You are on page 1of 159

‫ٍ‬

‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الحب‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫من‬
‫رواية‬
‫الطبعة الثالثة‬

‫ياسين سليمان‬

‫‪1‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫‪2‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫إهداء‬
‫إىل أمي التي أرضعتها عرش سنوات من البكاء‪ ،‬وصلّت من أجيل كل‬
‫أوقات االنتظار‪.‬‬

‫فقفزت من‬
‫ُ‬ ‫إىل حلمي الكسيح الذي جعلني أميش عىل كريس متح ِّرك‪،‬‬
‫وكرست قدمي!‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قطار ِه املشلولِ‬

‫كل صال ٍة ألحجِ ب بها خويف وأنا‬


‫إىل أيب الذي كان يرسل يل اآليات يف ِّ‬
‫أحث الخُطي هجراً!‪.‬‬ ‫َّ‬
‫إىل أُنثى تنتظ ُر م ِّني إذناً للهبوط!‪.‬‬
‫أيها الناس لقد هرِمنا من أجلِ هذه اللحظة التاريخية‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫‪4‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ِّ‬
‫مقدمة‬
‫كتبت إذ كتبت‪ ،‬ولكن العشق فعل‪.‬‬‫وما ُ‬
‫لو كنت أعرف أن الكتابة قدري‪ ،‬لعملت بائعاً للورد يف شاطئٍ يرتاده العشاق‪.‬‬
‫تحسسني رمبا مل أرحل بعد‪ .‬رمبا مل أزل عالقاً بثيابك كام يعلق العطر يف ذاكر ِة‬ ‫ّ‬
‫العناق‪ .‬القبلة األوىل ال تتسلّل من غربالِ الذاكرة‪ ،‬وال تشيخ مطلقاً‪ ،‬ستظل كامنة‬
‫تحسس جيبي وبطاقايت الربيدية‪ ،‬سفري‬ ‫عىل مرمى شفتني حزينتني أدمنتا االنتظار‪ّ .‬‬
‫باألمس النبيل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫البعيد عنك ال يعني أنني قد تخلّيت عن قواريرك الفارغة املعبئة‬
‫صيف فاجأته الشمس بغريِ نهار‪ .‬أتسكّع وسط فوضاي وأتعرث‬ ‫دافئاً كنت كشهق ِة ٍ‬
‫بخطابات قدمية وزجاجات فارغة مل تكن مصادفة أنها بقيت الشاهد الوحيد عىل‬ ‫ٍ‬
‫تو ّرطي فيك ذات عناق‪ .‬أضحكني مكْر قلبي الذي كان يحييك يل من دقات ِه آالف‬
‫تدق لك طبول شوقها‪ .‬وكأنني مل أعلم بعد أنني قد استغرقت ليك‬ ‫النبضات التي ُّ‬
‫البلنيس‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ألتقيك حيا ًة كاملة‪ .‬ويح قلبي‪ ،‬وكأنه ال يزال يصدّ ق ما قاله ابن الدقاق‬
‫تبسم الثغر عن أوصافكم فغدا‬ ‫ّ‬
‫من طيب ذكركم نرشاً ‪ ،‬فأحيانا‬
‫فمن هنا عشقناكم ومل نركم‬
‫واألذن تعشق قبل العني أحياناً‬

‫‪5‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫‪6‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الفصل األول‬
‫كنت أو ّد أن أش ّيد متثاالً لصم ِتها األبيض‪ ..‬بيد أين أكره حيادية هذا اللون‬‫لكم ُ‬
‫بحروف صقيعي ِة املذاق!‪ .‬وأنا عيل شفا درج ٍة مئوي ٍة من‬
‫ٍ‬ ‫الذي يرثث ُر يف ذاكر ِة املكان‬
‫ِ‬
‫بسياط الكالم أربعني‬ ‫يل حدّ النهار‪ ،‬وتجلدين‬ ‫التجم ِد صمتاً‪ ،‬كنت أحتاج أن تقيم ع ّ‬
‫درجة فوق الصفر! فلم أظفر إال بعنا ِد أنثي أضنتها منايف النفس القصية التي مل‬
‫يبلغها خيال املسافرين إىل الالعودة‪ ،‬وأثقل كاهلها حمل حقائب السفر املتواطئة‬
‫مع أحزانها‪ .‬كل يشء يدعو إىل الريب ِة والحذر‪ ،‬وحد ُه السكون يغلّف ديكور املكان‪،‬‬
‫تتسكع ـ يف هذا الفضا ِء ـ سوى بضع ِة سحائب دخانٍ ‪ ،‬وفوىض وأبواقِ س ّيار ٍ‬
‫ات‬ ‫ُ‬ ‫فال‬
‫ساخط ٍة عىل هذا الزحام الذي يتناسل منه املزيد من الزحام‪ ،‬وبعض نظراتها التي‬
‫ته ِّر ُب ما بني سطورها مفردات الشجن الوريف‪.‬‬
‫فطفقت أتساءل‪« :‬ترى من هو املسئول عن اغتيالِ الكلامت؟‪ .‬أأنا الذي حاولت‬
‫ات أنابيب كنت أخىش‬ ‫مراراً إيجاد صيغة رشعية مليال ِد الكالم؟ وتحبو حرويف بعبار ِ‬
‫تضل طريقها إىل سوقِ الكالم ويجرتّها السوقة وفاقدو الذوق األديب؟؟ أم هي‬ ‫أن َُ‬
‫التي مترتست وراء صمتها الفادح ود ّججت صدّ ها بحقلٍ من األلغام؟ هل يُجديني‬
‫مهزوم حتي مت ُّر سحابة هذه اللحظات املفخخة بالصمت ومن‬ ‫ٍ‬ ‫أن أتخندق كقائ ٍد‬
‫ثم أطمع يف جلسة مفاوضات أعلن فيها انتصاري؟؟»‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫لكم أنا ضائع بني االعتبارات األنثوية الجامحة التي تحافظ عيل تقاليدها أحيانا‬
‫وتقليديتها يف أحايني أخرى!‪ .‬وبُعيد انتباهة‪ ،‬وجدتني أمللم يف طاوالت هذا املرسح‬
‫نصف املأساوي‪ ،‬وأنهي العرض قائالً وأنا أنقد بائع الح ّمص الج ّوال ماله‪:‬‬
‫«أقرتح أن نغادر هذا املكان! سأوصلك يف طريقي!»‪.‬‬
‫«هل ستحملني عىل ذراعيك؟؟؟»‪.‬‬
‫قدمي!!‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أجابت يف سخرية تعكس حالة كوين ال أملك إال‬
‫بك من جديد!»‪.‬‬ ‫اعي‪ ،‬ولكن سأحبل ِ‬ ‫«ال لن أحملك عىل ذر ّ‬
‫أجبتها بسخري ٍة أكرث وأنا أحاول تب ِّني هذه اللحظة اليتيمة‪ ،‬وعىل األقل أستجدي‬
‫آنست ناراً أطل‬
‫ُ‬ ‫عينيها حفنة عشق أسدُّ به رمق مجاعتي العاطفية!‪ ،‬ومع ذلك‬
‫قبس من جذوتها خلف تلك اآلهة التي كادت تحرقنا ُمذ كنا يف مجلسنا ذاك‪ .‬فهل‬ ‫ٌ‬
‫ترجلت تلك األنثى من نزوايت وغادرت القطيع لتتمتع ببعض الحكم الذايت؟‪ ،‬كنت‬
‫هدى‪ ،‬وال سبيل إىل العودة ملينا ٍء مفرتض‪ ،‬وال مناص‬ ‫أمخ ُر يف عباب األسئلة بال ً‬
‫كنت أو ُّد أن‬
‫من اإلبحار باتجاه اآلمال املكدّ سة بالغرق السعيد‪ .‬يف واقعِ األمر ُ‬
‫تكونَ هدنة الصمت هذه‪ ،‬مبثاب ِة فرت ٍة انتقالي ٍة تنتهي بعدها الدميقراطية املفصلة‬
‫عىل الطريق ِة العربي ِة‪ ،‬تلك البذلة الضيقة التي كنت أرتديها كالبلها ِء عند سامعي‬
‫للخطب الحامسية الفارغة‪ ،‬ورسعان ما يتحرك فصيل أو ميليشيا تقوم بعسكر ِة‬ ‫ِ‬
‫بخطى متثاقلة‪.‬‬
‫ً‬ ‫عواطفي ألعو ُد مجرباً تحت االنتداب األنثوي‪ ،‬كدأيب دامئاً‪ .‬مضت‬
‫مرتدّدة بني الرحيل الوشيك‪ ،‬وبني االستسالم لرغبتي التي ال أعلم مدى جدّ يتها‪.‬‬
‫وكانت الطرق ال تتم ّتع بص ٍرب ٍ‬
‫كاف‪.‬‬
‫ات مستجدية‪،‬‬ ‫راقبتها متف ّحصاً وهي تشري إىل عرب ِة تاكيس كان سائقها يرمقنا بنظر ٍ‬

‫‪8‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الوقت الذي كنت أتقاسمهُ معها!‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ريش دجاج ِة‬


‫ينتف ما تبقى من ِ‬ ‫وكأنه يريد أن َ‬
‫ات صباح مساء‪،‬‬ ‫فلم تنس أن تودعني ِ‬
‫بتلك األناملِ التي تعبت من التلويحِ للقطار ِ‬
‫روح عقارب‬ ‫تزهق َ‬ ‫ومن ثم غادرتني وأنا ممد ٌد يف مقصل ِة األماين‪ ،‬أحلم مبشنق ٍة ُ‬
‫وتطلق رصاص َة الرحم َة عىل جس ِد األزمانِ امليتة أصالً‪ .‬وتح ّركت متثاقالً‬
‫ُ‬ ‫الساعات‪،‬‬
‫أنا اآلخر قبل أن ينفد صرب الطريق‪ ،‬فال أعرف للعود ِة سبيالً‪.‬‬
‫القاهرة بكل انفعاالتها وبكل صخبها وضوضائها تحارصين حيث ال فكاك‪ ،‬أهرب‬
‫من مئذنة لتطاردين ألف مئذنة‪ ،‬ح ّمى السيارات وهذيان محطات مرتو األنفاق‪،‬‬
‫صداع الباعة املتجولني ونزيف املدينة املتعبة!‪ ،‬أنني املقاهي الشعبية وجرح املعز‬
‫لدين الله الفاطمي الذي تنكأ ُه الصدور العاريات واألرجل الراكضة وراء السيقان‬
‫صعلوك أراد أن يبيع لوحاته الكاسدة فجعل لوليتا موديالً‬ ‫ٍ‬ ‫امللفوفة بعناي ِة فنانٍ‬
‫له!‪ ،‬األزهر الرشيف يضخُ يف أوردتها عقار الرحمة وصكوك الغفران‪ ،‬املسارح‬
‫واملالهي والشوارع والزحام وأنا!«مل أكن وحدي فهنالك أنا وأنا وأنا»! حسب قول‬
‫الذي مل أعد أعرف اسمه‪ .‬أمارس الترشد يف الطرقات واألرصفة واملقاهي الشعبية‬
‫بقرف فاضح‪ ،‬وأنام بع ٍني مفتوح ٍة‬
‫الرخيصة‪ ،‬تتب ّول األرصفة عىل خطوايت وتبصقني ٍ‬
‫مطبات صح ٍو باهت ومرير‪.‬‬‫ِ‬ ‫خشية أن يدركني الحلم وأنا نصف نائم‪ ،‬ألتعرث يف‬
‫«وعندك واحد قهوة مظبوط»‪ .‬يهدج النادل بلكن ٍة ممطوط ٍة‪ ،‬ويضيف‪:‬‬
‫جنبات املكانِ املزعج وهو يتحرك بطريق ٍة‬ ‫ِ‬ ‫«القهوة للباشا»‪ .‬يرصخ النادل يف‬
‫مرسحية وهو يحمل صينية عتيق ٍة بها بعض األكواب املتسخة وعلبة عصري فارغة‬
‫وقارورة ماء‪ ،‬ويتحاىش نصبة النار املوجودة خارج املقهى ويختفي بداخله كقطعة‬
‫سكر يف فنجان قهويت املظبوط‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫كنت أحتيس قهوة ذلك املساء وأنا أجرد مسبحة الذاكرة الجريحة‪ ،‬بينام رائحة‬
‫الدخان والشيشة تعيد ترتيب فوىض املزاج وتستدعي الزمن الجميل‪ ،‬برغم ما‬
‫علق بحوائطي من تع ُّه ٍر ووجعٍ وآثام‪ ،‬حوائطي التي اتّسخت وكأنها تعرضت ملرو ِر‬
‫قافل ِة من تالمي ِذ مدرس ِة مراهقني‪ ،‬فتب ّولوا عليها وشخبطوا وكتبوا مراسيلهم لحبيب ٍة‬
‫كنت‬‫قد متر بالجوار يوماً ما!‪ ،‬أسلمت روزنامة أيامي لالحتامالت الخاطئة‪ ،‬كثريا ُ‬
‫أخشاها بوجلٍ معتاد‪ ،‬وكثريا ما أحلِّق حولها كفراش ٍة غبية ال تخىش االحرتاق وهي‬
‫تهم بتقبيل شمع ٍة يف مسا ٍء صيفي جامح!‪ .‬أدرك متاماً أنني كنت أفكر يف الهروب‬ ‫ّ‬
‫تتلصص عليك‬ ‫من غربتي الذات ّية إن مل أكن قد فعلت!‪ ،‬ما أشدّ ُمكر الذاكرة حني ّ‬
‫آت يسكنه ماضيك‪ .‬وما أغباك يا «أنا» لو كنت‬ ‫وأنت متعن الركض هارعاً نحو ٍ‬
‫أحاول أن أته ّرب منها وأدري أنني لن أفلح أبداً‪.‬‬
‫ُ‬
‫وأرسق من‬ ‫تجعلني هذه الذاكرة املراوغة أفكر يف أن أحييك من البح ِر أجنحة‪،‬‬
‫مجداف ومجداف! ال أخىش دوار البحر وأنا أطري!! وال تعرتف طائريت‬ ‫ٍ‬ ‫السام ِء ألف‬
‫باألمواجِ وال أجد لنرش ِة األحوالِ الجوي ِة موقعاً يف خرائطي‪ ،‬عىل كيفي أحيا‪ ،‬وعىل‬
‫كيفي أموت‪ ،‬وعىل كيفي‪...‬‬
‫وتصفق أرجل الحضور‬
‫ُ‬ ‫شهيق أم كلثوم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ينزف املقهى العتيق طرباً وسلطن ًة عىل‬
‫ُ‬
‫وهي تنقر البالط املتعب يف نشو ٍة!‪ .‬كان رواد املقهى متعددي السحنات واألفكار‬
‫واآلراء‪ ،‬ال يجمعهم يشء إال رهق املدينة‪ ،‬وهموم الحياة‪ ،‬وحلمهم بعا ٍمل سعيد‪.‬‬
‫دعهم يف حلمهم يعمهون‪ .‬جميعهم يرسفون يف الحلم واخرتاع األكاذيب حول‬
‫حبيباتهم القادمات ولياليهم الساخنة‪ ،‬ولكن عندما تطل الحقيقة بوجهها السافر‪،‬‬
‫يهربون منها ويضعون أحذيتهم املهرتئة يف أياديهم إمعاناً يف الفرار‪ .‬ما أشدّ خوفنا‬

‫‪10‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫من الحقيقة!‪ .‬مل أجد مربراً لهذه القسوة ومل أتعب نفيس يف إيجاد املنافذ التي‬
‫تطلق رساح األكسجني القابع خلف الجدار األسمنتي ألنفايس‪ .‬الغريب يف األمر‬
‫أننا نشعر باالختناق وال نفكر أبداً يف إعادة توصيل أجهزة التنفس لصدورنا املليئة‬
‫بالثقوب‪ .‬نتصدّع بغراب ٍة مثل الطني الذي يخلفه فيضان النهر العظيم‪ .‬وال وال وال‪.‬‬
‫بنعم واحدة؟؟‪.‬‬
‫ملاذا ال نستطيع تس ّور حيطان كل هذه الالءات الشاهقة ٍ‬
‫قواف كنت أرددها حني يدركني شهريار الهزيع األخري‬ ‫تذكرت حني رشو ٍد مثة ٍ‬
‫ُ‬
‫من الشوق!‪ ،‬فأمد أنامل شعري لفتحِ الصندوقِ األسو ِد الذي أبحث فيه عن شتات‬
‫أنفايس بعد االنفجار‪ ،‬وأستج ِدي كرم طيفها املُقترِ ‪ ،‬الذي ال يجود إال مبقدار‪ .‬وقد‬
‫ال‪ ...‬وكأن الشعر هو رقعة الدعوة املخاتلة التي تصلح لكل املناسبات‪ ،‬نردّده وكأننا‬
‫نزور مقربة‪ .‬يف كل األحوال نحمل أزهارنا‪ .‬تار ًة نطلب الرحمة واملغفرة‪ ،‬وأخرى‬
‫نتودّد متوسلني من أجل قبلة‪ ،‬عناق‪ ،‬ليل ٌة دموي ٌة عىل رسير‪ .‬ويف النهاية ال ننتبه أن‬
‫خطواتنا قد داست عىل وجه زهر ٍة كانت قرباناً قبل قليل!‪.‬‬
‫«يا قميصاً ُقدَّ من شوقٍ‬
‫كل الرشايني‬ ‫وأي ٍد تُقطِّع يف ِّ‬
‫ترفع للسام ِء رجا ِءها‬
‫حني ُ‬
‫نق زهرة ياسمني‬ ‫أو تُط ِّو َق ُع َ‬
‫آم َني يا تلك التي هي كعبة‬
‫آن مل تُفرض صالة‬
‫نركع ساجِ دين»‪.‬‬‫ولكن لألزاه ِر ُ‬
‫بدأ العامل يف ذلك املقهى يتربّمون من وجودي‪ ،‬فأنا مل أزل جالساً يف مكاين إىل‬

‫‪11‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫هذا الوقت املتأخر نسبياً‪ .‬لقد فرغوا لت ّوهم من أعامل النظافة وترتيب الكرايس‬
‫واملناضد والطاوالت‪ .‬فقد تجاوزت الساعة الرابعة صباحاً بتوقيت الحزن‪ ،‬توقيت‬
‫التناقض والتضاد‪ ،‬أوبة السكارى والسهارى الذين هم عن حياتهم وزوجاتهم‬
‫ساهون!‪ ،‬واملصلِّ َني الذين يفرك آذانهم هدير املآذن وهم يحلمون بالرص ِ‬
‫اط‬
‫اإلثم والفجو ِر حتى وجدتني دون‬ ‫ِ‬
‫ِجينات ِ‬ ‫املستقيم!‪ .‬فغادرت املقهى مدفوعاً ب‬
‫ِ‬
‫أقصد يف شارعِ الهرم الشهري‪ ،‬أست ِقل ذلك التاكيس األكرث هرماً ممنياً نفيس بلقمة‬
‫سائغة من السيقان البرشية!‪ .‬وبني رفع األيادي والسيقان ُولِدَ تناقض اللحظة!‪.‬‬
‫فلم أتعب كثرياً فقد كانت الطرائد متوفّرة كام توقعت‪ .‬فقد كان ذلك موعد إغالق‬
‫املراقص واملالهي‪ ،‬وما عليك إال أن تكمن مبقرب ٍة من هذه األماكن حتي تظفر‬
‫بطريد ٍة ال تكلفك الكثري‪ ،‬فالسيقان باهظة الكلفة‪ ،‬ستكون يف هذه اللحظات ـ‬
‫آمنات مطمئنات مبا تيسرّ لها من عهر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ترتفع يف عليائها ـ‬
‫وهكذا وجدتني أتقاسم رسير غرفتي الكئيبة مع شبحِ أنثي اليهمها يف حطام‬
‫هذه الدنيا إال االهتامم بثقافة «السيليكون» وزيف الرساويل الضيقة‪ ،‬لحد التواطؤ‬
‫مع محمد هنيدي وهو يرصخ يف فلم املخرج الشهري سعيد حامد {صعيدي يف‬
‫الجامعة األمريكية} صارخاً‪:‬‬
‫«حدِّ يوسع البناطلني الحرميي دي»‪.‬‬
‫فأكتشف أنني مازلت أنا!‪ ،‬بنفس التفاصيل ونفس املالمح وذات املربع‪.‬‬
‫{الخيانة} ت ُرى من أخون؟‪ .‬ال أستطيع أن أجيب عىل هذا السؤال العابث‪ .‬اآلن عىل‬
‫تترشنق أفكاري وتتناسل رؤاي مبجونٍ عند مذهب {ماركيوس} وحديثه عن‬ ‫ُ‬ ‫األقل‪.‬‬
‫القهر الجنيس حني قال‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«إن القهر الجنيس الذي مارسه اإلنسان عىل نفسه يشكل عقبة يف طريق‬
‫اإلنتاجية!»‬
‫أتفاحل وأمدُّ ساعات دوام خدمتي الجنسية بضع ٍة من السيقانِ‬‫َ‬ ‫إذن الضري أن‬
‫املرشعة ُعهراً! فأنا مهام علوت ال أزيد عىل أن أكون مج ّرد مواطن عريب ـ كام يُقال‬
‫ـ تتأرجح مك ِّوناته الفكرية حسب قدراته الجنسية!! فتبقّى الفحولة ِ‬
‫بنمطها العريب‬
‫الذات املسجون ِة خلف حوائط القهر والكبت والرجعية!‪.‬‬
‫هي محاولة لالنعتاقِ من ِ‬
‫كدت أرصخ محت ّجاً‪:‬‬
‫«ملاذا نرتك رساويلنا هي التي تتخذ قراراتنا املهمة؟‪ .‬بل ملاذا تتدحرج معتقداتنا‬
‫من قمم رءوسنا منحدرة إىل مجاريرنا املوبوءة بالعفن والرصاصري منذ فجر‬
‫التاريخ؟»‪.‬‬
‫ورويداً رويداً غافلت النعاس ليك أظفر بها يف الحلم ولكنها مل تفعل‪ .‬وانتهرتني‬
‫الذاكرة يف قسوة وهي تجرجر معها قاطرة من التساؤالت وعالمات االستفهام!‪،‬‬
‫يل ذاكريت يف استباق واسرتجاع بكل قساوة املطارق ‪ ...‬ترصخُ ‪ ...‬تلعنُ‪،‬‬ ‫تتآمر ع ّ‬
‫تسب‪ ،‬وتستدعي الشخوص الذين نامت عىل فراشهم وحلموا بها‪ ،‬وحملوا منها‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫وتقاسموا معها ِكرسة املعاناة يف بالد املليون {ويل} مربع!‪ .‬الفقر واألحالم العريضة‬
‫التي تتناقص وتتضاءل كلام أضفنا رقام جديدا يف شهادات ميالدنا!‪ .‬ألن األرض التي‬
‫تبيح مامرسة الدعارة السياسية من أجل سواد عيون أوراق أمريكية‬ ‫أحيا عليها ُ‬
‫خرضاء الطعم واللون واملذاق!‪ .‬يفضون بها بكّارة أحالمنا ويرفعون الرايات الحمر‬
‫باسم وثيق ِة الرشف!‪ ،‬فيته ّتك النسيج االجتامعي ونُركل يف القفا‪،‬‬
‫يف مباين الربملان ِ‬
‫للص ملتحٍ عىل جبهته‬ ‫نرتاقص مع أنغام أوراق البنكنوت‪ ،‬ونقدم رجولتنا قرباناً ٍ‬

‫‪13‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫عالمة صالة اصطناعي ٍة‪ ،‬يباغت بها اإلله من حيث ال يدري وال يحتسب!‪ .‬أتص ّنع‬
‫ٍ‬
‫ومتاهات تجرجرين نحوها‬ ‫ٍ‬
‫ملسالك‬ ‫أتحايل وأُلولِ ُب تحاشياً‬
‫ُ‬ ‫االلتفاف والهروب‪،‬‬
‫نفسي ًة سوداء‪ ،‬وتتسع دائرة الهموم وتنشطر إىل عدة دوائر قامتة!‪ .‬فتلجأُ ذاكريت‬
‫طفل مجهول الهوية الفكرية‪.‬‬ ‫لحظتها إىل حقب ٍة شهدت عملية توليدي قيرصياً‪ٌ ،‬‬
‫يف الواقع مل تكن يل هوية أصالً‪ .‬ليتبناين العم إحسان بكل عبث ِه وجنون ِه بكل‬
‫محارب‬
‫ٍ‬ ‫للذات كعقيد ٍة صنعتها عصارة التجارب‪ ،‬وبجسار ِة‬ ‫ِ‬ ‫احتشادات ِه وانتامءات ِه‬
‫يعرف كيف يقاتل يف هذه الحياة بال هُوادة‪ .‬العم إحسان بروح الفنان ونبل‬
‫الفرسان‪ ،‬ميارس السقوط وقوفاً! يعتيل ظهر املوجة ويجدِّ ف نحو الشالل برويّة!‬
‫يفر ُغ جوفهُ خشية امتالء يقوده إىل تخمة انفعاالت‪ ،‬يلهب ظهرك بسياط الحقيقة‬
‫املجردة‪ ،‬ومتتد أنامله يف أبوي ٍة عفوية ليمنح بعطف ِه مناديل متسح كثيف دمعك‬
‫بلطيف حنين ِه الوريف‪ .‬كنت أنظر له كقلع ٍة منيع ٍة وجدتني بداخلها مصادفة‪ .‬ال‬ ‫ِ‬
‫أستطيع مغادرتها‪ .‬ويف الواقع مل أكن متشجعاً للقيام باألمر‪ .‬فضالً عن أن الوجود‬
‫يف قلع ٍة كهذه‪ ،‬كانت فكرة ذات إغرا ٍء ساحرٍ‪ ،‬يستحق املغامرة‪.‬‬
‫كان العم إحسان رجال يعرف أنه رجل!‪ .‬صادقته وعرفتهُ وخربتهُ عا َم تعملقت‬
‫همومي وتق َّذمت أحالمي رويداً رويداً‪ ،‬عندما بدأ التطاول يف بنيان الهموم التي‬
‫منتم حينها‪ ،‬ولكنه كان ينتمي إليه!‪ .‬فقد األمل‬ ‫أحملها يف داخيل‪ ،‬رشّ ح نفسه كال ٍ‬
‫ولكنه اليزال يبحث عنهُ ليحيا يف عا ٍمل حسب رؤيت ِه الخاصة وحسب تخطيطه‪.‬‬
‫آمنت بنب ّوت ِه واعتنقت دينهُ الخاص!‪ ،‬عشقت سخريتهُ وجنونهُ وطريقتهُ يف الكالم‬
‫وتدخني التبغ عرفت أن كالنا يحمل نفس الجينات الوجودية العابثة ويتقاسم‬
‫نفس الحلم ويقف يف ذات املربع!‪ .‬كل ذلك يف غمرة فوىض األوضاع التي ترتِّب‬

‫‪14‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫شتاتنا والتفاصيل التي تؤسس لنفسية جامحة ال تعرف السكون وال الركون إىل‬
‫اآلمال الزائفة!‪.‬‬
‫يف ذلك الوقت كانت أم درمان تتجشأ من الشبع الريض‪ ،‬إذ مل تكن لها حوجة يف‬
‫اإلرساف‪ ،‬ومل يسبق لها التفكري يف االحتضار عىل طريقتها األخرية‪ .‬كانت صابرة عىل‬
‫حرارة طقسها وجالفة شتائها‪ ،‬وعىل تشقّق جلدها املتعب من طول االنتظار‪ .‬كنت‬
‫برغم رداءة ذوقها يف اختيار األحذية والثياب‪ ،‬إذ مل أعرف لها ملمحاً مميزاً‬ ‫أحبها ِ‬
‫سوي طريقتها الغريبة يف الوجود عىل ظهر هذا الكوكب‪ .‬مل تعرف أم درمان ـ يف‬
‫حياتها ـ طريق ًة عرصي ًة لتصفيف شعرها‪ ،‬ومع ذلك مل تكن مجربة عىل تغطيته‪ ،‬وال‬
‫مجربة عىل إخفاء نهديها وال ساقيها‪ ،‬وال يحزنون‪ .‬يف الواقع مل يكن هناك أحد ينظر‬
‫مرتصدتني عىل اإلطالق ألماكن الحسن فيها‪ ،‬تلك التي ال يعرفها‬ ‫لها بعينني ماكرتني ّ‬
‫سوى أهلها‪ .‬ولكنها اآلن تصيل مجربة‪ ،‬فال تتوضأ نكاي ًة يف جالديها!‪.‬‬
‫عىل مقرب ٍة من جرح النيل النازف‪ ،‬يتمدّ د حي املوردة بهدو ٍء ضاجٍ وواثق‪ .‬ثق‬
‫ستشم العراقة واألصالة التي تطلق روائحها النفاذة ليك تعانق األمكنة‪ ،‬ثق‬ ‫ّ‬ ‫أنك‬
‫أنك ستقع يف غرامها برغم ابتسامتها الباهتة‪ ،‬ثق أنك ‪ ...‬كنت أتسكع كدأيب‪،‬‬
‫تجولت قليالً يف سوق السمك ومل أجد فيه ما يغري بالبقاء‪ .‬كانت املشاهد عادية‬
‫ومكررة لدرجة الرتابة‪ .‬والذاكرة مل تفتأ تراودين عن نفيس‪ .‬لعنة الله عىل الذاكرة‬
‫عندما تجهش يف البكاء عىل أطاللِ رؤي ٍة قامتة‪ .‬كان الرشيط األسفلتي يتث ّنى حني‬
‫يغسل السوق رائحة أسامكه‪ ،‬فينحدر عىل مهله متجهاً إىل قلب مدينة أم درمان‪،‬‬
‫مقبل عىل مدينة‪ ،‬ولكنك قد ترتك لنفسك خيار أن تتوقع‬ ‫فال تكاد تعتقد أنك ٌ‬
‫مفاجأة سارة‪ ،‬فلن تجدها عىل كل حال‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫توكلت عىل نوايا شوقي لحوا ٍر ما‪ ،‬أتبضع فيه من تجربة الرجل األسطوري‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أحج دكانتهُ الصغرية القابعة يف سوق السمك يف شارع املوردة‪ .‬ذات‬ ‫وقررت أن َّ‬
‫أصيل أم درماين هو بني الذهب ولُجني النيل‪ ،‬عالق ٌة‪ ..‬ب َني بني!‪ .‬كان صديقي العجوز‬
‫لحفظ ما ِء وجه ِه من رشو ِر‬
‫ِ‬ ‫ميتلك محالً إلصالح الدراجات الهوائية‪ ،‬يساعده قليالً‬
‫الحوج ِة واملسغبة التي كانت تركل مؤخرات معظم الناس بال رحمة‪ .‬كانت تُع ِّف ُر‬
‫خياشيمي رائحة الشواء التي تتقاطع وتتحد مع ديكور املكان البسيط‪ ،‬مع خلفية‬
‫من الوجوه السمر الحنون وسحر املشهد الحالل‪ ،‬فلم أد ِر لروعتها هل سكر النيل‬
‫من الخمور التي سكبها يف أمعائ ِه الرئيس {منريي} إبان قراره األكرث شهرة بتقفيل‬
‫البارات وسحب تراخيص محالت بيع الخمور؟ أم لشدّ ِة شوق ِه يل؟‪ .‬فبدا يل نهر‬
‫تصفق‬‫ُ‬ ‫ترتنح أمواجهُ مداً وجزراً شوقاً وسحراً‪ ،‬اليشء الذي كانت‬
‫النيل نشواناً طربا‪ُ ،‬‬
‫تسبح يف األعامق‬ ‫ُ‬ ‫له مراكب الصيد الصغرية ممراح ًة‪ ،‬وتنشغل عن الشباك التي‬
‫لحفنة صيادين يس ّبحون حمداً وعرفانا!‪ .‬كان محل إحسان العجاليت يتوارى خجالً‬
‫من بؤس ِه مبقربة من محل {ترنتي} للسمك‪ ،‬يجلس عىل عرش ِه العم إحسان بهيبة‬
‫شبق‪ ،‬وعرشات‬ ‫امللوك وبساطة حفظة القرآن!‪ .‬سجارة الرومثان تلثم شفتي ِه يف ٍ‬
‫الدراجات الهوائية املعطوبة والتي تم إصالحها وتدفقت يف عروقها دماء الحياة!‬
‫وبعض صبي ٍة جاءوا بغرض كراء دراجة ينفقون عليها جنيه أو جنيهني‪ ،‬رائحة املواد‬
‫الالصقة التي تستعمل يف ترقيعِ اإلطارات تتش ّب ُث بالفضا ِء‪ ،‬واليدين املعروقتني‬
‫اللتني تح ّنتا بالشحوم‪ ،‬امتدتا مرحبتني‪ ،‬تصحبها ابتسامة دامت قدر نفس متمهل‬
‫من سجارة الرومثان‪ ،‬عندما ألقيت عليه التحية‪:‬‬
‫«كيف الحال يا عم إحسان؟»‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫بطريق ٍة ألِفت التبسيط وهرس ثريد الفلسفة يف وعا ٍء ال مر ٍيئ من ال ِحكم ِالتي ال‬
‫الوعظ الذي يرهقها صعوداً فتهبط إىل الهاوية‪ ،‬وكأمنا يتم إعادة‬ ‫ِ‬ ‫ترقى إىل مستوى‬
‫رؤى وأفكار ظالمية‪ ،‬متارس ساديتها عىل‬ ‫هذا املشهد السيزيفي مرة أخرى يف شكل ً‬
‫تنسال الكلامت‬‫ُ‬ ‫عقولنا‪ ،‬ومازوشيتها عىل نفسها‪ ،‬كمنهجٍ تعبريي فادح‪ .‬لذا كانت‬
‫مبارشة تلخيصية سافرة سهلة الهضم!‪:‬‬
‫«مايش الحال يا ولدي‪ ..‬لسه ما بقيت الطيب خوجيل»‪.‬‬
‫قالها وهو يشري إىل واح ٍد من {دناصريِ} العجالتي ِة يف سوقِ أمدرمان الكبري!‪.‬‬
‫وكنت أعلم أنه يرتفّع أن تتواضع حتي لغته البلدية الرفيعة‪ ،‬ولو يف مج ّرد ر ّد عىل‬
‫سؤال كان ميكن أن تكون إجابتهُ {الحمد لله مايش الحال!} دعا يل مبقع ٍد خشبي‬
‫وعزمني عيل فنجانِ أنس وسجارة‪ ،‬وصمت بره ًة وقال ساخراً‪:‬‬
‫«صاحبك حسن ضالل كان قاعد معاي هنا‪ ،‬قال يل ما تسيب الشغالنة املتعبة‬
‫دي‪ ،‬يكون عايزين أشتغل مهندس طريان؟»‪ .‬أجبتهُ ضاحكاً‪:‬‬
‫«يازول كعب العدم‪ ،‬أخري ليك من العطالة حقتنا دي!»‪.‬‬
‫وبعد ذلك أضاف يف حكواتية ساخرة تضيف إىل طعم الحديث مذاق القرنفل‬
‫والنعناع‪:‬‬
‫السيجة الشعبية‪،‬‬ ‫«سيجة» {يف إشارة إيل لعبة ِّ‬ ‫«عارف يا ابني‪ ،‬الحياة دي ِ‬
‫السيجة دي عشان تغلب فيها الزم ترص كالب‬ ‫كمدخل فلسفي وورقة تفاوض} ِّ‬
‫اللعب يف مكانها الصاح! أنا الله قسم يل أكون حتة عجاليت وما يل يف طب وال‬
‫هندسة‪ ،‬يعني لو ختيت نفيس يف مكان تاين عيل اليمني حق السجاير ما ألقاهُ!»‪.‬‬
‫وقُبيل «سفّة» من علبة سعوطه اعتاد أن يكمل بها نصاب الكيف‪ ،‬بُعيد كأس‬

‫‪17‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫شاي‪ ،‬استدرك قائالً‪:‬‬


‫«والله الجوطة الحاصلة يف السوق دا‪ ،‬البياعني والصيادين والرسماطية وغُالت‬
‫املشرتين‪ ،‬يخلو راس الواحد زي الزول العامل ليه حولية وليِ صالح يف بيت‬
‫«فدادية»‪{ .‬يُطلق عىل املرأة التي تصنع الخمر يف عه ٍد ليس بعيد يف السودان‬
‫اسم الفدادية}‪.‬‬
‫«تتصور قبل يومني مشيت بيت مستورة ست العرقي لقيت شيخ بشري سكران‬
‫طينة! أتخيل أنا لو ربنا هداين ح ييجي يوم أقيف ورا ُه يف صف صالة؟»‪.‬‬
‫يكح وضحك حتى أدمعت عيناه‬ ‫«يا راجل أصلو ما ممكن! شيخ بشري؟؟»‪ .‬أخذ ّ‬
‫مضيفاً‪:‬‬
‫«يا ولدي الكلب لو ما نبح‪ ،‬ح تفتكر إنه ما ممكن يعضك؟‪ ،‬كل حاجة بتحصل‬
‫يف البلد دي‪ ،‬ما تستغرب!»‪.‬‬
‫وهكذا تسابق علينا الوقت ومل تتعب خيول الكالم‪ ،‬ظمئت إبل الرحيل وصاخت‬
‫أقدامها لحظة مغادريت وانفضاض املجلس‪ ،‬والعم إحسان يرشع يف تقفيل الدكانة‬
‫الصغرية‪ ،‬وهو يدعوين أن أمر عليه مساء يوم الخميس حتي نتمكن من إحياء‬
‫عادتنا يف قتل الوقت بنفس األريحية والرحابة!‪ .‬يذهب ليلعب دوره اآلخر يف‬
‫هذا العامل‪ ،‬يفاجئك بني االسرتاحة بتغيري الشخوص والديكور واللغة‪ ،‬يقتل عمداً‬
‫العم إحسان {العجاليت} بضغين ٍة وجودي ٍة وعداء تاريخي ساخر‪ ،‬يتحايل عىل‬
‫املوت ليبعث من جديد!‪ .‬إحسان الفنان الذي يتوكل عىل ريشتني‪ ،‬ريشة الرسام‪،‬‬
‫والريشة التي يع ّذب بها أوتار العود‪ ،‬فت ّنئ وترنّ وتج ُّن وتِح ُّن إىل السامء صداح ًة‪،‬‬
‫ولكن تأرسها القلوب وال تطلق رساحها إال شهيقاً طروباً وآهات متمل ِملة عىل‬

‫‪18‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫بإحساس فنان ميارس الفوقية تجنباً النزالقات القاع وترهات‬


‫ِ‬ ‫جم ٍر من حنني‪ .‬يعود‬
‫الوسطية وجموح االستعالئية!‪ .‬يقدم لك منوذجا إنسانيا بديعا ثري التفاصيل‪،‬‬
‫شحيح اإلسفاف والرتهّل الذي يصيب إيقاع الحركة بالجمود‪ ،‬ويفقأ عيون الشمس‬
‫فتعمى عن رؤية النهار!‪ .‬فننظ ُر إىل مجملِ هذا العامل بنظرة سوداء ومتز ّمتة!‪.‬‬
‫للحيا ِة أوج ٍه عديدة‪ ،‬ما نألفه منها ال يريحنا قط‪ .‬نحن دامئاً ندخل من الباب‬
‫الخطأ‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫‪20‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الفصل الثاني‬
‫يف تلك األمسية الرائقة كان العم إحسان يف بيته يف حي املورة‪ ،‬ذلك البيت الذي‬
‫يشبه تفاصيله الرثية‪ ،‬والذي يصلح كسيناريو لقص ٍة قصرية قصقص الروايئ أجنحة‬
‫أحداثها‪ ،‬ومل يرتكها تحلق خارج الرسب كرواية‪ .‬شجرة ال ِّنيم العجوز التي مل تبخل‬
‫عيل الشارع مبثقالِ ظل‪ ،‬كانت متنح فناء املنزل بعداً أسطورياً‪ ،‬بأغصانها التي تتدلىّ‬
‫منها ثريات أعشاش طيور القمري كعناقيد شهية!‪ .‬فتنظ ُر إليها قطتهُ الصغرية‬
‫بلؤم مترش ٍد جائع قادتهُ قدماه للمرور بالقرب من مطعم مشويات!‪ .‬غرفتان‬ ‫شذراً ِ‬
‫توأم اصطفتا يف ال اهتامم هنديس‪ ،‬بائستان مثل فصول املدرسة االبتدائية التي‬
‫تحس أنك ولدت يف‬ ‫درست فيها‪ ،‬غني ٌة جداً إذا كان مقياسنا يف الرثا ِء هو األلفة! ُّ‬
‫هذا املكان الذي يحشو ذاكرتك بشكلٍ من أشكال االنتامء الغريب‪ ،‬ومبقربة من‬
‫أصايص الزهور الفخارية وليس بعيد عن {ال ِّزير} العتيق امللفوف بعناية جدة‬
‫مع ّتقة‪ ،‬وكانت قطرات املاء تتدىل من أسفلِ الزير كلحنٍ رتيب‪ .‬يتجول العم‬
‫إحسان يتساقى الحب مع عامله الخاص!‪ .‬لألمكنة قدرة عجيبة يف ترويض اإلنسان‬
‫ودفعه دفعاً إيل التو ّرط يف عشقها‪ .‬ولكن هناك أمكنة تركلك بأحذيتها وتؤذي‬
‫نظرك بجربِها امللقى هنا وهناك‪ ،‬مشهداً مشهدا‪ ،‬داراً فدا ًرا‪.‬‬
‫فعندما تزور ُه يرشح لك جغرافية املكان بأريحية الذي يريد أن يشعرك أنك يف‬

‫‪21‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫بيتك‪ ،‬أو يرتكك لتخدم نفسك بنفسك فال تكاد تحس الفروق واملوازنات والكيل‬
‫مبعيارين‪ ،‬أو املجاملة بحرفية قواد رخيص!‪ .‬يحب أن يرشكك يف الحكم‪ ،‬ويرتك لك‬
‫حرية االختيار‪ ،‬ويعلم بأن التصويت يف النهاية سيكون لهُ ‪ ،‬وباإلجامعِ السكويت‪،‬‬
‫عىل األرجح‪.‬‬
‫وتلك كانت أهم مالمح جمهورية العم إحسان الخاصة التي ميارس فيها‬
‫دميقراطيتهُ الخرافية يف ديكتاتورية هجني!‪ .‬ما أعجبها!‪ .‬أما الغرفة الثانية فكانت‬
‫املفاجأة األكرب التي تلقيتها بعد أن اختصني هو بدخولها دون العاملني‪ ،‬وأخربين‬
‫بتلك الحكاية التي غيرّ ت مجرى النيل يف دمائنا!‪ ،‬هذه الحكاية التي ما زالت‬
‫تدهشني رغم مرور كل تلك السنوات وبعد أن وجدت نفيس فيام بعد محشوراً‬
‫يف تفاصيلها وعبثيتها‪ ،‬ولكن حرييت مل تزل تثريُ دهشتي‪ ..‬عجباً!‪.‬‬
‫ذات حلم أو ما يشبه األسطورة!‪ ،‬والعم إحسان يتسكع يف أحد أزقة حي املوردة‬
‫هدى‪ ،‬وأظنهُ مل يكن يعرف إيل أين تقود ُه قدماه‪ ،‬سمع صوت امرأة‬ ‫األمدرماين بال ً‬
‫تنادي بواهنِ صوتها التي حرصت عىل أن يكون مسموعاً‪:‬‬
‫«يا إحسان يا إحسان!!»‪ .‬كان صوتاً متعباً ال يخلو من حرشجة واهنة‪.‬‬
‫التفت إىل مصد ِر الصوت‪ ،‬فلم يجد غري امرأة ستين ّية‪ ،‬تشريُ إىل غريِ اتجاه ِه!‪.‬‬
‫أضافت السيدة العجوز بصوتها الواهن كأنها تلفظ آخر كلامتها قبل أن تصمت‬
‫إىل األبد‪:‬‬
‫«يا إحسان بنات خالتك فاطمة قالوا جايني يرشبوا معانا القهوة‪ ،‬تعايل راجعة!»‪.‬‬
‫تحمل اسمهُ‬
‫وعندها حاول العم إحسان أن يقرأ تفاصيل تلك األنثى التي كانت ُ‬
‫وقدرهُ‪ ،‬وبالكاد فعل!‪ .‬بالتأكي ِد مل تكن مج ّرد أنثى!! كانت محاولة رصيحة ِ‬
‫لخلق‬

‫‪22‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫مالك‪ .‬كانت متيش عىل طريقة بنات أم درمان برزان ٍة وخفر‪ ،‬حني كانت األنوثة‬
‫أهم صفات البنات!!‪.‬‬
‫مل يستطع أن يتبينّ مالمحها بطريق ٍة ُمثىل‪ ،‬ولكنها صعقتهُ متاماً‪ ،‬ترى ألنها كانت‬
‫ات أخرى يعلمها وحدهُ؟‪ .‬زلزل ٌة داخلي ٌة تلك التي حدثت‬ ‫تحمل اسمه؟ أم العتبار ٍ‬
‫استيقظ الربكان الهامد يف أعامق ِه؟ هل بدأ يقذف‬
‫َ‬ ‫داخل العم إحسان!‪ .‬تُرى هل‬
‫بالحمم واللهب؟‪ .‬املثل الشعبي السوداين يقول {اسامً زي اسمك‬ ‫ِ‬ ‫مدنهُ وسواحلهُ‬
‫يا علمك الهبالة يا علمك الدغالة} ولكن يا لها من مصادف ٍة غريب ٍة وشحيح ِة‬
‫التنقيب عن‬
‫ِ‬ ‫يستأنف حفرياتهُ من أجلِ‬
‫َ‬ ‫الحدوث‪ ،‬تركت مجاالً فضفاضاً للقد ِر ليك‬
‫ترهق جيولوجيا الذاكرة بحثاً ودموعاً‬ ‫املواقف التي تصنع التاريخ‪ .‬املواقف التي ُ‬ ‫ِ‬
‫وأملا وعذابا! أتراها تلك هي األنثى التي ستتمكن أخرياً من اكتشاف آبار برتول ِه‬
‫وترسق نفط ِه يف إطار برنامج النفط مقابل األكسجني؟‪.‬‬
‫عندما التقيا ـ فرضاً ـ كتالقي ذريت هيدروجني وذرة أكسجني‪ ،‬هل كان هذا وعداً‬
‫باملطر؟ أم سيكون حمل سحابته كاذباً كالعادة؟؟!‪ ،‬فقد تع َّود دامئاً أن يستعمل‬
‫غيم الحلم الواقي املطري! وحتى أعامقه قد وصلت إىل سن اليأس فعلياً‪ ،‬وفشل‬
‫رس‬
‫إنجاب الحب‪ .‬عندما مرت به غطت وجهها كشأن بنات األ ِ‬ ‫ِ‬ ‫عتاده الذكوري يف‬
‫املحافظة فرتكت باب الدهشة موارباً‪ ،‬فيام كانت عيناها تتلصصان برباء ِة طفل ٍة‬
‫تطمع يف قطع ِة الشوكوالتة العارية التي كنت ته ُِّم بقضمها‪ .‬نظر ٌة يتيم ٌة‬ ‫ُ‬ ‫خجول ٍة‬
‫رسقت عمر ُه وي ّتمت ذاكرتهُ ور ّملت بنات أفكارهُ‪ ،‬واقتادتهُ إىل ما وراء وادي‬
‫التهاويم التي أفنى سلفادور دايل حياتهُ أسرياً لها!‪ .‬هل كانت حقيقة؟‪.‬‬
‫الشاعر السوداين الكبري الفيتوري كتب‪:‬‬

‫‪23‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«الغافل من ظن أن األشياء هي األشياء»‪.‬‬


‫نظر ٌة متكنت من بعث وإحياء الشخصية األخري الكامنة داخل العم إحسان‪.‬‬
‫تدخلت يف شؤون ِه الداخلية وأسقطت الدميقراطية وأعلنت أحكام الطوارئ‪.‬‬
‫سيتحصن بجربوته‬
‫ّ‬ ‫هل بإمكانه اآلن أن يجري تعديالً وزارياً عاجالً يف حياته‪ ،‬أم‬
‫رصف‪ .‬ولكن الطرق ال متلك‬ ‫كديكتاتور عريب متسلّط؟‪ .‬بالكاد كان يعلم كيف يت ّ‬
‫صرباً كافياً عىل مسافرين حمقى‪.‬‬
‫دلفت الفتاة إىل داخل املنزل وتركت الباب نصف موارب‪ ،‬متاماً كنظرتها‬
‫املتلصصة‪ ،‬وتوقف الزمن وانتهت التواقيت يف روزنامة العم إحسان‪ ،‬وهو مل يزل‬
‫مس ّمراً أمام السبيل الذي يقع قبالة املنزل الذي دخلته الفتاة‪ .‬قدر ُه الذي مل يكن‬
‫يدري كنههُ ‪ .‬وأخالهُ رشب نصف ماء السبيل وهو يف انتظار ال يشء!‪ .‬ال‪ !.‬لقد كان‬
‫يف انتظار {يشء} بالرغم من أنهُ ال يريد {تش ّيئها}‪ .‬وبيت الشعر العريب يرن يف‬
‫أعامق ِه ساخراً‪ً:‬‬
‫حب من سكن الديارا»‪.‬‬ ‫حب الديار شغفن قلبي ‪ ...‬ولكن َّ‬ ‫«وما ُّ‬
‫مرتبك كمسبح ٍة من العبري‪ ،‬شاهقة الحسن‪ ،‬رفيع ٌة مثل نخلة‬ ‫ٍ‬ ‫أنثى عربتهُ ببط ٍء‬
‫وزوج برتقال أينعا وحان قطافهام‪ ،‬والقد ُر لصاحبهام!‪ .‬أنثى متثل األنوثة الرصيحة‬
‫املقدسة يف فجو ٍر ليست مسؤول ًة عنهُ ‪ ،‬فتا ٌة تغريك بأكلِ التفاحة وترفعك إىل‬
‫أسفلِ سافلني!‪ ،‬ومن ثم ترقص عىل صدرك مثل ما فعلت عشرتوت بأدونيس‪،‬‬
‫ترتكك لتتأمل وتتج ّمل وال تدعك تتح ّمل‪ ،‬مرت كقاطر ٍة رسيع ٍة وتركت ذكرى‪.‬‬
‫وتركت؟‪ .‬كان األمر بر ّمته محض حلم‪ .‬ولكن األحالم نفسها كانت هي الفردوس‬
‫الوحيد الذي يرتحل إليه من فقد األمل يف الحصول عىل نصف حياة‪ ،‬وللفاشلني‬

‫‪24‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫فراديسهم الخاصة‪.‬‬
‫أوصلتهٌ قدما ُه بخطوات مشتتة إيل بيت ِه األسطوري أو عش الرخ الذي يصعب‬
‫الشحنات املكبوت ِة بداخل ِه‬
‫ِ‬ ‫الدخول إليه وإن سهل إيجاده‪ .‬مل يجد طريق ًة لتفريغِ‬
‫سنوات عديدة منذ أن كان يف الثالثني‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫غري أن يرسمها‪ .‬ولكنه كان قد هجر الرسم‬
‫يااااااه! خمسة وعرشين سنة مل يرسم لوحة واحدة! حقيق ٌة مزعجة نبهته إىل‬
‫عمر ِه‪ ،‬أو ما تبقّى منه!‪ .‬فتح باب الغرفة الذي أوصد خلفهُ كل مرارة سنوات‬
‫الشباب وخيبات املايض وجراحه‪ ،‬ودخلها ليك يرسم للمرة األوىل منذ خمسة‬
‫وعرشين عاماً‪ .‬بدت مثل غرفة أشباح شديدة الكآبة تعفِّرها أطنان من الرتاب‪،‬‬
‫العنكبوت وحزمة‬
‫ُ‬ ‫العنكبوت لتواضعِ حال ِه ـ وحد ُه ـ هو الذي بقي عىل قيد الحياة‪.‬‬
‫الرسم بدوافعٍ غامض ٍة ال‬
‫ِ‬ ‫ارتكاب معصي ِة‬
‫ِ‬ ‫ذكريات‪ .‬أما هو فقد د ّج َج عزمهُ عىل‬
‫ميلك لها تفسرياً!‪ .‬الف ُّن ال يعرتف باملربرات والقوانني‪ ،‬ال يعرف الخندقة والتمرتُس‬
‫وال يرفع الرايات البيضاء!‪ .‬هكذا أعتقد‪ .‬وبعد معاناة فتح الحقيبة املرابطة ـ منذ‬
‫سنوات مغربة ـ تحت الرسير الخشبي الذي أكل منه الدهر ورشب‪ ،‬وبدأ يف انتهاك‬
‫عزلة الورق األبيض‪ ،‬العزلة التي امتدت إىل خمس ٍة وعرشي َن عاماً‪ ،‬من إقامة ألوانه‬
‫قيد اإلقامة الجربية‪ .‬العتم ُة سجن اللون‪ .‬البياض ُسعال الثلج‪ ،‬فراغهُ من ُحمى‬
‫تهم إال الصقيع‪ .‬البياض هو املوت اللون‬ ‫الرسم‪ ،‬البياض انشغال اللون بقضي ٍة ال ّ‬
‫املعلن‪.‬‬
‫بدأ يرسم وهو يخربش عىل جدار من املآيس صمد بقوة يف وجه الطباشور‬
‫والزمن واأليام‪ ،‬رسمها بالقلم الرصاص ولكنها بدت ملونة وبراقة‪ ،‬فأخذت تتشكل‬
‫معامل مدين ًة جديد ًة اسمها إحسان كان هو أول ساكنيها وأول من تج ّول يف طرقاتها‬

‫‪25‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫وأسواقها‪ .‬كان يرسم وهو يتذكر قراره املفاجئ بعدم مامرسة فن الرسم طيلة ما‬
‫بقي من حياته‪ ،‬كان يرى أن الحياة ال تحتمل االنشغال بتوافه مثل الفنون‪ ،‬الفن‬
‫األعظم هو الحفاظ عىل الحيا ِة نفسها‪ ،‬فن البقاء‪.‬‬
‫كانت حياة العم إحسان ال تشبه حيوات كثرية مجاورة‪ ،‬بداي ًة من مولده‪ ،‬حتى‬
‫اسم‬
‫حمل هذا االسم الطارئ حتى تتحسن الظروف بالطبع‪ ،‬إىل أن يعرث عىل ٍ‬
‫مناسب يكفيه مشقة العثور عىل قدره!‪ .‬وبفعل تلك الجراح التي تفتحت عند‬ ‫ٍ‬
‫رحيل والده حزناً عىل شقيقت ِه التي تكرب ُه بعامني‪ ،‬عاش بداي ًة موجعة‪ .‬حينها مل‬
‫يولد إحسان فقد كان يف رحم القدر جنيناً يف بطنِ أم ِه‪ ،‬مات أبو ُه املسكني حرسةً‪،‬‬
‫ومل يتحمل جسد ُه املنهك بتداعيات األحزان واملتا ِعب صدمة رحيل الصغرية والتي‬
‫مل يكن مصادفة اسمها إحسان!‪ .‬وعندما رصخ رصختهُ األوىل يف هذا العامل‪ ،‬مل‬
‫يرصخ لضعف ِه‪ ،‬وإمنا رصخ بقو ٍة ليعلن قدومهُ إىل هذه الحياة‪ ،‬إىل حيا ٍة والسالم!‪.‬‬
‫أطلقت علي ِه والدتهُ اسم إحسان وسط دهشة األهل واألقارب الذين استقبلوا‬
‫الخرب الغريب باملزيد من األسئلة‪ .‬فقد كان هذا االسم يطلق غالباً يف السودان‬
‫عىل اإلناث دون الذكور‪ ،‬فدخل إحسان إىل الدنيا تطارد ُه لعنة الوحدة وهواجس‬
‫الرحيل ‪ ...‬وكان!!‪ .‬تر ّجلت أمهُ عن ظهر راحلتها ورحلت بال وداع‪ ،‬وامتطى الصغري‬
‫للعيش‬
‫ِ‬ ‫اليتيم صهوة األىس وهو يف فج ِر الطفولة الغضة‪ .‬انتقل هذا اليافع بعدها‬
‫ببيت أعامم ِه‪ ،‬أو ضاقوا ب ِه‪.‬‬
‫كنف أعامم ِه حتى بلغ الحلم‪ .‬ولكنه ضاق ذرعاً ِ‬ ‫يف ِ‬
‫مل يحتملوا شقاوته وغرابة أطواره ألنه كان يعيش حياته عىل طريقته الخاصة‪.‬‬
‫كان متمرداً محرتفاً‪ ،‬كان يعشق الغناء والعزف عىل آلة العو ِد مبهار ٍة ال تتناسب‬
‫مع سنوات عمره‪ .‬وبالطبع مل يجد تشجيعاً كبرياً يف هذا البيت املحافظ‪ .‬فقد كان‬

‫‪26‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الكثري من الناس يصفون الفنانني بخائبي الرجاء وعدميي الفائدة‪ .‬لذا مل يكن مرحباً‬
‫بغنائه‪ ،‬وكانت تزعجهم حتى طريقة عزفه عىل العود وتقلق منامهم‪ .‬وعندما رجع‬
‫يف تلك األمسية إىل البيت متأخراً كعادته‪ .‬وجد لوحاته البدائية ممزقة األوصال‪،‬‬
‫وكذلك حطموا آلة العود وفؤاد الفتى اليافع‪ .‬وثار فيهم حتى رضبوه بالسياط عىل‬
‫ظهره حدّ البكاء‪ .‬فقرر أن يرجع إىل املنزل الذي شهدَ مولد ُه وهو يف بداية صباه‪،‬‬
‫وتداعت علي ِه نوائب الزمن واملحن‪ ،‬ومل يحصل حتى عيل أنصاف الحلول‪ ،‬يف بال ٍد ال‬
‫تعرتف باملؤهالت والشهادات‪ .‬بال ٌد تعشق االنتامء األعمى‪ ،‬وتقدّ س القبيلة وتعبد‬
‫ات الوطنية والهوية‪ .‬بال ٌد أصابها فقر الدم الفكري‪،‬‬ ‫الحزب وترسق األجيال بشعار ِ‬
‫والقت ما القت من أنيميا األنظمة الخرقاء‪ .‬إذن ال تحلم بحيا ٍة سعيدة‪ .‬أنصحك‬
‫أن تفكر يف ميت ٍة الئقة!! كن صاحب القرب السعيد‪.‬‬
‫وبعد طول عذاب وكثري احرتاب‪ ،‬قرر أن يفتح هذه الدكانة الصغرية التي‬
‫ورثها عن والد ِه‪ ،‬وأن يعمل يف نفس املهنة وبنفس القدر من الرضوخ والخضوع‬
‫واالستسالم الجربي‪ ،‬مل يكن ميلك شيئاً‪ ،‬فقط كان يريد أن يأكل الخبز ومييش يف‬
‫األسواق‪ .‬كان كل ما يحلم به هو الخبز لألسف‪ ،‬وحفظ ماء الوجه‪ .‬فعندما تنظر‬
‫إىل األمر عىل هذا النحو‪ ،‬بإمكانك أن تأخذ فكرة واضحة عن الحياة بصور ٍة عامة‪.‬‬
‫مبشاع ٍر استثنائية تغ ّربت عنهُ خمسة وعرشين عاماً بدأ يرسم‪ .‬كانت تسيطر علي ِه‬
‫فكر ٍة مجنون ٍة‪ ،‬ولعلهُ أراد أن يثأر من حشم ِة هذه الفتاة الغامضة فرسمها عارية‪،‬‬
‫مل يسرت إال وجهها الذي رآ ُه باألشعة {فوق االشتهاء}‪ .‬كانت النوايا السيئة تتقلّب‬
‫عىل فراشه‪ ،‬والورق العاري يتمدّ د كمالء ٍة بيضاء تتقلّب فيها فتاته االفرتاضية‪ .‬أراد‬
‫أن يُع ّريها مثل روايئ متقلّب األطوار وغريب األمزجة ميارس جنونهُ عىل شخوص ِه‪،‬‬

‫‪27‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫نصب نفسه إلهاً بريشة فنان ويخلق لوحات ِه‬ ‫ويكون أكرث طيشاً عىل املرسح‪ ،‬ويُ ّ‬
‫عارية كام ولدتها أمها‪ .‬وبعد أن اكتملت اللوحة األوىل إلحسان األنثى العابرة‪ ،‬بدأ‬
‫يتأملها‪ ،‬يراقب خطواتها املتعرثة‪ ،‬بكاءها‪ ،‬ضحكها‪ ،‬وردود أفعالها‪ ،‬بدأ ميارس عليها‬
‫وثني ٍة مؤمنة!‪ ،‬بدأ يتع ّبد فيها وهو ال يعرف عنها إال اسمها املولود قبل لحظات‬
‫من حنجرة عجوز‪.‬‬
‫فكان تداول األدوار بني األلوهية والعبادة نتيجة طبيعية لدميقراطية كان يحلم‬
‫بها‪ .‬رسمها عرشات املرات وترك جسدها عارياً عرشات املرات‪ ،‬هل كان يؤمن‬
‫بتعدد اآللهة يف معبد ِه الفني هذا؟ هل الجسد هو القدر كام قال فرويد؟ هل‬
‫وهل؟؟‪ .‬الدليل الوحيد عىل براءة الجسد‪ ،‬أن كل أصابع االتهام ال تشري إليه فقط‪،‬‬
‫ولكنها تتمنى التهامه التهاماً‪.‬‬
‫ماذا صنعت أنثى عابرة كقطار رسيع ملجنون مثل العم إحسان لريسمها {حافية}‬
‫النهدين ال تنتعل إال حلمتني ذائغتى النظرات؟‪ .‬أو باألحرى هل أنتبه أخرياً لدروس‬
‫ماركيوس عن القهر الجنيس والكبت وأثر ُه عيل اإلنتاجية؟‪ .‬وما هو املرشوع الذي‬
‫ميكن أن يقوم ب ِه عجوز يف الخامس ِة والخمسني من العمر؟‪ .‬حتامً هذه إجابات‬
‫تحتاج إىل أسئلة!!‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الفصل الثالث‬
‫حط الرحل‬ ‫أم درمان يا ِ‬
‫أنت يا وعداً وحلامً نام يف الفردوس وحني أتانا يف الدنيا‪َّ ،‬‬
‫يف السودان‪ .‬فكانت لحظة امليال ِد كانت نشأة أم درمان‪ .‬هي أم درمان قطع ٌة من‬
‫ُ‬
‫تبعث الفجر يف وطني‪ ،‬بنيلها وليلها وآمالها وآالمها وأحالمها املراهقة!‪.‬‬ ‫الشمس‬
‫أم درمان البقعة واألم الرءوم‪ ،‬هنا أم درمان‪ .‬يؤذن مذياعها كل يوم داعياً الناس‬
‫لصال ِة الحنني‪ .‬أم درمان املهدي واإلذاعة والقبة واألسكال‪ ،‬شارع املوردة وشارع‬
‫األربعني وميدان الخليفة‪ ،‬أم درمان الحبيبة السابقة قبل أن تقدم جسدها يف‬
‫املزاد العلني للقوادين واللصوص وحملة {الشهادات اللحية} وهم ال ميلكون إال‬
‫شهادة أن ال إله إال الله!‪ .‬هذه املدينة التي أخصت ذاكرتها وأرادت أن تحمل من‬
‫رض شاب مل تخصه الخيبات‪.‬‬ ‫التاريخ‪ ،‬ومل تدر بأن املستقبل ال ينجب إال من حا ٍ‬
‫أحبها وأشتهيها ولكني أفضحها لو وجدتها غارقة يف جرمية رشف!‪ .‬سأبلغ عنها‬
‫وأشهد ضدها‪ ،‬فال ضري يف أن يلقى القبض عىل املدنِ املشبوهة حتى تتوب وتعود‬
‫إىل رشدها!‪ .‬هل قلت إنني أبالغ بعض اليشء؟‪ .‬نعم فأنا أمتلك من التناقضات ما‬
‫ٍ‬
‫لشخص ال‬ ‫مصاب بالشيزوفرينيا‪ .‬ليس يف األمر عجب بالنسبة‬ ‫ٍ‬ ‫يجعلني أقرب إىل‬
‫ميلك إال يفغر فاههُ دهش ًة‪.‬‬
‫«العمل الروايئ عبارة عن جرمي ٍة مل تقع!» يكون مرسح هذه الجرمية خيال‬

‫‪29‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الكاتب فال يحاكم بتهمة البالغ الكاذب وإزعاج السلطات! إذن الكاتب مرشد‬
‫متواطئ مع األحداث والتواريخ فال يستطيع كتامن أرسار العامل واملدن والشخوص‪.‬‬
‫واملثقف مسؤول عن أي جرمية تقع عىل ظهر األرض عىل حسب قول سارتر‪.‬‬
‫أعرف‬
‫ُ‬ ‫فعندما أُج ِّند قلمي يف خدمة أوسكار ويلد وأكتب بدمي حدَّ النزيف‪،‬‬
‫أنني أكتب ألتنفّس وأعيش‪ ،‬نعم أحرت ُم الذين كانوا مبثابة حجر الزاوية يف وجداين‬
‫وبنياين الفكري‪ ،‬ولكن هذا ال مينع أن أع ِّريهم‪« .‬فالكاتب ال يؤمتن» أليس هو أول‬
‫من يفتح النار عىل نفسه ويفضح نفسهُ يف سرية ذاتية ويع ِّرض سيقان البيوغرافيا‬
‫للامر ِة والعابرين يف أزقة ومواخري الكتابة؟‪ .‬وهكذا كان العم إحسان ما إن يفرغ‬
‫من صناعة لغم فكري‪ ،‬كان يج ِّربه أوالً عىل نفس ِه‪ ،‬رمبا عىل سبيل التأكد من قدرته‬
‫عىل التفجري‪ ،‬رمبا!‪.‬‬
‫لن أتناىس دهشتي وأنا أدخل معبد ُه للمرة األوىل‪ ،‬وكذلك لن أنىس أبداً تصالح‬
‫عيني ونفسيتي مع املكان وكأنني سكنتهُ منذ عرشات السنني ودخلتهُ مئات املرات‪،‬‬
‫هذا املعبد الرهيب‪ ،‬حاولت أن أفرك عيني حتي أستبني الحقيقة وأقيص التوهم‬
‫املفرتض ذاك‪ ،‬ولكن كان املشهد حقيقياً متاماً‪ ،‬بل وأكرث استنفاراً للحواس‪ .‬كان أشد‬
‫شاب جاهلٍ مبثل تلك األمور الساخنة وليست له عالقة مع {اآلخر} إال‬ ‫تأثرياً عىل ٍ‬
‫تتمثل له يف عادات ِه الرسية املتعددة‪ .‬فتكالبت ع ّ‬
‫يل‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫مامرسات‬ ‫ِ‬
‫بصيص‬ ‫من خاللِ‬
‫رجولتي املهيضة الجناح وأحسست أنني سأطري‪ .‬فعيل هذه الحوائط البائسة‪ ،‬مثة‬
‫حياة بدت تتمثّل كامنة يف كنوز السيقان والصدور العارية‪ ،‬مبعدل تطابق هنديس‬
‫أقرب ما يكون إىل الكامل‪ .‬كانت لوحات فنية غاية يف الجرأة والشهوة‪ ،‬كمن يرسم‬
‫وهو يحلم بليل ٍة حمراء!‪ .‬واألكرث غرابة‪ ،‬كان حرصهُ عىل إخفاء املالمح متاماً‪ ،‬ولكن‬

‫‪30‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫خارطة الجسد كانت مطلقة الرساح‪ ،‬تتسكع تضاريسها ووديانها بته ّو ٍر وجرأ ِة‬
‫الذي ال يخىش سياط جالد املجتمع وال مفتيش الضامئر واألخالق!‪ .‬هذه اللوحات‬
‫تلميذات املدارس اإلسالمية!‪ ،‬هذه اللوحات‬‫ِ‬ ‫كانت وجوهها مغطاة جيداً كوجو ِه‬
‫التي يبلغ عددها تسعا وعرشين لوحة ومازالت تبحث عن اللوحة الثالثني‪ ،‬فريتفع‬
‫يخصص‬ ‫عدد اآللهة وتزيد نسبة العبادة‪ ،‬وكذلك املريدون‪ .‬فقد كان العم إحسان ِّ‬
‫لوحة محددة لكل يوم‪ ،‬يتكفّلها بالرعاية والحب‪ .‬ويف صباح اليوم الثاين يدخل يف‬
‫حب جديد وعشق جديد ودين جديد!!‪ .‬ما أشد غرابة هذه الوثنية!!‪.‬‬
‫وهذه كانت أسباب منطقية م ّهدت الرتكايب الخيانة والتفكري يف بطل ِة لوحات ِه‬
‫أحس ـ لوهل ٍة ـ أن دواخيل تحيك يف مؤامر ٍة بدوافعٍ‬ ‫من زاوي ٍة تخصني‪ ،‬فبدأت ّ‬
‫أناني ٍة‪ ،‬وأدركت مع مرور الوقت أنني أشتهي هذا الجسد وأتضايق ألن العم‬
‫إحسان ال يرتكني وحدي ألمارس طقويس وعبادايت الخاصة‪ .‬لقد بدأت أغا ُر منهُ ‪،‬‬
‫وحتي من فرشاة الرسم التي شبعت من مالمسة هذه التضاريس الفنية‪ ،‬وأغار‬
‫من علبة األلوان وحتى القلم الرصاص ومن الورق األبيض الذي شهد ثورة هذا‬
‫النقالب عاطفي يهديني السلطة ألجعلها امللكة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الجسد الحمراء‪ .‬بدأت أخطط‬
‫ترى هل يكون جزاء العم إحسان هو إحسان!؟‪ .‬أعتقد أنهُ كان يعلم مبقدار تعلُّقي‬
‫برسومات ِه العارية‪ ،‬ولكنهُ قطعاً مل يكن يدري أنني أطمع أن أضع جميع البيض يف‬
‫سلتي وأن تحضنهُ نفس الدجاجة!‪ .‬وهذه كانت نقطة التحول الرئيسة يف عالقتي‬
‫مع الرجل‪ ،‬نعم حاولت الحفاظ عىل أساسياتها‪ ،‬ومع ذلك تتأرجح نفسيتي تجاههُ‬
‫بني ميزان األلفة واملحبة‪ ،‬وثورة الربكان الذي بدأ يف قصف مدين باآلهات والحمم‬
‫يل‪« :‬تُري هل كان العم إحسان يعلم‬ ‫الوجدانية!‪ .‬ولكن يبقى السؤال الذي يلح ع ّ‬

‫‪31‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ـ وهو يُع ِّريهاـ أنها ستثأر لنفسها وتُع ِّرينا سوي ًة؟‪ .‬هل كان يعلم بأنها ستفضحنا‬
‫وتنسج شباكها حولينا حيث ال فكاك وال مفر؟»‪.‬‬
‫هذه الخواطر املهزومة كانت تتصارع بداخيل وتُشهر سيوفها يف وجوه الشخوص‬
‫الذين يشكلون أهم مالمح مرسح الرجل األسطوري‪ ،‬الرفاق الذين كانوا يتقاسمون‬
‫معنا كرسة املعاناة وحميمية التآلف واإلخاء‪ ،‬يف تلك األيام العصيبة‪ .‬هذا املرسح‬
‫الغريب الفريد من نوع ِه الذي ال يسمح فيه للجمهور باملشاهدة والتصفيق!‪.‬‬
‫وهذا العرض الحرصي السخي الذي كاد أن يهدمني ويعيد تشييدي من جديد‪،‬‬
‫أكف عن املحاوالت من أجلِ استعادته مر ًة أخرى بال أدىن‬
‫عىل الرغم من أنني مل ّ‬
‫يأس‪.‬‬
‫يبدو أنها ستكون البداية‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الفصل الرابع‬
‫كانت تراودين أشياء غري متصالحة مع هندس ِة أفكاري الخربة أصالً‪ ،‬أشيا ٌء‬
‫أحس أن مثة كروموسومات‬ ‫غريب‪ ،‬كنت ّ‬ ‫ٍ‬ ‫تُربكني وتُفكِّك خاليا جسدي بإرصا ٍر‬
‫عنيدة تنتهك حرمة دمايئ وتسكنني‪ .‬لألسئلة صدا ٌع ال تشفيه إال اإلجابات!!‪.‬‬
‫حوافر األسئلة كان لها وقع الرماح عىل رأيس‪ ،‬وكنت أشعر أنني يف حالة طوارئ‬
‫قصوى‪ ،‬واستنفا ٍر كُليِّ للحواس‪ ،‬كان البد لهذه الناقة أن تنيخَ هنا‪ ..‬فإنها مأمورة!‪.‬‬
‫اتركوها وابنوا عىل هذه الشفاه قُبلة!‪ .‬تُرى هل بدأت رصاعات األنا تتناسل يف‬
‫رص عىل طرحِ طالسمها‬ ‫قلبي؟‪ .‬أم كانت تلك هي معادالت الكيمياء العابثة التي ت ُّ‬
‫يف {الجناح الخاص} لدمايئ؟‪ .‬كان جنوناً أن أعشق أنثى هذه اللوحات‪ .‬الجنون‬
‫شطحات الفنان الذي استسلم لجنون الريشة‬ ‫ُ‬ ‫وحد ُه كان يسكن املكان والزمان!‪.‬‬
‫وجنوح األفكار‪ ،‬وغرابة أطواري التي جعلتني رهني سطوة مشاعر أحس أنها تجتاح‬
‫مسامي وتصنع الثورة‪ .‬الدهشة تعترب استنفاراً جديداً للحلم‪ ،‬واملدهش أكرث هو‬
‫بداية تكسري حاجز العزلة التي فرضتها عىل نفيس‪ ،‬ومتزيق الصحيفة التي تربطني‬
‫بفشيل تجاه اآلخر! متزيقها حتى ال يتبقّى منها غري بسمك اللهم!‪ .‬خط رجعة‬
‫جديد وإجراء احرتازي أضمن ب ِه موطأ قدم تفادياً لهزمي ٍة قد تحدث‪ ،‬فقد كنت‬
‫أم ِّهد لرضب ٍة استباقي ٍة ضدّ جميع قناعايت‪ ،‬ولكن أخىش من نريانٍ صديق ٍة تُر ِهقني‬

‫‪33‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫لوجستياً وتفقدين حليفي اإلسرتاتيجي الرئيس!‪.‬‬


‫بصمت وفري الطلقات‪ ،‬ذلك النوع من‬ ‫ٍ‬ ‫وكان ‪ ..‬فقد بدأت الحرب غري املعلنة‬
‫الصمت الذي تتوقع يف أي لحظة أن ينفجر كعبو ٍة‬ ‫ُ‬ ‫الصمت املفخّخ بالكالم!‪.‬‬
‫الرسم غري لطيف ٍة عىل‬
‫ِ‬ ‫ناسفة!‪ .‬حاولت مراراً أن أرسمها ولكن كانت عالقتي مع‬
‫كل حال‪ .‬فرسمتها بفرشاة أشعاري وتهوميايت وجنوين‪ ،‬رسمتها وعلقت صورها عىل‬
‫حوائط القصيدة!‪ .‬بالطبع مل أكن مؤدباً فتع ّمدت أن أكتبها عارية!‪ .‬الشعر أكرث‬
‫للخطوط الحمراء!‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الفنون تشهرياً وتجاوزاً‬
‫ومل أكن صادقاً يف الكثري‪« .‬أعذب الشع ِر أكذبهُ »‪.‬‬
‫أعشق جسدها‪ ،‬الياسمينة التي توضأ من شعرِها‬ ‫ُ‬ ‫أنثى تلك اللوحات التي كنت‬
‫بالناس صالة العطر‪ .‬أ ُمذنِ ٌب أنا إذا عمداً ركعت؟‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫صوت املغني وذهب ليصيل‬
‫حلم ورؤية!‪.‬‬ ‫صورها يل شيطاين ذات ٍ‬
‫وقال يا بحر ‪..‬‬
‫ُ‬
‫فيسأل العطر!!‪:‬‬ ‫غريب الشعر»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫يرفل يف مأهولِ‬
‫«يا نه ٌر ُ‬
‫«يا أيها املأل أفتوين يف زهري»‪.‬‬
‫إحسان التي عشقتها وتركتني ال أمتلك إحصائية أمينة بعدد الرشايني املتفجرة‪،‬‬
‫وتلك التي تسبح فيها كرويات العشق الحمراء‪ ،‬إحسان املدخل العبثي الذي‬
‫ُ‬
‫البعث خدع ٌة ماهر ٌة يصدّ قها‬ ‫أخرجني من غيبوبتي وجعلني أسأل‪« :‬كم لبثنا؟؟»‪.‬‬
‫حرب صغري ٌة يش ّنها العشاق عىل بعضهم! يتبادلون فيها‬ ‫املوت!‪ .‬أما الحب فهو ٌ‬
‫الطعنات والجراح والدموع والبكاء!‪.‬‬
‫يتوهَّمون النرص وهم أقرب ما يكونون إىل الهزمية!‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫كنت يف حال ِة حرب!‪.‬‬


‫الحب هدن ٌة بني الحرب والسالم‪ ،‬مل أكن يف حال ِة حب‪ .‬بل ُ‬ ‫ُ‬
‫الحب نكذب عىل أنفسنا لنكون أكرث صدقاً مع من نحبهم‪ .‬أما أنا فقد كذبت‬ ‫يف ِ‬
‫عىل الخيال وزيّفت الحقائق فكانت هزميتي هي انتصاري‪ ،‬حبيبتي كانت مدينة‬
‫افرتاضية مل تسمع بها الخرائط‪ ،‬ولكنها غافلت الجغرافيا وأعلنت وجودها يف عاملي‪.‬‬
‫العم إحسان يريد أن يضمها لجمهوريت ِه ويجعلها العاصمة!‪.‬‬
‫وأنا أريد أن أثبت نسبها إ ّيل‪ ،‬أريد أن أغ ُّش يف الحامض النووي وأثبت علمياً أن‬
‫إحسان مدين ًة كان يسكنها أجدادي!!!‪.‬‬
‫تلك املحبوبة التي كانت ال تعلم أننا أعددنا الجيوش إلسقاطها ودكَّ حصونها‬
‫ووضعها تحت االنتداب العاطفي!‪ .‬وال تدري بأننا نخطط لجعلها مستعمرة ال‬
‫تغيب عنها شمس القُبل!‪.‬‬
‫إحسان هذه املدينة التي مل تكتشف بعد!‪.‬‬
‫املدينة التي نجهل شوارعها وأحياءها وحدائقها ومناخها وسكانها وحكامها‬
‫وأسواقها!‪ ،‬ولكننا نُرشِّ ح أنفسنا لنفوز يف جميعِ دوائرها االنتخابية!‪ .‬وهكذا ولد‬
‫الحب يف قلبي بطعم ِه الغريب وشكل ِه املُريب ولون ِه العجيب‪!..‬‬
‫الحب من ٍ‬
‫طرف ثالث!‪.‬‬ ‫ُ‬
‫تعلمت منهُ كيف تولد األساطري وتصنع الخرافة‪ .‬فبنيت كعبتي وحدي وكنت‬
‫أطمع يف إبعاد املُصلني عنها!‪ .‬كنت أخىش أن يتكالب عليها رعاع الحجاج!‪.‬‬
‫بعنف وقسو ٍة ‪ ..‬باشتهاء‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫{وأبابيل} أحزاين ترجمني‬
‫فقط لو تطل مرة ‪ ..‬مرة يف العمر‪.‬‬
‫نلف وندور‬‫وهكذا هم نحن‪ ،‬منارس رومانسيتنا املدهشة‪ ،‬نراوغ ونُلولِب‪ّ ..‬‬

‫‪35‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ونُقدِّ س أكاذيبنا ونرفض أن نُع ّريها‪ ،‬ونصنع حياة من ال حياة‪ ،‬ونتوهم أن االنتحار‬
‫من أجلِ القضي ِة يُحييها ويجلب لها النرص‪ ،‬ولكن ال!!‪ .‬يف هذه األرايض املتعبة‬
‫الساسة ينفخون يف { ِقرب} الكالم الرخيص فندمي أكُفنا تصفيقاً لهم!‪ .‬يرسقوننا‬
‫باسم الثورة واإلصالح‪ ،‬وال منلك إال أن نصفق لهم!‪ .‬يتمدّ ُد جزر {األنا} كنبت ٍة‬
‫وتصب يف بح ِر {هُم}!‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫طُفيلي ٍة‪،‬‬
‫فنظل بحري ًة تناساها املطر وهجرتها األسامك‪.‬‬
‫أما {نحن}‪ُ ..‬‬
‫ترسق من أنوفنا األكسجني‪ ،‬وترتكنا نستمتع بال حياة‪ ،‬وتوحدنا‪.‬‬ ‫معادل ٌة حمقاء ُ‬
‫املوت وحد ُه هو الذي و ّحدنا‪ ،‬كلنا سواسي ًة يف مقابر األحزان‪ ،‬اللون األبيض يكفِّن‬‫ُ‬
‫أحالمنا مهام اختلفت ألواننا! أنا‪ ..‬والعم إحسان‪ ،‬ونارص اليامين‪ ،‬وحسن ضالل‪،‬‬
‫وموالنا بيرت الجنويب املسلم وابن قبيلة الدينكا‪ ،‬ذلك الرجل الذي يعرف عن اإلسالم‬
‫أكرث مام يعرفهُ الكثري من العلامء الذين يطلون علينا من شاشات النفاق ومنابر‬
‫املساجد‪ .‬بيرت بوسامت ِه وطول ِه الفارع كان نخلة استوائية مثمرة ومستودع إسالمي‬
‫عميق‪ .‬كان كثري ما يُسدي إ ّيل النصائح والعظات بطريقت ِه الفريدة‪ ،‬يأيت إلينا‬
‫ممتطياً دراجتهُ الهوائية من منزل ِه يف حي العباسية القريب‪ ،‬ويشعل مجلسنا‬
‫حديثاً وحكاوى‪ .‬كان يشتهر بتفسري القرآن بلون ّية ممتعة وسهلة الهضم‪ ،‬فأصبح‬
‫فاكهة املجلس الذي يتمكن من السري بسهول ٍة يف حقول اإلبر الفكرية وألغام‬
‫املسائل الدينية الشائكة‪ ،‬لدرجة أن حسن ضالل كان يطلق علي ِه {بِيرت ريض الله‬
‫عنه} ليس كصف ٍة ترشيفي ٍة وحسب‪ ،‬إكراماً لدور ِه يف إثراء أفكارنا بسهل ِه املمتنع‪،‬‬
‫ولكن كان حسن ضالل ال يجيد شيئاً أكرث من التهكم والسخرية والنفاق‪ .‬وكنا نعلم‬
‫هذه الحقيقة جيداً‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫أما العم إحسان فقد كان يردّد دامئاً مقولته الشهرية‪« :‬ال يفتأ وبِيرت يف املوردة»‪.‬‬
‫كان يأتيك خفيفاً لطيفا‪ ً،‬ويذهب منك شفيفاً وريفا‪ ،‬يصنع لهُ مداخالً بقلبك‪،‬‬
‫ويرشع كل النوافذ للحب واإلنسانية‪ .‬ورغم اختالف املذاهب واألفكار واملعتقدات‪،‬‬
‫كنت أحبهُ ألنهُ لقّنني درويس الوطنية األوىل‪ ،‬وساعدين يف محو أميتي الدينية‬ ‫ُ‬
‫وجعلني أفهم أن النخلة ميكن أن تثمر {باباي} وجوز الهند قد يطرح عنباً‪ ،‬طبعاً‬
‫إذا أحسنا سقيته من نبعِ تسامحنا ومعرفته الجيدة!‪ .‬فقد كان بيرت يطل مثل كوة‬
‫ضوء وفنارة تعيد قواريب الشاردة إىل املرىف‪ ،‬وكان يرضعني من ِمعزة إميانه حتى‬
‫ببصيص إميانٍ كان يطل أحياناً يف أفعايل‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أرتوي‪ .‬نعم أحبهُ ‪ ،‬أحبهُ وهو الذي حقنني‬
‫وإن كان حميد الفعل هو مامرسة وحق أكسبتهُ لنا سودانيتنا وهويتنا {القدمية}‬
‫وأرضنا وطيبتنا تلك املاركة املسجلة باسمنا كام نعتقد‪ ،‬فنحن منتلك اعتقادا تاريخيا‬
‫بأن الطيبة هي ماركة سودانية مس ّجلة‪ ،‬عىل الرغم من أنها طيبة ال تخلو من‬
‫عبط وسذاج ٍة خصوصاً عندما تقرتن باألخطاء الفادحة التي نرتكبها لدواعي طيبة‬ ‫ٍ‬
‫األصل‪ .‬ال يكفي أن نحب اآلخر‪ ،‬ولكن ينبغي علينا أن نجربه عىل احرتامنا‪ ،‬وبعدها‬
‫فلرندّد ما شئنا من االعتقادات‪ .‬إليكم األمر كام تخ ّيلته ال كام حدث‪.‬‬
‫نهر النيل تلك املعجزة اإللهية‪ ،‬نهر النيل سليل الفراديس كام تغني به الفنان‬
‫الراحل عثامن حسني ‪».‬أنت يا نيل سليل الفراديس»‪ .‬نهر النيل تلك األسطورة‬
‫التي ال متوت‪ ،‬واألنشودة التي مل تتعب شفاهنا وال حناجرنا من ترديدها‪ ،‬بعنفوان ِه‬
‫وصولجان ِه وشطآن ِه‪« ،‬أنت يا نيل سليل الفراديس»‪ .‬أتحسس أوراقي عندما أحن‬
‫إليه‪ ،‬ألنني أعرف أن القصائد تكمن عيل مقرب ٍة من موجه‪ ،‬يجعلني أبيك كام‬
‫ينبغي‪ ،‬وكذلك أفرح حتى تطهرين الدموع املعلقة عىل جرس الغياب‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫فرط‬‫النيل الهوية‪ ،‬النيل القضية‪ ،‬النيل الذي يرمتي عىل صدر املساء مرتنّحاً من ِ‬
‫مثالته‪ ،‬ليصدح العمالق محمد وردي‪:‬‬
‫«وشفت فيه النيل بيلمع يف الظالم‬
‫زي سيف مجوهر بالنجوم من غري نظام»‪.‬‬
‫النيل الذي ثقلت موازيني دواوين الشعر وما أوفتهُ حقهُ ‪ ،‬ومتايلت يف حرضت ِه‬
‫القصائد ومل يرت ِو من الغناء‪ .‬النيل الذي صنعنا من صورت ِه املأهولة أنصاف أحالمنا‪،‬‬
‫ومل تنافقنا أمواجهُ ومل تغشّ نا ضفافه‪ ،‬ومل يغري مسارهُ‪ ،‬ومل تجف عروقهُ وهو‬
‫يعرب الصحراء ويهدي العامل مرصا!‪ .‬هذه املساحة الوجدانية الوريفة امللهمة الرثية‬
‫هي التي أغرت الكثريين من األشقاء باإلقام ِة يف السودان‪ .‬حسب اعتقادي‪ .‬يف‬
‫وألسباب مختلفة قد‬
‫ٍ‬ ‫سنوات غابرة كان طريق الحج مير بالسودان جيئ ًة وذهاباً‪.‬‬‫ٍ‬
‫تتعلق بطيب املكان يف ذلك الوقت‪ ،‬درج بعض الحجاج عيل اإلقامة عىل أرض‬
‫كمجموعات الحجيج من كافة دول غرب إفريقيا‪ .‬وكذلك الهنود الذين‬ ‫ِ‬ ‫السودان‪،‬‬
‫كانوا يأتون بغرض التجارة من أراضيهم البعيدة‪ ،‬واألحباش واليامنة كام يُطلق‬
‫عليهم يف السودان‪ .‬فحدث أن استقر والد نارص اليامين ـ قبل سنوات عديدة ـ يف‬
‫السودان وطاب له املقام‪ ،‬فنشأ نارص في ِه وتعلم وتزوج‪ ،‬كفعل إذاب ٍة واندماج‪.‬‬
‫كفعل انتامء ال رفض‪ ،‬انصهار ال تدوير وإعادة تصنيع‪ .‬ليستفيد النسيج االجتامعي‬
‫من هذا التالقح املبهر‪ ،‬الذي كان واضحاً بجالء يف العديد من املدن السودانية‬
‫وقت قريب‪.‬‬‫وأريافها حتى ٍ‬
‫عمل نارص بالتجارة حرفة والدهُ‪ .‬وأذكر بفرحٍ حديث جديت وهي تقول ملن طلب‬
‫منها مبلغا من املال ال متلكه‪:‬‬

‫‪38‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«أبوي اليامين والال البنك العثامين؟»‪.‬‬


‫ومعروف عن اليامنية حرفية ومهنية عالية يف مجال التجارة وشطارة يحسدهم‬ ‫ٌ‬
‫عليها بقية التجار أينام حلوا‪ .‬فكانت لنارص مع حسن ضالل مواقف طريفة‪ ،‬فهو‬
‫الوحيد الذي كان يستطيع أن يقرتض منه‪ ،‬مع أنه يعلم متام العلم أن حسن ضالل‬
‫رجل ال يفي بكلمت ِه ولو تعلّق بأستار الكعبة مقسامً‪ .‬ولكنهُ كان ذا طُرفة حلو‬
‫اللسان وقليل اإلحسان‪ ،‬لهُ مع إدمان الخمور حكاوي وبالوي ال تحىص وال تعد‪.‬‬
‫فهذا السكّري العربيد الذي يرتاد بيوت الخمور البلدية وأوكار الرذيلة‪ ،‬كانت لهُ‬
‫خرب ًة كبرية يف {البساط األحمر} وحياة الليل واملجون‪ .‬كان مي ِّتعك ببديه ٍة حارضة‪،‬‬
‫ويضحكك ببذاء ِة لسان ِه‪ ،‬ومواقف ِه مع بائعات الهوى والبيوت املفتوحة‪ ،‬وكان قلام‬
‫ِ‬
‫{ببيوت األحرار}!‪ .‬هذا الرجل املسخوط قليل الحياء الذي كان ال‬ ‫يدخل ما يعرف‬
‫يتو ّرع عن الحديث يف أكرث املواضيع إثار ًة للخجل‪ ،‬ويروي النكات الخليعة بحرف ّية‬
‫بنت ليل‪ ،‬ويف النهاية يردد عبارتهُ الشهرية‪« :‬الدنيا حلوة»‪ .‬ومييض بال أدىن اكرتاث‪.‬‬
‫كان إنسانا دهريّا يستمتع بتفاصيل الزمن‪ ،‬ويح ّرك جنود استطالع ِه من أجل‬
‫التامس أسالكاً شائكة‪ ،‬ويكتب‬
‫َ‬ ‫متشيط املناطق املوبوء ِة بالحزن!‪ .‬يزرع مناطق‬
‫تحذيراً!‪:‬‬
‫«حقول ابتسامات‪ ،‬ممنوع مرور الدموع»‪.‬‬
‫جيوش ِه إجبارياً ويرفع أعالم االبتسامة‪ ،‬ويحلم بإمرباطورية من الفرح‪.‬‬
‫يُج ّندك يف ِ‬
‫هذه ال ّنزعة االستعامرية الخرضاء‪ ،‬كانت تزهر وتثمر ومتطر‪ ،‬تصدح وتغني‪»:‬أيي‬
‫دمعة حزن ال» وتضامنا معاً ورصخنا‪« :‬ال»‪ .‬وبايعنا ُه جميعاً‪ .‬ال‪ ،‬وبشكلٍ حاسم‪.‬‬
‫فعيل هذه الدنيا {الرصاصة}‪ ،‬البقاء لألضحك!‪ .‬فالحزنُ حتى وإن كان نبيالً ال‬

‫‪39‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫يعرتف بالغابات‪ ،‬وال يفهم منطق السنابل!‪.‬‬


‫وجدت حسن ضالل يف صباح ذلك اليوم الساخن‪ ،‬كان يرتدي جلباباً متسخاً‪،‬‬
‫وكان يحمل يف يده إناء يستخدم لتقديم ماء الرشب‪ ،‬وكانت تفوح منه رائحة‬
‫الليلة السابقة‪ .‬انحنى حسن ضالل ليك يصلح حذاءه املنزيل القديم‪ ،‬كان يشتم‬
‫ويلعن بطبيعة الحال‪ ،‬ومع ذلك مل تفارقه االبتسامة الساخرة‪ .‬بدا أنه كان يقصد‬
‫دكان نارص اليامين‪ .‬ال أشك أبداً أن األخري عندما أحس مبقدم ِه غري امليمون‪ ،‬ال بد‬
‫أنه قد قرأ املعوذتني سبع مرات عىل األقل‪ .‬كان هذا ما يخشاه وقد حدث للتو‪.‬‬
‫ازدادت ابتسامة ضالل اتساعاً بطريق ٍة تجعل نارص اليامين يشعر بالخطر الذي‬
‫يتهدّ د متجره‪ ،‬ومل يخب ظنه أبداً‪ ،‬عندما خاطبه حسن متودّداً والنفاق با ٍد عىل‬
‫مح ّياه‪:‬‬
‫«عيل اليمني انت أرجل زول يف البلد امللعونة دي»‪.‬‬
‫«يا ساتر!!‪ ،‬أصبحنا وأصبح امللك لله‪ ،‬خري يا ضالل؟»‪.‬‬
‫«والله يا سيد البلد أنا يل يومني ما أكلت‪ ،‬وجيت قاصدك بس عشان تديني‬
‫شوية موية فول‪ ،‬الله يجزيك خري»‪.‬‬
‫«موية فول بس يا مجرم؟ أوعى تقول عاوز معاها قروش‪ ،‬أنا راح أسلمك‬
‫البوليس»‪.‬‬
‫«الال قروش شنو يا راجل يا طيب‪ ،‬أنا آخر الشهر ده بسلمك قروشك عيل داير‬
‫املليم‪ ،‬أبرش بالخري»‪.‬‬
‫انشغل التاجر بتذويد املوقد الحديدي الذي يضع عليه قدر الفول بالحطب‪،‬‬
‫ولكنه أصغى متاماً عندما سمع ضالل يقول له بطريق ٍة مرسحي ٍة ليضمن أكرب قدر‬

‫‪40‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫من االنتباه‪:‬‬
‫«إن شاء الله تكون سمعت األخبار الجديدة؟»‪ .‬ه ّز نارص رأسه متسائالً‪:‬‬
‫«نص عمرك ضايع يا سيد البلد‪ ،‬قالوا ‪. »...‬‬
‫وكانت الحكاية يف غاية التشويق‪ ،‬ومل يجد نارص بدّ اً من تصديقها‪ ،‬ويف الواقع مل‬
‫تكن سوى كذبة جديدة‪ ،‬ابتكرها املاكر إلغواء الرجل وحثه إلقراضه بال أدىن تردّد‪.‬‬
‫الدنيا كلها تعلم بأن هذا املاكر كان عاطالً عن العمل‪ ،‬وحتي نارص اليامين نفسه‪،‬‬
‫ولكنه كان يقرتض من صاحب الدكان والجزار وبائع التسايل وبائعة الخمر‪ ،‬عىل‬
‫أن يرد املال نهاية الشهر‪ ،‬ولكن متيض الشهور الطوال بال فائدة يجنيها هؤالء إال‬
‫الندم‪ .‬وال أدري كيف يتمكن من إقناع كل هؤالء الحمقى‪ .‬املدهش يف األمر أنه‬
‫متكن من الحصول عىل فول وقطعة جنب وخمسة أرغفة وزيت سمسم العصارة‬
‫الطازج‪ .‬وبعد أن ابتعد خطوتني عن الدكان مل ينس أن يشتم نارص وهو يشري إليه‬
‫إشارة بذيئة قائالً‪:‬‬
‫«الله يحرقكم عامل حرامية مقاطيع جايني من آخر الدنيا‪ ،‬اليمن ضياع زمن!!»‪.‬‬
‫السباب فقط هو الذي فعل‪.‬‬ ‫بالتأكيد مل يستطع حذاء التاجر الغاضب ال ّنيل منه‪ُ ،‬‬

‫‪41‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫‪42‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الفصل الخامس‬
‫تضيق‬
‫ُ‬ ‫بكثيف أحزان ِه‪ ،‬ورصاعات ِه وآهات ِه يبقى املساحة األكرب التي‬
‫ِ‬ ‫السودان‬
‫بنا‪ ،‬توسعنا ركالً تصالحنا معهُ ‪ ،‬وتعتذر منا بقسو ٍة ونتقبل أسفها بال مربّر مقنع‪.‬‬
‫لحلم‬
‫قدم ٍ‬‫السودان الذي يربطنا مبليون حبل مربع‪ ،‬ومع ذلك ال نجد في ِه موطأ ٍ‬
‫حالل‪ ،‬وال نعلم حتى من هو الشخص الذي أصدر مرسوماً بتحريم األحالم‪ .‬فقط‬
‫هي الشعوب التي يحييها املوت‪ ،‬أما الحكام فيحييهم ظلمهم‪ ،‬نذكرهم كلام‬
‫أوجعنا بكاء أطفالنا الجوعى ونسبهم ونلعنهم‪ ،‬نذكرهم كلام فشلنا يف الحصولِ‬
‫عىل جرعة دواء ونسبهم ونلعنهم‪ ،‬نذكرهم كلام ارتعشت أوصالنا برداً وكان غطاؤنا‬
‫لرب السامء _ ال ليشء إال _ لنسبهم ونلعنهم‪ ،‬أليس‬ ‫ثوب السامء‪ ،‬فرنفع أكُفنا ِ‬
‫هذا تخليداً لذكراهم الغالية؟‪ .‬الدموع تبقى يف الذاكر ِة أكرث من الفرح الشحيح‪.‬‬
‫التاريخ دامئاً يحتفل بالحزن وال يحصيِ لنا إال عدد املذابحِ التي حصدت رؤوس‬
‫البرش‪ ،‬وال يذكر إال مواقع املعارك والحروب ولكنهُ يتجاهل أعياد ميالد األنهار!‪،‬‬
‫وحتى الجغرافيا تنحا ُز أيضاً إىل املوت وال تشري إال إىل أماكن املقابر الجامعية‬
‫ومناطق املجاعات واآلفات واألوبئة‪ .‬انتصاراتنا وانكساراتنا كلها عىل حدٍّ سواء‬
‫موقّع ٌة بالدماء‪.‬‬
‫ومل نقل أبداً أننا يف بل ٍد يُعاين ليك يضحك‪ ،‬فنح ُن نُنافق الفرح ونضحك مجربين‪،‬‬

‫‪43‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ترقيع ثياب النسيج االجتامعي‬ ‫َ‬ ‫نضحك عىل أنفسنا حيث ال منلكُ تغيرياً‪ .‬نحاول‬
‫مغلوب عىل أمره‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بائس‬
‫شعب ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يك ال يهرتئ‪ ،‬نزو ُر بعضنا ونرسق األمل مبهني ِة‬
‫ِ‬
‫جنبات‬ ‫رسب يف‬ ‫تجمعنا األفراح وتوحدنا األتراح ويطربنا ُحداء القوافل وهي تت ّ‬
‫تصنع الواحات وتخلق من الرمال خلية نحل لتجعل من شه ِد‬ ‫ائط والصحاري ُ‬ ‫الخر ِ‬
‫التواصلِ وجب ًة اجتامعية تُنسينا وخذ اإلبر وآالم الرحيل‪ .‬السوداين شديد األناقة‬
‫يف اجتامعيات ِه ال يحتاج إىل ربط ِة عنق أو حذا ٍء إيطايل ليك يبدو وسيامً‪ ،‬أناقتهُ‬
‫تُعبرِّ عنها البساطة‪ ،‬وتحتويها الرحابة‪ ،‬ذاك النوع من األريحي ِة الذي يُو ِّحد القبائل‬
‫ويلغي الفوارق ويزيل الطبقات ويختزل جميع فصائل الدم يف فصيل ٍة واحدة‪.‬‬
‫{أوو سوداين}!‪ .‬وكام نُنافق الفرح كذلك نقيم مهرجاناً للحزن وغري ِه للموت‪ .‬كمن‬
‫ببعث جديد‪ ،‬فمن غرينا يحرتم املوت؟ ومن غرينا يُهدي باقة ورد إىل عزرائيل‬ ‫يحلم ٍ‬
‫؟ويُوقِّع عيل البطاق ِة مع حبي ‪ ..‬الحياة‪ .‬نفرح ليك نهزم املأساة‪ ،‬ونبتسم حتي‬
‫متوت املعاناة‪ ،‬نتواصل فنصريُ أرس ًة واحدة‪ ،‬لتستدعينا زغرود َة واحدة توزِّع رقاع‬ ‫ُ‬
‫الدعوة للجميع‪ ،‬مجرد زغرودة ترسل بطاقاتها لجميعِ األحياء القريب ِة والبعيدة‬
‫بصوت‬ ‫ٍ‬ ‫فيستعد الجميع لالحتفال وترتفع أصوات «الدالليك»‪ ،‬وتصدح املغنية‬
‫يقه ُر الحزن املقيم‪.‬‬
‫«الليلة ساير ‪ ..‬يل بت القبايل ‪ ..‬ال ِب ْندُ ورا ليه»‬
‫نُغني لنشحن الفضا ِء بالفرح‪ ،‬ونغني ليك نحيا‪ .‬يصبح الغناء الشعبي هو املرآة‬
‫التي تهبنا صورنا الحقيقية العالقة يف الحياة‪ ،‬أو التي نحلم بها‪ ،‬ويف الوقت نفسه‬
‫ماض لن يعود‪ .‬لن تفلح كل العمليات التجميلية التي‬ ‫نحن مازلنا نتباىك عىل ٍ‬
‫نجريها ليك نر ّمم زجاجة بعد تحطمها‪ .‬من يستطيع إقناعنا بهذه الحقيقة؟‪ .‬سنظل‬

‫‪44‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫نغني ونطرب ونتناول هذه العقاقري املنشطة لألمل حتى نستمر يف الحلم‪ .‬يا لها‬
‫البؤس وساد ٍة لينة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫مغلوب عىل أمرها تصنع من‬ ‫ٌ‬ ‫شعوب‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫أضغاث أحالم!‪.‬‬ ‫من‬
‫وتتناول لفافاتها املخدرة لتهرب من واقعٍ مرير‪.‬‬
‫كنا مجتمعني يف منزلِ العم إحسان‪ ،‬أنا وموالنا بِيرت ونارص اليامين نتجاذب‬
‫فيدخل علينا حسن ضالل مرتنحاً من شدة السكر بدون أن يلقي‬ ‫ُ‬ ‫أطراف الحديث‪،‬‬
‫علينا التحية قال‪:‬‬
‫«الليلة يف حفلة يف «فرِيق ريد»‪ ،‬نقوم منيش يا جامعة نه ِّيص شوية»!‪.‬‬
‫فيقاطعهُ نارص اليامين مؤ ّمناً‪:‬‬
‫«إنتوا دي مش مناسبة عرس ولد أستاذ محمد الكبري‪ ،‬والال أنا غلطان؟»‪.‬‬
‫«أيوا فعالً‪ ،‬والله رسلوا لينا كروت الدعوة قبل يومني»‪.‬‬
‫يرد علي ِه العم إحسان ويضيف متسائالً‪:‬‬
‫«لكن املناسبة مش بكرة؟»‪.‬‬
‫«أيوه‪ ،‬لكن الليلة ِحنة العريس والدنيا حلوة!»‪.‬‬
‫وافقت يف سعادة وقلت حاسامً أمري‪:‬‬
‫«خالص أنا مبيش معاك‪ ،‬لكن الحجاج ديل ميشوا بكرة مرة واحدة‪ ،‬نقوم منيش‬
‫يا أخوي البهجة ما تفوتنا‪ ،‬عيل قولك الدنيا حلوة‪ ،‬أها معاكم سالم!»‪ .‬وبعدها‬
‫انرصفت‪.‬‬
‫تفيأت روحانا ظالل االرتياح ونحن يف طريقنا إىل املنزل الذي كان يقام فيه‬
‫الحفل‪ ،‬ومل أجد فرصة أنسب من هذه يك ال أرفض كأساً من حسن ضالل‪ ،‬فكان‬
‫نصيبي زجاجة كاملة!‪ ،‬زجاج ٌة كاملة كانت كافية لتحريك ميليشيا الجنس بداخيل!‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫تسللنا خفي ًة من منزل مستورة بائعة الخمر‪ ،‬قبل أن تكتشف أمرنا‪ .‬فلم ِ‬
‫يعطها‬
‫حسن ضالل مالها‪ ،‬برغم أين دفعت مساهمتي كاملة‪ ،‬يبدو أن اللعني وضع كل‬
‫املال يف جيبه ومل يكرتث ألمرها وأمرين بالخروج برسع ٍة‪ ،‬مستغالً كرثة الزبائن يف‬
‫هذا اليوم‪ .‬زجاج ٌة كاملة نجحت يف إشعال فوىض الشهوة الرخيصة‪ .‬لذا بدت يل‬
‫مؤخر ِة املرأة التي كانت تسبقنا بخطوات يف ذلك الزقاق الضيق‪ ،‬واملظلم نسبياً‪،‬‬
‫أكرث جاذبي ًة وسحراً‪ ،‬فحاولت االقرتاب منها أكرث رمبا ألرتكب معها حادث سري!‪.‬‬
‫الرقيب االجتامعي املتز ّمت‪ ،‬وال تتقيد بقوانني‬
‫ِ‬ ‫مخالف ٌة مروري ٌة غري عابئة برشط ِة‬
‫الطُ ُرق!‪ .‬وعند املنعطف الضيق الذي يؤدي إىل الزقاق األكرث ضيقاً‪ ،‬وبإرصار زجاج ِة‬
‫خم ٍر كاملة‪ ،‬أظنني ارتكبت معها حادثاً ال أخالقياً!‪ .‬ويف الحقيق ِة مل تؤملني الصفعة‬
‫السباب البذيء الذي أطلقتهُ عيل هذ ِه املرأة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رصاص‬ ‫التي تلقيتها‪ ،‬أكرث من‬
‫فابتعدت ال ألوِي عىل يشء مخافة أن تصل شتامئها إيل أبينا آدم وأمنا حواء!‪ .‬ومل‬
‫ينقذين منها إال حسن ضالل وهو ينفج ُر يف وجهها كعبوة ناسفة‪:‬‬
‫«مالك؟؟ الغريب عليك شنو؟ يا الفعلتي ويا الرتكتي‪ ،‬نسيتي ماضيك؟ يا بنت‬
‫ال ‪.»...‬‬
‫ِ‬
‫أصوات‬ ‫كان يشتمها حتي أوصلها بيت الحفل‪ ،‬واختلط حابل السباب بنابِل‬
‫املغنيات وضجيج التصفيق‪ ،‬وال أدري كيف متكنت هذه املرأة املسكين ِة من‬
‫أشفقت عليها من طولِ لسان ِه الذي كان يجلدُ ب ِه السكارى‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الفكاك منهُ ‪ ،‬حتى إنني‬
‫وبائعات الخم ِر والهوى ومرتادي أوكار الرذيلة دون أن يتمكن أحد من ردعه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كنت أدري بأنهُ ـ رمبا ـ سريوي لها ـ رواية جيشا رائعة الكاتب األمرييك آرثر‬
‫غولدن وبطلتها سايوري ـ عىل طريقت ِه الخاصة‪ .‬ذاكراً أصلها وفصلها‪ .‬تلك الفتاة‬

‫‪46‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫التي باعها والدها صياد السمك الفقري وهي مل تبلغ التاسع َة من العم ِر بعد إىل‬
‫بيت دعار ٍة يف منطقة كيوتو‪ ،‬حتى أصبحت بعد فرت ِة ليست طويلة‪ ،‬بنت الليل‬ ‫ِ‬
‫األكرثَ شهر ًة يف املدينة!‪.‬‬
‫فحاولت أن أتناىس املوقف السخيف‪ ،‬وأنسجم مع فوىض الزمكانية املربكة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫بقو ِة دفعٍ من زجاجة ِخم ٍر كاملة!!‪ .‬وكان العامل يدو ُر ويدو ُر‪ ،‬ويبدو أجمل‬
‫ومحتمل‪ .‬يا للخمر!‪.‬‬
‫عرش من‬ ‫يجلس عىل ٍ‬ ‫ُ‬ ‫أول ما وقعت علي ِه عيني‪ ،‬كان مشهد العريس وهو‬
‫يتوسط «عنقريب الجرتق» امللون باألحم ِر واألسود‪ ،‬واملزخرف‬ ‫األلوان الصارخة‪ّ ،‬‬
‫باألشكالِ الهندسي ِة وجري ِد النخل‪ ،‬وعىل رأس ِه هالل من الذهب الخالص‪ ،‬وعىل‬
‫رأس ِه «الرضير ِة وعىل يد ِه الحريرة»‪ .‬وعىل منضد ٍة أمام ِه وضع طبق الحناء وصينية‬
‫يجلس عىل ميين ِه الوزير رافعاً يدي ِه إيل الرجال ُمبشرِّ اً يف حلب ِة‬
‫ُ‬ ‫الجرتق‪ ،‬فيام كان‬
‫الرقص‪ ،‬بينام تتقافز الزغاريد وتعرب الفضاء معلنة عن بداي ِة كرنفال الفرح الباذخ‪.‬‬
‫فيحارصين مقطع املوسيقار محمد األمني وهو يصدح «وتنية حلوة للشبال»‬
‫يف رائعت ِه حروف اسمك‪ .‬كنت أشاهد نخالت بالدي وهن يتاميلن كلام عربهن‬
‫إعصار البهجة‪ ،‬وكلام لطمت شواطئهن أمواج الطرب‪ ،‬فتجدهن ميارسن االحتفال‬
‫بعذوب ٍة‪ ،‬وميزان اللحظة يتأرجح بني حميمية النشوة ودفء االنفعال!‪ .‬الزغرود ُة‬
‫السودانية لها طعمها الخاص‪ ،‬تأتيكَ دسم ًة وخالية من الكوليسرتول!‪ ،‬تتناغم‬
‫موسيقياً وتصيبك بذاك النوع من االرتعاش‪ .‬االرتعاش الذي يستأجر أوصالك إن مل‬
‫يكن ميلكها كلي ًة‪ ،‬ويُعدِّ ل رسعة محركات أنفاسك‪ ،‬ويعلن حالة الطوارئ يف دمك‪،‬‬
‫حتى تتصادم كروية دم عاشقة مع نجمة شوق منرية‪ ،‬يف منطق ِة نزاعٍ وجداين!‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫فتستيقظ جميع الجينات الرجولية من بياتها الشتوي‪ ،‬وتصحى الفروسية‪ ،‬فيسارع‬


‫الرجال إىل حلقة الرقص خالعني ثيابهم للتبارز بالسياط‪ .‬فيقوم العريس أو وزير ُه‬
‫بجلد املتبارزين حتي يدمي ظهورهم من شدة الجلد‪ .‬كل هذا وسط غابة زغاريد‬
‫النسوة وضجيج املغنيات‪.‬‬
‫«برتيد اللطام ‪ ..‬أسد الكداد ال ّزام ‪ ..‬هزيت البلد من اليمن للشام ‪ ..‬سيفك‬
‫لل ِفقَر قالم»‬
‫هذه األغنيات البطولية تكون مبثابة استنفار غري معلن‪ ،‬وتعبئة ليست رصيح ٍة‪،‬‬
‫تتم فيها عملية استحضار الفروسية من القلوب‪ ،‬فيشعر‬ ‫أو حالة استدعاء عاجل ُّ‬
‫الرجال بحال ٍة أقرب ما تكون إيل حال ِة فقدان وعي‪ ،‬مع االستمتاع الغريب باألمل‬
‫الذي تحدثه السياط القاسية!‪.‬‬
‫ترتكب الخطيئ َة‬
‫ُ‬ ‫زجاج ٌة كاملة من الخمر‪ ،‬وأنثى شاهقة الحسن تجلس قبالتي‬
‫مع صمتي الفادح ليرشع يف إثم الرصاخ!‪ .‬هذا الصمت الذي مل يتصالح أبداً مع‬
‫ِ‬
‫الكلامت بداخيل!!‪.‬‬ ‫أن ِني‬
‫تحمل يب طفالً غري رشعي‪ ،‬ال يؤمن بالكبت‪ ،‬وال يعرتف‬ ‫أحلم بها وهي ُ‬ ‫فقد كنت ُ‬
‫طفل يقو ُد مظاهرة ضد الفطام!‪ .‬كنت أتطلع فيها‬ ‫مبعني الحرمان من الرضاعة‪ٌ .‬‬
‫فقط دون العاملني‪ .‬هذه األنثى التي حجتها عيناي بال قداس ٍة وتركتاها منهكة‬
‫كأنفايس‪ .‬كنت أنظر إىل شفتيها اللتني تُتم ِتامن بباقي أغني ٍة قدمية حنينة!‪ .‬إين‬
‫بتحطيم جبلِ‬
‫ِ‬ ‫ألرى شفاهاً قد أينعت وحان قطافها وإين لصاحبها!‪ .‬ولن أهتم إال‬
‫الجليد الكامن ما وراء النظرات الشحيح ِة‪ .‬وكنت أغرق يف دهشتي املج ّذفة بال‬
‫إبطاء نحو ال سواحل‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫فقريباً من هذ ِه األمواج رصخ الزورق يف وج ِه التيار ونادى‪« :‬ويال ُه أين‬


‫ومأجوج قد أفسدا يف الجزير ِة‪ ،‬فتكاثر عليها جزر‬
‫َ‬ ‫يأجوج‬
‫َ‬ ‫البوصلة؟»‪ .‬رد البحر‪« :‬إن‬
‫ُحزين وخرق السفين َة!‪ ،‬خرقها ليك يُش ِق َي أهلها ويبعدين عنها‪ ،‬ومن صمتها البليغ‬
‫الذي كان يُسامرين يف الليايل الطوال‪ ،‬وهي تُرثِي أنني آهاتها بجذو ِة حرمان!»‪.‬‬
‫َ‬
‫خيول‬ ‫فأحس أنها تبعدين جغرافياً عن تضاريسها‪ ،‬ولكن الكيمياء التي ُ‬
‫تركض‬ ‫ُ‬
‫معادالتها يف دمي‪ ،‬تصرِ ُّ عىل إضافة املغنطيسية يف دوريت الدموية الكربى!‪ .‬فقريباً‬
‫منها‪ ،‬كنت أبعد وأبعد‪ ،‬عىل الرغم من تأكدي من دبيب خطواتها الحذرة‪ ،‬وهي‬
‫تتمىش عىل قفيص الصدري‪ .‬عىل أقل من مهلها‪.‬‬
‫وثاق نبضايت‪ ،‬وأنا أحاول أن‬‫كنت أراقب يف هذه األنثى التي كانت تكا ُد أن تشّ دَّ َ‬
‫أحاول أن أمحو أّم ّية صدرها؟؟‪ .‬عفواً ما أنا بقارئ!‪ .‬وال‬‫ُ‬ ‫أقرأ ما بني نهديها!‪ .‬وملاذا‬
‫حرب واقتتال وترقب‪ .‬كنت أراقبها فقط وأنا أحث برصي‬ ‫أرى سوى هدن ًة ما بني ٍ‬
‫عىل أن يرتك توقيعها ـ ممهوراً بالدم ـ أسفل صورتها املعلقة عىل إطار نظريت‪.‬‬
‫أما ما بني سطو ِر شفتيها‪ ،‬فقد كانت تربُز طالسم اللغات التي مل يعرفها العامل‬
‫متنيت أن يكون العم إحسان يف مع ِّيتي!‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫اللحظات امللهمة‪ ،‬لكم‬ ‫بعد!‪ .‬يف هذه‬
‫ويفهم الف َن أكرث مني!‪ .‬ترى هل كانت س ُتثري اهتاممه هذه‬ ‫ُ‬ ‫فالرجل بال ٍ‬
‫شك ذواقة‬ ‫ُ‬
‫األنثى اللوحة مثلام متنيت أن أكتبها؟‪.‬‬
‫تشغل فكري‪ ،‬فيام كانت عيناي مشغولتني بها أكرث من كل‬ ‫ُ‬ ‫أسئل ٌة كثري ٌة كانت‬
‫الحضور‪ .‬أما صديقي حسن ضالل فقد لعبت برأس ِه الخمر وأعتقدُ أنهُ سينام عىل‬
‫َ‬
‫السياط مطلقاً!‪ .‬أما‬ ‫ثالث ليالٍ ! ولن يغامر بظهر ِه الذي ألهبتهُ‬
‫بطن ِه عىل األقل ملدة َ‬
‫أنفض سامر القوم‪،‬‬‫أنا فلم أح ّول برصي عن الفتا ِة أبداً‪ .‬ما عاد الليل طفالً يحبو‪ّ ،‬‬

‫‪49‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫وتف ّرقت الخطوات املتعبة أيدي سبأ‪ ،‬وال يشء يبدو للعيانِ إال ذاكرة الفوىض‬
‫توقفت عند عينيها‬‫ُ‬ ‫يطل من كوم ِة رما ِد العيون املتو ِّرمة‪ .‬ولكني‬ ‫والسهر الذي ُ‬
‫ينزف دمعها يف‬ ‫وهن تل ِّوحان مودعات مثل األناملِ املطلَّة من نواف ِذ القطارات‪ُ .‬‬
‫وتحلم بالوصول‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كل املحطات‬
‫شعرت أن مث ّة صل ٍة‬
‫ُ‬ ‫وأنا عىل رسي ِر وحديت‪ ،‬كنت أتقل ُّب عيل جم ِر حرييت تائهاً‪،‬‬
‫شعرت بهذا النوع من األلفة املوحشة التي تُصيبك بالدوار‬ ‫ُ‬ ‫تربطني بهذه الفتاة‪،‬‬
‫بيت شع ٍر واح ٍد‪ ،‬وزقاقٍ‬
‫شعرت أن هاتني العينني سكنتا معي يف ِ‬ ‫ُ‬ ‫والفراغ واالمتالء‪.‬‬
‫تيقنت أن هاتني العينني رسمتهام يف أول شخبطايت يف حص ِة‬ ‫ُ‬ ‫واح ٍد‪ ،‬ومدين ٍة واحدة‪.‬‬
‫النعاس أخرياً‬
‫َ‬ ‫الرسم‪ ،‬وشهدتا أول تهوميايت وكانت بطلتا إحدى قصائدي!‪ .‬وغافلني‬
‫وأنا أتوسدها صحواً وحلامً‪ ،‬وأنتظر عىل أح ّر من الجم ِر أن ترشق الشمس ويهطل‬
‫الحلم من جديد ‪...‬‬
‫تفعل الروايات السخيفة‪.‬‬ ‫ولكن النهار يستدعي الليل والحلم معاً ‪ ...‬متاماً كام ُ‬

‫‪50‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الفصل السادس‬
‫تعلمت من حكاوى الجدات التي أحفظها وتجعلني أسافر بعيداً بعيداً‪ ،‬أن‬
‫العمل الروايئ يعترب خلطة سحرية تجمع بني ما هو متخ ّيل وما هو تلقايئ‪ ،‬تكون‬
‫فيه مصائر الشخوص تحت رحمة األحداث التي تتشكل بغت ًة‪ ،‬أو باألحرى تخضع‬
‫الشخوص ملزاجية الروايئ فتتسلّل التامثالت طائش ًة منفلت ًة أحياناً‪ ،‬ويف أحايني‬
‫أخرى هادئة ومتقوقعة يف جوف نفسي ٍة غري م ّيال ٍة لضجيجِ النصوص‪ ،‬وفوىض‬
‫انبعاثات الدواخل املكبوتة عمداً‪ ،‬بقص ِد إرضا ِء رغبات املجتمع‪ .‬وأيضاً قد تفاجئك‬
‫ِ‬
‫بثياب مدني ٍة! فال تدري‬
‫بني السطور عب ّوة تراجيدة ناسفة يفج ّرها روايئ انتحاري ٍ‬
‫تبك أم تضحك؟‪ .‬أم سرتقص كزوربا‬ ‫حيال هذا املوقف امليلودرامي املؤمل أن ىِ‬
‫وأنت ترص عىل تجاوز جميع خطوطك الحمراء‪ ،‬مفسحاً املجال لذلك الرضب من‬
‫السخرية‪ ،‬الذي يجعلك ال تتو ّرع عن الهزل يف أكرث املواقف إيالماً!‪ .‬قد ال أشري هنا‬
‫ٍ‬
‫فضاءات أكرث تصالحاً‬ ‫للكوميديا السوداء‪ ،‬ولكني بال شك أفسح املجال للتحليق يف‬
‫عم إنثناءات أمزجة الريح‪ ،‬وأطوارها املتقلبة‪ ،‬واألحوال الجوية للنصوص املعبئة‬
‫الجيش تخرب ُه بوفا ِة‬
‫ِ‬ ‫بالتضاد!‪ .‬ومبنطق ولسون أن أحدهم جاءتهُ برقية يف معسك ِر‬
‫والدت ِه فقال للضابط املسؤول‪:‬‬
‫«يجب أن أذهب يا سيدي فهذه ليست غلطتي كام ترى!»‪ .‬وعندما ُس ِمح له‬

‫‪51‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ذهب ونام مع امرأة‪ ،‬ويف الصباح ذهب لتشييع جنازة والدته!‪ .‬بكل بساطة!‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تعرجات‬ ‫إذن هذه املواقف ليست غلطتي‪ .‬وبهذا املنطق تقع املسؤولية عىل‬
‫دقيق ٍة يف بِنية النص ال يحسها القارئ وال يفرسها‪ ،‬وبالتايل ليست بالرضورة أن‬
‫تنعطف فيها بغت ًة بال نوايا مسبقة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يقصدها الراوي!‪ .‬فهي شوارع تتخطط تلقائياً‪،‬‬
‫وجميع محطاتها ليست معروفة!‪ .‬ال ت ِدر ظهرك لرا ٍو فقد تصبح بطله القادم!!‪ .‬لله‬
‫د ّر الجدات الحكاءات العظيامت‪ ،‬لقد تعلمت منهن الكثري دون أن أضطر ألحني‬
‫ظهري وأميش عىل عكاز‪.‬‬
‫فعندما ذهبت آخر نهار اليوم التايل ملنزل العم إحسان‪ ،‬مل أكن أدري بأنني‬
‫سأرتجل تخطيط الجنون يف شوارعِ القدر!‪ .‬مل أكن أعلم بأن الفانتازيا تسك ُن‬
‫مدينتي الفاضلة‪ ،‬وأن الجنون يرفع أعالمه وراياته يف جميعِ أسوارها وأبوابها‬
‫العالية!‪ .‬ألقيت عليهم التحية وأنا أمتنى أال يكونوا قد أفرغوا ب ّراد الشاي األحمر‬
‫النبيذ!‪ .‬كانوا ثالث ًة وال ينقصهم إال حسن ضالل‪ ،‬كانوا يتجاذبون أطراف الشاي‬
‫ويحتسون األحاديث بنكه ِة النعناع واأللف ِة املعتادة‪ ،‬أفسحوا يل مكاناً للجلوس‬
‫بكوب الشاي الساخن‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وحاولت أن أدخل معهم يف معرتك الكالم وأنا أستمتع‬
‫بينام هم يتسامرون بحميمي ٍة معتاد ٍة لدرج ِة الفتور‪ .‬جميلني هؤالء الناس‪ .‬قال‬
‫عم إحسان ضاحكاً وهو يستلف مقول ًة إلبراهيم الع ّبادي‪:‬‬
‫«يا حليل أم درمان القامت يب جهلها رفعت الغريب ورمت أهلها!!»‪.‬‬
‫فيتدخّل نارص ليقاطع عم إحسان باحتجاجٍ مرِح!‪:‬‬
‫«قصدك شنو يا إحسان‪ ،‬نحن نلقاها منك والال من حسن ضالل؟؟»‪.‬‬
‫فريُد علي ِه العم إحسان وهو يبتسم‪:‬‬

‫‪52‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«ال ياخ ما تزعل يا أخوي نارص اعتربها ذلّة لسان بس‪ ،‬أنا قصدت حال كل‬
‫السكان األصليني دامياً حالهم زي الزفت‪ ،‬أهو عندك الهنود الحمر سكان أمريكا‬
‫األصليني!!»‬
‫«الله مرقك يا أخوي‪ ،‬دامياً بتغلبنا يف الكالم!»‪.‬‬
‫عم بِيرت بضحكت ِه املجلجلة‪ .‬ليضيف إحسان مبرح‪« :‬أيوا والله نارص ده مننا وفينا‬
‫وأنا ما قصدته يب كالمي»‪.‬‬
‫ينتبه إىل رشودي ويردف غامزاً‪:‬‬
‫«يا ولدي مالك ساكت الليلة؟‪ ،‬ماكل سدّ الحنك؟»‪.‬‬
‫«ال والله مايف حاجة‪ ،‬لكن كالمكم عاجبني‪ ،‬وما عندي حاجه أقولها»‪.‬‬
‫مل أكن صادقاً يف هذه العبار ِة مطلقاً!!‪.‬‬
‫كنت بعيداً كل البعد عنهم هذه املرة‪ ،‬لدرجة أنني كنت أعتربهم‬ ‫أعلم أنني ُ‬‫ُ‬
‫ُمملِني للغاية‪ ،‬فام عادت تستهويني هذه األحاديث املكررة‪ .‬للمر ِة األوىل كنت‬
‫أمتنى أن ينرصف عم بِيرت ونارص حتي أنفرد ب ِه‪ .‬وكالعاد ِة يف مثلِ هذه املواقف‬
‫الوقت بطيئاً‪ ،‬حتى سمعنا أخرياً آذان املغرب فغادرا مرسعني بحمد الله‪ .‬مرت‬ ‫ُ‬ ‫م َّر‬
‫برهة من الصمت حتى استطعت إدراك قطار الكالم‪:‬‬
‫«والله يا عم إحسان أمس شفت بنت يف حفلة الحنة!!»‪.‬‬
‫«شرييا والال ديناري؟»‪ .‬قاطعني بسخرية متهكّامً‪.‬‬
‫فتجاهلت سخريتهُ وأنا أضيف‪:‬‬
‫«ال البنت دي أنا حسيت إين بعرفها من زمان‪ ،‬و‪.»..‬‬
‫«ميكن ش ّبهتها والال حاجة زي كده!»‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«ال‪ ،‬أنا متأكد إين قبل كده ما شفتها! لكن حصل بيني وبينها ِولِف عجيب!»‪.‬‬
‫أشعل سجارة رومثان وقال يل بلكن ٍة عميقة‪:‬‬
‫«والله دي حاجة غريبة!‪ ،‬خالص لو لينا قسمة نشوفها الليلة‪ ،‬أنت نايس حفلة‬
‫بعدين؟»‪.‬‬
‫أنس أبداً أنني قد ألقاها مجدداً هذه األمسية‪ ،‬فال بدَّ أن تحرض حفلة‬ ‫بالتأكيد مل َ‬
‫العرس طاملا كانت حارضة يف حفلة الحناء‪ ،‬أو هكذا اعتقدت‪ .‬وبدت يل هذه‬
‫بقلق غريب‪ .‬مل أستطع أن أحاور ُه أكرث من‬ ‫وشعرت ٍ‬
‫ُ‬ ‫الفكرة منطقية ومريحة جداً‪،‬‬
‫ذلك فقد كانت تشغلني الكثريُ من األمور‪ ،‬فاستأذنتهُ بعد ذلك الذهاب‪ ،‬بعد أن‬
‫اتفقنا أن أم َر علي ِه عقب صالة العشاء‪ ،‬فلعلني عىل موع ٍد مع القدر‪ ،‬أو كلينا ‪.!..‬‬
‫كنت يف كاملِ أناقتي هذا املساء وأنا أرتدي رسوايل الشارلستون األبيض مع‬ ‫ُ‬
‫قمييص اإلنجليزي األزرق ذي الكمني القصريين‪ ،‬وترسيحة شعري الشبابية املميزة‬
‫التي كانت مت ّيز شباب تلك األيام‪ .‬العم إحسان كان ينافس الحجاج يف شدة بياض‬
‫جلباب ِه «السكروتة وعاممت ِه الترتون شديدة البياض‪ ،‬ومركوب ِه الفارشي األنيق»‪.‬‬
‫هذا الرجل الذي ميتلكُ هيبة الشيوخ ووقار القديسني‪ ،‬فقد كان ينتمي إىل جين ٍة‬
‫مرسوق ٍة من دمايئ‪ ،‬رمبا!‪ .‬أحبهُ رغم عدائنا غري املعلن‪ ،‬ال أدري هل سيكتب الخلو َد‬
‫أبدي‬
‫لتلك القواسم املشرتكة التي توحدنا؟ أم ستتسبب تلك اللوحات يف انفصال ٍ‬
‫يشطرنا إىل نصفني؟‪ .‬ترى هل سنجتمع مثلام فعل األبيض واألزرق ومننح الدنيا‬
‫حبيب ًة اسمها مرص؟‪.‬‬
‫بيت العرس‪ ،‬ومل تنتشلني منها إال‬ ‫ناوشتني هذه األفكار ونحن يف طريقنا إىل ِ‬
‫أصوات الزغاريد والغناء الشعبي كامل الدسم‪ .‬وهناك رحبوا بنا بأريحية السوداين‬ ‫ُ‬

‫‪54‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ابن البلد‪ ،‬فهذه الطيب ُة تبقي ماركة مسجلة وعالمة للجودة أحياناً‪ ،‬الكرم الشعبي‬
‫حتامً ال يتمثّل يف قطع ِة خبز أو جرعة ماء‪ ،‬نح ُن نكر ُم ضيوفنا بالبشاشة نذبح لهم‬
‫نقطع‬
‫ُ‬ ‫خرافنا ابتساماً ونسقيهم {حبابكم عرشة} وندعوهم للدخولِ يف الوجدان‪.‬‬
‫من جلودنا ونشويها عىل جم ِر املؤانسة ونحن نحتيس الشاي األحم َر الساخن‪.‬‬
‫سألتهُ بعد تناولنا لوجبة العشاء‪:‬‬
‫«أها يا عم إحسان رأيك شنو نحرض الحفلة بعد أتعشينا؟»‪.‬‬
‫«والله يا ولدي أنا طولت من الحاجات دي‪ ،‬لكن أنا حايس إين الزم أحرض الحفلة‬
‫دي بالذات!»‪ .‬رد مقطّباً جبينه وكأنه يتوقّع أمراً عظيامً‪.‬‬
‫«خالص قوم منيش نرشب لينا حاجة!»‪.‬‬
‫«مايف مشكلة‪ ،‬اليو ُم خم ٌر وغداً أم ٌر!»‪.‬‬
‫«عىل بركة الله!!»‪.‬‬
‫فتحركنا قاصدين منزل حاجة مستورة بائعة الخمور البلدية‪ ،‬والعم إحسان يردد‬
‫يف حرسة‪:‬‬
‫«ياحليل زمن البرية أُم ج َمل!!»‪.‬‬
‫النقالب داخيل‪ ،‬بل ولسنا منلك حق‬ ‫ٍ‬ ‫وشك التحضري‬ ‫ال ميكننا الجزم بأننا كنا عىل ِ‬
‫يظل حلمنا التاريخي يف التداول السلمي للسلطة أمراً مستحيالً بكل‬ ‫االقرتاع‪ ،‬فيام ُ‬
‫املقاييس!‪ .‬كانت تحكمنا نفس الجينات الوراثية الغبية‪ ،‬ويسيط ُر علينا ذات الواقع‪،‬‬
‫فمن ميلكُ حق التغيري؟‪ .‬هذه الخطوات التي أرهقها السري يف أسفلت األنظمة‬
‫الخرقاء وما عادت تعرف إال نفس الشوارع‪ ،‬وال تحفظ ذاكرتها إال املحطات ذاتها‪،‬‬
‫الشعوب املطحونة التي‬
‫ِ‬ ‫هل تري انعدمت الخيارات؟‪ .‬لقد أصبحنا كغرينا من‬

‫‪55‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫تخلق من مترِها آلهة نسقيها من دمائنا ونرعاها‪ ،‬ولكنها تأكلنا عندما تكرب!‪ .‬جميع‬ ‫ُ‬
‫حكامنا يحلمون بأن يصريوا آلهة من تمُ و ِر هتافنا‪ .‬ينهشُ ون عظامنا ويجعلوننا‬
‫نفك ُر يف الثور ِة بعد أن نعبئ بأجسادنا املنهك ِة أحشاء املعتقالت‪ ،‬وإذا سلمنا من‬
‫لنفس اإلله الذي صنعنا ُه من مترنا لنظفر بقطع ِة‬
‫نخرج ل ُنصيل ركعت ِني ِ‬ ‫ِ‬
‫املوت جوعاً‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫للتآلف‬ ‫خبز!‪ .‬هذا هو الواقع شئنا أم أبينا‪ .‬فمن هو املسؤول عن قدرتنا العجيبة‬
‫مع املأساة؟‪ .‬من هو صاحب األيادي الخفية التي صنعت صداقتنا التاريخية مع‬
‫الحزن؟‪ .‬األحزان التي ال تبكينا تضحكنا!‪.‬‬
‫هذه هي املفارقة الوحيدة التي تضخُّ يف عروقنا األكسجني!‪ .‬إذن فلنرشب وبدالً‬
‫من أن نرصخُ ونقول‪:‬‬
‫«ملعون أبوك يا بلد»‪ .‬عيل طريقة سيد أحمد الحردلو‪ ،‬ملاذا ال نهتف‪« :‬ملعون‬
‫أبوك يا حزن؟»‪.‬‬
‫والسباب واللعنات وما زالت تعطي‪،‬‬
‫ِ‬ ‫هذه البالد الطيبة التي شبعت من الشتائم‬
‫هذه األرض التي ركلناها يف املؤخرة ومارسنا معها الجنس عنوةً‪ ،‬وحملت منا‬
‫بالحرام وما زالت تعطي بال مقابل‪ ،‬األرض التي مارسنا عليها عقوقنا الوطني‬
‫وهتفنا ضدها‪ ،‬وقلنا يف وجهها {أُ ٍف!}‪ .‬ولكنها ردت علينا مبنتهى األمومة‪:‬‬
‫«أحبكم فأنتم أبنايئ أرضعتكم من نييل بعد أن حملتكم يف أحشايئ ِ‬
‫مئات‬
‫السنني!!»‪.‬‬
‫ِ‬
‫أنصاف الليايل الباردة فنغني ونبيك‪ .‬هذه‬ ‫هذه األرض التي نتذكرها يف املنايف يف‬
‫األرض التي قبل أن متنحنا الهوية وهبتنا التاريخ‪ .‬هذه القارة الطفلة ملاذا نرتكها‬
‫تتس ِّول األبناء يف أرصف ِة املهاجر وهي الطفل ُة الودود واأل ُم الولد؟!‪ .‬إذن فلنرشب‬

‫‪56‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ونهتف ملعون أبوك يا حزن‪ .‬ارشب يا عم إحسان يف صحة الفرح‪ .‬ارشب وال‬
‫تبالِ ‪ ،‬فاليو ُم خم ٌر وغداً أم ٌر‪ .‬الخم ُر وحدها هي التي تُلغي الفوارق االجتامعية!‪.‬‬
‫الذي يثمل بالشمبانيا مثل الذي يسكر بالعرق!!‪ .‬املحصلة واحدة‪ .‬نشو ٌة وثقل يف‬
‫اللسان‪ ،‬وجنس ‪ .!..‬احتس الكأس وال تبالِ ‪ .‬لن تشعر بالفرق‪.‬‬
‫ارشب يا عم إحسان وتخ ّيل نفسك إمرباطورا وباقي العامل من رعاياك!‪ .‬ال تخش‬
‫الكأس األول‪ .‬مرارتها مخادعة‪ .‬رسعان ما تتالىش يف جب الجوف الظامئ‪.‬‬
‫عقارب الساع ِة‬ ‫ِ‬ ‫احتسينا كؤوسنا بلهف ِة الذي يتذ ّمر من تلك ِؤ الزمن ويسعى لدفعِ‬
‫أفهم‬
‫أحسست أن أصابعي تتواطؤ مع لهفتي‪ ،‬أنا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ليك ترفع معدّلها يف الركض!‪.‬‬
‫جيداً نفسية هذه األصابع!‪ .‬فهذا هو صنيعها عندما أفاجئها ُمتل ِّبس ًة بالشوق!‪.‬‬
‫نفس اليشء الذي يفعلهُ‬ ‫تفعل نفس اليشء الذي تفعلهُ الشفاه عندما ت ِح ُّن لقبل ٍة!‪ُ .‬‬
‫ُ‬
‫تحتاج ملشوار!‪ .‬أنا‬ ‫ُ‬ ‫الذراعان عندما يحلامن بعناق!‪ .‬نفس ما تفعلهُ األقدام عندما‬
‫أفهم جيداً لغ َة هذه األصابع!‪ .‬العم إحسان أيضاً كانت أصابعهُ متوترة!‪ .‬هل تراها‬ ‫ُ‬
‫تفك ُر يف لوحة؟‪ .‬فهي يف الفرت ِة األخرية انشغلت عن األلوان وما عادت تتخضّ ُب‬
‫اجات الهوائية‪،‬‬ ‫ات الدر ِ‬ ‫بالشحوم واملواد الالصق ِة التي يستعملها يف ترقيعِ إطار ِ‬
‫ِ‬ ‫إال‬
‫وتعزف يف الهزيعِ األخريِ من الليل‪ ،‬هذه‬ ‫ُ‬ ‫ترسم‬
‫ُ‬ ‫هذه األصابع التي خلقت ليك‬
‫تطمع يف رياض ٍة فني ٍة تّعيدُ‬
‫ُ‬ ‫األصابع التي ملَّت من هذا البيات الفني‪ .‬هل تراها‬
‫إليها نشاطها اإلبداعي؟‪ .‬ارشب يا عم إحسان‪ ،‬ملعون أبوك يا حزن!‪ .‬احتس كأساً‬
‫وابتسم فحسب‪.‬‬
‫يا إلهي!‪ .‬لقد تأخرنا كثرياً عن موع ِد الحفل‪ ،‬إذن فلنذهب لعلنا عىل موع ٍد مع‬
‫وأنصاف عقول‪ ،‬وبكاملِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأنصاف عيونٍ‬ ‫ٍ‬
‫خطوات‬ ‫ِ‬
‫بأنصاف‬ ‫القدر‪ .‬وبالفعل تحركنا‬

‫‪57‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫لهفتنا‪ .‬وعىل مقعد الغيب‪ ،‬كان القدر جلوسا!‪.‬‬


‫كعروس ليل َة زفافها‪ ،‬وفوضوياً أكرث‪ .‬أكرث ما كان يشغلنا هو‬ ‫ٍ‬ ‫الحفل مرتبكاً‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫تفاصيل الحفل كانت تؤكد‬ ‫ُ‬ ‫إعادة ترتيب الزمن ومللمة أنفاس التواقيت املتعبة‪،‬‬
‫الفضاءات الضيقة يف شب ِه واقع!‪ .‬أكا ُد أجز ُم‬‫ِ‬ ‫نصف حلم‪ ،‬واتِّساع‬ ‫تعملق الرؤية يف ِ‬
‫أن الحفل كان انتهاكاً رصيحاً لقوان ِني الحزن‪ .‬فهذا الزم ُن كان ال ينتمي للأمساة!‪.‬‬
‫الجلوس وقوفاً‪ .‬فيام كانت‬‫ِ‬ ‫بحثنا عن مكانٍ لنجلس ولكن بعد جه ٍد كبريٍ متكنا من‬
‫نصف نهار‪،‬‬‫مكربات الصوت تزأ ُر يف رؤوسنا‪ ،‬وأحالت مصابيحِ اإلضاءة املكان إىل ِ‬
‫نصف نهار‪ ،‬بل كان‬ ‫َ‬ ‫وتفضح أرسار ُه وتُع ِّريهُ ‪ .‬مل يكن‬
‫ُ‬ ‫لترسق من الليلِ خصوصيت ِه‬ ‫َ‬
‫انبهار!!‪ .‬كانت هذه فضيح ًة علني ًة للذين يحاولون رسقة الحلم املستيقظ لت ّوه‪.‬‬
‫يتسكع ببرص ِه يف أرجا ِء املكان‪ .‬أعتقدُ أن عينيهُ تبحثان عن‬ ‫ُ‬ ‫العم إحسان كان‬ ‫ُ‬
‫التحديق يف ال يشء‪ .‬أما أنا‪ ،‬فقد‬‫ِ‬ ‫مرآب لالنتظار‪ .‬هاتان العينان اللتان تعبتا من‬ ‫ٍ‬
‫تجهل‬‫عشق خارج نطاق األشياء‪ ،‬منطقة ُ‬ ‫تبحث عن منطق ِة ٍ‬ ‫ُ‬ ‫كانت نبضات قلبي‬
‫منطق الزمن وال تؤمن إال بسح ِر السحر الحالل!‪ .‬ويف لحظ ٍة افرتاضية‪ ،‬اصطدمت‬
‫نبضات قلبي بنظرات العم إحسان‪ ،‬يف عملية اندماج قرسي للفسيولوجيا مع‬
‫القوى املحركة للمصادفات اليتيمة التي ال تتكرر كثرياً‪ .‬وقبل أن أمتكن من الفكاك‬
‫الشتباكات هذا املوقف املعقد‪ .‬رأيتها وأحسستها‪ .‬وأعتقدُ‬ ‫ِ‬ ‫من سكرة القراء ِة ال ِبكْر‬
‫أننا فعلناها سويًا‪ ،‬ورست يف أوصالنا نفس الشحنة الكهرومغنطيسية!!‪ .‬أنا رأيتها‬
‫بلهف ِة العينني اللتني أرهقهام طول االنتظار‪ ،‬وهو رآها برهب ِة األوصالِ التي أضناها‬
‫لهيب النار!‪ .‬وتكالبت علينا الغيبيات والالمرئيات‪ ،‬ومل يدُ ر بيننا مثة حوار‪ ،‬إال ذلك‬ ‫ُ‬
‫النوع من الحديث الذي تقرتحهُ العيون ويرفضهُ كربياء الكالم!‪ ..‬نعم هي!‪ .‬والله‬

‫‪58‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫العظيم هي!‪ .‬والله‪...‬‬


‫بلحمها وشحمها ومغنطيسيتها وبكلِ تفاصيلها الرثية‪ ،‬مل يكن الباب موارباً ولسنا‬
‫أكيدين أنها كانت دعو ًة رصيح ًة للدخول‪ ،‬فاقرتبنا أكرث ولكن بحذ ٍر ال يدور مبُخيل ِة‬
‫أحس أنها ستحرقنا وتشوينا‪ ،‬فقد الحظت أننا نُحدِّ ُق‬ ‫حول شمعة‪ُّ ،‬‬ ‫فراش ٍة تحلّق َ‬
‫تبحث عن رضيعها الذي‬ ‫ُ‬ ‫بحرص أكرث مام ينبغي‪ .‬أكرث من لهف ِة أ ٍّم مكلوم ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫فيها‬
‫ضاع منها وسط الزحام‪ .‬ونح ُن عيل شفا انتحار‪ ،‬اقتادتها الفتا ُة التي تجالسها إىل‬
‫ساح ِة الرقص‪ ،‬ولكنها مل ترقص بل رقص الزمان عىل واحدة ونص!‪ .‬نفس التوقيت!!‪.‬‬
‫يل بكلم ٍة كعربونِ بخيلٍ لحوا ٍر ما‪:‬‬‫وعندها فتح الله ع ّ‬
‫«هي ‪.»!!..‬‬
‫«هي منو يا ولد؟»‪.‬‬
‫يضيع يف زحمة الضجيج‪:‬‬ ‫أحاول جعل صويت مسموعاً حتى ال ُ‬ ‫قلت له موضحاً وأنا ُ‬
‫«هي دي البنت الكلمتك عنها!»‪.‬‬
‫يعبث بلحيت ِه الفوضوية‪:‬‬
‫أجابني وهو ُ‬
‫«البنت دي ما غريبة عيل أنا برضو شفتها ميكن يف حلم وميكن يف خيال!»‪.‬‬
‫سألتهُ وأنا يف حري ٍة من أمري‪:‬‬
‫غريب قائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بعمق‬
‫ٍ‬ ‫«وميكن يف لوحة!!؟»‪ .‬كان يتف ّرس فيها‬
‫«معقولة؟؟»‪ .‬قالها وبدت عليه مالمح التفكري العميق‪ .‬العميق جداً‪.‬‬
‫«أنا عايز أتكلم معاها»‪ .‬بدا متفاجئاً حني سمع عباريت األخرية‪.‬‬
‫«والله دي يف الوقت الحايل زي ما قال إدريس جامع‪:‬‬
‫«أنت السام ُء بدت لنا واستعصمت بالبع ِد عنا»‬ ‫ِ‬

‫‪59‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«والله العظيم يا عم إحسان ده أعظم بيت شعر غنايئ يف العامل!!»‪.‬‬


‫واصل العبث بلحيت ِه الفوضوية وهو يقول يف ضيق‪:‬‬
‫«أسمع يا ولد عليك الله طلعنا من املنتدى األديب ده! والال أقول ليك منيش‬
‫أحسن!»‪.‬‬
‫«ال يا عم إحسان خلينا نكمل الحفلة»‪.‬‬
‫قاطعتهُ يف احتجاج طفويل‪ .‬أعتقد أن يف حديثنا‪ ،‬تلويحاً مبطناً بورق ِة اللهف ِة‬
‫املشرتكة بيننا ملعرفة ما يحدث حولنا‪ .‬ونحن نتجادل‪ ،‬انتبهنا إىل أننا كنا نتكلم‬
‫أدركت أن‬
‫ُ‬ ‫بغرض اسرتاح ٍة صغرية‪ ،‬ولكني‬‫بصوت مرتفع عندما توقفت املغنية فجأة ِ‬ ‫ٍ‬
‫أصابع خفية قد تُخربش بأظافرها‬ ‫َ‬ ‫هنالك أشياء وشيكة الحدوث‪ .‬فال بدَّ أن للقد ِر‬
‫العابثة عىل جدا ِر األحداث‪ ،‬فأوجدنا ألنفسنا مقعدينِ شاغرين وتبادلنا األفكار‬
‫ات رسية!‪ .‬وأخرياً جلست هذه األنثى برفق ِة‬ ‫بصوت ال مريئ‪ ،‬ودارت بيننا عدة حوار ٍ‬
‫ٍ‬
‫الفتاة التي كانت تراقصها ال يفصلها عنا إال عدة خطوات‪ .‬وقليلٍ من الجرأة!‪.‬‬
‫ِ‬
‫كاالتهامات املتبادلة‬ ‫للموقف يوحي بالكثري الخطر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كان الوصف التلخييص‬
‫العم إحسان‪ ،‬والحرب الباردة التي اندلعت يف أعامقنا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫نبضات قلبي لعيني ِ‬ ‫من‬
‫اف نقيض أجربتهم‬ ‫تناسلت األنا‪ ،‬وبدت صداقتنا كشعو ٍر أبله‪ ،‬ومتحورت كأطر ِ‬
‫تنشب بيننا‪،‬‬‫ُ‬ ‫حرب مصغرة قد‬ ‫ظروف الحرب لتوقيعِ معاهد ِة سالم!‪ .‬وقُبيل ٍ‬
‫نهضت الفتا ُة التي كانت تجالسها وتركتها وحيدة برفقة كريس شاغر!‪ .‬كريس شاغر‬
‫كان مبثابة دعوة فاضحة للجلوس!‪ .‬كنا مدثرين املحض الذي ال يف ّرق بني أنثى‬
‫وديناصور‪ .‬بل كنا مجفّفني بني املحل الذي ال يشغل باله أبداً بزهرة‪ ،‬وحائرين بني‬
‫قدرين وخيارين وحيدين‪ .‬القنبلة أم السنبلة؟؟ السنبلة أم؟ ‪...‬‬

‫‪60‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫فطفقنا نراقبها بكلِ تحفُّز ونصف جرأة!!‪.‬‬


‫العم إحسان بدا مثل جزير ٍة انشغلت عنها األمواج فصارت تستعطف املد ليك‬
‫كنت مثل نهر قرر فجأ ًة أن يُغيرِّ مجرا ُه بعد أن‬ ‫ي ُزورها ولو مر ًة يف كل عام‪ .‬وأنا ُ‬
‫تجلس قبالتنا كبحري ٍة‬
‫ُ‬ ‫جف ريقه يف اللف والدوران يف ماراثون القحط!‪ .‬وهي‬ ‫ّ‬
‫تضطجع بني جزير ٍة ونهر!‪ .‬فال يدري ثالثتنا إىل من ينتمي اآلخر!‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫استوائي ٍة عميقة‬
‫تتبع لنا ٍ‬
‫كملك ُحر؟؟‬ ‫هل نحن تابعان إليها؟‪ ،‬أم هي كانت ُ‬
‫أم جميعنا كنا ننتمي إىل ال يشء!‪ .‬اللعنة ما هذا العبث املضجر؟‪.‬‬
‫الحديث عن لعبة القدر وسط زحمة هذه اإلحداثيات‪ ،‬مناورة جدلية فاشلة!‪.‬‬ ‫ُ‬
‫استحقاقات عقالني ٍة‪ ،‬فهو الجنون بعين ِه!‪ .‬إذن‬
‫ٍ‬ ‫أما الوثوق يف الحقائق وما تُبطن من‬
‫ماذا ترانا فاعلني؟‪ .‬سؤال أكرث منطقي ًة وأكرث عبثاً!‪ .‬تربز منطقيت ِه يف حال كوننا كنا‬
‫نتق ّم ُص واقعاً متو ّهامً ليست له كينونة فعلية‪ ،‬ونتخ ّيل وجود عامل مل يخلق بعد!‪.‬‬
‫أما العبثية فتكمن يف منطقية هذا التضاد النادر الذي يجمعني مع العم إحسان‪،‬‬
‫ِ‬
‫التساؤالت‬ ‫كالصداقة واملحبة والغرية واألب ّوة والبن ّوة واألخوة‪ .!..‬فيزداد إلحاح‬
‫شدّ ًة واشتعاالً وتذ ّمراً‪ .‬كلام أتطلّع يف عيني الرجل وأبحث فيهام عن إجابات‪،‬‬
‫أشتل غابة عالمات االستفهام‬ ‫كانت تفاجئني األسئلة‪ .‬فبالتأكيد أنا مل أقصد أن َ‬
‫نتوهم حدوث أشياء‬ ‫ُ‬ ‫املنطق ُ‬
‫يقول أننا‬ ‫ُ‬ ‫التي أينعت يف إدرايك وتف ّرعت يف يقيني!‪.‬‬
‫نخطط لثور ٍة ال منلك إلشعالها عو َد‬
‫ُ‬ ‫مل تحدث بعد ورمبا لن تحدث!‪ .‬نعم نحن‬
‫ونعلم متام العلم بأن السلط َة‬
‫ُ‬ ‫بانقالب عاطفي ال وجود لهُ ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ونحلم‬
‫ُ‬ ‫ثقاب واحد!‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تعو ُد لغرينا‪ .‬أما هي فقد كانت بعيد ًة كل البعد عن هذه الحرب الباردة التي‬
‫تدو ُر حولها‪ ،‬وفؤادها أخىل من فؤا ِد أ ِّم موىس ونحن نتبادل الطعنات واللعنات‬

‫‪61‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫دام‪.‬‬
‫بصمت ٍ‬‫ٍ‬ ‫والسباب‬
‫«حتى أنت يا بروتس؟»‪.‬‬
‫هذا السؤال كان يصلح ليوجههُ أحدنا إىل اآلخر دون أن ينتظر إجاب ًة بعينها‪.‬‬
‫تجلس قبالتنا برفقة كريس شاغر ‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫وهي‬
‫ُ‬
‫نتعايش معها‪،‬‬ ‫هذا الرصاع النفيس كان نتيج ًة لرداء ِة األحوال االجتامعية التي‬
‫املناصب الربملانية‪ ،‬ق ّيدتنا‬
‫ِ‬ ‫وتسلط الحكومات التي من أجل أن تك ِّبل نفسها مبقاع ِد‬
‫بحبال املشانق واملزالق والعوائق‪ ،‬وقبل أن تُز ِه ْق أرواحنا قتلت فينا الحلم!! لذا‬
‫كنا نتوهّم وجوده‪ .‬وكان هذا الوهم فردوساً وريفاً نتمنى الخلود فيه إىل أب ٍد‬
‫قريب‪.‬‬
‫صعب جداً أن ميوت الحلم!‪ .‬من السهلِ أن تحكم عىل أحدهم باملوت!‪ ،‬ولكن‬ ‫ٌ‬
‫الشخص بعف ٍو إلهي!‪ .‬فحلمنا إذ كنا ال منلك‬‫ِ‬ ‫ليس مبقدورك أن تصادر حلم نفس‬
‫سوى الحلم!‪ .‬فيا لفداحة األمر!‪.‬‬
‫ولكن هل متكنت هذه األنثى من اكتشاف طالسم هذه اللغة البائدة التي كان‬
‫نجلس محنطني عىل مرمى شوقٍ بأننا‬ ‫ُ‬ ‫نتبادل بها حواراتنا؟‪ .‬هل كانت تعلم ونحن‬
‫ات‬‫نشتهيها بأم ٍر من اآللهة؟؟‪ .‬هل كانت تدري بأن الهرم األكرب واألصغر‪ ،‬حضار ٌ‬
‫سادت ثم بادت من أجلِ نظر ٍة واحدة لن تكلّفها أكرث من رمش ِة عني؟‪ .‬فنح ُن مل‬
‫توت تسرتُ فشلنا يف العثو ِر عىل‬ ‫نبحث تحت ركام خيباتنا الكثرية عن ورق ِة ٍ‬ ‫ُ‬ ‫نزل‬
‫نذهب مبلء إرادتنا إىل‬‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫مسكنات لألمل!‪.‬‬ ‫نبحث يف صيدليات الفراغ عن‬ ‫ُ‬ ‫آخر‪ ،‬نحن‬
‫ونطلب منهُ إجراء عملية نقل حلم!‪ .‬ونتناىس عمداً أن دماءنا‬ ‫ُ‬ ‫اختصايص التخدير‬
‫تحمل نفس الجينات امللوثة باإلحباط‪ ،‬وذات الكرويات التي تسيط ُر عليها فصيلة‬ ‫ُ‬

‫‪62‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الخيبات املزمنة!‪ .‬فيتخرث كل يشء حتى؟‪ .‬حتى!‪.‬‬


‫طرف ثالث ‪...‬‬ ‫الحب من ٍ‬ ‫ُ‬
‫هذا األفيون الذي تساقينا ُه التفافاً وإسقاطاً‪ ،‬وأدمنا ُه من كرث ِة أوجاعنا‪ ،‬أمل نكن‬
‫ندري بأنهُ ليس إال قمة جبل الجليد العائم؟‪ .‬ومع ذلك قررنا اإلبحار وتوكلنا عىل‬
‫تجلس قبالتنا متاماً ك ِقبل ٍة افرتاضي ٍة مل يسمع بها بعد الحجاج‬
‫ُ‬ ‫ال مجداف‪ .‬وها هي‬
‫رس حاجز العزلة‪ ،‬وأم ِّزق صحيفة الهدنة املزعومة‪،‬‬ ‫فقررت فجأ ًة أن أك َ‬‫ُ‬ ‫وال املصلني!‪.‬‬
‫تحلم بأن‬
‫فنهضت وأنفايس املتعبة ُ‬ ‫ُ‬ ‫يتبق منها غري {بسمك اللهم}‪.‬‬ ‫حتى وإن مل َ‬
‫تستجم يف هذا الكريس الشاغر‪.‬‬
‫«مايش وين يا عاطف؟»‪.‬‬
‫انتبهت إىل أن العم إحسان عىل غري العاد ِة يخاطبني باسمي مجرداً‪ .‬فهل كان‬ ‫ُ‬
‫الحرب البارد ِة بيننا وبدء القصف العلني؟‪ .‬أجبتهُ وأنا ال‬
‫ِ‬ ‫هذا إعالناً رصيحاً بانتها ِء‬
‫أمتلك احرتازاً أميناً يف مطلعِ إجابتي‪:‬‬
‫«عايز أميش أتعرف عيل البت دي!!»‪.‬‬
‫يل وهو يجلدين بسياط ِه الدامية‪ ،‬ويخيش يف نفس الوقت عقوقي‪:‬‬ ‫فرد ع ّ‬
‫«يعني ح تقول ليها شنو؟ تتذكري أيام كنا يف روضة ماما سكينة؟»‪.‬‬
‫«ال‪ .‬بقول ليها تتذكري أيام كنت يف جامعة حبك!!»‪.‬‬
‫إجاب ٌة سافر ٌة العداء‪ ،‬خصوصاً بالنسب ِة إىل رجلٍ أعترب ُه املثل األعىل‪ ،‬وال أريد أن‬
‫أقُول كنت!!‪ .‬فأنا ما زلت عىل عهد ِه‪ ،‬ولكني أؤمن مع ذلك بتعدُ ِد األديان‪ ،‬فإن‬
‫كان هو عيىس فهي مريم‪ ،‬إىل أن يثبت العكس!‪ .‬لذا مل أستعجب حينام رد عيل‬
‫برمزي ٍة ساخرة‪:‬‬

‫‪63‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«وفصالهُ يف عامني!!»‪.‬‬
‫ملحت إحدى قريبايت مت ُّر أمامي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فلم أعره اهتامماً ليس تجاهالً مني‪ ،‬ولكني‬
‫فاستوقفتها ألسألها عن هذه الفتاة التي قتلتنا بالتفكري!‪:‬‬
‫«نادية نادية دقيقة أنا عايزك!»‪.‬‬
‫تلتفت تلك األنثى بوجهها الريفي الهادئ وتقول‪:‬‬
‫«كيفك يا عاطف؟ ناس البيت كيف عاملني؟»‪.‬‬
‫سمحت يا نادية البنت دي اسمها منو؟»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫«متام والحمد لله‪ ،‬لو‬
‫سألتها وأنا أشريُ نحو الفتاة بأصبعٍ خفي‪:‬‬
‫«دي؟؟‪ .‬دي إحسان عمر!!‪ ،‬أنت ما بتعرفها؟»‪ .‬بدهش ٍة بالغة سألتها مبتلعاً ما‬
‫تبقى من ريقي‪:‬‬
‫«قلت يل منو يا نادية؟؟»‪ .‬بدت الفتاة مندهشة وهي تتطلع يف وجهي قائلة‪:‬‬ ‫ِ‬
‫«إحسان يا عاطف!! مالك يف شنو؟»‪ .‬بُهِت قلبي الذي كفر!!‪.‬‬
‫شاهدت العم إحسان وهو يقف ويجلس يف شب ِه ذهول يف تلك اللحظة التي‬ ‫ُ‬
‫توقف فيها الزمن‪ .‬فالذي حدث كان أكرب من توقعاتنا‪ .‬كان أكرب حتى من محاولتنا‬
‫سيعرتف بأُبوتِها؟‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قالب يناسب حجمه‪ .‬هذه اللحظة اليتيم ِة ترى من‬ ‫لوضعه يف ٍ‬
‫املسؤول عن توقف الزمن؟‪ .‬بل من الذي دشّ َن عرص السكون ذاك؟‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ومن هو‬
‫وبدأت أردد ذاهالً‪:‬‬
‫ُ‬ ‫إحسان؟؟؟‪.‬‬
‫«يا عم إحسان دي إحسان!‪ ،‬يا عم إحسان دي إحسان!»‪.‬‬
‫عالمات‬
‫ُ‬ ‫تبحلق يف وجهينا مدهوش ًة‪ ،‬وتدو ُر يف عقلها ُ‬
‫آالف‬ ‫ُ‬ ‫فيام كانت نادية‬
‫االستفهام‪ ،‬ويكا ُد الفضول يقتلها قتالً‪ ،‬فتسألني بإلحاح طفويل‪:‬‬

‫‪64‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«أنت يا عاطف الحاصل شنو يا أخوي‪ ،‬ما تفهمني عليك الله؟»‪.‬‬


‫«ممكن يا نادية أتكلم معاها كلمتني؟‪ ،‬يسألك الله!»‪.‬‬
‫فرتد عيل نادية بسؤالٍ آخر‪ ،‬مل يكن وقته متاماً‪:‬‬
‫«متني؟؟‪ .‬هسه؟!‪ .‬طيب وعايزها ليه؟»‪ .‬كنت منشدهاً فقط‪.‬‬
‫«ال ما هسه‪ ،‬خليها مرة تانية‪ ،‬ميكن بكرة‪ ،‬وميكن ال!»‪.‬‬
‫«خالص عليك الله أحيك يل يا عاطف!»‪.‬‬
‫«يا نادية خليها مرة تانية‪ ،‬بحيك ليك ملن تجينا يف البيت!»‪.‬‬
‫وبعدها تركتها ليك أتحدث مع العم إحسان‪ ،‬ولكني وجدتهُ قد غادر املكان للتو‪،‬‬
‫فحاولت اللحاق ب ِه حتى أدركتهُ قائالً‪:‬‬
‫«ياعم إحسان انتظر دقيقة بالله»‪.‬‬
‫ولكنهُ مل يُعرين أدىن اهتامم‪ ،‬فقد كان يرد ُد يف شب ِه ذهول‪:‬‬
‫«اللوحة الثالثون اللوحة الثالثون!!»‪.‬‬
‫يااااااااه!!‪.‬‬
‫فقد رسمها تس ًعا وعرشي َن مر ًة قبل أن يراها بوضوح‪ ،‬فامذا سيفعل بعد أن‬
‫شاهدها كالحقيق ِة املج ّردة؟‪ .‬ماذا سيفعل بعد أن افتضح أمرها ـ فنياً ـ يف تسع‬
‫وعرشين لوحة؟‪ .‬إحسان القدر إحسان اللوحة‪ .‬إحسان إحسان إحسان!‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫‪66‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الفصل السابع‬
‫الخلل االجتامعي الذي صنعتهُ الظروف االقتصادية يف السودان‪ ،‬كان ظاهراً‬
‫مثانينيات القرنِ املايض‪ ،‬ورمبا قبل ذلك بكثري‪ .‬وقد ال تخفى‬ ‫ِ‬ ‫للعيانِ يف مطلعِ‬
‫ألسنة التعاطي السيايس يف النفسية السودانية‬ ‫اإلفرازات السالبة التي طرحتها ِ‬
‫متعب من توايل اإلحباطات وخيبات األنظمة‪ .‬وظلت‬ ‫ٌ‬ ‫جيل‬
‫املرتنحة أصالً‪ .‬فنشأ ٌ‬
‫هذه السحاب ِة السودا ِء جامثة عىل الصدور كنتيج ٍة طبيعي ٍة للفق ِر والجوعِ واملرض‬
‫غابات الرصاص‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫تخصص لتشجريِ‬
‫ُ‬ ‫والحروب املتتالية‪ .‬امليزانيات الضخمة التي‬
‫توقيع‬
‫َ‬ ‫تحمل‬
‫ترسق باسم الثورة‪ ،‬والتي ُ‬ ‫والحسابات الرسية يف جميع البنوك التي ُ‬
‫الشعب نفسهُ ‪ ،‬ولكن دون علمه مبا يجري تحت الجرس‪ .‬فكان الذي ينجو من‬
‫ودام‬ ‫البحث اليومية عن ال ِكرسة!‪ .‬لذا بتنا يف حوا ٍر ٍ‬
‫دائم ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ميوت يف رحل ِة‬
‫الرصاصة‪ُ ،‬‬
‫بني الخبز والرصاص لن ينتهي إال بتكميم األفوا ِه تحت صمت املقابر!‪.‬‬
‫ليأت الشاعر محمد امليك إبراهيم ليكتب‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الشعب معنى أن َ‬
‫يعيش وينترص؟ من غرينا ل ُيغيرِّ التأريخَ‬ ‫ِ‬ ‫«من غرينا يعطي لهذا‬
‫والقيم الجديد َة والسري؟؟»‬
‫َ‬
‫وتصلح‬
‫ُ‬ ‫ثري!‪.‬‬
‫غريي يراها مجرد أبيات شعر متفائلة تصلح ليك يرددها مهاج ٌر ٌ‬
‫تصلح لكلِ يشء‪ ،‬ولكنها‬ ‫أيضاً ليك تضع جيالً بأكمل ِه يف غرف ِة تخدي ٍر شديدة القوة‪ُ .‬‬

‫‪67‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫يل كقاطرة من اآلالم‪،‬‬ ‫ال توقظنا من شخرينا الوطني‪ .‬خواطر محبطة كجييل مرت ع ّ‬
‫وكأين وقعت عقداً أبدياً مع الوجع‪ .‬ملاذا وإىل متى؟‪ .‬كل هذه املربّرات غري كافية‪،‬‬
‫بل ال يجدر أن يردّدها إال شخص متخاذل وعاطل عن اله ّمة‪.‬‬
‫ككلب ضال‪ .‬مل أجد أحدً ا‬ ‫ٍ‬ ‫عدت إىل املنزل متلصصاً‪ .‬كنت أتخبط يف مشيتي‬
‫متتلئ حيطانها بصو ِر‬ ‫غبت يف داخل شبه غرفتي الفوضوية ـ التي كانت ُ‬ ‫مستيقظاً‪ُ .‬‬
‫الفنانات واملمثالت الرخيصات ـ تكا ُد تخنقني‪ .‬إذن هذه إحسانُ الحبيب ُة االفرتاضية‬
‫ِ‬
‫تخطيط‬ ‫حسب تصور الحلم‪ ،‬ولكن هل يحق لنا هذا الحلم؟‪ .‬كيف نتمكن من‬
‫ونعشق أنثى‬ ‫ُ‬ ‫نرتحل منها؟‪ .‬نتغاىب‬ ‫ُ‬ ‫شوارع مدين ٍة عشوائية؟‪ .‬هل نهدمها أوالً أم‬
‫مل يسبق لها أن قابلتنا‪ ،‬يا للعبث!!‪ .‬ويظل فارق السنِ بيني وبني العم إحسان‪،‬‬
‫تؤسس‬ ‫ُ‬ ‫زمني كبري!}‪ ،‬كأنهُ جدار من العزل ِة مع الزمن‪ .‬ولكن تظل العبثي َة‬ ‫ٍ‬
‫{كبيات ِ‬
‫ليش ٍء يكم ُن مبقرب ٍة من جنوحِ أفكارنا ذاتها‪ ..‬أنت قد ٌر يا عم إحسان‪ .‬ح َملت اسم‬
‫شقيقتك الراحلة‪ ،‬التي كان اسمها أيضا إحسان!‪ .‬فهل يكونُ جزاء اإلحسانِ هو‬
‫اإلحسان؟؟‪ .‬وكانت أم درمان كام هي‪ ،‬مل تكن لديها أدىن فكرة عام حدث‪ ،‬وبالتايل‬
‫مل تستعد له‪ .‬وفضالً عن هذا التخبط‪ ،‬مل نكن بأفضل حاالً بالطبع‪.‬‬
‫يل مجنون‪ ،‬ال‬ ‫أم درمان هذه املدين ِة املراهقة معامرياً‪ ،‬تبدو مثل فنانٍ تشكي ٍ‬
‫مثل‬ ‫يهتم بهندام ِه‪ ،‬وال يصفف شعر ِه‪ ،‬وال يقلِّم أظافر ِه‪ ،‬ويرتك لحيتهُ فوضوي ًة َ‬
‫رصف‬ ‫مكنسة ساحر ٍة أسطورية!‪ ،‬وال يرتكب الجامل إال يف لوح ٍة!‪ .‬املدنُ املراهق ُة تت ّ‬
‫لحظات الفنانِ طيشاً‬ ‫ِ‬ ‫بطيش ونزق!‪ .‬واللوحات التي تبقى يف الذاكرة تولدُ يف أكرثِ‬ ‫ٍ‬
‫يصنع الفرا َغ‬‫ُ‬ ‫الطيش والجنون‪ ،‬تأرجحت متاثالت املوقف!‪ .‬أحياناً‬ ‫ِ‬ ‫وجنوناً!‪ .‬وبني‬
‫انتامءات غريب ٍة ملا هو ملك‬ ‫ٍ‬ ‫أشيا ًء ليست يف الحسبان‪ ،‬وتخرت ُع تصاوي ُر الخيال‬

‫‪68‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫مطلق لسلط ِة الالوعي؛ وما هو أسريٌ لوعينا الزائف!؛ وتكم ُن املفارقة يف كوننا‬
‫نصنع اآللهة ومن ثم نعبدها!‪ .‬منارس الشذوذ الديني بعاطف ٍة ساذجة‪ ،‬ونلجأ إىل‬ ‫ُ‬
‫فتظل حلامً بعيد املنال‪ ،‬يف ظلِ النظر ِة‬ ‫الحكم ِة نرجوها الخالص‪ .‬أما الواقعية ُّ‬
‫الرومانسية التقليدية العامة ملنظورنا للحياة!‪ .‬هذا هو الخلل النفيس الذي يفكِّكُ‬
‫ويُهشّ ُش طرق تواصلنا مع العامل‪ .‬ويقال إن حاجة املجتمع البرشي لهندسة برش‬
‫يحتاج أوالً لردم اله ّوة النفسية واملعرفية قبل‬
‫ُ‬ ‫أكرث من معامرية!‪.‬البنا ُء التحتي‬
‫التوسع املفاهيمي‬‫تسليح األفكار مبعتقدات زائفة!‪ ،‬لنتمكن من استيعاب فكرة ّ‬
‫أشغل نفيس بتمشيط ضفائ ِر‬ ‫قبل التطاول يف بنيان األحالم األسمنتية‪ .‬وها أنذا؛ ُ‬
‫الزمنِ انتظاراً‪ ،‬وأمارس النميم َة الداخلية‪ .‬ولكن ال انعتاق من سجنِ التوهم‪ .‬أحاول‬
‫تفخيخَ زمني باألماين‪ ،‬وأكتب تحذيراً‪{ :‬ممنوع الصحو‪ .‬حقل أوهام!!}‪ .‬مل يكن‬
‫مجرد تجاوز ولولبة أو إسقاط فحسب‪ .‬بل كان انقيادا أُ ِّميا لفلسف ٍة مخادع ٍة‪،‬‬
‫تتوارى بخباث ٍة يف نفسي ِة إنسانٍ رشقي!‪ .‬ليس إال‪ .‬حسناً‪ ،‬لست واثقاً من مدى‬
‫رجاحة هذه الرثثرة‪ ،‬ولكن فليكن‪.‬‬
‫الكف للساعات!‪ ،‬جاءت نادية‬ ‫أمارس التنجيم وأقرأُ َ‬
‫ُ‬ ‫وبعد ثالث ِة ٍ‬
‫أيام تص ّوف وأنا‬
‫التي تربطني بها صلة قرابة لزيارتنا‪ ،‬فلم أعد أستطع الصرب أكرث‪ .‬ورسعان ما‬
‫انفردت بها يف فناء منزلنا ليس بعي ٍد من شجر ِة الليمونِ الكبرية‪ ،‬يف تلك األمسية‬‫ُ‬
‫الطفلة‪ ،‬فسألتها يف لهف ٍة دون إبطاء‪:‬‬
‫«أها عملتي شنو يا نادية؟»‪ .‬أجابت برسعة ألنها كانت متوقعة هذا السؤال‬
‫دون سواه‪:‬‬
‫«والله يا عاطف مشيت قابلتها قبل يومني وكلمتها عنك‪ ،‬قالت ما بتعرفك!»‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«أنت يا نادية ما عارفة أنا ما عندي عالقات يف الِحلّة دي»‪ .‬أجبتها ب ُحنق‪.‬‬ ‫ِ‬
‫«أيوة أنا عارفة‪ ،‬املهم قلت ليها إنك عايز تقابلها!»‪.‬‬
‫«ورفضت؟!»‪ .‬بالتياع قذفت يف وجهها السؤال‪.‬‬
‫«أيوة!»‪ .‬لتضيف غامزة‪« :‬لكن قالت يل لو معاك ما مشكلة!»‪.‬‬
‫عجزت عن مداراة فرحتي الشديدة‪ ،‬وأنا أسألها‪:‬‬ ‫ُ‬
‫«أها ومتني قالت ح نتقابل؟»‪.‬‬
‫فصمتت نادية بُره ًة وكأنها تقصدُ تعذيبي!‪ .‬فلم أطق صرباً‪ ،‬واستعجلتها بنفاد‬
‫صرب‪:‬‬
‫«يا نادية ما تحرقي روحي»‪ .‬جعلتني أشعر بالغيظ الشديد هذه البنت‪ ،‬ولكنها‬
‫قالت‪:‬‬
‫«خالص خالص يا عاطف ما تتضايق‪ ،‬بكرة تعال لينا بعد صالة املغرب»‪.‬‬
‫«وأخرياً؟؟!»‪.‬‬
‫أترجم ما يدو ُر بخواط ِر الرشاي ِني وهي تعبرِّ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أحاول أن‬ ‫بصوت أخرس وأنا‬‫ٍ‬ ‫قلتها‬
‫الطلق الصناعي‬‫َ‬ ‫أحس بأن‬‫أتوحم عىل قصيد ٍة‪ ،‬بل ّ‬ ‫ُ‬ ‫أحس أنني‬ ‫عن فرحها‪ ،‬كنت ُّ‬
‫ِ‬
‫يصفوك‬ ‫ويقول لها اخرجي وارصخي‪ ،‬ارصخي بقو ٍة حتى ال‬ ‫ُ‬ ‫يخنقني ليك أنجبها‪،‬‬
‫بالضعف‪.‬‬
‫أشتاق يف هذه اللحظ ِة بالتحديد ِ‬
‫للعم‬ ‫ُ‬ ‫أحتاج ملغادر ِة املنزل حاالً‪ .‬فكم‬
‫ُ‬ ‫وجدتني‬
‫إحسان‪ ،‬أريد ُه أن يعلم بأن هنالك متسعاً لحلم‪ .‬أريد أن أخربه بنرصي الكبري‪.‬‬
‫تلح يف سؤالها‪:‬‬
‫نادية كانت ُ‬
‫احك يل الحاصل شنو؟»‪.‬‬ ‫«أها يا عاطف لو سمحت ِ‬

‫‪70‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫أتسلق هامات السحب طرياناً‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫أجبتها وأنا‬


‫«يا نادية ح تعريف بكرة‪ ،‬اصربي ملا أجيكم يف البيت بكلمك بكل حاجة»‪.‬‬
‫فرمقتني بنظر ٍة متذ ِّمرة وهي ُ‬
‫تلوح بيديها كاألطفالِ وتقول‪:‬‬
‫«خالص جيب معاك واحدة من أخواتك!‪ ،‬أنت عارف كالم األهل وكده!»‪.‬‬
‫«جداً يا نادية‪ ،‬حارض مايف مشكلة!»‪.‬‬
‫أتوق ملقابلة العم إحسان‬ ‫وافقتها مؤمناً برأيس وأنا أ ِه ُّم مبغادر ِة املنزل‪ ،‬كنت ُ‬
‫الرجل الذي مل يأتِها غازياً‪ ،‬ومل يرسل لها قواتاً‬ ‫ُ‬ ‫مكتشف هذه املدينة‪ .‬هذا‬
‫استطالعي ًة‪ ،‬ولكنهُ اكتشفها أثنا َء إبحاره العبثي‪ ،‬ورسم لها الخرائط والحدود‪ ،‬ومع‬
‫ذلك مل يجد مفاتيح أبوابها‪ ،‬تطاولت أسوارها وتكاثر حراسها‪ ،‬وكان دونها املوت‬
‫الزؤام!‪.‬‬
‫طرقت باب منزل العم إحسان بلهفة‪ ،‬وبعد برهة فتح يل صديقه حسن ضالل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أرسل قرونَ استشعاري إىل صحنِ املنزلِ باحثاً عنهُ ‪ ،‬ولكني مل أشاهد‬ ‫فحييته وأنا ُ‬
‫غري العم بِيرت ونارص اليامين وهام يحتسيان الشاي كعادتهام دامئاً يف مثلِ هذه‬
‫األمسيات‪ .‬صافحتهام وأوجدت يل مقعداً وقُبيل أن أصب لنفيس كأساً من الشاي‬
‫سألتهام‪:‬‬
‫«وين عم إحسان ما ظاهر مالهُ ؟»‪.‬‬
‫فريد عيل نارص بهدو ٍء ملفت‪:‬‬
‫«والله يا عاطف عمك ده من يوم العرس مش بيطلع كتري من الغرفة بتاع ُته»‪.‬‬
‫«إن شاء الله خري؟‪ ،‬يف حاجة حصلت؟»‪.‬‬
‫«ال خري إن شاء الله‪ ،‬ميكن قاعد يرسم والال حاجة خليهُ ِبراح ُته»‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ميط شفتي ِه عجباً!!‪.‬‬


‫قالها وهو ُّ‬
‫«كيف عامل يا موالنا؟ وكيف صحتك؟‪ .‬سألت العم بِيرت مبود ٍة معتادة‪ ،‬فأجاب‪:‬‬
‫«الحمد لله يا ولدي‪ ،‬عرفت أن الجامعة عايزين يعملوين إمام املسجد»‪.‬‬
‫(بفرحة) «والله؟؟ تستاهلها يا عم بِيرت كلك خري وبركة»‪.‬‬
‫«يا عاطف يا ولدي دي مسؤولية أنا خايف بكرة الجامعة ديل يسموين سيدنا‬
‫بالل»‪.‬‬
‫قالها وهو يضحك ضحكته الجميلة املجلجلة‪ ،‬فيقاطعه حسن ضالل‪:‬‬
‫«ياجامعة عليكم الله البلد دي يف زيها؟ أهو عندكم اليامين ده قاعد معانا ليه‬
‫سنني ولو قلت ليه أديني حاجة يب جنيه يقول ليك ال‪ ،‬وما يف زول سألُه‪ ،‬قاعد‬
‫ماكل شارب يف أمان الله»‪.‬‬
‫فيقهقه نارص بشدة حتي يظهر إصفرار أسنانه‪.‬‬
‫«هو يف زول غريك يقدر يشيل حاجة من الدكان يا ملعون؟»‪.‬‬
‫فضحكنا كلنا وكأننا بال هموم‪ ،‬وبعد قليل يخرج العم إحسان من صومعت ِه‬
‫تسبقهُ بشاشتهُ املألوفة‪ ،‬وتتقدمهُ أرسار الكون الخفية‪ ،‬فأوسعنا لهُ يف املجلس‬
‫ليبادر ُه حسن متسائالً‪:‬‬
‫«شنو يا أخوي شايل الدنيا يف راسك؟‪ ،‬فقدناك يا راجل»‪.‬‬
‫يرد علي ِه ساخراً كام تعودنا‪ ،‬قبل أن يلقي التحية‪:‬‬
‫«والله قلت أخفف عليكم شوية‪ ،‬عشان تعاينوا تحت رجليكم ما تقعوا يف حفرة‬
‫يا عميانني»‪ .‬وبعد ذلك قام مبصافحتنا بحرارة وجلس‪.‬‬
‫وهكذا كنا نتسامر مبود ٍة إىل أن حان وقت صالة املغرب‪ ،‬فحتامً سيذهب موالنا‬

‫‪72‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫شخص يحتيس زجاجة خمر هذا‬ ‫بِيرت ونارص للصالة‪ .‬أما حسن ضالل فسيكون أول ٍ‬
‫املساء بال ريب‪ .‬فطلب منهم العم إحسان أن يعاودوا الحضور للسمر‪ ،‬فوافقوا‪.‬‬
‫فأدركت أن العم إحسان‬
‫ُ‬ ‫بيد أن العم بِيرت مل تكن له رغبة يف مثلِ هذه الجلسات‪،‬‬
‫وجليس ال يمُ ل كام أعلم‪ .‬فأنا منذ‬ ‫ٌ‬ ‫رجل كامل الدسم‪،‬‬‫يح ُن لجلس ِة أنس‪ ،‬فهو ُ‬
‫أن تركت الدراسة بعد حصويل عىل الشهادة السودانية‪ ،‬مل يكن يل مصدر ثابت‬
‫الكتب التي أداوم عىل قراءتها بني‬ ‫ِ‬ ‫للمعرفة‪ ،‬غري العم إحسان‪ ،‬أو من خاللِ هذه‬
‫الفينة واألخرى‪ .‬فلم أكن سوى فأر تجارب تحاول األقدار أن تستنطق مقدراتهُ‬
‫اإلدراكية‪ .‬إذن ال ضريَ يف جلس ٍة نتذك ُر فيها الليايل الخوايل‪ .‬وقبل كل هذا ُ‬
‫قررت أن‬
‫أرسد لهُ ما حدث‪.‬‬
‫رويت لهُ حكايتي‪ ،‬قال يل وهو ينهض ما ّداً كفه يل‪:‬‬
‫َ‬ ‫وبعد أن‬
‫«تعال عايز أوريك حاجة»‪.‬‬
‫فرافقتهُ حتى دخلنا غرفة الرسم التي مل يسمح ألح ٍد سواي بدخولها‪ .‬وهناك‬
‫صعقتني املفاجأة!‪.‬‬
‫تتعب خيول بالغتنا وهي تطوي‬ ‫مل أستطع أن أقول غري {الله!}‪ .‬كشأننا دامئاً حني ُ‬
‫مسافات اإلعجاب‪ ،‬طي السحابة ال ريث وال عجل‪ .‬فقد كان ما شاهدتهُ ‪ ،‬كائناً‬
‫فنياً بديعاً ال ينتمي إال لزمنِ األساطري الغابرة!‪ .‬تطاولت عبقرية الرجل وتسامت‬
‫فأبدعت!‪ .‬الله!!‪.‬‬
‫إذن هذه هي اللوحة الثالثني!‪ .‬لقد فعلها الرجل الفنان مرة أخرى‪ .‬كنت مشدوهاً‬
‫حيالها‪ .‬فلم أستطع تفكيكها‪ ،‬ولكن هذا ال مينع أن أعجب بها لهذا القدر‪.‬‬
‫قارب صي ٍد صغري‬
‫الوصف التلخييص للوحة العم إحسان األخرية‪ ،‬كان يتمثل يف ِ‬

‫‪73‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫القارب‬
‫ِ‬ ‫كتف املوجِ بحنانِ أُ ٍم تخيش عىل صغريها من اإلزعاج‪ ،‬وعىل م ِنت‬ ‫يُربِّ ُت عيل ِ‬
‫رسم غاي ٍة يف الدِّ ق ِة‬
‫يقف مشدوهاً ودهش ُة العامل كلها يف وجه ِه!‪ .‬بأبعا ِد ٍ‬ ‫مثة صيا ٌد ُ‬
‫باك التي ميسكُ بطرفها هذا‬ ‫والعبقرية‪ ،‬ألن املساح َة األكربَ يف اللوح ِة‪ ،‬كانت للشِّ ِ‬
‫عروس النهر‪ ،‬يتناث ُر‬ ‫ُ‬ ‫الصياد رث الثياب‪ ،‬وقد خرجت منها ما تشبهُ الحورية أو‬
‫مالمح الوجه فقد كانت إلحسان‬ ‫َ‬ ‫حولها رذاذ املاء مثل عق ٍد من اللؤل ِؤ املنثور!‪ .‬أما‬
‫يخنق عيوننا‬ ‫ُ‬ ‫تلك املصنوع ُة من صلصالِ عصريِ القمر‪ ،‬كام اشتها ِء الضوء حني‬
‫قلب‬ ‫الغرب يف ِ‬ ‫ِ‬ ‫الظالم!‪ .‬أما الجنونُ بعين ِه‪ ،‬فقد كان يف ظاللِ هذه الحورية باتجا ِه‬
‫املاء‪ .‬فاجأت هذه الحورية الص ّياد‪ ،‬ففغر فا ُه مشدوهاً‪ ،‬وبسمل وحوقل بال شك‪.‬‬
‫داخل لوحة!‪ ،‬بل‬ ‫أكل هذا يف لوح ِة واحدة؟‪ .‬عفواً فلم تكن هذه لوحة‪ ،‬وال لوح ٌة َ‬
‫كانت معرضاً متكامالً!! إن ما فعلهُ ذلك اإلله الفني‪ ،‬يعترب معجزة بكلِ املقاييس‪،‬‬
‫فهذه التهوميات والتداخالت واألبعاد املتناهية يف الروعة‪ ،‬تجعلني أسأل إىل أي‬
‫مدرسة تنتمي هذه املعجزة؟‪ .‬املدرسة الكالسيكية أم الرسيالية؟ أم للمدرسة‬
‫األرض ومييش يف األسواق‪ .‬فلم‬ ‫رش عادي يحيا يف ِ‬ ‫الشيطانية؟‪ .‬فلم تكن صنيعة ب ٍ‬
‫أجد شيئاً أقولهُ غري الله!‪.‬‬
‫«الله الله!!»‪ .‬وأنا يف حال ِة ذهولٍ تام‪.‬‬
‫وبعد مشاهديت للوحته البديعة‪ ،‬خرجنا من غرف ِة الرسم وأنا يف حري ٍة أسألني‪.‬‬
‫ملاذا مل يرسمها هذه املرة عارية حتى بعد أن تخيلها كحوري ٍة خارجة لت ِّوها من‬
‫لشباك صيا ٍد بائس؟‪ .‬هل يعشقها بقلب ِه أم بريشته؟ بدم ِه أم‬ ‫ِ‬ ‫املا ِء مستسلم ًة‬
‫نتحادث خاللها‪ ،‬وبعد قليل دخل علينا نارص وأعقبهُ‬ ‫ْ‬ ‫بألوان ِه؟‪ .‬و َمضت لحظات مل‬
‫يحمل زجاج ًة‬ ‫حسن وهو يكا ُد ال يقوى عىل السري من شدة السكر‪ ،‬ومع ذلك كان ُ‬

‫‪74‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫كاملة من العرق البِكر!‪.‬‬


‫«إذا حرض املاء بطل التي ّمم»‪ .‬قلت ساخراً‪.‬‬
‫«ده كالمك؟ العبد لله أحسن واحد يستلف عرقي بكر يف املحافظة»‪ .‬عم إحسان‬
‫مضيفاً‪.‬‬
‫«عرقي وبس؟ أنا أقنعت ست العرقي تديني شوية شطة عشان تفتح نفسكم‬
‫للش ّية»‪.‬‬
‫«امللح والليمون مالك نسيتهم؟»‪ .‬ومل يعد يرتدّد سوى الضحك املعاىف‪.‬‬
‫ُ‬
‫نتبادل أنخاب‬ ‫وتحلّقت الكؤوس حولينا‪ ،‬وه ّمت بنا‪ ،‬وهممنا بها‪ ،‬وجلسنا‬
‫األحاديث املتنوعة‪ ،‬حتي طلب حسن من عم إحسان أن يسمعنا شيئاً‪ ،‬فوافق‬
‫فذهبت ليك أحرض لهُ العود الذي ما إن أمسك‬ ‫ُ‬ ‫يتوقع هذا الطلب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫دون تردد وكأنهُ‬
‫خفوت وهو يدوزنُ يف األوتار‪ ،‬ونحن نتاميل طرباً‪ ،‬فقد بدأ‬ ‫ٍ‬ ‫به‪ ،‬حتى بدأ يدندنُ يف‬
‫يعزف يف لحنِ أغني ٍة أحبها كثرياً لإلمام عبد العزيز محمد داؤود‪ ،‬وأظن أن األغنية‬ ‫ُ‬
‫كانت ذات مغزى!‪.‬‬
‫«ل ِّو ُموهوا الالهي يف الغرام بالله‬
‫حبيبي قولوا ليه الحب يشء طبيعي إلهي‬
‫الغرام ما بخيرِّ بني كبري وصغي‬
‫من زمان الحب أم ُره فينا يحي‬
‫يا جميل يا نِضيرِّ خليِّ هجرك غي‬
‫بكرة تلقى الحب أمىض ُعم ُره قصيرِّ »‬
‫فطربنا وسكرنا نشوةً‪ ،‬وتساقينا حالوة الدنيا حتى غرقنا ولسانِ حالنا يرد ُد مع‬

‫‪75‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫عم إحسان!‪:‬‬
‫كأس الصبا ومىض مييش الهوينا طربا»‪.‬‬ ‫عب من ِ‬ ‫«يا ندمياً َّ‬
‫ولكن‪ .‬وحد ُه الزمن مل يكن مييش الهوينا!‪ ،‬فقد انتصف الليل وحانت ساعة‬
‫بيوم غ ٍد‪ ،‬وأمتنى أن تتسارع‬ ‫الرحيل‪ ،‬فافرتقنا وصدورنا مثقلة بالفرح‪ ،‬وأنا أحلم ِ‬
‫عقارب الساعات حتى أراها من قريب‪ ،‬حتى تتصافح األرواح وتتعانق األنفاس‪.‬‬
‫وليلتها مل ِ‬
‫أستطع النوم أبداً‪.‬‬
‫أرهقتني الليلة املاضية جسدياً وذهنياً‪ ،‬فلم أنم جيداً كعاديت عندما أكونُ مجهداً‪،‬‬
‫ولكن اإلرهاق مل يرسق النوم من عيني وحدهُ‪ ،‬بل كان اإلرساف يف حشو دماغي‬
‫ستهرب مني وتهجرين‬ ‫ُ‬ ‫أحس أن اللغ َة‬
‫كنت ُ‬ ‫بالتساؤالت التي مل يهضمها عقيل‪ُ .‬‬
‫فقررت أن أكتب لها قصيد ًة تكونُ مبثابة سفرياً للنوايا الحسنة‪ .‬فعساها أن‬
‫ُ‬ ‫الكلامت‪.‬‬
‫أحسست‬
‫ُ‬ ‫تحطم الجدار الذي أتوهّم وجودهُ‪ .‬جدار الكلامت!‪ .‬وعندما بدأت أكتب‬ ‫َ‬
‫بأن روحي ستقفز ما بني السطور!‪ .‬فكانت كل كلم ٍة هي هدن ٌة ما بني املوت والحياة‪.‬‬
‫كنت أخىش أن أنفجر يف أي لحظ ٍة‪.‬‬ ‫وجدت يف الشع ِر متنفساً‪ ،‬فقد ُ‬
‫ُ‬ ‫ويف حقيق ِة األمر‬
‫وعندما اكتملت ميكانيكي ُة الرشوق يف هذا الصباح‪ ،‬مل أكن متأكداً أنني قد منت‪،‬‬
‫فنهضت‬
‫ُ‬ ‫غفوت قليالً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أدركت أنني لرمبا قد‬
‫ُ‬ ‫ولكن عندما وجدتني أحتض ُن وساديت‪،‬‬
‫من شب ِه غفويت بعينني متو ِّرمتني ووج ٍه شاحب‪ .‬ومع ذلك كانت تجتاحني وتحتلني‬
‫وتستوطنني‪ .‬شاركتني شاي الصباح وقطعة الخبز التي أتشاطرها مع برنامج‬
‫املنوعات يف اإلذاعة صبيحة كل يوم‪ .‬واتفقت مع شقيقتي التي تصغرين عىل أن‬
‫تعلم متاماً زُهدي يف‬ ‫ترافقني إىل منزل نادية‪ ،‬مل أرشح لها السبب‪ ،‬وكانت فاطمة ُ‬
‫مثلِ هذ ِه الزيارات العائلية‪ ،‬فكان البد أن أرشوها حتى توافق وتصمت!‪ .‬وكان!‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الفصل الثامن‬
‫أصابني بعض التوتّر الذي كان ظاهراً يف أفعايل وترصفايت التي بدت غري متوازنة‪،‬‬
‫فقد كنت أستبطئ الوقت وأستعجله أيضاً‪ ،‬وبني الخوف واللهفة تأرجح ميزان‬
‫الساعات!‪ .‬كنت أخىش أن يقرص سيف لغتي وأعج ُز أن أطيلهُ بخطو ٍة‪ .‬بكلم ٍة‪.‬‬
‫املهم أال يغلبني الصمت‪ ،‬خريٌ من عدم لقائها‪« .‬ولكن ال بدَّ من صنعا ِء وإن طال‬
‫السفر»‪.‬‬
‫احرتت فيام أرتديهُ هذا املساء‪ ،‬ويف الواقع مل أكن أمتلك إال القليل من املالبس‬
‫ُ‬
‫الرديئة التي ال تصلح ملوع ٍد مع حبيبة‪ ،‬ولكن شقيقتي رتبت أمر هندامي‪ ،‬وغادرنا‬
‫املنزل باتجاه القدر‪ .‬مل يكن منزل أقاريب أولئك بعيداً وإن كان تردُّدي يجعلني‬ ‫َ‬
‫أمتنى أن تطُ َول املسافة حتى لو مشينا العمر كله!‪ .‬ولكن يف اآلخر وصلنا‪.‬‬
‫باب قلبي‪ .‬فتحت لنا نادية الباب ببشاش ٍة‬ ‫أحس أنني ُ‬
‫أطرق ّ‬ ‫وطرقت الباب وأنا ُ‬
‫ُ‬
‫ودعتنا للدخول‪ ،‬وأنا كنت أفك ُر يف الدخولِ إىل الخارج!‪ .‬أو كام قال الشاعر الجميل‬
‫عبد القادر الكتيايب‪:‬‬
‫دخلت من باب الخروج»‬
‫ُ‬ ‫«عفواً إذا شوقاً ِ‬
‫إليك‬
‫رحبت نادية مبقد ِمنا وقالت موجهة حديثها لشقيقتي‪:‬‬
‫أنت يا بت مايف زول بشوفك‪ ،‬الربكة يف عاطف الجابك لينا!؟»‪.‬‬‫«وينك ِ‬

‫‪77‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«والله مشغولة باملدرسة واالمتحانات وغريُه‪ ،‬لكن والله يف بايل كل يوم»‪.‬‬


‫«ربنا يوفقك يا أختي»‪ .‬واستطردت وهي تغ ِم ُز يف خبث‪:‬‬
‫«وعاطف برضُ ه ما بقصرِّ بيزورنا عىل طول»‪.‬‬
‫أدركت نادية أنني أريد أن أسألها‪ ،‬فردت عيل مبارشة‪:‬‬
‫«وأنت يا عاطف ما تستعجل هسة ح تجي ما تخاف‪ ،‬لكن أول خليني أجيب‬
‫ليكم حاجة ترشبوها»‪ .‬وضحكت بخباث ٍة ومكر‪.‬‬
‫«أيوااا! يعني أنت جايبني معاك تغطية يا عاطف مش كده؟»‪ .‬تتص ّنع شقيقتي‬
‫فاطمة الغضب‪ ،‬يف حني أنني مل أكن أح ّبذ فكرة الخوض يف جدالٍ معها‪ ،‬ولكني‬
‫أجبت‪:‬‬
‫«ال والله‪ ،‬أنا بس الحظت إنك زهجانة قلت أجيبك تف ِّرقي شوية»‪.‬‬
‫قلت جملتي األخرية وأنا أُربِّت عىل كتفها‪ ،‬وذهبنا بعدها ليك نسلم عىل أهل‬
‫نادية يف الجانب اآلخر من املنزل‪ ،‬ورجعنا بعد قليل لنكمل حديثنا وننتظر‪ .‬هل‬
‫منلك غري االنتظار؟‪ .‬ويف الخاط ِر مقطعٍ متواطئ مع لهفتي ألغني ٍة للفنان محمد‬
‫األمني‪.‬‬
‫«لو وشوش صوت ال ِّريح يف الباب يسبقنا الشوق قبل العينني»‪.‬‬
‫الباب املوص ِد بكلِ أشواقِ األيام املوحشة‪ ،‬فيام‬
‫فقد كانت عيناي تتجهان إىل ِ‬
‫بعض األمو ِر البناتي ِة الخاصة‪ ،‬وكان هذا واضحاً‬ ‫ِ‬
‫بالحديث يف ِ‬ ‫انشغلت البنتان‬
‫من انخفاض صوتيهام‪ ،‬وهذه التهمة متبادلة بني الذكور واإلناث‪ ،‬فعندما يجتمع‬
‫الرجال النساء يعتقدن أنهم يتحدثون عن مغامراتهم العاطفية والعكس صحيح!‪.‬‬
‫حاولت أن أشغل فكري بها مل تبعدين عن املوضوع‬ ‫ُ‬ ‫ولكن كل هذه املواضيع التي‬

‫‪78‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫بنفس الحلم‪ ،‬إىل أن دُق‬ ‫األسايس‪ ،‬فال زالت قدماي تقفان يف ذات املربع وتحلامن ِ‬
‫وأحسست أنني بصد ِد الوقوعِ يف حال ِة غيوب ٍة مؤقتة وأنا أتساءل‪« :‬هل‬ ‫ُ‬ ‫الباب‪.‬‬
‫تكونُ هي من طرقت الباب؟»‪ .‬ثم ماذا بعد هذا؟‪ .‬هل ستكونُ تفاصيلها الوجدانية‬
‫بنفس درجة أناقة شكلها الخارجي؟ هل ست ِفد إ ّيل من بواب ِة الروح؟‪ .‬نادية ذهبت‬
‫ليك تفتح الباب وأنا أسألني سؤاالً مباغتاً‪« :‬ترى ماذا ستقوالن عند عتب ِة الباب قبل‬
‫أن تصال إلينا؟»‪ .‬ولكن أخرياً فتحت نادية باب قدري‪ ،‬وعيناي تتطلّعان إىل ما وراء‬
‫رؤى‪ ،‬تروي عطش اللهفة‬ ‫الباب بضع َة ً‬ ‫ثقوب ِ‬
‫تستشفا من ِ‬ ‫ِ‬ ‫األشياء‪ ،‬وتحاوالن أن‬
‫تعانق صدر الدهشة األوىل!‪ .‬الدهشة التي فقست بيضتها البكر منذ‬ ‫الطفلة‪ ،‬أو ُ‬
‫بضع ثوان‪ .‬ومل ينب لها ريش‪.‬‬
‫صوت املغني وذهب ليصيل‬ ‫ُ‬ ‫وأطلت من بعيد‪ ،‬كياسمين ٍة توضأ من شعرِها‬
‫َ‬
‫عكاظ‬ ‫ذنب أنا إذا عمداً ركعت؟‪ .‬أطلت كياسمينة أقامت‬ ‫بالناس صالة العطر!‪ .‬أ ُم ٌ‬ ‫ِ‬
‫تساقيت نف َِسها فنجال َأكسجني وأسكنتها دفرتَ شعر‪ ،‬فامتت‬ ‫ُ‬ ‫وأقعدت مربِدا!‪،‬‬
‫ولكنها رصخت تسأل‪« :‬هل أُدف ُن يف عطري أم يف دفرتِ شعر؟ يا أيها املأل أفتوين يف‬
‫وقع خطواتها يحدث تناغام إيقاعيا مع ِ‬
‫دقات قلبي غري املرتبة‪ ،‬والتي‬ ‫قربي!!»‪ .‬كان ُ‬
‫تخف دقات الطبول!‪ .‬وأخرياً وصلت‪ ،‬ومل يعد‬ ‫ف يف العجل ِة‪ ،‬ومن ثم ّ‬ ‫رس ُ‬
‫كانت تُ ِ‬
‫لطف ومدت‬ ‫يفصلني عنها إال نصف مرت‪ ،‬ونصف جرأة!‪ .‬سلمت عيل شقيقتي يف ٍ‬
‫شعرت بربود ٍة يف كفينا وأنا أصافحها‪ ،‬تلك الربود ُة التي‬
‫ُ‬ ‫يدها لتصافحني بارتباك!‪.‬‬
‫تنسحب من هذه الجول ِة من غري أن‬ ‫َ‬ ‫يصنعها الحياء!‪ .‬ولكن األصابع رفضت أن‬
‫توقع اتفاقية سالم!‪ .‬فجنحت للسلم!‪ .‬فأنا أفهم جيداً لغة األصابع!‪ .‬أكملت نادية‬
‫بعطش ال يروي ِه نهر النيل كل ِه‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وشعرت‬
‫ُ‬ ‫وأبتلع ريقي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تعريفنا وأنا أنظ ُر إليها‬

‫‪79‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫تركننا البنتان وحدنا بعد لحظات‪ .‬مل نكن وحدنا فاللهف ُة كانت ثالثتنا!‪ .‬ومل نكن‬
‫يف أهبة االستعداد لهذه الخلوة املباغتة‪ .‬فتعبنا كثرياً من أجل صنع مداخل مناسبة‬
‫ورويت لها القص َة كاملة!‪ .‬وكانت‬
‫ُ‬ ‫مللمت أطرايف‬
‫ُ‬ ‫للحديث‪ ،‬ولكن يف نهاية األمر‬
‫منصتة كتمثالٍ بديعٍ من نصف اآلهات‪ .‬مل أتوقف عن حديثي املتعرث‪ ،‬وكنت‬
‫مغموراً بروع ِة أول مصافحة‪ ،‬أول حديث‪ ،‬أول خلوة‪.‬‬
‫أقرب ما يكونُ إىل تلك الروايات التي‬ ‫تنصت إ ّيل‪ ،‬فاألم ُر ُ‬
‫ُ‬ ‫كانت مذهول ًة وهي‬
‫باتت ال تسحر ال ُقراء!‪ .‬وبعد طول انتظار‪ ،‬استولدت سؤالها األول‪:‬‬
‫«والله دي قصة غريبة جداً!!‪ ،‬معقولة يف حاجات كده؟»‪ .‬صمتنا‪.‬‬
‫وبعد بره ٍة موحية من الصمت أضافت‪:‬‬
‫«أنا عمري ما اتخيلت حاجة زي دي تحصل يل‪ ،‬ما معقول أبداً»‪.‬‬
‫فحاولت أن أفتح أبواباً أخرى للحوار وسألتها بطريق ٍة ساذجة‪ ،‬كمن يتذاىك‬
‫ملعرفة عمر إحداهن‪:‬‬
‫«أنت هسة يف سنة كم؟»‪ .‬ردت مبارشة دون أن تنظر يف وجهي‪:‬‬ ‫ِ‬
‫«أنا خلصت امتحانات الشهادة قبل فرتة بسيطة»‪.‬‬
‫«يعني السنة دي ح تخيش الجامعة؟»‪ .‬سألتها كمن وجد طوق نجاة‪.‬‬
‫«أيوا‪ ..‬لكن ما معروف وين ح أقراها بالضبط!»‪.‬‬
‫كنت أراقب مطلع حروفها حني تُولد خجول ًة قبل أن أسألها وأنا أشيح بوجهي‬
‫عنها‪:‬‬
‫أنت ما قادرة تختاري كلية محددة؟ والال قصدك شنو؟»‪.‬‬ ‫«يعني ِ‬
‫«ال مش كدة لكن أبوي شغال يف وزارة الخارجية وبعد أقل من شهر ح نسافر‬

‫‪80‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫معاه كلنا»‪.‬‬
‫«تسافروا؟؟»‪ .‬سألتها بالتياعٍ واضح وكأنها حبيبتي منذ عهد عاد‪.‬‬
‫«أيوا»‪ .‬صمتت بره ًة وأضافت‪« :‬عشان اختارو ُه ملحقا ثقافيا يف بريطانيا»‪.‬‬
‫‪ :‬يا لهذه األقدار!!‪ .‬ما هذه السيزيفية البلهاء؟‪.‬‬
‫‪ :‬مسافرون؟؟‪ .‬ملاذا اختارت ـ الحياة ـ جربياً أن أمارس املازوشية عىل نفيس‪،‬‬
‫والعامل أكرث سادي ًة من كل يش ٍء آخر؟‪ .‬ملاذا يا ترى؟‪.‬‬
‫«سفر سفر يا ‪ .....‬إحسان؟؟؟!»‪.‬‬
‫«والله يا عاطف ما بإيدي‪ ،‬لكن ده الحاصل»‪ .‬وأضافت وهي تتلفت باحثة عن‬
‫الفتاتني‪:‬‬
‫«عىل فكرة أنا تأخرت‪ ،‬معليش مضطرة أميش بعد كده»‪.‬‬
‫مل أكن أمتلك شيئاً وسط حرييت هذي‪ ،‬سوى املزيد من الحرية‪ ،‬ولكني مل َ‬
‫أنس أن‬
‫بعض احرتاقايت واللهب!‪ .‬وقبل أن تطفئ ناري بسؤالٍ ما‪ ،‬أجبتها وأنا‬ ‫أدس يف كفها َ‬
‫أتطلع لجهنم شفتيها‪.‬‬
‫ُ‬
‫«دي قصيدة يا إحسان‪ ،‬كتبتها أمس بالليل ملا ِ‬
‫كنت معاي!!»‪.‬‬
‫األرض يف خفر‪ ،‬وأجابت مرتبكة‪:‬‬ ‫رساً وهي تنظ ُر إىل ِ‬‫فابتسمت ّ‬
‫«كنت معاك؟؟ أويك خالص أنا ح أقراها بعدين ملا أرجع البيت‪ ،‬شكراً يا عاطف‬
‫ترشفت بيك»‪.‬‬
‫ومع جملتها األخرية أدركت أنها ال محالة راحلة‪.‬‬
‫«مع السالمة يا إحسان‪ ،‬لكن الزم نتقابل مرة تانية!»‪.‬‬
‫«ما يف مشكلة حاول تربمج مع نادية‪ .‬مع السالمة»‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫وبعد مغادرتها‪ ،‬مل تعد لدي رغبة يف البقاء‪ ،‬فودعنا نادية‪ ،‬وغادرت برفقة‬
‫صمت مطبق‪ .‬وبعدها مل أجد قدراً أرحم من لطم أقداري فحسب‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫شقيقتي يف‬
‫فطفقت أو ِّجه‬
‫ُ‬ ‫تعددت خيارات الحياة العبثية‪ ،‬وناوشتني االعتبارت الوجودية‪،‬‬
‫ساخطاً اللعنات والشتائم لهذا الواقع الذي بدا مثل بحري ٍة آسنة غطتها الطحالب‪،‬‬
‫كنت يف أشدِّ حااليت حزين‪ ،‬وكان أكرث ما يعذبني‬ ‫تصلح للرشب‪ .‬ليلتها ُ‬ ‫ُ‬ ‫وما عادت‬
‫أنني ال أملك تربيراً منطقياً لهذا الحزن!‪ .‬فلامذا يشقيني رحيلها وهي ال تعدو‬
‫أن تكون مجرد بذرة حاولت أن أزرعها يف صحرايئ اليابسة‪ ،‬ودواخيل قد جافاها‬
‫وتنسج حولها‬
‫ُ‬ ‫تستحق أن تكتب لها القصائد‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫املطر!‪ .‬هي مجرد حلم ال أكرث‪ ،‬ولكنها‬
‫األساطري‪ ،‬ويحجها الناس‪ ،‬فلامذا متنعني األقدار من أداء هذه الفريضة؟‪ .‬كان أكرث‬
‫ما يحزنني هو عدم وجود مربرات كافية لكل ما يحدث‪ .‬هل نرسف يف الحلم‬
‫لدرج ِة أن نتمسك به كحقيق ٍة راسخة؟‪ .‬كنت قد وصلت إىل البيت يف ذلك الوقت‪،‬‬
‫ينتصب متحدّ ياً وكئيباً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بحرص من يخبئ كنزاً ـ‬ ‫وكان باب بيتنا املغلق ـ جيداً ِ‬
‫العم إحسان‪ .‬فوافيتهُ يف دكانت ِه الصغري ِة‬ ‫يف صباح اليوم التايل كان البد من زيار ِة ِ‬
‫يف سوقِ السمك‪ ،‬وجدتهُ منشغالً بتصليح دراجة كان صاحبها ينتظر ُه عىل مقربة‪،‬‬
‫الجانب اآلخر من الضفة‪ ،‬كانت هنالك‬ ‫ِ‬ ‫ويحثهُ عىل اإلرساع من أجلِ مشوا ٍر ما!‪ .‬ويف‬
‫عدة قوارب يف االنتظار لتحميل الخرضوات من جزيرة تويت التي ترقدُ يف حضنِ‬
‫النيلِ األبدي‪ ،‬وتحرسها أشجار الليمون واملانجو والربتقال من لؤم الطبيعة‪ .‬ويف‬
‫فتذكرت اللوح َة‬
‫ُ‬ ‫عمق النيل‪،‬‬
‫ينتشل الشباك من ِ‬ ‫ُ‬ ‫املنتصف شدّ ين منظر صيا ٍد ٍ‬
‫بائس‬
‫لت منظر الحورية التي ص ّورها العم إحسان‪ ،‬ورذاذ املاء يتناث ُر حولها‬ ‫الثالثني‪ ،‬وتخ ّي ُ‬
‫كمسبحة من اللؤل ِؤ املنثور‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫اتخذت يل مقعداً‪ ،‬وجلست وبعض لحظات فرغ العم إحسان من عمل ِه‪ ،‬وجاء‬
‫بالقرب مني‪ ،‬وهو ينادي عىل بائع ِة الشاي التي كانت تجلس عىل مرمى‬ ‫ِ‬ ‫ليجلس‬
‫مزاج!‪:‬‬
‫«اتنني شاي ياسعدية»‪ .‬مضيفاً وهو يصافحني‪« :‬إزيك يا أخينا»‪.‬‬
‫«مايش الحال يا عم إحسان نحمد الله!»‪ .‬مل أخف ضيقي‪ .‬فرددت علي ِه السالم‬
‫أحاول أن أخنق زفر ًة حار ًة يف جويف‪ ،‬فسألني وهو يتفحصني‪:‬‬‫وأنا ُ‬
‫«ومالك عامل كده؟ أنت عيان والال شنو؟»‪.‬‬
‫صمت برهة ألضيف واجامً‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫«ما عيان والله‪ ..‬لكن ما قاعد أنوم كويس»‪.‬‬
‫«إمبارح قابلتها!!»‪.‬‬
‫قوارب الصيد التي كانت تتهادى يف نهر‬ ‫ِ‬ ‫ورسدت له القصة كاملة‪ ،‬وهو يتأمل يف‬
‫النيل‪ ،‬وعندما انتهيت من حديثي طفق يفك ُر قليالً وسألني‪:‬‬
‫«أها أنت رأيك شنو‪ ،‬وناوي عىل إيه؟؟»‪.‬‬
‫«والله ما عارف‪ ..‬أنا ما صدقت شفتها وهي قالت مسافرة!»‪.‬‬
‫رمقني بنظر ٍة فاحصة وقال بحكمة‪:‬‬
‫«يعني هي مسافرة‪ ،‬وأنا مسافر‪ ،‬وأنت كامن ح تسافر‪ ،‬هي قدرها الرحيل‪ ،‬وأنا‬
‫مسافر جواي‪ ،‬وأنت ح تسافر للمجهول‪ ،‬حاول يا ولدي اختار وسيلة مواصالت‬
‫مناسبة‪ ،‬البالد بتتشابه‪ ،‬لكن القدر واحد!»‪.‬‬
‫مل أفهم ما يرمي إليه بطبيع ِة الحال‪ ،‬فأردف متع ّمقاً‪:‬‬
‫«إحسان دي مركب بدون مجداف‪ ،‬مصريُه يف يد التيار وحسب مزاج املوج‪ ،‬أنا‬
‫القدامك ده‪ ،‬وهبت عمري يل حاجات أنا ما مبلكها‪ ،‬وعشت حياة ما حقتي‪ ،‬وحتى‬

‫‪83‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫اسمي ما كان مليك‪ ،‬وفضلت طول عمري امتداد يل عامل تاين!!‪ ،‬أما أنت يا أخوي‬
‫مشكلتك أنك ما بتملك نفسك ويف نفس الوقت ما ملك غريك!!» حاول يا ولدي‬
‫تكون نفسك ال أكرت ال أقل!»‪.‬‬
‫صدمتني فلسفتهُ لألمو ِر عىل هذا النحو املربك فسألتهُ ‪:‬‬
‫«والعمل؟؟‪ ،‬يف الحقيقة أنا ما فاهم وال كلمة من كالمك ده»‪.‬‬
‫«شُ فت النيل ده عم ُره ما غري مجراه‪ ،‬مشاوي ُره معروفة من مناب ُعه لغاية‬
‫املتوسط‪ ،‬ما يف طريقة يغيرّ رأيُه‪ ،‬شوف يا عاطف لو عايز تتعلم العوم رسيع‪،‬‬
‫خليك عايم ضد التيار وأميش الغريق‪ ،‬البتعلم العوم يف الضحلة بغرق يف شرب‬
‫موية!»‪.‬‬
‫فكرت يف كالم ِه مثقال حرية وقلت‪:‬‬
‫«والله أنا ما عارف البحصل شنو!! يا زول خليها عىل الله!‪ ،‬ده باعتبار إين فهمت‬
‫حاجة طبعاً»‪.‬‬
‫«يا زول عىل الله‪ ،‬قادر وحده عىل حلّها‪ ،‬وقادر وحد ُه عىل رشبكتها!»‪.‬‬
‫ِ‬
‫بالحديث مع الصبي الذي كان يريد أن يصلح دراجتهُ‬ ‫ردّدها من ورايئ وهو يه ُِّم‬
‫املعطوبة‪ ،‬وبعدها تركتهُ ليك يواصل عملهُ وأنا ال أدري إىل أين تقودين خطوايت‪،‬‬
‫طرقات مل أمش عليها قط!‪ .‬ولكن سأميش‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫فقد كنت هامئاً بال هدى‪ ،‬وشبه ضائع يف‬
‫«الدرب يصنعه امليش»‪.‬‬
‫فأنا كنت مثل الكثريين من الشباب الذين فقدوا األمل‪ ،‬وفقدوا أيضاً الرغبة يف‬
‫البحث عنه!‪ .‬العاطلون الذين يشغلون أنفسهم بال يشء‪ ،‬السواعد التي خلقت‬ ‫ِ‬
‫يصيب دجاج أصواتهم‬ ‫ُ‬ ‫لتبني‪ ،‬ال لتلعب الورق يف املقاهي‪ .‬املهمشون الذين‬

‫‪84‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫صناديق االقرتاع بالتخم ِة والبدانة‪ ،‬ليخرجوا إىل الشوارعِ وهم يسبحونَ بحم ِد‬
‫الكالم الرخيص‪ ،‬تلك التي قُدت‬ ‫ِ‬ ‫نواب الربملان والساسة‪ ،‬الذين ينفخونَ يف ِق ِ‬
‫رب‬
‫من نفاق!‪ ،‬ويرتكونهم يحلمون فقط بأن يأكلوا ويرشبوا‪ ،‬ويحلموا بأن يتعلموا‬
‫ويحلموا بأن يحلموا!!‪ .‬املكر السيايس ال تكتشفه إال الشعوب التي مل تزل لديها‬
‫الرغبة يف الحياة‪ .‬أما الشعوب الذين يطمعون فقط يف {حياة} فاملوت هو أقل ما‬
‫يستحقونه!‪.‬‬
‫هل هذه البالد تعترب الحلم جرمية أمن دولة مينح صاحبها إقام ًة مجاني ًة يف زنزان ٍة‬
‫انفرادية؟ وما بني غمض ِة ع ٍني وانتباهتها تجدُ نفسك قد منحت حق اللجوء إىل‬
‫شعب ال يجيد الصمت!! ولو صمتنا لفضحنا‬ ‫اآلخرة بال زاد سابق أو الحق؟‪ .‬نحن ُ‬
‫النيل يف حصتي الجغرافيا والتاريخ‪ ،‬هذا النيل الذي يساف ُر منا شامالً ليس ألننا ال‬ ‫ُ‬
‫نستحقهُ ‪ ،‬بل ألنهُ سفرينا الذي يحدث كل العامل عنا‪ .‬سيأيت اليوم الذي سرنميهم‬
‫تفهم معنى السجود‪،‬‬ ‫ونرفض أن نطأطأ! فهذه الجباه ما عادت ُ‬ ‫ُ‬ ‫بالبيض الفاس ِد‬
‫ِ‬ ‫فيه‬
‫ّت حويل فأرى الوجوه الكادحة التي بلغت أصواتها الحناجر‪،‬‬ ‫هكذا أحلم‪ .‬أتلف ُ‬
‫ولكنها صمتت ألنها ال تجد ما تقولهُ ‪ ،‬ومل تجد من يُصغي لها‪ ،‬باألحرى‪ .‬كان قراري‬
‫بعدم إكاميل لدراستي غري موفقاً‪ ،‬فأنا يف غمر ِة يأيس قلت ما فائدة هذه الشهادات‬
‫يف ظلِ موجة الوساطات والرشاوى واملحسوبية؟‪ .‬فبدت يل الهجرة كخيا ٍر ب ّراق‪،‬‬
‫وبت أتحني الفرصة املناسبة‪ .‬فلامذا ال أجرب حظي يف أي دولة برتولية؟‪ .‬فعىل‬ ‫ّ‬
‫األقل هناك يرسقون النفط‪ ،‬ولكنهم عندنا يرسقون النفط والدم والعرق‪.‬‬
‫صادفتني ـ تقريباً ـ داخل بيتنا‪ ،‬وأنا يف شدة اإلرهاق والصداع والفتور يكادان‬
‫وألقيت نفيس عىل رسيري‪ ،‬وبعد قليل ارتفعت‬ ‫ُ‬ ‫فدخلت إىل غرفتي‬
‫ُ‬ ‫أن يفتكا يب‪،‬‬

‫‪85‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫فتغطيت ومع ذلك زادت حدّ ة الربد يف‬ ‫ُ‬ ‫حراريت مع بر ٍد شدي ٍد يرسي يف أوصايل‪،‬‬
‫جسدي‪ ،‬مع شعو ٍر بالهذيان‪ ،‬فأحسست أنها رمبا تكون املالريا‪ .‬وأخذت الصور‬
‫تتواىل وتتداخل تباعاً يف مخيلتي وتتسابق‪ ،‬وبعدها مل أعد أعي شيئاً‪ .‬نعم إنها‬
‫املالريا اللعينة بضغين ٍة من أنثى أنوفليس سيئة النوايا‪ ،‬تستهدف املناطق الفقرية‬
‫ُ‬
‫وتحرق الطاقات‪.‬‬ ‫متتص الدماء‪،‬‬
‫والعشوائية‪ ،‬وتصيل هذه األجساد بالسه ِر والحمى‪ُ ،‬‬
‫تركتني يف شب ِه غيبوي ٍة أتقل ُّب عىل نا ِر وجعي وهذياين‪.‬‬
‫يل وأنا عىل هذا الحال‪ .‬وعندما أفقت قليالً‪،‬‬ ‫ال أعرف كم من الوقت مىض ع ّ‬
‫ورأيت وسط‬
‫ُ‬ ‫فتحت عيني بصعوب ٍة‪،‬‬‫ُ‬ ‫وجدت أهيل ُملتفني حويل والحزن يغمرهم‪.‬‬
‫ذهويل قوارير الدواء واإلبر موضوع ًة بكثاف ٍة عىل منضد ٍة أمامي‪ ،‬وعندها ازداد‬
‫خويف‪ ،‬فعندما كنا صغاراً كانوا يخوفوننا من هذه اإلبر إذا مل نرشب الحليب!‪،‬‬
‫لبثت؟«‪.‬‬
‫فكنت أخشاها حتى تاريخ هذه اللحظة‪ .‬كنت أريد أن أسأل‪» :‬كم ُ‬
‫رضعٍ وشفق ٍة‪:‬‬ ‫سمعت أمي ُ‬
‫تقول يف ت ّ‬ ‫ُ‬ ‫ولكني‬
‫«الحمد لله يا رسول الله!!‪ ،‬الولد تالتة أيام ما جايب خرب للدنيا!!»‪ .‬يبدو أن‬
‫أمي كانت تعتقد أن رسول الله محمد هو القائم بأعامل الله يف األرض فقط‪ ،‬فلم‬
‫تعرف غريه واسطة!‪.‬‬
‫«يا ريب‪ ..‬ثالثة أيام!!؟»‪ .‬تساءلت يف رسي‪.‬‬
‫الحليب الساخن كان كفيالً بإسكايت‪ ،‬تركوين‬
‫ِ‬ ‫حاولت أن أتحدث‪ ،‬ولكن كوباً من‬
‫وحدي ليك أستجم قليالً‪ ،‬ولكن شقيقتي الصغرى مل تخرج بل جلست بالقرب مني‬
‫وقالت برسعة‪:‬‬
‫«ده شنو العمل ُته يا عاطف؟؟‪ ،‬فضحتنا!»‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«عملت شنو يا فاطمة؟؟»‪ .‬سألتها بصعوب ٍة‪ ،‬إذ كنت عاجزاً عن الكالم‪.‬‬
‫بخبث شدي ٍد‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫«ياخوي أنت ليك تالتة أيام تهلوس يب إحسان!»‪ .‬وضحكت‬
‫«عليك الله جد يا فطومة؟؟»‪.‬‬
‫«والله بالجد‪ ،‬حتى أمي سألتني عنها»‪.‬‬
‫«أها وقلتي ليها شنو؟»‪ .‬سألتها يف حياء‪.‬‬
‫«ما قدرت أقول حاجة يا فضيحة!!»‪.‬‬
‫«يا فطومة ممكن أطلب منك طلب؟»‪.‬‬
‫وبحضو ٍر أنثوي خبيث أجابت‪:‬‬
‫حارض من عيني‪ ،‬أنا فاهمة يا عاطف خليها عيل أختك»‪.‬‬
‫وتهرس عظامي هرساً وأنا خائر‬ ‫ُ‬ ‫مع أن الحمى كانت تناوشني بإلحاحٍ ولؤم‪،‬‬
‫متض لحظات إال وغطيت‬ ‫القوى‪ ،‬ولكني حاولت أن أمتاسك قليالً‪ ،‬ومل أفلح‪ ،‬فلم ِ‬
‫بصوت خفيض‪ ،‬وأنا بني الصاحي والنائم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫نوم عميق‪ .‬وبعد سويعات شعرت‬ ‫يف ٍ‬
‫أحس أنني أحلم بالطبع‪ .‬ولكن عندما تعاىل الصوت‪ ،‬استيقظت من نومي‬ ‫كنت ّ‬ ‫ُ‬
‫نت حقيقة األمر!‪ .‬فقد أكملت فاطمة‬ ‫متض سوى هنيه ًة وبعدها تب ّي ُ‬‫مفزوعاً‪ ،‬ومل ِ‬
‫املهمة بنجاحٍ كبريٍ تحسد عليه‪.‬‬
‫حاولت النهوض من الرسير ليك أعانق صوتها وأحتضنهُ ‪ ،‬ولكن بكلم ٍة واحد ٍة‬ ‫ُ‬
‫التزمت مكاين‪ .‬لقد كانت هي برفق ِة نادية صديقتها‪ ،‬وفاطمة‪ .‬جعلتني‬ ‫ُ‬ ‫من عينيها‬
‫أشع ُر بالعافي ِة‪ ،‬وأحرت ُم املرض الذي أحرضها إ ّيل‪ .‬وتحادثنا وشعرنا بتوحد امليول‪،‬‬
‫وتعددت القواسم املشرتكة وتصادقت األراوح‪ ،‬فكانت أروع مالريا يف حيايت‪ .‬فأنا‬
‫مل أكن محتاجاً الستحضارها واعتصارها من ذاكريت‪ ،‬فهاهي أمامي كاملة الدسم!‪،‬‬

‫‪87‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫تجلس قبالتي بحضو ِر الشموس‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ولن أحتاج الستحالبها من عصري القمر!‪ ،‬فهي‬
‫أحبها باشتها ٍء وأشتهيها كام الرضيع حني يحن لثدي أمه‪ .‬فلم أ ِفق من سطوة هذا‬
‫كنت أريد أن‬‫الحلم مطلقاً‪ ،‬حرصاً عليه!‪ .‬ولكنها اعتذرت واستأذنت يف الرحيل‪ُ .‬‬
‫أستبقيها ولكنها رفضت يف أدب‪ .‬مل تستطع الحمى التي هرست عظامي من منعي‬
‫مددت عيناي لها ملوحاً‪ ،‬وعانقتني هي بشوقها قبل أن تفتح‬ ‫ُ‬ ‫من القيام لتوديعها‪،‬‬
‫الباب وأنا أتساءل‪:‬‬
‫«متى ينتهي هذا العرض العبثي؟ متى يا ترى؟»‪.‬‬
‫ويرفض تسلُّق أسوار اليوتوبيا املزعومة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يرفض الحياد‪،‬‬
‫فكل ما هو حويل‪ ،‬كان ُ‬
‫وفجأةً!‪ .‬فُتح الباب ليدخل العم إحسان وحسن ضالل وه ّن يف طريقهن إىل‬
‫كنت أريد أن أقرأ ما بني سطو ِر نظر ِة العم إحسان‬ ‫الخروج‪ .‬وقبل أن أرد السالم‪ُ ،‬‬
‫اليتيمة لها‪ .‬ترى هل كان يستجدي منها لوح ًة أخرى؟‪ .‬أم ترا ُه قد أعلن طالقهُ منها‬
‫فنياً؟‪ .‬ليته مل يفعل‪.‬‬
‫توارين يف خجل ليفسحن املجال للرجلني‪.‬‬
‫انتبهت إىل أنني مل أرد عليهم التحية بعد‪ ،‬فشعرت بالخجل وأنا أقول متلعثامً‪:‬‬
‫ُ‬
‫«الله يسلمكم‪ ،‬الحمد لله هسة بقيت متام التامم‪ ،‬اتفضلوا»‪.‬‬
‫«الحمد لله إنك اتكلمت‪ ،‬أنا كنت فاكرك خرست!»‪.‬‬
‫تجاهلت سخرية العم إحسان وسألتهام‪:‬‬
‫«منو الكلمكم مبريض؟‪ ،‬ما كنت فاكركم عارفني»‪.‬‬
‫«حسن ده ما يف خرب بيخفي عليه يف البلد دي‪ ،‬جاين قبيل كلمني»‪.‬‬
‫«أيوه والله مشيت أرشب قهوة يف بيت جريانكم كلموين‪ ،‬لكن يا أخوي املالريا‬

‫‪88‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫دي لو لقت ليها قزازة عيل الطالق تقوم زي الحصان!!‪ ،‬اسمع كالمي خليني أجيب‬
‫ليك عرقي سيوبر بنفعك»‪.‬‬
‫فضحكت بصعوب ٍة وأنا أمت ّعن يف مالمح العم إحسان الذي قال بعد أن نهض‪:‬‬ ‫ُ‬
‫«يا زول نحن بنميش‪ ،‬قلنا نك ِفر ليك ونطمنئ‪ ،‬وأهو أنت متام التامم بترشب يف‬
‫الحليب وبتاكل يف الحامم»‪.‬‬
‫وبعد ذلك استأذنا‪ ،‬وتركاين نهب وحديت وتفكريي‪.‬‬
‫متخّضت الساعات التالية عن ثوانٍ م ّرت رسيع ًة طائش ًة ومنفلتة‪ ،‬كئيب ًة كوحديت‪.‬‬
‫أحاول االلتفاف واملراوغة مبُكر الذي يفك ُر يف الهروب‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الوقت‪ ،‬كنت‬ ‫وأنا يف زنزان ِة‬
‫حيثيات ترش ُع يف استنزاف ِه معنوياً‪ ،‬ال أريد أن أفتعل مشاجرة مع الواقع الذي‬ ‫ٍ‬ ‫ِمن‬
‫ويعطل‬
‫ّ‬ ‫يخطط النتزاعِ حرية أنفايس‪ ،‬ويريدُ أن يُق ِّيد حركة كرويات دمي الحمراء‪،‬‬
‫إشارات املرور الخرضاء!!‪ .‬سأتصالح ولو إىل حني‪ .‬كان يدور يف خاطري سؤال يتيم‪،‬‬
‫وبدا يل محيرّ اً وغريباً‪.‬‬
‫الواقع الدميم الذي‬‫ُ‬ ‫دقات قلبي‪ ،‬هذا‬ ‫الواقع الذي كان يحسدين يف اِ ِ‬
‫نتظام ِ‬ ‫ُ‬ ‫هذا‬
‫ِ‬
‫بفلذات أكبادها‪،‬‬ ‫وتناضل‬
‫ُ‬ ‫الشعوب املطحون َة‪ ،‬وال يعلم أنها تبيك بأبنائها‪،‬‬
‫َ‬ ‫يُبيك‬
‫تتسع لكلِ يشء‪،‬‬ ‫املساحات الشاسع ِة ُ‬
‫ِ‬ ‫وتقدمهم قراب َني من أجلِ كرس ِة خبز‪ .‬فهذه‬
‫الحلم الحالل‪ .‬هذه البالد التي متنحك تأشرية دخولٍ مجانية‬ ‫محصنة يف وج ِه ِ‬ ‫ولكنها ّ‬
‫حيث ال أمل‪ ،‬وتتآمر مع الجغرافيا لترسق منك ما كان يسمي بوطن!‪ .‬ال تُعنينا كل‬
‫لحلم ما‪ .‬وال تسحرنا‬ ‫قدم ٍ‬ ‫هذه املقاعد الربملانية‪ ،‬بقد ِر ما تهمنا كرسة الخبز وموطأ ٍ‬
‫ات الرباق ِة‪ ،‬وال نؤم ُن‬
‫الحسابات الرسية يف كلِ بنوك العامل‪ ،‬ولسنا من حمل ِة الشعار ِ‬
‫بها‪ ،‬بقد ِر ما يهمنا إيصال رأينا!‪ .‬إىل من؟‪ .‬ال يهم‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫األيام التي تلت مريض‪ ،‬وإحسان الحلم ترش ُع يف‬ ‫كان هذا هو لسانُ حايل يف ِ‬
‫ترسق من‬‫الرحيل!‪ .‬تقابلنا عدة مرات والحب يساف ُر بنا يف كل املسافات‪ .‬كانت ُ‬
‫شفيف الغرام‪ ،‬ولكن القدر دامئاً عيونه مفتوح ٌة‪،‬‬
‫َ‬ ‫غفل ِة أهلها سويعات نتساقى فيها‬
‫وأبواب التسفا ِر كانت مرشعة‪ ،‬وأنا أفك ُر يف الهروب!‪.‬‬
‫إىل أن جاء اليوم الذي قالت يل فيه حني تقابلنا‪ ،‬ونظر ٌة حزينة ترت ُ‬
‫اقص يف عينيها‪:‬‬
‫«خالص يا عاطف نحن مسافرين بعد بكرة»‪ .‬وأردفت وهي تحاول أن متنع‬
‫دمع ًة سخين ًة من حقها الرشعي يف الهطول‪:‬‬
‫«ما عارفة تاين ح أالقيك‪ ،‬والال مح نتالقى»‪.‬‬
‫مل أجد ما أقولهُ لها فسألتني‪:‬‬
‫«مالك يا عاطف؟ أنت ما حايب تتكلم معاي؟»‪.‬‬
‫«ما يف حاجة‪ ،‬أنا أصالً كنت مجه ًزا شعوري لليوم ده!»‪.‬‬
‫صمتت برهة وقالت‪:‬‬
‫«أنا أوعدك إين ما ح أنساك طول العمر‪ ،‬صدقني يا عاطف»‪.‬‬
‫األضعف‬
‫َ‬ ‫وكنت‬
‫وعندها مل تتاملك نفسها وبكت‪ .‬فبكينا ونحن نلع ُن يف الرحيل‪ُ .‬‬
‫إجهاض دمع ٍة غافلت رمويش وهي تواسيني يف لطف‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫واألكرثَ حزناً‪ ،‬فلم تُفلح يف‬
‫«خالص يا عاطف ده قدرنا‪ ،‬إن شاء الله بنتالقى‪ ،‬الدنيا ما بالقسوة دي»‪.‬‬
‫مل أعد أستطيع االحتامل أكرث من هذا فاستأذنتها الذهاب‪ .‬وكانت هذه هي املرة‬
‫األوىل التي أتركها فيها مذ عرفتها‪ .‬كانت هي التي تفعل ذلك دامئاً‪ .‬كنت فقط‬
‫أقتفي آثار عطرها عىل كفي الذي هجرته عصافري مصافحتها‪ ،‬قبيل فراقٍ قصري‪.‬‬
‫فشيعتني بنظر ٍة حزينة وهي تقول دامعة‪:‬‬

‫‪90‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«خالص أشوفك بكرة‪ ،‬والال ما عايز تودعني كامن؟»‪.‬‬


‫طريق عام ٍر بالحىص ورمالِ وجعي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫فأومأت لها برأيس نافياً‪ ،‬وأنا أسريُ مبتعداً يف‬
‫أحاول اإلِفالت من هذا الشعور غري املتصالح‪ ،‬ولكن خيبات هذه‬ ‫كنت فقط ُ‬ ‫فقد ُ‬
‫وتبصق يف وجهي بقرف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الحياة مازالت تطاردين‬
‫والفيتني عند نهر النيل‪ ،‬هذا الذي يغف ُر جميع تجاوزاتنا‪ ،‬ويحتمل أوجاعنا‬
‫وآالمنا وآهاتنا‪ ،‬أتيتهُ شاكياً قدري‪ ،‬وجئتهُ تائباً ليطهرين‪ ،‬مل أش ِّيد يف حرضت ِه قصوراً‬
‫من الرملِ ‪ ،‬فقد كان زاهداً فيها‪ ،‬وأنا أعرف بأن املدَّ سيكون عالياً‪ ،‬وأنا ال أحتمل‬
‫يستحق‬
‫ُ‬ ‫املزيد من الخيبات!‪ .‬هذا النيل الذي أحرقنا جوفهُ شعراً وبكا ًء وغنا ًء‪ .‬ال‬
‫منا أن نجعلهُ مج ّرد منديل لدموعنا متعددة املنابع!‪ .‬فلامذا ال نضحكُ يف وجه ِه‬
‫غض‬ ‫موسم املطر؟‪ .‬هذا الوحش الزنجي املتدفق‪ ،‬الذي َّ‬ ‫ِ‬ ‫غيم يف‬‫ونقدّ م لهُ باقة ٍ‬
‫كل خطايانا وعقوقنا ومل يبخل بالعطاء‪ .‬ألهذا أتجه شامالً ليتب ّنى امرأ ًة‬ ‫النظر عن ِّ‬
‫يتيمة تُدعى مرص؟‪ .‬هذه األنثى التي كانت تُق ِّبلهُ مليون مرة يف كل عام‪ ،‬وتغا ُر‬
‫ونسبهُ يف الرس؟؟‪.‬‬ ‫نكتب في ِه القصائدَ ُ‬ ‫علي ِه ومع ذلك تهديهُ عروس ًة‪ .‬ملاذا ُ‬
‫قت ذرعاً بأمواج ِه متقلبة األطوار‪ ،‬وحملتني خطوايت باتجا ِه‬ ‫وها أنذا قد ِض ُ‬
‫الطريق الذي يؤدي إىل منزيل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وجدت نفيس يف‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الرشيط األسفلتي املحاذي‪ ،‬بيد أين‬
‫يل فكرة واحدة فقط ‪ ..‬الرحيل وال يشء غريه‪ ،‬الغريب يف‬ ‫فقصدتهُ وكانت تسيط ُر ع ّ‬
‫كنت أعتقد أن هذا السودان‬ ‫األمر أن هذه الفكرة مل تخطر عىل بايل من قبل‪ ،‬فقد ُ‬
‫هو عقيديت‪ ،‬ولكني أؤم ُن اآلن ـ عىل األقل ـ بحري ِة العبادات!‪{ ،‬فلكُم سودانكم‬
‫وليِ جناح!!}‪ .‬تباً لك يا حزن‪ ،‬بل تباً لكل البالد التي ال أحيا فيها كبني آدم‪ ،‬دون‬
‫والعض حتى أشعر الناس ـ خشي ًةـ بآدميتي!‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن أضطر للنباح‬

‫‪91‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫اآلن فقط سأكف ُر بهذا املسمى مجازاً وطنيا‪ ،‬فالوطني ُة الحقيق ُة تكم ُن يف دواخلنا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ثوابت‬ ‫تظل مراوغ ًة عاطفية للتحايلِ عىل‬ ‫أما محاولة ربط الوطنية بالجغرافيا ُّ‬
‫عقالنية {الوطن ليس هو املكان الذي نطلق عىل أرضه رصختنا األوىل‪ ،‬ولكنه‬
‫املكان الذي نبتسم فيه‪ ،‬ونعانق حبيباتنا‪ ،‬ونتبادل معهن كؤوس القبالت صائحني‬
‫ـ يف ص ّحتك يا حب ـ دون أن يردعنا أحدهم وهو ال يفهم معنى الحب أصالً}‪.‬‬
‫رس‬
‫يجب علينا تطليق ما يعرف باالنتامء من أ ِ‬ ‫إذن ليك نف َُض هذا االشتباك املربك‪ُ ،‬‬
‫البيئة واملكان‪ ،‬وينبغي التوقف عن تكديس الشعارات التي ال نؤمن بها‪.‬‬
‫تقض‬ ‫حاولت أن أغفو ذهنياً إليقاف رصاع األفكار يف رأيس‪ ،‬ولكنها ما ف ِتئت ُّ‬ ‫ُ‬
‫أحس أن هذه الحياة أكرث عبثي ًة‬ ‫مضاجعي وتصيبني بذلك الشعور بفقدانِ الوزن‪ُّ ،‬‬
‫تظل‬ ‫نف ورويّة‪ ،‬فهي ُّ‬ ‫وقت مىض‪ ،‬فيجرفني التيار الوجودي مر ًة أخرى ب ُع ٍ‬ ‫من أي ٍ‬
‫انفعاالت عابرة لنفسي ٍة ما تكا ُد تُغيرِّ ُ مجرى حياتك‪ ،‬وتعربُ بكَ إىل عوا ٍمل مل تحلم‬
‫بأن {تط ُئها عيناك بنظرة!}‪ .‬فكان قراري ـ وقتها ـ حاسامً‪ ،‬مل يكن خطأ ومل يُحالفني‬
‫انعطافات هذه املرحلة السيئة‪ .‬ويا‬ ‫ِ‬ ‫يل‬
‫الصواب‪ ،‬ولكنهُ كان قراري الذي أملتهُ ع ّ‬
‫لها من ‪.! ..‬‬
‫فها قد أىت يوم رحيلها وأنا كام تغنى الراحل مصطفي سيد أحمد يف مريم‬
‫رسم للتواصلِ والرحيل ‪ ..‬وأنا اآلنّ‬ ‫«مقياس ٍ‬
‫ُ‬ ‫األخرى رائعة الشاعر عيل ش ّمو‪:‬‬
‫الرتق َُّب وانتظار املستحيل»‪.‬‬
‫تظل معلقة عىل جناح‬ ‫لكم أكره هذه الحقائب وتلك القطارات‪ .‬ملاذا أقدارنا ّ‬
‫طائرة؟‪ .‬بل ملاذا يصبح الوطن مجرد صالة ترانزيت؟‪.‬‬
‫قلب‬ ‫ُ‬
‫أرتعش يف ِ‬ ‫إحسانُ التي كانت تعربين بسخون ِة ح ّمى استوائية‪ ،‬وترتكني‬

‫‪92‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫عاصف ٍة ثلجية‪ ،‬بربك ماذا فعلت يا عم إحسان؟‪ .‬أو باألحرى ماذا رسمت؟‪ .‬فلوال‬
‫هدى مثيل ومثل آالف العاطلني من أبناء‬ ‫أتسكع بال ً‬‫ُ‬ ‫لكنت اآلن‬
‫هذه اللوحات‪ُ ،‬‬
‫بلدي‪ ،‬أولئك املؤلفة قلوبهم عىل إيقاعِ الضياع‪ .‬اليو ُم ال يجدي إال الرحيل‪ ،‬وال‬
‫يوجد خيا ٌر إال خيار القطارات‪ ،‬ويا له من خيار!‪.‬‬
‫وتقابلنا للمر ِة األخري ِة ونحن يف معي ِة الشجنِ املعبأ يف زفراتنا وآهاتنا‪ ،‬تقابلنا‬
‫يف ذلك املسا ِء ونحن نعيدُ تفخيخَ مآقينا بالدموع‪ ،‬ونُلغ ُِّم عواملنا بالسه ِر الطويل‬
‫ِ‬
‫للتجديف ضد قوانني البحار‪،‬‬ ‫الحب هو محاولة‬ ‫املعدُّ للتفجري يف أولِ نوب ِة بكاء‪ُ .‬‬
‫ولكنهُ كان يف قلبي محاولة غبية إلنكا ِر قو ِة الجاذبي ِة األرضية‪ ،‬إذ مل يكن له وزن‬
‫أتسكع يف‬
‫ُ‬ ‫أحس أن يف شهيقي نسخ ًة مطور ًة للزفريِ‪ ،‬وأنا أتنفسها‪ ،‬كنت‬ ‫بالطبع‪ُّ .‬‬
‫فكنت‬
‫ُ‬ ‫بحرص الذي يخىش أن تكون هذه اللوحة هي «العشاء األخري»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫تفاصيلها‬
‫بالطعم‪ ،‬وعجلة الذي مل يأكل منذ أسابيع‪ ،‬فيام‬ ‫ِ‬ ‫التهمها ببط ِء من يريد أن يستمتع‬
‫كانت هي تحاورين صمتاً‪ ،‬وصدرها املتمرد يعل ُن احتجاجهُ عىل الفستانِ األزرقِ ‪،‬‬
‫فقررت أن أضع حداً لجدال األنفاس املحتدم‬ ‫ُ‬ ‫يحلم مثيل بقليلٍ من الحرية‪.‬‬
‫فهو ُ‬
‫وسألتها‪:‬‬
‫«خالص بكرة سفر ودموع وعذاب؟؟»‪.‬‬
‫«نعمل شنو يا عاطف‪ ،‬والله أنا يل يومني ما قادرة أنوم وال قادرة أعمل أي‬
‫حاجة»‪.‬‬
‫«وأنا أقول شنو؟ أنا ما قاعد أنوم من قبل ما أشوفك حقيقة وما خيال‪ ،‬إحسان‬
‫أنا ‪..‬؟»‪.‬‬
‫فسألتني يف استجداء ُملِح‪:‬‬

‫‪93‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«أنت شنو يا عاطف؟؟‪ ،‬أنا سامعاك أتكلم»‪.‬‬


‫طفل الكالم‪ .‬وليته مل يفعل‪.‬‬
‫وبعد معاناة رصخ ُ‬
‫«أنا ب ح ب ك ‪ ..‬يا إح س ان!!»‪ .‬خرجت مكسرّ ة باردة ساخنة متمردة وخجلة‪.‬‬
‫ضاعت يف متاهتي عندما نسجت أحابيل الجملة بوهنٍ بالغ‪ .‬صمتت‪ .‬وأنا‪.‬‬
‫نصف‬
‫ُ‬ ‫وأتطلع إليها وهي‬
‫ُ‬ ‫قلتها وأنا أحاول أن أُمللِم ما تبقى من رباط جأيش‪،‬‬
‫تغمض عيل حلمها‪ ،‬فأتركها تدثرين‬ ‫ُ‬ ‫مغمضة‪ ،‬كان يتغطى شوقي بدفء عينيها وهي‬
‫همساً وتغطيني من صقيعِ صمتها‪ ،‬لتصطيل أنفايس وترصخُ قائلة‪« :‬زملوين زملوين‬
‫زملوين!!»‪.‬‬
‫إحسان هذه الجميلة التي بدت مثل قط ٍة أليفة خربشتها مخالب الشمس فجراً‬
‫تهتف‪« :‬يا بدر آتنا ضياءنا»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فهربت إىل حضنِ القمر وهي‬
‫ٍ‬
‫توقيت غبي‪.‬‬ ‫«أنت بترسح وين يا عاطف؟؟»‪ .‬سألتني يف‬
‫«أنا ما سارح!‪ ،‬أنا ماخد راحتي معاك يف الكالم‪ ،‬عشان اليش الحايس بيه ده‪ ،‬ما‬
‫القي حروف تقولُه‪ ،‬وال تعبرّ عنه‪ ،‬خليني أرسح واسمعيني كويس!!»‪.‬‬
‫«يعني ح نفضل كده كتري؟؟‪ ،‬أنا محتاجة أسمعك‪ ،‬اتكلم يا عاطف»‪.‬‬
‫«أقول ليك شنو يا إحسان؟ أنا حايس إنُه الدنيا دي كلها بقت أضيق من علبة‬
‫وأنت مسافرة وما معروف ح تبعدي كم سنة‪ ،‬وكم مشوار وكم شوق!‪،‬‬ ‫كربيت‪ِ ،‬‬
‫وكم وجعة»‪.‬‬
‫تتطلع يف ساع ِة يدها‪ ،‬سألتني‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وهي‬
‫«للدرجة دي يا عاطف أنت ب! ‪ ..‬ب ت ح ب ن ي؟»‪.‬‬
‫فحاولت أن أتالعب بآخ ِر ورق ِة تفاوض وأنا أرد عليها‪:‬‬

‫‪94‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫وأكرت يا إحسان‪ ،‬أنا ما عارف متني ح نتقابل‪ ،‬لكن حايس أنو ده ح يحصل‪ ،‬بس‬
‫خليك عارفة إين ح أقيض زمن كتري من عمري يف انتظارك‪ ،‬وياريت آخر مشاويرك‬
‫يكون يف سكّتي‪ ،‬السفر ما مشكلة‪ ،‬األهم الرجوع‪ ،‬الغياب بستحملُه‪ ،‬الله يقدرين‬
‫عىل الشوق والحنني»‪.‬‬
‫مل أكن أعلم كيف واتتني الجرأة ولكني عانقتها‪ ،‬ومل أكن أعلم كيف استطعت‬
‫كعاشق‬
‫ٍ‬ ‫أن أتحدث بهذه الطريقة التي فاجأتني متاماً حني اكتشفت أنني أصلح‬
‫مبتدئ‪ .‬نعم عانقتها‪ ،‬فقد كان قدراً وقضا ًء ال أملكُ لهُ رداً‪ .‬عانقتها وأنا أشع ُر‬
‫ُ‬
‫وأتحدث نياب ًة عن كلِ قبائلِ‬ ‫ِ‬
‫اللغات‪ ،‬وأخاطبها بجميعِ األلسنة‪،‬‬ ‫بأنني أزفها بكلِ‬
‫كنت أو ُّد أن أقبلها‪ ،‬ولكنها هربت بشفتيها خجالً‪ ،‬وآثرت السالمة من‬ ‫العشاق!‪ُ .‬‬
‫االحرتاقِ تقبيالً وعناقاً‪ .‬ولكنها كانت مامنع ًة يف استسالم عىل كل حال‪ ،‬وأنا كانت‬
‫ّب من كنو ِز‬ ‫القتناص قبل ٍة تذكاري ٍة‪ ،‬ألضعها يف إطا ٍر مذه ٍ‬
‫ِ‬ ‫تنقصني الجرأة الالزمة‬
‫قابع يف زنزان ِة برد الروح حني تغيب‪ .‬فال يبقى غري‬ ‫الخيبات‪ ،‬وأتطلع فيها وأنا ٌ‬
‫اإلطار الذي يسكنه عصفورها‪.‬‬
‫«كفاية يا عاطف‪ ،‬أنا الزم أميش اآلن»‪ .‬وبدت مرتنحة دائخة ومثلة‪.‬‬
‫كلامت املواساة وكل قصائد الرثاء‪ ،‬مل أكن‬‫ِ‬ ‫قالتها بدمع ٍة تقه ُر كل املناديل‪ ،‬وكل‬
‫َ‬
‫تتشبث بآخ ِر أمل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫تحاول أن‬ ‫كبرياً عىل الحزنِ فبكيت‪ .‬وبكت قبيل أناميل‪ ،‬وهي‬
‫وآآخر مصافحة‪ ،‬وآآآخر لقاء‪ ،‬وآآآخر‪ .!..‬لكم هي وفي ٌة هذه األنامل‪ ،‬فقد شاركتني‬
‫حزين وأبكاها الرحيل‪.‬‬
‫صمت برهة أخاطب نفيس‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫قرص الشمس‪ ،‬ال تنيس أن هنالك شهابا عرب يوماً‬ ‫إحسان أيتها املتجهة خلف ِ‬

‫‪95‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫بفضاءاتك‪ ،‬فحني تغادري صوب السامء‪ ،‬تذكري أننا كنا نسك ُن يف تلك املج ّرة‪،‬‬
‫ونحلق يف ذات املدار‪ ،‬هل ستنيس أنني أحد األعرية النارية‬ ‫ُ‬ ‫وندو ُر يف نفس الفلك‪،‬‬
‫التي انطلقت نحو صدرك مبارش ًة ومل تر ِد ِك قتيلة؟‪ .‬هل؟‪ .‬إحسانُ التي ستبعدُ عني‬
‫ستشع فيها‬
‫ّ‬ ‫السنوات الضوءية‪ ،‬ترى هل ستذكرين يف املجموع ِة الشمسية التي‬
‫ِ‬ ‫آالف‬
‫سرتحل وترتكني‬‫ُ‬ ‫هناك؟‪ .‬أم ستعتربين مجرد نيزك تحطم يف أحالمها؟‪ .‬إحسان التي‬
‫بصحب ِة الشجنِ املعبأ يف فناجيلِ رؤية‪ ،‬يقهقهُ يف عتم ِة سوادها حلام حزينا‪ .‬هذه‬
‫وتشنق نفسها حني تختا ُر البعاد!‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ستصمت لغاتها حني رصاخ التضاد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الروح التي‬
‫ترى هل ستسكن جسدي مجدّ داً‪ ،‬وهو بال مفتاح وال أبواب‪ ،‬وال؟‪ .‬وأنت أيضاً يا‬
‫أنا‪ ،‬عليك أال تنس!‪ .‬ال تنس‪.‬‬
‫وأخرياً ‪ ..‬غادرين صدرها املفخخِ بالحليب‪ ،‬ومل أعِ إال أنها رحلت لتد ِّج ُّج زمني‬
‫برصاص البكا ِء‪ ،‬وقصف النحيب والعويل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بالفراغِ‪ ،‬وتعيدُ حشو جميع املناديلِ‬
‫تنزف دمعاً رسيع الطلقات‪ ،‬ألبدأ يف ِ‬
‫تلغيم‬ ‫فأتخندق وراء رصاخي‪ ،‬وأترك ذخرييت ُ‬ ‫ُ‬
‫فيايف وحديت بقنابلِ السهر الطويل‪ .‬مل يكن هذا انقالباً سلمياً يف عاملي‪ ،‬ولكنهُ كان‬
‫ويحطم عرش الزمان!‪ ،‬بال أدىن شك‪ .‬ومن ثم ‪ .!..‬يا ريب‪.‬‬‫ُ‬ ‫زِلزاالً يدكُ حصون املكان‬
‫نعم رحلت وتركت ما يشبهُ الجرح وال دماء‪ ،‬وخلّفت دمعة وال بكاء ‪ ..‬فلم أجد‬
‫سلوى إال يف العم إحسان الذي كان يبدو أنه رجل املرحلة‪ .‬من أين يل مثن السلوى‬
‫فأرشيها؟؟‪ .‬فهل ترى سأعو ُد لوثنيتي القدمية وأرجع للصال ِة يف محراب ِه؟‪ .‬هل سأرتدُ‬
‫تنهش يف مخيلتي وأنا يف طريقي‬ ‫عن هذا الدين العابث؟‪ .‬كانت هذه الخواط ُر ُ‬
‫ملنزل العم إحسان الذي بدا كئيباً موحشاً من بعيد‪ .‬كنت موقناً أنني اليو ُم سأرتدي‬
‫الصليب مر ًة أخرى‪ ،‬وأقد ُم القرابني لهذا القديس الجميل‪.‬‬
‫َ‬ ‫هذا‬

‫‪96‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫يتزوج األبطال»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فالحب مل يكن عىل طريق ِة نزار قباين‪« :‬رواي ٌة رشقي ٌة يف نهايتها‬
‫ُ‬
‫رص بها عىل خيباتنا الخارجية‪.‬‬ ‫الحب غيبوب ٌة نصدقها يف ال وعينا‪ ،‬وهزمي ٌة داخلي ٌة ننت ُ‬ ‫ُ‬
‫فنحب لنتنفس‪ ،‬ويجوعون بطوننا‪ ،‬ويشوون جلودنا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يخنقنا القاد ُة السياسيون‬
‫الحب أفيوناً ألننا يف عا ٍمل يرقدُ يف غرف ِة‬‫ِ‬ ‫نجعل من‬
‫ُ‬ ‫نتوهم الشبع‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فنحب حتي‬
‫ُ‬
‫نعيش‬‫نحب لنعيش أم ُ‬ ‫العناي ِة املركزة!‪ ،‬عامل يُعاين من الغيبوبة القرسية‪ .‬هل ترانا ُ‬
‫لنحب؟‪ .‬أسئل ٌة حمقاء وإجابتها أكرث حامق ًة ‪...‬‬
‫الهروب يف مثلِ هذه الظروف هو أسهل طريقة للمواجهة‪ .‬فحني يكونُ سيفك‬
‫ِ‬
‫الفرضيات‬ ‫مشانق‬
‫ِ‬ ‫قصرياً فطولهُ بخطو ٍة {إيل الوراء!}‪ .‬فكيف نواجهُ ونحن نتدلىّ من‬
‫الرعناء؟‪ .‬ومن نواجه؟‪ .‬ملاذا ال منارس االلتفاف واإلسقاط؟‪ .‬وملاذا ال نحاو ُر ونراوغ؟‬
‫وقد انعدمت خطوط الرجعة وش ّحت الخيارات وتضاءلت املساحات!؟‪.‬‬
‫أسئل ٌة حمقاء‪ ،‬وإجاباتها أكرث حامق ًة ولؤماً!!‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫‪98‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الفصل التاسع‬
‫العم إحسان‪ ،‬بينام‬ ‫مرت ثالث ُة أشهر وأنا عىل هذا الحال‪ ،‬أداوم عىل زيار ِة ِ‬
‫صمت معلن كام هو متوقع‪ ،‬مرت اإلجراءات يف‬ ‫ٍ‬ ‫كنت أجه ُز أوراقي للسف ِر يف‬
‫بط ٍء شديد‪ ،‬ألن السلطات يف بلدي أدمنت قصقصة أجنحة الحلم وتحريم‬
‫رص‪ ،‬عساها أن تكون نقط َة‬ ‫قررت أن تكون وجهتي م َ‬‫الطريان للحاملني بغ ٍد أفضل‪ُ .‬‬
‫قديم‬
‫حلم ٌ‬‫والنخفاض التكاليف‪ .‬وأيضاً ألنهُ كان يناوشني ٌ‬
‫ِ‬ ‫انطالقٍ لعوا ٍمل جديد ٍة‪،‬‬
‫متكنت من تجهي ِز أوراقي للسفر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بزيارتها!‪ ،‬فقد كانت هي ح َّجتي الصغرى‪ .‬وأخرياً‬
‫وأسعدين هذا األمر‪ ،‬وأوجعني يف الوقت نفسه‪.‬‬
‫فقصدت العم إحسان يف جمهوريت ِه الساحرة لتوديع ِه‪ ،‬والبكاء عىل آخر أطالله‪،‬‬
‫ومعهُ أودع كل األساطري‪ .‬كان العم إحسان يف بيت ِه الذي يشبهُ تفاصيله‪ ،‬كسيناريو‬
‫الرسب كرواية!‪،‬‬
‫ِ‬ ‫تحلق خارج‬
‫قصقص الروايئ أجنحتها ومل يرتكها ُ‬ ‫َ‬ ‫مصغّر لقص ٍة كبرية‬
‫املنزل بعداً أسطورياً‪ ،‬بأغصانها التي تتدلىّ منها‬
‫متنح فناء َ‬ ‫شجرة النيم العجوز ُ‬
‫أعشاش طيو ِر القمري كعناقي ٍد شه ّي ٍة‪ ،‬ب ّراد الشاي األحمر الساخن كان‬ ‫ِ‬ ‫ثريات‬
‫حضوراً كلام حرض املزاج‪ ،‬واألنس واأللفة والبساطة‪ .‬كان يجالسهُ الثاليث املعتاد‪،‬‬
‫ابط يف فنا ِء املنزلِ لتهبهُ الجامل‬
‫فيام كان هو متشاغالً بسقاي ِة أشجار ِه التي تر ُ‬
‫والراحة الكاملة‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«أهالً وعليكم السالم والرحمة‪ ،‬اتفضل اتفضل»‪.‬‬


‫أقاموا فريضة رد السالم يف جامع ٍة‪ ،‬وابتسموا‪ .‬أما قطتهُ الصغرية التي فاتها أجر‬
‫ترحب يب‪ ،‬اتخذت يل مقعداً قريباً وجلست‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الجامعة‪ ،‬فقد {ماءت مسبوق ًة} وهي‬
‫كوب الشاي النبيذ‪ ،‬انضم إلينا العم إحسان أخرياً‬ ‫وقبل أن أرتشف جرعة من ِ‬
‫وح َّياين يف ٍ‬
‫لطف قائالً‪:‬‬
‫«كيفك يا عاطف يا ابني؟ األمور ماشة كيف؟»‪ .‬أجبت باقتضاب‪:‬‬
‫«كلُه متام يا عم إحسان خالص جهزت كل األوراق وجاهز موية ونور»‪.‬‬
‫«أوراق شنو يا جامعة فهمونا؟ إنتوا قررتوا تبيعوا الدكان بتاع اليامين ده»‪.‬‬
‫يتسائل حسن ضالل يف حرية ‪.‬‬
‫«أنا مسافر مرص بكرة بإذن الله!»‪.‬‬
‫«بختك والله يا عاطف يعني ح تتحول للحوم البيضاء؟»‪.‬‬
‫العم إحسان ضاحكاً‪:‬‬ ‫فريد علي ِه ِ‬
‫«لحوم شنو يا ضالل؟ الراجل مايش يتعلم ويرجع لينا يب كتاب‪ ،‬أنت أفكارك‬
‫دامياً وسخة كدة ليه؟ الله ال يبارك فيك»‪.‬‬
‫«يا جامعة ضالل ده عم ُره ما راح يتغري‪ ،‬اسألوين أنا نارص ده م ُنه ومن أخالقُه»‪.‬‬
‫ليضيف حسن مقهقهاً‪:‬‬‫ُ‬
‫«خليكم من تغيريي‪ ،‬الليلة الزم نعمل قعدة وداع‪ ،‬أنا عيل الرشاب‪ ،‬وإنتوا‬
‫جهزوا امل ّزة والحلَّة!‪ .‬أنت يا موالنا ما معانا؟؟»‪ .‬يرد عم بيرت يف وداع ٍة كعادته‪:‬‬
‫«ال أنا أعفوين من قعدتكم دي لكن بتربع ليكم يب كيلو لحمة!»‪ .‬فيقاطعه‬
‫ضالل‪:‬‬

‫‪100‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«يا بِيرت كيلو لحمة؟؟ نحن عرسنا ليك يب أربعني بقرة‪ ،‬دي مناسبة دايرة ليها‬
‫خروف عديل كده‪ ،‬تقول يل كيلو لحمة؟ يا راجل حرام عليك»‪.‬‬
‫أبحرت يف داخيل بال‬ ‫ُ‬ ‫فرتكتهم يتجادلون ويتضاحكون‪ ،‬وأبحرت بعيداً عنهم‪،‬‬
‫ركوب البحر عكراً‪،‬‬‫طوق نجاة‪ ،‬أصابني الدُّ وار ألنني مل أتعود َ‬ ‫أرشعة وال بوصلة وال َ‬
‫الصعب‬
‫ِ‬ ‫آالف األميال مشياً وأنت ظامئاً يف فال ِة‪ ،‬لكن من‬ ‫من السهل جداً أن تقطع َ‬
‫الجحيم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫والطريق إىل‬
‫ُ‬ ‫النفس‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الطريق إىل‬
‫ُ‬ ‫جداً أن تخطُو خطو ًة واحد ًة داخلك!‪.‬‬
‫شعرت بالظأم‬
‫ُ‬ ‫كنت حافياً وأنا أجتا ُز غاب َة أشواكَ أعامقي‪،‬‬ ‫تذكرتان لرحل ٍة واحدة‪ُ .‬‬
‫ولكن البدَّ من صنعا ِء وإن طال السفر!‪.‬‬
‫خارج إطار‬
‫كنت َ‬ ‫مل أعد أسمع كالمهم وكأنهم كانوا يتحدثون بلغ ٍة غري مفهومة‪ُ ،‬‬
‫وبدأت أُه ِّو ُم بعيداً وقريبا ‪ ..‬هذه هي مرص! وهؤالء هم الرفاق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الزمان واملكان‪،‬‬
‫يتباين الديكور وِفق انعطافات النفسية‪ ،‬ويتغري الشخوص تضامناً مع إحداثيات‬
‫املجهول غري املريئ‪ ،‬فيحدث التخاطر السلبي مع األنا‪ ،‬مع الذات وتناقضاتها مع‬
‫يل رهيب‪.‬‬ ‫الكينونة‪ ،‬حني تختا ُر {أنا} وتنحا ُز إىل {هُم} يف نفس الوقت!‪ .‬رصا ٌع داخ ٌّ‬
‫الظروف الرعناء‪ ،‬ولكني كنت أطمح‬ ‫ِ‬ ‫مل أكُن مؤمناً إال بإِرشايك وكُفري بآله ِة هذه‬
‫يف عباد ِة أملٍ جديد‪ ،‬إن مل يصنعني يجب أن أخلقهُ وأسجد لهُ !‪.‬‬
‫هم رفاقي ورائح َة شوائهم تؤذي‬ ‫يجب أن يحدث التغيري‪ ،‬وتتفجر الثورة‪ ،‬هؤال ِء ُ‬
‫الجريان الجياع‪ ،‬مل أكن قد شعرت مبرو ِر كلِ هذا الوقت‪ ،‬إال بعد أن رأيت كأيس‬
‫الرشب قائالً‪:‬‬
‫ِ‬ ‫أمامي وحسن ضالل ي ُحثني عىل‬
‫«أنت الريس منريي فكّ املساجني سنة كم؟»‪.‬‬
‫{عبار ٌة شهري ٌة يردّدها السكارى وأصحاب املزاج حني تتأخر يف احتسا ِء كأسك}‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫كنت أخىش أن أمثل‪ ،‬فأنا عىل سفر‪ ،‬وعيل أهل‪ .‬ومع ذلك ومع ذلك { ُمناورة‬
‫اقرتحت نخباً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫لغوية عىل طريق ِة الهايكو اليابانية}‪ ،‬يف صحة الوطن والرحيل‪،‬‬
‫تظل يف ذاكريت كل املرارات والخيبات والفشل‪ .‬وكان‬ ‫رشبت حتي ال أنىس‪ ،‬وحتي ُ‬ ‫ُ‬
‫العم إٍحسان يغني كعادت ِه‪ ،‬ولكن أكرث إِيالماً وحزناً‪:‬‬
‫«ل ِّو ُموهُوا الالهي يف الغرام بالله ‪ ..‬قولوا ليه الحب يشء طبيعي إلهي»‪ .‬كأنهُ‬
‫ويربت عىل أكتافنا‪ ،‬لشدّ ة ما أطربنا‪ ،‬هل‬ ‫ُّ‬ ‫يعزف عيل أمعائنا لشدّ ة ما أوجعنا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫والوقت كالسيف‪،‬‬‫ُ‬ ‫ألف ليل ٍة وليلة‪،‬‬‫الحب سكارى مثلنا؟‪ .‬لقد كانت ليل ًة من ِ‬ ‫رأى ُّ‬
‫وطائريت عجول ٌة سئمت االنتظار‪ ،‬ولن تنتظرين دقيق ًة واحدة بعد الرابعة بتوقيت‬
‫الحزن!‪ .‬فودعتهم وهم أقرب ما يكونون إىل البكا ِء‪ ،‬ولكن صدّ تهم الكربياء‪ ،‬وأكرث‬
‫الذهاب إىل‬
‫ِ‬ ‫متكنت من‬‫ُ‬ ‫العم إحسان من وصايا لقامن‪ ،‬ومتنى يل التوفيق‪ ،‬وأخرياً‬
‫سخط أهيل‪ ،‬فهم ينتظرونني أيضاً لتوديعي‪ ،‬وقد‬ ‫َ‬ ‫أعلم أنني سأنال‬
‫املنزل‪ ،‬وأنا ُ‬
‫نصبوا رسادق العزاء‪ ،‬وكأنني مساف ٌر بال عودة‪ ،‬ما أشدّ طيبة هؤال ِء الناس!‪.‬‬
‫واآلن حان موعد الرحيل املُر‪ .‬ولكن فجأ ًة د َُّق الباب وعندما فتحتهُ برسع ٍة كمن‬
‫ُّ‬
‫يتأبط شيئاً‬ ‫غائب قد يعود‪ ،‬وجدت العم إحسان هو الطارق‪ ،‬وقد كان‬ ‫ينتظر ٍ‬
‫وقال يل‪:‬‬
‫«معليش يا عاطف لكن يف حاجة أتذكرتها وقلت أهديها ليك»‪ .‬كان يبدو مثال‬
‫وحزيناً‪.‬‬
‫«ته ِدي يل شنو يا عم إحسان؟»‪.‬‬
‫«أنا عايز أهديك لوحة الحورية عشان بتحبها‪ ،‬وعندك معاها ذكريات جميلة»‪.‬‬
‫«الله !!! الله يخليك ياخ!‪ .‬أنا بحبك يا عم ‪.»..‬‬

‫‪102‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ولكنهُ مل ينتظر ليستمع إىل بقية كالمي‪ ،‬وخطبتي العاطفية البليغة‪ ،‬وقفل‬
‫رغيف حزين‪ .‬أوجعني حزنه أكرث من‬ ‫ِ‬ ‫يدس مني دمع ًة تتعىش عىل‬ ‫راجعاً وكأنهُ ُّ‬
‫كرمس طائر‪.‬‬ ‫نواح أمي عىل رحييل الفادح‪ ،‬ومل يج ِد البكاء‪ .‬كانت تخال أن الطائرة ٍ‬
‫مل تكن تعلم أنها أصابت كبد الحقيقة‪.‬‬
‫فبدأت أحدِّ ُق يف وجو ِه‬‫ُ‬ ‫كانت سياريت التي ست ِقلّني إيل املطا ِر تنتظ ُر بالخارج‪،‬‬
‫أهيل كمن يتطلّع إىل آخ ِر مدين ٍة مأهول ٍة يف العامل‪ ،‬قبل أن يرحل إىل املجهول‪،‬‬
‫ولحظتها بدا يل قرار السفر هو أكرث حامق ًة وطيشاً مام ينبغي‪ .‬ولكن قد سبق‬
‫حيث شاءت‪ ،‬وش ِّيدوا‬ ‫السيف العزل ولسانُ الحال يقول‪« :‬اتركوا هذه الناق َة تنيخُ ُ‬
‫عىل أطاللها ذكرى‪ ،‬ولكن ال تبكوا‪ ،‬فلم يعد هنالك متسعاً للبكاء»‪ .‬فهذه الحياة‬
‫بدأتها بالرصاخ وسأختمها بالرصاخ‪ ،‬فكان البد أن أنكئ هذه الجراح!‪.‬‬
‫كنت أشكُّ أن تلك األمواج كانت تتواطأ مع حزين‪ .‬وكانت عربة األجرة العتيقة‬
‫األسفلت يف طريقها إىل مطار الخرطوم‪.‬‬‫ِ‬ ‫تتهادى عىل‬
‫ات‬ ‫ِ‬
‫فلذات أكبادها وتحتق ُر املطار َ‬ ‫من قال أن املدنَ ال تبيك؟‪ .‬املدنُ تبيك عىل‬
‫وتكر ُه السفر‪ .‬فقد بدت يل الخرطوم أكرثَ بؤساً ولوع ًة‪ ،‬والطائرة تعتيل مدرجات‬
‫لحظات من اإلِقالع!‪ .‬ولكنهُ القدر وما أدراك ما القدر‪ .‬وبعد زهاء‬ ‫ٍ‬ ‫املطار بعد‬
‫شتوي‬
‫ٍّ‬ ‫الساعت ِني ون ِّيف‪ ،‬أطلت من بعيد مدينة القاهرة مهلّلة ومكربة‪ ،‬يف صباحٍ‬
‫ساحر!‪ .‬أحسست بغواي ٍة مبهمة‪ .‬أهي وحشة العبادة عىل مؤمنٍ مستج ٍد؟‪ .‬أتراها‬
‫دهشة املراهق من جسد خبريٍ بأمو ٍر الفراش؟‪ .‬بل كانت نجمة التحديق يف سام ٍء‬
‫مل تعتد تحليق النور‪ .‬نعم‪.‬‬
‫بأنفاس أم‬
‫ِ‬ ‫بألف مئذن ٍة ومئذنة‪ ،‬وفضاءاتها مع ّبقة‬ ‫استقبلتني مدينة القاهرة ِ‬

‫‪103‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫والسكرية!‪ .‬استقبلتني بروحِ نفرتيتي‬ ‫كلثوم والعقاد وطه حسني وثالثية محفوظ ّ‬
‫وأخناتون وشجرة الدّ ر وعرايب وأرواح فراعني عظامء‪ ،‬استقبلتني بأهراماتها‬
‫ومعابدها ونيلها‪ .‬احتضنتني بتامثيلها وليلها ونيلها‪ .‬القاهر ُة هذه املدينة الشهية‬
‫ومتارس معهُ التو ُّحد‪ ،‬هذه املدين ُة التي مل تُبدِّ ل جلدها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫التي تنا ُم يف حضنِ النيلِ ‪،‬‬
‫األفالم القدمي ِة‪ ،‬مل تتغيرَّ ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ومل تكن عقوق ًة أبداً مع التاريخ‪ .‬فهي متاماً كام رأيتها يف‬
‫تعشق جغرافيتها التاريخ لدرج ِة التو ّح ِد يف‬ ‫ُ‬ ‫ومل تتل ّون أبداً‪ .‬هذه املدينة التي‬
‫جرح من املايض ال يندمل!‪.‬‬ ‫كتاب واحد‪ .‬ففي كلِ حار ٍة وشارعٍ وكلِ مقهى‪ٌ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫تبتسم‬
‫ُ‬ ‫وتقيم مهرجاناً لدموعها ليك تضحك!‪ .‬فهي مدينة‬ ‫ُ‬ ‫وكأنها تحتفل بجراحها‬
‫قادم ليك يقع يف أحضانها‪ ،‬وال متنحك‬ ‫وتطرب للدموع‪ ،‬وتقو ُم برشو ِة كل ٍ‬ ‫ُ‬ ‫للحزنِ ‪،‬‬
‫أي إحساس بالغربة‪ ،‬وكأنك نشأت يف هذه الحارات الضيقة‪ ،‬ولعبت يف هذه‬
‫الطرقات منذ األزل‪.‬‬
‫تضيق‬ ‫ُ‬ ‫القاهرة مدينة تبادلك نفس القدر من املشاعر!‪ ،‬تحبك بقد ِر ما تحبها‪،‬‬
‫الوقت‬ ‫ِ‬ ‫وتصل معك إىل النشو ِة يف‬
‫ُ‬ ‫تضيق منها!‪ .‬متارس معك الحب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بك قدر ما‬
‫رض‬‫نفسه‪ ،‬ومبزاجها!‪ .‬إنها مدين ٌة لك وعليك‪ ،‬منك وإليك‪ ،‬تستدعي املايض وتستح ُ‬
‫التاريخ‪ ،‬فأتطل ُّع إىل صخبها وضجيجها من رشف ِة شقتي الصغرية التي استأجرتها يف‬
‫تستوعب كل هذه التفاصيل؟‪ .‬القاهرة‬ ‫ُ‬ ‫حارة {ميت عقبة}‪ ،‬وكنت أتعجب كيف‬
‫النيل نفسهُ بأمواج ِه‬ ‫بليلها ونيلها وحيلها الرسية إلغوا ِء الغرباء‪ .‬واألعجب أنهُ ُ‬
‫وشطآن ِه‪ ،‬ولكنهم هنا مينحونهُ عروس ًة وربط َة عنق‪ ،‬ويضعون له العطر‪ ،‬ويُقلِّمونَ‬
‫ُدى‪ ،‬فيمنحهم الحياة ويذهب‬ ‫أظافرهُ!‪ .‬أما نح ُن فنرتكهُ مييش حافياً وتائهاً بال ه ً‬
‫املتوسط‪ ،‬ويعلمهم كيف تكونُ التضحية!‪ .‬إنها ليست مؤامرة جغرافية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫لينتح َر يف‬

‫‪104‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ولكنهُ نوع من العطاء الجزيل‪.‬‬


‫ٍ‬
‫زوجات أصغر‬ ‫فنح ُن أيضاً تزوجنا ب ِه‪ ،‬ولكنا ال نحبهُ بنفس القدر‪ ،‬ألن يف عصمتنا‬
‫حواس أراضينا‪ ،‬رمبا‪ .‬مع أنهُ يبقى‬‫ِ‬ ‫منه‪ ،‬ورمبا ألن الغيم يتكفّل مبه ّم ِة دغدغ ِة‬
‫الزوجة األجمل واألصغر‪ .‬يسحرين ليلئ ٍذ‪ ،‬ويحق ّن ِني بالقصي ِد وبعض ذكرى‪ ،‬وأنا‬
‫أتقاسم الهوى مع عدة عشاقٍ ساقهم الهوى إلي ِه‪ .‬فتحرضين إحسان قرآن روحي‬ ‫ُ‬
‫وتر ّد يل إمياين بها‪ .‬تأتيني بكثاف ِة التوقِ ورحاب ِة االشتهاء الذي كان‪.‬‬
‫العم إحسان عاري ًة إال من‬‫قلب النيلِ ‪ ،‬كام تخ ّيلها ُ‬ ‫ستخرج يل من ِ‬
‫ُ‬ ‫أحس أنها‬‫ُّ‬
‫الوضو ِء بأمواج ِه التي تسقي صعيداً طاهراً‪ .‬وقبل أن تأمرين بأن أُصليِّ يف سجادتها‪،‬‬
‫تطلب مني أن أبتاع لها قالد ًة من الفُل أشرتيها من صابر بائع الفُل!‪ : .‬يا صابر‬ ‫ُ‬
‫ترم بأثقالك عيل‪ ،‬سأحتمل كل هذا‪ ،‬ولكن بعني حبيب ًة تستحق أن‬ ‫بالله عليك ال ِ‬
‫أنفق عليها نبض قلبي‪ .‬ملاذا تصمت أيها الصديق املنافق؟‪ .‬يا لك من وغد!‪ .‬لقد‬
‫أخربتك كثرياً بأن الظروف أجربتني أن أقتني الحبيبات بالقطعة‪ ،‬أمل أخربك مسبقاً‬
‫بأن الحبيبة ـ تعترب يف ُعرفنا الرشقي ـ عبارة عن ح ّبة بنادول نستخدمها ليك نشفى‬
‫من أوجاعِ صداعنا السفيل؟‪ .‬دع عنك لومي يا صديق‪ ،‬فأنا لست ع ّراب الحب‬
‫عىل الطريق ِة الرشقية‪ ،‬فهذه الطريقة اخرتعها أجدادنا القدماء ومل أخرتعها أنا‪ ،‬أنا‬
‫بالكاد أعترب مج ّرد حفيد لرتك ٍة عظيم ٍة من اإلثم‪ .‬لقد أخربتك مسبقاً أنني أتيت إىل‬
‫هذا البلد من أجل العلم والحرية‪ ،‬وقد نفدت فرصتي تقريباً يف التعليم!‪ .‬واآلن‬
‫ينبغي أال أنس أن أقول لك‪ :‬تباً يا صابر بن أم صابر‪ ،‬قاتلك الشوق!‪.‬‬
‫كان ذلك الشاب النحيل القصري الذي يبيع الفل عيل كورنيش النيل بامتداده‬
‫يلملم‬
‫ُ‬ ‫وكأنه صنيعة موجة مخادعة ال تطيق صرباً عىل أرس الضفاف‪ .‬كان صابر‬

‫‪105‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫مرصي محرتف‪ .‬كانت له قدرة‬ ‫ٍ‬ ‫يل الحكايات والحواديت املصنوع ُة بعناي ِة حكوايت‬
‫عجيبة عىل انتشايل من أشدّ حاالت الحزن التي تصيبني‪ .‬كانت لديه أحالم جميلة‬
‫ومرشوعة‪ ،‬وكانت الدنيا أقىس مام يتص ّور‪ .‬ولكنه مل يفقد قدرته عىل االبتسام‪،‬‬
‫وصنعه‪ .‬كان فقرياً‪ ،‬ولكنه مل يفقد كل أمواله يف البورصة‪ ،‬ومل تغرق له سفينة‪،‬‬
‫حتى يحزن عليها!‪.‬‬
‫أتخيلها وهي تتمشيّ معي يف كورنيش النيل يف ذلك الرشيط املمتد من فندق‬
‫الكرنك حتي مباين اإلذاعة والتلفزيون يف ماسبريو‪ ،‬أتخيلها وهي تأكل يف قندول‬
‫ذرة شامي‪ ،‬وتركض فجأة ليك تلحقني وأنا أتسكع يف كربي قرص النيل حافياً‬
‫كمخبولٍ غريب األطوار‪ .‬كنت أتخيلها وهي ترقص رقصة رشقية يف قارب يتهادى‬
‫هدى‪ ،‬أراقبها وهي تتملّص من مراقبتي مبهار ِة نشّ ال‪ ،‬ألجدها بعد‬ ‫عىل املوج بال ً‬
‫لحظات ـ مصادفة ـ تأكل الفول يف مطعم سعد الحرامي‪ ،‬أو تحتيس الجعة يف بار‬
‫الحرية أو جامايكا أو الجريون‪ .‬أشاهدها يف شارع الهرم وهي ترتدي بذلة رقص‬
‫ساخنة‪ ،‬وتخربين أنها خرجت ـ للتو ـ ألداء صالة الفجر‪ ،‬وسأتظاهر بتصديقها ولو‬
‫كذباً‪ ،‬املهم أن أشاهدها‪ .‬صابر يالحقنا ب ّفلِّ ِه‪ ،‬وهو يصرِ ُّ عىل أن يبِيعنا لهُ ُجلّهُ ‪،‬‬
‫وهو يقول يل يف لزوج ٍة معتاد ٍة‪:‬‬
‫تشوفش‬
‫ِ‬ ‫عم عاطف اشرتِي مني الفل ده وربنا يخليهالك! إلهي ما‬ ‫«بُ ِص يا ِ‬
‫يوم ِو ِحش»‪.‬‬
‫«مش عايز يا صابر يا ابن ال ‪.»....‬‬
‫«أ ّحا!! جرى إيه يا سامرة؟ وأمي عملتلك حاجة ال سامح الله؟»‪ .‬يشخر ساخراً‪.‬‬
‫طب هات الفُل ومش عايز أشوف وشك النهار ده‬ ‫«اللهم طولك يا روح‪ْ ،‬‬

‫‪106‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫خالص»‪.‬‬
‫أحس بها تحارصين‬ ‫ما أكرث األيام املوحشة يا صابر يا صديقي‪ ،‬ولكنك ال تدري‪ُّ .‬‬
‫أرقص مثل زوربا‪ ،‬وهي تتاميل مثل عشرتوت حني رقصت عىل صد ِر أدونيس‪.‬‬ ‫وأنا ُ‬
‫مل تفارقني إحسان يف هذه املشاوير‪ ،‬ولكني أفتقدها‪.‬‬
‫«قل ِتيل أنت من فني؟‪ِ .‬مي السودان؟ أجدع ناس واملصحف‪ ،‬نحن كنا بلد واحد‪،‬‬
‫أنا أعرف واحد‪.»...‬‬
‫أضي ُِق ذرعاً من إِلحاحِ صابر وثرثرته‪ ،‬وأشرتي منهُ الفُلِ كل ِه حتي يرتكني وشأين‪،‬‬
‫طرف ثالث؟‪ .‬فكلام أذهب‬ ‫الحب دامئاً من ٍ‬
‫ُ‬ ‫حتى ال يشاركني فيها!‪ .‬فلامذا يكونُ‬
‫إىل كورنيش النيل ألتو ّحدَ معها يالحقني صابر بعنا ِد وإرصا ِر ُمتس ِّول مع أنهُ مل‬
‫ِ‬
‫والحانات‪ .‬لقد تعبت‬ ‫ِ‬
‫الطرقات وإشارات املرور‬ ‫يكن كذلك‪ .‬صابر يف املقاهي ويف‬
‫أرفع يف وجه ِه الراي ِة البيضاء وأشرتي منهُ ما‬ ‫منك يا صديقي اللدود‪ .‬ويف النهاي ِة ُ‬
‫تبقّى من الفل‪ ،‬ويبدأ هو يف رس ِد الحكاوى التي أدمنتها وحفظتها عن ظه ِر قلب‪.‬‬
‫فكنت أهرب من أفيون إحسان إلي ِه!‪ .‬وكنت؟ ‪..‬‬ ‫ُ‬
‫عاطفي عنيف! حسبام فهمت الحقاً‪ .‬أشدّ حاالت‬ ‫ٍّ‬ ‫كنت يف حال ِة هياج‬
‫وهكذا ُ‬
‫الهياج العاطفي رشاس ًة هي التي تجربنا الظروف النفسية عىل اصطناعها‪ ،‬أو تلك‬
‫التي تُصيبنا يف املهاجر‪ .‬تفاجأ حني سألتهُ ‪:‬‬
‫«يا صابر أنت ليه ما بتكلمنيش عن حبيبتك؟»‪.‬‬
‫أجابني وهو ميع ُن النظر يف مجموعة السائحني الذين مروا أمامنا منذ لحظة‪:‬‬
‫عم حب إيه اليل أنت جاي تقول عليه؟ يا عم عاطف أنا القي آكل؟؟»‪.‬‬ ‫«يا ِ‬
‫فحدست أنهُ ينوي أن يبيِعهم الفُل الذي باعهُ يل من ُذ قليل كام ُ‬
‫يفعل دامئاً ‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫فأعدتهُ لهُ وأنا أكا ُد أنفج ُر غيظاً‪.‬‬


‫النصابة‪ ،‬هي عادتك والال ح تشرتيها؟ ربنا يبارِكلكْ »‪.‬‬ ‫«خُد يا صابر يا ابن ّ‬
‫يحاول أن يقنع أولئك السياح األملان بإنجليزي ٍة لطيف ٍة‬ ‫ُ‬ ‫فغادرين مرسعا وهو‬
‫وابتعدت أنا والشج ُن يكا ُد يقتلني‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ببعض العمالت الصعبة‪،‬‬ ‫مكسرّ ة‪ ،‬فقد يظف ُر ِ‬
‫وهكذا!‪.‬‬
‫م ّرت مرسعة ‪..‬‬
‫لألدب اإلنجليزي‪ ،‬وكأنها ساعات أو‬ ‫ِ‬ ‫األربع سنوات التي قضيتها يف دراستي‬
‫الثقوب يف غربال ذاكريت‪ ،‬ومل أعد أهتم كثرياً بالتفاصيلِ‬ ‫ُ‬ ‫بضعة ليالٍ ‪ ،‬تعددت‬
‫أعيش‬ ‫كنت ُ‬ ‫مرسوق مني‪ُ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫أحس أنني‬
‫كنت ُّ‬‫كنت تائهاً وسط الزحام‪ُ .‬‬ ‫القدمي ِة‪ ،‬فقد ُ‬
‫بباقي آدمي ٍة متعبة من انتظا ِر ال يشء‪ ،‬وأرهقها التسكّعِ يف الشوارع الوهمية‪.‬‬
‫وقليل من التعاطي مع إِحداثيات الواقع‪،‬‬ ‫تتأرجح بني بقية إِنسانية تالفة‪ٌ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫آدميتي‬
‫يوم من األيام أنني من أنصا ِر‬ ‫أدعيت ال ّنب ّوةَ‪ ،‬ومل أذكر يف ٍ‬
‫ُ‬ ‫‪ ..‬ال أذك ُر أنني قد‬
‫أعرتف ب ِه‪ .‬يأيس‬
‫ُ‬ ‫كنت بني بني‪ .‬هذا ما أ ِق ّر ُه وهذا ما ينبغي أن‬‫إبليس!‪ ،‬ولكني ُ‬
‫أقبل‬‫هو الذي أبعدين من الله‪ ،‬ولكني ال أنكر وجوده عىل مقربة‪ .‬وأخالني ال ُ‬
‫جدالً مج ّرد التعاطي مع هذه الفكرة‪ .‬وأنا مل أكن غبياً‪ ،‬ولكن يأساً أتغاىب‪ .‬فعندما‬
‫أركل نفيس بنفيس‪ .‬فلامذا ال أُش ِغ ُل نفيس‬ ‫بدأت ُ‬ ‫قررت أن أتناىس األمر بر ّمته‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫بقضايا اِنرصافية؟‪ .‬وملاذا أُسميها انرصافية؟!‪ .‬أال ميكن أن أطلق عليها انهزامية؟‪.‬‬
‫وهل الفرق بني الهزمية واالنتصار إال طعنة سيف؟؟‪ .‬فمهام اختلفت التسميات‬
‫فقد كانت تشُ دين التجربة األوىل‪ .‬فعالقتي بالنساء كانت ال تخرج من دائر ِة األم‬
‫والخالة والعمة واألخت‪ .‬ومل تكن يل عالقة مبارشة مع حبيب ٍة ما عىل اإلطالق‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫فقررت أن أبحث عن حواء جديدة أساف ُر معها إىل‬ ‫ُ‬ ‫وحتى حبيبتي كانت افرتاضية‪.‬‬
‫ما وراء البحار‪ ،‬إىل ما وراء الخيال!‪ .‬لذا كانت التجربة األوىل مبثاب ِة حمالً متعسرِّ اً‬
‫أجهضهُ القدر‪ ،‬ويف الحقيق ِة أنه مل يكن حمالً طبيعياً ألنه حدث خارج الرحم‪ ،‬وأنا‬
‫ال أؤم ُن بأطفالِ األنابيب‪.‬‬
‫يرفض أن يقاسمني رسيري‪ .‬يجب أن‬ ‫قررت أن أغتصب ـ ذاك ـ الحلم الذي ُ‬ ‫ُ‬
‫اإلحساس باآلخ ِر‬
‫ُ‬ ‫أُطلِّق جميع عادايت الرسية وأطلق العنان لهذا القوى املكبوتة‪.‬‬
‫أبحث‬ ‫كنت ُ‬‫كنت خايل الدسم من استشعار ِه!‪ُ ،‬‬ ‫كان مج ّرد غريز ٍة يف داخيل‪ ،‬ولكني ُ‬
‫يل رهيب‬ ‫وترسق نفطي‪ .‬ونشأ رصا ٌع داخ ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫تكتشف آبار برتويل‬
‫ُ‬ ‫عن املرأ ِة التي‬
‫ما بني رجولتي املُنتقصة‪ ،‬وبني جنني الجنس الذي يتحركُ يف أحشايئ‪ ،‬وكان البدَّ‬
‫ات متتالية من‬ ‫كرهت والدة الطلق الصناعي!‪ .‬طوال فرت ٍ‬ ‫ُ‬ ‫من إنجاب ِه طبيعياً‪ ،‬وقد‬
‫حيايت‪.‬‬
‫اشرتيت جسدها‬ ‫ُ‬ ‫فارسا من العصو ِر الوسطى‪ ،‬تلك الفتا ُة التي‬ ‫أظنها قد حسبتني ً‬
‫يطلب النرص أو الشهادة!‪ .‬فهذ ِه‬ ‫ُ‬ ‫كنت أقاتل كمن‬ ‫من ذلك الشارع الشهري‪ ،‬فقد ُ‬
‫كنت أسمع عنها يف حكاوي‬ ‫املدين ُة مل تكن أبداً يف خرائطي وال قامئة فتوحايت!‪ُ .‬‬
‫الصبية املراهقني يف الهزيعِ األخريِ من الحلم‪ .‬ال أنكر أنهُ كان إحساساً رخيصاً عىل‬
‫للحامم‬
‫ِ‬ ‫كل حال‪ ،‬ولكن كان البدَّ أن تجد طائريت مد ّرجاً للهبوط‪ .‬وأنا يف طريقي‬
‫علب الرشاب الفارغة‪ ،‬فلعنتها ساخطاً قبل أن أكيل السباب‬ ‫تعرثت مبجموع ٍة من ِ‬ ‫ُ‬
‫لهذه األنثى البالستيكية‪ .‬والغريب يف األمر‪ ،‬أنني أدمنت هذا البالستيك فيام‬
‫بعد‪ ،‬بنفس املنطق الذي يجعلك تقرأ التحذير املكتوب يف علب التبغ قبل أن‬
‫تعرف نوع السجائر نفسهُ !‪ ،‬ولكنك تُدخ ُن ـ برشاه ٍة ـ يف صح ِة وزارة الصحة‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫قوم يعرفونَ من يرضهم ويقدسونهُ ‪ ،‬ويدركون ما ينفعهم ويجتنبونهُ ‪،‬‬ ‫فأنا من ٍ‬


‫كنت أريدُ أن أثأر من‬ ‫إنه نفس وعي الفراشة التي ال تفهم منطق النار‪ .‬وكأنني ُ‬
‫كرسام يح ُّن‬
‫ٍ‬ ‫إحسان التي مل تكمل رضاعتي‪ ،‬ومل ترسلني إىل مربي ِة أطفال‪ ،‬وتركتني‬
‫رفعت لوحتها املعلّقة عىل‬ ‫ُ‬ ‫للوح ٍة وال ميلك حتى علبة ألوان!‪ .‬ولكن صوناً لكرامتها‬
‫أحفظ ماء وجهها‪ .‬فإذا‬ ‫َ‬ ‫جدا ِر غرفتي وقلبي‪ ،‬أعىل خزانة مالبيس‪ .‬كنت أريدُ أن‬
‫تجيب وقد أّه ِدرت كرامتها؟‪ .‬فهل‬ ‫ُ‬ ‫ذنب رسمت؟» مباذا‬ ‫بأي ٍ‬ ‫«سئلت ِّ‬ ‫املحبوب ُة ُ‬
‫العم إحسان كان يريدُ أن يُخلِّد‬ ‫للعم إحسان؟ أم لريشت ِه املجنونة؟‪ُ .‬‬ ‫الذنب يعو ُد ِ‬ ‫ُ‬
‫يقول «الطريق إىل الجحيم مع َّبدٌ بالنوايا‬ ‫هذا الجامل بحسنِ ني ٍة‪ ،‬فأهلكني!‪ .‬املثل ُ‬
‫الحسنة»‪ .‬فكثرياً ما كنت ألو ُم نفيس قبل أن ألُومهُ ‪ ،‬وهذه هي الحقيقة‪ ،‬فلامذا‬
‫لحم تاجر البندقية‪ ،‬دون أن تسيل قطر ٌة واحد ٌة من الدم يا‬ ‫أطالب بقطع ٍة من ِ‬ ‫ُ‬
‫الرسم‬
‫ِ‬ ‫شكسبري؟‪ .‬هل أنا حا ٍو مثالً؟‪ .‬لكم أح ُّن إلي ِه كثرياً‪ ،‬هل يا ترى توقف عن‬
‫والعزف والغناء؟‪ .‬وأمي وأيب وإخويت وأهيل‪ ،‬والعم بِيرت ونارص اليامين وحسن‬ ‫ِ‬
‫ضالل‪ ،‬لكم أشتاقهم وأح ُّن إليهم‪.‬‬
‫عالقات قوي ٍة مع السودانيني‪ ،‬فكلٍ كان يغني عىل‬ ‫ٍ‬ ‫وأنا يف القاهر ِة مل تكن يل‬
‫حفظت مرسحياتهُ وأشعار ُه ونصوصه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فوهبت نفيس لشكسبري العظيم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ليالهُ‪.‬‬
‫أحببت هذا النيل اإلنجليزي لدرجة‬ ‫ُ‬ ‫صت جميع شخوصه حتى خلتني هو!‪.‬‬ ‫وتق ّم ُ‬
‫كنت‬ ‫كتاب عنهُ ‪ُ .‬‬
‫تأليف ٍ‬ ‫ِ‬ ‫بدأت يف‬
‫دأبت عىل تعل ُِّم التجديف يف عبابه‪ ،‬لقد ُ‬ ‫أنني ُ‬
‫اإلعجاب من أساتذيت‬ ‫َ‬ ‫هاملت و ُعطيل وتاجر البندقية‪ ،‬وكانت تحارصين نظرات‬
‫أغوص يف عوا ِمل شكسبري‪ ،‬مدينة مدينة‪ ،‬وشارعا شارعا‪ ،‬ومقهى مقهى‪ .‬فقد‬ ‫ُ‬ ‫وأنا‬
‫وقررت أن أكون نبياً إلل ِه اإلنجليز املرسحي الكبري‪ .‬ويف هذه األيام‬ ‫ُ‬ ‫سكنتني روحهُ‬

‫‪110‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫أرتأيت التف ّر َغ الكامل لكتايب الذي أطلقت عليه اسم {رسال ٌة من شكسبري}‪.‬‬ ‫ُ‬
‫تصورت أنهُ يوصيني عىل جميعِ أبنائ ِه وقصائده ومرسحياته التي أهرق فيها‬ ‫ُ‬
‫وظننت أنهُ لكرث ِة ما أوصاين بأعامله‪ ،‬أنهُ‬ ‫ُ‬ ‫الكثري من الدمع والدم لتبقى خالدة‪.‬‬
‫س ُيو ِّرثني‪.‬‬
‫يا للعجب!! مرت مرسعة ‪.....‬‬
‫أحلم باالنطالقِ إىل‬ ‫األربع سنوات ون ِّيف منذ أن هاجرت إىل القاهرة‪ ،‬وأنا ُ‬
‫عوا ٍمل أخرى‪ ،‬ولك َّن الحن َني إىل السودانِ كان يناوشني مبغنطيسي ٍة مضاد ٍة لهذه‬
‫أعرف هل نشأت عن ذات أم عن موضوع‪ .‬يف الواقع‬ ‫الفكرة‪ ،‬هذه الفكر ُة التي ال ُ‬
‫ال علم يل إال ما علمتني له الغربة‪ ،‬وهو بالكاد يكفي ليك يرجعني إىل بلدي‪.‬‬
‫قط امليتافيزيقيا‪ ،‬ويُحيطني مبخالبه الرشسة‪ ،‬وأنا أسألني‪« :‬هل‬ ‫كان يناوشني ُّ‬
‫مازلت أنتمي لهم؟»‪ .‬أدركُ‬ ‫ُ‬ ‫متكنت من حقن عروق األدب بعقا ٍر مني؟ أم تراين‬
‫الحروف‬
‫َ‬ ‫فالحب وحد ُه من يجعل‬ ‫ُّ‬ ‫بكل حب‪.‬‬‫كتبت عن هذا الشاع ِر العظيم ِّ‬
‫أنني ُ‬
‫أمين ًة ويبعدُ كل األوراقِ واألفكا ِر عن الزيف والنفاق والتملُّق!‪ .‬وهذا ما تو ّقعتهُ !‪.‬‬
‫ولعلها الصدفة‪ ،‬لعلها!‪.‬‬
‫والناس يتحدثون‬ ‫ُ‬ ‫بكل الفخ ِر‬
‫وشعرت ِّ‬‫ُ‬ ‫تناقلت األوساط األدبية والثقافية الخرب‪،‬‬
‫عن روع ِة كتايب املوسوم بـ{رسالة من شكسبري}‪ .‬فقد كان محتوى الكتاب عبارة‬
‫أنيق يتح ّمل وزر‬ ‫رش بيني وبينه‪ ،‬تح ّول إىل ملحم ٍة وصالونٍ أد ٍّيب ٍ‬ ‫عن حوا ٍر مبا ٍ‬
‫أخطائه فقط أستاذي‪ .‬وهذا هو اليشء الذي جعلني أتساءل‪:‬‬
‫أحلم به؟»‪.‬‬
‫حققت أهدايف؟‪ .‬هل كان هذا هو ُج ّل ما ُ‬ ‫ُ‬ ‫«هل ترى قد‬
‫مل أكن أجرؤ عىل توجي ِه هذا السؤال ألنا!‪ ،‬ألن إجابتهُ تُع ِّريني متاماً‪ ،‬وأنا أفنيت‬

‫‪111‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫أحس بوجودي‬ ‫توت تسترُ ُ خيبايت‪ ،‬ولكني اآلنَ ُّ‬ ‫أبحث عن ورق ِة ٍ‬
‫كل هذه السنوات ُ‬
‫كام ربط ديكارت الوجود بالتفكري «أنا أفكر أنا موجود»‪ .‬والتفكريُ جز ٌء ال يتجزأ‬
‫من لوجستيات الكتابة‪ ،‬وأنا حريص عىل أن أكتب بدمي‪ ،‬فقد كانت تدميني‬
‫أحس أنني أنزف بني السطور‪ ،‬ذلك النوع من الجروح ال يربأُ وال‬ ‫اللغات‪ ،‬وكنت ُّ‬
‫يندمل‪.‬‬
‫مل أكن أطمح يف أن أصري واحدً ا من أولئك التكنوقراط الزائفني الذين يتدحرجون‬
‫أقنع بأسفلِ سافلني وال أتسخُ بزيفهم!‪.‬‬ ‫إىل األعىل بضجيجِ الرباميلِ الفارغة‪ ،‬ولكني ُ‬
‫ات والوصولية‪ .‬األوطانُ‬‫كنت أخدّ ُر بها نفيس يف عا ٍمل موبو ٍء باملؤامر ِ‬‫نظري ُة غبي ٌة ُ‬
‫تنافق نجاحاتهم وتُبدِّ ل‬
‫فلذات أكبادها جوعى وعراة وحفاة يف املنايف‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫التي ترتكُ‬
‫عيب كليل ٍة! كام‬
‫آراءها التهميشية ونظراتها االستبداية بع ِني الرضا‪ ،‬وهي عن كلِ ٍ‬
‫ترون‪.‬‬
‫كنت أتس ّول خاللها الفتات من وطني‪.‬‬ ‫سنوات عجاف ُ‬ ‫ٍ‬ ‫فقد مرت عيل أربع‬
‫تركت أهيل يُعانونَ الضنك والكفاف من أجلِ أن يعينوين عىل نصف غربتي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫صربت عىل الجوعِ والرب ِد والرطوبة من‬ ‫ُ‬ ‫عىل األقل‪ .‬ووطني مل يزل يدي ُر يل ظهرهُ!‪.‬‬
‫وأحقق أمنية العم إحسان مثيل األعىل‪ .‬وبرغم اِنزالقايت‬ ‫ُ‬ ‫بكتاب‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أجل أن أرجع‬
‫رص‬
‫خوض هذه الحرب املصغّرة‪ ،‬وخرجت منها بن ٍ‬ ‫متكنت من ِ‬‫ُ‬ ‫وسقطايت العديدة‪،‬‬
‫هزيلٍ ال يسوى كلفة الدماء التي أثخنت جسدي‪ ،‬ولكني مل أزل ُمرتفاً بالعديد‬
‫من الجراح‪.‬‬

‫مندوب السفارة السودانية ُ‬


‫يطرق باب سخطي ليخربين أنني مدْ ُعو‬ ‫ُ‬ ‫وها هو ذا!‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ذنب أك ّرم؟‪ .‬أين كان‬ ‫مع مجموع ٍة من مبدعي املهجر للتكريم!‪ ،‬تكريم؟؟ بأي ٍ‬
‫هؤالء وأنا أتج ّو ُل بني محطات مرتو األنفاق تارةً‪ ،‬وأحيانا ال يكون معي حتي‬
‫مثن التذكرة التي تحرشين يف بطن هذه األفعى املعدنية الرسيعة‪ .‬فأتوكّل عىل‬
‫قدمي شبه الحافيتني؟‪ .‬ماذا كنتم تفعلونَ وإدمان الفول والطعمية الجربي كاد‬ ‫ّ‬
‫أن يصيبني باألنيميا وفقر الدم؟‪ .‬أين كنتم وأنا أتس َّو ُل الكتب واملراجعِ من باع ِة‬
‫قبلت الدعوة املوقّعة باسم امللحق‬ ‫الكتب املفروشة يف سور األزبكية؟‪ .‬ولكن‪ُ ..‬‬
‫الثقايف عىل مضض!‪ .‬ليش ٍء ما مل أكن أعلمه‪ ،‬ورمبا ملوع ٍد مع قد ٍر ما‪ ،‬ال أدري كنهه‪.‬‬
‫يل أن أنتظر‪.‬‬ ‫ع ّ‬
‫مع أنني أبغض مثل هذه اللقاءات الرسمية‪ ،‬وخاص ًة تلك التي ُ‬
‫أشتم فيها رائحة‬
‫الحكومة‪ .‬ملا فيها من خُوا ٍء ونفاقٍ وهتاف وقُوادة سياسية!‪ .‬ولكن ال ضري يف أن‬
‫سوم!‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫عجاف ُح ٍ‬ ‫ٍ‬
‫سنوات‬ ‫ٍ‬
‫سنوات علوما‪ ،‬أربع‬ ‫أنفقت علي ِه أربع‬
‫ُ‬ ‫أتأبط كتايب الذي‬
‫هذا الكتاب الذي يحتوي عىل سبع ِة فصول‪ ،‬يف كلِ فصلٍ سنبلة‪ ،‬ويف كلِ سنبل ِة‬
‫مليون فكر ٍة وفكرة‪ .‬حسبام كتب أحدهم منافقاً يف إحدى صفحات صحيفته ذات‬
‫األسنان الصفراء‪.‬‬
‫مل يسبق يل أن دخلت هذا الحي الفاخر من قبل‪{ .‬جاردن سيتي} مدين ٌة مل‬
‫الوصول إليها إال باألسو ِد من‬
‫َ‬ ‫أستطيع‬
‫ُ‬ ‫لضيق يف ِ‬
‫ذات املحفظة‪ ،‬وال‬ ‫ٍ‬ ‫يطأها حذايئ‪،‬‬
‫أثري‬
‫أتوبيس ٍّ‬
‫ِ‬ ‫دواب القاهرة!‪ ،‬أو رمبا سأضطر ليك أجعل جسدي قطعة ساردين يف‬ ‫ِ‬
‫قررت أن أقتصد قليالً‪ ،‬وأكتفي بسجارتني‬ ‫قديم‪ .‬فمن أين يل أجرة التاكيس؟ لذا ُ‬
‫يف اليوم ورغيفني من {الخبز الحايف}‪ .‬أو يلزمني االقرتاض من حلمي البقال الذي‬
‫يل‪ .‬أما الرشاب فأستطيع أن أتدبّر أمر ُه مع صديقتي اإلثيوبية‬ ‫كرثت ديونهُ ع ّ‬

‫‪113‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫بخصوص حصولها عيل الكارت‬ ‫ِ‬ ‫األمم املتحدة‬


‫مكتب ِ‬
‫ِ‬ ‫التي كانت تنتظ ُر إفاد ًة من‬
‫الواليات املتحدة‪ ،‬عىل حسب ما يق ّرر مكتب‬‫ِ‬ ‫األخرض ومن ثم السفر لذويها يف‬
‫مفوضية األمم املتحدة لشؤون الالجئني!‪ .‬جاردن سيتي مل يكن يحتاج الوصول‬
‫إليه لهذا الجهد‪ ،‬ولكني تص ّورته بعيداً‪ ،‬لفخامة االسم فحسب‪ .‬لذا مل أسأل أحداً‬
‫من {حاريت الصغرية}‪ .‬إذ مل أتص ّور أن أحدهم غادرها من قبل أو بعد‪ .‬لشدّ ة ما‬
‫كانوا موجودين عىل الدوام‪.‬‬
‫يااااه نصف صديقتي اإلثيوبية مارلني!‪ ،‬مارلني بعينيها اللتني باضت فيهام‬
‫حاممة إيطالية زرقاء‪ ،‬وقوامها الكثيف الذي يسبح يف بحري ٍة من الكاباتشينو!‪.‬‬
‫كنت أظ ُّن أنها موجة هاربة من عنفوانِ النيلِ‬
‫قبل أن أعرف أنها سليلة األمهرا‪ُ ،‬‬
‫األزرق وجربوته‪ ،‬بعد أن سئمت طعمهُ الدامي من ِ‬
‫فرط االقتتالِ شامالً وجنوباً‪،‬‬
‫ورشقاً وغربا‪ .‬ولو استطاعت الستبدلتهُ بزجاج ِة خمر‪ ،‬أو فنجال قهوة تحتسيها‬
‫بفرط رتابته‬‫وهي واضع ًة ساقًا عىل ساق‪ .‬تشاطرنا الجنون إذ ض ّن العامل إال ِ‬
‫وبؤسه‪ ،‬وصدّ قت وآمنت حتى صحت ذات ُق َبل‪« :‬الحبيبة هي الوحيدة التي‬
‫الرب‬
‫يحق لها أن تقطع صالتك الرسية‪ ،‬لتقذف يف وجهك السؤال‪ :‬هل أخربت ّ‬ ‫ّ‬
‫بعد الخشوع أنك تهواين؟‪ .».‬فقالت دمعة لشف ٍة مد ّججة بالقبل‪« :‬ابتسمي وعني‬
‫ِ‬
‫ترعاك»‪.‬‬ ‫الحب‬
‫مارلني نصف صديقتي التي لن أنىس يوم غسلت جسدها بزجاج ِة نبيذ كاملة!‬
‫تحلم‬
‫يل بكأس!‪ .‬فيا لهذه األنثى املجنونة التي كانت ُ‬ ‫ووهبتني إياهُ‪ ،‬وض ّنت ع َّ‬
‫فقط بجول ٍة يف شوارعِ البندقية لتعزف القيثار َة يف الجندولِ وهي تحتيس النبيذ‬
‫املع ّتق‪ ،‬ومن ثم متوت‪ .‬ياااه يا نصف صديقتي يا مارلني!‪ .‬لقد أخربتني قبل ردحٍ‬

‫‪114‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ارتكاب معصي ٍة أخرى‪ ،‬تضاف إىل سجلِ إخفاقات‬ ‫ِ‬ ‫من الشوق‪ ،‬وقُبيل إقدامنا‬
‫رشطة اآلداب املرصية‪ ،‬التي ال تتحقّق جيداً من هويات العشاق‪ ،‬وال متعن النظر‬
‫يف بطاقاتهم املزورة‪ ،‬رديئة التزييف‪ .‬مل أزل أذكر نظرتك الخافتة إذ ِ‬
‫قلت‪« :‬يا ابن‬
‫النيل‪ ،‬سأرتحل بعيداً حتى أقىص املدن املس ّورة بامللح‪ ،‬وسأعود إىل دياري عذب ًة‬
‫نقية‪ ،‬فهل ستضمن يل ذلك؟»‪ .‬هل تذكرين ردّي ِ‬
‫عليك يا مارلني يا ابنة الغيم؟‪.‬‬
‫أسلفت‪ ،‬أنا ابن النيل‪ ،‬ولقد ع ّودين هذا النهر املتعجرف أال‬‫ِ‬ ‫لقد قلت ِ‬
‫لك‪« :‬كام‬
‫يرجع إىل منابعه مهام حصل‪ ،‬بل سيكفيه رشف االنتحا ِر يف أعامقِ البحا ِر املتكلِسة‬
‫ملحاً»‪.‬‬
‫يف مطلعِ أمسي ٍة شب ِه ُم ِ‬
‫مطرة التقيتها‪ ،‬والقاهرة مدين ُة ال ْ‬
‫تحفل كثرياً باملطر‪ ،‬بيد‬
‫أنها تحتفل ب ِه إذا فاجأها متل ّبساً بفرو الشتاء‪ .‬كانت مارلني ترتدي ثوبا أبيض من‬
‫املط ِر الطبيعي‪ ،‬وكنت أح ِمل عىل وجهي مالمح استوائية متآمرة‪ ،‬ساعدتنا عىل‬
‫هذا التآلف الذي حدث!‪ ،‬وأظن أن هذه األنثى كانت تضع هذا ال ِعطر الكاكاوي‬
‫فأدركت برسع ٍة أنها من فصيل ِة القهوة! فلم يشُ ق علينا أن نلت ِقي عىل‬ ‫ُ‬ ‫املميز‪،‬‬
‫شرُ ف ِة فنجال‪ ،‬أصبح كأساً فيام بعد!‪ .‬مل أنس بعد رشوق ابتسامتها البيضاء وأنا‬
‫أدعوها إىل {سمكاية} يف ذلك املطعم املتواضع املنزوي‪{ .‬السمكاية هو اسم‬
‫الدلع لعزومة السمك عىل طريقتي}‪ .‬وبعدها انطلقنا نقصد ذلك املرقص اإلثيويب‬
‫الصاخب الذي أنفقنا في ِه الليلة‪ ،‬ومن ثم رجعنا لشقّتها الصغرية يف {الكيت كات}‬
‫نتأبط مشاريعنا الجِ نسية العمالقة!‪ .‬ذلك الطراز العتيق من الزهو الجنيس الذي‬ ‫ُ‬
‫تثبت عدم جدوا ُه من أول معركة!‪ .‬ياه يا مارلني يا نصف صديقتي اإلثيوبية‬
‫الضا ّجة بالحياة‪ ،‬ويب‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫فأعددت‬
‫ُ‬ ‫تستعجل القدر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مرت هذه الليايل مرسعة ال تلوِي عيل يشء‪ ،‬وكأنها‬
‫تسبق يوم الفعالية‬ ‫ُ‬ ‫تحسباً ألي مفاجأة قد تطرأ‪ .‬ويف الليل ِة التي‬ ‫نفيس جيداً ُّ‬
‫النوم جيداً‪ ،‬وكأنني أنتظ ُر موعدَ‬ ‫الثقافية التي تنظمها السفارة‪ ،‬مل أمتكن من ِ‬
‫ضجيج الحارة‬‫ُ‬ ‫طفل هذا الصباح الصيفي برصخ ِة ميالد ِه‪ ،‬وبدأ‬ ‫حب!‪ ،‬حتى أدركني ُ‬
‫فنزلت قاصداً املقهى القريب من أجلِ‬ ‫ُ‬ ‫الضيقة الذي ألِفتهُ يحارصين من كلِ صوب‪.‬‬
‫يش ُّع يف جنبات املكان‪ ،‬ومينحهُ مع‬ ‫وصوت أم كلثوم ِ‬
‫ُ‬ ‫خاط ِر عيون قهويت الصباحية‪،‬‬
‫ضوء الشمس‪ ،‬خصوصي ًة فريدةً!‪.‬‬
‫كان هذا الصباح الصيفي في ِه نكه ٌة من إحسان بطعمها ومذاقها الرهيب‪،‬‬
‫أتاك مرسال‬ ‫كنت أنتظرها {شوقئ ٍذ تُحدِّ ث أخبارها} ألسألها‪« :‬هل ِ‬ ‫إحسانُ التي ُ‬
‫شوقي»؟‪.‬‬
‫فتجيبني وصوت أم كلثوم الطاعم قطعة سكر يف فنجان املزاج‪:‬‬
‫«بالعكس أنا مل أنتظرك‪ ،‬ألننا ظللنا دوماً معا‪ ،‬ال يفرقنا قدر وال زمن وال أكاذيب‪،‬‬
‫حتى وإن كنا نتبادلها يومياً عىل سبيل كرس الرتابة»‪ .‬ويف الحقيق ِة‪ ،‬كنت الكاذب‬
‫الوحيد الذي تربّك يف الهضبة {املارلينية} أسفلها وعاليها!‪.‬‬
‫فقررت أن أذهب ألشاهدها‪« .‬هل سأجدها‬ ‫ُ‬ ‫أرهقتني تلك الشجون والذكريات‪،‬‬
‫كنت أسألني‪« :‬هل ستغضب إن أيقظتها من النوم وقد اعتادت أن تنام‬ ‫نامئة؟»‪ُ .‬‬
‫فتحت باب شقتي الحقرية‪ ،‬وأنا أشتهيها بأم ٍر‬ ‫ُ‬ ‫تحلم يب!‪.‬‬
‫حتي الظهر؟»‪ .‬رمبا كانت ُ‬
‫وصعدت عىل املقعد الخشبي املتهالك ألنزلها من أعىل خزان ِة مالبيس‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫من األنا!‪.‬‬
‫تركض حافية يف حفلٍ‬ ‫كان الغبا ُر يغطيها ويفسد ترسيحة شعرها‪ ،‬وكأنها كانت ُ‬
‫فنفضت عنها الغبار وأردت أن أق ِّبلها‪ ،‬ولكنها أشاحت بوجهها‬ ‫ُ‬ ‫من الريح الغاضبة‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫يف غضب‪ ،‬فقلت لها‪:‬‬


‫«يجب أن تصف ِحي عني ياحبيبتي‪ ،‬ليس األمر بيدي»‪.‬‬
‫وخطرت يل فكرة وأنا أُمشِّ َط لها يف ضفائرها! إذ قلت لنفيس‪:‬‬
‫«ملاذا ال أحملها معي إىل حفل السفارة‪ ،‬وأعرضها عىل الفنان الكبري الذي كان‬
‫يُقيم معرضاً مصاحباً؟»‪.‬‬
‫ولكن هل سرتىض أن تخلع حجابها اإلبداعي وتكشف وجهها لفنانٍ غريب؟‪.‬‬
‫عقدت العزم عىل ذلك‪ ،‬وأنا أمت ّع ُن‬
‫ُ‬ ‫فأنا أعتربها معجزة فنية قد ال تتكرر‪ .‬ولكن‬
‫فيها طوال ساعات النهار الذي انقىض برسع ٍة‪ ،‬وكأنه يسعى لتوريطي يف زمنٍ مل‬
‫أحسن االستعداد له‪.‬‬
‫وميمت وجهي‬ ‫ُ‬ ‫تهندمت بكتايب ولوحتي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ويف بداي ِة مراهق ِة هذا املساء الجميل‪،‬‬
‫بالضيق الشديد وأنا يف عرب ِة‬
‫ِ‬ ‫وشعرت‬
‫ُ‬ ‫شطر سفارة السودان وأنا سيئ املظهر!‪،‬‬
‫األجرة األثرية التي كانت تقلّني إىل مقصدي الفخم‪ .‬مع زحام القاهرة يف الصيف‬
‫الذي يجعلك تفك ُر ألف مر ٍة قبل أن تفكر يف الخروج‪ .‬هذه املدينة التي تحبك‬
‫تبصق يف وجهك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تسبها‬
‫عندما تشتهيها فال تبخل عليك بجسدها‪ ،‬ولكن عندما ُ‬
‫كنت أحاول االنشغال‬ ‫الجنس ليالً فقط‪ ،‬وتلعنني يف النهار‪ُ .‬‬
‫َ‬ ‫متارس معي‬
‫لقد كانت ُ‬
‫وصلت‬
‫ُ‬ ‫بقضايا انرصافية حتى أنىس هذا القلق الذي كنت أشع ُر به‪ .‬وبعد معاناة‬
‫ونقدت السائق ـ الذي بدا حانقاً ألين مل أبادله الرثثرة طوال‬‫ُ‬ ‫إىل مبنى السفارة‪،‬‬
‫الطريق ـ أُجرتهُ ‪ .‬ومىض مبتعداً برسع ٍة وكأنني قبل أن أنقده أجرته‪ ،‬قد سطوت‬
‫عىل خزينة ديوان الزكاة وكان هو من مستحقي زكاة ابن السبيل!ٍ‪.‬‬
‫وهناك ‪ ...‬أبرزت بطاقة دعويت إىل أفرا ِد األمن‪ ،‬وأنا أشع ُر أنني أرتكب الخيانة‬

‫‪117‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫كنت أشع ُر باالمتعاض ألنني سأضطر ملصافحة هؤالء الذين ال يعرف‬ ‫العظمى‪ُ ،‬‬
‫أناضل‬‫ُ‬ ‫كنت‬
‫طيب يا صالح؟‪ .‬فقد ُ‬ ‫أحد من أين جاءوا‪ .‬أليس كذلك يا سيدي يا ُ‬
‫بأضعف إمياين وذلك النوع من القتال الذي ال يصنع الثورات وال يحدث التغيري‬ ‫ِ‬
‫يضم الكثري من اإلعالميني وذوي‬ ‫وال يُج ِدي‪ .‬ال يخفى عىل العيان أن الحفل كان ُّ‬
‫الشأن‪ ،‬ولكن رائحة السلطة كانت تُعكِّر صفوي‪ ،‬لذا مل أهتم بسامع الكلامت‬
‫املعلّبة والهتافات البالستيكية املحفوظة لالستخدام املؤقت!‪ .‬وحتى بعد أن‬
‫جاء وقت تكرميي كأحد مبدعي الليلة‪ ،‬مل أحفظ شكل الشهادة التقديرية التي‬
‫وصموين بها‪ ،‬فهم مل يرِيدوا تكرميي بل أرادوا تجرميي!‪ ،‬لذا بدا يل تصفيقهم ريا ًء‬
‫ونفاقاً رخيصاً مل أبالِ به‪ .‬وبعد قليل تم إعالن افتتاح املعرض املصاحب‪ .‬وأخرياً‬
‫سأمتكن من استنشاق بعض الهواء النقي‪ ،‬بعد هذا الشعور باالختناق الذي كنت‬
‫أشعر به‪.‬‬
‫يعرض في ِه الفنان التشكييل الكبري لوحات ِه‪ ،‬هادئاً ومرتباً‪ ،‬وكان‬
‫كان الرواق الذي ُ‬
‫أغلب الرواد من املهتمني بالشأنِ الفني‪ ،‬فبدا أقرب ما يكون إىل مكانٍ للعبادة!‪.‬‬
‫تسلمت‬
‫ُ‬ ‫الفنانُ التشكييل كان بصحب ِة امللحق الثقايف الذي م ّيزت شكلهُ بعد أن‬
‫منهُ شهادة وفايت! شهاديت التقديرية!‪ ،‬أو شهاديت التخديرية‪ .‬أين الفرق؟!‪.‬‬
‫أرغب أن يكمال جولتهام يف الرواق حتى أتركهُ ليشاهدها ألول مرة‪ .‬فهذه‬ ‫كنت ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫اللوحات‪،‬‬ ‫الطفل ُة قد كبرُ ت وبدأ يتقد ُم لها العرسان‪ .‬ولكن جذبتني لوح ٌة من‬
‫فاقرتبت منها ألتبينّ مفاتنها‪ ،‬يف الحقيق ِة كانت يف قمة الروعة‪ ،‬هؤالء الرسامون‬
‫ُ‬
‫قبيل ٌة من املجانني وعندما يفقدون عقولهم‪ ،‬نصريُ نحن أكرث جنوناً منهم‪ .‬شغلتني‬
‫اللوح ُة عن مالحق ِة الفنان‪ ،‬فام وجدتهُ يف هذه اللوحة التي أطلق عليها اسم‬

‫‪118‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫وبدأت أقارنُ بينها وبني لوحة الحورية التي كنت‬ ‫ُ‬ ‫{حرية}‪ ،‬يعدُّ فتحاً فنياً مذهالً‪.‬‬
‫ِّب يف ط ّيات‬ ‫إعجاب شديد‪ ،‬كنت أنق ُ‬
‫ٍ‬ ‫أحملها يف يدي‪ ،‬بينام عيناي تتفحصانها يف‬
‫تحمل‬‫األلوان والخطوط والتقاطعات‪ ،‬كانت هذه اللوحة فيها رائحة العم إحسان‪ُ .‬‬
‫ات‬ ‫توقيعهُ وتسكنها روحهُ ‪ ،‬فال غراب َة أن يحجها أغلب رواد الرواق‪ ،‬يرمونها بجمر ِ‬
‫حججت إليها متمتعاً‪ُ ،‬متمنعاً‬ ‫ُ‬ ‫إعجابهم‪ ،‬ويطوفون بني صفاها ومرواها‪ .‬أما أنا فقد‬
‫يحدث أن ي ِق َّل‬
‫ُ‬ ‫من أن يأرسين حسنها ولو مبقدا ِر ُعمر ٍة من فريضتي األوىل‪ .‬فقد‬
‫إمياين بعض اليشء ولكني لن أُبدِّ ل ديني وال كعبتي‪ .‬فدون {أبرهة}‪ ،‬كل {أبابييل‬
‫فأنت النافذ ُة املرشع ُة ألكسج َني‬ ‫وس ِّج َيل يقيني!}‪ .‬لذا لن أهدمك يا حوريتي‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬
‫أنس ِك حتى ولو‬ ‫صربت عىل إلحادي‪ ،‬ومل َ‬ ‫ِ‬ ‫روحي‪ ،‬مل تغادريني يف وحديت وفراغي‪،‬‬
‫أغسل بسلسبيلِ نيلك كل فسوقي ونزقي!‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت معي وأنا‬‫غريك‪ِ .‬‬ ‫شغل فرايش ِ‬
‫أتسكع حافياً يف‬‫ُ‬ ‫فأستمع متجاوزاً لحزين أحاديث صديقي صابر بياع الفل‪ ،‬وأنا‬
‫كورنيش النيل‪ ..‬صابر ابن أم صابر‪..‬‬
‫تحس أن هذه األرض ملكك‪ .‬وإحسانُ‬ ‫الحفاء يشعرك باالنتام ِء إليك‪ ،‬ويجعلك ُّ‬
‫رأيت جسدها حافياً يتمىش عىل رصيف القدر‪ .‬ولكني‬ ‫أحببتها ألولِ مر ٍة عندما ُ‬
‫آمنت ب ُنب ّوتها حني تغطت يب‪ .‬فتدثرنا سوياً بنا!‪ .‬فكان الدرب شائكاً‪ ،‬والحلم‬ ‫ُ‬
‫أوهام‪.‬‬
‫وأدركت أنني‬
‫ُ‬ ‫همس ذلك العط ِر الندي من غيبوب ِة أفكاري املتعفنة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أيقظني‬
‫تلثم ظهري‪،‬‬ ‫أحس بأنفاسها ُ‬ ‫عىل شفا خطو ٍة من أنثى بديعة األريج‪ ،‬لطيفة‪ .‬كنت ُّ‬
‫وتخدرين وتنعشني‪ ،‬كانت فضولية أنفي تدفعني دفعاً نحو هذا العطر‪ ،‬ولكني‬
‫اكتشفت طلسامً سحرياً يف اللوحة‪ ،‬فلم أدر ساعتها هل أعل ُن إنحيازي للعط ِر‬ ‫ُ‬

‫‪119‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫فاعل؟‪ .‬ولكن يف النهاي ِة أنترص‬ ‫واستقيل من سلط ِة هذه اللوحة؟ أم ماذا تراين ٌ‬ ‫ُ‬
‫للعطر‪ ،‬وسكنني بال استئذانٍ ‪ ،‬كغيم ٍة فضول ِّي ٍة تتعاركُ مع نصف قمر!‪ ،‬الغيمة‬
‫يطلب منها أن ترتكهُ ليهمس بضوئ ِه يف‬‫ُ‬ ‫تتحايل علي ِه لتحضنهُ بجرأ ٍة واشتهاء‪ ،‬وهو‬ ‫ُ‬
‫أحسست أن هذا العطر‬
‫ُ‬ ‫أذن الظالم‪ ،‬فاتفقا عىل أن يرتكا حواس اللحظة بني بني!‪.‬‬
‫فجعلت أتربّص ب ِه يف حذر وحيطة‪ ،‬كمن‬ ‫ُ‬ ‫الطاغي مصنو ٌع من زهر ٍة سقيتها أنا!‪،‬‬
‫قررت‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫صمت بتحفُّز‪ ،‬ولكني‬ ‫يخىش أن يف ُّر منه‪ .‬هذه اللوحة كانت تُحدِّ ُق يف‬
‫وألتفت بأنفي متلصصاً‪ ،‬من أجلِ أن أرسق شيئاً من العطر‪ .‬ولكن ما‬ ‫ُ‬ ‫أن أهزمها‬
‫رأيتهُ مل يكن سوى زهر ٍة نيلي ٍة‪ ،‬وضعها القدر يف أصيص غريب‪ .‬مبتذل؟‪ .‬ال أعلم‬
‫بالتحديد‪.‬‬
‫هل تراين التقيتها يف يوم من األحالم؟‪ .‬وملاذا بدأت تتف ّرس يف مالمحي بكلِ هذه‬
‫شعرت أنها تريد‬
‫ُ‬ ‫كنت أريدُ أن أسأل أنثى العطر هل التقيتنا ذات يوم؟‪.‬‬ ‫الحدّ ة؟‪ُ .‬‬
‫ولدت يف عينيها‪ .‬فلم أدر كيف‬ ‫ُ‬ ‫كنت قد‬‫أن تسألني نفس السؤال لتعرف ما إذا ُ‬
‫توقّف الزمن عند نظرتها وهي تلهبني برحيقها وترتكني أختا ُر الحريق!‪ .‬توقفت‬
‫ونقول معاً‬
‫ُ‬ ‫دقات قلبي‪ ،‬أو كادت أن تفعل‪ ،‬ونحن نشريُ لبعضنا يف شب ِه ذهول‪،‬‬
‫نفس اللحظ ِة‪:‬‬ ‫يف ِ‬
‫ِ‬
‫«أنت؟؟»‪.‬‬
‫«أنت؟»‪« .‬إحسان؟؟»‪« .‬عاطف؟؟؟»‪ .‬؟!‬
‫نعم كانت هي‪ .‬بعطرها وزهرها‪ ،‬كانت هي التي صنعت حقيبة رحييل‪ ،‬وتركت‬
‫القطارات تتب َّنى حزين‪ ،‬وهي التي ختمت عىل جواز سفري يف مطار الروح‪،‬‬
‫وجعلتني أتس َّو ُل الوطن يف املهاجر!‪ .‬هي التي كنت أحلم بفيزا حرة تدخلني‬

‫‪120‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫إىل أراضيها‪ .‬هل التي من أجلها مزقت جواز سفري يف حامم طائرة‪ ،‬وطلبت حق‬
‫اللجوء يف أول مدينة آمنة أطلت أضواؤها من بعيد‪ ،‬قبل أن تطلب منا مضيفة‬
‫ذات الطائرة‪ ،‬ربط أحزمة األمان‪.‬‬
‫أمارس تهوميايت يف ال يشء‪ ،‬وتركتني أشعلها حرباً علينا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إحسان التي جعلتني‬
‫بطعم نقائها األبيض!‪ .‬من الصعب‬ ‫طليت من أجلها كل النساء‪ ،‬حتى يصبحن ِ‬ ‫ُ‬ ‫حتي‬
‫ِ‬
‫الصمت‬ ‫أن تتسامى لغتي إىل مستوى الحدث‪ ،‬واألكرث غبا ًء أن أفسد روعة هذا‬
‫بكلمة!‪ ،‬ولكن هيهات‪....‬‬
‫ِ‬
‫اإلجابات ألجِ مها‪ .‬أدهشني أنها‬ ‫بأي‬
‫فتتابعت حوافر األسئلة عىل عقيل‪ ،‬فلم أدر ِّ‬
‫قيص من هذا ال ُّرواق‪ ،‬وكأنني يش ٌء يخصها‪ ،‬قد ضاع‬ ‫اقتادتني من يدي نحو ركنٍ ٍ‬
‫تحمل لوحتها وهي ال تدري‪.‬‬ ‫منها قبل لحظات‪ ،‬فيام كانت يدي األخرى تحملها ‪ُ ..‬‬
‫كسحائب دخانٍ من سجا ٍر فاتر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫تخرج مني بلها َء غري منتظمة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اإلجابات‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫اب من ترك كوخ ِه الخشبي املُطل عىل النهر‪ ،‬وذهب ليحتطب‬ ‫وأنا أتفحصها باستغر ِ‬
‫يطل عليه حوض سباحة‪ ،‬ويتسكع يف‬ ‫رصا ُّ‬
‫يف الغابة القريبة‪ ،‬وعندما رجع وجد ُه ق ً‬
‫باحاته خد ٌم وحشم‪ .‬لكم تغريت!‪ .‬من وضع هذا العصفور الربِّي يف هذا القفص‬
‫تسبح‬
‫ُ‬ ‫الذهبي؟‪ .‬بل ومن رسق رائحة الط ِني من صلصالها‪ ،‬وح ّولها لقطع ِة فخّا ٍر‬
‫تشتعل منها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يف قارور ِة عط ٍر بارييس؟‪ .‬من يا ترى الذي أطفأ جذوة النار التي‬
‫وأبدلها بقطع ِة ثلج؟‪ .‬هل باعت زالزلها وبراكينها مقابل بحرية جليدية منعتها‬
‫الشمس من الرضاعة؟‪ .‬هل وهل وهل؟؟‪ .‬كنت أتساءل كطفلٍ ريفي دخل للمر ِة‬
‫األوىل محالً لبيع الدمي‪ .‬وبعد ذلك انهمر سيل اإلجابات من فمها عىل صحرا ِء‬
‫حوجتي إلجابة تروي عطيش‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫أخربتني بأن والدها تم تعيينهُ ملحقاً ثقافياً يف السفارة السودانية مؤخراً!‪ ،‬وهذا‬
‫وعرفت أنها ستعو ُد إىل‬
‫ُ‬ ‫الرجل الذي سلمني الشهادة {التخديرية}!!‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يعني أنهُ‬
‫أعلم بأنها قد أخفت عني الكثري‪ ،‬وكذلك‬ ‫كنت ُ‬ ‫بريطانيا لتكمل دراستها‪ .‬ولكني ُ‬
‫أبيع‬
‫أحس أنها رمبا بدّ لت النار بالصقيع‪ ،‬أما أنا فسأبقى ابن خط االستواء! لن َ‬ ‫ُّ‬
‫شميس‪ ،‬ولن أترك هذا النيل يف عهدة مربية فلبينية‪ ،‬تعلمه نطق أول كلامته‬
‫بلكن ٍة مكرسة‪ ،‬وهو الذي ولد من رحم غيمة مدارية!‪ .‬كنت أردّد يف األكاذيب‬
‫يتبق منها غري ذكرى وبعض‬ ‫أتطلع فيها وأقتفي آثارها القدمية التي مل ّ‬ ‫ُ‬ ‫املعتادة‪.‬‬
‫االحتفاظ بالصو ِر القدمية‪ ،‬كمدين ٍة تاريخي ٍة ُ‬
‫ترفض‬ ‫ِ‬ ‫أطالل‪ .‬وأنا ذاكريت تصرِ ُّ عىل‬
‫يوضع لها أحمر الشفاه!‪ .‬كيف أتخلّص من عقدة‬ ‫َ‬ ‫وترفض حتى أن‬
‫ُ‬ ‫طالء جدرانها‪،‬‬
‫ِ‬
‫تداعيات املايض بكلِ ما‬ ‫تحاول االِستفاقة من‬
‫ُ‬ ‫هذه الذاكرة االسرتجاعية التي ال‬
‫متارس السقوط إىل الورا ِء كتميم ٍة وتعويذ ٍة متوارث ٍة ال فكاك من‬ ‫ُ‬ ‫فيه؟‪ .‬ولكنها‬
‫سلطاتها‪ .‬مل أزل هامئاً أردد يف كثري من الشعارات البلهاء‪ .‬اإلِحساس الذكوري‬
‫ويتفاعل معها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ويحتفظ بكيميائها يف جميعِ معادالت ِه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يتواطأ مع ذاكر ِة الحب‪،‬‬
‫وينصه ُر فيها‪ ،‬يتلكأُ حيال كل نداءات التغيري ومسح املساحيق‪ ،‬يدَّ ِعي الصمم‪،‬‬
‫ويتصنع العمى‪ ،‬وال يشاهد إال صورته املعكوسة من املرايا املحطمة‪ .‬والذكر ال‬
‫يرى إال صورته الجميلة‪ ،‬حتى لو شاهدها يف مرايا محطمة باهتة‪.‬‬
‫واآلن يا إحسان وقد هزمتك موجة الربد الغربية‪ ،‬أمل تعدي تفكرين يف دف ِء‬
‫انتبهت إىل أنها تحادثني بلغ ٍة غري مفهومة أو يُخ ّيل يل‪ ،‬ألنني‬
‫ُ‬ ‫الشموس إفريقيا؟‪.‬‬ ‫ِ‬
‫رسحت بعيداً عنها‪ .‬فسألتها تحاشياً للحرج‪:‬‬ ‫ُ‬
‫«قلت يل كنا وين يا إحسان؟‪ .‬معليش ما كنت مركّز معاك»‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪122‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«أنت الكنت وين يا عاطف؟‪ ،‬مالك؟»‪.‬‬


‫أجبت عىل سؤالها متق ِّعراً وأنا أعيد تعرية دواخلها‪:‬‬
‫«الدنيا دي غريبة شديد‪ ،‬أنا يل أربع سنني وشوية بفتش عليك‪ ،‬وملا لقيتك‬
‫ِ‬
‫وصلت والال لسه يف الطريق؟»‪.‬‬ ‫حايس إين لسة منتظر وصولك!!‪ِ ،‬‬
‫أنت‬
‫«يا الله!»‪ .‬قالتها بإِنجليزي ٍة باردة‪ ،‬ثم أضافت وقطعة ثلج تتدحرج عىل‬
‫لسانها‪:‬‬
‫«أنت مالك يا عاطف؟ أنا يل ساعة بتكلم معاك وما فهمت منك حاجة!»‪.‬‬
‫أجبتها بنفس درجة برودة لغتها‪:‬‬
‫«عارفة؟ الغربة دي خلتني أكون رصيحا حتى مع نفيس‪ ،‬وأنا بتكلم معاك يب‬
‫نفس درجة الرصاحة‪ ،‬ما شايف إين بتكلم معاك بالهريوغليفية!»‪ .‬وصمت‪.‬‬
‫«طيب‪ ،‬اتكلم أنا سامعاك يا عاطف»‪.‬‬
‫تعريف؟ أنا حلمت بيك لدرجة إين تعبت من الحلم‪ ،‬شايفك كل يوم بتكربي‬
‫قدامي‪ ،‬لكن عمري ما أتخيلتك تتغريي كده‪ ،‬أنا صح ما قابلتك كتري‪ ،‬لكن حايس‬
‫بيك غريبة عيل»‪ .‬صمتت برهة لتجيبني يف ضيق‪:‬‬
‫«ده شنو الفهم الرجعي ده يا عاطف؟ أتغريت كيف يعني؟؟‪ .‬لتستدرك قائلة‪:‬‬
‫«قصدك طريقة لِبيس يعني؟»‪ .‬مل أحفل بلبسها ظاهرياً‪ ،‬ولكن قلت لها مربّراً‪:‬‬
‫«صدقيني يا إحسان الفهم الرجعي ده أنا ما يل أيي ذنب فيه‪ ،‬لكن جواي‬
‫رافض التغيري ما عارف ليه‪ ،‬وما تسأليني»‪.‬‬
‫قاطعتني قائلة وهي تحدّ ق يف وجهي باستغراب‪:‬‬

‫‪123‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«أنت يا عاطف ما شايف العامل من حولك؟‪ ،‬ما قاعد تقابل ناس وال تختلط‬
‫بآخرين؟»‪.‬‬
‫«املشكلة إين شايف كل يشء‪ ،‬لكن كنت عايزك تحافظي عىل إحسان!»‪.‬‬
‫«إحسان قاعدة والله‪ ،‬ممم! يعني أنت هسة رايض عن عاطف؟؟!»‪.‬‬
‫فاحرتت‬
‫ُ‬ ‫باغتني سؤالها كقنبل ٍة موقوت ٍة‪ ،‬وأنا أهاجمها بال ساتر أو خط رجعة‪،‬‬
‫ِسقاط‬ ‫تهدف إل ِ‬ ‫ُ‬ ‫فيام أقولهُ وأنا أعرف أن اإلجاب َة ستفضحني‪ .‬لتضيف بطريق ٍة‬
‫جميعِ أقنعتي‪:‬‬
‫«نحن االتنني يف الهوا سوا‪ ،‬أنا اتنازلت شوية عن قناعايت‪ ،‬عشان عايشة يف‬
‫مجتمع بهتم بشخصيتي‪ ،‬ما بطريقة لبيس وأكيل وسلويك الخاص‪ ،‬وما معروف‬
‫أنت اتخلّيت عن شنو!»‪.‬‬
‫حارصتني وض ّيقت عيل الخناق فقررت الهرب من تلك املواجهة الخارسة‪.‬‬
‫«أويك‪ ،‬عندي ليك مفاجأة الصدفة لعبت فيها دورا كبريا يا إحسان‪ ،‬وميكن‬
‫القدر!!»‪.‬‬
‫«مفاجأة شنو؟ خري إن شاء الله؟ شوقتني يا عاطف»‪ .‬بلهف ٍة واضحة هتفت‪.‬‬
‫فغمزت لها بعيني‪ ،‬وأنا أشريُ إىل اللوحة!‪.‬‬‫ُ‬ ‫شعرت بحريتها وفضولها‪،‬‬
‫ُ‬
‫«دي شكلها لوحة مش كده؟؟»‪.‬‬
‫كنت أزيح الستار عن اللوحة التي شاركتني‬ ‫قالتها وهي تتص ّنع ال مباالة‪ ،‬فيام ُ‬
‫مرارة غربتي وقاسمتني معانايت‪ .‬وأنا أدركُ أنني كنت ُناو ُر بطريق ِة ذكوري ٍة ماكرة‬
‫أدركت‬
‫ُ‬ ‫فلمحت يف عينيها نظر ٍة‬
‫ُ‬ ‫وخبيثة‪ ،‬نستعملها كثرياً يف مواجه ِة املدّ األنثوي‪،‬‬
‫اإلمالءات املاورائية املزمنة‪ .‬وهتفت كمن وجد كنزاً‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫تنصلت من‬
‫ُ‬ ‫من خاللها أنني‬

‫‪124‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«دي يا إحسان اللوحة الرسمها العم إحسان وكلمتك عنها يف السودان»‪.‬‬


‫«يا الله!!!»‪.‬‬
‫تتطلع يف‬
‫ُ‬ ‫قالتها هذه املرة بعربي ٍة ساخنة وشهية‪ ،‬وانتزعت مني اللوحة ليك‬
‫ذاتها وهي مذهول ُة للحظات‪ ،‬قبل أن تقول كمن أفاقت من غيبوب ٍة حاملة‪:‬‬
‫«يا الله‪ ..‬يا الله!‪ .‬بلغ ٍة أكرث سخون ًة وسحراً وتضيف‪:‬‬
‫«عم إحسان ده إنسان مجنون مجنون‪ ،‬ياريت لو أقابلُه يف يوم من األيام‪ ،‬ما‬
‫كنت متخيلة إنها بالجامل ده»‪.‬‬
‫كنت أرمقها بفرحٍ دون أن أتكلم‪ ،‬وصمتت برهة ومن ثم استدركت قائلة‪:‬‬ ‫ُ‬
‫«لكن أنت جبتها معاك هنا يل شنو بالضبط؟»‪.‬‬
‫«كنت عايز أعرضها عيل الفنان السوداين صاحب املعرض‪ ،‬لكن خالص بعدك‬
‫مح يشوفها زول أبداً»‪.‬‬
‫يفصل بيننا‪ ،‬ولكنها فاجأتني بقولها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫كنت أحاول تذويب الجليد الذي‬ ‫ُ‬
‫«تتذكر القصيدة الكتبتها يل ملا اتقابلنا أول مرة يف السودان؟»‪.‬‬
‫«أيوه طبعا‪ ،‬لسه حافظاها؟؟»‪.‬‬
‫ح تقدر تصدق إين شايالها معاي يف شنطتي هسه؟؟»‪.‬‬
‫جيب خفي من حقيبتها النسائية‬ ‫وقبل أن تخرج الورقة املوضوعة بعناي ٍة يف ٍ‬
‫الفاخرة بدأت ترددُ‪:‬‬
‫«يا قميصاً ُقدَّ من شوقٍ‬
‫كل الرشايني‬ ‫وأي ٍد تُقطِّع يف ِّ‬
‫ترفع للسام ِء رجا ِءها‬‫حني ُ‬

‫‪125‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫نق زهر َة ياسمني‬ ‫أو تُط ِّو َق ُع َ‬


‫آم َني يا تلك التي هي كعبة‬
‫نركع ساجِ دين»‬ ‫آن مل تُفرض صالة ولكن لألزاه ِر ُ‬
‫ِ‬
‫للنداءات الخفية‪،‬‬ ‫طربت لب ّح ِة صوتها‪ ،‬وهي تكا ُد تغني قصيديت‪ ،‬تركتني فريس ًة‬ ‫ُ‬
‫زلزلتني وأشعلت فيني نريانها بحضورها الطاغي‪ ،‬وبكلِ ما متلكُ من سلطوي ِة‬
‫زلت أتذكرها وهي طفلة ياسمني‪.‬‬ ‫أنوثتها‪ ،‬مع أين ما ُ‬
‫كنت أتطلع فيها بنفاد غربة‪ .‬وكانت كل الوطن آنذاك‪ .‬وقفزت قفزتني قائلة‪:‬‬
‫«أنت عسل‪ ،‬عسل يا أخوي!»‪.‬‬
‫فشعرت أنني بال وطن حني قالت {يا أخي} ولفظتني إىل منفى مل يبلغه سوى‬
‫يأيس‪ .‬إذ كنت أنتظر أن تقلني عىل مقعد الدرجة األوىل من رحل ِة الوهم‪ .‬تجاوزت‬
‫وبدأت حواراً مبهامً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫األمر برسع ٍة مقلقة‪.‬‬
‫قطع حديثنا اإلعالن عند انتهاء فرتة العرض‪ ،‬وإغالق ال ُّرواق‪ .‬وقبل أن نفرتق‪،‬‬
‫أعطيتها رقم تليفون محل حلمي البقال الذي يقبع أسفل العامرة التي أسكن‬
‫فيها‪ .‬تناولت مني القصاص ِة التي كتبت عليها الرقم‪ ،‬ثم غادرتني وتركت يل ما‬
‫تحركت أنا قاصداً منزيل‪ ،‬وأنا أشعر بالكثريِ من‬ ‫ُ‬ ‫تبقّى من فنجالِ عطرها‪ ،‬ومن ثم‬
‫األشياء التي مل تحدث يل منذ فرت ٍة بعيدة‪.‬‬
‫اط يف احتساء علب‬ ‫منت يف تلك الليلة‪ ،‬ولكن يُخ ّيل يل أن اإلفر َ‬ ‫ال أعتقدُ أنني قد ُ‬
‫غفوت‬
‫ُ‬ ‫يزعم أنني رمبا‬
‫البرية االستيال هو الذي ساعدين يف تصديق االعتقاد الذي ُ‬
‫باب الشقة‪ ،‬والصداع يكا ُد يقتلني‪،‬‬ ‫صوت الطرق املزعج عىل ِ‬ ‫استيقظت عىل ِ‬ ‫ُ‬ ‫قليالً‪.‬‬
‫وفتحت الباب وأنا أكا ُد‬
‫ُ‬ ‫وأسب يف هذا الزائ ِر الثقيل‪،‬‬‫ُّ‬ ‫فنهضت ساخطاً وأنا ألع ُن‬ ‫ُ‬

‫‪126‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫أنفج ُر من الغيظ‪.‬‬
‫«تليفون علشانك يا عم عاطف‪ ،‬كل ده نوم؟؟»‪.‬‬
‫صبي حلمي البقال كان هو الطارق‪ .‬ولكن من يطلبني يف هذا الوقت؟‪ .‬ارتديت‬
‫وهبطت درجات السال ِمل والصداع يكا ُد يفجر رأيس‪ .‬بدأ جرس‬ ‫ُ‬ ‫مالبيس يف عجل‬
‫الهاتف يرنّ مرة أخرى عندما وصلت‪ ،‬فناولني حلمي السامعة وأنا أفركُ النوم‬
‫من عيني بصعوب ٍة‪.‬‬
‫«ألو مني معاي؟»‪.‬‬
‫«سوري‪ ،‬شكيل كده صحيتك من النوم!»‪.‬‬
‫الصوت بعطره‪ ،‬فأجبت عىل الفور‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫غمرين‬
‫ِ‬
‫اتصلت»‪.‬‬ ‫«ال والله بالعكس‪ ،‬أنا أصالً مفروض أصحى بدري شوية وكويس إنك‬
‫تعرفت عىل صوتها‬
‫ُ‬ ‫ومع أنها املرة األوىل التي تهاتفني فيها ُمذ عرفتها‪ ،‬إال أنني‬
‫األبيض‪.‬‬
‫«والله يا عاطف أنا زهجانة‪ ،‬فقلت أشوفك لوما عندك مانع نطلع نتفسح‬
‫شوية»‪.‬‬
‫أجبتها بفرح ٍة‪:‬‬
‫«مايف مشكلة يا إحسان‪ ،‬الليلة؟؟»‪.‬‬
‫«ال‪ ،‬الليلة نحن معزومني يف بيت السفري‪ ،‬لكن بكرة ما عندي حاجة بعد الساعة‬
‫عرشة»‪.‬‬
‫«أويك‪ ،‬خالص نتقابل الساعة حدارش يا إحسان»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت أكرث بياضاً‪.‬‬ ‫لكن عايزنا نتقابل وين؟»‪ .‬سألتني‬

‫‪127‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ٍ‬
‫بصوت ُمع ّتق بغبا ِر األيام‪:‬‬ ‫فأجبتها‬
‫«اركبي أي تاكيس‪ ،‬تعايل ميدان طلعت حرب وقويل عايزة قهوة زهرة البستان‬
‫يف وسط البلد‪ .‬هي بتقع يف شارع البستان املتفرع من شارع هدى شعراوي»‪.‬‬
‫«أويك‪ ،‬خالص أنا برضب ليك مرة تانية‪ ،‬مع السالمة»‪ .‬انتهت مكاملتها‪.‬‬
‫خطر‪ .‬فمرت‬ ‫بعمق ِ‬
‫ِ‬ ‫عدت إىل شقتي الصغرية ليك أواصل نومي وأنا أفك ُر فيها‬
‫ساعات اليوم واليوم التايل وأنا أهيأ نفيس لهذا املشوار املهم‪ ،‬والذي قد يغيرّ‬
‫حلمت بأين أجوب معها القاهرة القدمية والجديد ِة‪ ،‬بكلِ‬ ‫ُ‬ ‫مجرى حيايت إىل األبد‪.‬‬
‫أحيائها وشوارعها‪ ،‬ومقاهيها ونيلها وليلها‪ ،‬كنت أريدها أن ترقص معي وسط‬
‫النيل رقصة ألكسيس زورباس رائعة اليوناين نيكلوس كازانتزايك‪ ،‬وتغام ُر معي‬
‫كنت‬‫مثل ما فعل مع األرملة الفرنسية مدام هورتانس يف ذلك الزمن البعيد‪ُ .‬‬
‫أريدُ أن أقرع جميع أجراسها‪ ،‬كام كان يفعل كوازميودو أحدب نوتردام‪ ،‬وأصري‬
‫ترقص معي مثل الغجرية الساحرة‬ ‫مخاض النيلِ السنوي‪ ،‬وهي ُ‬ ‫ِ‬ ‫زعيامً للمجانني يف‬
‫تطرق معي عىل نوافذ القدر‪ ،‬وتناجي القمر وهي‬ ‫ُ‬ ‫كنت أريدها أن‬ ‫أزمريالدا‪ُ .‬‬
‫وترسق قبض َة ي ٍد من الضياء‪ .‬كل هذا والزمن انتظار!‪ .‬ومقاعد‬ ‫ُ‬ ‫تتلص ُص عىل أبواب ِه‪،‬‬
‫ّ‬
‫املقهى العتيق أضناها الرتقُّب‪ .‬تلك املقاعد التي تخضّ بت بذكري عاملقة الشعر‬
‫وتستلهم من التاريخِ‬
‫ُ‬ ‫واألدب والفكر والسياسة‪ ،‬تلك املقاعد كانت تنتظرها مثيل‬
‫روح املستقبل‪ .‬كنت أجلس يف ممر املقهي الذي أطلق عليه الشاعر الجميل أمل‬
‫دنقل‪ ،‬اسامً لطيفاً جداً‪{،‬العمق اإلسرتاتيجي لريش}‪ ،‬حيث كان يقصد أنه االمتداد‬
‫اآلخر ملقهى ريش الشهري‪ ،‬فيتوافد ر ّواد ريش لتدخني الشيشة ولعب الطاولة‪،‬‬
‫لعدم توفّرها هناك‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫بتوقيت املقهى‪ ،‬ولكني انتظرتها نصف عم ٍر‬ ‫ِ‬ ‫يقارب النصف ساعة‬‫ُ‬ ‫لقد تأخرت ما‬
‫كنت أترق ُّب أن‬‫ذات صمتي مبحاول ٍة للرصاخ!‪ُ ،‬‬ ‫بتوقيت شوقي‪ .‬انتظرتها وأنا أجلدُ َ‬
‫يل وتنهي صيام وحديت‪ ،‬ولكن هل أستطيع الجز َم بأين أحبها؟‪ .‬فقد تكون‬ ‫تهل ع ّ‬‫َّ‬
‫هي غريزة التملُّك‪ ،‬وقد أكون فقط أريد أن أعيد هذه الناق َة الشاردة لقافلتي‪.‬‬
‫الجنس الرجويل ‪ ،‬فكلنا يريدُ أن تكونَ لهُ قبيل ًة‬
‫ِ‬ ‫عقدة ذكورية متجذرة يف أعامقِ‬
‫من النساء‪ ،‬وكلنا ميتهن اسرتقاق النساء‪ .‬ويف النهاية نكون له ّن عبيدا!‪ .‬فمتى‬
‫نتحر ُر من عقدتنا هذه‪ ،‬ومتي نعل ُن استقاللنا من هذه الترُّ هات؟‪ .‬متي نخرج من‬
‫منارس فيها تزييف فحولتنا‪ ،‬ودفعها دفعاً إىل اعتبا ِر أن‬ ‫هذه العزلة العقيمة التي ُ‬
‫اآلخر هو مجرد غنيمة حرب؟!‪ .‬وثم ماذا إذا غادر ال ُرماة ـ الذين يحمون ظهو َر‬
‫خداعنا ألنفسنا ـ مواقعهم؟ هل ستكونُ أُحدً ا أخرى؟‪ .‬ال أحد‪ .‬ال أحد ال يتمنى أن‬
‫يكون كل النسا ِء من جواري ِه‪ ،‬ولكن ال أحد ميتلكُ رادعاً أخالقياً مينعهُ من التفكريِ‬
‫تبيض له‪ .‬فكل رواد هذا املقهى العتيق يلوكون األحاديث الرخيصة‪،‬‬ ‫يف دجاج ٍة ال ُ‬
‫ويتداولون العبارات الجنسية البغيضة‪ ،‬ويحشونها عمداً يف أحاديثهم ويقهقهون‪،‬‬
‫فيضحك الزم ُن عىل قلّة مفاهيمهم!‪ .‬ال أحد‪.‬‬
‫دواب القاهرة‪،‬‬‫ترتجل عن ظه ِر األسود من ِ‬ ‫كنت أسخ ُر مني‪ ،‬فلم أملحها وهي ُ‬ ‫ُ‬
‫ِّب عني يف فوىض جيلوجيا املكان‪،‬‬ ‫السائق األجرة‪ ،‬وبدأت تُنق ُ‬
‫َ‬ ‫إال بعد أن نقدت‬
‫أستأنف حفريايت يف أعامقِ خيبتي!‪ ،‬نادل املقهى املزعج وقف أمامي‬ ‫ُ‬ ‫فيام أنا كنت‬
‫وقال‪:‬‬
‫«يا عم عاطف البنت اليل هناك شكلها عايزاك!!»‪.‬‬
‫ووقفت مرسعاً حتى أداري أي أث ٍر مخ ٍز لسقوطي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فرتكت خيبتي جالسة‪،‬‬
‫ُ‬

‫‪129‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«اتأخريت كتري‪ ،‬أنا كنت فاكرك ما جاية»‪.‬‬


‫عاتبتها وأنا أمتعن يف فستانها الوردي األنيق!‪.‬‬
‫«والله يا عاطف أنا كنت جاهزة من بدري‪ ،‬لكن دكتور عمر كان معانا!»‪.‬‬
‫مل أشأ أن أسألها عن هذا {ال ُع َمر} وحسبته أحد أصدقاء والدها الدبلومايس‪.‬‬
‫بالرشب من نيلِ عينيها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫واكتفيت‬
‫ُ‬ ‫طلبت لها قهوة كام أرادات‪،‬‬
‫ُ‬
‫يجتمع فيه العظامء‪ ،‬يكتبون الشعر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حدثتها عن تاريخِ هذا املقهى الذي كان‬
‫ويتحدثون يف السياسة‪ ،‬ويهدهدون رسيرة أعظم الروايات‪ .‬وقد فعلها العظامء‬
‫هنا مراراً وتكراراً‪ ،‬فقد كانوا يستمتعون باالندياحِ وسط املاء العكر‪ ،‬وكانت أغاين‬
‫أم كلثوم تعسك ُر يف مسامعنا‪ ،‬وتعل ُن أرواحنا منطقة طربية‪ ،‬ممنوع االقرتاب‬
‫تصفق من شدّ ة االرتياح‪ ،‬وتنق ُر‬‫ُ‬ ‫والتصوير!‪ .‬كانت أقدام رواد املقهى السهارى‪،‬‬
‫فشعرت أن هذا املقهى‬ ‫ُ‬ ‫الطاوالت‪ ،‬فتئنِ ُّ وترنُّ وت ِحنُّ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حواف‬ ‫أصابعهم عىل‬
‫يضيق بأحالمي فقلت لها‪:‬‬
‫املتواضع ُ‬
‫«حلمت كتري يا إحسان إننا ماشيني سوا يف كورنيش النيل‪ ،‬نتونس ونغني‬
‫ونحلم»‪.‬‬
‫ِ‬
‫الفضاءات‬ ‫اكتفت بابتسام ٍة نِيلية وكأنها تشاطرين نفس الحلم‪ ،‬فانطلقنا يف‬
‫إبريق ذلك املساء وتصلِّيان‪ ،‬فآمذن النيل تؤذنُ‬ ‫ِ‬ ‫الوضيئ ِة‪ ،‬تتوضأ روحينا من‬
‫فينا‪ ،‬أن هلموا يا أيها العشاق جامع ًة‪ .‬فرتى من أحل لنا هذا السحر!؟‪ .‬أعتقدُ‬
‫أرضع روحي من‬ ‫َ‬ ‫أحلم بأن‬
‫تتعانق حني يضنيها اشتهاء يشء‪ ،‬وكنت ُ‬ ‫ُ‬ ‫أن األرواح‬
‫تفعل أمواج النيل التي‬ ‫حليبها‪ ،‬وأكرس حاجز عزلتها من صدري‪ .‬أحضنها كام ُ‬
‫تواجه املوت برشف‪{ ،‬والبحر األبيض املتسلِّط} يطعنها يف صدرها بال رحمة!‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫وكنت أريد أن أميش عارياً‪ ،‬وأرتديها هي فقط‪ ،‬فشاركتني رغبتي‪ ،‬وهي ال تدركُ‬
‫عمق جنوين‪ ،‬وال تفهم منطق الالوعي‪ .‬يف هذا العامل الالواعي‪ ،‬من حقنا أن نختار‬
‫لعمق الجرحِ فيك‪،‬‬ ‫وقت الغيبوبة‪ ،‬ودرجة التخدير!‪ .‬الغيبوبة هي أن تكون مدركاً ِ‬
‫بالوعي طائشاً أحمق‪ .‬ما عدا ذلك ال طائل من ورائه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وأن تكونَ واعياً‬
‫حلمت بها‬
‫ُ‬ ‫مشينا حفا ًة عرا ًة إال من أرواحنا‪ ،‬وأنا كنت أفك ُر يف أن أهديها هدية‬
‫كثرياً!‪ ،‬فقد كانت متام الواحدة بتوقيت الفُل‪.‬‬
‫«أين أنت يا صابر بن أم صابر؟»‪.‬‬
‫والنيل‬
‫ُ‬ ‫نصف مجنون ٍة‬
‫ضحكت بعذوب ٍة وأنا أحيك لها عن صابر‪ ،‬بل وتحولت إىل ِ‬
‫بحب املجانني!‪ .‬ملاذا عندما يغادرنا شامالً تصيبهُ شقاوة األطفال عن‬ ‫مهووس ِ‬‫ٌ‬
‫ِكرب؟‪ .‬هل هي الحكمة التي ترشح للموج ِة كيف تقرأ لغة الضفاف؟‪ .‬فام أعتقد ُه‬
‫يحب أن يعبأَ فقط يف بطون‬ ‫أن النيل يتل ّون حسب حجم احتفالنا ب ِه‪ ،‬فهو ال ُّ‬
‫يعشق أن تقد َم لهُ باقة ورد وقارورة عطر‪ .‬لعبت برأيس‬ ‫ُ‬ ‫مربدات املياه‪ ،‬ولكنهُ‬
‫فأحسست أن إحسان هي االختيار الذي‬ ‫ُ‬ ‫خمر األمواج وأفيون النسائم اللطيفة‪،‬‬
‫ال بديل لهُ إال إحسان!‪.‬‬
‫«ربنا يخليهالك يا ابن املحظوظة‪ ،‬فُل يا عم عاطف ألحىل عروسة فيك يا مرص‬
‫والسودان‪ .‬ده نحن كنا بلد واحد أيام امللك فاروق»‪.‬‬
‫«يا عم بس‪ ،‬بالش دوشة أنا ُمش فاضيلك النهار ده»‪.‬‬
‫«واملصحف نحن كنا بلد واحد‪ ،‬وعبد النارص هو اليل ‪.»...‬‬
‫يا لصاب ٍر بن أم صابر ‪..‬‬
‫ألقيت عليه تحية الفُل متربّماً من ثرثرته التي ال حدود لها‪ ،‬وع ّرفتها ب ِه‪ ،‬فقد كان‬

‫‪131‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫تقابل إحدى شخصيايت‬‫ميل منافقتي‪ .‬وجدتها سعيدة وهي ُ‬ ‫صديقي اللدود الذي ال ّ‬
‫تعرف ولهي بأسطر ِة شخويص إىل هذا‬ ‫ُ‬ ‫أمل الحديث عنها‪ ،‬وأظنها كانت ال‬ ‫التي ال ُّ‬
‫القدر‪ .‬ولكنها أحبته عىل كل حال‪.‬‬
‫استطالت مساحات األنس ور ُحبت‪ ،‬فسمونا‪ ،‬وكان الحلم مباحا‪ ،‬فحلمنا‪ .‬حلمنا‬
‫حد التخمة‪ ،‬فسألتها بُعيد انتباه ٍة‪:‬‬
‫«أنت يا إحسان ناس البيت عارفني إنك ح تتأخري شوية؟»‪.‬‬ ‫‪ِ -‬‬
‫قالت وهي تنظر إىل ساع ِة يدها الفاخرة‪:‬‬
‫«ال والله‪ ،‬أنا قلت ليهم طالعة مع صديقتي‪ ،‬وقِّف يل تاكيس عشان مفروض‬
‫أميش خالص»‪.‬‬
‫برغم أنني كنت أريدها أن تبقى‪ ،‬ولكن كان البد‬ ‫أومأت لها برأيس موافقاً‪ِ ،‬‬
‫تفعل ذلك دامئاً‪ .‬دوماً هي الس ّباقة بالرحيل وأنا ال يسعني إال‬ ‫أن تغادر‪ ،‬فهي ُ‬
‫أن أتابع آثار كلامتها‪ ،‬وأقتفي أثر عطرها‪ ،‬وعربة األجرة املرسعة تطع ُن يف قفا‬
‫ِ‬
‫األسفلت بال رحمة‪.‬‬
‫صمت‪ ،‬ووحشة‬ ‫ٍ‬ ‫وافرتقنا وأنا أنتظر منها هاتفاً قد ال ي ِحنُّ‪ ،‬قد ال يرِنُّ ‪ ،‬وأنا أئِ ُّن يف‬
‫غرفتي الكئيبة تذكرين بوحديت ألرفع كأيس وحيداً كئيباً‪ ،‬يف صحتك يا حلم!‪ .‬مل‬
‫أكن أملك إال هاتف حلمي البقّال‪ .‬وكنت أمقت الذهاب إليه‪ ،‬إذ كانت ديوين‬
‫بلغت الجبال ثقالً‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الفصل األخير‬
‫متثل اليقني األول‬
‫الحلم مجدلية}‪ .‬كانت ُ‬ ‫ِ‬ ‫مشارف العمر‪{ ،‬خرجت من بطنِ‬ ‫ِ‬ ‫عىل‬
‫الذي أحملهُ يف صدري‪ ،‬يف غمرة حاالت الحمل الكاذب املتعددة‪ ،‬التي كانت‬
‫كنت أرتاب فقط‪ .‬ويف ظل الوجودية‬ ‫تترشنق يف وجداين‪ .‬مل أكن أمتلك يقيناً كامالً‪ُ .‬‬
‫ُ‬
‫رص أفكاري‪ ،‬مل أكن أريدها أن تكون سيمون دي بفوار أخرى‪ ،‬ومل أكن‬ ‫التي تحا ُ‬
‫أنا سارتر!‪ ،‬ولكني مل أكن سوى هذا الفتى الرشقي الغارق يف آثامه الذكورية‬
‫الجامحة‪ ،‬التي ترتاح لفكرة نزع الصفات اإلنسانية من املرأة‪ ،‬وتحويلها إىل مجرد‬
‫تابعٍ ذليل‪ ،‬وال ميتلك الحق يف املشاركة الفاعلة‪ ،‬إال بإذنٍ مسبق‪ .‬من ٍ‬
‫أسف أن هذه‬
‫الحقيقة مل أكتشفها إال بعد فوات األوان‪ ،‬عىل الرغم من أنني وغريي نجاهد كثرياً‬
‫لتغييبها حتى بعد معرفتها‪.‬‬
‫يف ذلك الوقت‪ ،‬سكنتني روح شاعر اإلنجليز العظيم‪ ،‬الذي كان يأمرين بأن‬
‫أعيشها قصيد ًة طائشة‪ ،‬وأشعلها بركاناً‪ ،‬ولكن ليس من العدلِ أن يكون حضورها‬
‫يقول يل دعها ُ‬
‫تزلزل كيانك‪ ،‬وال‬ ‫مثل عود ثقاب تنتهي حياته دفع ًة واحدة!‪ .‬كان ُ‬
‫ته ّزك قليالً ثم تغادرك إىل السكون!‪ ،‬كأنه كان يريد أن يخربين أن أترك األنثى ليك‬
‫والغريب أننا‬
‫ُ‬ ‫تحدث قدراً أكرب من الضجيج‪ ،‬حتى تتح ّرك الربك الراكضة يف دمايئ‪.‬‬
‫تلملم جميع احتامالتك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نخلق الحب ونخرتع املشاعر‪ ،‬ونرتكها لتقتلنا‪ .‬األنثى التي‬

‫‪133‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ثم تبعرثك‪ ،‬هي الوطن الذي ال توجد له خرائط أو حدود!!‪.‬‬


‫تطلق عليك رصاصة‬ ‫متزق أوراق قصائدك‪ ،‬ولكنها ال ُ‬ ‫ستدفعك لكتاب ِة الشعر‪ ،‬ثم ُ‬
‫متارس معك طفولتها‪ ،‬وشقاوتها‪ ،‬ومراهقتها‪ ،‬وأمومتها‪ ،‬وتفطمك عىل‬ ‫ُ‬ ‫الرحمة!‪،‬‬
‫وع ِد استجدا ِء قُبل ٍة‪ ،‬قد تأيت بال انتظار!‪ .‬وقد تبقى مج ّرد وشم عىل جدار أحالمك‬
‫اآليل للسقوط‪.‬‬
‫هذا هو القدر وهذا هو اإلِرث الذي وهبني له العم إحسان‪ .‬رصاع الذات‬
‫َ‬
‫نتأبط‬ ‫والذات‪ ،‬وغربة األمل!‪ .‬ليس جديداً علينا أن نتأمل‪ ،‬ولكن األكرث إِيالماً‪ ،‬هو أن‬
‫معنا أوجاعنا ونحن نرتا ُد املطارات‪ .‬ما هي الحكم ُة الفلسفية التي تُربِّر سقوط‬
‫جميع أقنعتنا أمام جربوت أنثى؟‪ .‬ومن هو املسؤول عن متري ِر هذه األجندة‬
‫الرسية؟‪ .‬تلك األجندة التي تبادر إىل رفعِ الراية البيضاء وإعالن االِستسالم‪ .‬هل‬
‫هو إِحساسنا بالغرب ِة العاطفية ما يدفعنا الِستوطان امرأة؟‪ .‬ومن الذي يقنع‬
‫الحلم مجدلية‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أجنحتنا املحطمة باِستحال ِة التحليق؟‪ .‬نعم هي خرجت من بطنِ‬
‫متاماً مثل غيمة اِستوائية يغم ُز لها نصف قمر‪ ،‬كالهام يريد أن يعتيل خشبة مرسح‬
‫رص للهطولِ ‪ ،‬أم ميسح الضو ُء مقلة السحاب!‪.‬‬ ‫السامء‪ ،‬فلم تدر األقدار هل تنت ُ‬
‫هذه هي الفلسفة القدرية املخادعة التي ال مفر منها إال إىل فلسف ٍة أخرى‪.‬‬
‫فعندما ننك ُر أهمية العاطفة يف حياتنا‪ ،‬فذلك اعرتاف ضمني بوجو ِد عاطف ٍة‬
‫مضاد ٍة مدسوس ٍة يف أعامقِ بحثنا الحثيث ملساح ٍة من الحب‪ ،‬فيام يبقى الحلم‬
‫الواقع مسار خطواتها‪ .‬إذن الحلم‬ ‫ُ‬ ‫هو حلقة الوصل مع رغبات األنا‪ ،‬التي يحد ُد‬
‫هو الحياة األخرى التي نتمنى أن نعيشها يف صحونا‪ .‬إنها الغيبيات‪.‬‬
‫نقسم حياتنا إىل نصفني‪ ،‬لنخلق حيا ًة من ال حياة‪ ،‬فت ّت ِسع‬ ‫فعندما نحلم‪ ،‬فإننا ِّ‬

‫‪134‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ويكشف أننا‬
‫ُ‬ ‫اله ّوة الرتاكمية بني ما هو حادث وما هو غري ممكن‪ ،‬ليأيت الواقع‬
‫منارس الغش والخداع الذايت‪ .‬وينشأ نوع من الرصاع الخفي تارة‪ ،‬والعداء السافر‬ ‫ُ‬
‫أرسق نفيس‪ ،‬وأتع ّرى من ذاكر ِة الزمان‬ ‫كنت ُ‬‫تار ًة أخرى تجاه ذات الواقع‪ .‬فأنا ُ‬
‫األبواب املوصدة هنيه ٍة أه ُُّش بها عىل وجعي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أختلس من ِ‬
‫خلف‬ ‫ُ‬ ‫واملكان‪ ،‬حتي‬
‫وكنت أحلم بأين الديك الوحيد الذي يبرشها بالصباح‪ ،‬ومل أكن أطيق تح ّمل فكرة‬
‫وتبيض لها ولو مر ًة يف العمر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أن تسبقني ديوك أخرى لتؤ ِّذن يف قلبها‪،‬‬
‫صحوت يف صبيحة اليوم التايل‪ ،‬وأنا كالعاد ِة أعاين من صداعٍ وفتو ٍر وشجن‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يخفف عني املاء البارد حدّ ة الصداع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فنهضت متثاقالً وأنا أمني النفس أن‬ ‫ُ‬
‫وأعددت لنفيس كوباً من الشاي الساخن‪ ،‬ويف خاطري عبار ٌة كان يرددها العم‬ ‫ُ‬
‫إحسان‪« :‬الشاي دريكسون املخ»!!‪.‬‬
‫فحاولت أن أشغل نفيس بالقيادة يف شوارع نهاية التاريخ‪ ،‬وأنا أخىش أن يح ّرر‬ ‫ُ‬
‫يل فرانسيس فوكوياما مخالفة {للقيادة تحت تأثري الشاي!} ومع ذلك كنت أم ُر‬
‫الكتاب بإِهامل سائحٍ ال تعنيهُ املدن التاريخية وال ال ُّنصب التذكارية‪.‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مبحطات‬
‫أصبحت هذا الصباح‪ ،‬وأنا يشدّ ين حنني جارف للسودان‪ ،‬رغم جور األنظمة‬
‫وغياب العدالة وتسلُّط الحكام‪ ،‬ولكن املساحة الوجدانية للوطن‪ ،‬كانت بعمق‬
‫واشتقت إىل العم إحسان‬
‫ُ‬ ‫اشتقت إىل أهيل ونايس وحاريت‪،‬‬‫ُ‬ ‫مليون حنني مربع!‪،‬‬
‫كنت أ ِح ُّن إىل حاريت امللقاة عىل قارع ِة الخريطة‪،‬‬
‫والرفاق جميعهم يف تلك البالد‪ُ .‬‬
‫بشوارعها وأزقتها ومبانيها القدمية‪ .‬اشتقت إىل نهر النيل الحايف‪ ،‬بأسامك ِه وطين ِه‬
‫وجروف ِه‪ .‬اشتقت إلي ِه موجة موجة‪ ،‬وضفة ضفة‪ .‬نهر النيل بجلباب ِه الناصع‪،‬‬
‫رش موجه يف بذل ٍة‬‫وعاممتهُ البيضاء‪ ،‬قبل أن يتفلسف ويدّ عي التقدمية‪ ،‬وهو يح ُ‬

‫‪135‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫عنق تخنقهُ ‪ ،‬ويسهر حتي الصباح ويذهب للنوم «بالروب دي‬ ‫ال تناسبه‪ ،‬وربطة ٍ‬
‫شامرب»‪ ،‬ويرتكني ليك أشكّ يف رجولته!‪ .‬نهر النيل الذي أعرفهُ مبسبحت ِه وسجادت ِه‬
‫يبيع عروست ِه مقابل حفنة أوراق خرضاء‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫رخيص‪ُ ،‬‬ ‫وكرم ِه‪ ،‬قبل أن يتح ّول إيل قوا ٍد‬
‫يبت ّز ُه بها سائح أجنبي ثري‪.‬‬
‫نيل ال يتصاىب‪ ،‬وال يصبغ شع َر‬ ‫كنت ساديت أ ِح ُّن لنيلٍ ابن حالل‪ ،‬وموج ٍة رشعية‪ٌ ،‬‬ ‫ُ‬
‫فقررت أن أنزل وأجلس‬ ‫ُ‬ ‫ضفاف ِه باملصابيحِ امللونة‪ ،‬ويتخلىّ عن وقار ِه األخرض!‪.‬‬
‫تعزف عىل طبل ِة أذنك‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫األحاديث العابرة التي‬ ‫عىل القهوة ألحتيس فنجاال من‬
‫بال اسئذان‪ .‬الثقافة املرصية تعتربُ الجلوس عىل املقاهي من مظاهر الرجولة‪،‬‬
‫عىل النقيض متاماً عام هو عندنا يف جنوب الوادي‪ .‬فاملقهى املرصي يعطيك نرش ًة‬
‫مفصلة بأخبا ِر الدنيا‪ ،‬وفيه تتجلىّ العبقرية املرصية يف النظرة املتسامحة للحيا ِة‬ ‫ّ‬
‫مبنظو ٍر عام‪ ،‬وبنفسي ٍة م ّيال ٍة للفرح والتفاؤل والسخرية اإليجابية التي تتغلّب عىل‬
‫جراحات األيام‪.‬‬
‫أما نحن فأصحاب نظرة تشاؤمية نوعاً ما‪ .‬تُغلِّف آراءنا ومعتقداتنا بفكرة‬
‫يتغلغل يف دواخلنا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫سلبية ومحبطة‪ ،‬فنرتك أبوابنا مرشعة للحزن والكآبة‪ ،‬أو نرتكهُ‬
‫ويرسق مفاتيح قالعنا مثل حصان طروادة!‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ويفككها من الداخلِ ‪،‬‬
‫«يا عم اضحك ما حدش واخد منها حاجة!!»‪.‬‬
‫هذه هي كلمة الرس الوحيدة التي ميلكها البني آدم املرصي‪ .‬أما كلمة الرس‬
‫التي تستعبدنا‪:‬‬
‫«ملعون أبوك يا بلد!!»‪.‬‬
‫«تلفون عشانك يا عاطف»‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫فأرسعت هابطاً الدرج‬


‫ُ‬ ‫صبي حلمي البقال يزعق يف وجهي عىل طريقته الخاصة‪،‬‬
‫الذي يفيض يب إىل الشارع‪ .‬كانت هي عىل الخط‪.‬‬
‫«الحمد لله أنا بخري يا إحسان مشتاقني‪ ،‬أنت أخبارك شنو؟»‪.‬‬
‫«أنا كويسة‪ ،‬ممم! بس كنت عايزاك يف موضوع كده»‪.‬‬
‫«طيب مايف مشكلة‪ ..‬يعني ممكن نتقابل؟»‪.‬‬
‫يوم عاصف ثم قالت‪:‬‬ ‫يحاول أن يشعل عود ثقاب يف ٍ‬ ‫ُ‬ ‫صمتت لحظات كمن‬
‫«والله ما عارفة أقول ليك شنو‪ ،‬أنا عارفاك مرتبط يب شديد‪ ،‬وبتحبني‪ ،‬لكن!!»‪.‬‬
‫«لكن شنو يا إحسان ‪!..‬؟»‪.‬‬
‫بالقلق من طريقة كالمها‪ ،‬فهيأت نفيس لتلقِّي رضب ٍة ما‪ ،‬ولكنها يف‬ ‫ِ‬ ‫شعرت‬
‫النهاية حسمت أمرها وقالت‪:‬‬
‫«تعرف يا عاطف؟ يف واحد اس ُمه دكتور عمر‪ ،‬يعني صديق يل بابا‪ ،‬طلبني‬
‫للزواج من فرتة‪ ،‬واتعرضت يل ضغط كبري و ‪.»....‬‬
‫برغم أنني أعرتف بأن الصدم َة مل تكن كبرية بالقدر‬ ‫مل أستمع لبقية كالمها‪ِ ،‬‬
‫الكايف‪ ،‬فقد كان قلبي ُمعدّ ا مسبقاً لتلقِّي الصدمات‪ ،‬لقد كنت أشعر أن سعاديت‬
‫تفتح أبوابها إال يف وج ِه‬
‫أعرف أنني مدين ٌة للحزن ال ُ‬‫ُ‬ ‫بلقائها لن تدوم طويالً‪ .‬نعم‬
‫رص هذا‬ ‫الدموع‪ ،‬وال تفرح إال وهي تنتظر املأساة القادمة‪ .‬ولكن ملاذا؟‪ .‬ملاذا ي ُّ‬
‫يل‬‫زج نفسه يف حيايت؟‪ .‬هل هذا هو الرشط العبثي الذي تمُ ليهُ ع ّ‬ ‫الطرف الثالث عىل ِّ‬
‫رداء ِة أقداري‪ ،‬أم هي إِرادة ومنطق الجراح؟‪ .‬حكم ٌة قدمي ٌة استلهمتها من العم‬
‫إحسان مفادها أن مساحات الفرح مفخخة باألحزان‪ ،‬وما هي إال سيزيفي ًة بلهاء‬
‫تكشف‬
‫ُ‬ ‫اف بوجودها‪ .‬وملاذا تبقى البسمة مجرد مومس رخيصة‬ ‫تجربنا عىل االعرت ِ‬

‫‪137‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ونكتشف أننا متورطون يف‬


‫ُ‬ ‫لنا عن صدرها وساقيها‪ ،‬ف ُتغرينا بارتكاب الضحكة؟‪.‬‬
‫شهوات ال تضحك وال تغني عن مأساة‪ ،‬حدّ التو ّرط الغبي‪.‬‬‫ٍ‬ ‫خطيئ ِة االِنقيا ِد وراء‬
‫شعرت أنها ما زالت عىل الخط!‪.‬‬ ‫ُ‬
‫«يا عاطف يا عاطف‪ ،‬عليك الله رد عيل»‪.‬‬
‫بصوت خارج نطاق األشياء‪:‬‬‫ٍ‬ ‫أجبتها‬
‫قلت يل صديق {عيل بابا}؟ أقصد صديق بابا؟؟»‪.‬‬ ‫«أيوه أنا سامعك‪ِ ،‬‬
‫«يا عاطف نحن أصالً صديقان‪ ،‬وأنا عمري ما بنىس األيام الجميلة الجمعتنا‪،‬‬
‫واللحظات الحلوة العشناها مع بعض»‪.‬‬
‫وحينها أدركت أنها ستمنحني خطاب الشكر والعرفان‪ ،‬مبناسبة نهاية الخدمة!‪،‬‬
‫فحاولت أن أعتذر عن حضور احتفال تأبيني‪ ،‬قبل أن تكتمل مراسم تشييع‬ ‫ُ‬
‫جنازيت‪ ،‬وآثرت الفرار قبل أن ترمي باق ًة من الور ِد عىل قربي!‪ ،‬وينتهي العزاء‬
‫بانتهاء مراسم املكاملة الجنائزية‪.‬‬
‫«يا إحسان الزواج قسمة ونصيب!»‪.‬‬
‫{شامعة قدمية يعلق عليها العشاق إخفاقاتهم وخيباتهم العاطفية}‪ .‬فكلنا‬
‫نفشل‪ ،‬ولكننا ال نعرتف بفشلنا‪ ،‬ونجتهدُ فقط إليجاد الغطاء األديب املالئم‪ ،‬الذي‬ ‫ُ‬
‫نحفظ ب ِه آخر ما تبقى من كرامة عواطفنا‪ ،‬وصوناً لهذه الكرامة املفرتضة‪ ،‬نفقد‬ ‫ُ‬
‫فيام بعد الكثري من الكرامات الحقيقية األجدر باملحافظة عليها‪ .‬ولهذا السبب‬
‫دامئاً ما يحتفظ الطرف الثالث بح ّق ِه يف مشاركتنا أشياءنا الخاصة التي كنا نعتقد‬
‫أنها تخصنا وحدنا‪ .‬يا لغفلة العشاق!‪.‬‬
‫ومع نهاية مكاملتها‪ ،‬سقطت آخر ورقة توت كانت تغطيني‪ ،‬وهبطت إىل أسفلِ‬

‫‪138‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫سافلني‪ ،‬وبرغم أين مل آكل من تفاحة آدم‪ ،‬ولكن نفذت نفس العقوبة!‪ .‬النفي من‬
‫جن ِة ِ‬
‫الحب املؤقت‪.‬‬
‫تختلف الوقائع وال ّتهم والحيثيات‪ ،‬وتختلف أقوال الشهود‪ ،‬ولكن العقوبة‬ ‫ُ‬
‫واحدة!‪ ،‬إذن فأنا اآلن رسمياً خارج مضارب قبيلة النساء!‪ ،‬ومنذ اآلن ستبدأ‬
‫حلقات الرصاع الجندري النمطي‪ ،‬وسأتركُ {األنا اإلجرامية} هي التي ت ّتخذ قرارايت‬
‫أستسلم مبثلِ هذه السهولة؟‪ ،‬وملاذا تأرسين الروح االِنهزامية؟‬ ‫ُ‬ ‫املهمة‪ .‬فلامذا‬
‫أبحث‬‫ُ‬ ‫فكل املعطيات تقول إن إحسان ما عادت هي الصندوق األسود الذي‬
‫في ِه عن حقيق ِة دواخيل بعد تحطم محركات طائريت التي صنعت ما قبل الحرب‬
‫لست الذي ش ّيد أسوار اليوتوبيا‪ ،‬وأن‬ ‫العاملية‪ .‬قرون استشعاري تخربين بأنني ُ‬
‫أفالطون وضعني عيل الئحت ِه السوداء!‪ ،‬وتم نفيي خارج مدينته الفاضلة!‪ ،‬فلامذا‬
‫سأحلم بأال أحلم‪ ،‬وسأحرق كل تذاكر‬ ‫ُ‬ ‫أترك نفيس تحت سيطر ِة أضغاث أحالم؟‪.‬‬
‫العودة‪ ،‬وأغادر صالة الرتانزيت‪ ،‬فقد انتهى زمن القديسات!‪ .‬عربتني كل هذه‬
‫الخواطر القامتة‪ ،‬ومل تزل سامعة الهاتف معلقة يف يدي كأسورة حديدية تذكرين‬
‫بخيبتي ورداءة حايل‪ .‬وبعدها ذبت يف ضجيج الشارع املزعج‪ ،‬ودفنت جسدي يف‬
‫شقتي املتواضعة‪ ،‬ومنت طويالً بعد أن بكيت‪.‬‬
‫ليس الزواج وحده قسمة ونصيب‪ ،‬رمبا كان الوجود نفسه!‪.‬‬
‫عجباً!!‪ .‬تخلت القاهرة عن أنوثتها‪ ،‬وبدت التجاعيد تظهر عىل شوارعها‪ ،‬كأرمل ٍة‬
‫تزيل املساحيق ما صنعتهُ‬
‫عجو ٍز تريدُ أن تحتفل بعيد ميالدها املئوي!‪ ،‬فهل ُ‬
‫شيخوخ َة التاريخ؟‪ .‬وهل يفلح أحمر الشفاه يف منحها اإلثارة؟؟‪ .‬إِحساس بالغربة‬
‫الجغرافية القاتلة ملحتهُ يف أمواجِ النيل‪ ،‬فهل ترا ُه يح ُن إىل الديار؟‪ .‬ما أشدّ غباء‬

‫‪139‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫األنهار التي تنتحر يف لُجج البحار‪ ،‬واألكرث غبا ًء أن تكونَ حمالً يف عا ٍمل تحكمهُ‬
‫ىل البحث عن بدائل‪ ،‬أو‬ ‫الذئاب‪ .‬عملياً يبدو أن رحلتي قد انتهت‪ .‬وكان ينبغي ع ّ‬
‫أي أقراص مسكنة تشفيني من هذا الوجع املُر‪.‬‬
‫وهكذا وجدتني يف القاهرة بكلِ انفعاالتها وطيشها‪ ،‬بكلِ صخبها وضوضائها‪،‬‬
‫أهرب من مئذنة لتطاردين ألف مئذن ٍة ومئذنة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وهي تحارصين حيث ال فكاك‪.‬‬
‫حمى السيارات وهذيان محطات املرتو‪ ،‬أمواج البرش الذين يحقنهم مرتو األنفاق‬
‫ونزيف املدينة املتعبة‪ ،‬وأنني املقاهي الشعبية‪ ،‬وجرح‬ ‫ُ‬ ‫يف عروق ميدانِ التحرير‪.‬‬
‫املعز لدينِ الله الفاطمي‪ ،‬الذي تنكئهُ الصدور العاريات‪ ،‬واألرجل الراكضة وراء‬
‫السيقان امللفوفة بعناي ِة فنانٍ جعل من لوليتا موديالً‪ ،‬يساعد ُه يف بيعِ لوحات ِه‬
‫الكاسدة!‪ .‬دار األوبرا والحسني والسيدة زينب‪ ،‬واألزهر الرشيف يضخُّ يف أوردتها‬
‫عقار الرحمة وصكوك الغفران‪ .‬املسارح والشوارع والزحام وأنا وأنا وأنا‪ .‬مل أكن‬
‫وحدي‪.‬‬
‫نهر النيل الذى يضحكك ويبكيك‪ ،‬ويغني لك ويُرثيك‪ .‬يقيم لك حفلة العرس‬
‫ومراسم التشييع يف نفس الوقت‪ .‬يصفعك يف وجهك‪ ،‬ويركلك يف املؤخرة‪ ،‬ويربِّ ُت‬
‫عىل كتفك‪ ،‬ويخرج منديلهُ ليمسح منك دمعة!‪ ،‬يكونُ صادقاً معك حني تنافقك‬
‫يهمس‬‫ُ‬ ‫جئت لتبيع املاء يف حار ِة السقاة!‪،‬‬
‫الجغرافيا‪ ،‬ويكذب عليك حني يعلم أنك َ‬
‫يف أذنِ صاب ِر بياعِ الفل‪ ،‬ويقنعهُ بأن مينحك جزءاً من التاريخ قبل أن تبتاع منه‬
‫تستطيع كل السدود أن تُلجِ َم‬
‫ُ‬ ‫بعض الفل‪ ،‬ومييض غري آبِه كحصانٍ عر ٍّيب أصيلٍ ‪ ،‬ال‬
‫فقررت أن أهديهُ شيئاً عزيزاً عىل قلبي‪ ،‬أو كان!!‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أمواجه الشاردة!‪.‬‬
‫قصدتهُ متأبطاً آخر انكسارايت وخيبايت‪ ،‬وأنا مثل فرعون أسود ضئيل قرر أن‬

‫‪140‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫يعيدَ سن َة األجداد‪ ،‬فعانقني بعيني ِه قبل أن يُفرد يل ـ الذراعني ـ دمياط ورشيد‪.‬‬


‫يغمغم يف غراب ٍة‪ ،‬وأظنهُ أيضاً قد بدأ يفك ُر يف‬
‫ُ‬ ‫وخاطبني بلغ ٍة غري مفهومة‪ ،‬وبدأ‬
‫التحدث بلغ ِة األجداد‪ ،‬بعد أن استعرب جغرافياً‪ ،‬وبدأ يتحدث يف لغ ِة‬ ‫ِ‬ ‫العود ِة إىل‬
‫ال تفهمها أمواجه!‪ .‬هؤالء األجداد الذين عاشوا وماتوا فوق القمم اإلفريقية‪ .‬أظنهُ‬
‫اشتاق أيضاً لهدهد ِة أم ِه‪ ،‬وهي ترضعهُ حليب الغيمة البكر‪ ،‬قبل أن تنام نومتها‬
‫األبدية يف فيكتوريا!‪ .‬مل أفهم ما يرمي إليه‪ ،‬ولكن أمواجهُ علمتني لغة اإلشارة‪.‬‬
‫بحثت عنهُ ووجدتهُ بعد جه ٍد‪ ،‬وهو مندس‬ ‫ُ‬ ‫أين أنت يا صابر بن أم صابر؟‪.‬‬
‫وسط مجموع ٍة من السياحِ والعشاقِ ‪ ،‬وسألني‪:‬‬
‫ياعم ما حدِّ ْش بشوفك؟»‪.‬‬‫«حمد الله عىل السالمة‪ ،‬فينك ِ‬
‫أجبت عليه بورق ٍة من فئ ِة العرش ِة جنيهات‪ ،‬وأنا أدري أنها أكرث اإلجابات مثالي ًة‬
‫لدي ِه!‪.‬‬
‫«هات كل الفُل اليل معاك‪ ،‬وخلصني!»‪.‬‬
‫اختطف الورقة مني‪ ،‬ودسها يف جيب ِه بعناي ٍة بعد تقبيلها وهو يقول‪:‬‬
‫«ما تخيل عنك يا عاطف؟؟ ال بجد والله العظيم!!»‪.‬‬
‫وسكت بره ًة كمن يفك ُر يف كذب ٍة جديد ٍة وقال‪:‬‬
‫«بُص يا عم‪ ،‬أنا ح ‪.»..‬‬
‫أحسها يف مالمحي عىل غري عاديت‪:‬‬ ‫فأمرتهُ أن يلتزم الصمت‪ ،‬واالبتعاد برصامة ّ‬
‫«أُوووف! ِحل عني الساعة دي أنا ُمش ناقصك بقى!!»‪.‬‬
‫قررت أن أهدي النيل عروسة‪ ،‬وكان البدَّ أن أجهزها‪ ،‬وأضع لها الحناء بنفيس‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كنت أعي متاماً أن هذه اللوحة كانت هدي ًة من العم إحسان‪ ،‬ولكنها كانت‬

‫‪141‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫عروس النه ِر يف األصل‪ ،‬وال بدَّ أن يدخل بها الليلة!‪ .‬تسللت دمعة يتيمة من عيني‬
‫وأنا أمت ّعن فيها للمر ِة األخرية‪ .‬هذه اللوحة التي مل يشاهدها إال ثالثة فقط‪ ،‬وحتى‬
‫موظف الجامرك الذي كان يف ّتش يف حقيبتي بال اكرتاث وأنا أه ُّّم مبغادر ِة البالد‪،‬‬
‫مل ينظر إليها‪ ،‬أو باألحرى مل يهتم بها عىل اإلطالق‪ .‬العم إحسان وهي وأنا!!‪ .‬فكان‬
‫ثالث هو قمة العبثية‪ .‬لذا سأزفها إىل النهر‪ .‬وماذا تروين فاعلاً‬ ‫طرف ٍ‬ ‫الحب من ٍ‬ ‫ُّ‬
‫رشد يف عا ٍمل من‬ ‫رحم ألوانها‪ ،‬وتركتني أت َّ‬ ‫غري ذلك؟‪ .‬أليست هي التي أنجبتني من ِ‬
‫السواد؟‪ .‬أليست ‪..‬؟‪ .‬أليست؟‪ .‬أليست هي من كانت تتح ّرش يب وتراودين عن‬
‫َ‬
‫أطواق‬ ‫نرثت‬
‫ألقيت بها يف جوف النيل‪ ،‬وخلفها ُ‬ ‫ُ‬ ‫نفيس؟‪ .‬فلتذهب إىل الجحيم إذن‪.‬‬
‫الفل األبيض‪ ،‬فكان مبثاب ِة فستانِ عرسها‪ .‬وبدأت تبتعدُ عني وهي تل ِّو ُح بيديها‬
‫وشعرت بيش ٍء من األسف‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مودعة‪ ،‬والفُل يتناث ُر حولها كعاصف ٍة ثلجي ٍة صغري ٍة‪.‬‬
‫وذرفت ذلك النوع من الدموع الذي تذرفهُ األم ليلة زفاف ابنتها الوحيدة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وما عاد هنالك من أصحاب وال أحباب وال رفاق عدا شكسبري‪ ،‬وكتايب عنه‪ ،‬فهو‬
‫عىل األقل كان يحبني كام أحب أنا جوليت‪ ،‬واتحدنا معاً‪ ،‬ومل يكن هنالك طرف‬
‫ثالث‪ .‬مل يعد هنالك أحد!‪.‬‬
‫ُ‬
‫تحاول العثو َر‬ ‫مضت بضع سنوات منذ أن بدأت حيايت الجديدة‪ ،‬ومل تهاتفني ومل‬
‫عدت مهموماً من السودان‪ ،‬مل أجد‬ ‫ىل‪ ،‬وأنا مل أفكر يف رشف املحاولة أصالً‪ .‬فقد ُ‬ ‫ع ّ‬
‫من العم إحسان غري ذكرى أليمة وموجعة‪ ،‬لقد أخربوين أنهُ رحل قبل حضوري‬
‫واكتشفت أنهُ مبوت ِه ماتت معهُ‬
‫ُ‬ ‫بعدة أشهر فقط‪ .‬فذهبت ألقتفي أثر ُه يف بيت ِه‪.‬‬
‫جميع األشياء الجميلة التي كانت تربطني به‪ .‬شجرة النيم العجوز التي مل تبخل‬
‫عيل الشارع مبثقالِ ظل‪ ،‬وكانت متنح فناء املنزل بعداً أسطورياً‪ ،‬بأغصانها التي‬

‫‪142‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫أعشاش طيور القمري كعناقي ٍد شهي ٍة‪ .‬هذه الشجرة اصف ّرت‬ ‫ِ‬ ‫تتدلىّ منها ثريات‬
‫أوراقها‪ ،‬وتاطريت يف الفناء املوحش‪ .‬وقطتهُ الصغرية أيضاً هجرت املنزل لتبحث‬
‫عن حياة‪ ،‬حني يئست يف العثو ِر عىل الحياة!!‪ .‬دكانتهُ الصغرية يف سوق السمك‪،‬‬
‫والتي كانت ركناً رئيساً يف ديكور املكان‪ ،‬أصبحت أيضاً نسياً منسياً‪ ،‬لقد انطفأ هذا‬
‫الرساج إىل األبد‪ ،‬ومل يعد هنالك غري الظالم‪ .‬من يطفئ هذه الحلكة الفادحة؟‪.‬‬
‫أسف كل شمع ٍة عطست يف وجهها الريح‪ ،‬وأصابتها‬ ‫أين الزمان وأين املكان؟‪ .‬من ٍ‬
‫بالزكام‪.‬‬
‫تذكرت ذلك اليوم‪ ،‬كانت قد مضت عدّ ة سنوات‪ .‬كم عددها؟‪ .‬ال أح ّبذ فكرة‬
‫أن أجهد نفيس بعملي ٍة حسابي ٍة يسرية‪ ،‬تكون محصلتها املزيد من األوجاع التي‬
‫واجهتها يف حيايت الالحقة فحسب‪ .‬كنا يف غرفة الرسم‪ ،‬وكانت دهشتي بادية‪،‬‬
‫وكنت أحاول أن أتربّك من اللوحات التسع وعرشين‪ ،‬إذ مل يكن قد رسم اللوحة‬
‫كتائب ضال يريد أن ينهل أكرب قدر من الربكات‪ ،‬قبل أن يعود‬ ‫ٍ‬ ‫الثالثني بعد‪ .‬كنت‬
‫إىل ضالله القديم‪ .‬ولكن العم إحسان زجرين ناهراً‪:‬‬
‫«اللمس يفسد املعنى أيها الغبي‪ ،‬إياك أن تفكر يف ملس لوحة»‪.‬‬
‫نظرت يف عينيه معتذراً‪ .‬ولذت بالصمت‪ .‬ولكن السؤال الفاضح مل يزل يرتاقص‬
‫يف عيني‪ .‬ومتكنت من سؤاله بعد تردّد‪:‬‬
‫«أنت ليه ما حاولت تقابل البنت دي تاين؟ عىل األقل أنت عارف البيت!»‪.‬‬
‫صمت كمن تكسرّ ت العديد من قنوات مائه‪ ،‬وتشظّت جداوله‪ ،‬ولكنه رد‬
‫باقتضاب جميل‪:‬‬
‫ٍ‬
‫«الصدفة يا ولدي لو وقفنا عندها كتري‪ ،‬بتصبح قدرا!‪ ،‬أنا بتعامل مع املوضوع‬

‫‪143‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫كصدفة‪ ،‬وما بفتكر بعد عمري ده ممكن قدري يتغيرّ ‪ ،‬ما تدخّل أصبعك يف جحر‬
‫العقرب وتفتكر إنو ممكن تعضك منلة!»‪ .‬مل يرقني تربيره البتة‪ ،‬إذ مل يكن مقنعاً‬
‫يف كل األحوال‪ .‬فحاولت أن أجادله بح ّجة الفن الذي كنت أجهل فيه من طائ ٍر‬
‫أعمى وبال جناحني‪.‬‬
‫«طيب لو شفتها تاين‪ ،‬مش ممكن ترسمها أفضل؟»‪ .‬ضحك ضحكة باهتة قائالً‪:‬‬
‫«وممكن كامن آخد ليها صورة‪ ،‬ح تطلع ما بطالة!‪ .‬يا ولدي الرسم ما تصوير‬
‫وال محاكاة يل الواقع‪ ،‬كده ح يكون حاجة تانية غري الفن!‪ ،‬حاول تفهم شوية ما‬
‫تتعبني معاك»‪.‬‬
‫«كويس فهمتك‪ .‬أنت قلت يل هي ساكنة وين بالضبط؟»‪.‬‬
‫كان رصير الباب هو اإلجابة الوحيدة التي تلقّيتها‪ .‬ومل يزل صداه يرتدّد حتى‬
‫اآلن كمزالجٍ مكسور‪.‬‬
‫جل ما حدث‪ ،‬ولكن حتى أثره ضاع وسط رفاقه‪ .‬العم بِيرت‬ ‫ليس هذا فحسب ّ‬
‫ضعف نظرهُ‪ ،‬وجلس فرتة طويلة وهو ال يقدر أن يفارق املنزل إال فيام ندَ ر‪ .‬ويا‬
‫ليتهم تركوه يف منزله ليتوكأ عىل عصا‪ ،‬ويتذكر أيامه الخوايل‪ .‬بكيت كثرياً عندما‬
‫عرفت أن غصن األبنوس بعد أن فقد برصه‪ ،‬اجتثته فؤوس السياسة القاسية من‬
‫جذوره‪ .‬اجتثوه وحملوه عىل منت عربة بضائع‪ ،‬كانت تنوح دامعة وهي ترتحل‬
‫جنوباً‪ .‬كان يبتسم مبرار ٍة وهو يل ّوح بيدين جافتني‪ ،‬إىل آخر املدن املنسية‪ .‬كان‬
‫يحلم مبغازلة دروبها وشوارعها وأسواقها وحاراتها القدمية‪ .‬كان يحلم مبيت ٍة تليق‬
‫بغصنِ أبنوس عاش طوال حياته وهو ميارس العناق مع نخلة‪ .‬كان يحلم بأجراس‬
‫ِ‬
‫بأوقات‬ ‫الكنائس التي ترتنّح مشنوق ًة عىل السالسل‪ ،‬ليك تذكّر مآذن املدينة‬

‫‪144‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫صلواتها الخمس‪ .‬كان كان‪.‬‬


‫للسياسة قدرة عجيبة عىل خداعك بأنك تستطيع السري دون قدمني!!‪ ،‬لذا‬
‫فقدنا نصفنا السفيل‪ ،‬وسيموت بيرت كالغريب يف ديار أسالفه‪ ،‬ليك تعرف األجيال‬
‫القادمة بأننا مل نكن نتقن سوى املوت‪.‬‬
‫نارص اليامين فتكت بتجارت ِه ظروف اقتصادنا‪ ،‬املرتنّح أصالً‪ ،‬وهاجر إىل‬
‫بورتسودان‪ ،‬ليك يعمل يف محلٍ ميلكه أحد أفراد أرسته الكبرية املمتدة‪ .‬سيصارع‬
‫ليك يؤمن لقمة العيش وهو يعمل نظري طعام أرسته‪ .‬مل يبق له إال الحلم مبيت ٍة‬
‫هنية‪ ،‬ال أضمنها له ـ بالطبع ـ يف ظل هذا الواقع املذري‪.‬‬
‫الوحيد الذي بقي عىل قيد االنتظار‪ ،‬هو حسن ضالل‪ ،‬الذي سمعت أنه هجر‬
‫الخمر إىل غريِ رجع ٍة بعد وفاة العم إحسان‪ ،‬وصلحت توبته وأصبحت حديث‬
‫الناس‪ ،‬فال تجد ُه خارج املسجد إال يف بيت ِه!‪ .‬كان رحيل أصدقائه مؤملاً وال يحتمل‪.‬‬
‫فلم تعد تغريه ملذات الحياة ومباهجها‪ .‬كان البؤس هو كل يشء‪ .‬فقد تحولت‬
‫كل اللوحات إىل كوم رماد‪.‬‬
‫ُ‬
‫يحدث‬ ‫لحظات قد تصحو فيها الذاكرة‪ ،‬وقد ال‬ ‫ٍ‬ ‫ما عاد هنالك من أثر إال يف‬
‫هذا‪ .‬فلم أتصالح مع هذه الحياة املوحشة‪ ،‬ومل أعد أحتمل غربة النفس والذات‪،‬‬
‫وفكرت يف االنعتاقِ من هذا الواقع مبناوش ٍة من وجودي ٍة قدمي ٍة يف أفكاري‪ ،‬وأنا‬
‫ُ‬
‫يصنع ذاتهُ وكيانهُ ‪ ،‬فقط علي ِه أن يختار القيم التي‬
‫يستطيع أن ُ‬‫ُ‬ ‫أؤم ُن بأن اإلِنسان‬
‫تنظم حياته‪ ،‬ويتخلّص من جميع املوروثات السالبة‪ .‬وكأنني زارديشت يف كتاب‬ ‫ُ‬
‫الفيلسوف األملاين نيتشه‪{ ،‬هكذا تحدث زارديشت}‪ .‬برغم أنني ال أطمح يف أن‬
‫أكون اإلنسان األعىل‪ ،‬وإن كنت ال أعدم بعضاً من إراد ِة القوة‪ .‬هذه القوة الرسية‬

‫‪145‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫أحمل يف وجداين بقي ًة من الجرحِ القديم‬ ‫ُ‬ ‫رص‪ ،‬وأنا‬


‫التي دفعتني للعودة إىل م َ‬
‫بنفس عاداتها القدمية‪،‬‬
‫فوجدت القاهرة كام هي ِ‬ ‫ُ‬ ‫الذي ورثتهُ من قدري السيئ‪.‬‬
‫رحلت منها ورجعت ووجدتها تلبس نفس‬ ‫ُ‬ ‫تغيرِّ ُ عشاقها أكرث مام تغري مالبسها!‪،‬‬
‫وتنتعل الحذاء ذاتهُ !‪ ،‬تعطرت يل وأوقدت يل شمعة‪ ،‬وهي ال تدري‬ ‫ُ‬ ‫الفستان‪،‬‬
‫منت معهُ عىل رسي ٍر واح ِد عرشات املرات‪ .‬ومع‬ ‫سئمت هذا الجسد الذي ُ‬ ‫ُ‬ ‫بأنني‬
‫يل‬‫ذلك لن أُطلقها‪ ،‬ولن أُق ِّبلها‪ ،‬ولكني سأهج ُر فراشها‪ ،‬فاملدين ُة التي تخونني‪ ،‬ع ّ‬
‫فكل ما يربطني بها أبنا ٌء غري رشعيني‪ ،‬أنجبتهم مني اغتصاباً‪ .‬ولكنهم‬ ‫ِظهارها!!‪ّ .‬‬
‫سيظلوا من ظه ِر أفكاري‪ .‬وسأحبهم‪ .‬شئت أم أبيت‪.‬‬
‫سألت الرفاق الذين مل يغادروا بعد عن نصف صديقتي اإلثيوبية مارلني‪،‬‬
‫ُضيف نكهة الكاباتشينو اإليطايل للخمو ِر األمريكية!‪.‬‬ ‫فأخربوين أنها رحلت ليك ت َ‬
‫تحقيق حلمها القديم‪ ،‬زجاج ٌة من النبي ِذ‬ ‫ِ‬ ‫آآ ٍه يا مارلني!‪ .‬وأخرياً ستتمكن من‬
‫املع َّتق‪ ،‬وجندول يتهادى يف شوارعِ املدين ِة العامئة‪ ،‬ورحيل ‪ !..‬مارلني يا نصف‬
‫صديقة النهر‪ .‬أُنثاي التي أنصفتها الغيمة أخرياً‪ ،‬حني سكبتها يف بحري ِة حلمها‬
‫تسبح يف برك ِة نبيذ؟‪.‬‬
‫ُ‬ ‫القديم‪ .‬هل يا تُرى ستتمكن من زيار ِة املدين ِة العامئ ِة وهي‬
‫هل سترتك ضفائرها يف ُعهد ِة الريح‪ ،‬والجندول الصغري يجدّ ف بنهديها بعيداً‪،‬‬
‫ويبعرث أنوثتها يف أنحاء البحر املثقل بالعشاق؟‪ .‬هل؟‪ .‬كان حلمها املرشوع أن‬
‫تزور مدينة البندقية‪ ،‬التي قرأت عنها كثرياً‪ ،‬وسمعت عنها كذلك من جدّ تها ذات‬
‫األصول اإليطالية‪ ،‬كلام يلزمها كان األوراق التي تجعلها ترتحل بدون أن يكشرّ يف‬
‫وجهها موظف جوازات‪ ،‬يف أحد املطارات‪ .‬كنت أحلم أيضاً بصاب ٍر بن أم صابر وهو‬
‫عليك الفُل‪ ،‬والريح تتآمر مع شوقي‪ ،‬الذي ال يسحر ُه إال طيش الضفائر‪ : .‬أواه‬ ‫ينرث ِ‬

‫‪146‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫ِ‬
‫وعدتك كثرياً كام تري‪ ،‬وأعرف أنني ال أيف بعهدي‪.‬‬ ‫للحلم بك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يا مارلني‪ ،‬سأعود‬
‫رجعت للقاهر ِة هذه املرة وأنا ُمص ِّمم عىل أال أتس ّول الوطن مهام ضاقت‬ ‫ُ‬
‫يل‪ ،‬فهو عىل األقل صهري!‪ ،‬أمل أخطب منه‬ ‫ينفق ع ّ‬
‫يب الحياة‪ ،‬سأترك شكسبري ُ‬
‫ومل رغيف الخبز‬ ‫جوليت؟‪ .‬تعبت محطات املرتو من كرثة تردّد مالمحي عليها‪ّ ،‬‬
‫يتسكع يف حواريها وأزقتها!‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومازلت أنا كام أنا‪ .‬مج ّرد لقيط‬
‫ُ‬ ‫والفول معديت‪،‬‬
‫يرتحل يف الليلِ وحيداً محبطاً‪.‬‬
‫أما مقهى زهرة البستان العتيق‪ ،‬فقد أصبحت جز ًءا من قطع ديكوره‪ ،‬وكراسيه‬
‫وطاوالته‪ ،‬ورائحته املميزة القدمية‪ .‬كان صوت أم كلثوم يعسك ُر يف ذاكرة املكان‬
‫ِ‬
‫طرقات‬ ‫كتميم ٍة من السحر‪ ،‬وتعويذة من صنعِ التاريخ‪ .‬ميدان التحرير يتكاث ُر يف‬
‫وسط املدينة‪ ،‬ويحقنها بالزحام‪ .‬أما صابر بياع الفل‪ .‬صابر بن أم صابر‪ ..‬فقد هجر‬
‫الكورنيش إىل غري رجع ٍة‪ ،‬وسمعت أنه التحق بإحدى الكليات الهندسية‪ ،‬وهو يف‬
‫طريق ِه ليك يصبح مهندساً كبرياً‪ .‬حتى أنت؟‪ .‬يا لبؤيس يا صابر بن أم صابر‪ .‬أنا‬
‫الوحيد الذي مل أزل أنتظر كمقع ٍد ٍ‬
‫بقدم محطم‪.‬‬
‫تتلصص‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫تحاول أن‬ ‫فأنا والبؤس قد تواعدنا جهراً‪ ،‬ومل نعد نبايل بالعيونِ التي‬
‫الرقيب االِجتامعي‪ ،‬وهو يمُ يل علينا قامئة من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لصوت‬ ‫عىل خلوتنا‪ ،‬ومل نعد نستمع‬
‫ذات املكانِ والزمان‪ ،‬أرشعنا معاً قارباً ال‬‫املحاذير‪ ،‬فكان اِرتباطنا أبدياً‪ .‬فقريباً من ِ‬
‫تلجمهُ األمواج‪ ،‬وال يفهم إال منطق الرياح‪ .‬ومل ندر أن للسواحلِ رماال خفي ًة وجز ًرا‬
‫متحركة‪ ،‬صممت خصيصاً ضد اإلبحار‪ .‬وأبدلنا أرشعتنا بجناحني‪ ،‬وبدأنا نسبح يف‬
‫كبد السامء‪ ،‬ولكن الريح استعارت مننا الجناحني‪ ،‬وهي تدري متاماً أننا ال نُت ِق ُن‬
‫لغة الرياح!‪ .‬فهذه الدنيا مثل سيمفونية غنائية معقدة‪ ،‬تغيرّ رأيها اإليقاعي يف كل‬

‫‪147‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫مرة!!‪ ،‬وليك ترقص عىل موسيقاها‪ ،‬عليك بتغيري املقامات املوسيقية يف كل مرة‪،‬‬
‫وإال سوف تكونُ خارج حلقة الرقص!!‪ .‬فإذا سمحت للفرحِ برقص ٍة‪ ،‬فال بدَّ أن تتيح‬
‫املجال للحزنِ ليك يه َّز وسطهُ ومؤخرتهُ قليالً‪ ،‬يف هذا املرقص العبثي الذي نطلق‬
‫عليه ـ تجاوزاً ـ الحياة‪.‬‬
‫وكام املطر يحنث بوعد ِه للصحاري‪ ،‬ويتملَّق املناطق االستوائية التي ال تحتاج‬
‫لخدماته املجانية!‪ ،‬هذه الدنيا تعطي ملن ال يستحق‪ ،‬وتتم َّنع عىل من يستجديها‪،‬‬
‫العنها بكل ما متلك من بذاءة‪ ،‬ستأتيك راغبة‪ .‬فتذكرت العم إحسان عندما كنت‬
‫يل بإشار ٍة ذات إيحا ٍء جنسياً واضحاً تعبرياً عن امتعاض ِه‪،‬‬
‫أسألهُ عن الدنيا‪ ،‬فريد ع ّ‬
‫وال يزيد عىل ذلك إال إذا أيقن أنني بصد ِد اصطيا ِد حوا ٍر ما!! قد يطول‪.‬‬
‫يل الكثري من الوقت وأنا عىل هذا الحال‪ ،‬كنت زاهدا يف حساب الوقت‬ ‫م ّر ع ّ‬
‫أصالً‪ ،‬وهذه املدينة خيرّ تني إما أرجع إىل عصمتها‪ ،‬أو تلفظني إىل شوارعها‪.‬‬
‫وعندما أحست برتددي‪ ،‬مل تطلبني يف بيت الطاعة!‪ ،‬ولكنها خلعتني ألمارس مرارة‬
‫فعرفت جميع باراتها وكباريهاتها وصاالت رقصها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عزوبيتي يف شهدها الحرام‪،‬‬
‫وعلمت بأن هنالك ثقافة تدعي ثقافة السيليكون!!‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وجميع فتيات املالهي‪،‬‬
‫جعلتني ال أثق يف نه ٍد دون أن أمتص رحيقه!‪ .‬فلم ي ُعد يعنيني يف آدميتي يشء‪،‬‬
‫أعرتف أنني فقدت األمل‪ ،‬ولن أخبئ قناعايت تحت رمال ما‬ ‫ُ‬ ‫وال أمتلك ما أخرسهُ‪،‬‬
‫بالحريات الشخصية!‪ .‬وكذلك أصبحت زاهداً يف الكتب والقراءة‪ ،‬ومل يعد‬ ‫ِ‬ ‫يسمي‬
‫الوقوف بسو ِر األزبكية‪ ،‬أحد أهم أركان حجي األديب‪.‬‬
‫ومع ذلك يبقى الذي تعلمتهُ من قاعِ املدين ِة السفيل‪ ،‬أكرب من الذي ُ‬
‫كنت ادَّعي‬
‫وتعلمت ما يعرف بعلوية ثقافة‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫أمهات الكتب‪.‬‬ ‫معرفته وأنا أدف ُن وجهي يف صدو ِر‬

‫‪148‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫تداعيات الرصاع املشتعل يف‬‫ِ‬ ‫األسفل!!‪ .‬كقيم ٍة فوقية فرضتها الدونية التي أفرزتها‬
‫األعىل!!‪{ .‬رصاع القوة السفلية العاملة‪ ،‬ضد القوة العلوية الخاملة}‪ .‬ويا له من‬
‫رصاع!!‪ .‬فهناك الكثريون من الذين يعيشون يف بقع ِة الضوء‪ ،‬تستهويهم مامرسة‬
‫نزواتهم أسفل املدينة‪ ،‬يف مجتمعٍ يتربؤون منه تارةً‪ ،‬ومن ثم يُألِّهونهُ تار ًة أخرى‪،‬‬
‫ويصفونهُ بالقدسية والرشف والنضال‪ ،‬حني تجو ُع صناديقهم االنتخابية!‪ .‬فيبقى‬
‫العامل السفيل‪ ،‬هو املحرك األسايس للقو ِة الفعلي ِة العليا‪ .‬هذه هي اإلسرتاتيجية‬
‫املاكرة التي تدي ُر العامل!!‪ .‬فاألغنياء الذين تستلقي عىل موائدهم الخراف املحشية‬
‫بالدجاج‪ ،‬ما كانوا سيأكلونها إال إذا تض ّور هؤالء املطحونون جوعاً‪ .‬وال أشريُ هنا إىل‬
‫أي نوعٍ من أنواعِ الحق ِد الطبقي‪ ،‬فهذه هي الدنيا وأالعيبها‪ .‬وملاذا أحشو دماغي‬
‫ومعارف تصيب دمي باألنيميا وفقر الدم!؟‪ .‬مل يكن ينقصني‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مبعتقدات‬ ‫وأفكاري‬
‫إال هذا‪ .‬وكام قال حكيم الصني الكبري كونفوشيوس‪{ :‬العقل كاملعدة املهم ما‬
‫تهضمهُ ‪ ،‬ال ما تبتلعهُ }‪.‬‬
‫كنت أحياناً أح ُّن إىل أجواء الطبقة املثقفة‪ ،‬ولكني كنت أكتفي باجرتا ِر القر ِ‬
‫اءات‬
‫أمل هذه الحياة الرتيبة‪ ،‬وأحن‬ ‫القدمية‪ ،‬فحفظتها لكرثة ما رددتها‪ .‬وغالباً ما ُّ‬
‫للذهاب إىل‬
‫ِ‬ ‫لتلك الحياة التي تبدأ بعد منتصف الليل‪ ،‬فأشع ُر أنني يف حاج ٍة‬
‫حان ٍة‪ ،‬أو مرقص‪ ،‬ورمبا مقهى‪ .‬فعاندتني قدماي اللتان اعتادتا اجتنابه لفرت ٍة ليست‬
‫بالقصرية‪ ،‬فأدركت أن هذه الخطوات تح ُّن لروائح الشاي واملستكة‪ ،‬والشيشة‪،‬‬
‫قررت أن أرشب قهويت فيه‪،‬‬ ‫رضب الالعبني!‪ُ .‬‬‫وطرقعة الطاوالت التي تئنِ ُّ كانت من ِ‬
‫وليحدث للذاكرة ما يحدث‪ .‬وجدتهُ كعهدي به مل يتغري‪ ،‬ومل يتغري ح ّتى ر ّواده‪،‬‬
‫يرحب يب إال ذلك الكريس الشاغر‪ ،‬بفتو ِر‬ ‫ُ‬ ‫وحتى إنهُ مل يشهق فرحاً حني رآين‪ ،‬ومل‬

‫‪149‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫الذي ال يعنيهُ من قدومي‪ ،‬إال الجنيه الذي سأدفعهُ نظري كأس شاي!‪ .‬ما تعلّمتهُ‬
‫من شوارعِ وسط البلد يف القاهرة‪ ،‬أنها تحتفي بك بقد ِر ما تبصم عليها باألصابعِ‬
‫تحفل إال بحفا ِء روحك‪ ،‬وأنت تتسكع فيها‪.‬‬ ‫التائهة من حذائك البايل!‪ ،‬وكأنها ال ُ‬
‫بنفس الحدّ ة‪ .‬وبالفعل {إن‬ ‫يحرتب يف داخيل‪ ،‬ما عاد ِ‬ ‫ُ‬ ‫ولكن الرصاع الذي كان‬
‫تجاوز الهدف‪ ،‬مثل عدم بلوغه}‪ .‬آية كونفوشيوسية مجيدة‪ ،‬كانت تروقني‪ .‬وأكرث‬
‫ما يعجبني يف هذا الرجل‪ ،‬أنه كان يدعو إىل أسلوب حياة فقط!‪ .‬فلم تعد ترهبني‬
‫فوبيا الطموحات يف هذه الدنيا البائسة‪ .‬كنت أريد حياة‪.‬‬
‫كان كل يشء كام اعتدتهُ ‪ ،‬الرواد‪ ،‬األغاين‪ ،‬طرقعة الطاوالت‪ ،‬وحتى قهويت كانت‬
‫وشعرت بامللل‪ ،‬وقررت املغادرة حينام أدركت‬ ‫ُ‬ ‫بنصف ملعقة سكر‪ .‬جلست قليالً‪،‬‬
‫وأستأنف‬
‫ُ‬ ‫حوجتي للميش يف طرقات املدينة‪ ،‬ألحر َر نفيس من هذه الرتابة القاتلة‪،‬‬
‫حفريايت يف {جيلوجيا أنا!}‪.‬‬
‫ولكن كانت شهقتي أقوى من زفريِ املقهى‪ ،‬وهو يلفظني إىل الخارج!‪ .‬وبركان‬
‫األدرينالني الذي اكتسحني لحظتها‪ ،‬كان أقل وطأة من زلزال حضور املطر يف غري‬
‫أعلم أن ما بيني وبني الدهشة‪{ ،‬فركة كعب}!‪ .‬مل تكن أحالمي‬ ‫مواسمه‪ .‬مل أكن ُ‬
‫ُرسف يف استعامل املساحيق‪ ،‬وال تعرف شيئاً عن قوس قزح حتى‪ .‬فاألحالم التي‬ ‫ت ُ‬
‫أعلم بأن رسالتي‬‫طعم‪ ،‬وال لون!‪ .‬فقد كنت ُ‬ ‫تنهل من الصح ِو الباهت‪ ،‬تأيت بال ٍ‬ ‫ُ‬
‫قد انتهت‪ ،‬ومل أعد أهتم بعدد الذين آمنوا بنبويت ثم ارتدُّ وا‪ .‬لقد كان قدري‬
‫أن أبعث ألنثى كفرت بحبي‪ ،‬وشقّت جبهتي بأحجا ِر صدِّ ها‪ ،‬وكرست رباعيتي‬
‫ورمتني بشوكها وقالت يل‪:‬‬
‫نبي يف قومه‪ ،‬أال هل بلّغت؟؟! «‪.‬‬ ‫«ال يكر ُم ٌّ‬

‫‪150‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫بت عنها ذاتياً‪ ،‬فكان كل مطار أنثى تشتهيهُ‬ ‫ومل أهرب من مدينتها‪ ،‬ولكني تغ َّر ُ‬
‫كنت‬ ‫حقائبي‪ ،‬هو محاولة للثأ ِر من خواطري‪ ،‬التي سئمت صقيع الصاالت التي ُ‬
‫كنت أريدها أن تكذب عيل وتوعدين بالوصول!‪ .‬الكذب ال يعدُّ‬ ‫أنتظرها فيها‪ُ .‬‬
‫خطيئ ًة إذا كان يُبشرِ ُ بوع ٍد ما!‪ .‬كل هذا وأنا مل أدر أن ما بيني وبني الدهشة‪،‬‬
‫فركة كعب!‪.‬‬
‫شهيق ال يرتكُ يف رئتي موطأ نف ٍَس لزفري!‪.‬‬
‫فقد سبقها عطرها مبقدا ِر شهيق‪ٌ ،‬‬
‫خشيت أن‬ ‫ُ‬ ‫مل يسبقها عطرها فحسب‪ ،‬فقد عانقتني نظرة الحزن واللهفة‪ ،‬حتى‬
‫تلبس ذات الفستان األزرق‪ ،‬إال بعد أن ملحت‬ ‫تهرس رمويش عيني‪ .‬مل أتبينّ أنها ُ‬‫َ‬
‫بلؤم متس ِّولٍ جائع!‪.‬‬ ‫ذلك الطفل الذي يتش ّب ُث بثوبها ِ‬
‫كانت هي إحسان نفسها ‪!..‬‬
‫تلك الهوية التي انتهى تاريخ صالحيتها‪ ،‬وذلك الوطن الذي تخلّيت عن جنسيته‪،‬‬
‫كدت أرصخ‪:‬‬ ‫ومزقت بطاقته الشخصية!! ُ‬
‫«هل تراها عادت لتمنحني أوراقاً ثبوتي ًة أخرى تساعدين يف العبور إىل منفاها؟»‪.‬‬
‫ألثبت علمياً‪ ،‬بأن‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الحامض النووي‪،‬‬ ‫وأنا قبل هذا اليوم‪ ،‬كنت أريدُ أن َ‬
‫أغش يف‬
‫إحسان مدين ٌة كان يسكنها أجدادي!‪ .‬قبل أن تهجرين وترتكني أتباىك عىل أطاللها‬
‫كطفلٍ ضائع!!‪.‬‬
‫يل التحية بدون كلامت‪ ،‬ورددت عليها بنفس الصمت!‪ .‬كأن اللغة قد‬ ‫ألقت ع ّ‬
‫ضلّت طريقها مننا‪ ،‬فقاومت رغبة عارمة يف تكف ِني ذلك الصمت املخ ّيب آلمال‬
‫الكلامت‪ ،‬ولكنهُ بقي صامداً يف وجه املوت‪ .‬اهتدت إىل طريق ٍة إلِشها ِر رفضها‬
‫املُبطن لسكويت‪ ،‬وسألتني بفرح ٍة غامرة‪:‬‬

‫‪151‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«كيف عامل يا عاطف؟ كان عندي إحساس إين ح أالقيك هنا‪ ،‬اشتقت ليك‬
‫والله»‪.‬‬
‫كنت أود أن أقول لها‪« :‬عامل شهيد!!»‪.‬‬
‫ولكن الصغري باغتني وهو يسألها يف براء ٍة‪:‬‬
‫«ماما‪ ،‬هو ع ُّمو برضه اس ُمه عاطف؟»‪.‬‬
‫فجعلتني أنظ ُر إلي ِه متفحصاً!!‪.‬‬
‫وبدا يل أنهُ من بويض ٍة رسقت منها‪ ،‬ورمبا من نطف ٍة هربت مني إليها‪ ،‬أرادت أن‬
‫تزهق أنفاس حرييت‪ ،‬وقالت يل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫«ده ولدي‪ ،‬تعال سلم عيل ع ُّمو يا عاطف!»‪.‬‬
‫فيتساءل الصغري يف براء ٍة أكرث‪ ،‬وقطعة الشوكوال متأل فم ِه طفول ًة‪:‬‬
‫«ماما‪ ،‬هو كيف يكون ع ُّمو‪ ،‬واس ُمه برضه عاطف؟»‪.‬‬
‫فضمتهُ إىل صدرها وكأنها تحاول استعراض عضالت أمومتها أمامي‪ ،‬وتذكرين‬
‫بخيبتي كرجل‪ ،‬وتخربين بأن جينايت الذكورية مل تصمد يف وج ِه أسرتوجني أنثى!!‪.‬‬
‫«حبيبي أنت عايز تزعل ماما؟ خالص مح أشرتي ليك دبدوب كبري»‪.‬‬
‫يل مخافة أن يفقد الهدية فحسب!‪،‬‬ ‫هددتهُ بالحرمانِ من اللعبة‪ ،‬فجاء ليسلم ع ّ‬
‫فلم أكن أسوى أكرث من مثن دبدوب أبيض متخم يباع يف حانوت الدمى‪.‬‬
‫«أهالً يا ع ُّمو عاطف»‪ .‬وأضاف وهو متجهاً نحو أمه‪:‬‬
‫«خالص يا ماما اشرتي يل دبدوب كبري!»‪.‬‬
‫وتبطل‬
‫ُ‬ ‫مل أمتالك نفيس وضحكت‪ ،‬بينام كنت أخىش أن تغافلني دمعة كالعادة‪،‬‬
‫وضو َء ضحكتي!‪ .‬شعور غريب أن تركع ابتسامة أحدهم يف سجاد ٍة مخصصة لصال ِة‬

‫‪152‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫تنزف شجناً ومرار ًة ووجعاً‪ .‬إذن هذا هو‬


‫األحزان‪ .‬واألكرث مرار ًة أن تضحك وأنت ُ‬
‫كنت يف الخاطر؟‪ .‬هل‬
‫ابنها وقد أطلقت عليه اسم عاطف!!‪ .‬هل هذا يعني أنني ُ‬
‫هذه ُمناورة أنثوية أخرى؟‪ .‬عاطف الذي أنجبتهُ من أقداري التي قتلتني ألنها ال‬
‫امتحانات الرجول ِة العرصية‪ ،‬وفحولة‬
‫ِ‬ ‫تثق ىفّ‪ .‬الصغري الذي أنجبتهُ من هزامئي يف‬ ‫ُ‬
‫األوراق الخرضاء‪ ،‬وفروسية الحسابات املرصفية الرسية‪ ،‬التي أصابتها التخمة من‬
‫انترصت عىل روميو وجوليت وعطيل‪ ،‬وأفلست تاجر البندقية‬ ‫ُ‬ ‫كرثة اإليداعات‪.‬‬
‫وأنا أستدي ُن منهُ روحهُ ‪ ،‬ألسكبها عىل أوراقي‪ ،‬وأصبحت أمرياً يف مملك ِة شكسبري!‪،‬‬
‫أستطع الصمود أمام أوراق اعتامد بنكية‪ ،‬ميلكها من ال يجيد إحصاءها!‪.‬‬ ‫ولكني مل ِ‬
‫فأي رجلٍ أكون؟‪.‬‬
‫أرسفت يف التفكري وغريي يرسفون يف التبذير‪ ،‬وألقيت عليها‬ ‫ُ‬ ‫أدركت أين قد‬
‫ُ‬
‫التحية أخرياً‪:‬‬
‫ِ‬
‫وصلت؟»‪.‬‬ ‫«حمدا لله عىل السالمة يا إحسان‪ ،‬متني‬
‫«ياااااه!!‪ ،‬يا دوب اتذكرت؟ أنا اعتقدت إنك خرست»‪.‬‬
‫أجابتني بسؤالٍ احتجاجي‪ ،‬دثرتهُ بعباءة االعتبارات األنثوية التي متلكها‪ ،‬فلم‬
‫تكن في ِه شبهة الستدرا ِر العطف‪ ،‬ولكنهُ كان مغلفاً بالجرأة‪ .‬جرأة أنثى تتواطأ‬
‫هرموناتها مع الحبل الرسي الذي يربطني بها‪ .‬فهل كانت تريدُ أن تُخيص ذاكريت‬
‫التي ال تعرتف مبنطق {أفكار األنابيب}‪ ،‬وال تعرتف بسن اليأس؟‪ .‬قلت لها وأنا‬
‫أنعش ذاكرتها املخدّ رة‪:‬‬
‫«يا إحسان أنا تعبت من االِنتظار يف محطاتك‪ ،‬وبديت أتحرك يف دائرة‪ ،‬عشان‬
‫أضمن عىل األقل الرجوع يل نقطة بدايتي!»‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫معنى يف‬
‫ً‬ ‫فلسفي متسعِ الضيق أو بال‬ ‫ٍ‬ ‫حاولت أن أرشح لها األمور عىل نح ٍو‬
‫الحقيقة‪ ،‬حتى ال تنشطر األفكار وتتعدد الرؤى وأبدو كالغبي‪ ،‬كام هو حايل‬
‫عدم اكرتاث‪ ،‬ورمبا دهشة‪ ،‬كل هذا‬ ‫يدل عىل ِ‬ ‫بالدق ّة‪ .‬فعقدت حاجبيها عىل نح ٍو ُّ‬
‫لخط رجعة‪ .‬فحاولت‬ ‫وأنا أتحرك يف مساح ٍة ضئيل ٍة‪ ،‬بدون أن أشعرها أنني أمهدُ ِ‬
‫أن أناور وأباغتها بسؤالٍ آخر‪ ،‬قد تكونُ إجابتهُ معدَّ ة مسبقاً‪:‬‬
‫قلت يل زوجك وين هسه يا سيديت الكرمية؟»‪.‬‬ ‫«ما ِ‬
‫أجابتني وهي تتص ّنع زفرةً‪:‬‬
‫«انفصلنا!! اكتشفت أين كنت مجرد نزوة اجتامعية لرجلٍ يحب تزيني أوراق‬
‫سريته الذاتية بابنة سفري قادم!!»‪.‬‬
‫حاولت أن أخفي شامت ًة كانت بادية عىل مالمحي‪ ،‬ولكني ُ‬
‫آثرت اصطناع‬
‫يل‪ ،‬ومن‬
‫خطى كتبت ع ّ‬‫ً‬ ‫تظل‬
‫أتطلع إىل صغريها املمتلئ بها‪ ،‬فهي ّ‬ ‫ُ‬ ‫األسف‪ ،‬وأنا‬
‫خطى مشاها‪ ،‬كام يقول الشاعر!‪.‬‬ ‫كتبت عليه ً‬
‫«املهم زنت أحوالك ماشة كيف يا عاطف؟‪ ،‬طمني عليك»‪.‬‬
‫كنت أخىش هذا السؤال ولكني رددت عليها‪:‬‬ ‫ُ‬
‫«الحمد لله عايش ولسه بحاول أحلم من جديد»‪.‬‬
‫تغوص فيني ببطء‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫فحاولت أن تسرب أغواري حني سألتني وهي‬
‫«وأنت بطّلت تحلم؟؟»‪.‬‬
‫«ال طبعاً!‪ ،‬لكن الحلم هو االختار غريي‪ ،‬عارفة يا إحسان زمان كنت بفتش يل‬
‫بكرة عشان أتغيرّ لألفضل‪ ،‬لكن هسه أصبحت عايز أرجع يل املايض‪ ،‬طاملا كل يوم‬
‫أصبح أسوأ من اليوم القبلُه»‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫«للدرجة دي أنت متشائم يا عاطف؟»‪.‬‬


‫«وأكرت والله‪ ،‬لكن يف النهاية قررت أعيش حسب منطق الزمن‪ ،‬ألن الحياة‬
‫عايزة كده»‪.‬‬
‫اكتشفت أن الحديث يسريُ نحو منعطفات مأساوية‪ ،‬فحاولت أن تغيرِّ دفّة‬
‫الحوار‪ ،‬واقرتحت نخباً رومانسياً‪ .‬عىس ولعل‪.‬‬
‫«رأيك شنو منيش الكورنيش؟‪ ،‬النيل وحشني وكامن نفيس أقابل صاحبك»‪.‬‬
‫«صابر بياع الفُل؟ صابر خالص راح مع الحلم‪ ،‬كل سنة ِ‬
‫وأنت طيبة!!»‪.‬‬
‫كنت أريدُ أن أُطلقها مني وأنهي‬ ‫يف الحقيق ِة كنت أريد أن أحر َر ذاكريت منها‪ُ ،‬‬
‫وأدركت أن النيل سيدفعني دفعاً إىل‬‫ُ‬ ‫هذا الزواج الكاثولوييك بأطراف ِه الثالثة!‪.‬‬
‫الثور ِة‪ ،‬ويفُك عقدة لساين‪ ،‬فوافقت عىل العرض بال إبطاء‪.‬‬
‫وقد صدق توقعي ‪ ..‬أخربتها عن كل يش ٍء ُمذ افرتقنا يف ذلك العام‪ ،‬عندما‬
‫يحب أن يُرق َِّع بصورتها جلبابهُ االجتامعي‪،‬‬
‫تتأبط ذراع رجل كان ُّ‬ ‫ُ‬ ‫هجرتني هي‬
‫املناسبات الخاصة التي يدعى لها!‪ .‬كنت أريدُ أن أتع ّرى‬ ‫ِ‬ ‫ويضعها كعامم ٍة يف‬
‫أمامها للمر ِة األوىل‪ ،‬وأّفرِغ ذاكريت منها متاماً‪ .‬مل أقصد احتقارها‪ ،‬ولكن عندما‬
‫تحطم‬
‫َ‬ ‫تعرتف بنزواتك إىل امرأة‪ ،‬فأنت حتامً ال تحرت ُم أنوثتها فحسب‪ ،‬ولكنك‬ ‫ُ‬
‫ما تبقى منها وتشعرها بالدّ ونية!‪ .‬لقد كانت تقودين متعة التشفّي واالنتقام بال‬
‫ريب‪.‬‬
‫فهي يف الوقت الحايل‪ ،‬مج ّرد صداع أريد أن أُشفى منه‪ .‬مل أملح نظرة الرضا‬
‫ترحب يب أمواج ِه ومل تنافقني ضفافهُ ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تطل من عيونِ النيل‪ ،‬فلم‬ ‫تلك التي كانت ُّ‬
‫أملح دمعة كانت‬ ‫وشعرت بانتصاري وأنا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ولكني أحسست أنني معاىف متاماً منها‪،‬‬

‫‪155‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫تحاول أن تداريها عن صغريها‪ ،‬ولكن الدموع أطول عمراً من األنهار‪ .‬وتاريخ‬ ‫ُ‬
‫البكاء الطويل ال تطمسهُ وال تزيفهُ لحظات الفرح الشحيح‪ .‬فطلبت مني أن أغري‬
‫املوضوع‪ ،‬ومل أشأ أن أغضبها أكرث‪ .‬فقد كنت أشعر باالرتياح‪.‬‬
‫تحاورنا يف أشيا ٍء ال تنتمي إال لحزننا‪ .‬فقد كانت خواطرنا سيئة املزاج هذه‬
‫الليلة‪ ،‬فاتفقنا عىل أن ألتقيها مرة أخرى‪ ،‬فهي تريدُ القيام بجول ٍة ما يف املدينة‪،‬‬
‫ولعلها قد تكون الجولة األخرية‪ .‬وكنت ساعتها أشبه بثو ٍر سيئ الحظ يف حلبة‬
‫مصارعة إسبانية!‪.‬‬
‫التقينا للمرة األخرية‪.‬‬
‫يف ذلك اليوم الحزين الذي أنفقنا معظمهُ يف زيارة املناطق األثرية‪ ،‬وتفقّد أهم‬
‫مناطق القاهرة القدمية والجديدة‪ .‬و َّرطتني معاها يف عدّ ِة صور تذكارية‪ ،‬وكأنها‬
‫ِ‬
‫بالتورط فيها!‪ .‬وبعد أن‬ ‫تطمع يف شاهد إثبات يُدينني‬
‫ُ‬ ‫تريد أن توثّ َق لزمنٍ ما‪ ،‬أو‬
‫بلغ بنا التعب واإلنهاك زُباهُ‪ ،‬قصدنا ذلك املقهى العتيق‪ ،‬وجلست لتحتيس آخر‬
‫ما تبقى مني!‪.‬‬
‫كنت أتع ّمدُ أال أنظر إليها‪ ،‬وهي تتحدث بسحرها الفاجر‪ .‬ولكم كنت أو ّد أن‬ ‫ُ‬
‫أش ّيد متثاالً لصمتها األبيض‪ ،‬بيد أنني أكر ُه حيادية هذا اللون الذي يرثث ُر يف ذاكر ِة‬
‫بحروف صقيعي ِة املذاق!‪ ،‬وأنا عىل شفا درج ٍة مئوي ٍة من التجم ِد صمتاً‪،‬‬‫ٍ‬ ‫املكان‪،‬‬
‫بسياط الكالم أربعني درجة فوق‬ ‫ِ‬ ‫يل حد النهار‪ ،‬وتجلدين‬‫كنت أحتاج أن تقيم ع ّ‬
‫الصفر!‪ ،‬فلم أظفر إال بعنا ِد أنثى أضنتها منايف النفس‪ ،‬وأثقل كاهلها حمل حقائب‬
‫السفر املتواطئة مع أحزانها‪ ،‬كل يشء كان يدعو إىل الريب ِة والحذر‪ ،‬وحد ُه السكون‬
‫يغلّف ديكور املكان‪ ،‬فال تتسكع يف هذا الفضاء سوى بضع سحائب دخان‪،‬‬

‫‪156‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫وبصيص نظرات عينيها التي ته ِّرب ما بني سطورها مفردات الشجن الوريف!‪.‬‬
‫فطفقت أتساءل!‪ ،‬ترى من هو املسؤول عن اغتيالِ الكلامت؟‪ .‬أأنا الذي حاولت‬
‫ات طفلة كنت أخىش‬ ‫مراراً إِيجاد صيغة رشعية مليالد الكالم‪ ،‬وض ّجت حرويف بعبار ٍ‬
‫تضل طريقها إىل سوقِ الكالم ويجرتّها السوقة وفاقدو الذوق األديب؟‪ .‬أم هي‬ ‫أن َّ‬
‫التي مترتست وراء صمتها ود ّججت صدها بحقل من األلغام؟‪ .‬هل يجديني أن‬
‫مهزوم حتى مت ُّر سحابة هذه اللحظات املفخخة بالصمت؟ ومن ثم‬ ‫ٍ‬ ‫أتخندق كقائ ٍد‬
‫أطمع يف جلسة مفاوضات أعلن فيها انتصاري؟؟‪ .‬لكم كنت ضائعاً بني االِعتبارات‬
‫األنثوية الجامحة‪ ،‬التي تحافظ عىل تقاليدها أحيانا‪ ،‬وتقليديتها يف أحايني أخرى‪.‬‬
‫وبُعيد انتباهة‪ ،‬وجدتني أمللم يف طاوالت هذا املرسح نصف املأساوي‪ ،‬وأنهي‬
‫العرض قائالً وأنا أنقد بائع الح ّمص الج ّوال ماله‪:‬‬
‫«أقرتح أن نغادر هذا املكان!‪ ،‬سأوصلك يف طريقي!»‪.‬‬
‫«هل ستحملني عىل ذراعيك؟؟؟»‪.‬‬
‫قدمي!!‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أجابت يف سخرية تعكس حالة كوين أملك إال‬
‫بك من جديد!»‪.‬‬‫اعي‪ ،‬ولكن سأحبل ِ‬ ‫«ال لن أحملك عىل ذر ّ‬
‫كانت هذه هي آخر كلاميت لها‪ ،‬ومل ألت ِقها بعد ذلك مطلقاً‪ .‬وبعد أن أشارت إىل‬
‫عربة التاكيس التي كانت ترتبّ ُص بنا‪ ،‬غادرتني وهي تّش ّيعني بنظر ٍة مل أرها بعد‬
‫حب‬
‫البعث نهائياً‪ .‬وذهبت‪ ،‬ومىض معها ٌ‬ ‫ِ‬ ‫أثق يف‬‫ذلك إال يف الحلم‪ .‬وأنا مل أعد ُ‬
‫ثالث‪ ،‬أو ما كنت أتوهّم أنه الحب‪ .‬وهو ليس إال كذب ٌة اخرتعها العم‬ ‫طرف ٍ‬ ‫من ٍ‬
‫غبي غريي‪.‬‬
‫إحسان ومل يصدقها ٌ‬
‫سمعت أنها عادت إىل زوجها مجدداً‪ ،‬عادت ليك‬ ‫ُ‬ ‫وبعد ذلك بعرش سنوات‪،‬‬

‫‪157‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫متارس دورها الذي كتب لها‪ ،‬مج ّرد دجاجة منزلية لن تصيح مثل الديك‪ ،‬حتي ال‬ ‫َ‬
‫تبيض األطفال!‪.‬‬
‫تذبح‪ .‬ولكنها فقط تُربىَّ ليك َ‬
‫الخالص من‬
‫َ‬ ‫وألتمس‬
‫ُ‬ ‫زحام القاهرة‪ ،‬أتوكأ عىل انكفايئ‪،‬‬
‫ضعت يف ِ‬ ‫ُ‬ ‫أما أنا فقد‬
‫غربتي الذاتية‪ ،‬ورهقي وأوجاعي‪ .‬ولكن الذاكرة كانت تخونني دامئاً مع نفيس‪.‬‬
‫حق تقري ِر مصري خطوايت التي ال أعرف إىل‬‫فلم أعد أنتمي إىل زمني‪ ،‬وال أملكُ َ‬
‫أين تقودين‪.‬‬
‫أصبحت ُ‬
‫أبحث عني!‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وبني أنا وأنا ‪..‬‬
‫فلم أجد‪ ..‬إال من أنا ‪..‬؟؟!!‪.‬‬

‫لم تكتمل‪ ،‬انتهيت أنا‬

‫‪158‬‬
‫ٍ‬
‫طرف ثالث‬ ‫الحب من‬

‫‪159‬‬

You might also like