Professional Documents
Culture Documents
.مر عام أبت خالله األوجاع إال أن تؤكد دوامها ،وصرخات أجبرها عنادي على الصمت
األلم نحن متجرعوه ال محالة ،ولغرض التخفيف من حدته نلجأ بين الحين واآلخر إلى تدوين
بعض الفقرات التي نختزل فيها ما جادت به مخيلتنا من عصارات التأويالت التي تعبر عن
بعض ما عشناه واعتبرناه من كبير األحداث ،التي قد يغنينا ويعفينا البوح بها حر َج اإلجابة
عن بعض التساؤالت التي قد نتلقاها يوما ما من بعض المحيطين بنا ممن قد تهمهم معرفة
توافه حياتنا التي عبرها قد يصلون للدوافع الكامنة وراء طباعنا ،ليتفهموا أفعالنا وردودها.،
وقد يرى البعض كون ما أسرده ممال رتيبا ال يستحق عناء التدوين ،و آخرون قد يعتبرون
فعل الكتابة لوحده و في حد ذاته عمال يستحق التشجيع والتنويه وذلك بغض الطرف والنظر
عن المواضيع واألحداث التي تم التطرق إليها والصيغ والكيفيات المتبعة في معالجتها. ،
وبين هذا وذاك أجد نفسي غير آبه ،وألخص ما أقوم به في العبارة الشعبية "داوي خاوي "
كذلك وأضيف "لي لقى راحتو فالهبال ،ماعندو مايدير بالعقل" ،وعلى ما يبدو فإنني وجدت
بعضا من راحتي المفقودة في السرد والكتابة ،فما المانع إذن من ممارستها كلما توفرت
أفكار أشعر بعد تحريرها
ٍ الظروف المساعدة على ذلك ،قصد التنفيس عن مكبوتات وبنات
بتجدد األنفاس واإلنعتاق من اإلبتئاس..
فال داعي للهروب ولعب دور المغلوب في مجتمع متهكم لعوب ،إن كان بمقدورك تنفيس
غليل صدرك بقلم موهوب ،وتعبر عن شخصك بكالم مكتوب ،تسرد فيه ما أصابك من
نذوب ،دون أن يمسك اللغوب..
وما دمت في الوجود ،فبكالمك الودود ،وصدقك المعهود ،وفي اليوم الموعود ،والوقت
المشهود ،تجرأ على ماضيك اللذوذ ،و ضع لتمرده الحدود ،وأمام حاضرك أخضعه للسجود.
في إحدى ليالي رمضان ،2022داخل غرفة منزل كنت أتخده مسكنا لي بقرية "أمتار" لؤلؤة
قبائل "غمارة" المتربعة على ساحل الضفة الجنوبية لألبيض المتوسط ،التي لجأت إليها
مرغما و ارتميت بين أحضانها خاضعا طامعا في هدوئها وسكينتها وطيبوبة أهلها المتحفظة
طباعهم ،هاربا فارا من صخب وضوضاء مدينة "كازابالنكا" التي قضيت بها عاما من
األعوام المرهقة التي صادفت أوج انتشار جائحة ڤيروس كورونا اللعين الذي ساهمت
اإلجراءات والقيود المصاحبة له في تعزيز استنزاف قواي النفسية والجسدية ،حدث هذا قبل
اآلن بسنتين إال نيف من الزمن،.
وكسجين داخل زنزانته ينتظر بشوق ولهف أن يحين يوم إطالق سراحه ليستنشق نسيم
الحرية ويزفر األنفاس الملوثة التي ملئت رئتيه جراء طول مدة مكوثه تحت سقف وبين
جدران بنايات الزنازين الرطبة،
وأنا مستلق على سريري كعادتي أجول بخيالي بين القصص والمواضيع ،أرتجل
السيناريوهات ،أرتحل وأسافر بين البقاع ،أبادل األدوار بين الشخصيات ،أعد األيام واألشهر
وكذا األعوام التي أمضيتها تائها ولهانا ،تجرفني األحاسيس ،تشغل بالي ،تتالعب بأفكاري
وترهق أعصابي ،أتأمل أحالمي وأستقرء خطواتي متوقعا ما قد يحمله ويخفيه عني مستقبل
أيام حياتي الرتيبة ،أؤنس وحدتي ،أتجرع أحزاني و أواسي نفسي المعتادة على موازاة
سرعتي العشق والنفور ،.وبعدما مقتت عزلتها وبغضت وحدتها اضطرت لمجابهة انتقائيتها
ومزاجيتها المبالغ فيها،.
وفي خضم صراع األفكار ذاك ،الذي تسبب في أرقي غير ما ليلة ،وعلى غفلة مني ودون
سابق إنذار جرفني التيار كما تجرف السيول كل ما يتعرض طريقها من الصخور وجذوع
األشجار ،سيول محملة بأحزان نوستالجيا كئيبة لماضي الزمان .،معضمها تدور في فلك
أفكار وذكريات مؤلمة ألفت كعادتها شغل حيز كبير من مخيلتي ،تالعبت بمشاعري وعبثت
بأحاسيسي وبعثرت مخططاتي اآلنية وكذا المستقبلية ،جردتني من اتزاني ورزانتي ،دفعتني
لإلقدام على أتفه ما قد يخطر بالبال من سخيف األعمال..
حينها لجأت وتمكنت بمكر بريء صبياني في تحقيق جزء مما دفعتني إليه رغبات دفينة
انبثقت من ذاتي الدنيا وأعمق نقطة من كياني السادي الذي يتلذذ بتعذيبي عن طريق
استحضار ذكريات ظننتها قبرت لألبد ،.وعقلي الباطن البليد العنيد الالواعي ،النرجسي
واألناني الذي تغمره السعادة وال يرف له جفن وهو يزج بي في غياهب التفكير الالمجدي
بأنثى فارقها ناظري منذ أمد بعيد ،دون أن يستطيع قلبي الحزين الذي غلبه الشوق والحنين،
أن يتحرر من قيودها الحديدية الملتهبة كالڤا بركان حديث الثوران.
حين ذاك تجرأت ،ال بل أجبرت على الخضوع واإلستسالم الذي ال أجد بُدًّا سواه حينما يتعلق
األمر بمن خطفت مني نفسي منذ أول نظرة في عينيها الكحالوتان الشقيتان المتمردتان ،تلك
المغرورة المتعالية التي لم تعد تهتم وال هي حتى تعلم بوجودي ،وحتى و إن كان عكس ذلك
صحيحا ،فذلك لن يسمنني ولن يغنيني من الجوع الذي يغزو أحشاء عاطفتي. ،
لذلك ندمت ولمت نفسي على ما أقدمت عليه من فعل ،لعنتها ونفسي في خيالي ،شتمتها سرا
دون أن أقصد ذلك ،لعل الشتائم تنفس عما بداخلي من آالم .،لم تكن حسرتي تلك مرتبطة
بسذاجة ما اقترفته ،بل كانت مجرد تحصيل حاصل شاب عنيد انطوائي باسل ،بعدما اكتشفت
حينما اطلعت على بعض مما مكنني من معرفة جزئيات من التفاصيل المستفزة المثيرة
للغيرة في حياة من دفعني التعلق بها لسلك مختلف دروب التجسس والترصد المختلف
األشكال والوسائل ،المتردد األوقات والمتعدد الدوافع..
وألن اآلالم تحفز وتجذب بعضها ،فمن أبت اإلكتفاء بلعب دور "الكومبارس" في مسلسل
حياتي ،اكتشفت خدعتي وبدل أن يلين عنادها وينخفض منسوب التعنت المتحكم في ردود
متستر كتوم ،عكس ذلك فعلت فأسقطت كل ما تبقى من
ٍ أفعالها وتستجيب بتحفظ مقبول لنداءٍ
خططي ،لتتحطم بعد ذلك ذرة األمل المتبقية التي احتفظت وتشبتت بها ألجل تقرب وهمي
دفعتني إل يه جوارحي وشجعني عليه دماغي المغيب بجرعات زائدة من هرمون
"االكسيتوسين" الذي ال تدخر غذتي النخامية جهدا في ضخه بوفرة في جسمي ،وكأنها فقدت
السيطرة على ميكانيزماتها المتحكمة في تحديد كمية الجرعات الموصى بها والمعمول بها
لدى األسوياء مشاعريا من البشر ،ما دفعها مرغمة وعلى مضض لإلنتقام من الجسد الذي
يضمها ،يحتضنها ويغذيها ..هكذا كنت أتخيل غدتي النخامية ،مضخة هرمون الحب والسعادة
المقرونة بالعذاب..
مر عام ،حينما أكتمل العقد و نصفه ونصف نصفه ،وسيكتمل نصف النصف المتبقي في
ذكرى اإلشتياق التي دفعتني لكتابة هذه األسطر ،لتصبح بذلك عقدين من الزمن أمضيتها في
سجون الذات والمشاعر المتمسكة بروح من علقتُ في شباكها المبعثرة المتناثرة المنصوبة
في أعماق ٍيم فسيح ،لذلك لجأت ذاكرتي الستحضار هذا الحدث ،متناسية آثام ما تقترفه من
جرم في حق فؤاد بريء ال يبغي سوى الهناء والتخلص من اآلالم وإدمان الترنح بين دروب
نعيم النسيان ،دفعته ألن يسلك سبيال ال يسلكه سوى المتألمون الحالمون المتمسكون باألوهام،
منتظرين تحقق ما يروج بخواطرهم من مستحيل األحالم التي ال سبيل لتحقيقها وال منجأ
للتخلص من ذيولها التي تتشبت بالوعي اإلنسان كما تتشبت بأعضاء الجسم خاليا السرطان،
وكما يتشبت بخيوط األمل ويلهث وراء منافذ النور القابعون تحت جنح الظالم..
هي أحالم اليقظة النائمة المغيبة بالحنين للذكريات ،التي ما فتئت تأخدني بعيدا عن الواقع،
والتي أسرت عقلي وقلبي وكل مكونات ذاتي البيوبسيكولوجية اإلجتماعية ،منذ خسرت
معر كة خضتها ضد األمواج العاتية التي تقذفني بها دنياي ،في سبيل الرسو في مرسى قلب
وجدته على عكس ما توقعته ،متصلبا قاسيا كالصخر ،لعلي أعثر على يابسته القاحلة على
ضالتي المتمثلة في الثبات واإلتزان اللذان لم أعرف لهما طعما منذ أمد غير يسير..
وألن ذاتي الدنيا هي المتحكمة في أطوار هذا العراك لذلك سعيت أن يكون لي وحدي شرف
التالعب بنبض فؤادها المدفون خلف صدرها المكتنز المثير وبين ضلوع جسدها الفاتن
الممشوق ،وتمنيت أن تضمني بين أحضانها ألتحسس نعومة نهديها ،استشعر دفئها ،أغازل
محاسنها ،وأستنشق نسيم عطرها الذي زادت إثارة أريجه بعدما اندمج مع نفحات جسمها،
أهيم في خيا ٍل أصول وأجول فيه بين شرايين قلبها ،وأمتزج بهوائها ،لتمتصني دمائها
وأغوص في كامل أرجاء بدنها ،وأحتلها إلى أن تغادرها روحها صوب العدم..
مر عام حينما أدركت أن اهتمامي ال يزال مستمرا ،وأنا الذي ظننته قد اندثر وزال من
الوجود ..وأيقنت أن ادعائي نسيانها وطي آخر صفحة من هذه القصة الغرامية الدرامية لم
يكن سوى بلسما حاولت أن أضمد به جرحا غائرا يحتاج تدخال طبيا عميقا ودقيقا قصد
اندماله..
كما أدركت أن من يدعي تخلصه من قيود أول من اختطف واحتل قلبه ،إنما هو ُم ْفت ٍَر لم
يسبق له خوض تجربة حقيقية تبين له مدى صعوبة واستحالة األمر ،وقد يكون صادقا
اضطرته طبيعة شخصيته ألن ينافق ويجامل أحاسيسه ليخفف من حدة آالمه ويقلص من
حجم معاناته ،ليتناسى عذابه ويمضي قدما في دار الفناء..
مر عام حينما حاورت وسألت نفسي المتمردة المعقدة المترددة التائهة الحائرة ،عن الدوافع
التي عمت بصيرتها لتسجنني وإياها وتقيد أحاسيسي في ذكرى من نعتتها ذات زمان ب"بنت
فالن" و وصفتها ب "ذات الجمال الفتان" ،التي فقدتها بال رجعة دون أن يسبق لي امتياز
اإلنفراد بخلوتها ،تلك بنت الجيران ،من أشعلت في قلبي النيران ،وأحيت بمفاتنها لدي
الهوى ،وأعلنت علي العصيان.
.
فكيف السبيل إلى ذلك الميعاد الذي طال انتظاره لكي تضع هذه الحرب الحامية أوزارها،
وتفرج عن ذكريات وأحاسيس سجينة في ذاكرة عنيدة ،أفكارها عقيمة وأحزانها شديدة ،تود
التحرر من قيود نفسية معقدة عميقة ،جراء عشق كتوم ،نسب نفسه للمدينة الفاضلة التي
شيدها فِي أحالمه أفالطون..
ومتى ستطلق مشاعري سراح فكري ليهنئ بالي وأعيش ما تبقى من حياتي متحررا من
الماضي الذي تلذذت بالغوص والتدقيق في تفاصيله ،وتعذبت بعدما تحول في حاضره
ليصبح نارا اكتوت بلهيبها جوارحي..
وقبل أن أختم هذه السط ور لن أتجاهل اإلشارة إلى أن غايتي في ما أخطه من مقروءات هو
أن تضل شاهدة على بعض السذاجة التي شهدتها مختلف المراحل والظروف التي عشتها
ومررت بها ،ومن يدري كيف ستكون نظرتي لما أكبته حينما أبلغ أرذل العمر ،فربما قد
تكون هذه التدوينات مصدرا كوميديا ساخرا تجعلني والمقربين مني نقهقه ملء األشداق على
القفشات الساذجة التي تضمنتها قصصي العبيطة ،التي عبرها ومع مضي السنين قد أتمكن
من تقييم مدى تطوري وزيادة نضجي وذلك عن طريق الرجوع إليها كمرجع أقارن من
خالله حاضري وأقيس به نمو وتغير أفكاري ومعتقداتي ،من خالل تمحيص ما تضمنته
فقراته من خزعبالت تعبر عن فترة من فترات عبوري على مسرح هذا الوجود المتشبت
بالخلود.