You are on page 1of 273

‫جامعة األزهر‬

‫قطاع الشريعة والقانون‬

‫األحكام الفقهية لقضايا الطب والدواء‬

‫المقرر على طالب وطالبات الفرقة األولى بكليات الطب وطب األسنان‬
‫والصيدلة والعلوم والتمريض‬
‫إعداد وتأليف‬
‫نخبة من أعضاء هيئة التدريس من قسمي الفقه والفقه المقارن‬
‫وباحثي مركز األزهر العالمي للفتوى االلكترونية من أعضاء هيئة‬
‫التدريس‬

‫للعام الجامعي‬

‫‪1440 / 1439‬هـ ‪2019/2018 -‬‬


‫(‪)1‬‬

‫محتويات الكتاب‬

‫المقدمة ‪4 ...........................................................................‬‬

‫محتوى المقرر ‪6 ....................................................................‬‬

‫أخالقيات المهنة‪6 ...................................................................‬‬

‫الوحدة األولى‬

‫الموضوع األول‪ :‬مفهوم الطب والتداوي‪ ،‬وحكم تعلم الطب وممارسته‪ ،‬والضوابط‬
‫الشرعية للتداوي‪10 .................................................................‬‬
‫الموضوع الثاني‪ :‬أخالقيات المهنة‪27 ......................................‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬ضوابط التجارب الطبية على اإلنسان والحيوان‪29 .........‬‬
‫الموضوع الرابع‪ :‬ضوابط التدريب المهني على المرضى ‪35 .................‬‬
‫الموضوع الخامس‪ :‬ضوابط اختيار التخصص الطبي‪36 ....................‬‬

‫الوحدة الثانية‪39 ..................................................................:‬‬


‫الموضوع األول‪ :‬التلقيح الصناعى في االنسان ‪40 ..........................‬‬
‫الموضوع الثاني‪ :‬استئجار األرحام‪43 ......................................‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬اختيار جنس الجنين‪49 ..................................‬‬
‫الرد على تساؤالت حول تحديد جنس الجنين‪50 ........................... :‬‬
‫الموضوع الرابع‪ :‬نزع وسائل اإلعاشة عن المرضى ‪52 ......................‬‬
‫الموضوع الخامس‪ :‬التحول الجنسي‪60 .....................................‬‬
‫الموضوع السادس‪ :‬التصحيح الجنسي ‪70 ..................................‬‬

‫الوحدة الثالثة‪74 ..................................................................:‬‬


‫الموضوع األول‪ :‬حدود العورة‪75 ...........................................‬‬
‫ِ‬
‫االختالط والخلوِة بين الرجال والنساء‪85 ..............‬‬ ‫الموضوع الثاني‪ :‬حكم‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬أثر الضرورة الطبية والحاجة في النظر إلى العورات‪،‬‬
‫(‪)2‬‬

‫واالختالط والخلوة‪91 ...........................................................‬‬


‫الموضوع الرابع‪ :‬حكم مداواة الرجل للمرأة والعكس ‪95 ......................‬‬
‫الموضوع الخامس‪ :‬حكم الوضوء من مس المرضى وعوراتهم‪101 ......... .‬‬
‫الموضوع السادس‪ :‬حكم هدايا األطباء‪105 ............................... .‬‬
‫ِ‬
‫ونحوه ‪110 ......‬‬ ‫ِ‬
‫توجيه المريض إلى صيدلية بعينها‪،‬‬ ‫الموضوع السابع‪ :‬حكم‬

‫الوحدة الرابعة‪119 ................................................................:‬‬


‫الموضوع األول‪ :‬تصنيع وبيع المنشطات والمكمالت الغذائية ‪120 ..........‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬بيع الدواء المحروق‪127 .................................‬‬
‫الموضوع السادس‪ :‬سماح الصيدلى لغير الصيدلى بممارسة المهنة() ‪133 ...‬‬
‫الموضوع السابع‪ :‬تغيير الصيدلي للدواء الموجود في الوصفة الطبية دون علم‬
‫المريض أو الطبيب‪134 ...................................................... .‬‬
‫الموضوع الثامن‪ :‬احتكار األدوية ‪137 .....................................‬‬

‫الوحدة الخامسة‪140 ............................................................. :‬‬


‫الموضوع األول‪ :‬التزام الطبيب بحفظ أسرار المرضى ‪141 ..................‬‬
‫الموضوع الثاني‪ :‬المسؤولية الجنائية لألطباء ومن في حكمهم ‪152 ..........‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬طبيعة العالقة بين الطبيب والمريض ‪162 ................‬‬

‫الوحدة السادسة‪173 ............................................................. :‬‬


‫الموضوع األول‪ :‬التشريح‪174 .............................................‬‬
‫الموضوع الثاني‪ :‬االستنساخ‪181 ..........................................‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬التداوي بالقرآن ‪193 .....................................‬‬
‫الموضوع الرابع‪ :‬التداوي بالمحرمات ‪201 ..................................‬‬
‫الموضوع الخامس‪ :‬الهندسة الوراثية‪204 ...................................‬‬

‫الوحدة السابعة‪ :‬عمليات التجميل‪210 ..............................................‬‬


‫الموضوع األول‪ :‬عملية سحب الدهون من الجسم ‪211 .....................‬‬
‫(‪)3‬‬

‫الموضوع الثاني‪ :‬حكم قشر الوجه ‪212 ....................................‬‬


‫الموضوع الثالث‪ :‬شد التجاعيد وتجميل األسنان واألعضاء ‪214 ............‬‬
‫الموضوع الرابع‪ :‬األحكام المتعلقة بزراعة األعضاء ‪216 ....................‬‬
‫الموضوع الخامس‪ :‬استخدام األعضاء التعويضية (الصناعية)‪ ،‬وأثر ذلك في‬
‫الطهارة‪219 ...................................................................‬‬
‫الموضوع السادس‪ :‬استخدام الشعر المستعار (الباروكة) ‪221 ...............‬‬
‫الموضوع السابع‪ :‬التكييف الفقهي لرتق غشاء البكارة ‪224 ..................‬‬

‫الوحدة الثامنة‪230 ............................................................... :‬‬


‫الم ْس ٌح َعَلى اْل ُخَّف ْي ِن‪231 ..................................‬‬‫الموضوع األول‪َ :‬‬
‫الموضوع الثاني‪ :‬اْل َم ْس ُح َعَلى اْل َج ْوَرَب ْي ِن‪234 .............................. .‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬قراءة المحدث حدثاً أصغر للقرآن من غير مس للمصحف‪.‬‬
‫‪235 ..........................................................................‬‬
‫الموضوع الرابع‪ :‬حكم قراءة القران للمحدث حدثا أكبر (الحائض والجنب)‪.‬‬
‫‪237 ..........................................................................‬‬
‫ام قصر الصالة‪240 ............................. .‬‬‫أح َك ُ‬
‫الموضوع الخامس‪ْ :‬‬
‫الصَلو ِ‬
‫ات‪247 ....................................‬‬ ‫الموضوع السادس‪َ :‬ج ْم ُع َّ َ‬
‫الموضوع السابع‪ :‬زكاة كسب العمل والمهن الحرة‪252 ......................‬‬
‫(‪)4‬‬

‫المقدمة‬

‫ومن هللا‬ ‫الحمد هلل الذي أعز العلم وأعلى أهله‪ ،‬وجعل أهل القرآن خاصته وأهله‪ّ ،‬‬
‫علينا بطلب العلم وتعلمه على يد أهله‪ ،‬أحمده أن أكرمنا بخير نبي أرسل ‪ ،‬وأعزنا‬
‫يل ِم ْن َح ِكي ٍم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫بأفضل كتاب أنزل (ال َيأْتيه اْل َباط ُل م ْن َب ْي ِن َي َد ْيه َوال م ْن َخْلفه تَْن ِز ٌ‬
‫َح ِم ٍيد)(‪.)1‬‬

‫وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬خلق فأبدع‪ ،‬ورزق فأقنع‪ ،‬وعلم‬
‫فنفع‪ ،‬وأشهد أن سيدنا‪ ،‬ومعلمنا محمدا رسول هللا ‪ ‬القائل (من يرد هللا به خي ار يفقه‬
‫في الدين)(‪ .)2‬وبعد‪....‬‬

‫فإن من عظمة الشريعة اإلسالمية الغراء أنها تستوعب الحوادث ‪ -‬مهما كانت‬
‫جديدة والقضايا مهما كانت خطيرة ‪ -‬من خالل قواعدها الكلية‪ ،‬ومبادئها العامة‪ ،‬وأدلتها‬
‫طا‪ .‬ذلك أن هللا تعالى‬
‫نصا أو استنبا ً‬
‫التي تضبط األمور المستحدثة وتبين أحكامها ًّ‬
‫أنزلها بعلمه لتكون شريعته الخالدة الدائمة إلى يوم القيامة‪ ،‬ولتكون رحمة للعالمين في‬
‫كل العصور واألزمان‪ ،‬صالحة لكل زمان ومكان‪ ،‬فال يكاد يعرض للمسلم في حياته‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نافعا في شرع هللا الحكيم؛ ذلك أن الشارعَ‬
‫عارض إال َو َج َد له عالَ ًجا َشافًيا وجو ًابا ً‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫مشكالت‬ ‫مخرجا وسبيالً؛ لما نزل بهم من‬ ‫الحكيم قد جعل للناس في االجتهاد والقياس‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫استجدت بعد انقطاع الوحي‪ ،‬ومع تطور الحياة‪ ،‬والتقدم العلمي في مجال الطب والدواء‬
‫ْ‬
‫والهندسة العالجية‪ ،‬استجدت قضايا ومسائل تصدى لها الفقهاء والمختصين بالبيان‬
‫يجدر أن يلم بها طالب الكليات المهتمة بالمجال‪ ،‬ذلك أنها تمس واقعه العملي ويكثر‬
‫السؤال حولها‪ ،‬ولعل من أهم تلك القضايا التي تهم الطالب الضوابط الشرعية إلجراء‬
‫الجارب الطبية على اإلنسان أو الحيوان واالستنساخ والتشريح ونقل األعضاء واختيار‬
‫جنس الجنين ورتق غشاء البكارة وجراحات التجميل وغيرها من القضايا‪ ،‬ونقدم لذلك‬
‫بمفهوم الطب وحكم تعلمه وممارسته‪ ،‬والقيم والمبادئ األخالقية الحاكمة للعاملين في‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم (‪ )42‬من سورة فصلت‪.‬‬

‫للسخاوي‪.182/‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الطبراني في مسند الشاميين في المعجم الكبير ‪ 125/2‬حديث (‪ )1036‬والمقاصد الحسنة َّ‬
‫(‪)5‬‬

‫تلك المهن الطبية‪ ،‬ومن ثم يكون إقدامهم على العمل مرتبطا دائما بالمشروع من‬
‫األعمال‪ ،‬ثم ننتهي إلى بعض مسائل مختارة من فقه العبادات‪ ،‬يجدر بالطالب أن يكون‬
‫على إلمام بها‪.‬‬
‫وفي سبيل تحقيق هذه الغاية الكريمة‪ ،‬فقد بذلنا غاية وسعنا في توخي السهولة‬
‫ويسر العبارة والبعد عن الغموض قدر اإلمكان‪ ،‬وقد تناولناه تحت عنوان ((األحكام‬
‫الفقهية لقضايا الطب والدواء)) وقد اقتضت طبيعة الكتاب أن نتناوله من خالل ثماني‬
‫وحدات‪ ،‬فصلنا محتواها كل في حينه‪.‬‬

‫وقد قام بكتابة وحدات هذا الكتاب وموضوعاته نخبة مباركة من أعضاء هيئة‬
‫التدريس من قسمي الفقه والفقه المقارن بجامعة األزهر‪ ،‬وقد قمنا ببيان كاتب كل مسألة‬
‫بالهامش عند ذكرها‪.‬‬

‫نسأل هللا العلي العظيم أن يوفقنا والقائمين على جامعة األزهر على خدمة العلم‬
‫وأهلة‪ ،‬وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم‪ ،‬سبحانه وتعالى باإلجابة جدير‪ ،‬وهو‬
‫نعم المولى ونعم النصير‪.‬‬
‫(‪)6‬‬

‫محتوى المقرر‪:‬‬

‫‪ -‬مفهوم الطب والتداوي‪ ،‬وحكم تعلم الطب وممارسته والضوابط الشرعية للتداوي‪.‬‬

‫لألستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن الضويني أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن بكلية‬
‫الشريعة والقانون بالقاهرة‬

‫أخالقيات المهنة‪:‬‬

‫للدكتور عمرو محمد غانم مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬

‫ضوابط التجارب الطبية على اإلنسان والحيوان‪ ،‬ضوابط التدريب المهني على‬ ‫‪-‬‬
‫المرضى‪ ،‬ضوابط اختيار التخصص الطبي‪.‬‬

‫للدكتور‪ /‬علي السيد الكيالني مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا‬

‫‪ -‬التلقيح الصناعى في االنسان‪ ،‬استئجار األرحام‪ ،‬اختيار جنس الجنين‪،‬‬


‫التحول الجنسي‪ ،‬التصحيح الجنسي‪.‬‬ ‫نزع وسائل اإلعاشة عن المرضى‪،‬‬
‫للدكور‪ /‬أنس عبد الفتاح أبو شادي أستاذ الفقه المقارن ورئيس قسم الدراسات‬
‫اإلسالمية بكلية الطب بنين‪ -‬القاهرة‬

‫ِ‬
‫االختالط والخلوِة بين الرجال والنساء‪ ،‬أثر الضرورة الطبية‬ ‫حدود العورة‪ ،‬حكم‬ ‫‪-‬‬
‫والحاجة في النظر إلى العورات‪ ،‬واالختالط والخلوة‪ ،‬حكم مداواة الرجل للمرأة‬
‫والعكس‪ ،‬حكم الوضوء من مس المرضى وعوراتهم‪ ،‬حكم هدايا األطباء‪ ،‬حكم‬
‫ِ‬
‫ونحوه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫توجيه المريض إلى صيدلية بعينها‪،‬‬

‫للدكتور‪ /‬أبو الخير نشأت أحمد‪ .‬مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬
‫(‪)7‬‬

‫‪ -‬تصنيع وبيع المنشطات والمكمالت الغذائية‪ ،‬الدعاية الداوئية بغرض تحقيق‬


‫األرباح‪ ،‬بيع الدواء المحروق‪ ،‬إساءة استعمال األدوية في غير األغراض‬
‫المخصصة لها‪ ،‬بيع او استبدال أدوية التأمين الصحي والمستشفيات العامة‪،‬‬
‫سماح الصيدلي لغير الصيدلي بممارسة المهنة‪ ،‬تغيير الصيدلي للدواء الموجود‬
‫في الوصفة الطبية دون علم المريض أو الطبيب‪ ،‬احتكار األدوية‪.‬‬

‫للدكتور ‪ /‬مصطفى أحمد محمد حسين مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بأسيوط‪.‬‬

‫‪ -‬التزام الطبيب بحفظ أسرار المرضى‪ ،‬المسؤولية الجنائية لألطباء ومن في‬
‫حكمهم‪ ،‬طبيعة العالقة بين الطبيب والمريض‪.‬‬

‫للدكتور محمود عفيفي عفيفي حسن مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬التشريح‪ ،‬االستنساخ‪ ،‬التداوي بالقرآن‪ ،‬التداوي بالمحرمات‪ ،‬الهندسة الوراثية‪.‬‬
‫عملية سحب الدهون من الجسم‪ ،‬حكم قشر الوجه‪ ،‬شد التجاعيد وتجميل‬
‫األسنان واألعضاء‪ ،‬األحكام المتعلقة بزراعة األعضاء‪ ،‬استخدام األعضاء‬
‫التعويضية (الصناعية)‪ ،‬وأثر ذلك في الطهارة‪ ،‬استخدام الشعر المستعار‬
‫(الباروكة)‪.‬‬

‫للدكتور‪ /‬عمرو محمد غانم مدرس الفقه المقارن ‪ -‬كلية الشريعة والقانون –‬
‫القاهرة‬

‫‪ -‬التكييف الفقهي لرتق غشاء البكارة‪.‬‬


‫للدكتورة‪ /‬زمزم عبد اللطيف أحمد مدرس الفقه بكلية الدراسات اإلسالمية والعربية‬
‫للبنات بالزقازيق‪.‬‬
‫(‪)8‬‬

‫الم ْس ٌح َعَلى اْل ُخَّف ْي ِن‪ ،‬اْل َم ْس ُح َعَلى اْل َج ْوَرَب ْي ِن‪ ،‬قراءة المحدث حدثاً أصغر للقرآن‬
‫‪َ -‬‬
‫من غير مس للمصحف‪ ،‬حكم قراءة القران للمحدث حدثا أكبر (الحائض‬
‫الصَلو ِ‬
‫ات‪.‬‬ ‫ام قصر الصالة‪َ ،‬ج ْم ُع َّ َ‬
‫أح َك ُ‬
‫والجنب)‪ْ ،‬‬

‫للدكتور فضل سليم مدرس الفقه الشافعي بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬

‫‪ -‬زكاة كسب العمل والمهن الحرة‪.‬‬

‫لألستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن محمد الضويني أستاذ ورئيس قسم الفقه‬
‫المقارن بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‪.‬‬
‫(‪)9‬‬

‫الوحدة األولى‬

‫وتحتوي على‪:‬‬

‫مفهوم الطب والتداوي‪ ،‬وحكم تعلم الطب‬ ‫الموضوع األول‬


‫وممارسته والضوابط الشرعية للتداوي‬

‫لألستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن الضويني أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن بكلية‬
‫الشريعة والقانون بالقاهرة‬

‫أخالقيات المهنة‬ ‫الموضوع الثاني‬

‫للدكتور عمرو محمد غانم مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬

‫ضوابط التجارب الطبية على اإلنسان‬ ‫الموضوع الثالث‬


‫والحيوان‬

‫للدكتور‪ /‬علي السيد الكيالني مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا‬

‫ضوابط التدريب المهني على المرضى‪.‬‬ ‫الموضوع الرابع‬

‫للدكتور‪ /‬علي السيد الكيالني مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا‬

‫ضوابط اختيار التخصص الطبي‬ ‫الموضوع الخامس‬

‫للدكتور‪ /‬علي السيد الكيالني مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا‬
‫( ‪) 10‬‬

‫الموضوع األول‪ :‬مفهوم الطب والتداوي‪ ،‬وحكم تعلم الطب وممارسته‪،‬‬


‫ي(‪)1‬‬
‫والضوابط الشرعية للتداو‬
‫أوال‪ :‬مفهوم الطب والدواء‪:‬‬

‫وفيه‪ :‬التعريف بالطب‪ ،‬والدواء‪ ،‬وبيان الحكم الشرعي لممارسة مهنة الطب‪،‬‬
‫وحكم التداوي‪.‬‬

‫أوال‪ :‬التعريف بالطب والدواء‪.‬‬

‫أ ‪ -‬تعريف الطب‪.‬‬

‫تعريف الطب‪ :‬الطب (مثلث الطاء ) ‪ ،‬واقتصر على الكسر في االستعمال‪،‬‬


‫طباً‪،‬‬
‫يطلق في لغة العرب على معان كثيرة ‪ ،‬أولها‪ :‬عالج الجسم والنفس‪ ،‬يقال‪ :‬طبَّه ّ‬
‫إذا داواه‪ .‬ومنها‪ :‬اإلصالح‪ ،‬يقال‪ :‬طببته إذا أصلحته‪ .‬ونسب إلى بعضهم القول‪ :‬إذا‬
‫كنت ذا طب فطب لنفسك‪ .‬أي ابدأ أوال بإصالح نفسك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬الحذق‪ ،‬وكل حاذق طبيب عند العرب‪ ،‬ويطلق على الماهر في الحكم‬
‫بين الخصوم طبيبا‪ ،‬ويطلق مجا از على الرفق والتأني؛ ولذلك سمي الطبيب رفيقا في‬
‫الحديث الذي أخرجه الطبراني في المعجم الكبير واإلمام أحمد في المسند عن أبي‬
‫رمثة قال‪ :‬دخلت مع أبي على رسول هللا صلى هللا عليه و سلم فرأى أبي الذي بظهره‬
‫(‪)2‬‬
‫وعند أبي‬ ‫فقال‪ :‬دعني أعالج ما بظهرك فإني طبيب قال‪ :‬أنت رفيق وهللا الطبيب "‬
‫(‪)3‬‬
‫داود " قال " هللا الطبيب بل أنت رجل رفيق طبيبها الذي خلقها"‬

‫‪ - 1‬كتب هذا الموضوع األستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن الضويني أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن‬
‫بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ - 2‬المعجم الكبير للطبراني (‪ )279/22‬مكتبة العلوم والحكم‪ ،‬الموصل‪ .‬المسند لإلمام أحمد‬
‫(‪ )39/29‬مؤسسة الرسالة‪.‬‬
‫‪ - 3‬سنن أبي داود (‪ )485/2‬دار الفكر‬
‫( ‪) 11‬‬

‫ويطلق أيضا من باب المجاز على السحر‪ ،‬لكن بضم طائه‪ ،‬ووجه إطالق‬
‫الطب على السحر أنه من باب التفاؤل على البرء‪ ،‬وفيه عند البخاري وغيره عن عائشة‬
‫طب حتى أنه ليخيل إليه أنه قد‬
‫رضي هللا عنها‪ :‬أن رسول هللا صلى هللا عليه و سلم َّ‬
‫وعند البخاري ومسلم " ما وجع الرجل ؟ قال‪ :‬مطبوب "‬ ‫(‪)1‬‬
‫صنع الشيء وما صنعه "‬
‫(‪)2‬‬

‫وعلم الطب معروف‪ ،‬فهو العلم الذي يعرف به حفظ الصحة‪ ،‬وبرء المرض‪.‬‬

‫وقال فيه ابن سينا في كتاب القانون " الطب علم يتعرف منه أحوال بدن‬
‫اإلنسان من جهة ما يصح ويزول عن الصحة؛ ليحفظ الصحة حاصلة‪ ،‬ويستردها‬
‫(‪)3‬‬
‫زائلة‪" .‬‬

‫ط ّب علم وفن ُيعنى بدراسة‬‫وفي الموسوعة العربية العالمية جاء فيها‪ ":‬ال ِّ‬
‫األمراض ومعالجتها والوقاية منها؛ فهو علم ألنه مبني على المعرفة المكتسبة من خالل‬
‫الدراسة والتجريب الدقيق‪ ،‬وفن ألنه يعتمد على كيفية تطبيق األطباء البارعين والعاملين‬
‫‪4‬‬
‫اآلخرين في مجال الطب هذه المعرفة‪ ،‬حينما يتعاملون مع المرضى‪".‬‬

‫والعمل الطبي ليس هو الذي يقوم به الطبيب فقط بل هو أوسع من ذلك فيدخل‬
‫فيه عمل الطبيب‪ ،‬والصيدلي‪ ،‬والصناعات الدوائية‪ ،‬واألعمال الطبية المساعدة ونحو‬
‫ذلك مما هو مقتضيات الطب والعالج‪.‬‬

‫‪ - 1‬صحيح البخاري (‪ )2347/5‬دار ابن كثير‪،‬‬


‫‪ - 2‬صحيح البخاري (‪ )2176/5‬صحيح مسلم (‪ )14/7‬دار الجيل بيروت‪.‬‬
‫‪ - 3‬القانون في الطب البن سينا (‪)3/1‬‬
‫‪ - 4‬الموسوعة العربية العالمية‪ ،‬مصطلح الطب‪.‬‬
‫( ‪) 12‬‬

‫ب – تعريف الدواء‪.‬‬

‫ًّ‬
‫الدواء‪ :‬بفتح الدال والمد‪ :‬ما يتداوى به‪ ،‬أي ما يشفى به من العلل واألمراض‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫والجمع‪ :‬أدوية‪.‬‬

‫وعند الفقهاء‪ :‬لم يخرجوا به عن المعنى اللغوي وهو ما قصد به العالج‬


‫والشفاء‪.‬‬

‫والشتباه كثير من األغذية باألدوية‪ ،‬فقد فرقوا بينهما من حيث الخصائص‬


‫والوظيفة‪ ،‬فاعتبروا أن الغذاء‪ :‬ما به قوام النفس وحياتها‪ ،‬والدواء‪ :‬ما به عالجها‬
‫وصيانتها‪ ،‬كما قاله الماوردي في األدب عن اإلخوان " فاإلخوان هم الصنفان اآلخران‬
‫اللذان من كان منهم كالغذاء وكالدواء ; ألن الغذاء أقوم للنفس وحياتها ‪ ،‬والدواء‬
‫(‪)2‬‬
‫أو أن األغذية تحفظ الصحة‪ ،‬واألدوية ترد الصحة كما قاله‬ ‫عالجها وصالحها"‬
‫الشربيني الخطيب(‪ ،)3‬وكثي ار ما ورد ذكر الغذاء والدواء معا بعطف الدواء على الغذاء‬
‫داللة على اختالف وظيفتهما‪.‬‬

‫ولكثير من األغذية خاصية الدواء في كونها تعالج البدن وتصونه‪ ،‬وقد أثبته‬
‫ف أَْل َو ُان ُه‬ ‫ِ‬ ‫القرآن الكريم في شأن العسل في قوله تعالى { َي ْخ ُرُج ِمن ُب ُ‬
‫طوِن َها َش َر ٌ‬
‫اب ُّم ْخَتل ٌ‬
‫اس }النحل‪ 69‬وقد جاءت السنة بمثل ذلك فأثبتت خاصية الدواء لكثير من‬ ‫ِف ِ‬
‫يه ِشَفاء لِ َّلن ِ‬
‫األغذية كما جاء في الحبة السوداء ونحوها (‪ .)4‬حتى قال ابن القيم رحمه هللا "‬
‫(‪)5‬‬
‫والتحقيق في ذلك أن األدوية من جنس األغذية "‬

‫‪ - 1‬يراجع‪ :‬معجم مقاييس اللغة (‪.)231/2‬‬


‫‪ - 2‬أدب الدنيا والدين للماوردي (‪ )170‬دار مكتبة الحياة‪.‬‬
‫‪ - 3‬مغني المحتاج (‪)364/2‬‬
‫‪ - 4‬أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة أنه سمع رسول هللا ‪ ‬يقول (في الحبة السوداء شفاء من‬
‫كل داء إال السام) رواه البخاري في كتاب الطب ـ باب الحبة السوداء (‪. )2153/5‬‬
‫‪ - 5‬زاد المعاد في هدي خير العباد البن القيم (‪ )77/3‬مطبعة مصطفي الحلبي ـ ‪.1970‬‬
‫( ‪) 13‬‬

‫أما األدوية المعاصرة فهي خليط من جملة مواد غذائية وغير غذائية ‪ ،‬وعرفت‬
‫بأنها "أية مادة أو مجموعة مواد تستعمل في تشخيص أو شفاء أو معالجة أو تلطيف‬
‫أو منع أي مرض في اإلنسان أو توصف بأن لها هذه المزايا‪ ،‬أو أية مادة غير‬
‫(‪)1‬‬
‫األطعمة قصد بها التأثير على جسم اإلنسان من حيث البنية الوظيفية"‬

‫ويظهر من هذا التعريف‪ :‬أن الدواء لم يعد مقصو ار على مواد يتناولها المريض‬
‫باألكل أو الشرب أو البلع أو الدهن ونحو ذلك بل قد يكون أجهزة تشخيصية يقصد بها‬
‫اكتشاف علل اإلنسان وحالة أعضائه وتدخل هذه األجهزة الجسم كالمناظير الطبية‬
‫ونحوها‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الحكم الشرعي لممارسة مهنة الطب ونحوها من المهن ذات العالقة‪:‬‬

‫يتوقف الحكم الشرعي لفعل ما على حسب ما يحققه من مصلحة فإذا كانت‬
‫المصلحة المحققة من الفعل عظيمة متعلقة بالدين والمقصود األصلي منها التعبد‬
‫طلبها الشارع على سبيل الوجوب العيني‪ ،‬وإذا كانت هذه المصلحة متعلقة بصالح‬
‫الدين أو الدنيا والعبرة بتحقيق المصلحة بغض النظر عمن قام بها فإن الشارع يطلبها‬
‫على سبيل الوجوب الكفائي‪ ،‬فإذا قام بتحقيق المصلحة نفر تتحقق الكفاية بهم فال إثم‬
‫على من لم يقم‪ ،‬وإال أثم الجميع‪ ،‬وقد يتراخى في الطلب ليكون مندوبا أو مباحا إذا‬
‫كانت المصلحة المطلوب تحقيقها يسيرة ‪.‬‬

‫والطب ‪ -‬كما سبق في التعريف ‪ -‬يتعلق بحفظ النفس وقاية وعالجا‪ ،‬وحفظ‬
‫النفس من مقاصد الشريعة الضرورية؛ ألن اإلنسان ال يمكنه القيام بواجب العبودية‬
‫الحقة هلل تعالى‪ ،‬وبالمقصود من خلقه في عمارة األرض إال إذا كان سليما معافى؛ ومن‬
‫هنا تظهر أهمية ما يحفظ هذا اإلنسان ويعينه على القيام برسالته ووظيفته‪.‬‬

‫‪ - 1‬المادة (‪ )2‬من قانون مزاولة مهنة الصيدلة األردني‪.‬‬


‫( ‪) 14‬‬

‫وقد عد العلماء كل مهنة يتوقف عليها قيام الحياة بوجه عام من فروض‬
‫الكفايات‪ ،‬والمقصود بفرض الكفاية في اصطالح األصوليين " أمر مهم كلي تتعلق به‬
‫مصالح دينية ودنيوية ال ينتظم األمر إال بحصولها ‪ ،‬قصد الشارع حصولها من‬
‫مجموع المكلفين ال من جميعهم ‪ ،‬وليس من شخص معين‪،‬فإذا قام به من فيه كفاية‬
‫(‪)1‬‬
‫ومن ثم تعد مهنة الطب بحسب الضابط المتقدم من‬ ‫سقط الحرج عن الباقين"‬
‫فروض الكفايات؛ إذ يتعلق بها مصالح عظيمة تتمثل في حفظ صحة الناس ودفع‬
‫األمراض عنهم ليتمكنوا من القيام بواجباتهم الشرعية والحياتية‪.‬‬

‫وإذا كانت مهنة الطب من فروض الكفايات فإن تعلمه وإتقانه يكون كذلك‬
‫أيضا؛ لقاعدة‪ :‬ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب ‪.‬‬

‫المكلف بتحقيق فرض الكفاية في الطب ونحوه‪:‬‬

‫األصل أن فرض الكفاية موجه لألمة كلها‪ ،‬وعليها أن تسعى لسد الحاجة‬
‫وتحقيق الكفاية‪ ،‬ولما كان التكليف مرتبطا بالقدرة على القيام به فإن من يجب عليه‬
‫السعي للقيام به من األمة هو من فيه أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب‪.‬‬

‫ويقع هذا الواجب في المقام األول على ثالث فئات‪:‬‬

‫األولى‪ :‬والة األمر‪ ،‬المسئولون في الدولة؛ حيث يتعين عليهم التوجيه وإصدار‬
‫األوامر‪ ،‬وعمل الخطط‪ ،‬ورصد الميزانيات‪ ،‬وإقامة المستشفيات والمراكز الطبية المطلوبة‬
‫لتحقيق هذا الفرض‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬طالب الطب وكافة التخصصات الطبية والباحثون في هذا المجال‪.‬‬

‫‪ - 1‬يراجع‪ :‬المستصفى للغزالي – ‪ ،217‬المنثور في القواعد الفقهية للزركشي – ‪ ،33 / 3‬األشباه‬


‫والنظائر للسيوطي ‪ ،410 -‬التقرير والتحبير – ‪135 / 2‬‬
‫( ‪) 15‬‬

‫الثالثة‪ :‬األمة في مجموعها؛ وذلك بمتابعتها ومحاسبتها لمن ينوبون عنها في‬
‫القيام بمثل هذه المصالح‪.‬‬

‫وبذلك تتضافر كافة الجهود ويقع على عاتق كل فئة تكليفا محددا تقوم به حتى‬
‫تتحقق الكفاية لألمة من كل ما يلزمها ويحفظ لها مصالحها‪ ،‬ويدفع عنها ما يقع عليها‬
‫من مفاسد ومضار‪.‬‬

‫وثمت مسألة جديرة باالعتبار أن فرض الكفاية يتحول إلى فرض عين في‬
‫حاالت‪ ،‬منها‪ :‬إذا ظن البعض أن الغير ال يقوم بفرض الكفاية وهو قادر على القيام‬
‫به‪ ،‬وكذلك إذا عين والة األمر أحدا للقيام به تعين عليه‪.‬‬

‫وفي مسألتنا فإن القيام بهذا الفرض يتعين على الكليات الطبية والمعاهد ذات‬
‫العالقة بالطب والصيدلة والدواء ونحوها‪ ،‬وكذا األفراد المنتسبون إلى هذه المؤسسات؛‬
‫حيث يجب عليهم بذل ما في وسعهم للوصول إلى المستوى المطلوب لكفاية األمة في‬
‫هذا الباب‪ ،‬وأال ينظروا للمسألة على أنها مهنة للتكسب أو مجرد فرصة عمل‪ ،‬ولو وجد‬
‫غيرها أفضل فإنه يتركها وينصرف إلى األخرى ما لم يكن هناك سبب جوهري يدعو‬
‫لذلك‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬الحكم الشرعي للتداوي‪.‬‬

‫التداوي في األصل هو السبيل لحفظ البدن بما يحقق المقصود من خلق هذا‬
‫اإلنسان وقيامه بواجب العبودية واالستخالف واإلعمار لألرض على الوجه المشروع؛‬
‫لذلك تضافرت األدلة على مشروعية كافة الوسائل التي تهدف لحفظ النفس وصيانتها‬
‫لتقوم بوظيفتها ورسالتها ما دامت الوسيلة في ذاتها مشروعة‪.‬‬

‫وإذا كان التداوي من حيث أصله مشروعا فإن درجة مشروعيته تتوقف على‬
‫طبيعة ما يلم بالبدن من علة‪ ،‬ودور الدواء في إزالتها‪ ،‬وطريقة العالج‪ ،‬ومن ثم فقد‬
‫( ‪) 16‬‬

‫يكون واجبا أو مندوبا أو مباحا‪ ،‬أو مكروها‪ ،‬أو محرما‪ ،‬وهذا كله بحسب طبيعة العلة‬
‫أو المرض الذي يصيب اإلنسان‪ ،‬وكذلك طبيعة الدواء المؤثر في إزالة هذا المرض‪،‬‬
‫فإن كان من شأن العلة أو المرض إذا ترك دون مداواة إتالف النفس أو تعطيل وظيفة‬
‫من وظائف الجسم فيكون التداوي واجبا‪ ،‬وإن كان لمجرد التحسين للبدن فيكون مندوبا‪،‬‬
‫وقد يكون محرما إذا كان بفعل أو دواء يحدث مضاعفات تودي بالنفس أو تصيبه‬
‫بأمراض خطيرة تقعده عن أداء واجباته ويكون مكروها فيما سوى ذلك‪.‬‬

‫وهذا التقسيم لحكم الدواء هو ما انتهى إليه مجمع الفقه اإلسالمي في دورته‬
‫بجدة في المملكة العربية السعودية من ‪ 12-7‬ذي القعدة ‪1412‬هـ الموافق ‪14 - 9‬‬
‫أيار (مايو) ‪ 1992‬م؛ إذ في ق اررات هذه الدورة بشأن التداوي ما يلي‪:‬‬

‫األصل في حكم التداوي أنه مشروع؛ لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية‬
‫والفعلية‪ ،‬ولما فيه من "حفظ النفس" الذي هو أحد المقاصد الكلية من التشريع‪.‬‬

‫وتختلف أحكام التداوي باختالف األحوال واألشخاص‪:‬‬

‫▪ فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد‬
‫أعضائه أو عجزه‪ ،‬أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره كاألمراض المعدية‪.‬‬
‫ويكون مندوباً إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن وال يترتب عليه ما‬ ‫▪‬
‫سبق في الحالة األولى‪.‬‬
‫ويكون مباحاً إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين‪.‬‬ ‫▪‬
‫ويكون مكروهاً إذا كان ٍ‬
‫بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة‬ ‫▪‬
‫المراد إزالتها‪.‬‬

‫وهذا الحكم المتقدم للتداوي هو في حالة التداوي بالمباح‪ ،‬وإال فإذا كان التداوي‬
‫بمحرم فيطبق في هذه الحالة أحكام الضرورة بضوابطها وشروطها وستأتي إن شاء‬
‫( ‪) 17‬‬

‫هللا‪ ،‬كما أن التأثيم بترك التداوي فيما إذا كان واجبا ال يكون إال بشرط القدرة على‬
‫نفقاته‪ ،‬ووجود الطبيب أو الجهة الطبية المختصة القادرة على القيام بإجراء العمل‬
‫الطبي الالزم‪.‬‬

‫قواعد نافعة في عالقة التداوي بحصول الشفاء من المرض‪:‬‬

‫جعل هللا تعالى لكل شيء سببا‪ ،‬وطلب الشارع البحث عن أسباب النجاة‬
‫والشفاء لكن الشفاء يحصل بإذن هللا تعالى ‪ ،‬والدواء ال يوجد الشفاء بنفسه‪ ،‬وال يحدث‬
‫الضرر أيضا بنفسه‪ ،‬ومن هنا لزم تحديد العالقة بين السبب والمسبب في األمور‬
‫التالية‪:‬‬

‫أوال‪ :‬ال يلزم من كون التداوي سببا لحصول الشفاء أنه موجده‪ ،‬وال يمكن تحققه‬
‫إال به‪ ،‬فهذا خطأ لمنافاته اعتقاد كون هللا تعالى هو الموجد لكل شيء ومقدره موجد‬
‫النفع ومقدر الضر‪ ،‬وال يأتي النفع إال منه‪ ،‬وال يحدث الضرر إال بإرادته وعلى هذا‬
‫قامت األدلة الشرعية المعتبرة‪ ،‬وقد اعتبر ادعاء كون السبب فاعال للمسبب شرك أو‬
‫‪1‬‬
‫مضاه للشرك‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬إذا كان تحصيل السبب في مقدور المكلف وتعين لدفع ضرر محقق‬
‫ونحوه فال يجوز إهماله اعتقادا بأن النافع والضار والشافي هو هللا‪ ،‬فاألخذ باألسباب‬
‫كما قال العلماء واجب ومقصودهم األسباب التي هي في مقدور المكلف إذا تعينت‬
‫للواجب حيث تصبح من مقدمة الواجب‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬ال منافاة بين األخذ باألسباب وحسن التوكل على هللا وينبغي الجمع‬
‫بينهما فيسعى المسلم لتحصيل األسباب الموصلة إلى مقصوده معتقدا أن هللا سبحانه‬
‫وتعالى هو الذي يقدر نتيجتها وثمرتها‪.‬‬

‫‪ - 1‬الموافقات (‪)201/1‬‬
‫( ‪) 18‬‬

‫وقد اعتبر الدواء على سبيل المثال من قدر هللا كما أن المرض قدر هللا والمسلم‬
‫حين يستعمل الداوء إلزالة الداء فهو ينتقل من قدر إلى قدر؛ وقد ورد ذلك في‬
‫نصوص‪ ،‬منها ما ورد في البخاري ومسلم في قصة الطاعون عندما اعترض أبو‬
‫عبيدة بن الجراح على منع المسلمين من الدخول في األرض التي فشا فيها الطاعون‬
‫حيث قال‪ :‬أف ار ار من قدر هللا ؟ قال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ؟ نعم نفر من قدر‬
‫هللا إلى قدر هللا ‪ ،‬أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة‬
‫واألخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر هللا وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر‬
‫هللا ؟ قال فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته فقال‪ :‬إن عندي‬
‫في هذا علما سمعت رسول هللا ‪ ‬يقول (إذا سمعتم به بأرض فال تقدموا عليه وإذا وقع‬
‫‪1‬‬
‫بأرض وأنتم بها فال تخرجوا ف ار ار منه) قال فحمد هللا عمر ثم انصرف"‬

‫وأخرج الترمذي وقال حسن صحيح عن أبي خزامة عن أبيه قال‪ :‬سألت رسول‬
‫هللا ‪ ‬فقلت يا رسول هللا‪ :‬أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من‬
‫‪2‬‬
‫قدر هللا شيئا ؟ قال هي من قدر هللا"‬

‫رابعا‪ :‬ليس هناك تالزم حتمي بين األخذ باألسباب وحصول المسبب‪ ،‬فقد يوجد‬
‫البرء والعالج بدون األسباب وقد يتأخر البرء أو ال يوجد أصال مع األخذ باألسباب‪،‬‬
‫وهذا يدخل في باب آخر يتعلق بكيفية التعامل مع قضاء هللا وقدره‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬األسباب الممنوعة أسباب للمفاسد‪ ،‬كما أن األسباب المشروعة أسباب‬


‫ً‬
‫للمصالح‪ ،‬وتظهر أهمية هذه القاعدة في سعي البعض للحصول على الشفاء بأسباب‬
‫محرمة كالسحر وتناول المحرمات العينية ظنا منهم أنها تحقق لهم الشفاء وهذا باطل‬
‫في جملته‪ ،‬وما جعل هللا شفاء الناس فيما حرم عليهم‪ ،‬وال ينال ما عند هللا من البركة‬
‫في الجسم وصحة البدن بمعصيته‪.‬‬

‫‪ - 1‬صحيح البخاري (‪ )2163/5‬دار ابن كثير‪ .‬صحيح مسلم (‪ )1737/4‬دار إحياء التراث العربي‪.‬‬
‫‪ - 2‬سنن الترمذي (‪ )399 /4‬دار إحياء التراث العربي‪.‬‬
‫( ‪) 19‬‬

‫حكم تعلم فقه الطب والتداوي والعلوم ذات العالقة‪.‬‬

‫األصل في الطب والتداوي أنه من المباحات ويرتقي إلى أعلى من ذلك بحسب‬
‫الظروف والمالبسات الخاصة بكل حالة على حدة‪ ،‬لكن يجب على من يمارسه أن‬
‫يعرف أصوله وطريقته وضوابطه‪ ،‬وما يجوز فيه وما ال يجوز‪ ،‬وما يحل فيها وما‬
‫يحرم‪ ،‬ووجه ذلك‪ :‬أن عدم المعرفة يوقع في الحرام‪ ،‬وهذا معنى قاعدة ما ال يتم الواجب‬
‫إال به فهو واجب‪.‬‬

‫أبواب الفقه المطلوب ال لمام بها للعاملين في مجال الطب والدواء‪:‬‬

‫فقه األحكام الشرعية المتعلقة بمزاولة المهنة‪.‬‬

‫وذلك مثل‪ :‬األحكام الخاصة بالكشف على المرضى‪ ،‬والحكم الشرعي لألعمال‬
‫التي يقوم بها ومدى حلها أو حرمتها كالتشريح‪ ،‬ومداواة النساء للرجال والعكس‪ ،‬وزرع‬
‫األعضاء‪ ،‬وموت جذع المخ‪ ،‬واإلجهاض‪ ،‬وعمليات التجميل والمسئولية الشرعية‬
‫والجنائية‪ ،‬ونحو لك مما سنحاول العرض له في هذا الكتاب‪.‬‬

‫فقه العبادات المتعلقة بمزاولته لمهنته في حق نفسه وحق مرضاه‪.‬‬

‫كأحكام الطهارة‪ ،‬وصالة المريض‪ ،‬وما يفسد الصوم مما يتناوله الصائم من‬
‫أدوية وإجراءات طبية‪ ،‬وكيفية الزكاة الواجبة على كل من المريض والصيدلي ونحوهما‪.‬‬

‫فقه المعامالت المالية المتعلقة بالمهنة‪.‬‬

‫فالطبيب يقدم خدمته لمرضاه بأجر‪ ،‬وبينه وبين المريض عقد‪ ،‬وكذا عالقة‬
‫األطباء بعضهم مع بعض‪ ،‬ومع المراكز الطبية ذات العالقة كالمختبرات ومراكز‬
‫األشعة‪ ،‬فيجب معرفة طبيعة هذا العقود‪ ،‬والتزاماتها المتبادلة‪ ،‬وماالذي يجب مراعاته‪،‬‬
‫( ‪) 20‬‬

‫وكذا الصيدلي يبيع ويشتري الدواء‪ ،‬ويتعامل مع األطباء وشركات األدوية‪ ،‬وجميع ما‬
‫تقدم له ضوابطه الشرعية‪.‬‬

‫فقه األخالق واآلداب المتعلقة بمزاولته لمهنته‪.‬‬

‫وهو باب مهم جدا في مجال العاملين في المهن الطبية المختلفة؛ ألنه يتعامل‬
‫مع نفس إنسانية في حالة ضعف بسبب مرضها وقد تجمع المرض الفقر والحاجة‪،‬‬
‫فضال عن تعظيم عامة الناس للعاملين في هذا المجال كل هذا وغيره يلزم معرفة ما‬
‫تزكو به النفس وتجمل من مكارم األخالق وجميل الصفات والسمات‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬الشروط الشرعية العامة لباحة التداوي‪.‬‬

‫يرد على إباحة العمل الطبي ـ ـ أيا كان ـ ـ عدة شروط يجب أخذها في االعتبار‬
‫قبل إطالق القول باإلباحة‪ ،‬وأهمها ما يلي‪:‬‬

‫األول‪ :‬أال يكون العمل الطبي منهيا عنه لذاته أو لغيره‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن يكون صاد ار من ذي صفة معتبرة‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أن يكون التدخل الطبي بإذن المريض‪.‬‬

‫ونتناول ما تقدم بشيء من التفصيل‪:‬‬

‫األول‪ :‬أال يكون العمل منهيا عنه لذاته أو لغيره‪.‬‬

‫والمقصود هنا‪ :‬أال يشتمل العمل الطبي على محظور شرعي‪ ،‬ومنه‪ :‬التداوي‬
‫بما منع الشرع من تعاطيه وتناوله كأن يكون الدواء منهيا عن تعاطيه كالخمور‬
‫والمخدرات والنجاسات وسائر ما حرم الشرع تناوله‪ ،‬ومنه‪ :‬المعالجة بالسحر والشعوذة‬
‫ونحوها‪ ،‬ومنه‪:‬األعمال الطبية المتفق على تحريمها كبعض صور جراحات التجميل‪ ،‬أو‬
‫( ‪) 21‬‬

‫ما اتفق العلماء على تحريمه من صور زرع األعضاء أو اإلجهاض أو ما يعرف‬
‫بتأجير األرحام ونحوها‪ ،‬ومنه‪ :‬اقتراف القائم بالعمل الطبي سلوكا غير أخالقي مع‬
‫المريض كالغش والخداع والكذب وإفشاء األسرار واالنحراف عن قصد العالج إلى غيره‪.‬‬

‫واألصل في كل ما تقدم أن ما حرمه الشرع ال يجوز اقترافه ال للغذاء وال‬


‫للدواء؛ النعدام المنفعة منه واشتماله على الضرر‪ ،‬وسماها الشرع خبائث‪ ،‬والمقصود‬
‫من العمل الطبي هو جلب النفع ودفع الضرر‪ ،‬وال يعقل دفع الضرر بالضرر‪،‬‬
‫والنصوص الشرعية الواردة في حظر ما تقدم عامة ال تفرق بين حالة وحالة وال يوجد‬
‫دليل يدل على استثناء حالة التداوي من الحظر فيبقى العام على عمومه إلى أن يأتي‬
‫ما يخصصه وال يوجد‪.‬‬

‫وقد ورد في السنة نصوص كثيرة تحذر من التداوي بالمحرمات‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء ‪ ‬قال رسول هللا ‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫(إن هللا أنزل الداء والدواء‪ ،‬وجعل لكل داء دواء‪ ،‬فتداووا‪ ،‬وال تداووا بحرام‪).‬‬

‫ب – روى البيهقي وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد والحاكم من حديث‬
‫أبي هريرة رضي هللا عنه قال‪( :‬نهى رسول هللا ‪ ‬عن الدواء الخبيث " قيل‪ :‬هو السم‬
‫‪2‬‬
‫أو الخمر‪).‬‬

‫ج‪ -‬روى مسلم في صحيحه من حديث طارق بن سويد الجعفي أنه سأل‬
‫النبي صلى هللا عليه و سلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها ‪ ،‬فقال‪ :‬إنما أصنعها‬
‫للدواء فقال‪ :‬إنه ليس بدواء ولكنه داء‪ .‬وعنده عن طارق بن سويد الحضرمي قال‪:‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسول هللا ! إن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها قال‪ :‬ال فراجعته قلت‪ :‬إنا‬
‫تستشفي للمريض قال‪ :‬إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء‪.‬‬

‫‪ - 1‬سنن أبي داود (‪)6/4‬‬


‫‪ - 2‬المستدرك (‪ )455/4‬سنن أبي داود (‪ )6/4‬سنن الترمذي (‪ )387/4‬مسند أحمد (‪)152/16‬‬
‫( ‪) 22‬‬

‫د‪ -‬روى ابن حبان في صحيحه من حديث أم سلمة رضي هللا عنها قالت‪:‬‬
‫اشتكت ابنة لي فنبذت لها في كوز فدخل النبي ‪‬وهو يغلي فقال‪ :‬ما هذا ؟ فقالت‪ :‬إن‬
‫ابنتي اشتكت‪ ،‬فنبذنا لها هذا‪ ،‬فقال صلى هللا عليه و سلم‪( :‬إن هللا لم يجعل شفاءكم‬
‫‪1‬‬
‫في حرام)‬

‫والوجه في كل ما تقدم ‪ :‬أن هللا سبحانه وتعالى لم يحرم علينا شيئا عقوبة إنما‬
‫حرمه لخبثه وضرره فكان المنع منه مصلحة ومنفعة‪ ،‬وتحريمه يقتضي تجنبه والبعد‬
‫عنه بكل طريق‪.‬‬

‫وإضافة إلى ما تقدم فإنه لم يثبت علميا وال طبيا أن فيما حرمه هللا تعالى من‬
‫الخبائث عالجا ومنفعة وجلبا للشفاء مع التقدم الطبي الموجود وقيامه بفحص وتحليل‬
‫كافة عناصر المحرمات‪ ،‬وما أثبته هو اشتمالها على الكثير من األمراض واألسقام‬
‫والعلل‪.‬‬

‫ويسري ما تقدم من نصوص على األعمال الطبية التي لم يأذن بها الشرع‬
‫كاإلجهاض‪ ،‬وبعض عمليات التجميل‪ ،‬وبعض صور زرع األعضاء كما سيرد فكل هذا‬
‫وغيره قد صحت فيه نصوص ووجوه تمنع منه؛ لذلك على الطبيب والمريض معا أن‬
‫يراجع أهل الشرع فيما يكون مسموحا به من عمل أوال يكون مسموحا به‪.‬‬

‫الشرط الثاني‪ :‬أن يكون العمل الطبي صاد ار من ذي صفة معتبرة‪.‬‬

‫يجب العتبار ما يقوم به القائم بالعمل الطبي مشروعا‪ :‬أن يكون صاد ار من‬
‫ذي صفة‪ ،‬أي من مختص بذلك‪ ،‬مأذون له من قبل الجهات المختصة بممارسة‬
‫العمل الطبي‪ ،‬ويجب مع ذلك أن تكون الجهة المانحة من الجهات المختصة في ذلك‬
‫ككليات الطب وما في حكمها‪ ،‬ومن ثم فإذا حصل الشخص على إجازة طبية من جهة‬
‫غير معتمدة فال يجوز له مباشرة العمل الطبي‪ ،‬ويلزم مع ذلك‪ :‬أن يتقيد بحدود هذا‬

‫‪ - 1‬صحيح ابن حبان (‪)233/4‬‬


‫( ‪) 23‬‬

‫اإلذن‪ ،‬فإذا كان مأذونا له في عالج أمراض القلب فال يتعداه إلى عالج أم ارض‬
‫األطفال مثال ‪ ،‬وأن يمارس العمل الطبي بقصد العالج أي أن يكون الباعث عليه‬
‫عالج المريض ورعاية مصلحة مشروعة فإذا استهدف غرضا آخر غير عالج المريض‬
‫فيكون متعديا كأن يبتر عضوا من شاب ليعفيه من أداء الخدمة العسكرية مثال‪.‬‬

‫ويجب مع كل ما تقدم أن يكون القائم بالعمل الطبي بصي ار ماه ار فيه يقظا عند‬
‫‪1‬‬
‫إجرائه متبعا في ذلك أصول المهنة واإلجراءات الصحيحة وإال كان ضامنا‪.‬‬

‫وإذا كان ما تقدم في حق من تخرج من كليات الطب فإن مسئولية من يفتي في‬
‫الطب وهو ليس من أهله لكنه من عوام الناس أو من المساعدين لألطباء الذين تكونت‬
‫لديهم خلفية طبية بحكم مصاحبة األطباء أو ممن يدعون العالج باألعشاب وغيرهم‬
‫فهؤالء يتحملون المسئولية كاملة فيما يصفونه للناس من عالج أو ما يقومون به من‬
‫إجراءات‪ ،‬وإذا كان من يفتي الشرع بغير علم ضال ومضل فكذلك من يدعي طبا وهو‬
‫ليس بطبيب ويترتب على فعله ضرر بإنسان فقد ارتكب منك ار‪.‬‬

‫واألصل فيما تقدم ما أخرجه البيهقي وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن‬
‫أبيه عن جده قال‪ :‬قال رسول هللا ‪ :‬من تطبب ولم يكن بالطب معروفا فأصاب نفسا‬
‫‪2‬‬
‫وعند الحاكم في المستدرك قال رسول هللا ‪ " :‬من تطبب‬ ‫فما دونها فهو ضامن "‬
‫ولم يعرف منه طب فهو ضامن " وقال‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد ولم يخرجاه‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫وصححه الذهبي‪.‬‬

‫‪ - 1‬األحكام الشرعية لألعمال الطبية‪ ،‬د‪ .‬أحمد شرف الدين‪46 ،‬‬


‫‪ - 2‬سنن البيهقي (‪)141/8‬‬
‫‪ - 3‬المستدرك (‪)236/4‬‬
‫( ‪) 24‬‬

‫وعند أبي داود " أيما طبيب تطبب على قوم وال يعرف له تطبب قبل ذلك‬
‫‪1‬‬
‫ومعنى اإلعنات‪ :‬العمل الطبي المتمثل في قطع عضو أو كي‬ ‫فأعنت فهو ضامن "‬
‫ونحوه‪.‬‬

‫الشرط الثالث‪ :‬أن يكون تدخل القائم بالعمل الطبي بإذن المريض أو ذويه‪.‬‬

‫األصل أن الطبيب ال يجوز له إجراء أي عمل طبي على المريض في األحوال‬


‫العادية إال بموافقته وأخذ إذنه أو إذن وليه؛ ذلك أن إذن المريض للطبيب بمباشرة‬
‫العالج أمر تقتضيه حرية األفراد في أبدانهم فال يحق إلنسان أن يتصرف في جسم‬
‫إنسان آخر بغير رضاه‪ ،‬ويجب أن يقع إذن المريض على عمل طبي مأذون فيه‬
‫(‪)2‬‬
‫شرعا‪.‬‬

‫وقد اتفق الفقهاء من المذاهب األربعة على عدم جواز تطبيب المريض إال بعد‬
‫أخذ إذنه في األحوال غير الخطرة التي ال يشرف فيها المريض على الهالك‪ ،‬أو‬
‫األمراض المعدية‪ ،‬فإن خالف في ذلك وطببه ضمن الطبيب في هذه الحالة‪ ،‬ويكون‬
‫(‪)3‬‬
‫متعديا‪.‬‬

‫وجه قول الجمهور على لزوم أخذ إذن المريض أو وليه في التطبيب‪:‬‬

‫‪ - 1‬سنن أبي داود (‪)321/4‬‬


‫‪ - 2‬التداوي والمسئولية الطبية في الشريعة اإلسالمية للدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك‬
‫(‪ )197‬مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت ‪ ،1997 / 1418 -‬مسئولية الطبيب‬
‫المهنية – دراسة تأصيلية مقارنة بين الشريعة اإلسالمية والقوانين المعاصرة للدكتور عبد هللا بن‬
‫سالم الغامدي (‪ )359‬دار األندلس الخضراء بجدة – ‪ ،1997 / 1418 -‬إذن المريض وعالج‬
‫الحاالت الميئوس منها للدكتور محمد علي البار – مجلة مجمع الفقه اإلسالمي – المجلد الثالث –‬
‫الدورة السابعة (ص ‪ 563‬وما بعدها)‬
‫‪ - 3‬مجمع الضمانات (‪ )48‬ويراجع‪ :‬معين الحكام للطرابلسي (‪ )204‬رد المحتار البن عابدين‬
‫(‪ ،)567/6‬الفروق (‪ ،)195/1‬حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (‪ )355/4‬أسنى المطالب‬
‫(‪ )166/4‬المغني (‪)313 ،312/5‬‬
‫( ‪) 25‬‬

‫ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي هللا عنها قالت‪( :‬لددنا رسول هللا‬
‫‪ ‬فأشار أن ال تلدوني‪ ،‬فقلنا‪ :‬كراهية المريض للداوء‪ ،‬فلما أفاق‪ ،‬قال‪ :‬ألم أنهكم أن ال‬
‫(‪)1‬‬
‫واللد‪ :‬إعطاء‬ ‫تلدوني‪ ،‬ال يبقى منكم أحد إال لد غير العباس فإنه لم يشهدكم "‬
‫المريض دواء في جانب فمه بغير إرادته‪.‬‬

‫وعند الترمذي وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني قال‪ :‬قال رسول هللا ‪‬‬
‫(ال تكرهوا مرضاكم على الطعام فإن هللا يطعمهم ويسقيهم) وفي رواية ابن ماجه (ال‬
‫تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب) (‪.)2‬‬

‫فيظهر من الحديثين‪ :‬أنه يلزم موافقة المريض على ما يتعاطاه من دواء‪ ،‬وعلى‬
‫ما يجرى عليه من أعمال طبية مختلفة قياسا على الدواء ‪.‬‬

‫وعند ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن "إذا جاوز الطبيب ما أمر به فهو‬
‫(‪)3‬‬
‫ضامن"‬

‫ومن المعقول‪ :‬أن جسم اإلنسان ملك له‪ ،‬وال يجوز أي عمل يقع عليه إال بإذن‬
‫(‪)4‬‬
‫منه‪ ،‬كما قاله القرافي في فروقه‪.‬‬

‫قرار‬ ‫وقد انتهى قرار مجمع الفقه اإلسالمي بجدة في دورته السابعة‬
‫رقم(‪ )7 /5/69‬فيما يتعلق بهذه المسألة واالستثناءات الواردة عليها إلى ما يلي‪:‬‬

‫(أ) يشترط إذن المريض للعالج إذا كان تام األهلية ‪ ،‬فإذا كان عديم األهلية أو‬
‫ناقصها اعتبر إذن وليه حسب ترتيب الوالية الشرعية ووفًقا ألحكامها التي تحصر‬
‫تصرف الولي فيما فيه منفعة المولى عليه ومصلحته ورفع األذى عنه‪.‬‬

‫‪ - 1‬صحيح البخاري (‪ ،)2524/6‬صحيح مسلم (‪)1733/4‬‬


‫والحديث قال عنه الترمذي" حسن‬ ‫‪ - 2‬سنن الترمذي (‪ )384/4‬سنن ابن ماجه (‪)1140/2‬‬
‫غريب ال نعرفه إال من هذا الوجه‪.‬‬
‫‪ - 3‬المصنف (‪)378/6‬‬
‫‪ - 4‬الفروق – موضع سابق‪.‬‬
‫( ‪) 26‬‬

‫على أنه ال يعتبر بتصرف الولي في عدم اإلذن إذا كان واضح الضرر‬
‫بالمولى عليه‪ ،‬وينتقل الحق إلى غيره من األولياء ثم إلى ولي األمر ‪.‬‬

‫(ب) لولي األمر اإللزام بالتداوي في بعض األحوال‪ ،‬كاألمراض المعدية‬


‫والتحصينات الوقائية‪.‬‬

‫(ج) في حاالت اإلسعاف التي تتعرض فيها حياة المصاب للخطر ال يتوقف‬
‫العالج على اإلذن‪.‬‬

‫(د) ال بد في إجراء األبحاث الطبية من موافقة الشخص التام األهلية بصورة‬


‫خالية من شائبة اإلكراه (كالمساجين) أو اإلغراء المادي (كالمساكين)‪ .‬ويجب أن ال‬
‫يترتب على إجراء تلك األبحاث ضرر‪.‬‬

‫وال يجوز إجراء األبحاث الطبية على عديمي األهلية أو ناقصيها ولو بموافقة‬
‫(‪)1‬‬
‫األولياء‪".‬‬

‫ويترتب على وجوب أخذ إذن المريض للطبيب في إجراء العمليات الطبية في‬
‫الحاالت العادية مسألة أخرى وهي‪ :‬حكم إعطاء المريض اإلذن للطبيب‪ ،‬هل هو‬
‫واجب عليه أم مباح‪ ،‬أو غيرهما وهي مسألة مفرعة عن األصل في حكم التداوي‪.‬‬

‫شروط إذن التطبيب‪:‬‬

‫يمكننا من خالل تأمل نصوص الفقهاء الواردة في اشتراط اإلذن للطبيب‬


‫الوقوف على شروطه‪ ،‬وجملتها‪:‬‬

‫‪ -‬أن يكون اإلذن صاد ار ممن له الحق في إصداره وهو المريض أو وليه‬
‫في حال تعذر إذن المريض‪ ،‬وقد يكون الحاكم‪.‬‬

‫‪ - 1‬مجلة مجمع الفقه اإلسالمي – المجلد الثالث – (‪)729‬‬


‫( ‪) 27‬‬

‫‪ -‬وأن يكون اآلذن أهال إلصدار اإلذن من كونه بالغا عاقال‪ ،‬مختارا‪.‬‬
‫‪ -‬وأن يكون العمل الطبي مأذونا فيه شرعا ونظاما‪.‬‬
‫‪ -‬أن يكون الطبيب مرخصا له بمزاولة المهنة‪.‬‬
‫‪ -‬أن يكون صدور اإلذن بعد إيضاح وبيان كافيين‪.‬‬
‫‪ -‬أن يكون الطبيب صادقا فيما يخبر به من معلومات‪ ،‬وهو ما يسمى‬
‫(‪)1‬‬
‫باإلذن المستبصر‪.‬‬

‫ومن ثم إذا تدخل الطبيب بدون اإلذن المذكور وقعت عليه المسئولية لخروج‬
‫عمله من دائرة اإلباحة إلى دائرة التعدي‬

‫الموضوع الثاني‪ :‬أخالقيات المهنة(‪.)2‬‬

‫إذا عرف اإلنسان قدر مهنته‪ ،‬فإنه يتصرف ِبما يليق بقدرها ومكانتها‪ ،‬فعلى‬
‫الطبيب والصيدلي والكيميائي والمعملي أن يتصفوا بكل صفة حسنة َتليق بالشرف‬
‫وي ِّ‬
‫فرجون‬ ‫الرفيع الذي حباه هللا عز وجل لمن يقضون حوائج الناس ويمسحون آالمهم ُ‬
‫ُكرَبهم‪ .‬وإذا كان اإلسالم يحمل أهله على مكارم األخالق وإتقان العمل‪ ،‬فإنها في حق‬
‫من يقضون حوائج الناس أوجب وآكد‪ ،‬ولذا سنتحدث هنا عن بعض األخالق التي‬
‫يجب أن تكون مالزمة للطبيب والصيدلي وغيرهم ممن يقضون حوائج الناس‪.‬‬

‫‪ -1‬الخالص هلل تعالى‬


‫إن من أهم ما يجب أن يتصف به كل من يتصدى لتفريج كربات الناس‪،‬‬
‫كل صغيرة وكبيرة‪ ،‬قال هللا عز‬‫ِ‬
‫هو مراقبة هللا عز وجل‪ ،‬وأنه محاسب على ّ‬
‫اإلنس إالّ لِيع ُـبدون[[الذاريات‪ .]56:‬فاهلل تعالى لم يخلق‬
‫لقت ال ِج َّن و َّ‬
‫شأنه‪] :‬وماَ َخ ُ‬

‫‪ - 1‬أحكام اإلذن الطبي للدكتور عبد الرحمن الجرعي – بحث علمي محكم غير منشور‪.‬‬
‫‪ - 2‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمر محمد غانم مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫( ‪) 28‬‬

‫َخلَقه إال لعبادته‪ ،‬ومن هنا كانت نية التعبد هلل تعالى بكل األعمال من أوجب‬
‫الواجبات‬
‫‪ -2‬الصدق‪:‬‬
‫ال يتوقف الصدق عند صدق الكلمة فحسب‪ ،‬وإنما يعني أيضا صدق العمل‪،‬‬
‫فالطبيب والصيدلي‪ ،‬كالهما صادق في تقديم العالج للمرضى‪ ،‬صادق في أداء النصح‬
‫لهم‪ ،‬وهكذا من كان مثلهما من أصحاب المهن المختلفة‬
‫فيقنع المريض بأهمية‬‫ولك أن تتصور انحطاط الطبيب الذي انهزم أمام شهوة المال‪ُ ،‬‬
‫فحوص إضافية ال تتطلبها حالته المرضية‪ ،‬أو ُي َرّغب المريض في العالج األكثر تكلفة‬
‫رغم أنه ليس المالئم له‪.‬‬
‫ليكن شعارنا الصدق في كل شيء‪ ،‬ولنستحضر قول الرسول ‪( :‬عليكم بالصدق‪،‬‬
‫فإن الصدق يهدي إلى البر‪ ،‬وإن البر يهدي إلى الجنة)[أخرجه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫‪ -3‬التواضع واحترام اآلخرين‪:‬‬
‫التواضع صفة البد لكل من يتصدى للخدمة العامة أن يتحلى بها‪ ،‬وعلى رأسهم‬
‫األطباء‪ ،‬فعلى الطبيب أن يتجنب التعالي على المرضى‪ ،‬والنظرة الدونية لهم مهما كان‬
‫مستواهم العلمي أو االجتماعي‪ ،‬فهذا هو ما يجعله موضع احترام اآلخرين‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫يدخل الجن َة من في قلبه مثقال ذرة من ِكبر» [أخرجه مسلم]‪.‬‬
‫ُ‬ ‫«ال‬

‫واعلم أن تميزك عن اآلخرين الذي جعلته سبب تكبرك واستعالئك‪،‬هو في الحقيقة‬


‫فضل من هللا‪ ،‬فهل يليق أن تقابل اإلحسان باإلساءة!؟ فالذي فضلنا بالنعم قادر على‬
‫السلب بعد العطاء‪.‬‬

‫‪ -4‬الصبر والحلم‪:‬‬
‫إن التعامل مع نوعيات مختلفة من فئات المجتمع يتطلب قد اًر كبي اًر من الصبر وسعة‬
‫الصدر‪ ،‬فعلى الطبيب وغيره أن يتحمل تصرفات المرضى ويعذرهم بسبب ما بهم من‬
‫مرض أو حاجة‪ ،‬وال يقابل األذى بمثله‪ ،‬كأن يمتنع عن معالجة مريض أغلظ القول‬
‫مثالً‪ ،‬أو يقصر في إعطائه حقه الكامل من الرعاية‪ ،‬أو تقديم الخدمة الكاملة له‪ ،‬وما‬
‫( ‪) 29‬‬

‫أعظم قوله ‪( :‬ومن يتصبر يصبره هللا) [أخرجه البخاري]‪ ،‬قال ابن حجر‪( :‬يصبره‬
‫هللا‪ :‬أي فإنه يقويه ويمكنه من نفسه حتى تنقاد له‪ ،‬ويذعن لتحمل الشدة‪ )1‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وينبغي أن يكون لبقاً مع مرضاه‪ ،‬أو مع من يتعامل معهم من أشخاص‪ ،‬متلطفاً‬
‫بهم‪ ،‬محباً لهم‪ ،‬عطوفاً عليهم‪ ،‬رفيقاً بهم‪.‬‬

‫(‪)2‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬ضوابط التجارب الطبية على النسان والحيوان‬
‫اختبار منظم لظاهرة أو ظواهر يراد مالحظتها مالحظة دقيقة‬ ‫يقصد بالتجربة‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ومنهجية للكشف عن نتيجة ما‪ ،‬أو تحقيق غرض معين‪.‬‬

‫أما التجارب الطبية فهي‪ :‬اختبار تأثير المواد والعوارض المختلفة من خالل‬
‫(‪)4‬‬
‫تجربتها على اإلنسان والحيوان‪.‬‬

‫وقيل هي‪ :‬مجموعة األعمال التي يقوم بها الطبيب‪ ،‬أو المختص باألعمال‬
‫الطبية على اإلنسان والحيوان‪ ،‬بهدف الكشف العلمي النافع عن أثر دواء معين‪ ،‬أو‬
‫(‪)5‬‬
‫نجاح عملية معينة لم تُعرف نتائجها من قبل‪.‬‬

‫وسوف نتناول حكم إجراء التجارب الطبية على الحيوان وعلى اإلنسان‪:‬‬

‫أوال‪ :‬إجراء التجارب الطبية على الحيوان‪:‬‬

‫اتجه اإلنسان إلى إجراء التجارب على الحيوانات منذ العصور القديمة للتعرف‬
‫على مفعول األدوية‪ ،‬وخصائصها وكيفية تأثيرها‪ ،‬واختبار ُسمية الكيماويات التي تدخل‬
‫في صناعة األدوية‪ ،‬والتعرف على األعراض الجانبية للدواء‪ .‬فهي تعتبر أكثر أمانا‬
‫وأقل خط ار من التجارب على اإلنسان‪.‬‬

‫‪ 1‬فتح الباري‪ :‬ابن حجر ‪304/11‬‬


‫‪ - 2‬كتب هذا الموضوع الدكتور على السيد الكيالني مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا‪.‬‬
‫(‪ )3‬المعجم الوسيط‪.114/1‬‬
‫(‪ )4‬أحكام التجارب الطبية ص‪.14‬‬
‫(‪ )5‬حكم إلجراء التجارب الطبية على اإلنسان والحيوان ص‪.3‬‬
‫( ‪) 30‬‬

‫وتتنوع الحيوانات التي تجري عليها التجارب إلى أنواع مختلفة‪ ،‬فلكل نوع من أنواع‬
‫الحيوانات خصائص وسمات قد ال توجد في النوع اآلخر؛ كما أن التجارب التي تجري‬
‫على الحيوانات منها ما هي مميتة‪ ،‬ومنها ما هي غير مميتة‪.‬‬

‫التجارب الطبية المميتة‪ :‬وهي التجارب التي تؤدي إلى وفاة الحيوان محل التجربة‪.‬‬

‫وهنا ننظر إلى الحيوان محل التجربة فالحيوانات إما أن تكون مأمو اًر بقتلها‪ ،‬أو منهيا‬
‫عن قتلها‪ ،‬أو لم يرد فيها أمر وال نهي‪.‬‬

‫فالحيوانات التي ورد األمر بقتلها كالفواسق الخمس (الفأرة‪ ،‬والعقرب‪ ،‬والحدأة‪،‬‬
‫والغراب‪ ،‬والكلب العقور)‪.‬‬

‫فإن إجراء التجارب الطبية المميتة على هذا النوع من الحيوانات جائز‪ ،‬حيث‬
‫ال حرمة لها وذلك لورود النص باألمر بقتلها‪ .‬وهو ما روي َعن‬ ‫إن هذه الحيوانات‬
‫الحَرمِ‪ :‬ال َفأَرُة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َعن َها‪َ ،‬ع ِن َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ق‪ُ ،‬يقَتل َن في َ‬
‫س َف َواس ُ‬
‫ال‪َ :‬خم ٌ‬
‫النب ِي ‪َ ‬ق َ‬ ‫هللا‬
‫َعائ َشةَ‪َ ،‬رض َي ُ‬
‫ور(‪ )1‬إال أنه يجب تجنب األذى واأللم قدر‬ ‫العُق ُ‬
‫الكل ُب َ‬‫اب‪َ ،‬و َ‬
‫َوال ُغَر ُ‬
‫الح َدَّيا‪،‬‬
‫العقَر ُب‪َ ،‬و ُ‬
‫َو َ‬
‫اإلمكان‪ ،‬ويلحق به ما كان من طبعه األذى ولم يرد األمر بقتله‬

‫أما حكم إجراء التجارب الطبية المميتة على ما نهى عن قتله‪ ،‬أو لم يرد فيه‬
‫أمر وال نهي هو حرمة إجرائها؛ إال أنه يمكن أن يستثنى من القول بالحرمة بعض‬
‫التجارب المميتة على هذه األنواع من الحيوانات للضرورة؛ فقد يكون اكتشاف كثير من‬
‫(‪)2‬‬
‫األدوية والعالجات النافعة لإلنسان متوقفاً على إجراء مثل هذه التجارب‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه (‪ )129/4‬كتاب‪ :‬بدء الخلق‪ ،‬باب‪ :‬خمس من الدواب فواسق‪ ،‬يقتلن‬
‫في الحرم‪ ،‬ح(‪.)3314‬‬
‫(‪ )2‬المستجدات في األحكام الفقهية المتعلقة بالحيوان ص ‪ ،123‬الموسوعة الفقهية الطبية ص‪.373‬‬
‫( ‪) 31‬‬

‫التجارب الطبية غير المميتة‪:‬‬

‫ويقصد بها التجارب التي ال تؤدي إلى قتل الحيوانات محل التجربة‪ ،‬وهذه‬
‫التجارب إما أن تكون مشتملة على تعذيب الحيوانات أثناء التجربة أو تكون غير‬
‫مشتملة على التعذيب‪.‬‬

‫فإجراء التجارب المتضمنة لتعذيب الحيوانات محل التجربة األصل فيه الحرمة‪،‬‬
‫َن رسول َّ ِ‬
‫َّللا ‪،‬‬ ‫وذلك لما ورد من األدلة على حرمة تعذيب الحيوان‪ ،‬ومنها‪ :‬ما روي أ َّ َ ُ َ‬
‫الن َار‪ ،‬الَ ِه َي أَط َع َمت َها َوالَ‬
‫يها َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ال‪ُ « :‬عذَبت امَأَر ٌة في هَّرٍة َس َجَنت َها َح َّتى َم َاتت‪َ ،‬ف َد َخَلت ف َ‬
‫َق َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ض»‬ ‫َسَقت َها‪ِ ،‬إذ َحَب َست َها‪َ ،‬والَ ِهي َتَرَكت َها َتأ ُك ُل ِمن َخ َش ِ‬
‫اش األَر ِ‬
‫َ‬
‫إال أنه يمكن أن يستثنى من القول بالحرمة بعض التجارب ال سيما وإن كانت‬
‫تلك التجارب راجعة لحفظ اإلنسان أو عقله أو نسله أو غير ذلك من الضروريات‪،‬‬
‫فحرمة اإلنسان أكبر من حرمة الحيوان‪.‬‬

‫كما أن التعذيب للحيوان في هذه التجارب ليس مقصوداً لذاته بل وقع تبعا‪،‬‬
‫ولذلك أباحت الشريعة بعض األعمال التي تجرى على الحيوان وإن كان فيها نوع‬
‫تعذيب له‪ ،‬لكون المصلحة الحاصلة تزيد على مفسدة التعذيب‪ .‬كأن يكون للبحث‬
‫أهداف مهمة وحقيقية يستفاد منها في تقدم الطب‪ ،‬وتكون له فوائد ملموسة تعود على‬
‫اإلنسان وذلك كتجربة األدوية والعقاقير على الحيوان والتأكد من فاعليتها في مقاومة‬
‫األمراض قبل تجربتها على اإلنسان‪ .‬فإذا لم يكن للبحث غرض مهم فإنه ال يجوز‬
‫إجراء مثل تلك التجارب حيث إنه ال يجوز تعريض الحيوان لألذى واأللم لغير مصلحة‬
‫راجحة‪ .‬أو فوائد تعود على الحيوان كالتجارب التي تهدف إلى تحسين سالالت‬
‫الحيوان‪ ،‬وتحسين قدرتها وتكثير نسلها ونحو ذلك‪.‬‬

‫وأن تكون النتائج المتوقعة والفوائد المرجوة من إجراء تلك التجارب على‬
‫الحيوانات تزيد على المخاطر واألضرار التي تلحق بالحيوان محل التجربة‪ .‬وفي حالة‬

‫(‪ )1‬صحيح البخاري (‪ )176/4‬كتاب‪ :‬أحاديث األنبياء‪ ،‬باب‪ :‬حديث الغار‪ ،‬ح(‪.)3482‬‬
‫( ‪) 32‬‬

‫زيادة األضرار على الفوائد المرجوة أو مساواتها لها فإنه يمنع من إجراء هذه التجارب‪،‬‬
‫فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح‪.‬‬

‫أما التجارب التي ال تتضمن تعذيب الحيوانات محل التجربة؛ فجواز مثل هذه التجارب‬
‫ظاهر‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬التجارب على النسان‪:‬‬

‫التجارب الطبية على اإلنسان‪ ،‬إما أن تكون مميتة أو غير مميتة‪ ،‬ويقصد‬
‫بالتجارب المميتة التي يقطع الباحث بأن الشخص محل التجربة سيموت من جراء هذه‬
‫التجربة‪ ،‬أو يغلب على ظنه ذلك‪.‬‬

‫وهذه التجارب إما أن تكون على معصوم (وهو الذي منع الشارع سفك دمه) أو‬
‫على غير معصوم‪.‬‬

‫التجارب على معصوم الدم‪:‬‬

‫في هذه الحالة ننظر إلى الغرض من التجربة‪ ،‬فإن كان الغرض من التجربة‬
‫قليل األهمية‪ ،‬أو يمكن االستغناء عنها فهذا النوع من التجارب محرم؛ وذلك لما فيها‬
‫س َّال ِتي‬ ‫من تعمد لقتل نفس معصومة دون وجه حق‪ ،‬قال هللا تعالى‪َ :‬وَال َتقُتُلوا َّ‬
‫النف َ‬
‫َّللا ِإَّال ِبال َح ِق "(‪ ،)1‬كما أن الشخص الذي يوافق على إجراء مثل هذه التجارب‬ ‫َحَّرَم َّ ُ‬
‫التهُل َك ِة "(‪ ،)2‬وروي َع ِن‬ ‫يكم ِإَلى َّ‬ ‫المميتة يعتبر قاتالً لنفسه‪ .‬قال تعالى‪َ " :‬وَال ُتلُقوا ِبأَي ِد ُ‬
‫(‪)3‬‬
‫ال‪َ « :‬و َمن َقَت َل َنف َس ُه ِب َشي ٍء ُع ِذ َب ِب ِه ِفي َن ِار َج َهَّن َم »‬ ‫َّ ِ‬
‫النب ِي ‪َ ‬ق َ‬
‫وعليه فإن إجراء هذا النوع من التجارب على معصوم الدم حرام‪ ،‬وبالتالي ال‬
‫يجوز إجراؤها‪ ،‬حتى ولو كان الغرض من التجارب المميتة غرضاً عظيم األهمية كإنقاذ‬
‫حياة جماعة كبيرة من المعصومين‪ :‬فاألصل في هذه التجارب هو المنع؛ وذلك لحرمة‬

‫(‪ )1‬سورة اإلسراء من اآلية ‪.33‬‬


‫(‪ )2‬سورة البقرة من اآلية ‪.195‬‬
‫(‪)3‬صحيح البخاري (‪)26/8‬كتاب‪ :‬األدب‪ ،‬باب‪ :‬من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال‪ ،‬ح (‪)6105‬‬
‫( ‪) 33‬‬

‫دم المعصوم ووجوب صيانته‪ ،‬فشفاء تلك الجماعة الكبيرة وإن كان فيه مصلحة كبيرة؛‬
‫إال أنه يقابله مفسدة كبيرة أيضا وهو التسبب في وفاة معصوم الدم‪ ،‬ودرء المفاسد مقدم‬
‫‪)1( .‬‬
‫على جلب المصالح‬

‫وهذه المسألة وإن لم تتطرق لها كتب أهل العلم إال أنه يوجد مسائل مشابهة‬
‫لها‪ ،‬وهي‪ :‬ما لو ركب جماعة سفينة فثقلت بهم السفينة واضطروا إلى إلقاء بعضهم في‬
‫(‪)2‬‬
‫البحر حتى تخف السفينة ويسلم الباقون‪ ،‬فهل يجوز إلقاء البعض ليسلم الباقي‪.‬‬

‫التجارب المميتة على أسرى الحرب‪:‬‬


‫األصل في هذا النوع من التجارب التحريم ال سيما في ظل المعاهدات الدولية‬
‫واالتفاقات العالمية التي تنص على منع هذا النوع من التجارب‪ ،‬وما دام أن المسلمين‬
‫ابتداء‪ .‬فقد أمر هللا‬ ‫ً‬ ‫قد دخلوا في هذه المعاهدات فإنه يحرم عليهم انتهاكها أو نقضها‬
‫تعالى بالوفاء بالعهود ونهى عن نقضها‪ ،‬قال تعالى‪" :‬وأَوُفوا ِبعه ِد َّ ِ‬
‫َّللا ِإ َذا َع َ‬
‫اهد ُتم َوَال‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫(‪)3‬‬
‫َّللا َيعَل ُم َما َتف َعُلو َن "‬ ‫َّللا َعَلي ُكم َك ِف ا ِ‬ ‫ِِ‬
‫يال إ َّن َّ َ‬ ‫ان َبع َد َتوكيد َها َوَقد َج َعل ُت ُم َّ َ‬
‫َتنُق ُضوا األَي َم َ‬
‫التجارب غير المميتة‪:‬‬

‫والمقصود بها‪ :‬هي التجارب التي ال تؤدي في الغالب إلى موت الشخص محل‬
‫التجربة‪ .‬وهذه التجارب إما أن تكون عالجية أو غير عالجية‪.‬‬

‫والتجارب العالجية‪ :‬هي التي تهدف إلى إيجاد عالج للشخص محل التجربة‬
‫من خالل اختبار كفاءة ما يمكن أن يكون عالجا للمرض الذي يعاني منه الشخص‬
‫(‪)4‬‬
‫محل التجربة‪ .‬وذلك للوصول إلى دواء مناسب له يوافق طبيعته‪.‬‬

‫وهذا النوع من التجارب العالجية تعد نوعاً من أنواع طلب التداوي والعالج‪.‬‬

‫(‪ )1‬تيسير الوصول إلى قواعد األصول ‪ ،310/1‬الموافقات ‪ ،465/3‬حاشية العطار ‪.480/1‬‬
‫(‪ )2‬شرح التلويح على التوضيح ‪ ،142/2‬التقرير والتحبير ‪ ،396/5‬تيسير التحرير ‪315/3‬‬
‫(‪ )3‬سورة النحل‪ :‬اآلية ‪.91‬‬
‫(‪ )4‬أبحاث مؤتمر الضوابط واألخالقيات في بحوث التكاثر البشري في العالم اإلسالمي ص‪،166‬‬
‫أحكام التجارب الطبية ص ‪.189‬‬
‫( ‪) 34‬‬

‫واألخذ بالعالج والتداوي قد طلبه الشرع وندبه وحث عليه‪.‬‬

‫الن ِب َّي ‪َ ‬وأَص َح َاب ُه َكأََّنما َعَلى ُرُء ِ‬


‫وس ِه ُم‬ ‫ال‪ :‬أ ََتي ُت َّ‬
‫َق َ‬ ‫يك‪،‬‬ ‫ام َة ب ِن َش ِر ٍ‬
‫َ‬ ‫ُس َ‬
‫فعن أ َ‬ ‫َ‬
‫األَعراب ِمن ها هَنا وها هَنا‪َ ،‬فَقاُلوا‪ :‬يا رسول َّ ِ‬
‫َّللا‪،‬‬ ‫اء‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫َ َُ َ‬ ‫َ ُ ََ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫الطيُر‪َ ،‬ف َسلم ُت ُث َّم َق َعد ُت‪َ ،‬ف َج َ‬
‫َع َّز َو َج َّل َلم َي َضع َد َِّ‬ ‫ِ‬
‫اء‪َ ،‬غيَر َد ٍاء‬‫اء إال َو َض َع َل ُه َد َو ا‬‫ا‬ ‫َّللا‬
‫ال‪َ « :‬ت َد َاووا َفإ َّن َّ َ‬‫أََن َت َد َاوى؟ َفَق َ‬
‫وِ‬
‫اح ٍد ال َهَرُم»(‪. )1‬‬ ‫َ‬

‫ففي هذا الحديث حث على التداوي مطلقا غير مقيد بقيد‪ ،‬وإذا كان العالج‬
‫مأذونا فيه كانت وسائله وما يتوقف عليه مأذونا فيها أيضاً؛ فاألصل في التجارب‬
‫العالجية أنه مأذون فيها ما دام القائمون بإجرائها من األطباء المتخصصين األكفاء(‪.)2‬‬

‫التجارب غير العالجية غير المميتة‪:‬‬

‫والمقصود بها‪ :‬هي التجارب التي ال يراد بها عالج الشخص محل التجربة‪،‬‬
‫وإنما يراد منها اختبار أدوية وعالجات ليس المقصود بها الشخص محل التجربة‪.‬‬

‫ويحتاج األطباء والباحثون لمثل هذه التجارب الختبار مفعول األدوية‬


‫والعالجات قبل الحكم بصالحيتها ومناسبتها لإلنسان‪.‬‬

‫والحكم هنا‪ :‬جواز إجراء هذه التجارب على اإلنسان إال أن يترتب عليها ضرر‬
‫محقق أو غالب على الظن يقع على اإلنسان محل التجربة بأنه حينئذ تكون ممنوعة؛‬
‫ألن القاعدة الشرعية أن الضرر يزال‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في سننه (‪ )4/3‬كتاب الطب‪ /‬باب في الرجل يتداوى ح‪ ،3855‬وأحمد في‬
‫مسنده (‪ 398 /30‬ح‪.)18455‬‬
‫(‪ )2‬موسوعة الفتاوى المؤصلة من دار اإلفتاء المصرية ‪.487 /4‬‬
‫( ‪) 35‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع الرابع‪ :‬ضوابط التدريب المهني على المرضى‬
‫‪ .1‬أن يكون المتدرب على درجة عالية من التأهيل العلمي‪:‬‬
‫يجب أن يمتلك المتدرب على المرضى المهارة والدقة والدرجة العالية من الكفاءة من‬
‫خالل الدراسة األكاديمية العلمية المتخصصة‪ ،‬والحرص على النمو المعرفي من خالل‬
‫االطالع المستمر وحضور الندوات والمؤتمرات المحلية والعالمية(‪،)2‬وهذا ما عبر عنه‬
‫الفقهاء بالحذق حيث نصوا رحمهم هللا‪ -‬على أن ينبغي أن يكون العامل في الحقل‬
‫الطبي حاذقاً‪.‬‬

‫‪ .2‬االلتزام باألصول واألسس العلمية‪:‬‬


‫أن يكون التدريب وفق األصول والقواعد المتبعة بين أهل الصنعة الطبية‪ .‬وعليه فال‬
‫يجوز للمتدرب تحت أي ذريعة الخروج عن هذه األصول واألسس المتبعة إلى طرق‬
‫(‪)3‬‬
‫وأساليب غير مدروسة أو لم تنل حظها من البحث والتمحيص‪.‬‬

‫‪ .3‬أن يلتزم المتدرب باألحكام الشرعية فيما يخص التعامل مع المرض‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫• حفظ أسرار المرض(‪:)4‬‬
‫الطبيب ورفاقه من العالمين في المجال الطبي عادة موضع ثقة المرضى‪ ،‬بل ربما‬
‫يطلع على أسرار ما يود صاحبها أن يكشفها ألحد‪ ،‬بيد أنه يكشفها لطبيبه لحظة شدة‬
‫المرض عليه‪ .‬فيجب على الطبيب ورفاقه أن يكتم سر مريضه(‪.)5‬‬

‫• عدم النظر إلى العورة إال بقدر الضرورة(‪:)6‬‬


‫من اآلداب الشرعية التي يجب أن يلتزم بها المتدرب مع المرضى عدم النظر إلى عورة‬
‫اآلخرين إال للضرورة‪ ،‬وعلى أن يكون ذلك بقدر الضرورة فقط(‪.)1‬‬

‫(‪)1‬كتب هذا الموضوع الدكتور على السيد الكيالني مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخالق الطبيب للرازي ص‪ ،21‬الطبيب أدبه وفقهه ص‪45‬‬
‫(‪)3‬كشاف القناع ‪ ،14/4‬نيل األوطار ‪.205/8‬‬
‫‪ )4‬أخالق الطبيب للرازي ص‪.27‬‬
‫‪ )5‬النكت والفوائد السنية البن مفلح ‪.190 /1‬‬
‫‪ )6‬أخالق الطبيب للرازي ص‪.28‬‬
‫( ‪) 36‬‬

‫‪ .4‬أن يكون المتدرب ملماً بالمخاطر الممكن حدوثها أثناء التدريب وكيفية التعامل‬
‫معها‪:‬‬
‫فعلى المتدرب أن يكون على معرفة بكل المخاطر المتوقع حدوثها‪ ،‬وكيفية معالجتها‪،‬‬
‫والتعامل معها‪.‬‬

‫‪ .5‬أن يتوافر لدى المتدرب كل الوسائل الكفيلة بنجاح التدريب‪:‬‬


‫البد أن يتوفر لدى المتدرب كافة الوسائل الكفيلة بنجاح التدريب‪ ،‬سواء كانت وسائل‬
‫مادية من معدات وأدوات وأجهزة متنوعة أو إمكانيات بشرية تتمثل في وجود مساعدين‬
‫من أطباء وممرضين ونحو ذلك‪ .‬فإذا لم تتوافر هذه الوسائل فال يحق له بحال من‬
‫األحوال أن يقوم بالتدريب على المرضى‪ ،‬ألن في هذه الحالة يكون التدريب مخاطرة‬
‫بحياة المرض‪ ،‬وهذا ال يجوز‪.‬‬

‫(‪)2‬‬
‫الموضوع الخامس‪ :‬ضوابط اختيار التخصص الطبي‬
‫تعتبر المعلومات عن التخصص الطبي أساس االختيار واتخاذ القرار‪ ،‬فبدون‬
‫المعلومات ال يوجد اختيار؛ ألنها تساعد على المعرفة والفهم للتخصص الطبي‪،‬‬
‫وتعطي لمن أراد اختيار تخصصه الطبي القوة والثقة للمساهمة في خدمة المرضى‪.‬‬
‫وعليه كان البد من معرفة المعلومات والبيانات عن التخصص الطبي قبل االختيار‪.‬‬
‫كما يجب على الطبيب أن يعرف طبيعة الشخصية ويختار ما يالئمها‪ ،‬فالطبيعة‬
‫الشخصية تلعب دو ار هاما في اختيار التخصص الطبي المناسب‪ ،‬ومن أهم الضوابط‬
‫في اختيار التخصص الطبي ما يلي‪:‬‬

‫‪ )1‬بدائع الصنائع ‪ ،173 /3‬اإلقناع ‪.406 /2‬‬


‫(‪)2‬كتب هذا الموضوع الدكتور على السيد الكيالني مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا‪.‬‬
‫( ‪) 37‬‬

‫المعرفة الطبية الواسعة‪:‬‬

‫علم الطب من العلوم التي يواكبها الكثير من المستجدات العلمية‪ ،‬لذا فإن على‬
‫الطبيب أن يستمر في طلب العلم حتى بعد حصوله على أعلى الدرجات العلمية حتى‬
‫تكون ممارسته للطب مبنية على الدليل العلمي الصحيح‪ .‬وهناك من التخصصات‬
‫كالتخصصات العامة تتطلب من صاحبها أن يعرف كل شيء وأن يواكب التطور‬
‫ويتابع باستمرار الجديد في عالم الطب‪.‬‬

‫‪ )1‬القدرة على التعامل مع المرضى‪:‬‬


‫القدرة على التواصل والتعامل مع المرضى بصفة مستمرة من أهم الضوابط في اختيار‬
‫التخصص الطبي‪ ،‬ألنه يشكل جزءاً من حياة المريض ويتابعه باستمرار لمدة طويلة‪.‬‬
‫فإن المرضى الذين يتم التعامل معهم بواسطة مهنيين يتمتعون بمهارات جيدة تبين أنهم‬
‫حصلوا على تحسن في المؤشرات الصحية ومعدالت الشفاء‪ ،‬فالتواصل الجيد ما بين‬
‫المرضى والهيئة الطبية مهم من أول لحظة للقاء ألنها تشكل أساس كل اإلجراءات في‬
‫المستقبل‪.‬‬

‫‪ )2‬القدرة على تحمل الضغط النفسي ومعرفة أساليب مواجهته‪:‬‬


‫مهنة الطب من المهن التي تسبب الضغط النفسي بنسبة كبيرة بلغت ‪%71‬‬
‫قياساً بالمهن األخرى‪ .‬مما يثير التساؤل حول قدرة المتخصص على تحمل الضغط‬
‫النفسي ومعرفة أساليب مواجهته‪ ،‬وتختلف هذه األساليب تبعاً للفروق الفردية‬
‫والخصائص الشخصية‪ ،‬إذ تخف نتائج الضغط النفسي السلبية إذا استخدمت أساليب‬
‫مواجهة إيجابية‪ ،‬كما أن بعض أنماط الشخصية أو السلوك تسهم في تفاقم الضغط‬
‫النفسي‪ ،‬فالخصائص الشخصية تؤدي دور الوسيط إما في التخفيف من االستجابة‬
‫للضغط النفسي أو زيادة حدة هذه االستجابة‪.‬‬

‫ومن ثم فالقدرة على تحمل الضغط النفسي وأساليب مواجهته من الضوابط في‬
‫اختيار التخصص الطبي‪ ،‬فبعض التخصصات الطبية تتطلب من القائمين بها تحمل‬
‫( ‪) 38‬‬

‫ضغوط نفسية أكبر مما يتحمله غيرهم فقد يؤثر الضغط النفسي سلباً في إنجازه في‬
‫العمل فينخفض مستوى إنجازه من ناحية وربما يقوم بأخطاء مهنية قد تكون خسارة‬
‫كبيرة من ناحية أخرى‪.‬‬

‫‪ )3‬المهارة الفنية والتقنية‪:‬‬


‫تتطلب بعض التخصصات كالجراحة المهارة الفنية والتقنية والوعي والتركيز‬
‫الكبير نتيجة دقة وحساسية تخصصهم‪.‬‬
‫( ‪) 39‬‬

‫الوحدة الثانية‬

‫وتحتوي على‪:‬‬

‫الموضوع األول‪ :‬التلقيح الصناعى في االنسان‪.‬‬

‫الموضوع الثاني‪ :‬استئجار األرحام‪.‬‬

‫الموضوع الثالث‪ :‬اختيار جنس الجنين‪.‬‬

‫الموضوع الرابع‪ :‬نزع وسائل اإلعاشة عن المرضى‪.‬‬

‫الموضوع الخامس‪ :‬التحول الجنسي‪.‬‬

‫الموضوع السادس‪ :‬التصحيح الجنسي‪.‬‬

‫وكلها من إعداد األستاذ الدكور‪ /‬أنس عبد الفتاح أبو شادي‬

‫أستاذ الفقه المقارن ورئيس قسم الدراسات السالمية بكلية الطب بنين‪ -‬القاهرة‬
‫( ‪) 40‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع األول‪ :‬التلقيح الصناعى في االنسان‬
‫المحافظة على النسل من المقاصد الضرورية التى استهدفتها الشريعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ومن أجل ذلك شرع هللا النكاح وحرم السفاح‪ ،‬ولحرص اإلسالم على سالمة‬
‫األنساب دعا إلى الزواج وشرع أحكامه‪ ،‬ونظم صلة الرجل بالمرأة واختالطهما‪ ،‬وأوجب‬
‫أن يكون هذا في ظل عقد زواج صحيح‪ ،‬تكريما لإلنسان‪ ،‬وال تتخلق النطفة إال إذا‬
‫وصلت إلى رحم المرأة المستعد لقبولها‪ ،‬وقد يكون هذا الوصول عن طريق االختالط‬
‫الجسدى الجنسى المعتاد‪ ،‬وقد يكون عن طريق إدخال نطفة الرجل في رحم زوجته‬
‫بغير االتصال الجسدى كما بين ذلك الفقهاء وأجازوه‪.2‬‬

‫فشغل رحم الزوجة بنطفة زوجها وحدوث الحمل يجوز عند الحاجة بغير‬
‫االتصال العضوى بينهما‪ ،‬وتترتب عليه اآلثار الشرعية من عدة ونسب‪ .‬وهذا هو‬
‫األساس لمعرفة حكم الحاالت اآلتية‪:‬‬

‫أوال‪ :‬المنى من الزوج والبويضة من الزوجة التى ال تحمل‪:‬‬

‫إذا كان تلقيح الزوجة بذات منى زوجها دون شك في استبداله أو اختالطه‬
‫بغيره‪ ،‬جاز شرعا إجراء هذا التلقيح‪ ،‬وتترتب عليه اآلثار الشرعية‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬المنى من غير الزوج والبويضة من الزوجة‪:‬‬

‫تلقيح الزوجة بمنى رجل آخر غير زوجها محرم شرعا‪ ،‬لما يترتب عليه من‬
‫اختالط األنساب‪ ،‬ونسبه ولد إلى أب لم يخلق من مائه‪ ،‬وفوق هذا ففى هذه الطريقة‬
‫من التلقيح إذا حدث بها الحمل معنى الزنا ونتائجه‪ ،‬والزنا محرم قطعا بنصوص القرآن‬
‫والسنة‪.‬‬

‫(‪)1‬كتب هذا الموضوع األستاذ الدكتور أنس عبد الفتاح أبو شادي أستاذ الفقه المقارن ورئيس قسم‬
‫الدراسات اإلسالمية بكلية طب البنين بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ 2‬فى شرح المنهاج البن حجر الشافعى وحواشيه وإنما (ج ‪ 8 -‬ص ‪ 230‬و ‪ 231‬فى كتاب العدة)‬
‫تجب عدة النكاح بعد وطء أو بعد استدخال منيه أى الزوج المحترم وقت إنزاله واستدخاله ومن ثم‬
‫لحق النسب‪.‬‬
‫( ‪) 41‬‬

‫ثالثا‪ :‬المنى من الزوج والبويضة من غير الزوجة‪:‬‬

‫لو أخذ منى الزوج ولقحت به بويضة امرأة ليست زوجته ثم نقلت هذه البويضة‬
‫الملقحة إلى رحم الزوجة ألن هذه األخيرة ال تفرز بويضات؛ فهذه الصورة كسابقتها‬
‫تدخل في معنى الزنا‪ ،‬والولد الذى يتخلق ويولد من هذا الصنيع حرام‪ ،‬اللتقائه مع الزنا‬
‫المباشر في اتجاه واحد‪ ،‬إذ أنه يؤدى مثله إلى اختالط األنساب‪ ،‬وذلك ما تمنعه‬
‫الشريعة اإلسالمية‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬المنى من الزوج والبويضة من الزوجة والتلقيح خارجيا‪:‬‬

‫إذا أخذت بويضة امرأة ال تحمل ولقحت بمنى زوجها خارج رحمها (أنابيب) ثم‬
‫بعد اإلخصاب تعاد البويضة الملقحة إلى رحم هذه الزوجة مرة أخرى‪.‬‬

‫فى هذه الصورة إذا ثبت قطعا أن البويضة من الزوجة والمنى من زوجها وتم تفاعلهما‬
‫وإخصابهما خارج رحم هذه الزوجة (أنابيب) وأعيدت البويضة ملقحة إلى رحم تلك‬
‫الزوجة دون استبدال أو خلط‪ ،‬وكان هناك ضرورة طبية داعية لهذا اإلجراء‪ ،‬كان‬
‫اإلجراء المسئول عنه في هذه الصورة جائ از شرعا‪ ،‬ألن هذه الصورة من باب التداوى‬
‫مما يمنع الحمل والتداوى بغير المحرم جائز شرعا‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬المنى من الزوج والبويضة من الزوجة والتلقيح في حيوان‪:‬‬

‫وإذا كان مكان (األنابيب) حيوانات تصلح االحتضان هذه البويضة أى تحل‬
‫محل رحم هذه الزوجة لحين أو لفترة معينة يعاد الجنين بعدها إلى رحم ذات الزوجة‪.‬‬

‫لما كان التلقيح على هذه الصورة بين بويضة الزوجة ونطفة زوجها يجمع‬
‫بينهما في رحم أنثى غير اإلنسان من الحيوانات‪ ،‬وستمر هذه البويضة الملقحة بمراحل‬
‫النمو المختلفة‪ ،‬سيكتسب هذا المخلوق صفات هذه األنثى التى اغتذى بدمها في رحمها‬
‫وائتلف معها حتى صار جزءا منها‪ ،‬فإذا تم خلقه كان مخلوقا آخر‪ ،‬وال مرية في أن‬
‫هذا المخلوق يخرج على غير طباع اإلنسان‪ ،‬ألن وراثة الصفات والطباع أمر ثابت‬
‫( ‪) 42‬‬

‫بين السالالت حيوانية ونباتية‪ ،‬وبذلك إن تم فصاله ودرج هذا المخلوق على صورة‬
‫اإلنسان ال يكون إنسانا بالطبع والواقع‪ ،‬ومن يفعل هذا يكون قد أفسد خليقة هللا في‬
‫أرضه‪ ،‬ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح‪ ،‬وإذ كان في التلقيح بهذه الصورة مفسدة‬
‫فإنه يحرم فعله‪.‬‬

‫حكم الزوج الذى يوافق على الطرق غير المشروعة في التلقيح‪:‬‬

‫الزوج الذى يتبنى أى طفل انفصل وكان الحمل به بإحدى الطرق المحرمة ال‬
‫يكون ابنا له شرعا ألنه مشكوك في أبوته له‪ ،‬بل يكون مقطوعا بنفيه حين تكون النطفة‬
‫من رجل آخر أو حيوان‪ ،‬والزوج الذى يقبل أن تحمل زوجته نطفة غيره سواء بالزنا‬
‫الفعلى أو بما في معناه كهذا التلقيح رجل فقد كرامة الرجال‪ ،‬ومن ثم فقد سماه اإلسالم‬
‫ديوثا‪ ،‬وهذا هو شأن الرجل الذى يستبقى زوجة لقحت من غيره بواحد من هذه الطرق‬
‫المحرمة التى ال تقرها الشريعة‪ ،‬ألنها تبتغى في أحكامها كمال بنى اإلنسان ونقاءهم‪.‬‬

‫حكم الطفل الذى يخرج بهذه الطرق‪:‬‬

‫كل طفل ينشأ بالطرق المحرمة قطعا من التلقيح الصناعى حسبما تقدم بيانه‬
‫يعتبر لقيطا ال ينسب إلى أب جبرا‪ ،‬وإنما ينسب لمن حملت به ووضعته فقط كولد الزنا‬
‫ام َأرٍَة أ َْد َخَل ْت َعَلى َق ْو ٍم َم ْن َل ْي َس‬
‫ُّما ْ‬ ‫الفعلي تماما إذ ينسب ألمه فقط‪ .‬وفي الحديث‪ « :‬أَي َ‬
‫ُّما َرُج ٍل َج َح َد َوَل َدهُ َو ُه َو َي ْن ُ‬
‫ظ ُر‬ ‫ّللاِ في َشى ٍء َوَل ْن ُي ْد ِخَل َها َّ َّ‬
‫ِم ْن ُه ْم َفَل ْي َس ْت ِم َن َّ‬
‫ّللاُ َجنتَ ُه َوأَي َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ض َح ُه َعَلى ُرء ِ‬ ‫ِإَلي ِه احتَجب َّ ِ‬
‫ين »‪.1‬‬ ‫ين َواآلخ ِر َ‬ ‫وس األ ََّولِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّللاُ م ْن ُه َوَف َ‬ ‫ْ ْ ََ‬
‫هذا قضاء هللا على لسان رسوله ‪َ { ‬فْليح َذ ِر َّالِذين يخالُِفون عن أَم ِِره أَن تُ ِ‬
‫ص َيب ُه ْم ِف ْت َنةٌ‬ ‫َ َُ َ َْ ْ ْ‬ ‫َْ‬
‫يم } النور ‪.63‬‬ ‫صيبهم ع َذ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب أَل ٌ‬
‫أ َْو ُي َ ُ ْ َ ٌ‬

‫‪ 1‬أبوداود ‪.2265‬‬
‫( ‪) 43‬‬

‫حكم الطبيب الذى يجرى مثل تلك األعمال‪.‬‬

‫واجب الطبيب أن ينظر إلى كل صورة يجريها حتى يعلم وضعه ومسئوليته‬
‫شرعا‪ ،‬فإن كانت الصورة مما تبين تحريمه كان الطبيب آثما وفعله محرما‪ ،‬ألن اإلسالم‬
‫إذا حرم شيئا حرم الوسائل المفضية إليه حتى ال يكون ذريعة للتلبس بالمحرم‪ ،‬كما في‬
‫ّللاِ َف َي ُسُّبوا َّ‬
‫ّللاَ َع ْد ًوا ِب َغ ْي ِر ِعْل ٍم } األنعام ‪،108‬‬ ‫ين َي ْد ُعو َن ِم ْن ُدو ِن َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫اآلية‪َ { :‬وَال تَ ُسبُّوا الذ َ‬
‫اصرها ومعتَ ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َرَها‬ ‫ّللاُ اْل َخ ْم َر َو َش ِارَب َها َو َساق َي َها َوَبائ َع َها َو ُم ْبتَ َ‬
‫اع َها َو َع َ َ َ ُ ْ‬ ‫والحديث‪َ « :‬ل َع َن َّ‬
‫امَل َها َواْل َم ْح ُموَل َة ِإَل ْي ِه ‪ ،»1‬ففى اآلية الكريمة تأصيل لقاعدة سد الذرائع‪ ،‬وفى‬ ‫وح ِ‬
‫ََ‬
‫الحديث الشريف دليل على أن من أعان على محرم كان آثما إثم مرتكبه‪ ،‬وإذا كان ذلك‬
‫وكانت هذه النصوص وغيرها من القرآن الكريم والسنة الشريفة قد وضعت أصال قويما‬
‫في سد الذرائع‪ ،‬فمتى أدى العمل أو الوسيلة إلى محرم صار محرما كذلك‪.‬‬

‫وعلى ذلك فالطبيب الذي يعين بعلمه وعمله في التلقيح الصناعى بالصور غير‬
‫المشروعة والمحرمة‪ ،‬يكون آثما ألن ما كان وسيلة للمحرم يكون محرما شرعا‪ ،‬ويكون‬
‫كسبه في هذه الحال كسبا محرما غير مشروع‪ ،‬وعليه أن يقف عند الحد المباح‪ ،‬وهو‬
‫منحصر في تلقيح بويضة زوجة بنطفة زوجها بإدخالها رحمها‪ ،‬أو باستنباتها بعد‬
‫التلقيح في األنابيب إلى حين‪ ،‬ثم تستدخل في رحم ذات الزوجة‪.2‬‬

‫(‪)3‬‬
‫الموضوع الثاني‪ :‬استئجار األرحام‬
‫من القضايا المعاصرة في الطب والخاصة بقسم النساء والتوليد قضية استئجار‬
‫األرحام‪ ،‬واستئجار األرحام يكون غالبا للنساء اللواتي ال يستطعن الحمل واإلنجاب‬
‫لسبب طبي‪ ،‬ولكن عندهن الرغبة في ذلك‪ ،‬ولديهن بويضات صالحة‪ ،‬ولهن أزواج‬

‫‪ 1‬أبو داود ‪.3676‬‬


‫‪ 2‬فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ األزهر السابق‪ ،‬فتاوى دار اإلفتاء المصرية‪ ،‬الموضوع‬
‫(‪.)1225‬‬

‫(‪)3‬كتب هذا الموضوع األستاذ الدكتور أنس عبد الفتاح أبو شادي أستاذ الفقه المقارن ورئيس قسم‬
‫الدراسات اإلسالمية بكلية طب البنين بالقاهرة‪.‬‬
‫( ‪) 44‬‬

‫قادرون على تلقيح هذه البويضات خارجيا (عن طريق األنابيب) لتكوين بويضة ملقحة‪،‬‬
‫فهل يجوز وضع هذه البويضة الملقحة في رحم امرأة مستأجرة‪ ،‬أو متطوعة لتحمله بدال‬
‫من الزوجة‪ ،‬ثم تسلمه لها بعد الوالدة؟ هذه القضية أثارت جدال‪ ،‬واختلف أهل العلم‬
‫المعاصرون فيها؛ فذهب األكثرون إلى منع استئجار األرحام‪ ،‬وأنه غير جائز شرعا‪،‬‬
‫وهو رأي مجمع البحوث اإلسالمية باألزهر الشريف‪ ،1‬وذهب البعض إلى إباحة‬
‫استئجار األرحام‪.‬‬

‫المانعون الستئجار األرحام‪:‬‬

‫استئجار األرحام هو زرع بويضة من امرأة ملقحة بحيوان منوي من زوجها في‬
‫رحم امرأة أخرى حتى تلد‪ ،‬مقابل مبلغ من المال‪ ،‬أو دون مقابل مالي‪ ،‬ألسباب متعددة‪،‬‬
‫قد يكون منها أن صاحبة البويضة ال يصلح رحمها للحمل‪ ،‬أو ليس لها رحم مع وجود‬
‫المبيضين صالحين أو أحدهما إلفراز البويضات‪ ،‬أو قد يكون لرغبة صاحبة البويضة‬
‫في أن تحافظ على صحتها‪ ،‬أو على رشاقتها وجمالها‪ ،‬أو لغير ذلك‪ ،‬من دواع ودوافع‪،‬‬
‫وهذا ال يجوز شرًعا لعدة أمور ‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬عدم وجود زوجية بين صاحب الحيوان المنوي وصاحبة الرحم البديلة‪.‬‬

‫يشترط في جواز اإلنجاب بين رجل وامرأة‪ ،‬أن يتم ذلك في ظل عقد زواج مستوف‬
‫لألركان والشروط‪ ،‬التى بينتها الشريعة‪ ،‬وهنا ال توجد صلة زوجية‪ ،‬بين هذه األم البديلة‬
‫والرجل صاحب الحيوان المنوى‪ ،‬فيكون حملها لبويضة األجنبية عنها‪ ،‬الملقحة من زوج‬
‫المرأة حمالً غير مشروع‪.‬‬

‫وإذا تبين أنه البد من وجود زوجية حالة‪ ،‬بين صاحب الحيوان المنوي وصاحبة‬
‫جنينا المرأة أخرى‪.‬‬
‫البويضة‪ ،‬حتى يجوز التلقيح بينهما‪ ،‬فال يجوز أن تحمل امرأة ً‬

‫‪ 1‬قرار مجمع البحوث اإلسالمية بمصر رقم (‪ )1‬بجلسته المنعقدة بتاريخ الخميس ‪ 29‬مارس‬
‫‪2001‬م‪.‬‬
‫( ‪) 45‬‬

‫األمر الثاني‪ :‬وجود ارتباط شرعي بين حق النجاب من رحم معينة وجواز االستمتاع‬
‫الجنسي بصاحبة هذه الرحم‪.‬‬

‫والقاعدة أن‪ :‬كل من له حق االستمتاع الجنسي بامرأة له حق شغل رحمها‬


‫بالحمل منه‪ ،‬وكل من ليس له حق االستمتاع الجنسي بامرأة ليس له حق شغل رحمها‬
‫بالحمل منه‪ .1‬وفي الصورة التى معنا ونريد التعرف على حكمها‪ ،‬نجد أن البويضة التى‬
‫وضعت في رحم األم البديلة هي مخصبة بحيوان منوي من رجل ليس له حق‬
‫االستمتاع بهذه األم البديلة‪ ،‬فال يجوز له إذن شغل رحم هذه األم البديلة بالحمل منه‪.‬‬

‫األمر الثالث‪ :‬عدم قابلية الرحم للبذل والباحة‪:‬‬

‫من المعروف عند علماء الشريعة‪ ،‬أنه يوجد أشياء قابلة للبذل واإلباحة للغير‪،‬‬
‫أي يجوز لصاحبها أن يعطيها ويبيحها لغيره عن طيب نفس‪ ،‬مثل المأكوالت‪،‬‬
‫والمشروبات‪ ،‬والمالبس‪ ،‬والسيارات‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فهذه األشياء وما ماثلها قابلة للبذل‬
‫واإلباحة للغير‪ ،‬ولهذا يجوز بيعها‪ ،‬وإجارتها وإعارتها وهبتها‪ ،‬والتصدق بها‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫وهناك أشياء غير قابلة للبذل واإلباحة للغير‪ ،‬أي ال يجوز شرًعا أن تعطى‬
‫وتباح للغير‪ ،‬مثل استمتاع الرجل بالمرأة‪ ،‬فهو مقصور على الزوج‪ ،‬فله وحده حق‬
‫االستمتاع بها‪ ،‬وال يجوز للزوج أن يسمح ألحد به‪ ،‬كما ال يجوز للمرأة نفسها أن تسمح‬
‫ألحد غير زوجها به‪.‬‬

‫وإذا كان االستمتاع الجنسي غير قابل للبذل واإلباحة‪ ،‬فإن رحمها يكون هو‬
‫أيضا غير قابل للبذل واإلباحة من باب أولى؛ وذلك ألن االستمتاع ببضع المرأة حرمه‬
‫ً‬
‫الشرع على غير زوجها؛ ألنه يؤدى إلى شغل رحم هذه المرأة بالنطفة‪ .‬فالرحم غير قابلة‬

‫‪ 1‬والدليل على أن كل من له حق االستمتاع بامرأة له حق شغل رحمها بالحمل منه‪ ،‬أنه ال يجوز ألي‬
‫زوجة أن تمنع نفسها من الحمل دون موافقة زوجها‪ ،‬فمن حقه أن ينجب منها ولو كانت رافضة‬
‫لذلك‪ ،‬إال إذا كان رفضها بسبب أن الحمل يؤدى إلى اإلضرار بها‪ .‬والدليل على أن كل من ليس له‬
‫حق االستمتاع الجنسي بامرأة‪ ،‬ليس له حق شغل الرحم بالحمل منه‪ ،‬أن الزاني بامرأة متزوجة ال‬
‫ينسب الولد إليه‪ ،‬بل ينسب إلى زوج المرأة‪ ،‬يؤيد هذا قول الرسول‪ " ‬الولد للفراش‪ ،‬وللعاهر‬
‫الحجر"‪ .‬البخاري ‪ .2053‬أي الولد ينسب لصاحب الفراش وهو الزوج‪.‬‬
‫( ‪) 46‬‬

‫للبذل واإلباحة لغير الزوج‪ ،‬وإال ما اطمأن أحد إلى صحة انتساب أوالده إليه‪ ،‬والزنا‬
‫محرم لهذا المعنى‪.‬‬

‫األمر الرابع‪ :‬تحريم كل ما يؤدى إلى حدوث النزاع والخالف بين الناس‪:‬‬

‫حرم الشرع كل أمر يؤدي إلى حدوث الخالف والنزاع بين األفراد أو‬
‫الجماعات‪ ،‬وقد ثبت أن رسول هللا ‪ ‬نهى عن الغرر‪ ،‬وتأجير األرحام سيؤدى في‬
‫الغالب إلى حدوث هذا النزاع بين المرأتين‪ ،‬أيهما هي األم‪ ،‬هل هي صاحبة البويضة‬
‫الملقحة‪ ،‬أم هي التى حملت وولدت؟ وخاصة إذا كان للطفل حقوق مادية‪ ،‬كالميراث‪،‬‬
‫ومن أهداف الشريعة اإلسالمية كما أشرنا‪ ،‬سد األبواب التى تؤدى إلى حدوث النزاع‬
‫والخالف بين أفراد المجتمع‪ ،‬فكل ما يؤدي إلى حدوث نزاع بين األفراد يكون غير جائز‬
‫شرًعا‪.1‬‬

‫األمر الخامس‪ :‬األصل في الدماء والنساء التحريم‪:‬‬

‫من القواعد الشرعية األصولية قاعدة‪ :‬األصل في األشياء اإلباحة ما لم يرد‬


‫حظر‪ ،‬واألصل في الدماء والنساء التحريم ما لم يرد دليل يدل على اإلباحة‪ .‬فتناول كل‬
‫شيء نافع في الطعام والشراب‪ ،‬وغيره مباح إال إذا ورد تحريمه‪ ،‬أما في جانب النساء‬

‫وهذا النزاع والخالف بين األم البديلة والمرأة صاحبة البويضة الملقحة من زوجها‪ ،‬وقع بالفعل‪ ،‬فقد‬ ‫‪1‬‬

‫استأجر زوجان أمريكيان امرأة أمريكية متزوجة‪ ،‬لتقوم باستضافة البويضة الملقحة من الزوجين‪ ،‬حتى‬
‫يكتمل نمو الجنين وتتم الوالدة‪ ،‬مقابل أجر معين‪ ،‬وتم بالفعل هذا العمل الطبي‪ ،‬حتى حدثت الوالدة‪،‬‬
‫وكانت المفاجأة أن المولود طفل معاق‪ ،‬ومصاب بنقص بالغ في حجم الدماغ‪ ،‬بحيث إن من المؤكد‬
‫متخلفا عقليًّا‪ ،‬وكان رد الفعل من زوج المرأة صاحبة البويضة أن رفض‬
‫ً‬ ‫أنه سيظل طوال حياته يعيش‬
‫مدعيا أنه ليس ًأبا لهذا الطفل‬
‫ً‬ ‫أيضا أن يدفع األجر المتفق عليه‪،‬‬
‫االعتراف بالطفل‪ ،‬بل رفض ً‬
‫وص ِّعد األمر للقضاء فحكمت المحكمة بإثبات بنوة الطفل لزوج المرأة صاحبة البييضة‪ ،‬بناء‬
‫المعاق‪ُ ،‬‬
‫على التحاليل الطبية واختبار الجينات‪ ،‬ومن المؤسف أن الزوجين أص ار على رفض استالم الطفل‪،‬‬
‫دار للحضانة‪ ،‬وتحملت مصاريف إيوائه بدار الحضانة شركة من شركات التأمين‪.‬‬
‫وأودع في النهاية ًا‬
‫( ‪) 47‬‬

‫والدماء فإن الحكم معكوس؛ ألن األصل فيها التحريم ما لم يرد دليل يبيحها‪ ،‬وهذا ال‬
‫يقتصر على الناحية الجنسية‪ ،‬بل هو أعم‪ ،‬فيشمل النظر‪ ،‬واللمس‪ ،‬والخلوة‪ ،‬وغيرها‪ ،‬وال‬
‫يباح شيء من هذا إال بدليل‪.‬‬

‫وإذا طبقنا هذه القاعدة في القضية التى نتكلم فيها‪ ،‬وجدنا أنها تؤدى إلى تحريم‬
‫استخدام رحم امرأة غير زوجة لرجل‪ ،‬لتضع في رحمها نطفته التى لقح بها زوجته؛ ألنه‬
‫ال يوجد دليل يبيح هذا العمل‪ ،‬واألصل التحريم هنا‪ ،‬إال ما قام الدليل على إباحته‪.‬‬

‫إلى من ينسب الطفل؟‬

‫تحريم اإلنجاب بهذه الطريقة‪ ،‬ال يمنع أن نبحث في نسب الطفل من حيث‬
‫األبوة واألمومة‪ ،‬كما بحث العلماء في نسبة ولد الزنا‪.‬‬

‫من ناحية األبوة ينسب الطفل إلى زوج المرأة صاحبة البويضة المخصبة منه‪،‬‬
‫إذا كانت األم البديلة غير متزوجة‪ ،‬وتثبت له كل الحقوق المترتبة على ثبوت النسب‪،‬‬
‫كالميراث‪ ،‬وكذا تثبت له صالت القرابات‪.‬‬

‫وذلك تخريجا ما أفتى به فريق من العلماء من صحة نسبة ولد الزاني إلى‬
‫الزاني‪ ،‬إذا كانت الزانية غير متزوجة‪ ،‬فبعد أن أجمع العلماء على أنه إذا ولد طفل من‬
‫زوجين‪ ،‬فادعاه آخر ال يجوز إلحاقه به؛ ألن الولد للفراش‪ ،‬أما لو كان الطفل من زنا‬
‫على غير فراش‪ ،‬أي بامرأة غير متزوجة‪ ،‬فالجمهور يمنع إلحاق ولد الزنا في هذه‬
‫الصورة أيضا بالزاني‪ ،‬وقال الحسن وإبراهيم النخعي وإسحاق وسليمان بن يسار يلحق‪،‬‬
‫واحتجوا بأن عمر كان يليط "أي يلحق" أوالد الجاهلية بمن ادعاهم في اإلسالم"‪ .‬وعن‬

‫أبي حنيفة أنه قال‪ :‬ال أرى ً‬


‫بأسا إذا زني الرجل بالمرأة‪ ،‬فحملت منه‪ ،‬أن يتزوجها مع‬
‫حملها‪ ،‬ويستر عليها والولد ولد له‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬ألن البويضة الملقحة تحمل الصفات الوراثية لكل من الرجل والمرأة‬
‫الزوجين‪ ،‬وال يغير رحم المرأة األخرى شيئا من هذه الصفات‪ ،‬ألنه ليس إال وعاء لغذاء‬
‫الطفل‪ ،‬ولهذا فالطفل الذي سيكون نتيجة تأجير الرحم‪ ،‬هو ابن للزوجين اللذين أخذت‬
‫( ‪) 48‬‬

‫منهما البويضة الملقحة‪ ،‬والمرأة صاحبة الرحم المستأجر أم للطفل من الرضاع وليس‬
‫من النسب‪ ،‬وهذا يؤكد نسبة الطفل إلى زوج المرأة صاحبة البويضة‪.1‬‬

‫المبيحون الستئجار األرحام‪:‬‬

‫وقد ذهب األستاذ الدكتور عبد المعطي بيومي عميد كلية أصول الدين األسبق إلى‬
‫إباحة استئجار األرحام‪ ،‬واستدل بما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬عدم وجود الزنا أو شبهة الزنا ألن مفهوم الزنا شرعاً يقوم علي الوطء المحرم‪ ،‬أما‬
‫ألن ما زرع في رحم األم البديلة‬
‫شبهة الزنا في الفعل أو الملك فهي غير موجودة أيضاً ّ‬
‫ليس منياً وحده حتي يكون هنا معني لما يمكن ان يؤديه الزنا‪.‬‬

‫‪ -2‬المسألة كلها أشبه بالرضاع فكما يجوز تمليك منفعة الثدي وما يفرزه من لبن ينبت‬
‫اللحم وينشز العظم لدي الوليد فانه يجوز قياس الرحم علي الثدي في ما يفرزه من‬
‫امشاج تنبت اللحم وتنشز العظم لدي الجنين زمن الحمل‪ ،‬لذلك فانه اذا جاز ذلك في‬
‫الثدي فانه يجوز في الرحم‪.‬‬

‫‪ -3‬صاحبة البويضة هي األم الحقيقة ويجب أن ينص العقد علي ذلك ألنها هي‬
‫الشريكة األصلية للزوج في الصفات الوراثية أما ما استفاده الجنين من أمه الحاضنة أو‬
‫الحاملة ال تزيد علي كونها إضافات طارئة‪ ،‬لهذا نطلق علي الحامل هنا األم الحاضنة‬
‫أو الحاملة قياسا علي تسمية األم المرضع بنص القرآن وأمهاتكم الالتي أرضعنكم‪.‬‬

‫‪ -4‬االستناد الي قوله تعالي ان أمهاتهم إال الالئي ولدنهم وقوله تعالي وهللا اخرجكم‬
‫من بطون أمهاتكم وقوله ووصينا االنسان بوالديه حملته أمه وهناً علي وهن وقوله‬

‫مختصر من بحث‪ :‬استئجار األرحام لألستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان‪ ،‬منشور بمجلة المسلم‬ ‫‪1‬‬

‫المعاصر العدد ‪.101‬‬


‫( ‪) 49‬‬

‫ووصينا االنسان بوالديه احساناً حملته أمه كرها ووضعته كرها فهنا ال تعارض ما‬
‫ذهبت اليه‪.‬‬

‫‪ -5‬الرحم ال ينقل صفات وراثية وال يؤدي الي اختالط األنساب‪.‬‬

‫وهذه األدلة قد تم الرد عليها في ثنايا الرأي األول المانع‪ ،‬وهو الراجح لقوة أدلته‬
‫وسالمتها عن المعارضة‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬اختيار جنس الجنين‬
‫يتمنى كثير من الناس ممن رزقهم هللا ذكو ار أن يرزقهم باإلناث‪ ،‬ومن رزقهم‬
‫باإلناث يتمنون الذكور‪ ،‬وكان الناس يتخذون من الوسائل من قديم ما يعتقدون أنه‬
‫يوصلهم إلى مبتغاهم‪ ،‬وهي وسائل بدائية لم يثبت العلم جدواها في هذا الشأن‪ ،‬واآلن‬
‫بعد أن استطاع العلماء أن يذللوا العقبات التي تقف في طريق االستجابة لرغبة الوالدين‬
‫في أن يكون الحمل أنثى أو ذكرا‪ ،‬فما هو حكم هذا العمل الجديد في مجال االستفادة‬
‫مما أعطاه هللا للناس في علم الوراثة؟‬

‫هذا العمل يدخل في باب المباحات‪ ،‬فال نعلم دليال يحرمه‪ ،‬ويمكن االستناد في هذا‬
‫الحكم إلى األمور اآلتية‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬القاعدة األصولية القاضية بأن األصل في األشياء النافعة اإلباحة ما لم‬
‫يرد حظر من الشرع‪ ،‬ولم يوجد حظر في هذه القضية حتى يغير حكم األصل من‬
‫الحالل إلى الحرام‪.‬‬

‫األمر الثاني‪ :‬أن اإلجماع قام على جواز الدعاء بأن يرزق اإلنسان بذكر أو أنثى‪،‬‬
‫ومعلوم أن كل ما جاز الدعاء به جاز فعله‪ ،‬ألن من شروط الدعاء أن يسأل اإلنسان‬
‫ربه أم ار غير محرم‪.1‬‬

‫(‪)1‬كتب هذا الموضوع األستاذ الدكتور أنس عبد الفتاح أبو شادي أستاذ الفقه المقارن ورئيس قسم‬
‫الدراسات اإلسالمية بكلية طب البنين بالقاهرة‪.‬‬
‫( ‪) 50‬‬

‫األمر الثالث‪ :‬القياس على العزل‪ ،‬وهو إلقاء نطفة الرجل خارج جسم المرأة في الجماع‪،‬‬
‫وهذا منع لإلنجاب من األصل‪ ،‬فإذا كان يجوز منع اإلنجاب من أصله‪ ،‬فإن اختيار‬
‫نوع من الحمل يكون هو اآلخر مباحا‪.2‬‬

‫الرد على تساؤالت حول تحديد جنس الجنين‪:‬‬


‫تحديد جنس الجنين من االعتداء على مشيئة هللا‪:‬‬

‫اع ِزْل َع ْن َها ِإ ْن‬


‫األخذ باألسباب مما شاء هللا‪ ،‬وقد أجاز النبي ‪ ‬العزل فقال‪ْ « :‬‬
‫يها َما ُقِّد َر َل َها ‪ .»3‬فإذا كان العزل ال ينافي قدرة هللا وإرادته‪ ،‬مع أن فيه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ش ْئ َت َفإَّن ُه َس َيأْت َ‬
‫منعاً للذكورة واألنوثـة معاً‪ ،‬فجواز ما فيه أحدهما من بـاب أولى‪.‬‬

‫تحديد جنس الجنين من ادعاء علم ما في األرحام‪:‬‬

‫حصر علم ما في األرحام في كونه ذك اًر أو أنثى ال دليل عليه؛ ألن المعنى‬
‫أعم وأشمل من ذلك‪ ،‬فهو يتعلق بعلم ما في األرحام من ذكورة وأنوثة‪ ،‬وصالح وفساد‪،‬‬
‫وحياة وموت‪ ،‬وشقاء وسعادة‪ ،‬وقوة وضعف‪ ،‬وغيره مما ال يعلمه إال هللا‪ ،‬فحصره في‬
‫الذكورة واألنوثة ال دليل عليه‪.‬‬

‫وقد كان في العرب من يعلم من حال األنثى نوع الجنين الذي تحمله‪ ،‬ولم يكفر‬
‫ولم يفسق‪.4‬‬

‫‪ 1‬أ‪ .‬د‪ .‬محمد رأفت عثمان – عميد كلية الشريعة والقانون جامعة األزهر‪ .‬راجع كتاب قضايا فقهية‬
‫معاصرة (‪.)124-123 /1‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق‪ ،‬وقد أيد هذا الرأي مجمع البحوث اإلسالمية باألزهر بجلسته ‪،2008/3/27‬‬
‫والدكتور علي جمعة‪ ،‬والشيخ نصر فريد واصل‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫‪ 3‬مسلم ‪.3629‬‬
‫‪ 4‬قال القرطبي رحمه هللا‪( :‬قال ابن العربي‪ :‬وكذلك قول الطبيب‪ :‬إذا كان الثدي األيمن مسود الحملة‬
‫فهو ذكر ‪ ،‬وإن كان في الثدي األيسر فهو أنثى‪ ،‬وإن كانت المرأة تجد الجنب األيمن أثقل فالولد أنثى‪،‬‬
‫وادعى ذلك عادة ال واجباً في الخلقة لم يكفر ولم يفسق) أ‪ .‬هـ‪.‬‬
‫( ‪) 51‬‬

‫تحديد جنس الجنين ينافي التوكل على هللا‪:‬‬

‫الذهاب إلى الطبيب ـ للعالج من العقم ـ جائز شرعاً‪ ،‬وهو من األخذ باألسباب‬
‫وال ينافي التوكل على هللا تعالى‪ ،‬وهو من باب السعي في إنشاء جنين‪ ،‬وال خالف في‬
‫جوازه‪ ،‬فكذا تحديد جنسه جائز من باب أولى‪.‬‬

‫تحديد جنس الجنين من تغيير خلق هللا‪:‬‬

‫تحديد جنس المولود ليس من تغيير خلق هللا؛ ألنه لم يأت بخلق جديد‪ ،‬ولم‬
‫يغير في خلق هللا شيئاً‪ ،‬ألن الحيوان المنوي هو نفسه‪ ،‬والبويضة هي ذاتها لم يط أر‬
‫عليهما أي تغيير في خلقتهما‪ ،‬ومن المعلوم أن البويضة ال يخترقها إال حيوان منوي‬
‫واحد‪ ،‬وغاية األمر أنهم فصلوا هذا الحيوان (مع تحديد نوعه) ولقحوا به البويضة‪.‬‬

‫تحديد جنس الجنين يؤدي إلى اختالل التوازن البشري‪:‬‬

‫وال يؤدي تحديد جنس المولود إلى اختالل التوازن البشري فيطغى نوع على‬
‫آخر ألن إباحة ذلك مقيدة بالحاجة‪ ،‬وبأن تكون على مستوى األفراد‪ ،‬وال تتبناها الدول‬
‫أو المنظمات‪.‬‬

‫ونحن إذ نقرر ذلك نقول‪ :‬إن من احتاج إلى هذا وأمن عدم اختالط الحيوانات المنوية‬
‫الخاصة به بحيوانات غيره‪ ،‬وكان ذلك بطريقة علمية مؤكدة‪ ،‬وليس فيها ارتكاب محرم‪،‬‬
‫ولم ي ؤد لكشف العورة إال ضرورة ملحة‪ ،‬مع توكله على هللا‪ ،‬وعلمه أن كل شيء بأمره‪،‬‬
‫وأن ما يسعى إليه إنما هو سبب من األسباب إن شاء هللا أمضاه‪ ،‬وإن شاء أبطله‪،‬‬
‫نقول يجوز لك ذلك‪ ،‬ولكن الصبر على ما ابتاله هللا به‪ ،‬والرضا بما قسم هللا له‪ ،‬أفضل‬
‫من السعي في هذا السبيل‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬
‫( ‪) 52‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع الرابع‪ :‬نزع وسائل العاشة عن المرضى‬
‫يعيش اإلنسان في العصر الحديث في ظل تقدم علمي وحضاري متسارع‪،‬‬
‫يحيط بسائر نواحي الحياة وجوانبها‪ ،‬وال يمر يوم على الناس إال وتبرز قضايا حديثة‬
‫تتطلب آراء وأحكاما شرعية وأخالقية تواكب هذا التسارع العلمي والتكنولوجي‪ ،‬حتي‬
‫يسير الناس بطريقة متوازنة بين العلم والخلق‪ ،‬وال يطغى أحدهما على اآلخر‪.‬‬

‫والطب ليس استثناء من ذلك‪ ،‬بل هو من أكثر المجاالت تعرضا لهذه القضايا‪،‬‬
‫الرتباطه الشديد بحياة اإلنسان وراحته الجسمية والعقلية‪ ،‬والتي هي هدف أساسي‬
‫للحضارة اإلنسانية الحديثة‪.‬‬

‫حفظ النفس من مقاصد الشريعة‪:‬‬

‫من المقرر في الشريعة أن حفظ النفوس من آكد الضروريات التي تجب‬


‫مراعاتها بعد حفظ الدين‪ .‬والحفاظ على الحياة يكون بفعل ما يحفظها والكف عما يهلكها‬
‫ويضرها‪ ،‬والمسلم مأمور بإحياء نفسه وعدم إلقائها إلى التهلكة‪ ،‬قال هللا تعالى‪{ :‬وال‬
‫تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ‪ ،}2‬ويجب على المسلم فعل ما يمسك حياته‪ ،‬ويحرم عليه فعل‬
‫ما يؤدي إلى إهالك نفسه أو غيره‪ ،‬فيحرم اإلسالم القتل‪ ،‬ويحرم كذلك االنتحار‪،‬‬
‫ويجعلهما من كبائر الذنوب واآلثام؛ حتى تنازع العلماء هل للقاتل أو المنتحر توبة أم‬
‫ال‪ ،‬وهذه القضية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالناحية الطبية؛ ألنه يحدث لبعض المرضى‬
‫أحيانا أن يصل الطب معهم إلى طريق مسدود في العالج‪ ،‬وينعدم األمل في الشفاء‬
‫طبيا‪ ،‬كما في حالة وفاة جذع المخ‪ ،‬والغيبوبة المرتبطة به‪ ،‬فهل يجوز إنهاء حياة‬
‫المريض لتخيف معاناته‪ ،‬أو معاناة أسرته‪ ،‬بطريقة مباشرة‪ ،‬أو غير مباشرة (كقطع‬
‫األجهزة المساعدة) أم ال؟‬

‫(‪)1‬كتب هذا الموضوع األستاذ الدكتور أنس عبد الفتاح أبو شادي أستاذ الفقه المقارن ورئيس قسم‬
‫الدراسات اإلسالمية بكلية طب البنين بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ 2‬سورة البقرة آية‪.195 :‬‬
‫( ‪) 53‬‬

‫االعتداء على النفس‪:‬‬

‫أجمع المسلمون على تحريم االعتداء على النفس وتحريم القتل بغير حق‪،‬‬
‫واألصل فيه الكتاب والسنة واإلجماع‪.‬‬

‫إس َرِائي َل أََّن ُه َم ْن‬ ‫ِ‬


‫َعَلى َبني ْ‬ ‫َج ِل َذلِ َك َكتَ ْب َنا‬ ‫ِ‬
‫ّللاُ تَ َعاَلى {م ْن أ ْ‬ ‫ال َّ‬ ‫قال هللا تعالى‪َ :‬ق َ‬
‫اها َف َكأَنَّ َما‬
‫َح َي َ‬
‫يعا َو َم ْن أ ْ‬
‫ِ‬
‫َجم ً‬ ‫اس‬ ‫ض َف َكأََّن َما َقَت َل النَّ َ‬ ‫س أ َْو َفس ٍاد ِفي ْاأل َْر ِ‬‫َقَت َل َنْفسا ِب َغ ْي ِر َنْف ٍ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫‪1‬‬
‫يعا} ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َح َيا َّ‬
‫اس َجم ً‬ ‫الن َ‬ ‫أْ‬
‫ّللاُ َعَل ْي ِه‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬ومن يْقُتل مؤ ِمنا متَع ِمدا َفج َزاؤه جهَّنم خالِدا ِفيها و َغ ِ‬
‫ض َب َّ‬ ‫َ َ ْ َ ْ ُ ْ ً ُ َ ًّ َ ُُ َ َ ُ َ ً َ َ‬
‫ِ‬
‫َعَّد َل ُه َع َذ ًابا َعظ ً‬
‫يما‪.}2.‬‬ ‫َوَل َع َن ُه َوأ َ‬

‫وروى البخاري‪{ :‬لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما‪.}3‬‬
‫وعن عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنهما أن رسول هللا ‪ ‬قال‪{ :‬لزوال الدنيا أهون على‬
‫هللا من قتل رجل مسلم‪.}4‬‬

‫وعن عبد هللا بن عمر قال رأيت رسول هللا ‪ ‬يطوف بالكعبة ويقول « َما‬
‫ظ َم ُح ْرَمتَ ِك‪َ ،‬و َّالِذى َنْف ُس ُم َح َّمٍد ِب َيِدِه‪َ ،‬ل ُح ْرَم ُة‬ ‫َع َ‬ ‫طيب ِريح ِك‪ ،‬ما أَع َ ِ‬
‫ظ َمك‪َ ،‬وأ ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫أَ ْ ِ‬
‫ط َي َبك‪َ ،‬وأَ ْ َ َ‬
‫ظ َّن ِب ِه ِإالَّ َخ ْي ًار»‪.5‬‬
‫َن َن ُ‬ ‫ِ ِ ِِ ِ ِ‬ ‫ظم ِعند َّ ِ‬
‫ّللا ُح ْرَم ًة م ْنك‪َ ،‬ماله َوَدمه َوأ ْ‬ ‫َع َ ُ ْ َ‬ ‫اْل ُم ْؤ ِم ِن أ ْ‬

‫سورة المائدة آية ‪ ،32‬وهذه اآلية تجعل قتل النفس الواحدة كقتل جميع الناس مبالغة في تعظيم‬ ‫‪1‬‬

‫أمر القتل وتفخيما لشأنه‪ :‬أي كما أن قتل جميع الناس أمر عظيم القبح عند كل أحد فكذلك قتل‬
‫الواحد يجب أن يكون كذلك‪ ،‬ومن أحيا النفس أي بتخليصها من المهلكات كالحرق والغرق والجوع‬
‫المفرط والحر والبرد المفرطين‪ .‬الزواجر ‪.144/2‬‬
‫سورة النساء آية ‪.93‬‬ ‫‪2‬‬

‫الحديث رواه البخاري ‪.6355‬‬ ‫‪3‬‬

‫الترمذي ‪ ،1315‬النسائي ‪ ،3922‬ابن ماجة ‪.2609‬‬ ‫‪4‬‬

‫ابن ماجة ‪.4067‬‬ ‫‪5‬‬


‫( ‪) 54‬‬

‫ويمتد حق الحياة والحفاظ عليها في اإلسالم إلى األجنة في بطون أمهاتهم‪ ،‬وقد جعلت‬
‫الشريعة االعتداء على الجنين مؤثما في اإلسالم‪ ،‬ورتبت عقوبة مالية كبيرة على‬
‫المعتدي لصالح الجنين وورثته‪ ،‬والجناية على الجنين تكون باالعتداء على أمه الحامل‬
‫به‪ ،‬فإن ألقت الجنين ميتا ففيه غرة باإلجماع‪.1‬‬

‫الجناية على النفس (االنتحار)‪:‬‬

‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وَال‬ ‫حرمت الشريعة اإلسالمية االنتحار كما حرمت القتل؛‬
‫ِ‬ ‫ّللا َك َ ِ‬ ‫ِ‬
‫َنف َس ُك ْم } أي ال‬ ‫يما‪ .} 2‬فقوله تعالى‪َ { :‬وَال‬
‫تَْقُتُلوا أ ُ‬ ‫ان ب ُك ْم َرح ً‬ ‫َنف َس ُك ْم ۚ إ َّن َّ َ‬
‫تَْقُتُلوا أ ُ‬
‫يقتل بعضكم بعضا‪ ،‬أو المراد النهي عن قتل اإلنسان لنفسه حقيقة وهو الظاهر‪.3‬‬

‫طِن ِه في َن ِار‬ ‫وقال ‪َ « :‬م َن َقَت َل َنْف َس ُه ِب َحِد َيد ٍة َف َحِد َيدتُ ُه في َيِدِه َيتََو َّجأُ ِب َها في َب ْ‬
‫يها أ ََبًدا َو َم ْن َش ِر َب َس ًّما َفَقَت َل َنْف َس ُه َف ُه َو َيتَ َح َّساهُ في َن ِار َج َهنَّ َم َخ ِالًدا‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َج َهَّن َم َخالًدا ُم َخلًدا ف َ‬
‫يها أ ََبًدا َو َم ْن تَ َرَّدى ِم ْن َجَب ٍل َفَقَت َل َنْف َس ُه َف ُه َو َيتَ َرَّدى في َن ِار َج َهنَّ َم َخالًِدا ُم َخَّلًدا‬ ‫َّ ِ‬
‫ُم َخلًدا ف َ‬
‫يها أ ََبًدا »‪.4‬‬ ‫ِ‬
‫فَ‬
‫واالنتحار حرام باإلجماع‪ ،‬ويعتبر من أكبر الكبائر بعد الشرك باهلل تعالى‪.‬‬
‫والسبب أن نفسه ليست ملكا له‪ ،‬بل هي ملك خالقها جل شأنه‪ .‬وهللا لم يأذن بهذا‬
‫الفعل‪ ،‬بل حرمه تحريما شديدا وجعله من كبائر الذنوب واآلثام‪ ،‬والمنتحر فاسق وباغ‬
‫على نفسه‪ ،‬حتى قال بعض العلماء‪ :‬ال يغسل وال يصلى عليه‪ ،‬وقيل‪ :‬ال تقبل توبته‬

‫للحديث أن امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما األخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫فاختصموا إلى رسول هللا ‪ ‬فقضى رسول هللا ‪ ‬أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة‪ ،‬البخاري ‪.3699‬‬
‫الدَي ِة‪ ،‬وِهي َخم ٌس ِم ْن ِْ‬
‫اإلِب ِل‪ .‬وتتعدد الغرة بتعدد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف ُع ْش ِر ّ َ َ ْ‬ ‫صُ‬ ‫يمتُ َها ن ْ‬
‫قال ابن قدامة‪ :319/8‬اْل ُغَّرَة ق َ‬
‫األجنة‪ ،‬وتجب مع الغرة الكفارة عند الشافعية والحنابلة‪ ،‬وتندب الكفارة عند الحنفية والمالكية‪ .‬المغني‬
‫‪ ،326/8‬مغني المحتاج ‪ ،375/5‬رد المحتار ‪ 590/6‬الفواكه الدواني ‪.199/2‬‬
‫سورة النساء آية‪.30-29 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫أحكام القرآن البن العربي ‪.522/1‬‬ ‫‪3‬‬

‫متفق عليه‪ ،‬البخاري ‪ ،5333‬مسلم ‪.158‬‬ ‫‪4‬‬


‫( ‪) 55‬‬

‫تغليظا عليه‪ .‬كما أن ظاهر الحديث السابق يدل على خلوده في النار‪ ،‬وبهذا أخذ‬
‫بعض العلماء‪ ،‬ألن الخلود في النار والحرمان من الجنة جزاء الكفار‪ ،‬إال أن جماهير‬
‫العلماء لم يقولوا بكفر المنتحر؛ وسبب ذلك أن الكفر هو اإلنكار والجحود‪ ،‬وصاحب‬
‫الكبيرة غير الشرك ليس بالضرورة منك ار وال جاحدا‪ ،‬وقد صحت الروايات أن العصاة‬
‫من أهل التوحيد يعذبون ثم يخرجون من النار‪ ،‬والنصوص الدالة على ذلك كثيرة‪ ،‬وعلى‬
‫َن ُي ْش َر َك‬ ‫ِ‬ ‫أن غير الشرك ال يوجب التخليد في النار منها قوله تعالى‪ِ { :‬إ َّن َّ‬
‫ّللاَ ال َي ْغف ُر أ ْ‬
‫اَّللِ َش ْيًئا َد َخ َل‬
‫ك ِب َّ‬
‫ُمتى الَ ُي ْش ِر ُ‬
‫ِب ِه‪ } 1‬اآلية‪ .‬وقوله عليه الصالة والسالم‪ « :‬من مات ِمن أ َّ ِ‬
‫َْ َ َ ْ‬
‫اَّللِ‬
‫تش ِرُكوا ِب َّ‬ ‫اْل َجَّن َة َوإِ ْن َزَنى َوإِ ْن َس َر َق » ‪ .‬وفي الحديث‪ :‬أنه ‪ ‬بايعهم َعَلى‪ « :‬أ ْ‬
‫‪2‬‬
‫َن الَ ْ‬
‫ون ُه َب ْي َن أ َْيِد ُ‬
‫يك ْم‬ ‫ان تَْفتَُر َ‬ ‫َش ْيًئا‪ ،‬والَ تَ ْس ِرُقوا‪ ،‬والَ تَ ْزُنوا‪ ،‬والَ تَْقُتلُوا أ َْوالََد ُكم‪ ،‬والَ تَأْتُوا ِبُب ْهتَ ٍ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اب ِم ْن َذلِ َك‬ ‫وف‪َ ،‬فمن وَفى ِمنكم َفأَجره عَلى َّ ِ‬ ‫وأَرجلِ ُكم‪ ،‬والَ تَعصوا في معر ٍ‬
‫َص َ‬ ‫ّللا‪َ ،‬و َم ْن أ َ‬ ‫ْ ُ ْ ْ ُُ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َُْ ْ َ ْ ُ‬
‫ّللاُ‪َ ،‬ف ُه َو ِإَلى‬ ‫اب ِم ْن َذلِ َك َش ْيًئا ثُ َّم َستَ َرهُ َّ‬‫َص َ‬
‫َّ‬ ‫َش ْيًئا َف ُعوِق َب في ُّ‬
‫الد ْن َيا َف ُه َو َكف َارةٌ َل ُه‪َ ،‬و َم ْن أ َ‬
‫اء َعاَق َب ُه»‪.3‬‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫اء َعَفا َع ْن ُه‪َ ،‬وِإ ْن َش َ‬
‫ّللا إ ْن َش َ‬
‫وقد صرح الفقهاء في أكثر من موضع بأن المنتحر ال يخرج عن اإلسالم‪،‬‬
‫ولهذا قالوا بغسله والصالة عليه‪ ،‬والكافر ال يصلى عليه إجماعا‪ .‬ومن قال من الفقهاء‬
‫ال يصلى عليه‪ ،‬فذلك لزجره وتنفير الناس عن فعله ال لكفره‪.4‬‬

‫النساء‪.116 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫البخاري ‪.1161‬‬ ‫‪2‬‬

‫البخاري ‪ ،17‬ومسلم حديث ‪ ،3223‬التلخيص الحبير ‪.286/3‬‬ ‫‪3‬‬

‫الدر المختار مع حاشيته رد المحتار ‪ ،211/2‬منح الجليل ‪ ،513/1‬المجموع للنووي ‪،230/5‬‬ ‫‪4‬‬

‫ابن حزم في المحلى ‪ ،399/3‬ومما يدل داللة صريحة على أن المنتحر تحت المشيئة‪ ،‬وليس‬
‫مقطوعا بخلوده في النار‪ ،‬حديث جابر أنه قال {لما هاجر النبي ‪ ‬إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن‬
‫عمرو‪ ،‬وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة‪ ،‬فمرض فجزع‪ ،‬فأخذ مشاقص‪ ،‬فقطع بها براجمه‬
‫فشخبت يداه حتى مات‪ ،‬فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة‪ ،‬ورآه مغطيا يديه‪ ،‬فقال له‪ :‬ما‬
‫صنع بك ربك؟ قال‪ :‬غفر لي بهجرتي إلى نبيه ‪ ‬فقال‪ :‬مالي أراك مغطيا يديك؟ قال‪ :‬قيل لي‪ :‬لن‬
‫نصلح منك ما أفسدت‪ ،‬فقصها الطفيل على رسول هللا ‪ ‬فقال رسول هللا ‪ ‬وليديه فاغفر‪ .‬رواه مسلم‬
‫( ‪) 56‬‬

‫نزع وسـائل العاشة عن المرضى‪:‬‬

‫وسائل اإلعاشة تشمل بعض التجهيزات الحديثة التي تبقي األجهزة الحيوية في‬
‫جسم اإلنسان في حالة عمل بوسائل صناعية؛ كأجهزة التنفس الصناعي‪ ،‬وضخ الدم‬
‫صناعيا‪ ،‬وتشمل كذلك غسيل الدم عن طريق الكلى الصناعية‪ ،‬وإدخال الغذاء والماء‬
‫باألنابيب عن طريق األنف أو الفم‪ ،‬وأمثال ذلك‪.‬‬

‫ويحدث أحيانا أن يكون األمل في شفاء هؤالء المرضى معدوما؛ كالمرضى في‬
‫الغيبوبة المخية الذين أصيبوا بموت خاليا جذع المخ‪ ،1‬أو بعض األطفال حديثي‬
‫الوالدة والمصابين بتشوهات وإعاقات ِخلقية خطيرة‪ ،‬وهؤالء ال يستطيعون العيش إال‬
‫بوجود هذه األجهزة الصناعية‪.‬‬

‫ويقع السؤال عن حكم فصل هذه الوسائل الصناعية عن هؤالء المرضى وعما‬
‫إذا كان يعد قتال أو انتحا ار أم ال‪.‬‬

‫ووسائل اإلعاشة الصناعية من أسباب العالج ووسائله‪ ،‬وقد تقدم في الباب‬


‫السابق أن العالج ينقسم شرعا إلى قسمين‪ :‬ظني وحاسم؛ فالعالج الظني هو الذي‬
‫يكون سببا في بقاء الحياة غالبا‪ ،‬ولكن ليس بشكل قاطع‪ ،‬وجمهور العلماء يرى أن هذا‬
‫النوع من العالج مستحب فقط‪ ،‬وليس هناك إثم في تركه‪ ،‬وال يعد تاركه منتحرا‪ ،‬أيا كان‬
‫سبب االمتناع‪.‬‬

‫وأما العالج الحاسم فهو الذي يكون سببا في بقاء الحياة بشكل مؤكد؛ وهذا‬
‫واجب عند الجمهور؛ لوجوب حفظ النفس الذي هو من مقاصد الشريعة‪.‬‬

‫وذهب بعض العلماء إلى عدم وجوب العالج حتى لو كان حاسما كما تقدم‪.‬‬

‫‪ .326‬وهذا كله يدل على أن المنتحر ال يخرج بذلك عن كونه مسلما‪ ،‬لكنه ارتكب كبيرة فيسمي‬
‫فاسقا‪.‬‬
‫‪ 1‬جذع المخ هو المنطقة المنوط بها الوظائف الحياتية األساسية؛ كالتنفس والدورة الدموية والنظر‬
‫وغير ذلك من الوظائف الحيوية‪.‬‬
‫( ‪) 57‬‬

‫وبناء على ذلك فهل يجوز لإلنسان أن يمتنع عن وضع وسائل العاشة الصناعية؟‬

‫واإلجابة أنه ال حرج في نزع وسائل اإلعاشة الصناعية عن المرضى إن كانت‬


‫ال فائدة منها في العالج‪ ،‬وإنما هي فقط أموال تصرف‪ ،‬وزيادة في معاناة المرضى بال‬
‫فائدة‪ ،‬وكذلك ال إثم في نزع وسائل اإلعاشة حين تكون إفادتها لهم ظنية‪ ،‬وليست‬
‫قاطعة في العالج‪.‬‬

‫وأما إن كانت إفادتها قطعية في إنقاذ حياتهم من الهالك‪( ،‬والرأي في هذا‬


‫لألطباء الثقات) فجمهور العلماء يرى عدم جواز إيقاف العالج في هذه الحالة‪ ،‬بناء‬
‫على وجوب العالج الحاسم‪ ،‬بينما يرى بعض الحنابلة جواز إيقافه كما تقدم بيانه‪،‬‬
‫فالمسألة مختلف فيها بين العلماء‪ ،‬واختالف العلماء رحمة‪ ،‬وهو من أسباب التخفيف‬
‫ورفع الحرج‪.‬‬

‫فمن رأى من الناس أن يمتنع عن العالج حتى لو أفاده األطباء أن هذا العالج‬
‫قطعي في إفادته‪ ،‬ال نستطيع الجزم بأنه منتحر‪ ،‬بل يسعه ذلك‪ ،‬وال يعاقب لوجود‬
‫الخالف بين العلماء‪ ،‬ولجواز أن يتبع المسلم أي رأي من آراء العلماء المختلفة بال‬
‫حرج‪.1‬‬

‫المرضى المصابون بموت جذع المخ‪:‬‬

‫َّللاُ بِ ُك ْم ْاليُس َْر َو َال ي ُِري ُد بِ ُك ْم ْالعُس َْر }‪ .‬البقرة‪ .185 :‬ويقول تعالى { َو َما‬ ‫‪ 1‬يقول هللا تعالى‪ { :‬ي ُِري ُد ه‬
‫ِين ِم ْن َح َرجٍ } الحج‪ .78 :‬ويقول ‪ {‬يَ ِس ُروا َوالَ ت ُ َع ِس ُروا‪َ ،‬وبَ ِش ُروا َوالَ تُن َِف ُروا}‪.‬‬ ‫َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم فِي الد ِ‬
‫متفق عليه‪ .‬ويقول ‪{ -‬بُ ِعثْتُ ِب ْال َحنِي ِفيه ِة الس ْهم َح ِة }‪ .‬رواه أحمد‪ .‬ويقول ‪ {‬إِنه َما بُ ِعثْت ُ ْم ُميَ ِس ِرينَ ‪َ ،‬ول ْمَ‬
‫َّللا ‪ ‬بَيْنَ أَ ْم َري ِْن‬ ‫سو ُل ه ِ‬ ‫ت َما ُخيِ َر َر ُ‬‫شةَ قَالَ ْ‬ ‫ت ُ ْب َعثُوا ُمعَ ِس ِرين } رواه البخاري‪ .‬والحديث‪َ { :‬ع ْن َعائِ َ‬
‫اس ِم ْنهُ }‪ .‬متفق‬ ‫س َر ُه َما َما لَ ْم َي ُك ْن ِإثْ ًما فَإ ِ ْن َكانَ ِإثْ ًما َكانَ أَ ْب َع َد النه ِ‬
‫َار أ َ ْي َ‬ ‫أ َ َح ُد ُه َما أ َ ْي َ‬
‫س ُر ِمنَ اآلخ َِر ِإاله ْ‬
‫اخت َ‬
‫عليه‪.‬‬
‫( ‪) 58‬‬

‫ال توجد صعوبة في تشخيص الموت عندما يقع‪ ،‬استنادا إلى ما تعارف عليه‬
‫الناس من قديم من عالمات‪ ،‬أو اعتمادا على الكشف الطبي الظاهري الذي يبين غياب‬
‫العالمات التي تميز الحي من الميت‪.1‬‬

‫نص شرعي يحدد الموت بصورة واضحة‪ ،‬وإال لكان قاطعا‬ ‫وينبغي أن يعلم أنه ال يوجد ّ‬
‫للنزاع‪ ،‬ومنع اختالف الفقهاء في تحديده‪ ،‬وما ورد من اجتهادات للفقهاء تمثل ما توفر‬
‫آنذاك من معرفة طبية في أمر طبي‪.‬‬

‫وموت جذع المخ يعتبر عند كثير من األطباء اآلن موتا كامال؛ ألن منطقة‬
‫جذع المخ هي المنوط بها الوظائف الحياتية األساسية في اإلنسان‪ ،‬والتي ال يمكنه أن‬
‫يعيش بدونها‪ ،‬وعند وفاة خاليا المخ ال يمكن أن تعود للحياة مرة أخرى ألن الخاليا‬
‫العصبية ال تتجدد كبقية خاليا الجسم األخرى‪ .‬وموت جذع المخ يمكن تشخيصه بدقة‪،‬‬
‫ويستطيع األطباء إصدار تشخيص يطمأن إليه بموت جذع المخ‪.‬‬

‫والعلم الطبي المتوفر اآلن يمكنه أن يستبدل أي عضو يتلف أو جزء منه‪ ،‬ما‬
‫دام جذع المخ حيا‪ ،‬أما إن كان جذع المخ قد مات فال أمل في إنقاذه هو أو غيره من‬
‫األعضاء‪ ،‬وإنما تكون حياة المريض قد انتهت‪ ،‬ولو ظلت في أجهزة الجسم األخرى بقية‬
‫من حركة أو حياة فهي بال شك بعد موت جذع المخ صائرة إلى توقف وخمود تام‪.‬‬

‫وتأسيسا على ذلك فاإلنسان الذي يصل إلى مرحلة موت جذع المخ يعتبره‬
‫أكثر األطباء قد مات‪ ،‬وإن كان جسمه ال يزال به حركة‪ ،‬ألن هذه الحركة تكون من‬
‫تأثير األجهزة الصناعية المركبة به ال من أعضائه أصالة‪ ،‬والدليل على ذلك أن‬

‫‪ 1‬وقد ورد في كتب التراث الفقهي بعض األمارات التي تدل على الموت‪ :‬جاء في الدر المختار‪:‬‬
‫غ ْي ِه‪ .‬وفي مختصر خليل للخرشي‪:‬‬ ‫ص ْد َ‬
‫اف ُ‬ ‫س ُ‬‫َو َع َال َمتُهُ ا ْستِ ْرخَا ُء قَ َد َم ْي ِه‪َ ،‬وا ْع ِو َجا ُج َم ْنخ َِر ِه َوا ْن ِخ َ‬
‫سقُو ُ‬
‫ط قَ َد َم ْي ِه فَالَ‬ ‫ان َو ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫شفت ْي ِه فال يَنطبِق ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ص ِر ِه َوان ِف َرا ُج َ‬ ‫ع نَفَ ِس ِه َوإِحْ َدا ُد بَ َ‬ ‫ت أ َ ْربَع‪ :‬ا ْن ِق َ‬
‫طا ُ‬ ‫َو َع َال َماتُ ْال َم ْو ِ‬
‫َ‬
‫ان‪َ ،‬وأ ْن تَ ْنفَ ِر َج زَ ْن َدا يَ َد ْي ِه‪ ،‬وقال في‬ ‫َص َب ِ‬ ‫ي قَ َد َماهُ‪َ ،‬و َال ت َ ْنت ِ‬ ‫َ‬
‫ان‪ ،‬ويقول الشافعي في األم‪ :‬أ ْن ت َ ْست َْر ِخ َ‬ ‫يَ ْنت ِ‬
‫َصبَ ِ‬
‫َاء ِرجْ لَ ْي ِه رد المحتار‬ ‫خ‬ ‫ر‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ي‬‫ف‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ص‬
‫َْ ِ ِ َ ِ ُ ِ َ َ ِ ِِ َ ِ َ ِ ِ ِ َ ِْْ ِ‬ ‫ف‬‫ن‬‫ْ‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ف‬‫ن‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫م‬‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫د‬‫ْ‬ ‫ص‬ ‫اف‬ ‫س‬ ‫خ‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫و‬‫م‬ ‫ِنَ‬‫ُق‬ ‫ي‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫اإلنصاف‪:‬إ‬
‫على الدر المختار ‪ ،189/2‬مختصر خليل للخرشي ‪ ،122/2‬اإلنصاف ‪.467/2‬‬
‫( ‪) 59‬‬

‫األجهزة لو توقفت توقف الجسم فو ار مما يدل على أن الحركة إنما هي من األجهزة‬
‫وليست من الجسم‪.‬‬

‫وهذا له أصل في الفقه في المصاب الذي وصل إلى حركة المذبوح‪ ،1‬فهذه مع‬
‫كونها حركة ظاهرة بالجسم إال أنها لم يعتد بها شرعا ألنها حركة ال تصدر من العضو‬
‫أصالة وإنما هي رد فعل إنعكاسي لعملية الذبح‪ ،‬ومن المعلوم أن الحيوان بعد الذبح‬
‫وقطع األوردة والشرايين الرئيسة مع مجاري الطعام والهواء ال بقاء له وال حياة‪ ،‬كذلك بل‬
‫هو أولى؛ وفاة جذع المخ‪ ،‬ال بقاء للحيوان بعدها وال حياة‪.‬‬

‫وإذا تصور الخيال أن األوعية المقطوعة بالذبح يمكن وصلها في الحيوان المذبوح‬
‫ويبقى على قيد الحياة‪ ،‬فإن ذلك ال يمكن تصوره في حالة وفاة جذع المخ أصال؛ ألنها‬
‫إذا ماتت ال توصل وال تعوض وال تستبدل‪ ،‬طبقا للمعلومات الطبية المعروفة حتى‬
‫اآلن‪ ،2‬إال أنه يتجه احتياطا‪ ،‬ونظ ار لما في هذا الموضوع من الخالف‪ ،‬أال تطبق بقية‬
‫أحكام الموت على من مات له جذع المخ حتى تتوقف األجهزة الرئيسة تماما؛ فينتظر‬
‫به حتى تتوقف األعضاء كلها عن الحركة‪ ،‬ولكن ال مانع كما تقدم من نزع أجهزة‬
‫اإلعاشة عنه ألنها في حالة وفاة جذع المخ بال فائدة‪ ،‬فال مانع من نزعها‪ ،‬ولكن ال‬
‫يجوز التدخل الفعال إلنهاء حياته‪ ،‬وال نزع أعضائه حتى تتيقن وفاته‪ ،‬تكريما لبني آدم‪،‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬ولقد كرمنا بني آدم} اإلسراء ‪.70‬‬

‫‪ 1‬قال النووي في المجموع‪( :‬فَ ْرع) فِي َمذَا ِهبِ ِه ْم فِي ْال ُم ْن َخنِقَ ِة َو ْال َم ْوقُوذَةِ َو ْال ُمت ََر ِديَ ِة َوالنه ِطي َح ِة‪َ ،‬و َما أَ َك َل‬
‫ص َحا ِبنَا‪ :‬لَ َها ثَ َالثَةُ أَحْ َوا ٍل‪( :‬أ َ َح ُدهَا) أ َ ْن يُد ِْر َك َها َولَ ْم‬ ‫ي ِم ْن أ َ ْ‬ ‫اح َدة ِم ْن َهؤ َُال ِء قَا َل ْال َع ْب َد ِر ُّ‬ ‫سبُ ُع إذَا ذُ ِك َي ْ‬
‫ت َو ِ‬ ‫ال ه‬
‫ور‪.‬‬ ‫ْ‬
‫ف َوال ُج ْم ُه ُ‬ ‫س َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬
‫يَبْقَ فِي َها إال َح َركَة َمذبُوحٍ فَ َه ِذ ِه َال ت َِح ُّل ِع ْن َدنَا‪َ ،‬وبِ ِه قَا َل َما ِلك َوأبُو يُو ُ‬
‫‪ 2‬وقد ذهب كثير من األطباء إلي أن وفاة جذع المخ تعتبر موتا حقيقيا في غالبية دول العالم‪ ،‬بينما‬
‫تعترض مدرسة طبية أخري علي هذا الرأي‪ ،‬ورأى فضيلة اإلمام الشيخ جاد الحق علي جاد الحق‬
‫شيخ األزهر السابق‪ ،‬أن الموت ال يكون إال بتوقف جميع مظاهر الحياة عنه‪ ،‬يقول‪":‬وفى نطاق هذا‬
‫يجوز اعتبار اإلنسان ميتا متى زالت مظاهر الحياة منه‪ ،‬وبدت هذه العالماة الجسدية‪ ،‬وليس ما يمنع‬
‫من استعمال أدوات طبية للتحقق من موت الجهاز العصبى‪ ،‬لكن ليس هذا وحده آية الموت بمعنى‬
‫زوال الحياة بل إن استمرار التنفس وعمل القلب والنبض وكل أولئك دليل على الحياة‪ ،‬وإن دلت‬
‫األجهزة الطبية على فقدان الجهاز العصبى لخواصه الوظيفية‪ ،‬فإن اإلنسان ال يعتبر ميتا بتوقف‬
‫الحياة فى بعض أجزائه‪ ،‬بل يعتبر كذلك شرعا وتترتب آثار الوفاة من تحقق موته كلية فال يبقى فيه‬
‫حياة ما‪ ،‬ألن الموت زوال الحياة"‪ .‬فتاوى دار اإلفتاء المصرية‪.‬‬
‫( ‪) 60‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع الخامس‪ :‬التحول الجنسي‬
‫جنس اإلنسان ينقسم إما إلى ذكر وأما إلى أنثى‪ ،‬والناس ال يشتبهون في الفرق بينهما‬
‫منذ آالف السنين‪ ،‬إال بقدر ما يكون هناك من خروج عن القاعدة‪ ،‬واستثناء وشذوذ في‬
‫الخلقة اإلنسانية‪ ،‬يتمثل في البشر الذين يولدون بجنس مضطرب‪ ،‬ال تعرف حقيقته‪ ،‬في‬
‫استثناءات نادرة عرفتها البشرية دوما‪ ،‬ربما كانت حكمتها‪ ،‬أن نشكر هللا على نعمته علينا‬
‫بالخلق السوي‪.‬‬

‫"اضطراب الهوية الجنسية" مرض يعاني المصاب به من التناقض في الهوية الجنسية‬


‫بين جسمه ومشاعره النفسية‪.‬‬

‫معاناة هؤالء األشخاص تكمن في أن مشاعرهم النفسية وأحاسيسهم الداخلية‪ ،‬ترفض‬


‫الجنس الذي ولدوا به‪ ،‬ويسبب لهم ذلك ألما شديدا يصل إلى حد المرض‪ ،‬ويسمى هؤالء‬
‫عند األطباء‪ :‬بالمتحولين جنسيا (ترانسسكشوال ‪ ،(Transsexual‬وهناك أصحاب‬
‫االضطراب الجنسي البدني؛ وهؤالء هم الذين عندهم نوع من اإلشكال أو االلتباس في‬
‫الجنس في أجسامهم‪ ،‬وهم ليسوا أسوياء من الناحية الطبيعية‪ ،‬وذلك يشمل من يولد‬
‫باألعضاء الجنسية للنوعين معا‪ ،‬أو من يولد بغير أعضاء جنسية مطلقاً‪ ،‬أو من يولد‬
‫بأعضاء جنسية ظاهرية تختلف عن األعضاء الجنسية الداخلية‪.‬‬

‫والواحد من هؤالء يطلق عليه عند الفقهاء (الخنثى‪ )2‬وعند األطباء كذلك‪( :‬الخنثى) أو‬
‫(اإلنترسكشوال ‪.)Intersexual -‬‬

‫عالج التحول الجنسي‪:‬‬

‫(‪)1‬كتب هذا الموضوع األستاذ الدكتور أنس عبد الفتاح أبو شادي أستاذ الفقه المقارن ورئيس قسم‬
‫الدراسات اإلسالمية بكلية طب البنين بالقاهرة‪.‬‬
‫اء َج ِميعًا‪ ،‬والمقصود‬
‫س ِ‬‫ص ِلذَك ٍَر َوالَ أ ُ ْنثَى‪ ،‬أَ ِو الهذِي لَهُ َما ِل ِلر َجال َوالنِ َ‬
‫‪ْ 2‬ال ُخ ْنثَى فِي اللُّغَ ِة‪ :‬الهذِي الَ يَ ْخلُ ُ‬
‫بالمشكل الذي لم تمكن معرفة حاله هل هو ذكر أو أنثى فأشكل أمره‪ ,‬وغير المشكل هو الذي رجحت‬
‫ذكورته أو أنوثته‪ ،‬لسان العرب ‪ ،145/2‬تاج العروس ‪.1253/1‬‬
‫( ‪) 61‬‬

‫غير مسموح على المستوى الطبي‪ ،‬وال على المستوى الديني‪ ،‬في أغلب الدول‬
‫العربية واإلسالمية بإجراء عمليات تغيير الجنس‪ ،‬نظ ار لتعارض ذلك مع لوائح النقابات‬
‫الطبية‪ ،‬وفتاوى غالبية العلماء‪ ،‬ونظ ار لما تحمله تلك العمليات من مشكالت كبيرة‪ ،‬على‬
‫المستوى الفردي واالجتماعي‪ ،‬قد ال يقدرها المصابون بهذا المرض في غمرة حماسهم‬
‫إلجراء عمليات التحول‪ ،‬فقد ثبت من دراسات عديدة أن إجراء عمليات التحول ال ينهى‬
‫المشكلة‪ ،‬بل يظل الشخص في دوامة من المتاعب النفسية واالجتماعية‪ ،‬حتى في‬
‫المجتمعات التي تقبل إجراء مثل هذه العمليات‪ ،‬هذا فضال عن التشويه الجراحي البالغ‬
‫في األجهزة التناسلية‪ ،‬وفي الجسد عموما‪ ،‬والذي يجعل الشخص غير قادر على الحياة‬
‫الطبيعية التي يتمناها‪ ،‬ولهذا ال تقل نسب االضطرابات النفسية واالنتحار كثي ار في‬
‫األشخاص الذين أجريت لهم عمليات التحول الجنسي‪ ،‬كما سيأتي بيانه مفصال‪.‬‬

‫وال يوجد في الوقت الحالي عالجات دوائية أو نفسية يصفها الطبيب لحاالت‬
‫اضطراب الهوية الجنسية فتشفى وتكف عن طلب التحول‪ ،‬ولكن العالج يمكن أن يساعد‬
‫الشخص في مواجهة مشكالته النفسية واالجتماعية وأن يحاول التكيف مع ظروفه‪،‬‬
‫ويمارس نشاطات حياتية شبه طبيعية حتى ال يظل أسي ار لكراهية جنسه ولرغبته الملحة‬
‫في التحول‪.‬‬

‫حكم التحول الجنسي‪:‬‬

‫ليس للفقهاء األقدمين في هذه المسألة كالم‪ ،‬ألن اإلجراءات الطبية للتحول‬
‫الجنسي لم تكن معروفة لهم‪ ،‬وال موجودة في زمانهم‪ ،‬وأما الفقهاء المعاصرون فقد اختلفوا‬
‫في حكم هذه المسألة على قولين‪:‬‬

‫القول األول‪ -‬المانعون للتحول الجنسي‪:‬‬

‫ال يجوز عمل إجراء طبي لتحويل الرجل إلى امرأة أو العكس‪ ،‬إال إن كان‬
‫المقصود منها إبراز عضو خلقى مطمور‪ ،‬وال يجوز ذلك لمجرد الرغبة في التغيير‬
‫فحسب‪ ،‬بهذا أفتى شيخ األزهر األسبق‪ :‬جاد الحق على جاد الحق في معرض بيان حكم‬
‫( ‪) 62‬‬

‫إجراء العمليات الجراحية لتحويل الجنس‪ .1‬والفتوى ال تجيز جراحة التحول الجنسي‬
‫لمجرد الدوافع النفسية‪ ،‬دون دواع جسدية صريحة‪ ،‬وعلى هذا النمط بقية فتاوى الفقهاء‬
‫المعاصرين‪.2‬‬

‫القول الثاني‪ -‬المجيزون للتحول الجنسي‪:‬‬

‫قالوا‪ :‬يجوز اتخاذ اإلجراءات العالجية (بما فيها الجراحية) لتحويل الرجل المرأة أو‬
‫العكس‪ ،‬إذا وجد انفصام حاد بين النفس والجسم‪ ،‬وتناقض يعاني منه المريض‪ ،‬بين‬
‫النفسية إنهاء هذا‬
‫ّ‬ ‫الهويتين الجنسيتين لجسمه ولنفسه‪ ،‬وتع ّذر عن طريق المعالجة‬
‫االنفصام والتناقض‪ ،‬فحينئذ تجوز اإلجراءات العالجية لتحويله للجنس اآلخر‪ ،‬انتهاء‬
‫التكيف بين النفس والجسم‪،‬‬
‫(للتحول الجنسي)‪ ،‬وذلك بهدف إعادة ّ‬
‫ّ‬ ‫عملية جراحية‬
‫ّ‬ ‫بإجراء‬
‫األطباء والعلماء‪ ،‬وبهذا أفتى الشيخ‬
‫ّ‬ ‫الجسدية عند‬
‫ّ‬ ‫النفسية و‬
‫ّ‬ ‫الصحة‬
‫ّ‬ ‫والذي هو أساس‬
‫فيصل مولوي‪ ،‬وآخرون‪.‬‬

‫أدلة الفريقين‪:‬‬

‫أدلة المانعين للتحول الجنسي‪:‬‬

‫األول‪ -‬النص على لعن المخنثين من الرجال‪ ،‬والمترجالت من النساء‪ ،‬وكذلك لعن‬
‫المتشبهات بالرجال‪ ،‬والمتشبهين بالنساء‪:‬‬

‫اء‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫النس ِ‬ ‫النِب ُّى ‪ ‬اْلم َخنَِّث َ ِ ِ ِ‬
‫ال َل َع َن َّ‬ ‫َع ِن ْاب ِن َعب ٍ‬
‫ين م َن ا ّلر َجال‪َ ،‬واْل ُمتَ َرّجالَت م َن ّ َ‬ ‫ُ‬ ‫َّاس َق َ‬
‫وه ْم ِم ْن ُبُيوِت ُك ْم »‪.3‬‬
‫َخ ِرُج ُ‬
‫ال « أ ْ‬
‫َوَق َ‬

‫فتاوى دار اإلفتاء المصرية‪ ،‬الموضوع (‪ )1288‬جراحة تحويل الرجل إلى امرأة وبالعكس جائزة‬ ‫‪1‬‬

‫للضرورة‪ .‬المفتى‪ :‬فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق‪.‬‬

‫قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم اإلسالمي في بيان حكم الشارع في عمليات التحويل‬ ‫‪2‬‬

‫الجنسي "المجمع الفقهي اإلسالمي ‪ -‬رقم القرار‪ 5 :‬رقم الدورة‪.11 :‬‬


‫‪ 3‬البخاري ‪.5886‬‬
‫( ‪) 63‬‬

‫والمخنث‪ :‬رجل مكتمل الرجولة جسميا‪ ،‬ولكنه يتعاطى أفعال النساء ويتشبه‬
‫بهن‪ ،‬والعكس في المترجلة من النساء‪.‬‬

‫الرج ِ‬ ‫ات ِم َن ِّ ِ ِ‬
‫َّاس ع ِن النَِّب ِى ‪ ‬أََّنه َلعن اْلمتَ َشِبه ِ‬
‫وفي سنن أبي داود َع ِن ْاب ِن َعب ٍ َ‬
‫ال‬ ‫الن َساء ب ِّ َ‬ ‫ُ َ َ ُ َّ‬ ‫ّ‬
‫واْلمتَ َشِب ِهين ِمن ِ ِ ِ ِ‬
‫النس ِ‬
‫اء‪.1‬‬ ‫الر َجال ب ّ َ‬
‫َ ُ ّ َ َ ّ‬
‫وجه الداللة من هذه النصوص‪:‬‬

‫أن اللعن من دالئل التحريم‪ ،‬فيكون هذا الفعل محرما‪.‬‬

‫ولو كان التخنث أو رغبة التحول للجنس اآلخر خلقة أو مرضا؛ فإنه ال يالم‪ ،‬إال أنه‬
‫يكلف بمقاومة هذه المشاعر المريضة‪ ،‬وإزالة هذه العيوب‪.2‬‬

‫والمرض له أثر في تخفيف الواجبات أو سقوطها للعجز وعدم االستطاعة‪ ،‬ولكن ليس له‬
‫أثر في استباحة المعاصي التي له قدرة على االمتناع عنها؛ واالمتناع عن التشبه‬
‫بالجنس اآلخر‪ ،‬أو التحول إليه‪ ،‬من الواجبات التي افترضها هللا على العباد‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ّللا ِب ِه بعض ُكم عَلى بع ٍ ِ ِ ِ‬
‫صيب ِم َّما ا ْكتَسبوا ۖ ولِ ِلنس ِ‬
‫اء‬ ‫َُ َ َّ‬ ‫ض ل ِّلر َجال َن ٌ‬ ‫ض َل َّ ُ َ ْ َ ْ َ ٰ َ ْ‬ ‫{وَال تَتَ َمَّن ْوا َما َف َّ‬
‫َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ّللا َك َ ِ ِ‬ ‫ّللا ِم ْن َف ْ ِ ِ ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫ِ‬
‫يما} النساء ‪،32‬‬ ‫ان ب ُك ّل َش ْيء َعل ً‬ ‫ضله ۗ إ َّن َّ َ‬ ‫اسأَلُوا َّ َ‬
‫يب م َّما ا ْكتَ َس ْب َن َو ْ‬ ‫َن ٌ‬
‫فيجب االلتزام بها على المريض الذي له قدرة عليها‪ ،‬ألنها حكم من األحكام‪ ،‬وحق من‬
‫حقوق هللا تعالى‪ ،‬ال يسقط بالمرض‪.‬‬

‫ومن هذا يعلم أن الرجل المكتمل الرجولة‪ ،‬إذا وجد من نفسه شعو ار أنه من‬
‫النساء‪ ،‬أو المرأة المكتملة األنوثة‪ ،‬إذا وجدت من نفسها شعو ار أنها من الرجال‪ ،‬أنهم‬
‫مطالبون بمقاومة هذا الشعور ودفعه‪ ،‬ومجاهدة النفس على التكيف مع الجسد الذي خلقوا‬

‫‪ 1‬سنن أبي داود ‪.4099‬‬


‫‪ 2‬في شرح حديث البخاري السابق‪ :‬والمخنث‪ :‬المؤنث من الرجال وإن لم تعرف منه الفاحشة‪ ،‬فإن‬
‫كان ذلك فيه خلقه فال لوم عليه‪ ،‬وعليه أن يتكلف إزالة ذلك‪ ،‬وإن كان بقصد منه فهو المذموم‪.‬‬
‫صحيح البخارى بشرح ارشاد السارى للقسطالنى ‪.1460/7‬‬
‫( ‪) 64‬‬

‫به‪ ،‬طالما كان ذلك مقدو ار لهم‪ ،‬وال يستجاب لطلبهم بتغيير الجسد ليتكيف مع النفس‪،‬‬
‫ألن ذلك محرم‪.‬‬
‫( ‪) 65‬‬

‫الدليل الثاني للمانعين‪ -‬أنه تغيير لخلق هللا‪ ،‬وقد حرم هللا هذا التغيير‪:‬‬

‫ّللاِ‪َ :‬ل َع َن‬


‫وع ْن َع ْبِد َّ‬ ‫ّللا) النساء‪َ .119 :‬‬ ‫(وَآل ُم َرَّن ُه ْم َفَلُي َغِّي ُرَّن َخْل َق َّ‬
‫وبرهان ذلك قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ّللاِ‬
‫ات َخْل َق َّ‬ ‫ات لِْلحس ِن‪ ،‬اْلمغِير ِ‬ ‫ات واْلمتََفّلِج ِ‬ ‫ات‪ ،‬واْلمتَن ِمص ِ‬ ‫ات‪ ،‬واْلمستَوِشم ِ‬
‫ّللا اْلو ِاشم ِ‬
‫ُ َ َّ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ ُ َّ َ‬ ‫َ ُْ ْ َ‬ ‫َّ ُ َ َ‬
‫ول َف ُخ ُذوهُ}‬ ‫اب َّ ِ‬
‫تَعاَلى‪ ،‬مالِى الَ أَْلع ُن م ْن َلع َن النَِّب ُّى ‪ ‬و ْهو في ِكتَ ِ‬
‫الرُس ُ‬ ‫اك ُم َّ‬‫{و َما آتَ ُ‬
‫ّللا َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الحشر‪ .1 7:‬وهذا من تغيير خلق هللا المنهي عنه‪ ،‬والممنوع بالنصوص الشرعية السابقة؛‬
‫وه ْم ِم ْن ُبُيوِت ُك ْم »‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫النس ِ‬ ‫ين ِم َن ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َخ ِرُج ُ‬
‫اء وقوله‪ « :‬أ ْ‬ ‫الر َجال‪َ ،‬واْل ُمتَ َرّجالَت م َن ّ َ‬
‫ّ‬ ‫كلعنه ‪ ‬اْل ُم َخنَّث َ‬
‫النِب ُّى ‪ُ ‬فالًَنا‪َ ،‬وأ ْ‬
‫َخ َرَج ُع َم ُر ُفالًَنا‪.2‬‬ ‫َخ َرَج َّ‬
‫ال َفأ ْ‬
‫َق َ‬
‫النِب ِى ‪ ‬أَنَّه َلعن اْلمتَ َشِبه ِ‬
‫ات ِم َن‬ ‫َع ِن ْاب ِن َعب ٍ‬
‫َّاس َع ِن َّ‬ ‫وفي سنن أبي داود‬
‫ُ َ َ ُ َّ‬ ‫ّ‬
‫ِ ِ ِ ِ‬
‫النس ِ‬ ‫ين ِم َن‬ ‫ِ‬
‫النس ِ‬
‫اء ِبال ِرج ِ‬
‫اء‪.3‬‬ ‫الر َجال ب ّ َ‬
‫ّ‬ ‫ال َواْل ُمتَ َشِّب ِه َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الدليل الثالث للمانعين‪ -‬منع التحول الجنسي بسبب الضرر‪:‬‬

‫الضرر الواقع على المرضى من اإلجراءات العالجية للتحول الجنسي‪ ،‬أكثر‬


‫بكثير من المنافع التي يحققها هذا العالج‪ ،‬وهذا الضرر لن يكون قاص ار على الشخص‬
‫المتحول فقط‪ ،‬بل يمتد إلى أسرته‪ ،‬وعمله‪ ،‬والمجتمع كله‪ ،‬وذلك على النحو التالي‪:‬‬

‫الضرر الواقع على المتحول جنسيا‪:‬‬

‫التحول للجنس اآلخر لن يقضي على معاناة المتحولين‪ ،‬ولن يتمتعوا بالراحة‪،‬‬
‫ولن تكون لهم عالقات مستقرة مع شريك للحياة‪ ،‬والرجل المتحول لن يكون امرأة كاملة‬
‫األنوثة أبدا‪ ،‬بحيث تحمل وتضع وترضع‪ ،‬والمرأة المتحولة لن تكون رجالً كامال أبدا‪ ،‬بل‬
‫سيكونون مسوخا مشوهة‪ ،‬وكلهم سيصاب بعد التحول بالعقم الدائم‪ ،‬دع عنك الضرر‬
‫البالغ‪ ،‬والتشوهات التي تصيب الجسم البشري‪ ،‬في حالة إجراء عملية جراحية لتحويل‬

‫‪ 1‬البخاري ‪.5931‬‬
‫‪ 2‬البخاري ‪.5886‬‬
‫‪ 3‬سنن أبي داود ‪.4099‬‬
‫( ‪) 66‬‬

‫الجنس‪ ،‬وهو ضرر جسيم‪ ،‬فوائده غير محققة‪ ،‬وأض ارره مؤكدة بنسبة مائة بالمائة‪ ،‬وال‬
‫يمكن الرجوع فيها أبدا‪.1‬‬

‫هذه هي األضرار التي تقع على المتحول للجنس لآلخر‪ ،‬فما هي الفوائد التي‬
‫يجنيها من هذا التحول؟‬

‫الفوائد الحاصلة من التحول الجنسي‪:‬‬

‫قد يحدث إصالح للمشاعر النفسية واألحاسيس الداخلية لإلنسان‪ ،‬والتي تسبب‬
‫األلم الشديد الذي يصل إلى حد المرض‪ ،‬من شعور اإلنسان باالنتماء لجنس مغاير‪ ،‬وقد‬
‫ذكر األطباء أن حالة التردد واالضطراب الجنسي بعد العالج ربما تستمر‪ ،‬وعليهم‬
‫المتابعة مع العالج النفسي‪.‬‬

‫بل إن العلماء ذكروا أن معدالت االنتحار التي تزيد في هذا المرض‪ ،‬قد تظل‬
‫على حالها بعد عالج تحويل الجنس‪ ،‬ما لم تتم إجراءات عالجية أخرى لضبط المريض‪،‬‬
‫حتى ال ينتحر بعد التحول الجنسي‪ ،‬من الصدمة التي تحدث لكثير من هؤالء المرضى؛‬
‫أنهم لم يجدوا الراحة التي كانوا ينتظرونها‪ ،‬وأن األضرار التي حدثت فادحة‪ ،‬وال سبيل‬
‫لتداركها‪ ،‬وأن الفوائد قليلة‪ ،‬ومشاعر القلق واالضطراب على حالها‪.‬‬

‫والخالصة أن فوائد عالج التحول الجنسي غير محققة‪ ،‬ومحل شك‪ ،‬وهي في هذا تتراوح‬
‫بين الظن والوهم‪.‬‬

‫فمثال‪ :‬التحول من أنثى إلى ذكر يتطلب إزالة الرحم والمهبل‪ ،‬وإزالة الثديين‪ ،‬وتركيب ما يشبه‬ ‫‪1‬‬

‫العضو الذكرى الصناعي‪ ،‬الذي ينتصب بمنفاخ أو ببطارية تزرع في أعلى الفخذ‪ ،‬وتناول هرمونات‬
‫ذكرية لتغيير شكل الجسم والعضالت‪ ،‬ولتغيير نغمة الصوت‪ ،‬وهى أشياء وتغييرات جذرية في تركيب‬
‫الجسم‪ ،‬ال يمكن استدراكها أو استعادتها بعد ذلك‪ ،‬كما أن ذلك ال يمكن الفتاة المتحولة من أن تمارس‬
‫الدور الجنسي الطبيعي للذكر‪.‬‬
‫( ‪) 67‬‬

‫الموازنة بين ضرر العالج وفوائده‪:‬‬

‫فوائد عالج التحول الجنسي (رفع المعاناة عن المرضى) غير محققة‪ ،‬ومحل‬
‫شك‪ ،‬فهي قد تتحقق أو ال تتحقق‪ ،‬والمعاناة قد تستمر مع المرضى بعد العالج‪ ،‬وفوائد‬
‫العالج تتراوح بين الظن والوهم‪.‬‬

‫الضرر الواقع من عالج التحول الجنسي ضرر واقع وحقيقي وال سبيل لتجنبه‪،‬‬
‫ويتمثل في تشويه الجسم‪ ،‬وتعطيل وظائفه‪( ،‬العقم الدائم)‪ ،‬وعدم القدرة على األداء‬
‫الجنسي الطبيعي‪ ،‬بخالف االحتماالت الكبيرة لعدم الشفاء من المعاناة النفسية األساسية‪.‬‬

‫فعلى ذلك ترك عالج التحول الجنسي أفضل من مباشرته‪ ،‬تجنبا ألض ارره‬
‫البالغة التي تفوق فوائده‪ ،‬وألن معاناة االضطراب النفسي‪ ،‬أقل من معاناة تشوه الجسم‬
‫والعقم والعجز الجنسي‪ ،‬مع أن المعاناة األصلية قد ال تزول‪.‬‬

‫الدليل الرابع للمانعين‪ -‬أنه سد لذرائع الفساد واالنحالل؛ وذلك لخطورة هذا‬
‫لهذه‬ ‫السلوك على النسيج االجتماعي واألخالقي لألمم‪ ،‬ومعلوم أن فتح الباب‬
‫السلوكيات‪ ،‬يؤدي إلى انتشارها‪ ،‬حتى بين األصحاء من السفهاء‪ ،‬الذين يستهويهم حب‬
‫الشهرة والتقليد‪ ،‬وحب كل جديد ولو كان ضا ار بهم‪ ،‬واتباع األهواء والشهوات والنزوات‬
‫الضارة بالمجتمع‪.‬‬

‫أدلة المجيزين للتحول الجنسي‪:‬‬

‫أوالا‪ :‬أن فعل المحرمات يجوز للضرورة‪( ،‬الضرورات تبيح المحظورات)‪ ،‬وأنّه قد ثبت‬
‫حاد في‬
‫مرضية عند بعض الناس تتمثل في انفصام ّ‬ ‫ّ‬ ‫األطباء وجود حالة‬
‫ّ‬ ‫برأي جمهور‬
‫تشتد بحيث تصبح حياة‬
‫أن هذه الحالة قد ّ‬ ‫جنسية‪ ،‬وتناقض بين النفس والجسم‪ ،‬و ّ‬
‫الحالة ال ّ‬
‫كل وسائل العالج النفسي‪ ،‬وال يبقى أمام‬
‫يفكر باالنتحار‪ ،‬وقد تفشل ّ‬
‫صاحبها جحيماً‪ ،‬وقد ّ‬
‫الطبيب إالّ إجراء اإلجراءات العالجية (بما فيها الجراحية) للتحويل للجنس اآلخر‪.‬‬

‫والجواب عن ذلك أن هذه الحالة ليست من الضرورات لما يلي‪:‬‬


‫( ‪) 68‬‬

‫أوال‪ -‬أن نسب االنتحار من هذا المرض نادرة‪ ،‬واألحكام الشرعية تبنى على الغالب‬
‫وليس على النادر‪ ،‬وهذه النسبة في مصر هي دون (‪ ،)% 0.1‬وهي تعنى أن الضرر‬
‫المتوقع من االنتحار ضرر موهوم‪ ،‬والموهومات ال تعتبر في األحكام‪ ،‬وال تعد ضرو ارت‪،‬‬
‫تباح من أجلها المحظورات‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬ألن الضرورة‪ :‬بلوغ اإلنسان حدا؛ إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب (الضرورة‬
‫الملجئة)‪ ،‬كالمضطر لألكل واللبس‪ ،‬بحيث لو بقي جائعا أو عريانا لمات أو تلف منه‬
‫عضو‪ ،‬وهذا يبيح تناول المحرم‪ ،‬والذي يعانيه مرضي اضطراب الهوية الجنسية هو األلم‬
‫النفسي من اضطراب الهوية‪ ،‬واأللم النفسي ليس من الضرورات‪ ،‬ولكنه من الحاجات‪،‬‬
‫والحاجات ال تباح‬

‫من أجلها المحظورات‪.1‬‬

‫ثانيا‪ :‬تغليب الهوية النفسية على الجسمية عند التعارض‪:‬‬

‫النفسية‪ ،‬ولم يمكن تغيير‬


‫ّ‬ ‫الجنسية الظاهرة‪ ،‬مع المشاعر‬
‫ّ‬ ‫قالوا‪ :‬إذا تعارضت األعضاء‬
‫الجنسية‪ ،‬حتّى‬
‫ّ‬ ‫النفسية بعد معالجة سنتين‪ ،‬لم يبق أمامنا إالّ تغيير معالم الجسد‬
‫ّ‬ ‫المشاعر‬
‫نصل إلى التوافق بين جسم اإلنسان ونفسه‪.2‬‬

‫إجابة المانعين عن هذا الدليل‪:‬‬

‫تقدم أن عوامل تحديد الهوية الجنسية في اإلنسان ستة‪:‬‬

‫األول‪ :‬المكون الجيني (الكروموسومات)‪ ،‬والثاني‪ :‬الغدد‪ ،‬والثالث‪ :‬األعضاء التناسلية‬


‫الظاهرة والباطنة‪ ،‬والرابع‪ :‬الهرمونات‪ ،‬والخامس‪ :‬الشكل الخارجي الظاهري‪ ،‬والسادس‪:‬‬
‫التكوين النفسي‪.‬‬

‫‪ 1‬المنثور في القواعد ‪.384/2‬‬


‫‪ 2‬فيصل مولوي‪ ،‬دكتور ‪ /‬محمد المهدى‪ ،‬استشاري الطب‬
‫النفسى‪http://www.elazayem.com.‬‬
‫( ‪) 69‬‬

‫العوامل الخمسة األولى هي معالم الجسم اإلنساني الظاهرة والثابتة والمحددة للجنس عند‬
‫الرجال والنساء‪ ،‬وهي قطعية في داللتها على الجنس‪.‬‬

‫هذه العوامل إما أنها ال يمكن تغييرها أبدا؛ كالكرموسومات‪ ،‬وإما أنها ال يمكن‬
‫تغييرها إال بانتهاك شديد للجسد‪ ،‬وتغيير في تركيبته‪ ،‬ومجازفة ومقامرة بجسم اإلنسان‬
‫وبحياته كلها‪ ،‬كما في تغيير بقية العوامل‪.‬‬

‫العامل النفسي‪ ،‬هو العامل الوحيد الذي هو ظني في داللته على الجنس؛‬
‫ويقبل التغيير تبعا للبيئة والثقافة والعالج النفسي‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫وال يمكن إهدار الظاهر‪ ،‬والثوابت القطعية المحددة لنوع الجنس البشري‪،‬‬
‫والتراكيب الجسمية الواضحة‪ ،‬التي ال تقبل التغيير‪ ،‬والتي تعامل على أساسها اإلنسان‪،‬‬
‫مع أسرته‪ ،‬وفي مجتمعه سنين طواال‪ ،‬لصالح المشاعر النفسية المضطربة‪ ،‬والقابلة‬
‫للتغيير‪ ،‬والواجب أن نحكم بالهوية الجنسية التي يدل عليها تركيب الجسم الظاهر‪ ،‬وليس‬
‫مكنونات النفس‪ ،‬وخفيات الضمائر‪ ،‬وبناء أحكام الدنيا في اإلسالم إنما يكون على‬
‫الظاهر‪ ،‬وقد أجمع على هذا العلماء‪ ،‬ودلت عليه نصوص شرعية كثيرة‪.1‬‬

‫وألن في إثبات الذكورة واألنوثة بادعاءات الناس‪ ،‬وليس بالظاهر‪ ،‬فساد الدنيا‪،‬‬
‫وخراب المجتمعات‪ ،‬واختالط أحكام العورات والميراث وغيرها؛ بادعاءات الرجال أنهم‬
‫نساء‪ ،‬أو ادعاءات النساء أنهن رجال؛ كمن يريد أن يطلع على عورات النساء‪ ،‬أو من‬
‫تريد زيادة نصيبها في الميراث‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وال يحتاج إال لدعوى يدعيها‪ ،‬ويرفض العالج‬
‫النفسي‪ ،‬فيتحقق ما يريد‪.‬‬

‫الدنيا على‬
‫أن أحكام ّ‬
‫البر رحمه هللا اتّفاق العلماء على ذلك فقال‪ ":‬وقد أجمعوا ّ‬
‫وقد نقل ابن عبد ّ‬
‫‪1‬‬

‫األم للشافعي ‪ ،297/1‬التّمهيد البن عبد البر ‪.157/10‬‬


‫وجل"‪ّ .‬‬‫عز ّ‬ ‫السرائر إلى هللا ّ‬
‫إن ّ‬‫ظاهر‪ ،‬و ّ‬
‫ال ّ‬
‫( ‪) 70‬‬

‫الترجيح‪:‬‬

‫الراجح فيما تقدم قول الجمهور‪ ،‬الذين ذهبوا لعدم جواز اتخاذ إجراءات طبية‬
‫لتحويل الناس إلى الجنس اآلخر‪ ،‬لألسباب النفسية فقط‪ ،‬ولكن تجرى هذه اإلجراءات‬
‫فقط في حالة االلتباس الجنسي؛ كازدواج األعضاء الجنسية (وجود أعضاء الذكورة‬
‫واألنوثة جميعا)‪ ،‬أو انعدامها‪ ،‬أو اختالطها‪ ،‬وبشرط أن يكون الجنس المحول إليه موافقا‪،‬‬
‫للتركيب الجسدي لجنس اإلنسان‪ ،‬ومتماشيا مع العوامل الجسدية لتحديد الهوية الجنسية‬
‫فيه‪ ،‬والسابق بيانها‪ ،‬وهي‪ :‬المكون الجيني للجنس والنوع (الصبغيات أو‬
‫الكروموسومات)‪ ،‬والغدد‪ ،‬واألعضاء التناسلية الظاهرة والباطنة‪ ،‬والهرمونات‪ ،‬والشكل‬
‫الخارجي الظاهري‪.‬‬

‫وذلك لقوة األدلة الشرعية التي استدلوا بها‪ ،‬وضعف اإلجابات التي أوردت‬
‫عليها‪ ،‬بل وتهافتها‪ .‬وباهلل تعالى التوفيق‪.‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع السادس‪ :‬التصحيح الجنسي‬
‫التصحيح الجنسي يختلف عن التحول الجنسي الذي تقدم بيانه؛ فالتصحيح‬
‫الجنسي يكون للخنثى‪ ،‬والخنثى هو‪" :‬اإلنسان المصاب بازدواج األعضاء الجنسية‪،‬‬
‫الذكرية واألنثوية أو فقدها"‪.‬‬

‫والخنثى يختلف عن المخنث بكسر النون وفتحها والكسر أفصح‪ ،‬والفتح أشهر‪،‬‬
‫وهو الذي خلقه خلق النساء‪ ،‬في حركاته وهيئته وكالمه ونحو ذلك‪ ،2‬وهو ضربان‪:‬‬

‫(‪)1‬كتب هذا الموضوع األستاذ الدكتور أنس عبد الفتاح أبو شادي أستاذ الفقه المقارن ورئيس قسم‬
‫الدراسات اإلسالمية بكلية طب البنين بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ 2‬في حاشية رد المحتار ‪ :238/4‬المخنث‪ :‬هو من خلقه خلق النساء في حركاته وسكنانه وهيئاته‬
‫وكالمه‪ ،‬فإن كان خلقة فال ذم فيه‪ ،‬ومن يتكلفه فهو المذموم‪ ،‬وفي نهاية المحتاج ‪:289/28‬‬
‫يث ِبَل ْعِن ِه‪ ،‬أَ َّما َم ْن َيْف َع ُل َذلِ َك‬
‫النس ِاء حرَك ًة وهيَئ ًة‪ ،‬وعَلي ِه حمل ْاألَح ِاد ِ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫اْل ُم َخَّنث‪ُ ..:‬ه َو َم ْن َيتَ َخل ُق ِب ُخُل ِق ّ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫( ‪) 71‬‬

‫أحدهما‪ :‬من يكون ذلك خلقة له ال يتكلفه‪ ،‬وال صنع له فيه‪ ،‬فهذا ال إثم عليه وال ذم وال‬
‫عيب‪ ،‬إذ ال فعل له وال كسب‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬من يتكلف ذلك وليس هو بخلقة فيه‪ ،‬فهذا هو المذموم اآلثم الذي جاءت‬
‫األحاديث بلعنه‪.1‬‬

‫الخنثى عند الفقهاء‪:‬‬

‫الخنثى غير المشكل (الواضح)‪ :‬هو من له فرج النساء وذكر الرجال‪ ،‬ولكن‬
‫تتضح فيه عالمات الذكورة واألنوثة‪ ،‬فيعرف أنه رجل أو امرأة‪ ،‬وهذا يكون حكمه على ما‬
‫ظهرت فيه من عالمات الذكورة أو األنوثة‪.‬‬

‫الخنثى المشكل‪:‬‬

‫هو من له فرج النساء وذكر الرجال‪ ،‬ولكن ال تتضح فيه عالمات الذكورة أو‬
‫األنوثة‪ ،‬وال يعرف أنه رجل أو امرأة‪ ،‬أو هو الذي تعارضت فيه العالمات‪.2‬‬

‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ُّ ٍ‬ ‫ِ ِ‬


‫ال ْاب ُن َع ْبد اْلَبِّر‪َ :‬ل ْي َس اْل ُم َخَّن ُث الذي تُ ْع َر ُ‬
‫ف‬ ‫خْلَق ًة م ْن َغ ْي ِر تَ َكلف َف َال َي ْأثَ ُم به‪ ،‬وفي المغني ‪َ :87/15‬ق َ‬
‫يث ِشَّدة التَّأِْن ِ‬
‫يث‬ ‫اص ًة‪ ،‬التَّ ْخِن ُ‬ ‫ِف ِ‬
‫يه اْلَف ِ‬
‫اح َش ُة َخ َّ‬
‫ُ‬

‫الن ْغ َم ِة‪َ ،‬واْل َعْق ِل‪.‬‬


‫ظ ِر‪َ ،‬و َّ‬ ‫ِفي اْل ِخْلَق ِة‪َ ،‬حتَّى ُي ْشِب َه اْل َم ْ أَرَة ِفي الّلِ ِ‬
‫ين‪َ ،‬واْل َك َالمِ‪َ ،‬و َّ‬
‫الن َ‬

‫وه ْم ِم ْن ُبُيوِت ُك ْم» البخاري‬ ‫ال‪ ،‬واْلمتَرِجالَ ِت ِمن ِّ ِ‬ ‫ين ِم َن ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫َخ ِرُج ُ‬
‫ال‪« :‬أ ْ‬ ‫الن َساء َوَق َ‬ ‫َ‬ ‫الر َج َ ُ َ ّ‬‫ّ‬ ‫النِب ُّى ‪ ‬اْل ُم َخَّنث َ‬
‫‪َ 1‬ل َع َن َّ‬
‫ات ِم َن ِّ‬
‫الرج ِ‬ ‫ال واْلمتَ َشِب ِه ِ‬ ‫الن َس ِاء ِب ِّ‬ ‫النِب ِى ‪َ ‬لعن اْلمتَ َشِبه ِ‬
‫ال‬ ‫ين م َن ِّ َ‬ ‫الرَج ِ َ ُ ّ َ‬ ‫َ َ ُ َّ‬ ‫ّ‬
‫وع ِن ْاب ِن َعب ٍ‬
‫َّاس أن َّ‬ ‫‪َ ،5886‬‬
‫الن َس ِاء‪ .‬أبو داود ‪.4099‬‬ ‫ِب ِّ‬

‫ظ َه َر ْت َع َال َمةُ ِّ‬


‫الن َس ِاء َف ُهَو‬ ‫الرج ِ‬
‫ال َف ُهَو َرُج ٌل‪َ ،‬وإِ ْن َ‬ ‫ظ َه َر ْت َع َال َمةُ ِّ َ‬ ‫إن َ‬ ‫العناية شرح الهداية ‪ْ :253/16‬‬
‫‪2‬‬

‫َص ُل ِفي اْل ُخ ْنثَى‬ ‫(األ ْ‬


‫ال‪ْ :‬‬ ‫ِ‬
‫ات‪َ ،‬ف ُهَو ُخ ْنثَى ُم ْشك ٌل‪ .‬وَق َ‬ ‫ض ْت اْل َع َال َم ُ‬ ‫ظ َه ْر َش ْي ٌء‪ ،‬أ َْو تَ َع َار َ‬
‫ام َأرَةٌ‪َ ،‬وإِ ْن َل ْم َي ْ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء ُخلَق ْت م ْن‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َص ُل ُه َو الذ َك ُر؛ أل َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َن َحَّو َ‬ ‫اْل ُم ْشكل) َوَل ْم َيُق ْل اْل ُم ْشكَلة؛ ألَن ُه َل َّما َل ْم ُي ْعَل ْم تَ ْذك ُيرهُ َوتَأْنيثُ ُه َو ْاأل ْ‬
‫اعتََب َرهُ‪ .‬العناية ‪.254/16‬‬ ‫ِ‬
‫ضْل ِع َآد َم ْ‬
‫( ‪) 72‬‬

‫حكم تصحيح الخنثى‪:‬‬

‫ال توجد مشكلة شرعية وال طبية وال قانونية في تصحيح الخنثى‪ ،‬ولم يختلف‬
‫الفقهاء المعاصرون في جواز تصحيح الخنثى‪ ،‬عن طريق اإلجراءات الطبية المختلفة‬
‫التي ترده إلى الجنس الحقيقي الذي ينتمي إليه‪ ،‬والذي ثبت شرعيا أو طبيا‪ .‬بهذا أفتى‬
‫شيخ األزهر األسبق‪ :‬الشيخ جاد الحق على جاد الحق في معرض بيان حكم الشريعة‬
‫اإلسالمية في إجراء العمليات الجراحية لتحويل الجنس‪ ،1‬وعلى هذا النمط بقية فتاوى‬
‫ال‪َّ :‬‬ ‫َن رسول َّ ِ‬ ‫الفقهاء المعاصرين‪ .2‬دليل ذلك‪ :‬أوال‪ -‬روى أَبو َّ ِ‬
‫ّللاَ‬
‫{إن َّ‬ ‫ّللا ‪َ ‬ق َ‬ ‫الد ْرَداء أ َّ َ ُ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫ام َة ْب ِن‬ ‫‪3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ُس َ‬
‫اء َفتََد َاوْوا َوَال تََد َاوْوا باْل َح َار ِم }‪َ .‬و َع ْن أ َ‬
‫اء‪َ ،‬و َج َع َل ل ُك ّل َداء َد َو ً‬
‫اء َوالد َو َ‬
‫تَ َعاَلى أ َْن َزَل الد َ‬
‫ّللا َلم يضع َد َّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫اء َغ ْي َر اْل َه َرِم‪ .}4‬وقد‬ ‫ض َع َل ُه َد َو ً‬ ‫اء إال َو َ‬ ‫ال {قال ‪ :‬تََد َاوْوا َفإ َّن َّ َ ْ َ َ ْ ً‬ ‫َش ِريك َق َ‬
‫اتفق الفقهاء على مشروعية التداوي في الجملة‪.5‬‬

‫ووجه الداللة‪ :‬أن الحديثين السابقين أمر بالتداوي‪ ،‬والخنثى مريض يحتاج للتداوي‪،‬‬
‫ومرضه من األمراض التي يمكن عالجها بإجراء جراحة يتم فيها إزالة المرض وشفاء‬
‫المريض‪ ،‬فيكون هذا التداوي جائزا‪.‬‬

‫الدكتور نصر فريد واصل‪ ،‬والدكتور محمد رأفت عثمان‪ http://www.fatawah.net ،‬ودار‬ ‫‪1‬‬

‫اإلفتاء المصرية‪ ،‬الموضوع (‪ )1288‬جراحة تحويل الرجل إلى امرأة وبالعكس جائزة للضرورة‪.‬‬
‫المفتى‪ :‬فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق‪ 27 .‬يونية ‪ 1981‬م‪ .‬وقد تقدمت الفتوى كاملة‬
‫وفيها‪ :‬إجازة إجراء جراحة يتحول بها الرجل إلى امرأة‪ ،‬أو المرأة إلى رجل متى انتهى رأى الطبيب‬
‫الثقة إلى وجود الدواعى الخلقية فى ذات الجسد بعالمات األنوثة المطمورة‪ ،‬أو عالمات الرجولة‬
‫المغمورة‪ ،‬باعتبار هذه الجراحة مظهرة لألعضاء المطمورة أو المغمورة تداويا من علة جسدية ‪ -‬ال‬
‫تزول إال بهذه الجراحة‪.‬‬

‫المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم اإلسالمي في بيان حكم الشارع في عمليات التحويل الجنسي "‬ ‫‪2‬‬

‫المجمع الفقهي اإلسالمي ‪ -‬رقم القرار‪ 5 :‬رقم الدورة‪.11 :‬‬

‫‪ 3‬أبوداوود في الطب ‪ ،3857‬مسند أحمد ‪.12932‬‬


‫‪ 4‬أبو داود ‪.3857‬‬
‫‪ 5‬الفتاوى الهندية ‪ ،354/5‬حاشية الصاوي ‪ ،769/4‬أسنى المطالب‪ ،295/1‬الفروع البن مفلح‬
‫‪.167/2‬‬
‫( ‪) 73‬‬

‫َن رسول َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬


‫ض َرَر َوالَ‬
‫ال «الَ َ‬
‫ّللا ‪َ ‬ق َ‬ ‫ثانيا‪َ -‬ع ْن َع ْم ِرو ْب ِن َي ْح َيى اْل َم ِازن ِّى َع ْن أَبيه أ َّ َ ُ َ‬
‫ض َرَار‪ .»1‬وجه الداللة‪ :‬أن ترك الخنثى على حالته‪ ،‬فيه ضرر شديد عليه‪ ،‬والضرر‬ ‫ِ‬
‫يكون نفسيا وجسديا ومجتمعيا‪ ،‬وإزالة الضرر عنه مشروعة‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬تغيير خلق هللا في هذه الجراحة مشروع؛ ألنه للعالج وإزالة التشوه‪ ،‬وبيان الجنس‬
‫الحقيقي الذي ينتمي إليه‪ ،‬وتغيير خلق هللا لهذه األغراض جائز‪.‬‬

‫ِ ِ ِ ِ‬
‫النس ِ‬ ‫ين ِم َن ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اء‬ ‫الر َجال‪َ ،‬واْل ُمتَ َرّجالَت م َن ّ َ‬ ‫ّ‬ ‫ال َل َع َن النَِّب ُّى ‪ ‬اْل ُم َخَّنث َ‬ ‫ابعا‪َ -‬ع ِن ْاب ِن َعب ٍ‬
‫َّاس َق َ‬ ‫را‬
‫َخ َرَج النَِّب ُّى ‪ُ ‬فالًَنا‪َ ،‬وأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخ َرَج ُع َم ُر ُفالًَنا‪ .2‬وفي‬ ‫ال َفأ ْ‬ ‫َخ ِرُج ُ‬
‫وه ْم م ْن ُبُيوت ُك ْم »‪َ .‬ق َ‬ ‫ال « أ ْ‬
‫َوَق َ‬
‫الرج ِ‬ ‫ات ِم َن ِّ ِ ِ‬ ‫النِب ِى ‪ ‬أََّنه َلعن اْلمتَ َشِبه ِ‬ ‫سنن أبي داود َع ِن ْاب ِن َعب ٍ‬
‫ال‬ ‫الن َساء ب ِّ َ‬ ‫ُ َ َ ُ َّ‬ ‫ّ‬
‫َّاس َع ِن َّ‬
‫اء‪ .3‬واللعن من دالئل التحريم‪ ،‬فيكون هذا الفعل محرما‪.4‬‬ ‫النس ِ‬ ‫واْلمتَ َشِب ِهين ِمن ِ ِ ِ ِ‬
‫الر َجال ب ّ َ‬
‫َ ُ ّ َ َ ّ‬
‫وجه الداللة‪ :‬أن العلماء ذكروا أن التخنث لو كان خلقة أو مرضا؛ فإنه ال يالم‪ ،‬إال أنه‬
‫يكلف بمقاومة هذه المشاعر المريضة‪ ،‬وإزالة هذه العيوب‪ ،5‬والعالج طريق لذلك‪.‬‬

‫خامسا‪ -‬إن إجراء الجراحة للخنثى إلزالة مظاهر التخنث‪ ،‬وتحويله إلى الحالة الطبيعية‪،‬‬
‫ا‬
‫ليس فيه غش أو تدليس أو غيره مما تنهى عنه الشريعة‪ ،‬إنما الهدف من إجراء الجراحة‬
‫هو إعادة المريض على خلقته السوية الطبيعية لذلك جازت شرعاً‪.‬‬

‫مما سبق يتبين جواز معالجة الخنثى شرعا‪ ،‬وحقه في تثبيت جنسه‪ ،‬وإزالة‬
‫مظاهر التعارض والتخنث منه‪.‬‬

‫‪ 1‬مالك ‪.1435‬‬
‫‪ 2‬البخاري ‪.5886‬‬
‫‪ 3‬سنن أبي داود ‪.4099‬‬
‫‪ 4‬فتح الباري البن حجر ‪.462/15‬‬
‫‪ 5‬في شرح حديث البخاري السابق‪ :‬والمخنث‪ :‬المؤنث من الرجال وإن لم تعرف منه الفاحشة‪ ،‬فإن‬
‫كان ذلك فيه خلقه فال لوم عليه‪ ،‬وعليه أن يتكلف إزالة ذلك‪ ،‬وإن كان بقصد منه فهو المذموم‪.‬‬
‫صحيح البخارى بشرح ارشاد السارى للقسطالنى ‪.1460/7‬‬
‫( ‪) 74‬‬

‫الوحدة الثالثة‬

‫وتحتوي على‪:‬‬
‫حدود العورة‬ ‫الموضوع األول‬
‫ِ‬
‫االختالط والخلوِة بين الرجال والنساء‬ ‫حكم‬ ‫الموضوع الثاني‬
‫أثر الضرورة الطبية والحاجة في النظر إلى العورات‪،‬‬ ‫الموضوع الثالث‬
‫واالختالط والخلوة‬
‫حكم مداواة الرجل للمرأة والعكس‬ ‫الموضوع الرابع‬
‫حكم الوضوء من مس المرضى وعوراتهم‬ ‫الموضوع الخامس‬
‫حكم هدايا األطباء‬ ‫الموضوع السادس‬
‫ِ‬
‫ونحوه‬ ‫ِ‬
‫توجيه المريض إلى صيدلية بعينها‪،‬‬ ‫حكم‬ ‫الموضوع السابع‬

‫وكلها من جمع وإعداد الدكتور‪ /‬أبو الخير نشأت أحمد‪ .‬مدرس الفقه بكلية‬
‫الشريعة والقانون بالقاهرة‬
‫( ‪) 75‬‬

‫الموضوع األول‪ :‬حدود العورة(‪.)1‬‬


‫وفيه ثالثة مطالب‪:‬‬

‫المطلب األول‪ :‬عورة الرجل‬

‫عورة الرجل ما بين سرته وركبته‪ ،‬سواء مع رجال‪ ،‬أو مع نساء‪ ،‬أو في خلوة‪،‬‬
‫وكذا في الصالة غير أنه في الصالة مأمور بستر المنكبين‪ ،‬وإن لم يكونا عورًة(‪.)2‬‬

‫اختلف في حكم كشف الفخذين من الرجل أعورة هما أم ال؟ على قولين(‪:)3‬‬
‫وقد ُ‬
‫قول الحنفية والمالكية والشافعية ورواي ٌة في مذهب أحمد‪.‬‬
‫األول‪ :‬أن الفخذين عورة‪ ،‬وهو ُ‬
‫قول جماعة من الفقهاء‪ ،‬منهم عطاء‪ ،‬وداود‪ ،‬وابن‬
‫الثانى‪ :‬أن الفخذ ليست بعورة‪ ،‬وهو ُ‬
‫حزم‪ ،‬وابن جرير‪ ،‬وأبو سعيد اإلصطخرى من الشافعية‪ ،‬ورواي ٌة أخرى في‬
‫مذهب أحمد‪.‬‬

‫أدلة القول األول‪ :‬استدل الجمهور على أن الفخذ عورة بما يلى‪:‬‬

‫‪ .1‬عن جرهد األسلمي –رضى هللا عنه‪ -‬قال مر بي رسول هللا ﷺ وأنا كاشف‬
‫(‪)4‬‬
‫فخذي‪ ،‬فقال النبى ﷺ‪" :‬غطها فإنها من العورة"‬
‫‪ .2‬عن على رضى هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪" :‬ال تكشف فخذك‪ ،‬وال تنظر‬
‫(‪)5‬‬
‫إلى فخذ حي‪ ،‬وال ميت"‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور أبو الخير نشأت أحمد‪ ،‬مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬
‫(‪ )2‬ينظر في هذا الموضوع وغيره من الموضوعات ذات الصلة‪ ،‬البحث القيم‪ :‬أحكام التعامل بين‬
‫األطباء والمرضى دراسة فقهية مقارنة‪ :‬سيد حسني علي يوسف‪ ،‬رسالة دكتوراه‪ ،‬كلية الشريعة‬
‫والقانون بالقاهرة‪2018 ،‬م‪.‬‬
‫(‪ )3‬انظر فى حكاية القولين‪ :‬المبسوط‪ ،‬السرخسى‪ - 146/10 ،‬بداية المجتهد‪ ،‬ابن رشد‪– 122/1 ،‬‬
‫الشرح الكبير مع حاشية الدسوقى‪ – 215/1 ،‬المجموع شرح المهذب‪ - 1167/3 ،‬المغنى‪ ،‬ابن‬
‫قدامة‪ – 413/1 ،‬المحلى‪ ،‬ابن حزم‪ - 241/2 ،‬نيل األوطار‪.74/2 ،‬‬
‫(‪ )4‬رواه الترمذى فى باب ما جاء أن الفخذ عورة‪ ،‬برقم ‪.408/4 ،2798‬‬

‫(‪ )5‬رواه أبو داود فى باب النهى عن التعرى‪ ،‬برقم ‪.40/4 ،4015‬‬
‫( ‪) 76‬‬

‫‪ .3‬عن ابن عباس –رضى هللا عنهما‪ -‬عن النبى ﷺ‪ ،‬قال‪" :‬الفخذ عورة"(‪.)1‬‬
‫وجه الداللة من هذه األحاديث أنها مصرحة بأن الفخذ من العورة‪ ،‬وفيها األمر‬
‫أيضا أن ما بين السرة والركبة‬
‫بتغطيتها‪ ،‬وهى واردة بالنسبة للنظر ال في الصالة‪ ،‬وفيها ً‬
‫من الرجل عورة‪ ،‬ال يجوز النظر إليه‪ ،‬ويجب ستره‪.‬‬

‫دليل القول الثاني‪ :‬استدل القائلون بأن الفخذ ليست بعورة‪ ،‬بما يلى‪:‬‬

‫كاشفا‬
‫مضطجعا في بيته‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫‪ .1‬عن عائشة‪ ،‬رضى هللا عنها قالت‪ " :‬كان رسول هللا ﷺ‬
‫عن فخذيه‪ ،‬فاستأذن أبو بكر‪ ،‬فأذن له وهو على تلك الحال‪ ،‬ثم استأذن عمر‪،‬‬
‫فأذن له وهو كذلك‪ ،‬فتحدث‪ ،‬ثم استأذن عثمان‪ ،‬فجلس النبي ﷺ‪ ،‬وسوى ثيابه‪،‬‬
‫فدخل فتحدث‪ ،‬فلما خرج قالت له عائشة‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬دخل عليك أبو بكر‪ ،‬فلم‬
‫تهش(‪ ،)2‬ولم تباله‪ ،‬ثم دخل عمر‪ ،‬فلم تهش له‪ ،‬ثم دخل عثمان‪ ،‬فجلست‪ ،‬وسويت‬
‫(‪)3‬‬
‫ثيابك؟ فقال‪ " :‬أال أستحى ممن تستحيى منه المالئكة"‪.‬‬

‫وجه الداللة منه أنه ﷺ كشف عن فخذيه‪ ،‬ولو كانتا عورة لما كشفهما‪.‬‬

‫وقد جمع ابن رشد الجد بين هذه األدلة‪ ،‬بأن ما روى عن النبى ﷺ في الفخذ هل‬
‫فرضا كالقبل والدبر‪ ،‬وأنه‬
‫هو عورة أو ليس بعورة معناه أنه ليس بعورة يجب سترها ً‬
‫عورة يجب سترها في مكارم األخالق ومحاسنها‪ ،‬فال ينبغي التهاون بذلك في المحافل‬
‫تحى منه من ذوى األقدار والهيئات (‪.)4‬‬
‫والجماعات‪ ،‬وال عند من ُي ْس َ‬
‫وجمع ابن القيم بأن العورة عورتان‪ :‬مخففة ومغلظة‪ ،‬فالمغلظة السوأتان‪ ،‬والمخففة‬
‫الفخذان‪ ،‬وال تنافى بين األمر بغض البصر عن الفخذين؛ لكونهما عورة‪ ،‬وبين كشفهما؛‬

‫(‪ )1‬رواه الترمذى فى باب ما جاء أن الفخذ عورة‪ ،‬برقم ‪.408/4 ،2796‬‬

‫(‪ )2‬فى المصباح المنير‪":638/2 ،‬هش الرجل هشاشة‪ ،‬إذا تبسم وارتاح‪ .‬من بابى تعب وضرب"‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم‪ ،‬فى باب من فضائل عثمان –رضى هللا عنه‪ ،‬برقم ‪.1866/4 ،2401‬‬
‫(‪ )4‬البيان والتحصيل‪ – 278/18 ،‬المقدمات الممهدات‪.184/1 ،‬‬
‫( ‪) 77‬‬

‫لكونهما عورة مخففة‪ ،‬ونسبه إلى غير واحد من أصحاب أحمد وغيرهم(‪.)1‬‬

‫قول الجمهور إن الفخذين عورة‪.‬‬


‫الراجــــــــح‪– :‬وهللا أعلم‪َ -‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬عورة المرأة‬

‫وجهها وكفيها؛ ألنه‬


‫ال يضرنا ما قيل عن الخالف بين العلماء في حكم كشف المرأة َ‬
‫ف فيه‪ ،‬وألن الواقع الطبي قد تجاوز إلى التفريط في كشف ما هو متفق‬‫ينكر المختَل ُ‬
‫ال َ‬
‫ِ‬
‫التساهل في أمر العورات‪ ،‬أو التوسع في مفهوم الضرورة والحاجة‬‫على وجوب ستره‪ ،‬و‬
‫في هذا الباب‪.‬‬

‫غير أن ذلك ال يمنع من بيان هذه المسألة وتحرير محل النزاع فيها‪ ،‬فقد وقع فيها‬
‫متأثر‬
‫خلط كبير‪ ،‬وتكلم فيها المتخصص في الفقه وغير المتخصص‪ ،‬وتناولها البعض ًا‬
‫بالواقع القائم‪ ،‬وبالمفاهيم المستوردة‪ ،‬واستسهل كثير من الناس المخالفة فيها بسبب‬
‫اإللف والعادة‪.‬‬

‫وليس المجال مجال تفصيل القول فيها؛ ولذا فسوف أحاول إيجازها لبيان عناية‬
‫الشريعة بأمر الستر‪ ،‬وإظهار البون الشاسع بين ممارسات المسلمين اليوم‪ ،‬وما كانت‬
‫قبل‪ ،‬من العفة‪ ،‬والصيانة‪ ،‬واالنقياد ألمر الشرع الحنيف‪.‬‬
‫عليه األمة من ُ‬
‫تحرير محل النزاع في المسألة‪:‬‬

‫قول من يقول إن الحجاب ليس من‬


‫‪ .1‬ال يعنينا في شيء‪ ،‬وليس من العلم في شيء‪ُ ،‬‬
‫ٍ‬
‫عادة‪ ،‬أو عادةٌ جاهلية‪ ،‬أو يهودية‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬ألن هذا ليس‬ ‫مجرد‬ ‫الدين‪ ،‬وإنه‬
‫ُ‬
‫من أقوال أهل اإلسالم‪ ،‬فاألمة مجمعة على أن الحجاب من العبادات‪ ،‬وأنه مأمور‬
‫به شرًعا‪ ،‬وفى فتاوى دار اإلفتاء المصرية‪" :‬والمرأة يجب عليها ستر كل جسمها عن‬
‫األجانب بما ال يصف وال يشف‪ ،‬مع آراء في كشف الوجه والكفين عند عدم الفتنة‪،‬‬

‫(‪ )1‬حاشية ابن القيم على سنن أبى داود‪ ،‬ط دار الكتب العلمية‪2015 ،‬هـ‪.36/11 ،‬‬
‫( ‪) 78‬‬

‫(‪)1‬‬
‫وكل ذلك في الشابة أو غير المتقدمة في السن‪.‬‬
‫وجهها وكفيها‪،‬‬
‫‪ .2‬أجمع العلماء على تحريم النظر من المرأة األجنبية إلى ما عدا َ‬
‫(‪)2‬‬ ‫ِ‬
‫الوجه والكفين من المرأة عورة‪.‬‬ ‫وعلى أن ما سوى‬
‫‪ .3‬أجمعوا على تحريم النظر إلى وجه المرأة وكفيها عند خوف الفتنة‪ ،‬قال في منهاج‬
‫الطالبين‪" :‬ويحرم نظر فحل بالغ إلى عورة حرة كبيرة أجنبية‪ ،‬وكذا وجهها وكفيها‬
‫عند خوف فتنة‪ ،‬وكذا عند األمن على الصحيح" وفى شرحه المسمى نهاية المحتاج‬
‫أن هذا إجماع‪ ،‬أى تحريم النظر عند خوف الفتنة(‪.)3‬‬
‫‪ .4‬حكاية اإلجماع على منع خروج النساء سافرات‪ ،‬وقد اشتهر شهرة واسعة في كتب‬
‫الفقهاء من جميع المذاهب أنه ال يجوز للمرأة كشف وجهها إذا خافت الفتنة(‪.)4‬‬
‫‪ .5‬الظاهر أنه ال خالف في أن المرأة العجوز يجوز لها كشف وجهها‪ ،‬ما لم تتبرج‬
‫تغطيتها لوجهها خير من كشفه‪ ،‬وذلك لقوله تعالى‪﴿ :‬والَقو ِ‬
‫اعُد ِم َن‬ ‫بزينة‪ ،‬وفى أن‬
‫َ َ‬
‫اح أَن َي َضع َن ِثَي َاب ُه َّن َغيَر‬
‫س َعَلي ِه َّن ُجَن ٌ‬
‫ِ‬
‫َال َير ُجو َن ن َك ا‬
‫احا َفَلي َ‬ ‫اء ال َّال ِتي‬
‫النس ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬

‫يم﴾(سورة النور‪.)60 ،‬‬ ‫ِ‬ ‫وأَن يس َتع ِففن َخير َله َّن و َّ ِ‬ ‫ات ِب ِزيَن ٍة‬
‫ُم َتَب ِر َج ٍ‬
‫يع َعل ٌ‬
‫َّللا َسم ٌ‬ ‫َ ٌ ُ َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫‪ .6‬يفرق الفقهاء بين ثالثة أنواع من العورات في نظر الشرع‪ ،‬هي عورة الصالة‪ ،‬وعورة‬
‫فمثال يجوز للرجل كشف‬
‫ً‬ ‫النظر وعورة الستر‪ ،‬سواء بالنسبة للرجل أو للمرأة‪،‬‬
‫الكتفين‪ ،‬وليسا من العورة التى يجب سترها في غير الصالة‪ ،‬ولكن ورد النهى في‬
‫الصالة أن يصلى الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء(‪ ،)5‬وقد حمله‬
‫أحمد وابن المنذر على الوجوب‪ ،‬وحمله الجمهور على االستحباب‪ .‬وكذا الصغيرة‬

‫(‪ )1‬فتاوى دار اإلفتاء المصرية‪ ،‬فتوى الشيخ عطية صقر‪ ،‬مايو ‪1997‬م‪.21/10 ،‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرطبى‪ ،237/12 ،‬وأدخل ابن القطان القدمين مع الو جه والكفين فى الحكم‪ ،‬وحكى اإلجماع على تحريم النظر إلى ما سواها‪ ،‬انظر إحكام‬
‫النظر فى أحكام النظر بحاسة البصر‪ ،‬أبو الحسن بن القطان‪ ،‬ط دار القلم‪ ،‬دمشق‪1422 ،‬هـ – ‪2012‬م‪ ،‬ص‪.388‬‬
‫(‪ )3‬منهاج الطالبين وعمدة المفتين‪ ،‬النووى‪ ،‬ط دار الفكر‪ ،‬بيروت‪1425 ،‬هـ – ‪2005‬م‪ ،‬ص‪.204‬‬
‫(‪ )4‬انظر على سبيل المثال‪ :‬النهر الفائق شرح كنز الدقائق‪ ،‬سراج الدين بن نجيم الحنفى‪ - 183/1 ،‬مواهب الجلبل‪ ،‬الحطاب المالكى‪– 501/1 ،‬‬

‫كفاية النبيه فى شرح التنبيه‪ ،‬ابن الرفعة الشافعى‪.486/2 ،‬‬


‫(‪ )5‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫( ‪) 79‬‬

‫تؤمر بستر جسدها عدا الوجه والكفين في الصالة‪ ،‬مع أنها يجوز لها أن تبرز‬
‫للرجال في غير الصالة‪ ،‬والمرأة البالغة –كذلك‪ -‬تؤمر بستر جسدها‪ ،‬عدا الوجه‬
‫والكفين في الصالة(‪ ،)1‬ولو كانت في خلوة أو مع زوجها أو محارمها‪ ،‬وال يصح أن‬
‫إلى‪ ،‬فإذا صلت بحضرة الرجال جرى عليها حكم‬
‫تقول إنه ليس معى من يحرم نظره َّ‬
‫رجال ينظر إليها‪.‬‬
‫عورة النظر‪ ،‬فيجب عليها الستر إن خشيت الفتنة‪ ،‬أو علمت أن ً‬
‫قال في مراقى الفالح‪ ،‬في ستر العورة في الصالة‪" :‬وجميع بدن الحرة عورة إال‬
‫ظاهرهما في األصح"‪ ،‬وقال الطحطاوى معلًقا عليه‪" :‬قوله‪:‬‬
‫باطنهما و َ‬
‫وجهها وكفيها َ‬
‫َ‬
‫"إال وجهها" ومنع الشابة من كشفه لخوف الفتنة‪ ،‬ال ألنه عورة" ثم قال‪" :‬وصحح‬
‫بعضهم أنه عورة في الصالة ال خارجها‪ ،‬وال تالزم بين كونه ليس بعورة وجواز‬
‫النظر إليه؛ ألن حل النظر منوط بعدم خشية الشهوة مع انتفاء العورة‪ ،‬ولذا حرم‬
‫وقد فرق ابن القطان‬ ‫(‪)2‬‬
‫النظر إلى وجهها ووجه األمرد إذا شك في الشهوة وال عورة"‬
‫بين هذه األنواع في كتابه إحكام النظر‪ ،‬وإن كان ذكر في تحرير مذهب مالك أن ما‬
‫يجوز ُبُد ُّوهُ يجوز النظر إليه إال لخوف الفتنة(‪ ،)3‬أى أن صالتها تصح ولو كشفت‬
‫وجهها بحضرة رجل‪ ،‬أما حكم كشف وجهها عند الرجل وحكم نظره إليها فهو شىء‬
‫متلثما‪،‬‬
‫ً‬ ‫الرجل‬
‫ُ‬ ‫آخر‪ .‬وفى اإلقناع‪" :‬ويكره أن يصلى في ثوب فيه صورة‪ ،‬وأن يصلى‬
‫والمرأةُ منتقب ًة‪ ،‬إال أن تكون في مكان وهناك أجانب ال يحترزون عن النظر إليها‪،‬‬
‫فال يجوز لها رفع النقاب"(‪ .)4‬اهـ‪ ،‬فال يصح الخلط بين هذه األنواع‪.‬‬
‫‪ .7‬أجمع العلماء على أن ما فوق السرة وما دون الركبة من الرجل ليس بعورة(‪،)5‬‬

‫(‪ )1‬المغنى‪ ،‬ابن قدامة‪430/ ،‬‬


‫(‪ )2‬حاشية الطحطاوى على مراقى الفالح‪ ،‬ص‪.241‬‬
‫(‪ )3‬إحكام النظر فى أحكام النظر بحاسة البصر‪ ،‬ابن القطان‪ ،‬ص‪ ،79‬وفى مواضع عدة من الكتاب‪.‬‬
‫(‪ )4‬اإلقناع فى حل ألفاظ أبى شجاع‪ ،‬الخطيب الشربينى‪ ،‬ط دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪ .‬ت‪.124/1 ،.‬‬
‫(‪ )5‬إحكام النظر‪ ،‬ابن القطان‪ ،‬ص‪.115‬‬
‫( ‪) 80‬‬

‫وأجمعوا على أن السوأتين من الرجل عورة‪ ،‬ال يجوز له إبداؤها إال لزوجته(‪،)1‬‬
‫والسوأتان القبل والدبر‪ ،‬قال ابن عبد البر‪" :‬وقبل الرجل ودبره عورة مجمع عليها")‪.(2‬‬
‫أيضا ال يجوز إبداؤهما إال للزوج(‪.)3‬‬
‫‪ .8‬وأجمعوا على أن السوأتين من المرأة ً‬

‫وبعد ما تقدم من تحرير محل النزاع في عورة المرأة‪ ،‬يبقى نطاق الخالف في ذلك‬
‫ضيقا إلى حد كبير‪ ،‬وذلك على النحو التالي‪:‬‬
‫ا‬
‫عورة المرأة بالنسبة للمرأة هي ما بين السرة والركبة‪ ،‬وهذا بالنسبة للمرأة المسلمة‬
‫ين ِزيَن َت ُه َّن‬ ‫ِ‬
‫دون غيرها ‪ ،‬وهذا ما اختاره ابن كثير وابن القطان‪ ،‬لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَال ُيبد َ‬
‫(‪)4‬‬

‫اء ُب ُعوَل ِت ِه َّن أَو ِإخ َو ِان ِه َّن أَو‬


‫اء بعوَل ِت ِه َّن أَو أَبَن ِائ ِه َّن أَو أَبَن ِ‬
‫ِإَّال لِبعوَل ِت ِه َّن أَو آب ِائ ِه َّن أَو ِ‬
‫آب ُ ُ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخ َوات ِه َّن أَو ن َسائ ِه َّن﴾ (سورة النور‪.)31 ،‬‬ ‫ِ‬ ‫َب ِني ِإخ َوان ِه َّن أَو َبني أ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫وأما عورة المرأة أمام الرجال من محارمها‪ ،‬أو النساء المسلمات‪ ،‬فقد تقدم أن‬
‫األصناف المذكورين في اآلية ليسوا على درجة واحدة فيما ينبغى من التحفظ والتستر‬
‫عندهم‪.‬‬

‫ومجمل ما قاله الفقهاء في عورة المرأة يمكن تلخيصه فيما يلى‪:‬‬

‫‪ .1‬عند المالكية والحنفية(‪ :)5‬جميع بدنها ما عدا الوجه واألطراف‪ ،‬وهى الرأس‬
‫والعنق واليدان والرجالن‪.‬‬
‫‪ .2‬وعند الشافعية ما يبدو عند المهنة‪ ،‬وقيل ما بين السرة والركبة(‪.)6‬‬
‫غالبا‪ ،‬كالرقبة والرأس والكفين والقدمين‬
‫‪ .3‬وقال الحنابلة‪ :‬جميع بدنها‪ ،‬إال ما يظهر ً‬

‫(‪ )1‬السابق‪ ،‬ص‪.121‬‬


‫(‪ )2‬التمهيد‪.236/8 ،‬‬
‫(‪ )3‬إحكام النظر‪ ،‬ابن القطان‪ ،‬ص‪.164‬‬
‫(‪ )4‬إحكام النظر‪ – 345 ،‬تفسير ابن كثير‪.47/6 ،‬‬
‫(‪ )5‬تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق‪ ،‬الزيلعى‪ – 19/6 ،‬شرح الزرقانى على مختصر خليل‪،‬‬
‫‪.313/1‬‬
‫(‪ )6‬العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير‪ ،‬الرافعى‪.475/7 ،‬‬
‫( ‪) 81‬‬

‫غالبا(‪ .)1‬وأما مع المرأة فكالرجل مع‬


‫ونحو ذلك‪ ،‬وليس له النظر إلى ما يستتر ً‬
‫(‪)2‬‬
‫الرجل‪.‬‬

‫عورة الصبيان‪:‬‬

‫قال ابن المنذر‪" :‬أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة تغسل‬
‫الصبى الصغير‪ ...‬واختلفوا في سن الصبى الذى تغسله المرأة؛ فكان الحسن البصرى‬
‫شيئا‪ ،‬وقال مالك‪ ،‬وأحمد‪ :‬ابن سبع سنين‪ ،‬وقال‬
‫فطيما‪ ،‬أو فوقه ً‬
‫ً‬ ‫يقول‪ :‬إذا كان‬
‫األوزاعي‪ :‬ابن أربع أو خمس‪ ،‬وقال إسحاق‪ :‬ابن ثالث إلى خمس‪ ،‬وقال‪ :‬إذا كانت‬
‫الجارية (البنت) مثل ذلك غسلها الرجال‪ ،‬وقال أصحاب الرأي‪ :‬تغسل المرأة الصبى‬
‫الصغير الذى لم يتكلم‪ ،‬وكذلك يغسل الرجل الصغيرة التى لم تتكلم"(‪.)3‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ذكر كان أو أنثى‪.‬‬
‫أما الحنفية فحدوه بكونه ُي ْشتَ َهى أو ال ُيشتهى‪ً ،‬ا‬

‫أما الحنابلة فيفرقون بين من بلغ سبع سنين ومن لم يبلغ‪ ،‬من الذكور واإلناث‪ .‬فأما‬
‫قبل السبع فال حكم لعورة الصغير‪ ،‬فيجوز مسها والنظر إليها‪ ،‬والدليل أن إبراهيم بن‬
‫النبى ﷺ غسله النساء‪ ،‬وأما بعد السبع فال يجوز‪ ،‬ولو كان من المحارم‪ .)5(.‬وقريب منه‬
‫قول المالكية إال أنهم احتاطوا في األنثى أكثر من الذكر؛ ألنها قد تكون ممن ُي ْشتَ َهى‬
‫مثُلها‪ .‬ولهم تفاصيل تدور حول هذا المعنى(‪.)6‬‬

‫وأما الشافعية فلهم تفصيل على النحو التالي‪ ،‬قال في النجم الوهاج‪" :‬وأما الصبى‪..‬‬
‫سبع القبل والدبر‪ ،‬ثم‬
‫فأطلق في شرح المهذب أنه كالبالغ‪ ،‬وقال الصيمرى‪ :‬عورته قبل ٍ‬
‫تتغلظ بعد السبع‪ ،‬ثم بعد العشر يكون كالبالغين؛ ألنه زمان يمكن فيه البلوغ‪ .‬واستسحنه‬

‫(‪ )1‬المغنى‪ ،‬ابن قدامة‪.98/7 ،‬‬


‫(‪ )2‬السابق‪.105/7 ،‬‬
‫(‪ )3‬األوسط فى السنن واإلجماع واالختالف‪ ،‬ابن المنذر‪ ،‬ط دار طيبة‪ ،‬الرياض‪1405 ،‬هـ –‬
‫‪1985‬م‪ – 338/5،‬اإلجماع‪ ،‬ابن المنذر‪ ،‬ص‪ - 44‬اإلشراف على مذاهب العلماء‪ ،‬ابن المنذر‪،‬‬
‫‪.320/2‬‬
‫(‪ )4‬البناية شرح الهداية‪ ،‬العينى‪.190/3 ،‬‬
‫(‪ )5‬كشاف القناع‪ ،‬البهوتى‪.90/2 ،‬‬
‫(‪ )6‬راجعها فى التفريع البن الجالب‪ ،270/1 ،‬وفى عقد الجواهر البن شاس‪182/1 ،‬‬
‫( ‪) 82‬‬

‫الشيخ؛ ألن المنع من النظر إلى عورة الطفل يشق‪ .‬وقال صاحب الحاوي والبيان‪:‬‬
‫األطفال ال حكم لعوراتهم قبل السبع‪ ،‬وحكمهم حكم البالغين بعد إمكان البلوغ‪ ،‬وفيما‬
‫بينهما يحرم النظر إلى الفرج خاصة‪ ...‬ومقتضى إطالقهم أنه ال فرق في تحريم النظر‬
‫ُم ِه ِ‬
‫وغيرها‪ ،‬وفيه ُب ْعٌد‪ ،‬وينبغي الجواز الالزم في زمان التربية والرضاع لمكان‬ ‫ِ‬
‫لذلك بين أ ّ‬
‫الضرورة‪ .‬وقد ذكره ابن القطان في أحكام النظر‪ .‬ومن فوائد معرفة عورة الصغير‪-‬إذا‬
‫طاف به وليه في الحج والعمرة‪ -‬في القدر الذى يجب ستره" اهـ(‪.)1‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬حكم كشف العورة والنظر إليها‬

‫ستر العورة واجب على المكلف‪ ،‬ومن أدلة وجوبه ما يلى‪:‬‬

‫ين َي ُغ ُّضوا ِمن أَب َص ِارِهم َوَيح َف ُ‬ ‫ِ ِ‬


‫وج ُهم﴾ (سورة‬
‫ظوا ُفُر َ‬ ‫‪ .1‬قول هللا تعالى‪ُ ﴿ :‬قل لل ُمؤ ِمن َ‬
‫النور‪ ،)30 ،‬قال ابن جرير‪" :‬يحفظوا فروجهم أن يراها من ال يحل له رؤيتها‪،‬‬
‫)‪(2‬‬
‫ِبُل ْب ِ‬
‫س ما يسترها عن أبصارهم"‬
‫‪ .2‬عن بهز بن حكيم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده معاوية بن حيدة –رضى هللا عنهم‪ -‬قال‪:‬‬
‫قلت‪ :‬يا نبى هللا‪ ،‬عوراتنا ما نأتى منها وما نذر؟ قال‪" :‬احفظ عورتك إال من‬
‫زوجتك أو ما ملكت يمينك"‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول هللا إذا كان القوم بعضهم في بعض؟‬
‫قال‪" :‬إن استطعت أن ال يراها أحد فال تُ ِرَيَّن َها"‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا نبى هللا‪ ،‬إذا كان‬
‫خاليا؟ قال‪" :‬فاهلل أحق أن ُي ْستَ ْح َيى منه من الناس"(‪.)3‬‬
‫أحدنا ً‬
‫وجه الداللة من الحديث‪ :‬أنه أمر بحفظ العورة‪ ،‬والمقصود حفظها من النظر‬
‫إليها‪ ،‬أي سترها عن أعين الناظرين‪ ،‬واألمر يفيد الوجوب فدل على وجوب ستر‬
‫العورة‪ .‬قال الشوكاني‪" :‬والحديث يدل على وجوب الستر للعورة"‪ ،‬وقال‪" :‬ويدل‬

‫(‪ )1‬الحاوى الكبير‪ ،‬الماوردى‪ - 174/2 ،‬البيان فى مذهب اإلمام الشافعى‪ ،‬العمرانى‪.120/2 ،‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبرى‪.15/19 ،‬‬
‫(‪ )3‬رواه الترمذى‪ ،‬وقال‪":‬حديث حسن"‪.‬‬
‫( ‪) 83‬‬

‫على أن التعري في الخالء غير جائز مطلًقا"(‪.)1‬‬

‫وستر السوأتين في الخلوة واجب بالجماع‪ .‬قال ابن القطان‪" :‬ومنه ما ال يجوز‬
‫أيضا ما ال خالف فيه‪ :‬واألصل‬ ‫قطعا‪ ،‬لغير زوج‪ ،‬وذلك سوأتاه‪ ،‬وهذا ً‬ ‫له إبداؤه ً‬
‫ين َي ُغ ُّضوا ِمن أَب َص ِارِهم َوَيح َف ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫وج ُهم ﴾(سورة النور‪،‬‬
‫ظوا ُفُر َ‬ ‫قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬قل لل ُمؤ ِمن َ‬
‫‪.)30‬‬

‫قطعا‪ ،‬قال النووى‪" :‬وفيه دليل على‬


‫وأما في األماكن العامة فيجب ستر العورة ا‬
‫تحريم لمس عورة غيره‪ ،‬بأى موضع من بدنه كان‪ ،‬وهذا متفق عليه‪ ،‬وهذا مما تعم‬
‫به البلوى‪ ...‬وأما كشف الرجل عورته في حال الخلوة بحيث ال يراه آدمى؛ فإن‬
‫كان لحاجة جاز‪ ،‬وإن كان لغير حاجة ففيه خالف العلماء في كراهته وتحريمه‪،‬‬
‫واألصح عندنا أنه حرام"‪ ،‬وقال‪" :‬يجوز كشف العورة في موضع الحاجة في‬
‫الخلوة‪ ،‬وذلك كحالة االغتسال‪ ،‬وحال البول‪ ،‬ومعاشرة الزوجة‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فهذا‬
‫كله جائز فيه التكشف في الخلوة‪ ،‬وأما بحضرة الناس فيحرم كشف العورة في كل‬
‫ذلك‪ ،‬قال العلماء‪ :‬والتستر بمئزر ونحوه في حال االغتسال في الخلوة أفضل من‬
‫التكشف‪ ،‬والتكشف جائز مدة الحاجة في الغسل ونحوه‪ ،‬والزيادة على قدر الحاجة‬
‫حرام على األصح"(‪.)2‬‬

‫صفة الساتر‪ :‬يشترط في الثوب الذى يستر العورة أن ال يكون شفاًفا ُي َرى لو ُن البشرة‬
‫من تحته‪ ،‬وأن ال يكون ملتصًقا بالجسم بحيث يصف تفاصيل الجسم‪ ،‬وهو المقصود‬
‫بقوله ﷺ في أحد الصنفين من أهل النار‪" :‬نساء كاسيات عاريات"(‪)3‬؛ يعنى‪ :‬ال هى‬
‫ِ‬
‫ووصفه(‪.)4‬‬ ‫كاسية‪ ،‬وال هى عارية؛ لشفوف لباسها‬

‫وعن علقمة بن أبى علقمة‪ ،‬عن أمه؛ أنها قالت‪ :‬دخلت حفصة بنت عبد الرحمن‬

‫(‪ )1‬نيل األوطار‪ .73 ،‬وانظر أيضًا عون المعبود‪.39/11 ،‬‬


‫(‪ )2‬شرح النووى على مسلم‪ – 32/4 ،‬وانظر الشرح الكبير‪ ،‬الرافعى‪.32/2 ،‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم‪.‬‬
‫(‪ )4‬أى وصفه لتفاصيل جسدها لكونه ضيِقًا أو ملتصقًا بالبدن‪.‬‬
‫( ‪) 84‬‬

‫خمار‬
‫ًا‬ ‫على عائشة أم المؤمنين‪ ،‬وعلى حفصة خمار رقيق‪َّ ،‬‬
‫فشقَق ْته عائشة وكستها‬
‫كثيفا"(‪)1‬؛ واللباس مال محترم ال يتلف إال للنهى عنه وتحريمه‪.‬‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫وروى ابن أبى شيبة‪ ،‬عن ميمو ِن بن م ْهر َ‬
‫ان‪ ،‬قال‪" :‬ال بأس بالحرير والديباج‬
‫(‪)2‬‬
‫للنساء؛ إنما يكره لهن ما يصف أو يشف"‬

‫وقال ابن القطان‪" :‬كل ما ال يجوز للرجل أن ينطر إليه من المرأة‪ ،‬ال يحل النظر‬
‫وص َوَر لحمها‪ ،‬مثل أن ينظر إلى حلق‬
‫إليه من وراء ثوب رقيق ال يستر حجم عظامها ُ‬
‫َعجيزتها‪ ،‬أو إلى نهود ثدييها‪ ،‬وما أشبه ذلك؛ ألن هذا نظر نحسبه يؤدى من الفتنة إلى‬
‫ما يؤدى إليه النظر بغير ساتر وقر ًيبا منه؛ فامتنع"(‪.)3‬‬

‫حكم النظر إلى العورات‪:‬‬

‫يحرم النظر إلى عورة الغير سواء كان بشهوة أو بغير شهوة‪ ،‬وذلك محل إجماع‪،‬‬
‫فالذى أجمعت عليه األمة‪ ،‬واتفق على تحريمه علماء السلف والخلف من الفقهاء‬
‫واألئمة هو نظر األجانب من الرجال والنساء بعضهم إلى بعض‪ .)4(...‬اهـ‬

‫ويحرم النظر إلى ما ليس بعورة عند خشية الفتنة‪ ،‬ويدخل في ذلك النظر إلى األمرد‬
‫ذى الوجه الحسن‪ ،‬ونظر المرأة إلى المرأة إذا خشيت الفتنة‪ ،‬وكذا الرجل إلى الرجل‪ ،‬ولم‬
‫(‪)5‬‬
‫وذلك كله في غير الضرورة‬ ‫يقل أحد من العلماء بجواز النظر مع خشية الفتنة‪.‬‬
‫والحاجة‪.‬‬

‫ويدل على تحريم النظر إلى العورات ما تقدم من اآليات واألحاديث‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه مالك فى الموطأ‪.‬‬


‫(‪ )2‬رواه ابن أبى شيبة‪.‬‬
‫(‪ )3‬إحكام النظر‪ ،‬ص‪.410‬‬
‫(‪ )4‬أحك ام النظر إلى المحرمات وما فيه من الخطر واآلفات والرد على من استباح حله وادعى‬
‫العصمة فيه من الفتنة‪ ،‬الحافظ أبو بكر العامرى‪ ،‬ط دار ابن حزم‪1418 ،‬هـ – ‪1997‬م‪،‬‬
‫ص‪.32‬‬
‫ً‬
‫(‪ )5‬قال ابن القطان‪":‬وال قائل بجواز النظر مطلقا"‪ .‬إحكام النظر‪ ،‬ابن القطان‪ ،‬ص‪.188‬‬
‫( ‪) 85‬‬

‫ِ‬
‫االختالط والخلوِة بين الرجال والنساء(‪.)1‬‬ ‫الموضوع الثاني‪ :‬حكم‬
‫وفيه مطلبان‪:‬‬

‫المطلب األول‪ :‬حكم االختالط‬

‫كثر الحديث عن االختالط‪ ،‬ما بين عالم مستمسك بالشرع‪ ،‬يضع األمور في‬
‫مواضعها‪ ،‬ويضبط المصطلحات قبل الخوض فيها‪ ،‬وما بين رجل متأثر بالغرب‪ ،‬له‬
‫طا‪ ،‬فيتحدث عن عموميات‪ ،‬يتوهم‬ ‫اء‪ ،‬ويخلط المفاهيم خل ً‬
‫مآرب أخرى‪ ،‬يخبط خبط عشو َ‬
‫من يسمعها أن األمر مفتوح على مصراعيه‪ ،‬وأن عالقة الرجل بالمرأة على عهد رسول‬
‫اليوم والمقلدون لها في بالد‬
‫هللا ﷺ كانت مفتوحة بالصورة التي عليها المدنيات الحديثة َ‬
‫ال مسلمين؛ من هنا كان ال بد من ضبط مصطلح االختالط الذى يدور حوله الحديث‪،‬‬
‫ير للمسألة قبل الخوض في تفاصيلها‪.‬‬
‫تحر ًا‬
‫ِ‬
‫مجرد مرور المرأة في الطرقات‬ ‫الحديث عن االختالط بمعنى‬
‫َ‬ ‫المقصود هنا‬
‫ُ‬ ‫ليس‬
‫واألسواق‪ ،‬التى ال جلوس فيها وال قرار‪ ،‬فما من أحد من العلماء يحرم ذلك بمجرده‪ ،‬وال‬
‫ِ‬
‫خروجها للتعليم في مجتمع خاص بالنساء‪ ،‬فهذه كلها‬ ‫بمعنى طو ِافها في حرم هللا‪ ،‬أو‬
‫مسائل غير ما نحن بصدده‪ ،‬يتعمد البعض خلطها والتعميم فيها ليصل إلى نتيجة‬
‫مؤداها مشروعية االختالط الشامل لهذه الصور الخالية من المفاسد‪ ،‬ولصور أخرى‪،‬‬
‫إضفاء سربال الشرعية عليها‪.‬‬
‫َ‬ ‫تطبيعها و‬
‫َ‬ ‫يريد‬

‫وإنما المقصود بالحديث هنا‪ ،‬هذه الصورة الحادثة‪ ،‬التى يسقط فيها حاجز الحياء‬

‫الفطرى والشرعى بين الرجال والنساء‪ ،‬ويمتزج فيها الرجال بالنساء‪ ،‬امتز ً‬
‫اجا يغلب على‬
‫الظن معه وقوع الفساد‪ ،‬من غزل‪ ،‬وتعلق‪ ،‬وفواحش‪ ،‬أو مقدمات بين يدى الفاحشة‪.‬‬

‫أواال‪ :‬حديث القرآن الكريم عن االختالط‪ :‬ورد في كتاب هللا تعالى ما يدل على أن‬
‫مذموما‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬
‫ً‬ ‫محرما في الشرائع السابقة‪ ،‬أو على األقل‬ ‫ً‬ ‫االختالط كان‬

‫ان َر ِب ِإِني َن َذر ُت َل َك َما ِفي َبط ِني ُم َحَّراار َف َتَقَّبل‬ ‫‪ .1‬قوله تعالى‪ِ﴿ :‬إذ َقاَل ِت ام أر ِ‬
‫َت عمَر َ‬
‫َ ُ‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور أبو الخير نشأت أحمد‪ ،‬مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬
‫( ‪) 86‬‬

‫َّللا‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِم ِني ِإَّنك أَن َت َّ ِ‬


‫يم * َفَل َّما َو َض َعت َها َقاَلت َرب إني َو َضع ُت َها أُن َثى َو َّ ُ‬‫يع ال َعل ُ‬
‫السم ُ‬ ‫َ‬
‫الذ َكر َكاألُن َثى وإِِني س َّمي ُتها مريم وإِِني أ ِ‬
‫ُعي ُذ َها ِب َك‬ ‫أَعَلم ِبما و َضعت وَليس َّ‬
‫َ َ َ ََ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ َ َ َ َ‬
‫الرِجيمِ﴾ (سورة آل عمران‪.)36،35 ،‬‬ ‫ان َّ‬‫طِ‬ ‫َوُذ ِرَّي َت َها ِم َن َّ‬
‫الشي َ‬

‫قال عكرمة‪" :‬قالت‪ :‬ليس في الكنيسة إال الرجال‪ ،‬فال ينبغي المرأة أن تكون مع‬
‫الرجال‪ ،‬أمها تقوله‪ ،‬فذلك الذى منعها أن تجعلها في الكنيسة وتنفذ نذرها بتحريرها‬
‫في الكنيسة" اهـ(‪ .)1‬وذلك أن أم مريم كانت ال تلد‪ ،‬فدعت ربها‪ ،‬فلما استجاب هللا‬
‫دعاءها وحملت‪ ،‬نذرت أن تهب ما في بطنها لخدمة بيت المقدس‪ ،‬ولم تكن تعلم‬
‫(‪)2‬‬
‫فاعتذرت عما‬ ‫بما في بطنها أذكر هو أم أنثى‪ ،‬فلما وضعت أنثى قالت ذلك‪.‬‬
‫نذرت وتحزنت إلى ربها(‪.)3‬‬

‫‪ .2‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَقر َن ِفي ُبُيوِت ُك َّن﴾ (سورة األحزاب‪ ،)33 ،‬قال القرطبى‪" :‬وإن كان‬
‫الخطاب لنساء النبي ﷺ فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى‪ .‬هذا لو لم يرد دليل يخص‬
‫ِ‬
‫االنكفاف عن الخروج‬ ‫ِ‬
‫النساء بيوتَهن‪ ،‬و‬ ‫جميع النساء‪ ،‬كيف والشريعة طافحة بلزو ِم‬
‫منها إال لضرورة‪ ،‬على ما تقدم في غير موضع"(‪.)4‬‬

‫ثانيا‪ :‬السنة النبوية المطهرة‪:‬‬


‫ا‬
‫‪ .1‬عن أبى أسيد األنصاري ‪ ‬أنه سمع رسول هللا ﷺ‪ ،‬يقول‪ :‬وهو خارج من‬
‫المسجد‪ ،‬فاختلط الرجال مع النساء في الطريق‪ ،‬فقال رسول هللا ﷺ للنساء‪:‬‬
‫"استأخرن؛ فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق‪ ،‬عليكن بحافات الطريق"‪ ،‬فكانت‬
‫المرأة تلتصق بالجدار‪ ،‬حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬رواه ابن أبى حاتم فى تفسيره‪.637/2 ،‬‬


‫(‪ )2‬تفسير ابن كثير‪.28/2 ،‬‬
‫(‪ )3‬تفسير النسفى‪ ،‬ط دار الكلم الطيب‪ ،‬بيروت‪1419 ،‬هـ – ‪1998‬م‪.250/1 ،‬‬
‫(‪ )4‬تفسير القرطبى‪.179/14 ،‬‬
‫(‪ )5‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫( ‪) 87‬‬

‫‪ .2‬عن أبى هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪" :‬ليس للنساء وسط الطريق"(‪ .)1‬وإذا‬
‫كان هذا في المرور في الطريق ففى االجتماع الدائم أولى‪.‬‬
‫‪ .3‬عن أبى هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪" :‬خير صفوف الرجال أولها‪ ،‬وشرها‬
‫آخرها‪ ،‬وخير صفوف النساء آخرها‪ ،‬وشرها أولها"(‪ ،)2‬وهذا في موضع العبادة‬
‫الذى هو َم ِظَّن ُة الورع‪ ،‬فكيف بغيره‪.‬‬

‫ففى هذه األحاديث تنبيه على منع االختالط‪ ،‬وعلى أن المرأة مأمورة بالبعد عن‬
‫الرجال ما أمكنها ذلك‪.‬‬

‫ثال اثا‪ :‬الجماع‪:‬‬

‫وخلُ ُّو ُه ْم بهن‪ ،‬ونظرهم إلى‬


‫األجانب‪ُ ،‬‬ ‫النساء‬ ‫ِ‬
‫الرجال‬ ‫قال ابن تيمية‪" :‬فأما مؤاخاةُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الزينة الباطنة منهن‪ ،‬فهذا حرام باتفاق المسلمين‪ ،‬ومن جعل ذلك من الدين فهو من‬
‫إخوان الشياطين"(‪.)3‬‬

‫ابعا‪ :‬أقوال األئمة والعلماء‪:‬‬


‫را‬
‫المام مالك‪ :‬جاء في البيان والتحصيل(‪" :)4‬قال مالك‪ :‬أرى لإلمام أن يتقدم إلى‬
‫الصناع في قعود النساء إليهم‪ ،‬وأرى أال تُ ْت َر َك المرأة الشابة تجلس إلى الصناع"‪.‬‬

‫الصبيان‪،‬‬
‫ُ‬ ‫المام الشافعي‪ :‬في مختصر المزني‪ :‬قال الشافعي‪ ..." :‬وأُحب أن تَخرج‬
‫وكبار النساء‪ ،‬ومن ال هيئة لها منهن"(‪ ،)5‬وفيه ‪-‬فى سالم اإلمام‬ ‫ُ‬ ‫ويتنظفوا لالستسقاء‪،‬‬
‫من الصالة‪ :-‬قال الشافعي‪ ...." :‬وال َي ْثُب ُت ساع َة ُي َسّلِ ُم‪ ،‬إال أن يكون معه نساء‪،‬‬

‫(‪ )1‬رواه ابن حبان فى صحيحه‪ ،‬وإسناده حسن لغيره‪ ،‬كما قال محقق الصحيح‪ ،‬شعيب األرنؤوط‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم‪.‬‬
‫(‪ )3‬مجموع فتاوى ابن تيمية‪.505/11 ،‬‬
‫(‪ )4‬البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة‪ ،‬ابن رشد الجد‪ ،‬ط دار الغرب‬
‫اإلسالمى‪1408 ،‬هـ – ‪1988‬م‪.336/9 ،‬‬
‫(‪ )5‬مختصر المزنى‪ ،‬ط دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪1410 ،‬هـ – ‪1990‬م‪ ،‬مطبوع مع األم‪ ،‬المجلد‬
‫الثامن‪.127 ،‬‬
‫( ‪) 88‬‬

‫َف َي ْثُب ُت؛ لينصرفن قبل الرجال"(‪ .)1‬وفى الحاوي‪" :‬والمرأة منهية عن االختالط بالرجال‪،‬‬
‫أفضل"(‪.)2‬‬
‫ُ‬ ‫مأمورة بلزو ِم المنزل‪ ،‬وصالتُها فيه‬

‫المام أحمد‪ :‬قال أبو بكر الخالل‪" :‬أخبرني محمد بن يحيى الكحال‪ ،‬أنه قال ألبى‬
‫عبد هللا‪" :‬أرى الرجل السوء مع المرأة؟ قال‪ِ :‬‬
‫ص ْح به"(‪.)3‬‬

‫أيضا‪ -‬ما يلى‪:‬‬


‫ومن أقوال أهل العلم – ا‬
‫ِ‬
‫ض َل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال؛ لبعدهن من‬ ‫قال النووى‪" :‬وإنما ُف ّ‬
‫مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم‪ ،‬عند رؤية حركاتهم وسماع كالمهم ونحو‬
‫اهـ‬ ‫(‪)4‬‬
‫أول صفوِفهن؛ لعكس ذلك"‬
‫ذلك‪َ ،‬وُذ َّم ُ‬
‫وقال ابن حجر‪" :‬وفيه اجتناب مواضع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في‬
‫الطرقات‪ ،‬فضال عن البيوت"(‪.)5‬‬

‫وأختم بقول فضيلة اإلمام الشيخ‪ ،‬جاد الحق على جاد الحق‪ ،‬شيخ األزهر الشريف‪،‬‬
‫في لزوم المرأة بيتها‪" :‬إن على كل أسرة أن تراجع موقفها‪ ،‬وأن تعرف أن صناعة‬
‫ٍ‬
‫صناعة‪ ،‬وأن األم ألزم وأقدر‪ ،‬وأنه إذا لم يكن باألسرة‬ ‫اإلنسان "األوالد" أعلى وأغلى‬
‫ضرورة أو حاجة لكسبها من عملها‪ ،‬فأولى بها ثم أولى أن ترعى زرعها؛ لتنعم وتقر‬
‫عينها بثماره‪ ،‬ليست هذه دعوة للتخلى ‪-‬بوجه عام‪ -‬عن العمل‪ ،‬وإنما هي دعوة‬
‫للمراجعة والمفاضلة بين المكسب والخسارة ككل"(‪.)6‬‬

‫ول‪ ،‬أَ ْث َبتُّ َها بألفاظها‪ ،‬من مختلف المذاهب والعصور‪ ،‬على تحريم االختالط‪،‬‬
‫هذه ُنُق ٌ‬

‫(‪ )1‬السابق‪ ،‬ص‪.108‬‬


‫(‪ )2‬الحاوي الكبير‪ :‬الماوردي‪.51/2 ،‬‬
‫(‪ )3‬األمر بالمعروف والنهى عن المنكر‪ ،‬أبو بكر الخالل‪ ،‬ط دار الكتب العلمية‪1424 ،‬هـ – ‪2003‬م‪ ،‬ص‪.46‬‬
‫(‪ )4‬شرح النووى على مسلم‪.160/4 ،‬‬
‫(‪ )5‬فتح البارى‪.336/2 ،‬‬

‫(‪ )6‬هدية مجلة األزهر‪ ،‬صفر ‪1416‬ه ـ ـ يوليو ‪1990‬م‪ ،‬حول اتفاقية القضاء على أشكال التمييز‬
‫ضد المرأة من المنظور اإلسالمى‪ ،‬لإلمام األكبر الشيخ‪ ،‬جاد الحق على جاد الحق‪ ،‬شيخ األزهر‬
‫السابق‪.‬‬
‫( ‪) 89‬‬

‫وأن هذا المصطلح معروف عند أهل العلم على مر العصور‪ ،‬بل وفى نصوص السنة‬
‫الشريفة (‪.)1‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬حكم الخلوة باألجنبية‬

‫خلوة الرجل بالمرأة التي ليست له بمحرم حرام باتفاق المسلمين‪ ،‬قال النووى‪" :‬وأما إذا‬
‫خال األجنبي باألجنبية‪ ،‬من غير ثالث معهما‪ ،‬فهو حرام باتفاق العلماء"(‪ .)2‬وقال ابن‬
‫أيضا(‪.)3‬‬
‫حجر‪" :‬وهو إجماع"‪ ،‬وحكاه عنه الشوكاني ً‬
‫ومن األدلة على ذلك ‪-‬مع الجماع‪ -‬ما يلى‪:‬‬

‫‪ .1‬عن ابن عباس ‪-‬رضى هللا عنهما‪ -‬أنه‪ :‬سمع النبى ﷺ يقول‪" :‬ال َي ْخُل َو َّن رجل‬
‫بامرأة‪ ،‬وال تُ َس ِاف َرَّن امرأة إال ومعها محرم"‪ ،‬فقام رجل فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ا ْكتُِت ْب ُت‬
‫(‪)4‬‬
‫في غزوة كذا وكذا‪ ،‬وخرجت امرأتى حاجة‪ ،‬قال‪" :‬اذهب فحج مع امرأتك"‬
‫الدخول على‬
‫َ‬ ‫‪ .2‬عن عقبة بن عامر –رضى هللا عنه‪ -‬أن رسول هللا ﷺ قال‪" :‬إياكم و‬
‫"الح ْم ُو‬
‫الح ْم َو؟ قال‪َ :‬‬
‫النساء"‪ ،‬فقال رجل من األنصار‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أفرأيت َ‬
‫الموت"(‪.)5‬‬
‫ُ‬
‫‪ .3‬أن الخلوة بغير ذات المحرم داعية إلى المكروه‪ ،‬أو إلى التهمة؛ فتحرم لذلك(‪.)6‬‬

‫المقصود بالخلوة المحرمة‪:‬‬

‫يقصد بالخلوة المحرمة في عرف الفقهاء أن يكون الرجل والمرأة ‪-‬وحدهما‪ -‬في‬
‫مكان‪ ،‬ال يراهما فيه أحد‪ ،‬وال يعتبر انفراد الرجل بالمرأة في مكان مكشوف من الخلوة‬
‫المحرمة‪ ،‬ما لم يكن في حالهما ما يدعو إلى الريبة‪ ،‬كأن يظهر من حديثهما أو‬

‫ً‬
‫تفصيال فى المسألة فى كتاب االختالط تحرير وتقرير وتعقيب‪ ،‬عبد العزيز الطريفى‪ ،‬ط‬ ‫(‪ )1‬وانظر‬
‫دار المنهاج‪ ،‬الرياض‪ ،‬د‪ .‬ت‪ ،‬ص‪ 22‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬شرح النووى على مسلم‪.109/9 ،‬‬
‫(‪ )3‬فتح البارى‪ – 77/4 ،‬نيل األوطار‪.344/4 ،‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخارى ومسلم‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه البخارى ومسلم‪.‬‬
‫(‪ )6‬شرح زروق على متن الرسالة‪.1054/2 ،‬‬
‫( ‪) 90‬‬

‫مظهرهما شىء من الميوعة‪ ،‬أو نحو ذلك‪.‬‬

‫صفة المرأة التى تحرم الخلوة بها‪ :‬ال خالف في تحريم الخلوة بالشابة األجنبية (أي‬
‫التي ليست بزوجة وال هي من المحارم)‪.‬‬

‫حكم الخلوة بالمرأة العجوز‪:‬‬

‫اختلف الفقهاء في الخلوة بالعجوز الشوهاء‪ ،‬على قولين‪:‬‬

‫األول ‪ :‬ال يجوز‪ ،‬وهو قول جمهور الفقهاء‪ ،‬واستدلوا بعموم األحاديث الناهية عن‬
‫الخلوة(‪.)1‬‬

‫الثانى‪ :‬يجوز‪ ،‬وهو قول لبعض الحنفية‪ ،‬ودليلهم أن المرأة العجوز الشوهاء والشيخ‬
‫(‪)2‬‬
‫الهرم الذى ال يجامع بمنزلة المحارم؛ إذ إن الفتنة بهم مأمونة‪.‬‬

‫والقول األول أرجح لعموم النهى‪.‬‬

‫حكم الخلوة بذات المحرم‪:‬‬

‫أما الخلوة بذات المحرم فجائزة اتفا اقا‪ ،‬وفيها تفصيل‪ ،‬فهي جائزة بال خالف وال‬
‫كراهة في قريب القرابة كاألخت واألم من النسب ونحوهما‪ .‬وكرهها بعض العلماء مع‬
‫األباعد عن المخالطة‪ ،‬كالخالة من الرضاع‪ ،‬واألخت منه‪ ،‬ونحو ذلك(‪ .)3‬ومنع بعض‬
‫الحنفية الخلوة باألخت من الرضاعة لمظنة الفتنة(‪.)4‬‬

‫ما ينتفى به حكم الخلوة‪:‬‬

‫أصال‪ ،‬من هذه‬


‫هناك أحوال ينتفى فيها حكم الخلوة‪ ،‬فتجوز‪ ،‬أو ال تعد من الخلوة ا‬
‫األحوال ما يلى‪:‬‬

‫‪ .1‬حالة الضرورة‪ :‬كأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في برية ونحو ذلك‪ ،‬فيباح له‬

‫الحصكفى‪ ،‬ص‪ - 655‬شرح زروق على متن الرسالة‪ – 1054/2 ،‬المجموع‬ ‫(‪ )1‬الدر المختار‪ِ ،‬‬
‫شرح المهذب‪ – 277/4 ،‬الفروع‪ ،‬ابن مفلح‪.190/8 ،‬‬
‫(‪ )2‬حاشية ابن عابدين‪.368/6 ،‬‬
‫(‪ )3‬شرح زروق على متن الرسالة‪ ،1054/2 ،‬وانظر الدر المختار‪ ،‬ص‪.655‬‬
‫(‪ )4‬حاشية ابن عابدين‪.369/6 ،‬‬
‫( ‪) 91‬‬

‫استصحابها‪ ،‬بل يجب عليه إذا خاف عليها لو تركها‪ ،‬وهذا ال خالف فيه‪ ،‬ويدل‬
‫عليه حديث عائشة ‪-‬رضى هللا عنها‪ -‬في قصة اإلفك(‪.)1‬‬
‫‪ .2‬الحائل‪ :‬وقد نص على ذلك الحنفية‪ ،‬والمقصود أن يكون على باب كل واحد منهما‬
‫ُقفل خاص به‪ ،‬كما في الشقق المتجاورة‪ ،‬أو الغرف السكنية‪ ،‬التي تكون في بيت‬
‫واحد‪ ،‬يجمعها باب عام‪ .‬لكن ال ينبغى أن تقيم المرأة في مكان غير آمن ولو‬
‫انتفت الخلوة‪.‬‬
‫‪ .3‬وجود المحرم‪ :‬وهو المنصوص في الحديث‪ ،‬وأما غير المحرم ففيه خالف‪ ،‬تأتى‬
‫صغير جًّدا بحيث يكون‬
‫ًا‬ ‫اإلشارة إليه‪ ،‬إن شاء هللا‪ .‬ويشترط في المحرم أن ال يكون‬
‫وجوده كالعدم‪ ،‬ويستوى في المحرم محرمه ومحرمها‪ ،‬وفى معناه زوجها وزوجته‬
‫(‪.)2‬‬
‫ثقة فأكثر‪ ،‬أو امرٍأة ٍ‬
‫ثقة‬ ‫رجل آخر ٍ‬
‫‪ .4‬وجود غير المحرم‪ :‬وفيه خالف‪ ،‬ويشمل وجود ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عجوزا‪ ،‬وأن تكون قادرة‬
‫ً‬ ‫فأكثر‪ ،‬واشترط بعض الحنفية في المرأة األخرى أن تكون‬
‫َ‬
‫على الدفع عن المرأة(‪ .)3‬والظاهر أن مدار األمر على حصول الثقة‪ ،‬فإن الخلوة‬
‫حرمت لمعنى الفساد الذى قد ينشأ عنها‪ ،‬وقال بعض الفقهاء (منهم القفال‬
‫عمال بلفظ الحديث(‪.)4‬‬
‫الشافعي)‪ :‬ال بد من المحرم ً‬

‫الموضوع الثالث‪ :‬أثر الضرورة الطبية والحاجة في النظر إلى العورات‪،‬‬


‫واالختالط والخلوة(‪.)5‬‬
‫في شأن االختالط‪ ،‬يقول أحد الباحثين‪" :‬من المخالفات الشرعية التي تعانيها‬

‫(‪ )1‬رواه البخارى ومسلم‪.‬‬


‫(‪ )2‬المجموع‪.279/4 ،‬‬
‫(‪ )3‬حاشية ابن عابدين‪.368/6 ،‬‬
‫(‪ )4‬انظر فتح البارى‪.77/4 ،‬‬
‫(‪ )5‬كتب هذا الموضوع الدكتور أبو الخير نشأت أحمد‪ ،‬مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬
‫( ‪) 92‬‬

‫المجتمعات المسلمة‪ :‬االختالط في المستشفيات‪ ،‬وما يجره هذا االختالط من فساد‬


‫عريض على المرضى والعاملين في هذه المستشفيات‪ ...‬فاالختالط المحرم في‬
‫المستشفيات بين الرجال والنساء له صور كثيرة؛ فأول مراحل االختالط يبدأ في كلية‬
‫الطب‪ ،‬في السنة الثالثة أو الرابعة أو قبل ذلك‪ ،‬وفى كليات العلوم الطبية‪ ،‬ويتم ذلك من‬
‫خالل ترويض الطالب والطالبات عليه‪ ،‬االختالط في الممرات‪ ،‬وفى القاعات؛ وتدريس‬
‫الطالب امرأةٌ؛ فينكسر بذلك حاجز النفرة من‬
‫َ‬ ‫الرجال للطالبات‪ ،‬ويمكن أن يدرس‬
‫االختالط‪ ،‬وتجرؤ المرأة على ترك عباءتها بين الرجال‪.‬‬
‫ِ‬
‫وتطبيب الرجال للنساء‪،‬‬ ‫وفي تمريض النساء للرجال‪ ،‬وتمريض الرجال للنساء‪،‬‬
‫وتطبيب النساء للرجال(‪ ...،)1‬وفى تخيير طالبات الطب في فحص المرضى بين الرجل‬
‫والمرأة‪ ،‬ويقولون‪ :‬المرأة غير ملزمة بفحص الرجال‪ ...،‬وكذا إلزام الطبيبة بالكشف على‬
‫الرجال (‪ .)2‬اهـ‬

‫ما تقدم من وصف واقع المستشفيات يكاد يكون صورة مكررة‪ ،‬إال فيما ندر‪ ،‬والسبب‬
‫في ذلك غياب التوعية بهذه المفاهيم‪ ،‬على المستوى المجتمعي‪ ،‬وعلى المستوى‬
‫التعليمي‪ ،‬سواء في المؤسسات التعليمية الطبية‪ ،‬أو في غيرها من المؤسسات‪ ،‬حتى‬
‫صارت هذه المفاهيم غريبة على الناس‪ ،‬مع أنها من دواعي الفطرة المستقيمة‪ ،‬ومن‬
‫مقتضيات الحياء‪ ،‬ومن ضرورات الدين‪ ،‬ومما أجمع عليه العلماء في الجملة‪ ،‬ومع‬
‫كثير من األطباء يغضب إذا نصحه ناصح في هذا‪ ،‬أو امتنعت امرأة عنده‬
‫غيابها تجد ًا‬
‫من كشف وجهها‪ ،‬وينسبهما إلى التشدد في الدين‪ ،‬وال يصف موقفه هو بالتساهل أو‬
‫التفريط في أحكام الشرع واالستهانة بها‪.‬‬

‫ً‬
‫مفصال‪ ،‬إن شاء هللا تعالى‪.‬‬ ‫(‪ )1‬سيأتى بيان حكم ذلك‬
‫(‪ )2‬االختالط وكشف العورات فى المستشفيات‪ ،‬الواقع والعالج‪ ،‬د‪ .‬يوسف األحمد‪ ،‬بحث منشور على‬
‫موقعه على الشبكة العالمية‪ ،www.dr-alahmad.com ،‬وعلى موقع‬
‫‪ ،www.islamlght.net‬ص‪ 2‬وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪) 93‬‬

‫ولكن هل الضرورة الطبية والحاجة لها أثر في النظر إلى العورات‪ ،‬واالختالط‬
‫والخلوة؟‬

‫تقدم بيان حكم الضرورة على اإلجمال‪ ،‬وأنه ينتفى فيها حكم الخلوة‪ ،‬فتجوز‪ ،‬أو ال‬
‫أصال‪ ،‬ولكن لما كان الطب والمداواة من الضرورات‪ ،‬تعين إفرادها‬
‫ً‬ ‫تعد من الخلوة‬
‫بالذكر‪.‬‬

‫وعلى أي حال فإن القاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات‪ ،‬ولكن بقدر ما تقتضيه‬
‫الضرورة‪ ،‬وال تجوز الزيادة على ذلك‪ ،‬بل يرجع األمر إلى األحكام األصلية عند انتهاء‬
‫حدود الضرورة‪ ،‬وال يجوز التوسع بما يزيد على هذا الحد‪ ،‬قال هللا –تعالى‪ -‬في حل‬
‫ور‬
‫َّللا َغ ُف ٌ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أكل الميتة للمضطر‪َ ﴿ :‬ف َم ِن اض ُ‬
‫اغ َوَال َع ٍاد َف َال إث َم َعَليه إ َّن َّ َ‬
‫طَّر َغيَر َب ٍ‬
‫َر ِحيم﴾ (سورة البقرة‪ .)173 ،‬وفى معنى الباغي والعادي أقوال‪:‬‬

‫األول‪ :‬الباغي من يأكل فوق حاجته‪ ،‬والعادي من يجد عن هذه المحرمات مندوحة‬
‫ويأكلها"‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن الباغي من يأكلها شهوة وتلذ ًذا‪ ،‬والعادي من يستوفى األكل إلى حد الشبع"‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬الباغي من بغى على المسلمين‪ ،‬والعادي من عدا عليهم(‪ .)1‬والظاهر أنه ال‬
‫تعارض بين هذه األقوال‪ ،‬وأن اآلية شاملة للجميع‪.‬‬

‫وعليه‪ ،‬فيخرج عن حد الضرورة ما زاد على الحاجة أثناء الكشف أو العملية‬


‫يجا على القول األول‪ ،‬وهو كقاعدة "الضرورة تقدر بقدرها"‪،‬‬
‫الجراحية ونحوهما‪ ،‬تخر ً‬
‫ويخرج عن حد الضرورة ما ال يتضرر المريض بعدم مداواته‪ ،‬وما كان من قبيل‬
‫يجا على القول الثاني‪ .‬ويخرج على‬
‫التجميل الذى ال يتضرر صاحبه ببقاء العيب‪ ،‬تخر ً‬
‫القول الثالث النظر من أجل إجراء عملية محرمة؛ إذ الرخص ال تناط بالمعاصي‪.‬‬

‫واشترط ابن القطان تَ َم ُّك َن الضرورِة بالنسبة ألحكام المداواة‪ ،‬أي بأن تنسد كل السبل‬
‫المشروعة‪ ،‬من وجود امرأة أو مخنث أو نحو ذلك‪ ،‬فقال‪" :‬كل َمن أجازت له الضرورةُ‬

‫(‪ )1‬تفسير القرطبى‪.232/2 ،‬‬


‫( ‪) 94‬‬

‫ص‪ ،‬أو قاطع‪ ،‬أو جالد‪ ،‬ينبغي أن يشترط في‬ ‫ٍ‬


‫طبيب‪ ،‬أو مْقتَ ّ ٍ‬ ‫ٍ‬
‫خاتن‪ ،‬أو‬ ‫لنظر؛ من‬
‫ُ‬ ‫ا َ‬
‫إجازة ذلك لهم تَ َم ُّك ُن الضرورة‪ ،‬بأن ال يوجد غيرهم‪َّ ،‬‬
‫ممن يجوز له النظر لغير ضرورة‪،‬‬
‫ممن في معناهم‪.‬‬
‫كمن ال أرب له في النساء من المخنثين‪ ،‬أو غيرهم َّ‬
‫َ‬
‫عمدا‪ ،‬فطلبت القصاص‪ ،‬ولم نجد امرأة تحسن‬
‫فمثال لو أن امرأة قطعت ثدى امرأة ً‬
‫المحرمات تُباح‬
‫رجل‪ ،‬و ّ‬‫قتص منها ٌ‬
‫القصاص‪ ،‬لوجب عليها أن تبدى لها ثديها حتى َي ّ‬
‫عند الضرورات‪ ،‬وقد فصل لكم ما حرم عليكم‪ .‬وعلى أنه يمكن أن ال ُيشترط ذلك‪،‬‬
‫باعتبار كون المحل ‪-‬عادةً‪ًّ -‬‬
‫محال تنفر منه النفس‪ ،‬وتنقبض عن التشوف إلى موانع‬
‫الغير‪ ،‬فمن ُيقطع ثديها أو ُيرجم‪ ،‬فإنما جرت العادة هنا ِ‬
‫باإلشفاق واالعتبار‪ ،‬فيمكن أن‬ ‫َ‬
‫(‪)1‬‬ ‫ِ‬
‫محتملة‪ ،‬وهللا أعلم" ‪.‬‬ ‫يراعى مثل هذا‪ ،‬والمسألة‬

‫مع الوضع في االعتبار أنه لو ُقطع من المرأة عضو لم يجز النظر إليه‪ ،‬قال‪" :‬ما‬
‫اع‪ ،‬أو قدم‪ ،‬أو ثدى‪ ،‬أو‬
‫أُبين منها وهى حيَّة أو ميتة‪ ،‬ال يجوز النظر إليه‪ ،‬كذر ٍ‬
‫ِ‬
‫كشعر‬ ‫منفصال‪،‬‬
‫ً‬ ‫متصال َح ُرم نظره‬
‫ً‬ ‫َعقيصة(‪)2‬؛ ألن الحرمة باقية"(‪ ،)3‬فكل ما َح ُرم نظره‬
‫ظْف ِر ح ٍرة‪ ،‬ولو من يديها‪ ،‬وتجب مواراته؛ لئال ينظر إليه‬ ‫عان ٍة‪ ،‬ولو من رجل‪ ،‬وُق ِ‬
‫المة ُ‬ ‫َ‬
‫أحد‪ ،‬واستبعد البعض الوجوب(‪.)4‬‬

‫وذكر النووي أن كشفها [أى العورة] ال يجوز لكل مداواة‪ ،‬وإنما يجوز في موضع‬
‫يقول أهل العرف إن المصلحة في المداواة راجحة على المصلحة في المحافظة على‬
‫ِ‬
‫وصيانة العورة(‪.)5‬‬ ‫المروءة‬

‫وقد حصر بعض المعاصرين(‪ ،)6‬الضرورَة في مجال الطب‪ ،‬في أمرين‪:‬‬

‫(‪ )1‬إحكام النظر فى أحكام النظر بحاسة البصر‪ ،‬أبو الحسن بن القطان‪ ،‬ص‪.468‬‬
‫(‪ )2‬ضفيرة الشعر‪ .‬المصباح المنير‪ ،‬مادة"ع ق ص"‪.422/2 ،‬‬
‫(‪ )3‬إحكام النظر‪ ،‬ص‪.412‬‬
‫(‪ )4‬مغنى المحتاج‪.217/4 ،‬‬
‫(‪ )5‬المجموع شرح المهذب‪.299/1 ،‬‬
‫ى‪ ،‬ط مكتبة القاهرة‪ ،‬مطبوع مع كتاب تعريف‬ ‫(‪ )6‬أجوبة هامة فى الطب‪ ،‬الشي ُخ أبو الفض ِل الغُمار ُّ‬
‫أهل اإلسالم بأن نقل العضو حرام‪ ،‬بدون تاريخ‪ ،‬لكن قال فى نهاية الجزء األول‪ ،‬الخاص بتحريم‬
‫نقل األعضاء‪ :‬إنه تم تحرير هذا الجزء فى سنة ‪1407‬هـ‪ ،‬انظر ص‪ .28‬والكتاب أجاب فيه‬
‫مؤلفه على أسئلة‪ ،‬قدمت من طلبة كلية الطب باإلسكندرية‪.‬‬
‫( ‪) 95‬‬

‫إنقاذ نفس المريض من التلف‪ ،‬إن كان له أجل‪.‬‬ ‫‪.1‬‬


‫تخفيفه على األقل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫إذهاب ألمه‪ ،‬أو‬
‫ُ‬ ‫‪.2‬‬

‫الطب‪ ،‬فإنه من‬


‫َّ‬ ‫أما أثر الحاجة في المسائل الطبية‪ ،‬فيظهر في تعلم المرِأة‬
‫أحيانا‪ ،‬فيجوز بقدر ما تندفع به‬
‫ً‬ ‫الحاجات وقد يتوقف التعلم على الكشف على الرجال‬
‫الحاجة‪ ،‬وكذا يقال في طالب الطب من الرجال‪ ،‬أما إذا أمكن تعلم الطالب والطالبة‬
‫على نظيرهما في الجنس فال يجوز نظره إلى الجنس اآلخر‪.‬‬

‫الموضوع الرابع‪ :‬حكم مداواة الرجل للمرأة والعكس(‪.)1‬‬


‫أحيانا‪،‬‬
‫ً‬ ‫الرجل‪ ،‬لكن قد يتعذر وجود النظير‬
‫َ‬ ‫أن تُداوى المرأةُ المرَأة‪ ،‬و ُ‬
‫الرجل‬ ‫ْ‬ ‫األصل‬
‫ُ‬
‫في ْخ َشى منه اإلعنات‪ ،‬أي اإلضرار‬‫متخصصا‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫النظير‪ ،‬لكنه ال يكون‬ ‫وقد يوجد‬

‫أو يكون النظير مر َ‬


‫تفع الكلفة المادية زيادة على المعتاد‪ ،‬فيجوز اللجوء إلى‬ ‫بالمريض‪،‬‬
‫الجنس اآلخر‪ ،‬مع مراعاة ضوابط معينة‪ ،‬يأتى ذكرها‪.‬‬

‫وقد يوجد النظير‪ ،‬ولكنه يكون أقل كفاءة من غير النظير‪ ،‬فهل يجوز في هذه‬
‫الرجل؟‬
‫َ‬ ‫الرجل الم أر َة‪ ،‬أو الم أر ُة‬
‫ُ‬ ‫الحالة الذهاب إلى غير النظير‪ ،‬بأن يداوى‬

‫والجواب أن ذلك ما لم يخرج إلى حد خشية الضرر فإنه ال يجوز‪ ،‬فليس المطلوب‬

‫عادة‪ -‬أن يكون الطبيب في أعلى درجات َ‬


‫الح ْذق والمهارة في صنعته‪ ،‬فما‬ ‫ً‬ ‫–شرًعا‪ ،‬وال‬
‫دام النظير متخصصا ويراعى أصول المهنة‪ ،‬ويعالج بقدر ٍ‬
‫كاف من المهنية والمهارة‪،‬‬ ‫ً‬
‫فال يجوز الذهاب إلى غير النظير‪.‬‬

‫لمسها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫االطالع على عورة‪ ،‬أو َ‬
‫َ‬ ‫ومن الواضح أن فرض المسألة إنما هو فيما يستلزم‬
‫أو لمس ما يؤدى لمسه إلى ٍ‬
‫فتنة‪ ،‬ولو لم يكن عورة‪ ،‬وكذا ما فيه خلوة محرمة‪ ،‬أو َم ِظَّن ُة‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الرجل المرأة‪ ،‬والمرأةِ‬
‫ِ‬ ‫فتنة بصورة من الصور‪ ،‬فأما ما ليس كذلك‪ ،‬فال بأس فيه بمداواة‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫الرجل‪.‬‬
‫َ‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور أبو الخير نشأت أحمد‪ ،‬مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬
‫( ‪) 96‬‬

‫مثال ذلك‪ :‬ما لو كان األمر يقتصر على إخبار الطبيب بأعراض المرض‪ ،‬دون‬
‫حاجة إلى محظور من المحظورات المذكورة‪.‬‬

‫محرما‪ ،‬فإن اللمس أشد حرم ًة‪ ،‬فقد يحرم لمس ما‬
‫ً‬ ‫تنبيه‪ :‬إذا كان النظر إلى العورة‬
‫لمسه َم ِظَّن َة فتنة‪.‬‬
‫ليس عورًة‪ ،‬إذا كان ُ‬
‫ثم إن العورة ليست على درجة واحدة‪ ،‬فالنظر إلى الوجه ليس كالنظر إلى السوأتين‪،‬‬
‫فيراعى في ذلك درجات الحاجة والضرورة‪.‬‬

‫الرجل عند الضرورة‪:‬‬ ‫الرجل الم أر َة والمر ِ‬


‫أة‬ ‫ِ‬ ‫األدلة على جو ِاز مداو ِ‬
‫اة‬
‫َ‬
‫بنت ُم َع ِّوٍذ –رضى هللا عنها‪ -‬قالت‪" :‬كنا مع النبي ﷺ نسقى ونداوى‬‫الربِي ِع ِ‬
‫‪ .1‬عن ُّ َ ّ‬
‫الجرحى‪ ،‬ونرد القتلى إلى المدينة"(‪ .)1‬وقد بوب عليه البخاري‪" :‬باب مداواة النساء‬
‫الجرحى في الغزو"‪ِ .‬فذ ْكره للغزو َي ِشى باعتبار حال الحاجة والضرورة‪ ،‬كحالة‬
‫اإلصابة في القتال‪.‬‬
‫‪ .2‬عن أم عطية األنصارية –رضى هللا عنها‪ -‬قالت‪" :‬غزوت مع رسول هللا ﷺ سبع‬
‫غزوات‪ ،‬أخلفهم في رحالهم‪ ،‬فأصنع لهم الطعام‪ ،‬وأداوى الجرحى‪ ،‬وأقوم على‬
‫المرضى"(‪.)2‬‬
‫الرجل حال الضرورة‪.‬‬
‫َ‬ ‫والحديث كسابقه يدل على جواز مداواة المرِأة‬

‫‪ .3‬عن محمود بن َلِب ٍيد ‪ ‬قال‪ :‬لما أصيب أَ ْكحل ٍ‬


‫سعد يوم الخندق َفثَُق َل‪ ،‬حولوه عند‬ ‫َُ‬
‫امرأة‪ ،‬يقال لها ُرَف ْي َدةُ‪ ،‬وكانت تداوى الجرحى‪ ،‬فكان النبى ﷺ ‪-‬إذا مر به‪ -‬يقول‪:‬‬
‫"كيف أمسيت"‪ ،‬وإذا أصبح‪" :‬كيف أصبحت"‪ ،‬فيخبره(‪.)3‬‬
‫الرجل‪ ،‬وأما تقييده بحال الضرورة‬
‫َ‬ ‫دل هذه الحديث كسابقيه على جواز مداواة المرِأة‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪.‬‬


‫(‪ )2‬رواه مسلم‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري ومسلم‬
‫( ‪) 97‬‬

‫بعد‪ ،‬فمأخوذ من الجمع بين هذه األدلة‪ ،‬وبين أدلة‬


‫أو الحاجة أو بالشروط التي تأتى ُ‬
‫ومنع النظر واالختالط‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ستر العورات ِ‬

‫‪ .4‬عن جابر –رضى هللا عنه‪ -‬أن أم سلمة‪ ،‬استأذنت رسول هللا ﷺ في الحجامة‪،‬‬
‫ِ‬
‫الرجل المرَأة‬ ‫ط ْي َب َة أن َي ْح ُج َم َها(‪ .)1‬دل الحديث على جواز مداواة‬
‫فأمر النبى ﷺ أبا َ‬
‫األجنبي َة(‪.)2‬‬
‫‪ .5‬ومن المعقول أمران‪:‬‬
‫أحدهما أن هذه ضرورة‪ ،‬والثاني أن مكان المرض قد ال يكون بحيث يثير الشهوة‪.‬‬

‫الرجل‪:‬‬ ‫الرجل الم أر َة والمر ِ‬


‫أة‬ ‫ِ‬ ‫ط مداو ِ‬
‫اة‬ ‫شرو ُ‬
‫َ‬
‫طا‪ ،‬وهى‬ ‫ِ‬
‫الرجل المرَأة‪ ،‬واشترطوا لذلك شرو ً‬ ‫لقد أكثر الفقهاء من الحديث عن مداواة‬
‫الرجل(‪ ،)3‬لكن‬
‫َ‬ ‫الرجل المرَأة‪ ،‬بل الحكم كذلك في مداواة المرِأة‬
‫ِ‬ ‫ليست خاصة بمداواة‬
‫ِ‬
‫الرجل المرَأة أكثر؛ ألن الغالب أن يقوم بالطب الرجال‪ ،‬وألن‬ ‫حديث الفقهاء في مداواة‬
‫الخوف على المرأة أشد‪ ،‬وفتنة الرجل بها أكثر‪ ،‬وهو أكثر جرًأة منها‪.‬‬
‫ِ‬
‫الرجل المرَأة‪ ،‬وهى –فى الجملة‪ -‬مطلوبة في مداواة‬ ‫وفيما يلى ذكر شروط مداواة‬
‫الرجل‪ ،‬وإن اختلفا في التفاصيل‪ .‬وهذه هي الشروط‪:‬‬
‫َ‬ ‫المرِأة‬

‫‪ .1‬أال توجد امرأة يمكنها مداواة المرأة‪ ،‬أو ُوجدت‪ ،‬ولكنها ال تحسن التطبيب‪ ،‬بحيث‬
‫ُيخشى منها الضرر‪ .‬وبعض العورات أخف من بعض‪ ،‬فما يجوز للرجل مداواته من‬
‫المواضع في جسد المرأة‪ ،‬ليس كالذي يجوز للمرأة‪ ،‬ويكون األمر أشد إذا كانت‬
‫المداواة في السوأتين وما اقترب منهما؛ لذا نص بعض الفقهاء على أن الداء إذا كان‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪.‬‬


‫(‪ )2‬المحلى‪ ،‬ابن حزم‪.164/9 ،‬‬
‫(‪ )3‬قال فى مغنى المحتاج‪":215/4 ،‬فللرجل مداواة المرأة وعكسه‪ ،‬وليكن ذلك بحضرة محرم‪ ،‬أو‬
‫زوج‪ ،‬أو امرأة ثقة‪ ،‬إن جوزنا خلوة أجنبي بامرأتين‪ ...‬ثم شرع فى ذكر باقي الشروط"‪.‬‬
‫( ‪) 98‬‬

‫الهالك(‪.)1‬‬
‫ُ‬ ‫في الفرج لم يجز للرجل مداواته‪ ،‬إال إذا خيف على المرأة‬
‫تدعو إلى ذلك حاجة أو ضرورة‪ ،‬وقد تقدم أن األمر يختلف من حالة إلى حالة‪،‬‬
‫‪ .2‬أن َ‬
‫مثال‪ -‬من أجل المداواة أمره أسهل من النظر إلى السوأتين‪،‬‬
‫فالنظر إلى الوجه – ً‬
‫حتى إن الشافعية قالوا يعتبر في النظر إلى الوجه مطلق الحاجة‪ ،‬كما يعتبر ذلك‬
‫في المعاملة‪ ،‬من بيع وشراء ونحوهما وفى الشهادة‪ .‬أى أنه يجوز النظر إلى الوجه‬
‫في عالج المرض الخفيف‪ ،‬أما في السوأتين فيعتبر المرض الشديد‪ ،‬الذى ال ُي ْحتَ َم ُل‬
‫َكُد الحاجة‪،‬‬ ‫الوجه ُيعتبر تَأ ُّ‬
‫لهالك‪ ،‬وفيما عدا السوأتين و َ‬
‫عادة‪ ،‬أو ُي ْخ َشى منه ا ُ‬
‫ً‬ ‫ألمه‬
‫ُ‬
‫قال النووي‪" :‬ويجوز للطبيب أن ينظر إلى الفرج للمداواة؛ ألنه موضع ضرورة‪ ،‬فجاز‬
‫له النظر إلى الفرج‪ ،‬كالنظر في حال الختان"(‪ .)2‬والحنفية اشترطوا الضرورة(‪ ،)3‬ولم‬
‫(‪)5‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫لجواز نظر الطبيب إلى المرأة‪- ،‬ولو‬ ‫والحنابلة‬ ‫يكتفوا بالحاجة‪ .‬وإطالق المالكية‬
‫إلى سوأتها‪ -‬يشمل حالة الحاجة والضرورة الشديدة(‪ ،)6‬ثم إن نظر المرأة إلى سوأة‬
‫المرأة أخف من نظر الرجل‪ ،‬وكذا نظر الرجل إلى سوأة الرجل أخف من نظر المرأة‪.‬‬
‫الرجل‪.‬‬
‫َ‬ ‫أيضا‪ -‬في مداواة المرِأة‬ ‫‪ .3‬أن يأمن الطبيب االفتتان بالمرأة‪ ،‬وهذا الشرط ٍ‬
‫جار – ً‬
‫وعموما‪ ،‬فإن كل ما كان م ِظَّن َة ٍ‬
‫فتنة ُي ْم َن ُع‪ ،‬حتى في الطب والشهادة والمعاملة‪،)7(.‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ما لم تكن الشهادة متعينة عليه‪ ،‬فينظر ويضبط نفسه(‪ .)8‬ولعله يتأتى في الطبيب‬
‫مثل ذلك‪ ،‬إن خاف الفتنة‪ ،‬ولم يوجد غيره‪ ،‬أما في حالة خشية الهالك على‬
‫المريضة أو المريض‪ ،‬فينظر ويتقى هللا ما استطاع‪ .‬والظاهر أن التقييد بأمن الفتنة‬

‫(‪ )1‬بدائع الصنائع‪.124/5 ،‬‬

‫(‪ )2‬المجموع‪.123/16 ،‬‬


‫(‪ )3‬الدر المختار مع حاشية ابن عابدين‪.370/6 ،‬‬
‫(‪ )4‬جاء فى المقدمات الممهدات‪ ،‬البن رشد الجد‪":460/3 ،‬وال يجوز له أن ينظر إلى الشابة‪ ،‬إال‬
‫لعذر من شهادة أو عالج"‬
‫(‪ )5‬كشاف القناع‪.13/5 ،‬‬
‫(‪ )6‬مواهب الجليل‪ ،‬الحطاب‪.405/3 ،‬‬
‫(‪ )7‬المقدمات الممهدات‪ – 460/3 ،‬مواهب الجليل‪ – 405/3 ،‬مغنى المحتاج‪.215/4 ،‬‬
‫(‪ )8‬مغنى المحتاج‪.216/4 ،‬‬
‫( ‪) 99‬‬

‫حذر من الفتنة‪،‬‬
‫اإلجماع ًا‬ ‫محل إجماع‪ ،‬قال ابن القطان‪" :‬النظر إنما ح ِّرم في محل ِ‬
‫ُ َ‬
‫توقير للعقل")‪ ،(1‬وقال‪" :‬وال‬
‫وشرب الخمر ًا‬
‫ُ‬ ‫كما ُح ِّرَم الزنى ًا‬
‫حذر من اختالط األنساب‪،‬‬
‫قائل بجواز النظر مطلًقا"(‪ ،)2‬يعنى‪ :‬لم يقل أحد من الفقهاء بجواز النظر ولو خاف‬
‫َ‬
‫الفتنة‪.‬‬
‫‪ .4‬أن ال يقصد االلتذاذ‪ ،‬وهذا ٍ‬
‫جار في نظر الطبيبة إلى الرجل‪ ،‬بل هو –كسابقه‪ -‬عام‬
‫في نظر الرجل إلى الرجل والمرأة إلى المرأة(‪.)3‬‬

‫‪ .5‬أن يكون الطبيب ً‬


‫أمينا‪ ،‬أي معروًفا باألمانة في حق النساء‪ ،‬فال يجوز العدول إلى‬
‫غير األمين مع وجود األمين(‪ .)4‬فإذا لم يوجد األمين جاز ذهاب المرأة إلى غيره‪،‬‬
‫مع اصطحاب محرم‪ ،‬أو من يمنع الخلوة والفتنة‪.‬‬
‫‪ .6‬أن يوجد ما يمنع الخلوة من زوج أو محرم‪ ،‬أو غيرهما‪ ،‬من رجل آخر‪ ،‬أو امرأة‬
‫أجنبية‪ ،‬أو محرم للطبيب‪.‬‬

‫ومدار األمر على غلبة الظن بكون وجود ذلك اآلخر ُ‬


‫يسد باب الفتنة‪ ،‬لذا يحرم‬
‫اختالء الطبيب بالمريضة أثناء الكشف عليها‪ ،‬وال بد من وجود محرم معها‪ ...‬وإذا أتت‬
‫مفتوحا على‬
‫ً‬ ‫امرأة بدون محرم معها فال يكشف عليها‪ ،‬إال إذ ترك باب العيادة‬
‫ُخ َر‪ ،‬حتى ال يختلى بها‪ .‬وعلى هذا ينبغي للطبيب‬ ‫ٍ‬
‫مصراعيه‪ ،‬أو ُيدخل معها مريضات أ َ‬
‫ٍ‬
‫منفردات‪ .‬أما إذا كانت حالة المريضة‬ ‫ٍ‬
‫مجتمعات‪ ،‬ال‬ ‫أن يكون كشفه على النساء‬
‫تستدعى التدخل الفوري‪ ،‬وليس معها أحد‪ ،‬وهى في عيادته‪ ،‬أو في بيتها‪ ،‬فيتصرف‬
‫مفتوحا‪ ،‬حتى ال‬
‫ً‬ ‫حسبما تقتضيه الضرورة العاجلة‪ .‬وفى العيادة يترك باب غرفة الكشف‬
‫تكون خلوة‪ .‬وإذا حضرت المريضة إلى العيادة بغير محرم‪ ،‬وحالتُها غير عاجلة فال‬
‫يكشف عليها(‪ .)5‬وفى قرٍار لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا اعتبر المجمع أن وجود النافذة‬

‫(‪ )1‬إحكام النظر‪ ،‬ص‪.338‬‬


‫(‪ )2‬السابق‪ ،‬ص‪.188‬‬
‫(‪ )3‬مغنى المحتاج‪.215/4 ،‬‬
‫(‪ )4‬السابق‪.216/4 ،‬‬
‫(‪ )5‬أجوبة هامة فى الطب‪ ،‬أبو الفضل الغمارى‪ ،‬ص‪.30‬‬
‫( ‪) 100‬‬

‫الزجاجية‪ ،‬التي يمكن من خاللها مشاهدة من بالداخل ٍ‬


‫ناف للخلوة‪ ،‬وكذلك وجود كامي ار‬
‫بالمكان(‪.)1‬‬

‫وتنطبق أحكام الخلوة على الخلوة بين أعضاء الفريق الطبي بعضهم وبعض‪ ،‬وبين‬
‫معا بصورة تعتبر‬‫المرضى بعضهم وبعض‪ ،‬فإن األصل عدم عمل األطباء والطبيبات ً‬
‫ط بقدر‬
‫طا‪ ،‬فإذا ابتلى أحدهم بشيء من ذلك وجب عليه التوقي واالحتيا ُ‬
‫خلوة أو اختال ً‬
‫اإلمكان‪ ،‬وقد تقدم في مبحث الخلوة ما يغنى عن اإلطالة هنا‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫فال ينظر وال‬ ‫‪ .7‬أن يقتصر الطبيب في المكان والزمان على قدر الحاجة أو الضرورة‬
‫يمس إال المكان الذى تدعو إلى مسه الحاجة أو الضرورة‪ ،‬وما يتعلق به‪ ،‬كأن يكون‬
‫ورم في القدمين‪ ،‬ولكنه يحتاج من الناحية الطبية إلى فحص القلب‪ ،‬أو يكون الوجع‬
‫ٌ‬
‫في الرأس‪ ،‬ولكنه يحتاج إلى قياس ضغط الدم(‪ ،)3‬فيجوز ذلك‪ ،‬وال يجوز التوسع‬
‫زيادة على قدر الحاجة‪ ،‬ويستر ما عدا الموضع الذى يفحصه‪ ،‬ومتى انتهى زمن‬
‫الحاجة إلى النظر واللمس وجب عليه أن يكف؛ ألن هذه أحكام جاءت على خالف‬
‫األصل للضرورة أو الحاجة‪ ،‬وكلتاهما تقدر بقدرها‪ ،‬وألن ما جاز لعذر بطل بزواله‪.‬‬
‫الطبيب معرف ُة العلة بالمس دون النظر‪ ،‬فإنه يباح‬
‫َ‬ ‫أيضا‪ -‬ما لو أمكن‬
‫ومن ذلك – ً‬
‫المس ال النظر(‪ .)4‬وهكذا يقال في حق مداواة الطبيبة للرجال(‪ .)5‬ومما يتعلق بذلك‬
‫أنه إذا أمكن أن يقوم باألمر على وجهه الصحيح امرأةٌ ‪-‬ولو ممرض ًة أو مرافق ًة أو‬

‫(‪ )1‬قرارات المجامع الفقهية فى القضايا الطبية والصحية المعاصرة‪ ،‬د‪ .‬عادل عبد الفضيل‪ ،‬واألستاذ‬
‫السيد طلبة على‪ ،‬ص‪ – 214‬موقع المجمع على الشبكة الدولية‪:‬‬
‫‪http\\:www.aamjaonline.com‬‬
‫(‪ )2‬أجوبة هامة فى الطب‪ ،‬أبو الفضل الغمارى‪ ،‬ص‪.28‬‬
‫(‪ )3‬مداواة الرجل للمرأة والمرأة للرجل‪ ،‬د محمد البار‪ ،‬ط دار المنارة‪1416 ،‬هـ – ‪1995‬م‪،‬‬
‫‪.1281/8‬‬
‫(‪ )4‬مغنى المحتاج‪.215/4 ،‬‬
‫(‪ )5‬البحر الرائق شرج كنز الدقائق‪ ،‬زين الدين بن نجيم‪ – 218/8 ،‬المقدمات الممهدات‪- 460/3 ،‬‬
‫إحكام النظر‪ ،‬ابن القطان‪ ،‬ص‪ - 451‬مغنى المحتاج‪ - 215/4 ،‬كشاف القناع‪ - 113/5 ،‬اآلداب‬
‫الشرعية‪ ،‬ابن مفلح‪.442/2 ،‬‬
‫( ‪) 101‬‬

‫قابل ًة‪ -‬لم يجز للطبيب التدخل إال باإلشراف‪ ،‬وينبغى للطبيب أن ُي َعّلِ َم امرًأة إن‬
‫أمكن‪ ،‬وإن لم يمكن ستر كل عضو منها‪ ،‬سوى موضع الوجع‪ ،‬ثم ينظر‪ ،‬ويغض‬
‫(‪)1‬‬
‫ببصره عن غير ذلك الموضع إن استطاع؛ ألن ما ثبت للضرورة يتقدر بقدرها"‬
‫‪ .8‬أن ال يكون الطبيب غير مسلم مع وجود المسلم‪ - ،‬وفيه خالف وتفصيل ليس هذا‬
‫أمينا‪ ،‬ال يخشى منه اإلضرار‬
‫موطنه ‪ -‬والراجح فيه جواز استطبابه إذا كان ً‬
‫بالمسلم‪.‬‬
‫وقد جاء في قرار مجمع الفقه السالمي‪ ،‬التابع لمنظمة المؤتمر السالمي‪ ،‬في‬
‫دورته المنعقدة في بروناي ‪1414‬ه – ‪1994‬م‪ ،‬بشأن مداواة المرأة ما يلى‪:‬‬

‫األصل أنه إذا توافرت طبيبة متخصصة‪ ،‬يجب أن تقوم بالكشف على المريضة‪،‬‬
‫وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم بذلك طبيبة غير مسلمة ثقة‪ ،‬فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب‬
‫مقامه طبيب غير مسلم‪ ،‬على أن يطلع‬
‫مسلم‪ ،‬وإن لم يتوافر طبيب مسلم يمكن أن يقوم َ‬
‫من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته‪ ،‬وأال يزيد عن ذلك‪،‬‬
‫وأن يغض الطرف قدر استطاعته‪ ،‬وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم‪،‬‬
‫أو زوج‪ ،‬أو امرأة ثقة‪ ،‬خشية الخلوة(‪.)2‬‬

‫الموضوع الخامس‪ :‬حكم الوضوء من مس المرضى وعوراتهم(‪.)3‬‬


‫المريض الذى َي َم ُّس ُه الطبيب أو الطبيبة أثناء المعالجة‪ ،‬إما ذكر أو أنثى‪ ،‬فإن كان‬
‫ذكر فالحديث في مس الطبيب أو الطبيبة لذكره‪ ،‬هل ينقض الوضوء أم ال‪ ،‬وفى لمس‬ ‫ًا‬
‫الطبيبة األنثى لسائر جسده‪ ،‬وإن كان أنثى فالحديث في مس الطبيب أو الطبيبة‬

‫(‪ )1‬البحر الرائق‪.218/8 ،‬‬


‫(‪ )2‬مجلة مجمع الفقه اإلسالمى‪ – 1454/8 ،‬قرارات المجامع الفقهية فى القضايا الطبية والصحية‬
‫المعاصرة‪ ،‬د‪ .‬عادل عبد الفضيل‪ ،‬واألستاذ السيد طلبة على‪ ،‬ص‪ – 211‬موقع المجمع على‬
‫الشبكة الدولية‪http\\:www.fiqhacademy.org.sa :‬‬
‫(‪ )3‬كتب هذا الموضوع الدكتور أبو الخير نشأت أحمد‪ ،‬مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬
‫( ‪) 102‬‬

‫سائر جسدها‪ ،‬وهما مسألتان قد أفاض فيهما أهل العلم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الذكر َ‬ ‫الطبيب‬ ‫لفرجها‪ ،‬وفى مس‬
‫ٍ‬
‫تفصيل‪ ،‬فاحتاج األمر فيهما إلى االختصار واالكتفاء‬ ‫َّما‬
‫إفاضة مطولة‪ ،‬وفصلوهما أي َ‬
‫بأصول أدلتهما‪ .‬فإلى بيان هاتين المسألتين‪:‬‬

‫المسألة األولى‪ :‬حكم الوضوء من مس الذكر‬

‫اختلف الفقهاء في ذلك على ثالثة أقوال‪:‬‬

‫األول أن لمس الذكر ناقض للوضوء‪ ،‬وهو قول الشافعى‪ ،‬ومشهور مذهب مالك‪،‬‬
‫ورواية عن أحمد‪ .‬ولهؤالء تفاصي ُل في صفة اللمس الناقض‪ ،‬هل يشترط أن يكون‬
‫أكثر القائلين بذلك ال‬
‫بباطن الكف‪ ،‬أم هو مطلق؟ وهل يشترط القصد أم ال؟ وإن كان ُ‬
‫يفرق بين العامد وغيره‪ ،‬فعلى هذا القول يجب على الطبيب والطبيبة والممرض‬
‫مس فرِج المرأة‪.‬‬
‫والممرضة الوضوء من مس ذكر المريض‪ ،‬وكذا عند بعضهم ُّ‬

‫الثاني‪ :‬أن لمس الذكر غير ناقض للوضوء‪ ،‬فال يجب منه الوضوء وال يستحب‪،‬‬
‫وهو قول أبى حنيفة‪ ،‬ورواية عن أحمد‪ ،‬وقول لبعض المالكية‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أن لمس الذكر غير ناقض للوضوء‪ ،‬ولكن يستحب منه الوضوء‪ ،‬وهو رواية‬
‫في مذهب أحمد‪ ،‬وفى رواية عن مالك أن الوضوء منه سنة‪ ،‬بمعنى أنه غير ناقض‪،‬‬
‫استحبابا‪ ،‬فإن خرج الوقت لم يطالب باإلعادة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ولكن إذا فعله أعاد في الوقت‬

‫األدلة‪ :‬سبب الخالف في ذلك أن فيه حديثين متعارضين‪ :‬أحدهما الحديث الوارد من‬
‫طريق ُب ْس َرَة بنت صفوان –رضى هللا عنها‪ -‬أنها سمعت رسول هللا ﷺ يقول‪" :‬إذا مس‬
‫المعارض له حديث طلق بن علي ‪ ‬قال‪:‬‬‫ِ‬ ‫أحدكم ذكره فليتوضأ"(‪ ،)1‬والحديث الثانى‬
‫ذكره‬ ‫ِ‬ ‫قدمنا على رسول هللا ﷺ وعنده رجل‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ما ترى في ِّ‬
‫مس الرجل َ‬
‫ض َع ٌة منك"؟!‪ ،‬فذهب العلماء في تأويل هذه‬
‫بعد أن يتوضأ؟ فقال‪" :‬وهل هو إال َب ْ‬

‫(‪ )1‬قال فى بداية المجتهد‪":46/1 ،‬وهو أشهر األحاديث الواردة فى إيجاب الوضوء من مس الذكر‪،‬‬
‫خرجه مالك فى الموطأ"‪.‬‬
‫َّ‬
‫( ‪) 103‬‬

‫مذهب الجمع‪ ،‬فمن رجح‬


‫َ‬ ‫مذهب الترجيح أو النسخ‪ ،‬وإما‬
‫َ‬ ‫األحاديث أحد مذهبين؛ إما‬
‫ناسخا لحديث طلق بن على قال بإيجاب الوضوء من مس الذكر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حديث بسرة أو رآه‬
‫ومن رجح حديث طلق بن على أسقط وجوب الوضوء ِم ْن َم ِّس ِه‪ ،‬ومن جمع بين‬
‫الحديثين‪ ،‬أوجب الوضوء منه في حال‪ ،‬ولم يوجبه في حال‪ ،‬أو حمل حديث بسرة على‬
‫الندب‪ ،‬وحديث طلق بن َعلِ ٍى َعَلى الوجوب(‪.)1‬‬
‫ّ‬
‫الترجيح‪ :‬الراجح ‪-‬وهللا أعلم‪ -‬أن الوضوء من مس الذكر مستحب ال واجب جمعا‬
‫بين الحديثين(‪ .)2‬وعليه‪ ،‬فإن الطبيب إذا مس ذكر مريض استُحب له أن يتوضأ‪ ،‬وال‬
‫مس المرِأة فرَج المرأة‪.‬‬
‫يجب عليه ذلك‪ ،‬ومثله ُّ‬

‫ِ‬
‫الرجل فرَج المرأة ‪-‬على هذا القول‪ -‬فيدخل في المسألة التالية‪ ،‬وهى لمس‬ ‫وأما مس‬
‫الرجل جسد المرأة‪.‬‬

‫المسألة الثانية‪ :‬حكم الوضوء من َلم ِ‬


‫س المرأة‬

‫اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثالثة أقوال‪:‬‬

‫ِ‬
‫الرجل المرَأة ناقض لوضوء الرجل على كل حال‪ ،‬أي سواء قصد‬ ‫لمس‬
‫األول‪ :‬أن َ‬
‫اللذة أو وجدها‪ ،‬أو لم يقصد ولم يجد‪ ،‬وهو قول الشافعية‪.‬‬

‫وعلى هذا القول ينتقض وضوء الطبيب والممرض بلمس جسد المرأة بكل حال‪،‬‬
‫وينتقض وضوء الطبيبة والممرضة بلمس جسد المريض بكل حال‪.‬‬

‫الثانى‪ :‬أن األمر دائر مع الشهوة؛ فإن قصد اللذة‪ ،‬أو وجدها‪ ،‬فعليه الوضوء‪ ،‬ولو‬
‫كان الملموس من المحارم‪ ،‬وهو قول جمهور المالكية‪ ،‬ومشهور مذهب أحمد‪ .‬وللمالكية‬

‫(‪ )1‬بداية المجتهد‪.46/1 ،‬‬


‫(‪ )2‬شرح مختصر الطحاوي‪ ،‬الجصاص‪ ،‬ط دار البشائر ودار السراج‪1431 ،‬ه – ‪2010‬م‪،‬‬
‫‪ – 380/1‬بداية المجتهد‪ ،‬ابن رشد الحفيد‪ – 45/1 ،‬المجموع شرح المهذب‪ – 35/2 ،‬سبل‬
‫السالم‪ – 95/1 ،‬نيل األوطار‪.249/1 ،‬‬
‫( ‪) 104‬‬

‫تفاصيل‪ ،‬تدور حول قصد اللذة أو وجودها‪ .‬أما مجرد اللمس بدون قصد لذة وال وجودها‬
‫ُ‬
‫فال ينقض‪.‬‬

‫وعلى هذا القول‪ ،‬فإن الطبيب والممرض إذا لمسا جسد مريضة‪ ،‬وكذا الطبيبة‬
‫والممرضة إذا مست جسد مريض فالغالب عدم الشهوة‪ ،‬لكن إن حدثت اللذة أو ُق ِ‬
‫ص َد ْت‬ ‫َ‬
‫انتقض الوضوء‪.‬‬

‫القول الثالث‪ :‬أن لمس المرأة ال ينقض الوضوء‪ ،‬ولو كان بشهوة‪ ،‬حتى ولو كانت‬
‫تالزم بين التحريم وبين نقض الوضوء؛ فإن‬
‫الشهوة محرمة‪ ،‬كأن يلمس غير زوجته‪ ،‬وال ُ‬
‫كثير من المحرمات يفعلها اإلنسان؛ فيأثم‪ ،‬وال ينتقض وضوؤه‪ ،‬وبه قال أبو حنيفة‬
‫ًا‬
‫وأصحابه‪ ،‬وهو رواية عن أحمد‪.‬‬

‫األدلة‪ :‬سبب اختالفهم في هذه المسألة‪ :‬اشتراك اسم اللمس في كالم العرب‪ ،‬فإن‬
‫العرب تطلقه مرة على اللمس الذى هو باليد‪ ،‬ومرة تكنى به عن الجماع‪.‬‬

‫اء﴾ (سورة النساء ‪ ،43‬وسورة‬ ‫ِ‬


‫اختلف في تفسير قوله تعالى‪﴿:‬أَو َال َمس ُت ُم الن َس َ‬
‫ولذلك ُ‬
‫المائدة ‪ ،)6‬فقال ابن عباس‪" :‬هو الجماع‪ ،‬ولكن هللا يعف ويكنى" وقال على مثَله‪ ،‬وكذا‬
‫وعِبيدة َّ‬
‫السْلمانى‪،‬‬ ‫مجاهد والحسن وقتادة‪ .‬واختاره الطبرى‪ .‬وفسرها ابن مسعود وأصحابه َ‬
‫باللمس باليد‪ ،‬أو ما دون الجماع من القبلة واللمس(‪.)1‬‬

‫ولذا فالراجح ‪-‬إن شاء هللا ‪ -‬ما ذهب إليه الحنفية‪ ،‬من أن المالمسة بين الرجل‬
‫والمرأة ال تنقض الوضوء‪ ،‬خاصة إذا نظرنا إلى نظم اآلية‪ ،‬فإنها ذكرت الوضوء والغسل‬
‫من الجنابة‪ ،‬وهذه هى الطهارة بالماء لكل من الحدث األصغر واألكبر‪ ،‬ثم ثنت بذكر‬

‫مشار إليه في قوله تعالى‪﴿ :‬أَو َج َ‬


‫اء‬ ‫ًا‬ ‫التيمم من كل من الحدثين‪ ،‬فجاء الحدث األصغر‬
‫اء﴾‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫أ ِ‬
‫َحٌد من ُكم م َن ال َغائط﴾‪ ،‬وجاء ذكر الجنابة في قوله تعالى‪﴿ :‬أَو َال َمس ُت ُم الن َس َ‬
‫َ‬
‫وجائز له التيمم‪ ،‬وفى هذا تكثير لمعانى القرآن‪،‬‬ ‫ًا‬ ‫وعلى هذا يكون الجنب مرًادا باآلية‬

‫(‪ )1‬تفسير الطبرى‪.397 -390/8 ،‬‬


‫( ‪) 105‬‬

‫ار بدون معنى‪ ،‬كما قال اآلخرون(‪.)1‬‬


‫وليس تكرًا‬
‫ً‬
‫وقال ابن تيمية‪" :‬وأمره بالوضوء من مس الذكر إنما هو استحباب‪ ،‬إما مطلًقا‪ ،‬وإما‬
‫إذا حرك الشهوة‪ ،‬وكذلك يستحب لمن لمس النساء فتحركت شهوته أن يتوضأ‪ ،‬وكذلك‬
‫غيره‪ ،‬فانتشر‪ .‬فالتوضؤ‬
‫األمرد أو َ‬
‫َ‬ ‫من تفكر‪ ،‬فتحركت شهوته‪ ،‬فانتشر‪ ،‬وكذلك َمن َم َّس‬
‫عند تحرك الشهوة من جنس التوضؤ عند الغضب"(‪.)2‬‬

‫الموضوع السادس‪ :‬حكم هدايا األطباء(‪.)3‬‬


‫هل الطبيب العامل في مستشفى عام‪ ،‬يحل له تقاضى أجرة في محل عمله؟(‪.)4‬‬
‫ا‬
‫يقول بعض األطباء‪ :‬إنه توجد الئحة تسمح لهم بتقاضي األجرة في الفترة‬
‫المسائية‪ ،‬بينما يقول بعض منهم‪ :‬إنه ال توجد الئحة بذلك‪ ،‬ولكن المسئولين يسمحون‬
‫تشجيعا لهم على العمل في الفترة المسائية‪ ،‬وقد قال أحد‬
‫ً‬ ‫ألطباء الوحدات الريفية بذلك؛‬
‫األطباء في سؤال مرسل لموقع إسالم ويب للفتوى‪ ،‬إنه بحث وتحرى عن ذلك‪ ،‬فتبين له‬
‫أنه ال توجد لوائح بذلك‪.‬‬

‫وقد حاولت الوقوف على حقيقة األمر بالسؤال‪ ،‬وبالبحث عن وثيقة تنظم هذا‬
‫شيئا‪ ،‬سوى أنه في التقرير الخاص بالحالة الصحية والخدمات الصحية‬
‫األمر‪ ،‬فلم أتبين ً‬
‫في مصر‪ ،‬الصادر عن جمعية التنمية الصحية والبيئية‪ ،‬أشار إلى المواقف السلبية‬
‫ألطباء الوحدات الريفية‪ ،‬بسبب نقص التمويل‪ ،‬بدون ذكر تفاصيل من هذا الباب(‪.)5‬‬

‫هذه هي صورة المسألة المعروضة للبحث‪ ،‬وقد يقع األمر بهذه الصورة‪ ،‬أو بصورة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬أحكام التعامل بين األطباء والمرضى دراسة فقهية مقارنة‪ :‬ص ‪.418‬‬
‫(‪ )2‬مؤلفات شيخ اإلسالم ابن تيمية‪.238/25 ،‬‬
‫(‪ )3‬كتب هذا الموضوع الدكتور أبو الخير نشأت أحمد‪ ،‬مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬
‫(‪ )4‬ينظر‪ :‬أحكام التعامل بين األطباء والمرضى دراسة فقهية مقارنة‪ :‬سيد حسني علي يوسف‪ ،‬رسالة‬
‫دكتوراه‪ ،‬كلية الشريعة والقانون بالقاهرة‪2018 ،‬م‪.‬‬
‫(‪ )5‬الحالة الصحية والخدمات الصحية فى مصر‪ ،‬دراسة تحليلية للوضع الراهن‪ ،‬رؤ ً‬
‫ى مستقبلية‪،‬‬
‫إعداد ونشر برنامج السياسات والنظم الصحية‪ ،‬جمعية التنمية الصحية والبيئية‪ ،‬د‪ .‬ت‪،.‬‬
‫ص‪.224‬‬
‫( ‪) 106‬‬

‫ومثل ذلك ما يقوم به بعض األطباء من االتفاق مع المريض على إجراء العملية‬
‫له في المستشفى العام‪ ،‬مقابل أجرة يتقاضاها الطبيب‪ .‬ويذهب بعض المرضى إلى‬
‫الطبيب في عيادته الخاصة‪ ،‬فيدفع أجرة الكشف؛ ليحوله الطبيب إلى المستشفى العام‪،‬‬
‫وغالبا ما يكون ذلك لعلم المريض أن الطبيب لن يحوله إال بذلك‪،‬‬
‫ً‬ ‫العالج المجاني‪،‬‬
‫ِ‬ ‫و‬
‫غيره‪ ،‬إلى العالج المجاني‪.‬‬
‫الطبيب‪ ،‬وال ُ‬
‫ُ‬ ‫وأنه إذا كشف في المستشفى العام لن يحوله‬

‫فما حكم هذه التصرفات بالنسبة للطبيب‪ ،‬وبالنسبة للمريض؟‬

‫الجواب باختصار ‪-‬فى حالة ما إذا لم يكن هناك تصريح من صاحب المستشفى‪،‬‬
‫أو من المام أو نائبه بذلك‪ -‬هو التحريم؛ لما يشتمل عليه هذا الفعل من أسباب‬
‫التحريم‪ ،‬ومنها ما يلى‪:‬‬

‫السبب األول‪ :‬أن كثي ار من الفقهاء كيَّف العالقة بين الطبيب وبين المستشفى الذى‬
‫يعمل فيه‪ ،‬على أنها عالقة األجير الخاص بمن استأجره‪ ،‬وهو المستشفى ممثَّ ًال في‬
‫أيضا‪ -‬على المستشفى العام‪ ،‬المملوك‬
‫صاحبه‪ ،‬أو من ينوب عنه‪ ،‬وهذا ينطبق ‪ً -‬‬
‫للدولة‪ ،‬نائب ًة عن عامة الناس‪.‬‬

‫فالمستشفى يمثل األجير المشترك إذا كان يتقاضى أجرة‪ ،‬فإذا كان يعمل بالمجان‬
‫فهي من الخدمات التي تقدم للمسلمين‪ ،‬وعلى أي حال فالطبيب العامل في المستشفى‬
‫وتابع له‪ ،‬وليس بينه وبين‬ ‫ِ‬
‫المشترك‪ ،‬أو مقد ِم الخدمة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫األجير‬ ‫أجير خاص لدى ذلك‬
‫ٌ‬
‫المريض عالقة تعاقدية مباشرة‪.‬‬

‫وبناء على ذلك‪ ،‬فإن حقوق العقد بين المريض والمستشفى راجعة إلى المالك‪ ،‬ال‬
‫ً‬
‫إلى ذلك الطبيب العامل في المستشفى‪ .‬ويترتب على ذلك ما يلى‪:‬‬

‫صاحب المستشفى؛ ألن‬ ‫َ‬ ‫أواال‪ :‬أن أجرة الطبيب العامل في المستشفى العام‪ ،‬تلزم‬
‫اء َوَفى صاحب المستشفى‪ ،‬أو الدولة‬ ‫يض منها شيء‪ ،‬سو ٌ‬ ‫العقد بينه وبينه‪ ،‬وال يلزم المر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫أجره‪ ،‬أو لم يف بعقده‪ ،‬ولم ُي َوِّفه َ‬
‫أجره‪،‬‬ ‫المشرفة على المستشفى العام بعقده‪َ ،‬وَوفاه َ‬
‫وسواء كان الراتب يكفيه‪ ،‬أم ال؛ وذلك أن الطبيب قد رضى بهذا العقد‪ ،‬وبهذا الراتب‪،‬‬
‫حتى لو ُفرض أن العقد الذى بينه وبين المستشفى قد ألجأته إليه حاجته إلى المال؛‬
‫( ‪) 107‬‬

‫َّ‬
‫فوقع على عقد من عقود اإلذعان؛ ألن عقد اإلذعان عقد صحيح‪ ،‬رغم ما يشوبه من‬
‫عيب‪ ،‬لكنه عيب ال يرقى إلى درجة انعدا ِم الرضا‪ ،‬ا ِ‬
‫لمفسد للعقود‪ ،‬وعلى فرض كون‬
‫فاسدا‪ ،‬فإن اإلجارة الفاسدة يلزم فيها أجر المثل‪ ،‬على المستأجر(‪ ،)1‬وال َيلزم‬
‫ً‬ ‫العقد‬
‫مجانا‪ ،‬ال يلزمه‬
‫ً‬ ‫المتعاقد مع المستشفى‪ ،‬أو الذى َّ‬
‫تكفل المستشفى بعالجه‬ ‫َ‬ ‫يض‬‫المر َ‬
‫شىء من حقوق هذا العقد‪ ،‬وإن كان هو المستفيد‪ ،‬وإذا أراد الطبيب إصالح وضعه‬
‫يض ذلك‪ ،‬بل يلجأ إلى مطالبة المستشفى‪ ،‬أو الدولة‬ ‫ِ‬
‫حمل المر َ‬
‫المادى‪ ،‬فال يحل له أن ُي ّ‬
‫بذلك اإلصالح‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬أن منافع األجير الخاص مملوكة للمستأجر‪ ،‬وال يصح أن يشترك فيها غيره‪،‬‬
‫ا‬
‫ِ (‪)2‬‬
‫بمعنى أنه ال يجوز لألجير الخاص أن يعمل لغير مستأجره ‪.‬‬

‫وبناء على ذلك‪ ،‬فإن الطبيب العامل في المستشفى‪ ،‬ال يجوز له أن يتعاقد مع‬
‫ا‬
‫أجر من المريض‪ ،‬وإذا فعل األجير الخاص‬‫خاصا‪ ،‬يتقاضى بموجبه ًا‬ ‫تعاقدا‬
‫ً‬ ‫مر ٍ‬
‫يض‬
‫ً‬
‫تحَّق ًة للمستأجر‪ ،‬الذى هو المستشفى‪ ،‬أو للمريض إذا كان‬
‫ذلك كانت هذه األجرة ُم ْس َ‬
‫مجانا‪ .‬ولو قيل إنها في حالة العالج المجاني تكون‬
‫ً‬ ‫المستشفى قد تعهد بعالج المريض‬
‫بعيدا‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫مملوكة للمستشفى ويلزم المستشفى ردها إلى المريض‪ ،‬لم يكن ً‬
‫ثال اثا‪ :‬أن األجير الخاص في التكييف الفقهي وكيل عن صاحب المستشفى‪ ،‬أو‬
‫عن الدولة‪ ،‬وحقوق العقد راجعة إلى الموِّكل‪ ،‬ال إلى الوكيل(‪ ،)3‬عند الجمهور‪.‬‬

‫شيئا‪ ،‬فإنه ال يستحق‬


‫الطبيب ً‬
‫َ‬ ‫وبناء على ذلك‪ ،‬فعلى فرض أن المريض قد أهدى‬ ‫ا‬
‫شيئا‪ ،‬وهذا –وهللا أعلم‪ -‬هو المعنى الذى من أجله حرمت هدايا العمال‪ ،‬أي‬
‫من ذلك ً‬
‫وكيال وحقوق العقد راجعة إلى الموكل ال إليه‪.‬‬
‫لكون العامل ً‬

‫(‪ )1‬الهداية فى شرح بداية المبتدى‪ ،‬المرغينانى‪ – 237/3 ،‬الشرح الكبير مع حاشية الدسوقى‪،‬‬
‫‪ -12/4‬العزيز شرح الوجيز‪ ،‬المعروف بالشرح الكبير‪ ،‬أبو القاسم الرافعى‪ ،‬ط دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت‪1417 ،‬هـ ‪1997 -‬م‪ -84/6 ،‬كشاف القناع‪ ،‬البهوتى‪.46/4 ،‬‬
‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬شرح منتهى اإلرادات‪ ،‬منصور بن يونس البهوتى‪ ،‬ط عالم الكتب‪1414 ،‬هـ ‪1993 -‬م‪،‬‬
‫‪ ،271/2‬الهداية شرح بداية المبتدى‪ ،‬المرغينانى‪ – 243/3 ،‬المجموع شرح المهذب‪،‬‬
‫‪.96/15‬‬
‫(‪ )3‬موسوعة القواعد الفقهية‪ ،‬البورنو‪.145/3 ،‬‬
‫( ‪) 108‬‬

‫السبب الثاني‪ :‬أن هذا يعد من هدايا العمال التي نهى عنها رسول هللا ﷺ‪ ،‬وقال‬
‫جمهور أهل العلم بتحريمها(‪ ،)1‬هذا إذا تطوع بها المريض‪ ،‬كأن يعطيها على سبيل‬
‫الفرحة بمولود‪ ،‬أو ختان طفل‪ ،‬أو نجاح عملية جراحية في المستشفى العام‪ ،‬فكيف إذا‬
‫طلبها الطبيب؟! الشك أن الحرمة تكون أشد‪.‬‬

‫الع َّمال حديث أبى حميد الساعدي ‪-‬رضى هللا عنه‪ -‬قال‪:‬‬
‫ومما ورد في هدايا ُ‬
‫اللتِبي ِ‬
‫َّة‪ ،‬فلما جاء‬ ‫جال على صدقات بنى سليم‪ ،‬يدعى ابن ُّ َ‬
‫استعمل رسول هللا ﷺ ر ً‬
‫حاسبه‪ ،‬قال‪ :‬هذا ماُلكم‪ ،‬وهذا هدية‪ .‬فقال رسول هللا ﷺ‪" :‬فهال جلست في بيت أبيك‬
‫وأمك‪ ،‬حتى تأتيك هديتك إن كنت صادًقا" ثم خطبنا‪ ،‬فحمد هللا وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫"أما بعد‪ ،‬فإنى أستعمل الرجل منكم على العمل مما والنى هللا‪ ،‬فيأتى فيقول‪ :‬هذا مالكم‪،‬‬
‫وهذا هدية أهديت لى‪ ،‬أفال جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته‪ ،‬وهللا ال يأخ ُذ أحد‬
‫أحدا منكم لقى هللا يحمل‬
‫شيئا بغير حقه‪ ،‬إال لقى هللا يحمله يوم القيامة‪ ،‬فألعرفن ً‬‫منكم ً‬
‫بياض إبطه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫شاة تيعر"‪ ،‬ثم رفع يده حتى ُرِئى‬‫بعير له رغاء‪ ،‬أو بقرًة لها خوار‪ ،‬أو ً‬‫ًا‬
‫َ‬
‫وس ِم َع أذني"(‪.)2‬‬
‫ص َر عيني َ‬
‫يقول‪" :‬اللهم هل بلغت"‪َ ،‬ب ُ‬
‫قال العيني‪" :‬وفى الحديث أن هدايا العمال يجب أن تجعل في بيت المال‪ ،‬وأنه‬
‫ليس لهم منها شيء‪ ،‬إال أن يستأذنوا اإلمام في ذلك‪ ،‬كما جاء في قصة معاذ ‪-‬رضى‬
‫هللا تعالى عنه‪ ،-‬أنه ﷺ طيب له الهدية‪ ،‬فأنفذها له أبو بكر ‪-‬رضى هللا تعالى عنه"(‪.)3‬‬

‫السبب الثالث‪ :‬أن هذا من الرشوة؛ ألن الرشوة في تعريف كثير من الفقهاء‪ :‬ما‬
‫أخذ على أداء واجب(‪ .)4‬وما نحن بصدده وهو القيام بالعالج على الصفة المعهودة‬
‫واجب‪ ،‬بمقتضى العقد الذى بين الطبيب وبين المستشفى‪ ،‬أو بينه وبين الدولة‪.‬‬

‫(‪ )1‬بدائع الصنائع‪ ،‬الكاسانى‪ – 9/7 ،‬عقد الجواهر الثمينة‪ ،‬ابن شاس‪– 2012/3 ،760/2 ،‬‬
‫العزيز شرح الوجيز‪ ،‬الرافعى‪ -467/12 ،‬المغنى‪ ،‬ابن قدامة‪ -68/10 ،‬موسوعة مسائل‬
‫الجمهور فى الفقه اإلسالمي‪ ،‬د‪ .‬محمد نعيم ساعى‪.942/2 ،‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخارى فى باب احتيال العامل ليهدى له‪ ،‬برقم ‪ ،6979‬وفى باب هدايا العمال‪ ،‬برقم‬
‫‪ ،70/9 ،7174‬ومسلم‪ ،‬فى باب تحريم هدايا العمال‪ ،‬برقم ‪.1463/3 ،1832‬‬
‫(‪ )3‬عمدة القارى شرح صحيح البخارى‪ ،‬بدر الدين العينى‪ ،‬ط دار إحياء التراث العربى‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫د‪ .‬ت‪.156/13 ،.‬‬
‫(‪ )4‬كشاف اصطالحات الفنون والعلوم‪ ،‬التهانوى الحنفى‪.865/1 ،‬‬
‫( ‪) 109‬‬

‫وقد أجمع أهل العلم على تحريم الرشوة‪ ،‬وقد استُِدل على تحريم الرشوة بقوله ‪-‬‬
‫لسح ِت﴾ (سورة المائدة‪.)42 ،‬‬
‫َكاُلو َن لِ ُّ‬
‫تعالى‪﴿ :-‬أ َّ‬

‫ومن أدلة التحريم حديث عبد هللا بن عمرو بن العاص –رضى هللا عنهما‪ ،-‬قال‪:‬‬
‫لعن رسول هللا ﷺ الراشى والمرتشى(‪ ،)1‬وفى لفظ قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪" :‬لعن ُة هللا على‬
‫الراشي والمرتشي"(‪.)2‬‬

‫السبب الرابع‪ :‬أن هذا العمل يعد خيان ًة لألمانة؛ وذلك أن الطبيب مؤتمن على ما‬
‫استُعمل فيه‪ ،‬ومؤتمن على ما تحت يده من أجهزة ودواء؛ فال يجوز له صرفها في غير‬
‫ما خصصت له‪ ،‬وال يجوز له استعمال المستشفى‪ ،‬وال أجهزة المستشفى فيما يعود عليه‬
‫بالنفع الشخصي(‪.)3‬‬

‫وخالصة القول في هذه المسألة في النقاط التالية‪:‬‬

‫مملوكا للدولة‪ ،‬أو‬


‫ً‬ ‫مستشفى‪ ،‬سواء كان‬
‫ً‬ ‫أنه ال يجوز للطبيب العامل في‬ ‫‪-1‬‬
‫أجر من المرضى‪ ،‬ما لم يكن هناك إذن من‬
‫لفرد‪ ،‬أو مؤسسة‪ ،‬أن يتقاضى ًا‬
‫صاحب المستشفى (فى حالة المستشفى الخاص)‪ ،‬أو من اإلمام أو نائبه (فى‬
‫حالة المستشفى الحكومى)‪ ،‬بشرط أن ال يظهر من اإلمام‪ ،‬أو نائبه‪ ،‬وهو‬
‫المسئول عن الشئون الصحية والمستشفيات‪ ،‬محاباة لبعض األطباء‪ ،‬بتخويلهم‬
‫ذلك الحق؛ ألن تصرف اإلمام على الرعية منوط بالمصلحة‪ ،‬فإذا ظهر خالف‬
‫ذلك كان معصي ًة هلل ورسوله‪ ،‬وال طاعة لمخلوق في معصية الخالق‪.‬‬
‫يجب على الطبيب رد ما أخذه إلى بيت المال‪ ،‬أى إلى الخزينة الخاصة‬ ‫‪-2‬‬
‫َخ َذ من المريض ‪-‬فى الحالة التى يجب عليه عالجه‬
‫بمكان عمله‪ ،‬فإن كان أ َ‬
‫مجانا‪ -‬فإنه يرده إلى المريض‪ ،‬فإن وقع على المستشفى ضرر من ذلك‬
‫ً‬ ‫فيها‬

‫(‪ )1‬رواه الترمذى‪ ،‬وقال‪" :‬هذا حديث حسن صحيح"‪.‬‬


‫(‪ )2‬رواه ابن حبان‪ ،‬وقال‪" :‬إسناده قوى"‪ ،‬ولفظه‪" :‬لعن هللا الراشى والمرتشى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬حرمة المال العام فى ضوء الشريعة اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬حسين حسين شحاته‪ ،‬ط دار النشر‬
‫للجامعات‪1420 ،‬هــ ‪1999 -‬م‪ ،‬ص ‪.41 ،29‬‬
‫( ‪) 110‬‬

‫فقد تقدم قول صاحب شرح المنتهى في رد ما أخذه األجير الخاص من العمل‬
‫ِ‬
‫مستأجره‪.‬‬ ‫لغير‬
‫الطبيب فهو من هدايا العمال‪ ،‬وال يجوز أخذه‪.‬‬
‫َ‬ ‫يض‪ ،‬وأعطى‬
‫إذا تطوع المر ُ‬ ‫‪-3‬‬
‫الطبيب؛ ليحوله إلى العالج المجانى فهو رشوة‪ ،‬وإن كان‬
‫َ‬ ‫إن أعطى‬ ‫‪-4‬‬
‫المريض يستحق التحويل وجب عليه تحويله بال مقابل‪.‬‬
‫استغالل الطبيب للمستشفى وأدواته وأدويته للتربح‪ ،‬هو من خيانة األمانة‪.‬‬ ‫‪-5‬‬
‫عالجا‪ ،‬أو يضيق عليه؛ ليضطره‬
‫ً‬ ‫ال يجوز للطبيب أن يمنع عن المريض‬ ‫‪-6‬‬
‫إلى الكشف في عيادته الخاصة‪ ،‬أو في المستشفى الخاص الذى يعمل به‪.‬‬
‫الطبيب فهذه‬
‫َ‬ ‫إذا لم يجد المريض طريق ًة للحصول على حقه‪ ،‬إال أن يعطى‬ ‫‪-7‬‬
‫ِ‬
‫المعطى‪ ،‬وهو المريض‪.‬‬ ‫رشوة‪ ،‬تحرم على اآلخذ‪ ،‬وهو الطبيب‪ ،‬دون‬
‫السماح بذلك من بعض المسئولين‪ ،‬دون وجود إذن عام أو تفويض من‬ ‫‪-8‬‬
‫اإلمام‪ ،‬ال يجوز؛ ألن ذلك المسئول وكيل‪ ،‬ينبغى أن يلتزم بحدود ما وكل فيه‪.‬‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬

‫ِ‬
‫ونحوه(‪.)1‬‬ ‫الموضوع السابع‪ :‬حكم توج ِ‬
‫يه المريض إلى صيدلية بعينها‪،‬‬
‫مستقر لدى أصحاب هذه‬
‫ًا‬ ‫شاعت بين األطباء جملة ممارسات‪ ،‬كادت تصبح عرًفا‬
‫المهنة‪ ،‬وتساهل فيها الناس‪ ،‬دون اعتناء بمعرفة حكم الشرع فيها‪ ،‬فمن ذلك(‪:)2‬‬

‫تحاليل بعينه‪،‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫مختبر‬ ‫‪ .1‬أن يوجه الطبيب المريض إلى صيدلية بعينها‪ ،‬أو إلى‬
‫ويكون بين الطبيب‪ ،‬وبين الصيدالنى‪ ،‬أو صاحب المختبر اتفاق على توجيه‬
‫أحيانا يوحى الطبيب إلى‬
‫المرضى إليه‪ ،‬مقابل نسبة معينة‪ ،‬يأخذها الطبيب‪ .‬و ً‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور أبو الخير نشأت أحمد‪ ،‬مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬
‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬أحكام التعامل بين األطباء والمرضى دراسة فقهية مقارنة‪ :‬سيد حسني علي يوسف‪ ،‬رسالة‬
‫دكتوراه‪ ،‬كلية الشريعة والقانون بالقاهرة‪2018 ،‬م‪.‬‬
‫( ‪) 111‬‬

‫مرضاه ‪-‬بصورة أو بأخرى‪ -‬أن المعمل (المختبر) الفالنى ال ُيحسن فن التحليل‬


‫والفحص‪ ،‬وأن نسبة الخطأ عنده كبيرة؛ بغرض الترويج للمعمل الذى يتعامل الطبيب‬
‫معه‪ ،‬والمريض يرى بعين طبيبه؛ فتكون نتيجة ذلك تشويه سمعة المعمل األول‪.‬‬
‫أحيانا تكون الصيدلية مملوكة للطبيب نفسه‪ ،‬أو لزوجته‪ ،‬أو من يهمه أمره بصورة‬
‫و ً‬
‫أو بأخرى‪ ،‬وكذلك المختبر‪.‬‬
‫األول إلى كتابتها‬
‫ُ‬ ‫‪ .2‬أن يكتب الطبيب للمرضى أدوية معينة‪ ،‬يكون ُ‬
‫دافعه‬
‫ترويج دو ٍاء لشركة معينة‪ ،‬استجاب ًة لدعاية الشركة‪ ،‬التى ازره مندوبها‪ ،‬وقدم له بعض‬
‫َ‬
‫الهدايا العينية‪ ،‬أو استضافه في مؤتمر‪ ،‬تعقده الشركة‪ ،‬وتكون نفقات األطباء فيه‬
‫على حساب الشركة‪ ،‬مع بعض الهدايا‪ ،‬و ِّ‬
‫الر ْحالت الترفيهية‪ ،‬وتذاكر السفر‪ ،‬ونحو‬
‫أحيانا يكون االتفاق بين الطبيب ومندوب شركة األدوية على أن ُي ْن ِزل مندوب‬
‫ذلك‪ .‬و ً‬
‫معينا من‬
‫عددا ً‬ ‫ِ‬
‫مجاورًة للطبيب‪ً -‬‬ ‫وعادة ما تكون‬
‫ً‬ ‫الشركة في الصيدلية الفالنية –‬
‫ِ‬
‫وتوجيههم إلى‬ ‫ِ‬
‫بكتابة هذا الدواء للمرضى‪،‬‬ ‫عبوات دواء معين‪ ،‬على أن يقوم الطبيب‬
‫الصيدلية‪ ،‬أو هم عادة يتوجهون إليها؛ لكونها في المبنى الو ِ‬
‫اقعة فيه العيادةُ‪ ،‬أو‬
‫وينزل الطبيب بنفسه إلى‬
‫مبلغ كذا من المال‪َ ،‬‬
‫قريب ًة منه‪ ،‬على أن له على كل عبوة َ‬
‫أحيانا تنفد‬ ‫ِ‬ ‫الصيدلية؛ ليعرف كم ِنفد من َ ِ‬
‫حصل العمولة المتفق عليها‪ ،‬و ً‬
‫الك ّمية؛ ُلي ّ‬
‫العَّقار لمرضاهم‪ ،‬بدون اتفاق مع‬
‫الكمية بفعل غيره من األطباء‪ ،‬الذين يكتبون هذا َ‬
‫الشركة‪ ،‬أو بشراء بعض الناس له‪ ،‬والطبيب يحاسب على هذا كله‪ ،‬فالمقياس هو‬
‫الطبيب الهدايا من ماله الخاص؛‬
‫َ‬ ‫المندوب أن يعطى‬
‫ُ‬ ‫أحيانا ُيضطر‬
‫نفاد الكمية‪ .‬و ً‬
‫َ‬
‫ألن الشركة تشترط عليه تحقيق ربح معين للشركة‪ ،‬وإال طرد من العمل‪ ،‬وهنا‬
‫كثير منهم يشترط عليه –لكى يكتب أدوية الشركة‬
‫يصطدم بشروط األطباء‪ ،‬فإن ًا‬
‫مقابال لهذا العمل‪.‬‬
‫ً‬ ‫لمرضاه‪ -‬أن يدفع له‬
‫ٍ‬
‫عينات طبي ًة مجاني ًة‪ ،‬فيقوم الطبيب ببيعها‪،‬‬ ‫الطبيب‬ ‫المندوب‬ ‫أحيانا يعطى‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫‪ .3‬و ً‬
‫( ‪) 112‬‬

‫أحيانا ُيكتب عليها عبارةُ (عينة طبية مجانية‪ ،‬ال يجوز بيعها) أو (ليست مخصصة‬
‫و ً‬
‫للبيع)‪ ،‬ومع ذلك يبيعها الطبيب للصيدلية‪ ،‬لتبيعها للعامة‪.‬‬
‫مستشفى‪ ،‬أو لمسئول في‬
‫ً‬ ‫طى هذه العينات لطبيب عامل في‬
‫أحيانا تُ ْع َ‬
‫‪ .4‬و ً‬
‫المستشفى‪ ،‬بصفة شخصية‪ ،‬أو بصفته اإلدارية‪.‬‬
‫بعض المرضى أدوي ًة زائدة‬ ‫ِ‬ ‫‪ .5‬أن يكون الطبيب‬
‫مستشفى‪ ،‬فيعطى َ‬
‫ً‬ ‫عامال في‬
‫ً‬
‫على سبيل المحاباة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫اتفاق بينه وبين‬ ‫بناء على‬
‫‪ .6‬أن يكتب الطبيب أدوية غير الزمة للمريض‪ً ،‬‬
‫ٍ‬
‫صيدلية‪ ،‬أو شركة أدوية على تصريف األدوية‪.‬‬

‫ٍ‬
‫وتفصيل للمسألة‪،‬‬ ‫وأحاول فيما يلى صياغة تأصيل فقهى لهذه المسائل‪ ،‬في ٍ‬
‫بسط‬
‫وذلك من خالل النقاط التالية‪:‬‬

‫أواال‪ :‬حكم توجيه المريض إلى صيدلية بعينها‪:‬‬

‫الطبيب أجير‪ ،‬واألجير بمنزلة الوكيل عن المستأجر فيما استؤجر عليه(‪،)1‬‬


‫ضامنا للضرر‬
‫ً‬ ‫والوكيل يجب عليه االستقصاء لموكله‪ ،‬كما يستقصى لنفسه‪ ،‬وإال كان‬
‫عادة(‪،)2‬‬
‫الذى يقع على الموكل من جراء تصرفه‪ ،‬إذا كان هذا الضرر مما ال يحتمل ً‬
‫ٍ‬
‫صيدلية بعينها؛ ليشترى منها‬ ‫وبناء على ذلك فإن إحالة الطبيب المريض على‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫مختبر بعينه؛ إلجراء التحاليل‪ ،‬إن كانت نصيحة خالصة؛ لكون أسعار‬ ‫الدواء‪ ،‬أو‬
‫الصيدلية أو المعمل أرخص‪ ،‬كأن يكون لدى الصيدلية أو المعمل تخفيضات‪ ،‬أو شىء‬
‫أحدث أجهزًة‪ ،‬أو نحو ذلك‪،‬‬ ‫فيه منفعة للمريض‪ ،‬أو لكون المعمل َّ‬
‫أدق في التحاليل‪ ،‬و َ‬
‫فإن هذا إحسان محض‪ ،‬له فيه من هللا –تعالى‪ -‬األجر والمثوبة؛ ألن من حق المسلم‬
‫على المسلم النصيح َة‪ ،‬بل قد يصل إلى حد الوجوب‪ ،‬وذلك فيما إذا كان الطبيب ال‬
‫يثق بنتيجة المختبرات األخرى‪ ،‬فيجب عليه أن يعمل بما يغلب على ظنه أن فيه‬

‫(‪ )1‬المجموع شرح المهذب‪.101 ،28/15 ،‬‬


‫(‪ )2‬المغنى‪ ،‬ابن قدامة‪86 ،81/5 ،‬‬
‫( ‪) 113‬‬

‫ع حديثنا‪ ،‬ولكن موضوع حديثنا متعلق بما‬


‫المصلح َة للمريض‪ ،‬وليس هذا هو موضو َ‬
‫بناء على اتفاق‬ ‫ن‬
‫تقدم من كو الطبيب يوجه المريض إلى الصيدلية‪ ،‬أو إلى المختبر؛ ً‬
‫بين الطبيب وصاحب الصيدلية أو المختبر‪ ،‬مقابل عوض مالى‪ ،‬يحصل عليه الطبيب‪،‬‬
‫فإن هذا ذريعة إلى أن يكتب الطبيب للمريض الدواء الذى يوجد في هذه الصيدلية‪،‬‬
‫سعرا‪،‬‬
‫أرخص ً‬
‫ُ‬ ‫فائدة للمريض منه‪ ،‬أو مثَله في الفائدة‪ ،‬لكنه‬
‫ً‬ ‫بينما يكون غيره َ‬
‫أكثر‬
‫فيفوت هذه الفائدة على المريض‪ .‬وربما يكون الصيدالنى في حاجة إلى تصريف نوٍع‬
‫لسبب ما‪ ،‬فيؤدى ذلك إلى أن يكتب الطبيب هذا النوع‪ ،‬بناء على حاجة‬‫ٍ‬ ‫من األدوية‬
‫الصيدالنى‪ ،‬والمريض في ِغًنى عنه‪ ،‬أو يحتاج إلى ما هو أفضل منه‪ ،‬أو يكون‬
‫كفاءة من غيره‪ ،‬وهذا كله من الغش المحرم‪.‬‬
‫ً‬ ‫أقل‬
‫المختبر َّ‬

‫وال يجوز لصاحب الصيدلية أو المختبر أن يعطى الطبيب هذا المال؛ ألنه إعانة‬
‫على المنكر‪ ،‬الذى هو غش المرضى‪ ،‬وقد اعتبرته اللجنة الدائمة لإلفتاء بالمملكة‬
‫السعودية من قبيل الرشوة(‪.)1‬‬

‫وقد ذكر ابن القيم أن أصحاب الصنائع إذا اشتركوا فأدت شركتهم إلى اإلضرار‬
‫بالعامة وجب على اإلمام منعهم من ذلك‪ .‬وما وجب هذا المنع إال ألن رفع الضرر عن‬
‫المسلمين واجب‪ ،‬وتقدم أنه ال يجوز إفساد السوق‪ ،‬ولو كان بإرخاص السعر(‪.)2‬‬

‫ثانيا‪ :‬حكم الهدايا المقدمة لألطباء من شركات األدوية على سبيل الدعاية‪:‬‬
‫ا‬
‫الهدايا التي تقدمها شركات األدوية عن طريق مندوبيها لألطباء إنما يقصد بها‬
‫الترويج لمنتجاتهم‪ ،‬وقد يكون فيها تأثير على أمانة الطبيب‪ ،‬وشراء لذمته‪ ،‬بحيث يكتب‬
‫مستشفى ما ليشترى المستشفى ذلك الدواء‪ .‬وتفصيل‬
‫ً‬ ‫لمرضاه ذلك الدواء‪ ،‬أو يسعى لدى‬
‫القول فيها في نقطتين‪:‬‬

‫يسيرا‪ ،‬مما جرت العادة ببذله لكل أحد‪ ،‬ولم يرتبط‬


‫ا‬ ‫شيئا‬
‫األولى‪ :‬إذا كانت الهدية ا‬

‫(‪ )1‬فتاوى اللجنة الدائمة‪ ،‬المجموعة األولى‪ ،‬ط رئاسة إدارة البحوث العلمية واإلفتاء‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫‪.567/23‬‬
‫(‪ )2‬راجع الطرق الحكمية‪ ،‬البن القيم‪ ،‬ص‪.222 – 217‬‬
‫( ‪) 114‬‬

‫اسم المنتَج‪ ،‬أو مفكرٍة‪ ،‬أو تقويمٍ‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬


‫بها اتفاق على ترويج السلعة‪ ،‬كقل ٍم مكتوب عليه ُ‬
‫تركها‪ .‬مع مالحظة أن الطبيب إذا كان‬ ‫ِ‬
‫نحو ذلك‪ ،‬فاألمر فيها يسير‪ ،‬وإن كان الورعُ َ‬
‫ٍّ‬
‫خاص فالهدية ليست من حقه‪ ،‬بل هى للمستشفى‪،‬‬ ‫عام أو‬
‫قطاع ٍّ‬
‫ٍ‬ ‫عامال في مستشفى‬
‫ً‬
‫مهما كانت الهدية صغيرة‪ ،‬إال إذا جرى شرط أو عرف بتسامح المستشفى في اليسير‪.‬‬

‫المعتبَرِة المؤثرِة‪ ،‬وهى على حالتين‪:‬‬ ‫ذات البال و ِ‬


‫القيمة‬ ‫الثانية‪ :‬في الهدايا ِ‬
‫َ‬
‫خاصا)‪ ،‬فهى‬
‫(عاما كان أو ًّ‬
‫ًّ‬ ‫مستشفى‬
‫ً‬ ‫عامال في‬
‫ً‬ ‫الحالة األولى‪ :‬أن يكون الطبيب‬
‫حرام؛ وذلك لما يلى‪:‬‬

‫أنه إذا كان لقرار الطبيب تأثير‪ ،‬بحيث يحمل المستشفى على الشراء من‬ ‫‪)1‬‬
‫هذه الشركة فهذه رشوة؛ ألنه إن توصل بها إلى باطل‪ ،‬كأن يتوسط لشراء‬
‫المستشفى ما ال يلزم‪ ،‬أو لشرائه بسعر أغلى‪ ،‬فهى رشوة‪ ،‬وإن لم ُيتوصل بها‬
‫إلى باطل‪ ،‬فأقل ما فيها أن تكون من قبيل أخذ الهدية على الشفاعة‪ ،‬وذلك‬
‫محرم بنص حديث أبى أمامة ‪ ‬أن النبى ﷺ قال‪" :‬من شفع ألخيه شفاعة‪،‬‬
‫بابا عظيما من أبواب الربا"(‪.)1‬‬
‫فأهدى له هدية عليها‪ ،‬فقبلها‪ ،‬فقد أتى ً‬
‫وإن لم يكن للطبيب قرار مؤثر في شراء المستشفى من الشركة فهو من‬ ‫‪)2‬‬
‫هدايا العمال‪ ،‬التى ما كانت لتأتيه لو جلس في بيته‪ ،‬وهى محرمة‪ ،‬وقد تقدم‬
‫اللتِبي ِ‬
‫َّة في ذلك‪.‬‬ ‫حديث ابن ُّ َ‬
‫أن الطبيب ‪-‬وإن كتب الدواء المناسب للمرضى‪ ،‬ولم يتأثر بالهدية‬ ‫‪)3‬‬
‫والدعاية‪ -‬فإن هذا إنما حرم من أجل سد الذرائع‪.‬‬
‫أن الهدية –على فرض وجود حاالت مباحة‪ ،‬كالهدايا اليسيرة غير‬ ‫‪)4‬‬
‫المشروطة‪ -‬تكون من حق المستشفى؛ ألن الطبيب ‪ٍ -‬‬
‫حينئذ‪ -‬أجير خاص‪،‬‬

‫(‪ )1‬رواه أبو داود‪ ،‬وإسناده صحيح‪.‬‬


‫( ‪) 115‬‬

‫والمستشفى مالك لمنفعته‪ ،‬وهو وكيل عنه في قبول هذه الهدية‪ ،‬وحقوق العقد‬
‫راجعة إلى الموكل‪ ،‬ال إلى الوكيل‪ ،‬كما تقدم‪ .‬وذلك ما لم يجر عرف داخل هذا‬
‫المستشفى أو داخل المشافى بالتسامح في مثل ذلك‪.‬‬
‫أن الدعاية لألدوية تختلف عن الدعاية للسلع األخرى‪ ،‬فإن المستهلك يشترى‬ ‫‪)5‬‬
‫ضرر من الدعاية فعليه هو وحده‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫السلعة بعد الدعاية من ُح ِّر ماله‪ ،‬وإن كان‬
‫دون تأثير على الغير‪ ،‬بخالف الطبيب‪ ،‬فإن قبوله للهدية على سبيل الدعاية ال‬
‫العامل في‬
‫َ‬ ‫الطبيب‬
‫َ‬ ‫يقع ضرره عليه‪ ،‬بل يؤثر على مصلحة المريض‪ .‬وهذا يعم‬
‫العامل في عيادته الخاصة؛ إذ إن كليهما أمين على صحة‬
‫مستشفى لغيره‪ ،‬و َ‬
‫ً‬
‫الناس‪.‬‬
‫أسعار أدويتها؛ ألنها‬ ‫ِ‬
‫الشركات‬ ‫فع‬
‫أن هذا النوع من المعامالت يؤدى إلى ر ِ‬ ‫‪)6‬‬
‫َ‬
‫تضيف ما تنفقه في الدعاية إلى أسعار األدوية‪ ،‬فتحملها على المستهلك‪ ،‬وهو‬
‫المريض ذو الحاجة‪.‬‬
‫أن ما ُيدفع إلى الطبيب من قبل الشركة هو أقرب إلى األجرة منه إلى‬ ‫‪)7‬‬
‫اتبا شهرًيا لبعض األطباء‪ ،‬واألجرة في‬
‫أحيانا‪ -‬تخصص الشركة ر ً‬
‫الهدية‪ ،‬بل – ً‬
‫عمل تتضارب فيه مصلحة المرضى ومصلحة الشركة‪،‬‬ ‫هذه الحالة هى مقابل ٍ‬

‫والغالب أن الطبيب سيغلب مصلحة الشركة؛ فيكون ذلك إضرًا‬


‫ار بالمريض‬
‫وتفويتًا لمصلحته‪ ،‬أو لبعضها؛ ألن هذا التعامل مع الشركة يؤثر على أمانة‬
‫عميال للشركة‪ ،‬حتى وإن كان دواء هذه الشركة‬
‫ً‬ ‫الطبيب‪ ،‬ويفسد نفسه؛ فيكون‬
‫أنسب للمريض‪ ،‬إذ إن الشركة ما لجأت إلى هذا األسلوب إال للتأثير على‬
‫األطباء‪.‬‬
‫أن الشركة حينما تطمئن إلى تصريف منتجاتها‪ ،‬وتحقيق الربح المبتغى‪،‬‬ ‫‪)8‬‬
‫بتطوير منتجاتها‪ ،‬وز ِ‬
‫يادة‬ ‫ِ‬ ‫كثير االهتمام‬
‫بشيوع هذه الممارسات‪ ،‬فإنها ال يعنيها ًا‬
‫( ‪) 116‬‬

‫انتشار‬
‫إهماال في تصنيع الدواء‪ ،‬و ًا‬
‫ً‬ ‫مخصصاتها للبحث العلمى‪ ،‬فينعكس ذلك‬
‫للغش وعدم اإلتقان‪ ،‬وكالهما محرم شرًعا‪ ،‬وفيه ضرر‪ ،‬قد يؤدى إلى اإلضرار‬
‫بصحة الناس‪ ،‬وإلى وفاة بعضهم‪ ،‬وما أدى إلى محرم فهو محرم‪ ،‬وال ضرر وال‬
‫ضرار‪.‬‬
‫أن ذلك قد يدفع الطبيب إلى وصف أدوية غير الزمة للمريض‪ ،‬وفى ذلك‬ ‫‪)9‬‬
‫إرهاق مالى للمريض‪ ،‬وإضرار به‪.‬‬

‫مستشفى‪ ،‬ومثله مدير المستشفى‪ ،‬إذا قدمت له‬ ‫ً‬ ‫هذا حكم الطبيب العامل في‬
‫الهدايا بصفته الشخصية‪ ،‬فإن قدمت له بصفته اإلدارية‪ ،‬فقبلها‪ ،‬بدون إذن أو علم من‬
‫صاحب المستشفى (فى حالة المستشفى الخاص)‪ ،‬أو من اإلمام أو نائبه (فى حالة‬
‫المستشفى الحكومى)‪ ،‬فالمدير في هذه الحالة مر ٍ‬
‫تش وخائن لألمانة‪ ،‬فإن كان بإذن‬
‫اإلمام أو نائبه وال يتوقع منه ضرر فال بأس‪ ،‬فإن تُُوِّق َع منه ضرر فهو محرم على‬
‫المدير إن علم بذلك‪ ،‬وعلى من فوقه ممن َقِب َل الرشوة‪ ،‬وفى حالة المسشتفى الخاص إن‬
‫القابل‬
‫َ‬ ‫كان بإذن صاحب المستشفى فيكون المستشفى بـ(شخصيته االعتبارية) هو‬
‫للهدية‪ ،‬ويكون الكالم في مالك المستشفى كالكالم في الطبيب في عيادته الخاصة‪ ،‬وهو‬
‫ما سيأتى في الفقرة التالية‪.‬‬

‫الحالة الثانية‪ :‬أن يكون الطبيب في عيادته الخاصة‪ :‬ففيه المحاذير السابقة‪ ،‬إال‬
‫أنه غير داخل في هدايا العمال‪ ،‬بل يحرم؛ لما فيه من اإلضرار بالمرضى؛ ألن الغالب‬
‫أن الطبيب سيقدم مصلحتَه مع الشركة‪ ،‬وبالتبع مصلح َة الشركة على مصلحة‬
‫المريض‪ ،‬وحتى لو كان واثًقا من نفسه أنه لن يفعل ذلك‪ ،‬فإنه ال يجوز له الدخول في‬
‫هذا العقد؛ ألن الشركة ما فعلت ذلك إال لتشترى به ذمته وأمانته ودينه‪ ،‬فيكون رشوة‬
‫محرمة‪ ،‬سواء وَفى الطبيب بما تعاقد عليه‪ ،‬أم لم ِ‬
‫يف‪ ،‬ثم هو ذريعة إلى الفساد‪ ،‬حكمها‬ ‫ٌ َ‬
‫التحريم‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫وإذا تبين ما في هذه الممارسات من وجوه التحريم‪ ،‬فإن األولى بشركات األدوية أن‬
‫تبذل ما تنفقه على الدعاية المحرمة في تحسين منتجاتها الدوائية‪ ،‬وزيادة مخصصات‬
‫( ‪) 117‬‬

‫البحث العلمى‪ ،‬وأن تتحرى الحالل؛ فإن البركة ال يعدلها كسب‪.‬‬

‫وحرى بالطبيب والصيدالني أن يبينا للمريض ما هو أنفع له من األدوية‪ ،‬عند‬


‫اختالفها في الجودة‪ ،‬أو عند اختالف األسعار‪ ،‬فإن هذا من النصيحة الواجبة‪.‬‬

‫كما يجب على اإلمام أن يتدخل إذا ظهر الفساد في هذه األمور‪ ،‬بأن يجعل تعامل‬
‫شركات األدوية مع الصيدليات فقط‪ ،‬دون األطباء‪ ،‬وأن يتدخل بالتسعير ونحوه‪ ،‬إذا لزم‬
‫األمر‪.‬‬
‫ِ‬
‫الطبيب األدوي َة المهدا َة‪:‬‬ ‫بيع‬
‫حكم ِ‬
‫ثال اثا‪ُ :‬‬
‫أحيانا تكتب الشركة على العينة عبارة "غير مخصص للبيع"‪ ،‬وفى هذه الحالة‬ ‫ً‬
‫تكون الهدية من قبيل الصدقة‪ ،‬أو الدعاية لدى المستهلك‪ ،‬وال تُ َعُّد من قبيل الهدية‬
‫وكيال عن الشركة في تصريفها‬
‫المشروطة بعدم التصرف فيها بالبيع‪ ،‬بل يعتبر الطبيب ً‬
‫بالطريقة التى َحَّد َد ْت َها الشركة‪ .‬هذا على فرض جواز قبولها‪َّ ،‬‬
‫أما وقد تبين عدم جواز‬
‫قبولها؛ فإنه ‪-‬بناء على ذلك‪ -‬ال يجوز بيعها‪ ،‬لعدم ثبوت ِ‬
‫الملك فيها بطريق شرعى‪،‬‬
‫حسا(‪.)1‬‬
‫والمعدوم شرًعا كالمعدوم ًّ‬
‫ابعا‪ :‬حكم المال الذى اكتسبه الطبيب من هذا الطريق‪:‬‬
‫را‬
‫هذه معاوضة محرمة وقعت بين الطبيب‪ ،‬وبين الصيدلية‪ ،‬أو المختبر‪ ،‬أو شركة‬
‫األدوية؛ فالمال الحاصل منها مال حرام يجب التخلص منه برده إلى مالكه‪ ،‬أو‬
‫بالتصدق به‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬حكم تصرف الطبيب في األدوية بإعطائها للمرضى على سبيل المحاباة‪.‬‬
‫ا‬
‫مستشفى أن يعطى من أدوية المستشفى ألحد على‬
‫ً‬ ‫ال يجوز للطبيب العامل في‬
‫سبيل المحاباة؛ ألن المحاباة ال يجوز إال أن تكون من خالص ماله‪ ،‬فأما هذا فإنه‬
‫تصرف فيما ال يملك‪ ،‬وهو ضامن لهذا‪ ،‬ويجب عليه رده إلى المستشفى بعينه إن وجد‪،‬‬
‫تاما تعتبر من‬
‫تشابها ً‬
‫ً‬ ‫وإال فبمثله؛ ألن األدوية والمصنوعات الحديثة المتشابهة‬

‫(‪ )1‬أى؛ أن الملك لما ثبت بغير طريق الشرع‪ ،‬كان كالعدم‪ ،‬فيكون من بيع ما ال يملك‪.‬‬
‫( ‪) 118‬‬

‫غصبا‪.‬‬
‫ً‬ ‫اختالسا‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫المثليات‪ ،‬فإن لم يوجد المثل ضمنه بقيمته؛ لكونه‬

‫عاما فإنه يجوز له‬


‫خاصا أو ًّ‬
‫إذنا ً‬
‫خاصا‪ ،‬وأذن مالكه بذلك ً‬
‫لكن إذا كان المستشفى ً‬
‫أن يعطى في حدود اإلذن‪.‬‬

‫عاما فإنه ال يجوز له وال للمسئول أن يأذن بذلك‪ ،‬إال أن‬


‫وأما إذا كان المستشفى ًّ‬
‫يوجد إذن معتبر من قبل اإلمام‪ ،‬أو نائبه‪ ،‬إن فوض اإلمام النائب في ذلك‪ ،‬كأن توجد‬
‫الئح ٌة تفوض األطباء في ذلك‪ ،‬بحدود ال تضر بمصالح المسلمين العامة؛ ألن تصرف‬
‫اإلمام على الرعية منوط بالمصلحة‪ .‬وهللا –تعالى‪ -‬أعلم‪.‬‬
‫( ‪) 119‬‬

‫الوحدة الرابعة‬

‫وتحتوي على‪:‬‬

‫تصنيع وبيع المنشطات والمكمالت الغذائية‪.‬‬ ‫الموضوع األول‬


‫الدعاية الداوئية بغرض تحقيق األرباح‪.‬‬ ‫الموضوع الثاني‬
‫بيع الدواء المحروق‪.‬‬ ‫الموضوع الثالث‬
‫إساءة استعمال األدوية في غير األغراض المخصصة لها‪.‬‬ ‫الموضوع الرابع‬
‫بيع او استبدال أدوية التأمين الصحي والمستشفيات العامة‬ ‫الموضوع الخامس‬
‫سماح الصيدلي لغير الصيدلي بممارسة المهنة‪.‬‬ ‫الموضوع السادس‬
‫تغيير الصيدلي للدواء الموجود في الوصفة الطبية دون علم‬ ‫الموضوع السابع‬
‫المريض أو الطبيب‪.‬‬
‫احتكار األدوية‪.‬‬ ‫الموضوع الثامن‬

‫وكلها من إعداد الدكتور‪ /‬مصطفى أحمد محمد حسين مدرس الفقه المقارن بكلية‬
‫الشريعة والقانون بأسيوط‪.‬‬
‫( ‪) 120‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع األول‪ :‬تصنيع وبيع المنشطات والمكمالت الغذائية‬
‫إن مسألة تصنيع وبيع المنشطات والمكمالت الغذائية يتوقف حكمها على حكم‬
‫استعمالها‪ ،‬فالحالل استعماله يحل تصنيعه‪ ،‬ويحل بيعه‪ ،‬وما حرم استعماله حرم‬
‫تصنيعه‪ ،‬وبيعه‪ ،‬وشراؤه‪ ،‬وحرم كل أمر يجعل الوصول إلى المحرم سهالً‪ ،‬ودليل ذلك‬
‫{وتَ َع َاوُنوا َعَلى اْلِب ِّر‬
‫من الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬والقواعد الفقهية‪ :‬أما من الكتاب‪ :‬ـ قال تعالى‪َ :‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ان} ‪.‬‬ ‫والتَّْقوى وال تَعاوُنوا َعَلى ِ‬
‫اإل ْث ِم واْل ُع ْدو ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ ََ‬
‫وجه الداللة من اآلية‪ :‬إن هللا عز وجل حث المؤمنين على التعاون فيما بينهم‬
‫فيما فيه بر وتقوى هللا‪ ،‬وأما ما فيه إثم وعدوان فقد نهو عن التعاون عليه‪.‬‬

‫وصناعة وبيع وتوصيل‪ ...‬المحرمات من باب التعاون على أمر محرم استعماله‪،‬‬
‫وهو منهي عنه بنص اآلية‪.‬‬

‫وأما من السنة‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ عن تميم الداري ‪ ،‬عن النبي ‪ ‬أنه قال‪َ« :‬ال َي ِح ُّل َث َم ُن َشي ٍء َال َي ِح ُّل أَكُل ُه‬
‫(‪)3‬‬
‫َو ُشرُب ُه»‬

‫‪ 2‬ـ عن ابن عمر‪ ،‬عن عمر رضي هللا عنه قال‪َ " :‬ال َت ِح ُّل ِ‬
‫الت َج َارُة ِفي َشي ٍء َال َي ِح ُّل‬
‫(‪)4‬‬
‫أَكُل ُه َو ُشرُب ُه "‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور مصطفى أحمد محمد حسين‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بأسيوط‪.‬‬
‫(‪ )2‬سورة المائدة من اآلية " ‪."2‬‬

‫(‪ )3‬الحديث أخرجه الدار قطني في السنن كتاب البيوع ‪ " 2817 " 389 / 3‬قال ابن عبدالهادي‬
‫مختلف في اسمه"‬
‫ٌ‬ ‫ضعفوه‪ ،‬وهو‬
‫النخعي (أحد رواة الحديث)‪َّ :‬‬
‫ُّ‬ ‫في تنقيح التحقيق ‪ ":87 /4‬وأبو مالك‬

‫(‪ )4‬الحديث أخرجه البيهقي في سننه الكبرى كتاب البيوع باب تحريم بيع ما يكون نجسا ال يحل‬
‫أكله ‪"11052 " 23 / 6‬‬
‫( ‪) 121‬‬

‫َعَلى َعشَرِة‬ ‫‪ 3‬ـ عن ابن عمر ـ رضي هللا عنه قال ـ قال رسول هللا ‪ُ" :‬ل ِعَن ِت ال َخمُر‬
‫وع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وج ٍ ِ ِ‬
‫اصُرَها‪،‬‬ ‫ََ‬ ‫اع َها‪،‬‬
‫يها‪َ ،‬وَبائ ُع َها‪َ ،‬و ُمب َت ُ‬‫وه‪ُ :‬لعَنت ال َخمُر ِب َعين َها‪َ ،‬و َش ِارُب َها‪َ ،‬و َساق َ‬ ‫ُُ‬
‫(‪)1‬‬
‫امُلها‪ ،‬والمحموَل ُة ِإَلي ِه‪ ،‬و ِ‬
‫آك ُل َث َم ِن َها "‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َو ُمع َتصُرَها‪َ ،‬و َح َ َ َ ُ‬
‫وجه الداللة من هذه األحاديث‪:‬‬

‫اء‬
‫بيعا وشر ً‬
‫دلت هذه األحاديث داللة صريحة على تحريم ثمن الشيء المحرم ً‬
‫وتيسير لوصوله‪ ،‬واستعماله‪ ،‬وعدم جواز أخذ أجر على أي من ذلك‪.‬‬
‫ًا‬

‫من القواعد الفقهية‪:‬‬


‫(‪)2‬‬
‫حرم إعطاؤه‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ قاعدة‪ :‬ما حرم أخذه ُ‬
‫(‪)3‬‬
‫حرم طلبه‪.‬‬
‫حرم فعله ُ‬
‫‪ 2‬ـ قاعدة‪ :‬ما ُ‬

‫فهاتان القاعدتان تربطان حكم فعل الشيء وجوازة للمرء بحكم بذله والتعامل فيه‪.‬‬

‫وبعد هذا البيان لتقرير األصل الذي سننطلق منه‪ ،‬وهو أن حكم بيع الشيء‬
‫وتصنيعه مبني على حكم استخدامه‪ ،‬ننتقل اآلن إلى حكم استعمال المنشطات‪.‬‬

‫(‪ )1‬الحديث أخرجه اإلمام أحمد في مسنده ‪ "4787 " 398 /4‬وقال محققه الشيخ أحمد شاكر‪":‬‬
‫إسنا ده صحيح"‪ ،‬وأخرجه ابن ماجه في سننه كتاب األشربة‪ .‬باب‪ .‬لعنت الخمر على عشرة أوجه ‪/2‬‬
‫‪ " 3380 " 1121‬وقال الذهبي في تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق‪ ":96 / 2‬وصححه أكثرهم "‪.‬‬
‫(‪ ) 2‬ومعنى هذه القاعدة‪ :‬أن الشيء المحرم عليك فعله كالربا‪ ،‬والرشوة‪ ،‬وأجرة الكهانة‪ ،‬وغير ذلك كما‬
‫ال يجوز لك أن تأخذ هذه األشياء وأن تفعلها‪ ،‬ال يجوز لك أن تبذل الربا لغيرك‪ ،‬وال أن ترشي غيرك‪،‬‬
‫وال أن تعطي األجرة لكاهن‪ .‬األشباه والنظائر للسيوطي ص ـ ‪.150‬‬
‫(‪ )3‬األشباه والنظائر للسيوطي ص ـ ‪.151‬‬
‫( ‪) 122‬‬

‫حكم استعمال المنشطات‪:‬‬

‫يختلف حكم استعمال المنشطات على حسب نوع المنشط‪ ،‬وعلى حسب الحاجة‬
‫الداعية إليه‪ ،‬وفيما يلي بيان ألنواع المنشطات‪ ،‬وحكم استعمالها‪:‬‬

‫أنواع المنشطات‪:‬‬

‫تختلف أنواع المنشطات إلى أنواع شتى وذلك على حسب تنوع اعتباراتها‬
‫فتختلف من حيث التركيب الكيميائي‪ ،‬ومن حيث الغرض الذي تؤخذ من أجله‪ ،‬والذي‬
‫يعنينا هنا هو أنواع المنشطات من حيث الغرض الذي تؤخذ من أجله‪ ،‬وباستقراء أحوال‬
‫الناس تبين أن المنشطات تنقسم على حسب هذا االعتبار إلى نوعين أساسيين‪:‬النوع‬
‫(‪)1‬‬
‫األول‪ :‬المنشطات الرياضية‪.‬‬

‫النوع الثاني‪ :‬المنشطات الجنسية‪.‬‬

‫وسأتكلم عن كل نوع من النوعين بالتفصيل‪:‬‬

‫النوع األول‪ :‬المنشطات الرياضية‪:‬‬

‫وهي عبارة عن عقاقير مصنعة‪ ،‬وقد تكون مو ًّادا طبيعية تؤخذ بكميات غير‬
‫(‪)2‬‬
‫طبيعية وبطرق غير معتادة تساهم في رفع اللياقة البدنية‪.‬‬

‫وقد أثبتت األبحاث الطبية أن تعاطي المنشطات الرياضية يؤدي إلى أمراض‬
‫(‪)1‬‬
‫نفسية‪ ،‬وعضوية‪.‬‬

‫(‪ )1‬هذا هو المسمى العام لهذا النوع وهو ال يعني أنه قاصر على الرياضيين بل يدخل فيه ما‬
‫يتعاطاه العمال‪ ،‬والجنود‪ ،‬وأصحاب المهن المختلفة كالسواقين وغيرهم‪ ،‬بل وقد يتعاطاه من ال عمل‬
‫له‪.‬‬

‫محمد المطلق‪،‬‬ ‫ِ‬


‫الطيار‪ ،‬أ‪ .‬د‪ .‬عبد هللا بن ّ‬
‫المي َّسر للسادة العلماء‪ :‬أ‪ .‬د‪َ .‬عبد هللا بن محمد ّ‬
‫قه َ‬ ‫(‪ )2‬الف ُ‬
‫الموسى ‪32 /13‬‬‫َ‬ ‫محمد بن إبراهيم‬
‫د‪َّ .‬‬
‫( ‪) 123‬‬

‫حكم تناول المنشطات الرياضية‪:‬‬

‫إن استخدام المنشطات الرياضية محرم‪ ،‬وذلك لما يأتي‪:‬‬


‫(‪)2‬‬
‫‪ 1‬ـ قال رسول هللا ‪‬ـ‪" :‬ال ضرر وال ضرار"‪.‬‬

‫وجه الداللة من الحديث‪ :‬إن المنشطات تسبب أض ار ار‪،‬وكل شيء يؤدي إلى ضرر فهو‬
‫(‪)3‬‬
‫محرم‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ قال رسول هللا ‪"‬من غش فليس منا" ‪.‬‬

‫وجه الداللة من الحديث‪ :‬إن استخدام المنشطات إذا كان استخدامها من أجل التأثير‬
‫على نتائج المنافسة الرياضية المباحة فهو نوع من الخداع والغش‪ ،‬وقد حرم النبي‬
‫(‪)1‬‬
‫صلي هللا عليه وسلم ذلك‪ ،‬كما يدل عليه ظاهر الحديث‪.‬‬

‫(‪ )1‬ينظر في أضرار المنشطات الرياضية بحث‪ :‬المنشطات العقاقير في المجال الرياضي لألستاذ‬
‫الدكتور سعد كمال طه المنشور بمجلة بحوث التربيه الشاملة بمصر ع‪ 1/2‬بتصرف‪ ،‬وبحث‪ :‬دراسة‬
‫تحليلية لوقائع استخدام المنشطات الرياضية في ظل نظام العولمة ألسير هادي جاري (بحث منشور‬
‫بمجلة كلية التربية الرياضية بجامعة بغداد ع‪ / 3‬م‪ /24‬ص ‪ 82‬بتصرف‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الشافعي في مسنده كتاب الشفعة ‪ ،" 575"165 / 2‬وأحمد في مسنده ‪2865 " 55/5‬‬
‫"‪ ،‬والدارقطنى في السنن كتاب البيوع باب الجعالة ‪ ،" 3079 " 51/4‬والطبراني في األوسط‪ ،‬ـ‬
‫واللفظ له " ‪ - 238/5‬ح " ‪ ،5193‬والحاكم في المستدرك ‪ 66/2‬ح "‪ " 2345‬وقال " صحيح‬
‫اإلسناد‪ ،‬على شرط مسلم‪ ،‬ولم يخرجه "‪ ،‬ووافقه الذهبي‪ ،‬والبيهقى في الكبرى كتاب‪ :‬الصلح – باب‪:‬‬
‫ال ضرر وال ضرار ‪ - 70/6‬ح " ‪ " 11718‬قال ابن رجب‪ " :‬حديث حسن‪ ،‬وله طرق يقوى بعضها‬
‫بعضاً "‪ .‬جامع العلوم والحكم‪ :‬البن رجب صـ‪ ،302‬وقال النووي في األربعين‪ ،‬في الحديث الثاني‬
‫والثالثين‪ " :‬حديث حسن "‪.‬‬
‫(‪ )3‬الفقه الميسر ‪.32 /13‬‬
‫(‪ )4‬الحديث أخرجه اإلمام مسلم في صحيحه كتاب اإليمان باب قول النبي ‪« :‬من غشنا فليس‬
‫منا» ‪ 99/ 1‬ح"‪."101‬‬
‫( ‪) 124‬‬

‫‪ 3‬ـ إن ذلك فيه مخالفة للنظام العام وللقوانين‪ ،‬وقد أمرنا بطاعة أولياء األمور في مثل‬
‫أمر بمعصية‪.‬‬
‫ذلك طالما أنه ليس ًا‬

‫‪ 4‬ـ ـ إن استخدام هذه المنشطات قد يتسبب في تعرض حياة اآلخرين إلى الهالك‪ ،‬وذك‬
‫كأن يتعاطاه أصحاب مهنة السواقة‪ ،‬وقد ثبت أن تعاطي هذه المنشطات يتسبب في‬
‫كثير من الحوادث‪.‬‬

‫النوع الثاني‪ :‬المنشطات الجنسية‪:‬‬


‫وهي عبارة عن عقاقير مصنعة تؤخذ عن طريق الفم‪ ،‬أو الحقن وغيرها‪ ،‬وقد‬
‫تكون عن طريق أجهزة مساعدة تتم بعملية جراحية‪ ،‬وهذه المنشطات يصاحب بعضها‬
‫(‪)2‬‬
‫آثار جانبية‪.‬‬
‫وهذه المنشطات الجنسية تختلف أغراض الناس في استعمالها‪ ،‬وعادة ما يكون‬
‫استخدامهم لها على ثالثة أغراض‪:‬‬

‫ــ الغرض األول‪ :‬منشطات جنسية تستعمل للتداوي‪ ،‬كأن يكون المريض به عجز‪ ،‬أو‬
‫(‪)3‬‬
‫كبر سن أو غير ذلك‪.‬‬

‫الغرض الثاني‪ :‬منشطات جنسية لزيادة المتعة‪.‬‬

‫الغرض الثالث‪ :‬منشطات جنسية تستخدم في ممارسة الجنس المحرم‪ ،‬وذلك بأن يعلم‬
‫(‪)4‬‬
‫الصيدلي بأن طالب المنشطات غير متزوج‪ ،‬أو علم عليه ممارسة الرزيلة‪.‬‬

‫(‪ )1‬الفقه الميسر ‪.32 /13‬‬


‫المي َّسر ‪.33/13‬‬ ‫ِ‬
‫قه َ‬‫(‪ )2‬الف ُ‬
‫(‪ )3‬ويدخل في هذا النوع المنشطات األخرى التي تؤخذ بهدف العالج كمنشطات الذهن‪ ،‬ومنشطات‬
‫التبويض‪ ،‬والمنشطات التي تستخدم لعالج األمراض مثل (الستيرويدات البنائية) التي تستخدم في‬
‫عالج سرطان الثدي‪ ،‬وهشاشة العظام‪ ،‬وبعض األمراض المزمنة‪.‬‬
‫(‪ )4‬النوازل في األشربه للشنقيطي ص ـ ‪ 153‬بتصرف‪ ،‬والموسوعة الطبية الفقهية للدكتور أحمد محمد‬
‫كنعان ص ـ ‪ 288‬بتصرف‪.‬‬
‫( ‪) 125‬‬

‫ولكل ما سبق حكمه الخاص‪:‬‬

‫فأما الغرض األول‪ ،‬وهو المنشطات بقصد التداوي فهو جائز‪ ،‬ألن اإلسالم يحث على‬
‫التداوي‪ ،‬ولكن هذا الجواز ليس على إطالقه وإنما هو جواز مقيد بشروط وهذه الشروط‬
‫هي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ أال يتناول المريض تلك المنشطات إال بعد استشارة طبيب ثقة مختص‪.‬‬

‫كليا على تلك المنشطات‪ ،‬حتى يستطيع الجسم القيام بواجباته‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ أال يعتمد اعتمادا ً‬
‫(‪)1‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يراعي عدم اإلسراف في تناولها‪ ،‬حتى ال يؤدي ذلك إلى ضرر أكبر‪.‬‬

‫ب ــ وأما المنشطات بقصد زيادة المتعة والثارة فينظر‪:‬‬

‫عاجال أو آجالً‬
‫ً‬ ‫فإن كان هناك ضرر صحي يترتب عليها يتعلق بالشخص‬
‫حرم استعمالها‪( ،‬مع األخذ في االعتبار أن الضرر يختلف من شخص لشخص‪ ،‬فقد‬
‫يكون دواء كذا مثال مفيد لزيد ويسبب الوفاة لعمر مثال‪ ،‬فيكون الدواء في حق عمر‬
‫حراماً‪ ،‬وكذلك يختلف ع حسب نوع الدواء‪ ،‬فقد يكون الدواء الفالني ً‬
‫آمنا بينما دواء كذا‬
‫له ضرر وآثار جانبية بالغة)‪.‬‬

‫ـ ـ وأما إن كان الدواء آمنا في ذاته غير مضر بمن يتعاطاه‪ ،‬كان المنشط في حقه‬
‫مكروها‪ ،‬وذلك خشية أال يرتوي متعاطيها من الحالل فتقوده إلى الحرام‪.‬‬
‫ً‬
‫(‪)2‬‬
‫قطعا‪.‬‬
‫ج ـ وأما استعمال المنشطات في الحرام إن علم بذلك الصيدلي فهو حرام ً‬
‫بعد هذا البيان نرجع موضوع الدراسة‪ ،‬وهو حكم تصنيع هذه المنشطات وبيعها‪ ،‬ولبيان‬
‫ذلك نقول‪:‬‬

‫(‪)1‬الفقه الميسر ‪ ،32 /13‬والنوازل في األشربه ص ـ ‪ 153‬بتصرف‪.‬‬


‫(‪ )2‬النوازل في األشربه ص ـ ‪ ،153‬والموسوعة الطبية الفقهية ص ـ ‪ 288‬بتصرف‪.‬‬
‫( ‪) 126‬‬

‫أ ـ إن تصنيع وبيع المنشطات التي ال خالف في جواز استعمالها‪ ،‬كذلك ال خالف في‬
‫جواز تصنيعها وبيعها‪.‬‬

‫ب ـ إذا كانت هذه المنشطات تارة تحل وتارة تحرم؛ فالعبرة بالغالب منها فإن كان‬
‫الغالب في استعمالها الجواز كان تصنيعها حالالً‪ ،‬وإن كان األغلب استعمالها في‬
‫الحرام حرمت‪،‬وأما بيعها فإن علم الصيدلي (عن طريق اليقين أو غلبة الظن ) بحال‬
‫من يتعاطى هذه المنشطات وأنه سيستخدمها في أمر محرم؛ حرم بيعها له‪ ،‬وال عبرة‬
‫بالشكوك واألوهام في ذلك‪.‬‬

‫ج ـ إن تصنيع وبيع المنشطات التي سبق القول بتحريم تعاطيها فيما سبق يحرم‬
‫تصنيعها وبيعها‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫الموضوع الثاني‪ :‬الدعاية الداوئية بغرض تحقيق األرباح‬

‫إن األخالق التي ينبغي أن تتوفر في الصيدلي توجب عليه أن تكون نظرته‬
‫قاصرة على ما ينفع الناس ويصلح أبدانهم ال إلى جمع النقود فحسب‪ ،‬لكن الصيدلي‬
‫بشر تتطلع نفسه إلى جمع المال والحصول على أرباح مما يجعله يقوم بحملة دعاية‬
‫لمنتج معين‪ ،‬وللوقوف على حكم ذلك نقول إن الدعاية الدوائية جائزة بضوابط معينه‬
‫وهي‪:‬‬

‫‪ .1‬أن يكون اإلعالن خالياً من المحظورات الشرعية فال يجوز اإلعالن عن السلع‬
‫واألمور المحرمة كالخمور والمخدرات ونحوها‪.‬‬

‫‪ .2‬أال تستعمل في اإلعالن وسائل محرمة كظهور النساء العاريات ونحو ذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور مصطفى أحمد محمد حسين‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بأسيوط‪.‬‬
‫( ‪) 127‬‬

‫‪ .3‬أن يكون اإلعالن صادقاً في التعبير عن حقيقة السلعة ألننا نالحظ أن كثي اًر من‬
‫اإلعالنات التجارية فيها مبالغة واضحة في وصف السلع وغالباً ما تكون هذه‬
‫األوصاف كاذبة وغير حقيقية ويعرف صدق هذا الكالم بالتجربة‪.‬‬

‫*إن اإلعالن الكاذب عن السلع والذي يظهرها على غير حقيقتها يعتبر تغري اًر وغشاً‬
‫أكل أموال الناس بالباطل‪.‬‬ ‫وخداعاً وكل ذلك محرم في شريعتنا اإلسالمية ويؤدي إلى‬
‫َن تَ ُكو َن ِت َج َارًة‬ ‫ِ‬ ‫يقول هللا تعالى‪{ :‬يا أَي َّ ِ‬
‫ِباْل َباط ِل ِإ َّال أ ْ‬ ‫ْكُلوا أ َْم َواَل ُك ْم َب ْي َن ُك ْم‬
‫امُنوا َال تَأ ُ‬‫ين َء َ‬‫ُّها الذ َ‬ ‫َ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ِ‬ ‫ّللا َك َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫عن تَر ٍ ِ‬
‫يما} ‪.‬‬ ‫ان ب ُك ْم َرح ً‬ ‫اض م ْن ُك ْم َوَال تَْقُتُلوا أ َْنُف َس ُك ْم إ َّن َّ َ‬ ‫َْ َ‬
‫‪ .4‬أن ال يترتب على اإلعالن عن السلعة إلحاق الضرر بسلع الناس اآلخرين كأن يذم‬
‫(‪)2‬‬
‫األصناف المشابهة‪ ،‬ألن هذا من الضرر الممنوع شرعاً‪.‬‬

‫ق(‪)3‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬بيع الدواء المحرو‬
‫عملية حرق الدواء هي عملية غير مرخصة من الشركات المنتجة لألدوية‪ ،‬وقد‬
‫تتم بعلم بعض الشركات‪.‬‬

‫وصورتها‪:‬يتم خروج الدواء من الشركة باسم صيدلية اسم وهمي‪ ،‬أو حقيقي ومن ثم‬
‫يذهب لمخزن من مخازن األدوية بخصم أعلى من الخصم األصلي للشركة حتى يتمكن‬
‫هذا المخزن من اجتذاب الصيادلة حتى يشتروا منه بسعر وخصم أعلى من خصم‬
‫الشركة‪ ،‬ألنه لو تساوى الخصمان فسيشتري الصيدلي من الشركة األم مباشرة‪ ،‬وفارق‬
‫الخصم في عملية البيع للمخزن يأتي من المكافأة التى من المفترض أن يحصل عليها‬

‫(‪)1‬سورة النساء اآلية ‪29‬‬


‫(‪ )2‬الموسوعة الطبية الفقهية صـ ‪ 635‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬كتب هذا الموضوع الدكتور مصطفى أحمد محمد حسين‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بأسيوط‪.‬‬
‫( ‪) 128‬‬

‫الموزع إذا حقق المستهدف (التارجت) فمندوب الشركة الذى سيحصل على ‪ 400‬جنيه‬
‫(‪)1‬‬
‫سيقوم بالتضحية ب ‪ 200‬جنيه منهم ووضعها كخصم إضافي على الطلبية‪.‬‬

‫من المستفيد ومن الخاسر في هذه العملية ؟‬

‫هذه العملية هى عملية ربح للجميع المندوب‪ :‬رابح ألنه سيحقق المستهدف‬
‫بأقل مجهود ممكن و أقل تكلفة ممكنة حيث إنه لو قام بالعمل بشكل رسمي سيتكلف‬
‫كثير من المجهود في زيارة الصيدليات و ينفق أموال في المواصالت فقد وفر وقته و‬
‫مجهوده و أمواله أيضا ‪.‬‬

‫المخزن‪ :‬رابح في الحصول على األدوية بخصم إضافي يجذب إليه الصيدليات ‪.‬‬
‫الصيدلي‪ :‬رابح في الحصول على األدوية بخصم أعلى من خصم الشركات‬
‫(‪)2‬‬
‫الشركة المصنعة‪ :‬رابحة في تحقيق المستهدف المحدد لكل مندوب‪.‬‬

‫والحكم الشرعي لهذه المعاملة‪:‬‬

‫يحرم شرًعا على المندوب حرق الدواء وذلك لما يأتي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ إن مندوب البيع وكيل عن الشركة‪ ،‬وليس له من التصرف إال ما أذنت له فيه‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ إن في بيع الدواء بطريقة الحرق يتضمن ً‬


‫كذبا ويجعل بعض المندوبين يلجئون لعمل‬
‫فواتير وهمية لتغطية الخصم وفي هذا أكل ألموال الناس بالباطل‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ قد يتم الحرق بطريقة عشوائية مما يجعل المندوب يعمل في مكان أخيه وهذا فيه‬
‫إحياء التباغض بين المسلمين لعدم احترام المندوب بائع الدواء المحروق باحترام مكان‬
‫أخيه والعمل بما تعارف عليه الناس معتبر شرًعا‪.‬‬

‫(‪ )1‬إدارة أعمال الصيدليات للدكتور محمد بغدادي ص ـ ‪ 188‬وما بعدها‪.‬‬


‫(‪ )2‬إدارة أعمال الصيدليات للدكتور محمد بغدادي ص ـ ‪ 188‬وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪) 129‬‬

‫وبناء على ذلك‪ :‬ال يجوز للصيدلي شرعاً بيع األدوية المحروقة لما بينا من حرمة حرق‬
‫ا‬
‫الدواء‪ ،‬وهو بتعامله مع المخازن التي تتعامل بحرق الدواء يتعاون على اإلثم والعدوان‪.‬‬

‫الموضوع الرابع‪ :‬إساءة استعمال األدوية في غير األغراض المخصصة لها(‪.)1‬‬

‫تتعدد أغراض استعمال األدوية لغير التداوي‪ ،‬فقد يكون الهدف وراء تناول‬
‫غرضا آخر‪ ،‬وهذه األغراض غالباً ما تكون كاالتي‪:‬‬
‫الدواء ليس التداوي وإنما يكون ً‬

‫أ ــ استعمال األدوية المخدرة أو المشتملة على مواد مخدرة‪.‬‬

‫قد يكون الهدف األساسي من تناول الدواء هو الوصول إلى حد السكر عن‬
‫طريق تناول األدوية المشتملة على مواد مخدرة‪ ،‬وفي الحقيقة ليست كل األدوية مثل‬
‫بعضها في األحكام الشرعية فهناك أدوية ال تجوز إال عند الضرورة كاألدوية المخدرة‬
‫بناء على روشتة طبيب‪ ،‬بل‬
‫وما في حكمها‪ ،‬وهذا النوع من األدوية ال يجوز صرفه إال ً‬
‫وإن علم الصيدلي على سبيل اليقين أو غلبة الظن تساهل الطبيب في هذا األمر كان‬
‫أيضا أن يصرف هذه الروشته‪ ،‬ووجب على الصيدلي أن يقدم النصح‬ ‫من غير الجائز ً‬
‫للطبيب ومريد العالج من باب األمر بالمعروف‪ ،‬فإن أبوا وجب تبليغ الجهات المختصة‬
‫(‪)2‬‬
‫عن الطبيب للنظر في هذا األمر‪.‬‬

‫وهنا نالحظ أنه ال حاجة لنا بحالة مريد العالج المشتمل على مخدر وإنما‬
‫العبرة بالوصفة الطبية‪ ،‬ويجب األخذ في االعتبار أن القوانين المنظمة لعمل الصيدليات‬
‫له اعتبار شرعي‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور مصطفى أحمد محمد حسين‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بأسيوط‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتاوى يسألونك لألستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة ‪.197 /13‬‬
‫( ‪) 130‬‬

‫ب ــ تناول الدواء للمتعة‪.‬‬

‫وذلك مثل األدوية المخدرة‪ ،‬والمنشطات‪ ،‬والمنومات‪ ،‬والمهدئات وغيرها من‬


‫العقاقير‪ ،‬ويكون الهدف منها الوصول إلى تحقيق قدر من المتعة مثل االسترخاء‪ ،‬أو‬
‫النشوة‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فإذا تيقن الصيدلي أو غلب على ظنه استعمال الدواء في غير‬
‫وجهه المشروع وجب عليه شرعا التوقف عن صرف الدواء‪.‬‬

‫جــ ــ تناول الدواء بغرض االنتحار‪.‬‬

‫وذلك كأن يتناول الشخص كميات كبيرة من الحبوب المنومة وغيرها من‬
‫أيضا إذا غلب على ظن‬
‫األدوية التي يكثر استعمالها في هذا الغرض‪ ،‬ففي هذه الحالة ً‬
‫نفسيا‪ ،‬أوأن يكون قد سبق له‬
‫الصيدلي كأن يكون طالب الدواء ُعلم عنه أن به مرضا ً‬
‫الشروع في االنتحار‪ ،‬فضال عن تيقنه أنه يريد االنتحار كأن يصرح طالب الدواء بذلك‪،‬‬
‫حرم على الصيدلي صرف الدواء‪ ،‬لما في ذلك كله من التعاون على اإلثم والعدوان‬
‫المنهي عنه‪.‬‬

‫* وإذا أحس الصيدلي بأن الذي يطلب الدواء يسيء استعماله‪ ،‬كأن يتكرر منه طلب‬
‫الدواء نفسه مرات عديدة على فترات متقاربة‪ ،‬وعلى غير العادة‪ ،‬أو كان الدواء نفسه‬
‫من النوع الذي يساء استعماله عادة مثل بعض المسكنات‪ ،‬وأشربة السعال‪ ،‬واألدوية‬
‫المضادة للحساسية التي لها آثار منومة أو مخدرة بعض الشيء‪ ،‬فعليه أن ينصح‬
‫المريض بالتوقف عن استعمال الدواء‪ ،‬ويبين له مخاطره‪ ،‬فإذا لم يرتدع كان للصيدلي‬
‫االمتناع عن صرف الدواء‪ ،‬فإن غلب على ظنه أو تيقن سوء االستعمال حرم صرف‬
‫(‪)1‬‬
‫الدواء‪.‬‬

‫(‪ )1‬الموسوعة الطبية الفقهية صـ ‪ 637‬وما بعدها‪.‬‬


‫( ‪) 131‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع الخامس‪ :‬بيع او استبدال أدوية التأمين الصحى والمستشفيات العامة‬

‫إن العالج هو من االحتياجات األساسية التي تدعمها الدولة‪ ،‬وتلتزم بتوفيره‬


‫للمواطنين من أجل القضاء على المرض‪ ،‬وذلك لما يلي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ابتغاء مساعدة الفقراء من المواطنين‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ توفير العالج لكافة المواطنين حتى يكون في مأمن من اختفائه وعدم وجوده‪.‬‬

‫وقيام بعض الصيادلة بشراء وبيع أدوية التأمين الصحي من خالل صيدلياتهم‬
‫العامة لغير المستحقين من جمهور المرضى محرم شرًعا‪ ،‬وال يجوز وذلك لما يأتي‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ِ‬
‫بالباط ِل﴾‬ ‫أكُلوا أَموالكم بيَنكم‬
‫‪ 1‬ـ ـ يقول هللا تعالى‪﴿ :‬يا أيها الذين آمنوا ال َت ُ‬

‫وجه الداللة من اآلية‪:‬‬


‫إن شراء الصيادلة أدوية التامين الصحي وبيعها في صيدلياتهم يعد ضرًبا من‬

‫ظلم ّبين وعدوان على حقوق الناس و ٌ‬


‫أكل‬ ‫ضروب االعتداء على المال العام‪ ،‬وفي ذلك ٌ‬
‫(‪)3‬‬
‫لها بالباطل‪ ،‬وذلك منهي عنه بنص اآلية‪.‬‬
‫َماَن ِات ُكم َوأَن ُتم‬ ‫ِ‬
‫ول َوَت ُخوُنوا أ َ‬
‫الر ُس َ‬
‫هللا َو َّ‬
‫آمُنوا َال َت ُخوُنوا َ‬ ‫‪ 2‬ـ قال تعالى ﴿َيا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫ين َ‬
‫(‪)4‬‬
‫َتعَل ُمو َن﴾ ‪.‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ِِ‬
‫هللا َال ُي ِح ُّب ال َخائن َ‬
‫ين﴾‬ ‫ِ‬
‫‪ 3‬ـ قال هللا تعالى‪﴿ :‬إ َّن َ‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور مصطفى أحمد محمد حسين‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بأسيوط‪.‬‬
‫(‪ )2‬سورة النساء اآلية "‪"29‬‬
‫(‪ )3‬الموقع الرسمي لدار االفتاء المصرية‪ :‬المفتي‪ :‬أمانة الفتوى بالدار ـ بتصرف ـ ‪/‬فتوى رقم "‬
‫‪ "163‬بتاريخ‪05/04/2012:‬‬
‫(‪ )4‬سورة األنفال اآلية "‪"27‬‬
‫(‪ )5‬سورة األنفال اآلية "‪"58‬‬
‫( ‪) 132‬‬

‫وجه الداللة من هاتين اآليتين‪ :‬إن قيام العاملين بو ازرة الصحة ‪-‬أو َمن استُؤمن على‬
‫إيصال هذا الدواء إلى مواضعه المخصصة له‪ -‬ببيعه لمن ال يستحقه ولمن لم ُيؤَذن‬
‫لهم في بيعه لهم؛ ُي َعُّد فعلهم هذا خيان ًة لألمانة التي ائتمنهم هللا تعالى عليها ورسوُله‬
‫‪ ،‬وائتمنهم عليها المجتمع الذي عاشوا في ظالله‪ ،‬وأكلوا من َخ ْي ِره‪ ،‬ثم َس َع ْوا في‬
‫ض ْي ِره؛ فهم بذلك داخلون في الخائنين الذين نهانا هللا أن نكون منهم‪ ،‬وبين أن هذا‬ ‫َ‬
‫(‪)1‬‬
‫الصنف من الناس من الذين ال يحبهم هللا‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ ـ ويقول النبي ‪« :‬فإن دماءكم‪ ،‬وأموالكم‪ ،‬وأعراضكم‪ ،‬بينكم حرام‪ ،‬كحرمة يومكم‬
‫هذا‪ ،‬في شهركم هذا‪ ،‬في بلدكم هذا‪ ،‬ليبلغ الشاهد الغائب‪ ،‬فإن الشاهد عسى أن يبلغ‬
‫(‪)2‬‬
‫من هو أوعى له منه»‬

‫وجه الداللة من الحديث‪ :‬إن بيع الدواء المدعوم لمن ال يستحقه حرٌام شرعا؛ من حيث‬
‫كونه استيالء على مال الغير بغير حق‪ ،‬ويزيد في ِك َب ِر هذا الذنب كو ُن المال المعتدى‬
‫عليه ماالً للفقراء والمحاويج ِمن المرضى الذين يحتاجون إلى َمن يرحمهم ويأسوا‬
‫جراحهم‪ ،‬ويخفف أمراضهم‪ ،‬ال إلى َمن يضرهم وينتقص من حقهم في العالج والدواء‬
‫(‪)3‬‬
‫ويعتدي عليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ ـ إن في بيع أو استبدال أدوية التأمين الصحي والمستشفيات العامة من قبل‬


‫الصيادلة تبديداً للمال العام؛ ألنهم مستأمنون على هذا الدواء المدعوم حتى يحصل‬
‫عليه المواطنون من غير عناء‪ ،‬فتفريطهم في األمانة ببيعهم هذا الدواء للجشعين ليبيعوه‬

‫(‪ )1‬الموقع الرسمي لدار االفتاء المصرية‪ :‬المفتي‪ :‬أمانة الفتوى بالدار ـ بتصرف ـ ‪/‬فتوى رقم "‬
‫‪ "163‬بتاريخ‪05/04/2012:‬‬
‫(‪ )2‬الحديث أخرجه البخاري في صحيحه ـ واللفظ له ـ كتاب العلم باب قول النبي ‪« :‬رب مبلغ‬
‫أوعى من سامع»‪ ،"67 " 24/1‬وأخرجه اإلمام مسلم في صحيحه كتاب الحج باب حجة النبي ‪/2‬‬
‫‪."1218 " 886‬‬
‫(‪ )3‬الموقع الرسمي لدار االفتاء المصرية‪ :‬المفتي‪ :‬أمانة الفتوى بالدار ـ بتصرف ـ ‪/‬فتوى رقم "‬
‫‪ "163‬بتاريخ‪05/04/2012:‬‬
‫( ‪) 133‬‬

‫صص له؛ هو مشاركة لهم في‬ ‫ِ‬


‫للناس بأغلى من سعره‪ ،‬أو ليستعملوه في غير ما ُخ ّ‬
‫وجرما‪ ،‬فهم مرتكبون‬
‫ً‬ ‫الظلم والبغي واالستيالء على حقوق الناس‪ ،‬وناهيك بذلك ً‬
‫ذنبا‬
‫بذلك لهذه الكبائر من الذنوب التي ال طاقة لإلنسان بأحدها فضال عن أن تتراكم عليه‬
‫(‪)1‬‬
‫أحمالها‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ إن في فعلهم هذا مخالفة لولي األمر الذي جعل هللا تعالى طاعتَه في غير‬
‫ّ‬
‫المعصية ِ‬
‫مقارن ًة لطاعته تعالى وطاعة رسوله ‪.‬‬

‫ول َوأُولِي األَم ِر ِمن ُكم﴾‬


‫(‪)3( )2‬‬
‫َطيعوا َّ ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ُس َ‬
‫يعوا َّ‬
‫َّللا َوأَط ُ‬
‫آمُنوا أ ُ َ‬ ‫قال تعالى‪َ﴿ :‬يا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫ين َ‬
‫(‪)4‬‬
‫الموضوع السادس‪ :‬سماح الصيدلى لغير الصيدلى بممارسة المهنة‬
‫إن قيام الصيدلي بالسماح لغيره بمزاولة غيره من غير المختصين لمهنة الصيدلة حرٌام‬
‫(‪)5‬‬
‫شرًعا؛ والدليل على ذلك‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ عن عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬أن رسول هللا ‪ ‬قال‪« :‬من تطبب‪ ،‬وال‬
‫(‪)6‬‬
‫يعلم منه طب‪ ،‬فهو ضامن»‬

‫(‪ )1‬الموقع الرسمي لدار االفتاء المصرية‪ :‬المفتي‪ :‬أمانة الفتوى بالدار ـ بتصرف ـ ‪/‬فتوى رقم "‬
‫‪ "163‬بتاريخ‪05/04/2012:‬‬
‫(‪ )2‬سورة النساء اآلية " ‪." 59‬‬
‫(‪ )3‬الموقع الرسمي لدار االفتاء المصرية‪ :‬المفتي‪ :‬أمانة الفتوى بالدار ـ بتصرف ـ ‪/‬فتوى رقم "‬
‫"‪"163‬بتاريخ‪ 2012/4/5/‬م‬
‫(‪ )4‬كتب هذا الموضوع الدكتور مصطفى أحمد محمد حسين‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بأسيوط‪.‬‬
‫(‪ )5‬الموقع الرسمي لدار االفتاء المصرية ـ بتصرف ـ ‪/‬فتوى رقم " ‪ " 4131‬بتاريخ‪07/09/2017‬‬
‫(‪ )6‬الحديث أخرجه أبو داود في سننه ـ واللفظ له ـ كتاب الديات‪ .‬باب فيمن تطبب بغير علم فأعنت‬
‫‪ "4586 " 195/4‬وجاء عقبه‪ ":‬قال نصر‪ ،‬قال‪ :‬حدثني ابن جريج قال أبو داود‪« :‬هذا لم يروه إال‬
‫الوليد‪ ،‬ال ندري هو صحيح أم ال»‪ ،‬وأخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الطب ‪"7484 " 236 /4‬‬
‫وقال عقبه‪ ":‬هذا حديث صحيح اإلسناد ولم يخرجاه " وقال الذهبي في تعليقه على الحديث‪ ":‬صحيح"‪.‬‬
‫( ‪) 134‬‬

‫وجه الداللة من الحديث‪ :‬حذر النبي ‪ ‬من تطبب غير الطبيب وتصدره لعالج الناس‬
‫متحمل لتبعات فعله وآثار تصرفه؛ فوصف‬ ‫ٍ‬
‫أهلية لذلك‪ ،‬وأخبر أن فاعل ذلك‬ ‫من غير‬
‫ٌ‬
‫الدواء للمرضى‪ ،‬وتشخيص حالتهم الصحية‪ ،‬وتقديم النصح لهم؛ كل ذلك من‬
‫ط بالكشف واالستفسار عن حالة المريض‪،‬‬
‫اختصاص الطبيب المعالج الذي هو منو ٌ‬
‫والصيدلي مثل الطبيب إذ إنهما يشتركان في تحمل مسئولية تداوي الناس‪ ،‬فال يجوز‬
‫لغير الصيدلي المقيد رسميًّا في نقابة الصيادلة التجرؤ على مزاولة مهنة الصيدلة إال‬
‫بتصريح له بذلك من الجهة المختصة دون غيرها‪ ،‬وعليه االلتزام بما ُن َّ‬
‫ص عليه في‬
‫اختصاصه‪ ،‬وال يتعداه لغيره‪ ،‬وقيامه بهذا الفعل هو مساعدة لتطبيب غير الطبيب الذي‬
‫(‪)1‬‬
‫ال يجوز‪ ،‬والتعاون على اإلثم والعدوان غير جائز ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ إن السماح لغير الصيدلي بممارسة المهنة فيه مخالفة للوائح والقوانين‪ ،‬وفي ذلك‬
‫مخالفة لولي األمر في أمر ليس بمعصية‪ ،‬ومخالفة ولي األمر في غير المعصية ال‬
‫يجوز‪.‬‬

‫الموضوع السابع‪ :‬تغيير الصيدلي للدواء الموجود في الوصفة الطبية دون‬


‫علم المريض أو الطبيب(‪.)2‬‬
‫إن من األخالق التي يجب توافرها في المسلمين عامة وفي الصيادلة خاصة‬
‫مخال بمهنته من الغش والخداع‪ ،‬فهو مستأمن على‬
‫أمر ً‬
‫هو خلق األمانة‪ ،‬فال يأت ًا‬
‫بنيان هللا عز وجل الذي هو جسد اإلنسان‪ ،‬ولعل من أهم أسباب الخداع والغش هو‬
‫الحصول على األموال‪ ،‬ولكن ليعلموا أن ما يتكسبونه من أموال إنما يكتسبون بأضعافها‬
‫ار‪ ،‬وليت األمر يقف عند الكسب الحرام‪ ،‬بل هذا من قبيل المعاصي المركبة والتي‬
‫أوزًا‬
‫ماال بغير حق‪،‬‬‫يرتكب اإلنسان فيها أكثر من معصية في وقت واحد‪ ،‬فهو يكتسب ً‬
‫مسلما‪ ،‬وقد يتسبب‬
‫ً‬ ‫فضال عن أن يكون‬
‫ً‬ ‫إنسانا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ويؤذي نسمة حية‪ ،‬فضالً عن أن يكون‬

‫(‪ )1‬الموقع الرسمي لدار االفتاء المصرية ـ بتصرف ـ ‪/‬فتوى رقم " ‪ " 4131‬بتاريخ‪07/09/2017‬‬
‫(‪ )2‬كتب هذا الموضوع الدكتور مصطفى أحمد محمد حسين‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بأسيوط‪.‬‬
‫( ‪) 135‬‬

‫نفسا بغير حق بسبب نظرته القاصرة إلي المال الذي ال يغني عنه من‬
‫في موته فيقتل ً‬
‫شيئا يوم القيامة‪.‬‬
‫هللا ً‬
‫وإن من هذه الممارسات المحرمة المشتملة على خيانة األمانة‪ ،‬والتدليس‪،‬‬
‫وغش الناس ما يتعلق بصناعة الدواء‪ ،‬وما يتعلق ببيع الدواء‪ ،‬وبيان هذا يكون كاآلتي‪:‬‬

‫‪ 1‬ــ الغش والتدليس في صناعة الدواء‪:‬‬

‫تعمد إدخال مواد محرمة في صناعة الدواء مثل الكحول وأجزاء الخنزير ونحو ذلك‬
‫ـ ُّ‬
‫من غير ضرورة‪ ،‬أو مع الضرورة ووجود البديل‪.‬‬

‫ـ قيام الجهة المصنعة بصناعة دواء جديد في الظاهر‪ ،‬ويكون في حقيقة األمر ليس‬
‫جديدا‪ ،‬بل القصد منه الكسب التجاري‪.‬‬
‫ً‬

‫ـ القيام بإعالن أوصاف ومميزات والتهويل من شأنها‪ ،‬وهي في واقع األمر ضرب من‬
‫(‪)1‬‬
‫‪.‬‬ ‫سوءا إذا كان للدواء أضرار يتم التهوين من شأنها‬
‫الخيال‪ ،‬بل ويزداد األمر ً‬
‫‪ 1‬ــ الغش والتدليس في مجال التسويق‪:‬‬

‫مغاير‬
‫ًا‬ ‫ـ أن يعطي الصيدلي المريض غير الذي وصف له من الدواء‪ ،‬وهذا قد يكون‬
‫تماما لما هو مدون بالروشتة وال يؤدي الوظائف التي يقوم بها العالج المدون‪ ،‬أو أنه‬
‫(‪)2‬‬
‫مغاير للعالج ولكنه يؤدي وظائفه‪.‬‬
‫ًا‬ ‫يكون‬

‫(‪ )1‬أحكام األدوية في الشريعة اإلسالمية للدكتور حسن بن أحمد بن حسن الفلكي ‪ 165‬بتصرف‪.‬‬
‫تماما وال يؤدي وظائفه‪ ،‬فهذا من أعظم أنواع الغش والتدليس والجناية‬
‫مغاير للعالج ً‬
‫ًا‬ ‫(‪ )2‬فإن كان‬
‫مرضا آخر بسبب هذا‬ ‫على المريض؛ ألنه يفوت على المريض فرصة العالج‪ ،‬ويضيف إلى جسمه ً‬
‫الدواء‪ ،‬باإلضافة إلى الكذب‪ ،‬وأكل أموال الناس بالباطل‪ ،‬وقد ورد النهي عن ذلك كله‪.‬‬
‫ـ ـ وأما إن كان مغاي اًر لكل العالج أو بعضه‪ ،‬ولكنه يؤدي وظائفه فالبد من إعالمه أو إعالم الطبيب‪،‬‬
‫تاجر لألدوية بل صاحب اختصاص ورسالة‪ ،‬وله نظرته في الدواء‪ ،‬فقد يرى‬ ‫إذ إن الصيدلي ليس ًا‬
‫تعارضا بين التشخيص والدواء‬
‫ً‬ ‫تعارضا بين األدوية المدونة فيها‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫خطأ في الوصفة الطبية‪ ،‬أو يرى‬
‫المدون في الوصفة‪ ،‬أما بدون إذن الطبيب أو المريض فال يجوز‪.‬‬
‫( ‪) 136‬‬

‫ـ وكذلك إقناع الغير بأخذ دواء معين ليس له به حاجة‪.‬‬

‫فكل هذا محرم واألدلة على ذلك كثيرة ومنها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ـ قال تعالى‪{ :‬يا أَُّيها َّال ِذينءامُنوا َال َتأ ُكُلوا أَمواَل ُكم بيَن ُكم ِبالب ِ‬
‫اط ِل ِإَّال أَن َت ُكو َن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫يما}‬ ‫ِ‬ ‫َّللا َك َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِتجاراة عن َتر ٍ ِ‬
‫ان ب ُكم َرح ا‬ ‫اض من ُكم َوَال َتقُتُلوا أَن ُف َس ُكم إ َّن َّ َ‬ ‫ََ َ َ‬

‫وجه الداللة من اآلية‪ :‬إن اآلية دلت داللة واضحة على تحريم أخذ أموال الناس إال‬
‫على سبيل الرضا‪ ،‬وأما ما كان على غير سبيل الرضا من الغفلة والسهو والغصب‪،‬‬
‫فهو نهي عنه‪ ،‬والمريض إنما يذهب للصيدلي على أنه راض على دفع أمواله فيما هو‬
‫مدون في الروشته وإعطاء الصيدلي للمريض غير المدون إنما هو أخذ مال بدون‬
‫رضاه‪.‬‬

‫َّللا يأمرُكم أَن ُت َؤُّدوا األَماَن ِ‬


‫ات ِإَلى أَهلِ َها َوِإ َذا َح َكم ُتم َبي َن َّ‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫َ‬ ‫‪ 2‬ـ قال تعالى {ِإ َّن َّ َ َ ُ ُ‬
‫يعا َب ِص اا‬ ‫ِ‬ ‫َّللا ِن ِع َّما َي ِع ُ ِ ِ ِ‬
‫(‪)2‬‬
‫ير}‬ ‫ان َسم ا‬ ‫َّللا َك َ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ظ ُكم به إ َّن َّ َ‬ ‫أَن َتح ُك ُموا بال َعدل إ َّن َّ َ‬
‫(‪)3‬‬
‫ِِ‬ ‫‪ 3‬ـ ـ ويقول تعالى‪{ :‬و َّال ِذين هم ِأل ِ‬
‫َماَنات ِهم َو َعهدهم َر ُ‬
‫اعو َن}‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫وجه الداللة من هاتين اآليتين‪ :‬إن هللا أمر بآداء األمانة في اآلية األولى واألمر يفيد‬
‫الوجوب‪ ،‬وبين أنه سميع بما تهجس به نفوسنا بصير بما نقوم به حتى يكون ذلك‬
‫أدعى للقيام بواجب األمانة‪ ،‬كما بين في اآلية الثانية أن مراعاة األمانات من صفات‬
‫عباد الرحمان‪ ،‬والصيدلي مستأمن من المريض والطبيب على صرف الدواء المدون في‬
‫الروشته‪ ،‬وفي حال مخالفتة لما هو مدون من زيادة‪ ،‬أو نقصان‪ ،‬أو تغيير أو تبديل هو‬
‫عصيان لهذا األمر اإللهي وخيانة لألمانة‪.‬‬

‫أحكام األدوية في الشريعة اإلسالمية ص ـ ‪ 165‬بتصرف ـ‪ ،‬الموسوعة الطبية صـ ‪ 634‬بتصرف‪.‬‬


‫(‪ )1‬سورة النساء اآلية ‪.29‬‬
‫(‪ )2‬سورة النساء اآلية ‪.58‬‬
‫(‪ )3‬سورة المؤمنون اآلية‪.8‬‬
‫( ‪) 137‬‬

‫(‪)1‬‬
‫وجه الداللة من الحديث‪ :‬إن الضرر‬ ‫‪ 4‬ـ قول النبي ‪ ":‬ال ضرر وال ضرار "‬
‫اء غير موصوف يتسبب في ضرره حيث‬
‫منهي عنه وفي إعطاء الصيدلي للمريض دو ً‬
‫يفوت عليه الشفاء الذي يرجوه‪.‬‬

‫الموضوع الثامن‪ :‬احتكار األدوية‬


‫(‪)2‬‬

‫تعريف االحتكار‪:‬‬

‫اختلفت تعريفات الفقهاء في تعريف االحتكار على حسب اختالفهم في األنواع‬


‫التي يحرم فيها االحتكار‪ ،‬ويمكن تعريف االحتكار تعريفا يشمل هذه التعاريف وهو ما‬
‫عرفته الموسوعة الفقهية الكويتية‪ ،‬فقد جاء فيها‪ ":‬االحتكار هو شراء طعام ونحوه‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وحبسه إلى الغالء‪.‬‬

‫حكم االحتكار‪ :‬إن االحتكار من األمور المذمومة التي نهى الشرع المطهر عنها وقد‬
‫جاءت أدلة كثيرة في النهي عن االحتكار ولكن نكتفي بهذا الحديث‪ :‬عن معمر بن عبد‬
‫هللا بن نافع بن نضلة العدوي قال‪ :‬سمعت رسول هللا ‪ ‬يقول‪ :‬ال يحتكر إال خاطئ –‬
‫(‪)4‬‬
‫مرتين"‬

‫فعال يستحق‬
‫وجه الداللة من الحديث‪ :‬إن الخاطئ الذي عناه النبي ‪ ‬هو من ارتكب ً‬
‫العقاب عليه‪ ،‬وترتب العقاب على الفعل يدل على التحريم‪.‬‬

‫* هذا باإلضافة إلى ما في االحتكار من اإلضرار بالمسلمين وإدخال األذي عليهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬سبق تخريج الحديث‬


‫(‪ )2‬كتب هذا الموضوع الدكتور مصطفى أحمد محمد حسين‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بأسيوط‪.‬‬
‫(‪ )3‬الموسوعة الفقهية الكويتية ‪.44 /39‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه اإلمام مسلم في صحيحه كتاب المساقاة‪ .‬باب تحريم االحتكار في االقوات‪" 1228 /3‬‬
‫‪"1605‬‬
‫( ‪) 138‬‬

‫وقد وقع خالف قديم في األنواع التي يدخلها االحتكار وجاءت أراؤهم على ثالثة‬
‫أقوال‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫القول األول‪ :‬إن االحتكار يكون في أقوات اآلدمي والحيوان فقط‪ ،‬وبه قال الحنفية‬

‫القول الثاني‪ :‬إن الذي يحرم احتكاره إنما هو قوت اآلدمي فقط‪ ،‬وما عداه ال يحرم‬
‫(‪)2‬‬
‫احتكاره‪ ،‬وهو رأي الحنابلة‬

‫القول الثالث‪ :‬إن كل ما يضر الناس بحبسه هو احتكار وهو قول أبي يوسف ومحمد‬
‫(‪)3‬‬
‫من الحنفية‪ ،‬والمالكية‪ ،‬والظاهرية ‪.‬‬

‫ناء على أقوال الفقهاء‪:‬‬


‫وب ا‬
‫فعلى القول الثالث والذي هو رأي أبي يوسف ومحمد‪ ،‬والمالكية‪ ،‬والحنابلة‪،‬‬
‫يدخل الدواء فيما يحرم احتكاره‪ ،‬وهذا القول هو الذي نرجحه‪.‬‬
‫وأما على القول األول والثاني فنقول إن ما ذكره الفقهاء القدامى فإنما بنوا أحكامهم‬
‫(‪)4‬‬
‫معتبر في زمانهم ‪ ،‬فلم يكن الدواء بهذه القيمة التي هو عليها اليوم‪ ،‬ال‬
‫ًا‬ ‫على ما كان‬
‫من حيث اكتشاف الدواء ذاته‪ ،‬وال من حيث فاعلية الدواء‪ ،‬فلم تكن إال أدوية معدودة‬
‫لها فاعلية محدودة على خالف ما نحن عليه اليوم من تطور علمي في صناعة األدوية‬
‫ومدى فاعليتها‪ ،‬وفي اكتشاف األمراض‪ ،‬بل وظهور األمراض أكثر مما كان سابًقا‪،‬‬
‫حتى صارت الحاجة إلى الدواء أعظم من الحاجة إلى الطعام والشراب‪ ،‬ومن ثم نقول‬
‫إن أصول هذه لمذاهب تقضي اآلن بتحريم احتكار األدوية‪ ،‬وكان من الممكن عرض‬

‫(‪ )1‬االختيار ‪ ،160 /4‬والجوهرة النيرة على مختصر القدوري ‪.286 /2‬‬
‫(‪ )2‬المغني البن قدامه ‪.167 /4‬‬
‫(‪ )3‬الجوهرة النيرة على مختصر القدوري ‪ ،286 /2‬ومجمع األنهر في شرح ملتقى األبحر ‪/2‬‬
‫‪ ،547‬التفريع في فقه اإلمام مالك بن أنس ‪ ،111 /2‬والمحلى البن حزم ‪572/7‬‬
‫(‪ )4‬المعامالت المالية أصالة ومعاصرة ‪.441 /4‬‬
‫( ‪) 139‬‬

‫المسألة على أنها مما هو متفق عليه بين المذاهب‪ ،‬ولكن عرضنا الخالف من باب‬
‫(‪)1‬‬
‫األمانة العلمية‪.‬‬

‫(‪ )1‬احتكار الدواء في ضوء المستجدات المعاصرة للدكتور إسماعيل غازي مرحبا‪ .‬بحث بمجلة‬
‫العلوم الشرعية بجامعة القصيم بالسعوديةع‪/3‬م‪967 /8‬وما بعدها‬
‫( ‪) 140‬‬

‫الوحدة الخامسة‬

‫وتحتوي على‪:‬‬

‫التزام الطبيب بحفظ أسرار المرضى‪.‬‬ ‫الموضوع األول‬

‫المسؤولية الجنائية لألطباء ومن في حكمهم‬ ‫الموضوع الثاني‬

‫طبيعة العالقة بين الطبيب والمريض‬ ‫الموضوع الثالث‬

‫وكلها من إعداد د‪ .‬محمود عفيفي عفيفي حسن مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بالقاهرة‪.‬‬
‫( ‪) 141‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع األول‪ :‬التزام الطبيب بحفظ أسرار المرضى‬
‫تعتبر مهنة الطب من المهن الشريفة‪ ،‬التي يتمنى كثير من الناس الوصول إليها؛‬
‫أجرا‪،‬‬
‫قدرا‪ ،‬وأفضلها منزل ًة‪ ،‬وأعظمها ً‬
‫أجل األعمال ً‬
‫حيث يقوم الطبيب بعمل هو من ّ‬
‫فهو يقوم بمساعدة اآلخرين‪ ،‬وخدمتهم‪ ،‬والسهر على راحتهم‪ ،‬والعمل على مداواتهم من‬
‫أجل الحصول على حياة كريمة آمنة؛ لذا كان ال بد وأن يكون الطبيب متصفا‬
‫باألخالق الحسنة‪ ،‬وأن يكون محل ثقة لمن يأتي إليه من المرضى للحصول على‬
‫الشفاء بإذن هللا ‪ ،‬فيحافظ على أسرار المرضى وخصوصياتهم وال يبوح بها ألحد‪.‬‬

‫وسيكون الكالم في ثالثة مطالب‪ ،‬هي كما يلي‪:‬‬

‫المطلب األول‪ :‬مفهوم أسرار المرضى‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬الحفاظ على أسرار المرضى وحكم إفشائها‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬الحاالت التي يجوز فيها إفشاء أسرار المرضى‪.‬‬

‫المطلب األول‪ :‬مفهوم أسرار المرضى‬

‫أوال‪ :‬تعريف أسرار المرضى لغة‪:‬‬

‫أسرار‪ :‬جمع كلمة سر‪ ،‬وهو ما يكتمه اإلنسان ويخفيه‪ ،‬أو هو ما يخبر به غيره‬
‫على وجه اإلسرار‪.‬‬

‫َخَفى‪ ،)2(‬وعلى ذلك يكون المقصود بالسر‪ :‬ما يحدث به‬ ‫ِ‬
‫الس َّر َوأ ْ‬
‫يقول هللا ‪َ :‬ي ْعَل ُم ّ‬
‫اإلنسان غيره ويسره إليه‪ ،‬واألخفى من السر ما يحدث به المرء نفسه دون أن يخبر به‬
‫خفاء‪.‬‬
‫أحدا‪ ،‬وهذا من السر أيضا‪ ،‬إال أنه أشد األسرار ً‬
‫ً‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور محمود عفيفي عفيفي حسن‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بالقاهرة‪.‬‬
‫(‪( )2‬سورة طه‪.)7 :‬‬
‫( ‪) 142‬‬

‫ويقال‪ :‬أسررت إلى فالن إسرًارا‪ ،‬وساررته سرًارا‪ ،‬إذا أعلمته بسرك‪ ،‬وأسرار الكف‬
‫الخطوط بباطنها‪.‬‬

‫الس َرِائ ُر‪ ،)1(‬أي‪ :‬تظهر أسرار‬


‫والسريرة مثل السر‪ ،‬ومنه قول هللا ‪َ :‬ي ْوَم تُْبَلى َّ‬
‫الناس يوم القيامة؛ حيث تعرف األسرار‪ ،‬وهو ما يسر في القلوب من النيات‬
‫واالعتقادات وغيرها‪ ،‬فيعرف الحسن والقبيح منها(‪.)2‬‬

‫المر َضى‪ :‬جمع كلمة المريض‪ ،‬والمريض معروف‪ ،‬والمرض‪ُّ :‬ال ُّسْقم نقيض الصحة‪،‬‬
‫َ‬
‫وم ِرض‬ ‫ِ‬
‫ومرضا فهو مارض َ‬
‫مرضا ْ‬
‫ويطلق على اإلنسان والحيوان‪ ،‬ويقال‪ :‬مرض فالن َ‬
‫ومريض(‪.)3‬‬

‫ثانيا‪ :‬تعريف أسرار المرضى اصطالحا‪:‬‬

‫لم أقف على تعريف لمصطلح أسرار المرضى عند فقهائنا القدامى رحمهم هللا ‪،‬‬
‫وهذا ألن المعنى االصطالحي لن يخرج عن المعنى اللغوي‪.‬‬

‫وقد انتهى مجمع الفقه اإلسالمي في دورته الثامنة لعام ‪1414‬ه ـ ‪1993‬م إلى أنه‬
‫مستكتما إياه من قبل أو‬
‫ً‬ ‫يقصد بالسر في المهن الطبية‪":‬ما يفضي به اإلنسان إلى آخر‬
‫من بعد‪ ،‬ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان؛ إذا كان العرف يقضي‬
‫بكتمانه‪ ،‬كما يشمل خصوصيات اإلنسان وعيوبه‪ ،‬التي يكره أن يطلع عليها الناس"(‪.)4‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬الحفاظ على أسرار المرضى وحكم إفشائها‪.‬‬

‫أسرار المرضى أمانة عند من يقومون بعالجهم؛ لذا كان من الواجب على من يقوم‬
‫بهذه المهنة الشريفة أن يكون محل ثقة لمن يأتي إليه من المرضى‪ ،‬فال يقص أسرارهم‬
‫إلى أي أحد‪ ،‬ال سيما إذا لم توجد ضرورة لذلك‪ ،‬ولقد جاءت الشريعة اإلسالمية‬

‫(‪( )1‬سورة الطارق‪.)9 :‬‬


‫(‪ )2‬لسان العرب جـ‪4‬ص‪ ،356‬تاج العروس جـ‪12‬ص‪.5‬‬
‫(‪ )3‬لسان العرب جـ‪7‬ص‪.231‬‬
‫(‪ )4‬مجلة مجمع الفقه اإلسالمي‪ ،‬العدد الثامن لعام ‪1414‬ه ـــــ ‪1993‬م‪.‬‬
‫( ‪) 143‬‬

‫بالمبادئ العامة والقواعد التي تحفظ على جميع الناس حقوقهم وخصوصياتهم؛ حيث إن‬
‫الحفاظ على العرض من أهم الكليات الخمس والمقاصد العامة في الشريعة اإلسالمية‪،‬‬
‫والحفاظ على أسرار المرضى يعتبر من الحفاظ على أعراض الناس‪.‬‬

‫يقول ابن الحاج المالكي رحمه هللا ‪" :‬وينبغي أن يكون الطبيب أمينا على أسرار‬
‫أحدا على ما ذكره المريض؛ إ ْذ إنه لم يأذن له في اطالع غيره‬ ‫المرضى‪ ،‬فال ي ْ ِ‬
‫طل ُع ً‬ ‫ُ‬
‫على ذلك"(‪.)1‬‬

‫ولقد تضافرت النصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية واآلثار‪ ،‬التي تبين لنا‬
‫وجوب الحفاظ على األسرار‪ ،‬وحرمة إفشائها وإذاعتها بين الناس(‪ ،)2‬ال سيما ما كان‬
‫متعلقا بحق الغير؛ مما يؤدي إلى اإلضرار بهم‪ ،‬أو إيذاء مشاعرهم‪.‬‬

‫فمن القرآن الكريم‪ :‬استدلوا بما يلي‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان َمسُئواال‪ ، ‬وقوله ‪َ :‬و َّالذ َ‬
‫‪ .1‬قول هللا ‪َ :‬وأَوُفوا ِبال َعهد ِإ َّن ال َعه َد َك َ‬
‫(‪)3‬‬
‫ين ُهم‬
‫ِِ‬ ‫ِأل ِ‬
‫َماَنات ِهم َو َعهدهم َر ُ‬
‫اعو َن‪.)4(‬‬ ‫َ‬
‫وجه الداللة‪ :‬فقد أمر هللا ‪ ‬بالوفاء بالعهود التي يأخذها اإلنسان على نفسه‪ ،‬وأنه‬
‫عد صفة الوفاء بالعهد والمحافظة على األمانة من‬
‫مسئول عنها أمام هللا ‪ ،‬كما أنه ّ‬
‫دل فإنما يدل على وجوب المحافظة على أسرار الناس‬ ‫صفات المؤمنين‪ ،‬وهذا إن ّ‬
‫وأماناتهم‪ ،‬ال سيما أسرار المرضى‪ ،‬التي يبوح بها أصحابها إلى أطبائهم من أجل‬
‫التوصل إلى الدواء الصحيح المالئم لمرضهم‪ ،‬وتُعد هذه األسرار أمانة في عنق األطباء‬
‫المعالجين؛ لذا كان من الواجب عليهم القيام بحفظها وعدم إفشائها؛ صيانة لعهودهم‪،‬‬
‫وحفاظا على خصوصيات أصحابها‪.‬‬

‫(‪ )1‬المدخل البن الحاج المالكي المتوفى سنة ‪737‬ه‪ ،‬الناشر‪ :‬دار التراث‪ ،‬جـ‪4‬ص‪.135‬‬
‫(‪ )2‬غذاء األلباب شرح منظومة اآلداب للسفاريني المتوفى سنة ‪1188‬ه‪ ،‬الناشر‪ :‬مؤسسة قرطبة ــــ‬
‫مصر‪ ،‬ط‪ :‬الثانية ‪1414‬ه ـــ ‪1993‬م‪ ،‬جـ‪1‬ص‪.115‬‬
‫(‪( )3‬سورة اإلسراء‪.)34 :‬‬
‫(‪( )4‬سورة المؤمنون‪.)8 :‬‬
‫( ‪) 144‬‬

‫َماَن ِات ُكم َوأَن ُتم‬ ‫ِ‬


‫ول َوَت ُخوُنوا أ َ‬
‫الر ُس َ‬
‫َّللا َو َّ‬
‫آمُنوا َال َت ُخوُنوا َّ َ‬ ‫‪ .2‬قول هللا ‪َ:‬ياأَُّي َها َّالذ َ‬
‫ين َ‬
‫َتعَل ُمو َن‪.)1(‬‬
‫وجه الداللة‪ :‬في هذه اآلية الكريمة نهى هللا ‪ ‬عباده المؤمنين عن الخيانة مطلقا‪،‬‬
‫سواء أكانت الخيانة متعلقة بحق هللا ‪ ‬ورسوله ‪ ‬أم كانت متعلقة بأمانات الناس‬
‫وأسراهم؛ مما يدل على حرمة التعدي من جهة األطباء على أسرار المرضى‪ ،‬ال سيما‬
‫إذا جرى العرف على وجوب الكتمان‪ ،‬أو كان متفقا عليه بين الطبيب والمريض‪.‬‬

‫اط ِب ْب ِن أَِبي َبْلتَ َعة"؛ حيث َكتَ َب‬ ‫ومما يؤيد ذلك ما رواه البخاري ومسلم في قصة "ح ِ‬
‫َ‬
‫ّللاُ َرُسوَل ُه ‪َ ‬عَلى َذلِ َك‪،‬‬ ‫ول َّ ِ‬
‫ش يعلِمهم ِبَقصِد رس ِ‬
‫طَل َع َّ‬
‫ام اْلَف ْت ِح‪َ ،‬فأَ ْ‬ ‫ّللا ‪ِ ‬إي ُ‬
‫َّاه ْم َع َ‬
‫ٍ‬
‫إَلى ُق َرْي ُ ْ ُ ُ ْ ْ َ ُ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ام عمر بن‬ ‫ص َن َع‪َ ،‬فَق َ‬ ‫ض َر َحاطًبا َفأََق َّر ب َما َ‬ ‫استَ ْح َ‬ ‫َف َب َع َث في إ ْث ِر اْلكتَاب َف ْ‬
‫استَ ْر َج َع ُه‪َ ،‬و ْ‬
‫ِ‬
‫ين؟‬‫ّللاَ َوَرُسوَل ُه َواْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ان َّ‬‫َض ِر ُب ُعُنَق ُه‪َ ،‬فِإَّن ُه َق ْد َخ َ‬
‫الخطاب ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أ ََال أ ْ‬
‫ِ‬ ‫يك َلع َّل َّ َّ‬ ‫ِ‬
‫ال‪ :‬اع َمُلوا‬ ‫َّللا اطَل َع َعَلى أَهل َبد ٍر َفَق َ‬ ‫ال‪َ « :‬دع ُه‪َ ،‬فإَّن ُه َقد َش ِه َد َبدارا‪َ ،‬ما ُيد ِر َ َ َ‬ ‫َفَق َ‬
‫َما ِشئ ُتم َفَقد َغ َفر ُت َل ُكم»(‪.)2‬‬

‫ومن السنة النبوية‪ :‬استدلوا بما يلي‪:‬‬

‫‪ .1‬ما رواه أبو داود والترمذي عن جابر بن عبدهللا رضي هللا عنهما‪ ،‬أنه سمع رسول‬
‫ان َح ِدي اثا َفَأرَى ال ُم َحَّد ُث ال ُم َح ِد َث َيل َت ِف ُت َحوَل ُه َف ِهي‬ ‫هللا ‪ ،‬يقول‪ِ«:‬إ َذا َحَّد َث ِ‬
‫ال ن َس ُ‬
‫َ‬
‫َماَن ٌة»(‪.)3‬‬
‫أَ‬

‫(‪( )1‬سورة األنفال‪.)27 :‬‬


‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬الجهاد والسير‪ ،‬باب‪ :‬الجاسوس‪ ،‬حديث رقم‪ ،)3007(:‬جـ‪4‬ص‪،59‬‬
‫صحيح مسلم‪ ،‬كتاب‪ :‬فضائل أصحاب النبي ‪ ،‬باب‪ :‬من فضائل أهل بدر ‪ ‬وقصة حاطب بن‬
‫أبي بلتعة‪ ،‬حديث رقم‪ ،)2494(:‬جـ‪4‬ص‪.1941‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود والترمذي وقال‪":‬هذا حديث حسن"‪ .‬يراجع سنن أبي داود‪ ،‬كتاب‪ :‬األدب‪ ،‬باب‪:‬‬
‫في نقل الحديث‪ ،‬حديث رقم‪ ،)4868(:‬جـ‪4‬ص‪ ،267‬سنن الترمذي‪ ،‬كتاب‪ :‬البر والصلة‪ ،‬باب‪:‬‬
‫ما جاء أن المجالس أمانة‪ ،‬حديث رقم‪ ،)1959(:‬جـ‪3‬ص‪.405‬‬
‫( ‪) 145‬‬

‫‪ .2‬ما رواه البيهقي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫اح ِب ِه‬
‫ان ِباألَماَن ِة‪َ ،‬ف َال ي ِح ُّل ِألَح ِد ِهما أَن يف ِشي عَلى ص ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س الم َت َجالِ َس ِ‬ ‫َِّ‬
‫‪«:‬إن َما َي َت َجاَل ُ ُ‬
‫َما َيكَرُه»(‪.)1‬‬
‫‪ .3‬ما رواه اإلمام أحمد عن أبي الدرداء ‪،‬قال‪ :‬قال رسول هللا ‪َ «:‬من َس ِم َع ِمن‬
‫َماَنةٌ‪َ ،‬وإِن َلم َيس َتك ِتم ُه»(‪.)2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َر ُج ٍل َحدي اثا‪َ ،‬ال َيش َتهي أَن ُيذ َكَر َعن ُه‪َ ،‬ف ُه َو أ َ‬
‫‪ .4‬ما أخرجه اإلمام أحمد عن أنس بن مالك ‪ ،‬ما خطبنا نبي هللا ‪ ‬إال قال‪َ«:‬ال‬
‫ين لِ َمن َال َعه َد َل ُه»(‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َماَن َة َل ُه‪َ ،‬وَال د َ‬
‫يما َن ل َمن َال أ َ‬
‫إ َ‬
‫وجه الداللة‪ :‬فهذه األحاديث ظاهرة الداللة على كون ما يخبر به الشخص غيره أنه‬
‫ُيعد أمانة في عنقه‪ ،‬فيجب الحفاظ عليها‪ ،‬ال سيما إذا ما كانت العالقة بين الشخصين‬
‫قائمة على أساس الثقة بينهما‪ ،‬وعدم إفشاء أحدهما لسر اآلخر‪ ،‬كعالقة الطبيب‬
‫بمريضه؛ حيث ال يذهب المريض للطبيب إال إذا كان واثقا فيه‪ ،‬مؤتمنا إياه على‬
‫أس ارره؛ لذا يحرم على الطبيب أن يفشي سر مريضه‪.‬‬

‫ومن اآلثار‪ :‬استدلوا بما يلي‪:‬‬

‫ان‪،‬‬‫ول هللاِ ‪ ،‬وأ ََنا أَْل َع ُب م َع اْل ِغْلم ِ‬


‫‪ .1‬ما أخرجه مسلم عن أنس ‪ ،‬قال‪":‬أَتَى َعَل َّي َرُس ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُمي‪َ ،‬فَل َّما ِج ْئ ُت َقاَل ْت‪َ :‬ما‬ ‫ِ‬
‫ْت َعَلى أ ّ‬ ‫اج ٍة‪َ ،‬فأ َْب َ‬
‫طأ ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫ال‪َ :‬ف َسل َم َعَل ْي َنا‪َ ،‬ف َب َعثَني إَلى َح َ‬
‫َق َ‬
‫اجتُ ُه؟ ُقْل ُت‪ِ :‬إَّن َها ِسر‪َ ،‬قاَل ْت‪:‬‬ ‫حبسك؟ ُقْلت‪ :‬بعثَِني رسول هللاِ ‪ ‬لِح ٍ‬
‫اجة‪َ ،‬قاَل ْت‪َ :‬ما َح َ‬
‫َ َ‬ ‫َُ ُ‬ ‫ُ ََ‬ ‫ََ َ َ‬

‫(‪ )1‬قال اإلمام البيهقي‪":‬هذا مرسل حسن في هذا المعنى"‪.‬‬


‫انظر اآلداب للبيهقي‪ ،‬باب‪ :‬في حفظ المسلم سر أخيه‪ ،‬حديث رقم‪ )106(:‬ص‪.44‬‬
‫(‪ )2‬أورده الهيثمي وقال‪":‬وفي إسناد أحمد وأحد إسنادي الطبراني عبيد هللا بن الوليد الوصافي وهو‬
‫متروك‪ ،‬وفي إسناده اآلخر ضرار بن صرد وهو متروك"‪.‬‬
‫انظر مسند اإلمام أحمد‪ ،‬حديث رقم‪ ،)27509( :‬جـ‪45‬ص‪ ،502‬مجمع الزوائد‪ ،‬كتاب األدب‪،‬‬
‫باب‪ :‬فيمن سمع كالما يكره المتكلم نقله‪ ،‬رقم‪ ،)13166(:‬جـ‪8‬ص‪.97‬‬
‫(‪ )3‬أورده البغوي رحمه هللا ‪ ،‬وقال‪":‬هذا حديث حسن"‪.‬‬
‫انظر مسند اإلمام أحمد‪ ،‬حديث رقم‪ ،)12383(:‬جـ‪19‬ص‪ ،376‬شرح السنة للبغوي‪ ،‬كتاب‪:‬‬
‫اإليمان‪ ،‬باب‪ :‬عالمات النفاق‪ ،‬رقم‪ ،)38(:‬جـ‪1‬ص‪.75‬‬
‫( ‪) 146‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬


‫َحًدا َل َحَّد ْثتُ َك َيا‬
‫ال أ ََن ٌس ‪َ :‬وهللا َل ْو َحَّد ْث ُت به أ َ‬ ‫َال تُ َحّدثَ َّن بس ِّر َرُسول هللا ‪ ‬أ َ‬
‫َحًدا‪َ .‬ق َ‬
‫ثَاِب ُت"(‪.)1‬‬

‫النِب ُّي ‪ِ ‬س ًّرا‪َ ،‬ف َما أ ْ‬


‫َخ َب ْر ُت‬ ‫وفي رواية للبخاري عن أنس بن مالك ‪ ،‬قال‪":‬أَس َّر ِإَل َّي َّ‬
‫َ‬
‫َخ َب ْرتُ َها ِب ِه"(‪.)2‬‬ ‫ِ‬
‫َحًدا َب ْع َدهُ‪َ ،‬وَلَق ْد َسأََل ْتني أ ُُّم ُسَل ْيمٍ‪َ ،‬ف َما أ ْ‬
‫ِِ‬
‫به أ َ‬
‫‪ .2‬ما أخرجه البخاري في قضية عرض سيدنا عمر بن الخطاب ‪ ‬ابنته حفصة على‬
‫سيدنا أبي بكر الصديق ‪ ،‬فلم يجبه على طلبه‪ ،‬ولما تزوجها النبي ‪ ‬قابله‪،‬‬
‫ال‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ص َة‪َ ،‬فَل ْم أ َْرج ْع إَل ْي َك َش ْيًئا؟ َق َ‬
‫َحْف َ‬
‫ض َت َعَل َّي‬ ‫ين َع َر ْ‬ ‫وقال له‪َ":‬ل َعل َك َو َج ْد َت َعَل َّي ح َ‬
‫ض َت َعَل َّي‪،‬‬‫يما َع َر ْ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ال أَُبو َب ْك ٍر‪َ :‬فِإَّن ُه َل ْم َي ْم َن ْعِني‬
‫َن أ َْرج َع إَل ْي َك ف َ‬‫أْ‬ ‫ُع َم ُر‪ُ :‬قْل ُت‪َ :‬ن َع ْم‪َ ،‬ق َ‬
‫ّللاِ ‪،‬‬ ‫َك ْن ِألُْف ِشي ِس َّر رس ِ‬
‫ول َّ‬ ‫َُ‬ ‫ّللا ‪َ ‬ق ْد َذ َك َرَها‪َ ،‬فَل ْم أ ُ‬
‫َن رسول َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫إال أَّني ُك ْن ُت َعل ْم ُت أ َّ َ ُ َ‬
‫َ‬
‫ّللاِ ‪َ ‬قِبْلتُ َها"(‪.)3‬‬
‫ول َّ‬ ‫َوَل ْو تَ َرَك َها َرُس ُ‬
‫‪ .3‬ما روي عن العباس بن عبدالمطلب ‪ ،‬قال البنه عبدهللا‪ :‬يا بني‪ ،‬أرى أمير‬
‫المؤمنين ُي ْدِنيك‪ ،‬فاحفظ مني خصاال ثالثا‪":‬ال تَْف ِش َي َّن َل ُه ِس ًّرا‪َ ،‬وال َي ْس َم َع َّن ِم ْن َك َكِذًبا‪،‬‬
‫ِ‬
‫َوال تَ ْغتَ َاب َّن ع ْن َدهُ أ َ‬
‫َحًدا"(‪.)4‬‬
‫وجه الداللة‪ :‬فهذه اآلثار المروية عن بعض أصحاب النبي ‪ ‬تبين لنا مدى حفاظ‬
‫الصحابة ‪ ‬على أسرار إخوانهم‪ ،‬وخصوصياتهم‪ ،‬سواء أكانوا أحياء أم أمواتا؛ لذا يجب‬
‫على كل مسلم أن يكون متخلقا بهذا الخلق الجميل‪ ،‬فيحفظ سر من يأتمنه على‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬كتاب‪ :‬الفضائل‪ ،‬باب‪ :‬من فضائل أنس بن مالك ‪ ،‬رقم‪،)2482(:‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫جـ‪4‬ص‪.1929‬‬
‫صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬االستئذان‪ ،‬باب‪ :‬حفظ السر‪ ،‬حديث رقم‪ ،)6289(:‬جـ‪8‬ص‪.65‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬النكاح‪ ،‬باب‪ :‬عرض اإلنسان ابنته أو أخته على أهل الخير‪،‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫رقم‪ ،)5122(:‬جـ‪7‬ص‪.13‬‬
‫المنتقى من كتاب مكارم األخالق للخرائطي‪ ،‬المتوفى سنة ‪327‬ه‪ ،‬ص‪ ،148‬اآلداب الشرعية‬ ‫(‪)4‬‬
‫البن مفلح جـ‪2‬ص‪.268‬‬
‫( ‪) 147‬‬

‫خصوصياته‪ ،‬ال سيما إذا كان مشروطا أو جرى العرف به بين الناس؛ حيث يعتبر هذا‬
‫السر مستودعا عنده ومؤتمنا عليه(‪.)1‬‬

‫ومن المعقول‪ :‬أن في إفشاء سر المريض ضر ار نفسيا وأذى معنويا له‪ ،‬بل يترتب‬
‫على كشف األسرار الطبية اإلضرار بالمهنة نفسها؛ ألنه عندما يفقد المريض الثقة‬
‫بالطبيب فإنه لن يبوح له بكل ما لديه‪ ،‬وبالتالي ال تنكشف حقيقة المرض‪ ،‬وهذا كله من‬
‫الضرر المنهي عنه شرعا(‪.)2‬‬

‫وليعلم العاقل منا أن إفشاء أسرار الغير بين الناس من األمور المستقبحة شرعا‬
‫وعقال وعرفا‪ ،‬وأن هذا الصنيع ليس من فعل الرجال وال من أخالقهم‪ ،‬بل إن إفشاء سر‬
‫الغير ينقص من قدر الرجل بين أقرانه‪.‬‬

‫سر نفسه؛ ألنه‬‫سر غيره أقبح من إظهار ِّ‬ ‫يقول أحد الصالحين‪" :‬وإظهار الرجل ّ‬
‫متبرعا"(‪.)3‬‬
‫يبوء بإحدى وصمتين‪ :‬إما بالخيانة إن كان مؤتمنا‪ ،‬أو بالنميمة إن كان ّ‬
‫أي شيء أوضع للرجال؟ قال‪ :‬كثرة الكالم‪،‬‬
‫وقد قيل لعدي ابن حاتم رحمه هللا ‪ّ :‬‬
‫وإضاعة السر‪ ،‬والثقة بكل ٍ‬
‫أحد(‪.)4‬‬ ‫ّ‬
‫ج‬

‫المطلب الثالث‪ :‬الحاالت التي يجوز فيها إفشاء أسرار المرضى‬

‫األصل في التعامل مع أسرار المرضى حرمة إفشائها للغير؛ حيث تُعد هذه األسرار‬
‫أمانة في أعناق األطباء‪ ،‬يجب الحفاظ عليها‪ ،‬لكن توجد هناك بعض الحاالت التي‬
‫يجوز للطبيب فيها إفشاء سر المريض‪ ،‬هي كما يلي‪:‬‬

‫(‪ )1‬اآلداب الشرعية البن مفلح المتوفى سنة ‪763‬ه‪ ،‬ط‪ :‬عالم الكتب‪ ،‬جـ‪2‬ص‪.267‬‬
‫(‪ )2‬الموسوعة الميسرة في فقه القضايا المعاصرة ـــ قسم الجنايات والقضاء والعالقات الدولية‪،‬‬
‫إعداد‪ :‬مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة‪ ،‬ط‪ :‬األولى لعام ‪،.)2(1436‬‬
‫جـ‪1‬ص‪.106‬‬
‫(‪ )3‬لباب اآلداب ألبي المظفر الشيزري‪ ،‬المتوفى سنة ‪584‬ه‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة السنة ــ القاهرة‪ ،‬ط‪:‬‬
‫الثانية‪1407 ،‬ه‪ ،‬ص‪.239‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق‪.‬‬
‫( ‪) 148‬‬

‫الحالة األولى‪ :‬انقضاء حالة كتمان السر‪ :‬إذا انتهت حالة السر من غير جهة‬
‫الكاتم لها‪ ،‬فال بأس أن ُيتكلم بذلك‪ ،‬ويكون انقضاء حالة السر بأمور أهمها ما يلي‪:‬‬

‫أ) أن يبوح بالسر صاحبه نفسه؛ ألنه ال يعود س اًر فيكتم‪ ،‬ولذا فيرتفع الحرج بذلك‪ ،‬ومع‬
‫هذا فقد تبقى بعض التفاصيل التي لم يبح بها س ار إن كان يكره التصريح بها‪ ،‬أو‬
‫يكون في إعالنها ضرر عليه‪.‬‬
‫ب) انقضاء األضرار والمفاسد التي يتضرر بها المكتوم عنه أو غيره‪ ،‬سواء كانت بدنية‬
‫أو نفسية أو معنوية أو مالية‪ ،‬وهذا إن كان سبب مشروعية الكتمان الضرر‪ ،‬فأما‬
‫إن كان سبب الكتمان حمل األمانة فال تنقضي بذلك‪ ،‬ما لم يأذن صاحب السر‬
‫بإعالنها أو يعلنها هو بذاته‪.‬‬
‫ج) أن يكون االلتزام بكتمان السر إلى أجل‪ ،‬وبالتالي فإنه يجوز إفشاؤه إذا انتهى‬
‫األجل‪.‬‬
‫د) أن يأذن صاحب السر في إفشائه‪ ،‬فإذا أذن صاحب السر بإفشائه فإنه يجوز حينئذ‬
‫أن يبوح به‪.‬‬
‫يقول ابن الحاج رحمه هللا ‪":‬ولو أذن فينبغي أن ال يفعل ذلك معه‪ ،‬اللهم إال أن‬
‫يعلم من المريض في أمره بذلك استجالب خواطر اإلخوان‪ ،‬ومن يتبرك بدعائه له‬
‫بظهر الغيب فهذا مستثنى مما تقدم"(‪.)1‬‬

‫الحالة الثانية‪ :‬موت صاحب السر‪ :‬إذا مات صاحب السر فإنه يجوز إفشاؤه؛‬
‫وذلك ألن ضرر البوح بالسر ينتفي بالموت غالبا‪ ،‬ولكن في المسألة تفصيل‪.‬‬

‫فقد نقل اإلمام ابن حجر رحمه هللا ‪":‬إذا مات ال يلزم من الكتمان ما كان يلزم‬
‫في حياته‪ ،‬إال أن يكون عليه غضاضة‪ .‬قلت ـ ابن حجر ــ‪ :‬والذي يظهر انقسام ذلك‬
‫إلى أقسام‪ :‬فيكون مباحا‪ ،‬وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر‪ ،‬كأن يكون فيه‬

‫(‪ )1‬المدخل البن الحاج جـ‪4‬ص‪.135‬‬


‫( ‪) 149‬‬

‫تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك‪ ،‬ويكون مكروها‪ ،‬وقد يحرم‪ ،...‬وقد يجب كأن‬
‫يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن‬
‫يقوم به عنه أن يفعل ذلك"(‪.)1‬‬

‫ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي هللا عنها قالت‪ِ :‬إَّنا ُكَّنا‬
‫السالَ ُم تَ ْم ِشي‪،‬‬ ‫احدة‪َ ،‬فأَْقبَلت َف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اط َم ُة َعَل ْي َها َّ‬ ‫يعا‪َ ،‬ل ْم تُ َغ َاد ْر مَّنا َو ِ َ ٌ َ ْ‬ ‫النب ِّي ‪ ‬ع ْن َدهُ َجم ً‬
‫اج َِّ‬ ‫أ َْزَو َ‬
‫ال‪َ « :‬م ْر َحًبا ِب ْاب َنِتي»‬ ‫ول َّ ِ‬ ‫ّللاِ ما تَ ْخَفى ِم ْشيتُها ِم ْن ِم ْشي ِة رس ِ‬
‫آها َرَّح َب َق َ‬ ‫ّللا ‪َ ،‬فَل َّما َر َ‬ ‫َ َُ‬ ‫ََ‬ ‫الَ َو َّ َ‬
‫اء َشِد ًيدا‪َ ،‬فَل َّما َأرَى ُح ْزَن َها‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫َجَل َس َها َع ْن َيمينه أ َْو َع ْن ش َماله‪ ،‬ثُ َّم َس َّارَها‪َ ،‬ف َب َك ْت ُب َك ً‬ ‫ثُ َّم أ ْ‬
‫ّللاِ ‪‬‬ ‫ول َّ‬ ‫صك َرُس ُ‬
‫س َّارها الثَّ ِاني َة‪َ ،‬فِإ َذا ِهي تَضحك‪َ ،‬فُقْلت َلها أَنا ِمن بي ِن ِنس ِائ ِه‪ :‬خ َّ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ ْ َْ َ‬ ‫َ ْ َُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ّللا ‪َ ‬سأَْلتُ َها‪َ :‬ع َّما َس َّارِك؟ َقاَل ْت‪َ :‬ما‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِب ِ ِ ِ‬
‫ول َّ‬‫ام َرُس ُ‬ ‫ين‪َ ،‬فَل َّما َق َ‬‫الس ِّر م ْن َب ْين َنا‪ ،‬ثُ َّم أ َْنت تَْبك َ‬‫ّ‬
‫ّللاِ ‪ِ ‬س َّره‪َ ،‬فَل َّما تُوِّفي‪ُ ،‬قْلت َلها‪ :‬ع َزمت عَلي ِك ِبما لِي عَليكِ‬ ‫ول َّ‬ ‫ِ‬
‫ُك ْن ُت ألُْفشي عَلى رس ِ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫ُ َ َ ُْ َْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َُ‬
‫ين َس َّارِني ِفي‬ ‫َخبرْتِني‪َ ،‬قاَل ْت‪ :‬أ َّ ِ‬ ‫َخ َب ْرِتِني‪َ ،‬قاَل ْت‪ :‬أ َّ‬‫الح ِّق َل َّما أ ْ‬ ‫ِ‬
‫َما ح َ‬ ‫اآلن َف َن َع ْم‪َ ،‬فأ ْ َ َ‬
‫َما َ‬ ‫م َن َ‬
‫آن ُك َّل َس َن ٍة َم َّرًة‪َ ،‬وإَِّن ُه َق ْد‬‫ض ُه ِبالُق ْر ِ‬ ‫ان ُي َع ِار ُ‬‫يل َك َ‬ ‫َخبرِني‪«:‬أ َّ ِ‬
‫َن ج ْب ِر َ‬
‫ِ ِ‬
‫األ َْم ِر األ ََّول‪َ ،‬فإَّن ُه أ ْ َ َ‬
‫اصِب ِري‪َ ،‬فِإِّني ِن ْع َم‬ ‫َج َل ِإ َّال َقِد ا ْقتَ َر َب‪َ ،‬فاتَِّقي َّ‬ ‫عار ِ ِ ِ‬
‫ّللاَ َو ْ‬ ‫ام َم َّرتَْي ِن‪َ ،‬والَ أ ََرى األ َ‬‫الع َ‬‫ضني به َ‬ ‫ََ َ‬
‫ف أ ََنا َل ِك»‪َ .‬قاَل ْت‪َ :‬ف َب َك ْي ُت ُب َك ِائي َّالِذي َأرَْي ِت‪َ ،‬فَل َّما َأرَى َج َزِعي َس َّارِني الثَّ ِان َي َة‪،‬‬ ‫السَل ُ‬
‫َّ‬
‫اء َهِذِه‬ ‫اء المؤ ِمِنين‪ ،‬أَو سِيدة ِنس ِ‬
‫ُ ْ َ ْ َ َّ َ َ‬
‫اطم ُة‪ ،‬أَالَ تَرضين أَن تَ ُكوِني سِيدة ِنس ِ‬
‫َ َّ َ َ‬ ‫ْ َ َْ ْ‬
‫ِ‬
‫ال‪َ «:‬يا َف َ‬ ‫َق َ‬
‫ُم ِة»(‪.)2‬‬‫األ َّ‬

‫الحالة الثالثة‪ :‬أن يؤدي الكتمان إلى ضرر أبلغ من ضرر الفشاء‪ :‬إذا كان حفظ‬
‫السر يؤدي إلى ضرر عظيم أو مفسدة عظيمة فإنه يجوز إفشاؤه‪ ،‬وعلى هذا سار‬
‫علماء الحديث الشريف في كشف أحوال الرواة ووقائع وقعت لهم تدل على فسق أو قلة‬
‫دين أو تساهل في الكذب‪ ،‬أو نحوه‪ ،‬ال بغرض العيب على المسلمين‪.‬‬

‫(‪ )1‬فتح الباري البن حجر جـ‪11‬ص‪.82‬‬


‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬االستئذان‪ ،‬باب‪ :‬من ناجى بين يدي الناس‪ ،‬ومن لم يخبر بسر صاحبه‪،‬‬
‫فإذا مات أخبر به‪ ،‬حديث رقم‪ ،)6285(:‬جـ‪8‬ص‪.64‬‬
‫( ‪) 150‬‬

‫وإنما بغرض تفويت الفرصة على هؤالء؛ حتى ال يغتر الناس بأحاديثهم فيظنوها‬
‫صحيحة‪ ،‬وهي ضعيفة أو مكذوبة‪ ،‬فإن استمرار الكذب وبناء األحكام الشرعية على‬
‫أحاديث منسوبة إلى النبي ‪ ‬كذبا أعظم ضر ار من كشف كذب الكاذبين‪.‬‬

‫الحالة الرابعة‪ :‬دفع الخطر‪ :‬يجوز إفشاء السر في حالة دفع الخطر عن النفس أو‬
‫الغير‪.‬‬

‫قال ابن حجر الهيتمي رحمه هللا ‪":‬وحينئذ ينبغي السكوت عن حكاية كل شيء‬
‫شوهد من أحوال الناس‪ ،‬إال ما في حكايته نفع لمسلم أو دفع ضر‪ ،‬كما لو رأى من‬
‫يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به"(‪.)1‬‬

‫وقال اإلمام الذهبي رحمه هللا ‪":‬وينبغي لإلنسان أن يسكت عن كل ما رآه من‬
‫أحوال الناس‪ ،‬إال ما في حكايته فائدة للمسلمين‪ ،‬أو دفع معصية"(‪.)2‬‬

‫(قرار مجمع الفقه السالمي)‪:‬انتهى مجلس مجمع الفقه اإلسالمي في دورته الثامنة‪،‬‬
‫لعام ‪1414‬ه ـ ‪1993‬م‪ ،‬وذلك بعد اطالعه على البحوث الواردة إلى المجمع‬
‫بخصوص موضوع‪":‬السر في المهن الطبية" إلى ما يلي‪ :‬أوال‪:‬‬

‫أ) السر‪ :‬هو ما يفضي به اإلنسان إلى آخر مستكتما إياه من قبل أو من بعد‪ ،‬ويشمل‬
‫ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان؛ إذا كان العرف يقضي بكتمانه‪ ،‬كما‬
‫يشمل خصوصيات اإلنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس‪.‬‬
‫اما بما جاءت به الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وهو‬
‫ب) السر أمانة لدى من استودع حفظه‪ ،‬التز ً‬
‫ما تقضي به المروءة وآداب التعامل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مقتض معتبر موجب للمؤاخذة شرًعا‪.‬‬ ‫ج) األصل حظر إفشاء السر‪ ،‬وإفشاؤه بدون‬

‫(‪ )1‬الزواجر عن اقتراف الكبائر البن حجر الهيتمي جـ‪2‬ص‪.38‬‬


‫(‪ )2‬الكبائر للذهبي ص‪.161‬‬
‫( ‪) 151‬‬

‫د) يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود اإلفشاء فيها على‬
‫أصل المهنة بالخلل‪ ،‬كالمهن الطبية؛ إذ يركن إلى هؤالء ذوو الحاجة إلى محض‬
‫النصح وتقديم العون‪ ،‬فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام‬
‫الحيوية‪ ،‬ومنها أسرار ال يكشفها المرء لغيرهم حتى األقربين إليه‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تستثنى من وجوب كتمان السر حاالت يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق‬
‫ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه‪ ،‬أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه‪،‬‬
‫وهذه الحاالت على ضربين‪:‬‬

‫بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين لتفويت‬


‫أ) حاالت يجب فيها إفشاء السر؛ ً‬
‫أشدهما‪ ،‬وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص؛ لدرء‬
‫الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه‪ ،‬وهذه الحاالت نوعان‪:‬‬
‫‪ ‬ما فيه درء مفسدة عن المجتمع‪.‬‬
‫‪ ‬وما فيه درء مفسدة عن الفرد‪.‬‬
‫ب) حاالت يجوز فيها إفشاء السر لما فيه‪:‬‬
‫‪ ‬جلب مصلحة للمجتمع‪.‬‬
‫‪ ‬أو درء مفسدة عامة‪.‬‬
‫وهذه الحاالت يجب االلتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين‬
‫والنفس والعقل والمال والنسل‪.‬‬

‫ج) االستثناءات بشأن مواطن وجوب اإلفشاء أو جوازه ينبغي أن ينص عليها في نظام‬
‫مزاولة المهن الطبية وغيره من األنظمة‪ ،‬موضحة ومنصوصاً عليها على سبيل‬
‫الحصر‪ ،‬مع تفصيل كيفية اإلفشاء‪ ،‬ولمن يكون‪ ،‬وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية‬
‫الكافة بهذه المواطن‪.‬‬
‫( ‪) 152‬‬

‫ثالثا‪ :‬يوصي المجمع نقابات المهن الطبية وو ازرات الصحة وكليات العلوم الصحية‬
‫بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات واالهتمام به وتوعية العاملين في هذا المجال‬
‫بهذا الموضوع‪ ،‬ووضع المقررات المتعلقة به‪ ،‬مع االستفادة من األبحاث المقدمة في‬
‫هذا الموضوع‪ ،‬وهللا أعلم(‪.)1‬‬

‫(‪)2‬‬
‫الموضوع الثاني‪ :‬المسؤولية الجنائية لألطباء ومن في حكمهم‬
‫تعتبر مهنة الطب من المهن المهمة‪ ،‬التي يحتاج إليها كثير من الناس في هذه‬
‫ألمت بالناس؛ مما جعل هذه‬ ‫األيام؛ لالستعانة بأهلها في مداواة األمراض التي ّ‬
‫المؤسسات الطبية اليوم مرفقا من أهم المرافق العامة التي تعتنى بها الدول‪ ،‬وتعمل‬
‫على ترقيتها بأحدث اآلالت‪ ،‬وتزويدها بأمهر األطباء‪.‬‬

‫والناظر في الواقع المهني لألعمال الطبية يجد أن معظم الدول قد قامت بإصدار‬
‫اللوائح والقوانين التي تنظم العمل بهذه المهنة‪ ،‬وقصرها على األشخاص المؤهلين‪،‬‬
‫الذين قاموا بدراسة أصول وقواعد هذه المهنة دراسة علمية وتطبيقية‪ ،‬كي يستأمنوهم‬
‫على حياة الناس وأبدانهم‪.‬‬

‫ومما ال خالف فيه اآلن أنه ال يسمح ألي شخص بممارسة هذه المهنة‪ ،‬إذا لم‬
‫يدرس علم الطب‪ ،‬أو ال تنطبق عليه اللوائح والقوانين المعتمدة لممارستها‪ ،‬وبالتالي إذا‬
‫قام بممارستها فيكون مسؤوال مسؤولية كاملة عن جميع تصرفاته‪ ،‬وما ينتج عنها من‬
‫أضرار‪ .‬وسيكون الكالم في ثالثة مطالب‪ ،‬هي كما يلي‪:‬‬

‫المطلب األول‪ :‬مفهوم المسؤولية الجنائية‪.‬‬


‫المطلب الثاني‪ :‬مدى مشروعية المسؤولية الجنائية‪.‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬طبيعة المسؤولية الجنائية لألطباء ومن في حكمهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬مجلة مجمع الفقه اإلسالمي‪ ،‬العدد الثامن لعام ‪1414‬ه ـــــ ‪1993‬م‪.‬‬
‫(‪ )2‬كتب هذا الموضوع الدكتور محمود عفيفي عفيفي حسن‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بالقاهرة‪.‬‬
‫( ‪) 153‬‬

‫المطلب األول‪ :‬مفهوم المسؤولية الجنائية‬

‫أوال‪ :‬تعريف المسؤولية الجنائية لغة‪:‬‬

‫المسؤولية(‪ :)1‬مأخوذة من سأل يسأل سؤاال‪ ،‬فيقال‪ :‬سألته الشيء‪ ،‬أي‪ :‬استعطيته‬
‫إياه‪ ،‬ويقال‪ :‬سألته عن الشيء‪ ،‬أي‪ :‬استخبرته‪ ،‬والسؤال‪ :‬ما يسأله الشخص غيره‪.‬‬

‫وسى‪ .)2(‬وكلمة مسؤول اسم مفعول‬ ‫ال َقد أُوِت َ‬


‫يت ُسؤَل َك َيا ُم َ‬ ‫ومنه قول هللا ‪َ :‬ق َ‬
‫من سأل‪ ،‬كما يطلق على من يلي أمور أشخاص ويسأل عنهم‪ ،‬ومنه ما رواه البخاري‬
‫عن عبدهللا بن عمر رضي هللا عنهما‪ ،‬أنه‪ :‬سمع رسول هللا ‪ ‬يقول‪ُ «:‬كُّل ُكم َر ٍ‬
‫اع‬
‫ول َعن َرِعَّي ِت ِه‪ ...‬الحديث»(‪.)3‬‬
‫َو َمسُئ ٌ‬

‫والمسؤولية‪ :‬اسم مفعول من سأل يسأل فهو مسؤول‪ ،‬ومنسوب إليه‪.‬‬

‫الجنائية(‪ :)4‬من الجناية‪ ،‬والجناية‪ :‬من جنى الذنب يجنيه عليه جناية‪.‬‬

‫والجناية‪ :‬الذنب والجرم وما يفعله اإلنسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص في‬
‫َما ِإ َّن ابَن َك َه َذا َال َيج ِني َعَلي َك َوَال َتج ِني‬
‫الدنيا واآلخرة‪ .‬ومنه قول النبي ‪«:‬أ َ‬
‫َعَلي ِه»(‪.)5‬‬

‫ثانيا‪ :‬تعريف المسؤولية الجنائية اصطالحا‪:‬‬

‫"هي التزام الشخص بتحمل نتائج أقواله وأفعاله المحرمة"(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬لسان العرب البن منظور جـ‪11‬ص‪.318‬‬


‫(‪( )2‬سورة طه آية‪.)36 :‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬في االستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس‪ ،‬باب‪ :‬العبد راع في‬
‫مال سيده‪ ،‬حديث رقم‪ ،)2409(:‬جـ‪3‬ص‪.120‬‬
‫(‪ )4‬لسان العرب جـ‪14‬ص‪.154‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه الحاكم في المستدرك‪ ،‬وقال‪":‬حديث صحيح اإلسناد"‪.‬‬
‫انظر المستدرك للحاكم‪ ،‬كتاب‪ :‬تفسير سورة المالئكة ـــ فاطر ـــ‪ ،‬حديث رقم‪،)3590(:‬‬
‫جـ‪2‬ص‪.461‬‬
‫( ‪) 154‬‬

‫وال يكون الشخص مسؤوال جنائيا عن نتائج أقواله وأفعاله إال إذا كان أهال لتحمل‬
‫هذه النتائج‪ ،‬كأن يكون مدركا مختارا‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬مدى مشروعية المسؤولية الجنائية‬

‫المتأمل في نصوص الشريعة الغراء يجد أنها اهتمت اهتماما بالغا بحياة اإلنسان‬
‫وما يتعلق به؛ لذا وضعت القواعد العامة والضوابط التي تحفظ على اإلنسان حياته‬
‫ودينه وماله وعرضه وعقله‪ ،‬فإذا ما تعدى شخص على آخر فهو مسؤول مسؤولية‬
‫كاملة عن تصرفاته‪ ،‬التي أحدثت ضر ار بالشخص المعتدى عليه‪ ،‬ويدل على هذا المبدأ‬
‫ـ ـ مبدأ المسؤولية ـ ـ نصوص كثيرة من القرآن والسنة ونصوص الفقهاء األجالء رحمهم‬
‫هللا ‪ .‬فمن القرآن الكريم ما يلي‪:‬‬

‫اص ِفي الَقتَلى‪.)2(‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫آمُنوا ُكت َب َعَلي ُك ُم الق َص ُ‬ ‫‪ .1‬قول هللا ‪َ:‬ياأَُّي َها َّالذ َ‬
‫ين َ‬
‫وجه الداللة‪ :‬فقد دلت هذه اآلية الكريمة على أن اإلنسان يقتص منه إذا ما اعتدى‬
‫على شخص آخر‪ ،‬وهذا إن دل فإنما يدل على مسؤوليته الكاملة عن تصرفاته التي‬
‫تعدى بها على اآلخرين‪.‬‬

‫طأا َف َتح ِر ُير َرَقَب ٍة ُمؤ ِمَن ٍة َوِدَي ٌة ُم َسَّل َم ٌة ِإَلى أَهلِ ِه‪.)3(‬‬
‫‪ .2‬قوله ‪َ :‬و َمن َقَت َل ُمؤ ِمانا َخ َ‬
‫وجه الداللة‪ :‬ففي هذه اآلية الكريمة بين هللا ‪ ‬عقوبة من يقتل نفسا مؤمنة بدون‬
‫وجه حق على سبيل الخطأ؛ حيث أوجب هللا الدية والكفارة في هذه الحالة مع عدم تعمد‬
‫الفعل‪ ،‬وهذا يرسخ لنا مبدأ مسؤولية الشخص عن جميع أفعال وإن كانت على سبيل‬
‫الخطأ‪.‬‬

‫الصي َد َوأَن ُتم ُحُرٌم َو َمن َقَتَل ُه ِمن ُكم ُم َت َع ِمادا‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا َال َتقُتُلوا َّ‬ ‫ين آ َ‬‫‪ .3‬قوله ‪َ:‬يا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫الن َعمِ َيح ُك ُم ِب ِه َذ َوا َعد ٍل ِمن ُكم‪.)1(‬‬
‫َف َج َاز ٌء ِمث ُل ما َقَت َل ِم َن َّ‬
‫َ‬

‫(‪ )1‬الجريمة وأحكامها العامة في االتجاهات المعاصرة‪ :‬خضر عبدالفتاح‪ ،‬ص‪.246‬‬


‫(‪()2‬سورة البقرة آية‪.)178 :‬‬
‫(‪()3‬سورة النساء آية‪.)92 :‬‬
‫( ‪) 155‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬فقد أوجب هللا ‪ ‬على من قتل صيدا عامدا حال إحرامه مثل الصيد‬
‫المعتدى عليه‪ ،‬يحكم به حاكمان عادالن من المسلمين‪ ،‬وهذا يدل على مبدأ مسؤولية‬
‫الشخص عن جميع أفعاله‪.‬‬

‫ومن السنة النبوية‪ :‬وردت نصوص كثيرة في السنة النبوية المطهرة ترسخ لنا مبدأ‬
‫مسؤولية الشخص الجنائية عن جميع تصرفاته وأقواله‪ ،‬من أهمها في هذا الباب‪:‬‬

‫ما رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وغيرهم عن عمرو ابن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن‬
‫طَّبب وَلم يعرف ِمنه ِط ٌّب َفهو َض ِ‬
‫ام ٌن»(‪.)2‬‬ ‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫جده‪ ،‬أن رسول هللا ‪ ،‬قال‪َ «:‬من َت َ َ َ ُ َ‬

‫وجه الداللة‪ :‬هذا الحديث ظاهر الداللة على تضمين المعالج الذي يقوم بعالج‬
‫الناس‪ ،‬ويتلف على المرضى حياتهم أو أعضاءهم‪ ،‬وهو غير مؤهل لهذا العمل المهني‬
‫المهم‪ ،‬وهذا إن دل فإنما يدل على مبدأ المسؤولية الجنائية ومشروعيتها‪.‬‬

‫قال اإلمام الخطابي رحمه هللا ‪":‬ال أعلم خالفاً في المعالج إذا تعدى فتلف‬
‫المريض كان ضامنا‪ ،‬والمتعاطي علما أو عمال ال يعرفه متعدي‪ ،‬فإذا تولد من فعله‬
‫التلف ضمن الدية‪ ،‬وسقط عنه القود؛ ألنه ال يستبد بذلك دون إذن المريض‪ ،‬وجناية‬
‫الطبيب في قول عامة الفقهاء على عاقلته"(‪.)3‬‬

‫ويقول اإلمام البغوي رحمه هللا ‪":‬وإذا أخطأ الطبيب في المعالجة‪ ،‬فحصل منه‬
‫التلف‪ ،‬تجب الدية على عاقلته‪ .‬ثم قال‪ :‬وكذلك من تطبب بغير علم"(‪.)4‬‬

‫(‪()1‬سورة المائدة آية‪.)95 :‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه الحاكم وقال‪":‬هذا حديث صحيح اإلسناد"‪.‬‬
‫انظر سنن أبي داود‪ ،‬كتاب‪ :‬الديات‪ ،‬باب‪ :‬فيمن تطبب بغير علم فأعنت‪ ،‬حديث رقم‪،)4586(:‬‬
‫جـ‪4‬ص‪ ،195‬سنن ابن ماجه‪ ،‬كتاب‪ :‬الطب‪ ،‬باب‪ :‬من تطبب‪ ،‬ولم يعلم منه طب‪ ،‬حديث‬
‫رقم‪ ،)3466(:‬جـ‪2‬ص‪ ،1148‬المستدرك للحاكم‪ ،‬كتاب‪ :‬الطب‪ ،‬حديث رقم‪،)7484(:‬‬
‫جـ‪4‬ص‪.236‬‬
‫(‪ )3‬معالم السنن للخطابي جـ‪4‬ص‪.39‬‬
‫(‪ )4‬شرح السنة للبغوي جـ‪10‬ص‪.341‬‬
‫( ‪) 156‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬طبيعة المسؤولية الجنائية لألطباء ومن في حكمهم‬

‫اهتمت الشريعة اإلسالمية باإلنسان اهتماما بالغا‪ ،‬ال سيما فـي مجـال صحته‬
‫وحمايتـه مـن األمراض واألوبئة؛ لذا أمرته بأن يتحفظ من وجوده في مواطن الوباء‬
‫واألمراض التي تفتك بجسده‪.‬‬

‫روى اإلمام البخاري في صحيحه عن أسامة بن زيد ‪ ،‬عن النبي ‪ ،‬أنه‬


‫ض َوأ َْنتُ ْم ِب َها َفالَ تَ ْخ ُرُجوا‬
‫وها‪ ،‬وإِ َذا وَق َع ِبأ َْر ٍ‬ ‫الط ُ ِ ِ ٍ‬ ‫قال‪ِ«:‬إ َذا س ِمعتُم ِب َّ‬
‫اعون بأ َْرض َفالَ تَ ْد ُخُل َ َ َ‬ ‫َ ْ ْ‬
‫ِم ْن َها»(‪.)1‬‬

‫كما أجازت الشريعة اإلسالمية للمرضى أن يتداووا من األمراض التي نزلت بهم‪،‬‬
‫حفاظا على صحتهم وقوة أجسادهم؛ حيث تعتبر صحة اإلنسان هي أساس سعادته‬
‫وتقدمه‪ ،‬فإذا كان اإلنسان قويا سليما خاليا من األمراض كان المجتمع قويا متراصا‪،‬‬
‫تسوده العفـة والطهـر والتعاون والمودة بين أفراده‪ ،‬وإذا كان األمر خالف ذلك فإن‬
‫المجتمع يكون ًّ‬
‫هشا ضعيفا تسيطر عليه‪.‬‬

‫فقد روى الحاكم في المستدرك عن أسامة بن شريك أن أصحاب النبي ‪ ‬قالوا له‪:‬‬
‫َّللا َت َعاَلى َلم َي َضع َد َِّ‬ ‫ِ‬
‫اء»(‪.)2‬‬
‫اء إال َو َض َع َل ُه َد َو ا‬
‫ا‬ ‫أََن َت َد َاوى؟ َق َ‬
‫ال‪َ «:‬ت َد َاووا َفإ َّن َّ َ‬
‫فإذا ما أراد اإلنسان أن يأخذ بأسباب الشفاء الصحيحة فال يجوز له اإلقدام على‬
‫المعالجة إال من قبل المؤهلين والمتخصصين‪ ،‬العارفين بعلوم الطب؛ حفاظا على نفسه‬
‫من الوقوع في التهلكة‪.‬‬

‫كما ال يجوز لإلنسان الجاهل غير المتخصص أن يزاول هذه المهنة‪ ،‬بل ال بد وأن‬
‫يكون عالما بأصولها وقواعدها؛ حتى ال يتسبب في وقوع الضرر على الناس‪.‬‬

‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬الطب‪ ،‬باب‪ :‬ما يذكر في الطاعون‪ ،‬حديث رقم‪،)5728(:‬‬
‫جـ‪7‬ص‪.130‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الحاكم‪ ،‬وقال‪":‬هذا حديث صحيح"‪.‬‬
‫انظر المستدرك للحاكم‪ ،‬كتاب‪ :‬الطب‪ ،‬حديث رقم‪ ،)8206(:‬جـ‪4‬ص‪.441‬‬
‫( ‪) 157‬‬

‫ومع هذه اإلجراءات التي اتخذها الشارع الحكيم قد تحدث بعض األضرار ببعض‬
‫المرضى؛ مما يوجب علينا الحديث حول األحوال التي يضمن الطبيب فيها والتي ال‬
‫يضمن‪.‬‬

‫وقبل الحديث عن ضمان الطبيب أو عدم ضمانه ال بد وأن نعلم أن الفقهاء رحمهم‬
‫هللا ‪ ‬فرقوا بين الطبيب الجاهل والطبيب الحاذق (الماهر) على النحو التالي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬الطبيب الجاهل‪:‬‬

‫الطبيب الجاهل هو الذي ال يعلم قواعد وأصول مهنة الطب التي يعمل بها‪ ،‬أو غير‬
‫المتخصص في المجال الذي يعمل به‪ ،‬كأن يكون طبيب أسنان ويعمل بتخصص غير‬
‫تخصصه كأمراض البطن مثال‪ ،‬وينتج عن هذا العمل الذي قام به جناية على‬
‫المريض‪ ،‬وفي هذه الحالة قد يكون المريض عالما بذلك وأذن له أو ال‪.‬‬

‫فقد أجمعوا على تضمين الطبيب الجاهل والذي ال علم له بأصول هذه المهنة (غير‬
‫المتخصص) إذا كان المريض غير عالم بجهله أو لم ياذن له بالعالج؛ حيث أوهم‬
‫الناس بأنه طبيب وهو ليس من أهل الطب‪.‬‬

‫يقول ابن رشد رحمه هللا ‪":‬وال خالف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن؛‬
‫ألنه متعد"(‪.)1‬‬

‫ومما يؤيد هذا اإلجماع ما رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وغيرهم عن عمرو ابن‬
‫طَّب َب َوَلم ُيعَرف ِمن ُه ِط ٌّب‬
‫شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬أن رسول هللا ‪ ،‬قال‪َ «:‬من َت َ‬
‫َفهو َض ِ‬
‫ام ٌن»(‪.)2‬‬ ‫َُ‬

‫(‪ )1‬بداية المجتهد البن رشد جـ‪4‬ص‪.201‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه الحاكم وقال‪":‬هذا حديث صحيح اإلسناد"‪.‬‬
‫انظر سنن أبي داود‪ ،‬كتاب‪ :‬الديات‪ ،‬باب‪ :‬فيمن تطبب بغير علم فأعنت‪ ،‬حديث رقم‪،)4586(:‬‬
‫جـ‪4‬ص‪ ، 195‬سنن ابن ماجه‪ ،‬كتاب‪ :‬الطب‪ ،‬باب‪ :‬من تطبب‪ ،‬ولم يعلم منه طب‪ ،‬حديث‬
‫رقم‪ ،)3466(:‬جـ‪2‬ص‪ ،1148‬المستدرك للحاكم‪ ،‬كتاب‪ :‬الطب‪ ،‬حديث رقم‪،)7484(:‬‬
‫جـ‪4‬ص‪.236‬‬
‫( ‪) 158‬‬

‫وقد ذهب فقهاء الشريعة اإلسالمية على أنه يلزم الطبيب الجاهل دية النفس أو‬
‫تعويض التلف الذي أصيب به المريض‪.‬‬

‫يقول اإلمام الخطابي رحمه هللا ‪":‬ال أعلم خالفاً في المعالج إذا تعدى فتلف‬
‫المريض كان ضامنا‪ ،‬والمتعاطي علما أو عمال ال يعرفه متعدي‪ ،‬فإذا تولد من فعله‬
‫التلف ضمن الدية‪ ،‬وسقط عنه القود؛ ألنه ال يستبد بذلك دون إذن المريض‪ ،‬وجناية‬
‫الطبيب في قول عامة الفقهاء على عاقلته"(‪.)1‬‬

‫أما إذا باشر الطبيب الجاهل عالج المريض وكان المريض يعلم أنه جاهل وال علـم‬
‫لـه‪ ،‬وأذن له في عالجه فال ضمان عليه إذا حصل للمريض أي تلف؛ حيث أنـه يشـترط‬
‫لتحقيـق الضمان على الطبيب الجاهل أال يعلم جهل هذا الطبيب أو أنه أخفى جهلـه‬
‫عنـه(‪.)2‬‬

‫بينما ذهب البعض إلى تحمل الطبيب الجاهل المسؤولية مطلقا‪ ،‬سواء أكان‬
‫المريض عالما بجهله أم ال‪ ،‬لعموم قول النبي ‪.‬‬

‫وقـد ألحـق فقهـاء الشريعة اإلسالمية باألطباء فيما يتعلق بالمسؤولية الناجمة عن‬
‫ممارسة مهنة الطب من كان في حكمهـم‪ ،‬كالحجام وغيره من أصحاب المهنة‬
‫واالختصاص‪.‬‬

‫وخالصة القول‪ :‬أن الفقهاء اتفقوا على تضمين الطبيـب الجاهل عما تسبب في‬
‫إتالفه نتيجة جهله وإيهامه وتغريره بالمريض‪.‬‬

‫وبناء عليه‪ :‬فإن الطبيب الجاهل تقـع عليـه المسؤولية الكاملة عن فعله‪ ،‬ويلزمه‬
‫ً‬
‫ضمان ما أتلف‪ ،‬كما أنه يحق لولي األمر أن يقرر إحدى العقوبات؛ لتكون رادعة لكل‬
‫من تسول له نفسه ممارسـة مهنـة الطـب دون علـم ودراية‪.‬‬

‫(‪ )1‬معالم السنن للخطابي جـ‪4‬ص‪.39‬‬


‫(‪ )2‬الطب النبوي البن القيم ص‪.104‬‬
‫( ‪) 159‬‬

‫ثانيا‪ :‬الطبيب الحاذق (الماهر)‪:‬‬


‫الطبيب الحاذق‪ :‬هو الذي يعطي مهنته حقها‪ ،‬ويكون محيطا باألصول الفنية لمهنة‬
‫الطب‪ ،‬ولم يخرج على هذه األصول حتى ال يتعرض للمسؤولية‪ ،‬والطبيب الحاذق قد‬
‫يكون متعديا أو ال‪ ،‬وقد يكون مأذونا له أو ال‪.‬‬

‫اتفقوا على أن الطبيب إذا تعدى على المريض عن عمد فإنه يضمن ما أتلفه بال‬
‫خالف بين الفقهاء‪.‬‬

‫يقول اإلمام ابن القيم رحمه هللا ‪":‬طبيب حاذق أذن له‪ ،‬وأعطى الصنعة حقها‪،‬‬
‫لكنه أخطأت يده‪ ،‬وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه‪ ،‬مثل‪ :‬أن سبقت يد الخاتن إلى‬
‫الك َم َرة(‪ ،)1‬فهذا يضمن؛ ألنها جناية خطأ"(‪.)2‬‬
‫َ‬

‫أ) حالة الذن للطبيب الحاذق‪:‬‬

‫إذا قام الطبيب الحاذق بواجبه متقنا لعملـه بأمانة وإخالص اتجاه مريضه‪ ،‬ولم‬
‫يخطئ أو يقصر أو يتهاون‪ ،‬فإنه ال يضمن؛ إذا كان مأذونا له بالعالج من قبل‬
‫المريض أو وليه‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حينئذ‪ ،‬وإن وقع الضرر على المريض‬ ‫وعليه فإنه ال مسؤولية على الطبيب الحاذق‬
‫بسبب المعالجة؛ ما دام الطبيب مأذونا له بالعالج‪ ،‬ولم يقع منه خطأ أثناء العالج‪ ،‬بل‬
‫حصل الضـرر أو الموت نتيجة أمر ال يمكن تفاديه‪.‬‬

‫وقد اتفق الفقهاء رحمهم هللا ‪ ‬على عدم تضمين الطبيب الحاذق الذي مارس‬
‫مهنته بإذن المريض‪.‬‬

‫وقاسوا ذلك على عدم تضمين الخاتن إذا تلف العضو أو الصبي وقت قيامه بختانه‬
‫في وقت قابل للختـان متحمل له؛ ما دام أنه قد أعطى المهنة حقها‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َك َم َرة‪ :‬رأس الذكر‪ ،‬والجمع‪َ :‬ك َمر‪.‬‬


‫انظر لسان العرب جـ‪5‬ص‪.151‬‬
‫(‪ )2‬الطب النبوي البن القيم ص‪.104‬‬
‫( ‪) 160‬‬

‫يقول اإلمام ابن القيم رحمه هللا ‪"":‬طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن‬
‫يده‪ ،‬فتولد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع‪ ،‬ومن جهة من يطبه تلف العضو أو‬
‫النفس‪ ،‬أو ذهاب صفة‪ ،‬فهذا ال ضمان عليه اتفاقا‪ ،‬فإنها سراية مأذون فيه‪ ،‬وهذا كما‬
‫إذا ختن الصبي في وقت‪ ،‬وسنه قابل للختان‪ ،‬وأعطى الصنعة حقها‪ ،‬فتلف العضو أو‬
‫الصبي‪ ،‬لم يضمن‪ ...،‬وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها‪ ،‬كسراية‬
‫الحد باالتفاق"(‪.)1‬‬

‫ورغم اتفاق الفقهاء رحمهم هللا ‪ ‬على عدم ضمان الطبيب الحاذق‪ ،‬إال أنهم‬
‫اختلفوا في علة رفـع المسؤولية عنه إلى ثالثة آراء‪ ،‬هي كما يلي‪:‬‬

‫الرأي األول‪ :‬ذهب أصحابه إلى أن العلة في عدم ترتيب المسـؤولية يرجع إلى‬
‫سـببين‪ ،‬هما‪ :‬أوال‪ :‬الحاجة الماسة لعمل الطبيب‪ .‬ثانيا‪ :‬إذن المـريض أو وليـه؛ وذلـك‬
‫ألن اإلذن مـع الحاجة إلى عمل الطبيب يؤديان إلى رفع المسؤولية عنه‪.‬‬

‫الرأي الثاني‪ :‬ذهب أصحابه إلى أن العلة في رفع المسؤولية عن الطبيب هي‪ :‬أوال‪:‬‬
‫إتيان الطبيب فعله بإذن المريض‪ .‬ثانيا‪ :‬قصد إصالح ما يوجد بالمريض من علة‪.‬‬

‫الرأي الثالث‪ :‬ذهب أصحابه إلى أن العلة في رفع المسؤولية هي‪ :‬أوال‪ :‬إذن ولي‬
‫األمر له بالتطبيب‪ .‬ثانيا‪ :‬إذن المريض أو وليه‪ .‬ثالثا‪ :‬عدم خطأ الطبيب أو مخالفة‬
‫أصول المهنة‪ .‬وبهذا يمكن القول بأن سبب انتفاء المسؤولية عن الطبيب في الشريعة‬
‫اإلسالمية يقع ضمن أربعة أمور‪ ،‬هي‪ :‬إذن ولي األمر‪ ،‬إذن المريض‪ ،‬قصد الشفاء‪،‬‬
‫عدم وقوع الطبيب في خطـأ‪.‬‬

‫ب) حالة عدم الذن للطبيب الحاذق‪:‬‬

‫إذا كان عالج الطبيب للمريض حاصل بدون إذن المريض أو وليـه‪ ،‬فإن آراء‬
‫الفقهاء انقسمت إلى ثالث اتجاهات‪:‬‬

‫(‪ )1‬زاد المعاد البن القيم جـ‪4‬ص‪.128‬‬


‫( ‪) 161‬‬

‫االتجاه األول‪ :‬يرى أصحابه إلى تحمل الطبيب للمسؤولية نتيجة للضرر الحادث‬
‫عند عدم اإلذن له؛ ألنه تولد عن فعـل غير مـأذون له بـه‪ ،‬ويترتب عليه الضمان‪.‬‬

‫االتجاه الثاني‪ :‬يرى أصحابه عدم مسؤولية الطبيب الحاذق‪ ،‬سواء أذن له أو ال‪،‬‬
‫وذلك على اعتبار أن الطبيب محسن في فعله‪ ،‬وليس معيار المسـؤولية اإلذن أو عدمه‪،‬‬
‫لكن معيار المسؤولية هو الفعل‪ ،‬فما دام الطبيب الحاذق قد أتى بالفعل على أكمل‬
‫وجه‪ ،‬وبذل غاية جهـده‪ ،‬فال تبعة وال مسؤولية عليه‪.‬‬

‫االتجاه الثالث‪ :‬يرى أصحابه تحمل الطبيب للمسؤولية‪ ،‬لكن بشرط أن يكون‬
‫الضـمان فـي بيـت مـال المسلمين؛ كي ال يضيع دم امرئ على سبيل الخطأ‪.‬‬

‫طأا‬ ‫ان لِ ُمؤ ِم ٍن أَن َيقُت َل ُمؤ ِمانا ِإَّال َخ َ‬


‫طأا َو َمن َقَت َل ُمؤ ِمانا َخ َ‬ ‫يقول هللا ‪َ :‬و َما َك َ‬
‫َف َتح ِر ُير َرَقَب ٍة ُمؤ ِمَن ٍة َوِدَي ٌة ُم َسَّل َم ٌة ِإَلى أَهلِ ِه ِإَّال أَن َي َّصَّد ُقوا‪ ...‬اآلية‪.)1(‬‬

‫وأرى أن الراجح هو رأي أصحاب االتجاه الثالث؛ حيث جمعوا بين األمرين فقد‬
‫طمئنوا برأيهم األطباء المعاصرين‪ ،‬وبذلك ال يصيبهم الخوف أثناء ممارسة هذه المهنة‬
‫الشريفة‪ ،‬ال سيما في حاالت الطوارئ‪ ،‬التي تستدعي العالج فو ار مع عدم وجود من‬
‫يأذن لهم بالقيام بالعالج‪.‬‬

‫كما أنهم لم يهدروا ضمان ما أتلف من األعضاء واألنفس بسبب العالج‪ ،‬خاصة‬
‫وأن الطبيب ماهر ومتقن لمهنته‪.‬‬

‫ومما تجدر اإلشارة إليه أنه يوجد بعض من يرى أن الطبيب الحاذق ال يضمن إال‬
‫في الحاالت اآلتية(‪:)2‬‬

‫‪ .1‬إذا كان العالج بدون إذن من المريض أو وليه‪.‬‬

‫(‪( )1‬سورة النساء آية‪.)92 :‬‬


‫(‪ )2‬المسؤولية المدنية للطبيب دراسة مقارنة‪ :‬أ‪ .‬وائل تيسير محمد عساف‪ ،‬ص‪.30‬‬
‫( ‪) 162‬‬

‫‪ .2‬إذا اجتهد الطبيب الحاذق وأخطأ في هذا االجتهاد عند وصفه دواء للمريض عن‬
‫طريق الخطأ فمات المريض‪ ،‬فإن الطبيب يكون ضامنا‪.‬‬
‫‪ .3‬إذا ما أخطأ الطبيب في عالجه للمريض بأن امتدت يده إلى عضو صحيح‪ ،‬أو‬
‫إلى شريان‪ ،‬أو عصب ليس محال للعالج‪ ،‬فإنه يكون ضامنا‪.‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬طبيعة العالقة بين الطبيب والمريض‬
‫اختلفوا حول في التكييف الفقهي للعالقة الموجودة بين الطبيب والمريض وما يترتب‬
‫عليها من أحكام‪ ،‬فذهب بعضهم إلى أنها عقد وكالة‪ ،‬وذهب آخرون إلى عقد مقاولة أو‬
‫استصناع‪ ،‬وذهب فريق ثالث إلى أنها من قبيل الوديعة‪.‬‬

‫والرأي الراجح وهو ما عليه الجمهور أنها من قبيل عقد اإلجارة؛ حيث يكون‬
‫وبناء عليه ال بد من معرفة أهم‬
‫ً‬ ‫المريض فيه هو المستأجر‪ ،‬والطبيب هو المؤجر‪،‬‬
‫أحكام اإلجارة‪ ،‬هي كما يلي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬تعريف عقد الجارة‪:‬‬

‫الجارة لغة‪ :‬بكسر الهمزة على المشهور‪ ،‬وهي‪ :‬اسم لألجرة‪ ،‬وهي اسم لكراء‬
‫األجير(‪.)2‬‬

‫والجارة اصطالحا‪ :‬هي عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض(‪.)3‬‬

‫ثانيا‪ :‬مشروعية الجارة‪:‬‬

‫اتفقوا على مشروعية اإلجارة في الجملة‪ ،‬واستدلوا بما يلي من الكتاب والسنة‬
‫ورُه َّن‪ ،)1(‬وقوله‬ ‫وه َّن أ ُ‬
‫ُج َ‬ ‫واإلجماع؛ فمن الكتاب‪ :‬قول هللا ‪َ:‬فِإ ْن أ َْر َ‬
‫ض ْع َن َل ُك ْم َفآتُ ُ‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور محمود عفيفي عفيفي حسن‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة‬
‫والقانون بالقاهرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬لسان العرب جـ‪4‬ص‪.10‬‬
‫(‪ )3‬المغني البن قدامة جـ‪5‬ص‪.322‬‬
‫( ‪) 163‬‬

‫ال ِإِّني أ ُِر ُيد‬


‫ين‪َ ‬ق َ‬
‫ِ‬
‫ْج ْر َت اْلَق ِو ُّي األَم ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫استَأْج ْرهُ إ َّن َخ ْي َر َم ِن ْ‬
‫استَأ َ‬
‫ِ‬
‫‪َ:‬قاَل ْت ِإ ْح َد ُ‬
‫اه َما َيا أ ََبت ْ‬
‫ْج َرِني ثَ َم ِاني ِح َج ٍج َفِإ ْن أ َْت َم ْم َت َع ْش ًار َف ِم ْن‬
‫َن تَأ ُ‬
‫ِ‬
‫َن أ ُْنك َح َك ِإ ْح َدى ْاب َنتَ َّي َهاتَْي ِن َعَلى أ ْ‬
‫أْ‬
‫َ‬
‫ِع ْنِد َك‪.)2(‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬فهذه اآليات الكريمة واضحة الداللة على جواز اإلجارة ومشروعيتها؛‬
‫حيث أمر هللا ‪ ‬األزواج بإعطاء األجر لمن قمن من النساء المطلقات بإرضاع‬
‫أبنائهم‪ ،‬كما حكى القرآن الكريم قصة سيدنا موسى ‪ ‬مع شعيب واستئجاره؛ مما يدل‬
‫على مشروعية اإلجارة وجوازها؛ ألنه لم يوجد في الشريعة اإلسالمية ما ينسخها‪.‬‬

‫ومن السنة النبوية‪ :‬ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي ‪ ‬قال‪َ ":‬ق َ‬
‫ال‬
‫القي ِ‬‫ِ‬
‫َك َل‬ ‫طى ِبي ثُ َّم َغ َد َر‪َ ،‬وَرُج ٌل َب َ‬
‫اع ُح ًّار َفأ َ‬ ‫َع َ‬
‫امة‪َ :‬رُج ٌل أ ْ‬ ‫ص ُم ُه ْم َي ْوَم َ َ‬
‫ّللاُ ‪ :‬ثَالَثَ ٌة أ ََنا َخ ْ‬‫َّ‬
‫َج َرهُ"(‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْج َر أَ ِج ًا‬
‫استَ ْوَفى م ْن ُه َوَل ْم ُي ْعط أ ْ‬
‫ير َف ْ‬ ‫استَأ َ‬
‫ثَ َم َن ُه‪َ ،‬وَرُج ٌل ْ‬
‫وجه الداللة‪ :‬هذا الحديث يبين لنا جواز اإلجارة؛ حيث لم ينكر المولى ‪ ‬أو النبي‬
‫‪ ‬على الرجل إجارته‪ ،‬وإنما كانت الخصومة بسبب عدم إيفائه لحقوق األجير‪.‬‬

‫ومن الجماع‪ :‬فقد نقل ابن قدامة اإلجماع على مشروعيتها؛ حيث قال رحمه هللا‬
‫‪ ":‬وأجمع أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز اإلجارة‪ ،‬إال ما يحكى عن‬
‫عبد الرحم ن بن األصم أنه قال‪ :‬ال يجوز ذلك؛ ألنه غرر‪ .‬يعني‪ :‬أنه يعقد على منافع‬
‫لم تخلق‪ ،‬وهذا غلط ال يمنع انعقاد اإلجماع الذي سبق في األعصار"(‪.)4‬‬

‫ثالثا‪ :‬أركان عقد الجارة‪ :‬لإلجارة عدة أركان هي كما يلي‪:‬‬

‫(‪( )1‬سورة الطالق‪.)6 :‬‬


‫(‪( )2‬سورة القصص‪ 26 :‬ــــ ‪.)27‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬البيوع‪ ،‬باب‪ :‬إثم من باع حرا‪ ،‬رقم‪ ،)2227(:‬جـ‪3‬ص‪.82‬‬
‫(‪ )4‬المغني البن قدامة جـ‪5‬ص‪.321‬‬
‫( ‪) 164‬‬

‫الركن األول‪ :‬العاقدان‪ :‬يشترط في العاقدين أن يكون كل واحد منهما كامل األهلية‪،‬‬
‫سواء كان الطبيب أو المريض‪ ،‬فال يصح العقد من صبي غير مميز أو مجنون أو‬
‫معتوه‪.‬‬

‫فإذا كان المريض غير كامل األهلية‪ ،‬انتقل حق إجراء العقد لوليه على حسب قوة‬
‫القرابة‪ ،‬أما الصبي المميز الذي يعقل الخطاب والجواب فيمكن أن يكون عاقدا؛ إذا أذن‬
‫له وليه بذلك‪ ،‬واإلذن يعرف بالقرائن‪ ،‬كأن يأتي للطبيب ومعه المال‪.‬‬

‫الركن الثاني‪ :‬المعقود عليه‪ :‬والمعقود عليه في عقد اإلجارة هو المنفعة‪ ،‬والتي‬
‫تتمثل هنا في عالج المريض من مرضه‪ ،‬ويشترط في المنفعة عدة شروط‪ ،‬منها‪:‬‬

‫‪ .1‬أن يكون مقدو ار عليها‪ :‬أي‪ :‬أن يكون الطبيب قاد ار على معالجة هذا المرض؛‬
‫لكونه داخال تحت تخصصه‪ ،‬أو عنده معرفة به‪ ،‬أما إذا لم يكن قاد ار على معالجة‬
‫هذا المرض بأن كان المرض في غير تخصصه أو ال علم له به‪ ،‬فال يجوز له‬
‫اإلقدام على المعالجة‪ ،‬وإال فهو ضامن‪ ،‬كما أنه ال يستحق األجرة في هذه الحالة‬
‫شرعا‪.‬‬
‫‪ .2‬أن تكون المنفعة مشروعة‪ :‬فال يجوز أن تكون المنفعة التي طلبها المريض منفعة‬
‫غير مشروعة‪ ،‬كأن يطلب المريض من الطبيب إجراء عملية محرمة شرعا‪ ،‬أو‬
‫يطلب منه كتابة دواء محظور‪ ،‬أو غير مناسب لحالته‪.‬‬
‫الركن الثالث‪ :‬الصيغة (الذن الطبي)‪ :‬إذا كانت العالقة بين الطبيب والمريض هي‬
‫عقد إجارة‪ ،‬فهذا يعني أنه ال بد من وجود الرضا من الطرفين‪ ،‬وهو ما يعبر عنه‬
‫باإليجاب والقبول (االتفاق اللفظي على التداوي)‪.‬‬

‫وقد يقصد باإلذن الطبي‪ :‬موافقة المريض على إجراء ما يراه الطبيب مناسبا له من‬
‫كشف‪ ،‬وتحاليل‪ ،‬ووصف للدواء‪ ،‬وغير ذلك من اإلجراءات الطبية التي تلزم لتشخيص‬
‫المرض وعالجه‪.‬‬
‫( ‪) 165‬‬

‫واإلذن الطبي عقد بين الطبيب والمريض يتعهد الطبيب بموجبه أن يعالج المريض‬
‫وفق األصول المتعارف عليها عند أهل الطب‪.‬‬

‫ويتم هذا العقد ضمنا بمجرد مجيء المريض إلى الطبيب وتسليم نفسه له؛ لذا ال‬
‫يجوز للطبيب أن يتصرف في جسد المريض بغير إذنه إال في حاالت معينة يأتي‬
‫ذكرها‪ ،‬وما عدا ذلك يبقى على أصل عدم الجواز؛ ألنه اعتداء على خصوصية الغير‪،‬‬
‫وسدا لذريعة الفساد التي قد تنتج عن الفحص ونحوه بدون إذن المريض أو وليه‪.‬‬

‫ويجب على الطبيب أن يحسن استخدام هذا اإلذن‪ ،‬ويستشعر األمانة الملقاة على‬
‫عاتقه‪ ،‬وال يظن بأن إعطاء اإلذن له من قبل المريض يعني إطالق الحرية له ليفعل به‬
‫ما يشاء‪ ،‬بل يحرص على منفعة المريض وعدم تعريضه ألية أضرار‪.‬‬

‫كما أنه يجب على الطبيب قبل الحصول على اإلذن الطبي من المريض أن يشرح‬
‫له بوضوح كل اإلجراءات الطبية‪ ،‬التي سوف يجريها له؛ كي يكون المريض على بينة‬
‫من أمره ويعطي اإلذن عن فهم واقتناع‪.‬‬

‫أ) موقف المريض من الذن الطبي‪ :‬اإلذن الطبي بالنسبة للمريض له حالتان‪ ،‬هما‬
‫كما يلي‪:‬‬
‫الحالة األولى‪ :‬ال يجب فيها اإلذن الطبي من المريض‪ ،‬وهذه تكون في الحاالت‬
‫المرضية التي ال يقطع أهل الطب بأن العالج يشفيها‪ ،‬وإذا امتنع المريض عن اإلذن‬
‫يعد قاتال لنفسه؛ ألن الشفاء في هذه الحاالت أمر غير‬
‫ومات بسبب المرض فال ّ‬
‫مقطوع به‪ ،‬بخالف من ترك الطعام والشراب حتى هلك(‪.)1‬‬

‫الحالة الثانية‪ :‬يجب فيها اإلذن‪ ،‬ويكون هذا في األمراض التي يغلب الهالك‬
‫بسببها أو تلف عضو من األعضاء كالجريح جرحا بليغا‪ ،‬والمصاب بمرض يغلب فيه‬

‫(‪ )1‬تبيين الحقائق للزيلعي جـ‪6‬ص‪.33‬‬


‫( ‪) 166‬‬

‫الهالك‪ ،‬فإذا لم يأذن في مثل هذه الحالة فإنه آثم؛ لقول هللا ‪﴿:‬وال تلقوا بأيديكم إلى‬
‫التهلكة﴾(‪.)1‬‬

‫ب) صحة الذن الطبي‪ :‬ال يجوز الحصول على اإلذن الطبي باإلكراه أو باإلغراء‬
‫المادي‪ ،‬فال يجوز استغالل حالة االحتياج عند بعض األشخاص كالمساكين‬
‫والفقراء والمشردين‪ ،‬فيغريهم األطباء ببعض المال من أجل إجراء البحوث والتجارب‬
‫عليهم‪.‬‬

‫ج) ما يستثنى من الذن الطبي‪ :‬يستثنى من اإلذن الطبي بعض الحاالت المرضية‪،‬‬
‫وهي على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ .1‬الحاالت الخطرة التي تهدد حياة المريض بالموت‪ ،‬أو تهدده بتلف عضو من‬
‫أعضائه‪ ،‬ويكون المريض فاقدا للوعي فيها‪ ،‬أو تكون حالته النفسية ال تسمح بأخذ‬
‫إذنه‪ ،‬كما أنه ال يكون وليه حاض ار ألخذ اإلذن منه‪.‬‬
‫‪ .2‬الحاالت التي تقتضيها المصلحة العامة كاألمراض المعدية‪ ،‬التي تهدد المجتمع‬
‫بانتشار الوباء‪ ،‬فيجوز فيها للسلطات الصحية أن تجبر فردا أو جماعة من الناس‬
‫على العالج أو تعاطي وسيلة من وسائل الوقاية كالتحصين ونحوه مادام في ذلك‬
‫مصلحة مشروعة‪.‬‬
‫ففي مثل هذه الحاالت يجب على الطبيب أن يباشر العالج دون انتظار اإلذن؛‬
‫إنقاذا للمريض‪ ،‬ومنعا لنزول الضرر به‪ ،‬أو درًء للمفسدة عن المجتمع(‪.)2‬‬

‫د) حكم اشتراط الشفاء‪ :‬اختلفوا في حكم اشتراط المريض للشفاء على رأيين‪ ،‬هما كما‬
‫يلي‪:‬‬

‫(‪ )1‬الموسوعة الطبية الفقهية ص‪.53‬‬


‫(‪)2‬الموسوعة الطبية الفقهية ص‪.53‬‬
‫( ‪) 167‬‬

‫الرأي األول‪ :‬ذهب أصحابه إلى عدم صحة هذا الشرط؛ ألن طبيعة العمل الطبي‬
‫تأبى مثل هذا الشرط‪ ،‬وذلك لما يعتري العمل الطبي من احتماالت ليس في وسع‬
‫وبناء عليه فإن التزام الطبيب اتجاه‬
‫ً‬ ‫الطبيب تالفيها مهما كان حريصا أو خبيرا‪،‬‬
‫المريض إنما هو التزام بتحقيق الشفاء(‪.)1‬‬

‫الرأي الثاني‪ :‬ذهب بعض الفقهاء إلى جواز اشتراط المريض للشفاء وضمان‬
‫السالمة(‪.)2‬‬

‫ه) أنواع الذن الطبي‪ :‬ينقسم اإلذن الطبي إلى نوعين‪ ،‬هما كما يلي‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬إذن طبي خاص‪ :‬وهو الذي يقوم المريض بتفويض الطبيب فيه‬
‫بإجراء طبي محدد كاستئصال اللوزتين أو عالج مرض معين في بدنه‪.‬‬

‫النوع الثاني‪ :‬إذن طبي عام‪ :‬وهو الذي يقوم المريض فيه بتفويض الطبيب‬
‫باإلجراء الطبي الذي يراه مناسبا‪.‬‬

‫ويستحب أن يكون اإلذن عاما في العمليات الجراحية‪ ،‬فقد يجد الطبيب بعد شروعه‬
‫في العالج بحالة غير متوقعة؛ مما يحتم عليه القيام بأمر ما‪ ،‬فيضطر إلجراء معين لم‬
‫يأذن به المريض إن كان اإلذن محددا‪.‬‬

‫وبناء على هذا إذا بدأ الطبيب العالج بإذن خاص‪ ،‬ثم وجد نفسه مضط ار إلجراء‬
‫ً‬
‫آخر‪ ،‬فإن كان ولي أمر المريض حاض ار أخذ اإلذن منه‪ ،‬وإال فإنه ينظر في حالة‬
‫المريض‪ ،‬هل يمكن التأجيل أم ال؟‬

‫فإن كانت ال يمكن التأجيل أو كان في تركها خطر على حياة المريض جاز له‬
‫إتمام العالج بما يراه مناسبا‪ ،‬دون انتظار اإلذن؛ أخذا بأحكام الضرورة‪ ،‬وفي هذه الحال‬
‫يجب على الطبيب أن يسجل في تقرير العالج األسباب‪ ،‬التي دعته لهذا اإلجراء الذي‬
‫لم يأخذ اإلذن به‪.‬‬

‫(‪ )1‬مغني المحتاج جـ‪2‬ص‪.332‬‬


‫(‪ )2‬شرح الخرشي على خليل جـ‪7‬ص‪ ،61‬اإلنصاف جـ‪6‬ص‪.75‬‬
‫( ‪) 168‬‬

‫أما إذا وجد الطبيب أن الحالة يمكن تأجيل عالجها فهو مخير بتأجيلها أو إتمامها‪،‬‬
‫فإن أتمها فليس عليه شيء ما دام لها مسوغ طبي‪ ،‬ال سيما إذا كان األمر فيه مصلحة‬
‫للمريض‪ ،‬أو كان تأجيلها يعرض المريض لبعض المضاعفات المحتملة (‪.)1‬‬

‫الركن الرابع‪ :‬األجرة‪ :‬فيجوز للطبيب أخذ األجرة على عمله؛ ألنها في مقابل ما‬
‫يبذله الطبيب من عمل‪ ،‬ويشترط في األجرة الشروط التالية‪:‬‬

‫‪ .1‬أن تكون األجرة متقومة‪ :‬أي‪ :‬لها قيمة‪ ،‬فإذا كانت ال قيمة لها شرعا فال يصح أن‬
‫تكون أجرة؛ ألنها ال تكون حينئذ ماال (‪.)2‬‬
‫‪ .2‬أن تكون األجرة معلومة القدر والجنس‪.‬‬
‫‪ .3‬أن تكون األجرة مقدو ار على تسليمها‪.‬‬
‫ويوجد بعض الفوارق التي تتعلق بأجرة الطبيب بحسب مكان عمله على التفصيل‬
‫اآلتي‪:‬‬

‫‪ .1‬الطبيب العامل لحسابه الخاص‪ :‬يستحب له أن يعتدل في تحصيل األجرة‪ ،‬ال سيما‬
‫إذا كان المريض من الفقراء والمساكين‪.‬‬
‫‪ .2‬الطبيب العامل في مرفق صحي عام‪ :‬يخصص له في العادة راتب محدد‪ ،‬وبالتالي‬
‫ال يجوز له أن يتقاضى أج ار آخر من المريض‪ ،‬سواء قدم له على سبيل الهدية أو‬
‫غيرها‪.‬‬
‫أ) وقت استحقاق الطبيب لألجرة‪ :‬إذا اشترط الطبيب أو المريض تعجيل األجرة أو‬
‫تأجيلها فالعقد على ما اتفقا عليه‪ ،‬فإذا لم يشترطا شيئا فإنه يرجع إلى العرف‪ ،‬فإن‬
‫كان العرف تقديم األجرة وجب تقديمها‪ ،‬وإن كان العرف بتأجيل األجرة فليس‬
‫للطبيب إال انتظار األجل‪.‬‬

‫(‪ )1‬الموسوعة الطبية الفقهية ص‪.55‬‬


‫(‪ )2‬المنثور في القواعد للزركشي جـ‪3‬ص‪.222‬‬
‫( ‪) 169‬‬

‫ولكن ال بد وأن يعلم أنه ال يستحق الطبيب األجرة إال بإنجازه للعمل المطلوب‬
‫منه(‪ ،)1‬فإذا اتفقا على األجر ودفعه المريض ولم ينجز الطبيب عمله وجب عليه رد‬
‫األجرة؛ ألنها في مقابل المنفعة‪ ،‬والطبيب في هذه الحالة لم يقدم شيئا يستحق في مقابله‬
‫األجرة‪ ،‬فال يجوز له أخذها‪.‬‬

‫ب) التزامات الطبيب‪ :‬فقد يكون الطبيب مؤج ار لمنافعه وقتا معينا‪ ،‬كأن يعمل في‬
‫المرافق العامة أو في المستشفيات الحكومية‪ ،‬فيؤدي عمله مدة معينة من الزمن في‬
‫اليوم الواحد‪ ،‬وهذا ما يسميه الفقهاء باألجير الخاص‪.‬‬
‫وقد يؤجر الطبيب منافعه دون التقيد بزمن معين‪ ،‬وإنما يكون االتفاق على إنجاز‬
‫عمل معين‪ ،‬وهذا يسميه الفقهاء باألجير المشترك‪.‬‬

‫وفي كلتا الحالتين يكون على الطبيب بعض االلتزامات أهمها ما يلي‪:‬‬

‫‪ .1‬تسليم نفسه‪ :‬فيجب على الطبيب إن كان أجي ار مشتركا القيام بالعمل المتعاقد عليه‪،‬‬
‫وال يجوز له االمتناع من ذلك‪ ،‬وإن كان أجي ار خاصا كان تسليم نفسه للعمل في‬
‫محل المستأجر تسليما معتبرا‪.‬‬
‫‪ .2‬إتقان العمل‪ :‬يجب على العامل أن يراعي في أدائه العمل اإلتقان‪.‬‬
‫‪ .3‬تنفيذ أوامر صاحب العمل‪.‬‬
‫‪ .4‬عدم إفشاء أسرار رب العمل‪ :‬وقد سبق الكالم عليه‪.‬‬
‫‪ .5‬المحافظة على ما يعمل به أو فيه‪ ،‬فيجب على الطبيب المحافظة على اآلالت‬
‫واألدوات التي تسلم إليه من أجل العمل بها‪ ،‬فيحافظ عليها من العطل‪ ،‬ويعتني بها‬
‫عناية تامة كأنها ملكه؛ ألن اإلسالم يعتبره أمينا على ما يؤتمن عليه(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬حاشية رد المحتار جـ‪5‬ص‪ ،40‬روضة الطالبين جـ‪5‬ص‪.174‬‬


‫(‪ )2‬اإلجارة الواردة على عمل اإلنسان ص‪.249‬‬
‫( ‪) 170‬‬

‫‪ .6‬عدم انشغاله وقت العمل‪ :‬فال يجوز للطبيب إن كان أجي ار خاصا أن يعمل لغير‬
‫مستأجره األول ضمن األوقات التي خصصها له‪ ،‬فإن فعل ذلك كان لرب العمل أن‬
‫يخصم من أجرة الطبيب بقدر الزمن الذي اشتغل فيه مع الغير كما أنه يأثم‬
‫لذلك(‪.)1‬‬
‫‪ .7‬التزام الطبيب بضمان ما يتلفه‪ :‬وقد اتفق الفقهاء على أن الطبيب إذا كان أجي ار‬
‫خاصا فإنه يعتبر أمينا‪ ،‬وبالتالي ال يضمن ما تلف أو تعيب إال في حالة التقصير‬
‫أو التعدي(‪.)2‬‬
‫كما اتفق الفقهاء على ضمان الطبيب إن كان أجي ار مشتركا في حالة التعدي‬
‫والتفريط(‪ ،)3‬وعدم ضمانه إن ثبت عدم التعدي والتقصير(‪.)4‬‬

‫ج) انتهاء عقد الجارة‪ :‬اتفق الفقهاء على أن عقد اإلجارة عقد الزم لكل من المؤجر‬
‫والمستأجر(‪.)5‬‬
‫وبناء عليه فليس ألي طرف منهما فسخ عقد اإلجارة اختيا ار منه‪ ،‬والتخلص من‬
‫ً‬
‫آثاره في أي وقت شاء‪ ،‬فمتى تم عقد اإلجارة مستوفيا أركانه وشروطه ترتب عليه‬
‫بطريق اللزوم تمليك المؤجر لألجرة‪ ،‬وتمليك المستأجر لمنافع العين المؤجرة(‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬حاشية رد المحتار جـ‪6‬ص‪.55‬‬


‫(‪ )2‬بدائع الصنائع جـ‪4‬ص‪ ،308‬الشرح الكبير للدردير جـ‪4‬ص‪ ،24‬مغني المحتاج جـ‪2‬ص‪،474‬‬
‫كشاف القناع جـ‪4‬ص‪47‬‬
‫(‪ )3‬المراجع السابقة‬
‫(‪ )4‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )5‬البحر الرائق جـ‪8‬ص‪ ،3‬التاج واإلكليل جـ‪3‬ص‪ ،309‬المهذب جـ‪1‬ص‪ ،407‬شرح منتهى‬
‫اإلرادات جـ‪2‬ص‪.263‬‬
‫(‪ )6‬نهاية المحتاج جـ‪5‬ص‪ ،410‬شرح منتهى اإلرادات جـ‪2‬ص‪ ،263‬الوسيط في عقد اإلجارة‬
‫ص‪.409‬‬
‫( ‪) 171‬‬

‫وينتهي عقد الجارة ببعض األسباب‪ ،‬هي كما يلي‪:‬‬

‫‪ .1‬القالة‪ :‬فإذا اتفق المتعاقدان (المريض والطبيب) أو (الطبيب ورب العمل) على‬
‫فسخ عقد اإلجارة كان لهما ذلك‪.‬‬
‫‪ .2‬انتهاء المدة‪ :‬فإذا حدد عقد اإلجارة بغاية فإنه ينتهي بانتهاء غايته كما ذكره‬
‫الفقهاء؛ ألن الثابت إلى غاية ينتهي عند وجود تلك الغاية(‪.)1‬‬
‫وبناء على ما تقدم فإنه ال يجوز ألي من العاقدين أن يفسخ العقد محدد المدة قبل‬
‫انتهاء مدته‪ ،‬إال إذا وجد سبب مشروع لذلك(‪.)2‬‬

‫وبالتالي إذا كانت المدة محددة بوقت معين‪ ،‬كما لو اتفق الطبيب ورب العمل على‬
‫أن يعمل معه في مرفقه الصحي كل شهر بكذا ولم يحدد المدة‪ ،‬ففي هذه الحالة ينتهي‬
‫العقد بانتهاء الشهر بإرادة أحدهما المنفردة‪ ،‬وإن لم يرض الطرف اآلخر(‪.)3‬‬

‫‪ .3‬العيب‪ :‬يجوز الفسخ بالعيب‪ ،‬وهذا كما لو ظهر في الطبيب عجز يمنعه من أداء‬
‫عمله على أكمل وجه‪ ،‬كما لو كان أعمى أو فاقدا لعضو من األعضاء التي له‬
‫أهميتها في أداء العمل(‪.)4‬‬
‫‪ .4‬العذر‪ :‬يجوز فسخ عقد اإلجارة بالعذر‪ ،‬كأن يترتب على تنفيذ العقد ضرر بأحد‬
‫العاقدين‪.‬‬
‫وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا استأجر إنسان من يقلع ضرسه فسكن الوجع قبل قلعه‬
‫فإن اإلجارة تنفسخ؛ ألن قلعه ال يجوز‪ ،‬وألن في قلعه إتالف جزء من آدمي وهو محرم‪،‬‬
‫وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضر ار(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬بدائع الصنائع ج‪4‬ص‪.327‬‬


‫(‪ )2‬اإلجارة الواردة على عمل اإلنسان ص‪ ،339‬الوسيط في عقد اإلجارة ص‪.415‬‬
‫(‪ )3‬اإلنصاف للمرداوي جـ‪6‬ص‪.21‬‬
‫(‪ )4‬روضة الطالبين جـ‪5‬ص‪.239‬‬
‫(‪ )5‬المبسوط للسرخسي جـ‪16‬ص‪ ،2‬مغني المحتاج جـ‪2‬ص‪ ،456‬المغني البن قدامة جـ‪6‬ص‪.133‬‬
‫( ‪) 172‬‬

‫وبناء على ما سبق ذكره من الحديث حول مشروعية اإلجارة وأركانها فإنه يتبين لنا‬
‫أن العالقة القائمة بين الطبيب والمريض تقوم على أساس عقد اإلجارة؛ لذا ذكرها‬
‫الفقهاء رحمهم هللا ‪ ‬ضمن باب اإلجارة‪.‬‬

‫يقول ابن رشد رحمه هللا ‪":‬والجعل‪ :‬هو اإلجارة على منفعة مظنون حصولها‪،‬‬
‫مثل‪ :‬مشارطة الطبيب على البرء"(‪.)1‬‬

‫ويقول ابن قدامة رحمه هللا ‪":‬ويجوز االستئجار على الختان‪ ،‬والمداواة‪ ،‬وقطع‬
‫السلعة‪ ،‬ال نعلم فيه خالفا؛ وألنه فعل يحتاج إليه‪ ،‬مأذون فيه شرعا‪ ،‬فجاز االستئجار‬
‫عليه‪ ،‬كسائر األفعال المباحة"(‪.)2‬‬

‫‪ ))1‬بداية المجتهد البن رشد جـ‪4‬ص‪.20‬‬


‫‪ ))2‬المغني البن قدامة جـ‪5‬ص‪.398‬‬
‫( ‪) 173‬‬

‫الوحدة السادسة‬

‫وتحتوى على‪:‬‬

‫التشريح‪.‬‬ ‫الموضوع األول‪:‬‬

‫االستنساخ‪.‬‬ ‫الموضوع الثاني‪:‬‬

‫التداوي بالقرآن‬ ‫الموضوع الثالث‪:‬‬

‫التداوي بالمحرمات‪.‬‬ ‫الموضوع الرابع‪:‬‬

‫الهندسة الوراثية‪.‬‬ ‫الموضوع الخامس‪:‬‬

‫وكلها من إعداد دكتور‪ /‬عمرو محمد غانم مدرس الفقه المقارن ‪ -‬كلية الشريعة‬
‫والقانون ‪ -‬القاهرة‬
‫( ‪) 174‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع األول‪ :‬التشريح‬
‫تعريف التشريح‪:‬‬

‫التشريح هو العلم الذي يختص بدراسة تركيب جسم اإلنسان ودراسة العالقة‬
‫‪2‬‬
‫بين أجهزة الجسم المختلفة خالل مراحل النمو‬
‫حكم التشريح‪ :‬إن تشريح الميت قد يكون الغرض منه معرفة سبب الوفاة‪ ،‬أو معرفة نوع‬
‫المرض المسبب للوفاة‪ ،‬وقد يكون الغرض منه التعليم‪ ،‬ولذا فإنه يجب التعرض للحكم‬
‫الشرعي للتشريح لتلك األغراض‪.‬‬
‫لقد اتفق الفقهاء المعاصرون على مشروعية التشريح الجنائي لمعرفة سبب‬
‫‪3‬‬
‫الوفاة‪ ،‬وعلى مشروعية التشريح المرضي لمعرفة نوع المرض‬
‫بينما اختلف الفقهاء في جواز التشريح لغرض التعليم على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يجوز تشريح جثث الموتى لغرض تعلم الطب‪ ،‬وبه صدرت الفتوى من‬
‫الجهات العلمية التالية‪ :‬لجنة اإلفتاء باألزهر بمصر‪ ،4‬المجمع الفقهي اإلسالمي بمكة‬
‫المكرمة‪ ،5‬هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية‪ ،1‬لجنة اإلفتاء بالمملكة األردنية‬
‫‪2‬‬
‫الهاشمية‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمرو محمد غانم‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬ياسر سعيد شافعي‪ :‬أضواء على تشريح جسم اإلنسان‪ ،‬بدون دار وسنة نشر صـ‪5‬‬
‫(‪ (3‬انظر فتوى الشيخ عبد المجيد سليم الصادرة عن دار اإلفتاء المصرية في شعبان ‪ 1356‬هجرية‬
‫‪ 31 -‬أكتوبر ‪ 1937‬م‪ -‬المجلد الرابع ص ‪ ،1331‬وفتوى الشيخ أحمد هريدى‪ ،‬الصادرة عن دار‬
‫اإلفتاء المصرية فى ‪ 23‬من أكتوبر سنة ‪ 1966‬م المجلد السادس ص ‪).2278‬‬
‫وكذلك فتوى الشيخ عطية صقر عن دار اإلفتاء مايو ‪.1997‬‬
‫(‪ )4‬انظر فتوى الشيخ جاد الحق على جاد الحق الصادرة عن دار اإلفتاء المصرية في محرم‬
‫‪1400‬هـ ‪ 5 -‬ديسمبر ‪ 1979‬م‪ -‬المجلد العاشر ص ‪ ،3707-3705‬وكذلك فتوى الشيخ عطية‬
‫صقر عن دار اإلفتاء مايو ‪.1997‬‬
‫‪ 5‬القرار رقم (‪ )1‬الدورة العاشرة المنعقدة في مكة المكرمة‪ ،‬في الفترة من يوم السبت ‪24‬صفر‬
‫‪1408‬هـ الموافق ‪ 17‬أكتوبر ‪1987‬م إلى يوم األربعاء ‪ 28‬صفر ‪1408‬هـ الموافق ‪ 21‬أكتوبر‬
‫‪1987‬م‪.‬‬
‫( ‪) 175‬‬

‫القول الثاني‪ :‬ال يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعليم‪ ،‬وهو لجماعة من العلماء‬
‫والباحثين‪ ،‬منهم‪ :‬الشيخ محمد بخيت المطيعي‪ ،3‬والشيخ محمد عبد الوهاب بحيري‪.4‬‬

‫أدلة األقوال‪:‬‬

‫أدلة القول األول‪ :‬استدل القائلون بجواز التشريح لغرض التعلم بما يأتي‪:‬‬

‫‪ -1‬عن خالد بن معدان قال‪ :‬لما انهزمت الروم يوم أجنادين انتهوا إلى موضع ال‬
‫يعبره إال إنسان‪ ،‬فجعلت الروم تقاتل عليه‪ ،‬وقد تقدموه‪ ،‬وعبروه‪ ،‬فتقدم هشام بن‬
‫فسدها‪ .‬فلما انتهى‬
‫العاص‪ ،‬فقاتلهم عليه حتى قتل‪ ،‬ووقع على تلك الثلمة ّ‬
‫المسلمون إليها هابوا أن يوطئوه الخيل‪ ،‬فقال عمرو ابن العاص‪ :‬أيها الناس‪،‬‬
‫إن هللا قد استشهده‪ ،‬ورفع روحه‪ ،‬وإنما هو جثة‪ ،‬فأوطئوه الخيل‪ ،‬ثم أوطأه هو‬
‫وتبعه الناس حتى قطعوه‪ ،‬فلما انتهت الهزيمة‪ ،‬ورجع المسلمون إلى العسكر‬

‫(‪ (1‬القرار رقم ‪ 47‬بتاريخ ‪ 1396 / 8 / 20‬هـ الدهورة التاس ِعة ل َمج ِلس هيئة ِكبار العُلَماء ال ُمنع ِقدة‬
‫في َمدينة الطائِف‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر فتوى لجنة اإلفتاء في المملكة األردنية الهاشمية بتاريخ ‪ 20‬جمادى األولى سنة ‪ 1397‬هـ‬
‫الموافق ‪1977/5/18‬م‪ ..‬وقد كانت اللجنة تتكون في تلك الفترة من كل من الشيخ محمد عبده هاشم‪،‬‬
‫والشيخ محمد أبو سردانه‪ ،‬والدكتور عبد السالم العبادي‪ ،‬والدكتور إبراهيم زيد الكيالني‪ ،‬والدكتور‬
‫ياسين درادكة‪ ،‬والشيخ عز الدين الخطيب‪ ،‬والشيخ أسعد بيوض التميمي‪.‬‬
‫(‪ (3‬فتوى الشيخ المطيعي بمجلة األزهر المجلد السادس ‪ 632 – 628/9‬رمضان ‪1354‬هـ‬
‫‪1935‬م‪.‬‬

‫(‪ )4‬كان عضو هيئة كبار العلماء‪ ،‬وكان أستاذا بكلية الشريعة‪.‬‬
‫انظر مجلة األزهر المجلد السادس ‪ 632 ،627/9‬رمضان ‪1354‬هـ ‪1935‬م‬
‫( ‪) 176‬‬

‫‪1‬‬
‫ط ٍع‬
‫كر عمرو بن العاص‪ ،‬فجمع لحمه وأعضاءه وعظامه‪ ،‬وحمله في َن ْ‬
‫َف َو َارُاه‪.2‬‬
‫وجه الداللة‪ :‬إن في ظاهر وطء هشام بن العاص باألقدام وتمزيق جسده إهانة‪ ،‬لكن‬
‫قدم فيه عمرو بن العاص المصَلحة الر ِ‬
‫اجحة التي تستدعي اإلذن فيما ال يجوز في‬ ‫َ‬
‫أوقات أخرى‪ ،‬وقد أقره الصحابة على ذلك‪ .‬وكذلك التشريح ظاهره إهانة الميت لما فيه‬
‫من تمزيق جثته‪ ،‬لكن تقدم فيه المصلحة العامة لألمة على المصلحة الخاصة للميت‬
‫بعدم هتك حرمته‪ ،‬وكذلك في التشريح ألجل التعليم‪ ،‬تقدم فيه المصلحة العامة‪ ،‬التي‬
‫تعود بالنفع على المجتمع من التعليم‪- ،‬وذلك بإنقاذ المريض من آالم األمراض‬
‫واألسقام‪،-‬على المصلحة الخاصة للميت بعدم هتك حرمته‪.‬‬
‫‪ -2‬ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب هذه القاعدة تدل على مشروعية التشريح‬
‫لألغراض السابقة‪ ،‬فإن تعلم الجراحة الطبية فرض كفاية‪ ،‬أي أنها واجبة على األمة‪،‬‬
‫وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة لمن أراد مزاولة الطب‪ ،‬كمعرفة األعضاء وأماكنها‬
‫‪3‬‬
‫علمياً وعملياً‪ ،‬فإنه يكون واجبا من هذا الوجه‬

‫أدلة القول الثاني‪:‬‬

‫طاء ِب َساط من اْلجلد‪ ،‬وكان يستعمل أيضا لحمل بعض األشياء‬ ‫النون وفتح ال ّ‬‫( ) نطع‪ :‬بكسر ّ‬
‫‪1‬‬

‫ف والنطع أبو‬ ‫السي ِ‬


‫لي ِب َّ ْ‬ ‫كالطعام وغيره‪ ،‬وكثي ار َما كان يقتل َفوقه اْل َم ْح ُكوم َعَل ْي ِه ِباْلَق ْت ِل‪ ،‬لذا يقال‪ :‬ع‬
‫َ ّ‬
‫عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم (الفراهيدي) (المتوفى‪170 :‬هـ)‪ :‬العين الناشر‪ :‬دار‬
‫ومكتبة الهالل ‪ ،16/2‬مجمع اللغة العربية بالقاهرة‪ ،‬المعجم الوسيط ‪930/2‬‬
‫(‪ )2‬أبو عبد هللا محمد بن سعد بن منيع الهاشمي بالوالء‪ ،‬البصري‪ ،‬البغدادي (ابن سعد) (المتوفى‪:‬‬
‫الطبعة‪ :‬األولى‪1410 ،‬هـ ‪-‬‬ ‫‪230‬هـ)‪ :‬الطبقات الكبرى الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية – بيروت‬
‫‪1990‬م‪ ،147/4 .‬أبو عمر يوسف بن عبد هللا بن محمد (ابن عبد البر) (المتوفى‪463 :‬هـ)‪:‬‬
‫االستيعاب في معرفة األصحاب‪ :‬الناشر‪ :‬دار الجيل‪ ،‬بيروت الطبعة‪ :‬األولى‪ 1412 ،‬هـ ‪ 1992 -‬م‬
‫‪ ، 1540/4‬أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة هللا (ابن عساكر) (المتوفى‪571 :‬هـ)‪ :‬تاريخ دمشق‬
‫الناشر‪ :‬دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع عام النشر‪ 1415 :‬هـ ‪ 1995 -‬م‪.19/74 .‬‬
‫(‪ )3‬حسام الدين بن موسى عفانة‪ :‬فتاوى يسألونك الطبعة‪ :‬األولى الناشر‪ :‬مكتبة دنديس‪ ،‬الضفة‬
‫الغربية – فلسطين‪1430 - 1427 :‬هـ ‪547-545/6‬‬
‫( ‪) 177‬‬

‫استدل القائلون بعدم جواز التشريح لغرض التعليم بما يأتي‪:‬‬


‫أوال‪ :‬من الكتاب‪ :‬قوله تعالى‪{ :‬وَلَق ْد َكرمنا بِني آدم وحملن ِ‬
‫الب ْح ِر َوَرَزْق َن ُ‬
‫اهم‬ ‫اه ْم في اْل َب ِّر َو َ‬
‫َ َ ََ َ َ َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫‪1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات وَفضلناهم عَلى ِ‬
‫كثير ّم َّم ْن َخَلْق َنا تَْفضيالً }‪.‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ّم َن الط َيب َ َ ُ ْ َ‬

‫‪ 1‬اإلسراء‪ :‬اآلية ‪70‬‬


‫( ‪) 178‬‬

‫وجه الداللة‪:‬‬
‫إن هذه اآلية قد دلت بعمومها على تكريم بني آدم‪ ،‬وهذا يشمل حال الحياة‬
‫وحال الممات‪ ،‬وتشريح الميت فيه إهانة لكرامته‪ ،‬وذلك لما فيه من تقطيع أجزاء من‬
‫جسد المتوفى‪.‬‬
‫المناقشة‪:‬‬
‫نوقش وجه الداللة من اآلية بأن تشريح الميت يكون إهانة إذا كان بدافع‬
‫التشفي أو العبث‪ ،‬أما إذا كان لمصلحة راجحة شرعا‪ ،‬كحفظ نفوس األحياء عن طريق‬
‫‪1‬‬
‫معرفة العلل واألدواء‪ ،‬وإنقاذ الناس مما أحاط بهم من أمراض‪ ،‬فال يدخل تحت اإلهانة‬
‫ثانيا‪ :‬من السنة‪:‬‬
‫ش‪ ،‬أ َْو‬‫ير َعَلى َج ْي ٍ‬ ‫َم ًا‬ ‫يه‪َ ،‬قال‪َ :‬كان رسول هللاِ ‪ِ ‬إ َذا أَ َّمر أ ِ‬ ‫‪ -1‬عن سَليمان ب ِن بريدة‪ ،‬عن أَِب ِ‬
‫َ‬ ‫َ َُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ َ ْ َُ ْ َ َ َ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّة‪ ،‬أَوصاه ِفي خ َّ ِ ِ‬
‫ٍ‬
‫اغ ُزوا‬
‫ال‪ْ « :‬‬ ‫اصته ِبتَْق َوى هللا‪َ ،‬و َم ْن َم َع ُه م َن اْل ُم ْسلم َ‬
‫ين َخ ْي ًرا‪ ،‬ثُ َّم َق َ‬ ‫َ‬ ‫َس ِري ْ َ ُ‬
‫اغ ُزوا َوَال تَ ُغُّلوا‪َ ،‬وَال تَ ْغِد ُروا‪َ ،‬وَال تمثلوا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِباس ِم هللاِ ِفي سِب ِ ِ‬
‫يل هللا‪َ ،‬ق ِاتُلوا َم ْن َكَف َر ِباهلل‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َوَال تَْقُتُلوا َولِيدا "‬
‫‪2‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬إن النبي ‪ ‬نهى عن المثلة‪ ،‬وتشريح الجثة هو نوع تمثيل باآلدمي لما‬
‫فيه من التشويه به‪ ،‬فيكون حراما‪.‬‬

‫المناقشة‪:‬‬

‫المثلة قد ثبت ما يخصصها كما في‬ ‫إن هذا الحديث وغيره من أحاديث النهي عن ُ‬
‫قصة العرنيين‪ ،‬وآية الحرابة‪ .‬ففي قصة العرنيين سمل‪ 3‬النبي ‪ ‬أعين الرعاة‪ ،1‬وفي آية‬

‫‪ 1‬انظر الدجوي‪ :‬مجلة األزهر‪ :‬المجلد السادس ‪ 472،473/7‬رجب ‪1354‬هـ ‪1935‬م‬


‫‪ 2‬أخرجه مسلم‪ :‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب تأمير اإلمام األمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب‬
‫الغزو وغيرها‬
‫الس ْمر‪.‬‬
‫بمعَنى َّ‬ ‫ٍ‬
‫بحديدة م ْحماَة أَو َغ ْي ِرَها‪ .‬وِقيل ُهو َفْق ُؤها َّ‬
‫بالش ْوك‪َ ،‬و ُه َو ْ‬ ‫سمل أعين الرعاة‪َ :‬فَقأها َ‬
‫‪3‬‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫انظر مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري‬
‫(ابن األثير) (المتوفى‪606 :‬هـ) النهاية في غريب الحديث واألثر‪ .‬الناشر‪ :‬المكتبة العلمية ‪ -‬بيروت‪،‬‬
‫‪1399‬هـ ‪1979 -‬م ‪403/2‬‬
‫( ‪) 179‬‬

‫الحرابة تقطيع لأليدي واألرجل من خالف‪ ،‬وكل هذا تمثيل‪ ،‬لكن جاز لمصلحة عامة‪،‬‬
‫وهي زجر الظلمة عن االعتداء على الناس‪ ،‬فإذا جاز التمثيل لمصلحة عامة‪ ،‬فكذلك‬
‫‪2‬‬
‫طلبا لمصلحة عامة ينتظمها الطب‪.‬‬
‫يجوز تشريح الميت ً‬
‫‪3‬‬
‫ظ ِم اْل َمِّي ِت َك َك ْس ِِره َحيًّا»‬
‫عن عائشة –رضي هللا عنها‪َ « :-‬ك ْس ُر َع ْ‬ ‫‪-2‬‬
‫وجه الداللة‬
‫الحديث نص في النهي عن كسر عظام الميت‪ ،‬وتشريح الجثة يشتمل على ذلك‬
‫فيكون محرما‬
‫المناقشة‪ :‬هذا الحديث محمول على ما إذا فعل ذلك عبثا‪ ،‬أو أن الحديث محمول‬
‫على ما إذا لم تكن هناك مصلحة راجحة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم أرى ترجيح القول القائل بجواز تشريح الجثة؛‬
‫وذلـك لقوة أدلتهم‪ ،‬ولما في التشريح من المصلحة العامة سواء التشريح الجنائي الذي‬
‫يتوصل به إلى معرفة المجرمين وتحقيق العدل‪ ،‬أو التشريح التعليمي الذي ال يمكن‬
‫تعلم الطب وممارسته إال به‪ ،‬وكذلك األمر بالنسـبة للتشـريح المرضي الذي يمكن به‬
‫اكتشاف األوبئة واألمراض والوقاية منها قبل وقوعها‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن ن ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬


‫اجتََوْو َها‪،‬‬
‫اسا م ْن ُع َرْيَن َة َقد ُموا َعَلى َرُسول هللا ‪ ‬اْل َمد َين َة‪َ ،‬ف ْ‬ ‫حديث العرنيين‪َ :‬ع ْن أََنس ْب ِن َمالك‪ ،‬أ َّ َ ً‬
‫‪1‬‬

‫الص َدَق ِة‪َ ،‬فتَ ْش َرُبوا ِم ْن أَْلَب ِان َها َوأ َْبَوالِ َها»‪َ ،‬فَف َعُلوا‪،‬‬
‫َن تَ ْخ ُر ُجوا ِإَلى ِإِب ِل َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول هللا ‪ِ« :‬إ ْن ش ْئتُ ْم أ ْ‬ ‫ال َل ُه ْم َرُس ُ‬
‫َفَق َ‬
‫ول هللاِ ‪َ ،‬فَبَل َغ َذلِ َك َّ‬
‫النِب َّي‬ ‫اإلس َال ِم‪ ،‬وساُقوا َذوَد رس ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم َو ْارتَُّدوا َع ِن ْ ْ‬
‫َفص ُّحوا‪ ،‬ثُ َّم ماُلوا عَلى ِ ِ‬
‫الرَعاء‪َ ،‬فَقَتُل ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ْ َُ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعُيَن ُه ْم‪َ ،‬وتََرَك ُه ْم في اْل َحَّرة‪َ ،‬حتى َماتُوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪َ ،‬فَب َع َث في أَثَ ِره ْم َفأُت َي به ْم‪َ ،‬فَق َ‬
‫ط َع أ َْيدَي ُه ْم‪َ ،‬وأ َْر ُجَل ُه ْم‪َ ،‬و َس َم َل أ ْ‬
‫متفق عليه‪ :‬أخرجه البخاري‪ ،‬كتاب الحدود‪ ،‬باب سمر النبي ‪‬أعين المحاربين ‪ ،163/8‬ومسلم‪،‬‬
‫كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات‪ ،‬باب حكم المحاربين والمرتدين ‪.1296/3‬‬
‫‪ 2‬انظر الشنقيطي‪ :‬أحكام الجراحة الطبية صـ‪178‬‬
‫‪ 3‬أخرجه ابن ماجه ‪ 516/1‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب في النهي عن كسر عظام الميت‪ ،‬وأحمد في سننه‬
‫‪ 218/41‬طبعة الرسالة‪ ،‬وهو حديث صحيح‪ .‬انظر ابن الملقن‪ :‬البدر المنير ‪769/6‬‬
‫( ‪) 180‬‬

‫ضوابط التشريح‪:‬‬
‫يجب أن يعلم أنه ال بد من مراعاة الضوابط التالية عند تشريح جثة اآلدمي‪:‬‬
‫‪ .1‬التيقن من موت الشخص قبل إجراء التشريح عليه ألن تشريح اإلنسان قبل موته فيه‬
‫إيذاء وهو محرم شرًعا‪.‬‬
‫‪ . 2‬موافقة الشخص قبل موته على تشريح جثته إذا مات أو موافقة ذويه بعد موته‪ ،‬وال‬
‫يشترط موافقة الميت وال ذويه في الحاالت الجنائية؛ ألن ممانعة األهل قد تفوت حقاً‬
‫من الحقوق العامة أو الخاصة‪ .‬ويجوز تشريح جثث المتوفين المجهولين الذين ليس لهم‬
‫أهل تؤخذ موافقتهم‪ ،‬كما جاء مثالً في الفتوى التي صدرت عن دار اإلفتاء المصرية‬
‫"يجوز شرعاً الحصول على جثث بعض المتوفين ممن ال أهل لهم لإلفادة العلمية من‬
‫تشريحهم مراعاة للمصلحة العامة‪ ،‬على أن يقتصر في ذلك على ما تقضي به الضرورة‬
‫القصوى‪."1‬‬
‫‪ .3‬أن تراعى آداب تكريم الميت فال يساء التصرف في جسده بما ال يخدم البحث‬
‫العلمي والغرض التعليمي وال تبقى الجثة مقطعة األجزاء على منصات التشريح تتقاذفها‬
‫أيدي الطلبة دون رادع أو زاجر بل ال بد من احترام إنسانية الميت واالقتصار فقط على‬
‫موضع الحاجة والضرورة‪ ،‬وال يجوز العبث بالجثة‪ ،‬ويحسن أن يكون درس التشريح‬
‫درساً جاداً يوجهه مدرس التشريح لبيان قدرة هللا في الخلق وحكمته من خلق اإلنسان‬
‫في أحسن تقويم‪.‬‬
‫‪ .4‬تجميع أجزاء الجثة بعد الفراغ من تشريحها ودفنها وفقاً لألحكام الشرعية المتعلقة‬
‫بوجوب دفن الميت‪.‬‬
‫‪ .5‬إذا كانت الجثة جثة امرأة فيجب أن يقتصر نظر الطالب ومسه على مواضع‬
‫‪2‬‬
‫الضرورة والحاجة فقط‪ ،‬وال يمسها بدون ضرورة‪.‬‬

‫‪ 1‬فتوى دار اإلفتاء المصرية‪ ،‬سجل ‪ ،74‬مسلسل ‪ 454‬ص ‪276‬‬


‫‪ 2‬انظر قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم اإلسالمي‪ ،‬القرار رقم (‪ )1‬الدورة العاشرة المنعقدة‬
‫في مكة المكرمة‪ ،‬في الفترة من يوم السبت ‪24‬صفر ‪1408‬هـ الموافق ‪ 17‬أكتوبر ‪1987‬م‬
‫‪ ،‬حسام الدين عفانة‪ :‬فتاوى يسألونك ‪549/6‬‬
‫( ‪) 181‬‬

‫شراء الجثث وتحنيطها‪:‬‬

‫مما سبق يتبين أنه ال يجوز استخدام جثة مسلم في التشريح إال في حال‬
‫الضرورة‪ ،‬أو الحاجة الملحة‪ ،‬فإذا سدت حاجة التعليم بشيء من العظام الموجودة في‬
‫المشرحة‪ ،‬أو العظم الصناعي‪ ،‬أو بغير ذلك من الوسائل التعليمية‪ ،‬فال تجوز الزيادة‬
‫عليه؛ ألن الضرورة أو الحاجة تقدر بقدرها ويجب التنبيه إلى أنه ال يجوز شراء الجثث‬
‫بغرض التعليم أو غيره؛ ألن هذه الجثث ليست ملكا ألحد حتى يستطيع بيعها لغيره‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أن اإلنسان محترم ومكرم حيا وميتا‪ ،‬والبيع ينافي االحترام والتكريم‪.‬‬

‫فضال عن أنه لو فتح الباب للناس في شراء الجثث‪ ،‬لكان في ذلك عونا‬
‫للنباشين على ما يقترفونه من آثام بننبش القبور وانتهاك حرمة الموتى‪ ،‬وقد نهى الشرع‬
‫ِ‬
‫األ ْث ِم واْل ُع ْدو ِ‬
‫ان" المائدة‪.2:‬‬ ‫عن التعاون على المعصية‪ ،‬قال تعالى‪" :‬وال تَ َع َاوُنوا َعَلى ْ َ َ‬

‫وبهذا ُيعلم أنه ال يجوز شراء الجثث‪ ،‬بخاصة مع إمكان االكتفاء بالجثث‬
‫الموجودة قي المشرحة‪ ،‬وإمكان االكتفاء بالعظم الصناعي‪ ،‬والصور‪ ،‬والفيديوهات التي‬
‫تحتوي على هذا‪.‬‬

‫الموضوع الثاني‪ :‬االستنساخ‬


‫(‪)1‬‬

‫أهداف الدرس‪:‬‬
‫يعرف الدارس االستنساخ‬‫‪-1‬أن ّ‬
‫‪ -2‬أن يقارن الدارس بين أنواع االستنساخ المختلفة‬
‫‪-3‬أن يتقن الدارس الحكم الشرعي لكل نوع من أنواع االستنساخ‬
‫‪-4‬أن يرجح الدارس بين األقوال المختلفة للفقهاء في أحكام االستنساخ‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمرو محمد غانم‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫( ‪) 182‬‬

‫االستنساخ لغة‪ :‬طلب نسخة‬


‫‪1‬‬
‫اصطالحا‪ :‬الحصول على نسخة وراثية مطابقة لألصل‬

‫أنواع االستنساخ‬

‫النوع األول‪ :‬االستنساخ الجنسي (الجنيني) )‪)sexual cloning‬‬


‫ترتبط عملية االستنساخ الجنيني بمرحلة النطفة بعد اإلخصاب –كما سبق‪،-‬‬
‫أي مرحلة البويضة الملقحة‪ ،‬ففي هذه المرحلة تبدأ الخلية في االنقسام إلى خاليا‬
‫متعددة‪ ،‬وتكون هذه الخاليا متطابقة تماما مع بعضها؛ ألن أصلها خلية واحدة ثم‬
‫انقسمت‪ ،‬فالخاليا المنقسمة بمثابة نسخ من الخلية األم‪ ،‬فإذا فصلنا خلية من تلك‬
‫الخاليا وزرعت في رحم مستعد الستقبالها‪ ،‬فإنها ستكون جنينا مطابقا للجنين الذي‬
‫ُفصلت منه تلك الخلية‪ ،‬وكذلك الحال إذا فصلنا أكثر من خلية وزرعناها في أرحام‬
‫متعددة‪ ،‬وقد جرى تطبيق ذلك على الحيوان‪ ،‬ال اإلنسان‪.‬‬
‫الحكم الشرعي لالستنساخ الجنسي (الجنيني)‪:‬‬
‫اختلف المعاصرون في حكم االستنساخ الجنيني على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يرى هذا القول حرمة االستنساخ‪ ،‬وقد ذهب إلى هذا القول كثير من‬
‫المجامع الفقهية والهيئات العلمية‪ ،‬مثل مجمع الفقه اإلسالمي الدولي‪ ،‬المجلس األوربي‬
‫واستدل على ذلك أبدلة‪ ،‬أمهها‪:‬‬ ‫لإلفتاء‪.2‬‬
‫‪ -1‬إن االستنساخ ينتج عنه وجود أفراد متشابهين في الصفات الوراثية تماما‪ ،‬وهذا‬
‫يؤدي إلى أضرار ومفاسد عظيمة في المجتمع‪ ،‬حيث يؤدي ذلك في باب‬

‫‪ 1‬االستنساخ والكائنات المعدلة وراثيا‪ :‬أوديل روبير صـ‪ 8‬المجلة العربية ‪1436‬هـ ‪2015‬م الرياض‬
‫‪ 2‬قرار مجمع الفقه اإلسالمي الدولي بتحريم االستنساخ البشري‪ ،‬رقم ‪ ،)10/2( 94‬وكذلك المجلس‬
‫األوربي لإلفتاء في دورته العاشرة ‪19-26‬ذي القعدة ‪1423‬هـ‪ ،‬الموافق لـ ‪ 26-22‬يناير ‪2003‬م‪،‬‬
‫دراسات في قضايا طبية معاصرة‪ :‬بحث "قضايا فقهية في الجينات البشرية من منظور إسالمي" د‪.‬‬
‫عارف علي عارف ‪ 778/2‬دار النفائس –األردن ‪1421‬هـ ‪2001‬م‬
‫( ‪) 183‬‬

‫الجرائم مثال إلى عدم معرفة المجرم‪ ،‬وفي باب المعامالت المالية مثال ال‬
‫ُيعرف الذي باع أحيانا أو الذي اشترى‪ ،‬وفي األحوال الشخصية ال يعرف‬
‫الزوج زوجته‪ ،‬وهكذا‪ ...‬بسبب وجود أفراد مشابهين في الصفات الوراثية تماما‬
‫‪ -2‬ﺇن االستنساخ يتﺮتﺐ عليه ﺍختالﻁ ﺍألنساﺏ‬
‫القول الثاني‪:‬‬
‫يرى هذا القول إباحة االستنساخ‪ ،‬بضوابط معينة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يكون بين زوجين‪ ،‬حال قيام الزوجية الصحيحة‬
‫‪ -2‬أن يكون ذلك عالجا لمرض انعدام الخصوبة عند المرأة‬
‫‪ -3‬المحافظة على عدم اختالط األنساب عند التخصيب‬
‫‪ -4‬المحافظة على عدم كشف العورات‪ ،‬إال عند الحاجة الماسة إليه‬
‫ﻭقﺪ ذهب إلى هذا بعض أعضاء ﺍلنﺪﻭﺓ ﺍلفقهية ﺍلﻄبية ﺍلتاسعة‪ ،‬ﻭالمجتمعون ﰲ‬
‫نﺪﻭﺓ قضايا ﻃبية معاصﺮﺓ ﰲ ضﺀﻮ ﺍلشﺮيعة ﺍإلسالمية‪ ،‬المنعقدة بعماﻥ‪ ،‬ﺍألﺭﺩﻥ‪ ،1‬ﻭقﺪ‬
‫جاﺀ ﰲ قﺮﺍﺭ هﺬه ﺍلنﺪﻭﺓ‪" :‬فصل الخاليا عﻦ ﺍلبييضة الملقحة بعﺪ ﺍالنقساﻡ ﺍألﻭل ﺃﻭ‬
‫الثاني ﺃﻭ ﺍلثالﺚ‪ ،‬ﺃﻭ بعﺪ ﺫلﻚ بقصﺪ استعمالها إلحﺪﺍﺙ الحمل في فتﺮﺓ ﺍلﺰﻭجية جائﺰ‬
‫شﺮعاﹰ‪ ،‬وتحكمه ﺍلقﻮﺍعﺪ ذاتها التي تحكم ﺍلتلقيح ﺍلصناعي الخارجي‪"2‬‬
‫وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي‪:‬‬
‫المعقول‪ :‬ﺇﻥ اإلسالم يحث على التناسل ويدعو إليه‪ ،‬وهﺬﺍ ﺍلنﻮﻉ مﻦ ﺍالستنساﺥ‬
‫يتﺮتﺐ عليه تكثير الجنين الموجود في رحم األم التي تعاني من مشكلة الخصوبة‪ ،‬عن‬
‫طريق إيجاد توائم لهذا الجنين‪ ،‬فهو يمثل عالجا لهذه األم‪.‬‬

‫انظر ق اررات ﺍلنﺪﻭﺓ ﺍلفقهية ﺍلﻄبية ﺍلتاسعة الﺪﺍﺭ ﺍلبيضاﺀ ‪1997/6/17- ١٤‬م‪ .‬نﺪﻭﺓ قضايا ﻃبية‬ ‫‪1‬‬

‫معاصﺮﺓ ﰲ ضﻮﺀ ﺍلشﺮيعة ﺍإلسالمية‪ ،‬عمان‪ ،‬ﺍألﺭﺩﻥ‪2000 ،‬ﻡ‬


‫نﺪﻭﺓ قضايا ﻃبية معاصﺮﺓ ﰲ ضﻮﺀ ﺍلشﺮيعة ﺍإلسالمية‪ ،‬عمان‪ ،‬ﺍألﺭﺩﻥ‪2000 ،‬ﻡ‬ ‫‪2‬‬
‫( ‪) 184‬‬

‫المناقشة‪:‬‬
‫يناقش هذا القول بما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬القاعدة الفقهية المعروفة من أن د أر المفاسد مقدم على جلب المصالح‪ ،‬بخاصة‬
‫عندما تكون المفاسد أعظم والمالحظ في االستنساخ هو إنتاج توائم متماثلة في‬
‫الصفات‪ ،‬مما يترتب عليه وقوع مفاسد ال تخفى في المجتمع‪ ،‬سبق ذكر أهمها‬
‫في دليل القول األول‪.‬‬
‫‪ -2‬إنه ال حاجة إلى االستنساخ في هذه الحالة‪ ،‬ألﻥ صورة تطبيق هذا القول في‬
‫الواقع‪ ،‬ﺃﻥ تفصل خاليا بييضة مخصبة خارج الرحم‪ ،‬ليتكون مﻦ كل خلية‬
‫جنين ينقل إلى ﺭحﻢ صاحبة ﺍلبييضة‪ ،‬وهذه الطريقة لها بديل في اإلخصاب‬
‫الطبي المساعد يمكن االستغناء به عن االستنساخ‪ ،‬هذا البديل يقوم على أخذ‬
‫أكثر من بويضة من مبيض المرأة عن طريق إعطاء المرأة هرمونات تنشط‬
‫المبيض وتجعله قاد ار على إنتاج أكثر من بويضة‪ ،‬ثم تفصل هذه البويضات‬
‫خارج الرحم‪ ،‬ويتم تخصيب كل منها بالحيوان المنوي‪ ،،‬ثم تنقل إلى رحم المرأة‪،‬‬
‫دون حاجة إلى االستنساخ‪.‬‬
‫القول الثالث‪:‬‬
‫يرى هذا القول جواز االستنساخ في حالة نادرة جدا‪ ،‬وهي الحالة التي تعاني فيها‬
‫الزوجة من قلة ﺇنتاﺝ المبيض للبييضاﺕ‪ ،‬او أنه يوجد عيوب عند الزوجة في المبيضين‬
‫أو أحدهما يمنع مﻦ ﺇنتاﺝ ﺍلعﺪﺩ المناسب مﻦ ﺍلبييضاﺕ‪ ،‬التي يتحقﻖ معه الحمل‪ ،‬ﺃﻭ‬
‫كاﻥ ﺃحﺪ المبيضين مستأصالﹰ‪ ،‬ﺃﻭ نحو ﺫلﻚ‪ ،‬وكان ما ينتج من المبيضين أو أحدهما‬
‫عدد قليل‪ ،‬ال يتحقﻖ به نجاح اإلنجاب ﰲ نﻈﺮ ﺃهل ﺍالختصاﺹ فال مانع حينئذ من‬
‫( ‪) 185‬‬

‫إجراء االستنساخ بمراعاة الضوابط السابقة في القول الثاني‪ ،‬وسائر ضوابط التلقيح‬
‫‪1‬‬
‫الصناعي‬
‫‪2‬‬
‫وهذا القول قد ذهب إليه د‪ .‬عبد الفتاح محمود إدريس‪ ،‬د‪ .‬عارف علي عارف‬

‫ويستدل على ذلك بما يأتي‪:‬‬

‫من المعقول‪:‬‬

‫‪ -1‬الحاجة الداعية إلى اإلنجاب حينئذ بغير الطريق الطبيعي؛ إليجاد التناسل‬
‫‪3‬‬
‫البشري‪ ،‬والتغلب على مشكلة العقم‪.‬‬
‫‪ -2‬القياس على التوائم الطبيعية‪.‬‬

‫فإن المرأة قد تلد توائم بطريقة طبيعية بسبب انشطار البويضة المخصبة‪ ،‬وهذه‬
‫‪4‬‬
‫الحالة من االستنساخ عن طريق انقسا الخاليا تشبهها‬

‫المناقشة‪:‬‬

‫يناقش هذا القول بالمناقشة األولى السابقة على القول الثاني‪ ،‬وهي أن الشرع إن‬
‫كان قد دعا إلى التناسل‪ ،‬وهو مصلحة‪ ،‬فإنه لو كانت مفاسده تربو وتزيد على مصالحه‬
‫كما في االستنساخ‪ ،‬فإنه يجب منعه أما القياس على مسألة التوائم الطبيعية‪ ،‬فهو قياس‬

‫أهم ضوابط التلقيح الصناعي باإلضافة إلى ما سبق في القول الثاني‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ذلك‪ -1 :‬اتخاذ ﺍالحتياﻃاﺕ التي تمنع مﻦ فساﺩ الخاليا عنﺪ فصلها‬


‫‪ -2‬أن ال يتﺮتﺐ على عملية ﺍالستنساﺥ ﻭﺍلنقل إلى ﺭحﻢ صاحبة ﺍلبييضة ﺃجنة ﺯﺍئﺪﺓ عﻦ‬
‫الحاجة‪ ،‬حتى ال تؤدي إلى اإلجهاض‬
‫‪ 2‬االستنساخ في نظر اإلسالم‪ :‬دعبد الفتاح إدريس صـ‪ .36‬دراسات في قضايا طبية معاصرة‪ :‬بحث‬
‫"قضايا فقهية في الجينات البشرية من منظور إسالمي" د‪ .‬عارف علي عارف ‪754،755/2‬‬
‫‪ 3‬دراسات في قضايا طبية معاصرة‪ :‬بحث "قضايا فقهية في الجينات البشرية من منظور إسالمي" د‪.‬‬
‫عارف علي عارف ‪754،755/2‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ‪754،755/2‬‬
‫( ‪) 186‬‬

‫مع الفارق؛ ألن التوائم الطبيعية غير متحدة الصفات الوراثية تماما‪ ،‬بخالف االستنساخ‬
‫الذي تتحد فيه الجينات الوراثية‪.‬‬

‫النوع الثاني‪ :‬االستنساخ الجسدي (الالجنسي أو الجيني) (‪.)Asexual cloning‬‬

‫ويتم هذا النوع من االستنساخ باالستغناء عن الحيوان المنوي‪ ،‬واالستبدال به‬


‫نواة خلية جسدية‪ ،‬عن طريق نقل نواة الخلية الجسدية إلى البويضة منزوعة النواة‪ ،‬ثم‬
‫زرع هذه البويضة في الرحم لتصبح مولودا مطابقا في الصفات الوراثية لصاحب الخلية‬
‫الجسدية التي زرعت نواتها في البويضة‪.‬‬
‫فهذه العملية تتم دون حيوان منوي‪ ،‬وهي تشبه إلى حد كبير عمليات استنساخ النبات‬
‫بزرع الفسائل الصغيرة المأخوذة من بعض الشجر‪ ،‬وزرعها مستقلة لتنتج شج ار مشابها‬
‫ألصله‪.‬‬
‫الحكم الشرعي لالستنساخ الجسدي‬
‫لالستنساخ الجسدي عدة صور‪ ،‬هي‪:‬‬
‫أن تزرع نواة الخلية الجسدية المنزوعة من رجل أجنبي في البويضة المنزوعة‬ ‫‪-1‬‬
‫النواة للمرأة األجنبية‪.‬‬
‫أن تزرع نواة الخلية الجسدية المنزوعة من امرأة في البويضة المنزوعة النواة‬ ‫‪-2‬‬
‫المرأة أخرى‪.‬‬
‫أن تزرع نواة الخلية الجسدية المنزوعة من المرأة نفسها في البويضة المنزوعة‬ ‫‪-3‬‬
‫النواة لتلك المرأة‪.‬‬
‫أن تزرع نواة الخلية الجسدية المنزوعة من زوج المرأة في البويضة المنزوعة‬ ‫‪-4‬‬
‫النواة لتلك الزوجة إن الشريعة قد قامت على درء المفاسد عن العباد والبالد‪.‬‬
‫و ِمن أهم المقاصد التي جاءت الشريعة اإلسالمية لتحقيقها‪ :‬حفظ األنساب من‬
‫االختالط والضياع‪ ،‬وعلى هذا اعتمد اجتهاد الفقهاء المعاصرين كافة في موضوع‬
‫"االستنساخ" وبناء على ذلك‪ ،‬فإن الصور الثالث المتقدمة منها محرمة‪:‬‬
‫( ‪) 187‬‬

‫أما الصورة األولى؛ فألنها حمل بين رجل وامرأة أجنبية عنه‪ ،‬ومعلوم أن هذا يؤدي‬
‫إلى اختالط األنساب‪ ،‬فهو في معنى الزنا‪ ،‬كما أنه خالف الطريق الطبيعي للحصول‬
‫على النسل من التقاء الحيوان المنوي بالبويضة‬
‫وأما الصورة الثانية؛ فألنها حمل بين امرأة وامرأة‪ ،‬وهذا ال يحل في الشرع الذي‬
‫جعل الحمل بين زوجين‪ ،‬قال تعالى‪ " :‬وهللا جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من‬
‫أزواجكم بنين وحفدة" ولما في ذلك من ذريعة الوقوع في الرذيلة عندما ال تجد المرأة‬
‫اإلشباع الغريزي الطبيعي لها عن طريق الزاوج وأما الصورة الثالثة؛ فألنه حمل حادث‬
‫من المرأة نفسها فقط‪ ،‬والحمل الصحيح في الشرع هو الذي يكون من زوج‪ ،‬ولما سبق‬
‫من األدلة في الصورة الثانية وأما الصورة الرابعة‪ ،‬وهي أن تزرع نواة الخلية الجسدية‬
‫المنزوعة من زوج المرأة في البويضة المنزوعة النواة لتلك الزوجة فقد وقع فيها‬
‫االختالف بين المعاصرين على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يحرم ذلك أيضا؛ ألن الطفل في تلك الحالة سيكون أخا للزوج‪ ،‬ألنه‬
‫سيأخذ الصفات الوراثية نفسها التي للزوج‪ ،‬فكأنهما توأمان متطابقان في كل الصفات‪،‬‬
‫لكن يناقش هذا بأنه لن يكون طبق األصل‪ ،‬ألنه يبقى من الجينات سبعة وثالثة جينا‬
‫خارج النواة توجد في رحم المرأة يأخذها الطفل من المرأة خصيصا‪ ،‬وهو ما يمثل واحدا‬
‫إلى ألف تقريبا من نسبة الجينات التي سيأخذها من الرجل صاحب الخلية منزوعة‬
‫النواة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬تجوز هذه الصورة من االستنساخ إذا كان يقصد منها العالج لطفل آخر‬
‫للزوجين مريض‪ ،‬حيث يكون طفل االستنساخ مشابها في الصفات الوراثية للمريض‪،‬‬
‫فيمكن أخذ بعض الخاليا من طفل االستنساخ وزرعها في المريض لعالجه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫أرى ترجيح القول األول بالتحريم؛ وذلك ألنه يمكن عالج الطفل المريض عن‬
‫طريق االستنساخ العالجي الذي سيأتي ذكره‪ ،‬أما استنساخ طفل بغرض أخذ بعض‬
‫الخاليا منه‪ ،‬فإنه يترتب عليه المفاسد السابقة من وجود طفل له نفس صفات من‬
‫أخذت منه الخلية المستنبتة ولقد حرمت المجامع الفقهية والهيئات العلمية‪ ،‬االستنساخ‬
‫( ‪) 188‬‬

‫البشري الكلي بجميع صوره‪ ،‬ومنها مجمع الفقه اإلسالمي الدولي‪ ،‬والمجلس األوربي‬
‫لإلفتاء‪.1‬‬
‫استنساخ النبات والحيوان‪:‬‬
‫تمكن اإلنسان منذ القديم من استنساخ النبات إلكثاره‪ ،‬بالوسائل التي استطاع‬
‫التوصل إليها آنذاك‪ ،‬والتي منها أخذ جزء من ساق النبات أو الغراس‪ ،‬وزراعته وتهيئة‬
‫البيئة الصالحة لنموه حتى يكون نسخة متطابقة مع األصل الذي أخذ منه‪ ،‬وهذه‬
‫الطريقة التي اتبعت قديماً‪ ،‬ما زالت تتبع حتى يومنا هذا‪ ،‬إال أنه ط أر تقدم في استنساخ‬
‫النبات‪ ،‬بحيث أمكن استنساخه عن طريق أخذ بعض الخاليا أو األنسجة منه‪ ،‬ثم‬
‫زرعها مرة أخرى لتكون ُنسخا أخرى متطابقة‪ ،‬كما تمكنت مراكز البحوث الحيوانية‪ ،‬من‬
‫استنساخ الحيوانات‪ ،‬بحيث تعطي إنتاجاً واف اًر من اللحم‪ ،‬واللبن‪ ،‬والصوف‪ ،‬أو الوبر‪،‬‬
‫وتقاوم األمراض‪ ،‬أو تنتج بروتينات عالجية تفرزها في لبنها‪ ،‬تعالج مرض السكر‪،‬‬
‫وضعف النمو‪ ،‬وتعمل عمل المضاد الحيوي‪ ،‬وغير ذلك‪.2‬‬
‫فما حكم هذا االستنساخ في الفقه السالمي؟‬
‫إن استنساخ النبات والحيوان عن طريق أخذ بعض الخاليا أو األنسجة من‬
‫النبات‪ ،‬أو من الحيوان‪ ،‬وزرعها مرة أخرى لتكون نباتا له نفس الصفات‪ ،‬أو حيوانا له‬
‫نفس الصفات؛ أمر جائز؛ لما في ذلك من مصلحة التكاثر في النبات‪ ،‬والحيوان‪،‬‬
‫ووجود وفرة فيها تسد حاجة اإلنسان‪ ،‬بال ضرر‬
‫لكن يجب مراعاة القيدين التاليين‪:‬‬
‫‪ -1‬أن ال يؤدي االستنساخ إلى ضرر بنشوء مرض جديد مثال‬
‫‪ -2‬أن ال تتخذ هذه العملية للعبث وتغيير خلق هللا‪ ،‬بخاصة في الحيوان‪. 3‬‬

‫قرار مجمع الفقه اإلسالمي الدولي بتحريم االستنساخ البشري‪ ،‬رقم ‪ ،)10/2( 94‬وكذلك المجلس‬ ‫‪1‬‬

‫األوربي لإلفتاء في دورته العاشرة ‪19-26‬ذي القعدة ‪1423‬هـ‪ ،‬الموافق لـ ‪ 26-22‬يناير ‪2003‬م‬
‫‪ 2‬االستنساخ البشري بين الثورة العلمية والضوابط األخالقية والفقهية د‪ .‬محمد الهواري صـ‪29‬‬
‫المجلس األوروبي لإلفتاء والبحوث‪ .‬االستنساخ والكائنات المعدلة وراثيا‪ :‬أوديل روبير صـ‪40‬‬
‫‪ 3‬اجمللس األوريب لإلفتاء يف دورته العاشرة ‪26-19‬ذي القعدة ‪1423‬هـ‪ ،‬املوافق ‪ 26-22‬يناير ‪2003‬م‬
‫( ‪) 189‬‬

‫ويستدل على جواز استنساخ الحيوان بما يأتي‪:‬‬


‫قال تعالى‪{ :‬هو الذي خلق لكم ما في األرض جميعا}البقرة‪}29 :‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬وسخر لكم ما في السماوات وما في األرض جميعا منه} الجاثية‪}13 :‬‬
‫وجه الداللة‪:‬‬
‫إن هللا تعالى خلق كل ما في الكون‪ ،‬وسخره لخدمة اإلنسان‪ ،‬وتلبية حاجاته؛‬
‫ولذلك فإن كل ما يعينه على تحسين االنتفاع بها يكون مشروعا‪ ،‬ما لم يخالف نصا‬
‫وعل ى ذلك‪ ،‬فإذا كان استنساخ النبات والحيوان من أجل تكثيره‪ ،‬ومن أجل إنتاج أنواع‬
‫محسنة خالية من األمراض‪ ،‬فإنه يكون مشروعا‪.‬‬
‫االستنساخ العالجي "‪"Therapeutic cloning‬‬
‫ينظر المتخصصون إلى االستنساخ العالج على أنه أخذ نواة خلية من العضو‬
‫الذي يراد استنساخه (كالكبد مثال)‪ ،‬ثم زرعها في بويضة ملقحة بعد نزع نواة هذه‬
‫البويضة؛ إلنتاج عضو جديد‪ ،‬كالعضو الذي أخذت منه نواة هذه الخلية (وهو الكبد في‬
‫هذا المثال) تقوم فكرة االستنساخ العالجي على تكوين الخاليا الجذعيه(‪)stem cells‬‬
‫عن طريق نقل نواة أحد خاليا الشخص المراد عالجه إلي البويضة الملقحة المفرغه من‬
‫النواة‪ ،‬وبذلك تكون الخاليا الجذعيه وما ينتج عنها من خاليا متخصصه نسخه طبق‬
‫األصل من التكوين الجيني للشخص المريض وهذا يعتبر شرطا أساسيا لعدم لفظ أو‬
‫طرد الجسم لألنسجة عندما تزرع في جسم المريض؛ ففكرة االستنساخ العالجي تعتمد‬
‫على تكوين خاليا جذعية يمكنها أن تخصص معمليا عن طرق تحفيزها بالمنشطات‬
‫الالزمة؛ إلنتاج خاليا معينة‪ ،‬مثل خاليا القلب أو الجهاز العصبي أو الجهاز العضلي‬
‫أو البنكرياس‪ .‬وهذه الخاليا يمكن أن تزرع في جسم اإلنسان في المكان الذي به تلف‬
‫ألحد هذه األنسجة الستعادة وظيفتها‪ ،‬ومن ثم يمكن عالج كثير من األمراض‬
‫المستعصية بهذه الطريقة‪ ،‬مثل مرض الفشل الكبدي‪ ،‬والفشل الكلوي‪،‬وأمراض الدم‪،‬‬
‫والعظام‪ ،‬ومرض السكري‪ ،‬وتلف خاليا الجلد بسبب الحروق‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬ويالحظ أنه‬
‫ربما يتم االستنساخ العالجي عن طريق األجنة المجهضة (البويضات الملقحة الفائضة‬
‫من اإلخصاب الطبي المساعد) حيث تؤخذ منها الخاليا الجذعية ثم تنزع نواتها لتوضع‬
‫( ‪) 190‬‬

‫فيها نواة إحدى الخاليا الجسدية للمريض‪ ،‬ثم يتم تحفيزها معمليا لتتخصص في إنتاج‬
‫‪1‬‬
‫خاليا بدال من الخاليا التالفة للمريض‬
‫حكم االستنساخ العالجي‪:‬‬
‫إنه ال يوجد ما يمنع شرعا مﻦ ﺍستخﺪﺍﻡ هذه الطريقة التي يتحقق بها التداوي‬
‫والشفاء بإذن هللا تعالى‪ ،‬بدال من االعتداء على أجسام اآلدميين لغﺮﺽ ﺍلﺰﺭﻉ‪ ،‬بخاصة‬
‫أن هذه الطريقة لو نجحت في إيجاد خاليا بديلة بالفعل‪ ،‬فإنها ستكون أنفع وأولى من‬
‫زرع األعضاء؛ وذلك ألن ﺍستنساﺥ ﺍلعضﻮ مﻦ خاليا صاحبه‪ ،‬يﻜﻮﻥ ﺃﺩعى لقبﻮل‬
‫الجسم له‪ ،‬ﻭعﺪﻡ ﺭفضه ‪-‬كما سبق‪ ،-‬ﻭبالتالي ال يﻜﻮﻥ الجسم في حاجة إلى تناﻭل‬
‫مثبﻄاﺕ لجهاز المناعة‬
‫وقد أقر مجمع الفقه اإلسالمي ذلك‪ ،‬وكذلك الندوة الفقهية الطبية التاسعة بشروط‬
‫تتلخص في عدم اإلضرار بالمأخوذ منهم الخاليا‪ ،‬أو االعتداء عليهم‪ ،‬أو امتهان‬
‫كرامتهم‪ .2‬ويستدل للجواز بكثير من النصوص‪ ،‬منها‪:‬‬
‫من السنة‪:‬‬
‫ّللاِ تََد َاوْوا‪َ ،‬فِإ َّن َّ‬
‫ّللاَ َل ْم‬ ‫يك أن رسول هللا ‪ ‬قال‪"َ :‬يا ِع َب َاد َّ‬ ‫‪ -1‬عن أُسام َة ب ِن َش ِر ٍ‬
‫َْ َ َ ْ‬
‫ّللاِ‪،‬‬
‫ول َّ‬ ‫ِ‬
‫اء َواحًدا " َقاُلوا‪َ :‬يا َرُس َ‬
‫يضع َداء ِإ َّال وضع َله ِشَفاء‪ ،‬أَو َقال‪َ :‬دو ِ َّ‬
‫اء‪ ،‬إال َد ً‬
‫ََ ْ ً َ َ َ ُ ً ْ َ ًَ‬
‫اله َرُم‪.»3‬‬
‫ال‪َ « :‬‬
‫َو َما ُه َو؟ َق َ‬
‫وجه الداللة‪ :‬لقد أمر الشرع بالتداوي من ﺍألمﺮﺍﺽ‪ ،‬ﻭﺇﺫﺍ كاﻥ ﺍلتﺪﺍﻭﻱ مﻄلﻮبﹰا‬
‫شﺮعاﹰ‪ ،‬فإﻥ اتخاذ الوسائل التي يتحقق بها ذلك‪ ،‬ومنها استنساخ األعضاء‪ -‬يكون‬
‫مطلوبا شرعا‪.‬‬
‫االستنساخ في المواثيق الدولية والقانون المقارن‪:‬‬

‫‪ 1‬االستنساخ وما يشتبه به‪ :‬مفتاح سليم سعد ‪18 ،17/2‬يوليو ‪– 2010‬البحرين‪ .‬االستنساخ بين‬
‫الحظر واإلباحة‪ :‬عبد الحميد عيدوني صـ‪234‬‬
‫‪ 2‬مجمع الفقه اإلسالمي في دورته السادسة المنعقدة بجده في مارس ‪ .1990‬الﻨﺪوة الفقهﻴة الﻄﺒﻴة‬
‫التاسعة‪ ،‬الدار البيضاء ‪1997/6/17-١٤‬م إﱃ ‪ .١٧/٦/١٩٩٧‬نﺪوة قﻀايا ﻃﺒﻴة معاصﺮة ﰲ ضﻮﺀ‬
‫الﺸﺮيعة اإلسالمﻴ ‪ -‬عمان‪ ،‬األردن عام ‪٢٠٠٠‬م‬
‫‪ 3‬أخرجه الترمذي‪ :‬أبواب الطب‪ ،‬باب ما جاء في الدواء والحث عليه ‪ ،383/4‬وهو حديث صحيح‬
‫( ‪) 191‬‬

‫لقد اتخذت المواثيق الدولية موقفا موحدا في تحريم االستنساخ‪ ،‬وعلى رأسها‬
‫إعالن األمم المتحدة بشأن االستنساخ البشري‪ ،‬الذي دعا فيه الدول األعضاء إلى‬
‫"حظر جميع اشكال استنساخ البشر بقدر ما تتنافى مع كرامة البشرية وحماية الحياة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬كما تذهب جميع القوانين إلى حرمة االستنساخ البشري الكلي‪ ،‬وتذهب غالبية‬
‫القوانين إلى حرمة االستنساخ العالجي أيضا‪ ،‬بينما تذهب بعض الدول كبريطانيا‬
‫واستراليا والسويد إلى جواز االستنساخ العالجي‪.1‬‬
‫أما االستنساخ البشري سواء كان جنسيا أو جسديا‪ ،‬فهو مرفوض شرعا؛ لما‬
‫يؤدي إليه من األضرار والمفاسد السابقة‪.‬‬

‫‪ 1‬االستنساخ بين الحظر واإلباحة‪ :‬عبد الحميد عيدوني صـ‪ .234‬االستنساخ والكائنات المعدلة‬
‫وراثيا‪ :‬أوديل روبير صـ‪116 ،99‬‬
‫( ‪) 192‬‬

‫تدريبات‬

‫أكمل ما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬يعرف االستنساخ الجنسي بأنه‪...........................‬‬
‫‪ -2‬الفرق بين االستنساخ الجنسي والالجنسي هو أن االستنساخ الالجنسي تؤخذ‬
‫فيه نواة خلية‪..........‬لتوضع في بويضة منزوعة النواة‬
‫‪ -3‬يتم االستنساخ العالجي عن طريق‪..................................‬‬

‫ضع عالمة صح أمام العبارة الصحيحة‪ ،‬وعالمة خطأ أمام العبارة الخاطئة مع التعليل‬
‫‪ -1‬من صور االستنساخ الجنسي‪ :‬أخذ نواة خلية من جسد الرجل‪ ،‬لتوضع في‬
‫بويضة امرأة منزوعة النواة‬
‫‪ -2‬هناك من يقول من الفقهاء بجواز أخذ نواة خلية جنسية من الرجل‪ ،‬لتوضع في‬
‫بويضة امرأة أجنبية منزوعة النواة‬
‫‪ -3‬استنساخ النبات ال يجوز؛ لما فيه من اإلضرار بالحياة العامة‬
‫علل لما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬ال يجوز االستساخ البشري‬
‫‪ -2‬ال يجوز استنساخ الحيوان‬
‫‪ -3‬يجوز االستنساخ العالجي‬
‫( ‪) 193‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬التداوي بالقرآن‬
‫عالج القرآن لألمراض النفسية والبدنية‬

‫أوال‪ :‬عالج القرآن لألمراض النفسية‬


‫لقد تفرد القرآن دون البشر بمعالجته ألمراض النفوس والقلوب‪ ،‬فإن نظريات‬
‫البشر في هذا اإلطار موهومة؛ وذلك ألن إدراك حقيقة الروح ليس في طاقة البشر‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪" :‬ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إال قليال‪."2‬‬
‫يقول ابن القيم‪ " :‬فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل‪ ،‬وال سبيل إلى حصوله إال‬
‫من جهتهم وعلى أيديهم‪ ،‬فإن صالح القلوب أن تكون عارفة بربها‪.......‬وأن تكون‬
‫مؤثرة لمرضاته ولمحابه‪ ،‬متجنبة لمناهيه ومساخطه‪."3‬‬
‫أنواع األمراض النفسية من الناحية الشرعية‪ :‬أمراض الشبهات وأمراض الشهوات‬

‫تنقسم أمراض القلوب إلى أمراض شبهات‪ ،‬وأمراض شهوات‪ ،‬فأمراض الشبهات‬
‫تجعل اإلنسان في حيرة وقلق‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ " :‬في قلوبهم مرض‪"4.....‬‬
‫وأمراض الشهوات كما في قوله تعالى "فال تخضعن بالقول‪"5..........‬‬
‫وهذان النوعان أصل فساد العبد‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬عالج القرآن لألمراض البدنية‪.‬‬

‫نجد بعض العلماء يقصرون شفاء القرآن على أمراض القلوب والنفوس من‬
‫الكفر والنفاق وسوء األخالق وغيرها لكن يذهب جمهور أهل السنة إلى أن النصوص‬
‫عامة في شفاء القلوب وشفاء األبدان‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمرو محمد غانم‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫(‪ (2‬اآلية ‪ 85‬سورة اإلسراء‪.‬‬
‫(‪ )3‬الطب النبوي ‪ ،7‬زاد المعاد ‪.7/4‬‬
‫‪ 4‬من اآلية ‪ 10‬سورة البقرة‬
‫‪ 5‬من اآلية ‪ 32‬سورة األحزاب‬
‫( ‪) 194‬‬

‫وفي ذلك يذكر ابن القيم أن "من" في قوله تعالى‪ " :‬وُن َن ِّزُل ِم َن اْلُق ْر ِ‬
‫آن َما ُه َو‬ ‫َ‬
‫ين ِإ َّال َخ َس ًا‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ار‪ "1‬ليست تبعيضية‪ ،‬وإنما هي لبيان‬ ‫اء َوَر ْح َم ٌة لْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين َوَال َي ِز ُيد الظالم َ‬ ‫شَف ٌ‬
‫الجنس ومما يدل على أن القرآن شفاء لألبدان أيضا‪:‬‬

‫أوال‪ :‬ثبوت معالجة النبي ‪ ‬بالرقى‪ ،‬وإرشاد الصحابة إلى ذلك‪ ،‬واألحاديث التي تدل‬
‫على مشروعية التداوي بالرقى متواترة توات ار معنويا‪ ،‬ومنها حديث عائشة –رضي هللا‬
‫اشتََّد‬
‫عنها‪ " :-‬أن رسول هللا ‪ ‬كان إذا اشتكى يق أر على نفسه بالمعوذات وينفث‪َ ،‬فَل َّما ْ‬
‫اء َب َرَكِت َها‪"2‬‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫َو َج ُع ُه ُك ْن ُت أَْق َأُر َعَل ْيه َوأ َْم َس ُح ب َيده َر َج َ‬
‫َنَفٌر ِم ْن‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬
‫طَل َق‬
‫ال‪ْ :‬ان َ‬ ‫وما ثبت في رقية سيد القوم‪ ،‬ففي الصحيح َع ْن أَبي َسعيد ‪َ ،‬ق َ‬
‫الع َر ِب‪،‬‬ ‫النِب ِي ‪ِ ‬في سْف ٍرة ساَفروها‪ ،‬حتَّى ن َزُلوا عَلى ح ٍي ِمن أَحي ِ‬
‫اء‬ ‫اب َّ‬ ‫أَصح ِ‬
‫َ‬ ‫َ ّ ْ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ َ‬
‫الح ِي‪َ ،‬ف َس َع ْوا َل ُه ِب ُك ِّل َشي ٍء‪ ،‬الَ َي ْنَف ُع ُه‬ ‫فاستضافوهم فأَبوا أَن يضِيفوهم‪ ،‬فلِدغ سِيد ذلِك‬
‫ْ‬ ‫َ ْ َ َ ُ ُ ْ َ َ ْ ْ ُ َ ُّ ُ ْ َ ُ َ َ ّ ُ َ َ َ ّ‬
‫ض ِه ْم‬ ‫ط َّالِذين ن َزُلوا‪َ ،‬لعَّله أَن ي ُكون ِع ْند بع ِ‬ ‫الرْه َ‬‫ض ُه ْم‪َ :‬ل ْو أَتَْيتُ ْم َه ُؤالَ ِء َّ‬
‫َ ُ ْ َ َ َ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫ال َب ْع ُ‬ ‫َش ْي ٌء‪َ ،‬فَق َ‬
‫غ‪َ ،‬و َس َع ْي َنا َل ُه ِب ُك ِّل َشي ٍء‪ ،‬الَ َي ْنَف ُع ُه‪َ ،‬ف َه ْل‬
‫ْ‬ ‫ط ِإ َّن َسِّي َد َنا ُلِد َ‬
‫الرْه ُ‬
‫ُّها َّ‬ ‫َش ْي ٌء‪َ ،‬فأَتَ ْو ُه ْم‪َ ،‬فَقاُلوا‪َ :‬يا أَي َ‬
‫ّللاِ َلَقِد‬ ‫ّللاِ ِإِّني َأل َْرِقي‪َ ،‬وَل ِك ْن َو َّ‬ ‫ض ُه ْم‪َ :‬ن َع ْم‪َ ،‬و َّ‬ ‫ال َب ْع ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َحد م ْن ُك ْم م ْن َش ْيء؟ َفَق َ‬
‫ِع ْند أ ٍ ِ‬
‫َ َ‬
‫وه ْم َعَلى َق ِطي ٍع‬ ‫صاَل ُح ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ونا‪َ ،‬ف َما أ ََنا ب َراق َل ُك ْم َحتى تَ ْج َعُلوا َل َنا ُج ْع ًال‪َ ،‬ف َ‬ ‫ضِّيُف َ‬‫اك ْم َفَل ْم تُ َ‬
‫ضْف َن ُ‬
‫استَ َ‬ ‫ْ‬
‫ال‪،‬‬ ‫ط ِم ْن ِعَق ٍ‬ ‫ين َف َكأََّن َما ُن ِش َ‬ ‫ِ‬
‫العاَلم َ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِم َن َ‬
‫الح ْمُد ََّّلل َر ّب َ‬ ‫طَل َق َي ْتف ُل َعَل ْيه‪َ ،‬وَيْق َأرُ‪َ :‬‬ ‫الغ َنمِ‪َ ،‬ف ْان َ‬
‫ض ُه ْم‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫‪3‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم َعَل ْيه‪َ ،‬فَقا َل َب ْع ُ‬ ‫صاَل ُح ُ‬ ‫ال‪َ :‬فأ َْوَف ْو ُه ْم ُج ْعَل ُه ُم الذي َ‬ ‫طَل َق َي ْمشي َو َما به َقَل َبةٌ ‪َ ،‬ق َ‬ ‫َف ْان َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ال تَْف َعُلوا َحتَّى َنأِْتي َّ‬ ‫ال َّالِذي َرَقى‪َ :‬‬ ‫ِ‬
‫ظ َر َما‬ ‫ان‪َ ،‬ف َن ْن ُ‬ ‫النِب َّي ‪َ ‬ف َن ْذ ُك َر َل ُه الذي َك َ‬ ‫َ‬ ‫ا ْقس ُموا‪َ ،‬فَق َ‬
‫ول َّ ِ‬ ‫يأْمرَنا‪َ ،‬فَقِدموا عَلى رس ِ‬
‫ال‪َ« :‬ق ْد‬ ‫يك أََّن َها ُرْق َي ٌة»‪ ،‬ثُ َّم َق َ‬‫ال‪َ « :‬و َما ُي ْد ِر َ‬ ‫ّللا ‪َ ‬ف َذ َك ُروا َل ُه‪َ ،‬فَق َ‬ ‫ُ َ َُ‬ ‫َ ُُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اض ِرُبوا لي َم َع ُك ْم َس ْه ًما» َف َ‬
‫‪4‬‬
‫ّللا ‪‬‬ ‫ول َّ‬‫ضح َك َرُس ُ‬ ‫َص ْبتُ ْم‪ ،‬ا ْقس ُموا‪َ ،‬و ْ‬ ‫أَ‬

‫‪ 1‬من اآلية ‪ 82‬سورة األحزاب‬


‫‪ 2‬متفق عليه‪ ،‬أخرجه البخاري كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب فضل المعوذات ‪ ،190/6‬ومسلم كتاب‬
‫السالم‪ ،‬باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ‪1723/4‬‬
‫‪ 3‬ما به قَلَبَة‪ :‬ما به داء‪ .‬انظر‪ :‬أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي‬
‫البصري (المتوفى‪170 :‬هـ)‪ :‬العين ‪172/5‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري‪ ،‬كتاب اإلجارة‪ ،‬باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب ‪92/3‬‬
‫( ‪) 195‬‬

‫ثانيا‪ :‬ومما يدل على أن الرقية شفاء لألبدان أيضا ما جاء من التجارب الكثيرة التي‬
‫تدل على ذلك‪.1‬‬

‫ثالثا‪:‬أنه قد ثبت أن القرآن يطهر النفوس‪ ،‬وإذا صلحت النفوس صلحت األبدان وليس‬
‫معنى ذلك أن التداوي قاصر على الرقية فقط‪ ،‬بل التداوي بما ثبت شفاؤه ألنواع‬
‫األمراض واجب‪ ،‬سواء كانت أدوية طبيعية أو عقاقير طبية‪ ،‬ومما يدل على ذلك‪ :‬عن‬
‫علي قال‪ :‬لدغت النبي ‪ ‬عقرب وهو يصلي‪ ،‬فلما فرغ قال‪« :‬لعن هللا العقرب‪ ،‬ال يدع‬
‫مصليا‪ ،‬وال غيره‪ ،‬ثم دعا بماء وملح‪ ،‬وجعل يمسح عليها‪ ،‬ويقرأ‪ :‬قل يا أيها الكافرون‪،‬‬
‫وقل أعوذ برب الفلق‪ ،‬وقل أعوذ برب الناس‪.»2‬‬

‫فقد تداوى النبي ‪ ‬بالعقاقير التي وجدت في عصره‪ ،‬وقد روي أنه أمر أحد‬
‫أصحابه بالذهاب إلى الحارث بن كلدة للتداوي –وهو طبيب معروف عند العرب‪ ،‬عن‬
‫ِ‬
‫يعودني‪َ ،‬فوضع َيده ْبين ثديي‬ ‫ول هللاِ ‪‬‬
‫رس ُ‬
‫ِ‬
‫ال‪َ :‬مرضت َمرضا أَتَاني ُ‬
‫سعد بن مالك َق َ‬
‫ّ‬
‫بردها على ُف َؤ ِادي‪ ،‬وقال‪" :‬إنك رجل مفئود‪ ،‬ائت الحارث بن كلدة أخا‬
‫َ‬ ‫وجدت‬
‫ُ‬ ‫حتّى‬
‫ثقيف فإنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليدلك‬
‫بهن‪."3‬‬
‫وعن عبد هللا بن مسعود‪ ،‬يبلغ به النبي ‪ " :‬ما أنزل هللا داء‪ ،‬إال قد أنزل له‬
‫شفاء‪ ،‬علمه من علمه‪ ،‬وجهله من جهله‪ ." 4‬وهذا أعطى كل مريض أمالً أن يجد لدائه‬
‫عالجا‪ ،‬وأعطى األطباء أنفسهم أمالً أن يجدوا لكل داء دواء‪ ،‬فليس هناك داء ال عالج‬ ‫ً‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء‪،‬‬‫ال‪« :‬ل ُك ّل َداء َد َو ٌ‬‫فع ْن َجاب ٍر‪َ ،‬ع ْن َرُسول هللا ‪ ‬أَنَّ ُه َق َ‬
‫له‪ ،‬في الحال أو االستقبال‪َ .‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُصيب دواء َّ ِ‬‫ِ ِ‬
‫الداء َب َأَر ِبِإ ْذ ِن هللا َع َّز َو َج َّل »‪َ ،‬‬
‫وع ْن َحكي ِم ْب ِن ح َازمٍ‪َ ،‬ق َ‬
‫‪5‬‬
‫ال‪ُ :‬قْل ُت‪َ :‬يا‬ ‫َفإ َذا أ َ َ َ ُ‬

‫‪ 1‬كيف كان القرآن شفاء ألمراض الناس وقاية وعالجا د‪ .‬عمر األشقر‬
‫‪ 2‬أخرجه الطبراني في األوسط ‪ ،90/6‬والصغير ‪ ،87/2‬وهو حديث صحيح‬
‫‪ 3‬أخرجه أبو داود في سننه كتاب الطب باب في تمرة العجوة‪ 7/4 ،‬وهو حديث ضعيف‬
‫‪ 4‬أخرجه أحمد في مسنده‪ 50/6 ،‬وهو صحيح‪ ،‬وأصله في صحيح البخاري عن أبي هريرة كتاب‬
‫الطب‪ ،‬باب ما أنزل هللا داء إال أنزل له شفاء ‪122/7‬‬
‫‪ 5‬أخرجه مسلم كتاب السالم‪ ،‬باب لكل داء دواء واستحباب التداوي ‪1729/4‬‬
‫( ‪) 196‬‬

‫ال‪ِ« :‬إَّن َها ِم ْن‬ ‫َرَيت أَد ِوي ًة نتداوى ِبها ورًقى نسترِقي ِبها أَترُّد ِمن َقد ِر َّ ِ‬ ‫رسول َّ ِ‬
‫ّللا؟ َق َ‬ ‫َ َُ ْ َ‬ ‫ّللا‪ ،‬أ َأ ْ َ ْ َ َ ََ َ َ َ ُ َ ْ َ ْ‬ ‫َُ َ‬
‫ِ ‪1‬‬
‫ّللا» ‪.‬‬‫َق َد ِر َّ‬
‫قدر بقدر‪،‬‬
‫قدر بقدر‪ ،‬ونرد ًا‬
‫فاألمراض من قدر هللا‪ ،‬واألدوية من قدر هللا‪ ،‬فندفع ًا‬
‫وهذه سنة هللا‪ ،‬أن تدفع األقدار بعضها البعض‪ ،‬فيدفع قدر الجوع بقدر الغذاء‪ ،‬وقدر‬
‫العطش بقدر الشرب‪ ،‬وقدر الداء بقدر الدواء‪.‬‬
‫تقدما هائالً في الحضارة‬
‫ومن أجل هذا شاع الطب بين المسلمين‪ ،‬وتقدم الطب ً‬
‫وعرف منهم أسماء المعة‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وكان المسلمون أئمة العالم وأساتذته في الطب‪ُ ،‬‬
‫على مستوى العالم‪ ،‬مثل أبي بكر الرازي‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬وابن رشد والزهراوي‪ ،‬وغيرهم من‬
‫وكتب هؤالء انتشرت في العالم مثل (الحاوي) للرازي‪ ،‬و(القانون) البن سينا‪،‬‬
‫المسلمين‪ُ ،‬‬
‫و(الكليات) البن رشد‪ ،‬و(التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوي‪ ،‬بل وجدنا من‬
‫فقيها‪ ،‬أّلف كتابه (بداية‬
‫علماء المسلمين الفقهاء َمن يجيد الطب‪ ،‬فابن رشد نفسه كان ً‬
‫المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه المقارن‪ ،‬وفخر الدين الرازي صاحب الكتب الشهيرة‬
‫في التفسير واألصول وعلم الكالم وغيرها‪ ،‬قالوا‪ :‬كانت شهرته في علم الطب ال تقل‬
‫عن شهرته في علوم الدين‪ ،‬وابن النفيس‪ ،‬مكتشف الدورة الدموية الصغرى‪ُ ،‬ي ُّ‬
‫عد من‬
‫فقهاء الشافعية‪ ،‬وترجم له تاج الدين السبكي في كتاب (طبقات الشافعية) على أنه أحد‬
‫فقهاء هذا المذهب‪.‬‬
‫الشبهات التي ترد على مشروعية التداوي بالرقى‪:‬‬
‫هناك بعض الشبهات التي قد ترد على القول بمشروعية الرقى‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬التداوي بالرقى يتعارض مع قول النبي ‪ ‬في صفة الذين يدخلون الجنة بغير‬
‫طي َُّرو َن‪َ ،‬والَ َي ْستَ ْرُقو َن‪َ ،‬والَ َي ْكتَُوو َن‪َ ،‬و َعَلى َرّبِ ِه ْم َيتََوَّكلُو َن»‪،‬‬
‫ين الَ َيتَ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫حساب‪ُ « :‬ه ُم الذ َ‬
‫ويجاب عن ذلك بأن (ال يسترقون) يحمل على رقى الجاهلية‪.‬‬
‫‪ -2‬التداوي بالرقى يتعارض مع حديث «إن الرقى‪ ،‬والتمائم‪ ،‬والتولة شرك‪»2‬‬

‫اإل ْسَن ِاد َوَل ْم ُي َخِّرَجاهُ‪ ،‬ووافقه الذهبي ‪221/4‬‬


‫يح ِْ‬ ‫يث ِ‬
‫صح ُ‬
‫ِ‬
‫أخرجه الحاكم في المستدرك‪ ،‬وقال َه َذا َحد ٌ َ‬
‫‪1‬‬

‫‪ 2‬أخرجه أبو داود‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬باب في تعليق التمائم ‪ 9/4‬وهو حديث صحيح‬
‫( ‪) 197‬‬

‫ويجاب عن ذلك بأنه محمول على رقى الجاهلية أيضا‪ ،‬أو يحمل على الرقى‬
‫المجهولة التي ال يعرف معناها‪.‬‬
‫ئ ِم َن التََّوُّك ِل‪»1‬‬
‫استَ ْرَقى‪َ ،‬فَق ْد َب ِر َ‬ ‫ِ‬
‫‪ -3‬التداوي بالرقى يتعارض مع حديث « َم ِن ا ْكتَ َوى‪ ،‬أَو ْ‬
‫ويجاب عن ذلك بأنه محمول على من اعتقد تأثيرها بطبعها كما كانوا يزعمون في‬
‫الجاهلية‪.‬‬
‫حكم تعليق التميمة‪:‬‬
‫للتميمة معنيان‪:‬‬
‫الخرزة التي تعلق على األوالد‪ ،‬يتقون بها العين‬
‫األول‪ :‬هو المفهوم الجاهلي وهو‪َ :‬‬
‫في زعمهم‪ .‬وعلى هذا تحمل أحاديث النهي عن تعليق التمائم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬هو أن التميمة عبارة عن ورقة يكتب فيها شيء من القرآن أو غيره مما‬
‫فيه ذكر هللا‪ ،‬وتعلق على الرأس أو في العنق‪ ،‬أو توضع في الجيب أو غير ذلك للتبرك‬
‫وهي بهذا المعنى جائزة عند جمهور الفقهاء الحنفية‪ ،2‬والمالكية في المشهور عنهم‪،3‬‬
‫والشافعية‪ ،4‬والحنابلة في رواية‪5‬؛ وذلك لعموم قوله تعالى‪" :‬كتاب أنزلناه إليك مبارك‪"6‬‬
‫فال حرج في التبرك بالقرآن‪ ،‬أو غيره مما فيه ذكر هللا تعالى‪ ،‬كما يستدل على ذلك بما‬
‫ول هللاِ‬‫الرَقى‪َ ،‬فجاء آل عم ِرو ب ِن ح ْزٍم ِإَلى رس ِ‬ ‫ول هللاِ ‪َ ‬ع ِن ُّ‬ ‫ِ‬
‫َُ‬ ‫َ َ ُ َْ ْ َ‬ ‫ال‪َ :‬ن َهى َرُس ُ‬ ‫رواه َجابر‪َ ،‬ق َ‬
‫ول هللاِ ِإَّن ُه َك َان ْت ِع ْن َد َنا ُرْق َي ٌة َن ْرِقي ِب َها ِم َن اْل َعْق َر ِب‪َ ،‬وإَِّن َك َن َه ْي َت َع ِن‬
‫‪َ ‬فَقاُلوا‪َ :‬يا َرُس َ‬
‫الرَقى‪َ ،‬قال‪َ :‬فعرضوها عَلي ِه‪َ ،‬فَقال‪« :‬ما أَرى بأْسا م ِن استَ َ ِ‬
‫َخاهُ‬‫َن َي ْنَف َع أ َ‬
‫طاعَ م ْن ُك ْم أ ْ‬ ‫َ َ ًَ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ُ َ َ ْ‬ ‫ُّ‬
‫َفْل َي ْنَف ْع ُه‪.»7‬‬

‫‪ 1‬أخرجه أحمد ‪ ،116/30‬وهو حديث صحيح‬


‫‪ 2‬الدر المختار‪ ،‬ورد المحتار ‪363/6‬‬
‫‪ 3‬الفواكه الدواني ‪340/2‬‬
‫‪ 4‬حاشية البجيرمي ‪371/1‬‬
‫‪ 5‬تصحيح الفروع‪ :‬المرداوي ‪248/3‬‬
‫‪ 6‬من اآلية ‪ 29‬سورة "ص"‬
‫‪ 7‬أخرجه مسلم كتاب السالم‪ ،‬باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة النظرة ‪1726/4‬‬
‫( ‪) 198‬‬

‫بينما خالف في ذلك اإلمام أحمد في رواية‪ ،1‬وذهب إلى حرمة تعليق التمائم‬
‫مستدال بحديث‪« :‬إن الرقى‪ ،‬والتمائم‪ ،‬والتولة‪ 2‬شرك‪ »3‬وحديث عقبة بن عامر عن‬
‫النبي ‪" ‬من علق تميمة فقد أشرك‪ "4‬وحديث عقبة بن عامر أيضا‪ ،‬يقول‪ :‬سمعت‬
‫رسول هللا ‪ ‬يقول‪ " :‬من تعلق تميمة‪ ،‬فال أتم هللا له‪ ،‬ومن تعلق ودعة‪ ،‬فال ودع هللا‬
‫له‪."5‬‬
‫وقد ذهب اإلمام مالك في رواية عنه‪ ،6‬وكذلك أحمد في الرواية التي عليها‬
‫العمل في المذهب‪ 7‬إلى جواز تعليق التميمة في حال المرض‪ ،‬وإلى عدم جواز ذلك في‬
‫حال الصحة لقول عائشة‪" :‬التمائم ما علق قبل نزول البالء‪ ،‬أما ما علق بعد نزول‬
‫البالء فليس بتميمة‪."8‬‬
‫لكن يعلق ابن رشد الجد المالكي على قول اإلمام مالك في هذه الرواية بقوله‪:‬‬
‫"وال وجه من طريق النظر للتفرقة فيما كان منها بذكر هللا بين الصحة والمرض إال‬
‫اتباع قول عائشة في ذلك‪ ،‬إذ ال تقوله رأيا‪ ،‬وهللا أعلم‪ .‬وقول مالك الثاني أتبع لألثر؛‬
‫الستعمال اآلثار كلها بحمل النهي على ما ليس فيه ذكر هللا تعالى‪ ،‬وقول عائشة‬
‫على ما كان منها بذكر هللا‪."9‬‬
‫ويقصد بقول مالك الثاني هو أن النهي عن تعليق التمائم هو ما إذا كانت بغير‬
‫ذكر هللا‪ ،‬أما إذا كانت بذكر هللا فهي مشروعة في أي وقت أما قول عائشة إن التمائم‬
‫ما علق قبل نزول البالء‪ ،‬فهو محمول على من يفعل ذلك ليدفع قدر هللا تعالى اعتقادا‬

‫‪ 1‬كشاف القناع البهوتي ‪77/2‬‬


‫‪ 2‬التولة ضرب من السحر يحبب المرأة إلى زوجها‪ .‬وقال القارى ‪:‬والتولة بكسر التاء وبضم‪ ،‬وفتح‬
‫الواو نوع من السحر أو خيط يقرأ فيه من السحر أو قرطاس يكتب فيه شيء من السحر للمحبة أو‬
‫غيرها‪" .‬شرك" أي كل واحد منها قد يفضي إلى الشرك إما جليا وإما خفيا‪.‬‬
‫أما التولة بضم التاء‬
‫‪ 3‬أخرجه أبو داود‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬باب في تعليق التمائم ‪ 9/4‬وهو حديث صحيح‬
‫‪ 4‬أخرجه احمد ‪ ،637/28‬وهو حديث صحيح‬
‫‪ 5‬أخرجه أحمد في مسنده ‪ ،623/28‬وهو حديث حسن‬
‫‪ 6‬البيان والتحصيل ‪196/17‬‬
‫‪ 7‬تصحيح الفروع‪ :‬المرداوي ‪249/3‬‬
‫‪ 8‬أخرجه الحاكم في المستدرك ‪ 463/4‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد على شرط الشيخين ولم‬
‫يخرجاه‪ ،‬ووافقه الذهبي‬
‫‪ 9‬البيان والتحصيل‪ :‬ابن رشد ‪ 439/1‬دار الغرب اإلسالمي ‪-‬بيروت‬
‫( ‪) 199‬‬

‫يم ُة َما ُي َعَّل ُق َب ْع َد‬ ‫َّ ِ‬


‫منه أن التميمة تمنع نزول البالء بذاتها‪ ،‬ففي رواية البغوي‪َ" :‬ل ْي َس التم َ‬
‫ّللاِ‪. "1‬‬
‫الء‪ ،‬لِ َي ْدَف َع ِب ِه َمَق ِاد َير َّ‬
‫ول اْلب ِ‬
‫َ‬
‫الء‪ ،‬وَل ِك َّن التَّ ِميم َة ما عِّلق َقبل ُن ُز ِ‬
‫َ َ ُ َ َْ‬ ‫َ‬
‫ول اْلب ِ‬
‫َ‬
‫ُن ُز ِ‬
‫ول اْل َب َال ِء ِب ِه ْم ‪،‬‬ ‫وقد ذكر الطحاوي أن هناك قوم كانوا يكتوون أيضا َقبل ُن ُز ِ‬
‫َْ‬
‫َن َذلِك يمنع اْلب َالء أَن ين ِزل ِب ِهم ‪َ ،‬كما تَْفعل ْاألَعا ِجم‪ .‬وهو ِشر ِ‬
‫ك ألَنَّ ُه ْم َيْف َعلُ َ‬
‫ون ُه‬ ‫َ َ ُ َ ُ َ َُ ْ ٌ‬ ‫َي َرْو َن أ َّ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ْ‬
‫لِ َي ْدَف َع َق َد َر هللاِ َع ْن ُه ْم‪ ،‬ولذا فإن أحاديث النهي عن الكي قد تحمل على ذلك جمعا بينها‬
‫وبين أحاديث مشروعية الكي‪.2‬‬
‫ويؤيد مشروعية التمائم إذا كانت بذكر هللا تعالى‪ ،‬حتى ولو كانت قبل نزول‬
‫البالء‪ ،‬دون اعتقاد أنها تمنع البالء بذاتها‪ ،‬ما روي عن عائشة أيضا أنها قالت‪" :‬ال‬
‫بأس بتعليق التعويذ من القرآن قبل نزول البالء‪ ،‬وبعد نزول البالء‪."3‬‬
‫آن‪.‬‬ ‫اء‪َ :‬ال ُي َعُّد ِم َن التَّم ِائ ِم ما ُي ْكتَ ُب ِم َن اْلُق ْر ِ‬
‫طٌ‬‫ال َع َ‬ ‫َوَق َ‬
‫َ َ‬
‫النس ِ‬‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِِ‬ ‫وسِئل س ِعيد بن اْلمسِي ِب ع ِن ُّ ِ ِ‬
‫اء‬ ‫آن‪َ ،‬فُي َعل ُق َعَلى ّ َ‬ ‫الص َغ ِار َي ْكتُ ُب فيه اْلُق ْر ُ‬‫الص ُحف ّ‬ ‫َ ُ َ َ ُ ُْ َُّ َ‬
‫ِ‪4‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ير ِم ْن َوَر ٍق‪ ،‬أ َْو َحديد‪ ،‬أ َْو ُي َخ َّرُز َعَل ْيه ‪.‬‬ ‫ْس ِب َذِل َك ِإ َذا ُج ِع َل ِفي ِك ٍ‬ ‫ال‪َ :‬ال َبأ َ‬
‫ِ‬
‫الص ْب َي ِ‬
‫ان؟ َفَق َ‬ ‫َو ّ‬
‫وما ذهب إليه الجمهور هو األولى؛ ألن نصوص النهي محمولة على تمائم‬
‫الجاهلية‪ ،‬وما يظن أنه يجلب الخير ويدفع الشر بذاته –كما تقدم‪.-‬‬
‫ضوابط التداوي بالرقى والتمائم‪:‬‬
‫حتى تكون الرقية رقية شرعية فال بد لها من ضوابط معينة‪ ،‬هي‪:‬‬

‫‪ 1‬شرح السنة للبغوي ‪158/12‬‬


‫‪ 2‬شرح معاني اآلثار‪ :‬الطحاوي ‪321/4‬‬
‫‪ 3‬أخرجه الديلمي في مسند الفردوس‪ ،‬وقد ذكره ابن حجر في الغرائب الملتقطة من مسند الفردوس مما‬
‫ليس في األحاديث المشهورة (مخطوط)‪ ،‬وهو حديث حسن لغيره‪ ،‬وهذا إسناد ضعيف؛ ألن أحد رواته‬
‫سليمان بن أبي كريمة؛ ضعفه أبو حاتم‪ .‬وقال ابن عدي‪":‬عامة أحاديثه مناكير"‪.‬‬
‫وقد تعضد هذا الحديث بما رواه المستغفري بسنده عن ابن شهاب الزهري قال‪ :‬دخلت على أنس بن‬
‫مالك فرأيته يعلق التعويذ على ابن له فقلت له‪ :‬يا أبا حمزة هل نزل به بالء؟ قال‪ :‬ال ثم ضرب بيده‬
‫على منكبي فقال‪ :‬يا أبا بكر سمعت رسول هللا ‪ ‬يقول‪ :‬ال بأس بتعليق التعويذ من القرآن قبل نزول‬
‫البالء وبعد نزول البالء‪.‬‬
‫‪ 4‬شرح السنة للبغوي ‪158/12‬‬
‫( ‪) 200‬‬

‫‪ -1‬أن يكون للرقية أصل في القرآن أو السنة‪ .‬قال الربيع‪ :‬سألت الشافعي عن الرقى‪،‬‬
‫فقال‪" :‬ال بأس إن رقى بكتاب هللا أو بما يعرف من ذكر هللا"‬
‫ف‬ ‫ِ‬ ‫اهلِي ِ‬
‫ف ب ِن مالِ ٍك ْاأل َْشج ِع ِي‪َ ،‬قال‪ُ :‬كَّنا نرِقي ِفي اْلج ِ‬ ‫ِ‬
‫ول هللا َك ْي َ‬
‫َيا َرُس َ‬ ‫َّة َفُقْل َنا‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ ّ‬ ‫َع ْو ْ َ‬ ‫وع ْن‬
‫َ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ْس ِب ُّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك‪»1‬‬‫فيه ش ْر ٌ‬ ‫الرَقى َما َل ْم َي ُك ْن‬ ‫اك ْم‪َ ،‬ال َبأ َ‬
‫ضوا َعَل َّي ُرَق ُ‬‫اع ِر ُ‬
‫ال‪ْ « :‬‬
‫في َذل َك َفَق َ‬ ‫تَ َرى‬
‫ويفهم من هذا الحديث أنه ال يشترط في الرقية أن تكون بنصوص مأثورة من الكتاب‬
‫والسنة –وإن كان هذا أولى لما تمي از به من الشرف‪ ،‬وجوامع الكلم‪ -‬حيث يجوز الرقية‬
‫بكل دعاء وذكر ال مخالفة فيه للكتاب والسنة‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يعتقد أن الرقية ال تؤثر بذاتها‪ ،‬بل بتقدير هللا تعالى‬
‫‪ -3‬أن تكون الرقية بلغة مفهومة المعنى؛ ألنها إن لم تكن كذلك فال يؤمن معها الشرك‪.‬‬
‫‪ -4‬أن تكون الرقية مكتوبة بطاهر‪.‬‬
‫بناء على ما سلف‪ ،‬فإنه ال بأس ‪-‬إن شاء هللا تعالى‪ -‬من التداوي بالقرآن الكريم‪،‬‬
‫من نحو‪ :‬القراءة دون لمس للمرأة األجنبية المريضة‪ ،‬وعدم الخلوة بها‪ ،‬بل ال بد من‬
‫يض إلى قراءة سورة البقرة‪ ،‬أو‬
‫يوج َه المر ُ‬
‫وجود محرم لها مع غض البصر‪ ،‬ويحسن أن َّ‬
‫طَلة‪ ،‬أي‪:‬‬‫الب َ‬
‫االستماع إليها‪ ،‬لما ورد في فضلها‪ ،‬وأن أخذها بركة‪ ،‬وال تستطيعها َ‬
‫السحرة‪.‬‬
‫رقية المسلم للكافر‪ :‬ال يوجد نص يمنع رقية المسلم للكافر‪ ،‬بل هناك ما يؤيده‪ ،‬وهو‬
‫حديث أبي سعيد السابق في رقية سيد الحي الذي لدغ‪ ،‬فقد ذكر ابن القيم أن هؤالء‬
‫‪2‬‬
‫الحي غير مسلمين‪ ،‬أو أهل بخل ولؤم‬
‫حكم الرقية للوقاية ال للعالج‪:‬‬
‫إذا تعاطى بعض الناس الرقية وهم أصحاء للوقاية من المرض‪ ،‬فقد أجاز‬
‫جمهور الفقهاء هذا‪ ،‬وعليه يحمل سائر األذكار التي وردت عن النبي ‪ ‬صباحا‬
‫ومساء وعند النوم وفي كل األحوال‪.‬‬
‫لسَّن ِة‪.1‬‬
‫وب ِإَلي ِه ُمطَلاقا لِ ُّ‬
‫الرَقى َف َمنُد ٌ‬
‫َما ُّ‬
‫يقول القرافي المالكي‪َ :‬وأ َّ‬

‫‪ 1‬أحرجه مسلم كتاب السالم باب ال بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ‪1727/4‬‬
‫‪ 2‬مدارج السالكين ‪ ،178/1‬ويالحظ أن هذا الحديث يؤخذ منه أيضا االجتهاد عند عدم وجود النص‬
‫( ‪) 201‬‬

‫(‪)2‬‬
‫الموضوع الرابع‪ :‬التداوي بالمحرمات‬
‫مشروعية التداوي‪:‬‬

‫إن الشرع قد أباح لنا التداوي بالمباحات‪ ،‬فعن أبي الدرداء‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫‪« :‬إن هللا أنزل الداء والدواء‪ ،‬وجعل لكل داء دواء فتداووا وال تداووا بحرام‪.»3‬‬
‫الد ِاء‬
‫يب َد َواء َّ‬ ‫ول هللاِ ‪ ‬أََّنه َقال‪« :‬لِ ُك ِل د ٍاء دو ِ ِ‬ ‫وع ْن جاِب ٍر‪ ،‬ع ْن رس ِ‬
‫ُ‬ ‫اء‪َ ،‬فإ َذا أُص َ‬ ‫ّ َ ََ ٌ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ َ‬
‫َب َأَر ِبِإ ْذ ِن هللاِ َع َّز َو َج َّل »‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫ّللاِ‪ ،‬أ َأ‬


‫َرَْي َت أ َْد ِوَي ًة َنتََد َاوى ِب َها َوُرًقى‬ ‫ول َّ‬ ‫ال‪ُ :‬قْل ُت‪َ :‬يا َرُس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وع ْن َحكي ِم ْب ِن ح َازمٍ‪َ ،‬ق َ‬ ‫َ‬
‫ِ ‪5‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا» ‪.‬‬ ‫ال‪ِ« :‬إَّن َها م ْن َق َد ِر َّ‬ ‫َن ْستَ ْرِقي ِب َها أَتَُرُّد م ْن َق َد ِر َّ‬
‫ّللا؟ َق َ‬
‫فهذه النصوص تضمنت األمر بالتداوي‪ ،‬والحث عليه‪ ،‬وأنه من باب األخذ‬
‫باألسباب‪ ،‬ورفض التراخي واإلهمال‪.‬‬

‫التداوي بالمحرمات‪:‬‬

‫األصل أنه ال يجوز التداوي بالمحرمات‪ ،‬ما دام يوجد غير المحرم يقوم مقامه‬
‫في العالج‪ ،‬فإذا لم يوجد غير المحرم يقوم مقامه ففيه التفصيل اآلتي‪:‬‬

‫التداوي بالخمر (الكحول)‪:‬‬

‫(‪ )1‬الذخيرة‪ 311/13 :‬القرافي دار الغرب اإلسالمي ‪-‬بيروت‬


‫(‪ )2‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمرو محمد غانم‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬باب في األدوية المكروهة‪ ،‬وإسناده ضعيف‪ ،‬لكن له شاهد‪ ،‬رواه‬
‫أحمد في مسنده ‪ 50/20‬من حديث أنس أن رسول هللا ‪ ‬قال‪ " :‬إن هللا حيث خلق الداء‪ ،‬خلق‬
‫الدواء‪ ،‬فتداووا " وإسناده حسن‪.‬‬
‫(‪ (4‬أخرجه مسلم كتاب السالم‪ ،‬باب لكل داء دواء واستحباب التداوي ‪1729/4‬‬
‫اإل ْسَن ِاد َوَل ْم ُي َخِّرَجاهُ‪ ،‬ووافقه الذهبي‬
‫يح ِْ‬ ‫ِ‬
‫صح ُ‬‫يث َ‬‫(‪ )5‬أخرجه الحاكم في المستدرك‪ ،‬وقال َه َذا َح ِد ٌ‬
‫‪221/4‬‬
‫( ‪) 202‬‬

‫إن المادة التي من أجلها حرمت الخمر‪ ،‬هي مادة (الكحول) المسكرة‪ ،‬فإذا انتزعت‬
‫منها هذه المادة‪ ،‬فإنها ال تكون خمرا‪ ،‬وبناء على ذلك فإن حكم التداوي بالمواد‬
‫الكحولية‪ ،‬يعرف من خالل التعرف على حكم التداوي بالخمر‪ ،‬كما يأتي‪:‬‬

‫‪ -1‬يحرم التداوي بالخمر مطلقا‪ ،‬فال يجوز التداوي به ولو في حالة الضرورة‪ ،‬وقد‬
‫ذهب إلى ذلك الحنفية‪ ،1‬والمالكية‪ ،2‬وهو الصحيح عند الشافعية في هذه‬
‫النووي والرافعي أن حرمة التداوي هو الصحيح في‬ ‫المسألة حيث ذكر‬
‫المذهب‪ ،3‬وذهب إلى هذا أيضا الحنابلة في رواية‪ 4‬بل‪ ،‬يحد عند المالكية من‬
‫شرب الخمر للتداوي على الصحيح في المذهب‪5‬واستدلوا على ذلك بحديث َو ِائل‬
‫النِب َّي ‪َ ‬ع ْن اْل َخ ْم ِر َف َن َهاهُ َوَك ِرَه َل ُه‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ِق ْب َن ُس َوْيد اْل ُج ْعف َّي َسأ َ‬
‫َل َّ‬ ‫طار َ‬
‫َن َ‬ ‫بن حجر «أ َّ‬
‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اء» َرَواهُ‬ ‫ال‪َّ :‬إن ُه َل ْي َس ب َد َواء َوَلكَّن ُه َد ٌ‬ ‫ال‪َّ :‬إن َما أ ْ‬
‫َص َن ُع َها ل َّلد َواء َفَق َ‬ ‫ص َن َع َها َفَق َ‬
‫َن َي ْ‬ ‫أْ‬
‫ُم ْسلِ ٌم‪.‬‬
‫‪ -2‬بينما ذهب الشافعية فيما حكاه الرملي أنه األصح في المذهب إلى أنه ال‬
‫يجوز التداوي بالخمر الخالصة‪ ،‬أما إذا كانت ممزوجة بغيرها ومستهلكة فيه‬
‫جاز بشرط أال يوجد غيرها يقوم مقامها‪.6‬‬
‫‪ -3‬ولقد ذهب الحنابلة في رواية أخرى إلى جواز التداوي بالخمر للضرورة ما لم‬
‫‪7‬‬
‫فيتبين من القولين الثاني والثالث أن األدوية‬ ‫يوجد غير الخمر يقوم مقامها‬
‫التي تشتمل على مادة الكحول‪ ،‬إذا لم يوجد لها بديل يقوم مقامها‪ ،‬فإنه ال مانع‬
‫من التداوي بها‪ ،‬كما أن مادة الكحول إذا كانت قليلة جدا في الدواء‪ ،‬بحيث‬

‫‪ 1‬البحر الرائق ‪249/8‬‬


‫‪ 2‬الشرح الصغير ‪102/4‬‬
‫‪ 3‬المجموع ‪51/9‬‬
‫‪ 4‬كشاف القناع ‪200 ،116/6‬‬
‫‪ 5‬حاشية الدسوقي ‪353/4‬‬
‫‪ 6‬نهاية المحتاج ‪14/8‬‬
‫‪ 7‬الفروع ‪ ،242/3‬المحلى ‪376/12 ،175/6 ،176 ،175/1‬‬
‫( ‪) 203‬‬

‫تصبح في حكم عدم الوجود لقلتها‪ ،‬فإنه ال مانع من استعمال هذا الدواء على‬
‫أية حال‪ ،‬وهذا هو األولى بالقبول‪.‬‬
‫التداوي بغير الخمر من المحرمات‪:‬‬

‫اختلف الفقهاء في التداوي بالمحرمات من غير الخمر على قولين‪:‬‬

‫القول األول‪ :‬يجوز التداوي بالمحرمات من غير الخمر ما لم يوجد غيرها يقوم مقامها‪،‬‬
‫وقد ذهب إلى هذا جمهور الفقهاء من الحنفية‪ ،1‬والشافعية وهو المذهب عندهم‪ 2‬يقول‬
‫النووي‪ :‬وعليه يحمل حديث "إن هللا لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" فهو حرام عند‬
‫وجود غيره وليس حراما إذا لم يجد غيره‪ ،‬كما ذهب إلى هذا القول الظاهرية‪ ،3‬وهو‬
‫ووجه راجح عند الحنابلة اشترط فيه البهوتي قيام الضرورة‪ ،‬وتبعه المرداوي في ذلك‪،4‬‬
‫واستدلوا على ذلك بقول تعالى "إال ما اضطررتم إليه" والتداوي بمنزلة الضرورة‪ ،5‬وقد‬
‫ير عَلى سِب ِ‬
‫يل التََّد ِاوي‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ف و ُّ‬
‫الزَب ْي ِر ْب ِن اْل َع َّوا ِم ل َب َ‬
‫ٍ‬ ‫اح النبي ‪ ‬لِ َع ْبِد َّ ِ ِ‬
‫اس اْل َحر َ َ‬ ‫الر ْح َمن ْبن َع ْو َ‬ ‫َأب َ‬
‫ِم ْن اْل َح َّك ِة َواْلَق ْم ِل َواْل َو َج ِع»‪ ،‬كما أن التداوي عندما ال يوجد غير المحرم يقوم مقامه‪،‬‬
‫فإنه يكون بمنزلة الضرورة‪.6‬‬

‫القول الثاني‪ :‬ال يجوز التداوي بالمحرم‪ ،‬وهو مذهب المالكية‪ ،7‬ووجه عند الشافعية‪،8‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما روته أم سلمة أن رسول هللا ‪ ‬قال‪":‬إن هللا لم يجعل شفاءكم فيما‬
‫حرم عليكم‪."9‬‬

‫‪ 1‬لسان الحكام ‪ ،378‬حاشية ابن عابدين ‪340/6‬‬


‫‪ 2‬المجموع ‪50/9‬‬
‫‪ 3‬المحلى‪176/1 :‬‬
‫‪ 4‬المغني ‪ ،291/1‬الفروع ‪ ،242/3‬اإلنصاف‪340/1 :‬‬
‫‪ 5‬المحلى‪175/6 ،176/1‬‬
‫‪ 6‬المحلى‪175/6 ،176 ،175/1‬‬
‫‪ 7‬المنتقى شرح الموطأ‪ :‬الباجي ‪262/7‬‬
‫‪ 8‬المجموع ‪50/9‬‬
‫‪ 9‬أخرجه ابن حبان في صحيحه كتاب الطهارة‪ ،‬باب النجاسة وتطهيرها ‪ ،233/4‬وهو حديث حسن‬
‫( ‪) 204‬‬

‫القول الثالث‪ :‬يجوز التداوي بأبوال اإلبل خاصة‪ ،‬وهو وجه ثالث عند الشافعية‪ ،‬وقد‬
‫وصف النووي الوجهين اآلخرين بالشذوذ‪ ،1‬واستدلوا على ذلك بأن النص ورد في أبوال‬
‫اإلبل خاصة‪.2‬‬

‫الترجيح‪ :‬أرى ترجيح القول األول بجواز التداوي بالمحرم ما لم يوجد غيره‪ ،‬ألن حفظ‬
‫النفس من المقاصد التي عنيت الشريعة بحفظها‪ ،‬فيغلب جانب المصلحة ببقاء البدن‪،‬‬
‫على جانب مفسدة تناول المحرم‪ ،‬كما في أكل الميتة وشرب الخمر حال المخمصة‬
‫(الضرورة)‪ ،‬وعلى ذلك‪ ،‬فإنه ال مانع من التداوي بالمواد الكيماوية‪ ،‬التي تحتوي على‬
‫مواد مخدرة‪ ،‬ما لم يوجد غيرها يقوم مقامها‪ ،‬على أن يراعى مقدار حاجة المريض فقط‬
‫إلى هذا الدواء‪ ،‬دون زيادة عليه‪.‬‬

‫(‪)3‬‬
‫الموضوع الخامس‪ :‬الهندسة الوراثية‬
‫يقصد بها مجموعة وسائل تهدف إلى إجراء تبديل أو تعديل للمادة الوراثية عن‬
‫طريق الحمض النووي ‪ DNA‬في الخاليا الحية؛ فإذا استطعنا الوصول إلى الجين الذي‬
‫يحمل صفة لون العين مثال‪ ،‬واستطعنا التغيير فيه‪ ،‬فإن لون العين سيتغير في‬
‫المستقبل‪.‬‬
‫مجاالت استخدام الهندسة الوراثية‬
‫تستخدم الهندسة الوراثية في الحاالت اآلتية‪:‬‬
‫‪ -1‬العالج والدواء وتشخيص األمراض‬
‫حيث يتم توفير أنواع من الدواء مثل صناعة األنسولين لمرض السكر الناتج عن‬
‫تحطيم وتعطل الخاليا التي تفرز مادة األنسولين في البنكرياس‪ ،‬ومن المعلوم أن مادة‬
‫األنسولين هي المسؤولة عن تركيز السكر (الجلوكوز) في الدم‪ ،‬فانخفاضها يؤدي إلى‬
‫ارتفاع نسبة السكر كما يمكن أيضا صناعة هرمون السوماتوتروبين‪ ،‬التي يؤدي فقدها‬

‫‪ 1‬المجموع ‪51 ،50/9‬‬


‫‪ 2‬المجموع ‪50/9‬‬
‫(‪ )3‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمرو محمد غانم‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫( ‪) 205‬‬

‫في الجسم إلى حدوث حالة التقزم‬


‫واآلن يتم إيجاد أمصال ضد البلهاريزيا‪ ،‬ويتم تحضير أمصال للتطعيم ضد التهاب‬
‫الكبد الوراثي‪ ،‬وبفضل الهندسة الوراثية يمكن إنتاج لبن لألطفال من البكتيريا كلبن األم‬
‫وينعقد األمل في المستقبل لمعرفة الجين المسئول عن كل مرض وراثي‪ ،‬وإصالحه عن‬
‫طريق العالج بالجينات‪ ،‬فيكون بمثابة التطعيم ضد المرض من باب المرض الوقائي‪،‬‬
‫وذلك عن طريق االختبار الجيني أو المسح الجيني‪ ،‬ومن أجل ذلك تبذل جهود دولية‬
‫لوضع خريطة جينات اإلنسان (الجينوم) –أي المجموع الكلي للمعلومات الوراثية في‬
‫كل كائن حي‪ ،-‬ويؤمل أن توضح مواقع وصفات مائة ألف جين توجد داخل ‪46‬‬
‫كروموسوم‪ ،‬وكل جين من المائة ألف يضم ثالثة ونصف مليار معلومة وراثية وقد‬
‫تشترط بعض الشركات لضمان قبول التوظيف فيها أو استم ارره إجراء اختبارات جينية‪،‬‬
‫فإذا وجدت بعض األمراض الوراثية رفضت من يتقدم إلى العمل وهذا ال يجوز إال إذا‬
‫كان ذلك يضر ضر ار حقيقيا بالعمل‪ ،‬فاألصل فيه عدم جواز رفض الشخص بسبب‬
‫ذلك التحليل؛ ألنه قد يظل صحيحا معافى‪ ،‬فيكون رفضه في العمل من قبيل الرجم‬
‫بالغيب‪ ،‬قال تعالى‪" :‬وال تقف ما ليس لك به علم" باإلضافة إلى أن هذا عقاب‬
‫للشخص بما ال دخل له فيه‪ ،‬وهو يخالف منهج العدل الذي قامت عليه السماوات‬
‫واألرض‪ ،‬وقد يؤدي ذلك إلى ضياع الشخص لعدم وجود فرصة عمل بسبب ال دخل له‬
‫فيه ومن المنافع التي تحققها الهندسة الوراثية أيضا مواجهة الفيروسات المهددة للبشر‬
‫كاإليدز‪ ،‬وذلك عن طريق إيجاد مناعة طبيعية في جسم اإلنسان ضدها كما يمكن‬
‫عالج إصابة الرئة باألمراض التي قد تؤدي إلى الموت ‪-‬نتيجة تعطل البروتين الذي‬
‫يمنع تكثف سوائل الرئة‪ -‬عن طريق الهندسة الوراثية أيضا‪ ،‬حيث يؤخذ جين سليم من‬
‫شخص آخر‪ ،‬ويعمل على تكاثره‪ ،‬ثم يدخل هذا العدد في مادة ترش في مجرى النفس‬
‫للمريض لتدخل هذه الجينات السليمة إلى خاليا الرئة‪ ،‬وتلتحق بالسلم الحلزوني ‪DNA‬‬
‫لتحث الخاليا على إنتاج هذا البروتين وهنا تنشأ عدة احتماالت‪:‬‬
‫االحتمال األول‪ :‬أن يؤخذ هذا الجين من ميت بعد إذنه في الحياة‪ ،‬وهذا جائز‬
‫للضرورة‪ ،‬أو الحاجة الشديدة؛ ولما يعانيه المريض من شقاء‪ ،‬وألن مصلحة الحي أولى‬
‫( ‪) 206‬‬

‫من مصلحة الميت‪.‬‬


‫االحتمال الثاني‪ :‬أن يؤخذ الجين من حي‪ ،‬ويمكن تخريج هذه المسألة على مسألة‬
‫التبرع بالدم‪ ،‬حيث يجوز أيضا للحاجة الداعية إلى ذلك‪ ،‬باإلضافة إلى ما يؤخذ منه هو‬
‫جزء ضئيل جدا‪ ،‬بحيث يتسامح فيه‪ ،‬ما لم يوجد ضرر به‪.‬‬
‫كما يمكن إدخال هذه المسألة ضمن مسألة نقل األعضاء‪ ،‬وقد جاء في ق ار ارت‬
‫مجمع الفقه اإلسالمي المتعلقة باستزراع خاليا المخ في مزارع لإلفادة منها‪ ،‬جواز ذلك‬
‫إذا كان المصدر للخاليا المستزرعة مشروعا‪ ،‬وتم الحصول عليها على الوجه المشروع‪.‬‬
‫كما يمكن استخدام الهندسة الوراثية في عالج الخلية التناسلية الملقحة التي‬
‫تحتوي على جينات بها خلل أو مرض ما‪ ،‬عن طريق حقن الخلية التناسلية بجين سليم‪،‬‬
‫مع مالحظة أن الجين السليم في تلك الحالة ال يمكن أخذه إال من الخلية التناسلية‪،‬‬
‫وينشأ عن هذا احتماالت ثالثة‪.‬‬
‫االحتمال األول‪ :‬أن يؤخذ الجين السليم من نفس الزوج الذي لقحت البويضة‬
‫بخليته التناسلية (حال قيام الزوجية) وهذا جائز بعد تطبيق ضوابط مسألة طفل‬
‫األنبوب‪ ،‬حيث إنها تختص بحالة التلقيح في األنبوب ثم زرعها في الرحم‪.‬‬
‫االحتمال الثاني‪ :‬أن يؤخذ جين سليم من زوجة ثانية للرجل‪ ،‬لتعالج به الخلية‬
‫الملقحة‪ ،‬وهذه المسألة تتخرج على حالة التلقيح بين الرجل زوجته‪ ،‬ثم زرع الخلية‬
‫الملقحة في رحم الزوجة الثانية‪ ،‬وهو ما اختلف فيه الفقهاء‪ ،‬فذهب البعض إلى جوازه‪،‬‬
‫بينما ذهب مجمع الفقه اإلسالمي إلى عدم جوازه‪ ،‬يقول الدكتور عبد الناصر أبو‬
‫البصل‪ :‬فإذا أخذنا برأي المجيزين قلنا بجوازذلك من باب األولى؛ ألنه إذا كان يجوز‬
‫زرع البويضة كاملة في رحم الزوجة الثانية‪ ،‬فمن باب أولى يجوز أخذ جزء ضئيل جدا‬
‫من بويضة أو خلية الزوجة الثانية‪ ،‬كما أنه في تلك المسألة –عالج الخلية حاملة‬
‫المرض‪ -‬فإن البويضة المأخوذة من الزوجة ستزرع في رحمها هي مع تعديل طفيف‬
‫لصفة وراثية حاملة للمرض لكنني أرى في هذا الكالم نظرا‪ ،‬فهو تخريج مع الفارق حتى‬
‫لو قلنا بجواز زرع الخلية الملقحة في رحم زوجة ثانية للرجل –مع أني لست مع هذا‬
‫الرأي‪ -‬فإن صاحبة الرحم في حال مجرد استقبالها للخلية الملقحة ال تُزيد تلك الخلية‬
‫( ‪) 207‬‬

‫شيئا من خالياها‪ ،‬أما في حالة أخذ جين من صاحبة الرحم وحقنه في الخلية الملقحة‪،‬‬
‫فإن الولد يكون متكونا من المرأتين‪ ،‬األولى وهي صاحبة البويضة‪ ،‬والثانية وهي‬
‫صاحبة الجين السليم‪ ،‬مما يؤدي بدوره إلى اختالط األنساب‪ ،‬وهو ال يجوز‪.‬‬
‫االحتمال الثالث‪ :‬أن يؤخذ الجين السليم أو الخلية من رجل أو امرأة أجنبي‪ ،‬وهذا‬
‫حرام؛ ألنها في حكم التلقيح بين خلية امرأة ورجل أجنبي‪ ،‬فالتلقيح إنما هو لتكوين‬
‫الجنين بصفات أبويه الشرعيين‪ ،‬وهو من باب "ال تسق ماءك زرع غيرك‪."1‬‬
‫‪ -2‬النتاج وزيادته في مجال الحيوان والنبات‪:‬‬
‫حيث يمكن استخدام الهندسة الوراثية أيضا في استنساخ خاليا تحمل صفات‬
‫مرغوبة عن طريق تكاثرها وبخصوص الثروة الحيوانية‪ ،‬فإنه يمكن تكاثرها عن طريق‬
‫أخذ خلية مرغوب فيها‪ ،‬والعمل على تكاثرها‪ ،‬ثم زرعها في أرحام حيوانات قادرة على‬
‫الحمل‪.‬‬
‫‪ -3‬تعديل الصفات الوراثية وتغييرها في الحيوان‪:‬‬
‫حيث يمكن إدخال تعديالت على الصفات الوراثية للحيوان الحاملة لبعض‬
‫الصفات؛ إللغاء صفات غير مرغوب فيها‪ ،‬أو تعديل الجينات التي تحتوي على عيب‬
‫غير مقبول‪ ،‬والحالتان األخيرتان حكمهما الجواز‪ ،‬سواء لعالج األمراض أو لتحسين‬
‫السالالت أو لزيادة اإلنتاج؛ ألن هذه األشياء في األساس مسخرة لخدمة اإلنسان‪،‬‬
‫ومنفعته‪ ،‬لكن يشترط أن يكون هذا التعديل مأمونا من التغيير الذي يؤدي إلى العبث‬
‫بخلق هللا‪ ،‬كأن يجعل لبعض الحيوانات أعضاء من غيرها مثال‪.‬‬
‫كما يشترط أن يكون هذا التغيير مأمونا من االنقالب إلى سموم قاتلة أو مضرة أو‬
‫منشئة ألمراض فتاكة‪.‬‬

‫َّاس ر ِ‬
‫‪ 1‬هذا جزء من حديث َع ِن ْاب ِن َعب ٍ‬
‫ول ‪َ ‬ي ْوَم َخ ْيَب َر َع ْن َب ْي ِع‬ ‫ّللاُ َع ْن ُه َما‪ ،‬أََّن ُه َق َ‬
‫ال‪َ " :‬ن َهى َرُس ُ‬ ‫ضي َّ‬
‫َ َ‬
‫ض ْع َن ما ِفي ُب ُ ِ‬ ‫ِ‬
‫ال‪َ « :‬ال تَ ْس ِق َزْرعَ‬ ‫طوِنه َّن‪َ ،‬وَق َ‬ ‫َ‬ ‫ئن َحتَّى َي َ‬ ‫طَ‬ ‫اْل َغَنائ ِم‪َ ،‬حتَّى تُْق َس َم‪َ ،‬و َع ِن اْل َحَباَلى أ ْ‬
‫َن ُيو َ‬
‫السَبا ِع»‪ .‬أخرجه الحاكم في المستدرك‬ ‫ٍ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫غي ِرك‪ ،‬وعن ُلحو ِم اْلحم ِر ْاأل ِ ِ‬
‫َهليَّة‪َ ،‬و َع ْن َل ْح ِم ُك ّل ذي َناب م َن ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُُ‬ ‫َْ َ َ َ ْ ُ‬
‫اإل ْسَناد َوَل ْم ُي َخِّر َجاهُ " ووافقه الذهبي‪ ،‬وهو كذلك أما الجزء الذي في‬ ‫ِ‬ ‫يح ِْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صح ُ‬ ‫يث َ‬‫‪ ،64/2‬وقال‪َ :‬ه َذا َحد ٌ‬
‫الصلب فلم أجده بلفظه‪ ،‬وإن كان موجودا بمعناه كما سبق‪.‬‬
‫( ‪) 208‬‬

‫حكم تعديل بعض الصفات الوراثية لإلنسان‪:‬‬


‫إذا كنا نتحدث عن جواز إجراء تعديالت وراثية على الحيوان أو النبات‬
‫بضوابطه السابقة‪ ،‬فإن الكالم عن تعديل بعض الصفات الوراثية لإلنسان أكثر خطورة؛‬
‫وذلك لما للنفس اإلنسانية من حرمة عظيمة‪ .‬وتعديل الصفات الوراثية يتنوع إلى‬
‫نوعين‪:‬‬
‫النوع األول‪:‬‬
‫تعديل صفة وراثية تحتوي على خلل‪ ،‬كالعمى أو السرطان‪ ،‬أو أي مرض آخر‪ ،‬وهذا‬
‫جائز ألنه من باب التداوي؛ فإذا كان الجنين مصابا بمرض وراثي قبل الوالدة أو بعدها‬
‫ويمكن عالجه فإن التداوي واجب لعالج هذا المرض‪ ،‬عن أبي الدرداء‪ ،‬قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا ‪« :‬إن هللا أنزل الداء والدواء‪ ،‬وجعل لكل داء دواء فتداووا وال تداووا‬
‫الد ِاء‬
‫يب َد َواء َّ‬ ‫ول هللاِ ‪ ‬أََّنه َقال‪« :‬لِ ُك ِل د ٍاء دو ِ ِ‬
‫بحرام‪ »1‬وع ْن جاِب ٍر‪ ،‬ع ْن رس ِ‬
‫ُ‬ ‫اء‪َ ،‬فإ َذا أُص َ‬
‫ّ َ ََ ٌ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ َ‬
‫َب َأَر ِبِإ ْذ ِن هللاِ َع َّز َو َج َّل »‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫لكن يشترط في هذا المرض أن يكون هناك خطورة على حامله‪ ،‬أو إحداث‬
‫شين كبير فيه‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬التخلف العقلي‪ ،‬والتشوه الشديد‪ ،‬وتعدد العاهات‪ ،‬وسرطان‬
‫الدم مثال كما يشترط أيضا عدم استعمال جينات من خاليا تناسلية من غير الزوج‬
‫صاحب الخلية األصل؛ ألنه يأخذ حكم التلقيح بماء أجنبي‪ ،‬بخالف الخلية الجسدية‪.‬‬
‫النوع الثاني‪:‬‬
‫تعديل صفات وراثية في اإلنسان من أجل الحصول على نسل محسن‪ ،‬كزيادة‬
‫صفة الذكاء‪ ،‬أو تغيير لون البشرة أو العين وهذا حرام؛ إذا األصل في الدخول لخلية‬
‫اإلنسان الحظر إال لضرورة أو حاجة تنزل منزلة الضرورة وهي دفع الضرر‪ ،‬أما الحالة‬
‫التي نحن فيها فهي من باب التحسينات‪ ،‬فال تجوز‪ ،‬كما أن هللا تعالى قد خلق‬
‫اإلنسان في أحسن تقويم‪ ،‬فال يجوز تغيير خلق هللا تعالى‪ ،‬وال يقال إن كل حاالت‬

‫‪ 1‬أخرجه أبو داود‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬باب في األدوية المكروهة‪ ،‬وإسناده ضعيف‪ ،‬لكن له شاهد‪ ،‬رواه‬
‫أحمد في مسنده ‪ 50/20‬من حديث أنس أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال‪ " :‬إن هللا حيث خلق‬
‫الداء‪ ،‬خلق الدواء‪ ،‬فتداووا " وإسناده حسن‪.‬‬
‫‪ 2‬أخرجه مسلم كتاب السالم‪ ،‬باب لكل داء دواء واستحباب التداوي ‪.1729/4‬‬
‫( ‪) 209‬‬

‫تعديل الجينات في اإلنسان تغيير لخلق هللا؛ ألن المقصود بخلق هللا تعالى هو الصفة‬
‫األصلية التي خلق عليها اإلنسان‪ ،‬وهو خلق اإلنسان في أحسن تقويم‪ ،‬كما أن هناك‬
‫حاالت يكون الدخول فيها من باب التداوي‪ ،‬والتداوي مشروع كما سبق في النوع األول‪.‬‬
‫( ‪) 210‬‬

‫الوحدة السابعة‪:‬‬

‫عمليات التجميل‬

‫وتحتوي على‪:‬‬
‫عملية سحب الدهون من الجسم‪.‬‬ ‫الموضوع األول‪:‬‬
‫حكم قشر الوجه‪.‬‬ ‫الموضوع الثاني‪:‬‬
‫شد التجاعيد وتجميل األسنان واألعضاء‪.‬‬ ‫الموضوع الثالث‪:‬‬
‫األحكام المتعلقة بزراعة األعضاء‪.‬‬ ‫الموضوع الرابع‪:‬‬
‫استخدام األعضاء التعويضية (الصناعية)‪ ،‬وأثر ذلك في‬ ‫الموضوع الخامس‪:‬‬
‫الطهارة‪.‬‬
‫استخدام الشعر المستعار (الباروكة)‪.‬‬ ‫الموضوع السادس‪:‬‬

‫وكتبه كلها الدكتور‪ /‬عمرو محمد غانم مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫التكييف الفقهي لرتق غشاء البكارة‪.‬‬ ‫الموضوع السابع‪:‬‬

‫وكتبه الدكتورة زمزم عبد اللطيف أحمد‪ ،‬مدرس الفقه بكلية الدراسات‬
‫السالمية والعربية للبنات بالزقازيق‪.‬‬
‫( ‪) 211‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع األول‪ :‬عملية سحب الدهون من الجسم‬
‫تحدث عملية سحب الدهون نتيجة ِ‬
‫السمنة‪ ،‬حيث يتم إدخال أنبوبة امتصاص‬
‫تحت الجلد لسحب كميات كبيرة من الدهن‬
‫فبالرغم من وجود التمارين الرياضية والنظام الغذائي الصحي‪ ،‬إال أنه قد يبقى شيء من‬

‫الدهون في منطقة ّ‬
‫معينة من الجسم ال يجدي معها إال عملية الشفط‪ ،‬أو السحب‪.‬‬
‫وعملية شفط الدهون ليست وسيلة إلنقاص الوزن الزائد في الجسم كله؛ ألن‬
‫معينة فقط؛ إلزالة الدهون المستعصية‪.‬‬
‫هذه العملية تُجرى لمواضع ُ‬
‫والبطن من أشهر المناطق التي ُيشفط منها الدهن‪ ،‬كما أن هذه العملية قد‬
‫تُجرى في مناطق أخرى‪ ،‬كمنطقة أسفل الذقن والذراعين‪ ،‬باإلضافة إلى الثديين والخصر‬
‫واألفخاذ واألوراك وغيرها‪.‬‬
‫حكم سحب الدهون في الفقه السالمي‪:‬‬
‫إن سحب الدهون أو شفط الدهون قد يكون بقصد التداوي كأن يكون عالجاً‬
‫ألمراض نشأت عن تراكم الدهون في منطقة أو أكثر في الجسم‪ ،‬كآالم المفاصل‬
‫الم َرضية‪ ،‬بخاصة إذا أثَّرت الشحوم المتراكمة على القلب وتسبَّبت في‬
‫والظهر والسمنة َ‬
‫السكر وزيادة الكولسترول وقد يكون سحب الدهون‬
‫اإلصابة ببعض األمراض كالضغط و ّ‬
‫بقصد مجرد تحسين القوام فقط‪ ،‬وبناء على ذلك‪ ،‬فإن الحكم الشرعي يختلف باختالف‬
‫كل حالة‪.‬‬
‫فإن كان سحب الدهون بقصد التداوي فهو جائز‪ ،‬ويندرج تحت عموم أدلة‬
‫مشروعية التداوي‪ ،‬كما أن من القواعد المقررة أن (الضرر ُيزال) وقد جاءت الشريعة‬
‫بدفع المشقة الموجودة أو المتوّقعة تطبيقاً للقاعدة الفقهية (المشّقة تجلب التيسير)‪،‬‬
‫ومشقة المرض واأللم من أعظم المشاق التي أذن الشرع في إزالتها بكل وسيلة مباحة ال‬
‫يترتب عليها ضرر أكبر‪.‬‬
‫لكن يشترط لذلك شرطان‪:‬‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمرو محمد غانم‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫( ‪) 212‬‬

‫أن ال توجــد وســيلة أخــرى تقــوم مقامهــا‪ ،‬كالحميــة‪ ،1‬وتنــاول وجبــات معينــة فــي‬ ‫‪-1‬‬
‫متناول اإلنسان‪ ،‬والتمارين الرياضية‪ ،‬ونحوهما من األدوية النافعة‪ ،‬فإن العملية‬
‫فــي هــذه الحــال تكــون محرمــة‪ ،‬إذ ال حاجــة تــدعو إليهــا مــع وجــود بــدائل شــرعية‬
‫تغني عنها‬
‫‪ -2‬أن ال يترتب على هذه العملية ضرر أكبر‪.‬‬
‫أما سحب الدهون لتحسين القوام فقط‪ ،‬وتخفيف الوزن المعتاد‪ ،‬وإبراز المظهر‬
‫العا م مع أن الخلقة معتادة‪ ،‬وال يشكل ذلك حالة مرضية لإلنسان‪ ،‬فهذا ال يجوز؛ وذلك‬
‫أل ن األصل حرمة االعتداء على جسم المعصوم بقطع أو جرح إال لضرورة أو حاجة‬
‫معتبرة‪ ،‬وشفط الدهون في هذه الحالة ليس له ضرورة وال حاجة‪ ،‬إذ ال يترتَّب على تراكم‬
‫الدهون َم َرض أو اعتالل للجسم باإلضافة إلى أن هذه العملية ال يمكن إجراؤها في‬
‫الغالب إال باالطالع على العورات‪ ،‬ومن المقرر في الشريعة أن كشف العورة حرام إال‬
‫لحاجة تدعو إلى ذلك‪ ،‬وسحب الدهون لمجرد تحسين المظهر ال يعد حاجة معتبرة في‬
‫هذه الحالة إلباحة المحرم‪.‬‬
‫فضال عن أن تحسين القوام في هذه الحالة التي ليست بمرض‪ ،‬يمكن عن‬
‫طريق ممارسة الرياضة‪ ،‬والنظام الغذائي الصحي‪.‬‬

‫(‪)2‬‬
‫الموضوع الثاني‪ :‬حكم قشر الوجه‬
‫تتم عملية التقشير الكيميائي للوجه بوضع محلول كيميائي على بشرة الوجه؛‬
‫لتقوم هذه المادة بسلخ وتقشير الجلد‪ .‬وهذه العملية تتم في دقائق معدودة‪ ،‬ثم في‬
‫غضون عدة أيام يتجدد الجلد وتتكون طبقة جديدة أكثر نعومة وخالية من التجاعيد‪،‬‬
‫وقد يتم التقشير السطحي بمواد خفيفة التركيز على عدة جلسات‪ ،‬أو يكون أكثر عمقا‬
‫حسب تركيز المادة المستعملة‪.‬‬

‫‪ 1‬الحمية‪ :‬اإلقالل من الطعام‬


‫(‪ )2‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمرو محمد غانم‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫( ‪) 213‬‬

‫أما الصنفرة أو الكحت للجلد فإن ذلك يتم باالستعانة بجهاز صغير يقوم‬
‫بتحريك فرشاة على شكل دائري وبدورات عالية السرعة‪ ،‬وتقوم هذه الفرشاة بإزالة الزوائد‬
‫والنتوءات مع إزالة السطح البارز وتسويته‪ ،‬ثم تتجدد الخاليا في غضون أيام‪.‬‬

‫ويتم اندمال الجرح في غضون ‪ 10‬أيام‪ ،‬ولكن يجب على المريض تفادي أشعة‬
‫الشمس بعد العملية لمدة من ‪ 3‬إلى ‪ 6‬أشهر‪ ،‬وقد ينتج عن الصنفرة أحيانا بعض‬
‫المضاعفات مثل تغير في لون الجلد سواء إلى األغمق أو األفتح‪ ،‬وقد تتسبب هي‬
‫أحيانا في ظهور نتوءات أخرى‪.‬‬

‫حكم تقشير الوجه‪:‬‬


‫لقد ذهب بعض العلماء إلى حرمة قشر الوجه؛ لحديث عائشة ‪-‬رضي هللا عنها‪-‬‬
‫قالت‪ " :‬كان رسول هللا ‪ ‬يلعن القاشرة والمقشورة والواشمة والموتشمة والواصلة‬
‫والمتصلة‪."1‬‬
‫والحديث وإن قيل في إسناده ما قيل فإن األخذ بما دل عليه من التحريم هو‬
‫مذهب بعض العلماء؛ ألن في التقشير تغيي ار لخلق هللا والقاشرة هي التي تقشر وجه‬
‫غيرها ليصفو وجهها‪ ،‬والمقشورة هي التي يفعل بها ذلك قال السفاريني في غذاء‬
‫األلباب في شرح منظومة اآلداب‪ :‬قال ابن الجوزي‪ :‬فظاهر هذه األحاديث تحريم هذه‬
‫األشياء التي قد نهي عنها على كل حال‪ ،‬وقد أخذ بإطالق ذلك ابن مسعود ‪-‬على ما‬
‫روينا‪ -‬ويحتمل أن يحمل ذلك على أحد ثالثة أشياء‪ :‬إما أن ذلك كان شعا ار للفاجرات‪،‬‬
‫َّ‬
‫فيكن المقصودات به‪ ،‬أو أن يحمل على أنه مفعول للتدليس على الرجل‪ ،‬أو أنه‬
‫يتضمن تغيير خلقة هللا تعالى‪ ،‬كالوشم الذي يؤذي اليد ويؤلمها‪ ،‬وال يكاد يستحسن‪،‬‬
‫وربما أثر القشر في الجلد تحسنا في العاجل‪ ،‬ثم يتأذى به الجلد فيما بعده‪. 2‬‬

‫‪ -1‬أخرجه أحمد في مسنده ‪ ،226/43‬وهو حديث صحيح عدا قوله‪" :‬القاشرة والمقشورة"‪.‬‬
‫‪-2‬غذاء األلباب في شرح منظومة اآلداب ‪432 ،431/1‬‬
‫( ‪) 214‬‬

‫وخالصة القول في هذه المسألة‪ ،‬أنه إذا كان القشر عالمة على الفاسقات –‬
‫على فرض أنهن يعرفن به‪ ،-‬أوكانت المرأة المسنة تفعله للتدليس على الرجال وبيان‬
‫صغر سنها‪ ،‬فهذا هو القشر المحرم أما إذا كان هذا القشر عالجا للنتوءات الموجودة‬
‫في الوجه‪ ،‬رجوعا إلى الخلقة المعهودة‪ ،‬فهذا ال بأس به؛ ألنه من قبيل التداوي وقد‬
‫ان َشيء حدث َف َال‬ ‫سئلت عائشة‪- ،‬رضي هللا عنها‪َ -‬عن قشر الوجه‪َ ،‬فَقاَلت‪ :‬إن ك‬
‫َ َ ْ‬
‫َبأْس بقشره‪َ ،‬وِفي لفظ‪ِ :‬إن َك َ‬
‫ان َّ‬
‫للزْوج فافعلي‪.1‬‬

‫(‪)2‬‬
‫الموضوع الثالث‪ :‬شد التجاعيد وتجميل األسنان واألعضاء‬
‫تحدث التجاعيد في الجسم نتيجة فقدان الجلد لمرونته‪ ،‬ووقف حيوية بعض‬
‫خالياه‪ ،‬وهو أمر طبيعي في الشيخوخة؛ ألن مرونة الجلد تقل‪ ،‬أما في الشباب فيكون‬
‫ألسباب غير طبيعية‪ ،‬منها‪ :‬اإلسراف في المخدرات‪ ،‬واألمراض العصبية والنفسية وشد‬
‫التجاعيد إذا كان بسبب الشيخوخة‪ ،‬فهو ال يجوز؛ لما فيه من التدليس أما إذا كان‬
‫ألسباب مرضية‪ ،‬فهو جائز؛ ألنه في تلك الحالة من قبيل التداوي‪ ،‬بشرط أن ال يؤدي‬
‫إلى ضرر أكبر‪.‬‬
‫تجميل األسنان بالتفليج‪:‬‬
‫التفليج أو الوشر معناه‪ :‬برد األسنان بمبرد ونحوه لتحديدها وتحسينها وإحداث‬
‫فرجة بينها وقد اتفق الفقهاء على حرمة التفليج بقصد التدليس وإظهار صغر السن‪ ،‬ال‬
‫ّللاِ بن مسعود أن رسول هللا ‪ ‬قال‪َ« :‬ل َع َن َّ‬
‫ّللاُ‬ ‫بقصد المعالجة والتداوي؛ لما روى َع ْبد َّ‬
‫ّللاِ‬
‫ات َخْل َق َّ‬ ‫ات لِْلحس ِن‪ ،‬المغِير ِ‬
‫ات‪ ،‬والمتََفّلِج ِ‬‫ات‪ ،‬والمتَن ِمص ِ‬
‫ات والمستَوِشم ِ‬
‫الو ِاشم ِ‬
‫ُ َ َّ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ ُ َّ َ‬ ‫َ ُْ ْ َ‬ ‫َ َ‬
‫‪3‬‬
‫تَ َعاَلى »‪ .‬وعلى ذلك‪ ،‬فإنه ال يجوز تغيير هيئة األعضاء بالتصغير أو التكبير إذا‬
‫كان العضو في حدود الخلقة المعهودة‪.‬‬

‫‪ 1‬عمدة القاري‪ :‬العيني ‪193/20‬‬


‫(‪ )2‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمرو محمد غانم‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري كتاب اللباس‪ ،‬باب المتفلجات للحسن ‪ ،164/7‬ومسلم كتاب اللباس والزينة‪ ،‬باب‬
‫تحريم فعل الواصلة والمستوصلة ‪1678/3‬‬
‫( ‪) 215‬‬

‫تجميل األعضاء بقطع الزوائد‪:‬‬


‫لقد اختلف الفقهاء في جواز قطع العضو الزائد في اإلنسان‪ ،‬كما إذا كان له‬
‫أصبع زائدة أو سن زائدة‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم في تلك المسألة يرجع إلى اعتبار هذه الزوائد جزء من الخلقة‪ ،‬أو عدم‬
‫اعتبارها كذلك فذهب اإلمام أحمد إلى عدم جواز قطع العضو الزائد‬
‫بينما ذهب أكثر الفقهاء إلى جواز ذلك؛ ألنه عيب ونقص في الخلقة المعهودة‪ ،‬بينما‬
‫قطعها يزيل هذا العيب وعلى هذا فإنه يجوز قطع هذه األعضاء الزائدة‪ ،‬بشرط أن ال‬
‫يترتب على قطعها ضرر أكبر‪ ،‬كتلف عضو أصلي‪ ،‬أو ضعفه‪.‬‬
‫قطع جزء من اآلدمي لزرعه في محل العضو المبتور لبنائه من جديد‪:‬‬
‫إذا تعرض عضو لبتر مثال‪ ،‬فقد ُيقطع جزء من اآلدمي ويزرع في مكان‬
‫المبتور‪ ،‬ومن ذلك بناء األنف من الجبهة أو من جدار البطن‪ ،‬ثم تقوى بعظم يؤخذ‪،‬‬
‫إما من القفص الصدري أو الحوض‪.‬‬
‫فما حكم ذلك في الشرع؟‬
‫يذكر الفقهاء‪ ،‬كاإلمام النووي أن للمضطر أن يقطع جزءا من فخذه ليأكله‪ ،‬ما‬
‫لم يترتب على ذلك خوف مساو للخوف من ترك األكل أو أكثر‪ ،‬وال يجد غير ذلك‬
‫إلنقاذه من الهالك‪.1‬‬
‫فإذا جاز أخذ القطعة من الجسم لألكل‪ ،‬وهو إتالف لها بالكلية‪ ،‬جاز أخذ‬
‫الجلدة لزرعها في موضع من جسمه إلزالة شين فاحش‪ ،‬بشرط أن ال يوجد بديل آخر‪،‬‬
‫وأن ال يترتب على القطع ضرر أكبر‪.‬‬
‫زرع الشعر في الرأس بحيث يكون ناميا‪:‬‬
‫إجراء عملية زرع الشعر في الرأس بحيث يكون ناميا جائز؛ ألنه ال تدليس‬
‫فيه‪ ،‬بل هو رجوع إلى الخلقة القويمة التي جبل عليها اإلنسان‪ ،‬كما أن هذا من باب‬
‫التداوي المأذون به؛ ألنه استنبات في محله‪ .‬ما لم يفعله الشيخ الكبير بقصد التدليس‬
‫على الناس واألصل في الجواز ما رواه عبد الرحمن بن طرفة أن جده عرفجة بن سعد‬

‫‪ 1‬المجموع ‪45/9‬‬
‫( ‪) 216‬‬

‫قطع أنفه يوم الكالب‪ 1‬فاتخذ أنفاً منَ ِورق (فضة) فأنتن عليه فأمره النبي ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬فاتخذ أنفاً من ذهب‪.2‬‬
‫أما أثر ذلك في العبادات‪:‬‬
‫ففي مسح الرأس في الوضوء‪ ،‬أو غسله في الغسل الواجب‬
‫إن كان ال يشق نزع هذا الشعر لزم نزعه ومسح ما تحته في الوضوء‪ ،‬وغسله في‬
‫الغسل‪ ،‬وإن كان يشق نزعه أو يتضرر به فال ينزعه‪ ،‬ويمسح عليه في الوضوء‪ ،‬وكذلك‬
‫يغسله حال االغتسال‪.‬‬
‫وأما في الحج والعمرة‪ ،‬فإنه ال حلق عليه وال تقصير؛ ألنه شعر اصطناعي‪،‬‬
‫وإنما يجب عليه أن يحلق أو يقصر ما على رأسه من الشعر الطبيعي فقط إن كان‬
‫على رأسه شعر طبيعي‪.‬‬
‫الوشم‪:‬‬
‫الوشم يعني‪ :‬أن يغرز العضو بإبرة حتى يسيل الدم‪ ،‬ثم يحشى موضع الغرز‬
‫بالكحل أو النورة أو المداد فيخضر أو يزرق وقد أجمع العلماء على تحريم الوشم على‬
‫الفاعلة والمفعول بها؛ لما فيه من التدليس وتغيير خلق هللا‪ ،‬وذلك إذا كان باختيارها‪،‬‬
‫ولذا ال تأثم البنت الصغيرة إذا فعل بها هذا‪ ،‬وكذا من حصل له الوشم نتيجة احتكاك‬
‫جسمه بسبب حادث مثال‪ ،‬كما ال يأثم من حدث له ذلك نتيجة عملية جراحية أو مرض‬
‫ما‪ ،‬ويؤيد هذا االستثناء رواية ابن عباس‪ " :‬والمستوشمة‪ ،‬من غير داء‪."3‬‬

‫(‪)4‬‬
‫الموضوع الرابع‪ :‬األحكام المتعلقة بزراعة األعضاء‬
‫في البداية يجب أن نفرق بين بيع األعضاء والتبرع باألعضاء فبيع األعضاء‬
‫حرام؛ ألنه من قبيل بيع اإلنسان‪ ،‬وبدن اإلنسان مما ال يجري عليه البيع؛ لما فيه من‬

‫صرة َو ْال ُكوفَ ِة‬


‫يف‪ :‬ا ْس ُم ماءٍ ‪َ ،‬و َكانَ بِ ِه يوم َم ْع ُروف ِم ْن أَي ِهام ال َعرب بَيْنَ البَ ْ‬
‫‪ 1‬ال ُك َالب بِالض ِهم َوالت ه ْخ ِف ِ‬
‫‪ 2‬أخرجه أبو داود كتاب الخاتم‪ ،‬باب ما جاء في ربط األسنان بالذهب ‪ ،92/4‬وهو حديث حسن‬
‫‪ 3‬أخرجه أبو داود‪ ،‬كتاب الترجل‪ ،‬باب في صلة الشعر وهو حديث صحيح‬
‫‪ 4‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمرو محمد غانم‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫( ‪) 217‬‬

‫انتهاك حرمته وكرامته‪ ،‬وقد نهى النبي ‪ ‬عن بيع الحر‪ ،‬فقال" ثالثة أنا خصمهم يوم‬
‫القيامة‪........‬ورجل باع ح ار فأكل ثمنه‪."1‬‬

‫أما التبرع باألعضاء‪ ،‬فقد اختلف في حكمه على قولين‪:‬‬

‫القول األول‪ :‬هو أنه ال يجوز التبرع باألعضاء‪ ،‬ومن أشهر من قال بهذا القول الشيخ‬
‫محمد متولي الشعراوي –رحمه هللا تعالى‪-‬ويستدل على ذلك بأن اإلنسان ليس ملكا‬
‫لبدنه حتى يتصرف فيه‪ ،‬إنما المالك له هو هللا تعالى لكن يناقش هذا القول‪ ،‬بأننا نسلم‬
‫أن جسم اإلنسان ملك هلل تعالى‪ ،‬لكن في الحقيقة كل شيء في الكون ملك هلل تعالى‪،‬‬
‫فالمال أيضا ملك هلل تعالى‪ ،‬ومع ذلك جاز لنا التصرف فيه وفق ضوابط الشرع‪ ،‬فملكية‬
‫هللا تعالى لألشياء ال تمنع جواز التصرف فيها على وفق مراد الشرع‪.‬‬

‫القول الثاني‪ :‬وهو ما يقول به أكثر الفقهاء المعاصرين وهو جواز التبرع باألعضاء‬
‫بشروط سيأتي ذكرها –إن شاء هللا تعالى‪ -‬واستدلوا على ذلك بما يأتي‪:‬‬

‫‪ -1‬األصل في األشياء اإلباحة ما لم يوجد دليل على التحريم‪.‬‬

‫‪ -2‬القياس على حل أكل الميتة للمضطر‪ ،‬بجامع تحقق الضرورة وهي إحياء‬
‫النفس البشرية التي أمر الشرع بحفظها‬
‫شروط التبرع باألعضاء‪:‬‬
‫‪-1‬أن ال يكون العضو المتبرع به عضوا وحيدا في الجسم كالقلب والكبد‬
‫والبنكرياس‪.‬‬
‫‪-2‬أن ال يكون هذا العضو من األعضاء الظاهرة لإلنسان التي يلحقه به تشويه‬
‫لخلقته‪ ،‬أو من األعضاء التي يترتب على فقدانها زوال وظيفة أساسية في الحياة‪ ،‬مثل‬
‫العين واألذن واليد والرجل‪.‬‬
‫‪-3‬أن ال يكون عضوا من األعضاء التناسلية التي تؤدي إلى اختالط األنساب أو‬
‫حرمة االستمتاع‪.‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬كتاب البيوع‪ ،‬باب إثم من باع حرا ‪82/3‬‬


‫( ‪) 218‬‬

‫‪-4‬أن ال يلحق المتبرع ضرر بسبب التبرع‪.‬‬


‫‪-5‬استئذان المتبرع إذا كان حيا‪ ،‬أو استئذان أهله إذا كان ميتا‪ ،‬أو وصيته بذلك قبل‬
‫موته‪.‬‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬فإن أحكام زراعة األعضاء تتلخص فيما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر‪ ،‬إن كان هذا العضو‬
‫يتجدد تلقائياً‪ ،‬كالدم والجلد‪ ،‬ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل األهلية‪.‬‬
‫‪ -2‬تجوز االستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية‬
‫لشخص آخر‪ ،‬كأخذ قرينة العين إلنسان ما‪ ،‬عند استئصال العين لعلة مرضية‪.‬‬
‫‪ -3‬يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب‪ ،‬من إنسان حي إلى إنسان آخر‪ ،‬كما‬
‫يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف‬
‫سالمة الحياة عليها‪ ،‬كنقل قرنية العينين كلتيهما‪.‬‬
‫‪ -4‬يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو‪ ،‬أو تتوقف‬
‫سالمة وظيفة أساسية فيه على ذلك‪ .‬بشرط أن يأذن الميت أو ورثته بعد موته‪ ،‬أو‬
‫بشرط موافقة ولى المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو ال ورثة له‪. 1‬‬
‫‪-5‬يجوز نقل عضو من حيوان طاهر إلى اإلنسان‪ ،‬ما دام فيه مصلحة‪ ،‬بشرط أن‬
‫يكون هذا الحيوان طاه ار مثل بهائم األنعام‪ ،‬فغن كان الحيوان نجسا مثل الخنزير‪ ،‬فإن‬
‫االصل عدم جواز ذلك ما دام له بديل آخر؛ ألنه يترتب عليه بطالن طهارة اإلنسان‪،‬‬
‫بسبب النجاسة‪ ،‬ومن ثم بطالن صالته‪ ،‬أما إذا لم يكن هناك بديل آخر‪ ،‬فإن الشخص‬
‫يكون معذو ار في تلك الحالة‪ ،‬فال بأس بذلك‪ ،‬فيجوز االستفادة به في تلك الحالة في‬
‫زرع شريان أو بنكرياس‪ ،‬في حالة عدم وجود ما يقوم مقامه‪.‬‬

‫‪ 1‬انظر قرار مجمع الفقه اإلسالمي –جدة‪-‬جمادى اآلخرة ‪1408‬هـ بشأن انتفاع اإلنسان بأعضاء‬
‫جسم إنسان آخر‪ ،‬حيا أو ميتا‬
‫( ‪) 219‬‬

‫الموضوع الخامس‪ :‬استخدام األعضاء التعويضية (الصناعية)‪ ،‬وأثر ذلك‬


‫(‪)1‬‬
‫في الطهارة‬
‫قد يتعرض اإلنسان لبتر في ساقه أو يده أو غير ذلك بسبب حادث ما‪ ،‬وربما قد خلق‬
‫هكذا ناقص األصابع عن المعتاد أو غير ذلك‪ ،‬وقد يؤدي به الحال إلى استخدام‬
‫األعضاء الصناعية وتركيبها حتى تساعده على أداء أعماله بطريقة طبيعية‪ ،‬فيقوم‬
‫بتركيب يد صناعية مثال‪ ،‬أو قدم صناعية‪ ،‬كما توجد بعض حاالت الصلع عند الناس‬
‫إما بسبب تعرضهم لألشعة الكيميائية رجاال أو نساء‪ ،‬وإما ألسباب وراثية‪ ،‬فيقومون‬
‫باستخدام الشعر المستعار (الباروكة)‪.‬‬
‫فما األحكام الفقهية المتترتبة على ذلك في العبـادات‪ ،‬عنـد الطهـارة للوضـوء أو‬
‫االغتسال‪ ،‬أو الحج عند الحلق أو التقصير للشعر؟‬
‫تركيب عضو صناعي (تعويضي)‪:‬‬
‫إذا فقد اإلنسان أحد أعضائه‪ ،‬أو خلق ناقص بعض األعضاء‪ ،‬وكان مـن األعضـاء‬
‫التي يجب تطهيرها‪ ،‬فقد سقطت الطهارة لهذا العضو في الوضـوء أو االغتسـال‪ ،‬لسـقوط‬
‫محل الطهـارة ‪ ،2‬والتكليـف فـي الشـريعة يكـون بقـدر الوسـع‪ ،‬فـال تكليـف إال بمقـدور‪ ،‬قـال‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ّللاُ َنْف ًس ــا ِإال َم ــا آتَ َ‬
‫اه ــا‪3‬لك ــن ق ــد يق ــوم ص ــاحب العض ــو المبت ــور أو‬ ‫ـف َّ‬
‫تع ــالى‪َ " :‬ال ُي َكّل ـ ُ‬
‫النــاقص بتركيــب عضــو صــناعي يقــوم مقــام العضــو األصــلي –وهــو مــا يصــطلح عليــه‬
‫باس ــم العض ــو التعويض ــي‪ ،-‬حت ــى يس ــاعده عل ــى أداء أعمال ــه بطريق ــة طبيعي ــة أو ش ــبه‬
‫طبيعية‪ ،‬فيقوم بتركيب يد صناعية مثال‪ ،‬أو قدم صناعية فما حكم طهارة تلك األعضـاء‬
‫أثناء الوضوء أو االغتسال؟‬
‫حكم طهارة األعضاء التعويضية إذا لم تكن ساترة لمحل الفرض‪:‬‬
‫إن هذه األعضاء‪ -‬كما سبق في الباروكة‪ -‬ليست جزءا من اإلنسان‪ ،‬وليست‬
‫من مكونات البدن التي يمكن أن تندمج وتتفاعل مع سائر أعضاء الجسد‪ ،‬وإنما هي‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمرو محمد غانم‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ 2‬غاية البيان شرح زيد بن رسالن ‪66/1‬‬
‫‪ 3‬من اآلية ‪ 7‬سورة الطالق‬
‫( ‪) 220‬‬

‫كاآللة الخارجة عنه التي يستعين بها في قضاء مصالحه وحاجاته‪ ،‬ولذلك فإنه ال‬
‫يجب طهارتها في الوضوء أو الغسل‪ ،‬وإنما يجب طهارة ما تبقى من العضو األصلي‬
‫إذا كان هناك جزء منه ال يزال باقيا‪ ،‬كما إذا قطع جزء من يد اإلنسان فقط‪ ،‬فإنه‬
‫يجب طهارة الجزء الباقي في محل الفرض‪ ،‬أما العضو الصناعي فال تجب طهارته‬
‫فمثالً من قطعت يده إلى الساعد فإنه يغسل ما بقي من الساعد إلى المرفق‪ ،‬لقوله‬
‫ط ْعتُ ْم‪ ،} 1‬ولقول النبي ‪( :‬وإذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما‬
‫استَ َ‬ ‫تعالى‪َ{ :‬فاتَُّقوا َّ‬
‫ّللاَ َما ْ‬
‫استطعتم‪ .)2‬أما إذا قطعت اليد إلى نهاية المرفق سقط غسلها لسقوط محل الغسل‪.‬‬
‫ومما يستدل به على أن العضو التعويضي (الصناعي) ال يجب طهارته‪:‬‬
‫وه ُك ْم َوأ َْيِد َي ُك ْم ِإَلى‬ ‫الص َال ِة َف ْ ِ‬
‫اغسُلوا ُو ُج َ‬ ‫ين آ َمُنوا ِإ َذا ُق ْمتُ ْم ِإَلى َّ‬ ‫قوله تعالى‪ :‬يا أَي َّ ِ‬
‫ُّها الذ َ‬ ‫َ َ‬
‫َّ‬ ‫اْلم َرِاف ِق وامس ُحوا ِب ُرء ِ‬
‫ضى‬ ‫وس ُك ْم َوأ َْرُجَل ُك ْم ِإَلى اْل َك ْع َب ْي ِن َوإِ ْن ُك ْنتُ ْم ُجُنًبا َفاط َّه ُروا َوإِ ْن ُك ْنتُ ْم َم ْر َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ‬
‫اء َفتََي َّم ُموا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫أَو عَلى سَف ٍر أَو جاء أ ِ‬
‫اء َفَل ْم تَجُدوا َم ً‬ ‫الن َس َ‬
‫َحٌد م ْن ُك ْم م َن اْل َغائط أ َْو َال َم ْستُ ُم ّ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ِ ‪3‬‬
‫يك ْم م ْن ُه "‬ ‫ِ‬
‫ام َس ُحوا ِب ُو ُجوِه ُك ْم َوأ َْيد ُ‬ ‫ص ِع ًيدا َ ِ‬
‫طّيًبا َف ْ‬ ‫َ‬
‫وجه الداللة‪:‬‬
‫إن هللا تعالى أمر بغسل أعضاء معينة حالة الوضوء هي جزء من اإلنسان بكاف‬
‫الخطاب في قوله تعالى"وجوهكم وأيديكم‪ "....‬وفي الجنابة أمره بغسل جميع بدنه‪،‬‬
‫والعضو الصناعي ليس جزءا من اإلنسان حتى تتضمنه كاف الخطاب‪ ،‬أو يتضمنه‬
‫عموم قوله تعالى "فاطهروا"‬
‫حكم طهارة األعضاء التعويضية إذا كانت ساترة لمحل الفرض‪:‬‬
‫إذا كانت األعضاء التعويضية ساترة لمحل الفرض في الوضوء أو‬
‫االغتسال‪ ،‬أو ساترة لجزء منه كبعض أجهزة القدم أو غيرها التي تركب على العضو‬
‫األصلي وهو القدم هنا‪ ،‬فإن تيسر نزعها فالواجب نزعها عند إرادة الوضوء‪ ،‬أو‬
‫االغتسال لمباشرة الطهارة في األعضاء المأمور بها‪ ،‬وإن تعذر نزع العضو التعويضي‬

‫‪ 1‬من اآلية ‪ 16‬سورة التغابن‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري كتاب االعتصام بالكتاب والسنة باب االقتداء بسنن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫‪94/9‬‬
‫‪ 3‬من اآلية ‪ 6‬سورة المائدة‬
‫( ‪) 221‬‬

‫كان في تلك الحالة بمنزلة الجبيرة‪ ،‬وقد تقدم حكمها من وجوب المسح عليها دفعا للحرج‬
‫والمشقة‪- ،‬وقد تقدمت األدلة على ذلك فلتراجع‪ ،-‬فيجب المسح على العضو‬
‫التعويضي بدال عن غسل العضو األصلي في تلك الحالة‪ ،‬كما يجب التنبيه على أن‬
‫تلك األعضاء التعويضية يجب غسلها إن أصابتها نجاسة ما دامت مركبة في جسم‬
‫اإلنسان أو عضو من أعضائه سواء كانت ساترة لمحل الفرض أو ال؛ ألنها بمنزلة‬
‫الثوب النجس في تلك الحالة‪ ،‬وقد أمر تعالى بتطهير الثياب في قوله تعالى‪" :‬وثيابك‬
‫فطهر"‪.‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع السادس‪ :‬استخدام الشعر المستعار (الباروكة)‬
‫قد يكون استخدام الباروكة ألجل التجمل والتزين‪ ،‬ال لمرض أو عيب‪ ،‬وقد يكون‬
‫استخدامها من أجل ما أصيب به اإلنسان من مرض الصلع‪ ،‬وفي كل األحوال قد‬
‫يصعب نزعها أثناء الوضوء واالغتسال ألنه مثبتة بطريقة معينة‬
‫استخدام الباروكة للتجمل والتزين‪:‬‬
‫يحرم ارتداء الباروكة من أجل التجمل فقط‪ ،‬ال لمرض باإلنسان أصابه بالصلع‬
‫مثال واألدلة على ذلك ما يأتي‪:‬‬
‫َن رسول هللاِ ‪َ« ‬لعن اْلو ِ‬
‫اصَل َة واْلمستَو ِ‬
‫صَل َة‪»2‬‬ ‫َ ُْ ْ‬ ‫ََ َ‬ ‫عن ْاب ِن ُع َم َر‪ ،‬أ َّ َ ُ َ‬
‫‪ِ -1‬‬
‫وجه الداللة‪ :‬إن لبس الباروكة وإن لم يكن وصال في الظاهر ألن الباروكة توضع‬
‫على الرأس‪ ،‬وال يوصل بها الشعر الحقيقي‪ ،‬لكنه وصل في المعنى‪ ،‬لما في ذلك من‬
‫الغش والتدليس؛ ألن الباروكة تظهر الشعر على وجه يختلف عن حقيقته‬
‫من المعقول‪:‬‬
‫إن المعنى الذي من أجله جاء النهي عن الوصل هو التدليس والغش‪ ،‬وهو نفسه‬
‫موجود في لبس الباروكة‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتور عمرو محمد غانم‪ ،‬مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ 2‬أخرجه البخاري كتاب اللباس باب الوصل في الشعر ‪ ،165/7‬ومسلم كتاب اللباس والزينة باب‬
‫تحريم فعل الواصلة والمستوصلة ‪1677/3‬‬
‫( ‪) 222‬‬

‫حكم المسح على الباروكة المتخذة للتجمل والتزين عند الوضوء‪ ،‬وحكم عدم نزعها‬
‫عند االغتسال‪:‬‬
‫إذا كان ارتداء الباروكة حراما في تلك الحالة –كما سبق‪ ،-‬فإنه يترتب على‬
‫ذلك حرمة المسح على تلك الباروكة‪ ،‬فيكون الوضوء باطال إذا مسح عليها‪ ،‬وكذلك‬
‫يكون االغتسال باطال‪ ،‬إذا لم يصل الماء إلى ما تحت الباروكة من الرأس‪ ،‬والدليل‬
‫على ذلك القاعدة الفقهية‪ :‬إن الرخص ال تستباح بالمعاصي‪ 1‬؛ فليس لمن يرتكب‬
‫المعصية أن يستفيد من الرخصة‪ ،‬وذلك ألن الرخصة شرعت لرفع الحرج عن المكلفين‪،‬‬
‫ال لتيسير ارتكاب المعصية للعصاة‪.‬‬

‫حكم استخدام الباروكة من أجل المرض‪:‬‬

‫إذا كانت الباروكة يستر بها عيب وراثي عند المرأة‪ ،‬أو نتيجة اإلشعاع والعالج‬
‫الكيميائي الذي يزيل شعر اإلنسان أحيانا مما يؤدي إلى تشوهه‪ ،‬فال بأس باستعمال‬
‫ٍ‬
‫حينئذ لستر هذا العيب‪.‬‬ ‫الباروكة‬

‫والدليل على ذلك‪ :‬عن أبي الدرداء‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا ‪« :‬إن هللا أنزل الداء‬
‫والدواء‪ ،‬وجعل لكل داء دواء فتداووا وال تداووا بحرام‪.»2‬‬
‫وجه الدال لة‪ :‬إن الشارع أمر بالتداوي‪ ،‬وارتداء الباروكة في حالة المرض هو عالج مما‬
‫أصيب به اإلنسان من ذلك المرض‪- ،‬حتى ولو كان مؤقتا‪ ،-‬وذلك بستر الجزء‬
‫المصاب‪.‬‬
‫حكم المسح في الوضوء على الباروكة المتخذة من أجل المرض‪ ،‬وحكم عدم نزعها‬
‫عند االغتسال‪:‬‬
‫إذا كان ال يشق نزع الباروكة حين الوضوء واالغتسال‪ ،‬فإنه يجب نزعها‬
‫والمسح على الرأس في الوضوء؛ ألنه األصل لقوله تعالى"وامسحوا برءوسكم"‪ ،‬وكذلك‬

‫‪ 1‬األشباه والنظائر‪ :‬تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي ‪135/1‬‬
‫‪ 2‬أخرجه أبو داود‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬باب في األدوية المكروهة‪ ،‬وإسناده ضعيف‪ ،‬لكن له شاهد‪ ،‬رواه‬
‫أحمد في مسنده ‪ 50/20‬من حديث أنس أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال‪ " :‬إن هللا حيث خلق‬
‫الداء‪ ،‬خلق الدواء‪ ،‬فتداووا " وإسناده حسن‪.‬‬
‫( ‪) 223‬‬

‫يجب غسل الرأس في االغتسال الواجب؛ لدخول الرأس في عموم قول هللا تعالى "وإن‬
‫كنتم جنبا فاطهرو‪."1‬‬
‫أما إذا كان هناك مشقة في نزع الباروكة عند كل وضوء‪ ،‬وكذلك عند‬
‫االغتسال‪ ،‬فإنها تأخذ في تلك الحالة حكم المسح على الجبيرة‪ ،‬حيث يصح المسح‬
‫ّللاُ لِ َي ْج َع َل‬
‫عليها للمشقة والحرج في نزعها‪ ،‬والحرج مرفوع شرعا لقوله تعالى‪" :‬ما ُي ِر ُيد َّ‬
‫َعَل ْي ُك ْم ِم ْن َح َرٍج‪."2‬‬
‫وإذا كان لبس الباروكة يأخذ حكم المسح على الجبيرة فيما لو شق نزعها في‬
‫تلك الحالة‪ ،‬فإن اإلنسان يمسح عليها في الوضوء‪ ،‬إذ المسح عليها في تلك الحالة يقوم‬
‫مقام المسح على الرأس‪ ،‬وكذلك يمسح عليها في االغتسال‪ ،‬وال يجب غسلها؛ ألنها‬
‫ليست جزءا من اإلنسان‪ ،‬بل هي كالعصابة أو الجبيرة في تلك الحالة‪ ،‬ويشق نزعها‬
‫فيمسح عليها‪ ،‬ويغسل سائر البدن عند جمهور الفقهاء‪.3‬‬
‫واستدل الجمهور على مشروعية المسح على العصابة أو الجبيرة دون تيمم بما‬
‫يأتي‪:‬‬
‫من السنة‪ :‬عن ثوبان قال‪ " :‬بعث رسول هللا ‪ ‬سرية فأصابهم البرد‪ ،‬فلما قدموا على‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على‬
‫العصائب والتساخين‪"4‬‬
‫وجه الداللة‪ :‬أن النبي ‪ ‬أمرهم بالمسح على العصائب المشدودة على الرأس للمشقة‬
‫في نزعها بسبب البرد الشديد الذي أصابهم‪ ،‬والباروكة هنا بمنزلة العصابة الموضوعة‬
‫على محل المرض‪ ،‬وهناك مشقة في نزعها‪ ،‬فيرخص في المسح عليها للحاجة‪.‬‬
‫ويالحظ أن حكم الباروكة هذا‪ ،‬هو نفسه حكم الشعر المزروع نتيجة مرض‪ ،‬ال‬
‫بقصد التدليس‪ ،‬حيث يمسح عليه أيضا في الوضوء أو االغتسال‪ ،‬وال مانع من غسله‬

‫‪ 1‬من اآلية ‪ 6‬سورة المائدة‬


‫‪ 2‬من اآلية ‪ 6‬سورة المائدة‬
‫‪ 3‬البناية ‪ ،616/1‬الذخيرة ‪ ،320/1‬المبدع في شرح المقنع ‪128/1‬‬
‫‪ 4‬أخرجه أحمد في مسنده ‪ ،66/37‬وإسناده صحيح‪( ،‬التساخين) كل ما يسخن به القدم من خف‬
‫وجورب ونحوهما وال واحد لها من لفظها‬
‫( ‪) 224‬‬

‫أثناء االغتسال إذا كان ال يضره الماء‪ ،‬وال ينزعه أثناء الوضوء أو االغتسال‪ ،‬ما دام‬
‫يجد مشقة في ذلك‪.‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الموضوع السابع‪ :‬التكييف الفقهي لرتق غشاء البكارة‬
‫هذه المسألة تعتبر من المسائل النازلة في هذا العصر‪ .‬ولهذا من المناسب ذكر أقوال‬
‫العلماء في هذه المسألة وتحرير محل النزاع بعد بيان مفهومه‪:‬‬
‫مفهـــومــــــــــه‪:‬‬
‫الرتق لغة‪ :‬إصالح الشيء وسده وإعادة التحامه مع بعضه‪ ،‬يقال‪ :‬رتق فتق الشيء‪ ،‬أي‬
‫أصلح شأنه‪ ،‬ورتق فتق المتخاصمين‪ ،‬أي أصلح بينهم‪ ،‬ومن ذلك قول هللا ‪" ‬أ ََوَلم َيَر‬
‫السماو ِ‬ ‫ِ‬
‫اه َما" األنبياء‪ 30:‬والمرأة الرتقاء هي‬
‫ض َكاَن َتا َرتاقا َف َف َتقَن ُ‬
‫ات َواألَر َ‬ ‫َن َّ َ َ‬ ‫َّالذ َ‬
‫ين َك َفُروا أ َّ‬
‫التي انسد موضع اإلتيان من قبلها فال تعود صالحة ألن تؤتى منه ‪.2‬‬
‫واصطالحا‪ :‬هو العمل الجراحي الذي يقصد به إصالح ما ط أر على غشاء البكارة من‬
‫تمزيق بأي سبب من األسباب‪ ،‬أو هو إصالح الغشاء وإعادته إلى مثل ما كان عليه‬
‫قبل التمزق بواسطة الجراحين المختصين ‪.3‬‬
‫هناك حالتان اتفقت كلمة الباحثين على حكم إجراء جراحة رتق غشاء البكارة‬
‫مطلقا‪ :‬وهي حالة من زالت عذريتها واشتهرت بالزنا ولم‬
‫ا‬ ‫فيهما‪ ،‬األولى‪ :‬بعدم الجواز‬
‫يعد إلصالح سمعتها أو الستر عليها رتق لعذريتها أو غيره‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬بالجواز مطلقا‪ :‬وهي حالة من زالت عذريتها بسبب تُعذر به‪ ،‬وال يمت‬
‫للخيانة أو التدليس أو سوء األخالق بصلة‪ ،‬لكن يخشى عليها من مضار المعوقات‬
‫االجتماعية أي‪ :‬من زالت عذريتها دون أن يسبق لها الزواج‪ ،‬والتي ال تقبل أي تبرير‬
‫له‪ ،‬ويغلب عليها سوء الظن أكثر من اإلحسان فيه‪.‬‬
‫والعلة في هاتان الحالتان‪:‬‬

‫(‪ )1‬كتب هذا الموضوع الدكتورة زمزم عبد اللطيف أحمد‪ ،‬مدرس الفقه بكلية الدراسات اإلسالمية‬
‫والعربية للبنات بالزقازيق‪.‬‬
‫‪ - 2‬المعجم الوسيط ص ‪ ،339‬المصباح المنير –مادة رتق‪.‬‬
‫‪ - 3‬أبحاث فقهية في قضايا معاصرة‪،‬لمحمد نعيم ياسين ص‪ ،227‬مسئولية األطباء‪،‬لمحمود الزيني‬
‫ص‪.25‬‬
‫( ‪) 225‬‬

‫انتقاء علة التدليس فيهما ورجحان جانب الستر في صاحباتها‪.‬‬


‫وفيما عدا هاتين الحالتين وقع االختالف بين الباحثين حول مدى جواز إجراء‬
‫تلك الجراحة فيها‪ ،‬ومن تلك الحاالت‪ :‬إصالح الفتق العذري الذي حدث بسبب واقعة‬
‫زنا لم يشتهر بين الناس‪ ،‬فقد اختلفت كلمة الباحثين فيها إلى قولين‪ ،‬قول بعدم الجواز‬
‫مطلًقا‪ ،‬وقول بالجواز‪ .1‬وتلك أدلة كل قول على ما ذهب إليه‪:‬‬
‫األدلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪:‬‬
‫أوالا‪ :‬أدلة القول األول‪ :‬استدل أصحاب الرأي القائل بعدم جواز إجراء تلك الجراحة من‬
‫السنة والمعقول وذلك كما يلي‪:‬‬
‫أوالا‪ :‬من السنة النبوية‪:‬‬
‫‪ .1‬بما روى عن أبى هريرة ‪ ‬أن رسول هللا ‪ ‬قال‪" :‬من غشنا فليس منا"‪.2‬‬
‫‪ -‬وجه الداللة في هذا الحديث الشريف‪ :‬أن النبي ‪ ‬قد بين أن من يغش المسلمين‬
‫فليس منهم‪ ،‬أي خارج عن جماعتهم أو هو عدو لهم‪ ،‬والخروج على المسلمين‬

‫ومعاداتهم حرام‪ ،‬فيكون الغش حر ً‬


‫اما‪ ،‬وهذا مما ال خالف فيه‪ ،‬وقد جاء تحريم الغش في‬
‫عاما‪ ،‬فيشمل غش األشياء كما يشمل غش األشخاص‪ ،‬والخطر في الحالة‬ ‫الحديث ً‬
‫األخيرة أولى؛ ألنه يؤدى إلى خراب البيوت وتعطيل الفتيات عن ممارسة دورهن‬
‫بالزواج‪ ،‬فيكون الخطر فيهن أقوى وأوضح‪ ،‬وإجراء جراحة إصالح الغشاء العذرى من‬
‫هذا القبيل‪ ،‬فيكون منعها داخالً ضمن وجه الداللة فيه‪.‬‬
‫وللزوج حق الفسخ إذا اشترط أن تكون زوجته عذراء‪ ،‬ثم استبان له خالف‬
‫ذلك‪ ،‬وإجراء الطبيب لتلك الجراحة يفوت عليه الحق‪ ،‬ويخدعه حين يوهمه أنها عذراء‪،‬‬
‫وهى ليست كذلك ‪.3‬‬
‫ثاني ا‪ :‬من المعقول‪:‬‬

‫‪- 1‬الذين قالوا بعدم الجواز ألحقوا بها كل حاالت إجراء تلك الجراحة ومنها تلك التي وقع االتفاق‬
‫على حظرها‪ ،‬وتلك التي يبدو‪ -‬جليًّا‪ -‬وجه الجواز فيها؛ حيث منعوا إجراء تلك الجراحة في جميع‬
‫حاالتها‪ ،‬وترك حال الغشاء على ما هو عليه مهما كانت النتائج التي تترتب على بقائه ممزقًا‪ ،‬فإنها‪-‬‬
‫في نظرهم‪ -‬لن ترقى إلى مرتبة المفاسد التي سوف تترتب على إصالحه‪.‬‬
‫‪ - 2‬رواه الجماعة إال البخاري والنسائي‪،‬انظر‪ :‬نيل األوطار للشوكاني ج‪ 5‬ص ‪.239‬‬
‫‪ - 3‬د‪/‬نعيم ياسين‪،‬عملية الرتق العذريص‪،92‬الموسوعة الفقهية الكويتية ‪.180/8‬‬
‫( ‪) 226‬‬

‫‪ -1‬أن رتق غشاء البكارة قد يؤدي إلى اختالط األنساب‪ ،‬فقد تحمل المرأة من الجماع‬
‫السابق‪ ،‬ثم تتزوج بعد رتق غشاء بكارتها‪ ،‬وهذا يؤدي إلى إلحاق ذلك‬
‫الحمل بالزوج واختالط الحالل بالحرام‪.1‬‬
‫المغّلظة‪.‬‬ ‫العورة‬ ‫على‬ ‫طالع‬
‫اّ‬ ‫فيه‬ ‫البكارة‬ ‫غشاء‬ ‫رتق‬ ‫أن‬ ‫‪-2‬‬
‫سهل للفتيات ارتكاب جريمة الزنا لعلمهن بإمكان رتق غشاء‬
‫‪ -3‬أن رتق غشاء البكارة ُي ّ‬
‫‪2‬‬
‫البكارة بعد الجماع‪.‬‬
‫‪ -4‬أنه إذا اجتمعت المصالح والمفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا‬
‫ذلك‪ ،‬وإن تعذر الدرء والتحصيل‪ ،‬فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة‬
‫اإلسالم‪.‬‬ ‫فقهاء‬ ‫ذلك‬ ‫قرر‬ ‫كما‬ ‫المصلحة‬ ‫بفوات‬ ‫نبالي‬ ‫وال‬
‫وتطبيقاً لهذه القاعدة فإننا إذا نظرنا إلى رتق غشاء البكارة وما يترتب عليه من مفاسد‬
‫عليه‪.‬‬ ‫المترتبة‬ ‫المفاسد‬ ‫لعظيم‬ ‫الرتق‬ ‫جواز‬ ‫بعدم‬ ‫حكمنا‬
‫‪ -5‬أن من القواعد الشريعة اإلسالمية أن الضرر ال يزال بالضرر‪ ،3‬ومن فروع هذه‬
‫القاعدة‪( :‬ال يجوز لإلنسان أن يدفع الغرق عن أرضه بإغراق أرض غيره ) ومثل ذلك‬
‫ال يجوز للفتاة وأمها أن يزيال الضرر عنهما برتق الغشاء ويلحقانه بالزوج‪.‬‬
‫‪ -6‬أن رتق غشاء البكارة يفتح أبواب الكذب للفتيات وأهليهم إلخفاء حقيقة السبب‪،‬‬
‫شرعاً‪.‬‬ ‫محرم‬ ‫والغش‬ ‫الغش‪،‬‬ ‫من‬ ‫نوع‬ ‫وأيضاً‬ ‫شرعاً‪،‬‬ ‫محرم‬ ‫والكذب‬
‫‪ -7‬أن رتق غشاء البكارة يفتح الباب لألطباء أن يلجأوا إلى إجراء عمليات اإلجهاض‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫الستر‪.‬‬
‫األجنة بحجة ّ‬
‫ّ‬ ‫وإسقاط‬
‫ثانيا‪ :‬أدلة القول الثاني ‪ :‬استدل أصحاب الرأي القائل بجواز إجراء تلك الجراحة‬
‫بالقرآن الكريم‪ ،‬والسنة النبوية الشريفة‪ ،‬واإلجماع‪ ،‬والمعقول‪.‬‬

‫‪ - 1‬رتق من منظور غشاء البكارة إسالمي‪ ،‬لعز الدين التميمي‪،‬ص‪ ،57‬أحكام الجراحة للشنقيطي‪ ،‬ص‪.404‬‬
‫‪ - 2‬أحكام الجراحة الطبية للشنقيطي ص ‪،404‬قضايا طبية معاصرة‪،‬إلبراهيم رفعت الجمال ‪.215‬‬
‫‪ - 3‬األشباة والنظائر البن نجيم ص ‪ ،95‬وراجع االستدالل به‪ :‬التميمي ص‪ ،517‬والشنقيطي‬
‫ص‪.405‬‬
‫‪ - 4‬مرجع سابق ‪.1،2‬‬
‫( ‪) 227‬‬

‫أوالا‪ :‬القرآن الكريم‪:‬‬


‫ِ ِ‬ ‫ين ي ِحُّبو َن أَن َت ِشيع ال َف ِ‬ ‫ِ‬
‫اب‬
‫آمُنوا َل ُهم َع َذ ٌ‬ ‫اح َش ُة في َّالذ َ‬
‫ين َ‬ ‫َ‬ ‫قوله تعالى }ِإ َّن َّالذ َ ُ‬
‫َنتم َال َتعَل ُمو َن{ النور‪.19:‬‬
‫َّللا َيعَل ُم َوأ ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫يم ِفي ُّ‬
‫الدنَيا َواآلخَرة َو َّ ُ‬
‫ِ‬
‫أَل ٌ‬
‫‪ -‬وجه الداللة في هذه اآلية الكريمة‪:‬‬
‫إن هللا– تعالى‪ -‬قد توعد من يشيعون الفاحشة في المجتمع المؤمن بالعذاب‬
‫األليم في الدنيا واآلخرة وإشاعة الفحش‪ ،‬نشره ابتداء‪ ،‬أو العمل على ما ينشره بأي‬
‫وسيلة تؤدى إلى هذا النشر ومن المعلوم أن فتق غشاء بكارة أي فتاة‪ -‬حتى ولو كان‬
‫بأسباب بريئة‪ -‬يثير شهوة الناس وفضولهم للكالم واختالق قصص الفحش وحكاياته‬
‫على نحو يشيعه؛ بل ويروج له لدى ضعاف النفوس من الفتيات والفتيان‪.‬‬
‫ومن الفحش القول السيئ‪ ،‬حكى ذلك اإلمام القرطبي في جامعه ألحكام القرآن‬
‫فقال‪ :‬قيل إن الفاحشة في اآلية الكريمة‪ ،‬هي القول السيئ ‪.1‬‬
‫ثانيا‪ :‬السنة النبوية‪:‬‬
‫‪ -‬ما روى عن أبى هريرة ‪ ‬أن رسول هللا ‪ ‬قال‪" :‬ال يستر عبد ا‬
‫عبدا في الدنيا إال‬
‫مسلما ستره هللا في الدنيا‬
‫ا‬ ‫ستره هللا يوم القيامة"‪ ،‬وفي رواية عن مسلم‪" :‬من ستر‬
‫واآلخرة" ‪.2‬‬
‫‪ -‬وجه الداللة في هذا الحديث الشريف‪:‬‬
‫أن النبي صلى هللا عليه وسلم قد بشر من يستر على الناس في الدنيا بأن يستر هللا‬
‫مسلما ستره هللا في دنياه وآخرته‪ ،‬والبشرى تفيد مشروعية‬
‫ً‬ ‫عليه يوم القيامة‪ ،‬ومن يستر‬
‫المبشر به وهو الستر على الناس‪ ،‬بفعل كل ما يستر عليهم‪ ،‬ومنه رتق غشاء بكارة‬
‫ستر عليها‪ ،‬والستر مطلوب شرًعا وفًقا لما يستفاد من داللة الحديث‬
‫الفتاة‪ ،‬فإن في هذا ًا‬
‫الشريف‪.‬‬

‫‪ - 1‬الجامع ألحكام القرآن ‪.206/12‬‬


‫‪ - 2‬رواه مسلم بشرح النووي ‪ ،143/16‬رياض الصالحين للنووي ص ‪.136‬‬
‫( ‪) 228‬‬

‫‪ -‬ثالثا‪ :‬الجمــــــــــــاع‪:‬‬
‫لقد انعقد إجماع الصحابة على أن سبق الزنا من المرأة ال يمنع من زواجها؛‬
‫بل إن حملها من الزنا ال يمنع ذلك الزواج‪ ،‬وقد حكى هذا اإلجماع اإلمام ابن حزم في‬
‫المحلى فقال‪ " :‬فهذا عمر يبيح للحامل من زنى الزواج بحضرة الصحابة‪ -‬رضي هللا‬
‫عنهم‪ -‬وال يعرف له مخالف منهم‪ ،‬مع أنهم يعتبرون مثل ما قضى به من عظائم‬
‫إجماعا منهم على هذا الحكم ‪.1‬‬
‫ا‬ ‫األمور لو ظفروا به"‪ ،‬فكان ذلك‬
‫وإذا كان اإلجماع قد انعقد على صحة زواج الحامل ممن زنى بها بشرط أال يجامعها‬
‫صحيحا من باب أولى‪،‬‬
‫ً‬ ‫حتى تضع حملها‪ ،‬فيكون زواج من سبق زناها بدون حمل‬
‫وحيث كان ذلك كذلك يكون المانع من إج ارء جراحة الرتق العذري‪ -‬عند من يرون‬
‫بناء على ذلك‪.‬‬
‫صحيحا ً‬
‫ً‬ ‫منعها‪ -‬قد زال‪ ،‬فيكون إجراؤها‬
‫‪ -‬رابعا‪ :‬المعقول‪ :‬ومنه‪:2‬‬
‫▪ أن النصوص الشرعية دالة على مشروعية الستر وندبه‪ ،‬ورتق غشاء البكارة‬
‫معين على تحقيق ذلك في األحوال التي حكمنا بجواز فعله فيها‪.‬‬
‫أن المرأة البريئة من الفاحشة إذا أجزنا لها فعل جراحة الرتق قفلنا باب سوء‬
‫الظن فيها‪ ،‬فيكون في ذلك دفع للظلم عنها‪ ،‬وتحقيقاً لما شهدت النصوص‬
‫الشرعية باعتباره وقصده من حسن الظن بالمؤمنين والمؤمنات‪.‬‬
‫أن رتق غشاء البكارة يوجب دفع الضرر عن أهل المرأة‪ ،‬فلو تركت المرأة من‬ ‫▪‬
‫غير رتق واطلع الزوج على ذلك ألضرها‪ ،‬واضر بأهلها‪ ،‬وإذا شاع األمر بين‬
‫الناس فإن تلك األسرة قد يمتنع من الزواج منهم‪ ،‬فلذلك يشرع لهم دفع الضرر‬
‫ألنهم بريئون من سببه‪.‬‬
‫أن قيام الطبيب المسلم بإخفاء تلك القرينة الوهمية في داللتها على الفاحشة له‬ ‫▪‬
‫أثر تربوي عام في المجتمع‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بنفسية الفتاة‪.‬‬

‫‪ - 1‬المحلى البن حزم ص ‪.28‬‬


‫‪ - 2‬ذكر هذه األوجه الدكتور محمد نعيم ياسين في بحثه‪ :‬رتق غشاء البكارة في ميزان المقاصد‬
‫الشرعية من بحوث ندوة الرؤية اإلسالمية‪ .‬ثبت الندوة ‪ .583 - 579‬أحكام الجراحة الطبية‬
‫للشنقيطي ص ‪.432‬‬
‫( ‪) 229‬‬

‫أن مفسدة الغش في رتق غشاء البكارة ليست موجودة في األحوال التي حكمنا‬ ‫▪‬
‫بجواز الرتق فيها‪.‬‬
‫الترجيـــــــــــــــــــــــح‪:‬‬
‫من خالل ما ُذكر من اآلراء السابقة‪ ،‬وبيان أدلتهم الذي يترجح ‪-‬وهللا أعلم‪-‬‬
‫ألن في‬
‫أما غير التائبة فال ّ‬
‫هو القول بجواز إجراء عملية الرتق للمغتصبة والتائبة‪ ،‬و ّ‬
‫ذلك إعانة لها على االستمرار في جريمتها‪ ،‬وكذلك التي سبق وطؤها ال يجوز إجراء‬
‫يظنها من دخل بها‪ ،‬بعد‬
‫الغش والتدليس حيث ّ‬
‫العملية لها لما في ذلك من اإلعانة على ّ‬
‫العملية بك ار وليست كذلك‪.‬‬
‫( ‪) 230‬‬

‫الوحدة الثامنة‬

‫‪1‬‬
‫مسائل في العبادات‬

‫ويحتوي على‪:‬‬

‫َعَلى اْل ُخَّف ْي ِن‪.‬‬ ‫الم ْس ٌح‬


‫َ‬ ‫الموضوع األول‬
‫َعَلى اْل َج ْوَرَب ْي ِن‪.‬‬ ‫اْل َم ْس ُح‬ ‫الموضوع الثاني‬
‫قراءة المحدث حدثاً أصغر للقرآن من غير مس‬ ‫الموضوع الثالث‬
‫للمصحف‪.‬‬
‫حكم قراءة القران للمحدث حدثا أكبر (الحائض والجنب)‪.‬‬ ‫الموضوع الرابع‬
‫ام قصر الصالة‪.‬‬ ‫أح َك ُ‬
‫ْ‬ ‫الموضوع الخامس‬
‫ِ‬
‫الصَل َوات‪.‬‬
‫َج ْم ُع َّ‬ ‫الموضوع السادس‬

‫وكتبها الدكتور فضل سليم مدرس الفقه الشافعي بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬

‫زكاة كسب العمل والمهن الحرة‪.‬‬ ‫الموضوع السابع‬


‫وكتبه األستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن محمد الضويني أستاذ ورئيس قسم‬
‫الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‪.‬‬

‫‪ - 1‬كتب مسائل هذه الوحدة الدكتور فضل سليم مدرس الفقه الشافعي بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة‬
‫باستثناء المسألة األخيرة وهي زكاة كسب العمل فكتبه األستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن الضويني‪.‬‬
‫( ‪) 231‬‬

‫المس ٌح َعَلى ال ُخ َّفي ِن‪.‬‬


‫الموضوع األول‪َ :‬‬
‫الس ِات ُر لِْل َك ْع َب ْي ِن َفأَ ْكثَ َر ِم ْن‬ ‫تعريف المسح لغة‪ :‬إمرار اْل َيِد َعَلى َّ‬
‫الش ْي ِء‪ .‬أما الخف فهو‪َّ :‬‬ ‫َْ ُ‬
‫ِجْلٍد َوَن ْح ِوِه (‪.)1‬‬

‫وص ِفي َزَم ٍن‬ ‫َِّ ِ ِ ٍ‬


‫ف م ْخص ٍ‬
‫إص َاب ُة اْلبلة ل ُخ ّ َ ُ‬
‫ويعرف المسح على الخين بأنه‪َ :‬‬
‫م ْخص ٍ‬
‫وص‪.‬‬ ‫َ ُ‬
‫حكم المسح على الخفين‪ :‬هو جائز في المذاهب األربعة في السفر والحضر‪ ،‬للرجال‬
‫عرف‬
‫والنساء‪ ،‬فهورخصة قال بها علماء الشريعة‪ ،‬ولم ينكرها إالّ الروافض‪ ،‬ومن ُي ُ‬
‫باالنتماء إليهم من العلماء(‪.)2‬‬

‫وعيَّ َة اْل َم ْس ِح َعَلى اْل ُخَّف ْي ِن أَ ْكثَُر ِم ْن‬


‫الدليل على جواز المسح على الخفين‪َ :‬روى م ْش ُر ِ‬
‫َ َ‬
‫ّللاِ َعَل ْي ِه ْم ِم ْن ُه ُم اْل َع َش َرةُ ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ان َّ‬
‫ض َو ُ‬
‫ثَم ِانين ِمن َّ ِ‬
‫الص َح َابة ِر ْ‬ ‫َ َ َ‬

‫النَب ِوَّي ِة ال ُم َ‬
‫ط َّهَرِة‪َ ،‬و ِمن َها‪:‬‬ ‫السَّن ِة َّ‬
‫وعَّيته ِب ُّ‬
‫وقد َثَب َتت مشُر ِ‬
‫َ‬
‫َسأَُل َها َع ِن اْل َم ْس ِح َعَلى اْل ُخَّف ْي ِن‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال‪ :‬أَتَ ْي ُت َعائ َش َة أ ْ‬ ‫‪ -1‬ما روي َع ْن ُش َرْي ِح ْب ِن َهان ٍئ‪َ ،‬ق َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َفَقاَل ْت‪ :‬عَليك ِباب ِن أَِبي َ ِ‬
‫ال‪:‬‬
‫ان ُي َساف ُر َم َع َرُسول هللا ‪َ ‬ف َسأَْل َناهُ َفَق َ‬ ‫طال ٍب‪َ ،‬ف َسْل ُه َفِإَّن ُه َك َ‬ ‫ََْ ْ‬
‫ول هللاِ ‪ ‬ثَ َالثَ َة أَيَّا ٍم َوَل َيالَِي ُه َّن لِْل ُم َس ِاف ِر‪َ ،‬وَي ْو ًما َوَلْيَل ًة لِْل ُم ِقي ِم» ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫« َج َع َل َرُس ُ‬
‫ال‪َ ،‬قال‪« :‬كان رسول َّ ِ‬ ‫ان ب ِن ع َّس ٍ‬
‫ْم ُرَنا ِإ َذا ُكَّنا َسَف ًار أ ْ‬
‫َن‬ ‫ّللا ‪َ ‬يأ ُ‬ ‫َ َ َ َُ ُ‬ ‫صْف َو َ ْ َ‬ ‫‪ -2‬وما روي َع ْن َ‬
‫يه َّن‪ِ ،‬إ َّال ِم ْن َج َن َاب ٍة‪َ ،‬وَل ِك ْن ِم ْن َغ ِائ ٍط َوَب ْو ٍل َوَن ْو ٍم»(‪.)5‬‬
‫ع ِخَفاَف َنا ثَ َالثَ َة أَيَّا ٍم وَل َيالِ ِ‬
‫َ‬ ‫َال َن ْن ِز َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بن أَِبي َ ِ‬ ‫وما َرَواهُ َعلِ ُّي‬
‫ف أ َْوَلى‬
‫َسَف ُل اْل ُخ ّ‬
‫ان أ ْ‬
‫ْي َل َك َ‬‫ين ِب َّأ‬
‫الر ِ‬ ‫الد ُ‬
‫ان ّ‬ ‫طال ٍب ‪َ "‬ل ْو َك َ‬ ‫ُْ‬ ‫‪َ -3‬‬
‫َّ ِ (‪)1‬‬ ‫ظ ِ‬
‫اه ِر ُخف ْيه" ‪.‬‬ ‫ّللاِ ‪َ ‬ي ْم َس ُح َعَلى َ‬
‫ول َّ‬
‫" َوَق ْد َأرَْي ُت َرُس َ‬ ‫َعالهُ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ِباْل َم ْس ِح م ْن أ ْ‬

‫(‪ )1‬رد المحتار (‪.)276 /2‬‬


‫(‪ )2‬نهاية المطلب في دراية المذهب (‪.)286 /1‬‬
‫(‪)3‬الدر المختار ‪.177 / 1‬‬
‫(‪)4‬صحيح مسلم (‪.)232 /1‬‬
‫(‪ )5‬رواه الترمذي في سننه (‪ ،)159 /1‬وقال حسن صحيح‪.‬‬
‫( ‪) 232‬‬

‫ّللاِ البجلِي ر ِ‬ ‫‪َ -3‬و َما َرَواهُ َج ِر ُير ْب ُن َع ْبِد َّ‬


‫ضأَ‬ ‫ّللاُ تَ َعاَلى َع ْن ُه " أََّن ُه َب َ‬
‫ال ثُ َّم تََو َّ‬ ‫ضي َّ‬
‫ْ َ َ ُّ َ َ‬
‫ال‬ ‫ومسح عَلى خَّفي ِه‪َ ،‬ف ِقيل َله‪ :‬أَتْفعل ه َذا؟ َفَقال‪ :‬نعم‪ ،‬أرَيت رسول َّ ِ‬
‫ّللا ‪َ ‬ب َ‬ ‫َ ََْ َ ْ ُ َ ُ َ‬ ‫َ ُ ََُ َ‬ ‫َََ َ َ ُ ْ‬
‫ضأَ َو َم َس َح َعَلى ُخَّف ْي ِه "(‪.)2‬‬ ‫ثُ َّم تَ َو َّ‬

‫ِحك َم ُة ال َمس ِح َعَلى ال ُخ َّفي ِن‪ :‬شرع تيسي اًر على المسلمين‪ ،‬وبخاصة في وقت الشتاء‬
‫والبرد‪ ،‬وفي السفر‪ ،‬وألصحاب األعمال الدائمة كالجنود والشرطة والطالب المواظبين‬
‫على العمل في الجامعات ونحوهم(‪.)3‬‬

‫ُمَّد ُة ال َمس ِح َعَلى ال ُخ َّفي ِن ِفي ال َح َض ِر َو َّ‬


‫الس َف ِر‪:‬‬

‫ف‬ ‫السبب ِفي اخِت َال ِف ِهم‪ِ :‬‬ ‫اخَتَلف اْلُفَقه ِ‬


‫اخت َال ُ‬
‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫اء في مدة المسح على الخفين على قولين‪ ،‬و َّ َ ُ‬
‫َ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫ْاآلثَ ِار ِفي َذل َك ‪.‬‬
‫ِ (‪)4‬‬

‫يت ُمَّد ِة اْل َم ْس ِح َعَلى‬ ‫اء اْلحن ِفَّي ُة و َّ ِ ِ‬


‫الشافعيَّ ُة َواْل َح َناِبَل ُة تَ ْوِق َ‬ ‫ََ َ‬
‫القول األول‪ :‬يرى جمهور اْلُفَقه ِ‬
‫َ‬ ‫ََ ُ ْ ُ ُ‬
‫يها لِْل ُم َس ِاف ِر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫ض ِر‪َ ،‬وثَالثَة أَيَّا ٍم َوَل َيال َ‬‫اْل ُخَّف ْي ِن ِب َي ْو ٍم َوَلْيَلة في اْل َح َ‬

‫َسأَُل َها َع ِن اْل َم ْس ِح َعَلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و ُّ ِ‬


‫ال‪ :‬أَتَ ْي ُت َعائ َش َة أ ْ‬ ‫استََدلوا ب َما روي َع ْن ُش َرْي ِح ْب ِن َهان ٍئ‪َ ،‬ق َ‬ ‫َ ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اْل ُخَّفي ِن‪َ ،‬فَقاَل ْت‪ :‬عَليك ِباب ِن أَِبي َ ِ‬
‫ان ُي َساف ُر َم َع َرُسول هللا ‪َ ‬ف َسأَْل َناهُ‬ ‫طال ٍب‪َ ،‬ف َسْل ُه َفِإَّن ُه َك َ‬ ‫ََْ ْ‬ ‫ْ‬
‫ول هللاِ ‪ ‬ثَ َالثَ َة أَيَّا ٍم َوَل َيالَِي ُه َّن لِْل ُم َس ِاف ِر‪َ ،‬وَي ْو ًما َوَلْيَل ًة لِْل ُم ِقي ِم» ‪.‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ال‪َ « :‬ج َع َل َرُس ُ‬‫َفَق َ‬
‫َن المسح على الخفين َغ ْي ُر ُم َؤَّق ٍت‪َ ،‬وأ َّ‬
‫َن َالِب َس اْل ُخَّف ْي ِن‬ ‫الث ِاني‪ :‬يرى المالكية أ َّ‬ ‫القول َّ‬
‫يمسح عَلي ِهما ما َلم ي ْن ِزعهما أَو تُ ِ‬
‫ص ُيب ُه َج َن َاب ٌة(‪.)6‬‬ ‫َْ َ ُ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ‬
‫صلَّى ِفي‬ ‫ِ‬ ‫ص ِارِّي‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫و ُّ ِ‬
‫ول هللا ‪َ ‬ق ْد َ‬ ‫ان َرُس ُ‬ ‫َوَك َ‬ ‫استََدلوا ب َما روي َعن ْابن ُع َم َارَة ْاأل َْن َ‬
‫َ ْ‬
‫َّ‬
‫َعَلى اْل ُخف ْي ِن؟ َق َ‬
‫ال‪َ « :‬ن َع ْم َي ْو ًما»‪.‬‬ ‫ول هللاِ أ َْم َس ُح‬ ‫ال‪ُ :‬قْل ُت‪َ :‬يا َرُس َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫َب ْيته اْلقْبَلتَ ْي ِن َجم ً‬
‫يعا‪َ ،‬ق َ‬

‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود (‪ ،)114 / 1‬وصححه ابن حجر في " التلخيص الحبير " (‪.)160 / 1‬‬
‫(‪ )2‬رواه ابن ماجه في سننه ‪ ،102 / 1‬و النسائي ‪.69 / 1‬‬
‫(‪)3‬الفقه اإلسالمي وأدلته للزحيلي (‪.)472 /1‬‬
‫(‪)4‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد (‪.)27 /1‬‬
‫(‪)5‬صحيح مسلم (‪.)232 /1‬‬
‫(‪)6‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد (‪.)27 /1‬‬
‫( ‪) 233‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال‪َ « :‬ن َع ْم‬
‫ول هللا َوثَ َالثَ ًة؟ َق َ‬ ‫ول هللا َوَي ْو َم ْي ِن؟ َق َ‬
‫ال‪َ « :‬ن َع ْم َوثَ َالثَ ًة» ُقْل ُت‪َ :‬يا َرُس َ‬ ‫ُقْل ُت‪َ :‬يا َرُس َ‬
‫َو َما ِش ْئ َت»(‪.)1‬‬

‫َس َباِب َها َال َم َع‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َوقالوا ِأل َّ‬
‫ول الط َه َارات َفإَّن َها َدائ َرةٌ َم َع أ ْ‬
‫ُص َ‬ ‫َن التَّْوِق َ‬
‫يت ُي َنافي أ ُ‬
‫أ َْزَم ِان َها(‪ .)2‬والراجح‪ :‬قول الجمهور لقوة ما استدلوا به‪.‬‬

‫ط جواز ال َمس ِح َعَلى ال ُخ َّفي ِن (‪:)3‬‬


‫ُشُرو ُ‬

‫‪ -1‬أَن يْلبس اْلخَّفي ِن بعد كمال الطهارة من الحدث األصغر واألكبر؛ لِحِد ِ‬
‫يث‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ َََ‬
‫النِب ِي ‪ِ ‬في سَف ٍر‪َ ،‬فأَهويت ألَن ِز َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ال‪:‬‬
‫ع ُخف ْيه َفَق َ‬
‫َْ ْ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫"ك ْن ُت م َع َّ‬
‫ال‪َ ُ :‬‬ ‫اْل ُمغ َيرة ْب ِن ُش ْع َب َة َق َ‬
‫ط ِ‬
‫اه َرتَْي ِن‪َ ،‬ف َم َس َح َعَل ْي ِه َما "‪.‬‬ ‫َد ْع ُه َما َفِإِّني أ َْد َخْلتُ ُه َما َ‬
‫س‪.‬‬‫ف َن ِج ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ف َ ِ‬ ‫َن َي ُكو َن اْل ُخ ُّ‬
‫وز اْل َم ْس ُح َعَلى ُخ ّ‬ ‫طاه ًرا‪َ ،‬فال َي ُج ُ‬ ‫‪ -2‬أ ْ‬
‫ف َس ِات ًار لمحل غسل الفرض من القدمين‪.‬‬ ‫َن َي ُكو َن اْل ُخ ُّ‬‫‪ -3‬أ ْ‬
‫ف ِم َن اْل َخ َش ِب أ َِو ُّ‬
‫الز َجا ِج‬ ‫ِ‬ ‫‪ -4‬أن يمكن متابعة المشي عليهما‪ ،‬فال يج ِ‬
‫وز اتّ َخا ُذ اْل ُخ ّ‬‫َُ ُ‬
‫أ َِو اْل َحِد ِيد‪.‬‬
‫ف دون أ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َكي ِفَّي ُة ال َمس ِح َعَلى ال ُخ َّفي ِن‪ُّ :‬‬
‫ض ُع َي َدهُ َعَلى‬ ‫َسَفله َو َعقِبه‪َ ،‬ف َي َ‬
‫َعَلى اْل ُخ ّ ُ َ ْ‬ ‫السَّن ُة َم ْس ُح أ ْ‬
‫َصاِب ِع ِه‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َصابعه‪َ .‬وإِ ْن َم َس َح م ْن َساقه إَلى أ َ‬
‫طا ِبأ ِ ِ ِ‬
‫َ‬
‫ض ِع ْاألَصاِب ِع‪ ،‬ثُ َّم يج ُّرها إَلى س ِاق ِه خ ًّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ‬
‫مو ِ‬
‫َْ‬
‫ِ ِ ِ (‪)4‬‬ ‫ِ‬
‫َسَفلِه‪َ ،‬وَال َعقبه ‪.‬‬ ‫َج َاز‪َ ،‬و ْاأل ََّو ُل اْل َم ْسُنو ُن َوَال ُي َس ُّن َم ْس ُح أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫علماء في ْابت َداء ُمَّدة اْل ْ‬
‫مسح من أَي َوقت‬ ‫اختلف اْل َ‬
‫ابتداء مدة المسح على الخفين‪ْ :‬‬
‫يعتَبر على أقوال‪:‬‬
‫ْ‬

‫(‪)1‬المعجم الكبير للطبراني (‪ ،)202 /1‬والدارقطني في السنن (‪ ،)366 /1‬وقال‪َ :‬هذَا ْ ِ‬


‫اإل ْسنَا ُد َال‬
‫يُثْ َبتُ ‪.‬‬
‫(‪)2‬الذخيرة للقرافي (‪.)323 /1‬‬
‫(‪ )3‬المبسوط ‪ ،135 / 2‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد (‪)27 /1‬مغني المحتاج للخطيب الشربيني‬
‫(‪ ،)205 /1‬المغني البن قدامة (‪.)207 /1‬‬
‫(‪ )4‬المغني البن قدامة (‪.)217 /1‬‬
‫( ‪) 234‬‬

‫يعتَبر من َوقت‬
‫ال َبعضهم ْ‬
‫يعتَبر من َوقت اْل َحدث بعد الّل ْبس‪َ ،‬وَق َ‬‫علماء ْ‬
‫امة اْل َ‬‫ال َع َّ‬
‫َق َ‬
‫مسح(‪.)1‬‬
‫يعتَبر من َوقت اْل ْ‬
‫ال َبعضهم ْ‬‫الّل ْبس‪َ ،‬وَق َ‬
‫ونرى اختيار القول األول وهو ابتداء المدة من حين الحدث بعد لبس الخفين‪،‬‬
‫ال من حين اللبس‪ ،‬وال من حين الطهارة بعد الحدث‪ ،‬وهو مذهب جمهور الفقهاء من‬
‫الحنفية والشافعية وظاهر مذهب أحمد(‪)2‬؛ وذلك ألن زمان الحدث زمان يستباح به‬
‫فكان من وقته كبعد المسح‪ ،‬وألن المسح عبادة مؤقتة فكان أول وقتها من وقت جواز‬
‫فعلها كالصالة(‪.)3‬‬

‫الموضوع الثاني‪ :‬ال َمس ُح َعَلى ال َجوَرَبي ِن‪.‬‬


‫الجورب‪ :‬بفتح الجيم والراء‪ ،‬لفظ معرب‪ ،‬جمعه جوارب‪ ،‬وهو‪ :‬ما يلبس من‬
‫القماش ونحوه بالقدمين إلى ما فوق الكعبين (‪.)4‬‬

‫وقد ذهب عامة الفقهاء إلى جواز المسح على الجوربين‪ ،‬لكن اشترطوا شروطا فيهما‪.‬‬

‫فأجاز الحنفية عليهما بشرطين‪:‬‬

‫َن َي ُكونا مجلدين بالجلد‪.‬‬


‫‪ - 1‬أْ‬

‫ونا منعلين(‪.)5‬‬
‫َن َي ُك َ‬
‫‪ - 2‬أْ‬

‫كذلك يرى الشافعية أنه ال يجوز المسح على الجوربين إال بشرطين أيضا وهما‪:‬‬

‫أحدهما أن يكون صفيقا ال يشف‪.‬‬

‫(‪ )1‬تحفة الفقهاء (‪)84 /1‬‬


‫(‪)2‬المبسوط للسرخسي (‪ ،)102 /1‬العناية شرح الهداية (‪ ،)147 /1‬البيان في مذهب اإلمام الشافعي‬
‫(‪ ،)150 /1‬المغني البن قدامة (‪.)212 /1‬‬
‫(‪)3‬البيان في مذهب اإلمام الشافعي (‪)150 /1‬‬
‫(‪)4‬معجم لغة الفقهاء (ص‪.)169 :‬‬
‫(‪ )5‬المبسوط للسرخسي (‪ ،)101 /1‬بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (‪)10 /1‬‬
‫( ‪) 235‬‬

‫وكذلك عند‬ ‫(‪)1‬‬


‫والثاني أن يكون منعال فإن اختل أحد الشرطين لم يجز المسح عليه‬
‫وز اْل َم ْس ُح َعَلى اْل َج ْوَر ِب ِب َّش ْر َ‬
‫ط ْي ِن‪ُ ،‬ه َما‪:‬‬ ‫الحنابلة‪َ :‬ي ُج ُ‬

‫ص ِفيًقا‪َ ،‬ال َي ْبُدو ِم ْن ُه َشي ٌء ِم ْن اْلَق َدمِ‪.‬‬


‫َن َي ُكو َن َ‬
‫األول‪ :‬أ ْ‬
‫ْ‬
‫الثَّ ِاني أَن يم ِكن متابع ُة اْلم ْش ِي ِف ِ‬
‫يه(‪.)2‬‬ ‫ْ ُْ َ َُ ََ َ‬
‫والخالصة‪ :‬يمكن القول بأن عامة الفقهاء على جواز المسح على الجوربين مع اختالف‬
‫بينهم في وصف الجوربين‪ ،‬ونختار أنه إذا كان الجوربان صفيقان ال يشفان ويمكن‬
‫تتابع المشي عليهما فيجوز المسح عليهما‪ ،‬ودليل جواز المسح على الجوربين ثابت عن‬
‫النبي ‪ ‬وصحابته الكرام رضي هللا عنهم أجمن عين‪ ،‬فلقد روى اْل ُم ِغ َيرةُ ْب ُن ُش ْع َب َة ‪‬‬
‫الن ْعَل ْي ِن "(‪َ )3‬ويستدل َك َذلِ َك َعَلى َج َو ِاز اْل َم ْس ِح َعَلى‬‫َن النَِّب َّي ‪ ‬مس َح َعَلى اْل َج ْوَرَب ْي ِن َو َّ‬
‫ََ‬ ‫"أ َّ‬
‫ظهر َلهم مخالِ ِ‬
‫ص ِرِه ْم َف َك َ‬
‫ان‬ ‫ف في َع ْ‬ ‫الص َح َاب َة َم َس ُحوا َعَلى اْل َج َو ِار ِب َوَل ْم َي ْ َ ْ ُ ْ ُ َ ٌ‬ ‫اْل َج ْوَرَب ْي ِن ِبأ َّ‬
‫َن َّ‬
‫ِإ ْج َم ً‬
‫اعا (‪.)4‬‬

‫الموضوع الثالث‪ :‬قراءة المحدث حدث ا أصغر للقرآن من غير مس‬


‫للمصحف‪.‬‬
‫مس وهذا محل اتفاق بين‬
‫يجوز قراءة القرآن للمحدث حدثا أصغ ار من غير ّ‬
‫الفقهاء‪ ،‬وقدنقل النووي اإلجماع على ذلك فقال‪ :‬أجمع المسلمون على جواز قراءة‬
‫القرآن للمحدث واألفضل أنه يتطهر لها قال إمام الحرمين والغزالي في البسيط وال نقول‬
‫قراءة المحدث مكروهة فقد صح أن النبي ‪ ‬كان يق أر مع الحدث(‪.)5‬‬

‫(‪)1‬المجموع شرح المهذب (‪)499 /1‬‬


‫(‪)2‬المغني البن قدامة (‪.)215 /1‬‬
‫(‪)3‬رواه الترمذي في سننه (‪ ،)167 / 1‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫(‪ )4‬المغني البن قدامة (‪.)215 /1‬‬
‫(‪)5‬المجموع شرح المهذب (‪.)69 /2‬‬
‫( ‪) 236‬‬

‫وقال النووي في التبيان أيضا‪ :‬يستحب أن يق أر وهو على طهارة فإن ق أر محدثا جاز‬
‫بإجماع المسلمين واألحاديث فيه كثيرة معروفة قال إمام الحرمين وال يقال ارتكب‬
‫مكروها بل هو تارك لألفضل(‪ .)1‬ويستدل على ذلك بما يأتي‪:‬‬

‫ون َة‬ ‫ِ‬


‫ات َلْيَل ًة ع ْن َد َم ْي ُم َ‬‫َخ َب َرهُ أََّن ُه َب َ‬ ‫ّللاِ ْب َن َعب ٍ‬
‫َّاس أ ْ‬ ‫‪َ -1‬ع ْن ُك َرْي ٍب‪ ،‬م ْوَلى ْاب ِن َعب ٍ‬
‫َّاس أ َّ‬
‫َن َع ْب َد َّ‬ ‫َ‬
‫ّللاِ ‪‬‬ ‫ول َّ‬‫ط َج َع َرُس ُ‬ ‫اض َ‬ ‫ض ِ ِ‬
‫الو َس َادة " َو ْ‬ ‫ط َج ْع ُت ِفي َع ْر ِ‬ ‫اض َ‬ ‫النِب ِّي ‪َ ‬وِه َي َخاَلتُ ُه َف ْ‬‫َزْو ِج َّ‬
‫ِِ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫طولِها‪َ ،‬فنام رسول َّ ِ‬ ‫وأ ِ‬
‫ف اللْي ُل‪ ،‬أ َْو َقْبَل ُه بَقليل أ َْو َب ْع َدهُ‬ ‫صَ‬‫ّللا ‪َ ،‬حتى إ َذا ْانتَ َ‬ ‫َهُل ُه في ُ َ َ َ َ ُ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫ِ ِ ِ ِِ‬ ‫ّللاِ ‪َ ،‬ف َجَل َس َي ْمس ُح َّ‬ ‫ِِ ٍ‬
‫الن ْوَم َع ْن َو ْجهه ب َيده‪ ،‬ثُ َّم َق َأَر َ‬
‫الع ْش َر‬ ‫َ‬ ‫ول َّ‬ ‫ظ َرُس ُ‬ ‫استَ ْيَق َ‬
‫بَقليل‪ْ ،‬‬
‫آل ِعمران‪ ،‬ثُ َّم َقام ِإَلى َش ٍن معَّلَق ٍة‪َ ،‬فتَو َّ ِ‬ ‫الخو ِاتم ِم ْن س ِ‬ ‫ِ‬
‫َح َس َن‬ ‫ضأَ م ْن َها َفأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ َُ‬ ‫َ‬ ‫ورة ِ ْ َ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫اآليات َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ص َن َع‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وضوءه‪ ،‬ثُ َّم َقام ي ِ‬
‫ص َن ْع ُت م ْث َل َما َ‬ ‫ال ْاب ُن َعبَّاس‪َ :‬فُق ْم ُت َف َ‬ ‫صّلي‪َ .‬ق َ‬ ‫َ َُ‬ ‫ُ ُ َُ‬
‫الحديث"(‪ .)2‬ووجه الداللة من الحديث‪ :‬أن النبي ‪ ‬قام من نومه فَق أَر الع ْشر اآلي ِ‬
‫ات‬ ‫َ َ َ َ‬
‫ان قبل أن يتوضأ؛ فدل ذلك على جواز قراءة القرآن‬ ‫ورة ِ ِ‬
‫الخو ِاتم ِم ْن س ِ‬
‫آل ع ْم َر َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ََ َ‬
‫للمحدث حدثاً أصغ اًر؛ ألن النوم حدث‪.‬‬
‫آن عَلى ُك ِل ح ٍ‬ ‫‪ -2‬عن علِ ٍي‪َ ،‬قال‪« :‬كان رسول َّ ِ‬
‫ال َما َل ْم َي ُك ْن ُجُنًبا»‪،‬‬ ‫ّ َ‬ ‫ّللا ‪ُ ‬يْق ِرُئ َنا الُق ْر َ َ‬ ‫َْ َ ّ َ َ َ َُ ُ‬
‫العْل ِم ِم ْن أَصح ِ‬
‫اب‬ ‫احٍد ِمن أَه ِل ِ‬ ‫يث حس ٌن ص ِحيح‪ ،‬وبِ ِه َقال َغير و ِ‬ ‫ِ‬ ‫حِد ُ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫يث َعل ٍّي َحد ٌ َ َ َ ٌ َ‬ ‫َ‬
‫وء‪َ ،‬وَال َيْق َأُر ِفي‬ ‫ِ‬
‫ضٍ‬ ‫آن َعَلى َغ ْي ِر ُو ُ‬ ‫الرُج ُل الُق ْر َ‬ ‫النِب ِّي ‪َ ،‬والتَّاِبع َ‬
‫ين‪َ ،‬قاُلوا‪َ :‬يْق َأُر َّ‬ ‫َّ‬
‫اق"(‪.)3‬‬ ‫اهر‪ ،‬وبِ ِه يُقول سْفيان الثَّوِر ُّي‪ ،‬و َّ ِ ِ‬ ‫ف ِإ َّال وهو َ ِ‬ ‫المصح ِ‬
‫َح َمُد‪َ ،‬وإِ ْس َح ُ‬
‫الشافع ُّي‪َ ،‬وأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ط ٌ َ َ ُ ُ َُ ْ‬ ‫َ َُ‬ ‫ُْ َ‬
‫فهذا الحديث واضح الداللة على جواز قراءة القرآن الكريم عن ظهر قلب للمحدث حدثا‬
‫أصغر‪.‬‬

‫(‪)1‬التبيان في آداب حملة القرآن (ص‪)73 :‬‬


‫(‪)2‬صحيح البخاري (‪.)47 /1‬‬
‫(‪)3‬سنن الترمذي (‪.)274 /1‬‬
‫( ‪) 237‬‬

‫الموضوع الرابع‪ :‬حكم قراءة القران للمحدث حدثا أكبر (الحائض والجنب)‪.‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم قراءة القران للمحدث حدثا أكبر (الحائض والجنب)‬
‫على ثالثة أقوال‪:‬‬

‫سبب الخالف‪:‬‬
‫ان ‪َ -‬عَل ْي ِه‬ ‫ال‪َ « :‬ك َ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫ِق إَلى َحديث َعل ٍّي أَنَّ ُه َق َ‬
‫ط ّر ُ ِ‬ ‫ال اْل ُمتَ َ‬ ‫ِ ِ‬
‫السبب في ذلك اال ْحت َم ُ‬
‫آن َشي ٌء ِإ َّال اْل َج َن َاب ُة» َوَذلِ َك أ َّ‬
‫َن َق ْو ًما َقاُلوا‪ِ :‬إ َّن‬ ‫الس َالم ‪َ -‬ال َي ْم َن ُع ُه ِم ْن ِق َراء ِة اْلُق ْر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫الص َالةُ َو َّ ُ‬ ‫َّ‬
‫َن تَرك اْل ِقر ِ‬ ‫ظن ِم َن َّ‬ ‫وج ُب َش ْيًئا ; ِألَنَّ ُه َ‬ ‫َه َذا َال ي ِ‬
‫ان‬‫اءة َك َ‬ ‫َحٌد أ َّ ْ َ َ َ‬ ‫الرِاوي‪َ ،‬و ِم ْن أ َْي َن َي ْعَل ُم أ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ِع اْلج َنابة ِإ َّال َلو أ ْ ِ ِ‬ ‫لِمو ِ‬
‫ول َه َذا َع ْن‬ ‫ور َأرَْوا أََّن ُه َل ْم َي ُك ْن َعلي ‪ ‬ل َيُق َ‬ ‫َخ َب َرهُ ب َذل َك؟ َواْل ُج ْم ُه ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬
‫ِ (‪)1‬‬
‫يق ‪.‬‬ ‫ظ ٍّن‪َ ،‬وإَِّن َما َقاَل ُه َع ْن تَ ْحق ٍ‬
‫تَ َو ُّه ٍم َوَال َ‬
‫القول األول‪ :‬ال يجوز قراءة المحدث حدثا أكبر للقرآن‪.‬‬
‫(‪)3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫وهو مذهب‬ ‫ورواية عند مالك‬ ‫وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفية‬
‫ورواية عن اإلمام أحمد وعليها أكثر الحنابلة(‪.)5‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫الشافعية‬
‫واستدلوا بما يأتي‪:‬‬

‫الجُن ُب َش ْيًئا‬ ‫النِب ِي ‪َ ‬قال‪َ « :‬ال تَْق أِر ِ‬


‫‪َ -1‬ع ْن َن ِاف ٍع‪َ ،‬ع ْن ْاب ِن ُعم َر‪َ ،‬ع ِن َّ‬
‫ض‪َ ،‬وَال ُ‬
‫الحائ ُ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ِم َن الُق ْر ِ‬
‫آن»(‪.)6‬‬
‫آن عَلى ُك ِل ح ٍ‬ ‫‪ -2‬عن علِ ٍي‪َ ،‬قال‪« :‬كان رسول َّ ِ‬
‫ال َما َل ْم َي ُك ْن‬ ‫ّ َ‬ ‫ّللا ‪ُ ‬يْق ِرُئ َنا الُق ْر َ َ‬ ‫َ َ َُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ ّ‬
‫ُجُنًبا» (‪.)7‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه يجوز للحائض والجنب قراءة القرآن‪.‬‬

‫(‪)1‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد (‪.)55 /1‬‬


‫(‪)2‬المبسوط للسرخسي (‪ ،)152 /3‬تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (‪.)56 /1‬‬
‫(‪)3‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد (‪ ،)55 /1‬المعونة على مذهب عالم المدينة (ص‪.)162 :‬‬
‫(‪)4‬الحاوى الكبير للماوردي (‪ ،)251 /1‬المجموع شرح المهذب (‪.)155 /2‬‬
‫(‪ )5‬المغني البن قدامة (‪.)106 /1‬‬
‫ب َع ْن َع ِليٍ‪،‬‬‫(‪)6‬رواه الترمذي في سننه (‪ ،)236 /1‬وقد ضعف الترمذي هذه الرواية فقال‪َ :‬وفِي البَا ِ‬
‫هاش "‪.‬‬ ‫ع َم َر َحدِيث َال نَ ْع ِرفُهُ إِ هال ِم ْن َحدِي ِ‬
‫ث ِإ ْس َما ِعي َل ب ِْن َعي ٍ‬ ‫َحد ُ‬
‫ِيث اب ِْن ُ‬
‫ص ِحيح‪.‬‬
‫سن َ‬‫ِيث َع ِلي ٍ َحدِيث َح َ‬‫(‪)7‬سنن الترمذي (‪ ،)274 /1‬وقال الترمذي‪َ :‬حد ُ‬
‫( ‪) 238‬‬

‫وهو قول الظاهرية(‪.)1‬‬

‫قال ابن حزم‪ :‬وقراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر هللا تعالى‬
‫جائز‪ ،‬كل ذلك بوضوء وبغير وضوء وللجنب والحائض(‪.)2‬‬

‫وقد ذكر ابن حزم أث اًر عن نصر الباهلي قال‪ :‬كان ابن عباس يق أر البقرة وهو‬
‫جنب‪ .‬أخبرني محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون هللا ثنا قاسم بن أصبغ ثنا‬
‫محمد بن عبد السالم الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا غندر ثنا شعبة عن حماد بن أبي‬
‫سليمان قال‪ :‬سألت سعيد بن جبير عن الجنب يق أر فلم ير به بأسا وقال‪ :‬أليس في‬
‫جوفه القرآن؟ وهو قول داود وجميع أصحابنا(‪.)3‬‬

‫وقال أيضا‪ :‬أن قراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر هللا تعالى أفعال خير‬
‫مندوب إليها مأجور فاعلها‪ ،‬فمن ادعى المنع فيها في بعض األحوال كلف أن يأتي‬
‫بالبرهان(‪.)4‬‬

‫القول الثالث‪ :‬تجوز قراءة القران للحائض بخالف الجنب ال تجوز له‪.‬‬
‫وبهذا قال اإلمام مالك في أشهر الروايات عنه‪ ،‬ووافقه أصحابه(‪ .)5‬وعللوا ذلك؛‬
‫بأن الحائض إذا لم تق أر نسيت القرآن ألن أيام الحيض تتطاول بغير اختيار منها‪ ،‬ومدة‬
‫الجنابة ال تطول(‪.)6‬‬

‫(‪)1‬المحلى باآلثار (‪)94 /1‬‬


‫(‪)2‬المحلى باآلثار (‪)94 /1‬‬
‫(‪)3‬المحلى باآلثار (‪.)96 /1‬‬
‫(‪)4‬المحلى باآلثار (‪)95 /1‬‬

‫(‪ )5‬الذخيرة للقرافي (‪ ،)315 /1‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد (‪ ،)55 /1‬عيون المسائل للقاضي‬
‫عبد الوهاب المالكي (ص‪.)71 :‬‬
‫(‪)6‬معالم السنن (‪.)77 /1‬‬
‫( ‪) 239‬‬

‫القول المختار‪ :‬أختار قول الجمهور لقوة أدلته‪ ،‬غير أنه يمكن أن تترخص المرأة‬
‫الحائض في قراءة القران؛ إذا خشيت نسيان ما حفظته من القرآن من قريب‪ ،‬أو كانت‬
‫طالبة وتحتاج إلى مراجعة القرآن ألنها ستُختبر في حفظه‪.‬‬

‫حكم مس المصحف وحمله للمحدث‪:‬‬

‫َن َي َم َّس‬ ‫اء ِإَلى أََّنه ال يج ِ ِ ِ‬ ‫ام ُة اْلُفَقه ِ‬


‫َص َغ َر أو أكبر أ ْ‬ ‫وز لْل ُم ْحدث َح َدثًا أ ْ‬ ‫ُ َُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َذ َه َب َع َّ‬
‫ف أو أن يحمله‪ ،‬وال خالف بينهم في ذلك‪ ،‬وقد رخص الحنفية بجواز حمل‬ ‫ص َح َ‬
‫اْل ُم ْ‬
‫المصحف بغالفه (أي بالجلد يغطى به)(‪.)1‬‬
‫ِ‬ ‫اهر يعِني َ ِ ِ‬ ‫قال ابن قدامة‪ :‬وَال يم ُّس اْلمصحف َّإال َ ِ‬
‫يعا‪.‬‬‫طاه ًار م ْن اْل َح َدثَ ْي ِن َجم ً‬ ‫ط ٌ َْ‬ ‫ُْ َ َ‬ ‫َ ََ‬
‫اس ِم ْب ِن ُم َح َّمٍد َو ُه َو َق ْو ُل‬‫الشعِب ِي واْلَق ِ‬ ‫اء و َ ٍ َّ‬
‫ط ُاوس َو ْ ّ َ‬ ‫ط َ‬
‫رِوي ه َذا عن اب ِن عمر واْلحس ِن وع َ ٍ‬
‫ُ َ َ َ ْ ْ ُ ََ َ َ َ َ َ‬
‫احتَ َّج ِبأ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫الش ِاف ِع ِي وأَصح ِ‬ ‫مالِ ٍك و َّ‬
‫َن‬ ‫اح َم َّس ُه‪َ .‬و ْ‬‫ْي‪َ ،‬وَال َن ْعَل ُم ُم َخالًفا َل ُه ْم إال َد ُاود َفِإَّن ُه أ ََب َ‬
‫الر ِ‬
‫اب َّأ‬ ‫ّ َ ْ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬
‫صر» ‪ .‬واستدلوا بَق ْولِه تَ َعاَلى‪{ :‬ال َي َم ُّس ُه ِإال‬ ‫)‬‫‪2‬‬ ‫(‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َِّ‬
‫«النب َّي ‪َ ‬كتَ َب في كتَابه َآي ًة إَلى َق ْي َ‬
‫ط َّه ُرو َن} [الواقعة‪.]79 :‬‬ ‫اْل ُم َ‬
‫َن النَِّب َّي ‪َ ‬كتَ َب‬ ‫يه َما‪ ،‬أ َّ‬‫ّللاِ‪ ،‬ومح َّمٍد ْابِني أَِبي َب ْك ِر ْب ِن ح ْزمٍ‪َ ،‬ع ْن أَِب ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫وبما روي َع ْن َع ْبد َّ َ ُ َ‬
‫اه ًار»(‪.)3‬‬ ‫ط ِ‬ ‫آن ِإ َّال َ‬ ‫ِ ِِ‬
‫كتَ ًابا فيه‪َ « :‬وَال تَ َم َّس اْلُق ْر َ‬

‫(‪ )1‬بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (‪ ،)37 /1‬االختيار لتعليل المختار (‪ ،)13 /1‬مواهب الجليل‬
‫في شرح مختصر خليل (‪ ،)303 /1‬البيان في مذهب اإلمام الشافعي (‪ ،)200 /1‬المغني البن قدامة‬
‫(‪.)108 /1‬‬
‫(‪)2‬المغني البن قدامة (‪.)108 /1‬‬
‫(‪)3‬سنن الدارقطني (‪.)219 /1‬‬
‫( ‪) 240‬‬

‫ام قصر الصالة‪.‬‬


‫الموضوع الخامس‪ :‬أح َك ُ‬
‫اء ِفي َحاَل ِة‬
‫السَف ِر‪َ ،‬س َو ٌ‬
‫الرب ِ‬
‫اعَّي ُة َرْك َعتَ ْي ِن ِفي َّ‬ ‫الصالةُ ُّ َ‬
‫معنى قصر الصالة‪ :‬أَن تَ ِ‬
‫ص َير َّ‬ ‫ْ‬
‫ف‪ ،‬أ َْو ِفي َحاَل ِة األ َْم ِن‪.‬‬
‫اْلخو ِ‬
‫َْ‬
‫مشُر ِ‬
‫وعَّي ُة قصر الصالة‪:‬‬ ‫َ‬
‫اذا‪َ ،‬و ُه َو َق ْو ُل َع ِائ َش َة‪َ :‬و ُه َو‬‫الص َال ِة لِْلمس ِاف ِر‪ِ ،‬إ َّال َقوًال َش ًّ‬
‫ص ِر َّ‬ ‫َّ‬
‫ْ‬ ‫َُ‬ ‫اء َعَلى َج َو ِاز َق ْ‬ ‫اتَف َق اْل ُعَل َم ُ‬
‫ين َكَف ُروا} [النساء‪:‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ف لَِقولِ ِه تَعاَلى‪ِ{ :‬إن ِخْفتُم أ ِ‬ ‫وز ِإ َّال لِْلخ ِائ ِ‬ ‫أ َّ‬
‫َن َيْفت َن ُك ُم الذ َ‬
‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ص َر َال َي ُج ُ‬ ‫َن اْلَق ْ‬
‫ان َخ ِائًفا (‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫ص َر ; ألََّن ُه َك َ‬ ‫ِ َّ‬
‫الس َال ُم ‪ -‬إن َما َق َ‬ ‫‪َ ]101‬وَقاُلوا‪ِ :‬إ َّن النَِّب َّي ‪َ -‬عَل ْي ِه َّ‬
‫الص َالةُ َو َّ‬

‫واألصل في جوازه الكتاب والسنة والجماع‪:‬‬

‫ص ُروا ِم َن‬
‫َن تَْق ُ‬
‫اح أ ْ‬ ‫ض َرْبتُم ِفي األ َْر ِ‬
‫ض َفَل ْي َس َعَل ْي ُك ْم ُج َن ٌ‬ ‫{وإِ َذا َ ْ‬ ‫اب‪َ :‬فَق ْوُل ُه تَ َعاَلى‪َ :‬‬
‫أ َّ ِ‬
‫َما الك َت ُ‬
‫ين َكَف ُروا} (‪.)2‬‬ ‫َِّ‬ ‫الة ِإن ِخْفتُم أ ِ‬‫الص ِ‬
‫َن َيْفت َن ُك ُم الذ َ‬
‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬

‫السَّنةُ‪:‬‬
‫َما ُّ‬
‫َوأ َّ‬

‫ان َن ِبِي ُكم ‪‬‬ ‫الص َال َة َعَلى لِ َس ِ‬


‫هللا َّ‬ ‫‪ -1‬عن مج ِ‬
‫اهدٍ‪َ ،‬ع ِن اب ِن َعَّب ٍ‬
‫ض ُ‬ ‫ال‪َ « :‬فَر َ‬‫اس‪َ ،‬ق َ‬ ‫َ َُ‬
‫الس َف ِر ركع َتي ِن‪ ،‬وِفي ال َخو ِ‬ ‫ِ‬
‫ف َرك َع اة»(‪.)3‬‬ ‫َ‬ ‫في ال َح َض ِر أَرَب اعا‪َ ،‬وِفي َّ َ َ‬
‫اح‬ ‫ط ِ‬‫‪ -2‬ما روي عن يعَلى ب ِن أُميَّ َة‪َ ،‬قال‪ُ :‬قْلت لِعمر ب ِن اْلخ َّ‬
‫اب‪َ{ :‬ل ْي َس َعَل ْي ُك ْم ُج َن ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ََ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َْ ْ َ‬
‫ال‪:‬‬ ‫الص َال ِة‪ِ ،‬إن ِخْفتُم أَن يْفِتن ُكم َّالِذين َكَفروا} َفَقد أ ِ‬
‫َم َن َّ‬ ‫ص ُروا ِم َن َّ‬
‫اس‪َ ،‬فَق َ‬ ‫الن ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ ْ َ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َن تَْق ُ‬
‫أْ‬
‫صَّد َق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َدَق ٌة تَ َ‬
‫ال « َ‬
‫ول هللا ‪َ ‬ع ْن َذل َك‪َ ،‬فَق َ‬
‫َعج ْب ُت م َّما َعج ْب ُت م ْن ُه‪َ ،‬ف َسأَْل ُت َرُس َ‬
‫ص َدَقتَ ُه»(‪.)4‬‬ ‫ِ‬
‫هللاُ ب َها َعَل ْي ُك ْم‪َ ،‬فا ْقَبُلوا َ‬

‫(‪ )1‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد (‪)176 /1‬‬


‫(‪ )2‬سورة النساء ‪.101 /‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم (‪.)479 /1‬‬
‫(‪ )4‬صحيح مسلم (‪.)478 /1‬‬
‫( ‪) 241‬‬

‫ص َالةُ‬
‫ِ ِ‬
‫ض ْت َرْك َعتَ ْين‪َ ،‬فأُق َّر ْت َ‬ ‫الص َال َة أ ََّو َل َما ُف ِر َ‬
‫َن َّ‬ ‫‪َ -3‬ع ْن ُع ْرَوَة‪َ ،‬ع ْن َع ِائ َش َة‪« :‬أ َّ‬
‫ال َع ِائ َش َة تُِت ُّم‬ ‫ِ‬ ‫ال ُّ‬
‫الزْه ِر ُّي‪َ :‬فُقْل ُت ل ُع ْرَوَة‪َ " :‬ما َب ُ‬ ‫ض ِر» َق َ‬ ‫ص َالةُ اْل َح َ‬
‫َّ ِ ِ‬
‫السَفر‪َ ،‬وأُت َّم ْت َ‬
‫ان "(‪.)1‬‬ ‫ال‪ِ :‬إَّن َها تَأ ََّوَل ْت َك َما تَأ ََّو َل ُع ْث َم ُ‬ ‫ِفي َّ‬
‫السَف ِر؟ َق َ‬
‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ -4‬عن ِعيسى ْب ُن َحْف ِ‬
‫ال‪:‬‬ ‫ص ْب ِن َعاص ِم ْب ِن ُع َم َر ْب ِن اْل َخطاب‪َ ،‬ع ْن أَبيه‪َ ،‬ق َ‬ ‫َ‬
‫يق م َّك َة‪َ ،‬قال‪َ :‬فصَّلى َلنا ُّ‬
‫الظ ْه َر َرْك َعتَ ْي ِن‪ ،‬ثُ َّم أَْقَب َل‬ ‫ص ِح ْب ُت ْاب َن ُعم َر ِفي َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫طر ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اء َر ْحَل ُه‪َ ،‬و َجَل َس َو َجَل ْس َنا َم َع ُه‪َ ،‬ف َح َان ْت ِم ْن ُه اْلِتَفاتَةٌ َن ْح َو َح ْي ُث‬ ‫َّ‬
‫َوأَْقَبْل َنا َم َع ُه‪َ ،‬حتى َج َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صَّلى‪َ ،‬ف أرَى ن ِ‬
‫ص َن ُع َه ُؤَالء؟ » ُقْل ُت‪ُ :‬ي َسّب ُحو َن‪َ ،‬ق َ‬
‫ال‪َ« :‬ل ْو‬ ‫ال‪َ « :‬ما َي ْ‬ ‫اما‪َ ،‬فَق َ‬ ‫اسا ق َي ً‬
‫َ َ ً‬ ‫َ‬
‫ول هللاِ ‪ِ ‬في‬ ‫صح ْب ُت َرُس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ص َالتي‪َ ،‬يا ْاب َن أَخي إّني َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُك ْن ُت ُم َسّب ًحا َأل َْت َم ْم ُت َ‬
‫ص ِح ْب ُت أ ََبا َب ْك ٍر‪َ ،‬فَل ْم َي ِزْد َعَلى‬ ‫السَف ِر‪َ ،‬فَل ْم َي ِزْد َعَلى َرْك َعتَ ْي ِن َحتَّى َق َب َ‬
‫ض ُه هللاُ‪َ ،‬و َ‬ ‫َّ‬
‫رْكعتَي ِن حتَّى َقبضه هللا‪ ،‬و ِ‬
‫هللاُ‪،‬‬ ‫ض ُه‬‫صح ْب ُت ُع َم َر‪َ ،‬فَل ْم َي ِزْد َعَلى َرْك َعتَ ْي ِن َحتَّى َق َب َ‬‫ََ ُ ُ َ َ‬ ‫َ َْ َ‬
‫ثُ َّم ِ‬
‫{َلَق ْد‬ ‫ال هللاُ‪:‬‬ ‫ض ُه هللاُ» َوَق ْد َق َ‬ ‫ان‪َ ،‬فَل ْم َي ِزْد َعَلى َرْك َعتَْي ِن َحتَّى َق َب َ‬
‫صح ْب ُت ُع ْث َم َ‬
‫َ‬
‫ُس َوةٌ َح َس َن ٌة} [األحزاب‪.)2( .]21 :‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان َل ُك ْم في َرُسول هللا أ ْ‬ ‫َك َ‬
‫ول هللاِ ‪ِ ‬م َن اْل َمِد َين ِة ِإَلى َم َّك َة‪،‬‬ ‫س ب ِن مالِ ٍك‪َ ،‬قال‪َ « :‬خرج َنا مع رس ِ‬
‫َْ ََ َُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫‪َ -5‬ع ْن أ ََن ْ َ‬
‫(‪)3‬‬
‫ال‪َ « :‬ع ْش ًار»‪.‬‬ ‫َفصَّلى رْكعتَ ْي ِن رْكعتَ ْي ِن حتَّى رجع»‪ُ ،‬قْل ُت‪َ :‬كم أََق ِ َّ‬
‫ام ب َمك َة؟ َق َ‬
‫ْ َ‬ ‫َ َََ‬ ‫َ َ َ َ َ‬
‫وأما الجماع‪ :‬فإن األمة أجمعت على جواز قصر الصالة في السفر(‪.)4‬‬

‫ص ُر ِفي ِم ْثِل ِه َّ‬


‫الص َالةُ ِفي‬ ‫َن َم ْن َساَف َر َسَف ًار تَْق ُ‬ ‫َه ُل اْل ِعْل ِم َعَلى أ َّ‬
‫َج َم َع أ ْ‬
‫قال ابن قدامة‪َ :‬وأ ْ‬
‫صّلِ َي َها َرْك َعتَ ْي ِن(‪.)5‬‬ ‫َن َله أَن يْقصر َّ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الرَباعَّي َة َفُي َ‬ ‫َح ٍّج‪ ،‬أ َْو ُع ْم َرة‪ ،‬أ َْو ج َهاد‪ ،‬أ َّ ُ ْ َ ُ َ‬

‫(‪ )1‬صحيح مسلم (‪.)478 /1‬‬


‫(‪ )2‬صحيح مسلم (‪.)479 /1‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم (‪.)481 /1‬‬
‫(‪ )4‬البيان في مذهب اإلمام الشافعي (‪.)449 /2‬‬

‫(‪ )5‬المغني البن قدامة (‪.)188 /2‬‬


‫( ‪) 242‬‬

‫حكم قصر الصالة‪ :‬اختلف الفقهاء في حكم القصر في السفر‪ ،‬بين الجواز والوجوب‬
‫على قولين‪:‬‬

‫القول األول‪ :‬أن القصر في السفر جائز‪ ،‬بمعنى أن يكون المسافر مخي اًر بين قصر‬
‫الصالة الرباعية إلى ركعتين‪ ،‬أو إتمام الصالة أربع ركعات‪.‬‬

‫الش ِاف ِعَّيةُ َوهو مذهب اْل َح َناِبَل ُة‪ ،‬والمشهور عند‬
‫وإلى هذا القول ذهب جمهور الفقهاء من َّ‬
‫المالكية(‪.)1‬‬

‫ض َرْبتُم ِفي األَْر ِ‬


‫ض َفَل ْي َس َعَل ْي ُك ْم‬ ‫ُّ‬
‫{وإِ َذا َ ْ‬ ‫َواس َت َدلوا بما يأتي من القرآن الكريم‪ :‬قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ين َكَف ُروا }(‪.)2‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫الص ِ‬
‫الة ِإن ِخْفتُم أ ِ‬ ‫ص ُروا ِم َن َّ‬
‫َن َيْفت َن ُك ُم الذ َ‬
‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َن تَْق ُ‬
‫اح أ ْ‬‫ُج َن ٌ‬

‫فلفظ الجناح في اآلية الكريمة دليل على أنه رخصة في السفر‪ ،‬فيكون المسافر‬
‫مخي ار بين قصر الصالة وإتمامها مثل باقي الرخص األخرى‪.‬‬

‫قال في الحاوي الكبير‪ :‬فأخبر تعالى بوضع الجناح عنا في القصر‪ ،‬والجناح‬
‫اإلثم‪ ،‬وهذا من صفة المباح ال الواجب(‪.)3‬‬

‫الص َال ِة ِفي‬ ‫ص َر َّ‬ ‫َن َق ْ‬ ‫ّللاِ تَ َعاَلى أ َّ‬


‫اب َّ‬ ‫ان بِّيًنا ِفي ِكتَ ِ‬
‫ال الشافعي في األم‪َ :‬ف َك َ َ‬ ‫َق َ‬
‫َن‬‫ضا َعَل ْي ِه ْم أ ْ‬ ‫َن َف ْر ً‬‫ّللاِ َع َّز َو َج َّل َع ْن َخْل ِق ِه َال أ َّ‬ ‫يف ِم ْن َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ض َواْل َخ ْوف تَ ْخف ٌ‬ ‫الض ْر ِب ِفي ْاأل َْر ِ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫ضوا َل ُه َّن‬ ‫وه َّن أ َْو تَْف ِر ُ‬
‫اء َما َل ْم تَ َم ُّس ُ‬ ‫طَّلْقتُ ُم ّ‬
‫الن َس َ‬ ‫اح َعَل ْي ُك ْم ِإ ْن َ‬ ‫ان َق ْوُل ُه {ال ُج َن َ‬‫ص ُروا َك َما َك َ‬ ‫َيْق ُ‬
‫ان‬‫ال َوَك َما َك َ‬ ‫طّلُِقوه َّن ِفي هِذِه اْلح ِ‬ ‫َن َح ْت ًما َعَل ْي ِه ْم أ ْ‬ ‫ص ًة َال أ َّ‬ ‫َف ِر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َن ُي َ ُ‬ ‫يض ًة} [البقرة‪ُ ]236 :‬ر ْخ َ‬
‫ّللاُ تَ َعاَلى أ َْعَل ُم‬ ‫ضال ِم ْن َرِّب ُك ْم} [البقرة‪ُ ]198 :‬ي ِر ُيد َوَ َّ‬ ‫َن تَ ْبتَ ُغوا َف ْ‬ ‫اح أ ْ‬‫َق ْوُل ُه {َل ْي َس َعَل ْي ُك ْم ُج َن ٌ‬
‫ان َق ْوُل ُه {َفَل ْي َس َعَل ْي ِه َّن ُج َن ٌ‬
‫اح‬ ‫َن َيتَّ ِج ُروا َوَك َما َك َ‬ ‫َن َح ْت ًما َعَل ْي ِه ْم أ ْ‬‫َن تَتَّ ِج ُروا ِفي اْل َح ِّج َال أ َّ‬ ‫أْ‬

‫(‪)1‬األم للشافعي (‪ ،)207 /1‬الحاوى الكبير (‪ ،)823 /2‬المغني البن قدامة (‪ ،)197 /2‬المقدمات‬
‫الممهدات (‪ ،)211 /1‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد (‪)177 /1‬الذخيرة للقرافي (‪.)8 /2‬‬
‫(‪( )2‬سورة النساء ‪.)101 /‬‬
‫(‪ )3‬الحاوى الكبير (‪.)823 /2‬‬
‫( ‪) 243‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يعا}‬
‫ْكلُوا َجم ً‬
‫َن تَأ ُ‬
‫اح أ ْ‬
‫َق ْوُل ُه {َل ْي َس َعَل ْي ُك ْم ُج َن ٌ‬ ‫ض ْع َن ث َي َاب ُه َّن} [النور‪َ ]60 :‬وَك َما َك َ‬
‫ان‬ ‫َن َي َ‬
‫أْ‬
‫ِمن بيوِت ِهم وَال بي ِ‬
‫وت َغ ْي ِرِه ْم(‪.)1‬‬ ‫ْ ُُ ْ َ ُُ‬ ‫ْكُلوا‬ ‫[النور‪ْ ]61 :‬اآل َي ُة َال أََّن َح ْت ًما َعَل ْي ِه ْم أ ْ‬
‫َن َيأ ُ‬

‫ومن السنة النبوية‪:‬‬

‫اح‬ ‫ط ِ‬‫ما روي عن يعَلى ب ِن أُميَّ َة‪َ ،‬قال‪ُ :‬قْلت لِعمر ب ِن اْلخ َّ‬
‫اب‪َ{ :‬ل ْي َس َعَل ْي ُك ْم ُج َن ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ََ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َْ ْ َ‬
‫ال‪َ :‬ع ِج ْب ُت‬ ‫الص َال ِة‪ِ ،‬إن ِخْفتُم أَن يْفِتن ُكم َّالِذين َكَفروا} َفَقد أ ِ‬
‫َم َن َّ‬ ‫ص ُروا ِم َن َّ‬
‫اس‪َ ،‬فَق َ‬‫الن ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ ْ َ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َن تَْق ُ‬
‫أْ‬
‫صَّد َق‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِم َّما ع ِجبت ِم ْنه‪َ ،‬فسأَْلت رسول هللاِ َّ‬
‫ص َدَق ٌة تَ َ‬‫ال « َ‬‫صلى هللاُ َعَل ْيه َو َسل َم َع ْن َذل َك‪َ ،‬فَق َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ ُ َ ُ َُ َ‬
‫(‪)2‬‬
‫ص َدَقتَ ُه» ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫هللاُ ب َها َعَل ْي ُك ْم‪َ ،‬فا ْقَبُلوا َ‬
‫قال الخطابي‪ :‬في قوله صدقة تصدق هللا بها عليكم دليل على أنه رخصة‬
‫رخص لهم فيها‪ ،‬والرخصة إنما تكون إباحة ال عزيمة وهللا أعلم بالصواب(‪.)3‬‬

‫ض اْل ُم َس ِاف ِر ِم ْن‬


‫الة أ َْرَب ًعا؛ ألن َف ْر َ‬ ‫َن ُيِت َّم َّ‬
‫الص َ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫القول الثاني‪َ :‬ل ْي َس لْل ُم َساف ِر ع ْن َد ُه ْم أ ْ‬
‫ان ال َغ ْي ُر‪ ،‬وإلى هذا َذ َه َب فقهاءاْل َح َن ِفَّي ُة(‪.)4‬‬ ‫الصالة الرباعية َرْك َعتَ ِ‬

‫واستدلوا بما يأتي‪:‬‬

‫ض ِت َّ‬
‫الص َالةُ َرْك َعتَ ْي ِن‬ ‫‪ -1‬بما روي َع ْن َع ِائ َش َة‪َ ،‬زْو ِج َّ‬
‫النِب ِّي ‪ ،‬أََّن َها َقاَل ْت‪ُ« :‬ف ِر َ‬
‫ض ِر»(‪.)5‬‬ ‫ِ‬ ‫السَف ِر‪َ ،‬فأ ُِق َّر ْت ص َالة َّ ِ ِ ِ‬ ‫ض ِر َو َّ‬ ‫ِ‬
‫ص َالة اْل َح َ‬
‫السَفر‪َ ،‬وز َيد في َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َرْك َعتَ ْي ِن في اْل َح َ‬
‫ِ‬ ‫‪ -2‬وفي رواية أخرى‪ :‬أ َّ ِ‬
‫ين‬‫الص َال َة ح َ‬ ‫ض هللاُ َّ‬ ‫َن َعائ َش َة‪َ ،‬زْو َج النَِّب ِّي ‪َ ،‬قاَل ْت‪َ« :‬ف َر َ‬
‫يض ِة‬‫السَف ِر َعَلى اْلَف ِر َ‬ ‫ص َال ُة َّ‬ ‫ِ‬
‫ضر‪َ ،‬فأُق َّر ْت َ‬
‫ض َها َرْك َعتَ ْي ِن‪ ،‬ثُ َّم أَتَ َّم َها ِفي اْل َح َ ِ‬
‫َف َر َ‬
‫ْاألُوَلى»(‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬األم للشافعي (‪.)207 /1‬‬


‫(‪ )2‬صحيح مسلم (‪.)478 /1‬‬
‫(‪ )3‬معالم السنن (‪.)261 /1‬‬
‫(‪ )4‬تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (‪ ،)210 /1‬البناية شرح الهداية (‪ )10 /3‬شرح‬
‫فتح القدير (‪.)32 /2‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم (‪.)478 /1‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم (‪.)478 /1‬‬
‫( ‪) 244‬‬

‫صلَّى‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫الص َال َة َعَلى ل َسان َنبّي ُك ْم َ‬
‫ض َّ‬ ‫ال‪ِ« :‬إ َّن هللاَ َف َر َ‬ ‫َع ِن ْاب ِن َعب ٍ‬
‫َّاس‪َ ،‬ق َ‬ ‫‪ -3‬وبما روي‬
‫وسَّلم‪ ،‬عَلى اْلمس ِاف ِر رْكعتَي ِن‪ ،‬وعَلى اْلم ِقي ِم أَربعا‪ ،‬وِفي اْلخو ِ‬
‫ف‬ ‫َْ‬ ‫ًَْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ َْ‬ ‫َُ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫هللاُ َعَل ْي ِه‬
‫َرْك َع ًة»(‪.)1‬‬
‫القول الراجح‪ :‬هو القول األول وهو قول جمهور الفقهاء؛ ألن النبي ‪ ‬كان يقصر في‬
‫السفر ويتم ويفطر ويصوم‪ ،‬وكذلك الصحابة الكرام كانوا يفعلون ذلك‪ ،‬ولم ينكر أحد‬
‫منهم على اآلخر‪.‬‬

‫ات َّال ِتي ُتق َصُر‪َ ،‬و ِمق َد ُار الَقص ِر‪:‬‬
‫الصَل َو ُ‬
‫َّ‬
‫ات‪ُّ :‬‬
‫الظ ْه ِر‪،‬‬ ‫ثَ َال ِث صَلو ٍ‬ ‫ص َر إنَّ َما ُه َو ِفي‬ ‫اخِت َالَفبين الفقهاء في أ َّ‬
‫َ َ‬ ‫َن اْلَق ْ‬ ‫َال ْ‬
‫ص َر ِفي اْل َم ْغ ِر ِب َوَال‬ ‫ِ ِ‬
‫اء وَذلِ َك أََّنه َّن أ َْرَب ٌع َفُيصّلِ ِ‬
‫يه َّن َرْك َعتَْي ِن َوَال‬ ‫واْل َع ْ ِ‬
‫َق ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫صر‪َ ،‬واْلع َش َ‬ ‫َ‬
‫(‪)2‬‬
‫الص ْب ِح ‪.‬‬
‫ُّ‬

‫ِ‬
‫ض ْت‬ ‫لما أخرجه ابن حبان وصححه‪َ :‬ع ْن َعائ َش َة رضي هللا عنها‪َ ،‬قاَل ْت‪ُ« :‬ف ِر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫السَف ِر واْلحض ِر رْكعتي ِن‪َ ،‬فَل َّما أََقام رسول َّ ِ‬
‫ص َالةُ‬‫ّللا ‪َ ‬رْك َعتَان َرْك َعتَان‪َ ،‬وتُرَك ْت َ‬ ‫َ َُ ُ‬ ‫ص َالةُ َّ َ َ َ َ َ َْ‬ ‫َ‬
‫الن َه ِار»(‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ط ِ‬
‫ول اْلق َراءة‪َ ،‬وص َالةُ اْلم ْغ ِر ِب ألََّن َها ِوْت ُر َّ‬ ‫ِ‬
‫اْلَف ْج ِر ل ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ص َر ُه َو‪ :‬سقوط شطر الصالة‪ ،‬وبعد سقوط الشطر من الفجر والمغرب‬ ‫َوأل َّ‬
‫َن اْلَق ْ‬
‫ال يبقى نصف مشروع‪ ،‬بخالف الصالة الرباعية فإنها هي التي تقصر‪ ،‬وذلك في جميع‬
‫المذاهب‪.‬‬

‫الش ِاف ِعي ِ‬ ‫ِِ‬


‫َّة‪ .‬وال َقصر ِفي اْلم ْن ُذورِة ِع ْن َد َّ‬ ‫وال َقصر ِفي ُّ ِ‬
‫َّة(‪.)4‬‬ ‫َ َ‬ ‫الس َن ِن ع ْن َد اْل َح َنفي َ ْ َ‬ ‫َ َْ‬
‫مسافة قصر الصالة‪:‬‬

‫اختلف الفقهاء في المسافة التي تُقصر فيها الصالة على قولين‪:‬‬

‫(‪ )1‬صحيح مسلم (‪.)479 /1‬‬


‫(‪ )2‬األم للشافعي (‪.)208 /1‬‬
‫(‪ )3‬صحيح ابن حبان ‪ -‬محققا (‪.)447 /6‬‬
‫(‪ )4‬بدائع الصنائع ‪ ،92 / 1‬مغني المحتاج ‪ ،260/ 1‬الموسوعة الفقهية‪.‬‬
‫( ‪) 245‬‬

‫القول األول‪ :‬ذهب الجمهور إلى تحديد مسافة تقصر فيها الصالة(‪.)1‬‬

‫فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المسافر يقصر الصالة‬
‫ِِ‬ ‫ين ِم ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يال ِباْل َهاشم ِّي‪َ ،‬فَل ُه أ ْ‬
‫َن‬ ‫ِإ َذا َك َان ْت َم َساَف ُة َسَف ِِره ستَّ َة َع َش َر َف ْرَس ًخا‪ ،‬أ َْو ثَ َمان َي َة َوأ َْرَبع َ‬
‫صر(‪.)2‬‬ ‫َيْق ُ‬
‫ص ُر الصالة إذا سافر َم ِس َيرِة ثَ َالثَ ِة أَيَّامٍ‪.‬‬ ‫وذهب الحنفية‪ :‬إلى أ َّ‬
‫َن المسافر َيْق ُ‬
‫النِب ِي ‪َ « :‬ي ْم َس ُح اْل ُم َس ِاف ُر ثَ َالثَ َة أَيَّا ٍم َوَل َيالِ َّ‬
‫يهن»‪.‬‬ ‫واستدلوا بقول َّ‬
‫ّ‬
‫القول الثاني‪ :‬قالوا مطلق السفر يبيح الترخص بالقصر‪ ،‬وليست هناك مسافة معينة‬
‫يباح القصر بعدها‪ ،‬فكل ما أطلق عليه اسم السفر عرفاً يبيح قصر الصالة‪.‬‬

‫وقالوا إن التقدير بابه التوقيف‪ ،‬فال يجوز المصير إليه برأي مجرد‪ ،‬سيما وليس‬
‫له أصل يرد إليه‪ ،‬وال نظير يقاس عليه‪ ،‬والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر‪ ،‬إال‬
‫أن ينعقد اإلجماع على خالفه(‪.)3‬‬

‫والمختار‪ :‬هو قول الجمهور؛ ألن الرخص شرعت للتخفيف‪ ،‬والسفر فوق مسافة القصر‬
‫مظنة المشقة؛ والمشقة تجلب التيسير‪.‬‬

‫الموضع الذي يقصر منه(‪:)4‬‬

‫ذهب جمهور العلماء إلى أن قصر الصالة يشرع بمفارقة الحضر والخروج من‬
‫ض َرْبتُ ْم ِفي‬
‫{وإِ َذا َ‬
‫البلد وأن ذلك شرط‪ ،‬واليتم حتى يدخل أول بيوتها؛ ألن هللا تعالى قال‪َ :‬‬

‫(‪ )1‬المجموع شرح المهذب (‪ ،)322 /4‬مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (‪/1‬‬
‫‪ ،)521‬المغني البن قدامة (‪.)188 /2‬‬
‫(‪ )2‬الفرسخ= ‪ 5541‬مترا‪ .‬والميل= ‪ 1748‬مترا‪ .‬انظر‪ :‬فقه السنة‪ ،‬لسيد سابق (‪.)284 /1‬‬
‫(‪ )3‬المغني البن قدامة (‪.)190 /2‬‬
‫(‪)4‬البيان في مذهب اإلمام الشافعي (‪ ،)462 /2‬الكافي في فقه اإلمام أحمد (‪ ،)306 /1‬فقه السنة‬
‫(‪.)285 /1‬‬
‫( ‪) 246‬‬

‫الص ِ‬
‫الة} [النساء‪ ،]101 :‬وال يكون ضارًبا‬ ‫ص ُروا ِم َن َّ‬ ‫األ َْر ِ‬
‫َن تَْق ُ‬
‫اح أ ْ‬
‫ض َفَل ْي َس َعَل ْي ُك ْم ُج َن ٌ‬
‫في األرض حتى يخرج‪.‬‬

‫وج ِه‬ ‫َْ ُ‬


‫النِب َّي ‪َ ‬قصر ِفي َشي ٍء ِم ْن أَسَف ِِ‬
‫اره ِإ َّال بع َد ُخر ِ‬
‫ْ‬ ‫ََ‬ ‫قال ابن المنذر‪َ :‬وَال َن ْعَلم َّ‬
‫ُ‬
‫ْ‬
‫َع ِن اْل َمِد َين ِة(‪.)1‬‬

‫الظ ْه َر َم َع النَِّب ِي ‪ِ ‬باْل َمِد َين ِة أ َْرَب ًعا‪،‬‬


‫س ب ِن مالِ ٍك ‪َ ،‬قال‪« :‬صَّليت ُّ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫وع ْن أ ََن ْ َ‬ ‫َ‬
‫ّ‬
‫الحَل ْيَف ِة َرْك َعتَ ْي ِن» ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬ ‫ِ‬
‫َوبِذي ُ‬
‫ويرى بعض السلف أن من نوى السفر يقصر ولو في بيته‪ ،‬فعن الحارث بن‬
‫أبي ربيعة‪ ،‬أنه أراد سفرا‪ ،‬فصلى بهم في منزله ركعتين‪ ،‬وفيهم األسود بن يزيد‪ ،‬وغير‬
‫واحد من أصحاب عبد هللا‪.)3( .‬‬

‫المدة التي يجوز فيها القصر للمسافر إذا نوى القامة‪:‬‬

‫اختلف الفقهاء في المدة التي يجوز للمسافر قصر الصالة فيها إذا نوى اإلقامة على‬
‫أقوال(‪:)4‬‬

‫القول األول‪ :‬يرون أن المدة التي يتم فيها المسافر الصالة هي أن ينوي اإلقامة في‬
‫المكان الذي نزل فيه أربعة أيام كاملة‪ ،‬وهو قول مالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وأبي ثور‪،‬‬
‫وعثمان ‪ -‬رضي هللا تعالى عنه‪.-‬‬

‫واستدلوا بما يأتي‪:‬‬

‫‪ -1‬حديث جابر ‪« ‬أن النبي ‪ ‬دخل مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة وخرج‬
‫منها إلى منى في الثامن من ذي الحجة‪ ،‬وكان يقصر الصالة حتى قال‬

‫(‪ )1‬األوسط في السنن واإلجماع واالختالف (‪.)354 /4‬‬


‫(‪ )2‬صحيح البخاري (‪.)44 /2‬‬
‫(‪ )3‬المغني البن قدامة (‪.)191 /2‬‬
‫(‪ )4‬ينظر في ذلك‪ :‬المبسوط للسرخسي (‪ ،)236 /1‬مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (‪/2‬‬
‫‪ ،)149‬المجموع شرح المهذب (‪ ،)333 /4‬المغني البن قدامة (‪)212 /2‬‬
‫( ‪) 247‬‬

‫بعرفات‪ :‬يا أهل مكة أتموا صالتكم‪ ،‬فإنا قوم سفر»‪.‬‬


‫‪ -2‬وبما روي أن النبي ‪« ‬رخص للمهاجرين بالمقام بمكة بعد قضاء المناسك‬
‫ثالثة أيام» فهو دليل على أن بالزيادة على ذلك يثبت حكم اإلقامة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أقل مدة اإلقامة خمسة عشر يوما‪ ،‬وهو قول الحنفية‪ ،‬وإليه ذهب ابن‬
‫عمر رضي هللا عنهما‪.‬‬

‫قال السرخسي‪ :‬وإنما قدرنا بخمسة عشر يوما؛ ألن التقدير إنما يكون باأليام أو‬
‫بالشهور‪ ،‬والمسافر ال يجد بداً من المقام في المنازل أياما لالستراحة أو لطلب الرفقة‬
‫فقدرنا أدنى مدة اإلقامة بالشهور‪ ،‬وذلك نصف شهر‪ ،‬وألن مدة اإلقامة في معنى مدة‬
‫الطهر؛ ألنه يعيد ما سقط من الصوم والصالة‪ ،‬فكما يتقدر أدنى مدة اإلقامة في معنى‬
‫الطهر بخمسة عشر يوما؛ فكذلك أدنى مدة اإلقامة‪ ،‬ولهذا قدرنا أدنى مدة السفر بثالثة‬
‫أيام اعتبا ار بأدنى مدة الحيض‪ ....،.‬ولكنا نقول‪ :‬إنما قدرنا بهذا؛ ألنه علم أن حوائجهم‬
‫كانت ترتفع في هذه المدة ال لتقدير أدنى مدة اإلقامة‪.)1( .‬‬

‫الصَلو ِ‬
‫ات‪.‬‬ ‫الموضوع السادس‪َ :‬جم ُع َّ َ‬
‫المراد بجمع الصلوات‪ :‬أداء الظهر مع العصر‪ ،‬والمغرب مع العشاء تقديما أو تأخيرا‪.‬‬

‫حكم الجمع بين الصالتين في السفر‬

‫اختلف الفقهاء في حكم الجمع بسبب السفر على قولين‪:‬‬

‫القول األول‪ :‬الجمع بين الصالتين في السفر‪ ،‬في وقت إحداهما‪ ،‬وهو قول أكثر أهل‬
‫العلم‪ ،‬وممن روي عنه ذلك سعيد بن زيد‪ ،‬وسعد‪ ،‬وأسامة‪ ،‬ومعاذ بن جبل‪ ،‬وأبو موسى‪،‬‬
‫وابن عباس‪ ،‬وابن عمر‪ .‬وبه قال‪ :‬طاوس‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬ومالك‪ ،‬والثوري‪،‬‬
‫والشافعي‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬وأبو ثور‪ ،‬وابن المنذر(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬ينظر في ذلك‪ :‬المبسوط للسرخسي (‪.)236 /1‬‬


‫(‪ )2‬مغني المحتاج (‪ ،)530 /1‬المغني البن قدامة (‪.)200 /2‬‬
‫( ‪) 248‬‬

‫واستدل جمهور الفقهاء على جواز الجمع في السفر بما يأتي‪:‬‬

‫س ب ِن مالِ ٍك ر ِ‬
‫ان النَِّب ُّي ‪ِ ‬إ َذا ْارتَ َح َل َقْب َل أ ْ‬
‫َن‬ ‫ال‪َ « :‬ك َ‬ ‫ّللاُ َع ْن ُه‪َ ،‬ق َ‬
‫ضي َّ‬
‫َ َ‬
‫ِ‬
‫‪َ -1‬ع ْن أ ََن ْ َ‬
‫صَّلى‬ ‫ِ‬ ‫ُّ ِ‬ ‫يغ َّ‬
‫اغ ْت َ‬ ‫ص ِر‪ ،‬ثُ َّم َي ْج َم ُع َب ْي َن ُه َما‪َ ،‬وإِ َذا َز َ‬‫الع ْ‬
‫َخ َر الظ ْه َر إَلى َوْقت َ‬ ‫الش ْم ُس أ َّ‬ ‫تَ ِز َ‬
‫ُّ‬
‫الظ ْه َر ثُ َّم َرِك َب»(‪.)1‬‬

‫الص َالتَ ْي ِن ِفي َّ‬


‫السَف ِر‪،‬‬ ‫َن َي ْج َم َع َب ْي َن َّ‬ ‫النَِّب ُّي ‪ِ ‬إ َذا أ ََرَاد أ ْ‬ ‫ان‬
‫ال‪َ « :‬ك َ‬ ‫س‪َ ،‬ق َ‬ ‫وع ْن أ ََن ٍ‬
‫‪َ -2‬‬
‫ص ِر‪ ،‬ثُ َّم َي ْج َم ُع َب ْي َن ُه َما»(‪.)2‬‬ ‫ِ‬ ‫َخر ُّ‬
‫الظ ْه َر َحتَّى َي ْد ُخ َل‬
‫أ ََّو ُل َوْقت اْل َع ْ‬ ‫أ َّ َ‬
‫‪ -3‬وعن معا ُذ بن جب ٍل‪َ ،‬قال‪« :‬جمع رسول هللاِ ‪ِ ‬في َغ ْزوِة تَبوك بين ُّ‬
‫الظ ْه ِر‬ ‫َ ُ َ َْ َ‬ ‫َََ َُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ْ ُ ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ال‪:‬‬
‫ال‪َ :‬فَق َ‬ ‫ص ِر‪َ ،‬وَب ْي َن اْل َم ْغ ِرب َواْلع َشاء» َق َ‬
‫ال‪َ :‬فُقْل ُت‪َ :‬ما َح َمَل ُه َعَلى َذل َك؟ َق َ‬ ‫َواْل َع ْ‬
‫َن َال ُي ْح ِرَج أ َّ‬
‫ُمتَ ُه»(‪.)3‬‬ ‫«أ ََرَاد أ ْ‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يجوز الجمع للمسافر ال تقديما وال تأخي ار إال في يوم عرفة بعرفة‪ ،‬وليلة‬
‫مزدلفة بها‪ .‬وهذا رواية ابن القاسم عن مالك واختياره‪ ،‬وذهب إلى ذلك الحسن البصري‪،‬‬
‫والنخعي‪ ،‬وابن سيرين‪ ،‬ومكحول‪ ،‬وأبو حنيفة(‪.)4‬‬

‫استََدُّلوا ِبأَِدَّل ٍة ِم ْن َها‪:‬‬


‫َو ْ‬
‫آخ ًرا‪َ ،‬وِإ َّن أ ََّو َل‬ ‫َ‬ ‫ّللاِ ‪ِ« :‬إ َّن لِ َّ‬
‫لص َال ِة أ ََّوًال و ِ‬ ‫َّ‬ ‫ول‬
‫ال َرُس ُ‬
‫ال‪َ :‬ق َ‬
‫ِ‬
‫‪َ -1‬ع ْن أَبي ُه َرْي َرَة‪َ ،‬ق َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ُّ‬ ‫ِ‬
‫ين َي ْد ُخ ُل َوْق ُت‬ ‫الش ْم ُس‪َ ،‬وآخ َر َوْقت َها ح َ‬ ‫ول‬ ‫ص َالة الظ ْه ِر ح َ‬
‫ين تَُز ُ‬ ‫َوْقت َ‬
‫العص ِر‪ ،‬وإِ َّن أ ََّول وْق ِت ص َال ِة العص ِر ِحين ي ْد ُخل وْقتُها‪ ،‬وإِ َّن ِ‬
‫آخ َر َوْقِت َها‬ ‫َ َ ُ َ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫الشمس‪ ،‬وإِ َّن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آخ َر‬ ‫َّ‬
‫ين تَ ْغ ُر ُب ْ ُ َ‬ ‫الم ْغ ِر ِب ح َ‬ ‫َّ‬
‫صَف ُّر الش ْم ُس‪َ ،‬وإِ َّن أ ََّو َل َوْقت َ‬
‫ين تَ ْ‬
‫حَ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يب األُُف ُق‪،‬‬ ‫يب األُُف ُق‪َ ،‬وإِ َّن أ ََّو َل َوْقت الع َشاء اآلخ َ ِرة ح َ‬
‫ين َيغ ُ‬ ‫ين َيغ ُ‬
‫َوْقت َها ح َ‬

‫(‪ )1‬صحيح البخاري (‪.)47 /2‬‬


‫(‪ )2‬صحيح مسلم (‪.)489 /1‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم (‪.)490 /1‬‬
‫(‪)4‬تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (‪ ،)88 /1‬شرح فتح القدير (‪)48 /2‬ـ التجريد‬
‫للقدوري (‪ ،)905 /2‬المغني البن قدامة (‪.)200 /2‬‬
‫( ‪) 249‬‬

‫طُل ُع‬ ‫ِ‬ ‫اللْي ُل‪َ ،‬وإِ َّن أ ََّو َل َوْق ِت َ‬


‫الف ْج ِر ح َ‬
‫ين َي ْ‬ ‫صف َّ‬ ‫ِ‬
‫َي ْنتَ ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َوإِ َّن آخ َر َوْقت َها ح َ‬
‫ين‬
‫الش ْم ُس»(‪.)1‬‬ ‫طُلع َّ‬
‫ين تَ ْ ُ‬
‫ِ‬
‫حَ‬ ‫آخ َر َوْقِت َها‬
‫الفجر‪ ،‬وإِ َّن ِ‬
‫َ ُْ َ‬
‫ص ِّل‬ ‫ط‪ِ ،‬إَّن َما التَّْف ِري ُ‬ ‫‪ -2‬وبحديث‪« :‬أَما ِإَّن ُه َل ْي َس ِف َّي َّ‬
‫الن ْو ِم تَْف ِري ٌ‬
‫َعَلى َم ْن َل ْم ُي َ‬ ‫ط‬ ‫َ‬
‫ين‬ ‫َذلِك َفْلي ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫صّل َها ح َ‬ ‫َ َُ‬ ‫ُخ َرى‪َ ،‬ف َم ْن َف َع َل‬ ‫الص َال َة ْاأل ْ‬ ‫يء َوْق ُت َّ‬ ‫الص َال َة َحتى َيج َ‬ ‫َّ‬
‫صِّل َها ِع ْن َد َوْقِت َها»(‪.)2‬‬‫ان اْل َغُد َفْلُي َ‬‫َي ْنتَِب ُه َل َها‪َ ،‬فِإ َذا َك َ‬
‫ّللاُ َعَل ْي ِه َو َسَّل َم‬
‫صلَّى َّ‬ ‫ِ‬
‫ول هللا َ‬ ‫َما َأرَْي ُت َرُس َ‬ ‫ال‪:‬‬ ‫ّللا ابن مسعود َق َ‬
‫‪ -3‬عن عبِد َّ ِ‬
‫َ ْ َْ‬
‫اء ِب َج ْم ٍع‪،‬‬ ‫صالَتَي ِن‪ :‬صالَة اْلم ْغ ِر ِب واْل ِع َش ِ‬ ‫صَّلى صالَة ِإالَّ لِ ِميَق ِاتها‪ِ ،‬إالَّ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ً‬ ‫َ‬
‫صَّلى اْلَف ْج َر َي ْو َمِئٍذ َقْب َل ِميَق ِات َها(‪.)3‬‬
‫َو َ‬
‫قالوا‪ :‬وقد كان ابن مسعود يصحب النبي ‪ ‬في السفر والحضر‪ ،‬فلو كان‬
‫يجمع بين الصالتين لم يخف عليه(‪.)4‬‬

‫‪ -4‬واحتجوا بأن المواقيت تثبت بالتواتر‪ ،‬فال يجوز تركها بخبر واحد‪.‬‬
‫وتأولوا ما ورد من جمعه ‪ ‬بأنه جمع صوري‪ ،‬وهو أنه أخر الظهر إلى آخر‬
‫وقتها وقدم العصر في أول وقتها وفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء‪.‬‬

‫القول المختار‪ :‬هو القول األول‪ ،‬وهو قول جمهور الفقهاء؛ وهو الذي دلت‬
‫عليه السنة النبوية قوال وفعال داللة صريحة‪ ،‬وألنه هو الذي يتمشى مع طبيعة‬
‫السفر التي كلها مشقة‪ ،‬والمشقة تجلب التيسير‪ ،‬كما هو مقرر في قواعد الشرع‬
‫الحنيف‪.‬‬

‫الجمع بين الصالتين بسبب المرض‪ :‬اختلف الفقهاء في الجمع بين الصالتين بسبب‬
‫المرض على قولين‪:‬‬

‫سنن الترمذي (‪.)283 /1‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫صحيح مسلم (‪.)473 /1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صحيح مسلم (‪ ،)76 /4‬التجريد للقدوري (‪.)906 /2‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫التجريد للقدوري (‪.)906 /2‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫( ‪) 250‬‬

‫القول األول‪ :‬يجوز الجمع ألجل المرض‪ ،‬وهو قول عطاء‪ ،‬والمالكية والحنابلة(‪.)1‬‬

‫واستدلوا بأدلة‪ ،‬منها‪:‬‬

‫ص ِر‪َ ،‬واْل َم ْغ ِر ِب‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫‪َ -1‬ع ِن ْاب ِن َعب ٍ‬


‫ول هللا ‪َ ‬ب ْي َن الظ ْه ِر َواْل َع ْ‬ ‫ال‪َ « :‬ج َم َع َرُس ُ‬ ‫َّاس‪َ ،‬ق َ‬
‫ال‪ُ :‬قْل ُت ِال ْب ِن‬ ‫يث َو ِك ٍ‬ ‫ط ٍر» ِفي حِد ِ‬ ‫اء ِباْلمِدين ِة‪ِ ،‬في َغي ِر خو ٍ‬ ‫واْل ِع َش ِ‬
‫يع‪َ :‬ق َ‬ ‫َ‬ ‫ف‪َ ،‬وَال َم َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫عب ٍ ِ‬
‫ُمتَ ُه»‪َ ،‬وِفي َحديث أَبي ُم َع ِاوَي َة‪ :‬ق َ‬
‫يل‬ ‫ال‪َ « :‬ك ْي َال ُي ْح ِرَج أ َّ‬
‫َّاس‪ :‬ل َم َف َع َل َذل َك؟ َق َ‬ ‫َ‬
‫ُمتَ ُه»(‪.)2‬‬‫َن َال ُي ْح ِرَج أ َّ‬
‫ال‪« :‬أ ََرَاد أ ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِال ْب ِن َعب ٍ‬
‫َّاس‪َ :‬ما أ ََرَاد إَلى َذل َك؟ َق َ‬
‫فإذا كان الجمع قد رخص فيه من غير خوف وال مطر؛ فألن يرخص فيه مع‬
‫وجود عذر المرض أولى؛ رفعاً للحرج عن األمة‪.‬‬

‫ض ًة َكِث َيرًة َشِد َيد ًة‪َ ،‬فأَتَ ْي ُت‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫‪ -2‬عن أ ِ ِ‬


‫اض َح ْي َ‬‫ُستَ َح ُ‬‫ُمه َح ْم َن َة ب ْنت َج ْحش َقاَل ْت‪ُ :‬ك ْن ُت أ ْ‬ ‫َْ ّ‬
‫ُخِتي َزْي َن َب ِب ْن ِت‬ ‫ِ‬ ‫ّللا عَلي ِه وسَّلم أ ِ ِ‬
‫ُخِب ُرهُ‪َ ،‬ف َو َج ْدتُ ُه ِفي َب ْيت أ ْ‬
‫َستَْفتيه َوأ ْ‬
‫صلى َّ ُ َ ْ َ َ َ ْ‬
‫النِب َّي َّ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫ْم ُرِني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ش‪َ ،‬فُقْلت‪ :‬يا رسول َّ ِ ِِ‬ ‫َج ْح ٍ‬
‫ض ًة َكث َيرًة َشد َيد ًة‪َ ،‬ف َما تَأ ُ‬‫اض َح ْي َ‬‫ُستَ َح ُ‬ ‫ّللا‪ ،‬إّني أ ْ‬ ‫ُ َ َُ َ‬
‫ف‪َ ،‬فِإَّن ُه ُي ْذ ِه ُب‬ ‫الك ْرُس َ‬‫ال‪« :‬أ َْن َع ُت َل ِك ُ‬ ‫الص َال َة؟ َق َ‬
‫ام َو َّ‬ ‫ِ‬
‫الص َي َ‬
‫ِ‬
‫يها‪َ ،‬فَق ْد َم َن َع ْتني ّ‬‫فَ‬
‫ِ‬

‫ال‪َ« :‬فَتَل َّج ِمي»‪ ...‬إلى أن قال لها‪َ :‬فِإ ْن‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫الد َم» َقاَل ْت‪ُ :‬ه َو أَ ْكثَُر م ْن َذل َك‪َ ،‬ق َ‬
‫الظهر وتُع ِجلِي العصر‪ ،‬ثُ َّم تَ ْغتَ ِسلِ ِ‬ ‫يت عَلى أَن تُؤ ِّخ ِري ُّ‬ ‫َق ِو ِ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ط ُه ِر َ‬
‫ين تَ ْ‬
‫ين ح َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َْ َ َ ّ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫وتُ ِ‬
‫اء‪ ،‬ثُ َّم‬ ‫الم ْغ ِر َب‪َ ،‬وتُ َع ِّجل َ‬
‫ين الع َش َ‬ ‫ين َ‬ ‫يعا‪ ،‬ثُ َّم تُ َؤ ّخ ِر َ‬
‫ص َر َجم ً‬ ‫الع ْ‬‫ين الظ ْه َر َو َ‬ ‫صّل َ‬‫َ َ‬
‫الصب ِح وتُ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين‪،‬‬ ‫صلّ َ‬ ‫ين َم َع ُّ ْ َ َ‬ ‫الص َالتَ ْي ِن‪َ ،‬فا ْف َعلي‪َ ،‬وتَ ْغتَسل َ‬
‫ين َب ْي َن َّ‬
‫ين‪َ ،‬وتَ ْج َمع َ‬‫تَ ْغتَسل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َع َج ُب‬
‫ول ‪َ « :‬و ُه َو أ ْ‬ ‫صو ِمي إ ْن َق ِويت َعَلى َذل َك» َفَق َ‬
‫ال َرُس ُ‬ ‫َوَك َذلك َفا ْف َعلي‪َ ،‬و ُ‬
‫األ َْم َرْي ِن ِإَل َّي»(‪.)3‬‬

‫(‪)1‬التهذيب في اختصار المدونة (‪ ،)286 /1‬التاج واإلكليل لمختصر خليل (‪ ،)511 /2‬المغني البن‬
‫قدامة (‪.)204 /2‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم (‪.)490 /1‬‬

‫ص ِحيح‪.‬‬ ‫(‪ )3‬رواه الترمذي في سننه (‪ ،)222 /1‬وقال‪َ :‬هذَا َحدِيث َح َ‬


‫سن َ‬
‫( ‪) 251‬‬

‫فقد أباح النبي ‪ ‬لها الجمع ألجل االستحاضة‪.‬‬

‫المرض المبيح للجمع هو ما يلحقه به بتأدية كل صالة في وقتها مشقة وضعف(‪.)1‬‬

‫القول الثاني‪ :‬ال يجوز الجمع بسبب المرض‪ ،‬وهو قول الحنفية والمشهور من مذهب‬
‫الشافعية(‪.)2‬‬

‫واحتجوا بأن مواقيت الصالة ثابتة‪ ،‬فال تترك بأمر محتمل‪.‬‬

‫القول المختار‪ :‬هو القول األول؛ وهو جواز الجمع بسبب المرض‪ ،‬وهو الالئق بمحاسن‬
‫الشريعة اإلسالمية والموافق لقواعد التيسير ورفع الحرج‪ ،‬وهو الثابت في السنة النبوية‪.‬‬

‫الجمع بين الصالتين بسبب المطر‪:‬‬

‫جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة على جواز الجمع بين‬


‫الصالتين بسبب المطر والوحل والبرد(‪.)3‬‬

‫َّاس‪َ ،‬قال‪« :‬جمع رسول هللاِ ‪ ‬بين ُّ‬


‫الظ ْه ِر‬ ‫واستدلوا على ذلك بما روي َع ِن ْاب ِن َعب ٍ‬
‫َْ َ‬ ‫َََ َُ ُ‬ ‫َ‬
‫ال‪:‬‬ ‫ط ٍر» ِفي حِد ِ‬
‫يث َو ِك ٍ‬ ‫اء ِباْلمِدين ِة‪ِ ،‬في َغي ِر خو ٍ‬ ‫واْلعص ِر‪ ،‬واْلم ْغ ِر ِب واْل ِع َش ِ‬
‫يع‪َ :‬ق َ‬ ‫َ‬ ‫ف‪َ ،‬وَال َم َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫ُمتَه»‪ ،‬وِفي حِد ِ‬
‫يث أَِبي ُم َع ِاوَي َة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُقْلت ِالب ِن عب ٍ ِ‬
‫َ‬ ‫ال‪َ « :‬ك ْي َال ُي ْحرَج أ َّ ُ َ‬ ‫َّاس‪ :‬ل َم َف َع َل َذل َك؟ َق َ‬ ‫ُ ْ َ‬
‫(‪)4‬‬
‫َن َال ُي ْح ِرَج أ َّ‬
‫ُمتَ ُه» ‪.‬‬ ‫ال‪« :‬أ ََرَاد أ ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫يل ِال ْب ِن َعب ٍ‬
‫َّاس‪َ :‬ما أ ََرَاد إَلى َذل َك؟ َق َ‬
‫ِ‬
‫ق َ‬
‫فإذا كان الجمع قد رخص فيه من غير خوف وال مطر؛ فألن يرخص فيه مع‬
‫وجود عذر المطر والبرد والوحل أولى؛ رفعاً للحرج عن األمة‪ .‬ولما ُرِو َي أ َّ‬
‫َن أ ََبا َسَل َم َة‬

‫(‪ )1‬المغني البن قدامة (‪.)205 /2‬‬


‫(‪ )2‬المجموع شرح المهذب (‪.)383 /4‬‬
‫(‪)3‬شرح مختصر خليل للخرشي (‪ ،)69 /2‬المجموع شرح المهذب (‪ ،)381 /4‬المغني البن قدامة‬
‫(‪)203 /2‬‬
‫(‪ )4‬صحيح مسلم (‪.)490 /1‬‬
‫( ‪) 252‬‬

‫َن ُي ْج َم َع َب ْي َن اْل َم ْغ ِر ِب‬ ‫ِ‬ ‫الرحم ِن َقال‪ِ " :‬إ َّن ِمن ُّ ِ‬ ‫ِ‬
‫السَّنة ِإ َذا َك َ‬
‫ان َي ْوٌم َمط ٌير أ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْب َن َع ْبد َّ ْ َ‬
‫واْل ِع َش ِ‬
‫اء"(‪.)1‬‬ ‫َ‬
‫المطر المبيح للجمع‪:‬‬

‫قال ابن قدامة‪ :‬والمطر المبيح للجمع هو ما يبل الثياب‪ ،‬وتلحق المشقة‬
‫بالخروج فيه‪ .‬وأما الطل‪ ،‬والمطر الخفيف الذي ال يبل الثياب‪ ،‬فال يبيح‪ ،‬والثلج كالمطر‬
‫في ذلك‪ ،‬ألنه في معناه‪ ،‬وكذلك البرد(‪.)2‬‬

‫الموضوع السابع‪ :‬زكاة كسب العمل والمهن الحرة‪.‬‬

‫الزكاة هي الركن الثالث من أركان اإلسالم‪ ،‬وأحد أعمدته‪ ،‬يدل على أهميتها‬
‫ومكانتها في اإلسالم النصوص الوفيرة التي جاءت بشأنها والتي تنوعت ما بين‬
‫نصوص مقررة لحكمها وأخرى مؤكدة لوجوبها‪ ،‬وثالثة مبينة ألحكامها الجزئية‬
‫والتفصيلية‪ ،‬ورابعة متوعدة من يمنعها‪ ،‬وخامسة مبينة آلثارها في الفرد والمجتمع وغير‬
‫ذلك من النصوص‪.‬‬

‫وإذا كان الشرع قد أوجب الزكاة على أرباب األموال من األغنياء لحق الفقراء‬
‫وسائر مصارف الزكاة المعتبرة؛ فإنه لم يفرضها على غني دون غني بل جاءت كثير‬
‫من النصوص عامة تشمل كل رب مال وصل به إلى حد الغنى أيا كان المصدر الذي‬
‫استفاد منه تلك األموال‪ ،‬وأيا كان جنسها ما دام المصدر معتب ار شرعا والمال أيضا‬
‫كذلك‪.‬‬

‫ومن مصادر الثراء والغنى في هذه األيام ما تدره كثير من الوظائف والمهن‬
‫الحرة على أصحابها إذ ال تقل في الجملة عن أرباح التجار ودخول أصحاب المزارع‪،‬‬
‫األمر الذي يدعو إلى بحث أحكام الزكاة فيها من حيث وجوبها‪ ،‬وشروطها‪ ،‬ومقدارها‪،‬‬

‫(‪ )1‬المغني البن قدامة (‪.)203 /2‬‬


‫(‪ )2‬المغني البن قدامة (‪.)203 /2‬‬
‫( ‪) 253‬‬

‫واإلعفاءات المسموح بها ألصحاب هذه الدخول‪ ،‬وهو ما نقوم به في هذا المبحث من‬
‫خالل المطالب الخمسة اآلتية‪:‬‬

‫المطلب األول‪ :‬مفهوم كسب العمل وصوره المعاصرة‪.‬‬

‫يطلق الكسب على طلب وإصابة الرزق‪ ،‬أو السعي في طلب الرزق والمعيشة‬
‫(‪)1‬‬
‫ويقال لما يتقاضاه الشخص لقاء عمل ونحوه‪ :‬كسب‪ ،‬ومنه ما رواه أصحاب السنن‬
‫( ‪)2‬‬
‫عن عائشة ـ رضي هللا عنهاـ { أطيب ما أكل الرجل من كسبه‪ ،‬وولده من كسبه }‬
‫والمراد ما يأكله الرجل من عائد عمله أو عائد عمل ولده‪.‬‬

‫أما العمل فيطلق على كل ما يقوم به الشخص تجاه غيره أو تجاه نفسه‪ ،‬وقد‬
‫يطلق عليه مهنة‪ ،‬وحرفة‪ ،‬وصنعة‪ ،‬ووظيفة‪ ،‬ويأتي بمعان أخرى كالوالية ونحوها ‪.‬‬

‫صور كسب العمل‪:‬‬

‫لكسب العمل صور ومظاهر كثيرة تعددت أسماؤها وأشكالها وطريقة الحصول‬
‫عليها‪ ،‬لكنها في النهاية هي عبارة عن مال يحصل عليه العامل مقابل ما يقوم به من‬
‫عمل‪ ،‬ومن هذه الصور‪:‬‬

‫‪ -1‬الراتب‪ .‬الراتب في اللغة‪ :‬مأخوذ من َرتَب الشيء ُرتوبا‪ :‬استقر ودام‪،‬‬


‫فهو راتب (‪)3‬؛ ولذلك يطلق على ما يتقاضاه العامل من مقابل مالي أساسي بصفة‬
‫دورية ومنتظمة غالبا ما تكون شهرية‪ ،‬وقد تكون سنوية‪ ،‬ويخضع تقدير الراتب غالبا‬
‫لتقدير جهة العمل وليس للعامل‪ ،‬وال يختلف من شخص آلخر ما داما في درجة واحدة‬
‫أو ما يطلق عليه " كادر واحد "‪.‬‬

‫‪ - 1‬لسان العرب البن منظور ‪ 716 / 1‬ـ دار صادر ـ بيروت‬


‫‪ - 2‬سنن الترمذي – كتاب األحكام – باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده‪ ،‬سنن أبي داود –‬
‫كتاب البيوع – باب في الرجل يأكل من مال ولده‪ ،‬سنن النسائي – كتاب البيوع – باب الحث على‬
‫الكسب‪ ،‬سنن ابن ماجه – كتاب التجارات – باب الحث على المكاسب‬
‫‪ - 3‬المصباح المنير ‪.218‬‬
‫( ‪) 254‬‬

‫وال فرق في التسمية بين أن يكون العامل موظفا لدى الدولة أو لدى القطاع‬
‫الخاص‪ ،‬ال يزال في الخدمة أو انتهت خدمته بسبب الشيخوخة أوالعجز أو المرض أو‬
‫الوفاة أو إصابات العمل وأمراض المهنة‪ ،‬ويسمى في هذه الحالة راتبا تقاعديا‪ ،‬وهو‬
‫عبارة عما يقتطع من راتب العامل أثناء الخدمة باإلضافة إلى حصة يقدمها رب العمل‬
‫ويحصل عليه العامل بعد بلوغه سن التقاعد‪.‬‬

‫‪ -2‬األجرة‪ ،‬تطلق األجرة ـ غالبا ـ على ما يتقاضاه العامل من مقابل مالي غير‬
‫منتظم بسبب عدم انتظام عمله في الجهة التي يعمل فيها‪ ،‬أو أنه من أصحاب المهن‬
‫الحرة ‪ ،‬ويخضع تقديرها التفاق الطرفين‪.‬‬

‫وهي بذلك تختلف عن الراتب‪ ،‬وإن كان الراتب أج ار لكنهما اختلفا من حيث‬
‫االنتظام وعدمه‪.‬‬

‫المح َّكمون‬
‫‪ -3‬األتعاب‪ ،‬مصطلح يطلق ـ غالبا ـ على ما يتقاضاه المحامون أو َ‬
‫ونحوهم ـ من أجور مقابل قيامهم بمهمة المرافعة القضائية أو االستشارات القانونية‪ ،‬وقد‬
‫يكون مبلغا من المال مقطوعا أو نسبة مئوية‪ ،‬وفي جميع األحوال يخضع تقديرها‬
‫التفاق الطرفين‪ ،‬وعند االختالف تقدره المحكمة استرشادا بلوائح تنظيم المهنة‪.‬‬

‫‪ -4‬العمولة وهي عبارة عن نسبة مئوية من جملة مبيعات أو صفقات تجارية‬


‫يختص بها في الغالب السماسرة والوكالء والموزعون والعاملون في المؤسسات التجارية‪.‬‬

‫‪ -5‬المكافأة‪ :‬وهي ما يتقاضاه العامل مقابل حسن األداء في العمل أو قيامه‬


‫بما ال يجب عليه حسب لوائح العمل‪ ،‬وتفرض كثير من األنظمة على أرباب األعمال‬
‫إعطاء مكافأة مالية في نهاية خدمته بالمؤسسة وفق نظم ولوائح تختلف باختالف‬
‫المؤسسات واألنظمة يطلق عليها‪ :‬مكافأة نهاية الخدمة‪ ،‬مكافأة التقاعد‪..‬‬
‫( ‪) 255‬‬

‫‪ -6‬العالوة‪ :‬وهي عبارة عن زيادة دورية أو غير دورية في راتب العامل أو‬
‫الموظف تتوقف على درجة أدائه ومدة خدمته في العمل ويحكمها أنظمة ولوائح حسب‬
‫نوع العمل والعامل‪.‬‬

‫‪ -7‬البدالت‪ :‬وهي ما يتقاضاه العامل لقاء ما يتكبده من مصروفات أو مشاق‬


‫بدنية أو معنوية في أدائه لعمله كبدل االنتقال ‪ ،‬وبدل العدوى‪ ،‬وبدل مخاطر‪ ،‬وبدل‬
‫وجبة ونحوها‪.‬‬

‫‪ -9‬التعويض‪ :‬وهو ما يتقاضاه العامل تعويضا عما أصابه أو لحقه من ضرر‬


‫بسبب قيامه بعمله‪ ،‬أو ممارسة إجراءات تعسفية ضده من رب العمل‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬حكم الزكاة في كسب العمل والمهن الحرة‪.‬‬

‫تعتبر الدخول المحصلة من العمل باختالف أنواعه وطرقه من أعظم وأهم أبواب‬
‫الكسب في الحياة المعاصرة‪ ،‬وقد تربو هذه الدخول في بعض األحيان على ما تدره‬
‫التجارة أو الزراعة وغيرها؛ ولذلك فإن الشريعة التي أوجبت الزكاة في الزروع والثمار‬
‫وأوجبتها في عروض التجارة ال تشذ وتستثني أرباب هذه األموال من إيجاب الزكاة في‬
‫كسبهم‪ ،‬ومن أجل ذلك وردت كثير من النصوص الموجبة للزكاة في صيغ عامة حتى‬
‫تستوعب كل لون جديد من ألوان الكسب والمال‪ ،‬وقد فهم كثير من السلف من هذه‬
‫النصوص أنها ال تخص ماال دون غيره‪ ،‬ولكن كل ما يطلق عليه مال فهو مشمول‬
‫ومن هذه النصوص‪:‬‬ ‫بتلك النصوص‪.‬‬

‫أ ـ قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم‬
‫من األرض وال تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إال أن تغمضوا فيه واعلموا أن‬
‫هللا غني حميد} البقرة (‪)267‬‬
‫( ‪) 256‬‬

‫فدلت اآلية على األمر باإلنفاق من كل كسب طيب‪ ،‬أيا كان نوع الكسب‬
‫ومجاله‪ ،‬ويدخل فيه ما يكسبه العمال والموظفون وأصحاب المهن‪ ،‬فاآلية عامة في‬
‫أمرين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أنها عامة في كل صدقة ‪ ،‬سواء أكانت فرضا أم نفال كما رجح ذلك كثير‬
‫من العلماء من حيث إخراج الطيب؛ ألن هللا طيب ال يقبل إال طيبا‪ ،‬والصدقة سواء‬
‫أكانت فرضا أم نفال تقع في يد هللا ـ سبحانه وتعالى ـ كما أخرج مسلم وغيره عن أبي‬
‫هريرة ـ رضي هللا عنه ـ قال‪ :‬قال رسول هللا ـ ‪( ‬ما تصدق أحد بصدقة من طيب وال‬
‫يقبل هللا إال الطيب إال أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن‬
‫(‪)1‬‬
‫حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله)‬

‫وقد حمل بعض العلماء اآلية على الزكاة المفروضة كما نقل عن الطبري في‬
‫طِّيب ما كسبتم بتصرفكم؛ إما بتجارة‪،‬‬‫معنى اآلية " يعني بذلك جل ثناؤه‪ :‬زكوا من َ‬
‫وإما بصناعة من الذهب والفضة‪ ،‬ويعني بالطيبات‪ :‬الجياد‪ ،‬يقول‪ :‬زكوا أموالكم التي‬
‫(‪)2‬‬
‫اكتسبتموها حالال‪ ،‬وأعطوا في زكاتكم الذهب والفضة الجياد منها دون الرديء "‬

‫الثاني‪ :‬أنها عامة في جميع أنواع المكاسب الطيبة‪ ،‬وال تخص كسبا دون غيره‪،‬‬
‫ويظهر هذا مما ذكره الطبري في قوله المتقدم‪.‬‬

‫ب ـ قوله تعالى‪{ :‬خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (التوبة ‪)103‬‬

‫فهذه اآلية عامة في إيجاب الزكاة في عموم األموال‪ ،‬وكل ما يطلق عليه مال‪،‬‬
‫فاآلية عامة في سائر أصناف األموال ومقتض ألخذ البعض منها‪ ،‬ويقال مثل هذا في‬

‫‪ - 1‬صحيح مسلم ـ كتاب الزكاة ـ باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها‪ ،‬سنن الترمذي ـ‬
‫كتاب الزكاة ـ باب ما جاء في فضل الصدقة‪ ،‬سنن النسائي ـ كتاب الزكاة ـ باب الصدقة من غلول‪،‬‬
‫سنن ابن ماجه ـ كتاب الزكاة ـ باب فضل الصدقة‪.‬‬
‫‪ - 2‬تفسير الطبري – ‪ – 80 /3‬دار الفكر ببيروت‪.‬‬
‫( ‪) 257‬‬

‫قوله تعالى‪" :‬وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" (الذاريات‪ )18 :‬وقوله تعالى "والذين‬
‫في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" (المعارج‪. )25 ،24 :‬‬

‫ج ـ أوجب اإلسالم الزكاة في أموال األغنياء لحق الفقراء كما ورد في حديث‬
‫معاذ عندما أرسله النبي صلى هللا عليه وسلم إلى اليمن في الحديث المتفق عليه عن‬
‫ابن عباس رضي هللا عنهما وفيه (فأخبرهم أن هللا قد فرض عليهم صدقة ‪ ،‬تؤخذ من‬
‫أغنيائهم فترد على فقرائهم) (‪ )1‬و ِ‬
‫الغنى كما يتحقق بالتجارة والزراعة وغيرها يتحقق أيضا‬
‫بالرواتب التي يتقاضاها كثير من الموظفين والعمال والمهنيين‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬شروط وجوب الزكاة في كسب العمل‪:‬‬

‫لوجوب الزكاة في كسب العمل شروط ال بد من توافرها فضال عن الشروط‬


‫الواجب توافرها في المزكي والتي ال تختلف من مال إلى مال‪ ،‬وهذه الشروط هي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬أن يكون الكسب مباحا‪:‬‬

‫الزكاة في اإلسالم لها مقاصد وأهداف متعددة وليس مجرد إغناء فقير بلقمة من‬
‫أي مصدر‪ ،‬فهي نفقة في سبيل هللا وتقع في يد هللا قبل أن تقع في يد الفقير والمسكين‬
‫وغيرهما من مصارف الزكاة‪ ،‬وهللا سبحانه وتعالى طيب ال يقبل إال طيبا‪ ،‬وهي أيضا‬
‫طهرة وتزكية للمزكي وماله‪ ،‬والخبيث من المال ال يمكن أن يطهر وال أن يزكي؛ ولذلك‬
‫ين‬ ‫عندما أمر هللا باإلنفاق من الكسب ربطه بالكسب الطيب‪ ،‬قال تعالى {يا أَي َّ ِ‬
‫ُّها الذ َ‬ ‫َ َ‬
‫يث ِم ْن ُه‬ ‫َخ َر ْج َنا َل ُكم ِم َن األ َْر ِ‬
‫ض َوالَ تََي َّم ُموْا اْل َخِب َ‬ ‫َنفُقوْا ِمن َ ِ‬
‫آمنوْا أ ِ‬
‫ّ‬ ‫طِّي َبات َما َك َس ْبتُ ْم َو ِم َّما أ ْ‬ ‫َُ‬
‫ّللاَ َغِني َح ِم ٌيد} (البقرة‪)267 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫َن ّ‬ ‫اعَل ُموْا أ َّ‬
‫ضوْا فيه َو ْ‬ ‫تُنفُقو َن َوَل ْستُم ِبآخذيه ِإال أَن تُ ْغم ُ‬
‫والخبيث كما يحمل على الرديء يحمل أيضا على المحرم‪.‬‬

‫‪ - 1‬صحيح البخاري – كتاب الزكاة – باب أخذ الصدقة من األغنياء وترد في الفقراء‪ ،‬صحيح مسلم‬
‫– كتاب اإليمان – باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع اإلسالم‪.‬‬
‫( ‪) 258‬‬

‫والكسب المباح يستلزم في الجملة ثالثة شروط‪ :‬أحدها‪ :‬أن يكون العمل الذي‬
‫يمارسه الشخص مباحا في ذاته أي ال يكون من األنشطة التي حظرها الشرع كاالتجار‬
‫في المخدرات والخمور مثال‪ .‬الثاني‪ :‬أن يكون سلوك المسلم في هذا العمل مشروعا‬
‫أيضا فال يتقاضى الرشوة وال يغش الناس‪ ،‬وال يحتكر أقواتهم‪ ،‬وال يرابي‪ ...‬الثالث‪ :‬أن‬
‫يكون العائد المتحصل من العمل مباحا‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬بلوغ المال المكتسب نصابا‪.‬‬

‫من شروط الزكاة بوجه عام أن يملك المزكي النصاب ملكية تامة‪ ،‬والمقصود‬
‫بالنصاب‪ :‬القدر الذي إذا بلغه المال وجبت فيه الزكاة‪.‬‬

‫ونصاب الزكاة في الرواتب واألجور المستفادة من المهن والحرف المختلفة هي‬


‫نصاب النقود‪ ،‬ونصاب النقود قدره الشرع بمائتي درهم من الفضة أو عشرين دينا ار من‬
‫الذهب‪ ،‬ويبلغ ذلك بالجرامات حوالي ‪ 595‬جراما من الفضة‪ ،‬وخمسة وثمانين جراما‬
‫من الذهب‪.‬‬

‫فمن بلغ دخله ما يساوي قيمة ‪ 595‬جراما من الفضة‪ ،‬أو ما يساوي قيمة ‪ 85‬جراما‬
‫من الذهب‪ ،‬واستكملت الشروط األخرى لوجوب الزكاة فعليه أن يخرج الزكاة‪.‬‬

‫لكن هل يقدر الموظف أو المهني نصابه في الزكاة بالفضة أم بالذهب؟‬

‫في احتساب النصاب بأي من‬ ‫لم يكن هناك إشكال في األزمنة السابقة‬
‫المعدنين حيث كان مائتا درهم من الفضة تساوي غالبا عشرين دينا ار من الذهب‪ ،‬لكن‬
‫حدثت تحوالت اقتصادية واجتماعية أدت إلى تدهور قيمة الفضة بالمقارنة بقيمة‬
‫الذهب‪.‬‬

‫وقد أدى ذلك إلى اختالف الفقهاء المعاصرين في تحديد نصاب النقود بأي من‬
‫المعدنين‪ ،‬ففريق يرى احتساب النصاب بالفضة؛ وذلك لقوة النصوص الواردة في‬
‫( ‪) 259‬‬

‫شأنها‪ ،‬فضال عن تحقيقها لمقصود الزكاة وهو غنية الفقراء والمساكين لقلة النصاب‪،‬‬
‫بينما رأى فريق آخر احتسابها حسب قيمة الذهب‪ ،‬وذلك الستقرار الذهب في التعامل‪،‬‬
‫وتدهور القوة الشرائية للفضة‪ ،‬وهناك من وفق بين القولين فاعتبر النصاب باألحظ‬
‫للفقير‪ ،‬أو النصاب الذي يبلغه المال أوال‪...‬‬

‫لكن القول الغالب في الفتوى اآلن وما انتهت إليه كثير من ق اررات المؤتمرات‬
‫والمجامع الفقهية هو االعتداد بقيمة الذهب وليس الفضة‪ ،‬ومن ذلك ما جاء في قرار‬
‫مجمع البحوث اإلسالمية في دورته عام ‪ 1965‬م وفيه‪" :‬ب ـ يكون تقويم نصاب الزكاة‬
‫في نقود التعامل المعدنية وأوراق النقد‪ ،‬واألوراق النقدية‪ ،‬وعروض التجارة على أساس‬
‫قيمتها ذهبا فما بلغت قيمته من أحدها عشرين مثقاال ذهبيا وجبت فيه الزكاة؛ وذلك ألن‬
‫ويرجع في معرفة قيمة مثقال الذهب إلى النقد‬
‫الذهب أقرب إلى الثبات من غيره‪ُ ،‬‬
‫الحاضر إلى ما يقرره الخبراء"‪.‬‬

‫وفي توصيات الندوة السابعة لقضايا الزكاة المنعقدة في الكويت في ‪24 -22‬‬
‫ذي الحجة ‪ 1417‬هـ حيث تعرضت لزكاة عروض التجارة وفيها" عاش ار أ – تقوم‬
‫عروض التجارة لمعرفة بلوغها النصاب على أساس نصاب الذهب‪ ،‬وهو ما يعادل ‪85‬‬
‫جراما من الذهب الخالص" ‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬حوالن الحول على ملكية النصاب‪.‬‬

‫والمعنى أن يمر عام هجري على تملك الشخص نصاب الزكاة في دخله‪ ،‬فلو‬
‫افترضنا أن الشخص راتبه ثالثة آالف ريال‪ ،‬ينفق منها نفقة شخصية ألفين ويدخر ألفا‪،‬‬
‫فإذا كان النصاب خمسة وثمانين جراما من الذهب حوالي خمسين ألف جنيه مصري‬
‫تقريبا فمعنى ذلك أنه يبدأ حساب الحول عند بلوغ ماله المدخر هذا القدر‪ ،‬لكن لو‬
‫كانت عنده دخول أخرى تدر عليه عائدا من جنس راتبه‪ :‬كتجارة‪ ،‬أو غلة إيجارية لبيت‬
‫ونحوه ‪ ،‬أو أرباح ألموال مستثمرة فإنه يضيفها إلى مدخراته من راتبه ‪ ،‬ويحسب سنة‬
‫( ‪) 260‬‬

‫هجرية كاملة على تمام النصاب عنده فإذا انقضت السنة وال يزال مدخ ار لهذا القدر‪،‬‬
‫فإنه يخرج الزكاة بنسبتها الشرعية التي تأتي‪.‬‬

‫وحكمة الشرع في اشتراط الحول في بعض أموال الزكاة أن السنة كافية لتقليب‬
‫المال في وجوه االستثمار المختلفة المدرة للربح فيكون إخراج الزكاة من الربح وليس من‬
‫رأس المال‪ ،‬وهذا من التيسير والتسهيل على المزكي ومواساة له‪.‬‬

‫وقد وردت نصوص في اشتراط الحول إليجاب الزكاة في النقود ‪ ،‬منها‪ :‬ما‬
‫أخرجه أبو داود في سننه عن علي رضي هللا عن النبي ‪ ‬قال "{إذا كانت لك مائتا‬
‫درهم ‪ ،‬وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم ‪ ،‬وليس عليك شيء يعني في الذهب‬
‫حتى يكون لك عشرون دينا ار ‪ ،‬فإذا كانت لك عشرون دينا ار وحال عليها الحول ‪ ،‬ففيها‬
‫نصف دينار ‪ ،‬فما زاد فبحسابها ذلك ‪ ،‬قال‪ :‬فال أدري أعلي يقول‪ :‬فبحساب ذلك‪ ،‬أو‬
‫رفعه إلى النبي ‪ ‬وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول } والحديث فيه مقال‪،‬‬
‫لكن كثي ار من العلماء تلقوه بالقبول‪ ،‬وحكم عليه بعض العلماء بأنه حديث حسن كما‬
‫ذكره الزيلعي وغيره‪ ،‬وعند الترمذي عن ابن عمر موقوفا {من استفاد ماال‪ ،‬فال زكاة‬
‫عليه حتى يحول عليه الحول}‪ .‬وعند ابن ماجه من حديث عائشة رضي هللا عنها‬
‫قالت‪ :‬سمعت رسول هللا ‪ ‬يقول‪{ :‬ال زكاة في مال حتى يحول عليه الحول } ولم يسلم‬
‫(‪2 )1‬‬
‫هذا الحديث أيضا من الطعن عليه في سنده‪.‬‬

‫وقد اعتبر جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وكثير من‬


‫المعاصرين أن هذه النصوص مع ما فيها تفيد اشتراط الحول في بابها وفيما يقاس‬
‫عليها ومنها زكاة األجور والرواتب وكسب المهن الحرة وهو الغالب في الفتوى وانتهت‬
‫إليه كثير من الق اررات‪ ،‬ومنها ما جاء في توصيات وفتاوى المؤتمر األول للزكاة المنعقد‬
‫في الكويت في تاريخ ‪29‬رجب ‪ 1404‬هـ‪ ،‬وجاء فيه فيما يتعلق بزكاة األجور والرواتب‬

‫‪ - 1‬يراجع‪ :‬نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي (‪ ،)386 ،385/2‬التلخيص الحبير‬
‫البن حجر (‪)306 ،305/2‬‬
‫‪2‬‬
‫( ‪) 261‬‬

‫وأرباح المهن الحرة وسائر المكاسب " وهذا النوع من المكاسب ذهب أغلب األعضاء‬
‫إلى أنه ليس فيه زكاة حين قبضه ولكن يضمه إلى سائر ما عنده من األموال الزكوية‬
‫في النصاب والحول فيزكيه جميعا عند تمام الحول منذ تمام النصاب‪"...‬‬

‫وقد ذهب فريق آخر إلى وجوب تزكية األجور والرواتب بمجرد قبضها دون‬
‫انتظار لحوالن الحول استنادا لما أثر عن نفر من السلف الصالح رضوان هللا عليهم‬
‫ومنهم ابن عباس‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬ومعاوية‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز‪ ،‬والزهري‪ ،‬والحسن‪،‬‬
‫ومكحول‪ ،‬وعده البعض قوال ألحمد‪ ،‬وقد أشار قرار المؤتمر األول للزكاة إلى هذا الرأي‪،‬‬
‫فقال‪ " :‬وذهب بعض األعضاء إلى أنه يزكي هذه األموال المستفادة عند قبض كل‬
‫منها بمقدار ربع العشر (‪ ) %2،5‬إذا بلغ المقبوض نصابا وكان زائدا عن حاجته‬
‫األصلية وسالما من الدين فإذا أخرج هذا المقدار فليس عليه أن يعيد تزكيته عند تمام‬
‫الحول على سائر أمواله األخرى‪ ،‬ويجوز للمزكي هنا أن يحسب ما عليه ويخرجه فيما‬
‫بعد مع أمواله الحولية األخرى"‪.‬‬

‫والفقرة األخيرة في القرار معناها‪ :‬أن يعرف المزكي مقدار زكاته أوال بأول مع‬
‫كل راتب أو أجر يستفيده لكن يخرجه مرة واحدة في نهاية حوله‪ ،‬لكن ما عليه الفتوى‬
‫هو اشتراط حوالن الحول‪.‬‬

‫وهناك جملة مسائل متعلقة بشرط حوالن الحول نذكرها على الوجه التالي‪:‬‬

‫المسألة األولى‪ :‬حكم المال المستفاد أثناء الحول‪.‬‬

‫ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه إذا بلغت مدخرات الشخص نصابا في شهر ما‬
‫ثم استفاد ماال آخر من جنسه في شهر ثان فإنه يضمه إلى ما عنده وال يستأنف له‬
‫حوال جديدا‪ ،‬وهو ما جاء في القرار المشار إليه‪ ،‬ومعنى ذلك‪ :‬لو أن موظفا له راتب‬
‫يمكنه االدخار منه حتى بلغ ادخاره نصابا وعندها يبدأ حساب الحول‪ ،‬وفي الشهر‬
‫التالي استطاع أن يدخر مبلغا آخر‪ ،‬فإنه ال يحسب لهذا المبلغ الثاني حوال جديدا بل‬
‫( ‪) 262‬‬

‫يضمه إلى األول ويزكيه معه ولو لم يمر عليه عام كامل‪ ،‬كما يضيف إليه غلة عقار‬
‫يؤجره‪ ،‬أو ربح تجارة له وهكذا في كل زيادة تط أر على النصاب ما دامت من جنس‬
‫المال األول الذي عقد له حول‪.‬‬

‫المسألة الثانية‪ :‬مستحقات الموظف والعامل لدى الغير من ديون وأجور ومكافآت‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫قد يكون للموظف أو المهني مستحقات مالية لدى مؤسسته أو غير مؤسسته‪،‬‬
‫وهذه المستحقات قد تكون واجبة الدفع حاال لكن لما تصرف بعد إلى الموظف في‬
‫الوقت الذي اكتمل الحول على نصاب المال لديه‪ ،‬وقد تكون بطبيعتها آجلة ال تصرف‬
‫إال في مواقيت محددة أو عند انتهاء الخدمة وغير ذلك‪ ،‬وبعض هذه المستحقات قد‬
‫يشارك الموظف فيها بنسبة من راتبه لكنه ال يستحقها إال بعد توافر شروط معينة‪ ،‬وذلك‬
‫كمكافأة التقاعد‪ ،‬ونتناولها فيما يلي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ المستحقات المالية واجبة الدفع حاال‪.‬‬


‫إذا كان للموظف مستحقات مالية لدى مؤسسته أو عند غيرها وهي واجبة الدفع‬
‫حاال فإما أن يكون معترفا بها من قبل المؤسسة‪ ،‬وليس هناك ما يمنع من صرفها‪،‬‬
‫لكن الموظف ال يريد ذلك ألي سبب من‬ ‫ويستطيع الموظف صرفها في الحال‪،‬‬
‫األسباب المعتبرة لديه ففي هذه الحالة تجب الزكاة فيها ويدخلها في وعائه الزكوي كل‬
‫عام‪ ،‬وقد رأى البعض تأخير إخراجها لحين قبضها‪ ،‬أما إذا كانت تلك االستحقاقات‬
‫غير معترف بها من قبل المؤسسة‪ ،‬أو تعترف بها المؤسسة لكنها تماطل في صرفها أو‬
‫يوجد عجز في ميزانيتها ففي هذه الحالة ال تجب الزكاة في أرجح أقوال العلماء إال عند‬
‫قبضها لسنة واحدة فقط‪.‬‬
‫( ‪) 263‬‬

‫‪ 2‬ـ المستحقات المالية المؤجلة‪ ،‬ومن صورها‪:‬‬


‫• مكافأة نهاية الخدمة‪.‬‬

‫تفرض كثير من أنظمة العمل على أرباب األعمال إعطاء عمالها مكافأة مالية عند‬
‫نهاية خدمته بها تقدر حسب مدة الخدمة غالبا‪ ،‬وال يستحقها العامل إال بانتهاء خدمته‬
‫وذلك على خالف المكافآت السنوية التي تعطى للعمال من باب التحفيز فهذه تدخل‬
‫ضمن بنود الزكاة الدورية أما هذه فال تعطى إال في نهاية الخدمة‪.‬‬

‫ونظ ار ألن الموظف ال يملك هذه المكافأة ملكية تامة قبل موعد استحقاقها‪ ،‬وقد‬
‫يعتريها نقصان أو إلغاء بسبب اختالف األنظمة أو حدوث خطأ من العامل؛ لذلك‬
‫انتهى رأي الفقهاء المعاصرين إلى عدم وجوب الزكاة في أموال هذه المكافأة طيلة مدة‬
‫الخدمة لعدم تحقق الملك التام المشترط لوجوب الزكاة‪ ،‬وال تزكى إال بعد صدور القرار‬
‫بتحديدها وتسليمها للموظف أو العامل دفعة واحدة أو على فترات دورية حيث يصبح‬
‫ملكه لها ملكا تاما وعندئذ يزكيها بأن يضمها إلى ما عنده من مال إن كان له ويكون‬
‫حولها حوله وإن لم يكن له مال فيستأنف حوال جديدا لها ويزكيها مع اعتبار بلوغ‬
‫النصاب‪. 1‬‬

‫• مكافأة التقاعد والراتب التقاعدي‪.‬‬

‫يحصل الموظف عند بلوغه سنا معينة أو عجزه عن العمل على مكافأة يطلق عليها‬
‫مكافأة التقاعد كالتي تصرف للعسكريين وكذا بعض المدنيين وذلك إضافة إلى راتب‬
‫يطلق عليه أيضا الراتب التقاعدي‪.‬‬

‫ويشارك الموظف في هذه المكافأة والراتب بحصة شهرية دورية من راتبه في أثناء‬
‫مدة الخدمة‪ ،‬ويلتزم رب العمل بتقديم حصة أخرى وتودع هذه األموال في البنوك‬

‫‪ - 1‬يراجع‪ :‬زكاة مكافاة نهاية الخدمة والراتب التقاعدي‪ ،‬د‪ .‬محمد نعيم ياسين (‪ )233 /1‬منشور مع‬
‫جملة أبحاث آلخرين في قضايا الزكاة المعاصرة‪ ،‬دار النفائس باألردن‬
‫( ‪) 264‬‬

‫الستثمارها‪ ،‬وفي كثير من األحيان تقوم الحكومات باالقتراض منها أو توجيهها في‬
‫مصارف استثمارية معينة لسد العجز‪ ،‬أو إلنعاش مجال استثماري معين‪.‬‬

‫وأما عن حكم الزكاة في هذه المكافآت والحصص التي يقدمها رب العمل‬


‫والحكومة فقد انتهى الرأي فيها حسب ما جاء في توصية الندوة الخامسة لقضايا الزكاة‬
‫المعاصرة المنعقدة في لبنان في عام ‪ 1415‬هـ بأنه ال تجب الزكاة في هذه‬
‫االستحقاقات طيلة مدة الخدمة لعدم تحقق الملك التام المشترط لوجوب الزكاة‪ ،‬وال تزكى‬
‫إال بعد تسلمها للموظف كما سبق في مكافأة نهاية الخدمة ‪.‬‬

‫المسألة الثالثة‪ :‬التصرف في النصاب قبل تمام الحول‪.‬‬

‫قد يظهر للموظف أو غيره وجها من وجوه اإلنفاق االستثماري أو غيره مما‬
‫يضطره لألخذ من مدخراته قبل أن يكتمل الحول ومن ثم ينقص النصاب‪ ،‬أو أن يقوم‬
‫بتبديل ماله من جنس إلى جنس‪ ،‬فهل يؤثر هذا على وجوب الزكاة في هذا المال؟‬

‫األصل أنه يجب مرور حول كامل على المال البالغ نصابا لوجوب الزكاة فيه‪،‬‬
‫فإذا نقص النصاب قبل تمام الحول بتوجيه جزء من هذا المال في مشروعات استثمارية‬
‫أو نفقات ضرورية للشخص أو لمن يلزمه النفقة عليه‪ ،‬فال زكاة في هذه الحالة؛ لفقدان‬
‫شرط من شروط وجوبها‪.‬‬

‫أما إذا تعمد الشخص القيام بتصرف معين كأن يهب جزءا من ماله ألحد‬
‫أوالده ثم يعود في هبته‪ ،‬أو أن يقو بتبديل جنس ما وجبت فيه الزكاة بجنس مال آخر ؛‬
‫ليستأنف حوال جديدا‪ ،‬وهذا كله ف ار ار من إخراج الزكاة فهنا يلحقه اإلثم ويعامل بنقيض‬
‫(‪)1‬‬
‫مقصوده وتجب الزكاة في ماله حتى مع نقصان النصاب وهو قول جمهور الفقهاء‪.‬‬

‫‪ - 1‬المغني (‪)285/2‬‬
‫( ‪) 265‬‬

‫المطلب الرابع‪ :‬كيفية إخراج زكاة الرواتب وما في حكمها ومقدارها‪.‬‬

‫إذا توافرت الشروط السابقة وغيرها من الشروط العامة التي تجب في الزكاة بوجه عام‬
‫فعلى المزكي اتباع الخطوات اآلتية‪:‬‬

‫ا ـ أن ينظر في مدخراته وهي هنا عبارة عن ما يدخره من الراتب أو أجره من مهنة‬


‫مثال‪ ،‬وما يأتيه من دخول أخرى كعموالت‪ ،‬وأجرة بيت أو شقة له‪ ،‬أو دخل من سيارة‬
‫يؤجرها‪ ،‬أو أرباح أسهم وتجارة ونحو ذلك مما هو من جنس الراتب فإذا بلغت نصابا‬
‫وهو كما ذكرنا ما يساوي قيمة خمسة وثمانين جراما من الذهب الخالص فعندها يعتبر‬
‫هذا الوقت هو بداية سنته الزكوية‪.‬‬

‫ب – يضم كل ما يدخره من دخوله الدورية أو غير الدورية بعد بداية سنته الزكوية‬
‫إلى النصاب وال يشترط مرور حول على كل دخل يأتيه ما دام أن هذا الدخل من‬
‫جنس ماله ‪.‬‬

‫ج ـ ضم ما له من الديون الحالة المرجوة األداء إلى ما عنده من األموال المدخرة‪.‬‬

‫دـ بعد اكتمال سنة هجرية كاملة ينظر في مدخراته ويحسم منها الديون المستحقة عليه‬
‫الواجبة الدفع حاال‪.‬‬

‫ه ـ تقويم ما تبقى بسعر الذهب الصافي حسب الرأي الغالب في الفتوى‪.‬‬

‫و ـ إذا وصلت األموال إلى ما يساوي سعر خمسة وثمانين جراما ذهبيا خالصا أو أكثر‬
‫بسعر يوم وجوب الزكاة وهو اليوم الذي توافرت فيه الشروط فإنه يخرج منها ربع‬
‫العشر (‪)%2،5‬‬
‫( ‪) 266‬‬

‫المطلب الخامس‪ :‬العفاءات الزكوية في زكاة كسب العمل والمهن الحرة‪.‬‬

‫عندما فرض اإلسالم الزكاة فإنه لم يفرضها إتاوة وال مصادرة ألموال الناس‪ ،‬بل‬
‫راعى حق صاحب المال في ماله فلم يحرمه من ثمار اجتهاده‪ ،‬ولذلك حدد نصابا‬
‫للزكاة إذا بلغه المال أوجب فيه الزكاة وإال فال‪ ،‬وفرض الزكاة في المال النامي أو‬
‫المتخذ للنماء واالستثمار‪ ،‬فمن اتخذ ماال لالستعمال أو االدخار ما لم يكن نقودا فال‬
‫زكاة فيه‪ ،‬كما فاوت في مقدار الزكاة الواجبة بين مال ومال بحسب الجهد المبذول في‬
‫المال ودرجة المخاطرة وتكلفة التشغيل وغير ذلك من األحكام‪ ،‬كما راعى حق المجتمع‬
‫في هذا المال وهو حق واجب وفرض محتوم وليس تفضال من الغني على المجتمع؛ إذ‬
‫للمجتمع دور في نماء هذا المال ولو كان دو ار غير مباشر‪.‬‬

‫وإذا كان الشرع قد وازن بين ظروف المزكي وحقوق المجتمع عليه؛ فإن‬
‫الواجب على المزكي إذا اكتملت في حقه الشروط التي وضعها الشرع إليجاب الزكاة‬
‫أن يخرجها راضية بها نفسه‪ ،‬لكن هناك أسئلة كثيرة تواجه المزكين وخاصة أصحاب‬
‫الدخول الدورية والمتكررة كالموظفين والمهنيين إذ يقوم باإلنفاق على نفسه وذويه من‬
‫دخله‪ ،‬فهل يقوم بحسم نفقته وذويه وما يبقى إذا بلغ نصابا يزكيه أم يزكي جميع دخله‪،‬‬
‫وإذا كانت له مستحقات لدى المؤسسة التي يعمل فيها وجاء وقت إخراجه الزكاة فهل‬
‫يدخل فيها مستحقاته لدى هذه المؤسسة‪ ،‬وهل يحسم ما عليه من ديون ولو كانت ديونا‬
‫آجلة‪ ،‬وإذا قصد توجيه مدخراته التي بلغت نصابا في مشروع استثماري أو تأمين مسكن‬
‫أو نفقات زواج أو عالج ومداواة فهل يخرج الزكاة حتى وإن أثرت في رأس مال‬
‫المشروع أو قضاء الحاجة أم ال ؟ تلك أسئلة ملحة نجيب عليها بإذن هللا‪.‬‬

‫المسألة األولى‪ :‬النفاق في الحاجات المشروعة‪.‬‬

‫اتفق الفقهاء على أن ما أنفقه المزكي لتأمين الحاجات المشروعة الالزمة له ال‬
‫زكاة فيها‪ ،‬وال يمنع المزكي من تأمينها حتى ولو استوعبت جميع دخله‪ ،‬ومنعا للتجاوز‬
‫في تقدير النفقات األساسية فقد ضبطها بعض الفقهاء بأنها‪" :‬ما يدفع الهالك عن‬
‫( ‪) 267‬‬

‫كالدين فإن المديون محتاج إلى‬


‫اإلنسان تحقيقا كالنفقة‪ ،‬ودور السكنى‪ ...‬أو تقدي ار ّ‬
‫قضائه بما في يده من النصاب دفعا عن نفسه الحبس الذي هو كالهالك وكآالت‬
‫الحرفة‪ ،‬وأثاث المنزل‪ ،‬ودواب الركوب‪ ،‬وكتب العلم ألهلها‪ ،‬فإن الجهل عندهم كالهالك‬
‫(‪)1‬‬
‫وقال آخر‬ ‫فإن كانت له دراهم مستحقة يصرفها إلى تلك الحوائج صارت كالمعدومة"‬
‫في ضبطه لحاجة الشخص أنها‪ ":‬ما يكفيه مطعما‪ ،‬وملبسا‪ ،‬ومسكنا‪ ،‬وغيرها مما ال بد‬
‫منه على ما يليق بحاله وحال من في نفقته من غير إسراف وال تقتير" (‪.)2‬‬

‫مما سبق يتبين أن الحاجات األساسية المعفاة من الزكاة تشتمل على ما يلي‪:‬‬

‫• ما يحتاج إليه اإلنسان حاجة معتبرة لبقاء نفسه وحفظ من تلزمه النفقة عليهم‬
‫كالزوجة واألوالد والوالدين واألقارب من مطعم ومشرب ومسكن ومركب ‪.‬‬
‫• قضاء الديون الحالة‪ ،‬وهو من الشروط التي نص عليها كثير من الفقهاء‬
‫إليجاب الزكاة وعبروا عنه " السالمة من الدين " وال خالف في هذا الصنف‬
‫من الديون‪ ،‬أما الديون اآلجلة فسيأتي حكمها‪.‬‬
‫• آالت الحرفة وأدوات الصناعة والمهنة‪ ،‬وكتب العلم ألهلها مما تفيد في المهنة‬
‫والصنعة والحرفة والتخصص وقصد من امتالكها االنتفاع بها واستخدامها ال‬
‫زكاة فيها اتفاقا بخالف ما إذا قصدها لالتجار فيها‪.‬‬
‫• ما يتزين به الشخص من ألوان الزينة المباحة المعتادة‪ ،‬وكان في حدود القصد‬
‫واالعتدال‪.‬‬

‫المسألة الثانية‪ :‬النفاق في مجاالت محرمة‪.‬‬


‫فمن يقتطع من دخله كل شهر أو كل يوم مبلغا ماليا لينفق منه في مجاالت‬
‫محرمة شرعا كاإلنفاق على التدخين أو المخدرات‪ ،‬أو شراء المرأة لما تتبرج به تبرجا‬

‫‪ - 1‬حاشية ابن عابدين (‪)262/2‬‬


‫‪ - 2‬مغني المحتاج (‪)173 /4‬‬
‫( ‪) 268‬‬

‫غير مشروع‪ ،‬أو شراء األواني ونحوها المتخذة من الذهب والفضة‪،‬أو فيما يدفعه المسلم‬
‫من رشوة ألخذ ما ليس له شرعا‪ ،‬فجميع ما تقدم ونحوه ال يدخل ضمن النفقات‬
‫األساسية‪ ،‬وبالتالي فإن الشخص عند احتسابه الزكاة يدخل في النصاب قيمة هذه‬
‫النفقات‪ ،‬ويدخل فيما تقدم تضييع المال وإهالكه‪.‬‬

‫ومن نظائر هذه المسألة ما اتفق عليه الفقهاء في أن المرأة أو الرجل إذا اتخذ حليا‬
‫محرما ففيه الزكاة ‪ ،‬سواء أكانت الحرمة لذات الحلي ككونه على شكل صنم ونحوه أم‬
‫كان حراما لغيره كاتخاذه بقصد تشبه الرجل بالمرأة ونحو ذلك‪.‬‬

‫قال ابن قدامة‪ ":‬وإذا اتخذت المرأة حليا ليس لها اتخاذه‪ ،‬كما إذا اتخذت حلية‬
‫الرجال كحلية السيف والمنطقة‪ ،‬فهو محرم‪ ،‬وعليها الزكاة‪ ،‬كما لو اتخذ الرجل حلي‬
‫المرأة" ويقول‪" :‬ويباح للنساء من حلي الذهب والفضة والجواهر كل ما جرت عادتهن‬
‫بلبسه‪ ،‬مثل السوار والخلخال والقرط والخاتم‪ ،‬وما يلبسنه على وجوههن‪،‬وفي أعناقهن‪،‬‬
‫وأيديهن‪ ،‬وأرجلهن‪ ،‬وآذانهن وغيره‪ ،‬فأما ما لم تجر عادتهن بلبسه‪ ،‬كالمنطقة وشبهها‬
‫من حلي الرجال‪ ،‬فهو محرم‪ ،‬وعليها زكاته ‪ ،‬كما لو اتخذ الرجل لنفسه حلي المرأة "(‪.)1‬‬

‫المسألة الثالثة‪ :‬النفاق على وجه التبذير والسراف‬

‫المقصود بالتبذير‪ :‬صرف المال في غير وجهه المعتبر‪ ،‬أما اإلسراف فهو مجاوزة‬
‫الحد في اإلنفاق‪ ،‬قال الماوردي‪" :‬واعلم أن السرف والتبذير قد يفترق معناهما‪ .‬فالسرف‪:‬‬
‫هو الجهل بمقادير الحقوق ‪ ،‬والتبذير‪ :‬هو الجهل بمواقع الحقوق‪ .‬وكالهما مذموم‪ ،‬وذم‬
‫(‪)2‬‬
‫التبذير أعظم؛ ألن المسرف يخطئ في الزيادة‪ ،‬والمبذر يخطئ في الجهل‪0".‬‬

‫ويختلف الحد المعتبر من شخص آلخر فما يكون معتادا لشخص ال يكون معتادا‬
‫آلخر‪ ،‬وبالتالي فالعبرة‪ :‬بما يليق به وبأمثاله‪ ،‬فما يليق بشخص من سيارة ومسكن قد‬

‫‪- 1‬المغني ال بن قدامة (‪)324/2‬‬


‫‪ - 2‬أدب الدنيا والدين (‪)183/1‬‬
‫( ‪) 269‬‬

‫يصل إلى مليون‪ ،‬وما يليق بغيره قد ال يتعدى عشرة آالف مثال وهذا التفاوت معتبر‬
‫شرعا‪.‬‬

‫وكثي ار ما ترد أسئلة كثيرة عن قيام بعض الموظفين ونحوهم في صرف جميع‬
‫رواتبهم أوال بأول‪ ،‬ولو كان ذلك في حاجاتهم المعتبرة لم يكن في ذلك بأس لكنه ربما‬
‫ينفقه ويضيعه في مصارف تافهة مظهرية ترفية ال نفع فيها‪ ،‬فهل يقدر الموظف ما‬
‫أنفقه نفقة معتبرة معتادة على حسب ما يليق به وبأمثاله‪ ،‬وما زاد عن ذلك يدخله في‬
‫النصاب كأن لم ينفقه ثم يخرج عنه زكاة‪ ،‬أم العبرة بالنصاب في آخر الحول وال عبرة‬
‫بما أنفقه أثناء الحول ما دام اإلنفاق في مصرف مباح في ذاته ؟‬

‫قبل الجابة عن هذا السؤال نبين أمرين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن اإلسالم يمنع التبذير واإلسراف ويجعل المبذرين إخوانا للشياطين‪ ،‬وندب‬
‫إلى أخذ الزينة‪ ،‬ونهى اإلسراف فيها‪ ،‬والنهي هنا ليس من أجل حق الزكاة الواجبة‬
‫في المال فقط إنما لمصلحة صاحب المال نفسه فأول من يجني الثمار المرة‬
‫للتبذير هو صاحب المال نفسه فضال عن المجتمع كله حيث حرم ثمار هذا المال‬
‫باستثماره في األوجه المشروعة؛ ولذلك أمر هللا تعالى بالحجر عليهم في أموالهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫يها‬
‫وه ْم ف َ‬ ‫السَف َهاء أَ ْم َواَل ُك ُم التي َج َع َل ّ‬
‫ّللاُ َل ُك ْم ق َياماً َو ْارُزُق ُ‬ ‫{والَ تُ ْؤتُوْا ُّ‬
‫قال تعالى َ‬
‫وه ْم َوُقوُلوْا َل ُه ْم َق ْوالً َّم ْع ُروفاً} (النساء‪ )5 :‬ومنع هللا سبحانه وتعالى دفع األموال‬ ‫َوا ْك ُس ُ‬
‫إلى أصحابها إال بعد التيقن من قدرتهم على التصرفات المالئمة فيها وهو معنى‬
‫اح َفِإ ْن‬ ‫ِ‬
‫امى َحتَّ َى ِإ َذا َبَل ُغوْا ّ‬
‫الن َك َ‬ ‫{و ْابَتلُوْا اْل َيتَ َ‬
‫الرشد عند جمهور الفقهاء‪ ،‬قال تعالى َ‬
‫َآن ْستُم ِّم ْن ُه ْم ُرْشداً َف ْادَف ُعوْا ِإَل ْي ِه ْم أ َْم َواَل ُه ْم } (النساء‪)6 :‬‬

‫الثاني‪ :‬أن الترفه الزائد الذي يصل إلى حد السرف وترك الفقراء يتضورون جوعا‪،‬‬
‫يتنافى مع حقوق األخوة اإليمانية ويصطدم مع المعاني اإلنسانية التي توجب‬
‫التكافل والتراحم‪ ،‬ويؤدي غالبا إلى طبقية بغيضة في المجتمع وتئول األمور إلى‬
‫صراع وفوضى وجريمة ودمار‪.‬‬
‫( ‪) 270‬‬

‫وبعد ذكر ما تقدم واالتفاق عليه نتساءل‪ :‬هل يؤثر ذلك على إيجاب الزكاة‬
‫في المال الذي أنفق في مصرف مباح في ذاته لكن صاحبه تجاوز الحد الالئق به‬
‫وبأمثاله ؟‬

‫يفرق بين ما إذا كان اإلنفاق في شيء ال تجب الزكاة في جنسه كالعروض‬
‫المتخذة لالستعمال أو االقتناء كحرص البعض على امتالك أكثر من جهاز‬
‫محمول مثال وهو ال يحتاج إال إلى واحد‪ ،‬أو تغيير أثاث المنزل أو السيارة ال‬
‫لشيء إال مجاراة للموضات والتباهي‪ ،‬أو أن يكون اإلنفاق فيما تجب الزكاة في‬
‫جنسه كمبالغة المرأة في امتالك الحلي من الذهب أو الفضة حتى تجاوزت عادة‬
‫أمثالها‪.‬‬

‫ففي الحالة األولى‪ :‬وهي اإلنفاق في العروض التي التجب الزكاة في جنسها‬
‫كالمحمول والسيارة وأثاث البيت فال يوجد ما يدل شرعا على وجوب الزكاة في هذه‬
‫الحالة‪ ،‬وال يجوز مطالبة المسلم بإخراج الزكاة عما أنفقه في مصرف مباح في‬
‫ذاته ولو تجاوز به الحدود المعتادة في اإلنفاق‪ ،‬والعبرة بالنصاب في بداية الحول‬
‫ونهايته‪ ،‬وإن كان هذا العمل غير أخالقي‪ ،‬وتصرفا مذموما يجني صاحبه ثمرته‬
‫المرة في العاجل قبل اآلجل‪.‬‬

‫أما الحالة الثانية‪ :‬وهي إنفاق المال بذخا وترفا فيما تجب الزكاة في جنسه‬
‫كإنفاق المرأة على الحلي من الذهب والفضة ‪ ،‬فللفقهاء فيها قوالن رئيسان‪:‬‬

‫األول‪ :‬ال زكاة في الحلي الذي تستعمله المرأة ولو بالغت فيه وجاوزت الحدود‬
‫المعتادة ‪ ،‬وهو قول للحنابلة وبعض الشافعية؛ إذ ال يوجد ما يدل شرعا على أن‬
‫اإلعفاء من الزكاة في الحلي في حدود معينة وال يجوز التقييد بالرأي والتحكم ‪ ،‬وقد‬
‫(‪)1‬‬
‫اختاره ابن قدامة‪.‬‬

‫‪ - 1‬يراجع‪ :‬المجموع لإلمام النووي (‪ )330 /4‬المغني (‪)323/2‬‬


‫( ‪) 271‬‬

‫الثاني‪ :‬يرى وجوب الزكاة فيما زاد عن الحاجة‪ ،‬وهو قول عند الشافعية‪ ،‬وبعض‬
‫الحنابلة (‪)1‬وهو ما انتهت إليه الندوة السادسة لقضايا الزكاة المعاصرة المنعقدة في‬
‫دولة اإلمارات في ‪ 16 -14‬ذي القعدة ‪1416‬هـ ‪ ،‬وجاء في توصياتها فيما يتعلق‬
‫بزكاة الحلي‪ " :‬أن تكون الكمية المستعملة من الحلي في حدود القصد واالعتدال‬
‫عرفا أما إذا بلغت حد اإلسراف والتبذير فتجب الزكاة فيما زاد عن حد االعتدال"‪.‬‬

‫ويظهر رجحان هذا القول لما فيه من مصلحة الفقير ورعايته‪ ،‬ومنع المبذر من‬
‫التبذير‪.‬‬

‫المسألة الرابعة‪ :‬مدى وجوب الزكاة فيما بلغ نصابا وحال عليه الحول لكن صاحبه‬
‫رصده لتأمين حاجات أساسية له‪.‬‬

‫تقع هذه المسألة كثي ار‪ ،‬حيث يقصد الموظف من ادخاره بناء بيت أو شراءه‪ ،‬أو‬
‫دفعه مه ار أوتكلفة عملية جراحية ونحو ذلك‪ ،‬وكثي ار ما يبلغ المال نصابا ويبقى عند‬
‫صاحبه سنة فأكثر حتى يكتمل المبلغ المطلوب لتحقيق ما ادخره ألجله ‪ ،‬فهل تجب‬
‫الزكاة بمرور الحول على المال ولو أدى ذلك إلى تأخير قضاء حاجة الشخص‬
‫األساسية‪ ،‬أم ال تجب ؟‬

‫ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب الزكاة فيما أمسك من النقود بنية الصرف إلى‬
‫الحاجات األصلية؛ ألن الزكاة تجب في النقد مهما كان الغرض من اإلمساك‪ ،‬وخالف‬
‫بعض علماء الحنفية فلم يروا وجوب الزكاة في هذه الحالة؛ ألن ما رصد للصرف إلى‬
‫(‪)2‬‬
‫تلك الحاجات صار كالمعدوم‪.‬‬

‫‪ - 1‬المجموع والمغني ـ الموضعان السابقان‪.‬‬


‫‪ - 2‬حاشية ابن عابدين (‪)262/2‬‬
‫( ‪) 272‬‬

‫وفرق بعض المعاصرين بين الحاجات المستقبلية البعيدة والحاجات القريبة‬


‫وحددوا القرب بالسنة فأقل فأوجبوا الزكاة في الحالة األولى دون الثانية‪ ،‬وهو اتجاه‬
‫مقبول يمكن القول به‪ 1.‬هذا وهللا أعلم‪.‬‬

‫‪ - 1‬الزكاة ورعاية الحاجات األساسية الخاصة‪ ،‬د‪ .‬محمد عثمان شبير‪ ،‬بحث منشور ضمن جملة‬
‫أبحاث مع آخرين في قضايا الزكاة المعاصرة (‪ )389/1‬دار النفائس ن األردن‪.‬‬

You might also like