Professional Documents
Culture Documents
الحب
ٍ
طرف ثالث من
رواية
الطبعة الثالثة
ياسين سليمان
1
ٍ
طرف ثالث الحب من
2
ٍ
طرف ثالث الحب من
إهداء
إىل أمي التي أرضعتها عرش سنوات من البكاء ،وصلّت من أجيل كل
أوقات االنتظار.
فقفزت من
ُ إىل حلمي الكسيح الذي جعلني أميش عىل كريس متح ِّرك،
وكرست قدمي!.
ُ قطار ِه املشلولِ
3
ٍ
طرف ثالث الحب من
4
ٍ
طرف ثالث الحب من
ِّ
مقدمة
كتبت إذ كتبت ،ولكن العشق فعل.وما ُ
لو كنت أعرف أن الكتابة قدري ،لعملت بائعاً للورد يف شاطئٍ يرتاده العشاق.
تحسسني رمبا مل أرحل بعد .رمبا مل أزل عالقاً بثيابك كام يعلق العطر يف ذاكر ِة ّ
العناق .القبلة األوىل ال تتسلّل من غربالِ الذاكرة ،وال تشيخ مطلقاً ،ستظل كامنة
تحسس جيبي وبطاقايت الربيدية ،سفري عىل مرمى شفتني حزينتني أدمنتا االنتظارّ .
باألمس النبيل.
ِ البعيد عنك ال يعني أنني قد تخلّيت عن قواريرك الفارغة املعبئة
صيف فاجأته الشمس بغريِ نهار .أتسكّع وسط فوضاي وأتعرث دافئاً كنت كشهق ِة ٍ
بخطابات قدمية وزجاجات فارغة مل تكن مصادفة أنها بقيت الشاهد الوحيد عىل ٍ
تو ّرطي فيك ذات عناق .أضحكني مكْر قلبي الذي كان يحييك يل من دقات ِه آالف
تدق لك طبول شوقها .وكأنني مل أعلم بعد أنني قد استغرقت ليك النبضات التي ُّ
البلنيس:
ّ ألتقيك حيا ًة كاملة .ويح قلبي ،وكأنه ال يزال يصدّ ق ما قاله ابن الدقاق
تبسم الثغر عن أوصافكم فغدا ّ
من طيب ذكركم نرشاً ،فأحيانا
فمن هنا عشقناكم ومل نركم
واألذن تعشق قبل العني أحياناً
5
ٍ
طرف ثالث الحب من
6
ٍ
طرف ثالث الحب من
الفصل األول
كنت أو ّد أن أش ّيد متثاالً لصم ِتها األبيض ..بيد أين أكره حيادية هذا اللونلكم ُ
بحروف صقيعي ِة املذاق! .وأنا عيل شفا درج ٍة مئوي ٍة من
ٍ الذي يرثث ُر يف ذاكر ِة املكان
ِ
بسياط الكالم أربعني يل حدّ النهار ،وتجلدين التجم ِد صمتاً ،كنت أحتاج أن تقيم ع ّ
درجة فوق الصفر! فلم أظفر إال بعنا ِد أنثي أضنتها منايف النفس القصية التي مل
يبلغها خيال املسافرين إىل الالعودة ،وأثقل كاهلها حمل حقائب السفر املتواطئة
مع أحزانها .كل يشء يدعو إىل الريب ِة والحذر ،وحد ُه السكون يغلّف ديكور املكان،
تتسكع ـ يف هذا الفضا ِء ـ سوى بضع ِة سحائب دخانٍ ،وفوىض وأبواقِ س ّيار ٍ
ات ُ فال
ساخط ٍة عىل هذا الزحام الذي يتناسل منه املزيد من الزحام ،وبعض نظراتها التي
ته ِّر ُب ما بني سطورها مفردات الشجن الوريف.
فطفقت أتساءل« :ترى من هو املسئول عن اغتيالِ الكلامت؟ .أأنا الذي حاولت
ات أنابيب كنت أخىش مراراً إيجاد صيغة رشعية مليال ِد الكالم؟ وتحبو حرويف بعبار ِ
تضل طريقها إىل سوقِ الكالم ويجرتّها السوقة وفاقدو الذوق األديب؟؟ أم هي أن َُ
التي مترتست وراء صمتها الفادح ود ّججت صدّ ها بحقلٍ من األلغام؟ هل يُجديني
مهزوم حتي مت ُّر سحابة هذه اللحظات املفخخة بالصمت ومن ٍ أن أتخندق كقائ ٍد
ثم أطمع يف جلسة مفاوضات أعلن فيها انتصاري؟؟».
7
ٍ
طرف ثالث الحب من
لكم أنا ضائع بني االعتبارات األنثوية الجامحة التي تحافظ عيل تقاليدها أحيانا
وتقليديتها يف أحايني أخرى! .وبُعيد انتباهة ،وجدتني أمللم يف طاوالت هذا املرسح
نصف املأساوي ،وأنهي العرض قائالً وأنا أنقد بائع الح ّمص الج ّوال ماله:
«أقرتح أن نغادر هذا املكان! سأوصلك يف طريقي!».
«هل ستحملني عىل ذراعيك؟؟؟».
قدمي!!.
ّ أجابت يف سخرية تعكس حالة كوين ال أملك إال
بك من جديد!». اعي ،ولكن سأحبل ِ «ال لن أحملك عىل ذر ّ
أجبتها بسخري ٍة أكرث وأنا أحاول تب ِّني هذه اللحظة اليتيمة ،وعىل األقل أستجدي
آنست ناراً أطل
ُ عينيها حفنة عشق أسدُّ به رمق مجاعتي العاطفية! ،ومع ذلك
قبس من جذوتها خلف تلك اآلهة التي كادت تحرقنا ُمذ كنا يف مجلسنا ذاك .فهل ٌ
ترجلت تلك األنثى من نزوايت وغادرت القطيع لتتمتع ببعض الحكم الذايت؟ ،كنت
هدى ،وال سبيل إىل العودة ملينا ٍء مفرتض ،وال مناص أمخ ُر يف عباب األسئلة بال ً
كنت أو ُّد أن
من اإلبحار باتجاه اآلمال املكدّ سة بالغرق السعيد .يف واقعِ األمر ُ
تكونَ هدنة الصمت هذه ،مبثاب ِة فرت ٍة انتقالي ٍة تنتهي بعدها الدميقراطية املفصلة
عىل الطريق ِة العربي ِة ،تلك البذلة الضيقة التي كنت أرتديها كالبلها ِء عند سامعي
للخطب الحامسية الفارغة ،ورسعان ما يتحرك فصيل أو ميليشيا تقوم بعسكر ِة ِ
بخطى متثاقلة.
ً عواطفي ألعو ُد مجرباً تحت االنتداب األنثوي ،كدأيب دامئاً .مضت
مرتدّدة بني الرحيل الوشيك ،وبني االستسالم لرغبتي التي ال أعلم مدى جدّ يتها.
وكانت الطرق ال تتم ّتع بص ٍرب ٍ
كاف.
ات مستجدية، راقبتها متف ّحصاً وهي تشري إىل عرب ِة تاكيس كان سائقها يرمقنا بنظر ٍ
8
ٍ
طرف ثالث الحب من
9
ٍ
طرف ثالث الحب من
كنت أحتيس قهوة ذلك املساء وأنا أجرد مسبحة الذاكرة الجريحة ،بينام رائحة
الدخان والشيشة تعيد ترتيب فوىض املزاج وتستدعي الزمن الجميل ،برغم ما
علق بحوائطي من تع ُّه ٍر ووجعٍ وآثام ،حوائطي التي اتّسخت وكأنها تعرضت ملرو ِر
قافل ِة من تالمي ِذ مدرس ِة مراهقني ،فتب ّولوا عليها وشخبطوا وكتبوا مراسيلهم لحبيب ٍة
كنتقد متر بالجوار يوماً ما! ،أسلمت روزنامة أيامي لالحتامالت الخاطئة ،كثريا ُ
أخشاها بوجلٍ معتاد ،وكثريا ما أحلِّق حولها كفراش ٍة غبية ال تخىش االحرتاق وهي
تهم بتقبيل شمع ٍة يف مسا ٍء صيفي جامح! .أدرك متاماً أنني كنت أفكر يف الهروب ّ
تتلصص عليك من غربتي الذات ّية إن مل أكن قد فعلت! ،ما أشدّ ُمكر الذاكرة حني ّ
آت يسكنه ماضيك .وما أغباك يا «أنا» لو كنت وأنت متعن الركض هارعاً نحو ٍ
أحاول أن أته ّرب منها وأدري أنني لن أفلح أبداً.
ُ
وأرسق من تجعلني هذه الذاكرة املراوغة أفكر يف أن أحييك من البح ِر أجنحة،
مجداف ومجداف! ال أخىش دوار البحر وأنا أطري!! وال تعرتف طائريت ٍ السام ِء ألف
باألمواجِ وال أجد لنرش ِة األحوالِ الجوي ِة موقعاً يف خرائطي ،عىل كيفي أحيا ،وعىل
كيفي أموت ،وعىل كيفي...
وتصفق أرجل الحضور
ُ شهيق أم كلثوم،
ِ ينزف املقهى العتيق طرباً وسلطن ًة عىل
ُ
وهي تنقر البالط املتعب يف نشو ٍة! .كان رواد املقهى متعددي السحنات واألفكار
واآلراء ،ال يجمعهم يشء إال رهق املدينة ،وهموم الحياة ،وحلمهم بعا ٍمل سعيد.
دعهم يف حلمهم يعمهون .جميعهم يرسفون يف الحلم واخرتاع األكاذيب حول
حبيباتهم القادمات ولياليهم الساخنة ،ولكن عندما تطل الحقيقة بوجهها السافر،
يهربون منها ويضعون أحذيتهم املهرتئة يف أياديهم إمعاناً يف الفرار .ما أشدّ خوفنا
10
ٍ
طرف ثالث الحب من
من الحقيقة! .مل أجد مربراً لهذه القسوة ومل أتعب نفيس يف إيجاد املنافذ التي
تطلق رساح األكسجني القابع خلف الجدار األسمنتي ألنفايس .الغريب يف األمر
أننا نشعر باالختناق وال نفكر أبداً يف إعادة توصيل أجهزة التنفس لصدورنا املليئة
بالثقوب .نتصدّع بغراب ٍة مثل الطني الذي يخلفه فيضان النهر العظيم .وال وال وال.
بنعم واحدة؟؟.
ملاذا ال نستطيع تس ّور حيطان كل هذه الالءات الشاهقة ٍ
قواف كنت أرددها حني يدركني شهريار الهزيع األخري تذكرت حني رشو ٍد مثة ٍ
ُ
من الشوق! ،فأمد أنامل شعري لفتحِ الصندوقِ األسو ِد الذي أبحث فيه عن شتات
أنفايس بعد االنفجار ،وأستج ِدي كرم طيفها املُقترِ ،الذي ال يجود إال مبقدار .وقد
ال ...وكأن الشعر هو رقعة الدعوة املخاتلة التي تصلح لكل املناسبات ،نردّده وكأننا
نزور مقربة .يف كل األحوال نحمل أزهارنا .تار ًة نطلب الرحمة واملغفرة ،وأخرى
نتودّد متوسلني من أجل قبلة ،عناق ،ليل ٌة دموي ٌة عىل رسير .ويف النهاية ال ننتبه أن
خطواتنا قد داست عىل وجه زهر ٍة كانت قرباناً قبل قليل!.
«يا قميصاً ُقدَّ من شوقٍ
كل الرشايني وأي ٍد تُقطِّع يف ِّ
ترفع للسام ِء رجا ِءها
حني ُ
نق زهرة ياسمني أو تُط ِّو َق ُع َ
آم َني يا تلك التي هي كعبة
آن مل تُفرض صالة
نركع ساجِ دين».ولكن لألزاه ِر ُ
بدأ العامل يف ذلك املقهى يتربّمون من وجودي ،فأنا مل أزل جالساً يف مكاين إىل
11
ٍ
طرف ثالث الحب من
هذا الوقت املتأخر نسبياً .لقد فرغوا لت ّوهم من أعامل النظافة وترتيب الكرايس
واملناضد والطاوالت .فقد تجاوزت الساعة الرابعة صباحاً بتوقيت الحزن ،توقيت
التناقض والتضاد ،أوبة السكارى والسهارى الذين هم عن حياتهم وزوجاتهم
ساهون! ،واملصلِّ َني الذين يفرك آذانهم هدير املآذن وهم يحلمون بالرص ِ
اط
اإلثم والفجو ِر حتى وجدتني دون ِ
ِجينات ِ املستقيم! .فغادرت املقهى مدفوعاً ب
ِ
أقصد يف شارعِ الهرم الشهري ،أست ِقل ذلك التاكيس األكرث هرماً ممنياً نفيس بلقمة
سائغة من السيقان البرشية! .وبني رفع األيادي والسيقان ُولِدَ تناقض اللحظة!.
فلم أتعب كثرياً فقد كانت الطرائد متوفّرة كام توقعت .فقد كان ذلك موعد إغالق
املراقص واملالهي ،وما عليك إال أن تكمن مبقرب ٍة من هذه األماكن حتي تظفر
بطريد ٍة ال تكلفك الكثري ،فالسيقان باهظة الكلفة ،ستكون يف هذه اللحظات ـ
آمنات مطمئنات مبا تيسرّ لها من عهر.
ٌ ترتفع يف عليائها ـ
وهكذا وجدتني أتقاسم رسير غرفتي الكئيبة مع شبحِ أنثي اليهمها يف حطام
هذه الدنيا إال االهتامم بثقافة «السيليكون» وزيف الرساويل الضيقة ،لحد التواطؤ
مع محمد هنيدي وهو يرصخ يف فلم املخرج الشهري سعيد حامد {صعيدي يف
الجامعة األمريكية} صارخاً:
«حدِّ يوسع البناطلني الحرميي دي».
فأكتشف أنني مازلت أنا! ،بنفس التفاصيل ونفس املالمح وذات املربع.
{الخيانة} ت ُرى من أخون؟ .ال أستطيع أن أجيب عىل هذا السؤال العابث .اآلن عىل
تترشنق أفكاري وتتناسل رؤاي مبجونٍ عند مذهب {ماركيوس} وحديثه عن ُ األقل.
القهر الجنيس حني قال:
12
ٍ
طرف ثالث الحب من
«إن القهر الجنيس الذي مارسه اإلنسان عىل نفسه يشكل عقبة يف طريق
اإلنتاجية!»
أتفاحل وأمدُّ ساعات دوام خدمتي الجنسية بضع ٍة من السيقانَِ إذن الضري أن
املرشعة ُعهراً! فأنا مهام علوت ال أزيد عىل أن أكون مج ّرد مواطن عريب ـ كام يُقال
ـ تتأرجح مك ِّوناته الفكرية حسب قدراته الجنسية!! فتبقّى الفحولة ِ
بنمطها العريب
الذات املسجون ِة خلف حوائط القهر والكبت والرجعية!.
هي محاولة لالنعتاقِ من ِ
كدت أرصخ محت ّجاً:
«ملاذا نرتك رساويلنا هي التي تتخذ قراراتنا املهمة؟ .بل ملاذا تتدحرج معتقداتنا
من قمم رءوسنا منحدرة إىل مجاريرنا املوبوءة بالعفن والرصاصري منذ فجر
التاريخ؟».
ورويداً رويداً غافلت النعاس ليك أظفر بها يف الحلم ولكنها مل تفعل .وانتهرتني
الذاكرة يف قسوة وهي تجرجر معها قاطرة من التساؤالت وعالمات االستفهام!،
يل ذاكريت يف استباق واسرتجاع بكل قساوة املطارق ...ترصخُ ...تلعنُ، تتآمر ع ّ
تسب ،وتستدعي الشخوص الذين نامت عىل فراشهم وحلموا بها ،وحملوا منها، ُّ
وتقاسموا معها ِكرسة املعاناة يف بالد املليون {ويل} مربع! .الفقر واألحالم العريضة
التي تتناقص وتتضاءل كلام أضفنا رقام جديدا يف شهادات ميالدنا! .ألن األرض التي
تبيح مامرسة الدعارة السياسية من أجل سواد عيون أوراق أمريكية أحيا عليها ُ
خرضاء الطعم واللون واملذاق! .يفضون بها بكّارة أحالمنا ويرفعون الرايات الحمر
باسم وثيق ِة الرشف! ،فيته ّتك النسيج االجتامعي ونُركل يف القفا،
يف مباين الربملان ِ
للص ملتحٍ عىل جبهته نرتاقص مع أنغام أوراق البنكنوت ،ونقدم رجولتنا قرباناً ٍ
13
ٍ
طرف ثالث الحب من
عالمة صالة اصطناعي ٍة ،يباغت بها اإلله من حيث ال يدري وال يحتسب! .أتص ّنع
ٍ
ومتاهات تجرجرين نحوها ٍ
ملسالك أتحايل وأُلولِ ُب تحاشياً
ُ االلتفاف والهروب،
نفسي ًة سوداء ،وتتسع دائرة الهموم وتنشطر إىل عدة دوائر قامتة! .فتلجأُ ذاكريت
طفل مجهول الهوية الفكرية. لحظتها إىل حقب ٍة شهدت عملية توليدي قيرصياًٌ ،
يف الواقع مل تكن يل هوية أصالً .ليتبناين العم إحسان بكل عبث ِه وجنون ِه بكل
محارب
ٍ للذات كعقيد ٍة صنعتها عصارة التجارب ،وبجسار ِة ِ احتشادات ِه وانتامءات ِه
يعرف كيف يقاتل يف هذه الحياة بال هُوادة .العم إحسان بروح الفنان ونبل
الفرسان ،ميارس السقوط وقوفاً! يعتيل ظهر املوجة ويجدِّ ف نحو الشالل برويّة!
يفر ُغ جوفهُ خشية امتالء يقوده إىل تخمة انفعاالت ،يلهب ظهرك بسياط الحقيقة
املجردة ،ومتتد أنامله يف أبوي ٍة عفوية ليمنح بعطف ِه مناديل متسح كثيف دمعك
بلطيف حنين ِه الوريف .كنت أنظر له كقلع ٍة منيع ٍة وجدتني بداخلها مصادفة .ال ِ
أستطيع مغادرتها .ويف الواقع مل أكن متشجعاً للقيام باألمر .فضالً عن أن الوجود
يف قلع ٍة كهذه ،كانت فكرة ذات إغرا ٍء ساحرٍ ،يستحق املغامرة.
كان العم إحسان رجال يعرف أنه رجل! .صادقته وعرفتهُ وخربتهُ عا َم تعملقت
همومي وتق َّذمت أحالمي رويداً رويداً ،عندما بدأ التطاول يف بنيان الهموم التي
منتم حينها ،ولكنه كان ينتمي إليه! .فقد األمل أحملها يف داخيل ،رشّ ح نفسه كال ٍ
ولكنه اليزال يبحث عنهُ ليحيا يف عا ٍمل حسب رؤيت ِه الخاصة وحسب تخطيطه.
آمنت بنب ّوت ِه واعتنقت دينهُ الخاص! ،عشقت سخريتهُ وجنونهُ وطريقتهُ يف الكالم
وتدخني التبغ عرفت أن كالنا يحمل نفس الجينات الوجودية العابثة ويتقاسم
نفس الحلم ويقف يف ذات املربع! .كل ذلك يف غمرة فوىض األوضاع التي ترتِّب
14
ٍ
طرف ثالث الحب من
شتاتنا والتفاصيل التي تؤسس لنفسية جامحة ال تعرف السكون وال الركون إىل
اآلمال الزائفة!.
يف ذلك الوقت كانت أم درمان تتجشأ من الشبع الريض ،إذ مل تكن لها حوجة يف
اإلرساف ،ومل يسبق لها التفكري يف االحتضار عىل طريقتها األخرية .كانت صابرة عىل
حرارة طقسها وجالفة شتائها ،وعىل تشقّق جلدها املتعب من طول االنتظار .كنت
برغم رداءة ذوقها يف اختيار األحذية والثياب ،إذ مل أعرف لها ملمحاً مميزاً أحبها ِ
سوي طريقتها الغريبة يف الوجود عىل ظهر هذا الكوكب .مل تعرف أم درمان ـ يف
حياتها ـ طريق ًة عرصي ًة لتصفيف شعرها ،ومع ذلك مل تكن مجربة عىل تغطيته ،وال
مجربة عىل إخفاء نهديها وال ساقيها ،وال يحزنون .يف الواقع مل يكن هناك أحد ينظر
مرتصدتني عىل اإلطالق ألماكن الحسن فيها ،تلك التي ال يعرفها لها بعينني ماكرتني ّ
سوى أهلها .ولكنها اآلن تصيل مجربة ،فال تتوضأ نكاي ًة يف جالديها!.
عىل مقرب ٍة من جرح النيل النازف ،يتمدّ د حي املوردة بهدو ٍء ضاجٍ وواثق .ثق
ستشم العراقة واألصالة التي تطلق روائحها النفاذة ليك تعانق األمكنة ،ثق ّ أنك
أنك ستقع يف غرامها برغم ابتسامتها الباهتة ،ثق أنك ...كنت أتسكع كدأيب،
تجولت قليالً يف سوق السمك ومل أجد فيه ما يغري بالبقاء .كانت املشاهد عادية
ومكررة لدرجة الرتابة .والذاكرة مل تفتأ تراودين عن نفيس .لعنة الله عىل الذاكرة
عندما تجهش يف البكاء عىل أطاللِ رؤي ٍة قامتة .كان الرشيط األسفلتي يتث ّنى حني
يغسل السوق رائحة أسامكه ،فينحدر عىل مهله متجهاً إىل قلب مدينة أم درمان،
مقبل عىل مدينة ،ولكنك قد ترتك لنفسك خيار أن تتوقع فال تكاد تعتقد أنك ٌ
مفاجأة سارة ،فلن تجدها عىل كل حال.
15
ٍ
طرف ثالث الحب من
توكلت عىل نوايا شوقي لحوا ٍر ما ،أتبضع فيه من تجربة الرجل األسطوري، ُ
أحج دكانتهُ الصغرية القابعة يف سوق السمك يف شارع املوردة .ذات وقررت أن َّ
أصيل أم درماين هو بني الذهب ولُجني النيل ،عالق ٌة ..ب َني بني! .كان صديقي العجوز
لحفظ ما ِء وجه ِه من رشو ِر
ِ ميتلك محالً إلصالح الدراجات الهوائية ،يساعده قليالً
الحوج ِة واملسغبة التي كانت تركل مؤخرات معظم الناس بال رحمة .كانت تُع ِّف ُر
خياشيمي رائحة الشواء التي تتقاطع وتتحد مع ديكور املكان البسيط ،مع خلفية
من الوجوه السمر الحنون وسحر املشهد الحالل ،فلم أد ِر لروعتها هل سكر النيل
من الخمور التي سكبها يف أمعائ ِه الرئيس {منريي} إبان قراره األكرث شهرة بتقفيل
البارات وسحب تراخيص محالت بيع الخمور؟ أم لشدّ ِة شوق ِه يل؟ .فبدا يل نهر
تصفقُ ترتنح أمواجهُ مداً وجزراً شوقاً وسحراً ،اليشء الذي كانت
النيل نشواناً طرباُ ،
تسبح يف األعامق ُ له مراكب الصيد الصغرية ممراح ًة ،وتنشغل عن الشباك التي
لحفنة صيادين يس ّبحون حمداً وعرفانا! .كان محل إحسان العجاليت يتوارى خجالً
من بؤس ِه مبقربة من محل {ترنتي} للسمك ،يجلس عىل عرش ِه العم إحسان بهيبة
شبق ،وعرشات امللوك وبساطة حفظة القرآن! .سجارة الرومثان تلثم شفتي ِه يف ٍ
الدراجات الهوائية املعطوبة والتي تم إصالحها وتدفقت يف عروقها دماء الحياة!
وبعض صبي ٍة جاءوا بغرض كراء دراجة ينفقون عليها جنيه أو جنيهني ،رائحة املواد
الالصقة التي تستعمل يف ترقيعِ اإلطارات تتش ّب ُث بالفضا ِء ،واليدين املعروقتني
اللتني تح ّنتا بالشحوم ،امتدتا مرحبتني ،تصحبها ابتسامة دامت قدر نفس متمهل
من سجارة الرومثان ،عندما ألقيت عليه التحية:
«كيف الحال يا عم إحسان؟».
16
ٍ
طرف ثالث الحب من
بطريق ٍة ألِفت التبسيط وهرس ثريد الفلسفة يف وعا ٍء ال مر ٍيئ من ال ِحكم ِالتي ال
الوعظ الذي يرهقها صعوداً فتهبط إىل الهاوية ،وكأمنا يتم إعادة ِ ترقى إىل مستوى
رؤى وأفكار ظالمية ،متارس ساديتها عىل هذا املشهد السيزيفي مرة أخرى يف شكل ً
تنسال الكلامتُ عقولنا ،ومازوشيتها عىل نفسها ،كمنهجٍ تعبريي فادح .لذا كانت
مبارشة تلخيصية سافرة سهلة الهضم!:
«مايش الحال يا ولدي ..لسه ما بقيت الطيب خوجيل».
قالها وهو يشري إىل واح ٍد من {دناصريِ} العجالتي ِة يف سوقِ أمدرمان الكبري!.
وكنت أعلم أنه يرتفّع أن تتواضع حتي لغته البلدية الرفيعة ،ولو يف مج ّرد ر ّد عىل
سؤال كان ميكن أن تكون إجابتهُ {الحمد لله مايش الحال!} دعا يل مبقع ٍد خشبي
وعزمني عيل فنجانِ أنس وسجارة ،وصمت بره ًة وقال ساخراً:
«صاحبك حسن ضالل كان قاعد معاي هنا ،قال يل ما تسيب الشغالنة املتعبة
دي ،يكون عايزين أشتغل مهندس طريان؟» .أجبتهُ ضاحكاً:
«يازول كعب العدم ،أخري ليك من العطالة حقتنا دي!».
وبعد ذلك أضاف يف حكواتية ساخرة تضيف إىل طعم الحديث مذاق القرنفل
والنعناع:
السيجة الشعبية، «سيجة» {يف إشارة إيل لعبة ِّ «عارف يا ابني ،الحياة دي ِ
السيجة دي عشان تغلب فيها الزم ترص كالب كمدخل فلسفي وورقة تفاوض} ِّ
اللعب يف مكانها الصاح! أنا الله قسم يل أكون حتة عجاليت وما يل يف طب وال
هندسة ،يعني لو ختيت نفيس يف مكان تاين عيل اليمني حق السجاير ما ألقاهُ!».
وقُبيل «سفّة» من علبة سعوطه اعتاد أن يكمل بها نصاب الكيف ،بُعيد كأس
17
ٍ
طرف ثالث الحب من
18
ٍ
طرف ثالث الحب من
19
ٍ
طرف ثالث الحب من
20
ٍ
طرف ثالث الحب من
الفصل الثاني
يف تلك األمسية الرائقة كان العم إحسان يف بيته يف حي املورة ،ذلك البيت الذي
يشبه تفاصيله الرثية ،والذي يصلح كسيناريو لقص ٍة قصرية قصقص الروايئ أجنحة
أحداثها ،ومل يرتكها تحلق خارج الرسب كرواية .شجرة ال ِّنيم العجوز التي مل تبخل
عيل الشارع مبثقالِ ظل ،كانت متنح فناء املنزل بعداً أسطورياً ،بأغصانها التي تتدلىّ
منها ثريات أعشاش طيور القمري كعناقيد شهية! .فتنظ ُر إليها قطتهُ الصغرية
بلؤم مترش ٍد جائع قادتهُ قدماه للمرور بالقرب من مطعم مشويات! .غرفتان شذراً ِ
توأم اصطفتا يف ال اهتامم هنديس ،بائستان مثل فصول املدرسة االبتدائية التي
تحس أنك ولدت يف درست فيها ،غني ٌة جداً إذا كان مقياسنا يف الرثا ِء هو األلفة! ُّ
هذا املكان الذي يحشو ذاكرتك بشكلٍ من أشكال االنتامء الغريب ،ومبقربة من
أصايص الزهور الفخارية وليس بعيد عن {ال ِّزير} العتيق امللفوف بعناية جدة
مع ّتقة ،وكانت قطرات املاء تتدىل من أسفلِ الزير كلحنٍ رتيب .يتجول العم
إحسان يتساقى الحب مع عامله الخاص! .لألمكنة قدرة عجيبة يف ترويض اإلنسان
ودفعه دفعاً إيل التو ّرط يف عشقها .ولكن هناك أمكنة تركلك بأحذيتها وتؤذي
نظرك بجربِها امللقى هنا وهناك ،مشهداً مشهدا ،داراً فدا ًرا.
فعندما تزور ُه يرشح لك جغرافية املكان بأريحية الذي يريد أن يشعرك أنك يف
21
ٍ
طرف ثالث الحب من
بيتك ،أو يرتكك لتخدم نفسك بنفسك فال تكاد تحس الفروق واملوازنات والكيل
مبعيارين ،أو املجاملة بحرفية قواد رخيص! .يحب أن يرشكك يف الحكم ،ويرتك لك
حرية االختيار ،ويعلم بأن التصويت يف النهاية سيكون لهُ ،وباإلجامعِ السكويت،
عىل األرجح.
وتلك كانت أهم مالمح جمهورية العم إحسان الخاصة التي ميارس فيها
دميقراطيتهُ الخرافية يف ديكتاتورية هجني! .ما أعجبها! .أما الغرفة الثانية فكانت
املفاجأة األكرب التي تلقيتها بعد أن اختصني هو بدخولها دون العاملني ،وأخربين
بتلك الحكاية التي غيرّ ت مجرى النيل يف دمائنا! ،هذه الحكاية التي ما زالت
تدهشني رغم مرور كل تلك السنوات وبعد أن وجدت نفيس فيام بعد محشوراً
يف تفاصيلها وعبثيتها ،ولكن حرييت مل تزل تثريُ دهشتي ..عجباً!.
ذات حلم أو ما يشبه األسطورة! ،والعم إحسان يتسكع يف أحد أزقة حي املوردة
هدى ،وأظنهُ مل يكن يعرف إيل أين تقود ُه قدماه ،سمع صوت امرأة األمدرماين بال ً
تنادي بواهنِ صوتها التي حرصت عىل أن يكون مسموعاً:
«يا إحسان يا إحسان!!» .كان صوتاً متعباً ال يخلو من حرشجة واهنة.
التفت إىل مصد ِر الصوت ،فلم يجد غري امرأة ستين ّية ،تشريُ إىل غريِ اتجاه ِه!.
أضافت السيدة العجوز بصوتها الواهن كأنها تلفظ آخر كلامتها قبل أن تصمت
إىل األبد:
«يا إحسان بنات خالتك فاطمة قالوا جايني يرشبوا معانا القهوة ،تعايل راجعة!».
تحمل اسمهُ
وعندها حاول العم إحسان أن يقرأ تفاصيل تلك األنثى التي كانت ُ
وقدرهُ ،وبالكاد فعل! .بالتأكي ِد مل تكن مج ّرد أنثى!! كانت محاولة رصيحة ِ
لخلق
22
ٍ
طرف ثالث الحب من
مالك .كانت متيش عىل طريقة بنات أم درمان برزان ٍة وخفر ،حني كانت األنوثة
أهم صفات البنات!!.
مل يستطع أن يتبينّ مالمحها بطريق ٍة ُمثىل ،ولكنها صعقتهُ متاماً ،ترى ألنها كانت
ات أخرى يعلمها وحدهُ؟ .زلزل ٌة داخلي ٌة تلك التي حدثت تحمل اسمه؟ أم العتبار ٍ
استيقظ الربكان الهامد يف أعامق ِه؟ هل بدأ يقذف
َ داخل العم إحسان! .تُرى هل
بالحمم واللهب؟ .املثل الشعبي السوداين يقول {اسامً زي اسمك ِ مدنهُ وسواحلهُ
يا علمك الهبالة يا علمك الدغالة} ولكن يا لها من مصادف ٍة غريب ٍة وشحيح ِة
التنقيب عن
ِ يستأنف حفرياتهُ من أجلِ
َ الحدوث ،تركت مجاالً فضفاضاً للقد ِر ليك
ترهق جيولوجيا الذاكرة بحثاً ودموعاً املواقف التي تصنع التاريخ .املواقف التي ُ ِ
وأملا وعذابا! أتراها تلك هي األنثى التي ستتمكن أخرياً من اكتشاف آبار برتول ِه
وترسق نفط ِه يف إطار برنامج النفط مقابل األكسجني؟.
عندما التقيا ـ فرضاً ـ كتالقي ذريت هيدروجني وذرة أكسجني ،هل كان هذا وعداً
باملطر؟ أم سيكون حمل سحابته كاذباً كالعادة؟؟! ،فقد تع َّود دامئاً أن يستعمل
غيم الحلم الواقي املطري! وحتى أعامقه قد وصلت إىل سن اليأس فعلياً ،وفشل
رس
إنجاب الحب .عندما مرت به غطت وجهها كشأن بنات األ ِ ِ عتاده الذكوري يف
املحافظة فرتكت باب الدهشة موارباً ،فيام كانت عيناها تتلصصان برباء ِة طفل ٍة
تطمع يف قطع ِة الشوكوالتة العارية التي كنت ته ُِّم بقضمها .نظر ٌة يتيم ٌة ُ خجول ٍة
رسقت عمر ُه وي ّتمت ذاكرتهُ ور ّملت بنات أفكارهُ ،واقتادتهُ إىل ما وراء وادي
التهاويم التي أفنى سلفادور دايل حياتهُ أسرياً لها! .هل كانت حقيقة؟.
الشاعر السوداين الكبري الفيتوري كتب:
23
ٍ
طرف ثالث الحب من
24
ٍ
طرف ثالث الحب من
فراديسهم الخاصة.
أوصلتهٌ قدما ُه بخطوات مشتتة إيل بيت ِه األسطوري أو عش الرخ الذي يصعب
الشحنات املكبوت ِة بداخل ِه
ِ الدخول إليه وإن سهل إيجاده .مل يجد طريق ًة لتفريغِ
سنوات عديدة منذ أن كان يف الثالثني. ٍ غري أن يرسمها .ولكنه كان قد هجر الرسم
يااااااه! خمسة وعرشين سنة مل يرسم لوحة واحدة! حقيق ٌة مزعجة نبهته إىل
عمر ِه ،أو ما تبقّى منه! .فتح باب الغرفة الذي أوصد خلفهُ كل مرارة سنوات
الشباب وخيبات املايض وجراحه ،ودخلها ليك يرسم للمرة األوىل منذ خمسة
وعرشين عاماً .بدت مثل غرفة أشباح شديدة الكآبة تعفِّرها أطنان من الرتاب،
العنكبوت وحزمة
ُ العنكبوت لتواضعِ حال ِه ـ وحد ُه ـ هو الذي بقي عىل قيد الحياة.
الرسم بدوافعٍ غامض ٍة ال
ِ ارتكاب معصي ِة
ِ ذكريات .أما هو فقد د ّج َج عزمهُ عىل
ميلك لها تفسرياً! .الف ُّن ال يعرتف باملربرات والقوانني ،ال يعرف الخندقة والتمرتُس
وال يرفع الرايات البيضاء! .هكذا أعتقد .وبعد معاناة فتح الحقيبة املرابطة ـ منذ
سنوات مغربة ـ تحت الرسير الخشبي الذي أكل منه الدهر ورشب ،وبدأ يف انتهاك
عزلة الورق األبيض ،العزلة التي امتدت إىل خمس ٍة وعرشي َن عاماً ،من إقامة ألوانه
قيد اإلقامة الجربية .العتم ُة سجن اللون .البياض ُسعال الثلج ،فراغهُ من ُحمى
تهم إال الصقيع .البياض هو املوت اللون الرسم ،البياض انشغال اللون بقضي ٍة ال ّ
املعلن.
بدأ يرسم وهو يخربش عىل جدار من املآيس صمد بقوة يف وجه الطباشور
والزمن واأليام ،رسمها بالقلم الرصاص ولكنها بدت ملونة وبراقة ،فأخذت تتشكل
معامل مدين ًة جديد ًة اسمها إحسان كان هو أول ساكنيها وأول من تج ّول يف طرقاتها
25
ٍ
طرف ثالث الحب من
وأسواقها .كان يرسم وهو يتذكر قراره املفاجئ بعدم مامرسة فن الرسم طيلة ما
بقي من حياته ،كان يرى أن الحياة ال تحتمل االنشغال بتوافه مثل الفنون ،الفن
األعظم هو الحفاظ عىل الحيا ِة نفسها ،فن البقاء.
كانت حياة العم إحسان ال تشبه حيوات كثرية مجاورة ،بداي ًة من مولده ،حتى
اسم
حمل هذا االسم الطارئ حتى تتحسن الظروف بالطبع ،إىل أن يعرث عىل ٍ
مناسب يكفيه مشقة العثور عىل قدره! .وبفعل تلك الجراح التي تفتحت عند ٍ
رحيل والده حزناً عىل شقيقت ِه التي تكرب ُه بعامني ،عاش بداي ًة موجعة .حينها مل
يولد إحسان فقد كان يف رحم القدر جنيناً يف بطنِ أم ِه ،مات أبو ُه املسكني حرسةً،
ومل يتحمل جسد ُه املنهك بتداعيات األحزان واملتا ِعب صدمة رحيل الصغرية والتي
مل يكن مصادفة اسمها إحسان! .وعندما رصخ رصختهُ األوىل يف هذا العامل ،مل
يرصخ لضعف ِه ،وإمنا رصخ بقو ٍة ليعلن قدومهُ إىل هذه الحياة ،إىل حيا ٍة والسالم!.
أطلقت علي ِه والدتهُ اسم إحسان وسط دهشة األهل واألقارب الذين استقبلوا
الخرب الغريب باملزيد من األسئلة .فقد كان هذا االسم يطلق غالباً يف السودان
عىل اإلناث دون الذكور ،فدخل إحسان إىل الدنيا تطارد ُه لعنة الوحدة وهواجس
الرحيل ...وكان!! .تر ّجلت أمهُ عن ظهر راحلتها ورحلت بال وداع ،وامتطى الصغري
للعيش
ِ اليتيم صهوة األىس وهو يف فج ِر الطفولة الغضة .انتقل هذا اليافع بعدها
ببيت أعامم ِه ،أو ضاقوا ب ِه.
كنف أعامم ِه حتى بلغ الحلم .ولكنه ضاق ذرعاً ِ يف ِ
مل يحتملوا شقاوته وغرابة أطواره ألنه كان يعيش حياته عىل طريقته الخاصة.
كان متمرداً محرتفاً ،كان يعشق الغناء والعزف عىل آلة العو ِد مبهار ٍة ال تتناسب
مع سنوات عمره .وبالطبع مل يجد تشجيعاً كبرياً يف هذا البيت املحافظ .فقد كان
26
ٍ
طرف ثالث الحب من
الكثري من الناس يصفون الفنانني بخائبي الرجاء وعدميي الفائدة .لذا مل يكن مرحباً
بغنائه ،وكانت تزعجهم حتى طريقة عزفه عىل العود وتقلق منامهم .وعندما رجع
يف تلك األمسية إىل البيت متأخراً كعادته .وجد لوحاته البدائية ممزقة األوصال،
وكذلك حطموا آلة العود وفؤاد الفتى اليافع .وثار فيهم حتى رضبوه بالسياط عىل
ظهره حدّ البكاء .فقرر أن يرجع إىل املنزل الذي شهدَ مولد ُه وهو يف بداية صباه،
وتداعت علي ِه نوائب الزمن واملحن ،ومل يحصل حتى عيل أنصاف الحلول ،يف بال ٍد ال
تعرتف باملؤهالت والشهادات .بال ٌد تعشق االنتامء األعمى ،وتقدّ س القبيلة وتعبد
ات الوطنية والهوية .بال ٌد أصابها فقر الدم الفكري، الحزب وترسق األجيال بشعار ِ
والقت ما القت من أنيميا األنظمة الخرقاء .إذن ال تحلم بحيا ٍة سعيدة .أنصحك
أن تفكر يف ميت ٍة الئقة!! كن صاحب القرب السعيد.
وبعد طول عذاب وكثري احرتاب ،قرر أن يفتح هذه الدكانة الصغرية التي
ورثها عن والد ِه ،وأن يعمل يف نفس املهنة وبنفس القدر من الرضوخ والخضوع
واالستسالم الجربي ،مل يكن ميلك شيئاً ،فقط كان يريد أن يأكل الخبز ومييش يف
األسواق .كان كل ما يحلم به هو الخبز لألسف ،وحفظ ماء الوجه .فعندما تنظر
إىل األمر عىل هذا النحو ،بإمكانك أن تأخذ فكرة واضحة عن الحياة بصور ٍة عامة.
مبشاع ٍر استثنائية تغ ّربت عنهُ خمسة وعرشين عاماً بدأ يرسم .كانت تسيطر علي ِه
فكر ٍة مجنون ٍة ،ولعلهُ أراد أن يثأر من حشم ِة هذه الفتاة الغامضة فرسمها عارية،
مل يسرت إال وجهها الذي رآ ُه باألشعة {فوق االشتهاء} .كانت النوايا السيئة تتقلّب
عىل فراشه ،والورق العاري يتمدّ د كمالء ٍة بيضاء تتقلّب فيها فتاته االفرتاضية .أراد
أن يُع ّريها مثل روايئ متقلّب األطوار وغريب األمزجة ميارس جنونهُ عىل شخوص ِه،
27
ٍ
طرف ثالث الحب من
نصب نفسه إلهاً بريشة فنان ويخلق لوحات ِه ويكون أكرث طيشاً عىل املرسح ،ويُ ّ
عارية كام ولدتها أمها .وبعد أن اكتملت اللوحة األوىل إلحسان األنثى العابرة ،بدأ
يتأملها ،يراقب خطواتها املتعرثة ،بكاءها ،ضحكها ،وردود أفعالها ،بدأ ميارس عليها
وثني ٍة مؤمنة! ،بدأ يتع ّبد فيها وهو ال يعرف عنها إال اسمها املولود قبل لحظات
من حنجرة عجوز.
فكان تداول األدوار بني األلوهية والعبادة نتيجة طبيعية لدميقراطية كان يحلم
بها .رسمها عرشات املرات وترك جسدها عارياً عرشات املرات ،هل كان يؤمن
بتعدد اآللهة يف معبد ِه الفني هذا؟ هل الجسد هو القدر كام قال فرويد؟ هل
وهل؟؟ .الدليل الوحيد عىل براءة الجسد ،أن كل أصابع االتهام ال تشري إليه فقط،
ولكنها تتمنى التهامه التهاماً.
ماذا صنعت أنثى عابرة كقطار رسيع ملجنون مثل العم إحسان لريسمها {حافية}
النهدين ال تنتعل إال حلمتني ذائغتى النظرات؟ .أو باألحرى هل أنتبه أخرياً لدروس
ماركيوس عن القهر الجنيس والكبت وأثر ُه عيل اإلنتاجية؟ .وما هو املرشوع الذي
ميكن أن يقوم ب ِه عجوز يف الخامس ِة والخمسني من العمر؟ .حتامً هذه إجابات
تحتاج إىل أسئلة!!.
28
ٍ
طرف ثالث الحب من
الفصل الثالث
حط الرحل أم درمان يا ِ
أنت يا وعداً وحلامً نام يف الفردوس وحني أتانا يف الدنياَّ ،
يف السودان .فكانت لحظة امليال ِد كانت نشأة أم درمان .هي أم درمان قطع ٌة من
ُ
تبعث الفجر يف وطني ،بنيلها وليلها وآمالها وآالمها وأحالمها املراهقة!. الشمس
أم درمان البقعة واألم الرءوم ،هنا أم درمان .يؤذن مذياعها كل يوم داعياً الناس
لصال ِة الحنني .أم درمان املهدي واإلذاعة والقبة واألسكال ،شارع املوردة وشارع
األربعني وميدان الخليفة ،أم درمان الحبيبة السابقة قبل أن تقدم جسدها يف
املزاد العلني للقوادين واللصوص وحملة {الشهادات اللحية} وهم ال ميلكون إال
شهادة أن ال إله إال الله! .هذه املدينة التي أخصت ذاكرتها وأرادت أن تحمل من
رض شاب مل تخصه الخيبات. التاريخ ،ومل تدر بأن املستقبل ال ينجب إال من حا ٍ
أحبها وأشتهيها ولكني أفضحها لو وجدتها غارقة يف جرمية رشف! .سأبلغ عنها
وأشهد ضدها ،فال ضري يف أن يلقى القبض عىل املدنِ املشبوهة حتى تتوب وتعود
إىل رشدها! .هل قلت إنني أبالغ بعض اليشء؟ .نعم فأنا أمتلك من التناقضات ما
ٍ
لشخص ال مصاب بالشيزوفرينيا .ليس يف األمر عجب بالنسبة ٍ يجعلني أقرب إىل
ميلك إال يفغر فاههُ دهش ًة.
«العمل الروايئ عبارة عن جرمي ٍة مل تقع!» يكون مرسح هذه الجرمية خيال
29
ٍ
طرف ثالث الحب من
الكاتب فال يحاكم بتهمة البالغ الكاذب وإزعاج السلطات! إذن الكاتب مرشد
متواطئ مع األحداث والتواريخ فال يستطيع كتامن أرسار العامل واملدن والشخوص.
واملثقف مسؤول عن أي جرمية تقع عىل ظهر األرض عىل حسب قول سارتر.
أعرف
ُ فعندما أُج ِّند قلمي يف خدمة أوسكار ويلد وأكتب بدمي حدَّ النزيف،
أنني أكتب ألتنفّس وأعيش ،نعم أحرت ُم الذين كانوا مبثابة حجر الزاوية يف وجداين
وبنياين الفكري ،ولكن هذا ال مينع أن أع ِّريهم« .فالكاتب ال يؤمتن» أليس هو أول
من يفتح النار عىل نفسه ويفضح نفسهُ يف سرية ذاتية ويع ِّرض سيقان البيوغرافيا
للامر ِة والعابرين يف أزقة ومواخري الكتابة؟ .وهكذا كان العم إحسان ما إن يفرغ
من صناعة لغم فكري ،كان يج ِّربه أوالً عىل نفس ِه ،رمبا عىل سبيل التأكد من قدرته
عىل التفجري ،رمبا!.
لن أتناىس دهشتي وأنا أدخل معبد ُه للمرة األوىل ،وكذلك لن أنىس أبداً تصالح
عيني ونفسيتي مع املكان وكأنني سكنتهُ منذ عرشات السنني ودخلتهُ مئات املرات،
هذا املعبد الرهيب ،حاولت أن أفرك عيني حتي أستبني الحقيقة وأقيص التوهم
املفرتض ذاك ،ولكن كان املشهد حقيقياً متاماً ،بل وأكرث استنفاراً للحواس .كان أشد
شاب جاهلٍ مبثل تلك األمور الساخنة وليست له عالقة مع {اآلخر} إال تأثرياً عىل ٍ
تتمثل له يف عادات ِه الرسية املتعددة .فتكالبت ع ّ
يل ُ ٍ
مامرسات ِ
بصيص من خاللِ
رجولتي املهيضة الجناح وأحسست أنني سأطري .فعيل هذه الحوائط البائسة ،مثة
حياة بدت تتمثّل كامنة يف كنوز السيقان والصدور العارية ،مبعدل تطابق هنديس
أقرب ما يكون إىل الكامل .كانت لوحات فنية غاية يف الجرأة والشهوة ،كمن يرسم
وهو يحلم بليل ٍة حمراء! .واألكرث غرابة ،كان حرصهُ عىل إخفاء املالمح متاماً ،ولكن
30
ٍ
طرف ثالث الحب من
خارطة الجسد كانت مطلقة الرساح ،تتسكع تضاريسها ووديانها بته ّو ٍر وجرأ ِة
الذي ال يخىش سياط جالد املجتمع وال مفتيش الضامئر واألخالق! .هذه اللوحات
تلميذات املدارس اإلسالمية! ،هذه اللوحاتِ كانت وجوهها مغطاة جيداً كوجو ِه
التي يبلغ عددها تسعا وعرشين لوحة ومازالت تبحث عن اللوحة الثالثني ،فريتفع
يخصص عدد اآللهة وتزيد نسبة العبادة ،وكذلك املريدون .فقد كان العم إحسان ِّ
لوحة محددة لكل يوم ،يتكفّلها بالرعاية والحب .ويف صباح اليوم الثاين يدخل يف
حب جديد وعشق جديد ودين جديد!! .ما أشد غرابة هذه الوثنية!!.
وهذه كانت أسباب منطقية م ّهدت الرتكايب الخيانة والتفكري يف بطل ِة لوحات ِه
أحس ـ لوهل ٍة ـ أن دواخيل تحيك يف مؤامر ٍة بدوافعٍ من زاوي ٍة تخصني ،فبدأت ّ
أناني ٍة ،وأدركت مع مرور الوقت أنني أشتهي هذا الجسد وأتضايق ألن العم
إحسان ال يرتكني وحدي ألمارس طقويس وعبادايت الخاصة .لقد بدأت أغا ُر منهُ ،
وحتي من فرشاة الرسم التي شبعت من مالمسة هذه التضاريس الفنية ،وأغار
من علبة األلوان وحتى القلم الرصاص ومن الورق األبيض الذي شهد ثورة هذا
النقالب عاطفي يهديني السلطة ألجعلها امللكة. ٍ الجسد الحمراء .بدأت أخطط
ترى هل يكون جزاء العم إحسان هو إحسان!؟ .أعتقد أنهُ كان يعلم مبقدار تعلُّقي
برسومات ِه العارية ،ولكنهُ قطعاً مل يكن يدري أنني أطمع أن أضع جميع البيض يف
سلتي وأن تحضنهُ نفس الدجاجة! .وهذه كانت نقطة التحول الرئيسة يف عالقتي
مع الرجل ،نعم حاولت الحفاظ عىل أساسياتها ،ومع ذلك تتأرجح نفسيتي تجاههُ
بني ميزان األلفة واملحبة ،وثورة الربكان الذي بدأ يف قصف مدين باآلهات والحمم
يل« :تُري هل كان العم إحسان يعلم الوجدانية! .ولكن يبقى السؤال الذي يلح ع ّ
31
ٍ
طرف ثالث الحب من
ـ وهو يُع ِّريهاـ أنها ستثأر لنفسها وتُع ِّرينا سوي ًة؟ .هل كان يعلم بأنها ستفضحنا
وتنسج شباكها حولينا حيث ال فكاك وال مفر؟».
هذه الخواطر املهزومة كانت تتصارع بداخيل وتُشهر سيوفها يف وجوه الشخوص
الذين يشكلون أهم مالمح مرسح الرجل األسطوري ،الرفاق الذين كانوا يتقاسمون
معنا كرسة املعاناة وحميمية التآلف واإلخاء ،يف تلك األيام العصيبة .هذا املرسح
الغريب الفريد من نوع ِه الذي ال يسمح فيه للجمهور باملشاهدة والتصفيق!.
وهذا العرض الحرصي السخي الذي كاد أن يهدمني ويعيد تشييدي من جديد،
أكف عن املحاوالت من أجلِ استعادته مر ًة أخرى بال أدىن
عىل الرغم من أنني مل ّ
يأس.
يبدو أنها ستكون البداية.
32
ٍ
طرف ثالث الحب من
الفصل الرابع
كانت تراودين أشياء غري متصالحة مع هندس ِة أفكاري الخربة أصالً ،أشيا ٌء
أحس أن مثة كروموسومات غريب ،كنت ّ ٍ تُربكني وتُفكِّك خاليا جسدي بإرصا ٍر
عنيدة تنتهك حرمة دمايئ وتسكنني .لألسئلة صدا ٌع ال تشفيه إال اإلجابات!!.
حوافر األسئلة كان لها وقع الرماح عىل رأيس ،وكنت أشعر أنني يف حالة طوارئ
قصوى ،واستنفا ٍر كُليِّ للحواس ،كان البد لهذه الناقة أن تنيخَ هنا ..فإنها مأمورة!.
اتركوها وابنوا عىل هذه الشفاه قُبلة! .تُرى هل بدأت رصاعات األنا تتناسل يف
رص عىل طرحِ طالسمها قلبي؟ .أم كانت تلك هي معادالت الكيمياء العابثة التي ت ُّ
يف {الجناح الخاص} لدمايئ؟ .كان جنوناً أن أعشق أنثى هذه اللوحات .الجنون
شطحات الفنان الذي استسلم لجنون الريشة ُ وحد ُه كان يسكن املكان والزمان!.
وجنوح األفكار ،وغرابة أطواري التي جعلتني رهني سطوة مشاعر أحس أنها تجتاح
مسامي وتصنع الثورة .الدهشة تعترب استنفاراً جديداً للحلم ،واملدهش أكرث هو
بداية تكسري حاجز العزلة التي فرضتها عىل نفيس ،ومتزيق الصحيفة التي تربطني
بفشيل تجاه اآلخر! متزيقها حتى ال يتبقّى منها غري بسمك اللهم! .خط رجعة
جديد وإجراء احرتازي أضمن ب ِه موطأ قدم تفادياً لهزمي ٍة قد تحدث ،فقد كنت
أم ِّهد لرضب ٍة استباقي ٍة ضدّ جميع قناعايت ،ولكن أخىش من نريانٍ صديق ٍة تُر ِهقني
33
ٍ
طرف ثالث الحب من
34
ٍ
طرف ثالث الحب من
35
ٍ
طرف ثالث الحب من
ونُقدِّ س أكاذيبنا ونرفض أن نُع ّريها ،ونصنع حياة من ال حياة ،ونتوهم أن االنتحار
من أجلِ القضي ِة يُحييها ويجلب لها النرص ،ولكن ال!! .يف هذه األرايض املتعبة
الساسة ينفخون يف { ِقرب} الكالم الرخيص فندمي أكُفنا تصفيقاً لهم! .يرسقوننا
باسم الثورة واإلصالح ،وال منلك إال أن نصفق لهم! .يتمدّ ُد جزر {األنا} كنبت ٍة
وتصب يف بح ِر {هُم}!.
ُّ طُفيلي ٍة،
فنظل بحري ًة تناساها املطر وهجرتها األسامك.
أما {نحن}ُ ..
ترسق من أنوفنا األكسجني ،وترتكنا نستمتع بال حياة ،وتوحدنا. معادل ٌة حمقاء ُ
املوت وحد ُه هو الذي و ّحدنا ،كلنا سواسي ًة يف مقابر األحزان ،اللون األبيض يكفِّنُ
أحالمنا مهام اختلفت ألواننا! أنا ..والعم إحسان ،ونارص اليامين ،وحسن ضالل،
وموالنا بيرت الجنويب املسلم وابن قبيلة الدينكا ،ذلك الرجل الذي يعرف عن اإلسالم
أكرث مام يعرفهُ الكثري من العلامء الذين يطلون علينا من شاشات النفاق ومنابر
املساجد .بيرت بوسامت ِه وطول ِه الفارع كان نخلة استوائية مثمرة ومستودع إسالمي
عميق .كان كثري ما يُسدي إ ّيل النصائح والعظات بطريقت ِه الفريدة ،يأيت إلينا
ممتطياً دراجتهُ الهوائية من منزل ِه يف حي العباسية القريب ،ويشعل مجلسنا
حديثاً وحكاوى .كان يشتهر بتفسري القرآن بلون ّية ممتعة وسهلة الهضم ،فأصبح
فاكهة املجلس الذي يتمكن من السري بسهول ٍة يف حقول اإلبر الفكرية وألغام
املسائل الدينية الشائكة ،لدرجة أن حسن ضالل كان يطلق علي ِه {بِيرت ريض الله
عنه} ليس كصف ٍة ترشيفي ٍة وحسب ،إكراماً لدور ِه يف إثراء أفكارنا بسهل ِه املمتنع،
ولكن كان حسن ضالل ال يجيد شيئاً أكرث من التهكم والسخرية والنفاق .وكنا نعلم
هذه الحقيقة جيداً.
36
ٍ
طرف ثالث الحب من
أما العم إحسان فقد كان يردّد دامئاً مقولته الشهرية« :ال يفتأ وبِيرت يف املوردة».
كان يأتيك خفيفاً لطيفا ً،ويذهب منك شفيفاً وريفا ،يصنع لهُ مداخالً بقلبك،
ويرشع كل النوافذ للحب واإلنسانية .ورغم اختالف املذاهب واألفكار واملعتقدات،
كنت أحبهُ ألنهُ لقّنني درويس الوطنية األوىل ،وساعدين يف محو أميتي الدينية ُ
وجعلني أفهم أن النخلة ميكن أن تثمر {باباي} وجوز الهند قد يطرح عنباً ،طبعاً
إذا أحسنا سقيته من نبعِ تسامحنا ومعرفته الجيدة! .فقد كان بيرت يطل مثل كوة
ضوء وفنارة تعيد قواريب الشاردة إىل املرىف ،وكان يرضعني من ِمعزة إميانه حتى
ببصيص إميانٍ كان يطل أحياناً يف أفعايل،
ِ أرتوي .نعم أحبهُ ،أحبهُ وهو الذي حقنني
وإن كان حميد الفعل هو مامرسة وحق أكسبتهُ لنا سودانيتنا وهويتنا {القدمية}
وأرضنا وطيبتنا تلك املاركة املسجلة باسمنا كام نعتقد ،فنحن منتلك اعتقادا تاريخيا
بأن الطيبة هي ماركة سودانية مس ّجلة ،عىل الرغم من أنها طيبة ال تخلو من
عبط وسذاج ٍة خصوصاً عندما تقرتن باألخطاء الفادحة التي نرتكبها لدواعي طيبة ٍ
األصل .ال يكفي أن نحب اآلخر ،ولكن ينبغي علينا أن نجربه عىل احرتامنا ،وبعدها
فلرندّد ما شئنا من االعتقادات .إليكم األمر كام تخ ّيلته ال كام حدث.
نهر النيل تلك املعجزة اإللهية ،نهر النيل سليل الفراديس كام تغني به الفنان
الراحل عثامن حسني ».أنت يا نيل سليل الفراديس» .نهر النيل تلك األسطورة
التي ال متوت ،واألنشودة التي مل تتعب شفاهنا وال حناجرنا من ترديدها ،بعنفوان ِه
وصولجان ِه وشطآن ِه« ،أنت يا نيل سليل الفراديس» .أتحسس أوراقي عندما أحن
إليه ،ألنني أعرف أن القصائد تكمن عيل مقرب ٍة من موجه ،يجعلني أبيك كام
ينبغي ،وكذلك أفرح حتى تطهرين الدموع املعلقة عىل جرس الغياب.
37
ٍ
طرف ثالث الحب من
فرطالنيل الهوية ،النيل القضية ،النيل الذي يرمتي عىل صدر املساء مرتنّحاً من ِ
مثالته ،ليصدح العمالق محمد وردي:
«وشفت فيه النيل بيلمع يف الظالم
زي سيف مجوهر بالنجوم من غري نظام».
النيل الذي ثقلت موازيني دواوين الشعر وما أوفتهُ حقهُ ،ومتايلت يف حرضت ِه
القصائد ومل يرت ِو من الغناء .النيل الذي صنعنا من صورت ِه املأهولة أنصاف أحالمنا،
ومل تنافقنا أمواجهُ ومل تغشّ نا ضفافه ،ومل يغري مسارهُ ،ومل تجف عروقهُ وهو
يعرب الصحراء ويهدي العامل مرصا! .هذه املساحة الوجدانية الوريفة امللهمة الرثية
هي التي أغرت الكثريين من األشقاء باإلقام ِة يف السودان .حسب اعتقادي .يف
وألسباب مختلفة قد
ٍ سنوات غابرة كان طريق الحج مير بالسودان جيئ ًة وذهاباً.ٍ
تتعلق بطيب املكان يف ذلك الوقت ،درج بعض الحجاج عيل اإلقامة عىل أرض
كمجموعات الحجيج من كافة دول غرب إفريقيا .وكذلك الهنود الذين ِ السودان،
كانوا يأتون بغرض التجارة من أراضيهم البعيدة ،واألحباش واليامنة كام يُطلق
عليهم يف السودان .فحدث أن استقر والد نارص اليامين ـ قبل سنوات عديدة ـ يف
السودان وطاب له املقام ،فنشأ نارص في ِه وتعلم وتزوج ،كفعل إذاب ٍة واندماج.
كفعل انتامء ال رفض ،انصهار ال تدوير وإعادة تصنيع .ليستفيد النسيج االجتامعي
من هذا التالقح املبهر ،الذي كان واضحاً بجالء يف العديد من املدن السودانية
وقت قريب.وأريافها حتى ٍ
عمل نارص بالتجارة حرفة والدهُ .وأذكر بفرحٍ حديث جديت وهي تقول ملن طلب
منها مبلغا من املال ال متلكه:
38
ٍ
طرف ثالث الحب من
39
ٍ
طرف ثالث الحب من
40
ٍ
طرف ثالث الحب من
من االنتباه:
«إن شاء الله تكون سمعت األخبار الجديدة؟» .ه ّز نارص رأسه متسائالً:
«نص عمرك ضايع يا سيد البلد ،قالوا . »...
وكانت الحكاية يف غاية التشويق ،ومل يجد نارص بدّ اً من تصديقها ،ويف الواقع مل
تكن سوى كذبة جديدة ،ابتكرها املاكر إلغواء الرجل وحثه إلقراضه بال أدىن تردّد.
الدنيا كلها تعلم بأن هذا املاكر كان عاطالً عن العمل ،وحتي نارص اليامين نفسه،
ولكنه كان يقرتض من صاحب الدكان والجزار وبائع التسايل وبائعة الخمر ،عىل
أن يرد املال نهاية الشهر ،ولكن متيض الشهور الطوال بال فائدة يجنيها هؤالء إال
الندم .وال أدري كيف يتمكن من إقناع كل هؤالء الحمقى .املدهش يف األمر أنه
متكن من الحصول عىل فول وقطعة جنب وخمسة أرغفة وزيت سمسم العصارة
الطازج .وبعد أن ابتعد خطوتني عن الدكان مل ينس أن يشتم نارص وهو يشري إليه
إشارة بذيئة قائالً:
«الله يحرقكم عامل حرامية مقاطيع جايني من آخر الدنيا ،اليمن ضياع زمن!!».
السباب فقط هو الذي فعل. بالتأكيد مل يستطع حذاء التاجر الغاضب ال ّنيل منهُ ،
41
ٍ
طرف ثالث الحب من
42
ٍ
طرف ثالث الحب من
الفصل الخامس
تضيق
ُ بكثيف أحزان ِه ،ورصاعات ِه وآهات ِه يبقى املساحة األكرب التي
ِ السودان
بنا ،توسعنا ركالً تصالحنا معهُ ،وتعتذر منا بقسو ٍة ونتقبل أسفها بال مربّر مقنع.
لحلم
قدم ٍالسودان الذي يربطنا مبليون حبل مربع ،ومع ذلك ال نجد في ِه موطأ ٍ
حالل ،وال نعلم حتى من هو الشخص الذي أصدر مرسوماً بتحريم األحالم .فقط
هي الشعوب التي يحييها املوت ،أما الحكام فيحييهم ظلمهم ،نذكرهم كلام
أوجعنا بكاء أطفالنا الجوعى ونسبهم ونلعنهم ،نذكرهم كلام فشلنا يف الحصولِ
عىل جرعة دواء ونسبهم ونلعنهم ،نذكرهم كلام ارتعشت أوصالنا برداً وكان غطاؤنا
لرب السامء _ ال ليشء إال _ لنسبهم ونلعنهم ،أليس ثوب السامء ،فرنفع أكُفنا ِ
هذا تخليداً لذكراهم الغالية؟ .الدموع تبقى يف الذاكر ِة أكرث من الفرح الشحيح.
التاريخ دامئاً يحتفل بالحزن وال يحصيِ لنا إال عدد املذابحِ التي حصدت رؤوس
البرش ،وال يذكر إال مواقع املعارك والحروب ولكنهُ يتجاهل أعياد ميالد األنهار!،
وحتى الجغرافيا تنحا ُز أيضاً إىل املوت وال تشري إال إىل أماكن املقابر الجامعية
ومناطق املجاعات واآلفات واألوبئة .انتصاراتنا وانكساراتنا كلها عىل حدٍّ سواء
موقّع ٌة بالدماء.
ومل نقل أبداً أننا يف بل ٍد يُعاين ليك يضحك ،فنح ُن نُنافق الفرح ونضحك مجربين،
43
ٍ
طرف ثالث الحب من
ترقيع ثياب النسيج االجتامعي َ نضحك عىل أنفسنا حيث ال منلكُ تغيرياً .نحاول
مغلوب عىل أمره. ٍ بائس
شعب ٍ ٍ يك ال يهرتئ ،نزو ُر بعضنا ونرسق األمل مبهني ِة
ِ
جنبات رسب يف تجمعنا األفراح وتوحدنا األتراح ويطربنا ُحداء القوافل وهي تت ّ
تصنع الواحات وتخلق من الرمال خلية نحل لتجعل من شه ِد ائط والصحاري ُ الخر ِ
التواصلِ وجب ًة اجتامعية تُنسينا وخذ اإلبر وآالم الرحيل .السوداين شديد األناقة
يف اجتامعيات ِه ال يحتاج إىل ربط ِة عنق أو حذا ٍء إيطايل ليك يبدو وسيامً ،أناقتهُ
تُعبرِّ عنها البساطة ،وتحتويها الرحابة ،ذاك النوع من األريحي ِة الذي يُو ِّحد القبائل
ويلغي الفوارق ويزيل الطبقات ويختزل جميع فصائل الدم يف فصيل ٍة واحدة.
{أوو سوداين}! .وكام نُنافق الفرح كذلك نقيم مهرجاناً للحزن وغري ِه للموت .كمن
ببعث جديد ،فمن غرينا يحرتم املوت؟ ومن غرينا يُهدي باقة ورد إىل عزرائيل يحلم ٍ
؟ويُوقِّع عيل البطاق ِة مع حبي ..الحياة .نفرح ليك نهزم املأساة ،ونبتسم حتي
متوت املعاناة ،نتواصل فنصريُ أرس ًة واحدة ،لتستدعينا زغرود َة واحدة توزِّع رقاع ُ
الدعوة للجميع ،مجرد زغرودة ترسل بطاقاتها لجميعِ األحياء القريب ِة والبعيدة
بصوت ٍ فيستعد الجميع لالحتفال وترتفع أصوات «الدالليك» ،وتصدح املغنية
يقه ُر الحزن املقيم.
«الليلة ساير ..يل بت القبايل ..ال ِب ْندُ ورا ليه»
نُغني لنشحن الفضا ِء بالفرح ،ونغني ليك نحيا .يصبح الغناء الشعبي هو املرآة
التي تهبنا صورنا الحقيقية العالقة يف الحياة ،أو التي نحلم بها ،ويف الوقت نفسه
ماض لن يعود .لن تفلح كل العمليات التجميلية التي نحن مازلنا نتباىك عىل ٍ
نجريها ليك نر ّمم زجاجة بعد تحطمها .من يستطيع إقناعنا بهذه الحقيقة؟ .سنظل
44
ٍ
طرف ثالث الحب من
نغني ونطرب ونتناول هذه العقاقري املنشطة لألمل حتى نستمر يف الحلم .يا لها
البؤس وساد ٍة لينة،
ِ مغلوب عىل أمرها تصنع من ٌ شعوب
ٌ ِ
أضغاث أحالم!. من
وتتناول لفافاتها املخدرة لتهرب من واقعٍ مرير.
كنا مجتمعني يف منزلِ العم إحسان ،أنا وموالنا بِيرت ونارص اليامين نتجاذب
فيدخل علينا حسن ضالل مرتنحاً من شدة السكر بدون أن يلقي ُ أطراف الحديث،
علينا التحية قال:
«الليلة يف حفلة يف «فرِيق ريد» ،نقوم منيش يا جامعة نه ِّيص شوية»!.
فيقاطعهُ نارص اليامين مؤ ّمناً:
«إنتوا دي مش مناسبة عرس ولد أستاذ محمد الكبري ،والال أنا غلطان؟».
«أيوا فعالً ،والله رسلوا لينا كروت الدعوة قبل يومني».
يرد علي ِه العم إحسان ويضيف متسائالً:
«لكن املناسبة مش بكرة؟».
«أيوه ،لكن الليلة ِحنة العريس والدنيا حلوة!».
وافقت يف سعادة وقلت حاسامً أمري:
«خالص أنا مبيش معاك ،لكن الحجاج ديل ميشوا بكرة مرة واحدة ،نقوم منيش
يا أخوي البهجة ما تفوتنا ،عيل قولك الدنيا حلوة ،أها معاكم سالم!» .وبعدها
انرصفت.
تفيأت روحانا ظالل االرتياح ونحن يف طريقنا إىل املنزل الذي كان يقام فيه
الحفل ،ومل أجد فرصة أنسب من هذه يك ال أرفض كأساً من حسن ضالل ،فكان
نصيبي زجاجة كاملة! ،زجاج ٌة كاملة كانت كافية لتحريك ميليشيا الجنس بداخيل!.
45
ٍ
طرف ثالث الحب من
تسللنا خفي ًة من منزل مستورة بائعة الخمر ،قبل أن تكتشف أمرنا .فلم ِ
يعطها
حسن ضالل مالها ،برغم أين دفعت مساهمتي كاملة ،يبدو أن اللعني وضع كل
املال يف جيبه ومل يكرتث ألمرها وأمرين بالخروج برسع ٍة ،مستغالً كرثة الزبائن يف
هذا اليوم .زجاج ٌة كاملة نجحت يف إشعال فوىض الشهوة الرخيصة .لذا بدت يل
مؤخر ِة املرأة التي كانت تسبقنا بخطوات يف ذلك الزقاق الضيق ،واملظلم نسبياً،
أكرث جاذبي ًة وسحراً ،فحاولت االقرتاب منها أكرث رمبا ألرتكب معها حادث سري!.
الرقيب االجتامعي املتز ّمت ،وال تتقيد بقوانني
ِ مخالف ٌة مروري ٌة غري عابئة برشط ِة
الطُ ُرق! .وعند املنعطف الضيق الذي يؤدي إىل الزقاق األكرث ضيقاً ،وبإرصار زجاج ِة
خم ٍر كاملة ،أظنني ارتكبت معها حادثاً ال أخالقياً! .ويف الحقيق ِة مل تؤملني الصفعة
السباب البذيء الذي أطلقتهُ عيل هذ ِه املرأة، ِ ِ
رصاص التي تلقيتها ،أكرث من
فابتعدت ال ألوِي عىل يشء مخافة أن تصل شتامئها إيل أبينا آدم وأمنا حواء! .ومل
ينقذين منها إال حسن ضالل وهو ينفج ُر يف وجهها كعبوة ناسفة:
«مالك؟؟ الغريب عليك شنو؟ يا الفعلتي ويا الرتكتي ،نسيتي ماضيك؟ يا بنت
ال .»...
ِ
أصوات كان يشتمها حتي أوصلها بيت الحفل ،واختلط حابل السباب بنابِل
املغنيات وضجيج التصفيق ،وال أدري كيف متكنت هذه املرأة املسكين ِة من
أشفقت عليها من طولِ لسان ِه الذي كان يجلدُ ب ِه السكارىُ ِ
الفكاك منهُ ،حتى إنني
وبائعات الخم ِر والهوى ومرتادي أوكار الرذيلة دون أن يتمكن أحد من ردعه. ِ
كنت أدري بأنهُ ـ رمبا ـ سريوي لها ـ رواية جيشا رائعة الكاتب األمرييك آرثر
غولدن وبطلتها سايوري ـ عىل طريقت ِه الخاصة .ذاكراً أصلها وفصلها .تلك الفتاة
46
ٍ
طرف ثالث الحب من
التي باعها والدها صياد السمك الفقري وهي مل تبلغ التاسع َة من العم ِر بعد إىل
بيت دعار ٍة يف منطقة كيوتو ،حتى أصبحت بعد فرت ِة ليست طويلة ،بنت الليل ِ
األكرثَ شهر ًة يف املدينة!.
فحاولت أن أتناىس املوقف السخيف ،وأنسجم مع فوىض الزمكانية املربكة، ُ
بقو ِة دفعٍ من زجاجة ِخم ٍر كاملة!! .وكان العامل يدو ُر ويدو ُر ،ويبدو أجمل
ومحتمل .يا للخمر!.
عرش من يجلس عىل ٍ ُ أول ما وقعت علي ِه عيني ،كان مشهد العريس وهو
يتوسط «عنقريب الجرتق» امللون باألحم ِر واألسود ،واملزخرف األلوان الصارخةّ ،
باألشكالِ الهندسي ِة وجري ِد النخل ،وعىل رأس ِه هالل من الذهب الخالص ،وعىل
رأس ِه «الرضير ِة وعىل يد ِه الحريرة» .وعىل منضد ٍة أمام ِه وضع طبق الحناء وصينية
يجلس عىل ميين ِه الوزير رافعاً يدي ِه إيل الرجال ُمبشرِّ اً يف حلب ِة
ُ الجرتق ،فيام كان
الرقص ،بينام تتقافز الزغاريد وتعرب الفضاء معلنة عن بداي ِة كرنفال الفرح الباذخ.
فيحارصين مقطع املوسيقار محمد األمني وهو يصدح «وتنية حلوة للشبال»
يف رائعت ِه حروف اسمك .كنت أشاهد نخالت بالدي وهن يتاميلن كلام عربهن
إعصار البهجة ،وكلام لطمت شواطئهن أمواج الطرب ،فتجدهن ميارسن االحتفال
بعذوب ٍة ،وميزان اللحظة يتأرجح بني حميمية النشوة ودفء االنفعال! .الزغرود ُة
السودانية لها طعمها الخاص ،تأتيكَ دسم ًة وخالية من الكوليسرتول! ،تتناغم
موسيقياً وتصيبك بذاك النوع من االرتعاش .االرتعاش الذي يستأجر أوصالك إن مل
يكن ميلكها كلي ًة ،ويُعدِّ ل رسعة محركات أنفاسك ،ويعلن حالة الطوارئ يف دمك،
حتى تتصادم كروية دم عاشقة مع نجمة شوق منرية ،يف منطق ِة نزاعٍ وجداين!.
47
ٍ
طرف ثالث الحب من
48
ٍ
طرف ثالث الحب من
49
ٍ
طرف ثالث الحب من
وتف ّرقت الخطوات املتعبة أيدي سبأ ،وال يشء يبدو للعيانِ إال ذاكرة الفوىض
توقفت عند عينيهاُ يطل من كوم ِة رما ِد العيون املتو ِّرمة .ولكني والسهر الذي ُ
ينزف دمعها يف وهن تل ِّوحان مودعات مثل األناملِ املطلَّة من نواف ِذ القطاراتُ .
وتحلم بالوصول.
ُ كل املحطات
شعرت أن مث ّة صل ٍة
ُ وأنا عىل رسي ِر وحديت ،كنت أتقل ُّب عيل جم ِر حرييت تائهاً،
شعرت بهذا النوع من األلفة املوحشة التي تُصيبك بالدوار ُ تربطني بهذه الفتاة،
بيت شع ٍر واح ٍد ،وزقاقٍ
شعرت أن هاتني العينني سكنتا معي يف ِ ُ والفراغ واالمتالء.
تيقنت أن هاتني العينني رسمتهام يف أول شخبطايت يف حص ِة ُ واح ٍد ،ومدين ٍة واحدة.
النعاس أخرياً
َ الرسم ،وشهدتا أول تهوميايت وكانت بطلتا إحدى قصائدي! .وغافلني
وأنا أتوسدها صحواً وحلامً ،وأنتظر عىل أح ّر من الجم ِر أن ترشق الشمس ويهطل
الحلم من جديد ...
تفعل الروايات السخيفة. ولكن النهار يستدعي الليل والحلم معاً ...متاماً كام ُ
50
ٍ
طرف ثالث الحب من
الفصل السادس
تعلمت من حكاوى الجدات التي أحفظها وتجعلني أسافر بعيداً بعيداً ،أن
العمل الروايئ يعترب خلطة سحرية تجمع بني ما هو متخ ّيل وما هو تلقايئ ،تكون
فيه مصائر الشخوص تحت رحمة األحداث التي تتشكل بغت ًة ،أو باألحرى تخضع
الشخوص ملزاجية الروايئ فتتسلّل التامثالت طائش ًة منفلت ًة أحياناً ،ويف أحايني
أخرى هادئة ومتقوقعة يف جوف نفسي ٍة غري م ّيال ٍة لضجيجِ النصوص ،وفوىض
انبعاثات الدواخل املكبوتة عمداً ،بقص ِد إرضا ِء رغبات املجتمع .وأيضاً قد تفاجئك
ِ
بثياب مدني ٍة! فال تدري
بني السطور عب ّوة تراجيدة ناسفة يفج ّرها روايئ انتحاري ٍ
تبك أم تضحك؟ .أم سرتقص كزوربا حيال هذا املوقف امليلودرامي املؤمل أن ىِ
وأنت ترص عىل تجاوز جميع خطوطك الحمراء ،مفسحاً املجال لذلك الرضب من
السخرية ،الذي يجعلك ال تتو ّرع عن الهزل يف أكرث املواقف إيالماً! .قد ال أشري هنا
ٍ
فضاءات أكرث تصالحاً للكوميديا السوداء ،ولكني بال شك أفسح املجال للتحليق يف
عم إنثناءات أمزجة الريح ،وأطوارها املتقلبة ،واألحوال الجوية للنصوص املعبئة
الجيش تخرب ُه بوفا ِة
ِ بالتضاد! .ومبنطق ولسون أن أحدهم جاءتهُ برقية يف معسك ِر
والدت ِه فقال للضابط املسؤول:
«يجب أن أذهب يا سيدي فهذه ليست غلطتي كام ترى!» .وعندما ُس ِمح له
51
ٍ
طرف ثالث الحب من
ذهب ونام مع امرأة ،ويف الصباح ذهب لتشييع جنازة والدته! .بكل بساطة!.
ٍ
تعرجات إذن هذه املواقف ليست غلطتي .وبهذا املنطق تقع املسؤولية عىل
دقيق ٍة يف بِنية النص ال يحسها القارئ وال يفرسها ،وبالتايل ليست بالرضورة أن
تنعطف فيها بغت ًة بال نوايا مسبقة،
ُ يقصدها الراوي! .فهي شوارع تتخطط تلقائياً،
وجميع محطاتها ليست معروفة! .ال ت ِدر ظهرك لرا ٍو فقد تصبح بطله القادم!! .لله
د ّر الجدات الحكاءات العظيامت ،لقد تعلمت منهن الكثري دون أن أضطر ألحني
ظهري وأميش عىل عكاز.
فعندما ذهبت آخر نهار اليوم التايل ملنزل العم إحسان ،مل أكن أدري بأنني
سأرتجل تخطيط الجنون يف شوارعِ القدر! .مل أكن أعلم بأن الفانتازيا تسك ُن
مدينتي الفاضلة ،وأن الجنون يرفع أعالمه وراياته يف جميعِ أسوارها وأبوابها
العالية! .ألقيت عليهم التحية وأنا أمتنى أال يكونوا قد أفرغوا ب ّراد الشاي األحمر
النبيذ! .كانوا ثالث ًة وال ينقصهم إال حسن ضالل ،كانوا يتجاذبون أطراف الشاي
ويحتسون األحاديث بنكه ِة النعناع واأللف ِة املعتادة ،أفسحوا يل مكاناً للجلوس
بكوب الشاي الساخن، ِ وحاولت أن أدخل معهم يف معرتك الكالم وأنا أستمتع
بينام هم يتسامرون بحميمي ٍة معتاد ٍة لدرج ِة الفتور .جميلني هؤالء الناس .قال
عم إحسان ضاحكاً وهو يستلف مقول ًة إلبراهيم الع ّبادي:
«يا حليل أم درمان القامت يب جهلها رفعت الغريب ورمت أهلها!!».
فيتدخّل نارص ليقاطع عم إحسان باحتجاجٍ مرِح!:
«قصدك شنو يا إحسان ،نحن نلقاها منك والال من حسن ضالل؟؟».
فريُد علي ِه العم إحسان وهو يبتسم:
52
ٍ
طرف ثالث الحب من
«ال ياخ ما تزعل يا أخوي نارص اعتربها ذلّة لسان بس ،أنا قصدت حال كل
السكان األصليني دامياً حالهم زي الزفت ،أهو عندك الهنود الحمر سكان أمريكا
األصليني!!»
«الله مرقك يا أخوي ،دامياً بتغلبنا يف الكالم!».
عم بِيرت بضحكت ِه املجلجلة .ليضيف إحسان مبرح« :أيوا والله نارص ده مننا وفينا
وأنا ما قصدته يب كالمي».
ينتبه إىل رشودي ويردف غامزاً:
«يا ولدي مالك ساكت الليلة؟ ،ماكل سدّ الحنك؟».
«ال والله مايف حاجة ،لكن كالمكم عاجبني ،وما عندي حاجه أقولها».
مل أكن صادقاً يف هذه العبار ِة مطلقاً!!.
كنت بعيداً كل البعد عنهم هذه املرة ،لدرجة أنني كنت أعتربهم أعلم أنني ُُ
ُمملِني للغاية ،فام عادت تستهويني هذه األحاديث املكررة .للمر ِة األوىل كنت
أمتنى أن ينرصف عم بِيرت ونارص حتي أنفرد ب ِه .وكالعاد ِة يف مثلِ هذه املواقف
الوقت بطيئاً ،حتى سمعنا أخرياً آذان املغرب فغادرا مرسعني بحمد الله .مرت ُ م َّر
برهة من الصمت حتى استطعت إدراك قطار الكالم:
«والله يا عم إحسان أمس شفت بنت يف حفلة الحنة!!».
«شرييا والال ديناري؟» .قاطعني بسخرية متهكّامً.
فتجاهلت سخريتهُ وأنا أضيف:
«ال البنت دي أنا حسيت إين بعرفها من زمان ،و.»..
«ميكن ش ّبهتها والال حاجة زي كده!».
53
ٍ
طرف ثالث الحب من
«ال ،أنا متأكد إين قبل كده ما شفتها! لكن حصل بيني وبينها ِولِف عجيب!».
أشعل سجارة رومثان وقال يل بلكن ٍة عميقة:
«والله دي حاجة غريبة! ،خالص لو لينا قسمة نشوفها الليلة ،أنت نايس حفلة
بعدين؟».
أنس أبداً أنني قد ألقاها مجدداً هذه األمسية ،فال بدَّ أن تحرض حفلة بالتأكيد مل َ
العرس طاملا كانت حارضة يف حفلة الحناء ،أو هكذا اعتقدت .وبدت يل هذه
بقلق غريب .مل أستطع أن أحاور ُه أكرث من وشعرت ٍ
ُ الفكرة منطقية ومريحة جداً،
ذلك فقد كانت تشغلني الكثريُ من األمور ،فاستأذنتهُ بعد ذلك الذهاب ،بعد أن
اتفقنا أن أم َر علي ِه عقب صالة العشاء ،فلعلني عىل موع ٍد مع القدر ،أو كلينا .!..
كنت يف كاملِ أناقتي هذا املساء وأنا أرتدي رسوايل الشارلستون األبيض مع ُ
قمييص اإلنجليزي األزرق ذي الكمني القصريين ،وترسيحة شعري الشبابية املميزة
التي كانت مت ّيز شباب تلك األيام .العم إحسان كان ينافس الحجاج يف شدة بياض
جلباب ِه «السكروتة وعاممت ِه الترتون شديدة البياض ،ومركوب ِه الفارشي األنيق».
هذا الرجل الذي ميتلكُ هيبة الشيوخ ووقار القديسني ،فقد كان ينتمي إىل جين ٍة
مرسوق ٍة من دمايئ ،رمبا! .أحبهُ رغم عدائنا غري املعلن ،ال أدري هل سيكتب الخلو َد
أبدي
لتلك القواسم املشرتكة التي توحدنا؟ أم ستتسبب تلك اللوحات يف انفصال ٍ
يشطرنا إىل نصفني؟ .ترى هل سنجتمع مثلام فعل األبيض واألزرق ومننح الدنيا
حبيب ًة اسمها مرص؟.
بيت العرس ،ومل تنتشلني منها إال ناوشتني هذه األفكار ونحن يف طريقنا إىل ِ
أصوات الزغاريد والغناء الشعبي كامل الدسم .وهناك رحبوا بنا بأريحية السوداين ُ
54
ٍ
طرف ثالث الحب من
ابن البلد ،فهذه الطيب ُة تبقي ماركة مسجلة وعالمة للجودة أحياناً ،الكرم الشعبي
حتامً ال يتمثّل يف قطع ِة خبز أو جرعة ماء ،نح ُن نكر ُم ضيوفنا بالبشاشة نذبح لهم
نقطع
ُ خرافنا ابتساماً ونسقيهم {حبابكم عرشة} وندعوهم للدخولِ يف الوجدان.
من جلودنا ونشويها عىل جم ِر املؤانسة ونحن نحتيس الشاي األحم َر الساخن.
سألتهُ بعد تناولنا لوجبة العشاء:
«أها يا عم إحسان رأيك شنو نحرض الحفلة بعد أتعشينا؟».
«والله يا ولدي أنا طولت من الحاجات دي ،لكن أنا حايس إين الزم أحرض الحفلة
دي بالذات!» .رد مقطّباً جبينه وكأنه يتوقّع أمراً عظيامً.
«خالص قوم منيش نرشب لينا حاجة!».
«مايف مشكلة ،اليو ُم خم ٌر وغداً أم ٌر!».
«عىل بركة الله!!».
فتحركنا قاصدين منزل حاجة مستورة بائعة الخمور البلدية ،والعم إحسان يردد
يف حرسة:
«ياحليل زمن البرية أُم ج َمل!!».
النقالب داخيل ،بل ولسنا منلك حق ٍ وشك التحضري ال ميكننا الجزم بأننا كنا عىل ِ
يظل حلمنا التاريخي يف التداول السلمي للسلطة أمراً مستحيالً بكل االقرتاع ،فيام ُ
املقاييس! .كانت تحكمنا نفس الجينات الوراثية الغبية ،ويسيط ُر علينا ذات الواقع،
فمن ميلكُ حق التغيري؟ .هذه الخطوات التي أرهقها السري يف أسفلت األنظمة
الخرقاء وما عادت تعرف إال نفس الشوارع ،وال تحفظ ذاكرتها إال املحطات ذاتها،
الشعوب املطحونة التي
ِ هل تري انعدمت الخيارات؟ .لقد أصبحنا كغرينا من
55
ٍ
طرف ثالث الحب من
تخلق من مترِها آلهة نسقيها من دمائنا ونرعاها ،ولكنها تأكلنا عندما تكرب! .جميع ُ
حكامنا يحلمون بأن يصريوا آلهة من تمُ و ِر هتافنا .ينهشُ ون عظامنا ويجعلوننا
نفك ُر يف الثور ِة بعد أن نعبئ بأجسادنا املنهك ِة أحشاء املعتقالت ،وإذا سلمنا من
لنفس اإلله الذي صنعنا ُه من مترنا لنظفر بقطع ِة
نخرج ل ُنصيل ركعت ِني ِ ِ
املوت جوعاًُ ،
ِ
للتآلف خبز! .هذا هو الواقع شئنا أم أبينا .فمن هو املسؤول عن قدرتنا العجيبة
مع املأساة؟ .من هو صاحب األيادي الخفية التي صنعت صداقتنا التاريخية مع
الحزن؟ .األحزان التي ال تبكينا تضحكنا!.
هذه هي املفارقة الوحيدة التي تضخُّ يف عروقنا األكسجني! .إذن فلنرشب وبدالً
من أن نرصخُ ونقول:
«ملعون أبوك يا بلد» .عيل طريقة سيد أحمد الحردلو ،ملاذا ال نهتف« :ملعون
أبوك يا حزن؟».
والسباب واللعنات وما زالت تعطي،
ِ هذه البالد الطيبة التي شبعت من الشتائم
هذه األرض التي ركلناها يف املؤخرة ومارسنا معها الجنس عنوةً ،وحملت منا
بالحرام وما زالت تعطي بال مقابل ،األرض التي مارسنا عليها عقوقنا الوطني
وهتفنا ضدها ،وقلنا يف وجهها {أُ ٍف!} .ولكنها ردت علينا مبنتهى األمومة:
«أحبكم فأنتم أبنايئ أرضعتكم من نييل بعد أن حملتكم يف أحشايئ ِ
مئات
السنني!!».
ِ
أنصاف الليايل الباردة فنغني ونبيك .هذه هذه األرض التي نتذكرها يف املنايف يف
األرض التي قبل أن متنحنا الهوية وهبتنا التاريخ .هذه القارة الطفلة ملاذا نرتكها
تتس ِّول األبناء يف أرصف ِة املهاجر وهي الطفل ُة الودود واأل ُم الولد؟! .إذن فلنرشب
56
ٍ
طرف ثالث الحب من
ونهتف ملعون أبوك يا حزن .ارشب يا عم إحسان يف صحة الفرح .ارشب وال
تبالِ ،فاليو ُم خم ٌر وغداً أم ٌر .الخم ُر وحدها هي التي تُلغي الفوارق االجتامعية!.
الذي يثمل بالشمبانيا مثل الذي يسكر بالعرق!! .املحصلة واحدة .نشو ٌة وثقل يف
اللسان ،وجنس .!..احتس الكأس وال تبالِ .لن تشعر بالفرق.
ارشب يا عم إحسان وتخ ّيل نفسك إمرباطورا وباقي العامل من رعاياك! .ال تخش
الكأس األول .مرارتها مخادعة .رسعان ما تتالىش يف جب الجوف الظامئ.
عقارب الساع ِة ِ احتسينا كؤوسنا بلهف ِة الذي يتذ ّمر من تلك ِؤ الزمن ويسعى لدفعِ
أفهم
أحسست أن أصابعي تتواطؤ مع لهفتي ،أنا ُ ُ ليك ترفع معدّلها يف الركض!.
جيداً نفسية هذه األصابع! .فهذا هو صنيعها عندما أفاجئها ُمتل ِّبس ًة بالشوق!.
نفس اليشء الذي يفعلهُ تفعل نفس اليشء الذي تفعلهُ الشفاه عندما ت ِح ُّن لقبل ٍة!ُ .
ُ
تحتاج ملشوار! .أنا ُ الذراعان عندما يحلامن بعناق! .نفس ما تفعلهُ األقدام عندما
أفهم جيداً لغ َة هذه األصابع! .العم إحسان أيضاً كانت أصابعهُ متوترة! .هل تراها ُ
تفك ُر يف لوحة؟ .فهي يف الفرت ِة األخرية انشغلت عن األلوان وما عادت تتخضّ ُب
اجات الهوائية، ات الدر ِ بالشحوم واملواد الالصق ِة التي يستعملها يف ترقيعِ إطار ِ
ِ إال
وتعزف يف الهزيعِ األخريِ من الليل ،هذه ُ ترسم
ُ هذه األصابع التي خلقت ليك
تطمع يف رياض ٍة فني ٍة تّعيدُ
ُ األصابع التي ملَّت من هذا البيات الفني .هل تراها
إليها نشاطها اإلبداعي؟ .ارشب يا عم إحسان ،ملعون أبوك يا حزن! .احتس كأساً
وابتسم فحسب.
يا إلهي! .لقد تأخرنا كثرياً عن موع ِد الحفل ،إذن فلنذهب لعلنا عىل موع ٍد مع
وأنصاف عقول ،وبكاملِِ ِ
وأنصاف عيونٍ ٍ
خطوات ِ
بأنصاف القدر .وبالفعل تحركنا
57
ٍ
طرف ثالث الحب من
58
ٍ
طرف ثالث الحب من
59
ٍ
طرف ثالث الحب من
60
ٍ
طرف ثالث الحب من
61
ٍ
طرف ثالث الحب من
دام.
بصمت ٍٍ والسباب
«حتى أنت يا بروتس؟».
هذا السؤال كان يصلح ليوجههُ أحدنا إىل اآلخر دون أن ينتظر إجاب ًة بعينها.
تجلس قبالتنا برفقة كريس شاغر .. ُ وهي
ُ
نتعايش معها، هذا الرصاع النفيس كان نتيج ًة لرداء ِة األحوال االجتامعية التي
املناصب الربملانية ،ق ّيدتنا
ِ وتسلط الحكومات التي من أجل أن تك ِّبل نفسها مبقاع ِد
بحبال املشانق واملزالق والعوائق ،وقبل أن تُز ِه ْق أرواحنا قتلت فينا الحلم!! لذا
كنا نتوهّم وجوده .وكان هذا الوهم فردوساً وريفاً نتمنى الخلود فيه إىل أب ٍد
قريب.
صعب جداً أن ميوت الحلم! .من السهلِ أن تحكم عىل أحدهم باملوت! ،ولكن ٌ
الشخص بعف ٍو إلهي! .فحلمنا إذ كنا ال منلكِ ليس مبقدورك أن تصادر حلم نفس
سوى الحلم! .فيا لفداحة األمر!.
ولكن هل متكنت هذه األنثى من اكتشاف طالسم هذه اللغة البائدة التي كان
نجلس محنطني عىل مرمى شوقٍ بأننا ُ نتبادل بها حواراتنا؟ .هل كانت تعلم ونحن
اتنشتهيها بأم ٍر من اآللهة؟؟ .هل كانت تدري بأن الهرم األكرب واألصغر ،حضار ٌ
سادت ثم بادت من أجلِ نظر ٍة واحدة لن تكلّفها أكرث من رمش ِة عني؟ .فنح ُن مل
توت تسرتُ فشلنا يف العثو ِر عىل نبحث تحت ركام خيباتنا الكثرية عن ورق ِة ٍ ُ نزل
نذهب مبلء إرادتنا إىلُ ٍ
مسكنات لألمل!. نبحث يف صيدليات الفراغ عن ُ آخر ،نحن
ونطلب منهُ إجراء عملية نقل حلم! .ونتناىس عمداً أن دماءنا ُ اختصايص التخدير
تحمل نفس الجينات امللوثة باإلحباط ،وذات الكرويات التي تسيط ُر عليها فصيلة ُ
62
ٍ
طرف ثالث الحب من
63
ٍ
طرف ثالث الحب من
«وفصالهُ يف عامني!!».
ملحت إحدى قريبايت مت ُّر أمامي، ُ فلم أعره اهتامماً ليس تجاهالً مني ،ولكني
فاستوقفتها ألسألها عن هذه الفتاة التي قتلتنا بالتفكري!:
«نادية نادية دقيقة أنا عايزك!».
تلتفت تلك األنثى بوجهها الريفي الهادئ وتقول:
«كيفك يا عاطف؟ ناس البيت كيف عاملني؟».
سمحت يا نادية البنت دي اسمها منو؟». ِ «متام والحمد لله ،لو
سألتها وأنا أشريُ نحو الفتاة بأصبعٍ خفي:
«دي؟؟ .دي إحسان عمر!! ،أنت ما بتعرفها؟» .بدهش ٍة بالغة سألتها مبتلعاً ما
تبقى من ريقي:
«قلت يل منو يا نادية؟؟» .بدت الفتاة مندهشة وهي تتطلع يف وجهي قائلة: ِ
«إحسان يا عاطف!! مالك يف شنو؟» .بُهِت قلبي الذي كفر!!.
شاهدت العم إحسان وهو يقف ويجلس يف شب ِه ذهول يف تلك اللحظة التي ُ
توقف فيها الزمن .فالذي حدث كان أكرب من توقعاتنا .كان أكرب حتى من محاولتنا
سيعرتف بأُبوتِها؟.
ُ قالب يناسب حجمه .هذه اللحظة اليتيم ِة ترى من لوضعه يف ٍ
املسؤول عن توقف الزمن؟ .بل من الذي دشّ َن عرص السكون ذاك؟. ُ ومن هو
وبدأت أردد ذاهالً:
ُ إحسان؟؟؟.
«يا عم إحسان دي إحسان! ،يا عم إحسان دي إحسان!».
عالمات
ُ تبحلق يف وجهينا مدهوش ًة ،وتدو ُر يف عقلها ُ
آالف ُ فيام كانت نادية
االستفهام ،ويكا ُد الفضول يقتلها قتالً ،فتسألني بإلحاح طفويل:
64
ٍ
طرف ثالث الحب من
65
ٍ
طرف ثالث الحب من
66
ٍ
طرف ثالث الحب من
الفصل السابع
الخلل االجتامعي الذي صنعتهُ الظروف االقتصادية يف السودان ،كان ظاهراً
مثانينيات القرنِ املايض ،ورمبا قبل ذلك بكثري .وقد ال تخفى ِ للعيانِ يف مطلعِ
ألسنة التعاطي السيايس يف النفسية السودانية اإلفرازات السالبة التي طرحتها ِ
متعب من توايل اإلحباطات وخيبات األنظمة .وظلت ٌ جيل
املرتنحة أصالً .فنشأ ٌ
هذه السحاب ِة السودا ِء جامثة عىل الصدور كنتيج ٍة طبيعي ٍة للفق ِر والجوعِ واملرض
غابات الرصاص، ِ تخصص لتشجريِ
ُ والحروب املتتالية .امليزانيات الضخمة التي
توقيع
َ تحمل
ترسق باسم الثورة ،والتي ُ والحسابات الرسية يف جميع البنوك التي ُ
الشعب نفسهُ ،ولكن دون علمه مبا يجري تحت الجرس .فكان الذي ينجو من
ودام البحث اليومية عن ال ِكرسة! .لذا بتنا يف حوا ٍر ٍ
دائم ٍ ِ ميوت يف رحل ِة
الرصاصةُ ،
بني الخبز والرصاص لن ينتهي إال بتكميم األفوا ِه تحت صمت املقابر!.
ليأت الشاعر محمد امليك إبراهيم ليكتب: ِ
الشعب معنى أن َ
يعيش وينترص؟ من غرينا ل ُيغيرِّ التأريخَ ِ «من غرينا يعطي لهذا
والقيم الجديد َة والسري؟؟»
َ
وتصلح
ُ ثري!.
غريي يراها مجرد أبيات شعر متفائلة تصلح ليك يرددها مهاج ٌر ٌ
تصلح لكلِ يشء ،ولكنها أيضاً ليك تضع جيالً بأكمل ِه يف غرف ِة تخدي ٍر شديدة القوةُ .
67
ٍ
طرف ثالث الحب من
يل كقاطرة من اآلالم، ال توقظنا من شخرينا الوطني .خواطر محبطة كجييل مرت ع ّ
وكأين وقعت عقداً أبدياً مع الوجع .ملاذا وإىل متى؟ .كل هذه املربّرات غري كافية،
بل ال يجدر أن يردّدها إال شخص متخاذل وعاطل عن اله ّمة.
ككلب ضال .مل أجد أحدً ا ٍ عدت إىل املنزل متلصصاً .كنت أتخبط يف مشيتي
متتلئ حيطانها بصو ِر غبت يف داخل شبه غرفتي الفوضوية ـ التي كانت ُ مستيقظاًُ .
الفنانات واملمثالت الرخيصات ـ تكا ُد تخنقني .إذن هذه إحسانُ الحبيب ُة االفرتاضية
ِ
تخطيط حسب تصور الحلم ،ولكن هل يحق لنا هذا الحلم؟ .كيف نتمكن من
ونعشق أنثى ُ نرتحل منها؟ .نتغاىب ُ شوارع مدين ٍة عشوائية؟ .هل نهدمها أوالً أم
مل يسبق لها أن قابلتنا ،يا للعبث!! .ويظل فارق السنِ بيني وبني العم إحسان،
تؤسس ُ زمني كبري!} ،كأنهُ جدار من العزل ِة مع الزمن .ولكن تظل العبثي َة ٍ
{كبيات ِ
ليش ٍء يكم ُن مبقرب ٍة من جنوحِ أفكارنا ذاتها ..أنت قد ٌر يا عم إحسان .ح َملت اسم
شقيقتك الراحلة ،التي كان اسمها أيضا إحسان! .فهل يكونُ جزاء اإلحسانِ هو
اإلحسان؟؟ .وكانت أم درمان كام هي ،مل تكن لديها أدىن فكرة عام حدث ،وبالتايل
مل تستعد له .وفضالً عن هذا التخبط ،مل نكن بأفضل حاالً بالطبع.
يل مجنون ،ال أم درمان هذه املدين ِة املراهقة معامرياً ،تبدو مثل فنانٍ تشكي ٍ
مثل يهتم بهندام ِه ،وال يصفف شعر ِه ،وال يقلِّم أظافر ِه ،ويرتك لحيتهُ فوضوي ًة َ
رصف مكنسة ساحر ٍة أسطورية! ،وال يرتكب الجامل إال يف لوح ٍة! .املدنُ املراهق ُة تت ّ
لحظات الفنانِ طيشاً ِ بطيش ونزق! .واللوحات التي تبقى يف الذاكرة تولدُ يف أكرثِ ٍ
يصنع الفرا َغُ الطيش والجنون ،تأرجحت متاثالت املوقف! .أحياناً ِ وجنوناً! .وبني
انتامءات غريب ٍة ملا هو ملك ٍ أشيا ًء ليست يف الحسبان ،وتخرت ُع تصاوي ُر الخيال
68
ٍ
طرف ثالث الحب من
مطلق لسلط ِة الالوعي؛ وما هو أسريٌ لوعينا الزائف!؛ وتكم ُن املفارقة يف كوننا
نصنع اآللهة ومن ثم نعبدها! .منارس الشذوذ الديني بعاطف ٍة ساذجة ،ونلجأ إىل ُ
فتظل حلامً بعيد املنال ،يف ظلِ النظر ِة الحكم ِة نرجوها الخالص .أما الواقعية ُّ
الرومانسية التقليدية العامة ملنظورنا للحياة! .هذا هو الخلل النفيس الذي يفكِّكُ
ويُهشّ ُش طرق تواصلنا مع العامل .ويقال إن حاجة املجتمع البرشي لهندسة برش
يحتاج أوالً لردم اله ّوة النفسية واملعرفية قبل
ُ أكرث من معامرية!.البنا ُء التحتي
التوسع املفاهيميتسليح األفكار مبعتقدات زائفة! ،لنتمكن من استيعاب فكرة ّ
أشغل نفيس بتمشيط ضفائ ِر قبل التطاول يف بنيان األحالم األسمنتية .وها أنذا؛ ُ
الزمنِ انتظاراً ،وأمارس النميم َة الداخلية .ولكن ال انعتاق من سجنِ التوهم .أحاول
تفخيخَ زمني باألماين ،وأكتب تحذيراً{ :ممنوع الصحو .حقل أوهام!!} .مل يكن
مجرد تجاوز ولولبة أو إسقاط فحسب .بل كان انقيادا أُ ِّميا لفلسف ٍة مخادع ٍة،
تتوارى بخباث ٍة يف نفسي ِة إنسانٍ رشقي! .ليس إال .حسناً ،لست واثقاً من مدى
رجاحة هذه الرثثرة ،ولكن فليكن.
الكف للساعات! ،جاءت نادية أمارس التنجيم وأقرأُ َ
ُ وبعد ثالث ِة ٍ
أيام تص ّوف وأنا
التي تربطني بها صلة قرابة لزيارتنا ،فلم أعد أستطع الصرب أكرث .ورسعان ما
انفردت بها يف فناء منزلنا ليس بعي ٍد من شجر ِة الليمونِ الكبرية ،يف تلك األمسيةُ
الطفلة ،فسألتها يف لهف ٍة دون إبطاء:
«أها عملتي شنو يا نادية؟» .أجابت برسعة ألنها كانت متوقعة هذا السؤال
دون سواه:
«والله يا عاطف مشيت قابلتها قبل يومني وكلمتها عنك ،قالت ما بتعرفك!».
69
ٍ
طرف ثالث الحب من
«أنت يا نادية ما عارفة أنا ما عندي عالقات يف الِحلّة دي» .أجبتها ب ُحنق. ِ
«أيوة أنا عارفة ،املهم قلت ليها إنك عايز تقابلها!».
«ورفضت؟!» .بالتياع قذفت يف وجهها السؤال.
«أيوة!» .لتضيف غامزة« :لكن قالت يل لو معاك ما مشكلة!».
عجزت عن مداراة فرحتي الشديدة ،وأنا أسألها: ُ
«أها ومتني قالت ح نتقابل؟».
فصمتت نادية بُره ًة وكأنها تقصدُ تعذيبي! .فلم أطق صرباً ،واستعجلتها بنفاد
صرب:
«يا نادية ما تحرقي روحي» .جعلتني أشعر بالغيظ الشديد هذه البنت ،ولكنها
قالت:
«خالص خالص يا عاطف ما تتضايق ،بكرة تعال لينا بعد صالة املغرب».
«وأخرياً؟؟!».
أترجم ما يدو ُر بخواط ِر الرشاي ِني وهي تعبرِّ ُ
َ ُ
أحاول أن بصوت أخرس وأناٍ قلتها
الطلق الصناعيَ أحس بأنأتوحم عىل قصيد ٍة ،بل ّ ُ أحس أنني عن فرحها ،كنت ُّ
ِ
يصفوك ويقول لها اخرجي وارصخي ،ارصخي بقو ٍة حتى ال ُ يخنقني ليك أنجبها،
بالضعف.
أشتاق يف هذه اللحظ ِة بالتحديد ِ
للعم ُ أحتاج ملغادر ِة املنزل حاالً .فكم
ُ وجدتني
إحسان ،أريد ُه أن يعلم بأن هنالك متسعاً لحلم .أريد أن أخربه بنرصي الكبري.
تلح يف سؤالها:
نادية كانت ُ
احك يل الحاصل شنو؟». «أها يا عاطف لو سمحت ِ
70
ٍ
طرف ثالث الحب من
71
ٍ
طرف ثالث الحب من
72
ٍ
طرف ثالث الحب من
شخص يحتيس زجاجة خمر هذا بِيرت ونارص للصالة .أما حسن ضالل فسيكون أول ٍ
املساء بال ريب .فطلب منهم العم إحسان أن يعاودوا الحضور للسمر ،فوافقوا.
فأدركت أن العم إحسان
ُ بيد أن العم بِيرت مل تكن له رغبة يف مثلِ هذه الجلسات،
وجليس ال يمُ ل كام أعلم .فأنا منذ ٌ رجل كامل الدسم،يح ُن لجلس ِة أنس ،فهو ُ
أن تركت الدراسة بعد حصويل عىل الشهادة السودانية ،مل يكن يل مصدر ثابت
الكتب التي أداوم عىل قراءتها بني ِ للمعرفة ،غري العم إحسان ،أو من خاللِ هذه
الفينة واألخرى .فلم أكن سوى فأر تجارب تحاول األقدار أن تستنطق مقدراتهُ
اإلدراكية .إذن ال ضريَ يف جلس ٍة نتذك ُر فيها الليايل الخوايل .وقبل كل هذا ُ
قررت أن
أرسد لهُ ما حدث.
رويت لهُ حكايتي ،قال يل وهو ينهض ما ّداً كفه يل:
َ وبعد أن
«تعال عايز أوريك حاجة».
فرافقتهُ حتى دخلنا غرفة الرسم التي مل يسمح ألح ٍد سواي بدخولها .وهناك
صعقتني املفاجأة!.
تتعب خيول بالغتنا وهي تطوي مل أستطع أن أقول غري {الله!} .كشأننا دامئاً حني ُ
مسافات اإلعجاب ،طي السحابة ال ريث وال عجل .فقد كان ما شاهدتهُ ،كائناً
فنياً بديعاً ال ينتمي إال لزمنِ األساطري الغابرة! .تطاولت عبقرية الرجل وتسامت
فأبدعت! .الله!!.
إذن هذه هي اللوحة الثالثني! .لقد فعلها الرجل الفنان مرة أخرى .كنت مشدوهاً
حيالها .فلم أستطع تفكيكها ،ولكن هذا ال مينع أن أعجب بها لهذا القدر.
قارب صي ٍد صغري
الوصف التلخييص للوحة العم إحسان األخرية ،كان يتمثل يف ِ
73
ٍ
طرف ثالث الحب من
القارب
ِ كتف املوجِ بحنانِ أُ ٍم تخيش عىل صغريها من اإلزعاج ،وعىل م ِنت يُربِّ ُت عيل ِ
رسم غاي ٍة يف الدِّ ق ِة
يقف مشدوهاً ودهش ُة العامل كلها يف وجه ِه! .بأبعا ِد ٍ مثة صيا ٌد ُ
باك التي ميسكُ بطرفها هذا والعبقرية ،ألن املساح َة األكربَ يف اللوح ِة ،كانت للشِّ ِ
عروس النهر ،يتناث ُر ُ الصياد رث الثياب ،وقد خرجت منها ما تشبهُ الحورية أو
مالمح الوجه فقد كانت إلحسان َ حولها رذاذ املاء مثل عق ٍد من اللؤل ِؤ املنثور! .أما
يخنق عيوننا ُ تلك املصنوع ُة من صلصالِ عصريِ القمر ،كام اشتها ِء الضوء حني
قلب الغرب يف ِ ِ الظالم! .أما الجنونُ بعين ِه ،فقد كان يف ظاللِ هذه الحورية باتجا ِه
املاء .فاجأت هذه الحورية الص ّياد ،ففغر فا ُه مشدوهاً ،وبسمل وحوقل بال شك.
داخل لوحة! ،بل أكل هذا يف لوح ِة واحدة؟ .عفواً فلم تكن هذه لوحة ،وال لوح ٌة َ
كانت معرضاً متكامالً!! إن ما فعلهُ ذلك اإلله الفني ،يعترب معجزة بكلِ املقاييس،
فهذه التهوميات والتداخالت واألبعاد املتناهية يف الروعة ،تجعلني أسأل إىل أي
مدرسة تنتمي هذه املعجزة؟ .املدرسة الكالسيكية أم الرسيالية؟ أم للمدرسة
األرض ومييش يف األسواق .فلم رش عادي يحيا يف ِ الشيطانية؟ .فلم تكن صنيعة ب ٍ
أجد شيئاً أقولهُ غري الله!.
«الله الله!!» .وأنا يف حال ِة ذهولٍ تام.
وبعد مشاهديت للوحته البديعة ،خرجنا من غرف ِة الرسم وأنا يف حري ٍة أسألني.
ملاذا مل يرسمها هذه املرة عارية حتى بعد أن تخيلها كحوري ٍة خارجة لت ِّوها من
لشباك صيا ٍد بائس؟ .هل يعشقها بقلب ِه أم بريشته؟ بدم ِه أم ِ املا ِء مستسلم ًة
نتحادث خاللها ،وبعد قليل دخل علينا نارص وأعقبهُ ْ بألوان ِه؟ .و َمضت لحظات مل
يحمل زجاج ًة حسن وهو يكا ُد ال يقوى عىل السري من شدة السكر ،ومع ذلك كان ُ
74
ٍ
طرف ثالث الحب من
75
ٍ
طرف ثالث الحب من
عم إحسان!:
كأس الصبا ومىض مييش الهوينا طربا». عب من ِ «يا ندمياً َّ
ولكن .وحد ُه الزمن مل يكن مييش الهوينا! ،فقد انتصف الليل وحانت ساعة
بيوم غ ٍد ،وأمتنى أن تتسارع الرحيل ،فافرتقنا وصدورنا مثقلة بالفرح ،وأنا أحلم ِ
عقارب الساعات حتى أراها من قريب ،حتى تتصافح األرواح وتتعانق األنفاس.
وليلتها مل ِ
أستطع النوم أبداً.
أرهقتني الليلة املاضية جسدياً وذهنياً ،فلم أنم جيداً كعاديت عندما أكونُ مجهداً،
ولكن اإلرهاق مل يرسق النوم من عيني وحدهُ ،بل كان اإلرساف يف حشو دماغي
ستهرب مني وتهجرين ُ أحس أن اللغ َة
كنت ُ بالتساؤالت التي مل يهضمها عقيلُ .
فقررت أن أكتب لها قصيد ًة تكونُ مبثابة سفرياً للنوايا الحسنة .فعساها أن
ُ الكلامت.
أحسست
ُ تحطم الجدار الذي أتوهّم وجودهُ .جدار الكلامت! .وعندما بدأت أكتب َ
بأن روحي ستقفز ما بني السطور! .فكانت كل كلم ٍة هي هدن ٌة ما بني املوت والحياة.
كنت أخىش أن أنفجر يف أي لحظ ٍة. وجدت يف الشع ِر متنفساً ،فقد ُ
ُ ويف حقيق ِة األمر
وعندما اكتملت ميكانيكي ُة الرشوق يف هذا الصباح ،مل أكن متأكداً أنني قد منت،
فنهضت
ُ غفوت قليالً،
ُ أدركت أنني لرمبا قد
ُ ولكن عندما وجدتني أحتض ُن وساديت،
من شب ِه غفويت بعينني متو ِّرمتني ووج ٍه شاحب .ومع ذلك كانت تجتاحني وتحتلني
وتستوطنني .شاركتني شاي الصباح وقطعة الخبز التي أتشاطرها مع برنامج
املنوعات يف اإلذاعة صبيحة كل يوم .واتفقت مع شقيقتي التي تصغرين عىل أن
تعلم متاماً زُهدي يف ترافقني إىل منزل نادية ،مل أرشح لها السبب ،وكانت فاطمة ُ
مثلِ هذ ِه الزيارات العائلية ،فكان البد أن أرشوها حتى توافق وتصمت! .وكان!.
76
ٍ
طرف ثالث الحب من
الفصل الثامن
أصابني بعض التوتّر الذي كان ظاهراً يف أفعايل وترصفايت التي بدت غري متوازنة،
فقد كنت أستبطئ الوقت وأستعجله أيضاً ،وبني الخوف واللهفة تأرجح ميزان
الساعات! .كنت أخىش أن يقرص سيف لغتي وأعج ُز أن أطيلهُ بخطو ٍة .بكلم ٍة.
املهم أال يغلبني الصمت ،خريٌ من عدم لقائها« .ولكن ال بدَّ من صنعا ِء وإن طال
السفر».
احرتت فيام أرتديهُ هذا املساء ،ويف الواقع مل أكن أمتلك إال القليل من املالبس
ُ
الرديئة التي ال تصلح ملوع ٍد مع حبيبة ،ولكن شقيقتي رتبت أمر هندامي ،وغادرنا
املنزل باتجاه القدر .مل يكن منزل أقاريب أولئك بعيداً وإن كان تردُّدي يجعلني َ
أمتنى أن تطُ َول املسافة حتى لو مشينا العمر كله! .ولكن يف اآلخر وصلنا.
باب قلبي .فتحت لنا نادية الباب ببشاش ٍة أحس أنني ُ
أطرق ّ وطرقت الباب وأنا ُ
ُ
ودعتنا للدخول ،وأنا كنت أفك ُر يف الدخولِ إىل الخارج! .أو كام قال الشاعر الجميل
عبد القادر الكتيايب:
دخلت من باب الخروج»
ُ «عفواً إذا شوقاً ِ
إليك
رحبت نادية مبقد ِمنا وقالت موجهة حديثها لشقيقتي:
أنت يا بت مايف زول بشوفك ،الربكة يف عاطف الجابك لينا!؟».«وينك ِ
77
ٍ
طرف ثالث الحب من
78
ٍ
طرف ثالث الحب من
بنفس الحلم ،إىل أن دُق األسايس ،فال زالت قدماي تقفان يف ذات املربع وتحلامن ِ
وأحسست أنني بصد ِد الوقوعِ يف حال ِة غيوب ٍة مؤقتة وأنا أتساءل« :هل ُ الباب.
تكونُ هي من طرقت الباب؟» .ثم ماذا بعد هذا؟ .هل ستكونُ تفاصيلها الوجدانية
بنفس درجة أناقة شكلها الخارجي؟ هل ست ِفد إ ّيل من بواب ِة الروح؟ .نادية ذهبت
ليك تفتح الباب وأنا أسألني سؤاالً مباغتاً« :ترى ماذا ستقوالن عند عتب ِة الباب قبل
أن تصال إلينا؟» .ولكن أخرياً فتحت نادية باب قدري ،وعيناي تتطلّعان إىل ما وراء
رؤى ،تروي عطش اللهفة الباب بضع َة ً ثقوب ِ
تستشفا من ِ ِ األشياء ،وتحاوالن أن
تعانق صدر الدهشة األوىل! .الدهشة التي فقست بيضتها البكر منذ الطفلة ،أو ُ
بضع ثوان .ومل ينب لها ريش.
صوت املغني وذهب ليصيل ُ وأطلت من بعيد ،كياسمين ٍة توضأ من شعرِها
َ
عكاظ ذنب أنا إذا عمداً ركعت؟ .أطلت كياسمينة أقامت بالناس صالة العطر! .أ ُم ٌ ِ
تساقيت نف َِسها فنجال َأكسجني وأسكنتها دفرتَ شعر ،فامتت ُ وأقعدت مربِدا!،
ولكنها رصخت تسأل« :هل أُدف ُن يف عطري أم يف دفرتِ شعر؟ يا أيها املأل أفتوين يف
وقع خطواتها يحدث تناغام إيقاعيا مع ِ
دقات قلبي غري املرتبة ،والتي قربي!!» .كان ُ
تخف دقات الطبول! .وأخرياً وصلت ،ومل يعد ف يف العجل ِة ،ومن ثم ّ رس ُ
كانت تُ ِ
لطف ومدت يفصلني عنها إال نصف مرت ،ونصف جرأة! .سلمت عيل شقيقتي يف ٍ
شعرت بربود ٍة يف كفينا وأنا أصافحها ،تلك الربود ُة التي
ُ يدها لتصافحني بارتباك!.
تنسحب من هذه الجول ِة من غري أن َ يصنعها الحياء! .ولكن األصابع رفضت أن
توقع اتفاقية سالم! .فجنحت للسلم! .فأنا أفهم جيداً لغة األصابع! .أكملت نادية
بعطش ال يروي ِه نهر النيل كل ِه.
ٍ وشعرت
ُ وأبتلع ريقي،
ُ تعريفنا وأنا أنظ ُر إليها
79
ٍ
طرف ثالث الحب من
تركننا البنتان وحدنا بعد لحظات .مل نكن وحدنا فاللهف ُة كانت ثالثتنا! .ومل نكن
يف أهبة االستعداد لهذه الخلوة املباغتة .فتعبنا كثرياً من أجل صنع مداخل مناسبة
ورويت لها القص َة كاملة! .وكانت
ُ مللمت أطرايف
ُ للحديث ،ولكن يف نهاية األمر
منصتة كتمثالٍ بديعٍ من نصف اآلهات .مل أتوقف عن حديثي املتعرث ،وكنت
مغموراً بروع ِة أول مصافحة ،أول حديث ،أول خلوة.
أقرب ما يكونُ إىل تلك الروايات التي تنصت إ ّيل ،فاألم ُر ُ
ُ كانت مذهول ًة وهي
باتت ال تسحر ال ُقراء! .وبعد طول انتظار ،استولدت سؤالها األول:
«والله دي قصة غريبة جداً!! ،معقولة يف حاجات كده؟» .صمتنا.
وبعد بره ٍة موحية من الصمت أضافت:
«أنا عمري ما اتخيلت حاجة زي دي تحصل يل ،ما معقول أبداً».
فحاولت أن أفتح أبواباً أخرى للحوار وسألتها بطريق ٍة ساذجة ،كمن يتذاىك
ملعرفة عمر إحداهن:
«أنت هسة يف سنة كم؟» .ردت مبارشة دون أن تنظر يف وجهي: ِ
«أنا خلصت امتحانات الشهادة قبل فرتة بسيطة».
«يعني السنة دي ح تخيش الجامعة؟» .سألتها كمن وجد طوق نجاة.
«أيوا ..لكن ما معروف وين ح أقراها بالضبط!».
كنت أراقب مطلع حروفها حني تُولد خجول ًة قبل أن أسألها وأنا أشيح بوجهي
عنها:
أنت ما قادرة تختاري كلية محددة؟ والال قصدك شنو؟». «يعني ِ
«ال مش كدة لكن أبوي شغال يف وزارة الخارجية وبعد أقل من شهر ح نسافر
80
ٍ
طرف ثالث الحب من
معاه كلنا».
«تسافروا؟؟» .سألتها بالتياعٍ واضح وكأنها حبيبتي منذ عهد عاد.
«أيوا» .صمتت بره ًة وأضافت« :عشان اختارو ُه ملحقا ثقافيا يف بريطانيا».
:يا لهذه األقدار!! .ما هذه السيزيفية البلهاء؟.
:مسافرون؟؟ .ملاذا اختارت ـ الحياة ـ جربياً أن أمارس املازوشية عىل نفيس،
والعامل أكرث سادي ًة من كل يش ٍء آخر؟ .ملاذا يا ترى؟.
«سفر سفر يا .....إحسان؟؟؟!».
«والله يا عاطف ما بإيدي ،لكن ده الحاصل» .وأضافت وهي تتلفت باحثة عن
الفتاتني:
«عىل فكرة أنا تأخرت ،معليش مضطرة أميش بعد كده».
مل أكن أمتلك شيئاً وسط حرييت هذي ،سوى املزيد من الحرية ،ولكني مل َ
أنس أن
بعض احرتاقايت واللهب! .وقبل أن تطفئ ناري بسؤالٍ ما ،أجبتها وأنا أدس يف كفها َ
أتطلع لجهنم شفتيها.
ُ
«دي قصيدة يا إحسان ،كتبتها أمس بالليل ملا ِ
كنت معاي!!».
األرض يف خفر ،وأجابت مرتبكة: رساً وهي تنظ ُر إىل ِفابتسمت ّ
«كنت معاك؟؟ أويك خالص أنا ح أقراها بعدين ملا أرجع البيت ،شكراً يا عاطف
ترشفت بيك».
ومع جملتها األخرية أدركت أنها ال محالة راحلة.
«مع السالمة يا إحسان ،لكن الزم نتقابل مرة تانية!».
«ما يف مشكلة حاول تربمج مع نادية .مع السالمة».
81
ٍ
طرف ثالث الحب من
وبعد مغادرتها ،مل تعد لدي رغبة يف البقاء ،فودعنا نادية ،وغادرت برفقة
صمت مطبق .وبعدها مل أجد قدراً أرحم من لطم أقداري فحسب. ٍ شقيقتي يف
فطفقت أو ِّجه
ُ تعددت خيارات الحياة العبثية ،وناوشتني االعتبارت الوجودية،
ساخطاً اللعنات والشتائم لهذا الواقع الذي بدا مثل بحري ٍة آسنة غطتها الطحالب،
كنت يف أشدِّ حااليت حزين ،وكان أكرث ما يعذبني تصلح للرشب .ليلتها ُ ُ وما عادت
أنني ال أملك تربيراً منطقياً لهذا الحزن! .فلامذا يشقيني رحيلها وهي ال تعدو
أن تكون مجرد بذرة حاولت أن أزرعها يف صحرايئ اليابسة ،ودواخيل قد جافاها
وتنسج حولها
ُ تستحق أن تكتب لها القصائد،
ُّ املطر! .هي مجرد حلم ال أكرث ،ولكنها
األساطري ،ويحجها الناس ،فلامذا متنعني األقدار من أداء هذه الفريضة؟ .كان أكرث
ما يحزنني هو عدم وجود مربرات كافية لكل ما يحدث .هل نرسف يف الحلم
لدرج ِة أن نتمسك به كحقيق ٍة راسخة؟ .كنت قد وصلت إىل البيت يف ذلك الوقت،
ينتصب متحدّ ياً وكئيباً.
ُ بحرص من يخبئ كنزاً ـ وكان باب بيتنا املغلق ـ جيداً ِ
العم إحسان .فوافيتهُ يف دكانت ِه الصغري ِة يف صباح اليوم التايل كان البد من زيار ِة ِ
يف سوقِ السمك ،وجدتهُ منشغالً بتصليح دراجة كان صاحبها ينتظر ُه عىل مقربة،
الجانب اآلخر من الضفة ،كانت هنالك ِ ويحثهُ عىل اإلرساع من أجلِ مشوا ٍر ما! .ويف
عدة قوارب يف االنتظار لتحميل الخرضوات من جزيرة تويت التي ترقدُ يف حضنِ
النيلِ األبدي ،وتحرسها أشجار الليمون واملانجو والربتقال من لؤم الطبيعة .ويف
فتذكرت اللوح َة
ُ عمق النيل،
ينتشل الشباك من ِ ُ املنتصف شدّ ين منظر صيا ٍد ٍ
بائس
لت منظر الحورية التي ص ّورها العم إحسان ،ورذاذ املاء يتناث ُر حولها الثالثني ،وتخ ّي ُ
كمسبحة من اللؤل ِؤ املنثور.
82
ٍ
طرف ثالث الحب من
اتخذت يل مقعداً ،وجلست وبعض لحظات فرغ العم إحسان من عمل ِه ،وجاء
بالقرب مني ،وهو ينادي عىل بائع ِة الشاي التي كانت تجلس عىل مرمى ِ ليجلس
مزاج!:
«اتنني شاي ياسعدية» .مضيفاً وهو يصافحني« :إزيك يا أخينا».
«مايش الحال يا عم إحسان نحمد الله!» .مل أخف ضيقي .فرددت علي ِه السالم
أحاول أن أخنق زفر ًة حار ًة يف جويف ،فسألني وهو يتفحصني:وأنا ُ
«ومالك عامل كده؟ أنت عيان والال شنو؟».
صمت برهة ألضيف واجامً: ُ «ما عيان والله ..لكن ما قاعد أنوم كويس».
«إمبارح قابلتها!!».
قوارب الصيد التي كانت تتهادى يف نهر ِ ورسدت له القصة كاملة ،وهو يتأمل يف
النيل ،وعندما انتهيت من حديثي طفق يفك ُر قليالً وسألني:
«أها أنت رأيك شنو ،وناوي عىل إيه؟؟».
«والله ما عارف ..أنا ما صدقت شفتها وهي قالت مسافرة!».
رمقني بنظر ٍة فاحصة وقال بحكمة:
«يعني هي مسافرة ،وأنا مسافر ،وأنت كامن ح تسافر ،هي قدرها الرحيل ،وأنا
مسافر جواي ،وأنت ح تسافر للمجهول ،حاول يا ولدي اختار وسيلة مواصالت
مناسبة ،البالد بتتشابه ،لكن القدر واحد!».
مل أفهم ما يرمي إليه بطبيع ِة الحال ،فأردف متع ّمقاً:
«إحسان دي مركب بدون مجداف ،مصريُه يف يد التيار وحسب مزاج املوج ،أنا
القدامك ده ،وهبت عمري يل حاجات أنا ما مبلكها ،وعشت حياة ما حقتي ،وحتى
83
ٍ
طرف ثالث الحب من
اسمي ما كان مليك ،وفضلت طول عمري امتداد يل عامل تاين!! ،أما أنت يا أخوي
مشكلتك أنك ما بتملك نفسك ويف نفس الوقت ما ملك غريك!!» حاول يا ولدي
تكون نفسك ال أكرت ال أقل!».
صدمتني فلسفتهُ لألمو ِر عىل هذا النحو املربك فسألتهُ :
«والعمل؟؟ ،يف الحقيقة أنا ما فاهم وال كلمة من كالمك ده».
«شُ فت النيل ده عم ُره ما غري مجراه ،مشاوي ُره معروفة من مناب ُعه لغاية
املتوسط ،ما يف طريقة يغيرّ رأيُه ،شوف يا عاطف لو عايز تتعلم العوم رسيع،
خليك عايم ضد التيار وأميش الغريق ،البتعلم العوم يف الضحلة بغرق يف شرب
موية!».
فكرت يف كالم ِه مثقال حرية وقلت:
«والله أنا ما عارف البحصل شنو!! يا زول خليها عىل الله! ،ده باعتبار إين فهمت
حاجة طبعاً».
«يا زول عىل الله ،قادر وحده عىل حلّها ،وقادر وحد ُه عىل رشبكتها!».
ِ
بالحديث مع الصبي الذي كان يريد أن يصلح دراجتهُ ردّدها من ورايئ وهو يه ُِّم
املعطوبة ،وبعدها تركتهُ ليك يواصل عملهُ وأنا ال أدري إىل أين تقودين خطوايت،
طرقات مل أمش عليها قط! .ولكن سأميش. ٍ فقد كنت هامئاً بال هدى ،وشبه ضائع يف
«الدرب يصنعه امليش».
فأنا كنت مثل الكثريين من الشباب الذين فقدوا األمل ،وفقدوا أيضاً الرغبة يف
البحث عنه! .العاطلون الذين يشغلون أنفسهم بال يشء ،السواعد التي خلقت ِ
يصيب دجاج أصواتهم ُ لتبني ،ال لتلعب الورق يف املقاهي .املهمشون الذين
84
ٍ
طرف ثالث الحب من
صناديق االقرتاع بالتخم ِة والبدانة ،ليخرجوا إىل الشوارعِ وهم يسبحونَ بحم ِد
الكالم الرخيص ،تلك التي قُدت ِ نواب الربملان والساسة ،الذين ينفخونَ يف ِق ِ
رب
من نفاق! ،ويرتكونهم يحلمون فقط بأن يأكلوا ويرشبوا ،ويحلموا بأن يتعلموا
ويحلموا بأن يحلموا!! .املكر السيايس ال تكتشفه إال الشعوب التي مل تزل لديها
الرغبة يف الحياة .أما الشعوب الذين يطمعون فقط يف {حياة} فاملوت هو أقل ما
يستحقونه!.
هل هذه البالد تعترب الحلم جرمية أمن دولة مينح صاحبها إقام ًة مجاني ًة يف زنزان ٍة
انفرادية؟ وما بني غمض ِة ع ٍني وانتباهتها تجدُ نفسك قد منحت حق اللجوء إىل
شعب ال يجيد الصمت!! ولو صمتنا لفضحنا اآلخرة بال زاد سابق أو الحق؟ .نحن ُ
النيل يف حصتي الجغرافيا والتاريخ ،هذا النيل الذي يساف ُر منا شامالً ليس ألننا ال ُ
نستحقهُ ،بل ألنهُ سفرينا الذي يحدث كل العامل عنا .سيأيت اليوم الذي سرنميهم
تفهم معنى السجود، ونرفض أن نطأطأ! فهذه الجباه ما عادت ُ ُ بالبيض الفاس ِد
ِ فيه
ّت حويل فأرى الوجوه الكادحة التي بلغت أصواتها الحناجر، هكذا أحلم .أتلف ُ
ولكنها صمتت ألنها ال تجد ما تقولهُ ،ومل تجد من يُصغي لها ،باألحرى .كان قراري
بعدم إكاميل لدراستي غري موفقاً ،فأنا يف غمر ِة يأيس قلت ما فائدة هذه الشهادات
يف ظلِ موجة الوساطات والرشاوى واملحسوبية؟ .فبدت يل الهجرة كخيا ٍر ب ّراق،
وبت أتحني الفرصة املناسبة .فلامذا ال أجرب حظي يف أي دولة برتولية؟ .فعىل ّ
األقل هناك يرسقون النفط ،ولكنهم عندنا يرسقون النفط والدم والعرق.
صادفتني ـ تقريباً ـ داخل بيتنا ،وأنا يف شدة اإلرهاق والصداع والفتور يكادان
وألقيت نفيس عىل رسيري ،وبعد قليل ارتفعت ُ فدخلت إىل غرفتي
ُ أن يفتكا يب،
85
ٍ
طرف ثالث الحب من
فتغطيت ومع ذلك زادت حدّ ة الربد يف ُ حراريت مع بر ٍد شدي ٍد يرسي يف أوصايل،
جسدي ،مع شعو ٍر بالهذيان ،فأحسست أنها رمبا تكون املالريا .وأخذت الصور
تتواىل وتتداخل تباعاً يف مخيلتي وتتسابق ،وبعدها مل أعد أعي شيئاً .نعم إنها
املالريا اللعينة بضغين ٍة من أنثى أنوفليس سيئة النوايا ،تستهدف املناطق الفقرية
ُ
وتحرق الطاقات. متتص الدماء،
والعشوائية ،وتصيل هذه األجساد بالسه ِر والحمىُ ،
تركتني يف شب ِه غيبوي ٍة أتقل ُّب عىل نا ِر وجعي وهذياين.
يل وأنا عىل هذا الحال .وعندما أفقت قليالً، ال أعرف كم من الوقت مىض ع ّ
ورأيت وسط
ُ فتحت عيني بصعوب ٍة،ُ وجدت أهيل ُملتفني حويل والحزن يغمرهم.
ذهويل قوارير الدواء واإلبر موضوع ًة بكثاف ٍة عىل منضد ٍة أمامي ،وعندها ازداد
خويف ،فعندما كنا صغاراً كانوا يخوفوننا من هذه اإلبر إذا مل نرشب الحليب!،
لبثت؟«.
فكنت أخشاها حتى تاريخ هذه اللحظة .كنت أريد أن أسأل» :كم ُ
رضعٍ وشفق ٍة: سمعت أمي ُ
تقول يف ت ّ ُ ولكني
«الحمد لله يا رسول الله!! ،الولد تالتة أيام ما جايب خرب للدنيا!!» .يبدو أن
أمي كانت تعتقد أن رسول الله محمد هو القائم بأعامل الله يف األرض فقط ،فلم
تعرف غريه واسطة!.
«يا ريب ..ثالثة أيام!!؟» .تساءلت يف رسي.
الحليب الساخن كان كفيالً بإسكايت ،تركوين
ِ حاولت أن أتحدث ،ولكن كوباً من
وحدي ليك أستجم قليالً ،ولكن شقيقتي الصغرى مل تخرج بل جلست بالقرب مني
وقالت برسعة:
«ده شنو العمل ُته يا عاطف؟؟ ،فضحتنا!».
86
ٍ
طرف ثالث الحب من
«عملت شنو يا فاطمة؟؟» .سألتها بصعوب ٍة ،إذ كنت عاجزاً عن الكالم.
بخبث شدي ٍد.
ٍ «ياخوي أنت ليك تالتة أيام تهلوس يب إحسان!» .وضحكت
«عليك الله جد يا فطومة؟؟».
«والله بالجد ،حتى أمي سألتني عنها».
«أها وقلتي ليها شنو؟» .سألتها يف حياء.
«ما قدرت أقول حاجة يا فضيحة!!».
«يا فطومة ممكن أطلب منك طلب؟».
وبحضو ٍر أنثوي خبيث أجابت:
حارض من عيني ،أنا فاهمة يا عاطف خليها عيل أختك».
وتهرس عظامي هرساً وأنا خائر ُ مع أن الحمى كانت تناوشني بإلحاحٍ ولؤم،
متض لحظات إال وغطيت القوى ،ولكني حاولت أن أمتاسك قليالً ،ومل أفلح ،فلم ِ
بصوت خفيض ،وأنا بني الصاحي والنائم. ٍ نوم عميق .وبعد سويعات شعرت يف ٍ
أحس أنني أحلم بالطبع .ولكن عندما تعاىل الصوت ،استيقظت من نومي كنت ّ ُ
نت حقيقة األمر! .فقد أكملت فاطمة متض سوى هنيه ًة وبعدها تب ّي ُمفزوعاً ،ومل ِ
املهمة بنجاحٍ كبريٍ تحسد عليه.
حاولت النهوض من الرسير ليك أعانق صوتها وأحتضنهُ ،ولكن بكلم ٍة واحد ٍة ُ
التزمت مكاين .لقد كانت هي برفق ِة نادية صديقتها ،وفاطمة .جعلتني ُ من عينيها
أشع ُر بالعافي ِة ،وأحرت ُم املرض الذي أحرضها إ ّيل .وتحادثنا وشعرنا بتوحد امليول،
وتعددت القواسم املشرتكة وتصادقت األراوح ،فكانت أروع مالريا يف حيايت .فأنا
مل أكن محتاجاً الستحضارها واعتصارها من ذاكريت ،فهاهي أمامي كاملة الدسم!،
87
ٍ
طرف ثالث الحب من
تجلس قبالتي بحضو ِر الشموس. ُ ولن أحتاج الستحالبها من عصري القمر! ،فهي
أحبها باشتها ٍء وأشتهيها كام الرضيع حني يحن لثدي أمه .فلم أ ِفق من سطوة هذا
كنت أريد أنالحلم مطلقاً ،حرصاً عليه! .ولكنها اعتذرت واستأذنت يف الرحيلُ .
أستبقيها ولكنها رفضت يف أدب .مل تستطع الحمى التي هرست عظامي من منعي
مددت عيناي لها ملوحاً ،وعانقتني هي بشوقها قبل أن تفتح ُ من القيام لتوديعها،
الباب وأنا أتساءل:
«متى ينتهي هذا العرض العبثي؟ متى يا ترى؟».
ويرفض تسلُّق أسوار اليوتوبيا املزعومة.
ُ يرفض الحياد،
فكل ما هو حويل ،كان ُ
وفجأةً! .فُتح الباب ليدخل العم إحسان وحسن ضالل وه ّن يف طريقهن إىل
كنت أريد أن أقرأ ما بني سطو ِر نظر ِة العم إحسان الخروج .وقبل أن أرد السالمُ ،
اليتيمة لها .ترى هل كان يستجدي منها لوح ًة أخرى؟ .أم ترا ُه قد أعلن طالقهُ منها
فنياً؟ .ليته مل يفعل.
توارين يف خجل ليفسحن املجال للرجلني.
انتبهت إىل أنني مل أرد عليهم التحية بعد ،فشعرت بالخجل وأنا أقول متلعثامً:
ُ
«الله يسلمكم ،الحمد لله هسة بقيت متام التامم ،اتفضلوا».
«الحمد لله إنك اتكلمت ،أنا كنت فاكرك خرست!».
تجاهلت سخرية العم إحسان وسألتهام:
«منو الكلمكم مبريض؟ ،ما كنت فاكركم عارفني».
«حسن ده ما يف خرب بيخفي عليه يف البلد دي ،جاين قبيل كلمني».
«أيوه والله مشيت أرشب قهوة يف بيت جريانكم كلموين ،لكن يا أخوي املالريا
88
ٍ
طرف ثالث الحب من
دي لو لقت ليها قزازة عيل الطالق تقوم زي الحصان!! ،اسمع كالمي خليني أجيب
ليك عرقي سيوبر بنفعك».
فضحكت بصعوب ٍة وأنا أمت ّعن يف مالمح العم إحسان الذي قال بعد أن نهض: ُ
«يا زول نحن بنميش ،قلنا نك ِفر ليك ونطمنئ ،وأهو أنت متام التامم بترشب يف
الحليب وبتاكل يف الحامم».
وبعد ذلك استأذنا ،وتركاين نهب وحديت وتفكريي.
متخّضت الساعات التالية عن ثوانٍ م ّرت رسيع ًة طائش ًة ومنفلتة ،كئيب ًة كوحديت.
أحاول االلتفاف واملراوغة مبُكر الذي يفك ُر يف الهروبُ ِ
الوقت ،كنت وأنا يف زنزان ِة
حيثيات ترش ُع يف استنزاف ِه معنوياً ،ال أريد أن أفتعل مشاجرة مع الواقع الذي ٍ ِمن
ويعطل
ّ يخطط النتزاعِ حرية أنفايس ،ويريدُ أن يُق ِّيد حركة كرويات دمي الحمراء،
إشارات املرور الخرضاء!! .سأتصالح ولو إىل حني .كان يدور يف خاطري سؤال يتيم،
وبدا يل محيرّ اً وغريباً.
الواقع الدميم الذيُ دقات قلبي ،هذا الواقع الذي كان يحسدين يف اِ ِ
نتظام ِ ُ هذا
ِ
بفلذات أكبادها، وتناضل
ُ الشعوب املطحون َة ،وال يعلم أنها تبيك بأبنائها،
َ يُبيك
تتسع لكلِ يشء، املساحات الشاسع ِة ُ
ِ وتقدمهم قراب َني من أجلِ كرس ِة خبز .فهذه
الحلم الحالل .هذه البالد التي متنحك تأشرية دخولٍ مجانية محصنة يف وج ِه ِ ولكنها ّ
حيث ال أمل ،وتتآمر مع الجغرافيا لترسق منك ما كان يسمي بوطن! .ال تُعنينا كل
لحلم ما .وال تسحرنا قدم ٍ هذه املقاعد الربملانية ،بقد ِر ما تهمنا كرسة الخبز وموطأ ٍ
ات الرباق ِة ،وال نؤم ُن
الحسابات الرسية يف كلِ بنوك العامل ،ولسنا من حمل ِة الشعار ِ
بها ،بقد ِر ما يهمنا إيصال رأينا! .إىل من؟ .ال يهم.
89
ٍ
طرف ثالث الحب من
األيام التي تلت مريض ،وإحسان الحلم ترش ُع يف كان هذا هو لسانُ حايل يف ِ
ترسق منالرحيل! .تقابلنا عدة مرات والحب يساف ُر بنا يف كل املسافات .كانت ُ
شفيف الغرام ،ولكن القدر دامئاً عيونه مفتوح ٌة،
َ غفل ِة أهلها سويعات نتساقى فيها
وأبواب التسفا ِر كانت مرشعة ،وأنا أفك ُر يف الهروب!.
إىل أن جاء اليوم الذي قالت يل فيه حني تقابلنا ،ونظر ٌة حزينة ترت ُ
اقص يف عينيها:
«خالص يا عاطف نحن مسافرين بعد بكرة» .وأردفت وهي تحاول أن متنع
دمع ًة سخين ًة من حقها الرشعي يف الهطول:
«ما عارفة تاين ح أالقيك ،والال مح نتالقى».
مل أجد ما أقولهُ لها فسألتني:
«مالك يا عاطف؟ أنت ما حايب تتكلم معاي؟».
«ما يف حاجة ،أنا أصالً كنت مجه ًزا شعوري لليوم ده!».
صمتت برهة وقالت:
«أنا أوعدك إين ما ح أنساك طول العمر ،صدقني يا عاطف».
األضعف
َ وكنت
وعندها مل تتاملك نفسها وبكت .فبكينا ونحن نلع ُن يف الرحيلُ .
إجهاض دمع ٍة غافلت رمويش وهي تواسيني يف لطف: ِ واألكرثَ حزناً ،فلم تُفلح يف
«خالص يا عاطف ده قدرنا ،إن شاء الله بنتالقى ،الدنيا ما بالقسوة دي».
مل أعد أستطيع االحتامل أكرث من هذا فاستأذنتها الذهاب .وكانت هذه هي املرة
األوىل التي أتركها فيها مذ عرفتها .كانت هي التي تفعل ذلك دامئاً .كنت فقط
أقتفي آثار عطرها عىل كفي الذي هجرته عصافري مصافحتها ،قبيل فراقٍ قصري.
فشيعتني بنظر ٍة حزينة وهي تقول دامعة:
90
ٍ
طرف ثالث الحب من
91
ٍ
طرف ثالث الحب من
اآلن فقط سأكف ُر بهذا املسمى مجازاً وطنيا ،فالوطني ُة الحقيق ُة تكم ُن يف دواخلنا،
ٍ
ثوابت تظل مراوغ ًة عاطفية للتحايلِ عىل أما محاولة ربط الوطنية بالجغرافيا ُّ
عقالنية {الوطن ليس هو املكان الذي نطلق عىل أرضه رصختنا األوىل ،ولكنه
املكان الذي نبتسم فيه ،ونعانق حبيباتنا ،ونتبادل معهن كؤوس القبالت صائحني
ـ يف ص ّحتك يا حب ـ دون أن يردعنا أحدهم وهو ال يفهم معنى الحب أصالً}.
رس
يجب علينا تطليق ما يعرف باالنتامء من أ ِ إذن ليك نف َُض هذا االشتباك املربكُ ،
البيئة واملكان ،وينبغي التوقف عن تكديس الشعارات التي ال نؤمن بها.
تقض حاولت أن أغفو ذهنياً إليقاف رصاع األفكار يف رأيس ،ولكنها ما ف ِتئت ُّ ُ
أحس أن هذه الحياة أكرث عبثي ًة مضاجعي وتصيبني بذلك الشعور بفقدانِ الوزنُّ ،
تظل نف ورويّة ،فهي ُّ وقت مىض ،فيجرفني التيار الوجودي مر ًة أخرى ب ُع ٍ من أي ٍ
انفعاالت عابرة لنفسي ٍة ما تكا ُد تُغيرِّ ُ مجرى حياتك ،وتعربُ بكَ إىل عوا ٍمل مل تحلم
بأن {تط ُئها عيناك بنظرة!} .فكان قراري ـ وقتها ـ حاسامً ،مل يكن خطأ ومل يُحالفني
انعطافات هذه املرحلة السيئة .ويا ِ يل
الصواب ،ولكنهُ كان قراري الذي أملتهُ ع ّ
لها من .! ..
فها قد أىت يوم رحيلها وأنا كام تغنى الراحل مصطفي سيد أحمد يف مريم
رسم للتواصلِ والرحيل ..وأنا اآلنّ «مقياس ٍ
ُ األخرى رائعة الشاعر عيل ش ّمو:
الرتق َُّب وانتظار املستحيل».
تظل معلقة عىل جناح لكم أكره هذه الحقائب وتلك القطارات .ملاذا أقدارنا ّ
طائرة؟ .بل ملاذا يصبح الوطن مجرد صالة ترانزيت؟.
قلب ُ
أرتعش يف ِ إحسانُ التي كانت تعربين بسخون ِة ح ّمى استوائية ،وترتكني
92
ٍ
طرف ثالث الحب من
عاصف ٍة ثلجية ،بربك ماذا فعلت يا عم إحسان؟ .أو باألحرى ماذا رسمت؟ .فلوال
هدى مثيل ومثل آالف العاطلني من أبناء أتسكع بال ًُ لكنت اآلن
هذه اللوحاتُ ،
بلدي ،أولئك املؤلفة قلوبهم عىل إيقاعِ الضياع .اليو ُم ال يجدي إال الرحيل ،وال
يوجد خيا ٌر إال خيار القطارات ،ويا له من خيار!.
وتقابلنا للمر ِة األخري ِة ونحن يف معي ِة الشجنِ املعبأ يف زفراتنا وآهاتنا ،تقابلنا
يف ذلك املسا ِء ونحن نعيدُ تفخيخَ مآقينا بالدموع ،ونُلغ ُِّم عواملنا بالسه ِر الطويل
ِ
للتجديف ضد قوانني البحار، الحب هو محاولة املعدُّ للتفجري يف أولِ نوب ِة بكاءُ .
ولكنهُ كان يف قلبي محاولة غبية إلنكا ِر قو ِة الجاذبي ِة األرضية ،إذ مل يكن له وزن
أتسكع يف
ُ أحس أن يف شهيقي نسخ ًة مطور ًة للزفريِ ،وأنا أتنفسها ،كنت بالطبعُّ .
فكنت
ُ بحرص الذي يخىش أن تكون هذه اللوحة هي «العشاء األخري». ِ تفاصيلها
بالطعم ،وعجلة الذي مل يأكل منذ أسابيع ،فيام ِ التهمها ببط ِء من يريد أن يستمتع
كانت هي تحاورين صمتاً ،وصدرها املتمرد يعل ُن احتجاجهُ عىل الفستانِ األزرقِ ،
فقررت أن أضع حداً لجدال األنفاس املحتدم ُ يحلم مثيل بقليلٍ من الحرية.
فهو ُ
وسألتها:
«خالص بكرة سفر ودموع وعذاب؟؟».
«نعمل شنو يا عاطف ،والله أنا يل يومني ما قادرة أنوم وال قادرة أعمل أي
حاجة».
«وأنا أقول شنو؟ أنا ما قاعد أنوم من قبل ما أشوفك حقيقة وما خيال ،إحسان
أنا ..؟».
فسألتني يف استجداء ُملِح:
93
ٍ
طرف ثالث الحب من
94
ٍ
طرف ثالث الحب من
وأكرت يا إحسان ،أنا ما عارف متني ح نتقابل ،لكن حايس أنو ده ح يحصل ،بس
خليك عارفة إين ح أقيض زمن كتري من عمري يف انتظارك ،وياريت آخر مشاويرك
يكون يف سكّتي ،السفر ما مشكلة ،األهم الرجوع ،الغياب بستحملُه ،الله يقدرين
عىل الشوق والحنني».
مل أكن أعلم كيف واتتني الجرأة ولكني عانقتها ،ومل أكن أعلم كيف استطعت
كعاشق
ٍ أن أتحدث بهذه الطريقة التي فاجأتني متاماً حني اكتشفت أنني أصلح
مبتدئ .نعم عانقتها ،فقد كان قدراً وقضا ًء ال أملكُ لهُ رداً .عانقتها وأنا أشع ُر
ُ
وأتحدث نياب ًة عن كلِ قبائلِ ِ
اللغات ،وأخاطبها بجميعِ األلسنة، بأنني أزفها بكلِ
كنت أو ُّد أن أقبلها ،ولكنها هربت بشفتيها خجالً ،وآثرت السالمة من العشاق!ُ .
االحرتاقِ تقبيالً وعناقاً .ولكنها كانت مامنع ًة يف استسالم عىل كل حال ،وأنا كانت
ّب من كنو ِز القتناص قبل ٍة تذكاري ٍة ،ألضعها يف إطا ٍر مذه ٍ
ِ تنقصني الجرأة الالزمة
قابع يف زنزان ِة برد الروح حني تغيب .فال يبقى غري الخيبات ،وأتطلع فيها وأنا ٌ
اإلطار الذي يسكنه عصفورها.
«كفاية يا عاطف ،أنا الزم أميش اآلن» .وبدت مرتنحة دائخة ومثلة.
كلامت املواساة وكل قصائد الرثاء ،مل أكنِ قالتها بدمع ٍة تقه ُر كل املناديل ،وكل
َ
تتشبث بآخ ِر أمل، ُ
تحاول أن كبرياً عىل الحزنِ فبكيت .وبكت قبيل أناميل ،وهي
وآآخر مصافحة ،وآآآخر لقاء ،وآآآخر .!..لكم هي وفي ٌة هذه األنامل ،فقد شاركتني
حزين وأبكاها الرحيل.
صمت برهة أخاطب نفيس. ُّ
قرص الشمس ،ال تنيس أن هنالك شهابا عرب يوماً إحسان أيتها املتجهة خلف ِ
95
ٍ
طرف ثالث الحب من
بفضاءاتك ،فحني تغادري صوب السامء ،تذكري أننا كنا نسك ُن يف تلك املج ّرة،
ونحلق يف ذات املدار ،هل ستنيس أنني أحد األعرية النارية ُ وندو ُر يف نفس الفلك،
التي انطلقت نحو صدرك مبارش ًة ومل تر ِد ِك قتيلة؟ .هل؟ .إحسانُ التي ستبعدُ عني
ستشع فيها
ّ السنوات الضوءية ،ترى هل ستذكرين يف املجموع ِة الشمسية التي
ِ آالف
سرتحل وترتكنيُ هناك؟ .أم ستعتربين مجرد نيزك تحطم يف أحالمها؟ .إحسان التي
بصحب ِة الشجنِ املعبأ يف فناجيلِ رؤية ،يقهقهُ يف عتم ِة سوادها حلام حزينا .هذه
وتشنق نفسها حني تختا ُر البعاد!..
ُ ستصمت لغاتها حني رصاخ التضاد،
ُ الروح التي
ترى هل ستسكن جسدي مجدّ داً ،وهو بال مفتاح وال أبواب ،وال؟ .وأنت أيضاً يا
أنا ،عليك أال تنس! .ال تنس.
وأخرياً ..غادرين صدرها املفخخِ بالحليب ،ومل أعِ إال أنها رحلت لتد ِّج ُّج زمني
برصاص البكا ِء ،وقصف النحيب والعويل، ِ بالفراغِ ،وتعيدُ حشو جميع املناديلِ
تنزف دمعاً رسيع الطلقات ،ألبدأ يف ِ
تلغيم فأتخندق وراء رصاخي ،وأترك ذخرييت ُ ُ
فيايف وحديت بقنابلِ السهر الطويل .مل يكن هذا انقالباً سلمياً يف عاملي ،ولكنهُ كان
ويحطم عرش الزمان! ،بال أدىن شك .ومن ثم .!..يا ريب.ُ زِلزاالً يدكُ حصون املكان
نعم رحلت وتركت ما يشبهُ الجرح وال دماء ،وخلّفت دمعة وال بكاء ..فلم أجد
سلوى إال يف العم إحسان الذي كان يبدو أنه رجل املرحلة .من أين يل مثن السلوى
فأرشيها؟؟ .فهل ترى سأعو ُد لوثنيتي القدمية وأرجع للصال ِة يف محراب ِه؟ .هل سأرتدُ
تنهش يف مخيلتي وأنا يف طريقي عن هذا الدين العابث؟ .كانت هذه الخواط ُر ُ
ملنزل العم إحسان الذي بدا كئيباً موحشاً من بعيد .كنت موقناً أنني اليو ُم سأرتدي
الصليب مر ًة أخرى ،وأقد ُم القرابني لهذا القديس الجميل.
َ هذا
96
ٍ
طرف ثالث الحب من
يتزوج األبطال».
ُ فالحب مل يكن عىل طريق ِة نزار قباين« :رواي ٌة رشقي ٌة يف نهايتها
ُ
رص بها عىل خيباتنا الخارجية. الحب غيبوب ٌة نصدقها يف ال وعينا ،وهزمي ٌة داخلي ٌة ننت ُ ُ
فنحب لنتنفس ،ويجوعون بطوننا ،ويشوون جلودنا، ُ يخنقنا القاد ُة السياسيون
الحب أفيوناً ألننا يف عا ٍمل يرقدُ يف غرف ِةِ نجعل من
ُ نتوهم الشبع،
ُ فنحب حتي
ُ
نعيشنحب لنعيش أم ُ العناي ِة املركزة! ،عامل يُعاين من الغيبوبة القرسية .هل ترانا ُ
لنحب؟ .أسئل ٌة حمقاء وإجابتها أكرث حامق ًة ...
الهروب يف مثلِ هذه الظروف هو أسهل طريقة للمواجهة .فحني يكونُ سيفك
ِ
الفرضيات مشانق
ِ قصرياً فطولهُ بخطو ٍة {إيل الوراء!} .فكيف نواجهُ ونحن نتدلىّ من
الرعناء؟ .ومن نواجه؟ .ملاذا ال منارس االلتفاف واإلسقاط؟ .وملاذا ال نحاو ُر ونراوغ؟
وقد انعدمت خطوط الرجعة وش ّحت الخيارات وتضاءلت املساحات!؟.
أسئل ٌة حمقاء ،وإجاباتها أكرث حامق ًة ولؤماً!!.
97
ٍ
طرف ثالث الحب من
98
ٍ
طرف ثالث الحب من
الفصل التاسع
العم إحسان ،بينام مرت ثالث ُة أشهر وأنا عىل هذا الحال ،أداوم عىل زيار ِة ِ
صمت معلن كام هو متوقع ،مرت اإلجراءات يف ٍ كنت أجه ُز أوراقي للسف ِر يف
بط ٍء شديد ،ألن السلطات يف بلدي أدمنت قصقصة أجنحة الحلم وتحريم
رص ،عساها أن تكون نقط َة قررت أن تكون وجهتي م َالطريان للحاملني بغ ٍد أفضلُ .
قديم
حلم ٌوالنخفاض التكاليف .وأيضاً ألنهُ كان يناوشني ٌ
ِ انطالقٍ لعوا ٍمل جديد ٍة،
متكنت من تجهي ِز أوراقي للسفر،
ُ بزيارتها! ،فقد كانت هي ح َّجتي الصغرى .وأخرياً
وأسعدين هذا األمر ،وأوجعني يف الوقت نفسه.
فقصدت العم إحسان يف جمهوريت ِه الساحرة لتوديع ِه ،والبكاء عىل آخر أطالله،
ومعهُ أودع كل األساطري .كان العم إحسان يف بيت ِه الذي يشبهُ تفاصيله ،كسيناريو
الرسب كرواية!،
ِ تحلق خارج
قصقص الروايئ أجنحتها ومل يرتكها ُ َ مصغّر لقص ٍة كبرية
املنزل بعداً أسطورياً ،بأغصانها التي تتدلىّ منها
متنح فناء َ شجرة النيم العجوز ُ
أعشاش طيو ِر القمري كعناقي ٍد شه ّي ٍة ،ب ّراد الشاي األحمر الساخن كان ِ ثريات
حضوراً كلام حرض املزاج ،واألنس واأللفة والبساطة .كان يجالسهُ الثاليث املعتاد،
ابط يف فنا ِء املنزلِ لتهبهُ الجامل
فيام كان هو متشاغالً بسقاي ِة أشجار ِه التي تر ُ
والراحة الكاملة.
99
ٍ
طرف ثالث الحب من
100
ٍ
طرف ثالث الحب من
«يا بِيرت كيلو لحمة؟؟ نحن عرسنا ليك يب أربعني بقرة ،دي مناسبة دايرة ليها
خروف عديل كده ،تقول يل كيلو لحمة؟ يا راجل حرام عليك».
أبحرت يف داخيل بال ُ فرتكتهم يتجادلون ويتضاحكون ،وأبحرت بعيداً عنهم،
ركوب البحر عكراً،طوق نجاة ،أصابني الدُّ وار ألنني مل أتعود َ أرشعة وال بوصلة وال َ
الصعب
ِ آالف األميال مشياً وأنت ظامئاً يف فال ِة ،لكن من من السهل جداً أن تقطع َ
الجحيم،
ِ والطريق إىل
ُ النفس،
ِ الطريق إىل
ُ جداً أن تخطُو خطو ًة واحد ًة داخلك!.
شعرت بالظأم
ُ كنت حافياً وأنا أجتا ُز غاب َة أشواكَ أعامقي، تذكرتان لرحل ٍة واحدةُ .
ولكن البدَّ من صنعا ِء وإن طال السفر!.
خارج إطار
كنت َ مل أعد أسمع كالمهم وكأنهم كانوا يتحدثون بلغ ٍة غري مفهومةُ ،
وبدأت أُه ِّو ُم بعيداً وقريبا ..هذه هي مرص! وهؤالء هم الرفاق، ُ الزمان واملكان،
يتباين الديكور وِفق انعطافات النفسية ،ويتغري الشخوص تضامناً مع إحداثيات
املجهول غري املريئ ،فيحدث التخاطر السلبي مع األنا ،مع الذات وتناقضاتها مع
يل رهيب. الكينونة ،حني تختا ُر {أنا} وتنحا ُز إىل {هُم} يف نفس الوقت! .رصا ٌع داخ ٌّ
الظروف الرعناء ،ولكني كنت أطمح ِ مل أكُن مؤمناً إال بإِرشايك وكُفري بآله ِة هذه
يف عباد ِة أملٍ جديد ،إن مل يصنعني يجب أن أخلقهُ وأسجد لهُ !.
هم رفاقي ورائح َة شوائهم تؤذي يجب أن يحدث التغيري ،وتتفجر الثورة ،هؤال ِء ُ
الجريان الجياع ،مل أكن قد شعرت مبرو ِر كلِ هذا الوقت ،إال بعد أن رأيت كأيس
الرشب قائالً:
ِ أمامي وحسن ضالل ي ُحثني عىل
«أنت الريس منريي فكّ املساجني سنة كم؟».
{عبار ٌة شهري ٌة يردّدها السكارى وأصحاب املزاج حني تتأخر يف احتسا ِء كأسك}.
101
ٍ
طرف ثالث الحب من
كنت أخىش أن أمثل ،فأنا عىل سفر ،وعيل أهل .ومع ذلك ومع ذلك { ُمناورة
اقرتحت نخباً.
ُ لغوية عىل طريق ِة الهايكو اليابانية} ،يف صحة الوطن والرحيل،
تظل يف ذاكريت كل املرارات والخيبات والفشل .وكان رشبت حتي ال أنىس ،وحتي ُ ُ
العم إٍحسان يغني كعادت ِه ،ولكن أكرث إِيالماً وحزناً:
«ل ِّو ُموهُوا الالهي يف الغرام بالله ..قولوا ليه الحب يشء طبيعي إلهي» .كأنهُ
ويربت عىل أكتافنا ،لشدّ ة ما أطربنا ،هل ُّ يعزف عيل أمعائنا لشدّ ة ما أوجعنا،
ُ كان
والوقت كالسيف،ُ ألف ليل ٍة وليلة،الحب سكارى مثلنا؟ .لقد كانت ليل ًة من ِ رأى ُّ
وطائريت عجول ٌة سئمت االنتظار ،ولن تنتظرين دقيق ًة واحدة بعد الرابعة بتوقيت
الحزن! .فودعتهم وهم أقرب ما يكونون إىل البكا ِء ،ولكن صدّ تهم الكربياء ،وأكرث
الذهاب إىل
ِ متكنت منُ العم إحسان من وصايا لقامن ،ومتنى يل التوفيق ،وأخرياً
سخط أهيل ،فهم ينتظرونني أيضاً لتوديعي ،وقد َ أعلم أنني سأنال
املنزل ،وأنا ُ
نصبوا رسادق العزاء ،وكأنني مساف ٌر بال عودة ،ما أشدّ طيبة هؤال ِء الناس!.
واآلن حان موعد الرحيل املُر .ولكن فجأ ًة د َُّق الباب وعندما فتحتهُ برسع ٍة كمن
ُّ
يتأبط شيئاً غائب قد يعود ،وجدت العم إحسان هو الطارق ،وقد كان ينتظر ٍ
وقال يل:
«معليش يا عاطف لكن يف حاجة أتذكرتها وقلت أهديها ليك» .كان يبدو مثال
وحزيناً.
«ته ِدي يل شنو يا عم إحسان؟».
«أنا عايز أهديك لوحة الحورية عشان بتحبها ،وعندك معاها ذكريات جميلة».
«الله !!! الله يخليك ياخ! .أنا بحبك يا عم .»..
102
ٍ
طرف ثالث الحب من
ولكنهُ مل ينتظر ليستمع إىل بقية كالمي ،وخطبتي العاطفية البليغة ،وقفل
رغيف حزين .أوجعني حزنه أكرث من ِ يدس مني دمع ًة تتعىش عىل راجعاً وكأنهُ ُّ
كرمس طائر. نواح أمي عىل رحييل الفادح ،ومل يج ِد البكاء .كانت تخال أن الطائرة ٍ
مل تكن تعلم أنها أصابت كبد الحقيقة.
فبدأت أحدِّ ُق يف وجو ِهُ كانت سياريت التي ست ِقلّني إيل املطا ِر تنتظ ُر بالخارج،
أهيل كمن يتطلّع إىل آخ ِر مدين ٍة مأهول ٍة يف العامل ،قبل أن يرحل إىل املجهول،
ولحظتها بدا يل قرار السفر هو أكرث حامق ًة وطيشاً مام ينبغي .ولكن قد سبق
حيث شاءت ،وش ِّيدوا السيف العزل ولسانُ الحال يقول« :اتركوا هذه الناق َة تنيخُ ُ
عىل أطاللها ذكرى ،ولكن ال تبكوا ،فلم يعد هنالك متسعاً للبكاء» .فهذه الحياة
بدأتها بالرصاخ وسأختمها بالرصاخ ،فكان البد أن أنكئ هذه الجراح!.
كنت أشكُّ أن تلك األمواج كانت تتواطأ مع حزين .وكانت عربة األجرة العتيقة
األسفلت يف طريقها إىل مطار الخرطوم.ِ تتهادى عىل
ات ِ
فلذات أكبادها وتحتق ُر املطار َ من قال أن املدنَ ال تبيك؟ .املدنُ تبيك عىل
وتكر ُه السفر .فقد بدت يل الخرطوم أكرثَ بؤساً ولوع ًة ،والطائرة تعتيل مدرجات
لحظات من اإلِقالع! .ولكنهُ القدر وما أدراك ما القدر .وبعد زهاء ٍ املطار بعد
شتوي
ٍّ الساعت ِني ون ِّيف ،أطلت من بعيد مدينة القاهرة مهلّلة ومكربة ،يف صباحٍ
ساحر! .أحسست بغواي ٍة مبهمة .أهي وحشة العبادة عىل مؤمنٍ مستج ٍد؟ .أتراها
دهشة املراهق من جسد خبريٍ بأمو ٍر الفراش؟ .بل كانت نجمة التحديق يف سام ٍء
مل تعتد تحليق النور .نعم.
بأنفاس أم
ِ بألف مئذن ٍة ومئذنة ،وفضاءاتها مع ّبقة استقبلتني مدينة القاهرة ِ
103
ٍ
طرف ثالث الحب من
والسكرية! .استقبلتني بروحِ نفرتيتي كلثوم والعقاد وطه حسني وثالثية محفوظ ّ
وأخناتون وشجرة الدّ ر وعرايب وأرواح فراعني عظامء ،استقبلتني بأهراماتها
ومعابدها ونيلها .احتضنتني بتامثيلها وليلها ونيلها .القاهر ُة هذه املدينة الشهية
ومتارس معهُ التو ُّحد ،هذه املدين ُة التي مل تُبدِّ ل جلدها،
ُ التي تنا ُم يف حضنِ النيلِ ،
األفالم القدمي ِة ،مل تتغيرَّ ،
ِ ومل تكن عقوق ًة أبداً مع التاريخ .فهي متاماً كام رأيتها يف
تعشق جغرافيتها التاريخ لدرج ِة التو ّح ِد يف ُ ومل تتل ّون أبداً .هذه املدينة التي
جرح من املايض ال يندمل!. كتاب واحد .ففي كلِ حار ٍة وشارعٍ وكلِ مقهىٌ ، ٍ
تبتسم
ُ وتقيم مهرجاناً لدموعها ليك تضحك! .فهي مدينة ُ وكأنها تحتفل بجراحها
قادم ليك يقع يف أحضانها ،وال متنحك وتطرب للدموع ،وتقو ُم برشو ِة كل ٍ ُ للحزنِ ،
أي إحساس بالغربة ،وكأنك نشأت يف هذه الحارات الضيقة ،ولعبت يف هذه
الطرقات منذ األزل.
تضيق ُ القاهرة مدينة تبادلك نفس القدر من املشاعر! ،تحبك بقد ِر ما تحبها،
الوقت ِ وتصل معك إىل النشو ِة يف
ُ تضيق منها! .متارس معك الحب، ُ بك قدر ما
رضنفسه ،ومبزاجها! .إنها مدين ٌة لك وعليك ،منك وإليك ،تستدعي املايض وتستح ُ
التاريخ ،فأتطل ُّع إىل صخبها وضجيجها من رشف ِة شقتي الصغرية التي استأجرتها يف
تستوعب كل هذه التفاصيل؟ .القاهرة ُ حارة {ميت عقبة} ،وكنت أتعجب كيف
النيل نفسهُ بأمواج ِه بليلها ونيلها وحيلها الرسية إلغوا ِء الغرباء .واألعجب أنهُ ُ
وشطآن ِه ،ولكنهم هنا مينحونهُ عروس ًة وربط َة عنق ،ويضعون له العطر ،ويُقلِّمونَ
ُدى ،فيمنحهم الحياة ويذهب أظافرهُ! .أما نح ُن فنرتكهُ مييش حافياً وتائهاً بال ه ً
املتوسط ،ويعلمهم كيف تكونُ التضحية! .إنها ليست مؤامرة جغرافية، ِ لينتح َر يف
104
ٍ
طرف ثالث الحب من
105
ٍ
طرف ثالث الحب من
مرصي محرتف .كانت له قدرة ٍ يل الحكايات والحواديت املصنوع ُة بعناي ِة حكوايت
عجيبة عىل انتشايل من أشدّ حاالت الحزن التي تصيبني .كانت لديه أحالم جميلة
ومرشوعة ،وكانت الدنيا أقىس مام يتص ّور .ولكنه مل يفقد قدرته عىل االبتسام،
وصنعه .كان فقرياً ،ولكنه مل يفقد كل أمواله يف البورصة ،ومل تغرق له سفينة،
حتى يحزن عليها!.
أتخيلها وهي تتمشيّ معي يف كورنيش النيل يف ذلك الرشيط املمتد من فندق
الكرنك حتي مباين اإلذاعة والتلفزيون يف ماسبريو ،أتخيلها وهي تأكل يف قندول
ذرة شامي ،وتركض فجأة ليك تلحقني وأنا أتسكع يف كربي قرص النيل حافياً
كمخبولٍ غريب األطوار .كنت أتخيلها وهي ترقص رقصة رشقية يف قارب يتهادى
هدى ،أراقبها وهي تتملّص من مراقبتي مبهار ِة نشّ ال ،ألجدها بعد عىل املوج بال ً
لحظات ـ مصادفة ـ تأكل الفول يف مطعم سعد الحرامي ،أو تحتيس الجعة يف بار
الحرية أو جامايكا أو الجريون .أشاهدها يف شارع الهرم وهي ترتدي بذلة رقص
ساخنة ،وتخربين أنها خرجت ـ للتو ـ ألداء صالة الفجر ،وسأتظاهر بتصديقها ولو
كذباً ،املهم أن أشاهدها .صابر يالحقنا ب ّفلِّ ِه ،وهو يصرِ ُّ عىل أن يبِيعنا لهُ ُجلّهُ ،
وهو يقول يل يف لزوج ٍة معتاد ٍة:
تشوفش
ِ عم عاطف اشرتِي مني الفل ده وربنا يخليهالك! إلهي ما «بُ ِص يا ِ
يوم ِو ِحش».
«مش عايز يا صابر يا ابن ال .»....
«أ ّحا!! جرى إيه يا سامرة؟ وأمي عملتلك حاجة ال سامح الله؟» .يشخر ساخراً.
طب هات الفُل ومش عايز أشوف وشك النهار ده «اللهم طولك يا روحْ ،
106
ٍ
طرف ثالث الحب من
خالص».
أحس بها تحارصين ما أكرث األيام املوحشة يا صابر يا صديقي ،ولكنك ال تدريُّ .
أرقص مثل زوربا ،وهي تتاميل مثل عشرتوت حني رقصت عىل صد ِر أدونيس. وأنا ُ
مل تفارقني إحسان يف هذه املشاوير ،ولكني أفتقدها.
«قل ِتيل أنت من فني؟ِ .مي السودان؟ أجدع ناس واملصحف ،نحن كنا بلد واحد،
أنا أعرف واحد.»...
أضي ُِق ذرعاً من إِلحاحِ صابر وثرثرته ،وأشرتي منهُ الفُلِ كل ِه حتي يرتكني وشأين،
طرف ثالث؟ .فكلام أذهب الحب دامئاً من ٍ
ُ حتى ال يشاركني فيها! .فلامذا يكونُ
إىل كورنيش النيل ألتو ّحدَ معها يالحقني صابر بعنا ِد وإرصا ِر ُمتس ِّول مع أنهُ مل
ِ
والحانات .لقد تعبت ِ
الطرقات وإشارات املرور يكن كذلك .صابر يف املقاهي ويف
أرفع يف وجه ِه الراي ِة البيضاء وأشرتي منهُ ما منك يا صديقي اللدود .ويف النهاي ِة ُ
تبقّى من الفل ،ويبدأ هو يف رس ِد الحكاوى التي أدمنتها وحفظتها عن ظه ِر قلب.
فكنت أهرب من أفيون إحسان إلي ِه! .وكنت؟ .. ُ
عاطفي عنيف! حسبام فهمت الحقاً .أشدّ حاالت ٍّ كنت يف حال ِة هياج
وهكذا ُ
الهياج العاطفي رشاس ًة هي التي تجربنا الظروف النفسية عىل اصطناعها ،أو تلك
التي تُصيبنا يف املهاجر .تفاجأ حني سألتهُ :
«يا صابر أنت ليه ما بتكلمنيش عن حبيبتك؟».
أجابني وهو ميع ُن النظر يف مجموعة السائحني الذين مروا أمامنا منذ لحظة:
عم حب إيه اليل أنت جاي تقول عليه؟ يا عم عاطف أنا القي آكل؟؟». «يا ِ
فحدست أنهُ ينوي أن يبيِعهم الفُل الذي باعهُ يل من ُذ قليل كام ُ
يفعل دامئاً .
107
ٍ
طرف ثالث الحب من
108
ٍ
طرف ثالث الحب من
فقررت أن أبحث عن حواء جديدة أساف ُر معها إىل ُ وحتى حبيبتي كانت افرتاضية.
ما وراء البحار ،إىل ما وراء الخيال! .لذا كانت التجربة األوىل مبثاب ِة حمالً متعسرِّ اً
أجهضهُ القدر ،ويف الحقيق ِة أنه مل يكن حمالً طبيعياً ألنه حدث خارج الرحم ،وأنا
ال أؤم ُن بأطفالِ األنابيب.
يرفض أن يقاسمني رسيري .يجب أن قررت أن أغتصب ـ ذاك ـ الحلم الذي ُ ُ
اإلحساس باآلخ ِر
ُ أُطلِّق جميع عادايت الرسية وأطلق العنان لهذا القوى املكبوتة.
أبحث كنت ُكنت خايل الدسم من استشعار ِه!ُ ، كان مج ّرد غريز ٍة يف داخيل ،ولكني ُ
يل رهيب وترسق نفطي .ونشأ رصا ٌع داخ ٌّ ُ تكتشف آبار برتويل
ُ عن املرأ ِة التي
ما بني رجولتي املُنتقصة ،وبني جنني الجنس الذي يتحركُ يف أحشايئ ،وكان البدَّ
ات متتالية من كرهت والدة الطلق الصناعي! .طوال فرت ٍ ُ من إنجاب ِه طبيعياً ،وقد
حيايت.
اشرتيت جسدها ُ فارسا من العصو ِر الوسطى ،تلك الفتا ُة التي أظنها قد حسبتني ً
يطلب النرص أو الشهادة! .فهذ ِه ُ كنت أقاتل كمن من ذلك الشارع الشهري ،فقد ُ
كنت أسمع عنها يف حكاوي املدين ُة مل تكن أبداً يف خرائطي وال قامئة فتوحايت!ُ .
الصبية املراهقني يف الهزيعِ األخريِ من الحلم .ال أنكر أنهُ كان إحساساً رخيصاً عىل
للحامم
ِ كل حال ،ولكن كان البدَّ أن تجد طائريت مد ّرجاً للهبوط .وأنا يف طريقي
علب الرشاب الفارغة ،فلعنتها ساخطاً قبل أن أكيل السباب تعرثت مبجموع ٍة من ِ ُ
لهذه األنثى البالستيكية .والغريب يف األمر ،أنني أدمنت هذا البالستيك فيام
بعد ،بنفس املنطق الذي يجعلك تقرأ التحذير املكتوب يف علب التبغ قبل أن
تعرف نوع السجائر نفسهُ ! ،ولكنك تُدخ ُن ـ برشاه ٍة ـ يف صح ِة وزارة الصحة.
109
ٍ
طرف ثالث الحب من
110
ٍ
طرف ثالث الحب من
أرتأيت التف ّر َغ الكامل لكتايب الذي أطلقت عليه اسم {رسال ٌة من شكسبري}. ُ
تصورت أنهُ يوصيني عىل جميعِ أبنائ ِه وقصائده ومرسحياته التي أهرق فيها ُ
وظننت أنهُ لكرث ِة ما أوصاين بأعامله ،أنهُ ُ الكثري من الدمع والدم لتبقى خالدة.
س ُيو ِّرثني.
يا للعجب!! مرت مرسعة .....
أحلم باالنطالقِ إىل األربع سنوات ون ِّيف منذ أن هاجرت إىل القاهرة ،وأنا ُ
عوا ٍمل أخرى ،ولك َّن الحن َني إىل السودانِ كان يناوشني مبغنطيسي ٍة مضاد ٍة لهذه
أعرف هل نشأت عن ذات أم عن موضوع .يف الواقع الفكرة ،هذه الفكر ُة التي ال ُ
ال علم يل إال ما علمتني له الغربة ،وهو بالكاد يكفي ليك يرجعني إىل بلدي.
قط امليتافيزيقيا ،ويُحيطني مبخالبه الرشسة ،وأنا أسألني« :هل كان يناوشني ُّ
مازلت أنتمي لهم؟» .أدركُ ُ متكنت من حقن عروق األدب بعقا ٍر مني؟ أم تراين
الحروف
َ فالحب وحد ُه من يجعل ُّ بكل حب.كتبت عن هذا الشاع ِر العظيم ِّ
أنني ُ
أمين ًة ويبعدُ كل األوراقِ واألفكا ِر عن الزيف والنفاق والتملُّق! .وهذا ما تو ّقعتهُ !.
ولعلها الصدفة ،لعلها!.
والناس يتحدثون ُ بكل الفخ ِر
وشعرت ُِّ تناقلت األوساط األدبية والثقافية الخرب،
عن روع ِة كتايب املوسوم بـ{رسالة من شكسبري} .فقد كان محتوى الكتاب عبارة
أنيق يتح ّمل وزر رش بيني وبينه ،تح ّول إىل ملحم ٍة وصالونٍ أد ٍّيب ٍ عن حوا ٍر مبا ٍ
أخطائه فقط أستاذي .وهذا هو اليشء الذي جعلني أتساءل:
أحلم به؟».
حققت أهدايف؟ .هل كان هذا هو ُج ّل ما ُ ُ «هل ترى قد
مل أكن أجرؤ عىل توجي ِه هذا السؤال ألنا! ،ألن إجابتهُ تُع ِّريني متاماً ،وأنا أفنيت
111
ٍ
طرف ثالث الحب من
أحس بوجودي توت تسترُ ُ خيبايت ،ولكني اآلنَ ُّ أبحث عن ورق ِة ٍ
كل هذه السنوات ُ
كام ربط ديكارت الوجود بالتفكري «أنا أفكر أنا موجود» .والتفكريُ جز ٌء ال يتجزأ
من لوجستيات الكتابة ،وأنا حريص عىل أن أكتب بدمي ،فقد كانت تدميني
أحس أنني أنزف بني السطور ،ذلك النوع من الجروح ال يربأُ وال اللغات ،وكنت ُّ
يندمل.
مل أكن أطمح يف أن أصري واحدً ا من أولئك التكنوقراط الزائفني الذين يتدحرجون
أقنع بأسفلِ سافلني وال أتسخُ بزيفهم!. إىل األعىل بضجيجِ الرباميلِ الفارغة ،ولكني ُ
ات والوصولية .األوطانُكنت أخدّ ُر بها نفيس يف عا ٍمل موبو ٍء باملؤامر ِنظري ُة غبي ٌة ُ
تنافق نجاحاتهم وتُبدِّ ل
فلذات أكبادها جوعى وعراة وحفاة يف املنايفُ ، َ التي ترتكُ
عيب كليل ٍة! كام
آراءها التهميشية ونظراتها االستبداية بع ِني الرضا ،وهي عن كلِ ٍ
ترون.
كنت أتس ّول خاللها الفتات من وطني. سنوات عجاف ُ ٍ فقد مرت عيل أربع
تركت أهيل يُعانونَ الضنك والكفاف من أجلِ أن يعينوين عىل نصف غربتي، ُ
صربت عىل الجوعِ والرب ِد والرطوبة من ُ عىل األقل .ووطني مل يزل يدي ُر يل ظهرهُ!.
وأحقق أمنية العم إحسان مثيل األعىل .وبرغم اِنزالقايت ُ بكتاب،
ٍ أجل أن أرجع
رص
خوض هذه الحرب املصغّرة ،وخرجت منها بن ٍ متكنت من ُِ وسقطايت العديدة،
هزيلٍ ال يسوى كلفة الدماء التي أثخنت جسدي ،ولكني مل أزل ُمرتفاً بالعديد
من الجراح.
112
ٍ
طرف ثالث الحب من
ذنب أك ّرم؟ .أين كان مع مجموع ٍة من مبدعي املهجر للتكريم! ،تكريم؟؟ بأي ٍ
هؤالء وأنا أتج ّو ُل بني محطات مرتو األنفاق تارةً ،وأحيانا ال يكون معي حتي
مثن التذكرة التي تحرشين يف بطن هذه األفعى املعدنية الرسيعة .فأتوكّل عىل
قدمي شبه الحافيتني؟ .ماذا كنتم تفعلونَ وإدمان الفول والطعمية الجربي كاد ّ
أن يصيبني باألنيميا وفقر الدم؟ .أين كنتم وأنا أتس َّو ُل الكتب واملراجعِ من باع ِة
قبلت الدعوة املوقّعة باسم امللحق الكتب املفروشة يف سور األزبكية؟ .ولكنُ ..
الثقايف عىل مضض! .ليش ٍء ما مل أكن أعلمه ،ورمبا ملوع ٍد مع قد ٍر ما ،ال أدري كنهه.
يل أن أنتظر. ع ّ
مع أنني أبغض مثل هذه اللقاءات الرسمية ،وخاص ًة تلك التي ُ
أشتم فيها رائحة
الحكومة .ملا فيها من خُوا ٍء ونفاقٍ وهتاف وقُوادة سياسية! .ولكن ال ضري يف أن
سوم!. ٍ
عجاف ُح ٍ ٍ
سنوات ٍ
سنوات علوما ،أربع أنفقت علي ِه أربع
ُ أتأبط كتايب الذي
هذا الكتاب الذي يحتوي عىل سبع ِة فصول ،يف كلِ فصلٍ سنبلة ،ويف كلِ سنبل ِة
مليون فكر ٍة وفكرة .حسبام كتب أحدهم منافقاً يف إحدى صفحات صحيفته ذات
األسنان الصفراء.
مل يسبق يل أن دخلت هذا الحي الفاخر من قبل{ .جاردن سيتي} مدين ٌة مل
الوصول إليها إال باألسو ِد من
َ أستطيع
ُ لضيق يف ِ
ذات املحفظة ،وال ٍ يطأها حذايئ،
أثري
أتوبيس ٍّ
ِ دواب القاهرة! ،أو رمبا سأضطر ليك أجعل جسدي قطعة ساردين يف ِ
قررت أن أقتصد قليالً ،وأكتفي بسجارتني قديم .فمن أين يل أجرة التاكيس؟ لذا ُ
يف اليوم ورغيفني من {الخبز الحايف} .أو يلزمني االقرتاض من حلمي البقال الذي
يل .أما الرشاب فأستطيع أن أتدبّر أمر ُه مع صديقتي اإلثيوبية كرثت ديونهُ ع ّ
113
ٍ
طرف ثالث الحب من
114
ٍ
طرف ثالث الحب من
ارتكاب معصي ٍة أخرى ،تضاف إىل سجلِ إخفاقات ِ من الشوق ،وقُبيل إقدامنا
رشطة اآلداب املرصية ،التي ال تتحقّق جيداً من هويات العشاق ،وال متعن النظر
يف بطاقاتهم املزورة ،رديئة التزييف .مل أزل أذكر نظرتك الخافتة إذ ِ
قلت« :يا ابن
النيل ،سأرتحل بعيداً حتى أقىص املدن املس ّورة بامللح ،وسأعود إىل دياري عذب ًة
نقية ،فهل ستضمن يل ذلك؟» .هل تذكرين ردّي ِ
عليك يا مارلني يا ابنة الغيم؟.
أسلفت ،أنا ابن النيل ،ولقد ع ّودين هذا النهر املتعجرف أالِ لقد قلت ِ
لك« :كام
يرجع إىل منابعه مهام حصل ،بل سيكفيه رشف االنتحا ِر يف أعامقِ البحا ِر املتكلِسة
ملحاً».
يف مطلعِ أمسي ٍة شب ِه ُم ِ
مطرة التقيتها ،والقاهرة مدين ُة ال ْ
تحفل كثرياً باملطر ،بيد
أنها تحتفل ب ِه إذا فاجأها متل ّبساً بفرو الشتاء .كانت مارلني ترتدي ثوبا أبيض من
املط ِر الطبيعي ،وكنت أح ِمل عىل وجهي مالمح استوائية متآمرة ،ساعدتنا عىل
هذا التآلف الذي حدث! ،وأظن أن هذه األنثى كانت تضع هذا ال ِعطر الكاكاوي
فأدركت برسع ٍة أنها من فصيل ِة القهوة! فلم يشُ ق علينا أن نلت ِقي عىل ُ املميز،
شرُ ف ِة فنجال ،أصبح كأساً فيام بعد! .مل أنس بعد رشوق ابتسامتها البيضاء وأنا
أدعوها إىل {سمكاية} يف ذلك املطعم املتواضع املنزوي{ .السمكاية هو اسم
الدلع لعزومة السمك عىل طريقتي} .وبعدها انطلقنا نقصد ذلك املرقص اإلثيويب
الصاخب الذي أنفقنا في ِه الليلة ،ومن ثم رجعنا لشقّتها الصغرية يف {الكيت كات}
نتأبط مشاريعنا الجِ نسية العمالقة! .ذلك الطراز العتيق من الزهو الجنيس الذي ُ
تثبت عدم جدوا ُه من أول معركة! .ياه يا مارلني يا نصف صديقتي اإلثيوبية
الضا ّجة بالحياة ،ويب.
115
ٍ
طرف ثالث الحب من
فأعددت
ُ تستعجل القدر.
ُ مرت هذه الليايل مرسعة ال تلوِي عيل يشء ،وكأنها
تسبق يوم الفعالية ُ تحسباً ألي مفاجأة قد تطرأ .ويف الليل ِة التي نفيس جيداً ُّ
النوم جيداً ،وكأنني أنتظ ُر موعدَ الثقافية التي تنظمها السفارة ،مل أمتكن من ِ
ضجيج الحارةُ طفل هذا الصباح الصيفي برصخ ِة ميالد ِه ،وبدأ حب! ،حتى أدركني ُ
فنزلت قاصداً املقهى القريب من أجلِ ُ الضيقة الذي ألِفتهُ يحارصين من كلِ صوب.
يش ُّع يف جنبات املكان ،ومينحهُ مع وصوت أم كلثوم ِ
ُ خاط ِر عيون قهويت الصباحية،
ضوء الشمس ،خصوصي ًة فريدةً!.
كان هذا الصباح الصيفي في ِه نكه ٌة من إحسان بطعمها ومذاقها الرهيب،
أتاك مرسال كنت أنتظرها {شوقئ ٍذ تُحدِّ ث أخبارها} ألسألها« :هل ِ إحسانُ التي ُ
شوقي»؟.
فتجيبني وصوت أم كلثوم الطاعم قطعة سكر يف فنجان املزاج:
«بالعكس أنا مل أنتظرك ،ألننا ظللنا دوماً معا ،ال يفرقنا قدر وال زمن وال أكاذيب،
حتى وإن كنا نتبادلها يومياً عىل سبيل كرس الرتابة» .ويف الحقيق ِة ،كنت الكاذب
الوحيد الذي تربّك يف الهضبة {املارلينية} أسفلها وعاليها!.
فقررت أن أذهب ألشاهدها« .هل سأجدها ُ أرهقتني تلك الشجون والذكريات،
كنت أسألني« :هل ستغضب إن أيقظتها من النوم وقد اعتادت أن تنام نامئة؟»ُ .
فتحت باب شقتي الحقرية ،وأنا أشتهيها بأم ٍر ُ تحلم يب!.
حتي الظهر؟» .رمبا كانت ُ
وصعدت عىل املقعد الخشبي املتهالك ألنزلها من أعىل خزان ِة مالبيس. ُ من األنا!.
تركض حافية يف حفلٍ كان الغبا ُر يغطيها ويفسد ترسيحة شعرها ،وكأنها كانت ُ
فنفضت عنها الغبار وأردت أن أق ِّبلها ،ولكنها أشاحت بوجهها ُ من الريح الغاضبة.
116
ٍ
طرف ثالث الحب من
117
ٍ
طرف ثالث الحب من
كنت أشع ُر باالمتعاض ألنني سأضطر ملصافحة هؤالء الذين ال يعرف العظمىُ ،
أناضلُ كنت
طيب يا صالح؟ .فقد ُ أحد من أين جاءوا .أليس كذلك يا سيدي يا ُ
بأضعف إمياين وذلك النوع من القتال الذي ال يصنع الثورات وال يحدث التغيري ِ
يضم الكثري من اإلعالميني وذوي وال يُج ِدي .ال يخفى عىل العيان أن الحفل كان ُّ
الشأن ،ولكن رائحة السلطة كانت تُعكِّر صفوي ،لذا مل أهتم بسامع الكلامت
املعلّبة والهتافات البالستيكية املحفوظة لالستخدام املؤقت! .وحتى بعد أن
جاء وقت تكرميي كأحد مبدعي الليلة ،مل أحفظ شكل الشهادة التقديرية التي
وصموين بها ،فهم مل يرِيدوا تكرميي بل أرادوا تجرميي! ،لذا بدا يل تصفيقهم ريا ًء
ونفاقاً رخيصاً مل أبالِ به .وبعد قليل تم إعالن افتتاح املعرض املصاحب .وأخرياً
سأمتكن من استنشاق بعض الهواء النقي ،بعد هذا الشعور باالختناق الذي كنت
أشعر به.
يعرض في ِه الفنان التشكييل الكبري لوحات ِه ،هادئاً ومرتباً ،وكان
كان الرواق الذي ُ
أغلب الرواد من املهتمني بالشأنِ الفني ،فبدا أقرب ما يكون إىل مكانٍ للعبادة!.
تسلمت
ُ الفنانُ التشكييل كان بصحب ِة امللحق الثقايف الذي م ّيزت شكلهُ بعد أن
منهُ شهادة وفايت! شهاديت التقديرية! ،أو شهاديت التخديرية .أين الفرق؟!.
أرغب أن يكمال جولتهام يف الرواق حتى أتركهُ ليشاهدها ألول مرة .فهذه كنت ُ ُ
ِ
اللوحات، الطفل ُة قد كبرُ ت وبدأ يتقد ُم لها العرسان .ولكن جذبتني لوح ٌة من
فاقرتبت منها ألتبينّ مفاتنها ،يف الحقيق ِة كانت يف قمة الروعة ،هؤالء الرسامون
ُ
قبيل ٌة من املجانني وعندما يفقدون عقولهم ،نصريُ نحن أكرث جنوناً منهم .شغلتني
اللوح ُة عن مالحق ِة الفنان ،فام وجدتهُ يف هذه اللوحة التي أطلق عليها اسم
118
ٍ
طرف ثالث الحب من
وبدأت أقارنُ بينها وبني لوحة الحورية التي كنت ُ {حرية} ،يعدُّ فتحاً فنياً مذهالً.
ِّب يف ط ّيات إعجاب شديد ،كنت أنق ُ
ٍ أحملها يف يدي ،بينام عيناي تتفحصانها يف
تحملاأللوان والخطوط والتقاطعات ،كانت هذه اللوحة فيها رائحة العم إحسانُ .
ات توقيعهُ وتسكنها روحهُ ،فال غراب َة أن يحجها أغلب رواد الرواق ،يرمونها بجمر ِ
حججت إليها متمتعاًُ ،متمنعاً ُ إعجابهم ،ويطوفون بني صفاها ومرواها .أما أنا فقد
يحدث أن ي ِق َّل
ُ من أن يأرسين حسنها ولو مبقدا ِر ُعمر ٍة من فريضتي األوىل .فقد
إمياين بعض اليشء ولكني لن أُبدِّ ل ديني وال كعبتي .فدون {أبرهة} ،كل {أبابييل
فأنت النافذ ُة املرشع ُة ألكسج َني وس ِّج َيل يقيني!} .لذا لن أهدمك يا حوريتيِ ، ِ
أنس ِك حتى ولو صربت عىل إلحادي ،ومل َ ِ روحي ،مل تغادريني يف وحديت وفراغي،
أغسل بسلسبيلِ نيلك كل فسوقي ونزقي!، ُ كنت معي وأناغريكِ . شغل فرايش ِ
أتسكع حافياً يفُ فأستمع متجاوزاً لحزين أحاديث صديقي صابر بياع الفل ،وأنا
كورنيش النيل ..صابر ابن أم صابر..
تحس أن هذه األرض ملكك .وإحسانُ الحفاء يشعرك باالنتام ِء إليك ،ويجعلك ُّ
رأيت جسدها حافياً يتمىش عىل رصيف القدر .ولكني أحببتها ألولِ مر ٍة عندما ُ
آمنت ب ُنب ّوتها حني تغطت يب .فتدثرنا سوياً بنا! .فكان الدرب شائكاً ،والحلم ُ
أوهام.
وأدركت أنني
ُ همس ذلك العط ِر الندي من غيبوب ِة أفكاري املتعفنة، ُ أيقظني
تلثم ظهري، أحس بأنفاسها ُ عىل شفا خطو ٍة من أنثى بديعة األريج ،لطيفة .كنت ُّ
وتخدرين وتنعشني ،كانت فضولية أنفي تدفعني دفعاً نحو هذا العطر ،ولكني
اكتشفت طلسامً سحرياً يف اللوحة ،فلم أدر ساعتها هل أعل ُن إنحيازي للعط ِر ُ
119
ٍ
طرف ثالث الحب من
فاعل؟ .ولكن يف النهاي ِة أنترص واستقيل من سلط ِة هذه اللوحة؟ أم ماذا تراين ٌ ُ
للعطر ،وسكنني بال استئذانٍ ،كغيم ٍة فضول ِّي ٍة تتعاركُ مع نصف قمر! ،الغيمة
يطلب منها أن ترتكهُ ليهمس بضوئ ِه يفُ تتحايل علي ِه لتحضنهُ بجرأ ٍة واشتهاء ،وهو ُ
أحسست أن هذا العطر
ُ أذن الظالم ،فاتفقا عىل أن يرتكا حواس اللحظة بني بني!.
فجعلت أتربّص ب ِه يف حذر وحيطة ،كمن ُ الطاغي مصنو ٌع من زهر ٍة سقيتها أنا!،
قررت
ُ ِ
صمت بتحفُّز ،ولكني يخىش أن يف ُّر منه .هذه اللوحة كانت تُحدِّ ُق يف
وألتفت بأنفي متلصصاً ،من أجلِ أن أرسق شيئاً من العطر .ولكن ما ُ أن أهزمها
رأيتهُ مل يكن سوى زهر ٍة نيلي ٍة ،وضعها القدر يف أصيص غريب .مبتذل؟ .ال أعلم
بالتحديد.
هل تراين التقيتها يف يوم من األحالم؟ .وملاذا بدأت تتف ّرس يف مالمحي بكلِ هذه
شعرت أنها تريد
ُ كنت أريدُ أن أسأل أنثى العطر هل التقيتنا ذات يوم؟. الحدّ ة؟ُ .
ولدت يف عينيها .فلم أدر كيف ُ كنت قدأن تسألني نفس السؤال لتعرف ما إذا ُ
توقّف الزمن عند نظرتها وهي تلهبني برحيقها وترتكني أختا ُر الحريق! .توقفت
ونقول معاً
ُ دقات قلبي ،أو كادت أن تفعل ،ونحن نشريُ لبعضنا يف شب ِه ذهول،
نفس اللحظ ِة: يف ِ
ِ
«أنت؟؟».
«أنت؟»« .إحسان؟؟»« .عاطف؟؟؟» .؟!
نعم كانت هي .بعطرها وزهرها ،كانت هي التي صنعت حقيبة رحييل ،وتركت
القطارات تتب َّنى حزين ،وهي التي ختمت عىل جواز سفري يف مطار الروح،
وجعلتني أتس َّو ُل الوطن يف املهاجر! .هي التي كنت أحلم بفيزا حرة تدخلني
120
ٍ
طرف ثالث الحب من
إىل أراضيها .هل التي من أجلها مزقت جواز سفري يف حامم طائرة ،وطلبت حق
اللجوء يف أول مدينة آمنة أطلت أضواؤها من بعيد ،قبل أن تطلب منا مضيفة
ذات الطائرة ،ربط أحزمة األمان.
أمارس تهوميايت يف ال يشء ،وتركتني أشعلها حرباً علينا، ُ إحسان التي جعلتني
بطعم نقائها األبيض! .من الصعب طليت من أجلها كل النساء ،حتى يصبحن ِ ُ حتي
ِ
الصمت أن تتسامى لغتي إىل مستوى الحدث ،واألكرث غبا ًء أن أفسد روعة هذا
بكلمة! ،ولكن هيهات....
ِ
اإلجابات ألجِ مها .أدهشني أنها بأي
فتتابعت حوافر األسئلة عىل عقيل ،فلم أدر ِّ
قيص من هذا ال ُّرواق ،وكأنني يش ٌء يخصها ،قد ضاع اقتادتني من يدي نحو ركنٍ ٍ
تحمل لوحتها وهي ال تدري. منها قبل لحظات ،فيام كانت يدي األخرى تحملها ُ ..
كسحائب دخانٍ من سجا ٍر فاتر، ِ تخرج مني بلها َء غري منتظمة،
ُ اإلجابات
ُ كانت
اب من ترك كوخ ِه الخشبي املُطل عىل النهر ،وذهب ليحتطب وأنا أتفحصها باستغر ِ
يطل عليه حوض سباحة ،ويتسكع يف رصا ُّ
يف الغابة القريبة ،وعندما رجع وجد ُه ق ً
باحاته خد ٌم وحشم .لكم تغريت! .من وضع هذا العصفور الربِّي يف هذا القفص
تسبح
ُ الذهبي؟ .بل ومن رسق رائحة الط ِني من صلصالها ،وح ّولها لقطع ِة فخّا ٍر
تشتعل منها،
ُ يف قارور ِة عط ٍر بارييس؟ .من يا ترى الذي أطفأ جذوة النار التي
وأبدلها بقطع ِة ثلج؟ .هل باعت زالزلها وبراكينها مقابل بحرية جليدية منعتها
الشمس من الرضاعة؟ .هل وهل وهل؟؟ .كنت أتساءل كطفلٍ ريفي دخل للمر ِة
األوىل محالً لبيع الدمي .وبعد ذلك انهمر سيل اإلجابات من فمها عىل صحرا ِء
حوجتي إلجابة تروي عطيش.
121
ٍ
طرف ثالث الحب من
أخربتني بأن والدها تم تعيينهُ ملحقاً ثقافياً يف السفارة السودانية مؤخراً! ،وهذا
وعرفت أنها ستعو ُد إىل
ُ الرجل الذي سلمني الشهادة {التخديرية}!!. ُ يعني أنهُ
أعلم بأنها قد أخفت عني الكثري ،وكذلك كنت ُ بريطانيا لتكمل دراستها .ولكني ُ
أبيع
أحس أنها رمبا بدّ لت النار بالصقيع ،أما أنا فسأبقى ابن خط االستواء! لن َ ُّ
شميس ،ولن أترك هذا النيل يف عهدة مربية فلبينية ،تعلمه نطق أول كلامته
بلكن ٍة مكرسة ،وهو الذي ولد من رحم غيمة مدارية! .كنت أردّد يف األكاذيب
يتبق منها غري ذكرى وبعض أتطلع فيها وأقتفي آثارها القدمية التي مل ّ ُ املعتادة.
االحتفاظ بالصو ِر القدمية ،كمدين ٍة تاريخي ٍة ُ
ترفض ِ أطالل .وأنا ذاكريت تصرِ ُّ عىل
يوضع لها أحمر الشفاه! .كيف أتخلّص من عقدة َ وترفض حتى أن
ُ طالء جدرانها،
ِ
تداعيات املايض بكلِ ما تحاول االِستفاقة من
ُ هذه الذاكرة االسرتجاعية التي ال
متارس السقوط إىل الورا ِء كتميم ٍة وتعويذ ٍة متوارث ٍة ال فكاك من ُ فيه؟ .ولكنها
سلطاتها .مل أزل هامئاً أردد يف كثري من الشعارات البلهاء .اإلِحساس الذكوري
ويتفاعل معها،
ُ ويحتفظ بكيميائها يف جميعِ معادالت ِه،
ُ يتواطأ مع ذاكر ِة الحب،
وينصه ُر فيها ،يتلكأُ حيال كل نداءات التغيري ومسح املساحيق ،يدَّ ِعي الصمم،
ويتصنع العمى ،وال يشاهد إال صورته املعكوسة من املرايا املحطمة .والذكر ال
يرى إال صورته الجميلة ،حتى لو شاهدها يف مرايا محطمة باهتة.
واآلن يا إحسان وقد هزمتك موجة الربد الغربية ،أمل تعدي تفكرين يف دف ِء
انتبهت إىل أنها تحادثني بلغ ٍة غري مفهومة أو يُخ ّيل يل ،ألنني
ُ الشموس إفريقيا؟. ِ
رسحت بعيداً عنها .فسألتها تحاشياً للحرج: ُ
«قلت يل كنا وين يا إحسان؟ .معليش ما كنت مركّز معاك». ِ
122
ٍ
طرف ثالث الحب من
123
ٍ
طرف ثالث الحب من
«أنت يا عاطف ما شايف العامل من حولك؟ ،ما قاعد تقابل ناس وال تختلط
بآخرين؟».
«املشكلة إين شايف كل يشء ،لكن كنت عايزك تحافظي عىل إحسان!».
«إحسان قاعدة والله ،ممم! يعني أنت هسة رايض عن عاطف؟؟!».
فاحرتت
ُ باغتني سؤالها كقنبل ٍة موقوت ٍة ،وأنا أهاجمها بال ساتر أو خط رجعة،
ِسقاط تهدف إل ِ ُ فيام أقولهُ وأنا أعرف أن اإلجاب َة ستفضحني .لتضيف بطريق ٍة
جميعِ أقنعتي:
«نحن االتنني يف الهوا سوا ،أنا اتنازلت شوية عن قناعايت ،عشان عايشة يف
مجتمع بهتم بشخصيتي ،ما بطريقة لبيس وأكيل وسلويك الخاص ،وما معروف
أنت اتخلّيت عن شنو!».
حارصتني وض ّيقت عيل الخناق فقررت الهرب من تلك املواجهة الخارسة.
«أويك ،عندي ليك مفاجأة الصدفة لعبت فيها دورا كبريا يا إحسان ،وميكن
القدر!!».
«مفاجأة شنو؟ خري إن شاء الله؟ شوقتني يا عاطف» .بلهف ٍة واضحة هتفت.
فغمزت لها بعيني ،وأنا أشريُ إىل اللوحة!.ُ شعرت بحريتها وفضولها،
ُ
«دي شكلها لوحة مش كده؟؟».
كنت أزيح الستار عن اللوحة التي شاركتني قالتها وهي تتص ّنع ال مباالة ،فيام ُ
مرارة غربتي وقاسمتني معانايت .وأنا أدركُ أنني كنت ُناو ُر بطريق ِة ذكوري ٍة ماكرة
أدركت
ُ فلمحت يف عينيها نظر ٍة
ُ وخبيثة ،نستعملها كثرياً يف مواجه ِة املدّ األنثوي،
اإلمالءات املاورائية املزمنة .وهتفت كمن وجد كنزاً: ِ تنصلت من
ُ من خاللها أنني
124
ٍ
طرف ثالث الحب من
125
ٍ
طرف ثالث الحب من
126
ٍ
طرف ثالث الحب من
أنفج ُر من الغيظ.
«تليفون علشانك يا عم عاطف ،كل ده نوم؟؟».
صبي حلمي البقال كان هو الطارق .ولكن من يطلبني يف هذا الوقت؟ .ارتديت
وهبطت درجات السال ِمل والصداع يكا ُد يفجر رأيس .بدأ جرس ُ مالبيس يف عجل
الهاتف يرنّ مرة أخرى عندما وصلت ،فناولني حلمي السامعة وأنا أفركُ النوم
من عيني بصعوب ٍة.
«ألو مني معاي؟».
«سوري ،شكيل كده صحيتك من النوم!».
الصوت بعطره ،فأجبت عىل الفور: ُ غمرين
ِ
اتصلت». «ال والله بالعكس ،أنا أصالً مفروض أصحى بدري شوية وكويس إنك
تعرفت عىل صوتها
ُ ومع أنها املرة األوىل التي تهاتفني فيها ُمذ عرفتها ،إال أنني
األبيض.
«والله يا عاطف أنا زهجانة ،فقلت أشوفك لوما عندك مانع نطلع نتفسح
شوية».
أجبتها بفرح ٍة:
«مايف مشكلة يا إحسان ،الليلة؟؟».
«ال ،الليلة نحن معزومني يف بيت السفري ،لكن بكرة ما عندي حاجة بعد الساعة
عرشة».
«أويك ،خالص نتقابل الساعة حدارش يا إحسان».
ٍ
بصوت أكرث بياضاً. لكن عايزنا نتقابل وين؟» .سألتني
127
ٍ
طرف ثالث الحب من
ٍ
بصوت ُمع ّتق بغبا ِر األيام: فأجبتها
«اركبي أي تاكيس ،تعايل ميدان طلعت حرب وقويل عايزة قهوة زهرة البستان
يف وسط البلد .هي بتقع يف شارع البستان املتفرع من شارع هدى شعراوي».
«أويك ،خالص أنا برضب ليك مرة تانية ،مع السالمة» .انتهت مكاملتها.
خطر .فمرت بعمق ِ
ِ عدت إىل شقتي الصغرية ليك أواصل نومي وأنا أفك ُر فيها
ساعات اليوم واليوم التايل وأنا أهيأ نفيس لهذا املشوار املهم ،والذي قد يغيرّ
حلمت بأين أجوب معها القاهرة القدمية والجديد ِة ،بكلِ ُ مجرى حيايت إىل األبد.
أحيائها وشوارعها ،ومقاهيها ونيلها وليلها ،كنت أريدها أن ترقص معي وسط
النيل رقصة ألكسيس زورباس رائعة اليوناين نيكلوس كازانتزايك ،وتغام ُر معي
كنتمثل ما فعل مع األرملة الفرنسية مدام هورتانس يف ذلك الزمن البعيدُ .
أريدُ أن أقرع جميع أجراسها ،كام كان يفعل كوازميودو أحدب نوتردام ،وأصري
ترقص معي مثل الغجرية الساحرة مخاض النيلِ السنوي ،وهي ُ ِ زعيامً للمجانني يف
تطرق معي عىل نوافذ القدر ،وتناجي القمر وهي ُ كنت أريدها أن أزمريالداُ .
وترسق قبض َة ي ٍد من الضياء .كل هذا والزمن انتظار! .ومقاعد ُ تتلص ُص عىل أبواب ِه،
ّ
املقهى العتيق أضناها الرتقُّب .تلك املقاعد التي تخضّ بت بذكري عاملقة الشعر
وتستلهم من التاريخِ
ُ واألدب والفكر والسياسة ،تلك املقاعد كانت تنتظرها مثيل
روح املستقبل .كنت أجلس يف ممر املقهي الذي أطلق عليه الشاعر الجميل أمل
دنقل ،اسامً لطيفاً جداً{،العمق اإلسرتاتيجي لريش} ،حيث كان يقصد أنه االمتداد
اآلخر ملقهى ريش الشهري ،فيتوافد ر ّواد ريش لتدخني الشيشة ولعب الطاولة،
لعدم توفّرها هناك.
128
ٍ
طرف ثالث الحب من
بتوقيت املقهى ،ولكني انتظرتها نصف عم ٍر ِ يقارب النصف ساعةُ لقد تأخرت ما
كنت أترق ُّب أنذات صمتي مبحاول ٍة للرصاخ!ُ ، بتوقيت شوقي .انتظرتها وأنا أجلدُ َ
يل وتنهي صيام وحديت ،ولكن هل أستطيع الجز َم بأين أحبها؟ .فقد تكون تهل ع َّّ
هي غريزة التملُّك ،وقد أكون فقط أريد أن أعيد هذه الناق َة الشاردة لقافلتي.
الجنس الرجويل ،فكلنا يريدُ أن تكونَ لهُ قبيل ًة
ِ عقدة ذكورية متجذرة يف أعامقِ
من النساء ،وكلنا ميتهن اسرتقاق النساء .ويف النهاية نكون له ّن عبيدا! .فمتى
نتحر ُر من عقدتنا هذه ،ومتي نعل ُن استقاللنا من هذه الترُّ هات؟ .متي نخرج من
منارس فيها تزييف فحولتنا ،ودفعها دفعاً إىل اعتبا ِر أن هذه العزلة العقيمة التي ُ
اآلخر هو مجرد غنيمة حرب؟! .وثم ماذا إذا غادر ال ُرماة ـ الذين يحمون ظهو َر
خداعنا ألنفسنا ـ مواقعهم؟ هل ستكونُ أُحدً ا أخرى؟ .ال أحد .ال أحد ال يتمنى أن
يكون كل النسا ِء من جواري ِه ،ولكن ال أحد ميتلكُ رادعاً أخالقياً مينعهُ من التفكريِ
تبيض له .فكل رواد هذا املقهى العتيق يلوكون األحاديث الرخيصة، يف دجاج ٍة ال ُ
ويتداولون العبارات الجنسية البغيضة ،ويحشونها عمداً يف أحاديثهم ويقهقهون،
فيضحك الزم ُن عىل قلّة مفاهيمهم! .ال أحد.
دواب القاهرة،ترتجل عن ظه ِر األسود من ِ كنت أسخ ُر مني ،فلم أملحها وهي ُ ُ
ِّب عني يف فوىض جيلوجيا املكان، السائق األجرة ،وبدأت تُنق ُ
َ إال بعد أن نقدت
أستأنف حفريايت يف أعامقِ خيبتي! ،نادل املقهى املزعج وقف أمامي ُ فيام أنا كنت
وقال:
«يا عم عاطف البنت اليل هناك شكلها عايزاك!!».
ووقفت مرسعاً حتى أداري أي أث ٍر مخ ٍز لسقوطي. ُ فرتكت خيبتي جالسة،
ُ
129
ٍ
طرف ثالث الحب من
130
ٍ
طرف ثالث الحب من
وكنت أريد أن أميش عارياً ،وأرتديها هي فقط ،فشاركتني رغبتي ،وهي ال تدركُ
عمق جنوين ،وال تفهم منطق الالوعي .يف هذا العامل الالواعي ،من حقنا أن نختار
لعمق الجرحِ فيك، وقت الغيبوبة ،ودرجة التخدير! .الغيبوبة هي أن تكون مدركاً ِ
بالوعي طائشاً أحمق .ما عدا ذلك ال طائل من ورائه. ٍ وأن تكونَ واعياً
حلمت بها
ُ مشينا حفا ًة عرا ًة إال من أرواحنا ،وأنا كنت أفك ُر يف أن أهديها هدية
كثرياً! ،فقد كانت متام الواحدة بتوقيت الفُل.
«أين أنت يا صابر بن أم صابر؟».
والنيل
ُ نصف مجنون ٍة
ضحكت بعذوب ٍة وأنا أحيك لها عن صابر ،بل وتحولت إىل ِ
بحب املجانني! .ملاذا عندما يغادرنا شامالً تصيبهُ شقاوة األطفال عن مهووس ٌِ
ِكرب؟ .هل هي الحكمة التي ترشح للموج ِة كيف تقرأ لغة الضفاف؟ .فام أعتقد ُه
يحب أن يعبأَ فقط يف بطون أن النيل يتل ّون حسب حجم احتفالنا ب ِه ،فهو ال ُّ
يعشق أن تقد َم لهُ باقة ورد وقارورة عطر .لعبت برأيس ُ مربدات املياه ،ولكنهُ
فأحسست أن إحسان هي االختيار الذي ُ خمر األمواج وأفيون النسائم اللطيفة،
ال بديل لهُ إال إحسان!.
«ربنا يخليهالك يا ابن املحظوظة ،فُل يا عم عاطف ألحىل عروسة فيك يا مرص
والسودان .ده نحن كنا بلد واحد أيام امللك فاروق».
«يا عم بس ،بالش دوشة أنا ُمش فاضيلك النهار ده».
«واملصحف نحن كنا بلد واحد ،وعبد النارص هو اليل .»...
يا لصاب ٍر بن أم صابر ..
ألقيت عليه تحية الفُل متربّماً من ثرثرته التي ال حدود لها ،وع ّرفتها ب ِه ،فقد كان
131
ٍ
طرف ثالث الحب من
تقابل إحدى شخصيايتميل منافقتي .وجدتها سعيدة وهي ُ صديقي اللدود الذي ال ّ
تعرف ولهي بأسطر ِة شخويص إىل هذا ُ أمل الحديث عنها ،وأظنها كانت ال التي ال ُّ
القدر .ولكنها أحبته عىل كل حال.
استطالت مساحات األنس ور ُحبت ،فسمونا ،وكان الحلم مباحا ،فحلمنا .حلمنا
حد التخمة ،فسألتها بُعيد انتباه ٍة:
«أنت يا إحسان ناس البيت عارفني إنك ح تتأخري شوية؟». ِ -
قالت وهي تنظر إىل ساع ِة يدها الفاخرة:
«ال والله ،أنا قلت ليهم طالعة مع صديقتي ،وقِّف يل تاكيس عشان مفروض
أميش خالص».
برغم أنني كنت أريدها أن تبقى ،ولكن كان البد أومأت لها برأيس موافقاًِ ،
تفعل ذلك دامئاً .دوماً هي الس ّباقة بالرحيل وأنا ال يسعني إال أن تغادر ،فهي ُ
أن أتابع آثار كلامتها ،وأقتفي أثر عطرها ،وعربة األجرة املرسعة تطع ُن يف قفا
ِ
األسفلت بال رحمة.
صمت ،ووحشة ٍ وافرتقنا وأنا أنتظر منها هاتفاً قد ال ي ِحنُّ ،قد ال يرِنُّ ،وأنا أئِ ُّن يف
غرفتي الكئيبة تذكرين بوحديت ألرفع كأيس وحيداً كئيباً ،يف صحتك يا حلم! .مل
أكن أملك إال هاتف حلمي البقّال .وكنت أمقت الذهاب إليه ،إذ كانت ديوين
بلغت الجبال ثقالً.
132
ٍ
طرف ثالث الحب من
الفصل األخير
متثل اليقني األول
الحلم مجدلية} .كانت ُ ِ مشارف العمر{ ،خرجت من بطنِ ِ عىل
الذي أحملهُ يف صدري ،يف غمرة حاالت الحمل الكاذب املتعددة ،التي كانت
كنت أرتاب فقط .ويف ظل الوجودية تترشنق يف وجداين .مل أكن أمتلك يقيناً كامالًُ .
ُ
رص أفكاري ،مل أكن أريدها أن تكون سيمون دي بفوار أخرى ،ومل أكن التي تحا ُ
أنا سارتر! ،ولكني مل أكن سوى هذا الفتى الرشقي الغارق يف آثامه الذكورية
الجامحة ،التي ترتاح لفكرة نزع الصفات اإلنسانية من املرأة ،وتحويلها إىل مجرد
تابعٍ ذليل ،وال ميتلك الحق يف املشاركة الفاعلة ،إال بإذنٍ مسبق .من ٍ
أسف أن هذه
الحقيقة مل أكتشفها إال بعد فوات األوان ،عىل الرغم من أنني وغريي نجاهد كثرياً
لتغييبها حتى بعد معرفتها.
يف ذلك الوقت ،سكنتني روح شاعر اإلنجليز العظيم ،الذي كان يأمرين بأن
أعيشها قصيد ًة طائشة ،وأشعلها بركاناً ،ولكن ليس من العدلِ أن يكون حضورها
يقول يل دعها ُ
تزلزل كيانك ،وال مثل عود ثقاب تنتهي حياته دفع ًة واحدة! .كان ُ
ته ّزك قليالً ثم تغادرك إىل السكون! ،كأنه كان يريد أن يخربين أن أترك األنثى ليك
والغريب أننا
ُ تحدث قدراً أكرب من الضجيج ،حتى تتح ّرك الربك الراكضة يف دمايئ.
تلملم جميع احتامالتك،
ُ نخلق الحب ونخرتع املشاعر ،ونرتكها لتقتلنا .األنثى التي
133
ٍ
طرف ثالث الحب من
134
ٍ
طرف ثالث الحب من
ويكشف أننا
ُ اله ّوة الرتاكمية بني ما هو حادث وما هو غري ممكن ،ليأيت الواقع
منارس الغش والخداع الذايت .وينشأ نوع من الرصاع الخفي تارة ،والعداء السافر ُ
أرسق نفيس ،وأتع ّرى من ذاكر ِة الزمان كنت ُتار ًة أخرى تجاه ذات الواقع .فأنا ُ
األبواب املوصدة هنيه ٍة أه ُُّش بها عىل وجعي.
ِ أختلس من ِ
خلف ُ واملكان ،حتي
وكنت أحلم بأين الديك الوحيد الذي يبرشها بالصباح ،ومل أكن أطيق تح ّمل فكرة
وتبيض لها ولو مر ًة يف العمر.
ُ أن تسبقني ديوك أخرى لتؤ ِّذن يف قلبها،
صحوت يف صبيحة اليوم التايل ،وأنا كالعاد ِة أعاين من صداعٍ وفتو ٍر وشجن. ُ
يخفف عني املاء البارد حدّ ة الصداع، ُ فنهضت متثاقالً وأنا أمني النفس أن ُ
وأعددت لنفيس كوباً من الشاي الساخن ،ويف خاطري عبار ٌة كان يرددها العم ُ
إحسان« :الشاي دريكسون املخ»!!.
فحاولت أن أشغل نفيس بالقيادة يف شوارع نهاية التاريخ ،وأنا أخىش أن يح ّرر ُ
يل فرانسيس فوكوياما مخالفة {للقيادة تحت تأثري الشاي!} ومع ذلك كنت أم ُر
الكتاب بإِهامل سائحٍ ال تعنيهُ املدن التاريخية وال ال ُّنصب التذكارية.ِ ِ
مبحطات
أصبحت هذا الصباح ،وأنا يشدّ ين حنني جارف للسودان ،رغم جور األنظمة
وغياب العدالة وتسلُّط الحكام ،ولكن املساحة الوجدانية للوطن ،كانت بعمق
واشتقت إىل العم إحسان
ُ اشتقت إىل أهيل ونايس وحاريت،ُ مليون حنني مربع!،
كنت أ ِح ُّن إىل حاريت امللقاة عىل قارع ِة الخريطة،
والرفاق جميعهم يف تلك البالدُ .
بشوارعها وأزقتها ومبانيها القدمية .اشتقت إىل نهر النيل الحايف ،بأسامك ِه وطين ِه
وجروف ِه .اشتقت إلي ِه موجة موجة ،وضفة ضفة .نهر النيل بجلباب ِه الناصع،
رش موجه يف بذل ٍةوعاممتهُ البيضاء ،قبل أن يتفلسف ويدّ عي التقدمية ،وهو يح ُ
135
ٍ
طرف ثالث الحب من
عنق تخنقهُ ،ويسهر حتي الصباح ويذهب للنوم «بالروب دي ال تناسبه ،وربطة ٍ
شامرب» ،ويرتكني ليك أشكّ يف رجولته! .نهر النيل الذي أعرفهُ مبسبحت ِه وسجادت ِه
يبيع عروست ِه مقابل حفنة أوراق خرضاء، ٍ
رخيصُ ، وكرم ِه ،قبل أن يتح ّول إيل قوا ٍد
يبت ّز ُه بها سائح أجنبي ثري.
نيل ال يتصاىب ،وال يصبغ شع َر كنت ساديت أ ِح ُّن لنيلٍ ابن حالل ،وموج ٍة رشعيةٌ ، ُ
فقررت أن أنزل وأجلس ُ ضفاف ِه باملصابيحِ امللونة ،ويتخلىّ عن وقار ِه األخرض!.
تعزف عىل طبل ِة أذنك
ُ ِ
األحاديث العابرة التي عىل القهوة ألحتيس فنجاال من
بال اسئذان .الثقافة املرصية تعتربُ الجلوس عىل املقاهي من مظاهر الرجولة،
عىل النقيض متاماً عام هو عندنا يف جنوب الوادي .فاملقهى املرصي يعطيك نرش ًة
مفصلة بأخبا ِر الدنيا ،وفيه تتجلىّ العبقرية املرصية يف النظرة املتسامحة للحيا ِة ّ
مبنظو ٍر عام ،وبنفسي ٍة م ّيال ٍة للفرح والتفاؤل والسخرية اإليجابية التي تتغلّب عىل
جراحات األيام.
أما نحن فأصحاب نظرة تشاؤمية نوعاً ما .تُغلِّف آراءنا ومعتقداتنا بفكرة
يتغلغل يف دواخلنا،
ُ سلبية ومحبطة ،فنرتك أبوابنا مرشعة للحزن والكآبة ،أو نرتكهُ
ويرسق مفاتيح قالعنا مثل حصان طروادة!. ُ ويفككها من الداخلِ ،
«يا عم اضحك ما حدش واخد منها حاجة!!».
هذه هي كلمة الرس الوحيدة التي ميلكها البني آدم املرصي .أما كلمة الرس
التي تستعبدنا:
«ملعون أبوك يا بلد!!».
«تلفون عشانك يا عاطف».
136
ٍ
طرف ثالث الحب من
137
ٍ
طرف ثالث الحب من
138
ٍ
طرف ثالث الحب من
سافلني ،وبرغم أين مل آكل من تفاحة آدم ،ولكن نفذت نفس العقوبة! .النفي من
جن ِة ِ
الحب املؤقت.
تختلف الوقائع وال ّتهم والحيثيات ،وتختلف أقوال الشهود ،ولكن العقوبة ُ
واحدة! ،إذن فأنا اآلن رسمياً خارج مضارب قبيلة النساء! ،ومنذ اآلن ستبدأ
حلقات الرصاع الجندري النمطي ،وسأتركُ {األنا اإلجرامية} هي التي ت ّتخذ قرارايت
أستسلم مبثلِ هذه السهولة؟ ،وملاذا تأرسين الروح االِنهزامية؟ ُ املهمة .فلامذا
أبحثُ فكل املعطيات تقول إن إحسان ما عادت هي الصندوق األسود الذي
في ِه عن حقيق ِة دواخيل بعد تحطم محركات طائريت التي صنعت ما قبل الحرب
لست الذي ش ّيد أسوار اليوتوبيا ،وأن العاملية .قرون استشعاري تخربين بأنني ُ
أفالطون وضعني عيل الئحت ِه السوداء! ،وتم نفيي خارج مدينته الفاضلة! ،فلامذا
سأحلم بأال أحلم ،وسأحرق كل تذاكر ُ أترك نفيس تحت سيطر ِة أضغاث أحالم؟.
العودة ،وأغادر صالة الرتانزيت ،فقد انتهى زمن القديسات! .عربتني كل هذه
الخواطر القامتة ،ومل تزل سامعة الهاتف معلقة يف يدي كأسورة حديدية تذكرين
بخيبتي ورداءة حايل .وبعدها ذبت يف ضجيج الشارع املزعج ،ودفنت جسدي يف
شقتي املتواضعة ،ومنت طويالً بعد أن بكيت.
ليس الزواج وحده قسمة ونصيب ،رمبا كان الوجود نفسه!.
عجباً!! .تخلت القاهرة عن أنوثتها ،وبدت التجاعيد تظهر عىل شوارعها ،كأرمل ٍة
تزيل املساحيق ما صنعتهُ
عجو ٍز تريدُ أن تحتفل بعيد ميالدها املئوي! ،فهل ُ
شيخوخ َة التاريخ؟ .وهل يفلح أحمر الشفاه يف منحها اإلثارة؟؟ .إِحساس بالغربة
الجغرافية القاتلة ملحتهُ يف أمواجِ النيل ،فهل ترا ُه يح ُن إىل الديار؟ .ما أشدّ غباء
139
ٍ
طرف ثالث الحب من
األنهار التي تنتحر يف لُجج البحار ،واألكرث غبا ًء أن تكونَ حمالً يف عا ٍمل تحكمهُ
ىل البحث عن بدائل ،أو الذئاب .عملياً يبدو أن رحلتي قد انتهت .وكان ينبغي ع ّ
أي أقراص مسكنة تشفيني من هذا الوجع املُر.
وهكذا وجدتني يف القاهرة بكلِ انفعاالتها وطيشها ،بكلِ صخبها وضوضائها،
أهرب من مئذنة لتطاردين ألف مئذن ٍة ومئذنة. ُ وهي تحارصين حيث ال فكاك.
حمى السيارات وهذيان محطات املرتو ،أمواج البرش الذين يحقنهم مرتو األنفاق
ونزيف املدينة املتعبة ،وأنني املقاهي الشعبية ،وجرح ُ يف عروق ميدانِ التحرير.
املعز لدينِ الله الفاطمي ،الذي تنكئهُ الصدور العاريات ،واألرجل الراكضة وراء
السيقان امللفوفة بعناي ِة فنانٍ جعل من لوليتا موديالً ،يساعد ُه يف بيعِ لوحات ِه
الكاسدة! .دار األوبرا والحسني والسيدة زينب ،واألزهر الرشيف يضخُّ يف أوردتها
عقار الرحمة وصكوك الغفران .املسارح والشوارع والزحام وأنا وأنا وأنا .مل أكن
وحدي.
نهر النيل الذى يضحكك ويبكيك ،ويغني لك ويُرثيك .يقيم لك حفلة العرس
ومراسم التشييع يف نفس الوقت .يصفعك يف وجهك ،ويركلك يف املؤخرة ،ويربِّ ُت
عىل كتفك ،ويخرج منديلهُ ليمسح منك دمعة! ،يكونُ صادقاً معك حني تنافقك
يهمسُ جئت لتبيع املاء يف حار ِة السقاة!،
الجغرافيا ،ويكذب عليك حني يعلم أنك َ
يف أذنِ صاب ِر بياعِ الفل ،ويقنعهُ بأن مينحك جزءاً من التاريخ قبل أن تبتاع منه
تستطيع كل السدود أن تُلجِ َم
ُ بعض الفل ،ومييض غري آبِه كحصانٍ عر ٍّيب أصيلٍ ،ال
فقررت أن أهديهُ شيئاً عزيزاً عىل قلبي ،أو كان!!. ُ أمواجه الشاردة!.
قصدتهُ متأبطاً آخر انكسارايت وخيبايت ،وأنا مثل فرعون أسود ضئيل قرر أن
140
ٍ
طرف ثالث الحب من
141
ٍ
طرف ثالث الحب من
عروس النه ِر يف األصل ،وال بدَّ أن يدخل بها الليلة! .تسللت دمعة يتيمة من عيني
وأنا أمت ّعن فيها للمر ِة األخرية .هذه اللوحة التي مل يشاهدها إال ثالثة فقط ،وحتى
موظف الجامرك الذي كان يف ّتش يف حقيبتي بال اكرتاث وأنا أه ُّّم مبغادر ِة البالد،
مل ينظر إليها ،أو باألحرى مل يهتم بها عىل اإلطالق .العم إحسان وهي وأنا!! .فكان
ثالث هو قمة العبثية .لذا سأزفها إىل النهر .وماذا تروين فاعلاً طرف ٍ الحب من ٍ ُّ
رشد يف عا ٍمل من رحم ألوانها ،وتركتني أت َّ غري ذلك؟ .أليست هي التي أنجبتني من ِ
السواد؟ .أليست ..؟ .أليست؟ .أليست هي من كانت تتح ّرش يب وتراودين عن
َ
أطواق نرثت
ألقيت بها يف جوف النيل ،وخلفها ُ ُ نفيس؟ .فلتذهب إىل الجحيم إذن.
الفل األبيض ،فكان مبثاب ِة فستانِ عرسها .وبدأت تبتعدُ عني وهي تل ِّو ُح بيديها
وشعرت بيش ٍء من األسف، ُ مودعة ،والفُل يتناث ُر حولها كعاصف ٍة ثلجي ٍة صغري ٍة.
وذرفت ذلك النوع من الدموع الذي تذرفهُ األم ليلة زفاف ابنتها الوحيدة. ُ
وما عاد هنالك من أصحاب وال أحباب وال رفاق عدا شكسبري ،وكتايب عنه ،فهو
عىل األقل كان يحبني كام أحب أنا جوليت ،واتحدنا معاً ،ومل يكن هنالك طرف
ثالث .مل يعد هنالك أحد!.
ُ
تحاول العثو َر مضت بضع سنوات منذ أن بدأت حيايت الجديدة ،ومل تهاتفني ومل
عدت مهموماً من السودان ،مل أجد ىل ،وأنا مل أفكر يف رشف املحاولة أصالً .فقد ُ ع ّ
من العم إحسان غري ذكرى أليمة وموجعة ،لقد أخربوين أنهُ رحل قبل حضوري
واكتشفت أنهُ مبوت ِه ماتت معهُ
ُ بعدة أشهر فقط .فذهبت ألقتفي أثر ُه يف بيت ِه.
جميع األشياء الجميلة التي كانت تربطني به .شجرة النيم العجوز التي مل تبخل
عيل الشارع مبثقالِ ظل ،وكانت متنح فناء املنزل بعداً أسطورياً ،بأغصانها التي
142
ٍ
طرف ثالث الحب من
أعشاش طيور القمري كعناقي ٍد شهي ٍة .هذه الشجرة اصف ّرت ِ تتدلىّ منها ثريات
أوراقها ،وتاطريت يف الفناء املوحش .وقطتهُ الصغرية أيضاً هجرت املنزل لتبحث
عن حياة ،حني يئست يف العثو ِر عىل الحياة!! .دكانتهُ الصغرية يف سوق السمك،
والتي كانت ركناً رئيساً يف ديكور املكان ،أصبحت أيضاً نسياً منسياً ،لقد انطفأ هذا
الرساج إىل األبد ،ومل يعد هنالك غري الظالم .من يطفئ هذه الحلكة الفادحة؟.
أسف كل شمع ٍة عطست يف وجهها الريح ،وأصابتها أين الزمان وأين املكان؟ .من ٍ
بالزكام.
تذكرت ذلك اليوم ،كانت قد مضت عدّ ة سنوات .كم عددها؟ .ال أح ّبذ فكرة
أن أجهد نفيس بعملي ٍة حسابي ٍة يسرية ،تكون محصلتها املزيد من األوجاع التي
واجهتها يف حيايت الالحقة فحسب .كنا يف غرفة الرسم ،وكانت دهشتي بادية،
وكنت أحاول أن أتربّك من اللوحات التسع وعرشين ،إذ مل يكن قد رسم اللوحة
كتائب ضال يريد أن ينهل أكرب قدر من الربكات ،قبل أن يعود ٍ الثالثني بعد .كنت
إىل ضالله القديم .ولكن العم إحسان زجرين ناهراً:
«اللمس يفسد املعنى أيها الغبي ،إياك أن تفكر يف ملس لوحة».
نظرت يف عينيه معتذراً .ولذت بالصمت .ولكن السؤال الفاضح مل يزل يرتاقص
يف عيني .ومتكنت من سؤاله بعد تردّد:
«أنت ليه ما حاولت تقابل البنت دي تاين؟ عىل األقل أنت عارف البيت!».
صمت كمن تكسرّ ت العديد من قنوات مائه ،وتشظّت جداوله ،ولكنه رد
باقتضاب جميل:
ٍ
«الصدفة يا ولدي لو وقفنا عندها كتري ،بتصبح قدرا! ،أنا بتعامل مع املوضوع
143
ٍ
طرف ثالث الحب من
كصدفة ،وما بفتكر بعد عمري ده ممكن قدري يتغيرّ ،ما تدخّل أصبعك يف جحر
العقرب وتفتكر إنو ممكن تعضك منلة!» .مل يرقني تربيره البتة ،إذ مل يكن مقنعاً
يف كل األحوال .فحاولت أن أجادله بح ّجة الفن الذي كنت أجهل فيه من طائ ٍر
أعمى وبال جناحني.
«طيب لو شفتها تاين ،مش ممكن ترسمها أفضل؟» .ضحك ضحكة باهتة قائالً:
«وممكن كامن آخد ليها صورة ،ح تطلع ما بطالة! .يا ولدي الرسم ما تصوير
وال محاكاة يل الواقع ،كده ح يكون حاجة تانية غري الفن! ،حاول تفهم شوية ما
تتعبني معاك».
«كويس فهمتك .أنت قلت يل هي ساكنة وين بالضبط؟».
كان رصير الباب هو اإلجابة الوحيدة التي تلقّيتها .ومل يزل صداه يرتدّد حتى
اآلن كمزالجٍ مكسور.
جل ما حدث ،ولكن حتى أثره ضاع وسط رفاقه .العم بِيرت ليس هذا فحسب ّ
ضعف نظرهُ ،وجلس فرتة طويلة وهو ال يقدر أن يفارق املنزل إال فيام ندَ ر .ويا
ليتهم تركوه يف منزله ليتوكأ عىل عصا ،ويتذكر أيامه الخوايل .بكيت كثرياً عندما
عرفت أن غصن األبنوس بعد أن فقد برصه ،اجتثته فؤوس السياسة القاسية من
جذوره .اجتثوه وحملوه عىل منت عربة بضائع ،كانت تنوح دامعة وهي ترتحل
جنوباً .كان يبتسم مبرار ٍة وهو يل ّوح بيدين جافتني ،إىل آخر املدن املنسية .كان
يحلم مبغازلة دروبها وشوارعها وأسواقها وحاراتها القدمية .كان يحلم مبيت ٍة تليق
بغصنِ أبنوس عاش طوال حياته وهو ميارس العناق مع نخلة .كان يحلم بأجراس
ِ
بأوقات الكنائس التي ترتنّح مشنوق ًة عىل السالسل ،ليك تذكّر مآذن املدينة
144
ٍ
طرف ثالث الحب من
145
ٍ
طرف ثالث الحب من
146
ٍ
طرف ثالث الحب من
ِ
وعدتك كثرياً كام تري ،وأعرف أنني ال أيف بعهدي. للحلم بك.
ِ يا مارلني ،سأعود
رجعت للقاهر ِة هذه املرة وأنا ُمص ِّمم عىل أال أتس ّول الوطن مهام ضاقت ُ
يل ،فهو عىل األقل صهري! ،أمل أخطب منه ينفق ع ّ
يب الحياة ،سأترك شكسبري ُ
ومل رغيف الخبز جوليت؟ .تعبت محطات املرتو من كرثة تردّد مالمحي عليهاّ ،
يتسكع يف حواريها وأزقتها!، ُ ومازلت أنا كام أنا .مج ّرد لقيط
ُ والفول معديت،
يرتحل يف الليلِ وحيداً محبطاً.
أما مقهى زهرة البستان العتيق ،فقد أصبحت جز ًءا من قطع ديكوره ،وكراسيه
وطاوالته ،ورائحته املميزة القدمية .كان صوت أم كلثوم يعسك ُر يف ذاكرة املكان
ِ
طرقات كتميم ٍة من السحر ،وتعويذة من صنعِ التاريخ .ميدان التحرير يتكاث ُر يف
وسط املدينة ،ويحقنها بالزحام .أما صابر بياع الفل .صابر بن أم صابر ..فقد هجر
الكورنيش إىل غري رجع ٍة ،وسمعت أنه التحق بإحدى الكليات الهندسية ،وهو يف
طريق ِه ليك يصبح مهندساً كبرياً .حتى أنت؟ .يا لبؤيس يا صابر بن أم صابر .أنا
الوحيد الذي مل أزل أنتظر كمقع ٍد ٍ
بقدم محطم.
تتلصصَ ُ
تحاول أن فأنا والبؤس قد تواعدنا جهراً ،ومل نعد نبايل بالعيونِ التي
الرقيب االِجتامعي ،وهو يمُ يل علينا قامئة من ِ ِ
لصوت عىل خلوتنا ،ومل نعد نستمع
ذات املكانِ والزمان ،أرشعنا معاً قارباً الاملحاذير ،فكان اِرتباطنا أبدياً .فقريباً من ِ
تلجمهُ األمواج ،وال يفهم إال منطق الرياح .ومل ندر أن للسواحلِ رماال خفي ًة وجز ًرا
متحركة ،صممت خصيصاً ضد اإلبحار .وأبدلنا أرشعتنا بجناحني ،وبدأنا نسبح يف
كبد السامء ،ولكن الريح استعارت مننا الجناحني ،وهي تدري متاماً أننا ال نُت ِق ُن
لغة الرياح! .فهذه الدنيا مثل سيمفونية غنائية معقدة ،تغيرّ رأيها اإليقاعي يف كل
147
ٍ
طرف ثالث الحب من
مرة!! ،وليك ترقص عىل موسيقاها ،عليك بتغيري املقامات املوسيقية يف كل مرة،
وإال سوف تكونُ خارج حلقة الرقص!! .فإذا سمحت للفرحِ برقص ٍة ،فال بدَّ أن تتيح
املجال للحزنِ ليك يه َّز وسطهُ ومؤخرتهُ قليالً ،يف هذا املرقص العبثي الذي نطلق
عليه ـ تجاوزاً ـ الحياة.
وكام املطر يحنث بوعد ِه للصحاري ،ويتملَّق املناطق االستوائية التي ال تحتاج
لخدماته املجانية! ،هذه الدنيا تعطي ملن ال يستحق ،وتتم َّنع عىل من يستجديها،
العنها بكل ما متلك من بذاءة ،ستأتيك راغبة .فتذكرت العم إحسان عندما كنت
يل بإشار ٍة ذات إيحا ٍء جنسياً واضحاً تعبرياً عن امتعاض ِه،
أسألهُ عن الدنيا ،فريد ع ّ
وال يزيد عىل ذلك إال إذا أيقن أنني بصد ِد اصطيا ِد حوا ٍر ما!! قد يطول.
يل الكثري من الوقت وأنا عىل هذا الحال ،كنت زاهدا يف حساب الوقت م ّر ع ّ
أصالً ،وهذه املدينة خيرّ تني إما أرجع إىل عصمتها ،أو تلفظني إىل شوارعها.
وعندما أحست برتددي ،مل تطلبني يف بيت الطاعة! ،ولكنها خلعتني ألمارس مرارة
فعرفت جميع باراتها وكباريهاتها وصاالت رقصها، ُ عزوبيتي يف شهدها الحرام،
وعلمت بأن هنالك ثقافة تدعي ثقافة السيليكون!!، ُ وجميع فتيات املالهي،
جعلتني ال أثق يف نه ٍد دون أن أمتص رحيقه! .فلم ي ُعد يعنيني يف آدميتي يشء،
أعرتف أنني فقدت األمل ،ولن أخبئ قناعايت تحت رمال ما ُ وال أمتلك ما أخرسهُ،
بالحريات الشخصية! .وكذلك أصبحت زاهداً يف الكتب والقراءة ،ومل يعد ِ يسمي
الوقوف بسو ِر األزبكية ،أحد أهم أركان حجي األديب.
ومع ذلك يبقى الذي تعلمتهُ من قاعِ املدين ِة السفيل ،أكرب من الذي ُ
كنت ادَّعي
وتعلمت ما يعرف بعلوية ثقافةُ ِ
أمهات الكتب. معرفته وأنا أدف ُن وجهي يف صدو ِر
148
ٍ
طرف ثالث الحب من
تداعيات الرصاع املشتعل يفِ األسفل!! .كقيم ٍة فوقية فرضتها الدونية التي أفرزتها
األعىل!!{ .رصاع القوة السفلية العاملة ،ضد القوة العلوية الخاملة} .ويا له من
رصاع!! .فهناك الكثريون من الذين يعيشون يف بقع ِة الضوء ،تستهويهم مامرسة
نزواتهم أسفل املدينة ،يف مجتمعٍ يتربؤون منه تارةً ،ومن ثم يُألِّهونهُ تار ًة أخرى،
ويصفونهُ بالقدسية والرشف والنضال ،حني تجو ُع صناديقهم االنتخابية! .فيبقى
العامل السفيل ،هو املحرك األسايس للقو ِة الفعلي ِة العليا .هذه هي اإلسرتاتيجية
املاكرة التي تدي ُر العامل!! .فاألغنياء الذين تستلقي عىل موائدهم الخراف املحشية
بالدجاج ،ما كانوا سيأكلونها إال إذا تض ّور هؤالء املطحونون جوعاً .وال أشريُ هنا إىل
أي نوعٍ من أنواعِ الحق ِد الطبقي ،فهذه هي الدنيا وأالعيبها .وملاذا أحشو دماغي
ومعارف تصيب دمي باألنيميا وفقر الدم!؟ .مل يكن ينقصني ٍ ٍ
مبعتقدات وأفكاري
إال هذا .وكام قال حكيم الصني الكبري كونفوشيوس{ :العقل كاملعدة املهم ما
تهضمهُ ،ال ما تبتلعهُ }.
كنت أحياناً أح ُّن إىل أجواء الطبقة املثقفة ،ولكني كنت أكتفي باجرتا ِر القر ِ
اءات
أمل هذه الحياة الرتيبة ،وأحن القدمية ،فحفظتها لكرثة ما رددتها .وغالباً ما ُّ
للذهاب إىل
ِ لتلك الحياة التي تبدأ بعد منتصف الليل ،فأشع ُر أنني يف حاج ٍة
حان ٍة ،أو مرقص ،ورمبا مقهى .فعاندتني قدماي اللتان اعتادتا اجتنابه لفرت ٍة ليست
بالقصرية ،فأدركت أن هذه الخطوات تح ُّن لروائح الشاي واملستكة ،والشيشة،
قررت أن أرشب قهويت فيه، رضب الالعبني!ُ .وطرقعة الطاوالت التي تئنِ ُّ كانت من ِ
وليحدث للذاكرة ما يحدث .وجدتهُ كعهدي به مل يتغري ،ومل يتغري ح ّتى ر ّواده،
يرحب يب إال ذلك الكريس الشاغر ،بفتو ِر ُ وحتى إنهُ مل يشهق فرحاً حني رآين ،ومل
149
ٍ
طرف ثالث الحب من
الذي ال يعنيهُ من قدومي ،إال الجنيه الذي سأدفعهُ نظري كأس شاي! .ما تعلّمتهُ
من شوارعِ وسط البلد يف القاهرة ،أنها تحتفي بك بقد ِر ما تبصم عليها باألصابعِ
تحفل إال بحفا ِء روحك ،وأنت تتسكع فيها. التائهة من حذائك البايل! ،وكأنها ال ُ
بنفس الحدّ ة .وبالفعل {إن يحرتب يف داخيل ،ما عاد ِ ُ ولكن الرصاع الذي كان
تجاوز الهدف ،مثل عدم بلوغه} .آية كونفوشيوسية مجيدة ،كانت تروقني .وأكرث
ما يعجبني يف هذا الرجل ،أنه كان يدعو إىل أسلوب حياة فقط! .فلم تعد ترهبني
فوبيا الطموحات يف هذه الدنيا البائسة .كنت أريد حياة.
كان كل يشء كام اعتدتهُ ،الرواد ،األغاين ،طرقعة الطاوالت ،وحتى قهويت كانت
وشعرت بامللل ،وقررت املغادرة حينام أدركت ُ بنصف ملعقة سكر .جلست قليالً،
وأستأنف
ُ حوجتي للميش يف طرقات املدينة ،ألحر َر نفيس من هذه الرتابة القاتلة،
حفريايت يف {جيلوجيا أنا!}.
ولكن كانت شهقتي أقوى من زفريِ املقهى ،وهو يلفظني إىل الخارج! .وبركان
األدرينالني الذي اكتسحني لحظتها ،كان أقل وطأة من زلزال حضور املطر يف غري
أعلم أن ما بيني وبني الدهشة{ ،فركة كعب}! .مل تكن أحالمي مواسمه .مل أكن ُ
ُرسف يف استعامل املساحيق ،وال تعرف شيئاً عن قوس قزح حتى .فاألحالم التي ت ُ
أعلم بأن رسالتيطعم ،وال لون! .فقد كنت ُ تنهل من الصح ِو الباهت ،تأيت بال ٍ ُ
قد انتهت ،ومل أعد أهتم بعدد الذين آمنوا بنبويت ثم ارتدُّ وا .لقد كان قدري
أن أبعث ألنثى كفرت بحبي ،وشقّت جبهتي بأحجا ِر صدِّ ها ،وكرست رباعيتي
ورمتني بشوكها وقالت يل:
نبي يف قومه ،أال هل بلّغت؟؟! «. «ال يكر ُم ٌّ
150
ٍ
طرف ثالث الحب من
بت عنها ذاتياً ،فكان كل مطار أنثى تشتهيهُ ومل أهرب من مدينتها ،ولكني تغ َّر ُ
كنت حقائبي ،هو محاولة للثأ ِر من خواطري ،التي سئمت صقيع الصاالت التي ُ
كنت أريدها أن تكذب عيل وتوعدين بالوصول! .الكذب ال يعدُّ أنتظرها فيهاُ .
خطيئ ًة إذا كان يُبشرِ ُ بوع ٍد ما! .كل هذا وأنا مل أدر أن ما بيني وبني الدهشة،
فركة كعب!.
شهيق ال يرتكُ يف رئتي موطأ نف ٍَس لزفري!.
فقد سبقها عطرها مبقدا ِر شهيقٌ ،
خشيت أن ُ مل يسبقها عطرها فحسب ،فقد عانقتني نظرة الحزن واللهفة ،حتى
تلبس ذات الفستان األزرق ،إال بعد أن ملحت تهرس رمويش عيني .مل أتبينّ أنها َُ
بلؤم متس ِّولٍ جائع!. ذلك الطفل الذي يتش ّب ُث بثوبها ِ
كانت هي إحسان نفسها !..
تلك الهوية التي انتهى تاريخ صالحيتها ،وذلك الوطن الذي تخلّيت عن جنسيته،
كدت أرصخ: ومزقت بطاقته الشخصية!! ُ
«هل تراها عادت لتمنحني أوراقاً ثبوتي ًة أخرى تساعدين يف العبور إىل منفاها؟».
ألثبت علمياً ،بأن
ُ ِ
الحامض النووي، وأنا قبل هذا اليوم ،كنت أريدُ أن َ
أغش يف
إحسان مدين ٌة كان يسكنها أجدادي! .قبل أن تهجرين وترتكني أتباىك عىل أطاللها
كطفلٍ ضائع!!.
يل التحية بدون كلامت ،ورددت عليها بنفس الصمت! .كأن اللغة قد ألقت ع ّ
ضلّت طريقها مننا ،فقاومت رغبة عارمة يف تكف ِني ذلك الصمت املخ ّيب آلمال
الكلامت ،ولكنهُ بقي صامداً يف وجه املوت .اهتدت إىل طريق ٍة إلِشها ِر رفضها
املُبطن لسكويت ،وسألتني بفرح ٍة غامرة:
151
ٍ
طرف ثالث الحب من
«كيف عامل يا عاطف؟ كان عندي إحساس إين ح أالقيك هنا ،اشتقت ليك
والله».
كنت أود أن أقول لها« :عامل شهيد!!».
ولكن الصغري باغتني وهو يسألها يف براء ٍة:
«ماما ،هو ع ُّمو برضه اس ُمه عاطف؟».
فجعلتني أنظ ُر إلي ِه متفحصاً!!.
وبدا يل أنهُ من بويض ٍة رسقت منها ،ورمبا من نطف ٍة هربت مني إليها ،أرادت أن
تزهق أنفاس حرييت ،وقالت يل: ُ
«ده ولدي ،تعال سلم عيل ع ُّمو يا عاطف!».
فيتساءل الصغري يف براء ٍة أكرث ،وقطعة الشوكوال متأل فم ِه طفول ًة:
«ماما ،هو كيف يكون ع ُّمو ،واس ُمه برضه عاطف؟».
فضمتهُ إىل صدرها وكأنها تحاول استعراض عضالت أمومتها أمامي ،وتذكرين
بخيبتي كرجل ،وتخربين بأن جينايت الذكورية مل تصمد يف وج ِه أسرتوجني أنثى!!.
«حبيبي أنت عايز تزعل ماما؟ خالص مح أشرتي ليك دبدوب كبري».
يل مخافة أن يفقد الهدية فحسب!، هددتهُ بالحرمانِ من اللعبة ،فجاء ليسلم ع ّ
فلم أكن أسوى أكرث من مثن دبدوب أبيض متخم يباع يف حانوت الدمى.
«أهالً يا ع ُّمو عاطف» .وأضاف وهو متجهاً نحو أمه:
«خالص يا ماما اشرتي يل دبدوب كبري!».
وتبطل
ُ مل أمتالك نفيس وضحكت ،بينام كنت أخىش أن تغافلني دمعة كالعادة،
وضو َء ضحكتي! .شعور غريب أن تركع ابتسامة أحدهم يف سجاد ٍة مخصصة لصال ِة
152
ٍ
طرف ثالث الحب من
153
ٍ
طرف ثالث الحب من
معنى يف
ً فلسفي متسعِ الضيق أو بال ٍ حاولت أن أرشح لها األمور عىل نح ٍو
الحقيقة ،حتى ال تنشطر األفكار وتتعدد الرؤى وأبدو كالغبي ،كام هو حايل
عدم اكرتاث ،ورمبا دهشة ،كل هذا يدل عىل ِ بالدق ّة .فعقدت حاجبيها عىل نح ٍو ُّ
لخط رجعة .فحاولت وأنا أتحرك يف مساح ٍة ضئيل ٍة ،بدون أن أشعرها أنني أمهدُ ِ
أن أناور وأباغتها بسؤالٍ آخر ،قد تكونُ إجابتهُ معدَّ ة مسبقاً:
قلت يل زوجك وين هسه يا سيديت الكرمية؟». «ما ِ
أجابتني وهي تتص ّنع زفرةً:
«انفصلنا!! اكتشفت أين كنت مجرد نزوة اجتامعية لرجلٍ يحب تزيني أوراق
سريته الذاتية بابنة سفري قادم!!».
حاولت أن أخفي شامت ًة كانت بادية عىل مالمحي ،ولكني ُ
آثرت اصطناع
يل ،ومن
خطى كتبت ع ًّ تظل
أتطلع إىل صغريها املمتلئ بها ،فهي ّ ُ األسف ،وأنا
خطى مشاها ،كام يقول الشاعر!. كتبت عليه ً
«املهم زنت أحوالك ماشة كيف يا عاطف؟ ،طمني عليك».
كنت أخىش هذا السؤال ولكني رددت عليها: ُ
«الحمد لله عايش ولسه بحاول أحلم من جديد».
تغوص فيني ببطء: ُ فحاولت أن تسرب أغواري حني سألتني وهي
«وأنت بطّلت تحلم؟؟».
«ال طبعاً! ،لكن الحلم هو االختار غريي ،عارفة يا إحسان زمان كنت بفتش يل
بكرة عشان أتغيرّ لألفضل ،لكن هسه أصبحت عايز أرجع يل املايض ،طاملا كل يوم
أصبح أسوأ من اليوم القبلُه».
154
ٍ
طرف ثالث الحب من
155
ٍ
طرف ثالث الحب من
تحاول أن تداريها عن صغريها ،ولكن الدموع أطول عمراً من األنهار .وتاريخ ُ
البكاء الطويل ال تطمسهُ وال تزيفهُ لحظات الفرح الشحيح .فطلبت مني أن أغري
املوضوع ،ومل أشأ أن أغضبها أكرث .فقد كنت أشعر باالرتياح.
تحاورنا يف أشيا ٍء ال تنتمي إال لحزننا .فقد كانت خواطرنا سيئة املزاج هذه
الليلة ،فاتفقنا عىل أن ألتقيها مرة أخرى ،فهي تريدُ القيام بجول ٍة ما يف املدينة،
ولعلها قد تكون الجولة األخرية .وكنت ساعتها أشبه بثو ٍر سيئ الحظ يف حلبة
مصارعة إسبانية!.
التقينا للمرة األخرية.
يف ذلك اليوم الحزين الذي أنفقنا معظمهُ يف زيارة املناطق األثرية ،وتفقّد أهم
مناطق القاهرة القدمية والجديدة .و َّرطتني معاها يف عدّ ِة صور تذكارية ،وكأنها
ِ
بالتورط فيها! .وبعد أن تطمع يف شاهد إثبات يُدينني
ُ تريد أن توثّ َق لزمنٍ ما ،أو
بلغ بنا التعب واإلنهاك زُباهُ ،قصدنا ذلك املقهى العتيق ،وجلست لتحتيس آخر
ما تبقى مني!.
كنت أتع ّمدُ أال أنظر إليها ،وهي تتحدث بسحرها الفاجر .ولكم كنت أو ّد أن ُ
أش ّيد متثاالً لصمتها األبيض ،بيد أنني أكر ُه حيادية هذا اللون الذي يرثث ُر يف ذاكر ِة
بحروف صقيعي ِة املذاق! ،وأنا عىل شفا درج ٍة مئوي ٍة من التجم ِد صمتاً،ٍ املكان،
بسياط الكالم أربعني درجة فوق ِ يل حد النهار ،وتجلدينكنت أحتاج أن تقيم ع ّ
الصفر! ،فلم أظفر إال بعنا ِد أنثى أضنتها منايف النفس ،وأثقل كاهلها حمل حقائب
السفر املتواطئة مع أحزانها ،كل يشء كان يدعو إىل الريب ِة والحذر ،وحد ُه السكون
يغلّف ديكور املكان ،فال تتسكع يف هذا الفضاء سوى بضع سحائب دخان،
156
ٍ
طرف ثالث الحب من
وبصيص نظرات عينيها التي ته ِّرب ما بني سطورها مفردات الشجن الوريف!.
فطفقت أتساءل! ،ترى من هو املسؤول عن اغتيالِ الكلامت؟ .أأنا الذي حاولت
ات طفلة كنت أخىش مراراً إِيجاد صيغة رشعية مليالد الكالم ،وض ّجت حرويف بعبار ٍ
تضل طريقها إىل سوقِ الكالم ويجرتّها السوقة وفاقدو الذوق األديب؟ .أم هي أن َّ
التي مترتست وراء صمتها ود ّججت صدها بحقل من األلغام؟ .هل يجديني أن
مهزوم حتى مت ُّر سحابة هذه اللحظات املفخخة بالصمت؟ ومن ثم ٍ أتخندق كقائ ٍد
أطمع يف جلسة مفاوضات أعلن فيها انتصاري؟؟ .لكم كنت ضائعاً بني االِعتبارات
األنثوية الجامحة ،التي تحافظ عىل تقاليدها أحيانا ،وتقليديتها يف أحايني أخرى.
وبُعيد انتباهة ،وجدتني أمللم يف طاوالت هذا املرسح نصف املأساوي ،وأنهي
العرض قائالً وأنا أنقد بائع الح ّمص الج ّوال ماله:
«أقرتح أن نغادر هذا املكان! ،سأوصلك يف طريقي!».
«هل ستحملني عىل ذراعيك؟؟؟».
قدمي!!.
ّ أجابت يف سخرية تعكس حالة كوين أملك إال
بك من جديد!».اعي ،ولكن سأحبل ِ «ال لن أحملك عىل ذر ّ
كانت هذه هي آخر كلاميت لها ،ومل ألت ِقها بعد ذلك مطلقاً .وبعد أن أشارت إىل
عربة التاكيس التي كانت ترتبّ ُص بنا ،غادرتني وهي تّش ّيعني بنظر ٍة مل أرها بعد
حب
البعث نهائياً .وذهبت ،ومىض معها ٌ ِ أثق يفذلك إال يف الحلم .وأنا مل أعد ُ
ثالث ،أو ما كنت أتوهّم أنه الحب .وهو ليس إال كذب ٌة اخرتعها العم طرف ٍ من ٍ
غبي غريي.
إحسان ومل يصدقها ٌ
سمعت أنها عادت إىل زوجها مجدداً ،عادت ليك ُ وبعد ذلك بعرش سنوات،
157
ٍ
طرف ثالث الحب من
متارس دورها الذي كتب لها ،مج ّرد دجاجة منزلية لن تصيح مثل الديك ،حتي ال َ
تبيض األطفال!.
تذبح .ولكنها فقط تُربىَّ ليك َ
الخالص من
َ وألتمس
ُ زحام القاهرة ،أتوكأ عىل انكفايئ،
ضعت يف ِ ُ أما أنا فقد
غربتي الذاتية ،ورهقي وأوجاعي .ولكن الذاكرة كانت تخونني دامئاً مع نفيس.
حق تقري ِر مصري خطوايت التي ال أعرف إىلفلم أعد أنتمي إىل زمني ،وال أملكُ َ
أين تقودين.
أصبحت ُ
أبحث عني!. ُ وبني أنا وأنا ..
فلم أجد ..إال من أنا ..؟؟!!.
158
ٍ
طرف ثالث الحب من
159