Professional Documents
Culture Documents
2
سألته :منذ متى وأنت تمارس هذه المهنة؟
فأجاب بصوته الهادئ :منذ فترة بعيدة –أكثر من خمسة عشر
عاماً-تعرضت Eطفلة لي في عمر الورود إلى حرق بالماء الساخن ،ففكرت
في أن أقوم بمعالجتها بنفسي ،فقمت بمعالجتها بدواء من األعشاب ،قمت
بتحضيره وتركيبه،وبعد أيام من العالج جف مكان اإلصابة ونما جلد
جديد بدالً من الجلد المحروق E،وكان العالج موفقاً إلى درجة أنه لم
يترك أثراً للحرق ،وقد فرحت بذلك كثيراً لسببين :األول :شفاء
طفلتي الغالية ،والثاني :نجاحي في تركيب تلك الوصفة الناجعة.
و منذ ذلك الحين قررت أن أتابع موضوع العالج باألعشاب ،هذا
الذي بدأته بطفلتي ،وقلت في نفسي :صحيح بأن الحروق تحدث كحاالت
فردية ،ولكنها أمر مهم جداً ،ويوجد كثير من الناس تركت الحروق في
أجسادهم آثاراً ال تمحى ،ومآسي يعاني منها أصحابها ،نعم ...موضوع
الحروق مهم جداً وال يمكن االستهانة به ،أو غض النظر عنه.
سألته :هل كنت تحب هذه المهنة ،أقصد مهنة الطبابة؟
* -إنني ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي قلب طفولتي رأساً على
عقب ،إنه اليوم األول لدخولي المدرسة ،لم أكن أعرف قبل ذهابي إلى
المدرسة بأنني أعشق الحرية إلى هذا الحد ،وعندما قرع الجرس الذي
سمعت صوته ألول مرة في حياتي دخلنا إلى الصف بشكل عشوائي غير
منظم ،فدخلت إلى غرفة الصف وسط جموع األطفال الذين كانوا
يصدرون أصواتاً عالية تصم اآلذان ،وكأنهم يتنافسون في إصدار هذه
األصوات ،وبدأ االزدحام على المقاعد األمامية وعمت الفوضى داخل الصف
وأنا صامت أنظر حولي وأتساءل :لماذا كل هذا الضجيج؟ هل هؤالء
الصغار فرحين إلى هذه الدرجة؟ ومشيت في الممر بين صفوف المقاعد،
وقد قررت أن اجلس في المقعد األخير الذي يستند إلى جدار الغرفة،
وكنت أترنح من لكمات التالميذ الذين يقفزون ويثرثرون وكأنهم
وجدوا لعبة جديدة يتسلون بها ،وشعرت ألول مرة بالغربة E،وضاقت بي
3
الدنيا على رحبها،وأحسست باالختناق ،وفجأة دخل األستاذ (الذي عرفت
فيما بعد أن اسمه سعيد) دخل إلى غرفة الصف بسرعة فوجد بعض
التالميذ يعبثون بالسبورة ،ويرسمون عليها بالطبشور خطوطاً متداخلة،
وبلحظة واحدة استطاع األستاذ سعيد أن يلطم اثنين من التالميذ كان
أقرب التالميذ إليه ،بينما الذ الباقون بالفرار إلى مقاعدهم ليستقروا
عليها ،وصاح األستاذ سعيد بصوت قوي :قيام ،فمن عرف ما تعني تلك
الكلمة وقف منتصب القامة ،ومن لم يعرف ما تعنيه هذه الكلمة تأخر
قليالً ثم وقف ،وحذا حذو زمالئه ،وقد وقف الجميع بمن فيهم أنا ،وهنا
وضع األستاذ سعيد يديه وراء ظهره ،وأخذ يحملق بنا جميعاً بنظرات
غاضبة يوحي إلينا من خاللها أنه مرهوب الجانب ،وال يحب الفوضى ،وبعد
أكثر من دقيقة ،والصمت يلف غرفة الصف ،وخالل ذلك كانت تتسلل
إلى أنفي رائحة عطر نفاذة تأتي من قبل األستاذ سعيد ،وقد شعرت بعدم
االرتياح لألستاذ سعيد ،وكرهت رائحة العطر تلك على رغم طيب هذه
الرائحة ألنني صرت أعتبر كلما شممتها أنها تقترن بذلك المعلم قاسي
القلب،وبعد تلك الفترة من الصمت طلب منا الجلوس ،وخرج من الصف
دون أن يتفوه بكلمة واحدة ،فتنفست الصعداء وارتاحت Eنفسي قليالً،
فتذكرت البيت ودجاجات أمي ،وقلت في نفسي :من سيجمع محصول هذا
اليوم من البيض؟ لماذا أحس بالغربة Eإلى هذا الحد؟ ولم أدرِ يومها أن
سبب ذلك كله هو عشقي للحرية ،تلك الحرية التي تفوق كل العلوم
وتتجاوز Eكل جدران المدارس ومقاعد الدراسة ،وبعد قليل دخل غرفة
الصف أستاذ ،ممتلئ الجسم ،متوسط القامة ،تبدو عليه الرصانة والهدوء،
فوقفنا جميعاً دون أن نعطى أمراً بذلك ،فأشار لنا بالجلوس ،ثم راح
يقلب نظره في التالميذ ،وبعد هنيهة قال لنا :اسمعوا يا أبنائي! أنتم أيها
التالميذ أتيتم إلى المدرسة كي تتعلموا ،فالعلم نور يضيء لكم طريق
المستقبل ،وستكبرون وتصبحون رجاالً مثلي ،فكونوا مجدين ،وأقبلوا على
4
العلم وأحبوه ،وأطلب منكم أن تعتنوا بالنظافة ،فالنظافة من اإليمان،
وليس من المهم أن يرتدي أحدكم ثياباً جديدة ،بل المهم أن تكون ثيابه
نظيفة ،ولو كانت متواضعة ،ثم أدار لنا ظهره وأمسك بالممحاة ،واخذ
يمسح السبورة ،فقد بدأ الدرس األول.
وبعد انتهائه من مسح السبورة بالممحاة ،كتب بالطبشور بعض
الحروف الهجائية ،وأخذ يشرح كيفية لفظها ،وطلب منا حفظها،فسررت
من الدرس ،وأحببت ذلك المعلم ،ويوماً بعد يوم تأقلمت مع الحياة
الجديدة ،وصرت أذهب إلى المدرسة وأنا مسرور E،ولكن شعوري بالغربة
لم يكن يفارقني كلما خرجت من البيت متوجهاً إلى المدرسة ،وعلى رغم
ذلك فقد أصبحت متفوقاً في دروسي ،وحققت ألهلي ما كانوا ينتظرونه
من ابنهم المدلل.
تابعت دراستي في مرحلة التعليم االبتدائي E،ثم انتقلت إلى المرحلة
اإلعدادية ،وكنت من الطالب األوائل،وبدأت بكتابة الشعر ونظمت أول
قصيدة بعنوان( دموع الهجر) وكنت أحب اللغة العربية كثيراً إلى
درجة العشق ،وعلى رغم حبي للغة العربية فقد كان يراودني هاجس
أكبر من حبي للغة العربية ،وأكبر من رغبتي في قرض الشعر E،وذلك
الهاجس الذي أرقني هو أمنيتي في أن أصبح طبيباً ،مع العلم بأنني كنت
أعتبر تلك األمنية ضرباً من الخيال ،وحلماً يتبخر كلما استيقظت من
نومي ألنني تركت الدراسة بسبب ظروفي المادية،وانصرفت إلى العمل
ألكسب بعض المال إلعانة أهلي في تأمين لقمة العيش .وكبرت وتمكنت
من توفير بعض المال الذي أعانني على الزواج من إحدى قريباتيE،
ورزقني اهلل تعالى بأوالد أراهم أمامي يمرحون ،وتمأل ضحكاتهم هذا
العالم ،كما أنهم يتعرضون للمرض شأنهم شأن بقية األطفال ،وكنت
أمرض لمرضهم ألن اهتمامي بهم كبيراً ،فهم فلذة أكبادنا ،فعندما
يمرض أحدهم أسرع به إلى الطبيب ،وعندما أشرح للطبيب حالة الطفل
5
المريض بدقة كان الطبيب يبتسم وهو يفحص الطفل ،ويقول لي:
كأنك تشخص حالة هذا الطفل تماماً ،ويثني عليّ لمعرفتي Eبحاالت
المرض ودقة مراقبة حالة الطفل.
وكنت أعمد أحياناً –عندما يكون المرض عارضاً بسيطاً-إلى إعطاء
الطفل المريض بعض األعشاب باجتهاد مني ،فتمر الحالة بسالم ،ويشفى
الطفل ،وعندما كنت أذهب إلى أحد المشافي لزيارة أحد المرضى من
أقاربي أو أحد أصدقائي ،وأرى الطبيب يقوم بواجبه نحو مرضاه كنت
أغبطه ،وأقول في نفسي :هنيئاً لهذا الطبيب ،وكم هو سعيد بهذا العمل
اإلنساني النبيل ،وكأنه أخ مخلص لكل هؤالء المرضى الذين يرقدون على
أسرتهم ينتظرون الشفاء على يد ذلك الطبيب الذي كرس كل وقته
لخدمتهم،وظل هذا الحلم يراودني مع أنني ال أستطيع فعل أي شيء
لتحقيق هذا الحلم ،وممارسة هذه المهنة اإلنسانية ،وتخفيف األلم عن
اآلخرين.
-لو سألتك :هل كنت على اطالع ودراية بالتركيبة التي تستخدمها في
معالجة الحروق؟
* -يبحث اإلنسان دائماً عن الطرق المناسبة في حل مشاكله،
والمصاعب التي تعترضه ،فيحاول تذليلها ،وعندما يستطيع التغلب عليها
يقول :لقد وجدت الحل ،وقد يكون ذلك الحل نتيجة جهد وعناء كبير
وتجارب مستمرة ،ومنذ أن وجد اإلنسان على هذه األرض وحتى زماننا
هذا ،وهو يتعرض لكثير من الحوادث والكوارث واألمراض وغيرها مما
يحدث خلالً في جسمه وبيئته فال يستطيع ممارسة حياته الطبيعية في
مواجهة مصاعب الحياة المختلفة ،ومن هنا بدأ البحث عن عالج لكل حالة
يتعرض لها ضمن حدود إمكاناته ،واستخدام عقله في المعرفة ليتوصل إلى
ما هو مفيد لحالة مرضية تعرض لها بشكل أو بآخر Eيبحث ويجرب ،فمرة
يصيب؛ وأخرى يخطئ إلى أن يجد العالج الناجع.
6
-وهنا يحضرنا سؤال :من هو ذلك اإلنسان الذي تخصص في البحث
والتفكير والتجريب ،وسهر وعانى ليكتشف عالجا ً ألمراض اآلخرين؟
* -إن الذين تصدوا لهذه المهمة اإلنسانية بحثوا وجابوا أطراف
األرض لتحقيق ما يبتغون ،إنهم أناس مميزون حتماً وليسوا كأبناء
جنسهم من باقي البشر دفعتهم عقولهم الذكية ورغباتهم الالمحدودة في
أن يسلكوا هذا الطريق الشاق بال تردد ،ليحققوا هدفاً نبيالً يسمو باإلنسان
وإنسانية اإلنسان.
وبناء على ذلك دعونا نطرق باباً غير الطب ،وهي Eأبواب كثيرة
تقودنا إلى أن كثيراً من الناس قد حباهم اهلل أشياء تميزوا بها عن غيرهم
حتى اشتركوا في بناء وتكوين ثقافات العالم؛ قديمها وحديثها؛ غير آبهين
بأنفسهم فكانوا شموعاً تحترق ليضيئوا الطريق لغيرهم.
-كانت تلك هي البداية ،بداية اكتشاف هذا المعالج الشعبيE
للحروق على مختلف أنواعها ،أما االكتشاف الحقيقي فكان بعد لقائي به
وزيارته بحوالي الشهر تقريباً ،يومها عدت إلى البيت وهناك فوجئت
بابنتي الصغيرة براءة وقد احترقت ساقها بعل انسكاب مادة سائلة حارة
عليها.
أعتذر منكم ،قبل أن أكمل نسيت أن أخبركم بأنني على دراية
واسعة بمخاطر الحروق وطرق Eعالجها ،وآالمها ألنني عانيت منها
شخصياً ،ففي أحد أيام شهر نيسان عام 1976م انفجرت أسطوانة غاز في
بيت أخي في دمشق ،وكنت أقطن معه ،مما أدى إلى تهدم جزء من المنزل،
إضافة إلى إصابتي أنا وأخي وزوجته Eوثالث بنات من بناته بحروق
مختلفة ،استمر عالجها حوالي شهر بالنسبة لي ،وثالثة أشهر مع إجراء
عمليات تجميلية البنة أخي،وأدت إلى وفاة أخي وزوجته واثنتين من بناته،
وكتبت السالمة لي وإلحدى بنات أخي..
7
من هنا أسرعت بطفلتي إلى بيت صديقي فألقى عليها نظرة وابتسم،
وكنت أحسب أن عالجها سيستغرق Eأكثر من شهر ،ولكني فوجئت أن
العالج لم يتعد خمسة أيام ،شفيت الطفلة تماماً ،ليس هذا فحسب بل إن
الحروق لم تترك أثراً في ساقها .تكررت زياراتي Eلصديقي حيث كنت
أراقبه عن كثب وكنت أستفسر منه عن كثير من الحاالت التي عالجها،
وعرضت عليه أن أدون ما رأيته فوافق ،ومن هنا فقد طلبت منه أوالً أن
يتحدث عن نفسه ،فاسترسل قائالً:
هذه قصتي
ولدت في أسرة فقيرة ،أنا وأخي األكبر وأختي الوحيدة ،وعشت في
كنف أهلي مدلالً لدرجة أن ذلك ترك تأثيراً كبيراً ظهرت نتائجه بعد
أن كبرت ،وصرت أدرك الحياة بشكلها الصحيح ،حيث تعرضت Eلعدة
وعكات صحية في صغري ما زلت أذكرها وقاومتها ( كالحصبة) التي
كادت أن تودي بحياتي ،وكان مقدراً لي أن أعيش ،فأصبحت عاطفياً
أكثر من المعتاد ،وحساساً أكثر من المألوف ،عاطفتي تسبق تفكيري
دائماً ،وأعترف بأن ذلك خطأ ،ولكن هذه هي الحقيقة التي يجب أن تقال.
وكبرت وازدادت رهافة حس حتى طبعني ذلك بطابع الحزن الدائم،
بحيث سيطر علي فصرت أخشى على نفسي من التعرض لحالة نفسية ال
يمكن التغلب عليها.
-هل استطعت بعد الخطوة األولى في معالجة حروق ابنتك أن تطور العالج
الذي اكتشفته؟M
*-رحت أعالج حاالت من الحروق Eعلى درجة بسيطة بالقياس إلى
غيرها من تلك الحروق التي يصعب السيطرة عليها ،ولم أقف عند هذا
الحد ،بل انتقلت إلى عالج الحروق Eمن مختلف الدرجات ،ووفقت في
التعامل معها والسيطرة عليها حتى اكتسبت خبرة ممتازة ال تقل أهمية
عن الدواء نفسه.
8
وعندما علم الناس بأنني أعالج الحروق باألعشاب الطبيعية ،صاروا
يأتون إلي بذويهم من المصابين من مختلف العمار ،ورحت Eأعالجهم،
وكانت النتائج كلها مرضية جداً،وقد اكتسبت شهرة واسعة بين الناس
من خالل النتائج الممتازة لعالجي الحروق على مختلف درجاتها .وقد
نجحت في السيطرة التامة على كل حاالت الحروق البسيطة والصعبة
والصعبة جداً ،حتى تلك التي اعتذرت المستشفيات المتخصصة عن
استقبالها ناهيك عن عالجها،وكنت أنفق على شراء المواد األولية
ومستلزمات العالج من راتبي الشهري الذي ال أملك غيره،والذي ال يكاد
يكفي مصاريف البيت ،ومصاريف مستلزمات العالج وتركيب الدواء.
-هل كنت واثقا ً من نفسك دائماً؟
* -من حيث الروح المعنوية فإنني على ثقة كبيرة بما أقوم به،
وأثق تماماً بالدواء الذي أقوم بتركيبه وتحضيره ،وكلما استلمت حالة
حرق من درجة عالية ،كنت ألوم نفسي كثيراً ،وأسأل نفسي :من
أجبرني على عالج هذه الحالة الصعبة؟ وينتابني القلق ،وقد أعاف الطعام
عدة أيام ،عندما تكون حالة الحرق على درجة حساسة و عالية ،لشدة قلقي
وأنا أنتظر نتيجة العالج التي تحتاج بالطبع إلى عدة أيام وأحياناً أسابيع،
وعندما تشفى مثل هذه الحالة الصعبة كنت أنسى كل ما عانيته؛ خاصة
عندما أرى الفرح على وجوه أهل المريض،وهم ال يعرفون بأن فرحي بهذه
النتيجة أكبر من فرحهم ،خاصة عندما أحصل على قبلة يطبعها طفل
صغير على خدي في نهاية آخر جلسات العالج عندما يشفى تماماً.
-نسمع كثيراً عن مخاطر الحروق وحدوث وفيات كثيرة نتيجة اإلصابة بها،
فهل استطعت السيطرة على كل حاالت الحروق أم أن األمر يقف عند حد معين؟
*-مع مرور الزمن أصبح عالج الحروق Eعندي أمراً عادياً سهالً
مهما كانت اإلصابة بالغة ،حتى تمكنت من السيطرة على الحاالت
المستعصية التي يرى آخرون أنها بحاجة إلى جراحة تجميلية ،غير أنني –
9
وهلل الحمد-أتمكن من عالجها وتشفى Eبإذن اهلل تعالى بشكل نام دون إجراء
أية جراحة تجميلية.
-هل عالجت إصابات ألطفال صغار؟ وكيف كنت تتعامل معهم؟
* -تمكنت من اكتساب خبرة اجتماعية ونفسية من خالل جلسات
العالج ،ومن خالل عالجي لألطفال المصابين بالحروق E،وقد تعاملت معهم
بخبرة ودراية بحيث أحاول التسلل إلى قلوبهم حتى الطفل الرضيع الذي
ال يفقه من أمور الحياة شيئاً ،لكنه يتألم كالكبار E،وكانت طريقتي في
التعامل مع األطفال تثير استغراب األهل ودهشتهم،وهنا أؤكد على
ضرورة التعامل مع األطفال بحذر ودراية كافية ،حتى يصبح في حالة
نفسية مرضية؛ فيتمكن الطبيب من عالجه بشكل سليم ومريح ،فالطفل
عادة ال يعرف إن كان الطبيب يريد معالجته أو معاقبته،أما عند الكبار فإن
األمر مختلف تماماً ،فعالجهم يقوم على مبدأ التفاهم بن المريض
والطبيب.
-هل بإمكانك أن تذكر لنا مثاالً على ذلك؟
* -راجعني الطفل عبد الرحمن ،وكان يشكو من حروق Eفي معصم
اليد يمتد حتى نهاية المرفق ،وكان هذا الطفل في بداية تعلمه النطق،
وهو يلفظ بعض الكلمات ،وكان يتألم بشدة أثناء الضماد ،ويبكي بكاء
شديداً،فبدأت أتقرب إليه وأالطفه حتى بدأ يشعر بأنني أحرص عليه وال
أريد معاقبته ،فتجاوب معي ،وكان في كل جلسة عالج يزداد هذا الشعور
عمقاً عنده ،فيطمئن لي أكثر فأكثر ،فكان تارة يبكي ،و يسكت تارة
أخرى ،وبعد عدة جلسات كان عندما تصحبه أمه إلى جلسة العالج
يتركها فوراً ويأتي Eإليّ ويجلس على ركبتي ،ويتلفظ بكلمات لم أفهمها
في بداية األمر( كوكل) ،فلما سألت عنها أمه ،ابتسمت خجلة ،وقالت:
إنه يخبرك بأنه يريد أن يأكل ،فكانت زوجتي Eتذهب وتحضر له بعض
الطعام وحبات سكاكر ،فيأكل ويشرب E،ثم أبدأ بتضميده فأالحظ مظاهر
األلم على وجهه ،لكنه ال يبكي وال يتلفظ بألفاظ تنم عن ألمه.
10
وبقيت أكسب مودة عبد الرحمن على هذا المنوال إلى أن تم الشفاء،
وعادت يد عبد الرحمن سليمة تماماً ليس فيها أي أثر للحروق E،وكنت
أشد الناس فرحاً بشفاء (صديقي).
-أرغب في ذكر بعض حاالت اإلصابات التي عالجتها ،ونتيجة العالج ،حتى
نستوفي الحديث عن هذه المهنة.
* -هناك حاالت كثيرة يمكن أن أروي لك بعضها:
قصة محمود:
تعرض محمود لعدة حروق Eفي يده ،وحرق Eآخر في خاصرته
اليمنى ،فقد انسكب عليه إبريق الشاي كان قد أُنزل من فوق الموقد للتو.
أرسلت بمحمود إلى طبيب ليصف له مضادات االلتهاب ،ويراقب Eحالته
العامة كي ال تحدث مضاعفات أخرى بسبب الحروق Eألنها كانت تغطي
مساحة واسعة من جسده ،وتشكل خطراً عليه ،ويخشى في هذه الحال من
حدوث تجفاف ،وقد أعطاه الطبيب مضادات االلتهاب وطلب من أهله
ضرورة مراجعته يومياً لالطمئنان عليه والوقوف على تطور حالته ،وعاد
األهل من عند الطبيب ،وأجريت له الضماد األول،وفي اليوم الثاني ذهبوا به
إلى الطبيب ،فوجد أن جسم الطفل قد تعرض للتجفاف ألنه لم يذق طعاماً
وال شراباً منذ البارحة ،فأعطاهم الطبيب وصفة لتعويض السوائل التي
فقدها الجسم ،وبعد أن أجريت له الضماد الثاني قص علي األهل ما حدث
عند الطبيب ،وفي اليوم الثالث جاؤوا إليّ بالطفل قبل أن يذهبوا إلى
الطبيب ،فوجدت أن حاله ال تسر أبداً ،وأخبروني Eبأنه رفض تناول الدواء،
فقلت لهم :اذهبوا به إلى الطبيب قبل إجراء الضماد ،فذهبوا به وأخبروا
الطبيب عن وضعه وأنه لم يذق طعاماً وال شراباً ،فقال لهم الطبيب :إنه
من الضروري أن يأخذ الدواء ،ويتناول الطعام والشراب E،على كل األحوال
حاولوا أن يأخذ ذلك هذه الليلة ،فإذا رفض فأحضروه غداً صباحاً ألعلق
له السيروم( المصل) ،ولما رجع األهل إليّ من عند الطبيب أخبروني بما
جرى معهم ،فأعلمتهم بأنني سأقوم بتغيير الضماد ،ولما شرعت في تغييره
11
كان الطفل يبكي من األلم والخوف ،ولكنه سكت بعد االنتهاء من التغيير،
وراح ينظر إلي نظرة الخائف المستغيث ،فقلت له :يا محمود إذا تناولت
الطعام والشراب والدواء فسأعطيك لعبة جميلة غداً ،وإذا لم تفعل
فسأعطيك إبرة مؤلمة من هذه الحقيبة المليئة باإلبر ،فقال الطفل :أريد
أن أشرب ،أريد أن أشرب ،فأسرعت وأحضرت له إبريقاً من الماء وآخر من
الشاي ،ورحت أعطيه الشاي بعد مزجه بالماء بنسبة 1إلى ،4فشرب من
المزيج حتى ارتوى ،ثم أعطيته برتقالة فأكلها وشرب الدواء وهو ينظر
إلى الحقيبة بجانبي ،بين دهشة األهل وفرحهم ،وأوصيت األهل أن يقدموا
له الغذاء والسوائل في البيت ،ولما عادوا به في اليوم التالي كان الطفل
مليئاً بالنشاط والحيوية ،وقد تحسنت حاله ،ولما أخذوه إلى الطبيب
أخبروه بما حدث فضحك واستحسن هذا األمر ،وتابعت Eعالج الطفل لمدة
عشرة أيام حيث تماثل للشفاء التام بإذن اهلل تعالى دون أن تترك الحروق
أي أثر في جسده.
فاتن وفاطمة:
صبيتان في ريعان الشباب تعرضتا لحروق بالغة غطت حوالي %25
من مساحة الجسم .ولنبدأ أوالً بقصة
فاتن:
تعرضت Eفاتن لحروق بالغة بالغاز ،وعولجت لمدة خمسة عشر يوماً
دون أن يبدو عليها أي تحسن يذكر ،وبعد هذه المدة جاؤوا بها إليّ،
وكنت أقوم بمعالجة عدد من األطفال الذين اصطحبتهم أمهاتهم،وقد دق
الجرس ،ولما فتح الباب فوجئت بمجموعة من الرجال والنساء يقومون
بإنزال صبية من السيارة ،كانت ترقد على فراش وقد غطيت بقطعة من
القماش ،وقد حملها هؤالء بفراشها ووضعوها في إحدى الغرف عندي في
البيت ،وكانت فاتن ترتجف من الخوف واأللم ،ولما انصرف األطفال
الذين كنت أعالجهم ،استفسرت عن موضوع فاتن وعرفت أنها تعرضتE
لحروق بالغاز E،واقتربت منها وأزحت الغطاء عنها ،لقد كان جسدها
12
مصاباً بحروق Eشديدة من الدرجة الرابعة ،وقد غطت الحروق مساحة
كبيرة من جسدها،ولما رأيت ما وصلت إليه حال هذه المصابة اعتذرت عن
عالجها ألنها وصلت إلى درجة خطيرة ،وأخشى أن يحدث لها مكروه ،ولكن
أهلها ضحكوا لهذا االعتذار وقالوا :نحن على ثقة أنها ستشفى بإذن اهلل
تعالى لذلك أتينا بها إليك .وقد تواردت الخواطر على ذهني ورحت ألوم
نفسي إذا تركتها وأدى ذلك إلى حدوث مكروه لها،وهنا جلست عند
رأسها وسألتها عن اسمها ،فغمغمت بصوت لم أفهم منه شيئاً ،لقد اختفى
صوتها لشدة صراخها من شدة األلم عندما كانوا يقومون بتغيير الضماد
في األيام الماضية،وقد علمت من أختها التي ترافقها بأن اسمها فاتن،
وعلمت بأنها لم تذق طعم النوم منذ تعرضها لهذا المصاب ،وطلبت من
فاتن أن تتعاون معي في العالج بالتزام الطمأنينة وعدم الخوف ،وأخبرتها
بأنها ستشفى بإذن اهلل تعالى خالل أسبوعين ،فأجهشت بالبكاء ،وقد قمت
بتضميدها الضماد األول ،وفي اليوم الثاني عندما قدم أهلها بها شاهدت
وجوههم مستبشرة ولما دخلوا بها ووضعوها ونظرت إليها سألتها عن
حالها فأغمضت عينيها وكأنها تخبرني أنها اليوم أفضل حاالً من األمس،
وعند حضورها إلجراء الضماد الرابع نزلت لوحدها من السيارة بدون
ودخلت ماشية دون مساعدة أحد ،وقد ظهرت على وجهها ابتسامة
الرضا،وراحت Eفاتن تتحسن يوماً بعد يوم ،وبعد ثالثة عشر يوماً كنت
أزيل عن جسدها الضماد األخير دون أن نضع آخر مكانه ،لقد شفيت وعادت
إلى بلدها ،وهناك لم يصدق أحد من أهل بلدها أنها عادت معافاة.
فاطمة:
فاطمة تلك الفتاة اليافعة التي لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها
كانت تساعد أمها في الطبخ؛فانقلبت عليها القدر عليها لتسبح في بركة
من مرق الدجاج الذي كان يغلي ،فأصبحت ال يمكن أن تفرقها عن الدجاج
الذي كان في القدر ،على كل حال قرر أهلها أن يأتوا بها إلي.
13
كشفت عن اإلصابة ،لقد كانت قوية جداً ،ومساحة الحروق Eكبيرة
بحيث كانت تغطي حوالي %30من جسمها ،قمت بإجراء اإلسعافات
األولية ،وكنت في األيام األولى أستعين بأحد األطباء لمراقبة حالتها
العامة ليقوم بإعطائها األمصال الالزمة لتعويض السوائل في الجسم،
وبقيت تعتمد على السوائل لمدة يومين ،وكانت تتألم على رغم تناولها
مسكنات لأللم ،وخالل عملية التضميد كنت أحاول التخفيف عنها بشتى
أنواع الحديث ،وكانت تضحك تارة وتبكي تارة أخرى ،بحيث كان
الضحك يمتزج بالبكاء ،وكانت حالتها تتحسن يوماً بعد يوم حتى تم لها
الشفاء بإذن اهلل تعالى ،وقد استغرق عالجها ثالثة وعشرين يوماً ،وقد
رجتني كثيراً بأن أزورهم Eبعد انتهاء العالج.
قصة العم خضر:
يبلغ العم خضر الخامسة والسبعين من عمره ،وفي أثناء دخوله إلى
الحمام في إحدى المرات ،وبعد وضع إناء مملوء بالماء على موقد الغاز،
وقيامه بإشعال الغاز ،ونظراً لضعف نظره ،فلم يالحظ العم خضر أن
الموقد لم يشتعل ،بل ظل الغاز يخرج منه دون أن يكون مشتعالً ،وخرج
العم خضر لفترة من الزمن ،وعاد ثانية ولمس الماء فوجد بارداً ،وحاول
إشعال الغاز ،وبمجرد أن أشعل عود الثقاب انفجر الغاز المتسرب الذي مأل
المكان،وفي Eلحظة واحدة وجد نفسه في وسط النيران ،وقد أُصيب
بحروق بليغة خاصة في منطقة الفخذين ،وبنتيجة االرتباك والحيرة
كشط الجلد المحروق بشكل كامل ،وجاء إلي أحد أوالده واستدعاني،
فأخذت معي الدواء ،وذهبت إلى بيت العم خضر ،وهناك وجدته يرقد على
فراشه وهو يتألم ويندب حظه ،فسلمت عليه وقلت له :الحمد هلل يا عم
خضر على سالمتك ،فانهال علي بسيل من الدعوات بالتوفيق ،وراح يغني
شيئاً من العتابا الحزينة يتذكر بها أيام الشباب ،ويبكي بكاء مراً ،فتأثرت
بما أراه وقمت بتضميده ،وتوقعت أن العم خضر سيحتاج إلى أكثر من
14
شهرين حتى يشفى تماماً نظراً لكبر سنه ،وخانتني التوقعات هذه المرة،
إذا أنه تماثل للشفاء بعد ثالثة عشر يوماً فقط ،حيث كان يقف على
رجليه بعدها وليس فيهما أي أثر للحروق E،وقد زارني العم خضر بعد
شفائه بعدة أيام يقدم لي الشكر على ما قدمته له من عالج واهتمام ،وقال
لي :سلمت يداك وإنني أعتبرك واحداً من أوالدي ،وقلت له :سلمت يا عم
خضر ،ولكن لي عندك طلب ،وهو ان تغني لي شيئاً من غنائك ،فلم يتردد
وغنى لي غناء بسيطاً وجميالً شعرت من خالله بدفء يتسرب إلى كياني
ويحلق بي بعيداً حيث السماء الصافية ،والحلم الواسع ،واألماني العذبة.
قصة أم أحمد:
أم أحمد عندها تسع بنات بأعمار مختلفة ،تعرضت أصغرهن روان
لحروق بالغة ،حيث وقعت Eفي وعاء حليب يغلي،وكانت روان توءم مع
أخت لها ال تكاد تفرق بينهما حيث تشبهان بعضهما بعضاً ،وقد جاءت أم
أحمد تحمل ابنتها ،وكان بكاؤها يمتزج ببكاء روان الصغيرة ،وكانت
إصابتها خطيرة ويخشى من حدوث مضاعفات ،فهي بحاجة إلى مراقبة في
المستشفى ،خوفاً من نفاذ الحرق إلى داخل جسم الطفلة ،فقلت لألم :هذه
الطفلة بحاجة إلى مستشفى حالياً لوضعها تحت المراقبة،فخذيها بسرعة
إلى المستشفى وال تتأخري دقيقة واحدة ،فصاحت أم أحمد وهي تبكي:
معنى ذلك أن إصابتها خطيرة ومميتة ،فقلت لها :إنها قد تحتاج إلى
أمصال لتعويض السوائل ،فذهبت بها على المستشفى وبقيت الطفلة تحت
المراقبة لمدة خمسة أيام ،خرجت بعدها وجاءت بها أمها وأخبرتني أنها
أدخلتها المستشفى ،وها هي اآلن بين يدي،فأفهمتها بأن مراجعة المستشفى
أمر ضروري Eفي مثل هذه الحالة في بداية العالج حتى نتجنب المضاعفات
التي يمكن أن تحدث،وحتى Eيزول الخطر وكل ذلك من أجل سالمة
الطفلة المصابة.
15
باشرت بعالج الطفلة روان ،وكانت الطفلة الشقراء ذات العينين
الزرقاوين ذات مظهر رزين ،ومتجاوبة للعالج وقد كتب اهلل تعالى لها
الشفاء في مدة عشرة أيام.
ولكن شر البلية ما يضحك فبعد أقل من شهر من شفاء روان جاءت
أم أحمد مسرعة تحمل طفلتها بين ذراعيها ،ولما رأيتها أصابتني الدهشة
وسألت أم أحمد :ماذا هل أصيب روان بحروق مرة ثانية؟ ،فانخرطت أم
أحمد بالبكاء وقالت E:إن هذه ليست روان هذه أختها التوءم بتول ،لقد
كانت تشبه أختها إلى حد بعيد ،وطمأنت أم أحمد وبدأنا رحلة العالج التي
دامت أحد عشر يوماً شفيت بتول بعدها تماماً.
انتظروا قليالً لم ننته بعد من قصة أم أحمد ،فبعد شهر ونصف من
شفاء بتول عادت أم أحمد مرة ثالثة تحمل طفلة ،وهي Eأكبر من روان،
وقد تعرضت Eلحروق بالغة غطت حوالي %20من مساحة جسمها،ولما
سألت أم أحمد :لمن هذه الطفلة؟ انفجرت بالبكاء وأخذت تندب حظها
وقالت :هي ابنتي ،وبشكل عفوي قلت ألم أحمد :أال تخافين اهلل هذا هو
اإلهمال بعينه ،هل من المعقول أن تتعرض ثالث بنات لحروق Eفي أقل من
ثالثة أشهر؟ فأخذت تبكي وتقول لي :أرجوك عالج هذه الطفلة فال أريد
أن اذهب بها إلى المستشفى ،فقلت لها :سأعالجها ولكن بشرط أن يتولى
أحد األطباء اإلشراف على مراقبة حالتها العامة ،وأن تأخذ الدواء بانتظام،
وتكثر Eمن تناول السوائل بكميات كافية ،فوافقت أم أحمد على هذا
الشرط ،وبدأت رحلة عالج نور ،وقد تماثلت للشفاء بعد أسبوعين من
العالج ،حيث لم يبق هناك أي أثر للحروق في جسمها.
قصة الشاب غالب:
غالب شاب في الثالثة والعشرين Eمن عمره ،يعمل سائقاً لسيارة شحن
يملكها والده ،وكانت السيارة تحمل عدة رؤوس من البقر لتنقلها من
محافظة إلى أخرى ،وفي مدخل المدينة التي ينقل إليها هذه األبقار فوجئ
16
بسيارة تمر أمامه فجأة ،فارتبك وحاول تفادي االصطدام بها ،فأخذ يدير
المقود يميناً وشماالً فتأرجحت سيارته وانقلبت ،واشتعلت النيران بكبينة
السائق وكان ما يزال في داخلها ،وكان قد فقد وعيه عند انقالبها،وقد
أُخرج من السيارة بعد محاوالت مضنية وقد أُصيب بحروق Eمن الدرجة
الثالثة نٌقل على إثرها إلى المستشفى ،وأُجريت له اإلسعافات األولية
الالزمة ،وعندما علم أهل الشاب غالب بالحادث ذهبوا إلى المستشفى الذي
يعالج فيه ،وأخرجوه ونقلوه إلى بيت أهله في محافظة حمص.
حضر والده إليّ وطلب مني مرافقته لالطالع على حالة غالب،
فذهبت إليه وكان يرقد في فراشه وحوله عدد كبير من الزائرين الذين
يعودونه ،وكان ما يزال يعاني من أثر الصدمة نتيجة الحادث فجلست
بقربه دون أن أحادثه لعدم تمكنه من الكالم ،ذلك أنه أصيب بجرح في
لسانه تمت خياطته؛ ومنعه ذلك من التكلم ،قمت بمعاينة أمكنة الحروق،
على الرغم من كونها مغطاة بالشاش ،فوجدت أن هذه الحروق Eلم تصب –
وهلل الحمد -أماكن حساسة في الجسم ،وكانت الحروق Eمن درجات عالية،
وقد غطت مساحة كبيرة من الجسم إال أنها كلها في أماكن أمينة ،وقد
أعلمت والده بذلك ،وأنا أغادر بيت المصاب.
وبعد خروجي Eمن بيت المصاب حضر بعض أقاربه وأعلموا والد
غالب أنهم يريدون نقله إلى مشفى خاص بدمشق ألن حالته ال تطمن ،فلم
يوافق على طلبهم ،وشكرهم على اهتمامهم وأعلمهم أنه قرر معالجته في
البيت ،وقد أنكروا أن أقوم بمعالجته دون وجود مستشفى ،وقد رد والده
عليهم بأنه يعرفني جيداً وقد عالجت في مرة سابقة شقيق المصاب
األكبر؛ وكان قد أُصيب بحروق Eفي وجهه بحروق Eبالغة ،وها هو أخوه،
هل ترون في وجهه أي أثر للحروق؟.
وفي اليوم التالي حضر والد غالب ،وذهبت معه إلجراء الضماد األول،
وقد أخبرني بما دار بينه وبين بعض أقاربه في اليوم السابق ،وفي اليوم
17
الحادي والعشرين من اإلصابة نزعت عنه الضماد األخير ،وقد شفي تماماً،
وال تسل عن فرحة األهل التي ال تعادلها إال فرحتي بشفاء غالب.
ما هي قصة حال؟
حال طفلة شرسة كهرة برية تغرس مخالبها في كل شيء ،ولكن:
من يعاشر الهر عليه أن يتحمل ( خرمشة أظافره).
هي طفلة في الخامسة من عمرها ،دخلت المطبخ بدون علم أمها
لتسكب صحناً من الرز بحليب ،الذي ما زال على الموقد؛ وقد أوشك على
النضج ،غير أن حرارة القدر الذي ما زال على النار ،إضافة إلى بخار
الحليب المتصاعد والذي كان يحيط بها من كل جانب ،وقد أدخلت
الملعقة في القدر فشعرت بحرارة قوية فسحبت يدها بسرعة ،فانسحبت
القدر معها فانسكب الرز بحليب على رجلها ،فأصيبت بحروق Eبالغة ،نفذت
إلى داخل الجلد ،وقد أسرع أهلها بها إليّ ،والحظت أن حال شرسة جداً،
وال تتعاون معي في العالج ،إضافة إلى قلة صبرها على تحمل األلم،إلى
درجة أنه إذا هبت نسمة هواء باردة على مكان الحرق فإنها تقيم الدنيا
وتقعدها.
بدأت بعالج حال ،وكنت أعاني صعوبة في تغيير الضماد ،حتى أن
والديها كان يمسكان بها بإحكام في كل مرة ،وكانت كثيراً ما تستغل
الفرصة لتركلني على وجهي أو صدري برجلها الثانية السليمة ،وحينما
أنتهي من الضماد تسكت فجأة وكأن شيئاً لم يكن ،إن هذا األمر غريب،
إنني واثق من أنها تتألم ،ولكن لماذا تسكت بهذه السرعة بعد انتهاء
الضماد،لقد كان خوفها أكبر مما يستوجبه األلم الذي يمكن أن تحس به،
وقد كنت أقدم لها كوبين أو ثالثة من الشاي ،وكوباً من الماء ألنها
بحاجة إلى تناول كثير من السوائل لتعويض ما تفقده منها من خالل
مكان اإلصابة ،وعلى رغم شراسة حال فقد كانت تعتذر عما يبدر منها بعد
18
انتهاء جلسة الضماد من ركالت الجزاء التي توجهها إلي ،والتي تتمكن من
تسجيل أهداف لم يستطع حارس المرمى -الذي هو أنا -من صدها.
وكانت أحياناً تقوم بخطف المناديل الورقية التي أستعملها
لتجفيف المكان المصاب بعد تعقيمه ،حيث تخطفها بسرعة البرق
وتحتفظ بها كي ال ألمس مكان الحرق ،فأتناول غيرها فتخطفه مرة
أخرى من يدي ،وهكذا حتى انتهاء عملية الضماد ،وكنت على رغم هذه
المعاناة أتعامل مع تلك الطفلة بكثير من الهدوء والصبر ،وكانت حال
تتماثل للشفاء يوماً بعد يوم حتى شفيت تماماً خالل شهر ،أتقنت خاللها
رمي ضربات الجزاء نحو الهدف ،ومع ذلك أصبحنا صديقين يجمعنا
ملعب اإلنسان وإنسانية اإلنسان.
-هل صادفت بعض المتاعب في خالل هذه الرحلة الطويلة؟
* -نعم ال يخلو األمر من بعض ذلك فممارسة المهنة يلزمها شهادة،
فعلى رغم كل ما اكتسبته من خبرة في عالج الحروق ،وعلى رغم
تركيبة الدواء التي ال تترك أي أثر لندوب أو غيرها من آثار الحروقE
بعد شفائها ،وعلى رغم الحاالت الكثيرة التي عالجتها ،فإن حيازة شهادة
لممارسة هذه المهنة ضرورية جداً ،فهذه الشهادة تجعل المرضى وذويهم
يصدق كل ما يقوله حاملها ولو كان في قوله شيء من المغالطة أحياناً،
التي ال تظهر أحياناً إال بعد فوات األوان.
ومما يؤيد ما أذهب إليه قصة المريضة سحر:
سحر صبية في مقتبل العمر أُصيبت بحروق Eفي القدمين نتيجة
انفجار أنبوب الغاز ،وبسبب شدة الحرارة التي تعرض لها قدما هذه الصبية
فقد أثرت على أعصابها ،وقد عالجت اإلصابة إلى أن شُفيت تماماً ،ومع
ذلك فإنها لم تكن قادرة على المشي بشكل طبيعي ،وأنا أعرف السبب
تماماً ،وكنت أشرحه لألهل ،فكانوا يظنون أنني أبرر لهم حالة عجزت عن
السيطرة عليها .وكنت أقول لهم بأن أعصاب سحر تأثرت إلى حد كبير
19
بالحرارة العالية التي تعرضت لها قدما الصبية ،وإنها سوف تعود إلى
المشي بشكل طبيعي ولكن ذلك يتطلب وقتاً ،وال خوف عليها.
وعلى رغم هذا الشرح الوافي كان أهل سحر يشكون فيما أخبرهم
به ،وكنت أالحظ نظرات عدم الثقة ترتسم على وجوههم ،وصرت أفكر
في كيفية حل هذه المشكلة ،لتخليص نفسي من شيء ليس لي عالقة به،
فطلبت من والد الصبية بعد أن انتهى العالج إحضار الطبيب لينظر في
أمرها ألن دوري قد انتهى ،فوافق والدها على ذلك ،وتركتهم وعدت إلى
البيت ،وبعد ساعة دق جرس الهاتف ليبلغني أهل سحر بأنهم قد أحضروا
الطبيب ،وطلبوا م ني الحضور ،فذهبت ،وعندما دخلت رحبوا بي كثيراً
على غير العادة ،وقدموا لي القهوة ،والحظت وأنا أرشف فنجان القهوة بأن
نظرات عدم الثقة قد زالت ،فأخبروني بان الطبيب يبلغني تحياته ،ويشكر
لي جهودي في عالج سحر ،وأنه اخبرهم بأن سبب عدم مشيها هو تأثر
األعصاب بالحرارة العالية التي نفذت في الجلد إلى أعماق كبيرة ،وكما
أخبرتهم تماماً ،فتنفست الصعداء وخرجت من بيتهم مسروراً جداً ،وقد
عادت سحر إلى المشي فيما بعد.
-نسمع كثيراً عن حاالت ال يمكن السيطرة عليها ،خاصة الحروق الناجمة
عن المواد الكيماوية وخاصة في قنابل الحروب ،وما حدث مؤخراً في لبنان اكبر
دليل ،فما رأيك؟
* -كل حاالت الحروق يمكن السيطرة عليها ،وعالجها وشفاؤها
مهما كانت درجتها ،حتى تلك التي تحدث بسبب حروق Eمواد كيماوية،
وال يوجد أي نوع منها يستعصي Eعلى العالج ،أقول لبك ذلك بفعل
تجربتي التي عايشتها.
-ال شك أن هناك كثيراً من األخطاء التي ترتكب عند اإلصابة بالحروق
نتيجة الجهل بها ،فهل بإمكانك إفادتنا في هذا الجانب؟
*-نعم ،هناك أخطاء كثيرة وكبيرة يقع فيها المصاب أو أهله إن
كان طفالً ،وهي أخطاء تعقد عملية المعالجة وتؤخر الشفاء ،فالناس
يتصرفون بأنواع خاطئة من السلوك عند اإلصابة بالحروق ،فقد يعمد
20
بعضهم إلى دهن مكان اإلصابة بمعجون أسنان أحياناً ،أو برب
البندورة( معجون الطماطم) ،أو باللبن الرائب ،اعتقاداً منهم أنها تخفف
من الشعور باأللم E،وهو تصرف خاطئ تماماً.
-ب َم تنصح الناس عند وقوع أية إصابة نتيجة حدوث حروق من درجة ما؟
* -إذا تعرض أحد األشخاص إلى حروق Eبالنار ،أو بأي سائل حار أو
مواد كيماوية فيجب اإلسراع في صب الماء على المكان المصاب كعملية
إسعافية سريعة وآنية ،لحظة حدوث اإلصابة ،ثم ننزع الثياب عن مكان
اإلصابة بلطف حتى ال نتسبب بكشط الجلد ،ثم يترك األمر بعد ذلك
للطبيب.
-كيف يمكن تجنب حدوث حريق ما؟
*-إن األشياء التي تسبب اإلصابة بالحروق Eكثيرة ،منها الغاز ،لذلك
يجب تركيب منظم للغاز في كل أسطوانة ليصل إلى الموقد بشكل
صحيح ،والتأكد من سالمة األنبوب الذي يصل أسطوانة الغاز بالموقد.
-إذا دخلنا إلى المطبخ أو أي مكان ووصلت إلى أنوفنا رائحة الغاز
يجب فنح النوافذ كلها ،وتجنب إشعال مفاتيح الكهرباء ألن شرارتها تصل
إلى الغاز فيشتعل.
-إبعاد األطفال عن المطبخ عند انشغال األم بإعداد الطعام حتى ال
تنسكب محتوياته على أجسادهم.
-مراقبة األطفال بعدم تركهم يعبثون بمفاتيح الكهرباء ومقابسها
ألنها ال تسبب الحروق Eفقط بل قد تصعقهم.
-إبعاد األطفال عن اللعب بأعواد الثقاب وإشعال الورق.
-عدم لعب األطفال بالمفرقعات ألنها خطرة وتسبب Eالحروق
واإلصابات.
-إذا حاولنا إطفاء حريق ناجم عن مواد بترولية يجب تجنب صب
الماء على النار ألن األكسجين الموجود في الماء يساعد على االشتعال.
21
-عدم السباحة في البحر تحت أشعة الشمس الساطعة لساعات طويلة؛
خاصة عند الظهيرة ألن حرارة الشمس والملوحة والرطوبة العالية تسبب
الحروق.
-عدم الوقوف تحت أشعة الشمس ألنها أيضاً تسبب الحروق Eفي
الوجه واألعضاء المكشوفة من الجسم.
-عند تعرض أحد األشخاص لحروق من درجة عالية جم عنه
مشاكل كبيرة لألعضاء الداخلية في الجسم.
صور لبعض الحاالت الصعبة التي تمت معالجتها:
22
بعد العالج قبل العالج
قبل العالج
23