Professional Documents
Culture Documents
معيار البيتكوين
سيف الدِّين عَ مُّ وص
II
معيار البيتكوين
البديل الالمركزي للنظام املرصيف املركزي
III
حقوق الطبع والنرش محفوظة © 2019لسيف الدين عَ مُّ وص .كل الحقوق محفوظة.
يُمنع نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية أو إلكرتونية أو ميكانيكية بما فيه
التسجيل الفوتوغرايف والتسجيل عىل أرشطة أو أقراص مقروءة أو أية وسيلة نرش أخرى بما فيها حفظ
املعلومات ،واسرتجاعها ،إال بما سمُح به يف املادة 107أو 108من قانون حقوق الطبع والنرش من عام
1976يف الواليات املتحدة األمريكية ،دون إذن خطي من النارش ،أو عن طريق تسديد املبلغ املناسب
للنسخة إىل مركز ترخيص حقوق النرش ،يف 222روزوود درايف ،دانفرز ،ماساتشوستس ،01923
،)978( 750-8400فاكس ،)978( 646-8600أو عىل املوقع اإللكرتوني
.http://www.copyright.comيجب إرسال طلبات اإلذن من النارش إىل قسم األذون يف رشكة جون
واييل وأبناؤه 111 ،ريفر سرتيت ،هوبوكن ،نيوجريس .)201( 748-6011 ،07030
تحديد مسؤولية /إخالء مسؤولية الضمان :بذل النارش والكاتب قصارى جهدهما يف إعداد هذا الكتاب،
بشكل
ٍ لكنهما ال يقدمان أي ضمان رصيح أو ضمني حول دقة أو اكتمال محتويات هذا الكتاب ويُخليان
خاص مسؤوليتهما عن أي كفالة ضمنية متعلقة بقابلية التسويق أو املالءمة لغرض معني .ال يمكن تقديم
أية ضمانات من قبل ممثيل املبيعات أو مواد املبيعات املكتوبة .قد ال تكون النصائح واالسرتاتيجية
املوجودة يف الكتاب مناسبة لوضعك .يجب أن تستشري شخصا ً مختصاً .لن يكون النارش وال الكاتب
مسؤولني عن أية خسارة أو أرضار مادية ،بما فيها ،عىل سبيل املثال ال الحرص ،األرضار الخاصة،
العرضية ،وغريها.
IV
املـــحــتــويـــــات
املحتوياتV ...................................................
إهداء VIII .....................................................
حول املؤلف IX ...............................................
حول املرتجم X ...............................................
مقدمة "فالريي فافيلوف"XI .............................
مقدمة نسيم طالب XIV ...................................
تمهيد XVI ....................................................
V
املحتويات
VI
املحتويات
VII
إهـــــــــــــــداء
إىل زوجتي وابنتي اللتان منحتاني سببا ً للكتابة.
VIII
حــول املــؤلــف
د .سيف الدِّين عَ مُّوص هو أستاذ االقتصاد يف الجامعة اللبنانية األمريكية وعضو يف مركز
جامعة كولومبيا لدراسة الرأسمالية واملجتمع.
IX
حــول املرتجم
أحمد محمد حمدان هو خريج الجامعة العربية للعلوم اإلداريَّة واالقتصاديَّة ومقرها
القدس .حاصل عىل لقب إضايف يف األدب اإلنجليزي.
دأبَ املرتجم عىل املزج بني شغفه بعلم االقتصاد والتقنيات الحديثة ليُو ِّ
ظف ذلك يف ترجمة
هذا الرصح العلمي للمؤلف د .سيف الدِّين عَ مُّوص.
للتواصل مع املرتجم عىل تويرت ،اضغط هنا.
X
مقدمة "فالريي فافيلوف"
هناك مجموعتني من األشخاص يجب عليهم قراء معيار البيتكوين :املجموعة األوىل تتمثل
باألفراد الذين يعتقدون أن األنظمة يف عاملهم تعمل ،واملجموعة الثانية تتمثل بأولئك
األفراد الذين رؤوا هذه األنظمة تنهار وتتهاوى أمام أعينهمَ .ف ِكال املجموعتني تحتاج
البيتكوين ،ولكن قبل أن يدركوا هذه الحقيقة ،يجب عليهم أوال ً أن يفهموا بعضهم
ٍ
مجتمعات البعض .وإىل أن يتم هذا ،فسوف يبتكروا ،ويكافحوا ،ويفشلوا ،وينجحوا يف
منعزلة.
أنا أنتمي إىل املجموعة الثانية .فعقب انهيار االتحاد السوفيتي ،تأثرت بلدي
وضحاها ،أصبحت نقودنا بال قيمة ،وتفككت وانهارت"التفيا" حتى صميمها .ففي ليلة ُ
أنظمتنا الحكومية ،وكان علينا أن نجمع شتاتنا وشتات هذه القطع املتهاوية .فطبيعة
التغيري الجذري هذا قد ترك بصمته يف نفيس ،وبدَّل الطريقة التي أرى وأتفاعل بها مع
هذا العالم .وما يزال هذا األمر قابعا ً يف صميمي بشكل هادئ ،وهو يُذكرني بشكل حازم
لكي أتساءل وأُش ِّكك دوما ً بهذا العالم ،وألعمل بجد كي أحرص عىل أال أُعايش انعدام
االستقرار هذا أبداً.
ويف عام ،2010قرأت مستند "ساتويش ناكاموتو" الذي َقدّم فيه البيتكوين،
ُ
وشعرت حينها برتدد صدى كل كلمة يف هذا املستند مع تجربتي ،وتجربة كل األفراد
الذين نشؤوا تحت ْ
وَقع األنظمة الفاسدة .فكل جز ٍء من تصميم البيتكوين سعى إىل دعم
قيمة أساسية واحدة وذلك ليكون غري مركزي ،وال يمكن إتالفه ،ولكي يكون مخزون آمنا ً
للقيمة .يبدو هذا أمرا ً بسيطاً ،ولكنه كان عصيا ً علينا منذ أن خرجنا عن املعيار الذهبي،
وعانينا نتيجة هذه الخروج .فبعد ذلك ،قمت بتأسيس " Bitfuryبيت فيوري" وذلك لكي
XI
مقدمة "فالريي فافيلوف"
أُحرض هذه التكنولوجيا الناشئة حديثا ً من منتديات حركة "سايفر بانق" إىل هذا العالم
الكبري .وأعتقد أن هذا األمر كان هو الحل الذي بَحث عنه الكثري .فإذا َ
كنت ال تثق بعاملك،
فكيف يعقل منك أن تبني من أجله؟ ومن يبني هذا العالم الجديد أفضل من أولئك الذين
عانوا من الفشل عىل مستوى النظام؟
لقد شعرت بالعالقة املدوية ذاتها وأنا أقرأ كتاب معيار البيتكوين .فلدى سيف
الدين ،مؤلف هذا الكتاب ،قدرة ال مثيل لها يف معرفة خبايا أنفسنا فيما يتعلق بعدم
ٍ
بشغف ودقة ِبوصف األنظمة املالية التي نجحت وتلك االستقرار الذي عايشناه ،وقام
التي فشلت.
لكن سيف الدين َكتب معيار البيتكوين لجمهور آخر أيضاً ،جمهور ِب ُّت أعرفه
جيدا ً من مختربات "سيليكون فايل" ،وناطحات سحاب "وول سرتيت" ،واملؤتمرات
التقنية ،والعديد من األماكن أيضاً .فهؤالء هم قادة العالم التقني ومنهم أصحاب رؤوس
األموال ،واملستثمرون ،ورياديو األعمال ،واملرصفيون وأولئك أصحاب الرؤى .ورغم
اختالفهم يف جنسياتهم ،وأ َ ْ
صلهم ،ودرجات تعليمهم ،ولغاتهم ،إال أنهم متشابهون يف أن
لديهم القدرة عىل إحداث تغيري واسع النطاق عىل املستوى الدويل .فشغفهم ودافعهم
لالبتكار التقني هو أمر ملهم ،وأعتقد أنه مُستوحى بشكل جزئي من األمن واالستقرار
الذي يرونه يف أنظمتهم األساسية .فمن دون وجودهم ،لن نستطيع االستمتاع بالعديد من
املنتجات املالية املؤثرة ،والعديد من الخدمات التي نملكها اليوم ،بما يف ذلك النظام
املرصيف عىل شبكة اإلنرتنت ،ونظام اإلقراض القائم عىل مبدأ النظري للنظري ،والتحويالت
النقدية عرب الهاتف ،وبطاقات الدفع ،والكثري.
وبينما ال يمكن إنكار هذا الوضع الراهن ،إال أننا استخدمنا العديد من هذه
يغض الطرف عن تجربتهم،َّ االبتكارات عرب املؤسسات لسنوات عديدة .فبدال ً من أن
يتحدث سيف الدين لجمهوره بلغة مفهومة للعامة .وببصريته الرائعة ،تحدى فكرة أن
XII
مقدمة "فالريي فافيلوف"
ُ
ولست هنا ألجادل بشأن املزايا النسبية لكل نظرة للعالم .فاملعرفة واالنجازات
العظيمة تأتي منا جميعاً .لكن ما ال يمكن تجنبه هو أننا نحمل جميعا ً دروسا ً من حياتنا
قابع ًة يف عقلنا الباطن .وبينما أصبح عاملنا أكثر اتَّصاال ،اتَّسعت الهوة بني مجموعاتنا.
فكل ما علي َك فعله هو قراءة العناوين الرئيسية فقط لرؤية أولئك الذين يفضلون تعزيز
انقسامنا بدال ً من تشجيعنا عىل التعاون .ويف الحقيقة ،إن العوامل املشرتكة لدينا هي
أكثر مما نعتقد .وعندما أَنرش مهمة "البيتكوين" و"بيت فيوري" ،فإن العديد من األفراد
الذين كانوا يف السابق يراهنون بحياتهم عىل أنظمتهم كانوا مصدومني من انعدام أمان
حساباتهم املرصفية .وبشكل مشابه ،فإن األفراد الذين فقدوا إيمانهم يف أنظمتهم بأنها
َ
بدأت كلتا قد تعمل يوما ً لصالحهم فهم يفعمون بالحيوية ووعدوا بتقديم األفضل .ولقد
املجموعتني بإدراك أنه يمكن للبيتكوين أن يُنشئ نظاما ً عامليا ً نكون فيه جميعا ً أكثر
إرصارا ً ونجاحا ً – وذلك ألننا م ُح َّفزون للتعاون بدال من التنافس.
لقد حان الوقت لنا لنتطور ،لكن إحدى الخطوات األوىل التي يجب أن تتم هي
التأكد بأن لدينا جميعا ً األدوات ذاتها تحت ترصفنا .وبصفتي رائد أعمال شاب ،ال
أستطيع التشديد عىل أهمية قراءتي لكتاب هندسة برمجيات بلغتي األم وما كان ذلك
سيعني يل حينها .شكرا ً لك سيف الدين عىل سنواتك من األبحاث التي َقدَّمت لنا هذا
العمل ،وعىل جهودك املستمرة لتقديم معيار البيتكوين لنا.
XIII
مقدمة
دعونا نَتْبع منطق األمور منذ البداية أو باألحرى منذ النهاية :العرص الحديث .نحن نشهد
َصعُب علينا ط هذه السطور تمردا ً شامال ً عىل فئةٍ ما من الخرباء يف مجاالت ي ْ وأنا أَخ ُّ
الكيل ،الذي ال يكون فيه الخبري غري خبري فحسب ،لكنه أيضا ً فهمها ،مثل واقع االقتصاد ِّ
َ
السابقني مديري االحتياطي الفيدرايل
َ ال يعلم هذه الحقيقة .فاكتشفنا بعد فوات األوان أن
"غرينسبان" و"برنانكي" لم يفهما جيدا ً الواقع التجريبي :بحيث يستطيع املرء ادِّعاء
الهراء يف االقتصاد الكيل ملدة أطول منها يف االقتصاد الجزئي ،ولهذا السبب علينا أن نكون
حَ ذِرين باألشخاص الذين نمنحهم القدرة عىل اتخاذ القرارات املركزية الكربى.
وما يزيد األمر سوءا ً هو أن كل البنوك املركزية عملت وفقا ً للنموذج نفسه ،مما
أدى إىل نتيجة واحدة.
ففي املجاالت املعقدة ،ال ترتكز الخربات :بحيث تعمل األمور بطريقة م َّ
ُوزعة يف
َرهن لنا "فريدريك هايك" بشكل مُقنِع ،لكن هايك استخدم ظل الواقع العضوي كما ب َ
ً
رضورية لكي مفهوم املعرفة املوزعة .ويف الحقيقة ،يبدو أن "معرفة" األشياء ليست
تجري األمور جيدا ً وال العقالنية الفردية رضوري ًة أيضاً ،بل كل ما نحتاجه هو البُنية.
صة ديمقراطية يف القرارات ،حيث إن هذا األمر ال يعني أن لجميع املشاركني حِ َّ
ُحرك املؤرش بشكل غري مُتكافئ (هذا ما تَعلمتُه عىل أنهأنه يمكن ملشاركٍ تم تحفيزه أن ي ِّ
عدم التناسق يف قاعدة األقلية) ،لكن يمتلك كل مشارك خيارا ً بأن يكون هو ذلك الالعب.
XIV
مقدمة
لهذا ،إن البيتكوين فكرة ممتازة ،فهو يؤدي احتياجات النظام املعقد ،ليس ألنه
عِ ملة رقمية مشفرة ،بل تحديدا ً ألنه ال مالك له ،وألنه ال تستطيع أي سلطة أن تقرر
مصريه .فهو مُلك للشعب وملستخدميه ،ويملك اآلن سجال ً حافالً لعدة سنوات يكفيه
ليكون كيانا ً قائما ً بذاته.
ولكي تتمكن العمالت الرقمية املشفرة من املنافسة ،يجب أن يكون لها خواص
"هايكية" مماثلة.
إن البيتكوين هو عملة ال حكومة لها ،لكن قد يتساءل املرء :ألم يكن لدينا ذهب
وفضة ومعادن أخرى ،وهما صنف آخر من العمالت التي ال حكومة لها؟ ليس تماماً.
فعندما تُقايض الذهب ،فأنت تُقايض ،عىل سبيل املثال ،رشكة "لوكو" القاطنة يف "هونج
كونج" ،ويف النهاية تحصل عىل حصة من األسهم هناك ،والتي قد تحتاج إىل نقلها إىل
"نيو جرييس" .فتتحكم املصارف بلعبة الوصاية وتتحكم الحكومات باملصارف (أو
باألحرى وبتعبري مُهذب ،إن املرصفيني وموظفي الحكومة متفقون معاً) .بالتايل ،إن
للبيتكوين أفضلية كبرية عىل الذهب فيما يتعلق بالتحويالت :بحيث ال تحتاج التصفية
وصيَّا ً معيناً ،وال تستطيع أية حكومة السيطرة عىل الرمز الذي تحفظه يف عقلك.
أخرياً ،سيَم ُّر البيتكوين يف عثرات وقد يفشل ،لكن سيُعاد ابتكاره بسهولة ألننا
ِبتنا نعرف اآلن كيف يعمل .وقد ال يكون البيتكوين مالئما ً للمعامالت يف وضعه الحايل،
أي أنه ليس مناسبا ً لرشاء كوب قهوة ٍ
خال من الكافيني يف سلسلة املقاهي املحلية ،وقد
يكون متقلبا ً بشكل كبري يف قيمته ليكون عملة يف الوقت الحايل ،لكن البيتكوين هو أول
عملة عضوية.
لكن مجرد وجوده يُش ِّكل وثيقة تأمني ستُذ ِّكر الحكومات بأن العملة ،والتي
هي آخر يشء تستطيع السيطرة عليه ،لم تَعد حكرا ً لها .فيمنحنا هذا نحن الناس وثيقة
تأمني للمستقبل الذي كتب عنه "جورج أورويل".
XV
متهيد
يف األول من نوفمرب عام ،2008أرسل مربمج حاسوب باالسم املُستعار "ساتويش
ُشفرة ليُعلن أنه أنتج "نظاما ً نقديا ً ناكاموتو" بريدا ً إلكرتونيا ً إىل قائمة بريدية م َّ
إلكرتونيا ً جديدا ً يعمل بشكل كامل كنظام نظري إىل نظري ،دون حاجةٍ لوجود طرف ثالث
موثوق به" 1.وقد تم نسخ ملخص املستند الذي يرشح التصميم ،وتم وضع رابط له عىل
شبكة اإلنرتنت .ويف جوهره ،قدَّم البيتكوين شبكة دفع بوساطة عملته الخاصة،
واستخدَم طريقة متطورة ليتحقق األعضاء فيها من جميع التحويالت دون حاجة للوثوق
بأي عضو من أعضاء الشبكة .وتم إصدار العملة بمعدل مُحدَّد سلفا ً ملكافأة األعضاء
الذين أنفقوا طاقة املعالجة للتحقق من صحة التحويالت ِلتُؤمِّ ن بالتايل مكافأة لهم عىل
عملهم .واألمر املذهل هنا هو أنه خالفا ً للعديد من املحاوالت السابقة األخرى إلنشاء نقد
رقمي ،فقد نجح هذا االخرتاع.
وبالرغم من التصميم الذكي واألنيق ،إال أنه لم يكن هناك ما يوحي بأن هذه
التجربة الغريبة ستثري اهتمام أي شخص من خارج دائرة املهووسني بالتشفري .هذا ما
كان عليه الحال لعدة أشهر ،حيث بالكاد انضم عرشات من املستخدمني حول العالم إىل
الشبكة ،وشاركوا يف عمليات التعدين وإرسال العمالت فيما بينهم ،حيث بدأت هذه
العمالت تأخذ صفة املقتنيات ولكن بشكل رقمي.
1ميكن العثور على الربيد اإللكرتوين الكامل يف أرشيف مؤسسة "ساتوشي انكاموتو" لكل كتاابت "ساتوشي
انكاموتو" املعروفة واملتوفرة على املوقع http://www.nakamotoinstitute.org
2معيار احلرية اجلديد املنتهي اآلن.
ُ
XVI
تمهيد
رشاء للبيتكوين بالنقود .3وقد تم احتساب السعر قياسا ً لتكلفة الكهرباء الالزمة إلنتاج
البيتكوين .ومن ناحية اقتصادية ،يُمكن القول إن هذه اللحظة األساسية كانت هي األهم
يف حياة البيتكوينَ ،فلَم يَ ُعد البيتكوين مجرد لعبة رقمية يلعبها مجتمع هاميش من
املربمجني؛ بل أصبح اآلن سلعة سوقية لها سعر محدد ،مما يشري إىل أن شخصا ً ما يف
مكان ما قد منحه تقييما ً إيجابياً .ويف الثاني والعرشين من مايو ،2010دفع شخص
آخر 10,000بيتكوين لرشاء فطريتي بيتزا بقيمة ،$25وكانت هذه أول مرة يُستخدم
فيها البيتكوين كوسيط للتبادل ،واستغرقت العِ ملة سبعة أشهر لتنتقل من كونها سلعة
سوقية لتصبح وسيطا ً للتبادل.
منذ ذلك الوقت ،نمت شبكة البيتكوين من حيث عدد املستخدمني ،والتحويالت،
وطاقة املعالجة املخصصة لها ،يف حني ارتفعت قيمة عملتها برسعة لتتجاوز $7,000
لكل بيتكوين اعتبارا ً من نوفمرب .20174فبعد ثماني سنوات ،أصبح من الواضح َّ
أن هذا
االخرتاع لم يعد مجرد لعبة عىل اإلنرتنت ،بل أصبح تقنية اجتازت اختبار السوق
ألغراض يف العالم الواقعي .أ َ ِضف لذلك أن سعر رصفه أصبح
ٍ ويستخدمها الكثريون
ً
يُعرض بانتظام عىل التلفاز ،ويف الصحف ،وعىل مواقع اإلنرتنت جنبا إىل جنب مع أسعار
رصف العمالت الوطنية.
XVII
تمهيد
النقد الرقمي والعملة الرقمية الصعبة .وبالرغم من كون البيتكوين اخرتاع جديد من
العرص الرقمي ،إال أن املشاكل التي يهدف إىل حلها ،وهي مشاكل قائم ٌة منذ نشأة املجتمع
البرشي ،تتمثل بتوفري شكل من أشكال النقد تحت سلطة صاحبه الكاملة ،حيث أنه من
املرجح أن يحتفظ هذا النقد بقيمته عىل املدى الطويل .ويُقدِّم هذا الكتاب تصورا ً لهذه
املشاكل بنا ًء عىل سنوات من دراسة هذه التكنولوجيا واملشاكل االقتصادية التي تحلُّها،
توصلَت املجتمعات سابقا ً إىل حلول لها عرب التاريخ .وقد يُفاجئ استنتاجي أولئك
وكيف َّ
الذين يصفون البيتكوين بأنه عملية احتيال أو خدعة من قِ بَل املضاربني أو املروجني من
بزمن قيايس ،لكن البيتكوين يطوِّر فعالً من الحلول السابقة ل ِـ ٍ ربح
أجل تحقيق ٍ
"مخزون القيمة" ،وقد يتفاجأ املشككون يف البيتكوين بمدى مالئمته لتأدية دور النقد
السليم يف العرص الرقمي.
فيمكن للتاريخ أن يُنبّئنا ويحذرنا بما هو قادم ال سيما عند دراسته عن كثب،
والوقت كفي ٌل بأن يكشف لنا عن مدى صحة القضية املطروحة يف هذا الكتاب .وكما هو
واجب ،فإن الجزء األول من الكتاب يرشح النقد ووظائفه وخصائصه .وكخبري اقتصادي
يت دائما ً إىل فهم التقنيات من حيث املشاكل التي
يل با ٌع طويل يف مجال الهندسةَ ،سعَ ُ
تهدف إىل حلها ،األمر الذي يسمح بتحديد جوهرها الوظيفي وفصلها عن الخصائص
العرضية ،والتجميلية وغري الجوهرية .فمن خالل فهم املشاكل التي يحاول النقد حلها،
يصبح باإلمكان توضيح العوامل التي قد تجعل النقد سليما ً أو غري سليم ،ثم يمكن
تطبيق ذلك اإلطار التصوري لفهم السبب والطريقة التي م َّكنت سلع مختلفة كاألصداف
البحرية ،والخرز ،واملعادن والنقود الحكومية من تأدية دور النقد .ويمكن أيضا ً فهم
السبب والطريقة التي أدت إىل فشلها يف ذلك أو خدمتها ألهداف املجتمع لحفظ القيمة
وتداولها.
XVIII
تمهيد
عىل أساس متني ،بينما يضع النقد غري السليم هذه العمليات بحالة من الفوىض .يجدر
ً
فعالة ً
حصانة اإلضافة أن النقد السليم هو عنرص أسايس يف مجتمع حر وذلك ألنه يوفر
ضد الحكومات االستبدادية.
ُكتب هذا الكتاب ملساعدة القارئ عىل فهم اقتصاديات البيتكوين بكونه تكرار
رقمي للعديد من التقنيات التي استُخدمت لتؤدي دور النقد عرب التاريخ .إن هذا الكتاب
ليس إعالنًا أو دعوة لرشاء عملة البيتكوين ،بل عىل العكس ،من املرجح أن تبقى قيمة
البيتكوين متق ِّلبة عىل األقل لفرتة من الزمن؛ حيث قد تنجح شبكة البيتكوين أو تفشل
ألية أسباب متوقعة أو غري متوقعة؛ وسيتطلَّب استخدامها كفاءة تقنية ،وسيحوط بها
مخاطر قد تجعلها غري مناسبة للعديد من الناس .فال يُقدِّم هذا الكتاب نصيحة
استثمارية ،لكنه يهدف إىل املساعدة يف توضيح الخصائص االقتصادية للشبكة وآلية
معلومات مفيدة قبل أن يتخذوا قرارا ً بشأن استخدامها.
ٍ للقراء
عملها ليقدم َّ
وال يجب أن يفكر أي شخص بامتالك مخزون من البيتكوين إال بوجود معرفة
ُوَسعة ،وبعد بحث واسع وشامل يف الجوانب التشغيلية العملية المتالك وتخزين ودراية م َّ
البيتكوين .فقد يبدو البيتكوين استثمارا ً ال يحتاج ذكا ًء نظرا ً إىل ارتفاع قيمته السوقية،
إال أن النظر يف العدد الضخم من االخرتاقات ،والهجمات ،والفشل األمني وعمليات
االحتيال التي كلَّفت الناس ممتلكاتهم من البيتكوين ،يش ِّكل تحذيرا ً ألي شخص يعتقد
كنت تعتقد أنك عندما تنتهي من قراءة أن امتالك البيتكوين سيوفر ربحا ً مضموناً .فإذا َ َّ
هذا الكتاب أن عملة البيتكوين تستحق االمتالك ،فال يجب أن يكون استثمارك األول هو
رشاء البيتكوين ،بل يجب أن يكون بتمضية الوقت يف فهم كيفية رشاء وتخزين وامتالك
البيتكوين بشكل آمن ،وذلك ألن طبيعة البيتكوين الجوهرية تكمن يف أنك ال تستطيع
استخدام طرف آخر أو االستعانة بمصادر خارجية للوصول إىل هذه املعرفة .فليس هناك
XIX
تمهيد
بديل للمسؤولية الشخصية ألي شخص مهتم باستخدام هذه الشبكة ،وهذا هو االستثمار
الحقيقي الذي يجب القيام به للدخول يف عالم البيتكوين.
XX
الفصل األول
النقد
َّ
سخر اإلمكانيات البيتكوين هو أحدث تكنولوجيا تؤدي دور النقد -إنه اخرتاع
التكنولوجية املوجودة بالعرص الرقمي من أجل حل مشكلة ما تزال قائمة منذ الوجود
البرشي :وهي كيفية نقل القيمة االقتصادية عرب الزمان واملكان .ولفهم البيتكوين ،يجب
عىل املرء أن يفهم النقد أوالً ،وال يوجد سبيل لذلك إال بدراسة تاريخ ووظيفة هذا النقد.
أما يف اقتصاد أكرب حجما ً وأكثر تطورا ً ،تُتاح الفرصة أمام األفراد للتخصص يف
إنتاج املزيد من السلع وتبادلها مع عدد أكرب من األشخاص -وهم أشخاص ال تربطهم
عالقات شخصية ،وغرباء ال يمكن بشكل عميل إقامة عالقات تجارية أو تقديم خدمات أو
إقامة مصالح معهم .فكلما َك ُرب حجم السوق ،ازدادت فرص التخصص والتبادل ،لكن
ستزيد معها أيضا ً مشكلة اختالف الرغبات – أي ما ترغب يف الحصول عليه يُنتجه
شخص ال يرغب بما تعرضه للبيع .وبهذه الكيفية ،يتضح لنا أ َّن املشكلة هي أعمق من
قضية متطلبات مختلفة لسلع متعددة ،حيث أنه هناك ثالثة أبعاد مختلفة للمشكلة.
1
معيار البيتكوين
والطريقة الوحيدة لحل هذا األمر هي عن طريق التبادل غري املبارش :حيث أنك
ستحاول إيجاد سلعة أخرى قد يريدها شخص آخر ،ثم تجد شخصا ً يُبادلها معك لقاء ما
تريد بيعه .وهذه السلعة الوسيطة تُدعى وسيط التبادل .وبالرغم من أنه يمكن ألي سلعة
أن يتم استخدامها كوسيط للتبادل ،إال أنه مع نمو نطاق وحجم االقتصاد ،سيصبح من
غري العميل أن يبحث الناس باستمرار عن سلع مختلفة قد يريدها الطرف املقابل ،ليقوموا
بعدها بإجراء عدة مبادالت لكل مبادلة يريدون إجراءها .ولهذا ،من الطبيعي أن ينبثق
حل أكثر فعالية ،ولو ملجرد أن من يُصادفه سيكون أكثر إنتاجية ممن ال يجده :حيث
سيظهر وسيط واحد للتبادل (أو عىل األكثر عدد قليل من وسائط التبادل) يستخدمه
الناس لتبادل ِسلَعِ ِهم .وتُدعى السلعة التي تؤدي دور وسيط للتبادل متفق عليه بشكل
واسع النقد.
إن الوظيفة الجوهرية التي تُحدِّد النقد هي الوظيفة التي تجعله وسيطا ً
للتبادل -بعبارات أخرى ،إنه سلعة ال تُشرتى لكي يتم استهالكها (سلع استهالكية) ،وال
ظف يف إنتاج سلع أخرى (استثمارات ،سلع رأسمالية) ،ولكن بشكل أسايس من لكي تُو َّ
أجل مبادلتها بسلع أخرى .ففي حني ي ُفرتض باالستثمار أن يعود بالدخل لكي يتم
2
النقد
مبادلته مع سلع أخرى ،إال أنه يختلف عن النقد بثالثة جوانب :أوالً ،إنه يقدِّم عائدا ً ال
يقدمه النقد .ثانياً ،هناك دائما ً احتمال للفشل لكن يُفرتض بالنقد أن يحمل معه أقل ٍ
قدر
من املخاطر .ثالثاً ،االستثمارات أقل سيولة من النقد ،وتتطلب تكاليف تحويالت باهظة يف
كل مرة يتم إنفاقها .وقد يساعدنا هذا يف فهم سبب وجود طلب دائم عىل النقد ،وعىل فهم
السبب الذي سيمنع االستثمارات من أن تستبدله بشكل كيل .حيث يعيش البرش حياة من
عدم اليقني ،وذلك ألنه ليس بمقدورهم التنبؤ بالوقت الذي سيحتاجون فيه مبلغا ً معينا ً
من النقد 1.لذلك ،إن رغبة األفراد بحفظ جزء من ثروتهم عىل شكل نقد هي فطرة سليمة
وحكمة أزلية يف جميع الثقافات البرشية تقريباً ،ألنه املُلكية األكثر سيولة ،األمر الذي
يسمح لحامله بتسييله إن احتاج إىل ذلك ،كما أنه يحمل مخاطر أقل باملقارنة مع أي
استثمار آخر .لكن رضيبة سهولة حمل النقد تأتي عىل شكل االستهالك املُتنا َزل عنه
والذي كان من املمكن االستفادة منه ،وعىل شكل العائدات الضائعة التي كان من املمكن
اكتسابها باستثماره.
فليس هناك مبدأ ينص عىل ما ينبغي أو ما ال ينبغي استخدامه كنقد ،فقد
يختار أي شخص رشاء يشء ال يريد استخدامه ،بل سيشرتيه لهدف مبادلته بيشء آخر،
1راجع كتاب لودويغ فون ميزس ،الفعل البشري ،صفحة ،250ملشاهدة حوار كيف أن عدم اليقني من
املستقبل هو ال دافع الرئيسي للرغبة ابمتالك النقد .فبزوال عدم اليقني يف املستقبل ،سيتمكن البشر من معرفة مجيع
إيراداهتم ونفقاهتم مسبقاً وبذلك خيططون هلا على النحو األمثل حبيث ال يضطرون أبداً إىل محل أي نقد .ولكن
مبا أن عدم اليقني هو جزء أساسي يف احلياة ،فعلى الناس االستمرار يف محل املال كي يتمكنوا من اإلنفاق دون أن
يضطروا إىل معرفة املستقبل.
2كارل مينجر" ،حول أصول النقد" ،اجمللة االقتصادية ،اجمللد 255_239 :)1892( 2؛ ترمجة سي إي فويل.
3
معيار البيتكوين
مما يجعله بالواقع نقداً ،ولكن بما أن الناس مختلفون ،فستختلف آراؤهم وخياراتهم
فيما يعترب نقدا ً نظرا ً الختالف طبيعتهم .والعديد من "األشياء" أدت دور النقد عىل مر
التاريخ البرشي :أهمها الذهب والفضة ،وهناك أيضا ً النحاس ،والصدف ،والحجارة
الكبرية ،وامللح ،واملاشية ،واألوراق الحكومية ،واألحجار الكريمة ،وحتى الكحول
والسجائر يف بعض الحاالت .لذلك ،إن خيارات الناس هي خيارات غري موضوعية ،ولهذا
ال يوجد خيار "صحيح" أو "خاطئ" كخيار للنقد ،ولكن رغم ذلك ،هناك عواقب
للخيارات.
ويمكن تقييم القابلية النسبية لبيع السلع بناء عىل قدرتها عىل معالجة األوجه
الثالثة ملشكلة ن ُدرة تطابق الرغبات املذكورة سابقاً :وهي قابليتها للبيع عرب القياسات،
وعرب األماكن واألزمنة .فيمكن تقسيم السلعة القابلة للبيع عرب القياسات إىل وحدات
أصغر أو تجميعها ضمن وحدات أكرب ،مما يسمح للمالك ببيعها بالكمية التي يرغب بها.
أما قابلية البيع عرب األماكن فتعني سهولة نقل السلعة أو حملها أثناء سفر الشخص ،مما
َصعُب تحقيقُكسبُ الوسائط النقدية الجيدة قيم ًة مرتفعة لكل وحدة من الوزن .وال ي ْ ي ِ
هاتني الخاصيتني عىل عدد كبري من السلع التي يمكنها أن تؤدي دور النقد ،بينما يصعب
تحقيق العنرص الثالث وهو قابلية البيع عرب الزمن ،بما أنه األكثر حسماً.
وتُشري قابلية السلعة للبيع عرب الزمن إىل قدرتها عىل االحتفاظ بقيمتها يف
املستقبل ،مما يسمح للمالك باستخدامها يف تخزين الثروة ،والتي هي الوظيفة الثانية
ً
مقاومة للنقد :مخزون للقيمةَ .ف ِل َكي تكون السلعة قابلة للبيع عرب الزمن ،يجب أن تكون
للتحلل والتآكل وكل أنواع التلف األخرى .ويمكن القول أن أي شخص اعتقد أن بوسعه
ا ّدخار ثروته عىل املدى الطويل يف األسماك أو التفاح أو الربتقال قد تعلَّم درسا ً قاسياً،
وغالبا ً لم يعد لديه ثروة ليحتفظ بها باملدى القصري بعد هذا الدرس .فالسالمة املادية
كاف لقابلية البيع عرب الزمن ،حيث أنه من بمرور الوقت هي رشط رضوري لكنه غري ٍ
املمكن أن تفقد السلعة قيمتها بشكل كبري حتى وإن حافظت عىل سالمة شكلها املادي.
َف ِل َكي تحافظ السلعة عىل قيمتها ،يجب أيضا ً أال يزداد عرضها بشكل كبري خالل الفرتة
التي يمتلكها فيها مالكها .فمن ِ
السمات الشائعة ألشكال النقد عرب التاريخ ،هي وجود
بعض اآلليات التي تَح ُّد من إنتاج وحدات جديدة من السلع حفاظا ً عىل قيمة الوحدات
4
النقد
القائمة ،بحيث تقوم الصعوبة النسبية إلنتاج وحدات نقدية جديدة بتحديد صعوبة هذا
عرف األموال التي يصعب زيادة املعروض منها باسم النقد الصعب ،بينما يُمثِّل النقد :فت ُ َ
النقد السهل األموال التي تَس ُهل زيادة املعروض منها بشكل كبري.
وإذا اختار الناس نقدا ً صعبا ً ذا نسبة مخزون إىل تدفق مرتفعة كمخزون
للقيمة ،فسيؤدي رشاؤهم له بهدف تخزينه إىل زيادة الطلب عليه ،مما سيؤدي إىل ارتفاع
وسيحفز منتجيه عىل إنتاج املزيد منه ،لكن وبسبب التدفق املنخفض مقارنة ِّ سعره،
بالعرض الحايل ،فحتى االرتفاع الكبري يف اإلنتاج الجديد لن يستطيع غالبا ً تقليل السعر
بشكل كبري .من ناحية أخرى ،إذا اختار الناس حفظ ثروتهم بالنقد السهل بنسبة
مخزون إىل تدفق منخفضة ،فسيكون سهال ً عىل منتجي هذه السلعة أن يصنعوا كميات
ضخمة منها لتؤدي إىل انخفاض السعر ،وتُقلل من قيمة السلعة ،وتُصادر ثروة
املدخرين ،وتدمر قابلية بيع السلعة عرب الزمن.
فضل أن أُطلق عىل ما سبق مصطلح فخ النقد السهل :فأي يشء يمكن
أ ُ ِّ
استخدامه كمخزون للقيمة سيزداد عرضه ،وأي يشء يمكن زيادة عرضه بسهولة
3آنتال فيكيت ،إىل أين يتجه الذهب؟ ( ،)1997حاصل على جائزة العملة الدولية لعام ،1996
برعاية .Bank Lips
5
معيار البيتكوين
سيؤدي إىل فناء ثروة أولئك الذين يستخدمونه كمخزون للقيمة .والنتيجة البديهية لهذا
الفخ هي أن أي يشء سيتم استخدامه بنجاح كنقد فإنه بالرضورة سيمتلك آلية طبيعية
أو صناعية تُقيِّد التدفق الجديد للسلعة إىل السوق ،لتحافظ عىل قيمتها مع مرور الزمن.
بالتايل ،يجب أن يكون إنتاج السلعة مكلفا ً لكي تؤدي دورا ً نقدياً ،وإال فالحافز لصنع
هذا النقد بكل سهولة سيُفني ثروة املدخرين ،وسيُقلل الدافع ألي شخص الستخدام هذا
الوسيط لالدخار.
وكلما أدى أي تطور طبيعي ،أو تكنولوجي ،أو سيايس إىل زياد ٍة رسيعة يف
العرض الجديد للسلعة النقدية ،فستفقد السلعة مكانتها النقدية وستُستبدل بوسائط
أخرى للتبادل ذات نسبة مخزون إىل تدفق مرتفعة وأكثر ثباتاً ،وهذا ما سيتم نقاشه يف
الفصل التايل .فتم استخدام األصداف البحرية كنقد عندما كان العثور عليها صعباً ،تماما ً
كما يتم استخدام السجائر املفردة كنقد يف السجون بسبب صعوبة تأمينها أو إنتاجها.
أما فيما يخص العمالت الوطنية ،فكلما انخفض معدل الزيادة يف العرض ،ازداد احتمال
امتالك العملة من قبل األفراد ،وازداد احتمال محافظتها عىل قيمتها مع مرور الوقت.
وبالرغم من حرية األفراد باستخدام أية سلعة تروق لهم كوسيط للتبادل ،إال
أنه بالحقيقة ومع مرور الوقت ،سيكون مستخدمو النقد الصعب أكرب املستفيدين ،وذلك
بسبب خسار ٍة ضئيلة للقيمة بسبب العرض الجديد املُهمَ ل لوسيط التبادل الخاص بهم.
6
النقد
أما أولئك الذين يختارون النقد السهل فمن املرجح أن يخرسوا القيمة بسبب نمو عرضه
بشكل رسيع ،األمر الذي سيؤدي إىل انخفاض سعره السوقي .وبهذا ،سترتكز غالبية املال
والثروة مع أولئك الذين يختارون النقد األكثر صعوبة ذا قابلية البيع األكرب ،سواء من
خالل حسابات منطقية محتملة أو من دروس املايض القاسية .لكن يجدر اإلشارة إىل أن
صعوبة وقابلية بيع السلعة نفسها ليسا شيئا ً ثابتا ً مع مرور الوقت .فمثلما كان هناك
تباين يف القدرات التكنولوجية للمجتمعات والعصور املختلفة ،كان هناك تباين يف
األشكال املختلفة من النقد ،وتباينت معها قابليتها للبيع .ففي الحقيقة ،لطاملا حدد الواقع
التكنولوجي للمجتمعات خيار اختيار النقد األفضل بتحديده لقابلية بيع السلع املختلفة.
لهذا ،نادرا ً ما يكون علماء االقتصاد النمساويني جازمني أو متشددين يف تعريفهم للنقد
ُعرفونه كمُنتَج أو كسلعة معينة ،بل بأنه نقد يظهر يف السوق ويتم السليمَ .ف ُهم ال ي ِّ
اختياره بحريَّة من قبل األفراد الذين يتداولون به ،ولم تفرضه عليهم أي سلطة
استبدادية ،وهو أيضا ً النقد الذي يتم تحديد قيمته عن طريق تفاعالت السوق وليس عن
طريق اإلمالءات الحكومية 4.واملنافسة النقدية يف األسواق الحرة هي منافسة فعالة
وشديدة يف إنتاج النقد السليم ،حيث أنها تسمح ملن يختار النقد الصحيح بالحفاظ عىل
ثروة ضخمة بمرور الوقت .فال حاجة ألن تفرض الحكومة النقد األصعب عىل املجتمع؛
املجتمع سيكتشفه بنفسه قبل أن تفرضه حكومته بوقت طويل ،ولن يؤدي أي فرض
حكومي له ،إن كان له تأثري ،إال إىل عرقلة عملية املنافسة النقدية.
إ َّن اآلثار الفردية واملجتمعية الكاملة للنقد الصعب والسهل أعمق بكثري من
مجرد معنى الخسارة أو املكسب املايل ،وهي موضوع رئييس يف هذا الكتاب ،وسيتم
مناقشتها بإسهاب يف الفصل الخامس ،والسادس والسابع .فأولئك الذين لديهم القدرة
عىل ادخار ثروتهم بمخزون جيد للقيمة غالبا ً ما يكون تخطيطيهم للمستقبل أفضل من
أولئك الذين لديهم مخزون يسء للقيمة .فسالمة الوسائط النقدية من حيث قدرتها عىل
4جوزيف سالرينو ،النقد :السليم وغري السليم (مؤسسة لودويغ فون ميزس ،)2010 ،الصفحات .15-14
7
معيار البيتكوين
االحتفاظ بالقيمة مع مرور الوقت ،هي مُحدِّد رئييس لتفضيل األفراد للحارض عىل
املستقبل ،أو تفضيلهم الزمني ،وهو مفهوم محوري يف هذا الكتاب.
بعيدا ً عن نسبة املخزون إىل التدفق ،هناك جانب آخر مهم لقابلية الوسيط
النقدي للبيع ،وهو قبول اآلخرين به .فكلما ازداد قبول الناس للوسيط النقدي ،ازدادت
وضح بروتوكوالت الحوسبة يفسيولته ،وازداد احتمال بيعه ورشائه بأقل الخسائر .فت ُ ِّ
الظروف االجتماعية التي تَ ْكثُر فيها تعامالت النظري إىل النظري ،أنه من الطبيعي أن تظهر
بعض املعايري لتسيطر عىل التبادل ،وذلك ألن املكاسب الناتجة عن االنضمام إىل شبكة ما
تنمو بشكل كبري كلما َك ُرب حجم الشبكة .لهذا ،يسيطر الفيسبوك والقليل من شبكات
التواصل االجتماعي عىل السوق ،بالرغم من ابتكار وترويج مئات الشبكات املماثلة
تقريباً .بشكل مشابه ،يجب عىل أي جهاز يقوم بإرسال رسائل الربيد اإللكرتوني
استخدام بروتوكول IMAP/POP3الستقبال الربيد اإللكرتوني ،وبروتوكول SMTP
إلرساله .ولقد تم ابتكار بروتوكوالت عديدة أخرى ،ويمكن استخدامها بشكل فعال ،ولكن
ال يستخدمها أحد تقريبا ً ألن هذا سيَحُول من قدرة املستخدم عىل التفاعل مع كل مَن
يستخدم الربيد اإللكرتوني يف أيامنا هذه تقريباً ،وذلك ألنهم يستخدمون IMAP/POP3
و .SMTPينطبق األمر ذاته عىل صعيد النقد ،فكان ظهور سلعة ما أو بضعة سلع
كوسيط أسايس للتبادل أمرا ً حتمياً ،وذلك ألن خاصية التبادل بشكل سهل هي األهم .فال
يتم االحتفاظ بوسيط التبادل ،كما ذكر سابقاً ،من أجل خواصه ،بل من أجل قابليته
للبيع.
والقبول الواسع لوسيط التبادل يسمح أيضا بالتعبري عن جميع األسعار وفقا ً
له ،مما يسمح له بتأدية الوظيفة الثالثة للنقد :وهي وحدة الحساب .ففي اقتصاد ال يوجد
فيه وسيط معروف للتبادل ،يجب تسعري كل سلعة وفقا ً للسلع األخرى ،مما سيؤدي إىل
ظهور عدد كبري من األسعار ،ويجعل الحسابات االقتصادية صعبة للغاية .أما يف اقتصاد
يستخدم وسيطا ً للتبادل ،فإنه يتم التعبري عن كل األسعار لكل السلع باستخدام وحدة
الحساب ذاتها .يف مجتمع كهذا ،يعمل النقد كمقياس لقيمة العالقات بني األفراد؛ بحيث
يتم مكافأة املنتجني حتى يساهموا بتقديم القيمة لآلخرين ،ويوضح للمستهلكني الَمبالغ
التي يتوجب عليهم دفعها للحصول عىل السلع املطلوبة .فالحسابات االقتصادية املعقدة
8
النقد
ال تُصبح ممكن ًة إال بوجود وسيط موحَّ د للتبادل يؤدي دور وحدة حسابية ،بحيث تأتي
ّ
املعقدة ،وتراكم رأس املال واألسواق الكبرية .فتشغيل معه إمكانية التخصص يف املهام
اقتصاد السوق يعتمد عىل األسعار ،ولكي تكون األسعار دقيقة ،يجب أن تَعتمد عىل
شائع للتبادل ،مما سيعكس الندرة النسبية للسلع املختلفة .ويف حالة النقد ٍ ٍ
وسيط
السهل ،فإن قدرة الجهة املصدِرة له عىل زيادة كميته بشكل مستمر ستمنعه من تقدير
تكاليف الفرصة البديلة بشكل دقيق .وكل تغيري ال يمكن التنبؤ به يف كمية النقد سيقوم
بتشويه دوره كمقياس لقيمة العالقة بني األفراد وكقناة للمعلومات االقتصادية.
فوجود وسيط واحد للتبادل سيسمح بنمو حجم االقتصاد بقدر عدد
األشخاص الراغبني يف استخدام وسيط التبادل ذاك .وكلما كان حجم االقتصاد أكرب،
ازدادت فرص الكسب من التبادل والتخصص ،وربما األهم من ذلك ،سيصبح هيكل
اإلنتاج أطول وأكثر تعقيدا ً .فيمكن للمنتجني أن يتخصصوا يف إنتاج سلع رأسمالية ال يتم
كسلع استهالكية نهائية إال بمرور فرتات طويلة ،مما يؤدي إىل نشوء منتجات ٍ استخدامها
َّ
أكثر إنتاجية عىل مستوى أرفع .ففي اقتصاد بدائي صغري ،تألف هيكل إنتاج األسماك من
أفراد يذهبون إىل الشاطئ ويصطادون األسماك بأيديهم العارية ،بحيث تستغرق العملية
بأكملها بضع ساعات من البداية إىل النهاية .ولكن مع نمو االقتصاد ،أصبحت تُستخدم
أدوات وسلع رأسمالية أكثر تطوراً ،وأدى إنتاج هذه األدوات إىل تمديد فرتة عملية إنتاجها
بشكل كبري باإلضافة إىل إطالة إنتاجيتها .ففي العالم الحديث ،تُصطاد األسماك بقوارب
متطورة للغاية يَستغرق بناؤها سنوات وتعمل لعقود من الزمن ،وتستطيع هذه القوارب
الوصول إىل البحار التي ال تستطيع القوارب الصغرية الوصول إليها ،وبهذا تصطاد
أسماكا ً لم تكن متوفرة من دونها .كما يمكن لهذه القوارب مواجهة الطقس القايس
ومتابعة اإلنتاج يف ظروف صعبة للغاية ،يف حني أن القوارب األقل كثافة من حيث
راسية ودون فائدة .وبالرغم من أن عملية جمع وتراكم رأس ً استثمار رأس املال ستبقى
املال قامت بإطالة أمد العملية ،إال أنها أصبحت أكثر إنتاجية لكل وحدة عمل ،وأصبح
باإلمكان إنتاج منتجات أفضل لم تكن ممكنة يف االقتصاد البدائي ذي األدوات األساسية
دون وجود رأس مال مرتاكم .فلم يكن أي من هذا ممكنا ً دون وجود نقد يؤدي دور
وسيط للتبادل يسمح بالتخصص؛ ويسمح بوجود مخزون للقيمة وذلك لخلق توجه
9
معيار البيتكوين
مستقبيل ،وليحفز األفراد عىل توجيه املوارد إىل االستثمار بدال ً من االستهالك؛ ويسمح
بوجود وحدة حساب تسمح بالحسابات االقتصادية للربح والخسارة.
ولقد شهد تاريخ تطوُّر النقد سلعا ً مختلفة تؤدي دور النقد بدرجات مختلفة
من الصعوبة والسالمة ،وذلك حسب القدرات التكنولوجية لكل عرص .فكل خطوة من
التقدم التكنولوجي سمحت لنا باستخدام شكل جديد من النقد مع فوائد إضافية ،ولكن
كما هو الحال دائماً ،مع مخاطر جديدة ،بدءا ً من األصداف البحرية إىل امللح ،واملاشية،
والفضة ،والذهب والنقد الحكومي املدعوم بالذهب ،وانتها ًء باالستخدام الحايل شبه
العاملي للنقد القانوني املُصدَر من قبل الحكومات .ونستطيع تمييز الخصائص التي
تجعل من النقد نقدا ً جيدا ً أو سيئا ً من خالل دراسة تاريخ األدوات واملواد التي تم
توظيفها واستخدامها كنقد عرب التاريخ .ثم يمكننا امليض ُقدما ً لفهم آلية عمل البيتكوين،
وفهم دوره كوسيط نقدي وذلك فقط من خالل فِ هْ ِم هذه الخلفية واملعلومات.
ويبحث الفصل التايل تاريخ املصنوعات الغامضة واملواد التي استُخدمت كنقد
عرب التاريخ ،بدءا ً من حجارة "الراي" عىل جزيرة "ياب" ،إىل األصداف يف األمريكيتني،
والخرز الزجاجي يف أفريقيا واملاشية وامللح يف العصور القديمة .فكل وسائط التبادل هذه
أدت وظيفة النقد لشعوبها خالل الفرتة التي كانت تمتلك فيها أفضل نِسب املخزون إىل
التدفق ،ولكنها توفقت عندما خرست تلك الخاصية .ففِ هْ م السبب والكيفية رضوري لفهم
التطور املستقبيل للنقد ،وأي دور محتمل قد يؤديه البيتكوين .ثم ينتقل الفصل الثالث إىل
تحليل املعادن النقدية وكيف أصبح الذهبُ املعد َن النقدي الرئييس يف العالم خالل فرتة
املعيار الذهبي يف نهاية القرن التاسع عرش .ويحلل الفصل الرابع االنتقال إىل النقود
الحكومية والسجل التاريخي الخاص بها .وبعد مناقشة اآلثار االقتصادية واالجتماعية
ألنواع النقد املختلفة يف الفصل الخامس ،والسادس ،والسابع ،يطرح الفصل الثامن قضية
اخرتاع البيتكوين وخصائصه النقدية.
10
الفصل الثاني
النقد البدائي
إن أكثر نقد من بني جميع أشكاله التاريخية التي صادفتها ،يشبه بعمله آلية عمل
البيتكوين هو النظام القديم القائم عىل حجارة "الراي" يف جزيرة "ياب" والتي تُعَ ُّد
اليوم جزءا ً من واليات "ميكرونيزيا" املوحدة .وفِهْ ُم آلية عمل الحجارة الدائرية الكبرية
املنحوتة من الحجر الجريي كنقد ،سيساعدنا يف رشح آلية عمل البيتكوين يف الفصل
الثامن ،كما أن فِ هم الحكاية املذهلة لكيفية ُفقدان حجارة الراي دورها النقدي سيكون
بمثابة درس عميل وموضوعي يف كيفية خسارة النقد دوره النقدي عندما يخرس صفة
الصعوبة منه.
إن حجارة الراي التي ش َّكلت النقد كانت عبارة عن أقراص دائرية كبرية
الحجم ينتصفها ث ُ ُقب ،كما أنها كانت مختلفة األحجام ،وبلغ أعىل وزن لها أربعة أطنان
مرتية .لم يكن أصل هذه الحجارة من جزيرة ياب التي لم يكن فيها الحجر الجريي ،بل
إن حجارة جزيرة ياب كانت تُستورد من "باالو" أو "غوام" املجاورتني .لقد كانت تلك َّ
لكن الحصول عليها كان أمرا ًالحجارة مرغوبة ومهيبة يف ياب بسبب جمالها وندرتهاّ ،
صعبا ً للغاية ألنه تَض َّمن عملية شاقة من عملية التحجري يليها الشحن بالطوافات
والقوارب .وتَطلَّب نقل بعض هذه الحجارة مئات األشخاص ،وكان يتم وضعها يف موقع
بارز بمجرد وصولها للجزيرة لكي يتاح للجميع رؤيتها .ويمكن ملالك الحجر استخدامه
كوسيلة للدفع دون الحاجة إىل نقله :فكل ما سيحدث هو إعالن املالك لجميع سكان
املدينة بنقل ملكية الحجر إىل املُ َ
رسل إليه (املستفيد) ،وستعرتف املدينة بأكملها بملكية
هذا الحجر ،بحيث يمكن للمتلقي بعد ذلك أن يستخدمه للدفع وقت ما شاء .ولم تكن
هناك جدوى من رسقة الحجارة ألن ملكيتها أصبحت معروفة للجميع.
11
معيار البيتكوين
لقد عمل هذا النظام النقدي بشكل جيد لقرون أو حتى آلالف السنني بالنسبة
إىل سكان ياب .ففي الوقت الذي لم يتم فيه تحريك الحجارة ،كان لها قابلية للبيع عرب
وفرتاألماكن ،بحيث يمكن ألي شخص أن يستخدمها للدفع يف أي مكان بالجزيرة ،كما َّ
األحجام املختلفة من الحجارة املتنوعة درجة معيَّنة من قابلية البيع يف مختلف املقاييس،
إضاف ًة لتوفريها إمكانية الدفع بأجزاء من حجر واحد .ولقد تم ضمان قابلية بيع هذه
الحجارة عرب الزمن لقرون بسبب صعوبة وارتفاع تكلفة الحصول عىل حجارة جديدة
منها وذلك ألنها لم تكن متواجدة يف ياب ،باإلضافة إىل أن عملية تحجريها ونقلها من باالو
لم تكن باألمر السهل .فالتكلفة الباهظة لجلب الحجارة الجديدة إىل ياب تعني أن العرض
الحايل من الحجارة كان دائما ً أكثر بكثري من أي عرض جديد يمكن إنتاجه يف أي فرتة
زمنية معينة ،مما جعل قبولها كشكل من أشكال الدفع قرارا ً حكيماً .بعبارات أخرى ،إن
حجارة الراي تَمتَّعت بنسبة مخزون إىل تدفق مرتفعة جداً ،وبغض النظر عن الدرجة
التي كانت به هذه الحجارة مرغوب ًة ،فلم يكن سهالً عىل أي شخص تضخيم عرضها عن
طريق جلب صخور جديدة ،أو عىل األقل ،هذا ما كان عليه الحال حتى عام 1871عندما
تحطمت سفينة قبطان أمريكي إيرلندي يُدعى "ديفيد أوكييفي" عىل شواطئ ياب ،وتم
1
إنعاشه من قبل السكان املحليني.
لقد رأى "أوكييفي" أن هناك فرصة للربح تتمثل يف نقل جوز الهند من
الجزيرة ثم بيعه ملنتجي زيوت جوز الهند ،لكن أوكييفي لم يكن لديه وسيلة إلغراء
السكان املحليني بالعمل لديه ،وذلك ألنهم كانوا قانعني وسعداء بشكل كبري بحياتهم
الحالية يف جنَّتهم االستوائية ،كما أنهم لم يكونوا بحاجة إىل أي شكل من أشكال النقد
األجنبي الذي يمكن ألوكييفي أن يعرضه عليهم .لكن أوكييفي لم يقبل بالرفض ،فأبحر
إىل "هونغ كونغ" ،وحصل عىل قارب كبري ومتفجرات ،وأخذها إىل باالو واستخدم
املتفجرات واألدوات الحديثة الستخراج العديد من حجارة الراي الكبرية ،وأبحر عائدا ً إىل
ياب ليُقدِّم الحجارة للسكان املحليني كدفعة لقاء جوز الهند .لم يتحمس القرويون لتلقي
1أوحت قصة أوكييفي بكتابة رواية تدعى "صاحب اجلاللة أوكييفي" للورانس كلينغمان وجريالد غرين يف عام
،1952واليت مت حتويلها إىل فلم هوليودي بنفس االسم من بطولة برت النكاسرت عام .1954
12
النقد البدائي
الحجارة ،خالفا ً لتوقعات أوكييفي ،و َمن َ َع رئيس القرية السكان من العمل لقاء تلك
الحجارة ،حيث أصدر ُحكما ً فحواه أن حجارة أوكييفي لم تكن ذات قيمة ،ألنه تم جمعها
بسهولة بالغة .فالحجارة التي استُخرجت بطرق تقليدية ،بتعب ومجهود السكان ،هي
الحجارة الوحيدة املقبولة يف ياب .عارض بعض األفراد يف القرية هذا األمر ،وقاموا بتزويد
أوكييفي بجوز الهند الذي أراده ،مما أدى إىل حدوث خالفات يف الجزيرة ،ومع مرور
الوقت ،انتهت فرتة استخدام هذه الحجارة كنقد .وأصبحت الحجارة اليوم تلعب دورا ً
احتفاليا ً وثقافيا ً يف الجزيرة ،أما الوسيط النقدي األكثر استخدما ً اآلن هو نقود الحكومات
الحديثة.
بالرغم من أن قصة أوكييفي هي قصة رمزية للغاية ،إال أنها أنذرت بحتمية
زوال الدور النقدي لحجارة الراي مع غزو الحضارة الصناعية الحديثة لجزيرة ياب
وسكانها .فمع وصول األدوات الحديثة والقدرات الصناعية إىل املنطقة ،كان األمر حتميا ً
ألن يصبح إنتاج الحجارة أقل تكلفة من أي وقت مىض .وسيكون هناك العديد من نماذج
أوكييفي من املحليني واألجانب القادرين عىل تزويد ياب بتدفق متزاي ٍد من الحجارة
الجديدة .ففي ظ ِّل وجود التكنولوجيا الحديثة ،انخفضت نسبة املخزون إىل التدفق
لحجارة الراي بشكل كبري للغاية :حيث أصبح باإلمكان إنتاج املزيد من تلك الحجارة كل
انخفاض ملحوظ يف قيمة مخزون الجزيرة الحايل ،ولم يعد من الحكمةٍ عام ،مما أدى إىل
ألي شخص استخدام هذه الحجارة كمخزون للقيمة ،وبالتايل فقدت قابليتها للبيع عرب
الزمن ،ومعها فقدت دورها كوسيط للتبادل.
تتشابه الديناميكية األساسية النخفاض نسبة املخزون إىل التدفق رغم احتمال
اختالفها بالتفاصيل يف كل أشكال النقد الذي فقد دوره النقدي ،حتى انهيار "البوليفار
الفنزوييل" الذي يتزامن حدوثه مع كتابة هذه السطور.
ولقد حدثت قصة مشابهة مع الخرز الزجاجي الذي تم استخدامه كنقد يف
لقرون طويلة .إ َّن تاريخ ذلك الخرز يف غرب أفريقيا ليس واضحا ً تماماً،
ٍ غرب أفريقيا
صنع من الحجارة النيزكية ،أو أنه قد تم نقله من قبل التجار املرصيني حيث يُعتقد أنه ُ
ً
والفينيقيني .لكن الواضح واملعروف هو أنه كان ثمينا يف املناطق التي كانت فيها صناعة
13
معيار البيتكوين
الزجاج باهظة وغري شائعة ،مما مَ نحه نسبة مخزون إىل تدفق مرتفعة ،األمر الذي جعله
قابال ً للبيع عرب الزمن .وبما أنه كان صغريا ً َ
وقيِّماً ،فقد كان ذلك الخرز قابالً للبيع يف
مختلف املقاييس ،حيث كان باإلمكان تجميعه يف سالسل أو قالدات أو أساور؛ إال أن هذا
لم يكن مثاليا ً مطلقا ً بسبب وجود أنواع عديدة مختلفة من الخرز بدال ً من وجود نموذج
معياري واحد ،كما أنه كان قابالً للبيع عرب األماكن وذلك ألن نقله كان سهالً .باملقابل ،إن
ذلك الخرز الزجاجي لم يكن باهظ الثمن ولم يكن له أي دور نقدي يف أوروبا ألن
تكنولوجيا صناعة الزجاج كانت منترشة يف تلك املناطق مما يعني أنه إذا تم استخدامه
كوحدة نقدية ،فسيقوم منتجو الخرز بغمر السوق به .بعبارة أخرى ،كان لديه نسبة
مخزون إىل تدفق منخفضة.
2اعتاد األوروبيون ملء هياكل قوارهبم بكميات كبرية من اخلرز للحصول على أكثر األرابح وللحفاظ على ثبات
القارب خالل رحلته.
14
النقد البدائي
بتكلفة منخفضة .يجب استيعاب وتذكر هذا الدرس عندما ننتقل إىل مناقشة سالمة
النقود الحكومية يف األجزاء القادمة من الكتاب.
لم يقترص هذا املصري لألصداف البحرية كنقد يف أمريكا الشمالية فحسب؛ بل
3نك سزابو ،الدفع غري املرغوب :أصول النقد )2002( .متوفر على
http://nakamotoinstitute.org/shelling-out
4نفس املصدر.
15
معيار البيتكوين
شمل أيضا ً كل املجتمعات التي كانت تعتمد األصداف كنقد ،فعندما وصلت إليها العمالت
املعدنية املوحدة ،قامت بتبني هذه العمالت واستفادت من هذا التحول .وقد أصبح
تمشيط البحار بحثا ً عن أصداف البحر أمرا ً سهالً بعد وصول الحضارة الصناعية مع
القوارب التي تعمل بالوقود األحفوري ،األمر الذي قام بزيادة تدفق إنتاجها وقام بخفض
نسبة املخزون إىل التدفق بشكل رسيع.
لقد كانت املاشية من األشكال القديمة األخرى للنقد ،وكانت تُثمَّ ن بسبب
قيمتها الغذائية ،حيث أنها كانت إحدى أكثر املمتلكات قيمة ،كما أنها كانت قابلة للبيع
عرب األماكن بسبب سهولة نقلها .ولم تزل املاشية تؤدي دورا ً نقديا ً إىل يومنا هذا ،حيث ال
تزال العديد من املجتمعات تستخدمها للدفع ،وخاصة ملهر الزواج ،ولكن نظرا ً لكرب
الحة بشكل كبري لحل حجمها ولعدم امكانية تقسيمها بسهولة ،لم تكن املاشية ص ً
مشاكل التقسيم يف مختلف املقاييس ،ولهذا تواجد شكل آخر من النقد جنبا ً إىل جنب مع
املاشية ،وهو امللح .فالحفاظ عىل امللح لفرتات طويلة هو أمر سهل ،كما يمكن تقسيمه
وتجميعه إىل أي وزن مطلوب .إن هذه الحقائق التاريخية ال تزال واضحة يف اللغة
ُشتقة من pecusأي املاشية باللغة اإلنجليزية ،حيث أن كلمة ( pecuniaryنقدي) م َّ
5 الالتينية ،يف حني أن كلمة ( salaryراتب) م َّ
ُشتقة من ،salأي ملح بالالتينية.
ومع تقدُّم التكنولوجيا خاص ًة يف علم املعادن ،طوَّر البرش أشكاال ً من النقد أكثر
تفوقا ً من وسائط التبادل تلك ،وقامت باستبدالها بشكل رسيع .فتلك املعادن أثبتت أنها
وسيط تبادل أفضل من األصداف البحرية ،والحجارة ،والخرز ،واملاشية وامللح وذلك ألنه
يمكن صنعها بشكل متماثل (مُوحدَّة ومُنتظمة) عىل شكل أجزاء صغرية مرتفعة القيمة
آخر يف نعش النقد القديم باالستخدام يمكن نقلها بسهولة أكرب .ولقد تم وضع مسمار َ
الهائل لطاقة الوقود الهيدروكربوني الذي زاد من قدرتنا اإلنتاجية بشكل كبري ،فسمح
أن أشكال النقدبزيادة رسيعة يف العرض (التدفق) الجديد لتلك املصنوعات ،مما يعني َّ
التي كانت تعتمد عىل صعوبة اإلنتاج لحماية النسبة املرتفعة من مخزونها إىل تدفقها قد
5آنتال فيكيت ،إىل أين يتجه الذهب؟ ( ،)1997حاصل على جائزة العملة الدولية لعام ،1996برعاية
.Bank Lips
16
النقد البدائي
خرست تلك امليزة .فباستخدام الوقود الهيدروكربوني الحديث ،أصبح باإلمكان استخراج
وصنع الخرز الزجاجي بثمن زهيد ،وجَ ْم ُع األصداف بكميات حجارة الراي بسهولةُ ،
ضخمة باستخدام قوارب كبرية .وما أن فقدت تلك األموال صعوبتها ،عانى مالكوها من
ُمصادرة كبرية لثرواتهم وانهار نسيج مجتمعهم بأكمله نتيجة لذلك .فلقد فهم رؤساء
جزيرة ياب الذين رفضوا حجارة الراي الرخيصة التي َقدَّمها أوكييفي ما فشل معظم
االقتصاديني املعارصين فهمه :فالنقد الذي يَس ُهل إنتاجه ليس نقدا ً عىل اإلطالق ،والنقد
السهل ال يزيد من ثراء املجتمع ،بل عىل العكس ،يجعله أكثر فقرا ً من خالل عرض كل
ثروته التي اكتُسبت بعناء للبيع لقاء يشء يَسهُل إنتاجه.
17
18
الفصل الثالث
املعادن النقدية
بعد أن تطوَّرت القدرة التقنيّة البرشيّة يف إنتاج السلع ،وتزايَ َد استخدامنا للمعادن والسلع
األساسية ،أصبحت العديد من املعادن تُنتَج بكميات كبرية .وكان الطلب عليها مرتفعا ً بما
يكفي لتصبح هذه املعادن قابلة للبيع بشكل كبري ومالئِم ًة لالستخدام كوسائط نقدية.
كما أن كثافة تلك املعادن وقيمتها املرتفعة نسبيا ً جعلت من عملية نقلها أمرا ً سهالً،
أسهل من نقل امللح واملاشية ،مما جعلها قابلة للبيع بشكل كبري عرب األماكن .لكن إنتاج
هذه املعادن لم يكن سهال ً يف البداية ،األمر الذي جعل من عملية زيادة عرضها بشكل
رسيع أمرا ً صعبا ً مما منحها قابلية بيع جيدة عرب الزمن.
وقد كان لبعض املعادن قيمة أكثر من غريها وذلك بسبب متانتها وخصائصها
الفيزيائية باإلضافة إىل وُفرتها النسبية يف األرض .فكان باإلمكان إنتاج النحاس والحديد
بكميات متزايدة بسبب وُفرتهما املرتفعة نسبيا ً وبسبب قابليتهما للتآكل ،واإلنتاج الجديد
منهما سيُحجّ م املخزونات الحالية مُد ِّمرا ً القيمة فيهم .ولقد أصبح لهذه املعادن قيمة
سوقية منخفضة نسبيا ً وكان يتم استخدامها يف التبادالت الصغرية .من ناحية أخرى،
فاملعادن األكثر ندرة مثل الفضة والذهب كانت أكثر متانة وأقل عُ ً
رضة للتآكل أو التلف،
كمخزن للقيمة للمستقبل.
ٍ مما جعلها قابلة للبيع عرب الزمن بشكل أكرب وجعلها نافعة
وص َفة عدم قابلية الذهب للتلف عىل وجه الخصوص ،م َّكنت البرش من تخزين القيمة عرب ِ
األجيال ،األمر الذي سمح لنا بتطوير بصرية ذات أفق زمني أطول.
يف البداية ،كانت املعادن تُشرتى وتُباع وفقا ً لوزنها ،ولكن مع مرور الوقت ومع
تطور علم املعادن ،أصبح باإلمكان صك عمالت معدنية بوحد ٍة مُوحَّ دة ليصبح باإلمكان
تصنيفها حسب وزنها ،مما زاد من قابلية بيعها ،حيث قام ذلك بإلغاء الحاجة للقيام
19
معيار البيتكوين
بعملية وزن وتقييم هذه املعادن يف كل مرة .1واملعادن الثالثة األوسع انتشارا ً والتي تم
استخدامها لهذا الدور كانت الذهب ،والفضة والنحاس .وكان استخدامها كقطع معدنية
هو الشكل الرئييس للنقد لحوايل 2500عام وحتى أوائل القرن العرشين ،أي منذ عهد
قطع
ٍ امللك اليوناني "كرويسوس" الذي كان أول من تم تسجيله عىل أنه قام بصك
معدنية ذهبية .وكانت هذه العمالت الذهبية السل َع األكثر قابلية للبيع عرب الزمن ملقدرتها
باالحتفاظ عىل قيمتها مع مرور الوقت ،وملقاومتها للصدأ والتلف .كما كانت أيضا ً السلع
األكثر قابلية للبيع عرب األماكن ألنها حملت قيمة كبرية يف وزن خفيف ،مما جعل عملية
نقلها أمرا ً سهالً .باملقابل ،كان للعمالت الفضية أفضلية عليها وذلك ألنها كانت السلعة
األفضل من ناحية قابلية البيع يف مختلف املقاييس ،وذلك ألن القيمة املنخفضة للفضة
مقارنة بالذهب ،سمحت لها بأن تكون وسيطا ً مالئما ً للتبادالت الصغرية، ً لكل وحدة وزن
بينما كانت العمالت الربونزية ناجعة للمعامالت ذات القيمة األقل .فهذه القطع املعدنية
وعن طريق توحيد القِ يَم يف وحدات يمكن تمييزها والتعرف عليها بسهولة سمحت بإنشاء
وَسع من نطاق التخصص والتجارة يف جميع أنحاء العالم. األسواق الكبرية ،األمر الذي َّ
وبالرغم من كونه النظام النقدي التقني األفضل يف ذلك الوقت ،إال أنه عانى من عيبني
رئيسيني :العيب األول ،إن وجود اثنني أو ثالثة من املعادن كمعيار نقدي تَسبّب بخلق
مشاكل اقتصادية نظرا ً لتقلب قِ يَمها مع مرور الوقت ،وذلك بسبب االنحسار يف عَ مَ ليَّتَي
العرض والطلب ،األمر الذي تَسبّب بخلق مشاكل ألصحاب تلك العمالت ،وال سيما الفضة،
التي شهدت انخفاضا ً يف القيمة بسبب االرتفاع يف انتاجها وانخفاض الطلب .أما العيب
الثاني األكثر خطورة فتمثَّل يف تواجد القدرة واالستطاعة للحكومات واملزورين عىل
تقليص كمية املعادن الثمينة يف تلك القطع املعدنية ،وبالفعل هذا ما فعلوه مرارا ً وتكرارا ً،
مما أدى إىل انخفاض قيمتها عن طريق نقل جزء من قوتها الرشائية إىل املزورين أو
الحكومات .ولقد أدى انخفاض املحتوى املعدني يف القطع النقدية إىل تقويض نقاء
وسالمة النقد.
وبحلول القرن التاسع عرش ومع تطور النظام املرصيف الحديث وحدوث
1 1 نك سزابو ،الدفع غري املرغوب :أصول النقد )2002( .متوفر على
http://nakamotoinstitute.org/shelling-out
20
املعادن النقدية
التطويرات يف طرق االتصال ،تَم ًّكن األفراد من إجراء الصفقات واألعمال التجارية
باألوراق النقدية والشيكات املدعومة بالذهب املوجود يف خزائن مصارفهم وبالبنوك
املركزية .هذا األمر جعل التحويالت املدعومة بالذهب أمرا ً قابالً للتحقيق بكل املقاييس،
وبالتايل تفادى الحاجة إىل الدور النقدي للفضة ،وجَ َم َع كل خصائص النقد األساسية
القابلة للبيع يف املعيار الذهبي .وبذلك ،سمح املعيار الذهبي بجمع رأس املال وسمح
بتجارة عاملية غري مسبوقة من خالل توحيد غالبية اقتصاد الكوكب عىل خيار نقد سوقي
واحد سليم ،لكن عيبه املأساوي هو أنه ومن خالل عملية تركيز الذهب يف خزائن
املصارف ،والبنوك املركزية الحقاً ،أصبح من املمكن للمصارف والحكومات زيادة
العرض النقدي بكمية أكرب من كمية الذهب الذي تمتلكه ،مُقللة بذلك من قيمة النقد
وناقل ًة جزءا ً من قيمته من مالكي النقد الرشعيني إىل الحكومات واملصارف.
ِ مل الذهب؟
لفهم كيفية ظهور النقود السلعية ،سنعود بمزيد من التفاصيل عن فخ النقد السهل الذي
طرحناه يف الفصل األول ،ثم سنبدأ بالتفريق بني طلب السوق عىل السلعة (طلب
استهالك أو امتالك السلعة لذاتِها) والطلب النقدي عليها (الطلب عىل السلعة كوسيط
للتبادل وكمخزون للقيمة) .ففي أي وقت يختار فيه أي شخص سلعة ما كمخزون
للقيمة ،فإنه يقوم بزياد ٍة َفعَّ الة للطلب عليها بشكل يفوق طلب السوق العادي عليها ،مما
يؤدي إىل ارتفاع سعرها .فعىل سبيل املثال ،الطلب عىل النحاس يف السوق ملختَلَف
استخداماته الصناعية يبلغ حوايل 20مليون طن يف السنة ،بسعر يبلغ نحو 5آالف دوالر
للطن ،وقيمة سوقية إجمالية تبلغ حوايل 100مليار دوالر .تخيل مثالً أن مليارديرا ً قرر
تخزين 10مليارات دوالر من ثروته بالنحاس .فعندما يحاول مرصفيوه رشاء %10من
بارتفاع يف سعر النحاس .قد ٍ إنتاج النحاس العاملي السنوي ،فإنهم سيتسببون حتما ً
يبدو هذا يف البداية كتربير السرتاتيجية امللياردير النقدية :حيث ارتفعت قيمة األصل الذي
أن ارتفاع السعر هذا قرر رشاءه قبل أن يكمل عملية الرشاء .وامللياردير حتما ً سيعتقد َّ
سيتسبب يف زيادة عدد األفراد الراغبني يف رشاء النحاس كمخزون للقيمة ،األمر الذي
سيتسبب بارتفاع السعر.
21
معيار البيتكوين
لكن حتى وإذا انضم إليه املزيد من الناس لتحويل النحاس إىل نقد ،فإن
امللياردير االفرتايض املهووس بالنحاس سيكون يف ورطة ألن ارتفاع األسعار سيجعل من
النحاس عمال ً مربحا ً للعمال ورؤوس األموال حول العالم .فكمية النحاس املوجودة تحت
األرض تتجاوز قدرتنا عىل قياسها ،ناهيك عن استخراجها من خالل عملية استخراج
املعادن .لذلك ومن الناحية العملية ،إن األمر الوحيد الذي يَح ُّد من كمية النحاس املنتَج
هو عدد األيدي العاملة وحجم رأس املال اللذان يتم تخصيصها لهذا العمل .فيمكن دوما ً
تصنيع املزيد من النحاس بسعر أعىل ،وسيستمر معه ارتفاع األسعار والكميات حتى
يُلبي طلب املستثمرين النقديني .لنفرتض أن هذا األمر حدث بإضافة 10ماليني طن
و 10,000دوالر للطن .ففي نقطة ما ،يجب أن تق َّل حدة هذا الطلب النقدي ،وسريغب
بعض مالكي النحاس ببيع بعض مخزونهم لرشاء سلع أخرى لالستفادة من أرباح سعر
النحاس املرتفع ،ألن هذا هو الهدف من رشاء النحاس باألساس.
فبعد انخفاض الطلب النقدي ومع ثبات جميع العوامل األخرى ،سيعود سوق
النحاس إىل ظروف العرض والطلب األصلية ،أي إىل 20مليون طن سنويا ً بسعر 5,000
دوالر لكل طن ،ولكن عندما يبدأ املالكون ببيع مخزونهم املرتاكم من النحاس ،سينخفض
السعر كثريا ً دون هذا املستوى .فامللياردير سيخرس املال يف هذه العملية؛ حيث أنه وعند
قيامه برفع السعر ،فهو قام برشاء معظم مخزونه بأكثر من 5,000دوالر للطن ،ولكن
يُقدَّر إجمايل رصيده اآلن بأقل من 5,000دوالر للطن .أما اآلخرون الذين انضموا إليه
الحقاً ،فقد اشرتوا بأسعار أعىل وسيخرسون أمواال ً أكثر من امللياردير نفسه.
يُمكن تطبيق هذا النموذج عىل جميع السلع االستهالكية مثل النحاس ،أو
الزنك ،أو النيكل ،أو النفط ،والتي يتم بشكل أسايس استهالكها وتدمريها وليس تخزينها
وجمعها .فحجم املخزون العاملي لتلك السلع يف أي وقت يُقارب حجم اإلنتاج السنوي
الجديد ،ويتم توليد عرض جديد بشكل مستمر كي يتم استهالكه ،ويف حال قرر
املدَّخرون تخزين ثروتهم بواحدة من هذه السلع ،فلن تشرتي ثروتهم إال جزءا ً بسيطا ً من
العرض العاملي قبل رفع السعر بما يكفي المتصاص كل استثمارهم ،حيث أنهم
يتنافسون مع مستهلكي هذه السلعة الذين يستخدمونها بطريقة فعالة يف الصناعة.
وعند ازدياد عوائد منتجي السلعة ،فإنه يمكنهم االستثمار يف زيادة إنتاجهم ،مما سيؤدي
22
املعادن النقدية
طم األسعار مرة أخرى وسلب ثروة املدخرين .والنتيجة النهائية لهذه الحادثة إىل تَح ُّ
بأكملها هي نقل الثروة من املدَّخرين املُضلَّلني إىل منتجي السلعة التي اشرتوها.
فهذا هو الهيكل الترشيحي لفقاعة السوق :الطلب املتزايد يؤدي إىل ارتفاع حاد
يف األسعار ،مما يؤدي إىل زيادة إضافية عىل الطلب ،األمر الذي يرفع األسعار أكثر م ِّ
ُحفزا ً
عىل زيادة اإلنتاج وزيادة العرض ،مما سيؤدي حتما ً إىل انخفاض األسعار الحقا ً معاقبا ً
كل من قام بالرشاء بسعر أعىل من سعر السوق املعتاد .وبهذا ،يتم رسقة املستثمرين يف
الفقاعة بينما يستفيد منتجو هذا األصل .فلقد ثبتت صحة هذه الديناميكية يف معظم
ً
معاقبة وبشكل مستمر التاريخ املوث َّق بالنسبة للنحاس وكافة السلع األخرى يف العالم،
أولئك الذين يختارون هذه السلع كنقد وذلك من خالل تخفيض قيمة ثروتهم وإفقارهم
عىل املدى الطويل ،ومن خالل إعادة السلعة إىل دورها الطبيعي كسلعة سوقية ،وليس
كوسيط للتبادل.
ولكي يُثبت أي مخزون للقيمة جدارته ،يجب عليه أن يتغلب عىل هذا الفخ:
فيجب أن ترتفع قيمته عندما يطلبه الناس كمخزون للقيمة ،لكن يجب أن يتم منع
منتجيه من تضخيم العرض بشكل كبري كفيل لتخفيض السعر .إن أصالً كهذا سيُكافئ
أولئك الذين يختارونه كمخزون للقيمة ،فتزيد ثروتهم عىل املدى الطويل عندما يُصبح
هذا األصل املخزون الرئييس للقيمة ،بينما أولئك الذين يختارون سلعا ً أخرى فعليهم أن
يُبدِّلوا مسارهم بتقليد خيار نظرائهم األكثر نجاحاً ،أو أنهم ببساطة سيفقدون ثروتهم.
والرابح الجيل ُّ يف هذا السباق عىل م ّر تاريخ البرشية هو الذهب ،والذي حافظ
عىل دوره النقدي بامتيازه عن السلع األخرى بخاصيتني فيزيائيتني فريدتني :أوالً ،الذهب
مستقر كيميائيا ً إىل درجةٍ يكاد يستحيل تدمريه .ثانياً ،يستحيل تصنيعه من مواد أخرى
(رغم ادعاءات الكيميائيني) حيث أنه ال يمكن استخراجه إال من مادته الخام غري املكررة،
وهي نادرة جدا ً يف كوكبنا.
فاالستقرار الكيميائي للذهب يُشري إىل أ َّن كل كمية الذهب التي استخرجها
البرش ال تزال تقريبا ً مُلكا ً للناس حول العالم .فكانت البرشية وال تزال تجمع كنزا ً متزايدا ً
من الذهب عىل شكل مجوهرات ،وقطع نقدية وسبائك ،وهي ال تُستهلك أبدا ً وال تصدأ أو
23
معيار البيتكوين
تتحلل .فاستحالة تصنيع الذهب من مواد كيميائية أخرى تعني أن الطريقة الوحيدة
لزيادة عرضه هي باستخراجه من األرض ،وهي عملية مُكلِفة ،وسامَّة وغري موثوقة ،عَ ِم َل
أن املخزون فيها البرش منذ آالف السنني بعوائد متناقصة باستمرار .وهذا كله يعني َّ
الحايل من الذهب الذي يمتلكه الناس حول العالم هو نِتاج آالف السنني من إنتاج الذهب،
وهو أكثر بكثري من اإلنتاج السنوي الجديد .فعىل مدى العقود السبعة املاضية ،وبوجود
إحصائيات موثوقة نسبياً ،حافظ معدل نمو العرض هذا عىل نسبة %1.5ولم يتجاوز
2
%2أبدا ً( .انظر الشكل .)1
لكي تفهم الفرق بني الذهب وأي سلعة استهالكية ،تخيّل تأثري زياد ٍة كبرية يف
ري يف السعر ويُضاعف اإلنتاج الطلب عليها كمخزون للقيمة بحيث يؤدي إىل ارتفاع كب ٍ
السنوي .فمضاعفة اإلنتاج هذا بالنسبة إىل أي سلعة استهالكية سيُحجِّ م أي مخزون
ط ٍم يف األسعار وسيُلحق الرضر باملالكني .أما فيما يخص وسيتسبَّب بحدوث تح ُّ
حايلَ ،
الذهب ،فلن يكون ارتفاع األسعار الذي يؤدي إىل مضاعفة اإلنتاج السنوي ذا أهمية ،حيث
أنه يزيد املخزون بنسبة %3بدال ً من .%1.5وإذا تم الحفاظ عىل وترية اإلنتاج املتزايدة
الجديدة ،فستنمو املخزونات برسعة أكرب ،مما سيُقلِّل من أهمية الزيادات الجديدة.
وسيستحيل فعليا ً عىل عُ مال املناجم أن يستخرجوا الذهب بكميات كبرية لدرجةٍ تكفي
لخفض السعر بشكل كبري.
تقترص الفضة باالقرتاب من الذهب يف هذا الشأن ،حيث يبلغ معدل نمو
عرضها السنوي تاريخيا ً حوايل ،%10-5وارتفع إىل %20يف العرص الحديث .ويُعَ ُّد ذلك
أعىل من معدل نمو الذهب لسببني :أوالً ،إن الفضة تتآكل كما يمكن استهالكها يف
العمليات الصناعية ،مما يعني أ َّن املخزونات الحالية للفضة ليست كبرية مقارنة باإلنتاج
السنوي كما هي مخزونات الذهب مقارنة بإنتاجه السنوي .ثانياً ،إن الفضة أقل ندرة من
الذهب يف قرشة األرض وعملية صقلها سهلة .وبسبب امتالكها لثاني أعىل نسبة مخزون
إىل تدفق ،وألن قيمتها أقل من الذهب لكل وحدة وزن؛ فقد تم استخدام الفضة كنقد
رئييس للتحويالت الصغرية آلالف السنني؛ وبهذا َكمَّلت الذهب الذي وبسبب قيمته
24
املعادن النقدية
200 3
180
2.5
160
140
2
باآلالف
120
100 1.5
80
1
60
40 نمو املخزون السنوي (املحور األيمن ،النسبة املئوية) 0.5
20 مجموع مخزونات الذهب (املحور األيرس ،ألف طن)
0 0
1910
1990
1930
1900
1950
1940
2000
2010
1960
1970
1980
1920
املرتفعة ،أصبحت عملية تقسيمه إىل وحدات أصغر أمرا ً ليس عمليا ً .فتبَنِّي واعتماد
املعيار الذهبي العاملي أتاح الدفع باستخدام األوراق املدعومة بالذهب يف كل املقاييس،
مما أزال الدور النقدي للفضة كما سيتم نقاشه بمزيد من التفصيل الحقا ً هذا الفصل.
ففقدت الفضة دورها النقدي مع االستغناء عنها للتحويالت واملبادالت الصغرية،
وأصبحت معدنا ً صناعياً ،وخرست قيمتها مقارنة بالذهب .وقد تحافظ الفضة عىل
تصنيفها يف املركز الثاني ،ولكن بعدما أصبح الدفع ممكنا ً دون الحاجة إىل نقل الوحدة
النقدية نفسها بفضل تكنولوجيا القرن التاسع عرش ،أصبح املركز الثاني يف املنافسة
النقدية ِمث ْ َل الخسارة.
ُفرس انفجار فقاعة الفضة سابقا ً كما ستنفجر مجددا ً إذا إن هذا األمر ي ِّ
دفق االستثمارات النقدية إىل الفضة ،لن يكون صعبا ً عىل تضخمت :فبمجرد ِبدء تَ ُّ
املنتجني زيادة العرض بشكل كبري بهدف تحطيم األسعار وسلب ثروة املستثمرين يف
هذه العملية .وأبرز األمثلة شيوعا ً عىل فخ النقد السهل يأتي من الفضة نفسها من بني
جميع السلع األخرى .ففي أواخر سبعينيات القرن املايض ،قرر األخوان "هنت" وهم
فاحشو الثراء إعادة استخدام الفضة كنقد ،فبدؤوا برشاء كميات هائلة منها ،مما أدى إىل
25
معيار البيتكوين
فمعدل عرض الذهب املنخفض عىل الدوام هو السبب الجوهري لحفاظه عىل
دوره النقدي عىل م ّر تاريخ البرشية ،وهو دور مستمر حتى يومنا هذا ،حيث لم تزل
البنوك املركزية تحتفظ بعرض كبري من الذهب كي تحمي عمالتها الورقية .وتبلغ
احتياطات البنك املركزي الرسمية حوايل 33,000طن ،أو ُسدْس إجمايل الذهب املوجود
فوق األرض .فنسبة املخزون إىل التدفق املرتفعة للذهب تجعله السلعة ذات أقل سعر
عرف بأنها الزيادة بالنسبة املئوية للكمية املعروضة بالنسبة ملرونة العرض ،والتي ت ُ َّ
أن العرض الحايل من الذهب مقسومة عىل الزيادة بالنسبة املئوية للسعر .ونظرا ً إىل َّ
اململوك من قِ بَل الناس يف كل مكان هو نِتاجٌ آلالف السنني من اإلنتاج ،فإن زيادة مقدارها
س %يف سعره قد تُسبب زياد ًة يف إنتاج استخراج الذهب الجديد ،ولكن هذه الزيادة
ستكون متدنيّة إذا ما قورنت باملخزونات الحالية .فعىل سبيل املثال ،شهد عام 2006
زيادة بنسبة %36يف سعر الذهب .بالنسبة إىل أي سلعة أخرى ،من املتوقع أن يزيد هذا
من ناتج استخراج املعادن بمعدل كبري ل َِغمر األسواق وخفض السعر .بدال ً من ذلك ،بلغ
اإلنتاج السنوي يف عام 2,370 ،2006طناً ،أي أقل بمقدار 100طن من إنتاج عام
،2005وانخفض بمقدار 10أطنان أخرى يف .2007ففي حني كان العرض الجديد
يساوي %1.67من املخزونات املوجودة يف عام ،2005إال أنه كان %1.58من
26
املعادن النقدية
وعندما ازداد إنتاج املعادن بشكل ملحوظ ،بدأت الحضارات القديمة يف الصني،
والهند ومرص باستخدام النحاس كنقد ومن ثم الفضة ،حيث أنه كان من الصعب نسبيا ً
تصنيع َهذَين املع َدنَني يف ذلك الوقت ،األمر الذي أعطاهما قابلية جيدة للبيع عرب الزمان
27
معيار البيتكوين
واملكان .وكان للذهب مكانة بارزة يف هذه الحضارات ،لكن ندرته اقتضت يف محدودية
قابليته للبيع يف املبادالت .وقد تم صك الذهب إىل قطع معدنية ألول مرة لغرض التجارة
يف اليونان ،مهد الحضارات الحديثة ،تحت حكم امللك "كرويسوس" ،ون َ َّشط هذا األمر
التجارة العاملية حيث أدت جاذبية الذهب العاملية إىل انتشار العملة عىل مدى واسع .ومنذ
ذلك الحني ،تشابكت منعطفات التاريخ البرشي بشكل وثيق مع سالمة النقد ،فازدهرت
الحضارات اإلنسانية يف األزمان واألماكن التي تم فيها تَبنِّي النقد السليم عىل نطاق واسع،
يف حني تزامن النقد غري السليم يف كثري من األحيان مع التدهور الحضاري واالنهيار
املجتمعي.
استمتع جنود وأباطرة "روما" بإنفاق غنائمهم طوال الفرتة التي كانوا فيها
أراض جديدة كثرية الثروات ،حتى أن أباطرتها قد قرروا رشاء شعبية
قادرين عىل غزو ٍ
صنعيا ً (زائفة) للحبوب وغريها من السلع األساسية،
ألنفسهم بفرض أسعار منخفضة ُ
28
املعادن النقدية
بل وتجاوزوا بمنحها باملجان يف بعض األحيان .فعوضا ً عن العمل لكسب لُقمة العيش يف
الريف ،ترك العديد من الفالحني مزارعهم لالنتقال إىل "روما" حيث كان بإمكانهم عيش
حياة أفضل وباملجان .ومع مرور الوقت ،لم يعد يف العالم القديم أية أراض مزدهرة لكي
يتم غزوها ،ونمط الحياة املتزايد ترفا ً وبَذَخا ً جنبا ً إىل جنب مع الجيش املتنامي احتاج
مصدرا ً جديدا ً للتمويل ،كما ازداد مع ذلك أيضا ً عدد املواطنني غري املنتجني الذين
يعيشون عىل كرم اإلمرباطور وعىل عملية ضبط األسعار" .نريون" ،الذي حكم بني عامي
صيغة لحل هذا ،صيغ ًة شابهت إىل حد كبري حل "كينز" ملشاكل بريطانيا ً 54و ،68وجد
والواليات املتحدة بعد الحرب العاملية األوىل :فعملية تخفيض قيمة العملة ستؤدي مبارشة
إىل تخفيض األجور الحقيقية للعمال ،وستقلل من عبء الحكومة يف دعم السلع األساسية،
وستوفر املزيد من األموال لتمويل النفقات الحكومية األخرى.
فتم تخفيض محتوى عملة "أوريوس" الذهبية من 8إىل 7.2جرام ،يف حني تم
تخفيض محتوى "الديناريوس" الفيض من 3.9إىل 3.41جرامَّ .
فوَفر ذلك بعض الراحة
املؤقتة ،لكنه رشع ببدء دورة شديدة التدمري وذاتية الدعم من الغضب الشعبي ،وضبط
األسعار ،وتخفيض قيمة العملة وارتفاع األسعار ،والتي تَ ِبعت كل منها األخرى بشكل
5 مُنتظم وم َّ
ُتوقع كتتابع الفصول.
"كركال" ( ،)217 – 211تم تخفيض محتوى الذهب بشكل أكرب َّ ويف عهد
ليصل إىل 6.5جرام ،و ُخ ِّفض أكثر يف عهد "ديوكلتانيوس" ( )305-284إىل 5.5جرام،
قبل أن يُقدِّم "ديوكلتانيوس" عملة بديلة تسمى "صوليدوس" ،والتي احتوت عىل 4.5
آثار من
جرام من الذهب فقط .ففي عرص "ديوكلتيانوس" ،احتوى الديناريوس عىل ٍ
الفضة لتغطية قلبه الربونزي ،وكانت الفضة رسيعة االختفاء بسبب االندثار واالحتكاك
باالستعمال العادي ،مما أنهى الديناريوس كعملة فضية .ومع تزايد حدة التضخم يف
القرنني الثالث والرابع ،جاءت معه محاوالت األباطرة املضللة إلخفاء هذا التضخم وذلك
بوضع ضوابط ألسعار السلع األساسية .وعندما سعت قوى السوق إىل رفع األسعار
استجاب ًة النخفاض قيمة العملةّ ،
تكفل سقف األسعار القائم بمنع تعديل هذه األسعار،
5اقرأ كتاب شوتينغر وابتلر املمتع للغاية أربعون قرانً من التحكم ابألجور واألسعار.
29
معيار البيتكوين
مما جعل األمر غري مربحا ً للمنتجني للمشاركة يف عملية اإلنتاج ،فتوقف اإلنتاج
االقتصادي إىل أن صدر مرسوم جديد يسمح بحرية رفع األسعار.
ومع هذا االنهيار يف قيمة نقدها ،أدت العملية الطويلة النحدار اإلمرباطورية إىل
للق َّراء املعارصين :فعملية "تقسيم وقص العملة" َخ َّفضت من قيمةدورة قد تبدو مألوفة ُ
األوريوس الحقيقية ،وزادت العرض النقدي سامح ًة لإلمرباطور بمتابعة َف ْر ِط اإلنفاق
الطائش ،ولكنها يف النهاية أدت إىل التضخم واألزمات االقتصادية ،والتي حاول األباطرة
املضللني تحسينها من خالل املزيد من تقسيم وقص العملة املعدنية .ويلخص "فرديناند
ليبس" هذه العملية بدرس للقراء املعارصين:
يجب عىل االقتصاديني "الكينيزيني" املعارصين ،وكذلك عىل الجيل الحايل من
املستثمرين ،فِ هْ م أنه عىل الرغم من محاولة األباطرة الرومانيني املسعورة لـِ"إدارة"
اقتصادهم ،إال أنهم نجحوا فقط بجعل األمور أكثر سوءاً .فلقد تم سن القوانني لضبط
األسعار وضبط األجور والعتماد العملة الرسمية ،لكن األمر كان أشبه بمحاولة كبح
جماح املد والجزرَ .فع َّم الشغب ،والفساد ،وغياب القانون ،والهوس الطائش باملضاربة
والقمار كالطاعون يف اإلمرباطورية ،ويف ظل وجود نقد غري موثوق ومنخفض القيمة
بشكل كبري ،أصبحت املضاربة بالسلع األساسية أشد إغراء من إنتاجها.
فلقد كانت العواقب طويلة األمد مدمرة لإلمرباطورية الرومانية .وبالرغم من
احتمال عدم تصنيف روما حتى القرن الثاني للميالد عىل أنها اقتصاد سوق حرة
رأسمالية ناضج بسبب بقاء الكثري من القيود الحكومية عىل النشاط االقتصادي بوجود
العملة الذهبية الرومانية األوريوس ،إال أنها رغم ذلك أسست ما كان حينئذ يُعرف كأكرب
سوق يف التاريخ البرشي ،بحيث احتوى هذا السوق عىل أكرب تقسيم لليد العاملة وكان
األكثر إنتاجية عىل اإلطالق يف العالم 6.فلقد حصل مواطنو روما واملدن الرئيسية عىل
احتياجاتهم األساسية عن طريق التجارة مع أولئك املتواجدين يف أقىص بقاع
اإلمرباطورية ،وهذا ما يساعد عىل فهم النمو يف االزدهار ،وفهم االنهيار املدمر الذي عانت
6لودويغ فون ميزس ،الفعل البشري :طبعة الباحث (أوبورن ،أالابما :مؤسسة لودويغ فون ميزس.)1998 ،
30
املعادن النقدية
منه اإلمرباطورية عندما انهار تقسيم العمالة هذا .ففي الوقت الذي ازدادت فيه الرضائب
أراض فارغة، وأدى التضخم إىل فشل عملية ضبط األسعار ،بدأ سكان املدن بالفرار إىل ٍ
حيث كان لديهم عىل األقل فرصة للعيش بحالة اكتفاء ذاتي ،بحيث أن دخلهم املحدود
سيعفيهم من دفع الرضائب .فانهار الرصح الحضاري املعقد لإلمرباطورية الرومانية،
والتقسيم الكبري للعمالة يف أوروبا والبحر املتوسط ،وأصبح أحفادهم فالحني م َُشتَّتني
مكتفني ذاتيا ً يعيشون يف عزلة ،وتحولوا بعد فرتة قصرية إىل عبيد يعيشون تحت حكم
األسياد اإلقطاعيني.
ث قسطنطني يف الحفاظ عىل سالمة الصوليدوس جعله أكثر عملة معروفة إ َّن إ ِ ْر َ
ووَسع تقبُّله ،وأصبح يُعرف باسم "بيزنت" .ويف حني احرتقت روما تحت حكم يف العالم َّ
أباطر ٍة مُفلسني لم يعد بمقدورهم دفع أجور جنودهم مع انهيار عمالتهم ،ازدهرت
القسطنطينية ونمت لعدة قرون أخرى بوجود مسؤولية مالية ونقدية .فظلت
القسطنطينية مزدهرة وخالية من الغزو لقرون ،يف حني َدمَّر "الفانداليون" و"القوط"
روما .ولم تسقط القسطنطينية كما حدث يف روما إال بعد أن بدأ حكامها بخفض قيمة
31
معيار البيتكوين
عرص النهضة
بعد االنهيار االقتصادي والعسكري لإلمرباطورية الرومانية ،ظهرت اإلقطاعية كأسلوب
رئييس لتنظيم املجتمع ،فدمار النقد السليم كان أمرا ً محوريا ً يف تحويل مواطني
7كتاب ديفيد لوسكومب وجونثان رايلي مسيث ،اتريخ كامربيدج اجلديد للعصور الوسطى :اجمللد الرابع ،بني
عامي ( 1198-1024مطبعة جامعة كامربيدج ،)2004 ،الصفحة .225
32
املعادن النقدية
اإلمرباطورية الرومانية إىل عبيد لألرض يعملون تحت رحمة أسيادهم املحليني
ُركزا ً بني أيادي األسياد اإلقطاعيني ،وكانت القطع النقدية
اإلقطاعيني .فلقد كان الذهب م َّ
الرئيسني من النقد املُتاحَ ني للفالحني يف أوروبا يف ذلك
َ النحاسية والربونزية هما الشكلَني
الوقت ،وكان تضخيم عرضهما أمرا ً سهال ً بحيث أصبح إنتاج هذه املعادن أكثر سهولة
مع تقدم علم وصناعة املعادن ،مما جعلها مخزونا ً سيئا ً للقيمة .يُضاف إىل ذلك أن
العمالت الفضية كان عاد ًة يتم تخفيض قيمتها ويتم َغ ُّشها ،كما أنها لم تكن وحدة
معيارية يف جميع أنحاء القارة ،مما منحها قابلية بيع ضعيفة عرب األماكن وحَ َّد من نطاق
التجارة عرب القارة.
فلقد دمّ ر التضخم والرضائب ثروات ومدخرات شعوب أوروبا ،فنشأت أجيال
جديدة من األوروبيني دون ثروة مرتاكمة موروثة من أجدادهم .كما أ َّن غياب وجود عملة
معيارية نقدية سليمة مقبولة عىل نطاق واسع ح َّد وبشكل كبري من نطاق التجارة ،وأغلق
املجتمعات عن بعضها البعض ،وعزز النزعات املحلية للمجتمعات التي كانت بالسابق
مجتمعات تجارية وحضارية مزدهرة ،لتَسقط هذه املجتمعات إىل عصور مظلمة من
العبودية ،واألمراض ،واالنغالق الفكري واالضطهاد الديني.
ُعرف باسم "مدن الدول" بنقل أوروبا من العصور املظلمة وقد قام ظهور ما ي َ
إىل عرص النهضة وهذا أمر معرتف به عىل نطاق واسع ،لكن دور النقد السليم يف هذه
ظى بما يكفي من االعرتاف والتقدير .فقد كان بوسع البرش يف مدن الدول النهضة ال يَح َ
العيش بحرية من أجل العمل ،واإلنتاج ،والتجارة واالزدهار وكان هذا نتيجة لتبني هذه
املدن معيارا ً نقديا ً سليما ً إىل حد كبري .وقد بدأ األمر كله يف "فلورنسا" عام ،1252عندما
ص ُّكها منذ عملة
ص َّكت املدينة عملة "الفلورين" ،وهي أول عملة أوروبية سليمة مهمة تم َ
يوليوس قيرص الذهبية .فنهضة فلورنسا جعلت منها مركز أوروبا التجاري ،حيث
أصبحت عملتها الفلورين الوسيط األوروبي الرئييس للتبادل ،مما سمح ملصارفها
باالزدهار عىل امتداد القارة بأكملها .وكانت "فينيسيا" أول من حذا حذو فلورنسا يف
صك عملة "الدوكات" بنفس مواصفات الفلورين يف عام .1270وبحلول نهاية القرن
الرابع عرش ،رشعت أكثر من 150مدينة ودولة أوروبية بصك عمالت معدنية بنفس
مواصفات الفلورين ،مما أعطى ملواطنيها الكرامة وحرية جمع الثروة واملتاجرة
33
معيار البيتكوين
باستخدام نقد سليم ذي قابلية بيع مرتفعة عرب الزمن واألماكن ،حيث كان يمكن
تقسيمها إىل عمالت معدنية صغرية ،مما َسهَّ ل قابلية التجزئة الخاصة بها .ومع التحرر
االقتصادي للفالحني األوروبيني؛ ظهر االزدهار السيايس ،والعلمي ،والفكري ،والثقايف
للمدن اإليطالية املستقلة ،والذي انترش فيما بعد إىل جميع أنحاء القارة األوروبية .فسواء
أكان يف روما ،أو القسطنطينية ،أو فلورنسا أو البندقية ،يُظهر التاريخ أن معيار النقد
السليم هو رشط رضوري الزدهار اإلنسان ،ألنه ومن دونه سيقف املجتمع عىل حافة
الهمجية والدمار.
أن الفرتة التي تلت ظهور الفلورين شهدت تحسنا ً يف سالمة وعىل الرغم من َّ
النقد من حيث تزايد أعداد األوروبيني القادرين عىل تبني الذهب والفضة لالدخار
وسع مدى األسواق إىل جميع أنحاء أوروبا والعالم ،إال أن الوضع لم يكن والتجارة ،وتَ ّ
مثاليا ً عىل اإلطالق .فقد كان هناك العديد من الفرتات التي قام فيها بعض امللوك بخفض
قيمة عملة شعبهم لتمويل الحروب أو لإلنفاق بشكل مُبذِّر .وبحكم أنهما استُخدما
بشكلهما املادي ،ك َّمل الذهب والفضة أحدهما اآلخر :فنسبة املخزون إىل التدفق املرتفعة
للذهب جعلته مثاليا ً كمخزون للقيمة طويل األمد ،وجعلته وسيلة للدفعات الكبرية ،ولكن
القيمة املنخفضة للفضة لكل وحدة وزن َسهَّ لت تقسيمها إىل كميات مالئمة للتبادالت
الصغرية ولالمتالك لفرتات أقرص .ورغم فوائد هذا الرتتيب ،إال أنه يحوي عيبا ً جسيماً:
فتَقلُّب سعر الرصف بني الذهب والفضة أدى إىل مشاكل يف التجارة والحسابات ،وآلت
محاوالت تثبيت سعر العملتني فيما بينهما بالفشل ،ولكن انترصت أفضلية الذهب النقدية
بنهاية املطاف.
فعندما كان امللوك يحددون سعر الرصف بني سلعتني ،فإنهم كانوا ي ِّ
ُغريون
حوافز املالكني القتناء أو إنفاق هاتني السلعتني .ولقد استمر هذا النظام غري املناسب
لتثبيت السعر لعدة قرون يف أوروبا والعالم .ولكن كما هو الحال مع االنتقال من امللح،
واملاشية واألصداف إىل املعادن ،أَمَّن التقدم التكنولوجي الحثيث حال ً لهذا األمر.
فهناك تقدمان تكنولوجيان مُحدَّدان قاما بنقل أوروبا والعالم بعيدا ً عن
العمالت املعدنية املادية وبالتايل ساعدا عىل إنهاء الدور النقدي للفضة :وهما التلغراف،
34
املعادن النقدية
والذي نُرش تجاريا ً ألول مرة عام ،1837وشبكة القطارات املتزايدة والتي سمحت
بالتنقل عرب أوروبا .ف ِبفضل هذين االبتكارين ،أصبح بإمكان املصارف التواصل مع
بعضها أكثر وبشكل أسهل من ذي قبل ،وذلك بإرسال الدفعات بفاعلية عرب األماكن عند
الحاجة ،وتقييد الحسابات بدال ً من إرسال مدفوعات مادية .فأدى هذا األمر إىل زيادة
استخدام الفواتري ،والشيكات واإليصاالت الورقية كوسائط نقدية بدال ً من العمالت املادية
الذهبية والفضية.
وبدأت دول أخرى باالنتقال إىل معيار نقدي من أوراق مدعومة بالكامل
بمعادن ثمينة محفوظة يف الخزائن ،وكانت هذه األوراق قابلة لالستبدال والتحويل
وبشكل فوري .فاختارت بعض الدول الذهب واختارت غريها الفضة ،وكان هذا قرارا ً
مصرييا ً ترتَّبت عليه عواقب وخيمة .فكانت بريطانيا أول من اعتمد معيارا ً ذهبيا ً حديثا ً يف
عام ِ ،1717وفقا ً لتوجيه عالم الفيزياء "إسحاق نيوتن" ،الذي كان حامي دار الصك
ا َمللكية ،ولعب املعيار الذهبي دورا ً كبريا ً يف نرش تجارتها عرب إمرباطوريتها حول العالم.
وبقيت بريطانيا تحت املعيار الذهبي حتى عام ،1914عىل الرغم من أنها قامت بتعليقه
خالل حروب "نابليون" من 1797إىل .1821فالتفوق االقتصادي لربيطانيا كان
مرتبطا ً بشكل معقد باستخدامها معيارا ً نقديا ً متفوقاً ،وبدأت تتبعها دول أوروبية
وبرشت نهاية الحروب ببداية العرص الذهبي ألوروبا ،حيث بدأت الدول األوروبية أخرىّ .
الكربى يف تبني املعيار الذهبي واحدة تلو األخرى .وكلما تَبن َّت دول أكثر املعيار الذهبي
رسمياً ،أصبح الذهب األكثر قابلية للتداول ،وزاد حافز الدول األخرى لالنضمام إليه.
عالوة عىل ذلك ،وبدال ً من أن يضطر األفراد إىل حمل عمالت ذهبية وفضية
للمعامالت الكبرية والصغرية ،أصبح بإمكانهم اآلن تخزين ثرواتهم بالذهب يف املصارف
واستخدام إيصاالت ورقية ،وفواتري وشيكات لتسديد الدفعات املتنوعة .ويمكن لحاميل
ُ
املصارف صمتاإليصاالت الورقية استخدامها للدفع ولكن بأنفسهم فقط؛ حيث َخ َ
الفواتريَ واستخدمتها لتصفية الحسابات ،وأصبح باإلمكان أيضا ً رصْ ف الشيكات من
املصارف التي أصدرتها .إن هذا األمر قام بحل مشكلة قابلية بيع الذهب يف مختلف
املقاييس ،مما جعل الذهب أفضل وسيط نقدي – هذا يف حال لم تَ ِزد املصارف التي
تُخ ِّزن ذهب الناس من عرض األوراق التي أصدرتها كإيصاالت.
35
معيار البيتكوين
فلقد أدى كل من الذهب والفضة دورا ً نقديا ً طوال املدة التي تم استخدامهما
فيها للدفع املبارش ،بحيث ظ َّل السعر النسبي بينهما ثابتا ً إىل حد كبري مع مرور الوقت
بمعدل يرتاوح بني 12و 15أونصة من الفضة لكل أونصة ذهب ،وهو معدل قريب من
ندرتهما النسبية يف قرشة األرض وللصعوبة والتكلفة النسبية الستخراجهما .ولكن مع
ازدياد شعبية األدوات واألوراق املالية املدعومة من قبل هذَين املع َدنَني ،لم يعد هناك مربر
للدور النقدي للفضة ،فانتقل األفراد والدول إىل استخدام الذهب ،مما أدى إىل انهيار كبري
يف سعر الفضة ،يصعب التعايف منه .وكان متوسط النسبة بني املعدنني عىل مدار القرن
العرشين ،47:1ويف عام ،2017تَ َّ
وقف عند .75:1ويف حني أن َّه ال يزال للذهب دورا ً نقديا ً
أن الفضة قد خرست يؤديه كما هو ظاهر من تخزين البنوك املركزية له ،فإنه يُعتَقد َّ
دورها النقدي( .انظر الشكل .)3
ولقد كان إللغاء الدور النقدي للفضة تأثري سلبي جسيم عىل الدول التي كانت
تستخدمه كمعيار نقدي يف ذلك الوقت .فشهدت الهند انخفاضا ً مستمرا ً يف قيمة
"الروبية" مقارنة بالدول األوروبية التي اعتمدت الذهب ،مما دفع بالحكومة االستعمارية
الربيطانية إىل زيادة الرضائب لتمويل عملياتها ،األمر الذي أدى إىل تزايد االضطرابات
واالستياء من االستعمار الربيطاني .وعندما انتقلت الهند إىل دعم الروبية بالجنيه
36
املعادن النقدية
اإلسرتليني املدعوم بالذهب يف عام ،1898كانت الفضة والتي هي تدعم الروبية الهندية
قد خرست %56من قيمتها خالل السنوات السبع وعرشين بعد نهاية الحرب الفرنسية
الربوسية .أما بالنسبة إىل الصني ،والتي بقيت عىل املعيار الفيض حتى عام ،1935فقد
خرست فضتها (بأسماء وأشكال مختلفة) %78من قيمتها خالل تلك الفرتة .ويرى
املؤلف أ َّن تاريخ الصني والهند ،وفشلهما يف اللحاق بالغرب خالل القرن العرشين،
مرتبطان ارتباطا ً وثيقا ً بهذا الدمار الهائل للثروة ورأس املال الناتج عن إلغاء الصفة
النقدية للمعدن النقدي الذي استخدمته هاتان الدولتان .بالتايل ،إن إلغاء الصفة النقدية
للفضة قد وضع الصينيني والهنود يف موضع مماثل لألشخاص الذين كانوا يمتلكون
الخرز الزجاجي يف غرب أفريقيا عندما وصل األوروبيون :فالنقد املحيل الصعب كان نقدا ً
سهال ً بالنسبة إىل األجانب ،وبالتايل فإن هذا النقد األجنبي كان يقوم بإقصاء هذا النقد
املحيل ،مما سمح لألجانب بالتحكم وامتالك كميات متزايدة من رأس املال واملوارد
املوجودة يف الصني والهند خالل تلك الفرتة .ويُع ُّد هذا درسا ً تاريخيا ً بالغ األهمية ،ويجب
أن يُؤخذ بعني االعتبار من قِ ب َِل أي شخص يعتقد أن رفضه للبيتكوين يعني أنه غري
37
معيار البيتكوين
مضطر الستخدامه .فيُبني لنا التاريخ أنه ليس باإلمكان عزل نفسك عن عواقب امتالك
اآلخرين لنقد أكثر صعوبة من نقدك.
ً
قابلية للبيع عرب الزمن ،واملقاييس ،واملوقع أثناء تزايد فلقد اكتسب الذهب
وجوده بني أيدي البنوك املركزية ،لكنه فقد ميزته كنقد ،مما جعل املدفوعات باستخدامه
صفي الشيكات صدِر اإليصاالت ،وتُ ِّ
أمرا ً يخضع ملوافقة السلطات املالية والسياسية التي ت ُ ْ
وتُخ ِّزن الذهب .فكانت مأساة الذهب متمثلة يف أنه لم يتمكن من حل مشاكل قابلية البيع
عرب الزمن واملقاييس واألماكن إال بأن يكون مركزيا ً ،ويصبح بالتايل فريسة للمشكلة
الرئيسية للنقد السليم والتي أكد عليها اقتصاديو القرن العرشين :وهي سيطرة الفرد
عىل النقد ومقاومته للسيطرة املركزية الحكومية .وبالتايل أصبح بوسعنا فهم سبب تركيز
اقتصاديي النقد السليم يف القرن التاسع عرش أمثال "مينجر" عىل فهم تأثري سالمة النقد
عىل قابليته للبيع كسلعة سوقية ،يف حني رك ّز اقتصاديو النقد السليم يف القرن العرشين
أمثال "ميزس" ،و"هايك" ،و"روثبارد" و"سالرينو" ،تحليلهم عىل تأثري سالمة النقد
عىل مقاومته لسيطرة الحكام .وبما أن نقطة ضعف نقد القرن العرشين كانت هي
تمركزه يف أيدي الحكومات ،فسنرى الحقا ً كيف أن النقد الذي تم اخرتاعه يف القرن
الواحد والعرشين ،وهو البيتكوين ،كان مُصمَّما ً بشكل أسايس لتجنب السيطرة املركزية.
العرص اجلميل
إن نهاية الحرب الفرنسية الربوسية عام ،1871وما ترتب عىل ذلك من تَحوُّل جميع َّ
القوى األوروبية الكربى إىل معيار نقدي واحد ،وتحديدا ً الذهب ،قد أدت إىل خلق فرتة من
االزدهار والرخاء تزيدنا إذهاال ً مع مرور الوقت وحتى بإعادة النظر إليها .ويمكن االدِّعاء
أن القرن التاسع عرش -وال سيما النصف الثاني منه – كان أعظم فرتة شهدها العالم من
االزدهار البرشي واالبتكارات واإلنجازات ،والدور النقدي للذهب كان محوريا ً فيها .فمع
تزايد عملية إبطال الصفة النقدية للفضة ولوسائط التبادل األخرى ،استَخدمت غالبية
الكوكب املعيار النقدي الذهبي نفسه ،مما سمح بتطور االتصاالت والنقل وشجَّ ع عىل
جمع رأس مال عاملي وتجارة لم يسبق لها مثيل.
38
املعادن النقدية
ولقد كانت العمالت تختلف عن بعضها باختالف وزن الذهب املادي لكل منها،
وكان سعر الرصف بني عملتي دولتني هو التحويل البسيط بني وحدات الوزن املختلفة،
أو ببساطة مثل عملية تحويل اإلنش إىل سنتيمرت .ف ُحدِّد الجنيه الربيطاني ب ِـ 7.3جرام
من الذهب ،بينما كان الفرنك الفرنيس 0.29جراما ً من الذهب ،واملارك األملاني 0.36
جرام ،أي أن سعر الرصف بينها كان ثابتا ً بالرضورة عىل 26.28فرنكا ً فرنسيا ً و24.02
ماركا ً أملانيا ً لكل جنيه .وبنفس الطريقة التي تُستخدم فيها الوحدات املرتية واإلمربالية
لقياس الطول األسايس ،فإن العمالت الوطنية كانت مجرد طريقة لقياس القيمة
االقتصادية مُمثَّلة بمخزون القيمة العاملي أال وهو الذهب .ولقد كانت العمالت املعدنية
الذهبية لبعض ا لبلدان قابلة للبيع إىل حد ما يف بلدان أخرى ،وذلك ألنها كانت مصنوعة
من الذهب .فلم يكن عرض النقد يف كل بلد مقياسا ً تُحدده لجان تخطيط مركزية تمتلئ
بحاميل شهادات الدكتوراة ،بل كان هذا العرض يُحدَّد بالعمل الطبيعي لنظام السوق.
القد َر الذي يشاؤون من النقد وإنفاق َ
القد َر الذي يحلو لهم عىل فاستطاع الناس امتالك َ
املنتجات املحلية أو األجنبية ،ولم يكن العرض النقدي الفعيل قابالً للقياس بسهولة.
فسالمة النقد انعكست يف التجارة الحرة عرب العالم ،ولكن ربما كان األهم من
ذلك هو تزايد معدالت االدخار يف معظم املجتمعات املتقدمة التي كانت تعتمد املعيار
الذهبي ،مما سمح برتاكم رأس املال لتمويل التصنيع ،والتحرض ،والتقدم التكنولوجي
الذي َش َّكل حياتنا الحديثة( .انظر الجدول .)81وبحلول عام ،1900اعتمدت حوايل 50
دولة معيار الذهب رسمياً ،وشمل ذلك جميع الدول الصناعية ،وكانت القطع النقدية
الذهبية تُستخدَم كوسيط أسايس للتبادل يف الدول التي لم تعتمد معيار الذهب رسميا ً
بعد .ولقد تم اخرتاع بعض من أهم اإلنجازات التقنية ،والطبية ،واالقتصادية والفنية
خالل عرص املعيار الذهبي ،وهذا ما يفرس جزئيا ً ملاذا عُ رفت تلك الحقبة باسم " la belle
"époqueأو العرص الجميل يف جميع أنحاء أوروبا .فلقد شهدت بريطانيا ذروة سنوات
السالم النسبي بني القوى العظمى ،حيث توسعت اإلمرباطورية الربيطانية يف جميع أنحاء
العالم دون التورط يف رصاعات عسكرية كبرية .وعندما انطلقت الكاتبة األمريكية "نييل
بالي" عام 1899يف رحلة غري مسبوقة حول العالم يف مدة 72يوماً ،حملت معها عمالت
39
معيار البيتكوين
ذهبية بريطانية وأوراقا ً مرصفية من مرصف إنجلرتا 9.فكان باإلمكان اإلبحار حول العالم
واستخدام شكل واحد من النقد يف كل األماكن التي زارتها نييل.
ُعرف باسم العرص الذهبي يف الواليات املتحدة ،حيث ازدهر وكان هذا العرص ي َ
النمو االقتصادي بعد استعادة املعيار الذهبي عام 1879عقب الحرب األهلية األمريكية.
ويُذكر أن املعيار الذهبي توقف مرة واحدة فقط يف حادثة من الجنون النقدي ،والتي
عَ نَت بشكل فعال احتضار وموت الفضة كعملة نقدية ،وكان ذلك عندما حاولت وزارة
الخزانة األمريكية إعادة التعامل بالفضة بتعيينها كنقد ،وهذا ما سيُناقش يف الفصل
السادس .فلقد تسبَّب ذلك األمر يف زياد ٍة كبرية يف العرض النقدي ،والذعر املرصيف من
قبل أولئك الذين يسعون إىل بيع أوراق الخزانة النقدية والفضة لقاء الذهب .وكانت
النتيجة ركود يف عام ،1893والذي استَأنف االقتصاد من بعده نموَّه يف الواليات املتحدة.
إن الفرتة التي استَخدم فيها معظم العالم وحدة نقدية سليمة واحدة هي فرتة
لم نشهد مثلها عىل مر األزمان من ناحية تراكم رأس املال ،والتجارة العاملية ،وتقييد
الحكومات وتغيري مستويات املعيشة .فلم تكن األنظمة االقتصادية الغربية أكثر حرية يف
ذلك الوقت فحسب ،بل كانت املجتمعات نفسها أكثر حرية أيضاً .وكان لدى الحكومات
عدد قليل جدا ً من البريوقراطيات والتي ركزت عىل اإلدارة الدقيقة والتفصيلية لحياة
املواطنني ،وكما وصفها "ميزس":
كان املعيار الذهبي هو املعيار العاملي لعرص الرأسمالية ،والذي أدى إىل زيادة
الرفاهية ،والحرية والديمقراطية سواء من الناحية السياسية أو االقتصادية.
ويف نظر التُجَّ ار األحرار ،إن ِ
السمة األساسية لهذا املعيار تمثلت بحقيقة كونه
معيارا ً دوليا ً مطلوبا ً للتجارة الدولية وتحويالت األموال الدولية واألسواق
الرأسمالية .ولقد كان هذا املعيار وسيط التبادل الذي استخدمته الثورة
الصناعية الغربية ورأس املال الغربي يف نقل الحضارة الغربية إىل أقىص بقاع
األرض ،لتُد ِّمر بذلك يف كل مكان قيود وتحيزات وخرافات العالم القديم ،وتزرع
9نيلي بالي ،رحلة حول العامل يف 72يوماً( .نيويورك :اجمللة األسبوعية.)1890 ،
40
املعادن النقدية
بذور حياة ورفاهية جديدة ،وتُح ِّرر العقول واألرواح ،وتخلق ثروات لم يُعرف
عنها من قبل .وقد قام بمرافقة التقدم الناجح غري املسبوق لليربالية الغربية،
وكان جاهزا ً لتوحيد جميع الدول يف مجتمع من الدول الحرة التي تتعاون فيما
بينها سلميا ً .فأصبح من السهل علينا فهم اعتبار الناس املعيار الذهبي رمزا ً
لهذا التغيري األكرب واألعم فائدة من بني كل التغيريات التاريخية.
ولقد انهار هذا العالم يف عام 1914الكارثي ،والذي لم تندلع فيه الحرب
العاملية األوىل فحسب ،بل كان هو العام الذي تَخلَّت فيه األنظمة االقتصادية الكربى يف
يبق سوى سويرسا العالم عن املعيار الذهبي واستبدلته بنقد حكومي غري سليم .ولم َ
والسويد من الدول التي بقيت عىل الحياد خالل الحرب العاملية األوىل عىل املعيار الذهبي
وحتى ثالثينيات القرن العرشين ،حيث بدأ عرص النقد الذي تسيطر عليه الحكومة عامليا ً
بعد ذلك ،صاحبا ً معه عواقب وخيمة وكارثية مطلقة.
41
معيار البيتكوين
وعىل الرغم من اعتباره أقرب ما شهده العالم للنقد املثايل السليم ،إال أن املعيار
الذهبي يف القرن التاسع عرش كان له عيوب .أوالً ،كانت الحكومات واملصارف تستحدث
دائما ً وسائط للتبادل تتجاوز كميتها مخزون الذهب االحتياطي الذي لديها .ثانياً ،لم
تستخدم العديد من الدول الذهب وحده يف احتياطاتها ،بل استخدمت أيضا ً عمالت بلدان
أخرى .فربيطانيا التي كانت القوة العاملية العظمى آنذاك استفادت من استخدام نقدها
كعملة احتياطية يف جميع أنحاء العالم ،مما جعل احتياطها من الذهب جزءا ً صغريا ً من
عرضها النقدي املذهل .ومع نمو التجارة الدولية والتي تعتمد عىل تسوية كميات كبرية
من النقود عرب أنحاء العالم ،كانت األوراق النقدية ملرصف إنكلرتا ووفقا ً لرأي الكثريين يف
أن األدواتذلك الوقت "بجودة الذهب" .ويف حني كان الذهب نقدا ً صعبا ً للغاية ،إال َّ
املستخدمة لتسوية الدفعات بني البنوك املركزية والتي يمكن تحويلها ظاهريا ً لذهب،
انتهى بها األمر فعليا ً ليصبح إنتاجها أسهل من إنتاج الذهب.
إن وجود هذَين العَ يبني يعني أن املعيار الذهبي كان دائما ً عرضة لنفاد الذهب
يف أي بلد قد تدفع ظروفه نسبة كبرية من السكان إىل املطالبة باستبدال نقودهم الورقية
بالذهب .فالعيب القاتل للمعيار الذهبي يف صميم هاتني املشكلتني تَمثَّل بتسوية الذهب
البطيئة ،واملكلفة وغري اآلمنة ،مما يعني أن احتياطي الذهب املادي يجب أن يتم تركيزه يف
مواقع قليلة -املصارف والبنوك املركزية -مما جعله عرضة الستيالء الحكومات عليه.
فبعد أن أصبح عدد الدفعات والتسويات التي يتم اجرائها بالذهب املادي جزءا ً صغريا ً
للغاية من كل الدفعات ،استطاعت املصارف والبنوك املركزية التي تملك الذهب أن
تستحدث نقدا ً غري مدعوم من قِ بل ذهب مادي واستخدمته للتسوية ،بحيث أصبحت
شبكة التسوية ذات قيمة كافية لتُم ِّكن من تحويل رصيد مالكيها بشكل فعال إىل نقد.
فانجذبت الحكومات بشكل طبيعي إىل االستيالء عىل القطاع املرصيف من خالل البنوك
املركزية ،خصوصا عندما أصبحت إدارة املصارف تعني استحداث النقد .ولقد كان
اإلغراء قويا ً جداً ،ولم تستطع الثروة املالية الالمحدودة واملضمونة إسكات املخالفني
بالرأي فحسب ،بل مَوَّلت أيضا ً املروجني لتسويق هذه األفكار .فلم يُقدِّم الذهب أية آلية
لحد وضبط الحُ َّكام ،واضطر إىل االعتماد عىل الثقة بهم بأال يسيئوا استخدام املعيار
الذهبي ،وعىل بقاء السكان يف حالة حذر دائم ملنعهم من فعل هذا .ولربما كان هذا ممكنا ً
42
املعادن النقدية
عندما كان السكان عىل درجة عالية من التعليم واملعرفة بمخاطر النقد غري السليم ،ولكن
مع وجود الرضا الذاتي الفكري لكل جيل جديد والذي يرافقه الثروة عادة 10،أصبحت
مقاومة حِ يَل االقتصاديني املحتالني ومهرجي البالط أصعب عىل الشعب ،تاركة قلة فقط
من االقتصاديني واملؤرخني واسعي املعرفة ليحاربوا يف معركة شاقة إلقناع الناس بأن
التالعب بالعرض النقدي ال يُولِّد الثروة ،وأ َّن السماح للحكام بالسيطرة عىل النقد لن
يؤدي بهم إال إىل زيادة سيطرتهم عىل حياة الجميع ،وأن املعيشة البرشية املتحرضة
تعتمد عىل نزاهة النقد الذي يُو ِّفر أساسا ً متينا ً للتجارة وجمع رأس املال.
فمركزية الذهب جعلت منه عرضة الستيالء أعدائه عىل دوره النقدي ،وببساطة
للذهب الكثري من األعداء ،كما أدرك ميزس ذلك جيدا ً:
فاملعيار الذهبي يتنزع من الساحة السياسية تحديد القوة الرشائية لهذا النقد،
ويتطلب قبوله العام االعرتاف بحقيقة أنه ال يمكن للمرء أن يجعل جميع الناس
أكثر ثرا ًء بطباعة النقد .وين ُجم ُكره املعيار الذهبي من ُخرافة أن الحكومات
ذات السلطة املطلقة قادرة عىل خلق الثروات من قصاصات ورق صغرية...
لكن الحكومات كانت تتوق لتدمريه ،وذلك ألنها كانت ملتزمة باملغالطات التي
تَدَّعي أ َّن التوسع االئتماني هو وسيلة مناسبة لخفض معدل الفائدة
و"تحسني" التوازن التجاري ...ويحارب الناس املعيار الذهبي ألنهم يريدون
43
معيار البيتكوين
44
املعادن النقدية
13
أقوالها( .انظر الشكل . )4
الكيل
45000
40000
املؤسسات
35000
الدولية
30000
25000
20000
15000
10000
5000
0
1900 1925 1950 1975 2000
45
46
الفصل الرابع
النقد احلكومي
شهدت الحرب العاملية األوىل نهاية عرص الوسائط النقدية بكونها خيارا ً يتم تحديده
باألسواق الحرة ،وبداية عرص النقد الحكومي .وبينما استمر الذهب يف دعم وتعزيز
النظام النقدي العاملي إىل يومنا هذا ،إال أن املراسيم والقرارات الحكومية جنبا ً إىل جنب
مع السياسة النقدية أصبحت تُش ِّكل الواقع النقدي للعالم أكثر من أي جانب من جوانب
الخيارات الفردية.
إن االسم الشائع للنقد الحكومي هو النقود الورقية ،وهو من الكلمة الالتينية
وبداية يتوجب فهم حقيقتني هامتني حول النقود ً للمرسوم أو النظام أو التفويض،
الحكومية .الحقيقة األوىل ،هناك اختالف كبري جدا ً بني النقود الحكومية التي يمكن
استبدالها بالذهب ،وبني النقود الحكومية التي ال يمكن استبدالها حتى وإن كانت
الحكومة تدير كال ً منهما .ففي ظل املعيار الذهبي ،كان النقد هو الذهب ،وتتحمل
الحكومة مسؤولية صك وحدات معيارية من املعدن أو طباعة الورق املدعوم بالذهب
فقط ،وال تملك الحكومة أي سيطرة عىل عرض الذهب يف االقتصاد بحيث يمكن للناس
استبدال أوراقهم بالذهب املادي يف أي وقت يرغبون ،كما يمكنهم استخدام أشكال وصيغ
أخرى من الذهب كالسبائك والقطع النقدية األجنبية يف تعاملهم مع بعضهم البعض .من
جهة أخرى ،ومع النقود الحكومية غري القابلة لالستبدال ،فإنه يتم استخدام دَين
الحكومة و/أو األوراق الحكومية كنقود ،ويمكن للحكومة زيادة عرضها بما تراه مناسباً.
صن ْ َع املزيد من النقود
أشكال أخرى للتبادل ،أو حاول ُ
ٍ ويف حال قام أي فرد باستخدام
الحكومية ،فسيواجه خطر تعرضه للعقاب واملُساءلة.
الحقيقة الثانية والتي غالبا ما يتم تجاهلها هي أنه خالفا ً ملا قد يوحي به االسم
47
معيار البيتكوين
فلم يبدأ تداول أي نوع من أنواع النقود الورقية عرب َس ِّن مراسيم الحكومة لوحدها؛ فقد
كانت جميع النقود الورقية هذه باملقام األول قابلة للتحويل إىل ذهب أو فضة أو إىل
عمالت كان باإلمكان تحويلها إىل ذهب أو فضة ،ويمكن القول أنه فقط عَ ْ َ
رب قابلية تحويل
هذه النقود الورقية إىل صيغ أخرى قابلة للبيع ،اكتسبت هذه األوراق النقدية الحكومية
قابليتها للبيع .وقد ت ُصدر الحكومة مرسوما ً يقيض بإجبار الناس عىل استخدام أوراقها
إلجراء املدفوعات ،ولكن لم تستطع أي حكومة حتى اآلن فرض قابلية البيع هذه عىل
أوراقها دون أن تكون هذه األوراق قبل ذلك قابلة للتحويل إىل الذهب والفضة .فحتى
ٍ
باحتياطات وذلك كي تدعم يومنا هذا ،ما تزال جميع البنوك املركزية الحكومية تحتفظ
قيمة عملتها الوطنية ،وغالبية الدول تحتفظ ببعض الذهب يف احتياطاتها ،وأما بالنسبة
للدول التي ال تمتلك احتياطات من الذهب ،فإنها تحافظ عىل احتياطاتها بصيغة النقود
الورقية للبلدان األخرى واملدعومة بدورها باحتياطات الذهب .فال توجد أي عملة ورقية
يجري تبادلها حاليا ً دون أي شكل من أشكال الدعم لها .وخالفا ً للعقيدة املركزية
املغلوطة بشكل فاضح يف نظرية إصدار وإدارة الدولة للنقد ،لم تُصدر الحكومات
مراسيما ً تقيض بجعل الذهب نقداً؛ بل تمكنت هذه الحكومات من جعل نقودها مقبولة
فقط عرب عملية االحتفاظ بالذهب.
وأقدم مثال مسجل عىل النقود الورقية هو "جياوزي" ،وهي عملة ورقية
صادرة عن عائلة "سونغ" يف الصني يف القرن العارش .يف البداية ،كانت جياوزي إيصاال ً
للذهب أو الفضة ،ولكن بعد ذلك سيطرت الحكومة عىل إصدارها وعلَّقت قابلية تحويلها،
مما زاد من حجم العملة املطبوعة حتى انهارت .كما أصدرت عائلة "يوان" عملة ورقية
عام ُ 1260سميَّت "تشاو" ،وتجاوَز عرضها النقدي بشكل كبري الدعم املعدني لها
وبنتائج كارثية كما هو متوقع .وبانهيار قيمة النقود ،أصبح الناس يف فقر مدقع ،حيث
لجأ العديد من الفالحني إىل بيع أطفالهم للعبودية.
إذاً ،فالنقود الحكومية يف صيغتها تشبه الصيغ البدائية من النقد والتي تمت
مناقشتها يف الفصل الثاني ،كما تشبه أيضا ً السلع األخرى عدا الذهب بإمكانية زيادة
رسيع لقابلية بيعها ،وتدمري
ٍ فقدان
ٍ عرضها بشكل رسيع مقارنة بمخزونها ،مما يؤدي إىل
قوتها الرشائية وإفقار حامليها .ففي هذا الصدد ،إنها تختلف عن الذهب الذي ال يمكن
48
النقد الحكومي
زيادة عرضه بسبب الخواص الكيميائية األساسية لهذا املعدن والتي تم نقاشها سابقا ً.
لهذا ،إ ْن اشرتطت الحكومة استخدام نقودها لدفع رضائبها فقد يضمن ذلك حياة أطول
لتلك النقود ،لكن هذا الضمان مرهون بقدرة الحكومة عىل منع التوسع يف العرض الجديد
من هذه النقود وذلك من أجل حماية قيمتها من التدهور الرسيع .وعند مقارنة العمالت
أن العمالت الوطنية الرئيسية املُستخدمة بشكل كبري وعىل نطاقالوطنية املختلفة ،سنجد َّ
واسع ،هي تلك التي تكون زيادة عرضها السنوي أقل باملقارنة مع العمالت الثانوية األقل
قابلية للبيع.
وبالنظر للمايض ،يُمكن القول أن االختالف الرئييس بني الحرب العاملية األوىل
وبني الحروب املحدودة السابقة لم يكن اختالفا ً جيوسيايس أو اسرتاتيجي ،بل كان نقدياً.
فعندما كانت الحكومات تعمل تحت ظل املعيار الذهبي ،كان لديها سيطرة مبارشة عىل
خزائن كبرية من الذهب ،وكان مواطنوها يقومون بالتبادالت بوساطة الوصوالت الورقية
49
معيار البيتكوين
املدعومة بهذا الذهب .والسهولة التي يمكن فيها للحكومة إصدار املزيد من العملة
الورقية كانت مغرية للغاية وخاص ًة يف أوج الرصاع ،وكانت بهذا أسهل بكثري من املطالبة
بالرضائب من املواطنني .ففي غضون أسابيع قليلة من بدء الحرب ،قام جميع املتحاربني
الرئيسيني بتعليق قابلية تحويل الذهب مما أدى إىل تعطيل املعيار الذهبي فعلياً ،وإجبار
السكان عىل االمتثال ملعايري النقود الورقية الحكومية ،وبهذا كانت النقود التي
استخدموها بعد ذلك هي األوراق النقدية التي تصدرها الحكومة والتي ال يمكن تحويلها
إىل ذهب.
ومع االستبعاد البسيط لقابلية تحويل الذهب ،لم تعد جهود الحكومة الحربية
تقترص عىل األموال التي تمتلكها الحكومات يف خزائنها فحسب ،بل امتدت فعليا ً لثروة
الشعب بأكمله .وما دامت الحكومات قادرة عىل طباعة املزيد من النقود وإجبار مواطنيها
واألجانب عىل قبول تلك النقود ،فإنه يمكنها االستمرار يف تمويل الحرب ،بينما سابقا ً ويف
ظل نظام نقدي ساد فيه الذهب كعملة نقدية يف متناول الناس ،لم يكن أمام الحكومة إال
خزينتها الخاصة لتح ُّمل تكاليف الحرب ،إىل جانب الرضائب أو السندات لتمويل هذه
الحرب .األمر الذي جعل الرصاعات محدود ًة ،بل وأصبحت قابع ًة يف قلب فرتة السالم
الطويلة نسبيا ً والتي شهدها العالم بأكمله قبل القرن العرشين.
لو بقيت الدول األوروبية عىل املعيار الذهبي أو لو احتفظت الشعوب األوروبية
بذهبها الخاص يف يديها مُجرب ًة الحكومات عىل اللجوء إىل الرضائب بدال ً من التضخم،
عندها لربما شهدنا تاريخا ً مختلفاً .فمن املرجح أنه كان من املمكن تسوية الحرب
العاملية األوىل عسكريا يف غضون بضعة أشهر من الرصاع خاصة حني بدأ تمويل إحدى
الفصائل بالنفاد ،وواجه هذا الفصيل صعوبات يف سلب الثروة من السكان الذين لم
يكونوا عىل استعداد للتخيل عن ثرواتهم للدفاع عن بقاء نظامهم ،لكن مع تعليق املعيار
الذهبي ،فإن نفاد التمويل لم يعد كافيا ً إلنهاء الحرب ،بل كان عىل الحاكم أن يسلب
حصيلة ثروة شعبه املرتاكمة من خالل التضخم.
إن البلدان األوروبية التي َخ َّفضت قيمة عملتها سمحت بمواصلة النزيف
الدموي ملدة أربع سنوات دون إيجاد حل أو تقدم .ولم تكن الشعوب وحدها يف غفلة عن
50
النقد الحكومي
وهول تلك الحرب ،بل الجنود املخاطرين بأرواحهم يف الصفوف األمامية كانوا ِ حماقة
كذلك أيضا ً .فلقد كان هؤالء الجنود يموتون دون سبب واضح سوى الغرور غري املحدود
والطموح ألولئك امللوك الذين كانوا عاد ًة أقارب وأنساب .وأكرب تجسيد واضح للحماقة
املطلقة لهذه الحرب كان عشية عيد امليالد عام ،1914وذلك عندما توقف الجنود
الفرنسيون واإلنجليز واألملان عن متابعة أوامر القتال وألقوا بأسلحتهم ،وعربوا خطوط
املعركة لالختالط والتواصل مع بعضهم البعض .فالعديد من الجنود األملان كانوا قد
عملوا يف إنجلرتا ،ولذلك كانوا قادرين عىل التحدث باللغة اإلنجليزية ،كما أن معظم
الجنود كان لديهم ول ٌع بكرة القدم ،فتم تنظيم العديد من املباريات بني الفرق بطريقة
ارتجالية 1.والحقيقة املذهلة التي كشفتها هذه الهدنة هي أ َّن أولئك الجنود لم يكونوا
أعدا ًء بأي شكل من األشكال ،ولم يكن لديهم ما يكسبونه من القتال بهذه الحرب ،ولم
يكن هناك سبب واضح الستمرار تلك الحرب .لهذا ،يمكن لكرة القدم التي لعبوها أن
تكون أفضل مخرج لهذه الدول املتنافسة فيما بينها ،فهي لعبة شعبية عاملية يمكن من
خاللها ممارسة االنتماءات القبلية والوطنية بشكل سلمي.
لقد است مرت الحرب ألربعة أعوام أخرى دون أي تقدم ملحوظ إىل أن تدخلت الواليات
املتحدة عام ،1917وغريت موازين الحرب لصالح طرف عىل حساب اآلخر وذلك بجلب
كمية كبرية من املوارد بحيث لم يستطع أعداؤهم مجاراتهم فيها .وبينما كانت جميع
الحكومات تُموِّل آالت الحرب الخاصة بها عرب التضخم ،بدأت أملانيا واإلمرباطورية
النمساوية-املجرية تشهد انخفاضا ً كبريا ً يف قيمة عملتها عام ،1918مما جعل هزيمتها
أمرا ً حتمياً .وإذا قمنا بمقارنة أسعار رصف عمالت األطراف املتنازعة بالفرنك
السويرسي ،الذي كان ال يزال عىل املعيار الذهبي يف ذلك الوقت ،فسيُ ِّ
وفر ذلك لنا مؤرشا ً
2
مفيدا ً لالنخفاض الذي َم َّرت به كل عملة ،كما هو ظاهر يف الشكل .5
1مالكوم براون وشرييل سيتون ،هدنة عيد امليالد :اجلبهة الغربية ديسمرب ( 1914لندن :ابن ماكميالن،
.)2014
2املصدر :جورج هال" ،معدالت أسعار الصرف والوفيات خالل احلرب العاملية األوىل" ،جملة االقتصاد النقدي.
51
معيار البيتكوين
الشكل :5أسعار الرصف الوطنية الرئيسية مقابل الفرنك السويرسي خالل الحرب
العاملية األوىل .معدل التبادل يف يونيو 1=1914
52
النقد الحكومي
األوروبية .وبالنسبة للقوى الخارسة ،أملانيا والنمسا ،انخفض متوسط قيمة عمالتها يف
نوفمرب 1918إىل %51و %31من قيمتها التي كانت يف عام .1913وشهدت عملة
إيطاليا انخفاضا ً بلغ %77من قيمتها األصلية ،بينما انخفضت العملة الفرنسية إىل
3
،%91وبريطانيا إىل ،%93والعملة األمريكية إىل %96من قيمتها األصلية فقط.
(انظر الجدول .)42
إن التغريات الجغرافية التي أحدثتها الحرب بالكاد استحقت هذه املذابح ،حيث
أ َّن معظم الدول اكتسبت أو خرست ٍ
أراض هامشية ،كما أنه ال يمكن ألي منترص أن يَدَّعي
أراض كبرية تستحق التضحية من أجلها .فتم تقسيم اإلمرباطورية ٍ أنه سيطر عىل
النمساوية-املجرية إىل دويالت صغرية ،ولكنها بقيت تحت حكم شعبها وليس تحت حكم
املنترصين بالحرب ،أما التغيري الرئييس ما بعد الحرب كان هو زوال العديد من األنظمة
امللكية األوروبية واستبدالها باألنظمة الجمهورية .والسؤال عما إذا كان هذا االنتقال
لألفضل ستتضاءل قيمة إجابته عند مقارنتها بالدمار والخراب الذي ألحقته الحرب
بمواطني هذه الدول.
ومع تعطيل استبدال الذهب من البنوك املركزية ،ومع تعليق حركة الذهب
دوليا ً والتي تم تقييدها بشكل كبري يف اقتصاد الدول الرئيسية ،تمكنت الحكومات من
االحتفاظ بقيمة زائفة للعمالت التي ثَبَّتت صلتها بالذهب بأسعار ما قبل الحرب ،وذلك
رغم ارتفاع األسعار .ومع انتهاء الحرب ،لم يعد النظام النقدي الدويل الذي اعتَمد املعيار
الذهبي يعمل كما كان ،وكان عىل جميع البلدان التي نفد منها الذهب مواجهة املعضلة
الكبرية فيما إن كان ينبغي عليها العودة إىل املعيار الذهبي ،وإن كان األمر كذلك ،كيف
تساءلت عما إذا كان قرب أملانيا والنمسا من سويسرا ،والعالقة الوثيقة بني هؤالء السكان ،قد أدت ُ 3لقد
ابألملان والنمساويني إىل تبديل عمالهتم ابلفرنك السويسري ،األمر الذي َسَّرع بسقوط هذه العمالت ،مما أدى
إىل زايدة املوارد االقتصادية احلكومية ،وأدَّى دوراً حامساً يف نتائج احلرب العاملية األوىل .مل أصادف أبداً أي حبث
صادفت عزيزي القارئ ،فالرجاء االتصال بنا.
َ حول هذه املسألة ،ولكن إن
4من يوليو 1914إىل نوفمرب . 1918املصدر :جورج هول" ،أسعار الصرف والوفيات خالل احلرب العاملية
األوىل" ،جملة االقتصاد النقدي.
53
معيار البيتكوين
تعيد تقييم عمالتها مقارنة بالذهب .فالتقييم السوقي العادل ملخزونها الحايل من
العمالت بالنسبة إىل مخزونها من الذهب سيكون اعرتافا ً غري مرغوب به بسبب االنخفاض
الذي جرى للعملة ،وأما خيار العودة إىل أسعار الرصف القديمة فإنه سيجعل املواطنني
يطالبون بامتالك الذهب بدال ً من الحصول عىل إيصاالت ورقية واسعة االنتشار ،وسيؤدي
مكان يحظى فيه بقيمته املُ ِ
نصفة. ٍ أيضا ً إىل تهريب الذهب إىل خارج البالد إىل
إن هذه املعضلة أخذت األموال بعيدا ً عن األسواق وحولتها إىل قرار اقتصادي
خاضع لسيطرة سياسية .فبدال ً من اختيار املشاركني يف السوق ألكثر سلعة قابلة للبيع
ً
خاضعة للتخطيط كوسيط للتبادل ،أصبحت اآلن قيمة وعرض ومعدل فائدة النقد كلها
املركزي من قبل الحكومات الوطنية ،وهذا نظام نقدي أ َطلق عليه "هايك" تسمية
"القومية النقدية" يف كتاب قصري رائع بنفس العنوان:
القومية النقدية هي العقيدة التي تنص عىل أن حصة الدولة العاملية من
العرض النقدي ال ينبغي أن يتم تركها لتحددها املبادئ واآللية ذاتها التي
تُحدِّد املبالغ النسبية للنقود يف أقاليمها أو مناطقها املختلفة .ونظام النقد
العاملي الفعيل سيكون هو ذلك النظام الذي يمتلك فيه العالم كله عملة
متجانسة مثل تلك العملة التي حصلت عليها دول منفصلة ،بحيث كان تدفق
هذه العملة بني األقاليم مرتوكا ً ليتم تحديده وفقا ً لنتائج أعمال جميع األفراد.5
لن يعود الذهب مرة أخرى ليكون العملة املتجانسة يف العالم ،خصوصا ً مع
موقف البنك املركزي املحتكر واملقيِّد ملُلكية الذهب والذي أجرب الناس عىل استخدام النقود
الحكومية الوطنية .ولهذا ،إن وصول البيتكوين كعملة تتخذ من االنرتنت موطنا ً لها،
وتتجاوز الحدود الوطنية ،وتقع خارج نطاق السيطرة الحكومية ،سي ِّ
ُوفر إمكانية مثرية
لالهتمام لظهور نظام نقدي دويل جديد ،سيتم تحليله يف الفصل التاسع.
5فريدريك هايك ،القومية النقدية والثبات العاملي (فايرفيلد ،إن جي :أغسطس كيلي. ))1937(1898 ،
54
النقد الحكومي
وكانت معاهدة "جَ نوى" أول معاهدة رئيسية يف قرن القومية النقدية عام
،1922وبموجب رشوط هذه املعاهدة ،فإن الدوالر األمريكي والجنيه اإلسرتليني سيتم
اعتبارهما عمالت احتياطية مماثلة للذهب يف مكانتهما بالنسبة الحتياطات الدول األخرى.
وبهذه الحركة ،كانت بريطانيا تأمل تخفيف مشاكلها مع الجنيه اإلسرتليني املُبالَغ يف
قيمته وذلك من خالل دفع بلدان أخرى لرشاء كميات كبرية منه لوضعه يف احتياطاتها.
وأشارت القوى الكربى يف العالم إىل خروجها عن صالبة املعيار الذهبي باتجاه التضخمية
كحل للمشاكل االقتصادية ،وتَمثَّل جنون هذا الرتتيب يف رغبة الحكومات بالقيام
بالتضخم ولكن مع املحافظة عىل سعر مستقر لعمالتها من حيث مستويات الذهب ما
قبل الحرب ،ولقد تم أخذ الحيطة والحذر بالتقدير اآلتي :إذا قام الجميع بخفض قيمة
عمالتهم ،فلن يكون هناك مكان إلخفاء رأس املال ،لكن هذا لم ينجح ولم يكن لينجح،
واستمر تدفق الذهب من بريطانيا إىل الواليات املتحدة وفرنسا.
ويُع ُّد استنزاف الذهب من بريطانيا قصة غري معروفة لكنها ذات عواقب
وخيمة" .لياكت أحاميد" ويف كتابه "ملوك االقتصاد" يركز عىل هذه الواقعة ،ويناقش
برباعة قضية األفراد املتورطني والدراما التي حدثت آنذاك ،ولكنه تبنى املفهوم
"الكينيزي" السائد للموضوع ،ووضع لوم الواقعة بأكملها عىل املعيار الذهبي .فعىل
الرغم من بحثه املكثف ،إال أن أحاميد أخفق يف فهم أ َّن املشكلة لم تكن يف املعيار الذهبي،
55
معيار البيتكوين
حيث أن حكومات ما بعد الحرب العاملية األوىل أرادت العودة إىل املعيار الذهبي بمعدالت
ما قبل الحرب .فلو أن تلك الحكومات اعرتفت لشعوبها بحجم االنخفاض الذي تم
لعمالتها لتمويل الحرب ،ثم أعادت ربط عمالتها بالذهب بمعدالت جديدة ،فإنه غالبا ً كان
سيحدث ركود اقتصادي ،وبعد ذلك كان االقتصاد سيتعاىف عىل أساس نقدي سليم.
ونستطيع إيجاد أفضل عالج لهذه الواقعة وعواقبها املروعة يف كتاب "موراي
روثبارد" الكساد األمريكي العظيم .فبينما كانت احتياطات الذهب يف بريطانيا تغادر
شواطئها إىل األماكن التي كانت تحظى فيها بقيمة أفضل ،كان رئيس مرصف إنجلرتا
"السري مونتاجو نورمان" يعتمد بشكل كبري عىل نظرائه الفرنسيني ،واألملان واألمريكيني
لزيادة العرض النقدي يف دُوَ ِلهم ،ليُقللوا بذلك من قيمة عمالتهم الورقية عىل أمل أن
يُوقِف ذلك تدفق الذهب من إنجلرتا .وبينما لم يكن املرصفيون الفرنسيون واألملان
متعاونني ،كان رئيس مجلس االحتياطي الفيدرايل يف نيويورك "بنجامني سرتونغ"
متعاوناً ،وانخرط يف السياسة النقدية التضخمية طوال فرتة العرشينيات .ولربما نجح
ذلك يف خفض تدفق الذهب من بريطانيا إىل حد ما ،ولكن أهم اآلثار املرتتبة عىل ذلك هو
أنه خلق فقاعة أكرب يف اإلسكان وسوق األوراق املالية يف الواليات املتحدة .وانتهت السياسة
التضخمية لالحتياطي الفيدرايل يف الواليات املتحدة بنهاية عام ،1928ويف ذلك الوقت
كان االقتصاد األمريكي عىل شفا االنهيار الحتمي املرافق الستبعاد التضخمية .فما جرى
بعد ذلك كان هو انهيار سوق األوراق املالية عام ،1929وأدى رد فعل الحكومة
األمريكية عىل هذا االنهيار إىل تحويله إىل أطول فرتة كساد يف التاريخ الحديث املسجَّ ل.
والقصة الشائعة حول الكساد العظيم تفرتض أن الرئيس "هوفر" اختار أن
يبقى ساكنا ً يف مواجهة التباطؤ االقتصادي بسبب اإليمان الخاطئ يف قدرة األسواق الحرة
عىل تحقيق االنتعاش والتعايف ،والتزم باملعيار الذهبي ،وفقط عندما تم استبداله من قبل
"فرانكلني ديالنو روزفلت" والذي انتقل إىل دور حكومي ن َ ِشط وقام باستبعاد املعيار
الذهبي ،تعافت الواليات املتحدة .بعبارة لطيفة ،هذا هراء .فلم يزد هوفر من اإلنفاق
الحكومي عىل مشاريع العمل العام ملكافحة الكساد فحسب ،بل اعتمد أيضا ً عىل
االحتياطي الفيدرايل لتوسيع االئتمان ،ور َّكز سياسته عىل السعي الجنوني للحفاظ عىل
بقاء األجور مرتفعة يف مواجهة االنخفاض يف معدالت هذه األجور .عالوة عىل ذلك ،تم
56
النقد الحكومي
وضع ضوابط لألسعار وذلك إلبقاء أسعار املنتجات يف مستويات عالية وخصوصا ً
الزراعية منها ،وهذا أمر مشابه للحالة التي تسبق الكساد وهو أمر طبيعي يف هذه
الحالة .فالواليات املتحدة وجميع االقتصادات العاملية الرئيسية بدأت يف تنفيذ سياسات
6
التجارة الوقائية التي جعلت األمور أسوء بكثري عىل مستوى االقتصاد العاملي.
ُعترب هذا الحدث حقيق ًة غري معروفة وقد تم مسحه بعناية من كتب التاريخ، ي َ
ُّ َ
منصة تدَخليةوهو أنه يف فرتة االنتخابات العامة للواليات املتحدة عام ،1932أدار هوفر َّ
َّ
منصة للمسؤولية املالية والنقدية .ويف الواقع، كبرية بينما أدار فرانكلني ديالنو روزفلت
قام األمريكيون بالتصويت ضد سياسات هوفر ،ولكن عندما توىل روزفلت السلطة وجد
أنه من األنسب السري مع املصالح التي ألهمت هوفر ،ونتيجة لذلك ،تم تضخيم السياسات
التدخلية لهوفر إىل ما أصبح يُعرف باسم الصفقة الجديدة .ومن املهم إدراك أنه لم يكن
هناك يشء فريد أو مستجد فيما يخص الصفقة الجديدة ،حيث أنه كان تضخيما ً وتكبريا ً
للسياسات التدخلية الشديدة التي وضعها هوفر.
إن الفهم العابر واألويل لالقتصاد سيجعل األمر واضحا ً من أ َّن وضع ضوابط
لألسعار يؤدي دائما ً إىل نتائج عكسية ،يَنتج عنها وجود فائض وعجز ،واملشاكل التي
ً
وثيقا واجهها االقتصاد األمريكي يف ثالثينيات القرن العرشين كانت مرتبطة ارتبا ً
طا
بتثبيت األجور واألسعار .حيث أنه تم تثبيت األجور بشكل مرتفع جداً ،مما أدى إىل معدل
بطالة مرتفع جدا ً بلغ %25يف بعض األحيان ،يف حني أدت الضوابط املفروضة عىل
األسعار إىل خلق حاالت فائض وعجز يف سلع مختلفة ،حتى أنه تم حرق بعض املنتجات
الزراعية من أجل الحفاظ عىل أسعارها املرتفعة ،مما أدى إىل الوصول لحال كارثي والذي
ماسة للعمل ،يف حني لم يستطع املنتجون من توظيفهم كان فيه الناس جياع ويف حاجة َّ
ألنهم لم يستطيعوا تحمل تكلفة أجورهم ،بينما كان عىل املنتجني الذين بإمكانهم إنتاج
بعض املحاصيل أن يحرقوا جزءا ً منها للمحافظة عىل ارتفاع السعر .وقد تم القيام بكل
هذا للحفاظ عىل األسعار عند مستويات االزدهار الذي حصل قبل ،1929مع التمسك
ضخم عرشينيات القرن بالوهم بأن الدوالر لم يزل يحافظ عىل قيمته مقارنة بالذهب .فتَ ُّ
6ميكن إجياد سياسات هوفر التدخلية يف كتاب موري روثبارد "الكساد األمريكي العظيم".
57
معيار البيتكوين
بطبيعة الحال ،ال يشء من هذا سيكون ممكنا مع النقد السليم ،حيث أنه وفقط
من خالل تضخيم العرض النقدي يمكن حدوث مثل هذه املشاكل .وحتى بعد حدوث
التضخم ،فإن التأثريات ستكون أقل رضرا ً لو أنهم أعادوا تقييم الدوالر بالنسبة للذهب
بسعر يحدده السوق ،ثم القيام برتك األجور واألسعار لتتعدل بشكل حر .لكن بدال ً من
تَعلُّم هذا الدرس ،صمَّم اقتصاديو الحكومة بتلك الحقبة عىل أن الخطأ لم يكن يف
التضخمية ،بل باألحرى كان يف املعيار الذهبي الذي يَح ُّد من تضخمية الحكومة .لذلك،
ومن أجل إزالة هذه القيود الذهبية من عىل التضخم ،أصدر الرئيس روزفلت أمرا ً تنفيذيا ً
ُجربا ً األمريكيني عىل بيع ذهبهم إىل الخزانة األمريكية
يحظر فيه امللكية الخاصة للذهب ،م ِ
بمعدل 20.67دوالرا ً لألونصة .ومع حرمان السكان من النقد السليم وإجبارهم عىل
التعامل بالدوالر ،قام روزفلت بعد ذلك بإعادة تقييم الدوالر يف السوق الدولية من
20.67دوالرا ً لألونصة إىل 35دوالرا ً لألونصة ،وهو انخفاض َق ْد ُره %41يف الدوالر
بالقيمة الحقيقية (الذهب) .فكان ذلك هو الواقع الحتمي لسنوات من التضخم والذي بدأ
عام 1914مع إنشاء االحتياطي الفيدرايل ،ومع تمويل دخول أمريكا للحرب العاملية
الثانية.
إن التخيل عن النقد السليم واستبداله بالنقود الورقية التي أصدرتها الحكومة
هو ما قام بتحويل االقتصادات الرائدة يف العالم إىل إخفاقات مُخ َّ
ططة مركزيا ومُوجَّ هة
حكومياً .وبينما كانت الحكومات تسيطر عىل النقود ،سيطرت أيضا ً عىل معظم األنشطة
االقتصادية ،والسياسية ،والثقافية والتعليمية .فبالرغم من عدم دراسة كينز االقتصاد أو
االستقصاء عنه بشكل احرتايف ،تم َّكن كينز من االستحواذ عىل روح هذه الحكومات
58
النقد الحكومي
طلَقة السلطة من أجل التوصل إىل املسار النهائي الذي يمنح الحكومات ما تريد سماعه. ُم ْ
فلقد اختفت جميع أسس املعرفة االقتصادية املكتسبة عىل مدى قرون من العلوم
الدراسية حول العالم ،ليحل مكانها اإليمان الجديد مع االستنتاجات املالئمة دائما ً والتي
تناسب السياسيني ذوي التفضيل الزمني املرتفع والحكومات االستبدادية :بحيث يتم
تحديد حالة االقتصاد بوساطة عامل اإلنفاق الكيل ،وأي ارتفاع يف البطالة أو تباطؤ يف
اإلنتاج ليس له أي سبب ضمني يف هيكل اإلنتاج أو يف تشوهات األسواق بسبب املخططني
املركزين ،فسيكون ذلك كله بسبب نقص اإلنفاق ،والعالج سيكون عن طريق إفساد
العملة وزيادة اإلنفاق الحكومي .ووفقا ً لذلك فاالدخار يقلل اإلنفاق ،وألن اإلنفاق هو كل
ما يهم ،يجب عىل الحكومة أن تفعل كل ما يف وسعها لردع مواطنيها من االدِّخار .أ َ ِضف
لهذا أن االسترياد يؤدي إىل ترسيح العمال من عملهم ،ولهذا ،يجب عىل الزيادات باإلنفاق
أن تذهب إىل السلع املحلية .لقد حظيت هذه الرسالة بإعجاب الحكومة ،وكان كينز عىل
علم بذلك ،وتمت ترجمة كتابه إىل األملانية عام 1937يف ذروة العرص "النازي" ،ويف
مقدمة الطبعة األملانية كتب كينز:
إ َّن نظرية اإلنتاج الكيل وهي نقطة الكتاب التايل ،يمكن تبنيها يف كل األحوال
بسهولة أكثر يف نظام شمويل من تبني نظرية اإلنتاج وتوزيع هذا اإلنتاج يف
7
ظروف املنافسة الحرة واالقتصادات الحرة.
وعند بدء الطوفان الكينيزي الذي ال يزال العالم يتعاىف منه ،فقدت الجامعات
استقالليتها وأصبحت جزءا ً ال يتجزأ من الجهاز الحكومي الحاكم ،وتوقفت علوم
االقتصاد األكاديمية عن كونها نظاما ً فكريا ً يركز عىل فهم الخيارات اإلنسانية من أجل
الشح والندرة ،وعوضا ً عن ذلك ،أصبحت هذه الجامعات تحسني الظروف يف حاالت ُّ
صنَّاع السياسة نحو أفضل السياسات بمثابة ذراع للحكومة بحيث تهدف إىل توجيه ُ
إلدارة األنشطة االقتصادية .فالفكرة بأن إدارة الحكومات لالقتصاد هو أمر رضوري
أصبحت فكر ًة ليست محل نقاش يف جميع التعاليم االقتصادية الحديثة ،كما يمكن
استخالصه بالنظر إىل أي كتاب اقتصادي حديث ،حيث تؤدي الحكومة الدور نفسه الذي
59
معيار البيتكوين
يؤديه البطل الخارق يف املجالت التصويرية واألفالم :فهو كيل الوجود ،وكيل العلم ،وهو
القوة القاهرة التي تحتاج فقط تحديد املشاكل ملعالجتها عىل نحو مُريض .لهذا ،إ َّن
الحكومة ليست مشمولة بمفهوم تكاليف الفرصة البديلة ،ونادرا ً ما يتم النظر يف النتائج
السلبية للتدخل الحكومي يف النشاطات االقتصادية ،حتى وإن تم النظر فيها ،فإن ذلك
يحصل فقط لتربير املزيد من التدخل الحكومي .لهذا ،فقد تم تنحية التقاليد الليربالية
أساس االزدهار االقتصادي ،يف حني أن َ الكالسيكية التي اعتربت الحرية االقتصادية
املروِّجني الحكوميني املتنكرين عىل هيئة االقتصاديني قاموا بتقديم الكساد العظيم ،والذي
كانت القيود الحكومية سببَ تفاقمه ،كدحض لألسواق الحرة .فكان الليرباليون
الكالسيكيون أعدا ًء مع األنظمة السياسية يف الثالثينات ،وقد تم قتلهم ومطاردتهم من
ظهم أنه تم اضطهادهم بشكل أكاديمي روسيا ،وإيطاليا ،وأملانيا والنمسا ،ولحسن ح ِّ
فقط يف الواليات املتحدة وبريطانيا ،حيث كافح أولئك العمالقة يف سبيل العثور عىل
العمالة ،يف حني مأل البريوقراطيون متوسطو الفهم واإلحصائيون الفشلة أقسام االقتصاد
يف جميع الجامعات بعلمهم الزائف وإيمانهم الوهمي.
إن املناهج االقتصادية املُعتَمدة اليوم من الحكومة ال تزال تلوم املعيار الذهبي
يف موضوع الكساد العظيم .ذلك املعيار الذهبي نفسه الذي أ َنتج أكثر من أربعة عقود من
النمو واالزدهار العاملي غري املنقطع بني 1870و 1914قد توقف فجأة عن العمل يف
الثالثينات ،ألنه لم يسمح للحكومات بتوسيع عرضها النقدي ملكافحة الكساد الذي لم
يتمكن هؤالء االقتصاديني من تفسري أسبابه إال عرب ايحائات كينزية ل ِـ "أرواح
الحيوانات" التي ال معنى لها .وال يبدو أ َّن أيا ً من هؤالء االقتصاديني قد الحظ أنه إذا
كانت املشكلة هي باملعيار الذهبي ،فإن استبعاده كان من شأنه أن يتسبب ببداية التعايف
واالنتعاش .عوضا ً عن ذلك ،استغرق األمر أكثر من عقد بعد استبعاده الستئناف النمو.
إن النتيجة الجليَّة ألي شخص لديه فهم أسايس للنقد واالقتصاد هي أن االنهيار العظيم
عام 1929نتج بسبب االبتعاد عن املعيار الذهبي يف سنوات ما بعد الحرب العاملية األوىل،
وأن زيادة عمق الكساد كان سببه سيطرة الحكومة وإضفاء الطابع االجتماعي عىل
االقتصاد يف سنوات هوفر وروزفليت .ولم يكن الستبعاد وتعليق املعيار الذهبي أو
لإلنفاق يف زمن الحرب أي صلة بالتخفيف من حدة الكساد العظيم.
60
النقد الحكومي
فلقد تحطمت سفينة التجارة العاملية عىل شواطئ النقود الورقية املتذبذبة
رسعان خروج االقتصادات الرئيسية يف العالم عن املعيار الذهبي ،حيث أنه يف ظل عدم
وجود قيمة معيارية تسمح بوجود آلية أسعار دولية ،ومع تزايد الدوافع االستبدادية
واالنعزالية للحكومات ،ظهر التالعب بالعملة كأداة من أدوات السياسة التجاريةَ .ف َسعَ ت
الدول إىل خفض قيمة عمالتها من أجل منح ميزة لصادرتها ،وبهذا تم تشييد املزيد من
الحواجز التجارية ،وأصبحت القومية االقتصادية من أخالقيات تلك الحقبة لكن بالطبع
ً
سوية قبل مع وجود عواقب وخيمة ُمتَوَقعة .وبهذا األمر ،أصبح لدى الدول التي ازدهرت
أربعني عاما ً بممارسة العمل التجاري تحت ظل املعيار الذهبي العاملي الواحد ،أصبح
لديها حواجز نقدية وتجارية كبرية فيما بينها ،وقادة شعبويون صاخبون ألقوا اللوم
لجميع إخفاقاتهم عىل دول أخرى ،مما تسبب بموجة متصاعدة من القومية الحاقدة التي
رسعان ما حققت نبوءة "أوتو مالريي"" :إذا لم يتجاوز الجنود الحدود الدولية ،يجب
عىل السلع أن تتجاوزها ،وإذا لم يتم إسقاط القيود عن التجارة ،سيتم إسقاط القنابل من
8
السماء".
8أوتو مالريي ،االحتاد االقتصادي والسالم الدائم (هاربر واألخوة ،)1943 ،الصفحة .10
61
معيار البيتكوين
ويف أعقاب الحرب العاملية الثانية ،جاءت إحدى أكثر الرضبات املدمرة
للنظريات الكينيزية والتي تَدَّعي أن الطلب الكيل هو مُح ِّد ٌد لحالة االقتصاد وقد كان هذا
األمر يف الواليات املتحدة بالتحديد .حيث التقت مجموعة من العوامل "وتآمرت" لتقلِّص
من اإلنفاق الحكومي بشكل كبري ،األمر الذي دفع باالقتصاديني الكينزيني يف تلك الحقبة
إىل توقع املوت والظالم للفرتة التي ستتبع الحرب :حيث أ َّن نهاية األعمال العسكرية قامت
بتقليل اإلنفاق العسكري الحكومي بشكل كبري ،ثم إ َّن موت "روزفلت" القوي
9روبرت هيغز "احلرب العاملية الثانية وانتصار الكينيزية" ،2001مقالة حبثية اتبعة ملؤسسة مستقلة .متوفرة على
http://www.independent.org/publications/article.asp?id=317
62
النقد الحكومي
والشعبوي ،واستبداله بعد ذلك من قِ بَل األكثر وداعة واألقل رمزية "ترومان" ملواجهة
الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون ،قام بإنشاء جمود وأزمة سياسية حالت دون
تجديد قوانني الصفقة الجديدة .وعند تحليل كل هذه العوامل مجتمعة من قبل
االقتصاديني الكينزيني ،فإنها تشري إىل كارثة وشيكة تماما ً كما طرح "بول
سامويلسون" ،الرجل الذي كتب الكتب الدراسية للتعليم االقتصادي يف فرتة ما بعد
الحرب عام :1943
فنهاية الحرب العاملية الثانية وتفكيك الصفقة الجديدة كانت تعني َّ
أن
الحكومة األمريكية قامت بخفض إنفاقها بنسبة مذهلة بلغت %75بني عامي 1944
و ،1948كما أنها أزالت معظم ضوابط األسعار كإجراء احتياطي .مع ذلك ،شهد
االقتصاد األمريكي ازدهارا ً غري اعتيادي خالل هذه السنوات ،حيث عاد ما يقارب ال 10
مليون رجل إىل ديارهم بعد أن تم حشدهم للحرب ،وتم استيعابهم بسالسة يف القوى
العاملة ،وازدهر اإلنتاج االقتصادي وحلَّق يف وجه جميع التنبؤات الكينيزية ،وقام بسحق
أن مستوى اإلنفاق هو ما وتدمري الفكرة السخيفة بشكل كيل ،تلك الفكرة التي تدَّعي َّ
يحدد الناتج يف االقتصاد .فحاملا انحرس التخطيط املركزي الحكومي ألول مرة منذ انهيار
عام 1929وبمجرد أن تم السماح لألسعار بأن تتعدل بشكل حر ،قامت هذه األسعار
بتأدية دورها كآلية تنسيق للنشاط االقتصادي ،وقامت بمطابقة البائعني واملشرتين،
وأدت إىل تحفيز إنتاج السلع املطلوبة من قِ بَل املستهلكني ،وإىل تعويض العمال عىل
10بول سامويلسون" ،العمالة الكاملة بعد احلرب" ،يف سيمور هاريس ،املشاكل االقتصادية اليت تبعت احلرب
(نيويورك :ماكغراي-هيل.)1943 ،
63
معيار البيتكوين
جهودهم .لكن يجب اإلضافة أنه مع ذلك ،فلم يكن الوضع مثاليا ً ،فبقاء العالم بعيدا ً عن
املعيار الذهبي أدَّى إىل اختالالت دائمة يف العرض النقدي قد تستمر يف مطاردة االقتصاد
العاملي اليوم بأزمة ِتلْ َو األخرى.
التاريخ يكتبه املنترصون هي حقيقة مُسلَّمة بها ،لكن ويف عرص النقود
الحكومية ،يَحِ ُّق للمنترصين تقرير األنظمة النقدية أيضا ً ،حيث قامت الواليات املتحدة
باستدعاء ممثيل حلفائها إىل برايتون وودز يف "نيو هامبرش" ملناقشة صياغة نظام
تجاري عاملي جديد .ويمكن القول أن التاريخ لم يكن لطيفا ً جدا ً مع مهنديس هذا النظام،
حيث كان ممثل بريطانيا لهذا النظام بالطبع هو "جون ماينارد كينز" ،والذي كان من
املفرتض أن يتم تدمري تعاليمه االقتصادية عىل شواطئ الواقع يف العقود التي أعقبت
الحرب .كما تم الكشف الحقا ً بأن ممثل الواليات املتحدة" ،هاري ديكسرت وايت" ،هو
شيوعي كان عىل اتصال مع النظام السوفيتي لسنوات عديدة .11ففي املعركة عىل النظام
11بعد أن مت التحقيق معه وأدىل بشهادته أمام الكونغرس ،عاىن وايت من نوبتني قلبيتني وتويف بسبب جرعة زائدة
من الدواء ،واليت من املمكن أن تكون جرعة انتحارية .ميكن العثور على نقاش مناسب هلذه احلادثة يف كتاب بن
ستيل "معركة برايتون وودز" ،مما يؤكد وجهة النظر اليت تقول أن وايت كان جاسوساً سوفييتياً .وهناك قراءة بديلة
للوضع ُميكن أن تؤدي إىل منظور أكثر دقة ،على الرغم من أهنا لن تكون أكثر من جمرد متلّق .فالروابط بني
التقدميني األمريكيني والشيوعيني الروس سبقت االنقالب الروسي عام ،1917وتضمنت متويالً كبرياً من
فصل ذلك املؤرخ الربيطاين األمريكي أنتوين سوتون.
الوالايت املتحدة للبالشفة وذلك لعزل امللكية الروسية ،كما ّ
فالتقدميون ال"ويلسيون" األمريكيون ،الذين كانوا وراء عصبة األمم والحقاً األمم املتحدة ،قد حبثوا عن حكومة
إدارية تكنوقراطية دميقراطية تقدمية ،وقد سعوا إىل التعاون بني القوى العاملية اليت ستدعم هذا اهلدف ،وإىل خلع
كل األنظمة وامللكيات الرجعية اليت لن تتعاون مع هذا النظام العاملي .لذلك ،أدت املصاحل األمريكية دوراً قيادايً
يف ترويج البالشفة ومساعدهتم ألخذ السلطة ،وخاصة عرب "ليون تروتسكي ،الذي كان يف نيوورك أثناء الثورة،
ويبحث عن دعم وعتاد لرفقائه يف روسيا .وبينما كان تروتسكي اشرتاكيا أممياً قد يتعاون مع املصاحل األمريكية ،إال
أنه مل يكن ليحصل على السلطة يف روسيا .وبدالً من ذلك جنح بذلك ستالني وأخذ السلطة من لينني ،وذهب
ابجتاه املزيد من "األبرشية" ،وأعطى األولوية لالشرتاكية يف الوطن على حساب التعاون العاملي .منذ ذلك الوقت
64
النقد الحكومي
النقدي العاملي املخطط مركزياً ،كان من املفرتض أن يخرج وايت منترصا ً بخطة تجعل
كينز ال يبدو معتوها ً كليا ً ،فالواليات املتحدة ستصبح مركز النظام النقدي العاملي،
وستستخدم دوالراتها كعملة احتياطية عاملية من قبل البنوك املركزية ،والتي ستكون
عمالتها قابلة للتحويل إىل الدوالر بأسعار رصف ثابتة ،بينما سيكون الدوالر نفسه قابالً
للتحويل إىل الذهب بسعر رصف ثابت .ولتسهيل هذا النظام ،ستأخذ الواليات املتحدة
الذهبَ من البنوك املركزية يف الدول األخرى.
ويف حني كان ممنوعا ً عىل الشعب األمريكي امتالك الذهب ،وَعَ دَت الحكومة
األمريكية بتبديل الدوالر بالذهب للبنوك املركزية يف الدول األخرى بسعر ثابت ،مبتدئة بما
كان يُعرف باسم نافذة رصف الذهب .فمن الناحية النظرية ،النظام النقدي العاملي كان
ال يزال قائما ً عىل الذهب ،وإذا قامت الحكومة األمريكية باملحافظة عىل قابلية التحويل إىل
الذهب بعدم تضخيمها لعرض الدوالر بما يتجاوز احتياطاتها من الذهب ،وبنفس الوقت
إذا لم تقم الدول األخرى بتضخيم عرض نقودها بما يتجاوز احتياطاتها من الدوالر،
فالنظام النقدي بهذه الصورة كان سيقرتب بشكل فعال من املعيار الذهبي يف حقبة ما
قبل الحرب العاملية األوىل .لم تلتزم الدول بهذا بالطبع ،بل ويف الواقع ،لم تكن أسعار
الرصف ثابتة عىل اإلطالق ،وتم اتخاذ إجراءات تسمح للحكومات بتعديل هذه النِّسب
12
ملعالجة "االختالل األسايس".
وإلدارة هذا النظام العاملي من أسعار الرصف املأمول ثباتها ،وملعالجة أي
اختالل أسايس محتمل ،أنشأ مؤتمر برايتون وودز صندوق النقد الدويل الذي عمل كهيئة
وصاعداً ،حافظ األمريكيون التقدميون على اتصاهلم مع املصاحل الروسية ،حماولني أخذ روسيا للتعاون مع املصاحل
التقدمية األمريكية ،ولكن عبثاً .هلذا ،نستطيع فهم وايت ليس بكونه جاسوساً شيوعياً ،ولكن بكونه أمريكياً
تقدمياً يبحث على التعاون مع البالشفة الروس للمشروع العظيم الذي يتمثل ابلنظام االقتصادي ما بعد احلرب
الذي حبث عنه األمريكيون التقدميون.
12وزارة اخلارجية األمريكية" ،اجمللد " 1إجراءات وواثئق املؤمتر النقدي واملايل لألمم املتحدة ،برايتون وودز،
نيوهامبشري ،يوليو .1944 ،22-1
65
معيار البيتكوين
فآليات التعديل التلقائية للمعيار الذهبي أَمَ نَّت وبشكل دائم أداة قياس ثابتة
يُمكن بوساطتها قياس كل النشاطات االقتصادية ،لكن وجود العمالت ذات سعر الرصف
66
النقد الحكومي
العائم سببت اختالالت يف االقتصاد العاملي ،وكان دور صندوق النقد الدويل هو القيام
بموازنة مستحيلة بني جميع حكومات العالم يف محاولة إليجاد شكل ما من االستقرار أو
"التوازن" يف هذه الفوىض ،للحفاظ عىل أسعار الرصف ضمن نطاق تقديري من القيم
تدفق وحركة التجارة ورأس املال قاما بتغيريها ،حيث أنه ومناملح َّددة مسبقا ً ،بينما ُّ
دون وجود وحدة حسابية مستقرة لالقتصاد العاملي ،كانت هذه مهمة يائسة مثل
محاولة بناء منزل برشيط قياس مرن يتباين طوله كلما يتم استخدامه.
إن أحد الجوانب املهمة والذي كان غالبا ً يتم إغفاله يف نظام برايتون وودز هو
أ َّن معظم الدول األعضاء قامت بنقل كميات كبرية من احتياطاتها من الذهب إىل الواليات
املتحدة واستلمت دوالرات لقاء له بمعدل 35دوالرا ً لألونصة الواحدة ،وكان التربير
املنطقي لذلك هو أ َّن الدوالر األمريكي سيصبح العملة العاملية للتجارةَّ ،
وأن البنوك
املركزية ستستخدمه للتداول ولتسوية حساباتها ،متجنبني بذلك الحاجة إىل النقل املادي
للذهب .فكان هذا النظام يف جوهره أشبه بإدارة كامل االقتصاد العاملي كدولة واحدة
تعمل وفقا ً للمعيار الذهبي ،حيث أدَّى االحتياطي الفيدرايل األمريكي دور البنك املركزي
العاملي ،وأدَّت جميع البنوك املركزية العاملية دور املصارف اإلقليمية ،وكان الفارق
األسايس هو فقدان االنضباط النقدي للمعيار الذهبي بشكل كامل تقريبا ً يف هذا العالم،
حيث لم يكن هناك ضوابط فعالة عىل توسيع العرض النقدي يف جميع البنوك املركزية،
ألنه لم يكن هناك إمكانية للمواطنني الستبدال نقودهم الحكومية بالذهب .وكان بإمكان
67
معيار البيتكوين
الحكومات وحدها استبدال دوالراتها بالذهب من الواليات املتحدة ،لكن اتَّضح َّ
أن هذا
متوقعا ً .فقيمة كل أونصة ذهب تقاضت البنوك املركزيةَّ األمر أكثر تعقيدا ً مما كان
األجنبية 35دوالرا ً لقاءها يف ذلك الوقت ،تبلغ اليوم حوايل 1200دوالر.
إن القيود املالية النسبية يف السنوات القليلة األوىل بعد الحرب العاملية الثانية
رسعان ما أفسحت املجال أمام اإلغراء السيايس الذي ال يمكن مقاومته وسمحت له برشاء
وجبات الغداء املجانية من خالل التضخم ،وخاصة للصناعة الحربية ون ُظم الرفاه
االجتماعي .فنمت الصناعة العسكرية التي ازدهرت خالل الحرب العاملية الثانية إىل ما
أ َطلق عليه الرئيس "إيزنهاور" "املُجمَّع الصناعي العسكري" -وهو تَكتُّل هائل من
الصناعات التي كانت قوية بما يكفي لطلب تمويل متزايد من الحكومة ،ود َْفع السياسة
الخارجية األمريكية نحو سلسلة ال نهاية لها من النزاعات باهظة الثمن دون هدف نهائي
عقالني أو هدف واضح .وقد ادَّعت العقيدة الكينزية املتشددة أ َّن هذا اإلنفاق سيكون
نافعا ً لالقتصاد ،األمر الذي جعل ماليني األرواح التي تم تدمريها مستساغا ً أكثر بالنسبة
للناخبني األمريكيني.
68
النقد الحكومي
يمكن اإلضافة أيضا ً أن الشعب األمريكي استساغ آلة الحرب هذه بشكل كبري
وسعوا نظام الرفاه االجتماعي ليكون وذلك ألنها جاءت من نفس السياسيني الذين َّ
بأشكال وصيغ مختلفة .فابتدا ًء من مرشوع املجتمع العظيم وانتها ًء باإلسكان ،والتعليم
والرعاية الصحية ،سمحت النقود الورقية للناخبني األمريكيني بتجاهل قوانني االقتصاد،
وباالعتقاد أنه من املمكن توفري وجبة غداء مجانية ،أو عىل األقل توفري وجبة عليها حسم
دائم .ففي غياب قابلية التحويل إىل الذهب وحضور القدرة عىل توزيع تكاليف التضخم
عىل بقية العالم ،تشكلت الصيغة السياسية الرابحة الوحيدة من زيادة اإلنفاق الحكومي
املُمَّول من التضخم ،حيث شهدت كل فرتة رئاسة بعد الحرب نموا ً يف اإلنفاق الحكومي
والدَّين الوطني ،وخسارة يف القوة الرشائية للدوالر ،حيث أنه ويف ظل النقود الورقية التي
تُمِّول الحكومة ،تختفي االختالفات السياسية بني األحزاب بحيث أن السياسة لم تعد
تحتوي عىل املقايضات ،ويمكن بذلك لكل مرشح أن ينارص كل القضايا.
69
معيار البيتكوين
نتيجة لذلك ،تَخلَّفت الواليات املتحدة عن الوفاء بالتزامها بتحويل دوالراتها للذهب ،وأما
أسعار الرصف الثابتة بني عمالت العالم والتي تم تكليف صندوق النقد الدويل باملحافظة
عليها ،فقد تُركت ليتم تحديدها من قِ بَل حركة السلع ورؤوس األموال عرب الحدود ،ويف
أسواق الرصف األجنبي التي تزداد تعقيداً.
وخطوة الرئيس نيكسون أتمَّت هذه العملية التي بدأت مع الحرب العاملية
األوىل ،وذلك بتحويل االقتصاد العاملي من معيار ذهبي عاملي إىل معيار يستند عىل عدة
ً
عوملة جنبا ً إىل جنب مع التقدم عمالت تصدرها الحكومات .فبالنسبة إىل عالَ ٍم كان يزداد
يف مجال النقل واالتصاالتَ ،ش َّكلت أسعار الرصف املتقلبة بشكل حر ما وصفه "هوبه"
بأنه "نظام من املقايضة الجزئية" 13.فرشاء األشياء من األفراد الذين يعيشون عىل
الجانب اآلخر من الخطوط الوهمية املرسومة يف الرمال أصبح يتطلب أكثر من وسيط
تبادل واحد ،وأعاد إثارة مشكلة الزمن القديم ِبنُدرة تطابق الرغبات .ويف هذه املشكلة ال
يرغب البائع بالعملة التي يمتلكها املشرتي ،وبهذا يتوجب عىل املشرتي رشاء عملة أخرى
أوال ً وتُحمُّ ل تكاليف التحويل .وبينما يستمر التقدم يف مجال النقل واالتصاالت يف زيادة
التكامل االقتصادي العاملي ،إال أن االرتفاع يف تكلفة عدم الكفاءة الحاصلة يستمر
باالزدياد .فوجود سوق الرصف األجنبي الذي يبلغ حجمه خمسة تريليونات دوالر من
حجم التداول اليومي ،نتج فقط بسبب غياب الكفاءة من عدم وجود عملة دولية واحدة
13هانز هرمان هوبه" ،كيف تكون العملة الورقية ممكنة؟" مراجعة االقتصاد النمساوي ،اجمللد ،7رقم 2
(.)1994
70
النقد الحكومي
متجانسة عاملية.
ويف حني تُنتج معظم الحكومات عمالتها الخاصة ،أنتجت الحكومة األمريكية
العملة االحتياطية الرئيسية التي استخدمتها الحكومات األخرى لدعم عملتها ،وكانت هذه
هي املرة األوىل يف تاريخ البرشية التي يَستخدم فيها الكوكب بأكمله النقد الحكومي.
وبينما يتم اعتبار هذه الفكرة بأنها طبيعية وغري قابلة للشك يف معظم الدوائر األكاديمية،
إال أنه من الجدير بنا أن نتفحَّ ص سالمة هذا الشكل السائد من النقد.
فنظرياً ،يمكننا استحداث أصول نادرة صناعيا ً إلكسابها دورا ً نقدياً ،وهذا ما
فعلته حكومات هذا العالم بعد التخيل عن املعيار الذهبي كما فعل مؤسس البيتكوين
أيضاً ،ولكن كانت النتائج متناقضة .فبعد قطع الرابط بني النقود الورقية والذهب ،كانت
رسعة نمو العرض النقدي الورقي أكرب منه مقارنة بالذهب ،وكنتيجة لذلك ،شهدت
العمالت انهيارا ً يف قيمتها مقارن ًة بالذهب .حيث بلغ مجموع مقياس العرض النقدي M2
يف الواليات عام 1971حوايل 600مليار دوالر ،يف حني أنه يتجاوز اليوم 12تريليون
دوالر بمعدل نمو سنوي يبلغ .%6.7باملقابل ويف عام ،1971كان سعر أونصة واحدة
من الذهب 35دوالراً ،وتبلغ قيمتها اليوم أكثر من 1200دوالر.
إن النظر إىل السجل التاريخي للنقود الحكومية سريسم لنا صورة مختلطة عن
نسبة املخزون إىل التدفق للعمالت املختلفة عرب الوقت .فالعمالت املستقرة والقوية نسبيا ً
يف البلدان املتقدمة شهدت عادة معدالت نمو يف عرضها من أرقام فردية ،ولكن بتباين
كبري ،ويشمل ذلك تقليص العرض أثناء فرتات الركود 14.أما عمالت البلدان النامية فقد
شهدت يف كثري من األحيان معدالت نمو يف عرضها أقرب إىل السلع االستهالكية ،مما أدى
إىل تضخم كارثي ودمار ثروة املالكني .ويُقدم لنا املرصف الدويل بيانات عن نمو النقود
باملعنى الواسع يف 167بلدا ً يف الفرتة بني عامي 1960و .2015وبيانات املعدل السنوي
14هذه ميزة هامة للنقد احلكومي لكنها ال حتظى عادةً بتقدير كاف .ينخفض العرض النقدي عند سداد الديون
أو إفالس املقرتض بسبب استحداث البنوك للنقد عند إصدار القروض .وميكن أن يزداد أو ينقص العرض النقدي
اعتماداً على جمموعة متنوعة من قرارات احلكومة والبنوك املركزية.
71
معيار البيتكوين
140
120
100
80
60
40
20
0
1960 1970 1980 1990 2000 2010
لجميع الدول موضحة يف الشكل رقم .6ويف حني أن هذه البيانات ليست كاملة لجميع
البلدان وجميع السنوات ،إال أن متوسط نمو العرض النقدي هو % 32.16سنويا ً لكل
بلد.
إن الرقم %32.16ال يتضمن العديد من سنوات التضخم املفرط والتي دُمِّ رت
خاللها العملة بالكامل واستُبدلت بعملة جديدة ،وبهذا فإن نتائج هذا التحليل ال يمكن أن
تثبت لنا بشكل قاطع أي من العمالت كانت األسوأ حاالً ،وذلك ألن بعضا ً من أهم البيانات
ال يمكن مقارنتها .فبالنظر إىل البلدان التي حققت أعىل متوسط زيادة يف عرضها النقدي،
سيَظهر لنا قائمة البلدان التي شهدت عدة حوادث من العناء التضخمي وحظيت بتغطية
إعالمية واسعة خالل الفرتة املشمولة .ويُبني الجدول رقم 153البلدان العرشة التي لديها
أعىل زيادة باملعدل السنوي يف العرض النقدي.
72
النقد الحكومي
البلد املعدل
نيكاراغوا 480.24
مجهورية الكونغو الدميقراطية 410.92
أنغوال 293.79
الربازيل 266.57
البريو 198.00
بوليفيا 184.28
األرجنتني 148.17
أوكرانيا 133.84
أذربيجان 109.25
أرمينيا 100.67
الجدول :3البلدان العرشة ذات أعىل معدل سنوي للنقد باملعنى الواسع،
2015-1960
وخالل فرتات التضخم املفرط ،يقوم الناس يف البلدان النامية ببيع عملتهم
الوطنية ويشرتون سلعا ً متينة وأساسية ،وذهباً ،وعمالت أجنبية .والعمالت االحتياطية
الدولية مثل الدوالر ،واليورو ،والني والفرنك السويرسي هي عمالت متوافرة يف معظم
أنحاء العالم وحتى يف األسواق السوداء ،وتُلبي جزءا ً كبريا ً من الطلب العاملي عىل مخزون
للقيمة .يصبح السبب يف ذلك واضحا ً عندما يدرس املرء معدل نمو عرضها النقدي والذي
كان منخفضا ً نسبيا ً عرب الزمن .ونظرا ً إىل أنها تُشكل الخيارات الرئيسية املتاحة ملعظم
الناس يف جميع أنحاء العالم كمخزون للقيمة ،يَجدر بنا تفحُّ ص معدالت نمو عرضها
بشكل منفصل عن العمالت األقل استقراراً .فيحتوي الجدول 4قائمة بأكرب عرش عمالت
يف أسواق الرصف األجنبية ،إىل جانب الزيادة السنوية يف العرض النقدي بمعناه الواسع
يف الفرتات بني 2015-1960و .2015-1990ومتوسط معدل العمالت العرش األكثر
73
معيار البيتكوين
سيولة دوليا ً هو %11.13يف الفرتة املمتدة بني عامي 1960و ،2015و %7.79فقط يف
الفرتة بني 1990و .2015ويُظهر هذا أن العمالت األكثر قبوال ً يف العالم والتي تتمتع
بأعىل قابلية للبيع عىل مستوى العالم ،هي تلك العمالت التي لديها نسبة مخزون إىل
تدفق أعىل من العمالت األخرى ،كما يتوقع تحليل هذا الكتاب .وفرتة السبعينيات
والثمانينيات التي احتوت عىل بداية عرص العمالت الوطنية العائمة ،كانت فرتة شهدت
فيها معظم البلدان تضخما ً شديداً ،لكن تحسنت األمور بعد عام ،1990وانخفض
متوسط معدالت نمو العرض .وتُظهر بيانات OECDأنه بالنسبة لدول ( )OECDبلغ
معدل نمو العرض النقدي السنوي بمعناه الواسع %7.17خالل الفرتة ما بني 1990
74
النقد الحكومي
و.2015
فالنمو بنسبة %5يف السنة قد ال يبدو كبرياً ،لكنه سيُضاعف العرض النقدي
ألي بلد خالل 15عاما ً فقط .وهذا األمر كان هو السبب يف خسارة الفضة للسباق النقدي
مقابل الذهب ،والذي أدَّى معدل نمو عرضه املنخفض إىل انخفاض وتآكل قوته الرشائية
بشكل أبطأ بكثري.
16املصدر.)OECD.Stat( :
75
معيار البيتكوين
فالتضخم املفرط هو أكثر من مجرد ظاهرة تُسبب رضرا ً وخسارة الكثري من
القيمة االقتصادية للعديد من الناس؛ بل إنه يشكل انهيارا ً تاما ً لبُنية اإلنتاج االقتصادي
ملجتمع تم بناؤه عىل مدى قرون وآالف السنني .فعند انهيار النقد ،يصبح من املستحيل
التداول أو اإلنتاج أو االنخراط يف أي يشء عدا تأمني أساسيات الحياة الرضورية .وعند
انهيار هياكل اإلنتاج والتجارة التي طوَّرتها املجتمعات عرب قرون بسبب عدم قدرة
املستهلكني واملنتجني والعاملني عىل الدفع لبعضهم البعض ،تبدأ السلع التي تُعترب من
املُسلَّمات بالنسبة إىل البرش باالختفاء ،فيُد َّمر رأس املال ويُباع لتمويل االستهالك.
بالبداية ،تختفي السلع الكمالية ،ولكن رسعان ما تتبعها أساسيات البقاء حتى يعود
البرش إىل حالة بربرية يحتاجون فيها إىل تَدبُّر أمورهم والنضال لتأمني االحتياجات
األساسية للبقاء .عندها ومع تدهور نوعية حياة الفرد بصورة ملحوظة ،يبدأ اليأس
بالتحول إىل غضب ،ويُبحث عن أكباش فداء ،ويَستغل هذا الوضع أكثر السياسيني
مراوغة وانتهازاً ،مُأجِّ جني غضب الناس للوصول إىل السلطة .إن املثال األكثر وضوحا ً عىل
هذا هو تضخم جمهورية "فايمار" يف العرشينات ،حيث أن التضخم املفرط لم يُؤدي
76
النقد الحكومي
فقط إىل تدمري وانهيار أحد أكثر اقتصادات العالم تقدما ً وازدهارا ً فحسب ،بل عَ َّزز
وصول "أدولف هتلر" إىل السلطة.
وبالتزامن مع كتابة هذه السطور ،حان دور فنزويال لتمر بهذه املهزلة وتشهد
وَ يْالت الدمار الناتجة عن تدمري النقد ،ويجدر بنا اإلشارة أن هذه العملية حدثت 56مرة
منذ نهاية الحرب العاملية األوىل .ووفقا ً لبحث "ستيف هانكي" و"تشارلز بوشنل" اللذان
ُعرفان التضخم املفرط بأنه زيادة بنسبة %50يف مستوى السعر خالل فرتة شهر، ي ِّ
17
تَم َّكن هانكي وبوشنيل من التحقق من 57حادثة من التضخم املفرط يف التاريخ،
وقعت حادثة واحدة منها فقط قبل عرص القومية النقدية ،وكان ذلك التضخم يف فرنسا
عام ،1795عىل أعقاب فقاعة "املسيسيبي" والتي نتجت أيضا ً من خالل النقود
الحكوميةَ ،
وصمَّمها األب الفخري للنقود الحكومية الحديثة" ،جون لو".
فمشكلة النقد الذي تؤمنه الحكومة هي أن صعوبته تعتمد بشكل كيل عىل قدرة
أولئك املسؤولني عنه بعدم تضخيم عرضه ،وذلك ألن القيود السياسية وحدها هي التي
توفر هذه الصعوبة حاليا ً ،وال توجد أي قيود مادية ،أو اقتصادية أو طبيعية عىل حجم
النقود التي يمكن أن تنتجها الحكومة .فبينما تتطلَّب كل من املاشية ،والفضة ،والذهب
واألصداف البحرية جهدا ً حقيقا ً إلنتاجها ،بجانب أنه ال يمكن أبدا ً إنتاجها بكميات كبرية
برسعة وسهولة ،إال أن النقد الحكومي يحتاج أمرا ً من الحكومة فقط .وزيادة العرض
املستمرة تؤدي إىل انخفاض مستمر لقيمة العملة ،فيتم بذلك مصادرة ثروات املالكني
18ستيف هانكي وتشارلز بوشنيل" ،فنزويال تدخل سجل التاريخ :املدخل رقم 57يف جدول هانكي-كروس
جلدول التضخم املفرط العاملي"" ،دراسات يف االقتصاد التطبيقي" ،رقم ( 69ديسمرب .)2016
77
معيار البيتكوين
لصالح أولئك الذين يطبعون العملة ،ولصالح أولئك الذين يحصلون عليها باكراً 18.ولقد
أظهر التاريخ أن الحكومات ستستسلم حتما ً إلغراء تضخيم العرض النقدي ،سواء أكان
ذلك بسبب الرسقة أو بسبب "الطوارئ الوطنية" أو غزو املدارس االقتصادية التضخمية
ُوسعة ُسلطتهاللعقول ،فستجد الحكومة دائما سببا ً وطريقة لطباعة املزيد من النقود ،م ِّ
ومُقلِّصة ثروة مالكي العملة .إن هذا األمر ال يختلف عن منتجي النحاس الذين
يستخرجون املزيد منه استجابة للطلب النقدي عليه؛ فهو يكافئ منتجي السلعة النقدية،
لكنه يعاقب أولئك الذين يختارون حفظ مدخراتهم بالنحاس.
لهذا ،إذا أثبتت عملة ما وبشكل موثوق أنه من غري املمكن توسيع عرضها،
فستزداد قيمتها كثريا ً وبشكل فوري .ففي عام ،2003عندما غزت الواليات املتحدة
العراق ،دمر القصف الجوي البنك املركزي العراقي ودمر معه قدرة الحكومة العراقية
عىل طباعة دنانري عراقية جديدة .فأدى ذلك إىل ارتفاع قيمة الدينار بشكل كبري خالل
ليلة وضحاها ،حيث أصبح العراقيون أكثر ثقة يف العملة نظرا ً لعدم قدرة أي بنك مركزي
عىل طباعتها بعد اآلن 19.لقد حدثت قصة مشابهة للشلنات الصومالية بعد تدمري بنكها
خفض قيمته بقدر ما يُرغب فيهاملركزي 20.لهذا ،ال يُرغب بالنقد عندما يكون عرض ًة ألن ت ُ َّ
18يُطلق على هذا األمر "أتثري الكانتيلون" ،تيمناً ابالقتصادي االيرلندي -الفرنسي ريتشارد كانتيلون ،الذي
وضحه يف القرن الثامن عشر .وفقا لكانتيلون ،إن املستفيدين من التوسع يف العرض النقدي هم أول احلاصلني
على النقد اجلديد ،والذين يستطيعون إنفاقه قبل أن يتسبب ابرتفاع األسعار .فكل من يستلمه منهم يستطيع
إنفاقه مع زايدة صغرية يف مستوى السعر .ومع إنفاق أكثر للنقود ،يرتفع مستوى السعر ،إىل أن يعاين آخر
املستلمني من اخنفاض قوهتم الشرائية احلقيقية .هذا هو أفضل تفسري للسؤال القائل :ملاذا يؤذي التضخم أفقر
الناس ويساعد األغن ياء يف االقتصاد احلديث .إن أكثر من يستفيد من هذا هم الذين لديهم أفضل وصول إىل
ائتمان احلكومة ،وأكثر من يتضرر من هذا هم أصحاب الدخل الثابت واحلد األدىن من األجور.
" 19الدوالر أو الدينار؟" جملة "ميس ديلي" ،متوفر على الرابط https://mises.org/library/dollar-
or-dinar
21جي يب كونينغ" ،عملة يتيمة :قضية الشلنات الصومالية الغريبة ".متوفر
https://jpkoning.blogspot.ca/2013/03/orphaned-currency-odd-case-of-
somali.html?m=1
78
النقد الحكومي
و إليكم بعضا ً من األسباب التي قد تجعل النقد الحكومي هو النقد األسايس يف
عرصنا .أوالً ،تفرض الحكومات دفع الرضائب بالنقد الحكومي ،وهذا يعني ترجيح قبوله
من األفراد ،مما يعطيه ميز ًة يف قابلية بيعه .ثانياً ،إن رقابة الحكومة وتحكمها بالنظام
املرصيف تعني أنه ال يمكن للمصارف فتح الحسابات والقيام بالتبادالت إال بالنقد الذي
قره الحكومة ،مما يمنح النقد الحكومي درجة أعىل من قابلية البيع أكثر من أي منافس ت ُ ِّ
محتمل آخر .ثالثاً ،قوانني العملة الرسمية يف العديد من البلدان تجعل األمر غري قانوني
باستخدام أشكال أخرى من النقد للقيام باملدفوعات .رابعاً ،ال تزال جميع النقود
الحكومية مدعومة باحتياطيات الذهب ،أو مدعومة بعمالت مدعومة باالحتياطات
الذهبية .فوفقا ً للبيانات الصادرة عن مجمع الذهب العاملي ،تمتلك البنوك املركزية حاليا ً
حوايل 33ألف طن من الذهب يف مخزونها االحتياطي .حيث أن احتياطات الذهب لدى
البنوك املركزية ارتفعت بشكل رسيع يف أوائل القرن العرشين حيث صادرت العديد من
الحكومات ذهبَ شعبها ومصارفها وأجربتهم عىل استخدام نقودها .ويف أواخر
الستينيات ،ومع إنهاك نظام برايتون وودز الذي يرزح تحت ضغط زيادة العرض
بعض من احتياطاتها من الذهب .لكن يف عام ،2008 النقدي ،بدأت الحكومات يف إفراغ ٍ
انعكس هذا االتجاه وعادت البنوك املركزية لرشاء الذهب وازداد العرض العاملي .إنه ألمر
مثري للسخرية والدهشة أنه يف عرص النقود الحكومية ،تمتلك الحكومات نفسها كمية من
الذهب يف احتياطاتها الرسمية أكثر مما كانت تمتلكه تحت ظل املعيار الذهبي الدويل يف
الفرتة ما بني .1914-1871فمن الواضح أن الذهب لم يفقد دوره النقدي ،حيث أنه
سيبقى املطفأة األخرية والوحيدة للدَّين ،وهو النقد الوحيد الذي ال تقع قيمته تحت
مسؤولية أحد ،وهو األصل العاملي األسايس الذي ال يوجد به مخاطر تَخلُّف الطرف
املقابل ،لكن تم حظر الوصول إىل دوره النقدي بحيث اقترص ذلك عىل البنوك املركزية،
بينما تم توجيه الناس الستخدام النقود الحكومية.
79
معيار البيتكوين
غرينسبان ذات مرة" :البنوك املركزية عىل أهبة االستعداد لتأجري الذهب بكميات متزايدة
يف حال ارتفع السعر(21 ".انظر الشكل .)224
ومع تقدم التكنولوجيا التي سمحت بوجود أشكال متعددة من النقد أكثر
تعقيدًا من ضمنها النقود الورقية التي يسهل حملها ،تم اختالق مشكلة جديدة
بخصوص قابلية بيعها ،وهي قدرة البائع عىل بيع سلعته دون تدخل أي طرف ثالث قد
يضع قيودا ً عىل قابلية بيع هذا النقد .فهذه مشكلة لم تكن متواجدة يف النقود السلعية،
التي تنشأ قيمتها السوقية من السوق وال يمكن أن تفرضها أطراف ثالثة عىل املبادلة:
فاملاشية ،وامللح ،والذهب والفضة لكل منها أسواقها ومشرتييها الجاهزين ،ولكن مع
النقود التي تصدرها الحكومة والتي لديها قيمة متدنية كسلعة ،يمكن لقابلية البيع هذه
ً
معلنة أنها لم تعد مناسبة كعملة أن تتعرض لخطر كبري من قبل الحكومة التي تُصدرها،
قانونية .فعىل سبيل املثال ،يمكن للهنود الذين استيقظوا يف 8نوفمرب 2016أن يسمعوا
خربا ً مفاده أن حكومتهم قد استبعدت العملة الرسمية من فئة 500و 1000روبية،
وسيُدركوا هذا األمر جيداً .ففي طرفة عني ،خرست النقود التي كانت قابلة للبيع بشكل
كبري قيمتها ،وأصبح ال بُ َّد من الوقوف يف طوابري طويلة للغاية لدى املصارف الستبدالها.
ومع توجه نسبة كبرية من العالم نحو تقليل اعتمادها عىل النقد الورقي ،يتم وضع املزيد
من أموال الناس يف البنوك الخاضعة إلرشاف الحكومة ،مما يجعلها عرضة للمصادرة أو
التحكم برأس املال .وحقيقة أن هذه اإلجراءات تحدث عادةً يف أوقات األزمات االقتصادية
وعندما يكون الفرد يف أقىص حاجته للمال ،هي عائق رئييس لقابلية بيع النقود الصادرة
من الحكومة.
فسيطرة الحكومة عىل النقد حولته من كونه مكافأة إلنتاج قيمة إىل مكافأة
لطاعة املسؤولني الحكوميني .فمن غري العميل ألي شخص أن يجمع ثروة بالنقود
" 21تنظيم املشتقات خارج البورصة" .شهادة الرئيس آالن غرينسبان أمام جلنة اخلدمات املصرفية واملالية ،جملس
النواب األمريكي 24 ،يوليو .1998
23املصدر :جممع الذهب العاملي ،إحصائيات االحتياطات .متاح على:
https://www.gold.org/data/goldreserve
80
النقد الحكومي
الحكومية دون موافقة هذه الحكومة ،ألنه بإمكان الحكومة مصادرة هذه األموال من
املصارف االحتكارية التي تسيطر عليها ،وذلك عرب تضخيم العملة لتخفيض قيمة ثروة
املالكني وملكافأة رعاياها األكثر وال ًء ،ولفرض رضائب قاسية وملعاقبة أولئك الذين
يتجنبونها ،وحتى ملصادرة األوراق النقدية.
ففي زمن عالِم االقتصاد النمساوي "مينجر" ،كانت املعايري التي تُح ِّدد أفضل
شكل للنقد تدور حول فهم قابلية بيعه ،وعىل ما يختاره السوق كنقد .أما يف القرن
معيار مه ٍم جديد يُضاف إىل
ٍ العرشين ،فقد قامت سيطرة الحكومة عىل النقد بإضافة
قابلية بيعه ،وهو قابلية بيع النقد بناء عىل رغبة مالكيه وليس أي طرف آخر .و ِبجمع
كامل ملصطلح "النقد السليم" كالنقد الذيٍ هذَين املعيا َرين سويا ً فإنه سيتم تشكيل فه ٍم
يتم اختياره بالسوق بحريِّة ،وكالنقد الذي يقع بشكل كامل تحت سيطرة الشخص الذي
اكتسبه بشكل قانوني يف السوق الحرة ،وليس أي طرف آخر ثالث.
وعىل الرغم من أن "لودفيج فون ميزس" كان مدافعا ً صلبا ً عن دور الذهب
كنقد يف عرصه ،إال أن ميزس أدرك أن هذا الدور النقدي ليس شيئا ً متأصالً أو جوهريا ً
للذهب .فباعتباره واحدا ً من عمداء التقاليد النمساوية يف االقتصاد ،أدرك ميزس جيدا ً أنه
ال وجود للقيمة خارج الوعي البرشي ،وأن املعادن واملواد ال تملك أي يشء متأصل فيها
يمكنه أن يعطيها دورا ً نقدياً .فبالنسبة إىل ميزس ،إن مكانة الذهب النقدية كانت تعتمد
عىل تحقيق املعايري الخاصة بالنقد السليم كما فهمها:
مبدأ النقد السليم له جانبني؛ جانب إيجابي يف املصادقة عىل اختيار السوق
لوسيط تبادل شائع االستخدام ،وجانب سلبي يف عرقلة نزعة الحكومة بالتدخل
23
يف نظام العمالت.
فوفقا ً مليزس ،النقد السليم هو ما يختاره السوق بحرية ليكون نقداً ،وهو ما
يبقى تحت سيطرة مالكه ،ويف مأمن عن التدخل القرسي .فطاملا أن النقد يقع تحت
23نظرية النقود واالئتمان ،الطبعة الثانية (لودويغ فون ميزس إيرفنغتون على موقع هدسون ،نيويورك :مؤسسة
التعليم االقتصادي ،)1971 ،صفحات من 414إىل .416
81
معيار البيتكوين
سيطرة أي أحد باستثناء املالك ،أيا كان من يسيطر عليه ،فإنه سيواجه حافزا ً قويا ً للغاية
لرسقة قيمة هذا النقد من خالل التضخم أو املصادرة ،والستخدامه أيضا ً كأداة لتحقيق
أهداف سياسية عىل حساب املالكني .ويف الواقع ،هذا األمر سيسلب الثروة من الناس
الذين ينتجونها وسيعطيها إىل األشخاص املتخصصني يف السيطرة عىل النقود دون أن
ينتجوا أشياء ذات قيمة للمجتمع ،تماما كما تمكن التجار األوروبيني من رسقة املجتمع
األفريقي عن طريق إغراقهم بالخرز الرخيص ،كما تم ذكره يف الفصل الثاني .وبهذا ،ال
يمكن ألي مجتمع أن يزدهر طاملا بقي هذا الطريق مفتوحا ً للكسب الرسيع عىل حساب
إفقار أولئك الذين يسعون للحصول عىل الثروات عرب الطرق اإلنتاجية .من ناحية أخرى،
إن النقد السليم يجعل الخدمات قيِّمة بالنسبة لآلخرين وهو الطريق الوحيد املتاح
الزدهار أي شخص ،وبهذا يتم تركيز جهود املجتمع عىل اإلنتاج ،والتعاون ،وجمع رأس
املال والتجارة.
والقرن العرشين هو قرن النقد غري السليم وقرن الدولة ذات السلطة املطلقة،
حيث تم رفض خيار السوق من النقد باإلمالءات الحكومية ،وتم فرض النقود الورقية
الحكومية بتهديد العنف .ومع مرور الوقت ،ابتعدت الحكومات عن النقد السليم أكثر من
أي وقت مىض وذلك بالتزامن مع زيادة إنفاقها وعجزها ،وتخفيض قيمة عمالتها
باستمرار ،فتم السيطرة عىل أكرب حصة من الدخل القومي من قِ بَل الحكومة .ومع زيادة
تدخل الحكومة يف جميع جوانب الحياة ،فقد سيطرت بشكل متزايد عىل النظام التعليمي
واستخدمته لختم عقول الناس بالفكرة الخيالية التي مفادها أن قواعد االقتصاد ال
تنطبق عىل الحكومات ،وبأنه كلما أنفقت الحكومات أكثر ،ازداد االزدهار .إن أعمال
فاقدي العقل بالنقد مثل أعمال جون ماينارد كينز ،يتم تدريسها اآلن يف الجامعات
الحديثة والتي تقول أن اإلنفاق الحكومي ينجم عنه فوائد فقط ،وليس له أي تكاليف.
ففي نهاية املطاف ،تستطيع الحكومة دائما ً طباعة املزيد من النقود ،ولن تواجه أي قيود
حقيقية عىل إنفاقها ،ويمكنها بالتايل استخدام هذه النقود ألي هدف يضعه لها
الناخبون.
82
النقد الحكومي
النقدي هبة من السماء .ولكن بالنسبة ألولئك الذين يُقدِّرون حرية اإلنسان ،والسالم
طا خصوصا ً مع تراجع احتماالت اإلصالح والتعاون بني البرش ،كان ذلك وقتًا محب ً
االقتصادي كلما مر الوقت ،وأن احتماالت عودة العملية السياسية إىل عالم نقدي سليم
أصبحت حلما ً خياليا ً يتزايد يوما ً بعد يوم .كما وضح "فريدريك هايك":
ال أعتقد أننا سنحصل عىل أموال جيدة من جديد قبل أن نستعيد زمام األمور
من أيدي الحكومة ،أي أننا ال نستطيع الحصول عىل ما نريد من الحكومة
باستخدام العنف ،لذلك كل ما يمكننا القيام به هو العمل وفق بعض الطرق
24
امللتوية ،بتقديم يشء يتعذر عليهم إيقافه.
مُتحدِّثا ً عام 1984مع جهل تام للشكل الحقيقي لهذا "اليشء الذي ال
يستطيعون إيقافه" ،تبدو بصرية فريدريك هايك مذهل ًة حتى يومنا هذا ،حيث أنه وبعد
مرور ثالثني عاما ً من نطقه بهذه الكلمات ،وبعد قرن كامل من تدمري الحكومات آلخر
بقايا النقد السليم الذي كان هو املعيار الذهبي ،أصبح لدى األفراد يف جميع أنحاء العالم
فرصة لالدخار والتبادل بوساطة شكل جديد من النقد تم اختياره بحرية يف السوق،
ويقع خارج السيطرة الحكومية .ففي بداية ظهوره ،يبدو أن البيتكوين قد استوىف
بالفعل جميع متطلبات مينجر ،وميزس وهايك :فهو خيار قابل للبيع بشكل كبري يف
السوق الحرة ومقاوم للتدخل الحكومي.
25مت استخراجه من مقابلة فيديو أُجريت عام 1984مع جيمس يو بالنشارد يف جامعة فرايبورغ.
83
84
الفصل الخامس
يتم اختيار النقد السليم بشكل حر يف السوق لقابلية بيعه ،حيث أنه يحتفظ بقيمته عرب
الزمن ،ويستطيع نقل القيمة بفعالية عرب األماكن ،ويمكن تقسيمه وجمعه يف أحجا ٍم
كبرية وصغرية ،كما أنه نقد ال يمكن التالعب بعرضه من قِ بل سلطة مُستبدة تَفرض
استخدامه عىل اآلخرين .حَ ْسبَ التحليل السابق ،و َح ْسبَ فهمنا لالقتصاد النقدي الذي
َقدَّمه لنا االقتصاد النمساوي ،يُمكن توضيح أهمية النقد السليم بثالثة أسباب أساسية:
أوالً ،إنه يحتفظ بقيمته مع مرور الزمن ،مما يمنح الناس حافزا ً أكرب ليفكروا يف
مستقبلهم ،كما أنه يُقلل من تفضيلهم الزمني .وتقليل التفضيل الزمني هو بداية
الحضارة البرشية وما يمنح سبل التعاون بني البرش ،واالزدهار والعيش بسالم .ثانياً،
النقد السليم يسمح للتجارة بأن تصبح مُستنِد ًة عىل وحدة قياس مستقرة ،مما يُسهِّ ل من
وجود أسواق كبرية مُتح ِّررة من سيطرة وقهر الحكومات ،وحيثما حَ لَّت التجارة الحرة،
حَ َّل السالم واالزدهار .يُمكن اإلضافة أن وحدة الحساب هي أمر رضوري لكل أشكال
الحسابات والتخطيطات االقتصادية ،والنقد غري السليم يجعل هذه الحسابات االقتصادية
غري موثوقة ،كما أنه السبب الرئييس للركود واألزمات االقتصادية .ثالثا ً وأخرياً ،النقد
السليم هو مُتطلَّب أسايس للحرية الفردية يف وجه القمع واالستبداد ،وذلك ألن قدرة
سلطة مفرطة عىل رعاياها ،سلطة ستجذب ً السلطات املستبدة عىل إنشاء النقد قد يمنحها
بشكل طبيعي أولئك األقل جدارة وعديمي األخالق ليستلموا زمام أمورها.
85
معيار البيتكوين
أن البرش ال يُخ ّلدون إىل األبد ،وقد يوافينا املوت يف أية لحظة ،مما يجعل املستقبل غامضا ً
وغري مؤكد .وبما أن االستهالك من متطلبات النجاة ،فالناس دائما ً تُقدِّر االستهالك الحايل
بالزمن الحارض بشكل أكرب منه من االستهالك املستقبيل ،وذلك ألن نقص االستهالك
الحايل قد يمنعنا من الوصول إىل املستقبل .وبمعنى آخر ،إن التفضيل الزمني إيجابي
لكل البرش ،وهناك حس ٌم دائما ً عىل املستقبل مقارنة بالحارض.
إضافة إىل ذلك ،وبما أنه يمكننا إنتاج املزيد من السلع بتخصيص املزيد من
ُفضل األفراد العقالنيون دائما ً أن يمتلكوا كمية مُ حدَّدة من املوارد يف
الوقت واملوارد ،فسي ِّ
وقتهم الحايل مقارنة باملستقبل ،حيث أنه بإمكانهم استخدامها إلنتاج املزيد .ولكي يَقب َل
الفرد بتأجيل اكتسابه لسلعة ما ملدة عام واحد ،يتوجب عرض كمية أكرب من هذه السلعة
عليه ،فالزيادة الرضورية إلغراء هذا الفرد بتأجيل اكتسابه للسلعة هو ما يُحدد تفضيله
الزمني .فكل األفراد العقالنيون لديهم قيمة للتفضيل الزمني ،لكن هذا التفضيل الزمني
يختلف تبعا ً الختالف األفراد.
والتفضيل الزمني للحيوانات أعىل بكثري منه لدى البرش ،حيث أنها تترصف
إلرضاء دوافعها الغريزية اآلنية كما أن إدراكها للمستقبل ضئيل .ولكن تستطيع بعض
الحيوانات بناء أعشاش أو بيوت قابلة للبقاء والصمود يف املستقبل بحيث أن التفضيل
الزمني لهذه الحيوانات يكون أقل منه لدى تلك الحيوانات التي تترصف إلرضاء
احتياجاتها اآلنية مثل الجوع والعدائية .بينما يسمح التفضيل الزمني املنخفض للبرش
بكبح الدوافع الغريزية والحيوانية ،والتفكري بما هو أفضل للمستقبل ،والترصف
بعقالنية بدال ً من االندفاعية .فبدال ً من أن نميض كامل وقتنا يف إنتاج سلع لالستهالك
الفوري ،يمكننا انتهاز هذا الوقت يف العمل عىل إنتاج سلع تستغرق وقتا ً أطول لتكتمل يف
حال كانت هذا السلع أكثر جودة .فعندما يُقلِّل البرش من تفضيلهم الزمني ،فإنهم
يخلقون فرصا ً لتوسيع نطاق عملهم وذلك إلجراء مهمات تستغرق وقتا ً أطول إلرضاء
لصنع سلع ليست لالستهالك احتياجات أكثر بُعداً ،ويطورون أيضا ً من قدراتهم العقلية ُ
الفوري بل إلنتاج سلع مستقبلية .بمعنى آخر ،إنشاء سلع رأسمالية.
ففي حني يستطيع البرش والحيوانات القيام بعملية الصيد ،فقد تَميَّز البرش عن
86
النقد والتفضيل الزمني
الحيوانات بقضاء الوقت يف تطوير أدوات لهذه العملية .وقد تَستخدم الحيوانات أحيانا ً
أداة لصيد حيوان آخر ،لكن ليس لهذه الحيوانات القدرة عىل امتالك هذه األدوات
رب التفضيل الزمني املنخفض يمكن والحفاظ عليها لالستخدام طويل األمد .وفقط عَ ْ َ
بعض من الوقت ليخصصه يف صنع رمح أو صنارة صيد غري لإلنسان أن يقرر اقتصار ٍ
قابلة لألكل ،لكن هذه الصنارة باملقابل ستسمح له بالصيد بفعالية أكرب ،وهذا هو جوهر
االستثمار :فعندما يؤجل البرش متعتهم اآلنية ،فإنهم يستثمرون أوقاتهم ومواردهم يف
إنتاج سلع رأسمالية ستجعل اإلنتاج أكثر تعقيدا ً وأكثر تطورا ً عىل الصعيد التقني،
وستجعله مُمت َّدا ً عىل آفاق زمنية أطول .فالدافع الوحيد وراء اختيار أي شخص تأجيل
بإنتاج ما خالل مدة زمنية أطول ،هو أن هذه العمليات
ٍ إشباع رغباته ليجازف باملشاركة
األطول قد تُولِّد له ناتجا ً أكثر وسلعا أكثر جودة .بمعنى آخر ،االستثمار يزيد من إنتاجية
ً
املنتجني.
ويرشح عا ِلم االقتصاد "هانز هرمان هوبه" أنه عندما ينخفض التفضيل
الزمني لدرجة كافية تسمح بتشكيل أية مدخرات أو أية سلع استهالكية أو معمرة أو
إنتاجية ،فعندها تكون قد بدأت النزعة لتخفيض التفضيل الزمني وبشكل أكرب من
1 السابق بما يُعرف ب ِـ "عملية التَ ُّ
حرض".
فالصياد الذي يصنع صنارة صيد ،يستطيع اصطياد أسماك أكثر من الصياد
الذي يصطاد بيديه العاريتني يف املدة نفسها ،لكن الطريقة الوحيدة لصنع هذه الصنارة
هي بتخصيص مدة زمنية أولية للعمل ال "تُنتج" أسماكا ً فيها ،بل تنتج صنارة صيد.
وبالطبع ،إ َّن هذه عملية غري موثوقة ألنه من املمكن أن ال تلبي الصنارة الغاية املرجوة
منها ،وبهذا يكون الصياد قد أضاع وقته هبا ًء .لذلك ،ال يتطلب االستثمار تأخري املتعة
فحسب ،بل يحمل معه دائما ً احتمال الفشل ،ولهذا لن يُبارش املرء باستثماره إال إذا كان
هناك توقعات باملكافأة والربح .وكلما كان التفضيل الزمني أقل لدى الفرد ،ازداد احتمال
دخوله يف االستثمارات وجمع رأس املال ،وعىل الجهة األخرى ازداد تأخريه للمتعة .وكلما
ازداد رأس املال املرتاكم ،ازدادت إنتاجية العمل ،وامت َّد األفق الزمني لإلنتاج.
87
معيار البيتكوين
لِفهم الفرق بشكل أوضح ،سنقارن بني شخصني افرتاضيني لم يمتلكا يف
البداية إال أيديهما العارية ،وتفضيال ً زمنيا ً مختلفاً :فلدى "هاري" تفضيل زمني أعىل من
"ليندا" ،ولذلك سيختار هاري أن يميض وقته فقط يف صيد األسماك بيديه ،مستغرقا ً
حوايل ثماني ساعات يوميا ً الصطياد سمك يكفيه قوت يومه .باملقابل ،ليندا والتي لديها
بنصيب أقل من
ٍ ً
مكتفية تفضيل زمني أقل ،تميض ست ساعات فقط يف صيد السمك،
تبقيتني يف العمل عىل صناعة صنارة صيد .بعد مرور السمك يومياً ،وتميض الساعتني املُ ِّ
أسبوع ،نجحت ليندا يف صناعة صنارة صيد جيدة ،ويف األسبوع التايل أصبح بإمكانها
اصطياد ضعف كمية السمك التي يصطادها هاري خالل ثماني ساعات .فاستثمار ليندا
يف صنارة الصيد أعطاها إمكانية العمل ألربع ساعات يف اليوم فقط وتَنَاول نفس كمية
السمك التي يتناولها هاري ،لكن وألن لديها تفضيال ً زمنيا ً أقل ،فلن تكتفي بإنجازها ،بل
ستميض أربع ساعات يف اصطياد نفس الكمية التي يصطادها هاري خالل ثماني
ساعات ،ثم ستميض أربع ساعات أخرى يف جمع رأس مال أكثر ،كأن تبني لنفسها قارب
صيد عىل سبيل املثال .بعد شهر ،أصبح لدى ليندا صنارة صيد وقارب تتمكن بهما
بالتعمق يف البحار ،لتصطاد سمكا ً لم يره هاري من قبل .فلم تعد إنتاجية ليندا أكثر
قياسا ً بالزمن فحسب ،بل أصبح صيدها مختلفا ً وأفضل من سمك هاري ،وأصبحت
كرس وقتها املتبقي يف جمع تحتاج اآلن ساعة من الصيد فقط لتؤمِّ ن بها قوت يومها ،وتُ ِّ
صنع صنارات صيد أفضل وأكرب ،وشباكا ً وقوارب ،مما سيؤدي بدوره رأس مال أكثرَ ،ك ُ
إىل ارتفاع إنتاجيتها وتحسني مستوى معيشتها.
88
النقد والتفضيل الزمني
الزمني املنخفض رأس املال الذي قدموه لعملية البناء هذه قبل عرشات السنني .فعملية
"إنتاج" السمك بالنسبة لساللة ليندا أصبحت طويلة ومعقدة لدرجة أنها باتت تستغرق
عقودا ً إلتمامها ،يف حني أنه لم تزل ساللة هاري تُنهي عمليتها ببضع ساعات كل يوم.
والفرق بالطبع هو أن إنتاجية ساللة ليندا هي أكثر بكثري من إنتاجية ساللة هاري ،وهذا
ما يجعل العمل بهذه العمليات الطويلة أمرا ً جديرا ً بالعناء.
إن أحد الرباهني املهمة عىل أهمية التفضيل الزمني يأتي من تجربة
"املارشميلو" الشهرية يف "ستانفورد" 2والتي أُجريت يف أواخر الستينات .فالعا ِلم النفيس
"والرت ميشل" ترك أطفاال ً يف غرفة مع قطعة مارشميلو أو بسكويت ،وقال لهؤالء األطفال
أنهم يستطيعون تناولها إذا أرادوا ،علما ً بأنه سيعود لهم بعد ميض 15دقيقة ،ويف حال
عدم تناول األطفال لتلك الحلوى ،فسيعطيهم قطعة ثانية كمكافأة .بمعنى آخر ،كان
لألطفال حرية االختيار بني املتعة الفورية بتناول قطعة حلوى ،وبني تأجيل املتعة
والحصول عىل قطعتي حلوى .وتُع ُّد هذه طريقة بسيطة الختبار التفضيل الزمني لدى
األطفال :فالطالب أصحاب التفضيل الزمني املنخفض كانوا أولئك الطالب الذين
استطاعوا االنتظار من أجل قطعة الحلوى الثانية ،يف حني الطالب ذوي التفضيل الزمني
األعىل لم يستطيعوا االنتظار .لقد تابع ميشل تجربته مع األطفال بعد عقود من الزمن
ووجد عالقة مهمة بني التفضيل الزمني املنخفض كما تم قياسه يف اختبار املارشميلو
وبني اإلنجازات األكاديمية الجيدة ،والدرجات املرتفعة يف اختبار ،SATومؤرش كتلة
الجسم ) (BMIاملنخفض ،وغياب اإلدمان عىل املخدرات.
وبصفتي أستاذ يف علم االقتصاد ،أَحرص دائما ً عىل تدريس تجربة املارشميلو
هذه يف كل مادة أُعلِّمها ،حيث أنني أعتقد أن هذا هو الدرس األكثر أهمية الذي يُعلِّمه
االقتصاد لألفراد ،ويدهشني أن املناهج الدراسية االقتصادية الجامعية تجاهلت هذا
الدرس بالكامل تقريباً ،لدرجةٍ أصبح فيها الكثري من االقتصاديني األكاديميني ال يدركون
مفهوم التفضيل الزمني عىل اإلطالق وال يدركون مدى أهميته.
2والرت ميشل ،إب يب .إبسن ،وأنتوانيت راسكوف زايس" ،آليات املعرفة واالنتباه يف أتجيل املتعة" ،جملة
الشخصية وعلم النفس االجتماعي ،اجمللد ،21رقم .218-204 )1972( 2
89
معيار البيتكوين
ففي حني ركز االقتصاد الجزئي عىل املبادالت بني األفراد ،وركز االقتصاد الكيل
ً
أهمية للفرد هي عىل دور الحكومة يف االقتصاد ،يف الحقيقة إن أكثر القرارات االقتصادية
تلك التي يجريها الفرد يف مبادالته مع نفسه املستقبلية .فاملرء يجري يوميا ً بعض
املبادالت االقتصادية مع اآلخرين ،لكنه يشارك يف عدد أكرب من املبادالت مع نفسه
املستقبلية ،وال نهاية ألمثلة هذه املبادالت :كأن تقرر ادخار املال بدال ً من إنفاقه؛ أو أن
تقرر االستثمار يف اكتساب املهارات للحصول عىل وظيفة مستقبالً بدال ً من البحث عن
وظيفة آنية بأجر زهيد؛ أو أن تشرتي سيارة عملية وبسعر مقبول بدال ً من أن تقرتض
لتشرتي سيارة باهظة الثمن؛ أو أن تعمل وقتا ً إضافيا ً بدال ً من الذهاب إىل حفلة مع
فضل استخدامه يف الحصة الدراسية :أن تُقرر دراسة املواد األصدقاء؛ أو املثال الذي أ ُ ِّ
التعليمية للمساق كل أسبوع يف الفصل بدال ً من أن ترتكها إىل الليلة السابقة لالمتحان
النهائي.
ففي كل واحدة من تلك األمثلة ،ال يوجد شخص يفرض هذه القرارات عىل
الفرد ،واملستفيد أو الخارس الرئييس من عواقب هذه الخيارات هو الفرد نفسه ،والعامل
األسايس الذي يحدد خيارات املرء يف حياته هو تفضيله الزمني .ويف حني يختلف التفضيل
الزمني وضبط النفس عند األفراد من موقف آلخر ،إال أنه يمكن بشكل عام إيجاد صلة
وثيقة بني كل نواحي اتخاذ قراراتهم .فالحقيقة املؤملة التي يجب أن نتذكرها هي أن
مبادالت املرء مع نفسه املستقبلية ستحدد بشكل كبري حصته يف هذه الحياة ،ومهما أراد
املرء أن يلوم اآلخرين عىل فشله ،أو أن ينسب نجاحه لآلخرين ،فالغالب أن املبادالت غري
النهائية التي أجراها مع نفسه هي أكثر أهمية من أية ظروف أو أية أحوال خارجية.
لهذا ،مهما بلغت الظروف التي تآمرت عىل املرء ذي التفضيل الزمني املنخفض ،فإنه
ً
أولوية إىل أن يحقق أهدافه ،ومهما غالبا ً سيجد طريقة يعطي فيها نفسه املستقبلية
ظ املر َء ذا التفضيل الزمني املرتفع ،فإنه سيجد طريقة ليستمر بالتحايل ساعد الح ُّ
وخداع نفسه املستقبلية .لهذا ،هناك تناقض صارخ بني القصص الكثرية لألفراد الذين
نجحوا رغم كل االحتماالت والظروف غري املواتية لهم وبني قصص الناس ذوي املهارات
واملواهب التي كافأتهم هذه املواهب بشكل رائع ،ومع ذلك قاموا بإهدارها ولم يحققوا
شيئا ً ثابتا ً ألنفسهم .فالعديد من الرياضيني والفنانني املحرتفني ،أكسبتهم مواهبهم مبالغ
90
النقد والتفضيل الزمني
كبرية من املال ،ولكنهم ماتوا مفلسني بسبب سيطرة التفضيل الزمني املرتفع عليهم.
باملقابل ،هناك العديد من األفراد العاديني الذين ال يمتلكون أية مواهب مميزة عملوا بجد
وادخروا واستثمروا مدى الحياة وحققوا أمانا ً مالياًَّ ،
وورثوا أبناءهم حياة أفضل من التي
وَ ِرث ُوها هم.
ففقط عن طريق التفضيل الزمني املنخفض يمكن للمرء أن يبدأ بتقدير أهمية
االستثمارات طويلة املدى ويبدأ بإعطاء األولوية للنتائج التي يمكن أن يجنيها مستقبالً.
ُورث فيه األفراد أبناءهم أكثر مما أخذوا هم من والديهم هو مجتمع فاملجتمع الذي ي ِّ
متحرض :إنه مكان تتحسن فيه الحياة ،ويعيش الناس فيه بهدف تحسني حياة الجيل
القادم .ومع استمرار ارتفاع مستويات رأس املال يف املجتمع ،تزيد اإلنتاجية وترتفع معها
جودة الحياة .ومع تأمني االحتياجات األساسية وتفادي مخاطر الطبيعة ،يُحوِّل األفراد
نواح أخرى يف الحياة أعمق من تلك املتعلقة بالرفاهية املادية ومَ َّ
شقة العمل، انتباههم إىل ٍ
فيُنشئون العائالت والروابط االجتماعية؛ ويعملون عىل مشاريع ثقافية ،وفنية وأدبية؛
وسيحاولون تقديم مساهمات راسخة ملجتمعاتهم وللعالم .فالحضارة ال تتعلق بجمع
رأس املال تحديداً ،بل بما يستطيع البرش إنجازه برأس املال هذا من االزدهار والحرية يف
البحث عن معنى أسمى يف الحياة ،وذلك بعد تأمني احتياجاتهم األساسية وتجنب املخاطر
املحدقة بهم.
وهناك العديد من العوامل التي تلعب دورا ً يف تحديد التفضيل الزمني لدى
األفراد 3،ويمكن القول إ َّن أ َ ْم َن األفراد وممتلكاتهم هو واحد من أهم هذه العوامل.
فاألفراد الذين يعيشون يف مناطق يَ ْكثُر فيها الرصاع والجريمة يرتفع احتمال موتهم،
وبالتايل يرتفع احتمال قيامهم بحسم عىل مستقبلهم ،مما يؤدي إىل ارتفاع التفضيل
الزمني لديهم أكثر من أولئك الذين يعيشون يف املجتمعات املساملة .لذلك ،إن تأمني املُلكية
ُُ 3يال القارئ إىل الفصل األول من كتاب هوبة ،الدميقراطية :اإلله الذي أخفق لقراءة دراسة ممتازة عن تلك
العوامل .ميكن إجياد مناقشات أساسية وتقنية أكثر يف الفصل السادس من كتاب موراي روثبورد ،االنسان
واالقتصاد والدولة يف الفصل الثامن عشر والفصل التاسع عشر من كتاب ميزس الفعل البشري ،وكتاب يوجني
فون بوم-ابفرك رأس املال والفائدة.
91
معيار البيتكوين
هو عامل رئييس آخر يُؤثِّر عىل التفضيل الزمني لدى األفراد :فاملجتمعات التي يُحتَمل
فيها أن تَنتزع الحكومة أو اللصوص ممتلكات األفراد وفقا ً لنزواتهم سيكون ألفرادها
ٍ
ترصفات كهذه ستدفع األفراد لزيادة أولوية إنفاق مواردهم تفضيل زمني أعىل ،حيث أن
عىل املُتع اآلنية بدال ً من استثمارها يف ملكية قد تُنتَزع منهم يف أية لحظة .ومعدالت
الرضيبة تؤثر أيضا ً سلبا ً عىل التفضيل الزمني :فكلما ارتفع معدل الرضيبةَ ،ق َّل الدخل
الذي يُسمح لألفراد االحتفاظ به؛ وهذا سيدفع األفراد للعمل لوقت أقل ولالدخار بشكل
أقل ملستقبلهم ،وذلك ألن عبء الرضائب سيُقلل غالبا ً من املدخرات أكثر مما سيُقللها
االستهالك ،خصوصا ً بالنسبة ألولئك أصحاب الدخل املنخفض الذي يتم إنفاق الجزء
األكرب منه لتأمني رضورات الحياة األساسية.
لكن العامل املؤثر عىل التفضيل الزمني األكثر اتصاال ً بموضوعنا ،هو القيمة
املتوقعة للنقد مستقبالً .ففي األسواق الحرة التي يختار فيها األفراد نقدهم بحرية،
ستختار هذه األفراد شكل النقد الذي بالغالب سيحافظ عىل قيمته مع مرور الزمن .وكلما
كان النقد أكث َر ُقدر ًة عىل االحتفاظ بقيمته ،حَ َف َّز الناس بشكل أكرب عىل تأجيل االستهالك
وتخصيص املوارد لإلنتاج يف املستقبل ،مما يؤدي إىل تراكم رأس املال وتحسني معايري
الحياة ،باإلضافة إىل خلق تفضيل زمني منخفض لدى األفراد يف مجاالت أخرى غري
اقتصادية من حياتهم .وعندما يكون اتخاذ القرار االقتصادي مُوجها ً نحو املستقبل ،فمن
الطبيعي أن تكون كل القرارات األخرى موجهة نحو املستقبل أيضاً ،فيصبح الناس
عندها مُساملني ومتعاونني أكثر ،مُوقنني أن التعاون هو اسرتاتيجية طويلة األمد أكثر
فائدة ونفعا ً من أية فائدة قصرية األمد قد تعود عليهم بفعل الرصاعات .بذلك ،يُطوِّر
ُفضلني الخيارات األخالقية التي ستؤدي إىل نتائج طويلة الناس حِ َّسا ً أخالقيا ً عالياً ،م ِّ
األمد أفضل لهم وألوالدهم .فالشخص الذي يفكر عىل املدى البعيد لديه احتمال ضعيف
بأن يغش أو يكذب أو يرسق ،حيث أن نتيجة تلك الترصفات قد تكون إيجابية عىل املدى
القصري ،لكنها ستكون سلبية مُدمِّ رة عىل املدى البعيد.
إن انخفاض القيمة الرشائية للنقد مشاب ٌه لعملية فرض نوع من الرضائب أو
املصادرة ،بحيث يتم خفض القيمة الحقيقية لعملة الفرد ولو بقيت القيمة الظاهرية
ثابتة .ففي االقتصاد الحديث ،ترتبط النقود التي تصدرها الحكومة ارتباطا ً وثيقا ً
92
النقد والتفضيل الزمني
صنعي (زائف) ،وهذا هدف مرغوب لعلماء بمعدالت فائدة أكثر انخفاضا ً ولكن بشكل ُ
االقتصاد الحديث ألنه يشجع عىل االقرتاض واالستثمار ،لكن نتيجة هذا التالعب يف قيمة
صنعي للمدخرين واملستثمرين ،إضاف ًة رأس املال ستُقلل من معدالت الفائدة بشكل ُ
ألولئك الذين يَدفع لهم املقرتضون .والنتيجة الطبيعية لهذه العملية هي تقليص املدخرات
وزيادة االقرتاض .عىل الهامش ،سيقوم األفراد أيضا ً باستهالك كمية أكرب من دخلهم
وسيقرتضون املزيد ملستقبلهم ،وهذا األمر لن يؤثر عىل تفضيلهم الزمني من ناحية
قراراتهم املالية فحسب ،بل عىل األغلب سينعكس عىل كل نواحي حياتهم.
فاالنتقال من النقد الذي يرتفع أو يحتفظ بقيمته إىل النقد الذي يخرس قيمته
هو أمر مهم جدا ً عىل املدى الطويل :فعندما يقل ادخار املجتمع ،فإنه سيجمع رأس مال
أقل ومن املحتمل أن يبدأ باستهالك رأس ماله؛ وستبقى إنتاجية العمال ثابتة أو
ستنخفض ،مما يؤدي إىل ركود يف األجور الحقيقية حتى وإن ُرفعت األجور الظاهرية
بالقوة السحرية لطباعة املزيد من النقد الورقي املرتاجع يف قيمته .وعندما يزداد إنفاق
الناس ويقل ادخارهم ،فإنهم يصبحون أكثر تركيزا ً عىل الحارض يف كل قراراتهم ،مما
فشل باألخالق وارتفاع احتمال الدخول يف الرصاعات والترصفات املدمرة للذات.
يؤدي إىل ٍ
يساعد هذا يف تفسري سبب ازدهار الحضارات تحت نظام نقدي سليم ،وسبب
تفككها عندما تنخفض قيمة نظامها النقدي ،تماما ً كما كان عليه الحال مع الرومان،
والبيزنطيني ،واملجتمعات األوروبية الحديثة .فالتباين بني القرن التاسع عرش والقرن
العرشين يمكن فهمه يف سياق االبتعاد عن النقد السليم وكل ما يرافقه عادة من مشاكل.
التضخم النقدي
إن الحقيقة البسيطة الواضحة عرب التاريخ هي أن أي شخص يجد طريقة لصنع
الوسائط النقدية فإنه سيحاول فعل ذلك ،فاإلغراء يف فعل هذا األمر قوي جدا ً .لكن يجب
اإلضافة بأن عملية صنع وسيط نقدي ال تُعتَرب نشاطا ً مُنتِجا ً للمجتمع حيث أن أي عرض
ُعترب عرضا ً كافيا ً لكي يعمل االقتصاد مهما بلغ حجمه .وكلما حَ َّد هذا الوسيط
نقدي ي َ
النقدي من الرغبة يف صنعه ،أصبح هذا األمر أفضل له كوسيط للتبادل وكمخزون مستقر
93
معيار البيتكوين
للقيمة .وعىل عكس كل السلع األخرى ،فإن وظائف النقد كوسيط للتبادل ،وكمخزون
للقيمة وكوحدة للحساب ،ال عالقة لها بكميته ،فاملهم بالنسبة للنقد هو قوته الرشائية،
عترب كمية كافية لتُ ِّ
حقق فيها الوظائف النقدية وليس كميته .لذلك إن أية كمية من النقد ت ُ َ
طاملا كانت قابلة للقسمة وطاملا يمكن وضعها يف مجموعات بكميات كافية بحيث يقتنع
بها املالكون لتلبية مبادالتهم التجارية واحتياجاتهم التخزينية .فيُمكن ألي عرض نقدي
مهما كان حجمه دعم أية كمية من التحويالت االقتصادية إذا كانت هذه الوحدات النقدية
قابلة للقسمة بشكل كاف.
والنقد املثايل نظريا ً هو ذلك النقد الذي سيكون عرضه ثابتاً ،أي أن ال أحد
يستطيع إنتاج املزيد منه ،والطريقة الوحيدة غري اإلجرامية للحصول عىل نقد يف مجتمع
كهذا ستكون عن طريق إنتاج يشء ذي قيمة بالنسبة إىل اآلخرين ثم القيام بتبادله معهم
لقاء ذلك النقد .وبما أن الجميع يرغب يف الحصول عىل املزيد من النقد ،فإن الجميع
سيعمل أكثر وسينتج أكثر ،مما سيؤدي إىل تحسني الرفاهية املادية للجميع ،األمر الذي
سيسمح بدوره للناس بجمع رأس مال أكثر ليزيدوا من إنتاجيتهم .إن نقدا ً كهذا سيكون
مثاليا ً أيضا ً كمخزون للقيمة وذلك من خالل َمن ْ ِع اآلخرين من زيادة عرضه النقدي،
وبهذا لن تنخفض الثروة املُختزنة فيه مع مرور الوقت؛ مما سيُحفز الناس عىل االدخار
وسيسمح لهم بالتفكري أكثر يف املستقبل .ومع زيادة الثروة واإلنتاجية ،ومع القدرة
املتزايدة عىل التفكري يف املستقبل ،يبدأ الناس بتخفيض تفضيلهم الزمني ،وسيتمكنون
نواح غري مادية يف حياتهم ،كاملجهودات الروحية ،واالجتماعية
ٍ من الرتكيز عىل تحسني
والثقافية.
لكن أُثبت أنه من املستحيل اإلتيان بشكل من النقد ليس باإلمكان صناعة املزيد
منه ،وذلك ألن أي يشء يتم اختياره كوسيط للتبادل سرتتفع قيمته ،ولهذا سيحاول املزيد
من الناس إنتاج املزيد منه .بهذه الكيفية ،يمكن القول أن أفضل شكل من النقد يف
التاريخ كان ذلك النقد الذي جعل العرض الجديد منه أقل أهمية عند مقارنته باملخزون
القائم ،وبالتايل جعل عملية صنعه مصدرا ً غري جيد للربح .وبما أن الذهب غري قابل
للتلف ،فهو املعدن الوحيد الذي كانت مخزوناته تنمو منذ أن بدأ البرش باستخراجه .ومع
أن استخراجه ما يزال ي ُجرى منذ آالف السنني ،ولم يتمكن علم الكيمياء بعد من إثبات
94
النقد والتفضيل الزمني
نجاحه لرتويجه وبيعه بشكل تجاري واسع النطاق ،فإن العرض الجديد لعملية
االستخراج تلك ما زالت مستمر ًة وتُش ِّكل جزءا ً صغريا ً موثوقا ً من املخزونات القائمة.
إن هذه الخاصية هي سبب كون الذهب مرادفا ً للنقد السليم :فهو نقد ذو
ضمن أال يزداد بشكل كبري بفضل قوانني الفيزياء والكيمياء الصارمة .ففشل عرض ُ
ً
سالمة من الذهب ،ولهذا كان البرش رغم محاوالتهم لقرون بإنتاج شكل من النقد أكثر
الذهب األداة النقدية الرئيسية التي تستخدمها معظم الحضارات البرشية عرب التاريخ.
وحتى بعد أن انتقل العالم إىل النقد الحكومي كمخزون للقيمة ،وكوسيط للتبادل
وكوحدة للحساب ،ما تزال الحكومات نفسها تحتفظ بنسبة كبرية من احتياطاتها
بالذهب ،وتُمثل هذه االحتياطات نسبة كبرية من عرض الذهب الكيل.
تَذ َّمر كينز أن استخراج الذهب هو نشاط مبذر يستهلك الكثري من املوارد دون
أن يضيف شيئا ً للثروة الحقيقية ،وبالرغم من أن نقده فيه يشء من الحقيقة ،بمعنى أن
زيادة العرض من الوسيط النقدي ال تزيد من ثروة املجتمع الذي يستخدمه ،إال أنه َغفِ ل
عن النقطة املهمة بأن دور الذهب النقدي نَتَج أصالً عن كونه املعدن األقل جذبا ً للبرش
واملوارد الرأسمالية الستخراجه والتنقيب عنه ،مقارنة بكل املعادن األخرى .وبما أنه ال
يمكن زيادة عرض الذهب إال بكميات صغرية جدا ً حتى عند االرتفاع الحاد باألسعار،
َصعُب إيجاده ،فإن استخراج الذهب النقدي سيكون أقل ربحا ً من وبما أنه نادر جدا ً وي ْ
استخراج أي معدن آخر يحمل دورا ً نقدياً ،مما يجعل البرش يخصصون أقل كمية من
الوقت واملوارد الستخراجه .فلو تم استخدام أي معدن آخر كوسيط نقدي ،فإنه عندما
ينخفض التفضيل الزمني للمجتمع ويشرتي املزيد من الناس هذا املعدن لالدخار ،رافعني
بذلك من سعره ،فسيكون هناك فرصة مهمة للربح من إنتاج املزيد من هذا املعدن ،لكن
وألن املعدن قابل للتلف ،فدائما ً سيكون اإلنتاج الجديد أكرب كنسبة مئوية (نسبة إىل
الذهب) بالنسبة إىل املخزونات القائمة ،كما يف مثال النحاس ،مما سيقلل السعر ويحط
من قيمة مدخرات املالكني له .يف مجتمع كهذا ،يُمكن أن تُرسق املدخرات بشكل فعال من
املدخِ رين ملكافأة األفراد الذين عملوا عىل استخراجه بكميات كبرية تفوق استخدامهم
االقتصادي .فسوف تقل املدخرات واإلنتاج النافع يف مجتمعات كهذه ،وسيرتتب عىل ذلك
فيش الفقر بسبب الهوس بإنتاج وسائط نقدية ،وسيكون املجتمع جاهزا ً لتستويل عليه تَ ِّ
95
معيار البيتكوين
وتغزوه مجتمعات أكثر إنتاجية لديها أفراد يفعلون ما هو أفضل من إنتاج املزيد من
الوسائط النقدية.
فحقيقة املنافسة النقدية أَرضَّ ت عىل الدوام أولئك األفراد واملجتمعات التي
استثمرت مدخراتها يف معادن غري الذهب ،يف حني كافأت أولئك الذين استثمروا
مدخراتهم يف الذهب لعدم إمكانية تضخيمه بسهولة وذلك ألنه يُجرب الناس عىل إبعاد
طاقاتهم عن إنتاج سلع نقدية ،وي ُحوِّل هؤالء الناس إىل إنتاج مزيد من السلع والخدمات
النافعة .هذا األمر يساعدنا عىل تفسري سبب إشارة العالم العربي ابن خلدون عن عملية
4
تنقيب واستخراج الذهب بأنها املهنة األقل جدارة باالحرتام بعد الخطف من أجل الفدية.
والحماقة يف استهجان كينز للذهب بكونه نقدا ً تتمثل بقوله أن استخراج الذهب هو أمر
مبذر لكنه األقل تبذيرا ً من بني كل املعادن املحتمل استخدامها كنقدَ .فـ "ح ُّل" كينز
للقصور املوجود بالذهب كان حماقة مُر َّكبة ومضاعفة وتمثلت هذه الحماقة باقرتاحه
معيارا ً نقديا ً ورقيا ً أدى إىل تخصيص املزيد من الوقت والعمل واملوارد البرشية إلدارة
إصدار هذا العرض النقدي والربح منه .فلم يحدث يف تاريخ الذهب كوسيط نقدي أن
ظف اليوم يف البنوك املركزية وكل املصارف واألعمال التابعة ظف عمال مناجم كما يُو َّ وُ ِّ
لها والتي تستفيد من قدرتها عىل الوصول إىل أجهزة طباعة النقد ،كما سيُرشح يف الفصل
السابع.
فعندما يكون العرض الجديد غري مهم مقارنة بالعرض القائم ،فإن القيمة
السوقية لشكل النقد يتم تحديدها عرب رغبة الناس بامتالك أو إنفاق هذا النقد .وستتباين
تلك العوامل بشكل كبري مع مرور الزمن بالنسبة لكل فرد ،حيث تتغري ظروف األفراد
الشخصية من مراحل يفضلون فيها حمل الكثري من النقد إىل مراحل يفضلون فيها حمل
القليل منه ،لكن وبشكل عام ،ستتباين هذه العوامل بشكل قليل للمجتمع ككل وذلك ألن
النقد هو السلعة السوقية ذات املنفعة الهامشية األقل تناقصاً .إن أحد أهم قوانني
االقتصاد هو قانون املنفعة الهامشية املتناقصة والذي يقول :إن الحصول عىل املزيد من
أية سلعة سيقوم بالتقليل من املنفعة الهامشية لكل وحدة إضافية .وحتى النقد ،الذي ال
96
النقد والتفضيل الزمني
يُمتلك من أجل امتالكه لذاته ،بل من أجل مبادلته مع سلع أخرى ،فستقل منفعته
الهامشية ولكن بشكل أبطأ من أية سلعة أخرى ،وذلك ألنه يمكن دوما ً مبادلته مع أية
سلع أخرى .فعندما تزداد ممتلكات األفراد من البيوت أو السيارات أو التلفازات ،أو
التفاح أو األملاس ،ينخفض التقييم الهاميش الذي يضعه هؤالء األفراد عىل كل وحدة
إضافية ،مما يُقلل الرغبة بجمع املزيد من أي منها .لكن املزيد من النقد ليس كاملزيد من
تلك السلع ،حيث أنه وعند امتالك املزيد منه ،سيتمكن مالكه من مبادلته ببساطة مع
ُفضلها .ويف الحقيقة ،إن املنفعة الهامشية للنقد تقل أيضاً،
املزيد من السلع األخرى التي ي ِّ
كما يمكن رؤيته يف اآلتي :فكل دوالر إضايف يف الدخل يعني أكثر بكثري بالنسبة لشخص
دخله اليومي دوالرا ً واحدا ً مقارنة بمن يجني ألف دوالر يف اليوم ،لكن املنفعة الهامشية
للنقد تقل بشكل أبطأ من أية سلعة أخرى ،حيث أنها تقل رغبتها بكل هذه السلع ،وليس
بسلعة معينة.
فاملنفعة الهامشية املتناقصة ببطء لحمل النقد تعني أن الطلب عليه لن يتغري
لعرض شبه دائم ،فإنه سيؤدي إىل قيمة سوقية ٍ بشكل كبري .هذا األمر وعند إضافته
مستقرة نسبيا ً للنقد يف مجال السلع والخدمات ،أي أنه من غري املحتمل أن يرتفع أو يقل
النقد بقيمته بشكل كبري ،مما سيجعله استثمارا ً سيئا ً عىل املدى الطويل ،لكنه سيكون
مخزونا ً جيدا ً للقيمة .أما االستثمارات فإنه يُتوقع منها أن تحمل معها ارتفاعا ً كبرياً،
لكنها ستحمل معها أيضا ً احتمال خسارة كبرية أو انخفاض بالقيمة ،فاالستثمار هو
مكافأة املجازفة ،لكن النقد السليم كونه يحمل املجازفة األقل ،ال يُقدِّم أية مكافآت.
باملجمل ،إن الطلب عىل النقد سيتباين بتباين التفضيل الزمني فقط ،حيث أنه
عندما يطور البرش تفضيالً زمنيا ً منخفضا ً بشكل عام ،فغالبا ً سريغب املزيد من الناس
بامتالك النقد ،مما يؤدي إىل ارتفاع قيمته السوقية مقارنة بالسلع والخدمات األخرى،
األمر الذي سيزيد من مكاسب مالكيه .باملقابل ،إن املجتمع الذي يطور تفضيالً زمنيا ً
أكثر ارتفاعاً ،فإنه يميل عادة إىل التقليل من امتالكه للنقد ،مما سيؤدي إىل انخفاض
قيمته السوقية بشكل هاميش .يف كال الحالتني ،امتالك النقد سيبقى دائما ً األقل خطرا ً
وسيبقى أصال ً مكافئا ً بشكل عام ،وهذا بجوهره هو السبب الرئييس للطلب واإلقبال عليه.
97
معيار البيتكوين
إن هذا التحليل يُساعد عىل تفسري قدرة الذهب املذهلة يف املحافظة عىل قيمته
مع مرور السنني ،والعقود والقرون .فأسعار السلع الزراعية يف اإلمرباطورية الرومانية
مشابهة بشكل كبري ألسعار اليوم.ً بقيمة جرامات الذهب تُظهر أنها تمتلك أسعارا ً
وبدراسة مرسوم أسعار ديوكلتيانوس 5من عام 301ثم تحويل أسعار الذهب إىل ما
يعادلها اليوم بالدوالر األمريكي ،سنجد أن ثمن رطل من اللحم سيكون حوايل ،$4.50يف
حني أن ثمن نصف لرت من الجعة يساوي $2تقريباً ،وثمن نصف لرت من النبيذ حوايل
$13إذا كان من النوع الجيد و $9للصنف قليل الجودة ،وتبلغ تكلفة نصف لرت من زيت
الزيتون حوايل .$20كما أن املقارنات بني البيانات املختلفة لألجور لبعض املهن تُظهر
أنماطا ً متشابهة أيضاً ،لكن وبالرغم من أن نقاط البيانات الفردية هذه لها دالالت ،إال أنه
ال يمكن أن تُعترب جازمة يف هذا املوضوع.
لقد قام "روي جاسرتام" بإخراج دراسةٍ منهجية لقوة الذهب الرشائية عىل
أطول مجموعة من البيانات املُتَّسقة املتاحة 6،مراقبا ً البيانات اإلنجليزية من 1560حتى
1976لتحليل مدى التغري يف القوة الرشائية للذهب فيما يتعلق بالسلع األساسية.
ويكتشف جاسرتام أن قوة الذهب الرشائية انخفضت خالل أول 140سنة ،لكنها بقيت
ثابتة نسبيا ً من عام 1700إىل 1914وذلك عندما خرجت بريطانيا عن املعيار الذهبي.
فألكثر من قرنني من الزمن عندما كانت بريطانيا تستخدم الذهب كنقد بشكل أسايس،
ظلت قيمته الرشائية ثابتة نسبيا ً ،وكذلك كان األمر مع سعر السلع األساسية يف أسواق
الجملة .وبعد أن خرجت بريطانيا عن املعيار الذهبي بشكل فعال يف بداية الحرب العاملية
األوىل ،ارتفعت القوة الرشائية للذهب ،كما ارتفع مقياس أسعار السلع األساسية بالجملة.
(انظر إىل الشكل .)78
5آر .كنت" ،مرسوم تثبيت األسعار القصوى لديوكليتانيوس" ،اجمللة القانونية يف جامعة بنسلفانيا ،اجمللد 96
(.35 :)1920
6روي جاسرتام ،الثابت الذهيب :التجربة اإلجنليزية واألمريكية( 2007 –1560 ،شلتنهام ،املمكلة املتحدة:
إدوارد إلغار.)2009 ،
7املصدر :جاسرتام ،الثابت الذهيب.
98
النقد والتفضيل الزمني
300 1400
250 1200
1000
200
8 00
150
600
100
400
50 200
0 0
1560 1610 1660 1710 1760 1 8 10 1 8 60 1910 1960
قوة الذهب الرشائية (املحور األيمن) مؤرش السلع األساسية يف سوق الجملة (املحور األيرس)
الشكل :8القوة الرشائية للذهب والسلع األساسية يف سوق الجملة يف إنجلرتا-1950 ،
1976
200
50
12.5
1792 1862 1897 1932 1967 2002
1827
الشكل :9سعر السلع األساسية بالذهب وبالدوالر األمريكي ،عىل مقياس طويل األمد،
2016 -1792
99
معيار البيتكوين
من املهم استيعاب أن بقاء الوسيط النقدي ثابتا ً بشكل كيل يف القيمة هو أمر
ليس ممكنا ً أو قابال ً للتحديد حتى من الناحية النظرية .فالسلع والخدمات التي يشرتيها
النقد ستتغري مع مرور الوقت وذلك ألن التكنولوجيا الحديثة ستُقدِّم سلعا ً جديدة
تستبدل القديمة منها ،كما أن ظروف العرض والطلب ملختلف السلع ستتغري مع مرور
الزمن .وواحدة من أهم الوظائف الرئيسية لوحدة النقد هي خدمتها كوحدة قياس للسلع
االقتصادية التي تتغري قيمتها باستمرار .ولهذا السبب ،من غري املمكن قياس سعر سلعة
ُرض ،عىل الرغم من أنه عىل امتداد آفاق زمنية طويلة ،هناك نقدية بشكل دقيق وم ٍ
ميل وتوجهٍ إجمايل ألحد
احتمالية ألن تشري الدراسات املشابهة لدراسة جاسرتام إىل ٍ
الوسائط النقدية ليحافظ عىل قيمته ،خاصة عند مقارنته بأشكال النقد األخرى.
فالبيانات الحديثة من الواليات املتحدة قامت بالرتكيز عىل آخر قرنني واللذين
شهدا نموا ً اقتصاديا ً أرسع من الفرتة املغطاة يف بيانات جاسرتام ،وأظهرت أيضا ً ارتفاع
قيمة الذهب من ناحية السلع األساسية التي ارتفع سعرها بشكل كبري بالنسبة للدوالر
األمريكي ،وَهذا يتماىش تماما ً مع كون الذهب أصعب نقد متاح لنا .فمن املمكن االستمرار
بزيادة عرض كل السلع األساسية بشكل أكثر سهولة من الذهب ،لذلك ومع مرور الوقت،
ستصبح كل تلك السلع أكثر وفرة من الذهب ،مما سيؤدي إىل ارتفاع القوة الرشائية له
مع مرور الوقت .وكما يَظ َهر يف الشكل 8،9فإن قيمة الدوالر األمريكي كانت تزداد أيضا ً
مقابل السلع األساسية عندما كان مرتبطا ً بالذهب ،لكنه خرس قيمته بشكل ملحوظ
عندما ُقطع ارتباطه بالذهب ،كما حصل أثناء الحرب األهلية األمريكية ،وطباعة الدوالر
األخرض ،ويف املرحلة بعد تخفيض قيمة الدوالر عام 1943ومصادرة ذهب املواطنني.
إن املرحلة ما بني عام 1931و ،1971ارتبط فيها النقد بشكل ظاهري
بالذهب ،وكان هناك حظر عىل عملية تبديل النقود بالذهب ،لكن وفقط عرب تدابري
حكومية متعددة ،تم السماح باستبدال الذهب بنقود ورقية برشوط غامضة .إن تلك
100
النقد والتفضيل الزمني
فحتى أكثر أشكال النقد الحكومي ثباتا ً وأفضلها أدا ًء َش ِه َدت تَحطما ً لقيمتها
مقارنة بالذهب ،حيث أصبحت قيمتها حاليا ً تساوي حوايل %3-2مما كانت عليه عام
1971عندما تم َف ُّك ارتباطها عن الذهب .وهذا األمر ال يُمثل ارتفاعا ً يف القيمة السوقية
للذهب ،بل يُمثِّل انخفاضا ً يف قيمة العمالت الورقية .حيث أننا وعند مقارنة أسعار السلع
والخدمات بقيمة هذا النقد الحكومي والذهب ،فإننا سنجد ارتفاعا ً ملحوظا ً يف أسعارها
بالنسبة إىل النقد الحكومي ،لكننا سنجد استقرارا ً نسبيا ً يف أسعارها مقارنة بالذهب.
فسعر برميل من النفط ،عىل سبيل املثال ،وهو أحد السلع األساسية يف املجتمعات
االقتصادية الحديثة ،كان ثابتا ً نسبيا ً من ناحية الذهب منذ عام ،1971يف حني ارتفع
بشكل ضخم بالنسبة للنقد الحكومي( .انظر إىل الشكل .)11
101
معيار البيتكوين
فالنقد الصعب الذي ال يمكن توسيع عرضه بسهولة غالبا ً ستكون قيمته أكثر
مرن بتاتاً ،حيث أن الطلب االجتماعي عىل استقرارا ً من النقد السهل وذلك ألن عرضه غري ٍ
هذا النقد سيتباين قليالً مع مرور الوقت بتباين التفضيل الزمني .باملقابل ،فالنقد السهل
وبسبب قدرة منتجيه عىل تغيري كميته بشكل كبري ،فإنه سيُنشئ طلبا ً متقلبا ً للغاية من
طرف املالكني حيث ستتباين هذه الكمية مما سيؤدي إىل تَقلُّب مصداقيته كمخزون
للقيمة.
إن استقرار القيمة النسبي ليس مهما ً للمحافظة عىل القوة الرشائية ملدخرات
املالكني فحسب ،بل قد يكون ذا أهمية أكرب يف املحافظة عىل نزاهة الوحدة النقدية كوحدة
حساب .فعند وجود توقعات بأن يكون النقد ذا قيمة مستقرة بفضل التباينات الصغرية
يف العرض والطلب ،فإنه يمكن لهذا النقد أن يترصف كمؤرش موثوق ل ُّ
لتغريات بأسعار
السلع والخدمات األخرى ،مثلما فعل الذهب.
102
النقد والتفضيل الزمني
لكن يف حالة النقد الحكومي ،فإن العرض النقدي يزداد عرب توسيع هذا
العرض من قِ بَل البنك املركزي واملصارف التجارية ،ويتضاءل أثناء الركود واالنكماش
االقتصادي وحاالت اإلفالس .وبطبيعة الحال إن الطلب عىل النقد يمكن أن يتباين بشكل
ال يمكن التنبؤ به وفقا ً لتوقعات الناس لقيمة هذا النقد ،ووفقا ً لسياسات املرصف
املركزي .فهذا املزيج عديم االستقرار سيؤدي إىل وجود النقد الحكومي بصفته نقدا ً ذا
قيمة غري متوقعة عىل املدى الطويل .ويمكن اإلضافة بأن مهمة البنوك املركزية املتمثلة
بضمان استقرار األسعار جعلتهم وبشكل مستمر يقومون بإدارة العرض النقدي
باستخدام أدواتهم املتعددة لضمان االستقرار بالسعر ،مما جعل العديد من العمالت
الرئيسية تبدو أكثر استقرارا ً عىل األمد القصري مقارنة بالذهب ،لكن عىل املدى الطويل،
فالزيادة املستمرة يف عرض النقد الحكومي مقارنة بالزيادة الثابتة والبطيئة للذهب
ستجعل من قيمة الذهب أكثر توقعاً.
فالنقد السليم الذي يتم اختياره يف األسواق الحرة ،تحديدا ً ألنه يحتفظ بقيمته
غالبا ً مع مرور الوقت ،سيكون بشكل طبيعي نقدا ً ذا استقرار أفضل من النقد غري
السليم الذي يتم استخدامه بسبب َف ْرض الحكومات القرسية له .فلو كان هذا النقد
الحكومي وحد ًة متفوقة للحساب ولتخزين القيمة ،ملا احتاج لقوانني حكومية كي تفرضه
ط َّرت الحكومات يف أنحاء العالم إىل مصادرة كميات كبرية من كعملة قانونية ،وملا اض ُ
الذهب ،بل واستمرت بتخزينها يف احتياطات بنوكها املركزية .فحقيقة احتفاظ البنوك
املركزية بالذهب الخاص بها ،بل وأنها بدأت بزيادة االحتياطي منه ،تشهد عىل مدى عدم
ثقتها بعمالتها عىل املدى الطويل ،وعىل الدور النقدي الحتمي للذهب ،يف نفس الوقت
الذي يستمر فيه تدني قيمة العمالت الورقية ملستويات جديدة.
103
معيار البيتكوين
فعند الحديث عن االستثمار والنقد ،يخلق النقد السليم بيئة اقتصادية تكون
فيها أي نسبة إيجابية للعوائد مفيدة للمستثمر ،بحيث تحتفظ الوحدة النقدية بقيمتها
غالباً ،هذا إن لم ترتفع ،مما يرفع الحافز لالستثمار .لكن عندما يتعلق األمر بالنقد غري
السليم ،ففقط العائدات األكثر ارتفاعا ً من معدل انخفاض العملة ستكون إيجابية يف
إلنفاق واستثمار ذي عوائد مرتفعة لكنها عالية
ٍ القيمة الحقيقية ،مما يصنع حوافزا ً
املجازفة .أيضاً ،بما أن الزيادة يف العرض النقدي تعني بشكل فعال ن َِسب فائدة
منخفضة ،فإن الحافز لالدخار واالستثمار يقل يف حني يرتفع الحافز لالقرتاض.
وسجل التجربة عىل النقد غري السليم التي أُجريت عىل مدار 46عاما ً تعزز هذه
ِ
الخالصة ،فمُعدالت االدخار كانت تنخفض يف الدول املتقدمة ،ووصلت إىل مستويات
منخفضة جداً ،يف حني ارتفعت الديون الشخصية واملحلية والوطنية إىل مستويات لم يكن
يمكن تَصوُّرها يف املايض( .انظر إىل الشكل .)12
إن سويرسا هي الدولة الوحيدة التي بقيت عىل معيار ذهبي رسمي حتى سنة
، 1934واستمرت يف دعم عملتها باحتياطات كبرية من الذهب حتى بداية التسعينات،
وبقي معدل االدخار مرتفعا ً فيها ،لتكون آخر مَعْ قِ ل للحضارة الغربية ذي التفضيل
104
النقد والتفضيل الزمني
15
10
5
0
1970 1980 1990 2000 2010
–5
الزمني املنخفض بنسبة ادخار مكونة من خانتني ،يف حني تراجع كل اقتصاد غربي آخر
إىل ن َِس ِب ادخار مكونة من خانة واحدة إذا لم تكن سلبية يف بعض الحاالت .فنسبة
االدخار املتوسطة يف أكرب سبعة اقتصادات متطورة 10كانت %12.66يف عام ،1970
لكنها انخفضت إىل %3.39عام ،2015وهو انخفاض يساوي ثالثة أرباع تقريباً.
10إهنا الوالايت املتحدة ،الياابن ،أملانيا ،اململكة املتحدة ،فرنسا ،إيطاليا ،وكندا.
105
معيار البيتكوين
التي تَسود الفِ ْك َر االقتصادي الكينيزي هي الفكرة بأن الدَّين القومي "ليس مهماً ،ألننا
مدينون به ألنفسنا ".فقط التابعني لكينز ذوي التفضيل الزمني املرتفع يمكن أن يفشلوا
بفهم أن "أنفسنا" هذه هي ليست كتلة متجانسة بل هي كتلة تتباين يف عدة أجيال
وبشكل أسايس ،الجيل الحايل الذي يستهلك بتهور عىل حساب األجيال القادمة .ولزيادة
الطني بلة ،تلك العبارة تُتبع عادة بابتزاز عاطفي عىل غرار قول "سنخدع ونحرم أنفسنا
إن لم نقرتض لنستثمر من أجل مستقبلنا".
يَدَّعي الكثريون أن هذا اكتشاف حديث مذهل من بصرية كينز الرائعة ،مفاده
أن اإلنفاق هو كل ما يهم ،وأنه عند التأكد ببقاء مستوى اإلنفاق مرتفعاً ،ستستمر الديون
بالزيادة إىل ما ال نهاية وسيتم وقتها استبعاد املدخرات .يف الحقيقة ،ال يشء جديد يف هذه
ظفها األباطرة الرومان الفاسدون أثناء تدهور اإلمرباطورية ،إال أنهاالسياسة حيث و َّ
تُطب ق اآلن باستخدام نقد ورقي أصدرته الحكومة .حيث أنه وبالواقع ،يسمح النقد
الورقي بالتحكم به بشكل أكثر سالسة ،وأقل وضوحا ً من العمالت املعدنية القديمة ،لكن
النتائج هي ذاتها.
106
النقد والتفضيل الزمني
الفورية ويستثمرون يف املستقبل ،وأما االستهالك الواسع الذي تغذيه الديون فهو جزء
طبيعي من الرأسمالية كما أن االختناق هو جزء طبيعي من التنفس.
هذا األمر يساعد أيضا ً يف تفسري السبب الرئييس لسوء فهم االقتصاد عند
الكينيزيني ،الذين يعتربون أن تأخري االستهالك الحايل عرب االدخار سيؤدي إىل ترسيح
العمال وتعطيل اإلنتاج االقتصادي .فرأى كينز أن مستوى اإلنفاق يف أي نقطة محددة
من الزمن هو املُحد ِّد األكثر أهمية لحالة االقتصاد ،حيث أن كينز وألنه لم يدرس االقتصاد
ظفة فقط يف السلع أبداً ،لم يفهم نظرية رأس املال وكيف أن العمالة ال يجب أن تكون مُو َّ
النهائية ،بل يمكن توظيفها يف إنتاج السلع الرأسمالية التي ستُنتج سلعا ً نهائية يف
املستقبل فقط .وبما أنه عاش باالعتماد عىل ثروة عائلته الضخمة دون أن يضطر للعمل
يف وظائف حقيقية ،لم يكن كينز يُقدِّر االدخار أو جمع رأس املال ودورهما الرئييس يف
النمو االقتصادي .وبالتايل ،كان كينز يراقب الركود االقتصادي بالتزامن مع انخفاض
إنفاق املستهلكني والزيادة باالدخار ،ويفرتض أن السبب يبدأ من زيادة االدخار التي
تؤدي إىل انخفاض االستهالك ثم الركود االقتصادي .لو كانت لديه الرغبة ليدرس نظرية
رأس املال ،لَ َف ِهم أن انخفاض االستهالك هو رد فعل طبيعي عىل الدورة االقتصادية،
والتي بدورها نشأت من التوسع بالعرض النقدي ،كما سيتم نقاشه يف الفصل السادس،
لف ِهم أيضا ً أن السبب الوحيد للنمو االقتصادي باملقام األول هو تأجيل املتعة واالدخار َ
واالستثمار ،الذي يُطيل من أمد دورة اإلنتاج ويزيد من إنتاجية وسائل اإلنتاج ،األمر الذي
ُحسن من معايري الحياة ،وكان ليعرف أيضا ً أن السبب الوحيد لكونه وُ ِلد يف عائلة ثريةي ِّ
يف مجتمع ثري هو أن أجداده أمضوا عقودا ً يف جمع رأس املال ،مؤجلني املتعة
ومستثمرين يف املستقبل ،لكنه مثل األباطرة الرومان أثناء انحالل اإلمرباطورية ،لم يكن
بمقدوره فِ هْ ُم العمل والتضحية الالزمة لتحقيق ثروته ،واعتقد بدال ً من ذلك أن كثرة
االستهالك هي سبب االزدهار بدال ً من أن تكون نتيجته.
ً
احتمالية لجمع رأس املال فالدَّين هو عكس االدخار ،وإن كان االدخار يخلق
وللتطور الحضاري ،فالديون تستطيع إبطال ذلك عرب تقليل مخزون رأس املال عرب
األجيال ،وعرب انخفاض اإلنتاجية ،وعرب تقليل جودة معايري الحياة .وسواء أكانت ديون
اإلسكان أم تكاليف الضمان االجتماعي أم القروض الحكومية ،فكلها تطلبت رضائب
107
معيار البيتكوين
أكثر من أي وقت مىض وتطلبت تسييل الديون إلعادة تمويلها ،ولهذا قد تكون األجيال
الحالية هي أول أجيال يف العالم الغربي منذ انتهاء اإلمرباطورية الرومانية (أو عىل األقل
منذ الثورة الصناعية) تُولَد يف العالم برأس مال أقل مما كان ألهاليهم .فبدال ً من أن يشهد
هذا الجيل تراكم مدخراته ويزيد من مخزون رأس املال ،يجب عليه أن يعمل ليسدد
الفائدة املتزايدة عىل ديونه ،حيث أنه سيضطر للعمل بجد أكثر لتمويل برامج االستحقاق
التي بالكاد سيستمتع بها أثناء دفعه لرضائب أكثر ،وبالكاد سيتمكن من االدخار
لشيخوخته.
إن هذا االنتقال من النقد السليم إىل النقد الذي تنخفض قيمته أدى إىل تبذير
الثروة التي تم جمعها من قِ بَل عدة أجيال عىل ثقافة استهالك املظاهر أمام الناس خالل
جيل واحد أو اثنني ،جاعال ً املديونية الطريقة الجديدة لتمويل النفقات الكبرية .ففي حني
كان معظم الناس قبل 100عام يدفعون ثمن بيوتهم ،وتعليمهم ،وزواجهم من عملهم
ً
سخيفة بالنسبة للناس اليوم. الخاص أو مدخراتهم املرتاكمة ،إال أن فكر ًة كهذه قد تبدو
فحتى األغنياء ال يعيشون وفقا ً ملواردهم املالية ،بل يستخدمون ثروتهم ليحصلوا عىل
قروض أكرب لتمويل مشرتيات أكثر .يمكن لنظا ٍم كهذا أن يستمر فرتة من الزمن ،لكن
يجب علينا أال نخلط بني استمراره واستقراره ،حيث أنه ليس سوى استهالك منظم
ملخزون املجتمع من رأس املال.
مَمي ،تم وضع هذا النقد تحت سيطرة وعندما أصبح النقد عىل نطاق أ ُ ِ
السياسيني الذين يعملون من أجل آفاق زمنية قصرية األمد ولبضع سنوات فقط ،بحيث
يبذلون كل ما بوسعهم ليتم انتخابهم مجدداً .فكان من الطبيعي أن تؤدي عملية كهذه
إىل اتخاذ قرارات قصرية األمد بحيث يقوم السياسيون بإساءة استخدام العملة لتمويل
ٍ
حمالت إلعادة انتخابهم عىل حساب األجيال القادمة .وكما قال إتش .إل .منكن" :كل
انتخابات هي مزاد مُسبق عىل السلع املرسوقة ".ففي مجتمع يكون فيه النقد حرا ً
11
وسليماً ،يجب عىل األفراد فيه اتِّخاذ قرارات خاصة برأس مالهم بحيث تؤثر هذه
11إتش .إل .منكن ومالكوم موس (حمرر) ،مهرجان بونكوم (ابلتيمور ،مطبعة جون هوبكنز ،)1956 ،الصفحة
.325
108
النقد والتفضيل الزمني
القرارات عىل ذويهم عىل املدى الطويل .ويف حني أنه من املحتمل أن يتخذ البعض قرارات
غري مسؤولة ستؤدي إىل إيذاء ذريتهم ،إال أن أولئك الذين يريدون اتخاذ قرار مسؤول
كان لهم الحرية بفعل هذا .لكن مع النقد املؤمم ،أصبح اتِّخاذ قرار كهذا أكثر صعوبة،
حيث تقوم الحكومة املركزية بالسيطرة عىل العرض النقدي ،فتُدمر الحافز لالدخار
بشكل مؤكد وبهذا تقوم بزيادة الحافز لالقرتاض .ومهما كان الشخص حكيماً ،فسيشهد
أبناؤه انخفاض قيمة مدخراتهم وسيضطرون إىل دفع الرضائب ليغطوا السخاء
التضخمي لحكومتهم.
ويف حني قلص االنخفاض باإلرث العاملي من قوة العائلة كوحدة ،فإن دفرت
شيكات الحكومة الذي ال ينتهي قام بزيادة قدرتها عىل توجيه وتشكيل حياة الناس ،مما
أعطاها دورا ً متزاي َد األهمية كي تؤديه يف ٍ
نواح أكثر يف حياة األفراد .فتم بذلك حجب قدرة
العائلة عىل تمويل الفرد بسخاء الدولة ،مما أدى إىل انخفاض الدوافع للمحافظة عىل هذه
العائلة.
109
معيار البيتكوين
فاستبدال العائلة بسخاء الحكومة يُمكن اعتباره تجارة خارسة لألفراد الذين
كانوا طرفا ً بذلك .وتُظهر عدة دراسات أن الرضا عن الحياة يعتمد بدرجة كبرية عىل
تشكيل روابط أرسية حميمية طويلة األمد مع رشيك وأوالد 12.كما تُظهر عدة دراسات أن
معدالت االكتئاب واالضطرابات النفسية تزداد مع مرور الوقت بتفكك األرس وانهيارها،
وخاصة لدى النساء 13.ويف كثري من األحيان يكون تفكك األرسة هو السبب املؤدي إىل
حاالت االكتئاب واالضطرابات النفسية تلك.
فليس مصادفة أن تَف ُّكك األرسة قد حدث بتطبيق التعاليم االقتصادية لرجل لم
يكن يوما ً مهتما ً بالنتائج طويلة األمدَ .ف ِمن عائلة غنية جمعت رأس مال ضخم لعدة
أجيال ،كان كينز فاجرا ً يتبع مذهب اللذة وأمىض معظم حياته وهو بالغ يف عالقات
14
جنسية مع األطفال ،بما فيها التِجوال حول البحر املتوسط ليزور بيوت دعارة األطفال.
ففي حني كانت بريطانيا الفيكتورية مُجتمعا ً ذا تفضيل زمني منخفض وتتمع ٍ
بحس
أرس مستقرة ،كان كينز جزءا ً من جيل ثار عىل
عال ،ورصاعات قليلة بني األفراد و ٍأخالقي ٍ
تلك التقاليد واعتربها مؤسسة قامعة يجب أن يُقىض عليها .لهذا ،من املستحيل فهم
اقتصاد كينز دون فهم نوعية األخالق التي أراد أن يراها يف مجتمع آمَ َن بشكل كب ٍ
ري
بقدرته عىل تشكيله وفقا ً لرغبته.
12جورج فيالنت ،انتصارات التجربة :رجال دراسة منحة هارفارد( .كامربيدج ،ماجستري :صحافة جامعة
هارفارد.)2012 ،
13بيتسي ستيفنسن وجاسنت وولفرز" ،معضلة اخنفاض سعادة اإلانث ".اجمللة االقتصادية األمريكية :السياسة
االقتصادية ،اجمللد ،1رقم .225-190 :)2009(2
14اقرأ كتاب مايكل هولرويد ،ليتون سرتاتشي :السرية الذاتية اجلديدة ،اجمللد ،Iالصحفة ،80فيه رسالة أرسلها
سرة والصبيان ليساكينز إىل صديقه ليتون سرتاتشي يف جمموعة بلومزبري ونصحه أن يزورو تونس "حيث األَ ّ
مكلفني ".اقرأ أيضاً كتاب ديفيد فيليكس ،كينز :حياة حرجة ،الصفحة ،112اليت تقتبس رسالة من كينز يُعلم
َسرة والصبيان‘ جاهزون ".نصح سرتاتشي يف رسالة فيها صديقاً" ،أان ذاهب إىل مصر ...علمت للتو أن ‘األ َّ
أخرى ابلذهاب إىل تونس وصقلية "إن أردت أن تذهب إىل حيث يرقص الصبية العراة".
110
النقد والتفضيل الزمني
ويمكن دعم بيانات هوبنر بإلقاء نظرة فاحصة عىل ابتكارات ما قبل عالم سنة
،1914وال نبالغ بالقول أن عاملنا الحديث قد تم اخرتاعه يف سنوات املعيار الذهبي التي
َّ
وحسن، سبقت الحرب العاملية األوىل .والقرن العرشين كان هو القرن الذي صقل ،وطوَّر،
واقتصد وعَ َّمم ابتكارات القرن التاسع عرش .فعجائب ومعجزات تطويرات القرن
العرشين تُسهِّ ل عىل املرء نسيان أن االبتكارات األصلية -وهي االبتكارات التي غريت
وحولت العالمُ -
اخرتعت كلها تقريبا ً يف العرص الذهبي.
15جواناثن هوبنر" ،اخنفاض حمتمل للميل يف االبتكارات العاملية" ،التوقع التكنولوجي والتغري االجتماعي ،اجمللد
.986-980 .)2005( 72
111
معيار البيتكوين
ويف كتابه الشهري ،من صفر إىل واحد ،يناقش "بيرت ثايل" تأثري أصحاب الرؤى
الذين يصنعون عاملا ً جديدا ً بإنتاج أول نموذج ناجح لتقنية جديدة .فاالنتقال من العدم
إىل وجود نموذج تقني ناجح( ،صفر إىل واحد) عىل حد تعبريه ،هو أصعب وأهم خطوة
نحو االبتكار ،يف حني أن االنتقال من واحد إىل العديد هو مجرد عملية توسيع ،وتسويق
َصعُب عىل الشغوفني منا بفكرة التطور تَقبُّل فكرة أن عالم النقد السليموتطوير .وقد ي ْ
ما قبل 1914كان عالم الصفر إىل واحد ،يف حني أن عالم ما بعد 1914ذي النقد الذي
تنتجه الحكومة هو عالم االنتقال من واحد إىل العديد .وال َ
ضْ َ
ري يف االنتقال من واحد إىل
العديد ،لكنه بالتأكيد يدعو إىل التفكري بجدية يف سبب عدم وجود املزيد من انتقاالت
الصفر إىل واحد يف نظامنا النقدي الحديث.
إن هذه االبتكارات التي تُعترب أمرا ً مُسلَّما ً به ألي شخص يعيش يف املجتمع
املتحرض ،هي الفرق بني الحياة واملوت بالنسبة ِلغالبيتنا .وقد كانت هذه االبتكارات
العامل األسايس يف القضاء عىل معظم األمراض املُعدية عىل الكوكب ،وسمحت بنمو
املناطق املتحرضة دون ويالت األمراض الدائمة.
112
النقد والتفضيل الزمني
يتوجب علينا شكر العرص الجميل عىل شوارع مدننا غري املليئة بروث األحصنة،
وعىل قدرتنا للسفر لجميع أنحاء العالم .فلقد اخرتع "كارل بنز" السيارة عام
،1855واخرتع األخوان "رايت" الطائرة عام ،1906واخرتع "تشارلز بريسون"
قطار األنفاق عام ،1843كما اخرتع "إليشا أوتيس" املصعد الكهربائي عام
.1852
جراحة القلب ،وزراعة األعضاء ،واستئصال الزائدة الدودية ،وحاضنة األطفال،
والعالج اإلشعاعي ،والتخدير ،واألسبريين ،و ُزمَ ر الدم ونقل الدم ،والفيتامينات،
وتخطيط القلب الكهربائي ،وسماعة الطبيب:
إن الجراحة والطب الحديث مَدينان أيضا ً للعرص الجميل لتوفريه لهم أهم مظاهر
تقدمهم وتطوراتهم .فإدخال كل من خدمات الرصف الصحي الحديث والطاقة
الهيدروكربونية املوثوقة سمحت لألطباء بتغيري طريقة عنايتهم بمرضاهم بعد قرون من
اإلجراءات غري املجدية.
يف حني أننا نود االعتقاد بأن عرصنا الحديث هو عرص االتصاالت واسعة النطاق،
لكن يف الحقيقة ،إن معظم انجازات القرن العرشين كان هو تطوير ابتكارات القرن
التاسع عرش .فأول حاسوب تم تصنيعه كان هو حاسوب "باباج" الذي صممه "تشارلز
113
معيار البيتكوين
باباج" عام 1833وقام ابنه "هينري" بإكماله عام .1888وقد نبالغ يف قولنا بأن
اإلنرتنت وكل ما يحتويه هو مجرد أجراس وصفارات مضافة إىل ابتكار التلغراف عام
، 1843لكن يف هذا القول يشء من الحقيقة .فالتلغراف هو الذي قام بالتحول الجوهري
للمجتمع البرشي عرب تمكينه لنا بالتواصل دون الحاجة للنقل املادي للرسائل أو االنتقال
املادي للمرسلني ،فكانت تلك اللحظة هي صفر إىل واحد بالنسبة إىل االتصاالت ،وكل ما
تبعها بالرغم من كل روعته ،كان تطويرا ً من واحد إىل العديد.
االزدهار الفني
إن مساهمات النقد السليم لالزدهار البرشي ليست محصورة عىل التقدم العلمي
والتكنولوجي؛ بل يمكن رؤيتها بوضوح أيضا ً يف العالم الفني .فليس مصادفة أن فناني
"فلورنسا" و"البندقية" كانوا قادة النهضة ،حيث قادت هاتان املدينتان أوروبا لتبني
النقد السليم .فاملدارس الباروكية ،والكالسيكية الجديدة ،والرومانسية ،والواقعية ،وما
بعد االنطباعية كانت مدارس ممولة من قبل رعاة أثرياء يملكون نقدا ً سليماً ،ولديهم
كاف لينتظروا سنوات ،وحتى عقوداً ،إلتمام روائع تفضيل زمني منخفض جدا ً وصرب ٍ
فنية ستبقى قرونا ً من الزمن .فقِ بابُ كنائس أوروبا املذهلة ،التي بُنيت و ُزيِّنت عىل مدى
عقود من عمل دقيق ُم ِلهم من قبل معماريني وفنيني ال شبيه لهم مثل "فيليبو
برونليسكي" و"مايكل أنجلو" ،تم تمويلها أيضا ً بنقد سليم من قبل رعاة ذوي تفضيل
زمني منخفض جداً .فالطريقة الوحيدة إلذهال أولئك الرعاة كانت بإنجاز عمل فني
سيعيش طويال ً ليُخلِّد أسماءهم كمالكني ملجموعات رائعة وكرعاة لفنانني عظماء .وقد
يكون هذا هو سبب رسوخ آل "ميديتيش" من فلورنسا بالذاكرة بأنهم رعاة فنون أكثر
من تذكرهم بابتكاراتهم املرصفية واملالية ،بالرغم من أن نتائج األخرية قد تكون أكثر
أهمية.
كذلك األمر ،فاألعمال املوسيقية لـِ"باخ" ،و"موزارت" ،و"بيتهوفني" ،وملحني
عرص النهضة ،والعرص الكالسيكي والعرص الرومانيس تتفوق عىل األصوات الحيوانية
الحالية التي تُسجَّ ل عىل شكل عينات من بضع دقائق ،تنتجها استوديوهات عديدة بشكل
رسيع ،وتستفيد من بيع الناس ما يالمس غرائزهم األساسية .ففي حني كانت موسيقى
114
النقد والتفضيل الزمني
العرص الذهبي تالمس روح املرء وتوقظه ليفكر يف نداءات أرقى من ضجيج الحياة
اليومية الدنيوي ،إال أن ضجيج املوسيقى الحديثة يالمس غرائز املرء الحيوانية األساسية،
ليُشتِّته عن حقائق الحياة بدعوته إىل االنغماس يف امللذات الحسية الفورية دون االهتمام
بالعواقب طويلة األمد أو أي يشء قد يكون أكثر عمقاً .فلقد كان النقد الصعب هو من
مَوَّل "براندينربج كونسريتو" ل ِـ "باخ" يف حني مَوَّل النقد السهل رقصات هز املؤخرة
ل ِـ"ماييل سايرس".
ففي زمن النقد السليم والتفضيل الزمني املنخفض ،ينشغل الفنانون يف إتقان
حِ ْرفتهم ليكونوا قادرين عىل إنتاج أعمال َقيِّمة تبقى عىل املدى الطويل ،فقد أمضوا أعواما ً
يف تَعلُّم التفاصيل الدقيقة والتقنيات املعقدة لعملهم ليجعلوه مثاليا ً ويبدعوا يف تطويره
ظ أح ٌد برشفبشكل يفوق قدرات اآلخرين ،ولكي يذهلوا ُرعاتَهم وعامة الشعب .فلم يح َ ٍ
َ
لقب "الفنان" دون سنوات من العمل الشاق يف تطوير وتحسني حِ ْرفته ،ولم يَقم
تعال عن ماهية الفن ،وعن عُ مْ ِق انتاجاتهم
الفنانون بإلقاء املحارضات عىل العامة ِب ٍ
َدَّع باخ يوما ً أنه عبقري ،ولم يُ ِطل
الكسولة التي استغرق إنتاجها يوما ً فقط .ولم ي ِ
الحديث باعتبار موسيقاه أكثر أهمية من موسيقى اآلخرين ،بل أمىض حياته يف جعلها
مثالية .فأمىض مايكل أنجلو أربع سنوات مُعلَّقا ً من سقف كنيسة "سيستني" وهو يعمل
معظم اليوم مع قليل من الطعام لريسم تُحفته الفنية ،حتى أنه كتب قصيدة ِليَصف فيها
16
صعوبة عمله:
16جون أدينغتون سيمونز ،أشعار مايكل أجنلو بوانرويت (لندن :مسيث إلدر وشركاه.)1904 ،
115
معيار البيتكوين
ففقط عَ ْرب هذه املجهودات الدقيقة وبالغة االهتمام بالتفاصيل عىل مدى عقود
من الزمن ،نجح أولئك العباقرة بإنتاج تلك التحف الفنية مُخلِّدين أسماءهم كأسياد
مهنتهم .أما يف عرص النقد غري السليم ،فال يملك أي فنان تفضيال ً زمنيا ً منخفضا ً ليعمل
بجد لوقت طويل كما عمل مايكل أنجلو أو باخ ليتعلما مهنتهما جيدا ً أو ليمضيا زمنا ً
ظهر لنا أعماال ً فنية ال يتطلب ً
جولة يف معرض للفنون الحديثة ستُ ِ طويال ً يف إتقانها .إن
إنتاجها أكثر من جهد أو موهبة طفل يف السادسة من عمره وهو يشعر بالضجر.
فاستبدل الفنانون املعارصون الحرفة وساعات التدريب الطويلة بالغطرسة ،وقوة
بل لجذب املشاهدين إىل تقدير فنهم ،وكثريا ً ما الصدمة ،والسخط ،والقلق الوجودي ُ
كس ٍ
يضيفون تظاهرا ً باملثاليات السياسية التي تكون عادة من التعددية املاركسية الصبيانية
وذلك ليَدَّعوا العمق ،لدرجةٍ يمكن القول أن أي يشء جيد عن "الفن" الحديث ،هو أنه فن
ذكي ،لكن عىل شكل خدعة أو ُدعابة .فال يوجد أي يشء جميل بالنسبة إىل ناتج أو عملية
تشكيل معظم الفن الحديث ،ألنه أُنتج خالل ساعات فقط من قبل فاشلني كسولني
عديمي املوهبة لم يتعبوا أنفسهم يوما ً يف التمرن عىل حرفتهم .فالتظاهر الرخيص،
116
النقد والتفضيل الزمني
والفحْ ش وقوة الصدام بالقيم تجذب االنتباه لهذا الفن الحديث الزائف ،أضف إىل ذلك ُ
السجاالت الطويلة والالذعة التي تهني اآلخرين ألنهم ال يفهمون هذا الفن الزائف.
الرعاة ذوي التفضيل ومع استبدال النقد السليم بالنقد الحكومي ،تم استبدال ُّ
الزمني املنخفض والذوق الرفيع ببريوقراطيني حكوميني أصحاب أجندات سياسية فظةَّ
ً
مهمة ،حيث كذوقهم الفني .لهذا وبشكل طبيعي ،لم تعد أمور الجمال أو الديمومة أمورا ً
أنه تم استبدالهما بالثرثرة السياسية والقدرة عىل إذهال البريوقراطيني الذين يسيطرون
عىل معظم موارد التمويل للمعارض واملتاحف الكبرية ،والتي أصبحت احتكارا ً محميا ً من
الحكومة للذوق ومعايري التعليم الفنية .فاملنافسة الحرة بني الفنانني واملتربعني استُبدلت
اليوم بتخطيط مركزي من قبل بريوقراطيني عديمي املسؤولية ،وبالطبع بنتائج كارثية
متوقعة .ففي األسواق الحرة ،الرابحون هم دائما ً من يقدمون السلع التي يعتربها الناس
األفضل ،ولكن عندما تكون الحكومة مسؤولة عن تحديد الرابحني والخارسين ،يصبح
األشخاص الذين ليس لديهم أي يشء جيد ليفعلوه يف حياتهم سوى العمل كبريوقراطيني
حكوميني هم حكام الذوق والجمال .وبدال ً من أن يتم تحديد نجاح الفن من قبل األفراد
الذين نجحوا يف تحصيل ثروة عرب عدة أجيال من الذكاء والتفضيل الزمني املنخفض،
أصبح يُحدد من قبل أشخاص ذوي انتهازية تسمح لهم انتهازيتهم بصعود النظام
السيايس والبريوقراطي بأفضل شكل ممكن .ومعرفة هذا النوع من األشخاص سطحيا ً
كفيلة بالتفسري ألي شخص كيف وصلنا لفظاعة ما وصل الفن الحديث إليه.
ويف مملكة السيطرة الخاصة بهم واملتنامية بنقودهم الورقية ،تُخصص كل
الحكومات الحديثة تقريبا ً موازنات لتمويل الفن والفنانني يف وسائط اإلعالم املختلفة.
ولكن مع مرور الوقت ،ظهرت قصص غريبة بالكاد يمكن تصديقها عن تدخل حكومي
خفي يف الفن من أجل أجندات سياسية .ففي حني مَوَّل ووَجَّ ه االتحاد السوفييتي "الفن"
الشيوعي لتحقيق أهداف سياسية ودعائيةُ ،كشف مؤخرا ً أن وكالة املخابرات املركزية
( )CIAردت باملثل بتمويل وترويج أعمال الزائفني واالنطباعيني التجريديني أمثال
117
معيار البيتكوين
"مارك روثكو" و"جاكسون بولوك" ليكونوا النقيض األمريكي 17.ال يمكن أن نصل إىل
َ
عمالقني اقتصادياً ،وعسكرياً، هذه املأساة الفنية إال بالنقد غري السليم ،حيث أن أكرب
وسياسيا ً يف العالم كانا يروجان ويموالن بشكل نشط فضالت تافهة اختارها أشخاص
ذوقهم الفني يؤهلهم للعمل يف وظائف يف وكاالت التجسس والوكاالت البريوقراطية يف
واشنطن وموسكو.
فمع استبدال آل ميديتيش بما يقابلهم فنيا ً بعمال دائرة املركبات املتحركة
( ،)DMVكانت النتيجة عاملا ً فنيا ً مليئا ً بقذارات برصية مثرية لالشمئزاز ،أ ُنتجت يف
غضون دقائق من قبل حمقى كسولني عديمي املوهبة يبحثون عن مصدر دخل رسيع عن
طريق خداع أولئك الطامحني للوصول إىل الطبقة الفنية يف العالم بقصص م َّ
ُلفقة عديمة
املعنى بكونها تمثل شيئا ً آخر غري الفساد الكيل لذلك املخادع الذي يَدَّعي أنه فنانَ .فـ
"فن" مارك روثكو استغرق ساعات فقط الكتماله ،لكنه ِبيع لساذجني يحملون املاليني
من عملة اليوم غري السليمة ،مرسخني بذلك الفن الحديث بكونه أكرب حيلة بعرصنا
لكيفية أن تصبح ثريا ً وبشكل رسيع .فليس مطلوبا ً من الفنان املعارص أن يكون موهوبا ً
متعال عىل
ٍ أو أن يعمل بجد أو اجتهاد ،بل يجب عليه أن يحتفظ بوجه جدي وسلوك
الناس عندما يرشح لألثرياء الجدد عن سبب كون بقع الطالء عىل لوحته هي أكثر من
مجرد بقع طالء قبيحة عشوائية ،وكيف أنه يمكن عالج عدم قدرتنا عىل فهم هذا العمل
فرس عن طريق تقديم ودفع مبلغ ضخم لهم. الفني غري املُ َّ
إن املذهل يف هذا األمر ليس هو تفوق التافهني أمثال روثكو يف عالم الفن
الحديث فحسب ،بل الغياب الواضح للتحف الفنية العظيمة التي يمكن مقارنتها بأعمال
املايض العظيمة .فاليوم ال بُ ّد للمرء من مالحظة قلة األبنية املشابهة لكنيسة سيستني يف
أي مكان؛ أو عدم وجود وفرة من التحف الفنية التي يمكن مقارنتها بلوحات مهمة
كأعمال "ليوناردو" ،و"رافائيل" ،و"رامربانت" ،و"كارفاجيو" ،أو "فريمري" .ويصبح
األمر أكثر إذهاال ً عندما يدرك املرء أن تطورات التكنولوجيا والتحول الصناعي تجعل
اقرأ كتاب فرانسيس ستونور سوندرز ،احلرب الباردة الثقافية :وكالة املخابرات املركزية وعامل الفنون واألحرف 17
118
النقد والتفضيل الزمني
فلقد ظهرت قصص عديدة عىل مر السنني عن مخادعني قاموا بوضع أغراض
عشوائية يف متاحف الفن الحديث ،ليتجمع حولها فقط محبو الفن الحديث منبهرين،
مُعربين عن الفراغ الكيل للذوق الفني يف عرصنا .لكن ليس هناك ما يعرب عن قيمة الفن
الحديث أكثر من الحراس الكثريين ملعارض الفن الحديث يف أنحاء العالم ،الذين يُظهرون
ٍ
حديث باهظ بصري ًة وإخالصا ً رائعا ً يف عملهم ،حيث قاموا وبشكل متكرر بإلقاء نتاج ٍ
فن
فبعض من أهم رموز "فناني" عرصنا ،أمثال "داميان ٌ الثمن يف القمامة إىل حيث ينتمي.
هريست" ،و"غوستاف" و"ميتزغر" ،و"ترييس إمني" ،والثنائي اإليطايل "سارا
حراس أكثر حكمة من األغنياء
ٍ غولدشميد" و"إليونورا كيارا" ،القوا هذا التقييم من قبل
املعارصين فاقدي الثقة بأنفسهم والذين أنفقوا ماليني الدوالرات عىل ما رماه الحراس.
ف ِلكونها عارا ً لعرصنا قد تمت بتمويل حكومي ،يمكن تربير تجاهل كل هذه
الخربشة عديمة القيمة ورؤية ما هو قيِّم خلفها .ففي النهاية ،لن يحكم أحد عىل دولة
مثل الواليات املتحدة وفقا ً لترصفات موظفي دائرة املركبات املتحركة عديمي الفائدة
الذين يأخذون قيلولة أثناء دوامهم ،ويفرغون إحباطهم عىل زبائنهم العاجزين .وربما ال
يجب أن نحكم أيضا ً عىل عرصنا بنا ًء عىل عمل موظفني حكوميني ينرشون قصصا ً عن
أكوام أوراق عديمة الفائدة كما لو أنها كانت إنجازات فنية .لكن ومع ذلك ،يتضاءل أعداد
هذه األشياء التي نستطيع إيجادها مقارنة باملايض .ففي كتابه من الفجر إىل اإلنحدار،
الذي يقدم نقدا ً الذعا ً عن الثقافة "الشعبية" الحديثة ،يقول "جاك برازون" " :إن كل ما
119
معيار البيتكوين
120
الفصل السادس
َّ
الحق يف إنتاج أموال جيدة هو ما " َمن ْ ُع الحكومات الرشكات واملشاريع الحرة
يُسبِّب موجات من البطالة وليست ‘الرأسمالية‘ هي من تسبب ذلك".
-فريدريك هايك
إن وظيفة النقد األساسية كوسيط للتبادل هي السبب الذي يسمح للجهات
االقتصادية الفاعلة بالتخطيط وإجراء الحسابات االقتصادية .فعند انتقال اإلنتاج
االقتصادي من مرحلته شديدة البدائية ،خصوصا ً عند عدم وجود إطار مرجعي ثابت
يمكن استخدامه ملقارنة قيمة األغراض املختلفة فيما بينها ،تُصبح عملية اإلنتاج
واالستهالك واتخاذ قرارات التجارة أكثر صعوبة .إن هذه الخاصية كوحدة حساب هي
ثالث وظيفة للنقد بعد كونه وسيطا ً للتبادل ومخزونا ً للقيمة .ولفهم أهمية هذه الخاصية
بالنسبة إىل النُّظم االقتصادية ،فإننا سنقوم باتِّباع ُخطى الحكماء يف سعيهم لفهم األسئلة
االقتصادية ،وبمعنى آخر ،سنلجأ إىل أعمال االقتصاديني النمساويني الراحلني.
إن أُطروحة فريدريك هايك" ،استخدام املعرفة يف املجتمع" ،قد تكون إحدى
أهم األطروحات االقتصادية التي تم نرشها عىل اإلطالق .فعىل عكس األبحاث األكاديمية
النظرية الحديثة غري الهامة والتي ال يقرؤها أحد ،ما تزال الصفحات اإلحدى عرشة من
هذه األطروحة تُقرأ عىل نطاق واسع حتى بعد مرور 70سنة عىل نرشها ،كما أنها تركت
ً
دائمة يف حياة وأعمال الكثريين يف أنحاء العالم ،ربما كان أكثرها أهمية هو دورها ً
بصمة
يف تأسيس أحد أهم املواقع اإللكرتونية عىل اإلنرتنت ،وأكرب كتلة مجتمعة من املعرفة يف
121
معيار البيتكوين
رصح "جيمي ويلز" مؤسس "ويكيبيديا" ،أن فكرة إنشاء تاريخ البرشية ،حيث َ َّ
"ويكيبيديا" تبادرت إىل ذهنه بعد أن قرأ أطروحة هايك وتفسريه للمعرفة.
يرشح هايك ،وعىل عكس عملية التعامل الشائعة واألولية مع املوضوع ،أن
املشكلة االقتصادية ليست هي مشكلة تخصيص املوارد واملنتجات ،لكنها وبدقة أكرب ،هي
مشكلة تخصيص هذه املوارد واملنتجات باستخدام معرفة ال يمكن ألي فرد أو كيان ما أن
يحيط بها جميعها بمفرده .فاملعرفة االقتصادية لحاالت اإلنتاج والتوفر النسبي مع وُفرة
عوامل اإلنتاج وتفضيالت األفراد ،هي ليست معرف ًة موضوعية يمكن أن يحيط بها كيان
بمفرده .ويمكننا القول أن معرفة الظروف االقتصادية بطبيعتها هي معرفة م َّ
ُوزعة
وكامنة لدى الناس املعنيني وذلك من خالل اتخاذهم لقراراتهم الفردية .فيُميض كل
شخص وقته يف فهم وتعلم املعلومات االقتصادية املفيدة له ،ويميض األفراد األذكياء
ملنصب
ٍ والكادحون عقودا ً يف تعلم الحقائق االقتصادية لصناعاتهم وذلك لكي يصلوا
لطة عىل عمليات إنتاج سلعة واحدة فقط .لهذا ،من غري املُتصور االستعاضة يمنحهم ُس ً
عن كل تلك القرارات الفردية وتجميع كل املعلومات يف عقل فرد واحد ليجري الحسابات
نياب ًة عن الجميع ،كما أنه ال حاجة لهذا السعي الجنوني لرتكيز كل املعرفة يف يدي صانع
قرار وحيد.
ففي نظام اقتصادي قائم عىل حرية السوق ،تكون األسعار بمثابة املعرفة
واإلشارات التي تنقل وتُرسل املعلومات ،وبهذا يستطيع كل صانع قرار اتخاذ قراراته
بتفحص أسعار السلع املعنية ،والتي تحمل خالصة كل ظروف وحقائق السوق يف متغري
عميل بالنسبة إىل ذلك الفرد .وبدورها ،ستؤدي قرارات كل فرد دورا ً يف تحديد السعر ،وال
تستطيع أية ُسلطة مركزية استيعاب كل املعلومات املُحدِّدة للسعر أو استبدال عملها.
لفهم وجهة نظر هايك ،تخيل حدوث زلزال ي ُسبب دمارا ً كبريا ً يف البنية التحتية
لدولة ما بحيث تكون هذه الدولة هي أكرب مُنتِج لسلعة أساسية يف العالم ،مثل زلزال عام
2010يف "تشييل" ،والتي هي أكرب مُنتِج للنحاس يف العالم .لقد رضب الزلزال منطقة
تَ ْكثُر فيها مناجم النحاس ،مما تسبَّبَ يف أرضار جسيمة لهذه املناجم وللمرفأ البحري
الذي يتم منه تصدير النحاس .فأدى هذا إىل انخفاض عرض النحاس يف أسواق العالم
122
نظام املعلومات الرأسمالية
ارتفاع مبارش ألسعاره بنسبة 1.%6.2كل من له عالقة بسوق النحاس يف العالم ٍ وإىل
سيتأثر بهذا األمر ،ولكن اتخاذ القرارات لن يتطلب منهم معرفة يشء عن الزلزال أو
تشييل أو ظروف السوق .فارتفاع السعر نفسه يحتوي عىل كل املعلومات الالزمة لهم
التخاذ القرار .نتيجة لهذا وعىل الفور ،تَولَّد لدى كل الرشكات التي تطلب النحاس حافزا ً
لطلب كميات أقل منه ،وتأجيل املشرتيات غري الرضورية وغري العاجلة ،وإيجاد بدائل.
باملقابل ،ي ُولِّد ارتفاع السعر حافزا ً لكل الرشكات التي تُنتِج النحاس يف كل أنحاء العالم
إلنتاج املزيد منه لالستفادة من ارتفاع السعر.
فمع االرتفاع الطفيف يف السعر ،أصبح لكل املعنيني يف صناعة النحاس يف كافة
خفف من عواقب الزلزال السلبية :فاملُنتِجون أنحاء العالم حافزا ً ليترصفوا بطريقة ت ُ ِّ
سيوفرون املزيد يف حني سيطلب املستهلكون كميات أقل .بالنتيجة ،عَ جْ ز اإلنتاج الذي
سبَّبه الزلزال لم يكن كارثيا ً كما كان من املحتمل حدوثه ،واألرباح اإلضافية من األسعار
املرتفعة قد تساعد عمال املناجم عىل إعادة بناء البنية التحتية الخاصة بهم ،ويف غضون
أيام ،عاد السعر إىل طبيعته .إن هذه االضطرابات الفردية أصبحت أقل أثرا ً من السابق
صنَّاع السوقبعد أن أصبحت األسواق العاملية أكرب وأكثر اندماجاً ،حيث أصبح لدى ُ
َ
العمق والسيولة الكافية ليتجاوزوها برسعة وبأقل الخسائر.
ولفهم قوة األسعار كطريقة إليصال ونقل املعرفة ،تخيل أنه يف اليوم الذي
سبق الزلزال أن صناعات النحاس بأكملها توقفت عن كونها مؤسسة سوق وتحولت بدال ً
من ذلك لتصبح تحت سلطة وكالةٍ مختصة ،بمعنى أن اإلنتاج سيتم تخصيصه دون
االستعانة أو الرجوع إىل األسعار .كيف ستكون ردة فعل هذه الوكالة عىل الزلزال؟ كيف
نتاجه من بني كل مُنتِجي النحاس الكثريين يف أنحاء
ستقرر من يتوجب عليه زيادة إ ِ
ُ
العالم ،وما هي نسبة الزيادة؟ ففي نظام مرتبط باألسعار ،ستَنظر إدارة كل رشكة إىل
أسعار النحاس وأسعار كل مستلزمات إنتاجه لتصل وتجد مستوى اإلنتاج الجديد األكثر
1بني روين" ،ارتفاع أسعار النحاس بعد زلزال تشيلي" 1( CNN Money ،مارس .)2010 ،متوفر على
الرابط /http://money.cnn.com/2010/03/01/markets/copper
123
معيار البيتكوين
َّ
ليتوصلوا إىل هذه اإلجابات فعالية .فيعمل الكثري من الخرباء عقودا ً من الزمن يف رشكة
بمساعدة األسعار ،فهؤالء األفراد يعرفون رشكتهم أكثر من املخططني املركزيني الذين ال
يستطيعون االعتماد عىل األسعار .كذلك أيضاً ،كيف سيقرر املخططون مَ ن تحديدا ً من
مستهلكي النحاس عليه تخفيض استهالكه وما هي كمية التخفيض خصوصا ً عندما ال
يكون هناك أسعار تسمح للمستهلكني بكشف تفضيالتهم؟
لهذا ،مهما تكن كمية املعرفة والبيانات املوضوعية التي ستجمعها الوكالة ،فلن
يكون لدى تلك الوكالة أي إملا ٍم أبدا ً بكل املعارف املُ َّ
وَزعة التي تؤثر يف القرارات التي
يتخذها كل فرد ،بما فيها تفضيالتهم وتقييمهم لألشياء .بالتايل ،إن األسعار ليست مجرد
أداة ليكسب منها الرأسماليون ،بل إنها نظام املعلومات الخاص باإلنتاج االقتصادي الذي
ظم عمليات اإلنتاج املعقدة .فالنظام االقتصادي الذي ينقل املعلومات عرب العالم ويُن َ ِّ
وسيعيد املجتمعيحاول االستغناء عن األسعار سيُسبِّبُ انهيارا ً كامال ً للنشاط االقتصادي ُ
البرشي إىل حالته البدائية.
124
نظام املعلومات الرأسمالية
فكان خطأ االشرتاكية الفادح الذي كشفه ميزس ،هو أنه بغياب آلية لتحديد
لألسعار يف األسواق الحرة ،سيفشل النظام االشرتاكي يف إجراء الحسابات االقتصادية،
خاصة يف توزيع وتخصيص السلع الرأسمالية 3.فاإلنتاج الرأسمايل كما ذُكر سابقاً،
يتضمن وسائل إنتاج تزداد تعقيدا ً بشكل تدريجي ،ويتضمن آفاقا ً زمنية أكثر بعدا ً وعددا ً
كبريا ً من السلع الوسيطة التي ال تُستهلك بحد ذاتها ،بل يتم إنتاجها فقط كي ت ُ ِ
شارك يف
إنتاج سلع استهالكية نهائية للمستهلكني يف املستقبل .وبهذا ،ال تنشأ بُنية اإلنتاج املتقدمة
إال من خالل شبكة معقدة من حسابات فردية يُجريها منتجو كل سلعة رأسمالية (سلعة
2ستيفان كورتوا ،نيوكالس فريث ،كاريل ابرتوسك ،أندزيه ابتشكوفسكي ،جان لويس ابنيه ،وجان لويس
مارغولني ،الكتاب األسود للشيوعية :جرائم ،إرهاب ،وكبت (صحافة جامعة هارفارد.)1997 ،
3لودفيغ فون ميزس ،االشرتاكية :حتليل اقتصادي واجتماعي .مؤسسة لودفيغ فون ميزس .أوبرن ،أالابما 2008
(.)1922
125
معيار البيتكوين
ويف النظم االشرتاكية ،تملك وتسيطر الحكومة عىل وسائل اإلنتاج ،فتصبح
مبارش ًة هي البائع واملشرتي الوحيد لكل السلع الرأسمالية يف االقتصاد .إن هذه املركزية
تُعيق عمل السوق الحقيقة ،مما يجعل القرارات السليمة املبنية عىل األسعار أمرا ً
مستحيالً .فدون وجود سوق لرأس املال تستطيع فيه أطراف مستقلة عرض أسعارهم،
ال يمكن أن يتواجد سعر لرأس املال باملجمل أو للسلع الرأسمالية الفردية .ودون وجود
أسعار للسلع الرأسمالية تعكس العرض والطلب النسبي عليها ،لن يكون هناك طريقة
عقالنية لتحديد االستخدامات األكثر إنتاجية لرأس املال ،وال طريقة عقالنية لتحديد كمية
إنتاج كل سلعة رأسمالية .ففي عالَ ٍم تمتلك فيه الحكومة مصنع الفوالذ ،باإلضافة إىل كل
املصانع التي تستخدم الفوالذ يف إنتاج سلع رأسمالية (إنتاجية) واستهالكية متعددة ،لن
يظهر سع ٌر للفوالذ ألي من السلع التي يُستخدم يف إنتاجها ،وبالتايل ،من املستحيل معرفة
استخداماته األكثر أهمية وقيمة .فكيف يمكن للحكومة أن تحدد إذا كانت كمياتها
املحدودة من الفوالذ يجب أن يتم استخدامها يف صناعة السيارات أو القطارات ،علما ً أنها
هي أيضا ً من يملك مصانع السيارات والقطارات بل وتفرض مرسوما ً عىل املواطنني
يقيض بعدد السيارات والقطارات التي يمكنهم امتالكها؟ فدون وجود نظام أسعار لكي
يستطيع املواطنون من خالله اختيار السيارات أو القطارات ،تستحيل معرفة التخصيص
األمثل واالستخدام األهم للفوالذ .واستطالع رأي املواطنني بهذه الحالة عديم الجدوى ألنه
ال قيمة لخيارات الناس دون سعر لكي يفكروا بتكلفة الفرصة البديلة الحقيقية
للمقايضة بني الخيارين ،حيث أن استطالع الرأي الذي يفتقر لألسعار سيكشف لنا أن
الجميع سريغب بسيارة فرياري ،لكن بالطبع عندما يضطر الناس لدفع الثمن ،ستختار
4هناك أخطاء كثرية يف االقتصاد الكينيزي ،لكن أكثرها سخافة يف الغالب هو الغياب الكامل ألي إدراك لطريقة
عمل بنية اإلنتاج الرأمسايل.
126
نظام املعلومات الرأسمالية
قلة فقط سيارة الفرياري .ولهذا ،ال يمكن للمخططني املركزيني معرفة تفضيالت كل فرد
وال تخصيص املوارد بطريقة تُلبِّي احتياجات الفرد بأفضل شكل ممكن.
إن هذا كله مجرد جانب واحد من مشكلة الحساب متعلقة فقط بإنتاج سلع
موجودة مسبقا ً يف سوق ثابت ،واملشكلة تتضح أكثر عندما يتذكر املرء أن ال يشء ثابت يف
العالقات البرشية ،حيث أن البرش يسعون دائما ً إىل تحسني وضعهم االقتصادي إلنتاج
سلع جديدة ،وإيجاد طرق أكثر وأفضل إلنتاج السلع .فدافع املرء األزيل لإلصالح،
والتحسن ،واالبتكار يُمثل املشكلة األكثر استعصاء لالشرتاكية .فحتى إن نجح نظام
التخطيط املركزي يف إدارة اقتصاد ثابت ،فال قدرة له عىل التأقلم مع التغيري أو السماح
بتنظيم املشاريع وريادة األعمال .فكيف يمكن لنظام اشرتاكي إجراء حسابات للتقنيات
واالبتكارات غري املوجودة ،وكيف يمكن تخصيص عوامل إنتاج لها إذا لم يكن هناك
إشارة عىل نجاح هذه املنتجات؟
127
معيار البيتكوين
َغضون الطرف عن"أولئك الذين ال يميزون بني ريادة األعمال واإلدارة ي ُّ
املشكلة االقتصادية ...فالنظام الرأسمايل ليس نظاما ً إدارياً؛ إنه نظام ريادي".
5
-لودفيغ فون ميزس
ففي سوق حرة لألموال القابلة لإلقراض ،تزداد كمية األموال املعروضة مع
ارتفاع معدل الفائدة كما هو الحال يف كل منحنيات العرض .بمعنى آخر ،كلما ارتفع
128
نظام املعلومات الرأسمالية
معدل الفائدة ،ازداد ميل الناس إىل االدخار وتقديم مدخراتهم إىل منظمي املشاريع
والرشكات .لكن باملقابل ،الطلب عىل القروض مرتبط عكسيا ً بمعدل الفائدة ،أي أن رواد
املشاريع والرشكات سريغبون باقرتاض مبالغ أقل عندما يرتفع معدل الفائدة.
ومعدل الفائدة يف سوق حرة لرؤوس األموال سيكون إيجابيا ألن التفضيل
الزمني اإليجابي لدى الناس يعني أن ال أحد سيتخىل عن أمواله إال إذا حصل عىل املزيد
منها يف املستقبل .وغالباً ،املجتمعات التي يَ ْكثُر فيها أصحاب التفضيل الزمني املنخفض
يكون لديها الكثري من املدخرات ،مُقللة بذلك معدل الفائدة ومُؤمِّن ًة رؤوس أموال كبرية
كي تستثمرها الرشكات ،مما يؤدي إىل نمو اقتصادي كبري يف املستقبل .ولكن عند ارتفاع
التفضيل الزمني يف املجتمع ،فإن احتمال ادخار األفراد يقل ،وترتفع معدالت الفائدة،
وتقل رؤوس األموال التي يستطيع املنتجون اقرتاضها .وبهذا ،إن املجتمعات التي تحيا
بسالم وفيها حقوق ملكية آمنة ودرجة كبرية من الحرية االقتصادية غالبا ً ما تكون ذات
تفضيل زمني منخفض حيث تؤمِّ ن هذه املجتمعات حافزا ً كبريا ً لألفراد لتقليل الحسم
عىل مستقبلهم .لدرجة أن اقتصاديا ً نمساويا ً آخر" ،يوجني فون بوم-بافرك" ،ذهب إىل
أن معدل الفائدة يف دولة ما يعكس مستواها الثقايف وقال" :كلما ارتفع ذكاء األفراد
وقوتهم األخالقية ،ازداد ادخارهم وانخفض معدل الفائدة".
6أهم األدوات اليت تستخدمها البنوك املركزية :حتديد معدل النقد الفيدرايل ،وحتديد نسبة االحتياطي النقدي
الالزمة ،واملشاركة يف عمليات السوق املفتوحة ،وحتديد املعايري املؤهلة لإلقراض .ميكن إجياد تفسري مفصل عن آلية
استخدام تلك األدوات يف أي دليل متهيدي عن االقتصاد الشامل .للتلخيص :ميكن للبنك املركزي أن يشارك يف
السياسة النقدية التوسعية عن طريق ( ) 1ختفيض معدالت الفائدة ،مما ُيفز على اإلقراض ويزيد من استحداث
129
معيار البيتكوين
إن أية معرفة طفيفة باالقتصاد ستجعل من مخاطر التحكم باألسعار أمرا ً
جليا ً وواضحاً .فإن ق َّررت الحكومة تحديد سعر التفاح ومنعت تغيريه ،ستكون النتيجة
النقد؛ ( ) 2ختفيض نسبة االحتياطي النقدي الالزمة ،مما يسمح للمصارف بزايدة قروضها ،مما يزيد من استحداث
النقد؛ ( )3شراء اخلزائن واألصول املالية ،مما يؤدي أيضاً إىل استحداث النقد؛ و( )4تسهيل املعايري املؤهلة
لإلقراض ،مما يسمح للمصارف بزايدة اإلقراض وابلتايل استحداث النقدُ .جترى السياسة النقدية االنكماشية
بعكس هذه اخلطوات ،مما يؤدي إىل اخنفاض يف العرض النقدي ،أو على األقل اخنفاض يف معدل منو العرض
النقدي.
130
نظام املعلومات الرأسمالية
إما شحا ً أو فائضا ً وخسارات كبرية للمجتمع بأكمله نتيجة لزيادة أو نقص اإلنتاج.
يحدث يشء مشابه يف األسواق الرأسمالية ،لكن اآلثار تكون أكثر رضرا ً ألنها تؤثر يف كل
قطاعات االقتصاد ،وذلك ألن رأس املال له دور يف إنتاج كل السلع االقتصادية.
ومن املهم أوال ً فِ هْ م الفرق بني األموال القابلة لإلقراض والسلع الرأسمالية
الحقيقية .ففي اقتصاد سوق حرة بنقد سليم ،يجب عىل املدخرين تأجيل االستهالك من
أجل االدخار .واملال الذي يُودَع يف مرصف كمدخرات سيكون ماال ً ال يمكن استهالكه من
قبل أشخاص يؤجلون املتعة التي قد يقدمها االستهالك لهم كي يحصلوا عىل متعة أكرب
يف املستقبل .بهذا األمر ،تُصبح كمية املدخرات هي نفسها كمية األموال القابلة لإلقراض
املتاحة للمنتجني لكي يقرتضوها ،ويرتبط توفر السلع الرأسمالية ارتباطا ً وثيقا ً
بتخفيض االستهالك :فاملوارد املادية الفعلية ،واليد العاملة ،واألرض ،والسلع الرأسمالية
ظفة لتأمني سلع استهالكية نهائية إىل إنتاج السلع الرأسمالية. ستنتقل من كونها مُو َّ
وبهذا ،يتم توجيه العامل الهاميش من بيع السيارات إىل وظيفةٍ يف مصنع السيارات،
بمعنى أنه سيتم بذر بذور الذرة يف األرض بدال ً من أكلها.
إن الندرة هي النقطة األساسية يف بداية كل اقتصاد ،وأهم أثر لها هي الفكرة
بأن لكل يشء تكلفة فرصة بديلة .ففي السوق الرأسمالية ،تكون تكلفة الفرصة البديلة
لرأس املال هي االستهالك املُتنا َزل عنه ،وتكلفة الفرصة البديلة لالستهالك هي االستثمار
الرأسمايل املتنازل عنه ،ومعدل الفائدة هو السعر الذي يُنظم هذه العالقة :فعندما يطالب
الناس بزيادة االستثمارات ،يرتفع معدل الفائدة مُحفزا ً عددا ً أكرب من املُدخرين ليدَّخروا
املزيد من أموالهم .أما عندما ينخفض معدل الفائدة ،فإنه ي ِّ
ُحفز املستثمرين عىل املشاركة
إنتاج متقدمة تكنولوجيا ً بآفاق زمنية ٍ يف املزيد من االستثمارات ،وعىل االستثمار يف طرق
أطول .وبالتايل ،إن معدل الفائدة املنخفض يسمح باستخدام وسائل إنتاج أطول أمدا ً
وأكثر إنتاجية :فينتقل املجتمع من الصيد باستخدام الصنارة إىل الصيد بقوارب كبرية
تعمل عىل الوقود.
ومع تطور االقتصاد وازدياد درجة تعقيده ،ال يتغري الرابط بني رأس املال
املادي وسوق األموال القابلة لإلقراض يف العالم الحقيقي ،لكن هذا الرابط يصبح أكثر
131
معيار البيتكوين
تشوشا ً يف عقول الناس .فاالقتصاد الحديث ذي البنك املركزي يُبنى عىل تجاهل هذه
املقايضة األساسية وافرتاض أنه يمكن للمصارف تمويل االستثمارات بأموال جديدة دون
أن يضطر املستهلكون للتنازل عن استهالكهمُ .
فقطعَ ت الصلة بني املُدَخرات واألموال
القابلة لإلقراض إىل درجة أنها لم تعد تُد ََّرس يف مراجع االقتصاد حتى 7،ناهيك عن
العواقب الكارثية لتجاهلها.
وما دام البنك املركزي يدير العرض النقدي ومعدل الفائدة فسيكون هناك
تناقض حتمي بني املدخرات واألموال القابلة لإلقراض .فالبنوك املركزية بشكل عام
تحاول تحفيز النمو االقتصادي واالستثمارات وزيادة االستهالك ،ولذلك تميل إىل زيادة
العرض النقدي وتخفيض معدل الفائدة ،مما يجعل كمية األموال القابلة لإلقراض أكرب
من كمية املدخرات .ومع معدالت الفائدة هذه املنخفضة صنعياً ،تأخذ األعمال واملشاريع
التجارية قروضا ً (ديوناً) لتبدأ مشاريعا ً أكثر مما وضع املدخرون جانبا ً لتمويل تلك
االستثمارات ،أي أن قيمة االستهالك املؤجل أصغر من قيمة رأس املال املُقرتَض .ودون
كاف ،لن يكون هناك ما يكفي من رأس املال ،واألرض ،واليد العاملة تأجيل استهالك ٍ
لتحويلها من السلع االستهالكية إىل سلع رأسمالية رفيعة املستوى وذلك يف مراحل اإلنتاج
األولية .ففي نهاية األمر ،ال توجد وجبة غداء مجانية ،وإن ق َّل ادخار املستهلكني فحتما ً
ستقل رؤوس األموال املتاحة للمستثمرين .فعملية إصدار واستحداث األوراق الجديدة
والقيام بإدخاالت رقمية لهذه األوراق لسد النقص الحاصل يف املدخرات لن تزيد بشكل
سحري من مخزون رأس املال املادي؛ بل ستقوم بخفض قيمة العرض النقدي املوجود
حاليا ً وستشتت األسعار.
وال يظهر نقص رأس املال هذا عىل الفور ألن املصارف والبنك املركزي
تستطيع إصدار ما يكفي من هذا النقد للمقرتضني -فهذه يف نهاية األمر هي امليزة
7من املمتع دائماً أن أعلم طاليب يف السنة األخرية عن سوق مالية حرة افرتاضية ،وإن كان جملرد مشاهدة ردة
الفعل على وجوههم عندما يقارنون املنطق السليم للطريقة اليت ميكن أن تعمل هبا سوق مالية حرة ،مقارنة
بنظرايت التخطيط املركزي الكينيزية غري العلمية اليت تعلموها يف حصص النظرية النقدية لسوء حظهم.
132
نظام املعلومات الرأسمالية
الرئيسية الستخدام النقد غري السليم .ولكن بالطبع سيكون هذا التالعب بسعر رأس املال
مستحيال ً يف اقتصاد ذي نقد سليم :فما أن يتم ضبط معدل الفائدة ليصبح منخفضا ً
بشكل صنعي ،فإن نقص املدخرات يف املصارف سينعكس بانخفاض رأس املال املتاح
ارتفاع يف معدل الفائدة ،األمر الذي سيُقلل من الطلب عىل
ٍ للمقرتضني ،مما سيؤدي إىل
القروض ويرفع من عرض املدخرات حتى يتساويا.
إن النقد غري السليم يجعل هذا التالعب ممكنا ً لكن بالطبع ملدة قصرية فقط،
حيث أنه من غري املمكن خداع الواقع إىل األبد .فمعدالت الفائدة املُ َّ
خفضة صنعيا ً مع النقد
إنتاج تتطلب مواردا ً من
ٍ املطبوع الفائض سوف تخدع املُنتِجني وتجعلهم يبدؤون عمليات
رأس املال أكثر مما هو مُتاح يف الحقيقة .فالنقد الفائض الذي ال يدعمه أي تأجيل
لالستهالك ،يؤدي إىل زيادة ما يقرتضه املنتجون يف البداية ،وهم يعملون تحت ْ
وَه ِم أن
النقود ستسمح لهم برشاء كل السلع الرأسمالية الالزمة لعملية اإلنتاج الخاصة بهم.
ولكن عندما يتنافس املزيد من املنتجني عىل سلع رأسمالية وموارد أقل ستكون النتيجة
الطبيعية ارتفاعا ً يف أسعار السلع الرأسمالية أثناء عملية اإلنتاج .عندها ،سيُكشف هذا
التالعب مؤديا ً إىل انهيار متزامن لعدة استثمارات رأسمالية والتي ستُصبح فجأ ًة غري
مربحة مع أسعار السلع اإلنتاجية الجديدة .إن هذه املشاريع هي التي سمَّ اها ميزس
بـ"االستثمارات السيئة" -وهي استثمارات لم تكن ستبدأ دون التالعب بالسوق
ُكشف سوء التخصيص الذي حصل .فتَ ُّ
دخل الرأسمالية ولن يكون إتمامها ممكنا ً ما أن ي َ
البنك املركزي بالسوق الرأسمالية يسمح بالرشوع بمزيد من املشاريع بسبب تحريف
األسعار الذي يجعل املستثمرين يخطئون التقدير ،حيث أنه ال يمكن لتدخل البنك
املركزي أن يزيد من كمية رأس املال الحقيقية املتاحة .لهذا ،ال تكتمل تلك املشاريع
اإلضافية وتصبح هدرا ً غري رضوري لرأس املال ،وسيؤدي إيقاف تلك املشاريع بشكل
متزامن إىل ارتفاع البطالة يف جميع مجاالت االقتصاد .إن هذا الفشل االقتصادي واسع
النطاق واملتزامن يف األعمال واملشاريع التجارية الكثرية والعاجزة عن أداء عملها هو ما
يعرف بالركود االقتصادي.
وال يمكن للمرء فهم أسباب الركود االقتصادي وتقلبات الدورة االقتصادية إال
بفهم الهيكل الرأسمايل وكيف يدمر التالعب بمعدل الفائدة الحاف َز لجمع رأس املال.
133
معيار البيتكوين
فالدورة االقتصادية هي النتيجة الطبيعية للتالعب بمعدل الفائدة والذي يشوِّش السوق
الرأسمالية بحيث يجعل املستثمرين يعتقدون أن بإمكانهم الحصول عىل رأس مال أكثر
من املتاح بالنقد غري السليم الذي أعطتهم إياه املصارف .وعىل عكس األساطري الكينيزية
فتور "بأرواح
ٍ الروحانية ،فالدورات االقتصادية ليست ظواهر غامضة نشأت بسبب
الحيوانات" بحيث يجب علينا أن نتجاهلها يف الوقت الذي يحاول فيه أصحاب البنوك
املركزية إيجاد حل للتعايف 8.فاملنطق االقتصادي يُظهر بوضوح أن الركود االقتصادي هو
النتيجة الحتمية للتالعب بمعدل الفائدة تماما ً كما أن العجز هو النتيجة الحتمية لعملية
كبح سقف األسعار.
ولتوضيح الفكرة ،يُمكننا استعارة تشبيه مُن َّمق من أعمال ميزس :9تخيل أن
مخزون رأس املال ملجتمع ما هو طوب بناء ،والبنك املركزي هو املقاول املسؤول عن بناء
بيوت منها .نحتاج 10,000طوبة لبناء كل بيت ،ويبحث املتعهد عن مقاول يستطيع
بناء مئة بيت بكلفة مليون طوبة باملجمل .لكن مقاوال ً كينيزيا ً يتوق للحصول عىل العقد،
سيستنتج أن فرصته بالحصول عىل العقد ستتحسن إن َقدَّم مناقصة يَعِ ُد فيها ببناء
120بيتا ً متماثال ً باستخدام 800,000طوبة فقط .إن هذا األمر يُماثِل عملية التالعب
بمعدل الفائدة حيث أنه يُقلل من عرض رأس املال يف حني يزيد الطلب عليه .يف الواقع،
يلزم 1.2مليون طوبة لبناء 120بيتاً ،لكن ال يوجد سوى 800,000طوبة متوفرة.
وتكفي األخرية للبدء ببناء البيوت املئة والعرشين ،لكنها ليست كافية إلنهائها .فعند بدء
عملية البناء ،يُرس املتعهد برؤية %20إضافية من البيوت بكلفة أقل بـ %80بفضل
أعاجيب الهندسة الكينيزية ،مما سيجعله ينفق الـ %20التي ادخرها من التكلفة عىل
رشاء يخت جديد .لكن لن تستمر هذه الخدعة طول الوقت ألنه سيصبح واضحا ً أنه من
8ال يوجد نقص يف بدائل النظرية الرأمسالية النمساوية كتفسري للركود االقتصادي ،مع هذا ،كل هذه البدائل هي
جمرد إعادة صياغة جلداالت فاقدي العقل النقديني من أوائل القرن العشرين .وال ُيتاج املرء حىت إىل قراءة النقض
احلديث آلخر صف من النظرايت الكينيزية والنفسية الشائعة .بل يكفي قراءة كتاب هايك النظرية النقدية والدورة
التجارية ،من ،1933أو كتاب روثبارد ،الكساد العظيم يف أمريكا ،من عام .1963
9لودفيغ فون ميزس ،الفعل البشري ،الصفحة .560
134
نظام املعلومات الرأسمالية
غري املمكن إتمام هذه البيوت بحيث يتوجب إيقاف البناء .فلم يفشل املقاول يف بناء 120
بيتا ً فحسب ،بل فشل أيضا ً يف بناء أي بيت ،وبدال ً من ذلك حصل املتعهد عىل 120بيتا ً
من أنصاف البيوت ،حيث حصل فعليا ً عىل مجرد أكوام من الطوب عديمة الفائدة دون
أسقف .بهذا األمر ،قللت حيلة املقاول من رأس املال الذي أنفقه املتعهد وأدت إىل بناء
بيوت أقل مما كان ممكنا ً بوجود مؤرشات دقيقةٍ لألسعار .فلو استخدم املتعهد مقاوال ً
صادقاً ،كان سيحصل عىل 100بيت .لكن باستخدامه املقاول الكينيزي الذي يعبث
باألرقام ،فإن املتعهد سيستمر بإضاعة رأس ماله ما دام رأس املال هذا مُخصصا ً لخطةٍ
ال أساس لها يف الحقيقة .ولو انتبه املتعهد إىل الخطأ باكراً ،فإن رأس املال املُبدَّد للبدء
ببناء 120بيتا ً قد يكون صغريا ً جداً ،وعندها سيتمكن مقاول جديد من أخذ باقي الطوب
واستخدامه يف إنتاج 90بيتاً .وإن بقي املتعهد جاهال ً للحقيقة حتى نفاد رأس املال ،فإنه
سيحصل فقط عىل 120بيتا ً غري منتهي وعديم الفائدة حيث لن يدفع أحد ليسكن يف بيت
بال سقف.
كذلك االمر ،فعندما يتالعب البنك املركزي بمعدل الفائدة ليجعله أقل من سعر
التصفية بالسوق عرب توجيه املصارف إلصدار املزيد من النقد عن طريق اإلقراض ،فإنه
وبآن واحد يقوم بتقليل قيمة املدخرات املتاحة يف املجتمع ويزيد الكمية املطلوبة من
املقرتضني ،وبنفس الوقت يوجه رأس املال املقرتَض نحو مشاريع ال يمكن إنهاؤها.
بالتايل ،كلما قلت سالمة النقد ،وكان التالعب بمعدالت الفائدة أسهل بالنسبة إىل البنوك
املركزية ،فإ َّن الدورات االقتصادية ستكون أكثر حدة .ويشهد التاريخ النقدي عىل ازدياد
حدة الدورات االقتصادية والركودات االقتصادية عندما كان يتم التالعب بالعرض النقدي
مقارنة بغيابه.
ويف حني يعتقد معظم الناس أن املجتمعات االشرتاكية أصبحت من املايض وأن
االقتصادات الرأسمالية تحكمها أنظمة السوق الحرة ،إال أن الحقيقة هي أن النظام
الرأسمايل ال يستطيع العمل دون وجود سوق حرة لرأس املال ،بحيث يظهر سعر رأس
املال هذا من خالل التفاعل بني العرض والطلب وقرارات أصحاب رؤوس األموال التي
ُّ
فتدخل البنك املركزي يف السوق الرأسمالية هو أساس تقودها مؤرشات األسعار الدقيقة.
كل ركود وكل أزمة اقتصادية ،والتي يُحبذ معظم السياسيني ،والصحفيني ،واألكاديميني
135
معيار البيتكوين
والناشطني اليساريني لوم الرأسمالية عليها .لكن فقط وعن طريق التخطيط املركزي
للعرض النقدي يُمكِن إفساد آلية األسعار يف األسواق الرأسمالية ليتسبَّب ذلك
باضطرابات واسعة يف االقتصاد.
فإذا سلكت حكوم ٌة طريق تضخيم العرض النقدي ،فال مجال للهرب من
العواقب السلبية .وإذا أوقف البنك املركزي عملية التضخم ،سرتتفع معدالت الفائدة،
كشف العديد من املشاريع التي بدأت بكونها عديمة وسيتبعه الركود االقتصادي حيث ست ُ َ
الجدوى ويجب إيقافها ،كاشفة سوء تخصيص املوارد ورأس املال الذي جرى .وأما إذا
استمر البنك املركزي بعملية التضخيم إىل األبد ،فسيزداد معدل سوء التخصيص يف
االقتصاد ،مما سيُهدِر املزيد من رأس املال ويجعل الركود االقتصادي الحتمي أكثر أملاً.
لهذا ،ال مفر من دفع فاتورة ضخمة لقاء وجبة الغداء التي يُفرتض أنها مجانية والتي
قام الكينزيون الحمقى ِبد َِّسها علينا.
"أمسكنا اآلن بالن َّ ِمر من ذيله :كم سيدوم هذا التضخم؟ فإذا حُرر النمر (أو
التضخم) سوف يأكلنا؛ وإذا ركض مرسعا ً ونحن متعلقون بذيله بيأس،
سيُقىض علينا أيضاً! يرسني أنني لن أكون هنا ألرى النتيجة النهائية".
10
_ فريدريك هايك
إن تخطيط البنك املركزي للعرض النقدي ليس مستحبا ً وال ممكناً ،حيث أنه
خاضع لتحكم املتغطرسني الذين يضعون أهم سوق يف االقتصاد تحت سيطرة بضعة
أشخاص جاهلني لحقائق سوق االقتصاد ،ويعتقدون أن بإمكانهم التخطيط مركزيا ً
وقع أن تكون البنوك لسوق كبري ومعقد وناشئ مثل السوق الرأسمالية .لذلك ،فإن تَ ُّ
املركزية قادرة عىل "منع" أو "محاربة" أو "إدارة" الركود االقتصادي هو أمر خيايل
وخاطئ كجعل املولعني بإرضام الحرائق ومُشعيل الحرائق مسؤولني عن فِ ِر ِق اإلطفاء.
136
نظام املعلومات الرأسمالية
إن االستقرار النسبي للنقد السليم والذي بسببه اختاره السوق ،يسمح بعمل
سوق حرة عن طريق اكتشاف األسعار واتخاذ القرارات الفردية .أما النقد غري السليم
أسعار دقيقة،
ٍ الذي يتم التخطيط لعرضه مركزياً ،فال يمكنه السماح بظهور مؤرشات
ألنه بطبيعته يقع تحت السيطرة .فخالل عقود من التحكم باألسعار ،حاول املخططون
11
املركزيون إيجاد أفضل سعر لتحقيق األهداف التي يريدونها ،ولكن دون جدوى.
والفشل الحتمي للتحكم باألسعار ال يكون بسبب عدم قدرة املخططني املركزيني عىل
اختيار السعر املناسب ،بل ألنهم وببساطة عندما يفرضون سعرا ً بغض النظر عن هذا
السعر ،فإنهم يمنعون آلية السوق من السماح لألسعار بأن تُنظم قرارات االستهالك
عجز أو فائض حتمي .بشكل مكافئ، ٍ واإلنتاج بني املشاركني يف السوق ،مما يؤدي إىل
فالتخطيط املركزي ألسواق االئتمان سيفشل ألنه يُد ِّمر آليات األسواق الكتشاف السعر
الذي يُ َزوِّد املشاركني يف السوق بمؤرشات دقيقة وحوافز ليديروا استهالكهم وإنتاجهم.
11يُنصح بشدة قراءة السرد التارخيي للعواقب الكارثية واملضحكة للتحكم ابألسعار عرب التاريخ ،أربعون قرانً من
التحكم ابألسعار واألجور :كيف ال حتارب التضخم ،لروبرت شوتينغر وإميون بتلر.
137
معيار البيتكوين
ويُمكن إيجاد مثال جيد لفوائد النقد السليم بالنظر إىل مصري ومآل االقتصاد
السويرسي ،ا َملعقِ ل األخري للنقد السليم ،حيث بقيت العملة مرتبطة بالذهب حتى القرار
املشؤوم بالتخيل عن الحياد العاملي واالنضمام إىل صندوق النقد الدويل عام .1992فقبل
ذلك التاريخ ،كان معدل البطالة صفرا ً وال يرتفع عن %1فعلياً .أما بعد انضمامها إىل
صندوق النقد الدويل الذي تمنع قواعده الحكومات من ربط قيمة عمالتها بالذهب ،بدأ
االقتصاد السويرسي باالستمتاع بلذة النقد الكينيزي الغبي ،مع ارتفاع معدل البطالة إىل
%5خالل بضع سنوات ،والذي نادرا ً ما انخفض عن ( .%2انظر إىل الشكل .)1312
فعند مقارنة الكساد بفرتات املعيار الذهبي ،يجب أن نتذكر أن املعيار الذهبي
يف أوروبا والواليات املتحدة يف القرن التاسع عرش لم يكن شكال ً مثاليا ً للنقد السليم ،حيث
كان هناك عدة ثغرات فيه ،أهمها أن املصارف والحكومات كانت تستطيع غالبا ً توسيع
الخاصني بها بكميات أكثر من الذهب املختزن يف االحتياطي،َّ العرض النقدي واالئتمان
ازدهار وكساد مشابه للذي نراه يف القرن العرشين ،لكن بدرجة أقل حدة. ٍ مما أدى إىل
بوضع هذه الخلفية بعني االعتبار ،يمكننا فهم التاريخ النقدي الحديث بوضوح
ُدرس بشكل شائع يف املراجع األكاديمية منذ الطوفان الكينيزي .فالنص أكثر مما ي َّ
ُعترب العمل واملرجع النهائي للتاريخ النقدي األمريكي :تاريخ
التأسييس للمدرسة النقدية ي َ
النقد يف الواليات املتحدة لـِ"ميلتون فريدمان" و"آنا شوارتز" .إن هذا الكتاب هو مجلد
عمالق من 888صفحة ،وهو مذهل يف قدرته عىل ترتيب كمية هائلة من الحقائق،
والتفاصيل ،واالحصائيات وأدوات التحليل دون تقديم أي رشح ولو ملرة واحدة للقارئ
غري املحظوظ عن قضية أساسية رئيسية :وهي أسباب األزمات املالية والركودات
االقتصادية.
إن العيب الجوهري يف كتاب فريدمان وشوارتز هو عيب نموذجي مُعتاد يف
العلوم األكاديمية الحديثة ويكون هذا بالعمل املتقن املتمثل باستبدال املنطق بالصالبة.
ظم ومنهجي التساؤل عن أسباب األزمات املالية التي أثرت عىلفالكتاب يتجنب بشكل مُن َّ
138
نظام املعلومات الرأسمالية
اقتصاد الواليات املتحدة طوال عقد من الزمن ،وبدال ً من ذلك يقوم بإغراق القارئ
ببيانات وحقائق وتفاصيل وأمور تافهة بُحث عنها بشكل مدهش.
فاالدّعاء األسايس للكتاب يفرتض أن الركود نتج بسبب عدم استجابة الحكومة
بالرسعة الكافية لكل من األزمة املالية والذعر املرصيف وانهيار التضخم ،وذلك بزيادة
العرض النقدي إلعادة تضخيم القطاع املرصيف .فجماعة ميلتون فريدمان الليربالية وكما
هو املعتاد ستلوم الحكومة عىل املشاكل االقتصادية ،لكن املنطق الخاطئ سيؤدي بهم إىل
اقرتاح زيادة التدخل الحكومي َكحَ ّل .فالخطأ الفادح يف الكتاب هو أن الكاتبَني لم يناقشا
أبدا ً أسباب كل من األزمة املالية والذعر املرصيف وانهيار التضخم للعرض النقدي .وكما
رأينا يف نقاش نظرية الدورة االقتصادية النمساوية ،إن السبب الوحيد للركود االقتصادي
الشامل هو تضخيم العرض النقدي يف املقام األول .لكن يمكن لفريدمان وشوارتز وبكل
أريحية اقرتاح املُسبِّب نفسه كعالج ،بعد أن حررا نفسيهما من عبء فهم السبب :فيجب
أن تتحرك الحكومة لتعيد رسملة النظام املرصيف بقوة وتزيد السيولة عند أول إشارة عىل
الركود االقتصادي .يمكنك أن تبدأ برؤية سبب كره االقتصاديني املعارصين الشديد لفهم
السببية املنطقية؛ التي ستكشف زيف كل حلولهم تقريباً.
139
معيار البيتكوين
فقد بدأ فريدمان وشوارتز كتابهما سنة ،1867وقاما بهذا العمل يف هذه
السنة تحديدا ً حيث أنه وعند تحليل أسباب الركود يف عام ،1873كان بإمكانهم أن
يتجاهال بالكامل "املشكلة الصغرية" الكامنة يف طباعة الحكومة لألوراق النقدية
الخرضاء لتمويل الحرب األهلية ،حيث كانت هذه الحرب هي السبب الرئييس للركود
االقتصادي ،وسيتكرر هذا النمط يف كل الكتاب.
140
نظام املعلومات الرأسمالية
لكن أكثر ما يثري الفضول هو كيف تجاهال بالكامل التعايف من الكساد عام
،1921-1920الذي دُعي "آخر تصحيح طبيعي للعمالة الكاملة" من قِ بل خبري
االقتصاد "بنجامني أندرسون" ،حيث تم تخفيض الرضائب ونفقات الحكومة وتُركت
14
األجور لتتعدل بحرية ،مما أدى إىل عودة رسيعة للعمالة الكاملة خالل أقل من سنة.
وبهذا ،شهد كساد عام 1920أحد أرسع انكماشات اإلنتاج يف التاريخ األمريكي
(انخفاض بنسبة %9خالل فرتة 10أشهر من سبتمرب 1920حتى يوليو ،)1921
وكذلك شهد أرسع تصحيح .إال أنه ومع إدخال وحَ قن السيولة من قِ ب َِل الكينيزيني
وأصحاب املدرسة النقدية ،ومن خالل زيادة العرض النقدي ،وزيادة إنفاق الحكومة،
كان التصحيح أبطأ يف الكسادات األخرى.
ففي حني يحاول الجميع تع ُّلم الدرس من الكساد العظيم ،إال أن مراجع
االقتصاد السائدة واملنترشة ال تَذ ُكر كساد عام ،1920وال تحاول معرفة ل َم ُ
صحِّ ح هذا
الكساد بالذات رسيعا ً 15.لقد كان الرئيس آنذاك "وارن هاردينغ" ملتزما ً بالسوق الحرة
التزاما ً كبريا ً ورفض أن يستجيب لنداء االقتصاديني التدخليني ،فتم تصفية االستثمارات
السيئة ،وأُعيد توزيع اليد العاملة ورأس املال اللذين استُخدما يف هذه االستثمارات السيئة
وتم توجيههما إىل استثمارات جديدة برسعة كبرية .فعادت البطالة إىل مستوياتها
دخل الحكومة الذي يزيد من الدمار الذي سببته الطبيعية رسيعا ً تحديدا ً بسبب غياب تَ ُّ
أصالً .إن هذا األمر يعاكس تماما ً كل ما نصح به فريدمان وشوارتز ،ولهذا السبب ،فإن
هذا أيضا ً ال يُذكر يف عملهما.
والفصل األكثر شهرة يف الكتاب (والوحيد الذي يقرأه الناس عىل ما يبدو) هو
الفصل السابع ،الذي يركز عىل الكساد العظيم .يبدأ الفصل بعد انهيار سوق األوراق
املالية يف أكتوبر ،1929بينما ينتهي الفصل السادس يف عام .1921فكامل الفرتة بني
1921حتى أكتوبر ،1929والتي قد تتضمن أي أسباب للكساد العظيم ،لم تستحق أية
141
معيار البيتكوين
142
نظام املعلومات الرأسمالية
زيادة عمق الكساد ،لم ترجع سوق األسهم املالية إىل "درجة االستقرار املرتفعة بشكل
دائم" التي رصَّ ح عنها فيرش عام 1929حتى منتصف الخمسينات ،أي بعد سنوات من
وفاة فيرش .بالتايل ليس غريبا ً أن يَعترب ميلتون فريدمان الحقا ً أن إيرفينغ فيرش أهم
اقتصادي أنتجته أمريكا.
إن هذا االنهيار نتج بسبب التوسع النقدي يف العرشينات ،والذي وَ لَّد فقاعة
ضخمة من الثروة الوهمية يف سوق األسهم املالية .فعندما بدأ التوسع باالنخفاض ،كان ال
بُ َّد من انفجار الفقاعة ،وانفجار الفقاعة يعني أن هناك دوامة انكماشية ستختفي فيها
كل الثروة الوهمية التي كانت يف هذه الفقاعة .ومع اختفاء الثروة ،فإنه ال مفر من الذعر
املرصيف حيث ستعاني هذه املصارف للوفاء بالتزاماتها .إن هذا األمر يكشف عن مشكلة
وجود نظام مرصيف جزئي احتياطي -فهو كارثة ننتظر حدوثها .نظرا ً إىل ذلك ،كان
جديرا ً بالفيدرالية أن تَ ْض َمن إيداعات الناس بدال ً من أن تضمن خسائر األعمال واملشاريع
التجارية وسوق األسهم املالية .فالحل الوحيد هو أن يتم ترك املصارف تعاني من هذا
بمفردها ،والسماح بحدوث التصفية وانخفاض األسعار .صحيح أن هذا الحل كان
سيتضمن ركودا ً مؤملا ً لكن لهذا السبب تماما ً لم يكن يجب أن يحصل توسع نقدي أصالً!
فمحاولة تجنب الركود بزيادة السيولة لن تؤدي إال إىل تفاقم الخلل الذي سبَّب األزمة
أساساً.
صنع التوسع النقدي ثروة وهمية أساءت تخصيص وتوزيع املوارد ،وال فلقد َ
بُ َّد أن تختفي تلك الثروة كي ترجع السوق إىل العمل بشكل صحيح بآلية أسعار
صحيحة .فتلك الثروة الوهمية هي من تَسبب باالنهيار أساساً ،وإعادة تلك الثروة
الوهمية إىل مكانها األصيل هي ببساطة إعادة ترتيب بيت األوراق مجددا ً واالستعداد
لسقوط آخر أكرب وأقوى.
فبتجاهل الفرتة التي سبقت عام 1929وكأنه ال عالقة لها بانهيار سوق
األسهم املالية ،استنتج فريدمان وشوارتز أن ردة فعل الفيدرالية املنخفضة عىل االنهيار
كانت هي سبب تحوله إىل الكساد العظيم .فلو فتح االحتياطي الفيدرايل الحنفيات
النقدية ليُغرق النظام املرصيف بالسيولة برأيهما ،لكانت خسائر سوق األسهم املالية أقل
143
معيار البيتكوين
أثرا ً بكثري عىل االقتصادات األوسع وملا ازداد الكساد .ويف خضم فيضان البيانات ،يتم
غض الطرف عن حقيقة أنه ردا ً عىل األزمة ،تبنى االحتياطي الفيدرايل سياسة توسعية.
ويف حني حاول االحتياطي الفيدرايل تقليل نقص السيولة يف القطاع املرصيف ،إال أنه لم
يستطع إيقاف االنهيار ،ليس بسبب نقص اإلرادة ،بل بسبب االنهيار واسع النطاق من
االستثمارات الرأسمالية التي أُيسء تخصيصها وتوزيعها ،وبسبب السياسات التدخلية
الكبرية التي نوقشت يف الفصل الرابع.
لقد بقيت ثالث أسئلة مهمة دون أجوبة يف هذا العمل الضخم ،األمر الذي
يكشف فجو ًة كبرية يف منطق هذا الكتاب .أوالً ،ملاذا يفتقر الكتاب إىل مقارنةٍ بني كسادَي
1920و1929؟ فلم يدم الكساد األول مدة طويلة بالرغم من أن املرصف الفيدرايل لم
يتدخل بالطريقة التي نصح بها الكاتبان .ثانياً ،ل َم ل ْم تعاني الواليات املتحدة من أزمة
مالية يف القرن التاسع عرش خالل الفرتة التي لم يكن فيها بنك مركزي ،إال يف املرتني
عندما أمر الكونغرس وزارة الخزانة بأن تترصف كبنك مركزي :أثناء الحرب األهلية
بطباعة الدوالر األخرض ،ويف عام 1980بعد تحويل الفضة إىل نقد؟ ثالثا ً وهي النقطة
األهم ،كيف تدبرت الواليات املتحدة أمرها خالل إحدى أطول فرتات النمو االقتصادي
املستقرة دون أية أزمة مالية بني عامي 1873و 1890عندما لم يكن هناك بنك مركزي
عىل اإلطالق ،حيث كان هناك قيود عىل العرض النقدي ،واستمر مستوى األسعار
باالنخفاض؟ يذكر فريدمان وشوارتز تلك الفرتة بشكل عابر فقط ،مشريين إىل أن
االقتصاد نما بشكل مذهل "بالرغم من" انخفاض مستوى األسعار ،دون أن يعلقا كيف
حقيقة كهذه يمكن تجاهلها وذلك بسبب رعبهما من انخفاض مستوى األسعار. ً أن
وكما رشح روثبارد ،ال يوجد أي يشء متأصل يف عمل اقتصاد سوق يستمر يف
خلق مشكلة البطالة ،بحيث ستشهد أعمال السوق الحرة الطبيعية خسارة الكثريين
لوظائفهم أو استقالتهم منها ،وستُفلس أو تُغلق الكثري من األعمال واملشاريع التجارية
ألسباب عديدة جداً ،لكن خسارة تلك الوظائف بالكاد ستُلغى مع الوظائف واألعمال
الجديدة التي سيتم إنشاؤها ،مما سيؤدي إىل عدد صغري هاميش من األفراد العاطلني عن
العمل بشكل إلزامي يف أية نقطة من الزمن .إن هذا األمر مشاب ٌه ملا كانت الحالة عليه
خالل السنوات التي لم يُنتهك فيها املعيار الذهبي يف القرن التاسع عرش ،وكما كانت عليه
144
نظام املعلومات الرأسمالية
الحالة يف سويرسا قبل سنة .1992فتَالعُ ب البنك املركزي بالعرض النقدي ومعدل
الفائدة هو األمر الوحيد الذي من شأنه أن يجعل الفشل عىل مستوى واسع يف كل
قطاعات االقتصاد يف الوقت نفسه ممكناً ،مما سيتسبب بموجات من البطالة الشاملة يف
صناعات بأكملها ،ويرتك الكثري من العمال دون عمل يف الوقت نفسه ،بمهارات ال يمكن
نقلها بسهولة إىل مجاالت أخرى 18.وكما قال هايك" :مَ ن ْ ُع الحكومات الرشكات واملشاريع
الحق يف إنتاج أموال جيدة هو ما يسبب موجات من البطالة وليست ‘الرأسمالية‘ َّ الحرة
19
هي من تسبب ذلك".
أما يف عرص النقد غري السليم ،كعرص انحدار أوروبا إىل النظام اإلقطاعي أو
انحدار العالم الحديث إىل التأميم النقدي ،توقفت التجارة عن كونها حق لألفراد
املتاجرين وأصبحت مسألة ذات أهمية قومية ،تحتاج إرشاف اإلقطاعيني أو الحكومات
التي تَدَّعي السيادة عىل األفراد املتاجرين .وكان هذا التحول يف طبيعة التجارة مكتمالً
بشكل سخيف ،لدرجة أن مصطلح التجارة الحرة يف القرن العرشين أصبح يشري إىل
التبادل الذي يُجرى بني فردين عرب الحدود ،وفقا ً لقوانني اتفقت عليها حكوماتهما،
145
معيار البيتكوين
فقيمة النقد التي يُفرتض أن تكون وحدة الحساب التي يُقاس وي ُخطط عىل
أساسها كل نشاط اقتصادي ،انتقلت من كونها القيمة األقل تقلبا ً بالسوق إىل قيمة
تحددها سياسة ثالث أدوات حكومية -السياسة النقدية ،واملالية والتجارية -وردود
ض مقياس أفعال األفراد غري املتوقعة عىل تلك األدوات السياسية .فقرار الحكومات َف ْر َ
ض مقياس للطول وفقا ً لطول األفراد وطول ارتفاع للقيمة يماثل بمنطقه محاولتها َف ْر َ
األبنية يف أراضيها .يمكن للمرء تخيل االرتباك الذي سيصيب كل املشاريع الهندسية إذا
كان طول املرت يتأرجح يوميا ً وفقا ً لترصيحات مكتب قياسات مركزي.
ف غرور املجانني وحده هو ما يتأثر بتغيري الوحدة التي يتم القياس بها،
فتقصري املرت قد يجعل من يمتلك بيتا ً مساحته 200مرت مربع يعتقد أنه 400مرت مربع،
146
نظام املعلومات الرأسمالية
لكنه سيبقى البيت ذاته .فلن تؤدي إعادة تحديد املرت إال إىل تدمري قدرة املهندسني عىل
البناء بشكل جيد وتدمري قدرتهم عىل صيانة البيت .باملثل ،إن تخفيض قيمة العملة قد
يجعل الدولة أكثر ثراء ظاهرياً ،أو قد يزيد القيمة الظاهرية (االسمية) لصادراتها ،لكنه
لن يجعل الدولة أكثر ازدهاراً.
147
معيار البيتكوين
والعقود اآلجلة .لكن هذا التدبري غالبا ً ال يفيد أحداً ،خاصة أصحاب املشاريع املنتجة حقا ً
والتي تقدم سلعا ً َقيِّمة للمجتمع.
ففي عالم تسوده العوملة بشكل كبري ويعتمد سعر رصف العمالت األجنبية فيه
عىل عدد كبري من املتغريات املحلية والعاملية ،تُصبح عملية إدارة عمل أو مرشوع تجاري
مُنتِج أمرا ً صعبا ً دون أي مربر .فغالبا ً ما تنتقل موارد ومنتجات رشكة ناجحة بني عدة
دول ،وقرار كل عملية رشاء وبيع يعتمد عىل سعر الرصف بني الدول املعنية .لهذا ويف هذا
غري سعر الرصف العالم ،قد تعاني رشكة تنافسية للغاية من خسائر فادحة ملجرد تَ ُّ
بدولة أخرى .فإذا شهدت دولة املُ ِو ّرد لرشكة ما ارتفاعا ً يف قيمة عملتها ،فقد ترتفع
أسعار موارد هذه الرشكة بما يكفي لتدمر أرباحها ،وقد يحدث اليشء ذاته إذا انخفضت
قيمة عملة السوق الرئييس الذي تُصدِّر إليه .فالرشكات التي أمضت عقودا ً يف العمل عىل
ميزة تنافسية قد تشهد اختفاء تلك امليزة خالل 15دقيقة من تقلب سعر الرصف
األجنبي غري املتوقع .وتُالم التجارة الحرة عىل هذا عادة ،كما يستخدمها االقتصاديون
والسياسيون كعذر أيضا ً لفرض سياسات تجارية وقائية شائعة لكنها مدمرة.
بتدفق حر لرؤوس األموال ،وإنشاء تجارة حرة قائمة عىل أساسات متزعزعةٍ ف
من سعر رصف عائم ومتقلب كالرمال املتحركة ،فإن نسبة كبرية من األعمال والرشكات
التجارية ومتخصيص الدولة ستضطر لالهتمام بتغريات قيمة العملة .فكل عمل ومرشوع
تجاري يجب عندها أن يخصص مواردا ً وقوة برشية لدراسة قضية مهمة للغاية لكن
ليس له أي سيطرة عليها .وبهذا ،سيحاول املزيد من الناس تخمني ترصفات البنوك
املركزية ،والحكومات الوطنية ،وتغريات قيمة العملة .وعادة ،إن أدوات التخطيط املركزي
الدقيقة هذه وما يرافقها من طقوس ينتهي بها األمر بعرقلة النشاط االقتصادي .وقد
تكون إحدى الحقائق األكثر إذهاال ً يف اقتصاد العالم الحديث هي حجم سوق الرصف
األجنبي مقارنة بالنشاط االقتصادي املنتج .حيث أن مرصف التسويات الدولية 20يُقدِّر
حجم سوق الرصف األجنبي بحوايل 5.1تريليون دوالر يف اليوم يف أبريل ،2016والتي
20مصرف التسوايت الدولية ( ،)2016استطالع البنك املركزي الذي َجيري كل ثالث سنوات ،املبيعات
اإلمجالية لسوق الصرف األجنيب يف أبريل .2016
148
نظام املعلومات الرأسمالية
تساوي حوايل 1,860تريليون دوالر يف السنة .ويُقدِّر املرصف العاملي الناتج املحيل
اإلجمايل لكل دول العالم مجتمعة بحوايل 75تريليون دوالر يف عام ،2016أي أن سوق
الرصف األجنبي أكرب بحوايل 25مرة من كل اإلنتاج االقتصادي الذي يحدث يف الكوكب
بمجمله 21.من املهم أن نتذكر هنا أن أسعار الرصف ليست عملية منتجة ،ولهذا السبب ال
يُحتسب حجم ها يف إحصائيات الناتج املحيل اإلجمايل؛ ألنه ال يتم إنتاج قيمة اقتصادية يف
تحويل عملة إىل أخرى؛ إنه مجرد ثمن يُدفع لتجاوز املشقة الكبرية الناتجة عن وجود
عملة وطنية مختلفة لكل دولة .فما أطلق عليه خبري االقتصاد هانز هرمان هوبه "نظام
عاملي من التبادل الجزئي" 22عَ ْرب الحدود العاملية هو نطا ٌم يعيق قدرة التجارة العاملية
عىل إفادة الناس ،متطلبا ً كمية كبرية من تكاليف التحويالت لتخفيف عواقبه .بهذا األمر،
ال يُضيع العالم كميات كبرية من رأس املال واليد العاملة يف محاولة تجاوز هذه العقبات
فحسب ،بل إن األعمال واملشاريع التجارية واألفراد يف أنحاء العالم أصبحت تواجه
خسائر كبرية متكررة ناجمة عن سوء الحسابات االقتصادية الذي يُسبّبه تقلب أسعار
الرصف.
ففي سوق حرة للنقد ،سيختار األفراد العملة التي يريدون استخدامها،
والنتيجة هي أنهم سيختارون العملة ذات نسبة املخزون إىل التدفق املرتفعة املوثوقة،
بحيث يكون تقلب هذه العملة صغريا ً مع تغريات العرض والطلب ،وبالتايل ستصبح
وسيطا ً للتبادل مطلوبا ً عاملياً ،مما يسمح بأن تُجرى كل الحسابات االقتصادية
باستخدامها ،لتصبح وحدة حساب منترشة عىل صعيد الزمان واملكان .فكلما زادت قابلية
بيع السلعة ،أصبحت ِ
مناسبة أكثر لهذا الدور ،وكانت العملة الذهبية الرومانية ،والعملة
البيزنطية ،والدوالر األمريكي إىل حد ما أمثلة عىل هذا ،بالرغم من أن لكل منها سلبياتها.
والذهب يف السنوات األخرية من املعيار الذهبي العاملي كان هو أكثر نقد اقرتب من تحقيق
21لقراءة املزيد عن هذا ،اقرأ :فضيحة النقد :ملَ تتعاىف وول سرتيت لكن االقتصاد ال يتعاىف أبداً ،جلورج جيلدر
(العاصمة واشنطن ،ريغنري.)2016 ،
22هانز هرمان هوبه" ،كيف تكون العملة الورقية ممكنة؟" مراجعة االقتصاد النمساوي ،اجمللد ،7رقم 2
(.)1994
149
معيار البيتكوين
ذلك ،رغم أنه حتى آنذاك بقيت بعض الدول واملجتمعات عىل النقد الفيض أو أشكال
بدائية أخرى.
لكن ولألسف ،إن للمسؤولني عن النظام النقدي الحايل مصلحة خاصة يف
استمراره ،وبالتايل فضلوا إيجاد طرق إلدارته ،وإيجاد طرق أكثر إبداعا ً لرفض املعيار
الذهبي ،وهذا أمر مفهوم تماما ً وذلك ألن وظائفهم تعتمد عىل حكومة تستطيع طباعة
النقد لتكافئهم.
فتوليفة أسعار الرصف العائمة مع الفكر الكينيزي قدمت لعاملنا ظاهرة حديثة
تماما ً من حروب العمالت :فالتحليل الكينيزي يقول أن زيادة الصادرات تؤدي إىل زيادة
الناتج املحيل اإلجمايل ،والناتج املحيل اإلجمايل هو أعظم إنجاز لصحة وسالمة االقتصاد،
لذلك وبرأي الكينزيني ،إن أي أمر يعزز الصادرات هو أمر جيد .فأي دولة تواجه تباطؤا ً
يف االقتصاد فإنه يمكنها تعزيز ناتجها املحيل اإلجمايل وتعزيز العمالة بتخفيض قيمة
عملتها وزيادة صادراتها وذلك ألن العملة التي تنخفض قيمتها ستجعل الصادرات
أرخص.
يوجد الكثري من األمور الخاطئة يف هذه النظرة العاملية ،فتخفيض قيمة العملة
ال يؤدي إىل زيادة منافسة الصناعات باملعنى الحقيقي ،بل إنه يُقدم حسما ً ملرة واحدة
150
نظام املعلومات الرأسمالية
عىل منتجاتها ،وبالتايل يعرضها عىل األجانب بسعر أرخص من املحليني ،مؤديا ً إىل فقر
املحليني ودعم األجانب .كما أنه يجعل كل أصول الدولة أرخص بالنسبة إىل األجانب ،مما
يسمح لهم بالقدوم ورشاء األرايض ،ورؤوس األموال ،واملوارد يف الدولة مع حسم بالسعر.
طبَ يف رشاء األجانب ألصول محلية ،لكن يف نظام ففي نظام اقتصادي ليربايل ،ال َخ ْ
اقتصادي كينيزي ،يُدعم األجانب بشكل نشط ليأتوا ويشرتوا الدولة بسعر زهيد .ويُظهر
التاريخ االقتصادي أن معظم االقتصادات الناجحة يف مرحلة ما بعد الحرب ،مثل أملانيا،
واليابان ،وسويرسا ،زادت صادراتها بشكل كبري مع استمرار ارتفاع قيمة عملتها ،ولم
تكن يوما ً هذه الدول بحاجة إىل تخفيض قيمة العملة بشكل مستمر لتنمو صادراتها؛ بل
طورت ميزة تنافسية جعلت منتجاتها مطلوبة عاملياً ،والتي أدت بالتايل إىل ارتفاع قيمة
عمالتها مقارنة برشكائهم التجاريني ،مما زاد ثروة شعبها .فإذا َف َّك َرت الدول املستوردة
منها أن بإمكانها تعزيز صادرتها بتخفيض قيمة العملة ،فهذا األمر سيكون غري مثمر.
وهذه الدول ستدمر ثروة شعوبها إذا سمحت لألجانب برشاء هذه الثروة مع تخفيض
وحسم .لهذا ،لم يكن مصادفة أن الدول التي شهدت أكثر انخفاض يف قيمة عملتها يف
مرحلة ما بعد الحرب هي نفسها التي عانت من ركود وانحطاط اقتصادي.
لكن حتى وإذا كانت كل مشاكل تخفيض القيمة كطريقة لالزدهار هي غري
دقيقة ،فهناك سبب بسيط لعدم قدرتها عىل النجاح ،وهو :إذا نجح أمر تخفيض العملة
وقامت كل الدول بتجربته ،فسنتخفض قيمة كل العمالت ولن يكون ألية دولة أفضلية
عىل األخرى ،ويصل هذا بنا إىل الوضع الراهن يف االقتصاد العاملي ،حيث تحاول معظم
الحكومات تخفيض قيمة عمالتها كي تعزز صادراتها ،وكلها تشتكي من تالعب
الحكومات األخرى "غري العادل" بعمالتها .فتُسبِّب كل دولة فقر شعبها وبفعالية كي
تعزز صادراتها وترفع أرقام الناتج املحيل اإلجمايل ،ثم تتذمر عندما تفعل مثلها دول
أخرى .وال يضاهي الجهل االقتصادي إال َك ِذبَ وافرتاء السياسيني واالقتصاديني الذين
يرددون هذه الجمل كالببغاوات ،حيث أنه يتم إجراء مؤتمرات اقتصادية عاملية يحاول
فيها قادة العالم التفاوض عىل تخفيض مقبول لقيمة العملة لكل منها ،جاعلني قيمة
العملة قضية ذات أهمية جيوسياسية.
151
معيار البيتكوين
بالطبع ،لن يكون أي من هذا رضوريا ً إن استند العالم إىل نظام نقدي عاملي
سليم يعمل عامليا ً كوحدة حساب ومقياس للقيمة ،سامحا ً للمنتجني واملستهلكني يف كل
أنحاء العالم بالحصول عىل تقييم دقيق لتكاليفهم وأرباحهم ،مع فصل الربح االقتصادي
عن السياسة الحكومية .فالنقد الصعب وبانتزاعه ملسألة العرض من أيدي الحكومات
ُجرب الجميع عىل أن يكونوا منتجني للمجتمع بدال ً من السعي
ومُروِّجيهم االقتصاديني سي ِ
وراء الثراء بطرق غبية كالتالعب بالنقد.
152
الفصل السابع
"تعتقد الحكومات أنه عندما يكون لها خيار بني فرض رضيبة بشكل إكراهي
وإلزامي وبني إنفاق مرغوب بشكل كبري ،فهذا يعني أنه لديها طريق نجا ٍة
ومخرج ،ويكون هذا الطريق ُممَثال ً بالطريق نحو التضخم املايل ،وهذا األمر
ي ِّ
ُجسد معضلة االبتعاد عن املعيار الذهبي".
1
-لودفيج فون ميزس
يف ظل نظام نقدي سليم ،تؤدي الحكومة مهامها بطريقة ال تستطيع األجيال
وق ِع دورة أخبار القرن العرشين تصورها :فوجب عىل هذه األجيال أن التي نشأت عىل ْ
مسؤولة مالياً .فدون وجود بنك مركزي قادر عىل زيادة العرض النقدي لدفع ً تكون
ديون الحكومة ،وجب عىل امليزانيات الحكومية االنصياع لقواعد املسؤولية املالية املعمول
بها والتي تنطبق عىل كل كيان طبيعي سليم ،والتي حاولت القومية النقدية إلغاءها
وحاول التعليم الحكومي تشويهها.
وبالنسبة لشعوب الحارض التي نشأت عىل الحمالت الدعائية لحكومات القرن
ري من األحيان تصوُّر عالم
العرشين ذات السلطة غري املحدودة ،فإنه من الصعب يف كث ٍ
تَحِ ل فيه الحرية الشخصية واملسؤولية الفردية محل سلطة الحكومة ،ولكن كانت هذه
هي حالة العالم خالل أهم فرتات التقدم والحرية اإلنسانية ،حيث اقترصت مهام الحكومة
1بيتينا بني غريفز ،لودفيج فون ميزس يف كتابه املال والتضخم :جتميع من عدة حماضرات ،الصفحة .32
153
معيار البيتكوين
عىل حماية الحدود الوطنية وامللكيات الخاصة والحريات الفردية ،فأُتيح لألفراد ك ٌم هائل
من الحرية التخاذ قراراتهم الخاصة لجني الفوائد أو تحمل التكاليف .أوالً ،سنبدأ
بالتفكري بعني ناقدة للسؤال التايل ،هل يجب أن تتوىل الحكومة مهمة تنظيم العرض
النقدي يف املقام األول؟ ثم ننتقل بعد ذلك للنظر يف عواقب األمور إذا تم تطبيق ذلك.
154
النقد السليم والحرية الشخصية
عىل الطبيعة النقدية الثابتة للذهب عىل الرغم من عدم قيام الحكومة بفرض التعامل به.
لكن أيا ً كانت املراوغات التاريخية التي يستخدمها أنصار نظرية إصدار وإدارة الدولة
للنقد أمام هذه الحقائق ،فقد تم دحض نظريتهم أمام أعيننا يف العقد املايض من خالل
ً
مكانة نقدية وأرباحا ً تفوق معظم استمرار نجاح البيتكوين ونموه ،حيث حقق البيتكوين
العمالت املدعومة من قبل الحكومة ،وذلك بسبب قابليته املوثوقة للبيع بالرغم من عدم
2
وجود سلطة تفرض استخدامه كعملة متداولة.
يف الوقت الحايل ،يوجد مدرستان رئيسيتان للفكر االقتصادي مُعتمَ دتان من
قبل الحكومة :وهما املدرسة الكينزية واملدرسة النقدية .ويف حني تمتلك هاتان املدرستان
منهجيات وأُطر تحليلية متباينة عىل نطاق واسع ،وبالرغم من وقوعهما يف معارك
أ كاديمية مريرة يتهم كل منهما اآلخر بعدم االهتمام ألمر الفقراء ،أو األطفال أو البيئة أو
عدم املساواة أو الصفات الطنانة "املنترشة يف الوقت الحارض" ،إال أن كلتيهما يتفقان عىل
حقيقتني ال جدال فيهما :أوالً ،يتعني عىل الحكومة زيادة العرض النقدي .ثانياً ،تستحق
كلت ا املدرستني املزيد من التمويل الحكومي ملواصلة البحث عن إجابات ألسئلة هامة
للغاية ستؤدي بهم إىل إيجاد طرق أكثر إبداعا ً للوصول إىل الحقيقة األوىل.
ومن املهم فهم األسس املنطقية املختلفة للمدرستني الفكريتني من أجل فهم
متساو .فكينز كان
ٍ كيفية وصول كلتيهما إىل النتيجة ذاتها وكونهما مخطئتني بقدر
مستثمرا ً فاشال ً وإحصائيا ً لم يدرس االقتصاد ولكنه كان عىل اتصال جيد جدا ً بالطبقة
حرج الذي كتبه يف كتابه األَشهَ ر "النظرية العامة
الحاكمة يف بريطانيا لدرجة أن الهراء املُ ِ
للتوظيف ،واملال والفوائد" قد تم ترقيته عىل الفور ليصبح من الحقائق التأسيسية لعلم
بافرتاض غري ُمربَّر وال أساس له من الصحة ،أن أهم ٍ االقتصاد الكيل .فبدأت نظريته
2جون ماتونس" ،تدمري البيتكوين لنظرية إصدار وإدارة احلكومة للنقد" ،جملة فوربس ( 2أبريل عام )2013
متاح على املوقع:
https://www.forbes.com/sites/jonmatonis/2013/04/03/bitcoin-
obliterates-the-state-theory-of-money/#1d0d814c2274
155
معيار البيتكوين
مقياس يف تحديد حالة االقتصاد هو مستوى اإلنفاق الكيل يف املجتمع .فعندما يقوم
املجتمع بشكل جماعي بالكثري من اإلنفاق ،فإن هذا اإلنفاق سيحفز املنتجني عىل صناعة
املزيد من املنتجات ،وبالتايل توظيف املزيد من اليد العاملة والوصول إىل توازن العمالة
الكاملة .وإذا ارتفع اإلنفاق بشكل كبري لدرجةٍ يعجز فيها املنتجون عىل مواكبته،
إجمايل يف مستوى األسعار .من ناحية أخرى ،فعندما
ٍ وارتفاع
ٍ فسيؤدي ذلك إىل التضخم
بإنفاق قليل ،سيقوم املنتجون بتقليل إنتاجهم ،وترسيح العمال فتزيدٍ يقوم املجتمع
البطالة مما يؤدي إىل حدوث الركود.
إن حاالت الركود حسب كينز ،تحدث بسبب االنخفاض املفاجئ يف مستوى
اإلنفاق الكيل .وبما أن كينز لم يكن ماهرا ً جدا ً يف استيعاب مفهوم السببية وإيجاد
التفسريات املنطقية ،فلم يكلف نفسه عناء رشح أسباب حدوث هذا االنخفاض املفاجئ يف
مستويات اإلنفاق ،بل ابتكر تعبريا ً آخرا ً من تعابريه املجازية الخرقاء املشهورة التي ال
تحمل أي معنى لرييح نفسه من عناء التفسريات .فلقد عزى السبب إىل فتور "أرواح
الحيوانات" .وحتى يومنا هذا ،ال أحد يعرف بالضبط ما هي هذه األرواح الحيوانية أو
ملاذا قد تفرت فجأ ًة ،ولكن هذا بالطبع يعني أن ترسانة كاملة من االقتصاديني املُمَولني من
قبل الحكومة قد حققوا مسرية مهنية يف محاولة لتفسري هذه العبارة أو للعثور عىل
بيانات يف العالم الحقيقي قد ترتبط بها .فكان هذا البحث إيجابيا ً للمهن األكاديمية ،لكنه
يُعترب بال قيمة ألي شخص يحاول فهم الدورة االقتصادية .بعبارة أكثر رصاحة ،ال تُعترب
خزعبالت علم النفس الزائف 3بديالً عن نظرية رأس املال.
وبعد تحرره من إيجاد سبب للركود ،استطاع كينز بعدها أن يويص بالحل
الذي يبيعه .فعن دما يحدث ركود أو ارتفاع يف مستوى البطالة ،فالسبب هو انخفاض
مستوى اإلنفاق الكيل ويكون الحل بقيام الحكومة بتحفيز اإلنفاق ،مما سيؤدي بدوره إىل
زيادة اإلنتاج وتقليل البطالة .يجدر بنا اإلشارة إىل أنه هناك ثالث طرق لتحفيز اإلنفاق
3ويف نظرية رأس املال ،ال تقبل بديالً لنظرية رأس املال النمساوية ،كما شرح بوهيم ابورك ،وميزس هايك،
وروثبارد هويرات دي سوتو ،وسالرينو ،وآخرين.
156
النقد السليم والحرية الشخصية
الكيل :زيادة العرض النقدي أو زيادة اإلنفاق الحكومي أو تخفيض الرضائب .عموماً ،إن
ً
فاعلية ألن طريقة تخفيض الرضائب مرفوضة من قبل الكينزيني وتُعترب الطريقة األقل
الناس لن تقوم بإنفاق كل الرضائب التي ال يجب عليهم دفعها ،بل سيقومون بادخار
بعض هذه األموال ،وبالطبع كينز يكره االدخار .فاالدخار يؤدي إىل خفض اإلنفاق،
ُعترب انخفاض اإلنفاق أسوأ أمر يمكن تصوره لالقتصاد الذي يسعى للتعايف وي َ
واالنتعاش .لهذا ،كان دور الحكومة هو فرض التفضيل الزمني املرتفع عىل املجتمع من
خالل املزيد من اإلنفاق أو طباعة النقود ،ونظرا ً إىل أنه من الصعب رفع الرضائب خالل
فرتة الركود ،فإن اإلنفاق الحكومي سيُرتجَ م فعليا ً إىل زيادة العرض النقدي .اعتُرب هذا
األمر حينها أعظم إنجاز كينزي والذي يقول :إن لم يعمل االقتصاد بعمالة كاملة ،فالحل
يكون بزيادة العرض النقدي ،وليس هناك جدوى من القلق بشأن التضخم ،ألنه كما
أظهر كينز بافرتا ٍض ال أساس له ،إن التضخم يحدث فقط عندما يكون اإلنفاق مرتفعا ً
للغاية ،وألن معدل البطالة يكون مرتفعا ً أيضاً ،فهذا يعني أن اإلنفاق منخفض للغاية.
وقد تكون هناك عواقب عىل املدى الطويل ،لكن ال جدوى من القلق بشأن هذه العواقب
طويلة األمد ،ألنه "عىل املدى الطويل ،سنكون كلنا موتى . "4هذا هو دفاع كينز
الالمسؤول والساذج واألكثر شهرة عن التفضيل الزمني املرتفع.
إن النظرة الكينزية لالقتصاد بطبيعة الحال عىل خالف تام مع الواقع .فإذا
كان نموذج كينز يحمل أي صحة ،فهذا يعني بالرضورة عدم وجود مثال عىل مجتمع
يعاني من تضخم مرتفع وبطالة مرتفعة يف نفس الوقت ،لكن حدث هذا يف الواقع عدة
4جاي .إم .كينز" ،السبيل حنو اإلصالح النقدي" الفصل الثالث ،الصفحة .80من اجلدير ابلذكر أن الكينزيون
املعاصرون يرفضون تفسري هذا االقتباس على أنه يشري إىل قلق كينز على احلاضر على حساب املستقبل .بدالً من
ذلك ،جيادل الكينزيون مثل ساميون اتيلور أبن هذا يدل على إعطاء كينز األولوية ملعاجلة البطالة بشكل فوري
بدالً من القلق بشأن التهديد البعيد للتضخم .إن هذا الدفاع لألسف ال يؤدي إال إىل فضح تالميذ كينز
املعاصرين بكوهنم مهتمني ابملدى القصري فقط ،وهم جاهلني متاماً ابلواقع اجلوهري أبن السياسات التضخمية هي
ما يسبب البطالة يف املقام األول .اقرأ( ،املعىن احلقيقي لـ"على املدى الطويل ،سنكون كلنا موتى") متوفر على
املوقعhttp://www.simontaylorsblog.com/2013/05/05/the-true-meaning-
/of-in-the-long-run-we-are-all-dead
157
معيار البيتكوين
مرات ،وعىل األخص يف الواليات املتحدة يف سبعينات القرن املايض بالرغم من تأكيدات
االقتصاديني الكينزيني عىل عدم حدوثه ،ورغم تبني املؤسسة األمريكية بأكملها لنغمة
الفكر الكينزي من الرئيس نيكسون وصوال ً إىل ميلتون فريدمان " -اقتصاد السوق
الحرة"" .نحن كلنا كينزيون اآلن" كما قيل باملؤسسة األمريكية حيث أخذت الحكومة
عىل عاتقها مهمة القضاء عىل البطالة عرب زيادة التضخم ،ولكن مع هذا ظلت البطالة يف
ازدياد مع ارتفاع التضخم ،مما أدى إىل دحض النظرية املشرية إىل وجود مقايضة بينهما.
ففي أي مجتمع عاقل ،كان ينبغي إزالة فكر كينز من الكتب واملراجع االقتصادية
وحرصها يف عالم الكوميديا األكاديمية ،ولكن يف مجتمع تسيطر فيه الحكومة عىل
الجامعات إىل درجة كبرية للغاية ،واصلت الكتب التدريسية بالتبشري بنغمة الفكر
الكينزي الذي بَ َّرر طباعة النقد بشكل أكرب .فامتالك القدرة عىل طباعة النقد ،باملعنى
الحريف واملجازي ،يزيد من قوة الحكومات ،وتبحث كل الحكومات عن أي أمر يمنحها
املزيد من القوة.
صادق عليه ويف أيامنا هذه ،إن املدرسة الرئيسية األخرى للفكر االقتصادي ا ُمل َ
من قبل الحكومة هي املدرسة النقدية ،واألب الفكري لها هو ميلتون فريدمان .وأفضل
طريقة لفهم أصحاب النظرية النقدية هي بتشبيههم بزوجات الكينزيني املُعَ نَّفات ،فهن
موجودات لتوفري نسخة مبتذلة متساهلة من نظرية السوق الحرة وذلك لخلق مناخ
وهمي من النقاش الفكري ،وليتم دحضهن بشكل دائم وشامل ملنع املثقفني الفضوليني
من التفكري جديا ً باألسواق الحرة .والنسبة املئوية لالقتصاديني الذين هم يف الواقع من
طونأتباع النظرية النقدية هي نسبة ضئيلة باملقارنة مع نسبة الكينزيني ،لكنهم يُع َ
مساحة كبرية جدا ً للتعبري عن أفكارهم كما لو كان الجانبَني متساويَني .كما أن مؤيدو
النظرية النقدية يتفقون إىل حد كبري مع الكينزيني يف االفرتاضات األساسية للنماذج
الكينزية ،لكنهم يجدون مفاهيم رياضية معقدة وغري مهمة ويطرحون بعض
االستنتاجات للنموذج ،األمر الذي أدى دائما ً إىل تجرؤهم عىل اقرتاح تخفيف دور الحكومة
يف االقتصاد الكيل ،مما يجعلهم يبدون عىل الفور كزعماء رأسماليني أرشار بال قلب وال
يهتمون للفقراء.
158
النقد السليم والحرية الشخصية
عموماً ،يعارض مؤيدو النظرية النقدية الجهود الكينزية بإنفاق النقود بهدف
القضاء عىل البطالة ،بحجة أنه عىل املدى البعيد ،سيصبح تأثري ذلك عىل البطالة معدوما ً
وسيتسبب بحدوث التضخم ،وبدال ً من ذلك ،يفضل مؤيدو املدرسة النقدية تخفيض
الرضائب لتحفيز االقتصاد ،ألنهم يجادلون بأن السوق الحرة ستُخصص املوارد بشكل
أفضل من اإلنفاق الحكومي .وبالرغم من احتداد هذا الجدال حول تخفيض الرضائب
وزيادة اإلنفاق ،إال أن الحقيقة هي أن كلتا السياستني تؤدي إىل زيادة العجز الحكومي
الذي ال يمكن تمويله إال بالدَّين النقدي ،وهو زيادة فعلية يف العرض النقدي .مع هذا،
فالعقيدة واملبدأ األسايس للفكر النقدي هو الحاجة امللحة للحكومات ملنع االنهيارات يف
العرض النقدي و/أو االنخفاض يف مستوى األسعار ،الذي يعتربونه أساس جميع
املشاكل االقتصادية .فاالنخفاض يف مستوى األسعار ،أو "االنكماش" كما يحب
الكينزيون ومؤيدو املدرسة النقدية تسميته ،سيؤدي إىل ادخار الناس ألموالهم والحد من
إنفاقهم ،مما يسبب زيادة يف البطالة ينتج عنه الركود ،وأكثر ما يقلق مؤيدو املدرسة
النقدية هو أن االنكماش عاد ًة ما يكون مصحوبا ً بانهيارات يف امليزانيات العمومية
للقطاع املرصيف .وألنهم ينفرون أيضا ً من فهم السبب والتأثري ،فينتج عن ذلك ميل البنوك
املركزية لفعل أي يشء ممكن لضمان عدم حدوث هذا االنكماش أبداً .أما بالنسبة للتفسري
الدقيق لرعب مؤيدي املدرسة النقدية من االنكماش ،فابحثوا عن خطاب الرئيس السابق
للنظام االحتياطي الفيدرايل بن برنانكي يف عام 2002بعنوان "االنكماش :التأكد من
5
عدم حدوثه هنا".
إن مجموع مساهمات كلتا مدرستي الفكر هو الحصيلة التي يتم تدريسها يف
مقررات االقتصاد الكيل يف املرحلة الجامعية يف جميع أنحاء العالم :فعىل البنك املركزي
السعي لزيادة العرض النقدي بوترية مُسيطر عليها لتشجيع الناس عىل إنفاق املزيد،
وبالتايل الحفاظ عىل مستوى البطالة منخفضا ً بما فيه الكفاية .وإذا قلَّص البنك املركزي
العرض النقدي أو أخفق يف توسيع نطاقه بشكل مناسب ،عندئذ يمكن حدوث دوامة
انكماشية ،تؤدي إىل كبح الناس عن إنفاق أموالهم مما يلحق الرضر بنسبة العمالة
" 5مالحظات املدير بن إس .برياننكي أمام اندي االقتصاديني الوطنيني" واشنطن 21 ،نوفمرب عام ،2002
االنكماش :والتأكد من عدم حدوثه هنا.
159
معيار البيتكوين
ويتسبب بحدوث االنكماش االقتصادي .6فطبيعة تلك املناقشة التي يطرحها معظم علماء
االقتصاد والكتب التدريسية الشائعة تتجاهل اإلجابة عىل التساؤل إذا ما كان يجب أصال ً
زيادة العرض النقدي ،وتفرتض أن زيادته هو أمر م َُسلَّم به ،فيتجه النقاش لكيفية إدارة
البنوك املركزية لهذه الزيادة وتحديد معدالتها .فعقيدة كينز ،التي تحظى بشعبية عاملية
اليوم ،هي عقيدة االستهالك واإلنفاق لتلبية االحتياجات الفورية .وعرب زيادة العرض
النقدي بشكل مستمر ،قامت السياسة النقدية للبنوك املركزية بجعل االدخار واالستثمار
أقل جاذبية وبالتايل شجعت الناس عىل تقليلهما وعىل اإلنفاق بشكل أكرب .واألثر الحقيقي
لهذا األمر يتمثل يف انتشار ثقافة استهالك املظاهر أمام الناس ،حيث يعيش الناس
حياتهم لرشاء كميات هائلة من الرتهات التي ال يحتاجونها ،حيث أنه عندما يكون بديل
إنفاق األموال هو مشاهدة مدخراتك تفقد قيمتها بمرور الوقت ،فحتما ً ستميل إىل
االستمتاع بإنفاقها قبل أن تفقد قيمتها .يجدر اإلشارة إىل أن القرارات املالية التي يتخذها
األفراد تنعكس عىل جميع الجوانب األخرى من شخصياتهم ،األمر الذي يُوَ لِّد حدوث
التفضيل الزمني املرتفع يف جميع جوانب الحياة :فانخفاض قيمة العملة يؤدي إىل تقليل
االدخار ،وزيادة االقرتاض وزيادة العمليات قصرية املدى يف اإلنتاج االقتصادي ويف
املساعي الفنية والثقافية ،وربما األكثر رضراً ،استنزاف الرتبة من موادها الغذائية ،مما
يؤدي إىل وجود مستويات منخفضة جدا ً من املواد الغذائية يف الطعام.
6اقرأ كتاب كامبيل مكونل ،وستانلي برو ،وشون فلني ،علم االقتصاد (نيويورك :مكغرو -هيل عام ،)2009
الصفحة .535
160
النقد السليم والحرية الشخصية
املدرسة النمساوية عىل تأسيس فهم الظواهر بطريقة سببية ،وعن طريق التوصل
املنطقي لالستنتاجات من البديهيات الحقيقية الواضحة.
إن النظرية النمساوية للنقد تفرتض أن النقد يظهر يف السوق كأكثر السلع
أصل قابل للبيع ،فهو األصل الوحيد الذي يمكن ملالكيه بيعه بكل
ٍ قابلية للتسويق وكأكثر
7
سهولة بظروف مناسبة لهم ،بحيث يتم تفضيل األصل الذي يحتفظ بقيمته عىل األصل
الذي يفقد قيمته ،واملدخرون الذين يرغبون باختيار وسيط للتبادل سينجذبون بطبيعة
الحال لجمع األصول التي تحافظ عىل قيمتها كأصول نقدية مع مرور الوقت .ويف نهاية
املطاف ،النتيجة النهائية تعني أنه سيبقى أص ٌل واحد أو عدة أصول صالحة لالستخدام
كوسيط للتبادل .فبالنسبة مليزس ،إن غياب سيطرة الحكومة هو رشط رضوري للحفاظ
عىل سالمة النقد ،حيث يرى أن الحكومة لديها إغراء لتحط من قيمة عملتها وتبدأ بجمع
الثروات عندما يبدأ املدخرون باالستثمار.
فمن خالل فرض حد أقىص عىل العرض الكيل للبيتكوين ،كما سيتم مناقشته
يف الفصل الثامن ،كان من الواضح عدم اقتناع "ناكاموتو" بحجج وبراهني كتب
االقتصاد الكيل القياسية وتأثره أكثر باملدرسة النمساوية التي تقول إن كمية النقد بحد
ذاتها هي أمر غري هام ،وإن أي عرض نقدي سيكون كافيا ً لتشغيل وإدارة النظم
االقتصادية مهما كان حجمها ،وذلك ألن وحدات العملة قابلة للقسمة بشكل ال نهائي،
وألن القوة الرشائية للنقود هي املهمة عىل صعيد السلع الحقيقية والخدمات ،ال كميتها
العددية .وكما قال لودفيج فون ميزس:8
إ َّن الخدمات التي تقدمها النقود مرتبطة بارتفاع قوة رشائها ،فال أحد يريد أن
يكون يف مقتنياته النقدية عددا ً محددا ً أو وزنا ً محددا ً من النقود؛ بل يريد
الجميع أن تتضمن مقتنياتهم النقدية كمية محددة من القوة الرشائية ،وبما أن
عمليات السوق تميل إىل تحديد الحالة النهائية لقوة النقد الرشائية بمقدار
161
معيار البيتكوين
يتطابق فيه العرض النقدي مع مقدار الطلب عليه ،فال يمكن أبدا ً أن يكون
هناك فائض أو عجز يف النقود .بهذا ،يتمتع الفرد وكل األفراد معا ً دائما ً باملزايا
التي يمكنهم جَ نْيُهَ ا من التبادل غري املبارش واستخدام النقد بغض النظر عما
إذا كانت الكمية اإلجمالية للنقد كبرية أو صغرية ...فالخدمات التي يقدمها
النقد ال يمكن أن تتحسن أو تتدهور من خالل تغيري العرض النقدي ...فكمية
النقد املتاحة يف االقتصاد كله هي دائما ً كافية لتُؤ ِّمن للجميع كل ما يفعله النقد
وما يستطيع فعله.
9
يتفق موراي روثبورد مع ميزس ويقول:
إن العالَم الذي فيه العرض النقدي ثابت سيكون مشابها ً للمجتمعات يف معظم
القرنني الثامن عرش والتاسع عرش ،حيث تميزت هذه املجتمعات بازدهار
الثورة الصناعية مع زيادة االستثمارات الرأسمالية ،األمر الذي أدى إىل زيادة
عرض السلع وانخفاض أسعارها وتكاليف إنتاجها.
فوفقا ً للمدرسة النمساوية ،إذا كان العرض النقدي ثابتاً ،فإن النمو االقتصادي
سيؤدي إىل انخفاض أسعار السلع والخدمات الحقيقية ،مما سيسمح للناس برشاء
كميات متزايدة من السلع والخدمات بأموالهم يف املستقبل .وعال ٌم كهذا سيقوم بتثبيط
االستهالك الفوري كما يخىش الكينزيون ،لكنه سيشجع عىل االدخار واالستثمار
للمستقبل الذي من املمكن أن يحدث فيه املزيد من االستهالك .وبالنسبة ملدرسة فكرية
تميل بشكل كبري إىل التفضيل الزمني املرتفع ،إنه أمر مفهوم أن كينز ال يستطيع إدراك
أن تأثري املدخرات املتزايدة عىل االستهالك يف أي لحظة آنية تتفوق عليه الزيادة يف اإلنفاق
الناتجة عن زيادة االدخار يف املايض .فاملجتمع الذي يؤجل االستهالك دوما ً ينتهي به
املطاف بكونه مجتمعا ً يستهلك عىل املدى الطويل أكثر من مجتمع ذي مدخرات قليلة،
حيث أن املجتمع ذا التفضيل الزمني املنخفض يستثمر أكثر ،وبهذا فإنه يزيد من نسبة
9موراي روثبورد" ،النظرية النمساوية للنقد" أسس علم االقتصاد النمساوي احلديث ،عام :1976
.184C160
162
النقد السليم والحرية الشخصية
دخل أفراده .وحتى بوضع نسبة كبرية من دخلهم يف مدخراتهم ،فإن مجتمعات التفضيل
الزمني املنخفض سينتهي بها األمر يف نهاية املطاف بمستويات أعىل من االستهالك عىل
املدى الطويل باإلضافة إىل مخزون رأسمايل أكرب.
فإذا كان املجتمع بمثابة الطفلة الصغرية يف تجربة املارشميلو ،فإن االقتصاد
الكينزي يسعى إىل تغيري التجربة لكي يصبح االنتظار بمثابة عقاب للفتاة وذلك
بإعطائها نصف مارشميلو عوضا ً عن اثنتني ،مما يجعل مفهوم السيطرة عىل النفس
والتفضيل الزمني املنخفض يظهران كأمر يأتي بنتائج عكسية ،حيث أن إشباع امللذات
الفورية سيكون هو املسار األكثر احتماال ً من الناحية االقتصادية ،وسينعكس ذلك عىل
الثقافة واملجتمع ككل .من ناحية أخرى ،إن املدرسة النمساوية ومن خالل تبشريها
بالنقد السليم ،فهي تدرك حقيقة املقايضة التي توفرها الطبيعة للبرش ،وأنه إذا انتظرت
الطفلة ،فستكون هناك مكافأة أكرب لها مما يجعلها أكثر سعادة عىل املدى الطويل،
وسيشجعها ذلك عىل تأجيل إشباع رغباتها لزيادة مكاسبها الحقاً.
فعندما ترتفع قيمة النقد ،غالبا ً ما يكون الناس أكثر ذكا ًء فيما يتعلق
باستهالكهم وسيقومون بادخار املزيد من دخلهم للمستقبل .فثقافة استهالك املظاهر
أمام الناس ،واعتبار التسوق عالجا ً نفسياً ،والحاجة املستمرة الستبدال الفضالت
البالستيكية الرخيصة بفضالت بالستيكية رخيصة أيضا ولكن أكثر حداثة وجمالية ،إن
هذه األفكار لن يكون لها مكان يف مجتمع ترتفع قيمة عملته بمرور الوقت .وعال ٌم كهذا
سيشجع الناس عىل خفض تفضيلهم الزمني ،بحيث تكون قراراتهم النقدية هي من
يوجه أفعالهم نحو املستقبل ،وبالتايل سيتعلمون تقدير املستقبل بشكل أكرب .بهذا،
يمكننا أن نرى كيف يمكن ل ِِمث ْ ِل هذا املجتمع أن يدفع الناس ليس فقط نحو ادخار
واستثمار أكثر ،ولكن ليكون أيضا ً موجها ً أخالقيا ً وفنيا ً وثقافيا ً نحو مستقبل بعيد املدى.
فالعملة التي ترتفع قيمتها هي عملة تحفز عىل االدخار بحيث تكتسب
املدخرات املزيد من القوة الرشائية بمرور الوقت ،ولهذا فهي تشجع عىل تأجيل
االستهالك ،مما يؤدي إىل حدوث التفضيل الزمني املنخفض .من ناحية أخرى ،فالعملة
التي تنخفض قيمتها ،هي عملة ترتك املواطنني ببحث مستمر عن استثمارات تأتي
163
معيار البيتكوين
بعائدات للتغلب عىل التضخم ،وهي عائدات تأتي مع مخاطر ،ويؤدي هذا إىل زيادة
االستثمار يف املشاريع الخطرية ،وإىل زيادة قدرة املستثمرين عىل قبول املخاطر ،وبالتايل
زيادة الخسائر .فعاد ًة ،املجتمعات التي تتمتع بنقد ذي قيمة مستقرة تتبع سياسة
التفضيل الزمني املنخفض ،وتتعلم كيفية االدخار والتفكري يف املستقبل ،أما املجتمعات
ذات معدالت التضخم املرتفعة واالقتصادات املتدهورة فتتبع سياسة التفضيل الزمني
املرتفع ألن الناس ستفقد اإلحساس بأهمية االدخار وسرتكز عىل امللذات الفورية.
عالوة عىل ذلك ،إن أي اقتصاد ذي عملة ترتفع قيمتها ،هو اقتصاد لن يشهد
االستثمار إال يف املشاريع التي توفر عائدا ً حقيقيا ً إيجابيا ً عىل معدالت ارتفاع قيمة أسهم
رأس املال ،مما يعني أنه سيتم فقط تمويل املشاريع التي يُتوقع منها أن تزيد رأس مال
املجتمع .عىل النقيض من ذلك ،إن اقتصادا ً ذا عملة تنخفض قيمتها هو اقتصاد يحفز
األفراد عىل االستثمار يف املشاريع التي تقدم فوائد إيجابية عىل صعيد قيمة العملة
املرتاجعة ،لكن الفوائد الحقيقية ستكون سلبية .فاملشاريع التي تتغلب عىل التضخم وال
تقدم فوائد حقيقية إيجابية هي مشاريع تقلل فعليا ً من مخزون رأس مال املجتمع،
ولكنها مع ذلك تُعتَ َرب بديالً منطقيا ً للمستثمرين ألنها تقلل من رؤوس أموالهم بشكل
أبطأ من انخفاض قيمة العملة ،وهذه االستثمارات هي ما ي َِص ُفها لودفيج فون ميزس
باالستثمارات السيئة -وهي مشاريع عديمة الجدوى واستثمارات ال تبدو مربحة إال أثناء
فرتة التضخم وعندما تكون معدالت الفائدة منخفضة بشكل صنعي ،والتي ستتكشف
خسارتها الحقا ً بمجرد انخفاض معدالت التضخم وارتفاع معدالت الفائدة ،مما يتسبب
يف حدوث جزء الكساد من دورة االزدهار والكساد .وكما يقول ميزس" ،يُبدد االزدهار
االقتصادي عوامل اإلنتاج الشحيحة من خالل االستثمارات السيئة ،ويقلل من األموال
املتاحة عرب الزيادة املفرطة يف االستهالك؛ ليُد َفع ثمن فوائده ونِعمه املزعومة عرب
10
اإلفقار".
164
النقد السليم والحرية الشخصية
املرنة التي يمكن زيادتها بنا ًء عىل طلب الحكومة .فبالنسبة ألتباع املدرسة الكينزية ،إن
حقيقة استخدام كافة البنوك املركزية حول العالم للنقود الورقية تُمثِّل شهادة عىل تفوق
أفكارهم .عىل الصعيد اآلخر ،ترى املدرسة النمساوية يف لجوء الحكومة للتدابري القرسية
وفرض استخدام العمالت الورقية دليالً مبارشا ً عىل دونيَّة لحظر استخدام الذهب كنقد ْ
النقود الورقية وعجزها عن النجاح يف سوق حرة ،كما أنها املُسبب الرئييس الزدهار
وانهيار جميع الدورات االقتصادية .ويف حني أن االقتصاديني الكينزيني ليس لديهم أي
تفسري لسبب حدوث الركود سوى حجة "أرواح الحيوانات" ،فقد طور اقتصاديو املدرسة
النمساوية النظرية الوحيدة املرتابطة واملتسقة والتي ترشح أسباب الدورات االقتصادية:
11
وهي النظرية النمساوية للدورة االقتصادية.
11اقرأ كتاب الكساد االقتصادي :أسبابه وعالجه للكاتب موراي إن.روثبورد( ،معهد ليدوفيج فون ميزس ،عام
.)2009
165
معيار البيتكوين
الخامس.
فكلما ازداد حجم السوق الذي يستطيع األفراد التداول فيه ،ازدادت قدرتهم
عىل التخصص يف إنتاجهم وازدادت أرباحهم من التجارة .فكمية الجهود نفسها
املخصصة للعمل يف اقتصاد بدائي مكون من عرشة أفراد ستؤدي إىل مستوى معيشة أقل
بكثري مما سيكون لو بُذلت الجهود ذاتها يف أسوق أكرب مكونة من ألف أو مليون فرد.
فالفرد املعارص الذي يعيش يف مجتمع ذي تجارة حرة يستطيع العمل لعدة ساعات يوميا ً
يف عمل تخصيص للغاية ،وبوساطة املال الذي يجنيه فإنه يستطيع رشاء السلع التي
يريدها من أي مُنتِج يف العالم بأكمله بأقل تكلفة وبأفضل نوعية .ولتقدير املكاسب
الناتجة من التجارة التي ستعود بالنفع عليك ،تخيل عَ يْش حياتك باكتفاء ذاتي ،عندها
ستصبح مهمة البقاء األساسية مهمة صعبة بالنسبة ألي منا بحيث لن يتم استثمار
الوقت بشكل مثمر وفعال ألننا سنحاول تأمني احتياجاتنا األساسية.
فالنقد هو الوسيط الذي تتم به التجارة ،وهو األداة الوحيدة التي تُم ِّكن
التجارة من التوسع خارج نطاق املجتمعات الصغرية ذات العالقات الشخصية الوثيقة.
بشكل سلي ٍم
ٍ ولكي تعمل آلية األسعار ،يجب أن تكون هذه األسعار مُقوَّمة ومُ حتَ ً
سبة
عملة مشرتكة ،أصبح ً بالنقد للمجتمع الذي يتاجر به .وكلما َك ُربت املنطقة التي تستخدم
نطاق التجارة داخل هذه املنطقة أكرب وأكثر سهولة ،وبهذا تخلق التجارة بني الشعوب
تعايشا ً سلميا ً من خالل منحهم مصلحة ثابتة يف ازدهار اآلخرين .أما عندما تستخدم
املجتمعات أنواعا ً مختلف ًة من النقد السهل ،تصبح التجارة أكثر تعقيداً ،حيث تختلف
األسعار مع اختالف قيمة العمالت ،مما يضيف صفة التقلب إىل التجارة ويجعلها يف كثري
من األحيان غري مثمرة يف حال تم التخطيط لنشاط اقتصادي عرب الحدود.
إن األفراد املُتَّ ِبعني لسياسة التفضيل الزمني املنخفض وبسبب ميلهم للرتكيز
عىل املستقبل فهم أقل عرضة لالنخراط يف الرصاع من أولئك الذين يميلون للرتكيز عىل
الحارض .فالرصاع بطبيعته ُمد ِّمر ،ويف معظم الحاالت ،األفراد األذكياء والذين يميلون
للرتكيز عىل املستقبل يدركون أنه ال يوجد منترص يف الرصاعات العنيفة ،وذلك ألن
املنترصين سيعانون عىل األرجح من خسائر أكثر مما لو كانوا قد امتنعوا عن املشاركة يف
166
النقد السليم والحرية الشخصية
الرصاع يف املقام األول .واملجتمعات املتحرضة تعمل عىل أساس أن الناس يحرتمون إرادة
أحدهم اآلخر ،وإذا كان هناك رصاعات ،فإنهم سيحاولون التوصل إىل حلول سلمية ،فإذا
لم يتم العثور عىل حلول سلمية ،فمن املرجح أن يفرتق املتخاصمان ويتجنبان بعضهما
عوضا ً عن االستمرار بإزعاج اآلخر والبقاء يف حالة رصاع .وهذا األمر يساعد عىل تفسري
عدم وجود الكثري من الجرائم أو العنف أو الرصاعات يف املجتمعات املتحرضة املزدهرة.
عىل املستوى الدويل ،إن الدول التي تستخدم النقد السليم ،من املرجح لها أن
تبقى يف حالة سلم ،أو أن يكون الرصاع فيها بحده األدنى ،وذلك ألن النقد السليم يضع
قيودا ً حقيقي ًة عىل قدرة الحكومات يف تمويل عملياتها العسكرية .ففي أوروبا يف القرن
جرب امللوك الذين أرادوا قتال بعضهم البعض عىل فرض رضائب عىل التاسع عرش ،أ ُ ِ
شعوبهم من أجل تمويل جيوشهم .وعىل املدى الطويل ،قد تكون اسرتاتيجية كتلك مربحة
ظف امللوك قواهم العسكرية بشكل دفاعي ،وليس بشكل هجومي .حيث فقط يف حال و َّ
أن العمل العسكري الدفاعي يحظى دائما ً بميزة أقوى من الطبيعة العسكرية الهجومية،
وذلك ألن املدافع يقاتل عىل أرضه وترابه ،بالقرب من شعبه وخطوط إمداده .فالحاكم
الذي يركز جيوشه عىل العمل الدفاعي سيجد شعبه عىل استعداد لدفع الرضائب للدفاع
عن أنفسهم أمام الغزاة األجانب ،لكن الحاكم الذي يشارك يف مغامرات خارجية مطولة
إلثراء نفسه ،فمن األرجح أن يستاء شعبه منه وأن يتحمل تكاليف باهظة يف محاربة
جيوش أخرى وهم عىل أرضهم.
يمكن أن يساعدنا هذا يف تفسري سبب كون القرن العرشين القرن األكثر دموية
يف التاريخ ،فتقرير األمم املتحدة للتنمية البرشية 12لعام 2005حلل الوفيات الناجمة من
الرصاعات عىل مدى القرون الخمسة املاضية ،ووجد أن القرن العرشين هو أكثرها
دموية .فحتى عندما دخلت الدول األوروبية الكربى يف حرب مع بعضها البعض يف حقبة ً
املعيار الذهبي ،كانت تلك الحروب عاد ًة قصرية وحوربت يف ساحات القتال بني الجيوش
املحرتفة .فالحرب الرئيسية يف القرن التاسع عرش يف أوروبا كانت هي الحرب الفرنسية -
الربوسية املمتدة بني العامني ،1871-1870والتي استمرت ملدة 9أشهر ُ
وقتل فيها
12تقرير التنمية البشرية يف عام ( 2005نيويورك :برانمج األمم املتحدة للتنمية البشرية عام .)2005
167
معيار البيتكوين
حوايل 150,000شخص ،وهذا العدد قريب من متوسط عدد الوفيات األسبوعية يف
الحرب العاملية الثانية املمولة من حكومات القرن العرشين وعمالتها السهلة .لكن وألن
ض قيودا ً عليهم يف تمويل الحرب من الرضائب ،كان عىل الحكومات املعيار الذهبي َف َر َ
األوروبية تجهيز نفقاتهم قبل املعركة ،وأن تنفقها يف تجهيز جيوشها بأكرب فعالية
ممكنة ،وأن تحاول تحقيق نرص حاسم .وحاملا يبدأ تيار املعركة باالنقالب عىل أحد
الجيوش ،تصبح املعركة خارسة من الناحية اللوجستية واالقتصادية عند محاولة زيادة
الرضائب إلعادة تسليح الجيش وتحويل مسار املعركة ،ويف هذه الحالة من األفضل
التفاوض إلقرار السالم مع أقل قدر ممكن من الخسائر .وكانت الحروب النابليونية هي
األكثر دموية يف القرن التاسع عرش ،حيث حدثت قبل اعتماد املعيار الذهبي رسميا ً يف
جميع أنحاء القارة ،بعد التجارب الحمقاء التي قامت بها الثورة الفرنسية مع التضخم.
(انظر الجدول .13)5
اآلن ،ويف جميع االقتصادات املتقدمة بشكلها الحايل ،يتخصص عدد كبري من
الرشكات يف الحروب كعمل تجاري ،وهي تعتمد عىل استمرار هذه الحروب إلبقاء عملها.
فهي تعيش عىل اإلنفاق الحكومي بشكل حرصي ،وكامل أمر استمراريتا ووجودها يعتمد
عىل وجود حروب دائمة تتطلب إنفاقا ً متزايدا ً عىل األسلحة .ففي الواليات املتحدة ،ميزانية
الدفاع تساوي تقريبا ً مجموع امليزانيات لجميع الدول األخرى عىل الكوكب ،ولتلك
الرشكات مصلحة كبرية يف اإلبقاء عىل الحكومة األمريكية مشارك ًة يف شكل من أشكال
املغامرات العسكرية أو ما شابه .إن هذا األمر ،أكثر من أي عمليات اسرتاتيجية أو ثقافية
أو أيديولوجية أو عمليات أمنية ،يفرس سبب تورط الواليات املتحدة يف العديد من
الرصاعات يف أجزاء من العالم بحيث ال يمكن أن يكون لها أي تأثري عىل حياة األمريكي
العادي .إنه وفقط عرب النقد غري السليم ،يمكن لهذه الرشكات أن تنمو إىل ذلك الحجم
الهائل بحيث يمكنها التأثري عىل الصحافة ،واألوساط األكاديمية ،واملراكز البحثية
للتشجيع الدائم عىل قرع طبول حرب أخرى.
13املصدر :تقرير التنمية البشرية من برانمج التنمية لألمم املتحدة (عام .)2005
168
النقد السليم والحرية الشخصية
انترصت الليربالية بناء عىل املبدأ القائل بأن أفضل الحكومات هي أقلها حكماً؛
أما اآلن عىل صعيد الدول الغربية ،فالحكمة السياسية لهذه الدول قامت بإعادة
فكرة التحرر إىل الليربالية ،فوضع هذا التحول املفردات بحالة من الفوىض.
169
معيار البيتكوين
ففي حني قامت الليربالية بدور الحكومة وذلك بالسماح لألفراد بالعيش بحرية
وباالستمتاع بمزايا أفعالهم وتحمل عواقبها ،اُعترب التحرر فكرة راديكالية تشري إىل أن
دور الحكومة يتمحور حول السماح لألفراد باالنخراط يف رغباتهم وحمايتهم من
العواقب .فعىل الصعيد االجتماعي واالقتصادي والسيايس ،تم إعادة صياغة دور الحكومة
وكأنها الجنِّي املانح لألمنيات ،وما عىل السكان سوى التصويت عىل األماني املُراد
تحقيقها.
وحدَّد املؤرخ الفرنيس "إييل هاليفي" عرص االستبداد بأنه قد بدأ عام 1914
مع بداية الحرب العاملية األوىل ،عندما انتقلت القوى الكربى يف العالم نحو التأميم
االقتصادي والفكري .فلقد قاموا بتأميم وسائل اإلنتاج وبدؤوا باستخدام صيغ نقابية
ومؤسساتية يف منظومة املجتمع ،وقد حدث كل ذلك أثناء قيامهم بقمع األفكار التي تُعترب
15
ضد املصلحة الوطنية باإلضافة إىل تعزيز القومية يف ما أسماه "تنظيم الحماس".
فاملفهوم الليربايل الكالسيكي للحكومة ال يمكن تحقيقه إال يف عالم يستخدم النقد السليم
والذي كان بمثابة قيد طبيعي عىل تجاوزات الحكومة واستبدادها .فطاملا كان عىل
الحكومة فرض رضائب عىل مواطنيها لتمويل عملياتها ،وجب عليها تقييد هذه العمليات
بما يعتربه مواطنوها مقبوالً ،ووجب عليها املحافظة عىل ميزانية متوازنة عرب إبقاء
االستهالك ضمن حدود دخل الرضائب .ففي مجتمع يستخدم النقد السليم ،تعتمد
الحكومة عىل موافقة سكانها لتمويل عملياتها ،وعند طرح أي مرشوع حكومي جديد،
سيتعني جَ مْ ُع تكاليفه مُسبقا ً من الرضائب أو بيع السندات الحكومية طويلة األمد ،مما
يمنح السكان مقياسا ً دقيقا ً للتكاليف الحقيقية لهذه االسرتاتيجية ،والتي تم ِّكنهم
بسهولة من املقارنة بينها وبني الفوائد .لهذا ،إن الحكومة التي تبحث عن تمويل منطقي
ً
صعوبة تُ ْذ َكر يف فرض من أجل الدفاع القومي ومشاريع البنية التحتية لن تواجه
الرضائب وبيع السندات للسكان الذين يستطيعون رؤية املزايا بأم أعينهم ،لكن الحكومة
15إيلي هاليفي وماي واالس ،كتاب" :عصر االستبداد" ،الوضع االقتصادي ،سلسلة جديدة ،اجمللد الثامن الرقم
( 29فرباير عام :)1941الصفحة 77إىل الصفحة .93
170
النقد السليم والحرية الشخصية
التي ترفع الرضائب لتمويل نمط الحياة الفخم للحُكام ستولِّد استيا ًء عاما ً بني السكان
مما يُعَ ِّرض رشعية حكمها للخطر ويزيد من عدم استقراره .فكلما ازدادت رضائب
الحكومة املُرهِ قة وتدابريها املفروضة ،ازداد احتمال رفض السكان دفع الرضائب،
وازدادت تكاليف تحصيل الرضائب بشكل أكرب ،ولربما يؤدي ذلك إىل االحتجاج ضد
الحكومة الستبدالها ،سواء عن طريق االقرتاع أو العنف.
وبهذاَ ،ف َرض النقد السليم عىل الحكومات الترصف بشفافية وصدق ،وحَ رص
ُحكمها ضمن ما يريض السكان وما يستطيعون تحمل تكاليفه ،فقد سمح بمحاسبةٍ
مجتمعيةٍ صادقة وشفافة للتكاليف والفوائد الحقيقية لألعمال واملشاريع ،فضالً عىل
املسؤولية االقتصادية الالزمة ألي منظمة أو فرد أو كائن حي للنجاح يف الحياة:
فاالستهالك يجب أن يحصل بعد اإلنتاج.
من ناحية أخرى ،يسمح النقد غري السليم للحكومات برشاء الوالء والشعبية من
خالل اإلنفاق لتحقيق األهداف الشعبية دون الحاجة إىل إعالم شعوبها بالتكاليف.
فببساطة ،تقوم الحكومة بزيادة العرض النقدي لتمويل أي مخطط طائش تقوم
بتلفيقه ،وال يدرك السكان التكلفة الحقيقية ملثل هذه املخططات إال يف السنوات التالية
عندما يؤدي تضخم العرض النقدي إىل ارتفاع األسعار .ويف تلك النقطة يمكن عزو
أسباب انهيار قيمة العملة إىل عوامل ال تُعَ ُّد وال تحىص ،تتضمن عاد ًة مؤامرات خبيثة من
قبل األجانب ،واملرصفيني واألقليات العرقية املحلية أو الحكومات السابقة أو املستقبلية.
لهذا ،يُعترب النقد غري السليم أداة خطرية يف أيادي الحكومات الديمقراطية الحديثة التي
تواجه بشكل مستمر ضغط إعادة االنتخاب .كما أنه ليس من املرجح أن يُفضل الناخبون
العرصيون املرشحني الرصيحني بشأن تكاليف مخططاتهم وفوائدها؛ فهم عىل األرجح
سيختارون أولئك األوغاد الذين يَعِ دونهم بغداء مجاني ثم يلقون لوم التكاليف عىل من
وَهما ً
سبقوهم أو عىل بعض املؤامرات الشنيعة .بهذه الطريقة ،تصبح الديمقراطية ْ
جماعيا ً لألشخاص الذين يحاولون تجاوز قواعد االقتصاد عن طريق التصويت ملن يقدم
لهم وجبة غداء مجانية ويخدعهم لالحتجاج العنيف ضد كبش فداء حينما تصل فاتورة
الغداء املجاني عىل شكل تضخم وركود اقتصادي.
171
معيار البيتكوين
فالنقد غري السليم يقع يف قلب الوهم الحديث الذي يؤمن به معظم الناخبون
ومن شاء حظهم العاثر دراسة االقتصاد الكيل الحديث عىل املستوى الجامعي :فاإلجراءات
الحكومية ليس لديها تكاليف الفرص البديلة حيث يمكن للحكومة تحريك عصاها
السحرية الخارقة لبناء الواقع الذي تريده ،سواء أكان ذلك عىل صعيد الحد من الفقر أو
فرض األخالق أو الرعاية الصحية أو التعليم أو البنية التحتية أو إصالح املؤسسات
السياسية واالقتصادية يف الدول األخرى أو تجاوز قواعد العرض والطلب عىل أي سلعة
مهمة عاطفياً .فمعظم املواطنني الحاليني يعيشون يف أرض أحالم وهمية ال يوجد فيها
تكلفة ألي يشء من هذه األشياء ،وكل ما هو مطلوب لتحقيق هذه األهداف هو "اإلرادة
السياسية" و"القيادة القوية" وغياب الفساد .فلقد قىض النقد غري السليم عىل فكرة
املقايضات وعىل تكاليف الفرصة البديلة من عقول األفراد الذين يفكرون يف الشؤون
العامة ،وسيُصدم املواطن العادي من إعالمه بما هو واضح وبديهي :إن كل هذه األشياء
الجميلة التي تريدها ال يمكن تحقيقها دون تكلفة من قبل السيايس املفضل لديك أو حتى
من خصمه ،بل يجب تحقيقها جميعها من قبل أشخاص حقيقيني – وهم أشخاص
عليهم االستيقاظ يف الصباح الباكر وقضاء أيامهم وسنواتهم بالعمل بجد إلعطائك ما
تريده ،وحرمان أنفسهم من فرصة العمل عىل أشياء أخرى ربما يفضلون إنتاجها.
وبالرغم من أنه لم يتم انتخاب أي سيايس بنا ًء عىل هذه الحقيقة ،إال أن صندوق االقرتاع
ال يمكنه إبطال جوهر وأساس ندرة الوقت البرشي .ففي أي وقت تقرر فيه الحكومات
تقديم يشء فإنها ال تزيد من الناتج االقتصادي؛ بل إن هذا ببساطة يعني املزيد من
16
التخطيط املركزي للناتج االقتصادي مع عواقب يمكن التنبؤ بها.
فالنقد غري السليم كان بمثابة نعمة للطغاة واألنظمة القمعية والحكومات غري
الرشعية حيث سمح لهم بتجنب حقيقة التكاليف والفوائد من خالل زيادة العرض
ترك السكان ليتحملوا العواقب الحقا ً وهم يشهدون
النقدي لتمويل مشاريعهم أوالً ،ثم ْ
زوال ثرواتهم وقواهم الرشائية .والتاريخ حافل بأمثلة تُظهر لنا كيف أن الحكومات التي
16موراي روثبورد" ،هناية االشرتاكية ومراجعة جدال احلساابت" ،مراجعة علم االقتصاد النمساوي ،اجمللد 5الرقم
( 2عام .)1991
172
النقد السليم والحرية الشخصية
يتواجد لها امتيازات طباعة النقد من الفراغ ،غالبا ً ما تيسء استخدام هذا االمتياز عرب
قلبه ضد شعوبها.
لهذا ،ليس من قبيل املصادفة أنه عند رسد الروايات عن أبشع طغاة التاريخ،
يكتشف املرء أن كل واحد منهم كان قد اتَّبع نظام حكومة ذات سلطة لطباعة النقود
األمر الذي أدى دائما ً إىل تَض ُّخ ٍم لتمويل عمليات الحكومة .فهناك سبب وجيه لكون
"فالديمري لينني" ،و"جوزيف وستالني" ،و"ماو تيس دونغ" ،و"أدولف هتلر"،
و"ماكسميليان روبسبيار" ،و"بول بوت" ،و"بينيتو موسوليني" ،و"كيم جونغ إل"
والعديد من املجرمني ذوي السمعة السيئة ،قد حكموا يف فرتات إصدار الحكومة للنقد غري
السليم حيث كان بإمكانهم طباعة الكمية التي يحتاجونها لتمويل جنون عظمتهم
اإلجرامي واالستبدادي .وهو السبب ذاته يف أ َّن نفس املجتمعات التي أنجبت هؤالء القتلة
الجماعيني لم تُنجب أي شخص قريب من مستوى إجرامهم عند العيش يف ظل أنظمة
نقدية سليمة والتي أجربت الحكومات عىل فرض الرضائب قبل القيام باإلنفاق .فلم يقم
أي من هؤالء الوحوش بإلغاء النقد السليم بغرض تمويل عمليات اإلبادة الجماعية ،فقد
حصل تدمري النقد السليم من قبل ،بل وتم اإلشادة به بقصص مبهجة رائعة شملت
األطفال والتعليم وتحرير العمال والكرامة الوطنية ،لكن وبمجرد تدمري النقد السليم،
أصبح من السهل للغاية عىل هؤالء املجرمني تويل السلطة والسيطرة عىل كل موارد
املجتمع عن طريق زيادة عرض هذا النقد غري السليم.
فالنقد غري السليم يجعل سلطة الحكومة غري محدودة مع عواقب كبرية عىل كل
فرد ،مما يقحم السياسة يف قلب حياة هذه األفراد ويعيد توجيه الكثري من طاقة املجتمع
وموارده إىل لعبة محصلتها صفر وهي ،من الذي سينال الحكم وكيف .من ناحية أخرى،
ً
مسألة ذات عواقب محدودة ،فالديمقراطية أو فالنقد السليم يجعل من شكل الحكومة
الجمهورية أو امللكية كلها مقيدة بالنقد السليم ،مما يتيح ملعظم األفراد درجة كبرية من
الحرية يف حياتهم الشخصية.
173
معيار البيتكوين
العودة هنا إىل وجهة نظر جون ماينارد كينز لفهم دوافع النظام االقتصادي الذي
َ
املناضلة طيلة العقود املاضية .ففي إحدى دراساته يقرتحه ،والذي كان عىل البرشية فيه
األقل شهرة" ،انتهاء االقتصاد الحر" ،يقدم كينز تصوره عما يجب أن يكون عليه دور
الحكومة يف املجتمع ،فأعرب كينز عن معارضته لكل من الليربالية والنزعة الفردية ،وهذا
أمر متوقع ،ولكنه يُقدِّم أيضا ً أُسس معارضته لالشرتاكية ،حيث يقول:
بهذا ،يتضح لنا أن مشكلة كينز مع االشرتاكية هي أن هدفها النهائي كان هو
زيادة الحرية الفردية .وبالنسبة إىل كينز ،ال ينبغي أن يتعلق الهدف النهائي بقضايا
"تافهة" مثل الحرية الفردية ،بل يجب أن يتعلق بتحكم الحكومة يف الجوانب االقتصادية
كما يحلو له ،حيث قام كينز باستعراض ثالثة مجاالت رئيسية يرى فيها أن دور
الحكومة حيوي ورضوري :األول" ،السيطرة املُتعمدة عىل العملة واالئتمان من قبل
وَض َع أُسس البنوك املركزية الحديثة .الثاني ،اعتقد
مؤسسة مركزية "،وهو االعتقاد الذي َ
كينز أنه من مهام الحكومة اتخاذ القرار بشأن "الدرجة التي يصبح عندها من املرغوب
فيه عىل املجتمع أن يدخر ككل ،والدرجة التي يجب أن تُستثمر فيها هذه املدخرات يف
الخارج عىل شكل استثمارات أجنبية ،وما إذا كان التنظيم الحايل لسوق االستثمار يُو ِّزع
إنتاجية عىل املستوى الوطني .حيث قال" :ال أعتقد أن هذهً املدخرات عىل أكثر القنوات
األمور يجب أن تُرتَك بالكامل ملصادفات األحكام الشخصية واألرباح الشخصية ،كما هو
الوضع اآلن ".وأخرياً ،اعتقد كينز أنه من مهام الحكومة وضع "سياسة وطنية مدروسة
حول عدد السكان األكثر مالءمة ،سواء أكان أكرب أو يساوي أو أصغر من العدد الحايل.
وعند االستقرار عىل تلك السياسة ،سيتوجب علينا اتخاذ خطوات لتنفيذها ،ويف وقت
174
النقد السليم والحرية الشخصية
الحق ،قد يتعني عىل املجتمع ككل االنتباه إىل النوعية الحقيقية وعدد األعضاء يف
17
املستقبل".
بعبارة أخرى ،إن املفهوم الكينزي للدولة الذي انبثقت منه املبادئ املرصفية
املركزية الحديثة والتي تم تطبيقها عىل نطاق واسع من قِ ب َِل جميع املرصفيني املركزيني،
والتي تشكل الغالبية العظمى من الكتب الدراسية االقتصادية املكتوبة يف جميع أنحاء
مكان أراد فيه رج ٌل تركيز الحكومة عىل مجالَني مهمَّ ني يف الحياة:
ٍ العالم ،قد أتت من
األول ،السيطرة عىل النقد واالئتمان واالدخار وقرارات االستثمار ،مما يعني املركزية
الشمولية لتخصيص رأس املال وتدمري املشاريع الفردية الحرة ،األمر الذي يجعل األفراد
معتمدين كليا ً عىل الحكومة لنجاتهم .الثاني ،هو السيطرة عىل كمية ونوعية السكان ،مما
يعني تحسني النسل .فعىل النقيض من االشرتاكيني ،لم يس َع كينز لتحقيق هذا املستوى
من السيطرة عىل األفراد من أجل تعزيز حريتهم عىل املدى الطويل ،لكنه َف َّضل تطوير
رؤية أشمل للمجتمع كما يراه هو مناسباً .وربما كان لالشرتاكيني لباق ٌة عىل األقل يف
التظاهر بأنهم يريدون استعباد اإلنسان ملصلحته ولتحريره يف املستقبل ،إال أن كينز أراد
استعباد الحكومة فقط ملجرد االستعباد ،كهدف نهائي .وقد يساعدنا هذا بفهم دافع
موراي روثبورد لقول" :هناك أمر واحد جيد يف "كارل ماركس" ،عىل األقل لم يكن
ً 18
كينزيا".
175
معيار البيتكوين
بالنسبة لجون ماينارد كينز وميلتون فريدمان ،كان أحد أهم العوامل الرئيسية
البتعادهما عن املعيار الذهبي هو انخفاض تكاليف استخراجه كنتيجة الستخدام النقود
الورقية التي تصدرها الحكومة ،والتي تكون تكلفة إنتاجها أقل بكثري من تكلفة إنتاج
الذهب .فليس فقط أنهم لم يفهما أن املوارد املُوجَّ هة إلنتاج الذهب هي قليلة جدا ً مقارنة
بالسلع األخرى التي يمكن تضخيم عرضها بسهولة ،بل إنهم أيضا ً قد قللوا من شأن
التكاليف الحقيقية التي سيتحملها املجتمع بسبب استخدام شكل من النقد يمكن
تضخيم عرضه كما يحلو لحكومة رسيعة التأثر بالسياسات الديمقراطية واملصالح
الشخصية .فالتكلفة الحقيقة يف هذه الحالة ليست هي التكلفة املبارشة لتشغيل
الطابعات ،بل هي تكلفة التنازل عن النشاطات االقتصادية وذلك ألن املوارد اإلنتاجية
ستتجه نحو النقود الحكومية الجديدة عوضا ً عن االنخراط يف اإلنتاج االقتصادي.
176
النقد السليم والحرية الشخصية
ويمكن فهم عملية استحداث االئتمان التضخمي كمثال واسع للمجتمع الذي
أطلق عليه االقتصادي جون كينيث غالربيث"العملة َ
الخل َِسة" 19يف كتابه عن الكساد
العظيم .فمع الزيادة الكبرية للتوسع االئتماني يف عرشينيات القرن املايضُ ،غمرت
الرشكات بالنقود ،وأصبح من السهل عىل الناس اختالس تلك النقود بطرق مختلفة،
وطاملا استمر تدفق االئتمان ،سيبقى الضحايا غافلني ،وسينترش ْ
وَه ُم الثروة املتزايدة يف
كامل املجتمع حيث أن ُك ّالً من الضحية والسارق يظنان أنهما يملكان املال .فاستحداث
البنوك املركزية لالئتمان يؤدي إىل حدوث طفرات غري مُستدامة وذلك عرب السماح بتمويل
املشاريع غري املربحة والسماح لها باالستمرار يف استهالك املوارد يف أنشطة غري منتجة.
بينما يف نظا ٍم نقدي سليم ،فإن أي عمل أو مرشوع تجاري يستمر بعمله ،فهو
يستمر به ألنه يقوم بتقديم قيمة للمجتمع وذلك من خالل جني إيرادات عالية من
منتجاته بحيث تكون هذه اإليرادات أكثر من التكاليف التي تم دفعها أثناء اإلنتاج.
ٍ
ُدخالت بسعر سوق معني إىل فالعمل واملرشوع التجاري يكون مُنتِجا ً ألنه يقوم بتحويل م
ُخرجات بسعر سوق أعىل .وأي رشكة تُنتج مخرجات تق ُّل قيمتها عن مدخالتها، ٍ م
ُ
ستتوقف عن العمل ،وستحرر مواردها ليتم استخدامها من قبل رشكات أخرى أكثر
إنتاجية ،فيما وصفه االقتصادي "جوزيف شومبيرت" بـ"الدَّمار الخ َّالق" .ففي سوق
حرة ،ال يكون هناك أي ربح دون احتمال حقيقي بالخسارة ،والجميع م َ
ُجرب عىل
املخاطرة يف اللعبة :فالفشل دائما ً هو احتمال مطروح ،ويمكن أن يكون مكلفاً ،لكن النقد
يؤخر ويماطل هذه العملية ،مما يُبقي الرشكات غري غري السليم الذي تصدره الحكومة ِّ
املنتجة غري ميتة ولكنها أيضا ً غري حية ،فتكون بذلك هي املكافئ االقتصادي ملخلوقات
الزومبي (األحياء األموات) أو مصايص الدماء الذين يعتمدون عىل موارد الرشكات املنتجة
والحية إلنتاج أشياء قيمتها أقل من املوارد الالزمة إلنتاجها .إن هذا األمر يؤدي إىل إنشاء
طبقة اجتماعية جديدة تتبع قواعد مختلفة عن قواعد اآلخرين ،مع عدم وجود مخاطر
بالنسبة لهم .ولعدم مواجهتهم اختبار السوق يف عملهم ،فسيصبحون يف عزلة عن عواقب
أفعالهم ،وهذه الطبقة الجديدة موجودة يف كل قطاع اقتصادي تموله النقود الحكومية.
19جون كينيث غالربيث ،االهنيار العظيم عام ( ،1929بوسطن ،شركة النشر( :هوتون ميفلني هاركورت) عام
)1997الصفحة .133
177
معيار البيتكوين
وليس من املمكن القيام بتقدير دقيق للنسبة املئوية للنشاط االقتصادي يف
االقتصاد العاملي الحديث الذي يسري باتجاه النقود املطبوعة من قبل الحكومة بدال ً من
إنتاج السلع والخدمات املفيدة للمجتمع ،لكن من املمكن الحصول عىل فكرة عن ذلك من
خالل النظر إىل الرشكات والقطاعات التي تنجو بسبب نجاحها يف اختبار السوق الحرة،
واألخرى التي بقيت حية بفضل سخاء الحكومة سواء عىل الصعيد النقدي أم املايل.
فالدعم املايل هو من األمثلة الواضحة عىل أسلوب إنشاء الزومبي ،فأي رشكة
تتلقى الدعم الحكومي املبارش ،والغالبية العظمى من الرشكات التي هي عىل قيد الحياة
بسبب بيع منتجاتها للقطاع العام ،هي يف الواقع رشكات زومبي .فلو كانت هذه الرشكات
منتجة يف املجتمع ،لكان األفراد األحرار قد فضلوا إنفاق أموالهم لدفع ثمن منتجاتها،
ولكن حقيقة عدم قدرة هذه الرشكات عىل النجاة من املدفوعات الطوعية فقط ،يظهر أنها
عبء وليس لها أصول إنتاجية للمجتمع.
ففي سوق حرة ذات نقد سليم ،يختار أصحاب رؤوس األموال تخصيص
رؤوس أموالهم يف االستثمارات التي يجدونها أكثر إنتاجية ،وبإمكانهم االستفادة من
املصارف االستثمارية إلدارة عملية التخصيص هذه .وهذه العملية تكافئ الرشكات التي
تخدم العمالء بنجاح ،واملستثمرين الذين يكتشفونهم بينما يتم عقابهم عىل ارتكاب
األخطاء .أما يف أنظمة النقد الورقي ،فالبنك املركزي هو املسؤول عن كامل عملية
178
النقد السليم والحرية الشخصية
تخصيص االئتمان ،ويقوم بالتحكم واإلرشاف عىل املصارف التي تُخصص رأس املال،
ويضع املعايري األهلية لإلقراض ،ويحاول تحديد املخاطر بطريقة رياضية تتجاهل
املخاطر وطريقة عمل العالم الحقيقي .فيتم بذلك استبعاد اختبار السوق الحرة ألن
التوجه االئتماني للبنك املركزي بإمكانه إبطال الواقع االقتصادي للربح والخسارة.
ففي عالم النقد الورقي ،الوصو ُل إىل حنفيات نقد البنك املركزي أهم من خدمة
الزبائن .فالرشكات التي يمكنها الحصول عىل قروض بفائدة منخفضة لتسيري أعمالها
ستمتلك ميزة دائمة مقابل املنافسني الذين ال يستطيعون تحقيق ذلك .وبذلك ،تصبح
معايري النجاح يف السوق متعلق ًة أكثر بالقدرة عىل تأمني التمويل بفوائد أقل عوضا ً عن
تقديم الخدمات للمجتمع.
تُفرس هذه الظاهرة البسيطة الكثري عن الواقع االقتصادي الحديث ،مثل العديد
من الصناعات التي تكسب املال دون إنتاج أي يشء ذي قيمة ألي أحد .فالوكاالت
السمعة العاملية السيئة التي اكتسبتها بعدمالحكومية هي املثال األبرز ،وال يمكن فهم ُ
كفاءة موظفيها إال كنتيجة لتمويل "العملة َ
الخل َِسة" لها حيث أنهم مفصولون كليا ً عن
الواقع االقتصادي .فبدال ً من اجتياز االختبار الصعب للنجاح يف السوق من خالل خدمة
املواطنني ،تَخترب الوكاالت الحكومية نفسها وتَستنتج بشكل دائم أن حل جميع مواضع
فشلها يكمن يف زيادة التمويل .وبغض النظر عن مستوى عدم الكفاءة أو اإلهمال أو
الفشل ،فالوكاالت الحكومية وموظفيها نادرا ً ما يواجهون عواقب حقيقية .فحتى بعد
إزالة األساس املنطقي لوجود وكالة حكومية ما ،ستستمر هذه الوكالة بالعمل وستجد
ً
سلطة لنفسها املزيد من الواجبات واملسؤوليات .لبنان ،عىل سبيل املثال ،ال تزال تملك
للقطارات بالرغم من خروج القطارات من الخدمة منذ عقود ،حيث صدأت سككها
20
الحديدية بشكل كبري.
21لقراءة املزيد عن هذا ،اقرأ :فضيحة النقد :ملَ تتعاىف وول سرتيت لكن االقتصاد ال يتعاىف أبداً ،جلورج جيلدر
(العاصمة واشنطن ،ريغنري.)2016 ،
179
معيار البيتكوين
الوطنية فحسب ،بل نمت لتشمل املنظمات الحكومية الدولية ،فهي استنزاف عاملي واضح
للوقت والجهد ،ال تحمل أي فائدة إال للعاملني فيها .ولوقوع هذه املنظمات بعيدا ً عن
دافعي الرضائب الذين يمولونها ،فإنها تواجه تدقيقا ً أقل بكثري من املنظمات الحكومية
ونهج أكثر اسرتخا ًء عىل صعيد
ٍ الوطنية ،وهي بذلك تعمل بقدر أقل من املساءلة
امليزانيات ومواعيد التسليم والعمل.
إن األوساط األكاديمية هي مثال جيد آخر ،حيث يدفع الطالب رسوما ً باهظة
أكثر من أي وقت مىض لدخول الجامعات ليتم تدريسهم من قبل أساتذة ال يقضون سوى
القليل من وقتهم وجهدهم عىل تدريس وتوجيه الطالب ،بل يقضون معظم وقتهم يف نرش
أبحاث غري قابلة للقراءة للحصول عىل املنح الحكومية وتسلق السلم األكاديمي .أما يف
السوق الحرة ،فيتعني عىل األكاديميني املساهمة بالقيمة عن طريق التدريس أو كتابة
أشياء يقرأها الناس ويستفيدون منها بالفعل .لكن األبحاث األكاديمية العادية ال يقرأها
عاد ًة إال دائرة صغرية من األكاديميني يف كل تخصص ويوافقون عىل ِمنَح بعضهم
البعض ويفرضون معايري التفكري الجماعي ،وأصبح لهم استنتاجات ذات دوافع سياسية
متن ِّكرة بزي الرصامة والدقة األكاديمية.
وأكثر الدراسات االقتصادية شعبي ًة وتأثريا ً يف فرتة ما بعد الحرب كانت قد
ُكتبت عىل يد "بول سامويلسون" الحائز عىل جائزة نوبل .فلقد رأينا يف الفصل الرابع
تنبؤ سامويلسون القائل بأن إنهاء الحرب العاملية الثانية سيتسبب بأكرب ركود يف تاريخ
العالم ،ليرتتب عىل ذلك واحدة من أكرب فرتات االزدهار يف تاريخ الواليات املتحدة ،ليس
هذا فحسب ،بل إن األمر سيصبح أكثر إحراجا ً له :فكتب سامويلسون الكتاب األكثر
ً
شعبية يف علم االقتصاد يف عرص ما بعد الحرب" ،االقتصاد :تحليل تمهيدي" ،ولقد باع
ماليني النسخ عىل مدى ستة عقود 21.درس "ليفي" و "بريت" 22اإلصدارات املختلفة من
21مارك سكوزن" :املثابرة على علوم بول سامولسن االقتصادية" ،جملة املنظورات االقتصادية ،اجمللد 11الرقم ،2
العام ( )1997الصفحة .152 – 137
22ديفيد ليفي ،وساندرا بريت" ،النمو السوفيييت والكتب املرجعية األمريكية :الذايت" جملة التنظيم والسلوك
االقتصادي ،اجمللد ،78اإلصدار ( 2-1أبريل عام )2011الصفحة .125 -110
180
النقد السليم والحرية الشخصية
كتاب سامويلسون ليجدا أنه يطرح بشكل متكرر نموذج االقتصاد السوفييتي بكونه
وَق َع يف الطبعة الرابعة يف عام 1961أن اقتصاد األكثر مالءمة للنمو االقتصادي ،وتَ َّ
االتحاد السوفيتي سيتفوق عىل اقتصاد الواليات املتحدة يف وقت ما بني العامني 1984
و .1997واستمر بطرح تنبُّئه بتفوق االقتصاد السوفيتي عىل اقتصاد الواليات املتحدة
بثقة متزايدة عرب سبع طبعات من الكتاب حتى الطبعة الحادية عرشة عام ،1980مع
تقديرات متفاوتة عىل وقت حدوث ذلك .يف الطبعة الثالثة عرش التي صدرت عام ،1989
والتي وصلت إىل مكات ب طالب الجامعة بينما كان االتحاد السوفييتي قد بدأ بالتفكك،
كتب سامويلسون ورشيكه يف التأليف آنذاك "وليام نوردهاوس"" :إن االقتصاد
السوفييتي دليل عىل أنه وبعكس اعتقادات الكثري من املشككني ،هو اقتصاد مركزي
اشرتاكي يستطيع أن يعمل وأن يزدهر حتى 23".لم يكن هذا محصورا ً يف كتاب واحد،
فقد أظهر ليفي وبريت أن مثل هذه الرؤى كانت شائعة يف الطبعات العديدة فيما اُعترب
كتاب االقتصاد الثاني من حيث الشعبية لالقتصادي "مكونيل"" :االقتصاد :املبادئ،
والسياسات واملشاكل" ،وكان شائعا ً بالعديد من الكتب األخرى .وأي طالب تَعَ لَّم
االقتص اد يف فرتة ما بعد الحرب يف جامعة تتبع املنهج األمريكي (غالبية طالب العالم) قد
تعلم أن النموذج السوفييتي هو طريقة أكثر فاعلية لتنظيم النشاط االقتصادي .وحتى
بعد انهيار االتحاد السوفييتي وفشله املطلق ،استمر تدريس هذه الكتب يف الجامعات
ذاتها بحيث تمت إزالة الجمل التي تمدح عظمة النجاح السوفياتي من اإلصدارات
الحديثة ،دون التشكيك ببقية نظرتهم االقتصادية العاملية وأدواتها املنهجية .كيف يمكن
االستمرار يف تدريس مثل هذه الكتب الفاشلة بامتياز يف الجامعات؟ وكيف يمكن تدريس
وجهة نظر الكينزيني التي نَقضها الواقع بشكل كبري جدا ً عىل مدى العقود السبعة
املاضية من االزدهار الذي تال الحرب العاملية الثانية ،إىل الركود التضخمي يف
السبعينيات ،إىل انهيار االتحاد السوفياتي .لقد كتب عميد االقتصاديني الكينزيني اليوم،
"بول كروغمان" ،أن غزو الفضائيني سيكون مفيدا ً لالقتصاد ألنه سيجرب الحكومة عىل
23مارك سكوزن" :املثابرة على علوم بول ساميولسن االقتصادية" ،جملة املنظورات االقتصادية ،اجمللد 11الرقم ،2
العام ( )1997الصفحة .152 – 137
181
معيار البيتكوين
24
إنفاق املوارد وحشدها.
ففي نظام اقتصادي قائم عىل حرية السوق ،لن ترغب أي جامعة تحرتم نفسها
بتعليم طالبها معلومات خاطئة ومنافية للعقل بشكل كبري ،وذلك ألنها تسعى إىل تسليح
طالبها بأكثر املعارف فائد ًة ،لكن يف نظام أكاديمي أفسدته كليا ً النقود الحكومية ،ال يتم
تحديد املنهج الدرايس من خالل توافقه مع الواقع ،بل من خالل توافقه مع األجندة
السياسية للحكومات التي تموله .فالحكومات يف كافة أنحاء العالم ،تفضل االقتصاد
الكينزي اليوم للسبب ذاته الذي أحبته يف الثالثينيات حيث قدَّم لها املغالطات واملربرات
للحصول عىل املزيد من القوة واملال.
إن هذا الحوار قد يستمر ليشمل العديد من املجاالت والتخصصات األخرى يف
األوساط األكاديمية الحديثة ،حيث يُك َّرر النمط ذاته :فالتمويل القادم من الوكاالت
الحكومية تحتكره مجموعات من العلماء لديهم الفكر ذاته ويتشاركون بتحيزات
منح دراسية
جوهرية ،ولن تحصل عىل عمل أو تمويل يف هذا النظام من خالل تقديم ٍ
مهمة مثمرة ومفيدة للعالم الحقيقي ،بل من خالل تعزيز أجندة املُمولني .فحقيقة أن
التمويل يأتي من مصدر واحد فقط يعني إلغاء إمكانية وجود سوق حرة لألفكار .لهذا،
أصبحت املناقشات األكاديمية تتعلق بتفاصيل غامضة أكثر من أي وقت مىض ،بحيث
تميل جميع األطراف يف هذه النزاعات السلمية إىل االتفاق دوما ً عىل أن كال الطرفني
بحاجة ملزيد من التمويل ملواصلة هذه الخالفات الهامة .فمناقشات األوساط األكاديمية ال
عالقة لها تقريبا ً بالعالم الحقيقي ،وال تتم قراءة املقاالت التابعة لها إال من قبل
األشخاص الذين يكتبونها ألغراض الرتويج للوظائف ،لكن "العملة َ
الخل َِسة" الحكومية
تستمر لعدم وجود آلية يتم فيها تخفيض التمويل الحكومي إذا لم يستفد منه أي أحد.
ففي مجتمع يستخدم النقد السليم ،يُعَ ُّد العمل املرصيف عمالً مهما ً ومُنتِجا ً
للغاية ،حيث يؤدي املرصفيون فيه وظيفتني محوريتني للغاية لتحقيق االزدهار
24بول كروغمان" ،الركود العلماين ،ومناجم الفحم ،والفقاعات ،والري سامرز" ،نيويورك اتميز 16 ،نوفمرب عام
.2003
182
النقد السليم والحرية الشخصية
االقتصادي :حفظ األصول كودائع ،واملوائمة بني االستحقاقات وتحمل املخاطر بني
املستثمرين وفرص االستثمار .فيجني املرصفيون أموالهم عن طريق أخذ جزء من األرباح
إذا نجحوا بعملهم ،لكنهم ال يحققون أي ربح إذا فشلوا بتحقيق ذلك .وعندها ،ستحافظ
املصارف واملرصفيون الناجحون وحدهم عىل وظائفهم ،ويتم التخلص من أولئك الذين
يفشلون .ففي مجتمع يستخدم النقد السليم ،ال توجد مخاوف من السيولة بسبب فشل
املرصف ،وذلك ألن جميع املصارف تُبقِ ي ودائعها يف متناول اليد ،وتتمتع باستثمارات
ذات استحقاق مكافئ .بعبارة أخرى ،ال يوجد فرق بني عدم السيولة واإلعسار املايل ،وال
يوجد مخاطر نظامية قد تجعل أي مرصف "أكرب من أن يفشل ".فاملرصف الذي يفشل
هو مشكلة حاميل أسهمه ومقرضيه ،ال أحد سواهم.
لكن النقد غري السليم يسمح بإمكانية وجود االستحقاق غري املكافئ ،بحيث ال
يكون النظام املرصيف االحتياطي الجزئي إال مجموعة فرعية ،وهذا األمر يرتك املصارف يف
عرضة دائمة ألزمة سيولة أو عرضة للذعر املرصيف .فحالة عدم تكافؤ االستحقاق وكون
النظام املرصيف االحتياطي الجزئي حالة خاصة منه ،يضعهما يف عرضة دائمة ألزمة
قرضون واملودعون بسحب إيداعاتهم يف نفس الوقت .والطريقة سيولة يف حال طالب املُ ِ
الوحيدة لجعل االستحقاق غري املتكافئ آمنا ً هي بوجود مُقرض املالذ األخري املستعد
إلقراض املصارف يف حالة حدوث الذعر املرصيف 25.ففي مجتمع ذي نقد سليم ،سيتوجب
عىل البنك املركزي فرض الرضائب عىل كل شخص غري مشارك يف املرصف من أجل إنقاذ
املرصف .وأما يف مجتمع ذي نقد غري سليم ،فإن البنك املركزي يستطيع وببساطة
استحداث عرض نقدي جديد واستخدامه لدعم سيولة املصارف .بهذه الكيفية ،يُشكل
النقد غري السليم فرقا ً بني السيولة واملالءة املالية :فاملرصف يمكن أن يكون قادرا ً عىل
سداد الدين من حيث صايف القيمة الحالية ألصوله ،لكنه سيواجه مشكلة سيولة قد
تمنعه من الوفاء بالتزاماته املالية بغضون فرتة زمنية معينة ،لكن افتقار السيولة بحد
ذاتها قد يؤدي إىل ذعر مرصيف حيث يسعى املودعون واملقرضون إىل سحب ودائعهم من
25لقراءة التصريح الرمسي ،راجع كتاب دي دبليو داميوند ،ويب إتش دايبيغ" ،الذعر املصريف ،وأتمني الودائع،
والسيولة" جملة االقتصاد السياسي ،اجمللد 91العدد ( 3عام )1983الصفحة .419 – 401
183
معيار البيتكوين
املرصف .واألسوأ من ذلك ،هو أن نقص السيولة يف أحد املصارف قد يؤدي إىل نقص
السيولة يف املصارف األخرى التي تتعامل مع هذا املرصف ،مما يخلق مشاكل نظامية
شاملة .لكن إذا تعهد البنك املركزي بتوفري السيولة يف مثل هذه الحاالت ،فلن يكون هناك
مخاوف من حدوث أزمة سيولة ،وهذا بدوره يتفادى احتمال حدوث سيناريو الذعر
املرصيف ويرتك النظام املرصيف بأمان.
فالقطاع املرصيف هو قطاع يبدو أنه ينمو فقط يف هذه األيام ،وإغالق املصارف
لعملها هو أمر مستبعد .فنظرا ً للمخاطر النظامية التي تنطوي عليها إدارة املرصف،
يمكن اعتبار فشل أي مرصف كمشكلة سيولة ومن املرجح جدا ً حصوله عىل دعم البنك
املركزي .وال يوجد قطاع خاص ظاهريا ً يتمتع بمثل هذا االمتياز الباهظ ،حيث يجمع بني
أعىل معدالت ربحية يف القطاع الخاص وبني أمان القطاع العام .إن هذا املزيج جعل من
عمل املرصفيني عمال ً َّ
خالقا ً ومنتجا ً مثل عمل موظفي القطاع العام ،لكنه أكثر مكافأة من
ونتيجة لذلك ،يستمر القطاع املايل يف النمو حيث أصبح ً معظم الوظائف األخرى.
االقتصاد األمريكي "أكثر تمويالً ".فمنذ إلغاء قانون "غالس ستيغال" عام ،1999تمت
إزالة الفصل بني الودائع البنكية والخدمات املرصفية االستثمارية .وبالتايل ،إن مصارف
تأمني للودائع من قبل املؤسسة الفيدرالية للتأمني عىل الودائع،
ٍ الودائع التي حازت عىل
يمكنها االنخراط اآلن يف تمويل االستثمارات ،حيث أن ضمان املؤسسة الفيدرالية للتأمني
عىل الودائع يحميهم من خسائر االستثمار .وبهذا ،فاملستثمر الذي لديه ضمان لخسارته
هو مستثمر لديه خيار حر ،ويستطيع طباعة النقود بشكل فعال .فالقيام باالستثمارات
184
النقد السليم والحرية الشخصية
امل ربحة سيسمح له بتجميع كل املكاسب ،يف حني أن الخسائر ستتوزع عىل املجتمع.
ويمكن ألي شخص يحمل مثل هذه الضمانة أن يكسب كميات كبرية من املال ببساطة
عن طريق االقرتاض واستثمار أمواله حيث أنه بإمكانه الحفاظ عىل األرباح ،وسيتم
تغطية خسائره .فال عجب أن هذا قد أدى إىل ميل عدد أكرب من رؤوس املال وموارد
مثال ملثال وجبة الغداء املجانية.
العمل نحو التمويل ،ألن هذا األمر هو أقرب ٍ
فمع تقدم تكنولوجيا االتصاالت ،يتوقع املرء أن يتم إنجاز الكثري من املهام يف
القطاع املايل بشكل آيل ،مما يؤدي إىل تقلص حجم هذا القطاع بمرور الوقت ،لكن يف
الواقع ،إنه يستمر يف التوسع ،ليس بسبب أي طلب جوهري عليه ،بل ألن هناك حكومة
تحميه من الخسائر وتسمح له بالنمو واالزدهار.
26توماس فيليبون ،وأريل ريشيف" .نظرة عاملية على منو االقتصاد احلديث" جملة املنظورات االقتصادية ،اجمللد 27
العدد ( 2عام )2013الصفحة .96 – 72
185
معيار البيتكوين
ُّ
ليتلقوا املكافآت إذا كانوا مصيبني وسيفقدوها إذا كانوا عىل خطأ .لكن مع النقد السوق
غري السليم ،يتم تدمري املدخرات ويتم إنشاء رؤوس األموال من ائتمان املصارف
التضخمي ثم يتم تخصيصه من قبل البنوك املركزية ومصارفه الفرعية .فبدال ً من أن يتم
تحديد التخصيص من قبل حكماء املجتمع الذين يتبعون سياسة التفضيل الزمني
املنخفض ويملكون بصرية يف األسواق ،يقع القرار بأيادي البريوقراطيني الحكوميني
الذين هدفهم هو إقراض أكرب قدر ممكن من املال ،وال يكون هدفهم أن يكونوا عىل صواب
وذلك ألنهم محميون من الجوانب السلبية.
فكلما كرب حجم الرشكة ،أصبح من األسهل عليها تأمني تمويل منخفض
الفائدة ،مما يمنحها أفضلية كبرية عىل املنتجني املستقلني األصغر .ففي مجتمع يتم فيه
تمويل االستثمارات من املدخرات ،يتنافس مطعم عائيل صغري عىل الزبائن والتمويل
بالتساوي مع عمالقة الوجبات الرسيعة :حيث أن لدى الزبائن واملستثمرين حرية
االختيار يف تخصيص أموالهم بني القطاعَ ني ،وحرية االختيار بني فوائد امتياز اقتصاد
186
النقد السليم والحرية الشخصية
الحجم الواسع مقابل فوائد االهتمام الشخيص والعالقة بني الطباخ وزبون املطعم
الصغري ،وبالنهاية اختبار السوق سيقرر النتيجة .لكن يف عالم يتم فيه تخصيص
االئتمان من قبل البنوك املركزية ،فإن الرشكة الكبرية تتمتع بأفضلية تأمني تمويل بمعدل
منخفض ال يستطيع املنافس الصغري الحصول عليه 27.يساعد هذا يف تفسري سبب انتشار
عمالقة منتجي الطعام عىل نطاق واسع يف جميع أنحاء العالم حيث تسمح لهم معدالت
الفائدة املنخفضة بتحصيل هوامش أكرب .وال يمكن فهم سبب انتصار الوجبات الرسيعة
سيئة املذاق وواسعة اإلنتاج إال عرب املنافع الضخمة التي يوفرها امتياز الحجم الواسع
للمنتجني.
ففي عالم يتم فيه تمويل جميع الرشكات تقريبا ً من خالل التوسع االئتماني
للبنك املركزي ،ال يمكن أن تكون هناك طريقة بسيطة للتعرف عىل القطاعات التي تنمو
الخل َِسة" ،ولكن هناك بعض األعراض املُنبهة .فأي قطاع بسبب حَ ْق ِن منشطات "العملة َ
يشتكي فيه الناس من رئيسهم األحمق هو عىل األرجح جزء من "العملة َ
الخل َِسة" ،وذلك
ألن الرؤساء ال يستطيعون إال أن يكونوا أغبياء يف الواقع االقتصادي املزيَّف ل ِـ "العملة
الخل َِسة" .ففي رشكة منتجة تُقدم خدمات َقيِّمة للمجتمع ،يعتمد النجاح عىل إرضاء َ
الزبائن ،ويُكا َفأ العمال عىل مدى نجاحهم يف القيام بتلك املهمة األساسية .والرؤساء الذين
27ميكن اعتبار مركزية إصدار االئتمان كالتدخل احلكومي يف تطبيق قانون كواس ،الذي وصفه كواس يف مقاله:
"طبيعة الشركات" ،جملة إيكونوميكا ،اجمللد 4العدد ( 16عام )1937الصفحة .405 – 386فوفقا لكواس،
إن سبب وجود الشركات هو أن التعاقد الفردي للمهام ميكن أن يكون أكثر تكلفة ألنه يتضمن تكاليف
التحويالت مثل البحث واملعلومات واملساومة والتعاقد وتكاليف التنفيذ .ابلتايل ،ستنمو الشركة ما دام ميكنها
االستفادة من القيام أبنشطة داخلية للتغلب على ارتفاع تكاليف التعاقد اخلارجي .ففي عامل ذي عملة تفقد
خمصص مركزايً ،يصبح حتقيق التمويل أحد مزااي التكلفة الرئيسية للنمو من حيث احلجم .فلدى قيمتها وائتمان ّ
الشركات الكبرية املزيد من السلع الرأمسالية والضماانت ،مما يطرح أمامها شروط متويل أقل .وهكذا ،فإن احلافز
لكل نشاط جتاري ينمو إىل حد يتجاوز فيه ما يفضله املستهلكون .أما يف سوق حرة لرؤوس املال حيث كان
على الشركات االعتماد بشكل أكرب على إيراداهتا وأتمني االئتمان يف األسواق احلرة ،فإن الناتج سيفضل حجم
اإلنتاج األكثر مالءمة لتفضيالت املستهلكني.
187
معيار البيتكوين
والعالج الوحيد ملثل هذه األمراض هو النقد السليم الذي سيقيض عىل مفهوم
األشخاص الذين يعملون من أجل توقيع األوراق وإسعاد الرؤساء الساديني ،وسيصبح
وَجدت نفسك كادحا ً يف إحدى
َ انضباط السوق هو الحَ كم الوحيد لدخل أي شخص .فإذا
هذه القطاعات بحيث يتمحور جهد وظيفتك حول إرضاء مديرك فقط بدال ً من إنتاج يشء
188
النقد السليم والحرية الشخصية
ذي قيمة وال يرضيك هذا الواقع ،فقد تشعر باالرتياح أو الخوف من إدراك أن هذا العالم
ال يجب أن يكون عىل هذا الشكل ،وقد ال تبقى وظيفتك إىل األبد ،ألنه قد ال تستمر مطابع
حكومتك يف العمل إىل األبد .تابع القراءة ،ألن مزايا النقد السليم قد تُنشئ عاملا ً جديدا ً من
الفرص ألجلك.
189
190
الفصل الثامن
النقد الرقمي
إن ثورة تكنولوجيا االتصاالت العاملية التي بدأت بإنتاج أول حاسوب قابل للربمجة بشكل
كامل يف خمسينات القرن العرشين قد وصلت إىل عدد متزايد من الجوانب املادية للحياة،
هندسية ملشاكل موجودة منذ زمن طويل .ويف حني زادت املصارف ً وقدَّمت حلوال ً
والرشكات الناشئة من كمية استخدامها للحواسيب وتكنولوجيا الشبكات من أجل
املدفوعات وحفظ السجالت ،إال أن االبتكارات التي نجحت لم تُقدِّم شكال ً جديدا ً من النقد،
وجميع االبتكارات التي حاولت تقديم شكل جديد من النقد باءت بالفشل .لهذا ،يُمثِّل
البيتكوين أول حل رقمي حقيقي ملشكلة النقد ،وفيه نجد حالً محتمالً ملشاكل قابلية
البيع وسالمة وسيادة النقد .فلقد عمل البيتكوين دون فشل خالل السنوات التسع
املاضية ،وإذا استمر يف العمل عىل هذا النحو يف التسعني سنة القادمة ،فسيُمثِّل حالً
مُقنِعا ً ملشكلة النقد مانحا ً األفراد ميزة السيادة عىل نقودهم ،وذلك ألنه مقاوم للتضخم
غري املتوقع ،كما أنه قابل للبيع بشكل كبري عىل صعيد املكان والزمان والقياس .وإذا
ظفها استمر البيتكوين بالعمل كما يعمل حالياً ،فإن جميع التقنيات السابقة التي وَ َّ
البرش كنقد مثل األصداف ،وامللح ،واملاشية ،واملعادن الثمينة واألوراق النقدية الحكومية،
ٍ
عدادات بجوار أجهزة قد تبدو كتقنيات غريبة عفا عليها الزمن يف عاملنا الحديث – مثل
الحواسيب الحديثة.
ولقد رأينا كيف أن ظهور علم املعادن قد أنتج حلوال ً ملشكلة النقد ،حلوال ً
متفوقة عىل الخرز واملحار وغريها من األدوات ،ورأينا كيف أن ظهور العمالت املُنتَظمة قد
سمح للعمالت الذهبية والفضية بالظهور كأشكال نقدية متفوقة عىل الكتل املعدنية غري
املنتظمة ،كما ورأينا كيف أن املصارف املدعومة بالذهب قد سمحت للذهب بالهيمنة
كمعيار نقدي عاملي مما أدى إىل إلغاء الصفة النقدية للفضة .وانطالقا ً من رضورة إضفاء
191
معيار البيتكوين
الطابع املركزي للذهب ،انبثق النقد الحكومي املدعوم بهذا الذهب ،والذي كان أكثر قابلية
للتداول من حيث القياسات ،ولكن أتى مع ذلك الزيادة الحكومية للعرض النقدي
والسيطرة القرسية اللذين دمرا يف نهاية املطاف سالمة وسيادة النقد .ففي كل خطوة عىل
ظفها البرش،الطريقَ ،ش َّكلت الحقائق والتطورات التكنولوجية املعايريَ النقدية التي وَ َّ
وكانت عواقب ذلك هائلة عىل االقتصادات واملجتمعات .فاملجتمعات واألفراد الذين
اختاروا معيارا ً نقديا ً سليما ً استفادوا بشكل كبري مثل الرومان تحت قيادة قيرص،
والبيزنطيني تحت قيادة قسطنطني ،واألوروبيني الذين كانوا جميعا ً تحت حكم املعيار
الذهبي .أما أولئك الذين كانوا يملكون نقدا ً غري سليم أو ضعيف من الناحية التكنولوجية
مثل سكان جزيرة ياب مع وصول أوكييفي ،أو سكان غرب أفريقيا الذين استخدموا
الخرز الزجاجي ،أو الصينيني الذين كانوا تحت حكم املعيار الفيض يف القرن التاسع
عرش ،فقد دفعوا ثمنا ً باهظاً.
ويُ َمث ِّ ُل البيتكوين حال ً تكنولوجيا ً جديدا ً ملشكلة النقد وُ ِل َد من العرص الرقمي،
مُستخدِما ً العديد من االبتكارات التكنولوجية التي تم تطويرها عىل مدى العقود القليلة
املاضية ،ومستفيدا ً من التجارب العديدة إلنتاج نقد رقمي ،وذلك لتقديم يشء كان من
املستحيل تَصوُّره قبل اخرتاعه .ولفهم الكيفية ،سنقوم بالرتكيز عىل الخصائص النقدية
إن هذا الفصلللبيتكوين باإلضافة إىل األداء االقتصادي للشبكة منذ إنشائها .لهذا السببَّ ،
لن يتعمق كثريا ً يف التفاصيل التقنية لعمليات شبكة البيتكوين ،بل سريكز عىل
الخصائص النقدية لعِ ملة البيتكوين ،تماما ً كما تُر ِّكز بعض الكتب عىل مناقشة معيار
الذهب فقط وال تقوم بمناقشة خواصه الكيميائية.
192
النقد الرقمي
-1املدفوعات النقدية :وهي التي تتم شخصيا ً بني طرفني .وتتميز هذه املدفوعات بكونها
فورية ونهائية ،وال تتطلب الثقة يف أي طرف متعاقد ،وال يوجد أي تأخري يف تنفيذ عملية
الدفع ،وال يمكن ألي طرف ثالث التدخل بفعالية لوقف هذه املدفوعات .وتتمثل العقبة
الرئيسية يف هذه الطريقة برضورة تواجد الطرفني يف نفس املكان يف الوقت ذاته ،وهي
مشكلة تزداد حدة وذلك ألن االتصاالت قد زادت من احتمالية رغبة األفراد بالتعامل مع
أشخاص ليسوا يف مكان قريب منهم.
-2املدفوعات عرب وسيط :وهي التي تتطلب طرفا ً ثالثا ً موثوقا ً به وتشمل الشيكات،
والبطاقات االئتمانية ،وبطاقات ال َّدين ،والحواالت املرصفية ،وخدمات تحويل األموال،
واالبتكارات الحديثة مثل " ."PayPalوحَ ْسبَ التعريف ،إن الدفع عرب وسيط يتضمن
طرفا ً ثالثا ً يدير عملية تحويل النقد بني الطرفني املتعاملني .واملزايا الرئيسية للمدفوعات
عرب وسيط هي سماحها بإجراء املدفوعات دون الحاجة لتواجد الطرفني يف نفس املكان يف
الوقت ذاته ،والسماح للعميل بالدفع دون الحاجة إىل حمل النقود .أما العقبة األساسية
فيها فتتمثل بالثقة املطلوبة يف تنفيذ هذه التحويالت ،وبمخاطر اخرتاق الطرف الثالث،
وبالتكلفة والوقت الالزمني إلتمام وتصفية عملية الدفع وذلك من أجل السماح للمتلقي
بإنفاق املال.
فلدى كل من الطريقتني ميزات وعيوب ،ويلجأ معظم الناس إىل مزيج من
الطريقتني يف تحويالتهم املالية .وقبل اخرتاع البيتكوين ،احتوت املدفوعات عرب وسيط
جميع أشكال املدفوعات الرقمية .وطبيعة األشياء الرقمية منذ اخرتاع أجهزة الحاسوب
أنها ليست نادرة أو شحيحة ،حيث يمكن إعادة إنتاجها بشكل سهل ،وبالتايل كان من
املستحيل اتِّخاذ أحدها كعملة وذلك ألن إرسالها لن يؤدي إال إىل نسخها ومضاعفتها .لهذا
السبب ،وجب وجود وسيط لتنفيذ أي شكل من أشكال الدفع اإللكرتوني بسبب خطر
اإلنفاق املزدوج :حيث أنه لم يكن هناك طريقة تَ ْض َم ُن صدق ونزاهة الدافع بشأن نقوده
وعدم استخدامه لها أكثر من مرة ،ما لم يكن هناك طرف ثالث موثوق به يرشف عىل
الحساب ،ويستطيع التحقق من سالمة ونزاهة التحويالت التي تم إجراؤها .لهذا األمر،
اقترصت التحويالت النقدية عىل عالَم االتصال املبارش الفيزيائي ،يف حني أن جميع أشكال
املدفوعات الرقمية وجب أن يُرشف عليها طرف ثالث.
193
معيار البيتكوين
لكن وبعد سنوات من التجربة املبتكرة وارتكاب األخطاء من قِ بَل العديد من
املربمجني ،ومن خالل االعتماد عىل مجموعة واسعة من التقنيات ،كان البيتكوين أول حل
هنديس يسمح بإجراء مدفوعات رقمية دون الحاجة إىل االعتماد عىل وسيط ثالث موثوق
به .وبكونه أول كيان رقمي محدود الكمية ،أصبح البيتكوين أول مثال عىل النقد الرقمي.
ف هناك العديد من العيوب يف إجراء التحويالت عرب طرف ثالث موثوق به ،وهذا
ف ما يجعل النقد الرقمي مسألة َقيِّمَة للكثريين .فاألطراف الثالثة بطبيعتها هي َ
ضعْ ٌ
أمني إضايف -1فوجود طرف إضايف يف التحويالت يطرح يف حد ذاته مخاطر ،ألنه يحمل
معه احتماالت جديدة للرسقة أو الفشل التقني .عالوة عىل ذلك ،إن الدفع عن طريق
وسطاء يجعل األطراف عرضة للمراقبة والحظر من قبل السلطات السياسية .وبعبارة
أخرى ،عند اللجوء إىل أي شكل من أشكال الدفع الرقمي ،فال يوجد هناك خيار سوى
الثقة يف الطرف الثالث والسلطات السياسية التي تحكمه ،والخضوع لخطر إيقاف
السلطة السياسية لعملية الدفع تحت ذرائع األمن أو اإلرهاب أو غسل األموال .وما يزيد
الطني بلة ،هو أن املدفوعات عرب وسيط تتضمن دائما ً مخاطر االحتيال ،مما يرفع تكاليف
التحويالت ويؤخر التسوية النهائية للمدفوعات.
بعبارات أخرى ،إن املدفوعات عرب وسيط تسلب النقد جزءا ً كبريا ً من خصائصه
كوسيط تبادل يسيطر عليه مالكه ،مع منحه سيولة عالية لبيعه وقتما يشاء .فتاريخياً،
أكثر خصائص النقد ثباتا ً هي قابلية االستبدال (أيُّ وحدة من النقد تعادل أي وحدة
أخرى) ،والسيولة (قدرة املالك عىل البيع برسعة بسعر السوق) .وبهذا ،يختار األفراد نقدا ً
قابال ً لالستبدال وذا سيولة مرتفعة ألنهم يريدون تحقيق السيادة عىل نقودهم ،حيث
يحتوي النقد ذو صفة السيادة يف طياته عىل كل اإلذن الالزم إلنفاقه؛ والرغبة يف احتفاظ
األفراد به تتعدى قدرة اآلخرين عىل فرض ضوابط عليه.
ويف حني أن املدفوعات عرب وسيط تقيض عىل بعض امليزات املرغوبة للنقد ،إال
1اقرأ كتاب نك سابو ،األطراف الثالثة املوثوقة هي نقاط ضعف أمنية .2001 ،متوفر على املوقع
http://www.nakamotoinstitute.org
194
النقد الرقمي
أن أوجه القصور هذه ليست موجودة يف التحويالت النقدية املادية .فبعد ازدياد كمية
التجارة والتوظيف عرب مسافات طويلة بفضل االتصاالت الحديثة ،أصبحت التحويالت
النقدية املادية باهظة بشكل غري عميل ،كما أن التوجه نحو املدفوعات الرقمية قام
بالتقليل من مقدار السيادة التي يمتلكها الناس عىل أموالهم الخاصة تاركا ً هؤالء الناس
خاضعني ألهواء األطراف الثالثة التي لم يكن لديهم خيار سوى الثقة بهذه األطراف.
عالوة عىل ذلك ،إن االبتعاد عن الذهب ،وهو النقد الذي ال يستطيع أي أحد طباعته،
واالتجاه نحو العمالت الورقية التي تسيطر البنوك املركزية عىل املعروض منها ،قد قلل
من سيادة األفراد عىل ثرواتهم ،وتركهم عاجزين أمام التآكل البطيء لقيمة نقودهم
بسبب تضخيم البنوك املركزية للعرض النقدي من أجل تمويل عمليات الحكومة .وبشكل
إذن من
متزايد ،أصبح من غري العميل مراكمة رؤوس املال والثروات دون الحصول عىل ٍ
الحكومة املُصدرة لتلك النقود.
2يوجد وصف موجز للتقنيات الثالث األوىل من هذه يف ملحق هذا الفصل ،بينما يتم نقاش نظام إثبات العمل
مبزيد من التفصيل يف هذا الفصل ويف الفصل العاشر.
195
معيار البيتكوين
البيتكوين من إزالة حاجتنا للثقة كليا ً .3ويف هذه الطريقة ،يجب أن يتم تسجيل كل
تحويل من قبل جميع أعضاء الشبكة بحيث يتشارك جميعهم يف سجل مشرتك يحتوي
عىل جميع األرصدة والتحويالت .وعندما يقوم عضو من الشبكة بتحويل مبلغ إىل عضو
آخر ،يمكن لجميع أعضاء الشبكة التحقق من امتالك املرسل لرصيد كاف ،ثم تتنافس
العقد لتكون أول من يقوم بتحديث السجل وإضافة كتلة جديدة من التحويالت كل عرش
دقائق .ولكي تتمكن العقدة من إضافة كتلة من التحويالت إىل السجل ،يجب عليها أن
تُنفِ ق طاقة املعالجة عىل حل املسائل الرياضية املعقدة التي يَص ُعب حلها ،ولكن يَسهُل
التحقق من صحة هذا الحل ،وهذا ما يُدعى بنظام إثبات العمل " ،"PoWوفقط بعد
إيجاد حل صحيح ،يمكن إدخال كتلةٍ واملوافقة عليها من قِ ب َِل جميع أعضاء الشبكة .ويف
حني أن هذه املسائل الرياضية ال عالقة لها بتحويالت البيتكوين ،إال أنه ال غنى عنها
جرب ال ُع َقد عىل إنفاق طاقة املعالجة من أجل توثيق لتشغيل النظام ،حيث أنها ت ُ ِ
التحويالت ،وسيتم إهدار هذه الطاقة إذا ما قامت هذه العقد بإدراج تحويالت احتيالية.
وبمجرد أن تح َّل العقدة نظام إثبات العمل بشكل صحيح وتعلن عن التحويالت ،تُصوِّت
عقد الشبكة األخرى عىل صحته ،وبمجرد أن تصوت األغلبية لصالح املوافقة عىل الكتلة،
تبدأ العقد بإيداع التحويالت إىل كتلة جديدة ليتم ربطها بالكتلة السابقة والقيام بح ّل
نظام إثبات العمل الجديد للكتلة الجديدة .األهم من ذلك ،هو أن العقدة التي تُودِع ً
كتلة
صالحة من التحويالت للشبكة تحصل عىل مكافأة الكتلة ،والتي هي عبارة عن أمرين:
بيتكوين جديد يتم إضافته إىل العرض الحايل ،باإلضافة إىل كل رسوم التحويالت التي
يتم دفعها من قبل األشخاص الذين يحولونها.
إن هذه العملية تُدعى "التعدين" ،مُستمَدة من تعدين املعادن الثمينة ،ولهذا
السبب ،عُ رفت العقد التي تحل نظام إثبات العمل باسم املُعَ دِّنني ،وتقوم مكافأة الكتل
بتعويض هؤالء املُعدّنني عن املوارد التي أنفقوها عىل نظام إثبات العمل .ويف حني أنه يف
نشأة حديثا ً لتمويل اإلقراض واإلنفاق البنوك املركزية الحديثة يتم توظيف النقود املُ َ
3كونراد غراف" ،بشأن أصول البيتكوين :مراحل التطور النقدي" (عام )2013متوفر على املوقع:
http://www.konradsgraf.com
196
النقد الرقمي
الحكومي ،إال أنه يف البيتكوين يتم تخصيص النقود الجديدة فقط إىل أولئك الذين
ينفقون مواردهم لتحديث السجل .فقد قام ناكاموتو بربمجة البيتكوين إلنتاج كتلة
جديدة كل عرش دقائق تقريباً ،بحيث تحتوي كل كتلة عىل مكافأة قدرها 50قطعة نقدية
صف بعد ذلك إىل 25قطعة نقدية، يف السنوات األربع األوىل من عمل شبكة البيتكوين ،لتُن َ َّ
صف مرة أخرى بعد أربع سنوات ،ويستمر هذا النمط. ثم تُن َ َّ
نشأة قد تم برمجتها مسبقا ً وال يمكن تغيريها بغض النظرفكمية البيتكوين املُ َ
عن مقدار الجهد والطاقة املستهلكة عىل نظام إثبات العمل ،ويتم تحقيق هذا من خالل
عملية تُدعى تعديل الصعوبة ،والتي هي غالبا ً أذكى جانب من جوانب تصميم البيتكوين.
فمع اختيار املزيد من الناس االحتفاظ بالبيتكوين ،فإن هذا يؤدي إىل ارتفاع قيمته
السوقية ،وسيجعل من تعدين العمالت الجديدة أمرا ً مربحا ً بشكل أكثر ،مما سيدفع
املزيد من املُعَ دِّنني إىل إنفاق املزيد من مواردهم لحل مسائل نظام إثبات العمل .واملزيد
من املُعدنني يعني املزيد من قوة املعالجة ،والتي من شأنها أن تؤدي إىل حلول ملسائل
نظام إثبات العمل بشكل أرسع ،وبالتايل زيادة معدل إصدار عمالت جديدة من
البيتكوين .لكن مع ازدياد قوة املعالجة ،فإن البيتكوين سيزيد من صعوبة املسائل
الرياضية الالزمة للحصول عىل مكافآت التعدين وذلك لكي يضمن أن إنتاج كل كتلة
جديدة سيتسمر باستغراقه لعرش دقائق تقريباً.
197
معيار البيتكوين
فبالنسبة لكل أنواع النقد األخرى ،فإنه مع ارتفاع قيمتها ،يبدأ كل من يستطيع
إنتاجها بإنتاج املزيد منها ،سواء أكانت حجارة الراي أو أصداف البحر أو الفضة أو
الذهب أو النحاس أو النقود الحكومية ،حيث أن الجميع سيكون لديهم الحافز ملحاولة
إنتاج املزيد منها .وكلما ازدادت صعوبة إنتاج كميات جديدة من النقد كاستجابة
لزيادات األسعار ،ازداد احتمال استخدامه وتبنيه عىل نطاق واسع ،وازدهر املجتمع
بشكل أكرب ألن هذا يعني أن جهود األفراد يف إنتاج الثروة سيتم توظيفها يف خدمة
بعضهم ،ال يف إنتاج النقد ،وهو نشاط ال قيمة له يف املجتمع وذلك ألن أي عرض نقدي
يُعترب كافيا ً لتشغيل أي اقتصاد .لهذا السبب ،أصبح الذهب هو النقد األسايس لكل
مجتمع متحرض تحديدا ً ألن إنتاجه هو األصعب ،ولكن عملية تعديل صعوبة البيتكوين
تجعل إنتاجه أكثر صعوبة حتى من الذهب .فالزيادة الكبرية يف سعر الذهب عىل املدى
الطويل ستقود إىل إنتاج كميات أكرب منه ،لكن مهما ارتفع سعر البيتكوين ،فإن عرضه
سيبقى كما هو ،ولكن ستزداد مناعة وأمن شبكته.
إن أ َ ْم َن البيتكوين يكمن يف عدم التماثل بني تكلفة حل نظام إثبات العمل َّ
الرضوري إليداع التحويل إىل السجل ،وبني تكلفة التحقق من صحة هذا الحل .فتسجيل
التحويالت يكلف كميات متزايدة من الكهرباء وقوة املعالجة ،لكن تكلفة التحقق من
صالحية التحويالت تقرتب من الصفر ،وستبقى عند ذلك املستوى بغض النظر عن املدى
الذي سيصله نمو البيتكوين .لهذا ،إ َّن محاولة إيداع تحويالت احتيالية إىل سجل
البيتكوين هو أشبه بالتعمد إلهدار املوارد عىل حل نظام إثبات العمل ليكون الناتج هو
رفض هذه التحويالت ودون أي تكلفة تقريباً ،وبالتايل حجب مكافأة الكتلة عن املُعدّن.
ومع مرور الوقت ،ستزداد صعوبة تغيري السجل وذلك ألن الطاقة املطلوبة
ستكون أكثر من الطاقة التي أ ُنفقت بالفعل ،والتي تنمو مع مرور الوقت .فلقد نمت هذه
العملية التكرارية املعقدة بشكل كبري لتتطلَّب كميات هائلة من طاقة املعالجة والكهرباء
ولكنها باملقابل تُنتج ِسجل ُملكية وتحويالت ال شك بصحتها ،دون الحاجة إىل االعتماد
عىل مصداقية أي طرف ثالث .بمعنى أنه تم إنشاء البيتكوين عىل مبدأ التحقق %100
198
النقد الرقمي
4
والثقة .%0
يمكن تشبيه السجل املشرتك الخاص بالبيتكوين بحجارة الراي يف جزيرة ياب
التي تمت مناقشتها يف الفصل الثاني بأنه ال يتطلب إجراء التحويالت تحريك النقد فعلياً،
لكن يف جزيزة ياب ،كان عىل السكان االلتقاء إلعالن نقل ملكية الحجر من شخص آلخر،
وستعرف البلدة بأكملها من يمتلك هذه الحجارة .أما يف البيتكوين ،يقوم أعضاء الشبكة
ببث تحويالتهم لجميع أعضاء الشبكة الذين سيتحققون من أن املرسل لديه الرصيد
الالزم إلجراء التحويل ،ثم القيام بإيداعه للمتلقي .وللدرجة التي تتواجد بها العمالت
الرقمية ،فهي ببساطة عبارة عن إدخاالت عىل السجل ،والتحويل املُوَ ثَّق يقوم بتغيري
ملكية هذه العمالت يف هذا السجل من املرسل إىل املتلقي .بحيث يتم تعيني ملكية العمالت
من خالل العناوين العامة ،وليس من خالل أسماء حامليها ،ويتم تأمني الوصول إىل
العمالت التابعة لعنوان ما من خالل ملكية املفتاح الخاص ،وهو سلسلة من الرموز
5
مشابهة لكلمة املرور.
ويف حني أن الثقل الفيزيائي لحجر الراي يجعل من قابليته للقسمة أمرا ً غري
عميل أبداً ،إال أن البيتكوين ال يواجه هذه املشكلة ،حيث أن عرض البيتكوين يتكون من
4أان ال أنوي جر هذا الكتاب والقارئ إىل التساؤل عن أسئلة غيبية ،ولكن خطر ببايل أن سجل حتويالت
البيتكوين قد يكون اجملموعة الوحيدة من احلقائق املوضوعية يف العامل .ميكنك أن جتادل (كما يفعل العديد من
الفالسفة) أبن كل حقيقة هي غري موضوعية وأن صحتها تعتمد على الشخص الذي يقوهلا أو يسمعها ،ولكن
يتم إنشاء سجل حتويالت البيتكوين من خ الل حتويل الكهرابء وطاقة املعاجلة إىل حقيقة دون احلاجة إىل االعتماد
على كالم أي شخص أخر.
5الطريقة الوحيدة المتالك البيتكوين هي ابلسيطرة على املفاتيح اخلاصة ،وإذا متكن شخص ما من الوصول إىل
مفاتيحك اخلاصة ،فستصبح عمالت البيتكوين اخلاصة بك له/هلا .فسرقة املفاتيح اخلاصة مثل سرقة الدوالرات
املادية أو الذهب ،إهنا هنائية وال عودة فيها .وال يوجد سلطة ميكنك االتصال هبا إللغاء السرقة .هذا جزء ال مفر
منه من كون البيتكوين نقد ،وهي نقطة مهمة جيب أن يفهمها املستثمرون احملتملون يف البيتكوين بشكل كامل
قبل وضع أي مبلغ من املال يف البيتكوين .فتأمني املفاتيح اخلاصة ليس مهمة بسيطة ،وعدم القدرة على أتمينها
هو أمر حمفوف ابملخاطر.
199
معيار البيتكوين
وما يحافظ عىل صدق ونزاهة عُ قد البيتكوين بشكل فردي ،هو أنه إذا كان
مالكها غري نزيه فسيتم اكتشافه عىل الفور ،مما يجعل عدم األمانة مماثال ً بفعاليته لعدم
القيام بأي يشء ،لكنه يطرح تكلفة باهظة .أما عىل الصعيد الجماعي ،فإن ما يمنع
األغلبية من التواطؤ والتآمر عىل الترصف بعدم أمانة هو أنها إذا نجحت يف تقويض
نزاهة سجل التحويالت ،فستُد َّمر القيمة الكلية للبيتكوين وستنهار قيمته لتقرتب من
الاليشء .فالتآمر يُكلِّف الكثري لكنه سيؤدي بحد ذاته إىل فقدان قيمة الغنيمة .بعبارة
أخرى ،يعتمد البيتكوين عىل الحوافز االقتصادية مما يجعل االحتيال أكثر ُكلفة من
مكافآته.
وال يتم االعتماد عىل كيان واحد للحفاظ عىل السجل ،وال يمكن لفرد واحد تغيري
هذا السجل دون موافقة غالبية أعضاء الشبكة ،فصالحية التحويالت ليست مرهونة
بقرار سلطة واحدة بل بالربنامج الذي يشغل العقد الفردية عىل الشبكة.
لقد قام "رالف مريكل" ،مخرتع هيكل بيانات شجرة مريكل ""Merkle
رائع للبيتكوين:
وصف ٍٍ املُستَخدَم لتسجيل التحويالت يف البيتكوين ،بتقديم
إن البيتكوين هو املثال األول لشكل جديد من أشكال الحياة ،إنه يعيش
ويتنفس عىل شبكة اإلنرتنت .يعيش ألنه يستطيع أن يَدفع لألشخاص مقابل
ً
خدمة مفيدة يَدفع الناس له كي يقدمها ،يعيش إبقائه حياً ،يعيش ألنه يُقدم
ألن أي شخص يف أي مكان يمكنه تشغيل نسخة من شيفرته ،يعيش ألن جميع
الن ُّ َسخ العاملة منه تتحدث باستمرار مع بعضها البعض ،يعيش ألنه إذا تم
إيجاد نسخة تالفة منه فسيتم التخلص منها برسعة دون ضجة أو فوىض،
200
النقد الرقمي
يعيش ألنه يتسم بالشفافية بشكل جذري حيث أنه بإمكان أي شخص رؤية
شيفرته وما الذي تفعله بالضبط هذه الشيفرة.
ال يمكن تغيريه ،ال يمكن الجدال معه ،ال يمكن التالعب به ،ال يمكن إتالفه ،ال
يمكن إيقافه ،ال يمكن مقاطعته حتى .وإذا دمرت حرب نووية نصف كوكبنا،
فسيستمر بالعيش دون انقطاع ،وسيستمر بتقديم خدماته ،وسيستمر بالدفع
لألشخاص من أجل إبقائه حياً.
فالبيتكوين هو تقنية تنجو لنفس سبب نجاة عجلة القيادة أو السكني أو
الهاتف أو أي تقنية أخرى :فهو تقنية توفر ملستخدميها فوائد من استخدامها ،بحيث يتم
مكافأة املستخدمني واملُعدِّنني ومديري العقد اقتصاديا ً بسبب تفاعلهم مع البيتكوين،
وهذا ما يبقيه مستمراً .ومن الجدير بالذكر أن جميع األطراف التي تساهم بتشغيل
البيتكوين قابلة لالستبدال ،فال أحد رضوري لعمل البيتكوين ،وإذا أراد أي شخص تغيري
البيتكوين ،فإن البيتكوين قاد ٌر تماما ً عىل االستمرار يف العمل كما هو دون االعتماد عىل
ُدخل قد يقوم به أي شخص عليه .وسيساعدنا هذا عىل فهم الطبيعة الثابتة أي م َ
للبيتكوين يف الفصل العارش ،وملاذا ستؤدي محاوالت إجراء تغيريات جدية يف شيفرة
6رالف مريكل" ،املنظمات املستقلة غري املركزية ،الدميقراطية واحلكم" جملة كرايونيكس ،اجمللد 37العدد ( 4يوليو
– أغسطس عام :)2016الصفحة :40 – 28ألكورhttp://www.alcor.org ،
201
معيار البيتكوين
البيتكوين إىل حتمية إنشاء نسخة بديلة منه أقل قيمة ،حيث ستكون هذه النسخة عاجزة
عىل إعادة خلق التوازن االقتصادي للحوافز التي تحافظ عىل البيتكوين وتجعله مستمرا ً
وغري قابل للتغيري.
كما يمكن فهم البيتكوين عىل أنه رشكة ناشئة ومستقلة توفر شكال ً جديدا ً من
النقد وشبكة مدفوعات جديدة .فال يوجد هيكل رشكة أو مجلس إدارة لهذه الرشكة،
حيث أن جميع القرارات تكون تلقائية ومربمجة مسبقاً .ويمكن للمربمجني املتطوعني يف
ض تغيريات وتحسينات عىل الشيفرة ،لكن القرار سيكون مرشوع مفتوح املصدر عَ ْر ُ
ٍ
رتحة لهذه الرشكة تتمثل يف بأيادي املستخدمني للموافقة عىل اعتمادهما أم ال .والقيمة املق َ
أن عرضها النقدي غري مرن بتاتا ً كاستجابةٍ لزيادة الطلب والسعر؛ بدال ً من ذلك ،يؤدي
الطلب املتزايد عىل البيتكوين إىل تكوين شبكة أكثر أمانا ً بسبب تعديل صعوبة التعدين.
فيستثمر املُعدنون الكهرباء وقوة املعالجة يف البنية التحتية التعدينية التي تحمي الشبكة
ألنهم يُكافؤون عىل ذلك ،ويدفع مستخدمو البيتكوين رسوم التحويالت ويشرتون القطع
النقدية من املعدنني ألنهم يريدون استخدام النقود الرقمية واالستفادة من ارتفاع قيمة
العملة مع مرور الوقت ،ويف أثناء هذه العملية ،فإنهم يمولون استثمار املعدنني عرب
تشغيل الشبكة .فاالستثمار يف أدوات تعدين نظام إثبات العمل يجعل الشبكة أكثر أمانا ً،
ويمكن فهمه عىل أنه رأس مال الرشكة .وكلما ازداد الطلب عىل الشبكة ،ازدادت قيمة
رسوم التحويالت ومكافآت املعدنني ،األمر الذي يتطلب املزيد من طاقة املعالجة لتوليد
عمالت جديدة ،مما يزيد من رأس مال الرشكة ويجعل الشبكة أكثر أمانا ً وإنتاج العمالت
أكثر صعوب ًة .إن هذا ترتيبٌ اقتصادي منتِج ومر ِبح لكل املعنيني ،مما يؤدي بدوره إىل
استمرار نمو هذه الشبكة بوترية مذهلة.
202
النقد الرقمي
املرسل ويمكن اعادة انتاجها بال حدود .لهذا ،إن البيتكوين هو املثال األول عىل السلعة
الرقمية التي تزول فيها ملكية املرسل بعد اإلرسال.
وبعيدا ً عن الندرة الرقمية ،يُعترب البيتكوين أيضا ً املثال األول عىل الندرة
املطلقة ،وهو السلعة الوحيدة ذات السيولة (الرقمية أو املادية) التي كميتها ثابتة ُمح َّددة
نسبية ،ولم تكن مطلقة ً ال يمكن زيادتها .فحتى اخرتاع البيتكوين ،كانت الندرة دائما ً
أبداً .فهناك اعتقاد خاطئ شائع ِبتصوُّر أن أي سلعة مادية هي محدودة أو نادرة بشكل
مطلق ،لكن يجدر اإلشارة أن الحد األقىص لكمية إنتاج أي سلعة ال يُحَ دَّد مع مدى
املكر َسني إلنتاجها .فمع
َّ انتشارها يف هذا الكوكب ،وإنما يتم تحديده بالجهد والوقت
ندرته املطلقة ،يحتفظ البيتكوين بقابليته الكبرية للبيع عرب الزمن ،وهذه نقطة أساسية
سيتم رشحها بشكل أكرب يف الفصل التاسع املتعلق بدور البيتكوين كمخزون للقيمة.
203
معيار البيتكوين
ِس ِج ّل تحويالته ،غري قابل للتغيري 7.ويف حني أنه يف السنوات األوىل من وجود البيتكوين
كان معدل النمو يف عرضه مرتفعا ً جداً ،ولم يكن هناك ضمان موثوق أن جدول العرض
هذا لن يتبدل ،لكن مع مرور الوقت ،انخفض معدل نمو العرض وارتفعت مصداقية
الشبكة يف الحفاظ عىل جدول العرض ،وال تزال املصداقية ترتفع مع مرور كل يوم ال يتم
فيه إجراء تغيريات جدية عىل الشبكة.
فعند والدة الشبكة ،تم برمجة مكافأة الكتلة لتكون 50بيتكوين لكل كتلة
بحيث يتم إضافة كتل البيتكوين إىل السجل املشرتك كل عرش دقائق تقريباً .ويف كل أربع
سنوات تقريبا ً أو بعد صدور 210,000كتلة ،تنخفض مكافأة الكتلة إىل النصف .وقد
حدث التنصيف األول يف 28نوفمرب يف عام ،2012وبعد ذلك انخفض إصدار عمالت
البيتكوين الجديدة إىل 25قطعة نقدية لكل كتلة ،ويف 9يوليو عام ،2016انخفض مرة
أخرى إىل 12.5قطعة نقدية لكل كتلة ،وسينخفض إىل 6.25يف عام .2020فوفقا ً لهذا
الجدول الزمني ،سيستمر العرض يف الزيادة بمعدل متناقص ،ليقرتب تقريبا ً من 21
مليون قطعة نقدية يف وقت ما من عام ،2140وعند هذه النقطة لن يتم إنتاج املزيد من
عمالت البيتكوين الجديدة( .انظر الشكل .)14
وبما أن العمالت الجديدة ال تُنتَج إال بعد إصدار كتلة جديدة ،وبما أن كل كتلة
جديدة تتطلب حل مسائل نظام إثبات العمل ،فهناك تكلفة حقيقية إلنتاج عمالت
بيتكوين جديدة .ومع ارتفاع سعر البيتكوين يف السوق ،تَد ُ
ْخل املزيد من العقد للتنافس
عىل حل مسائل نظام إثبات العمل للحصول عىل مكافأة الكتلة ،مما يزيد من صعوبة حل
ً
تكلفة ،وبالتايل سرتتفع تكلفة هذه املسائل ،األمر الذي يجعل الحصول عىل املكافأة أكثر
إنتاج البيتكوين بشكل عام مع سعر السوق.
قسم ساتويش كل بيتكوين إىل 100 فبعد تحديد جدول نمو هذا العرضَّ ،
مليون وحدة ،والتي ُسميت فيما بعد باسم "ساتويش" تقديرا ً له .وتقسيم كل بيتكوين
إىل 8خانات يعني أن العرض سيستمر يف النمو بمعدل متناقص حتى عام 2140
ٍ
مناقشة بشأن ثبات البيتكوين ومقاومته للتغيري. 7اقرأ الفصل العاشر لالطالع على
204
النقد الرقمي
تقريباً ،وعندها ستمتلئ الخانات جميعها لتصل إىل 21مليون قطعة نقدية .وتناقص
معدل النمو يعني أنه سيتم تعدين أول 20مليون قطعة نقدية بحلول عام 2025
تقريباً ،بحيث تبقى مليون قطعة نقدية ليتم تعدينها عىل مدى قرن آخر.
إن عدد العمالت الجديدة التي يتم إصدارها ال يمكن التنبؤ به بدقة من خالل
الخوارزمية ،وذلك ألن الكتل الجديدة ال يتم تعدينها كل عرش دقائق بالضبط ،نظرا ً ألن
عملية تعديل الصعوبة ليست عملية دقيقة بل هي مُعايرة تتعدل كل أسبوعني ،ويمكن أن
تحقق الرقم املتوقع أو ال ،اعتمادا ً عىل عدد الُمعدنني الجُدد الذين يدخلون أعمال التعدين.
ففي عام ،2009عندما استَخدم عدد قليل جدا ً من الناس البيتكوين ،كان اإلصدار أقل
بكثري من الجدول ،أما يف عام ،2010كان أعىل من الرقم النظري املتوقع من العرض.
205
معيار البيتكوين
وبالطبع ،ستتباين األرقام الدقيقة ،ولكن هذا التباين يف النمو النظري سيتناقص مع
ازياد العرض .واألمر الثابت الذي لن يحصل فيه تباين هو سقف عدد العمالت ،وحقيقة
أن معدل نمو املعروض سيستمر يف االنخفاض ،حيث يتم إضافة عدد متناقص من
العمالت إىل مخزون متزايد من العمالت .وبحلول نهاية عام ،2017تم بالفعل تعدين
16.775مليون عملة ،وتُش ِّكل هذه نسبة %79.9من جميع العمالت التي سيتم
إصدارها .فبلغت نسبة نمو العرض السنوي يف عام ،%4.35 2017حيث انخفضت عن
نسبة %6.8يف عام .2016ويُبني الجدول 6نمو العرض الفعيل للبيتكوين ()BTC
ومعدل نموه .و إذا نظرنا بتمعن إىل جدول عرض البيتكوين خالل السنوات القادمة،
فسيمنحنا هذا تقديرات عن عرض ومعدل النمو ،وستختلف األرقام الفعلية عن هذا
بالتأكيد ،لكن ليس بشكل كبري .انظر (الجدول .)87
قد يساعدنا هذا الرشح يف تقدير قابلية بيع البيتكوين وإدراك مدى تحقيقه
لوظائف النقد .فمع انخفاض معدل نمو عرضه إىل ما دون مستوى الذهب بحلول عام
،2025فإن قيود البيتكوين املوجودة به عىل عرضه قد تجعل عليه طلبا ً كبريا ً كمخزون
للقيمة .وبعبارة أخرى ،قد يكون لديه صفة قابلية البيع عرب الزمن .فطبيعة البيتكوين
الرقمية التي تجعل إرساله بشكل آمن يف جميع أنحاء العالم أمرا سهالً ،تجعله أيضا
قابال ً للبيع عرب املكان بطريقة لم يسبق رؤيتها يف أشكال النقد األخرى .يف حني أن
قابليته للقسمة إىل 100,000,000ساتويش تجعله قابال ً للبيع عىل صعيد القياسات.
206
النقد الرقمي
2017 2016 2015 2014 2013 2012 2011 2010 2009 العام
16.77 16.07 15.02 13.67 12.19 10.61 8 5.018 1.623 عرض
5 5 9 1 9 3 البيتكوين
اإلجمايل،
باملاليني
4.35 6.8 9.93 12.06 14.94 32.66 42 59 209.1 معدل
3 النمو
السنوي،
%
الجدول :6عرض البيتكوين ومعدل النمو
2018 2026 2025 202 202 202 202 202 201 2018 العام
4 3 2 1 0 9
17.41 20.08 19.92 19.7 19.5 19.1 18.8 18.5 18.0 17.41 عرض
5 7 3 58 12 84 55 27 55 5 البيتكوين
اإلجمايل،
باملاليني
3.82 0.82 0.83 1.26 1.71 1.74 1.77 2.61 3.68 3.82 معدل
النمو
السنوي،
%
الجدول :7عرض البيتكوين ومعدل النمو (املتوقع)
207
معيار البيتكوين
عالوة عىل ذلك ،إن قضاء البيتكوين عىل سيطرة وتحكم الوسطاء واستحالة تقويض أي
حكومة له أو مصادرته ،ستجعله خاليا ً من العيوب الرئيسية للنقود الحكومية .ومع
تقديم العرص الرقمي لنا الكثري من التحسينات والكفاءات يف معظم جوانب حياتنا ،يُمثِّل
البيتكوين قفزة تكنولوجية هائلة إىل األمام يف الحل النقدي ملشكلة التبادل غري املبارش ،قد
تكون أهميتها مماثلة ألهمية االنتقال من استخدام املاشية وامللح إىل الذهب والفضة.
ويف حني يزداد عرض العمالت التقليدية باستمرار وتنخفض قوتها الرشائية،
إال أنه حتى هذه اللحظة شهد البيتكوين ارتفاعا ً ملحوظا ً يف قوته الرشائية بالرغم من
الزيادة املعتدلة واملتناقصة واملحدودة يف عرضه .فمكافأة املُعدنني ،الذين يتحققون من
صحة التحويالت ،بعمالت البيتكوين تُوَ لِّد لديهم اهتماما ً قويا ً بالحفاظ عىل نزاهة
الشبكة ،مما يؤدي بدوره إىل ارتفاع قيمة العملة.
لقد بدأت شبكة البيتكوين العمل يف يناير عام ،2009ولفرتة من الوقت كانت
بمثابة مرشوع غامض يستخدمه عدد قليل من الناس يف قائمة تراسل مشفرة ،وربما
208
النقد الرقمي
كان أهم حدث يف حياة البيتكوين هو اليوم األول الذي تحولت فيه العمالت الرمزية يف
هذه الشبكة من كونها عديمة القيمة من الناحية االقتصادية إىل امتالكها لقيمة يف السوق،
مما أ َّكد أن البيتكوين قد اجتاز اختبار السوق :فقد عملت الشبكة بنجاح ٍ
كاف لدرجة
بعض من عمالتها الرمزية .لقد اقتناع فرد ما بالتخيل عن النقود املادية للحصول عىل ٍ
حدث هذا يف أكتوبر عام ،2009عندما أُبرمت مقايضة عرب موقع عىل اإلنرتنت يُدعى
" "New Liberty Standardوتم بيع البيتكوين بسعر .$0.000994ويف مايو عام
، 2010تم استخدام البيتكوين ألول مرة يف عملية رشاء فعلية يف العالم الحقيقي ،حيث
دفع أحدهم 10آالف بيتكوين مقابل 2بيتزا بقيمة ،$25حيث بلغ سعر البيتكوين
.$0.0025مع مرور الوقت ،سمع املزيد من الناس عن البيتكوين وأصبحوا مهتمني
9
برشائه واستمر السعر يف االرتفاع أكثر.
َفطلبُ السوق عىل عمالت البيتكوين الرمزية يأتي من حقيقة أنها مطلوبة
لتشغيل أول (وحتى اآلن الوحيد) نظام نقدي رقمي موثوق وفعال 10.فحقيقة أن هذه
الشبكة قد عملت بنجاح يف أيامها األوىل قد أعطى عملتها الرقمية صفة قابلية الجمع يف
أوساط املشفرين والليرباليني ،الذين حاولوا تعدينها باستخدام أجهزة الحاسوب الخاصة
بهم ،ويف النهاية بدؤوا برشائها من بعضهم البعض 11.وحقيقة أن هذه العمالت الرمزية
كانت محدودة بشكل صارم وال يمكن نسخها وتقليدها قد ساعدها عىل كسب صفة
القابلية للتجميع .فبعد أن جمعه األفراد الستخدامه عىل شبكة البيتكوين ،وبعد اكتسابه
لقيمة اقتصادية ،بدأ البيتكوين يأخذ دورا ً نقديا ً وذلك ألن العديد من الناس طالبوا به
كمخزون للقيمة .إن تسلسل هذه األنشطة يتطابق مع نظرية لودفيج فون ميزس عن
"ن ظرية الرتاجع" حول أصول النقد ،والتي تنص عىل أن السلعة النقدية تبدأ كسلعة يف
209
معيار البيتكوين
السوق وتُستخدم بعد ذلك كوسيط للتبادل .وبهذا األمر ،ال تختلف قابلية البيتكوين
للتجميع يف املجتمعات الصغرية عن قيمة األصداف البحرية ،وحجارة الراي والقيمة
الجمالية للمعادن الثمينة ،والتي اكتسبت من خاللها دورا ً نقديا ً مما أدى إىل ارتفاع
قيمتها بشكل كبري.
وبما أن البيتكوين جديد ويف أوائل انتشاره ،فإن سعره قد تأثر بشدة بتقلب
الطلب عليه ،ولكن استحالة زيادة عرضه بشكل قرسي من قبل أي سلطة كاستجابة
الرتفاع األسعار يُفرس االرتفاع الحاد والرسيع يف القوة الرشائية للعملة .فعندما يزداد
الطلب بشكل كبري عىل البيتكوين ،ال يُمكِن للمعدنني زيادة اإلنتاج بشكل يتعدى الجدول
املح َّدد له ،ولكن هذا أمر يستطيع مُعدِّنو النحاس فعله .كما ال يمكن ألي بنك مركزي
التدخل إلغراق السوق بكميات متزايدة من البيتكوين ،مثل ما اقرتح "غرينسبان" عىل
البنوك املركزية فعله مع الذهب .فالطريقة الوحيدة لتلبية الطلب املتزايد يف السوق تكمن
برفع السعر بما فيه الكفاية لتحفيز أصحاب بعض العمالت الرمزية عىل بيعها للوافدين
ال ُجدد .وهذا يساعد عىل تفسري أسباب ارتفاع سعر البيتكوين من $0.000994يف 5
أكتوبر عام 2009يف أول تحويل مسجل ،إىل $4200يف 5أكتوبر عام ،2017بزيادة
قدرها %422520000يف ثمانية أعوام ،وبلغ معدل النمو السنوي املركب %573
سنوياً( .انظر الشكل .)1216
ولكي يرتفع سعر البيتكوين ،يجب عىل األشخاص االحتفاظ به كمخزون للقيمة وليس
إنفاقه فقط ،ويف حال عدم وجود أشخاص راغبني يف االحتفاظ بالعملة لفرتة زمنية
طويلة ،فإن االستمرار يف بيع العملة سيُبقِ ي سعرها منخفضا ً وسيمنعها من االرتفاع.
210
النقد الرقمي
عملته املرتبة 56يف قائمة أهم العمالت الوطنية يف جميع أنحاء العالم ،وستساوي تقريبا ً
حجم العرض النقدي للكويت أو بنغالديش ،وستكون أكرب من حجم العرض يف املغرب
والبريو ،لكنها أقل من كولومبيا وباكستان .وإذا تم مقارنتها مع عرض النقود بمعناه
الضيق ،فستكون قيمة عرض البيتكوين يف املرتبة 33يف العالم ،مع قيمة مماثلة لعرض
النقود بمعناه الضيق للربازيل وتركيا وجنوب إفريقيا .وربما تكون واحدة من أبرز
اإلنجازات التي حققتها شبكة اإلنرتنت أن اقتصادا ً الكرتونيا ً قد نما يف تسع سنوات بعد
ظهوره بشكل عفوي وطوعي حول شبكة صممها مربمج مجهول ،بل وأصبح يملك قيمة
ُحتفظ به يف العرض النقدي ملعظم الدول القومية والعمالت الوطنية.أكرب مما هو م َ
211
معيار البيتكوين
ولكن يف هذه الحالة كان سيظل تجربة هامشية بني محبي التشفري عىل االنرتنت .وعندها،
لم يكن سيتم تخصيص أي قدر كبري من قوة املعالجة لتعدينه ،حيث أنه لن يكون هناك
أي فائدة من االستثمار بكثافة يف التحقق من التحويالت وحل مسائل نظام إثبات العمل
من أجل الحصول عىل العمالت الرمزية التي سيتم تخفيض قيمتها كلما ازداد عدد
األشخاص الذين يستخدمون النظام .لهذا ،يمكن القول أن السياسات النقدية التوسعية
لالقتصادات الحديثة ذات النقود الورقية واالقتصاديني التابعني لها لم تجتز مطلقا ً
اختبار السوق يف تبنيها طواعي ًة ،لكن وبدال ً من ذلك ،تم فرضها عرب قوانني الحكومة ،كما
نوقش يف السابق .وكنظا ٍم طوعي ال يوجد فيه آلية إلجبار الناس عىل استخدامه ،كان
البيتكوين سيفشل يف جذب طلب كبري عليه ،ونتيجة لذلك كان لن يتم ضمان مكانته
ومنزلته كنقد رقمي ناجح .ويف حني أنه يمكن إجراء التحويالت دون الحاجة إىل الثقة يف
طرف ثالث ،إال أن الشبكة ستكون عرضة للهجوم من قبل أي جهة فاعلة خبيثة تحشد
مقادير كبرية من قوة املعالجة .بعبارة أخرى ،من دون اعتماد سياسة نقدية محافظة
وآلية لتعديل الصعوبة ،فإن البيتكوين كان سينجح نظريا ً كنقد رقمي ،لكنه كان سيبقى
غري آمن بشكل كبري ،بحيث ال يمكن عمليا ً استخدامه عىل نطاق واسع .ويف هذه الحالة،
إن أول منافس للبيتكوين سيعتمد سياسة النقد الصعب ،فإنه سيجعل من عملية تحديث
السجل وإنتاج الوحدات الجديدة أمرا ً أكثر تكلفة بشكل تدريجي .والتكلفة املرتفعة
لتحديث السجل ستعطي املعدنني الحافز ليكونوا نزيهني بتحديث هذا السجل ،مما
سيجعل الشبكة أكثر أمانا ً من املنافسني متبعي سياسة النقد السهل.
13املصدر .blockchain.info
212
النقد الرقمي
العام التحويالت متوسط التحويالت اليومية
التحويالت مثرية لإلعجاب ،إال أنها ال تتوافق مع الزيادة يف قيمة املخزون اإلجمالية لعملة
البيتكوين ،والدليل عىل ذلك هو أن عدد التحويالت أقل بكثري مما كان سيتم يف اقتصاد
ذي عملة تساوي قيمتها قيمة عرض البيتكوين ،حيث أن 300,000تحويل يوميا ً هو
مساو
ٍ عدد التحويالت التي تتم يف بلدة صغرية وليس يف اقتصاد متوسط الحجم ،وهو
تقريبا ً لقيمة عرض البيتكوين .عالوة عىل ذلك ،فإنه مع الحجم الحايل للكتل يف البيتكوين
والتي تقترص عىل 1ميغابايت ،فإن 500,000تحويل يف اليوم هو معدل قريب من الحد
األعىل الذي يمكن تنفيذه من قبل شبكة البيتكوين والذي يجب أن يتم تسجيله من قبل
جميع أعضاء الشبكة .وحتى عندما تم الوصول إىل هذا الحد وتم اإلعالن عن وجوده عىل
14املصدر .blockchain.info
213
املاليني معيار البيتكوين
الجدول :9القيمة اإلجمالية السنوية للتحويالت عىل شبكة البيتكوين مقدرة بالدوالر
األمريكي
214
النقد الرقمي
نطاق واسع ،فإن النمو يف قيمة العملة وقيمة التحويالت اليومية لم ترتاجع .ويشري هذا
إىل أن ُمتَبني البيتكوين يُقدِّرونه كمخزون للقيمة أكثر من تقديرهم له كوسيط للتبادل،
وسيتم مناقشة هذا يف الفصل التاسع.
كما وازدادت أيضا ً القيمة السوقية للتحويالت عىل مدى عمر الشبكة ،حيث أن
الطبيعة املميزة لتحويالت البيتكوين ت ُ َ
صعِّ ب من عملية تقدير القيمة الدقيقة للتحويالت
بالبيتكوين أو بالدوالر األمريكي ،لكن أشارت أدنى التقديرات إىل بلوغ حجم يومي يُقدَّر
ب ِـ 260,000بيتكوين يف عام 2017مع نمو متقلب للغاية عىل مدى عمر البيتكوين .ويف
حني أن قيمة تحويالت البيتكوين لم تزدد بشكل ملحوظ بمرور الوقت ،إال أن القيمة
السوقية لهذه التحويالت بالدوالر األمريكي قد ازدادت .فبلغ حجم التحويالت 375.6
مليار دوالر أمريكي يف عام ،2017وبحلول عيد ميالده التاسع ،قام البيتكوين بمعالجة
تحويالت بقيمة نصف تريليون دوالر منذ نشأته ،مع حساب قيمة الدوالر األمريكي يف
وقت التحويل( .انظر الجدول .)159
هناك مقياس آخر لنمو شبكة البيتكوين وهو قيمة الرسوم املطلوبة ملعالجة التحويالت.
ففي حني أنه يمكن نظريا ً معالجة تحويالت البيتكوين بشكل مجاني ،إال أنه يتحتم عىل
املعدنني معالجتها ،وكلما ارتفعت الرسوم ،ازدادت فرصة املعالجة ورسعة تحصيلها.
ففي األيام األوىل عندما كان عدد التحويالت صغرياً ،قام املعدنون بمعالجة التحويالت
التي لم تتضمن رسوما ً وذلك ألن "دعم الكتلة" للعمالت الجديدة ذاتها كان يستحق
العناء .ومع ازدياد الطلب عىل تحويالت البيتكوين ،كان ِبوسع املعدنني أن يكونوا أكثر
ً
انتقائية لذا قاموا ِبمنح األولوية للتحويالت ذات الرسوم األعىل .فقد كانت الرسوم أقل من
0.1دوالر لكل تحويل حتى أواخر عام ،2015ثم بدأت باالرتفاع فوق 1دوالر لكل
تحويل يف أوائل عام .2016ومع االرتفاع الرسيع يف سعر البيتكوين عام ،2017وصل
متوسط رسوم التحويل اليومي إىل 7دوالرات بحلول نهاية نوفمرب( .انظر الشكل .)1816
15املصدر .blockchain.info
16املصدر .blockchain.info
215
معيار البيتكوين
الشكل :18متوسط قيمة رسوم التحويالت عىل شبكة البيتكوين مقدرة بالدوالر
األمريكي ،مقياس لوغاريتمي
216
النقد الرقمي
ويف حني أن سعر البيتكوين قد ارتفع بشكل عام بمرور الوقت ،إال أن هذا
االرتفاع كان شديد التقلب ،وي ُِّبني الشكل 19االنحراف املعياري بناء عىل 30يوم
للعائدات اليومية يف السنوات الخمس املاضية من تداول البيتكوين .ويف حني يبدو أن
ً
مقارنة بالعمالت الوطنية معدل التقلبات يف انخفاض ،إال أنه ال يزال مرتفعا ً جدا ً
والذهب ،وال يزال هذا التوجه ضعيفا ً جدا ً كي نستطيع الجزم فيما إن كان هذا االنخفاض
سيستمر أو ال .وقد تم ذكر مؤرش التقلب بناء عىل 30يوم للدوالر األمريكي يف الشكل 19
لتزويدكم بما يكفي الستيعاب الفكرة.
إن التمعن يف بيانات أسعار الذهب والعمالت الوطنية والرقمية يُظهر تغريا ً
ملحوظا ً يف ثبات سعر السوق لهذه العمالت .فتم جمع العوائد اليومية للذهب وأهم
العمالت الورقية والبيتكوين يف السنوات الخمس السابقة ،وكان لكل العمالت الوطنية
الرئيسية انحرافا ً معياريا ً أكرب بسبع مرات من االنحراف املعياري للبيتكوين( .شاهد
17
الجدول .)10
إن تقلبات البيتكوين هذه تنبثق من حقيقة أن عرضه غري مرن بتاتا ً وال
يستجيب لتغريات الطلب عليه وذلك ألنه قد تم برمجته للنمو بمعدل مُحدَّد سلفا ً .لكن
بالنسبة ألي سلعة عادية ،فإن االختالف يف الطلب سيؤثر عىل قرارات اإلنتاج ملنتجي هذه
السلعة :بحيث تؤدي الزيادة يف الطلب عليها إىل زيادة إنتاجها ،وبالتايل تعديل االرتفاع يف
السعر مما سيسمح ملنتيجها بزيادة األرباح .بينما انخفاض الطلب عليها سيؤدي إىل ميل
املنتجني إىل تخفيض العرض مما يسمح لهم بتقليل الخسائر .توجد حالة مماثلة يف
العمالت الوطنية من املتوقع فيها أن تحافظ البنوك املركزية عىل استقرار نسبي يف القوة
الرشائية لعمالتها من خالل وضع معايري لسياستها النقدية ملواجهة تقلبات السوق.
17أسعار مجيع العمالت مقدرة ابلدوالر األمريكي بينما مت استخدام مؤشر الدوالر األمريكي من أجل الدوالر
األمريكي .بياانت العملة الوطنية من البياانت االقتصادية لالحتياطي الفيدرايل يف (سانت لويس) ،بياانت الذهب
من جممع الذهب العاملي .بياانت البيتكوين من املوقع coindesk.com
217
معيار البيتكوين
فبوجود جدول للعرض غري متجاوب إطالقا ً مع الطلب ،ومع عدم وجود بنك
مركزي إلدارة هذا العرض ،فمن املحتمل أن يكون هناك تقلبات خصوصا ً يف املراحل
املبكرة عندما يتغري الطلب بصورة غري منتظمة للغاية من يوم آلخر ،وذلك ألن األسواق
املالية التي تستخدم البيتكوين ما تزال صغرية .ولكن مع نمو حجم السوق إضافة
218
النقد الرقمي
لتعقيد وعمق املؤسسات املالية التي تستخدم البيتكوين ،فمن املرجح أن ينخفض هذا
التقلب.
ومع وجود سوق أكرب ذي سيولة أكثر ،من املحتمل أن تصبح التغريات اليومية
ِصنَّاع القرار يف السوق كالتُّجار باالستفادة من تقليل
يف الطلب أصغر نسبياً ،مما يسمح ل ُ
تغريات األسعار وتخفيف السعر .لكن لن يتحقق هذا إال إن احتفظ عدد كبري من
املشاركني يف السوق بالبيتكوين بقصد التمسك به عىل املدى الطويل ،األمر الذي سيزيد
من القيمة السوقية لعرضه بشكل كبري ،ويجعل وجود سوق كبرية ذات سيولة أمرا ً ممكنا ً
عرب استخدام قسم صغري من العرض فقط .فإذا وصلت الشبكة إىل حجم مستقر يف
نقطة ما ،فإن تدفق النقود منها وإليها سيكون متساويا ً نسبيا ً ويمكن أن يستقر سعر
البيتكوين عندها .ويف مثل هذه الحالة ،سيكتسب البيتكوين مزيدا ً من الثبات مع امتالكه
أيضا ً لسيولة كافية لكي ال يتقلب بشكل كبري مع تحويالت السوق اليومية .لكن ما دام
معدل تبني البيتكوين مستمرا ً بالزيادة ،فإن ارتفاع قيمته سيجذب املزيد من الراغبني
بامتالكه فينتج عن ذلك ارتفاع أكثر يف القيمة ،مما سيجعل هذا االنخفاض يف التقلب أمرا ً
بعيد املنال .وطاملا أن البيتكوين بحالة نمو ،فإن سعر عمالته الرمزية سيترصف مثل
سهم يف رشكة ناشئة يحقق نموا ً رسيعا ً للغاية ،ولكن إذا توقف نمو البيتكوين واستقر،
فإنه سيتوقف عن جذب تدفقات االستثمار عالية الخطورة ،وسيصبح مجرد أصل نقدي
عادي يُتوقع أن ترتفع قيمته قليال ً يف كل عام.
219
معيار البيتكوين
تشفري املفتاح العام :هو طريقة للمصادقة تعتمد عىل مجموعة من األرقام املرتابطة
رياضياً :مفتاح خاص ،ومفتاح عام وتوقيع واحد أو أكثر .يمكن للمفتاح الخاص الذي
يجب أن يبقى رسيا ً أن يُو ِّلد مفتاحا ً عاما ً يمكن توزيعه بحرية وذلك ألنه ال يمكن تحديد
املفتاح الخاص من خالل دراسة املفتاح العام ،ويتم استخدام هذه الطريقة للمصادقة:
حيث أنه بعد أن ينرش شخص ما مفتاحه العام فإنه يمكنه دمج وتشفري بعض البيانات
ثم التوقيع عىل الهاش تلك بمفتاحه الخاص إلنشاء توقيع .فيمكن ألي شخص يمتلك
البيانات ذاتها إنشاء الهاش ذاتها والتأكد من أنه قد تم استخدامها إلنشاء التوقيع؛
عندئذٍ ،يمكنها مقارنة التوقيع مع املفتاح العام الذي تلقته من قبل ،ورؤية أنهما
مرتبطان رياضياً ،مما يثبت أن الشخص ذا املفتاح الخاص قد َّ
وَق َع عىل البيانات التي
تُغ ِّ
طيها الهاش .فالبيتكوين يَستخدم تشفري املفتاح العام للسماح بتبادل آمن للقيمة عرب
220
النقد الرقمي
شبكة مفتوحة غري آمنة .ويمكن لحامل البيتكوين الوصول إىل البيتكوين الخاص به فقط
إذا كان لديه املفاتيح الخاصة املرتبطة به ،بينما يمكن توزيع العنوان العام املرتبط به
عىل نطاق واسع .يمكن أيضا ً لجميع أعضاء الشبكة التحقق من صحة التحويل بالتحقق
من أن التحويالت التي أُرسلت النقود من خاللها قد جاءت من مالك املفتاح الخاص
املناسب .ففي البيتكوين ،إن الشكل الوحيد للمُلكية هو ملكية املفاتيح الخاصة.
شبكة نظري إىل نظري :هي بُنية شبكية يمتلك فيها جميع األعضاء امتيازات ومسؤوليات
متساوية اتجاه بعضهم البعض ،وال يوجد منسقون مركزيون يمكنهم تغيري قواعد
الشبكة .فمشغلو العقد الذين ال يتفقون مع طريقة عمل الشبكة ،ال يستطيعون فرض
آرائهم عىل أعضاء الشبكة اآلخرين أو تجاوز حدود امتيازاتهم .واملثال األكثر شهرة
لشبكة نظري إىل نظري هو ( ،)BitTorrentوهو بروتوكول لتبادل امللفات عرب اإلنرتنت.
ويف حني أنه يف الشبكات املركزية يقوم األعضاء بتحميل امللفات من خادم مركزي
يستضيفهم ،إال أنه يف الـ ( ،)BitTorrentيقوم املستخدمون بتحميل امللفات من بعضهم
البعض مبارش ًة ،وتكون امللفات مقسمة إىل أجزاء صغرية .وبمجرد أن يقوم املستخدم
بتحميل جزء من امللف ،فإنه يمكن استخدام ذلك الجزء كبذرة لهذا امللف ،مما يسمح
لآلخرين بتحميله منه .فمن خالل هذا التصميم ،يمكن أن ينترش ملف كبري برسعة كبرية
نسبيا ً دون الحاجة إىل خوادم كبرية وبنية تحتية ضخمة لتوزيعه ،كما أنه يحمي
املستخدمني أيضا ً من إمكانية حدوث نقطة واحدة من الفشل والتي من املمكن أن تُقوِّض
هاش رقمية والتي العملية .فتتم حماية كل ملف تمت مشاركته عىل الشبكة من خالل ٍ
يمكن التحقق منها بسهولة للتأكد من عدم تلفه من أي عقدة تشاركه .وبعد أن تم اتخاذ
إجراءات صارمة من قبل سلطات تطبيق القانون عىل مواقع تبادل امللفات املركزية مثل
( ،(Napsterطبيعة ال ( )BitTorrentالالمركزية تعني أنه ال يمكن لقوات تطبيق
القانون إغالقه أبداً .ومع زيادة عدد مستخدمي الشبكة يف جميع أنحاء العالم ،مَ ثَّل
( )BitTorrentيف مرحلة ما حوايل ثلث حركة اإلنرتنت عىل مستوى العالم .إن البيتكوين
يستخدم شبكة تشبه شبكة ( ،)BitTorrentلكن يف ( )BitTorrentيتشارك أعضاء
ً
أغنية أو كتاباً ،أما يف البيتكوين فيتشارك الشبكة يف أجزاء البيانات التي تشكل فيلما ً أو
أعضاء الشبكة بسجل لجميع تحويالت البيتكوين.
221
222
الفصل التاسع
ِ مل مي ْص ُلح البيتكوين؟
خمزون للقيمة
إن االعتقاد بأن املوارد نادرة ومحدودة هو فهم خاطئ لطبيعة الندرة ،وهو املفهوم
األسايس وراء علم االقتصاد .فالكمية املطلقة ألي مادة خام موجودة عىل سطح األرض
هي كبرية جدا ً بالنسبة لنا كبرش لقياسها أو الستيعابها حتى ،وال تُش ِّكل بأي حال من
األحوال حدا ً حقيقيا ً ملا نستطيع نحن البرش إنتاجه .فنحن بالكاد خدشنا سطح األرض
بحثا ً عن املعادن التي نحتاج إليها ،وكلما بحثنا أكثر وحفرنا بشكل أعمق ،ازدادت املوارد
التي نجدها .لهذا ،إن ما يشكل الحد العميل والواقعي لكمية أي مورد هو دائما ً مقدار
الوقت البرشي املُوَجَّ ه إلنتاجه ،حيث أن هذا هو املورد النادر الوحيد (حتى إنشاء
البيتكوين) .ويف كتابه الرائع" ،املورد غري املنتهي" ،يرشح الخبري االقتصادي الراحل
"جوليان سايمون" كيف أن املورد املحدود الوحيد ،ويف الواقع اليشء الوحيد الذي ينطبق
عليه مصطلح املورد ،هو الوقت البرشي .فلدى كل إنسان وقت محدود عىل وجه األرض
وهذه هي الندرة الوحيدة التي نتعامل معها كأفراد .وكمجتمع ،إن ندرتنا الوحيدة تتمثل
بالوقت اإلجمايل املتاح ألفراد هذا املجتمع إلنتاج سلع وخدمات مختلفة ،حيث يمكن دائما ً
زيادة إنتاج أي سلعة إذا خصص البرش وقتا ً لذلك .لهذا ،إن التكلفة الحقيقية ألي سلعة
هي دائما ً تكلفة الفرصة البديلة بالنسبة للسلع التي تم التنازل عن إنتاجها.
ففي كل تاريخ البرشية ،لم ننفد أبدا ً من أي مادة خام أو مورد ،والسعر الحايل
لجميع املوارد اليوم هو أقل مما كان عليه يف املايض وذلك ألن تَقدُّمنا التكنولوجي يسمح
223
معيار البيتكوين
لنا بإنتاجها بتكلفة ووقت أقل .فليس فقط أننا لم ننفد من أي مادة خام ،بل إن
االحتياطات املؤكدة املوجودة لكل مورد قد ازدادت مع مرور الوقت رغم ارتفاع استهالكنا
لها .فإذا قمنا باعتبار املوارد محدودة ،فإنه بمرور الوقت ستنخفض املخزونات املتوفرة
مع زيادة استهالكنا لها .لكن حتى مع استمرار زيادة استهالكنا ،فإن األسعار ما زالت
تستمر يف االنخفاض ،بل وسمحت لنا التحسينات يف التكنولوجيا من أجل البحث عن
املوارد واستخراجها بالعثور عىل املزيد منها .فالنفط وهو ُ
الساللة الحيوية لالقتصادات
مثال عىل هذا األمر وذلك ألن له إحصائيات موثوقة نسبياً .وي ِّ
ُوضح ُعترب أفض َل ٍ
الحديثة ي َ
الشكل 20أنه حتى مع استمرار زيادة االستهالك واإلنتاج بمرور الوقت ،فإن
االحتياطيات املؤكدة ما زالت تزداد بمعدل أرسع 1.ووفقا ً للبيانات الواردة من التقرير
اإلحصائي لرشكة ( ،)BPفإن اإلنتاج السنوي للنفط كان أكثر بنسبة %46يف عام 2015
عن مستواه يف عام ،1980بينما كان االستهالك أعىل بنسبة .%55من ناحية أخرى،
ارتفعت احتياطات النفط بنسبة %148أي حوايل ثالثة أضعاف الزيادة يف اإلنتاج
واالستهالك.
يمكن التوصل إىل إحصائيات مماثلة للموارد ذات درجات االنتشار املتفاوتة يف
قرشة األرض ،وندرة هذه املوارد تُحدِّد التكلفة النسبية الستخراجها من األرض .فمن
السهل العثور عىل املزيد من املعادن املنترشة مثل الحديد والنحاس ،ولهذا فهي رخيصة
نسبياً .أما املعادن األندر مثل الفضة والذهب فهي أغىل ثمناً ،حيث أن الحد األقىص الذي
يمكن إنتاجه من أي من هذه املعادن تحدده تكلفة الفرصة البديلة إلنتاجها مقارنة
ببعضها البعض ،وليس كميتها املطلقة هي من تحدد ذلك .وأفضل دليل عىل ذلك هو أن
أندر املعادن يف قرشة األرض ،الذهب ،قد تم تعدينه واستخراجه منذ آالف السنني وما زال
يتم استخراجه بكميات متزايدة مع تقدم التكنولوجيا بمرور الوقت ،كما هو موضح يف
الفصل الثالث .فإذا كان اإلنتاج السنوي ألندر معدن يف القرشة األرضية يرتفع سنوياً،
ف أي عنرص طبيعي بعنرص محدود الكمية. فليس من املنطقي وال من العميل أن ن َ ِص َ
ولهذا ،تُعتَرب الندرة نسبية فقط يف املوارد املادية ،واختالفات تكلفة استخراجها هي من
تُحَ ِّد ُد مستوى ندرتها .فالندرة الوحيدة كما أظهر "جوليان سيمون" بشكل بارع ،هي
224
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
الوقت الذي يقضيه البرش إلنتاج هذه املعادن ،وهذا هو السبب يف استمرار ارتفاع األجور
العاملية يف جميع أنحاء العالم ،األمر الذي جعل املنتجات واملواد تتطلب تكلفة أقل عىل
صعيد اليد العاملة والجهد البرشي.
إن هذا األمر هو واحد من أصعب املفاهيم االقتصادية عىل الناس من ناحية
الفهم ،وهو يغذي الهسترييا التي ال نهاية لها والتي دأبت حركة البيئة بفرضها علينا
خالل عقود من إثارة الرعب املروع .فبذل جوليان سايمون قصارى جهده ملكافحة هذه
الهسترييا من خالل تحدي أحد أشهر نوبات هسترييا القرن العرشين ِب ِرهان مشهور
مدته عرش سنوات .بدأت القصة عندما كتب "باول إرليخ" عدة كتب هستريية مفادها أن
األرض كانت عىل حافة كارثة نفاد املوارد الحيوية ،مع توقعات أليمة ودقيقة حول
التواريخ التي ستنفد فيها هذه املوارد .ويف عام 1980قام سيمون بتحدي إرليخ عىل
تسمية أية مواد خام يختارها مع تحديد فرتة تكون أطول من عام واحد لرهانه ،وراهن
بـ 10,000دوالر أن سعر كل من هذه املعادن املعدلة من أجل التضخم ،سيكون أقل بعد
نهاية الفرتة املتفق عليها .فاختار إرليخ النحاس والكروم والنيكل والقصدير وعنرص
225
معيار البيتكوين
التنجستن ،وتنبأ أن جميع هذه املواد ستنفد .مع ذلك ويف عام ،1990انخفض سعر كل
هذه املعادن ،وازداد مستوى إنتاجها السنوي ،عىل الرغم من أن العقد املنرصم قد شهد
زيادة يف عدد السكان بمقدار 800مليون نسمة ،وهي أكرب زيادة يف عقد واحد منذ ذلك
الحني.
يف الواقع ،كلما ازداد عدد البرش ،ازداد إنتاج هذه املواد الخام ،واألهم من ذلك
ربما كما قال الخبري االقتصادي "مايكل كريمر" ،2إن الدافع األسايس للتقدم البرشي
ليس هو املواد الخام ،بل الحلول التكنولوجية للمشاكل املوجودة .فالتكنولوجيا بطبيعتها
هي سلعة غري قابلة للمنع (بمعنى أنه عندما يخرتع شخص ما شيئا ً ما ،فإنه يمكن
لآلخرين تقليده واالستفادة منه) وسلعة غري تنافسية (بمعنى أن الشخص املستفيد من
االخرتاع ال يقلل من الفائدة التي تعود عىل اآلخرين الذين يستخدمونه) .عىل سبيل املثال،
فلنأخذ العجلة ،حاملا اخرتعها أحدهم ،يستطيع أي شخص آخر تقليدها وصناعة عجلة
خاصة به ،ولن يقلل استخدام الناس لعجلتهم بأي شكل من األشكال من قدرة اآلخرين
عىل االستفادة منها .فاألفكار املبتكرة نادرة ،وال تستطيع سوى قلة قليلة من الناس
التفكري والوصول إليها .لهذا ،ستُنتِج املجتمعات الكبرية تقنيات وأفكار أكثر من
املجتمعات الصغرية ،ولكن ألن الفائدة تعود عىل الجميع ،فمن األفضل العيش يف عالم ذي
عدد أكرب من السكان .فكلما ازداد عدد البرش عىل األرض ،تم التفكري يف املزيد من
التقنيات واألفكار اإلنتاجية ،واستفاد البرش بشكل أكرب من هذه األفكار ،وقاموا بنسخها
وتقليدها عن بعضهم ،مما يؤدي إىل زيادة إنتاجية الوقت البرشي وتحسني مستويات
املعيشة.
يوضح "كريمر" ذلك من خالل إظهار أنه ومع زيادة عدد ُس َّكان األرض ،إال أن
الس َّكاني ازداد أيضا ً عوضا ً عن انخفاضه .فلو كان البرش عبارة عن عبء
معدل النمو ُ
باستهالكهم للموارد ،فعندها كلما سيزداد عدد السكان ،ستنخفض كمية املوارد املتاحة
لكل فرد ،وسينخفض معدل النمو االقتصادي والنمو السكاني ،كما تنبأ النموذج
2مايكل كرمير" :منو الكثافة السكانية والتغري التقين :مليون عام قبل امليالد إىل عام "1990اجمللة الفصلية مذكرة
علم االقتصاد ،اجمللد 108العدد ( 3عام :)1993الصفحة .716 – 681
226
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
"املالتويس" .لكن وألن البرش هم بحد ذاتهم املورد ،واألفكار اإلنتاجية هي الدافع لإلنتاج
االقتصادي ،فإن زيادة عدد البرش َسيَنتج عنها زيادة باألفكار اإلنتاجية والتكنولوجيات،
وإنتاجٌ أكثر لكل فرد ،وقدرة أكرب عىل رعاية ودعم الكثافات السكانية العالية .عالوة عىل
ذلك ،يوضح كريمر كيف أن األماكن املعزولة ذات الكثافة السكانية العالية قد شهدت
نموا ً اقتصاديا ً وتقدما ً أرسع من تلك ذات الكثافة السكانية املنخفضة.
لهذا ،من الخطأ تسمية املواد الخام باملوارد ،ألن البرش ليسوا مستهلكني سلبيني
ملا ينزل عليهم من السماء .وبما أن املواد الخام هي دائما ً نتاج العمل البرشي واإلبداع،
فإن البرش هم املورد النهائي ألنه يمكن دوما ً توظيف الوقت والجهد واإلبداع البرشي
لزيادة اإلنتاج.
واملعضلة األبدية التي تواجه البرش فيما يخص وقتهم تتعلق بكيفية تخزين
القيمة للمستقبل ،تلك القيمة التي يستهلكون وقتهم إلنتاجها .ففي حني أن الوقت
البرشي هو وقت محدود ،إال أن كل يشء آخر هو غري محدود عملياً ،ويمكن إنتاج املزيد
منه إذا تم توظيف املزيد من الوقت البرشي فيه .فأيا ً كان اليشء الذي يختاره البرش
كمخزون للقيمة ،فإن قيمته سرتتفع .وألنه يمكن دائما ً تصنيع املزيد من هذا اليشء ،فإن
اآلخرين سينتجون املزيد منه للحصول عىل القيمة املخزنة فيه .فسكان جزيرة ياب طلبوا
من أوكييفي أن يجلب لهم متفجرات وقوارب متطورة إلنتاج املزيد من حجارة الراي
لحصد القيمة املخزنة يف الحجارة املوجودة ،وقام األوروبيون بتعبئة قواربهم بالخرز بناء
عىل طلب األفارقة للحصول عىل القيمة املخزنة يف خرزهم .فكل املعادن ،عدا الذهب ،التي
استُخدمت كوسيط نقدي تم املبالغة يف إنتاجها إىل أن انهار سعرها .اليوم ،تملك
االقتصادات الحديثة بنوكا ً مركزية كينزية تَدَّعي دوما ً محاربة التضخم أثناء قيامها
تدريجيا ً أو بشكل رسيع بتخفيض قيمة نقدها ،كما هو مذكور يف الفصل الرابع .ومع
بدء األمريكيني مؤخرا ً استخدام منازلهم كوسيلة وكوسيط لالدخار ،ازداد عدد املنازل
املتوفرة واملعروضة كثريا ً مما أدى إىل انهيار سعرها .ومع استمرار التضخم النقدي،
يمكن فهم عدد الفقاعات الكبري عىل أنه نوع من املراهنات واملضاربات وعىل أنه طريقة
إليجاد مخزون جيد للقيمة .والذهب وحده الذي من اقرتب من حل هذه املعضلة بفضل
كيميائيته التي تجعل من تضخيم عرضه أمرا ً مستحيالً ،ونتج عن ذلك واحدة من أعظم
227
معيار البيتكوين
حقب التاريخ البرشي ،لكن االنتقال اتجاه سيطرة الحكومة عىل الذهب قد حَ َّد من دوره
النقدي عن طريق استبداله بالنقود الحكومية ،التي كان سجلها سيئا ً للغاية.
إن هذا األمر يُلقِ ي الضوء عىل جانب مذهل من جوانب االنجازات التقنية وهو
البيتكوين .فللمرة األوىل ،لجأت البرشية إىل سلعة كان عرضها محدودا ً بشكل صارم.
فمهما كان عدد األشخاص الذين يستخدمون الشبكة ،ومهما كان مدى ارتفاع قيمتها،
ومدى تقدم ا َملعدَّات املستخدمة يف إنتاجها ،فإنه ال يمكن أن يتعدى عدد عمالت البيتكوين
املتوفرة الـ 21مليون ،وال توجد إمكانية تقنية لزيادة العرض ليتناسب مع زيادة
الطلب .فإذا ازداد طلب الناس عىل االحتفاظ بالبيتكوين ،فإن الطريقة الوحيدة لتلبية
الطلب هي من خالل زيادة قيمة العرض املتوفر .وبسبب قابلية قسمة كل بيتكوين إىل
100مليون ساتويش ،فهناك مساحة نمو كبرية للبيتكوين من خالل استخدام وحداته
الصغرية عندما ترتفع قيمته .إن هذا األمر يطرح نوعا ً جديدا ً من األصول كي يكون
مناسبا ً لتأدية دور مخزون للقيمة.
فحتى اخرتاع البيتكوين ،كانت جميع أشكال النقد غري محدودة يف كميتها
وبالتايل لم تكن تتمتع بالكفاءة بقدرتها يف املحافظة عىل قيمتها بمرور الوقت ،لكن
العرض النقدي الثابت للبيتكوين يجعله أفضل وسيط لتخزين القيمة الناتجة من الوقت
البرشي املحدود ،مما يجعله أفضل مخزون للقيمة اخرتعته البرشية عىل اإلطالق.
لتوضيح األمر بشكل مختلف ،إن البيتكوين هو أرخص طريقة لرشاء املستقبل ألنه
الوسيط الوحيد الذي يضمن أال تُخفض قيمة عملته ،بغض النظر عن مدى ارتفاع قيمته.
(انظر الشكل .)321
ففي عام ،2018عندما كان البيتكوين بعمر التسع سنوات فقط ،تم اعتماده
3املصادر :بياانت الذهب من هيئة املسح اجليولوجية األمريكية .بياانت الفضة من مؤسسة الفضة .بياانت
البيتكوين من حساابت الكاتب ومن موقع .Blockchain.infoبياانت النفط من التقرير اإلحصائي ل ـ
( ) BPللطاقة العاملية .بياانت العمالت الوطنية من البياانت االقتصادية لالحتياطي الفيدرايل ،متوفر على املوقع
.https://fred.stlouisfed.orgبياانت النحاس وفق تقديرات الكاتب.
228
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
وتبنيه بالفعل من قبل املاليني 4يف جميع أنحاء العالم ،لدرجةٍ أصبح يتم فيها مقارنة
معدل نمو عرضه الحايل مع عرض العمالت االحتياطية العاملية .فعىل صعيد نسبة
املخزون إىل التدفق التي نوقشت يف الفصل األول ،كانت مخزونات البيتكوين املتوفرة عام
2017أكرب بنحو 25مرة من الوحدات الجديدة التي تم انتاجها يف عام ،2017وال يزال
هذا أقل من نصف نسبة الذهب ،ولكن بحدود عام ،2022ستتفوق نسبة املخزون إىل
التدفق للبيتكوين عىل الذهب ،وبحلول عام ،2025ستبلغ النسبة ضعف الذهب
وستستمر يف الزيادة برسعة يف املستقبل بينما سيبقى الذهب ثابتا ً تقريباً ،وذلك نظرا ً
لديناميكيات تعدين الذهب التي نوقشت يف الفصل الثالث .وبحلول عام 2140تقريباً،
لن يكون هناك أي عرض جديد من البيتكوين ،وستصبح نسبة املخزون إىل التدفق ال
نهائية ،وهي املرة األوىل التي تحقق فيها أي سلعة أو أي مادة هذا األمر.
4ليس هناك طرق بسيطة لتقدير عدد مستخدمي البيتكوين ،حيث يستطيع كل مستخدم امتالك العدد الذي
يريد من العناوين العامة لتكون مقرونة به .أُجريت عدة حماوالت لتقدير العدد وتبني أنه يرتاوح بني 10ماليني إىل
100مليون مستخدم يف عام ،2017وأعتقد أن هذا أدق تقدير ميكننا احلصول عليه.
229
معيار البيتكوين
إن األثر الهام لعرض البيتكوين املتناقص واالنخفاض املستمر يف معدل نمو
هذا العرض هو ما جعل عرض البيتكوين املتوفر كبريا ً جدا ً مقارنة مع العرض الجديد.
ومن هذا املنطلق ،فإن تعدين البيتكوين يشبه تعدين الذهب ،وبالتايل ،كوسيط نقدي،
سيتم ضمان تخصيص وقت وجهد أقل نسبيا ً لتأمني عرض جديد منه ،يف حني أن أنواع
النقد األخرى يمكن زيادة عرضها بسهولة؛ وبهذا يتم تكريس املزيد من الوقت والجهد
لتحقيق إنتاج اقتصادي مفيد يمكن استبداله بعد ذلك بالبيتكوين .ومع انخفاض العائد
من "دعم الكتلة" ،فإن املوارد املُخصصة لتعدين البيتكوين سيتم توجيهها بشكل رئييس
ملعالجة التحويالت وبالتايل تأمني الشبكة ،وليس إلنتاج عمالت جديدة.
ويف غالبية تاريخ البرشية ،تم استخدام بعض "األشياء" املادية كمخزون
للقيمة ،ويجدر بنا اإلضافة أن وظيفة تخزين القيمة لم تكن تتطلب وجودا ً مادياً ،لكن
وجود هذا "اليشء" املادي جعل من أمر زيادة عرض مخزون القيمة أمرا ً أكثر صعوبة.
لكن البيتكوين ومن خالل عدم وجود أي كيان مادي له ،وكونه رقمي بحت ،فهو قادر
عىل تحقيق ندرة مطلقة .إن هذا األمر لم يتحقق من قبل من قِ ب َِل أي مادة يمكن تقسيمها
ومن قِ ب َِل أي مادة قابلة للنقل ،وبالتايل ،يسمح البيتكوين للبرش بنقل القيمة رقميا ً دون
أي اعتماد عىل العالم املادي ،األمر الذي يسمح بتحويل كميات كبرية من األموال عرب
العالم يف دقائق معدودة .فالندرة الرقمية املطلقة لعمالت البيتكوين تجمع أفضل صفات
الوسائط النقدية املادية ،مع عدم وجود أي من العوائق املادية لنقلها وتحويلها ،وبهذا
يمكننا القول إن البيتكوين قد يكون أفضل تقنية ادخار تم اخرتاعها عىل اإلطالق.
السيادة الفردية
باعتباره أول شكل من أشكال النقد الرقمي ،فإن أول وأهم مسائل البيتكوين تتمثل
بقدرته عىل منح أي شخص يف العالم إمكانية تحقيق السيادة عىل نقده .ولهذا ،يحقق
البيتكوين ملالكه درجة من الحرية االقتصادية لم تكن ممكنة قبل اخرتاعه .فيمكن
لحاميل البيتكوين إرسال كميات كبرية من القيمة يف أنحاء الكوكب دون الحاجة إىل طلب
إذن من أي شخص حيث أن قيمة البيتكوين ال تعتمد عىل أي يشء مادي يف أي مكان يف
230
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
العالم ،وبالتايل ال يمكن بشكل كيل عرقلته أو تدمريه أو مصادرته من قبل أي من القوى
الفيزيائية لعالم السياسية أو عالم الجرائم.
وأهمية هذا االخرتاع للواقع السيايس يف القرن الحادي والعرشين هي أنه وألول
وَفر لألفراد حل تقني واضح للهروب من النفوذ مرة منذ ظهور الدولة الحديثة ،تَ َّ
والسطوة املالية للحكومات التي يعيشون تحت سيطرتها .ومن الالفت للنظر أن أفضل
وصف ألهمية هذه التكنولوجيا يمكن العثور عليه يف كتاب ُكتب عام 1997أي قبل 12
وقع وجود عملة رقمية مشابهة بشكل ملحوظ سنة من إنشاء البيتكوين ،حيث تم تَ ُّ
للبيتكوين ،واألثر الذي سترتكه يف تحوُّل املجتمع البرشي.
وبعد مرور خمسمائة عام ،أصبح املجتمع الصناعي والدولة القومية الحديثة
هم من يتسم بالقمع والصالبة واإلرهاق ،وأصبحت التكنولوجيا الجديدة هي من يبدد
قوتها وأسباب وجودها" .املعالجات الدقيقة َست ُ َقوِّض الدولة القومية وستدمرها" هي
األطروحة االستفزازية للكتاب .حيث ستنبثق أشكال جديدة تنظيمية من تكنولوجيا
املعلومات ،وستدمر قدرة الدولة التي تُ ِ
جرب املواطنني عىل دفع أكثر مما يرغبون به مقابل
خدماتها ،وستقوم الثورة الرقمية بتدمري سيطرة الدولة الحديثة عىل مواطنيها ،وستقلل
من أهمية الدولة القومية كوحدة تنظيمية ،وستمنح األفراد سلطة وسيادة لم يسبق لها
مثيل عىل حياتهم الخاصة.
231
معيار البيتكوين
يمكننا بالفعل رؤية حدوث هذه العملية بفضل ثورة تكنولوجيا االتصاالت.
ففي حني أن الصحافة املطبوعة قد سمحت لفقراء العالم بالوصول إىل املعرفة التي كانت
ممنوعة عليهم ومحتكرة من قبل الكنائس ،إال أنها بقيت محدودة بقيود إنتاج الكتب
املادية ،حيث أنه يمكن دائما ً مصادرتها أو حظرها أو حرقها .لكن ال يوجد مثل هذا
التهديد يف العالم الرقمي حيث تتواجد جميع املعارف البرشية ،وهي متاحة بسهولة
لألفراد بحيث يمكنهم الوصول إليها دون إمكانية مراقبتها من قبل الحكومة أو حظرها.
كما أدى ظهور أشكال زهيدة الثمن من االتصاالت عرب اإلنرتنت إىل إلغاء أهمية
املوقع الجغرايف للعمل ،فيمكن اآلن ملنتجي العديد من السلع اختيار اإلقامة يف أي مكان
يفضلونه ،وذلك ألن منتجات عملهم أصبحت رقمية وغري مادية بشكل متزايد ،فأصبح
باإلمكان نقلها حول العالم بشكل فوري .فبالتايل ،أصبحت اللوائح التنظيمية الحكومية
والرضائب أقل قوة حيث يمكن لألفراد العيش أو العمل يف األماكن التي تناسبهم وتسليم
أعمالهم عرب شبكة اإلنرتنت.
ومع تزايد قيمة اإلنتاج االقتصادي الذي يأخذ شكل السلع غري املادية،
انخفضت القيمة النسبية لألرايض ووسائل اإلنتاج املادية ،وقللت عوائد مُصادرة تلك
الوسائل املادية بالقوة .وبذلك ،أصبحت رؤوس املال املنتجة متجسد ًة أكثر يف األفراد
أنفسهم ،مما يجعل تهديد مُصادرتها قهرا ً أمرا ً عقيما ً بشكل متزايد ،حيث أصبحت
إنتاجية األفراد اآلن ترتبط ارتباطا ً وثيقا ً بموافقتهم ورضاهم .لكن عندما كانت إنتاجية
الفالحني ونجاتهم مرتبطة باألرض التي ال يملكونها ،كان تهديد استخدام العنف كفيل
بجعلهم منتجني لصالح صاحب األرض .وبشكل مشابه ،فإن اعتماد املجتمع الصناعي
232
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
الكبري عىل رأس املال اإلنتاجي املادي وناتجه امللموس قد جعل مُصادرته من قبل الدولة
أمرا ً بسيطا ً نسبيا ً كما تَب ََّني ذلك بشكل دموي يف القرن العرشين ،لكن مع َكون القدرات
العقلية للفرد هي القوة اإلنتاجية الرئيسية للمجتمع ،أصبح التهديد باستخدام العنف
أقل فعالية بكثري .فبإمكان البرش االنتقال وبسهولة إىل حيث ال ت ُش ِّكل ُ
السلطات القضائية
تهديدا ً لهم ،أو بإمكانهم أن يكونوا منتجني عىل أجهزة الحواسيب دون أن تعرف
الحكومة ما الذي ينتجونه.
لقد كانت هناك قطعة واحدة أخرية مفقودة يف لغز الرقمنة وهي تحويل
األموال والقيمة .فحتى يف الوقت الذي تمكنت فيه تكنولوجيا املعلومات من إلغاء الضوابط
والقيود الجغرافية والحكومية ،إال أن املدفوعات ظلت تحت سيطرة الحكومات
واالحتكارات املرصفية التي تفرضها الدولة .ومثل جميع االحتكارات التي تفرضها
الحكومة ،قاومت البنوك لسنوات االبتكارات والتغيريات التي تفيد العمالء ،وحدّت من
قدرتهم عىل استخراج الرسوم واإليجارات ،لكن مع نمو وانتشار االقتصاد العاملي ،نما
هذا االحتكار ليصبح عبئا ً ثقيال .لهذا ،تنبأ دافيدسون وريزموغ بدقة بالغة شكل آلية
الهروب من السجن النقدي وقاال" :أشكال رقمية من النقد مشفرة ومحمية ومستقلة عن
جميع القيود املادية ،ال يمكن وقفها أو مصادرتها من قبل السلطات الحكومية" .ويف حني
أن هذا قد بدا كتنبؤ غريب عند كتابة الكتاب ،إال أنه أصبح اآلن حقيقة حية يستخدمها
بالفعل املالي ني يف جميع أنحاء العالم ،عىل الرغم من أن أهمية ذلك ليست مفهومة عىل
نطاق واسع.
ف البيتكوين والتشفري بشكل عام ،هي تقنيات دفاعية تجعل تكلفة الدفاع عن
املمتلكات واملعلومات أقل بكثري من تكلفة مهاجمتها ،إنها تجعل الرسقة مكلفة للغاية
فضل من يريد العيش بسالم دون عدوان اتجاه اآلخرين .ولقد وغري مؤكدة ،وبالتايل تُ ّ
قطع البيتكوين شوطا ً طويال ً يف تصحيح اختالل توازن القوى الذي ظهر خالل القرن
املايض عندما كانت الحكومة قادرة عىل مصادرة املال ثم وضعه يف بنوكها املركزية،
وبالتايل جعْ ل األفراد يعتمدون عليها بشكل كامل من أجل بقائهم ورفاهيتهم .فالنسخة
التاريخية من النقد السليم ،الذهب ،لم يمتلك هذه املزايا حيث أن ماديته جعلته عرضة
لسيطرة الحكومة عليه .كما أنه لم يكن من املمكن تحريك الذهب بسهولة ويعنى هذا أن
233
معيار البيتكوين
املدفوعات التي تتم بوساطته وجب أن تكون مركزية يف املصارف والبنوك املركزية ،األمر
الذي يجعل من مصادرته أمرا ً سهالً .أما يف البيتكوين من ناحية أخرى ،فالتحقق من
التحويالت هو أمر بسيط وغري مكلف ،حيث يمكن ألي شخص الوصول إىل سجل
التحويالت من أي جهاز متصل باإلنرتنت وبشكل مجاني 5.ويف حني أنه من املرجح أن
تتطلب زيادة سعة تحويالت البيتكوين استخدام أطراف ثالثة ،إال أن هذا يختلف عن
تصفية الذهب يف عدة جوانب مهمة للغاية .فجميع تعامالت األطراف الثالثة سيتم
تصفيتها عىل سجل بإمكان الجميع الوصول إليه ،مما يسمح بمزيد من الشفافية
والتدقيق ،وبالتايل ،سيوفر البيتكوين فرصة للفرد املعارص كمخرج من الدول
االستبدادية واإلدارية والكينزية واالشرتاكية ،فهو تصحيح تكنولوجي بسيط ألوبئة
الحكومات الحديثة التي تحافظ عىل كيانها عرب استغالل األفراد املنتجني الذين يعيشون
عىل أراضيها .وإذا استمر البيتكوين يف النمو وحصل عىل حصة أكرب من الثروة العاملية،
ُجرب الحكومات عىل أن تصبح شكال ً من أشكال التنظيم الطوعي ،حيث يمكنها فقد ي ِ
الحصول عىل "رضائبها" طواعي ًة فقط من خالل تقديم خدماتها غري املوضوعية التي قد
يريد رعاياها الدفع للحصول عليها.
يمكن فهم الرؤية السياسية للبيتكوين من خالل التعمق بدراسة أفكار حركة
( 6)cypherpunkالتي انبثقت منها البيتكوين .فعىل حد تعبري "تيموثي ماي":
إن الجمع بني تشفري متني وقوي للمفتاح العام ومجتمعات الشبكات
االفرتاضية يف الفضاء اإللكرتوني سيؤدي إىل تغيريات عميقة ومثرية لالهتمام يف
طبيعة النُّظم االقتصادية واالجتماعية .إن الالسلطوية اإللكرتونية هي التطبيق
اإللكرتوني لالسلطوية الرأسمالية ،فهي تتجاوز الحدود الدولية وتحرر األفراد
ليصبحوا قادرين عىل اتخاذ القرارات االقتصادية التي يرغبون يف اتخاذها...
5فاحلصول على أجهزة قادرة على االتصال بشبكة اإلنرتنت واحلصول على اتصال بشبكة اإلنرتنت هو أمر زهيد
ويزداد رخصه ابستمرار.
6تيموثي سي ماي ،الالسلطوية اإللكرتونية واجملتمعات االفرتاضية ،1994 ،متوفر على:
nakamotoinstitute.org
234
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
من ناحية أخرى ،لنفكر بالوضع العاملي ألخالقيات الحرية ،وبالحق الطبيعي
لإلنسان واملُلكية التي تحدث يف ظل هذه األخالقيات .يخضع كل شخص يف أي
زمان وأي مكان لتلك القواعد األساسية :وهي مُلكية الشخص لنفسه ،وملكية
املوارد التي لم يتم استخدامها من قبل والتي احتلها الشخص وتحولت له؛
وملكية جميع األلقاب املستمدة من تلك امللكية األساسية إما من خالل التبادل
الطوعي أو الهدايا الطوعية .إن هذه القواعد التي يمكن أن نطلق عليها "قواعد
امللكية الطبيعية" يمكن تطبيقها بوضوح ،بحيث يتم الدفاع عن هذه امللكية
بغض النظر عن الزمان أو املكان ،وبغض النظر عن املؤهالت واإلنجازات
االقتصادية للمجتمع .فمن املستحيل ألي نظام اجتماعي أن يكون مؤهالً
ليصبح قانونا طبيعيا عامليا؛ ألنه إذا كان هناك أي ُحكم قرسي من قبل شخص
عىل شخص آخر أو مجموعة عىل أخرى (وكل ُحكم هو جزء من هذه الهيمنة)،
عندئذ يكون من املستحيل تطبيق نفس القاعدة عىل الجميع؛ فيمكن فقط
للعالم التحرري وغري السلطوي والخايل من القواعد تحقيق رشوط الحقوق
الطبيعية والقانون الطبيعي ،أو األهم من ذلك ،يمكن أن يفي برشوط األخالق
العاملية للبرشية جمعاء.7
7موراي روثربد" ،أخالقيات احلرية" (نيويورك ،صحافة جامعة نيويورك ،عام )1998الصفحة .43
235
معيار البيتكوين
ففي املستقبل القريب ،وحيث أنه ال يزال عند مستوى منخفض جدا ً من التبني
العام ،يوفر البيتكوين خيارا ً ذا تكلفة فعالة لألشخاص الذين يحتاجون إىل االلتفاف
حول القيود الحكومية يف القطاع املرصيف ،باإلضافة إىل ادخار الثروة يف مخزون ذي قيمة
وسيولة ،وغري خاضع لتضخم الحكومة .فإذا تم تبَن ِّيه عىل نطاق واسع ،من املرجح أن
ترتفع تكلفة التحويالت املُنجَ زة داخل سلسلة كتل البيتكوين ( - Blockchainالبلوك
تشني) بشكل كبري ،مثلما سيتم مناقشته يف القسم الخاص بزيادة سعة تحويالت
البيتكوين ،مما سيجعل األمر غري مج ٍد لألفراد ليقوموا بإجراء التحويالت التي ال يمكن
إيقافها عىل سلسلة الكتل (البلوك تشني) من أجل االلتفاف عىل قواعد الحكومة وقوانينها.
يف هذه الحالة وبكل األحوال ،سيكون لتبني البيتكوين عىل نحو واسع النطاق تأثريا ً
إيجابيا ً بشكل كبري عىل الحرية الفردية ،وذلك بتقليص قدرة الحكومة عىل تمويل
عملياتها من خالل التضخم ،حيث أن النقود الحكومية يف القرن العرشين هي من سمح
بميالد الدولة اإلدارية ذات التدخل الكبري ،مع وجود توجهات ونزعات استبدادية وقمعية.
أما يف مجتمع يستخدم العملة الصعبة ،فمن غري املرجح أن تنجو االمالءات والرضائب
الحكومية غري املنتجة اقتصاديا ً لفرتة طويلة ،حيث ستنعدم الحوافز ملواصلة تمويلها.
236
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
تقليدياً ،كان الذهب وسيط تسوية عمليات الدفع ،وكان يعمل كمخزون للقيمة يف كل
أنحاء العالم ،وحدث هذا بسبب عدم قدرة أي جهة عىل زيادة عرضه بكميات كبرية،
فاكتسب قيمته يف السوق الحرة وليس بضمانةٍ من أي شخص آخر .وعندما اتَّسع مجال
االتصاالت والسفر يف القرن التاسع عرش متطلبا ً تحويالت مالية عرب مسافات أكثر بعداً،
انتقل الذهب من أيدي الناس إىل خزائن املصارف ،ويف النهاية إىل البنوك املركزية .ويف
ظل املعيار الذهبي ،استخدم الناس وصوال ً ورقية للذهب أو كتبوا شيكات مرصفية
لتبادل قيمة الذهب دون الحاجة لنقله مادياً ،مما طور كثريا ً من رسعة وفعالية التجارة
العاملية.
ولكن عندما قامت الحكومات بمصادرة الذهب وأصدرت نقدا ً خاصا ً بها ،لم
يعد ممكنا ً إجراء تسويات عاملية بني األفراد والبنوك بالذهب ،وبدال ً من ذلك أصبحت
تُجرى بعمالت وطنية متقلبة القيمة ،مما تَسبَّب بمشاكل كثرية للتجارة الدولية كما
نوقش يف الفصل السادس .ولهذاَ ،
صنع اخرتاع البيتكوين من الصفر ،آلية بديلة جديدة
مستقلة للتسويات الدولية ال تعتمد عىل أي وسيط ،ويمكن إجراؤها بشكل منفصل تماما ً
عن البنية التحتية املالية املوجودة.
فقدرة أي فرد عىل تشغيل عقدة بيتكوين وإرسال ماله الخاص دون إذن من
أحد ودون أن يُضطر لكشف هويته ،تُمثِّل اختالفا ً مهما ً بني الذهب والبيتكوين .فليس
رضوريا ً تخزين البيتكوين عىل الحاسوب حيث أن املفتاح الخاص ملخزون املرء من
البيتكوين هو عبارة عن سلسلة من األحرف أو سلسلة من الكلمات التي يتذكرها املرء.
وبهذا ،إن عملية التنقل بمفتاح خاص للبيتكوين أسهل بكثري من التنقل بمخزون من
الذهب .كما أن عملية إرساله عرب العالم أسهل بكثري من إرسال الذهب دون حاجة
للمخاطرة برسقته أو مصادرته .ففي حني تصادر الحكومات مدخرات الناس من الذهب
وتُجربهم عىل املبادلة بالنقود الذي يُفرتض أن الذهب يدعمها ،يستطيع الناس االحتفاظ
بكتلة مدخراتهم من البيتكوين يف وحدة تخزين بعيدة عن أيدي الحكومات واستخدام
مبالغ صغرية فقط لتحويلها عرب الوسطاء .فطبيعة البيتكوين التكنولوجية ذاتها تضع
237
معيار البيتكوين
الحكومات بموقف تنافيس ضعيف للغاية إذا ما قورنت بكل أشكال النقد األخرى وبالتايل
تجعل مصادرته أصعب بكثري.
كما أنه من غري العميل بشكل كبري عىل أية سلطة أن تؤدي دور املقرض األخري
للمصارف التي تتعامل مع البيتكوين وذلك بفضل قدرة حاميل البيتكوين عىل تعقب كل
ممتلكات البيتكوين عىل سلسلة الكتل الخاصة به .فحتى يف أوج فرتة املعيار الذهبي
الدويل ،أمكن استبدال الذهب بالنقود ،ونادرا ً ما كانت تمتلك البنوك املركزية ما يكفي من
الذهب لتغطية كامل عرض العملة الذي طرحته ،وبالتايل كان لديها دوما ً هامش لزيادة
العرض الورقي لدعم العملة .أما يف البيتكوين ،إن هذا األمر أصعب بكثري ،وهو الذي
يقدم إثباتا ً رقميا ً مشفرا ً للحساب ويساعد يف كشف وفضح املصارف التي تعمل بطريقة
نظام مرصيف احتياطي جزئي.
238
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
تحصل يف بورصات وأنواع مختلفة من املنصات االلكرتونية املبنية عىل البيتكوين مثل
املواقع االلكرتونية للمقامرة والكازينوهات .إن تلك األعمال واملشاريع التجارية ستحتسب
وستُقيِّد البيتكوين لزبائنها عىل السجالت الداخلية الخاصة بها ولن تجري التحويالت
عىل شبكة البيتكوين إال عندما يودع أو يسحب الزبائن رصيداً.
وبحكم كونه نقدا ً رقمياً ،فإن األفضلية النسبية للبيتكوين ربما لن تكون
باستبدال عمليات الدفع النقدية ،بل ستكون بإعطاء القدرة عىل إجراء عمليات الدفع
النقدية عرب مسافات بعيدة ،بينما يمكن تسديد املدفوعات الشخصية للمبالغ الصغرية
بعدة خيارات :املبالغ النقدية املادية ،واملقايضة ،والخدمات ،وبطاقات االئتمان،
والشيكات املرصفية وغريها ،حيث قدمت تقنية تسوية عمليات الدفع الحالية الحديثة
مجموعة كبرية من الخيارات لتسوية عمليات الدفع الصغرية بكلفة زهيدة .فأفضلية
البيتكوين ال تكمن يف الغالب يف منافسة عمليات دفع املبالغ الصغرية وللمسافات
القصرية؛ بل تكمن يف نقل نهائية التسوية النقدية إىل العالم الرقمي ،حيث صنعت أرسع
طريقة للتسوية النهائية لعمليات الدفع الكبرية عرب املسافات البعيدة والحدود الدولية.
وهنا تظهر أفضلية البيتكوين الكبرية عند مقارنته بعمليات الدفع تلك .فهناك بضع
عمالت فقط مقبولة يف عمليات الدفع يف كل أنحاء العالم مثل الدوالر األمريكي ،واليورو،
والذهب ،وحقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدويل .وتُحتَسب أغلبية عمليات
الدفع الدولية بإحدى تلك العمالت مع نسبة صغرية فقط من بضع عمالت مهمة أخرى.
فإرسال مبلغ بقيمة بضعة آالف الدوالرات من تلك العمالت دوليا ً يكلف عادة عرشات
الدوالرات ،وقد يستغرق بضعة أيام ،وقد يتعرض لفحص جنائي تطفيل من قبل
املؤسسات املالية .والسبب الرئييس للتكلفة املرتفعة لهذه التحويالت هو عدم استقرار
عمالت التبادل ،ووجود مشاكل التسوية بني املؤسسات يف الدول املختلفة ،مما يقتيض
توظيف عدة طبقات من الوساطة.
أما البيتكوين فقد حقق خالل أقل من عرش سنوات من وجوده درجة مهمة من
السيولة العاملية ،سامحا ً بعمليات دفع دولية بأسعار أقل بكثري من التحويل الدويل
الحايل ،وال يُقصد بهذا أن البيتكوين سيستبدل سوق تحويل النقد الدولية ،بل إنه مجرد
تنبيه إىل إمكانياته يف مجال السيولة الدولية .فحجم التدفقات الدولية بوضعها الراهن
239
معيار البيتكوين
أكرب بكثري مما تستطيع سلسلة كتل البيتكوين تحمله ،وإن انتقل املزيد من هذه الدفعات
إىل البيتكوين ،فسرتتفع الرسوم لدرجة ستحد من الطلب عليه ،لكن هذا ال يعني أيضا ً
هالك البيتكوين ،وذلك ألن قدرات البيتكوين ليست محدودة بإرسال عمليات الدفع
الفردية تلك.
وبما أن البيتكوين ال يعاني من مخاطر تخلف الجهة املقابلة وال يعتمد عىل أي
طرف ثالث ،فهو مناسب بشكل مميز ألداء نفس الدور الذي أدَّاه الذهب يف املعيار
الذهبي .فهو نقد محايد لنظام دويل؛ ال يُعطي أية دولة "االمتياز الباهظ" بإصدار العملة
االحتياطية العاملية ،وال يعتمد عىل أدائها االقتصادي .وبما أنه غري مرتبط باقتصاد أي
دولة محددة ،فلن تتأثر قيمته بحجم التبادالت املحتسبة به ،متجنبا ً كل مشاكل أسعار
الرصف التي اجتاحت القرن العرشين .كما أن نهائية التسوية بالبيتكوين ال تعتمد عىل
أي جهة مقابلة ،وال تتطلب أي مرصف ليتحكم بالواقع ،مما يجعله مثاليا ً لشبكة من
النظراء العامليني ،بدال ً من نظام مركزي عاملي مهيمن .وبهذا ،تستند شبكة البيتكوين عىل
شكل من النقد ال يمكن تضخيم عرضه من قبل أي مرصف عضو ،مما يجعله مخزون
240
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
قيمة مقرتح جذاب أكثر من العمالت الوطنية التي تم استحداثها تحديدا ً كي تتم زيادة
عرضها لتمويل الحكومات.
وقدرة البيتكوين عىل إجراء التحويالت أكرب بكثري مما ستحتاجه البنوك
املركزية املوجودة حاليا ً حتى وإن قامت بتسوية حساباتها يومياً .فسعة البيتكوين
الحالية املقدرة بحوايل 350,000تحويلة يف اليوم تسمح لشبكة عاملية من 850مرصف
بأن يجري كل منها تحويالت يومية مع كل مرصف آخر يف الشبكة( .رقم االتصاالت
املميزة يف شبكة يساوي ،n(n – 1)/2حيث nهي عدد العقد).
ففي عال ٍم ال تستطيع فيه أية حكومة استحداث املزيد من البيتكوين ،ستتنافس
البنوك املركزية للبيتكوين بحرية فيما بينها بتقديم حلول دفع ووسائل نقدية مادية
ورقمية مدعومة من البيتكوين .وسيصبح النظام املرصيف االحتياطي الجزئي تدبريا ً
خطريا ً جدا ً دون وجود املالذ األخري لإلقراض ،وأتوقع أن املصارف الوحيدة التي ستنجو
عىل املدى الطويل هي تلك املصارف التي تقدم أدوات مالية مدعومة %100من قِ بل
البيتكوين ،لكن هذه نقطة خالف بني االقتصاديني والوقت وحده يستطيع تحديد هذا.
حيث أن تلك املصارف ستقوم بتسوية الدفعات بني عمالئها خارج سلسلة كتل البيتكوين
ثم ستجري تسوية نهائية يومية فيما بينها عىل سلسلة الكتل.
ويف حني قد تبدو هذه الرؤية خيانة للرؤية األصلية للبيتكوين وذلك بأن تكون
ُ
الشبكة شبك َة نقد نظري إىل نظري بشكل كامل ،إال أنها ليست رؤية جديدةَ .فـ "هال
241
معيار البيتكوين
فيني" ،مُستلم أول تحويل بيتكوين من ناكاموتو ،كتب هذا عىل منتدى البيتكوين عام
:2010
يف الحقيقة ،هناك سبب جيد جدا ً لوجود مصارف مدعومة بالبيتكوين تُصدر
عملتها النقدية الخاصة التي يُمكن استبدالها بالبيتكوين .فال يمكن أن يرتقي
البيتكوين نفسه ليكون كل تحويل مايل يف العالم منشورا ً للجميع ومُتضمَّنا ً يف
سلسلة الكتل ،بل يجب أن يكون هناك مستوى ثانوي ألنظمة الدفع أخف وزنا ً
وأكثر فعالية ،كما أن الوقت الالزم إلنهاء تحويالت البيتكوين لن يكون عمليا ً
كوسيط للمشرتيات مرتفعة القيمة.
فاملصارف املدعومة بالبيتكوين ستحل تلك املشاكل بحيث يمكنها أن تعمل كما
كانت تعمل املصارف قبل تأميم العملة .فيمكن للمصارف املختلفة أن تمتلك سياسات
مختلفة ،بعضها أكثر شدة واألخرى أكثر محافظة ،كما سيكون بعضها احتياطيا ً جزئيا ً
يف حني سيكون غريها مدعوما ً بالبيتكوين ،%100وقد تختلف معدالت الفائدة ،وقد
يُتبادل النقد من بعض املصارف بخصم بالسعر مقارنة بغريها.
ووضع "جورج سليجن" نظرية مفصلة للبنوك الحرة التنافسية ،وهو يقول
أن نظاما ً كهذا سيكون مستقراً ،ومقاوما ً للتضخم ،وذاتي التنظيم:
أظن أن هذا سيكون مصري البيتكوين النهائي ليكون "املال االحتياطي" الذي
يخدم كعملة احتياطية للمصارف التي تصدر نقدها الرقمي الخاص .فمعظم
تحويالت البيتكوين ستحدث بني املصارف لتسوية التحويالت النهائية ،وأما
تحويالت البيتكوين من قبل األفراد العاديني فستكون نادرة مثل عمليات
الرشاء املعتمدة عىل البيتكوين اليوم.
فيمكن أن يكون عدد التحويالت يف اقتصاد البيتكوين كبريا ً كما هو اليوم ،لكن
لن يتم تسوية تلك التحويالت عىل سجل البيتكوين ،وذلك ألن صفة عدم قابليته للتغيري
أو اعتماده عىل ثقة طرف ثالث ستجعله أثمن من أن يُستخدم يف املدفوعات الفردية .وأيا ً
كانت أوجه القصور بحلول الدفع الحالية ،فإنها ستستفيد كثريا ً من تقديم منافسة
242
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
السوق الحرة إىل القطاع املرصيف وعمليات الدفع ،وهو أحد أهم القطاعات املُتصلبة يف
اقتصاد العالم الحديث ،ألنه يقع تحت سلطة الحكومات التي تستطيع استحداث النقود
التي تديرها وتعمل بسبب وجودها.
وسيصبح البيتكوين عملة احتياطية لشكل جديد من البنوك املركزية إذا استمر
نمو قيمته ،وتَزايَد استخدامه من قبل املؤسسات املالية .فيمكن أن تكون تلك البنوك
املركزية مستندة بشكل أسايس عىل العالم الرقمي أو املادي ،لكن أصبح من الجدير بنا أن
نفكر فيما إذا كان عىل البنوك املركزية الوطنية دعم احتياطاتها بالبيتكوين .ففي النظام
النقدي العاملي الحايل ،تحتفظ البنوك املركزية باحتياطي ،ويكون هذا االحتياطي عادة
ُممثال ً بالدوالر األمريكي ،واليورو ،والجنيه اإلسرتليني ،وحقوق السحب الخاصة من
صندوق النقد الدويل ،والذهب .وتُستخدم تلك العمالت االحتياطية لتسوية الحسابات بني
البنوك املركزية وللدفاع عن القيمة السوقية لعمالتها املحلية .ومن املحتمل أن يجذب
البيتكوين اهتمام البنوك املركزية املتطلعة إىل املستقبل وذلك إذا استمر ارتفاع قيمته
بنفس النهج الذي ارتفعه كما يف السنوات األخرية.
وسيُؤ ِّمن البيتكوين للبنك املركزي مرونة أكرب لسياساته النقدية ولتسوية
الحسابات الدولية إذا استمر ارتفاع قيمته بشكل كبري ،لكن قد يكون الهدف الحقيقي
المتالك البنوك املركزية للبيتكوين هو كضمان الحتمال نجاحه .حيث أنه وبما أن عرض
البيتكوين محدود بشكل صارم ،فقد يكون من الحكمة أن ينفق البنك املركزي مبلغا ً
صغريا ً لرشاء نسبة صغرية من معروض البيتكوين اليوم يف حال ارتفعت قيمته كثريا ً يف
املستقبل .فإذا استمرت قيمة البيتكوين باالرتفاع بحيث لم يمتلك البنك املركزي أيا ً منه،
فستنخفض القيمة السوقية للذهب والعمالت االحتياطية لديه مقارنة بالبيتكوين ،مما
سيضع هذا البنك املركزي بحالة عدم أفضلية كلما تأخر يف قرار رشاء احتياطي منه.
إن تجربة البيتكوين ال تزال تُعترب تجربة إنرتنت غري تقليدية وغريبة حتى اآلن،
لكنها ستبدأ بجذب اهتمام حقيقي لألفراد ذوي الرصيد املايل الضخم ،وهيئات االستثمار،
ومن ثم ربما البنوك املركزية بفضل استمراره بالنجاة وارتفاع قيمته مع مرور الوقت.
ف ِبد ُء تفكري البنوك املركزية يف استخدام البيتكوين سيكون هو النقطة التي يبدؤون فيها
243
معيار البيتكوين
سباق الحصول عليه ،وبهذا ،إن أول بنك مركزي سيشرتي البيتكوين سيُنبِّه بقية البنوك
املركزية إىل اإلمكانية ويجعل الكثري منها تُسارع إىل رشائه .فغالباً ،ستؤدي أول عملية
ارتفاع كبري يف قيمته وبالتايل ستجعل سعره
ٍ اقتناء للبيتكوين من قبل بنك مركزي ما إىل
يرتفع تدريجيا ً بالنسبة إىل البنوك املركزية التالية التي ستشرتيه .والترصف األكثر حكمة
يف هذه الحالة هو برشاء البنك املركزي لحصة صغرية من البيتكوين ،وإذا كان للبنك
املركزي القدرة املؤسساتية لرشاء العملة دون اإلعالن عن األمر ،فإن هذا سيكون ترصفا ً
أكثر حكمة ،سامحا ً للبنك املركزي بجمعه بأسعار منخفضة.
ويمكن أن يخدم البيتكوين أيضا ً بكونه أصالً احتياطيا ً مفيدا ً للبنوك املركزية
التي تواجه قيودا ً دولية عىل عملياتها املرصفية ،أو إذا كانت غري سعيدة بالنظام النقدي
العاملي املتمركز حول الدوالر .فقد تُثبت إمكانية تبني احتياطي من البيتكوين بحد ذاتها
أنها ورقة مساومة قيِّمة لتلك البنوك املركزية مع السلطات النقدية األمريكية ،التي تُفضل
غالبا ً أال ينشق أي بنك مركزي ويتحول إىل البيتكوين كوسيلة للتسوية ،ألن هذا سيُغري
اآلخرين لالنضمام.
ويف حني كانت البنوك املركزية بمعظمها رافضة ومتجاهلة ألهمية البيتكوين،
فقد يكون هذا تر ًفا لن تتمكن من تحمله لفرتة طويلة .فمهما َ
صعُ ب عىل البنوك املركزية
تصديق هذا ،لكن البيتكوين هو منافس مبارش ملجال عملها الذي كان معزوال ً عن
املنافسة السوقية طوال قرن من الزمن .فالبيتكوين يجعل املعالجة العاملية لعمليات الدفع
والتصفيات النهائية متاحة ألي شخص كي يجريها بكلفة صغرية ،كما أنه يستبدل
السياسة النقدية التي يتحكم بها البرش بخوارزميات متفوقة عليهم ويمكن توقعها بشكل
مثايل .لهذا ،إن نموذج عمل البنك املركزي الحديث يتعرض للعرقلة والتعطيل ،وال
تستطيع البنوك املركزية اآلن إيقاف املنافسة عن طريق تمرير القوانني كما كانت تفعل
دائما ً ،حيث أنها اآلن يف مواجهة منافس رقمي لن تتمكن غالبا ً من إخضاعه لقوانني
العالم املادي .ويف حال لم تلجأ البنوك الوطنية املركزية إىل استخدام سياسة البيتكوين
النقدية السليمة وقدرته عىل التسوية الفورية ،فإنها سترتك الباب مفتوحا ً لتستويل هذه
األساليب الرقمية عىل املزيد من هذا السوق لتخزين القيمة وللتسوية.
244
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
فإذا كان العالم الحديث اآلن هو روما القديمة التي تعاني من عواقب اقتصادية
النهيار نقدي ،وإن اعتربنا أن الدوالر هو العملة الذهبية الرومانية ،فسيكون ساتويش
ناكاموتو هو قسطنطني والبيتكوين هو عملته ،واإلنرتنت هو القسطنطينية .بهذا ،إ َّن
البيتكوين يعمل كقارب نجاة نقدي لألفراد املُجربين عىل التحويل واالدخار بالوسائط
النقدية التي تحط الحكومات من قدرها بشكل مستمر .ووفقا ً للتحليل السابق ،تكمن
ميزة البيتكوين الحقيقية يف كونه مخزون للقيمة يمكن الوثوق به عىل املدى الطويل،
وبكونه شكال ً نقديا ً ذا سيادة يسمح لألفراد بإجراء تحويالت دون إذن .وستنبع
استخدامات البيتكوين الرئيسية يف املستقبل القريب من هذه امليزات التنافسية ،وليس
من قدرته عىل تقديم تحويالت رخيصة أو واسعة االنتشار.
غالباً ،لن يتبلور التطبيق األخري للبيتكوين يف وقت قريب لكنه مع ذلك أمر مثري لالهتمام
نظرا ً إىل خواص البيتكوين املميزة .فمنذ نهاية عرص املعيار الذهبي ،تمت إعاقة التجارة
العاملية بسبب اختالف قيمة العملة يف الدول املختلفة ،وتم تدمري قدرة الناس عىل إجراء
لصنع عالم يجب عىل تبادل غري مبارش باستخدام وسيط وحيد للتبادل ،مما اضطرهم ُ
املرء فيه رشاء عملة املُنتج نفسه قبل رشاء أي يشء خارج دولته بشكل يشبه املقايضة
تقريباً .فأعاق هذا األمر وبشدة من قدرة الناس عىل إجراء الحسابات االقتصادية عرب
الحدود ،وأدى إىل نمو هائل بقطاع رصف العمالت األجنبية ،ليس لذلك القطاع أي ناتج
ذي قيمة إال تحسني العواقب الوخيمة التي نتجت من تأميم النقد.
فقدَّم املعيار الذهبي حال ً لهذه املشكلة حيث كان املعيار النقدي يف كل أنحاء
العالم شكال ً واحدا ً من النقد ،وكان مستقالً عن سيطرة وسلطة أية حكومة ،كما كان
باإلمكان معايرة األسعار بأسعار الذهب وتم التعبري عنها باستخدامه ،مما سهّ ل
الحسابات عرب الحدود .لكن وبسبب وزنه املادي الثقيل ،وجب أن يكون الذهب مركزيا ً
وأن تتم التسويات بني البنوك املركزية .فما أن أصبح الذهب مركزياً ،لم تستطع
245
معيار البيتكوين
الحكوم ات مقاومة إغراؤه ،فسيطرت عليه واستبدلته يف نهاية األمر بعمالت ورقية
تُسيطر عىل عرضها ،وبالنتيجة أصبح النقد السليم نقدا ً غري سليم.
وفيما إن كان للبيتكوين القدرة عىل أداء دور وحدة حساب عاملية للتجارة
والنشاط االقتصادي ،فإن هذا سؤال يبقى مفتوحا ً .لكن ولكي يتم تطبيق هذه اإلمكانية،
فإنه يجب أن يتم تبني البيتكوين من قبل عدد كبري جدا ً من الناس يف العالم بشكل غري
مبارش غالباً ،وذلك باستخدامه كعملة احتياطية .كما أنه علينا االنتظار أيضا ً لنعرف إذا
كان ثبات عرض البيتكوين سيحافظ عىل استقرار قيمته أيضاً ،حيث ستكون التحويالت
اليومية فيه هامشية مقارنة بالكميات املُمتلكة .ولكن بما أن البيتكوين يشكل أقل من
%1من العرض النقدي العاملي بصيغته الحالية ،فيمكن أن يكون تأثري التحويالت
الفردية الضخمة يف البيتكوين كبريا ً عىل األسعار ،وقد تُسبِّب التغيريات الطفيفة يف الطلب
عليه تأرجحا ً وتقلبا ً كبريا ً يف األسعار .لكن هذه خاصية للوضع الحايل ،حيث لم يزل
البيتكوين كعملة وكشبكة تسوية عاملية يشكل جزءا ً صغريا ً من تسوية عمليات الدفع
العاملية والعرض النقدي .وقد يُعترب رشاء عملة بيتكوين رمزية اليوم استثمارا ً يف النمو
املتسارع للشبكة وقد يُعترب عملة كمخزون قيمة ،ألنها لم تزل صغرية جدا ً ويمكن أن
ينمو حجمها وقيمتها أضعافا ً مضاعفة برسعة كبرية .فإذا أصبحت حصة البيتكوين من
العرض النقدي العاملي وتحويالت التسوية العاملية الحصة األكرب يف السوق العاملية،
سيصبح عندها مستوى الطلب عليه أسهل للتوقع وسيكون أكثر استقراراً ،مما سيؤدي
إىل استقرار قيمة العملة .وإذا أصبح البيتكوينَ ،ف َرضا ً ،النقد الوحيد املستخدم يف العالم،
فلن يكون هناك مجال كبري للنمو يف قيمته ،وسيكون الطلب عليه يف تلك النقطة ببساطة
هو طلب امتالك نقد يمتلك سيولة ،أما الطلب عليه لالستثمارات القائمة عىل املراهنات
التي نراها اليوم فسيختفي .ويف هذه الحالة ،ستتغري قيمة البيتكوين وفقا ً للتفضيل
الزمني للبرشية بأكملها مع تزايد الطلب عليه كمخزون قيمة مؤديا ً إىل ارتفاع طفيف
فقط يف قيمته.
عىل املدى الطويل ،سيؤدي غياب أية سلطة مسيطرة عىل عرض البيتكوين إىل
تخفيف تقلبات السعر بدال ً من خلقها بحيث تصبح تقلبات الطلب اليومية أقل أهمية
كمحدد للسعر ،وذلك بفضل إمكانية توقع العرض مع ازدياد عدد املستخدمني ،حيث
246
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
عندها ،سيكون الوضع مشابها ً للذهب تحت املعيار الذهبي ،كما ُرشح
بالتفصيل يف دراسة جاسرتام املشار إليها يف الفصل السادس .فلم ترتفع أو تنخفض
قيمة الذهب كثريا ً طوال العقود التي كان يُستخدم فيها كنقد بفضل التزايد الثابت
والتدريجي يف عرضه ،مما جعله وحدة الحساب املثالية عرب الزمان واملكان.
لكن هذا السيناريو يتجاهل اختالفا ً جوهريا ً بني الذهب والبيتكوين ،يتمثل هذا
االختالف بالطلب الكبري املرن عىل الذهب املستخدم يف عدد وافر من التطبيقات الصناعية
والتزيينية ،حيث أن خواص الذهب الكيميائية املميزة تَ ْضمن دوام ارتفاع الطلب عليه
بغض النظر عن دوره النقدي .فحتى مع تغري الطلب النقدي عىل الذهب ،ستبقى
الصناعة مستعدة الستخدام كميات غري محدودة من الذهب إن انخفض السعر بسبب
انخفاض الطلب النقدي عليه .لهذا ،إن الذهب هو الخيار األمثل لعديد من الصناعات
بفضل خواصه ،حيث ال يتم اختيار بدائل ثانوية إال بسبب ارتفاع سعره .وحتى يف
السيناريو الذي تتخلص فيه كل البنوك املركزية من احتياطاتها من الذهب ،فإن
املتطلبات الصناعية وصناعة املجوهرات ستمتص كل العرض الفائض بتخفيضات
أسعار مؤقتة .فن ُدرة الذهب يف القرشة األرضية ستضمن لنا دائما ً أن يظل سعره مرتفعا ً
نسبيا ً مقارنة باملواد األخرى واملعادن ،ولقد كان لتلك الخاصية دور رئييس يف تبني
الذهب كنقد ألنها ضمنت استقرارا ً نسبيا ً يف قيمته بمرور الوقت بغض النظر عن تغريات
الطلب النقدي يف البلدان التي تتبنى أو تتخىل عن املعيار الذهبي .ويمكن القول إن هذا
االستقرار النسبي عزز من جاذبية الذهب كأصل نقدي وضمن الطلب عليه ،ويُمكن أن
يُفهم أيضا ً كالسبب الحقيقي لعدم بيع البنوك املركزية كل احتياطاتها من الذهب بعد
عقود من فصل عمالتها عن الذهب .فإذا باعت البنوك املركزية احتياطاتها من الذهب،
ستكون املحصلة النهائية هي استخدام أطنان إضافية من الذهب يف التطبيقات الصناعية
يف السنوات القليلة القادمة ،بتأثري صغري عىل سعره .ولن يحصل البنك املركزي يف هذه
املبادلة إال عىل عملة ورقية يستطيع طباعتها بنفسه ،وسيخرس أصال ً من املرجح أن
يحصل عىل قيمة أكرب من قيمة عملته.
247
معيار البيتكوين
فيمكن فهم الطلب املكافئ غري النقدي عىل البيتكوين كالطلب عىل القطع
النقدية ليس من أجل تخزين القيمة ،بل كرشط أسايس رضوري الستخدام الشبكة .ولكن
عىل عكس الطلب الصناعي عىل الذهب املستقل تماما ً عن طلبه النقدي ،فإن الطلب عىل
البيتكوين لتشغيل الشبكة مرتبط بشكل ال يمكن فصله بتاتا ً بالطلب عليه كمخزون
للقيمة .وبالتايل ال يمكن أن نتوقع أن يؤدي دورا ً مهما ً يف التخفيف من حدة تقلب قيمة
البيتكوين السوقية يف الوقت الذي يزداد فيه دوره النقدي.
فمن جهة ،يُعترب البيتكوين خيارا ً جذابا ً جدا ً كمخزون للقيمة بفضل ندرته
الصارمة .ويمكن لعدد متزايد من مالكيه تحمل التقلبات يف قيمته لفرتات زمنية طويلة
إذا كانت قيمته متجهة بقوة لألعىل ،كما كان الوضع حتى اآلن .ومن جهة أخرى ،إ َّن
استمرار تقلب قيمة البيتكوين سيمنعه من تأدية دور وحدة حساب ،عىل األقل حتى
تتضاعف قيمته عدة مرات وتتضاعف معها نسبة الناس حول العالم الذين يمتلكونه
ويقبلوه.
بالرغم من ذلك ،ونظرا ً إىل أن سكان العالم اليوم عاشوا فقط يف عالم من
عمالت ورقية متقلبة ومتغرية القيمة فيما بينها ،فغالبا ً ما سيكون مالكو البيتكوين أكثر
تحمال ً لتقلباته من أجيال نشأت يف ثبات املعيار الذهبي حيث أن أفضل العمالت الورقية
اآلن كانت مستقرة عىل املدى القصري فقط ،لكن انخفاض القيمة عىل املدى الطويل هو
أمر واضح .باملقابل حافظ الذهب عىل استقراره عىل املدى الطويل ،لكنه غري مستقر
نسبيا ً عىل املدى القصري ،لكن ال يبدو أن عدم استقرار البيتكوين سيكون عيبا ً قاتالً قد
يمنع نموه وتبنيه نظرا ً إىل أن جميع بدائله تعاني أيضا من عدم االستقرار النسبي.
وال يمكن اإلجابة عىل هذه األسئلة بشكل قاطع يف الوقت الراهن ،والعالم
الحقيقي وحده سيكشف لنا ما ستؤول إليه األمور .فالحالة النقدية هي مُنتَج عفوي
للفعل البرشي ،وليست مُنتَجا ً عقالنيا ً من التصميم البرشي .ويترصف األفراد وفقا ً
ملصلحتهم الخاصة ،بحيث أن اإلمكانيات التكنولوجية والواقع االقتصادي للعرض
والطلب تُش ِّكل ناتج ترصفاتهم ،مؤمِّنة لهم حوافز ليثابروا ،ويتأقلموا ،ويغريوا ،أو
يبتكروا .فانبثاق نظا ٍم نقدي عفوي من هذه التفاعالت املعقدة ليس أمرا ً يتم تداوله
248
َصلُح البيتكوين
ِل َم ي ْ
ونقاشه يف املناظرات األكاديمية ،أو التخطيطات العقالنية ،أو يمكن أن يتم بوصاية
الحكومة .فما قد يبدو أنه تكنولوجيا أفضل للنقد نظريا ً ليس بالرضورة أن تنجح
ظرو النقد البيتكوين كوسيط نقدي بسبب بالعمل يف الواقع ،كما أنه قد يستبعد مُن ِّ
تقلبات قي مته ،لكنهم ال يستطيعون تجاهل النظام العفوي الذي يظهر يف السوق نتيجة
فكمخزون للقيمة ،قد يستمر البيتكوين يف جذب طلب املدخرات عليه ،مما
ٍ ألفعال البرش.
سيسبب استمرار ارتفاع قيمته بشكل كبري مقارنة بكل أشكال النقد األخرى حتى يصبح
الخيار األول لكل من يريد أن يُد َفع له.
فإذا حققت قيمة البيتكوين استقرارا ً من نوع ما ،سيتفوق البيتكوين عىل
العمالت الوطنية لتسوية عمليات الدفع العاملية ،كما هي الحالة اليوم ،وذلك ألن قيمة
العمالت الوطنية تتذبذب وفقا ً لظروف كل دولة وظروف كل حكومة ،ووفقا ً لتبنيها
املنترش كعملة احتياطية عاملية مما يؤدي إىل "امتياز باهظ" للدول التي تستحدثها
وتُصد ُِرها .لهذا ،يجب أن تكون عملة التسوية العاملية محايدة للسياسة النقدية للدول
املختلفة ،وأدى الذهب هذا الدور بتميز أثناء فرتة املعيار الذهبي العاملي .لكن ،يوجد
للبيتكوين أفضلية عىل الذهب يف أداء هذا الدور ألنه يمكن إنهاء تسويته خالل دقائق،
ويمكن تأكيد مصداقية تحويالته بسهولة من قبل أي شخص لديه اتصال باإلنرتنت
بدون تكلفة تقريباً .باملقابل فإن الذهب يستغرق وقتا ً لنقله ،وتعتمد تصفيته عىل
درجات مختلفة من الثقة بالوسطاء املسؤولني عن تسويته ونقله .فقد يحفظ هذا األمر
دور الذهب النقدي يف التحويالت النقدية الفردية التي تحدث وجها ً لوجه يف حني
سيصبح البيتكوين مختصا ً يف التسوية العاملية.
249
250
الفصل العارش
مع األساسيات االقتصادية لتشغيل البيتكوين التي تم رشحها يف الفصل الثامن ،ومع
الحاالت الرئيسية املحتمل استخدام البيتكوين فيها والتي تمت مناقشتها يف الفصل
التاسع ،سيتم فحص ومناقشة مجموعة من األسئلة البارزة حول عمل وتشغيل البيتكوين
يف هذا الفصل.
251
معيار البيتكوين
ملخرتق ما أن يتالعب بنظام التصويت املبني عىل إعطاء كل عضو صوتا ً واحداً ،وذلك عن
طريق إنشائه الكثري من العُ َقد لكي يُصوِّت ويصادق عىل التحويالت االحتيالية واملُ َزوَّرة.
لكن البيتكوين يستطيع حل مشكلة اإلنفاق املزدوج هذه دون الحاجة لوجود طرف ثالث
موثوق وذلك عرب ربط الدقة بإنفاق األعضاء لقوة املعالجة ،وبعبارة أخرى ،عن طريق
توظيف نظام إثبات العمل "."POW
1السؤال عما إذا كان البيتكوين هو إهدار للكهرابء هو حبد ذاته سوء فهم ألساس الطبيعة غري املوضوعية للقيمة.
يتم توليد الكهرابء حول العامل بكميات كبرية إلرضاء احتياجات املستهلكني ،أما موضوع إهدار الكهرابء من
عدمه فهو يقع على عاتق املستهلك الذي يدفع مثن هذه الكهرابء .فاألفراد الذين ينوون أن يدفعوا مثن عملية
فعال ،مما يعين ان إنتاج
شبكة البتكوين من أجل حتويالهتم هم أفراد يستثمرون استهالكهم للكهرابء بشكل ّ
سدى .عملياً إن نظام إثبات العمل هو الطريقة الوحيدة
الكهرابء يتم مبا يرضي احتياجات املستهلك وال يضيع ً
252
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
خالل تَطلُّبه لرصف الكهرباء وطاقة املعالجة إلنتاج عمالت جديدة ،فإن نظام إثبات
العمل يُعَ ُّد الطريقة الوحيدة املُكتشفة لجعل صناعة سلعة رقمية مكلفة بشكل موثوق
حتى اآلن ،مما يسمح لها بأن تكون عملة صعبة .ومع ضمان جعل عملية إيجاد الحلول
للمسائل الرياضية تتطلب إنفاق كميات كبرية من الكهرباء وطاقة املعالجة ،فإن العُ َقد
التي تستهلك هذه الطاقة الكبرية للمعالجة سيتكوَّن لديها دافع قوي جدا ً كي ال تقبل وال
تضع أية تحويالت مُزورة يف ُكتَلِها من أجل أن تحصل عىل مكافأة الكتلة .وبما أن
التحقق من صحة التحويالت ونظام إثبات العمل أرخص بكثري من إيجاد الحل الخاص
بنظام إثبات العمل ،فإن العُ َقد التي ستحاول إدخال تحويالت مُزوَّرة لكتلة التحويالت
محكوم عليها دائما بالفشل ،وبذلك فإنها تُبدد الطاقة التي أنفقتها دون الحصول عىل
عائد.
فنظام إثبات العمل يجعل ثمن تدوين الكتلة باهظا ً جداً ،وثمن التحقق من
صحتها زهيدا ً جداً ،مما يكاد يقيض عىل الحافز ألي شخص إلنشاء تحويالت مُزورة .فإذا
حاول أحدهم ،فإنه سيقوم بإهدار الكهرباء وطاقة املعالجة دون الحصول عىل مكافأة
الكتلة .لذلك ،يمكن فهم البيتكوين عىل أنه تكنولوجيا تُحوِّل الكهرباء إىل سجالت
صحيحة عرب إنفاق طاقة املعالجة ،ويتم مكافأة أولئك الذين ينفقون هذه الكهرباء
بعمالت البيتكوين ،ولذلك ،يتولد لديهم دافع قوي للحفاظ عىل نزاهته .وكنتيجةٍ لربط
الصدق بحافز اقتصادي قوي ،ظ َّل ِسجّ ل البيتكوين عصيا ً عىل اإلتالف طوال فرتة عمله
حتى اآلن ،حيث أنه لم يشهد هجمة إنفاق مزدوج عىل تحويلة مؤكدة قط .وبهذا األمر،
تتحقق تلك النزاهة يف سجل البيتكوين دون الحاجة لالعتماد عىل صدق ونزاهة أي طرف
يف الشبكة .ومن خالل االعتماد كليا ً عىل عملية التحقق واملصادقة ،يَح ُكم البيتكوين عىل
التحويالت االحتيالية واملزورة بالفشل ويتجنب الحاجة إىل الثقة يف أي طرف إلتمام
التحويالت.
ولكي يتمكن مهاجم ما من إدخال تحويالت مزورة إىل سجل البيتكوين ،فهو
اليت اخرتعها البشر إلنشاء نقد صعب رقمي .لذلك فإن الكهرابء ال يتم إهدارها إن رأى الناس أن ذلك يستحق
الدفع من أجله.
253
معيار البيتكوين
يحتاج ألن يمتلك غالبية طاقة املعالجة املستخدمة يف الشبكة لكي يتم قبول احتياله،
ولكن ال ُع َقد الصادقة والنزيهة والتي هي جزء من الشبكة ال تملك أي دافع لتفعل ذلك
ألنها وإن فعلت ،فستقلل من نزاهة البيتكوين ،وستقلل من قيمة العوائد التي تحصل
عليها مما يؤدي إىل إهدارها للكهرباء واملوارد التي تم رصفها .لهذا ،إن أَمَ َل املهاجم
الوحيد هو أن يحشد أكثر من %50من كمية طاقة املعالجة املستخدمة يف الشبكة لكي
يتم تأكيد احتياله عىل أنه صادق ليتمكن من البناء عليه .لقد كان باإلمكان اإلقدام عىل
هذه الحركة يف بدايات عرص البيتكوين عندما كان إجمايل طاقة املعالجة املرصوفة يف
الشبكة قليال ً جداً ،لكن وألن القيمة االقتصادية التي حملتها الشبكة يف تلك األيام كانت
ضئيلة جدا ً وغري مهمة ،لم تتحقق أية هجمات .ومع استمرار نمو الشبكة وتزايد عدد
األعضاء الذين يجلبون معهم املزيد من طاقة املعالجة ،ارتفع ثمن الهجوم عىل الشبكة.
ولقد أثبتت مكافأة ال ُع َقد ،التي تؤكد صحة التحويالت ،أنها استخدا ٌم مربح
لطاقة املعالجة .ففي يناير من عام ،2017كان حجم طاقة املعالجة لشبكة البيتكوين
مساويا ً ل ِـ 2تريليون البتوب ،وهو أمر أكثر ب 2مليون مرة من طاقة املعالجة ألقوى
حاسوب عمالق يف العالم ،وأكثر من 200,000مرة من طاقة املعالجة ألقوى 500
حاسوب عمالق يف العالم مجتمعني .وقد أصبح البيتكوين عرب تحويل قيمة طاقة املعالجة
بشكل مبارش أكرب شبكة حاسوبية بهدف موحد يف العالم.
هناك عامل آخر ساهم يف نمو طاقة املعالجة وتَمثَّل ذلك عندما انتقلت عمليات
التحقق من صحة التحويالت وحل مسائل نظام إثبات العمل من إجرائها عرب الحواسيب
الشخصية إىل إجرائها من قِ بل معالجات خاصة بُ ِنيَت بشكل خاص لتكون فعالة يف عملية
إدارة برمجيات البيتكوين .وبدأ هذا مع بداية استخدام الدارات املدمجة املحددة برمجيا ً
) (ASICsيف عام ،2012حيث أن عملية توظيفها ونرشها زادت من فعالية إضافة طاقة
املعالجة إىل شبكة البيتكوين ،حيث أنه وبهذه الطريقة ال يتم إهدار أي كهرباء يف عمليات
حوسبة غري مرتبطة مبارشة بالبيتكوين ،كتلك العمليات املتاحة يف وحدات الحوسبة
العامة .ويف الوقت الحايل ،تتوىل شبكة مُو َّزعة عامليا ً من مُعدّنني مستقلني ومتخصصني
حماي َة نزاهة سجل البيتكوين ،وغايتهم الوحيدة هي التحقق من صحة تحويالته وحل
املسائل الرياضية لنظام إثبات العمل .وإذا َف ِش َل البيتكوين ألي سبب كان ،ستصبح تلك
254
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
الدارات املدمجة املحددة برمجيا ً بال أي فائدة ،وسيفقد أصحابها استثماراتهم ،لهذا
فلديهم دافع قوي جدا ً للحفاظ عىل مصداقية ونزاهة الشبكة.
ويف السنوات األوىل من عمل البيتكوين ،قام مستخدمو البيتكوين بتشغيل عقد
واستخدموها يف إجراء تحويالتهم الخاصة والتحقق من صحة تحويالت اآلخرين يف
الشبكة ،بحيث كانت كل عقدة تؤدي دور محفظة ومُوث ِّق/مُعدّن ،لكن تم فصل تلك
العمليات مع مرور الوقت ،فتخصصت الرقاقات املدمجة املحددة برمجيا ً اآلن يف التوثيق
واملصادقة عىل التحويالت من أجل الحصول عىل مكافأة البيتكوين (لهذا السبب يُعرفون
باملُعدّنني) .ويستطيع مشغلو العُ َقد اآلن إنشاء عدد غري محدود من املحافظ مما يسمح
للرشكات واألعمال واملشاريع التجارية بإتاحة َمحافظ مريحة ومناسبة للمستخدمني
الذين سيستطيعون إرسال واستقبال البيتكوين دون الحاجة إىل إدارة عقدة التعدين أو
إنفاق طاقة معالجة للمصادقة عىل التحويالت .وهذا األمر ،ن َ َق َل البيتكوين بعيدا ً عن كونه
شبكة نظري إىل نظري فقط بني عقد متطابقة ،لكن رغم ذلك ،يمكن القول إن األهمية
الوظيفية الرئيسية للطبيعة الالمركزية واملُو َّزعة للشبكة ال تزال قائمة وسليمة ،وذلك ألنه
يوجد عدد كبري من العُ َقد التي ما تزال قائمة ،بحيث ال يتم االعتماد عىل أي طرف كي
تعمل الشبكة .باإلضافة إىل ذلك ،فقد سمح التخصص يف التعدين بنمو طاقة املعالجة
الداعمة للشبكة إىل الحجم املذهل الذي وصلت إليه.
255
معيار البيتكوين
ففي بدايات البيتكوين عندما كانت قيمة العملة صغرية أو معدومة ،كان من
املمكن رسقة الشبكة وتدمريها من قبل املهاجمني ،ولكن بما أن القيمة االقتصادية
للشبكة كانت قليلة ،لم يُتعِ ب أحد نفسه بهذا األمر .اآلن ،ومع ازدياد حجم القيمة
االقتصادية للشبكة ،قد يكون ازداد معها دافع رسقة الشبكة ،لكن تكلفة فعل ذلك قد
ازدادت بشكل كبري أيضاً ،وبسبب ذلك ،لم تتحقق أية هجمة .ومن املرجح أن يكون
السبب الحقيقي وراء حصانة شبكة البيتكوين هو أن قيمة العملة تعتمد كليا ً عىل
مصداقية ونزاهة الشبكة .فنجاح أي هجوم يف تغيري سلسلة الكتل أو رسقة العمالت ،أو
ُعرف باسم اإلنفاق املزدوج لن يعود بفائدة كبرية عىل املهاجم، إنفاقها عدة مرات فيما ي َ
حيث سيتَّضح لجميع أعضاء الشبكة أنه من املمكن تقويض الشبكة ،مما سيقلل بشكل
كبري من الطلب عىل استخدامها وعىل االحتفاظ بالعملة ،وسيؤدي هذا إىل انهيار سعرها.
بتعبري آخر ،ال تقترص دفاعات شبكة البيتكوين عىل ارتفاع تكلفة الهجوم فحسب ،بل إن
نجاح الهجوم سيجعل الغنيمة بال قيمة .ف َكوْنها نظاما ً طوعيا ً تماماً ،ال يمكن لشبكة
البيتكوين العمل إال إذا كانت نزيهة ،حيث يمكن للمستخدمني مغادرتها بسهولة إذا لم
تكن كذلك.
فتَو ُّزع طاقة معالجة البيتكوين ومقاومته الكبرية لتعديل شيفرته الربمجية،
إضافة إىل عناد سياسته النقدية ،هي ما جعلت البيتكوين يستمر ويزداد يف قيمته إىل
الدرجة التي هو عليه فيها اآلن ،ومن الصعب عىل األشخاص الجديدين عىل البيتكوين أن
يُقدِّروا ك َّم التحديات اللوجستية واألمنية التي نجح البيتكوين بتخطيها كل هذه السنوات
حتى وصل إىل ما هو عليه اآلن .وعند األخذ بالحسبان أن اإلنرتنت قد خلق فرصا ً
للمخرتقني ملهاجمة كافة أنواع الشبكات واملواقع بهدف التسلية والربح ،فسنرى أن هذا
إنجاز مذهل .فالعدد املتزايد للخروقات األمنية التي تحصل لشبكات الحاسوب وخوادم
الربيد اإللكرتوني بشكل يومي حول العالم ال تتعدى غنيمتها رسقة بيانات ،أو تحقيق
رص لتسجيل نقاط سياسية .ويف الجهة املقابلة ،يحتوي البيتكوين عىل مليارات ُف ٍ
الدوالرات من القيمة ،وال يزال يعمل بشكل آمن وموثوق ،حيث أنه ومنذ بداية النظام كان
قد تم تصميمه ليعمل يف بيئة عدائية ليكون مقاوما ً للهجمات القاسية .وقد حاول
256
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
إن مناعة ومتانة البيتكوين لم تكن فقط سببا ً يف صد الهجمات عىل الشبكة ،بل
كانت قادر ًة أيضا ً عىل مقاومة كل محاوالت تغيريه أو تعديل خصائصه ،ولكن لم يفهم
عمق هذه الحقيقة وآثارها بعد .وإذا أردنا مقارنة البيتكوين ببنك َ معظم املشككني
مركزي ،فسيكون أكثر بنك مستقل يف العالم ،وإذا أردنا مقارنته بدولة قومية ،فسيكون
أكثر دولة قومية ذات سيادة يف العالم .بهذا ،يمكن القول إ َّن سيادة البيتكوين تُستمَد من
الطريقة التي تعمل بها قوانني اإلجماع بالرأي جاعل ًة إياه مقاوما ً وبشكل كبري للتعديل
من قبل األفراد .وال نبالغ إن قلنا أنه ال أحد يتحكم بالبيتكوين ،وأن الخيار الوحيد املتوفر
أمام األفراد هو إما استخدامه كما هو أو عدم استخدامه.
فهذا الثبات ال يُعَ ُّد من خصائص برمجية البيتكوين حيث يمكن ألي شخص
بارع بالربمجة أن يغري من برمجيته ،لكن يمكن القول أن البيتكوين مُقيَّد بقيمة عملته
وبشبكته وصعوبة إقناع كل األعضاء يف الشبكة بتبني نفس التغيري الربمجي .فالتطبيق
الربمجي الذي يسمح لألفراد بتشغيل عقدة متصلة بشبكة البيتكوين هو تطبيق مفتوح
املصدر ،أطلقه يف البداية "ساتويش ناكاموتو" بالتعاون مع الراحل "هال فيني"
وآخرين .ومنذ ذلك الوقت ،أصبح ألي مستخدم كان ،ذكرا ً أم أنثى ،إمكانية تنزيل
واستخدام الربنامج كما يريد ،وإجراء التغيريات التي يريدها عليه .إن هذا األمر خلق
257
معيار البيتكوين
سوقا ً تنافسية حرة يف تطبيقات البيتكوين بحيث يمكن ألي شخص املساهمة يف إجراء
التغيريات أو التحسينات والتطويرات عىل الربنامج وتقديمها للتبني من قِ بل املستخدمني.
ومع مرور الوقت ،تطوع املئات من مربمجي الحاسوب من جميع أنحاء العالم
بأوقاتهم لتحسني برمجيات ال ُع َقد وكنتيجة تحسني إمكانيات العُ َقد الفردية ،فكوَّن هؤالء
املربمجني عدة تطبيقات مختلفة أكربها وأكثرها شهرة هو " ."Bitcoin Coreوهناك
أيضا ً عدة تطبيقات أخرى متواجدة ،وللمستخدم الحرية الكاملة يف تغيري الشيفرة
األصلية يف أي وقت يشاء .لكن ولكي تكون ال ُع ْقدة جزءا ً من الشبكة التي تتبعها ،فلديها
متطلب واحد فقط وهو أن تتبع القوانني املُتفق عليها بني العُ َقد األخرى ،بحيث يؤدي
كرس العُ َقد للقوانني املُتَّ َفق واملُجمَع عليها إىل رفض تحويالتها من قِ بل بقية العُ َقد ،سواء
أكان ذلك الخروج عن اإلجماع عرب تعديل بنية السلسلة ،أو صالحية التحويالت ،أو
مكافأة الكتلة ،أو أي من املعايري األخرى للنظام.
والعملية التي تحدد معايري البيتكوين هي مثال ملا أ َطلق عليه الفيلسوف
االسكتلندي "آدم فريجوسن" "مُنتَج األفعال اإلنسانية ،وليس التصاميم اإلنسانية."2
ومع أن ساتويش ناكاموتو وهال فيني وآخرين قد أنشأوا نموذجا ً يعمل للربنامج يف يناير
عام ،2009إال أن الشيفرة الربمجية قد تطورت بشكل كبري منذ ذلك الوقت من خالل
مساهمات مئات املطورين املُختارين من قبل آالف األعضاء الذين يُشغلون العُ َقد .يجدر
اإلضافة أنه ليس هناك أي ُسلطة مركزية تحدد تطور برنامج البيتكوين ،كما أنه ال يوجد
أي مربمج يستطيع إمالء وفرض أي نتيجة عليه .وبهذا ،تم إثبات أن الطريقة إلجراء
تعديالت ل كي يتم تبنيها يجب أن تكون طريقة تلتزم بمعايري التصميم األصلية .وللدرجة
التي حصلت فيها التغريات عىل الربنامج ،فإنه يمكن فهمها عىل أنها تطويرات للطريقة
التي تتواصل فيها ال ُع َقد مع الشبكة ،وليست تبديال ً لشبكة البيتكوين أو معايريها أو
قوانينها املتفق عليها .ومع أن ماهية تلك املعايري هو أمر خارج عما يقدمه الكتاب إال أنه
يكفينا تحديد هذا املعيار :يف حال تَبَني عقدة لتغيري ما بحيث يضعها هذا التغيري خارج
إجماع القوانني املُتفق عليها ،فسيتوجب عىل جميع ال ُع َقد األخرى تَبَني نفس التغيري لكي
2آدم فريجوسن ،مقالة عن اتريخ اجملتمع املتحضر( .لندن.)1782 ،T. Cadell ،
258
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
تبقى ال ُع ْقدة املبادرة بهذا التغيري عضوا ً يف الشبكة ،وإذا قامت مجموعة من ال ُع َقد بتَبَني
قوانني اإلجماع الجديد ،فسينتج عن ذلك ما يُعرف باسم "انقسام كيل" يف العملة الرقمية.
من املغري القول هنا أن مدراء ال ُع َقد يتحكمون بالبيتكوين ،وهذا صحيح
باملعنى الجمعي ،لكن بالحقيقة ،إن مدراء ال ُع َقد ال يمكنهم التحكم إال بعقدهم الخاصة
واختيار قوانني الشبكة املناسبة لهم والتي يريدون االنضمام إليها ،وتحديد إذا ما كانت
التحويالت التي يسجلونها عىل أنها صالحة أم غري صالحة .فال ُع َقد محدودة بشكل كبري
يف اختيارها للقوانني املتفق عليها حيث أن تحويالتها سيتم رفضها إذا قامت بفرض
قوانني غري متوافقة مع ما هو مُتفق عليه يف الشبكة .ولهذا السبب ،يَتولَّد لدى كل عقدة
توافق مع ال ُع َقد
ٍ دافع قوي جدا ً للمحافظة عىل تطبيق القوانني املتفق عليها والبقاء عىل
األخرى ضمن هذه القوانني املتفق عليها .فال تستطيع ال ُع ْقدة الفردية أن تفرض عىل
ال ُع َقد األخرى تغيري شيفرتها الربمجية ،وهذا ما يخلق اتفاقا ً وتحيزا ً جماعيا ً للبقاء ضمن
القوانني الحالية املتفق عليها.
خالصة القول ،يملك مربمجو البيتكوين دافعا ً قويا ً لاللتزام بالقوانني املتفق
عليها لكي يتم تَبَني شيفرتهم الربمجية ،كما يجب عىل املعدِّنني أيضا ً االلتزام بقوانني
الشبكة املتفق عليها لكي يحصلوا عىل تعويض عن املوارد التي رصفوها عىل نظام إثبات
259
معيار البيتكوين
العمل .وأعضاء الشبكة أيضا ً يملكون دافعا ً قويا ً للبقاء عىل تلك القوانني املتفق عليها
لكي يتمكنوا من تصفية تحويالتهم عىل الشبكة .يجب أن نضيف هنا أنه من املمكن
االستغناء عن أي ُمعد ٍِّن أو ُمربمج ،أو مدير عُ قدة يف الشبكة ،حيث أنه إذا لم يلتزم أي
أحد منهم بالقوانني املتفق عليها فالناتج املرجح هو خسارتهم ملواردهم .وطاملا تُقدِّم
الشبكة مكافآت إيجابية ملشرتكيها ،من املرجح أن يظهر مشرتكون بدالء .لذلك ،يمكن
فهم معايري البيتكوين املتفق عليها بأنها ذات سيادة ،فاستمرار وجود البيتكوين للدرجة
التي يتواجد بها مرهون باستمرار وجود تلك املعايري والصفات .وهذا التحيز القوي
ُصعِّ ب للغاية من عملية تغيري جدول العرض للتمسك بالوضع الراهن يف عمل البيتكوين ي َ
ً ً
ُعترب البيتكوين نقدا سليما بسبب هذا النقدي أو املعايري االقتصادية املهمة .لهذا ،ي َ
التوازن املستقر فقط ،وستَضعف قيمته كثريا ً كنقد سليم إذا انحاز عن ذلك اإلجماع.
و إىل حد معلومات مؤلف هذا الكتاب ،لم تحدث أية محاوالت مهمة و ُمن َ َّسقة
لتعديل السياسة النقدية للبيتكوين ،3حيث أنه حتى املحاوالت البسيطة لتعديل بعض
املواصفات التقنية عىل الشيفرة باءت بالفشل .أي أنه حتى التغيريات البسيطة غري
الضارة للربوتوكول يَصعُب إجراؤها وذلك بسبب طبيعة الشبكة املوزعة ،وبسبب الحاجة
إىل أن تقبل أطراف متفرقة وعدائية بتغيريات ال يفهمون نتائجها تماماً ،بينما الوضع
الحايل اآلمن والذي تم تجربته مسبقا ً يبقى معروفا ً ويُعتمَ د عليه بشكل كيل .لهذا ،يمكن
فهم وضع وحالة البيتكوين بأن األعضاء قد وصلوا إىل درجة مستقرة من التفاهم
والتنسيق الصامت والضمني ،4مما يؤ ِّمن دافعا ً مفيدا ً لجميع املشاركني للتمسك به ،حيث
أن االبتعاد عنه سيتضمن دائما ً خطورة خسارة كبرية.
3بعد التنصيف األول لعوائد العمالت يف ،2012حاول بعض املع ّدنني االستمرار يف تعدين كتل املعامالت
أبرابح 50عملة ،إال أنه مت إيقاف تلك احملاوالت بشكل سريع بسبب رفض العقد لتلك الكتل اليت مت تعدينها
من قبل أولئك املع ّدنني ،مما أجربهم على الرجوع إىل جدول التضخم األصلي.
4إن "نقطة شيلينج" :هي اسرتاتيجية يستعملها األفراد يف غياب التواصل مع اآلخرين ألن هذه النقطة تظهر
بشكل طبيعي ،وألهنم يتوقعون من اآلخرين اختيار هذه االسرتاتيجية .و مبا أنه ال يوجد أي طريقة رمسية لتقييم
كمية عقد البيتكوين املوجودة ،فإن نقطة شيلينج لكل عقدة متعلقة اباللتزام مبجموعة القوانني املتفق عليها حالياً،
مع جتنب االجتاه حنو جمموعات القوانني اجلديدة.
260
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
معيار يف شيفرة
ٍ فإن قرر بعض أعضاء شبكة البيتكوين القيام بتغيري
البيتكوين الربمجية وذلك عرب تقديم نسخة جديدة من الربنامج غري متوافقة مع بقية
أعضاء الشبكة ،فالنتيجة ستكون انقساما ً يُنشئ بشكل فعال عملتني منفصلتني
وشبكتني .وطاملا بقي أعضا ٌء يف الشبكة القديمة ،فسيمكنهم االستفادة من البنية التحتية
للشبكة كما هي ومن معدات التعدين ،ومن مفعول تأثري الشبكة ،وشهرة االسم.
وسيتطلب نجاح االنقسام الجديد هجرة الغالبية العظمى من املستخدمني ،وقوى
التعدين ،وكل ما يتعلق بالبنى التحتية يف نفس الوقت للعملة الجديدة .وإن لم تحصل
عىل تلك الغالبية العظمى ،فالنتيجة املتوقعة هي أن كال العملتني سيتم تبادلهما مقابل
بعضهما البعض يف البورصات .لهذا ،إن أ َ ِمل األفراد املسؤولني عن االنقسام بأن ينجح
انقسامهم ،فسيكون عليهم بيع جميع عمالتهم القديمة عىل أمل أن يفعل الجميع اليشء
ً
جاذبة كل ذاته ،وذلك كي تنهار أسعار العملة القديمة وتصعد أسعار العملة الجديدة،
طاقة التعدين والشبكة االقتصادية إىل الشبكة الجديدة .لكن وألن أي تغيري بأي معيار يف
عمل البيتكوين من املرجح أن يعود بمنافع عىل بعض أعضاء الشبكة عىل حساب
اآلخري ن ،فمن غري املرجح أن يحدث اتفاق جماعي لالنتقال إىل العملة األخرى .حيث أنه
وبشكل عام ،ينجذب غالبية حَ َملة البيتكوين إىل طبيعة قوانينه اآللية املُمَ انِعة لتوجيهه
من قبل األطراف الثالثة .ومن غري املرجح أن يُخاطر هؤالء األعضاء بمنح حرية إجراء
ً
أساسية غري متوافقة ً
برمجية تغيريات جوهرية بالشبكة ملجموعة جديدة تطرح شيفر ًة
موض َع جدل ،ولكن ما يهم مع القوانني الحالية .ووجود هذه الغالبية أو عدم وجودها هو ِ
كاف من األعضاء وسيستمرون باستخدام معايري النظام هو أنه دائما ً ما سيتواجد عدد ٍ
الحايل ،إال إذا تم تقويض عملهم ألمر ما.
ففي ما عدا وجود حالة فشل كارثي يف التصميم الحايل ،يمكننا ضمان أن
تختار نسبة كبرية من ال ُع َقد استمرار استخدامها للتطبيق الحايل ،مما يجعل تلقائيا ً ذلك
الخيار آمنا ً أكثر ألي شخص يفكر باتخاذ القرار باالنقسام .واملشكلة بقرار االنقسام هي
أن الطريقة الوحيدة لضمان نجاحه هي عرب بيع عمالتك يف السلسلة القديمة ،ولكن ال
أحد يريد أن يبيع عمالته يف الشبكة القديمة لالنتقال إىل الشبكة الجديدة ليكتشف عدم
انتقال أحد ،ويكتشف هبوط قيمة العملة يف الشبكة الجديدة .وبشكل إجمايل ،ال يتم
261
معيار البيتكوين
االنتقال إىل تطبيق قوانني جديدة إال إذا أراد غالبية أعضاء الشبكة االنتقال سوي ًة بعد
االتفاق عىل هذه القوانني ،وأي انتقال ال يتضمن غالبية األعضاء هو بالتأكيد أمر كارثي
اقتصاديا ً عىل أي شخص شارك بالعملية .وبما أن أي انتقال إىل أي تطبيق جديد غالبا ً ما
يمنح الطرف الذي اقرتح االنتقال تحكما ً كبريا ً بمستقبل مسار البيتكوين ،فإن حَ مَ لة
البيتكوين الرضوريني لنجاح هذا االنتقال يرفضونه ،وذلك ألنهم مختلفون فكريا ً بشكل
كبري ألن يكون ألي مجموعة السلطة عىل البيتكوين .فغالبا ً لن يدعم حملة البيتكوين
حركة االنقسام هذه .إن وجود هذه املجموعات التي تدعم االنقسامات تشكل خطرا ً عىل
اآلخرين .وربما يفرس هذا التحليل سبب مقاومة البيتكوين لجميع محاوالت تغيريه بشكل
كبري حتى اآلن .فمشكلة التنسيق لتنظيم انتقال متزامن بني أشخاص بمطامع عدائية،
لدى كثري منهم إيمان راسخ بمبدأ عدم الثبات لهدف الثبات ،هي أمر صعب جدا ً فيما عدا
وجود سبب ضاغط يجرب الناس عىل االنتقال من التطبيق الحايل.
بتعديل يرفع معدل إصدار العملة بهدف زيادة قيمة ٍ ُرس الُمعدِّنون
مثالًَ ،سي َ ُّ
ُرس حاملو العملة الحاليني بهذا التعديل ،ولذلك العمالت التي تكافئ املعدنني ،لكن لن ي َ َّ
ُ
لن يوافق حملة العملة عىل تعديل كهذا .بشكل مشابه ،قد يستفيد المعدِّنون من تعديل
آخر بهدف زيادة حجم كتل شبكة البيتكوين حيث أن ذلك التعديل سيسمح لهم بالقيام
بتحويالت أكثر يف الكتلة الواحدة ،مما يؤدي إىل حصولهم عىل أرباح أكثر من رسوم
التحويالت ،وسيزيد من الدخل القادم من استثمارهم ملعدات التعدين الخاصة بهم .لكن
هذا لن يُريض حملة البيتكوين الذين يريدونه عىل املدى الطويل ،والذين سيقلقهم أن
زيادة حجم الكتل ستتسبَّب يف زيادة حجم سلسلة الكتل ( ،)Blockchainمما سيجعل
إدارة عقدة كاملة أغىل ثمناً ،األمر الذي يؤدي إىل انخفاض عدد ال ُع َقد يف الشبكة ،ويجعلها
أكثر مركزية ،وبالتايل يجعلها أكثر عرضة للهجمات .لهذا ،ال يستطيع املربمجون الذين
يطورون تطبيقات لتشغيل عقد البيتكوين أن يفرضوا أي تغيري عىل أي أحد ،حيث أن
مهمة هؤالء املربمجني هي عرض شيفرتهم ،وللمستخدم كامل الحرية بالشيفرة التي
سيحملها أو بالنسخة التي سيحملها .وغالبا ً سيُح ِّمل املستخدمون الشيفرة املتوافقة مع
التطبيقات الحالية أكثر من أي شيفرة أخرى غري متوافقة ،وذلك ألن نجاح الشيفرة
األخرى متعلق يف تشغيل غالبية أعضاء الشبكة لها.
262
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
ُظهر البيتكوين تحيزا ً كبريا ً للوضع الراهن حيث أنه إىل اآلن لم يتم
بالنتيجة ،ي ِ
تطبيق إال التغريات البسيطة وغري الجدلية عىل شيفرته الربمجية ،وانتهت جميع محاوالت
ُرس بذلك مستخدمي البيتكوين القدامى إجراء تعديالت كبرية عىل الشبكة بفشل ذريعِ ،لي َ َّ
الذين أكثر ما يُسعدهم يف عُ ملتهم هي ثباتها ومقاومتها للتغيري .وأهم وأبرز املحاوالت
كانت تلك املهتمة بزيادة حجم الكتل املنفردة وذلك لزيادة إجمايل التحويالت ،وجمعت
بعض املشاريع أسما ًء من أشهر وأقدم مستخدمي البيتكوين والذين أنفقوا الكثري يف
محاولة كسب شهرة للعملة .ويُعَ ُّد "جافِ ن أندرسن" واحدا ً من أكثر الوجوه ُشهرة حيث
ارتبط اسمه بالبيتكوين ،وقد قام األخري بعدة محاوالت جاهدة لعمل انقسام بالبيتكوين
وذلك لكي يحتوي عىل كتل أكرب ،إضافة إىل الكثري من أصحاب املصالح ،ومنهم بعض
املربمجني املحرتفني ،ورياديني بأموال طائلة.
بداي ًة ،تم اقرتاح " - Bitcoin XTبيتكوين "XTمن قبل "أندرسن" ومربمج
اسمه "مايك هرن" يف يونيو من عام ،2015وكان كل منهما يركز عىل زيادة حجم الكتلة
من 1ميغابايت إىل 8ميغابايت ،لكن رفضت غالبية العُ َقد تحديث نسخهم لنُسخ هؤالء
وفضلت هذه ال ُع َقد البقاء عىل كتل الـ 1ميغابايت .ثم تم توظيف هرن بعد ذلك من قبل
"اتحاد سلسلة الكتل للمؤسسات املالية" إلدخال تكنولوجيا سلسلة الكتل
( -Blockchainبلوك تشني) لألسواق املالية ،وقام هرن بنرش مقالة بالتزامن مع اتساع
شهرته يف "نيويورك تايمز" التي رحبت به كمن يحاول ببسالة إنقاذ البيتكوين الذي
كان يُصوَّر كاملحكوم عليه بالفشل ،فأعلن هرن "انتهاء تجربة البيتكوين" مشريا ً إىل قلة
نمو سعة التحويالت كعائق قاتل لنجاح البيتكوين ،ثم أعلن هرن أنه قد باع جميع
عمالته .كان سعر البيتكوين يف ذلك اليوم حوايل ،$350ومع مرور السنتني التاليتني،
ازداد سعر البيتكوين أربعني ضعفا ً بينما لم يُنتج "اتحاد سلسلة الكتل" الذي انضم إليه
أي منتَج حقيقي.
غري عابئ ودون رادع ،اقرتح جافِ ن أندرسن بشكل فوري محاول ًة جديدة
النقسام البيتكوين تحت اسم "بيتكوين كالسيك "Bitcoin Classic -والتي كانت
سرتفع حجم الكتلة إىل 8ميغابايت ،ولم تفلح هذه املحاولة أيضاً ،ويف مارس من عام
2016بدأ عدد ال ُع َقد التي تدعمه باالنخفاض .مع هذا ،ويف عام 2017اجتمع املؤيدون
263
معيار البيتكوين
لزيادة حجم الكتلة يف "بيتكوين أنليميتيد ،"Bitcoin Unlimited -وهو تحالف كبري
ضم أكرب صانعي رشائح تعدين البيتكوين ،إضافة إىل فرد غني جدا ً يتحكم باسم موقع
لكتل أكرب .فحدث الكثري من
ٍ Bitcoin.comوقد رصف موارد هائلة محاوال ً الرتويج
الصخب اإلعالمي وكان شعور األزمة واضحا ً عند العديد من متابعي أخبار البيتكوين عىل
وسائل اإلعالم والتواصل االجتماعي ،مع هذا ،لم يحدث أي انقسام ،حيث استمر القسم
األكرب من ال ُع َقد باستخدام التطبيقات املتوافقة مع تلك ذات سعة 1ميغابايت.
264
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
األمر قد يتسبب يف التوجه نحو انقسام كيل آخر لضبط معدل نمو العرض لالستمرار يف
عرض أرباح ومكافآت للمعدنني .وبالنسبة إىل سلسلة منقسمة عن البيتكوين فهي
مشكلة فريدة ،إال أنها لم تكن يوما ً كذلك بالنسبة للبيتكوين نفسه .فلطاملا كان تعدين
البيتكوين يستخدم أكرب كميات من طاقة املعالجة من أجل خوارزميته ،كما وكانت
الزيادة يف طاقة املعالجة دائما ً تدريجية وذلك مع توظيف املُعدنني سعة تعدين أكرب .لكن
مع عملةٍ منقسمة عن سلسلة البيتكوين ،فإنه كلما قلت قيمة العملة وانخفضت
الصعوبة ،كانت العملة أكثر عرضة للتعدين الرسيع من قبل سعات التعدين األكرب
للسالسل األكثر قيمة.
وبعد فشل هذا االنقسام بتحدي مكانة البيتكوين الرئيسية ،كان هناك محاولة
أخرى تم التفاوض بها عىل االنقسام ملضاعفة حجم الكتلة بني عدة رشكات ناشئة نشطة
يف اقتصاد البيتكوين ،وقد أ ُلغيت يف منتصف نوفمرب إلدراك مروجيها أنهم لن يستطيعوا
غالبا ً تحقيق اإلجماع عىل حركتهم وأنه سينتهي بهم املطاف بعملة أخرى وشبكة أخرى.
وقد تعلَّم القدامى يف البيتكوين أال يبالوا بمحاوالت كهذه ،متيقنني أنه مهما كان الحماس
وقدر الضجة اإلعالمية ،فإن أي محاولة لتغيري قواعد اإلجماع بالبيتكوين ستؤدي إىل
إنتاج نسخة مُقلَّدة أخرى منه ،كما كل العمالت البديلة املنسوخة عن البيتكوين والتي
تقلد التفاصيل الثانوية للبيتكوين لكنها ال تملك أهم صفاته (الثبات) .نستنتج مما سبق
أنه من الواضح أن أفضلية البيتكوين ال تكمن يف رسعته ،أو سهولته أو تجربة املستخدم
املريحة له ،بل يمكن القول إن قيمة البيتكوين تأتي من خالل امتالكه لسياسة نقدية
ثابتة وال يمكن ألي فرد تغيريها بسهولة .لذلك ،إ َّن أي عملة تبدأ بمجموعة من األفراد
الذين يغريون خواص البيتكوين فهي من بدايتها قد خرست الخاصية أو الصفة الوحيدة
التي تعطي البيتكوين قيمته.
إن استعمال البيتكوين هو أمر سهل ومبارش لكن تغيريه مستحيل افرتاضياً.
وبما أن البيتكوين عملة طوعية ،فإنه ال يتم إرغام أح ٍد عىل استخدامها ،لكن أولئك الذين
يريدون استخدامها ليس أمامهم خيار سوى اتِّباع قواعدها .فمحاولة تغيري البيتكوين
بأية طريقة ليست ممكنة فعلياً ،وإذا تمت املحاولة ،فسينتهي األمر بإنتاج عملة م َُقلَّدة
أخرى ال معنى لها تضاف إىل اآلالف من العمالت املوجودة حالياً .لهذا ،يجب أن يتم
265
معيار البيتكوين
استخدام البيتكوين كما هو ،ويجب قبوله بما تقتيض قوانينه وبما يُقدم لنا .فالبيتكوين
هو السيادة :وهو يعمل بقواعده الخاصة ،وال يمكن ألي دخيل خارجي تعديل قوانينه.
ولهذا ربما من املفيد حتى أن نُف ِّكر بمعايري البيتكوين عىل أنها مشابهة لدوران األرض أو
الشمس أو القمر أو النجوم ،وهي قوى تقع خارج سيطرتنا ،بحيث يتوجب علينا أن
نتقبلها كما هي وال نحاول تغيريها أو تعديلها.
ُعرفها
إن البيتكوين هو تجسيد لفكرة نسيم طالب عن األنظمة املضادة للهشاشة ،والتي ي ِّ
عىل أنها الكسب من املِحن واالضطرابات .فيمكن القول أن البيتكوين ليس عصيا ً عىل
الهجمات فحسب ،بل إنه أيضا ً مضاد للهشاشة عىل الصعيدَين االقتصادي والتقني.
وبينما باءت محاوالت قتل البيتكوين بالفشل حتى اآلن ،جعلته العديد من هذه املحاوالت
أقوى ،مما سمح للمربمجني أن يحددوا نقاط ضعفه ثم قاموا بإصالحها .إضافة إىل ذلك،
فإ َّن إحباط أي هجوم يشكل تهديدا ً للبيتكوين هو نقطة إيجابية لصالحه ،حيث أن هذا
األمر يشكل شهادة ودعاية ألمن الشبكة أمام املشرتكني بها وللناس خارجها.
266
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
يكفي من استثمارهم يف البيتكوين حتى استطاعوا جعله حرفتهم األساسية دون أن
يستلموا أي مقابل من أي أحد.
لقد حدث مثال مهم عىل نظام البيتكوين املضاد للهشاشة يف خريف عام
2013عندما ألقى مكتب التحقيقات الفيدرايل القبض عىل املالك املزعوم ملوقع " Silk
ً
مجانية تماما ً عىل اإلنرتنت تسمح للناس ببيع ورشاء أي يشء ،"Roadوالذي كان سوقا ً
يريدونه عىل اإلنرتنت مبارشة ،بما يف ذلك املخدرات غري القانونية .فتنبأ غالبية املحللني
مع ارتباط البيتكوين يف عقل العامة باملخدرات والجرائم أن إغالق املوقع سيدمر
استخدام البيتكوين .فانخفضت األسعار يف ذلك اليوم من مستويات $120إىل مستويات
267
معيار البيتكوين
ظهر مثال آخر عىل نظام البيتكوين املضاد للهشاشة يف سبتمرب عام 2017
بعد إعالن الحكومة الصينية إغالق كل البورصات الصينية التي كانت تتم فيها مبادالت
البيتكوين .وبينما كانت أول ردة فعل هي الذعر حيث ظهر أن سعر البيتكوين قد
انخفض بنسبة 40%إال أنها كانت مسألة ساعات حتى تعاىف سعر البيتكوين مجدداً.
الضعف من الوقت الذي كان وبعد مرور عدة أشهر عىل الحادثة ازداد سعره ألكثر من ِّ
فيه قبل الحجب الحكومي عليه .وبالرغم من ظهور حجب البورصات لتبادالت البيتكوين
كإعاقة لتبينه وذلك عرب خفض سيولته ،إال أنه من الواضح أن هذا الحجب قد خدم
مسألة تعزيز قيمة البيتكوين .فبدأت تحويالت أكثر بالظهور بعيدا ً عن البورصات يف
مواقع كموقع ،Localbitcoins.comفكان من الواضح أن ٍ الصني ،بحجم كبري جدا ً يف
نتيجة تعليق التجارة يف الصني كانت معاكسة للتأثري املقصود ،حيث أنها دفعت
الصينيني للتمسك بعمالت البيتكوين الخاصة بهم للمدى الطويل بدال ً من التجارة بها
عىل املدى القصري.
268
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
زيادة السعة اليومية بأربعة أضعاف ،لكن بالرغم من ذلك ،يبدو واضحا ً أنه سيكون
هناك حد صعب تخطيه لعدد التحويالت التي يمكن لسلسلة كتل البيتكوين معالجتها،
وذلك بسبب طبيعة البيتكوين املوزعة وغري املركزية ،حيث أنه يتم تسجيل كل تحويل يف
البيتكوين عند جميع عقد الشبكة املُر َغمني عىل إبقاء نسخة من كامل سجل التحويالت.
يعني هذا بالرضورة أن ثمن تسجيل التحويالت سيكون أكرب بكثري من أي حل مركزي
يحتاج سجال ً واحدا ً وبعض النسخ االحتياطية ،ولهذا إن أفضل أنظمة للدفع هي أنظمة
مركزية لسبب وجيه :فإبقاء سجل مركزي واحد أرخص من إبقاء عدة سجالت م َّ
ُوزعة
مع القلق الدائم حول تحديثهم ومزامنتهم ،وهو عملية ال يمكن حتى اآلن تنفيذها إال عرب
نظام إثبات العمل الخاص بالبيتكوين.
ظف سجالً واحدا ً مركزيا ً فحلول الدفع املركزية كالفيزا أو املاسرت كارد تُو ِّ
يضم جميع التحويالت التي تمت ،باإلضافة لنسخة احتياطية منفصلة تماماً ،ويمكن
للفيزا أن تعالج حوايل 3,200تحويل بالثانية ،أو 100.8مليار تحويل يف السنة .5بينما
كتل البيتكوين والتي سعتها 1ميغابايت يمكنها أن تعالج 4تحويالت يف الثانية كحد
أقىص ،أو 350,000تحويل يف اليوم ،أو حوايل 120مليون تحويل يف السنة .ولكي
يعالج البيتكوين املئة مليار تحويل التي تعالجها الفيزا ،فستحتاج كل كتلة منه ألن تكون
حوايل 800ميغابايت ،مما يعني بأنه كل 10دقائق تقريبا ً ستحتاج كل عقدة يف
البيتكوين أن تضيف بيانات بحجم 800ميغابايت ،بمعنى أنه ستضيف كل عقدة يف
البيتكوين كل سنة ما يقارب 42تريابايت من البيانات ،أو 42,000غيغابايت لسلسلة
الكتل الخاصة بها .إ َّن رقما ً كهذا سيكون خارجا ً عن نطاق طاقة املعالجة املوجودة يف
الحواسيب املتاحة تجاريا ً اآلن وحتى يف املستقبل القريب ،حيث أن الحاسوب االستهالكي
املتوسط أو القرص الصلب الخارجي يملك سع ًة متوسطة تقارب ال 1تريابايت ،أي ما
يقارب قيمة أسبوع من التحويالت بأحجام الفيزا .لتوضيح أكثر ،إن البنية التحتية
للحوسبة التي يستخدمها موظفو الفيزا إلجراء تلك التحويالت تستحق الدراسة.
269
معيار البيتكوين
ففي عام ،2013أظهر تقرير أن الفيزا تملك مركز بيانات يتم وصفه ب ِـ
"قلعة رقمية محصنة" ،محتويا ً عىل 376خادماً 277 ،جهاز تحويل 85 ،راوتر و42
جدار ناري .6وبما أن طبيعة نظام فيزا املركزي تجعل منه نظام نقطة الفشل الواحدة،
فإنه يتم توظيف كميات كبرية من التكرار واملساحة التخزينية االحتياطية للحماية من
الظروف املباغتة ،بينما يف حالة البيتكوين ،وبسبب تواجد عدد كبري من العُ َقد ،فإن ذلك
سيقلل من أهمية كل عقدة بشكل فردي ،مما يجعلها غري أساسية وغري حاسمة ،األمر
الذي سيتطلب كمية أقل من الحماية والسعة .مع ذلك ،فستحتاج العُ َقد التي يمكنها أن
تضيف 42تريابايت من البيانات كل سنة حاسوبا ً مكلفا ً جداً ،كما أن سعة حجم الشبكة
املطلوبة ملعالجة كل تلك التحويالت كل يوم ستكون كبرية وستتطلب تكلفة باهظة ،مما
سيجعل الشبكة معقدة وغري عملية ومكلفة بالنسبة لشبكة موزعة.
وال يوجد سوى عدد قليل جدا ً من تلك املراكز يف العالم :وهي تلك املراكز
املُستخدمة من قبل الفيزا أو املاسرت كارد ،وبعض ُمعالجات الدفع األخرى .وإذا حاول
البيتكوين ُمعالجة سعة كهذه ،فلن يتمكن من منافسة تلك الحلول املركزية وهو يمتلك
آالف املراكز املوزعة عىل مقياس مشابه؛ بل كان سيتوجب عليه أن يصبح مركزيا ً وأن
يوظف القليل من مراكز البيانات .ولكي يبقى البيتكوين موزعاً ،يجب أن تكون تكلفة
كل عقدة عىل الشبكة تكلف ًة معقول ًة بالنسبة آلالف األفراد حتى تشغلها حواسيب
شخصية متوفرة تجارياً ،ويتوجب أن يكون تحويل البيانات بني العُ َقد عىل مستويات
مدعومة من قبل سعة شبكة االتصاالت للمستهلكني العاديني.
فمن غري املمكن التصور أن البيتكوين سيكون قادرا ً عىل إجراء نفس سعة
التحويالت داخل السلسلة كتلك التي تدعمها األنظمة املركزية ،وهذا يفرس سبب ارتفاع
ثمن التحويالت ،والتي من املرجح استمرار ارتفاعها مع استمرار نمو الشبكة .فغالباً ،إن
أكرب مجال ونطاق لنمو سعة تحويالت البيتكوين سيكون خارج سلسلة الكتل ،بينما
6توين كونزير" ،من داخل مركز بياانت فيزا" ،معاجلة الشبكة ،متوفر على :
http://www.networkcomputing.com/networking/inside-visas-data-
center/1599285558
270
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
يمكن إجراء املدفوعات الصغرية وغري املهمة باستخدام الكثري من التقنيات األبسط .وهذا
األمر سيضمن عدم التنازل أو املساس بأهم خاصيتني يف البيتكوين واللتني تربران
استخدام طاقة معالجة كبرية :وهما النقد الرقمي السليم والنقود الرقمية .فال يوجد أية
تقنيات بديلة تمنح هاتني الوظيفتني ،لكن هناك العديد من التقنيات التي يمكنها أن توفر
وإنفاق استهالكي بثمن منخفض ،ويمكن تطبيق هذه التقنيات ٍ مدفوعات بحجم قليل
ً
موثوقة نسبيا ً وذلك باستخدام التقنيات الحالية لهذه الخيارات بشكل سهل لتكون
للنظام املرصيف .لهذا ،إ َّن استخدام البيتكوين بشكل واسع للمدفوعات التجارية ليس أمرا ً
قابال ً للتحقيق حيث تحتاج التحويالت وقتا ً يُقدَّر ب ِـ 1إىل 12دقيقة حتى تحصل عىل
التأكيد األول لها ،وال يمكن للتجار واملستهلكني االنتظار كل ذلك الوقت عىل املدفوعات.
ومع أن خطورة هجمة إنفاق مزدوج ليست كبرية بما يكفي لدفعة صغرية ،إال أنها كبرية
بما يكفي بالنسبة للتجار الذين يستلمون كميات كبرية من التحويالت كما يف الهجمة
التي حصلت عىل موقع املراهنات " ،"Bitcoin diceوالتي سيتم نقاشها الحقا ً يف قسم
الهجمات عىل البيتكوين.
271
معيار البيتكوين
وإذا استمرت شعبية البيتكوين باالزدياد ،فهناك بعض الحلول املحتملة ملشكلة
التوسع والتي ال تتضمن أي تغيري عىل بنية البيتكوين ،بل تستغل الطريقة التي تم بها
بناء التحويالت لزيادة عدد املدفوعات املحتملة .فيمكن لكل تحويل يف البيتكوين أن
دخالت واملُخ َرجَ ات .وباستخدام تكنولوجيا تسمى "ُ - CoinJoinكوينيحوي عددا ً من املُ َ
جوين" يمكن تجميع عدة مدفوعات مع بعضها البعض يف تحويل واحد ،مما يسمح
بإجراء عدة مدخالت ومخرجات باستخدام جزء فقط من املساحة والذي كان من املمكن
استخدامه يف الحالة األخرى .ومن املحتمل أن يزيد هذا من حجم تحويالت البيتكوين ملا
يُقدَّر بماليني التحويالت يف اليوم .وبازدياد ثمن التحويالت بشكل أكرب ،تزداد االحتمالية
بأن يصبح هذا الخيار هو الخيار الشائع.
توجد احتمالية أخرى لزيادة توسع البيتكوين وهي عن طريق َمحَ افظ )(USB
ا لرقمية املحمولة التي يمكن صناعتها لتكون مضادة للتالعب ،ومن املمكن التحقق من
ميزانيتها يف أي وقت .فستَحمل محركات ) (USBتلك املفتاح الخاص لعدد محدد من
عمالت البيتكوين سامح ًة ألي شخص يحملها بسحب النقود منها .ويمكن استخدامها
أيضا ً كنقود فعلية مادية ،ويمكن لكل حامل لها أن يؤكد القيمة يف تلك املحركات .ففي
الوقت الذي كانت تزداد فيه الرسوم عىل الشبكة ،لم يكن هناك أي فرتة من الراحة يف
ازدياد الطلب عىل البيتكوين ،ويشهد عىل ذلك سعره املتزايد ،مما يشري إىل أن املستخدمني
يقدرون قيمة التحويالت بما هو أكثر من تكلفة هذه التحويالت والتي من املُفرتض عليهم
دفعها .فبدال ً من أن يبطئ ازدياد ثمن الرسوم من عدد متبني البيتكوين ،فإن كل ما
يحصل هو أنه يتم نقل التحويالت األقل أهمية إىل خارج السلسلة وتزداد أهمية
التحويالت التي تجري داخل السلسلة .لهذا ،إن أهم حاالت االستخدام للبيتكوين كمخزن
للقيمة ،وللمدفوعات التي ال يمكن مصادرتها ومنعها ،تستحق رسوم التحويالت
توقع دفع تحويلاملوضوعة .فعندما يشرتي الناس البيتكوين لتخزينه لفرتة طويلة ،يتم ُّ
واحد صغري عادة ما يتضاءل حجمه مقارنة بالعمولة والعالوة املوضوعة من قبل
البائعني .لهذا ،إن رسوم تحويالت البيتكوين تستحق أن تُدفع بالنسبة لألفراد الذين
يبحثون عن طريقة للهروب من الضوابط املفروضة عىل رأس املال ،أو للذين يريدون
لبلدان تواجه صعوبات اقتصادية باعتبار البيتكوين البديل الوحيد لهم.
ٍ إرسال أموالهم
272
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
ومع انتشار تبني البيتكوين وازدياد رسوم التحويالت فيه إىل حدٍ تصبح فيه مسألة
الستعمال أكرب لحلول
ٍ مهمة للناس التي تدفع ثمنها ،سيكون هناك ضغط اقتصادي
زيادة التوسع املذكورة يف ما سبق ،والتي بدورها ستسمح بزيادة سعة التحويالت دون
الحاجة إىل القيام بتغيريات قد تساوم وتقوِّض قواعد الشبكة والتي قد تؤدي إىل انقسام
يف الشبكة.
قد يناقض هذا التحليل الخطاب الذي رافق ظهور البيتكوين والذي قام
برتويجه عىل أنه سيضع حدا ً للمصارف واألعمال املرصفية .لكن الفكرة بأن املاليني أو
حتى املليارات ستستطيع استعمال شبكة البيتكوين مبارشة من أجل القيام بجميع
تحويالتهم هي فكرة غري واقعية وذلك ألنها تستلزم عىل كل عضو يف الشبكة أن يسجل
كل تحويل لكل عضو آخر فيها ،ومع ازدياد العدد ،سيزداد حجم التسجيالت وستصبح
ً
حاملة لثقل كبري من الحوسبة .عىل الجانب اآلخر ،سيستمر ازدياد الطلب عىل الشبكة
خواص البيتكوين الفريدة كمخزن للقيمة مما سيجعل األمر صعبا ً عىل البيتكوين أن
ينجو كشبكة نظري إىل نظري نقية تماماً ،وستُصبح حلول معالجة الدفع التي تجري
273
معيار البيتكوين
خارج سلسلة كتل البيتكوين أمرا ً مفروضا ً ليستمر البيتكوين بالنمو ،وستظهر هذه
الحلول من خالل منافسة األسواق الحرة.
فهناك سبب آخر هام لعدم التخيل عن املصارف كمؤسسة وهو أمان الوصاية
املرصفية .فبينما يُقدِّر األصوليون يف البيتكوين قيمة الحرية املمنوحة لهم بقدرتهم عىل
االحتفاظ بنقودهم وعدم االعتماد عىل أي مؤسسة مالية من أجل الوصول إليها ،إال أنه
باملقابل ال تريد الغالبية العظمى من الناس تلك الحرية وتفضل أال يكون مالها الخاص
تحت مسؤوليتها بسبب الخوف من الرسقة أو الخطف .فمن السهل النسيان يف هذه األيام
يف خضم الخطابات الشائعة املشهورة املضادة للبنوك ،وخاصة يف أوساط ودوائر حَ مَ لَة
البيتكوين ،أن اإليداع املرصيف هو عمل رشعي طالب به الناس ملئات السنني حول العالم.
آمن كي يستطيعوا حمل كمية ف َد َفع الناس بسعادة مقابل تخزين أموالهم يف مكان ٍ
صغرية من النقود ومواجهة خطورة فقدان كمية صغرية منها وليس كمية كبرية.
فاستعمال البطاقات البنكية بدال ً من النقود الحقيقية سمح للناس حَ ْم َل مجموعات قليلة
من هذه النقود معهم كل الوقت ،وهو غالبا ً ما جعل املجتمع الحديث أكثر أمانا ً مما إذا
كان غري ذلك ،حيث ال يتوقع املهاجمون املحتملون يف هذه األيام أن يقابلوا أحدا ً ما يحمل
معه كمية كبرية من النقود ،لدرجة أن رسقة البطاقات البنكية أصبحت غري مثمرة لجني
أرباح كبرية حيث أن الضحية ستحاول وقفها بأرسع وقت ممكن.
فحتى وإن كانت شبكة البيتكوين قادرة عىل دعم مليارات التحويالت يف اليوم
متفادية الحاجة لطبقة مُعالجة ثانية ،فسيلجأ الكثري بالنهاية ،إن لم يكن معظم حملة
البيتكوين ذوي الرصيد الكبري ،لالحتفاظ بعمالت البيتكوين الخاصة بهم يف واحد ٍة من
الخدمات الكثرية من أجل الحفاظ عىل أمان البيتكوين .فهذا قطاع جديد كليا ً ومن املرجح
أن يتطور بشكل هائل ِّ
ليوفر حلوال ً تقنية للمساحة التخزينية بدرجات مختلفة من األمان
والسيولة .ومهما كان الشكل الذي سيتخذه هذه القطاع ،فسرتسم الخدمات التي يقدمها
وكيفية تطورها شك َل ومعالم النظام املرصيف املبني عىل البيتكوين يف املستقبل .وال
يمكنني أن أتوقع الشكل الذي ستتخذه هذه الخدمات أو ما هي القدرات التقنية التي
ستحملها ،لكن يمكنني توقع أنها ستستخدم آليات إثبات مشفرة إضافة إىل تحقيق
سمعة السوق كي تعمل بنجاح .ومن املمكن تحقيق ذلك باستخدام تكنولوجيا تُدعى
274
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
" - Lightning Networkشبكة الربق" ،وهي تكنولوجيا تحت التطوير تَعِ د بزيادة
سعة التحويالت بشكل كبري عرب السماح للعقد بإدارة قنوات للدفع خارج سلسلة الكتل
بحيث ال تستعمل سجل البيتكوين إال من أجل تأكيد مصداقية امليزانيات بدال ً من النقل.
275
معيار البيتكوين
وغالبا ً ،ستستمر حلول الطبقات الثانية يف النمو بأهميتها ،مما سيؤدي إىل ظهور نوع
جديد من املؤسسات املالية مشابه للمصارف يف يومنا الحايل تستخدم التشفري وتعمل عىل
االنرتنت بشكل رئييس.
يف الواقع ،إن ِسج َّل البيتكوين ثابت ومتاح عامليا ،وسيحتوي هذا السجل عىل
كل التحويالت ما دام البيتكوين مستمر بالعمل .لهذا ،ليس من الدقة القول أن
مستخدمي البيتكوين مجهولو الهوية ،بدال ً من القول أن هوياتهم مُستعارة .ألنه من
املحتمل ،لكن ليس أكيداً ،تحقيق الربط بني شخصيات الحياة الواقعية وعناوين
البيتكوين ،وبالتايل السماح بتَتبُّع شامل لكل التحويالت عرب العنوان عندما يتم التحقق
من الهوية الحقيقية وراء هذا العنوان .فعندما يتعلق األمر بإخفاء الهوية الفعلية ،من
العميل لنا أن نفكر ِب َكوْن البيتكوين مجهول الهوية كاإلنرتنت :فيعتمد األمر عىل مهارتك
بالتخفي ومهارة اآلخرين بالبحث .لكن سلسلة كتل البيتكوين تجعل إخفاء الهوية صعبا ً
جدا ً عىل الشبكة ،حيث أنه وبينما من السهل التخلص من جهاز ما ،أو عنوان بريد
إلكرتوني ،أو عنوان IPومن ثم عدم استخدامه مرة أخرى ،إال أنه من الصعب مسح
مسار املوارد املتجهة إىل عنوان بيتكوين ما بشكل تام ،حيث أن طبيعة بنية سلسلة كتل
البيتكوين ال تجعله مثاليا ً للخصوصية.
7ستني ،مارا ليموس" .تقرير اخلطورة الصباحي :متويل اإلرهاب عن طريق البيتكوين قد يكون مبالغاً به" صحيفة
وال سرتيت.2017 ،
276
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
وكل هذا يعني أنه من أجل ارتكاب أي جريمة يوجد بها ضحية فعلية،
فسيكون من غري العقالني بالنسبة للمجرمني استخدام البيتكوين .فطبيعة الهويات
املستعارة تعني أنه من املمكن ربط العناوين بهويات العالم الحقيقي حتى بعد سنوات
كثرية من ارتكاب الجريمة .فيمكن للرشطة أو الضحايا أو املحققني الذين يتم توظيفهم
أن يقوموا بإيجاد رابط يقودهم إىل هويات أولئك املجرمني ،حتى بعد مرور العديد من
السنوات .لهذا ،كان مسار مدفوعات البيتكوين بحد ذاته سببا ً يف كشف هويات العديد
من تُجَّ ار املخدرات عىل الشبكة واإلمساك بهم ألنهم وقعوا يف خدعة كون البيتكوين
مجهول الهوية بالكامل.
إن البيتكوين تكنولوجيا خاصة بالنقد ،والنقد هو يشء يمكن استعماله من
قبل املجرمني طوال الوقت .لهذا ،يمكن ألي شكل من أشكال النقد أن يتم استعماله من
قبل املجرمني أو من أجل إتاحة الجريمة ،لكن سجل البيتكوين الثابت يجعله غري مناسب
لهؤالء املجرمني الرتكاب جرائم مع وجود ضحايا قد تكون لديهم نية يف إجراء
التحقيقات .فيمكن للبيتكوين أن يكون مفيدا ً بشكل كبري يف إتاحة "الجرائم التي ال
تحتوي عىل ضحايا" ،وذلك ألن غياب الضحية يعني أن ال أحد سيحاول كشف هوية
"املجرم" .يف الواقع ،ويف اللحظة التي يتجاوز بها الشخص الدعاية الضخمة لحكومات
القرن العرشين ،فسنجد أنه ليس هناك ما يُدعى بالجريمة التي ال تحتوي عىل ضحية،
يحتو الفعل عىل ضحية ،فهو ليس جريمة بغض النظر عما يعتقد بعض ِ ألنه إن لم
صوِّتني املُعتَدّين بأنفسهم أو البريوقراطيني بشأن حقهم يف سن وترشيع األخالق املُ َ
لآلخرين .فيمكن للبيتكوين أن يكون مفيدا ً يف تلك األعمال غري الرشعية لكن األخالقية
بالكامل ،ألنه ال يوجد هناك ضحايا يحاولون اإلمساك باملجرم .فتلك النشاطات غري
املؤذية التي تم ارتكابها ستَظهر عىل سلسلة الكتل كتحويل فردي قد تتعدد أسبابه.
لذلك ،إن الجرائم التي ال تحتوي عىل ضحايا كاملقامرة عىل الشبكة والتهرب من الضوابط
املفروضة عىل رأس املال ،من املمكن للمرء أن يتوقع استخدام البيتكوين فيها ،ولكن لن
يُتوقع استخدام البيتكوين لجرائم القتل واإلرهاب .لهذا ،يبدو أنه يتم استخدام سلسلة
كتل البيتكوين لتجارة املخدرات ،كما دلتنا األرقام الكبرية من أعداد أولئك الذين يشرتون
املخدرات عرب البيتكوين والذين تم التعرف عليهم من تطبيق القانون ،مع العلم أن تلك
277
معيار البيتكوين
التجارة غالبا ً تَنتج عن شهوة املدمنني وليس عن قرار عقالني .ويف حني أنه من الصعب
إيجاد اإلحصائيات الكافية حول هذا املوضوع ،إال أنني لن أتفاجأ إذا اكتشفت أن رشاء
املخدرات باستخدام البيتكوين أخطر بكثري منه باستخدام النقود الورقية املادية
الحكومية.
بكلمات أخرى ،سيزيد البيتكوين غالبا ً من حرية األفراد بينما ليس بالرضورة
أن ي ُسهِّ ل عليهم ارتكاب الجرائم ،فهو ليس أداة لنخاف منها ،بل أداة يتم تبنِّيها عىل أنها
جزء متكامل من مستقبل مسالم ومزدهر.
إ َّن "املطالبة بفدية" هي واحدة من أكرب وأهم أنواع الجرائم التي تم استخدام
البيتكوين فيها بشكل كبري :وهي طريقة لدخول غري مرصح به إىل حواسيب الضحايا
وتُشفر ملفات الضحايا ،وال تطلق رساحها إال يف حال قيام الضحية بالدفع للمستلم غالبا ً
باستخدام عمالت البيتكوين .ويف حني كانت تلك األنواع من الجرائم موجودة حتى قبل
البيتكوين ،إال أن تنفيذها أصبح أكثر سهولة منذ اخرتاعه ،وهذا بال شك أفضل مثال عىل
استخدام البيتكوين لتسهيل وإتاحة الجريمة .مع هذا ،يمكن للشخص ببساطة أن يفهم
أن جرائم طلب الفدية تلك تستفيد وتستغل الحواسيب التي تفتقر لألمن والحماية.
فالرشكة التي يتم تشفري كامل نظام حوسبتها من قبل مجموعة من املخرتقني املجهولني
الذين يطالبون ببضعة آالف من الدوالرات بعملة البيتكوين هي رشكة لديها مشاكل أكرب
بكثري من أولئك املخرتقني .وقد يكون دافع املخرتقني هو بضعة آالف من الدوالرات ،لكن
قد يكون دافع الرشكات املنافِ سة أو العمالء أو حتى املُمولني يف جمع بيانات تلك الرشكة
أكرب بكثري .بالنتيجة ،سمحت جرائم املطالبة بالفدية عن طريق البيتكوين بتحديد
وكشف العيوب يف حماية وأمن الحواسيب ،فأدت هذه العملية بالرشكات التخاذ تدابري
وقائية أفضل وإىل زياد ٍة يف نمو حماية الحواسيب كتجارة .بكلمات أخرى ،يسمح
البيتكوين بتسييل سوق حماية الحواسيب .وبينما يمكن للمخرتقني حاليا ً االستفادة من
ذلك ،إال أنه عىل املدى البعيد ،ستقوم الرشكات املنتجة بتحديد املوارد األفضل للحماية.
278
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
القرصنة
إن مقاومة البيتكوين للهجمات متجذرة بثالث خواص :بساطة أساسياته ،وطاقة
املعالجة الخاصة به والتي شغلها الشاغل هو ضمان أمن هذا التصميم البسيط ،إضافة
إىل ال ُع َقد املوزعة التي تحتاج إىل الوصول إىل اتفاق عىل أي تغيري كي يتم إجراؤه .ولرسم
صورة عن درجة تحصني البيتكوين ،تخيل املرادف الرقمي لوضع جميع مشاة الجيش
األمريكي وأسلحته حول ساحة مدرسة ما لحمايتها من الغزو ،وستكون هذه هي درجة
التحصني.
8بدأ جي .دبليو .ويذرمان مشروعاً ذي مصدر مفتوح لتقييم التهديدات على شبكة البيتكوين ،ميكن إجياد
املشروع على BTCthreats.com :
279
معيار البيتكوين
ففي جوهره ،البيتكوين هو دفرت وسجل ملكية لعمالت افرتاضية بحيث أن
هناك 21مليون فقط من تلك العمالت ،باإلضافة إىل بضع ماليني من العناوين التابعة له،
وكل يوم يتم نقل بعض تلك العمالت فيما ال يتعدى 500ألف تحويلة .وقوة الحوسبة
الالزمة إلدارة نظام كهذا ضئيلة جدا ً ويمكن لحاسوب محمول ب $100إدارتها يف نفس
الوقت الذي يتم تصفح اإلنرتنت عليه ،ولكن يرجع سبب عدم تشغيل البيتكوين عىل
حاسوب واحد ألن ترتيبا ً وعمال ً كهذا سيتطلب ثق ًة يف مالك الحاسوب ،وثقة يف عدم كون
هذا الحاسوب سهل االخرتاق نسبياً.
280
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
التحويالت تتزايد بشكل مستمر .إضافة إىل ذلك ،تهتم معظم العُ َقد يف الشبكة باستمرار
البيتكوين وبقائه.
فهناك عدم تماثل جوهري يف قلب تصميم البيتكوين بني تكلفة إضافة كتلة
جديدة من التحويالت وتكلفة التأكد من صالحية تلك التحويالت .هذا األمر يعني أنه ويف
حني أن تزوير السجل هو أمر ممكن تقنياً ،إال أن الحوافز االقتصادية تتكدس ضد ذلك.
ونتيج ًة لذلك ،يُشكل سجل التحويالت سجال ً ال جدال فيه لكل التحويالت الصالحة التي
تم تأكيدها حتى اآلن.
هجمة الـ51%
إن هجمة الـ 51%هي طريقة يُستخدم فيها كميات كبرية من طاقة املعالجة إلنتاج
تحويالت احتيالية ومُزوَّرة وذلك عرب إنفاق العملة ذاتها مرتني ،مما يؤدي إىل إلغاء أحد
التحويلني ورسقة املستلم .وهذا األمر يعني أنه إذا استطاع مُعدّن ما ،لديه قدرة عىل
التحكم بنسبة كبرية من معدل الهاش ،ح َّل مسائل نظام إثبات العمل بشكل رسيع،
فبإمكانه أن ينفق عملة بيتكوين عىل سلسلة الكتل العامة التي تحصل عليها التأكيدات،
بينما وبالوقت نفسه ،يقوم بتعدين سلسلة منقسمة موازية بتحويل آخر لعملة البيتكوين
ذاتها لعنوان آخر يعود للمهاجم .فيحصل متلقي التحويل األول عىل التأكيدات لكن
سيحاول املهاجم استخدام طاقة معالجته لجعل السلسلة األخرى أطول .ويتكلل الهجوم
بالنجاح إذا استطاع املهاجم جعل السلسلة األخرى أطول من األوىل ،وعندها سريى مُستلم
التحويل األول أن العمالت التي تلقاها قد اختفت.
وكلما ازداد معدل الهاش الذي يسيطر عليه املهاجم ،ازدادت قدرته عىل جعل
السلسلة االحتيالية أطول من السلسلة العامة ،وبالتايل سيستطيع إلغاء تحويله وكسب
الربح .وبينما يبدو ذلك سهال ً يف مبدأه إال أنه صعب جدا ً عملياً ،فكلما ازدادت مدة انتظار
املتلقي للتأكيدات ،قلت احتمالية نجاح املهاجم ،وإذا كان امللتقي عىل استعداد لالنتظار
للحصول عىل ستة تأكيدات ،فسيتقلص احتمال نجاح الهجوم بشكل كبري جداً.
281
معيار البيتكوين
نظرياً ،تبدو هجمة الـ 51%قابلة للتنفيذ من الناحية التقنية ،لكن عمليا ً تقف
نفذ معدِّن هجمة ال %51بنجاح، الدوافع االقتصادية عائقا ً أمامها بشكل كبري .فإذا َّ
فإنه سيقلل بشدة من الدافع االقتصادي الستخدام البيتكوين ،وبذلك سيقلل من الطلب
عىل عمالت البيتكوين .ومع تزايد تعدين البيتكوين ليصبح قطاعا ً قائما ً عىل كثافة رأس
مكرسة إلنتاج العمالت ،ازداد معه اهتمام املُعدنني طويل األمداملال باستثمارات كبرية َّ
للمحافظة عىل نزاهة الشبكة ،حيث تعتمد قيمة مكافآتهم عىل ذلك .كما أنه لم يتم
تسجيل أي هجمة إنفاق مزدوج ناجحة عىل أي من تحويالت البيتكوين التي حصلت عىل
توثيق واحد عىل األقل.
وأقرب محاولة ناجحة لإلنفاق املزدوج شهدها البيتكوين كانت عام ،2013
حيث كان موقع مراهنة للبيتكوين يسمى " - Bitcoin Diceبيتكوين دايس" يحوي ما
يُقدَّر بمجموع 1000عملة بيتكوين (تقدر قيمتها بحوايل الـ $100.000يف ذلك
الوقت) ،وتمت رسقة العمالت منه يف هجمة إنفاق مزدوج باستخدام مصادر تعدين
هائلة .عىل كل حال ،لم تنجح الهجمة إال ألن موقع الـ "بيتكوين دايس" كان يقبل
تحويالت بال أي توثيق عليها ،مما جعل تكلفة الهجمة زهيدا ً نسبياً .فالهجوم كان
سيصبح صعبا ً إن قبل املوقع تحويالت بتأكيد واحد فقط .وهذا سبب آخر من األسباب
التي تجعل سلسلة كتل البيتكوين غري مثالية ملدفوعات املستهلكني الكبرية :فإنتاج كتلة
جديدة يأخذ بني 1إىل 12دقيقة وذلك لعمل توثيق واحد للتحويل ،وإذا َق ِبل ُمعالج
مدفوعات كبري وخاطر بقبول تحويالت بال أي تأكيدات ،فسيشكل ذلك هدفا ً مربحا ً
لهجمات اإلنفاق املزدوج َّ
املنسقة التي تستخدم موارد تعدين كبرية.
282
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
فلن تكون هجمة الـ %51ناجحة غالبا ً إن حدثت بهدف دافع ربحي ،لكن قد
تحدث هجمة كهذه دون الحاجة لوجود دافع ربحي بل بنية القضاء عىل البيتكوين .فقد
تُقرر جهة حكومية أو خاصة أن تحصل عىل سعة تعدين البيتكوين لالستيالء عىل غالبية
ً
خادعة بذلك شبكته ،ومن ثم استخدام طاقة املعالجة تلك إلجراء هجمات إنفاق مزدوج
العديد من املستخدمني ومدمر ًة أمان الشبكة ،لكن الطبيعة االقتصادية للتعدين ستقف
سوق عاملية تنافسي ٌة بشكل
ٌ بشكل كبري ضد حصول ذلك الحدث .فطاقة املعالجة هي
كبري ،ويُع ُّد تعدين البيتكوين يف العالم واحدا ً من أكرب استخدامات طاقة املعالجة،
وأكثرها ربحاً ،وأرسعها نمواً .وقد يبحث املهاجم عن ثمن االستيالء عىل 51%من طاقة
املعالجة املستخدمة حاليا ً ليقرر تخصيص هذا الثمن لرشاء األجهزة املطلوبة لذلك .لكن
إذا تم استخدام هذا القدر الكبري من املوارد لرشاء معدات تعدين البيتكوين ،فسيؤدي
ذلك إىل صعود حاد يف ثمن تلك املعدات ،مما سيكافئ املعدِّنني الحاليني وسيسمح لهم
لالستثمار بشكل أكرب يف رشاء معدات تعدين أكثر ،كما أنه سيؤدي أيضا ً إىل استثمار
رأس مال أكرب يف إنتاج طاقة التعدين من قبل منتجي معدات التعدين ،مما سيؤدي إىل
تقليل ثمن طاقة املعالجة وسيزيد من رسعة نمو معدل طاقة املعالجة للبيتكوين.
وكطرف خارجي يدخل السوق ،فإن املهاجم سيبقى بوضع ال يحصل فيه عىل أفضلية، ٍ
حيث يؤدي رشائه ملعدات التعدين املطلوبة إىل نمو رسيع يف طاقة املعالجة املستخدمة يف
التعدين التي ال يمكنه التحكم بها .باملقابل ،كلما ازدادت املوارد املرصوفة عىل إنتاج طاقة
املعالجة ملهاجمة البيتكوين ،ازدادت رسعة نمو طاقة املعالجة فيه وازدادت صعوبة
مهاجمة البيتكوين .لذلك ومرة أخرى ،بينما يمكن تقنيا ً تنفيذ هذا النوع من الهجمات،
إال أن اقتصاد الشبكة سيجعل من نجاحه أمرا ً غري مرجح الحدوث.
فيمكن ملهاجم وخاصة إذا كان حكوميا ً أن يحاول الهجوم عىل البيتكوين عرب
االستيالء عىل البنية التحتية الخاصة بالتعدين واستخدامها بشكل غري ربحي ،وذلك
للتقليل من أمن وحماية الشبكة ،لكن حقيقة أن عملية تعدين البيتكوين هي عملية
موزعة جغرافيا ً بشكل كبري تجعل هذا األمر احتماال ً صعبا ً قد يحتاج تعاونا ً من قبل عدة
حكومات عرب العالم .ولهذا أفضل طريقة لتنفيذ ذلك ربما لن تكون عرب االستيالء عىل
معدات التعدين مادياً ،بل عن طريق االستيالء عليها عرب األبواب الخلفية لألجهزة.
283
معيار البيتكوين
هناك احتمالية أخرى للتشويش عىل شبكة البيتكوين أو تدمريها وهي عرب إفساد األجهزة
التي تش ِّغل النظام الربمجي الخاص بالبيتكوين لكي تصبح متاحة ألطراف خارجية.
فعىل سبيل املثال ،يمكن للعقد التي تقوم بالتعدين أن يتم دس برمجيات خبيثة بها غري
قابلة للرصد لت ُ َم ِّكن لألطراف الخارجية السيطرة عىل األجهزة .وبهذا ،يمكن أن يتم
تعطيل تلك األدوات أو التحكم بها عن بعد يف الوقت الذي يتم به تنفيذ هجمة الـ .%51
ولدينا مثال آخر عىل هذه الهجمات وتتم عرب تكنولوجيا التجسس والتي إذا تم
تنصيبها عىل حاسوب مستخدم ما ،فسيُسمح بالدخول إىل حساب البيتكوين الخاص به
عرب الحصول عىل مفاتيحه الخاصة .ويمكن لهذا النوع من الهجمات إذا تمت عىل نطاق
واسع أن تُقلِّل الثقة يف البيتكوين كنوع من األصول بشكل حاد جداً ،ومن الطلب عىل
البيتكوين أيضاً.
ومن املمكن تنفيذ نوعَ ي الهجمات تلك تقنياً ،ولكن عىل عكس نوعي الهجمتني
السابقتني ،فليس من الرضوري أن تنجح تلك الهجمات بشكل كامل كي تشكل قدرا ً
كافيا ً من االرتباك والفوىض لتؤذي ُسمعة البيتكوين ومن الطلب عليه .ومن املرجح أن
ينجح هذا النوع من الهجمات عىل معدات التعدين إذا أخذنا بعني االعتبار أنه يوجد عدد
قليل من مُصنِّعي معدات التعدين ،حيث أن هذا يشكل واحد ًة من أكثر النقاط الحرجة
للبيتكوين والتي من املمكن أن تقوده نحو الفشل .لكن مع نمو تعدين البيتكوين ،من
املرجح أن يبدأ هذا األمر بجذب عدد أكرب من صانعي األجهزة لصناعة معدات التعدين،
مما سيؤدي إىل تقليص األثر الكارثي عىل الشبكة يف حال تم اخرتاق عمليات صانع
أجهزة واحد.
إن هذه الخطورة هي أقل تنظيميا ً عىل الشبكة مع وجود الحواسيب الشخصية
وذلك ألنه هناك نظريا ً عدد غري نهائي من صانعي هذه األجهزة حول العالم ،الذين لديهم
معدات يمكنها الدخول إىل شبكة البيتكوين .فإذا كان أي مُنتِج لهذه األجهزة مخرتَقا ً وتم
الكشف عن ذلك ،فغالبا ً سيؤدي ذلك إىل انتقال املستهلك إىل مُنتِج آخر .أضف إىل ذلك أنه
284
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
يمكن للمستخدمني أن يُولِّدوا مفتاحا ً خاصا ً لعناوينهم عىل الحواسيب غري املتصلة
بالشبكة والتي لن يتصلوا عربها بالشبكة أبداً .وحتى بالنسبة لألفراد األكثر قلقا ً وارتياباً،
فيمكنهم توليد عناوينهم ومفاتيحهم الخاصة عىل حواسيب غري متصلة بالشبكة ومن ثم
تدمريها عىل الفور ،وستنجو العمالت املخزنة يف تلك املفاتيح االفرتاضية الخاصة من أي
نوع من الهجمات التي ت ُ َشن عىل الشبكة.
285
معيار البيتكوين
بروتوكول برمجي؛ فهو عملية داخلية يمكن تشغيلها عىل أي حاسوب من مليارات
الحواسيب املوزعة حول العالم .لهذا ،ليس للبيتكوين نقطة الفشل الواحدة ،وال يعتمد
عىل أي جهاز أو بُنية بحيث أنه ال يمكن التخيل عنهما يف أي نقطة من العالم .فيمكن ألي
حاسوب يُشغل برمجيات البيتكوين أن يتصل بالشبكة وأن يتم إجراء العمليات عليه.
بهذا املنطق ،إن البيتكوين يشبه اإلنرتنت عىل أنه برتوكول يسمح للحواسيب باالتصال
ببعضها البعض؛ وليست البنية التحتية هي التي تصل هذه الحواسيب ببعضها .كما أن
كمية البيانات املطلوبة لنقل املعلومات حول البيتكوين ليست كبرية ،وتُقدَّر هذه الكمية
بجزء صغري جدا ً من كمية تدفق املعلومات يف اإلنرتنت .فال يحتاج البيتكوين إىل الحجم
الكبري ذاته من البنية التحتية التي يحتاجها باقي اإلنرتنت ،وذلك ألن سلسلة كتل
البيتكوين تبث 1ميغابايت فقط من البيانات كل عرش دقائق تقريبا ً .وبما أنه هناك عدد
غري نهائي من التقنيات السلكية والالسلكية التي تُستعمل يف نقل البيانات حول العالم،
فاملستخدم يحتاج إىل واحدة فقط من تلك التقنيات كي يستطيع الولوج إىل الشبكة .ومن
أجل إنشاء عالَ ٍم ال يمكن فيه ألي مستخدم بيتكوين أن يتصل مع أي مستخدم آخر ،فإن
ذلك سيتطلب إحداث كمية هائلة ومدمرة من الرضر عىل معلومات العالم وبياناته وعىل
البنية التحتية لالتصاالت .يجدر اإلشارة إىل أن حياة املجتمع الحديث تعتمد بدرجة كبرية
عىل االتصاالت وذلك ألن العديد من الخدمات الهامة والحيوية ،إضافة ألمور حياة أو موت
تعتمد عىل استمرار البنية التحتية لهذه االتصاالت .لهذا ،إن محاولة البدء بإيقاف
وتعطيل عمل كل البنية التحتية لإلنرتنت بشكل متزامن ستَتسبَّب عىل األرجح بأذىً كبري
ألي مجتمع يحاول ذلك بينما من املرجح أن يفشل هذا يف إيقاف تدفق البيتكوين .حيث
أنه يمكن دائما ً لألجهزة املتفرقة واملنترشة أن تتصل ببعضها البعض باستخدام
برتوكوالت واتصاالت مشفرة .ببساطة ،هناك عدد كبري جدا ً من الحواسيب واالتصاالت
املوزعة حول العالم والتي يتم استخدامها من قبل عدد كبري من األفراد ،لدرجة أنه ال
يوجد أي قوة تستطيع إيقافها بشكل متزامن .لذلك ،إن الحالة الوحيدة املُتصوَّرة لفعل ما
سبق ستكون نوعا ً من أنواع الحاالت املتعلقة بنهاية العالم والتي لن يفكر خاللها أحد
فيما إن كان البيتكوين يعمل أو ال يعمل .ومن بني كل التهديدات املحيطة بالبيتكوين،
أجد هذا التهديد بالذات أقلها مصداقية وأقلها معنى.
286
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
إن هذا الخطر برأيي هو األخطر تقنيا ً حيث أنه يشكل أكرب تهديد عىل
البيتكوين يف املدى املتوسط والبعيد .وبالحالة التي يتواجد عليها اآلن ،إن األمر الوحيد
الذي يحد من قدرة األفراد عىل إدارة عقدهم الخاصة هو سعة اتصالهم باإلنرتنت .فإن
بقي حجم الكتل أقل من 1ميغابايت ،فإن ذلك عمليا ً سيكون ضمن قدرة واستطاعة
الناس ،لكن إن حدثت عملية انقسام كلية يف الشبكة بغرض زيادة حجم الكتلة ،فإن ذلك
سيؤدي إىل زيادة تكلفة إدارة هذه ال ُع َقد مما يُقلل عددها العامل عىل الشبكة .وكما يف
األخطار السابقة ،فهذا التهديد ممكن تقنياً ،لكنه يبقى غري مرجح الحدوث وذلك ألن
الدافع االقتصادي للنظام سيَحول دون تحقيق ذلك ،والدليل عىل ذلك هو الرفض الواسع
ملحاوالت زيادة حجم الكتلة إىل اآلن.
287
معيار البيتكوين
وليس من املمكن تحديد متى وإذا كان هذا السيناريو سيصبح ممكناً ،لكن إن
أصبح كذلك ،فإنه سيشكل تهديدا ً تقنيا ً خطريا ً عىل البيتكوين .والحل التقني ملواجهته
سيكون عن طريق االنتقال واعتماد تشفري أقوى ،ولكن األمر الصعب يف هذه العملية
سيكمن بكيفية تنسيق هذا االنقسام الكيل للشبكة ،وبكيفية إقناع جميع عقد الشبكة عىل
هجر وترك القوانني املشرتكة القديمة لالنتقال إىل قواعد جديدة بعملية دمج جديدة .وكل
املشاكل التي تمت مناقشتها سابقا ً عن عملية تنسيق االنقسام تنطبق عىل هذه الحالة
أيضاً ،لكن يف هذه املرة وألن التهديد حقيقي ،فإن أي مالك للبيتكوين سيختار أن يبقى
ضمن التطبيقات القديمة فإنه سيكون معرضا ً لالخرتاق ولهذا السبب ،من املرجح أن
تشارك الغالبية الكربى من املستخدمني يف هذا االنقسام الكيل .يبقى السؤال األكثر أهمية
ظما ً وسيشهد انتقال كل املستخدمني إىل هو ما إذا كان هذا االنقسام الكيل سيكون مُن َّ
السلسلة ذاتها ،أو سيؤدي إىل انفصال السلسلة إىل عدة فروع تستخدم أنواعا ً مختلفة من
التشفري .ففي حني أنه من املمكن جدا ً أن يتم كرس/اخرتاق تشفري الـ ،SHA-256إال أن
الدافع االقتصادي للمستخدمني عندئذ سيكون هو االنتقال منها إىل خوارزمية أقوى بل
واالنتقال سويا ً إىل خوارزمية واحدة.
288
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
فالطلب عىل البيتكوين يأتي من خالل حاجة األفراد له حول العالم لتنفيذ
تحويالتهم وتجاوز القيود السياسية ،وللحصول عىل مخزون للقيمة مضاد للتضخم .ويف
حال استمرت السلطات السياسية بوضع حدود وقيود عىل األفراد فيما يتعلق بعملية نقل
األموال ،ويف حال بقيت النقود الحكومية عملة سهلة يمكن لعرضها أن يتوسع بسهولة
تبعا ً لرغبات الحكومة ،فإن الطلب عىل البيتكوين سيظل قائماً .وسيؤدي النمو املتناقص
يف عرضه إىل ارتفاع قيمته مع مرور الوقت ،األمر الذي سيجذب عددا ً متزايدا ً من
األشخاص الستخدامه كمخزن للقيمة.
وإن افرتضنا أنه قد تم استبدال كامل النظام املرصيف العاملي والنظام النقدي
بتلك األنظمة التي كانت تَعتمد املعيار الذهبي يف أواخر القرن التاسع عرش ،حيث كانت
الحرية الفردية والعملة الصعبة أمرا ً مهما ً وأساسيا ً ،عندها سينخفض الطلب عىل
البيتكوين بشكل كبري جداً .إن أمرا ً كهذا قد يكون كافيا ً لخفض الطلب عىل البيتكوين
كاف لينخفض سعره بشكل كبري أيضا ً مما سيؤذي حملة البيتكوين الحاليني بشكل ٍ
وسريجع تقدمها إىل سنوات عديدة بشكل كبري ،وسيزيد من عدم ثبات وتقلب العملةُ ،
للخلف .فمع وجود نقد صعب بمعيار نقدي عاملي بحيث يزداد هذا النقد ثباتا ً واستقرارا ً
289
معيار البيتكوين
ليصبح موثوقا ً به نسبياً ،سينخفض الدافع الستعمال البيتكوين بشكل كبري جداً .لكن يف
عالم ت ُ َقيَّد فيه ميول الحكومة التضخمية بمعيار الذهب ،قد تكون القضية هي أن أفضلية
الذهب املتمثلة بقدرته الرشائية الثابتة نسبيا ً ستشكل حاجزا ً مستعصيا ً ال يمكن
للبيتكوين تخطيه ،وذلك عرب حرمان البيتكوين من النمو الرسيع يف عدد مستخدميه ،مما
سيمنعه من الوصول إىل حج ٍم ٍ
كاف مع شكل من الثبات يف سعر عملته.
عملياً ،إن احتمالية حدوث عودة عاملية لنقد سليم ولحكومات ليربالية غري
مرجحة بشكل كبري ،ألن تلك املفاهيم ستبدو غريبة وخيالية للغالبية العظمى من
السياسيني واملصوتني حول العالم ،والذين تربوا ألجيال عىل فهم قيود الحكومة عىل املال
واألخالق كحاجة وكأمر رضوري لعمل أي مجتمع .إضافة إىل ذلك ،فحتى لو كان تحو ٌل
نقدي وسيايس كهذا أمرا ً محتمالً ،فإن تضاؤل معدل نمو املخزون الخاص بالبيتكوين
سيستمر بكونه رهانا ً مضاربا ً جذابا ً للكثريين ،وهذا سيجعل البيتكوين ينمو أكثر
إن عود ًة عاملية نقدية للذهب ستشكل أكرب ويكتسب دورا ً نقديا ً أكرب .ففي تقديريَّ ،
تهديد للبيتكوين ،ولكن من غري املرجح حدوثها ومن غري املرجح أن تستطيع تدمري
البيتكوين بشكل كيل.
هناك احتمالية أخرى لتعطيل وعرقلة البيتكوين وهي عرب اخرتاع شكل جديد
من النقد السليم يتفوق عليه .ويعتقد الكثريون أنه قد تستطيع العمالت الرقمية املُشفرة
ألي من
التي تحاكي وتقلد البيتكوين تحقيق ذلك ،لكنني أؤمن بشدة بأنه ال يمكن ٍ
العمالت التي تقلد تصميم البيتكوين أن تنافسه بكونها نقدا ً سليما ً ألسباب سنناقشها
بشكل مطول يف القسم التايل من الفصل .فباملقام األول ،إن البيتكوين هو العملة الرقمية
الوحيدة غري املركزية التي نمت بشكل عفوي بتوازن جيد بني املعدِّنني واملربمجني
واملستخدمني ،بحيث ال يمكن ألي أحد منهم التحكم بالبيتكوين .وتطوير عملة رقمية
تعتمد عىل هذا التصميم هو أمر يحدث مر ًة واحد ًة فقط ،بحيث إن اتَّضح أن هذه
الطريقة تعمل جيداً ،فكل محاولة أخرى لتقليدها ستكون محاولة من األعىل لألسفل أي
أنها ستكون مركزية يتم التحكم بها ولن تتخلص أبدا ً من سيطرة منشئيها.
290
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
لذلك عندما يعود األمر إىل بنية البيتكوين والتكنولوجيا ورائه ،فإن أي عملة
تقوم بنسخه وتقليده من غري املرجح لها أن تستطيع استبداله .فقد يُنتِج تصمي ٌم جديد
وتقنية جديدة لتطبيقات النقد الرقمي والعملة الصعبة منافسا ً للبيتكوين ،ولكن ال
ً
معرفة يمكننا تنبؤ بروز هذا النوع من التكنولوجيا قبل أن يتم إنشاؤها ،حيث أن
طالعا ً عىل مشاكل النقود الرقمية طوال هذه السنوات ستوضح لنا أن هذا ليس اخرتاعا ًوا ِّ
يمكن ابتكاره بسهولة.
بينما كان البيتكوين أول مثال عىل شبكة نقد إلكرتوني مبنية عىل أساس نظري إىل نظري،
فهو حتما ً لم يكن األخري .فما لبث أن انترش تصميم ناكاموتو ،ونجحت العملة يف
الحصول عىل املزيد من القيمة واملتبنني لها حتى بدأ الكثريون بتقليدها إلنتاج عمالت
مشابهة .وكانت " - Namecoinنيمكوين" أول عملة من هذا النوع حيث استَخدمت
شيفرة البيتكوين الربمجية وبدأت بالعمل يف أبريل عام .2011وحتى فرباير من عام
2017تم ابتكار ما ال يقل عن 732عملة رقمية مشابهة حسب موقع
.coinmarketcap.com
291
معيار البيتكوين
يبق للبيتكوين أي سلطة مركزية أو قائد يمكنه تحديد اتجاه سريه أو ولم َ
العمل عىل التأثري عىل مسار تطوره وذلك ألن ناكاموتو وفيني لم يبقوا معنا .وحتى جافِ ن
أندرسن الذي كان عىل تواصل مقرب من ناكاموتو ومن أكثر الوجوه املألوفة يف
9مت التواصل مع انكاموتو مرتني منذ ذلك الوقت ،مرة قام هبا إبنكار هويته اليت كانت املهندس األمريكي الياابين
دوراين برينتيك ساتوشي انكاموتو ،حيث مت التعرف على صاحب االسم احلقيقي من قبل جملة نيوزويك حيث مل
يكن االسم انكاموتو مبنياً إال على صدفة أمساء ومعرفة يف احلاسوب .أما التواصل اآلخر فهو من أجل طرح رأي
عن الكيفية اليت كانت تسري هبا أمور توسعة البيتكوين .مل يكن من الواضح إن مت نشر تلك املنشورات من قبل
انكاموتو نفسه أو من قبل شخص آخر اخرتق حسابه .وخاصة كما هو معروف أبن اإلمييل الذي استخدامه
كان ُخمرتقاً.
292
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
البيتكوين ،قد فشل بشكل متكرر بالتأثري عىل طريق تطور البيتكوين .ويُقتبَس بريد
إلكرتوني يف الصحافة يُعتقد أنه آخر بريد أرسله ناكاموتو والذي يقول فيه" :لقد انتقلت
إىل أشياء أخرى ،إن البيتكوين يف أي ٍد أمينة عند جافِ ن والبقية" .10وحاول أندرسن مرارا ً
وتكرارا ً أن يزيد من حجم الكتل يف البيتكوين ،لكن فشلت كل محاوالته يف جذب اهتمام
مشغيل العُ َقد.
فما يجعل البيتكوين حال ً فعاال ً وحقيقيا ً فيما يتعلق بمشاكل اإلنفاق املزدوج،
وما يجعله نقدا ً رقميا ً ناجحا ً هو سيادة شيفرته الربمجية املدعومة من نظام إثبات
العمل ،وما ال يمكن للعمالت الرقمية األخرى تقليده هو انعدام الثقة هذه .فمواجهة أي
من العمالت الرقمية التي تم إنشاؤها بعد البيتكوين ستُشكل أزمة وجودية لتلك العمالت:
فبما أن البيتكوين موجود أصال ً وبحماية أكرب ،وطاقة معالجة أكثر ،وقاعدة مستخدمني
راسخة ،فأي شخص يريد دخول العمالت الرقمية سيُفضل البيتكوين عىل تلك العمالت
البديلة األصغر واألقل حماية .وبما أن نَسخ الشيفرة الربمجية إلنتاج عمالت جديدة هو
أمر غري مكلف تقريباً ،وبسبب تكاثر العمالت الرقمية عن طريق النسخ والتقليد ،فال
يمكن ألي عملة أن تُطوِّر أي شكل من أشكال النمو أو الزخم إال إن كان هناك فريق نشط
يتفانى برعاية هذه العملة ،وحمايتها ،وتنميتها ،وبرمجتها .وبما أن البيتكوين هو األول
10ال يستطيع الكاتب أن ُيدد دقة الربيد اإللكرتوين ،لكن ميكننا أن نقول أن هذا الربيد اإللكرتوين قد مت اقتباسه
كثرياً ،إىل مرحلة أن املراجعة التكنولوجية يف معهد ماستشوسس التقين قامت بنشر ورقة حبث طويلة عن أندرسن
بعنوان "الرجل الذي بىن البيتكوين يف احلقيقة" ،ابدعائهم أن أندرسن كان له دور أهم يف تطوير البيتكوين من
انكاموتو.
293
معيار البيتكوين
يف هذه االخرتاعات ،فقد كان استعراض البيتكوين لقيمته كنقد رقمي وعملة صعبة كافيا ً
لتأمني الطلب املتزايد عليه ،مما تَسبَّب بنجاح البيتكوين الذي يقف وراءه شخص واحد
وهو مربمج مجهول الهوية لم يقم بإنفاق املال لرتويجه .فالعمالت البديلة ال تتمتع
برفاهية أن يكون عليها طلب يف العالم الحقيقي وذلك ألن تلك العمالت البديلة هي ن ُ ٌ
سخ
مقلدة وأقل قيمة بجوهرها ويمكن إنتاجها بسهولة ،ويجب أن تطور من نفسها وتزيد
من الطلب عليها.
ٌ
فريق يديرها؛ فبدأ الفريق املرشوع، لذلك ،يوجد لجميع العمالت البديلة تقريبا ً
وقام بتسويقه ،وبتصميم مواد التسويق ،وبنرشها يف الصحف كما لو كانت أخبارا ً ،بينما
كان لدى هذه الفِ رق األفضلية يف تعدين عدد كبري من العمالت قبل أن تُعرف تلك العمالت
من قِ ب َِل أحد .فتلك الفرق هي عبارة عن أفراد معروفني عاملياً ،ومهما حاولوا فلن
يستطيعوا بشكل قابل للتصديق إظهار أنهم ال يملكون أي نوع من السيطرة عىل اتجاه
العملة ،مما يُضعف أي ادِّعاء ألي عملة بأنها عملة رقمية ال يمكن تعديلها أو التحكم بها
من قبل أي طرف ثالث خارجي .بكلمات أخرى ،بعد خروج اخرتاع البيتكوين إىل النور،
إن أراد أحد أن ينجح يف بناء بديل للبيتكوين ،فعليه أن يستثمر بشكل كبري يف العملة مما
يجعله متحكما ً بها بشكل كبري .وطاملا تَواجد طرف ما لديه قوة التحكم والسيادة عىل
العملة الرقمية ،فلن يتم فهم هذه العملة كشكل من أشكال النقد الرقمي ،بل كشكل من
أشكال الوساطة للدفع ،وحتى كشكل غري فعال.
وهذا األمر يشكل معضلة تواجه مصممي العمالت البديلة :فدون اإلدارة
َ
واملسوِّقني ،لن تجذب أي عملة االهتمام أو الرتكيز أو النشطة من قبل فريق من املطورين
رأس املال يف بحر مما يزيد عن ألف عملة .ولكن مع اإلدارة النشطة ،والتطوير ،والتسويق
من قبل فريق معني ،ال يمكن للعملة إال أن تَظهر بمظهر تلك العملة التي يتم التحكم بها
من قبل أولئك األفراد .وعندما يتحكم مجموعة من املطورين بغالبية العمالت وبطاقة
ٍ
عمالت مركزية يتم املعالجة وبمختيص الربمجة والتشفري ،فستكون تلك العمالت عمليا ً
تحديد مسار تطورها عن طريق اهتمامات الفريق العامل عليها .وليس هناك ما هو
خاطئ يف عملة رقمية مركزية ،وقد نحصل يوما ً ما عىل منافسة يف سوق حرة دون قيود
حكومية ،لكن هناك يشء جوهري عميق خاطئ بشأن العمالت املركزية التي تتبنى
294
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
تصاميما ً بطيئة وغري فعالة بشكل كبري ،والتي أفضليتها الوحيدة هي إزالة نقطة الفشل
الواحدة.
إن هذه املشكلة تتوضح بشكل أكرب فيما يخص العمالت الرقمية التي تبدأ
بعرض عمالت أويل " ،"ICOبحيث يشكل ذلك مجموعة واضحة جدا ً من املطورين الذين
يتواصلون علنا ً مع املستثمرين ،مما يجعل كامل املرشوع مركزيا ً بامتياز .فالتجارب
واملِحن يف" - Ethereumاإليثرييوم" وهي أكرب عملة رقمية كقيمة سوقية بعد البيتكوين
تُظهر هذه النقطة بشكل واضح.
فلقد كانت املنظمة املستقلة الالمركزية " "DAOأول تطبيق للعقود الذكية عىل
شبكة اإليثرييوم ،وبعد استثمار أكثر من $150مليون يف العقود الذكية ،استطاع مهاجم
ُنفذ الشيفرة الربمجية بطريقة تم بها نقل ما يقارب ثلث أصول الـ " "DAOإىل أن ي ِّ
حسابه الخاص .وليس من الدقيق وصف هذا الهجوم بالرسقة وذلك ألن جميع املودعني
قد قبلوا بأن يتم التحكم بأموالهم من قبل الشيفرة الربمجية وال يشء سواها ،ولم يفعل
املهاجم شيئا ً سوى أنه قام بتنفيذ هذه الشيفرة الربمجية كما تمت املوافقة عليه من قبل
املودعني .فكان من آثار اخرتاق الـ ) ،(DAOأنه قام مطورو اإليثرييوم بإنشاء نسخة
جديدة منها لم يحدث بها هذا الخطأ املزعج ،ثم قاموا بمصادرة أموال املهاجم ووزعوها
عىل الضحايا .إن عملية إعادة تدخل اإلدارة البرشية غري املوضوعية هذه تتعارض مع
هدف جعل الشيفرة الربمجية قانوناً ،وتشكك يف كامل منطق العقود الذكية.
فإذا كان من املمكن تعديل سلسلة كتل ثاني أكرب شبكة من حيث طاقة
املعالجة عندما ال ترسي التحويالت بما يتناسب مع مصالح فريق املطورين ،فإنه ال يمكن
قبول الفكرة بأن أحدا ً من العمالت البديلة يتم تنظيمها عن طريق طاقة املعالجة .إذاً،
فرتكيز حَ َملة العملة وطاقة املعالجة ومهارات الربمجة بني أيدي مجموعة واحدة من
الناس املشرتكني يف مرشوع ما تتعارض مع الهدف الكامل لتوظيف بنية سلسلة الكتل.
كما أنه من الصعب رؤية عمالت تم إصدارها بشكل خاص ترتقي لتصبح
عمالت عاملية عندما يكون لدى هذه العمالت فريق واضح مسؤول عنها .فإن ارتفعت
قيمة هذه العمالت بشكل كبري ،فسيصبح فريق صغري من املبتكرين غنيا ً جداً ،وسيملك
295
معيار البيتكوين
الطاقة الكافية لجمع رسوم صك العملة وهو دور مقصور للدول القومية يف العالم
الحديث .لذلك ،لن تأخذ البنوك املركزية والحكومات الوطنية موضوع التقليل من
سلطتها بشكل سهل ،وسيكون من السهل نسبيا ً عىل البنوك املركزية أن تجد تلك الفرق
التي تقف خلف العمالت وتدمرها ،أو حتى تعدل من عملياتها بطريقة تمنعها من
ظهر أية عملة بديلة صمو َد البيتكوين أمام التغيري املنافسة مع العمالت الوطنية .ولم ت ُ ِ
الذي يُستمد من طبيعته الالمركزية ومن الدوافع القوية للجميع لاللتزام بالقوانني
الحالية املُجمع عليها للبيتكوين .وبهذا ،يحق للبيتكوين اإلدالء بهذا الترصيح بعد صموده
ونموه يف عالم الغاب باإلنرتنت ملدة تسع سنوات دون أي سلطة تتحكم به ،وبعد صدِّه
نسقة لتعديله .بينما وباملقارنة ،إن تلك العمالت البديلة يوجد باقتدار للحمالت املُموَّلة واملُ َّ
لديها ثقافة الصداقة الواضحة ملجموعة من األشخاص اللطفاء الذين يعملون مع بعضهم
البعض كفريق عىل مرشوع معني .وبينما يبدو ذلك رائعا ً لرشكة ناشئة جديدة ،إال أنه
يُعد لعنة بالنسبة ملرشوع يريد أن يربهن عىل التزامه بسياسة نقدية ثابتة .حيث أنه إذا
قررت الفِ رق التي تقف خلف أي عملة بديلة تغيري سياستها النقدية ،فلن يكون ذلك
صعب التنفيذ .فعملة اإليثريوم مثال ً ال تملك إىل اآلن رؤية واضحة عن الكيفية التي
ستكون بها سياستها النقدية يف املستقبل ،تارك ًة املوضوع لنقاش مجتمع اإليثرييوم.
وبينما قد يفعل ذلك العجائب لروح مجتمع اإليثرييوم ،إال أن ذلك ليس طريقة لبناء عملة
عاملية صعبة ،ولكي نكون عادلني ،ال تَدَّعِ ي عملة اإليثرييوم أنها تفعل ذلك .وسواء أكان
ذلك ألنهم يدركون تلك النقطة ،أو ألنهم يتجنبون االصطدام بالسلطة السياسية ،أو قد
يكون خدعة تسويقية ،فإن معظم العمالت البديلة ال ت ُ َسوِّق نفسها كمنافس للبيتكوين،
ولكنها تُسوِّق نفسها كعمالت تقوم بتنفيذ مهام مختلفة عن البيتكوين.
وليس هناك أي يشء يف تصميم البيتكوين يقرتح أنه سيكون فعاال ً للعديد من
االستعماالت كما تَدَّعي العمالت البديلة أنها قادرة عىل فعله ،بل ولم تقدم أي عملة غري
البيتكوين قدرات مختلفة أو مميزات ال يملكها البيتكوين حتى اآلن .ومع ذلك ،فإن
جميعها تمتلك عملة تُتَداول بحرية وهو سبب بشكل ما أسايس بالنسبة لنظامهم املعقد
لكي تعمل بعض التطبيقات املتصلة باإلنرتنت.
296
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
إن الفكرة بأن التطبيقات الشبكية الجديدة تتطلَّب وجود عمالتهم الالمركزية
هي فكرة وأمل ساذج بشكل كبري ،ألنه وبطريقة ما ،إن عدم حل مشاكل ندرة التطابق يف
الرغبات قد يكون مُربحا ً اقتصادياً .فهناك سبب حقيقي وراء عدم إصدار الرشكات يف
العالم الحقيقي عمالتها الخاصة وهو عدم رغبة الناس بامتالك عملة ال يمكن رصفها إال
يف رشكة واحدة .فالفكرة يف حمل وامتالك النقد هي حمل سيولة يمكن رصفها بأسهل ما
يمكن ،أما حمْ ُل أشكال من النقد يمكن رصفها عند باعة محددين فقط يعني أنها تعرض
سيولة قلي ًلة جدا ً وال تخدم أي هدف ،وسيفضل الناس بالطبع أن يحملوا وسائط دفع ذي
سيولة .وأي رشكة تُرصّ عىل مدفوعات بعملتها التجارية الخاصة هي رشكة تقوم بإدخال
جانب من التكاليف العالية مع إنشاء مخاطر لزبائنها املحتملني.
يف الواقع وبعد دراسة هذا املجال لسنوات ،لم أستطع تحديد ولو عملة رقمية
واحدة تعرض أي مُنتَج أو خدمة عليها أي طلب من السوق حيث يبدو أن تلك التطبيقات
الالمركزية املتفاخرة التي تتبع املستقبل لن تصل إلينا .ولكن تلك العمالت الرمزية التي
من املفرتض أنها أساسية لعملياتهم ال تزال مستمرة باالزدياد باملئات كل شهر ،وال
يستطيع الفرد إال أن يتساءل عما إذا كان االستعمال الوحيد لتلك العمالت الثورية هو
إلغناء أصحابها.
فال يمكن ألي عملة عدا البيتكوين أن تَدَّعي بشكل قابل للتصديق أنها خارج
سيطرة أي شخص ،وبهذا ،فإ َّن كامل موضوع استخدام البنية املعقدة جدا ً والتي يرتكز
وْضع نقاش .فليس هناك أي يشء مُبتَ َكر أو صعب يف نسخ تصميم عليها البيتكوين هو َم ِ
297
معيار البيتكوين
البيتكوين وإنتاج نسخة مختلفة قليال ً عنه ،فقد قام اآلالف تقريبا ً بهذا اليشء حتى اآلن.
ومع مرور الوقت ،يمكننا أن نتوقع دخول املزيد من تلك العمالت إىل السوق ،مما سيؤدي
إىل التخفيف من شأن العمالت البديلة الباقية .لهذا ،تُعترب جميع العمالت الرقمية ،عدا
عمالت سهلة ،وال يمكن النظر إىل هذه العمالت البديلة عىل حدة وفقا ً لظروفها
ٍ البيتكوين،
الخاصة ألنه ال يمكن التمييز بينها من خالل كيفية عملها وماهية وظيفتها ،وهو األمر
الذي يؤديه البيتكوين ،لكن يمكن تمييز هذه العمالت عن البيتكوين بأن تصميمها
وعرضها يمكن تعديلهما بسهولة ،بينما سياسة البيتكوين النقدية بكل أهدافها ونواياها
منقوشة يف الحجر.
والسؤال عما إذا كانت تلك العمالت ستنجح بطرح خدمة يطلبها السوق غري
تلك التي يطرحها البيتكوين هو سؤال غري معروف إجابته إىل اآلن .لكن يبدو بوضوح
أنها لن تستطيع منافسة البيتكوين بكونها عمالت رقمية ال تعتمد عىل الثقة ،خصوصا ً
أنها جميعا ً اختارت تقليد طقوس البيتكوين متظاهر ًة بأنها تقوم بحل أشياء إضافية.
صنَعها.
ولكن هذا األمر ال يزيد من الثقة بها وذلك ألنها ال تنجز شيئا ً سوى إغناء من َ
ومن املمكن أن تكون التصاميم التي تقلد تصميم ناكاموتو والتي تقدر باآلالف هي أكثر
األشكال صدقا ً من أشكال اإلطراء ،لكن فشلها املستمر يف عدم تحقيق أي يشء أكثر مما
قدمه تصميم ناكاموتو هو شهادة فخر وعظمة عىل هذا اإلنجاز وعىل عظمة ناكاموتو.
فاإلضافات الوحيدة عىل تصميم البيتكوين والتي تستحق االهتمام كانت من قبل
املربمجني البارعني املتطوعني الذين يكرسون أنفسهم باملساهمات لساعات طويلة يف
جعل الشيفرة الربمجية للبيتكوين أفضل .والعديد من املربمجني متوسطي الرباعة نجحوا
يف الحصول عىل ثروة ضخمة عن طريق إعادة طرح تصميم ناكاموتو بالتسويق وبتعابري
طنانة ال فائدة منها ،ولكن فشل جميعهم بإضافة أي قدرات وظيفية لها أي طلب يف
العالم الحقيقي .لهذا ،ال يمكن فهم نمو تلك العمالت البديلة خارج إطار العملة
الحكومية السهلة التي تبحث عن استثمار سهل ،مما ي ُشكل فقاعات كبرية باستثمارات
ضخمة فاشلة.
298
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
11
تكنولوجيا سلسلة الكتل(-البلوك تشني(Blockchain-
كنتيجة لالرتفاع املدهش يف قيمة البيتكوين وللصعوبة يف فهم إجراءات وتقنيات عمله،
كان هناك سوء فهم والتباس كبريَين جدا ً فيما يتعلق به ،وربما أهم وأشهر تلك
االلتباسات هي الفكرة بأن امليكانيكية التي تضع التحويالت يف كتل بحيث تكون متصلة
ببعضها كسلسلة لت ُشكل سجالً – التي هي جزء من عمليات البيتكوين -هي تقنية يمكن
بشكل ما نرشها وتوظيفها لحل أو تحسني مشاكل اقتصادية واجتماعية ،أو حتى إحداث
ثورة بها ،كما هو الحال مع كل لعبة مبالغ بقيمتها تم ابتكارها يف أيامنا هذه.
"البيتكوين غري مهم لكن تكنولوجيا سلسلة الكتل التي يستند عليها هي ما يحمل
نغمة قديمة تم تكرارها حتى الغثيان بني عامي 2014و 2017من ً األهمية" .إن هذه
قبل مديري البنوك ،والصحفيني ،والسياسيني ،الذين يتشاركون جميعا ً بيشء واحد وهو
افتقارهم لفهم طريقة عمل البيتكوين( .شاهد الشكل رقم .)22
فالهوس والرتكيز عىل تكنولوجيا سلسلة الكتل هو مثال رائع عىل " ادّعاء
العلم" ،وهو فكرة تم نرشها من قبل الفيزيائي "ريتشارد فاينمان" .تقول القصة أن
الجيش األمريكي أنشأ مدرجات لهبوط الطائرات للمساعدة يف العمليات العسكرية عىل
جزير ٍة يف جنوب املحيط الهادئ خالل الحرب العاملية الثانية ،وكانت الطائرات غالبا ً
تجلب هدايا للسكان األصليني للجزيرة الذين كانوا يستمتعون بها بشكل كبري .وبعد
وتوقف الطائرات عن الهبوط عىل هذه املدرجات بالجزيرة ،حاول السكان ُّ انتهاء الحرب
املحليون بكل جهدهم إعادة الطائرات وحمولتها إىل الجزيرة .وخالل يأسهم الشديد،
كانوا يقلدون سلوك وحدات التحكم الربية التابعة للجيش األمريكي الذي رحل منذ زمن،
معتقدين أنه وبوضعهم رجال ً يف كوخ مع هوائي وإشعال نار كما اعتادت وحدات تحكم
الجيش فعله ،فستعود طائرات الجيش األمريكي حاملة لهم الهدايا .بوضوح لم تكن
اسرتاتيجية كهذه لتعمل ،وذلك ألن االجراءات التي اتَّبعتها وحدات تحكم الجيش لم تكن
11يعتمد هذا القسم بشكل كبري على مقاليت "تكنولوجيا سلسلة الكتل :ما فائدهتا؟" املنشورة يف مراجعة قوانني
النقد واخلدمات املصرفية ،القضية األوىل ،القسم .2018 ،33.3
299
معيار البيتكوين
ال نعم
تخلق تلك الطائرات من العدم؛ بل كانت هذه الوحدات جزء متكامل لعملية تقنية دقيقة،
تبدأ بتصنيع الطائرات وإقالعها من قواعدها ،وهو أمر لم يستطع سكان جزيرة املحيط
الهادئ فهمه.
ومثل أولئك السكان ،فالناس الذين يروجون تكنولوجيا سلسلة الكتل عىل أنها
عملية يمكنها إنتاج منافع اقتصادية لوحدها ال يفهمون العملية األكرب والتي تكون
سلسلة الكتل جزءا ً منها .فميكانيكية البيتكوين لرتسيخ وتأسيس ثبات ومصداقية
السجل هي عملية معقدة للغاية ،لكنها تخدم هدفا ً واضحاً :وهي إصدار عملة ونقل قيمة
عىل الشبكة دون الحاجة لوجود طرف ثالث موثوق به" .فتكنولوجيا سلسلة الكتل" ،إىل
الحد التي هي موجودة به اآلن ليست طريقة فعالة أو زهيدة الثمن أو حتى رسيعة يف
إجراء التحويالت عىل الشبكة .يف الحقيقة ،إنها غري فعالة بشكل كبري وبطيئة مقارنة
بالحلول املركزية ،واألفضلية الوحيدة لهذه التكنولوجيا هي إلغاء الحاجة لوجود طرف
300
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
ثالث موثوق به كوسيط .فاالستعمال الوحيد املحتمل لهذه التكنولوجيا يكمن يف املجاالت
التي ستنتج قيمة مرتفعة جدا ً للمستخدمني النهائيني عند نزع توسط الطرف الثالث
من ها ،مما يربر ارتفاع ثمنها وقلة فعاليتها .والطريقة الوحيدة التي يمكن من خاللها أن
تنجح يف إلغاء توسط الطرف الثالث هي عرب نقل العمالت األصلية للشبكة نفسها ،وذلك
ألنه ال يوجد للشيفرة الربمجية لسلسلة الكتل أي سيطرة مدمجة عىل أي يشء يحصل
خارجها.
فإذا قمنا بعمل مقارنة ،فإن هذه املقارنة ستساعدنا عىل تقديم صورة عىل
عدم فعالية البيتكوين فيما يخص عملية تنفيذ التحويالت ،حيث أنَّنا وإذا قمنا بنزع ٍ
كل
من زخارف الالمركزية ،وإثباتات نظام إثبات العمل ،والتعدين ،وانعدام الثقة ،ثم قمنا
بتشغيل نسخة مركزية من البيتكوين ،عندها سيتكون بشكل أسايس من خوارزمية
إلنتاج العمالت ،وقاعدة بيانات مللكية العمالت التي تعالج ما يقارب 300,000تحويل يف
اليوم .ويُعد هذا األمر سهال ً للغاية ويمكن ألي حاسوب شخيص حديث القيام به بشكل
فعال .يف الحقيقة ،يمكن لحواسيب محمولة استهالكية قديمة أن تؤدي ما يقارب
14,000تحويل يف الثانية ،أو تؤدي كامل حجم تحويالت البيتكوين اليومية يف 20
ثانية .12وإلنجاز حجم تحويالت سنة كاملة للبيتكوين فسيحتاج الحاسوب املحمول
الشخيص ألكثر من ساعتني بقليل.
إن املشكلة يف تشغيل هذا النوع من العمالت عىل حاسوب شخيص محمول هي
أن ذلك يتطلب الثقة يف مالك هذا الحاسوب ،والثقة بحماية وأمن الحاسوب أمام
املهاجمني .والطريقة والتصميم الوحيد املوجود لتشغيل هذه الربمجية البسيطة دون
الحاجة لطرف واحد موثوق به حتى ال يتم تزوير سجل التحويالت أو تغيري معدل
ِ
املعتمدة عىل مبدأ نظري إىل نظري إصدار العملة ،هو تصميم شبكة البيتكوين الالمركزية
بتأكيد نظام إثبات العمل .فهذا األمر ليس مشكلة برمجية بسيطة ،حيث استغرق عقودا ً
12اقرأ مدونة بيرت جيوجان اليت توضح كيف استطاع حتقيق ذلك عن طريق حاسوبه الشخصي على:
‐http://pgeoghegan.blogspot.com/2012/06/towards‐14000‐write
transactions‐on‐my.html
301
معيار البيتكوين
من الزمن من محاوالت مربمجي الحواسيب إيجاد التصميم األفضل لها قبل أن يستطيعوا
ابتكار هذا التصميم الذي يحقق ذلك .ويف حني أنه لدى الحاسوب الشخيص املحمول
معدل هاش يُقدر بحوايل 10ميغاهاش يف الثانية ،فإن شبكة البيتكوين تعالج باإلجمال
ما يقارب 20إكساهاش يف الثانية ،أو ما يساوي 2تريليون حاسوب محمول .بكلمات
أخرى ،إلزالة الحاجة للثقة ،يجب أن تزداد طاقة املعالجة املستخدمة لتشغيل عملة
بسيطة وبرنامج قاعدة بيانات بعامل يصل إىل 2تريليون تقريباً .وليست العملة أو
تحويالتها هي ما يحتاج كل تلك الطاقة من املعالجة بل جعْ ُل النظام غري قائم عىل الثقة
هو ما يحتاج ذلك .ولهذا ،إن أي معالجة حاسوبية يتم تشغيلها من قبل تكنولوجيا
سلسلة الكتل يجب أن تحقق معيارين:
أوالً ،يجب أن تكون املكاسب من الالمركزية مُقِ نعة بما فيه الكفاية لكي تربر
ثمنها املرتفع .فال يمكن تربير الثمن املرتفع لالمركزية ألي عملية تحتاج شكالً من
أشكال الطرف الثالث املوثوق لتطبيق جزء صغر منها .فلتطبيق العقود التي تتعامل مع
األعمال واملشاريع التجارية للعالم الحقيقي والتي تقع تحت إدارة سلطات قضائية
رشعي ة ،ستبقى هناك رقابة قانونية متعلقة بتطبيق تلك العقود يف العالم الحقيقي حيث
يمكن تجاوز قواعد الشبكة املتفق عليها ،مما سيجعل التكلفة الباهظة لالمركزية بال أي
فائدة .واألمر ذاته ينطبق عىل قاعدة البيانات غري املركزية الخاصة باملؤسسات املالية،
حيث ستبقى تلك املؤسسات املالية كطرف ثالث موثوق بها يف عملياتها الخاصة مع
بعضها البعض أو بينها وبني العمالء.
ثانياً ،إن العملية األولية نفسها يجب أن تكون بسيطة بما فيه الكفاية لكي
تضمن القدرة عىل تشغيل السجل املُو َّزع من قبل العديد من ال ُع َقد ،دون جعل سلسلة
الكتل ثقيلة وكبرية جدا ً عىل أن يتم توزيعها .ألنه ومع تكرار العملية بمرور الوقت،
سيكرب حجم سلسلة الكتل وسيصبح صعبا ً بشكل متصاعد عىل ال ُع َقد املوزعة أن تحتفظ
بنسخة كاملة من سلسلة الكتل ،مما يعني أن قلة فقط من الحواسيب العمالقة ستكون
قادرة عىل تشغيل سلسلة الكتل جاعل ًة الالمركزية شيئا ً قديما ً وبالياً .الحظ هنا االختالف
بني العُ َقد التي تحتوي وتحتفظ بالسجل وبني املعدِّنني املُ َك َّرسني الذين يقومون بحل
مسائل نظام إثبات العمل ،كما تم النقاش يف الفصل الثامن :حيث أن املعدنني يحتاجون
302
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
ف كميات هائلة من طاقة املعالجة إلتمام التحويالت يف السجل املشرتك ،بينما تحتاج رص ََ ْ
العُ قد لقدر قليل جدا ً من طاقة املعالجة لالحتفاظ بنسخة من السجل والذي من خالله َ
تستطيع التأكيد عىل دقة تحويالت املعدنني .لهذا السبب ،يمكن أن تُدار العُ َقد عن طريق
حواسيب شخصية بينما يملك املعدنون الفرديون طاقة معالجة مئات الحواسيب
الشخصية .وإذا أصبحت العملية املتعلقة بالسجل معقدة جداً ،فستحتاج العُ َقد ألن تكون
خوادم كبرية بدال ً من أن تكون حواسيب شخصية ،مما سيدمر احتمالية الالمركزية.
وقد وَضعت سلسلة كتل البيتكوين حدا ً عىل حجم كل كتلة يُقدَّر ب ِـ 1
ميغابايت ،مما حد من رسعة نمو سلسلة الكتل .لكن هذا الحد سيسمح للحواسيب
البسيطة بإدارة العُ َقد واإلبقاء عليها .فإذا ازداد حجم كل كتلة أو إذا تم استعمال سلسلة
الكتل لعمليات معقدة أكثر كتلك العمليات التي يتم الرتويج لها من قبل أولئك املتحمسني
لسلسلة الكتل ،فإن ذلك سيجعلها أكرب حجما ً وأصعب من أن يتم إدارتها من قبل
حواسيب شخصية بحيث أن تركيز الشبكة يف عدة عقد كبرية تملكها وتديرها مؤسسات
كبرية ،سيهدم كامل فكرة الالمركزية.
إن العمالت النقدية الرقمية غري املبينة عىل الثقة حتى اآلن كانت التطبيق
الوحيد الناجح لتكنولوجيا سلسلة الكتل ،وذلك ألن هذه التكنولوجيا سهلة وبسيطة
التشغيل ،مما أدى إىل نمو بطيء نسبيا ً لسجلها عىل مدى الزمن .وهذا يعني أنه من
املمكن ألي حاسوب محيل وأي شبكة اتصال يف جميع أنحاء العالم أن يكون عضوا ً يف
شبكة البيتكوين .فالتضخم املتوقع واملُسيطر عليه يحتاج أيضا ً كمية صغرية من طاقة
ً
قيمة هائلة للمستخدمني ض فيها الالمركزية وانعدام الثقةعر ُ
املعالجة ،ولكنه عملية تَ ِ
النهائيني ،كما ُرشح يف الفصل الثامن .وكل وسائل اإلعالم النقدية يتم التحكم بها يف
أيامنا هذه من قبل أطراف يمكنها أن تقوم بتضخيم العرض من أجل الربح من الطلب
املتزايد .وهذا األمر صحيح بالنسبة للعمالت الورقية واملعادن غري الثمينة ،لكنه صحيح
أيضا ً بالنسبة للذهب ،الذي تخزنه البنوك املركزية بكميات كبرية مستعدين لبيعه يف
السوق ملنعه من االزدياد يف القيمة برسعة كبرية وبهذا تَستبدل العمالت الورقية .فألول
مرة منذ إلغاء املعيار الذهبي ،استطاع البيتكوين جعل النقد السليم يف متناول الجميع
من مختلف أنحاء العالم وبشكل سهل .وهذه التوافقية غري املتوقعة بني حِ مْ ٍل خفيف من
303
معيار البيتكوين
الحوسبة وقيمة اقتصادية كبرية هي السبب يف نمو حجم طاقة معالجة شبكة البيتكوين
إىل أكرب شبكة يف التاريخ .ولقد أثبت البيتكوين خالل الثماني سنوات التي مر بها أنه من
املستحيل إيجاد حالة َقيِّمة أخرى لالستعمال قد تكفي لتربير توزعه عىل آالف العُ َقد
األعضاء ،بينما يكون وبالوقت نفسه خفيفا ً لدرجة تسمح بتلك الالمركزية التي يتصف
بها.
وأول أثر لهذا التحليل هو أنه من املرجح عدم نجاح أي تغيري يف برتوكول
البيتكوين إذا كان هدفه زيادة حجم سلسلة الكتل ،ليس فقط بسبب الثبات املذكور
سابقاً ،ولكن ألن ذلك غالبا ً سيمنع معظم مدراء ال ُع َقد من تشغيل عقدهم الخاصة .وبما
أن هذه العُ َقد هي من يقرر أي برنامج يتم تشغيله ،فمن اآلمن التنبؤ بأنه ستستمر أقلية
متشددة من العُ َقد يف العمل عىل النظام الربمجي الحايل ،حاملني عمالت البيتكوين
الخاصة بهم ،بحيث أن أي محاولة لتحديث برنامج البيتكوين ستُحوِّ له إىل عملة بديلة بال
قيمة كمئات العمالت املوجودة حالياً.
فهناك العديد من الطرق األسهل واألرسع لتسجيل التحويالت ،لكن هذه هي
الطريقة الوحيدة إلزالة الحاجة لوجود طرف ثالث موثوق .حيث أنه يتم االلتزام بإجراء
التحويل عىل سلسلة الكتل وذلك ألن الكثري من املوثِّقني يتنافسون لتأكيد هذه التحويالت
من أجل الربح .ومع هذا ،ال يوجد واحد منهم يمكن االعتماد عليه أو يمكن إعطائه الثقة
إلقرار ما إذا كان ذلك التحويل سيسري أم ال .يف الواقع ،يتم كشف االحتيال عىل الفور ثم
يتم إلغاؤه من قبل أعضاء الشبكة اآلخرين الذين يملكون دافعا ً قويا ً للحفاظ عىل
304
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
مصداقية ونزاهة الشبكة .بكلمات أخرى ،إن البيتكوين هو نظام بُني بأكمله عىل
التصديقات مرتفعة الثمن والبطيئة لكي يكون قادرا ً عىل إزالة الحاجة لوجود كل من
الثقة واملساءلة بني األطراف :أي أنه %100تأكيد و %0ثقة.
وعىل عكس الحماس والضجة اإلعالمية املحيطة بالبيتكوين ،فإن إزالة الحاجة
للثقة يف األطراف الثالثة ليس أمرا ً جيدا ً بشكل مطلق يف جميع مجاالت الحياة واألعمال،
وبعدما يفهم الشخص ميكانيكية عمليات البيتكوين ،فسيكون واضحا ً له أن هناك
مقايض ًة تتم عند االنتقال إىل نظام ال يعتمد عىل طرف ثالث موثوق .فاألفضلية بهذا
االنتقال تكمن يف السيادة الفردية عىل الربوتوكول ،ومقاومة والرقابة ،وثبات نمو العرض
النقدي ووجود املعايري التقنية ،أما السلبيات فتتلخص يف الحاجة لرصف طاقة معالجة
كبرية جدا ً إلتمام الكمية ذاتها من العمل .فليس هناك سبب خارج نطاق الدعاية
والحماس املستقبيل الساذج لالعتقاد بأن تلك مقايضة مفيدة جداً .ومن املحتمل أن يكون
املكان الوحيد الذي تكون فيه هذه املقايضة مفيدة هو بإدارة نقد عاملي سليم وموحد
لسببني هامني للغاية .األول ،يمكن تعويض التكاليف الباهظة املدفوعة عىل تشغيل
وإدارة النظام عن طريق االستيالء ببطء عىل أجزاء من سوق العمالت العاملي ،الذي يعمل
بما يُقدَّر بقيمة 80ترليون دوالر أمريكي .الثاني ،إن طبيعة النقد السليم كما ُرشح
سابقا ً تكمن وبشكل دقيق يف حقيقة أنه ال يوجد إنسان قادر عىل التحكم بها ،وبالتايل،
فوجود خوارزمية ثابتة بشكل متوقع تتناسب بشكل كبري مع هذه املهمة .وبعد التفكري
بهذا السؤال لعدة سنوات ،لم أتمكن من إيجاد عملية مشابهة عىل درجة عالية من األهمية
يف كل مجاالت األعمال واملشاريع األخرى ،لدرجةٍ تستحق القيمة اإلضافية لقاء عدم وجود
وسطاء موثوقني ،ويف نفس الوقت تكون بسيطة وشفافة بشكل كبري جدا ً بحيث أن إزالة
السلطة البرشية تكون ذات فائدة ومنفعة عظيمة.
إن مثاال ً مشابها ً بقطاع السيارات سيكون مفيدا ً وتعليميا ً هنا .ففي عام
،1885أضاف "كارل بنز" محرك احرتاق داخيل للعربة وذلك إلنتاج أول آلية تمد نفسها
بالطاقة بشكل آيل ،وكان الهدف األسايس من ذلك هو إزالة األحصنة من العربات وتحرير
الناس من التعامل الدائم مع مفرزات األحصنة .فلم يكن بنز يحاول جعل األحصنة
أرسع ،حيث أن تحميل الحصان بمحرك حديدي ثقيل لن يجعل األحصنة تركض بشكل
305
معيار البيتكوين
أرسع؛ بل سيبطئها األمر أكثر بينما لن يفعل شيئا ً حيال الحد من كمية املفرزات التي
تنتجها تلك األحصنة .بشكل مشابه وكما ُرشح يف الفصل الثامن ،إن طاقة املعالجة
الهائلة املطلوبة لكي تعمل شبكة البيتكوين تقيض عىل الحاجة لوجود طرف ثالث موثوق
إلجراء مدفوعاتها أو ت ُح ِّدد العرض النقدي الخاص بها .فإن ظ َّل الطرف الثالث موجوداً،
فإن كل طاقة املعالجة تلك ال هدف لها وتُع ُّد إهدارا ً للكهرباء.
والوقت وحده سيخربنا عما إذا كان هذا النموذج من البيتكوين سيستمر بالنمو
يف شعبيته ودرجة تبنيه .فمن املمكن أن ينمو البيتكوين ليستبدل الكثري من الوسطاء
املاليني ،لكن من املمكن أيضا ً أن يظل ثابتا ً يف حالته الحالية أو حتى أن يفشل ويختفي،
ولكن ما ال يمكن حدوثه أبدا ً هو أن تَخد َم سلسلة كتل البيتكوين وسطا ًء ُ
صمِّمت
خصيصا ً الستبدالهم.
فسلسلة الكتل بالنسبة ألي طرف ثالث موثوق يقوم بإجراء املدفوعات أو
التجارة ،أو يقوم بالحفاظ عىل السجالت ،هي تكنولوجيا باهظة الثمن وغري فعالة
لالستخدام .وبهذا ،تجمع سلسلة الكتل لغري البيتكوين أسوء ما يف العالَمني :البنية
الباهظة لسلسلة الكتل إضافة للخطورة األمنية املتعلقة باألطراف الثالثة .فليس من
الغريب بأنه بعد ثماني سنوات من ابتكارها ،لم تستطع تكنولوجيا سلسلة الكتل أن
تنترش بنجاح أو أن تُطلق تطبيقات تجارية جاهزة للسوق عدا املجال الذي تم ابتكاره
خصيصا ً من أجله أال وهو البيتكوين.
باملقابل ،كان هناك حماس وفري حول قدرات وإمكانيات تكنولوجيا سلسلة
الكتل يف كل من املؤتمرات ،والنقاشات عىل مستوى رفيع يف وسائل اإلعالم ،والحكومات،
واألكاديميات ،واملؤسسات ،ومنتدى االقتصاد العاملي .وتم استثمار ماليني الدوالرات
كرؤوس أموال استثمارية ،ويف األبحاث والتسويق من قبل الحكومات واملؤسسات التي تم
إغراؤها يف هذا الحماس ،ولكن بال أي نتيجة عملية تُذكر.
ولقد قام مستشارو سلسلة الكتل ببناء نماذج لتداول األسهم ،وإدراج األصول،
والتصويت ،وتخليص املدفوعات ،لكن لم تتطور أي منها لتُوَ َّ
ظف تجاريا ً حيث أنها كانت
306
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
أكثر تكلف ًة من الطرق البسيطة التي تعتمد عىل قواعد البيانات املُنشأة والحزم الربمجية،
كما استنتجت حكومة "فريمونت" مؤخرا ً.13
ويف الوقت نفسه ،ال تملك املصارف تاريخا ً جيدا ً فيما يتعلق بتطبيق التطورات
التكنولوجية الستعمالها الشخيص .فبينما كان "جيمي ديمون" املدير التنفيذي
ل ِـ " "JPMorgan Chaseيروج لتكنولوجيا سلسلة الكتل يف "دافوس" يف يناير من عام
،2016قام مرصفه بافتتاح واجهات للبورصات املالية – وهي تكنولوجيا من عام 1997
تُو ِّفر للجهات املعنية قاعدة بيانات مركزية تحتوي عىل معلومات العمالء -ولم تعمل
حتى كتابة هذا الكتاب.
باملقابل ،وُلدت شبكة البيتكوين من تصميم سلسلة الكتل بعد شهرين من
طرح ناكاموتو لتلك التقنية .وحتى يومنا هذا ،ال تزال تعمل بشكل متواصل دون
تقطعات ونمت إىل ما يزيد عىل قيمة $150مليار من عمالت البيتكوين .فسلسلة الكتل
كانت هي الحل ملشكلة النقد اإللكرتوني .فبسبب هذا وألنها عملت ،فقد نمت برسعة يف
ٍ
متخف حيث كان يتواصل عرب الربيد اإللكرتوني الوقت الذي عمل فيه ناكاموتو بشكل
فقط وباقتضاب ملا يقارب السنتني ،ولم تحتج إىل االستثمارات ،ورؤوس األموال
االستثمارية ،واملؤتمرات ،أو الدعاية.
بهذا الرشح ،أصبح واضحا ً أن االدِّعاء القائل بأن "تكنولوجيا سلسلة الكتل"
موجودة ويمكن نرشها وتوظيفها لحل أي مشكلة هو ادعاء مشبوه .وسيكون األمر أكثر
دقة يف حال تم فهم بنية سلسلة الكتل كقسم أسايس ومتكامل من عملية البيتكوين ومن
النُّسخ التي تقلد البيتكوين والنُّسخ التي يتم التجربة عليها .مع هذا ،يتم استخدام
مصطلح تكنولوجيا سلسلة الكتل من أجل البساطة يف التوضيح .والقسم التايل من
الفصل سيبحث أشهر حاالت استعمال تكنولوجيا سلسلة الكتل التي تم الرتويج لها،
بينما يحدد القسم الذي يليه املصاعب الرئيسية التي تواجه تطبيق سلسلة الكتل لتلك
13ستان هيغينز " :تقول فريمونت أن سجل سلسلة الكتل جيعل النظام مكلفاً جداً .موقع coinbase.com
يف 20يناير عام .2016
307
معيار البيتكوين
املشاكل.
من ملحة عامة عىل الرشكات الناشئة ومشاريع البحث املتعلقة بتكنولوجيا سلسلة الكتل،
يمكننا أن نصل للنتيجة أنه يمكن تقسيم تطبيقات سلسلة الكتل املحتملة إىل ثالثة
مجاالت رئيسية:
سجالت مركزية لكي تُسجل جميع ٍ تعتمد اآلليات التجارية الحالية لتصفية الدفعات عىل
التحويالت وتصون أرصدة الحسابات .وبشكل أسايس ،يتم نقل التحويالت من أطراف
املعاملة إىل الوسيط ثم يتم التأكد من صحتها ،وبعدها يتم تعديل كال الحسابني وفقا ً
لذلك .أما يف سلسلة الكتل ،فإنه يتم نقل التحويلة إىل كل عقد الشبكة التي تحتوي عىل
الكثري من التحويالت وقوة املعالجة والوقت ،بحيث تُصبح هذه التحويلة جزءا ً من سلسلة
الكتل ويتم نسخها إىل حواسيب كل األعضاء .إن هذه العملية أبطأ وأغىل ثمنا ً من
التصفية املركزية ،وهذا يساعدنا عىل فهم قدرة بطاقتي فيزا وماسرتكارد عىل تصفية
2,000تحويلة يف الثانية يف حني يُصفي البيتكوين أربعة بأفضل األحوال .فالبيتكوين
لديه سلسلة كتل ليس ألنه يسمح بتحويالت أرسع وأرخص ،بل ألنه يلغي الحاجة ألن
نثق بوساطة األطراف الثالثة :فيتم تصفية التحويالت بحيث تتنافس العُ َقد عىل تأكيدها
وتوثيقها ،ومع ذلك فإنه ال حاجة للوثوق بأية عقدة .لذلك ،من غري العميل لألطراف
الثالثة الوسيطة أن تتخيل أنه بإمكانها تطوير أدائها بتوظيف تقنية تُضحي بالفعالية
والرسعة بالذات من أجل إزالة األطراف الثالثة الوسيطة .ولهذا ،بالنسبة إىل أية عملة
ُسيطر عليها طرف مركزي ،فإن األمر دائما ً سيكون أكثر فعالية إذا تمت عملية تسجيل ي ِ
التحويالت مركزياً .وما يُمكن رؤيته بوضوح هو أن تطبيقات تسديد الدفعات عىل
سلسلة الكتل يجب أن تكون بعملة سلسلة الكتل ذاتها وغري املركزية ،وليس بعمالت يتم
السيطرة عليها بشكل مركزي.
308
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
العقود
يصيغ املحامون العقود حالياً ،وتح ُكم عليها املحاكم ،وتفرض الرشطة تطبيقها .أما يف
شفر أنظمة تشفري العقود الحديثة العقو َد مثل اإليثريوم وتضعهاعالم النظام الرقمي ،فت ُ ِّ
عىل سلسلة الكتل ليتم تنفيذها دون تدخل خارجي ودون إمكانية االستئناف أو اإلبطال
وبذلك تكون بعيد ًة عن سلطة املحاكم والرشطة" .الشيفرة الربمجية هي القانون" هذا
هو الشعار الذي يستخدمه مربمجو العقود الذكية .إن املشكلة يف هذا املفهوم هي أن اللغة
التي يستخدمها املحامون لصياغة العقود يفهمها عدد أكرب بكثري من الناس مقارنة بلغة
الشيفرة الربمجية التي يستخدمها من يصيغون العقود الذكية .وعىل األغلب ،يوجد بضع
مئات فقط من األفراد يف كل أنحاء العالم ممن يمتلكون الخربات التقنية الالزمة لفه ٍم
كامل ألثر وتعقيدات العَ قد الذكي ،وحتى هم قد يرتكبون ويُفوِّتون أخطا ًء برمجية ٍ
فادحة .فرغم تزايد عدد األفراد الذين يتقنون لغات الربمجة الرضورية لتشغيل تلك
العقود ،إال أن القلة األكثر إتقانا ً لهذه اللغات ،وحسب التعريف ،سيكون لهم أفضلية عىل
البقية .فكفاءة كتابة الشيفرة الربمجية ستعطي دوما ً أفضلية اسرتاتيجية ألولئك األكثر
إتقانا ً لها عىل اآلخرين.
وقد أصبح كل هذا واضحا ً يف أول تطبيق للعقود الذكية عىل شبكة اإليثرييوم
من خالل العَ قد الخاص باملنظمة املستقلة والالمركزية ( .)DAOفبعد استثمار أكثر من
150مليون دوالر يف هذا العَ قد الذكي ،تَمكن مهاجم من تنفيذ الشيفرة بطريقة حوَّلت
حوايل ث ُلث ممتلكات املنظمة املستقلة والالمركزية إىل حسابه .وال يمكن بشكل دقيق
تسمية هذا الهجوم بالرسقة ،ألن كل املودعني وافقوا عىل أن تتحكم الشيفرة فقط
نفذ الشيفرة بحسب ما وافق عليه املودعون. بنقودهم ،ولم يفعل املهاجم شيئا ً سوى أنه َّ
ونتيجة الخرتاق املنظمة املستقلة والالمركزية ،قام مطورو اإليثرييوم بابتكار نسخةً
جديدة منها لم يحدث فيها هذا الخطأ املزعج .وبهذا األمر ،إن عملية إعادة تدخل اإلدارة
البرشية غري املوضوعية التي تمت تتعارض مع هدف جعل الشيفرة قانوناً ،وتُشكك يف
كامل منطق العقود الذكية.
309
معيار البيتكوين
ف سلسلة كتل اإليثرييوم هي ثاني أكرب سلسلة كتل بعد البيتكوين من ناحية
قوة املعالجة الخاصة بها ،ويف حني ال يمكن بشكل فعال الرتاجع وإلغاء العمليات يف
سلسلة كت ل البيتكوين ،إال أن إمكانية الرتاجع يف اإليثرييوم تعني أن كل سلسلة كتل
أصغر من سلسلة كتل البيتكوين هي عبارة عن قواعد بيانات مركزية تقع تحت سيطرة
مشغليها .فتَ َّبني أن الشيفرة الربمجية ليست قانونا ً حقا ً وذلك ألن مشغيل تلك العقود
يستطيعون تجاوز ما ينفذه العَ قد .وبهذا ،لم تقم العقود الذكية باستبدال املحاكم
بالشيفرة الربمجية ،بل قامت باستبدال املحاكم بمطوري برمجيات قلييل الخربة،
واملعرفة ،واملسؤولية يف التحكيم .والوقت وحده سيكشف لنا إن كانت املحاكم واملحامون
سيبقون عىل الحياد يف هذا الشأن حيث أننا ما زلنا نكتشف تداعيات تلك االنقسامات.
عقد بعقد ذكي عىل سلسلة الكتل فاملنظمة املستقلة والالمركزية كانت أول تطبيق ُم ّ
وحتى اآلن الوحيد .وت ُوحي التجربة أن التطبيقات عىل نطاق واسع ال تزال بعيدة ،هذا إن
حدثت .فالتطبيقات الحالية األخرى جميعها موجودة عىل شكل نماذج فقط ،وربما يف
مستقبل افرتايض يكون فيه تعليم الشيفرة الربمجية أكثر شيوعا ً وتكون الشيفرة
ً
وموثوقة أكثر ،قد تصبح تلك العقود أكثر شيوعاً .لكن إن كان الربمجية فيه قابل ًة للتنبؤ
تشغيل عقود كهذه ال يفعل شيئا ً سوى زيادة متطلبات طاقة املعالجة يف حني تبقى هذه
العقود عرضة للتعديل ،واالنقسام ،واإللغاء من قبل مهنديس سلسلة الكتل ،فإن هذا
العمل بأكمله لن يفيد يف يشء سوى توليد الدعاية والتعابري الطنانة .ومن املحتمل وبشكل
كبري أن يكون مستقبل العقود الذكية بتواجدها عىل حواسيب مركزية محمية تُشغلها
أطراف ثالثة موثوقة قادرة عىل التحكم فيها وإلغائها .إن هذا يُش ّكل واقع العقود الذكية
عىل سلسلة الكتل بأن تكون قابلة للتعديل يف حني يتم تقليل متطلبات طاقة املعالجة
وتقليل القوى املهاجمة املحتملة التي تعرضها للخطر.
ومن أجل تواجد سالسل كتل تكون جاهزة للعمل ،فإن الطلب عىل العقود
البسيطة سيكون عىل األغلب بتلك العقود التي يمكن فهم شيفرتها الربمجية والتحقق
منها بسهولة .والسبب املنطقي الوحيد الستخدام هذه العقود عىل سلسلة الكتل بدال ً من
نظام حاسوبي مركزي سيكون من أجل العقود التي تَستخدم عملة سلسلة الكتل األصلية
بشكل ما ،بحيث يتم تطبيق كل العقود األخرى واإلرشاف عليها بشكل أفضل دون وجود
310
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
العبء اإلضايف لنظام سلسلة الكتل املو َّزع .والتطبيق الوحيد املوجود والذي له معنى
لتطبيقات عقود سلسلة الكتل هو ذلك التطبيق املوجود من أجل تسديد الدفعات البسيطة
املربمجة حسب الوقت ،ومن أجل ا َملحافظ عديدة التواقيع ،التي تُجرى كلها باستخدام
عملة سلسلة الكتل ذاتها ،وغالبا ً عىل شبكة البيتكوين.
إن سلسلة الكتل هي عبارة عن قاعدة بيانات موثوقة ومنيعة ضد التزوير ،وهي أيضا ً
سجل لألصول ،ولكنها منيعة فقط بالنسبة لعملة سلسلة الكتل االصلية .وينطبق هذا
األمر فقط إذا كانت العملة ذات قيمة كافية لتكون للشبكة طاقة معالجة قوية تكفي
أصول أخرى مادية أو رقمية ،فالثقة يف سلسلة
ٍ ملقاومة الهجمات .أما بالنسبة إىل أي
الكتل تكون عىل قدر الثقة باملسؤولني الذين يشكلون الصلة بني األصول وما يشري إليها
عىل سلسلة الكتل .ولن نحصل عىل فوائد من ناحية الفعالية أو الشفافية يف استخدام
سلسلة كتل مُرخصة هنا ،حيث أن مدى الثقة بها تكمن يف الثقة بالطرف الذي يمنح
اإلذن بالكتابة فيها .فإدراج سلسلة الكتل إىل أرشيف ذلك الطرف سيجعله أبطأ دون
إضافة حماية أو ثبات ،لعدم وجود إثبات عمل .وبهذا ،يجب أن تبقى الثقة يف وسطاء
األطراف الثالثة بينما وبالوقت نفسه تزداد طاقة املعالجة ويزداد الوقت الذي يتطلبه
تشغيل قاعدة البيانات .فيمكن استخدام سلسلة كتل محمية وعملتها كخدمة مُوثَّقة
ومُصدَّقة ،حيث تكون العقود والوثائق مدمجة يف كتلة تحويالت ،مما يسمح ألي طرف
بالوصول إىل العَ قد والتأكد من أن النسخة املعروضة هي فعال ً النسخة التي تم دمجها يف
ذلك الوقت .إن خدمة كهذه ستو ِّفر سوقا ً ملساحة قليلة من الكتلة ،لكن لن تعمل مع أية
سلسلة كتل دون وجود عملة.
311
معيار البيتكوين
بالنظر إىل التطبيقات الثالثة املحتملة السابقة لتكنولوجيا سلسلة الكتل ،فإننا نستطيع
تبن أكرب.
تمييز خمسة عوائق أساسية أمام عملية ٍ
.1التكرار
إن تسجيل كل تحويل من قبل كل عضو من أعضاء الشبكة هو تكرار مكلف جدا ً هدفه
الوحيد هو إزالة الوساطة .وبالنسبة ألي وسيط مايل أو قانوني ،ال يوجد منطق بإضافة
مثل هذا التكرار مع االستمرار بالبقاء وسيطاً .فليس هناك أي سبب مقنع لقيام مرصف
ما بمشاركة السجل الخاص به لجميع تحويالته املشرتكة بينه وبني املصارف األخرى،
وليس هناك أي سبب مقنع لرغبة املرصف يف رصف موارد هائلة عىل الكهرباء وطاقة
املعالجة لتسجيل التحويالت الخاصة ملؤسسة مالية مع أخرى .وبالتايل ،يؤدي هذا
التكرار إىل زيادة التكلفة دون أي فائدة تُرتجى.
.2زيادة السعة
ُوَزعة تُسجِّ ل فيها جميع العُ َقد كل التحويالت هي شبكة سينمو سجل إن شبكة م َّ
تحويالتها بشكل ضخم جدا ً وبشكل أرسع من نمو عدد أعضاء الشبكة .وبهذا ،فإن ثقل
وعبء العمليات الحاسوبية مع املساحة التخزينية بالنسبة ألعضاء الشبكة املوزعة
سيكون أكرب بكثري منه يف شبكة مركزية بالحجم ذاته .فسلسلة الكتل ستواجه دائما ً هذا
العائق الذي يمنع التوسع الناجح ،وهذا يرشح لنا ملاذا يتحرك مطورو البيتكوين باتجا ٍه
يتم فيه تصفية املدفوعات عىل طبقة ثانية ،كما يف "الشبكة الربق" ،أو خارج سلسلة
الكتل عرب وسطاء ،خالل بحثهم عن حلول للتوسعة بعيدا ً عن نموذج سلسلة كتل نقية
غري مركزية .فهناك مقايضة واضحة بني الحجم والالمركزية ،وإذا أصبحت سلسلة الكتل
قادرة عىل استيعاب أحجام أكرب من التحويالت ،فعندها يجب أن يزداد معها حجم الكتل،
مما سريفع من تكلفة االنضمام للشبكة ،األمر الذي سيقلل من عدد العُ َقد ،وكنتيجة،
312
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
ستميل الشبكة باتجاه املركزية .الخالصة ،إن أكثر طريقة اقتصادية للحصول عىل حجم
أكرب من التحويالت هو عن طريق املركزية يف عقدة واحدة.
.3االمتثال لألنظمة
إن سالسل الكتل بعمالتها الخاصة مثل البيتكوين ال عالقة لها بالقانون :فليس هناك أي
أمر يمكن ألي سلطة حكومية أن تفعله بهدف التأثري والتعديل عىل عمليات سلسلة
الكتل .حتى أن رئيس االحتياطي الفيدرايل قال" :ال يوجد أية سلطة إلدارة وتنظيم
البيتكوين عىل اإلطالق" .14فيتم إنتاج كتلة كل عرش دقائق تقريبا ً عىل شبكة البيتكوين
بحيث تحتوي هذه الكتلة عىل جميع التحويالت الصالحة املُنتجة خالل العرش دقائق
التقريبية تلك ،وال يشء آخر .ويتم قبول وتصفية التحويالت إذا كانت صالحة ،وال يتم
تصفيتها إذا لم تكن كذلك ،وال يمكن للمدراء واملنظمني الحكوميني أن يفعلوا شيئا ً إللغاء
القواعد املشرتكة لطاقة معالجة الشبكة .لهذا ،إن تطبيق تكنولوجيا سلسلة الكتل يف
القطاعات التي تخضع بشكل كبري إلدار ٍة وتنظي ٍم حكومي كاملؤسسات القانونية واملالية
مع عمالت غري البيتكوين ،سيُنتِج مشاكل إدارية وتنظيمية وتعقيدات قانونية .فالقوانني
ُنيات تحتية تختلف بشكل كبري عن بنية سلسلة الكتل ،وال والتنظيمات تم تصميمها ِلب ٍ
ً
يمكن ضبط هذه القوانني لتتالءم مع عمليات سلسلة الكتل بشكل سهل ،خصوصا مع
وجود الشفافية الكاملة من امتالك جميع أعضاء الشبكة لنسخةٍ من السجل املشرتك.
إضافة لهذا ،إن سلسلة الكتل تعمل عىل الشبكة عرب السلطات القضائية بقوانني إدارية
وتنظيمية مختلفة ،لذلك إن االمتثال لكل القوانني هو أمر يصعب ضمانه.
.4الال رجوع
مع إدارة الوسطاء للمدفوعات والعقود وقواعد البيانات ،فإنه يمكن الرتاجع وإلغاء
األخطاء البرشية أو الربمجية التي تحصل عن طريق االستعانة بالوساطة ،أما يف سلسلة
14س.روسوليلو "ييلن يقول يف البيتكوين :ال متلك الفيدرالية أي سلطة إلدارة البيتكوين أبي شكل من
األشكال" ،صحيفة وول سرتيت ،فرباير .2014 ,27
313
معيار البيتكوين
الكتل ،فتلك األمور معقدة بشكل كبري جداً .ففي الوقت الذي يتم فيه قبول كتلة ما ويتم
ربط الكتل األخرى بها ،فإنه يمكن الرتاجع عن التحويالت الخاصة بها فقط عن طريق
توجيه %51من طاقة املعالجة الخاصة بالشبكة إلرجاع الشبكة كما كانت ،بحيث توافق
كل العُ َقد عىل االنتقال وبشكل متزامن إىل سلسلة كتل مُعدَّلة ،آملني بأن الـ %49
اآلخرين لن يريدوا إنشاء شبكتهم الخاصة وسينضمون إىل الشبكة الجديدة .وكلما يزداد
حجم الشبكة ،يزداد معها صعوبة إلغاء وإرجاع أي تحويل مغلوط بها .لكن بالنهاية ،تم
إنشاء تكنولوجيا سلسلة الكتل ملحاكاة التحويالت النقدية ولكن هنا عىل الشبكة ،بحيث ال
يكون هناك تراجع بالتحويالت النقدية مع عدم القدرة عىل االستفادة من الوساطة
الوصيَّة يف املراجعة والتعويض .فاملشاكل البرشية والربمجية تَظهر دائما ً يف القطاع
املرصيف ،ولن يَنتج عن توظيف بنية سلسلة الكتل إال جعل تلك األخطاء أكرب ثمنا ً من أن
يتم إصالحها .فكشفت حادثة الـ DAOعن الثمن الباهظ واملمتد لعكس وإلغاء مشكلة
كهذه يف سلسلة الكتل حيث تطلَّب أسابيعا ً من الربمجة وحمالت العالقات العامة لنَيل
موافقة أعضاء الشبكة عىل تبني الربنامج الجديد .وحتى بعد كل ذلك ،استمرت السلسلة
القديمة بالتواجد وأخذت معها كمية كبرية من قيمة وطاقة الشبكة القديمة .فهذه
الخسارة شكلت وأنشأت وضعا ً يتواجد فيه نسختني من التحويل السابق ،تحويل نجح
فيه هجوم الـ DAOوآخر لم ينجح به.
فإ ذا كان من املمكن استبدال سجل ثاني أكرب شبكة من حيث طاقة املعالجة
عندما ال تسري التحويالت يف الطريق الذي يناسب مصالح فريق التطوير ،فال يمكن قبول
االعتبار والفكرة القائلة بأنه يتم تنظيم سالسل الكتل األخرى عرب طاقة معالجتها.
فرتكيز حَ َملة العملة ،وطاقة املعالجة ومهارات الربمجة يف أيدي مجموعة من الناس الذين
هم بالواقع زمالء يف مشاريع خاصة يُقوِّض الهدف من تطبيق هذه البنية الدقيقة.
إن تراجعا ً وإلغا ًء كهذا غري عميل أبدا ً وغري مرجح الحدوث يف البيتكوين
لألسباب التي تمت مناقشتها يف الفصل التاسع بشكل خاص ،ألنه ال يتاح ألي طرف يف
شبكة البيتكوين االنضمام إىل الشبكة إال إذا وافق عىل القوانني املوجودة واملتفق عليها.
فاملصالح العدائية لألعضاء املختلفني للنظام املتكامل تعني وبشكل دائم أن الشبكة لن
تنمو إال عرب جذب املساهمات التطوعية لألفراد الراغبني يف قبول القواعد املتفق عليها.
314
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
ففي البيتكوين ،تبقى القواعد املشرتكة ثابتة أما املستخدم فهو من يختار البقاء أو
الذهاب .لكن تواجد دائما ً مجموعة واحدة مسؤولة عن وضع قواعد أي مرشوع سلسلة
كتل آخر تم تأسيسه بتقليد تصميم البيتكوين ،وبالتايل كان لتلك املجموعة القدرة عىل
تغيري تلك القواعد .فبينما نما البيتكوين تحت ظل القواعد املشرتكة َ
املؤ َّسسة عرب
الترصفات البرشية ،نمت جميع املشاريع األخرى عرب التصاميم البرشية واإلدارة البرشية
النشطة .لهذا ،اكتسب البيتكوين سمعته عن طريق كونه ثابتا ً بعد سنوات من مقاومته ِ
للتغيري ،وال يمكن ألي مرشوع سلسلة كتل آخر أن يديل بهذا االدعاء.
فسلسلة الكتل القابلة للتبديل تُعد تطبيقا ً نافعا ً عمليا ً يف هندسة املغالطات
واألمور السخيفة :فهي تستخدم طرقا ً معقدة وباهظة الثمن من أجل إزالة الوساطة
وتأسيس الثبات ،لكنها بعد ذلك تمنح الوسيط القدرة عىل قلب وإلغاء ذلك الثبات.
وأفضل التطبيقات املوجودة حاليا ً يف هذه املجاالت هي تلك التي لديها القدرة عىل الرتاجع
واإللغاء باإلضافة إىل الرقابة من قِ بَل السلطات الرشعية والتنظيمية ،حيث أن هذه
ظف طرقا ً أرخص ،وأكثر رسعة وفعالية. السلطات تو ِّ
.5احلامية
تعتمد حصانة قاعدة بيانات سلسلة الكتل بأكملها عىل إنفاق طاقة املعالجة لتصديق
التحويالت ونظام إثبات العمل .ويمكن فهم تكنولوجيا سلسلة الكتل بشكل جيد عىل أنها
تحويل الطاقة الكهربائية إىل سجالت موَّثقة بشكل قاطع تتضمن امللكية والتحويالت.
ولكي يكون هذا النظام محمياً ،يجب أن يتم تعويض املُوثِّقني الذين يرصفون طاقة
املعالجة بعملة نظام الدفع نفسه لضمان موائمة دافعهم مع صحة ودوام الشبكة .لكن
إذا تم جعل مدفوعات طاقة املعالجة بعملة أخرى ،فعندها سيتم اعتبار سلسلة الكتل عىل
أنها سجل خاص يُحا َفظ عليها من قبل أي شخص يدفع ثمن طاقة املعالجة .وتعتمد
حصانة النظام عىل حصانة الطرف املركزي الذي يدعم املعدنني ،لكنه سيكون محفوفا ً
باملخاطر إذا عمل عرب سجل مشرتك ألنه يزيد من احتمال حدوث خروقات أمنية .فكلما
ازداد انفتاح النظام وازداد عدد أعضاء الشبكة الذين يرصفون طاقة املعالجة عىل التأكيد
والتوثيق ،تزداد حصانة النظام املفتوح غري املركزي املبني عىل التصديق عرب طاقة
315
معيار البيتكوين
املعا لجة .أما بالنسبة للنظام املركزي الذي يعتمد عىل نقطة واحدة من الفشل ،فإنه
سيكون أقل حصانة إذا كان لعدد كبري من أعضاء الشبكة القدرة عىل الكتابة عىل سلسلة
الكتل .ويف كل مرة ينضم فيها عضو جديد للشبكة فإن ذلك سيشكل احتمالية جديدة
لحدوث خرق أمني.
إن التطبيق التجاري الناجح الوحيد لتكنولوجيا سلسلة الكتل إىل حد اآلن هو النقد
اإللكرتوني وتحديدا ً البيتكوين .ومعظم التطبيقات املحتملة التي تم الرتويج لها
لتكنولوجيا سلسلة الكتل -كاملدفوعات ،والعقود ،وسجالت األصول -ستعمل فقط إذا تم
استعمال العملة الرقمية غري املركزية الخاصة بسلسلة الكتل .لهذا ،إن سالسل الكتل
جميعها التي ال تستند عىل عمالت رقمية هي سالسل لم تنتقل من مرحلة النموذج
البدائي إىل التطبيق التجاري وذلك ألنها ال تستطيع التنافس مع أفضل تطبيق حايل يف
سوقهم .فتصميم البيتكوين كان وال يزال متوفرا ً بشكل مجاني ملدة تسع سنوات اآلن،
ويمكن للمطورين النَّسخ منه وتطويره لتقديم منتجات تجارية ،لكن لم يظهر هذا النوع
من املنتجات بعد.
ويُظهر اختبار السوق أن تكرار تسجيل التحويالت ونظام إثبات العمل يمكن
تربيرهما فقط بهدف إنتاج نقد إلكرتوني وشبكة مدفوعات دون وجود وساطة طرف
ثالث ،بحيث يمكن التعامل مع مُلكية النقد اإللكرتوني والتحويالت عرب كميات صغرية
جدا ً م ن البيانات .لكن الحاالت االقتصادية األخرى التي تحتاج متطلبات بيانات أكرب
كاملدفوعات والعقود الكبرية تصبح باهظة الثمن بشكل غري عميل يف نموذج سلسلة الكتل.
فبالنسبة ألي تطبيق يحتاج وجود الوسطاء ،لن تُقدِّم سلسلة الكتل حلوال ً منافِ سة ،ولهذا
ال يمكن أن يكون هناك تبن كبري لتكنولوجيا سلسلة الكتل يف القطاعات املعتمدة عىل
الثقة بالوسطاء .فتواجد الوسطاء ولو بشكل بسيط يجعل من جميع األثمان املتعلقة
بتشغيل سلسلة الكتل أمرا ً غري رضوري .لهذا ،لن يكون تطبيق تكنولوجيا سلسلة الكتل
316
أسئلة متعلقة بالبيتكوين
ذا معنى إال إذا كان عمله قائما ً عىل النقد اإللكرتوني ،وفقط إذا قدم النقد اإللكرتوني غري
القائم عىل الوساطة مناف َع اقتصادية تفوق تلك التي تأتي من استخدام العمالت العادية
وقنوات الدفع.
محاو ًلة إيجاد الحل األمثل لها بحيث أن ِ فالهندسة الجيدة تبدأ بمشكلة واضحة
هذا الحل األمثل ال يحل املشكلة فقط ،بل وحسب التعريف ال يحمل أيَّ جهد إضايف غري
رضوري .فمُنشئ ُ البيتكوين كان متحفزا ً إلنتاج شبكة "نق ٍد إلكرتوني قائمة عىل نظام
داع ،إال الجهل بتقنية عمله، نظري إىل نظري" ،وقد صنع تصميما ً لذلك ،وليس هناك أي ٍ
لتوقع أنه قد يناسب أعماال ً واحتياجات أخرى .فبعد تسع سنوات وماليني املستخدمني،
يمكننا القول أن تصميمه قد نجح يف إنتاج نقد رقمي وكما هو متوقع ال يشء سواه.
ويمكن أن يحتوي هذا النقد اإللكرتوني عىل تطبيقات تجارية ورقمية ،لكن قضية
مناقشة تكنولوجيا سلسلة الكتل عىل أنها ابتكار تكنولوجي يف حد ذاتها مع تطبيقات يف
مجاالت وحقول مختلفة هي أمر ال يحمل أي معنى .فيمكن فهم سلسلة الكتل بشكل
أفضل عىل أنها جزء ال يتجزأ من اآللة التي تصنع نقدا ً إلكرتونيا ً مبنيا ً عىل نظام نظري إىل
نظري بتضخم يمكن التنبؤ به.
317
شكر وتقدير
استفاد هذا الكتاب كثريا ً من الخربة التقنية ومساعدة وإرشاد مطور البيتكوين ديفيد
هاردينغ ،الذي يمتلك موهبة رائعة إليضاح مواضيع تقنية معقدة بشكل فعال .وأشكر
نسيم طالب ألنه وافق عىل كتابة مقدمة هذا الكتاب ،وألنه ساعدني يف إيجاد دار نرش .يف
دار النرش واييل ،كنت محظوظا ً جدا ً للعمل مع محرر آ َم َن بكتابي ودفعني ألحسنه دون
كلل ،ولهذا أنا ممتن للغاية لبيل فالون ،باإلضافة إىل كل فريق واييل عىل احرتافيتهم
وكفاءتهم .كما أشكر ريتشل ترششيل عىل تدقيقها الشامل والرسيع.
ُقرأت مسودات سابقة لهذا الكتاب من قبل عدة أصدقاء قدموا يل تعليقات
ممتازة ألحسنه ،وأنا ممتن جدا ً لهذا .أشكر بشكل خاص أحمد عموص ،ستيفانو برتولو،
أفشني بيدجيل ،أندريا بوتوالمياتزي ،مايكل بايرن ،نابوليون كول ،أدولفو ونرتيراس،
راني جيها ،بنجامني جيفا ،مايكل هارتل ،آالن كراسوسكي ،راسل المربتي ،باركر لويس،
أليكس ميلر ،جوشوا ماتيتور ،دانييل أوليفر ،توماس شيلني ،فالنتني شميت ،عمر شمس،
جيمي سونغ ،لويس توراس ،وهاشم ياسني.
هذا الكتاب نتيجة لعملية تعلم استغرقت سنوات عديدة ،كنت محظوظا ً بأن
تعلمت خاللها من بعض أذكى العقول .أشكر بشكل خاص تور دميسرت ،رايان
ديكهربر ،بيت دوشنسكي ،ميشيل فهد ،أكني فرنانديز ،فيكتور غيلري ،مايكل غولدستني،
كونارد غراف ،بونتس ليندبولم ،مريسيا بوبيسكو ،بيري روتشارد ،نِك زابو ،كايل توربي،
وكرتيس يارفني عىل كتاباتهم ومناقشاتهم التي كانت فعالة يف تحسني فهمي للبيتكوين.
حظي البحث والتحرير يف هذا الكتاب من عمل بعض أصحب العقول النرية
أمثال ريبيكا ضاهر ،جيدا حاج دياب ،ماغي فرح ،سادم سبيتي ،ورشا خياط ،الذين
أقدم لهم شكرا ً جزيالً.
وقام أحمد حمدان ببذل مجهود رائع يف ترجمة وتدقيق هذا الكتاب للعربية،
وأنا ممتن جدا ً لهذا الجهد الفريد الذي لواله ملا صدر الكتاب بهذه الطالقة .وقد ساعد
318
شكر وتقدير
بالرتجمة كل من رزان حربا ،كارلوس شموط ،فارس خدوج ،مصطفى خالد ،هال كنعان،
محمد أحمد مصطفى ،وأحمد املعيقل .وقد قام عنان أبو رميلة وهشام أبو الفتوح
كل من جورج أتاناس ،وصديق بيطار بإعطاء االستشارات لهم .كما بالتدقيق .وساهم ٍ
أَمَّ ن يل الربوفسور جورج هال بيانات من ورقة البحث الخاصة به ،وأنا ممتن عىل هذا.
أخرياً ،لم يكن هذا الكتاب أو البيتكوين ممكنني لوال عمل املطورين املتطوعني
الجاد ،الذين كرسوا وقتهم لتطوير وصيانة الربوتوكول .أنا ممتن لغرييتهم وتفانيهم يف
هذا املرشوع.
319
مصادر شبكة اإلنرتنت
320
قائمة األشكال
الشكل :5أسعار الرصف الوطنية الرئيسية مقابل الفرنك السويرسي خالل الحرب
العاملية األوىل .معدل التبادل يف يونيو .1 :1914
الشكل :6متوسط معدل النمو السنوي للنقد باملعنى الواسع لـ 167عملة-1960 ،
.2015
الشكل :7معدل نمو النقد بمعناه الواسع يف اليابان ،اململكة املتحدة ،الواليات املتحدة،
ومنطقة اليورو.
الشكل :8مقياس القوة الرشائية للذهب والسلع األساسية يف سوق الجملة يف إنجلرتا،
.1976-1950
الشكل :9سعر السلع األساسية بالذهب وبالدوالر األمريكي ،عىل مقياس طويل األمد،
.2016 -1792
321
قائمة األشكال
الشكل :14عرض البيتكوين ومعدل نمو معروض البيتكوين ،إن افرتض أنه يتم إصدار
كتلة كل 10دقائق بالضبط.
الشكل :15النسبة املئوية للنمو املتوقع ملعروض البيتكوين والعمالت الوطنية عىل مدى
25عاماً.
الشكل :18القيمة الوسطية لرسوم التحويالت عىل شبكة البيتكوين مقدرة بالدوالر
األمريكي ،مقياس لوغاريتمي.
الشكل :20نسبة االستهالك واإلنتاج واالحتياطي املؤكد ونسبة االحتياطي إىل اإلنتاج
السنوي ،للنفط العاملي بني عامي .2015-1980
322
قائمة اجلداول
الجدول :2انخفاض قيمة العملة اتجاه الفرنك السويرسي خالل الحرب العاملية الثانية.
الجدول :3البلدان العرش ذات أعىل متوسط معدل النمو السنوي للنقد باملعنى الواسع،
.2015-1960
الجدول :4النسبة املئوية ملتوسط الزيادة السنوية يف عرض النقد عىل نطاق واسع ألكرب
عرش عمالت عاملية.
الجدول :9القيمة اإلجمالية السنوية للتحويالت عىل شبكة البيتكوين مقدرة بالدوالر
األمريكي.
الجدول :10متوسط النسبة املئوية للتغري اليومي واالنحراف املعياري يف سعر العمالت
يف السوق .مقدرة بالدوالر األمريكي يف الفرتة املمتدة بني 1سبتمرب عام 2011و1
سبتمرب عام .2016
323
قائمة املراجع
Bly, Nellie. Around the World in Seventy‐Two Days. New York: Pictorial
Weeklies, 1890 .
Brown, Malcolm, and Shirley Seaton. Christmas Truce: The Western Front
December 1914. Macmillan, 2014.
Buchanan, James M., and Gordon Tullock. The Calculus of Consent: Logical
Foundations of Constitutional Democracy. Liberty Fund Indianapolis, 1962 .
Coase, Ronald. “The Nature of the Firm.” Economica 4, no. 16 (1937): 386–
405. Courtois, Stephane, Nicolas Werth, Karel Bartosek, Andrzej
324
قائمة املراجع
De Soto, Jesús Huerta. Money, Bank Credit, and Economic Cycles. Auburn,
AL: Ludwig von Mises Institute, 2009 .
Gilder, George. The Scandal of Money: Why Wall Street Recovers but the
Economy Never Does. Regnery Publishing, 2016 .
Glubb, John. The Fate of Empires and Search for Survival. Blackwood, 1978 .
Grant, James. The Forgotten Depression: 1921: The Crash That Cured Itself.
Simon & Schuster, 2014 .
325
قائمة املراجع
Halévy, Élie, and May Wallas. “The Age of Tyrannies.” Economica 8, New
Series, no. 29 (1941): 77–93.
Hall, George. “Exchange Rates and Casualties During the First World War.”
Journal of Monetary Economics 51, no. 8 (2004): 1711–1742 .
Hanke, Steve H. and Charles Bushnell. “Venezuela Enters the Record Book:
The 57th Entry in the Hanke‐Krus World Hyperinflation Table.” The Johns
Hopkins Institute for Applied Economics, Global Health, and the Study of
Business Enterprise, Studies in Applied Economics, no. 69 (December 2016.)
Hayek, Friedrich. Monetary Theory and the Trade Cycle. Jonathan Cape,
London, 1933.
Hazlitt, Henry. The Failure of the New Economics. NJ: D. Van Nosrat
Company, Inc, 1959.
Holroyd, Michael. Lytton Strachey: The New Biography. Norton & Co.,
2005 .
326
قائمة املراجع
Komlos, John, Patricia Smith, and Barry Bogin. “Obesity and the Rate of
Time Preference: Is There a Connection?” Journal of Biosocial Science 36,
no. 2 (2004): 209–219 .
Levy, David, and Sandra Peart. “Soviet Growth and American Textbooks:
An Endogenous Past.” Journal of Economic Behavior & Organization 78, no.
1–2 (2011): 110–125 .
Liaquat Ahamed. Lords of Finance: The Bankers Who Broke the World.
Penguin, 2009 .
327
قائمة املراجع
Lips, Ferdinand. Gold Wars: The Battle Against Sound Money as Seen from
a Swiss Perspective. New York: Foundation for the Advancement of
Monetary Education, 2001 .
Mallery, Otto Tod. Economic Union and Durable Peace. New York: Harper,
1943.
Menger, Carl. “On the Origins of Money.” The Economic Journal 2, no. 6
(1892): 239–255.
Mises, Ludwig von. Human Action. The Scholar's Edition. Auburn, AL:
Ludwig von Mises Institute, 1998 .
_____. The Theory of Money and Credit, 2nd ed. Irvington?on?Hudson, New
York: Foundation for Economic Education, 1971.
328
قائمة املراجع
Philippon, Thomas, and Ariell Reshef. “An International Look at the Growth
of Modern Finance.” Journal of Economic Perspectives 27, no. 2 (2013): 73–
96 .
Rothbard, Murray. America's Great Depression, 5th ed. Auburn, AL: Ludwig
von Mises Institute, 2000.
_____. Economic Depressions: Their Cause and Cure. Auburn, AL: Ludwig
von Mises Institute, 2009.
_____. “The End of Socialism and the Calculation Debate Revisited.” The
Review of Austrian Economics 5, no. 2 (1991): 51–76.
_____. The Ethics of Liberty. New York, NY: New York University Press,
1998.
_____. Man, Economy, and State. Ludwig von Mises Institute, 2009.
Salerno, Joseph. Money: Sound and Unsound. Ludwig von Mises Institute,
2010 .
Samuelson, Paul Anthony. Full Employment after the War. New York:
McGraw‐Hill, 1943.
329
قائمة املراجع
Saunders, Frances Stonor. The Cultural Cold War: The CIA and the World of
Arts and Letters. The New Press, 2000. ISBN 1‐56584‐596‐X .
Schuettinger, Robert L., and Eamonn F. Butler. Forty Centuries of Wage and
Price Controls: How Not to Fight Inflation. Ludwig von Mises Institute,
1979 .
Singh, Simon. The Code Book: The Science of Secrecy from Ancient Egypt
to Quantum Cryptography. Anchor, 2000 .
Steil, Benn. The Battle of Bretton Woods: John Maynard Keynes, Harry
Dexter White and the Making of a New World Order. Princeton University
Press, 2013 .
Stein, Mara Lemos. “The Morning Risk Report: Terrorism Financing Via
Bitcoin May Be Exaggerated.” Wall Street Journal, 2017 .
Sutton, Antony. Wall Street and the Bolshevik Revolution, Crown Publishing
Group, 1974 .
Szabo, Nick. 2001. Trusted Third Parties Are Security Holes. Available on
NakamotoInstitute.org
330
قائمة املراجع
_____. The Black Swan: The Impact of the Highly Improbable. Random
House, 2007.
Thiel, Peter. From Zero to One: Notes on Start‐ups, or How to Build the
Future. Crown Business, 2014 .
331