Professional Documents
Culture Documents
ملخص اعادة تشكيل العقل
ملخص اعادة تشكيل العقل
اإلشكال يكمن في المشكلة الثقافية والمناخ الثقافي أو عالم األفكار الذي يشكل المحضن الصحي والضروري إلعادة
تشكيل العقل وترتيبه ومنحه القدرة على العطاء والحماية من االنكسار ،لذلك كان البد لنا من المعالجة المنهجية الحكيمة
المتأنية الناضجة ،وأمر آخر ومهم جدا في دراسة المشكلة أو القضية هو أنه البد لنا من تناول تلك القضية من أكثر من
طرف وإلقاء أكثر من ضوء إضافي عليها فالمشكل الذي يقع فيه أغلبية المفكرين أو الدارسين هو الدراسة الجزئية
والفرعية للقضايا ،لذلك البد من تحديد أبعاد المشكلة العامة وبالتالي تكون المعالجة دقيقة.
فالدعوة إلى إعادة صياغة العقل اليوم هي دعوة مزدوجة في حقيقة األمر أو ذات بعدين رئيسيين :هما
تصحيح التصور:
وذلك بالقدرة على رؤية الخطوط اإلسالمية متواصلة متكاملة ال يصطدم بعضها باآلخر والقدرة على تكوين القدرة العقلية
التي تمتلك أبجديات الثقافة اإلسالمي.
تخليص العقل:
من التركيز على النظرة الجزئية ألنها تشكل آفات عقلية ليس أقلها العجز واالنحسار ،لذلك فاإلنسان ذو النظرة الشمولية
والثقافية العامة قادر على تحقيق االنسجام وترتيب األولويات والتمييز بين األمراض واألعراض ...ومن ثم البد من بناء
عقلية البرمجة والتخطيط ودراسة األسباب وحصول النتائج واكتشاف مواطن الخطأ والعجز ..صحيح أن أمر ترتب
النتائج على المقدمات مملوك هلل تعالى ومراد له ،لكن وظيفة اإلنسان االستخالفية في األرض قائمة على تعاطي األسباب
وإتقانها وحسن التعامل معها ألن األسباب الموصلة إلى النتائج هي من قدر هللا ،وسننه في الحياة أيضا...ألن الفهم
النصفي العليل الذي يقول بأن علينا تعاطي األسباب وليس علينا مناقشة مدى ترتب النتائج على هذه األسباب فهي قضية
خطيرة تزري بالعقل المسلم وتتعارض مع سنن هللا في الحياة واألحياء ..وللفهم أكثر نضرب مثاال بغزوة أحد التي انهزم
فيها المسلمون وهذه الهزيمة لم تجعل منهم شعراء ينشدون أحزانهم ويبكون بها على األطالل أو إدخالهم في نفق اليأس
واإلحباط ،بالعكس تماما فهي كانت بمثابة محفز وعامل إلعادة الكرة والمضي قدما ...فمن هنا يتبين لنا دور اإلسالم
المركزي في بناء عقل المسلم وثقافيته بعدما كان في العصر الجاهلي له قابلية العجز واالنكسار.
ومن هنا تأتي ضرورة إعادة ترتيب العقل المسلم اليوم على ضوء فهم عمر بن الخطاب رضي هللا عنه .عندما
سئل بعد تحوله برعيه من الوادي المجدب إلى المخصب ليؤمن لغنمه المرعى الصالح :كيف تفر من قدر هللا؟ فيقول
فررت من قدر هللا إلى قدر هللا...
وكما ذكرنا آنفا فإن لإلسالم دور محوري في صياغة عقل المسلم ،فقد طرح من خالل القرآن والسنة ،رؤية جديدة
للحياة رؤية تبدأ من داخل اإلنسان في عقله وقلبه وروحه ووجدانه وغرائزه وميوله ،وتنتهي في خارجه لكي تصوغه
إنسانا جديدا متفوقا قادرا على التغيير المطلوب في بنية العالم ،والتحكم من خالل ما أبصر من السنن التي شرعها هللا
بالحركة التاريخية إلعادة البشرية إلى المنهج المتوافق مع سنن هللا.
...ومن أجل جعل الرؤية واضحة والغوص بشكل دقيق في مشكالت العقل المسلم ومدى توفر شروط إعادة تشكيل هذا
العقل ،البد لنا من طرح أسئلة أهمها///
ما الذي أصاب العقل المسلم فصده عن المضي في الدرب إلى غايته؟ وكيف ضربه العقم بعد التوهج واإلبداع الذي
أشعلت فتيلها كلمات هللا وتعاليم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؟
هل يتسنى لإليمان أن يقف في المعركة وحيدا أعزل؟ وماهي النقالت الكبيرة التي حققها الدين فشكل بها العقل
الجديد...؟؟
كلها أسئلة وأخرى حول العقل المسلم وكيفية إعادة صياغته ..تدور في عقول المسلمين صباح مساء..
*عقل رفض الدعوة* لعدم قدرته على استيعاب المضامين والمعطيات واألفاق التي تضمنتها.
وعقل تقبل الدعوة الجديدة* باستيعاب مذهل للتغيرات الجذرية التي مكنته من إعادة التشكيل ،والعمل وفق صيغ جديدة
لم يألفها قبل إنسان..
فكيف تمت المعجزة؟ وما هي النقالت التي نفذها اإلسالم إزاء الجيل األول فأعاد تشكيل
العقل البشري ودفعه إلى العطاء واإلبداع؟
إن محاولتنا لإلجابة عن هذه األسئلة سيضعنا أمام طريق واضح ومنهج سليم إلعادة تشكيل العقل المسلم في
عصرنا هذا...
بين عماد الدين خليل في هذا الفصل إن تشكيل العقل المسلم لم يكن اعتياديا ،بل تم بإعجاز مذهل تجاوز صيغ
المعادالت القديمة ،فاإلسالم منح المنتمين اليه قدرات إضافية لتجاوز حيثيات الزمان والمكان ،والتحقق بالتوافق المنشود
بين عقله وبين السنن ...فالدعوة الجديدة كانت منهجية في رؤيتها منذ الوهلة األولى ،حيث وضعت سلما ذي درجات
عريضة :يبدأ باالنتماء لإلسالم ويعني ذلك الموافقة المبدئية على الدخول في عمل مبرمج مرسوم ،مرورا باإليمان باهلل
،ويعني التحقق بالقناعات الكاملة بجدوى هذا العمل ،ثم التقوى وهي تلك الطاقة الفذة التي تشعل مصباح الضمير ليظل
متوهجا متألقا حتى يغيب اإلنسان في التراب ...وأخيرا الوصول إلى اإلحسان الذي يهدف إلى إيصال المؤمن التقي إلى
القمة.
إن هذا السلم هو نوع من التربية الممنهجة ،استطاع اإلسالم بفضله أن يبعث أجياال من العداءين اجتازوا الموانع
والعقبات (يسارعون في الخيرات) ،وهذه السرعة اعتمدت على مؤشرين :السرعة والسبق ...
فوصل المسلم إلى أوج القمة ،ودخل في العمل الجماعي المبرمج ،وكله طاقة وإبداع فحقق االنسجام مع السنن والنواميس
فاستحق بصدق لقب الرائد والقائد لألمم.. .
إن اإلسالم اعتمد على نقالت هي بمثابة منهج متكامل من القرآن والسنة لتشكيل العقل المسلم ،واهم تلك النقالت///
وتعتبر القاعدة التي بنيت عليها سائر النقالت ،ومعناها تحويل التوجه اإلنساني من التعدد إلى الوحدة ومن عبادة العباد
إلى عبادة رب العبادة ،فهي عبارة عن إخراج الناس من الظلمات إلى النور ،فالعقيدة الجديدة جاءت لتنقل اإلنسان من
الظلم إلى العدل والتوحيد ..حيث يجد العقل نفسه ،ويعاد تشكيله دون أن يكون محكوما عليه بظلم من سلطة فكرية قاهرة
.....
وإلبراز البعد الشاسع لهذه النقلة ،يستعرض الكاتب شيئا من ممارسات العقل العربي في الجاهلية ،من عبادة األوثان
وقصصها وأسماءها ....وكيف خلصته الدعوة الجديدة من هذا المستنقع اآلسن ،والخرائب المهجورة التي يعشش فيها
التخلف ...إلى أفاق التوحيد ...فالتصور اإلسالمي نسيج وحده ،عرف كيف يعيد تشكيل العقل الجديد ويدفعه إلى الحركة
التي ال سكون بعدها ،وهذه النقلة كانت مصحوبة بنقلة أخرى وهي:
التي حثت عليها الدعوة في أول آيات تنزل على صاحب الدعوة ،فنداءات القران كانت منبثقة من فعل القراءة والتفكير
والتعقل ...لذا ليس عبثا أن تكون كلمة *اقرأ** هي الكلمة األولى ،وستليها نداء للمعرفة والتدبر بألفاظ عديدة :اقرأ ،تفكر،
اعقل ،تدبر ،تفقه انظر ،تبصر ...فما كان للعقل إال أن يستجيب لهذه الدعوة ويتفاعل مع المعطيات المعرفية الموجودة في
القرآن ،لتتفجر ينابيعه وطاقاته في كل المجاالت ويدفعه نحو حب البحث والتساؤل والعلم.....
إن القرآن كان دقيقا في تعامله مع العقل المسلم ،حيث عرفه اإلسالم أوال ،ثم صحح معتقده ،وأعطاه المعرفة والعلم ،ثم
المنهج الذي يصل به إلى تحقيق األهداف ،فال شك إن المنهج يلعب دورا مهما للغاية في حركة اإلنسان الفكرية.
وامتدت
*ج)النقلة المنهجية*
فمنهج السببية * يتمثل في التأمل في قدرة هللا الذي خلق كل شيء في الكون ،وفق منهج منضبط ،لذا أراد القرآن إن
يجتاز بالعقل العربي مرحلة النظرة التبسيطية ،المفككة ،التي تعاين األشياء كما لو كانت منفصلة ،إلى عقلية تركيبية تملك
القدرة على الرؤية االستشرافية التي تبحث عن الحقيقة ،وذلك بالربط بين األسباب والمسببات ،فالكون تعبير عن إبداع
الخالق تحكمه قوانين واحدة ،وأسباب واحدة ،ونواميس واحدة ,تصدر عن إرادة واحدة ...فالكشف عن السببية واألخذ
بشروطها المنهجية كسب كبير للعقل البشري يمكنه من النهضة والريادة في كل عصر....
حيث يقول الكاتب (:وألول مرة في تاريخ الفكر ،يكشف الغطاء أمام العقل البشري عن حقيقة منهجية على درجة كبيرة
من الخطورة) ،فالتاريخ البشري ال يتحرك بشكل فوضوي ،وإنما تحكمه السنن والقوانين كتلك التي تحكم الكون والعالم
والحياة ...فالوقائع التاريخية ال تخلق بالصدفة ...والقرآن الكريم يقدم أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ
البشري ...ولعل ابن خلدون ادرك هذا جيدا واستخلص القوانين التي تحكم الظواهر االجتماعية ودونها في مقدمته ...إن
القران طرح على العقل البشري ألول مرة مسالة السنن والنواميس التي تسير حركة التاريخ ...فحركة أي جماعة بشرية
في التاريخ ليست اعتباطية...لذا حض العقل المسلم أن يجعل السنن دافعا حركيا ،لتجاوز مواقع الخطأ الذي وقعت فيه
الجماعات البشرية السابقة .يقول تعالى (((قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في األرض فانظروا كيف كانت عاقبة
المكذبين ،هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين//
وأخيرا *منهج البحث الحسي التجريبي *
حيث دعا القران الناس من خالله إلى التبصر بحقيقة وجودهم ،عن طريق النظر الحسي في افاق النفس والكون ،فتوالت
اآليات التي تحث على تحريك العقل الذي يعتبر مفتاح اكتشاف كل العلوم الطبيعية ،والدعوة الجديدة لم تكن منفصلة عن
العلم يوما ،فالعلم والدين سواء في لغة القرآن دون الفصل بينهما إطالقا.
فما ينبغي الوصول اليه هو إدراك أننا إزاء حركة حضارية شاملة تربط بين مسالة اإليمان ومسالة اإلبداع ..بين تسخير
مستوى روحي عال لإلنسان ،وبين تسخير طاقات العالم لتحقيق الدرجة نفسها من التقدم على المستوى المادي.
فهذه النقالت في نظري هي سر إعادة تشكيل العقل المسلم ...فنحن بحاجة إلى فهم مفهوم اإلسالم واالطالع على
موضوعه عن طريق المعرفة والعلم الذي جاءت به الدعوة ،ثم التركيز على المنهج وتطبيقه عن طريق اكتشاف السنن
الكونية ..ثم إدراك المقصد في وهو أداء مهمة االستخالف وإعمار األرض ،للوصول إلى سعادة الدارين..
إن األفكار ،أو النشاط العقلي ..هو الذي يسهم جنبا إلى جنب مع قوى اإلنسان األخرى وطاقاته المتشعبة ،في صناعة
الحضارات وليس العكس مما تقول به النظريات التي أكدت رجعيتها آخر معطيات العلم الحديث...
وهكذا فإن قيام الدين الجديد بتشكيل عقل إسالمي فعال ،ومن خالل تحوالت جذرية على المستويات كافة ،العقيدية
والمعرفية والمنهجية ..كان بمثابة إرهاص لمولد طاقة حضارية فذة ،كان ال بد أن تلد عطاءها المتواصل بعد أن نضج
الجنين في رحم تهيأت له شروط الميالد واليوم فإنه ليس بمقدور قوة في األرض أن تبعث المسلمين من جديد للفعل
الحضاري ما لم تتهيأ الشروط والمواصفات نفسها ..ما لم تتحقق بالتحوالت الحاسمة ذاتها//
وذلك باحترام الحضارة اإلسالمية للتراث الحضاري البشري الذي سبقها و عاصرها
فكل الحضارات العالمية كانت بمثابة حقول مفتوحة جال في أطرافها العقل اإلسالمي ،فأخذ ورفض ،وانتقى ومحص
واختبر ...لم يكن مجرد اقتباس ،ولكنه هضم وتمثل ...فحقق مردوده اإليجابي عبر نطاق الحضارات جميعا .وكان له
أثر في حضارة أوروبا
والمؤلف يستشهد بعدد من المقاالت لمفكرين غربيين مثل//كلويس يونغ وغرونباوم وغوستاف لوبون وغيرهم...
-اإلضافة و التجديد و اإلغناء .لمعطيات حضارية كانت بأمس الحاجة لذلك ثم
ويضيف بل إن العقل اإلسالمي المتحضر قدر على أن يكتشف عناصر وقيما جديدة بالكلية ،وأن يقدمها للعالم ثمارا يانعة
لجهده الخاص.
ثم يورد شهادات لعلماء من الشرق و الغرب حول دور العقل اإلسالمي في إغناء الحضارات البشرية
في الرياضيات والفيزياء وعلم الفلك والكيمياء وعلم النبات والطب والجغرافيا ثم العلوم التطبيقية مقدما البعض من
إسهامات المسلمين في كل من هذه العلوم....
الفصل الثالث :الهيكل الحضاري للرؤية اإلسالمية
)112 /(91
السؤال المطروح في هذا الفصل هل نطمح حقا إلى استعادة دورنا الحضاري دون أن نتحقق بالشروط الضرورية إلعادة
تشكيل العقل اإلسالمي المعاصر ،كما شكلت عقول أجدادنا؟
والجواب طبعا أبدا...فدون هذه الشروط التصورية والمعرفية والمنهجية لن نقدر على اإلمساك بالحركة التاريخية كي
نسترد دورنا الحضاري المفقود .علينا أن نرتد مرة أخرى إلى الجذور ،إلى مبادئ اإلسالم نفسها ،لكي ما يلبث أن يتأكد
لنا البعد الحضاري الذي يتغلغل في نسيجها...في محاولة لتصور الهيكل الذي يقوم عليه.
-هذا الهيكل الحضاري للرؤية اإلسالمية يمكن أن نتصوره في مثلث متساوي األضالع ،محكم الزوايا ،أو بتطابق
هندسي معماري مرسوم :األرضية ،واإلنسان ،وبرنامج العمل.
هذه األطراف الثالثة ستؤول إلى موقف حضاري سداه العمل واإلنجاز ،ولُحمته الكشف واإلبداع.
-األرضية...
-لقد ُهيِّئت أرضية العالَم الستقبال اإلنسان بقدراته الخاصة ،ومطامحه وأهدافه .وبانتظار العقل الذي سيفكر ،واليد التي
ستن ِّفذ ،واإلرادة التي ستنشد بين رؤية العقل وقدرة اليد...فإن العالم سيتشكل وفق صيغ ومعادالت تمكن القادم الجديد من
أداء دوره الحضاري المرسوم.
-والقرآن الكريم يحدثنا طويال عن سائر(العمليات) التي أريدَ بها تهيئة العالم الستقبال المخلوق الجديد ،وإحاطة نشاطاته
المختلفة بالضمانات...بل إنه يمضي بنا إلى ما وراء ذلك اليوم الذي قال فيه هللا سبحانه للسماوات واألرض { :ائتيا طوعا
أو كرها قالتا أتينا طائعين} (فصلت )١١:
إن التوجه الحضاري في القرآن يمتد إلى ما قبل آدم...إنه كل فعل امتزجت فيه إرادة هللا وكلمته بالمادة فصاغتها كتال
كونية ،أو نظما طبيعية .ومادامت عملية بناء الكون وتهيئة األرضية الصالحة للحياة على األرض ،قد سبقت خلق آدم
بأزمان ،وما دامت المقاييس اآلدمية تجيء دائما نسبية قاصرة .فال يمكن لنا أن نحيط أو ُن َفس َِّر قضية (التكوين) أو أن
نفترض نظريات ال جدوى من ورائها...ألنه فوق طاقتنا ،وأية محاولة تعتبر عبثا ((ميتافيزيقيا)) كما فعل جل الفالسفة
اليونانيين واإلسالميين المتأثرين بهم.
وهذا ال يعني أبدا التشكيك بالمحاوالت العلمية-التجريبية لدراسة الجانب الطبيعي القائم((فعال)) من الكون ،والسعي
للكشف عن قوانين بنيانه المحكم ،ألن هذا هو الموقف الذي يدعوا له القرآن في عديد من اآليات .ولكن القصد هو الجانب
الفلسفي التصوري لبدايات الخلق والبحث عن ((العلة)) و ((المعلول)) و((المتناهي األول ((
-إن امتداد عملية الخلق التي بينها القرآن في عصرنا التاريخي الراهن والمقبل ،وأن الكون ماضي في حركته الدينامية
نحو االتساع الدائم بإرادة هللا.
وهذه الحركة صوب االتساع ستنعكس في التصور اإلسالمي على حركة التاريخ البشري ومصير اإلنسان قبل أن يأتي
اليوم الذي تطوى فيه السماوات كطي السجل للكتب .و َت ُكف الحياة عن االستمرار تمهيدا للحساب.
قال تعالى{ :كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} (األنبياء)١٠٤ :
-وعند تنقلنا في أرجاء القرآن لمطالعة اآليات الخاصة بخلق الكون وتهيئة الظروف الصالحة للحياة على األرض وقمنا
بتمعنها ،وجدناها ترتبط ارتباطا أصيال بالدور الذي ُبع َ
ِث اإلنسان لكي يؤديه ،وهي كلها قواعد أساسية ألي نشاط
حضاري فعال ومتطور على األرض.
-إن كتلة العالم والطبيعة ،وفق المنظور اإلسالمي ،قد سُخرت لإلنسان تسخيرا ،وقد حدد هللا تعالى أبعادها وقوانينها
وأحجامها بما يتالءم والمهمة األساسية لخالفة اإلنسان في العالم ،وقدرته على التعامل العمراني مع الطبيعة بشكل
إيجابي.
-العالم تحدي مناسب لإلنسان وليس معجزا ،إذا أردنا أن نعتمد مصطلحات المؤرخ االنكليزي ((أرنولد توينيي)) .وكأن
إرادة هللا سبحانه شاءت أن تقف به عند هذا الحد لكي يحقق اإلنسان خالفته في األرض بدون أن يكشف له عن قوانين
وأسرار العالم بالكلية ،ألن هذا نقيض عملية االستخالف .كما أن هللا سبحانه لم يشأ من جهة أخرى أن يجعل العالم على
درجة من التعقيد والصعوبة الطبيعية والغموض يعجز معها اإلنسان عن االستجابة واإلبداع األمر الذي يتنافى ومهمته
الحضارية كخليفة هلل على األرض جاء إلعمارها..
يقول تعالى { :ولو بسط هللا الرزق لعباده لبغو في األرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} (الشورى:
٢٧
يقول تعالى { :هللا الذي جعل لكم األرض مهدا وجعل لكم فيها سبال لعلكم تهتدون}الزخرف 10
واآليات الخاصة بمسألة التسخير المناسب جاءت في مواضع كثيرة من القرآن ال تعد والتحصى لخدمة الدور الذي أنيط
باإلنسان في األرض ،وهي تمنحنا التصور اإليجابي لدور اإلنسان الحضاري .على عكس التصورات السلبية لعديد من
المذاهب الوضعية التي جردت اإلنسان من قدراته الفاعلة وحريته في حواره مع كتلة العالم ،والبعض اآلخر تطرف
وأخضعه إخضاعا كامال لمشيئة هذه الكتلة.
-وسواء التزم المذهب الوضعي المنطق الديالكتيكي على مستوى الفكر الكلي غير المحدد كما فعل هيغل ،أو على
مستوى المادة وتبدل وسائل اإلنتاج وظروفه كما فعل ماركس ،فإن اإلنسان يصبح تابعا وليس متبوعا .وأن اإلنجاز
الحضاري يأتي وكأن اإلنسان جزء منه أو مساحة من مكوناته فحسب.
-أما الرؤية اإلسالمية تلتقي بصيغة أخرى للعالقة بين اإلنسان والعالم ،صيغة السيد الفاعل المريد الذي سخرت و
أخضعت له مسبقا كتلة العالم والطبيعة ،من أجل خالفته في األرض وإعمارها على عين هللا {:وسخر لكم الليل والنهار
والشمس والقمر}(.النحل)١٢:
(-2 .اإلنسان
-الحد اآلخر للهيكل الحضاري في الرؤية اإلسالمية وهو ((اإلنسان)) .وهذه المسألة بدأت بخلق آدم عليه السالم
باعتبارها حجر الزاوية في الوجود البشري.
قال تعالى {:وإذ قال ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح
بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما ال تعلمون ،وعلم آدم األسماء كلها ثم عرضهم على المالئكة فقال أنبئوني بأسماء
هؤالء إن كنتم صادقين ،قالوا سبحانك العلم لنا إال ماعلمتنا إنك أنت العليم الحكيم ،يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم
بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات واألرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ،وإذ قلنا للمالئكة اسجدوا
آلدم فسجدوا إال إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ،وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكال منها رغدا حيث
شئثما وال تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ،فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم
لبعض عدو ولكم في األرض مستقر ومتاع إلى حين ،فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ،قلنا
اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فال خوف عليهم والهم يحزنون ،والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
أوالئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة)٣٩،٣٠ :
-ومايهمنا في الموضوع :خالفة اإلنسان عن هللا في األرض ،ومنحه القدرة على التعلم واالستيعاب وتكريمه بسجود
المالئكة له ،مجابهته بإبليس وبدأ الصراع بين الطرفين والهبوط الزمني الموقوت إلى األرض .كأول تجربة من تجارب
الصراع .تعليق الدور البشري في العالم على تلقي الهدى من هللا وحده ،وتحديد المصير الذي سيؤول إليه موقف اإلنسان
الحر إزاء الهدى في األرض والسماء
//3برنامج العمل
-الحد الثالث للهيكل الحضاري في الرؤية اإلسالمية فيتمثل ببرنامج العمل ،أو (الدين) والدين في المنظور اإلسالمي هو
(منهاج شامل) للحياة يتحرك(اإلنسان) على (أرضية العالم) وفق توجهاته وأهدافه ،ويمارس (استخالفه) الحضاري
للطبيعة.
-إن الدين ،وفق هذه الرؤية ،يبدوا برنامجا حضاريا...وهو يكمل ويناظر ويناسب طرفي المسألة اآلخرين :األرضية
واإلنسان
وضوح ...الهدف
-إن الهدف الذي يسعى اإلنسان إلى بلوغه ،هو عبادة هللا وحده ،فردا وجماعة .
بينما ترسم المذاهب الوضعية-هي األخرى -أهدافا لحركتها الحضارية ،تتميز حينا بالغموض والمثالية ،وتتميز حينا آخر
بالتحديات المادية الصارمة ،الذي يقود األول إلى ممارسة سياسة العدوان والثاني إلى إعالن مبدأ الدكتاتورية ،والنتيجة
الحتمية لكليهما دمار حضاري وظلم بشري .
في حين نجد الموقف اإلسالمي يعلن هدفه الواضح المتوحد ،المفتوح الذي يستقطب حوله الفاعليات والمعطيات كافة:
عبادة هللا ،والتوجه إليه والتلقي عنه ،وتدعو القوى المؤمنة لتجمع البشرية حول هذا الهدف الكبير .
-باعتبارنا جزء من خليقة هللا ،وضمن منظومة كونية ،وال يمكننا الخروج عنها ،فإننا مجبرين على أشياء مثل الوالدة
والموت والبعث والحساب ،ومجبرين على أن ننتمي إلى هذا اإلقليم دون ذاك ،وهذا اللون دون ذاك...فدون هذا االلتزام
الحتمي لتبددت الحياة ،وفقد وحدتها وتماسكها ومعناها .ودون هذا الجبر تضيع البشرية ويحدث التناقض في النواميس
أما المساحة المتبقية لممارسة حرياتنا ،إنما منحت لنا وتختفي قيم الحق والعدل األزلية.
لتميزنا عن سائر خلق هللا ،وتفضيلنا عن العالمين ،وهذه المساحة ،تمتد إلى مدى واسع ،يتمثل في الموقف الذي نتخذه من
العالم ،واألعمال واألهداف والمعطيات التي نقدمها للحياة .هذه الحرية التي تقف باإلنسان والشعوب والحضارات على
مفترق طريقين///
-فإما أن تكون مواقفنا وأعمالنا وأهدافها منسجمة مع نواميس الكون وسنن الحياة ،وهذا ما سعت األديان لتحقيقه في
العالم ،ومعها اإلسالم.
-وإما أن تجيء هذه األعمال والمواقف واألهداف منشقة عن نواميس الكون ،وسنن الحياة مرتبطة بها ،األمر الذي ينتج
عنه إنجاز حضاري متفكك وشقاء عميق ومصير سيء في الدنيا واآلخرة ،ويعاكس طبيعة الدور الذي بعث اإلنسان
ألدائه ،و يكون مكافاة لعصيانه وتمرده ورفضه أداء المهمة( .وهذا ما سعت المذاهب الوضعية ،وتسعى ،لتحقيقه في
العالم وتحويل البشرية كلها إليه .)..ومن ثم فإن اإلسالم في تحليله ألدوار األمم والحضارات إنما يتخذ هذا المقياس
الكوني المصيري ،في تحديد مدى توافق التجربة البشرية مع النواميس أو اصطدامها بها .وليس مفهوم العبادة هنا ضيق
المساحة ال يتجاوز دائرة الشعائر الدينية واالتصال الروحي باهلل ،إنه تجربة حياة متكاملة يتوازن فيها األخذ والعطاء .
وبهذا تسقط -ابتداء -كل السلبيات التي يمكن أن تتعلق بأي نشاط حضاري ال يعتمد برنامجا شامال ،أو ال يسعى إلى هدف
واضح ،وال يلتزم أخالقية اإلنسان في مناجاته مع خالقه
يعتبر العمل واإلبداع من المالمح األساسية للفعل الحضاري اإلسالمي ,وقد تقرر ذلك من خالل ما جاء من شواهد في
القرآن والسنة من ذلك قوله تعالى < *قل اعملوا فسيرى هللا عملكم ورسوله والمؤمنين وستردون إلى عالم الغيب
والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون* >,وقوله صلى هللا عليه وسلم " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن
يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر " ,فحياة المسلم تتمحور حول اإليمان والعمل ,وال يجب أن ينفك أحدهما عن اآلخر
ومن هنا جاء الفعل الحضاري متسما بهذين العنصرين ,وهو موقف ينسجم تماما مع فكرتي االستخالف واالستعمار
األرضي ,وهذا الملمح قد أوجبه القرآن في أكثر من مواضع ,وأشار إليه بآيات معبرة عنه ,مما يخلق في أعماق
اإلنسان الشعور بالمسؤولية ويقظة الضمير ,واستغالل الفرص وتفجير للطاقات المتاحة ,فالعمل واإلبداع في نظر
اإلسالم عبادة قال تعالى < *وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون* > ,وقد جاء ابتالء ابن آدم الختبار خاصية العمل
واإلبداع .قال تعالى < *الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عمال* > .من هنا نرى أن ملمح العمل واإلبداع
هو فعل إنساني أمر به القرآن باعتباره ملمحا أساسيا للفعل الحضاري الذي يقدم األمم نحو النماء واالزدهار والتحقق
الواقعي لمعنى االستخالف الذي أوكله هللا لإلنسان.
غرس القرآن العمل واإلبداع في نفوس متدبريه ,في مقابل التنديد بكل الوسائل مهما كانت تحمل من شعارات التي يمكن
أن تخرب البناء المادي والروحي والمعنوي لإلنسان ,وذلك لحماية الحضارة واالنجاز البشري النافع يقول تعالى <
وأصلح وال تتبع سبيل المفسدين > < *وال تطع أمر المسرفين الذين يفسدون في األرض وال يصلحون* > .وهناك آي
كثيرة تطرقت لهذا الموضوع ,والقرآن لم يكتفي بالتنديد فقط بل تجاوز بأمر الجماعة المؤمنة المصلحة للوقوف ومجابهة
سبيل الفساد والمفسدين بكل أشكاله قال تعالى**
*فلوال كان من القرون األولى من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في األرض إال قليال ممن أنجينا منهم واتبع الذين
ظلموا ما أترفوا وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون >* والشواهد على هذا المنوال متعددة
في القرآن ,فالفعل الحضاري اإلسالمي لم يقفز إلى الوجود إال عبر التوجيه القرآني ,الذي حفز العنصر البشري نحو
العمل ومجابهة كل ما من شأنه أن يقوض هذا الجهد.
يعتبر اإلسالم التجربة الرائدة على غرار باقي المذاهب والديانات المنتشرة السماوية والوضعية منها في التوفيق بين
المجال المادي ,والمجال الروحي اللذان يكونان القالب البشري ,وقد جاء تقرير هذا في كثير من اآليات التي جعلت
األمور المادية حقيقة واقعية ال يمكن االستغناء عنها أو الهروب منها نحو درب الرهبان والدروشة المنحرفة ,بل يجب
التعامل معها .قال تعالى *زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل
المسومة واألنعام والحرث >* آل عمران , 14وحث على سبر أغوار الطبيعة والكون ومعرفة النواميس التي تكونهما
لالستفادة منها قال تعالى *قل سيروا في األرض فانظروا كيف بدأ الخلق >* < *أفال ينظرون إلى اإلبل كيف خلقت ,
وإلى السماء كيف رفعت ,وإلى الجبال كيف نصبت ,وإلى األرض كيف سطحت* > ,وهي طريق للتقرب إلى هللا,
لعرفة عظيم خلقه وقد ركز القرآن على الجانب المادي ووجهه بمعايير القيم واألخالق التي تساهم في عدم خروج هدا
النشاط اإلنساني إلى االنحراف .قال تعالى < *ذلك متاع الحياة الدنيا وهللا عنده حسن المآب أأنبئكم بخير من ذالكم للذين
اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها األنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من هللا وهللا بصير بالعباد ,الذين
يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار**
إننا نستطيع أن نتلمس بوضوح موقف القرآن من الجانب المادي والروحي معا ,وخلق هذا التوازن بين العنصرين
المكونين للبنية الحضارية والثقافية لإلنسان ,وتأكيده على أن اإلخالل بأي من العنصرين إخالل بالتوازن وطريق للدمار
والتيه .
يتحدث الكاتب هنا عن العالقة بين االنسان والعالم بين النظرة الغربية والتصور االسالمي:
*النظرة الغربية:
تقوم على فلسفات شاملة تبدو للوهلة األولى منطقية ومبررة لكن بمجرد التوغل فيها تجد جميع معطياتها مبنية على فكرة
الصراع فمثال "هيغل"ينطلق من الصراع في عالم الفكر ويجعله وسيلة لتبرير جرائم استبداد الشعوب المستضعفة
واستعبادها من قبل الشعب األوروبي المتفوق.
"ماركس « في فكره المادي يجعل من الصراع مبررا الية مذبحة تمارسها طبقة ضد طبقة .بل انه يجرد اإلنسان من
حريته وإرادته ويجعله تابعا مطيعا لمنطق الصراع المادي حتى في اشد ممارساته بعدا عن المادية (الدين واألخالق
والفن).
يرسم خطا جديدا للعالقة بين اإلنسان والعالم يقوم على التناغم واالنسجام .وذلك باعتباران قوى الطبيعة قد سخرت أساسا
لخدمة اإلنسان ومساعدته على الرقي الحضاري وإعمار العالم من جهة.
ومن جهة أخرى باعتبار أن اإلنسان خلق وفق هذه الصيغة التي تشتبك فيها قوى الروح والمادة فهو مهيأ لينطلق في
نشاطاته من نقطة التوازن الذي ينتفي فيه الصراع ويتحول الجهد اإلنساني الدائم إلى سعي خالق للكشف عن السنن
والنواميس الطبيعية فيتحقق االندماج والتناغم بين اإلنسان وبين العالم تماما كعالقة الخادم المطيع بالسيد القدير فهو
يستخدمه بذكاء وحصافة لتأدية واجباته فيستجيب العبد دون قتال أو صراع .فمثال اكتشاف الفضاء من المنظور اإلسالمي
ليس غزوا كما يراه الغرب .فالقمر ليس خصما يغزى ولكنه خادم مطيع ينادى فيلبي النداء.
الميزة التحريرية*
كان اإلسالم منذ اللحظة األولى عمال تحريريا على كافة المستويات
*على مستوى النقلة التصورية االعتقادية حرر اإلنسان من الضالالت واألوهان والطواغيت واألرباب.
*النقلة المنهجية حررته من الخضوع للفوضى والصدفة العمياء وبصره بقوانين العمل والحركة التي توجه سير العالم
والكون والتاريخ.
وباستقراء عام لآليات القرآنية نجد أن لإلسالم دعوة ملحة لتحرير رغبات اإلنسان وأشواقه الجسدية والروحية وذلك وفق
رؤية اإلسالم التوازنية األصيلة التي تجعل من الحالل قاعدة عريضة ومن التحريم مسالة استثنائية محدودة ال يجوز
توسيعها بشكل اعتباطي الن في ذلك كفر وافتراء على هللا "وحرموا ما رزقهم هللا افتراء على هللا**
فاإلسالم جاء ادن لتحرير الناس من االحتكار والتزوير والتحريف -الذي مارسته بعض طبقات رجال الدين الذين
يشترون بآيات هللا ثمنا قليال -وليعيد األمور إلى نصابها ويفتح الطريق العريض أمام متطلبات اإلنسان المؤمن مرة أخرى
لكي يمضي إلى أهدافه الروحية دون أن تعيقه الضرورات والحاجات الطبيعية.
إن احدى المالمح الفاصلة بين التجربتين الحضاريتين الدينية والوضعية هو التأكيد الدائم على إن حياة اإلنسان في
األرض فردا أو جماعة ليست أبدية فهي عابرة موقوتة قائمة على التغير والتنوع والميالد والموت .وان الحياة الحقيقة
هي الحياة األخرى حياة الخلود المطلق..
بناء على ذلك فان كل ما يقدمه المؤمن ضمن اإلنجاز الحضاري لالمة يجب أال يكون هدفا في حد ذاته وإنما وسيلة
فحسب لتهيئة الحياة الدنيا لعبادة هللا وحده وإيجاد المناخ المناسب لممارسة االستخالف
إن شرف الغاية والمقصد يفرض على اإلنجاز الحضاري اإلسالمي شرف الوسائل والسبل وهو ما يضفي عليه أخالقية
سامية ال نجدها في سائر الحضارات.
وهذا ما نجده مسطرا في العديد من اآليات القرآنية ضمن عرض مقارن لعالمي الفناء والبقاء مع التأكيد على الموقف
الوسط والرؤية المتوازنة التي تجمع بين العمل والسعي دون زهد سلبي ومن غير إفساد والطغيان.
ويضيف الكاتب أن نسبية التجارب وعدم دوامها ال تبدوان فقط بعرضهما على مطلقات اآلخرة وإنما من خالل حركة
التاريخ البشري كذلك .فهي حركة دائمة ترفع وتخفض وتقدم وتؤخر بإرادة هللا عز وجل ووفق نواميسه وسننه التي ال
تتغير" *قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في األرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة
للمتقين*"سورة ال عمران
* الخاتمة *
نحو (تكنولوجيا) إسالمي *●
-في ختام هذا الكتاب ،تناول الكاتب مفتاحين أساسيين ،منحهم لنا اإلسالم من أجل الخالص كلما حزب بنا األمر
وضيقت حركة التاريخ الخناق علينا ووجدنا أنفسنا مدفوعين إلى مناطق العتمة والظالل.
وبدونهما لن تبدأ حرب صوب التقدم إلى المواقع األمامية ....ولن يكون التجاوز واالنطالق وأول هذين المفتاحين《
*التغيير الذاتي وثانيهما《 *اإلعداد الذاتي*》 .ونجد في كل من المفتاحين مساحة واسعة تحتلها" *إعادة تشكيل العقل
المسلم** "كشرط أساسي للتحقق بالتغيير الذاتي واإلعداد الذاتي على السواء...
وقد طرح القران الكريم الحد اإليجابي والحد السلبي للتغيير الذاتي>.
فبالنسبة للحد اإليجابي فهو واضح بقوله * {:إن هللا ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم* }.وبالنسبة للحد السلبي كذلك
واضح بقوله * {:ذلك بأن هللا لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم//
وهو تغيير يمتد إلى المساحات كافة ،وسائر المكونات النفسية األساسية (العقلية ،والروحية ،والجسدية ،وكل العالقات
والبنى الداخلية مع الذات ومع اآلخرين...)...
وتأكيد اإلسالم على قانون ^ *التغيير*^ يعني أنه يمنح اإلرادة البشرية المؤمنة فرصتها في صياغة المصير ،والتشبث به
أو استعادته إذا ما أفلت من بين يديها...
وهذه اإلرادة تتهيأ للعمل عن طريق االستعداد الروحي والعقلي واألخالقي والجسدي ،لتكون قادرة على مواجهة التحديات
من أي نوع كانت ،وبأي درجة جاءت ،وهذا لصالح اإلنسان ،وهكذا يعود اإلنسان في المنظور اإلسالمي لينتصر على
التحديات ،وليستعيد قدرته األبدية على التجدد والتطور واإلبداع...
-إن التغيير الذاتي عملية شاملة تغطي الطاقات البشرية كافة ،و عملية إعادة التشكل العقلي ضرورة قصوى وشرط حاسم
الستكمال عملية التغيير ،فكان التغيير الذاتي مفتاح البد منه للتحقق بالقوة والفاعلية والخالص...
إذا كان التغيير ينصب على الذات المسلمة في إطارها الفردي بالدرجة األولى ....فإن "اإلعداد "ينصب على الجماعة
المسلمة بالدرجة األولى لكي يحمي -من ثم-الذات المؤمنة من الحصار والتضييق في العالم ...والقرآن الكريم يقولها
صراحة ،وبالتعبير نفسه*{ :وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو هللا وعدوكم وآخرين من
دونهم ال تعلمونهم هللا يعلمهم}..*.
فاإلسالم أراد لإلنسان المسلم كافة بأن يعاد تشكيل عقله ،وأن تستجش طاقاته ،ليتمكن من أداء دوره في هذه المهمة
الكبيرة .
ومعطيات القرآن قد امتدت لكي تشمل أطراف العلم جميعا ،فتعالجها وتنير لها الطريق ،وتبرمج لمناهجها ،وتقدم طرفا
من كشوفها ونتائجها.
هذا وأن القرآن الكريم طرح حشدا من الحقائق والكشوف العلمية في ميادين شتى وخاصة الفلك والطبيعة والجغرافية
والطب والنفس...إلى آخره ،وجاءت معطيات العلم الحديث لكي تؤكدها وتزيدها إيضاحا ....مصداقا لقوله تعالى:
{*سنريهم آياتنا في اآلفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكفي بربك أنه على كل شيء شهيد.//
كما أن القرآن الكريم قد أشار إلى "التكنولوجيا " وهي نتاج يتميز بالجدة والحداثة لمعطيات العلم في شوط متأخر من
مسيرته المتطورة .وهذا الجانب من العلم الحديث يرتبط أشد االرتباط بما نحن بصدده من التحقق اإلسالمي بالقوة،
وتشكيل المجتمع اإلسالمي التقني
ونلتقي في القرآن الكريم باثنين من عباد هللا المصطفين (داود وسليمان ) عليهما السالم ،وقد سخرت لهما قوى الطبيعة
الهائلة والطاقات الغيبية التي ال يحدها جدار زماني أو حاجز مكاني ،وسخرت جميعا لتعمل تحت إمرة اإلنسان المؤمن
المسؤول (الجياد ،الطير ،الحديد ،الريح ،النفط)....وقد تبين لنا في قرننا العشرين هذا ،مدى ضرورة الحديد والوقود وكم
هما ضروريان للحضارة المعاصرة ،ولكل حضارة تريد أن تعمر وتصنع وتبني وتتفنن وتطبق ،...وكذلك هللا سبحانه
وتعالى لم يمنح الحديد فحسب لداود ،بل علمه كيف يلينه ،فبدون هذا لن تكون ثمة فائدة "صناعية "لهذا الخام الخطير
والحديد نعمة كبيرة أنزلها هللا لعباده ،وتؤكد أهميتها بمرور الزمن ،ألن الدولة المعاصرة التي تملك خام الحديد تستطيع
أن ترهب أعداءها بما يتيحه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل ،وتستطيع -أيضا -أن تخطو خطوات تقنية واسعة
لكي تقف في مصاف الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري لصناعتها وغناها .واآلن ونحن نتكلم عن
الحديد نلتقي بسورة كاملة بهذا االسم .
وقدرة اإلنسان المسلم والجماعة المسلمة ترتبط دوما بمدى التقدم التقني "التكنولوجي "ارتباطا عضويا" .والتكنولوجيا
اإلسالمية "التي ترتبط بطبيعة الحال بخلفيتها اإليمانية ،هي ضرورة ملحة على مستوى البشرية عامة وليس فقط على
مستوى الجماعة اإلسالمية نفسها ،...ألنها ستعرف كيف تتحرك ،وتنضبط على هدي القيم الدينية واإلنسانية ،لتكون في
خدمة *اإلنسان *الذي عانى الكثير من تكنولوجيا الكفر....
والقرآن الكريم يؤكد أن كل أمة عليها أن تتحمل مسؤوليتها كاملة إزاء نفسها ،أمام هللا ،ثم أمام التاريخ ،وان ال تحمل أبدا
تبعة أمة أخرى ،إال بالقدر الذي تفرضه عليها مسؤوليتها ذاتها تجاه اإلنسان والعالم..