You are on page 1of 100

‫كانت رحلة طويلة بالسيارة‪ ،‬في يوم من ايام الخريف‪ .

‬جلس في المقعد األمامي لسيارة المقدم ايهاب الشيمي‪ ،‬بجوار السائق‪ .‬لم يكن يفهم ما‬
‫كان ينويه الضابط باصطحابه الي تلك المزرعة‪ .‬البعيدة غرب مرسي مطروح ‪ .‬كانت نظرته الجوفاء تتابع اشجار التين علي ساحل البحر‬
‫المتوسط‪ ،‬و التي أخذت تتالشي لتحتل مكانها القري السياحية بطول الساحل‪ .‬لم تكن تلك األماكن لمثله علي أية حال‪ .‬لم يسمع طيلة حياته عن‬
‫مزرعة في ذلك المكان‪.‬لكنه كان يتوقع اي نوع من الناس كان ليختار المعيشة في قصر ناء تحيطه مزرعة‪ ،‬لكنه لم يكترث لمعيشة تتجاوز‬
‫مقدرته‪ .‬لم يعرف الطموح طريقا لقلب ذلك الشاب‪ ،‬او لعل الطموح قد ضل الطريق‪ ،‬متعثرا في طرقات ضواحي الجيزة الغير ممهدة‪ ،‬و‬
‫التي لم يعرف الشاب غيرها طيلة حياته‪ .‬جلس منكمشا في مقعده و هو علي يقين بأن "ايهاب بيه" كان بصدد عقد صفقة معه اذا قام بتنفيذ‬
‫مهمة ما في تلك المزرعة ‪.‬‬

‫لم يكن الشاب معتادا علي رؤية تلك المساحات الفسيحة من األرض‪ ،‬بخالف ما اعتاده من شوارع ضواحي الجيزة الضيقة‪ .‬كان الفراغ يشعره‬
‫بالضياع مما زاد من قلقه‪ .‬استسلم للنوم هربا من ذلك الشعور حتي استيقظ وقد هدأت السيارة من سرعتها‪ ،‬و نظر متسائال الي السائق الذي‬
‫ظل صامتا طوال الطريق‪ .‬لم يجرؤ علي توجيه حديثه الي المقدم ايهاب الذي انشغل بهاتفه المحمول‪.‬‬

‫تنفس الصعداء عندما أدرك أن البوابة التي انفتحت أمام السيارة كانت للمكان المنشود‪ .‬لم يشك الشاب أنه كان وكر أحد كبار المهربين كما فهم‬
‫من المقدم ايهاب‪ .‬كان الحارس أحد السكان المحليين من العرب‪ ،‬لم تغادر السيجارة شفتيه و هو يفتح البوابة غير مكترث لمن كانوا في السيارة‪.‬‬
‫وقف في استقبالهم رجل آخر‪ ،‬كان يبدو من الريف‪ ،‬طويل القامة‪ ،‬ذو بنية قوية‪ ،‬و شارب رمادي ‪ .‬بدا من هيئته انه البستاني‪،‬‬

‫"مرحب يا ايهاب بيه" قال الرجل في تجهم‬

‫نظر اليه الضابط بابتسامة متكلفة "ازيك يا فرحات‪ .‬هو جوه؟"‬

‫"و حيروح فين سعادتك؟ جوه و مننتظرك"‬

‫"طيب طيب‪ ،‬ابقي حصلنا علشان عاوزك"‬

‫تطلع فرحات الي الجالس في المقعد األمامي بجوار السائق و فهم علي الفور ما كان الضابط يقصده‪ .‬لم يعبأ احد من الحاضرين بالجهد الذي‬
‫بذله لكي ال يبدو عليه الضيق من ذلك القادم الجديد‪.‬‬

‫اما هو‪ ،‬ذلك القادم الجديد‪ ،‬فقد نظر في انبهار الي الحديقة األمامية الشاسعة‪ .‬لم يرى في حياته حديقة كهذه اال في المجالت التي كانت تصور‬
‫حياة المشاهير‪ .‬غير ان نظام الحديقة كان فيه من الفن واإلبداع ما ال تشتريه األموال‪ .‬توقفت السيارة امام قصر قديم‪ ،‬يبدو و قد تم تجديده‬
‫حديثا‪ .‬فحتي هو‪ ،‬الذي لم ينل من التعليم قسطا وافرا‪ ،‬كان يدرك ان ذلك الطراز المعماري لم يعد له وجود‪ .‬نزل الضابط من السيارة‪ ،‬و دخل‬
‫الى القصر في ثقة من يدخل بيته‪ ،‬و تبعه الشاب في صمت‪ ,‬عبر باب كبير من الحديد المشغول‪ .،‬تبعه باب من الخشب المزين بالزجاج الملون‪.‬‬
‫ووجد نفسه في صالة استقبال غلب عليها اللون األبيض‪.‬‬

‫كانت صالة االستقبال مثل القصر‪ ،‬قديمة الطراز‪ ،‬يغلب فيها الذوق الرفيع علي الفخامة‪.‬ابصر علي يمينه سلم من بضعة درجات نحو صالون‬
‫فسيح اتخذ طابعا شرقيا و غلب عليه اللون األزرق‪ ،‬غير أن الستائر كانت مسدلة و كان األثاث مغطي بمآلت بيضاء فبدا المكان مهجورا‪ .‬أدار‬
‫الشاب نظره نحو سلم خشبي يتجه الي الطابق العلوي و الحظ زالقة علي جانبه لم يفهم الغرض منها‪.‬‬

‫بحثت عيناه عن البيانو‪ ،‬فوجده أمام حائط توسطته صورة بالحجم الكبير لشاب طويل القامة‪ .،‬تضاهي وسامته وسامة نجوم السينما في الخارج‪.‬‬
‫لم يشعر بالراحة لذلك المكان‪ ،‬فقد كان يخيم عليه الحزن و صمت ثقيل‪.‬‬

‫لو لم يكن الضابط قد اشار لمن كان في انتظارهم‪ .‬ب "هو" النتظر سيدة عجوز ان تخرج اليهم و تتكلم بلهجة تركية كما كان يري في األفالم‪.‬‬
‫اال انه سمع من بعيد صوت الكرسي المتحرك‪ .‬غلبه الفضول ليعرف من هو ساكن ذلك القصر فاقترب عدة خطوات من الردهة‪ .‬التي اتي منها‬
‫الصوت‪ ،‬لكن فرحات اسرع بالوقوف بينه و بين الردهة‪ .‬ليحول بينه وبين االستمرار‪.‬‬

‫نهره الضابط "خليك عندك ياله"‬

‫وقف الشاب في حيرة صامتة‪ .‬و ظهر اخيرا من كانوا ينتظرون‪ ،‬كان شخصا ضئيال‪ ،‬غطي رأسه بطاقية من الصوف و التحف شاال من‬
‫الصوف‪ .‬كان وجهه شابا رغم هيئته األقرب للمسنين‪ .‬لم تكن مالمحه واضحة خلف النظارة داكنة العدسات التي ارتداها‪ ،‬فضال عن الضوء‬
‫الخافت في صالة االستقبال الذي جعل لذلك القادم صورة مبهمة في عين الشاب‪.‬‬

‫"جري ايه يا ايهاب‪ ،‬بتزعق ليه" جاء صوته رخيما هادئا‬


‫عادت االبتسامة المتكلفة لوجه الضابط "و ال يهمك‪ ،‬انت عامل ايه يا ميرو؟‪ .‬صحتك احسن؟"‬

‫استدار عنه الشاب المسن "انا زي ما انا‪"...‬‬

‫"طيب ما تشوف دكتور تاني؟"‬

‫"و ده بيعمل ايه هنا‪ ،‬واحد تاني من مسجلين الخطر اللي بتجيبهم؟"‪.‬‬

‫"مش برنامج اعادة التأهيل ده كان فكرة حمزة هللا يرحمه"‬

‫"هللا يرحم الجميع لكن حمزة ما ماتش يا ايهاب"‬

‫"حنرجع تاني؟"‬
‫ا‬
‫التفت صاحب القصر الي الشاب"نهايته‪ ،‬انت اسمك ايه؟"‬

‫"صبحي يا سعادة الباشا"‬

‫"و يا تري اشتغلت في مزرعة‪ .‬قبل كده؟"‬

‫"ال يا باشا انا جيت مع ايهاب باشا و انا‪"...‬‬

‫قاطعه ايهاب " حيتعلم شوية شوية‪ .‬هو مخه تخين بس اسبوع واال اتنين مع فرحات حينفعك في المزرعة"‪.‬‬

‫"و هو عم فرحات فاضيله؟ اهو واحد تاني من اللي بتجيبهملي‪ ،‬مسيره يزهق و يمشي زي اللي قبله"‬

‫نظر ايهاب إلي فرحات‪" ،‬خده بره دلوقتي‪ ،‬أنا عندي كلمتين لميرو‪".‬‬
‫و استجاب له الرجل و تبعه صبحي في صمت‪ ،‬و خرج كالهما عبر الباب الخشبي‪.‬‬

‫"طيب انا حامشي علي طول عشان مشوارك ده طويل قوي‪ .‬بس حارجع كمان اسبوعين اشوف اإليراد‪.‬مش عايز حاجة"‬

‫نظر اليه صاحب القصر في برود‪" ،‬تشوف االيراد بتاع ايه؟"‬

‫"المزرعة مش بتجيب ايراد؟"‬

‫"ايوة عندنا محاسبين شايفين شغلهم و يبوروني الكشوفات اول بأول‪...‬عايز‪ .‬تشوف االيراد ليه؟"‬

‫"مش باحمي حقوقك و حقوق ابن عمي؟"‬

‫"ايوه‪ ،‬بس احب اقفل علي القصة دي معاك‪ .،‬حمزة اختفي‪ ،‬لكن ما ماتش‪ ،‬و مافيش اي دليل انه مات و مش راجع‪ .‬و مش حاسمحلك‬
‫تاخد اي اجراء علشان تعلن وفاته و تورثه"‬

‫"انت عمال تغلط وانا مش هرد عشان في بيتك‪ ،‬بس مش حيفضل بيتك علي طول"‬

‫"و ده تهديد لواحد عاجز؟ مش بعد ما حمزة اختفي كنت مشغل اسطوانة انا زيه بالظبط وماتشيلش هم حاجة‪ ،‬و دلوقت جاي تسأل علي‬
‫اإليراد‪."?.‬‬

‫"لواليا انا كان زمانك بتزحف في السجن بعد اللي عمله اخوك‪ .‬المزرعة‪ .‬دي كان ألف من يحط ايده عليها‪ ،‬بس ماحدش قدر ييجي‬
‫جنبها علشان في حماية ايهاب الشيمي‪ ،‬حد غيري كان استولي علي المزرعة و رماك في الشارع و ما تنساش انك يا دوب أخوه من‬
‫األم و اسمك مش علي اسمه‪".‬‬

‫"انا اللي مش حارد عليك يا ايهاب‪ ،‬بعد اذنك انا داخل ارتاح‪ .‬انت طبعا عارف السكة لوحدك‪ .‬مع السالمة" و اتجه بالكرسي المتحرك‬
‫نحو الردهة‪ .‬تاركا الضابط وهو في قمة الغيظ‪ .‬اتجه ايهاب نحو الباب صائحا "انت يا زفت"‬

‫"ايوه يا سعادة الباشا" رد صبحى من خارج القصر‪.‬‬

‫التفت ايهاب ليري ما اذا كان صاحب القصر قد ابتعد في اتجاه غرفته و همس لصبحي الذي اقترب منه‪ " ،‬اسمع‪ ،‬حسك عينك حد‬
‫يعرف انت هنا بتعمل ايه‪ .‬عايزك تقرب منه و تعرف بيكلم مين‪ ،‬و تعرف بيشيل اوراقه فين‪ .‬خلي بالك من اللي اسمه فرحات و داده‬
‫حليمة ألن دول تقريبا مش بيفارقوه‪ .‬متخليش حد من العيال الصيع اللي هنا يشك فيك‪ ،‬و اوع تدخل في خناق و اال تعمل قلق‪".‬‬

‫"تمام يا باشا‪ ،‬انشاهلل تكون مبسوط"‬

‫"لما نشوف"‬

‫وقف فرحات علي مقربة منهما "تأمر بحاجة تانية يا ايهاب بيه؟"‬

‫"ال يا فرحات‪ ،‬ابقي خلي بالك من ميرو و طمنا عليه" و اشار له ليقترب‪ ،‬و كان قد طوى ورقة بخمسين جنيها في يده‪" .‬شكرا يا ايهاب‬
‫بيه‪ ،‬انا ماهيتي هنا مكفياني‪ ،‬و مراد بيه ده في عينيا‪ ،‬ده انا مربيه علي كتفي‪".‬‬

‫"طيب" قالها في غيظ مكتوم وهو يستقل السيارة‪.‬‬

‫و ما ان رحلت السيارة حتي نظر فرحات في جفاء الي صبحي‪" ،‬انت حتشتغل معايا في المزرعة ‪ .‬الشباب هنا‪ ،‬صحاب حمزة بيه‬
‫حيورولك كل حاجة‪ .‬فيه اجانب بييجوا هنا يتدربوا ملكش دعوة بيهم‪".‬‬

‫"حمزة بيه اللي شفته جوة?"‬

‫"أل اللي شفته ده اخوه الصغير‪ ،‬و برضه مالكش دعوة بيه‪".‬‬

‫"يعني انا تحت امره برضه و في خدمته"‬

‫"مش حاتعتب القصر ده‪ ،‬مهما‪ .‬حصل‪ ،‬مفهوم؟"‪ .‬كان ردا هادئا و لكن لم ينقصه الحزم‪ ،‬مهددا بذلك خطة الشاب و سيده‪ .‬و بذكاء الفالح‬
‫المصري الصميم ابتسم في مودة " و انت بقي يا عم صبحي جاي منين؟"‬

‫"انا من الطالبية‪ ،‬ابويا هللا يرحمه من سوهاج"‬

‫"و طبعا بتجري علي امك و اخواتك‪".‬‬

‫"اخواتي االتنين متجوزين‪ ،‬ليا اخ اصغر مني شغال صنايعي"‬

‫"و انت كمان صنايعي؟"‬

‫"ال انا ماكملتش دبلوم صنايع‪ ،‬كنت شغال علي ميكروباص بس هللا يجازي والد الحرام بقي‪"...‬‬

‫"هللا يجازيهم‪ "،‬شوف يا صبحي‪ ،‬احنا اللي بييجي عندنا الزم األول يشتغل مع الخيول‪ ،‬شغلهم مش صعب‪ .‬حاوريك األوضة اللي حتنام‬
‫فيها‪ ،‬و تيجي معايا بعدها علي االسطبالت‪".‬‬

‫"هو انا حاشتغل في حاجة تانية بعد كده؟"‬

‫"خلينا نشوف اول اسبوعين تالتة و بعد كده لو عجبك الحال نشوفلك شغالنة تانية‪ .‬الثقة عندنا مهمة جدا‪ .‬حتكسب ثقتنا تبقي واحد‬
‫مننا‪.‬و اال تحصل اللي سبقوك في بحر اسبوعين بالكتير‪".‬‬

‫****‬

‫كاد يمر اسبوعان عندما اتجه صبحي نحو االسطبل في ضجر‪ .‬لم يكن في نيته ان يعمل في خدمة الخيول و ينظف االسطبل كل يوم‪.‬‬
‫كان وجود فرحات يحول دون دخوله القصر‪ ،‬و لم يتيسر له رؤية مراد و لو مرة‪ .‬ألول مرة كان يشعر بالغربة‪ .،‬و هو يتطلع الي‬
‫الشباب و الشابات الذين اتوا من مختلف انحاء العالم‪ ،‬ليشتغلوا بالزراعة في ذلك المكان النائي‪ .‬كان ينظر للفتيات باألخص نظرة الجائع‬
‫الي موائد الموسرين‪ .‬لم يكن مسموحا له بالتقرب اليهن‪ ،‬و لم يكن يتحدث بلغتهم‪ ،‬كما كان الشباب الذين عرف انهم اصدقاء حمزة‪ .‬بدوا‬
‫مثل صديقهم الحاضر الغائب‪ ،‬مثل نجوم األفالم‪ .‬كانوا و الشك من ابناء األغنياء‪ .‬زادت حيرته و هو يري السعادة علي وجوههم‪ .‬و هم‬
‫يعملون بأيديهم تحت الشمس و عندما يتناولون الغداء معا في الميس كما كان يسميه‪ .‬حتي الطعام كان غريبا علي صبحي‪ ،‬الذي لم يعتد‬
‫ان يري مثل تلك الخضروات او يتناولها‪ .‬كان همه األكبر هو القيام بمهمته التي وكلها اليه المقدم ايهاب‪ .‬كان يعلم انه كلما اسرع في‬
‫العثور علي اية اوراق تخص حمزة الشيمي كلما عجل الضابط في اعادته الي حياته السابقة و صحبته التي اعتاد عليها‪ ،‬و لعله يوفر‬
‫مورد رزق‪ .،‬يستريح به من شكوي امه الدائمة‪.‬‬

‫كان فرحات في االسطبل منذ الصباح الباكر كعادته‪ ،‬كان يرتشف كوبا من الشاي و هو يتفقد االسطبل‪.‬‬

‫"يا ريس فرحات‪ ،‬يا ريس فرحات‪ ،‬كلمة و النبي"‬

‫"صباح الخير يا صبحي‪ ،‬خير‪ ،‬حد من الخيول تعبان؟"‬

‫"ال يا ريس‪ ،‬انا اللي تعبان‪".‬‬

‫"تعبان عندك ايه‪ ،‬خير؟"‬

‫"ماعندكوش‪ .‬شغالنة تانية؟ شغالنة الحصنة دي ماليش فيها"‬

‫ابتسم فرحات في دهاء‪ " ،‬إحنا مش قلنا ده زي تدريب و حنشوف بعد اسبوعين حنعمل ايه؟"‬

‫"اهو األسبوعين قربوا يفوتوا و خالص اتعلمت"‬

‫"طب لو اتعلمت صحيح‪ ،‬روح طلع رهوان من االسطبل"‬

‫كان فرحات هو من يعتني برهوان و فرسة اسمها سمارة‪ ،‬لم يكن صبحي قد اقترب منهما بعد‪ .‬ظن الشاب ان ذلك هو االختبار النهائي‪،‬‬
‫فاتجه في نشاط نحو رهوان و فتح الباب‪ ،‬وما ان هم بتلجيمه حتي انتفض الجواد ورفع ساقيه األماميتين و هو يصهل في عنف‪ .‬تراجع‬
‫صبحي خشية أن يدهسه الجواد و لم يفكر في غير العصا التي كانت تستند علي الحائط و ما إن هم بالتقاطها للسيطرة علي الجواد‪ ،‬إذا‬
‫بقبضة خشنة تمسك بمعصمه لتمنعه‪.‬‬

‫دخل فرحات الي الجواد حتي هدأ‪ ،‬و اغلق الباب وراءه وهو ينظر في غضب صامت الي الشاب‪ .‬اما صبحي فكاد ان ينكس رأسه في‬
‫خجل التلميذ الخائب في انتظار توبيخ معلمه ‪.‬‬

‫"اللي مايعرفش يبقي حنين علي البهيمة الخرساء مالوش مكان وسطنا"‬

‫"معلش يا ريس‪ ،‬اصلي كنت‪"...‬‬

‫"كان ممكن تندهلي‪ ،‬لكن غرورك منعك‪ .‬بس ساعتها كنا حنعمل ايه بمعلش لو كنت اذيت رهوان؟ او لو كان آذاك و انت مش عارف‬
‫تعملله ايه‪ .‬اللي قدامك دي خيول مش حصنة‪ .‬خيول اصيلة تربيتها ليها اصول و عايزة صبر‪ .‬كان ممكن تتعلم‪ ،‬لكن انت مش بتاع‬
‫شغل‪ .‬اطلع برة االسطبل و لم حاجتك علشان حتمشي مع العربية اللي نازلة مطروح"‪.‬‬

‫و استدار فرحات متجها الي الشرفة الكبري للقصر‪ ،‬حيث بدأ في تقليم احدي الشجيرات‪ .‬وقف صبحي يرقبه خارج االسطبل و قد كادت‬
‫ان تدمع عينيه من الغضب‪ .‬لم يسبق له ان يقف في خذالن امام احد و فكر ان ينقض علي الفالح و يهشم رأسه‪ ...‬لكنه ظل واقفا يرقب‬
‫الرجل و هو منهمك في عمله‪.‬‬

‫هرول ناحيته و هو يحاول انقاذ مهمته التي كانت مفتاح خروجه من قبضة المقدم ايهاب‪.‬‬

‫"يا ريس فرحات‪ ،‬معلش انا غلطان‪ ،‬و المصحف ما حتتكرر"‬

‫"مش حتتكرر ألنك ماشي"‬

‫"طب شوفولي شغالنة تانية‪ ...‬خليني اكلم مراد بيه"‬


‫"مراد بيه مش فاضيلك"‬

‫"ال مؤاخذة مراد بيه بتاعكوا ده مكسح‪ ،‬حينشغل في ايه يعني"‬

‫كانت تلك اللحظة التي رأي فيها الفالح العجوز يتحول الي وحش كاسر كاد ان يفتك به اثر اهانة مراد‪ .‬لكن صبحي الذي كان معتادا‬
‫علي مشاجرات الشوارع لم يكن ليهابه بسهولة‪ ،‬و هم الرجالن بالعراك‪ ،‬حتي انساب صوت رخيم من شرفة القصر‪.‬‬

‫"سيبه يا عم فرحات"‬

‫نظر اليه صبحي كأنما يتطلع اليه ألول مرة‪ .‬فلم يكن يري الشاب المسن‪ ،‬الذي رأه اول مرة دخل فيها الي القصر‪ .‬و انما رأي شابا‬
‫اطاللته كمالك و شيطان في آن واحد‪ .‬كانت مالمحه الهادئة تبعث علي الطمأنينة لكنه شعر بالقلق يتسلل اليه عندما رأي نظرة مراد‬
‫الحادة و ابتسامته الساخرة‪ .‬كانت تبدو عليه سمات االرستقراطية البائدة‪ ،‬في لهجته و الفاظه‪ .‬حتي جلسته علي الكرسي المتحرك‪.‬‬

‫"يا صبحي‪ ،‬اللي عنده شلل زيي مايتقالش عليه مكسح‪.".‬‬

‫"معلش يا باشا ماكانش قصدي"‬

‫"واال كان قصدك‪ ،‬هو عمل ايه يا عم فرحات؟"‬

‫"مش عاجبه الشغل مع الخيول‪ ،‬و لما قلتله يجيب رهوان‪ .،‬ماعرفش يلجمه‪ ،‬قام رهوان هاج‪ ،‬و كان حيضربه بعصاية"‬

‫"عملت كده يا صبحي"‬

‫"و هللا العظيم يا باشا انا‪"...‬‬

‫"من غير حلفان‪ .‬انت لو ماكنش جايبك ايهاب كنت مشيتك علي طول" قال مراد و لم تفارق االبتسامة شفتيه‪" .‬ماجراش حاجة يا عم‬
‫فرحات‪ ،‬نديله فرصة تانية"‬

‫"اللي تشوفه سعادتك"‬

‫"كتر خيرك يا باشا"‬

‫"اصبر بس‪ ،‬مش كنت عايز تعرف انا مشغول في ايه؟" التفت مراد الي فرحات "خليهم يجيبوا العربية الكهربا"‬

‫"حاال" اجاب فرحات في حماس‪" ،‬بس حتسوقها؟"‬

‫"ايوة‪ ،‬مش مشكلة"‬

‫اتصل فرحات بأحد العاملين فأتي بالسيارة الكهربائية بعد بضعة دقائق ‪.‬كانت سيارة صغيرة‪ ،‬تتسع لثالثة اشخاص‪ .‬فتح فرحات بابها‪ ،‬و‬
‫حمل مراد برفق و اجلسه في مقعد السائق‬

‫"يالال اركب" قال مراد‪ ،‬مشيرا لصبحي‪ .‬لم يصدق ذلك األخير كيف تغير حظه بين لحظة و اخري‪ .‬اخيرا سيتمكن من التسلل الي‬
‫القصر برضا صاحبه‪.‬‬

‫"خللي عنك يا باشا اسوقهالك انا‪"...‬‬

‫"خللي عنك انت المرة دي‪ ،‬دي عربية مخصوص للمكسحين"‬

‫تبددت سحابة األمل مع هذه الكلمات و النظرة الثاقبة التي سددها اليه مراد فجعلته يلعن اللحظة التي لفظ فيها تلك الكلمة‪.‬‬

‫و بدأت الجولة‪ ،‬رأي فيها صبحي مساحات شاسعة من المزارع‪ ،‬من اشجار الفاكهة و الخضروات وزهور‪ .‬الزينة‪ ،‬بل كان مراد يقول‬
‫ان بعضها يؤكل‪ .‬كان المزارعون من شتي بقاع األرض‪ ،‬و لكن كان اغلبهم من مصر‪.‬‬
‫"ايه البيوت اللي هناك دي يا باشا؟"‬

‫"دول الناس اللي استقبلناهم هنا و دربناهم و علمناهم‪ .‬و اختاروا يبنوا بيوتهم بنفسهم و يزرعوا اكلهم بنفسهم و يوزعوا الفايض بينهم او‬
‫يبيعوه‪ .‬كل الخضار اللي بننتجه هنا بنصدره‪ ،‬و طبعا بيجيلهم ربح كبير‪".‬‬

‫"بس دول معاهم‪ .‬عيالهم"‬

‫"ايوه‪ ،‬ماحنا بنينالهم مدرسة بيتعلموا فيها ببالش"‬

‫تابع مراد القيادة و هو يرقب نظرة االنبهار علي وجه صبحي‪ .‬و دي غابة زرعناها علشان نخزن مياه المطر في األرض‪ ،‬و لو احتجنا‬
‫لخشب بنزرع بداله اول بأول‪".‬‬
‫"طبعا الكانتين بتاعنا شفته"‬

‫"الصراحة باخد الغدا و اكله في األوضة"‬

‫"ليه? األوضة للنوم بس‪".‬‬

‫"اصل الصراحة مابعرفش آكل بالشوكة و السكينة زي الشباب اللي هنا"‬

‫"كل واحد هنا بياكل براحته‪ ،‬بايدك‪ ،‬بشوكة و سكينة‪ ،‬بعصيان لو عاوز‪."...‬‬

‫"طيب واألجانب اللي هنا؟"‬

‫"دول برضه بييجوا يتدربوا هنا‪ ،‬و بيدفعوا فلوس مقابل االقامة و التدريب‪".‬‬

‫"و المرسي اللي هناك؟"‬

‫"ماله؟‬

‫"ليه مش بتتفسح بالمركب? اهو تستفاد من هوا البحر"‬

‫اوقف مراد السيارة و نظر نظرة طويلة الي صبحي الذي لم يفهم مغزي تلك النظرة‬

‫"المركب اللي كانت علي المرسي اختفت مع صاحبها من سنتين‪".‬‬

‫اكمل مراد السير بالسيارة حتي عاد الي شرفة القصر الكبري ‪"،‬و بتسقوا كل الزرع ده منين؟" قال صبحي محاوال كسر الصمت‪.‬‬

‫"انت شفت األلواح اللي في اول المزرعة؟ احنا بنعمل كل حاجة هنا بالطاقة الشمسية‪ ،‬بنحلي مية البحر و بنخرج المية من األرض"‬

‫"المزرعة هللا اكبر حلوة و كل حاجة‪ ،‬بس الزرع الملخبط مع بعضه ده مش داخل مخي‪".‬‬

‫"ده علشان مانحتاجش نستعمل مبيدات"‬

‫"طيب والشباب هنا يا باشا‪ ،‬ما بيزهقوش من الهو ده؟"‬

‫انظر مراد الي االفق امامه و علي وجهه ابتسامة وليدة ذكرياته‬

‫"حد يزهق من الهوا النضيف و الخضرة و الصحبة الحلوة و توحشه الدوشة و العفار و الزحمة؟؟‪ .‬بالليل دايما كانوا يولعوا نار جنب‬
‫الشجرة اللي هناك و يتسامروا لحد اخر الليل‪ .‬كنا بنغني و نعزف علي الجيتار و كان دايما فيه ناس من كل شكل و لون يشاركونا‬
‫متعتنا بالمزرعة‪ .‬و كل سنة كنا نعمل حفلة كبيرة لجمع التبرعات ألن ناس كتير كانوا مؤمنين باللي احنا بنعمله‪ .‬من ‪ 10‬سنين بس‬
‫المكان ده كان صحراء و بقي زي مانت شايف‪ ،‬و كبرنا و كبر معانا‪ .‬و لسة قدامنا كتير نعمله‪".‬‬
‫ظل صبحي ينظر في اعجاب الي مراد‪ .،‬الشاب العاجز الذي الزال لديه األمل في المزيد من العطاء‬
‫"و بتدير المكان ده كله لوحدك؟"‬

‫"أل طبعا‪ ،‬معايا عم فرحات‪ ،‬و عمر و اكرم و حسام اصحاب حمزة‪ ،‬و بقية الشباب اللي شفتهم دول كل واحد ماسك قطاع‪ .‬و عندنا‬
‫األستاذ مجدي المحاسب و كان برضه من معارف حمزة‪ ،‬و الدكتورة ناهد بتيجي كل اسبوعين تشوف جوزها المهندس عبد الحميد‬
‫مسؤول الري و تتطمن علي صحة الخيول" و استطرد‪ " ،‬و كل ده بيسمحلي بوقت فراغ قليل‪ ،‬بحب اقرا فيه او اسمع موسيقا او ارسم‪،‬‬
‫وطبعا ماحبش حد يزعجني في الوقت ده‪ .‬عرفت انا مشغول في ايه؟"‬

‫"سامحني يا باشا‪ ،‬قطع لساني"‬

‫"أديني اديتك كام سبب عشان تستني معانا‪ ،‬انت بقي هتدينا كام سبب علشان نعتبرك واحد مننا؟"‬

‫"انا عاوز ابقي في خدمتك يا باشا‪ ...‬ايهاب باشا موصيني‪".‬‬

‫"كل واحد هنا يا صبحي بيخدم نفسه‪ .‬و لو احتجت لحاجة عم فرحات و داده حليمة ما بيسيبونيش‪ ،‬و عندي لبيبة جوة بتشوف كل‬
‫طلباتي‪ ".‬و التفت الي خارج السيارة حيث كان فرحات منتظرا‪" .‬احنا خالص خلصنا يا عم فرحات"‬

‫و استجاب له الرجل‪ ،‬ففتح باب السيارة و حمله برفق ووضعه علي الكرسي المتحرك‪ .‬و في نفس األثناء ترجل صبحي عن السيارة‪.‬‬

‫"طيب يا باشا و النبي بالش الخيول‪ ،‬الحصان اللي اسمه رهوان كان حيموتني‪".‬‬

‫نظر مراد الي فرحات معاتبا "مالكش حق يا عم فرحات‪ ،‬ده ماحدش كان بيقدر علي رهوان غير حمزة"‬

‫حمزة‪ ،‬ظل هذا االسم يتردد حتي تمني صبحي ان يراه و لو مرة‪ ،‬ذلك الرجل الذي بدا كاألسطورة كأنما قد أوتي اسباب الكمال‪ .‬لكنه‬
‫كان مجرما عاتيا وفق القليل الذي اطلعه عليه المقدم ايهاب‪ ،‬يستخدم هذا المكان كستار ألنشطته المشبوهة‪ .‬و مع ذلك كان يشعر‬
‫بالضآلة مقارنة بذلك الرجل‪ .‬لم يسعه اال ان يحقد عليه محاوال كشف ستره و لذلك كان عليه ان يدخل الي القصر بأي ثمن‪.‬‬

‫"ايه سرحت في ايه يا صبحي؟ انا ما بعترفش بالفشل‪ .‬حاول تاني‪ ،‬و لما عم فرحات يقوللي ان الخيول ارتاحت معاك حنشوفلك حاجة‬
‫تانية‪".‬‬

‫"انا برضه عاوز ابقي في خدمتك‪"،‬‬

‫"من اآلخر يا صبحي‪ ،‬انا مش عايزك تدخل القصر و انا لسة ماقدرش‪ .‬اثق فيك‪".‬‬

‫"طب اهو اتكلم معاك واونسك"‬

‫اطرق مراد قليال لغرابة الطلب‪" ،‬انا متونس بذكرياتي‪ ،‬و ما تزعلش مني‪ ،‬بس انت ممكن تكلمني في ايه غير مسجلين الخطر و العنف‬
‫و الشغب اللي انت عايش معاهم‪ .‬طول عمرك‪ .،‬و انا مش مهتم بالعالم اللي انت جاي منه‪ .‬حاول تتأقلم مع الناس هنا وتكتسب عادات‬
‫جديدة‪ ،‬ده اذا كنت عاوز تستني و تبقي مننا‪".‬‬

‫و استدار ‪،‬مراد بالكرسي‪ ،‬متجها نحو المطلع المخصص لكرسيه المتحرك نحو الشرفة الكبري‪.‬‬

‫"عم فرحات‪ ،‬من فضلك ابعتلي اكرم و المحاسبين كلهم علي المكتب‪".‬‬

‫"حاال"‬

‫ابتسم فرحات مرة اخري في دهاء لصبحي‪" ،‬انت حظك من السما ان البيه بتاعنا قلبه طيب‪ ،‬و ابقي لم لسانك بعد كده‪ .‬يالال علي‬
‫االسطبل‪ ،‬قدامك فرصة تانية‪".‬‬

‫لم يكد يصدق نفسه من السعادة‪ .‬لم يكن يكترث لذلك المكان بأي حال‪ ،‬لكن شيئا كان يولد في وجدانه حيال هذا المكان اكبر من وعود‬
‫الضابط و تهديداته‪ .‬لعله يصادق احدي الفتيات االجنبيات فيذهب معها الي بلدها‪،‬لقد بدا المستقبل زاخرا بالفرص‪ ،‬و لم ينو ان يدع اي‬
‫منها تفلت من يده‪.‬‬
‫"هو والمصحف قلبه طيب و ابن أصول‪ .‬بس هو مراد بيه ده مصري؟"‬

‫"ايوه بس هو متربي طول عمره بره"‬

‫"ما انا برضه قلت لهجته مش زي والد البلد‪ .‬و كان بيشتغل بره؟"‬

‫"ايوة‪ ،‬كان بيغني في األوبرا في بالد بره‪ ،‬و كان مشهور ‪ .‬عاوز تعرف حاجة تاني يا صبحي‪ ،‬و اال حتروح تشوف شغلك؟"‬

‫"ال انا بس كنت باستفسر يعني‪ ،‬عن اذنك يا ريس"‬

‫****‬

‫جلس مراد خلف مكتب من خشب الماهوجني علي كرسيه المتحرك‪ ،‬و امامه عدد من الملفات المفتوحة‪ ،‬يستمع الي تقرير المحاسب عن‬
‫المكاسب التي حققتها المزرعة في المرحلة القادمة‪ .‬جلس اكرم بجواره‪ .‬كان شابا في منتصف الثالثينيات‪ ،‬مفتول العضالت‪ ،‬يرتدي‬
‫قميصا واسعا كالذي يرتديه ابطال رفع األثقال‪ .‬لم يكن وسيما بقدر ما كان بشوشا‪ ،‬لكن في تلك اللحظة كان ينظر الي السقف في ضجر‪،‬‬
‫دون ان يحاول اخفاء عدم رضاه عن المحاسب‪.‬‬
‫اما مراد فكان هادئا كعادته‪ ،‬و ان كان هو اآلخر غير قادر علي االبتسام‪.‬‬

‫"يعني باختصار‪ ،‬انت بتقول اننا مش قادرين نغطي تكاليف المزرعة"‪.‬‬

‫"لألسف ايوه"‬

‫ابتسم اكرم في سخرية‬

‫"طيب و الفرسة اللي طلبها األمير الخليجي‪ ،‬انت مش قلتلي انه وافق علي السعر اللي حددناه؟"‬

‫رد المحاسب في توتر‪ " ،‬ايوه يا باشا‪ ،‬بس لما حضرتك ما رضيتش تقابله‪ ،‬زعل و مشي"‬

‫"و ده ايه اللي يزعله‪ ،‬هو كان حيشتريني انا؟ كل الناس عارفة‪ .‬اني من بعد الحادثة مش باقابل حد‪".‬‬

‫"حاولت اقنعه وهللا"‬

‫"من غير حلفان‪ ،‬و انت كنت لوحدك اللي بتفاوضه؟"‬

‫تدخل اكرم‪ " ،‬ايوه انا كنت وقتها في اسكندرية علشان مشكلة في شحنة الخضار"‬

‫"هايل‪ ،‬طيب‪ ،‬العجز وصل لكام؟"‬

‫"حوالي ‪ 10‬مليون"‬

‫قال مراد و قد كدرته‪ .‬سحابة من القلق‪" ،‬و ده حصل ازاي؟ احنا وقفنا حاجات كتير من بعد حمزة ما مشي‪".‬‬
‫"المزرعة بتقدم اعمال خيرية كتير‪ ،‬و الخيول محتاجة لمصاريف‪ ،‬ده غير الناس اللي واخدين ارض و يادوب بيكفوا نفسهم‪ .‬لو مشيوا‬
‫حنوفر‪."...‬‬

‫نظر اليه مراد في حزم مقاطعا‪ " ،‬ماحدش حيمشي‪ .‬احنا عاملين ده عشانهم‪ .‬المستوصف و المدرسة الزم يفضلوا مفتوحين عشانهم"‬

‫"تحت امرك يا مراد بيه‪".‬‬

‫"سيبنا دلوقتي من فضلك‪ .‬عايز كل المحاسبين يشوفوا ازاي ممكن‪ .‬نغطي العجز من غير ما نمشي حد او نقطع عيش حد‪".‬‬

‫"تحت امر حضرتك"‬

‫و خرج المحاسب‪ ،‬و هنا استطرد مراد "و بعدين يا اكرم‪ .،‬ده كان ناقص يقوللي مافيش حل غير البيع"‬

‫"موضوع األمير الخليجي ده بالذات مش مريحني‪ .‬يجوز فعال كان عايز يتكلم معاك انت باعتبارك صاحب الحصان‪".‬‬

‫"قانونا انا مش متأكد انا املك ايه‪ .‬الزم نشوف عوني المحامي لو يقدر ييجي هنا‪ .‬انا قلقان جدا‪".‬‬

‫"ماتشيلش هم يا ميرو" ضحك اكرم مداعبا‪" .‬كله ان شاء هللا حيبقي تمام‪".‬‬

‫"وهللا ما عارف كنت حاعمل ايه من غيركما‪...‬غياب حمزة قاطع فيا بشكل‪."...‬‬

‫"انا عارف يا ميرو‪ ،‬كل حاجة حصلت في وقت واحد‪ ،‬و برغم كده انت قدرت تمشي المزرعة سنتين‪".‬‬

‫"حصلت حاجة غريبة من اسبوعين‪"..‬‬

‫"اه صحيح الواد السرسجي اللي ايهاب جابه؟"‬

‫"يعني ايه سرسجي؟"‬

‫"يعني عامل زيه كده‪ ،‬ماله؟"‪.‬‬

‫"هو طبعا جايبه علشان يبقي عينه علينا‪ ،‬بس فضح نفسه لما جاب سيرة االيراد"‬

‫"و هو ماله و مال االيراد؟"‬

‫"لو قدر يثبت ان حمزة مات ليلة الحادثة حيقدر يورث ألنه ابن عمه‪ .‬لكن مايقدرش يثبت اي شيء قبل مرور فترة يحددها القانون‪ .‬و‬
‫في نفس الوقت‪ ،‬اكتر من مرة لمحلي بإننا في حمايته يعني الزم ياخد نسبة من ايراد المزرعة‪ ،‬و علي حس الموضوع ده برضه كل‬
‫شوية ينطلي بواحد مسجل خطر‪".‬‬

‫"يبقي الزم تكلم عوني‪ ،‬هو بس اللي يقدر يقولك الوضع القانوني للمزرعة‪ .‬ايه واللي ممكن‪ .‬تعمله‪ .‬تقريبا حمزة جابلي سيرة ان جزء‬
‫كبير من المزرعة‪ .‬حيتكتب بإسمك في حالة لو حصله حاجه"‬

‫نظر مراد الي اكرم بمزيد من القلق‪" ،‬هو كان عارف ان حيجراله حاجة؟"‬

‫"قبل الحادثة بعشر ايام كان قاللي انكم اختلفتوا‪ ،‬و انك كنت خايف ان العمليات بتاعته تعرضنا كلنا للخطر"‬

‫"حصل فعال‪ ،‬هو قالك ايه؟"‬

‫"كان بيجهز علشان يكتب حاجة باسمك لكن ماحددش‪ .،‬و ماعرفش اذا كان لحق ألنه مامشيش من هنا لغاية يوم الحادثة‪ .‬بس األكيد انه‬
‫كان عاوز يبعتك علي نيس علشان تقعد هناك ألنه بدأ يقلق‪".‬‬

‫"من ايه؟"‬
‫"العرب في المنطقة بدأوا يراوغوه‪ ،‬و في نفس الوقت بدأوا الناس بتوع قوارب الهجرة يهددوه‪ .‬بس انت عارف حمزة‪ ،‬ماكانش بيقول‬
‫حاجة تقريبا عن الموضوع ده‪".‬‬

‫"ايهاب جاي كمان يومين‪ ،‬مش عارف حاقوله ايه‪".‬‬

‫"ميرو‪ ،‬انت زي اخويا الصغير‪ ،‬بس انا ماقدرش‪ .‬اقولك تعمل ايه‪ .‬لو اديته حتة من التورتة هيفتكر موقفنا ضعيف و يطمع‪ .‬و ماقدرش‬
‫اقولك بيع ألني عارف انك مش ممكن‪ .‬تفرط في كل اللي بناه حمزة‪" .‬‬

‫"حاشوف هو عاوز ايه لما ييجي‪ ،‬هو دايما يضرب بغشم‪ ،‬حنشوف حيقع بالكالم يقول ايه‪".‬‬

‫"ماشي الكالم" و ابتسم له اكرم مشجعا‪" ،‬و انا من ناحيتي حاشوف المحاسب ده ايه حكايته‪ ،‬وقعته سوده لو طلع بيسرب اخبار‬
‫المزرعة‪ .‬اليهاب‪".‬‬

‫"تفتكر؟ في الحالة دي ممكن‪ .‬جدا اللي كان مسكت ايهاب انه كان بيوصله اكتر من مجرد اخبار‪".‬‬

‫اتسعت عينا اكرم عندما ادرك احتمالية حدوث ذلك‪ " ،‬يا نهار اسود‪ .،‬اتاريه قاللك انه حييجي يشوف االيراد‪".‬‬

‫"بس مش حنمشيه دلوقتي‪ ،‬عينك عليه و شوف لو فيه حاجة مش مظبوطة‪ .،‬مش معقول نمشيه من غير سبب‪".‬‬

‫كانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل عندما استلقي صبحي علي فراشه و قد الزمه األرق‪ .‬كانت امسية باردة في أواخر شهر اكتوبر‪.‬‬
‫كان الليل هو وقت نشاطه من قبل‪ ،‬عندما كان يمضي وقته مع رفاقه الذين يشاركونه ميوله وأهوائه‪ .‬لكن شيئا من ذلك لم يكن ليتوفر‬
‫له‪ .‬لم يكن امامه غير المذياع‪ ،‬و افكاره التي ال تنتهي‪ .‬كان يتمني ولو سيجارة حشيش تنتشله من خضم التفكير الذي اوجع رأسه‪.‬‬
‫ارتدي ثيابه و هم بالخروج‪ .،‬فلم يعد هناك متسع ألفكاره في تلك الغرفة‪ .،‬و ما ان خرج منها‪ ،‬فاجأه الهواء البارد كأنما يدفعه للعودة الي‬
‫دفء فراشه‪ ،‬لكنه واصل السير حيث اخذته قدماه‪ ،‬الي االسطبل‪.‬‬

‫تسلل في هدوء‪ .‬لكيال يثير الشكوك‪ ،‬و اتجه الي حيث كان رهوان‪ .‬وقف خارج حظيرته‪" .‬ايه يا رهوان‪ .،‬فاكرني؟ يا رب يكون قلبك‬
‫طيب زي صاحبك و تسامحني‪".‬‬

‫"انا جبتلك في جيبي حتة سكر"و اخرجها من جيبه و مد راحته بها ليريها للجواد‪ ،‬لكنه لم يكترث لوجود الشاب‪.‬‬

‫"انا عارف ان محدش هنا بيثق فيا و ال حتي انت‪ ،‬بس اعمل ايه‪ ،‬ماليش حد هنا اكلمه‪ ".‬و نظر حوله كأنما يتأكد ان احدا لم يكن‬
‫يسمعه‪" .‬عارف يا رهوان‪ .،‬نفسي اغمض و افتح االقي نفسي خلصت من ايهاب و رجعت للقعدات الجامدة بتاعة زمان‪ ،‬و اعمللي‬
‫قرشين و اعيش بقي‪ ،‬و اشوفلي مزة حلوة كدة‪".‬‬

‫"نفسي اعرف صاحبك اللي اسمه حمزة ده راح فين بعملته دي‪ .‬اكيد عمل خميرة جامدة و مدكنها في حتة و ساب اخوه الصغير يتوحل‬
‫في الهو ده‪ ،‬و اال يمكن مات في قلب البحر زي اللي ماتوا من تحت راسه"‬

‫استشعر في الجواد عدم‪ .‬الراحة لوجوده‪ ،‬عندما تتابعت انفاسه فيما يشبه نفاد الصبر عند البشر‪ ،‬لعله لم يرق له الحديث عن حمزة بهذا‬
‫الشكل‪.‬‬

‫"بس اخوه الصغير ده اللي حكاية‪ .‬صوته هادي‪ ،‬بس مخه نور و مصحصح‪ .‬خسارة انه مشلول‪ ،‬تصدق يا رهوان زعلت من نفسي انه‬
‫سمعني و انا باقول عليه مكسح‪ .‬واحد زيه مايستاهلش يجراله كل ده‪ .‬بس انا مالي و ماله‪ ،‬كلها كام يوم وامشي من هنا‪ ،‬و ربنا ده انا‬
‫اعمل فرح‪ ،‬يوم ما ايهاب يحل عن قفايا‪ .‬بس اجيبله األوراق بتاعة اللي اسمه حمزة منين؟"‬

‫كان يدرك صبحي‪ ،‬حتي في ذروة يأسه الذي دفعه للحديث مع الجواد ان ال طائل من محاولة استئناسه‪ .‬تذكر مقولة مراد منذ يومين‪،‬‬
‫"انا مابعترفش بحاجة اسمها فشل‪ ".‬لكنه نظر في مزيد من اليأس للحيوان األعجم الذي تولي عنه الي داخل حظيرته‪ .‬فوضع صبحي‬
‫قالب السكر في جيبه و عاد الي غرفته‪.‬‬
‫**‬

‫جلس مراد في غرفة المكتب‪ ،‬يرسم علي اناء من القيشاني بفرشاة دقيقة‪ ،‬كان ينقل رسما من احدي لوحات تولوز لوتريك‪ .‬و بينما هو‬
‫غارق في تفاصيل الرسم‪ ،‬طرقت الباب فتاه نحيفة ذات شعر اسود جمعته من الخلف في ذيل حصان; لم يتجاوز عمرها التاسعة عشر‪،‬‬
‫و قد جعلها الخجل تبذل جهدا مضاعفا لتنطق ببضعة كلمات‪ . .‬لم يجب مراد لفرط تركيزه فتنحنحت الفتاة‪.‬‬

‫"ايوة يا لبيبة‪ ،‬فيه حاجة؟"‬

‫ايهاب بيه وصل يا فندم و معاه‪"..‬‬

‫لم يخف مراد امتعاضه"‪...‬المدام‪.".‬‬

‫"ايوه و هم في الصالون"‬

‫" طيب انا جايلهم‪".‬‬

‫"أل خليك مستريح انا جايالك مخصوص اشوفك‪ ".‬جاء صوت نجالء زوجة ايهاب مزعجا لمراد‪ ،‬لكنه حياها بابتسامة متكلفة‪" .‬ازيك يا‬
‫ميرو يا حبيبي‪ ،‬انا مقصرة قوي في ـحقك‪".‬‬

‫"وال يهمك يا نجالء‪ ،‬ايهاب قايم بالواجب و زيادة‪ ،‬وانت ربنا يكون في عونك‪ ،‬عيني عليكي بارده حتالقي وقت امتي وسط الحفالت و‬
‫المسلسل اللي لسة مصوراه‪".‬‬

‫"ده انت متابع بقي"‬

‫كانت نجالء امرأة جميلة دون خالف‪ ،‬يشهد جمالها لبراعة جراحي التجميل‪ .‬ارتدت بنطلونا ضيقا و حذاء برقبة طويلة بلغت ركبتيها‪،‬‬
‫الي جانب كميات من مساحيق التجميل و عطر فواح بدا غالي الثمن‪ .‬كان كل ما ترتديه غالي الثمن‪ ،‬لكن ال ذوق فيه‪.‬‬

‫"صعبان عليا قوي يا ميرو اشوفك كده‪ ،‬بعد ما كنت بتغني علي اكبر مسارح في اوروبا‪ .‬انشاهلل ترجع زي األول و الناس تفتكرك‬
‫تاني‪".‬‬

‫ابتسم مراد في سخرية‪" ،‬كفاية انهم فاكرينك‪ ،‬وصورتك علي كل المجالت‪ ،‬حتي من غير ما تغني في األوليمبيا او ال سكاال‪".‬‬
‫"سكاال و اوليمبيا ايه‪ ،‬انت عارف انا باخد كام في حفلة في دبي و اال في الكويت؟"‬

‫"مش مهم‪ ،‬امال فين ايهاب يا نوجة"‬

‫"بيجيب حاجة من العربية و جاي"‬

‫"كل ده؟ الزم شيلة تقيلة‪ ...‬ماكانش حقه تعب نفسه‪".‬‬

‫ارتبكت نجالء فلم تعرف بم ترد‪ .‬فلحقها مراد بالسؤال‪.‬‬

‫"انما ايه اللي خالكي تخبطي المشوار ده كله يا نوجة‪ ،‬مش معقول علشان تشوفيني علي كرسي بعجل‪".‬‬

‫تغيرت مالمحها فكشفت غضبا مكتوما‪ " ،‬ابدا‪ ،‬ايهاب قاللي انه جاي يشوفك فانا قلت كنت عايزة اغير جو‪ ،‬والمزرعة هنا وحشتني‪".‬‬

‫"فعال يا نوجة‪ ،‬آخر مرة كنتي هنا ماكنتش انا لسة جيت من فرنسا علشان استقر في مصر‪ ...‬تقريبا لما كنتي بتحاولي تقنعي حمزة‬
‫يتجوزك و هو قالك تشيلي الموضوع من دماغك ‪ .‬انا ماكنتش موجود ساعتها‪ ،‬لكن سمعت الحكاية كلها يوم فرحك انت وايهاب‪".‬‬

‫ضحكت في عصبية‪" ،‬انت جبت الكالم ده منين؟ ده هو اللي كان بيفكر في االرتباط و أنا قلتله اني مش مستعدة‪ ،‬لغاية ما قابلت ايهاب‬
‫في قعدة من قعدات الشلة بتاعة زمان‪ ، ...‬انا مبسوطة مع ايهاب مش قادرة اقولك قد ايه‪".‬‬

‫في تلك اللحظة دخل ايهاب في ثقة مفتعلة وتعلو جهه ذات االبتسامة المتكلفة التي عرف بها‪" .‬ازيك يا ميرو‪ ،‬نجالء صممت تيجي‬
‫تشوفك و تتطمن عليك‪".‬‬

‫"فيها الخير‪ ،‬بس كان نفسي اشوفها من قبل كده‪ ،‬مش بعد ما اتشليت بسنتين‪ ".‬قال مراد في تهكم ثم ضغط علي االنتركوم‪" .‬يا لبيبة‪،‬‬
‫شوفي ايهاب بيه و المدام يشربوا ايه"‬

‫"انا قلتلها تعمللي قهوة‪ ،‬و نسكافيه لنجالء‪ ،‬مش كده يا حبيبتي؟"‬
‫"بس يا بيبي انا مش باحب النسكافيه متأخر كده‪ ،‬انت عارف" و ضمت شفتيها في دالل مصطنع‪ ،‬مثيرة اشمئزاز مراد الذي اضاف‬

‫"تمام‪ ،‬البيت بيتكم‪ ."،‬و ضغط علي االنتركوم مرة اخري‪ .‬هاتيلي مية بليمون من فضلك يا لبيبة"‬

‫ضحك الزوجان في سخرية‪" ،‬و مالك بتكلم الخدامين رسمي قوي كده"‬

‫نظر اليهما في جفاء‪" ،‬دول‪ .‬ماسمهمش خدامين‪ ،‬دول الناس اللي بيساعدوني يعني اقل حاجة اكلمهم‪ .‬باحترام‪".‬‬

‫ضحك ايهاب في عصبية‪" ،‬علي كيفك‪،‬ما انت طبعا ما تقدرش تستغني عنهم‪ " .‬ثم التفت لزوجته‪" ،‬مدام مش حتاخدي النسكافيه ما تلفي‬
‫زي ما كنتي عاوزة في الجنينة‪ ،‬علي ما اخلص كالم مع ميرو‪".‬‬

‫"ماشي يا بيبي‪ ،‬انا كنت عاوزاه يفرجني بنفسه‪ ،‬بس الزم نراعي ظروفه ‪" .‬‬

‫و خرجت تتمايل في مشيتها لتستعرض مفاتن جسدها‪ .،‬كما اعتادت وال شك‪.‬‬

‫انتظر ايهاب حتي خرجت من القصر و جلس واضعا ساقه فوق األخري مظهرا العظمة عندما دخلت لبيبة و معها القهوة التي طلبها و‬
‫زجاجة صغيرة من ماء الليمون‪.‬‬

‫"شكرا يا لبلب‪ ،‬ممكن تقفلي الباب وراكي"‬

‫"حاضر يا مراد بيه"‬

‫"طيب انت قوي معاهم يا ميرو‪".‬‬

‫"علي قد مااقدر‪".‬‬

‫"المرة اللي فاتت مشيت و انا زعالن منك‪ .‬انا معقول باعمل كل ده علشان أورث؟"‬

‫"حقك عليا يا ايهاب‪ .‬ادخل في الموضوع من فضلك‪".‬‬


‫"بقي انت عارف حمزة كان بيحب عمتي قد ايه‪ ،‬دلوقتي هي محتاجة تعمل عملية في عينيها و ظروفها ما تسمحش بالتكاليف دي‪ .‬و انا‬
‫ظروفي زي مانت عارف ماتسمحش و ماقدرش اطلب من نجالء"‬

‫"هو فعال حمزة كان بيبرها و بيشوف طلباتها‪ ،‬و اكيد مش حمنع عنها حاجة‪ ،‬هي العملية تتكلف كام‪".‬‬

‫"يعني تعمل ‪ 100‬الف جنيه كدة"‬

‫"ماشي‪ ،‬اديني حساب المستشفي و احول لهم المبلغ"‬

‫"اصل المستشفي الزم تاخد كله كاش‪ ،‬ماعندهمش نظام التحويل"‬

‫"تمام‪ ،‬يعني احول علي حسابك‪ ،‬اديني يومين كده ادبر المبلغ و ابعتهولك‪ "،‬واطرق لبرهة " بالحق يا ايهاب‪ ،‬اطمنت علي االيراد؟"‪.‬‬

‫"اه و بصراحة شايف ان تمسكك بادارة المكان ده غلطة كبيرة"‬

‫"و اسيب ادارته لمين في رأيك؟"‬

‫"يعني‪ ،‬حاول تمشي نفسك كده لحد ما تالقي حد يشتريه‪ ،‬اكيد فيه حد من الخليج ممكن‪ .‬يهتم بالمكان ده‪".‬‬

‫"برضه حنرجع تاني لنفس الموضوع‪ .،‬انا ماقدرش اتصرف في المزرعة بأي شكل لغاية ما حمزة يظهر‪ .‬و عارف ان اسمي مراد‬
‫رفعت حليم و هو اسمه حمزة توفيق الشيمي‪ ،‬يعني لو اعلنت وفاته بشكل رسمي انت اللي حتورث‪ ،‬و انا مش حامنعك عن حقك‬
‫الشرعي‪ ،‬بالعكس‪ .‬لكن انت مقدر صعوبة موقفي‪".‬‬

‫"انت عارف ان لو حمزة ظهر هيدخل السجن؟"‬

‫"و يدخل السجن ليه؟"‬

‫"حمزة متورط في قضية تهريب و هجرة غير شرعية‪ .‬التحقيقات بتقول انه كان بيستخدم اليخت بتاعه‪ ،‬و ان المزرعة دي عبارة عن‬
‫غسيل اموال‪ ،‬و طبعا دلوقتي بتخسر ألن الفلوس اللي كانت بتجيله ماعادتش‪ .‬بتدخل في حسابات المزرعة"‬
‫"الكالم ده مش ممكن يكون صح‪ ،‬حمزة مش ممكن‪ .‬يكون داخل في حاجة حقيرة بالشكل ده"‬

‫"انا كمان كان صعب اصدق الكالم ده في ابن عمي‪ ،‬علشان كده باقولك‪ ،‬احسن له انك تبدأ في إجراءات اعالن الوفاة‪ ،‬ألن حتي لو كان‬
‫حي‪ ،‬تبقي انت كده بتحميه و مش بتتستر علي مجرم‪ .،‬اال اذا كنت عارف مكانه و مخبي طبعا"‬

‫"يا ريتني كنت عارف مكانه‪ ."،‬زفر مراد في حزن‪" ،‬البوليس جه بعد الحادثة و فتشوا و مالقيوش اي شيء‪".‬‬

‫"فعال‪ ،‬و راعوا حالتك بتوصية مني و ماستجوبوكش زي ما بيعملوا مع المتهمين‪ ...‬كان ممكن ماتخرجش حي من القسم"‬

‫كان هذا تهديدا ضمنيا حسب ما فهم مراد‪" .‬كنت احب اقدملك حاجة في مقابل الحماية‪ ،‬لكن انت فاهم اني ماقدرش‪ .‬اتصرف في مال‬
‫ابن عمك‪ ،‬حتي لو كان زي ما بتقول من مصادر مشبوهة"‬

‫"شفت انت فهمتني غلط ازاي؟ يا ميرو‪ ،‬انا باقولك من غير لف و دوران‪ .،‬الظروف اكبر منك كتير‪ ،‬ولو عملت زي ما باقولك حتنقذ‬
‫نفسك و تنقذ اخوك لو كان لسة عايش‪ ،‬تقدر ترجع بيت والدتك في نيس و هو يحصلك علي هناك"‬

‫"مش لو كان عايش؟"‬

‫"انت غريب وهللا يا مراد‪ .‬ساعة تقول ما ماتش و ساعة تقول لو كان عايش"‬

‫"عموما انا متشكر يا ايهاب‪ ،‬و متأكد انك بتدور علي مصلحتي‪ .‬بس المزرعة؟"‬

‫"هتتباع و هتاخد نسبة من المبلغ‪ ،‬انا برضه ميخلصنيش انك تتبهدل‪".‬‬

‫عندها وصل مراد الي ذروة رباطة الجأش فقد كانت هذه الزيارة في مجملها حربا علي اعصابه‪ .‬صب لنفسه كوبا من ماء الليمون‪ ،‬و‬
‫كانت يده ترتعش من فرط الحنق علي الزوجين اللذين أتيا لتكدير ما بقي من صفو حياته‪ ،‬و نجحا في مهمتهما ‪ .‬و أخذ رشفة من الماء‬
‫استعاد معها بعض هدوءه‪.‬‬

‫"اقعدوا اتغدوا معانا بقي‪ .‬انا صحيح ما باكلش تقريبا علشان وزني مايزيدش من قعدة الكرسي‪ .‬لكن الكانتين بتاعنا طبعا مفتوح‪".‬‬
‫أجاب ايهاب في شبه امتعاض‪" ،‬معلش اعفينا‪ ،‬اصل نجالء مابتحبش تقعد وسط العمال و الفالحين‪".‬‬

‫" هي فين نجالء؟ تعالي بينا علي التراس نشوفها‪".‬‬

‫**‬

‫في تلك األثناء كانت نجالء تتجول في الحديقة األمامية‪ .،‬تستعيد ذكرياتها في هذا المكان‪ ،‬عندما كانت شبه واثقة من الحصول علي‬
‫حمزة‪ .‬اتجهت الي االسطبل حيث وجدت صبحي منهمكا في عمله في تنظيف االسطبل‪.‬‬

‫"يا انت‪ ...‬انت ياللي هناك‪ ،‬تعالي انا عايزاك"‬

‫"افندم يا مدام"‬

‫"انت مش عارف انا مين؟ اسمي نجالء هانم‪".‬‬

‫"اي خدمة يا فندم؟"‬

‫"افتحلي الباب عايزة اشوف الحصان اللي جوة" مشيرة الي البوابة البيضاء حيث كان سمارة‪ ،‬احد الخيول االصيلة وحده‪ ،‬بمعزل عن‬
‫بقية الخيول‪.‬‬

‫"بس يا فندم ماعنديش أمر من مراد بيه"‬

‫"انا اللي باقولك يا حيوان‪ .‬سيدك اللي مشغلك ده حيترمي في الشارع"‬

‫"انا ماليش سيد يا ست هانم‪ .‬دي امانة و انا باحافظ عليها"‬

‫"انت بترد عليا؟ انا حاخلي ايهاب يعرف شغله معاك‪ ،‬ايهاب بيه اللي لمك من الشارع و جابك هنا يا غبي!"‬
‫"تحت امرك يا هانم‪ ".‬اجاب صبحي مذعنا لصياحها‪ ،‬و دخلت و علي وجهها ابتسامة ظفر ما ان وقعت عيناها علي سمارة‪ .‬كان جوادا‬
‫اندلسيا‪ ،‬طويل الشعر اسود كاألبنوس‪ .‬اقتربت منه و هي تتحسس جسده في انبهار‪ .‬و ظلت تتحسسه مرارا حتي ابتعد عنها الجواد‬
‫معرضا‪ ،‬لكنها تابعت فعلها الغريب‪ .‬انتفضت حين سمعت من يصيح اسمها مهددا‪.‬‬

‫"نجالء!"‬

‫التفتت نجالء لتجد مراد علي كرسيه المتحرك عند مدخل االسطبل و يكاد ان يفتك بها لوال اعاقته‪" .‬الحاجة الوحيدة اللي فاضله من‬
‫ريحته‪ ،‬بأي حق تحطي ايدك عليه؟ مين اذنك تدخلي هنا؟"‬

‫استدارت محاولة ان تظهر الغضب بدورها‪ ،‬لكن ايهاب تدخل "ماحصلش حاجة يا مراد‪ .،‬دي كانت بس بتتفرج علي الحصان‪".‬‬

‫"ماحدش كان بييجي جنب سمارة غير حمزة‪"،‬‬

‫"معلش يا مراد‪ ،‬حصل خير‪".‬‬

‫"ماتزعلش يا ميرو‪ "،‬اقتربت نجالء و هي تضحك "اصل زمان لما كان لسة مهر كان حيبقي بتاعي‪ ،‬حمزة كان واعدني‪ .‬بس مرة‬
‫واحدة كان مستعد يديه لطوب األرض و ال اخدوش انا‪ .‬بس انا سكتت و عملت بأصلي علشان خاطر العشرة بس‪...‬كان ممكن بمكالمة‬
‫تليفون واحدة افضحه في كل حتة‪ ..‬انت فاهم طبعا الوسط الفني"‬

‫"فعال‪ ،‬الوسط الفني ياما بيلم‪ ،‬تصوري يا نوجة ان مافيش واحدة طالعة اليومين دول بستخدم اسمها الحقيقي؟ كل واحدة حاطة ماكياج‬
‫غالي شوية و حفظت كلمتين انجليزي علي فرنساوي‪ ،‬و اسمها الحقيقي نحمده فاكرة نفسها بقت هانم و كده‪ ،‬بس انت طبعا فين و‬
‫األشكال دي فين؟"‬

‫تبددت ضحكتها الفجة حين سمعته ينطق باسمها الحقيقي‪.‬‬

‫استعاد مراد ابتسامته الهادئة كأنه لم يكن خارجا لتوه من حرب اعصاب "يا جماعة بجد الزم تتغدوا معايا النهاردة‪ .‬انا حابعت اجيبلكوا‬
‫الغدا لحد عندكوا هنا في التراس‪ ،‬ايه رأيك يا ايهاب؟"‬

‫"ماشي يا ميرو‪ ،‬حتي الطباخ اللي كان عندكوا كان اكله جامد‪".‬‬

‫"كل انت يا بيبي‪ ،‬انا ماليش نفس"‬

‫"دلوقتي نفسك تتفتح يا نوجة" قال مراد مبتسما و هو يتجه بكرسيه المتحرك خارج االسطبل‪.‬‬

‫"اسبقوني انتوا‪ ،‬انا عندي كلمتين للواد صبحي‪ ".‬قال ايهاب‪.‬‬


‫**‬

‫"انت يا زفت‪ ،‬ماتصلتش بيا ليه؟"‬

‫"ال مؤاخذة يا باشا‪ ،‬اصل الشغل هنا يقطم الوسط‪".‬‬

‫"ما تغيظنيش ياله‪ ،‬عملت ايه في اللي قلتلك تعمله"‬

‫"يا باشا محدش فيهم مخليني اعتب القصر خالص‪ .‬هو حضرتك ناوي تخليني هنا لحد امتي؟"‬

‫امسك ايهاب بياقة قميص صبحي بعنف‪" ،‬اسمع ياله‪ ،‬استعباط مش عايز‪ ،‬انت حتفضل هنا لحد ما تجيبلي اللي انا عايزه‪ ،‬تتسحب و‬
‫تجيبه‪ ،‬تسرقه مايهمنيش‪ .‬المهم اوراق الملكية تكون عندي و اال تستعوض ربنا في امك و اخوك‪".‬‬

‫"حاضر و هللا يا باشا‪ ،‬بس الموضوع عاوز وقت‪".‬‬

‫"خلص الكالم‪ .،‬تكلمني اول باول و تقوللي بيعمل ايه‪".‬‬

‫"حاضر يا باشا"‬

‫دفعه ايهاب بعنف و ابتعد متجها الي شرفة القصر الكبري‪ .‬ظل صبحي واقفا في ساحة االسطبل‪ ،‬يراقب عبر الباب المفتوح ذلك‬
‫الشخص الذي امتهن كرامته‪ .‬اما زوجته‪ ،‬تلك الحية فكانت هي األخري في قائمة من كان يود التخلص منهم‪ .‬لقد بدأ الشعور بالشفقة‬
‫يتسلل الي قلبه نحو مراد‪ .،‬فماذا سيكون مصيره اذا نفذ ايهاب ما ينويه باالستيالء علي المزرعة و ما فيها‪ .‬اتراه يستمر ذلك العالم‬
‫المثالي تحت امرة هذين الزوجين‪ ،‬كان من المؤكد انه سينتهي اذا انتهي مراد‪.‬‬

‫***‬

‫في المساء اجتمع الشباب بقيادة اكرم في صالون القصر‪ .‬كانوا يحدثون جلبة كعادتهم‪ .،‬كان الحديث و المزاح بينهم ال ينتهي كمتعة كل‬
‫منهم بصحبة اآلخر‪ .‬خرج اليهم مراد في زيه المعتاد‪ ،‬الطاقية الصوفية و الشال الصوفي‪ ،‬و ارتدي قميصا ابيض اللون‪ ،‬و بنطلون من‬
‫الكتان البني‪.‬‬
‫"ايوة كده يا ميرو‪ ،‬من زمان ما شفناكش" قال احدهم و كان يدعي حسام‪.‬‬

‫"يا جماعة انا محتاجلكم جدا‪".‬‬

‫"ايهاب عمل معاك ايه النهارده؟"‪ .‬قال اكرم وقد قام من مقعده ليدفع الكرسي المتحرك قرب مجلسهم‪.‬‬

‫"عمل اسود! هو و الكائن اللي كان معاه حرقوا دمي طول ما كانوا موجودين‪ .‬بس مش ده موضوعنا‪ .‬من اآلخر كده بيهددني اني الزم‬
‫اعلن وفاة حمزة و اال حيرفع الحماية عننا‪ ...‬ده معناه تتفتح التحقيقات تاني في القضية و مش بعيد كلنا نتاخد‪".‬‬

‫"ده ضرب تحت الحزام!" قال عمر‪.‬‬

‫"شوفوا يا جماعة‪ .،‬انا عارف ان انتم عارفين حاجة او حاجات انا مش عارفها‪ .‬بس خلينا في القضية‪ ،‬ايهاب بيقول ان حمزة كان‬
‫متورط في تهريب مهاجرين غير شرعيين وان المزرعة‪ .‬عبارة عن عملية غسيل اموال‪ ..‬الكالم ده ليه اي اساس من الصحة؟"‬

‫قال عمر‪ .،‬احد الشباب و قد عقد حاجبيه في جدية‪" ،‬الصراحة يا مراد ايوة‪ ،‬كان متورط‪ .،‬لكن مش زي ما ايهاب عاوزك تفتكر‪".‬‬

‫اضاف حسام‪ " ،‬هو كان فعال بيستخدم اليخت بتاعه علشان ينقذ الشباب اللي بيركبوا قوارب الهجرة‪ ،‬و بيغرقوا في البحر و كان‬
‫بياخدهم علي المزرعة يديهم شغل‪ .‬بس جه عند فترة معينة الناس اللي ماسكين موضوع الهجرة اتصلوا بيه و حاولوا يقنعوه يشتغل‬
‫معاهم‪ .‬بقي ياخد المهاجرين‪ ،‬يقنعهم ما يسافروش و يرجعلهم فلوسهم‪ .‬كتير منهم كانوا بيرجعوا معاه المزرعة‪".‬‬

‫اضاف عمر‪" .،‬كان عاوز يساعدهم يدخلوا اوروبا بطريقة شرعية‪ ،‬و كان بيدربهم‪ ،‬زي ما انت نفسك كنت بتعلمهم فرنساوي و ايطالي‬
‫يا مراد‪ .‬كان عاوز يعمل برنامج تبادل بتمويل من االتحاد األوروبي‪ ،‬لكن طبعا اختفي قبل ما المشروع يتقدم"‬

‫"طيب و هو ليه يتهور كده مع الناس بتوع الهجرة؟"‬

‫"كان فاكر انه حيقدر يضحك عليهم‪ ،‬لكن الحقيقة ان العمليات دي ماكانتش بتجيبله فلوس‪ ،‬هو بس كان عاوز يساعد الشباب دول و‬
‫يديهم فرصة حقيقية‪".‬‬

‫"يعني حمزة بريء؟"‬


‫"مش في نظر ناس كتير لألسف‪ ".‬قال عمر؛ "بيزنيس الهجرة ده طايل ناس كتير مهمين‪ ،‬غير ان حمزة كان يبني دولة داخل دولة‬
‫جنب منطقة حدودية‪ .،‬يعني اللي عاوز يلبسه تهمة تهريب سهل جدا يلبسهاله بمساعدة العربان"‬

‫قال اكرم‪" .،‬ماتفهمنيش غلط يا ميرو‪ .،‬لكن لو قدرت تتصرف في المزرعة قبل اعالن الوفاة اتصرف و سافر‪ .‬ماتفتكرش ان مشكلتك مع‬
‫ايهاب‪ .‬الموضوع اكبر من ايهاب بكتير‪ .‬حرب األعصاب اللي شنها عليك النهاردة مش من دماغه‪ ،‬اكيد فيه حد بيحركه‪.".‬‬

‫سكت مراد في حيرة‪" ،‬بس انتم حيكون ايه مصيركم لو المزرعة اتباعت؟"‬

‫اقترب اكرم من مراد‪ ،‬و قد انحني قليال لينظر بامعان في عينيه‪" ،‬مشكلتنا و نحلها بنفسنا‪ .‬ماتشيلش همنا احنا‪ ،‬المهم اننا ما نضيعش‬
‫الوقت"‬

‫"يبقي تجيبلي عوني هنا في اقرب فرصة‪ ،‬كل االحتماالت القانونية الزم تبقي واضحة زي الشمس‪...‬و‪ .‬كمان نشوف سير قضية الهجرة‬
‫الغير شرعية‪" .‬‬

‫كان صبحي قد اعتاد العمل في االسطبل‪ ،‬فلم يعد بحاجة لتظاهر باالنشغال بالعمل‪ .‬ثمة دافع خفي بداخله جعله يرغب في اكتساب ثقة‬
‫رهوان دونا عن غيره‪ .‬ففرحات‪ ،‬الفالح الداهية‪ ،‬لم يكن ليوليه الثقة بسهولة و ربما لم يكن ليوليه الثقة ابدا‪ .‬أما المالك‪/‬الشيطان مراد‪،‬‬
‫فثقته ابعد مناال من ان يكتسبها‪ ،‬لكنه قد بدأ يحصل علي المعلومات‪ .‬ففي الليلة السابقة‪ ،‬تمكن من ان يسترق السمع الي الشباب و هم‬
‫يتحدثون الي مراد عند خروجهم‪ .‬لم يستمع الي الكثير‪ ،‬غير ذلك المدعو عمر هو يقول لمراد "اوع تصدق اي حاجة وحشة في اخوك‪.‬‬
‫حمزة مافيش بني آدم زيه‪ .‬انت عارف ان ايهاب طول عمره بيحقد عليه مع انهم والد عم‪".‬‬
‫اوالد عم؟ لم يغب عن صبحي ما كان يكنه ايهاب من حقد لذلك الرجل الغامض حمزة‪ .‬تذكر ايضا اسم "عوني" و تساءل ما إذا كان‬
‫ايهاب سيهتم لتلك التفاصيل‪.‬‬

‫خرج من االسطبل‪ .‬ليجد فرحات يقلم شجيرات الورد بجانب جدار القصر‪" ،‬االسطبالت كلها اتنضفت يا ريس‪".،‬‬

‫"عفارم عليك‪ ،‬ممكن‪ .‬تستريح شوية و تاخدلك كوباية شاي"‬

‫وصلت في نفس اللحظة سيارة كان يقودها اكرم و نزل منها رجل قصير القامة يرتدي بدلة زرقاء اللون و معه حقيبة سوداء‪ ،‬و اتجه‬
‫االثنان الي باب القصر األمامي‪.‬‬

‫"ده مين ده يا ريس؟"‬

‫"و انت بتسأل ليه؟"‬

‫" يعني‪..‬علشان لو جه بعد كده اعرف استقبله ازاي"‬

‫"دي مش شغلتك‪ .‬اتفضل روح شوف حتستريح و اال حتكمل شغل"‬

‫رحل في حنق‪،‬حتي دخل الي ساحة اإلسطبل و هو يخرج هاتفه المحمول من جيبه و بدأ في االتصال‪" .‬ايوة يا باشا‪ .‬النهاردة اللي اسمه‬
‫اكرم جابله واحد معاه شنطة سوده زي ما يكون محامي‪ . .‬و امبارح كانو بيتكلموا عن واحد اسمه عوني‪".‬‬

‫"و ماعرفتش عايزين منه ايه؟"‬

‫"يا باشا انا جيت اسأل مين ده الريس فرحات قاللي مش شغلك‪ .‬شكلهم كده يا باشا فاهمين الليلة عشان كده علي طول مخونينني‪".‬‬

‫"لو كنت بتشغل مخك كنت عرفت تتصرف معاهم يا بجم‪ .‬لو حصل حاجة تاني ابقي كلمني‪ ".‬و اغلق ايهاب الخط‪.‬‬
‫استدار صبحي نحو حظيرة رهوان‪" .،‬ماتبصليش كده‪ ،‬اديك شفت كان بيهددني ازاي‪ .‬يعني عاوزني اعمل ايه؟ مراد صعبان عليها بس‬
‫امي واخويا لو جرالهم حاجة حينفعني بإيه؟"‪ .‬ثم استطرد‪" .،‬يصعب عليا قال‪ ،‬ده هو اللي مخلي فرحات يستقصدني‪ ،‬و عامل فيها برنس‬
‫و ابن اكابر‪ .‬هما الناس والد الكلب دول اللي واخدين كل حاجة في كرشهم و احنا اللي نتاخد في الرجلين‪".‬‬

‫لم يبد و كأن الجواد قد اعاره اهتماما‪ ،‬فلم يكن صبحي متيقنا ان ذلك كان حقا شعوره‪ ،‬فقد كان الحقد و الغضب اللذان الزماه و أمليا كل‬
‫اختياراته يهجرانه شيئا فشيئا اال عندما يسمع اسم حمزة او يتذكر في مخيلته صورة الرجل فوق البيانو‪ .‬لم تكن اول مرة يراه‪ ،‬فقد كان‬
‫مطربا معروفا‪ ،‬و احد نجوم المجتمع‪ ،‬اال ان صبحي لم يكن يستمع ألغانيه التي لم تتفق و ذوقه ‪ .‬لكن من كان يصدق انه ابن عم المقدم‬
‫ايهاب؟ كان يدرك ان ايهاب لم يكن يسعي لتحقيق العدالة بإدانة مجرم هارب فحسب‪ ،‬كان والبد أن يكون هناك ثأر شخصي‪.‬‬
‫**‬
‫"يا مراد بيه الموضوع اعقد من كده بكتير‪.‬ممكن يتعمل استثناء‪ ،‬لكن حمزة بيه متهم في قضية يعني الزم دليل مادي علشان المحكمة‪.‬‬
‫تقتنع‪".‬‬

‫"طيب و الدليل المادي ده اجيبه منين يا متر؟"‬

‫"تقدر تقوللي حضرتك ايه اللي حصل بالظبط في ليلة الحادثة؟"‪.‬‬

‫اعتدل مراد في جلسته مستخدما كال ذراعيه و اطرق قليال‪ ،‬محاوال استرجاع كل التفاصيل المؤلمة لتلك الليلة‪.‬‬

‫"كنا عاملين حفلة هنا‪ ،‬و حمزة كان مضطرب شوية زي اللي فيه حاجة قالقاه‪ .‬كان اليوم كله عصبي و مش طايق حد يكلمه‪ ،‬لكن قبل‬
‫الحفلة طلبني في المكتب و قاللي ان خالص‪ ،‬حيصفي المزرعة‪ .‬و نرجع اوروبا و الزم اسافر اسبقه‪ .‬و في وسط الحفلة كانت عينه علي‬
‫طول علي الساعة‪ ،‬و شفته خارج و معاه ظرف‪ .‬سبقته علي العربية و فضلت قاعد ورا من غير ما يحس بيا‪ ".‬زفر في تألم ثم استطرد‪.،‬‬
‫"و فعال ماشافنيش و زي ما توقعت اخد العربية لحد مرسي مهجور‪ .‬كان فيه حد مستنيه‪ ،‬لكن متحققتش من وشه ألنه كان معاه كشاف‪،‬‬
‫و تقريبا كان فيه اتنين تانيين معاه‪".‬‬

‫"تشرب شوية مية؟" قال عوني‪ ،‬مادا يده بكوب من الماء لمراد‪.‬‬

‫"شكرا يا متر‪ ".‬امسك الكوب بأصابع مرتعشة و اخذ رشفتين ثم استطرد‪" ،‬الراجل اللي كان بيكلمه قاله كالم كتير ماسمعتوش‪ .،‬لكن‬
‫سمعته بيقول دخول الحمام مش زي خروجه‪ .‬ساعتها حمزة اداله الظرف‪ ،‬و الراجل ضحك‪ ،‬زي مايكون مش عاجبه اللي كان في‬
‫الظرف‪ ،‬غالبا فلوس‪ .‬لكن حمزة قاله انه مالوش عنده غير المبلغ ده و كده يبقوا خالصين‪".‬‬
‫ثم سكت مراد محاولة استعادة المزيد من التفاصيل‪.‬‬

‫"و بعدين يا مراد بيه؟"‬

‫" الراجل اللي كان بيكلم حمزة خال االتنين اللي معاه يفتشوا العربية‪ ،‬و طبعا لقيوني في الكرسي الوراني‪ .‬حمزة لما شافني طبعا كان‬
‫حيتجنن و قاللي ايه اللي جابك‪ .‬قلتله ماكنتش اقدر اسيبك وسطهم‪ .‬قام الراجل قاله و ده يبقي مين األمور؟ فقاله حمزة مالكش دعوة بيه"‬

‫اغلق مراد عينيه بقوة و هو يحاول استعادة التفاصيل التي تلت ذلك‪ ،‬لكنه لم يفلح‪ " ،‬انا مش فاكر اللي حصل‪ ،‬بس هم كانوا بيهددوه و‬
‫حصلت خناقة‪ ،‬حمزة قدر عليهم‪ ،‬لكن الراجل الكبير ضربني بشومة علي ضهري و آخر حاجة فاكرها صرخة حمزة" بعد كدة فقت في‬
‫المستشفي‪ .‬و لما رجعت كان اليخت اختفي من المرسي و حمزة مالوش أثر‪ ".‬أجهش مراد بالبكاء و انهمرت دموعه‪ .‬فلم يسع عوني‬
‫الي ان يربت علي كتفه محاوال تهدئته‪.‬‬

‫"أنا آسف يا مراد بيه اني بافكرك بكل ده‪ .‬فيه أمل ان حمزة بيه ياخد حكم مخفف ألنه كان تحت التهديد‪ .‬هل ده الكالم اللي قلته في‬
‫التحقيق؟"‬

‫"بيتهيألي"‬

‫"الكالم اللي حضرتك قلته في التحقيق هو ان حضرتك كنت في العربية مع حمزة بيه و ناس بلطجية وقفوكم في الطريق الصحراوي‪"،‬‬

‫"ايوة ألن الناس دول اكيد حينتقموا لو جبت سيرتهم‪ ،‬و طبعا انا حاسس بالذنب ألن مصير حمزة كان بسببي أنا‪".‬‬

‫ابتسم عوني‪" ،‬علي العكس‪ ،‬وجودك ماكانش متوقع و سمح لحمزة بيه انه يحول الموقف لصالحه و يهرب و يوديك المستشفى في‬
‫الوقت المناسب‪ .‬لكن في نفس الوقت‪ ،‬اختفاء حمزة بيه طول المدة دي مش ممكن يقنع المحكمة بإعالن وفاته‪".‬‬
‫"انا مش عايز اعلن وفاته‪".‬‬

‫"القضية اتحفظت مؤقتا‪ ،‬و ده طبعا مفهوم ألن استمرار التحقيق معناه المجرم الحقيقي هو اللي حيتحاسب‪ ،‬و ده مش من مصلحة ناس‬
‫كتير في اماكن خطيرة‪ .‬حمزة بيه كان عارفهم‪ .،‬و لما مرضيش انه يتورط معاهم‪ .‬فتحوا عليه ابواب جهنم و حاولوا يكسروا عينه باللي‬
‫عملوه فيك‪".‬‬

‫"طيب و ده حيفيدنا بإيه"‬

‫"لألسف مش حيفيدنا قوي ألن في أي لحظة ممكن‪ .‬يطلع قرار بالتحفظ علي أموال حمزة بيه‪ ،‬لكن علي حسب علمي‪ ،‬حمزة بيه كتب‬
‫المزرعة‪ .‬بإسمك‪ ،‬يعني من حقك تتصرف فيها‪".‬‬

‫"و فيه مستندات بالكالم ده؟"‬

‫"لألسف األوراق سلمتها كلها لحمزة بيه"‬

‫"دول ماسبوش قشة اال و فتشوها في اوضته و مكتبه‪ .‬ماكانش فيه أثر ألي مستندات‪".‬‬

‫"علمي علمك يا مراد بيه‪ .‬ممكن نحاول نعمل مستخرج من السجل المدني‪ ،‬لكن ده طبعا هياخد وقت‪".‬‬

‫"علشان كده بتقول الوقت مش في صالحنا‪ .‬طيب نتوكل علي هللا و نطلع المستخرج"‬

‫" يبقي الزم حضرتك تروح القاهرة بنفسك‪ .‬انا حاعمل الالزم علشان الموضوع يخلص في اسرع وقت و تيجي القاهرة علشان تمضي‬
‫و بس‪ ،‬اديني اسبوع كده‪".‬‬

‫"زي ما تشوف يا متر‪ ،‬أنا متشكر لحضرتك"‬

‫"سامحني يا مراد بيه اني قلبت عليك المواجع‪".‬‬

‫"العفو‪ ،‬ده حضرتك قدمتلي خدمة كبيرة‪ ،‬علي األقل حارتاح من بلطجة ايهاب"‬

‫"طبعا المقدم ايهاب مش حيبقي عنده حجة قانونية ضدك في حالة لو طلعنا المستخرج او ظهرت األوراق‪ .‬هو واحد من الناس اللي‬
‫حمزة بيه كان حذر جدا منهم‪ .‬لكن احنا بنتكلم علي المزرعة فقط‪ ،‬اي امالك تانية زي المصانع و العقارات‪ ،‬في حالة اعالن الوفاة‬
‫حتكون من نصيبه‪ .‬و غالبا هو كان مستفيد من حفظ القضية ألن بمرور الفترة المحددة ممكن‪ .‬يعلن الوفاة‪".‬‬

‫"مش غريبة ان ايهاب و المجرمين الحقيقيين مصالحهم تتفق‪".‬‬

‫وقف عوني مستعدا للرحيل‪ " ،‬بس خللي بالك يا مراد بيه‪ ،‬تفاصيل المحادثة اللي بيننا مش الزم يعرف عنها حاجة لغاية المستخرج ما‬
‫يظهر‪".‬‬

‫"حاضر يا متر‪ .‬بس حضرتك مش حتمشي غير لما نتغدي"‬

‫مر اسبوع بعد ذلك اللقاء دون معلومات من عوني المحامي و في عصر ذلك اليوم‪ ،‬جلس مراد بجوار البيانو‪ ،‬و هو يتأمل صورة اخيه‬
‫الغير شقيق في عتاب‪ ،‬تعلو وجهه ابتسامة ألم امتزج بالحنين الي ذلك الشخص الذي كان يمثل كل ما لديه من أسرة‪ .‬اقتربت منه دادة‬
‫حليمة امرأة ممتلئة قاربت الستين‪ ،‬ارتدت منديال علي رأسها و جلبابا ازرقا و قد شمرت عن ساعديها‪" .‬اهو الليموناته الماسخه اللي‬
‫انت بتطلبها علي طول‪ ،‬انا عارفة بتحب فيها ايه"‬

‫ضحك مراد‪" ،‬دي مية بليمون يا داده‪".‬‬

‫"انا عارفة بقي‪ .‬بس انا زعالنة منك يا مراد علشان مابتاكلش يا حبيبي‪ ...‬الزم تتغذي"‬

‫"لو اكلت زي مانتي عاوزة عم فرحات مش حيعرف يشيلني من علي الكرسي‪".‬‬


‫"ده انت خف الريشة‪ ،‬بس هو فرحات قادر يشيل نفسه‪ ،‬قطيعة"‬

‫ضحك مراد في خجل‪" ،‬اختشي يا دادة‪ ،‬ده برضه جوزك"‬

‫"بس ماتخدنيش في دوكة‪ ،‬اجيبلك تاكل؟"‬

‫"أل ماليش نفس يا دادة"‬

‫"اهو انت كده‪ ،‬شاغل دماغك بميت حاجة لحد ما حتدبل من كتر التفكير‪".‬‬

‫نظر مراد الي صورة حمزة مرة اخري‪،‬‬

‫"انا عارفة انه واحشك‪ ،‬بس لو كان الفكر يرجعه كنا كلنا خاصمنا األكل و الشرب الجل ما يرجع"‬

‫"سابلي حمل تقيل قوي يا داده‪ .‬و اللي تاعبني اكتر اني ماعدتش عارف أثق في مين‪ .‬ايهاب عمال يهددني علشان اعلن وفاة حمزة‪ ،‬و‬
‫فيه حد هنا في المزرعة‪ .‬بيسربله كل اخبارنا‪...‬ده غير بالوي تانية"‬

‫"ايهاب بيه مالوش انه يطالبك بحاجة يا حبيبي‪".‬‬

‫"ال يا داده‪ ،‬لو ثبت ان حمزة مات هو اللي يورث"‬

‫"ال يا مراد مايورثوش‪.".‬‬

‫كانت ثقة دادة حليمة فيما تقول تثير الشك اكثر من الدهشة‪" ،‬ايش عرفك يا دادة‪ ،‬انت مخبية عليا ايه؟"‬

‫"السر ده مش أمانة في رقبتي أنا فمش حاقدر اقولك عليه‪ ،‬لكن اللي حيدلك علي الحقيقة شريفة هانم عمة حمزة"‬

‫"يعني مش حتقوليلي؟"‬

‫"الزم تسمعه منها األول‪ ،‬ماينفعش تسمعه مني دلوقت"‬

‫و في نفس اللحظة استأذن فرحات في الدخول عبر االنتركوم ففتحت له لبيبة الباب و دخل الي حيث كان مراد و دادة حليمة‬

‫"جبنا سيرة القط جانا ينط"‬

‫"فشرتي يا ولية دانا سبع مش قط"‬

‫"ياخويا قطيعة"‬

‫قال مراد و هو يغالب الضحك‪" ،‬خير يا عم فرحات؟"‬

‫"ابدا‪ ،‬الواد اللي اسمه صبحي عاوز يقابلك"‬

‫"عايز مني ايه تاني؟"‬

‫"بيقول عاوز ينزل مصر يشوف امه و اخوه‪".‬‬

‫"تفتكر نقدر نسيبه ينزل؟"‬

‫"الرأي رأيك‪".‬‬

‫"طيب خليه يستني‪ .‬هاتيلي التليفون قوام يا داده"‬


‫"و بالمرة اعمليلي فنجان قهوة مظبوط من ايديكي"‬

‫"ياخويا ما تعملها لنفسك مانت عارف سكة المطبخ"‬

‫ابتسم فرحات مداعبا‪" ،‬هو انا فيه حاجة تعدل دماغي غير قهوتك يا ام عماد‪".‬‬

‫"يا عصافير الكناريا‪ ،‬مش وقته‪ ،‬التليفون! و هاتيلي الدفتر معاه علشان مش حافظ النمرة"‬

‫"طيب تأمر بحاجة تاني يا مراد؟"‪.‬‬

‫"ال يا عم فرحات‪ ،‬ساعة كده و هاتلي صبحي علي التراس اشوف حكايته"‬

‫"ماشي‪ ،‬باإلذن"‬

‫"اتفضل"‬

‫و هم بالخروج من الباب‪ ،‬فلحقه مراد‪" ،‬قصدي اتفضل علي المطبخ‪ ،‬القهوة" و غمز له مداعبا‪.‬‬

‫و ما ان جائته لبيبة بالتليفون و الدفتر‪ ،‬طلب منها ان تطلب الرقم " جرس يا مراد بيه اتفضل‪ "،‬و اعطته السماعة"‬

‫رد عليه صوت غير الذي توقعه‪" ،‬الو"‬

‫"ايوة مساء الخير‪ ،‬ده بيت شريفة هانم الشيمي؟"‬

‫"ايوة يا فندم‪ .،‬نقولها مين‪".‬‬

‫"من فضلك قوليلها مراد‪"،‬‬

‫و انتظر لبرهة‪ .،‬ثم رد عليه صوت يألفه‬

‫"الو‪"،‬‬

‫"ايوة يا تانت‪ ،‬انا مراد‪ .،‬ازاي حضرتك؟"‬

‫"مراد‪ ،‬ازيك يا حبيبي‪ .‬كده برضه الغيبة الطويلة دي؟"‬

‫"غصب عني يا تانت‪ ،‬حضرتك عارفة بعد الحادثة‪"...‬‬

‫"عارفة و عاذراك يا حبيبي‪ ،‬المهم‪ .‬انك اتكتبلك عمر جديد‪".‬‬

‫"المهم ازاي صحة حضرتك"‬

‫"انا كويسة الحمد هلل‪ .‬كنت عند الدكتور قريب‪".‬‬

‫"دكتور ايه يا تانت؟"‬

‫"دكتور العظام علشان ركبتي‪ ،‬غير كده انا كويسة"‬

‫"الف سالمة علي حضرتك"‬

‫"هللا يسلمك يا حبيبي‪...‬مافيش اخبار عن حمزة؟"‬


‫"ال لألسف "‬

‫"ما تحملش هم يا مراد‪ .‬قلبي بيقوللي ان حمزة راجع‪ ،‬و ان اللي حايشه عننا الشديد القوي"‬

‫كاد مراد ان يبكي‪ ،‬لكنه بذل جهدا جبارا ليتحكم في نفسه‪" .‬ان شاء هللا يرجع‪ .‬انا مبسوط اني سمعت صوت حضرتك‪.‬حضرتك لسة في‬
‫بيت حدايق القبة؟"‬

‫"ايوة لسة‪ .‬ليه؟"‬

‫"ابدا كنت عاوز ابعت لحضرتك حاجة صغيرة كده من المزرعة"‬

‫"يا حبيبي تعيش‪ ،‬انا مش عاوز اتعبك"‬

‫"مافيش تعب‪ ،‬في امان هللا يا تانت"‬

‫"مع السالمة يا حبيبي"‬

‫لم يفهم مراد لماذا ينصب عليه ايهاب في مبلغ تافه كمائة الف جنيه‪ ،‬او لعلها فعال كانت محتاجة للمبلغ و لم تشأ أن تذكر ذلك مراعاة‬
‫لظروفه‪.‬‬

‫إتجه بكرسيه المتحرك نحو المطبخ حيث كان فرحات ينتظر القهوة التي تعدها داده حليمة علي 'السبرتايه '‬

‫"هوانت لسة ماشربتش القهوة‪ ،‬ده انا قلت حالقي داده بتقرالك الفنجان دلوقتي"‬

‫ضحك فرحات‪" ،‬اعملها ايه‪ ،‬يومها بسنة"‬

‫طيب‪ ،‬عايزك تجهزلي شحنة خضار درجه اولي و شوية فراخ و حمام‪ ،‬يسافروا علي بيت شريفة هانم بكرة الصبح‪ .‬و انتي يا دادة‬
‫حضريلي الشنطة و جهزي نفسك علشان مسافرين‪ ،‬و كلمي عم انيس في مصر خليه يوضب بيت جاردن سيتي و قوليله حنوصل بكرة‬
‫الصبح‪".‬‬

‫نظر الزوجان لمراد في دهشة "حتنزل مصر؟"‬

‫"ايوة‪ ،‬وصبحي حينزل معانا‪ ،‬خليه ييجي دلوقتي"‬

‫"امرك" قال فرحات مستنكرا‪ ،‬و اخرج التليفون المحمول من جيبه‪" ،‬ايوة ياصبحي‪ .‬البيه عاوزك تيجي‪ ،‬تعال علي باب المطبخ‬
‫الوراني"‬

‫و بعد خمسة دقائق اتي صبحي و كان يلهث‪"،‬ايه ده‪ ،‬انت جاي تجري"‬

‫"ايوة يا ريس فرحات‪ ،‬اصلي ماصدقت الباشا طلبني"‬

‫"مش كنت عايز تنزل مصر؟ اديك نازل معانا‪ ،‬و حترجع معانا كمان‪ .،‬جهز نفسك علشان حنمشي في ظرف ساعة"قال‪ .‬مراد‬

‫"كتر خيرك يا باشا"‬

‫"و فوت علي مجدي المحاسب حيسلمك ماهيتك"‬

‫"ماهية؟ بس ايهاب بيه قاللي مافيش فلوس"‬

‫"امال حنشغلك ببالش؟ ياال روح قبل ماأرجع في كالمي"‬


‫**‬
‫عاد صبحي الي االسطبل و المظروف في يده و يكاد يطير من الفرح "بص يا رهوان! الف و خمسمية جنيه حتة واحدة! اخيرا حادخل‬
‫علي امي بحاجة عليها القيمة!"‪.‬‬

‫"مراد ده يوم عن يوم بيثبتلي انه مافيش اطيب منه‪ .‬انا نازل مصر معاه بس راجع تاني‪ .‬خد مني حتة السكر دي" و بحث عن قالب‬
‫السكر في جيبه‪ ،‬ثم مد يده به الي الحصان‪ ،‬الذي اقترب في تؤدة و تشمم قالب السكر قبل ان يلتقمه‪.‬‬
‫"كنت عارف انك مش حتكسفني‪ .‬و انا و هللا باحبك يا رهوان!"‪.‬‬

‫مع صوت بوق السيارة أسرع صبحي الي حيث جانت تقف سيارة معدة خصيصا للرحالت الطويلة حيث وجد عمر الذي كان يطوي‬
‫الكرسي المتحرك ليضعه فرحات في صندوق السيارة الخلفي ووجد مراد جالسا في المقعد الخلفي‪ .‬فتح نافذة السيارة‪" ،‬انت اتأخرت ليه‪،‬‬
‫كنا حنمشي و نسيبك"‬

‫"انا جيت اهه يا باشا‪ ،‬تحب اسوقلك العربية؟"‬

‫"انا صحيح مكسح بس مش مستغني عن عمري‪ .،‬واال فكرك مش عارف سواقة بتوع الميكروباس"‬

‫"يا باشا خليك قلبك ابيض و سامحني علي الكلمة دي‪ .‬و بعدين ده انا سواق بريمو‪ ،‬ده انا باكل االسفلت اكل"‬

‫"طب اركب و بالش غلبة" قالت له داده حليمة قبل ان تركب بجوار مراد‪.‬‬

‫**‬
‫عند الوصول الي ميدان لبنان فجر اليوم التالي‪،‬بدت المدينة المزدحمة خالية من مظاهر الحياة‪ ،‬اللهم اال القليل من المارة و من اعتاد‬
‫صالة الفجر في المسجد‪ .‬كان دخان السحابة السوداء يمأل األفق‪.‬‬

‫"يا واد قوم قامت قيامتك" قالت دادة حليمة في صبر نافد‪.‬‬

‫استيقظ صبحي من غفوته ليجد نفسه في السيارة‪ ،‬بجوار السائق الذي لم يكن اال داده حليمة التي تناوبت القيادة مع عمر‪" .‬ايوه يا حاجة"‬

‫"احنا وصلنا‪ .‬شوفلك مواصلة من هنا احنا ماشيين من سكة تانية‪"،‬‬

‫" طيب ماشي‪ ،‬و حنرجع امتي؟"‬

‫قال مراد و قد ارتدي قناعا ليحميه من التلوث‪" ،‬كلها يومين و نكلمك"‬

‫نظر محدقا الي السيارة الفاخرة التي تركها لتوه‪ ،‬و اتجه الي اقرب عربة فول ليتناول االفطار‪ .‬كان يقضم في لذة‪ ،‬فلشد ما افتقد الطعام‬
‫الذي اعتاد عليه‪ .‬و استقل سيارة ميكروباس كان يقودها احد معارفه‪ .‬نحو العالم الذي اعتاده‪ .‬اعترته سعادة غامرة‪ ،‬بدت و كأنه يشعر‬
‫بها ألول مرة‪.‬لم يظن انه سيفتقد شوارع الجيزة المزدحمة او احياءها المتخمة بالسكان‪ .‬كان يري نفسه منتصرا علي الفقر و في حوزته‬
‫راتب اتي من عمل شريف‬
‫**‬
‫كانت الساعة الحادية عشر صباحا عندما اعلن جرس الباب عن وجود زائر في بيت شريفة الشيمي الكائن بحي حدايق القبة‪" .‬مين يا ام‬
‫كريمة؟"‪ .‬قالت شريفة و قد بدا صوتها بعيدا‪.‬‬

‫"ده واحد بيقول انه أخو حمزة بيه اللي بعت الحاجة النهاردة الصبح"‬

‫"طب دخليه قوام"‬

‫و دخل مراد‪ ،‬علي كرسيه المتحرك بصحبة داده حليمة‪ .،‬ليجد شريفة الشيمي جالسة في الصالون‪ ،‬كانت ترتدي طرحة الصالة و امامها‬
‫مصحف‪ ،‬و صوت المذياع ينساب بقراءة الشيخ الحصري‪ .‬تهللت أساريرها لرؤية الزائر غير المتوقع‪" .‬مراد! حمد هللا عالسالمة يا‬
‫حبيبي‪ ،‬ليه تتعب نفسك و تيجي لحد هنا يابني‪ .‬الف سالمة عليك‪".‬‬

‫"خليكي مرتاحة يا تانت‪ .‬انا قلت الزم اجيلك بنفسي‪".‬‬

‫"خير ما عملت‪ .‬هو انا مش عمتك زي مانا عمة حمزة برضه؟"‬


‫"طبعا يا تانت‪ ،‬مش عاوزة كالم"‬

‫"ام كريمة‪ ،‬شوفي البيه يشرب ايه‪ .‬ازيك يا حليمة"‬

‫"انا كويسة يسلم سؤالك يا ست هانم‪ .‬انا حاروح اقعد ويا ام كريمة في المطبخ و اسيبكوا علي راحتكم‪" .‬‬

‫و ما ان انصرفت المرأتان‪ ،‬تغيرت مالمح شريفة‪" ،‬تتصور يا مراد‪ .،‬ان ابن اخويا بقاله زيادة علي الخمس شهور ما سألش عليا و ال‬
‫بتليفون‪ ،‬و ال حتي يعيد عليا‪".‬‬

‫"مالوش حق‪ ،‬بس برضه ايهاب معذور‪ .‬يا تانت‪".‬‬

‫"حمزة ماكانش يفوت اسبوع من غير مايسأل عليا‪".‬‬

‫"مانا جيت علشان كده يا تانت‪".‬‬

‫التفتت نحوه و هي تنتظره ان يفصح عن سبب مجيئه‪" ،‬حمزة زي ما حضرتك عارفة مختفي من سنتين‪ ،‬و ماجاش منه خبر لي أو لحد‬
‫من معارفه‪ .‬و ماخبيش علي حضرتك حالتي ماتسمحليش أدير المزرعة‪ .‬زي ما كان هو بيديرها‪".‬‬

‫"بتفكر تبيعها و تسافر؟"‬

‫"فيه ناس فعال شارت عليا بكده‪ ،‬لكن الدنيا اتعقدت قوي باختفاء حمزة و الحادثة‪".‬‬

‫"انت عارف اني آخر مرة شفت ايهاب كان بيكلمني في الموضوع ده؟"‬

‫"و ايهاب يكلم حضرتك فيه ليه؟"‬

‫"كان عايز يعرف اخويا توفيق هللا يرحمه ساب كام لحمزة‪ .‬بس انا ماديتوش عقاد نافع‪".‬‬

‫"انا جايلك يا تانت ألن حياتي و حياة كل اللي في المزرعة‪ .‬مهددة‪ .،‬لو أعلنوا وفاة حمزة‪ .‬ايهاب ممكن‪ .‬يرمينا كلنا في الشارع‪".‬‬

‫"ايهاب مايقدرش ألنه مايورثوش‪.".‬‬

‫"ازاي يا تانت؟"‬

‫"السر ده انا وعدت اخويا انه يتدفن معايا‪ ،‬لكن حاقولهولك‪ .‬حمزة مش ابن توفيق اخويا‪ .‬لكن توفيق فاتله كل ثروته بعقد تنازل في‬
‫حياته‪ ،‬وهو لسة عمره ‪ 12‬سنة‪".‬‬

‫"و ليه توفيق بيه يعمل كده؟"‬

‫"ألنه كان بيحب اقبال هانم والدتك و ماكانش عاوزها‪ .‬تبقي تحت رحمة عبد الحميد اخويا و مراته‪ .‬هي دي اللي تلفت امل ايهاب و‬
‫طلعته حاقد علي الناس كلها و فهمته ان عمه اكل حق ابوه‪ .‬الحقيقة ان ابوه ضيع ميراثه علي طلبات مراته اللي مابتخلصش‪".‬‬

‫"و مين ابو حمزة؟"‬

‫"إقبال هللا يرحمها قالتلي ان ابوه اجنبي‪ ،‬اتجوزها جواز مدني‪ .‬و جم اهلها طلقوها منه و اهله كمان ماكانوش راضيين عن الجوازة‪.‬‬
‫لكن زي مابقولك‪ ،‬اخويا كان بيحبها و بيحب حمزه و رباه زي ابنه‪".‬‬

‫"و حمزة كان عارف؟"‬

‫"علمي علمك يابني‪ ،‬الموضوع ده فضل سر علشان ماحدش من الطرفين كان راضي عن الجوازة‪" .‬‬

‫"ماكنتش اعرف ان ماما سبق لها الجواز‪ .‬بس معني كده انها اتجوزت بابا علي طول بعد وفاة توفيق بيه‪".‬‬
‫"انا كنت احب اقبال هللا يرحمها‪ .،‬مع اني زعلت منها لما اتجوزت من بعد توفيق‪".‬‬

‫"طيب مافيش مستند يثبت الكالم ده؟"‬

‫"اكيد لو كان فيه مستند يبقي مع حمزة او في خزانة اقبال ذات نفسها‪".‬‬

‫"حضرتك ريحتيني قوي يا تانت‪ .‬انا متشكر لحضرتك"‬

‫"العفو يا حبيبي‪ ،‬و اي حاجة عايزها اطلبها‪ ،‬و سيبك من اللي بيحاولو يلوثوا سمعة حمزة‪ ،‬شوف ربنا بيقول ايه" و امسكت شريفة‬
‫بالمصحف و قرأت‪" ،‬واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و ال تعد عينيك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا‪،‬‬
‫و ال تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان امره فرطا‪" .‬‬

‫"صدق هللا العظيم‪ .‬حضرتك بتقري الخط الصغير ده"‬

‫"الحمد هلل عينيا هم الحاجة الوحيدة اللي كويسة فيا"‬

‫""ليا طلب صغير يا تانت‪".‬‬

‫"اؤمر يا مراد"‬

‫"علشان خاطري ما تزعليش من ايهاب‪ ،‬و كلميه حضرتك‪ .‬اكيد ـحيفرح قوي لما يسمع صوتك‪ ،‬و سلميلي عليه كتير‪".‬‬

‫"علشان خاطرك بس‪".‬‬

‫"انا مضطر استأذن علشان ميعاد الدكتور اللي بيتابع حالتي"‬

‫"من غير ما تشرب حاجة"‬

‫"المرة الجاية‪ ،‬مانا حاجيلك تانى‬

‫"تنورني يا حبيبي‪ .‬ربنا يشفي عنك و تقوم تمشي علي رجليك زي األول وأحسن"‬

‫"ان شاء هللا يا تانت"‬


‫******‬

‫"قوم يا صبحي علشان تشرب الشاي"‬

‫"سيبيني شوية يمه" اجاب صبحي علي والدته و هو ال يكاد يفتح عينيه‪.‬‬

‫"يابني قوم احنا بقينا العصر و تليفونك مابطلش رن"‬

‫انتفض صبحي من فراشه عندما ادرك من الذي يلح في طلبه‪ .‬اسرع نحو هاتفه في غرفة الجلوس حيث وضعت له امه الشاي علي‬
‫منضدة صغيرة امام كنبة بلدية‪ .‬كانت امه قصيرة القامة‪ ،‬و قد حفر الشقاء علي وجهها عالمات تفضح عمرا يفوق عمرها الحقيقي‪.‬‬
‫ارتدت منديال اخفي شعراتها البيضاء اال بضعة شعرات كانت مصبوغة بالحناء‪.‬‬

‫التقط الهاتف و نظر الي المكالمات‪" ،‬ماصحيتينيش ليه يمه و انتي عارفاني نومي تقيل؟"‬

‫"اعمل ايه يبني‪ ،‬لقيتك همدان صعب عليا اصحيك"‬

‫استدار عائدا الي غرفته "ألو‪ ،‬ايوة يا باشا"‬

‫"عايز ايه يا‪"....‬‬


‫"كنت عاوز اقولك يا باشا ان مراد في مصر‪".‬‬

‫"مانا عارف يا حيوان‪...‬جاي تقوللي دلوقتي؟"‬

‫"ماهو‪..‬ماهو اصل يا باشا‪ ،‬انا سافرت معاهم في العربية اول ماقاللي‪ ،‬و ماقدرتش ابلغك‪ ،‬ووصلنا قبل الفجر ما صدقت روحت نمت‪".‬‬

‫"وانت مين قالك تسيب المزرعة؟"‬

‫"مانا قلت اهي فرصة علشان اكتسب ثقته و يخر بكلمتين اوصلهم لسعادتك‪ .‬بس حضرتك عرفت ازاي انه في مصر؟"‬

‫"مش شغلك‪ ،‬المهم ترجع معاه‪ .‬اي معلومة تطلع منه لها الزمة ‪ .‬خلي بالك انه حويط و ممكن‪ .‬يوقعك انت بالكالم‪".‬‬

‫"ده غلبان قوي و هللا يا باشا‪".‬‬

‫"انت اللي غلبان‪ .‬غور يالال و تاني مرة تبلغني بكل حركاته من قبلها يا بجم‪".‬‬

‫اغلق الخط و زفر صبحي في ضيق و هو يعود الي حجرة الجلوس‪ .‬جلس علي الكنبة رافعا قدمه عليها ثم التقط كوب الشاي و اخذ‬
‫رشفة منه‪.‬‬

‫"شكل اللي كان بيكلمك ده زعلك‪".‬‬

‫"ال ابدا يمه‪ .‬اصل شغلنا صعب شوية"‬

‫"يعني يابني ماكانش فيه غير الشغل المتعب ده في آخر الدنيا؟ ماكنت تكمل الدبلون و تشتغل ويا اخوك في الورشة"‪.‬‬

‫انزل قدمه من علي الكنبة‪" ،‬حنعيده تاني يمه؟ هو فين الوال حماده؟"‬

‫"تالقيه لسة في الورشة‪ .‬النبي يبني تكلمه كلمتين احسن اليومين دول طالع في دماغه‪ .‬يسافر علي ايطاليا‪ ،‬و انا مش حمل والدي يبعدوا‬
‫عني و انا خالص‪ ،‬ماعدش فيا‪".‬‬

‫"وال يهمك يمه انا حاكلمه"‬

‫السفر الي ايطاليا كان حلم يراود اخاه منذ زمن‪ .،‬لكنه لم يلتفت له‪ .‬كان له من األصدقاء ابناء منطقته و رفاق طفولته من استدان ليسافر‬
‫فلم يعد‪ .‬لكن نجاح البعض في السفر و العودة محملين بالخيرات كان كافيا إلعطاء المزيد من الشباب الرغبة في السفر حيث المال‬
‫الوفير و الصبايا الجميالت‪ .‬لكن صبحي لم يشاركهم‪ .‬ذلك الحلم بنفس الحماس‪ ،‬كان شابا بال طموح‪ .،‬يعيش اليوم بيومه‪ ،‬يتعاطي‬
‫المكيفات و الخمور في المساء و يفعل ما بوسعه ليحصل علي المال الذي ينفقه علي شهواته‪ .‬لكن ليس ذلك المبلغ‪ ،‬فإلي جانب الخمسة‬
‫آالف جنيه التي سيربحها حال نجاحه في مهمته‪ ،‬سيوفر مرتبه ليتمكن من شراء سيارة بالتقسيط و يسجلها في اوبر او كريم كما فعل‬
‫البعض و يتكسب منها‪.‬‬
‫"خدي يمة الفلوس دي خليها معاكي"‬

‫"ايه الفلوس دي كلها يا صبحي"‬

‫"دي ماهيتي يمة‪ ،‬فلوس حالل و رحمة ابويا"‬

‫"طيب يابني ربنا يزيدك"‬


‫***‬

‫خارج عيادة طبيب األعصاب‪ ،‬كان عمر يعين مراد علي ركوب السيارة‬
‫"تعبتك معايا يا عمر‪.".‬‬

‫عاد عمر الي السيارة و جلس علي مقعد السائق‬


‫"بالش هبل يا ميرو‪ .،‬انا باتفسح مع اخويا الصغير‪".‬‬
‫"لحقت تشوف اهلك و اال أل"‬

‫"ايوة و كلهم بيسلموا عليك و امي بتدعيلك‪".‬‬

‫"هللا يسلمهم‪".‬‬

‫"الدكتور قالك ايه؟"‬

‫"قاللي ان الكسور كلها التأمت و ان األشعة بتبين اني ممكن امشي‪ ،‬غير اني لسة مش حاسس برجلي و ده اللي قلقه شوية"‬

‫"بس دي اخبار هايلة‪ ،‬يعني ممكن تمشي‪".‬‬

‫"مابيتهيأليش يا عمر‪ .‬غالبا الدكتور ده كان يبكذب علشان يديني شوية أمل"‬

‫نظر له في شفقة‪" ،‬يا بني ماتعملش في نفسك كده‪ .‬انت بتدي األمل لكل الناس و حظك احسن من غيرك بكتير‪ .‬فيه ناس مش بتعيش بعد‬
‫االصابة دي‪ ،‬و في ناس مابتقدرش تحرك ايديها و ال تتكلم‪ .‬ربنا كبير‪".‬‬

‫كان عمر شابا رياضيا‪ ،‬شعره بني داكن‪ .،‬ابيض البشرة ذو شارب و لحية صغيرة و بديهة حاضرة‪ .‬لم يكن طويل القامة كبقية الشباب‬
‫في المزرعة‪ .‬لكنه كان عريض الكتفين‪ ،‬لكونه بطل في لعبة البولو المائي‪ .‬لم يكن من المستغرب ان يكون هو المسؤول عن المزرعة‪.‬‬
‫السمكية‪ ،‬و قد تطورت وظيفته الي تدريب الدالفين ‪ ،‬لكي تبتعد عن مزرعته السمكية‪.‬‬

‫كان جهاز الدي في دي يدير اسطوانة لبعض األغاني الغربية و جعل يدندن معها حين وقف في اإلشارة‪.‬‬

‫"قالتلك ايه عمة حمزة؟"‬

‫"كالم كتير‪ ،‬لكن اهم حاجة ان عينيها سليمة"‬

‫نظر له عمر باستغراب؛ "اشمعني؟"‬

‫"ايهاب طلب مني احول ميت الف جنيه لحسابه علشان يعمل لها عملية في عينيها"‬

‫"اوع تكون اديتله حاجة"‬

‫"أل انا بس مستغرب ليه ينصب عليا في المبلغ التافه ده‪".‬‬

‫سكت عمر قليال ثم قال فجأة‪ ،‬مشيرا الي ناحية اليمين بإصبعه‪" ،‬شفت العصفورة؟"‬

‫"فين؟"‬

‫ضحك عمر‪" ،‬قصدي ان هو ده اللي بيحاول ايهاب يعمله معاك‪ .‬كان عارف انك حتتصل بعمة ايهاب علي األقل‪".‬‬

‫"و ايه غرضه من كده؟"‬

‫"اول احتمال انه يشوف ألي مدي بتثق فيه علشان يعرف الخطوة الجاية حتكون ايه وامتي‪ ،‬تاني احتمال‪ ،‬انه كان فعال متوقع انك تدب‬
‫المشوار لحد القاهرة علشان تقابل الست فيخلي حد يدور في القصر و انت مش موجود‪".‬‬

‫"يدور علي ايه ماهم فتشوا و مالقيوش حاجة"‬

‫"مين اللي قاللك انهم فتشوا؟ ده كان ايهاب و احنا مارضيناش ندخله من غير اذن نيابة‪ .‬و لما جابه كنا احنا اللي فتشنا و مالقيناش اي‬
‫حاجة ممكن تدين حمزة او تديننا‪".‬‬

‫"انا باشك في حد في الحسابات انه يكون هو اللي بيوصل الكالم اليهاب‪".‬‬


‫"مايكونش الواد صبحي؟"‬

‫"صبحي بيحاول‪ .‬لكن ماظنش ان ايهاب متكل عليه قوي‪ ،‬دور صبحي و اللي قبله انه يلهينا عن الشخص اللي بيسرب المعلومات و‬
‫بيسحب من فلوس المزرعة‪.".‬‬

‫"اقولك علي خبر مش حايعجبك؟"‬

‫"قول‪ ،‬بس هاتلي ترمس من الراجل اللي جاي علينا ده!"‬

‫"ماشي‪ "،‬فتح عمر نافذة السيارة‪" ،‬يا نجم‪ ،‬تعال‪ ،‬اتنين ترمس و حياتك‪ ،‬تشكر"‬
‫اخذ قرطاسي الترمس و أعطي واحدا لمراد‪.‬‬
‫"عجز الميزانية اكبر بكتير من ‪ 10‬مليون زي ما مجدي قاللك‪ ،‬احنا راجعنا الحسابات بعد ما سبناك لقينا في مصاريف وهمية تحت بند‬
‫اعمال صيانة في المزرعة"‪.‬‬

‫"وهمية ازاي؟"‬

‫"لو حاجة محتاجة تصليح او صيانة احنا اللي بنصلحها‪".‬‬

‫"تمام‪".‬‬

‫"المشكلة ان حنفية الفلوس اللي بتخر دي‪ ،‬معناها ان كل قسم الحسابات داخلين في اللعبة ‪".‬‬

‫"و حنرجع الفلوس منهم ازاي؟"‬

‫"سوأل غريب ماجاوبش عليه" ووضع حبة ترمس في فمه‪.‬‬

‫"انت واخد الموضوع ببساطة‪ ،‬كأنك بتحكيلي نكتة!"‬

‫"ما هي نكتة فعال‪ ،‬ألن قسم الحسابات طلعوا اخبث كتير من ايهاب‪...‬العجز اللي هما حاطينه في الكشوفات حركة تمويه عملوها علشان‬
‫لو ايهاب حاول يطالب بفلوس يوروله الخسارة‪".‬‬

‫"يعني مافيش فلوس بتتحول برة المزرعة؟"‪.‬‬

‫"فيه يا حبيبي فيه!" قال عمر بصوت الدكتور شديد‪.‬‬

‫"ايه تاني؟"‬

‫"فيه فلوس بتتحول علي حساب بالبيتكوين‪ ،‬اكتشفنا ان الحساب ده نشط و بيتسحب منه بانتظام‪.".،‬‬
‫"يعني اللي بيسرب اليهاب او لغيره‪ ،‬بيسربله عن طريق البيتكوين‪".‬‬

‫"الحساب باسم واحدة اسمها ماري هيلين جريمالدي‪ .‬و الحساب مقره في نيس فرنسا‪ .‬مش ممكن‪ .‬يكون حد من المحاسبين فاتحه لنفسه‪،‬‬
‫ألن سامر اللي ماسك الشبكات عندنا تخصصه بلوكتشين و فضل ورا الموضوع"‬

‫"عمر انت اجمل واحد في الدنيا!!!" ضحك مراد واغرورقت عينيه بالدموع و احتضن عمر‪.‬‬

‫"بالراحة يا ميرو انا باسوق" قال عمر ضاحكا‬

‫"حمزة موجود يا عمر‪ .،‬حمزة ما ماتش"‬

‫"صحيح احنا مش متأكدين ‪ ،%100‬بس قلبي حاسس انه هو"‬

‫"حمزة طول عمره غاوي مقالب و يحب الغموض‪ .‬مش فاكر جابني ازاي علي مصر؟"‬
‫"إال فاكر‪ ،‬ده قعد سنين يدور عليك بعد مانت سبت المدرسة الداخلية‪ ،‬و لما بقيت مشهور‪ .،‬جالك علي سردينيا‪ ،‬و عمل نفسه بيسرق‬
‫شنطتك‪ ،‬و قام خاطفك علي اليخت و بعد كده قدملك نفسه‪".‬‬

‫"فعال‪ ،‬كان عامل نفسه حرامي و خالني اجري وراه‪ ،‬و ساعة لما شالني كنت نازل فيه ضرب علشان يسيبني"‬

‫و ضحك االثنان‪" ،‬بس تفتكر مين اللي بيسرب الكالم اليهاب؟"‬

‫"هو أكرم كان شاكك في مجدى‪ ،‬انا مش عايز اتهم حد‪ .‬بس برضه مش عايزك تثق في حد بزيادة قوي‪ .‬ممكن‪ .‬تلعب لعبة‪".‬‬

‫"اللي هي ايه؟"‬

‫"قبل اي خطوة تاخدها اتأكد ان كل واحد من الناس اللي حواليك عنده معلومة‪ .‬مختلفة‪ .‬بالطريقة دي حتعرف من تصرفات ايهاب مين‬
‫اللي بيسرب له‪ .‬اقعد فنن فيها مع نفسك‪ ،‬لكن لو خططت علي الورق الزم تحرقه على طول علشان ماحدش يعرف انت بتفكر ازاي‪".‬‬

‫"ماشي"‬

‫"خللي بالك ان ايهاب ممكن يكون عارف بموضوع الحساب المجهول ده‪"،‬‬

‫"انا شبه متأكد ان ايهاب عارف ان حمزة عايش"‬

‫"يجوز‪ .‬معادنا بكره مع المحامي و بعد كده نرجع؟"‬

‫"ايوة"‬

‫"تحب تروح حتة تانية و اال تروح؟"‬

‫"ايوة تعالي اعشيك في الماريوت‪".‬‬

‫"ال يا عم‪ ،‬احنا نروح الحسين عند الحاتي!"‬

‫***‬
‫في اليوم التالي‪ ،‬انتظر عمر و مراد خارج مكتب الشهر العقاري لحين وصول عوني‪ ،‬لكن مضت الساعات و لم يظهر الرجل حسب‬
‫الميعاد‪ .‬ذهب عمر الي السيارة ليأتي بدادة حليمة كي تقف بجوار مراد حتى يستعلم عن اإلجراء الالزم‪ .‬وقف في الزحام ينتظر دوره‪.‬‬
‫و لما ذهب الي الموظفة‪ .،‬التي كانت سيدة في منتصف العمر‪ ،‬قد أتت رتابة الحياة والروتين علي ما تبقي من أحالمها‪ .،‬ظهر ذلك جليا‬
‫في نفاد صبرها و عجزها عن االبتسام تأدبا‪.‬‬

‫"المستخرج ده متأشر عليه حضرتك"‬

‫"يعني ايه يا فندم‪.".‬‬

‫"يعني ماينفعش تطلعه من عندنا او من اي هيئة حكومية‪ .‬لو األصل مش موجود او الشخص اللي قدم الطلب مش موجود مانقدرش‬
‫نعملك حاجة"‬

‫غادر عمر المكتب في حيرة‪ ،‬و في طريقه للخروج ابتسم له الساعي حامال صينية بها اقداح قهوة فارغة‪" .،‬يا باشمهندز‪ ،‬انت شكلك ابن‬
‫ناس وماعرفتش الحاجة قصدها ايه‪"،‬‬

‫"خير؟"‬

‫"هات سيجارة بس‪"،‬‬

‫اخرج من جيبه ورقة بعشرين جنيها ووضعها في جيب الساعي‪"،‬المستخرج اللي انت طالبه ايهاب بيه الشيمي ذات نفسه هو اللي مأشر‬
‫عليه‪ .‬يعني من اآلخر كده الزم تكلمه هو شخصيا علشان الموضوع يمشي‪".‬‬
‫"صباح الفل!" قال عمر و هو يخرج من المبني‪ .‬و اتجه الي حيث كان ينتظره مراد‪ .‬و ما ان وصال للسيارة حمله ووضعه في الكرسي‬
‫األمامي‪" .‬ايه يا عمر‪ .‬عملت ايه؟"‬

‫"ماعملتش حاجة‪ ،‬عارف عنوان بيت عوني؟"‬

‫"عندي نمرة بيته"‬

‫"طيب اطلبه دلوقتي حاال‪".‬‬

‫و اخرج مراد الهاتف المحمول من جيب سترته و طلب الرقم ‪ .‬رن الجرس خمس مرات ثم رد صوت نسائي يشوبه بكاء "الو‪..‬مين‬
‫معايا"‬

‫"انا آسف اني باطلب في وقت مش مناسب‪ ،‬كنت بادور علي االستاذ عوني المحامي‪".‬‬

‫بكت السيدة "عوني ما اخدوه بعد ما بهدلونا و بهدلوا الشقة"‬

‫"هو مين اللي أخده؟"‬

‫"ماعرفش‪ . ..‬انت مين؟"‬

‫"انا مراد إلهامي‪ ،‬عميل عند االستاذ عوني‪".‬‬

‫"كله من تحت راسك‪ ،‬انت اللي وديت عوني في داهية"‬

‫"انا ماعرفش ايه اللي حصل‪...‬الو‪...‬الو"‬

‫اجاب صوت اخر بدا لفتاة كانت اكثر تماسكا من السيدة "ايوة يا فندم مين حضرتك"‬

‫"انا مراد إلهامي و كان عندي ميعاد مع االستاذ عوني عند مكتب الشهر العقاري"‬

‫"بابا اتقبض عليه بعد ما فتشوا الشقة علشان كده ماقدرش‪ .‬ييجي لحضرتك"‬

‫"انا متأسف قوي‪ ،‬ارجوكي لو فيه اي حاجة في ايدينا نعملها تبلغوني"‬

‫"حاضر يا فندم‪ ،‬مع السالمة"‬

‫نظر مراد الي عمر في احباط‪" ،‬ايهاب سبقنا و قبض علي عوني‪ ...‬يستحيل بعد كده يشتغل معانا"‬

‫"ده غير انه وقف المستخرج‪ ،‬يعني األمل الوحيد انك تالقي األصل‪".‬‬

‫األمل‪ ،‬يا له من لفظ براق‪ ،‬يخدع ببريقه السذج الذين يرغبون في تجنب الصعوبات ليجدوا انفسهم غارقين فيها‪ .‬كان علي مراد أن‬
‫يختار من اآلن فصاعدا أن يسلك الطريق الصعب لينقذ نفسه و يعرقل خطط ايهاب‪ .‬كان يدرك تماما ان ال قوة له ليوقف ايهاب‪ ،‬فلم يعد‬
‫يعرف بمن يثق و من يصدق‪.‬‬

‫"علي فين يا مراد؟"‪.‬‬

‫"علي بيت صبحي‪ .‬حا اعمل له مفاجأة"‬

‫"مش فاهمك"‬

‫"حتفهم بعدين‪".‬‬

‫و بعد ان اتصلت دادة حليمة بفرحات في الهاتف‪ ،‬عرفت عنوانه من صورة البطاقة التي كانت في حوزة زوجها و اتجه عمر بالسيارة‬
‫الي الطالبية‪ .‬كان مراد يشاهد الشوارع و األشخاص كأنه يشاهدهم‪ .‬ألول مرة‪ .‬لم يكن سعيدا بما يراه‪ ،‬كان الزحام يثير توتره‪ ،‬و يشعره‬
‫التلوث بالمرض‪ .‬كان يتمنى لو فعل شيئا لهؤالء الناس‪ .‬بعد ساعة من الزحام وقت الذروة وصلوا الي الحارة التي يسكنها صبحي‪.‬‬

‫و اتصلت به داده حليمة" ايو يا صبحي يابني‪ ،‬انزل احنا تحت بيتك‪ ،‬حنرجع دلوقتي‪".‬‬

‫نزل صبحي بعد عشر دقائق و هو اليزال يرتدي البلوفر‪ .،‬و تبعته والدته بحقيبة سفر صغيرة‪.‬‬

‫"ال مؤاخذة يا باشا‪...‬اتأخرت‪ ،‬اصلي كنت نايم وانت حضرتك عارف‪"...‬‬

‫"نومك تقيل‪ ،‬مانا اكتشفت‪".‬‬

‫اقتربت األم وعلي وجهها ابتسامة‪" ،‬بسم هللا ما شاء هللا‪ ،‬نورت المنطقة يا باشا ولو ان يعني مش قد المقام‪".‬‬

‫"تسلمي يا حاجة‪ ،‬مش عاوزة حاجة"‬

‫"سالمتك يا باشا‪ ،‬طريق السالمة"‬


‫****‬
‫كان الشتاء يخيم علي المزرعه‪ .‬بوجهه الرمادي الكئيب‪ ،‬و قد مر ثالثه اسابيع علي عودة مراد من القاهرة‪ ،‬اعتزل فيها كل مظاهر‪.‬‬
‫الحياة و امتنع عن رؤية اي من كان‪ .‬لم تفلح نظرات دادة حليمة القلقة في اثناءه عن عزلته‪ .‬كان في حاجة إليجاد حل دون أن يثير‬
‫الشبهات‪ ،‬خاصة ٱنه لم يعد بإمكانه الثقة بأحد‪.‬‬
‫كما كان متوقعا‪ ،‬لقد حاول شخص ما التسلل الي القصر في غياب مراد‪ ،‬لكن لم يراه غير فرحات الذي لم يتمكن من اللحاق به‪ .‬ماذا لو‬
‫كان جميع من في المزرعة‪ .‬يخططون ضده مع ايهاب؟ كانت تلك األفكار السوداء تسيطر عليه شيئا فشيئا‪ ،‬مصيبة اياه بالشلل اكثر‬
‫فأكثر‪.‬‬

‫كان يجلس وحده في غرفة نومه‪ ،‬حيث كان جالسا علي كرسيه المتحرك‪ ،‬فلم تتوقف دادة حليمة او لبيبة عن العناية به‪ .‬لكنه كان مصرا‬
‫علي اال يشعل الضوء و ان تبقي الستائر مسدلة في غرفته‪ .،‬فكان ضوء النهار الرمادي يزيده اكتئابا‪ .‬سمع طرقا خفيفة علي الباب‪.‬‬

‫"ادخلي يا لبيبة"‬

‫"المهندس عمر يا بيه"‬

‫"قوليله مش باقابل حد"‬

‫دخل عمر‪ .،‬مزيحا لبيبة من طريقه‪" ،‬الكالم ده تقوله ألي حد غير عمر‪...‬تعال معايا‪".‬‬

‫"من فضلك يا عمر مش عاوز اخرج"‬

‫"انا سبتك تالت اسابيع‪ .‬اديك استريحت من الكركبة اللي حصلت‪ .‬تعالي بينا عالمكتب"‬

‫"طيب روحي دلوقتي يا لبيبة و شوفي عمر يشرب ايه‪".‬‬

‫"هاتي اتنين سحلب يا لبيبة"‬

‫"واحد بس يا لبيبة انا ماباشربوش"‬

‫"انت الخسران" قال عمر و هو يجلس علي الفراش‪.‬‬

‫انصرفت لبيبة‪ ،‬تاركة الشابين في الغرفة‪ .‬و خيم صمت ثقيل فلم يكن لمراد رغبة في الحديث‪.‬‬

‫"انا سبتك علي راحتك ألني كنت عارف اللي بتمر بيه‪".‬‬

‫"انا تعبت يا عمر‪ .‬الموضوع فعال طلع اكبر مني و انا معدتش قادر اقاوم اكتر من كده‪".‬‬
‫"انت كنت ناوي تعمل حاجة بالواد صبحي‪ .‬بعد كده حصلت حاجة خلتك مش طايق حد‪".‬‬

‫"ابدا‪ ،‬جاتلي مكالمة‪ .‬من ايهاب تاني يوم‪".‬‬

‫"و ماقلتلناش ليه؟"‬

‫"ايهاب فهمني ان اللي بيسربوله األخبار مش واحد وال اتنين‪ ،‬و ان عجبني او ماعجبنيش المزرعة حتبقي من نصيبه و ان فيه ناس‬
‫كبار قوي بيدعموه‪.".‬‬

‫"كله تهويش ألن موقفه ضعيف"‬

‫"لو هو موقفه ضعيف يبقي انا موقفي ايه؟"‬

‫"مخيف‪...‬بس انا جاي اقولك ماتخافش‪ .‬مش عمة حمزة قالتلك انه مايورثش؟"‬

‫"يا عمر الموضوع ده حتي لو أثبتنا مش حيغير حاجة ألني مش ناوي ابيع‪".‬‬

‫اطرق عمر و هو مطأطئ الرأس في تفكير عميق‪" .‬انا فهمت دلوقتي انت متأزم ليه‪".‬‬

‫"فهمت ايه؟"‬

‫"ألن اللي بيقولك بيع‪ ،‬عايزك تسلم كل حاجة للناس اللي ورا ايهاب‪ ،‬اللي مش بعيد يكونوا هما نفسهم اللي ورا مافيا الهجرة الغير‬
‫شرعية‪ ،‬و فيه اللي بيقولك بيع علشان تشتري دماغك و تبعد عن القلق ده كله‪ .‬فانت مش عارف تصدق مين‪".‬‬

‫عادت لبيبة بكوب من السحلب الساخن علي صينية صغيرة و قدمتها لعمر الذي استقبل مشروبه بابتسامة عريضة‪.‬‬
‫"تاخد شوية؟"‬

‫"ال بالهنا و الشفا"‬

‫"شوف يا ميرو‪ .‬لما تقدر تنعزل في برج عاجي و تحس بشوية أمان فده شيء لطيف‪ ،‬لكن مش ممكن‪ .‬يستمر‪ ،‬ألن الناس اللي تضمن لك‬
‫األمان ده عاوزة تحس باألمان في المقابل"‬

‫" تقصد أمان مادي؟"‪.‬‬

‫"مش بس كده‪ ،‬المزرعة بتحقق مكاسب كبيرة و مرتباتنا مكفيانا و بنحوش منها‪...‬حسيت بعد ما رجعنا من القاهرة ان المعنويات عليت‬
‫لما الناس لقيتك بتتحرك و بتاخد خطوة ايجابية‪ ...‬الناس دي علشان تفضل في ضهرك الزم تاخد خطوة ايجابية و ماتقفش‪".‬‬

‫"يعني عايزني اعمل ايه؟"‬

‫"عايزك ماتشغلش نفسك بموضوع اللي بيسرب الكالم إليهاب‪ .‬هو عاوزك تلف في الدوامة دي علشان هو يكسب وقت‪".‬‬

‫"انا مشكلتي الحقيقية هي مافيا الهجرة يا عمر‪ .‬انا مش عارف حجم الخصم و ال مدي قوته‪".‬‬

‫"يكفي انك تعرف انهم اكبر من قدرتك او مننا كلنا مع بعض‪".‬‬

‫"انا مش عاوز اواجههم علشان وهم البطولة‪ .‬الزم حد يوقفهم عند حدهم‪".‬‬

‫"يبقي تاخد الموضوع خطوة بخطوة و تأمن وضعك المالي‪ .‬يعني الزم تالقي األوراق‪ .‬ابتدي بأوراق والدتك مثال"‬

‫"اوراق والدتي مش هنا‪".‬‬

‫"طيب يالال بينا حاوريك حاجة"‬


‫قام عمر و دفع كرسي مراد المتحرك خارج الغرفة و اتجها الي غرفة اخري كانت مغلقة‪.‬‬

‫"انت جايبني هنا ليه؟"‬

‫"افتح األوضة يا مراد"‪.‬‬

‫و من سلسلة مربوطة في الكرسي المتحرك اخذ مراد مفتاح الغرفة و قام بفتح الباب‪ .‬و ما ان فتحه عمر‪ ،‬اخذ مراد نفسا عميقا عند‬
‫رؤية الغرفة و قد علتها األتربة‪.‬‬

‫"ازاي ماحدش نضف األوضة لغاية دلوقتي؟"‬

‫"ازاي عايز حد ينضفها و المفتاح معاك انت؟" قال عمر في شبه تهكم‪.‬‬

‫قام عمر بفتح النافذة ليدخل ضوء النهار الي الغرفة‪.‬‬

‫"انت عايز ايه من اوضة حمزة؟"‬

‫"انا كنت عاوزك تقعد فيها شوية مع نفسك‪ .‬عايزك تقلب و تشوف يمكن تالقي حاجة احنا ماشوفناهاش‪ .‬اسراره و اشاراته كان اوقات‬
‫كتير ماحدش بيفهمها غيرك‪".‬‬

‫كان تفكير عمر في محله‪ ،‬فسرعان ما وقعت عينا مراد علي محتويات الغرفة دبت فيه الحياة تدريجيا‪ .‬اتجه نحو الكومودينو‪ .‬ليجد‬
‫صورة بداخل برواز‪ .‬كانت لحمزة و هو يمسك بلجام رهوان‪ ،‬كانت عضالته المفتولة و قامته الطويلة تتالئم و بنية الجواد‪ ،‬كأنما كان‬
‫االثنان كيانا واحدا في جسدين‪ .‬الحظ كلمة مكتوبة اسفل الصورة فأخرج الصورة من البرواز ليقرأها‪" .‬الثقة هي المفتاح" باألسبانية‪.‬‬
‫عن اي ثقة تحدث حمزة؟ الحظ المزيد من الكلمات علي بطانة البرواز‪" .‬ثق في من يثق فيه رهوان"‬

‫بسيطة‪ .‬رهوان مابيثقش في حد! فكر مراد‪.‬‬

‫"شوف يا ميرو لقيت ايه"‬

‫التفت مراد‪ ،‬و اذا بعمر يحمل البوم صور و اقترب ليريه اياه‪.‬‬
‫"صورك و انت صغير"‬

‫"ماكنتش اعرف ان حمزة كان شايلهم"‬

‫"و صورك وانت في المدرسة"‬

‫"غريبة‪...‬حمزة ماكانش موجود في المناسبات دي"‬

‫"متأكد؟ ده كاتب التاريخ و عنوان كل حفلة"‬

‫"لحد سن خمس سنين كان علي طول عايش معانا في نيس‪ ،‬افتكر ان بابا كان بيزورنا من وقت للتاني‪ ،‬لكن عمري ما شفتهم مع بعض‪.‬‬
‫بعد كده سافر و انقطعت اخباره و انا دخلت مدرسة داخلية و فضلت فيها لحد ما اطردت‪ ،‬لغاية ما اتقابلنا تاني‪".‬‬

‫"طردوك من المدرسة؟"‪.‬‬

‫"ايوة ألن ماكانش معايا ادفع المصاريف‪ ،‬و كان سني ‪ 15‬سنة‪ ،‬و ماعرفش‪ .‬مين كان الوصي عليا وقتها‪ ،‬كان الموضوع بعد الحادثة‬
‫اللي ماما اتوفت فيها"‬

‫"طب عملت ايه؟"‬

‫"ادارة المدرسة اتصلت بأهل بابا في جنيف‪ ،‬و بعد فترة وافقوا يبعتوا حد يستلمني‪ .‬لما وصلت‪ ،‬اخوه قال ماليش حاجة عندهم‪ ،‬و اداني‬
‫ظرف فيه مبلغ يا دوب كفي يوصلني لحد نيس‪.‬و قال ما احاولش اتصل بيهم تاني ألن ما فيش حاجة تربطني بيهم‪ .‬و ما رضيش يفسر‬
‫اكتر من كده"‬
‫"يا ربي‪ ،‬فيه حد ممكن يكون بالقسوة دي؟و بعدين‪ ،‬عملت ايه؟"‬

‫"رحت قعدت لوحدي في البيت في نيس‪ .‬ماما ماكانش فاضل لها حد غير داده حليمة و كانت في مصر‪ .‬اشتغلت مغني في بيانو بار كان تبع‬
‫كازينو قمار في الكوت دازور‪ ،‬و في الصيف ده اتعرفت‪ ،‬وبعدها جالي واحد من شركة تسجيالت عالمية و سجل معايا اول البوم‪ .‬والسنة اللي‬
‫بعدها شاركت في مسرحية في الكوميدي فرانسيز‪ .‬و الباقي انت عارفه‪"".‬‬

‫"ياه‪ ،‬يعني انت برضه تعبت يا ميرو‪".‬‬

‫"كانت اول مرة اجوع و اتشرد يا عمر‪ .‬شيء صعب انك تبقي في السن ده و تالقي نفسك لوحدك‪".‬‬

‫"حمزة في الوقت ده ماكانش حتي عارف انه والدته اتوفت"‬

‫"علشان كده انا مستغرب مين اللي اخد الصور دي‪ ،‬ألن ماما و بابا كانوا علي طول في سان موريتز في الشتا‪ ،‬و كانوا بيرجعوا الكوت دازور‬
‫في الصيف اسبوع وال اتنين"‬

‫"شوف ازاي انا فكرتك انت تقدر تعمل ايه؟"‬

‫ابتسم مراد و هو يقلب ألبوم الصور‪ ،‬كانت صور حمزة في طفولته‪ ،‬تبعتها صوره في مرحلة المراهقة‪ .‬استوقفته صورة مع فتاة بارعة الجمال‪،‬‬

‫"اوبا!" قال عمر‪" ،‬مين ملكة الجمال دي؟ طول عمره بيالقيهم‪ ،‬بس انا عمري ما شفت واحدة كده"‬

‫اخرج مراد الصورة‪ ،‬ليشاهدها بإمعان‪ .،‬كان هناك شيء مألوف في تلك الفتاة‪ ،‬كما لو كان قد رآها من قبل‪ .‬اما حمزة‪ ،‬فكانت نظرة الحب في‬
‫عينيه لتلك الفتاة ابلغ تعبيرا من أية كلمات‪ .‬كان ذلك الحب الذي يستحضر الحياة من قلب الظالم و المجهول الي النور‪ .،‬و دون ان يشعر استيقظ‬
‫شيء بداخله شمل الشخصان اللذان كانا في الصورة‪ ،‬و نظر الي خلفها ليجد تلك العبارة‬

‫"سيظل قلبي ملكا لك‪ ،‬ايها المجنون‪ .‬احبك" ماري هيلين جريمالدي‪ .‬نيس ‪1993‬‬

‫"عمر‪ ،‬االسم!"‬

‫"هو نفس االسم اللي علي الحساب الغامض اياه"‬

‫قلبا الصفحات ليجدا المزيد من الصور‪ ،‬كانت احدي الصور لحمزة يمتطي جوادا و امامه الفتاة‪.‬‬

‫"كليشيه اوي الصورة دي" قال مراد‪" .،‬بس جميلة"‬

‫كانت الصورة التالية لحمزة و هو يحمل طفال رضيعا‪" ،‬شوف بيبصلك ازاي يا ميرو؟"‬

‫"ماكانش بيفارقني‪ ،‬و لما كبرت شوية كان كل يوم يعلمني اغنية و يراجعلي دروس البيانو‪".‬‬

‫"حيرجعلك‪ ،‬الزم نالقي الست اللي اسمها ماري هيلين‪ .‬اكيد مفتاح السر عندها‪".‬‬

‫فتاة حسناء و حصان عجوز و مفاتيح و اسرار‪ .‬كان الشتاء يذكر مراد بأن اوان تصفح الذكريات و التعلم من دروس الماضي هو وقت ان‬
‫تتساقط االوراق و تصفر الرياح الباردة لنحتمي من برد الشتاء‪ ،‬ال لنتواري في ظالم الوحدة و انما لنأتنس بالحب الذي يحيطنا‪ .‬كان عمر هو‬
‫الصديق المخلص بحق‪ ،‬الذي اجبره علي الخروج من الظالم و المجهول الي النور‪.‬‬

‫"تعالي بينا علي المطبخ‪ .‬انا جعت‪".‬‬

‫"ماشي كالمك‪ ،‬بس انا ماليش في الخضار المسلوق و المية بليمون اللي انت عايش عليهم‪".‬‬
‫"اصبر علي رزقك‪ ،‬حاعمللك حاجة عليها القيمة‪".‬‬

‫و اتجها الي المطبخ و سمعا صوت ضحكات تأتي منه‪ ،‬كانا لرجل و امرأة‪ ،‬لكن لم يكن صوت داده حليمة و فرحات‪ ،‬و دخال فإذا به صبحي‬
‫يخرج مسرعا من باب المطبخ‪ ،‬و لبيبة مرتبكة‪.‬‬

‫"ابقي اقفلي باب المطبخ كويس يا لبيبة علشان بيجيب هوا" قال مراد في جفاء‬

‫"و هللا يا مراد بيه كان بس بيكلمني"‬

‫"و انا مش عايزه يعتب القصر‪ .‬و عايزك تخلي بالك اللي زي ده ممكن جدا يضحك عليكي علشان عنده غرض‪ .‬من بكرة ماتقفيش في المطبخ‪.‬‬
‫علي األقل مش لوحدك‪".‬‬

‫"حاضر يا مراد بيه" و بدأت تبكي‪.‬‬

‫"طيب روحي اغسلي وشك علشان حاعلمك تعملي أومليت اسبانيولي‪".‬‬

‫ابتسم عمر في ترقب‪" ،‬يا مزاجه! العب يا ميرو!"‬

‫***‬
‫ظل مراد يتصفح االنترنت باحثا عن ماري هيلين جريمالدي‪ ،‬لكنه لم يجد من تطابق اوصاف الفتاة التي رآها‪ ،‬حتي وجد إحدي الصفحات التي‬
‫تتحدث عن وفيات سنة ‪ ،1994‬توفيت فيه فتاة في عمر ‪ 16‬سنة‪ ،‬و لم يذكر السبب‪.‬‬
‫كان األمر يزداد غموضا‪ ،‬لكنه كان ايضا دليال علي وجود حمزة‪ ،‬فمن غيره الذي سيفتح حسابا باسم حبيبته؟‬

‫قرر مراد الخروج الي الحديقة‪ ،‬و اتجه الي االسطبل ليجد صبحي هناك‪ ،‬يتحدث مع رهوان وما ان التفت فوجد مراد ابتسم "و انا اقول االسطبل‬
‫منور ليه‪ ،‬الباشا بحاله نزل‪ ،‬انشاهلل تكون بخير يا سعادة الباشا"‬

‫"علي فكرة انا مش باحب حد يقوللي باشا‪ ،‬و بالش تكلمني زي ماتكون بتمسحلي العربية في اإلشارة"‬

‫"انا بس بارحب بيك يا مراد بيه" تراجع صبحي في ألم واضح لما لمسه من صد مراد له‪.‬‬

‫"زي ماكنت بترحب بلبيبة من شوية؟"‬

‫"ماهو يا باشا‪...‬اصلي‪"..‬‬

‫"حتقول باشا تاني؟ مالكش دعوة بلبيبة‪ .‬و ما تفتكرش اني مش عارف انت هنا بتعمل ايه و ليه‪".‬‬

‫نظر صبحي له في دهشة و استطرد مراد‪" ،‬لو كان ايهاب مهددك بحاجة فأنت هنا في أمان‪ ،‬و أنا باديك الفرصة دي علشان تغير حياتك‪".‬‬

‫"و انا والمصحف الشريف مقدر يا باشا‪ ،‬و لو انك قاسي شوية عليا‪ .‬انت عارف يا باشا‪ ،‬رهوان بقي ياخد السكر من ايدي‪ ،‬حتي شوف"‬

‫و مد يده بقالب سكر لرهوان‪ ،‬لكن الجواد اعرض عنه و صهل في ما يشبه الضجر لدي البشر‪.‬‬

‫اعرض عنه صبحي في خيبة امل‪" ،‬وهللا يا باشا كان بياخد مني السكر‪".‬‬

‫"من غير حلفان‪ ،‬الثقة مش انه ياخد منك السكر‪ .‬لسة قدامك وقت تثبت حسن نيتك"‬

‫"اثبتها‪...‬قوللي اعمل ايه!"‬

‫"انا حافضل جوة مدة اسبوع‪ ،‬مش عايز اعرف عنك ال خير وال شر‪ ،‬و األيام حتوريني اذا كنت فعال محل ثقة او أل‪".‬‬

‫"علي فكرة يا مراد بيه‪ ،‬كلمت امي النهاردة و عمالة تدعيلك"‬


‫"متشكر‪ ،‬و هي الحاجة والدتك بتشتغل؟"‬

‫"يعني بتقلب رزقها‪ ،‬زمان كانت بتربي فراخ بلدي و تبيعها‪ ،‬و دلوقتي بتقعد بفرشة بخضرة وكده"‬

‫"و اخوك قلتلي بيشتغل في ورشة"‬

‫"اه حمادة اخويا ده جن مصور في المكن ‪ .‬بس طالع في دماغه‪ .‬يسافر برة"‬

‫"عايز يروح فين؟"‬

‫"بيحوش عشان يسافر اوروبا‪ ،‬بس انا كلمته‪ .‬خايف ليموت غريق زي اللي ماتوا"‬

‫سكت مراد في ألم لما اثاره ذلك الموضوع‪" ،‬كويس انك كلمته‪ .‬عموما لو اكتسبت ثقتي يا صبحي‪ ،‬ممكن‪ .‬والدتك واخوك ييجوا يقعدوا هنا‪".‬‬

‫"بجد يا باشا! ده امي حتفرح قوي‪".‬‬

‫"مش لما تديني سبب اثق فيك األول؟"‪.‬‬

‫"طب قوللي اعمل ايه يا باشا"‬

‫"ممكن تبدأ بإنك تبطل تتدحلب علشان تدخل القصر من باب المطبخ و تبعد عن لبيبة!"‬

‫***‬
‫مر يومان‪ ،‬و في الليل‪ ،‬لم يكن صبحي قادرا علي النوم‪ ،‬فقام متجها نحو االسطبل‪ ،‬و رأي مدخل القصر مضاء و سيارة تستعد للرحيل‪ .‬كان‬
‫فرحات هو من يقود السيارة‪ ،‬و مراد في المقعد الخلفي و معه داده حليمة‪ ،‬ترتدي معطفا انيقا و تحمل حقيبة سفر‪ .‬كان يبدو وكأنه في طريقه‬
‫الي رحلة طويلة‪ ،‬و لكن لم تلك السرية؟ او اين كانت وجهته؟‬

‫اذا سمع احدهم بمن يصاب باالكتئاب من صورة السحب الرمادية‪ ،‬فيرحل الي حيث يسقط الجليد‪ ،‬لظنه ضرب من الجنون‪ .‬كان ذلك‬
‫ما فعله مراد‪ ،‬و اعد له في صبر طيلة ثالثة اسابيع‪ ،‬بما في ذلك الحصول علي تأشيرة السفر لداده حليمة كي ترافقه‪ .‬و في رحلة طويلة‬
‫من مطار مرسي مطروح الدولي حتي مدينة برجامو بايطاليا ثم استقل القطار عبر الحدود السويسرية‪ .‬كان منظر الجليد و هو يعكس‬
‫اشعة الشمس في مشتي سان موريتز الشهير باعثا علي األمل عندما جلس يتأمله عبر نافذة امتدت بعرض الحائط‪ .‬كان يجلس علي نفس‬
‫الطاولة التي كان يتناول عليها طعام االفطار مع والدته‪ .‬تذكر حنوها و هي تقدم له مشروب الشوكوالتة الساخنة‪ ،‬و كيف كان قلبه‬
‫البريء يختصر محبته لها في كلمات "انتي حلوة قوي يا ماما" ‪ .‬كانت سيدة جميلة المالمح‪ .،‬و لم يدر بذهن مراد ان هناك امرأة تفوقها‬
‫جماال‪ ،‬حتي رأي ماري هيلين‪ .‬كم كانت مؤلمة تلك الوحدة التي حرمته من دفء األسرة‪ .‬لقد اثارت صورة والدته في بهو الفندق‬
‫شجونه‪ ،‬فقد اوصي بتعليق الصورة تخليدا لذكراها‪ ،‬و كذلك صورة رفعت حليم الهامي‪ ،‬والده‪.‬‬
‫لم يكن يشعر بأبوة رفعت حليم له‪ .‬كان الرجل متباعدا و لم يكن يقضي معه من الوقت اال القليل الذي يقدم له فيه هدية باهظة الثمن‪،‬‬
‫بايعاز من والدته وال شك‪ .‬لكنه ورث عنه ذلك الفندق الفاخر‪ ،‬الذي كان يؤمن له دخال يضمن له الحياة الكريمة‪ .‬مر عليه ثالثة ايام دون‬
‫ان يبرح غرفته‪ ،‬و كان ذلك أول يوم له في صالة الطعام‪ .،‬حيث كان النزالء يتناولون طعام االفطار‪ .‬كانوا من شتي األقطار‪ ،‬كما جلس‬
‫يالحظهم في غير اهتمام‪ .‬كان الكثير منهم وافدين من دول الخليج العربي بحثا عن الفخامة‪.‬‬
‫كان معتنيا بمظهره علي غير عادته‪ .،‬فكان يرتدي بدلة سوداء ووشاح حريري بلون العاج حول رقبته‪ .‬جلس وحده يحتسي قدحا من‬
‫الشاي األخضر‪ .‬اقترب منه نادل شاب محييا اياه بإيماءة و ابتسامة‪" .،‬سيد مراد‪ .،‬اتري ذلك السيد الجالس هناك؟ كان يستأذن أن يتحدث‬
‫اليك‪".‬‬

‫التفت مراد ناحية الرجل‪ ،‬فإذا به رجل اشرف علي الستين علي األكثر‪ ،‬و قد ارتدي بدلة فاخرة من احد بيوت األزياء التي تخصصت‬
‫في مالبس رجال األعمال فاحشي الثراء‪ .‬كان ينظر في الناحية األخري و هو ينفث دخان السيجار‪ ،‬مستعرضا االزرار الذهبية ألساور‬
‫قميصه والخاتم الذهبي السميك في اصبع يده‪.‬‬

‫"من هو؟"‬
‫"هذا هو موريس سافوريتي‪ ،‬واحد من اهم نزالء الفندق‪".‬‬

‫كان مراد حريصا علي تجنب امثاله‪ ،‬فقد تعلم في الماضي كيف يسعي هؤالء األثرياء خلف نزواتهم‪ .،‬و حرص كل الحرص أال يقف في‬
‫طريق أي منهم‪.‬‬

‫"قل له أن يتفضل‪".‬‬

‫عاد النادل الي الرجل فقام من مجلسه و اتجه الي طاولة مراد في خطوات ثابتة‪ ،‬و تعلو وجهه ابتسامة الواثق من تحقيق هدفه ‪ .‬و مد يده‬
‫مصافحا‪" ،‬موريس سافوريتي"‬

‫"مراد الهامي‪ ،‬لي الشرف"‬

‫ابتسم و قال بالعربية‪ " ،‬انا عارفك‪ ،‬من ايام ما كنت بتغني في بيانو بار نرفانا في الكوت دازور‪".‬‬

‫""حضرتك بتتكلم عربي ممتاز‪".‬‬

‫"ايوة‪ ،‬اصلي مولود‪ .‬في اسكندرية و لسة ليا أعمال هناك"‬

‫ضحك الرجل و برقت عيناه في ظفر‪" ،‬كان ليك معجبين كتير‪ ،‬كلهم افتقدوك لما رحت على مسارح باريس‪".‬‬

‫"‪ .‬انا درست علشان ابقي مطرب اوبرا‪ ،‬مش علشان اغني في بيانو بار‪ .‬و على العموم مهنة المطرب اصبحت شيء من الماضي‬
‫دلوقتي بسبب ظروفي"‬

‫"خسارة‪ ،‬مع انك لسة ممكن تغني‪ ،‬مش بتفكر ترجع؟"‬

‫"أل‪ ،‬عندي مشاغل ثانية"‬

‫اعتدل في جلسته ورفع السيجار الي األعلي و لم تبرح االبتسامة شفتيه‪ " ،‬مشاغل ايه يا تري؟"‬

‫"بادير مزرعة بيئية في الساحل الشمالي في مصر‪".‬‬

‫"بعد اسكندرية؟"‪.‬‬

‫"غرب مطروح"‬

‫"مكان بعيد‪ ،‬و ماحدش كتير بيملك اراضي هناك‪ ،‬الزم اشتريته من ناس واصلين‪".‬‬

‫"مسيو موريس‪ .،‬انا مالحظ انك تعرف عني معلومات كتير‪ ،‬و انا لسة ماعرفش حضرتك‪ ،‬وال سبب تشريفك ليا‪".‬‬

‫ضحك في عصبية‪" ،‬انت زعلت ليه‪ ،‬ادينا بندردش‪ .‬و علي العموم‪ .‬لو عايز تعرف عني حاجة ممكن تسأل‪".‬‬

‫"أنا منتظر ان حضرتك اللي تسألني السؤال اللي خللي حضرتك تتنازل و تقعد مع مغني سابق و حاليا عاجز‪".‬‬

‫"بلغني ان حضرتك صاحب الفندق ده‪".‬‬

‫"ايوة ورثته عن المرحومة‪ .‬والدتي‪".‬‬

‫"اللي هي ورثته عن رفعت حليم مش كده؟"‬

‫لم يكن مراد مرتاحا لكل هذه األسئلة لكنه أجاب‪" ،‬ايوة"‬

‫"تفكر تبيعه؟"‪.‬‬
‫"أل"‬

‫"عموما ده الكارت بتاعي لو غيرت رأيك‪ .‬أنت في ظروفك صعب انك تباشر منشأة كبيرة زي دي‪ .‬سهل جدا يتنصب عليك و تالقي‬
‫مافيش حيلتك حاجة‪ .‬بيع احسن"‬

‫" احتفظ حضرتك بالكارت‪ .‬انا مش بافكر في البيع‪ ،‬و سويسرا فيها قانون بيحمي ممتلكاتي‪".‬‬

‫كان ينظر الي مراد بقوة كأنما يحاول ان يجد نقاط ضعفه فيهاجمها بال رحمة‪ ،‬لكن لم يكن مراد ليعطيه تلك الفرصة فبنظرته الجليدية و‬
‫ابتسامته الهادئة توقف موريس عن محاولة اضعاف عزيمته‪ .،‬لكنه قهقه في شماتة‪" ، ،‬زي ما تحب"‬

‫"بس اسمحلي‪ ،‬حضرتك قصدك على الفندق‪ ،‬و اال المزرعة؟"‬

‫"ال سالمتك‪ ،‬انا باتكلم علي الفندق‪ .‬بس واضح انك شايل حمل كبير عليك‪ .‬سيب ادارة المشاريع دي لرجال األعمال‪ ،‬و شوفلك بيانو‬
‫تاكل منه عيش"‬

‫"فكرة برضه‪ ،‬حتي البيانو وحشني‪ ،‬و انا ياما كلت منه عيش‪ .‬لكن فيه ناس بتاكل عيش من شغلها هنا‪ ،‬و ناس بتاكل عيش من شغلها‬
‫في المزرعة‪ ،‬مش هسيبهم لمستثمر عديم اإلحساس‪ .‬شرفتنا الشوية دول يا مسيو موريس ‪ .‬نهارك سعيد‪".‬‬

‫خرج مراد بكرسيه المتحرك إلى بهو الفندق‪ ،‬مشيرا ألحد الموظفين بمصاحبته الي جناحه الخاص‪ .‬و ما ان وصل المصعد الي الجناح‪،‬‬
‫"شكرا جان لوك‪ .‬سأستريح قليال‪ ،‬و ارجو ان يتم ابالغي فور وصول مندوب محامي"‬

‫ظلت السحب الرمادية تخيم علي الساحل الشمالي الغربي لمصر‪ ،‬لكن لم يثبط ذلك من عزيمة صبحي علي اكتساب ثقة من هم في‬
‫المزرعة‪ .‬لكن ترى‪ ،‬الي أين كان مراد ذاهب مع داده حليمة‪ .،‬لقد مرت اربعة ايام‪ ،‬و لم يكن باستطاعته سؤال فرحات‪ ،‬لكيال يثير‬
‫الشبهات أكثر فأكثر‪ ،‬فلو علم الفالح العجوز بتجوله في الليل لقضي ذلك علي كل جهد بذله منذ مجيئه‪ .‬لم يدع ذلك غير عمر‪ ،‬ذلك‬
‫الشاب الظريف‪ ،‬الم يقل له ان يأتي ليراه متي شاء؟ لقد كان ذلك انسب وقت‪ ،‬و سار نحو المرسي مسافة تزيد علي الكيلو متر حيث‬
‫وجد عمر يرتدي ما يشبه بدلة الغوص‪.‬‬

‫" سالم عليكو يا باشمهندس"‬

‫"عليكم السالم يا صبحي‪ ،‬انت على فكرة راجل اي كالم‪.".‬‬

‫"ليه بس يا باشمهندس؟"‬

‫"انا مش قايلك تيجى تقعد معانا في الكانتين واال تلعب معانا كورة؟ اال ما حد شاف وشك من ساعة مارجعت‪".‬‬

‫"غصب عني يا باشمهندس‪.".‬‬

‫"ايوة اتحجج‪ ،‬اتحجج‪ .‬يابني احنا كلنا هنا زي بعض و كلنا زي االخوات‪".‬‬

‫"خالص يا باشا من بكرة هبقي اجي"‬

‫"كويس انك قررت تتنازل و تيجي‪ .‬كنت عايزني في حاجة؟"‬

‫"بقالي كام يوم كده مابشوفش مراد بيه‪ ،‬هو مسافر؟"‬

‫ابتسم عمر في سخرية‪" ،‬و من امتي مراد حد بيشوفه‪ .،‬انت عارف انه قليل قوي ما بيخرج‪ ...‬و بتسأل ليه؟"‬

‫"يعني‪ ،‬اصل اخر مرة شفته كان لونه ال مؤاخذة مخطوف و صحته علي قدها‪ .،‬قلت اتطمن‪".‬‬

‫"انا الصراحة ماعرفش‪ .‬هو مسافر و اال أل‪ ،‬لكن اللي اعرفه انك مش بتسأل علشان تطمن علي صحته‪".‬‬

‫"حتي انت يا باشا مخونني؟"‬


‫ربت عمر علي كتف صبحي‪" ،‬شوف يا صبحي‪ ،‬احنا كلنا عارفين ايهاب جابك هنا ليه‪ ،‬لكن مراد ما هموش و حب انه فعال يديك‬
‫فرصة تغير حياتك‪ .‬ايهاب ممكن يجيب غيرك زي ما جابك‪.‬و ما تفتكرش ان شوية القش اللي بتكنسهم كل يوم ده شغل يستاهل المرتب‬
‫اللي بتاخده‪ .‬انت حتشتغل معانا من دلوقت و رايح‪".‬‬

‫"حاضر يا باشا من دلوقتي لو حبيت‪".‬‬

‫"أل انت النهارده براءة‪ ،‬بس قوللي انت بتقضي وقت فراغك في ايه؟"‬

‫"ازاي يعني يا باشا؟"‬

‫"يعني لما تقعد زهقان بتعمل ايه‪".‬‬

‫"اعمل ايه يعني‪ ،‬انتوا ال عندكوا نت‪ ،‬و ال فيه تليفيزيون و ال حاجة"‬

‫"فيه نت بس مش علشان اللي في بالك‪ .‬عندنا مكتبة و عندنا افالم ممكن‪ .‬تتفرج عليها‪ ،‬و عندنا جيم تتمرن فيه لو عايز‪".‬‬

‫"ماشي يا باشا من النهاردة اروح‪".‬‬

‫بس من بكرة حتبتدي شغل‪ ،‬تروح علي طول ألكرم في مزارع الخضار‪ ،‬و بعد اسبوع حسام حيستلمك في قسم الدواجن‪ ...‬حنروقك‬
‫شغل"‬
‫**‬
‫اتجهت داده حليمة الي الصالة التي كان يجلس فيها في الصباح لتجده يجلس علي نفس الطاولة و امامه ملف كبير‪.‬‬
‫و مظروف من الورق البني‪ .‬كانت الساعة الثالثة بعد الظهر و قد اشرفت الشمس علي المغيب‪ .‬لم يكن هناك الكثيرين من مرتادي‬
‫المطعم‪ .‬في ذلك الوقت‪.‬‬
‫"ما تيجي تقعد بره بدل الكتمة دي؟"‬

‫"ال بالش يا داده‪ ،‬البرد بيضايقني‪".‬‬

‫"طب ايه اللي جابنا هنا يابني مدام بيضايقك‪".‬‬

‫"مش الزم اباشر الفندق اللي سابتهولي ماما‪".‬‬

‫"الصراحة حاجة ابهة" قالت حليمة مبتسمة و هي تنظر حولها‪.‬‬

‫" وايه الورق الكتير ده"‬

‫"دي اوراق ماما اللي طلبتها من المحامي‪".‬‬

‫"طيب عينهم بقي علشان مايضيعش منهم حاجة‪".‬‬

‫ضحك مراد‪" ،‬طيب شيليهم انتي لحد ما نمشي" و في تلك اللحظ لمح مراد رجل طويل القامة‪ ،‬لفت انتباهه‪ .‬كان رجال هنديا‪ ،‬يعتمر‬
‫عمامة كما يفعل من يدين بالسيخية‪ .‬كان شاربه و لحيته كثيفين‪ ،‬كال لم يكن هو‪ .‬الحظ الرجل انتباه مراد له فأومأ له محييا‪.‬‬

‫"مين ده يا مراد‪".‬‬

‫"ابدا يا داده‪ ،‬افتكرته شبه حد اعرفه‪.".‬‬

‫"فعال نفس الطول‪ ،‬بس هو فين و حمزة بتاعنا فين‪".‬‬

‫"طيب من فضلك يا داده تطلعي بالحاجات دي علشان مش عاوزها‪ .‬تفضل هنا‪".‬‬

‫و بالفعل قامت من مقعدها و حملت الملف و المظروف واتجهت نحو باب الخروج‪ .‬و في نفس اللحظة رن جرس هاتف مراد‪ .،‬معلنا‬
‫وصول رسالة خطية‪ ،‬تقول‪" ،‬مش كنت تقوللي؟" كانت من عمر‪ ،‬فانشغل مراد بالرد عليه و لم يري المظروف و هو يسقط من داخل‬
‫الملف الذي كانت تحمله حليمة‪ ،‬و ال الرجل الهندي عندما التقطه‪.‬‬

‫و اذ هو منشغل بكتابة الرسائل‪ ،‬اتي مدير الفندق الي طاولته‪" ،‬مسيو الهامي‪ ،‬لقد تلقينا عدة طلبات من النزالء الذين يرجون سماع‬
‫صوتك اذا امكن‪".‬‬

‫"بيير‪ ،‬لقد تركت الغناء منذ فترة‪ ،‬سيسرني تلبية رغبتهم لكني احتاج الي التدريب‪."،‬‬

‫"سنقوم باغالق البيانو بار لتقوم بتدريباتك‪ ،‬سأرتب مع الفرقة الموسيقية‪".‬‬

‫" هل هناك طلب محدد؟"‬

‫"كال‪ ،‬لك حرية االختيار"‬

‫"ستكون اغنية واحدة‪ ،‬لكنها منتقاة بعناية"‬

‫و هكذا خلع مراد الوشاح عن رقبته يصحبه جان لوك الي البيانو بار حيث كان الموسيقيون في انتظاره‪ .‬لقد اثار حديثه مع موريس‬
‫سافوريتتي في نفسه حنق فقرر ان يخوض التجربة‪ .‬لم تكن البداية مشجعة بالنسبة له‪ ،‬فقد اخطأ في بعض النغمات‪ ،‬لكنه اصر علي‬
‫اإلعادة‪ .‬كان اشد ما يؤلمه ما لمسه من الموسيقيين من شفقة‪ ،‬لكن سرعان ما تبدلت الشفقة لإلعجاب عندما أطلق العنان لحنجرته فتحرر‬
‫صوته من قضبان اليأس‪.‬‬

‫و في المساء صعد بيير المدير ليعلن في فخر عن مفاجأة الليلة وسط تصفيق الجمهور ‪ .‬و تسلط الضوء علي مراد‪ ،‬و هو جالس في تؤدة‬
‫علي كرسيه المتحرك بجوار البيانو األبيض‪ .‬كان البيانيست يبتسم له مشجعا‪ .‬راجيا ان يتمكن حقا من تقديم تلك األغنية الوحيدة‪.‬‬

‫امسك مراد بالميكروفون مستقبال الجمهور‪" ،‬سيداتي و سادتي‪ ،‬كنت في الماضي أقول ان العصفور ال يغني لسبب غير ان لديه اغنية‪،‬‬
‫و هذا المساء لدي اغنية ظلت حبيسة في صدري قرابة عامين‪ ،‬و هأنذا اشارككم‪ .‬فيها‪ ،‬و ادعوكم‪ ،‬ان تتذكروا معي من احببتم يوما‪ ،‬و‬
‫تركوا وراهم‪ .‬ذكريات ال يمحوها الزمن"‬

‫و بدأ العزف علي البيانو‪ .‬و بدأ مراد في الغناء باللغة البرتغالية‪ ،‬احدي اغاني المطربة الشهيرة اماليا رودريجز‪ .‬كانت اغنية تفيض‬
‫بالشجن‪ ،‬والعتاب‪ ،‬و تقبل الفراق الذي ال حيلة فيه‪ ،‬و األلم الذي لم تبد له نهاية‪ .‬كان يغنيها بكل احساسه‪ ،‬و بكل صوته‪ .‬لم يكن يفكر‬
‫في استحسان الجمهور‪ .،‬فكان غاية همه ان يغني اغنيته و يهديها لمن هم في السماء او الزالوا علي األرض و لكن دون اثر‪ .‬لم يعد‬
‫للحنين موطن في صدره فكان عليه ان يدعه يخرج الي اسماعهم‪ .‬كان انيقا رغم مالبسه السوداء و بشرته الشاحبة‪ ،‬و مظهر المسن‬
‫الذي قد الفه‪ .‬لعل الجمهور قد الحظ انه يجلس علي كرسي متحرك‪ ،‬لكن ما لبثوا أن شهدوا بنفسهم حضوره الطاغي حتي استمعوا اليه‬
‫مشدوهين‪.‬‬

‫و ما ان انتهي حتي صفق من في القاعة‪ ،‬و فتح عينيه ليراهم‪ ،‬فإذا به يري دادة حليمة تصفق بحرارة‪ ،‬و موريس سافوريتتي في احد‬
‫المقاعد األمامية يصفق ببطء و علي وجهه ابتسامة صفراء‪ .‬و قد ابصر ذلك الهندي طويل القامة الذي وقف في اخر القاعة و كان هو‬
‫كذلك يصفق في حرارة‪.‬‬

‫و عندما انزله جان لوك عن المسرح و قاده الي طاولته‪" ،‬بسم هللا ماشاء هللا‪ ،‬ايه الصوت ده يا مراد!"‪.‬‬

‫"عجبك يا داده؟"‬

‫"اال عجبني‪ ،‬بس هو انت ياخويا كنت بترطن بأنهي لسان؟"‬

‫"بالبرتغالي يا داده‪ .‬الغنا ده اسمه فادو‪ .،‬يعني زي القسمة و النصيب في مصر‪".‬‬

‫"اه و األغنية اسمها ايه"‬

‫" ‪ ،Fado da saudade‬يعني لما يكون الواحد في قلبه حنين لحد مش موجود‪ .،‬او مش حيرجع‪ .‬الكلمة دي بتوصف شعور بالحزن و‬
‫الحنين و الشجن‪ ،‬لكن له حالوة غريبة‪ ،‬ألنه بيقرب البعيد"‬
‫"ياخويا مش فاهمة‪ .‬حاجة‪ ،‬و بتوع البرتغال كان ايه مزاجهم في الغنا الحزايني ده؟"‬

‫"كانوا بيغنوه للي ركب البحر و مارجعش"‬

‫التفتت حليمة الي جهة اليمين‪" ،‬كلم يا مراد‪ .،‬مش ده الجدع الهندي بتاع الصبح؟"‬

‫كان واقفا علي مقربة من الطاولة و بدت علي عينيه ابتسامة‪ .،‬فقد غطي شاربه شفتيه‪ .‬ا لتفت له مراد محييا اياه بابتسامة واسعة‪.‬‬

‫"لقد كان ذلك اروع ما سمعت منذ سنوات‪ ،‬تحياتي" كان يتحدث االنجليزية باتقان و دون لكنة‪.‬‬

‫"اشكرك‪ ،‬و اعتذر عن تحديقي اليك هذا الصباح‪ .‬لقد ظننتك شخص اعرفه‪.".‬‬

‫"و من يكون ذلك الشخص‪ ،‬اذا سمحت لي في السؤال"‬

‫"شخص ما‪".‬‬

‫مد يده مصافحا‪" ،‬لم اقدم نفسي‪ ،‬بيكرام"‬

‫"مراد‪ ،‬سررت بلقاءك‪ ،‬هل انت نزيل هنا؟"‬

‫"نعم‪ ،‬ولكني مضطر الي العودة غدا إلي لندن التمام بعض االعمال‪ .،‬لكني سأعود لقضاء رأس السنة هنا‪".‬‬

‫"يسعدني ان اعرف انك تستمتع بوقتك هنا‪".‬‬

‫كانت اسئلة ذلك الهندي شبيهة بأسئلة موريس‪ .،‬لكن لم يبد متطفال مثله‪ .‬لعل الشفقة كانت دافعه في ما قال‪ .‬انصرف الرجل‪ ،‬و قد تأكد‬
‫مراد أنه ابعد ما يكون عمن كان يظن‪ .‬لكن ما حدث تلك الليلة كان له مدلول اكبر من تهديد موريس سافوريتتي‪ ،‬لقد اثبت‪ ،‬دون ان‬
‫يمعن في تفكير مسبق‪ ،‬ان لعل موريس كان محقا انه ال يملك حقا غير صوته و البيانو‪ .‬اصطحبته داده حليمة الي جناحه الخاص‬
‫بالفندق و قد بدا عليها االرهاق‪.‬‬

‫"مالك يا داده؟"‬

‫"ابدا يابني‪ ،‬انا بس متعودة انام بدري زي مانت عارف"‬

‫"احنا خالص حنمشي من هنا‪ ،‬و رايحين علي نيس و بعد كدة حنرجع مصر‪".‬‬

‫"و ايه الزمة الشحططة دي‪ ،‬مش خالص جابولك الورق بتاع اقبال هانم؟"‪.‬‬

‫"مش حارتاح يا داده غير لما اعرف مين هي‪".‬‬

‫"هي مين؟"‬

‫"ماري هيلين‪"،‬‬

‫شهقت حليمة في دهشة اثارت انتباهه‪".‬فيه‪ .‬ايه يا داده‪ ،‬هو انت تعرفيها؟"‬

‫"أل بس ايه اللي يخليك تعمل كل ده علشان واحدة بحالتك دي؟"‪.‬‬

‫"هي دي اللي عندها مفتاح السر‪ ،‬الزم اقابل اهلها‪ ،‬اكيد ليها حد عايش‪".‬‬

‫لم تكن لتمر دهشة حليمة اثر سماعها االسم مرور الكرام‪ ،‬لو لم يكن مراد منهكا‪ .‬علي الرغم من نجاحه‪ ،‬كادت اخطاؤه المتكررة ان‬
‫تثبط من عزيمته‪ .‬علي كل حال لم يكن هدفه العودة لخشبة المسرح علي كرسي متحرك‪.‬‬
‫كان خوفه من الفشل يتجه نحو ما قاله موريس ذلك الصباح‪ .‬كان حري به ان يعود لمصر و ان يتخذ قرارا حاسما بشأن المزرعة‪.‬‬
‫كادت كلمات موريس ان تنال من عزمه علي االبقاء علي المزرعة‪ .،‬و ما أُنشئت ألجله‪ .‬فما الذي يمنع أي ممن وثق بهم في إدارة‬
‫أعماله أن يطمع في المزيد فيطيح به الي غياهب الفقر و العوز؟ لقد وجد نفسه يوما في ذلك الموقف‪ ،‬و لم تنقذه غير ضربة حظ‪ .‬و‬
‫حتي عند ذلك تذكر انه كان فريسة في وكر كان المال فيه هو اآلمر الناهي‪ ،‬و رغم استطاعته الحفاظ علي نفسه من دور الضحية‪ ،‬كان‬
‫ذلك الكابوس يالحقه اينما ذهب‪ .‬كان مظهره الجذاب ببراءته الساذجة نقمة استطاع بذكائه ان يحوله الي مزية دون ان يتنازل عن‬
‫مبادئه‪ .‬تذكر طفولته مرة اخري‪ ،‬عندما كان يشكو لوالدته انه ليس مثل اخاه األكبر‪ ،‬و استطاعت وقتئذ اقناعه بقيمة ما يملكه و علمته‬
‫بصبر كيف يمكن ان يستغل قدراته دون ان يستغله احد‪ .‬لكن اآلن و قد صار قعيدا‪ ،‬اي قوة كانت لديه؟ كان يلوم نفسه علي عزمه‪.‬‬
‫الذهاب الي نيس لتقصي آثار ماري هيلين‪ ،‬خاصة بعد الفاتورة الباهظة التي دفعها للمخبر الذي اتاه بعنوان اسرتها‪ .‬كما توقع‪ ،‬كانت‬
‫تنتمي بصلة قرابة ألسرة عريقة في جنوب فرنسا‪ .‬لم يكن يعرف يقينا ما اذا كان ذلك ليفيده في انقاذ المزرعة‪ .،‬كان الغموض‪ .‬يستميله و‬
‫تبعه دون تردد‪.‬‬

‫***‬
‫"انت ايه الزمة امك انا عايز افهم" كان ايهاب ثائرا في الناحية األخري من الهاتف‪.‬‬

‫"ليه بس يا باشا؟"‬

‫"دي تاني مرة يسافر و انت ماتبلغنيش"‬

‫"مانا عمال احاول اعرف منهم محدش راضي يقول‪ .‬كنت فاكره حابس نفسه في البيت زي ما كان عامل من ساعة ما رجع‪".‬‬

‫"متلقح في سويسرا‪ ،‬و بعدين واحد مشلول حيفضل رايح جاي كده ازاي؟"‬

‫"ماعرفش و هللا يا باشا انه في سويسرا‪ ،‬حضرتك عرفت منين؟"‬

‫"انا اللي باسألك يا حيوان!" نهره ايهاب‪" ،‬الزم تعرفلي لو كان بجد مشلول واال بيمثل‪".‬‬

‫"طيب يا باشا هو حيمثل ليه؟"‬

‫"انا قلتلك انه حويط و لو كان بيمثل يبقي علشان يكسب وقت‪ ،‬فهمت؟"‪.‬‬

‫"ايوة يا باشا‪".‬‬

‫"عايزك تدخل الفيال مادام ال هو و ال الست العجوزة هناك‪ ،‬اي معلومة حتعرف تجيبها لها قيمة‪ ،‬و لو ماعرفتش يبقي كفاية عليك كده و‬
‫اشوف غيرك‪.‬بس ساعتها استحمل اللي حيجرالك مني"‬

‫"ال حاضر يا باشا‪".‬‬

‫و في الصباح التالي‪ ،‬اتجه صبحي الي الباب الخلفي المؤدي‪ .‬للمطبخ الستمالة لبيبة ان تمهد له طريق الدخول دون أن يثير شكوكها‪.،‬‬
‫لكنه لم يجد احدا في المطبخ‪ ،‬و لكن كان الباب مفتوحا فدخل بهدوء‪ .‬تسلل عبر الردهة المؤدية للصالون و سار بمحاذاة الحائط الذي‬
‫توسطته صورة حمزة ووقف بين الحائط و البيانو ناظرا الي حمزة‪" ،‬مسيري حوصلك" و قد مأل الحقد عينيه‪ .‬تابع تسلله علي السلم‬
‫الخشبي‪ ،‬حيث كانت غرف النوم في الدور العلوي‪.‬‬
‫سمع صوت ما‪ ،‬فإذا بها لبيبة تنظف احدي غرف النوم‪ .‬اختبأ في الحمام المجاور للغرفة دون أن تراه و التقط صابونة من علي الحوض‬
‫ووضعها في جيبه‪ .‬ظل منتظرا خلف الباب حتي تأكد من انها نزلت الي الطابق األسفل‪ ،‬ووجد المفتاح‪ ،‬فاسرع بنزعه و استخدم‬
‫الصابونة ليتمكن من صنع واحد مماثل‪ .‬كان الفضول يقتله ليسترق النظر الي الغرفة ‪ .‬قام بفتح الباب و هم بالدخول و إذا بخطوات‬
‫تقترب من السلم الخشبية فأسرع باالختباء في الحمام بعد أن اعاد المفتاح الي مكانه‪.‬‬

‫"الصبر جميل يا والد الهرمة‪ .،‬الليلة دي حاجيب قرارك يا حمزة"‪.‬‬


‫****‬
‫ظل مراد يقلب في محتويات الملف الذي حصل عليه في اليوم السابق دون جدوي‪ ،‬و كذلك ظلت حليمة تبحث‪ ،‬مرسلة نظرات قلقة في‬
‫أرجاء الجناح‪ ،‬راجية أن تجد المظروف الذي فقد‪ .‬زفر مراد في استسالم‪" ،‬خالص يا داده‪ ،‬نصيبنا كده‪".‬‬

‫"ان شاء هللا حنالقيه‪ ...‬هو كان فيه ايه الظرف ده‪".‬‬

‫"مالحقتش أشوفه‪ ،‬الورق اللي هنا يخص ماما‪ ،‬يعني غالبا الظرف فيه اوراق حمزة‪".‬‬
‫"يا رب!" قالت حليمة و يكاد قلبها ينفطر لفقدان المظروف الثمين‪.‬‬

‫"يالال بينا يا داده‪ ،‬العربية زمانها وصلت‪".‬‬

‫طرق جان لوك باب الجناح و دخل بصحبته احد الشيالين الذي أخذ الحقائب الي االستقبال‪ .‬و قام جان لوك باصطحاب مراد الي‬
‫المصعد‪ .،‬تتبعه حليمة‪ .‬كان بيير في انتظار مراد‪ ،‬ليحييه قبل رحيله‪،‬‬

‫"سعداء برؤيتك يا سيد مراد"‬

‫"أشكرك‪ ،‬سيستمر الترتيب بحيث يأتي احد الي المزرعة‪ .‬في مصر مرة من كل شهر لمتابعة اعمال الفندق‪".‬‬

‫"و هو كذلك‪ ،‬سيد مراد‪ ،‬لقد ترك لك احد النزالء هذا المظروف‪ .،‬قال انه يخصك" و سلمه المظروف المفقود‬

‫تهللت اسارير مراد لرؤية المظروف‪ ".‬الحمد هلل يا داده‪ ،‬شفتي ربنا كريم ازاي؟"‬

‫"الحمد هلل يابني‪ ،‬بس كان فين"‬

‫كانت هناك ملحوظة مكتوبة بقلم ماركر اسود خلف المظروف‪" .،‬لقد سقط هذا المظروف من السيدة التي ترافقك‪ .‬اتمني لك رحلة موفقة‪.‬‬
‫بيكرام"‬
‫ملحوظة‪ :‬مضاد الثقة هو الوحدة‪ ،‬و ليس في الوحدة متسع لموهبة عظيمة كالتي تملكها‪.‬‬

‫تري لماذا احتفظ الهندي بالمظروف حتي الصباح‪ ،‬ولِما لم يعيده قبل ذلك؟ مضاد الثقة هو الوحدة‪ .‬كانت تلك المقولة منطوية في فصل‬
‫من كتاب كان يقرأه في اليوم السابق‪ ،‬كيف عرف ان تلك المقولة تحديدا قد استوقفته‪ .‬كان مراد يظن طوال عمر ان مضاد الثقة هو‬
‫التوجس والريبة‪ ،‬لكن تلك المقولة البسيطة قد اماطت اللثام عن سبب الوحدة التي فرضها علي نفسه‪ ،‬و استغلها ضده خصومه ‪ .‬لقد فهم‬
‫ايهاب‪ ،‬و من ورائه أن بذور الشك ستنبت اشواكا تعزله عمن بإمكانهم مساعدته‪ ،‬و تجرده من أقوي سالح يملكه‪ .،‬ثقته في قدرته‪ .‬كانت‬
‫صورة أمه تطل عليه من قاعة االستقبال بالفندق‪ ،‬تذكره بقدراته‪ .‬كانت هي من علمه كيف يعتلي خشبة المسرح و كيف يقف فيتبوأ‬
‫موقعا بين نجوم السماء عندما يغني؛ و كيف يختفي كحبة رمل في وسط الصحراء فيصير فردا عاديا كي ال يلفت األنظار‪.‬‬
‫علمته كذلك اال يجب أن يعرف مخلوق مالذي يفكر به فال يستطيع احد ان يتالعب به او يستغل عواطفه‪ .‬كانت اقبال قادرة علي أن‬
‫تقرأ األشخاص فتعرف أحالمهم و شجونهم و تخاطب تلك األحالم و الشجون بصوتها الهادئ و نظرتها الحانية‪ ،‬و تعرف مخاوفهم‪.‬‬
‫فتأمن شرهم‪ .‬لم يهدأ بالها حتي تأكدت أن مراد قد وعي تلك الدروس‪ .،‬لكنها لم تعده لحياة يفقد فيها قدرته علي االعتماد علي نفسه‪.‬‬

‫"هللا يرحمها‪ ،‬كانت ست الكل صحيح" قالت داده حليمة‪ ،‬مخرجة اياه من ذكرياته‪.‬‬

‫ظل مراد صامتا طوال الطريق من الفندق الي المطار‪ ،‬لم يتبادل فيها اال الكلمات الضرورية مع حليمة و جان لوك عامل الفندق الذي‬
‫كان يقوم علي خدمته‪ .‬ودت حليمة لو تعرف سبب صمته الذي فتنت عليه أمارات القلق و الترقب‪ .‬تمنت لو لم يكن مراد عازما علي‬
‫لقاءه بأهل ماري هيلين‪ ،‬خشية ما قد يحدث له إذا عرف‪ .‬أما هو‪ ،‬فظل متقوقعا في صمته حتي وصلت السيارة الي منزله في نيس‪،‬‬
‫حيث اعتزل في غرفته و طلب أال يزعجه أحد‪.‬‬

‫في صباح اليوم التالي‪ ،‬بعد ان استعد للخروج و قد اعتني بمظهره تلك المرة كذلك‪ ،‬مستعينا بمرافقيه‪ ،‬طلب من جان لوك فقط ان‬
‫يصحبه الي العنوان الذي اعطاه اياه المخبر‪ .‬كانت وجهته تبعد قرابة الساعة عن نيس‪ .‬لم يكن ذلك بلقائه األول بتلك األسرة‪ ،‬فقد أحيا‬
‫حفال خيريا منذ سنوات برعاية البارونيس بياتريس همبولدت‪ ،‬و لذلك لم تمانع في لقائه في تلك المدة القصيرة‪ .‬كان القصر كما يتذكره‬
‫يقف في شموخ العراقة وسط حديقة فسيحة‪ .‬كان أكثر ما يشغله هو سبب محو كل أثر لماري هيلين‪ ،‬باستثناء خبر وفاتها‪ ،‬فلم يسمع بها‬
‫ولو مرة واحدة في تلك األوساط التي لم يكن غريبا عنها‪ .‬ودخل من الباب األمامي حيث استقبله رجل شديد األناقة‪ ،‬عرف مراد أنه‬
‫مدير القصر‪.‬‬

‫"مرحبا بك سيد مراد‪ .،‬ستوافيك البارونس خالل دقائق"‬

‫انتظر مراد في الصالون و قد اشار لجان لوك بانتظاره بالخارج لحين انتهاءه من اللقاء‪ .‬و كان هناك وصيف و قد خال وجهه من اي‬
‫تعبير بجوار الباب‪ ،‬حيث كان في انتظار قدوم‪ .‬سيدة القصر‪ .‬مرت الدقائق ثقيلة‪ ،‬حتي فتح الباب أخيرا و أطلت منه البارونس‪ .‬كانت‬
‫كما تذكرها مراد‪ ،‬بشعرها الفضي و قامتها الممشوقة و قد جاوزت السبعين محتفظة بأناقتها و اطاللتها الجذابة‪.‬ابتسمت له مرحبة و‬
‫جلست علي المقعد الذي كان يواجه كرسيه المتحرك‪ ،‬و اسرعت الفتاة بوضع منضدة صغيرة بينهما‪.‬‬

‫"مرحبا بك يا سيد مراد‪ ،‬يؤسفني ان اعرف سبب اعتزالك لكني سعيدة بلقائك‪ .‬مالذي جعلك تشرفني بالزيارة؟"‬
‫"اشكرك يا سيدتي‪ ".‬و اخرج مظروفا من الحقيبة الجلدية التي كان يحملها‪ ،‬و منه اخرج بعض الصور‪ .،‬و قدمها‪ .‬للسيدة قائال "زيارتي‬
‫هذه تخص الشخصين اللذين يظهران في هذه الصور"‬

‫ابتسمت في استغراب و هي تتناول الصور من يده‪ ،‬و تغيرت مالمحها الي عبوس فور أن رأتها‪.‬‬
‫"و مالذي تريده مني بالضبط‪ ،‬سيد مراد؟"‬

‫"الشاب الذي يظهر في الصورة هو اخي الغير شقيق‪".‬‬

‫"اخاك؟"‬

‫"نعم يا سيدتي‪ ،‬من األم"‬

‫"لقد كانت تربطني صداقة بوالدتك‪ ،‬لكنها انتهت بسبب تصرفات ولدها‪ .‬و لذلك فال اجد في نفسي رغبة للحديث عن أي شيء يخصه‪".‬‬

‫"سيدتي‪ ،‬لقد اختفي أخي دون أثر منذ عامين‪ .،‬اال من رصيد للعملة اإللكترونية باسم ماري هيلين جريمالدي‪ .‬لقد جئت دون أمل ان اجد‬
‫لديكم معلومات عن مكانه‪ ،‬لكني ارى ان في الماضي ما يستدعي التوضيح‪ .‬ما هي األفعال التي اشرت اليها‪".‬‬

‫زفرت السيدة في ضيق‪" ،‬ال اظنك قد ولدت بعد عندما دمر اخاك مستقبل ابنتي‪ ،‬و تسبب في ان تهجرنا ‪ ،‬و في موتها اثناء الوضع و‬
‫هي ابنة ستة عشر عام فقط‪".‬‬

‫كان لكلماتها وقع كحجارة ثقيلة تتساقط علي رأسه و لم يكد يصدق انها تتحدث عن اخاه األكبر‪ .‬لقد افقدته الصدمة السيطرة علي‬
‫مشاعره‪ ،‬فالحظت السيدة علي الفور‪ ،‬و أمرت له بكوب من الماء‬
‫"أنا آسف يا سيدتي‪ ،‬فلم أكن اعرف‪".‬‬

‫"لم أتوقع أن تقص عليك اقبال هذه األحداث‪ ،‬التي تمت قبل أن تولد أنت‪".‬‬

‫"و ماذا كان مصير الطفل؟"‬

‫"ال أعرف مصيره"‬

‫"سيدتي‪ ،‬لقد ولدت في نفس العام الذي ولد فيه‪ ،‬اذا كان لي قريب علي قيد الحياة فأنا اآلن في أشد الحاجة اليه‪".‬‬

‫نظرت اليه السيدة بإمعان كما لو كانت تتفحص مالمحه مما أشعره بالتوتر‪ .‬عاد الوصيف بكوب من الكريستال علي صينية من الفضة‪،‬‬
‫و كان عليها مفرش صغير حمل وسم اسرة جريمالدي‪ .‬اين رأي ذلك الوسم من قبل؟‬
‫اخذ رشفة من الماء ووضعه علي المنضدة‪.‬‬

‫"سيدتي‪ ،‬أنا اعرف حمزة و اعرف انه انسان مسؤول‪ ،‬ربما تسبق تلك األحداث والدتي‪ ،‬لكن واثق انه كان يربطه بابنتك حب كبير‪"..‬‬

‫"لن استمع للمزيد من هذا الكالم‪" .‬‬

‫"أرجوك يا سيدتي ان كانت لديك معلومات أخري‪"...‬لم يكمل عبارته فقد واصلت السيدة النظر اليه بنفس اإلمعان‪ .،‬مما أثار دهشته‪ ،‬فمن‬
‫سلوكها بدت و كأنها تستعد لطرده‪،‬لكنها كانت تنظر اليه علي نحو لم يتوقعه‪ .،‬فقد كانت الدموع تبلل اطراف جفونها‬

‫"ماذا هنالك يا سيدتي؟"‬

‫قبل أن تجيب دخل رجل أصلع في السبعين من عمره‪ ،‬كان عريض الكتفين‪ ،‬و علي وجهه تعبير متجهم‪ .‬كان يرتدي بدلة أنيقة فهم مراد‬
‫علي الفور انه زوجها‪.‬‬
‫"اعتذر و لكن حالة زوجتي ال تسمح باالستمرار في الحديث معك و عليك أن تنصرف علي الفور‪".‬‬
‫نظرت السيدة لمراد و هو يرحل كأنما تريد ان تمسك به لكيال يبرح المكان‪.‬‬
‫كان في رأسه ألف سؤال‪ ،‬ماذا لو كان ذلك الطفل‪ ،‬ابن اخيه‪ ،‬علي قيد الحياة‪ .‬كيف لم يحدثه احد بذلك؟ كان عليه أن يبحث في اوراق‬
‫والدته عن اجابة ألسئلته فقد كان يخامره شك في كل ما قيل له و كل من كان حوله‪ .‬بدت الثقة كأمل رواغ‪ ،‬و قد تالحقت امواج من‬
‫األسرار و األكاذيب فأغرقته في موقف ال يحسد عليه‪ .‬في تلك اللحظة تضاءل كل ما كان له اهمية حتي وقت قريب‪ ،‬المزرعة‪ .،‬و مافيا‬
‫الهجرة‪ ،‬و كرسيه المتحرك‪ ،‬و الفندق‪ .‬كاد التفكير أن يفجر رأسه و تمني لو تعاطي ما يعينه علي النوم و النسيان‪.‬‬

‫**‬
‫عكف مراد علي قراءة تقرير المخبر الذي لم يكن قد وصل قبل زيارته ألسرة الفتاة‪ .‬لم تكن هناك الكثير من المعلومات الهامة‪ .‬سوي‬
‫تفاصيل الوفاة‪ .‬لقد توفيت الفتاة اثر نزيف اودي بحياتها بعد ان وضعت مولودها‪ ،‬بعد اقل من سبعة اشهر من الحمل‪ .‬لم تكن هناك‬
‫شهادة وفاة للطفل‪ ،‬و كان من المستحيل االستدالل عليه فلم تكن هناك شهادة ميالد‪.‬‬
‫نظر طويال الي المظروف الذي يحتوي علي اوراق حمزة قبل أن يفتحه‪ .‬تري‪ ،‬أي مفاجأة غير سارة كان ليخبئها له ذلك المظروف؟‬
‫فتحه و اخرج ما فيه من اوراق‪ ،‬فعثر علي وثيقة زواج مدني باسم والدته و دييجو الفاريز دي كوردوبا‪ .‬هل تزوجت والدته من رجل‬
‫اسباني علي غير ملتها؟ كانت هناك بعض الصور و لم يتعجب عندما رأي ذلك األسباني بقامته الطويلة و عينيه الخضراوين و مالمح‬
‫اخري ورثها عنه حمزة‪ .‬كانت شهادة الميالد الموجودة بتاريخ ميالد حمزة التاسع عشر من اغسطس ‪ ،1975‬لكنها كانت باسم آخر‪.‬‬

‫عاد الي تصفح اوراق والدته‪ ،‬فإذا به يجد ما يفيد بإجراءات تبني طفل بحيث يكون األب المتبني هو رفعت حليم الهامي‪ ،‬و حرمه‬
‫السيدة اقبال عبد المنعم االزميرلي‪ .‬ظل ينظر الي األوراق و هو ال يكاد يصدق ما يراه! هؤالء ليسوا بأهله؟ ربما كانت األوراق تشير‬
‫الي شخص آخر‪ .‬لقد رأي شهادة ميالده و كان واثقا أنه مكتوب باسم رفعت حليم‪ .‬لعلها شهادة تبني لالبن غير الشرعي لحمزة؟‬

‫خرج من المكتب علي كرسيه و وود لو كانت قدميه تحمالنه بعيدا عن تلك االوراق و تلك البلدة‪ .‬وجد حليمة في انتظاره في الصالون و‬
‫قد اعدت له الشاي األخضر‪.‬‬
‫"اخيرا خرجت‪ ،‬انت بقالك جوة ساعتين بتمقق عينيك في الورق‪".‬‬

‫تناول القدح من يدها‪" ،‬دادة‪ ،‬في حاجة عاوزك تجيبيهالي من فوق"‬

‫"ايه يا حبيبي؟"‬

‫"فاكرة البطانية بتاعتي وانا صغير؟ اللي عليها كتابة باألزرق‪ .‬عاوزك تجيبيهالي"‬

‫"من عينيا"‬

‫صعدت حليمة الي الدور العلوي‪ ،‬و اغلق مراد عينيه مرجعا رأسه الي الوراء في ارهاق ملحوظ‪ .‬لم يدر كم من الوقت مر عليها و هي‬
‫تبحث فقد غفا‪ ،‬و ايقظته حليمة عندما عادت بالبطانية و قد اصفر لونها األبيض‪ .‬ما ان امسك بها بدأ يتفحصها ووجد عليها الوسم ذاته‪.‬‬
‫دق جرس الباب في نفس اللحظة‪ ،‬ظل مراد يحدق الي الوسم‪ ،‬و لم يسمع حليمة و هي تقول‪" ،‬اما اشوف مين اللي جايلنا الساعة دي‪".‬‬

‫فتحت حليمة الباب‪ ،‬و سمع مراد بوقع كعبين لحذاء نسائي في الردهة‪" .،‬مين يا دادة؟"‬

‫و شهق مراد لرؤية الضيفة غير المتوقعة‪ ،‬بياتريس همبولدت‪ ،‬ترتدي معطفا من الفراء و تنظر اليه بنفس النظرة التي ودعته بها صباح‬
‫ذلك اليوم‪ .،‬صحبتها ابتسامة باهتة عندما رأت البطانية في يده‪.‬‬

‫"ألن تدعوني ألجلس؟" قالت بياتريس‬

‫"تفضلي يا سيدتي‪ " ،‬قال مراد و لم يتبدد عنه تأثير المفاجأة‬

‫جلست دون أن تخلع معطفها‪ ،‬معطية انطباعا بأنها لن تطيل الحديث‪" ،‬ألم تقل أنك إن كان لك قريب علي قيد الحياة فنت في أشد الحاجة‬
‫إليه؟"‬

‫"بلي"‬

‫"ماذا لو قلت لك أن الشخص الوحيد الذي أنت بحاجة اليه هو أنت نفسك؟"‬

‫"أشكرك يا سيدتي‪ ،‬و لكني قصدت‪"...‬‬

‫"أعرف تماما ما قصدته‪ .‬لقد ظننت أن الطفل قد توفي مع أمه‪ ،‬و كان قرار زوجي بمحو كل ما يتعلق بماري هيلين نهائيا و ال نقاش‬
‫فيه‪ ،‬و ظننت أن الجرح قد اندمل‪ ،‬حتي رأيت وجها ذكرني بتعبيرات وجهها عندما كانت ترجوني أللبي طلباتها‪".‬‬
‫لم يجب مراد‪ ،‬بل ظل منصتا دون أن يجرؤ حتي علي التفكير فيما قد تعنيه البارونيس‪.‬‬

‫"كان هذا الوجه هو وجهك أنت‪...‬كان بالنسبة لي دليل كاف لم أحتج معه الي اوراق ألعرف أني أتحدث مع حفيدي‪".‬‬

‫حاول اإلسراع باإلجابة لكن لم يجد ما يقوله‪ .‬كانت الكلمات تخنقه لما لها من مدلول سيغير مجري حياته‪" .‬أتعنين يا سيدتي أنني‪...‬أن‬
‫حمزة‪"...‬‬

‫"نعم‪ ،‬و ها أنت ذا تحمل دليال آخر بين يديك‪ .‬لقد هربت ابنتي بعد أن أصرت أن تحتفظ بالجنين‪...‬فقد كان عليها أن تتخلص منه‪ .‬لكنها‬
‫رحلت مع حمزة‪ ،‬وقد اخذت هذه البطانية مع حاجياتها استعدادا الستقبال الطفل‪".‬‬

‫مادت به األرض و تمني لو فقد الوعي ليهرب من ذلك الموقف‪ .‬لكنه ظل يحدق إلي السيدة و هو غير قادر علي التصديق‪...‬‬

‫"أنا مقدرة لما تمر به اآلن‪ ،‬أنت بحاجة للوقت لكي تتلقي خبرا بهذه الضخامة"‬

‫"كل ما كنت ارغب في معرفته‪ ،‬هو سبب استخدام حمزة إلسم ابنتكم لحسابه السري"‬

‫"ان كان هذا هو األثر الوحيد الذي تركه‪ ،‬فلعله كان يرغب أن تعرف ما عرفت صباح اليوم‪".‬‬

‫"و مالذي سيتغير سوي أني فقدت ثقتي في كل شيء‪".‬‬

‫"دع الوقت يمر‪ ".‬سكتت لبرهة ثم استطردت‪" ،‬لن استطيع أن أعدك اآلن بكلمات األم المحزونة‪ ،‬فيتراجع عنها عقل البارونيس فيما‬
‫بعد‪ "،‬اذا احتجت ألي شيء يمكنك أن تتصل بي‪".‬‬

‫"لست في حاجة الي المال يا سيدتي‪ ،‬كل ما كنت بحاجة إليه هو معرفة طريق أخي‪ .‬لكني ال أعرف اآلن عمن أبحث و لماذا استمر في‬
‫البحث"‬

‫"إذن توقف عن البحث‪ ،‬و ليكن تفكيرك في تأمين مستقبلك‪ .‬ألديك مصدر دخل؟"‬

‫"أدير مزرعة حمزة في مصر‪ ،‬و لدي فندق في سان موريتز‪".‬‬

‫"پاليه دي ال نيج؟"‬

‫"نعم‪ ،‬هو"‬

‫نظرت اليه في شفقة "أنت تعرف أن ما أنت بصدده ليس باألمر الهين‪ .‬إن نجاحك اآلن يعتمد علي قدرتك علي تخطي الصعاب‪ ،‬و أولها‬
‫أن تتمكن من السير علي قدميك‪".‬‬

‫"هو فعال ليس باألمر الهين‪ ،‬فال أمل في شفائي"‬

‫"يمكنني ان ادعمك في رحلتك للعالج‪ .‬و ثق أن هناك أمل"‬

‫"لقد اخجلتيني بكرمك يا سيدتي‪".‬‬

‫"أقل ما أقدمه البن ابنتي" و ربتت علي وجنته‪.‬‬


‫***‬

‫تخللت اشعة شمس الشتاء النافذة الصغيرة حيث جلس مراد يتأمل طلوع النهار‪ .‬لم يبرح كرسيه‪ ،‬و لم يعبأ بآالم رقبته‪ .‬أقبلت عليه داده حليمة‬
‫فالتفت لها دون أن يبتسم‪.‬‬

‫"هو انت من ساعتها قاعد هنا يا مراد؟"‪.‬‬


‫"أنا زعالن منك يا داده" قالها ببرود شديد‪ ،‬دونما انفعال‪ ،‬و لكن كان لبروده اعمق األثر في نفس المرأة العجوز‪.‬‬

‫"ليه بس يابني؟"‬

‫"ليه ما قلتيليش‪...‬ليه سبتيني علي عمايا؟"‬

‫"يابني‪ ،‬أنا مهما كنت اسمي خدامتكم‪ ،‬و احنا شغلتنا اننا نشوف طلباتكم و ما نشوفش و ال نسمعش حاجة تانية‪ .‬كنت حتعمل ايه لو كنت قلتلك ان‬
‫ابوك مش اللي انت كبرت تقوله بابا‪ ،‬و ان أمك اللي روحك فيها تبقي في الحقيقة جدتك؟"‬

‫"امي وال جدتي‪ ،‬ماتفرقش‪ .،‬ماتشرفش بإنسانة استغاللية بتتجوز الرجالة علشان فلوسهم‪".‬‬

‫"أل يا مراد‪ .،‬كله إال الغلط فيها‪ .‬انت يابني مش عارف ظروفها كانت ايه‪ .‬و ال هي كانت ست بطالة و ال مدت ايدها علي مال حرام‪".‬‬

‫"و جوازها من األسباني؟"‬

‫"كانت غلطة و ربنا أعلم باللي في النفوس‪ .‬واهي دفعت التمن غالي لما اهلها اتبروا منها! كنت عاوزها تعمل ايه؟ لو ما كانتش عملت اللي هي‬
‫عملته ده كنت القيت تاكل وال تلبس وال تتعالج؟"‬

‫"ماعرفش‪ .،‬يمكن ال أنا و ال حمزة كنا لقينا نفسنا في الموقف ده‪ .‬ما تنسيش اني جعت و اتشردت كام سنة و انا مش عارف ليا اهل واال أل‪".‬‬

‫"يابني ما تزعلش مني‪ ،‬مش حينفع نغير اللي كان‪ ،‬و عليك تبص لقدام‪ .‬المهم دلوقتي انك عرفت ان اخوك مايقربش للي اسمه ايهاب ده و تقدر‬
‫تثبته في المحكمة‪" .‬‬

‫"ما هو طلع مش اخويا‪".‬‬

‫"الموضوع ده ال حيقدم و ال حيأخر و مش من مصلحة حد انه يعرفه‪ .‬المهم دلوقتي انك تطعن في شهادة الميالد اللي علي اسم توفيق الشيمي‪".‬‬
‫"دي مشكلة تانية‪ ،‬ألن عوني المحامي مش حيجرؤ يشتغل معانا‪".‬‬

‫"يا خويا ماللي خلقه خلق غيره‪ .‬و لو مالقيتش اشتغللك انا محامية"‬

‫ضحك مراد علي جملتها فبادلته الضحك‪" ،‬ايوه كده يا حبيب داده‪ ،‬اضحك و ما تشيلش هم حاجة"‬

‫" بس انتي يا داده عرفتي ماري هيلين؟"‬

‫"ايوه‪ ،‬انا طبعا ما بعرفش اتكلم فرنساوي‪ ،‬و كانت علي طول مع حمزة‪ ،‬بس كانت هادية و مؤدبة و في حالها‪".‬‬

‫"و عملتي ايه لما عرفتي بعملة حمزة؟"‬

‫"انا ماعملتش حاجة بس طبعا زعلت‪ .‬إقبال هانم اللي زعلت و فتحت ابواب جهنم لما عرفت‪ ،‬و اللي زاد و غطي انه جاب البنت تعيش معاهم‪.‬‬
‫هنا في البيت ده‪ ،‬بعد ما هربت معاه من اهلها‪".‬‬

‫"انت كأنك بتكلميني عن حد ماعرفوش ‪ .‬عمري ما كنت اتصور حمزة واحد ماعندوش احساس بالمسؤلية انه يحط بنت صغيرة في الموقف ده‪".‬‬

‫"برضك يا مراد مش عايزاك تظلمه‪ .‬كفاية انه ماتخالش عن البنت و كان ناوي يتجوزها اول ما يتم السن القانوني‪".‬‬

‫"ماشي‪ ،‬ممكن تعمليلي الليمون و نجهز علشان حاروح للدكتور كمان ساعتين؟"‬

‫"أخللي الواد المعضم اللي انت جايبه معانا يجيبلك عربية؟"‬

‫"أل البارونيس حتبعتلي العربية‪".‬‬

‫***‬

‫أتم مراد قرابة الشهر عندما عادت به الطائرة من برجامو الي مطار مرسي مطروح‪ .،‬حيث كان فرحات في انتظاره بالسيارة‪ .‬لكن لم يكن وحده‪.‬‬
‫كان صبحي برفقته‪ ،‬الحظ عليه مراد بعض التغيير لكن لم يحدد نوع ذلك التغيير‪.‬‬
‫"اهال حبيبي‪ ،‬حمد هللا عالسالمة يا مراد بيه‪ ،‬انشاهلل تكون اتوفقت" قال فرحات و هو يعانق مراد‬

‫"الف حمد هللا عالسالمة يا باشا‪ ،‬و هللا المزرعة‪ .‬ضلمة من غيرك" قال صبحي مقتربا لمعانقة مراد لكن مراد اكتفي بمد يده لمصافحته‪.‬‬

‫"هللا يسلمك يا صبحي"‬

‫"مش عايزني أسلم عليك ليه بس يا باشا؟"‬

‫"اسأل فحل البصل اللي اكلته عالصبح!"‬

‫"ال مؤاخذة يا باشا‪ ،‬مع اني وهللا غاسل سناني‪ ".‬التفت الي داده حليمة " منورة مصر يا حاجة"‬

‫"هللا يخليك يا صبحي‪ .‬يالال ايدك مع عمك فرحات علشان تركبوا مراد بيه العربية"‬

‫بعد قرابة ساعة و نصف علي الطريق‪ ،‬لم يتحدث مراد فيها مراد تقريبا وصلوا الي المزرعة‪ ،‬حيث كان عمر في انتظاره عند مدخل القصر و‬
‫ما ان توقفت السيارة حتي فتح الباب و حمل مراد خارجها‪" ،‬حمد هللا عالسالمة يا شقي‪ ،‬ياللي بتسافر في الخباثة‪ .‬انشاهلل تكون انبسطت"‬

‫"هللا يسلمك يا عمر‪ . ..‬ده انا شفت العجب‪".‬‬

‫"تحكيلي كل حاجة بالتفصيل‪".‬‬

‫"في تفاصيل حيبقي صعب اقولهالك‪ .‬يكفي اني اقولك اني رحت نيس و قابلت اهل ماري هيلين"‬

‫"و قدروا يدلوك علي حاجة و اال طلع حوار فاكس؟"‬

‫"غالبا كان فاكس‪ ،‬و لو اني مش فاهم يعني ايه‪.‬المزرعة‪ .‬عاملة ايه‪ ،‬بالحق؟"‬
‫ضحك عمر و هو يدخل القصر حامال مراد‪ " ،‬المزرعة‪ .‬تمام‪ ،‬و صبحي بيشتغل معانا دلوقت‪ ،‬األسبوع ده مع حسام في مزرعة‪ .‬الخضار‪ .‬و فيه‬
‫مفاجأة علشانك‪".‬‬

‫"ايه هي‪ ،‬اليومين دول باخاف من المفاجآت‪".‬‬

‫اجلسه علي الكرسي المتحرك بعد أن ادخله فرحات‪ ،‬و اقتاده عبر الردهة األخري‪ ،‬و فتح الباب‪،‬‬

‫"ال مش معقول يا عمر"‬

‫"ال معقول‪ .،‬وضبنالك السان روم‪ .،‬و تقدر تقعد فيها زي ما يعجبك‪".‬‬

‫نظر مراد و السعادة تتراقص علي وجهه‪ .،‬و هو يشاهد مكانه المفضل الذي ظل مهمال مهجورا طيلة عامين‪ .‬كان اشبه بالبيت الزجاجي‪ ،‬لكن‬
‫كانت اشعة الشمس تدخله وقت العصر فقط‪ ،‬و قد امتألت أرجاؤه بالنباتات االستوائية النادرة‪ .‬ضغط عمر علي زر فتدفق الماء من نافورة في‬
‫منتصف الغرفة‪ .‬كانت اشعة الشمس تمأل الغرفة بلونها النحاسي‪ ،‬فتنعكس علي األريكة الحريرية و ما عليها من وسائد وثيرة‪ .‬تلك الغرفة كانت‬
‫هدية حمزة له فور قدومه‪ .‬الي مصر‪.‬‬

‫"يخرب عقلك يا عمر‪ ،‬عملت كل ده في شهر؟"‪.‬‬

‫"و هللا الواد صبحي كان بيساعدني"‬

‫"و دخلته هنا؟"‬

‫"عيني كانت عليه زي الصقر‪".‬‬

‫"مش مالحظ فيه تغيير عليه؟ شكله اتغير خالص‪ ،‬بس مش قادر احدد‪ ،‬مشيته و اال تسريحة شعره و اال لبسه‪ .‬الموضوع هايف صحيح بس‬
‫غريب"‬

‫"شوية بس يمكن علشان بقي يقضي وقت اطول معانا‪ ،‬و بقي يروح المكتبة‪ ،‬و كتير باشوفه في الجيم بعد الشغل‪".‬‬
‫"واضح ليكوا تأثير ايجابي عليه‪".‬‬

‫"شوف السبت اللي هناك ده"‬

‫قاده عمر نحو السلة فإذا به يجد ثالث قطط صغيرة‬

‫"قطتك مينوش ولدت"‬

‫"ده احلي خبر في الدنيا‪ ،‬بس مين األب؟"‬

‫"ان هللا حليم ستار بقي‪"...‬‬

‫أثار ذلك القول شجونه و الحظ عمر‪" .،‬مالك يا مراد‪ ،‬انا قلت حاجة زعلتك؟"‬

‫"ابدا يا عمر‪ ،‬بس افتكرت حكاية ضايقتني‪".‬‬

‫**‬

‫مضت بضعة أيام علي عودة مراد‪ .،‬و كان يقضي عصر كل يوم في البيت الزجاجي في قراءة الكتب او االستماع للموسيقى‪ .‬و بينما هو جالس‪،‬‬
‫يداعب احدي القطط الصغيرة‪ ،‬دخل عليه ايهاب و علي وجهه نصف ابتسامة ساخرة‪.‬‬

‫"انت يعني عمال تروح و تيجي هنا و هنا و مابتجيبش سيرة"‬

‫"الناس بتقول مساء الخير"‬

‫"مساء النور يا خويا‪ ،‬انشاهلل تكون انبسطت‪".‬‬

‫"عايز ايه يا ايهاب؟"‬


‫"ايه اللي عايز ايه يا ايهاب؟" قلد صوت مراد في سخرية‪" ،‬انت مش دريان بنفسك ياله؟ رايح تتفسح و مش هامك خراب المزرعة‪ .‬اللي عمالة‬
‫تخسر؟"‬

‫"و ايه اللي يخصك المزرعة تخسر و اال تكسب؟"‬

‫"انت عبيط و اال بتستعبط؟"‬

‫"اتكلم بأدب يا ايهاب انت في بيتي‪ ".‬قال مراد بنفس الهدوء‪ .‬الذي عرف به و ان لم تخل نبرة صوته من الحزم‪،‬‬

‫"األدب ده أنا اللي حاعلمهولك يا بتاع باريس‪ .‬أل و عامل مشلول‪".‬‬

‫"ان كنت جاي‪ ،‬و ناوي تشغللي اسطوانة مال ابن عمك‪ ،‬فاحب اقوللك إن مافيش صلة قرابة بينك و بين حمزة يعني مجيك هنا مالوش معني‪ .‬و‬
‫ان كنت مش مصدقني‪ ،‬إسأل شريفة هانم عمتك‪".‬‬

‫"انت شارب حاجة؟"‬

‫"شارب مية بليمون‪ .‬عمك توفيق بيه كتب حمزة علي اسمه مع انه مش ابنه‪ .‬و المستندات اللي تثبت ده موجوده مع المحامي و خالص قدم طعن‬
‫في الشهادة اللي موجودة"‬

‫"بس ده تزوير في اوراق رسمية" ابتسم ايهاب في ظفر تشوبه سخرية‪.‬‬

‫"يمكن‪ ،‬بس تحب تبعت اخطار علي يد محضر لعمك في المقابر؟ و لمعلوماتك‪ .،‬المحامي مش هنا في مصر‪ ،‬يعني بعيد عن البلطجة اللي‬
‫ضيعت بيها عوني"‬

‫"بقي انت هزيت طولك علشان تقوم محامي بالورقة اللي مالهاش الزمة اللي معاك دي؟ برافو عليك‪ ،‬و الناس صدقتك و صدقت بجد انك‬
‫مشلول‪ .‬تمثيلية هايلة‪ ،‬بس انت اللي فضحت نفسك‪".‬‬

‫"ايه اللي انت بتقوله ده؟"‬


‫في حركة سريعة سحب ايهاب القطة من بين يدي مراد‪ .،‬و رفعها عاليا و بابتسامة صفراء تحدي بها مراد‪،‬‬

‫"سيب القطة و بالش جنان‪ ،‬ده مخلوق بريء مالوش ذنب!" صرخ فيه مراد‪،‬‬

‫"عايزها قوم هاتها من ايدي‪"...‬‬

‫عبثا حاول مراد ان يستعيد القطة من يده‪ ،‬و لكن غرقت محاوالته بين ضحكات ايهاب القاسية القطة تموء مستغيثة في يده‪.‬‬

‫"ما تقوم‪ ،‬واال القطة مش فارقة معاك؟"‪.‬‬

‫و بعنف ألقي بالقطة علي الحائط و في نفس اللحظة لم يشعر مراد بنفسه و هو يلقي بنفسه من األريكة و لكنه سقط علي األرض‪.‬‬

‫"انت مش ممكن‪ .‬تكون بني آدم!"‬

‫نظر له ايهاب في احتقار و تشفي‪" ،‬الدكتور بتاعك بيقول إن مافيش أي سبب عضوي يمنعك إنك تمشي‪ .‬و ده راجل صاحب عيال‪ ،‬قال كل‬
‫حاجة علشان مايتبهدلش‪ .‬يعني انت عمال تمثل"‬

‫حاول مراد أن يصل الي كرسيه المتحرك زاحفا‪ ...‬و لكن ايهاب دفع بالكرسي نحو الردهة‪ .‬خارج الغرفة بقدمه‪.‬‬

‫"شايف نفسك و انت بتزحف تحت رجلي زي الصرصار؟ ده بس علشان تعرف أنا أقدر أعمل ايه‪ ،‬و يكون في علمك إني قريب قوي حاطردك‬
‫برة المزرعة‪ .‬بتاعتي‪".‬‬

‫نظر مراد له في حرقة‪ ،‬و هو ال يدري كيف تحول ايهاب الي ذلك الوحش المجرد من االحساس‪ .‬أي حقد كان يحركه‪ .،‬و لم يمعن في إيذائه الي‬
‫حد اإلذالل؟‬

‫رحل ايهاب و هو يضحك في ظفر‪ ،‬و مرت دقائق طويلة حاول مراد فيها أن يصل الي األريكة‪ ،‬و صاح في يأس‪" ،‬يا عم فرحات‪ ...‬يا دادة‬
‫حليمة‪ ...‬يا عم فرحات‪"...‬‬

‫لكن لم يسمعه احد في تلك الغرفة المنعزلة‪ .‬سمع خطوات في الردهة‪ ،‬كانت اسرع وقعا من خطوات ايهاب‪ ،‬لعله عمر أو أحد الشباب قد جاء‬
‫ليطمئن عليه‪ .‬لم يكن الوجه القلق الذي اسرع بالتقاطه عن األرض و حمله بالوجه الذي ينتظره‪.‬‬
‫"ايه ده‪ ،‬ايه اللي دخلك هنا يا صبحي‪ .‬نزلني دلوقتي حاال‪"...‬‬

‫"حاقعدك علي كرسيك األول"‬

‫"فين عم فرحات؟ مين اللي دخلك هنا؟"‬

‫"يا باشا احمد ربنا اني شفت المنظر اللي شفته‪ .‬ربنا عالمفتري‪".‬‬

‫اجلسه علي الكرسي المتحرك‪ ،‬و أتاه بالبطانية التي كانت علي األريكة مغطيا رجليه بها‪ .‬و دفع بالكرسي الي الصالون‪ .‬و نادي علي داده‬
‫حليمة‪" ،‬يا حاجة‪ ،‬ياحاجة أم عماد‪ .،‬تعالي قوام!"‬

‫جاءت حليمة تهرول لتجد مراد علي كرسيه يبكي في صمت‪ .‬و صبحي يربت علي كتفه‪" ،‬معلش يا مراد بيه‪".‬‬

‫"روح هات القطة اللي رماها‪ .،‬مش بتقول شفت اللي حصل؟"‬

‫"يا ضنايا يابني‪ ،‬ايه اللي عمل فيك كده؟؟"‪.‬‬

‫"ايهاب يا داده‪ ...‬ده مش ممكن يكون بني آدم‪ ..‬ابعتي لعمر ييجي قوام‪".‬‬

‫ذهبت حليمة لتستدعي عمر‪ ،‬و تعد لمراد مشروبا يهدئه‪ ،‬و عاد صبحي و في يده القطة جثه هامدة‪.‬‬

‫"شايف يا صبحي عمل ايه؟ اللي يقتل مخلوق بريء يبقي ايه؟ هو ده اللي بتخدمه و بتوصلله اخبارنا‪ .‬النهارده القطة و بكرة بني آدمين!"‬

‫"حد هللا ما بيني و ما بينه يا باشا‪ .‬يعلم ربنا أنا كرهته قد ايه بعد اللي شفته"‬

‫عادت دادة حليمة بكوب من الماء بالليمون‪ ،‬و تناوله مراد بأصابع مرتعشة‪.‬‬
‫"كتر خيرك يا صبحي انك لحقته"‬

‫"بس انت شفتني ازاي يا صبحي؟"‬

‫ارتبك صبحي‪ " ،‬كنت معدي جنب الشجرة و شفته و هو رافع القطة فاستغربت‪ ،‬قربت اشوف لقيتك بتقع من علي الكنبة"‬

‫جاء عمر و هو يجري‪ ،‬و لم يكد يلتقط انفاسه‪ " ،‬مراد‪ .،‬انت كويس؟"‪.‬‬

‫"الحمد هلل يا عمر‪ ،‬انا بس صعبان عليا نفسي‪".‬‬

‫"ايهاب عمره ما حيعتب القصر تاني" قال عمر‪" .،‬و مش حنسيبك لوحدك أبدا‪".‬‬

‫نظر مراد و قد استعاد هدؤه "من هنا و رايح صبحي حيبقي معايا يساعدني علي متابعة المزرعة ‪ .‬يالال يا صبحي‪ ،‬روح جهز نفسك علشان من‬
‫بكرة الصبح نازلين المزرعة"‪.‬‬

‫لم يكد يصدق صبحي نفسه‪ ،‬اخيرا لقد واله الثقة‪" .‬تحت امرك يا سعادة الباشا" و خرج مسرعا‪.‬‬

‫قال عمر مستنكرا‪ " ،‬هو ده بالظبط اللي ايهاب عاوز يعمله"‬

‫"علي رأي دادة‪ ،‬باسلم القط مفتاح الكرار‪ "،‬ثم ابتسم‪ ،‬و التفت الي داده حليمة "يعني ايه كرار يا دادة؟"‬

‫لم يكن الضباب قد تبدد بعد صباح ذلك اليوم عندما توجه صبحي الي االسطبل‪ ،‬ليفيض بمكنون قلبه لمن ال يفشي سره‪ .‬ابتسم لحظة أن‬
‫رأه‪،‬‬

‫"أنا عارف اني غبت عليك كتير‪ ،‬بس ايه رأيك في النيولوك؟ و لسة‪ ،‬أنا كل يوم عمال اقرب‪ ،‬لحد ما اوصل‪ ،‬يمكن اوصل بعد سنين‪،‬‬
‫لكن مش مهم‪.".‬‬

‫لم يكترث لصمت الجواد و استمر‪" ،‬شفت ابن الحرام عمل ايه في الواد الغلبان؟ ذنبه ايه اذا كان اخوه مجرم بيتاجر بأرواح الناس؟ بس‬
‫أنا ما سبتوش‪ ،‬طلعت جري عليه لما شفت ايهاب بيلعب معاه الدنيئة‪ ،‬رايح يتشطر علي واحد عاجز‪ .‬مانا كنت عامل برج مراقبة وسط‬
‫الشجر علشان اشوفه واعرف بيعمل ايه و هو قاعد لوحده‪ .‬يعني ال بيتصل بجهات اجنبية و ال بيخطط لقلب نظام الحكم‪ ،‬يبقي ايهاب‬
‫حاطه في دماغه‪ .‬قوي كده ليه؟"‬

‫لم يشعر في غمرة حديثه مع الحصان بصليل الكرسي المتحرك‪،‬‬


‫"سالمة عقلك‪ ،‬بتكلم رهوان و مستني يرد عليك؟"‬

‫"صباح الفل يا سيد الكل‪ ،‬عيني عليك باردة!"‬

‫"صباح النور‪" ،‬‬

‫اقترب منه صبحي فتغيرت مالمح وجهه‪" .‬البرفان القاتل اللي انت حاطه ده ما تستعملوش تاني ابدا‪ .‬خللي لبيبة تجيبلك ازازة الكولونيا‬
‫من الحمام‪ ،‬و استعملها زي مانت عاوز‪ ،‬اما البرفان ده تدلقه في التواليت احسن!"‬

‫"حاضر يا باشا‪".‬‬

‫"و من غير بصبصة‪ ،‬يالال انا مستنيك"‬

‫و ما ان رحل حتي اقترب مراد من االسطبل و فتح الباب لرهوان‪ ،‬الذي خرج من مكانه يصهل برفق نحو مراد الذي مسح علي وجه‬
‫الجواد‪" ،‬وحشتني قوي يا رهوان‪ .‬انا عارف ان هو كمان وحشك‪...‬نصيبنا نستناه سوا‪ ،‬بس انا خالص‪ ،‬مش حاسيب العجز يحوشني‬
‫عنك و ال عن المزرعة‪.".‬‬

‫"مانت كمان بتكلم الحصان يا باشا‪".‬‬

‫"انت ايه اللي رجعك بسرعة؟"‬

‫"لبيبة جابتلي الكولونيا زي ما حضرتك قلت‪".‬‬

‫"طيب روح خد دوش سريع و حط كولونيا لو عايز‪ ،‬و تعالي قوام علشان ورانا شغل كتير‪".‬‬

‫و انصرف مسرعا‪،‬‬

‫"ايه رأيك يا رهوان؟ يستاهل فرصة تانية و اال مانآمنلوش؟ يا ريتك كنت بتتكلم‪ ،‬كنت تحكيلي عن حمزة و تطمني عليه‪...‬آكيد انت‬
‫الوحيد اللي عارف سره‪ .‬بس انا خالص مش حدور‪ ،‬و الزم اكمل اللي بدأه‪ .‬يالال ارجع بقي‪ ،‬لحسن صبحي يشوفنا يقول علينا‬
‫مجانين‪ ".‬و ربت علي شعر الحصان في حب خالص‪ ،‬و تراجع الحصان الي مكانه كأنما فهم أن اللقاء قد انتهي‪ .‬أغلق مراد الباب‪ ،‬و‬
‫اتجه الي خارج االسطبل‪.‬‬

‫عاد صبحي‪ ،‬و لم يزل شعره رطبا‪"،‬علي فين يا باشا؟"‬

‫"انا غلبت معاك‪ .،‬مش قلتلك ماتقوليش باشا؟"‬

‫"حاضر يا مراد بيه"‬

‫"حنفوت علي المدرسة األول" و اتجها الي المدرسة‪ .‬كانت تتكون من بضعة فصول‪ ،‬و ألحقت بها حديقة صغيرة لزراعة الخضروات‪.‬‬
‫فوجيء صبحي بسعادة األطفال و هم يتناولون طعام اإلفطار مع معلميهم‪ .،‬و كيف كانوا مقبلين علي التعلم دون خوف او ضيق‪.‬‬

‫" هي المدرسة دي تبعكوا برضه؟"‬

‫"ايوه‪ ،‬زي مانت شفت فيه ناس بتيجي من األقاليم مع اسرهم‪ .،‬غير ان العربان بيجيبوا والدهم يتعلموا هنا‪ ،‬بس مش كتير ألن زي مانت‬
‫شايف نظام المدرسة‪ .‬مختلط‪".‬‬

‫"صراحة احسن الوالد لوحدهم و البنات لوحدهم‪".‬‬

‫نظر له مراد في تشكك‪" ،‬كل واحد حر في رأيه"‬

‫قضي مراد وقتا يتحدث مع األطفال و يطمئن علي أحوالهم‪ ،‬و لم يغادر قبل أن يعرف أسماءهم‪ ،‬و يسألهم بعض األسئلة ليعرف مدي‬
‫تحصيلهم‪ .،‬بل و قام بعمل بعض األشغال اليدوية مع بعضهم‪ .‬لم يشعر بالوقت يمر في صحبة األطفال‪ .‬ظل صبحي طيلة الوقت واقفا‬
‫يراقبه في فضول‪ .‬كان مراد يتحرر شيئا فشيئا من قيود العجز و ها هو ذا يفتح قلبه لطوفان من الحب بغير شروط‪ ،‬فقد اعيته الكراهية‬
‫و الحقد اللذان واجههما طيلة الشهور الماضية‪ .‬ودع األطفال بعد أن وعدهم‪ .‬بالعودة في اليوم التالي‪.‬‬

‫"علي فين دلوقتي يا باشا‪ ،‬ال مؤاخذة‪ ،‬قصدي يا مراد بيه؟"‬

‫"دلوقتي حنروح للشباب األجانب اللي بيتدربوا هنا‪ ،‬بتعرف انجليزي؟"‬

‫"اه طبعا‪ ،‬هاو ار يو"‬

‫ضحك مراد‪ " ،‬طب كفاية"‬

‫كانوا شباب من عدة اجناس‪ ،‬أغلبهم من الدول األوروبية‪ ،‬اتوا ليتعلموا اصول الزراعة الدائمة و يتدربوا في المزرعة ‪ .‬عرفهم مراد‬
‫بنفسه و رحب بهم‪ ،‬و قد حرص علي معرفة‪ .‬اسماءهم ومن أين أتوا‪ ،‬فرحبوا به في غبطة و تقدير لقدومه اليهم برغم ما يعانيه‪ ،‬كما‬
‫حرصوا علي أن يري بنفسه المشاريع الصغيرة التي قاموا بها من زراعة مختلطة و بيوت للحشرات النافعة‪ ،‬و انتاج السماد من المواد‬
‫العضوية‪.‬‬

‫و بعد أن انتهت الزيارة قال صبحي و قد بدا عليه اإلرهاق‪" ،‬لسه حنلف تاني؟"‬

‫"و هو احنا لسة عملنا حاجة؟" قال مراد مستنكرا في مداعبة‪" ،‬لسة اليوم طويل‪ ،‬بس يالال بينا علي الكانتين‪ .‬أنا مبسوط منك انك بقيت‬
‫تاكل في الكانتين‪ ،‬بس اوعي تكون بتقعد تاكل لوحدك‪".‬‬

‫"ال باقعد مع الشباب‪ ،‬و كلهم زي العسل‪ ،‬و بنلعب كورة مع بعض و بنروح الجيم‪".‬‬

‫"طيب كويس‪ ،‬يالال نشوف عاملين ايه في المطبخ"‬

‫داخل المطبخ‪ ،‬شاهد االثنان كيف كان عمال المطبخ السوريون يعملون‪ ،‬وسط القدور الضخمة التي امتألت بالحساء الساخن‪.‬‬
‫"هم ليه كلهم سوريين يا مراد بيه؟"‬

‫"ألنهم شاطرين‪ ،‬و الناس بتحب األكل بتاعهم‪ ،‬علي العموم مش كل يوم بيكونوا هنا‪ ،‬بس أي حد بيشتغل في المطبخ الزم يتدرب علي‬
‫النظام و النضافة"‬

‫"اكلهم حلو‪ ،‬بس اليوم بتاع األكل المصري هو اللي بيعجبني"‬

‫"و فيه يوم ما بيعجبكش؟"‬

‫"ايوة‪ ،‬لما الجماعة األجانب هم اللي بيبقوا طابخين‪".‬‬

‫"طيب‪ ،‬دلوقتي استعد علشان أنا اللي حاغرف الشوربة للجيش اللي داخل علينا دلوقتي"‬

‫و دق الجرس معلنا ساعة تناول الغداء أقبل فيها جميع من كان في المزرعة دون تدافع او تزاحم‪ .‬كان مراد يقدم الحساء لهم دون كلل و‬
‫لم تغادر االبتسامة شفتيه فاستقبلها الجميع بحرارة‪ .‬جاء دور عمر الذي نظر لمراد في ارتياب‪ ، .‬و كانت تقف خلفه سيدة شقراء‪ ،‬تبدو و‬
‫قد جاوزت األربعون كانت احدي المتدربات‪ ،‬ابتسمت لمراد كما لو كانت تعرفه و انضمت الي زمالئها‪.‬‬
‫جلس مراد بعد ذلك يتناول طعام الغداء مع عمر‪" ،‬ممكن‪ .‬تفهمني يا ميرو ايه اللي انت بتعمله؟"‪.‬‬

‫"بارفع المعنويات‪ ،‬مش دي فكرتك‪".‬‬

‫"و ده هايل‪ ،‬و انا حاسس بالمود بيتغير فعال‪ " .‬ثم التفت نحو صبحي الذي كان يجلس علي طاولة أخري‪" ،‬بس ايه الحكاية دي؟ قط و‬
‫كرار‪ ،‬ناوي علي ايه"‬

‫"هي لعبة خطيرة شوية‪ ،‬و علشان كده عايزكم تسيبوا السكن و تيجم تقعدوا معايا في القصر‪"،‬‬

‫"كلنا؟"‬

‫"يعني‪ ،‬خمسة منكم"‪.‬‬


‫"ماشي‪ ،‬و ايه الفكرة؟"‬

‫"ايهاب ممكن يكون عمل حركة امبارح علشان يوصلني لحالة من الرعب‪ ،‬و لو أنا فاهمه‪ .‬صح‪ ،‬حيجرب حاجة اكبر المرة الجاية و في‬
‫خالل مدة قصيرة‪ .‬و في نفس الوقت‪ ،‬حيدي الفرصة لجواسيسه يجيبوله اي معلومات ممكن تفيده‪".‬‬

‫"تفتكر؟"‬

‫"امبارح كان جاي ناوي علي الشر‪ ،‬و اللي كان عليه إني بامثل الشلل"‬

‫"ده اتجنن بجد‪ ،‬و علشان كده عمل اللي عمله؟"‪.‬‬

‫"عمر انت قلت لمين ان الدكتور قاللي فيه أمل أرجع أمشي؟"‬

‫"أكرم‪ ،‬اشمعني؟"‬

‫"و أكرم عارف حكاية حساب البيتكوين؟"‬

‫"أل ماكانش معانا ليلتها‪ ،‬اوع يا مراد تكون بتشك فيه"‬

‫"دي كلها اعراض ما تطمنش‪ ،‬و بعدين ايهاب عرف منين اني كنت مسافر؟"‬

‫"انا بس اللي كنت اعرف و عم فرحات‪ ،‬و صبحي"‬

‫"صبحي معروف من زمان‪ .،‬لكن األيام الجاية حتكشف الشخص اللي بيخوننا و حنقدر نقطع رجله من المزرعة"‪.‬‬

‫"و لو طلع صبحي بس؟"‬

‫"هو كمان باينة عليه اعراض ما تطمنش‪ .‬زي ما يكون بيحاول يقلد حمزة في مظهره‪ ،‬لكن طبعا بطريقته‪...‬مش عارف عاوز يوصل‬
‫إليه"‬

‫"كل شيء حيبان قريب‪".‬‬


‫**‬
‫تنفس صبحي الصعداء عندما انتهي مراد من زيارته األخيرة لذلك اليوم في مركز اعادة التأهيل الذي ضم افراد من عدة جنسيات‪،‬‬
‫اغلبهم من الدول األفريقية و العراق و أفغانستان‪ .‬كان هؤالء من انقذهم حمزة من الغرق اثر احدي رحالت الهجرة غير الشرعية‪ ،‬و‬
‫فتح لهم باب األمل في مستقبل مختلف‪ ،‬و بقي منهم من بقي‪ ،‬و اصر بعض آخر علي استكمال الرحلة الي سواحل اوروبا‪ ،‬غير‬
‫مكترثين بما سمعوه من تحذير‪ .‬كان المركز‪ .‬يعلمهم‪ .‬بعض المهارات‪ ،‬كاللغات‪ ،‬و الحرف اليدوية و استخدام الحاسوب‪.‬‬

‫"اال مين الجماعة دول؟"‬

‫"دول كانوا راكبين مركب صيد علشان يهاجروا علي اوروبا‪ ،‬بس المركب غرقت بيهم‪ .،‬و اخويا لحقهم بالمركب بتاعته و جابهم علي‬
‫هنا‪"،‬‬

‫"هو ال مؤاخذة أخو حضرتك يعني ماله و مال الجماعة دول؟"‪.‬‬

‫التفت له مراد بنظرة جوفاء‪" ،‬أخويا كان غني‪ ،‬و مبسوط‪ ،‬و كان عايز يساعد اللي حظه ماوفرلوش نفس الفرص‪ .‬كان صعبان عليه‬
‫ناس تموت في البحر و يكون عنده مركب و مايمدلهمش ايده‪ .‬بس دفع تمن طيبة قلبه و اختفي من غير ما نعرفله أثر"‬

‫"طب و الحكومة عارفة‪ .‬اللي بتعملوه؟"‬

‫"لو قصدك الحكومة اللي زي ايهاب‪ ،‬ايوه عارفين‪ ،‬و كانوا بياخدوا تمن سكوتهم‪ .‬لكن لو قصدك مؤسسات الحكومة زي وزارة الشؤون‬
‫االجتماعية‪ ،‬أل ماكانوش عارفين و ماكونش مهتمين‪ .‬ده كان عمل خير هو بيعمله من غير حكومة و ال غيره‪".‬‬
‫"طيب يعني الناس اللي هم بيقولوا عليهم سماسرة الهجرة دول‪ ،‬كويسين واال أل؟"‬

‫"السؤال ده ماقدرش اجاوبك عليه ألن صوابعك مش زي بعضها‪ ،‬لكن اكيد اللي ماتهموش‪ .‬حياة غيره و يفكر بس في الفلوس مايبقاش‬
‫كويس‪" .‬‬

‫"بس انا مبسوط يا مراد بيه انك بقيت تثق فيا‪".‬‬

‫"لسة شوية يا صبحي‪ ،‬اقولك علي سر؟"‬

‫"قول يا بيه"‬

‫"الثقة مش ممكن تكون من اتجاه واحد‪ ،‬الزم تكون من اتجاهين‪ ،‬لو انت بتثق فيا انا كمان حاثق فيك‪ .‬لكن الثقة من اتجاه واحد دايما‬
‫يكون عمرها قصير‪".‬‬

‫"انت ليه بعيد كده يا بيه‪ ،‬دايما لما بتكلمني باحس انك قاعد في برج عالي و انا مش طايل حتي اشوفك"‬

‫"و ما تحاولش تطلع برج مالوش وجود‪ ،‬ألنك مش حتالقيني فيه‪ ،‬خليك علي األرض و قابلني من مكانك‪".‬‬

‫نظر له صبحي في حيرة‪ .‬لكن مراد لم ينتظره و اتجه وحده الي بوابة القصر‪.‬‬
‫***‬

‫مضت ليلة رأس السنة في هدوء لمراد‪ ،‬فلم يشأ أن يختلط بالناس في ذلك الوقت‪ ،‬و آثر أن يمضي ذلك الوقت وحده‪ ،‬يأتنس بذكرياته‪،‬‬
‫مالم تحطمه منها الصدمات و ما قد تحطم‪ .‬و تمني ليلة سعيدة لكل من كان يحتفل في تلك الليلة‪ .‬جلس يستمع الي احدي أغنيات‬
‫الفالمنكو التي غناها حمزة في الماضي عندما كان شابا جامحا يجوب العالم و يصحبه الجيتار و عشقه الجارف للحياة‪.‬‬
‫أما صبحي فقد استأذن في الذهاب الي القاهرة ليمضي يومين في داره مع أمه و شقيقه‪ .‬بات من العسير عليه أن يعود لمثل عاداته‬
‫السابقة بعد أن أكسبته حياة المزرعة‪ .‬عادات جديدة‪ .‬كان للتغيير الذي طرأ عليه منذ بدأ يختلس طريقه الي غرفة حمزة سحر خاص في‬
‫اعين احدي جاراته‪ ،‬التي سبق و أن التقي بها في غياب زوجها‪.‬‬
‫استلقي علي الفراش في ساعة متأخرة من الليل بجوارها و قد جفاه السبات‪ .‬أشعل سيجارة و ظل يفكر في أحواله و ما قد آل إليه‪ .‬لم‬
‫يكن في نيته أي مما حدث‪ ،‬فماذا بعد انتهاء مهمته‪ ،‬أيغادر المزرعة؟‪ .‬بدت له تلك الفكرة مستحيلة‪.‬‬

‫"انت سرحان في ايه يا صبحي و مش عارف تنام؟"‬

‫التفت لها‪" ،‬مافيش نامي انتي‪"...‬‬

‫"اجيبلك إزازة بيرة تانية؟"‬

‫"ال مش عايز‪".‬‬

‫اعتدلت في جلستها‪" ،‬إنت حالك مش عاجبني‪ .‬مانتاش صبحي الجن بتاع زمان‪".‬‬

‫ضحك في سخرية‪" ،‬صبحي الجن ما خالص راحت عليه‪ .‬أنا دلوقتي باشتغل في مزرعة بعيد و سبتني من أيام الشقاوة‪".‬‬

‫"نفسي أعرف ايه اللي مصبرك علي الشغل في آخر الدنيا كده‪ ،‬الفلوس؟"‬

‫"لعلمك بقي الفلوس دي أقل حاجة‪".‬‬

‫"يا واد اطلع من دول‪ .،‬أنا عارفة انك شغال مرشد مع الحكومة‪.".‬‬

‫"ما هو ده اللي شاغل بالي" سحب صبحي نفسا طويال من سيجارته‪ ،‬و نفثه ببطء‪" ،‬شكلي مش حاعرف أعمل اللي الحكومة عايزاه‪".‬‬

‫"ليه يعني‪ ،‬وانت فيه حاجة تستعصي عليك‪ ،‬ده انت قلبك ميت‪".‬‬

‫"ما صحي بقي واللي كان كان‪ .‬اللي حارقني إني شايف الظلم بعنيا و ساكت عليه‪ .‬طيب ازاي يبقي معاه الحق و يتعافي علي واحد‬
‫عاجز‪ ...‬و مش أي واحد عاجز‪ ،‬ده مالك‪ ،‬عايش علشان يخدم غيره و هو مش محتاج‪ ،‬بس بعيد‪ ،‬بعيد قوي عن الدنيا الي احنا عايشين‬
‫فيها‪ ،‬علشان كده عايزين يخلصوا عليه‪ ...‬بس المزرعة من غيره تبقي خراب‪ ،‬تبقي صحرا‪".‬‬

‫"هو مين ده‪ ،‬انا مش فاهمة‪ .‬حاجة‪".‬‬

‫"وال حتفهمي‪ ،‬نامي ياختي‪...‬نامي"‬


‫**‬
‫في الصباح التالي‪ ،‬استقل صبحي احدي سيارات النقل الجماعي الي مطروح‪ ،‬بعد أن قضي وطرا من الطالبية و من فيها‪ .‬غلبه النعاس‬
‫في السيارة‪ ،‬عوضا عن ليلته السابقة‪ ،‬و زفر في ارتياح عندما رأي موقف السيارات بمدينة مطروح ‪ .‬شحذه جرس الهاتف من سعادته‬
‫بالعودة‪" .،‬ايوة يا ايهاب باشا؟"‬

‫"انت فين؟ عمال اتصل عليك مابتردش ليه"‬

‫"ال مؤاخذة يا باشا‪ ،‬أنا كنت راكب و نمت شوية"‬

‫"طيب خالص خالص‪ "..‬قال ايهاب في صبر نافد‪" ،‬اسمع‪ ،‬األسبوع ده حييجوا ناس يضربوا نار بره‪ ،‬تهويش يعني‪ .‬انت أول ما تسمع‬
‫ضرب النار تاخد بعضك و تجيب أي ادلة معاك و تحصلهم‪ .‬و تبقي كده براءة و تاخد الخمستالف جنيه‪ ،‬ايه رأيك بقي؟"‬

‫"طب و هما الناس دول جايين امتي ال مؤاخذة؟"‬

‫"مش شغلك بقي‪ ،‬المهم تبقي مرتب حالك أول ما تسمع ضرب نار تمشي‪".‬‬

‫"و مراد بيه ايه اللي حيجراله؟"‪.‬‬

‫"حيجراله ايه يعني‪ ،‬و بعدين انت مالك بيه؟"‬

‫"ماليش‪ .‬اللي تقول عليه يا باشا‪ ،‬حاضر‪".‬‬

‫"اسمع ياله‪ ...‬اوع تكون استحليت القعدة في المزرعة و افتكرت نفسك واحد من الشباب الروش اللي هناك‪ .‬انت تخلص شغالنتك و‬
‫تجيب المصلحة و تنك راجع‪".‬‬

‫"ماشي سعادتك‪".‬‬
‫****‬

‫في تلك األثناء‪ ،‬حرص مراد علي ممارسة العزف علي البيانو و تمارين الصوت‪ ،‬حتي ال تصدأ موهبته‪ ،‬و إن لم يكن هناك ثمة أمل في‬
‫عودته للغناء‪ .‬و بينما هو يلتقط أنفاسه‪ .‬سمع طرقا خفيفا علي الباب ليجد اكرم و قد تجهم وجهه‪ ،‬فأذن مراد له بالدخول‪.‬‬

‫"ازيك يا مراد"‬

‫"الحمد هلل مالك يا أكرم‪ .،‬فيه حاجة مزعالك؟"‪.‬‬

‫"الصراحة ايوة يا مراد‪ .‬انا فضلت زيادة علي الشهرين ساكت‪ ،‬بس خالص‪ ،‬ماينفعش اشوفك بتغرق بسبب اختياراتك الغلط و اسيبك"‬

‫"اتكلم‪ .،‬انا بدأت اقلق‪".‬‬

‫"اخوك سايبك أمانة في رقبتي‪ ،‬تقوم تسافر و تروح و تيجي من غير ما تقولي؟ لقيتك قربت من عمر قلت مش مشكلة انت طول عمرك‬
‫بترتاحله‪ ،‬لكن عمر مايستحقش الثقة‪ .‬و األيام ورتلي انه علي طول كان بيتكلم مع اللي اسمه صبحي‪ ،‬اللي هو همزة الوصل بينه و بين‬
‫ايهاب‪".‬‬

‫" الكالم ده خطير جدا يا أكرم‪".‬‬

‫"أنا عارف انه خطير‪ ،‬بالذات انك خليته يقعد في القصر معاك و معاه الخمسة اللي بيثق فيهم‪ .‬هو اللي مخليك تبعدني عنك علشان‬
‫يستفرد بيك و يوصل كل حاجة إليهاب‪".‬‬
‫"بس يا أكرم‪ ،‬عمر ماجابش سيرة البيع وال مرة"‬

‫ثار أكرم‪ " ،‬يا مراد افهمني‪ ،‬انا عايزك تخلص من المزرعة علشان ظروفك ماتسمحش انك تديرها‪ .،‬و لو استمريت‪ ،‬ايهاب حيالقي‬
‫طريقة يطردك منها و ماتطولش منها حاجة‪ .‬أنا طبعا مش هسمح ان ده يحصل‪ .‬بس حط عقلك في راسك‪".‬‬

‫"طيب ليه عمر يحط ايده في ايد ايهاب ضدي؟"‬

‫"ده سؤال؟ اكيد وعده بحاجة‪".‬‬

‫"عندك حق يا أكرم ‪ .‬أنا فعال ماقدرش‪ .‬ادير المزرعة بنفسي و أنا في الحالة دي‪ .‬و نزولي المزرعة كان بهدف اني اقيم الوضع قبل ما‬
‫اشوف الخيارات اللي قدامي بالنسبة للبيع‪" .‬‬

‫"عين العقل يا مراد‪ ...‬بس حتعمل ايه في التوكيل؟"‬

‫"حنعلن وفاة حمزة في المحكمة"‬


‫**‬
‫في الليل‪ ،‬اختلس صبحي طريقه الي غرفة حمزة‪ ،‬عندما تأكد أن الجميع نيام‪ .‬كانت تلك المتعة تفوق ما يمر به عند تعاطيه مخدر ما‬
‫فيسبح في عالم موازي ال مكان فيه لهموم النهار‪ .‬كان يحمل الكشاف و هو يقلب في البوم صور حمزة‪ ،‬جالسا القرفصاء بجوار فراشه‪.‬‬
‫لم يدر بالوقت و هو يمر‪ ،‬حتي فتح الباب فجأة و أشعل الضوء‪ .‬التفت ليجد مراد علي كرسيه المتحرك و من وراءه عمر و خمسة من‬
‫الشباب و فرحات‪ .‬كانوا جميعهم ينظرون اليه شزرا‪ ،‬اال مراد‪ .،‬الذي تجرد وجهه من أي تعبير‪ ،‬مما آلمه أكثر مما رآه في وجوه‬
‫اآلخرين‪.‬‬

‫"ده اللي أنا كنت عامل حسابه‪ .‬اتفضل لم حاجتك و امشي‪ ...‬انت مش حتبات هنا" قال مراد في حزم ال رجعة فيه‪.‬‬

‫لم يضف شيئا آخر‪ ،‬و لم يعقب صبحي‪ ،‬فقام في خذالن منكسا رأسه‪ ،‬و قد انتهي كل شيء‪ .‬شعر و كأنما تكسر من داخله كلوح من‬
‫زجاج‪ .‬كان يائسا لدرجة أنه لم يحاول تفسير موقفه‪.‬‬

‫نزل الدرج يتبعه مراد و الشباب‪ .‬و ما ان خرج خرجوا وراءه‪" ،‬لما تلم حاجتك كلها تيجي علي هنا تاني‪ .‬حتوصل لمحطة مطروح و‬
‫تركب من هناك"‬

‫"مافيش مواصالت دلوقتي سعادتك"‬

‫"دي مش مشكلتنا‪ ،‬كان الزم تفكر قبل ما تخون الناس اللي مدولك ايديهم‪".‬‬

‫"أنا آسف يا مراد بيه‪".‬‬

‫قال عمر‪" .،‬ما عادش ينفع األسف يا صبحي‪ .‬انت أخدت اكتر من فرصة‪ .،‬و أكيد دي مش أول مرة تدخل أوضة حمزة‪ .‬لو سمحت‬
‫بالذوق كده ترجع اي حاجة اخدتها من هناك قبل ما تمشي‪".‬‬
‫**‬

‫جمع صبحي حاجياته القليلة و هو يصارع البكاء واتجه مرة أخيرة الي االسطبل ليودع رهوان‪.‬‬

‫"انا اللي استاهل يا رهوان‪ .‬الشيطان اللي اسمه ايهاب لعب بيا و خالني وقعت في الغلط‪ ،‬و اديني دلوقتي بانطرد من الجنة‪ ".‬و أجهش‬
‫بالبكاء‪ .‬لم يكن من الممكن أن يدع نفسه يبكي أمام أي من كان‪ ،‬سوي رهوان‪ .‬و عندما تمالك نفسه‪ .‬جفف دموعه‪ .‬و اتجه نحو الباب‬
‫األمامي للقصر‪.‬‬

‫"أنا ماخدتش حاجة يا بهوات‪ ،‬و ممكن‪ .‬تفتشوني لو عايزين‪ .‬شنطتي اهيه قدامكو " فتح الحقيبة مظهرا حاجياته القليلة و لم يكن بينها ما‬
‫يستدعي الريبة‪ " .‬اي حاجة تانية انا ماجيتش بيها سبتها في األوضة" قال صبحي مغلقا الحقيبة‪ ،‬و اتجه نحو الباب األمامي للمزرعة‬
‫علي قدميه‪.‬‬

‫و في تلك اللحظة قطع صوت طلق ناري صمت الليل‪ ،‬و ظهر ملثمون يرتدون جالبيب بيضا‪ .‬و يحملون في ايديهم البنادق‪ .‬اشاروا‬
‫للشباب و لمراد برفع ايديهم ففعلوا‪ ،‬و اسرع احدهم تجاه مراد‪ .،‬حامال اياه علي كتفه‪.‬‬
‫صرخ عمر‪ " .،‬مرآآاد‪ ....‬سيبوه‪ ،‬عاوزين منه ايه؟؟"‪.‬‬

‫استغل صبحي حالة الهرج التي سادت المكان فجري مسرعا الي االسطبل‪ ،‬نحو من وثق فيه‪" ،‬رهوان‪ ،‬دلوقتي مش وقت كالم‪ .‬أنا باثق‬
‫فيك و خليتك تشوف دمعتي‪ ...‬دلوقتي مراد محتاجلك‪ ،‬يالال نروح نلحقه‪ ".‬و فتح له الباب‪ ،‬فاستجاب له الجواد‪ ،‬و اذن له بتلجيمه‪ ،‬و‬
‫امتطي صهوته في يسر‪ .‬و اسرع نحو الملثمون الذين ساروا في اتجاه الباب األمامي للمزرعة ‪ .‬لحق بهم صبحي‪ ،‬ووثب علي الذي‬
‫اختطف مراد‪ ،‬فأسقطه أرضا‪ .‬في تلك األثناء كان الشباب قد عثروا علي األسلحة و اشتبكوا مع الملثمين‪ ،‬و تبادلوا اطالق النار‪ .‬حمل‬
‫صبحي مراد ووضعه علي صهوة الجواد بحيث ال يسقط و هم بامتطاء الجواد‪ ،‬ففاجأته طلقتان سقط علي اثرهما‪" .،‬اجري يا رهوان‪.،‬‬
‫ابعد بمراد من هنا!!" صاح صبحي و قد ادرك أن تلك هي النهاية‪ .‬سالت دماؤه علي الحصي ‪ ،‬و توقف ضرب النار‪ .‬شعر بزوجين من‬
‫األيدي تحمالنه في اتجاه القصر‪ .‬و سمع اصواتا كثيرة لناس لم يقدر عددهم ‪.‬‬
‫*‬

‫"صبحي هو اللي لحقني يا جماعة‪ ،‬انا شفته انصاب‪".‬‬

‫قال عمر‪" .،‬حانروح نلحقه دلوقتي‪ ،‬المهم نتأكد ان كل الناس في أمان و ماحدش فاضل من والد الكلب دول‪".‬‬

‫كان هناك صوت صراخ و اقدام تعدو في ذعر خارج القصر‪ ،‬كانوا المتدربين و الالجئين الذين لم تكن لديهم أسلحة‪.‬‬

‫صاح عمر و مراد‪ " ،‬ادخلوا‪ ،‬ادخلوا جميعا‪ ،‬واتجهوا الي القبو بسرعة‪ ،‬هناك متسع للجميع‪" .‬‬

‫"ادخل انت جوة يا مراد‪ .‬احنا معانا سالح و حنفضل واقفين علي الشبابيك‪ .‬عم فرحات‪ ،‬ايدك معايا نجيب صبحي من برة‪" ،‬‬

‫حدث كل شيء بسرعة‪ .،‬جمع فيها مراد كل قدرته علي بث الهدوء‪ .‬و الطمأنينة في النفوس المذعورة ‪ .‬كانوا زهاء ‪ 120‬شخص‪ ،‬حرص‬
‫مراد علي التعرف عليهم فردا فردا ليري ما اذا كان ينقصهم احد‪ .‬اطمأنت نفسه لرؤية داده حليمة و لبيبة بينهم‪ .‬وقعت عينه علي اكرم‬
‫الذي كان متوترا كما لم يره من قبل‪ ،‬كان يبدو موشكا علي نوبة عصبية‪ .‬نزل عمر و فرحات الي القبو يحمالن صبحي‪ ،‬وقد بدا فاقد‬
‫الوعي‪،‬‬
‫"مراد‪ ،‬احنا الزم نسعفه‪ ،‬اخد طلقة في كتفه و طلقة في ضهره"‬

‫"شوفوا الدكتورة ناهد قوام‪.".‬‬

‫" احنا الزم نخرج تاني نجيب علوان الحارس‪ ،‬شكله اتصاب هو كمان‪".‬‬

‫اقبلت دكتورة ناهد‪ ،‬ترتدي جلباب النوم‪ ،‬فقد اتت مسرعة هي األخري عندما سمعت ضرب النار‪" ،‬انا مافيش معايا علبة اسعافات‪ ،‬يا‬
‫تري عندك اي حاجة أقدر استعملها؟"‪.‬‬

‫"ايوه‪ ،‬اطلعي يا لبيبة قوام هاتي علبة االسعافات من دوالبي‪ ،‬حتالقيها علي الرف التاني‪ " .‬واستجابت الفتاة علي الفور‪.‬‬

‫كان صبحي يئن في وهن‪ .،‬وقد استلقي علي فراش قديم كان في القبو و ظل مراد و الدكتورة ناهد بجواره حتي تعود لبيبة بعلبة‬
‫االسعافات‪" ،‬مراد‪ ،‬مراد‪ .،‬أنا و المصحف ما مديت ايدي علي حاجة و مابعتكش إليهاب"‬

‫"اهدي دلوقتي يا صبحي‪ ،‬ما تتكلمش"‬

‫"الزم تسمعني‪...‬انت مش عارف غالوتك عندي قد ايه‪ ،‬يا ريتك دلوقتي تكون عرفت اني افديك بروحي‪".‬‬

‫"و بعدين معاك يا صبحي‪ ،‬اهدي لحد ما الدكتورة تسعفك‪ ،‬و الصباح رباح"‬

‫عادت لبيبة‪ ،‬و عاد بعدها عمر و فرحات و هما يحمالن علوان الذي كان متأثرا بجرح في ساقه‪.‬‬

‫التفت مراد الي الذين اجتمعوا لديه في القبو‪"،‬استمعوا الي من فضلكم‪ .‬حرصا علي سالمتكم عليكم البقاء هنا حتي الصباح‪ .‬نحن‬
‫نتعرض لهجوم ارهابي في سابقة تحدث ألول مرة‪ .‬اذا اردتم يمكنكم ن تستقلوا الحافلة الخاصة بالمزرعة في الصباح الباكر‪ ،‬علي أن‬
‫تستردوا قيمة الفترة التي لن تقضوها في التدريب"‬

‫قالت له احدي المتدربات‪" ،‬بل سنبقي‪ ،‬لن ندع حفنة من الهواة يطردوننا من هذا المكان"‬
‫و قال واحد آخر‪" ،‬لن نرحل"‬

‫"اشكركم‪ .‬لكن عليكم بالبقاء هنا حتي نطمئن أن قوات األمن قد سيطرت علي الموقف"‬

‫"قوات امن مين‪ ،‬ده قوات األمن هي اللي باعتاهم‪ "،‬همس عمر‪.‬‬

‫"مش وقته يا عمر‪ .‬بس مش قلتلك انه حيعمل مصيبة تانية"‬

‫"انت كان عندك حق بخصوص اكرم‪ ،‬شايفه مش علي بعضه ازاي؟"‬

‫"مراد‪ ،‬اطلب منك حاجة مجنونة؟"‬

‫"مش حيبقي غريب عليك‪ ،‬قول‪ ،‬يا عمر‪."،‬‬

‫"غني!"‬

‫"ده وقته؟"‬

‫"ده احسن شيء ممكن تعمله دلوقتي علشان الناس تهدي‪".‬‬

‫"طيب شايف الدف اللي هناك ده؟ هاته و شوف حاعمل ايه‪".‬‬

‫ظل مراد يضرب الدف في ايقاع ثابت لعدة دقائق دون أن يلتفت له أحد‪ .‬فقد كانت األصوات أعلي من صوته‪ ،‬فبدأ بالغناء‪ ،‬مصاحبا‬
‫النقر علي الدف فساد الصمت شيئا فشيئا و لم يبق اال صوته يستدعي حالة من السكينة شملت كل من كان بالقبو في تلك اللحظة‪ .‬لم تكن‬
‫اآلهات التي يرددها بذات معني‪ ،‬و كان ذلك ما يقصده‪ ،‬فقد تصادف أن اجتمع بالقبو ما لم يقل عن عشرون جنسية مختلفة‪ .‬ظل يغني‬
‫وحده حتي اقترب شاب طويل الشعر يحمل آلة وترية و جلس بجانبه ليصاحبه بالعزف‪ ،‬و اقترب شاب آخر بآلة صغيرة‪ ،‬تحدث صوتا‬
‫غير مألوف‪ ،‬عرفت بقيثارة الفم‪.‬‬
‫وصل عدد العازفين الي ستة اشخاص‪ ،‬وسط ذلك الجمع المشدوه بما يعزفون‪ ،‬و جلس اغلبهم علي األرض‪ ،‬غير راغبين أن ينتهي ذلك‬
‫العرض التلقائي‪.‬‬
‫ما إن شعر مراد بالتعب توقف‪ ،‬و ابتسم ليحيي مستمعيه‪ ،‬طالبا منهم أال يحدثوا ضجة مراعاة للمصابين‪ .‬اقتربت منه السيدة الشقراء‬
‫التي رآها ذلك اليوم مبتسمة له‪ ،‬تصحبها الفتاة التي رفضت الرحيل‪" ،‬لقد كان هذا من اروع ما سمعنا"‬

‫"اآلن فقط عرفت كيف اشتهرت بهذه السرعة في الكوت دازور" قالت السيدة الشقراء‬

‫نظر لها مراد في شك‪" ،‬اوكنت تسمعين بي في ذلك الوقت؟ لقد مضت ثماني سنوات علي ذلك"‬

‫"نعم‪ "،‬مدت يدها له مصافحة‪" ،‬أنا ناتاشا‪ ،‬كنت أعمل مصممة ديكور في الكوت دازور في ذلك الوقت"‬

‫"و انا ليندا‪ ،‬سعدت بلقائك‪ ،‬مراد"‬

‫"و أنا عمر‪ ."،‬قال بابتسامة واسعة‪ ،‬اختص بها ناتاشا‪.‬‬

‫بادلته االبتسام ثم التفتت الي مراد الذي قال‪ " ،‬و هل أنتم سعداء ببقائكم في المزرعة؟"‬

‫"بالتأكيد‪ ،‬ولكن شيء ما ينقص"‬

‫"و ما هو؟"‬

‫"ال يخفي عليك تعدد الجنسيات هنا‪ ،‬و ليس من السهل أن يتكامل زوار المزرعة‪ .‬مع المجتمع المحلي او مع العمال المصريين لعائق‬
‫اللغة"‬

‫"هي بالفعل مشكلة‪ ،‬و ليست الوحيدة‪ ،‬فماذا تقترحين؟"‬


‫"اقترح المزيد من التجارب الجمعية‪ ،‬كالموسيقا و التأمل و ممارسة الفنون عامة‪ .‬مثل ما حدث اآلن"‬

‫"هي فكرة لطيفة دون شك‪ ،‬ال يفوتك انني لم اكن قادرا علي متابعة هذه األمور لظروفي الصحية"‬

‫"نحن نفهم ذلك‪ ،‬و لهذا لدينا ما نعرضه عليك‪".‬‬

‫سكت مراد‪ ،‬وقد استماله الغموض‪.‬‬

‫"هل سمعت عن العالج بالطاقة؟"‪.‬‬

‫"نعم‪ ،‬لكني ال أؤمن به حقا‪".‬‬

‫ضحكت و افترت شفتيها عن أسنان بيضاء المعة‪" ،‬ال يهم فأنا أؤمن به‪ ،‬و لقد عرفت الكثيرين ممن تم شفاؤهم من أمراض مستعصية‪،‬‬
‫أال تريد أن تجرب؟"‬

‫أومأ له عمر بالموافقة عدة مرات في اصرار فضحك‪" ،‬أجرب"‬

‫كانت ناتاشا امرأة رائعة‪ ،‬تفيض بأنوثة ناضجة و بدت مع تخطيها الخامسة و األربعين في ريعان الشباب‪ .‬بدا من المستحيل أن يرفض‬
‫مراد أمام حماستها للحياة بما فيها من أسرار و مفاجآت‪ .‬ضحك في سره لنظرة عمر لها‪ ،‬فقد بدا متيما بها‪ ،‬و لم يحول نظره عنها حتي‬
‫استدارت وعادت الي رفاقها بصحبة الفتاة األخري‪".‬‬

‫"مش كبيرة شوية عليك دي؟"‬

‫"كبيرة مين‪ ،‬الدهن في العتاقي!"‬

‫"يا ساتر‪."،‬‬

‫اقبلت لبيبة‪ ،‬و قد غادر اللون وجهها لما شهدته من أهوال في تلك الليلة‪" ،‬مراد بيه‪ ،‬صبحي عايزك ضروري"‬

‫"الدكتورة طلعت الرصاص؟"‬

‫"أيوه و وشافت علوان و ربطتله الجرح‪".‬‬

‫"طيب روحي استريحي انتي يا لبيبة‪".‬‬

‫"هو انا حيجيلي نوم يا بيه؟"‬

‫اتجه مراد نحو الفراش الذي استلقي عليه صبحي و هو خائر القوي‪" .‬جت سليمة يا صبحي‪ ،‬نام دلوقتي"‬

‫"رهوان‪...‬رهوان هو الوحيد اللي وثقت فيه علشان كده وثق فيا‪ ،‬و عرفنا نلحقك من ايديهم‪ .‬ماتخلينيش ارجع للي كنت فيه يا مراد‪".‬‬

‫"شششششش‪ ،‬نام دلوقتي و الصباح رباح‪ .‬و لما تقوم بالسالمة لينا كالم تاني‪".‬‬
‫"ايهاب‪...‬هو‪ .‬اللي دبر كل ده‪ .‬أنا ماكنتش عاوز أطاوعه بس كان كاسر عيني بأهلي‪...‬لو عليا انا ماكانش همني‪ ،‬هو قاللي انه كان‬
‫تهويش بس و مارضاش يقوللي امتي‪ .‬ماكنتش عارف انه حيضرب نار و حيحاولوا يخطفوك‬
‫مصدقني؟‬

‫"مصدقك‪ ،‬بس دلوقتي ارتاح علشان تلم صحتك"‬

‫"انت صوتك حلو قوي‪ ،‬كان فين من زمان؟"‪.‬‬

‫"انت غلباوي كده ليه‪ ،‬بكره تسمعه لحد ما تزهق‪ .‬تصبح علي خير‪".‬‬
‫اقتربت لبيبة‪" ،‬استريح انت كمان يا بيه‪"،‬‬

‫"أنا حافضل جنبه لغاية الصبح‪ .‬روحي انتي نامي جنب خالتك و لما تقومي الصبح تخليكي جنبه‪ ،‬يالال يا لبلب ما تبقيش غلباوية انتي كمان‪.".‬‬

‫ظل مراد قرابة ثالث ساعات يتأمل ذلك المشهد لقبو بيته مكتظ بأناس ال يعرف أكثرهم‪ .‬باألمس القريب كان وحيدا علي األرض يستغيث‪ ،‬و ها‬
‫هو يفتح أبواب بيته لمن وثقوا به باحثين عن األمان و لم يبخل هو عليهم به‪ .‬ظل مستيقظا يتوقع بين اللحظة و األخري أن يتسلل أحدهم خارجا‪.‬‬
‫و قرابة السادسة صباحا‪ ،‬هُيئ له بظل يتسلل خارجا من القبو‪ ،‬لكنه كان قد استسلم للنوم‪ ،‬فلم يعرف ان كان هذا حلما‪ .‬سيتغير كل شي مع‬
‫اشراقة شمس اليوم الجديد‪ .‬كان موقنا أن ما سيفعله ايهاب بعد ذلك سيوقعه في الخطأ‪ ،‬و لكن كيف كان ليحمي نفسه من نتيجة افعال ذلك‬
‫الملتاث؟‬
‫**‬

‫مر اسبوع علي الحادث و قد دبت روح جديدة في المزرعة‪ .،‬ساد فيها جو من األلفة و المحبة بين سكان المزرعة علي اختالف اطيافهم‪ .‬شعر‬
‫صبحي باشعة الشمس تتسلل عبر زجاج النافذة و تداعب جفنيه ليستيقظ‪ .‬اعتدل في جلسته و كان ال يزال ذراعه معلقا الي صدره عندما سمع‬
‫صوت الكرسي المتحرك يقترب‪.‬‬

‫"صباح الخير يا صبحي"‬

‫"صباح الفل يا مراد بيه‪ ،‬معقول تاعب نفسك و جايلي؟"‬

‫"انت مش كنت خالص لغيت األلقاب؟"‬

‫"المقامات برضه محفوظة يا سعادة البيه"‬

‫"اكيد مراد بس احسن من مراببيه اللي علي طول تقولهالي‪".‬‬

‫ضحك صبحي لمحاولة مراد تقليد صوته‪.‬‬

‫"فيه جماعة جايين يشوفوك‪ .،‬أدخلهم؟"‪.‬‬

‫"هم مين؟"‬

‫"دلوقتي تشوف‪ ...‬اتفضلوا يا جماعة"‬

‫لم يصدق صبحي عينيه عندما دخلت امه عبر الباب في لهفة يتبعها شقيقه‪" .‬الف سالمة عليك يا عين امك" و احتضنته بحرقة‪ ،‬و جعل هو يقبل‬
‫يدها‪ .‬انسحب مراد بهدوء‪ .‬ليعطيهم بعض الخصوصية‪.‬‬

‫"عرفتوا تيجوا ازاي يمه؟"‬

‫"البركة في األمير ابن األمرا مراد بيه‪ ،‬بعتلنا نيجي و جينا هوا‪ .‬الحمد هلل يابني ان ربنا نجاك"‬

‫"الحمد هلل يمه‪ ،‬و انتو عاملين ايه انتي و حمادة?"‬

‫"ماخبيش عليك يابني‪ ،‬الحالة ما تسرش‪ .‬البلدية مستقصدانا مش عارفة‪ .‬ليه و كل يوم و التاني يهدولي الفرشة و يرمولي الحاجة علي األرض‪...‬‬
‫خالص تعبت يابني و ماعدتش قادرة عالبهدلة دي‪".‬‬

‫"و انت يا حمادة مش تريح امك و تخليها تقعد في البيت؟ هو انا مش باديكوا فلوس كفاية يمه؟"‬

‫"ايوه يابني‪ ،‬و اهو مراد بيه هللا يستره قالنا حنقعد هنا معاك وادانا سكن هنا"‬

‫اذن لم يكن مراد ينوي طرده بعد كل ما حدث‪ .‬كان ذلك هو مفتاح حريته من العبودية إليهاب‪ ،‬ألم يكن يهدده دوما بأمه و أخيه‪ .‬هاهو قد ضمن‬
‫لهما األمان اخيرا‪ ،‬خاصة أخيه ففي تلك المزرعة ما كان ليثنيه عن السفر الي سواحل اوروبا مستقال احدي مراكب الموت‪.‬‬
‫**‬
‫كان أكرم قد جمع حاجياته مستعدا للرحيل في حقيبة صغيرة و اتجه الي القصر ليودع مراد قبل رحيله‪ .‬وجد ذلك األخير محموال بين‬
‫يدي عمر‪ ،‬بينما ساعدته السيدة الشقراء علي الجلوس علي الكرسي المتحرك‪ .‬لفت عمر نظر مراد الي اكرم الذي كان يبدو في عجلة‬
‫من أمره‪.‬‬

‫"عمر‪ ،‬خدها و سيبونا دلوقتي‪ ،‬ليا كلمتين معاه‪".‬‬

‫"عز الطلب!"‬

‫"مافيش فايدة فيك‪".‬‬

‫ما ان انصرفا‪ ،‬ظل اكرم واقفا و لم يبد بقادر علي التحدث‪.‬‬

‫"انت ماشي واال ايه يا أكرم؟"‬

‫"ايوة يا مراد‪ ،‬خالص مابقاليش قعاد هنا"‬

‫"تمام‪ ،‬تحب تقول السبب؟"‬

‫"كفاية أقول إن مهمتي هنا انتهت‪".‬‬

‫"معلوم‪ .،‬دلوقتي ثبت إني القدر احمي الناس اللي في المزرعة‪ .‬وال أحمي نفسي‪ .‬بس اللي مشغلك نسي يقوللك حاجة مهمة؟"‪.‬‬

‫"اللي مشغلني؟"‬

‫"بيتهيألي ماعادش فيه داعي تخبي أكتر من كده‪ .‬فهم ايهاب إن البيع شبه مستحيل في غياب اوراق الملكية‪ ،‬و لو حاول يثبت وفاة‬
‫حمزة‪ ،‬إجراءات الطعن في شهادة ميالده تقريبا خلصت‪ ،‬يعني فيه دليل قاطع انه مايورثش‪".‬‬

‫ابتسم أكرم في تهكم‪" .،‬اللي انت ما تعرفوش يا مراد إن حمزة كتب تنازل لمستثمر كبير عن القصر و المزرعة‪ .‬قبل ما يختفي‪ .‬اللي‬
‫عملته ده كان علشان بس يبقي في ايدك مبلغ تتصرف منه لحد ما ترجع علي اوروبا و ما تضطرش تعيش في الشارع"‬

‫"طيب‪ ،‬يا ريت أقابل المستثمر ده‪ ،‬واعرف تفاصيل التنازل ده و ساعتها مش حاتأخر‪ .‬بس ايه دخل ايهاب في كل ده‪ ،‬ماله و مال‬
‫المستثمر ده؟"‬

‫"دي حاجة ماتشغلش نفسك بيها‪ .‬عندك مهلة شهرين‪ ،‬اعتقد وقت كافي جدا تدبر فيه نفسك و تاخد حاجتك و تتوكل علي هللا‪".‬‬

‫لم يتمكن اكرم‪ ،‬برغم كل ذلك من قدرة مراد علي االحتفاظ بهدوئه‪ ،‬رغم المنحني الخطير الذي وصلت اليه األمور‪" .‬ماشي يا أكرم‪ ،‬و‬
‫المستثمر ده ايه اللي يخليه يظهر دلوقتي؟ ما كان ممكن يطردني بعد اختفاء حمزة علي طول‪".‬‬

‫"ده ألن التنازل تم بعد كده بفترة‪ ،‬و يبتدي تاريخه بعد شهرين‪ .‬ايهاب كان بيحاول يقلل الفترة دي بإنه ياخد المزرعة و يبيعها للمستثمر‬
‫ده‪ ،‬لو نجح في اثبات وفاة حمزة‪ ،‬و كان يقدر ألن هو اللي كان ورا حفظ القضية اللي حمزة متهم فيها‪".‬‬

‫"اللي أنا مش فاهمه‪ ،‬انت‪ ،‬صديق عمره‪ ،‬تعمل فيه كده؟"‬

‫"انت الظاهر كل ده مافهمتش و لسة مقتنع ان حمزة ده بطل‪ .‬ده واحد كان بيلعب لعبة هو مش قدها‪ ،‬و ضيع نفسه و ضيع كل حاجة‬
‫معاه‪ ،‬و سابك عاجز علي كرسي بعجل و هرب‪ ،‬لسه مصمم تدافع عن واحد جبان و ماعندوش‪ .‬مسؤولية؟ أنا عملت بأصلي و ماحبيتش‬
‫انك تتبهدل علشان كده اتدخلت‪".‬‬

‫"إطلع برة يا أكرم‪".‬‬

‫تبادل االثنان نظرة طويلة قبل ان استدار أكرم و رحل‪ .‬لقد نجح في زرع بذور الشك في قلب مراد‪ ،‬و لو لبرهة مادت فيها األرض به‪.‬‬
‫كان من األيسر له أن تنهار المزرعة عن أن تنهار صورة حمزة في عينيه‪ .‬لن تكون تلك أول مرة يتصرف فيها برعونة و عفوية‬
‫يتحمل اآلخرون نتيجتها‪.‬‬

‫"اوع تصدقه" قال عمر و قد أتي من الردهة المقابلة السلم الخشبي‪.‬‬

‫"كل حاجة راحت يا عمر‪.".‬‬

‫"مافيش حاجة راحت‪ ،‬نشوف التنازل ده و بعدين نشوف حنرتب نفسنا ازاي‪".‬‬

‫"مسألة وقت‪".‬‬

‫دق جرس الباب األمامي‪ ،‬ليجد مراد فرحات بصحبة سيدة‪ ،‬كانت الممرضة‪ .‬التي أتت لتغير ضمادات الجرح لصبحي‪ .‬فتح عمر الباب و‬
‫ابتسمت السيدة لتحية مراد‪،‬‬

‫"ازيك يا استاذ مراد‪ ،‬انا شايفة الصحة ماشاء هللا‪".‬‬

‫لم يتذكرها مراد‪ ،‬لكنه رد التحية‪" ،‬اهال بحضرتك"‬

‫"انت مش فاكرني؟ انا صفية‪ ،‬كنت عندنا في المستشفي من ساعة الحادثة"‬

‫"ايوه افتكرت‪ ،‬ماتآخذينيش‪"،‬‬

‫"و ال يهمك‪ ،‬فين المريض اللي حاغيرله؟"‬

‫"اتفضلي حضرتك من هنا" قال عمر متجها الي غرفة صبحي‪.‬‬

‫اعتدل مراد في جلسته مستخدما ذراعيه‪ ،‬و اتجه بالكرسي الي البيانو‪ ،‬و عزف مقطوعة عليه ليمضي الوقت‪ ...‬و ما ان وقعت عيناه‬
‫علي صورة حمزة توقف‪ .‬و نظر للصورة في عتاب‪ .‬جبان و أرعن‪ ،‬أم سيء الحظ و ساذج؟ لم يكن ذلك بعذر مقبول لرجل تخطي‬
‫األربعين‪ .‬و في غمرة تلك األفكار السوداء‪ .،‬حدثته نفسه أن أكرم كان فقط يحاول أن يبرر خيانته لصديق عمره‪ .‬لم يعرف لشعوره في‬
‫تلك اللحظة اسما‪ ،‬لكن ظل ذلك الشعور يسري في جسده سما زعافا‪ .،‬يخنق عقله فيسلبه القدرة علي التفكير‪ ،‬و يعتصر قلبه بأيد قاسية‬
‫فيلعن اليوم الذي غادر فيه الي مصر‪ ،‬بل و صار يلعن اليوم الذي ولد فيه لتلك األسرة فينشأ بين أكاذيب ال تنتهي‪ .‬ان كان أكرم و‬
‫ايهاب قد خدعاه‪ ،‬فكذلك فعل حمزة فتركه في ليواجه طوفانا لم يكن أبدا طرفا فيه‪.‬‬

‫"الدكتور كتبله شوية فيتامينات ياخدها بانتظام"‬


‫جاء صوت الممرضة من الردهة‪ .‬معلنا انتهاء مهمتها ‪.‬‬

‫"شرفتينا يا سيستر‪ ،‬تعبنا حضرتك معانا‪ ".‬قال عمر‪.،‬‬

‫"ال تعب و ال حاجة واهي كانت فرصة اتطمن ان استاذ مراد بخير‪".‬‬

‫"شكرا يا سيستر‪ ،‬تسمحيلي حضرتك بسؤال؟"‬

‫"اتفضل‪"،‬‬

‫"ليلة الحادثة لما جيت المستشفي‪ ،‬وصلت ازاي؟ انا كان مغمي عليا معرفتش مين اللي جابني‪".‬‬

‫اطرقت الممرضة محاولة استرجاع احداث تلك الليلة‪" ،‬اللي جاب حضرتك هو الراجل اللي في الصورة دي" و نظرت الي صورة‬
‫حمزة‪" .‬كان هو نفسه مصاب و بينزف‪ ،‬بس ماخالناش نسعفه و هرب‪ .‬لكن قبل ما يهرب كان بيترجي الدكتور انه يعمل كل حاجة‬
‫يقدر عليها علشان ينقذك‪ .‬و سابلي الحقيقة رسالة غريبة قوي‪ ،‬علي بال مانت فقت كنت انا نسيتها‪".‬‬

‫"ايه هي؟"‬

‫"انه عمره ما اتخلي عنك‪ ،‬و ان اللي انت محتاجله عند رهوان‪".‬‬
‫جلس مراد مشدوها و هو يحدق فيها‪ ،‬و اردف عمر‪" ،‬ماقالش لحضرتك حاجة تاني؟"‬

‫"مسافة ما سبته و رجعت كان فص ملح و داب‪ .‬تاني يوم جه واحد تاني يسأل علي األستاذ مراد‪ .،‬بس كان زي اللي مستني يسمع خبر‬
‫وفاته‪ .‬كان اسمه المقدم ايهاب‪".‬‬

‫نظر عمر لمراد محاوال فهم ما كان يدور بخلده‪ ،‬فأجابه مراد‪" ،‬ايهاب ماكانش يعرف حاجة عن اللي حصل‪ ،‬ليلتها‪ ،‬إزاي عرف إني في‬
‫المستشفي؟"‬

‫"علمي علمك يا استاذ مراد‪ .‬األستاذ اللي في الصورة كان كل كام يوم يتصل بالدكتور يطمئن عليك من رقم برة مصر‪ ،‬لغاية ماخرجت‬
‫حضرتك‪".‬‬

‫"ماتعرفيش حضرتك الرقم؟"‪ .‬قال عمر ‪.‬‬

‫"كانوا اكتر من رقم‪ .،‬ولألسف الدكتور سافر بعدها بكام شهر فمش حقدر ادلكوا عليه‪".‬‬

‫"شكرا يا سيستر‪ ،‬حضرتك قدمتيلنا خدمة كبيرة قوي‪".‬‬

‫"العفو"‬

‫كان ذلك هو حمزة كما عرفه مراد‪ ،‬ليس كما صوره اآلخرون كفتي أرعن او مجرم هارب‪ ،‬لكن ماذا عن ما ذكره عن رهوان؟ اي سر‬
‫يحمله ذلك الجواد الجامح‪ ،‬و كيف كان له أن يحصل عليه؟ "ثق فيمن يثق فيه رهوان‪".‬‬
‫لقد حصل صبحي علي تلك الثقة عن جدارة‪ ،‬و مع ذلك‪ ،‬فقد كان لوقت قريب اداة بيد ايهاب‪ .‬و ماذا عن زيارة األخير له في المستشفي‪،‬‬
‫و لم يكن حمزة ليوليه مثل هذه الثقة فقد تباعد عنه بشهور قبل وقوع الحادث‪ .‬شعر مراد ان الغموض كان علي وشك أن يتكشف‪.‬‬

‫اقتاد عمر مراد الي الغرفة حيث كان صبحي‪ .‬ووجداه مستلقيا‪ ،‬يلعب علي هاتفه المحمول‪.‬‬

‫"سيبنا لوحدنا من فضلك يا عمر‪".‬‬

‫"ماشي يا ميرو‪ ،‬لو عزت حاجة اندهلي‪".‬‬

‫"ايوه يا مراد بيه؟" قال صبحي و قد اعتدل في جلسته‪ ،‬منزال قدميه عن الفراش‪.‬‬

‫"بس فيه كلمتين كنت عاوز اقولهملك‪".‬‬

‫"قبله كتر خيرك انك جبت امي و اخويا هنا‪ .‬دي امي لوال المالمة كانت زغرطت"‬

‫"انت كنت بتعمل ايه في اوضة حمزة يا صبحي؟"‬

‫تبددت ابتسامة صبحي ونظر الي األرض في خجل‪" ،‬وهللا ما سرقت حاجة"‬

‫"أنا مش باقول انك سرقت‪ ،‬باقولك كنت بتعمل ايه"‬

‫"كنت بس باتفرج علي صوره و حاجته‪ ،‬ماعملتش حاجة تانية"‬

‫"طيب كنت بتحاول تقلده ليه؟"‬

‫"يا باشا‪ ،‬اخوك ده مافيش راجل مش عايز يبقي زيه‪ .‬يعني واثق من نفسه كده و مافيش واحدة المؤاخذة تستعصي عليه‪".‬‬

‫"بس كده؟"‬

‫"بس الصراحة يا باشا‪ ،‬ايهاب بيه كان مفهمني انه مجرم هربان و كان بيشتغل في التهريب و مراكب الهجرة‪".‬‬
‫"بيتهيألي أنا قلتلك كان ايه دوره بالظبط في الحكاية دي‪".‬‬

‫"مانا فهمت بعدها انه كان جدع ابن حالل و راجل‪ .‬بس أدام ماعملش حاجة غلط ايه اللي يخليه يهرب؟"‬

‫"هو نفس اللي خالك تشتغل مرشد مع ايهاب غصب عنك‪ .‬اتلفقتله تهمة من واحد طمعان في أمالكه‪ ".‬سكت مراد قليال ثم استطرد‬
‫"يوم ما ايهاب دخل عليا و موت القطة‪ ،‬هل كان متفق معاك انك تشوف اللي حصل‪ ،‬و تيجي تنقذني علشان اقبل انك تدخل و تخرج من‬
‫القصر‪" ،‬‬

‫نظر صبحي الي األرض في خجل‪" ،‬و كتاب هللا‪"..‬‬

‫"من غير حلفان!" قاطعه مراد‪.‬‬

‫"من غير حلفان أنا كنت ساعات باقعد اشوفك و انت بتقرأ و اال بتعزف‪ .‬ايهاب عرف اني كنت باراقبك‪ ،‬بس ماكانش فاهم اني كنت‬
‫باعمل كده علشان حياتكم كانت عاجباني قوي‪ .‬يوميها قاللي اني خايب و مش باعرف اعمل حاجة زي عادته‪ .،‬و قال حيعمل حركة‬
‫تضمن اني ادخل‪ ،‬و قاللي اول ما يخلص ادخل علي طول‪ ".‬نظر صبحي لمراد بعينين عاندتا الدموع ‪" .‬أنا من غير ما أعرف لو كنت‬
‫شفت حاجة أذتك كنت آجي جري احوش عنك حتي لو‪"...‬‬

‫عرف مراد الصدق في عينيه عندما رآه‪ ،‬و استطرد صبحي‪" ،‬ماكنتش عارف ان ايهاب واطي كده‪ ،‬و عرفت ساعتها انه بينتقم منك‬
‫لمصلحته‪ ،‬و حلفت يوميها علي تربة ابويا إني احميك منه‪".‬‬

‫"ما تخافش عليا يا صبحي‪ ،‬ايهاب ماعادش قدامه دلوقت غير انه يكشف كل ورقه‪.".‬‬

‫"طب و انت حضرتك ناوي تعمل ايه؟ ده ايهاب بيه كان عاوزني ادور علي اوراق الملكية و اسلمهاله‪".‬‬

‫قال مراد باستغراب‪" ،‬يعمل ايه بأوراق الملكية؟"‬

‫"ماعرفش يا باشا‪ ،‬أنا مافهمش‪ .‬قوي في المسائل اللي زي دي‪ ،‬بس لو المزرعة بإسم الباشا أخو حضرتك أوراق الملكية تعمل ايه‬
‫اليهاب؟"‬

‫"لو كان يورث في حالة اعالن وفاة حمزة أو لو التنازل ده فعال حقيقي‪ ،‬في الحالتين الهدف اني اتطرد من هنا‪ ".‬أطرق مراد قليال‪ ،‬ثم‬
‫استطرد‪" ،‬كنت عارف حاجة عن اكرم؟"‪.‬‬

‫"المهندس اكرم ماكانش ليه دعوة بيا خالص‪ .‬الوحيد اللي ماكانش بيتكلم معايا‪ ،‬مع ان كل الشباب يعني رحبوا بيا و عاملوني زي‬
‫ماكون منهم و عليهم‪ . ..‬بس يعني يا باشا سامحتني؟"‬

‫"بطل تقوللي باشا‪ ،‬ايوة سامحتك‪ ،‬بس لو شفتك في اوضة حمزة تاني أنا اللي حاضربك بالنار‪".‬‬

‫"عمري ما حاعمل حاجة تزعلك ابدا‪ ،‬الحكيمة قالتلي حافك الرباط كمان يومين و اقدر ارجع الشغل"‬

‫"كويس‪ ،‬علشان ورانا زيارة مخصوص لرهوان"‬

‫استلقي مراد علي فراشه بينما قامت ناتاشا و فتاة هندية بما سمته عالج بالطاقة‪ .‬كانت يداهما مرفوعتان بمسافة قصيرة تزيد قليال علي‬
‫الشبر‪ ،‬و مرتا بكل جزء من رجليه‪ .‬استمر العالج لما زاد عن الساعة لم يشعر فيها مراد بشيء يذكر‪ .‬كان ذلك يتيح له وقتا للتفكير فيما‬
‫سيحدث فيما بعد‪ .‬الحظ كيف كانت الفتاة الهندية أنيشا مستغرقة فيما كانت تفعله حتي اغمضت عينيها‪ ،‬و بدت و كأنها قد غابت عن‬
‫الدنيا‪ .‬و بينما هي علي هذا الحال‪ ،‬شهقت فجأة و في نفس اللحظة شعر مراد بما يشبه التنميل بين ركبته و قدمه اليسري‪ ،‬حيث كانت‬
‫تقف أنيشا‪.‬‬
‫"هل شعرت بشيء؟" قالت ناتاشا‬

‫"جيد‪ ،‬لقد بدأت تظهر النتيجة"‬

‫قالت أنيشا و قد استفاقت من حالة التركيز التي اعترتها‪" .‬حري بك أن تتماثل للشفاء في أقرب وقت‪ .‬هناك من يضمر لك الشر‪"،‬‬

‫"ماذا تقصدين؟"‬

‫"أحد أسباب ما أنت فيه اآلن هو القلق المستمر‪ .‬هناك من هو حريص علي اضعافك لكي ال تواجهه‪".‬‬

‫لم يكن ذلك بجديد عليه‪ ،‬و لكن‪ ،‬علي افضل تقدير لديه‪ ،‬فهو ال يملك أن يواجه أباطرة المافيا الذين يحركون‪ .‬ايهاب‪ .‬كان ينتظر حضوره‬
‫بين اللحظة و األخري في ذلك اليوم‪ .‬كان يشعر أن ثمة حمل ثقيل قد سقط عنه برحيل أكرم عن المزرعة‪ .،‬غير أنه كان قلقا‪ ،‬و إن نجح‬
‫في إخفاء قلقه عمن حوله فمن يحركه حقده كإيهاب لن يدعه يهنأ بخروج آمن‪.‬‬

‫وقفت لبيبة علي باب غرفته بينما استعدت السيدتان للمغادرة ‪" .‬مراد بيه‪ ،‬المقدم ايهاب وصل و معاه األستاذ عوني المحامي‪".‬‬

‫"قاعدين لوحدهم؟"‪.‬‬

‫"أل معاهم‪ .‬الباشمهندس عمر و الباشمهندس حسام‪".‬‬

‫"طيب خلي داده تيجي تساعدني‪ ،‬و أنا حاجي علي طول‪".‬‬

‫***‬
‫نفث ايهاب دخان سيجارته‪ ،‬رغم االعتراض المهذب الذي صدر عن عمر‪ ،‬متعلال بما لدخان السجائر من رائحة تضايق مراد‪ .‬لم يعبأ‬
‫له ايهاب‪ ،‬و ظلت حجرة المكتب في حالة من التوتر‪ ،‬حتي اتي مراد علي كرسيه المتحرك‪.‬‬

‫"حمد هللا عالسالمة" قال ايهاب بنصف ابتسامته الساخرة‪،‬‬

‫"طلباتك؟" قال مراد ببرود‪.‬‬

‫أشار ايهاب لعوني في ثقة‪ ،‬فقام الرجل من مقعده و سلم صورة ضوئية لوثيقة ما لمراد‪" .‬دي صورة من عقد التنازل يا مراد بيه"‬

‫"حمد هللا علي سالمتك يا متر عوني‪ ،‬أنا كنت خايف عليك قوي لما ماجيتش يوم الشهر العقاري‪ ،‬الحمد هلل إنك بخير‪ ".‬قال مراد في‬
‫تهكم و هو يتسلم الوثيقة و يعطيها لعمر‪.‬‬

‫"اقراهالي من فضلك يا عمر انت عارف اني ضعيف في العربي‪".‬‬

‫قرأ عمر‪ .،‬و كانت بالفعل الوثيقة تنص علي التنازل عن القصر و المزرعة‪ .‬لصالح واحد اسمه مرسي الزهار‪ . ،‬صاحب شركة‬
‫سافوريتتي جروب‪ .‬بذل مراد جهدا جبارا لكي ال ينتفض فور سماعه ذلك االسم و فهم في لحظة خاطفة مدلول ذلك كله‪.‬‬

‫"و يبقي مين مرسي الزهار؟" قال مراد‬

‫"ده يبقي مستثمر كبير من اسكندرية و له اعمال برة‪".‬‬

‫وجه مراد كلماته الي عوني‪" ،‬حضرتك متفق معايا ان موقف سيادة المقدم مش مفهوم‪ ،‬خصوصا انه ال زال في القوة‪ ،‬يعني مايقدرش‬
‫يقوم بأنشطة تجارية"‬

‫"سيادة المقدم بيقوم بدوره في تأمين المنطقة‪ ،‬حضرتك عارف إن المنطقة فيها قلق كتير و أعمال غير قانونية"‬

‫"مفهوم‪ .‬طيب يا بهوات‪ ،‬مش حانختلف‪...‬قدامنا مهلة قد ايه و نخلي المزرعة؟"‪.‬‬

‫"مهلة ستين يوم زي ما هو مكتوب‪ .‬إتأكدت حضرتك من اإلمضاء؟"‬


‫نظر مراد الي أسفل الوثيقة‪" ،‬هي امضته‪ ،‬بس شكلها غريب‪ ،‬زي ميكون مضي تحت التهديد"‬

‫قال ايهاب‪" ،‬انت خيالك واسع قوي يا ميرو‪ .‬دي إمضة ابن عمي وأنا عارفها كويس‪".‬‬

‫"تمام‪ ،‬خالل ستين يوم ييجي يستلم المزرعة ‪ ،‬احنا نكون صفينا أشغالنا كلها‪".‬‬

‫قال ايهاب في شماتة‪" ،‬و الزم نعمل حفلة كبيرة‪ .‬مرسي باشا مصر ان نجالء تعمل حفلة عيد ميالدها هنا في القصر‪ ،‬و حتبقي حفلة‬
‫الموسم‪ .،‬و انت طبعا معزوم‪ .‬حيبقي قبل الشهرين ما يفوتوا بكام يوم‪ ،‬بس انت طبعا ماعندكش مانع‪".‬‬

‫"هي صحيح بتحتفل بعيد ميالدها كل شهرين تالتة بس مافيش مانع‪".‬‬

‫"و حتسلمها سمارة بنفسك‪ ،‬انت عارف بتحبه قد ايه‪".‬‬

‫"بس كده؟"‬

‫"نستأذن احنا بقي‪ ،‬باي يا ميرو‪".‬‬

‫"مع السالمة"‬

‫الحظ مراد ارتباك عوني‪ ،‬و قد ترك جراب نظارته علي المكتب قبل أن يغادر‪ .‬ما إن خرج مع ايهاب من باب القصر حتي ركل عمر‬
‫الحائط في غيظ‪" .‬أنا مش قادر أفهم ليه حمزة يعمل كدة‪ ،‬انت تعرف اللي اسمه الزهار ده يا مراد؟"‪.‬‬

‫"ماظنش قابلت حد باالسم ده‪".‬‬

‫فتح باب القصر ثانية و دخل عوني مسرعا الي المكتب‪" ،‬مراد بيه‪ ،‬التنازل ده حيبقي مالوش قيمة لو لقيت تحويل الملكية باسمك ألنه‬
‫بتاريخ سابق و يبقي التنازل باطل‪".‬همس‪ .‬عوني في عجالة و هو يلتقط جراب نظارته من علي المكتب ثم هم بالخروج‪.‬‬
‫زفر عمر في ضيق و هو يشاهد عوني خارجا من القصر‪.‬‬

‫"عوني بيعمل كده ألنه تحت التهديد‪".‬‬

‫"ما أنا عارف‪ ،‬انا متغاظ من البجح اللي عاوز يعمل حفلة للكونتيسة بتاعته هنا!" قال عمر‬

‫"أنا بقي عاوزهم‪ .‬ييجوا كلهم‪ ،‬و باألخص مرسي الزهار‪ ،‬عايز أكون في استقباله‪ ".‬اطرق مراد و نظرة التصميم في عينيه قد اعطت‬
‫عمر أمال طفيفا‪" ،‬فين صبحي؟ الزم نروح نطمن كلنا علي رهوان‪ ،‬تعالي معانا يا حسام‪".‬‬

‫و اتجه ثالثتهم الي االسطبل حيث وجدوا فرحات و صبحي يتناوالن الشاي‪ ،‬و قد حلت المودة بينهما محل الشك و الصد‪" .‬صبحي‪ ،‬مش‬
‫تطلع رهوان يفك عن نفسه شوية؟"‬

‫استجاب صبحي‪ ،‬و اتجه نحو رهوان ‪ ،‬و قام بتلجيمه و اصطحبه برفق الي خارج االسطبل‪،‬و انصاع له الجواد في هدوء ‪" .‬ناولني‬
‫الشوكة الكبيرة اللي هناك دي عم فرحات"‬

‫و دخل مراد الي االسطبل‪ ،‬مستخدما الشوكة إلزاحة اكوام القش و ما علق بها من روث عن األرضية‪.‬‬
‫"عنك يا مراد بيه‪ ".‬قال فرحات و هم بأن يأخذ الشوكة من يده‪ ،‬لكن مراد استمر فيما كان يفعله حتي ظهرت حلقة معدنية في األرضية‪.‬‬
‫وتراجع بكرسيه ليتيح لفرحات المجال لفتحها‪.‬‬
‫"شد الحلقة يا عم فرحات‪ ،‬خلينا نشوف ايه اللي تحتها‪".‬‬

‫و فعل فرحات‪ ،‬مخرجا حقيبة جلدية بلون بني‪ ،‬بدت قديمة و قد عالها الغبار‪ .‬مسح فرحات عنها الغبار و قرأ ما كتب عليها‪" :‬شنطة‬
‫حمزة!"‬

‫ابتسم مراد‪ .،‬و قال لفرحات‪" .‬هاتها و تعالي معايا علي جوة‪"،‬‬

‫اتجه مراد الي غرفة المكتب دون ان ينتظر أحدا ليدفع كرسيه المتحرك‪ ،‬و ظلت الحقيبة مستقرة علي رجليه و هو يدير عجالت‬
‫الكرسي بيديه‪ ،‬يحدوه شوق عامين كانا أطول ما مر عليه في حياته‪ .‬دخل الي المكتب ووضع الحقيبة علي المكتب‪ ،‬و نظر اليها غير‬
‫قادر علي التصديق‪ .‬وقف عمر و حسام علي مدخل المكتب و قال عمر مبتسما‪" ،‬صحيح أنا نفسي أعرف ايه اللي جوة‪ ،‬بس حاسيبك‬
‫تكتشفه لوحدك يا ميرو‪.‬إحنا ورانا حاجة تانية"‬

‫"حاحكيلك كل حاجة"‬

‫"ماشي‪ ،‬يالال سالم"‬

‫لقد أسرت تلك اللفتة مراد الذي ظل مبتسما حتي بعد أن أغلق عمر الباب مراعاة لخصوصيته‪ .‬ضحك متندرا علي جملة "شنطة حمزة"‬
‫التي ذكرته بطفولته‪ .‬فتح الحقيبة ووجد أوراقا بدت كأوراق رسمية و و قد ثبت في كل منها رسالة بالفرنسية توضح ما هو مكتوب‪ ،‬ثم‬
‫عثر علي مفتاح يو إس بي‪ ،‬أسرع بإدخاله الي جهاز الحاسوب الذي كان علي المكتب‪ ،‬و انتظر حتي ينتهي الجهاز من تحميل ما كان‬
‫به من بيانات‪ .‬و بينما كان ذلك يحدث‪،‬بحث مراد عن المزيد من األوراق ليجد صورة قديمة‪ .،‬ظهر فيها حمزة شابا‪ ،‬بجوار ماري هيلين‬
‫و كانت مستلقية علي الفراش‪ ،‬تحمل بين ذراعيها رضيعا‪ ،‬و عن يمينهما ظهرت إقبال‪ ،‬و بجوارها نفس الرجل الذي رآه مراد من قبل‪،‬‬
‫دييجو الفاريز و قد ظهرت عليه عالمات تقدم العمر‪ .‬و خلف الصورة كتب حمزة هذه الكلمات‪،‬‬
‫"لن تري جيدا إال بقلبك‪ ،‬فاألشياء الهامة خفية عن العيون‪" .‬‬

‫ابتسم مراد لتلك المقولة‪ ،‬التي لم تكن لتحمل الكثير من المعني لو لم يكتشف ما قد اكتشفه‪،‬لكن كان أبرز ما كشفت عنه الصورة‪ ،‬هو أنه‬
‫ولد ألسرة كانت سعيدة بمولده و تحيطه بالحب و الرعاية‪ .‬ثم نظر الي شاشة الحاسوب و قد انتهي من التحميل‪ .‬وجد صورا ضوئية‬
‫لجميع الوثائق التي احتوت عليها الحقيبة‪ ،‬و رسالة صوتية‪.‬‬

‫استمع مراد الي الرسالة‪:‬‬

‫"مراد أرجو لما توصلك رسالتي تعرف إني مش ممكن‪ .‬اتخلي عنك‪ .‬كان وجودي جنبك في الفترة األخيرة فيه خطر علي حياة أي حد‬
‫مهم بالنسبة لي‪ .‬كان الزم أتصرف بسرعة و ده كان الحل الوحيد‪ .‬فاكر لما قلتلي اني حاعرض كل الناس للخطر لو استمريت في إنقاذ‬
‫المهاجرين‪ .‬ده كان بعد رسالة التهديد الوحيدة اللي انت شفتها‪ ،‬لكن ما كانتش اول رسالة‪ ،‬و سبق قبلها أعمال تخريب و محاوالت قتل‪.‬‬
‫كان الحل الوحيد إني أختفي بعد ما كتبت تنازل عن القصر و المزرعة‪ .‬لواحد من زعماء مافيا الهجرة في اسكندرية اسمه مرسي‬
‫الزهار‪ .‬كان الشرط انه مايتعرضلكش بأي شكل‪ .‬اللي انت ماتعرفوش‪ ،‬اني عملت اجراء لتحويل الملكية بإسمك بتاريخ سابق‪ ،‬يعني‬
‫مجرد الورق ده ما يظهر‪ ،‬تقدر تقدمه للمحكمة و تطعن في التنازل‪ .‬بس ده ماتعملوش إال لما تكون رتبت نفسك إنك ترجع لنيس‪ ،‬و‬
‫تكون آخر حاجة تعملها قبل ما تسافر‪.‬‬
‫صعب جدا يا مراد انك تواجه الناس دول‪ .،‬و ده الدرس اللي اتعلمته‪ .‬ايهاب اللي هو ابن عمي هو اكبر عدو لي دلوقتي‪ ،‬و حاول اكتر‬
‫من مرة يلفقلي قضية تهريب مخدرات‪ ،‬غير القضايا الكيدية‪ .‬أنا شاكك إن ليه عالقة بمرسي الزهار‪ .،‬لكن ماعنديش دليل‪.‬‬
‫أنا سافرت ألن لسة عندي سالح ماستخدمتوش‪ .،‬يمكن ساعتها أقدر أأمن خروجك من مصر‪.‬‬
‫مراد‪ ،‬مهم جدا انك تنفذ اللي باقولك عليه‪ ،‬و لو احتجت مساعدة عمر هو اكتر واحد باثق فيه‪ .‬الشيخ مجاهد‪ ،‬كبير قبيلة أوالد عوف‬
‫ممكن يقدملك مساعدة كبيرة عند الضرورة‪ ،‬علوان ممكن‪ .‬يوصلك بيه‪ .‬إوع تتهور و تواجه أي حد منهم لوحدك‪ .‬بس ماتخافش ألني في‬
‫أوقات حاكون قريب منك من غير ماتشوفني‪ .‬مهم انك ماتعرفش أنا فين وإني ماتصلش بيك‪ ،‬علشان تفضل في أمان‪ ،‬ده اختيار قاسي‬
‫ليا و ليك‪ ،‬لكن لو كان ده تمن حمايتك فأنا راضي بيه‪ .‬اعتبرني رايح اجيب الديب من ديله و راجع‪".‬‬

‫توقف صوت حمزة و تبعته اغنية "رايح اجيب الديب من ديله" لفؤاد المهندس‪ ،‬وتذكرها‪ .‬مراد‪ ،‬فقد كان حمزة يغنيها له وهو طفل‪ .‬لم‬
‫يشعر بالدموع تجري علي وجنتيه حتي سمع نقر خفيف علي الباب‪.‬‬
‫"ايوة يا لبيبة"‬

‫"مراد بيه‪ ،‬علوان عايز يتشكر لحضرتك"‬

‫"طب دخليه"‬

‫دخل علوان تعلو وجهه ابتسامة واسعة‪ ،‬كشفت عن أسنانه التي اصفرت من شرب السجائر طوال النهار‪ .‬لم تزل خطوته متأثرة‬
‫باإلصابة‬
‫"حمد هللا علي السالمة يا علوان‪ ،‬انت احسن دلوقتي؟"‬

‫"أنا بخير الحمد هلل يا بيه كتر خيرك"‬

‫"تحب تاخد أجازة كام يوم كمان؟"‪.‬‬


‫"ال يا بيه‪ ،‬أنا جيتلك علشان عمي الشيخ مجاهد كان طالب يشوفك"‬

‫"يشرف أهال و سهال‪ ،‬ده أنا كنت عاوز أشوفه‪ ،‬امتي يحب ييجي؟"‬

‫"حييجي بعد العصر‪"،‬‬

‫" يشرف‪ ،‬بلغه اننا في انتظاره‪".‬‬

‫انصرف علوان و زفر مراد في ارتياح‪ .‬ووضع المستندات بحرص داخل الخزانة‪ ،‬بما فيهم مفتاح اليو إس بي‪ ،‬و اتجه بكرسيه الي‬
‫الصالون‪ ،‬حيث سمع ضحكات رجل و صوت امرأة ترجوه أن يخفض صوته‪ .‬كما توقع كان الرجل صبحي يحمل وردة حمراء للبيبة‬
‫التي ارتبكت فور أن رأت مراد‪.‬‬
‫"بتعمل ايه عندك يا صبحي" قال مراد بهدوء‬

‫"أبدا يا بيه‪ ،‬باقولها هابي فاالنتايم يعني‪".‬‬

‫"آه صحيح النهاردة ‪ 14‬فبراير‪ ،‬و قلتلها هابي فاالنتايم؟"‬

‫ابتسم صبحي في خجل‪" ،‬الصراحة يا مراد بيه‪ ،‬البت لبيبة طيبة و غلبانة و بنت حالل‪ ،‬و أنا يعني‪"...‬‬

‫"عاوز تطلب ايدها؟"‪.‬‬

‫"الصراحة ايوة يا بيه‪ ،‬بعد اذنك يعني‪"،‬‬

‫"و بتستأذني ليه‪ ،‬هو أنا ولي أمرها؟"ثم‪ .‬نادي مراد‪" .،‬يا داده؟ تعالي من فضلك"‬

‫"أيوة يا مراد جاية" قالت حليمة من الناحية األخرى من الردهة ‪.‬‬

‫جاءت حليمة تحمل صينية عليها زجاجة ماء بالليمون‪" ،‬كنت عايزني في ايه"‬

‫"لبيبة جالها عريس"‬

‫نظرت حليمة باستغراب الي لبيبة‪ ،‬ثم الي صبحي‪" ،‬هو انت العريس يا منيل؟"‬

‫غالب مراد الضحك‪" ،‬أيوة يا دادة‪ ،‬انت خالتها وولي أمرها‪ ،‬ايه رأيك؟"‬

‫"الرأي رأي صاحبة الشأن"‬

‫احمر وجه لبيبة و ابتسمت و هي تنظر الي االرض‪" ،‬طيب‪".‬‬

‫"يا بت يا سهتانة!" و أطلقت زغرودة مدوية‪ ،‬و اتجهت الي المطبخ‪.‬‬

‫"الليمون يا داده!"‬

‫"ليمون ايه يا مراد‪ .،‬دلوقتي أبل الشربات!"‬

‫"طيب ممكن نستني عالشربات لحد الليلة دي؟ حنعملكوا حفلة كبيرة و نغني و نهيص لحد الصبح عند الشجرة اللي في الجنينة‪ .‬يالال‬
‫ياصبحي علشان تعلقوا الزينة!"‬

‫كانت السعادة تشع من وجه مراد و عيناه تتبعان صبحي و لبيبة و هما يفتحان باب القبو الذي كان مخزنا للزينات‪ ،‬و أشياء أخري‬
‫تذكرها مراد فجأة‪ ،‬كأدوات موسيقية و معدات كاملة لبناء استديو لتسجيل الموسيقى لم يتاح لحمزة أن يستخدمها‪ .‬بعد برهة صعد كال‬
‫من صبحي و لبيبة يحمل كل منهما صندوقا من الكرتون‪.‬‬
‫"باقلكوا ايه يا صبحي‪ ،‬قول لعمر اني عاوز العيال األجانب عندي هنا‪ .‬و رانا شغل كتير في البدروم‪ .‬بعد الغدا‪".‬‬
‫**‬
‫قدم الشيخ مجاهد يصحبه ثالثة من الرجال و علوان الي الشرفة األمامية‪ ،‬حيث جلس مراد يحتسي قدحا من الشاي األخضر‪ .‬كان الشيخ‬
‫مجاهد رجل متوسط الطول‪،‬يرتدي نظارة سميكة‪ ،‬و قد أطلق لحيته‪.‬‬
‫"أهال وسهال عمي الشيخ‪ .‬سامحني‪ ،‬مش قادر أقوم أسلم عليك‪".‬‬

‫"العفو يابني‪ ،‬ربنا يقومك بالسالمة‪".‬‬

‫"شرف كبير إن حضرتك تجيلنا‪ ،‬ده واجب علينا‪".‬‬

‫"ده احنا اللي جايين نقوم بالواجب يا سعادة البيه‪ .‬معروفكم مع علوان مايتنسيش"‬

‫"يا خبر أبيض‪ ،‬ده الواجب"‬

‫جاء فرحات يحمل صينية بأكواب شاي‪ ،‬ووضعها علي المنضدة أمام مراد‪ .،‬و قدم كوبا للشيخ مجاهد‪.‬‬

‫"إزيك يابو عماد‪".‬‬

‫"الحمد هلل يا حاج‪".‬‬

‫الحظ مراد أن ثمة معرفة سابقة بينهما‪ .‬هم فرحات باالنصراف‪ ،‬لكن الشيخ استوقفه‪" ،‬استني يابو عماد‪.".‬‬

‫"شوف يا مراد يابني‪ ،‬إحنا ما شفناش من حمزة بيه أخوك غير كل خير‪ ،‬و انت ما تتخيرش عنه في األصل و الكرم‪ .‬أنا جاي أقولك إن‬
‫اللي حصل عندكم من كام يوم و انصاب فيه علوان مش حد من القبايل اللي هنا‪".‬‬

‫"ماحنا عارفين يا شيخ مجاهد‪".‬‬

‫"اللي كانوا عندكوا دول شوية صيع لمهم الظابط اللي اسمه ايهاب الشيمي‪ .‬الخوف لو كانوا رجالة الزهار هم اللي جم‪ .‬وانت يابني مش‬
‫قد الناس دول‪".‬‬

‫"قصد حضرتك ايه يا عمي الشيخ؟"‬

‫"قصدي يابني‪ ،‬إني كنت متفق مع أخوك من قبل ما يغيب الغيبة الطويلة دي‪ ،‬إننا مش حانقدر نساعده في المشروع اللي اتحدي بيه ناس‬
‫هو مش قدهم‪ .‬و فتح علي نفسه أبواب جهنم‪ .‬القصد‪ ،‬احنا ماكانش معانا فلوس وقتها نشتري منه المزرعة باللي فيها‪ ،‬و ماخبيش عليك‬
‫المبلغ ده صعب يتوفر معانا‪ ،‬لكن ممكن تفكر في عقد انتفاع؟"‬

‫"تمام‪ ،‬و ايه شروطكم؟"‪.‬‬

‫"انتفاع لمدة عشرين سنة‪ ،‬يتجدد كل خمس سنين‪ ،‬و تفضل المزرعة زي ما هي‪ ،‬و يفضل المستوصف و المدرسة و مركز التدريب‬
‫مفتوحين‪ .‬و عالوة علي كدة‪ ،‬حنمنع أي نشاط تهريب او هجرة‪...‬لكن مش حنتدخل‪ ،‬اللي عاوز يهاجر هو حر‪ .‬والمزرعة حتمشي زي‬
‫ماهي‪ ،‬مانتوا دربتوا شباب كتير من عندنا علي شغلكوا‪ ،‬و حيبقالكم ‪ %20‬من أرباح المزرعة"‪.‬‬

‫"عم فرحات‪ ،‬ممكن تفهمني دخلك في كل ده ايه؟"‬

‫"نا بانفذ تعليمات حمزة بيه‪ .‬قاللي أول مراد ما يستلم أوراق الملكية أبعت للشيخ مجاهد‪ ،‬لكن ماقالليش األوراق كانت فين وال أجيبها‬
‫ازاي‪ ،‬و إال كنت وفرت عليك اللفة الطويلة دي‪".‬‬

‫"و القصر يا عمي الشيخ‪ ،‬حتاخدوه برضه؟"‬

‫"القصر حيفضل بتاعكوا‪ ،‬و لو إني أنصحك تبعد عن مصر في الفترة الجاية ‪".‬‬

‫"طيب و الناس اللي بتاكل عيش من المزرعة‪ .‬و جايين من كل حتة‪".‬‬


‫"يفضلوا مكانهم يابني عالعين و الراس‪".‬‬

‫"طيب ايهاب مش حيضايقكم هو و الناس اللي وراه؟"‬

‫ضحك الشيخ‪" ،‬يابني ايهاب ده ايه اللي حيخوفنا؟ ده أيامه معدودة في الداخلية علشان المخالفات اللي ارتكبها‪ .‬و مش حيبقاله عازة عند‬
‫الزهار‪.".‬‬

‫"و الزهار ده ايه حكايته يا عمي الشيخ؟"‬

‫"ده راجل ما حدش عارفله ال أصل و ال ملة‪ .‬بيقولوا ليه اتصاالت بالمافيا اللي برة‪ ،‬بيورد شباب علشان يبقوا ميليشيات عسكرية‪ ،‬غير‬
‫تجارة العبيد في ليبيا و الدعارة‪ .‬باين عليه لما فهم أخوك كان بيعمل ايه انتهزها فرصة ياخد المزرعة علشان تبقي بؤرة لكل حاجة‬
‫اتهموا بيها اخوك ظلم‪ .‬لكن الزهار ده عامل زي األخطبوط و مسنود من ناس تقيلة قوي‪ .‬يعني القانون مش حينصفكم منه‪" .‬‬

‫كان هناك أمل جديد يلوح لمراد بظهور الشيخ مجاهد في الصورة‪ ،‬لكن‪ ،‬أحقا كان يمكنه الثقة به؟ ماذا لو كان يعمل لحساب مرسي‬
‫الزهار‪ .‬كان ذلك االحتمال مستبعدا‪ ،‬بدا حديثه منطقيا‪.‬لم يخل الوضع من التعقيد‪ ،‬لكنه كان كالظالم الذي يسبق بزوغ الفجر‪ .‬كان علي‬
‫مراد أن يحسن دراسة خطواته القادمة‪ ،‬بدا أمل أجمل من أن يتحقق‪ ،‬فآثر أال يعطي الشيخ مجاهد ردا قاطعا‪.‬‬

‫"طيب يا عمي الشيخ‪ ،‬مجية حضرتك كبيرة عندي قوي‪ .‬و إن شاء هللا مش حنختلف‪ .‬لكن حضرتك عارف اإلجراء القانوني بياخد وقت‬
‫‪ .‬اللي جاي بعد كده سهل‪".‬‬

‫"ماشي يابني‪ ،‬نتوكل احنا علي هللا"‬

‫"علي فين مش تتغدوا؟ و بعدين عندنا الليلة دي سهرة و الزم تشرفونا‪".‬‬

‫"أنا يابني ماليش في السهر‪ ،‬بس برضه حنقوم بالواجب‪".‬‬

‫كان احساس مراد بالتروي في محله‪ ،‬فعندما رأي وجوه مرافقي الشيخ بدا أحدهم‪ .‬كما لو كان قد رآه من قبل‪ ،‬لكنه لم يتذكر أين و متي‪.‬‬
‫شعر بالخطر لما أثاره وجه ذلك الرجل في نفسه من خوف ال تفسير له‪ ،‬فقد اقترنت مالمحه الغليظة بذكري مؤلمة غابت عنه‪.‬‬

‫"يبقي مين الراجل اللي هناك ده يا عمي الشيخ؟"‬

‫"ده واحد من الصيادين‪ .،،‬غلبان مخه علي قده‪".‬‬


‫*‬
‫قضي مراد عصر ذلك اليوم محاوال نبذ وجه ذلك الرجل عن مخيلته‪ .‬و هو يستكشف الكنوز التي احتواها البدروم‪ .‬من آالت موسيقية‬
‫يصحبه عدد من الشباب الذين كانوا يتدربون بالمزرعة و تحمسوا لفكرة العزف معه إلحياء الحفل‪ .‬كانت األفكار الخالقة تتدفق من‬
‫عقولهم الشابة‪.‬‬

‫"ايه الصندوق ده يا ميرو؟"‪.‬‬

‫"ده كان مشروع أللبوم ماتنفذش يا عمر‪".‬‬

‫"طب ليه بقي‪ ،‬هو انت حتغني برجلك؟"‬

‫ضحك مراد‪"،‬أل‪ .،‬بس ماكانش ليا نفس‪".‬‬

‫"ياريتك غنيت حاجة مع حمزة‪".‬‬

‫أطرق مراد مبتسما للفكرة‪" ،‬انت عارف اننا فكرنا في الموضوع فعال؟ بس أنا طريقتي مختلفة عنه خالص‪".‬‬

‫"ماشي األوبرا و الزعيق ده ليه جمهوره‪ ،‬بس يعني‪ ،‬غنيلك حاجة فرايحي كده"‬

‫"ماشي حنشوف الفرايحي الليلة دي‪" .‬‬


‫"ماشي وأنا حابقي وراك عالدرامز و تبقي هيصة"‬

‫"هو انت بتعزف درامز؟"‬


‫"عيب ده أنا بتاع كله‪".‬‬

‫"ماشي يا بتاع كله‪ ،‬عندنا مهمة‪ .‬انتحارية الليلة دي"‬

‫لطم عمر وجهه مازحا‪" ،‬يا لهوي‪،‬قول"‬

‫"فيه راجل شكله وحش كده كان مع الشيخ مجاهد خالني أشك في كل حاجة‪".‬‬

‫"طيب‪ ،‬نعدي الليلة دي علي خير و شك فيه براحتك‪...‬داحنا بقالنا سنتين ماهيصناش‪ ،‬حرام عليك يا ميرو‪".‬‬

‫"أنا كنت متطمن للشيخ مجاهد لحد ما شفت الراجل ده‪ .‬عموما ماتقلقش حتهيص و حيكون فيه بوفيه كمان‪ .".‬ثم التفت الي لبيبة‪" ،‬عايزك‬
‫تاخديني علي فوق يا لبلب‪".‬‬

‫اقتادته لبيبة الي الدور‪ .‬العلوي‪ ،‬و دخال الي غرفته‪" .‬افتحي الدوالب و ناوليني الشكمجية‪".‬‬

‫أعطته علبة كبيرة من الصدف‪ ،‬فتحها وأخرج منها علبتين من القطيفة‪" .‬الحلق ده بتاع ماما هللا يرحمها‪ ،‬عايزك تلبسيه الليلة دي‪ ،‬تبقي‬
‫هدية فرحك"‬

‫ابتسمت الفتاة و كادت تبكي فرحا‪ "،‬بس ده كتير قوي يا مراد بيه"‬

‫"ال كتير والحاجة‪ .‬العلبة دي فيها دبلتين علشانك انت و صبحي‪ .‬تعالي نشوفله بدلة من بتوع حمزة"‬

‫"معقول حتخليه يلبس بدله من بتوع حمزة بيه؟"‬

‫"و ليه أل‪ ،‬بس حتقصريله البنطلون شوية"‬

‫كان لذلك اليوم طاقة غير مألوفة‪ .،‬لقد كانت السعادة تشع من كل ركن بالبيت‪ ،‬كانت تسري بجسد مراد فتوقظ مشاعره من سبات عميق‪.‬‬
‫كان يشعر بالربيع قبل أوانه‪ ،‬عندما تدب الحياة في األغصان الجافة فتتفتح زهرا و تثمر بالخير‪ .‬كان بث السعادة في نفوس اآلخرين‬
‫مهمة مقدسة لديه‪.‬‬

‫كانت السهرة قد بدأت‪ ،‬و اجتمع من اجتمع من أهل المزرعة‪ .‬حول النار في جو من البهجة و الحميمية لم تشهده المزرعة‪ .‬منذ زمن‪ .،‬بدا‬
‫كأنه كان اكثر من عامين‪ .‬كان مراد يجلس بالداخل‪ ،‬تختلط عليه المشاعر‪ .،‬فيغريه سحر السمر و الموسيقى بالخروج من عزلته تارة‪ ،‬و‬
‫يؤثر األمان في جلسته علي الكرسي المتحرك تارة أخري‪ .‬لم تكن هناك خشبة مسرح يعتليها فيملك علي مشاهديه حواسهم كما اعتاد‪ ،‬و‬
‫لم يكن هناك حمزة الذي لم يكترث في وجوده لما قد يعكر صفو مزاجه‪.‬‬

‫"ميرو يا حبيبي‪ ،‬انت قاعد لوحدك ليه؟" قال عمر و كان بصحبته صبحي‪.‬‬

‫"ايوة يا مراد بيه‪ ،‬ده القعدة برة ناقصاك‪".‬‬

‫"سايب عروستك و جايلي‪ ،‬و بعدين بالشياكة دي ماينفعش تقوللي يا بيه‪ "،‬قال مراد مداعبا‪.‬‬

‫"بقي ده كالم يا ميرو‪"،‬قال و هو يدفع الكرسي المتحرك‪" ،‬احنا مش كنا حنهيص الليلة دي و نخليها خل"‬

‫"يعني ايه؟ و بعدين‪ ،‬نروح التراس‪ ،‬مش حانزل دلوقتي‪".‬‬

‫وصلوا إلي التراس‪" ،‬طيب أنا نازل بقي‪ ،‬علشان فيه نص فرخة علي الشواية اللي هناك عمال يندهلي‪ ،‬بس لو خلصته و لقيتك مانزلتش‬
‫حاطلع اجيبك" قال عمر وعلي وجهه نظرة فكاهية‪.‬‬

‫جلس مراد في صمت‪ ،‬يتطلع الي مشهد الحديقة في ابتسامة حنين إلي الماضي قريب بدا بعيدا‪ ،‬بصحبة من كان حاضرا و إن غيبته‬
‫أهوال لم تكن في الحسبان‪.‬‬
‫"يالال يا مراد‪ ،‬الليلة من غيرك ماسخة كده و مالهاش طعم‪.".‬‬

‫لم يرد مراد‪ ،‬بل أخذ نفسا عميقا‪" ،‬شامم ريحة الربيع؟"‬

‫"هو الربيع له ريحة؟ مش بدري شوية؟"‪.‬‬

‫"كنت دايما باحس بالربيع قبل كل الناس‪ ،‬نزلني يا صبحي"‬

‫و استجاب له الشاب باستغراب‪ ،‬حتي وصل الي الحلقة حول النار وسط ترحيب كل من كان حاضرا‪ .‬تناول مراد آلة البزق من الشاب‬
‫طويل الشعر‪ .،‬و عزف اغنية شعبية قديمة و أطلق سراح ما بقلبه في كلماتها‪ .‬كانت الكلمات ترسم صورة للريف في ليل أناره القمر و‬
‫آيات العشق و الهوي التي تسمعها األذن همسا فتنير القلب كما يفعل القمر في الليل‪ .‬كانت لمراد ثقافة موسيقية واسعة‪ .،‬فحرص علي‬
‫خلق ايقاع سريع "فرايحي" كما قال عمر‪ .،‬ال تمله أذن المستمع‪ .‬كانت تلك األغنية فقط هي بداية احيائه الحفل‪ ،‬فعزف لحنا يونانيا‪ ،‬قام‬
‫ثالثة من الشباب األجانب بالرقص علي نغماته احدي الرقصات الشعبية اليونانية‪ .‬و بينما هم يرقصون‪ ،‬قام أحد السوريون بالدق علي‬
‫الطبل‪ ،‬فتغير اإليقاع و تغيرت الموسيقي وأدي ثالثة من السوريين و فتاة لبنانية رقصة الدبكة كما لو كانوا في مباراة مع الشباب‬
‫اليوناني‪ .‬كانت مشاهدة المباراة متعة في ذاتها‪ ،‬أظهرت براعة العازفين في تغيير النغمات و اإليقاع لتستمر المباراة‪ ،‬و في لحظة‬
‫تشابكت أيدي الراقصين‪ ،‬لتجمعهم النغمات ذاتها‪ ،‬و انضم اليهم الواحد تلو اآلخر‪ ،‬يربطهم حبل وثيق من األلفة حتي صاروا صفا‬
‫طويال‪ .‬ضحك مراد من قلبه لرؤية ذلك المشهد‪ .‬كان ذلك هو حلم حمزة الذي لم يتخل عنه مراد‪ .،‬مكان يسوده اإلخاء و التفاهم دون‬
‫موانع اللغة و الثقافة‪.‬‬
‫ظلت النغمات تعلو و تصدح‪ ،‬حتي شعر مراد بأصابع قدميه تتحرك مع الموسيقي فلم يصدق نفسه‪ .‬اقترب منه كال من لبيبة و صبحي و‬
‫قبله كل منهما علي احدي وجنتيه‪ ،‬و لم يشعر بنفسه إال و هو محمول علي األكتاف‪ .‬كانت الضحكات من حوله تمأل قلبه ووجدانه حتي‬
‫كاد أن ينسي ذلك الرجل الذي أثار شكوكه ‪ .‬اعاده الشباب الي الكرسي و جاءه عمر يبتسم‪" .‬ايه الشغل العالي ده‪ ،‬طب مانت بتعرف‬
‫تغني عربي أهه‪".‬‬

‫"دي محاولة‪ ،‬الناس من ذوقها‪ .‬ما قالوليش أنا غلطت كام مرة‪ .‬لو استاذتي في الكونسرفتوار سمعوني كانوا طردوني‪".‬‬

‫"يا عم‪ ،‬كنت آخدهملك عالبوفيه وال تشغل بالك بيهم‪".‬‬

‫"أقولك علي حاجة؟ أنا ناوي أغني في عيد ميالد نجالء؟"‬

‫"واد يا مراد‪ ،‬انت شربت ايه يخرب عقلك؟"‬

‫"أنا باتكلم جد‪ ،‬ناوي علي ريسيتال عشر أغاني‪ ،‬مش بيقولوا حفلة الموسم؟ و اعزملها الصحفيين‪ .‬بس حاعملهالها مفاجأة‪ .‬انت فاهمني‬
‫طبعا‪".‬‬

‫"لعيب‪ ،‬بس الحفلة فاضلها ييجي شهر‪ .‬حاتلحق؟"‬

‫"ماتخافش‪ ،‬كل حاجة معمول حسابها‪".‬‬

‫"بس ناوي تلبس ايه؟"‬

‫"اهي دي مافكرتش فيها"‬

‫"عندي أنا دي‪ .‬بس أنا قلت برضه انك حتكون فرقة من الشباب دول‪ .‬كده تقدم لون جديد خالص‪".‬‬

‫"يمكن باستعد لمرحلة جديدة في حياتي‪...‬بعد ما أمشي من هنا‪".‬‬

‫"أل ده انت عاوزلك قعدة‪ ،‬و بعدين انت يا وله ماقلتليش الشيخ مجاهد قالك ايه‪".‬‬

‫"كل ده اوعدك حاقولهولك بكره‪ ،‬و بالمرة احكيلك عالراجل أبو شكل وحش‪".‬‬

‫"يادي الراجل أبو شكل وحش‪ ،‬حيطلع شكله ازاي يعني؟"‬


‫"بص وراك"‬

‫كان الرجل نفسه قد وصل مع آخرين من قبيلة أوالد عوف بصحبة علوان‪ ،‬كان يمشي بينهم كالمغيب‪ ،‬فلم يبد علي وجهه اي تعبير‪ ،‬لعل‬
‫الشيخ مجاهد كان محقا‪ ،‬و كان ذلك الرجل بالفعل ذو قدرات عقلية محدودة‪.‬‬

‫"هو ده اللي شاغل دماغك؟ ده شكله غلبان"‬


‫"مش عايز اكلمهم‪ "،‬همس مراد في عصبية و هم يقتربون تجاهه‪.‬‬

‫"إجمد يا ميرو‪ ،‬أنا جنبك اهه"‬

‫حرص مراد علي اظهار االحترام لوفد القبيلة‪ ،‬فقد جاءوا ألداء حق الجيرة‪ .‬ابتسم الرجل الغامض و هو يسلم علي مراد‪ .،‬فارتعد ذلك‬
‫األخير‪ ،‬فالحظ عمر و كذلك الحظ الرجل فتراجع‪.‬‬

‫"يابني ليه كده؟"‬

‫"مش عارف يا عمر‪ .،‬غصب عني‪ ،‬الراجل ده فيه حاجة مخوفاني قوي‪...‬كل ما باشوفه باحس فيه مصيبة كبيرة حتحصل‪".‬‬

‫"طيب تعالي أنا حادخلك تستريح‪"...‬‬

‫ألقي مراد نظرة أخيرة علي الحديقة‪ ،‬التي أزهرت فيها السعادة بعد شتاء طويل‪ ،‬و دخل ليستريح‪.‬‬
‫**‬

‫كانت أنيشا قد انتهت من جلسة العالج‪ ،‬نظرت لمراد مبتسمة لتعلمه بأنها كشفت سره‪" ،‬لماذا لم تقل لي؟"‬

‫"لم اكد اصدق أنا نفسي‪".‬‬

‫"ليس لذلك‪ .‬أنت ال تريد أن تخرج من القفص و تتأقلم علي وضع جديد‪".‬‬

‫"ماذا تقصدين؟ لقد كنت أتنقل من وضع جديد إلي آخر طيلة العشرة أعوام الماضية"‬

‫"نعم‪ ،‬و لكنك تتشبث باألمان الذي شعرت به في شخص أخيك‪ ،‬حتي بعد أن اختفي‪ ".‬أطرقت و هي تنظر في عينيه بقوة كأنها تسعي‬
‫لحفر كلماتها في عقله‪" .‬لقد تحرر جسدك عندما أعلنت‪ ،‬بفعلك قبل قولك‪ ،‬أن بإمكانك أن تشعر بالسعادة و تنشرها من دونه‪ .‬يمكنك أن‬
‫تخلق مستقبال خاصا بك إذا أردت‪ ،‬قل لي‪ ،‬لقد ذكرت لي من قبل أن هذا المكان هو حلم أخيك‪ ،‬ماذا عن حلمك أنت؟ أم أنك ستعيش‬
‫تحمل حلم أخيك علي كتفيك خوفا من أن ينهار و أنت تري العمر يمضي أمامك دون أن تحقق ما قد خلقت من أجله؟"‬

‫"أتعرفين‪ .،‬لم أفكر في ذلك من قبل‪ .‬في الماضي كنت أعيش ألحقق رغبة والدتي في تحقيق الشهرة و المجد‪ ،‬و أن أتبوأ مقعدي بين‬
‫نجوم السماء كما كانت تقول لي‪ .‬لم أكن أفكر في أخي األكبر إال كحلم في طفولتي ال مكان له عندما كبرت و صار علي أن أتحمل‬
‫مسؤوليتي‪ .‬و عندما ظهر‪."...‬‬

‫"عدت إلي طفولتك من جديد‪...‬إن أخاك حقا لحلم جميل‪ ،‬من منا ال يريد أن يعيش طفولته بأجمل ما فيها‪ ،‬إال أن هو اآلخر كان عليه أن‬
‫يدرك أن ألفعاله تبعات فقام بعمل ال يقدر عليه فتي مراهق أو طفل‪...‬لقد قام باالختيار دون أن ينظر إلي الوراء‪ ،‬و بهذا أعطاك الفرصة‬
‫أن تتحرر من هذا الحلم لتواجه الحقيقة‪".‬‬

‫لم يعرف مراد كيف يجيب‪ ،‬كان في تلك اللحظة أقرب ما يكون إلي طفل قد سكنت الحيرة عقله قبل عينيه‪،‬‬

‫"أمامك المتسع من الوقت لتقرر ما ستفعله بعد ذلك‪ .‬قم‪ .،‬عليك أن تقوم معي ببعض التمارين‪...‬بعد‪ .‬فترة قليلة ستمشي علي قدميك‪".‬‬

‫"شكرا أنيشا‪ ،‬لكن ال يجب أن يعرف بهذا مخلوق‪...‬إذا أردت أن أحقق ذلك الخروج اآلمن لنفسي و لكم‪".‬‬

‫******‬

‫تثاقلت خطوات الليل نحو النهار‪ .،‬استسلم خاللها مراد لسبات عميق‪ ،‬لم يشعر فيها بعقله ينسحب إلي ما وراء اإلدراك‪ .‬أفاق علي صوت‬
‫حليمة‪ ،‬لكنه لم يستيقظ في فراشه‪ ،‬بل في سرير بغرفة في المستشفي‪.‬‬
‫"صح النوم يا أستاذ‪ .‬الناموسية كحلي واال ايه"‬

‫قال و هو يفرك النعاس عن عينيه‪" ،‬صباح الخير يا داده‪ ...‬هللا؟ ايه اللي انتي البساه ده؟"‬

‫"لبس الشغل‪ ،‬و بعدين برضه حاتقوللي داده؟" كانت ترتدي زي الممرضات األبيض و هي تنظر له في استنكار‪.‬‬

‫"جري ايه يا داده حليمة‪ ،‬انتي ازاي تتكلمي كده؟"‬

‫اعرضت عنه في ضجر‪" ،‬ال‪ ،‬أنا حاشوفلك حد من الدكاترة يشوف حكايتك ايه‪ .‬قال داده قال‪".‬‬

‫كيف و متي انتهي به الحال الي المستشفي؟ لم يتذكر أي شيء عن كيفية وصوله‪ .‬سمع صوت الكرسي المتحرك في الردهة خارج‬
‫غرفته‪ ،‬دخل صبحي متجهما‪ .،‬و هو يرتدي زي المستشفي‪.‬‬

‫"صباح الخير يا صبحي‪".‬‬

‫"أهال"‬

‫"مالك بتقولها من غير نفس كده؟ و بعدين مش قلتلك بالش البرفان ده؟"‬

‫"انت صاحي رايق باين عليك‪ ،‬مالك و مالي يا جدع انت‪ ،‬اتعدل كده علشان اعرف اقعدك عالكرسي‪".‬‬

‫لم يشأ مراد أن يعلق علي أسلوبه الوقح‪ .‬لكن‪ ،‬مالذي كان يحدث له؟‬

‫جلس مراد علي الكرسي‪" ،‬افرد وشك كده مش ناقصين نكد عالصبح‪".‬‬

‫"اندهلي أي حد اتكلم معاه و غور من وشي" قال مراد‪ ،‬فانصرف صبحي في عصبية‪.‬‬

‫اقترب مراد من الباب‪ ،‬مستخدما يديه لتدوير عجالت الكرسي‪ ،‬سمع أصواتا في الردهة‪ .‬فاسترق السمع ليعرف من و هم و عم كانوا‬
‫يتحدثون‪.‬‬
‫"حالته مش بتتقدم خالص يا فندم‪ ،‬برضه النهارده قاللي يا داده‪ ،‬و لسة صبحي خارج من عنده و بيقول بيكلمه زي ما يكون خدام عنده‪".‬‬

‫"لسة مصمم إن اسمه مراد؟"‬

‫"أيوة و علي طول بيسأل علي حضرتك"‬

‫"غريبة‪ ،‬يجوز الصدمة أثرت علي ذاكرته‪ ،‬بس إنه يخترع لنفسه حياة كاملة مع شخصيات ماكانش لها وجود في حياته‪ ...‬ما تعرفوش‬
‫أي حاجة عنه؟"‬

‫"فيه ناس جم يستلموه و مستنيين حضرتك تأشر له بالخروج"‬

‫" طيب أنا داخل أحاول معاه محاولة أخيرة‪".‬‬

‫دخل من الباب رجل طويل القامة‪ ،‬كان شعره األسود قصيرا‪ ،‬و قد ارتدي نظارة طبية و معطف أبيض‪ .‬لم تتبين مالمحه لكن مراد كان‬
‫يعرف من هو‬

‫"حمزة! انت جيت أخيرا" ثم ضحك‪ "،‬ايه اللي انت البسه ده؟"‬

‫"أنا هنا اسمي الدكتور حمزة‪ ،‬و انت بقي‪ ،‬مافتكرتش اسمك لغاية دلوقتي؟"‬

‫انقشعت االبتسامة عن مراد‪" ،‬ايه يا حمزة الهزار ده؟"‬

‫"أرجوك‪ ،‬ساعدني علشان أساعدك‪ ".‬تبدد الحزم عن عيني الطبيب شيئا فشيئا و حلت محله الشفقة‪.‬‬
‫"أنا ميرو"‬

‫ابتسم الطبيب‪" ،‬أل قوللي اسمك كله‪ ،‬اسمك و انت كبير‪".‬‬

‫"مراد رفعت حليم" قال في استعالء‬

‫"أل‪ ،‬و ال ده اسمك‪ .‬مافيش حد باإلسم ده في أي حتة"‬

‫اعترته الحيرة‪ ،‬فلم يعد يعرف حقيقة ماذا كان اسمه‪.‬‬

‫"طيب‪ ،‬مش فاكر حاجة عن اهلك؟"‬

‫"ارجوك ماتخلينيش ارجعلهم‪".‬‬

‫"ليه؟ هم عملولك حاجة‪".‬‬

‫"مابيحبونيش‪...‬عايشين حياتهم كأني مش فيها‪ ،‬و فيه ناس منهم طردوني و مارضيوش يكلموني"‬

‫"طيب مين هم و أنا أكلمهملك‪".‬‬

‫"أنا دلوقتي ماليش أهل غيرك‪ ،‬انت عاوز تجنني؟"‬

‫"طيب انت بتشتغل ايه؟"‬

‫"مطرب أوبرا سابقا و أخوك حاليا"‬

‫عاد الحزم الي وجه الطبيب و نبرة صوته‪ " ،‬اسمع‪ ،‬أيا كان اسمك الزم تفهم إني مش أخوك وال الناس اللي هنا خدامين عندك‪ .‬انت‬
‫جيت هنا المستشفي بعد حادثة حصللك فيها شلل و جالك فقدان ذاكرة‪ .‬أنا ماعرفش‪ .‬اسمك مراد فعال واال أل بس األكيد ان كل معلوماتك‬
‫عن نفسك غلط‪ ،‬و الزم تفهم انك ماينفعش تفضل في المستشفي اكتر من كده‪".‬‬

‫"ايه اللي بتقوله ده؟ اروح فين؟" اجاب مراد في هلع‪.‬‬

‫"فيه ناس جم يستلموك‪".‬‬

‫"ناس مين يا حمزة؟ انت كده بتحكم عليا بالموت!"‬

‫"مافيش داعي للمبالغة‪ .،‬الناس دول استدلوا عليك و حيودوك لدكتور يتابعك بمعرفته"‬

‫و بينما نظر مراد الي الطبيب في عتاب‪ ،‬و بادل األخير نظرته في حزم كان يوخز مراد في صميم قلبه أتي صوت نسائي من عند‬
‫الباب‪.‬‬
‫"مش يالال بقي يا بيبي؟"‬

‫"حاضر يا نوجة يا حبيبتي‪ ،‬أخلص العيان ده بس و اجيلك"‬

‫عيان؟ هل كان يهذي كل ذلك الوقت بتفاصيل حياة لم تكن أبدا له؟‬

‫"هي دي اللي بتنكر نفسك مني علشانها؟ دي يا حمزة؟"‬

‫قطب الطبيب حاجبيه و اقترب من مراد‪" ،‬اللي شفتها دلوقتي دي تبقي المدام‪ .‬و عمرها ماشافتك قبل كده و ال فيه بينك و بينها حاجة‪.‬‬
‫وأنا ماشفتكش اال لما دخلت المستشفي‪ .‬بص في المراية هناك جايز تفتكر و استعد علشان تروح‪".‬‬

‫نظر مراد الي المرآة و اتسعت عيناه في ذهول‪ ،‬فقد وجد شخصا آخر‪ ،‬كان بدينا‪ ،‬مهمال في هيئته و قد تكسرت اسنانه األمامية‪ .‬مادت‬
‫به األرض و لم يشعر بنفسه اال و قد قام من الكرسي المتحرك‪ .‬و استعد للرحيل و في عقله ألف سؤال‪ .‬اجتهد ليتذكر آخر شيء حدث‬
‫له فلم تسعفه الذاكرة اال بظالم دامس قد خيم علي عقله‪ .‬سار في استسالم‪ .‬عبر الردهة‪ .‬وسط النظرات المستنكرة ألناس كان يقسم أنه‬
‫يعرفهم‪ .‬كان الطبيب ينتظره عند باب الخروج‪.‬‬

‫"مع السالمة‪ ،‬بالتوفيق‪".‬‬

‫"مع السالمة يا دكتور‪ .‬إعذرني إني اتلخبطت بينك و بين أخويا و اني شفته فيك‪".‬‬

‫"مافيش مشاكل" و فتح الطبيب باب الخروج‪ .،‬ليجد مراد سيارة سوداء بانتظاره‪.‬‬

‫نظر ليري من قائدها‪ ،‬فإذا به الرجل الغامض نفسه‪ .‬يبتسم له بوجهه المنفر‪ .‬استدار ليهرب منه الي المستشفي‪ ،‬لكن الطبيب قد أغلق‬
‫الباب‪ ،‬و إذا بإيهاب يضع يديه في األصفاد‪ ،‬و الرجل الغامض قد نزل من السيارة‪ ،‬و آخر ما تذكره ألم شديد في أسفل ظهره استيقظ‬
‫عليه فزعا‪.‬‬
‫استدعت صرخته عمر الذي كان نائما في الغرفة المجاورة‪ .‬فوجده األخير يلهث في فراشه‪" .‬ايه يا مراد‪ ،‬حصل ايه؟"‬

‫صب له كوبا من الماء "خد اشرب‪...‬انت شفت كابوس واال ايه؟"‬

‫"شفت أفظع حلم ممكن اشوفه‪"...‬‬

‫"طيب ما تحكيهوش‪"...‬‬

‫"الراجل‪ ..‬الراجل اياه اللي شكله وحش‪...‬أنا افتكرت شفته فين‪...‬هو‪ .‬اللي ضربني علي ضهري ليلة الحادثة‪..‬أنا متأكد‪ .‬حتي الجرح اللي‬
‫في وشه ماكانش موجود‪.".‬‬

‫احتضنه عمر و أخذ يربت علي ظهره‪" ،‬انت متأكد يا ميرو؟"‬

‫"ايوه‪ ،‬أنا كنت عارف انه هو بس كان غايب عن بالي"‬

‫أضاء عمر األباجورة بجوار فراش مراد‪ .،‬و صب له كوبا آخرا من الماء‪" .‬انت لسة ماقلتليش مجاهد كان هنا بيعمل ايه؟"‬

‫"اللي فهمته انه كان جاي يشكرني و يوضحلي ان ضرب النار اللي حصل ده ماكانش حد من عندهم‪ .‬و فتح معايا كالم انه كان كلم‬
‫حمزة علي ان أوالد عوف يشتروا المزرعة‪ .،‬و دلوقتي عاوزين عقد انتفاع قابل للتجديد‪".‬‬

‫"تمام‪ ،‬و لقيت اوراق نقل الملكية في الشنطة؟"‬

‫"أيوة‪ ،‬و حمزة كاتبلي أعمل بيهم ايه‪ ،‬بس في كل الحاالت الزم أكون في نيس لما كل ده يتم‪".‬‬

‫استغرق عمر في تفكير عميق‪ ،‬محاوال ايجاد حل لموقف معقد‪" .‬بس ازاي نعرف إن مجاهد مافيش خوف منه‪".‬‬

‫"حاليا مافيش طريقة‪ .‬لكن لو اكتفيت بالطعن‪ ،‬مرسي الزهار مش حيسيبنا في حالنا‪".‬‬

‫"انت مش قلت ماتعرفوش"‪.‬‬

‫"أنا فعال ماعرفش‪ .‬حد باالسم ده‪ ،‬لكن الشخص ده تقريبا حصل و قابلته بإسم تاني و أنا في سويسرا‪".‬‬

‫اعتدل عمر في جلسته‪" ،‬فاكر لما قلتلي ان ايهاب مش ممكن يكون بيحركه الطمع و بس‪...‬ايهاب جواه حقد‪ ،‬و اكيد الشخص اللي كان‬
‫بيوجهه عنده نفس الحقد و مصالحهم اتفقت‪".‬‬

‫"هو قال انه كان بييجي كازينو النرفانا لما كنت باغني هناك‪ .‬و كان بيلمحلي ببيع الفندق‪".‬‬

‫"أقطع دراعي ان ماكانش ده واحد بينتقم‪".‬‬

‫"فيه احتمالين يا عمر‪ ،‬األول ان مجاهد يكون بيتعاون مع الزهار و اكيد ايهاب مفهمه ان فيه ورق لتحويل الملكية بس مستخبي‪ .‬تاني‬
‫احتمال ان مجاهد يكون هو نفسه له نشاط غير قانوني‪،‬و يكون فيه منافسة بينه و بين الزهار‪ .‬و رجالته احتكوا بحمزة ليلة الحادثة لما‬
‫حاول يسكتهم بعد ما اتنازل لصالح الزهار‪".‬‬

‫"يعني مش ممكن‪ .‬يطلع كويس أبدا‪...‬الواحد اليومين دول بيشك في صوابع رجليه‪".‬‬

‫"علي فكرة‪ ،‬هات ايدك‪ ".‬مسك مراد بيد عمر مستندا عليه و هو يعتدل في جلسته‪ ،‬و أنزل رجليه عن الفراش ببطء أمام دهشة عمر ‪.‬‬
‫ظل متكئا عليه حتي بعد ان صارت قدماه علي األرض‪ ،‬فلم تكن عضالته قد استعادت قدرتها علي حمله بعد‪.‬‬

‫"عمري ما وثقت في صوابع رجليا زي النهارده‪".‬‬

‫***‬

‫جلس مراد في الشرفة األمامية بعد بضعة ساعات من استيقاظه‪ ،‬و هو ال يزال في حيرة من أمره‪ .‬عندما تبلورت كلمة حيرة في ذهنه‬
‫أبصر أنيشا قادمة نحوه علي غير موعدها ‪ .‬لقد كانت هي من اطلقت سراح الحيرة في عقله فظلت تطارده في صحوه و في نومه‪ ،‬فلم‬
‫يتذكر أبدا أنه قد سقط فريسة ألفكاره‪ .‬ألقت عليه التحية فردها و هو يبتسم بالكاد‪.‬‬

‫"أراك اليوم علي حال أفضل‪ ،‬و قد نظرت لشيطان الخوف في عينيه‪".‬‬

‫"ماذا تقصدين؟"‬

‫"انت تعرف ما أقصده‪ .‬يقال أن رؤية أكثر ما يخيفك أثناء النوم هو أحد اآلثار الجانبية للعالج بالطاقة‪".‬‬

‫تناول مراد قدح الشاي الذي كان أمامه و أخذ منه رشفة‪" ،‬و هل اشرف العالج علي االنتهاء؟"‪.‬‬

‫"لقد بدأت لتوك أن تلحظ التأثير" قالت ضاحكة‪" .،‬دعني أكون صريحة معك‪ ،‬مراد‪ .‬لن تتمكن من خداع الكون بإبداء رغبة جوفاء في‬
‫تسيير األمور كما تشاء‪".‬‬

‫"أخشي أنني ال افهمك‪".‬‬

‫"قل لي‪ ،‬هل الزلت تأمل أن يظهر حمزة فتختفي هذه الفوضي إلي غير رجعة؟"‬

‫"و ما العيب في ذلك؟"‬

‫"نعم أم ال؟"‬

‫"نعم‪".‬‬

‫"و لماذا تنتظر أن يأتي بطل ليفعل ما تفعله أنت بالفعل دون أن تفكر فيه كثيرا‪ ،‬أي جدوي في ذلك؟"‬

‫لم تكن الفتاة تنوي أن تتركه يهنأ بنهار هاديء‪ .،‬فقد كانت صارمة عنيدة في فرض وجهة نظرها‪ .‬و لم تكن لتدعه و شأنه حتي ينطق بما‬
‫أتت ألجله‪.‬‬

‫"و ما شأن ذلك بخداع الكون؟"‪.‬‬

‫"ال يعبأ الكون باألعذار التي تلتمسها لنفسك لكيال تحقق الهدف من وجودك في هذه الحياة‪ .‬منذ اللحظة التي خرجت فيها من عزلتك‬
‫باحثا عن الحقيقة و قد بدأ الكون من حولك يخطط لمساعدتك‪ .‬استخدم ما منحت من مواهب‪ .‬أيا كانت المهمة‪ .‬التي اخترت أن تؤديها‪،‬‬
‫تيقن في قلبك أن ذلك ما يتوجب عليك فعله‪.‬ثق في الكون‪ ،‬ان لم تجد من حولك من تثق به‪".‬‬

‫"أظن أني فهمت اآلن ما تقصدين‪".‬‬

‫لم يمض وقت طويل حتي ودعته الفتاة‪ ،‬علي وعد بالعودة في الميعاد لمتابعة العالج‪ .‬سارت نحو حديقة الخضروات الصغيرة‪ ،‬حيث‬
‫كانت في انتظارها ناتاشا‪ ،‬تتحرق شوقا لما تحمله لها من أخبار‪.‬‬
‫"أبلغي الرئيس أنه مستعد‪ .‬لقد نجحت المهمة‪ .‬األولي‪".‬‬
‫**‬
‫مر شهر و االستعداد للحفل علي أشده فكان مراد يتدرب ليل نهار‪ ،‬يعينه علي ذلك حلفائه الجدد من متدربي المزرعة ‪ .‬لم يكن قد حدد‬
‫موقفه بعد من الشيخ مجاهد‪ .،‬الذي عاود االتصال مرارا ليماطله مراد بأسلوب مهذب ‪ .‬في خالل ذلك الشهر‪ ،‬كان قد تمكن من تسجيل‬
‫عشرة أغنيات في االستوديو‪ ،‬و صار يمشي علي قدميه دون الحاجة لمساعدة‪ ،‬بفضل المتابعة اليومية التي فرضتها عليه أنيشا‪ .‬كان‬
‫ممتنا لها و عرض عليها مبلغا من المال نظير مساعدتها فرفضت بشدة‪ .‬لم يكن هدفه من مشروعه بالعودة الي الفن هو استعادة مجده‬
‫الزائل‪ .‬كانت لديه رسالة حرص أن تصل إلي من كان بأيديهم تحويل دفة األمور‪ .،‬فوجه الدعوة الي صحفيين‪ ،‬و كتاب و دبلوماسيين و‬
‫بعض سفراء النوايا الحسنة من أهل الفن‪ .‬كان الوقت المتبقي له يمضي في اعداد مستلزمات الحفل‪.‬‬

‫بقي يومان علي الحفل‪ ،‬وقد حمل متعلقاته علي سيارات نقل كبيرة استعدادا للرحيل عن المزرعة‪ ،‬كما رحل أغلب المتدربين إال من كان‬
‫ضمن خطة مراد‪ .‬في عصر ذلك اليوم‪ ،‬حضر ايهاب و نجالء و هما يشعران بالزهو لنصر استطاعا أن يحققاه باالستيالء علي القصر‬
‫و المزرعة‪ .،‬و لو لصالح شخص آخر‪.‬‬
‫كان مراد يجلس بهدوء في الشرفة يلتقط أنفاسه من أنشطته المتعددة‪ ،‬و قد حرص علي الجلوس علي المقعد المتحرك‪ ،‬و إن لم يعد‬
‫بحاجة إليه‪ ،‬فكان ذلك جزء من خطته‪ .‬سمع وقع كعب حذاء نسائي لم يشك لحظة أنه لنجالء‪ ،‬فكان ايقاع خطواتها منفر ألذنيه‪ .‬و ما إن‬
‫وقعت عيناه عليها حتي ابتسم تأدبا و هو يغالب الضحك علي ذوقها في اختيار ثيابها‪.‬‬

‫"ا يه ده‪ ،‬انت لسة هنا يا ميرو؟"‬

‫"ايوة يا نوجة‪ ،‬لسة كام يوم علي بال ما انطرد من بيتي‪".‬‬

‫"معلش‪ "،‬قالت ضاحكة‪" ،‬تعيش و تاخد غيرها‪".‬‬

‫ابتسم مراد في اشمئزاز‬

‫"اال قوللي يا مراد‪ ،‬البنات عمالين يتكلموا علي مفاجأة انت عاملها علشان الحفلة بس مش راضيين يقولوا"‬

‫"عملت صينية بطاطس علشان البوفيه"‬

‫"بطاطس‪ ،‬يا حرام‪ ،‬انت بتستعد لعيشة الفقر من بدري‪".‬‬

‫"ال يا حبيبتي‪ ،‬دي األكلة المصري الوحيدة اللي باعرف اعملها‪ .‬كان نفسي اعملك حاجة تليق بمقامك‪ ،‬لحمة راس مثال‪"...‬‬

‫نظرت له كما لو كان لدغها عقرب ثم عاودتها الضحكة الفجة‪" ،‬معلش كلها يومين و تتعلم تلم لسانك‪".‬‬

‫"يحيينا و يحييكي ربنا يا نوجة‬

‫دخلت من باب الشرفة الي القصر‪ ،‬و نادت علي لبيبة التي كانت تنظف األسطح في الصالون‪" .‬إنتي يا‪ ،‬تعالي هنا‪ ،‬اجري هاتي شنطي‬
‫من العربية‪ ".‬ثم التفتت الي مراد‪" .،‬مش حتوريني أوضتي فين؟"‬

‫"لو باعرف أمشي جايز‪ ،‬بس عندي حاجات كتير أهم من اني اشوفلك أوضة تتاوي فيها‪ .‬أنا وافقت علي حفلة‪ ،‬مش يومين اقامة كاملة‪.".‬‬

‫"يعني يا ميرو ماستعدش؟‪ .‬دي حتبقي حفلة الموسم‪ ،‬و اال عايز ايهاب يزعل منك؟"‬

‫"هو لسة حايزعل؟ عموما استني لبيبة لما تيجي‪ ،‬و خللي صبحي هو اللي يشيل الشنط‪ .‬و‪ ...‬حاجة كمان يا نوجة‪ ،‬في البيت ده اللي‬
‫عايز حاجة يا يعملها بنفسه يا يطلبها بأدب‪ .‬البيت ده لسة بيتي‪ ،‬و الموظفين دول أنا اللي بادفع مرتبهم‪ .‬واضح؟"‬

‫غمغمت في سخرية وا نصرفت‪ .‬و عادت لبيبة و هي تحمل حقيبتين كادتا أن يخلعا كتفيها‪.‬‬
‫"نزلي الشنط يا لبيبة‪ ،‬ماتشيليش حاجة‪ .‬عارفة األوضة الصغيرة اللي كان قاعد فيها صبحي‪ ...‬قوليلها دي األوضة الوحيدة اللي فيها‬
‫سرير‪ ،‬خلي صبحي يرميلها كراكيبها علي هناك‪".‬‬

‫"طيب يا نحمده‪ ،‬كلها يومين‪".‬‬


‫**‬
‫انهمكت نجالء في اإلعداد للحفل‪ ،‬و قضت النهار تأمر و تنهي و توجه مجموعة من العمال‪ .‬آثر مراد أن يظل بعيدا عنها ذلك اليوم لما‬
‫قد يستفزه من سلوكها‪ .‬لكنها ظلت تبحث عنه عصر ذلك اليوم‪ ،‬مرسلة له من يناديه ليحضر اليها‪ ،‬ليزيد من حنقها رفضه المجئ‪.‬‬

‫"يا مراد‪ ،‬عايزاك في كلمة" وقفت نجالء خارج الحجرة التي اعتاد مراد أن يختلي فيها‪ ،‬و أطلت دادة حليمة من الباب‪.‬‬
‫"مراد بيه بيقولك مش عاوز حد يزعجه دلوقتي‪ ،‬أي خدمة؟"‪.‬‬

‫"أنا قلت عاوزة اكلم مراد‪ ،‬مالك انتي يا ولية؟"‬

‫اقترب مراد علي كرسيه المتحرك‪ .‬من خلف دادة حليمة التي فتحت الباب ليتمكن من الرد علي نجالء‪" ،‬فيه ايه في جملة مش عاوز حد‬
‫يزعجه مش قادرة تفهميه؟ اعيدهالك بالفرنساوي لو عاوزة"‬

‫"يا ايهاب‪ ،‬تعالي شوفلك حل في ابن بارم ديله ده!"‬

‫جاء ايهاب‪ ،‬بوجه عابس‪" .‬جري ايه يا مراد؟ وراك ايه يعني؟ ايش حال اذا ما كنتش حتتكشح من هنا و تنطرد طرد الكالب؟"‬

‫قابل مراد عصبيته بابتسامة هادئة‪" .،‬أنا مانسيتش علشان تفكرني‪ ،‬انت اللي ناسي إن لغاية ‪ 21‬منه‪ ،‬البيت ده بيتي‪ ،‬و انتم ضيوفي‪ ،‬وا‬
‫للي مش عاجبه مفيش حاجة تغصبكوا تعملوا حفلة هنا في آخر الدنيا‪ .‬فيها ايه لما داده حليمة تقولها اني مش عاوز حد يزعجني؟"‬

‫"كنتي عاوزة منه ايه؟"‬

‫"كنت عاوزة أسأله علي البوفيه‪ ،‬غلطت؟"‬

‫"قولي للكيترينج اللي انتي جايباه العشاء بتاع ضيوفك حيكون بره في الجنينة‪ .‬ضيوفي أنا حيتعشوا جوة‪".‬‬

‫"نعم؟ ضيوفك؟"‬

‫"بيتي و اعزم فيه اللي أنا عاوزه‪ .‬و بعدين انتوا عارفين اني نباتي‪ ،‬و اغلب معارفي برضه‪ ،‬فاحنا نقعد براحتنا هنا‪ ،‬و انتوا اعملوا اللي‬
‫عاوزينه‪ ،‬حتي الجنينة واسعة‪ .‬أظن جاوبت علي سؤالك‪ ،‬ممكن‪ .‬تسيبوني ارتاح شوية؟"‬

‫لم ينتظر أن يجيبا بل تراجع عن الباب لتغلقه دادة حليمة‪ .‬و لما تٱكدت األخيرة أنهما انصرفا أومأت له و لعمر وحسام وصبحي‬
‫باالستمرار‪.‬‬
‫" أنا بعد الساعة ‪ 7‬الزم أكون في اوضة عم فرحات و معايا ليندا و أنيشا‪ .‬حسام حيفضل هنا يستقبل الضيوف اللي معاهم الدعوة‬
‫الخضراء اللي أنا باعتهالهم‪ .‬صبحي حيقف برة مع عمر‪ .‬استنوا اشارة ناتاشا و بعدين تتحركوا‪.".‬‬

‫"طيب و الفرقة بتاعتك؟"‬

‫"حيكونوا وسط المدعوين‪ .،‬و كل واحد فيهم عارف حيعمل ايه و امتي‪ .‬سامر‪ ،‬الفيديو بتاع التقديم جاهز؟"‬

‫"فاضل حاجات بسيطة‪ ،‬اول مانت تخلص حيبتدي"‬

‫"طيب‪ ،‬و عاوزين نتمم علي الكاميرا والميكروفونات اللي في اوضة المكتب‪ .‬ده اول مكان ايهاب حيروحه لو عملنا كل حاجة مظبوط‪".‬‬

‫"بس يا مراد ده مجنون‪ ،‬ممكن يفكر يؤذيك‪".‬‬

‫"ساعتها حادوس زرار األمان‪ ،‬ينطفي النور‪ .،‬و العب لعبتي‪ ،‬بس األمانة جاهزة؟"‬

‫"جاهزة‪ ،‬و فيه منها نسخة عند المحامي‪ ،‬و نسخة عند بيير في سان موريتز بعتناها النهاردة بالفاكس‪".‬‬

‫"طيب‪ ،‬لو حصل اشتباك مع رجالة الزهار‪ .،‬حنأمن الناس في البدروم‪ .‬زي المرة اللي فاتت لو مالحقناش نروحهم باألوتوبيس علي‬
‫الفندق في مطروح ‪ . .‬علوان عرف حيعمل ايه؟"‬

‫"علوان جاهز‪ ،‬و ماحدش عرف غير الشيخ مجاهد و ابنه‪".‬‬

‫"يالال‪ ،‬الساعة داخلة علي ‪ 5‬و الناس قربت توصل‪ .‬اللي بنعمله ده مش علشان تار بيني و بين حد‪ ،‬احنا بنوضع حد للظلم و األذي‪".‬‬
‫كانت الساعة الثامنة و النصف مساء و قد بدأ الحفل بدهشة نجالء‪ ،‬فقد كان الكثير من الحاضرين ممن قدموا بدعوة خاصة من مراد‪ ،‬و‬
‫قد ظهر الفارق بينهم و بين مدعويها‪ ،‬من الذين اغتنوا في يوم و ليلة‪ .‬كانت نجالء احدي أولئك الالئي بدأن حياتهن بالغناء في مراقص‬
‫شارع الهرم دون موهبة تذكر في الغناء‪ ،‬و موهبة متميزة في استعراض مفاتنها‪ ،‬و كان ذلك هو الحال في تلك الليلة‪ .‬كانت المعدات‬
‫الباهظة التي جلبتها تحدث صخبا‪ ،‬تماشي مع أضواء الليزر الملونة‪ ،‬لكن لم يتماش مع مع الوان الصالون الفسيح‪ ،‬الذي استوعب زهاء‬
‫مائتي شخص‪ .‬كان الصالون قاعة مستطيلة‪ ،‬تتوسطها نافورة من الرخام‪ .‬كان اللون األزرق يغلب علي القاعة بطابعها الشرقي كما لو‬
‫كانت معدة خصيصا الستقبال مثل هذا العدد من األشخاص فتراصت األرائك و المقاعد بشكل اتاح للحاضرين متابعة ما يتم عرضه في‬
‫منتصف القاعة‪ .، .‬كانت نجالء تغني احدي اغنيات البومها األحدث‪ ،‬و ترقص رقصا فجا ككل شيء فيها‪ ،‬و حرصت أن يظهر الفستان‬
‫الذي ارتدته اكبر قدر ممكن من جسدها‪ .‬كان ذلك هو الفستان األول فقط‪.‬‬

‫وقف عمر و صبحي خارج النافذة التي كانت تطل علي الصالون و هما مشدوهان‪ .‬من مختلف مظاهر المجون التي احتلت القصر‪ .‬اتت‬
‫ناتاشا ووقفت بجانب البيانو‪ ،‬وكانت ترتدي فستان سهرة طويل‪ ،‬اعطاه لها مراد‪.‬‬
‫نظر صبحي الي يمينه‪ ،‬حيث كانت حجرة فرحات‪ ،‬و قد فتح الباب‪ ،‬و قد خرج منها ظل اسود لشاب ممشوق القوام تتبعه أنيشا و ليندا‪.‬‬
‫ووقفت عن يمينه داده حليمة تحمل مبخرة‪ ،‬تبارك بها خطاه‪ .‬ما إن مر مراد بجانبهما لم يصدق صبحي عينيه‪ .‬أكان ذلك هو الشاب‬
‫المسن الذي رآه عندما وطأت قدمه‪ .‬ذلك المكان ألول مرة؟ لم يكن يخفي شعره بطاقية صوفية‪ ،‬و قد صففه بشكل جذاب‪ ،‬وارتدي حلة‬
‫لمصمم فرنسي‪ ،‬و قميص صنع من ريش اسود فقط‪ ،‬كان قطعة فنية‪ .‬لم يبادله الحديث بل مر بسرعة فكانت لديه مهمة يؤديها‪.‬‬

‫"هو ده مراد؟"‪.‬‬

‫"أمال يابني انت فاكر ايه؟"‬

‫"أنا سمعته صوته جميل‪ ،‬بس حيغطي عليها ازاي باللي هي عاماله ده؟ دي عاملة الاللي"‬

‫"شوف‪ ،‬الفرق بين مراد و بينها‪ ،‬لو مراد داخل بصوته بس‪ ،‬زي الفرق بين مدمرة حربية و بندقية فل! دلوقتي تشوف! اإلشارة! جري‬
‫علي مفاتيح الكهربا‪".‬‬
‫و بينما كانت نجالء تستعرض مواهبها‪ ،‬وسط اعجاب جمهورها انقطعت الكهرباء عن المبني‪ ،‬فلم تغن عنها األجهزة شيئا‪ .‬اعتذر‬
‫حسام بشدة للمدعوين عن العطل‪ ،‬و أعزاه الي ارتفاع استهالك المعدات الكهربائية‪ ،‬و قدم عزفا علي البيانو لناتاشا‪ .‬جلست األخيرة‬
‫تعزف لحنا هادئا علي ضوء الشموع‪،‬‬

‫اعترضت نجالء‪" ،‬بيانو ايه اللي حتعزفوه‪ ،‬هو احنا في االوبرا؟"‬

‫ابتسم حسام‪" ،‬ده بس لحد ما الكهرباء ترجع‪ ،‬دلوقتي تتصلح"‬

‫و فجأة أضاء الكشاف‪ ،‬ليسمع الجميع صوت الكرسي المتحرك يسير بمحاذاة البيانو‪ ،‬الذي كان يفصله سلما من ثالث درجات عن‬
‫الصالون‪ .‬لكن الكرسي كان خاويا‪ .‬لم يتساءل الحاضرون طويال‪ ،‬حتي سمعوا وقع اقدام ثابتة يتبعها صوت مراد و هو يشدو باحدي‬
‫اغانيه‪ ،‬لتصمت همهمات كل من في القاعة ينتبهون جميعا الي مصدر الصوت‪ ،‬ليحتل مراد دائرة الضوء و يغني بمصاحبة البيانو‪.‬‬
‫كان يتحدث في اغنيته عن حب ال يعرف المستحيل‪ ،‬ذلك الوهم النفيس الذي يحيك من أحزان الشتاء ربيعا‪ ،‬و ينبت األمل في قلب‬
‫الصحراء‪.‬‬

‫في تلك األثناء‪ ،‬هرول صبحي مسرعا ليشاهد مراد و يسمعه و هو يعتلي مقعده بين نجوم السماء‪ .‬لم يعد يري سيد القصر الحزين‪.‬كان‪.‬‬
‫الذي أمامه اسطورة تتجسد فتملك علي من يستمع اليه حواسه‪ .‬لم يفهم الكلمات‪ ،‬فقد كان مراد يغني بالفرنسية‪ ،‬لكنه كان يغني بإحساس‬
‫يعرفه كل من عرف العشق المستحيل‪ ،‬و اجتاز نيرانه ليتذوق من حالوته شيء قليل‪.‬‬

‫"ده وال أم كلثوم!"‬

‫"مش قلت لك؟ أول ما يخلص تولع النور و تدخل معايا"‬


‫**‬

‫"والد الكلب! مش قلتلك كان بيدبر حاجة علشان يهزأني؟ كان حقك كسحته بجد!" همست نجالء في غيظ‬
‫"ششش‪ ،‬اسكتي دلوقتي‪ ،‬مش عايزين حد ياخد باله انك مخنوقه منه‪ .‬الصحفيين مش حيفوتوا الفرصة دي لو خدوا بالهم‪".‬‬

‫إنتهت األغنية و عاد الضوء الي الصالون و معه تصفيق هادر من جميع الحاضرين‪ .‬قام مراد بتحية جمهوره‪ ،‬و تناول الميكروفون‪ .‬من‬
‫حسام‪.‬‬

‫"يا جماعة باشكركم‪ .‬من قلبي بجد‪ ،‬و باخص بالشكر الفنانة نجالء اللي خططت معايا للمفاجأة دي‪ .‬أنا الحمد هلل خفيت و راجع بألبوم من‬
‫عشر اغاني اللي حنسمعها الليلة دي‪ ،‬اشكركم‪ .‬كمان مرة علي تشريفكم ليا"‬

‫و عادت نغمات الموسيقي‪ ،‬بإيقاعات اسرع و آالت موسيقية غير مألوفة‪ ،‬استعرض فيها مراد ما تمتعت به هذه المزرعة من تنوع‬
‫ثقافي‪ ،‬فمن األنغام الالتينية‪ ،‬الي انغام البحر المتوسط‪ ،‬حتي الموسيقى األفريقية‪ .‬و اكتملت ثمانية اغنيات‪ ،‬قدم بعدها مراد العازفين‪:‬‬
‫ناتاشا علي البيانو‪ ،‬خيسوس علي الجيتار‪ ،‬بانوس علي البزق‪ ،‬مارتين علي قيثارة الفم‪ .‬اليخاندرو علي الكاخون‪ ،‬و عمر علي الدرامز‪.‬‬

‫"الليلة دي يا جماعة مناسبة خاصة جدا‪ .‬الليلة دي تكريم النسان عظيم‪ ،‬كرس وقته و مجهوده و شغفه بقضايا اإلنسانية للمزرعة اللي‬
‫احنا فيها دلوقتي‪ .‬الفيديو اللي حنشوفه دلوقتي‪ ،‬حيوري حضراتكم المزرعة‪ .‬قدمت خدمات قد ايه للمهاجرين من مختلف انحاء العالم‪ ،‬و‬
‫المجتمع المحلي في محافظة مطروح"‬
‫و عرض سامر الفيلم القصير‪ ،‬الذى عرض جوانب انشطة المزرعة‪ .،‬و تسجيل مفصل إلحدي عمليات اإلنقاذ‪.‬‬
‫"كتير من الناس اللي بتشتغل في المزرعة النهاردة‪ ،‬خرجوا من بيوتهم شايلين أرواحهم علي أكتافهم‪ .،‬و سلموها لسماسرة الهجرة الغير‬
‫شرعية‪ .‬علي مدار أربع سنين‪ ،‬حمزة الشيمي كان بيتولي انقاذهم بنفسه‪ ،‬و بعد ماينقذ حياتهم يديهم فرصة عمل‪ ،‬و فرصة للتدريب‬
‫المهني‪ ،‬و فرصة لحياة جديدة‪ .‬النهاردة فيه اكتر من ‪ 60‬بيت مفتوحين في المزرعة‪ ،‬ملحق بيهم مزارع صغيرة‪ .‬النهاردة فيه ‪ 30‬بنت‬
‫من بنات القبايل نجحت في االعدادية و حتكمل التعليم الثانوي‪ .‬كل ده ألن أخويا و أنا مؤمنين إن اللي يقدر علي عمل الخير الزم يعمل‬
‫كل اللي يقدر عليه علشان يوصل لمستحقيه‪ .‬كتير منكم دعمنا بنتهي الكرم‪ .‬و بايمان عميق بشغلنا‪ .‬دلوقتي حمزة مش موجود‪ ،‬و‬
‫مانعرفش حيرجع امتي‪ ،‬بس المزرعة استمرت سنتين‪ ،‬و حنكمل المشوار و انتوا معانا"‬

‫صفق الحاضرون بشدة مرة أخري‪ .‬و عندها ظهرت اغنية مصورة لحمزة علي الشاشة‪ ،‬رافقها عزف من الفرقة الموسيقية‪ ،‬كان مراد‬
‫يغني كذلك‪ ،‬كما لو كان في ثنائي موسيقي مع حمزة‪...‬كان التباين بين صوت حمزة األجش و صوت مراد السوبرانو هو الختام المالئم‬
‫لعرض مراد‪ ،‬الذي غني بكل حواسه للحاضر الغائب‪ ،‬ليس كتابع‪ ،‬و إنما ندا له‪ ،‬فقد تم اخراج الفيديو بحيث يرد فيه مراد علي حمزة‪.‬‬

‫و قضي مراد قرابة الساعة يلتقط له الصحفيون الصور‪ .،‬و يأخذون منه بضعة كلمات لقراءهم‪ .‬استأذن منهم و خرج وحده الي الشرفة‬
‫األمامية يلتمس بعض الهدوء‪ .‬و بينما هو واقف يتنشق نسيم الليل‪ ،‬و يستجمع أحداث الليلة‪ ،‬لمح صبحي يقترب منه و قد وقف اسفل‬
‫الشرفة‪ .‬كان ينظر لمراد كالمبهور‪ ،‬كأنما يشاهد كائنا خرافيا و قد شق الحجاب بين الواقع و الخيال‪.‬‬

‫"ايه يا صبحي‪ ،‬عاوز تقول حاجة؟"‬

‫"اقول ايه بس يا مراد ده انت طلعت حكاية"‬

‫"عجبك العرض؟"‬

‫"و مين ماعجبوش‪ ،‬اال اخواننا البعدا طبعا‪ ،‬شفت عملتلك فيها ايه؟"‬

‫"هو انت اللي قطعت الكهربا؟"‬

‫أومأ برأسه ضاحكا‪.‬‬

‫ضحك مراد‪" ،‬ماتبقاش تعملها تاني"‬

‫سمع مراد صوت خطوات تتجه نحوه من مدخل الشرفة‪ .،‬و استدار‪ ،‬فرأي خيال لرجل طويل القامة يعتمر عمامة كبعض الهنود‪ .‬استنكر‬
‫مراد ان يكون ذلك الظل القادم من خلف الستائر لبيكرام‪ ،‬حتي لمح شاربه و لحيته الكثيفين‪.‬‬

‫"مين اميتاب بشناب ده؟"‬

‫"قول لحسام يجهز نفسه للجزء التاني قوام‪ ،‬سيبلي أنا األخ ده اشوف ايه حكايته‪".‬‬

‫دخل بيكرام الشرفة‪ ،‬عرف مراد من عينيه انه كان يبتسم‪ ،‬فقد تعذر عليه ان يري غيرهما في وجه ذلك الرجل‪ .‬ابتسم له مراد تأدبا‪،‬‬
‫"بيكرام‪ .،‬شرف لي أن تحضر‪ ،‬لم أكن أعرف أنك ستأتي‪ ،‬أو أنك سمعت بالحفل‪".‬‬

‫"ألم أكن مدعوا؟"‬

‫"بلي‪ ،‬أذكر أني وجهت لك الدعوة عندما التقيت بك في پاليه دي ال نيج‪ .‬لكنها مفاجأة غير متوقعة هذا كل ما في األمر‪".‬‬

‫"ال أظن مفاجأتي تكاد تقترب من مفاجأتك أنت‪ .‬لم أتوقع أن أراك عائدا بكامل هيئتك‪".‬‬

‫"بيكرام‪ .،‬لم تجب علي سؤالي‪ ،‬ما الذي أتي بك؟"‬

‫"إذا كان وجودي يضايقك‪"...‬‬

‫قاطعه مراد‪" ،‬لن يضايقني وجودك إذا أفصحت عن السبب الحقيقي لمجيئك لمكان ناء في شمال شرق مصر لتستمع إلي مطرب‬
‫معتزل‪".‬‬

‫"و ماذا تريد أن تعرف؟" لم يكن بيكرام متضايقا من تشكك مراد‪ ،‬فظلت نبرة صوته هادئة و ان غلب عليها المرح‪.‬‬

‫"إذا لم يكن لديك ما تود أن أعرفه فلن أطلب منك الرحيل‪ ،‬لكن ائذن لي فلدي ما أفعله‪".‬‬

‫"تفضل‪ "،‬و استدار مراد منصرفا‪ ،‬لكن بيكرام امسك بيده برفق‪" .‬ثق أني لست واحد ممن يرغبون في إيذائك‪".‬‬

‫نظر اليه مراد بقوة لم تطغ علي هدؤه المعهود‪" ،‬أعرف أنك لن تؤذيني‪ ،‬لكني أخشي عليك أن تؤذي نفسك‪".‬‬

‫رفع بيكرام يد مراد و قبلها‪" ،‬اطمئن أنك لست وحدك‪".‬‬

‫تراجع مراد عنه و شاهده يغادر الشرفة الي الحديقة حيث وقف بعض المدعوين يتجاذبون اطراف الحديث‪ .‬من أين جاءت مراد تلك‬
‫الثقة في ذلك الغريب؟ دخل مراد الي الصالون‪ ،‬حيث كان حسام يدعو الحاضرين الي التوجه للبوفيه في الحديقة‪ ،‬و مع ذلك بقي عدد‬
‫كبير منهم يتجاذب اطراف الحديث في الصالون‪ .‬كان ايهاب يتحدث الي رجل قصير القامة يرتدي معطف و قبعة‪ .،‬كان يبدو و كأنه‬
‫يسعي لجذب االنتباه حتي و ان كان شبه متخف‪ .‬لم يتعذر علي مراد معرفته‪ ،‬و شعر برغبة في االختباء منه‪.‬‬

‫هذا ما يريده بالضبط‪ ،‬ال‪ ،‬لن تعرف و لن يعرف مخلوق ما أفكر فيه‪ .‬اتجه مراد نحوه في تصميم‪ ،‬تعلو وجهه ابتسامة مرحبة‪" ،‬مسيو‬
‫سافوريتي‪ ،‬شرف كبير ان حضرتك تيجي بنفسك‪ .‬أرجو يكون الكونسرت عجبك‪".‬‬

‫ابتسم الرجل بخبث‪" ،‬مش بطال‪ ،‬شفت لما اخدت بنصيحتي حصل ايه؟"‬

‫نظر ايهاب باستغراب الي كليهما‪" ،‬وانت تعرف الزهار باشا من امتي؟"‬

‫رفع الرجل حاجبه ملتفتا الي ايهاب بنصف ابتسامة‪" ،‬من زمان قوي‪ ،‬من أيام المرحومة اقبال هانم‪".‬‬

‫كان ذلك دور مراد في االستغراب‪ ،‬لكنه قد تذكر عند سماع اسم امه أال يدع أحدا يعرف ما يفكر فيه‪.‬‬

‫"بالظبط يا ايهاب‪ ،‬مسيو موريس سافوريتي معرفة‪ .‬قديمة‪ .‬اسمحولي‪ ،‬مضطر استأذن‪...‬لكن ضروري نتكلم تاني مسيو سافوريتي‪".‬‬

‫كان مراد متجها الي حجرة المكتب عندما شعر بيد تجذب مرفقه بعنف‪" ،‬انت بتحاول تعمل ايه بالظبط؟"‬

‫استدار مراد ليواجه ايهاب‪" ،‬ايه مالك يا ايهاب‪ ،‬مش الزم أرحب بالناس اللي جايين في بيتي؟"‬

‫صدر من ايهاب لفظ بذيء قاله همسا لكي ال يلفت األنظار‪" ،‬بيتك ده يا روح ماما حتنطرد منه بعد يومين‪ .‬انت حكايتك ايه بالظبط؟ أنا‬
‫كنت عارف انك بتمثل حكاية الشلل‪ ،‬و أكيد ماخليتهاش مفاجأة علشان ترخم علي نجالء في حفلتها و تكسفها قدام ضيوفها و بس‪ .‬انت‬
‫زودتها قوي‪ ،‬لم نفسك بدل ما ألمك‪".‬‬

‫"وفر الكلمتين دول للمدام" قال مراد مشيرا خلف ايهاب‪ ،‬و استدار األخير ليجد نجالء تطلق ضحكة عالية و هي تتأبط ذراع بيكرام‪.‬‬
‫"حسابها معايا بعدين‪ ،‬أما انت حسابك دلوقتي‪".‬‬

‫ابتسم مراد في استخفاف‪" ،‬تعال علي المكتب‪ ،‬و اال عاوز تعمل سكاندال هنا قدام الباشا بتاعك و الصحافة؟"‬

‫اتجه االثنان الي المكتب و اغلق مراد الباب و استند الي المكتب ينظر الي ايهاب بنفس االستخفاف‪" ،‬طلباتك؟"‬

‫نظر له ايهاب بغضب ممزوج‪ .‬باالحتقار و لم يرد‪.‬‬

‫"بيتهيألي يا ايهاب نتكلم علي المكشوف احسن‪ .‬أنا لغاية امبارح كنت علي كرسي بعجل‪ ،‬و دلوقتي رجعت زي ما كنت‪ .‬ممكن‪ .‬انت بقي‬
‫بشويش كده تقول انت عاوز تحاسبني علي ايه بالضبط‪ ،‬و بمناسبة ايه؟"‬

‫"فهمني انت األول عاوز تثبت ايه بعمايلك الليلة دي و الكام يوم اللي فاتوا‪".‬‬

‫"زي ما انت عامل اتفاق مع الزهار علشان تستولوا علي المزرعة‪ .،‬أنا كمان من حقي محاولة لتكريم حمزة"‬

‫"اياك تكون فاكر الناس كانوا مصدقين انك اخوه بجد‪ ،‬زي ما كانوا مصدقين انك مشلول‪ .‬حكايتكوا معروفة بس ماحدش اتكلم علشان‬
‫حمزة فنان مشهور‪.".‬‬

‫كاد مراد أن يصفعه‪ ،‬لكن لم يفعل‪ ،‬بل ضغط علي زر علي المكتب عن يمينه‪ ،‬دون أن يراه ايهاب‪" ،‬أنا عارف من زمان انك طمعان‬
‫في كل حاجة عند حمزة‪ "،‬و نظر له بنفس التصميم‪" ،‬و الدليل انك اتجوزت اللي برة دي مع انك عارف اصلها و فصلها‪ ،‬لمجرد انها‬
‫وهمتك انها سابت حمزة علشانك‪ .‬لكن هو كان و طول عمره حيفضل قلبه مع واحدة بس‪ .‬أنا بس مش قادر أفهم انت كسبان ايه من كل‬
‫ده؟ و كنت ليه في المستشفي تاني يوم الحادثة علشان تعرف اذا كنت مت واال أل؟"‬

‫"حمزة اللي انت فرحان بيه قوي ده‪ ،‬استولي علي حقي و حق أمي في ورث ابويا‪ ،‬و صرفه علي الخرابة دي‪ .‬كان الناس ماوراهاش‪.‬‬
‫غير حمزة و عربياته و فلوسه و الحريم اللي رايحة جاية عليه‪ .‬لكن دلوقتي حمزة بح! خالص‪ ،‬و المزرعة‪ .‬دي حترجعلي بعد أنا ما‬
‫شاركت الزهار‪".‬‬

‫ضغط مراد علي زر آخر علي يمينه دون أن يشعر ايهاب‪" .‬تمام‪ .،‬كمان يومين‪ .‬بس انت بتكرهني قوي كده ليه يا ايهاب؟ أنا عمري ما‬
‫أذيتك علشان تهددني و تشهر بيا"‬

‫ضحك ايهاب في سخرية مرة‪" ،‬انت اغلي حاجة حمزة يملكها‪ ،‬كان عنده كل حاجه اي راجل يحلم بيها‪ ،‬لكن عمري ما شفته سعيد زي‬
‫ما شفته بعد ما لقاك و جابك مصر‪ .‬كنت فاكر لما اشوفك مذلول و متداس بالجزم ان الغل اللي جوايا من حمزة حينطفي‪ .‬لكن بعد‬
‫ماشفتك الليلة دي‪ ،‬قلت يمكن تحب انك تفضل في المزرعة معزز‪ .‬مكرم‪.".‬‬

‫"و يا تري عاوز ايه في المقابل؟"‬

‫قام ايهاب من مقعده‪ ،‬و ابتسم في غلظة‪" ،‬قبل ما تعرف ايه المقابل‪ ،‬الزم تعرف ايه البديل‪...‬ساعتها نتكلم في المقابل‪".‬‬

‫بذل مراد جهدا رهيبا لكي ال يظهر عليه االشمئزاز من ذلك الشخص الذي وقف أمامه‪ " ،‬انا سامعك‪".‬‬

‫ازداد بريق الزهو في عيني ايهاب و هو يدور حول غرفة المكتب بطريقة مسرحية‪" ،‬الزهار بينه و بين عيلتكم تار قديم‪ ،‬ماعرفش‬
‫تفاصيله‪ ،‬لكن عارف هو ناوي لك علي ايه‪ ،‬ده مش حيهدا إال لما يكسرك و يذلك‪ ،‬و يصورلك فيديو علشان كل معجبينك بتوع زمان‬
‫يشوفوه‪ ،‬و ساعتها مش حتقدر ترفع عينك في وشه‪ ،‬و بعد لما تكون اتكسحت بجد و اتجننت‪ ،‬يرميك في اي مستشفي و اال حتي في‬
‫الشارع‪ .‬و اكيد حيالقي طريقة يستولي علي الفندق اللي في سويسرا‪". .‬‬

‫كاد مراد أن يتقيأ لسماعه تلك الكلمات‪ ،‬و هو غير قادر علي النظر إلي ايهاب الذي بدا له أقبح ما في الوجود في تلك اللحظة‪ ،‬ضحك‬
‫األخير عندما ادرك تأثير كلماته علي مراد و استطرد‪" ،‬أنا بقي حاحميك من كل ده‪ ،‬تحب تعرف ايه المقابل و اال فهمت لوحدك؟"‬

‫استجمع مراد كل قواه و ابتسم‪" ،‬ال طبعا فهمت‪ .،‬بس اللي برة دي حتعمل معاها ايه؟"‬

‫"هي اللي برة دي بني آدم؟ اللي زي دي عمرها ما بتنضف‪ ،‬ده أنا باقرف ابصلها!"‬

‫سمع اإلثنان صوت صراخ و تكسير يأتي من الصالون‪ ،‬أدرك مراد في تلك اللحظة أن نجالء‪ .‬و غيرها قد شاهدواما حدث عن طريق‬
‫الكاميرات التي خبأها سامر في غرفة المكتب‪ ،.‬و لم تتحمل نجالء ما سمعته فانقضت علي الشاشة التي كانت في الصالون‪ .،‬علي مسمع‬
‫و مرآي من الحاضرين‪.‬‬

‫نظر ايهاب لمراد باستنكار‪ ،‬فلحقه بالرد "أنا عمري ما ارتحت لك‪ ،‬لكن ماكنتش فاكرك مريض كده‪ .‬حمزة اكتر من اخويا‪ ،‬و انا عمري‬
‫ما كنت شيء بيملكه‪ .‬أنا ابنه من االنسانة الوحيدة اللي حبها"‬

‫و التفتا ليجدا عدة ظالل عند باب المكتب و قد فتحوا الباب عنوة‪ ،‬ليظهر مرسي الزهار وأربعة من حرسه الخاص تبين مراد وجود‬
‫شخص آخر‪ ،‬لم يكن غير ذلك الرجل الغامض الذي ضربه علي ظهره ليلة الحادث‪ .‬علم مراد في تلك اللحظة أن كل ما قاله ايهاب كان‬
‫علي مرأي و مسمع كل من كان في الصالون في تلك اللحظة‪ .‬كان أقل ما يصف وجه مرسي الزهار في تلك اللحظة مرعبا‪ ،‬دون أن‬
‫تفارق االبتسامة الساخرة محياه‪.‬‬

‫"انتوا قاعدين تتسامروا هنا و سايبين الضيوف؟" قال وهو ينظر لمراد‪ ،‬ثم حول نظره اليهاب‪" ،‬وانت يا حضرة الظابط‪ ،‬مالي ايدك‬
‫قوي من الزهار؟ انت مالكش لزمة عندي‪ ،‬خالص‪ ،‬الداخلية استغنت عنك و ما عدتش تنفعني‪".‬‬

‫انزعج مراد لشعوره بالتشفي‪ ،‬عندما رأي تحوال في سلوك ايهاب إلي خنوع و تذلل حتي كاد أن يجثو علي ركبتيه‪ ،‬لم تكد الكلمات‬
‫تمرق بين شفتيه المرتعشتين حتي انطلقت رصاصة و استقرت بين حاجبيه لتسكته الي األبد‪ .‬تراجع مراد في ذعر و قد حول نظره الي‬
‫مصدر الرصاصة و كان أحد الحارسين الذي تنحي جانبا في هدوء لتدخل نجالء صارخة‪ ،‬و قد اتسعت عيناها في ذعر عندما رأت‬
‫ايهاب صريعا علي األرض‪.‬‬

‫"جايبالي الصحافة‪ ،‬و عاملة نجمة‪ ...‬اهو الواد المشلول قام و عمل ملعوب علشان يهزأك‪ ".‬ثم التفت الي حارسه اآلخر‪" ،‬قومها"‪.‬‬
‫فما كان من الحارس إال أن جذبها من شعرها في قسوة‪" ،‬علشان تاني مرة تعوزي تعملي حفلة في ملكي‪ ،‬ماتتصرفيش من دماغك و‬
‫تجيبيلي صحافة و كل شينكان‪ " .‬ثم التفت الي حارسه الذي ظل يجذب نجالء من شعرها‪" ،‬خدها علي برة و شوف شغلك"‬

‫تجمد مراد في مكانه في ذهول هو يشاهد ما يحدث أمامه و علم أن لحظاته قد تكون معدودة إن حالفه الحظ‪ .‬بحثت يده عن زر األمان‬
‫فلم يجده‪ .‬زاد توتره اثر سماعه لصرخات نجالء و مادت به األرض‪ .‬فلم يسبق له ان شهد مثل هذه االنفعاالت‪.‬‬

‫"وانت يا مراد‪ ،‬واال اقولك مورات‪ ،‬زي ما اشتهرت في النرفانا؟"‬

‫لم يجب مراد‪ ،‬بل نظر له محاوال اخفاء الرعب الذي تنامي في صدره‪.‬‬

‫"مالك‪ ،‬اتخرست و اال ايه؟ طبعا سمعت اللي قالك عليه ايهاب‪ ،‬اوعدك انه حيحصل"‬

‫امسك مراد بفتاحة األظرف علي المكتب ووضعها علي رسغه مهددا و هو ينظر للزهار في تحد‬

‫"شغل األفالم ده مش قديم شوية؟ واال هي اقبال ماعلمتكش غير شوية الحركات الخايبة دي‪".‬ضحك و شاركه رجاله في الضحك‬

‫"مالكش دعوة باألموات يا زهار‪ .،‬لو بينك و بين حمزة خالف أمي مالهاش دعوة‪".‬‬

‫جلس الزهار علي مقعد امام المكتب في استعالء "الهانم أمك طبعا مش حتقولك إني بعد ماخدمتها خدمة العمر‪ ،‬و خرجتها من مصر‬
‫هي و ابوها عبد المنعم باشا األزميرلي قبل ما التأميم يخليهم شحاتين‪..‬تتنكر لي أنا و تطردني لما طلبت ايدها علشان مين؟ علشان‬
‫تتجوز مركيز اسباني‪ ،‬اللي خلفت منه حمزة أخوك‪".‬‬

‫""علشان كده عاوز تنتقم من والدها‪ .،‬زي ما اكيد اتسببت في قتلها بعد وفاة رفعت حليم‪".".‬‬

‫"ال ناصح زي أمك‪ ".‬زفر مرسي في تهكم‪" ،‬لما عرفت ان حمزة كان فاكر نفسه ناصح و بقي ياخد المهاجرين عند المزرعة و‬
‫يرجعلهم فلوسهم قدرت اورطه في مبلغ يقطم الوسط علشان يمضي علي التنازل زي الكلب‪ .‬كانت الليلة اياها‪ ،‬ليلة الحادثة لما افتكر‬
‫نفسه حيسكت الريس وهدان بقرشين و ماكانش عارف ايه اللي مستنيه‪ ،‬دخلت انت و عرف هو يهرب‪ ...‬بس اطمن‪ ،‬حتشوفه دلوقتي‪".‬‬

‫"حمزة هنا؟" قال مراد في لهفة‪.‬‬

‫"طبعا‪ ،‬تعالي يا وهدان وريله حمزة"‬


‫دخل الرجل الغامض الي المكتب‪ ،‬و عرف مراد ان اسمه وهدان يحمل صندوقا خشبيا‪ ،‬وضعه علي األرض و هو يبتسم لما رأي مراد‬
‫يرتعد‪.‬‬

‫"كبير أوالد عوف"‬

‫و اخرج وهدان ربطة من القماش فهم مراد انها رأس مقطوعة‪ . ..‬وضع يده علي فمه في ذعر‪ .،‬كانت تلك بالفعل هي رأس الشيخ‬
‫مجاهد‪ .‬لم يكد مراد يصدق عينيه‪ ،‬و هو ينظر في ذهول الي وهدان الذي خان ولي نعمته لصالح الزهار‪.‬‬

‫"حمزة بيه" قال الزهار‬

‫أخرج وهدان ربطة أخري‪ ،‬و كشف عنها فإذا بها رأس مشوهة لم تتضح معالمها اال ان شعر الرأس كان شبيها بشعر رأس‬
‫حمزة‪...‬انطلقت صرخه مفجعة من صدر مراد وانهار في ركن من اركان الغرفة يبكي بحرقة و يصرخ بكلمات غير مفهومة ‪ .‬لم يدر‬
‫كم مر عليه من الوقت و هو في تلك الحالة منهارا علي مرأي و مسمع من ألد أعداءه و قد نجحوا في كسره‪ .‬لم ير في عين اي منهم من‬
‫تعبير انساني‪ .،‬لقد نجح الزهار في كسره دون أن يلمسه‪ .‬تذكر في تلك اللحظة أن الزهار هو من كان يشن عليه حرب األعصاب طوال‬
‫العام الماضي من خالل ايهاب‪ .‬استجمع مراد قواه و نظر محدقا في عيني الزهار دون أن يقوم‪" .‬لما تجيبلي راس مشوهة‪ .،‬و تقوللي ان‬
‫ده حمزة ايه اللي يخليني اصدقك؟"‪.‬‬

‫"انت اللي قلت عاوز تشوفه‪...‬عموما‪ .‬ماتخافش‪ ،‬حمزة حي‪ ،‬و حيشوف الفيديو بتاعك اللي حنصورهولك كمان شوية‪ ،‬واال فكرك‬
‫حاموته من غير ماعذبه‪".‬‬

‫"هاتهولي اشوفه‪..‬هاتهولي اشوفه" جعل مراد يكررها صارخا حتي خارت قواه فانهار علي األرض دون أن يفقد وعيه‪.‬‬

‫"دي آخرة اللي يقف في سكتي‪ ،‬زي الغبي اللي اسمه مجاهد‪ .‬انت فاكر بيزنس الهجرة ده شغل شوية صيادين؟ بكرة لما تالقي اوروبا‬
‫كلها تحت رحمة ميليشيات من الشباب األفارقة‪ .،‬و األراضي الزراعية في افريقيا تحت ايد الشركات العالمية تعرف كل ده اتعمل ليه‪.‬‬
‫بس انا لسة شغلي معاك ماخلصش‪ ...‬أنا حاخليك تتمني الموت و ماتطولهوش و ساعتها تتنازل عن الفندق زي اخوك ما اتنازل عن‬
‫المزرعة"‬

‫قال مراد و قد صار غير قادر علي القيام علي رجليه كأنما قد عاد له الشلل‪" ،‬المزرعة‪ .‬مش ملك حمزة‪ ،‬و الطعن اللي اتقدم علي‬
‫التنازل اللي معاك حيتقبل‪".‬‬

‫قهقه الزهار ضاحكا‪" ،‬مين ده اللي حيقبله يا شاطر؟ القاضي تبعنا‪ ،‬يعني قضيتك خسرانة خسرانة‪ .‬و لو فاكر شوية العيال اللي معاك‬
‫حينفعوك‪ .،‬رجالتي برة زمانهم خلصوا عليهم‪ ،‬و انت و الورق اللي معاك حتختفوا من علي وش األرض بمجرد ما رجالتي يشوفوا‬
‫شغلهم معاك‪ ".‬ثم استدار الي احد حرسه الخاص‪ " ،‬خليهم يجيبوا الكاميرا و العدة‪ ،‬و لما ترجع هاتوه علي المكتب ده‪ ،‬خليه مرمي كده‪،‬‬
‫مش حيروح في حتة بمنظره ده!"‬

‫عاد الحارس و بصحبته اثنين من الرجال حمل احدهما كاميرا لتصوير الفيديو علي حامل ثالثي و آخر يحمل صندوقا لم تظهر‬
‫محتوياته‪ .‬كان ذلك اآلخر ضخم الجثة‪ ،‬اصلع الرأس‪ ،‬و قد تجرد وجهه من اي تعبير انساني‪ .‬استبعد مراد ان يتكمن من مواجهته‪ .‬كان‬
‫علي مراد أن يعثر علي مهرب‪ ،‬أيا كان لكي ال يمر بذلك العذاب و الهوان الذي كان ينتظره‪ .‬ظل يدعو في سره أن تنتهي حياته قبل أن‬
‫تمتد اليه يد أحد هؤالء المرضي الذين تجردوا من اإلنسانية و تمادوا في الوحشية‪ .‬تذكر أمه مرة أخري‪ ،‬و قد فهم لماذا تزوجت من‬
‫أثرياء لمرتين بعد زيجتها األولي بمن أحبت‪ .‬كانت تبحث عن الحماية من الزهار‪ .‬بقي درس أخر علمته اياه‪ .‬لقد كان خصمه اقوي منه‬
‫و قد فشل في اخفاء مشاعره‪ ،‬و صار فريسة سهلة‪ ،‬و لم يبقي لديه اال أن يقنع خصمه بأنه قد نجح في كسره‪ ،‬ثم يهاجمه من حيث ال‬
‫يتوقع‪.‬أ‬

‫فبينما انشغلوا عنه تمكن مراد من اخفاء فتاحة األظرف في كم سترته‪ .‬اتسعت عيناه و اذا بوهدان يقترب‪ ،‬ووقد افترت شفاه الغليظة عن‬
‫ابتسامة تشفي اختص بها ضحيته الذي عجز عن الحراك‪ .‬ابصر مراد زر األمان االسود بطرف عينه بجوار الخزينة‪ .‬انتظر حتي اقترب كاد‬
‫يمسك به وهدان فاخرج فتاحة األظرف من كم سترته و طعن وهدان في صدره طعنة نافذة‪ ،‬ثم القي بنفسه جهة اليسار ليضغط علي زر األمان‬
‫فانطفأ ضوء الغرفة و ساد الظالم قبل أن يتمكن الزهار و من معه من عمل اي شيء‪ .‬لم يتمكن مراد من القيام وفق الخطة الموضوعة‪ ،‬لكن‬
‫النجدة قد وصلت خالل بضع دقائق‪ .‬سمع مراد صريرا في حجرة المكتب‪ .‬ألثاث ثقيل عاد معه الضوء الي الحجرة‪.‬‬

‫لقد تحركت المكتبة خلف المكتب ليظهر مدخل سري خرج منه رجل طويل القامة‪ ،‬بلغت خصالت شعره األسود كتفيه‪ ،‬و ان ابيض بعضها‬
‫علي جانبي رأسه‪ .‬بدت عالمات االرهاق تحت عينيه الخضراوين عندما التقيا بعيني مراد فتغير تعبير‪ .‬وجهه ليبدو علي وجهه الندم و مشاعر‬
‫أخري تدفقت بال حساب في لحظة كان عليه فيها ان يحتفظ برباطة جأشه فالتفت الي الزهار بنظرة حازمة‪،‬‬
‫"مالكش حاجة عندنا يا زهار‪" .‬‬

‫"شجيع السيما بنفسه هنا" قال الزهار بابتسامة ساخرة‪ ،‬تحفز معها‪ .‬حارساه علي الهجوم‪ ،‬لكنه اوقفهما بعصاه‪" ،‬خليكوا‪ ،‬انا عاوزه حي علشان‬
‫يشوف بعينيه اللي حاعمله في اخوه‪".‬‬

‫"مش حاتمس منه شعره طول ما أنا حي‪".‬‬

‫"انت يا شاطر بتتكلم كالم مانتاش قده‪ ،‬ما تنساش ان البوليس يبدور عليك‪ ،‬و انك قتلت ايهاب الشيمي و هو بيحاول يقبض عليك و اعتديت‬
‫علي الست بتاعته‪ .‬ايديك لفوق"‬

‫ابتسم حمزة بسخرية بدوره‪ ،‬انطلق معها‪ .‬صوت الرصاص من خارج المكتب‪ ،‬عرف مراد لحظتها ان مصدرها عمر و صبحي و قد ساروا‬
‫وفق الخطة الموضوعة‪ .‬اشتبك الحارسان معهما خارج المكتب‪ ،‬لكن سمع مراد المزيد من األصوات التي أثارت قلقه‪ .‬لقد كان هناك آخرون‬
‫من معاوني الزهار بدوا اكثر عددا من الشباب‪ .‬اشار الزهار للرجل األصلع و المصور بمهاجمة حمزة‪ ،‬و اقتربا منه ببطء و المصور يفتح‬
‫مطواته متجها بها نحو حمزة‪.‬‬

‫كان الزهار في تلك األثناء مضطربا‪ ،‬يبحث‪ .‬عن مهرب و قد ادرك أن الموقف لم يعد في صالحه و قد تمكن حمزة من السيطرة علي المصور‬
‫و اشتبك مع المارد الذي نجح في اصابته لكنه استمر في محاولته السيطرة عليه‪ .‬كان الغضب يسيطر علي حمزة و هو يكيل اللكمات الي‬
‫غريمه حتي افقده وعيه‪.‬‬
‫امسك الزهار بمقبض عصاه األنيقة و ضغط علي زر‪ ،‬فإذا بنصل حاد يخرج من طرف العصا و اتجه نحو حمزة و هو منقض علي األصلع‪.‬‬
‫"حاسب يا حمزة‪ "،‬صاح مراد‪ ،‬لكن الزهار قد اصابه في كتفه األيمن‪.‬‬

‫ادرك مراد ما ينوي فعله‪ ،‬فانتزع فتاحة األظرف من صدر وهدان‪ ،‬و رمي بها نحو الزهار بكل قوته فأصابت فخذه سقط علي اثره علي‬
‫األرض‪ ،‬لكنه انتزع فتاحة األظرف من فخذه صارخا‪ ،‬و زحف نحو مراد و علي وجهه غضب شيطاني‪ ،‬ممسكا بعصاه و قذف بها نحو قلبه‪،‬‬
‫لكن مراد تنحي جانبا فلم تصبه‪.‬‬
‫في تلك اللحطة لحق حمزة بالزهار و انقض عليه‪ ،‬رافعا اياه عن األرض‪.‬‬

‫"قلت لك طول ما أنا حي مش حتمس منه شعره‪".‬‬

‫أثار دوي الرصاص خارج القصر رعدة في جسد مراد‪ ،‬تزايد الصوت حتي بدت و كأن حربا قد اندلعت‪ .‬كان ألحداث تلك الليلة أثرا عميقا لم‬
‫تتحمله اعصاب مراد فغاب عن الوعي‪ ،‬كان القلق في عيني حمزة آخر ما رآه‪.‬‬

‫"اخوك ماستحملش‪ ،‬خسارة‪ ،‬كان فيه كتير نفسهم يشوفوه مذلول‪ .‬اوع تفتكر‪ .‬شوية العيال بتوعك حيقدروا علي رجالتي‪ .‬المزرعة كلها‬
‫متحاصرة"‬
‫قام حمزة بتوثيق يدي الزهار بالحبال خلف ظهره‪ ،‬ثم القاه علي احد المقاعد‪ ،‬و اتجه نحو مراد ليطمئن عليه‪ ،‬فإذا به يتنفس بانتظام‪.‬‬

‫"شوية العيال زي ما بتسميهم قدروا عليهم و معاهم أوالد عوف و شباب كام قبيلة تانية هنا معاهم سالح و حالفين مايفضلش واحد من‬
‫البلطجية بتوعك حي علشان ينتقموا‪ .‬للشيخ مجاهد‪ .‬أما انت‪ ،‬االنتربول عارف انك حتكون هنا الليلة دي و جايين ياخدوك‪".‬‬

‫دخل عمر بصحبته حسام و صبحي و بقية الشباب‪ ،‬قام بعضهم بتوثيق اتباع الزهار بالحبال‪.‬اندفع صبحي نحو مراد عندما رآه مغشيا عليه‪،‬‬
‫"مراد‪ ،‬هو جراله ايه?"‬

‫التفت حمزة نحوه‪" ،‬عنده انهيار عصبي يا صبحي‪ .‬ما تخافش عليه‪"،‬‬

‫"انت حمزة?"‬

‫"ايوة يا صبحي أنا"‬

‫"و عارف اسمي?"‬

‫"و عارف كمان انك انقذت حياة مراد‪ .‬و لوالك ماكنتش‪ .‬الخطة نجحت‪".‬‬

‫" و حتقعد هنا علي طول مع مراد؟"‬

‫"ال‪ ،‬احنا الزم نمشي كلنا‪ ،‬بس انت حتقعد هنا مع لبيبة و يبقالك بيت و دخل تعيش منه‪".‬‬

‫" و حتاخد مراد معاك؟"‬


‫ابتسم حمزة دون أن يجيبه‪.‬‬

‫"حيوحشني قوي"‬

‫"حنسأل عليك علي طول‪ .‬مش حاوصيك علي لبيبة‪ ،‬أنا مربيها"‬

‫"في عينيا يا باشا‪ .‬خللي بالك من مراد‪ ،‬ده مافيش حد في طيبة قلبه"‬

‫"ربنا يقدرني أعوضه عن اللي شافه"‬

‫"بس حتروحوا فين يا باشا؟"‬

‫اقترب عمر يحمل في يديه ضمادات و زجاجة مطهر‪ .‬فجلس حمزة علي المكتب‪ .‬و خلع سترته و قميصه لتظهر عضالته المفتولة‪ ،‬و قام عمر‬
‫بخياطة الجرح ليتوقف النزيف‪ .‬شاهد صبحي كل ذلك و هو يري ذلك الرجل االسطوري يجز علي اسنانه لكيال يصرخ من األلم‪.‬‬

‫"صبحي‪ ،‬نادي عم فرحات خليه ييجي هنا ياخد مراد‪ ،‬و احنا حنحصله‪ ".‬قال عمر‬

‫انتهي عمر من خياطة الجرح ووضع عليه الضمادات‪" .‬فرحات حييجي معانا؟"‬

‫"أل‪ ،‬فرحات الزم يستقبل البوليس لما ييجي‪ ،‬و الزم كلنا نكون مشينا‪.".‬‬

‫"بس الزهار ده مش فيه ناس جامده وراه في اوروبا؟"‬

‫"الزهار او موريس سافوريتي اتفضح‪ ،‬و بدأت األنشطة بتاعته في ليبيا ريحتها تطلع‪ ،‬كان عنده امل ياخد المزرعة يحول نشاطه عليها‪"،‬‬

‫"هو ايه اللي خاله عاوز ينتقم منكم بالشكل ده؟"‬

‫"تار قديم‪ .‬المهم دلوقتي ان معانا دليل ألن كل اللي دار بينه و بين مراد اتسجل صوت و صورة‪ .‬غير الصحفيين اللي شافوا البلطجية بتوعه‬
‫هنا و غطوا األحداث بالصور‪ .‬أي حد كان بيسنده هنا في مصر حيتحط في موقف ال يحسد عليه زي ايهاب‪".‬‬

‫خرج الشابان من المكتب و اتجها نحو حديقة القصر‪ ،‬تناثرت‪ .‬آثار الصراع الذي دار بين ابناء القبائل و رجال الزهار‪ .‬ووقف حمزة يشاهدها‬
‫و قد تزاحمت األفكار في رأسه‪ .‬ابصرا شخصين يقتربان من أبناء القبائل‪ ،‬كان أحدهما علوان و شاب آخر لم يره عمر من قبل‪.‬‬

‫"حمزة بيه‪ ،‬أخدنا بتار بوي الشيخ مجاهد" صاح الشاب في ظفر خالطه الحزن‪.‬‬

‫"هللا يرحمه الشيخ مجاهد‪ .‬اتفاقنا زي ما هو يا عبد الواحد‪ .‬كمان شهرين المحامي حيتصل بيك و يسلمك عقد االنتفاع و يبلغك بكل الشروط‪.‬‬
‫لكن الزم تمشوا كلكم دلوقت"‬

‫"بس شهرين كتير يا بيه"‬

‫"الزم الدنيا تهدا بعد اللي حصل‪".‬‬

‫ودع عمر و حمزة الرجالن و اتجها الي االسطبل‪ ،‬حيث وقف رهوان في انتظار رفيق دربه الذي طال غيابه‪ .‬صهل الجواد في نشوة عندما‬
‫تشمم رائحة حمزة‪.‬‬

‫"انا استاهل اللي يجرالي انا بامشي ورا اتنين مجانين زيك انت واخوك‪ .‬مش كان اسهل تسلم الورق لمراد في ايده بدل الشحططة دي؟"‬

‫اعتلي حمزة صهوة رهوان بمساعدة عمر‪ " ،‬هي دي كانت الفكرة‪ ،‬انه يسافر نيس و يقعد في بيتنا القديم لحد ما اصفي حسابي مع الزهار‪ ،‬بس‬
‫ماكنتش‪ .‬عامل حساب الحادثة اللي حصلت و كان الزم اختفي‪ .‬و من ناحية تانية كان فيه حاجات مراد الزم يعرفها كان صعب اقوله عليها‬
‫بشكل مباشر‪ .‬و كان الزم يكتشف الممر السري بنفسه‪".‬‬

‫"هو ماكتشفش‪ .‬حاجة‪ ،‬صبحي هو اللي الحظ الساللم‪ ،‬و سبنا مراد يشوف الورق براحته‪".‬‬

‫اعتلي عمر صهوة جواد آخر‪ ،‬و نظر له حمزة بابتسامة مودة‪" ،‬عمر انت اجدع صاحب في الدنيا"‬
‫"طب هات سيجارة!"‬

‫اتجه الرجالن نحو المرسي‪ ،‬حيث كان المركب بانتظارهما‪ ،‬و توافد عليه من بقي في المزرعة و انطلق قبل بزوغ الفجر‪.‬‬

‫***‬

‫ظن مراد أنه كان يحلم مرة أخري بعودة البطل المستحيلة عندما وصل الي قاع اليأس تحت رحمة الزهار‪ .،‬كانت كل التفاصيل باهتة في‬
‫ذهنه‪ ،‬كلما حاول أن يمسكها في عقله تبددت فاستسلم في نومه العميق الي رحلة علي مركب األبدية‪ ،‬في مكان ال تصله يد الزمن‪ ،‬حيث‬
‫تتراقص ألوان الشفق الي ما ال نهاية فوق مياه هادئة بال أمواج‪ .‬هل يعود الي عالم ال يسكنه حمزة إال في صور ال تنطق و ذكريات‬
‫تتبدد كلما هبت عليها رياح الزمن؟ لقد رأى وجها مخيفا من الشر حتي شل الخوف حركته من جديد‪ .‬كال‪ ،‬بل األبدية و بحارها الباردة‪،‬‬
‫حيث ما من خوف أو ألم‪.‬‬

‫لكن خياره ذلك لم يكن متاحا بعد‪ ،‬فقد فتح عينيه ليجد نفسه مستلقيا في فراش داخل كابينة بمركب ما‪ .‬قام فأطاعته قدماه و سار نحو‬
‫النافذة المستديرة‪ ،‬ليجد زرقة البحر تلتقي مع زرقة سماء صافية عند األفق‪.‬‬

‫"يا دادة"‬

‫لكن لم يجبه احد‪ .‬نظر في المرآة فوجد نفسه في ثياب بيضاء من القطن‪ ،‬كالذي اعتاد ارتداءه في المزرعة‪ .‬من الذي غير له ثيابه و‬
‫أخذه الي ذلك المكان؟ رتب هندامه في عجالة‪ ،‬و صفف شعره‪ .‬كانت متعلقاته الخاصة أمام المرآة‪ .‬عبث الغموض بفضوله فخرج‬
‫مسرعا من الكابينة‪.‬‬

‫و صعد سلما حديديا الي السطح متتبعا ما سمعه من أصوات‪ ،‬بدت ألشخاص يستمتعون بوقتهم‪ .‬ما ان وصل الي السطح حتي فاجأته‬
‫رؤية وجوه مألوفة لديه‪ .‬عمر‪ ،‬ناتاشا‪ ،‬أنيشا و بيكرام‪ .،‬كان الشباب هناك كذلك و بعض من المتطوعين األجانب‪ .‬ابتسم عمر في بشر‬
‫عندما رأي مراد‪.‬‬

‫"ميرو‪ ،‬صح النوم" قال عمر و هو يعانق مراد‪.‬‬

‫"عمر‪ ،‬احنا فين؟"‬

‫"احنا يا سيدي في اليخت بتاع حمزة‪ .‬و لسة خارجين من مضيق جبل طارق علي المحيط األطلنطي‪ ..‬بس سيبك من درس الجغرافيا‬
‫ده‪ ،‬انت كويس؟"‬

‫"أيوة‪ ،‬بس عندي شوية صداع‪ ،‬هو أنا نمت قد ايه؟"‬

‫"يعني‪ ،‬خمس ايام بلياليهم‪...‬الصدمة اللي اتعرضتلها ماكانتش سهلة‪ .‬بس ناتاشا و أنيشا فضلوا جنبك‪".‬‬
‫"و ده بيعمل ايه هنا؟ و عملتوا ايه مع الزهار؟"‬

‫"الزهار اتسلم لالنترپول‪ .‬أما بيكرام يا سيدي يبقي الدوبلير بتاع شيخ المنصر أخوك!"‬

‫"مش فاهم حاجة‪ ،‬حمزة هنا؟ و يعني ايه منصر؟"‬

‫"يعني زعيم عصابة‪ ،‬افرادها هم اللي واقفين قدامك‪ .‬حمزة هو اللي بعت انيشا و ناتاشا‪ .‬و اللي انت شفته في التراس كان حمزة‬
‫متنكرفي شكل بيكرام‪ .‬كان بيتواصل معايا عن طريقهم‪ .‬تحب تيجي معايا نشوفه؟"‬

‫"طبعا‪ ،‬هو فين؟" قال مراد في لهفة‪.‬‬

‫"في الكابينة بتاعته‪ .‬هو قرب يخف‪ ،‬بس بالراحة عليه"‬

‫استأذن عمر من ناتاشا‪ ،‬و تبادال قبلة سريعة‪ ،‬افصحت عن حبهما الوليد و اصطحب مراد الي الكابينة التي رقد فيها حمزة‪.‬لم يكد مراد‬
‫يصدق انه سيلتقي بحمزة بعد لحظات‪ .‬سابقت نبضات قلب مراد تنفسه فكاد يلهث عندما وقفا علي الباب و طرق عمر‪ ،‬و سمع صوت‬
‫حمزة يقول‪" ،‬ما تدخل؟"‬

‫دخل مراد‪ .،‬و شعر بالثواني تتباطأ و هو يسير نحو حمزة الذي استلقي في فراشه‪ ،‬و عليه آثار اإلصابات‪ ،‬و الضمادة علي كتفه األيسر‬
‫التي اكدت لمراد أنه لم يكن حلما‪ .‬لم ير غير ابتسامة حمزة التي افتقدها كثيرا و هو يقترب و جلس بالقرب منه‪ .‬تحسس وجهه ليتأكد أنه‬
‫هو‪ ،‬و الدموع تبدد رؤيته قبل أن تترقرق علي وجنتيه‪ ،‬فيمسحها حمزة بيديه‪.‬‬

‫"مش عارف اقولك ايه‪ ،‬كأني باشوفك ألول مرة‪...‬بيتهيألي لو قلتلك بابا حتبقي بايخة"‬

‫ضحك حمزة‪" ،‬ماكنتش عارف اقولهالك ازاي‪".‬‬

‫"انا كبرت في السنتين دول ‪ 100‬سنة‪".‬‬

‫"مش لوحدك‪".‬‬

‫"كنت فين؟"‬
‫"كنت باخوض معركة تانية‪ ،‬معركة سياسية احارب بيها الزهار و اللي زيه! كانت الحرب بتاخدني من بلد لبلد بين اوروبا و أفريقيا‪".‬‬

‫"و جبت الديب من ديله؟"‬

‫"دلوقتي فيه قانون لتنظيم الهجرة‪ ،‬يعني سماسرة الهجرة حيبقوا من غير شغل عن قريب‪.‬بس احنا لسة قدامنا شغل كتير‪...‬المشروع‪ .‬اللي‬
‫عملناه غرب مطروح‪ .‬نجح‪ ،‬ألننا سلمنا المزرعة‪ .‬ألهل المنطقة‪ .‬يعني نقدر نجرب نفس الفكرة في أماكن تانية و نحارب الهجرة الغير‬
‫شرعية"‬

‫جلس مراد يتطلع اليه متبسما‬

‫بادله حمزة االبتسام قائال "وحشتني يا ميرو"‬

‫" و حنروح فين من هنا؟"‬

‫"انت عاوز تروح فين؟"‬

‫"انا مكاني جنبك"‬

‫ربت حمزة علي وجنة مراد مبتسما‪ " ،‬يا حبيبي‪ ،‬انت مكانك هو اللي تختاره بنفسك‪ .‬انت دلوقتي حر‪ ،‬و اثبتت انك تقدر تواجه الحياة‪.‬‬
‫إوع تفتكر إني مش عاوزك جنبي‪ ،‬اي مكان حاكون فيه حيكون ليك مكان‪ ،‬و ناس تحبك و تحافظ عليك‪ .‬الرحلة دي علمتني اني الزم‬
‫احبك من غير ما املكك‪".‬‬

‫"أنا كنت فاهم إن حياتي ووجودي مالهمش معني غير علي خشبة المسرح‪ ،‬و أول ما انزل الزم أبقي زي حباية رمل في وسط‬
‫الصحراء‪ ،‬علشان األسطورة تفضل عايشة في عقول الجمهور‪.‬‬

‫"تعليمات اقبال هانم‪ ".‬قال حمزة ساخرا‬

‫"هي كانت فاهمة‪ .‬إني ماقدرش‪ .‬اكون زيك‪.‬فربتني تربية مختلفة‪.‬المحنة اللي مريت بيها علمتني إني قيمتي في الخير اللي باقدمه للناس‪،‬‬
‫علشان كده اخترت اكون جنبك‪"".‬‬

‫"مراد‪ ،‬انت لسة لغاية دلوقتي مش عارف قيمة نفسك؟ اللي انت عملته ده معجزة ال أنا و ال أي حد أعرفه يقدر عليها‪ .‬انت قدرت انك‬
‫تحول صبحي لحليف‪ ،‬و قدرت تقف علي رجليك و تواجه ايهاب و الزهار‪ .‬أنا كنت خايف عليك لغاية ما شفتك بتغني في سان موريتز‪.‬‬
‫عرفت ان قوتك في قلبك الكبير‪ ،‬انت بتسعد الناس و تهذب مشاعرهم‪ .‬من غير مجهود‪ .‬عارف مين كمان كان كده؟"‪.‬‬

‫"والدتك؟"‬

‫"أل‪ ،‬والدتك انت‪ ،‬ماري هيلين"‬


‫كدرت وجه مراد سحابة من الحزن‪" ،‬و دي حكاية تانية مش عارف حنتعامل معاها ازاي‪...‬اللي زيي يبقي ابن ح‪"..‬‬

‫"‪ ...Love child‬مافيش اسم تاني يبقاله معني‪ .‬اللي بيني و بين ماري هيلين كان حب محدش يقدر يتصوره" نظر حمزة الي السماء‬
‫خارج النافذة‪" ،‬و الطفل اللي اتولد هو ثمرة الحب الكبير ده‪ ...‬انت اتولدت ألسرة بتحبك‪ ،‬و من لحظة ماتكونت و انت بتكسر كل‬
‫القواعد اللي في حياتي‪".‬‬

‫"إزاي؟"‬

‫استلقي مراد علي الناحية اليمني من جانب حمزة بعد ان افسح له قليال‪" ،‬كان عمري ‪ 17‬سنة لما عرفت اني حاكون أب‪ ،‬شباب كتير‬
‫في موقفي كان ممكن يهربوا من المسؤلية‪ ،‬لكن أنا حبيتها أكتر و أخدتها تعيش معانا‪ .‬و لما اتوفت‪ ،‬اتعلقت بيك أكتر‪ .‬و عارف حاجة‬
‫كمان‪ ،‬كنت دايما احضر حفلة المدرسة من غير ما انت تشوفني‪...‬و ما كانش ممكن أبدا افوتها‪ ،‬مع اني زي مانت عارف‪ ،‬ماحبش‬
‫حاجة تحدد حريتي‪".‬‬

‫"انت كنت دايما بعيد‪"،‬‬

‫"ده ألنك ماكنتش بتشوفني‪ ،‬لكن انا كنت دايما موجود جنبك‪ .‬رفعت حليم ماكانش الزم يعرف انك ابني‪ ،‬علشان كده خرجت من حياتك‪،‬‬
‫و لفيت العالم ادور علي نفسي‪ ،‬علي الحب‪ ،‬علي هدف اعيش علشانه"‬

‫"و ماعرفتش بوفاة ماما؟"‬

‫زفر حمزة في غضب خامد‪" ،‬دي حكاية تانية‪ ،‬أمي مع األسف فهمتني إني ماليش مكان في حياتها بعد ما تمت إجراءات التبني‪ ،‬علشان‬
‫كده ماحدش بلغني لما اتوفت‪ .‬و لما سألت عنك في المدرسة كنت انت اختفيت‪"،‬‬

‫تزاحمت األفكار في عقل مراد‪ ،‬و الحظ حمزة فتساءل‪" ،‬انت سرحت في ايه؟"‬

‫"قبال طردتك علشان تحميك ‪ .‬و أنا متأكد إن الحادثة اللي اتوفت فيها ماكانتش صدفة"‬

‫صمت حمزة في تفكير عميق‪"...‬الزهار‪ .‬بعد كده شافك في الكازينو اللي اشتغلت فيه‪ .‬هل حاول يكلمك؟"‬

‫"مش فاكر‪ ،‬بس انت عارف كان فيه كام واحد من عينته بييجوا النرفانا؟ أنا ما صدقت جالي العقد مع فرقة مسرحية وسبت الكوت‬
‫دازور"‬
‫طوق حمزة مراد بذراعه األيمن‪" ،‬أنا آسف اني ماقدرتش أحميك من التجارب القاسية دي‪ ،‬بس ارجع واقول‪ ،‬ان ده من اسباب قوتك يا‬
‫ميرو‪ .‬لكن انا عمري ما كنت أب أو أخ بالنسبة لك"‬

‫"انت أهم من كده بكتير‪ ،‬انت أعز صديق‪ ،‬مش كفاية؟" قال مراد مبتسما‪.‬‬

‫قبل حمزة جبينه‪" ،‬طيب‪ ،‬ناوي تروح فين؟"‬

‫"يا حمزة‪ ،‬أنا دلوقتي باختار اكون جنبك ألني عرفت و اتأكدت انك واقف مع الحق و قضيتك هي قضيتي‪".‬‬

‫"و المسرح؟"‬

‫"أرجعله في أي وقت‪ ،‬بس حيفضل بيتي دايما في المكان اللي انت فيه‪ .‬و انت رايح بينا علي فين؟"‬

‫برقت عينا حمزة في حماس الفتي المراهق‪ ،‬الذي ارتبط به في ذهن مراد "حنبتدي مشروع جديد في افريقيا‪"،‬‬

‫تهادي المركب علي امواج احدي سواحل المحيط األطلنطي بالقارة السوداء‪ .‬تراقصت الوان الشفق لبرهة قبل أن ترسو المركب‪.،‬‬
‫ليرحب الشاطيء بركابها‪ ،‬الذين اتوا حاملين اآلمال و األحالم‪ ،‬كما حملت صدورهم‪ .‬الكثير من الحكايا التي لم تجد من يسمعها‪ .‬و في‬
‫سهرة حتي الصباح أعاد حمزة علي مسامع مراد قصته مع ماري هيلين‪ ،‬لينفرط عقد الحكايا فيجمعاها سويا‪ .‬لم يكن من السهل أن‬
‫يعرف الفراق طريقا لهذين االثنين بعد خطاهما األولي نحو رحلة جديدة‪ ،‬ليخطا مالمح عالم جديد قد ال يتسع ألمثال الزهار و ايهاب‪ ،‬و‬
‫إنما يشمل كل من كان يعشق الحياة‪ ،‬لقد كان هناك الكثير من األمل مادام‪ .‬هناك من يواجه أقسي مخاوفه فيخرج أقوي من ذي قبل‪.‬‬

You might also like