Professional Documents
Culture Documents
جلس في المقعد األمامي لسيارة المقدم ايهاب الشيمي ،بجوار السائق .لم يكن يفهم ما
كان ينويه الضابط باصطحابه الي تلك المزرعة .البعيدة غرب مرسي مطروح .كانت نظرته الجوفاء تتابع اشجار التين علي ساحل البحر
المتوسط ،و التي أخذت تتالشي لتحتل مكانها القري السياحية بطول الساحل .لم تكن تلك األماكن لمثله علي أية حال .لم يسمع طيلة حياته عن
مزرعة في ذلك المكان.لكنه كان يتوقع اي نوع من الناس كان ليختار المعيشة في قصر ناء تحيطه مزرعة ،لكنه لم يكترث لمعيشة تتجاوز
مقدرته .لم يعرف الطموح طريقا لقلب ذلك الشاب ،او لعل الطموح قد ضل الطريق ،متعثرا في طرقات ضواحي الجيزة الغير ممهدة ،و
التي لم يعرف الشاب غيرها طيلة حياته .جلس منكمشا في مقعده و هو علي يقين بأن "ايهاب بيه" كان بصدد عقد صفقة معه اذا قام بتنفيذ
مهمة ما في تلك المزرعة .
لم يكن الشاب معتادا علي رؤية تلك المساحات الفسيحة من األرض ،بخالف ما اعتاده من شوارع ضواحي الجيزة الضيقة .كان الفراغ يشعره
بالضياع مما زاد من قلقه .استسلم للنوم هربا من ذلك الشعور حتي استيقظ وقد هدأت السيارة من سرعتها ،و نظر متسائال الي السائق الذي
ظل صامتا طوال الطريق .لم يجرؤ علي توجيه حديثه الي المقدم ايهاب الذي انشغل بهاتفه المحمول.
تنفس الصعداء عندما أدرك أن البوابة التي انفتحت أمام السيارة كانت للمكان المنشود .لم يشك الشاب أنه كان وكر أحد كبار المهربين كما فهم
من المقدم ايهاب .كان الحارس أحد السكان المحليين من العرب ،لم تغادر السيجارة شفتيه و هو يفتح البوابة غير مكترث لمن كانوا في السيارة.
وقف في استقبالهم رجل آخر ،كان يبدو من الريف ،طويل القامة ،ذو بنية قوية ،و شارب رمادي .بدا من هيئته انه البستاني،
تطلع فرحات الي الجالس في المقعد األمامي بجوار السائق و فهم علي الفور ما كان الضابط يقصده .لم يعبأ احد من الحاضرين بالجهد الذي
بذله لكي ال يبدو عليه الضيق من ذلك القادم الجديد.
اما هو ،ذلك القادم الجديد ،فقد نظر في انبهار الي الحديقة األمامية الشاسعة .لم يرى في حياته حديقة كهذه اال في المجالت التي كانت تصور
حياة المشاهير .غير ان نظام الحديقة كان فيه من الفن واإلبداع ما ال تشتريه األموال .توقفت السيارة امام قصر قديم ،يبدو و قد تم تجديده
حديثا .فحتي هو ،الذي لم ينل من التعليم قسطا وافرا ،كان يدرك ان ذلك الطراز المعماري لم يعد له وجود .نزل الضابط من السيارة ،و دخل
الى القصر في ثقة من يدخل بيته ،و تبعه الشاب في صمت ,عبر باب كبير من الحديد المشغول .،تبعه باب من الخشب المزين بالزجاج الملون.
ووجد نفسه في صالة استقبال غلب عليها اللون األبيض.
كانت صالة االستقبال مثل القصر ،قديمة الطراز ،يغلب فيها الذوق الرفيع علي الفخامة.ابصر علي يمينه سلم من بضعة درجات نحو صالون
فسيح اتخذ طابعا شرقيا و غلب عليه اللون األزرق ،غير أن الستائر كانت مسدلة و كان األثاث مغطي بمآلت بيضاء فبدا المكان مهجورا .أدار
الشاب نظره نحو سلم خشبي يتجه الي الطابق العلوي و الحظ زالقة علي جانبه لم يفهم الغرض منها.
بحثت عيناه عن البيانو ،فوجده أمام حائط توسطته صورة بالحجم الكبير لشاب طويل القامة .،تضاهي وسامته وسامة نجوم السينما في الخارج.
لم يشعر بالراحة لذلك المكان ،فقد كان يخيم عليه الحزن و صمت ثقيل.
لو لم يكن الضابط قد اشار لمن كان في انتظارهم .ب "هو" النتظر سيدة عجوز ان تخرج اليهم و تتكلم بلهجة تركية كما كان يري في األفالم.
اال انه سمع من بعيد صوت الكرسي المتحرك .غلبه الفضول ليعرف من هو ساكن ذلك القصر فاقترب عدة خطوات من الردهة .التي اتي منها
الصوت ،لكن فرحات اسرع بالوقوف بينه و بين الردهة .ليحول بينه وبين االستمرار.
وقف الشاب في حيرة صامتة .و ظهر اخيرا من كانوا ينتظرون ،كان شخصا ضئيال ،غطي رأسه بطاقية من الصوف و التحف شاال من
الصوف .كان وجهه شابا رغم هيئته األقرب للمسنين .لم تكن مالمحه واضحة خلف النظارة داكنة العدسات التي ارتداها ،فضال عن الضوء
الخافت في صالة االستقبال الذي جعل لذلك القادم صورة مبهمة في عين الشاب.
"و ده بيعمل ايه هنا ،واحد تاني من مسجلين الخطر اللي بتجيبهم؟".
"حنرجع تاني؟"
ا
التفت صاحب القصر الي الشاب"نهايته ،انت اسمك ايه؟"
قاطعه ايهاب " حيتعلم شوية شوية .هو مخه تخين بس اسبوع واال اتنين مع فرحات حينفعك في المزرعة".
"و هو عم فرحات فاضيله؟ اهو واحد تاني من اللي بتجيبهملي ،مسيره يزهق و يمشي زي اللي قبله"
نظر ايهاب إلي فرحات" ،خده بره دلوقتي ،أنا عندي كلمتين لميرو".
و استجاب له الرجل و تبعه صبحي في صمت ،و خرج كالهما عبر الباب الخشبي.
"طيب انا حامشي علي طول عشان مشوارك ده طويل قوي .بس حارجع كمان اسبوعين اشوف اإليراد.مش عايز حاجة"
"ايوة عندنا محاسبين شايفين شغلهم و يبوروني الكشوفات اول بأول...عايز .تشوف االيراد ليه؟"
"ايوه ،بس احب اقفل علي القصة دي معاك .،حمزة اختفي ،لكن ما ماتش ،و مافيش اي دليل انه مات و مش راجع .و مش حاسمحلك
تاخد اي اجراء علشان تعلن وفاته و تورثه"
"انت عمال تغلط وانا مش هرد عشان في بيتك ،بس مش حيفضل بيتك علي طول"
"و ده تهديد لواحد عاجز؟ مش بعد ما حمزة اختفي كنت مشغل اسطوانة انا زيه بالظبط وماتشيلش هم حاجة ،و دلوقت جاي تسأل علي
اإليراد."?.
"لواليا انا كان زمانك بتزحف في السجن بعد اللي عمله اخوك .المزرعة .دي كان ألف من يحط ايده عليها ،بس ماحدش قدر ييجي
جنبها علشان في حماية ايهاب الشيمي ،حد غيري كان استولي علي المزرعة و رماك في الشارع و ما تنساش انك يا دوب أخوه من
األم و اسمك مش علي اسمه".
"انا اللي مش حارد عليك يا ايهاب ،بعد اذنك انا داخل ارتاح .انت طبعا عارف السكة لوحدك .مع السالمة" و اتجه بالكرسي المتحرك
نحو الردهة .تاركا الضابط وهو في قمة الغيظ .اتجه ايهاب نحو الباب صائحا "انت يا زفت"
التفت ايهاب ليري ما اذا كان صاحب القصر قد ابتعد في اتجاه غرفته و همس لصبحي الذي اقترب منه " ،اسمع ،حسك عينك حد
يعرف انت هنا بتعمل ايه .عايزك تقرب منه و تعرف بيكلم مين ،و تعرف بيشيل اوراقه فين .خلي بالك من اللي اسمه فرحات و داده
حليمة ألن دول تقريبا مش بيفارقوه .متخليش حد من العيال الصيع اللي هنا يشك فيك ،و اوع تدخل في خناق و اال تعمل قلق".
"لما نشوف"
وقف فرحات علي مقربة منهما "تأمر بحاجة تانية يا ايهاب بيه؟"
"ال يا فرحات ،ابقي خلي بالك من ميرو و طمنا عليه" و اشار له ليقترب ،و كان قد طوى ورقة بخمسين جنيها في يده" .شكرا يا ايهاب
بيه ،انا ماهيتي هنا مكفياني ،و مراد بيه ده في عينيا ،ده انا مربيه علي كتفي".
و ما ان رحلت السيارة حتي نظر فرحات في جفاء الي صبحي" ،انت حتشتغل معايا في المزرعة .الشباب هنا ،صحاب حمزة بيه
حيورولك كل حاجة .فيه اجانب بييجوا هنا يتدربوا ملكش دعوة بيهم".
"أل اللي شفته ده اخوه الصغير ،و برضه مالكش دعوة بيه".
"مش حاتعتب القصر ده ،مهما .حصل ،مفهوم؟" .كان ردا هادئا و لكن لم ينقصه الحزم ،مهددا بذلك خطة الشاب و سيده .و بذكاء الفالح
المصري الصميم ابتسم في مودة " و انت بقي يا عم صبحي جاي منين؟"
"ال انا ماكملتش دبلوم صنايع ،كنت شغال علي ميكروباص بس هللا يجازي والد الحرام بقي"...
"هللا يجازيهم "،شوف يا صبحي ،احنا اللي بييجي عندنا الزم األول يشتغل مع الخيول ،شغلهم مش صعب .حاوريك األوضة اللي حتنام
فيها ،و تيجي معايا بعدها علي االسطبالت".
"خلينا نشوف اول اسبوعين تالتة و بعد كده لو عجبك الحال نشوفلك شغالنة تانية .الثقة عندنا مهمة جدا .حتكسب ثقتنا تبقي واحد
مننا.و اال تحصل اللي سبقوك في بحر اسبوعين بالكتير".
****
كاد يمر اسبوعان عندما اتجه صبحي نحو االسطبل في ضجر .لم يكن في نيته ان يعمل في خدمة الخيول و ينظف االسطبل كل يوم.
كان وجود فرحات يحول دون دخوله القصر ،و لم يتيسر له رؤية مراد و لو مرة .ألول مرة كان يشعر بالغربة .،و هو يتطلع الي
الشباب و الشابات الذين اتوا من مختلف انحاء العالم ،ليشتغلوا بالزراعة في ذلك المكان النائي .كان ينظر للفتيات باألخص نظرة الجائع
الي موائد الموسرين .لم يكن مسموحا له بالتقرب اليهن ،و لم يكن يتحدث بلغتهم ،كما كان الشباب الذين عرف انهم اصدقاء حمزة .بدوا
مثل صديقهم الحاضر الغائب ،مثل نجوم األفالم .كانوا و الشك من ابناء األغنياء .زادت حيرته و هو يري السعادة علي وجوههم .و هم
يعملون بأيديهم تحت الشمس و عندما يتناولون الغداء معا في الميس كما كان يسميه .حتي الطعام كان غريبا علي صبحي ،الذي لم يعتد
ان يري مثل تلك الخضروات او يتناولها .كان همه األكبر هو القيام بمهمته التي وكلها اليه المقدم ايهاب .كان يعلم انه كلما اسرع في
العثور علي اية اوراق تخص حمزة الشيمي كلما عجل الضابط في اعادته الي حياته السابقة و صحبته التي اعتاد عليها ،و لعله يوفر
مورد رزق .،يستريح به من شكوي امه الدائمة.
كان فرحات في االسطبل منذ الصباح الباكر كعادته ،كان يرتشف كوبا من الشاي و هو يتفقد االسطبل.
ابتسم فرحات في دهاء " ،إحنا مش قلنا ده زي تدريب و حنشوف بعد اسبوعين حنعمل ايه؟"
كان فرحات هو من يعتني برهوان و فرسة اسمها سمارة ،لم يكن صبحي قد اقترب منهما بعد .ظن الشاب ان ذلك هو االختبار النهائي،
فاتجه في نشاط نحو رهوان و فتح الباب ،وما ان هم بتلجيمه حتي انتفض الجواد ورفع ساقيه األماميتين و هو يصهل في عنف .تراجع
صبحي خشية أن يدهسه الجواد و لم يفكر في غير العصا التي كانت تستند علي الحائط و ما إن هم بالتقاطها للسيطرة علي الجواد ،إذا
بقبضة خشنة تمسك بمعصمه لتمنعه.
دخل فرحات الي الجواد حتي هدأ ،و اغلق الباب وراءه وهو ينظر في غضب صامت الي الشاب .اما صبحي فكاد ان ينكس رأسه في
خجل التلميذ الخائب في انتظار توبيخ معلمه .
"اللي مايعرفش يبقي حنين علي البهيمة الخرساء مالوش مكان وسطنا"
"كان ممكن تندهلي ،لكن غرورك منعك .بس ساعتها كنا حنعمل ايه بمعلش لو كنت اذيت رهوان؟ او لو كان آذاك و انت مش عارف
تعملله ايه .اللي قدامك دي خيول مش حصنة .خيول اصيلة تربيتها ليها اصول و عايزة صبر .كان ممكن تتعلم ،لكن انت مش بتاع
شغل .اطلع برة االسطبل و لم حاجتك علشان حتمشي مع العربية اللي نازلة مطروح".
و استدار فرحات متجها الي الشرفة الكبري للقصر ،حيث بدأ في تقليم احدي الشجيرات .وقف صبحي يرقبه خارج االسطبل و قد كادت
ان تدمع عينيه من الغضب .لم يسبق له ان يقف في خذالن امام احد و فكر ان ينقض علي الفالح و يهشم رأسه ...لكنه ظل واقفا يرقب
الرجل و هو منهمك في عمله.
هرول ناحيته و هو يحاول انقاذ مهمته التي كانت مفتاح خروجه من قبضة المقدم ايهاب.
كانت تلك اللحظة التي رأي فيها الفالح العجوز يتحول الي وحش كاسر كاد ان يفتك به اثر اهانة مراد .لكن صبحي الذي كان معتادا
علي مشاجرات الشوارع لم يكن ليهابه بسهولة ،و هم الرجالن بالعراك ،حتي انساب صوت رخيم من شرفة القصر.
"سيبه يا عم فرحات"
نظر اليه صبحي كأنما يتطلع اليه ألول مرة .فلم يكن يري الشاب المسن ،الذي رأه اول مرة دخل فيها الي القصر .و انما رأي شابا
اطاللته كمالك و شيطان في آن واحد .كانت مالمحه الهادئة تبعث علي الطمأنينة لكنه شعر بالقلق يتسلل اليه عندما رأي نظرة مراد
الحادة و ابتسامته الساخرة .كانت تبدو عليه سمات االرستقراطية البائدة ،في لهجته و الفاظه .حتي جلسته علي الكرسي المتحرك.
"مش عاجبه الشغل مع الخيول ،و لما قلتله يجيب رهوان .،ماعرفش يلجمه ،قام رهوان هاج ،و كان حيضربه بعصاية"
"من غير حلفان .انت لو ماكنش جايبك ايهاب كنت مشيتك علي طول" قال مراد و لم تفارق االبتسامة شفتيه" .ماجراش حاجة يا عم
فرحات ،نديله فرصة تانية"
"اصبر بس ،مش كنت عايز تعرف انا مشغول في ايه؟" التفت مراد الي فرحات "خليهم يجيبوا العربية الكهربا"
اتصل فرحات بأحد العاملين فأتي بالسيارة الكهربائية بعد بضعة دقائق .كانت سيارة صغيرة ،تتسع لثالثة اشخاص .فتح فرحات بابها ،و
حمل مراد برفق و اجلسه في مقعد السائق
"يالال اركب" قال مراد ،مشيرا لصبحي .لم يصدق ذلك األخير كيف تغير حظه بين لحظة و اخري .اخيرا سيتمكن من التسلل الي
القصر برضا صاحبه.
تبددت سحابة األمل مع هذه الكلمات و النظرة الثاقبة التي سددها اليه مراد فجعلته يلعن اللحظة التي لفظ فيها تلك الكلمة.
و بدأت الجولة ،رأي فيها صبحي مساحات شاسعة من المزارع ،من اشجار الفاكهة و الخضروات وزهور .الزينة ،بل كان مراد يقول
ان بعضها يؤكل .كان المزارعون من شتي بقاع األرض ،و لكن كان اغلبهم من مصر.
"ايه البيوت اللي هناك دي يا باشا؟"
"دول الناس اللي استقبلناهم هنا و دربناهم و علمناهم .و اختاروا يبنوا بيوتهم بنفسهم و يزرعوا اكلهم بنفسهم و يوزعوا الفايض بينهم او
يبيعوه .كل الخضار اللي بننتجه هنا بنصدره ،و طبعا بيجيلهم ربح كبير".
تابع مراد القيادة و هو يرقب نظرة االنبهار علي وجه صبحي .و دي غابة زرعناها علشان نخزن مياه المطر في األرض ،و لو احتجنا
لخشب بنزرع بداله اول بأول".
"طبعا الكانتين بتاعنا شفته"
"كل واحد هنا بياكل براحته ،بايدك ،بشوكة و سكينة ،بعصيان لو عاوز."...
"دول برضه بييجوا يتدربوا هنا ،و بيدفعوا فلوس مقابل االقامة و التدريب".
"ماله؟
اوقف مراد السيارة و نظر نظرة طويلة الي صبحي الذي لم يفهم مغزي تلك النظرة
اكمل مراد السير بالسيارة حتي عاد الي شرفة القصر الكبري "،و بتسقوا كل الزرع ده منين؟" قال صبحي محاوال كسر الصمت.
"انت شفت األلواح اللي في اول المزرعة؟ احنا بنعمل كل حاجة هنا بالطاقة الشمسية ،بنحلي مية البحر و بنخرج المية من األرض"
"المزرعة هللا اكبر حلوة و كل حاجة ،بس الزرع الملخبط مع بعضه ده مش داخل مخي".
انظر مراد الي االفق امامه و علي وجهه ابتسامة وليدة ذكرياته
"حد يزهق من الهوا النضيف و الخضرة و الصحبة الحلوة و توحشه الدوشة و العفار و الزحمة؟؟ .بالليل دايما كانوا يولعوا نار جنب
الشجرة اللي هناك و يتسامروا لحد اخر الليل .كنا بنغني و نعزف علي الجيتار و كان دايما فيه ناس من كل شكل و لون يشاركونا
متعتنا بالمزرعة .و كل سنة كنا نعمل حفلة كبيرة لجمع التبرعات ألن ناس كتير كانوا مؤمنين باللي احنا بنعمله .من 10سنين بس
المكان ده كان صحراء و بقي زي مانت شايف ،و كبرنا و كبر معانا .و لسة قدامنا كتير نعمله".
ظل صبحي ينظر في اعجاب الي مراد .،الشاب العاجز الذي الزال لديه األمل في المزيد من العطاء
"و بتدير المكان ده كله لوحدك؟"
"أل طبعا ،معايا عم فرحات ،و عمر و اكرم و حسام اصحاب حمزة ،و بقية الشباب اللي شفتهم دول كل واحد ماسك قطاع .و عندنا
األستاذ مجدي المحاسب و كان برضه من معارف حمزة ،و الدكتورة ناهد بتيجي كل اسبوعين تشوف جوزها المهندس عبد الحميد
مسؤول الري و تتطمن علي صحة الخيول" و استطرد " ،و كل ده بيسمحلي بوقت فراغ قليل ،بحب اقرا فيه او اسمع موسيقا او ارسم،
وطبعا ماحبش حد يزعجني في الوقت ده .عرفت انا مشغول في ايه؟"
"أديني اديتك كام سبب عشان تستني معانا ،انت بقي هتدينا كام سبب علشان نعتبرك واحد مننا؟"
"كل واحد هنا يا صبحي بيخدم نفسه .و لو احتجت لحاجة عم فرحات و داده حليمة ما بيسيبونيش ،و عندي لبيبة جوة بتشوف كل
طلباتي ".و التفت الي خارج السيارة حيث كان فرحات منتظرا" .احنا خالص خلصنا يا عم فرحات"
و استجاب له الرجل ،ففتح باب السيارة و حمله برفق ووضعه علي الكرسي المتحرك .و في نفس األثناء ترجل صبحي عن السيارة.
"طيب يا باشا و النبي بالش الخيول ،الحصان اللي اسمه رهوان كان حيموتني".
نظر مراد الي فرحات معاتبا "مالكش حق يا عم فرحات ،ده ماحدش كان بيقدر علي رهوان غير حمزة"
حمزة ،ظل هذا االسم يتردد حتي تمني صبحي ان يراه و لو مرة ،ذلك الرجل الذي بدا كاألسطورة كأنما قد أوتي اسباب الكمال .لكنه
كان مجرما عاتيا وفق القليل الذي اطلعه عليه المقدم ايهاب ،يستخدم هذا المكان كستار ألنشطته المشبوهة .و مع ذلك كان يشعر
بالضآلة مقارنة بذلك الرجل .لم يسعه اال ان يحقد عليه محاوال كشف ستره و لذلك كان عليه ان يدخل الي القصر بأي ثمن.
"ايه سرحت في ايه يا صبحي؟ انا ما بعترفش بالفشل .حاول تاني ،و لما عم فرحات يقوللي ان الخيول ارتاحت معاك حنشوفلك حاجة
تانية".
"من اآلخر يا صبحي ،انا مش عايزك تدخل القصر و انا لسة ماقدرش .اثق فيك".
اطرق مراد قليال لغرابة الطلب" ،انا متونس بذكرياتي ،و ما تزعلش مني ،بس انت ممكن تكلمني في ايه غير مسجلين الخطر و العنف
و الشغب اللي انت عايش معاهم .طول عمرك .،و انا مش مهتم بالعالم اللي انت جاي منه .حاول تتأقلم مع الناس هنا وتكتسب عادات
جديدة ،ده اذا كنت عاوز تستني و تبقي مننا".
و استدار ،مراد بالكرسي ،متجها نحو المطلع المخصص لكرسيه المتحرك نحو الشرفة الكبري.
"عم فرحات ،من فضلك ابعتلي اكرم و المحاسبين كلهم علي المكتب".
"حاال"
ابتسم فرحات مرة اخري في دهاء لصبحي" ،انت حظك من السما ان البيه بتاعنا قلبه طيب ،و ابقي لم لسانك بعد كده .يالال علي
االسطبل ،قدامك فرصة تانية".
لم يكد يصدق نفسه من السعادة .لم يكن يكترث لذلك المكان بأي حال ،لكن شيئا كان يولد في وجدانه حيال هذا المكان اكبر من وعود
الضابط و تهديداته .لعله يصادق احدي الفتيات االجنبيات فيذهب معها الي بلدها،لقد بدا المستقبل زاخرا بالفرص ،و لم ينو ان يدع اي
منها تفلت من يده.
"هو والمصحف قلبه طيب و ابن أصول .بس هو مراد بيه ده مصري؟"
"ما انا برضه قلت لهجته مش زي والد البلد .و كان بيشتغل بره؟"
"ايوة ،كان بيغني في األوبرا في بالد بره ،و كان مشهور .عاوز تعرف حاجة تاني يا صبحي ،و اال حتروح تشوف شغلك؟"
****
جلس مراد خلف مكتب من خشب الماهوجني علي كرسيه المتحرك ،و امامه عدد من الملفات المفتوحة ،يستمع الي تقرير المحاسب عن
المكاسب التي حققتها المزرعة في المرحلة القادمة .جلس اكرم بجواره .كان شابا في منتصف الثالثينيات ،مفتول العضالت ،يرتدي
قميصا واسعا كالذي يرتديه ابطال رفع األثقال .لم يكن وسيما بقدر ما كان بشوشا ،لكن في تلك اللحظة كان ينظر الي السقف في ضجر،
دون ان يحاول اخفاء عدم رضاه عن المحاسب.
اما مراد فكان هادئا كعادته ،و ان كان هو اآلخر غير قادر علي االبتسام.
"لألسف ايوه"
"طيب و الفرسة اللي طلبها األمير الخليجي ،انت مش قلتلي انه وافق علي السعر اللي حددناه؟"
رد المحاسب في توتر " ،ايوه يا باشا ،بس لما حضرتك ما رضيتش تقابله ،زعل و مشي"
"و ده ايه اللي يزعله ،هو كان حيشتريني انا؟ كل الناس عارفة .اني من بعد الحادثة مش باقابل حد".
تدخل اكرم " ،ايوه انا كنت وقتها في اسكندرية علشان مشكلة في شحنة الخضار"
"حوالي 10مليون"
قال مراد و قد كدرته .سحابة من القلق" ،و ده حصل ازاي؟ احنا وقفنا حاجات كتير من بعد حمزة ما مشي".
"المزرعة بتقدم اعمال خيرية كتير ،و الخيول محتاجة لمصاريف ،ده غير الناس اللي واخدين ارض و يادوب بيكفوا نفسهم .لو مشيوا
حنوفر."...
نظر اليه مراد في حزم مقاطعا " ،ماحدش حيمشي .احنا عاملين ده عشانهم .المستوصف و المدرسة الزم يفضلوا مفتوحين عشانهم"
"سيبنا دلوقتي من فضلك .عايز كل المحاسبين يشوفوا ازاي ممكن .نغطي العجز من غير ما نمشي حد او نقطع عيش حد".
و خرج المحاسب ،و هنا استطرد مراد "و بعدين يا اكرم .،ده كان ناقص يقوللي مافيش حل غير البيع"
"موضوع األمير الخليجي ده بالذات مش مريحني .يجوز فعال كان عايز يتكلم معاك انت باعتبارك صاحب الحصان".
"قانونا انا مش متأكد انا املك ايه .الزم نشوف عوني المحامي لو يقدر ييجي هنا .انا قلقان جدا".
"ماتشيلش هم يا ميرو" ضحك اكرم مداعبا" .كله ان شاء هللا حيبقي تمام".
"وهللا ما عارف كنت حاعمل ايه من غيركما...غياب حمزة قاطع فيا بشكل."...
"انا عارف يا ميرو ،كل حاجة حصلت في وقت واحد ،و برغم كده انت قدرت تمشي المزرعة سنتين".
"هو طبعا جايبه علشان يبقي عينه علينا ،بس فضح نفسه لما جاب سيرة االيراد"
"لو قدر يثبت ان حمزة مات ليلة الحادثة حيقدر يورث ألنه ابن عمه .لكن مايقدرش يثبت اي شيء قبل مرور فترة يحددها القانون .و
في نفس الوقت ،اكتر من مرة لمحلي بإننا في حمايته يعني الزم ياخد نسبة من ايراد المزرعة ،و علي حس الموضوع ده برضه كل
شوية ينطلي بواحد مسجل خطر".
"يبقي الزم تكلم عوني ،هو بس اللي يقدر يقولك الوضع القانوني للمزرعة .ايه واللي ممكن .تعمله .تقريبا حمزة جابلي سيرة ان جزء
كبير من المزرعة .حيتكتب بإسمك في حالة لو حصله حاجه"
نظر مراد الي اكرم بمزيد من القلق" ،هو كان عارف ان حيجراله حاجة؟"
"قبل الحادثة بعشر ايام كان قاللي انكم اختلفتوا ،و انك كنت خايف ان العمليات بتاعته تعرضنا كلنا للخطر"
"كان بيجهز علشان يكتب حاجة باسمك لكن ماحددش .،و ماعرفش اذا كان لحق ألنه مامشيش من هنا لغاية يوم الحادثة .بس األكيد انه
كان عاوز يبعتك علي نيس علشان تقعد هناك ألنه بدأ يقلق".
"من ايه؟"
"العرب في المنطقة بدأوا يراوغوه ،و في نفس الوقت بدأوا الناس بتوع قوارب الهجرة يهددوه .بس انت عارف حمزة ،ماكانش بيقول
حاجة تقريبا عن الموضوع ده".
"ميرو ،انت زي اخويا الصغير ،بس انا ماقدرش .اقولك تعمل ايه .لو اديته حتة من التورتة هيفتكر موقفنا ضعيف و يطمع .و ماقدرش
اقولك بيع ألني عارف انك مش ممكن .تفرط في كل اللي بناه حمزة" .
"حاشوف هو عاوز ايه لما ييجي ،هو دايما يضرب بغشم ،حنشوف حيقع بالكالم يقول ايه".
"ماشي الكالم" و ابتسم له اكرم مشجعا" ،و انا من ناحيتي حاشوف المحاسب ده ايه حكايته ،وقعته سوده لو طلع بيسرب اخبار
المزرعة .اليهاب".
"تفتكر؟ في الحالة دي ممكن .جدا اللي كان مسكت ايهاب انه كان بيوصله اكتر من مجرد اخبار".
اتسعت عينا اكرم عندما ادرك احتمالية حدوث ذلك " ،يا نهار اسود .،اتاريه قاللك انه حييجي يشوف االيراد".
"بس مش حنمشيه دلوقتي ،عينك عليه و شوف لو فيه حاجة مش مظبوطة .،مش معقول نمشيه من غير سبب".
كانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل عندما استلقي صبحي علي فراشه و قد الزمه األرق .كانت امسية باردة في أواخر شهر اكتوبر.
كان الليل هو وقت نشاطه من قبل ،عندما كان يمضي وقته مع رفاقه الذين يشاركونه ميوله وأهوائه .لكن شيئا من ذلك لم يكن ليتوفر
له .لم يكن امامه غير المذياع ،و افكاره التي ال تنتهي .كان يتمني ولو سيجارة حشيش تنتشله من خضم التفكير الذي اوجع رأسه.
ارتدي ثيابه و هم بالخروج .،فلم يعد هناك متسع ألفكاره في تلك الغرفة .،و ما ان خرج منها ،فاجأه الهواء البارد كأنما يدفعه للعودة الي
دفء فراشه ،لكنه واصل السير حيث اخذته قدماه ،الي االسطبل.
تسلل في هدوء .لكيال يثير الشكوك ،و اتجه الي حيث كان رهوان .وقف خارج حظيرته" .ايه يا رهوان .،فاكرني؟ يا رب يكون قلبك
طيب زي صاحبك و تسامحني".
"انا جبتلك في جيبي حتة سكر"و اخرجها من جيبه و مد راحته بها ليريها للجواد ،لكنه لم يكترث لوجود الشاب.
"انا عارف ان محدش هنا بيثق فيا و ال حتي انت ،بس اعمل ايه ،ماليش حد هنا اكلمه ".و نظر حوله كأنما يتأكد ان احدا لم يكن
يسمعه" .عارف يا رهوان .،نفسي اغمض و افتح االقي نفسي خلصت من ايهاب و رجعت للقعدات الجامدة بتاعة زمان ،و اعمللي
قرشين و اعيش بقي ،و اشوفلي مزة حلوة كدة".
"نفسي اعرف صاحبك اللي اسمه حمزة ده راح فين بعملته دي .اكيد عمل خميرة جامدة و مدكنها في حتة و ساب اخوه الصغير يتوحل
في الهو ده ،و اال يمكن مات في قلب البحر زي اللي ماتوا من تحت راسه"
استشعر في الجواد عدم .الراحة لوجوده ،عندما تتابعت انفاسه فيما يشبه نفاد الصبر عند البشر ،لعله لم يرق له الحديث عن حمزة بهذا
الشكل.
"بس اخوه الصغير ده اللي حكاية .صوته هادي ،بس مخه نور و مصحصح .خسارة انه مشلول ،تصدق يا رهوان زعلت من نفسي انه
سمعني و انا باقول عليه مكسح .واحد زيه مايستاهلش يجراله كل ده .بس انا مالي و ماله ،كلها كام يوم وامشي من هنا ،و ربنا ده انا
اعمل فرح ،يوم ما ايهاب يحل عن قفايا .بس اجيبله األوراق بتاعة اللي اسمه حمزة منين؟"
كان يدرك صبحي ،حتي في ذروة يأسه الذي دفعه للحديث مع الجواد ان ال طائل من محاولة استئناسه .تذكر مقولة مراد منذ يومين،
"انا مابعترفش بحاجة اسمها فشل ".لكنه نظر في مزيد من اليأس للحيوان األعجم الذي تولي عنه الي داخل حظيرته .فوضع صبحي
قالب السكر في جيبه و عاد الي غرفته.
**
جلس مراد في غرفة المكتب ،يرسم علي اناء من القيشاني بفرشاة دقيقة ،كان ينقل رسما من احدي لوحات تولوز لوتريك .و بينما هو
غارق في تفاصيل الرسم ،طرقت الباب فتاه نحيفة ذات شعر اسود جمعته من الخلف في ذيل حصان; لم يتجاوز عمرها التاسعة عشر،
و قد جعلها الخجل تبذل جهدا مضاعفا لتنطق ببضعة كلمات . .لم يجب مراد لفرط تركيزه فتنحنحت الفتاة.
"ايوه و هم في الصالون"
"أل خليك مستريح انا جايالك مخصوص اشوفك ".جاء صوت نجالء زوجة ايهاب مزعجا لمراد ،لكنه حياها بابتسامة متكلفة" .ازيك يا
ميرو يا حبيبي ،انا مقصرة قوي في ـحقك".
"وال يهمك يا نجالء ،ايهاب قايم بالواجب و زيادة ،وانت ربنا يكون في عونك ،عيني عليكي بارده حتالقي وقت امتي وسط الحفالت و
المسلسل اللي لسة مصوراه".
كانت نجالء امرأة جميلة دون خالف ،يشهد جمالها لبراعة جراحي التجميل .ارتدت بنطلونا ضيقا و حذاء برقبة طويلة بلغت ركبتيها،
الي جانب كميات من مساحيق التجميل و عطر فواح بدا غالي الثمن .كان كل ما ترتديه غالي الثمن ،لكن ال ذوق فيه.
"صعبان عليا قوي يا ميرو اشوفك كده ،بعد ما كنت بتغني علي اكبر مسارح في اوروبا .انشاهلل ترجع زي األول و الناس تفتكرك
تاني".
ابتسم مراد في سخرية" ،كفاية انهم فاكرينك ،وصورتك علي كل المجالت ،حتي من غير ما تغني في األوليمبيا او ال سكاال".
"سكاال و اوليمبيا ايه ،انت عارف انا باخد كام في حفلة في دبي و اال في الكويت؟"
"انما ايه اللي خالكي تخبطي المشوار ده كله يا نوجة ،مش معقول علشان تشوفيني علي كرسي بعجل".
تغيرت مالمحها فكشفت غضبا مكتوما " ،ابدا ،ايهاب قاللي انه جاي يشوفك فانا قلت كنت عايزة اغير جو ،والمزرعة هنا وحشتني".
"فعال يا نوجة ،آخر مرة كنتي هنا ماكنتش انا لسة جيت من فرنسا علشان استقر في مصر ...تقريبا لما كنتي بتحاولي تقنعي حمزة
يتجوزك و هو قالك تشيلي الموضوع من دماغك .انا ماكنتش موجود ساعتها ،لكن سمعت الحكاية كلها يوم فرحك انت وايهاب".
ضحكت في عصبية" ،انت جبت الكالم ده منين؟ ده هو اللي كان بيفكر في االرتباط و أنا قلتله اني مش مستعدة ،لغاية ما قابلت ايهاب
في قعدة من قعدات الشلة بتاعة زمان ، ...انا مبسوطة مع ايهاب مش قادرة اقولك قد ايه".
في تلك اللحظة دخل ايهاب في ثقة مفتعلة وتعلو جهه ذات االبتسامة المتكلفة التي عرف بها" .ازيك يا ميرو ،نجالء صممت تيجي
تشوفك و تتطمن عليك".
"فيها الخير ،بس كان نفسي اشوفها من قبل كده ،مش بعد ما اتشليت بسنتين ".قال مراد في تهكم ثم ضغط علي االنتركوم" .يا لبيبة،
شوفي ايهاب بيه و المدام يشربوا ايه"
"انا قلتلها تعمللي قهوة ،و نسكافيه لنجالء ،مش كده يا حبيبتي؟"
"بس يا بيبي انا مش باحب النسكافيه متأخر كده ،انت عارف" و ضمت شفتيها في دالل مصطنع ،مثيرة اشمئزاز مراد الذي اضاف
"تمام ،البيت بيتكم ."،و ضغط علي االنتركوم مرة اخري .هاتيلي مية بليمون من فضلك يا لبيبة"
ضحك الزوجان في سخرية" ،و مالك بتكلم الخدامين رسمي قوي كده"
نظر اليهما في جفاء" ،دول .ماسمهمش خدامين ،دول الناس اللي بيساعدوني يعني اقل حاجة اكلمهم .باحترام".
ضحك ايهاب في عصبية" ،علي كيفك،ما انت طبعا ما تقدرش تستغني عنهم " .ثم التفت لزوجته" ،مدام مش حتاخدي النسكافيه ما تلفي
زي ما كنتي عاوزة في الجنينة ،علي ما اخلص كالم مع ميرو".
"ماشي يا بيبي ،انا كنت عاوزاه يفرجني بنفسه ،بس الزم نراعي ظروفه " .
و خرجت تتمايل في مشيتها لتستعرض مفاتن جسدها .،كما اعتادت وال شك.
انتظر ايهاب حتي خرجت من القصر و جلس واضعا ساقه فوق األخري مظهرا العظمة عندما دخلت لبيبة و معها القهوة التي طلبها و
زجاجة صغيرة من ماء الليمون.
"علي قد مااقدر".
"المرة اللي فاتت مشيت و انا زعالن منك .انا معقول باعمل كل ده علشان أورث؟"
"هو فعال حمزة كان بيبرها و بيشوف طلباتها ،و اكيد مش حمنع عنها حاجة ،هي العملية تتكلف كام".
"تمام ،يعني احول علي حسابك ،اديني يومين كده ادبر المبلغ و ابعتهولك "،واطرق لبرهة " بالحق يا ايهاب ،اطمنت علي االيراد؟".
"يعني ،حاول تمشي نفسك كده لحد ما تالقي حد يشتريه ،اكيد فيه حد من الخليج ممكن .يهتم بالمكان ده".
"برضه حنرجع تاني لنفس الموضوع .،انا ماقدرش اتصرف في المزرعة بأي شكل لغاية ما حمزة يظهر .و عارف ان اسمي مراد
رفعت حليم و هو اسمه حمزة توفيق الشيمي ،يعني لو اعلنت وفاته بشكل رسمي انت اللي حتورث ،و انا مش حامنعك عن حقك
الشرعي ،بالعكس .لكن انت مقدر صعوبة موقفي".
"حمزة متورط في قضية تهريب و هجرة غير شرعية .التحقيقات بتقول انه كان بيستخدم اليخت بتاعه ،و ان المزرعة دي عبارة عن
غسيل اموال ،و طبعا دلوقتي بتخسر ألن الفلوس اللي كانت بتجيله ماعادتش .بتدخل في حسابات المزرعة"
"الكالم ده مش ممكن يكون صح ،حمزة مش ممكن .يكون داخل في حاجة حقيرة بالشكل ده"
"انا كمان كان صعب اصدق الكالم ده في ابن عمي ،علشان كده باقولك ،احسن له انك تبدأ في إجراءات اعالن الوفاة ،ألن حتي لو كان
حي ،تبقي انت كده بتحميه و مش بتتستر علي مجرم .،اال اذا كنت عارف مكانه و مخبي طبعا"
"يا ريتني كنت عارف مكانه ."،زفر مراد في حزن" ،البوليس جه بعد الحادثة و فتشوا و مالقيوش اي شيء".
"فعال ،و راعوا حالتك بتوصية مني و ماستجوبوكش زي ما بيعملوا مع المتهمين ...كان ممكن ماتخرجش حي من القسم"
كان هذا تهديدا ضمنيا حسب ما فهم مراد" .كنت احب اقدملك حاجة في مقابل الحماية ،لكن انت فاهم اني ماقدرش .اتصرف في مال
ابن عمك ،حتي لو كان زي ما بتقول من مصادر مشبوهة"
"شفت انت فهمتني غلط ازاي؟ يا ميرو ،انا باقولك من غير لف و دوران .،الظروف اكبر منك كتير ،ولو عملت زي ما باقولك حتنقذ
نفسك و تنقذ اخوك لو كان لسة عايش ،تقدر ترجع بيت والدتك في نيس و هو يحصلك علي هناك"
"انت غريب وهللا يا مراد .ساعة تقول ما ماتش و ساعة تقول لو كان عايش"
"عموما انا متشكر يا ايهاب ،و متأكد انك بتدور علي مصلحتي .بس المزرعة؟"
عندها وصل مراد الي ذروة رباطة الجأش فقد كانت هذه الزيارة في مجملها حربا علي اعصابه .صب لنفسه كوبا من ماء الليمون ،و
كانت يده ترتعش من فرط الحنق علي الزوجين اللذين أتيا لتكدير ما بقي من صفو حياته ،و نجحا في مهمتهما .و أخذ رشفة من الماء
استعاد معها بعض هدوءه.
"اقعدوا اتغدوا معانا بقي .انا صحيح ما باكلش تقريبا علشان وزني مايزيدش من قعدة الكرسي .لكن الكانتين بتاعنا طبعا مفتوح".
أجاب ايهاب في شبه امتعاض" ،معلش اعفينا ،اصل نجالء مابتحبش تقعد وسط العمال و الفالحين".
**
في تلك األثناء كانت نجالء تتجول في الحديقة األمامية .،تستعيد ذكرياتها في هذا المكان ،عندما كانت شبه واثقة من الحصول علي
حمزة .اتجهت الي االسطبل حيث وجدت صبحي منهمكا في عمله في تنظيف االسطبل.
"افندم يا مدام"
"افتحلي الباب عايزة اشوف الحصان اللي جوة" مشيرة الي البوابة البيضاء حيث كان سمارة ،احد الخيول االصيلة وحده ،بمعزل عن
بقية الخيول.
"انت بترد عليا؟ انا حاخلي ايهاب يعرف شغله معاك ،ايهاب بيه اللي لمك من الشارع و جابك هنا يا غبي!"
"تحت امرك يا هانم ".اجاب صبحي مذعنا لصياحها ،و دخلت و علي وجهها ابتسامة ظفر ما ان وقعت عيناها علي سمارة .كان جوادا
اندلسيا ،طويل الشعر اسود كاألبنوس .اقتربت منه و هي تتحسس جسده في انبهار .و ظلت تتحسسه مرارا حتي ابتعد عنها الجواد
معرضا ،لكنها تابعت فعلها الغريب .انتفضت حين سمعت من يصيح اسمها مهددا.
"نجالء!"
التفتت نجالء لتجد مراد علي كرسيه المتحرك عند مدخل االسطبل و يكاد ان يفتك بها لوال اعاقته" .الحاجة الوحيدة اللي فاضله من
ريحته ،بأي حق تحطي ايدك عليه؟ مين اذنك تدخلي هنا؟"
استدارت محاولة ان تظهر الغضب بدورها ،لكن ايهاب تدخل "ماحصلش حاجة يا مراد .،دي كانت بس بتتفرج علي الحصان".
"ماتزعلش يا ميرو "،اقتربت نجالء و هي تضحك "اصل زمان لما كان لسة مهر كان حيبقي بتاعي ،حمزة كان واعدني .بس مرة
واحدة كان مستعد يديه لطوب األرض و ال اخدوش انا .بس انا سكتت و عملت بأصلي علشان خاطر العشرة بس...كان ممكن بمكالمة
تليفون واحدة افضحه في كل حتة ..انت فاهم طبعا الوسط الفني"
"فعال ،الوسط الفني ياما بيلم ،تصوري يا نوجة ان مافيش واحدة طالعة اليومين دول بستخدم اسمها الحقيقي؟ كل واحدة حاطة ماكياج
غالي شوية و حفظت كلمتين انجليزي علي فرنساوي ،و اسمها الحقيقي نحمده فاكرة نفسها بقت هانم و كده ،بس انت طبعا فين و
األشكال دي فين؟"
استعاد مراد ابتسامته الهادئة كأنه لم يكن خارجا لتوه من حرب اعصاب "يا جماعة بجد الزم تتغدوا معايا النهاردة .انا حابعت اجيبلكوا
الغدا لحد عندكوا هنا في التراس ،ايه رأيك يا ايهاب؟"
"ماشي يا ميرو ،حتي الطباخ اللي كان عندكوا كان اكله جامد".
"دلوقتي نفسك تتفتح يا نوجة" قال مراد مبتسما و هو يتجه بكرسيه المتحرك خارج االسطبل.
"يا باشا محدش فيهم مخليني اعتب القصر خالص .هو حضرتك ناوي تخليني هنا لحد امتي؟"
امسك ايهاب بياقة قميص صبحي بعنف" ،اسمع ياله ،استعباط مش عايز ،انت حتفضل هنا لحد ما تجيبلي اللي انا عايزه ،تتسحب و
تجيبه ،تسرقه مايهمنيش .المهم اوراق الملكية تكون عندي و اال تستعوض ربنا في امك و اخوك".
"حاضر يا باشا"
دفعه ايهاب بعنف و ابتعد متجها الي شرفة القصر الكبري .ظل صبحي واقفا في ساحة االسطبل ،يراقب عبر الباب المفتوح ذلك
الشخص الذي امتهن كرامته .اما زوجته ،تلك الحية فكانت هي األخري في قائمة من كان يود التخلص منهم .لقد بدأ الشعور بالشفقة
يتسلل الي قلبه نحو مراد .،فماذا سيكون مصيره اذا نفذ ايهاب ما ينويه باالستيالء علي المزرعة و ما فيها .اتراه يستمر ذلك العالم
المثالي تحت امرة هذين الزوجين ،كان من المؤكد انه سينتهي اذا انتهي مراد.
***
في المساء اجتمع الشباب بقيادة اكرم في صالون القصر .كانوا يحدثون جلبة كعادتهم .،كان الحديث و المزاح بينهم ال ينتهي كمتعة كل
منهم بصحبة اآلخر .خرج اليهم مراد في زيه المعتاد ،الطاقية الصوفية و الشال الصوفي ،و ارتدي قميصا ابيض اللون ،و بنطلون من
الكتان البني.
"ايوة كده يا ميرو ،من زمان ما شفناكش" قال احدهم و كان يدعي حسام.
"ايهاب عمل معاك ايه النهارده؟" .قال اكرم وقد قام من مقعده ليدفع الكرسي المتحرك قرب مجلسهم.
"عمل اسود! هو و الكائن اللي كان معاه حرقوا دمي طول ما كانوا موجودين .بس مش ده موضوعنا .من اآلخر كده بيهددني اني الزم
اعلن وفاة حمزة و اال حيرفع الحماية عننا ...ده معناه تتفتح التحقيقات تاني في القضية و مش بعيد كلنا نتاخد".
"شوفوا يا جماعة .،انا عارف ان انتم عارفين حاجة او حاجات انا مش عارفها .بس خلينا في القضية ،ايهاب بيقول ان حمزة كان
متورط في تهريب مهاجرين غير شرعيين وان المزرعة .عبارة عن عملية غسيل اموال ..الكالم ده ليه اي اساس من الصحة؟"
قال عمر .،احد الشباب و قد عقد حاجبيه في جدية" ،الصراحة يا مراد ايوة ،كان متورط .،لكن مش زي ما ايهاب عاوزك تفتكر".
اضاف حسام " ،هو كان فعال بيستخدم اليخت بتاعه علشان ينقذ الشباب اللي بيركبوا قوارب الهجرة ،و بيغرقوا في البحر و كان
بياخدهم علي المزرعة يديهم شغل .بس جه عند فترة معينة الناس اللي ماسكين موضوع الهجرة اتصلوا بيه و حاولوا يقنعوه يشتغل
معاهم .بقي ياخد المهاجرين ،يقنعهم ما يسافروش و يرجعلهم فلوسهم .كتير منهم كانوا بيرجعوا معاه المزرعة".
اضاف عمر" .،كان عاوز يساعدهم يدخلوا اوروبا بطريقة شرعية ،و كان بيدربهم ،زي ما انت نفسك كنت بتعلمهم فرنساوي و ايطالي
يا مراد .كان عاوز يعمل برنامج تبادل بتمويل من االتحاد األوروبي ،لكن طبعا اختفي قبل ما المشروع يتقدم"
"كان فاكر انه حيقدر يضحك عليهم ،لكن الحقيقة ان العمليات دي ماكانتش بتجيبله فلوس ،هو بس كان عاوز يساعد الشباب دول و
يديهم فرصة حقيقية".
قال اكرم" .،ماتفهمنيش غلط يا ميرو .،لكن لو قدرت تتصرف في المزرعة قبل اعالن الوفاة اتصرف و سافر .ماتفتكرش ان مشكلتك مع
ايهاب .الموضوع اكبر من ايهاب بكتير .حرب األعصاب اللي شنها عليك النهاردة مش من دماغه ،اكيد فيه حد بيحركه.".
سكت مراد في حيرة" ،بس انتم حيكون ايه مصيركم لو المزرعة اتباعت؟"
اقترب اكرم من مراد ،و قد انحني قليال لينظر بامعان في عينيه" ،مشكلتنا و نحلها بنفسنا .ماتشيلش همنا احنا ،المهم اننا ما نضيعش
الوقت"
"يبقي تجيبلي عوني هنا في اقرب فرصة ،كل االحتماالت القانونية الزم تبقي واضحة زي الشمس...و .كمان نشوف سير قضية الهجرة
الغير شرعية" .
كان صبحي قد اعتاد العمل في االسطبل ،فلم يعد بحاجة لتظاهر باالنشغال بالعمل .ثمة دافع خفي بداخله جعله يرغب في اكتساب ثقة
رهوان دونا عن غيره .ففرحات ،الفالح الداهية ،لم يكن ليوليه الثقة بسهولة و ربما لم يكن ليوليه الثقة ابدا .أما المالك/الشيطان مراد،
فثقته ابعد مناال من ان يكتسبها ،لكنه قد بدأ يحصل علي المعلومات .ففي الليلة السابقة ،تمكن من ان يسترق السمع الي الشباب و هم
يتحدثون الي مراد عند خروجهم .لم يستمع الي الكثير ،غير ذلك المدعو عمر هو يقول لمراد "اوع تصدق اي حاجة وحشة في اخوك.
حمزة مافيش بني آدم زيه .انت عارف ان ايهاب طول عمره بيحقد عليه مع انهم والد عم".
اوالد عم؟ لم يغب عن صبحي ما كان يكنه ايهاب من حقد لذلك الرجل الغامض حمزة .تذكر ايضا اسم "عوني" و تساءل ما إذا كان
ايهاب سيهتم لتلك التفاصيل.
خرج من االسطبل .ليجد فرحات يقلم شجيرات الورد بجانب جدار القصر" ،االسطبالت كلها اتنضفت يا ريس".،
وصلت في نفس اللحظة سيارة كان يقودها اكرم و نزل منها رجل قصير القامة يرتدي بدلة زرقاء اللون و معه حقيبة سوداء ،و اتجه
االثنان الي باب القصر األمامي.
رحل في حنق،حتي دخل الي ساحة اإلسطبل و هو يخرج هاتفه المحمول من جيبه و بدأ في االتصال" .ايوة يا باشا .النهاردة اللي اسمه
اكرم جابله واحد معاه شنطة سوده زي ما يكون محامي . .و امبارح كانو بيتكلموا عن واحد اسمه عوني".
"يا باشا انا جيت اسأل مين ده الريس فرحات قاللي مش شغلك .شكلهم كده يا باشا فاهمين الليلة عشان كده علي طول مخونينني".
"لو كنت بتشغل مخك كنت عرفت تتصرف معاهم يا بجم .لو حصل حاجة تاني ابقي كلمني ".و اغلق ايهاب الخط.
استدار صبحي نحو حظيرة رهوان" .،ماتبصليش كده ،اديك شفت كان بيهددني ازاي .يعني عاوزني اعمل ايه؟ مراد صعبان عليها بس
امي واخويا لو جرالهم حاجة حينفعني بإيه؟" .ثم استطرد" .،يصعب عليا قال ،ده هو اللي مخلي فرحات يستقصدني ،و عامل فيها برنس
و ابن اكابر .هما الناس والد الكلب دول اللي واخدين كل حاجة في كرشهم و احنا اللي نتاخد في الرجلين".
لم يبد و كأن الجواد قد اعاره اهتماما ،فلم يكن صبحي متيقنا ان ذلك كان حقا شعوره ،فقد كان الحقد و الغضب اللذان الزماه و أمليا كل
اختياراته يهجرانه شيئا فشيئا اال عندما يسمع اسم حمزة او يتذكر في مخيلته صورة الرجل فوق البيانو .لم تكن اول مرة يراه ،فقد كان
مطربا معروفا ،و احد نجوم المجتمع ،اال ان صبحي لم يكن يستمع ألغانيه التي لم تتفق و ذوقه .لكن من كان يصدق انه ابن عم المقدم
ايهاب؟ كان يدرك ان ايهاب لم يكن يسعي لتحقيق العدالة بإدانة مجرم هارب فحسب ،كان والبد أن يكون هناك ثأر شخصي.
**
"يا مراد بيه الموضوع اعقد من كده بكتير.ممكن يتعمل استثناء ،لكن حمزة بيه متهم في قضية يعني الزم دليل مادي علشان المحكمة.
تقتنع".
اعتدل مراد في جلسته مستخدما كال ذراعيه و اطرق قليال ،محاوال استرجاع كل التفاصيل المؤلمة لتلك الليلة.
"كنا عاملين حفلة هنا ،و حمزة كان مضطرب شوية زي اللي فيه حاجة قالقاه .كان اليوم كله عصبي و مش طايق حد يكلمه ،لكن قبل
الحفلة طلبني في المكتب و قاللي ان خالص ،حيصفي المزرعة .و نرجع اوروبا و الزم اسافر اسبقه .و في وسط الحفلة كانت عينه علي
طول علي الساعة ،و شفته خارج و معاه ظرف .سبقته علي العربية و فضلت قاعد ورا من غير ما يحس بيا ".زفر في تألم ثم استطرد.،
"و فعال ماشافنيش و زي ما توقعت اخد العربية لحد مرسي مهجور .كان فيه حد مستنيه ،لكن متحققتش من وشه ألنه كان معاه كشاف،
و تقريبا كان فيه اتنين تانيين معاه".
"تشرب شوية مية؟" قال عوني ،مادا يده بكوب من الماء لمراد.
"شكرا يا متر ".امسك الكوب بأصابع مرتعشة و اخذ رشفتين ثم استطرد" ،الراجل اللي كان بيكلمه قاله كالم كتير ماسمعتوش .،لكن
سمعته بيقول دخول الحمام مش زي خروجه .ساعتها حمزة اداله الظرف ،و الراجل ضحك ،زي مايكون مش عاجبه اللي كان في
الظرف ،غالبا فلوس .لكن حمزة قاله انه مالوش عنده غير المبلغ ده و كده يبقوا خالصين".
ثم سكت مراد محاولة استعادة المزيد من التفاصيل.
" الراجل اللي كان بيكلم حمزة خال االتنين اللي معاه يفتشوا العربية ،و طبعا لقيوني في الكرسي الوراني .حمزة لما شافني طبعا كان
حيتجنن و قاللي ايه اللي جابك .قلتله ماكنتش اقدر اسيبك وسطهم .قام الراجل قاله و ده يبقي مين األمور؟ فقاله حمزة مالكش دعوة بيه"
اغلق مراد عينيه بقوة و هو يحاول استعادة التفاصيل التي تلت ذلك ،لكنه لم يفلح " ،انا مش فاكر اللي حصل ،بس هم كانوا بيهددوه و
حصلت خناقة ،حمزة قدر عليهم ،لكن الراجل الكبير ضربني بشومة علي ضهري و آخر حاجة فاكرها صرخة حمزة" بعد كدة فقت في
المستشفي .و لما رجعت كان اليخت اختفي من المرسي و حمزة مالوش أثر ".أجهش مراد بالبكاء و انهمرت دموعه .فلم يسع عوني
الي ان يربت علي كتفه محاوال تهدئته.
"أنا آسف يا مراد بيه اني بافكرك بكل ده .فيه أمل ان حمزة بيه ياخد حكم مخفف ألنه كان تحت التهديد .هل ده الكالم اللي قلته في
التحقيق؟"
"بيتهيألي"
"الكالم اللي حضرتك قلته في التحقيق هو ان حضرتك كنت في العربية مع حمزة بيه و ناس بلطجية وقفوكم في الطريق الصحراوي"،
"ايوة ألن الناس دول اكيد حينتقموا لو جبت سيرتهم ،و طبعا انا حاسس بالذنب ألن مصير حمزة كان بسببي أنا".
ابتسم عوني" ،علي العكس ،وجودك ماكانش متوقع و سمح لحمزة بيه انه يحول الموقف لصالحه و يهرب و يوديك المستشفى في
الوقت المناسب .لكن في نفس الوقت ،اختفاء حمزة بيه طول المدة دي مش ممكن يقنع المحكمة بإعالن وفاته".
"انا مش عايز اعلن وفاته".
"القضية اتحفظت مؤقتا ،و ده طبعا مفهوم ألن استمرار التحقيق معناه المجرم الحقيقي هو اللي حيتحاسب ،و ده مش من مصلحة ناس
كتير في اماكن خطيرة .حمزة بيه كان عارفهم .،و لما مرضيش انه يتورط معاهم .فتحوا عليه ابواب جهنم و حاولوا يكسروا عينه باللي
عملوه فيك".
"لألسف مش حيفيدنا قوي ألن في أي لحظة ممكن .يطلع قرار بالتحفظ علي أموال حمزة بيه ،لكن علي حسب علمي ،حمزة بيه كتب
المزرعة .بإسمك ،يعني من حقك تتصرف فيها".
"دول ماسبوش قشة اال و فتشوها في اوضته و مكتبه .ماكانش فيه أثر ألي مستندات".
"علمي علمك يا مراد بيه .ممكن نحاول نعمل مستخرج من السجل المدني ،لكن ده طبعا هياخد وقت".
"علشان كده بتقول الوقت مش في صالحنا .طيب نتوكل علي هللا و نطلع المستخرج"
" يبقي الزم حضرتك تروح القاهرة بنفسك .انا حاعمل الالزم علشان الموضوع يخلص في اسرع وقت و تيجي القاهرة علشان تمضي
و بس ،اديني اسبوع كده".
"العفو ،ده حضرتك قدمتلي خدمة كبيرة ،علي األقل حارتاح من بلطجة ايهاب"
"طبعا المقدم ايهاب مش حيبقي عنده حجة قانونية ضدك في حالة لو طلعنا المستخرج او ظهرت األوراق .هو واحد من الناس اللي
حمزة بيه كان حذر جدا منهم .لكن احنا بنتكلم علي المزرعة فقط ،اي امالك تانية زي المصانع و العقارات ،في حالة اعالن الوفاة
حتكون من نصيبه .و غالبا هو كان مستفيد من حفظ القضية ألن بمرور الفترة المحددة ممكن .يعلن الوفاة".
وقف عوني مستعدا للرحيل " ،بس خللي بالك يا مراد بيه ،تفاصيل المحادثة اللي بيننا مش الزم يعرف عنها حاجة لغاية المستخرج ما
يظهر".
مر اسبوع بعد ذلك اللقاء دون معلومات من عوني المحامي و في عصر ذلك اليوم ،جلس مراد بجوار البيانو ،و هو يتأمل صورة اخيه
الغير شقيق في عتاب ،تعلو وجهه ابتسامة ألم امتزج بالحنين الي ذلك الشخص الذي كان يمثل كل ما لديه من أسرة .اقتربت منه دادة
حليمة امرأة ممتلئة قاربت الستين ،ارتدت منديال علي رأسها و جلبابا ازرقا و قد شمرت عن ساعديها" .اهو الليموناته الماسخه اللي
انت بتطلبها علي طول ،انا عارفة بتحب فيها ايه"
"انا عارفة بقي .بس انا زعالنة منك يا مراد علشان مابتاكلش يا حبيبي ...الزم تتغذي"
"اهو انت كده ،شاغل دماغك بميت حاجة لحد ما حتدبل من كتر التفكير".
"انا عارفة انه واحشك ،بس لو كان الفكر يرجعه كنا كلنا خاصمنا األكل و الشرب الجل ما يرجع"
"سابلي حمل تقيل قوي يا داده .و اللي تاعبني اكتر اني ماعدتش عارف أثق في مين .ايهاب عمال يهددني علشان اعلن وفاة حمزة ،و
فيه حد هنا في المزرعة .بيسربله كل اخبارنا...ده غير بالوي تانية"
كانت ثقة دادة حليمة فيما تقول تثير الشك اكثر من الدهشة" ،ايش عرفك يا دادة ،انت مخبية عليا ايه؟"
"السر ده مش أمانة في رقبتي أنا فمش حاقدر اقولك عليه ،لكن اللي حيدلك علي الحقيقة شريفة هانم عمة حمزة"
"يعني مش حتقوليلي؟"
و في نفس اللحظة استأذن فرحات في الدخول عبر االنتركوم ففتحت له لبيبة الباب و دخل الي حيث كان مراد و دادة حليمة
"ياخويا قطيعة"
"الرأي رأيك".
ابتسم فرحات مداعبا" ،هو انا فيه حاجة تعدل دماغي غير قهوتك يا ام عماد".
"يا عصافير الكناريا ،مش وقته ،التليفون! و هاتيلي الدفتر معاه علشان مش حافظ النمرة"
"ال يا عم فرحات ،ساعة كده و هاتلي صبحي علي التراس اشوف حكايته"
"ماشي ،باإلذن"
"اتفضل"
و هم بالخروج من الباب ،فلحقه مراد" ،قصدي اتفضل علي المطبخ ،القهوة" و غمز له مداعبا.
و ما ان جائته لبيبة بالتليفون و الدفتر ،طلب منها ان تطلب الرقم " جرس يا مراد بيه اتفضل "،و اعطته السماعة"
"الو"،
"ما تحملش هم يا مراد .قلبي بيقوللي ان حمزة راجع ،و ان اللي حايشه عننا الشديد القوي"
كاد مراد ان يبكي ،لكنه بذل جهدا جبارا ليتحكم في نفسه" .ان شاء هللا يرجع .انا مبسوط اني سمعت صوت حضرتك.حضرتك لسة في
بيت حدايق القبة؟"
لم يفهم مراد لماذا ينصب عليه ايهاب في مبلغ تافه كمائة الف جنيه ،او لعلها فعال كانت محتاجة للمبلغ و لم تشأ أن تذكر ذلك مراعاة
لظروفه.
إتجه بكرسيه المتحرك نحو المطبخ حيث كان فرحات ينتظر القهوة التي تعدها داده حليمة علي 'السبرتايه '
"هوانت لسة ماشربتش القهوة ،ده انا قلت حالقي داده بتقرالك الفنجان دلوقتي"
طيب ،عايزك تجهزلي شحنة خضار درجه اولي و شوية فراخ و حمام ،يسافروا علي بيت شريفة هانم بكرة الصبح .و انتي يا دادة
حضريلي الشنطة و جهزي نفسك علشان مسافرين ،و كلمي عم انيس في مصر خليه يوضب بيت جاردن سيتي و قوليله حنوصل بكرة
الصبح".
"امرك" قال فرحات مستنكرا ،و اخرج التليفون المحمول من جيبه" ،ايوة ياصبحي .البيه عاوزك تيجي ،تعال علي باب المطبخ
الوراني"
و بعد خمسة دقائق اتي صبحي و كان يلهث"،ايه ده ،انت جاي تجري"
"مش كنت عايز تنزل مصر؟ اديك نازل معانا ،و حترجع معانا كمان .،جهز نفسك علشان حنمشي في ظرف ساعة"قال .مراد
"مراد ده يوم عن يوم بيثبتلي انه مافيش اطيب منه .انا نازل مصر معاه بس راجع تاني .خد مني حتة السكر دي" و بحث عن قالب
السكر في جيبه ،ثم مد يده به الي الحصان ،الذي اقترب في تؤدة و تشمم قالب السكر قبل ان يلتقمه.
"كنت عارف انك مش حتكسفني .و انا و هللا باحبك يا رهوان!".
مع صوت بوق السيارة أسرع صبحي الي حيث جانت تقف سيارة معدة خصيصا للرحالت الطويلة حيث وجد عمر الذي كان يطوي
الكرسي المتحرك ليضعه فرحات في صندوق السيارة الخلفي ووجد مراد جالسا في المقعد الخلفي .فتح نافذة السيارة" ،انت اتأخرت ليه،
كنا حنمشي و نسيبك"
"انا صحيح مكسح بس مش مستغني عن عمري .،واال فكرك مش عارف سواقة بتوع الميكروباس"
"يا باشا خليك قلبك ابيض و سامحني علي الكلمة دي .و بعدين ده انا سواق بريمو ،ده انا باكل االسفلت اكل"
"طب اركب و بالش غلبة" قالت له داده حليمة قبل ان تركب بجوار مراد.
**
عند الوصول الي ميدان لبنان فجر اليوم التالي،بدت المدينة المزدحمة خالية من مظاهر الحياة ،اللهم اال القليل من المارة و من اعتاد
صالة الفجر في المسجد .كان دخان السحابة السوداء يمأل األفق.
"يا واد قوم قامت قيامتك" قالت دادة حليمة في صبر نافد.
استيقظ صبحي من غفوته ليجد نفسه في السيارة ،بجوار السائق الذي لم يكن اال داده حليمة التي تناوبت القيادة مع عمر" .ايوه يا حاجة"
نظر محدقا الي السيارة الفاخرة التي تركها لتوه ،و اتجه الي اقرب عربة فول ليتناول االفطار .كان يقضم في لذة ،فلشد ما افتقد الطعام
الذي اعتاد عليه .و استقل سيارة ميكروباس كان يقودها احد معارفه .نحو العالم الذي اعتاده .اعترته سعادة غامرة ،بدت و كأنه يشعر
بها ألول مرة.لم يظن انه سيفتقد شوارع الجيزة المزدحمة او احياءها المتخمة بالسكان .كان يري نفسه منتصرا علي الفقر و في حوزته
راتب اتي من عمل شريف
**
كانت الساعة الحادية عشر صباحا عندما اعلن جرس الباب عن وجود زائر في بيت شريفة الشيمي الكائن بحي حدايق القبة" .مين يا ام
كريمة؟" .قالت شريفة و قد بدا صوتها بعيدا.
"ده واحد بيقول انه أخو حمزة بيه اللي بعت الحاجة النهاردة الصبح"
و دخل مراد ،علي كرسيه المتحرك بصحبة داده حليمة .،ليجد شريفة الشيمي جالسة في الصالون ،كانت ترتدي طرحة الصالة و امامها
مصحف ،و صوت المذياع ينساب بقراءة الشيخ الحصري .تهللت أساريرها لرؤية الزائر غير المتوقع" .مراد! حمد هللا عالسالمة يا
حبيبي ،ليه تتعب نفسك و تيجي لحد هنا يابني .الف سالمة عليك".
"انا كويسة يسلم سؤالك يا ست هانم .انا حاروح اقعد ويا ام كريمة في المطبخ و اسيبكوا علي راحتكم" .
و ما ان انصرفت المرأتان ،تغيرت مالمح شريفة" ،تتصور يا مراد .،ان ابن اخويا بقاله زيادة علي الخمس شهور ما سألش عليا و ال
بتليفون ،و ال حتي يعيد عليا".
التفتت نحوه و هي تنتظره ان يفصح عن سبب مجيئه" ،حمزة زي ما حضرتك عارفة مختفي من سنتين ،و ماجاش منه خبر لي أو لحد
من معارفه .و ماخبيش علي حضرتك حالتي ماتسمحليش أدير المزرعة .زي ما كان هو بيديرها".
"فيه ناس فعال شارت عليا بكده ،لكن الدنيا اتعقدت قوي باختفاء حمزة و الحادثة".
"انت عارف اني آخر مرة شفت ايهاب كان بيكلمني في الموضوع ده؟"
"كان عايز يعرف اخويا توفيق هللا يرحمه ساب كام لحمزة .بس انا ماديتوش عقاد نافع".
"انا جايلك يا تانت ألن حياتي و حياة كل اللي في المزرعة .مهددة .،لو أعلنوا وفاة حمزة .ايهاب ممكن .يرمينا كلنا في الشارع".
"ازاي يا تانت؟"
"السر ده انا وعدت اخويا انه يتدفن معايا ،لكن حاقولهولك .حمزة مش ابن توفيق اخويا .لكن توفيق فاتله كل ثروته بعقد تنازل في
حياته ،وهو لسة عمره 12سنة".
"ألنه كان بيحب اقبال هانم والدتك و ماكانش عاوزها .تبقي تحت رحمة عبد الحميد اخويا و مراته .هي دي اللي تلفت امل ايهاب و
طلعته حاقد علي الناس كلها و فهمته ان عمه اكل حق ابوه .الحقيقة ان ابوه ضيع ميراثه علي طلبات مراته اللي مابتخلصش".
"إقبال هللا يرحمها قالتلي ان ابوه اجنبي ،اتجوزها جواز مدني .و جم اهلها طلقوها منه و اهله كمان ماكانوش راضيين عن الجوازة.
لكن زي مابقولك ،اخويا كان بيحبها و بيحب حمزه و رباه زي ابنه".
"علمي علمك يابني ،الموضوع ده فضل سر علشان ماحدش من الطرفين كان راضي عن الجوازة" .
"ماكنتش اعرف ان ماما سبق لها الجواز .بس معني كده انها اتجوزت بابا علي طول بعد وفاة توفيق بيه".
"انا كنت احب اقبال هللا يرحمها .،مع اني زعلت منها لما اتجوزت من بعد توفيق".
"اكيد لو كان فيه مستند يبقي مع حمزة او في خزانة اقبال ذات نفسها".
"العفو يا حبيبي ،و اي حاجة عايزها اطلبها ،و سيبك من اللي بيحاولو يلوثوا سمعة حمزة ،شوف ربنا بيقول ايه" و امسكت شريفة
بالمصحف و قرأت" ،واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و ال تعد عينيك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا،
و ال تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان امره فرطا" .
"اؤمر يا مراد"
"علشان خاطري ما تزعليش من ايهاب ،و كلميه حضرتك .اكيد ـحيفرح قوي لما يسمع صوتك ،و سلميلي عليه كتير".
"تنورني يا حبيبي .ربنا يشفي عنك و تقوم تمشي علي رجليك زي األول وأحسن"
"سيبيني شوية يمه" اجاب صبحي علي والدته و هو ال يكاد يفتح عينيه.
انتفض صبحي من فراشه عندما ادرك من الذي يلح في طلبه .اسرع نحو هاتفه في غرفة الجلوس حيث وضعت له امه الشاي علي
منضدة صغيرة امام كنبة بلدية .كانت امه قصيرة القامة ،و قد حفر الشقاء علي وجهها عالمات تفضح عمرا يفوق عمرها الحقيقي.
ارتدت منديال اخفي شعراتها البيضاء اال بضعة شعرات كانت مصبوغة بالحناء.
التقط الهاتف و نظر الي المكالمات" ،ماصحيتينيش ليه يمه و انتي عارفاني نومي تقيل؟"
"ماهو..ماهو اصل يا باشا ،انا سافرت معاهم في العربية اول ماقاللي ،و ماقدرتش ابلغك ،ووصلنا قبل الفجر ما صدقت روحت نمت".
"مانا قلت اهي فرصة علشان اكتسب ثقته و يخر بكلمتين اوصلهم لسعادتك .بس حضرتك عرفت ازاي انه في مصر؟"
"مش شغلك ،المهم ترجع معاه .اي معلومة تطلع منه لها الزمة .خلي بالك انه حويط و ممكن .يوقعك انت بالكالم".
"انت اللي غلبان .غور يالال و تاني مرة تبلغني بكل حركاته من قبلها يا بجم".
اغلق الخط و زفر صبحي في ضيق و هو يعود الي حجرة الجلوس .جلس علي الكنبة رافعا قدمه عليها ثم التقط كوب الشاي و اخذ
رشفة منه.
"يعني يابني ماكانش فيه غير الشغل المتعب ده في آخر الدنيا؟ ماكنت تكمل الدبلون و تشتغل ويا اخوك في الورشة".
انزل قدمه من علي الكنبة" ،حنعيده تاني يمه؟ هو فين الوال حماده؟"
"تالقيه لسة في الورشة .النبي يبني تكلمه كلمتين احسن اليومين دول طالع في دماغه .يسافر علي ايطاليا ،و انا مش حمل والدي يبعدوا
عني و انا خالص ،ماعدش فيا".
السفر الي ايطاليا كان حلم يراود اخاه منذ زمن .،لكنه لم يلتفت له .كان له من األصدقاء ابناء منطقته و رفاق طفولته من استدان ليسافر
فلم يعد .لكن نجاح البعض في السفر و العودة محملين بالخيرات كان كافيا إلعطاء المزيد من الشباب الرغبة في السفر حيث المال
الوفير و الصبايا الجميالت .لكن صبحي لم يشاركهم .ذلك الحلم بنفس الحماس ،كان شابا بال طموح .،يعيش اليوم بيومه ،يتعاطي
المكيفات و الخمور في المساء و يفعل ما بوسعه ليحصل علي المال الذي ينفقه علي شهواته .لكن ليس ذلك المبلغ ،فإلي جانب الخمسة
آالف جنيه التي سيربحها حال نجاحه في مهمته ،سيوفر مرتبه ليتمكن من شراء سيارة بالتقسيط و يسجلها في اوبر او كريم كما فعل
البعض و يتكسب منها.
"خدي يمة الفلوس دي خليها معاكي"
خارج عيادة طبيب األعصاب ،كان عمر يعين مراد علي ركوب السيارة
"تعبتك معايا يا عمر.".
"هللا يسلمهم".
"قاللي ان الكسور كلها التأمت و ان األشعة بتبين اني ممكن امشي ،غير اني لسة مش حاسس برجلي و ده اللي قلقه شوية"
"مابيتهيأليش يا عمر .غالبا الدكتور ده كان يبكذب علشان يديني شوية أمل"
نظر له في شفقة" ،يا بني ماتعملش في نفسك كده .انت بتدي األمل لكل الناس و حظك احسن من غيرك بكتير .فيه ناس مش بتعيش بعد
االصابة دي ،و في ناس مابتقدرش تحرك ايديها و ال تتكلم .ربنا كبير".
كان عمر شابا رياضيا ،شعره بني داكن .،ابيض البشرة ذو شارب و لحية صغيرة و بديهة حاضرة .لم يكن طويل القامة كبقية الشباب
في المزرعة .لكنه كان عريض الكتفين ،لكونه بطل في لعبة البولو المائي .لم يكن من المستغرب ان يكون هو المسؤول عن المزرعة.
السمكية ،و قد تطورت وظيفته الي تدريب الدالفين ،لكي تبتعد عن مزرعته السمكية.
كان جهاز الدي في دي يدير اسطوانة لبعض األغاني الغربية و جعل يدندن معها حين وقف في اإلشارة.
"ايهاب طلب مني احول ميت الف جنيه لحسابه علشان يعمل لها عملية في عينيها"
سكت عمر قليال ثم قال فجأة ،مشيرا الي ناحية اليمين بإصبعه" ،شفت العصفورة؟"
"فين؟"
ضحك عمر" ،قصدي ان هو ده اللي بيحاول ايهاب يعمله معاك .كان عارف انك حتتصل بعمة ايهاب علي األقل".
"اول احتمال انه يشوف ألي مدي بتثق فيه علشان يعرف الخطوة الجاية حتكون ايه وامتي ،تاني احتمال ،انه كان فعال متوقع انك تدب
المشوار لحد القاهرة علشان تقابل الست فيخلي حد يدور في القصر و انت مش موجود".
"مين اللي قاللك انهم فتشوا؟ ده كان ايهاب و احنا مارضيناش ندخله من غير اذن نيابة .و لما جابه كنا احنا اللي فتشنا و مالقيناش اي
حاجة ممكن تدين حمزة او تديننا".
"صبحي بيحاول .لكن ماظنش ان ايهاب متكل عليه قوي ،دور صبحي و اللي قبله انه يلهينا عن الشخص اللي بيسرب المعلومات و
بيسحب من فلوس المزرعة.".
"ماشي "،فتح عمر نافذة السيارة" ،يا نجم ،تعال ،اتنين ترمس و حياتك ،تشكر"
اخذ قرطاسي الترمس و أعطي واحدا لمراد.
"عجز الميزانية اكبر بكتير من 10مليون زي ما مجدي قاللك ،احنا راجعنا الحسابات بعد ما سبناك لقينا في مصاريف وهمية تحت بند
اعمال صيانة في المزرعة".
"وهمية ازاي؟"
"تمام".
"المشكلة ان حنفية الفلوس اللي بتخر دي ،معناها ان كل قسم الحسابات داخلين في اللعبة ".
"ما هي نكتة فعال ،ألن قسم الحسابات طلعوا اخبث كتير من ايهاب...العجز اللي هما حاطينه في الكشوفات حركة تمويه عملوها علشان
لو ايهاب حاول يطالب بفلوس يوروله الخسارة".
"ايه تاني؟"
"فيه فلوس بتتحول علي حساب بالبيتكوين ،اكتشفنا ان الحساب ده نشط و بيتسحب منه بانتظام.".،
"يعني اللي بيسرب اليهاب او لغيره ،بيسربله عن طريق البيتكوين".
"الحساب باسم واحدة اسمها ماري هيلين جريمالدي .و الحساب مقره في نيس فرنسا .مش ممكن .يكون حد من المحاسبين فاتحه لنفسه،
ألن سامر اللي ماسك الشبكات عندنا تخصصه بلوكتشين و فضل ورا الموضوع"
"عمر انت اجمل واحد في الدنيا!!!" ضحك مراد واغرورقت عينيه بالدموع و احتضن عمر.
"حمزة طول عمره غاوي مقالب و يحب الغموض .مش فاكر جابني ازاي علي مصر؟"
"إال فاكر ،ده قعد سنين يدور عليك بعد مانت سبت المدرسة الداخلية ،و لما بقيت مشهور .،جالك علي سردينيا ،و عمل نفسه بيسرق
شنطتك ،و قام خاطفك علي اليخت و بعد كده قدملك نفسه".
"فعال ،كان عامل نفسه حرامي و خالني اجري وراه ،و ساعة لما شالني كنت نازل فيه ضرب علشان يسيبني"
"هو أكرم كان شاكك في مجدى ،انا مش عايز اتهم حد .بس برضه مش عايزك تثق في حد بزيادة قوي .ممكن .تلعب لعبة".
"اللي هي ايه؟"
"قبل اي خطوة تاخدها اتأكد ان كل واحد من الناس اللي حواليك عنده معلومة .مختلفة .بالطريقة دي حتعرف من تصرفات ايهاب مين
اللي بيسرب له .اقعد فنن فيها مع نفسك ،لكن لو خططت علي الورق الزم تحرقه على طول علشان ماحدش يعرف انت بتفكر ازاي".
"ماشي"
"خللي بالك ان ايهاب ممكن يكون عارف بموضوع الحساب المجهول ده"،
"ايوة"
***
في اليوم التالي ،انتظر عمر و مراد خارج مكتب الشهر العقاري لحين وصول عوني ،لكن مضت الساعات و لم يظهر الرجل حسب
الميعاد .ذهب عمر الي السيارة ليأتي بدادة حليمة كي تقف بجوار مراد حتى يستعلم عن اإلجراء الالزم .وقف في الزحام ينتظر دوره.
و لما ذهب الي الموظفة .،التي كانت سيدة في منتصف العمر ،قد أتت رتابة الحياة والروتين علي ما تبقي من أحالمها .،ظهر ذلك جليا
في نفاد صبرها و عجزها عن االبتسام تأدبا.
"يعني ماينفعش تطلعه من عندنا او من اي هيئة حكومية .لو األصل مش موجود او الشخص اللي قدم الطلب مش موجود مانقدرش
نعملك حاجة"
غادر عمر المكتب في حيرة ،و في طريقه للخروج ابتسم له الساعي حامال صينية بها اقداح قهوة فارغة" .،يا باشمهندز ،انت شكلك ابن
ناس وماعرفتش الحاجة قصدها ايه"،
"خير؟"
اخرج من جيبه ورقة بعشرين جنيها ووضعها في جيب الساعي"،المستخرج اللي انت طالبه ايهاب بيه الشيمي ذات نفسه هو اللي مأشر
عليه .يعني من اآلخر كده الزم تكلمه هو شخصيا علشان الموضوع يمشي".
"صباح الفل!" قال عمر و هو يخرج من المبني .و اتجه الي حيث كان ينتظره مراد .و ما ان وصال للسيارة حمله ووضعه في الكرسي
األمامي" .ايه يا عمر .عملت ايه؟"
و اخرج مراد الهاتف المحمول من جيب سترته و طلب الرقم .رن الجرس خمس مرات ثم رد صوت نسائي يشوبه بكاء "الو..مين
معايا"
"انا آسف اني باطلب في وقت مش مناسب ،كنت بادور علي االستاذ عوني المحامي".
اجاب صوت اخر بدا لفتاة كانت اكثر تماسكا من السيدة "ايوة يا فندم مين حضرتك"
"انا مراد إلهامي و كان عندي ميعاد مع االستاذ عوني عند مكتب الشهر العقاري"
"بابا اتقبض عليه بعد ما فتشوا الشقة علشان كده ماقدرش .ييجي لحضرتك"
نظر مراد الي عمر في احباط" ،ايهاب سبقنا و قبض علي عوني ...يستحيل بعد كده يشتغل معانا"
"ده غير انه وقف المستخرج ،يعني األمل الوحيد انك تالقي األصل".
األمل ،يا له من لفظ براق ،يخدع ببريقه السذج الذين يرغبون في تجنب الصعوبات ليجدوا انفسهم غارقين فيها .كان علي مراد أن
يختار من اآلن فصاعدا أن يسلك الطريق الصعب لينقذ نفسه و يعرقل خطط ايهاب .كان يدرك تماما ان ال قوة له ليوقف ايهاب ،فلم يعد
يعرف بمن يثق و من يصدق.
"مش فاهمك"
"حتفهم بعدين".
و بعد ان اتصلت دادة حليمة بفرحات في الهاتف ،عرفت عنوانه من صورة البطاقة التي كانت في حوزة زوجها و اتجه عمر بالسيارة
الي الطالبية .كان مراد يشاهد الشوارع و األشخاص كأنه يشاهدهم .ألول مرة .لم يكن سعيدا بما يراه ،كان الزحام يثير توتره ،و يشعره
التلوث بالمرض .كان يتمنى لو فعل شيئا لهؤالء الناس .بعد ساعة من الزحام وقت الذروة وصلوا الي الحارة التي يسكنها صبحي.
و اتصلت به داده حليمة" ايو يا صبحي يابني ،انزل احنا تحت بيتك ،حنرجع دلوقتي".
نزل صبحي بعد عشر دقائق و هو اليزال يرتدي البلوفر .،و تبعته والدته بحقيبة سفر صغيرة.
اقتربت األم وعلي وجهها ابتسامة" ،بسم هللا ما شاء هللا ،نورت المنطقة يا باشا ولو ان يعني مش قد المقام".
كان يجلس وحده في غرفة نومه ،حيث كان جالسا علي كرسيه المتحرك ،فلم تتوقف دادة حليمة او لبيبة عن العناية به .لكنه كان مصرا
علي اال يشعل الضوء و ان تبقي الستائر مسدلة في غرفته .،فكان ضوء النهار الرمادي يزيده اكتئابا .سمع طرقا خفيفة علي الباب.
"ادخلي يا لبيبة"
دخل عمر .،مزيحا لبيبة من طريقه" ،الكالم ده تقوله ألي حد غير عمر...تعال معايا".
"انا سبتك تالت اسابيع .اديك استريحت من الكركبة اللي حصلت .تعالي بينا عالمكتب"
انصرفت لبيبة ،تاركة الشابين في الغرفة .و خيم صمت ثقيل فلم يكن لمراد رغبة في الحديث.
"انا سبتك علي راحتك ألني كنت عارف اللي بتمر بيه".
"انا تعبت يا عمر .الموضوع فعال طلع اكبر مني و انا معدتش قادر اقاوم اكتر من كده".
"انت كنت ناوي تعمل حاجة بالواد صبحي .بعد كده حصلت حاجة خلتك مش طايق حد".
"ايهاب فهمني ان اللي بيسربوله األخبار مش واحد وال اتنين ،و ان عجبني او ماعجبنيش المزرعة حتبقي من نصيبه و ان فيه ناس
كبار قوي بيدعموه.".
"مخيف...بس انا جاي اقولك ماتخافش .مش عمة حمزة قالتلك انه مايورثش؟"
"يا عمر الموضوع ده حتي لو أثبتنا مش حيغير حاجة ألني مش ناوي ابيع".
اطرق عمر و هو مطأطئ الرأس في تفكير عميق" .انا فهمت دلوقتي انت متأزم ليه".
"فهمت ايه؟"
"ألن اللي بيقولك بيع ،عايزك تسلم كل حاجة للناس اللي ورا ايهاب ،اللي مش بعيد يكونوا هما نفسهم اللي ورا مافيا الهجرة الغير
شرعية ،و فيه اللي بيقولك بيع علشان تشتري دماغك و تبعد عن القلق ده كله .فانت مش عارف تصدق مين".
عادت لبيبة بكوب من السحلب الساخن علي صينية صغيرة و قدمتها لعمر الذي استقبل مشروبه بابتسامة عريضة.
"تاخد شوية؟"
"شوف يا ميرو .لما تقدر تنعزل في برج عاجي و تحس بشوية أمان فده شيء لطيف ،لكن مش ممكن .يستمر ،ألن الناس اللي تضمن لك
األمان ده عاوزة تحس باألمان في المقابل"
"مش بس كده ،المزرعة بتحقق مكاسب كبيرة و مرتباتنا مكفيانا و بنحوش منها...حسيت بعد ما رجعنا من القاهرة ان المعنويات عليت
لما الناس لقيتك بتتحرك و بتاخد خطوة ايجابية ...الناس دي علشان تفضل في ضهرك الزم تاخد خطوة ايجابية و ماتقفش".
"عايزك ماتشغلش نفسك بموضوع اللي بيسرب الكالم إليهاب .هو عاوزك تلف في الدوامة دي علشان هو يكسب وقت".
"انا مشكلتي الحقيقية هي مافيا الهجرة يا عمر .انا مش عارف حجم الخصم و ال مدي قوته".
"انا مش عاوز اواجههم علشان وهم البطولة .الزم حد يوقفهم عند حدهم".
"يبقي تاخد الموضوع خطوة بخطوة و تأمن وضعك المالي .يعني الزم تالقي األوراق .ابتدي بأوراق والدتك مثال"
و من سلسلة مربوطة في الكرسي المتحرك اخذ مراد مفتاح الغرفة و قام بفتح الباب .و ما ان فتحه عمر ،اخذ مراد نفسا عميقا عند
رؤية الغرفة و قد علتها األتربة.
"ازاي عايز حد ينضفها و المفتاح معاك انت؟" قال عمر في شبه تهكم.
"انا كنت عاوزك تقعد فيها شوية مع نفسك .عايزك تقلب و تشوف يمكن تالقي حاجة احنا ماشوفناهاش .اسراره و اشاراته كان اوقات
كتير ماحدش بيفهمها غيرك".
كان تفكير عمر في محله ،فسرعان ما وقعت عينا مراد علي محتويات الغرفة دبت فيه الحياة تدريجيا .اتجه نحو الكومودينو .ليجد
صورة بداخل برواز .كانت لحمزة و هو يمسك بلجام رهوان ،كانت عضالته المفتولة و قامته الطويلة تتالئم و بنية الجواد ،كأنما كان
االثنان كيانا واحدا في جسدين .الحظ كلمة مكتوبة اسفل الصورة فأخرج الصورة من البرواز ليقرأها" .الثقة هي المفتاح" باألسبانية.
عن اي ثقة تحدث حمزة؟ الحظ المزيد من الكلمات علي بطانة البرواز" .ثق في من يثق فيه رهوان"
التفت مراد ،و اذا بعمر يحمل البوم صور و اقترب ليريه اياه.
"صورك و انت صغير"
"لحد سن خمس سنين كان علي طول عايش معانا في نيس ،افتكر ان بابا كان بيزورنا من وقت للتاني ،لكن عمري ما شفتهم مع بعض.
بعد كده سافر و انقطعت اخباره و انا دخلت مدرسة داخلية و فضلت فيها لحد ما اطردت ،لغاية ما اتقابلنا تاني".
"طردوك من المدرسة؟".
"ايوة ألن ماكانش معايا ادفع المصاريف ،و كان سني 15سنة ،و ماعرفش .مين كان الوصي عليا وقتها ،كان الموضوع بعد الحادثة
اللي ماما اتوفت فيها"
"ادارة المدرسة اتصلت بأهل بابا في جنيف ،و بعد فترة وافقوا يبعتوا حد يستلمني .لما وصلت ،اخوه قال ماليش حاجة عندهم ،و اداني
ظرف فيه مبلغ يا دوب كفي يوصلني لحد نيس.و قال ما احاولش اتصل بيهم تاني ألن ما فيش حاجة تربطني بيهم .و ما رضيش يفسر
اكتر من كده"
"يا ربي ،فيه حد ممكن يكون بالقسوة دي؟و بعدين ،عملت ايه؟"
"رحت قعدت لوحدي في البيت في نيس .ماما ماكانش فاضل لها حد غير داده حليمة و كانت في مصر .اشتغلت مغني في بيانو بار كان تبع
كازينو قمار في الكوت دازور ،و في الصيف ده اتعرفت ،وبعدها جالي واحد من شركة تسجيالت عالمية و سجل معايا اول البوم .والسنة اللي
بعدها شاركت في مسرحية في الكوميدي فرانسيز .و الباقي انت عارفه"".
"كانت اول مرة اجوع و اتشرد يا عمر .شيء صعب انك تبقي في السن ده و تالقي نفسك لوحدك".
"علشان كده انا مستغرب مين اللي اخد الصور دي ،ألن ماما و بابا كانوا علي طول في سان موريتز في الشتا ،و كانوا بيرجعوا الكوت دازور
في الصيف اسبوع وال اتنين"
ابتسم مراد و هو يقلب ألبوم الصور ،كانت صور حمزة في طفولته ،تبعتها صوره في مرحلة المراهقة .استوقفته صورة مع فتاة بارعة الجمال،
"اوبا!" قال عمر" ،مين ملكة الجمال دي؟ طول عمره بيالقيهم ،بس انا عمري ما شفت واحدة كده"
اخرج مراد الصورة ،ليشاهدها بإمعان .،كان هناك شيء مألوف في تلك الفتاة ،كما لو كان قد رآها من قبل .اما حمزة ،فكانت نظرة الحب في
عينيه لتلك الفتاة ابلغ تعبيرا من أية كلمات .كان ذلك الحب الذي يستحضر الحياة من قلب الظالم و المجهول الي النور .،و دون ان يشعر استيقظ
شيء بداخله شمل الشخصان اللذان كانا في الصورة ،و نظر الي خلفها ليجد تلك العبارة
"سيظل قلبي ملكا لك ،ايها المجنون .احبك" ماري هيلين جريمالدي .نيس 1993
"عمر ،االسم!"
قلبا الصفحات ليجدا المزيد من الصور ،كانت احدي الصور لحمزة يمتطي جوادا و امامه الفتاة.
كانت الصورة التالية لحمزة و هو يحمل طفال رضيعا" ،شوف بيبصلك ازاي يا ميرو؟"
"ماكانش بيفارقني ،و لما كبرت شوية كان كل يوم يعلمني اغنية و يراجعلي دروس البيانو".
"حيرجعلك ،الزم نالقي الست اللي اسمها ماري هيلين .اكيد مفتاح السر عندها".
فتاة حسناء و حصان عجوز و مفاتيح و اسرار .كان الشتاء يذكر مراد بأن اوان تصفح الذكريات و التعلم من دروس الماضي هو وقت ان
تتساقط االوراق و تصفر الرياح الباردة لنحتمي من برد الشتاء ،ال لنتواري في ظالم الوحدة و انما لنأتنس بالحب الذي يحيطنا .كان عمر هو
الصديق المخلص بحق ،الذي اجبره علي الخروج من الظالم و المجهول الي النور.
"ماشي كالمك ،بس انا ماليش في الخضار المسلوق و المية بليمون اللي انت عايش عليهم".
"اصبر علي رزقك ،حاعمللك حاجة عليها القيمة".
و اتجها الي المطبخ و سمعا صوت ضحكات تأتي منه ،كانا لرجل و امرأة ،لكن لم يكن صوت داده حليمة و فرحات ،و دخال فإذا به صبحي
يخرج مسرعا من باب المطبخ ،و لبيبة مرتبكة.
"ابقي اقفلي باب المطبخ كويس يا لبيبة علشان بيجيب هوا" قال مراد في جفاء
"و انا مش عايزه يعتب القصر .و عايزك تخلي بالك اللي زي ده ممكن جدا يضحك عليكي علشان عنده غرض .من بكرة ماتقفيش في المطبخ.
علي األقل مش لوحدك".
***
ظل مراد يتصفح االنترنت باحثا عن ماري هيلين جريمالدي ،لكنه لم يجد من تطابق اوصاف الفتاة التي رآها ،حتي وجد إحدي الصفحات التي
تتحدث عن وفيات سنة ،1994توفيت فيه فتاة في عمر 16سنة ،و لم يذكر السبب.
كان األمر يزداد غموضا ،لكنه كان ايضا دليال علي وجود حمزة ،فمن غيره الذي سيفتح حسابا باسم حبيبته؟
قرر مراد الخروج الي الحديقة ،و اتجه الي االسطبل ليجد صبحي هناك ،يتحدث مع رهوان وما ان التفت فوجد مراد ابتسم "و انا اقول االسطبل
منور ليه ،الباشا بحاله نزل ،انشاهلل تكون بخير يا سعادة الباشا"
"علي فكرة انا مش باحب حد يقوللي باشا ،و بالش تكلمني زي ماتكون بتمسحلي العربية في اإلشارة"
"انا بس بارحب بيك يا مراد بيه" تراجع صبحي في ألم واضح لما لمسه من صد مراد له.
"ماهو يا باشا...اصلي"..
"حتقول باشا تاني؟ مالكش دعوة بلبيبة .و ما تفتكرش اني مش عارف انت هنا بتعمل ايه و ليه".
نظر صبحي له في دهشة و استطرد مراد" ،لو كان ايهاب مهددك بحاجة فأنت هنا في أمان ،و أنا باديك الفرصة دي علشان تغير حياتك".
"و انا والمصحف الشريف مقدر يا باشا ،و لو انك قاسي شوية عليا .انت عارف يا باشا ،رهوان بقي ياخد السكر من ايدي ،حتي شوف"
و مد يده بقالب سكر لرهوان ،لكن الجواد اعرض عنه و صهل في ما يشبه الضجر لدي البشر.
اعرض عنه صبحي في خيبة امل" ،وهللا يا باشا كان بياخد مني السكر".
"من غير حلفان ،الثقة مش انه ياخد منك السكر .لسة قدامك وقت تثبت حسن نيتك"
"انا حافضل جوة مدة اسبوع ،مش عايز اعرف عنك ال خير وال شر ،و األيام حتوريني اذا كنت فعال محل ثقة او أل".
"يعني بتقلب رزقها ،زمان كانت بتربي فراخ بلدي و تبيعها ،و دلوقتي بتقعد بفرشة بخضرة وكده"
"اه حمادة اخويا ده جن مصور في المكن .بس طالع في دماغه .يسافر برة"
"بيحوش عشان يسافر اوروبا ،بس انا كلمته .خايف ليموت غريق زي اللي ماتوا"
سكت مراد في ألم لما اثاره ذلك الموضوع" ،كويس انك كلمته .عموما لو اكتسبت ثقتي يا صبحي ،ممكن .والدتك واخوك ييجوا يقعدوا هنا".
"ممكن تبدأ بإنك تبطل تتدحلب علشان تدخل القصر من باب المطبخ و تبعد عن لبيبة!"
***
مر يومان ،و في الليل ،لم يكن صبحي قادرا علي النوم ،فقام متجها نحو االسطبل ،و رأي مدخل القصر مضاء و سيارة تستعد للرحيل .كان
فرحات هو من يقود السيارة ،و مراد في المقعد الخلفي و معه داده حليمة ،ترتدي معطفا انيقا و تحمل حقيبة سفر .كان يبدو وكأنه في طريقه
الي رحلة طويلة ،و لكن لم تلك السرية؟ او اين كانت وجهته؟
اذا سمع احدهم بمن يصاب باالكتئاب من صورة السحب الرمادية ،فيرحل الي حيث يسقط الجليد ،لظنه ضرب من الجنون .كان ذلك
ما فعله مراد ،و اعد له في صبر طيلة ثالثة اسابيع ،بما في ذلك الحصول علي تأشيرة السفر لداده حليمة كي ترافقه .و في رحلة طويلة
من مطار مرسي مطروح الدولي حتي مدينة برجامو بايطاليا ثم استقل القطار عبر الحدود السويسرية .كان منظر الجليد و هو يعكس
اشعة الشمس في مشتي سان موريتز الشهير باعثا علي األمل عندما جلس يتأمله عبر نافذة امتدت بعرض الحائط .كان يجلس علي نفس
الطاولة التي كان يتناول عليها طعام االفطار مع والدته .تذكر حنوها و هي تقدم له مشروب الشوكوالتة الساخنة ،و كيف كان قلبه
البريء يختصر محبته لها في كلمات "انتي حلوة قوي يا ماما" .كانت سيدة جميلة المالمح .،و لم يدر بذهن مراد ان هناك امرأة تفوقها
جماال ،حتي رأي ماري هيلين .كم كانت مؤلمة تلك الوحدة التي حرمته من دفء األسرة .لقد اثارت صورة والدته في بهو الفندق
شجونه ،فقد اوصي بتعليق الصورة تخليدا لذكراها ،و كذلك صورة رفعت حليم الهامي ،والده.
لم يكن يشعر بأبوة رفعت حليم له .كان الرجل متباعدا و لم يكن يقضي معه من الوقت اال القليل الذي يقدم له فيه هدية باهظة الثمن،
بايعاز من والدته وال شك .لكنه ورث عنه ذلك الفندق الفاخر ،الذي كان يؤمن له دخال يضمن له الحياة الكريمة .مر عليه ثالثة ايام دون
ان يبرح غرفته ،و كان ذلك أول يوم له في صالة الطعام .،حيث كان النزالء يتناولون طعام االفطار .كانوا من شتي األقطار ،كما جلس
يالحظهم في غير اهتمام .كان الكثير منهم وافدين من دول الخليج العربي بحثا عن الفخامة.
كان معتنيا بمظهره علي غير عادته .،فكان يرتدي بدلة سوداء ووشاح حريري بلون العاج حول رقبته .جلس وحده يحتسي قدحا من
الشاي األخضر .اقترب منه نادل شاب محييا اياه بإيماءة و ابتسامة" .،سيد مراد .،اتري ذلك السيد الجالس هناك؟ كان يستأذن أن يتحدث
اليك".
التفت مراد ناحية الرجل ،فإذا به رجل اشرف علي الستين علي األكثر ،و قد ارتدي بدلة فاخرة من احد بيوت األزياء التي تخصصت
في مالبس رجال األعمال فاحشي الثراء .كان ينظر في الناحية األخري و هو ينفث دخان السيجار ،مستعرضا االزرار الذهبية ألساور
قميصه والخاتم الذهبي السميك في اصبع يده.
"من هو؟"
"هذا هو موريس سافوريتي ،واحد من اهم نزالء الفندق".
كان مراد حريصا علي تجنب امثاله ،فقد تعلم في الماضي كيف يسعي هؤالء األثرياء خلف نزواتهم .،و حرص كل الحرص أال يقف في
طريق أي منهم.
"قل له أن يتفضل".
عاد النادل الي الرجل فقام من مجلسه و اتجه الي طاولة مراد في خطوات ثابتة ،و تعلو وجهه ابتسامة الواثق من تحقيق هدفه .و مد يده
مصافحا" ،موريس سافوريتي"
ابتسم و قال بالعربية " ،انا عارفك ،من ايام ما كنت بتغني في بيانو بار نرفانا في الكوت دازور".
ضحك الرجل و برقت عيناه في ظفر" ،كان ليك معجبين كتير ،كلهم افتقدوك لما رحت على مسارح باريس".
" .انا درست علشان ابقي مطرب اوبرا ،مش علشان اغني في بيانو بار .و على العموم مهنة المطرب اصبحت شيء من الماضي
دلوقتي بسبب ظروفي"
اعتدل في جلسته ورفع السيجار الي األعلي و لم تبرح االبتسامة شفتيه " ،مشاغل ايه يا تري؟"
"بعد اسكندرية؟".
"غرب مطروح"
"مكان بعيد ،و ماحدش كتير بيملك اراضي هناك ،الزم اشتريته من ناس واصلين".
"مسيو موريس .،انا مالحظ انك تعرف عني معلومات كتير ،و انا لسة ماعرفش حضرتك ،وال سبب تشريفك ليا".
ضحك في عصبية" ،انت زعلت ليه ،ادينا بندردش .و علي العموم .لو عايز تعرف عني حاجة ممكن تسأل".
"أنا منتظر ان حضرتك اللي تسألني السؤال اللي خللي حضرتك تتنازل و تقعد مع مغني سابق و حاليا عاجز".
لم يكن مراد مرتاحا لكل هذه األسئلة لكنه أجاب" ،ايوة"
"تفكر تبيعه؟".
"أل"
"عموما ده الكارت بتاعي لو غيرت رأيك .أنت في ظروفك صعب انك تباشر منشأة كبيرة زي دي .سهل جدا يتنصب عليك و تالقي
مافيش حيلتك حاجة .بيع احسن"
" احتفظ حضرتك بالكارت .انا مش بافكر في البيع ،و سويسرا فيها قانون بيحمي ممتلكاتي".
كان ينظر الي مراد بقوة كأنما يحاول ان يجد نقاط ضعفه فيهاجمها بال رحمة ،لكن لم يكن مراد ليعطيه تلك الفرصة فبنظرته الجليدية و
ابتسامته الهادئة توقف موريس عن محاولة اضعاف عزيمته .،لكنه قهقه في شماتة" ، ،زي ما تحب"
"ال سالمتك ،انا باتكلم علي الفندق .بس واضح انك شايل حمل كبير عليك .سيب ادارة المشاريع دي لرجال األعمال ،و شوفلك بيانو
تاكل منه عيش"
"فكرة برضه ،حتي البيانو وحشني ،و انا ياما كلت منه عيش .لكن فيه ناس بتاكل عيش من شغلها هنا ،و ناس بتاكل عيش من شغلها
في المزرعة ،مش هسيبهم لمستثمر عديم اإلحساس .شرفتنا الشوية دول يا مسيو موريس .نهارك سعيد".
خرج مراد بكرسيه المتحرك إلى بهو الفندق ،مشيرا ألحد الموظفين بمصاحبته الي جناحه الخاص .و ما ان وصل المصعد الي الجناح،
"شكرا جان لوك .سأستريح قليال ،و ارجو ان يتم ابالغي فور وصول مندوب محامي"
ظلت السحب الرمادية تخيم علي الساحل الشمالي الغربي لمصر ،لكن لم يثبط ذلك من عزيمة صبحي علي اكتساب ثقة من هم في
المزرعة .لكن ترى ،الي أين كان مراد ذاهب مع داده حليمة .،لقد مرت اربعة ايام ،و لم يكن باستطاعته سؤال فرحات ،لكيال يثير
الشبهات أكثر فأكثر ،فلو علم الفالح العجوز بتجوله في الليل لقضي ذلك علي كل جهد بذله منذ مجيئه .لم يدع ذلك غير عمر ،ذلك
الشاب الظريف ،الم يقل له ان يأتي ليراه متي شاء؟ لقد كان ذلك انسب وقت ،و سار نحو المرسي مسافة تزيد علي الكيلو متر حيث
وجد عمر يرتدي ما يشبه بدلة الغوص.
"ليه بس يا باشمهندس؟"
"انا مش قايلك تيجى تقعد معانا في الكانتين واال تلعب معانا كورة؟ اال ما حد شاف وشك من ساعة مارجعت".
"ايوة اتحجج ،اتحجج .يابني احنا كلنا هنا زي بعض و كلنا زي االخوات".
ابتسم عمر في سخرية" ،و من امتي مراد حد بيشوفه .،انت عارف انه قليل قوي ما بيخرج ...و بتسأل ليه؟"
"يعني ،اصل اخر مرة شفته كان لونه ال مؤاخذة مخطوف و صحته علي قدها .،قلت اتطمن".
"انا الصراحة ماعرفش .هو مسافر و اال أل ،لكن اللي اعرفه انك مش بتسأل علشان تطمن علي صحته".
"أل انت النهارده براءة ،بس قوللي انت بتقضي وقت فراغك في ايه؟"
"اعمل ايه يعني ،انتوا ال عندكوا نت ،و ال فيه تليفيزيون و ال حاجة"
"فيه نت بس مش علشان اللي في بالك .عندنا مكتبة و عندنا افالم ممكن .تتفرج عليها ،و عندنا جيم تتمرن فيه لو عايز".
بس من بكرة حتبتدي شغل ،تروح علي طول ألكرم في مزارع الخضار ،و بعد اسبوع حسام حيستلمك في قسم الدواجن ...حنروقك
شغل"
**
اتجهت داده حليمة الي الصالة التي كان يجلس فيها في الصباح لتجده يجلس علي نفس الطاولة و امامه ملف كبير.
و مظروف من الورق البني .كانت الساعة الثالثة بعد الظهر و قد اشرفت الشمس علي المغيب .لم يكن هناك الكثيرين من مرتادي
المطعم .في ذلك الوقت.
"ما تيجي تقعد بره بدل الكتمة دي؟"
ضحك مراد" ،طيب شيليهم انتي لحد ما نمشي" و في تلك اللحظ لمح مراد رجل طويل القامة ،لفت انتباهه .كان رجال هنديا ،يعتمر
عمامة كما يفعل من يدين بالسيخية .كان شاربه و لحيته كثيفين ،كال لم يكن هو .الحظ الرجل انتباه مراد له فأومأ له محييا.
"مين ده يا مراد".
و بالفعل قامت من مقعدها و حملت الملف و المظروف واتجهت نحو باب الخروج .و في نفس اللحظة رن جرس هاتف مراد .،معلنا
وصول رسالة خطية ،تقول" ،مش كنت تقوللي؟" كانت من عمر ،فانشغل مراد بالرد عليه و لم يري المظروف و هو يسقط من داخل
الملف الذي كانت تحمله حليمة ،و ال الرجل الهندي عندما التقطه.
و اذ هو منشغل بكتابة الرسائل ،اتي مدير الفندق الي طاولته" ،مسيو الهامي ،لقد تلقينا عدة طلبات من النزالء الذين يرجون سماع
صوتك اذا امكن".
"بيير ،لقد تركت الغناء منذ فترة ،سيسرني تلبية رغبتهم لكني احتاج الي التدريب."،
و هكذا خلع مراد الوشاح عن رقبته يصحبه جان لوك الي البيانو بار حيث كان الموسيقيون في انتظاره .لقد اثار حديثه مع موريس
سافوريتتي في نفسه حنق فقرر ان يخوض التجربة .لم تكن البداية مشجعة بالنسبة له ،فقد اخطأ في بعض النغمات ،لكنه اصر علي
اإلعادة .كان اشد ما يؤلمه ما لمسه من الموسيقيين من شفقة ،لكن سرعان ما تبدلت الشفقة لإلعجاب عندما أطلق العنان لحنجرته فتحرر
صوته من قضبان اليأس.
و في المساء صعد بيير المدير ليعلن في فخر عن مفاجأة الليلة وسط تصفيق الجمهور .و تسلط الضوء علي مراد ،و هو جالس في تؤدة
علي كرسيه المتحرك بجوار البيانو األبيض .كان البيانيست يبتسم له مشجعا .راجيا ان يتمكن حقا من تقديم تلك األغنية الوحيدة.
امسك مراد بالميكروفون مستقبال الجمهور" ،سيداتي و سادتي ،كنت في الماضي أقول ان العصفور ال يغني لسبب غير ان لديه اغنية،
و هذا المساء لدي اغنية ظلت حبيسة في صدري قرابة عامين ،و هأنذا اشارككم .فيها ،و ادعوكم ،ان تتذكروا معي من احببتم يوما ،و
تركوا وراهم .ذكريات ال يمحوها الزمن"
و بدأ العزف علي البيانو .و بدأ مراد في الغناء باللغة البرتغالية ،احدي اغاني المطربة الشهيرة اماليا رودريجز .كانت اغنية تفيض
بالشجن ،والعتاب ،و تقبل الفراق الذي ال حيلة فيه ،و األلم الذي لم تبد له نهاية .كان يغنيها بكل احساسه ،و بكل صوته .لم يكن يفكر
في استحسان الجمهور .،فكان غاية همه ان يغني اغنيته و يهديها لمن هم في السماء او الزالوا علي األرض و لكن دون اثر .لم يعد
للحنين موطن في صدره فكان عليه ان يدعه يخرج الي اسماعهم .كان انيقا رغم مالبسه السوداء و بشرته الشاحبة ،و مظهر المسن
الذي قد الفه .لعل الجمهور قد الحظ انه يجلس علي كرسي متحرك ،لكن ما لبثوا أن شهدوا بنفسهم حضوره الطاغي حتي استمعوا اليه
مشدوهين.
و ما ان انتهي حتي صفق من في القاعة ،و فتح عينيه ليراهم ،فإذا به يري دادة حليمة تصفق بحرارة ،و موريس سافوريتتي في احد
المقاعد األمامية يصفق ببطء و علي وجهه ابتسامة صفراء .و قد ابصر ذلك الهندي طويل القامة الذي وقف في اخر القاعة و كان هو
كذلك يصفق في حرارة.
و عندما انزله جان لوك عن المسرح و قاده الي طاولته" ،بسم هللا ماشاء هللا ،ايه الصوت ده يا مراد!".
"عجبك يا داده؟"
" ،Fado da saudadeيعني لما يكون الواحد في قلبه حنين لحد مش موجود .،او مش حيرجع .الكلمة دي بتوصف شعور بالحزن و
الحنين و الشجن ،لكن له حالوة غريبة ،ألنه بيقرب البعيد"
"ياخويا مش فاهمة .حاجة ،و بتوع البرتغال كان ايه مزاجهم في الغنا الحزايني ده؟"
التفتت حليمة الي جهة اليمين" ،كلم يا مراد .،مش ده الجدع الهندي بتاع الصبح؟"
كان واقفا علي مقربة من الطاولة و بدت علي عينيه ابتسامة .،فقد غطي شاربه شفتيه .ا لتفت له مراد محييا اياه بابتسامة واسعة.
"لقد كان ذلك اروع ما سمعت منذ سنوات ،تحياتي" كان يتحدث االنجليزية باتقان و دون لكنة.
"اشكرك ،و اعتذر عن تحديقي اليك هذا الصباح .لقد ظننتك شخص اعرفه.".
"شخص ما".
"نعم ،ولكني مضطر الي العودة غدا إلي لندن التمام بعض االعمال .،لكني سأعود لقضاء رأس السنة هنا".
كانت اسئلة ذلك الهندي شبيهة بأسئلة موريس .،لكن لم يبد متطفال مثله .لعل الشفقة كانت دافعه في ما قال .انصرف الرجل ،و قد تأكد
مراد أنه ابعد ما يكون عمن كان يظن .لكن ما حدث تلك الليلة كان له مدلول اكبر من تهديد موريس سافوريتتي ،لقد اثبت ،دون ان
يمعن في تفكير مسبق ،ان لعل موريس كان محقا انه ال يملك حقا غير صوته و البيانو .اصطحبته داده حليمة الي جناحه الخاص
بالفندق و قد بدا عليها االرهاق.
"مالك يا داده؟"
"احنا خالص حنمشي من هنا ،و رايحين علي نيس و بعد كدة حنرجع مصر".
"و ايه الزمة الشحططة دي ،مش خالص جابولك الورق بتاع اقبال هانم؟".
"هي مين؟"
"ماري هيلين"،
شهقت حليمة في دهشة اثارت انتباهه".فيه .ايه يا داده ،هو انت تعرفيها؟"
"هي دي اللي عندها مفتاح السر ،الزم اقابل اهلها ،اكيد ليها حد عايش".
لم تكن لتمر دهشة حليمة اثر سماعها االسم مرور الكرام ،لو لم يكن مراد منهكا .علي الرغم من نجاحه ،كادت اخطاؤه المتكررة ان
تثبط من عزيمته .علي كل حال لم يكن هدفه العودة لخشبة المسرح علي كرسي متحرك.
كان خوفه من الفشل يتجه نحو ما قاله موريس ذلك الصباح .كان حري به ان يعود لمصر و ان يتخذ قرارا حاسما بشأن المزرعة.
كادت كلمات موريس ان تنال من عزمه علي االبقاء علي المزرعة .،و ما أُنشئت ألجله .فما الذي يمنع أي ممن وثق بهم في إدارة
أعماله أن يطمع في المزيد فيطيح به الي غياهب الفقر و العوز؟ لقد وجد نفسه يوما في ذلك الموقف ،و لم تنقذه غير ضربة حظ .و
حتي عند ذلك تذكر انه كان فريسة في وكر كان المال فيه هو اآلمر الناهي ،و رغم استطاعته الحفاظ علي نفسه من دور الضحية ،كان
ذلك الكابوس يالحقه اينما ذهب .كان مظهره الجذاب ببراءته الساذجة نقمة استطاع بذكائه ان يحوله الي مزية دون ان يتنازل عن
مبادئه .تذكر طفولته مرة اخري ،عندما كان يشكو لوالدته انه ليس مثل اخاه األكبر ،و استطاعت وقتئذ اقناعه بقيمة ما يملكه و علمته
بصبر كيف يمكن ان يستغل قدراته دون ان يستغله احد .لكن اآلن و قد صار قعيدا ،اي قوة كانت لديه؟ كان يلوم نفسه علي عزمه.
الذهاب الي نيس لتقصي آثار ماري هيلين ،خاصة بعد الفاتورة الباهظة التي دفعها للمخبر الذي اتاه بعنوان اسرتها .كما توقع ،كانت
تنتمي بصلة قرابة ألسرة عريقة في جنوب فرنسا .لم يكن يعرف يقينا ما اذا كان ذلك ليفيده في انقاذ المزرعة .،كان الغموض .يستميله و
تبعه دون تردد.
***
"انت ايه الزمة امك انا عايز افهم" كان ايهاب ثائرا في الناحية األخري من الهاتف.
"ليه بس يا باشا؟"
"مانا عمال احاول اعرف منهم محدش راضي يقول .كنت فاكره حابس نفسه في البيت زي ما كان عامل من ساعة ما رجع".
"متلقح في سويسرا ،و بعدين واحد مشلول حيفضل رايح جاي كده ازاي؟"
"انا اللي باسألك يا حيوان!" نهره ايهاب" ،الزم تعرفلي لو كان بجد مشلول واال بيمثل".
"انا قلتلك انه حويط و لو كان بيمثل يبقي علشان يكسب وقت ،فهمت؟".
"ايوة يا باشا".
"عايزك تدخل الفيال مادام ال هو و ال الست العجوزة هناك ،اي معلومة حتعرف تجيبها لها قيمة ،و لو ماعرفتش يبقي كفاية عليك كده و
اشوف غيرك.بس ساعتها استحمل اللي حيجرالك مني"
و في الصباح التالي ،اتجه صبحي الي الباب الخلفي المؤدي .للمطبخ الستمالة لبيبة ان تمهد له طريق الدخول دون أن يثير شكوكها.،
لكنه لم يجد احدا في المطبخ ،و لكن كان الباب مفتوحا فدخل بهدوء .تسلل عبر الردهة المؤدية للصالون و سار بمحاذاة الحائط الذي
توسطته صورة حمزة ووقف بين الحائط و البيانو ناظرا الي حمزة" ،مسيري حوصلك" و قد مأل الحقد عينيه .تابع تسلله علي السلم
الخشبي ،حيث كانت غرف النوم في الدور العلوي.
سمع صوت ما ،فإذا بها لبيبة تنظف احدي غرف النوم .اختبأ في الحمام المجاور للغرفة دون أن تراه و التقط صابونة من علي الحوض
ووضعها في جيبه .ظل منتظرا خلف الباب حتي تأكد من انها نزلت الي الطابق األسفل ،ووجد المفتاح ،فاسرع بنزعه و استخدم
الصابونة ليتمكن من صنع واحد مماثل .كان الفضول يقتله ليسترق النظر الي الغرفة .قام بفتح الباب و هم بالدخول و إذا بخطوات
تقترب من السلم الخشبية فأسرع باالختباء في الحمام بعد أن اعاد المفتاح الي مكانه.
"ان شاء هللا حنالقيه ...هو كان فيه ايه الظرف ده".
"مالحقتش أشوفه ،الورق اللي هنا يخص ماما ،يعني غالبا الظرف فيه اوراق حمزة".
"يا رب!" قالت حليمة و يكاد قلبها ينفطر لفقدان المظروف الثمين.
طرق جان لوك باب الجناح و دخل بصحبته احد الشيالين الذي أخذ الحقائب الي االستقبال .و قام جان لوك باصطحاب مراد الي
المصعد .،تتبعه حليمة .كان بيير في انتظار مراد ،ليحييه قبل رحيله،
"أشكرك ،سيستمر الترتيب بحيث يأتي احد الي المزرعة .في مصر مرة من كل شهر لمتابعة اعمال الفندق".
"و هو كذلك ،سيد مراد ،لقد ترك لك احد النزالء هذا المظروف .،قال انه يخصك" و سلمه المظروف المفقود
تهللت اسارير مراد لرؤية المظروف ".الحمد هلل يا داده ،شفتي ربنا كريم ازاي؟"
كانت هناك ملحوظة مكتوبة بقلم ماركر اسود خلف المظروف" .،لقد سقط هذا المظروف من السيدة التي ترافقك .اتمني لك رحلة موفقة.
بيكرام"
ملحوظة :مضاد الثقة هو الوحدة ،و ليس في الوحدة متسع لموهبة عظيمة كالتي تملكها.
تري لماذا احتفظ الهندي بالمظروف حتي الصباح ،ولِما لم يعيده قبل ذلك؟ مضاد الثقة هو الوحدة .كانت تلك المقولة منطوية في فصل
من كتاب كان يقرأه في اليوم السابق ،كيف عرف ان تلك المقولة تحديدا قد استوقفته .كان مراد يظن طوال عمر ان مضاد الثقة هو
التوجس والريبة ،لكن تلك المقولة البسيطة قد اماطت اللثام عن سبب الوحدة التي فرضها علي نفسه ،و استغلها ضده خصومه .لقد فهم
ايهاب ،و من ورائه أن بذور الشك ستنبت اشواكا تعزله عمن بإمكانهم مساعدته ،و تجرده من أقوي سالح يملكه .،ثقته في قدرته .كانت
صورة أمه تطل عليه من قاعة االستقبال بالفندق ،تذكره بقدراته .كانت هي من علمه كيف يعتلي خشبة المسرح و كيف يقف فيتبوأ
موقعا بين نجوم السماء عندما يغني؛ و كيف يختفي كحبة رمل في وسط الصحراء فيصير فردا عاديا كي ال يلفت األنظار.
علمته كذلك اال يجب أن يعرف مخلوق مالذي يفكر به فال يستطيع احد ان يتالعب به او يستغل عواطفه .كانت اقبال قادرة علي أن
تقرأ األشخاص فتعرف أحالمهم و شجونهم و تخاطب تلك األحالم و الشجون بصوتها الهادئ و نظرتها الحانية ،و تعرف مخاوفهم.
فتأمن شرهم .لم يهدأ بالها حتي تأكدت أن مراد قد وعي تلك الدروس .،لكنها لم تعده لحياة يفقد فيها قدرته علي االعتماد علي نفسه.
"هللا يرحمها ،كانت ست الكل صحيح" قالت داده حليمة ،مخرجة اياه من ذكرياته.
ظل مراد صامتا طوال الطريق من الفندق الي المطار ،لم يتبادل فيها اال الكلمات الضرورية مع حليمة و جان لوك عامل الفندق الذي
كان يقوم علي خدمته .ودت حليمة لو تعرف سبب صمته الذي فتنت عليه أمارات القلق و الترقب .تمنت لو لم يكن مراد عازما علي
لقاءه بأهل ماري هيلين ،خشية ما قد يحدث له إذا عرف .أما هو ،فظل متقوقعا في صمته حتي وصلت السيارة الي منزله في نيس،
حيث اعتزل في غرفته و طلب أال يزعجه أحد.
في صباح اليوم التالي ،بعد ان استعد للخروج و قد اعتني بمظهره تلك المرة كذلك ،مستعينا بمرافقيه ،طلب من جان لوك فقط ان
يصحبه الي العنوان الذي اعطاه اياه المخبر .كانت وجهته تبعد قرابة الساعة عن نيس .لم يكن ذلك بلقائه األول بتلك األسرة ،فقد أحيا
حفال خيريا منذ سنوات برعاية البارونيس بياتريس همبولدت ،و لذلك لم تمانع في لقائه في تلك المدة القصيرة .كان القصر كما يتذكره
يقف في شموخ العراقة وسط حديقة فسيحة .كان أكثر ما يشغله هو سبب محو كل أثر لماري هيلين ،باستثناء خبر وفاتها ،فلم يسمع بها
ولو مرة واحدة في تلك األوساط التي لم يكن غريبا عنها .ودخل من الباب األمامي حيث استقبله رجل شديد األناقة ،عرف مراد أنه
مدير القصر.
انتظر مراد في الصالون و قد اشار لجان لوك بانتظاره بالخارج لحين انتهاءه من اللقاء .و كان هناك وصيف و قد خال وجهه من اي
تعبير بجوار الباب ،حيث كان في انتظار قدوم .سيدة القصر .مرت الدقائق ثقيلة ،حتي فتح الباب أخيرا و أطلت منه البارونس .كانت
كما تذكرها مراد ،بشعرها الفضي و قامتها الممشوقة و قد جاوزت السبعين محتفظة بأناقتها و اطاللتها الجذابة.ابتسمت له مرحبة و
جلست علي المقعد الذي كان يواجه كرسيه المتحرك ،و اسرعت الفتاة بوضع منضدة صغيرة بينهما.
"مرحبا بك يا سيد مراد ،يؤسفني ان اعرف سبب اعتزالك لكني سعيدة بلقائك .مالذي جعلك تشرفني بالزيارة؟"
"اشكرك يا سيدتي ".و اخرج مظروفا من الحقيبة الجلدية التي كان يحملها ،و منه اخرج بعض الصور .،و قدمها .للسيدة قائال "زيارتي
هذه تخص الشخصين اللذين يظهران في هذه الصور"
ابتسمت في استغراب و هي تتناول الصور من يده ،و تغيرت مالمحها الي عبوس فور أن رأتها.
"و مالذي تريده مني بالضبط ،سيد مراد؟"
"اخاك؟"
"لقد كانت تربطني صداقة بوالدتك ،لكنها انتهت بسبب تصرفات ولدها .و لذلك فال اجد في نفسي رغبة للحديث عن أي شيء يخصه".
"سيدتي ،لقد اختفي أخي دون أثر منذ عامين .،اال من رصيد للعملة اإللكترونية باسم ماري هيلين جريمالدي .لقد جئت دون أمل ان اجد
لديكم معلومات عن مكانه ،لكني ارى ان في الماضي ما يستدعي التوضيح .ما هي األفعال التي اشرت اليها".
زفرت السيدة في ضيق" ،ال اظنك قد ولدت بعد عندما دمر اخاك مستقبل ابنتي ،و تسبب في ان تهجرنا ،و في موتها اثناء الوضع و
هي ابنة ستة عشر عام فقط".
كان لكلماتها وقع كحجارة ثقيلة تتساقط علي رأسه و لم يكد يصدق انها تتحدث عن اخاه األكبر .لقد افقدته الصدمة السيطرة علي
مشاعره ،فالحظت السيدة علي الفور ،و أمرت له بكوب من الماء
"أنا آسف يا سيدتي ،فلم أكن اعرف".
"لم أتوقع أن تقص عليك اقبال هذه األحداث ،التي تمت قبل أن تولد أنت".
"سيدتي ،لقد ولدت في نفس العام الذي ولد فيه ،اذا كان لي قريب علي قيد الحياة فأنا اآلن في أشد الحاجة اليه".
نظرت اليه السيدة بإمعان كما لو كانت تتفحص مالمحه مما أشعره بالتوتر .عاد الوصيف بكوب من الكريستال علي صينية من الفضة،
و كان عليها مفرش صغير حمل وسم اسرة جريمالدي .اين رأي ذلك الوسم من قبل؟
اخذ رشفة من الماء ووضعه علي المنضدة.
"سيدتي ،أنا اعرف حمزة و اعرف انه انسان مسؤول ،ربما تسبق تلك األحداث والدتي ،لكن واثق انه كان يربطه بابنتك حب كبير"..
"أرجوك يا سيدتي ان كانت لديك معلومات أخري"...لم يكمل عبارته فقد واصلت السيدة النظر اليه بنفس اإلمعان .،مما أثار دهشته ،فمن
سلوكها بدت و كأنها تستعد لطرده،لكنها كانت تنظر اليه علي نحو لم يتوقعه .،فقد كانت الدموع تبلل اطراف جفونها
قبل أن تجيب دخل رجل أصلع في السبعين من عمره ،كان عريض الكتفين ،و علي وجهه تعبير متجهم .كان يرتدي بدلة أنيقة فهم مراد
علي الفور انه زوجها.
"اعتذر و لكن حالة زوجتي ال تسمح باالستمرار في الحديث معك و عليك أن تنصرف علي الفور".
نظرت السيدة لمراد و هو يرحل كأنما تريد ان تمسك به لكيال يبرح المكان.
كان في رأسه ألف سؤال ،ماذا لو كان ذلك الطفل ،ابن اخيه ،علي قيد الحياة .كيف لم يحدثه احد بذلك؟ كان عليه أن يبحث في اوراق
والدته عن اجابة ألسئلته فقد كان يخامره شك في كل ما قيل له و كل من كان حوله .بدت الثقة كأمل رواغ ،و قد تالحقت امواج من
األسرار و األكاذيب فأغرقته في موقف ال يحسد عليه .في تلك اللحظة تضاءل كل ما كان له اهمية حتي وقت قريب ،المزرعة .،و مافيا
الهجرة ،و كرسيه المتحرك ،و الفندق .كاد التفكير أن يفجر رأسه و تمني لو تعاطي ما يعينه علي النوم و النسيان.
**
عكف مراد علي قراءة تقرير المخبر الذي لم يكن قد وصل قبل زيارته ألسرة الفتاة .لم تكن هناك الكثير من المعلومات الهامة .سوي
تفاصيل الوفاة .لقد توفيت الفتاة اثر نزيف اودي بحياتها بعد ان وضعت مولودها ،بعد اقل من سبعة اشهر من الحمل .لم تكن هناك
شهادة وفاة للطفل ،و كان من المستحيل االستدالل عليه فلم تكن هناك شهادة ميالد.
نظر طويال الي المظروف الذي يحتوي علي اوراق حمزة قبل أن يفتحه .تري ،أي مفاجأة غير سارة كان ليخبئها له ذلك المظروف؟
فتحه و اخرج ما فيه من اوراق ،فعثر علي وثيقة زواج مدني باسم والدته و دييجو الفاريز دي كوردوبا .هل تزوجت والدته من رجل
اسباني علي غير ملتها؟ كانت هناك بعض الصور و لم يتعجب عندما رأي ذلك األسباني بقامته الطويلة و عينيه الخضراوين و مالمح
اخري ورثها عنه حمزة .كانت شهادة الميالد الموجودة بتاريخ ميالد حمزة التاسع عشر من اغسطس ،1975لكنها كانت باسم آخر.
عاد الي تصفح اوراق والدته ،فإذا به يجد ما يفيد بإجراءات تبني طفل بحيث يكون األب المتبني هو رفعت حليم الهامي ،و حرمه
السيدة اقبال عبد المنعم االزميرلي .ظل ينظر الي األوراق و هو ال يكاد يصدق ما يراه! هؤالء ليسوا بأهله؟ ربما كانت األوراق تشير
الي شخص آخر .لقد رأي شهادة ميالده و كان واثقا أنه مكتوب باسم رفعت حليم .لعلها شهادة تبني لالبن غير الشرعي لحمزة؟
خرج من المكتب علي كرسيه و وود لو كانت قدميه تحمالنه بعيدا عن تلك االوراق و تلك البلدة .وجد حليمة في انتظاره في الصالون و
قد اعدت له الشاي األخضر.
"اخيرا خرجت ،انت بقالك جوة ساعتين بتمقق عينيك في الورق".
"ايه يا حبيبي؟"
"فاكرة البطانية بتاعتي وانا صغير؟ اللي عليها كتابة باألزرق .عاوزك تجيبيهالي"
"من عينيا"
صعدت حليمة الي الدور العلوي ،و اغلق مراد عينيه مرجعا رأسه الي الوراء في ارهاق ملحوظ .لم يدر كم من الوقت مر عليها و هي
تبحث فقد غفا ،و ايقظته حليمة عندما عادت بالبطانية و قد اصفر لونها األبيض .ما ان امسك بها بدأ يتفحصها ووجد عليها الوسم ذاته.
دق جرس الباب في نفس اللحظة ،ظل مراد يحدق الي الوسم ،و لم يسمع حليمة و هي تقول" ،اما اشوف مين اللي جايلنا الساعة دي".
فتحت حليمة الباب ،و سمع مراد بوقع كعبين لحذاء نسائي في الردهة" .،مين يا دادة؟"
و شهق مراد لرؤية الضيفة غير المتوقعة ،بياتريس همبولدت ،ترتدي معطفا من الفراء و تنظر اليه بنفس النظرة التي ودعته بها صباح
ذلك اليوم .،صحبتها ابتسامة باهتة عندما رأت البطانية في يده.
جلست دون أن تخلع معطفها ،معطية انطباعا بأنها لن تطيل الحديث" ،ألم تقل أنك إن كان لك قريب علي قيد الحياة فنت في أشد الحاجة
إليه؟"
"بلي"
"ماذا لو قلت لك أن الشخص الوحيد الذي أنت بحاجة اليه هو أنت نفسك؟"
"أعرف تماما ما قصدته .لقد ظننت أن الطفل قد توفي مع أمه ،و كان قرار زوجي بمحو كل ما يتعلق بماري هيلين نهائيا و ال نقاش
فيه ،و ظننت أن الجرح قد اندمل ،حتي رأيت وجها ذكرني بتعبيرات وجهها عندما كانت ترجوني أللبي طلباتها".
لم يجب مراد ،بل ظل منصتا دون أن يجرؤ حتي علي التفكير فيما قد تعنيه البارونيس.
"كان هذا الوجه هو وجهك أنت...كان بالنسبة لي دليل كاف لم أحتج معه الي اوراق ألعرف أني أتحدث مع حفيدي".
حاول اإلسراع باإلجابة لكن لم يجد ما يقوله .كانت الكلمات تخنقه لما لها من مدلول سيغير مجري حياته" .أتعنين يا سيدتي أنني...أن
حمزة"...
"نعم ،و ها أنت ذا تحمل دليال آخر بين يديك .لقد هربت ابنتي بعد أن أصرت أن تحتفظ بالجنين...فقد كان عليها أن تتخلص منه .لكنها
رحلت مع حمزة ،وقد اخذت هذه البطانية مع حاجياتها استعدادا الستقبال الطفل".
مادت به األرض و تمني لو فقد الوعي ليهرب من ذلك الموقف .لكنه ظل يحدق إلي السيدة و هو غير قادر علي التصديق...
"أنا مقدرة لما تمر به اآلن ،أنت بحاجة للوقت لكي تتلقي خبرا بهذه الضخامة"
"كل ما كنت ارغب في معرفته ،هو سبب استخدام حمزة إلسم ابنتكم لحسابه السري"
"ان كان هذا هو األثر الوحيد الذي تركه ،فلعله كان يرغب أن تعرف ما عرفت صباح اليوم".
"دع الوقت يمر ".سكتت لبرهة ثم استطردت" ،لن استطيع أن أعدك اآلن بكلمات األم المحزونة ،فيتراجع عنها عقل البارونيس فيما
بعد "،اذا احتجت ألي شيء يمكنك أن تتصل بي".
"لست في حاجة الي المال يا سيدتي ،كل ما كنت بحاجة إليه هو معرفة طريق أخي .لكني ال أعرف اآلن عمن أبحث و لماذا استمر في
البحث"
"إذن توقف عن البحث ،و ليكن تفكيرك في تأمين مستقبلك .ألديك مصدر دخل؟"
"پاليه دي ال نيج؟"
"نعم ،هو"
نظرت اليه في شفقة "أنت تعرف أن ما أنت بصدده ليس باألمر الهين .إن نجاحك اآلن يعتمد علي قدرتك علي تخطي الصعاب ،و أولها
أن تتمكن من السير علي قدميك".
تخللت اشعة شمس الشتاء النافذة الصغيرة حيث جلس مراد يتأمل طلوع النهار .لم يبرح كرسيه ،و لم يعبأ بآالم رقبته .أقبلت عليه داده حليمة
فالتفت لها دون أن يبتسم.
"ليه بس يابني؟"
"يابني ،أنا مهما كنت اسمي خدامتكم ،و احنا شغلتنا اننا نشوف طلباتكم و ما نشوفش و ال نسمعش حاجة تانية .كنت حتعمل ايه لو كنت قلتلك ان
ابوك مش اللي انت كبرت تقوله بابا ،و ان أمك اللي روحك فيها تبقي في الحقيقة جدتك؟"
"امي وال جدتي ،ماتفرقش .،ماتشرفش بإنسانة استغاللية بتتجوز الرجالة علشان فلوسهم".
"أل يا مراد .،كله إال الغلط فيها .انت يابني مش عارف ظروفها كانت ايه .و ال هي كانت ست بطالة و ال مدت ايدها علي مال حرام".
"كانت غلطة و ربنا أعلم باللي في النفوس .واهي دفعت التمن غالي لما اهلها اتبروا منها! كنت عاوزها تعمل ايه؟ لو ما كانتش عملت اللي هي
عملته ده كنت القيت تاكل وال تلبس وال تتعالج؟"
"ماعرفش .،يمكن ال أنا و ال حمزة كنا لقينا نفسنا في الموقف ده .ما تنسيش اني جعت و اتشردت كام سنة و انا مش عارف ليا اهل واال أل".
"يابني ما تزعلش مني ،مش حينفع نغير اللي كان ،و عليك تبص لقدام .المهم دلوقتي انك عرفت ان اخوك مايقربش للي اسمه ايهاب ده و تقدر
تثبته في المحكمة" .
"الموضوع ده ال حيقدم و ال حيأخر و مش من مصلحة حد انه يعرفه .المهم دلوقتي انك تطعن في شهادة الميالد اللي علي اسم توفيق الشيمي".
"دي مشكلة تانية ،ألن عوني المحامي مش حيجرؤ يشتغل معانا".
"يا خويا ماللي خلقه خلق غيره .و لو مالقيتش اشتغللك انا محامية"
ضحك مراد علي جملتها فبادلته الضحك" ،ايوه كده يا حبيب داده ،اضحك و ما تشيلش هم حاجة"
"ايوه ،انا طبعا ما بعرفش اتكلم فرنساوي ،و كانت علي طول مع حمزة ،بس كانت هادية و مؤدبة و في حالها".
"انا ماعملتش حاجة بس طبعا زعلت .إقبال هانم اللي زعلت و فتحت ابواب جهنم لما عرفت ،و اللي زاد و غطي انه جاب البنت تعيش معاهم.
هنا في البيت ده ،بعد ما هربت معاه من اهلها".
"انت كأنك بتكلميني عن حد ماعرفوش .عمري ما كنت اتصور حمزة واحد ماعندوش احساس بالمسؤلية انه يحط بنت صغيرة في الموقف ده".
"برضك يا مراد مش عايزاك تظلمه .كفاية انه ماتخالش عن البنت و كان ناوي يتجوزها اول ما يتم السن القانوني".
"ماشي ،ممكن تعمليلي الليمون و نجهز علشان حاروح للدكتور كمان ساعتين؟"
***
أتم مراد قرابة الشهر عندما عادت به الطائرة من برجامو الي مطار مرسي مطروح .،حيث كان فرحات في انتظاره بالسيارة .لكن لم يكن وحده.
كان صبحي برفقته ،الحظ عليه مراد بعض التغيير لكن لم يحدد نوع ذلك التغيير.
"اهال حبيبي ،حمد هللا عالسالمة يا مراد بيه ،انشاهلل تكون اتوفقت" قال فرحات و هو يعانق مراد
"الف حمد هللا عالسالمة يا باشا ،و هللا المزرعة .ضلمة من غيرك" قال صبحي مقتربا لمعانقة مراد لكن مراد اكتفي بمد يده لمصافحته.
"ال مؤاخذة يا باشا ،مع اني وهللا غاسل سناني ".التفت الي داده حليمة " منورة مصر يا حاجة"
"هللا يخليك يا صبحي .يالال ايدك مع عمك فرحات علشان تركبوا مراد بيه العربية"
بعد قرابة ساعة و نصف علي الطريق ،لم يتحدث مراد فيها مراد تقريبا وصلوا الي المزرعة ،حيث كان عمر في انتظاره عند مدخل القصر و
ما ان توقفت السيارة حتي فتح الباب و حمل مراد خارجها" ،حمد هللا عالسالمة يا شقي ،ياللي بتسافر في الخباثة .انشاهلل تكون انبسطت"
"في تفاصيل حيبقي صعب اقولهالك .يكفي اني اقولك اني رحت نيس و قابلت اهل ماري هيلين"
"غالبا كان فاكس ،و لو اني مش فاهم يعني ايه.المزرعة .عاملة ايه ،بالحق؟"
ضحك عمر و هو يدخل القصر حامال مراد " ،المزرعة .تمام ،و صبحي بيشتغل معانا دلوقت ،األسبوع ده مع حسام في مزرعة .الخضار .و فيه
مفاجأة علشانك".
اجلسه علي الكرسي المتحرك بعد أن ادخله فرحات ،و اقتاده عبر الردهة األخري ،و فتح الباب،
"ال معقول .،وضبنالك السان روم .،و تقدر تقعد فيها زي ما يعجبك".
نظر مراد و السعادة تتراقص علي وجهه .،و هو يشاهد مكانه المفضل الذي ظل مهمال مهجورا طيلة عامين .كان اشبه بالبيت الزجاجي ،لكن
كانت اشعة الشمس تدخله وقت العصر فقط ،و قد امتألت أرجاؤه بالنباتات االستوائية النادرة .ضغط عمر علي زر فتدفق الماء من نافورة في
منتصف الغرفة .كانت اشعة الشمس تمأل الغرفة بلونها النحاسي ،فتنعكس علي األريكة الحريرية و ما عليها من وسائد وثيرة .تلك الغرفة كانت
هدية حمزة له فور قدومه .الي مصر.
"مش مالحظ فيه تغيير عليه؟ شكله اتغير خالص ،بس مش قادر احدد ،مشيته و اال تسريحة شعره و اال لبسه .الموضوع هايف صحيح بس
غريب"
"شوية بس يمكن علشان بقي يقضي وقت اطول معانا ،و بقي يروح المكتبة ،و كتير باشوفه في الجيم بعد الشغل".
"واضح ليكوا تأثير ايجابي عليه".
أثار ذلك القول شجونه و الحظ عمر" .،مالك يا مراد ،انا قلت حاجة زعلتك؟"
**
مضت بضعة أيام علي عودة مراد .،و كان يقضي عصر كل يوم في البيت الزجاجي في قراءة الكتب او االستماع للموسيقى .و بينما هو جالس،
يداعب احدي القطط الصغيرة ،دخل عليه ايهاب و علي وجهه نصف ابتسامة ساخرة.
"اتكلم بأدب يا ايهاب انت في بيتي ".قال مراد بنفس الهدوء .الذي عرف به و ان لم تخل نبرة صوته من الحزم،
"ان كنت جاي ،و ناوي تشغللي اسطوانة مال ابن عمك ،فاحب اقوللك إن مافيش صلة قرابة بينك و بين حمزة يعني مجيك هنا مالوش معني .و
ان كنت مش مصدقني ،إسأل شريفة هانم عمتك".
"شارب مية بليمون .عمك توفيق بيه كتب حمزة علي اسمه مع انه مش ابنه .و المستندات اللي تثبت ده موجوده مع المحامي و خالص قدم طعن
في الشهادة اللي موجودة"
"يمكن ،بس تحب تبعت اخطار علي يد محضر لعمك في المقابر؟ و لمعلوماتك .،المحامي مش هنا في مصر ،يعني بعيد عن البلطجة اللي
ضيعت بيها عوني"
"بقي انت هزيت طولك علشان تقوم محامي بالورقة اللي مالهاش الزمة اللي معاك دي؟ برافو عليك ،و الناس صدقتك و صدقت بجد انك
مشلول .تمثيلية هايلة ،بس انت اللي فضحت نفسك".
"سيب القطة و بالش جنان ،ده مخلوق بريء مالوش ذنب!" صرخ فيه مراد،
عبثا حاول مراد ان يستعيد القطة من يده ،و لكن غرقت محاوالته بين ضحكات ايهاب القاسية القطة تموء مستغيثة في يده.
و بعنف ألقي بالقطة علي الحائط و في نفس اللحظة لم يشعر مراد بنفسه و هو يلقي بنفسه من األريكة و لكنه سقط علي األرض.
نظر له ايهاب في احتقار و تشفي" ،الدكتور بتاعك بيقول إن مافيش أي سبب عضوي يمنعك إنك تمشي .و ده راجل صاحب عيال ،قال كل
حاجة علشان مايتبهدلش .يعني انت عمال تمثل"
حاول مراد أن يصل الي كرسيه المتحرك زاحفا ...و لكن ايهاب دفع بالكرسي نحو الردهة .خارج الغرفة بقدمه.
"شايف نفسك و انت بتزحف تحت رجلي زي الصرصار؟ ده بس علشان تعرف أنا أقدر أعمل ايه ،و يكون في علمك إني قريب قوي حاطردك
برة المزرعة .بتاعتي".
نظر مراد له في حرقة ،و هو ال يدري كيف تحول ايهاب الي ذلك الوحش المجرد من االحساس .أي حقد كان يحركه .،و لم يمعن في إيذائه الي
حد اإلذالل؟
رحل ايهاب و هو يضحك في ظفر ،و مرت دقائق طويلة حاول مراد فيها أن يصل الي األريكة ،و صاح في يأس" ،يا عم فرحات ...يا دادة
حليمة ...يا عم فرحات"...
لكن لم يسمعه احد في تلك الغرفة المنعزلة .سمع خطوات في الردهة ،كانت اسرع وقعا من خطوات ايهاب ،لعله عمر أو أحد الشباب قد جاء
ليطمئن عليه .لم يكن الوجه القلق الذي اسرع بالتقاطه عن األرض و حمله بالوجه الذي ينتظره.
"ايه ده ،ايه اللي دخلك هنا يا صبحي .نزلني دلوقتي حاال"...
"يا باشا احمد ربنا اني شفت المنظر اللي شفته .ربنا عالمفتري".
اجلسه علي الكرسي المتحرك ،و أتاه بالبطانية التي كانت علي األريكة مغطيا رجليه بها .و دفع بالكرسي الي الصالون .و نادي علي داده
حليمة" ،يا حاجة ،ياحاجة أم عماد .،تعالي قوام!"
جاءت حليمة تهرول لتجد مراد علي كرسيه يبكي في صمت .و صبحي يربت علي كتفه" ،معلش يا مراد بيه".
"روح هات القطة اللي رماها .،مش بتقول شفت اللي حصل؟"
"ايهاب يا داده ...ده مش ممكن يكون بني آدم ..ابعتي لعمر ييجي قوام".
ذهبت حليمة لتستدعي عمر ،و تعد لمراد مشروبا يهدئه ،و عاد صبحي و في يده القطة جثه هامدة.
"شايف يا صبحي عمل ايه؟ اللي يقتل مخلوق بريء يبقي ايه؟ هو ده اللي بتخدمه و بتوصلله اخبارنا .النهارده القطة و بكرة بني آدمين!"
"حد هللا ما بيني و ما بينه يا باشا .يعلم ربنا أنا كرهته قد ايه بعد اللي شفته"
عادت دادة حليمة بكوب من الماء بالليمون ،و تناوله مراد بأصابع مرتعشة.
"كتر خيرك يا صبحي انك لحقته"
ارتبك صبحي " ،كنت معدي جنب الشجرة و شفته و هو رافع القطة فاستغربت ،قربت اشوف لقيتك بتقع من علي الكنبة"
جاء عمر و هو يجري ،و لم يكد يلتقط انفاسه " ،مراد .،انت كويس؟".
"ايهاب عمره ما حيعتب القصر تاني" قال عمر" .،و مش حنسيبك لوحدك أبدا".
نظر مراد و قد استعاد هدؤه "من هنا و رايح صبحي حيبقي معايا يساعدني علي متابعة المزرعة .يالال يا صبحي ،روح جهز نفسك علشان من
بكرة الصبح نازلين المزرعة".
لم يكد يصدق صبحي نفسه ،اخيرا لقد واله الثقة" .تحت امرك يا سعادة الباشا" و خرج مسرعا.
قال عمر مستنكرا " ،هو ده بالظبط اللي ايهاب عاوز يعمله"
"علي رأي دادة ،باسلم القط مفتاح الكرار "،ثم ابتسم ،و التفت الي داده حليمة "يعني ايه كرار يا دادة؟"
لم يكن الضباب قد تبدد بعد صباح ذلك اليوم عندما توجه صبحي الي االسطبل ،ليفيض بمكنون قلبه لمن ال يفشي سره .ابتسم لحظة أن
رأه،
"أنا عارف اني غبت عليك كتير ،بس ايه رأيك في النيولوك؟ و لسة ،أنا كل يوم عمال اقرب ،لحد ما اوصل ،يمكن اوصل بعد سنين،
لكن مش مهم.".
لم يكترث لصمت الجواد و استمر" ،شفت ابن الحرام عمل ايه في الواد الغلبان؟ ذنبه ايه اذا كان اخوه مجرم بيتاجر بأرواح الناس؟ بس
أنا ما سبتوش ،طلعت جري عليه لما شفت ايهاب بيلعب معاه الدنيئة ،رايح يتشطر علي واحد عاجز .مانا كنت عامل برج مراقبة وسط
الشجر علشان اشوفه واعرف بيعمل ايه و هو قاعد لوحده .يعني ال بيتصل بجهات اجنبية و ال بيخطط لقلب نظام الحكم ،يبقي ايهاب
حاطه في دماغه .قوي كده ليه؟"
اقترب منه صبحي فتغيرت مالمح وجهه" .البرفان القاتل اللي انت حاطه ده ما تستعملوش تاني ابدا .خللي لبيبة تجيبلك ازازة الكولونيا
من الحمام ،و استعملها زي مانت عاوز ،اما البرفان ده تدلقه في التواليت احسن!"
"حاضر يا باشا".
و ما ان رحل حتي اقترب مراد من االسطبل و فتح الباب لرهوان ،الذي خرج من مكانه يصهل برفق نحو مراد الذي مسح علي وجه
الجواد" ،وحشتني قوي يا رهوان .انا عارف ان هو كمان وحشك...نصيبنا نستناه سوا ،بس انا خالص ،مش حاسيب العجز يحوشني
عنك و ال عن المزرعة.".
"طيب روح خد دوش سريع و حط كولونيا لو عايز ،و تعالي قوام علشان ورانا شغل كتير".
و انصرف مسرعا،
"ايه رأيك يا رهوان؟ يستاهل فرصة تانية و اال مانآمنلوش؟ يا ريتك كنت بتتكلم ،كنت تحكيلي عن حمزة و تطمني عليه...آكيد انت
الوحيد اللي عارف سره .بس انا خالص مش حدور ،و الزم اكمل اللي بدأه .يالال ارجع بقي ،لحسن صبحي يشوفنا يقول علينا
مجانين ".و ربت علي شعر الحصان في حب خالص ،و تراجع الحصان الي مكانه كأنما فهم أن اللقاء قد انتهي .أغلق مراد الباب ،و
اتجه الي خارج االسطبل.
"حنفوت علي المدرسة األول" و اتجها الي المدرسة .كانت تتكون من بضعة فصول ،و ألحقت بها حديقة صغيرة لزراعة الخضروات.
فوجيء صبحي بسعادة األطفال و هم يتناولون طعام اإلفطار مع معلميهم .،و كيف كانوا مقبلين علي التعلم دون خوف او ضيق.
"ايوه ،زي مانت شفت فيه ناس بتيجي من األقاليم مع اسرهم .،غير ان العربان بيجيبوا والدهم يتعلموا هنا ،بس مش كتير ألن زي مانت
شايف نظام المدرسة .مختلط".
قضي مراد وقتا يتحدث مع األطفال و يطمئن علي أحوالهم ،و لم يغادر قبل أن يعرف أسماءهم ،و يسألهم بعض األسئلة ليعرف مدي
تحصيلهم .،بل و قام بعمل بعض األشغال اليدوية مع بعضهم .لم يشعر بالوقت يمر في صحبة األطفال .ظل صبحي طيلة الوقت واقفا
يراقبه في فضول .كان مراد يتحرر شيئا فشيئا من قيود العجز و ها هو ذا يفتح قلبه لطوفان من الحب بغير شروط ،فقد اعيته الكراهية
و الحقد اللذان واجههما طيلة الشهور الماضية .ودع األطفال بعد أن وعدهم .بالعودة في اليوم التالي.
كانوا شباب من عدة اجناس ،أغلبهم من الدول األوروبية ،اتوا ليتعلموا اصول الزراعة الدائمة و يتدربوا في المزرعة .عرفهم مراد
بنفسه و رحب بهم ،و قد حرص علي معرفة .اسماءهم ومن أين أتوا ،فرحبوا به في غبطة و تقدير لقدومه اليهم برغم ما يعانيه ،كما
حرصوا علي أن يري بنفسه المشاريع الصغيرة التي قاموا بها من زراعة مختلطة و بيوت للحشرات النافعة ،و انتاج السماد من المواد
العضوية.
و بعد أن انتهت الزيارة قال صبحي و قد بدا عليه اإلرهاق" ،لسه حنلف تاني؟"
"و هو احنا لسة عملنا حاجة؟" قال مراد مستنكرا في مداعبة" ،لسة اليوم طويل ،بس يالال بينا علي الكانتين .أنا مبسوط منك انك بقيت
تاكل في الكانتين ،بس اوعي تكون بتقعد تاكل لوحدك".
"ال باقعد مع الشباب ،و كلهم زي العسل ،و بنلعب كورة مع بعض و بنروح الجيم".
داخل المطبخ ،شاهد االثنان كيف كان عمال المطبخ السوريون يعملون ،وسط القدور الضخمة التي امتألت بالحساء الساخن.
"هم ليه كلهم سوريين يا مراد بيه؟"
"ألنهم شاطرين ،و الناس بتحب األكل بتاعهم ،علي العموم مش كل يوم بيكونوا هنا ،بس أي حد بيشتغل في المطبخ الزم يتدرب علي
النظام و النضافة"
"طيب ،دلوقتي استعد علشان أنا اللي حاغرف الشوربة للجيش اللي داخل علينا دلوقتي"
و دق الجرس معلنا ساعة تناول الغداء أقبل فيها جميع من كان في المزرعة دون تدافع او تزاحم .كان مراد يقدم الحساء لهم دون كلل و
لم تغادر االبتسامة شفتيه فاستقبلها الجميع بحرارة .جاء دور عمر الذي نظر لمراد في ارتياب ، .و كانت تقف خلفه سيدة شقراء ،تبدو و
قد جاوزت األربعون كانت احدي المتدربات ،ابتسمت لمراد كما لو كانت تعرفه و انضمت الي زمالئها.
جلس مراد بعد ذلك يتناول طعام الغداء مع عمر" ،ممكن .تفهمني يا ميرو ايه اللي انت بتعمله؟".
"و ده هايل ،و انا حاسس بالمود بيتغير فعال " .ثم التفت نحو صبحي الذي كان يجلس علي طاولة أخري" ،بس ايه الحكاية دي؟ قط و
كرار ،ناوي علي ايه"
"هي لعبة خطيرة شوية ،و علشان كده عايزكم تسيبوا السكن و تيجم تقعدوا معايا في القصر"،
"كلنا؟"
"ايهاب ممكن يكون عمل حركة امبارح علشان يوصلني لحالة من الرعب ،و لو أنا فاهمه .صح ،حيجرب حاجة اكبر المرة الجاية و في
خالل مدة قصيرة .و في نفس الوقت ،حيدي الفرصة لجواسيسه يجيبوله اي معلومات ممكن تفيده".
"تفتكر؟"
"امبارح كان جاي ناوي علي الشر ،و اللي كان عليه إني بامثل الشلل"
"عمر انت قلت لمين ان الدكتور قاللي فيه أمل أرجع أمشي؟"
"أكرم ،اشمعني؟"
"دي كلها اعراض ما تطمنش ،و بعدين ايهاب عرف منين اني كنت مسافر؟"
"صبحي معروف من زمان .،لكن األيام الجاية حتكشف الشخص اللي بيخوننا و حنقدر نقطع رجله من المزرعة".
"هو كمان باينة عليه اعراض ما تطمنش .زي ما يكون بيحاول يقلد حمزة في مظهره ،لكن طبعا بطريقته...مش عارف عاوز يوصل
إليه"
"دول كانوا راكبين مركب صيد علشان يهاجروا علي اوروبا ،بس المركب غرقت بيهم .،و اخويا لحقهم بالمركب بتاعته و جابهم علي
هنا"،
التفت له مراد بنظرة جوفاء" ،أخويا كان غني ،و مبسوط ،و كان عايز يساعد اللي حظه ماوفرلوش نفس الفرص .كان صعبان عليه
ناس تموت في البحر و يكون عنده مركب و مايمدلهمش ايده .بس دفع تمن طيبة قلبه و اختفي من غير ما نعرفله أثر"
"لو قصدك الحكومة اللي زي ايهاب ،ايوه عارفين ،و كانوا بياخدوا تمن سكوتهم .لكن لو قصدك مؤسسات الحكومة زي وزارة الشؤون
االجتماعية ،أل ماكانوش عارفين و ماكونش مهتمين .ده كان عمل خير هو بيعمله من غير حكومة و ال غيره".
"طيب يعني الناس اللي هم بيقولوا عليهم سماسرة الهجرة دول ،كويسين واال أل؟"
"السؤال ده ماقدرش اجاوبك عليه ألن صوابعك مش زي بعضها ،لكن اكيد اللي ماتهموش .حياة غيره و يفكر بس في الفلوس مايبقاش
كويس" .
"قول يا بيه"
"الثقة مش ممكن تكون من اتجاه واحد ،الزم تكون من اتجاهين ،لو انت بتثق فيا انا كمان حاثق فيك .لكن الثقة من اتجاه واحد دايما
يكون عمرها قصير".
"انت ليه بعيد كده يا بيه ،دايما لما بتكلمني باحس انك قاعد في برج عالي و انا مش طايل حتي اشوفك"
"و ما تحاولش تطلع برج مالوش وجود ،ألنك مش حتالقيني فيه ،خليك علي األرض و قابلني من مكانك".
نظر له صبحي في حيرة .لكن مراد لم ينتظره و اتجه وحده الي بوابة القصر.
***
مضت ليلة رأس السنة في هدوء لمراد ،فلم يشأ أن يختلط بالناس في ذلك الوقت ،و آثر أن يمضي ذلك الوقت وحده ،يأتنس بذكرياته،
مالم تحطمه منها الصدمات و ما قد تحطم .و تمني ليلة سعيدة لكل من كان يحتفل في تلك الليلة .جلس يستمع الي احدي أغنيات
الفالمنكو التي غناها حمزة في الماضي عندما كان شابا جامحا يجوب العالم و يصحبه الجيتار و عشقه الجارف للحياة.
أما صبحي فقد استأذن في الذهاب الي القاهرة ليمضي يومين في داره مع أمه و شقيقه .بات من العسير عليه أن يعود لمثل عاداته
السابقة بعد أن أكسبته حياة المزرعة .عادات جديدة .كان للتغيير الذي طرأ عليه منذ بدأ يختلس طريقه الي غرفة حمزة سحر خاص في
اعين احدي جاراته ،التي سبق و أن التقي بها في غياب زوجها.
استلقي علي الفراش في ساعة متأخرة من الليل بجوارها و قد جفاه السبات .أشعل سيجارة و ظل يفكر في أحواله و ما قد آل إليه .لم
يكن في نيته أي مما حدث ،فماذا بعد انتهاء مهمته ،أيغادر المزرعة؟ .بدت له تلك الفكرة مستحيلة.
"ال مش عايز".
اعتدلت في جلستها" ،إنت حالك مش عاجبني .مانتاش صبحي الجن بتاع زمان".
ضحك في سخرية" ،صبحي الجن ما خالص راحت عليه .أنا دلوقتي باشتغل في مزرعة بعيد و سبتني من أيام الشقاوة".
"نفسي أعرف ايه اللي مصبرك علي الشغل في آخر الدنيا كده ،الفلوس؟"
"يا واد اطلع من دول .،أنا عارفة انك شغال مرشد مع الحكومة.".
"ما هو ده اللي شاغل بالي" سحب صبحي نفسا طويال من سيجارته ،و نفثه ببطء" ،شكلي مش حاعرف أعمل اللي الحكومة عايزاه".
"ليه يعني ،وانت فيه حاجة تستعصي عليك ،ده انت قلبك ميت".
"ما صحي بقي واللي كان كان .اللي حارقني إني شايف الظلم بعنيا و ساكت عليه .طيب ازاي يبقي معاه الحق و يتعافي علي واحد
عاجز ...و مش أي واحد عاجز ،ده مالك ،عايش علشان يخدم غيره و هو مش محتاج ،بس بعيد ،بعيد قوي عن الدنيا الي احنا عايشين
فيها ،علشان كده عايزين يخلصوا عليه ...بس المزرعة من غيره تبقي خراب ،تبقي صحرا".
"طيب خالص خالص "..قال ايهاب في صبر نافد" ،اسمع ،األسبوع ده حييجوا ناس يضربوا نار بره ،تهويش يعني .انت أول ما تسمع
ضرب النار تاخد بعضك و تجيب أي ادلة معاك و تحصلهم .و تبقي كده براءة و تاخد الخمستالف جنيه ،ايه رأيك بقي؟"
"مش شغلك بقي ،المهم تبقي مرتب حالك أول ما تسمع ضرب نار تمشي".
"اسمع ياله ...اوع تكون استحليت القعدة في المزرعة و افتكرت نفسك واحد من الشباب الروش اللي هناك .انت تخلص شغالنتك و
تجيب المصلحة و تنك راجع".
"ماشي سعادتك".
****
في تلك األثناء ،حرص مراد علي ممارسة العزف علي البيانو و تمارين الصوت ،حتي ال تصدأ موهبته ،و إن لم يكن هناك ثمة أمل في
عودته للغناء .و بينما هو يلتقط أنفاسه .سمع طرقا خفيفا علي الباب ليجد اكرم و قد تجهم وجهه ،فأذن مراد له بالدخول.
"ازيك يا مراد"
"الصراحة ايوة يا مراد .انا فضلت زيادة علي الشهرين ساكت ،بس خالص ،ماينفعش اشوفك بتغرق بسبب اختياراتك الغلط و اسيبك"
"اخوك سايبك أمانة في رقبتي ،تقوم تسافر و تروح و تيجي من غير ما تقولي؟ لقيتك قربت من عمر قلت مش مشكلة انت طول عمرك
بترتاحله ،لكن عمر مايستحقش الثقة .و األيام ورتلي انه علي طول كان بيتكلم مع اللي اسمه صبحي ،اللي هو همزة الوصل بينه و بين
ايهاب".
"أنا عارف انه خطير ،بالذات انك خليته يقعد في القصر معاك و معاه الخمسة اللي بيثق فيهم .هو اللي مخليك تبعدني عنك علشان
يستفرد بيك و يوصل كل حاجة إليهاب".
"بس يا أكرم ،عمر ماجابش سيرة البيع وال مرة"
ثار أكرم " ،يا مراد افهمني ،انا عايزك تخلص من المزرعة علشان ظروفك ماتسمحش انك تديرها .،و لو استمريت ،ايهاب حيالقي
طريقة يطردك منها و ماتطولش منها حاجة .أنا طبعا مش هسمح ان ده يحصل .بس حط عقلك في راسك".
"عندك حق يا أكرم .أنا فعال ماقدرش .ادير المزرعة بنفسي و أنا في الحالة دي .و نزولي المزرعة كان بهدف اني اقيم الوضع قبل ما
اشوف الخيارات اللي قدامي بالنسبة للبيع" .
"ده اللي أنا كنت عامل حسابه .اتفضل لم حاجتك و امشي ...انت مش حتبات هنا" قال مراد في حزم ال رجعة فيه.
لم يضف شيئا آخر ،و لم يعقب صبحي ،فقام في خذالن منكسا رأسه ،و قد انتهي كل شيء .شعر و كأنما تكسر من داخله كلوح من
زجاج .كان يائسا لدرجة أنه لم يحاول تفسير موقفه.
نزل الدرج يتبعه مراد و الشباب .و ما ان خرج خرجوا وراءه" ،لما تلم حاجتك كلها تيجي علي هنا تاني .حتوصل لمحطة مطروح و
تركب من هناك"
"دي مش مشكلتنا ،كان الزم تفكر قبل ما تخون الناس اللي مدولك ايديهم".
قال عمر" .،ما عادش ينفع األسف يا صبحي .انت أخدت اكتر من فرصة .،و أكيد دي مش أول مرة تدخل أوضة حمزة .لو سمحت
بالذوق كده ترجع اي حاجة اخدتها من هناك قبل ما تمشي".
**
جمع صبحي حاجياته القليلة و هو يصارع البكاء واتجه مرة أخيرة الي االسطبل ليودع رهوان.
"انا اللي استاهل يا رهوان .الشيطان اللي اسمه ايهاب لعب بيا و خالني وقعت في الغلط ،و اديني دلوقتي بانطرد من الجنة ".و أجهش
بالبكاء .لم يكن من الممكن أن يدع نفسه يبكي أمام أي من كان ،سوي رهوان .و عندما تمالك نفسه .جفف دموعه .و اتجه نحو الباب
األمامي للقصر.
"أنا ماخدتش حاجة يا بهوات ،و ممكن .تفتشوني لو عايزين .شنطتي اهيه قدامكو " فتح الحقيبة مظهرا حاجياته القليلة و لم يكن بينها ما
يستدعي الريبة " .اي حاجة تانية انا ماجيتش بيها سبتها في األوضة" قال صبحي مغلقا الحقيبة ،و اتجه نحو الباب األمامي للمزرعة
علي قدميه.
و في تلك اللحظة قطع صوت طلق ناري صمت الليل ،و ظهر ملثمون يرتدون جالبيب بيضا .و يحملون في ايديهم البنادق .اشاروا
للشباب و لمراد برفع ايديهم ففعلوا ،و اسرع احدهم تجاه مراد .،حامال اياه علي كتفه.
صرخ عمر " .،مرآآاد ....سيبوه ،عاوزين منه ايه؟؟".
استغل صبحي حالة الهرج التي سادت المكان فجري مسرعا الي االسطبل ،نحو من وثق فيه" ،رهوان ،دلوقتي مش وقت كالم .أنا باثق
فيك و خليتك تشوف دمعتي ...دلوقتي مراد محتاجلك ،يالال نروح نلحقه ".و فتح له الباب ،فاستجاب له الجواد ،و اذن له بتلجيمه ،و
امتطي صهوته في يسر .و اسرع نحو الملثمون الذين ساروا في اتجاه الباب األمامي للمزرعة .لحق بهم صبحي ،ووثب علي الذي
اختطف مراد ،فأسقطه أرضا .في تلك األثناء كان الشباب قد عثروا علي األسلحة و اشتبكوا مع الملثمين ،و تبادلوا اطالق النار .حمل
صبحي مراد ووضعه علي صهوة الجواد بحيث ال يسقط و هم بامتطاء الجواد ،ففاجأته طلقتان سقط علي اثرهما" .،اجري يا رهوان.،
ابعد بمراد من هنا!!" صاح صبحي و قد ادرك أن تلك هي النهاية .سالت دماؤه علي الحصي ،و توقف ضرب النار .شعر بزوجين من
األيدي تحمالنه في اتجاه القصر .و سمع اصواتا كثيرة لناس لم يقدر عددهم .
*
قال عمر" .،حانروح نلحقه دلوقتي ،المهم نتأكد ان كل الناس في أمان و ماحدش فاضل من والد الكلب دول".
كان هناك صوت صراخ و اقدام تعدو في ذعر خارج القصر ،كانوا المتدربين و الالجئين الذين لم تكن لديهم أسلحة.
صاح عمر و مراد " ،ادخلوا ،ادخلوا جميعا ،واتجهوا الي القبو بسرعة ،هناك متسع للجميع" .
"ادخل انت جوة يا مراد .احنا معانا سالح و حنفضل واقفين علي الشبابيك .عم فرحات ،ايدك معايا نجيب صبحي من برة" ،
حدث كل شيء بسرعة .،جمع فيها مراد كل قدرته علي بث الهدوء .و الطمأنينة في النفوس المذعورة .كانوا زهاء 120شخص ،حرص
مراد علي التعرف عليهم فردا فردا ليري ما اذا كان ينقصهم احد .اطمأنت نفسه لرؤية داده حليمة و لبيبة بينهم .وقعت عينه علي اكرم
الذي كان متوترا كما لم يره من قبل ،كان يبدو موشكا علي نوبة عصبية .نزل عمر و فرحات الي القبو يحمالن صبحي ،وقد بدا فاقد
الوعي،
"مراد ،احنا الزم نسعفه ،اخد طلقة في كتفه و طلقة في ضهره"
" احنا الزم نخرج تاني نجيب علوان الحارس ،شكله اتصاب هو كمان".
اقبلت دكتورة ناهد ،ترتدي جلباب النوم ،فقد اتت مسرعة هي األخري عندما سمعت ضرب النار" ،انا مافيش معايا علبة اسعافات ،يا
تري عندك اي حاجة أقدر استعملها؟".
"ايوه ،اطلعي يا لبيبة قوام هاتي علبة االسعافات من دوالبي ،حتالقيها علي الرف التاني " .واستجابت الفتاة علي الفور.
كان صبحي يئن في وهن .،وقد استلقي علي فراش قديم كان في القبو و ظل مراد و الدكتورة ناهد بجواره حتي تعود لبيبة بعلبة
االسعافات" ،مراد ،مراد .،أنا و المصحف ما مديت ايدي علي حاجة و مابعتكش إليهاب"
"الزم تسمعني...انت مش عارف غالوتك عندي قد ايه ،يا ريتك دلوقتي تكون عرفت اني افديك بروحي".
"و بعدين معاك يا صبحي ،اهدي لحد ما الدكتورة تسعفك ،و الصباح رباح"
عادت لبيبة ،و عاد بعدها عمر و فرحات و هما يحمالن علوان الذي كان متأثرا بجرح في ساقه.
التفت مراد الي الذين اجتمعوا لديه في القبو"،استمعوا الي من فضلكم .حرصا علي سالمتكم عليكم البقاء هنا حتي الصباح .نحن
نتعرض لهجوم ارهابي في سابقة تحدث ألول مرة .اذا اردتم يمكنكم ن تستقلوا الحافلة الخاصة بالمزرعة في الصباح الباكر ،علي أن
تستردوا قيمة الفترة التي لن تقضوها في التدريب"
قالت له احدي المتدربات" ،بل سنبقي ،لن ندع حفنة من الهواة يطردوننا من هذا المكان"
و قال واحد آخر" ،لن نرحل"
"اشكركم .لكن عليكم بالبقاء هنا حتي نطمئن أن قوات األمن قد سيطرت علي الموقف"
"قوات امن مين ،ده قوات األمن هي اللي باعتاهم "،همس عمر.
"غني!"
"ده وقته؟"
"طيب شايف الدف اللي هناك ده؟ هاته و شوف حاعمل ايه".
ظل مراد يضرب الدف في ايقاع ثابت لعدة دقائق دون أن يلتفت له أحد .فقد كانت األصوات أعلي من صوته ،فبدأ بالغناء ،مصاحبا
النقر علي الدف فساد الصمت شيئا فشيئا و لم يبق اال صوته يستدعي حالة من السكينة شملت كل من كان بالقبو في تلك اللحظة .لم تكن
اآلهات التي يرددها بذات معني ،و كان ذلك ما يقصده ،فقد تصادف أن اجتمع بالقبو ما لم يقل عن عشرون جنسية مختلفة .ظل يغني
وحده حتي اقترب شاب طويل الشعر يحمل آلة وترية و جلس بجانبه ليصاحبه بالعزف ،و اقترب شاب آخر بآلة صغيرة ،تحدث صوتا
غير مألوف ،عرفت بقيثارة الفم.
وصل عدد العازفين الي ستة اشخاص ،وسط ذلك الجمع المشدوه بما يعزفون ،و جلس اغلبهم علي األرض ،غير راغبين أن ينتهي ذلك
العرض التلقائي.
ما إن شعر مراد بالتعب توقف ،و ابتسم ليحيي مستمعيه ،طالبا منهم أال يحدثوا ضجة مراعاة للمصابين .اقتربت منه السيدة الشقراء
التي رآها ذلك اليوم مبتسمة له ،تصحبها الفتاة التي رفضت الرحيل" ،لقد كان هذا من اروع ما سمعنا"
"اآلن فقط عرفت كيف اشتهرت بهذه السرعة في الكوت دازور" قالت السيدة الشقراء
نظر لها مراد في شك" ،اوكنت تسمعين بي في ذلك الوقت؟ لقد مضت ثماني سنوات علي ذلك"
"نعم "،مدت يدها له مصافحة" ،أنا ناتاشا ،كنت أعمل مصممة ديكور في الكوت دازور في ذلك الوقت"
بادلته االبتسام ثم التفتت الي مراد الذي قال " ،و هل أنتم سعداء ببقائكم في المزرعة؟"
"و ما هو؟"
"ال يخفي عليك تعدد الجنسيات هنا ،و ليس من السهل أن يتكامل زوار المزرعة .مع المجتمع المحلي او مع العمال المصريين لعائق
اللغة"
"هي فكرة لطيفة دون شك ،ال يفوتك انني لم اكن قادرا علي متابعة هذه األمور لظروفي الصحية"
ضحكت و افترت شفتيها عن أسنان بيضاء المعة" ،ال يهم فأنا أؤمن به ،و لقد عرفت الكثيرين ممن تم شفاؤهم من أمراض مستعصية،
أال تريد أن تجرب؟"
كانت ناتاشا امرأة رائعة ،تفيض بأنوثة ناضجة و بدت مع تخطيها الخامسة و األربعين في ريعان الشباب .بدا من المستحيل أن يرفض
مراد أمام حماستها للحياة بما فيها من أسرار و مفاجآت .ضحك في سره لنظرة عمر لها ،فقد بدا متيما بها ،و لم يحول نظره عنها حتي
استدارت وعادت الي رفاقها بصحبة الفتاة األخري".
"يا ساتر."،
اقبلت لبيبة ،و قد غادر اللون وجهها لما شهدته من أهوال في تلك الليلة" ،مراد بيه ،صبحي عايزك ضروري"
اتجه مراد نحو الفراش الذي استلقي عليه صبحي و هو خائر القوي" .جت سليمة يا صبحي ،نام دلوقتي"
"رهوان...رهوان هو الوحيد اللي وثقت فيه علشان كده وثق فيا ،و عرفنا نلحقك من ايديهم .ماتخلينيش ارجع للي كنت فيه يا مراد".
"شششششش ،نام دلوقتي و الصباح رباح .و لما تقوم بالسالمة لينا كالم تاني".
"ايهاب...هو .اللي دبر كل ده .أنا ماكنتش عاوز أطاوعه بس كان كاسر عيني بأهلي...لو عليا انا ماكانش همني ،هو قاللي انه كان
تهويش بس و مارضاش يقوللي امتي .ماكنتش عارف انه حيضرب نار و حيحاولوا يخطفوك
مصدقني؟
"انت غلباوي كده ليه ،بكره تسمعه لحد ما تزهق .تصبح علي خير".
اقتربت لبيبة" ،استريح انت كمان يا بيه"،
"أنا حافضل جنبه لغاية الصبح .روحي انتي نامي جنب خالتك و لما تقومي الصبح تخليكي جنبه ،يالال يا لبلب ما تبقيش غلباوية انتي كمان.".
ظل مراد قرابة ثالث ساعات يتأمل ذلك المشهد لقبو بيته مكتظ بأناس ال يعرف أكثرهم .باألمس القريب كان وحيدا علي األرض يستغيث ،و ها
هو يفتح أبواب بيته لمن وثقوا به باحثين عن األمان و لم يبخل هو عليهم به .ظل مستيقظا يتوقع بين اللحظة و األخري أن يتسلل أحدهم خارجا.
و قرابة السادسة صباحا ،هُيئ له بظل يتسلل خارجا من القبو ،لكنه كان قد استسلم للنوم ،فلم يعرف ان كان هذا حلما .سيتغير كل شي مع
اشراقة شمس اليوم الجديد .كان موقنا أن ما سيفعله ايهاب بعد ذلك سيوقعه في الخطأ ،و لكن كيف كان ليحمي نفسه من نتيجة افعال ذلك
الملتاث؟
**
مر اسبوع علي الحادث و قد دبت روح جديدة في المزرعة .،ساد فيها جو من األلفة و المحبة بين سكان المزرعة علي اختالف اطيافهم .شعر
صبحي باشعة الشمس تتسلل عبر زجاج النافذة و تداعب جفنيه ليستيقظ .اعتدل في جلسته و كان ال يزال ذراعه معلقا الي صدره عندما سمع
صوت الكرسي المتحرك يقترب.
"هم مين؟"
لم يصدق صبحي عينيه عندما دخلت امه عبر الباب في لهفة يتبعها شقيقه" .الف سالمة عليك يا عين امك" و احتضنته بحرقة ،و جعل هو يقبل
يدها .انسحب مراد بهدوء .ليعطيهم بعض الخصوصية.
"البركة في األمير ابن األمرا مراد بيه ،بعتلنا نيجي و جينا هوا .الحمد هلل يابني ان ربنا نجاك"
"ماخبيش عليك يابني ،الحالة ما تسرش .البلدية مستقصدانا مش عارفة .ليه و كل يوم و التاني يهدولي الفرشة و يرمولي الحاجة علي األرض...
خالص تعبت يابني و ماعدتش قادرة عالبهدلة دي".
"و انت يا حمادة مش تريح امك و تخليها تقعد في البيت؟ هو انا مش باديكوا فلوس كفاية يمه؟"
"ايوه يابني ،و اهو مراد بيه هللا يستره قالنا حنقعد هنا معاك وادانا سكن هنا"
اذن لم يكن مراد ينوي طرده بعد كل ما حدث .كان ذلك هو مفتاح حريته من العبودية إليهاب ،ألم يكن يهدده دوما بأمه و أخيه .هاهو قد ضمن
لهما األمان اخيرا ،خاصة أخيه ففي تلك المزرعة ما كان ليثنيه عن السفر الي سواحل اوروبا مستقال احدي مراكب الموت.
**
كان أكرم قد جمع حاجياته مستعدا للرحيل في حقيبة صغيرة و اتجه الي القصر ليودع مراد قبل رحيله .وجد ذلك األخير محموال بين
يدي عمر ،بينما ساعدته السيدة الشقراء علي الجلوس علي الكرسي المتحرك .لفت عمر نظر مراد الي اكرم الذي كان يبدو في عجلة
من أمره.
"عز الطلب!"
"معلوم .،دلوقتي ثبت إني القدر احمي الناس اللي في المزرعة .وال أحمي نفسي .بس اللي مشغلك نسي يقوللك حاجة مهمة؟".
"اللي مشغلني؟"
"بيتهيألي ماعادش فيه داعي تخبي أكتر من كده .فهم ايهاب إن البيع شبه مستحيل في غياب اوراق الملكية ،و لو حاول يثبت وفاة
حمزة ،إجراءات الطعن في شهادة ميالده تقريبا خلصت ،يعني فيه دليل قاطع انه مايورثش".
ابتسم أكرم في تهكم" .،اللي انت ما تعرفوش يا مراد إن حمزة كتب تنازل لمستثمر كبير عن القصر و المزرعة .قبل ما يختفي .اللي
عملته ده كان علشان بس يبقي في ايدك مبلغ تتصرف منه لحد ما ترجع علي اوروبا و ما تضطرش تعيش في الشارع"
"طيب ،يا ريت أقابل المستثمر ده ،واعرف تفاصيل التنازل ده و ساعتها مش حاتأخر .بس ايه دخل ايهاب في كل ده ،ماله و مال
المستثمر ده؟"
"دي حاجة ماتشغلش نفسك بيها .عندك مهلة شهرين ،اعتقد وقت كافي جدا تدبر فيه نفسك و تاخد حاجتك و تتوكل علي هللا".
لم يتمكن اكرم ،برغم كل ذلك من قدرة مراد علي االحتفاظ بهدوئه ،رغم المنحني الخطير الذي وصلت اليه األمور" .ماشي يا أكرم ،و
المستثمر ده ايه اللي يخليه يظهر دلوقتي؟ ما كان ممكن يطردني بعد اختفاء حمزة علي طول".
"ده ألن التنازل تم بعد كده بفترة ،و يبتدي تاريخه بعد شهرين .ايهاب كان بيحاول يقلل الفترة دي بإنه ياخد المزرعة و يبيعها للمستثمر
ده ،لو نجح في اثبات وفاة حمزة ،و كان يقدر ألن هو اللي كان ورا حفظ القضية اللي حمزة متهم فيها".
"انت الظاهر كل ده مافهمتش و لسة مقتنع ان حمزة ده بطل .ده واحد كان بيلعب لعبة هو مش قدها ،و ضيع نفسه و ضيع كل حاجة
معاه ،و سابك عاجز علي كرسي بعجل و هرب ،لسه مصمم تدافع عن واحد جبان و ماعندوش .مسؤولية؟ أنا عملت بأصلي و ماحبيتش
انك تتبهدل علشان كده اتدخلت".
تبادل االثنان نظرة طويلة قبل ان استدار أكرم و رحل .لقد نجح في زرع بذور الشك في قلب مراد ،و لو لبرهة مادت فيها األرض به.
كان من األيسر له أن تنهار المزرعة عن أن تنهار صورة حمزة في عينيه .لن تكون تلك أول مرة يتصرف فيها برعونة و عفوية
يتحمل اآلخرون نتيجتها.
"مافيش حاجة راحت ،نشوف التنازل ده و بعدين نشوف حنرتب نفسنا ازاي".
"مسألة وقت".
دق جرس الباب األمامي ،ليجد مراد فرحات بصحبة سيدة ،كانت الممرضة .التي أتت لتغير ضمادات الجرح لصبحي .فتح عمر الباب و
ابتسمت السيدة لتحية مراد،
اعتدل مراد في جلسته مستخدما ذراعيه ،و اتجه بالكرسي الي البيانو ،و عزف مقطوعة عليه ليمضي الوقت ...و ما ان وقعت عيناه
علي صورة حمزة توقف .و نظر للصورة في عتاب .جبان و أرعن ،أم سيء الحظ و ساذج؟ لم يكن ذلك بعذر مقبول لرجل تخطي
األربعين .و في غمرة تلك األفكار السوداء .،حدثته نفسه أن أكرم كان فقط يحاول أن يبرر خيانته لصديق عمره .لم يعرف لشعوره في
تلك اللحظة اسما ،لكن ظل ذلك الشعور يسري في جسده سما زعافا .،يخنق عقله فيسلبه القدرة علي التفكير ،و يعتصر قلبه بأيد قاسية
فيلعن اليوم الذي غادر فيه الي مصر ،بل و صار يلعن اليوم الذي ولد فيه لتلك األسرة فينشأ بين أكاذيب ال تنتهي .ان كان أكرم و
ايهاب قد خدعاه ،فكذلك فعل حمزة فتركه في ليواجه طوفانا لم يكن أبدا طرفا فيه.
"ال تعب و ال حاجة واهي كانت فرصة اتطمن ان استاذ مراد بخير".
"اتفضل"،
"ليلة الحادثة لما جيت المستشفي ،وصلت ازاي؟ انا كان مغمي عليا معرفتش مين اللي جابني".
اطرقت الممرضة محاولة استرجاع احداث تلك الليلة" ،اللي جاب حضرتك هو الراجل اللي في الصورة دي" و نظرت الي صورة
حمزة" .كان هو نفسه مصاب و بينزف ،بس ماخالناش نسعفه و هرب .لكن قبل ما يهرب كان بيترجي الدكتور انه يعمل كل حاجة
يقدر عليها علشان ينقذك .و سابلي الحقيقة رسالة غريبة قوي ،علي بال مانت فقت كنت انا نسيتها".
"ايه هي؟"
"انه عمره ما اتخلي عنك ،و ان اللي انت محتاجله عند رهوان".
جلس مراد مشدوها و هو يحدق فيها ،و اردف عمر" ،ماقالش لحضرتك حاجة تاني؟"
"مسافة ما سبته و رجعت كان فص ملح و داب .تاني يوم جه واحد تاني يسأل علي األستاذ مراد .،بس كان زي اللي مستني يسمع خبر
وفاته .كان اسمه المقدم ايهاب".
نظر عمر لمراد محاوال فهم ما كان يدور بخلده ،فأجابه مراد" ،ايهاب ماكانش يعرف حاجة عن اللي حصل ،ليلتها ،إزاي عرف إني في
المستشفي؟"
"علمي علمك يا استاذ مراد .األستاذ اللي في الصورة كان كل كام يوم يتصل بالدكتور يطمئن عليك من رقم برة مصر ،لغاية ماخرجت
حضرتك".
"كانوا اكتر من رقم .،ولألسف الدكتور سافر بعدها بكام شهر فمش حقدر ادلكوا عليه".
"العفو"
كان ذلك هو حمزة كما عرفه مراد ،ليس كما صوره اآلخرون كفتي أرعن او مجرم هارب ،لكن ماذا عن ما ذكره عن رهوان؟ اي سر
يحمله ذلك الجواد الجامح ،و كيف كان له أن يحصل عليه؟ "ثق فيمن يثق فيه رهوان".
لقد حصل صبحي علي تلك الثقة عن جدارة ،و مع ذلك ،فقد كان لوقت قريب اداة بيد ايهاب .و ماذا عن زيارة األخير له في المستشفي،
و لم يكن حمزة ليوليه مثل هذه الثقة فقد تباعد عنه بشهور قبل وقوع الحادث .شعر مراد ان الغموض كان علي وشك أن يتكشف.
اقتاد عمر مراد الي الغرفة حيث كان صبحي .ووجداه مستلقيا ،يلعب علي هاتفه المحمول.
"ايوه يا مراد بيه؟" قال صبحي و قد اعتدل في جلسته ،منزال قدميه عن الفراش.
"قبله كتر خيرك انك جبت امي و اخويا هنا .دي امي لوال المالمة كانت زغرطت"
تبددت ابتسامة صبحي ونظر الي األرض في خجل" ،وهللا ما سرقت حاجة"
"يا باشا ،اخوك ده مافيش راجل مش عايز يبقي زيه .يعني واثق من نفسه كده و مافيش واحدة المؤاخذة تستعصي عليه".
"بس كده؟"
"بس الصراحة يا باشا ،ايهاب بيه كان مفهمني انه مجرم هربان و كان بيشتغل في التهريب و مراكب الهجرة".
"بيتهيألي أنا قلتلك كان ايه دوره بالظبط في الحكاية دي".
"مانا فهمت بعدها انه كان جدع ابن حالل و راجل .بس أدام ماعملش حاجة غلط ايه اللي يخليه يهرب؟"
"هو نفس اللي خالك تشتغل مرشد مع ايهاب غصب عنك .اتلفقتله تهمة من واحد طمعان في أمالكه ".سكت مراد قليال ثم استطرد
"يوم ما ايهاب دخل عليا و موت القطة ،هل كان متفق معاك انك تشوف اللي حصل ،و تيجي تنقذني علشان اقبل انك تدخل و تخرج من
القصر" ،
"من غير حلفان أنا كنت ساعات باقعد اشوفك و انت بتقرأ و اال بتعزف .ايهاب عرف اني كنت باراقبك ،بس ماكانش فاهم اني كنت
باعمل كده علشان حياتكم كانت عاجباني قوي .يوميها قاللي اني خايب و مش باعرف اعمل حاجة زي عادته .،و قال حيعمل حركة
تضمن اني ادخل ،و قاللي اول ما يخلص ادخل علي طول ".نظر صبحي لمراد بعينين عاندتا الدموع " .أنا من غير ما أعرف لو كنت
شفت حاجة أذتك كنت آجي جري احوش عنك حتي لو"...
عرف مراد الصدق في عينيه عندما رآه ،و استطرد صبحي" ،ماكنتش عارف ان ايهاب واطي كده ،و عرفت ساعتها انه بينتقم منك
لمصلحته ،و حلفت يوميها علي تربة ابويا إني احميك منه".
"ما تخافش عليا يا صبحي ،ايهاب ماعادش قدامه دلوقت غير انه يكشف كل ورقه.".
"طب و انت حضرتك ناوي تعمل ايه؟ ده ايهاب بيه كان عاوزني ادور علي اوراق الملكية و اسلمهاله".
"ماعرفش يا باشا ،أنا مافهمش .قوي في المسائل اللي زي دي ،بس لو المزرعة بإسم الباشا أخو حضرتك أوراق الملكية تعمل ايه
اليهاب؟"
"لو كان يورث في حالة اعالن وفاة حمزة أو لو التنازل ده فعال حقيقي ،في الحالتين الهدف اني اتطرد من هنا ".أطرق مراد قليال ،ثم
استطرد" ،كنت عارف حاجة عن اكرم؟".
"المهندس اكرم ماكانش ليه دعوة بيا خالص .الوحيد اللي ماكانش بيتكلم معايا ،مع ان كل الشباب يعني رحبوا بيا و عاملوني زي
ماكون منهم و عليهم . ..بس يعني يا باشا سامحتني؟"
"بطل تقوللي باشا ،ايوة سامحتك ،بس لو شفتك في اوضة حمزة تاني أنا اللي حاضربك بالنار".
"عمري ما حاعمل حاجة تزعلك ابدا ،الحكيمة قالتلي حافك الرباط كمان يومين و اقدر ارجع الشغل"
استلقي مراد علي فراشه بينما قامت ناتاشا و فتاة هندية بما سمته عالج بالطاقة .كانت يداهما مرفوعتان بمسافة قصيرة تزيد قليال علي
الشبر ،و مرتا بكل جزء من رجليه .استمر العالج لما زاد عن الساعة لم يشعر فيها مراد بشيء يذكر .كان ذلك يتيح له وقتا للتفكير فيما
سيحدث فيما بعد .الحظ كيف كانت الفتاة الهندية أنيشا مستغرقة فيما كانت تفعله حتي اغمضت عينيها ،و بدت و كأنها قد غابت عن
الدنيا .و بينما هي علي هذا الحال ،شهقت فجأة و في نفس اللحظة شعر مراد بما يشبه التنميل بين ركبته و قدمه اليسري ،حيث كانت
تقف أنيشا.
"هل شعرت بشيء؟" قالت ناتاشا
قالت أنيشا و قد استفاقت من حالة التركيز التي اعترتها" .حري بك أن تتماثل للشفاء في أقرب وقت .هناك من يضمر لك الشر"،
"ماذا تقصدين؟"
"أحد أسباب ما أنت فيه اآلن هو القلق المستمر .هناك من هو حريص علي اضعافك لكي ال تواجهه".
لم يكن ذلك بجديد عليه ،و لكن ،علي افضل تقدير لديه ،فهو ال يملك أن يواجه أباطرة المافيا الذين يحركون .ايهاب .كان ينتظر حضوره
بين اللحظة و األخري في ذلك اليوم .كان يشعر أن ثمة حمل ثقيل قد سقط عنه برحيل أكرم عن المزرعة .،غير أنه كان قلقا ،و إن نجح
في إخفاء قلقه عمن حوله فمن يحركه حقده كإيهاب لن يدعه يهنأ بخروج آمن.
وقفت لبيبة علي باب غرفته بينما استعدت السيدتان للمغادرة " .مراد بيه ،المقدم ايهاب وصل و معاه األستاذ عوني المحامي".
"قاعدين لوحدهم؟".
"طيب خلي داده تيجي تساعدني ،و أنا حاجي علي طول".
***
نفث ايهاب دخان سيجارته ،رغم االعتراض المهذب الذي صدر عن عمر ،متعلال بما لدخان السجائر من رائحة تضايق مراد .لم يعبأ
له ايهاب ،و ظلت حجرة المكتب في حالة من التوتر ،حتي اتي مراد علي كرسيه المتحرك.
أشار ايهاب لعوني في ثقة ،فقام الرجل من مقعده و سلم صورة ضوئية لوثيقة ما لمراد" .دي صورة من عقد التنازل يا مراد بيه"
"حمد هللا علي سالمتك يا متر عوني ،أنا كنت خايف عليك قوي لما ماجيتش يوم الشهر العقاري ،الحمد هلل إنك بخير ".قال مراد في
تهكم و هو يتسلم الوثيقة و يعطيها لعمر.
قرأ عمر .،و كانت بالفعل الوثيقة تنص علي التنازل عن القصر و المزرعة .لصالح واحد اسمه مرسي الزهار . ،صاحب شركة
سافوريتتي جروب .بذل مراد جهدا جبارا لكي ال ينتفض فور سماعه ذلك االسم و فهم في لحظة خاطفة مدلول ذلك كله.
وجه مراد كلماته الي عوني" ،حضرتك متفق معايا ان موقف سيادة المقدم مش مفهوم ،خصوصا انه ال زال في القوة ،يعني مايقدرش
يقوم بأنشطة تجارية"
"سيادة المقدم بيقوم بدوره في تأمين المنطقة ،حضرتك عارف إن المنطقة فيها قلق كتير و أعمال غير قانونية"
قال ايهاب" ،انت خيالك واسع قوي يا ميرو .دي إمضة ابن عمي وأنا عارفها كويس".
"تمام ،خالل ستين يوم ييجي يستلم المزرعة ،احنا نكون صفينا أشغالنا كلها".
قال ايهاب في شماتة" ،و الزم نعمل حفلة كبيرة .مرسي باشا مصر ان نجالء تعمل حفلة عيد ميالدها هنا في القصر ،و حتبقي حفلة
الموسم .،و انت طبعا معزوم .حيبقي قبل الشهرين ما يفوتوا بكام يوم ،بس انت طبعا ماعندكش مانع".
"بس كده؟"
"مع السالمة"
الحظ مراد ارتباك عوني ،و قد ترك جراب نظارته علي المكتب قبل أن يغادر .ما إن خرج مع ايهاب من باب القصر حتي ركل عمر
الحائط في غيظ" .أنا مش قادر أفهم ليه حمزة يعمل كدة ،انت تعرف اللي اسمه الزهار ده يا مراد؟".
فتح باب القصر ثانية و دخل عوني مسرعا الي المكتب" ،مراد بيه ،التنازل ده حيبقي مالوش قيمة لو لقيت تحويل الملكية باسمك ألنه
بتاريخ سابق و يبقي التنازل باطل".همس .عوني في عجالة و هو يلتقط جراب نظارته من علي المكتب ثم هم بالخروج.
زفر عمر في ضيق و هو يشاهد عوني خارجا من القصر.
"ما أنا عارف ،انا متغاظ من البجح اللي عاوز يعمل حفلة للكونتيسة بتاعته هنا!" قال عمر
"أنا بقي عاوزهم .ييجوا كلهم ،و باألخص مرسي الزهار ،عايز أكون في استقباله ".اطرق مراد و نظرة التصميم في عينيه قد اعطت
عمر أمال طفيفا" ،فين صبحي؟ الزم نروح نطمن كلنا علي رهوان ،تعالي معانا يا حسام".
و اتجه ثالثتهم الي االسطبل حيث وجدوا فرحات و صبحي يتناوالن الشاي ،و قد حلت المودة بينهما محل الشك و الصد" .صبحي ،مش
تطلع رهوان يفك عن نفسه شوية؟"
استجاب صبحي ،و اتجه نحو رهوان ،و قام بتلجيمه و اصطحبه برفق الي خارج االسطبل،و انصاع له الجواد في هدوء " .ناولني
الشوكة الكبيرة اللي هناك دي عم فرحات"
و دخل مراد الي االسطبل ،مستخدما الشوكة إلزاحة اكوام القش و ما علق بها من روث عن األرضية.
"عنك يا مراد بيه ".قال فرحات و هم بأن يأخذ الشوكة من يده ،لكن مراد استمر فيما كان يفعله حتي ظهرت حلقة معدنية في األرضية.
وتراجع بكرسيه ليتيح لفرحات المجال لفتحها.
"شد الحلقة يا عم فرحات ،خلينا نشوف ايه اللي تحتها".
و فعل فرحات ،مخرجا حقيبة جلدية بلون بني ،بدت قديمة و قد عالها الغبار .مسح فرحات عنها الغبار و قرأ ما كتب عليها" :شنطة
حمزة!"
ابتسم مراد .،و قال لفرحات" .هاتها و تعالي معايا علي جوة"،
اتجه مراد الي غرفة المكتب دون ان ينتظر أحدا ليدفع كرسيه المتحرك ،و ظلت الحقيبة مستقرة علي رجليه و هو يدير عجالت
الكرسي بيديه ،يحدوه شوق عامين كانا أطول ما مر عليه في حياته .دخل الي المكتب ووضع الحقيبة علي المكتب ،و نظر اليها غير
قادر علي التصديق .وقف عمر و حسام علي مدخل المكتب و قال عمر مبتسما" ،صحيح أنا نفسي أعرف ايه اللي جوة ،بس حاسيبك
تكتشفه لوحدك يا ميرو.إحنا ورانا حاجة تانية"
"حاحكيلك كل حاجة"
لقد أسرت تلك اللفتة مراد الذي ظل مبتسما حتي بعد أن أغلق عمر الباب مراعاة لخصوصيته .ضحك متندرا علي جملة "شنطة حمزة"
التي ذكرته بطفولته .فتح الحقيبة ووجد أوراقا بدت كأوراق رسمية و و قد ثبت في كل منها رسالة بالفرنسية توضح ما هو مكتوب ،ثم
عثر علي مفتاح يو إس بي ،أسرع بإدخاله الي جهاز الحاسوب الذي كان علي المكتب ،و انتظر حتي ينتهي الجهاز من تحميل ما كان
به من بيانات .و بينما كان ذلك يحدث،بحث مراد عن المزيد من األوراق ليجد صورة قديمة .،ظهر فيها حمزة شابا ،بجوار ماري هيلين
و كانت مستلقية علي الفراش ،تحمل بين ذراعيها رضيعا ،و عن يمينهما ظهرت إقبال ،و بجوارها نفس الرجل الذي رآه مراد من قبل،
دييجو الفاريز و قد ظهرت عليه عالمات تقدم العمر .و خلف الصورة كتب حمزة هذه الكلمات،
"لن تري جيدا إال بقلبك ،فاألشياء الهامة خفية عن العيون" .
ابتسم مراد لتلك المقولة ،التي لم تكن لتحمل الكثير من المعني لو لم يكتشف ما قد اكتشفه،لكن كان أبرز ما كشفت عنه الصورة ،هو أنه
ولد ألسرة كانت سعيدة بمولده و تحيطه بالحب و الرعاية .ثم نظر الي شاشة الحاسوب و قد انتهي من التحميل .وجد صورا ضوئية
لجميع الوثائق التي احتوت عليها الحقيبة ،و رسالة صوتية.
"مراد أرجو لما توصلك رسالتي تعرف إني مش ممكن .اتخلي عنك .كان وجودي جنبك في الفترة األخيرة فيه خطر علي حياة أي حد
مهم بالنسبة لي .كان الزم أتصرف بسرعة و ده كان الحل الوحيد .فاكر لما قلتلي اني حاعرض كل الناس للخطر لو استمريت في إنقاذ
المهاجرين .ده كان بعد رسالة التهديد الوحيدة اللي انت شفتها ،لكن ما كانتش اول رسالة ،و سبق قبلها أعمال تخريب و محاوالت قتل.
كان الحل الوحيد إني أختفي بعد ما كتبت تنازل عن القصر و المزرعة .لواحد من زعماء مافيا الهجرة في اسكندرية اسمه مرسي
الزهار .كان الشرط انه مايتعرضلكش بأي شكل .اللي انت ماتعرفوش ،اني عملت اجراء لتحويل الملكية بإسمك بتاريخ سابق ،يعني
مجرد الورق ده ما يظهر ،تقدر تقدمه للمحكمة و تطعن في التنازل .بس ده ماتعملوش إال لما تكون رتبت نفسك إنك ترجع لنيس ،و
تكون آخر حاجة تعملها قبل ما تسافر.
صعب جدا يا مراد انك تواجه الناس دول .،و ده الدرس اللي اتعلمته .ايهاب اللي هو ابن عمي هو اكبر عدو لي دلوقتي ،و حاول اكتر
من مرة يلفقلي قضية تهريب مخدرات ،غير القضايا الكيدية .أنا شاكك إن ليه عالقة بمرسي الزهار .،لكن ماعنديش دليل.
أنا سافرت ألن لسة عندي سالح ماستخدمتوش .،يمكن ساعتها أقدر أأمن خروجك من مصر.
مراد ،مهم جدا انك تنفذ اللي باقولك عليه ،و لو احتجت مساعدة عمر هو اكتر واحد باثق فيه .الشيخ مجاهد ،كبير قبيلة أوالد عوف
ممكن يقدملك مساعدة كبيرة عند الضرورة ،علوان ممكن .يوصلك بيه .إوع تتهور و تواجه أي حد منهم لوحدك .بس ماتخافش ألني في
أوقات حاكون قريب منك من غير ماتشوفني .مهم انك ماتعرفش أنا فين وإني ماتصلش بيك ،علشان تفضل في أمان ،ده اختيار قاسي
ليا و ليك ،لكن لو كان ده تمن حمايتك فأنا راضي بيه .اعتبرني رايح اجيب الديب من ديله و راجع".
توقف صوت حمزة و تبعته اغنية "رايح اجيب الديب من ديله" لفؤاد المهندس ،وتذكرها .مراد ،فقد كان حمزة يغنيها له وهو طفل .لم
يشعر بالدموع تجري علي وجنتيه حتي سمع نقر خفيف علي الباب.
"ايوة يا لبيبة"
"طب دخليه"
دخل علوان تعلو وجهه ابتسامة واسعة ،كشفت عن أسنانه التي اصفرت من شرب السجائر طوال النهار .لم تزل خطوته متأثرة
باإلصابة
"حمد هللا علي السالمة يا علوان ،انت احسن دلوقتي؟"
"يشرف أهال و سهال ،ده أنا كنت عاوز أشوفه ،امتي يحب ييجي؟"
انصرف علوان و زفر مراد في ارتياح .ووضع المستندات بحرص داخل الخزانة ،بما فيهم مفتاح اليو إس بي ،و اتجه بكرسيه الي
الصالون ،حيث سمع ضحكات رجل و صوت امرأة ترجوه أن يخفض صوته .كما توقع كان الرجل صبحي يحمل وردة حمراء للبيبة
التي ارتبكت فور أن رأت مراد.
"بتعمل ايه عندك يا صبحي" قال مراد بهدوء
ابتسم صبحي في خجل" ،الصراحة يا مراد بيه ،البت لبيبة طيبة و غلبانة و بنت حالل ،و أنا يعني"...
"و بتستأذني ليه ،هو أنا ولي أمرها؟"ثم .نادي مراد" .،يا داده؟ تعالي من فضلك"
جاءت حليمة تحمل صينية عليها زجاجة ماء بالليمون" ،كنت عايزني في ايه"
نظرت حليمة باستغراب الي لبيبة ،ثم الي صبحي" ،هو انت العريس يا منيل؟"
غالب مراد الضحك" ،أيوة يا دادة ،انت خالتها وولي أمرها ،ايه رأيك؟"
"الليمون يا داده!"
"طيب ممكن نستني عالشربات لحد الليلة دي؟ حنعملكوا حفلة كبيرة و نغني و نهيص لحد الصبح عند الشجرة اللي في الجنينة .يالال
ياصبحي علشان تعلقوا الزينة!"
كانت السعادة تشع من وجه مراد و عيناه تتبعان صبحي و لبيبة و هما يفتحان باب القبو الذي كان مخزنا للزينات ،و أشياء أخري
تذكرها مراد فجأة ،كأدوات موسيقية و معدات كاملة لبناء استديو لتسجيل الموسيقى لم يتاح لحمزة أن يستخدمها .بعد برهة صعد كال
من صبحي و لبيبة يحمل كل منهما صندوقا من الكرتون.
"باقلكوا ايه يا صبحي ،قول لعمر اني عاوز العيال األجانب عندي هنا .و رانا شغل كتير في البدروم .بعد الغدا".
**
قدم الشيخ مجاهد يصحبه ثالثة من الرجال و علوان الي الشرفة األمامية ،حيث جلس مراد يحتسي قدحا من الشاي األخضر .كان الشيخ
مجاهد رجل متوسط الطول،يرتدي نظارة سميكة ،و قد أطلق لحيته.
"أهال وسهال عمي الشيخ .سامحني ،مش قادر أقوم أسلم عليك".
"ده احنا اللي جايين نقوم بالواجب يا سعادة البيه .معروفكم مع علوان مايتنسيش"
جاء فرحات يحمل صينية بأكواب شاي ،ووضعها علي المنضدة أمام مراد .،و قدم كوبا للشيخ مجاهد.
الحظ مراد أن ثمة معرفة سابقة بينهما .هم فرحات باالنصراف ،لكن الشيخ استوقفه" ،استني يابو عماد.".
"شوف يا مراد يابني ،إحنا ما شفناش من حمزة بيه أخوك غير كل خير ،و انت ما تتخيرش عنه في األصل و الكرم .أنا جاي أقولك إن
اللي حصل عندكم من كام يوم و انصاب فيه علوان مش حد من القبايل اللي هنا".
"اللي كانوا عندكوا دول شوية صيع لمهم الظابط اللي اسمه ايهاب الشيمي .الخوف لو كانوا رجالة الزهار هم اللي جم .وانت يابني مش
قد الناس دول".
"قصدي يابني ،إني كنت متفق مع أخوك من قبل ما يغيب الغيبة الطويلة دي ،إننا مش حانقدر نساعده في المشروع اللي اتحدي بيه ناس
هو مش قدهم .و فتح علي نفسه أبواب جهنم .القصد ،احنا ماكانش معانا فلوس وقتها نشتري منه المزرعة باللي فيها ،و ماخبيش عليك
المبلغ ده صعب يتوفر معانا ،لكن ممكن تفكر في عقد انتفاع؟"
"انتفاع لمدة عشرين سنة ،يتجدد كل خمس سنين ،و تفضل المزرعة زي ما هي ،و يفضل المستوصف و المدرسة و مركز التدريب
مفتوحين .و عالوة علي كدة ،حنمنع أي نشاط تهريب او هجرة...لكن مش حنتدخل ،اللي عاوز يهاجر هو حر .والمزرعة حتمشي زي
ماهي ،مانتوا دربتوا شباب كتير من عندنا علي شغلكوا ،و حيبقالكم %20من أرباح المزرعة".
"نا بانفذ تعليمات حمزة بيه .قاللي أول مراد ما يستلم أوراق الملكية أبعت للشيخ مجاهد ،لكن ماقالليش األوراق كانت فين وال أجيبها
ازاي ،و إال كنت وفرت عليك اللفة الطويلة دي".
"القصر حيفضل بتاعكوا ،و لو إني أنصحك تبعد عن مصر في الفترة الجاية ".
ضحك الشيخ" ،يابني ايهاب ده ايه اللي حيخوفنا؟ ده أيامه معدودة في الداخلية علشان المخالفات اللي ارتكبها .و مش حيبقاله عازة عند
الزهار.".
"ده راجل ما حدش عارفله ال أصل و ال ملة .بيقولوا ليه اتصاالت بالمافيا اللي برة ،بيورد شباب علشان يبقوا ميليشيات عسكرية ،غير
تجارة العبيد في ليبيا و الدعارة .باين عليه لما فهم أخوك كان بيعمل ايه انتهزها فرصة ياخد المزرعة علشان تبقي بؤرة لكل حاجة
اتهموا بيها اخوك ظلم .لكن الزهار ده عامل زي األخطبوط و مسنود من ناس تقيلة قوي .يعني القانون مش حينصفكم منه" .
كان هناك أمل جديد يلوح لمراد بظهور الشيخ مجاهد في الصورة ،لكن ،أحقا كان يمكنه الثقة به؟ ماذا لو كان يعمل لحساب مرسي
الزهار .كان ذلك االحتمال مستبعدا ،بدا حديثه منطقيا.لم يخل الوضع من التعقيد ،لكنه كان كالظالم الذي يسبق بزوغ الفجر .كان علي
مراد أن يحسن دراسة خطواته القادمة ،بدا أمل أجمل من أن يتحقق ،فآثر أال يعطي الشيخ مجاهد ردا قاطعا.
"طيب يا عمي الشيخ ،مجية حضرتك كبيرة عندي قوي .و إن شاء هللا مش حنختلف .لكن حضرتك عارف اإلجراء القانوني بياخد وقت
.اللي جاي بعد كده سهل".
كان احساس مراد بالتروي في محله ،فعندما رأي وجوه مرافقي الشيخ بدا أحدهم .كما لو كان قد رآه من قبل ،لكنه لم يتذكر أين و متي.
شعر بالخطر لما أثاره وجه ذلك الرجل في نفسه من خوف ال تفسير له ،فقد اقترنت مالمحه الغليظة بذكري مؤلمة غابت عنه.
أطرق مراد مبتسما للفكرة" ،انت عارف اننا فكرنا في الموضوع فعال؟ بس أنا طريقتي مختلفة عنه خالص".
"ماشي األوبرا و الزعيق ده ليه جمهوره ،بس يعني ،غنيلك حاجة فرايحي كده"
"فيه راجل شكله وحش كده كان مع الشيخ مجاهد خالني أشك في كل حاجة".
"طيب ،نعدي الليلة دي علي خير و شك فيه براحتك...داحنا بقالنا سنتين ماهيصناش ،حرام عليك يا ميرو".
"أنا كنت متطمن للشيخ مجاهد لحد ما شفت الراجل ده .عموما ماتقلقش حتهيص و حيكون فيه بوفيه كمان .".ثم التفت الي لبيبة" ،عايزك
تاخديني علي فوق يا لبلب".
اقتادته لبيبة الي الدور .العلوي ،و دخال الي غرفته" .افتحي الدوالب و ناوليني الشكمجية".
أعطته علبة كبيرة من الصدف ،فتحها وأخرج منها علبتين من القطيفة" .الحلق ده بتاع ماما هللا يرحمها ،عايزك تلبسيه الليلة دي ،تبقي
هدية فرحك"
ابتسمت الفتاة و كادت تبكي فرحا "،بس ده كتير قوي يا مراد بيه"
"ال كتير والحاجة .العلبة دي فيها دبلتين علشانك انت و صبحي .تعالي نشوفله بدلة من بتوع حمزة"
كان لذلك اليوم طاقة غير مألوفة .،لقد كانت السعادة تشع من كل ركن بالبيت ،كانت تسري بجسد مراد فتوقظ مشاعره من سبات عميق.
كان يشعر بالربيع قبل أوانه ،عندما تدب الحياة في األغصان الجافة فتتفتح زهرا و تثمر بالخير .كان بث السعادة في نفوس اآلخرين
مهمة مقدسة لديه.
كانت السهرة قد بدأت ،و اجتمع من اجتمع من أهل المزرعة .حول النار في جو من البهجة و الحميمية لم تشهده المزرعة .منذ زمن .،بدا
كأنه كان اكثر من عامين .كان مراد يجلس بالداخل ،تختلط عليه المشاعر .،فيغريه سحر السمر و الموسيقى بالخروج من عزلته تارة ،و
يؤثر األمان في جلسته علي الكرسي المتحرك تارة أخري .لم تكن هناك خشبة مسرح يعتليها فيملك علي مشاهديه حواسهم كما اعتاد ،و
لم يكن هناك حمزة الذي لم يكترث في وجوده لما قد يعكر صفو مزاجه.
"ميرو يا حبيبي ،انت قاعد لوحدك ليه؟" قال عمر و كان بصحبته صبحي.
"سايب عروستك و جايلي ،و بعدين بالشياكة دي ماينفعش تقوللي يا بيه "،قال مراد مداعبا.
"بقي ده كالم يا ميرو"،قال و هو يدفع الكرسي المتحرك" ،احنا مش كنا حنهيص الليلة دي و نخليها خل"
وصلوا إلي التراس" ،طيب أنا نازل بقي ،علشان فيه نص فرخة علي الشواية اللي هناك عمال يندهلي ،بس لو خلصته و لقيتك مانزلتش
حاطلع اجيبك" قال عمر وعلي وجهه نظرة فكاهية.
جلس مراد في صمت ،يتطلع الي مشهد الحديقة في ابتسامة حنين إلي الماضي قريب بدا بعيدا ،بصحبة من كان حاضرا و إن غيبته
أهوال لم تكن في الحسبان.
"يالال يا مراد ،الليلة من غيرك ماسخة كده و مالهاش طعم.".
لم يرد مراد ،بل أخذ نفسا عميقا" ،شامم ريحة الربيع؟"
و استجاب له الشاب باستغراب ،حتي وصل الي الحلقة حول النار وسط ترحيب كل من كان حاضرا .تناول مراد آلة البزق من الشاب
طويل الشعر .،و عزف اغنية شعبية قديمة و أطلق سراح ما بقلبه في كلماتها .كانت الكلمات ترسم صورة للريف في ليل أناره القمر و
آيات العشق و الهوي التي تسمعها األذن همسا فتنير القلب كما يفعل القمر في الليل .كانت لمراد ثقافة موسيقية واسعة .،فحرص علي
خلق ايقاع سريع "فرايحي" كما قال عمر .،ال تمله أذن المستمع .كانت تلك األغنية فقط هي بداية احيائه الحفل ،فعزف لحنا يونانيا ،قام
ثالثة من الشباب األجانب بالرقص علي نغماته احدي الرقصات الشعبية اليونانية .و بينما هم يرقصون ،قام أحد السوريون بالدق علي
الطبل ،فتغير اإليقاع و تغيرت الموسيقي وأدي ثالثة من السوريين و فتاة لبنانية رقصة الدبكة كما لو كانوا في مباراة مع الشباب
اليوناني .كانت مشاهدة المباراة متعة في ذاتها ،أظهرت براعة العازفين في تغيير النغمات و اإليقاع لتستمر المباراة ،و في لحظة
تشابكت أيدي الراقصين ،لتجمعهم النغمات ذاتها ،و انضم اليهم الواحد تلو اآلخر ،يربطهم حبل وثيق من األلفة حتي صاروا صفا
طويال .ضحك مراد من قلبه لرؤية ذلك المشهد .كان ذلك هو حلم حمزة الذي لم يتخل عنه مراد .،مكان يسوده اإلخاء و التفاهم دون
موانع اللغة و الثقافة.
ظلت النغمات تعلو و تصدح ،حتي شعر مراد بأصابع قدميه تتحرك مع الموسيقي فلم يصدق نفسه .اقترب منه كال من لبيبة و صبحي و
قبله كل منهما علي احدي وجنتيه ،و لم يشعر بنفسه إال و هو محمول علي األكتاف .كانت الضحكات من حوله تمأل قلبه ووجدانه حتي
كاد أن ينسي ذلك الرجل الذي أثار شكوكه .اعاده الشباب الي الكرسي و جاءه عمر يبتسم" .ايه الشغل العالي ده ،طب مانت بتعرف
تغني عربي أهه".
"دي محاولة ،الناس من ذوقها .ما قالوليش أنا غلطت كام مرة .لو استاذتي في الكونسرفتوار سمعوني كانوا طردوني".
"أنا باتكلم جد ،ناوي علي ريسيتال عشر أغاني ،مش بيقولوا حفلة الموسم؟ و اعزملها الصحفيين .بس حاعملهالها مفاجأة .انت فاهمني
طبعا".
"عندي أنا دي .بس أنا قلت برضه انك حتكون فرقة من الشباب دول .كده تقدم لون جديد خالص".
"أل ده انت عاوزلك قعدة ،و بعدين انت يا وله ماقلتليش الشيخ مجاهد قالك ايه".
"كل ده اوعدك حاقولهولك بكره ،و بالمرة احكيلك عالراجل أبو شكل وحش".
كان الرجل نفسه قد وصل مع آخرين من قبيلة أوالد عوف بصحبة علوان ،كان يمشي بينهم كالمغيب ،فلم يبد علي وجهه اي تعبير ،لعل
الشيخ مجاهد كان محقا ،و كان ذلك الرجل بالفعل ذو قدرات عقلية محدودة.
حرص مراد علي اظهار االحترام لوفد القبيلة ،فقد جاءوا ألداء حق الجيرة .ابتسم الرجل الغامض و هو يسلم علي مراد .،فارتعد ذلك
األخير ،فالحظ عمر و كذلك الحظ الرجل فتراجع.
"مش عارف يا عمر .،غصب عني ،الراجل ده فيه حاجة مخوفاني قوي...كل ما باشوفه باحس فيه مصيبة كبيرة حتحصل".
ألقي مراد نظرة أخيرة علي الحديقة ،التي أزهرت فيها السعادة بعد شتاء طويل ،و دخل ليستريح.
**
كانت أنيشا قد انتهت من جلسة العالج ،نظرت لمراد مبتسمة لتعلمه بأنها كشفت سره" ،لماذا لم تقل لي؟"
"ليس لذلك .أنت ال تريد أن تخرج من القفص و تتأقلم علي وضع جديد".
"ماذا تقصدين؟ لقد كنت أتنقل من وضع جديد إلي آخر طيلة العشرة أعوام الماضية"
"نعم ،و لكنك تتشبث باألمان الذي شعرت به في شخص أخيك ،حتي بعد أن اختفي ".أطرقت و هي تنظر في عينيه بقوة كأنها تسعي
لحفر كلماتها في عقله" .لقد تحرر جسدك عندما أعلنت ،بفعلك قبل قولك ،أن بإمكانك أن تشعر بالسعادة و تنشرها من دونه .يمكنك أن
تخلق مستقبال خاصا بك إذا أردت ،قل لي ،لقد ذكرت لي من قبل أن هذا المكان هو حلم أخيك ،ماذا عن حلمك أنت؟ أم أنك ستعيش
تحمل حلم أخيك علي كتفيك خوفا من أن ينهار و أنت تري العمر يمضي أمامك دون أن تحقق ما قد خلقت من أجله؟"
"أتعرفين .،لم أفكر في ذلك من قبل .في الماضي كنت أعيش ألحقق رغبة والدتي في تحقيق الشهرة و المجد ،و أن أتبوأ مقعدي بين
نجوم السماء كما كانت تقول لي .لم أكن أفكر في أخي األكبر إال كحلم في طفولتي ال مكان له عندما كبرت و صار علي أن أتحمل
مسؤوليتي .و عندما ظهر."...
"عدت إلي طفولتك من جديد...إن أخاك حقا لحلم جميل ،من منا ال يريد أن يعيش طفولته بأجمل ما فيها ،إال أن هو اآلخر كان عليه أن
يدرك أن ألفعاله تبعات فقام بعمل ال يقدر عليه فتي مراهق أو طفل...لقد قام باالختيار دون أن ينظر إلي الوراء ،و بهذا أعطاك الفرصة
أن تتحرر من هذا الحلم لتواجه الحقيقة".
لم يعرف مراد كيف يجيب ،كان في تلك اللحظة أقرب ما يكون إلي طفل قد سكنت الحيرة عقله قبل عينيه،
"أمامك المتسع من الوقت لتقرر ما ستفعله بعد ذلك .قم .،عليك أن تقوم معي ببعض التمارين...بعد .فترة قليلة ستمشي علي قدميك".
"شكرا أنيشا ،لكن ال يجب أن يعرف بهذا مخلوق...إذا أردت أن أحقق ذلك الخروج اآلمن لنفسي و لكم".
******
تثاقلت خطوات الليل نحو النهار .،استسلم خاللها مراد لسبات عميق ،لم يشعر فيها بعقله ينسحب إلي ما وراء اإلدراك .أفاق علي صوت
حليمة ،لكنه لم يستيقظ في فراشه ،بل في سرير بغرفة في المستشفي.
"صح النوم يا أستاذ .الناموسية كحلي واال ايه"
قال و هو يفرك النعاس عن عينيه" ،صباح الخير يا داده ...هللا؟ ايه اللي انتي البساه ده؟"
"لبس الشغل ،و بعدين برضه حاتقوللي داده؟" كانت ترتدي زي الممرضات األبيض و هي تنظر له في استنكار.
اعرضت عنه في ضجر" ،ال ،أنا حاشوفلك حد من الدكاترة يشوف حكايتك ايه .قال داده قال".
كيف و متي انتهي به الحال الي المستشفي؟ لم يتذكر أي شيء عن كيفية وصوله .سمع صوت الكرسي المتحرك في الردهة خارج
غرفته ،دخل صبحي متجهما .،و هو يرتدي زي المستشفي.
"أهال"
"مالك بتقولها من غير نفس كده؟ و بعدين مش قلتلك بالش البرفان ده؟"
"انت صاحي رايق باين عليك ،مالك و مالي يا جدع انت ،اتعدل كده علشان اعرف اقعدك عالكرسي".
لم يشأ مراد أن يعلق علي أسلوبه الوقح .لكن ،مالذي كان يحدث له؟
جلس مراد علي الكرسي" ،افرد وشك كده مش ناقصين نكد عالصبح".
"اندهلي أي حد اتكلم معاه و غور من وشي" قال مراد ،فانصرف صبحي في عصبية.
اقترب مراد من الباب ،مستخدما يديه لتدوير عجالت الكرسي ،سمع أصواتا في الردهة .فاسترق السمع ليعرف من و هم و عم كانوا
يتحدثون.
"حالته مش بتتقدم خالص يا فندم ،برضه النهارده قاللي يا داده ،و لسة صبحي خارج من عنده و بيقول بيكلمه زي ما يكون خدام عنده".
"غريبة ،يجوز الصدمة أثرت علي ذاكرته ،بس إنه يخترع لنفسه حياة كاملة مع شخصيات ماكانش لها وجود في حياته ...ما تعرفوش
أي حاجة عنه؟"
دخل من الباب رجل طويل القامة ،كان شعره األسود قصيرا ،و قد ارتدي نظارة طبية و معطف أبيض .لم تتبين مالمحه لكن مراد كان
يعرف من هو
"حمزة! انت جيت أخيرا" ثم ضحك "،ايه اللي انت البسه ده؟"
"أنا هنا اسمي الدكتور حمزة ،و انت بقي ،مافتكرتش اسمك لغاية دلوقتي؟"
"أرجوك ،ساعدني علشان أساعدك ".تبدد الحزم عن عيني الطبيب شيئا فشيئا و حلت محله الشفقة.
"أنا ميرو"
"مابيحبونيش...عايشين حياتهم كأني مش فيها ،و فيه ناس منهم طردوني و مارضيوش يكلموني"
عاد الحزم الي وجه الطبيب و نبرة صوته " ،اسمع ،أيا كان اسمك الزم تفهم إني مش أخوك وال الناس اللي هنا خدامين عندك .انت
جيت هنا المستشفي بعد حادثة حصللك فيها شلل و جالك فقدان ذاكرة .أنا ماعرفش .اسمك مراد فعال واال أل بس األكيد ان كل معلوماتك
عن نفسك غلط ،و الزم تفهم انك ماينفعش تفضل في المستشفي اكتر من كده".
"مافيش داعي للمبالغة .،الناس دول استدلوا عليك و حيودوك لدكتور يتابعك بمعرفته"
و بينما نظر مراد الي الطبيب في عتاب ،و بادل األخير نظرته في حزم كان يوخز مراد في صميم قلبه أتي صوت نسائي من عند
الباب.
"مش يالال بقي يا بيبي؟"
عيان؟ هل كان يهذي كل ذلك الوقت بتفاصيل حياة لم تكن أبدا له؟
قطب الطبيب حاجبيه و اقترب من مراد" ،اللي شفتها دلوقتي دي تبقي المدام .و عمرها ماشافتك قبل كده و ال فيه بينك و بينها حاجة.
وأنا ماشفتكش اال لما دخلت المستشفي .بص في المراية هناك جايز تفتكر و استعد علشان تروح".
نظر مراد الي المرآة و اتسعت عيناه في ذهول ،فقد وجد شخصا آخر ،كان بدينا ،مهمال في هيئته و قد تكسرت اسنانه األمامية .مادت
به األرض و لم يشعر بنفسه اال و قد قام من الكرسي المتحرك .و استعد للرحيل و في عقله ألف سؤال .اجتهد ليتذكر آخر شيء حدث
له فلم تسعفه الذاكرة اال بظالم دامس قد خيم علي عقله .سار في استسالم .عبر الردهة .وسط النظرات المستنكرة ألناس كان يقسم أنه
يعرفهم .كان الطبيب ينتظره عند باب الخروج.
"مع السالمة يا دكتور .إعذرني إني اتلخبطت بينك و بين أخويا و اني شفته فيك".
"مافيش مشاكل" و فتح الطبيب باب الخروج .،ليجد مراد سيارة سوداء بانتظاره.
نظر ليري من قائدها ،فإذا به الرجل الغامض نفسه .يبتسم له بوجهه المنفر .استدار ليهرب منه الي المستشفي ،لكن الطبيب قد أغلق
الباب ،و إذا بإيهاب يضع يديه في األصفاد ،و الرجل الغامض قد نزل من السيارة ،و آخر ما تذكره ألم شديد في أسفل ظهره استيقظ
عليه فزعا.
استدعت صرخته عمر الذي كان نائما في الغرفة المجاورة .فوجده األخير يلهث في فراشه" .ايه يا مراد ،حصل ايه؟"
"طيب ما تحكيهوش"...
"الراجل ..الراجل اياه اللي شكله وحش...أنا افتكرت شفته فين...هو .اللي ضربني علي ضهري ليلة الحادثة..أنا متأكد .حتي الجرح اللي
في وشه ماكانش موجود.".
أضاء عمر األباجورة بجوار فراش مراد .،و صب له كوبا آخرا من الماء" .انت لسة ماقلتليش مجاهد كان هنا بيعمل ايه؟"
"اللي فهمته انه كان جاي يشكرني و يوضحلي ان ضرب النار اللي حصل ده ماكانش حد من عندهم .و فتح معايا كالم انه كان كلم
حمزة علي ان أوالد عوف يشتروا المزرعة .،و دلوقتي عاوزين عقد انتفاع قابل للتجديد".
"أيوة ،و حمزة كاتبلي أعمل بيهم ايه ،بس في كل الحاالت الزم أكون في نيس لما كل ده يتم".
استغرق عمر في تفكير عميق ،محاوال ايجاد حل لموقف معقد" .بس ازاي نعرف إن مجاهد مافيش خوف منه".
"حاليا مافيش طريقة .لكن لو اكتفيت بالطعن ،مرسي الزهار مش حيسيبنا في حالنا".
"أنا فعال ماعرفش .حد باالسم ده ،لكن الشخص ده تقريبا حصل و قابلته بإسم تاني و أنا في سويسرا".
اعتدل عمر في جلسته" ،فاكر لما قلتلي ان ايهاب مش ممكن يكون بيحركه الطمع و بس...ايهاب جواه حقد ،و اكيد الشخص اللي كان
بيوجهه عنده نفس الحقد و مصالحهم اتفقت".
"هو قال انه كان بييجي كازينو النرفانا لما كنت باغني هناك .و كان بيلمحلي ببيع الفندق".
"فيه احتمالين يا عمر ،األول ان مجاهد يكون بيتعاون مع الزهار و اكيد ايهاب مفهمه ان فيه ورق لتحويل الملكية بس مستخبي .تاني
احتمال ان مجاهد يكون هو نفسه له نشاط غير قانوني،و يكون فيه منافسة بينه و بين الزهار .و رجالته احتكوا بحمزة ليلة الحادثة لما
حاول يسكتهم بعد ما اتنازل لصالح الزهار".
"يعني مش ممكن .يطلع كويس أبدا...الواحد اليومين دول بيشك في صوابع رجليه".
"علي فكرة ،هات ايدك ".مسك مراد بيد عمر مستندا عليه و هو يعتدل في جلسته ،و أنزل رجليه عن الفراش ببطء أمام دهشة عمر .
ظل متكئا عليه حتي بعد ان صارت قدماه علي األرض ،فلم تكن عضالته قد استعادت قدرتها علي حمله بعد.
***
جلس مراد في الشرفة األمامية بعد بضعة ساعات من استيقاظه ،و هو ال يزال في حيرة من أمره .عندما تبلورت كلمة حيرة في ذهنه
أبصر أنيشا قادمة نحوه علي غير موعدها .لقد كانت هي من اطلقت سراح الحيرة في عقله فظلت تطارده في صحوه و في نومه ،فلم
يتذكر أبدا أنه قد سقط فريسة ألفكاره .ألقت عليه التحية فردها و هو يبتسم بالكاد.
"أراك اليوم علي حال أفضل ،و قد نظرت لشيطان الخوف في عينيه".
"ماذا تقصدين؟"
"انت تعرف ما أقصده .يقال أن رؤية أكثر ما يخيفك أثناء النوم هو أحد اآلثار الجانبية للعالج بالطاقة".
تناول مراد قدح الشاي الذي كان أمامه و أخذ منه رشفة" ،و هل اشرف العالج علي االنتهاء؟".
"لقد بدأت لتوك أن تلحظ التأثير" قالت ضاحكة" .،دعني أكون صريحة معك ،مراد .لن تتمكن من خداع الكون بإبداء رغبة جوفاء في
تسيير األمور كما تشاء".
"قل لي ،هل الزلت تأمل أن يظهر حمزة فتختفي هذه الفوضي إلي غير رجعة؟"
"نعم أم ال؟"
"نعم".
"و لماذا تنتظر أن يأتي بطل ليفعل ما تفعله أنت بالفعل دون أن تفكر فيه كثيرا ،أي جدوي في ذلك؟"
لم تكن الفتاة تنوي أن تتركه يهنأ بنهار هاديء .،فقد كانت صارمة عنيدة في فرض وجهة نظرها .و لم تكن لتدعه و شأنه حتي ينطق بما
أتت ألجله.
"ال يعبأ الكون باألعذار التي تلتمسها لنفسك لكيال تحقق الهدف من وجودك في هذه الحياة .منذ اللحظة التي خرجت فيها من عزلتك
باحثا عن الحقيقة و قد بدأ الكون من حولك يخطط لمساعدتك .استخدم ما منحت من مواهب .أيا كانت المهمة .التي اخترت أن تؤديها،
تيقن في قلبك أن ذلك ما يتوجب عليك فعله.ثق في الكون ،ان لم تجد من حولك من تثق به".
لم يمض وقت طويل حتي ودعته الفتاة ،علي وعد بالعودة في الميعاد لمتابعة العالج .سارت نحو حديقة الخضروات الصغيرة ،حيث
كانت في انتظارها ناتاشا ،تتحرق شوقا لما تحمله لها من أخبار.
"أبلغي الرئيس أنه مستعد .لقد نجحت المهمة .األولي".
**
مر شهر و االستعداد للحفل علي أشده فكان مراد يتدرب ليل نهار ،يعينه علي ذلك حلفائه الجدد من متدربي المزرعة .لم يكن قد حدد
موقفه بعد من الشيخ مجاهد .،الذي عاود االتصال مرارا ليماطله مراد بأسلوب مهذب .في خالل ذلك الشهر ،كان قد تمكن من تسجيل
عشرة أغنيات في االستوديو ،و صار يمشي علي قدميه دون الحاجة لمساعدة ،بفضل المتابعة اليومية التي فرضتها عليه أنيشا .كان
ممتنا لها و عرض عليها مبلغا من المال نظير مساعدتها فرفضت بشدة .لم يكن هدفه من مشروعه بالعودة الي الفن هو استعادة مجده
الزائل .كانت لديه رسالة حرص أن تصل إلي من كان بأيديهم تحويل دفة األمور .،فوجه الدعوة الي صحفيين ،و كتاب و دبلوماسيين و
بعض سفراء النوايا الحسنة من أهل الفن .كان الوقت المتبقي له يمضي في اعداد مستلزمات الحفل.
بقي يومان علي الحفل ،وقد حمل متعلقاته علي سيارات نقل كبيرة استعدادا للرحيل عن المزرعة ،كما رحل أغلب المتدربين إال من كان
ضمن خطة مراد .في عصر ذلك اليوم ،حضر ايهاب و نجالء و هما يشعران بالزهو لنصر استطاعا أن يحققاه باالستيالء علي القصر
و المزرعة .،و لو لصالح شخص آخر.
كان مراد يجلس بهدوء في الشرفة يلتقط أنفاسه من أنشطته المتعددة ،و قد حرص علي الجلوس علي المقعد المتحرك ،و إن لم يعد
بحاجة إليه ،فكان ذلك جزء من خطته .سمع وقع كعب حذاء نسائي لم يشك لحظة أنه لنجالء ،فكان ايقاع خطواتها منفر ألذنيه .و ما إن
وقعت عيناه عليها حتي ابتسم تأدبا و هو يغالب الضحك علي ذوقها في اختيار ثيابها.
"اال قوللي يا مراد ،البنات عمالين يتكلموا علي مفاجأة انت عاملها علشان الحفلة بس مش راضيين يقولوا"
"ال يا حبيبتي ،دي األكلة المصري الوحيدة اللي باعرف اعملها .كان نفسي اعملك حاجة تليق بمقامك ،لحمة راس مثال"...
نظرت له كما لو كان لدغها عقرب ثم عاودتها الضحكة الفجة" ،معلش كلها يومين و تتعلم تلم لسانك".
دخلت من باب الشرفة الي القصر ،و نادت علي لبيبة التي كانت تنظف األسطح في الصالون" .إنتي يا ،تعالي هنا ،اجري هاتي شنطي
من العربية ".ثم التفتت الي مراد" .،مش حتوريني أوضتي فين؟"
"لو باعرف أمشي جايز ،بس عندي حاجات كتير أهم من اني اشوفلك أوضة تتاوي فيها .أنا وافقت علي حفلة ،مش يومين اقامة كاملة.".
"يعني يا ميرو ماستعدش؟ .دي حتبقي حفلة الموسم ،و اال عايز ايهاب يزعل منك؟"
"هو لسة حايزعل؟ عموما استني لبيبة لما تيجي ،و خللي صبحي هو اللي يشيل الشنط .و ...حاجة كمان يا نوجة ،في البيت ده اللي
عايز حاجة يا يعملها بنفسه يا يطلبها بأدب .البيت ده لسة بيتي ،و الموظفين دول أنا اللي بادفع مرتبهم .واضح؟"
غمغمت في سخرية وا نصرفت .و عادت لبيبة و هي تحمل حقيبتين كادتا أن يخلعا كتفيها.
"نزلي الشنط يا لبيبة ،ماتشيليش حاجة .عارفة األوضة الصغيرة اللي كان قاعد فيها صبحي ...قوليلها دي األوضة الوحيدة اللي فيها
سرير ،خلي صبحي يرميلها كراكيبها علي هناك".
"يا مراد ،عايزاك في كلمة" وقفت نجالء خارج الحجرة التي اعتاد مراد أن يختلي فيها ،و أطلت دادة حليمة من الباب.
"مراد بيه بيقولك مش عاوز حد يزعجه دلوقتي ،أي خدمة؟".
اقترب مراد علي كرسيه المتحرك .من خلف دادة حليمة التي فتحت الباب ليتمكن من الرد علي نجالء" ،فيه ايه في جملة مش عاوز حد
يزعجه مش قادرة تفهميه؟ اعيدهالك بالفرنساوي لو عاوزة"
جاء ايهاب ،بوجه عابس" .جري ايه يا مراد؟ وراك ايه يعني؟ ايش حال اذا ما كنتش حتتكشح من هنا و تنطرد طرد الكالب؟"
قابل مراد عصبيته بابتسامة هادئة" .،أنا مانسيتش علشان تفكرني ،انت اللي ناسي إن لغاية 21منه ،البيت ده بيتي ،و انتم ضيوفي ،وا
للي مش عاجبه مفيش حاجة تغصبكوا تعملوا حفلة هنا في آخر الدنيا .فيها ايه لما داده حليمة تقولها اني مش عاوز حد يزعجني؟"
"قولي للكيترينج اللي انتي جايباه العشاء بتاع ضيوفك حيكون بره في الجنينة .ضيوفي أنا حيتعشوا جوة".
"نعم؟ ضيوفك؟"
"بيتي و اعزم فيه اللي أنا عاوزه .و بعدين انتوا عارفين اني نباتي ،و اغلب معارفي برضه ،فاحنا نقعد براحتنا هنا ،و انتوا اعملوا اللي
عاوزينه ،حتي الجنينة واسعة .أظن جاوبت علي سؤالك ،ممكن .تسيبوني ارتاح شوية؟"
لم ينتظر أن يجيبا بل تراجع عن الباب لتغلقه دادة حليمة .و لما تٱكدت األخيرة أنهما انصرفا أومأت له و لعمر وحسام وصبحي
باالستمرار.
" أنا بعد الساعة 7الزم أكون في اوضة عم فرحات و معايا ليندا و أنيشا .حسام حيفضل هنا يستقبل الضيوف اللي معاهم الدعوة
الخضراء اللي أنا باعتهالهم .صبحي حيقف برة مع عمر .استنوا اشارة ناتاشا و بعدين تتحركوا.".
"حيكونوا وسط المدعوين .،و كل واحد فيهم عارف حيعمل ايه و امتي .سامر ،الفيديو بتاع التقديم جاهز؟"
"طيب ،و عاوزين نتمم علي الكاميرا والميكروفونات اللي في اوضة المكتب .ده اول مكان ايهاب حيروحه لو عملنا كل حاجة مظبوط".
"ساعتها حادوس زرار األمان ،ينطفي النور .،و العب لعبتي ،بس األمانة جاهزة؟"
"جاهزة ،و فيه منها نسخة عند المحامي ،و نسخة عند بيير في سان موريتز بعتناها النهاردة بالفاكس".
"طيب ،لو حصل اشتباك مع رجالة الزهار .،حنأمن الناس في البدروم .زي المرة اللي فاتت لو مالحقناش نروحهم باألوتوبيس علي
الفندق في مطروح . .علوان عرف حيعمل ايه؟"
"يالال ،الساعة داخلة علي 5و الناس قربت توصل .اللي بنعمله ده مش علشان تار بيني و بين حد ،احنا بنوضع حد للظلم و األذي".
كانت الساعة الثامنة و النصف مساء و قد بدأ الحفل بدهشة نجالء ،فقد كان الكثير من الحاضرين ممن قدموا بدعوة خاصة من مراد ،و
قد ظهر الفارق بينهم و بين مدعويها ،من الذين اغتنوا في يوم و ليلة .كانت نجالء احدي أولئك الالئي بدأن حياتهن بالغناء في مراقص
شارع الهرم دون موهبة تذكر في الغناء ،و موهبة متميزة في استعراض مفاتنها ،و كان ذلك هو الحال في تلك الليلة .كانت المعدات
الباهظة التي جلبتها تحدث صخبا ،تماشي مع أضواء الليزر الملونة ،لكن لم يتماش مع مع الوان الصالون الفسيح ،الذي استوعب زهاء
مائتي شخص .كان الصالون قاعة مستطيلة ،تتوسطها نافورة من الرخام .كان اللون األزرق يغلب علي القاعة بطابعها الشرقي كما لو
كانت معدة خصيصا الستقبال مثل هذا العدد من األشخاص فتراصت األرائك و المقاعد بشكل اتاح للحاضرين متابعة ما يتم عرضه في
منتصف القاعة .، .كانت نجالء تغني احدي اغنيات البومها األحدث ،و ترقص رقصا فجا ككل شيء فيها ،و حرصت أن يظهر الفستان
الذي ارتدته اكبر قدر ممكن من جسدها .كان ذلك هو الفستان األول فقط.
وقف عمر و صبحي خارج النافذة التي كانت تطل علي الصالون و هما مشدوهان .من مختلف مظاهر المجون التي احتلت القصر .اتت
ناتاشا ووقفت بجانب البيانو ،وكانت ترتدي فستان سهرة طويل ،اعطاه لها مراد.
نظر صبحي الي يمينه ،حيث كانت حجرة فرحات ،و قد فتح الباب ،و قد خرج منها ظل اسود لشاب ممشوق القوام تتبعه أنيشا و ليندا.
ووقفت عن يمينه داده حليمة تحمل مبخرة ،تبارك بها خطاه .ما إن مر مراد بجانبهما لم يصدق صبحي عينيه .أكان ذلك هو الشاب
المسن الذي رآه عندما وطأت قدمه .ذلك المكان ألول مرة؟ لم يكن يخفي شعره بطاقية صوفية ،و قد صففه بشكل جذاب ،وارتدي حلة
لمصمم فرنسي ،و قميص صنع من ريش اسود فقط ،كان قطعة فنية .لم يبادله الحديث بل مر بسرعة فكانت لديه مهمة يؤديها.
"هو ده مراد؟".
"أنا سمعته صوته جميل ،بس حيغطي عليها ازاي باللي هي عاماله ده؟ دي عاملة الاللي"
"شوف ،الفرق بين مراد و بينها ،لو مراد داخل بصوته بس ،زي الفرق بين مدمرة حربية و بندقية فل! دلوقتي تشوف! اإلشارة! جري
علي مفاتيح الكهربا".
و بينما كانت نجالء تستعرض مواهبها ،وسط اعجاب جمهورها انقطعت الكهرباء عن المبني ،فلم تغن عنها األجهزة شيئا .اعتذر
حسام بشدة للمدعوين عن العطل ،و أعزاه الي ارتفاع استهالك المعدات الكهربائية ،و قدم عزفا علي البيانو لناتاشا .جلست األخيرة
تعزف لحنا هادئا علي ضوء الشموع،
و فجأة أضاء الكشاف ،ليسمع الجميع صوت الكرسي المتحرك يسير بمحاذاة البيانو ،الذي كان يفصله سلما من ثالث درجات عن
الصالون .لكن الكرسي كان خاويا .لم يتساءل الحاضرون طويال ،حتي سمعوا وقع اقدام ثابتة يتبعها صوت مراد و هو يشدو باحدي
اغانيه ،لتصمت همهمات كل من في القاعة ينتبهون جميعا الي مصدر الصوت ،ليحتل مراد دائرة الضوء و يغني بمصاحبة البيانو.
كان يتحدث في اغنيته عن حب ال يعرف المستحيل ،ذلك الوهم النفيس الذي يحيك من أحزان الشتاء ربيعا ،و ينبت األمل في قلب
الصحراء.
في تلك األثناء ،هرول صبحي مسرعا ليشاهد مراد و يسمعه و هو يعتلي مقعده بين نجوم السماء .لم يعد يري سيد القصر الحزين.كان.
الذي أمامه اسطورة تتجسد فتملك علي من يستمع اليه حواسه .لم يفهم الكلمات ،فقد كان مراد يغني بالفرنسية ،لكنه كان يغني بإحساس
يعرفه كل من عرف العشق المستحيل ،و اجتاز نيرانه ليتذوق من حالوته شيء قليل.
"والد الكلب! مش قلتلك كان بيدبر حاجة علشان يهزأني؟ كان حقك كسحته بجد!" همست نجالء في غيظ
"ششش ،اسكتي دلوقتي ،مش عايزين حد ياخد باله انك مخنوقه منه .الصحفيين مش حيفوتوا الفرصة دي لو خدوا بالهم".
إنتهت األغنية و عاد الضوء الي الصالون و معه تصفيق هادر من جميع الحاضرين .قام مراد بتحية جمهوره ،و تناول الميكروفون .من
حسام.
"يا جماعة باشكركم .من قلبي بجد ،و باخص بالشكر الفنانة نجالء اللي خططت معايا للمفاجأة دي .أنا الحمد هلل خفيت و راجع بألبوم من
عشر اغاني اللي حنسمعها الليلة دي ،اشكركم .كمان مرة علي تشريفكم ليا"
و عادت نغمات الموسيقي ،بإيقاعات اسرع و آالت موسيقية غير مألوفة ،استعرض فيها مراد ما تمتعت به هذه المزرعة من تنوع
ثقافي ،فمن األنغام الالتينية ،الي انغام البحر المتوسط ،حتي الموسيقى األفريقية .و اكتملت ثمانية اغنيات ،قدم بعدها مراد العازفين:
ناتاشا علي البيانو ،خيسوس علي الجيتار ،بانوس علي البزق ،مارتين علي قيثارة الفم .اليخاندرو علي الكاخون ،و عمر علي الدرامز.
"الليلة دي يا جماعة مناسبة خاصة جدا .الليلة دي تكريم النسان عظيم ،كرس وقته و مجهوده و شغفه بقضايا اإلنسانية للمزرعة اللي
احنا فيها دلوقتي .الفيديو اللي حنشوفه دلوقتي ،حيوري حضراتكم المزرعة .قدمت خدمات قد ايه للمهاجرين من مختلف انحاء العالم ،و
المجتمع المحلي في محافظة مطروح"
و عرض سامر الفيلم القصير ،الذى عرض جوانب انشطة المزرعة .،و تسجيل مفصل إلحدي عمليات اإلنقاذ.
"كتير من الناس اللي بتشتغل في المزرعة النهاردة ،خرجوا من بيوتهم شايلين أرواحهم علي أكتافهم .،و سلموها لسماسرة الهجرة الغير
شرعية .علي مدار أربع سنين ،حمزة الشيمي كان بيتولي انقاذهم بنفسه ،و بعد ماينقذ حياتهم يديهم فرصة عمل ،و فرصة للتدريب
المهني ،و فرصة لحياة جديدة .النهاردة فيه اكتر من 60بيت مفتوحين في المزرعة ،ملحق بيهم مزارع صغيرة .النهاردة فيه 30بنت
من بنات القبايل نجحت في االعدادية و حتكمل التعليم الثانوي .كل ده ألن أخويا و أنا مؤمنين إن اللي يقدر علي عمل الخير الزم يعمل
كل اللي يقدر عليه علشان يوصل لمستحقيه .كتير منكم دعمنا بنتهي الكرم .و بايمان عميق بشغلنا .دلوقتي حمزة مش موجود ،و
مانعرفش حيرجع امتي ،بس المزرعة استمرت سنتين ،و حنكمل المشوار و انتوا معانا"
صفق الحاضرون بشدة مرة أخري .و عندها ظهرت اغنية مصورة لحمزة علي الشاشة ،رافقها عزف من الفرقة الموسيقية ،كان مراد
يغني كذلك ،كما لو كان في ثنائي موسيقي مع حمزة...كان التباين بين صوت حمزة األجش و صوت مراد السوبرانو هو الختام المالئم
لعرض مراد ،الذي غني بكل حواسه للحاضر الغائب ،ليس كتابع ،و إنما ندا له ،فقد تم اخراج الفيديو بحيث يرد فيه مراد علي حمزة.
و قضي مراد قرابة الساعة يلتقط له الصحفيون الصور .،و يأخذون منه بضعة كلمات لقراءهم .استأذن منهم و خرج وحده الي الشرفة
األمامية يلتمس بعض الهدوء .و بينما هو واقف يتنشق نسيم الليل ،و يستجمع أحداث الليلة ،لمح صبحي يقترب منه و قد وقف اسفل
الشرفة .كان ينظر لمراد كالمبهور ،كأنما يشاهد كائنا خرافيا و قد شق الحجاب بين الواقع و الخيال.
"عجبك العرض؟"
"و مين ماعجبوش ،اال اخواننا البعدا طبعا ،شفت عملتلك فيها ايه؟"
سمع مراد صوت خطوات تتجه نحوه من مدخل الشرفة .،و استدار ،فرأي خيال لرجل طويل القامة يعتمر عمامة كبعض الهنود .استنكر
مراد ان يكون ذلك الظل القادم من خلف الستائر لبيكرام ،حتي لمح شاربه و لحيته الكثيفين.
"قول لحسام يجهز نفسه للجزء التاني قوام ،سيبلي أنا األخ ده اشوف ايه حكايته".
دخل بيكرام الشرفة ،عرف مراد من عينيه انه كان يبتسم ،فقد تعذر عليه ان يري غيرهما في وجه ذلك الرجل .ابتسم له مراد تأدبا،
"بيكرام .،شرف لي أن تحضر ،لم أكن أعرف أنك ستأتي ،أو أنك سمعت بالحفل".
"بلي ،أذكر أني وجهت لك الدعوة عندما التقيت بك في پاليه دي ال نيج .لكنها مفاجأة غير متوقعة هذا كل ما في األمر".
"ال أظن مفاجأتي تكاد تقترب من مفاجأتك أنت .لم أتوقع أن أراك عائدا بكامل هيئتك".
قاطعه مراد" ،لن يضايقني وجودك إذا أفصحت عن السبب الحقيقي لمجيئك لمكان ناء في شمال شرق مصر لتستمع إلي مطرب
معتزل".
"و ماذا تريد أن تعرف؟" لم يكن بيكرام متضايقا من تشكك مراد ،فظلت نبرة صوته هادئة و ان غلب عليها المرح.
"إذا لم يكن لديك ما تود أن أعرفه فلن أطلب منك الرحيل ،لكن ائذن لي فلدي ما أفعله".
"تفضل "،و استدار مراد منصرفا ،لكن بيكرام امسك بيده برفق" .ثق أني لست واحد ممن يرغبون في إيذائك".
نظر اليه مراد بقوة لم تطغ علي هدؤه المعهود" ،أعرف أنك لن تؤذيني ،لكني أخشي عليك أن تؤذي نفسك".
تراجع مراد عنه و شاهده يغادر الشرفة الي الحديقة حيث وقف بعض المدعوين يتجاذبون اطراف الحديث .من أين جاءت مراد تلك
الثقة في ذلك الغريب؟ دخل مراد الي الصالون ،حيث كان حسام يدعو الحاضرين الي التوجه للبوفيه في الحديقة ،و مع ذلك بقي عدد
كبير منهم يتجاذب اطراف الحديث في الصالون .كان ايهاب يتحدث الي رجل قصير القامة يرتدي معطف و قبعة .،كان يبدو و كأنه
يسعي لجذب االنتباه حتي و ان كان شبه متخف .لم يتعذر علي مراد معرفته ،و شعر برغبة في االختباء منه.
هذا ما يريده بالضبط ،ال ،لن تعرف و لن يعرف مخلوق ما أفكر فيه .اتجه مراد نحوه في تصميم ،تعلو وجهه ابتسامة مرحبة" ،مسيو
سافوريتي ،شرف كبير ان حضرتك تيجي بنفسك .أرجو يكون الكونسرت عجبك".
ابتسم الرجل بخبث" ،مش بطال ،شفت لما اخدت بنصيحتي حصل ايه؟"
نظر ايهاب باستغراب الي كليهما" ،وانت تعرف الزهار باشا من امتي؟"
رفع الرجل حاجبه ملتفتا الي ايهاب بنصف ابتسامة" ،من زمان قوي ،من أيام المرحومة اقبال هانم".
كان ذلك دور مراد في االستغراب ،لكنه قد تذكر عند سماع اسم امه أال يدع أحدا يعرف ما يفكر فيه.
"بالظبط يا ايهاب ،مسيو موريس سافوريتي معرفة .قديمة .اسمحولي ،مضطر استأذن...لكن ضروري نتكلم تاني مسيو سافوريتي".
كان مراد متجها الي حجرة المكتب عندما شعر بيد تجذب مرفقه بعنف" ،انت بتحاول تعمل ايه بالظبط؟"
استدار مراد ليواجه ايهاب" ،ايه مالك يا ايهاب ،مش الزم أرحب بالناس اللي جايين في بيتي؟"
صدر من ايهاب لفظ بذيء قاله همسا لكي ال يلفت األنظار" ،بيتك ده يا روح ماما حتنطرد منه بعد يومين .انت حكايتك ايه بالظبط؟ أنا
كنت عارف انك بتمثل حكاية الشلل ،و أكيد ماخليتهاش مفاجأة علشان ترخم علي نجالء في حفلتها و تكسفها قدام ضيوفها و بس .انت
زودتها قوي ،لم نفسك بدل ما ألمك".
"وفر الكلمتين دول للمدام" قال مراد مشيرا خلف ايهاب ،و استدار األخير ليجد نجالء تطلق ضحكة عالية و هي تتأبط ذراع بيكرام.
"حسابها معايا بعدين ،أما انت حسابك دلوقتي".
ابتسم مراد في استخفاف" ،تعال علي المكتب ،و اال عاوز تعمل سكاندال هنا قدام الباشا بتاعك و الصحافة؟"
اتجه االثنان الي المكتب و اغلق مراد الباب و استند الي المكتب ينظر الي ايهاب بنفس االستخفاف" ،طلباتك؟"
"بيتهيألي يا ايهاب نتكلم علي المكشوف احسن .أنا لغاية امبارح كنت علي كرسي بعجل ،و دلوقتي رجعت زي ما كنت .ممكن .انت بقي
بشويش كده تقول انت عاوز تحاسبني علي ايه بالضبط ،و بمناسبة ايه؟"
"فهمني انت األول عاوز تثبت ايه بعمايلك الليلة دي و الكام يوم اللي فاتوا".
"زي ما انت عامل اتفاق مع الزهار علشان تستولوا علي المزرعة .،أنا كمان من حقي محاولة لتكريم حمزة"
"اياك تكون فاكر الناس كانوا مصدقين انك اخوه بجد ،زي ما كانوا مصدقين انك مشلول .حكايتكوا معروفة بس ماحدش اتكلم علشان
حمزة فنان مشهور.".
كاد مراد أن يصفعه ،لكن لم يفعل ،بل ضغط علي زر علي المكتب عن يمينه ،دون أن يراه ايهاب" ،أنا عارف من زمان انك طمعان
في كل حاجة عند حمزة "،و نظر له بنفس التصميم" ،و الدليل انك اتجوزت اللي برة دي مع انك عارف اصلها و فصلها ،لمجرد انها
وهمتك انها سابت حمزة علشانك .لكن هو كان و طول عمره حيفضل قلبه مع واحدة بس .أنا بس مش قادر أفهم انت كسبان ايه من كل
ده؟ و كنت ليه في المستشفي تاني يوم الحادثة علشان تعرف اذا كنت مت واال أل؟"
"حمزة اللي انت فرحان بيه قوي ده ،استولي علي حقي و حق أمي في ورث ابويا ،و صرفه علي الخرابة دي .كان الناس ماوراهاش.
غير حمزة و عربياته و فلوسه و الحريم اللي رايحة جاية عليه .لكن دلوقتي حمزة بح! خالص ،و المزرعة .دي حترجعلي بعد أنا ما
شاركت الزهار".
ضغط مراد علي زر آخر علي يمينه دون أن يشعر ايهاب" .تمام .،كمان يومين .بس انت بتكرهني قوي كده ليه يا ايهاب؟ أنا عمري ما
أذيتك علشان تهددني و تشهر بيا"
ضحك ايهاب في سخرية مرة" ،انت اغلي حاجة حمزة يملكها ،كان عنده كل حاجه اي راجل يحلم بيها ،لكن عمري ما شفته سعيد زي
ما شفته بعد ما لقاك و جابك مصر .كنت فاكر لما اشوفك مذلول و متداس بالجزم ان الغل اللي جوايا من حمزة حينطفي .لكن بعد
ماشفتك الليلة دي ،قلت يمكن تحب انك تفضل في المزرعة معزز .مكرم.".
قام ايهاب من مقعده ،و ابتسم في غلظة" ،قبل ما تعرف ايه المقابل ،الزم تعرف ايه البديل...ساعتها نتكلم في المقابل".
بذل مراد جهدا رهيبا لكي ال يظهر عليه االشمئزاز من ذلك الشخص الذي وقف أمامه " ،انا سامعك".
ازداد بريق الزهو في عيني ايهاب و هو يدور حول غرفة المكتب بطريقة مسرحية" ،الزهار بينه و بين عيلتكم تار قديم ،ماعرفش
تفاصيله ،لكن عارف هو ناوي لك علي ايه ،ده مش حيهدا إال لما يكسرك و يذلك ،و يصورلك فيديو علشان كل معجبينك بتوع زمان
يشوفوه ،و ساعتها مش حتقدر ترفع عينك في وشه ،و بعد لما تكون اتكسحت بجد و اتجننت ،يرميك في اي مستشفي و اال حتي في
الشارع .و اكيد حيالقي طريقة يستولي علي الفندق اللي في سويسرا". .
كاد مراد أن يتقيأ لسماعه تلك الكلمات ،و هو غير قادر علي النظر إلي ايهاب الذي بدا له أقبح ما في الوجود في تلك اللحظة ،ضحك
األخير عندما ادرك تأثير كلماته علي مراد و استطرد" ،أنا بقي حاحميك من كل ده ،تحب تعرف ايه المقابل و اال فهمت لوحدك؟"
استجمع مراد كل قواه و ابتسم" ،ال طبعا فهمت .،بس اللي برة دي حتعمل معاها ايه؟"
"هي اللي برة دي بني آدم؟ اللي زي دي عمرها ما بتنضف ،ده أنا باقرف ابصلها!"
سمع اإلثنان صوت صراخ و تكسير يأتي من الصالون ،أدرك مراد في تلك اللحظة أن نجالء .و غيرها قد شاهدواما حدث عن طريق
الكاميرات التي خبأها سامر في غرفة المكتب ،.و لم تتحمل نجالء ما سمعته فانقضت علي الشاشة التي كانت في الصالون .،علي مسمع
و مرآي من الحاضرين.
نظر ايهاب لمراد باستنكار ،فلحقه بالرد "أنا عمري ما ارتحت لك ،لكن ماكنتش فاكرك مريض كده .حمزة اكتر من اخويا ،و انا عمري
ما كنت شيء بيملكه .أنا ابنه من االنسانة الوحيدة اللي حبها"
و التفتا ليجدا عدة ظالل عند باب المكتب و قد فتحوا الباب عنوة ،ليظهر مرسي الزهار وأربعة من حرسه الخاص تبين مراد وجود
شخص آخر ،لم يكن غير ذلك الرجل الغامض الذي ضربه علي ظهره ليلة الحادث .علم مراد في تلك اللحظة أن كل ما قاله ايهاب كان
علي مرأي و مسمع كل من كان في الصالون في تلك اللحظة .كان أقل ما يصف وجه مرسي الزهار في تلك اللحظة مرعبا ،دون أن
تفارق االبتسامة الساخرة محياه.
"انتوا قاعدين تتسامروا هنا و سايبين الضيوف؟" قال وهو ينظر لمراد ،ثم حول نظره اليهاب" ،وانت يا حضرة الظابط ،مالي ايدك
قوي من الزهار؟ انت مالكش لزمة عندي ،خالص ،الداخلية استغنت عنك و ما عدتش تنفعني".
انزعج مراد لشعوره بالتشفي ،عندما رأي تحوال في سلوك ايهاب إلي خنوع و تذلل حتي كاد أن يجثو علي ركبتيه ،لم تكد الكلمات
تمرق بين شفتيه المرتعشتين حتي انطلقت رصاصة و استقرت بين حاجبيه لتسكته الي األبد .تراجع مراد في ذعر و قد حول نظره الي
مصدر الرصاصة و كان أحد الحارسين الذي تنحي جانبا في هدوء لتدخل نجالء صارخة ،و قد اتسعت عيناها في ذعر عندما رأت
ايهاب صريعا علي األرض.
"جايبالي الصحافة ،و عاملة نجمة ...اهو الواد المشلول قام و عمل ملعوب علشان يهزأك ".ثم التفت الي حارسه اآلخر" ،قومها".
فما كان من الحارس إال أن جذبها من شعرها في قسوة" ،علشان تاني مرة تعوزي تعملي حفلة في ملكي ،ماتتصرفيش من دماغك و
تجيبيلي صحافة و كل شينكان " .ثم التفت الي حارسه الذي ظل يجذب نجالء من شعرها" ،خدها علي برة و شوف شغلك"
تجمد مراد في مكانه في ذهول هو يشاهد ما يحدث أمامه و علم أن لحظاته قد تكون معدودة إن حالفه الحظ .بحثت يده عن زر األمان
فلم يجده .زاد توتره اثر سماعه لصرخات نجالء و مادت به األرض .فلم يسبق له ان شهد مثل هذه االنفعاالت.
لم يجب مراد ،بل نظر له محاوال اخفاء الرعب الذي تنامي في صدره.
"مالك ،اتخرست و اال ايه؟ طبعا سمعت اللي قالك عليه ايهاب ،اوعدك انه حيحصل"
امسك مراد بفتاحة األظرف علي المكتب ووضعها علي رسغه مهددا و هو ينظر للزهار في تحد
"شغل األفالم ده مش قديم شوية؟ واال هي اقبال ماعلمتكش غير شوية الحركات الخايبة دي".ضحك و شاركه رجاله في الضحك
"مالكش دعوة باألموات يا زهار .،لو بينك و بين حمزة خالف أمي مالهاش دعوة".
جلس الزهار علي مقعد امام المكتب في استعالء "الهانم أمك طبعا مش حتقولك إني بعد ماخدمتها خدمة العمر ،و خرجتها من مصر
هي و ابوها عبد المنعم باشا األزميرلي قبل ما التأميم يخليهم شحاتين..تتنكر لي أنا و تطردني لما طلبت ايدها علشان مين؟ علشان
تتجوز مركيز اسباني ،اللي خلفت منه حمزة أخوك".
""علشان كده عاوز تنتقم من والدها .،زي ما اكيد اتسببت في قتلها بعد وفاة رفعت حليم".".
"ال ناصح زي أمك ".زفر مرسي في تهكم" ،لما عرفت ان حمزة كان فاكر نفسه ناصح و بقي ياخد المهاجرين عند المزرعة و
يرجعلهم فلوسهم قدرت اورطه في مبلغ يقطم الوسط علشان يمضي علي التنازل زي الكلب .كانت الليلة اياها ،ليلة الحادثة لما افتكر
نفسه حيسكت الريس وهدان بقرشين و ماكانش عارف ايه اللي مستنيه ،دخلت انت و عرف هو يهرب ...بس اطمن ،حتشوفه دلوقتي".
و اخرج وهدان ربطة من القماش فهم مراد انها رأس مقطوعة . ..وضع يده علي فمه في ذعر .،كانت تلك بالفعل هي رأس الشيخ
مجاهد .لم يكد مراد يصدق عينيه ،و هو ينظر في ذهول الي وهدان الذي خان ولي نعمته لصالح الزهار.
أخرج وهدان ربطة أخري ،و كشف عنها فإذا بها رأس مشوهة لم تتضح معالمها اال ان شعر الرأس كان شبيها بشعر رأس
حمزة...انطلقت صرخه مفجعة من صدر مراد وانهار في ركن من اركان الغرفة يبكي بحرقة و يصرخ بكلمات غير مفهومة .لم يدر
كم مر عليه من الوقت و هو في تلك الحالة منهارا علي مرأي و مسمع من ألد أعداءه و قد نجحوا في كسره .لم ير في عين اي منهم من
تعبير انساني .،لقد نجح الزهار في كسره دون أن يلمسه .تذكر في تلك اللحظة أن الزهار هو من كان يشن عليه حرب األعصاب طوال
العام الماضي من خالل ايهاب .استجمع مراد قواه و نظر محدقا في عيني الزهار دون أن يقوم" .لما تجيبلي راس مشوهة .،و تقوللي ان
ده حمزة ايه اللي يخليني اصدقك؟".
"انت اللي قلت عاوز تشوفه...عموما .ماتخافش ،حمزة حي ،و حيشوف الفيديو بتاعك اللي حنصورهولك كمان شوية ،واال فكرك
حاموته من غير ماعذبه".
"هاتهولي اشوفه..هاتهولي اشوفه" جعل مراد يكررها صارخا حتي خارت قواه فانهار علي األرض دون أن يفقد وعيه.
"دي آخرة اللي يقف في سكتي ،زي الغبي اللي اسمه مجاهد .انت فاكر بيزنس الهجرة ده شغل شوية صيادين؟ بكرة لما تالقي اوروبا
كلها تحت رحمة ميليشيات من الشباب األفارقة .،و األراضي الزراعية في افريقيا تحت ايد الشركات العالمية تعرف كل ده اتعمل ليه.
بس انا لسة شغلي معاك ماخلصش ...أنا حاخليك تتمني الموت و ماتطولهوش و ساعتها تتنازل عن الفندق زي اخوك ما اتنازل عن
المزرعة"
قال مراد و قد صار غير قادر علي القيام علي رجليه كأنما قد عاد له الشلل" ،المزرعة .مش ملك حمزة ،و الطعن اللي اتقدم علي
التنازل اللي معاك حيتقبل".
قهقه الزهار ضاحكا" ،مين ده اللي حيقبله يا شاطر؟ القاضي تبعنا ،يعني قضيتك خسرانة خسرانة .و لو فاكر شوية العيال اللي معاك
حينفعوك .،رجالتي برة زمانهم خلصوا عليهم ،و انت و الورق اللي معاك حتختفوا من علي وش األرض بمجرد ما رجالتي يشوفوا
شغلهم معاك ".ثم استدار الي احد حرسه الخاص " ،خليهم يجيبوا الكاميرا و العدة ،و لما ترجع هاتوه علي المكتب ده ،خليه مرمي كده،
مش حيروح في حتة بمنظره ده!"
عاد الحارس و بصحبته اثنين من الرجال حمل احدهما كاميرا لتصوير الفيديو علي حامل ثالثي و آخر يحمل صندوقا لم تظهر
محتوياته .كان ذلك اآلخر ضخم الجثة ،اصلع الرأس ،و قد تجرد وجهه من اي تعبير انساني .استبعد مراد ان يتكمن من مواجهته .كان
علي مراد أن يعثر علي مهرب ،أيا كان لكي ال يمر بذلك العذاب و الهوان الذي كان ينتظره .ظل يدعو في سره أن تنتهي حياته قبل أن
تمتد اليه يد أحد هؤالء المرضي الذين تجردوا من اإلنسانية و تمادوا في الوحشية .تذكر أمه مرة أخري ،و قد فهم لماذا تزوجت من
أثرياء لمرتين بعد زيجتها األولي بمن أحبت .كانت تبحث عن الحماية من الزهار .بقي درس أخر علمته اياه .لقد كان خصمه اقوي منه
و قد فشل في اخفاء مشاعره ،و صار فريسة سهلة ،و لم يبقي لديه اال أن يقنع خصمه بأنه قد نجح في كسره ،ثم يهاجمه من حيث ال
يتوقع.أ
فبينما انشغلوا عنه تمكن مراد من اخفاء فتاحة األظرف في كم سترته .اتسعت عيناه و اذا بوهدان يقترب ،ووقد افترت شفاه الغليظة عن
ابتسامة تشفي اختص بها ضحيته الذي عجز عن الحراك .ابصر مراد زر األمان االسود بطرف عينه بجوار الخزينة .انتظر حتي اقترب كاد
يمسك به وهدان فاخرج فتاحة األظرف من كم سترته و طعن وهدان في صدره طعنة نافذة ،ثم القي بنفسه جهة اليسار ليضغط علي زر األمان
فانطفأ ضوء الغرفة و ساد الظالم قبل أن يتمكن الزهار و من معه من عمل اي شيء .لم يتمكن مراد من القيام وفق الخطة الموضوعة ،لكن
النجدة قد وصلت خالل بضع دقائق .سمع مراد صريرا في حجرة المكتب .ألثاث ثقيل عاد معه الضوء الي الحجرة.
لقد تحركت المكتبة خلف المكتب ليظهر مدخل سري خرج منه رجل طويل القامة ،بلغت خصالت شعره األسود كتفيه ،و ان ابيض بعضها
علي جانبي رأسه .بدت عالمات االرهاق تحت عينيه الخضراوين عندما التقيا بعيني مراد فتغير تعبير .وجهه ليبدو علي وجهه الندم و مشاعر
أخري تدفقت بال حساب في لحظة كان عليه فيها ان يحتفظ برباطة جأشه فالتفت الي الزهار بنظرة حازمة،
"مالكش حاجة عندنا يا زهار" .
"شجيع السيما بنفسه هنا" قال الزهار بابتسامة ساخرة ،تحفز معها .حارساه علي الهجوم ،لكنه اوقفهما بعصاه" ،خليكوا ،انا عاوزه حي علشان
يشوف بعينيه اللي حاعمله في اخوه".
"انت يا شاطر بتتكلم كالم مانتاش قده ،ما تنساش ان البوليس يبدور عليك ،و انك قتلت ايهاب الشيمي و هو بيحاول يقبض عليك و اعتديت
علي الست بتاعته .ايديك لفوق"
ابتسم حمزة بسخرية بدوره ،انطلق معها .صوت الرصاص من خارج المكتب ،عرف مراد لحظتها ان مصدرها عمر و صبحي و قد ساروا
وفق الخطة الموضوعة .اشتبك الحارسان معهما خارج المكتب ،لكن سمع مراد المزيد من األصوات التي أثارت قلقه .لقد كان هناك آخرون
من معاوني الزهار بدوا اكثر عددا من الشباب .اشار الزهار للرجل األصلع و المصور بمهاجمة حمزة ،و اقتربا منه ببطء و المصور يفتح
مطواته متجها بها نحو حمزة.
كان الزهار في تلك األثناء مضطربا ،يبحث .عن مهرب و قد ادرك أن الموقف لم يعد في صالحه و قد تمكن حمزة من السيطرة علي المصور
و اشتبك مع المارد الذي نجح في اصابته لكنه استمر في محاولته السيطرة عليه .كان الغضب يسيطر علي حمزة و هو يكيل اللكمات الي
غريمه حتي افقده وعيه.
امسك الزهار بمقبض عصاه األنيقة و ضغط علي زر ،فإذا بنصل حاد يخرج من طرف العصا و اتجه نحو حمزة و هو منقض علي األصلع.
"حاسب يا حمزة "،صاح مراد ،لكن الزهار قد اصابه في كتفه األيمن.
ادرك مراد ما ينوي فعله ،فانتزع فتاحة األظرف من صدر وهدان ،و رمي بها نحو الزهار بكل قوته فأصابت فخذه سقط علي اثره علي
األرض ،لكنه انتزع فتاحة األظرف من فخذه صارخا ،و زحف نحو مراد و علي وجهه غضب شيطاني ،ممسكا بعصاه و قذف بها نحو قلبه،
لكن مراد تنحي جانبا فلم تصبه.
في تلك اللحطة لحق حمزة بالزهار و انقض عليه ،رافعا اياه عن األرض.
أثار دوي الرصاص خارج القصر رعدة في جسد مراد ،تزايد الصوت حتي بدت و كأن حربا قد اندلعت .كان ألحداث تلك الليلة أثرا عميقا لم
تتحمله اعصاب مراد فغاب عن الوعي ،كان القلق في عيني حمزة آخر ما رآه.
"اخوك ماستحملش ،خسارة ،كان فيه كتير نفسهم يشوفوه مذلول .اوع تفتكر .شوية العيال بتوعك حيقدروا علي رجالتي .المزرعة كلها
متحاصرة"
قام حمزة بتوثيق يدي الزهار بالحبال خلف ظهره ،ثم القاه علي احد المقاعد ،و اتجه نحو مراد ليطمئن عليه ،فإذا به يتنفس بانتظام.
"شوية العيال زي ما بتسميهم قدروا عليهم و معاهم أوالد عوف و شباب كام قبيلة تانية هنا معاهم سالح و حالفين مايفضلش واحد من
البلطجية بتوعك حي علشان ينتقموا .للشيخ مجاهد .أما انت ،االنتربول عارف انك حتكون هنا الليلة دي و جايين ياخدوك".
دخل عمر بصحبته حسام و صبحي و بقية الشباب ،قام بعضهم بتوثيق اتباع الزهار بالحبال.اندفع صبحي نحو مراد عندما رآه مغشيا عليه،
"مراد ،هو جراله ايه?"
التفت حمزة نحوه" ،عنده انهيار عصبي يا صبحي .ما تخافش عليه"،
"انت حمزة?"
"و عارف كمان انك انقذت حياة مراد .و لوالك ماكنتش .الخطة نجحت".
"ال ،احنا الزم نمشي كلنا ،بس انت حتقعد هنا مع لبيبة و يبقالك بيت و دخل تعيش منه".
"حيوحشني قوي"
"حنسأل عليك علي طول .مش حاوصيك علي لبيبة ،أنا مربيها"
"في عينيا يا باشا .خللي بالك من مراد ،ده مافيش حد في طيبة قلبه"
اقترب عمر يحمل في يديه ضمادات و زجاجة مطهر .فجلس حمزة علي المكتب .و خلع سترته و قميصه لتظهر عضالته المفتولة ،و قام عمر
بخياطة الجرح ليتوقف النزيف .شاهد صبحي كل ذلك و هو يري ذلك الرجل االسطوري يجز علي اسنانه لكيال يصرخ من األلم.
"صبحي ،نادي عم فرحات خليه ييجي هنا ياخد مراد ،و احنا حنحصله ".قال عمر
انتهي عمر من خياطة الجرح ووضع عليه الضمادات" .فرحات حييجي معانا؟"
"أل ،فرحات الزم يستقبل البوليس لما ييجي ،و الزم كلنا نكون مشينا.".
"الزهار او موريس سافوريتي اتفضح ،و بدأت األنشطة بتاعته في ليبيا ريحتها تطلع ،كان عنده امل ياخد المزرعة يحول نشاطه عليها"،
"تار قديم .المهم دلوقتي ان معانا دليل ألن كل اللي دار بينه و بين مراد اتسجل صوت و صورة .غير الصحفيين اللي شافوا البلطجية بتوعه
هنا و غطوا األحداث بالصور .أي حد كان بيسنده هنا في مصر حيتحط في موقف ال يحسد عليه زي ايهاب".
خرج الشابان من المكتب و اتجها نحو حديقة القصر ،تناثرت .آثار الصراع الذي دار بين ابناء القبائل و رجال الزهار .ووقف حمزة يشاهدها
و قد تزاحمت األفكار في رأسه .ابصرا شخصين يقتربان من أبناء القبائل ،كان أحدهما علوان و شاب آخر لم يره عمر من قبل.
"حمزة بيه ،أخدنا بتار بوي الشيخ مجاهد" صاح الشاب في ظفر خالطه الحزن.
"هللا يرحمه الشيخ مجاهد .اتفاقنا زي ما هو يا عبد الواحد .كمان شهرين المحامي حيتصل بيك و يسلمك عقد االنتفاع و يبلغك بكل الشروط.
لكن الزم تمشوا كلكم دلوقت"
ودع عمر و حمزة الرجالن و اتجها الي االسطبل ،حيث وقف رهوان في انتظار رفيق دربه الذي طال غيابه .صهل الجواد في نشوة عندما
تشمم رائحة حمزة.
"انا استاهل اللي يجرالي انا بامشي ورا اتنين مجانين زيك انت واخوك .مش كان اسهل تسلم الورق لمراد في ايده بدل الشحططة دي؟"
اعتلي حمزة صهوة رهوان بمساعدة عمر " ،هي دي كانت الفكرة ،انه يسافر نيس و يقعد في بيتنا القديم لحد ما اصفي حسابي مع الزهار ،بس
ماكنتش .عامل حساب الحادثة اللي حصلت و كان الزم اختفي .و من ناحية تانية كان فيه حاجات مراد الزم يعرفها كان صعب اقوله عليها
بشكل مباشر .و كان الزم يكتشف الممر السري بنفسه".
"هو ماكتشفش .حاجة ،صبحي هو اللي الحظ الساللم ،و سبنا مراد يشوف الورق براحته".
اعتلي عمر صهوة جواد آخر ،و نظر له حمزة بابتسامة مودة" ،عمر انت اجدع صاحب في الدنيا"
"طب هات سيجارة!"
اتجه الرجالن نحو المرسي ،حيث كان المركب بانتظارهما ،و توافد عليه من بقي في المزرعة و انطلق قبل بزوغ الفجر.
***
ظن مراد أنه كان يحلم مرة أخري بعودة البطل المستحيلة عندما وصل الي قاع اليأس تحت رحمة الزهار .،كانت كل التفاصيل باهتة في
ذهنه ،كلما حاول أن يمسكها في عقله تبددت فاستسلم في نومه العميق الي رحلة علي مركب األبدية ،في مكان ال تصله يد الزمن ،حيث
تتراقص ألوان الشفق الي ما ال نهاية فوق مياه هادئة بال أمواج .هل يعود الي عالم ال يسكنه حمزة إال في صور ال تنطق و ذكريات
تتبدد كلما هبت عليها رياح الزمن؟ لقد رأى وجها مخيفا من الشر حتي شل الخوف حركته من جديد .كال ،بل األبدية و بحارها الباردة،
حيث ما من خوف أو ألم.
لكن خياره ذلك لم يكن متاحا بعد ،فقد فتح عينيه ليجد نفسه مستلقيا في فراش داخل كابينة بمركب ما .قام فأطاعته قدماه و سار نحو
النافذة المستديرة ،ليجد زرقة البحر تلتقي مع زرقة سماء صافية عند األفق.
"يا دادة"
لكن لم يجبه احد .نظر في المرآة فوجد نفسه في ثياب بيضاء من القطن ،كالذي اعتاد ارتداءه في المزرعة .من الذي غير له ثيابه و
أخذه الي ذلك المكان؟ رتب هندامه في عجالة ،و صفف شعره .كانت متعلقاته الخاصة أمام المرآة .عبث الغموض بفضوله فخرج
مسرعا من الكابينة.
و صعد سلما حديديا الي السطح متتبعا ما سمعه من أصوات ،بدت ألشخاص يستمتعون بوقتهم .ما ان وصل الي السطح حتي فاجأته
رؤية وجوه مألوفة لديه .عمر ،ناتاشا ،أنيشا و بيكرام .،كان الشباب هناك كذلك و بعض من المتطوعين األجانب .ابتسم عمر في بشر
عندما رأي مراد.
"احنا يا سيدي في اليخت بتاع حمزة .و لسة خارجين من مضيق جبل طارق علي المحيط األطلنطي ..بس سيبك من درس الجغرافيا
ده ،انت كويس؟"
"يعني ،خمس ايام بلياليهم...الصدمة اللي اتعرضتلها ماكانتش سهلة .بس ناتاشا و أنيشا فضلوا جنبك".
"و ده بيعمل ايه هنا؟ و عملتوا ايه مع الزهار؟"
"الزهار اتسلم لالنترپول .أما بيكرام يا سيدي يبقي الدوبلير بتاع شيخ المنصر أخوك!"
"يعني زعيم عصابة ،افرادها هم اللي واقفين قدامك .حمزة هو اللي بعت انيشا و ناتاشا .و اللي انت شفته في التراس كان حمزة
متنكرفي شكل بيكرام .كان بيتواصل معايا عن طريقهم .تحب تيجي معايا نشوفه؟"
استأذن عمر من ناتاشا ،و تبادال قبلة سريعة ،افصحت عن حبهما الوليد و اصطحب مراد الي الكابينة التي رقد فيها حمزة.لم يكد مراد
يصدق انه سيلتقي بحمزة بعد لحظات .سابقت نبضات قلب مراد تنفسه فكاد يلهث عندما وقفا علي الباب و طرق عمر ،و سمع صوت
حمزة يقول" ،ما تدخل؟"
دخل مراد .،و شعر بالثواني تتباطأ و هو يسير نحو حمزة الذي استلقي في فراشه ،و عليه آثار اإلصابات ،و الضمادة علي كتفه األيسر
التي اكدت لمراد أنه لم يكن حلما .لم ير غير ابتسامة حمزة التي افتقدها كثيرا و هو يقترب و جلس بالقرب منه .تحسس وجهه ليتأكد أنه
هو ،و الدموع تبدد رؤيته قبل أن تترقرق علي وجنتيه ،فيمسحها حمزة بيديه.
"مش عارف اقولك ايه ،كأني باشوفك ألول مرة...بيتهيألي لو قلتلك بابا حتبقي بايخة"
"مش لوحدك".
"كنت فين؟"
"كنت باخوض معركة تانية ،معركة سياسية احارب بيها الزهار و اللي زيه! كانت الحرب بتاخدني من بلد لبلد بين اوروبا و أفريقيا".
"دلوقتي فيه قانون لتنظيم الهجرة ،يعني سماسرة الهجرة حيبقوا من غير شغل عن قريب.بس احنا لسة قدامنا شغل كتير...المشروع .اللي
عملناه غرب مطروح .نجح ،ألننا سلمنا المزرعة .ألهل المنطقة .يعني نقدر نجرب نفس الفكرة في أماكن تانية و نحارب الهجرة الغير
شرعية"
ربت حمزة علي وجنة مراد مبتسما " ،يا حبيبي ،انت مكانك هو اللي تختاره بنفسك .انت دلوقتي حر ،و اثبتت انك تقدر تواجه الحياة.
إوع تفتكر إني مش عاوزك جنبي ،اي مكان حاكون فيه حيكون ليك مكان ،و ناس تحبك و تحافظ عليك .الرحلة دي علمتني اني الزم
احبك من غير ما املكك".
"أنا كنت فاهم إن حياتي ووجودي مالهمش معني غير علي خشبة المسرح ،و أول ما انزل الزم أبقي زي حباية رمل في وسط
الصحراء ،علشان األسطورة تفضل عايشة في عقول الجمهور.
"هي كانت فاهمة .إني ماقدرش .اكون زيك.فربتني تربية مختلفة.المحنة اللي مريت بيها علمتني إني قيمتي في الخير اللي باقدمه للناس،
علشان كده اخترت اكون جنبك"".
"مراد ،انت لسة لغاية دلوقتي مش عارف قيمة نفسك؟ اللي انت عملته ده معجزة ال أنا و ال أي حد أعرفه يقدر عليها .انت قدرت انك
تحول صبحي لحليف ،و قدرت تقف علي رجليك و تواجه ايهاب و الزهار .أنا كنت خايف عليك لغاية ما شفتك بتغني في سان موريتز.
عرفت ان قوتك في قلبك الكبير ،انت بتسعد الناس و تهذب مشاعرهم .من غير مجهود .عارف مين كمان كان كده؟".
"والدتك؟"
" ...Love childمافيش اسم تاني يبقاله معني .اللي بيني و بين ماري هيلين كان حب محدش يقدر يتصوره" نظر حمزة الي السماء
خارج النافذة" ،و الطفل اللي اتولد هو ثمرة الحب الكبير ده ...انت اتولدت ألسرة بتحبك ،و من لحظة ماتكونت و انت بتكسر كل
القواعد اللي في حياتي".
"إزاي؟"
استلقي مراد علي الناحية اليمني من جانب حمزة بعد ان افسح له قليال" ،كان عمري 17سنة لما عرفت اني حاكون أب ،شباب كتير
في موقفي كان ممكن يهربوا من المسؤلية ،لكن أنا حبيتها أكتر و أخدتها تعيش معانا .و لما اتوفت ،اتعلقت بيك أكتر .و عارف حاجة
كمان ،كنت دايما احضر حفلة المدرسة من غير ما انت تشوفني...و ما كانش ممكن أبدا افوتها ،مع اني زي مانت عارف ،ماحبش
حاجة تحدد حريتي".
"ده ألنك ماكنتش بتشوفني ،لكن انا كنت دايما موجود جنبك .رفعت حليم ماكانش الزم يعرف انك ابني ،علشان كده خرجت من حياتك،
و لفيت العالم ادور علي نفسي ،علي الحب ،علي هدف اعيش علشانه"
زفر حمزة في غضب خامد" ،دي حكاية تانية ،أمي مع األسف فهمتني إني ماليش مكان في حياتها بعد ما تمت إجراءات التبني ،علشان
كده ماحدش بلغني لما اتوفت .و لما سألت عنك في المدرسة كنت انت اختفيت"،
تزاحمت األفكار في عقل مراد ،و الحظ حمزة فتساءل" ،انت سرحت في ايه؟"
"قبال طردتك علشان تحميك .و أنا متأكد إن الحادثة اللي اتوفت فيها ماكانتش صدفة"
صمت حمزة في تفكير عميق"...الزهار .بعد كده شافك في الكازينو اللي اشتغلت فيه .هل حاول يكلمك؟"
"مش فاكر ،بس انت عارف كان فيه كام واحد من عينته بييجوا النرفانا؟ أنا ما صدقت جالي العقد مع فرقة مسرحية وسبت الكوت
دازور"
طوق حمزة مراد بذراعه األيمن" ،أنا آسف اني ماقدرتش أحميك من التجارب القاسية دي ،بس ارجع واقول ،ان ده من اسباب قوتك يا
ميرو .لكن انا عمري ما كنت أب أو أخ بالنسبة لك"
"انت أهم من كده بكتير ،انت أعز صديق ،مش كفاية؟" قال مراد مبتسما.
"يا حمزة ،أنا دلوقتي باختار اكون جنبك ألني عرفت و اتأكدت انك واقف مع الحق و قضيتك هي قضيتي".
"و المسرح؟"
"أرجعله في أي وقت ،بس حيفضل بيتي دايما في المكان اللي انت فيه .و انت رايح بينا علي فين؟"
برقت عينا حمزة في حماس الفتي المراهق ،الذي ارتبط به في ذهن مراد "حنبتدي مشروع جديد في افريقيا"،
تهادي المركب علي امواج احدي سواحل المحيط األطلنطي بالقارة السوداء .تراقصت الوان الشفق لبرهة قبل أن ترسو المركب.،
ليرحب الشاطيء بركابها ،الذين اتوا حاملين اآلمال و األحالم ،كما حملت صدورهم .الكثير من الحكايا التي لم تجد من يسمعها .و في
سهرة حتي الصباح أعاد حمزة علي مسامع مراد قصته مع ماري هيلين ،لينفرط عقد الحكايا فيجمعاها سويا .لم يكن من السهل أن
يعرف الفراق طريقا لهذين االثنين بعد خطاهما األولي نحو رحلة جديدة ،ليخطا مالمح عالم جديد قد ال يتسع ألمثال الزهار و ايهاب ،و
إنما يشمل كل من كان يعشق الحياة ،لقد كان هناك الكثير من األمل مادام .هناك من يواجه أقسي مخاوفه فيخرج أقوي من ذي قبل.