر رغم جاملها الشديد تفتقد للتضاريس التي‬
‫يفضلها يف اإلناث‪.‬‬
‫امتلك حسني‪ ،‬مبعايري هرمونات ثانوي‪ ،‬عدة مميزات عن محمد‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪35‬‬


‫مهاجم ممتازًا لفريق املدرسة‪ ،‬صوت ممتاز يؤهله ليكون املقرئ‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫واملنشد واملغني الرسمي للمدرسة‪ .‬محمد كان أيضً ا أحد أعضاء فريق‬
‫املدرسة لكرة القدم‪ ،‬لكنه كان مداف ًعا‪ ،‬ولهذا ناد ًرا ما سنحت له‬
‫احتفال بهدف يسجله يف املباريات‪ ،‬بينام ينظر‬
‫ً‬ ‫الفرصة ليخلع قميصه‬
‫لسهر يف الدور الثالث مثل حسني‪ .‬يف املقابل‪ ،‬امتاز عن حسني بحسه‬
‫الساخر‪ ،‬املهذب‪ ،‬وبقدرته عىل الكالم الهادئ مع البنات‪ ،‬دون أن‬
‫يدع هرموناته تتحكم فيه متا ًما‪ .‬ميزة أخرى‪ ،‬ولكن هذه كانت هدية‬
‫مجانية غري مربرة من حسني‪ ،‬أن األخري‪ ،‬وكام فعل متا ًما من أربع‬
‫سنوات‪ ،‬أخرب سهر‪ ،‬التي يحبها هو أيضً ا‪ ،‬أن محمد يحبها‪ ،‬ثم رجع إىل‬
‫الخلف ليشاهد أثر جملته التي ستغري متا ًما تاريخ النسوية يف فصل‬
‫ثالثة ثالث يف قرية باألقاليم‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫هناك عدة طرق الختيار مهنة جديدة‪ ،‬أن تفعل شيئًا تحبه‪ ،‬مغام ًرا‬
‫بالفشل وباكتشاف أنك لست باملهارة التي تفرتضها يف نفسك‪ ،‬وأن‬
‫تفعل شيئًا يقول الجميع إنك ماهر فيه بالفعل‪ .‬جرب محمد الخيار‬
‫األول‪ ،‬اندفع للعمل ككاتب إعالنات عندما أخربته ندى‪ ،‬وهي تسمع‬
‫شكواه املتكررة من كرهه للهندسة‪ ،‬أنه يصلح للعمل مثلها‪ ،‬وأن‬
‫قفشاته ميكن بسهولة تحويلها لشكل تجاري‪ ،‬يخلصه من الهندسة‬
‫ويكسبه بعض املال‪ .‬اختار هذا الطريق‪ ،‬ليس ألنه خيش من أن يفعل‬
‫ما يحبه‪ ،‬لكنه ألنه مل يكن لديه يف أي يوم من األيام مهنة يتمنى أن‬
‫يحلم بها‪ ،‬كان متفوقًا يف دراسته‪ ،‬وبشكل طبيعي اختار الهندسة‬
‫كوالده‪ .‬متنى بالطبع أن يصبح شاع ًرا‪ ،‬لكنه اكتشف مبك ًرا ج ًدا‪ ،‬ودون‬
‫حاجة لخوض املغامرة‪ ،‬أنه شاعر شديد الرداءة‪ ،‬يحرف بعض القصائد‬
‫التي يحفظها‪ ،‬ليس أكرث‪ ،‬هناك نغمة يف عقله ميكن رص الكلامت‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪36‬‬


‫عليها‪ ،‬ليس إال‪ .‬وأكرث محاوالته الشعرية املبكرة نجا ًحا‪ ،‬ليست تلك‬
‫الرومانسية التي كتبها إلميان أو لسهر‪ ،‬بل قصيدة عامية متهكمة‬
‫مليئة بالكلامت البذيئة‪ ،‬عن مدريس املدرسة‪ ،‬والتي يف الحقيقة كانت‬
‫أقرب لشتائم مسجوعة منها لقصيدة‪ .‬كان هذا منذ أكرث من عرش‬
‫سنوات‪ ،‬اآلن وهو يف بدايات الثالثني‪ ،‬مستقل‪ ،‬دون عمل‪ ،‬ودون رغبة‬
‫للعودة إىل عمله‪ ،‬مل تكن لديه فكرة كيف يختار مهنة جديدة‪ .‬لكن‬
‫مبا أنه كاتب‪ ،‬كاتب إعالنات لكن كاتب‪ ،‬فكر أن يكتب رواية‪ ،‬ونظ ًرا‬
‫لكل ما سبق‪ ،‬ومبجازات واضحة لدرجة الفجاجة‪ ،‬قرر أن يكتب رواية‬
‫عن عباس بن فرناس‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫ال يعلم أحد من أين انطلقت تلك الشائعة بالضبط‪ ،‬أن الناس‬
‫ميكنهم أن ينبتوا أجنحة إذا استمروا يف التدرب عىل القفز أوقات ًا‬
‫طويلة‪ .‬انترشت تلك الفكرة خاصة بني األطفال‪ ،‬الذين أصبحت تراهم‬
‫يف كل الشوارع يقفزون بأعىل ما ميكنهم‪ .‬يبدو األمر طريفًا حتى‬
‫ورجال يفعلون ذلك‪ ،‬لكنها عىل العموم ظاهرة غري‬‫ً‬ ‫ترى شبابًا ونسا ًء‬
‫مؤذية‪ .‬بدأت تنترش أيضً ا أخبار عن تعرض “الطائرين” ملضايقات يف‬
‫الشوارع ناتجة عن فضول عام لرؤيتهم يطريون‪ ،‬حتى التجأ الكثريون‬
‫منهم للبس معاطف طويلة تخفي أجنحتهم‪ .‬ال يزال بإمكانك‪ ،‬ببعض‬
‫التحديق‪ ،‬أن متيز من ميتلك جنا ًحا من حركة يديه وطبيعة مشيته‪،‬‬
‫وبالنسبة للبعض‪ ،‬من “أثر النعمة الجديدة” عليه‪.‬‬
‫خلعت غادة معطفها وشالها‪ ،‬وعلقتهام عىل مقعدها يف نفس‬
‫الكافيه الذي التقيا فيه املرة السابقة‪ .‬بعض ريش جناحيها مصبوغ‬
‫بالربتقايل‪ ،‬بشكل يالئم بعض خصالت شعرها القصري املصبوغة‪ .‬مل‬
‫تر ِخ جناحيها هذه املرة بجوارها‪ ،‬بل وضعتهام أمامها عىل الطاولة‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪37‬‬


‫بجوار يديها‪ .‬هذه املرة امتلك الشجاعة ليلمس بيديه جناحيها‪ ،‬شعر‬
‫برعشتها القصرية حني ملس جناحها‪ ،‬ابتسمت‪:‬‬
‫فعل‬
‫‪ -‬البقية يف حياتك‪ ،‬ربنا يرحمه كان راجل مفيش زيه‪ ،‬آسفة ً‬
‫إين مكنتش موجودة جنبك‬
‫مهام خفت وجود األب يف حياته‪ ،‬يظل قاد ًرا‪ ،‬أغلب األوقات‪ ،‬عىل‬
‫إعطائنا وعد الطأمنينة الذي يعطيه الحبل املشدود عىل الوسط أثناء‬
‫تسلق الجبال‪ ،‬أننا لن نسقط مرة واحدة‪ ،‬يشء ما سيتدخل يف اللحظة‬
‫األخرية إلنقاذنا‪ .‬رمبا يكون ذلك الشعور مجرد بقايا لشعورنا الطفويل‬
‫تجاههم حني بدوا لنا كليي القدرة وبإمكانهم حل كل يشء‪ .‬الشعور‬
‫الذي تكرسه الحياة بالتدريج‪ ،‬ونحن نكرب‪ ،‬لنشاهدهم وهم ينكرسون‬
‫أو يرتبكون أو حتى يشعرون بالحرج‪ .‬نشارك نحن أنفسنا يف كرس هذا‬
‫الشعور‪ ،‬حني نتمرد عليهم مراهقني‪ ،‬محاولني خلع الحبل من وسطنا‬
‫واالنطالق يف مغامرة الحياة وحدنا‪ .‬مترد محمد عىل والده كالجميع‪،‬‬
‫حني اختار منط حياة مغاي ًرا‪ ،‬وحني ذهب لخطبة سهر دونه وهو يف‬
‫الصف األول الجامعي‪ ،‬وحني ترك الهندسة‪ .‬اآلن‪ ،‬ال ميكنه التفلت من‬
‫حبل مل يعد موجو ًدا‪ ،‬وعليه أن يتأقلم أنه اآلن‪ ،‬بوصية أبيه‪ ،‬هو الحبل‬
‫الذي يربط أمه وأخته‪ .‬لكل مرء حبال عديدة‪ ،‬حبال ثخينة تربطه‬
‫بأقرب أصدقائه‪ ،‬حبال أوهن تربطه بزمالئه ومعارفه‪ ،‬حبال تربطه‬
‫مبن يحبهم‪ .‬ما مييز حبال األهل عن كل تلك الحبال أنها‪ ،‬مهام بلغت‬
‫رغبة املرء يف ذلك‪ ،‬ال ميكنه قطعها متا ًما‪ ،‬مهام حاول‪ .‬وحني تنتهي‬
‫بنهايتهم‪ ،‬تفقد حرية االنفالت من الحبل‪ ،‬التي حاربت من أجلها‬
‫طويل‪ ،‬معناها‪ .‬ها هو منفلت إىل األبد دون حبل والده‪ ،‬ميكن وصف‬ ‫ً‬
‫هذا الشعور بأشياء كثرية‪ ،‬ليس من بينها أنه شعور بالحرية‪.‬‬
‫فعل‪ .‬أكيد كان عندك مشاغلك‪،‬‬ ‫‪ -‬حياتك الباقية‪ ،‬ربنا يرحمه ً‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪38‬‬


‫واملهم إنك موجودة دلوقتي‪.‬‬
‫تتمكن بعض العالقات من صنع حبال ثخينة مبا يكفي لتنجو‬
‫من كل يواجهها‪ ،‬تصري أضعف لكنها تظل موجودة‪ ،‬رمبا هذا ما‬
‫يجعل عالقته بغادة غري قابلة للتحلل التام‪ ،‬حبل ما يربط بينهام‪،‬‬
‫قد يفرتقان‪ ،‬ويخوض كل منهام عالقة جديدة مع شخص آخر‪ ،‬وقد‬
‫يحاوالن حتى يف وقت ما‪ ،‬حني يلتقيان صدفة‪ ،‬أن يتعامال كمعارف‬
‫قدمية ال أكرث‪ ،‬لكنهام سيظالن متوترين بفعل إحساسهام بذلك الحبل‬
‫الذي ال يريد أن ينقطع‪.‬‬
‫وضعت يدها وجناحها األمينني عىل يده تعب ًريا عن املواساة‪ ،‬حكت‬
‫له عن طريانها الطويل بني املدن‪ ،‬عن عروض العمل التي تنهال عليها‪،‬‬
‫“هبقى موديل أخ ًريا”‪ ،‬ضحكت‪ .‬تتحدث االنجليزية والفرنسية بطالقة‬
‫بحكم دراستها يف مدارس أجنبية‪ .‬مل يعرف كيف ميكنه أن يطرح عليها‬
‫السؤال الذي يؤرقه‪ ،‬ثم باندفاع‪:‬‬
‫‪ -‬شفتي حد الفرتة اليل فاتت؟‬
‫اهتز جناحها عىل يده هزة قصرية‪ ،‬رمبا فكرت بسحبه استعدا ًدا‬
‫ملعركة‪ ،‬لكنها مل تفعل‪:‬‬
‫‪ -‬أيوه‪ ،‬حد كان معايا يف رحالت الطريان اليل بنطلعها كل شوية‬
‫‪ -‬بتحبيه؟‬
‫‪ -‬لسه يادوب بادئني نتعرف عىل بعض‪ ،‬مفيش حاجة جدية‪ .‬انتا‬
‫عامل إيه يف الدنيا‪ ،‬سمعت إنك سبت الشغل؟‬
‫‪ -‬آه وبكتب رواية‬
‫‪ -‬واو‪ ،‬رواية مرة واحدة‪ ،‬عن إيه يا ترى؟‬
‫لن يقول لها بالطبع إنها عن عامل وفيلسوف وشاعر حاول الطريان‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪39‬‬


‫منذ مئات السنني‪ ،‬وخلدت محاولته شعب ًيا كبالهة انتقصت من حقه‬
‫كعامل جاد‪ ،‬وليس مجرد مغامر مجنون‪ ،‬فهي تستطيع بسهولة أن تطري‬
‫فعل‪ ،‬دون مغامرة‪ ،‬ودون حسابات‪ ،‬وبأجنحة حقيقية‪.‬‬ ‫ً‬
‫‪ -‬رواية عن حياة عامل فلك يف األندلس‪ ،‬فنتازيا تاريخية‬
‫أخربها قبل اللقاء أن ندى ستحرض‪ ،‬يك يئد أي احتاملية لحديث‬
‫جاد‪ .‬تأخرت ندى‪ ،‬لكنها ستحرض بعد قليل لتخلق ارتباكًا مل يكن يف‬
‫حسبان أي من ثالثتهم‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫“هنسيب حبل ورا األوتوبيس ملا نيجي منيش‪ ،‬اليل ميلحقش‬
‫األوتوبيس ميسك يف الحبل ويحصلنا”‪ ،‬كانت تلك نكتة حسني املفضلة‬
‫فعل أن ماجد‬ ‫بصفته املنظم الفعيل ألغلب رحالت املدرسة‪ .‬النكتة ً‬
‫حسن‪ ،‬أحد طلبة فصل أوىل خامس‪ ،‬قال له يف اليوم التايل لرحلة‬
‫االسكندرية‪ ،‬إنه أىت متأخ ًرا ومل يجد أي حبل‪ .‬متامسكًا ودون أن‬
‫فعل‪ ،‬ولكن الحبل مل يكن‬‫حبل ً‬‫يضحك أو يبتسم‪ ،‬رد حسني أنه ترك ً‬
‫طويل كفاية ليغطي املسافة بني قريتهم واإلسكندرية‪ ،‬وأنه‪ ،‬ماجد‪،‬‬
‫ً‬
‫أىت‪ ،‬ليس فقط بعد أن غادر األتوبيس‪ ،‬ولكن بعد مغادرة الحبل أيضً ا‪،‬‬
‫ووعده‪“ :‬املرة الجاية هنجيب حبل أطول”‪.‬‬
‫حبل وراءه‪ ،‬كانت‬ ‫يف األتوبيس‪ ،‬الذي غادر القرية دون أن يخلف ً‬
‫سهر يف املقعد السادس عىل اليمني بجوار الشباك‪ .‬محمد‪ ،‬كصديق‬
‫لحسني‪ ،‬يف الصف الثاين‪ ،‬أمامهم ثالثة مدرسني‪ ،‬وأخصايئ اجتامعي‪،‬‬
‫والسائق‪ .‬استحوذ حسني عىل امليكروفون طوال الرحلة‪ ،‬مرة يغني‪،‬‬
‫مرة ينظم مسابقات‪ ،‬مرة يقول نكتة‪ ،‬وبعقله الذيك كان يرى الحبل‬
‫الذي ميتد بني محمد وسهر‪ .‬راضيًا بهزميته املتعمدة‪ ،‬طلب من محمد‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪40‬‬


‫أن يقول قصيدة‪ .‬دون تردد‪ ،‬أمسك محمد امليكروفون‪ ،‬نظر لسهر‪ ،‬ثم‬
‫تىل قصيدة رومانسية‪:‬‬
‫“فوق العادة‬
‫أين حني أراك‬
‫يشتعل حريق القلب‬
‫جراء بسمتك املعتادة‬
‫فتهب دموع العني‬
‫تحاول إخامده‬
‫ويذوب الكلم عىل شفتي‬
‫ويحتل الصمت مكانه‬
‫وتحاول شفتي إبعاده‬
‫ويغمزين صديقي‬
‫يقول‬
‫مالك تصمت فجأة‪ ..‬غري العادة‬
‫فأجيب بصمت‬
‫هذا كله فوق العادة”‬
‫عندما انتهى علق حسني وهو ينظر لسهر ضاحكًا ضحكة ذات‬
‫مغزى مزدوج “بس مني يسمع ياعم محمد‪ ،‬سقفوا”‪ .‬قائد فطري‪،‬‬
‫دون مجهود‪ ،‬بصوته الجميل‪ ،‬جسده املمشوق الريايض‪ ،‬وتفوقه‬
‫الدرايس‪ ،‬وذكائه االجتامعي املدهش‪ ،‬بدا حسني ملحمد دو ًما ال يعرف‬
‫قدر نفسه‪ ،‬يرىض بأقل ما يستطيعه أو يستحقه‪ .‬تويف والده وهو‬
‫طفل يف الصف الخامس االبتدايئ‪ ،‬ذهب له محمد ليجلس معه‪ ،‬بىك‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪41‬‬


‫رجل ناض ًجا بشكل ال‬ ‫محمد ومل يبك حسني‪ ،‬كان يحاول أن يكون ً‬
‫يليق بسنه‪ .‬ال يذكر محمد أن حسني كان يذكر أباه يف أحاديثه‪ ،‬إال‬
‫ناد ًرا ج ًدا‪ ،‬مرة وهم يتسلقون إحدى أشجار التوت بعدما هربوا من‬
‫املدرسة اإلعدادية‪ ،‬قال حسني وهو يف أعىل فرع يف الشجرة‪ ،‬بينام‬
‫محمد وإبراهيم متويل وعبد الرحمن سعيد متفرقني عىل غصون‬
‫أشجار مجاورة أقل ارتفا ًعا‪:‬‬
‫‪ -‬أبويا الله يرحمه هو اليل علمني أطلع الشجر‬
‫“الله يرحمه‪ ،‬خلف قرد”‪ ،‬غضب حسني‪ ،‬وقفز من شجرته لشجرة‬
‫إبراهيم الذي قال ذلك‪ ،‬تعلق بغصن‪ ،‬ثم سقط‪ ،‬وتدخل كل من‬
‫محمد وعبد الرحمن سعيد ليلجام غضبه‪ ،‬ثم نيس األربعة األمر كله‬
‫فور رؤيتهم لصاحب األرض وهو يجري من داخل حقله تجاههم‬
‫ملو ًحا بفأسه ملعاقبتهم عىل رسقة شجرته‪.‬‬
‫يف رحلة اإلسكندرية‪ ،‬يف القلعة‪ ،‬قال محمد لسهر‪ ،‬أمام حبيبته‬
‫السابقة والنسوية املشاكسة إميان‪ ،‬إنه يريد أن يتزوجها‪ .‬ردت إميان‬
‫“جواز مني يابوشخة انتا”‪ ،‬تورد خد سهر‪ ،‬وصمتت‪ .‬مل يكن أبناء القرى‬
‫الصغرية وبناتها مؤهلني للتعامل مع تلك املواقف‪ ،‬أقىص مراحل‬
‫الصياعة وقتها أن يبتسم ولد وبنت لبعضهام‪ ،‬هذا إن استبعدنا سرية‬
‫“التعلب” من املوضوع‪ .‬كانت االبتسامة فت ًحا كب ًريا مبعايري القرية‪،‬‬
‫كامل‬
‫حتى أن محمد عرفة‪ ،‬تالتة رابع‪ ،‬ظل حديث املدرسة أسبو ًعا ً‬
‫ألنه تجرأ وتحدث مع ريم عىل هاتف املنزل ملدة أربع ثوان‪ .‬األربع‬
‫انتقاصا من مغامرته‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫حكم بأثر رجعي عىل عرفة أو‬ ‫ثوان ليست ً‬
‫تدوين دقيق لحكايته‪“ ،‬اتصلت كذا مرة‪ ،‬أمها اليل كانت برتد‪ ،‬فبقفل‪،‬‬
‫ملا ردت هي قلتلها عاملة إيه يف املذاكرة‪ ،‬قالتيل الحمد لله بذاكر‪،‬‬
‫رأسا عىل عقب‪ ،‬وصل لريم‬ ‫وبعدين قفلت السكة”‪ .‬انقلبت املدرسة ً‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪42‬‬


‫أن عرفة “فضحها يف املدرسة”‪ ،‬أخربت والدها صاحب ورشة إصالح‬
‫السيارات عىل الطريق‪ ،‬الذي أقسم أنه سيقتل عرفة‪ .‬اعتذر عرفة‬
‫لوالدها‪ ،‬ثم اعتذر والده وعمه وذهب بصحبة زوجته لبيت ريم‬
‫لالعتذار الرسمي‪ ،‬ووعد والد ريم‪ ،‬املعلم سعد‪ ،‬بأنه سيكرس الهاتف‬
‫عىل رأس محمد‪ ،‬وهو ما فعله‪ ،‬ثم خصص مدير املدرسة ذو القبضة‬
‫الحديدية افتتاحية الطابور ملدة أسبوع كامل للحديث عن حرمة‬
‫االختالط‪ .‬وألن األيام نهر ال يتوقف‪ ،‬نيس الجميع كل ذلك بعد أن نفذ‬
‫“التعلب” فعلته التي تضاءل بجوارها كل يشء‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫اشتهر إبراهيم متويل بـ “التعلب” منذ أن أحرز سبعة أهداف‬
‫منفر ًدا يف املباراة التي جمعت بني فريق املدرسة لكرة القدم واملدرسة‬
‫املجاورة‪ ،‬وال ميكن الفصل هل اكتسب إبراهيم صفاته الثعلبية بسبب‬
‫اسم الشهرة يف محاولة منه ليكون خليقًا بهذا اللقلب‪ ،‬أم أنه كان‬
‫وصفًا مبك ًرا صائ ًبا من مدرس الرتبية الرياضية الشاب للمدرسة األوىل‪،‬‬
‫الذي أقسم إبراهيم برحمة أمه أنه عرض عليه االنتقال للمدرسة‬
‫األخرى‪ ،‬واع ًدا إياه أنه سيغششه بنفسه يف كل االمتحانات مقابل أن‬
‫يلعب لفريق املدرسة‪ ،‬يف خطة طموح ليكسب بطولة املحافظة لكرة‬
‫القدم‪.‬‬
‫أسمر‪ ،‬طويل‪ ،‬نحيف‪ ،‬سليط اللسان‪ ،‬متهكم‪ ،‬أول من علمهم‬
‫فتح املطواة قرن الغزال التي رسقها من أخيه األكرب أسطورة املدرسة‬
‫“محمد متويل”‪ ،‬مشاكس‪ ،‬وظريف‪ ،‬ولطاملا أخرجهم من املواقف‬
‫املحرجة التي أمالها عليهم إحساسهم الخاطئ بالنضج املبكر‪ .‬يكذب‬
‫بثقة وثبات‪ ،‬أخرب مرة مدير املدرسة‪ ،‬الذي قفشهم وهم يتسلقون سور‬
‫املدرسة ليحرضوا مباراة اتفقوا عليها مع فريق من القرية املجاورة‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪43‬‬


‫أنهم شاهدوا ول ًدا يرضب فتاة صغرية‪ ،‬وأنه رآها بعينه تنزف‪ ،‬وأنهم‬
‫ومتحمسا‪ ،‬مصدقًا قصته التي فربكها‬
‫ً‬ ‫ذاهبون لنجدتها‪ .‬كان غاضبًا‪،‬‬
‫لتوه‪ ،‬حتى أن مدير املدرسة ربت عىل كتفيه محي ًيا إياه عىل شهامته‪،‬‬
‫وقال له إن األصح أن يخربه هو أو أحد املدرسني ليتدخلوا‪ ،‬قاطعه‬
‫التعلب بنفس ثباته‪:‬‬
‫‪ -‬الزم نلحق البت ال متوت‬
‫نادى املدير مدرسني آخرين وأخربهم أن يذهبوا مع فريق التسلل‬
‫لنجدة الفتاة‪ ،‬بحثوا يف كل الشوارع دون أن يجدوا لها‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أي‬
‫أثر‪ ،‬استمر التعلب يف غضبه‪ ،‬حاول املدرسون تهدئته دون جدوى‪،‬‬
‫اكتسب التعلب بسبب هذه الحادثة احرتام املدير‪ ،‬االحرتام الذي‬
‫سيخفف عنه العقاب حني قفشه أستاذ مجدي مدرس اللغة العربية‪،‬‬
‫وهو يطلع مجموعة من الزمالء عىل إحدى املجالت اإلباحية التي كان‬
‫يبيعها‪ .‬مل يصدق أي مدرس قوله إنه يحاول تحسني لغته اإلنجليزية‪.‬‬
‫التعلب أيضً ا كان عزوة الشلة‪ ،‬يكفيهم يف أي خناقة أن يرصح أنه‬
‫أخو األسطورة محمد متويل حتى تنتهي الخناقة قبل أن تبدأ‪ ،‬وإن‬
‫بدأت‪ ،‬فهم متيقنون أنهم سيتمكنون من االنتقام برسعة‪ ،‬هذا ما‬
‫يعرفه كل تالميذ املدرسة‪ .‬الجانب الذي مل يعرفه عن التعلب سوى‬
‫أصدقاؤه املقربون كان ميوله الفنية‪ ،‬ومل يعرف حتى أعضاء الشلة‬
‫نفسها من أين اكتسبها أو تعلمها‪ ،‬فوجئوا به مرة‪ ،‬وهم يف بيته‪،‬‬
‫يريهم لوحتني‪ ،‬األدق رسمتني عىل ورق رسم طويل ورخيص‪ ،‬بالقلم‬
‫الرصاص‪ ،‬إحداهام رسم لفارس يشبهه متا ًما‪ ،‬عىل حصان أبيض‪ ،‬ميسك‬
‫بيده اليمنى مطواة‪ ،‬وباليرسى يرفع رقبة فارس خصم يشبه مدير‬
‫املدرسة‪ .‬اللوحة األخرى تصور أمنية وهي تقف مستندة إىل بوابة‬
‫طويل ج ًدا باملعايري املدينية‪،‬‬
‫ً‬ ‫املدرسة بدالل‪ ،‬تلبس فستانًا قص ًريا‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪44‬‬


‫يظهر قدميها‪ ،‬وترتدي حجابًا يظهر بعض خصالت شعرها‪ ،‬مع مبالغة‬
‫كاريكاتورية‪ ،‬ولكن يسهل تفسري منشأها‪ ،‬ملنحنيات جسدها الناضج‪،‬‬
‫وتدخن سيجارة‪ ،‬فيام يقف التعلب يلعب باملطواة‪“ .‬لو أهلها عرفوا‬
‫بالصورة دي‪ ،‬هيقتلوك”‪ ،‬أخربه حسني‪ ،‬نصحه عبد الرحمن بتمزيق‬
‫حال‪ ،‬بينام كان رأي محمد أنه عىل األقل يجب أال يريها‬ ‫اللوحة ً‬
‫ألي أحد غريهم تجنبًا ملا ال يحمد عقباه‪ ،‬فأمنية‪ ،‬يف النهاية‪ ،‬كمحمد‬
‫متويل‪ ،‬إحدى أساطري املدرسة‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫تكمن قوة مشاعرنا يف اإلعجاب اآلخرين‪ ،‬سواء كانوا أصدقاء‬
‫أو عشاق‪ ،‬يف افرتاض ضمني بعدم تكراريتهم‪ ،‬أو عىل األقل بعدم‬
‫تكرارية ما نراه ممي ًزا بهم‪ .‬رأى محمد زميلته أمنية يف أول يوم له‬
‫يف مدرسة الثانوي‪ ،‬بجواره رشيف القط أحد زمالئه “النسور”‪ ،‬تريت‬
‫وقميصا واس ًعا يجاهد‬
‫ً‬ ‫حجابًا ال يسمح لشعرة واحدة منها بالظهور‪،‬‬
‫يك ال يظهر فتنتها دون نجاح كبري‪ ،‬وجيبة طويلة‪ ،‬بها فتحة قصرية ج ًدا‬
‫أعىل القدم لتسهل الحركة‪ ،‬تحتها رشاب طويل ليقتل أي احتاملية‬
‫ظهور لسابقها‪“ .‬فتحة دي ولال كتب كتاب”‪ ،‬قال رشيف ألمنية‪ ،‬مل‬
‫تلتفت‪ ،‬أعاد رشيف جملته‪ ،‬فالتفتت وابتسمت ابتسامة مربكة‪ .‬وصل‬
‫إعجاب محمد برشيف يف هذه اللحظة إىل أعىل درجاته‪ .‬يف الفسحة‬
‫سيفقد رشيف إعجاب محمد لألبد حني يرى األخري أنور البحريي‬
‫يقول نفس الجملة ألمنية وتبتسم له نفس االبتسامة‪ ،‬انضم لالثنني‬
‫محمد البحريي يف نهاية اليوم الدرايس‪ ،‬حني قال نفس الجملة وفاز‬
‫بنصيبه من االبتسامات‪ .‬كام يعلم الكل اآلن‪ ،‬مل تكن هذه االبتسامة‬
‫تحمل وع ًدا أكي ًدا بالقرب‪.‬‬
‫يف طابور اليوم التايل‪ ،‬كان طالب الفصول كلها ينظرون للثالثة‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪45‬‬


‫نسور‪ :‬أنور والبحريي والقط‪ .‬أنور يده يف الجبس‪ ،‬البحريي فقد سنتيه‬
‫األماميتني‪ ،‬وجه القط يحمل الصقة للجروح عىل ميني فمه‪ ،‬أخذ ثالث‬
‫غرز لتخييط الجرح‪ .‬أما أمنية فقد ارتدت للمرة األوىل يف تاريخ‬
‫مدرسة الثانوي املعارص بنطلونًا ضيقًا‪ ،‬ومل يجرؤ أحد‪ ،‬يف نفس اليوم‪،‬‬
‫أن يفتح فمه بكلمة‪ ،‬بل وارتعد كل من ملحته أمنية ينظر إليها‪.‬‬
‫يف القرية الصغرية‪ ،‬الكل يعلم شهرة عائلتها التي يكفي اسمها‬
‫وحده للتدليل عليه‪“ :‬عائلة الحانويت”‪ .‬أخو أمنية األكرب يف السجن‬
‫منذ سنة كاملة‪ ،‬أبوها صاحب املقهى الوحيد يف القرية وبطل جميع‬
‫مالحم العائلة‪ ،‬إخوتها الثالثة اآلخرين مسجلني خطر‪ ،‬عمها تويف يف‬
‫املعركة التاريخية بني العائلة وعائلة من القرية املجاورة‪ ،‬إثر نزاع‬
‫عىل ري األرض‪ .‬الثالثة‪ ،‬أنور والبحريي والقط‪ ،‬كانوا يعلمون ذلك‬
‫متا ًما قبل أن يندفعوا بحامقة ملعاكستها‪ ،‬وحده رشيف الذي قرر‬
‫عدم االستسالم بسهولة‪ ،‬وبعد الفسحة حىك لزمالئه أن أمنية قالت‬
‫له “ألف سالمة”‪ ،‬هذه عالمة حنان أكيد‪ .‬وبنفس الغباء‪ ،‬قرر بعد‬
‫املدرسة أن يذهب ويقف أمام بيتها‪ ،‬ليختلس نظرة إليها وهي تنرش‬
‫فعل ورآها‪ ،‬ويف اليوم التايل‪ ،‬كان‬
‫الغسيل بشعرها‪ ،‬نجحت خطته ً‬
‫يقف يف الطابور فخو ًرا وهادئًا‪ ،‬ويزين وجهه جرح جديد‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫وقف عباس بن فرناس هادئًا أمام القايض‪ ،‬وحوله الشهود له‬
‫وعليه‪ ،‬اتهمه خصومه بالشعوذة والسحر‪ ،‬وبالطبع‪ ،‬بالزندقة‪ ،‬بسبب‬
‫تجاربه التي يجريها يف بيته‪ ،‬ورمبا بسبب عالقته املتينة بقرص الحاكم‬
‫األموي عبد الرحمن بن هشام يف األندلس‪ .‬من أصول أمازيغية‪ ،‬مهتم‬
‫بالفلك والطب والفلسفة والشعر‪ ،‬أحرض القايض األمري األموي ليشهد‬
‫بنا ًء عىل طلب بن فرناس‪ .‬يوم مشهود‪ ،‬ورمبا قال ابن فرناس لنفسه‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪46‬‬


‫بينام ينظر لخصومه‪ :‬السحر والشعوذة؟ مل تروا شيئًا بعد‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫رمبا يكون هناك يشء ملهم يف الفشل كام هناك إلهام للنجاح‪،‬‬
‫مباذا فكر عامل اللغة العربية املعترب إسامعيل بن حامد الجوهري‪ ،‬وهو‬
‫بعد أكرث من مائة عام عىل وفاة عباس بن فرناس هناك يف األندلس‪،‬‬
‫يصعد سطح داره يف نيسابور ببالد فارس‪ ،‬يرتدى جناحني من الخشب‪،‬‬
‫وينادي يف الناس‪ :‬لقد صنعت ما مل أُسبق إليه وسأطري الساعة‪ ،‬ثم‬
‫قتيل؟‬
‫يسقط ً‬
‫عىل األغلب نفس طريقة التفكري هي ما دفعت أنور والبحريي‪،‬‬
‫بعدما رأيا جرح رشيف الجديد‪ ،‬أن يقفا أمام بيت أمنية ليناال ما ناله‪.‬‬
‫وبغض النظر عن أنهام مل ينال حظ رؤية شعر أمنية األسود الطويل‪،‬‬
‫حسب وصف رشيف‪ ،‬فإنهام ناال جرا ًحا جديدة‪ ،‬وقفا فخورين بها‬
‫يف الطابور‪ ،‬ومن هنا بدأت وفود الطالب إىل بيت أمنية طيلة العام‬
‫الدرايس‪ .‬كل يوم ينضم طالب جديد‪ ،‬بجرح يف وجهه أو يد مكسورة‬
‫أو لكمة يف عينيه‪ ،‬إىل زمرة الفاشلني الفخورين‪ ،‬حتى أنه يف ذروة‬
‫انتشار هذا الطقس‪ ،‬أصبح ناد ًرا أن تجد طال ًبا دون جراح ظاهرة‪،‬‬
‫وكلام ازدادت الجراح‪ ،‬ازداد التفاف الطالب حول رشيف كأب روحي‪،‬‬
‫وازداد سطوع أمنية يف املدرسة‪ ،‬حتى قرر مدير املدرسة‪ ،‬ذات يوم‪،‬‬
‫أن يضع نهاية لهذه امللحمة‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫يف املدرسة املشرتكة يف القرية الصغرية‪ ،‬حيث ال مدرسة ثانوية‬
‫أخرى‪ ،‬وحيث كل شخص يعرف عائلة الشخص اآلخر‪ ،‬فرض مدير‬
‫املدرسة قبضته كحاكم حديدي‪ ،‬حيث مغامرات املراهقة وعواطفها‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪47‬‬


‫تواجه بالعقاب الفوري‪ .‬يحب الحديث الطويل‪ ،‬حتى أن محمد ال‬
‫يذكر اآلن أين بالضبط كان يجد مدير مدرسة ثانوية بقرية صغرية‬
‫باألقاليم مواضيع كافية لخطبه التي تطول فتأكل الحصة األوىل‬
‫ونصف الثانية يف أغلب األحيان‪ ،‬وتلتهم الحصة الثالثة يف األوقات‬
‫العصيبة‪ ،‬مثل إعالنه نهاية ملحمة أمنية‪ ،‬وتعليقه عىل فعلة التعلب‪،‬‬
‫وقراراته الصارمة بعد معركة “وجبات التغذية”‪ .‬يف تلك األيام‪،‬‬
‫كانت “وجبة التغذية” التي توزع عىل التالميذ عبارة عن برتقالة‬
‫ورغيفي خبز وقطعة حالوة طحينية وقطعتي جبنة مثلثات‪ .‬عبد‬
‫القادر التالوي‪ ،‬طالب تالتة خامس‪ ،‬كان من الطالب املسؤولني عن‬
‫توزيع التغذية‪ ،‬وانترشت أخبار أنه يحجب قطع الحلوى الطحينية‬
‫لصالح فصله‪ .‬انتفض محمد عبد الحميد‪ ،‬من طالب تالتة سابع عىل‬
‫ذلك‪ ،‬واشتبك مع عبد القادر‪ ،‬ثم اتفق االثنان أن يؤجال اشتباكهام‪،‬‬
‫كالرجال‪ ،‬إىل نهاية اليوم الدرايس‪ ،‬ويتقابال يف ملعب البلدة الكبري‪.‬‬
‫انترش الخرب‪ ،‬تضامن فصل كل منهام مع زميله‪ ،‬وجذب كل فصل‪،‬‬
‫بعالقاته املختلفة‪ ،‬بعض الفصول األخرى إىل صفه‪ .‬وحني رن جرس‬
‫املدرسة إيذانًا بالخروج‪ ،‬خرجت غالبية الطالب‪ ،‬وال ًدا وبنات ًا‪ ،‬من‬
‫جميع الصفوف إىل امللعب ليشهدوا الحدث‪ .‬يف البداية كان الظن‬
‫أن املعركة ستكون بني الطالبني ويكتفي البقية بالتشجيع‪ ،‬لكن وجود‬
‫البنات فاقم من هرمونات الوالد‪ ،‬فقرر كل شخص قادر عىل املعركة‬
‫أن يختار أحد األطراف‪ .‬بنزعته البطولية والفروسية تزعم حسني‪،‬‬
‫رغم أنه يصغر كال املتعاركني بسنة كاملة‪ ،‬جانب أنصار محمد عبد‬
‫الحميد‪ ،‬وبشكل تلقايئ انضم إليه التعلب والقط ومحمد الذي كان‬
‫له سبب إضايف الختيار صف عبد الحميد‪ ،‬بينام كان عىل رأس أنصار‬
‫عبد القادر التالوي واحد من القالئل الذين شهدوا موقعة الكوبري‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪48‬‬


‫وبطل معركة املطاوي املفتوحة‪ ،‬حامده الغول‪ .‬وقفت البنات عىل‬
‫جوانب امللعب‪ ،‬الذي مل يكن أكرث من قطعة أرض ترابية واسعة‪،‬‬
‫واصطف الطرفان كأنهم يف إحدى املعارك القدمية‪ ،‬دون سيوف‬
‫وخيول‪ ،‬وباتفاق جامعي صامت دون مطاوي أو أحزمة‪ .‬مل يعلم أحد‬
‫طقوس بدء املعركة‪ ،‬كيف سيشتبك الحشدان م ًعا‪ ،‬ولذا تفاوض وفد‬
‫بقيادة عبد الحميد وحسني مع وفد بقيادة عبد القادر وحامده‪ ،‬عىل‬
‫ولكل اختيار‬
‫قواعد االشتباك‪ :‬رجل لرجل‪ ،‬ال يشتبك اثنان ضد واحد‪ٍّ ،‬‬
‫غرميه يف املعركة‪ .‬أما االستسالم فبسيط‪ ،‬كل من يريد االستسالم عليه‬
‫أن يقول أنا خرست‪ .‬اقرتحوا يف البداية أنه لو انترص جيش عبد القادر‬
‫يكون له كل الحلوى الطحينية والربتقال طيلة الفصل الدرايس‪ ،‬ولو‬
‫انترص جيش عبد الحميد يكون له ذلك‪ .‬وبعدما رشح لهم حسني‬
‫استحالة تطبيق ذلك‪ ،‬أصبح االتفاق أن انتصار جيش عبد القادر يعني‬
‫بقاء الوضع كام هو عليه بزيادة الربتقال لفصله فقط‪ ،‬وخصم الربتقال‬
‫من فصل عبد الحميد‪ ،‬ولو حدث العكس يحرم جيش عبد القادر من‬
‫االثنني‪ .‬وملزيد من الشفافية والنزاهة‪ ،‬اختار الطرفان حكمني ليكونا‬
‫شاهدين عىل االنسحابات وتطبيق القواعد‪ :‬أحمد الفار‪ ،‬تالتة أول‪،‬‬
‫ومحمود األشول‪ ،‬تانية سابع‪ .‬وحني تدخلت إميان باقرتاح أنها يجب‬
‫أن تكون الحكم‪ ،‬كتم الجميع ضحكاتهم‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫يسري اإلنسان وهو يالحق مئات الحبال يف يده‪ ،‬حبال الصداقة‪،‬‬
‫حبل يجذبه‬
‫والحب‪ ،‬األهل‪ ،‬العمل‪ ،‬الطموح‪ ،‬املغامرة‪ .‬يف طريقه يجد ً‬
‫بعي ًدا عن بقية الحبال‪ ،‬فيكون عليه االختيار‪ .‬ليس من السهولة أن‬
‫حبل يفلت من يدك وأنت تالحقه سنني طويلة‪ ،‬ماذا ستفعل بكل‬
‫ترتك ً‬
‫هذا الطريق الذي قطعته إذن؟ تلك الفكرة تجعل البعض ميسكون‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪49‬‬


‫حبل ال يريدونه ملجرد أنهم أطالوا إمساكه‪ ،‬البعض ينىس كل‬
‫بقوتهم ً‬
‫ذلك الطريق كأنه مل يكن ويرتك الحبل‪ ،‬البعض‪ ،‬متفلسفًا‪ ،‬يقول إنه‬
‫لوال مالحقته للحبل من البداية مل يكن ليصل إىل ما وصل إليه‪ .‬وال‬
‫يعفيه ذلك من نغزة الحنني‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫تبدو صداقات محمد القريبة له كأنها سباق تتابع‪ ،‬كل صديق‬
‫مقرب‪ ،‬وقبل أن ينسحب ويرتك الحبل‪ ،‬يسلمه لشخص آخر‪ .‬هكذا‬
‫أعطى حسني الحبل لغانم‪.‬‬
‫مل يكن غانم شخصية قيادية كحسني‪ ،‬وبدا عىل الداوم ملن ال‬
‫يعرفه كشخص تقليدي متا ًما‪ ،‬لكن هذه التقليدية الظاهرية نفسها‬
‫كانت متده بالثقة يف العامل‪ ،‬بأنه يعرف قوانينه‪ ،‬وعازم عىل قبولها‪،‬‬
‫كل يشء مفهوم‪ .‬وعىل عكس حسني الذي يواجه الدنيا بشجاعته‬
‫وجاذبيته الشخصية‪ ،‬أو التعلب الذي يواجه املآزق بخياله الواسع‪،‬‬
‫كان غانم يواجه املشاكل عىل أرض الواقع ألنه يعرف دو ًما حلها‬
‫شخصا آخر من املمكن أن‬‫الحقيقي‪ ،‬ولو مل يعرف الحل‪ ،‬فهو يعرف ً‬
‫يعرفه‪ .‬ثباته عىل أرض الواقع هو ما أعطاه الهدوء الكايف ليقرتح عىل‬
‫محمد أن يذهب معه لخطبة سهر‪ ،‬بعدما رفض والد محمد الذهاب‬
‫قائل له يف ضجر “متصغرنيش معاك يف لعب العيال دا”‪.‬‬ ‫ً‬
‫لبس كالهام بدلة كاملة بربطات عنق أنيقة‪ ،‬تعطرا‪ ،‬حمل محمد‬
‫باقة الورد من املحل التي جاء بها غانم يف عربته من القاهرة‪ ،‬ومعها‬
‫علبة الشيكوالتة التي حملها هو‪ ،‬ودون أن يحصال عىل موعد مسبق‪.‬‬
‫يف الحقيقة‪ ،‬أخرب محمد سهر أنه سيأيت يف هذا املوعد‪ ،‬ولكن أباها‬
‫رفض أن يلتقي مبحمد دون أبيه‪ ،‬ويجدر هنا التذكري بأن غانم صحيح‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪50‬‬


‫واع بأهمية األعراف االجتامعية‪ ،‬إال أنه أيضً ا شاب تسوقه حامسته‬
‫أحيانًا‪ .‬طرقا باب بيت سهر‪ ،‬فتحت لهام أختها سهري دون حجاب‪،‬‬
‫تعرف محمد جي ًدا‪ ،‬وتعرف ملاذا جاء‪ ،‬جرت رسي ًعا إىل الداخل لتضع‬
‫حجابها وهي تقول بصوت عال “بابا‪ ،‬بابا”‪ .‬دخال‪ ،‬وفتح كل منهام أزرار‬
‫البدلة‪ ،‬دخل الحاج أحمد‪ ،‬بقامته الفارعة وجسده الضخم‪ ،‬يف مالبس‬
‫الضيق‪ ،‬سلم عليهام يف امتعاض‪ ،‬ثم ألقى بجسده عىل الكنبة بقوة‬
‫كأنه يعاقبها‪ .‬للمرة الثانية خالل عامني فقط يجد نفسه يجلس نفس‬
‫الجلسة بنفس الغضب‪ ،‬ودون أن يخفف من حدة نظرته املحتقرة‬
‫ملحمد‪ ،‬قال “خري”‪ .‬يف هذه اللحظة‪ ،‬وبينام يهم محمد بالكالم‪ ،‬أدرك‬
‫غانم الخطأ الذي وقعا فيه‪ ،‬لكنه مل يدرك مدى فداحته‪ .‬وقع الرتبو‪،‬‬
‫دون مبالغة‪ ،‬من الضحك حني أخربوه عام حدث‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫ملاذا يسمى محمود حامد بالرتبو؟ ال يعلم أحد‪ ،‬تعامل معها‬
‫الجميع كحقيقة‪ ،‬لعلها شهرة اكتسبها من قريته ثم أىت بها مفتخ ًرا‪.‬‬
‫من هؤالء الذين تعج الجامعات بهم وقد صمموا مسبقًا أن يخوضوا‬
‫كل مغامرات حياتهم خالل هذه الفرتة‪ ،‬ورمبا ألنه شديد الذكاء‪ ،‬أو‬
‫شديد الغباء حسب معيار الحكم‪ ،‬فقد أحاط نفسه مبجموعة من‬
‫العقالنيني الذين يحسبون حساباتهم كاملة قبل اإلقدام عىل أي يشء‪.‬‬
‫شديد الذكاء إن اعتربنا انه إذن وضع نظا ًما لألمان يكبت نزعته‬
‫املغامرة فال يهلك نفسه‪ ،‬ويف نفس الوقت يجعله خوفهم يحظى‬
‫بسهولة بلقب مغامر الشلة‪ .‬شديد الغباء‪ ،‬ألنه بهذه الطريقة لن‬
‫تكون حياته الجامعية مغامرة بالدرجة التي يتمناها‪.‬‬
‫بدأ مبغامرات بسيطة‪ ،‬يتغيب عن املحارضة مثل أن يتسلل لغرفة‬
‫الدكتور ويكتب اسمه يف الحضور‪ ،‬ثم خطا خطوة أخرى أهم‪ ،‬حني‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪51‬‬


‫كان أول من بادر منهم للحديث مع البنات‪ .‬وتحدي ًدا‪ ،‬ألن الحياة‬
‫دو ًما لها منطقها الخاص‪ ،‬كانت أول من تحدث معها مروة‪ ،‬ثم‬
‫بفضل اجتامعية املرحة أصبحت شلتهم‪ ،‬وهو أمر نادر الحدوث يف‬
‫املجموعات التي تبدأ عضويتها بذكور فقط‪ ،‬متساوية جندريًا‪ ،‬محمد‬
‫وغانم والرتبو‪ ،‬ومروة وعبري وأماين‪ ،‬قبل أن ينضم إليهم الرتوليل‬
‫لريجح كفة الذكور حتى حني‪ .‬محمد يف مرحلة النقاهة من سهر‪،‬‬
‫وجامل‪ ،‬من أن ميتلك أي من محمد وغانم والرتبو‬ ‫ً‬ ‫أماين أكرث حدة‪،‬‬
‫الشجاعة لطلب مواعدتها‪ ،‬من الفتيات الاليت تدرك من النظرة األوىل‬
‫أن جميع الدفعة ستقع يف حبها‪ ،‬وال أمنية يف زمانها‪ ،‬وأن عرشات‬
‫الشعراء متوسطي املوهبة سيسكبون كل موهبتهم يف كتابة القصائد‬
‫لها‪ ،‬قبل أن يكتشفوا محدودية موهبتهم وتقذفهم الحياة لدروب‬
‫أكرث منطقية من الشعر‪ .‬ورمبا من حقيقة أنه كُتب عليها أن تحرتف‬
‫الرفض بسبب كمية طالبي القرب منها‪ ،‬اكتسبت أماين حدتها القاسية‪.‬‬
‫ميكنك بسهولة‪ ،‬ببعض البصرية والتجربة‪ ،‬أن ترى املستقبل‪ ،‬الشاب‬
‫املرشق الواثق يف نفسه الذي يتقدم إىل أماين بعد أن وضع خطته‪،‬‬
‫ستتكرس أحالمه بعد أقل من أربع دقائق‪ .‬املعيد الذي يدللها‪ ،‬تعلم‬
‫أنه سيعرض عليها الزواج بعد أقل من شهر‪ ،‬وسرتفضه‪ .‬حتى الرتوليل‪،‬‬
‫ملك الكوميديا‪ ،‬ستسقط قفشاته رصيعة عىل األرض‪ ،‬قبل أن يستسلم‬
‫للحقيقة ويقرر االنضامم للشلة كأحد أفرادها‪ ،‬وليس كحبيب ألماين‪.‬‬
‫كانت “أماين” جوهرة الشلة‪ ،‬امتيازهم‪ ،‬مكمن شعورهم الجامعي‬
‫بالتفوق عىل بقية زمالئهم‪ ،‬رسولتهم للتفاوض مع الدكاترة لتخفيف‬
‫االمتحانات‪ ،‬برهانهم الساطع يف وجه من يقلل من جامل بنات‬
‫هندسة‪ ،‬تدريبهم األقىس عىل لجم هرموناتهم‪ ،‬واألهم طب ًعا من كل‬
‫ذلك‪ ،‬بوابتهم الواسعة لعامل املغامرات‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪52‬‬


‫‪33‬‬
‫سيذكر محمد بعد سنوات طويلة‪ ،‬وبينام يتلقى اللكامت يف وجهه‬
‫وجسده‪ ،‬ويسمع طرقعة الكرايس املتكرسة‪ ،‬يف مدينة ساحلية‪ ،‬وحوله‬
‫ترصخ غادة وندى‪ ،‬أماين بالذات‪ .‬حني ظهر املنياوي‪ ،‬بهدوء وثقة‬
‫وحوله اثنان ال يعرف أيًا منهام‪ ،‬وأمسك برقبة من يرضب محمد‪ ،‬ودون‬
‫أي ملحة غضب أو تردد‪ ،‬طلب منه بطاقته‪ ،‬ثم طلب بطاقات الجميع‬
‫مبا فيهم محمد‪ .‬ظل مرافقاه صامتني ال يتحركان إال حني يأمرهام‬
‫بجمع البطاقات‪ .‬حدست ندى وغادة نوعية املرسحية التي يؤديها‬
‫فصمتتا‪ ،‬أحرض له أحد مرافقيه كرس ًيا ليجلس‪ ،‬أخذ يلعب بالبطاقات‬
‫يف يده ويتحدث يف الهاتف إىل شخص ما‪ ،‬ميليه بيانات البطاقات‪.‬‬
‫أنزل الهاتف عن أذنه وسأل محمد عن سبب املعركة‪ ،‬أخربه‪ ،‬طلب‬
‫هاتف املتعارك اآلخر الذي يحمل الصور‪ ،‬تصفح الصور‪ ،‬ثم قال كأنه‬
‫يحدث نفسه‪ ،‬جناية انتهاك خصوصية ورشوع يف قتل وترويع اآلمنني‪.‬‬
‫ارتبك املتعارك‪ ،‬وأخربه أنه مجرد سوء تفاهم‪ .‬تجاهله املنياوي وقال‬
‫للشخص اآلخر عىل الهاتف “ال دا موضوع كبري يا باشا‪ ،‬ابعتيل عربيتني‬
‫حالً ”‪ .‬ترجاه املتعاركون أن يلم املوضوع‪ ،‬رفض‪ ،‬وبشجاعة مكتسبة‬
‫اندمجت غادة وندى يف املرسحية وطالبتا املنياوي بعدم العفو عن‬
‫أحد‪ .‬وبعد جدال طويل من الجميع أخربهم املنياوي‪ ،‬وهو ما زال‬
‫محتفظًا بهواتفهم‪ ،‬باالنرصاف اآلن بعد أن يقدموا اعتذارهم لغادة‬
‫ومحمد‪ ،‬ففعلوا ذلك‪“ .‬التليفون دا دليل دلوقتي‪ ،‬مقدرش أرجعه‬
‫ليكو‪ ،‬هحاول أمل املوضوع‪ ،‬لكن عامة بياناتكم معايا‪ ،‬ممكن تالقوين‬
‫فعل‪،‬‬
‫طالب منكم الحضور عندي يف خالل اليومني الجايني”‪ ،‬انرصفوا ً‬
‫وحني زال كل أثر ألشباحهم من الطريق‪ ،‬قام من الكريس‪ ،‬وقدم‬
‫مرافقيه ألصدقائه الثالثة‪“ ،‬دكتور أحمد قاسم‪ ،‬ودكتور إسامعيل‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪53‬‬


‫صبحي‪ ،‬عيون أعيان فرقة مرسح طب القرص العيني”‪ .‬ابتسم محمد‪،‬‬
‫وفكر أن التعلب كان سيفرح مبشاهدة هذه املرسحية وستكون له‬
‫العديد من التدخالت الدرامية لتحسينها‪ ،‬سببت له هذه الفكرة كآبة‬
‫لحظية‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫تجاوز الوقت الحصة الثالثة واملدير مستمر يف كلمته‪ ،‬التالميذ‬
‫جلسوا عىل األرض مفرتشني كتبهم يف وجوم‪ ،‬والتعلب غري موجود‬
‫ليضحكهم بتعليقاته رغم أن الحديث كله يدور حوله‪ .‬نهر ساكن‬
‫من الطلبة‪ ،‬كالنهر الذي علمهم فيه التعلب العوم‪ .‬بعي ًدا عن‬
‫املدرسة‪ ،‬وسط األرايض الزراعية تسللوا بقيادته‪ ،‬ثم خلعوا مالبسهم‪،‬‬
‫ونزلوا‪ .‬يذكر محمد شكل أشجار املوز املحيطة مبكان نزولهم‪ ،‬ومرأى‬
‫السيارات عىل الكوبري البعيد‪ .‬حىك لهم التعلب أنه يجيء هنا كث ًريا‬
‫وحده ويستمتع بالعوم‪ ،‬حىك البعض عن أسطورة النداهة الجميلة‬
‫التي تسكن يف النهر‪ ،‬كتم الجميع خوفهم واستمروا يف املجيء‬
‫والعوم‪ ،‬ورسقة “أسبطة املوز” من األرض املجاورة‪ .‬املوز ما زال أخرض‬
‫صل ًبا‪ ،‬لكن التعلب يقول‪ ،‬وهو يقطع إحدى السباطات‪ ،‬إنه يستمر يف‬
‫النضج يف البيت‪ .‬مل يجرب محمد ذلك‪ ،‬وال يزال حتى اآلن غري متأكد‬
‫من املعلومة‪ ،‬وحتى لو علم بعدم صحتها‪ ،‬كيف يخرب التعلب الجالس‬
‫هناك يف الحياة األخرى‪ ،‬بخطئه؟ مغامرته األخرية مل تجد من يحك‬
‫عنها‪ ،‬كان وحي ًدا‪“ ،‬وندهته النداهة”‪.‬‬
‫اقرتبت الفسحة واملدير مستمر يف عظته عن املوت والحياة‪،‬‬
‫خالصة فلسفته يلقيها إىل الطلبة الواجمني الحزاين‪ ،‬أصوات بكاء‬
‫الطالبات الواضحة حفزت بكاء الطلبة‪ ،‬وشجعهم بكاء حسني عىل‬
‫عدم كبت دموعهم‪ ،‬حتى عبد القادر التالوي بىك‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪54‬‬


‫‪35‬‬
‫مع كل من حسني ومحمد‪ ،‬وقع عبد القادر يف حب سهر‪ .‬زُهد‬
‫األول الغريب الذي جعله يعرتف لسهر بحب محمد لها دون أن‬
‫يعرتف بحبه هو‪ ،‬أخرجه من املنافسة‪ .‬بقي عبد القادر‪ ،‬الضخم محب‬
‫املعارك الذي تتعجب للوهلة األوىل‪ ،‬كيف ميكن لهذا اإلنسان أن‬
‫يسقط فريسة للحب بسهولة‪ ،‬ويف حب من؟ ليست أمنية األنثى‬
‫األسطورية‪ ،‬وال مها املقتحمة سليطة اللسان‪ ،‬التي حىك لهم التعلب‬
‫مرة أنه قبلها مستحلفًا إياهم بعدم إخبار أي أحد‪ ،‬وال إميان النسوية‬
‫التائهة يف األرياف‪ ،‬بل سهر الوديعة الهادئة‪.‬‬
‫علم محمد بحب عبد القادر يف الوقت نفسه الذي علمت فيه‬
‫سهر‪ ،‬وهو الوقت نفسه الذي علمت فيه املدرسة كلها‪ ،‬إذ أنه أعلن‬
‫عن حبه‪ ،‬مختطفًا امليكروفون من يد رئيس اإلذاعة املدرسية‪ ،‬أحمد‬
‫جودت‪“ ،‬أنا بحبك يا سهر”‪ .‬توترت األجواء لوهلة ثم علت الضحكات‪،‬‬
‫بكت سهر‪ ،‬وفصل عبد القادر أسبوعني من املدرسة‪ ،‬ظل خاللهام‬
‫ينتظرها كل يوم خارج املدرسة‪ ،‬صامتًا كوحش مهزوم‪ .‬بعدها بشهر‬
‫سيذهب بصحبته والده لخطبتها‪ ،‬لينهزما م ًعا‪ .‬تغيب بعدها أسبو ًعا‬
‫عن املدرسة‪ ،‬ثم عاد‪ .‬السايرب الجديد‪ ،‬األول يف القرية‪ ،‬كنس مأساته‬
‫العاطفية من طاولة األحداث املهمة يف املدرسة‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫هناك لحظات مفصلية يف الحياة تدرك فيها أنها لن تعود كام كانت‬
‫قبلها‪ ،‬افتتاح السايرب كان إحدى هذه اللحظات بالنسبة للمدرسة‪.‬‬
‫ميتلك القليلون يف القرية جهاز كمبيوتر‪ ،‬عدد أقل يستخدمون هاتفهم‬
‫املنزيل لالتصال باإلنرتنت‪ ،‬أقل منهم من يتصفحونه بحرية للبحث عام‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪55‬‬


‫يريد كل املراهقني البحث عنه‪ .‬السايرب كان ثورة املحرومني‪ .‬ميتلك‬
‫السايرب األستاذ محمد الفار‪ ،‬والد أحمد الفار‪ ،‬تالتة أول‪ ،‬يجلس عىل‬
‫أحد الكومبيوترات يراقب ما يفتحه كل مراهق تسوقه هرموناته‪ ،‬ثم‬
‫يطرده فو ًرا من السايرب إن حاول الوصول إىل ما يريد‪ .‬يتبادل معه‬
‫الجلوس يف السايرب ومراقبة املراهقني أخوه محمود الفار‪ .‬هذا النظام‬
‫الصارم للمراقبة والتوجيه وحفظ األخالق كان به ثغرة واحدة‪ ،‬حني‬
‫يذهب أستاذ محمد الفار لعمله اإلداري يف إحدى القرى املجاورة‬
‫مرتني يف األسبوع‪ ،‬ويكون أخوه محمود ال يزال يف عمله أيضً ا‪ ،‬هنا‬
‫يتألق أحمد الفار ورشيف القط‪ ،‬مصادفة لغوية ليست مقصودة‪.‬‬
‫يومي االثنني واألربعاء يتسلل عرشات الطلبة من املدرسة بعد‬
‫الفسحة للذهاب إىل السايرب بقيادة الفار‪ ،‬أمامهم ساعات قليلة‬
‫قبل وصول الفار الكبري‪ .‬القط‪ ،‬الذي يدخل عىل اإلنرتنت من منزله‪،‬‬
‫يوجه الطلبة للمواقع املرغوبة‪ ،‬يتحلق كل ستة أو سبعة حول جهاز‬
‫واحد‪ .‬مرة واحدة حدث أن تعطلت جميع الكومبيوترات ما عدا‬
‫شخصا حول جهاز واحد‪،‬‬‫واحد فقط‪ ،‬فتحلق الجميع أكرث من أربعني ً‬
‫يحاول كلهم مشاهدة ما يحدث‪ ،‬حتى أن أحد الواقفني بالخلف كان‬
‫يرصخ عال ًيا “هو فيه إيه تحت الحصان‪ ،‬أنا مش شايف”‪ ،‬فيتربع‬
‫القط بقص ما يحدث بصوت عال‪ .‬استمرت هذه الثغرة مدة شهر‬
‫ونصف كاملني‪ ،‬حتى قفشهم يف مرة أستاذ محمد الفار‪ ،‬الذي عاد‬
‫مبك ًرا من عمله ليشهد الفضيحة‪ :‬مراهقون كرث متحلقني حول كل‬
‫جهاز‪ ،‬ابنه جالس أمام جهاز وحده يشاهد ما يشاهدون‪ .‬وقف أحمد‬
‫الفار جام ًدا يف مكانه‪ ،‬حاول الجميع إغالق ما يشاهدونه والتظاهر‬
‫مبشاهدة شخص آخر‪ ،‬رشيف القط فصل الكهرباء عن جهازه‪ ،‬وكذلك‬
‫فعل حسني ومحمد‪ .‬لوهلة بدا للجميع أن األمور ميكن حلها‪ ،‬قبل أن‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪56‬‬


‫يدخل عليهم املدير بنفسه يف السايرب‪ ،‬معه ثالثة مدرسني آخرين‪ .‬مل‬
‫تكن عودة أستاذ محمد الفار إذن محض صدفة‪ .‬مثل لحظة افتتاح‬
‫السايرب‪ ،‬كانت لحظة دخول املدير لحظة لن تعود األشياء ملا قبلها‬
‫أب ًدا‪ ،‬ومثلهام لحظة دخول الرتبو إىل السياسة‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫تخطئ األحكام املسبقة كث ًريا‪ ،‬هي مخزون الحكمة الشعبية‬
‫التي قد يهدر الزمن بصريتها‪ ،‬لكنها تصيب كث ًريا أيضً ا‪ .‬التحق غانم‬
‫ومحمد بتخصص هندسة مدنية‪ ،‬غانم ليعمل برشكة أبيه‪ ،‬ومحمد‬
‫ألن مجموعه يف السنة اإلعدادية يف الكلية مل يرتك أمامه خيارات‬
‫كثرية‪ .‬الرتبو‪ ،‬مبصادفة لغوية أخرى‪ ،‬التحق بقسم امليكانيكا‪ ،‬الرتوليل‬
‫بقسم االتصاالت‪ ،‬أماين‪ ،‬كام قد يتوقع أي أحد يعرف تقسيامت‬
‫كلية الهندسة الجندرية‪ ،‬قسم العامرة‪ ،‬بعد فشل غانم ومحمد يف‬
‫استاملتها لقسم املدين‪ ،‬محاججني بأن القسمني متشابهني وليكونوا‬
‫مع بعضهم البعض‪“ ،‬ال أنا مش هقف تحت الشمس ويف املواقع”‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬ورغم ثبات شلتهم األصلية‪ ،‬تفرعت شلل أخرى من كل قسم‪.‬‬
‫غانم ومحمد ضام إليهام بعض املحمدات اآلخرين‪ ،‬محمد محسن‬
‫ومحمد بحار‪ ،‬أماين ضمت إليها أحمد فرشة‪ ،‬والفرشة اسم شهرته‪،‬‬
‫وكذلك هدى وماجدة‪ ،‬واألكرث أهمية للمستقبل‪ :‬سمر‪ .‬الرتبو انضم‬
‫إىل الشاكوش ومسامر‪ ،‬وهام اسام شهرة يف مصادفة لغوية ثالثة‪.‬‬
‫حاول الرتوليل محاولة جدية أن يغري االسمني ليكونا املطرقة واملنجل‪،‬‬
‫ألنهام أيضً ا أعضاء يف املجموعة اليسارية يف الكلية‪ .‬وأخ ًريا‪ ،‬وليس‬
‫آخ ًرا‪ ،‬انضم الرتوليل إىل حسام مدحت‪ ،‬الذي يطلب من الجميع أن‬
‫ينادوه بالباشمهندس حسام ويناديه الرتوليل دو ًما بالدكتور‪ ،‬وسلوى‬
‫كامل “سلوى‬‫غربية‪ ،‬أو كام يناديها الرتوليل وهو ينكز الرتبو‪ ،‬باسمها ً‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪57‬‬


‫مؤامرة غربية”‪ ،‬الذي تم اختصاره بالوقت إىل مؤامرة غربية‪ ،‬املؤامرة‬
‫الغربية الوحيدة التي سيسقط الرتبو يف فخها‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫يف الجامعة‪ ،‬وجد محمد نفسه يف الغابة للمرة األوىل‪ ،‬وحي ًدا‬
‫مندهشً ا‪ ،‬سيحاول بعدها أن يتذكر لحظات من طفولته تشبه وجوده‬
‫يف الغابة‪ ،‬لكن إحساسه الحاسم بها كان يف الجامعة‪ .‬بعد انقطاع‬
‫حبله مع سهر‪ ،‬ظل يف غرفته أكرث من أسبوعني ال يخرج منها‪ ،‬حتى‬
‫أن والده ابتلع شامتته يف الفشل املتوقع الذي حذره منه لهذه القصة‬
‫وحاول مواساة ابنه‪“ ،‬البنات كترية‪ ،‬والحياة لسه قدامك واسعة‪،‬‬
‫وهتكرب وهتفتكر القصة دي وتضحك”‪ .‬يعلم محمد صحة كالم والده‪،‬‬
‫لكن الغابة ال تهتز لقوة املنطق‪ ،‬وال تختفي مبجرد إثبات وجودها‬
‫يف املكان الخطأ‪ .‬توفر الغابة تربة خصبة لنمو متسارع ومدهش‬
‫لنباتات فكرية صغرية‪ .‬املواقف املربكة يف الحياة االجتامعية‪ ،‬التي‬
‫متوت نبتتها يف اإلنسان بعد أقل من ساعة‪ ،‬تصري شجرة كبرية تثمر‬
‫أفكا ًرا عن الفشل االجتامعي وعدم القدرة عىل معارشة الناس والبقاء‬
‫وحي ًدا لألبد‪ ،‬درجات سيئة يف امتحان غري مهم تصري أفكا ًرا عن الفشل‬
‫الدرايس‪ ،‬وعدم القدر عىل إكامل التعليم‪ ،‬واملستقبل املهني املظلم‪،‬‬
‫انقطاع حبل سهر يصري عالمة مؤكدة عىل الحظ السيئ يف الحياة‬
‫بديل له منطقه الخاص‪،‬‬‫وانعدام األمل يف أي شئ‪ .‬تخلق الغابة عامل ًا ً‬
‫الذي يبدو للمحارص داخلها بأنه املنطق السليم الوحيد‪ ،‬وأن من‬
‫هم خارج الغابة ال يرون األمور عىل حقيقتها كام يراها هو‪ ،‬وكلام‬
‫رصا داخلها فرتة أطول‪ ،‬تغذت عىل أفكاره وتوسعت أكرث‬ ‫ظل محا ً‬
‫واستطالت أشجارها‪.‬‬
‫أخته‪ ،‬رضوى‪ ،‬بذكاء الفتيات الصغريات ترسد عيوب سهر‪ ،‬أمه‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪58‬‬


‫تخربه كل ساعة بفتاة جديدة أجمل ميكنه خطبتها‪ ،‬أبوه يقول له أن‬
‫ينزل مع أصحابه يفعل شيئًا ما دام ال يريد الذهاب للجامعة‪ ،‬أصدقاؤه‬
‫يتصلون به كل يوم مقرتحني دو ًما مغامرة جديدة‪ .‬لكن الغريب يف‬
‫الغابة أن املرء يحتاج لكثري من الفكر واملجهود ليسمع كل هذه‬
‫األًصوات‪ ،‬وليعرث عىل امتدادات حبالها ليتمكن من مراوغة محارصته‪،‬‬
‫ليتمكن من إنبات زهرة ما يف قلبه تحثه عىل املقاومة‪ ،‬زهرة ال تنبت‬
‫يف الغابة بسهولة‪ ،‬وتحتاج لتجميع كل قوتك لجعلها تكرب‪ ،‬وحني تكرب‪،‬‬
‫ستساعدك عىل محاربة الغابة‪ ،‬وتضع يف يدك أطراف الحبال التي‬
‫ستخرجك منها‪ ،‬وهي عملية سيضطر محمد لخوضها كث ًريا يف حياته‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫يف البداية‪ ،‬تبدو لنا حبال حياتنا القليلة ج ًدا متامسكة ممتدة‪،‬‬
‫ميكننا الحدس بنهايتها‪ ،‬ثم تكرث وتتشابك بعضها ببعض‪ .‬يوهن الزمن‬
‫بعضها‪ ،‬ويقطع البعض اآلخر‪ ،‬حتى أننا يف لحظة ما قد نكتشف أن‬
‫أغلب الحبال التي منسكها جديدة‪ ،‬ويف كل مرة نكتشف فيها ذلك‪،‬‬
‫نقع يف نفس الخطأ‪ ،‬ونعتقد أننا سنالحق الحبال الجديدة لألبد‪،‬‬
‫فينقطع بعضها ومنسك بحبال جديدة أخرى‪ .‬يضعف حبل حسني‬
‫وعبد الحميد‪ ،‬وتختفي حبال القط والفار وعرفة وسهر وأمين وإميان‬
‫وأمنية وحكيم والفخراين‪ ،‬يظهر حبل غانم والرتبو والرتوليل وأماين‬
‫ومحسن وبحار‪ ،‬ينقطع أغلبها ليفسح مكانًا يف قبضة اليد ملحمد طه‬
‫وندا ومحمود وعمرو وإسامعيل وعبد الرحمن ومينى‪ ،‬ثم تنقطع‬
‫هي األخرى فيمسك محمد بحبال صفوت ومها وصالح وآدم وسهري‬
‫ودينا‪ ،‬وتنفلت‪ ،‬لتظهر غادة وندى وحربية وأسامة واالسطى ويحيى‬
‫ومنري ورقية وجامل ورشبيني ويارس ودعاء وإبراهيم وعالء وصبحي‬
‫ومنصور وأنور وبالل وعادل وإرساء‪ .‬بعض الحبال تشدنا إليها بأقىص‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪59‬‬


‫قوة لحظة انقطاعها‪ ،‬قرب حميمي‪ ،‬كاحتضان أخري‪ ،‬ال تحتمله‪ .‬بعضها‬
‫يترسب من األيدي روي ًدا روي ًدا‪ ،‬حتى أننا نأخذ وقتًا يك ندرك انفالته‪،‬‬
‫ورمبا هذا ما يجعل اللقاءات املفاجئة مبن أفلتت حبالهم من أيدينا‬
‫مربكة‪ ،‬تحتضن أحدهم بود حقيقي وتتعاهدان عىل اللقاء مجد ًدا‪،‬‬
‫مدركني متا ًما أن هذا اللقاء لن يحدث‪ ،‬فلم يعد هناك حبل يربطكام‪.‬‬
‫بعض الحبال ينفلت بقوة فجأة فيجرح أيدينا‪ ،‬التعلب ودينا والرتوليل‬
‫فعل؟‬
‫وأماين‪ ،‬أين أماين ً‬
‫‪40‬‬
‫رأى محمد أماين آخر مرة يف فرح غانم وسمر‪ ،‬مل يتوقع أي منهم‬
‫قليل املؤامرة‬
‫حضورها‪ .‬جلس ثالثتهم ومعهم الرتبو متحفزين‪ ،‬ألهتهم ً‬
‫الغربية وهي تشعل القاعة برقص شديد الرباعة والحسية املوترة‬
‫للحضور‪ ،‬ما شجع شلة ميكانيكا‪ ،‬الرتبو وشاكوش ومسامر‪ ،‬الذين انضم‬
‫إليهم مبرور الوقت يف الكلية حديدي والعتال‪ ،‬عىل أداء وصلة رقص‬
‫شعبية قرروا يف منتصفها أن يحرضوا غانم إليهم ويلقوه يف الهواء‬
‫عدة مرات‪ ،‬انضم إليهم بحار ثم محمد ومحسن ومعاذ واثنان من‬
‫إخوة غانم‪ ،‬محمود ومصطفى‪ ،‬ثم انضمت دينا إىل املؤامرة الغربية‪،‬‬
‫ثم ماجدة‪ ،‬وأخ ًريا‪ ،‬وبعد طول انتظار‪ ،‬أماين‪ .‬بدأت رقصتها متحفظة‬
‫نتيجة للتحفز املتبادل‪ ،‬ثم قررت وجذبت سمر‪ ،‬وإمعانًا يف محاولة‬
‫كرس التحفز‪ ،‬خلعت الطبقة األوىل من حجابها وتحزمت بها‪ ،‬ودخلت‬
‫يف منافسة حامية مع املؤامرة الغربية‪ ،‬ما أجرب كل الذكور عىل التوقف‬
‫عن الرقص وبدء التشجيع‪ .‬امتلكت املؤامرة الغريبة الجرأة واملبادرة‬
‫والحسية‪ ،‬ورمبا لوال معزتها الشديدة العتربناها حسية فجة أكرث مام‬
‫يحتمل سياق الفرح‪ ،‬لكن أماين‪ ،‬كعادتها‪ ،‬امتلكت الجامل والهدوء‬
‫واإلغراء القاتل الناتج عن مترس طويل يف الرفض‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪60‬‬


‫شجع محمد وغانم ومحسن والرتبو وبحار‪ ،‬بالطبع‪ ،‬املؤامرة‬
‫الغربية يف انفالتها‪ ،‬بينام شجع أغلبية الحضور‪ ،‬غري املدركني‬
‫لتعقيدات املوقف‪ ،‬أماين وساحريتها‪ .‬محمد مصطفى‪ ،‬الشهري مبحمد‬
‫نظرية‪ ،‬الوحيد ممن يدركون تعقيدات األمور‪ ،‬شجع أماين‪ .‬كعادته‬
‫تحمس أكرث من الالزم‪ ،‬ودخل يف املنافسة مجر ًدا عن أي يشء يؤهله‬
‫لذلك‪ ،‬لكنه‪ ،‬كالكثريين‪ ،‬كان قد وقع يف غرام أماين التي يراها للمرة‬
‫األوىل‪ ،‬وكالكثريين‪ ،‬كان مستع ًدا لإليغال يف الحامقة أكرث من ذلك‬
‫لنيل إعجابها‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫محمد طه‪ ،‬كان من أواخر من انضموا للشلة يف ومضتها األخرية‬
‫قبل االنهيار‪ ،‬اشتهر مبحمد نظرية‪ ،‬كام حىك لهم‪ ،‬منذ الثانوي‪ ،‬يف أحد‬
‫أكرث املدارس الثانوية شعبية وشهرة يف القاهرة‪ ،‬كان زمالئه‪ ،‬مدفوعني‬
‫بالصعود الدرامي‪ ،‬للسلفية وقتها‪ ،‬يناقشون خطر الشيعة والشيوعية‪،‬‬
‫حاول أن يرشح لهم أن الشيعة والشيوعية شيئان مختلفان‪ ،‬الشيعة‬
‫مذهب ديني إسالمي‪ ،‬بينام الشيوعية نظرية أيدلوجية يف السياسة‬
‫واالقتصاد‪ ،‬فأسموه محمد نظرية‪ .‬مات اسم شهرته متا ًما حتى‪ ،‬تعرف‬
‫عىل شلتهم يف السنة الرابعة من الجامعة‪ ،‬وحىك لهم هذه القصة‪،‬‬
‫فتم إعادة إحياء االسم‪ ،‬أصبح مرة أخرى‪ ،‬محمد نظرية‪.‬‬
‫نظرية كان من األشخاص املفضوحني يف ذوقهم الشخيص للجامل‪،‬‬
‫فالحب‪ ،‬رغم أنه يبدو أحيانًا معق ًدا ج ًدا‪ ،‬يبدو يف حاالت أخرى بسيطًا‬
‫ومتوق ًعا أكرث من الالزم‪ ،‬ينجذب نظرية بوضوح للبنات رقيقات‬
‫الجامل‪ ،‬الاليت يصلحن‪ ،‬مبعايري ظاهرية‪ ،‬ليكن بطالت قصص الحب‬
‫العذري‪ .‬مشكلة هذه املعايري‪ ،‬أنها ظاهرية فقط‪ ،‬وبالتايل كان يفاجئ‬
‫يف كل مرة‪ ،‬بحقيقة أنها مثلام تخفي غلظة عبد القادر التالوي رقة‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪61‬‬


‫قلبه‪ ،‬فأحيانًا يخبئ الجامل الهادئ‪ ،‬كجامل أماين‪ ،‬خلفه صخب قلب‬
‫ال ميكن مجاراته‪ .‬ولذلك يف فرح غانم‪ ،‬ومبجرد أن رأى محمد‪ ،‬حامسة‬
‫نظرية‪ ،‬يف الرقص‪ ،‬لنيل اإلعجاب‪ ،‬أدرك أن مأساة عاطفية جديدة يف‬
‫إطار التكون‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫بعض العوامل يف بدايتها تكون ساحرة ج ًدا وتعدك بأنها أبدية‪ ،‬لكنها‬
‫رسعان من تنتهي‪ ،‬يجيد بعض الناس التعرف عىل بدايات العوامل‪،‬‬
‫يستفيدون منها‪ ،‬وعندما يلمحون بداية أفولها‪ ،‬تكون لهم القدرة عىل‬
‫ملح بدايات عامل جديد آخر‪ ،‬فريحلون لهم‪ ،‬ليتمتعوا ببداياته‪ ،‬البعض‬
‫اآلخر‪ ،‬يعميه شغفه بالعامل عن مالحظة أفوله‪ ،‬فيستمر فيه فرتة أطول‬
‫ال تسمح له باالنتقال لعامل بادئ ثان‪ ،‬بل يلحقه متأخ ًرا يف منتصفه‪،‬‬
‫بعد أن ذهبت كل خرياته ملقتحميه األوائل‪ ،‬فيحاول االستثامر فيه‬
‫بكل قوته‪ ،‬وال يدرك أنه هذا العامل هو اآلخر سيبدأ يف األفول قريبًا‪.‬‬
‫النموذجني هذين من األشخاص هم مناذج مثالية‪ ،‬أما أغلب الناس‬
‫فيجمعون الصفتني م ًعا يف الغالب‪ ،‬يكتشفون عامل ًا بدايته‪ ،‬ينعمون‬
‫كامل فيه‪ ،‬وال يرون أفوله‪،‬‬‫بخرياته‪ ،‬لكنهم يسثتمرون وجودهم ً‬
‫فيتحولون تدريجيًا من مكتشفني أذكياء إىل أشباح عامل انتهى‪ ،‬البعض‬
‫ينتقل لكل عامل يف بدايته دون أن يتمتع‪ ،‬من كرثة تنقله بني العوامل‪،‬‬
‫بخريات أي عامل‪ ،‬محمد بحار‪ ،‬للصدفة اللغوية‪ ،‬كان من هؤالء الناس‪.‬‬
‫عندما انضم للمرة األوىل‪ ،‬ملحمد وغانم‪ ،‬يف السنة الثانية من‬
‫الكلية‪ ،‬كان منتم ًيا ألحد جامعات العمل الخريي التابعة ألحد الدعاة‬
‫الشباب‪ ،‬يف السنة الثالثة‪ ،‬انضم ألحد جامعات اإلسالم السيايس‪،‬‬
‫يف السنة الرابعة‪ ،‬وعندما بدا أن السلفية يف طريقها لهزمية اإلسالم‬
‫السيايس انضم إليهم‪ ،‬أطال لحيته وقرص بنطلونه لكنه مل ينقطع عن‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪62‬‬


‫لقاءاتهم املختلطة‪ ،‬وإن كان يرفض حينها السالم باليد عىل البنات‪،‬‬
‫وأخ ًريا يف السنة الخامسة‪ ،‬حيث فرح غانم وسمر‪ ،‬كان قد انضم للرتبو‬
‫وشاكوس ومسامر يف جامعتهم اليسارية‪ ،‬لكن بسبب توتره الفكري‬
‫هذا نفسه‪ ،‬كان صديقًا ألغلب طالب الكلية‪ ،‬بكل صفوفهم‪ ،‬مل يكن‬
‫يف أي من تقلباته متعجرفًا‪ ،‬محتفظًا بشخصية هادئة‪ ،‬وحس ساخر‪،‬‬
‫جعله واعيًا بغرابة ما يفعله‪ ،‬ويستخدمه كمصدر للنكت‪ ،‬قاط ًعا‬
‫الطريق عىل أي شخص آخر يريد فعل ذلك‪ ،‬واملهم أنه يف كل تقلباته‬
‫تلك‪ ،‬كان مغر ًما باملؤامرة الغربية‪ ،‬التي هي نفسها‪ ،‬كانت مغرمة‬
‫بتقلباته‪ ،‬دون أن تتقلب معه‪ ،‬ال أعتقد أنه ميكن اعتبار عالقتهام‬
‫عالقة صداقة‪ ،‬أو صحوبية‪ ،‬أو حب‪ ،‬هي يشء آخر‪ ،‬أحدهام يدور يف‬
‫كل مكان‪ ،‬ويحتاج أن يظل يشء يف حياته ثابتًا كتأكيد لهويته‪ ،‬وهي‬
‫دليل عىل حياة بعيدة صاخبة‪ ،‬تشعرها‬ ‫تجد يف حكاياته وتنقالته ً‬
‫بالدفء وبإمكانية أن يتغري عاملها يف يوم ما‪ ،‬تقبالتها قصرية‪ ،‬ورمبا لن‬
‫تتذكر من سنوات الكلية كلها‪ ،‬سوى بحار والرتبو‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫بعض الحبال حني تنفلت منا‪ ،‬ينفلت معها منطقية وجودها يف‬
‫سريتنا‪ .‬كأنها حدثت لشخص آخر نحمل ذكرياته‪ ،‬بعضها اآلخر يظل‬
‫يف أيدينا دو ًما لكنه مؤمل وضاغط‪ ،‬حتى أننا نفضل التظاهر بأنه ال‬
‫يحدث‪ ،‬لتقليل الرتاجيديا بينام نقص حكاياتنا‪ ،‬رغم أن هذه الحبال‬
‫تحدي ًدا‪ ،‬هي‪ ،‬بالذات‪ ،‬من ميكنها تفسري ملاذا رصنا نحن‪ .‬رمبا نخاف‬
‫من التعري أمام اآلخرين‪ ،‬هكذا دون حامية من حكايات طويلة‪ ،‬قد‬
‫تكون حقيقية‪ ،‬لكنها هامشية يف سريتنا‪ ،‬الحياة واسعة‪ ،‬وبقدرة كل‬
‫منا‪ ،‬أن يكتب سريته يف رواية شديدة الطول‪ ،‬وميحو منها بشكل كامل‪،‬‬
‫ما هو أكرث جوهرية‪ ،‬كأنه يكتب سريته هذه تحدي ًدا ليخفيها متا ًما‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪63‬‬


‫الرتوليل كان كوميديان الشلة‪ ،‬أرسعهم بديهة يف التقاط املفارقات‬
‫ميل لتحويل كل يشء إىل أضحوكة‪ ،‬حتى أنه عندما‬ ‫واإلفيهات‪ ،‬أكرثهم ً‬
‫رأى الرتبو‪ ،‬ألول مرة وهو يسري يف مظاهرة يف الجامعة مع اليساريني‪،‬‬
‫هتف بصوت عايل‪“ ،‬يحيا الرفيق ستالني‪ ،‬وكل الرفاق أجمعني”‪ ،‬مل يهتف‬
‫قليل يف‬
‫وراءه أحد ألنها كانت مظاهرة لفلسطني‪ .‬أحيانًا كان يتجاوز ً‬
‫مثل يف أحد معارض الرتبو يف الجامعة للتعريف بتاريخ قادة‬ ‫سخريته‪ً ،‬‬
‫الحركة االشرتاكية التاريخيني‪ ،‬ويف غفلة من الرتبو وشاكوش ومسامر‪،‬‬
‫وضع الرتوليل صورة له باألبيض واألسود وسط صور القادة‪ ،‬وتحت‬
‫الصورة تعليق قصري “ترولليفسيك‪ :‬صاحب نظرية الثورة النامئة”‪،‬‬
‫مرت هذه املشاغبات لصداقته الوطيدة مع الرتبو‪ ،‬وألنها مل تكن‬
‫عدوانية‪ ،‬كان ذك ًيا‪ ،‬وبالتايل ابتعد متا ًما عن أي مشاغبة مع اإلسالميني‪،‬‬
‫“مالهمش يف اإلفيه” حسب قوله‪ ،‬مل يكن اليساريني أصحاب إفيه‪،‬‬
‫لكنه كان صديقهم ال أكرث‪ ،‬مامل مير هي سخريته من األساتذة‪ ،‬الدكتور‬
‫محمد كامل عىل األخص‪ ،‬يف محارضته‪ ،‬كان كلام ذكر الدكتور كامل‬
‫كلمة املوجة وهو يرشح شيئًا عن املوجات الكهرومغناطيسية‪ ،‬أخذ‬
‫الرتوليل يعني “املوجة ماشية ورا املوجة عاوزة تطولها”‪ ،‬طرد من‬
‫قائل‬
‫املحارضة‪ ،‬يف املحارضة التالية‪ ،‬يف وسط املحارضة قاطع الدكتور ً‬
‫“دكتور أنا جعان”‪“ ،‬انتا عبيط يابني‪ ،‬أعملك ايه يعني؟”‪“ ،‬جعان‬
‫وعاوز موجة”‪ ،‬رسب يف املادة‪.‬‬
‫الرتوليل ككل األذكياء ممن ال يريدون من أحد أن يعرف شيئًا عن‬
‫حياتهم الشخصية‪ ،‬مل يكن يتهرب أب ًدا من أن يحيك عن حياته‪ ،‬عرشات‬
‫املواقف املضحكة والغريبة عن بيته وإخوته‪ ،‬تفاصيل التفاصيل حتى‬
‫تشعر أنك تعرف عن حياته أكرث مام تعرف نفسك‪ ،‬كان بار ًعا‪ ،‬كأنه‬
‫تدرب طول حياته عىل تلك املراوغة‪ ،‬فلم يدر أحد من أصدقاء عن‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪64‬‬


‫حياته الحقيقية شيئًا إال بعد فوات األوان‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫الشخص الوحيد الذي يذكر محمد بالرتوليل‪ ،‬رغم كل االختالفات‬
‫فبدل من‬
‫بينهم‪ ،‬هي أماين‪ ،‬لكن أماين كانت تتبع اسرتاتيجية أخرى‪ً ،‬‬
‫أن تغرقك يف تفاصيل التفاصيل حتى تتقني مخطئًا أنها مل ترتك شيئًا‬
‫لتخربك إياه‪ ،‬كانت دو ًما ما تتنقل بني القصص دون إكاملها‪ ،‬تصل‬
‫لذروتها بحامسة ثم تحرش بداية قصة أخرى وتبدأ فيها‪ ،‬مع وعد‬
‫ضمني كل فرتة أنها ستعود لتكمل ما بدأته‪ ،‬وحني تعود للقصة األوىل‪،‬‬
‫قليل ثم تحرش بداية قصة مختلفة‪ ،‬وتوغل فيها‪ ،‬فتنتظر عىل‬ ‫تستمر ً‬
‫األقل أن تنهي قصتها الثانية‪ ،‬فتخرتع ثالثة‪ ،‬فال تدع لديك إال بعض‬
‫املقتطفات من هنا وهناك عن حياتها‪ ،‬مقتطفات ال ميكنك بسهولة‬
‫أن تربطها‪ ،‬خاصة وأنها أحيانًا ألغراض إرباكك قد تغري عامدة بعض‬
‫األسامء لتتهم ذاكرتك‪ ،‬ورغم كل القطيعة التي بينهام‪ ،‬منذ حادثة‬
‫الرتوليل‪.‬‬
‫مثل أنها كانت دو ًما تشرتك يف مسابقات‬‫كان يعرفون عن أماين ً‬
‫أوائل الطلبة‪ ،‬ويف إحدى رحالتهم ملدرسة أخرى يف تلك املسابقات‪،‬‬
‫وقع أحد الطالب يف حبها مبارشة‪ ،‬حسب حكايتها‪ ،‬كانت هذه املرة‬
‫األوىل‪ ،‬التي تدرك فيها فتنتها‪ ،‬الطالب‪ ،‬والذي بالطبع مل تكن تذكر‬
‫اسمه‪ ،‬أعلن لها عن حبه يف منتصف املسابقة‪ ،‬وألنه يعرف اسم‬
‫مدرستها‪ ،‬أخربها أنه سيظل ينتظرها أمامها عىل الداوم‪ ،‬وحسب‬
‫حكاية أماين‪ ،‬أنه فعل ما هو أغبى من ذلك‪ ،‬أغبى حتى من مدرس‬
‫الرياضيات يف مدرستها الثانوية‪ ،‬الذي ذهب لخطبتها وهي يف الصف‬
‫الثالث اإلعدادي‪ .‬امتألت قصص أماين دو ًما باملحبني املهزومني‪ ،‬قصص‬
‫مل يكن أي منهم ليصدقها لوال أنهم يشاهدون مثلها وهي تحدث‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪65‬‬


‫كل أمامهم كل يوم‪ ،‬بل وأصبحوا من كرثة هذه القصص ضجرين من‬
‫متابعتها‪ ،‬كأنهم اكتسبوا من طول قربهم من أماين‪ ،‬نفس قسوتها‪.‬‬
‫ورمبا ألن نظرية مل يعايش كل التجارب التي عايشوها مع أماين‪ ،‬كان‬
‫فعل‪،‬‬
‫مستع ًدا للمغامرة‪ ،‬ويف مفاجآة للجميع‪ ،‬بدا لهم‪ ،‬أنه سيفعلها ً‬
‫سيجعل أماين تحبه‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫انضم نظرية لشلتهم يف أواخر السنة الرابعة‪ ،‬وقبل األخرية من‬
‫الكلية‪ .‬يف أيامه األوىل بالكلية‪ ،‬كانت لديه خطة بسيطة ليختار بني‬
‫ميوله اإلسالمية وقتها وبني رغبته يف االنطالق‪ ،‬الخطة هي أن يرتك‬
‫األمر للقدر‪ ،‬قرر إن متكن من مصادقة بنت خالل شهر من بداية‬
‫الدراسة‪ ،‬فهذا ممتاز‪ ،‬إن مل يتمكن سينضم ألحد الجامعات اإلسالمية‪،‬‬
‫وألن اسمه محمد‪ ،‬قذفه يف سكشن كله محمدات‪ ،‬أصبح إسالم ًيا‪،‬‬
‫لكنه أيضً ا استمر يف كتابة الشعر‪ .‬شعره كام سمعوه ألول مرة كان‬
‫مغرقًا يف الرومانسية متأث ًرا بشكل واضح بشعر فاروق جويدة‪ ،‬يف‬
‫الفرتة التي عرفوه فيها‪ ،‬كان قرر ترك اإلسالميني‪ ،‬وألنه مل يعرف كيف‬
‫يخرب أصدقائه اإلسالميني بذلك‪ ،‬كان يغلق هاتفه عىل الدوام‪ ،‬وال‬
‫يحرض أغلب املحارضات‪ ،‬وإن حرضها مضط ًرا‪ ،‬كان يرسع بالهرب‬
‫واالحتامء بشلتهم‪ ،‬متحص ًنا ببعد شلتهم عن كليته‪ ،‬فقد كان طال ًبا‬
‫بكلية الصيدلة‪ ،‬كان الرتبو هو من أدخله للشلة‪ ،‬تعرف الرتبو عليه‬
‫من نادي للقراءة يف الجامعة‪ ،‬كان قد أسسه أحد الليرباليني القالئل‪،‬‬
‫النادي كان ليرباليًا كفاية ليجتمع فيه اليساريني واإلسالميني املهتمني‬
‫بالقراءة‪ ،‬نظرية كان وقتها مغر ًما بإلهام زميلته يف الكلية‪ ،‬وقصة‬
‫تعرفه عىل إلهام هذه وحدها كانت‪ ،‬حتى قصة أماين‪ ،‬حكايته األثرية‬
‫التي ال ميل منها‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪66‬‬


‫يحيك نظرية أن إلهام اسرتعت انتباهه أول مرة‪ ،‬وهو يحاول‬
‫تشتيت مصعب عنها‪ .‬مصعب كان أحد رفاقه اإلسالميني‪ ،‬غري أنه‪،‬‬
‫وألن اإلنسان خطاء‪ ،‬كان يكلم البنات‪ ،‬وهو ما استدعى بحسب‬
‫نظرية القيام بالعديد من االجتامعات‪ ،‬التي ال يعلم عنها مصعب‬
‫شيئًا‪ ،‬فيام بينهم لبحث كيفية تقوم مصعب‪ ،‬اتفقوا أخ ًريا عىل خطة‬
‫بسيطة‪ ،‬كلام رأى أحد منهم مصعب يحادث فتاة‪ ،‬يذهب إليه أحد‬
‫منهم ويخربه أنه بحاجة للحديث معه يف موضوع مهم‪ ،‬وهكذا يسلم‬
‫كل منهم مصعب إىل اآلخر فال يجد مصعب وقتًا كافيًا للحديث مع‬
‫البنات‪ ،‬وبالوقت تنهار عالقته بهن‪ ،‬مل تنجح الخطة يف هدفها‪ ،‬لكنها‬
‫نجحت يف تعريف نظرية بإلهام‪ ،‬ففي أحد املرات التي تدخل فيها‬
‫لسحب مصعب من حديثه مع فتاة ما‪ ،‬هي إلهام‪ ،‬جذبه وجهها‬
‫بدل من يسحب مصعب وقف مع االثنني ليتبادل‬ ‫الرقيق‪ ،‬حتى أنه ً‬
‫الحديث‪ ،‬وبحسب تحليله‪ ،‬رمبا استدعت وقفته تلك‪ ،‬العديد من‬
‫االجتامعات األخرى‪ ،‬ألنه الحظ بعدها بأيام قليلة‪ ،‬أن أصدقائه كان‬
‫ينفذون الخطة التي اتفقوا عليها بخصوص مصعب‪ ،‬واجههم فتوقفت‬
‫الخطة‪ ،‬ومل يعرفوا ما العمل‪ ،‬بل وأخذ رفاقهم يتسللون واح ًدا تلو‬
‫اآلخر إليهم‪ ،‬حتى كونوا شلة ما أسامها بقية إسالميي الكلية “بتوع‬
‫البنات”‪ ،‬مل يكونوا يفعلون شيئًا سوى الحديث العادي واليومي‬
‫مع زميالتهم‪ ،‬لكنهم أصبحوا معضلة عويصة رفاقهم‪ ،‬حتى اكتشف‬
‫إسالميي الكلية أن إسالم‪ ،‬وهو ليس من “بتوع البنات”‪ ،‬بدأ يرشب‬
‫السجائر‪ ،‬فأصبح لالجتامعات أجندة جديدة‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫أحد الدروس األوىل التي نتعلمها يف الحياة‪ ،‬أن األشياء‪ ،‬أحيانًا‪،‬‬
‫عكس األشخاص‪ ،‬تولد كبرية ثم تصغر‪ ،‬تزاحمها أحداث جديدة‪ ،‬وتأخذ‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪67‬‬


‫مكان الصدارة‪ ،‬سباق تتابع آخر‪ ،‬ومع تبدل األولويات‪ ،‬ومهام بلغت‬
‫عزميتنا‪ ،‬تتميع بالوقت أحكامنا الصلبة الناتجة عن تلك األحداث‪ ،‬ال‬
‫يعالج الزمن كل شئ‪ ،‬لكنه يشغلنا بجراح جديدة‪.‬‬
‫يف األيام التالية للفرح‪ ،‬أخذ “نظرية” يخترب األجواء يف الشلة‬
‫ومدى تسامحهم مع عزمه التقرب من أماين‪ ،‬كانت غضبهم منها‬
‫أوهنه الوقت‪ ،‬وبدئوا يف التفكري أنه رمبا مل تكن هي املخطئة متا ًما‪،‬‬
‫مازال حضورها موت ًرا‪ ،‬ماداموا مل يتحدثوا معها يف ما حدث للرتوليل‪،‬‬
‫وهو أمر كانوا يتحاشونه جمي ًعا‪ .‬استغل ترددهم وجذبها للشلة مرة‬
‫ثانية‪ .‬وحني جلست بينهم‪ ،‬أخ ًريا بعد طول انقطاع‪ ،‬متكن نظرية‪ ،‬دون‬
‫قصد‪ ،‬من كرس التوتر املحيط بها‪ ،‬بخلق مشهد مربك آخر‪ ،‬إذ أنهم يف‬
‫وسط جلستهم م ًعا وهم يختارون كلامتهم بدقة وحرص ليك ال تفتح‬
‫أي منها سرية الرتوليل‪ ،‬قرر نظرية أن يقول ألماين أنه كتب قصيدة لها‪،‬‬
‫وبرعونة تام‪ ،‬وأمام الجمهور غري املناسب‪ ،‬بدأ يف إلقائها‪:‬‬
‫إليك و قد خضبتني‬ ‫آىت ِ‬
‫دماء الكفاح و وجد الغرام‬
‫غرامى ِ‬
‫بحبك يا عمر قلبى‬
‫غرا ٌم توارى وراء الغامم‬
‫و ما مات أب ًدا و لكن توارى‬
‫و يوماً سآيت أزيح الغيام‬
‫و أكشف للكون عن طهر حبك‬
‫و أحيى زمانًا يرى ىف املنام‬
‫و أغمض عينى بال أى ٍ‬
‫خوف‬
‫و ِ‬
‫لقياك بالحلم أغىل مرام‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪68‬‬


‫ولدهشتهم جمي ًعا‪ ،‬أماين‪ ،‬صاحبة كأس العامل يف الرفض‪ ،‬وألن حتى‬
‫أمهر األبطال ال يكونوا دامئًا يف أفضل أيامهم‪ ،‬ورمبا أيضً ا ألنه من‬
‫أعادها ملكانها‪ ،‬ورمبا ألنها مازالت متأثرة مبا حدث للرتوليل‪ ،‬ورمبا‬
‫ألسباب أخرى ال نعلمها‪ ،‬كام ال نعلم كل يشء عن أماين‪ ،‬مل ترفضه‬
‫متا ًما‪ ،‬مل تقبله أب ًدا‪ ،‬لكن شيئًا ما يف نظرتها‪ ،‬أقنعه أنها تخربه “ميكنك‬
‫أن تفعل أفضل من ذلك”‪ ،‬كان ذلك كافيًا له متا ًما‪ ،‬ليعطيه الشجاعة‬
‫الرتكاب الحامقة املقبلة‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫يحدث لنا كث ًريا أن ننىس إسم شخص ظللنا نلتقيه كل يوم لسنوات‪،‬‬
‫وربطتنا به حبال قوية متعددة‪ ،‬ثم دار الزمن وتفلتت الحبال‪ ،‬حتى‬
‫أننا نشعر أن إسمه قريبًا ج ًدا من عقلنا لكن ال حبل هناك لنشده‬
‫به‪ .‬حدث هذا ملحمد حني قابل نظرية بعد فرتة طويلة من الجامعة‪،‬‬
‫عرف وجهه من بعيد‪ ،‬ويف املسافة القليلة التي تفصله عنه وهام‬
‫يسريان تجاه بعضهام البعض‪ ،‬أخذ يشحذ عقله ليتذكر االسم‪ ،‬يذكر‬
‫إسم فكاهيًا يدل عىل الفكر‪ ،‬هل كان فكرة؟ مبدأ؟ أطروحة؟‬ ‫أنه كان ً‬
‫ثم تذكر قصة نظرية عن بدايات الجامعة وكيف أنه وجد نفسه‬
‫يف سكشن كله محمدات‪ ،‬هو عىل األقل محمد‪ ،‬وميكن تجاوز إسم‬
‫شهرته‪ ،‬يف املقابل نظرية‪ ،‬وكام ميكننا أن نحدس‪ ،‬كانت ذاكرته جيدة‪،‬‬
‫تبادال األسئلة املكررة‪ ،‬عرف محمد أن نظرية‪ ،‬اآلن يعمل ككاتب‬
‫يف إحدى املجالت‪ ،‬له ديوان شعر منشور باسم “ترنو عيوين لحلم‬
‫جميل”‪ ،‬وطفلة “أسمى”‪ ،‬تذكر كنيته وسط الحديث‪ ،‬فامزحه “أسمى‬
‫نظرية يف العامل”‪ ،‬وضحك‪ ،‬مل يسأله عن زوجته‪ ،‬الصديقة األسطورية‬
‫القدمية‪ ،‬وتحاىش نظرية الحديث عنها‪ ،‬وسأل محمد يف املقابل‪،‬‬
‫ماذا يحدث يف حياته؟‪ ،‬أجابه محمد أنه ترك الهندسة مثله‪ ،‬وأنه‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪69‬‬


‫يعمل اآلن ككاتب إعالنات‪ ،‬حىك له عن املكتب‪ ،‬عن حبيبته غادة‪،‬‬
‫عن خطوبته األسبوع املقبل‪ ،‬عزم عىل الخطوبة‪ ،‬بل‪ ،‬ومخالفًا لعهد‬
‫السكوت الضمني عنها‪ ،‬قال له أن يحرض أسمى واملؤامرة الغربية‬
‫معه‪ ،‬وابتسام‪ ،‬واحتضنا بعضهام‪ ،‬كالهام يعلم أن نظرية واملؤامرة‬
‫الغربية لن يحرضا الخطوبة‪ ،‬لكن كالهام أيضً ا يعلم أن الدعوات‬
‫طقسا‬
‫الزيفة واللقاءات املوعودة التي لن تحدث‪ ،‬ليست مجرد ً‬
‫اجتامع ًيا بال معنى‪ ،‬بل محاولة ذكية لعدم إفالت الحبل نهائ ًيا‪ ،‬فمن‬
‫يدري من سيحتاج ماذا من من يف املستقبل؟ وما كان يدري محمد‬
‫وقتها أن املؤامرة الغربية‪ ،‬بذاتها‪ ،‬التي أصبحت أ ًما ألسمى نظرية‪،‬‬
‫مازال لها دور محوري يف حياته‪ ،‬وستؤديه‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫مدهش كيف تشكل أحداث عشوائية ج ًدا جز ًءا كب ًريا من حياتنا‪،‬‬
‫أحداث ال نخطط لها‪ ،‬وال تبدو للوهلة األوىل ذات قيمة كبرية‪،‬‬
‫لكنها من تصنعنا‪ ،‬قد ًميا عرف محمد صديقه املقرب حسني‪ ،‬بصدفة‬
‫كاملة‪ ،‬أىت متأخ ًرا عن اليوم األول يف املدرسة‪ ،‬ومل يكن يف الفصل‬
‫مكانًا خال ًيا إال بجوار حسني‪ ،‬وبنفس الصدفة‪ ،‬سيسأله شاب ما أمام‬
‫الكلية يف اليوم‪ ،‬عن مكان املحارضة‪ ،‬ثم سيقرتح عليه أن يذهبا م ًعا‬
‫إلحضار يشء يأكلونه من الكافيرتيا قبل املحارضة‪ ،‬وهكذا سيدخل‬
‫محمد غانم حياته‪ ،‬يف املكتب الذي يعمل به‪ ،‬كان األمر مختلفًا‪ .‬كان‬
‫مؤسيس الرشكة‪ ،‬مدفوعني بروح الستارت أب‪ ،‬أن يخلقوا جوا حميم ًيا‬
‫يف املكتب‪ ،‬يوجد باملكتب بالي استيشن‪ ،‬وتليفزيون يشاهدون فيه‬
‫الدوريات األوروبية‪ ،‬وطاولة بنج بونج‪ ،‬كان محمد قد أىت للعمل‬
‫باملكتب عن طريق ندى‪ ،‬لكنه كان يجلس يف غرفة أخرى‪ ،‬غرفة‬
‫الكتاب‪ ،‬حيث جامل ومحمد ويحيى ورشبيني‪ ،‬بينام ندى معها‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪70‬‬


‫وأسامة ودعاء ورقية وعمرو ومنال يف غرفة السوشيال ميديا‪ ،‬أنور‬
‫ومنري وعادل وريشة ونجم يف غرفة املصممني‪ ،‬وهكذا خلق التقسيم‬
‫املهنى للمكتب‪ ،‬الشلل‪ ،‬شلة محمد‪ ،‬وشلة ندى‪ ،‬وشلة أنور‪ ،‬بينام‬
‫يحوم كل من حربية وعالء ويارس وصبحي وإبراهيم واالسطى ‪ ،‬بني‬
‫كل الشلل‪.‬‬
‫الجو الحميمي للمكتب قد يشعرك لوهلة أنها شلة واحدة كبرية‬
‫متامسكة‪ ،‬وستحتاج لبعض الوقت‪ ،‬لتدرك تقسيامتها الفرعية‪ .‬الطيور‬
‫أصيل من أي شلة‪ ،‬إال‬
‫الحامئة بني الشلل‪ ،‬ورغم أنها ال تشكل جز ًء ً‬
‫أنها ما تجعل من املمكن اعتبارها كلها شلة كبرية‪ ،‬يف داخل كل شلة‪،‬‬
‫األسطى هو العامل املشرتك األكرب‪ ،‬ألنه من ينقل الحكايات من غرفة‬
‫هائل من الحكايات‪،‬‬‫كم ً‬ ‫ألخرى‪ ،‬وهو بحكم مهنته السابقة ميتلك ً‬
‫ال ميكن القطع بصحتها‪ .‬هناك دامئًا‪ ،‬قصص عن نساء حاولن إغرائه‪،‬‬
‫القصص األكرث تكرا ًرا‪ ،‬هي ملدام نارميان‪ ،‬التي كان يعمل سائقًا لزوجها‬
‫األجنبي‪ ،‬البيضاء‪ ،‬البضة‪ ،‬للدقة مل يستخدم هذه الكلمة يف وصفها‪،‬‬
‫لكنها تفي باملطلوب‪ ،‬التي كانت دو ًما تستدعيه ليصلح أشيا ًء يف‬
‫شقتها‪ ،‬بعدها تأيت مدام سميحة‪ ،‬التي كانت حكايتها أغرب من أن‬
‫تكون صحيحة أو ملفقة يف الوقت نفسه‪ ،‬ثم نساء أخريات أقل تكرا ًرا‬
‫ودامئًا ما يستخدم حكايتهم كمقدمة يصل منها إلحدى حكاياته مع‬
‫حاول جر قدميه‬ ‫نارميان أو سميحة‪ ،‬قصص أقل توات ًرا عن رجال ً‬
‫للرذيلة‪ ،‬وقام برضبهم وجعلهم عربة ملن يعترب‪ ،‬بل وحتى قصص‬
‫عن السحر‪ ،‬مثل قصته عن الرجلني‪ ،‬الذين أخذا يتلوان جملة غريبة‬
‫وهام يركبان معه‪ ،‬أقسم أنهام كانا يقرآن القرآن باملقلوب‪ ،‬ثم قدم‬
‫له أحدهم قطعة شيكوالتة‪ ،‬سأاله عن اسمه‪ ،‬فأخربهم باسم خاطئ‪،‬‬
‫وأخذهم إىل طريق مخترص يؤدي إىل منطقته‪ ،‬لتبدأ الحفلة الكبرية‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪71‬‬


‫قصصه عن األجانب عادة ما تنتهي بدخولهم إىل اإلسالم‪ ،‬مثلام تنتهي‬
‫قصص شبابه عىل نجاحه يف رضب مجموعة شباب كانوا يعتدون‬
‫عىل فتاة‪ ،‬حكاء بارع‪ ،‬ذيك‪ ،‬يفهم من أمامه‪ ،‬يجيد الترصف يف كل‬
‫املواقف‪ ،‬حتى أنك تجد صعوبة أحيانًا كثرية يف عدم تصديق حكايته‪،‬‬
‫ولو فعلت ذلك‪ ،‬أي شككت يف قصصه‪ ،‬فذلك فقط‪ ،‬لتحمسه أكرث‪،‬‬
‫أصال‪ ،‬حني قاطعه يارس ساخ ًرا من خلقه لقصة نارميان‪،‬‬ ‫بهذه الطريقة ً‬
‫قال له االسطى متحديًا “بقى مش مصدقني‪ ،‬أمال لو حكتلك قصة‬
‫مدام سميحة هتقول ايه”‪ ،‬ثم بدأ يف الحكاية‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫يف النظرة األوىل‪ ،‬ال تبدو القصص املثرية موزعة بالتساوي بني‬
‫الناس‪ ،‬ميتلك البعض مئات منها‪ ،‬وال ميلك آخرين أي شئ‪ .‬عندما‬
‫تناقشوا يف املكتب يف هذا األمر‪ ،‬مدفوعني بسحر حكاية سميحة‪،‬‬
‫خرجوا بنظريتني ‪ ،‬وهام بالرتتيب‪:‬‬
‫‪“ -‬نظرية الحيك” لجامل‪ ،‬الذي رأى أن الجميع يتعرضون ملئات‬
‫القصص يف حياتهم‪ ،‬وتقع املهمة كاملة عىل الفرد ليحول كل قصة‬
‫منها إىل حكاية مثرية‪ ،‬قد يضطر أحيانًا الخرتاع بعض التفاصيل‪ ،‬أو‬
‫حجب بعضها‪ ،‬ليجعلها مثرية أكرث‪ ،‬هو ال ميتلك حياة مثرية أكرث من‬
‫اآلخرين‪ ،‬لكنه ميتلك املوهبة‪.‬‬
‫‪“ -‬نظرية الشعور بالغربة” لرشبيني‪ ،‬الذي وافق جامل أن كل فرد‬
‫تحدث له األشياء‪ ،‬لكن الحاسم يف قدرته عىل تحويلها لقصص مثرية‪،‬‬
‫ليست موهبته الحكائية‪ ،‬بل شعوره بالغربة الذي يحفز عقله ليلتقط‬
‫األشياء الغريبة‪ ،‬الشعور بالغربة قد يحفزه االنتقال من بيئة إىل‬
‫بيئة أخرى‪ ،‬فتفقد البيئة االجتامعية األوىل بداهتها وتتحول قصصها‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪72‬‬


‫العادية ج ًدا إىل قصص مثرية‪ ،‬لهذا كث ًريا ما تبدأ الحكايات بانتقال أو‬
‫سفر أو حدث غريب‪ ،‬أي أن االنفصال عن “العامل العادي” هو رشط‬
‫لكل قصة‪.‬‬
‫بجوار عملهم اليومي‪ ،‬كان املكتب دو ًما بيئة مناسبة للتفلسف‬
‫الزائد يف أمور الحياة‪ ،‬حتى أنهم جلسوا فيام قد يبدو للمشاهد‬
‫البعيد‪ ،‬كاجتامعات جادة طويلة‪ ،‬ملناقشة أشياء مثل التمركز األفضل‬
‫يف موقف مزدحم‪ ،‬الطريقة املناسبة للتعامل مع سياس العربات‪ ،‬أي‬
‫الشخصيات التاريخية تظن أنك قد تتمكن من مواعدتها‪ ،‬أو للتفكري‬
‫يف تطبيقات قد تدر عليهم فجأة الربح الرسيع‪ ،‬تطبيق يساعدك يف‬
‫تذكر هل أغلقت باب بيتك أم ال‪ ،‬تطبيق يسحب عدد كلامتك التي‬
‫قلتها يف اليوم‪ ،‬تطبيق يساعدك يف فهم اإلفيهات املنترشة ويرشح‬
‫لكل امليمز الحديثة‪ ،‬تطبيق يساعدك يف اختيار مالبسك‪ ،‬وألن الحياة‬
‫رسيعة والناس متشابهون أكرث مام يرغبون‪ ،‬كانوا يفاجئون ببعض‬
‫فعل فيغمرهم الندم عىل عدم العمل‪ ،‬ويقرتحون‬ ‫أفكارهم تتحقق ً‬
‫تطبيقات جديدة‪ ،‬حتى توصلوا ذات يوم للتطبيق الذي نال رضاهم‬
‫فعل‪ ،‬لكن قبل أن تتغري حياتهم‪ ،‬وبسبب أنه‬ ‫جمي ًعا‪ ،‬وسيغري حياتهم ً‬
‫كان لكل يوم يف املكتب مسألته الفلسفية الخاصة‪ ،‬ما فكروا يف كتابة‬
‫مسلسل يحيك يومياتهم يف املكتب‪ ،‬طرحت الفكرة للمرة األوىل‪ ،‬من‬
‫قبل رقية‪ ،‬بعد وقعة السمك‪ ،‬التي كان بطلها عالء‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫أغلب من املكتب‪ ،‬رمبا لو استثنينا‪ ،‬حربية كمدير للمكان ومنري‪،‬‬
‫ال يعرفون بالضبط‪ ،‬ماذا يعمل عالء‪ ،‬يعملون بجواره منذ عامني‬
‫رسا‪ ،‬وكل‬
‫كاملني‪ ،‬وال يدري أحدهم ماذا يفعل تحدي ًدا‪ ،‬عمله ليس ً‬
‫مرة ميازحونه يف األمر‪ ،‬يخربهم بعمله‪ ،‬ثم ينسون‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪73‬‬


‫لو كان جامل ورشبيني هام فالسفة املكتب‪ ،‬ومحمد ومنري‬
‫ممثل للذكاء والتفوق الدرايس الدائم‪،‬‬
‫وأنور هم الفنانني‪ ،‬وأسامة ً‬
‫ودعاء صاحبة القبضة الحديدية‪ ،‬ورقية هي الراعي الرسمي للنميمة‬
‫واأللعاب الجامعية‪ ،‬وريشة ونجم ممثلني لروح الشباب‪ ،‬وحريبة‬
‫حكيم القرية‪ ،‬فإن عالء هو مغامر املكتب‪.‬‬
‫قبل أن يجئ للعمل يف املكتب‪ ،‬عمل عالء كمزارع يف أحد حقول‬
‫العنب بإيطاليا‪ ،‬وقبلها كمصور شارع يف أمريكا‪ ،‬وقبل ذلك كمدرب‬
‫سباحة يف إحدى القرى السياحية‪ ،‬وقبلها بصاحب محل إلصالح‬
‫السيارات بالقاهرة‪.‬‬
‫دخل عالء املكتب وهو يحمل يف يده سنارة صيد حديثة‬
‫أوتوماتيكية‪ ،‬ويحمل حقيبة بالستيكية مليئة بالسمك‪ ،‬يرتدي شورت‬
‫قصري وقميص واسع مشجر ونظارة شمس‪ ،‬يف الصالة حيث دخل‬
‫عالء كان جامل يتشاجر مع منري بصوت عايل بعد فوز األخري عليه يف‬
‫البالي ستيشن‪ ،‬منري بجوار ادعائه الحصول عىل لقب أطيب شخص‬
‫يف العامل عام ‪ ،2014‬فهو أيضً ا أمهر العبي الفيفا يف املكتب‪ ،‬بينام‬
‫رقية منفردة بأسامة تحيك له ما حدث ألنور باألمس‪ ،‬وهي حكاية‬
‫طويلة أخرى‪ ،‬حربية يلعب مباراة بنج بونج يف مواجهة أنور‪ ،‬يحكم‬
‫بينها يحيى‪ ،‬محمد ورشيبني ينتظران دورهام يف البنج بونج‪ ،‬منال‬
‫ترصخ يف شخص ما يف الهاتف‪ ،‬وصبحي وإبراهيم ينتظران دورهام يف‬
‫البالي ستيشن‪ .‬ندى ودعاء ويارس وعادل وعمرو واألسطى يف البلكونة‬
‫يدخنون السجائر‪ .‬بالضبط‪ ،‬كام فكرت أنت‪ ،‬ال أحد يعرف تحدي ًدا‬
‫متى يعمل الناس يف هذا املكتب‪.‬‬
‫ألقى عالء حقيبة السمك عىل األرض‪ ،‬خلع نظارته بشكل سيناميئ‬
‫مقصود‪ ،‬ووقف صامتًا‪ ،‬فخو ًرا‪ ،‬وبهدوء املنترصين ينتظر أن يسأله أحد‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪74‬‬


‫دون أن يسأل جاء األسطى من البلكونة‪ ،‬حمل شبكة الصيد ودخل‬
‫بها إىل املطبخ‪ ،‬وهو يصيح عاليًا موجها كالمه للجميع “هعملكم‬
‫أحىل أكلة سمك كلتوها يف حياتكم”‪ ،‬انضم إليه يف املطبخ صبحي‬
‫وإبراهيم‪ ،‬وكام يليق بزعيم‪ ،‬وزع حربية األوامر‪ ،‬يحيى ينزل لرشاء‬
‫العيش والجرائد‪ ،‬محمد وجامل‪ ،‬يساعدان صبحي وإبراهيم واألسطى‬
‫يف الطبخ‪ ،‬رقية وأسامة لرشاء الرز والليمون ومتطلبات السلطة‪ ،‬منري‬
‫يستعد ليلعب معه ماتش فيفا‪ .‬جلس عالء منتظ ًرا دوره يف البالي‬
‫ستيشن‪ ،‬يعلم بخربته يف املكتب‪ ،‬أن الوقت املناسب للحكاية ليس‬
‫اآلن‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫تتعارض القبضة الحديدية لدعاء‪ ،‬مع شكل مكتبها‪ ،‬املكتظ‬
‫بالحيوانات املطاطية وألعاب األطفال‪ ،‬الرصاحة تتطلب أن دعاء‬
‫ليست بالرضورة ذات قبضة حديدية أصيلة‪ ،‬أي قبضة حديدية‬
‫ناتجة عن رغبة يف التحكم باآلخرين‪ ،‬بل ناتجة عن عدم تكيفها‬
‫مع طريقة عمل املكتب‪ .‬فهي كشخصية‪ ،‬شخصية مرحة وودودة‬
‫وتحب الهزار والقعدات الحلوة‪ ،‬لكنها تنىس كل ذلك‪ ،‬عندما تجد‬
‫من طلبت منهم مهام محددة‪ ،‬يرتكون العمل ليلعبوا ماتش فيفا‪،‬‬
‫أو يجلسون يف جامعات ليناقشوا األزمة الفلسفية يف مبدأ السفر‬
‫منغمسا يف النقاش‪،‬‬
‫ً‬ ‫عرب الزمن‪ ،‬تشكو لحربية‪ ،‬الذي يكون هو نفسه‬
‫ويعدها بحل املشكلة‪ .‬مشكلتها األوىل ظهرت يف املكتب حني وجدت‬
‫زرافتها البالستيكية موضوعة عىل مكتب آخر‪ ،‬وعىل الزرافة يجلس‬
‫قردها البالستييك بدوره‪ ،‬ويف مواجهة الزرافة فيلها وعليه أسد‪ ،‬مل‬
‫يضايقها ذلك‪ ،‬ما ضايقها هو أن أحد ألعابها‪ ،‬وكانت لعبة قرد يحمل‬
‫موزة ميكن إطالقها كسهم‪ ،‬ملقاة عىل األرض‪ ،‬ومل تجد املوزة‪ ،‬عندها‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪75‬‬


‫انتبهت ملحمد‪.‬‬
‫محمد كان أحد هؤالء األشخاص‪ ،‬الذين ال يعرفون كيف يجلسون‬
‫هادئني وال يفعلون شيئًا‪ ،‬يجب عىل الداوم أن يلعب بشئ ما يف‬
‫يديه‪ ،‬حتى أنه كث ًريا ما كان يلعب بسكاكني املطبخ بينام ينتظر غليان‬
‫املاء وهو يعمل الشاي‪ ،‬يلتقط السكينة ثم يلقيها مرة أخرى للهواء‪.‬‬
‫يف الجامعة‪ ،‬كان غانم دو ًما يجربه عىل الجلوس يف املقعد الخلفي‬
‫لسيارته‪ ،‬حتى ال يشتته عن الطريق بينام هو يلعب يف التابلوه‬
‫واملرايات‪ ،‬حني قالت دعاء “أنا عاوزة املوزة بتاعتي”‪ ،‬تذكر الرتوليل‬
‫فعل عن‬
‫رحمه الله وهو يقول للدكتور “أنا عاوزة موجة”‪ ،‬بحث ً‬
‫املوزة وأعطاها لها‪ ،‬ووعدها بأال يلعب بألعابها مرة أخرى‪ ،‬ثم انرصف‬
‫وهو يحمل الزرافة بني يديه ويقذفها يف الهواء‪ ،‬حينها عرفت دعاء‬
‫كيف ميكنها أن تعالج هذه األزمة‬
‫‪52‬‬
‫للحياة طريقتها يف التطبيع مع الفقد‪ ،‬وبشكل ما‪ ،‬ميكن القول أن‬
‫الحياة بأكملها هي مترين طويل يف التعامل مع الفقد‪ .‬وألن وجودنا‬
‫محدود زمن ًيا‪ ،‬فنحن نعيش حياتنا بفقدها‪ ،‬وتكتمل حياتنا حني‬
‫نفقدها متا ًما‪ .‬التعلب مل ينقذه خياله‪ ،‬والرتوليل مل يساعده حسه‬
‫الساخر عىل املراوغة‪ ،‬ويف اليوم التايل لوفاتهام‪ ،‬استمرت الحياة‪ ،‬حتى‬
‫قليل‪ ،‬ثم شغلتهم الدنيا‪ ،‬وجودنا املحدود زمن ًيا‪،‬‬‫أن أصدقائهم حزنوا ً‬
‫يحد‪ ،‬بدوره‪ ،‬من قدرتنا عىل توقري خسائرنا‪ ،‬يذكر محمد‪ ،‬وداع أمه‬
‫ألخوها األكرب‪ ،‬عيل‪ ،‬وهي ترى نعشه يخرج من املسجد‪ ،‬مل تلطم أم‬
‫تصوت‪ ،‬بل رصخت بصوت عايل ج ًدا ليسمعه أخيها يف العامل اآلخر‪،‬‬
‫“مع السالمة يا أستاذ عيل”‪ ،‬كان يكربها بعرشين عا ًما‪ ،‬ومل تناديه أب ًدا‬
‫سوى باألستاذ‪ ،‬حتى يف وداعه األخري‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪76‬‬


‫يذكر أيًضً ا والدة الرتوليل‪ ،‬الحاجة أمينة‪ ،‬وهي تقطع صمتها أمامه‬
‫هو وأصدقائه‪ ،‬لتحدث نفسها قائلة بصوت مسموع “ملحقتش أزعل‬
‫عليك يا حبيبي‪ ،‬سامحني”‪ ،‬كان يف انتظارها بعد وفاة الرتوليل أحداث‬
‫جسام أخرى‪ ،‬جعلتها مشتتة بني التعامل معها وبني توقري حزنها‪ .‬هل‬
‫من هذه الفكرة أىت طقس نصب عزاء للميت يف أربعينه‪ ،‬كوعد له‬
‫أننا مل ننساك رغم مرور األيام؟‬
‫ليست الخسائر كلها مساوية‪ ،‬فبعضها يلدنا مرة ثانية‪ ،‬ألن أنفسنا‬
‫املاضية قد رحلت برحيل ما فقدناه‪ ،‬ومرة أخرى نجد أنفسنا نتعلم‬
‫امليش والحديث‪ ،‬بعضها ننساه بعد ساعة‪ ،‬أو نضحك حني نذكر حزننا‬
‫مثل حني نفقد شيئًا نحبه‪ ،‬كقلم أو حقيبة‪،‬‬ ‫لفقده‪ ،‬كنا نبيك صغا ًرا ً‬
‫وقد نبيك حتى أمام واجهات املحالت مربكني أمهاتنا ألننا نبىك‬
‫فقدان ما مل منتلكه وال تريد األمهات رشاءه لنا‪ ،‬وحني نكرب يواسينا‬
‫أصدقاؤنا حني نفقد عالقة كنا نجد فيها أنفسنا‪ ،‬أن تلك الخغادة‬
‫مكسب متخفي‪ ،‬وأننا سنصري أفضل‪ ،‬وأحيانًا يكون حديثهم منطق ًيا‪،‬‬
‫فعل‪ ،‬لكن كام هي خسائرنا مكتوبة علينا‪،‬‬ ‫بل وأحيانًا نصري أفضل ً‬
‫دون قدرة عىل أن ننقذ كل يشء نحبه‪ ،‬مكتوب علينا أيضً ا أن نحزن‪،‬‬
‫وأن ننىس‪ ،‬وأن تتواىل حياتنا‪ ،‬فقدان يتبع فقدان‪ ،‬ونسيان يتبع نسيان‪،‬‬
‫ورمبا يكون الحنني‪ ،‬هو طريقتنا يف التعامل ليس مع الفقد‪ ،‬لكن مع‬
‫نسيان الفقد‪ ،‬يجرحنا الفقد‪ ،‬ويجرحنا نسيانه كاتهام لنا بعدم الوفاء‪،‬‬
‫والحنني طريقتنا لنتذكر‪ ،‬بني حني وآخر‪ ،‬ما فقدناه‪ ،‬ولنذكر انفسنا أننا‬
‫مل ننىس متا ًما‪ ،‬وقد يكون هذا ما يخلق الطأمنينة الغريبة التي يضفيها‬
‫الحنني عىل ذكريات مل تكن بهذا الجامل‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫مل يكن املكتب يجيد التعامل مع الفقد‪ ،‬كأن أفراده ال ميكن‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪77‬‬


‫مثل منذ ترك أحمد العمل ليلتحق بعمل آخر يف‬ ‫استبدالهم بسهولة‪ً .‬‬
‫رشكة خليجية‪ ،‬وكل شهر يأيت مكانه كاتب آخر‪ ،‬وال يستطيع التكيف‬
‫مع املكان‪ ،‬فيرتك العمل‪ .‬واليوم األول لكل شخص من هؤالء‪ ،‬بحسب‬
‫رقية‪ ،‬يصلح ليكون حلقة منفصلة يف مسلسلها عن املكتب‪ ،‬خاصة‬
‫مثل اليوم األول ملجد‪.‬‬
‫ً‬
‫قبل أن يجئ مجد للمكتب‪ ،‬اتفق الجميع‪ ،‬عىل القيام بتطفيشه‬
‫من املكتب‪ ،‬كانوا يتحولون بالوقت لشلة تحمي نفسها من كل ما‬
‫هو خارجها‪ .‬حريبة بالطبع‪ ،‬بصفته من عني مجد‪ ،‬كان خارج املؤامرة‪.‬‬
‫رقية زعيمتها‪ .‬عند دخول مجد للعمل‪ ،‬تظاهروا جمي ًعا باالنشغال‪،‬‬
‫أو بشكل أدق‪ ،‬تظاهروا بالعمل‪ ،‬ويتملص كل منهم حني يحاول‬
‫مجد فتح سكة للكالم معه‪ .‬دعونا نحلل املعركة بينهم وبني مجد‪،‬‬
‫يف جهة املؤامرة وزعيمتها رقية‪ ،‬ميتلكون هم املكان وألفته‪ ،‬يتحركون‬
‫براحتهم أكرث‪ ،‬يعرفون بعضهم البعض جي ًدا ج ًدا‪ ،‬وكلهم متدخلون يف‬
‫حيوات بعض الشخصية‪ ،‬بشكل زائد‪ ،‬بجوار هذا فهم محبني لإلفيه‪،‬‬
‫وبدت خطة تطفيش مجد‪ ،‬لعبة جديدة عليهم‪ ،‬وعليه تجربتها‪،‬‬
‫خطة كان ميكن لها أن تنجح بسهولة‪ ،‬لوال أن مجد بدوره ميتلك‬
‫مترسا منهم بكثري يف‬
‫مميزات اسرتاتيجية يف هذه املعركة‪ ،‬هو أكرث ً‬
‫معارك املكاتب‪ ،‬وخناقات الشلل‪ ،‬أكرب منهم يف السن‪ ،‬جسده الريايض‬
‫املمشوق‪ ،‬يجعله حر الحركة يف أي مكان‪ ،‬تربطة عالقة عمل سابقة‬
‫بحربية وصبحي وإبراهيم‪ ،‬واألهم طب ًعا‪ ،‬باألسطى ذات نفسه‪ ،‬وبجوار‬
‫كل ذلك‪ ،‬كم هائل من الحكايات املثرية مع فنانني والعبني وراقصات‪،‬‬
‫يكاد ينافس بها األسطى بجاللة قدره‪ ،‬لوال أن حكاياته كانت صحيحة‬
‫فعل‪ ،‬ومصورة يف غالبها‪ ،‬بل‪ ،‬وتأمل‪ ،‬أخي املؤمن‪ ،‬كم العامل أوضتني‬‫ً‬
‫وصالة‪ ،‬يتقاطع بعضها بالفعل مع حكايات األسطى‪ ،‬وليس أي تقاطع‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪78‬‬


‫إحدى هذه التقاطعات تحدث مع حكاية سميحة نفسها‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ليك يبدأ أمجد حكاياته ويخرتق حصاره‪ ،‬ينبغي أن يجعلهم‬
‫يستمعون من البداية‪ ،‬االسطى قام عن طيب خاطر بهذه املهمة‪،‬‬
‫بدأ يحيك عن الشاب الفرنيس الذي جاء مرص ال يعرف حتى القراءة‬
‫بالعربية‪ ،‬وعمل كجامع للقاممة بإحدى املناطق القريبة من بيته‪،‬‬
‫والقصة امللحمية للصعود الطبقي لهذا الشاب‪ ،‬مبساعدة األسطى‬
‫قائل له “ماتيو زبالة‬
‫بالطبع‪ ،‬يف منتصف الحكاية دعا مجد للتدخل‪ً ،‬‬
‫مانتا عارفه يا أستاذ مجد”‪ ،‬فالتقط مجد الحبل برباعة‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫لو كان املكتب مسلسل تليفزيوين كام تقول رقية‪ ،‬لكانت قصة‬
‫الحب املمتدة والكوميدية واملليئة بالغرائب والتطوارات فيه قصة‬
‫منال واألسطى‪ .‬منال هي الوريث الرشعي ملكانة أمنية وأماين يف‬
‫حياة محمد‪ .‬وبشكل عام ميكننا القول أن هناك نوعني من األشخاص‬
‫يف العامل‪ ،‬ميكن معرفتهم من خالل تعاملهم مع التفاصيل الصغرية‪،‬‬
‫البعض يتجاوز التفاصيل ويهتم بالصورة الكربى‪ ،‬والبعض ميتلك‬
‫الحامسة الكافية ليدخل معارك عىل كافة جبهات التفاصيل‪ ،‬منال من‬
‫النوع الثاين‪ .‬تعيد طلباتها من املطاعم دامئًا ألخطاء بسيطة‪ ،‬أحيانًا‬
‫يكون الطعام غري ساخن كفاية‪ ،‬أحيانًا نسوا أن يضعوا املالعق‪ ،‬دامئًا‬
‫تتحدث يف التليفون‪ ،‬تشكو شيئًا ما لشخص ما‪ ،‬وألن األسطى هو‬
‫مسئول املطبخ‪ ،‬فقد أصبح خصمها املثايل الدائم‪ ،‬القهوة باردة‪ ،‬الكباية‬
‫غري مغسولة كفاية‪ ،‬املطبخ غري نظيف‪ ،‬مل يرصح األسطى بحبه طب ًعا‪،‬‬
‫ولكنه كان يصطنع الخطأ تلو اآلخر‪ ،‬لتحدث املعركة مع منال‪ ،‬كان‬
‫متعاركًا مبه ًرا يعرف كيف يخلق معركة مثالية‪ ،‬كبرية كفاية لتخلق‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪79‬‬


‫بدورها حميمية تجمعهام‪ ،‬حتى لو كانت حميمية كارهة‪ ،‬وليست‬
‫كبرية كفاية لتصنع كراهية حقيقية‪ ،‬فقط كراهية وغضب خجولني‬
‫ميكن هزميتهم كل يوم‪ ،‬لكن‪ ،‬وكام قلنا‪ ،‬حتى أكرث األشخاص مهارة‬
‫يخطئون أحيانًا‪ ،‬وأحيانًا يكلفهم خطأهم ذلك كل شئ‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫جاءت فكرة التطبيق يف أحد اجتامعاتهم لرسد أحالمهم‪ ،‬حكت‬
‫ندى أنها حلمت أن املرتو الذي تركبه كان يسري يف البحر وليس تحت‬
‫األرض‪ ،‬وأن أغلب من فيهم‪ ،‬كانوا أسامكًا عاقلة‪ ،‬ذاهبة إىل عملها أو‬
‫عائدة منه‪ ،‬بعض األسامك منهكة‪ ،‬بعضها اآلخر األكرث شبابًا يقف يف‬
‫جامعات‪ ،‬ويحاول نيل اإلعجاب‪ ،‬حينها حىك منري أنه أيضً ا حلم ذات‬
‫مرة بأنه يف استاد كرة قدم وأن الالعبني كانوا أسامكًا‪ ،‬وأنه يذكر جي ًدا‬
‫أن حلمي‪ ،‬أحد أصدقاء طفولته‪ ،‬قال له غاض ًبا “أسامك البلطي كلها‬
‫مالهاش يف الكورة”‪ ،‬قفزت الفكرة إىل ذهن نجم‪ ،‬وقبل أن تختمر‪،‬‬
‫اقرتح أن يصنعوا تطبيقًا يكون عبارة عن موسوعة لألحالم‪ ،‬كل شخص‬
‫يكتب حلمه‪ ،‬وتكون هناك تصنيفات لألحالم‪ ،‬أحالم يف البحر‪ ،‬يف‬
‫السامء‪ ،‬يف املايض‪ ،‬يف املستقبل‪ ،‬أحالم حيوانات‪ ،‬التقط محمد الخيط‬
‫واقرتح أن يكون التطبيق به آلية لجمع األحالم إىل بعضها‪ ،‬وينشئ‬
‫من املتشابه منها عامل كامل‪ ،‬وكل حلم يضيف تفصيلة جديدة لهذا‬
‫العامل‪ ،‬وبهذه الطريقة يكون لدى العامل وسيلة ليحكم أخ ًريا‪ ،‬إذا كانت‬
‫األحالم جز ًءا من عامل كامل آخر أم ال‪ ،‬ويكون بوسع كل فرد أن يتتبع‬
‫شخصا آخر يف العامل كان‬‫ً‬ ‫حلمه يف هذه العوامل‪ ،‬ولعله يكتشف أن‬
‫فعل‪ ،‬واقرتح أن يكون اإلسم “عامل األحالم”‪ ،‬رد يحيى‬ ‫يف نفس الحلم ً‬
‫“أو بحلم بيك”‪ ،‬تدخل جامل تدخله املثقف املعتاد “باألمس حلمت‬
‫بك”‪ ،‬عرشات االقرتاحات تتقافز يف الغرفة‪ ،‬حتى قال حربية بصوته‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪80‬‬


‫الهادئ الواثق “حلمي حلمك”‪ ،‬وبدأت املغامرة‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫بعض الرشكات تنجح ألن املسئولني عنها موهوبني ج ًدا ومليئني‬
‫باألفكار الجيدة‪ ،‬بعضها تنجح ألنهم إداريني ماهرين لديهم خطط‬
‫واضحة واسرتاتيجيات تطور عملوها عليها كفاية ويرتكون عملية‬
‫اإلبداع ملن هم أكرث منهم موهبة‪ ،‬بعضها‪ ،‬يف حالة رشكة “‪،44‬‬
‫املعادي‪ ،‬الدور السابع”‪ ،‬وهو اإلسم الكامل والرسمي والحقيقي‪،‬‬
‫والذي ال يصدقه أحد‪ ،‬للرشكة‪ ،‬ينجح بدعاء الوالدين‪ ،‬وألن الرزق‬
‫يعطيه الله ملن يشاء‪.‬‬
‫تحمس حسن وقاسم‪ ،‬مؤسيس الرشكة‪ ،‬لفكرة التطبيق‪ ،‬وبشكل‬
‫فوري‪ ،‬اتصلوا بأحد أصدقائهم الذي يدير رشكة برمجة‪ ،‬ليبعث خمسة‬
‫مربمجني من عنده ليشاركوا يف املرشوع‪ ،‬وكان هذا أحد أسعد أيام‬
‫الرشكة‪ ،‬فالخمسة كانوا إناث ًا‪ ،‬رزان ونهى ووالء وجنى وماهينور‪،‬‬
‫وعالجوا إذن “عدم التوازن الجندري” يف املكتب‪ ،‬وهو عدم توازن‬
‫غري موتر ألن الصدفة ان جميع من املكتب عدا ثالثة أو اربع أشخاص‬
‫متزوجون أو يف عالقات طويلة مستقرة‪ ،‬وبالطبع خلقت البطالت‬
‫الخمس الجدد بيئة خصبة للمزيد من حلقات املسلسل‪.‬‬
‫يف اليوم األول لقدومهن‪ ،‬أو “يوم املرأة العاملي” كام اقرتح رشيبني‪،‬‬
‫اختفى امليكرويف من املطبخ‪ .‬اكتشف األسطى هذا يف اليوم التايل‬
‫ليوم املرأة‪ ،‬وكمدمنني لالجتامعات‪ ،‬اجتمعوا كلهم ملناقشة الحدث‪،‬‬
‫تحدث األسطى‪ ،‬وقبل أن يكمل قصته‪ ،‬وبعض القصص تنتهي أرسع‬
‫من املتوقع‪ ،‬قال عادل “اه امليكرويف أنا اديته لوالء”‪ .‬أعجب عادل‬
‫بوالء‪ ،‬وفيام يقفان يف املطبخ قالت أن امليكرويف يسهل كل شئ‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪81‬‬


‫وأنها تتمنى أن يكون عندها واحد‪ ،‬فتح عادل در ًجا ما من املطبخ‪،‬‬
‫أخرج كرتونة‪ ،‬شد فيشة امليكرويف من الكهرباء‪ ،‬وحمله ووضعه يف‬
‫فعل‪،‬‬
‫الكرتونة‪ ،‬وقال لها “ خديه هدية”‪ ،‬واألغرب أنها فعلت ذلك ً‬
‫لكن األكرث غرابة هو ما ستفعله نهى‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫لنكن موضوعيني‪ ،‬ما فعله عادل كان غري ًبا يف درجته وليس يف‬
‫نوعه‪ .‬فإحساس “امتالك املكان” الذي قال حسن وقاسم دو ًما أنهم‬
‫يحبون أن يسود املكان‪ ،‬كان طاغ ًيا دامئًا‪ ،‬وناج ًحا أكرث مام توقع‬
‫مثل أعطى غادة ماكينة القهوة الفرنساوي‪ ،‬عندما‬ ‫املنشئني‪ .‬محمد ً‬
‫أخربته أنها تصنع قهوة ممتازة‪ ،‬واألسطى أعطى منال سخان الشاي‬
‫عندما أخربته بأنها كلام اشرتت واح ًدا لبيته يتعطل يف اليوم التايل‪،‬‬
‫ورقية أعطت زوجها بالل كرس ًيا من املكتب ليك ال يعمل يف البيت من‬
‫الرسير‪ ،‬ومنري أخذ مروحة أرضية يف بيته‪ ،‬وكل من يف املكتب تقريبًا‬
‫أعطى نسخة من مفاتيح املكتب لرشكاء حياتهم‪ ،‬حتى أن جامل‪ ،‬قبل‬
‫أن تحدث موقعة املفاتيح‪ ،‬طرح نظرية تقول أن احتامل أن ميتلك‬
‫أي شخص عشوايئ يف القاهرة نسخة من مفاتيح املكتب‪ ،‬أكرث من‬
‫واحد من كل ألف‪ ،‬وأن أي شخص يحمل أكرث من عرشة مفاتيح معه‪،‬‬
‫فاحتامل واحد يف املائة أن يكون مفتاح مكتبهم موجو ًدا فيهم‪.‬‬
‫عادل أحد القالئل “السنجل” يف املكتب‪ ،‬ولهذا تزعمت رقية لجنة‬
‫ملحاولة الوصل بينه وبني والء‪ ،‬ضمت يف عضويتها أسامة وندى‪ .‬ويف‬
‫اليوم التايل ليوم املرأة‪ ،‬اختفى جهاز التليفزيون‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫مع قدوم شلة املربمجات‪ ،‬أضيف لالجتامعات العشوائية يف‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪82‬‬


‫املكتب‪ ،‬اجتامع عصف ذهني ثابت للتفكري يف تطبيق”حلمي حلمك”‪،‬‬
‫كل يحيك حلمه يف البداية ثم يناقشون أفكار تطوير التطبيق‪ .‬اقرتح‬
‫محمد أن يضيفوا عىل تجميع األحالم يف عوامل‪ ،‬رسومات توضيحية لكل‬
‫عامل منها‪ ،‬اسكتش بسيط لكل حلم‪ ،‬ثم يجمعون هذه االسكتشات‪،‬‬
‫بدل من ذلك أن‬‫اعرتض أنور لصعوبة رسم كل هذه األحالم‪ ،‬واقرتح ً‬
‫يضيفوا خاصية اختيارية لريسم كل فرد يكتب حلمه اسكتش بسيط‬
‫للحلم‪ ،‬ويف املراحل املتطورة من التطبيق رمبا ميكن حينها رسم يشء‬
‫مجمع لألحالم القريبة من بعضها‪ ،‬ثم للعوامل القريبة من بعضها‪،‬‬
‫حتى يصبح يف وقت مام خلق عوامل األحالم الكاملة‪.‬‬
‫تاريخ ًيا‪ ،‬تنتهي اجتامعات املكتب غال ًبا بتفرعها إىل نقاشات‬
‫جانبية واسعة يدرك الجميع مبرور الوقت أنها تعني انتهاء االجتامع‪،‬‬
‫دون أن يوقف ذلك أي من النقاشات الجانبية‪ ،‬فقط يخرج البعض‬
‫من الغرفة أو وبالوقت ينتهي “شكل االجتامع” بعدما انتهى جوهره‬
‫من فرتة‪.‬‬
‫النقاشات الجانبية نفسها كانت تتفرع دامئًا بنفس الشكل‪ ،‬محمد‬
‫يحادث ندى عن أخبارها‪ ،‬أسامة يتحدث إىل رقية عن أخبار النميمة‬
‫يف املكتب‪ ،‬حربية يناقش جامل يف خرب عميل ما‪ ،‬رشبيني يدخل يف‬
‫تحدي شتائم مع يحيى‪ ،‬واألكرث سخونة‪ ،‬منال تتعصب عىل األسطى‬
‫يف أي شئ‪ .‬هذا كله اختلف منذ “يوم املرأة”‪.‬‬
‫هناك بعض األشخاص ميتلكون القدرة عىل أن يصبحوا “زعامء‬
‫القعدة” مبهارتهم يف الحيك وقدرتهم املميزة عىل مقاطعة من‬
‫يقاطعهم بسالسة وعدم ترك حبل الكالم يفلت منهم بسهولة‪ ،‬ويف‬
‫مرحلة ما قبل استقرار “الشلل”‪ ،‬يحدث رصاع بني شخصني أو أكرث‬
‫عىل زعامة القعدة‪ ،‬يشد كل منها الحبل بكل قوته‪ ،‬يقاطعان بعضهام‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪83‬‬


‫يحاول كل منها أن تبدو حكايته أذىك أو أكرث إثارة‪ ،‬وتحدث تلك‬
‫املعركة الصاخبة دون إعالن‪ ،‬وأحيانًا حتى دون إدراك للمتعاركني‬
‫داخلها بأنها تحدث‪ ،‬بالوقت يرتك أحدهام الحبل لآلخر‪ ،‬يكتفي‬
‫مبقاطعته بني الحني واآلخر‪ ،‬يحيك حكايته قبل أن يأيت الزعيم أو بعد‬
‫أن يرحل‪ .‬األكرث مثابرة من املهزومني‬
‫يخلق نقاشً ا فرع ًيا يكون هو زعيمه‪ ،‬والنقاشات الفرعية نفسها‬
‫لها ثالث أنواع‪ ،‬األول وهو التفرع العادي كام يحدث يف االجتامعات‪،‬‬
‫الثاين مثابرة املهزومني‪ ،‬النوع الثالث هو ما تصنعه نهى‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫النساء الخمسة أتوا محملني بقصص أخرى عن مكتبهم األصيل‪،‬‬
‫لديهم دامئًا مقارنات بني كل يشء هنا وهناك‪ ،‬أبطال آخرون‪ ،‬ومالحم‬
‫أخرى‪ ،‬يشبهون عادل هنا بوليد هناك‪ ،‬ومحمد هنا بجالل هناك‪،‬‬
‫ومنال بهاجر‪ ،‬ولديهم‪ ،‬كالجميع‪ ،‬أسطورتهم الخاصة‪ ،‬مهاب الحمش‪.‬‬
‫مهاب الحمش‪ ،‬وهو باملناسبة‪ ،‬خطيب نهى‪ ،‬للمصادفة أيضً ا‪ ،‬هو‬
‫زميل محمد يف الكلية‪ ،‬أصغر منه بدفعة‪ ،‬مل يكن بعي ًدا عنه ج ًدا‪،‬‬
‫وإن مل تجئ فرصة مناسبة لحكايته‪ ،‬كان أحد أعضاء شلة ميكانيكا‪،‬‬
‫الرتبو وشاكوش ومسامر‪ ،‬رغم أنه من قسم اتصاالت‪ ،‬وأصغر منهم‪،‬‬
‫متحمسا‪ ،‬وهو من رسم بعض لوحات املعرض الفني‬‫ً‬ ‫لكنه كان يساريًا‬
‫الذي وضع فيه الرتوليل رحمه الله صورته باألبيض واألسود كأحد‬
‫زعامء الثورة الروسية‪ .‬يذكر محمد أنه يف الكلية كان الحمش يخوض‬
‫متحمسا أيضً ا‬
‫ً‬ ‫نقاشات طويلة ج ًدا مع نظرية‪ ،‬فالحمش وقتها كان‬
‫للعلم كراية للتقدم‪ ،‬أو ما نطلق عليه تنويري‪ ،‬ونظرية كان ممن‬
‫مييلون لرؤية تلك الحامسة للعلم‪ ،‬أحد مخلفات القرن التاسع عرش‪،‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪84‬‬


‫التي يجب تجاوزها‪ .‬لكن الحق أن حامسة الحمش‪ ،‬مل تكن من بقايا‬
‫القرن التاسع عرش‪ ،‬كانت من بقايا حامسة مغامراته يف الثانوي‪،‬‬
‫وهي مغامرات تحتاج لقعدة طويلة أخري‪ ،‬املهم أن الحمش‪ ،‬ويشبه‬
‫نظرية يف ذلك‪ ،‬حصل عىل لقبه “الحمش”‪ ،‬يف معركة “املليحة”‪،‬‬
‫واستمر لقبه يف الجامعة‪ ،‬ثم يف عمله‪ ،‬ولذلك عندما رآه محمد‬
‫للمرة يف املكتب وهو يزور نهى‪ ،‬تعجب كيف متكن من إعادة إنتاج‬
‫حامسته للدرجة التي تجعله اآلن بنفس درجة حامسته يف الكلية‪،‬‬
‫وإن كانت حامسته الحالية مرتبطة مبعارضه الفنية التي يقيمها يف‬
‫الشارع ويسميها “أهو”‪ ،‬وب”نهى” طب ًعا‪ ،‬واألهم ‪ ،‬بعد إذن نهى‬
‫وبعد االعتذار إليها‪ ،‬بربنامجه عىل اليوتيوب “عىل بايل”‪ ،‬وهو برنامج‬
‫يومي‪ ،‬من عرشين دقيقة‪ ،‬يتكلم فيه الحمش بشكل عشوايئ عن أي‬
‫يشء يقرتحه عليه الجمهور‪ ،‬وبتوقف عن الكالم فجأة بعد عرشين‬
‫دقيقة بالثانية‪ .‬الحمش أحد هؤالء األشخاص الذين يفعلون األشياء يف‬
‫أوقاتها الصحيحة‪ ،‬وألنه ال يزيف حامسته‪ ،‬فال ميكن اتهامه بأنه يجري‬
‫وراء الشهرة‪ ،‬مرن ومتعدد االهتاممات ويقفز من هوية إىل أخرى‬
‫كأنه يلعب يف حوش روضة أطفال‪ ،‬ينجح يف كل يشء يفعله‪ ،‬لكنه ال‬
‫يكمل مساره فيه‪ ،‬متواضع‪ ،‬وذيك‪ ،‬ومرح‪ ،‬ويستحيل تقري ًبا‪ ،‬أن تتوقع‬
‫أي غابة تختفي خلف هذه الواحة املرحة من الحياة‪ ،‬لن تتوقع‪ ،‬لكن‬
‫نهى ستحيك يو ًما كل شئ‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫كيف ميكن لحكاية أن تنتهي؟ الحكايات الحقيقية‪ ،‬غال ًبا ال تنتهي‪،‬‬
‫أي ال ينتهي أبطالها لألبد‪ ،‬لكنهم يتشعبون يف طرق مختلفة‪ ،‬فيصبح‬
‫من العسري إكامل حكاياتهم كحكاية واحدة‪ ،‬ولحكاية حكايتهم‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪85‬‬


‫نفسها‪ ،‬ينبغي افرتاض نقطة التشعب هذه‪ .‬هل انتهت حكاية الرتوليل‬
‫رحمه الله بوفاته؟ لو كانت الحكاية هي البطل وليس الرتوليل فهي‬
‫مل تنته‪ ،‬ما انتهى هو دور الرتوليل فيها‪ .‬حياتنا كلها عبارة عن تدخل‬
‫يف حكاية طويلة‪ ،‬مل تبدأ من عندنا‪ ،‬وال تنتهي إلينا‪ ،‬يف سباق التتابع‬
‫قليل ثم نسلمها آلخرين ليفعلوا‬ ‫الطويل هذا نأخذ الراية ونجري بها ً‬
‫الدور نفسه‪ ،‬وبهذا املعنى فكل حكاية تبدأ دامئًا يف منتصفها‪ ،‬وتنتهي‬
‫يف منتصفها‪ ،‬بسبب التمدد الالنهايئ ألطرافها‪ .‬مل نعرف إال منتصف‬
‫حكاية أمنية‪ ،‬ونتفًا من حكايات أماين‪ ،‬الكثري من حكايات األسطى‬
‫التي تشبه حكايات الرتوليل يف كونها تغفل ما هو أكرث جوهرية‪ ،‬من‬
‫سيحيك مغامرات التعلب التي مل يحكيها؟‬
‫قبل أن يكون حسني قائ ًدا للمدرسة‪ ،‬كان قبله محمد متويل‪ ،‬وقبله‬
‫سمري وعرشات القادة اآلخرين‪ ،‬وقبلهم طالب يذهبون ملدارس يف‬
‫أصل أحد أساسيات حياتها‪،‬‬ ‫مدن مجاورة‪ ،‬ثم أجيال مل تكن املدرسة ً‬
‫بل الحقل‪ ،‬وقبل الحقل‪ ،‬رمبا كانت هجرة من مكان آلخر‪ .‬يف القرية‬
‫عائالت كثرية ألقابها تشري إىل أماكن أخرى‪ ،‬املنياوي واملنويف واألجاوي‬
‫والبحريي والسوهاجي‪ ،‬وغال ًبا وقبل أن يأتوا لهذا املكان‪ ،‬كانت‬
‫ألقابهم هناك‪ ،‬بدورها‪ ،‬تشري إىل أماكن ثالثة‪ ،‬يف كل مكان كانوا غرباء‬
‫حطوا رحالهم للتو‪ ،‬وتوجب عليهم أن يعلنوا انتامئهم ليشء ثابت‪،‬‬
‫وبتعاقب الرتحال‪ ،‬تتعاقب االنتامءات وتتغري‪ ،‬ومبرور عدة أجيال‪،‬‬
‫ينىس األصل األول‪ ،‬ورمبا لهذا كان العرب مغرمني بحفظ األنساب‪،‬‬
‫كأنهم يتحدون سيولة الزمن‪ ،‬لكن حتى هم كانوا يجدون حدو ًدا‬
‫لقدرتهم عىل تتبع األنساب‪ ،‬يقف يقينهم عند نقطة فيفرتضون ما‬
‫بعدها‪ ،‬لكن النسب اليقيني يظل ثابتًا‪ ،‬كلنا آلدم‪ ،‬وآدم من تراب‪ ،‬كام‬
‫قال الرسول يف خطبة الوداع‪.‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪86‬‬


‫‪61‬‬
‫أتت ندى أخ ًريا إىل املقهى‪ ،‬ابتسمت غادة‪ ،‬احتضنتها بجناحيها‪،‬‬
‫شعرت بالغرابة‪ ،‬لكن كتمت شعورها وجلست‪ ،‬خلعت ندى معطفها‪،‬‬
‫علقته عىل الكريس‪ ،‬ارتبك محمد‪ ،‬واندهشت غادة‪ ،‬وجلست غادة‬
‫عىل مقعدها بينهام‪ ،‬ثم فردت جناحيها عىل الطاولة‪ ،‬وضحكت‪ :‬مش‬
‫هتصدقوا اليل حصل؟‬

‫يُتبع‪...‬‬

‫تعلم الطيور‪ ،‬منذ صغرها‪ ،‬أين ستهاجر ‪87‬‬

You might also like