You are on page 1of 351

I

‫معيار البيتكوين‬
‫سيف الدِّين عَ مُّ وص‬

‫‪II‬‬
‫معيار البيتكوين‬
‫البديل الالمركزي للنظام املرصيف املركزي‬

‫تألـيـف‪ :‬سيـف الدِّين عَ مُّ وص‬


‫مـقـدمة‪ :‬نسيم نقوال طــالـب‬
‫تـرجمة‪ :‬أحمـد محمد حمدان‬

‫‪III‬‬
‫حقوق الطبع والنرش محفوظة © ‪ 2019‬لسيف الدين عَ مُّ وص‪ .‬كل الحقوق محفوظة‪.‬‬
‫يُمنع نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية أو إلكرتونية أو ميكانيكية بما فيه‬
‫التسجيل الفوتوغرايف والتسجيل عىل أرشطة أو أقراص مقروءة أو أية وسيلة نرش أخرى بما فيها حفظ‬
‫املعلومات‪ ،‬واسرتجاعها‪ ،‬إال بما سمُح به يف املادة ‪ 107‬أو ‪ 108‬من قانون حقوق الطبع والنرش من عام‬
‫‪ 1976‬يف الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬دون إذن خطي من النارش‪ ،‬أو عن طريق تسديد املبلغ املناسب‬
‫للنسخة إىل مركز ترخيص حقوق النرش‪ ،‬يف ‪ 222‬روزوود درايف‪ ،‬دانفرز‪ ،‬ماساتشوستس ‪،01923‬‬
‫‪ ،)978( 750-8400‬فاكس ‪ ،)978( 646-8600‬أو عىل املوقع اإللكرتوني‬
‫‪ .http://www.copyright.com‬يجب إرسال طلبات اإلذن من النارش إىل قسم األذون يف رشكة جون‬
‫واييل وأبناؤه‪ 111 ،‬ريفر سرتيت‪ ،‬هوبوكن‪ ،‬نيوجريس ‪.)201( 748-6011 ،07030‬‬

‫تحديد مسؤولية‪ /‬إخالء مسؤولية الضمان‪ :‬بذل النارش والكاتب قصارى جهدهما يف إعداد هذا الكتاب‪،‬‬
‫بشكل‬
‫ٍ‬ ‫لكنهما ال يقدمان أي ضمان رصيح أو ضمني حول دقة أو اكتمال محتويات هذا الكتاب ويُخليان‬
‫خاص مسؤوليتهما عن أي كفالة ضمنية متعلقة بقابلية التسويق أو املالءمة لغرض معني‪ .‬ال يمكن تقديم‬
‫أية ضمانات من قبل ممثيل املبيعات أو مواد املبيعات املكتوبة‪ .‬قد ال تكون النصائح واالسرتاتيجية‬
‫املوجودة يف الكتاب مناسبة لوضعك‪ .‬يجب أن تستشري شخصا ً مختصاً‪ .‬لن يكون النارش وال الكاتب‬
‫مسؤولني عن أية خسارة أو أرضار مادية‪ ،‬بما فيها‪ ،‬عىل سبيل املثال ال الحرص‪ ،‬األرضار الخاصة‪،‬‬
‫العرضية‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫(الطبعة األوىل – يوليو ‪2019‬م – ذو القعدة ‪1440‬ه)‬

‫الرقم الدويل املعياري للكتاب ‪)ePDF( 9781119473893‬‬


‫الرقم الدويل املعياري للكتاب ‪)ePub( 9781119473916‬‬
‫تصميم الغالف‪ :‬أحمد محمد حمدان‬

‫‪IV‬‬
‫املـــحــتــويـــــات‬

‫املحتويات‪V ...................................................‬‬
‫إهداء ‪VIII .....................................................‬‬
‫حول املؤلف ‪IX ...............................................‬‬
‫حول املرتجم ‪X ...............................................‬‬
‫مقدمة "فالريي فافيلوف"‪XI .............................‬‬
‫مقدمة نسيم طالب ‪XIV ...................................‬‬
‫تمهيد ‪XVI ....................................................‬‬

‫الفصل األول ‪ :‬النقد‪1........................................‬‬


‫الفصل الثاني ‪ :‬النقد البدائي‪11 ...........................‬‬
‫الفصل الثالث ‪ :‬املعادن النقدية‪19 ........................‬‬
‫ِل َم الذهب؟ ‪21...........................................................‬‬
‫العرص الذهبي الروماني وانحداره ‪28................................‬‬
‫بيزنطة والعملة البيزنطية (البيزنت) ‪31.............................‬‬
‫عرص النهضة ‪32........................................................‬‬
‫العرص الجميل‪38.......................................................‬‬

‫‪V‬‬
‫املحتويات‬

‫الفصل الرابع ‪ :‬النقد الحكومي‪47 ........................‬‬


‫القومية النقدية ونهاية العالم الحر ‪49...............................‬‬
‫عرص ما بني الحربني ‪55...............................................‬‬
‫الحرب العاملية الثانية و"برايتون وودز" ‪61........................‬‬
‫السجل التاريخي للنقد الحكومي ‪69.................................‬‬
‫الفصل الخامس ‪ :‬النقد والتفضيل الزمني ‪85 ..........‬‬
‫التضخم النقدي ‪93....................................................‬‬
‫االدخار وجمع رأس املال ‪104.........................................‬‬
‫ابتكارات‪" :‬صفر إىل واحد" مقابل "واحد إىل عديد" ‪111.........‬‬
‫االزدهار الفني ‪114.........................................................‬‬
‫الفصل السادس ‪ :‬نظام املعلومات الرأسمالية‪121 ....‬‬
‫اشرتاكية السوق الرأسمايل ‪125..........................................‬‬
‫الدورات االقتصادية واألزمات املالية ‪130...............................‬‬
‫األساس السليم للتجارة ‪145..............................................‬‬
‫الفصل السابع ‪ :‬النقد السليم والحرية الشخصية‪153‬‬
‫هل يجب عىل الحكومة إدارة العرض النقدي؟ ‪154..................‬‬
‫النقد غري السليم والحرب األزلية ‪165..................................‬‬
‫الحكومات ذات السلطة املحدودة مقابل الحكومات ذات السلطة املطلقة ‪169.‬‬
‫العملة َ‬
‫الخل َِسة )‪176................................ (THE BEZZLE‬‬
‫الفصل الثامن ‪ :‬النقد الرقمي ‪191 ........................‬‬
‫البيتكوين كنقد رقمي ‪192............................................‬‬
‫العرض والقيمة والتحويالت ‪203....................................‬‬
‫ملحق الفصل الثامن ‪220.............................................‬‬

‫‪VI‬‬
‫املحتويات‬

‫َصلُح البيتكوين؟ ‪223 .............‬‬


‫الفصل التاسع ‪ :‬ل َم ي ْ‬
‫مخزون للقيمة ‪223....................................................‬‬
‫السيادة الفردية ‪230...................................................‬‬
‫التسوية الدولية واملتصلة بشبكة اإلنرتنت ‪237.....................‬‬
‫وحدة حساب عاملية ‪245..............................................‬‬
‫الفصل العارش ‪ :‬أسئلة متعلقة بالبيتكوين ‪251 .......‬‬
‫هل يُعَ ُّد تعدين البيتكوين تبذيرا ً ؟ ‪251..............................‬‬
‫خارج السيطرة‪ :‬ملاذا ليس ِب ِو ْس ِع أحد تغيري البيتكوين ؟ ‪257....‬‬
‫األنظمة املضادة للهشاشة ‪266.......................................‬‬
‫هل يستطيع البيتكوين التوسع؟ ‪268................................‬‬
‫هل البيتكوين للمجرمني ؟ ‪276.......................................‬‬
‫كيفية قتل البيتكوين‪ :‬دليل املبتدئني ‪279............................‬‬
‫العمالت البديلة (‪291................................ )ALTCOINS‬‬
‫تكنولوجيا سلسلة الكتل (البلوك تشني ‪299. )BLOCKCHAIN -‬‬

‫شكر وتقدير‪318 ............................................‬‬


‫مصادر شبكة اإلنرتنت‪320 ................................‬‬
‫قائمة األشكال‪321 ..........................................‬‬
‫قائمة الجداول‪323 ..........................................‬‬
‫قائمة املراجع‪324 ...........................................‬‬

‫‪VII‬‬
‫إهـــــــــــــــداء‬
‫إىل زوجتي وابنتي اللتان منحتاني سببا ً للكتابة‪.‬‬

‫وإىل "ساتويش ناكاموتو" الذي منحني سببا ً جديرا ً للكتابة‪.‬‬

‫‪VIII‬‬
‫حــول املــؤلــف‬
‫د‪ .‬سيف الدِّين عَ مُّوص هو أستاذ االقتصاد يف الجامعة اللبنانية األمريكية وعضو يف مركز‬
‫جامعة كولومبيا لدراسة الرأسمالية واملجتمع‪.‬‬

‫حاصل عىل درجة الدكتوراة يف التنمية املُستدامة من جامعة كولومبيا‪.‬‬


‫للتواصل مع املؤلف عىل تويرت‪ ،‬اضغط هنا‪.‬‬
‫للذهاب إىل موقع املؤلف‪ ،‬اضغط هنا‪.‬‬

‫‪IX‬‬
‫حــول املرتجم‬
‫أحمد محمد حمدان هو خريج الجامعة العربية للعلوم اإلداريَّة واالقتصاديَّة ومقرها‬
‫القدس‪ .‬حاصل عىل لقب إضايف يف األدب اإلنجليزي‪.‬‬

‫دأبَ املرتجم عىل املزج بني شغفه بعلم االقتصاد والتقنيات الحديثة ليُو ِّ‬
‫ظف ذلك يف ترجمة‬
‫هذا الرصح العلمي للمؤلف د‪ .‬سيف الدِّين عَ مُّوص‪.‬‬
‫للتواصل مع املرتجم عىل تويرت‪ ،‬اضغط هنا‪.‬‬

‫‪X‬‬
‫مقدمة "فالريي فافيلوف"‬
‫هناك مجموعتني من األشخاص يجب عليهم قراء معيار البيتكوين‪ :‬املجموعة األوىل تتمثل‬
‫باألفراد الذين يعتقدون أن األنظمة يف عاملهم تعمل‪ ،‬واملجموعة الثانية تتمثل بأولئك‬
‫األفراد الذين رؤوا هذه األنظمة تنهار وتتهاوى أمام أعينهم‪َ .‬ف ِكال املجموعتني تحتاج‬
‫البيتكوين‪ ،‬ولكن قبل أن يدركوا هذه الحقيقة‪ ،‬يجب عليهم أوال ً أن يفهموا بعضهم‬
‫ٍ‬
‫مجتمعات‬ ‫البعض‪ .‬وإىل أن يتم هذا‪ ،‬فسوف يبتكروا‪ ،‬ويكافحوا‪ ،‬ويفشلوا‪ ،‬وينجحوا يف‬
‫منعزلة‪.‬‬

‫أنا أنتمي إىل املجموعة الثانية‪ .‬فعقب انهيار االتحاد السوفيتي‪ ،‬تأثرت بلدي‬
‫وضحاها‪ ،‬أصبحت نقودنا بال قيمة‪ ،‬وتفككت وانهارت‬‫"التفيا" حتى صميمها‪ .‬ففي ليلة ُ‬
‫أنظمتنا الحكومية‪ ،‬وكان علينا أن نجمع شتاتنا وشتات هذه القطع املتهاوية‪ .‬فطبيعة‬
‫التغيري الجذري هذا قد ترك بصمته يف نفيس‪ ،‬وبدَّل الطريقة التي أرى وأتفاعل بها مع‬
‫هذا العالم‪ .‬وما يزال هذا األمر قابعا ً يف صميمي بشكل هادئ‪ ،‬وهو يُذكرني بشكل حازم‬
‫لكي أتساءل وأُش ِّكك دوما ً بهذا العالم‪ ،‬وألعمل بجد كي أحرص عىل أال أُعايش انعدام‬
‫االستقرار هذا أبداً‪.‬‬

‫ويف عام ‪ ،2010‬قرأت مستند "ساتويش ناكاموتو" الذي َقدّم فيه البيتكوين‪،‬‬
‫ُ‬
‫وشعرت حينها برتدد صدى كل كلمة يف هذا املستند مع تجربتي‪ ،‬وتجربة كل األفراد‬
‫الذين نشؤوا تحت ْ‬
‫وَقع األنظمة الفاسدة‪ .‬فكل جز ٍء من تصميم البيتكوين سعى إىل دعم‬
‫قيمة أساسية واحدة وذلك ليكون غري مركزي‪ ،‬وال يمكن إتالفه‪ ،‬ولكي يكون مخزون آمنا ً‬
‫للقيمة‪ .‬يبدو هذا أمرا ً بسيطاً‪ ،‬ولكنه كان عصيا ً علينا منذ أن خرجنا عن املعيار الذهبي‪،‬‬
‫وعانينا نتيجة هذه الخروج‪ .‬فبعد ذلك‪ ،‬قمت بتأسيس ‪" Bitfury‬بيت فيوري" وذلك لكي‬

‫‪XI‬‬
‫مقدمة "فالريي فافيلوف"‬

‫أُحرض هذه التكنولوجيا الناشئة حديثا ً من منتديات حركة "سايفر بانق" إىل هذا العالم‬
‫الكبري‪ .‬وأعتقد أن هذا األمر كان هو الحل الذي بَحث عنه الكثري‪ .‬فإذا َ‬
‫كنت ال تثق بعاملك‪،‬‬
‫فكيف يعقل منك أن تبني من أجله؟ ومن يبني هذا العالم الجديد أفضل من أولئك الذين‬
‫عانوا من الفشل عىل مستوى النظام؟‬

‫لقد شعرت بالعالقة املدوية ذاتها وأنا أقرأ كتاب معيار البيتكوين‪ .‬فلدى سيف‬
‫الدين‪ ،‬مؤلف هذا الكتاب‪ ،‬قدرة ال مثيل لها يف معرفة خبايا أنفسنا فيما يتعلق بعدم‬
‫ٍ‬
‫بشغف ودقة ِبوصف األنظمة املالية التي نجحت وتلك‬ ‫االستقرار الذي عايشناه‪ ،‬وقام‬
‫التي فشلت‪.‬‬

‫لكن سيف الدين َكتب معيار البيتكوين لجمهور آخر أيضاً‪ ،‬جمهور ِب ُّت أعرفه‬
‫جيدا ً من مختربات "سيليكون فايل"‪ ،‬وناطحات سحاب "وول سرتيت"‪ ،‬واملؤتمرات‬
‫التقنية‪ ،‬والعديد من األماكن أيضاً‪ .‬فهؤالء هم قادة العالم التقني ومنهم أصحاب رؤوس‬
‫األموال‪ ،‬واملستثمرون‪ ،‬ورياديو األعمال‪ ،‬واملرصفيون وأولئك أصحاب الرؤى‪ .‬ورغم‬
‫اختالفهم يف جنسياتهم‪ ،‬وأ َ ْ‬
‫صلهم‪ ،‬ودرجات تعليمهم‪ ،‬ولغاتهم‪ ،‬إال أنهم متشابهون يف أن‬
‫لديهم القدرة عىل إحداث تغيري واسع النطاق عىل املستوى الدويل‪ .‬فشغفهم ودافعهم‬
‫لالبتكار التقني هو أمر ملهم‪ ،‬وأعتقد أنه مُستوحى بشكل جزئي من األمن واالستقرار‬
‫الذي يرونه يف أنظمتهم األساسية‪ .‬فمن دون وجودهم‪ ،‬لن نستطيع االستمتاع بالعديد من‬
‫املنتجات املالية املؤثرة‪ ،‬والعديد من الخدمات التي نملكها اليوم‪ ،‬بما يف ذلك النظام‬
‫املرصيف عىل شبكة اإلنرتنت‪ ،‬ونظام اإلقراض القائم عىل مبدأ النظري للنظري‪ ،‬والتحويالت‬
‫النقدية عرب الهاتف‪ ،‬وبطاقات الدفع‪ ،‬والكثري‪.‬‬

‫وبينما ال يمكن إنكار هذا الوضع الراهن‪ ،‬إال أننا استخدمنا العديد من هذه‬
‫يغض الطرف عن تجربتهم‪،‬‬‫َّ‬ ‫االبتكارات عرب املؤسسات لسنوات عديدة‪ .‬فبدال ً من أن‬
‫يتحدث سيف الدين لجمهوره بلغة مفهومة للعامة‪ .‬وببصريته الرائعة‪ ،‬تحدى فكرة أن‬

‫‪XII‬‬
‫مقدمة "فالريي فافيلوف"‬

‫معيار يعمل بشكل‬


‫ٍ‬ ‫نظامنا املايل هو نظام مستقر‪ ،‬ويحاجج ببالغة ووضوح للعودة إىل‬
‫موضوعي للجميع‪.‬‬

‫ُ‬
‫ولست هنا ألجادل بشأن املزايا النسبية لكل نظرة للعالم‪ .‬فاملعرفة واالنجازات‬
‫العظيمة تأتي منا جميعاً‪ .‬لكن ما ال يمكن تجنبه هو أننا نحمل جميعا ً دروسا ً من حياتنا‬
‫قابع ًة يف عقلنا الباطن‪ .‬وبينما أصبح عاملنا أكثر اتَّصاال‪ ،‬اتَّسعت الهوة بني مجموعاتنا‪.‬‬
‫فكل ما علي َك فعله هو قراءة العناوين الرئيسية فقط لرؤية أولئك الذين يفضلون تعزيز‬
‫انقسامنا بدال ً من تشجيعنا عىل التعاون‪ .‬ويف الحقيقة‪ ،‬إن العوامل املشرتكة لدينا هي‬
‫أكثر مما نعتقد‪ .‬وعندما أَنرش مهمة "البيتكوين" و"بيت فيوري"‪ ،‬فإن العديد من األفراد‬
‫الذين كانوا يف السابق يراهنون بحياتهم عىل أنظمتهم كانوا مصدومني من انعدام أمان‬
‫حساباتهم املرصفية‪ .‬وبشكل مشابه‪ ،‬فإن األفراد الذين فقدوا إيمانهم يف أنظمتهم بأنها‬
‫َ‬
‫بدأت كلتا‬ ‫قد تعمل يوما ً لصالحهم فهم يفعمون بالحيوية ووعدوا بتقديم األفضل‪ .‬ولقد‬
‫املجموعتني بإدراك أنه يمكن للبيتكوين أن يُنشئ نظاما ً عامليا ً نكون فيه جميعا ً أكثر‬
‫إرصارا ً ونجاحا ً – وذلك ألننا م ُح َّفزون للتعاون بدال من التنافس‪.‬‬

‫لقد حان الوقت لنا لنتطور‪ ،‬لكن إحدى الخطوات األوىل التي يجب أن تتم هي‬
‫التأكد بأن لدينا جميعا ً األدوات ذاتها تحت ترصفنا‪ .‬وبصفتي رائد أعمال شاب‪ ،‬ال‬
‫أستطيع التشديد عىل أهمية قراءتي لكتاب هندسة برمجيات بلغتي األم وما كان ذلك‬
‫سيعني يل حينها‪ .‬شكرا ً لك سيف الدين عىل سنواتك من األبحاث التي َقدَّمت لنا هذا‬
‫العمل‪ ،‬وعىل جهودك املستمرة لتقديم معيار البيتكوين لنا‪.‬‬

‫"فاليري فافيلوف" – الرئيس التنفيذي والشريك المؤسس‪" Bitfury ،‬بيت فيوري"‬

‫‪XIII‬‬
‫مقدمة‬

‫بقلم نسيم نقوال طالب‬

‫دعونا نَتْبع منطق األمور منذ البداية أو باألحرى منذ النهاية‪ :‬العرص الحديث‪ .‬نحن نشهد‬
‫َصعُب علينا‬ ‫ط هذه السطور تمردا ً شامال ً عىل فئةٍ ما من الخرباء يف مجاالت ي ْ‬ ‫وأنا أَخ ُّ‬
‫الكيل‪ ،‬الذي ال يكون فيه الخبري غري خبري فحسب‪ ،‬لكنه أيضا ً‬ ‫فهمها‪ ،‬مثل واقع االقتصاد ِّ‬
‫َ‬
‫السابقني‬ ‫مديري االحتياطي الفيدرايل‬
‫َ‬ ‫ال يعلم هذه الحقيقة‪ .‬فاكتشفنا بعد فوات األوان أن‬
‫"غرينسبان" و"برنانكي" لم يفهما جيدا ً الواقع التجريبي‪ :‬بحيث يستطيع املرء ادِّعاء‬
‫الهراء يف االقتصاد الكيل ملدة أطول منها يف االقتصاد الجزئي‪ ،‬ولهذا السبب علينا أن نكون‬
‫حَ ذِرين باألشخاص الذين نمنحهم القدرة عىل اتخاذ القرارات املركزية الكربى‪.‬‬

‫وما يزيد األمر سوءا ً هو أن كل البنوك املركزية عملت وفقا ً للنموذج نفسه‪ ،‬مما‬
‫أدى إىل نتيجة واحدة‪.‬‬

‫ففي املجاالت املعقدة‪ ،‬ال ترتكز الخربات‪ :‬بحيث تعمل األمور بطريقة م َّ‬
‫ُوزعة يف‬
‫َرهن لنا "فريدريك هايك" بشكل مُقنِع‪ ،‬لكن هايك استخدم‬ ‫ظل الواقع العضوي كما ب َ‬
‫ً‬
‫رضورية لكي‬ ‫مفهوم املعرفة املوزعة‪ .‬ويف الحقيقة‪ ،‬يبدو أن "معرفة" األشياء ليست‬
‫تجري األمور جيدا ً وال العقالنية الفردية رضوري ًة أيضاً‪ ،‬بل كل ما نحتاجه هو البُنية‪.‬‬

‫صة ديمقراطية يف القرارات‪ ،‬حيث‬ ‫إن هذا األمر ال يعني أن لجميع املشاركني حِ َّ‬
‫ُحرك املؤرش بشكل غري مُتكافئ (هذا ما تَعلمتُه عىل أنه‬‫أنه يمكن ملشاركٍ تم تحفيزه أن ي ِّ‬
‫عدم التناسق يف قاعدة األقلية)‪ ،‬لكن يمتلك كل مشارك خيارا ً بأن يكون هو ذلك الالعب‪.‬‬

‫حوُّل واسعة النطاق‪ ،‬يظهر تأثري خارق‪ :‬فاألسواق‬‫فبطريقةٍ ما ويف عملية تَ ٍ‬


‫املنطقية ال تتطلب من أي شخص أو تاجر أن يكون منطقياً‪ ،‬ويف الواقع تعمل األسواق‬
‫جيدا ً بغياب الذكاء – بحيث يعمل حش ٌد منعدم الذكاء تحت ظل التصميم الصحيح‬
‫بشكل أفضل منه يف إدارة ذات نمط سوفييتي تتكون من البرش األكثر ذكاءً‪.‬‬

‫‪XIV‬‬
‫مقدمة‬

‫لهذا‪ ،‬إن البيتكوين فكرة ممتازة‪ ،‬فهو يؤدي احتياجات النظام املعقد‪ ،‬ليس ألنه‬
‫عِ ملة رقمية مشفرة‪ ،‬بل تحديدا ً ألنه ال مالك له‪ ،‬وألنه ال تستطيع أي سلطة أن تقرر‬
‫مصريه‪ .‬فهو مُلك للشعب وملستخدميه‪ ،‬ويملك اآلن سجال ً حافالً لعدة سنوات يكفيه‬
‫ليكون كيانا ً قائما ً بذاته‪.‬‬

‫ولكي تتمكن العمالت الرقمية املشفرة من املنافسة‪ ،‬يجب أن يكون لها خواص‬
‫"هايكية" مماثلة‪.‬‬

‫إن البيتكوين هو عملة ال حكومة لها‪ ،‬لكن قد يتساءل املرء‪ :‬ألم يكن لدينا ذهب‬
‫وفضة ومعادن أخرى‪ ،‬وهما صنف آخر من العمالت التي ال حكومة لها؟ ليس تماماً‪.‬‬
‫فعندما تُقايض الذهب‪ ،‬فأنت تُقايض‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬رشكة "لوكو" القاطنة يف "هونج‬
‫كونج"‪ ،‬ويف النهاية تحصل عىل حصة من األسهم هناك‪ ،‬والتي قد تحتاج إىل نقلها إىل‬
‫"نيو جرييس"‪ .‬فتتحكم املصارف بلعبة الوصاية وتتحكم الحكومات باملصارف (أو‬
‫باألحرى وبتعبري مُهذب‪ ،‬إن املرصفيني وموظفي الحكومة متفقون معاً)‪ .‬بالتايل‪ ،‬إن‬
‫للبيتكوين أفضلية كبرية عىل الذهب فيما يتعلق بالتحويالت‪ :‬بحيث ال تحتاج التصفية‬
‫وصيَّا ً معيناً‪ ،‬وال تستطيع أية حكومة السيطرة عىل الرمز الذي تحفظه يف عقلك‪.‬‬

‫أخرياً‪ ،‬سيَم ُّر البيتكوين يف عثرات وقد يفشل‪ ،‬لكن سيُعاد ابتكاره بسهولة ألننا‬
‫ِبتنا نعرف اآلن كيف يعمل‪ .‬وقد ال يكون البيتكوين مالئما ً للمعامالت يف وضعه الحايل‪،‬‬
‫أي أنه ليس مناسبا ً لرشاء كوب قهوة ٍ‬
‫خال من الكافيني يف سلسلة املقاهي املحلية‪ ،‬وقد‬
‫يكون متقلبا ً بشكل كبري يف قيمته ليكون عملة يف الوقت الحايل‪ ،‬لكن البيتكوين هو أول‬
‫عملة عضوية‪.‬‬

‫لكن مجرد وجوده يُش ِّكل وثيقة تأمني ستُذ ِّكر الحكومات بأن العملة‪ ،‬والتي‬
‫هي آخر يشء تستطيع السيطرة عليه‪ ،‬لم تَعد حكرا ً لها‪ .‬فيمنحنا هذا نحن الناس وثيقة‬
‫تأمني للمستقبل الذي كتب عنه "جورج أورويل"‪.‬‬

‫نسيم نقوال طالب‬


‫‪ 22‬يناير ‪2018‬‬

‫‪XV‬‬
‫متهيد‬

‫يف األول من نوفمرب عام ‪ ،2008‬أرسل مربمج حاسوب باالسم املُستعار "ساتويش‬
‫ُشفرة ليُعلن أنه أنتج "نظاما ً نقديا ً‬ ‫ناكاموتو" بريدا ً إلكرتونيا ً إىل قائمة بريدية م َّ‬
‫إلكرتونيا ً جديدا ً يعمل بشكل كامل كنظام نظري إىل نظري‪ ،‬دون حاجةٍ لوجود طرف ثالث‬
‫موثوق به"‪ 1.‬وقد تم نسخ ملخص املستند الذي يرشح التصميم‪ ،‬وتم وضع رابط له عىل‬
‫شبكة اإلنرتنت‪ .‬ويف جوهره‪ ،‬قدَّم البيتكوين شبكة دفع بوساطة عملته الخاصة‪،‬‬
‫واستخدَم طريقة متطورة ليتحقق األعضاء فيها من جميع التحويالت دون حاجة للوثوق‬
‫بأي عضو من أعضاء الشبكة‪ .‬وتم إصدار العملة بمعدل مُحدَّد سلفا ً ملكافأة األعضاء‬
‫الذين أنفقوا طاقة املعالجة للتحقق من صحة التحويالت ِلتُؤمِّ ن بالتايل مكافأة لهم عىل‬
‫عملهم‪ .‬واألمر املذهل هنا هو أنه خالفا ً للعديد من املحاوالت السابقة األخرى إلنشاء نقد‬
‫رقمي‪ ،‬فقد نجح هذا االخرتاع‪.‬‬

‫وبالرغم من التصميم الذكي واألنيق‪ ،‬إال أنه لم يكن هناك ما يوحي بأن هذه‬
‫التجربة الغريبة ستثري اهتمام أي شخص من خارج دائرة املهووسني بالتشفري‪ .‬هذا ما‬
‫كان عليه الحال لعدة أشهر‪ ،‬حيث بالكاد انضم عرشات من املستخدمني حول العالم إىل‬
‫الشبكة‪ ،‬وشاركوا يف عمليات التعدين وإرسال العمالت فيما بينهم‪ ،‬حيث بدأت هذه‬
‫العمالت تأخذ صفة املقتنيات ولكن بشكل رقمي‪.‬‬

‫لكن يف أكتوبر ‪ ،2009‬باعت إحدى بورصات تداول العمالت الرقمية ‪5,0502‬‬


‫بيتكوين لقاء ‪ ،$5.02‬بسعر دوالر واحد لقاء ‪ 1,006‬بيتكوين‪ ،‬ليتم تسجيل أول عملية‬

‫‪ 1‬ميكن العثور على الربيد اإللكرتوين الكامل يف أرشيف مؤسسة "ساتوشي انكاموتو" لكل كتاابت "ساتوشي‬
‫انكاموتو" املعروفة واملتوفرة على املوقع ‪http://www.nakamotoinstitute.org‬‬
‫‪ 2‬معيار احلرية اجلديد املنتهي اآلن‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪XVI‬‬
‫تمهيد‬

‫رشاء للبيتكوين بالنقود‪ .3‬وقد تم احتساب السعر قياسا ً لتكلفة الكهرباء الالزمة إلنتاج‬
‫البيتكوين‪ .‬ومن ناحية اقتصادية‪ ،‬يُمكن القول إن هذه اللحظة األساسية كانت هي األهم‬
‫يف حياة البيتكوين‪َ ،‬فلَم يَ ُعد البيتكوين مجرد لعبة رقمية يلعبها مجتمع هاميش من‬
‫املربمجني؛ بل أصبح اآلن سلعة سوقية لها سعر محدد‪ ،‬مما يشري إىل أن شخصا ً ما يف‬
‫مكان ما قد منحه تقييما ً إيجابياً‪ .‬ويف الثاني والعرشين من مايو ‪ ،2010‬دفع شخص‬
‫آخر ‪ 10,000‬بيتكوين لرشاء فطريتي بيتزا بقيمة ‪ ،$25‬وكانت هذه أول مرة يُستخدم‬
‫فيها البيتكوين كوسيط للتبادل‪ ،‬واستغرقت العِ ملة سبعة أشهر لتنتقل من كونها سلعة‬
‫سوقية لتصبح وسيطا ً للتبادل‪.‬‬

‫منذ ذلك الوقت‪ ،‬نمت شبكة البيتكوين من حيث عدد املستخدمني‪ ،‬والتحويالت‪،‬‬
‫وطاقة املعالجة املخصصة لها‪ ،‬يف حني ارتفعت قيمة عملتها برسعة لتتجاوز ‪$7,000‬‬
‫لكل بيتكوين اعتبارا ً من نوفمرب ‪ .20174‬فبعد ثماني سنوات‪ ،‬أصبح من الواضح َّ‬
‫أن هذا‬
‫االخرتاع لم يعد مجرد لعبة عىل اإلنرتنت‪ ،‬بل أصبح تقنية اجتازت اختبار السوق‬
‫ألغراض يف العالم الواقعي‪ .‬أ َ ِضف لذلك أن سعر رصفه أصبح‬
‫ٍ‬ ‫ويستخدمها الكثريون‬
‫ً‬
‫يُعرض بانتظام عىل التلفاز‪ ،‬ويف الصحف‪ ،‬وعىل مواقع اإلنرتنت جنبا إىل جنب مع أسعار‬
‫رصف العمالت الوطنية‪.‬‬

‫ُوزعة تَسمح بنقل القيمة االقتصادية‬


‫ويمكن فهم البيتكوين عىل أنه برمجيات م َّ‬
‫باستخدام عملة محمية من التضخم غري املتوقع‪ ،‬دون االعتماد عىل طرف ثالث موثوق‪.‬‬
‫بعبارات أخرى‪ ،‬يُجري البيتكوين وظائف البنك املركزي الحديث بشكل آيل‪ ،‬ويجعلها‬
‫قابلة للتنبؤ ويُصعِّ ب عمليا ً من مهمة تغيريها‪ ،‬وذلك عن طريق برمجتها يف شيفرات ال‬
‫ألي منهم تغيري الشيفرة‬
‫آالف من أعضاء الشبكة‪ ،‬بحيث ال يمكن ٍ‬ ‫ُوزعة عىل ٍ‬ ‫مركزية م َّ‬
‫دون موافقة البقية‪ .‬وهذا األمر يجعل البيتكوين املثال العميل التشغييل املوثوق األول عن‬

‫‪" 3‬اناثنيل بوبر"‪ ،‬الذهب الرقمي (هاربر‪.)2015 ،‬‬


‫‪ 4‬بعبارة أخرى‪ ،‬ارتفع سعر البيتكوين حوايل مثانية ماليني مرة خالل السنوات الثماين اليت كان فيها سلعة سوقية‪،‬‬
‫أو على وجه التحديد ‪ %793,513,944‬من سعره األول البالغ ‪ $0.000994‬إىل أعلى قيمة له يف وقت‬
‫كتابة هذا الكتاب‪.$7,888 ،‬‬

‫‪XVII‬‬
‫تمهيد‬

‫النقد الرقمي والعملة الرقمية الصعبة‪ .‬وبالرغم من كون البيتكوين اخرتاع جديد من‬
‫العرص الرقمي‪ ،‬إال أن املشاكل التي يهدف إىل حلها‪ ،‬وهي مشاكل قائم ٌة منذ نشأة املجتمع‬
‫البرشي‪ ،‬تتمثل بتوفري شكل من أشكال النقد تحت سلطة صاحبه الكاملة‪ ،‬حيث أنه من‬
‫املرجح أن يحتفظ هذا النقد بقيمته عىل املدى الطويل‪ .‬ويُقدِّم هذا الكتاب تصورا ً لهذه‬
‫املشاكل بنا ًء عىل سنوات من دراسة هذه التكنولوجيا واملشاكل االقتصادية التي تحلُّها‪،‬‬
‫توصلَت املجتمعات سابقا ً إىل حلول لها عرب التاريخ‪ .‬وقد يُفاجئ استنتاجي أولئك‬
‫وكيف َّ‬
‫الذين يصفون البيتكوين بأنه عملية احتيال أو خدعة من قِ بَل املضاربني أو املروجني من‬
‫بزمن قيايس‪ ،‬لكن البيتكوين يطوِّر فعالً من الحلول السابقة ل ِـ‬ ‫ٍ‬ ‫ربح‬
‫أجل تحقيق ٍ‬
‫"مخزون القيمة"‪ ،‬وقد يتفاجأ املشككون يف البيتكوين بمدى مالئمته لتأدية دور النقد‬
‫السليم يف العرص الرقمي‪.‬‬

‫فيمكن للتاريخ أن يُنبّئنا ويحذرنا بما هو قادم ال سيما عند دراسته عن كثب‪،‬‬
‫والوقت كفي ٌل بأن يكشف لنا عن مدى صحة القضية املطروحة يف هذا الكتاب‪ .‬وكما هو‬
‫واجب‪ ،‬فإن الجزء األول من الكتاب يرشح النقد ووظائفه وخصائصه‪ .‬وكخبري اقتصادي‬
‫يت دائما ً إىل فهم التقنيات من حيث املشاكل التي‬
‫يل با ٌع طويل يف مجال الهندسة‪َ ،‬سعَ ُ‬
‫تهدف إىل حلها‪ ،‬األمر الذي يسمح بتحديد جوهرها الوظيفي وفصلها عن الخصائص‬
‫العرضية ‪ ،‬والتجميلية وغري الجوهرية‪ .‬فمن خالل فهم املشاكل التي يحاول النقد حلها‪،‬‬
‫يصبح باإلمكان توضيح العوامل التي قد تجعل النقد سليما ً أو غري سليم‪ ،‬ثم يمكن‬
‫تطبيق ذلك اإلطار التصوري لفهم السبب والطريقة التي م َّكنت سلع مختلفة كاألصداف‬
‫البحرية‪ ،‬والخرز‪ ،‬واملعادن والنقود الحكومية من تأدية دور النقد‪ .‬ويمكن أيضا ً فهم‬
‫السبب والطريقة التي أدت إىل فشلها يف ذلك أو خدمتها ألهداف املجتمع لحفظ القيمة‬
‫وتداولها‪.‬‬

‫والجزء الثاني من الكتاب يناقش اآلثار الفردية‪ ،‬واالجتماعية والعاملية ألشكال‬


‫النقد السليم والنقد غري السليم عرب التاريخ‪ .‬فالنقد السليم يدفع الناس للتفكري باملستقبل‬
‫البعيد ولالدخار واستثمار املزيد للمستقبل‪ .‬واالدخار واالستثمار عىل املدى الطويل هما‬
‫أساس تراكم رأس املال وتَقدُّم الحضارة البرشية‪ .‬فالنقد هو نظام املعلومات والقياس‬
‫لالقتصاد‪ ،‬والنقد السليم هو ما يسمح للتجارة واالستثمار وريادة األعمال باملُيض قدما ً‬

‫‪XVIII‬‬
‫تمهيد‬

‫عىل أساس متني‪ ،‬بينما يضع النقد غري السليم هذه العمليات بحالة من الفوىض‪ .‬يجدر‬
‫ً‬
‫فعالة‬ ‫ً‬
‫حصانة‬ ‫اإلضافة أن النقد السليم هو عنرص أسايس يف مجتمع حر وذلك ألنه يوفر‬
‫ضد الحكومات االستبدادية‪.‬‬

‫القسم الثالث من الكتاب يرشح آلية عمل شبكة البيتكوين وخصائصها‬


‫االقتصادية األبرز‪ ،‬ويحلل االستخدامات املُحتمَ لة للبيتكوين كشكل من أشكال النقد‬
‫السليم‪ ،‬ويناقش بعض االستخدامات التي ال يخدمها البيتكوين بفعاليّة‪ ،‬إضافة إىل‬
‫تسليط الضوء عىل أبرز املفاهيم واالعتقادات الخاطئة املرتبطة به‪.‬‬

‫ُكتب هذا الكتاب ملساعدة القارئ عىل فهم اقتصاديات البيتكوين بكونه تكرار‬
‫رقمي للعديد من التقنيات التي استُخدمت لتؤدي دور النقد عرب التاريخ‪ .‬إن هذا الكتاب‬
‫ليس إعالنًا أو دعوة لرشاء عملة البيتكوين‪ ،‬بل عىل العكس‪ ،‬من املرجح أن تبقى قيمة‬
‫البيتكوين متق ِّلبة عىل األقل لفرتة من الزمن؛ حيث قد تنجح شبكة البيتكوين أو تفشل‬
‫ألية أسباب متوقعة أو غري متوقعة؛ وسيتطلَّب استخدامها كفاءة تقنية‪ ،‬وسيحوط بها‬
‫مخاطر قد تجعلها غري مناسبة للعديد من الناس‪ .‬فال يُقدِّم هذا الكتاب نصيحة‬
‫استثمارية ‪ ،‬لكنه يهدف إىل املساعدة يف توضيح الخصائص االقتصادية للشبكة وآلية‬
‫معلومات مفيدة قبل أن يتخذوا قرارا ً بشأن استخدامها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫للقراء‬
‫عملها ليقدم َّ‬

‫وال يجب أن يفكر أي شخص بامتالك مخزون من البيتكوين إال بوجود معرفة‬
‫ُوَسعة‪ ،‬وبعد بحث واسع وشامل يف الجوانب التشغيلية العملية المتالك وتخزين‬ ‫ودراية م َّ‬
‫البيتكوين‪ .‬فقد يبدو البيتكوين استثمارا ً ال يحتاج ذكا ًء نظرا ً إىل ارتفاع قيمته السوقية‪،‬‬
‫إال أن النظر يف العدد الضخم من االخرتاقات‪ ،‬والهجمات‪ ،‬والفشل األمني وعمليات‬
‫االحتيال التي كلَّفت الناس ممتلكاتهم من البيتكوين‪ ،‬يش ِّكل تحذيرا ً ألي شخص يعتقد‬
‫كنت تعتقد أنك عندما تنتهي من قراءة‬ ‫أن امتالك البيتكوين سيوفر ربحا ً مضموناً‪ .‬فإذا َ‬ ‫َّ‬
‫هذا الكتاب أن عملة البيتكوين تستحق االمتالك‪ ،‬فال يجب أن يكون استثمارك األول هو‬
‫رشاء البيتكوين‪ ،‬بل يجب أن يكون بتمضية الوقت يف فهم كيفية رشاء وتخزين وامتالك‬
‫البيتكوين بشكل آمن‪ ،‬وذلك ألن طبيعة البيتكوين الجوهرية تكمن يف أنك ال تستطيع‬
‫استخدام طرف آخر أو االستعانة بمصادر خارجية للوصول إىل هذه املعرفة‪ .‬فليس هناك‬

‫‪XIX‬‬
‫تمهيد‬

‫بديل للمسؤولية الشخصية ألي شخص مهتم باستخدام هذه الشبكة‪ ،‬وهذا هو االستثمار‬
‫الحقيقي الذي يجب القيام به للدخول يف عالم البيتكوين‪.‬‬

‫‪XX‬‬
‫الفصل األول‬

‫النقد‬

‫َّ‬
‫سخر اإلمكانيات‬ ‫البيتكوين هو أحدث تكنولوجيا تؤدي دور النقد ‪ -‬إنه اخرتاع‬
‫التكنولوجية املوجودة بالعرص الرقمي من أجل حل مشكلة ما تزال قائمة منذ الوجود‬
‫البرشي‪ :‬وهي كيفية نقل القيمة االقتصادية عرب الزمان واملكان‪ .‬ولفهم البيتكوين‪ ،‬يجب‬
‫عىل املرء أن يفهم النقد أوالً‪ ،‬وال يوجد سبيل لذلك إال بدراسة تاريخ ووظيفة هذا النقد‪.‬‬

‫أبسط طريقة ليتبادل فيها الناس القيمة هي تبادل السلع َ‬


‫القيِّمة فيما بينهم‪،‬‬
‫وتُدعى عملية التبادل املبارش هذه باملقايضة‪ ،‬ولكنها فعَّ ال ٌة فقط يف املجاالت الصغرية ذات‬
‫العدد القليل من السلع والخدمات املُنتَجة‪ .‬ففي اقتصاد افرتايض من اثني عرش شخصا ً‬
‫معزولني عن العالم‪ ،‬ليس هناك مجال واسع للتخصص والتجارة‪ ،‬لكن سيكون هناك‬
‫فرص ٌة لألفراد لالنخراط يف إنتاج أهم أساسيات البقاء وتبادلها فيما بينهم بشكل مبارش‪.‬‬
‫ولطاملا كانت املقايضة موجودة يف املجتمع البرشي وهي مستمرة حتى يومنا هذا‪ ،‬ولكنها‬
‫غري عمليَّة إىل حد كبري‪ ،‬وبقيت مُستَخدمة فقط يف ظروف استثنائية‪ ،‬تشمل عادةً‬
‫أشخاصا ً يعرفون بعضهم جيداً‪.‬‬

‫أما يف اقتصاد أكرب حجما ً وأكثر تطورا ً‪ ،‬تُتاح الفرصة أمام األفراد للتخصص يف‬
‫إنتاج املزيد من السلع وتبادلها مع عدد أكرب من األشخاص‪ -‬وهم أشخاص ال تربطهم‬
‫عالقات شخصية‪ ،‬وغرباء ال يمكن بشكل عميل إقامة عالقات تجارية أو تقديم خدمات أو‬
‫إقامة مصالح معهم ‪.‬فكلما َك ُرب حجم السوق‪ ،‬ازدادت فرص التخصص والتبادل‪ ،‬لكن‬
‫ستزيد معها أيضا ً مشكلة اختالف الرغبات – أي ما ترغب يف الحصول عليه يُنتجه‬
‫شخص ال يرغب بما تعرضه للبيع‪ .‬وبهذه الكيفية‪ ،‬يتضح لنا أ َّن املشكلة هي أعمق من‬
‫قضية متطلبات مختلفة لسلع متعددة‪ ،‬حيث أنه هناك ثالثة أبعاد مختلفة للمشكلة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫أوالً‪ ،‬نُدرة التطابق يف القياسات‪ :‬قيمة ما ترغب به قد ال تساوي قيمة ما‬


‫تمتلكه‪ ،‬وقد ال يكون من العميل تقسيم إحداهما إىل وحدات صغرية‪ .‬تخيل مثالً رشاء‬
‫منزل مقابل حذاء؛ ال يمكنك رشاء قطع صغرية من املنزل قيمة كل منها تساوي قيمة‬
‫زوج من األحذية‪ ،‬كما قد ال يرغب صاحب املنزل بامتالك جميع األحذية التي تعادل‬
‫قيمتها قيمة املنزل‪ .‬ثانياً‪ ،‬ندرة تطابق ُ‬
‫األطر الزمنية‪ :‬قد يكون ما تريد بيعه قابالً للتلف‬
‫ولكن ما تريد رشاءه أكثر ديمومة وقيمة‪ ،‬األمر الذي سيُصعِّ ب من عملية جمع ما يكفي‬
‫من سلعتك القابلة للتلف ِلتُبادل بها السلعة املتينة يف وقت معني‪ .‬فليس من السهل جمع‬
‫َّ‬
‫سيتعفن قبل إتمام‬ ‫ما يكفي من التفاح ملبادلته بسيارة دفع ًة واحدة‪ ،‬وذلك ألن التفاح‬
‫الصفقة‪ .‬ثالثاً‪ ،‬ندرة تطابق املواقع‪ :‬قد ترغب يف بيع منزل يف مكان ما لرشاء منزل يف‬
‫مكان آخر‪ ،‬ومعظم املنازل غري قابلة للنقل‪ .‬إن هذه املشاكل الثالث تجعل التبادل املبارش‬
‫غري عميل إىل ح ٍد كبري‪ ،‬مما يضطر الناس للجوء إىل إجراء املزيد من املبادالت لتلبية‬
‫احتياجاتهم االقتصادية‪.‬‬

‫والطريقة الوحيدة لحل هذا األمر هي عن طريق التبادل غري املبارش‪ :‬حيث أنك‬
‫ستحاول إيجاد سلعة أخرى قد يريدها شخص آخر‪ ،‬ثم تجد شخصا ً يُبادلها معك لقاء ما‬
‫تريد بيعه‪ .‬وهذه السلعة الوسيطة تُدعى وسيط التبادل‪ .‬وبالرغم من أنه يمكن ألي سلعة‬
‫أن يتم استخدامها كوسيط للتبادل‪ ،‬إال أنه مع نمو نطاق وحجم االقتصاد‪ ،‬سيصبح من‬
‫غري العميل أن يبحث الناس باستمرار عن سلع مختلفة قد يريدها الطرف املقابل‪ ،‬ليقوموا‬
‫بعدها بإجراء عدة مبادالت لكل مبادلة يريدون إجراءها‪ .‬ولهذا‪ ،‬من الطبيعي أن ينبثق‬
‫حل أكثر فعالية‪ ،‬ولو ملجرد أن من يُصادفه سيكون أكثر إنتاجية ممن ال يجده‪ :‬حيث‬
‫سيظهر وسيط واحد للتبادل (أو عىل األكثر عدد قليل من وسائط التبادل) يستخدمه‬
‫الناس لتبادل ِسلَعِ ِهم‪ .‬وتُدعى السلعة التي تؤدي دور وسيط للتبادل متفق عليه بشكل‬
‫واسع النقد‪.‬‬

‫إن الوظيفة الجوهرية التي تُحدِّد النقد هي الوظيفة التي تجعله وسيطا ً‬
‫للتبادل ‪ -‬بعبارات أخرى‪ ،‬إنه سلعة ال تُشرتى لكي يتم استهالكها (سلع استهالكية)‪ ،‬وال‬
‫ظف يف إنتاج سلع أخرى (استثمارات‪ ،‬سلع رأسمالية)‪ ،‬ولكن بشكل أسايس من‬ ‫لكي تُو َّ‬
‫أجل مبادلتها بسلع أخرى‪ .‬ففي حني ي ُفرتض باالستثمار أن يعود بالدخل لكي يتم‬

‫‪2‬‬
‫النقد‬

‫مبادلته مع سلع أخرى‪ ،‬إال أنه يختلف عن النقد بثالثة جوانب‪ :‬أوالً‪ ،‬إنه يقدِّم عائدا ً ال‬
‫يقدمه النقد‪ .‬ثانياً‪ ،‬هناك دائما ً احتمال للفشل لكن يُفرتض بالنقد أن يحمل معه أقل ٍ‬
‫قدر‬
‫من املخاطر‪ .‬ثالثاً‪ ،‬االستثمارات أقل سيولة من النقد‪ ،‬وتتطلب تكاليف تحويالت باهظة يف‬
‫كل مرة يتم إنفاقها‪ .‬وقد يساعدنا هذا يف فهم سبب وجود طلب دائم عىل النقد‪ ،‬وعىل فهم‬
‫السبب الذي سيمنع االستثمارات من أن تستبدله بشكل كيل‪ .‬حيث يعيش البرش حياة من‬
‫عدم اليقني‪ ،‬وذلك ألنه ليس بمقدورهم التنبؤ بالوقت الذي سيحتاجون فيه مبلغا ً معينا ً‬
‫من النقد‪ 1.‬لذلك‪ ،‬إن رغبة األفراد بحفظ جزء من ثروتهم عىل شكل نقد هي فطرة سليمة‬
‫وحكمة أزلية يف جميع الثقافات البرشية تقريباً‪ ،‬ألنه املُلكية األكثر سيولة‪ ،‬األمر الذي‬
‫يسمح لحامله بتسييله إن احتاج إىل ذلك‪ ،‬كما أنه يحمل مخاطر أقل باملقارنة مع أي‬
‫استثمار آخر‪ .‬لكن رضيبة سهولة حمل النقد تأتي عىل شكل االستهالك املُتنا َزل عنه‬
‫والذي كان من املمكن االستفادة منه‪ ،‬وعىل شكل العائدات الضائعة التي كان من املمكن‬
‫اكتسابها باستثماره‪.‬‬

‫إن والد املدرسة االقتصادية النمساوية ومؤسس التحليل الهاميش يف االقتصاد‪،‬‬


‫رب دراسته ملثل هذه الخيارات البرشية يف حاالت السوق‪ ،‬استطاع‬ ‫"كارل مينجر"‪ ،‬وعَ ْ َ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫الوصول للخاصية الرئيسية التي تؤدي إىل تبني واعتماد سلعة ما كنقد بشكل حر يف‬
‫السوق‪ ،‬أال وهي قابلية البيع‪ -‬أي سهولة بيع سلعة يف السوق يف الوقت الذي يرغب به‬
‫‪2‬‬
‫مالكها بأقل خسارة يف سعرها‪.‬‬

‫فليس هناك مبدأ ينص عىل ما ينبغي أو ما ال ينبغي استخدامه كنقد‪ ،‬فقد‬
‫يختار أي شخص رشاء يشء ال يريد استخدامه‪ ،‬بل سيشرتيه لهدف مبادلته بيشء آخر‪،‬‬

‫‪ 1‬راجع كتاب لودويغ فون ميزس‪ ،‬الفعل البشري‪ ،‬صفحة ‪ ،250‬ملشاهدة حوار كيف أن عدم اليقني من‬
‫املستقبل هو ال دافع الرئيسي للرغبة ابمتالك النقد‪ .‬فبزوال عدم اليقني يف املستقبل‪ ،‬سيتمكن البشر من معرفة مجيع‬
‫إيراداهتم ونفقاهتم مسبقاً وبذلك خيططون هلا على النحو األمثل حبيث ال يضطرون أبداً إىل محل أي نقد‪ .‬ولكن‬
‫مبا أن عدم اليقني هو جزء أساسي يف احلياة‪ ،‬فعلى الناس االستمرار يف محل املال كي يتمكنوا من اإلنفاق دون أن‬
‫يضطروا إىل معرفة املستقبل‪.‬‬
‫‪ 2‬كارل مينجر‪" ،‬حول أصول النقد"‪ ،‬اجمللة االقتصادية‪ ،‬اجمللد ‪255_239 :)1892( 2‬؛ ترمجة سي إي فويل‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫مما يجعله بالواقع نقداً‪ ،‬ولكن بما أن الناس مختلفون‪ ،‬فستختلف آراؤهم وخياراتهم‬
‫فيما يعترب نقدا ً نظرا ً الختالف طبيعتهم‪ .‬والعديد من "األشياء" أدت دور النقد عىل مر‬
‫التاريخ البرشي‪ :‬أهمها الذهب والفضة‪ ،‬وهناك أيضا ً النحاس‪ ،‬والصدف‪ ،‬والحجارة‬
‫الكبرية‪ ،‬وامللح‪ ،‬واملاشية‪ ،‬واألوراق الحكومية‪ ،‬واألحجار الكريمة‪ ،‬وحتى الكحول‬
‫والسجائر يف بعض الحاالت‪ .‬لذلك‪ ،‬إن خيارات الناس هي خيارات غري موضوعية‪ ،‬ولهذا‬
‫ال يوجد خيار "صحيح" أو "خاطئ" كخيار للنقد‪ ،‬ولكن رغم ذلك‪ ،‬هناك عواقب‬
‫للخيارات‪.‬‬

‫ويمكن تقييم القابلية النسبية لبيع السلع بناء عىل قدرتها عىل معالجة األوجه‬
‫الثالثة ملشكلة ن ُدرة تطابق الرغبات املذكورة سابقاً‪ :‬وهي قابليتها للبيع عرب القياسات‪،‬‬
‫وعرب األماكن واألزمنة‪ .‬فيمكن تقسيم السلعة القابلة للبيع عرب القياسات إىل وحدات‬
‫أصغر أو تجميعها ضمن وحدات أكرب‪ ،‬مما يسمح للمالك ببيعها بالكمية التي يرغب بها‪.‬‬
‫أما قابلية البيع عرب األماكن فتعني سهولة نقل السلعة أو حملها أثناء سفر الشخص‪ ،‬مما‬
‫َصعُب تحقيق‬‫ُكسبُ الوسائط النقدية الجيدة قيم ًة مرتفعة لكل وحدة من الوزن‪ .‬وال ي ْ‬ ‫ي ِ‬
‫هاتني الخاصيتني عىل عدد كبري من السلع التي يمكنها أن تؤدي دور النقد‪ ،‬بينما يصعب‬
‫تحقيق العنرص الثالث وهو قابلية البيع عرب الزمن‪ ،‬بما أنه األكثر حسماً‪.‬‬

‫وتُشري قابلية السلعة للبيع عرب الزمن إىل قدرتها عىل االحتفاظ بقيمتها يف‬
‫املستقبل‪ ،‬مما يسمح للمالك باستخدامها يف تخزين الثروة‪ ،‬والتي هي الوظيفة الثانية‬
‫ً‬
‫مقاومة‬ ‫للنقد‪ :‬مخزون للقيمة‪َ .‬ف ِل َكي تكون السلعة قابلة للبيع عرب الزمن‪ ،‬يجب أن تكون‬
‫للتحلل والتآكل وكل أنواع التلف األخرى‪ .‬ويمكن القول أن أي شخص اعتقد أن بوسعه‬
‫ا ّدخار ثروته عىل املدى الطويل يف األسماك أو التفاح أو الربتقال قد تعلَّم درسا ً قاسياً‪،‬‬
‫وغالبا ً لم يعد لديه ثروة ليحتفظ بها باملدى القصري بعد هذا الدرس‪ .‬فالسالمة املادية‬
‫كاف لقابلية البيع عرب الزمن‪ ،‬حيث أنه من‬ ‫بمرور الوقت هي رشط رضوري لكنه غري ٍ‬
‫املمكن أن تفقد السلعة قيمتها بشكل كبري حتى وإن حافظت عىل سالمة شكلها املادي‪.‬‬
‫َف ِل َكي تحافظ السلعة عىل قيمتها‪ ،‬يجب أيضا ً أال يزداد عرضها بشكل كبري خالل الفرتة‬
‫التي يمتلكها فيها مالكها‪ .‬فمن ِ‬
‫السمات الشائعة ألشكال النقد عرب التاريخ‪ ،‬هي وجود‬
‫بعض اآلليات التي تَح ُّد من إنتاج وحدات جديدة من السلع حفاظا ً عىل قيمة الوحدات‬

‫‪4‬‬
‫النقد‬

‫القائمة‪ ،‬بحيث تقوم الصعوبة النسبية إلنتاج وحدات نقدية جديدة بتحديد صعوبة هذا‬
‫عرف األموال التي يصعب زيادة املعروض منها باسم النقد الصعب‪ ،‬بينما يُمثِّل‬ ‫النقد‪ :‬فت ُ َ‬
‫النقد السهل األموال التي تَس ُهل زيادة املعروض منها بشكل كبري‪.‬‬

‫ونستطيع فهم صعوبة النقد من خالل فهم كميتني مختلفتني مرتبطتني‬


‫بعرض سلعة ما‪ )1( :‬املخزون‪ ،‬وهو العرض القائم الذي يتضمن كل ما تم إنتاجه يف‬
‫املايض عدا كل ما تم استهالكه أو تدمريه‪ )2( .‬التدفق‪ ،‬وهو اإلنتاج اإلضايف الذي سيتم‬
‫إنتاجه يف الفرتة الزمنية القادمة‪ .‬والنسبة بني املخزون والتدفق تُعترب مؤرشا ً موثوقا ً عىل‬
‫صعوبة السلعة كنقد‪ ،‬ومدى مالءمتها لتأدية الدور النقدي‪ .‬فالسلعة ذات نسبة مخزون‬
‫إىل تدفق منخفضة هي سلعة يمكن زيادة عرضها بشكل كبري يف حال بدأ الناس‬
‫باستخدامها كمخزون للقيمة‪ ،‬ومن املستبعد أن تحافظ هذه السلعة عىل قيمتها يف حال‬
‫تم اختيارها كمخزون للقيمة‪ .‬وكلما ارتفعت نسبة املخزون إىل التدفق‪ ،‬ازداد احتمال‬
‫‪3‬‬
‫محافظة السلعة عىل قيمتها مع مرور الوقت وبالتايل ارتفعت قابلية بيعها عرب الزمن‪.‬‬

‫وإذا اختار الناس نقدا ً صعبا ً ذا نسبة مخزون إىل تدفق مرتفعة كمخزون‬
‫للقيمة‪ ،‬فسيؤدي رشاؤهم له بهدف تخزينه إىل زيادة الطلب عليه‪ ،‬مما سيؤدي إىل ارتفاع‬
‫وسيحفز منتجيه عىل إنتاج املزيد منه‪ ،‬لكن وبسبب التدفق املنخفض مقارنة‬ ‫ِّ‬ ‫سعره‪،‬‬
‫بالعرض الحايل‪ ،‬فحتى االرتفاع الكبري يف اإلنتاج الجديد لن يستطيع غالبا ً تقليل السعر‬
‫بشكل كبري ‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬إذا اختار الناس حفظ ثروتهم بالنقد السهل بنسبة‬
‫مخزون إىل تدفق منخفضة‪ ،‬فسيكون سهال ً عىل منتجي هذه السلعة أن يصنعوا كميات‬
‫ضخمة منها لتؤدي إىل انخفاض السعر‪ ،‬وتُقلل من قيمة السلعة‪ ،‬وتُصادر ثروة‬
‫املدخرين‪ ،‬وتدمر قابلية بيع السلعة عرب الزمن‪.‬‬

‫فضل أن أُطلق عىل ما سبق مصطلح فخ النقد السهل‪ :‬فأي يشء يمكن‬
‫أ ُ ِّ‬
‫استخدامه كمخزون للقيمة سيزداد عرضه‪ ،‬وأي يشء يمكن زيادة عرضه بسهولة‬

‫‪ 3‬آنتال فيكيت‪ ،‬إىل أين يتجه الذهب؟ (‪ ،)1997‬حاصل على جائزة العملة الدولية لعام ‪،1996‬‬
‫برعاية ‪.Bank Lips‬‬

‫‪5‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫سيؤدي إىل فناء ثروة أولئك الذين يستخدمونه كمخزون للقيمة‪ .‬والنتيجة البديهية لهذا‬
‫الفخ هي أن أي يشء سيتم استخدامه بنجاح كنقد فإنه بالرضورة سيمتلك آلية طبيعية‬
‫أو صناعية تُقيِّد التدفق الجديد للسلعة إىل السوق‪ ،‬لتحافظ عىل قيمتها مع مرور الزمن‪.‬‬
‫بالتايل‪ ،‬يجب أن يكون إنتاج السلعة مكلفا ً لكي تؤدي دورا ً نقدياً‪ ،‬وإال فالحافز لصنع‬
‫هذا النقد بكل سهولة سيُفني ثروة املدخرين‪ ،‬وسيُقلل الدافع ألي شخص الستخدام هذا‬
‫الوسيط لالدخار‪.‬‬

‫وكلما أدى أي تطور طبيعي‪ ،‬أو تكنولوجي‪ ،‬أو سيايس إىل زياد ٍة رسيعة يف‬
‫العرض الجديد للسلعة النقدية‪ ،‬فستفقد السلعة مكانتها النقدية وستُستبدل بوسائط‬
‫أخرى للتبادل ذات نسبة مخزون إىل تدفق مرتفعة وأكثر ثباتاً‪ ،‬وهذا ما سيتم نقاشه يف‬
‫الفصل التايل‪ .‬فتم استخدام األصداف البحرية كنقد عندما كان العثور عليها صعباً‪ ،‬تماما ً‬
‫كما يتم استخدام السجائر املفردة كنقد يف السجون بسبب صعوبة تأمينها أو إنتاجها‪.‬‬
‫أما فيما يخص العمالت الوطنية‪ ،‬فكلما انخفض معدل الزيادة يف العرض‪ ،‬ازداد احتمال‬
‫امتالك العملة من قبل األفراد‪ ،‬وازداد احتمال محافظتها عىل قيمتها مع مرور الوقت‪.‬‬

‫فعندما َسهَّ لت التكنولوجيا الحديثة استرياد وصيد األصداف‪ ،‬تحوَّلت‬


‫املجتمعات التي استخدمت هذه األصداف كنقد إىل استخدام النقود املعدنية أو الورقية‪.‬‬
‫وعندما تزيد الدولة من عرض العملة‪ ،‬سيتجه مواطنوها نحو استخدام العمالت األجنبية‪،‬‬
‫أو الذهب‪ ،‬أو غريها من األصول النقدية األكثر ثباتاً‪ .‬وقدَّم لنا القرن العرشين عددا ً هائال ً‬
‫من هذه األمثلة املأساوية‪ ،‬ال سيما يف البلدان النامية‪ .‬فالوسائط النقدية التي دامت ألطول‬
‫مدة هي تلك التي كان لديها آليات موثوقة للغاية لتقييد نمو عرضها ‪ -‬وبعبارة أخرى‪،‬‬
‫النقد الصعب‪ .‬فاملنافسة بني الوسائط النقدية قائمة دائماً‪ ،‬ويمكن التَّكهن بنتائجها من‬
‫خالل تأثريات التكنولوجيا عىل املنافسني من ناحية النِسب املتفاوتة للمخزون إىل التدفق‪،‬‬
‫كما سيتم بَرهنته يف الفصل التايل‪.‬‬

‫وبالرغم من حرية األفراد باستخدام أية سلعة تروق لهم كوسيط للتبادل‪ ،‬إال‬
‫أنه بالحقيقة ومع مرور الوقت‪ ،‬سيكون مستخدمو النقد الصعب أكرب املستفيدين‪ ،‬وذلك‬
‫بسبب خسار ٍة ضئيلة للقيمة بسبب العرض الجديد املُهمَ ل لوسيط التبادل الخاص بهم‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫النقد‬

‫أما أولئك الذين يختارون النقد السهل فمن املرجح أن يخرسوا القيمة بسبب نمو عرضه‬
‫بشكل رسيع‪ ،‬األمر الذي سيؤدي إىل انخفاض سعره السوقي‪ .‬وبهذا‪ ،‬سترتكز غالبية املال‬
‫والثروة مع أولئك الذين يختارون النقد األكثر صعوبة ذا قابلية البيع األكرب‪ ،‬سواء من‬
‫خالل حسابات منطقية محتملة أو من دروس املايض القاسية‪ .‬لكن يجدر اإلشارة إىل أن‬
‫صعوبة وقابلية بيع السلعة نفسها ليسا شيئا ً ثابتا ً مع مرور الوقت‪ .‬فمثلما كان هناك‬
‫تباين يف القدرات التكنولوجية للمجتمعات والعصور املختلفة‪ ،‬كان هناك تباين يف‬
‫األشكال املختلفة من النقد‪ ،‬وتباينت معها قابليتها للبيع‪ .‬ففي الحقيقة‪ ،‬لطاملا حدد الواقع‬
‫التكنولوجي للمجتمعات خيار اختيار النقد األفضل بتحديده لقابلية بيع السلع املختلفة‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬نادرا ً ما يكون علماء االقتصاد النمساويني جازمني أو متشددين يف تعريفهم للنقد‬
‫ُعرفونه كمُنتَج أو كسلعة معينة‪ ،‬بل بأنه نقد يظهر يف السوق ويتم‬ ‫السليم‪َ .‬ف ُهم ال ي ِّ‬
‫اختياره بحريَّة من قبل األفراد الذين يتداولون به‪ ،‬ولم تفرضه عليهم أي سلطة‬
‫استبدادية‪ ،‬وهو أيضا ً النقد الذي يتم تحديد قيمته عن طريق تفاعالت السوق وليس عن‬
‫طريق اإلمالءات الحكومية‪ 4.‬واملنافسة النقدية يف األسواق الحرة هي منافسة فعالة‬
‫وشديدة يف إنتاج النقد السليم‪ ،‬حيث أنها تسمح ملن يختار النقد الصحيح بالحفاظ عىل‬
‫ثروة ضخمة بمرور الوقت‪ .‬فال حاجة ألن تفرض الحكومة النقد األصعب عىل املجتمع؛‬
‫املجتمع سيكتشفه بنفسه قبل أن تفرضه حكومته بوقت طويل‪ ،‬ولن يؤدي أي فرض‬
‫حكومي له‪ ،‬إن كان له تأثري‪ ،‬إال إىل عرقلة عملية املنافسة النقدية‪.‬‬

‫إ َّن اآلثار الفردية واملجتمعية الكاملة للنقد الصعب والسهل أعمق بكثري من‬
‫مجرد معنى الخسارة أو املكسب املايل‪ ،‬وهي موضوع رئييس يف هذا الكتاب‪ ،‬وسيتم‬
‫مناقشتها بإسهاب يف الفصل الخامس‪ ،‬والسادس والسابع‪ .‬فأولئك الذين لديهم القدرة‬
‫عىل ادخار ثروتهم بمخزون جيد للقيمة غالبا ً ما يكون تخطيطيهم للمستقبل أفضل من‬
‫أولئك الذين لديهم مخزون يسء للقيمة‪ .‬فسالمة الوسائط النقدية من حيث قدرتها عىل‬

‫‪4‬جوزيف سالرينو‪ ،‬النقد‪ :‬السليم وغري السليم (مؤسسة لودويغ فون ميزس‪ ،)2010 ،‬الصفحات ‪.15-14‬‬

‫‪7‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫االحتفاظ بالقيمة مع مرور الوقت‪ ،‬هي مُحدِّد رئييس لتفضيل األفراد للحارض عىل‬
‫املستقبل‪ ،‬أو تفضيلهم الزمني‪ ،‬وهو مفهوم محوري يف هذا الكتاب‪.‬‬

‫بعيدا ً عن نسبة املخزون إىل التدفق‪ ،‬هناك جانب آخر مهم لقابلية الوسيط‬
‫النقدي للبيع‪ ،‬وهو قبول اآلخرين به‪ .‬فكلما ازداد قبول الناس للوسيط النقدي‪ ،‬ازدادت‬
‫وضح بروتوكوالت الحوسبة يف‬‫سيولته‪ ،‬وازداد احتمال بيعه ورشائه بأقل الخسائر‪ .‬فت ُ ِّ‬
‫الظروف االجتماعية التي تَ ْكثُر فيها تعامالت النظري إىل النظري‪ ،‬أنه من الطبيعي أن تظهر‬
‫بعض املعايري لتسيطر عىل التبادل‪ ،‬وذلك ألن املكاسب الناتجة عن االنضمام إىل شبكة ما‬
‫تنمو بشكل كبري كلما َك ُرب حجم الشبكة‪ .‬لهذا‪ ،‬يسيطر الفيسبوك والقليل من شبكات‬
‫التواصل االجتماعي عىل السوق‪ ،‬بالرغم من ابتكار وترويج مئات الشبكات املماثلة‬
‫تقريباً‪ .‬بشكل مشابه‪ ،‬يجب عىل أي جهاز يقوم بإرسال رسائل الربيد اإللكرتوني‬
‫استخدام بروتوكول ‪ IMAP/POP3‬الستقبال الربيد اإللكرتوني‪ ،‬وبروتوكول ‪SMTP‬‬
‫إلرساله‪ .‬ولقد تم ابتكار بروتوكوالت عديدة أخرى‪ ،‬ويمكن استخدامها بشكل فعال‪ ،‬ولكن‬
‫ال يستخدمها أحد تقريبا ً ألن هذا سيَحُول من قدرة املستخدم عىل التفاعل مع كل مَن‬
‫يستخدم الربيد اإللكرتوني يف أيامنا هذه تقريباً‪ ،‬وذلك ألنهم يستخدمون ‪IMAP/POP3‬‬
‫و‪ .SMTP‬ينطبق األمر ذاته عىل صعيد النقد‪ ،‬فكان ظهور سلعة ما أو بضعة سلع‬
‫كوسيط أسايس للتبادل أمرا ً حتمياً‪ ،‬وذلك ألن خاصية التبادل بشكل سهل هي األهم‪ .‬فال‬
‫يتم االحتفاظ بوسيط التبادل‪ ،‬كما ذكر سابقاً‪ ،‬من أجل خواصه‪ ،‬بل من أجل قابليته‬
‫للبيع‪.‬‬

‫والقبول الواسع لوسيط التبادل يسمح أيضا بالتعبري عن جميع األسعار وفقا ً‬
‫له‪ ،‬مما يسمح له بتأدية الوظيفة الثالثة للنقد‪ :‬وهي وحدة الحساب‪ .‬ففي اقتصاد ال يوجد‬
‫فيه وسيط معروف للتبادل‪ ،‬يجب تسعري كل سلعة وفقا ً للسلع األخرى‪ ،‬مما سيؤدي إىل‬
‫ظهور عدد كبري من األسعار‪ ،‬ويجعل الحسابات االقتصادية صعبة للغاية‪ .‬أما يف اقتصاد‬
‫يستخدم وسيطا ً للتبادل‪ ،‬فإنه يتم التعبري عن كل األسعار لكل السلع باستخدام وحدة‬
‫الحساب ذاتها‪ .‬يف مجتمع كهذا‪ ،‬يعمل النقد كمقياس لقيمة العالقات بني األفراد؛ بحيث‬
‫يتم مكافأة املنتجني حتى يساهموا بتقديم القيمة لآلخرين‪ ،‬ويوضح للمستهلكني الَمبالغ‬
‫التي يتوجب عليهم دفعها للحصول عىل السلع املطلوبة‪ .‬فالحسابات االقتصادية املعقدة‬

‫‪8‬‬
‫النقد‬

‫ال تُصبح ممكن ًة إال بوجود وسيط موحَّ د للتبادل يؤدي دور وحدة حسابية‪ ،‬بحيث تأتي‬
‫ّ‬
‫املعقدة‪ ،‬وتراكم رأس املال واألسواق الكبرية‪ .‬فتشغيل‬ ‫معه إمكانية التخصص يف املهام‬
‫اقتصاد السوق يعتمد عىل األسعار‪ ،‬ولكي تكون األسعار دقيقة‪ ،‬يجب أن تَعتمد عىل‬
‫شائع للتبادل‪ ،‬مما سيعكس الندرة النسبية للسلع املختلفة‪ .‬ويف حالة النقد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وسيط‬
‫السهل‪ ،‬فإن قدرة الجهة املصدِرة له عىل زيادة كميته بشكل مستمر ستمنعه من تقدير‬
‫تكاليف الفرصة البديلة بشكل دقيق‪ .‬وكل تغيري ال يمكن التنبؤ به يف كمية النقد سيقوم‬
‫بتشويه دوره كمقياس لقيمة العالقة بني األفراد وكقناة للمعلومات االقتصادية‪.‬‬

‫فوجود وسيط واحد للتبادل سيسمح بنمو حجم االقتصاد بقدر عدد‬
‫األشخاص الراغبني يف استخدام وسيط التبادل ذاك‪ .‬وكلما كان حجم االقتصاد أكرب‪،‬‬
‫ازدادت فرص الكسب من التبادل والتخصص‪ ،‬وربما األهم من ذلك‪ ،‬سيصبح هيكل‬
‫اإلنتاج أطول وأكثر تعقيدا ً‪ .‬فيمكن للمنتجني أن يتخصصوا يف إنتاج سلع رأسمالية ال يتم‬
‫كسلع استهالكية نهائية إال بمرور فرتات طويلة‪ ،‬مما يؤدي إىل نشوء منتجات‬ ‫ٍ‬ ‫استخدامها‬
‫َّ‬
‫أكثر إنتاجية عىل مستوى أرفع‪ .‬ففي اقتصاد بدائي صغري‪ ،‬تألف هيكل إنتاج األسماك من‬
‫أفراد يذهبون إىل الشاطئ ويصطادون األسماك بأيديهم العارية‪ ،‬بحيث تستغرق العملية‬
‫بأكملها بضع ساعات من البداية إىل النهاية‪ .‬ولكن مع نمو االقتصاد‪ ،‬أصبحت تُستخدم‬
‫أدوات وسلع رأسمالية أكثر تطوراً‪ ،‬وأدى إنتاج هذه األدوات إىل تمديد فرتة عملية إنتاجها‬
‫بشكل كبري باإلضافة إىل إطالة إنتاجيتها‪ .‬ففي العالم الحديث‪ ،‬تُصطاد األسماك بقوارب‬
‫متطورة للغاية يَستغرق بناؤها سنوات وتعمل لعقود من الزمن‪ ،‬وتستطيع هذه القوارب‬
‫الوصول إىل البحار التي ال تستطيع القوارب الصغرية الوصول إليها‪ ،‬وبهذا تصطاد‬
‫أسماكا ً لم تكن متوفرة من دونها‪ .‬كما يمكن لهذه القوارب مواجهة الطقس القايس‬
‫ومتابعة اإلنتاج يف ظروف صعبة للغاية‪ ،‬يف حني أن القوارب األقل كثافة من حيث‬
‫راسية ودون فائدة‪ .‬وبالرغم من أن عملية جمع وتراكم رأس‬ ‫ً‬ ‫استثمار رأس املال ستبقى‬
‫املال قامت بإطالة أمد العملية‪ ،‬إال أنها أصبحت أكثر إنتاجية لكل وحدة عمل‪ ،‬وأصبح‬
‫باإلمكان إنتاج منتجات أفضل لم تكن ممكنة يف االقتصاد البدائي ذي األدوات األساسية‬
‫دون وجود رأس مال مرتاكم‪ .‬فلم يكن أي من هذا ممكنا ً دون وجود نقد يؤدي دور‬
‫وسيط للتبادل يسمح بالتخصص؛ ويسمح بوجود مخزون للقيمة وذلك لخلق توجه‬

‫‪9‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫مستقبيل‪ ،‬وليحفز األفراد عىل توجيه املوارد إىل االستثمار بدال ً من االستهالك؛ ويسمح‬
‫بوجود وحدة حساب تسمح بالحسابات االقتصادية للربح والخسارة‪.‬‬

‫ولقد شهد تاريخ تطوُّر النقد سلعا ً مختلفة تؤدي دور النقد بدرجات مختلفة‬
‫من الصعوبة والسالمة‪ ،‬وذلك حسب القدرات التكنولوجية لكل عرص‪ .‬فكل خطوة من‬
‫التقدم التكنولوجي سمحت لنا باستخدام شكل جديد من النقد مع فوائد إضافية‪ ،‬ولكن‬
‫كما هو الحال دائماً‪ ،‬مع مخاطر جديدة‪ ،‬بدءا ً من األصداف البحرية إىل امللح‪ ،‬واملاشية‪،‬‬
‫والفضة‪ ،‬والذهب والنقد الحكومي املدعوم بالذهب‪ ،‬وانتها ًء باالستخدام الحايل شبه‬
‫العاملي للنقد القانوني املُصدَر من قبل الحكومات‪ .‬ونستطيع تمييز الخصائص التي‬
‫تجعل من النقد نقدا ً جيدا ً أو سيئا ً من خالل دراسة تاريخ األدوات واملواد التي تم‬
‫توظيفها واستخدامها كنقد عرب التاريخ‪ .‬ثم يمكننا امليض ُقدما ً لفهم آلية عمل البيتكوين‪،‬‬
‫وفهم دوره كوسيط نقدي وذلك فقط من خالل فِ هْ ِم هذه الخلفية واملعلومات‪.‬‬

‫ويبحث الفصل التايل تاريخ املصنوعات الغامضة واملواد التي استُخدمت كنقد‬
‫عرب التاريخ‪ ،‬بدءا ً من حجارة "الراي" عىل جزيرة "ياب"‪ ،‬إىل األصداف يف األمريكيتني‪،‬‬
‫والخرز الزجاجي يف أفريقيا واملاشية وامللح يف العصور القديمة‪ .‬فكل وسائط التبادل هذه‬
‫أدت وظيفة النقد لشعوبها خالل الفرتة التي كانت تمتلك فيها أفضل نِسب املخزون إىل‬
‫التدفق‪ ،‬ولكنها توفقت عندما خرست تلك الخاصية‪ .‬ففِ هْ م السبب والكيفية رضوري لفهم‬
‫التطور املستقبيل للنقد‪ ،‬وأي دور محتمل قد يؤديه البيتكوين‪ .‬ثم ينتقل الفصل الثالث إىل‬
‫تحليل املعادن النقدية وكيف أصبح الذهبُ املعد َن النقدي الرئييس يف العالم خالل فرتة‬
‫املعيار الذهبي يف نهاية القرن التاسع عرش‪ .‬ويحلل الفصل الرابع االنتقال إىل النقود‬
‫الحكومية والسجل التاريخي الخاص بها‪ .‬وبعد مناقشة اآلثار االقتصادية واالجتماعية‬
‫ألنواع النقد املختلفة يف الفصل الخامس‪ ،‬والسادس‪ ،‬والسابع‪ ،‬يطرح الفصل الثامن قضية‬
‫اخرتاع البيتكوين وخصائصه النقدية‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫النقد البدائي‬

‫إن أكثر نقد من بني جميع أشكاله التاريخية التي صادفتها‪ ،‬يشبه بعمله آلية عمل‬
‫البيتكوين هو النظام القديم القائم عىل حجارة "الراي" يف جزيرة "ياب" والتي تُعَ ُّد‬
‫اليوم جزءا ً من واليات "ميكرونيزيا" املوحدة‪ .‬وفِهْ ُم آلية عمل الحجارة الدائرية الكبرية‬
‫املنحوتة من الحجر الجريي كنقد‪ ،‬سيساعدنا يف رشح آلية عمل البيتكوين يف الفصل‬
‫الثامن‪ ،‬كما أن فِ هم الحكاية املذهلة لكيفية ُفقدان حجارة الراي دورها النقدي سيكون‬
‫بمثابة درس عميل وموضوعي يف كيفية خسارة النقد دوره النقدي عندما يخرس صفة‬
‫الصعوبة منه‪.‬‬

‫إن حجارة الراي التي ش َّكلت النقد كانت عبارة عن أقراص دائرية كبرية‬
‫الحجم ينتصفها ث ُ ُقب‪ ،‬كما أنها كانت مختلفة األحجام‪ ،‬وبلغ أعىل وزن لها أربعة أطنان‬
‫مرتية‪ .‬لم يكن أصل هذه الحجارة من جزيرة ياب التي لم يكن فيها الحجر الجريي‪ ،‬بل‬
‫إن حجارة جزيرة ياب كانت تُستورد من "باالو" أو "غوام" املجاورتني‪ .‬لقد كانت تلك‬ ‫َّ‬
‫لكن الحصول عليها كان أمرا ً‬‫الحجارة مرغوبة ومهيبة يف ياب بسبب جمالها وندرتها‪ّ ،‬‬
‫صعبا ً للغاية ألنه تَض َّمن عملية شاقة من عملية التحجري يليها الشحن بالطوافات‬
‫والقوارب‪ .‬وتَطلَّب نقل بعض هذه الحجارة مئات األشخاص‪ ،‬وكان يتم وضعها يف موقع‬
‫بارز بمجرد وصولها للجزيرة لكي يتاح للجميع رؤيتها‪ .‬ويمكن ملالك الحجر استخدامه‬
‫كوسيلة للدفع دون الحاجة إىل نقله‪ :‬فكل ما سيحدث هو إعالن املالك لجميع سكان‬
‫املدينة بنقل ملكية الحجر إىل املُ َ‬
‫رسل إليه (املستفيد)‪ ،‬وستعرتف املدينة بأكملها بملكية‬
‫هذا الحجر‪ ،‬بحيث يمكن للمتلقي بعد ذلك أن يستخدمه للدفع وقت ما شاء‪ .‬ولم تكن‬
‫هناك جدوى من رسقة الحجارة ألن ملكيتها أصبحت معروفة للجميع‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫لقد عمل هذا النظام النقدي بشكل جيد لقرون أو حتى آلالف السنني بالنسبة‬
‫إىل سكان ياب‪ .‬ففي الوقت الذي لم يتم فيه تحريك الحجارة‪ ،‬كان لها قابلية للبيع عرب‬
‫وفرت‬‫األماكن‪ ،‬بحيث يمكن ألي شخص أن يستخدمها للدفع يف أي مكان بالجزيرة‪ ،‬كما َّ‬
‫األحجام املختلفة من الحجارة املتنوعة درجة معيَّنة من قابلية البيع يف مختلف املقاييس‪،‬‬
‫إضاف ًة لتوفريها إمكانية الدفع بأجزاء من حجر واحد‪ .‬ولقد تم ضمان قابلية بيع هذه‬
‫الحجارة عرب الزمن لقرون بسبب صعوبة وارتفاع تكلفة الحصول عىل حجارة جديدة‬
‫منها وذلك ألنها لم تكن متواجدة يف ياب‪ ،‬باإلضافة إىل أن عملية تحجريها ونقلها من باالو‬
‫لم تكن باألمر السهل‪ .‬فالتكلفة الباهظة لجلب الحجارة الجديدة إىل ياب تعني أن العرض‬
‫الحايل من الحجارة كان دائما ً أكثر بكثري من أي عرض جديد يمكن إنتاجه يف أي فرتة‬
‫زمنية معينة‪ ،‬مما جعل قبولها كشكل من أشكال الدفع قرارا ً حكيماً‪ .‬بعبارات أخرى‪ ،‬إن‬
‫حجارة الراي تَمتَّعت بنسبة مخزون إىل تدفق مرتفعة جداً‪ ،‬وبغض النظر عن الدرجة‬
‫التي كانت به هذه الحجارة مرغوب ًة‪ ،‬فلم يكن سهالً عىل أي شخص تضخيم عرضها عن‬
‫طريق جلب صخور جديدة‪ ،‬أو عىل األقل‪ ،‬هذا ما كان عليه الحال حتى عام ‪ 1871‬عندما‬
‫تحطمت سفينة قبطان أمريكي إيرلندي يُدعى "ديفيد أوكييفي" عىل شواطئ ياب‪ ،‬وتم‬
‫‪1‬‬
‫إنعاشه من قبل السكان املحليني‪.‬‬

‫لقد رأى "أوكييفي" أن هناك فرصة للربح تتمثل يف نقل جوز الهند من‬
‫الجزيرة ثم بيعه ملنتجي زيوت جوز الهند‪ ،‬لكن أوكييفي لم يكن لديه وسيلة إلغراء‬
‫السكان املحليني بالعمل لديه‪ ،‬وذلك ألنهم كانوا قانعني وسعداء بشكل كبري بحياتهم‬
‫الحالية يف جنَّتهم االستوائية‪ ،‬كما أنهم لم يكونوا بحاجة إىل أي شكل من أشكال النقد‬
‫األجنبي الذي يمكن ألوكييفي أن يعرضه عليهم‪ .‬لكن أوكييفي لم يقبل بالرفض‪ ،‬فأبحر‬
‫إىل "هونغ كونغ"‪ ،‬وحصل عىل قارب كبري ومتفجرات‪ ،‬وأخذها إىل باالو واستخدم‬
‫املتفجرات واألدوات الحديثة الستخراج العديد من حجارة الراي الكبرية‪ ،‬وأبحر عائدا ً إىل‬
‫ياب ليُقدِّم الحجارة للسكان املحليني كدفعة لقاء جوز الهند‪ .‬لم يتحمس القرويون لتلقي‬

‫‪ 1‬أوحت قصة أوكييفي بكتابة رواية تدعى "صاحب اجلاللة أوكييفي" للورانس كلينغمان وجريالد غرين يف عام‬
‫‪ ،1952‬واليت مت حتويلها إىل فلم هوليودي بنفس االسم من بطولة برت النكاسرت عام ‪.1954‬‬

‫‪12‬‬
‫النقد البدائي‬

‫الحجارة‪ ،‬خالفا ً لتوقعات أوكييفي‪ ،‬و َمن َ َع رئيس القرية السكان من العمل لقاء تلك‬
‫الحجارة‪ ،‬حيث أصدر ُحكما ً فحواه أن حجارة أوكييفي لم تكن ذات قيمة‪ ،‬ألنه تم جمعها‬
‫بسهولة بالغة‪ .‬فالحجارة التي استُخرجت بطرق تقليدية‪ ،‬بتعب ومجهود السكان‪ ،‬هي‬
‫الحجارة الوحيدة املقبولة يف ياب‪ .‬عارض بعض األفراد يف القرية هذا األمر‪ ،‬وقاموا بتزويد‬
‫أوكييفي بجوز الهند الذي أراده‪ ،‬مما أدى إىل حدوث خالفات يف الجزيرة‪ ،‬ومع مرور‬
‫الوقت‪ ،‬انتهت فرتة استخدام هذه الحجارة كنقد‪ .‬وأصبحت الحجارة اليوم تلعب دورا ً‬
‫احتفاليا ً وثقافيا ً يف الجزيرة‪ ،‬أما الوسيط النقدي األكثر استخدما ً اآلن هو نقود الحكومات‬
‫الحديثة‪.‬‬

‫بالرغم من أن قصة أوكييفي هي قصة رمزية للغاية‪ ،‬إال أنها أنذرت بحتمية‬
‫زوال الدور النقدي لحجارة الراي مع غزو الحضارة الصناعية الحديثة لجزيرة ياب‬
‫وسكانها‪ .‬فمع وصول األدوات الحديثة والقدرات الصناعية إىل املنطقة‪ ،‬كان األمر حتميا ً‬
‫ألن يصبح إنتاج الحجارة أقل تكلفة من أي وقت مىض‪ .‬وسيكون هناك العديد من نماذج‬
‫أوكييفي من املحليني واألجانب القادرين عىل تزويد ياب بتدفق متزاي ٍد من الحجارة‬
‫الجديدة‪ .‬ففي ظ ِّل وجود التكنولوجيا الحديثة‪ ،‬انخفضت نسبة املخزون إىل التدفق‬
‫لحجارة الراي بشكل كبري للغاية‪ :‬حيث أصبح باإلمكان إنتاج املزيد من تلك الحجارة كل‬
‫انخفاض ملحوظ يف قيمة مخزون الجزيرة الحايل‪ ،‬ولم يعد من الحكمة‬‫ٍ‬ ‫عام‪ ،‬مما أدى إىل‬
‫ألي شخص استخدام هذه الحجارة كمخزون للقيمة‪ ،‬وبالتايل فقدت قابليتها للبيع عرب‬
‫الزمن‪ ،‬ومعها فقدت دورها كوسيط للتبادل‪.‬‬

‫تتشابه الديناميكية األساسية النخفاض نسبة املخزون إىل التدفق رغم احتمال‬
‫اختالفها بالتفاصيل يف كل أشكال النقد الذي فقد دوره النقدي‪ ،‬حتى انهيار "البوليفار‬
‫الفنزوييل" الذي يتزامن حدوثه مع كتابة هذه السطور‪.‬‬

‫ولقد حدثت قصة مشابهة مع الخرز الزجاجي الذي تم استخدامه كنقد يف‬
‫لقرون طويلة‪ .‬إ َّن تاريخ ذلك الخرز يف غرب أفريقيا ليس واضحا ً تماماً‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫غرب أفريقيا‬
‫صنع من الحجارة النيزكية‪ ،‬أو أنه قد تم نقله من قبل التجار املرصيني‬ ‫حيث يُعتقد أنه ُ‬
‫ً‬
‫والفينيقيني‪ .‬لكن الواضح واملعروف هو أنه كان ثمينا يف املناطق التي كانت فيها صناعة‬

‫‪13‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الزجاج باهظة وغري شائعة‪ ،‬مما مَ نحه نسبة مخزون إىل تدفق مرتفعة‪ ،‬األمر الذي جعله‬
‫قابال ً للبيع عرب الزمن‪ .‬وبما أنه كان صغريا ً َ‬
‫وقيِّماً‪ ،‬فقد كان ذلك الخرز قابالً للبيع يف‬
‫مختلف املقاييس‪ ،‬حيث كان باإلمكان تجميعه يف سالسل أو قالدات أو أساور؛ إال أن هذا‬
‫لم يكن مثاليا ً مطلقا ً بسبب وجود أنواع عديدة مختلفة من الخرز بدال ً من وجود نموذج‬
‫معياري واحد‪ ،‬كما أنه كان قابالً للبيع عرب األماكن وذلك ألن نقله كان سهالً‪ .‬باملقابل‪ ،‬إن‬
‫ذلك الخرز الزجاجي لم يكن باهظ الثمن ولم يكن له أي دور نقدي يف أوروبا ألن‬
‫تكنولوجيا صناعة الزجاج كانت منترشة يف تلك املناطق مما يعني أنه إذا تم استخدامه‬
‫كوحدة نقدية‪ ،‬فسيقوم منتجو الخرز بغمر السوق به‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬كان لديه نسبة‬
‫مخزون إىل تدفق منخفضة‪.‬‬

‫الحظ املستكشفون والتجار األوروبيون القيمة املرتفعة املعطاة لذلك الخرز‬


‫عندما زاروا غرب أفريقيا يف القرن السادس عرش‪ ،‬فبدؤوا يف استرياده بكميات كبرية من‬
‫أوروبا‪ .‬وما حدث بعد ذلك كان شبيها ً بقصة أوكييفي‪ ،‬ولكن نظرا ً إىل حجم الخرز‬
‫الصغري والتعداد السكاني األكرب حجماً‪ ،‬كانت العملية أبطأ وأكثر خفيّة‪ ،‬وذات عواقب‬
‫أكرب ومأساوية أكثر‪ .‬فتمكن األوروبيون ببطء وثبات من رشاء العديد من املوارد الثمينة‬
‫وغل األوروبي يف‬ ‫األفريقية لقاء الخرز الذي جلبوه من أوطانهم بسعر زهيد‪ 2.‬وهذا التَّ ُّ‬
‫أفريقيا حوَّل ذلك الخرز من نقد صعب إىل نقد سهل بصورة بطيئة‪ ،‬ودمَّ ر قابلية بيعه‬
‫وتسبب يف تآكل القوة الرشائية لذلك الخرز من بني يدي مالكيه األفريقيني مع مرور‬
‫الوقت‪ ،‬وتسبّب بإفقارهم عن طريق تحويل ثروتهم إىل األوروبيني‪ ،‬الذين كان بإمكانهم‬
‫الحصول عىل الخرز بسهولة‪ .‬ولقد عُ رف الخرز الزجاجي الحقا ً باسم "خرز العبيد"‬
‫بسبب الدور الذي أدَّاه يف تأجيج تجارة الرقيق األفريقيني و"تصديرهم" إىل أوروبا‬
‫وأمريكا الشمالية‪ .‬إ َّن حدوث حالة واحدة من االنهيار الحاد يف قيمة وسيط نقدي هو أمر‬
‫مأساوي‪ ،‬ولكنه ينتهي برسعة عىل األقل‪ ،‬ويمكن ملالكيه البدء بالتداول واالدِّخار والقيام‬
‫بالحسابات باستخدام وسيط جديد‪ ،‬لكن االستنزاف البطيء لقيمته النقدية مع مرور‬
‫الوقت سيؤدي إىل نقل ثروة مالكيه ببطء إىل أولئك القادرين عىل إنتاج هذا الوسيط‬

‫‪ 2‬اعتاد األوروبيون ملء هياكل قوارهبم بكميات كبرية من اخلرز للحصول على أكثر األرابح وللحفاظ على ثبات‬
‫القارب خالل رحلته‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫النقد البدائي‬

‫بتكلفة منخفضة‪ .‬يجب استيعاب وتذكر هذا الدرس عندما ننتقل إىل مناقشة سالمة‬
‫النقود الحكومية يف األجزاء القادمة من الكتاب‪.‬‬

‫ف األصداف البحرية هي وسيط نقدي آخر تم استخدامه يف الكثري من األماكن‬


‫حول العالم‪ ،‬من أمريكا الشمالية إىل أفريقيا وآسيا‪ .‬وتُظهر لنا الروايات واملعلومات‬
‫التاريخية أن األصداف البحرية األكثر قابلية للبيع كانت غالبا ً تلك األصداف األكثر ندرة‬
‫والتي كان يَص ُعب العثور عليها‪ ،‬حيث أن هذه األصداف كانت تحتفظ بقيمتها أكثر من‬
‫تلك التي يُمكن العثور عليها بسهولة‪ 3.‬ولقد استخدم السكان األمريكيون األصليون‬
‫واملستوطنون األوروبيون األوائل األصداف من نوع "وامبوم" بشكل كبري ومُكثف لنفس‬
‫أسباب استخدام الخرز الزجاجي‪ :‬حيث كان ايجادها أمرا ً صعبا ً مما أعطاها نسبة‬
‫مخزون إىل تدفق مرتفعة قد تكون األعىل من بني السلع املتينة ذات صفة الديمومة‬
‫املُتاحة آنذاك‪ .‬وتشرتك األصداف مع الخرز الزجاجي يف سلبيّةِ عدم وجود وحدات موحدة‬
‫منها‪ ،‬األمر الذي أدى إىل صعوبة تحديد وقياس األسعار والنِسب والتعبري عنها بشكل‬
‫موحد‪ ،‬مما أدى إىل خلق عقبات كبرية أمام نمو االقتصاد ودرجة التخصص‪ .‬وقد قام‬
‫املستوطنون األوروبيون باعتماد األصداف البحرية كعملة قانونية ابتدا ًء من عام ‪،1636‬‬
‫ولكن مع تزايد تدفق العمالت املعدنية الذهبية والفضية الربيطانية إىل أمريكا الشمالية‪،‬‬
‫تم تفضيل هذه العمالت كوسيط للتبادل نظرا ً إىل تماثلها وانتظامها‪ ،‬مما سمح بتثمني‬
‫وتقدير األسعار بشكل أفضل وبشكل مُوحَّ د‪ ،‬ومَنحها قابلية بيع أعىل‪ .‬عالوة عىل ذلك‪،‬‬
‫ومع تزايد استخدام القوارب والتقنيات األكثر تطورا ً لحصد األصداف البحرية من البحر‪،‬‬
‫تضخم عرضها كثرياً‪ ،‬مما أدى إىل انخفاض قيمتها وفقدانها لقابلية البيع مع مرور‬ ‫َّ‬
‫الوقت‪ .‬وبحلول عام ‪ 1661‬تم الغاء اعتماد األصداف البحرية كعملة قانونية‪ ،‬وفقدت‬
‫‪4‬‬
‫دورها النقدي بالكامل يف نهاية األمر‪.‬‬

‫لم يقترص هذا املصري لألصداف البحرية كنقد يف أمريكا الشمالية فحسب؛ بل‬

‫‪ 3‬نك سزابو‪ ،‬الدفع غري املرغوب‪ :‬أصول النقد‪ )2002( .‬متوفر على‬
‫‪http://nakamotoinstitute.org/shelling-out‬‬
‫‪ 4‬نفس املصدر‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫شمل أيضا ً كل املجتمعات التي كانت تعتمد األصداف كنقد‪ ،‬فعندما وصلت إليها العمالت‬
‫املعدنية املوحدة‪ ،‬قامت بتبني هذه العمالت واستفادت من هذا التحول‪ .‬وقد أصبح‬
‫تمشيط البحار بحثا ً عن أصداف البحر أمرا ً سهالً بعد وصول الحضارة الصناعية مع‬
‫القوارب التي تعمل بالوقود األحفوري‪ ،‬األمر الذي قام بزيادة تدفق إنتاجها وقام بخفض‬
‫نسبة املخزون إىل التدفق بشكل رسيع‪.‬‬

‫لقد كانت املاشية من األشكال القديمة األخرى للنقد‪ ،‬وكانت تُثمَّ ن بسبب‬
‫قيمتها الغذائية‪ ،‬حيث أنها كانت إحدى أكثر املمتلكات قيمة‪ ،‬كما أنها كانت قابلة للبيع‬
‫عرب األماكن بسبب سهولة نقلها‪ .‬ولم تزل املاشية تؤدي دورا ً نقديا ً إىل يومنا هذا‪ ،‬حيث ال‬
‫تزال العديد من املجتمعات تستخدمها للدفع‪ ،‬وخاصة ملهر الزواج‪ ،‬ولكن نظرا ً لكرب‬
‫الحة بشكل كبري لحل‬ ‫حجمها ولعدم امكانية تقسيمها بسهولة‪ ،‬لم تكن املاشية ص ً‬
‫مشاكل التقسيم يف مختلف املقاييس‪ ،‬ولهذا تواجد شكل آخر من النقد جنبا ً إىل جنب مع‬
‫املاشية‪ ،‬وهو امللح‪ .‬فالحفاظ عىل امللح لفرتات طويلة هو أمر سهل‪ ،‬كما يمكن تقسيمه‬
‫وتجميعه إىل أي وزن مطلوب‪ .‬إن هذه الحقائق التاريخية ال تزال واضحة يف اللغة‬
‫ُشتقة من ‪ pecus‬أي املاشية باللغة‬ ‫اإلنجليزية‪ ،‬حيث أن كلمة ‪( pecuniary‬نقدي) م َّ‬
‫‪5‬‬ ‫الالتينية‪ ،‬يف حني أن كلمة ‪( salary‬راتب) م َّ‬
‫ُشتقة من ‪ ،sal‬أي ملح بالالتينية‪.‬‬

‫ومع تقدُّم التكنولوجيا خاص ًة يف علم املعادن‪ ،‬طوَّر البرش أشكاال ً من النقد أكثر‬
‫تفوقا ً من وسائط التبادل تلك‪ ،‬وقامت باستبدالها بشكل رسيع‪ .‬فتلك املعادن أثبتت أنها‬
‫وسيط تبادل أفضل من األصداف البحرية‪ ،‬والحجارة‪ ،‬والخرز‪ ،‬واملاشية وامللح وذلك ألنه‬
‫يمكن صنعها بشكل متماثل (مُوحدَّة ومُنتظمة) عىل شكل أجزاء صغرية مرتفعة القيمة‬
‫آخر يف نعش النقد القديم باالستخدام‬ ‫يمكن نقلها بسهولة أكرب‪ .‬ولقد تم وضع مسمار َ‬
‫الهائل لطاقة الوقود الهيدروكربوني الذي زاد من قدرتنا اإلنتاجية بشكل كبري‪ ،‬فسمح‬
‫أن أشكال النقد‬‫بزيادة رسيعة يف العرض (التدفق) الجديد لتلك املصنوعات‪ ،‬مما يعني َّ‬
‫التي كانت تعتمد عىل صعوبة اإلنتاج لحماية النسبة املرتفعة من مخزونها إىل تدفقها قد‬

‫‪ 5‬آنتال فيكيت‪ ،‬إىل أين يتجه الذهب؟ (‪ ،)1997‬حاصل على جائزة العملة الدولية لعام ‪ ،1996‬برعاية‬
‫‪.Bank Lips‬‬

‫‪16‬‬
‫النقد البدائي‬

‫خرست تلك امليزة‪ .‬فباستخدام الوقود الهيدروكربوني الحديث‪ ،‬أصبح باإلمكان استخراج‬
‫وصنع الخرز الزجاجي بثمن زهيد‪ ،‬وجَ ْم ُع األصداف بكميات‬ ‫حجارة الراي بسهولة‪ُ ،‬‬
‫ضخمة باستخدام قوارب كبرية‪ .‬وما أن فقدت تلك األموال صعوبتها‪ ،‬عانى مالكوها من‬
‫ُمصادرة كبرية لثرواتهم وانهار نسيج مجتمعهم بأكمله نتيجة لذلك‪ .‬فلقد فهم رؤساء‬
‫جزيرة ياب الذين رفضوا حجارة الراي الرخيصة التي َقدَّمها أوكييفي ما فشل معظم‬
‫االقتصاديني املعارصين فهمه‪ :‬فالنقد الذي يَس ُهل إنتاجه ليس نقدا ً عىل اإلطالق‪ ،‬والنقد‬
‫السهل ال يزيد من ثراء املجتمع‪ ،‬بل عىل العكس‪ ،‬يجعله أكثر فقرا ً من خالل عرض كل‬
‫ثروته التي اكتُسبت بعناء للبيع لقاء يشء يَسهُل إنتاجه‪.‬‬

‫‪17‬‬
18
‫الفصل الثالث‬

‫املعادن النقدية‬

‫بعد أن تطوَّرت القدرة التقنيّة البرشيّة يف إنتاج السلع‪ ،‬وتزايَ َد استخدامنا للمعادن والسلع‬
‫األساسية‪ ،‬أصبحت العديد من املعادن تُنتَج بكميات كبرية‪ .‬وكان الطلب عليها مرتفعا ً بما‬
‫يكفي لتصبح هذه املعادن قابلة للبيع بشكل كبري ومالئِم ًة لالستخدام كوسائط نقدية‪.‬‬
‫كما أن كثافة تلك املعادن وقيمتها املرتفعة نسبيا ً جعلت من عملية نقلها أمرا ً سهالً‪،‬‬
‫أسهل من نقل امللح واملاشية‪ ،‬مما جعلها قابلة للبيع بشكل كبري عرب األماكن‪ .‬لكن إنتاج‬
‫هذه املعادن لم يكن سهال ً يف البداية‪ ،‬األمر الذي جعل من عملية زيادة عرضها بشكل‬
‫رسيع أمرا ً صعبا ً مما منحها قابلية بيع جيدة عرب الزمن‪.‬‬

‫وقد كان لبعض املعادن قيمة أكثر من غريها وذلك بسبب متانتها وخصائصها‬
‫الفيزيائية باإلضافة إىل وُفرتها النسبية يف األرض‪ .‬فكان باإلمكان إنتاج النحاس والحديد‬
‫بكميات متزايدة بسبب وُفرتهما املرتفعة نسبيا ً وبسبب قابليتهما للتآكل‪ ،‬واإلنتاج الجديد‬
‫منهما سيُحجّ م املخزونات الحالية مُد ِّمرا ً القيمة فيهم‪ .‬ولقد أصبح لهذه املعادن قيمة‬
‫سوقية منخفضة نسبيا ً وكان يتم استخدامها يف التبادالت الصغرية‪ .‬من ناحية أخرى‪،‬‬
‫فاملعادن األكثر ندرة مثل الفضة والذهب كانت أكثر متانة وأقل عُ ً‬
‫رضة للتآكل أو التلف‪،‬‬
‫كمخزن للقيمة للمستقبل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫مما جعلها قابلة للبيع عرب الزمن بشكل أكرب وجعلها نافعة‬
‫وص َفة عدم قابلية الذهب للتلف عىل وجه الخصوص‪ ،‬م َّكنت البرش من تخزين القيمة عرب‬ ‫ِ‬
‫األجيال‪ ،‬األمر الذي سمح لنا بتطوير بصرية ذات أفق زمني أطول‪.‬‬

‫يف البداية‪ ،‬كانت املعادن تُشرتى وتُباع وفقا ً لوزنها‪ ،‬ولكن مع مرور الوقت ومع‬
‫تطور علم املعادن‪ ،‬أصبح باإلمكان صك عمالت معدنية بوحد ٍة مُوحَّ دة ليصبح باإلمكان‬
‫تصنيفها حسب وزنها‪ ،‬مما زاد من قابلية بيعها‪ ،‬حيث قام ذلك بإلغاء الحاجة للقيام‬

‫‪19‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫بعملية وزن وتقييم هذه املعادن يف كل مرة‪ .1‬واملعادن الثالثة األوسع انتشارا ً والتي تم‬
‫استخدامها لهذا الدور كانت الذهب‪ ،‬والفضة والنحاس‪ .‬وكان استخدامها كقطع معدنية‬
‫هو الشكل الرئييس للنقد لحوايل ‪ 2500‬عام وحتى أوائل القرن العرشين‪ ،‬أي منذ عهد‬
‫قطع‬
‫ٍ‬ ‫امللك اليوناني "كرويسوس" الذي كان أول من تم تسجيله عىل أنه قام بصك‬
‫معدنية ذهبية‪ .‬وكانت هذه العمالت الذهبية السل َع األكثر قابلية للبيع عرب الزمن ملقدرتها‬
‫باالحتفاظ عىل قيمتها مع مرور الوقت‪ ،‬وملقاومتها للصدأ والتلف‪ .‬كما كانت أيضا ً السلع‬
‫األكثر قابلية للبيع عرب األماكن ألنها حملت قيمة كبرية يف وزن خفيف‪ ،‬مما جعل عملية‬
‫نقلها أمرا ً سهالً‪ .‬باملقابل‪ ،‬كان للعمالت الفضية أفضلية عليها وذلك ألنها كانت السلعة‬
‫األفضل من ناحية قابلية البيع يف مختلف املقاييس‪ ،‬وذلك ألن القيمة املنخفضة للفضة‬
‫مقارنة بالذهب‪ ،‬سمحت لها بأن تكون وسيطا ً مالئما ً للتبادالت الصغرية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لكل وحدة وزن‬
‫بينما كانت العمالت الربونزية ناجعة للمعامالت ذات القيمة األقل‪ .‬فهذه القطع املعدنية‬
‫وعن طريق توحيد القِ يَم يف وحدات يمكن تمييزها والتعرف عليها بسهولة سمحت بإنشاء‬
‫وَسع من نطاق التخصص والتجارة يف جميع أنحاء العالم‪.‬‬ ‫األسواق الكبرية‪ ،‬األمر الذي َّ‬
‫وبالرغم من كونه النظام النقدي التقني األفضل يف ذلك الوقت‪ ،‬إال أنه عانى من عيبني‬
‫رئيسيني‪ :‬العيب األول‪ ،‬إن وجود اثنني أو ثالثة من املعادن كمعيار نقدي تَسبّب بخلق‬
‫مشاكل اقتصادية نظرا ً لتقلب قِ يَمها مع مرور الوقت‪ ،‬وذلك بسبب االنحسار يف عَ مَ ليَّتَي‬
‫العرض والطلب‪ ،‬األمر الذي تَسبّب بخلق مشاكل ألصحاب تلك العمالت‪ ،‬وال سيما الفضة‪،‬‬
‫التي شهدت انخفاضا ً يف القيمة بسبب االرتفاع يف انتاجها وانخفاض الطلب‪ .‬أما العيب‬
‫الثاني األكثر خطورة فتمثَّل يف تواجد القدرة واالستطاعة للحكومات واملزورين عىل‬
‫تقليص كمية املعادن الثمينة يف تلك القطع املعدنية‪ ،‬وبالفعل هذا ما فعلوه مرارا ً وتكرارا ً‪،‬‬
‫مما أدى إىل انخفاض قيمتها عن طريق نقل جزء من قوتها الرشائية إىل املزورين أو‬
‫الحكومات‪ .‬ولقد أدى انخفاض املحتوى املعدني يف القطع النقدية إىل تقويض نقاء‬
‫وسالمة النقد‪.‬‬

‫وبحلول القرن التاسع عرش ومع تطور النظام املرصيف الحديث وحدوث‬

‫‪1 1‬‬ ‫نك سزابو‪ ،‬الدفع غري املرغوب‪ :‬أصول النقد‪ )2002( .‬متوفر على‬
‫‪http://nakamotoinstitute.org/shelling-out‬‬

‫‪20‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫التطويرات يف طرق االتصال‪ ،‬تَم ًّكن األفراد من إجراء الصفقات واألعمال التجارية‬
‫باألوراق النقدية والشيكات املدعومة بالذهب املوجود يف خزائن مصارفهم وبالبنوك‬
‫املركزية‪ .‬هذا األمر جعل التحويالت املدعومة بالذهب أمرا ً قابالً للتحقيق بكل املقاييس‪،‬‬
‫وبالتايل تفادى الحاجة إىل الدور النقدي للفضة‪ ،‬وجَ َم َع كل خصائص النقد األساسية‬
‫القابلة للبيع يف املعيار الذهبي‪ .‬وبذلك‪ ،‬سمح املعيار الذهبي بجمع رأس املال وسمح‬
‫بتجارة عاملية غري مسبوقة من خالل توحيد غالبية اقتصاد الكوكب عىل خيار نقد سوقي‬
‫واحد سليم‪ ،‬لكن عيبه املأساوي هو أنه ومن خالل عملية تركيز الذهب يف خزائن‬
‫املصارف‪ ،‬والبنوك املركزية الحقاً‪ ،‬أصبح من املمكن للمصارف والحكومات زيادة‬
‫العرض النقدي بكمية أكرب من كمية الذهب الذي تمتلكه‪ ،‬مُقللة بذلك من قيمة النقد‬
‫وناقل ًة جزءا ً من قيمته من مالكي النقد الرشعيني إىل الحكومات واملصارف‪.‬‬

‫ِ مل الذهب؟‬
‫لفهم كيفية ظهور النقود السلعية‪ ،‬سنعود بمزيد من التفاصيل عن فخ النقد السهل الذي‬
‫طرحناه يف الفصل األول‪ ،‬ثم سنبدأ بالتفريق بني طلب السوق عىل السلعة (طلب‬
‫استهالك أو امتالك السلعة لذاتِها) والطلب النقدي عليها (الطلب عىل السلعة كوسيط‬
‫للتبادل وكمخزون للقيمة)‪ .‬ففي أي وقت يختار فيه أي شخص سلعة ما كمخزون‬
‫للقيمة‪ ،‬فإنه يقوم بزياد ٍة َفعَّ الة للطلب عليها بشكل يفوق طلب السوق العادي عليها‪ ،‬مما‬
‫يؤدي إىل ارتفاع سعرها‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬الطلب عىل النحاس يف السوق ملختَلَف‬
‫استخداماته الصناعية يبلغ حوايل ‪ 20‬مليون طن يف السنة‪ ،‬بسعر يبلغ نحو ‪ 5‬آالف دوالر‬
‫للطن‪ ،‬وقيمة سوقية إجمالية تبلغ حوايل ‪ 100‬مليار دوالر‪ .‬تخيل مثالً أن مليارديرا ً قرر‬
‫تخزين ‪ 10‬مليارات دوالر من ثروته بالنحاس‪ .‬فعندما يحاول مرصفيوه رشاء ‪ %10‬من‬
‫بارتفاع يف سعر النحاس‪ .‬قد‬ ‫ٍ‬ ‫إنتاج النحاس العاملي السنوي‪ ،‬فإنهم سيتسببون حتما ً‬
‫يبدو هذا يف البداية كتربير السرتاتيجية امللياردير النقدية‪ :‬حيث ارتفعت قيمة األصل الذي‬
‫أن ارتفاع السعر هذا‬ ‫قرر رشاءه قبل أن يكمل عملية الرشاء‪ .‬وامللياردير حتما ً سيعتقد َّ‬
‫سيتسبب يف زيادة عدد األفراد الراغبني يف رشاء النحاس كمخزون للقيمة‪ ،‬األمر الذي‬
‫سيتسبب بارتفاع السعر‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫لكن حتى وإذا انضم إليه املزيد من الناس لتحويل النحاس إىل نقد‪ ،‬فإن‬
‫امللياردير االفرتايض املهووس بالنحاس سيكون يف ورطة ألن ارتفاع األسعار سيجعل من‬
‫النحاس عمال ً مربحا ً للعمال ورؤوس األموال حول العالم‪ .‬فكمية النحاس املوجودة تحت‬
‫األرض تتجاوز قدرتنا عىل قياسها‪ ،‬ناهيك عن استخراجها من خالل عملية استخراج‬
‫املعادن‪ .‬لذلك ومن الناحية العملية‪ ،‬إن األمر الوحيد الذي يَح ُّد من كمية النحاس املنتَج‬
‫هو عدد األيدي العاملة وحجم رأس املال اللذان يتم تخصيصها لهذا العمل‪ .‬فيمكن دوما ً‬
‫تصنيع املزيد من النحاس بسعر أعىل‪ ،‬وسيستمر معه ارتفاع األسعار والكميات حتى‬
‫يُلبي طلب املستثمرين النقديني‪ .‬لنفرتض أن هذا األمر حدث بإضافة ‪ 10‬ماليني طن‬
‫و‪ 10,000‬دوالر للطن‪ .‬ففي نقطة ما‪ ،‬يجب أن تق َّل حدة هذا الطلب النقدي‪ ،‬وسريغب‬
‫بعض مالكي النحاس ببيع بعض مخزونهم لرشاء سلع أخرى لالستفادة من أرباح سعر‬
‫النحاس املرتفع‪ ،‬ألن هذا هو الهدف من رشاء النحاس باألساس‪.‬‬

‫فبعد انخفاض الطلب النقدي ومع ثبات جميع العوامل األخرى‪ ،‬سيعود سوق‬
‫النحاس إىل ظروف العرض والطلب األصلية‪ ،‬أي إىل ‪ 20‬مليون طن سنويا ً بسعر ‪5,000‬‬
‫دوالر لكل طن‪ ،‬ولكن عندما يبدأ املالكون ببيع مخزونهم املرتاكم من النحاس‪ ،‬سينخفض‬
‫السعر كثريا ً دون هذا املستوى‪ .‬فامللياردير سيخرس املال يف هذه العملية؛ حيث أنه وعند‬
‫قيامه برفع السعر‪ ،‬فهو قام برشاء معظم مخزونه بأكثر من ‪ 5,000‬دوالر للطن‪ ،‬ولكن‬
‫يُقدَّر إجمايل رصيده اآلن بأقل من ‪ 5,000‬دوالر للطن‪ .‬أما اآلخرون الذين انضموا إليه‬
‫الحقاً‪ ،‬فقد اشرتوا بأسعار أعىل وسيخرسون أمواال ً أكثر من امللياردير نفسه‪.‬‬

‫يُمكن تطبيق هذا النموذج عىل جميع السلع االستهالكية مثل النحاس‪ ،‬أو‬
‫الزنك‪ ،‬أو النيكل‪ ،‬أو النفط‪ ،‬والتي يتم بشكل أسايس استهالكها وتدمريها وليس تخزينها‬
‫وجمعها‪ .‬فحجم املخزون العاملي لتلك السلع يف أي وقت يُقارب حجم اإلنتاج السنوي‬
‫الجديد‪ ،‬ويتم توليد عرض جديد بشكل مستمر كي يتم استهالكه‪ ،‬ويف حال قرر‬
‫املدَّخرون تخزين ثروتهم بواحدة من هذه السلع‪ ،‬فلن تشرتي ثروتهم إال جزءا ً بسيطا ً من‬
‫العرض العاملي قبل رفع السعر بما يكفي المتصاص كل استثمارهم‪ ،‬حيث أنهم‬
‫يتنافسون مع مستهلكي هذه السلعة الذين يستخدمونها بطريقة فعالة يف الصناعة‪.‬‬
‫وعند ازدياد عوائد منتجي السلعة‪ ،‬فإنه يمكنهم االستثمار يف زيادة إنتاجهم‪ ،‬مما سيؤدي‬

‫‪22‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫طم األسعار مرة أخرى وسلب ثروة املدخرين‪ .‬والنتيجة النهائية لهذه الحادثة‬ ‫إىل تَح ُّ‬
‫بأكملها هي نقل الثروة من املدَّخرين املُضلَّلني إىل منتجي السلعة التي اشرتوها‪.‬‬

‫فهذا هو الهيكل الترشيحي لفقاعة السوق‪ :‬الطلب املتزايد يؤدي إىل ارتفاع حاد‬
‫يف األسعار‪ ،‬مما يؤدي إىل زيادة إضافية عىل الطلب‪ ،‬األمر الذي يرفع األسعار أكثر م ِّ‬
‫ُحفزا ً‬
‫عىل زيادة اإلنتاج وزيادة العرض‪ ،‬مما سيؤدي حتما ً إىل انخفاض األسعار الحقا ً معاقبا ً‬
‫كل من قام بالرشاء بسعر أعىل من سعر السوق املعتاد‪ .‬وبهذا‪ ،‬يتم رسقة املستثمرين يف‬
‫الفقاعة بينما يستفيد منتجو هذا األصل‪ .‬فلقد ثبتت صحة هذه الديناميكية يف معظم‬
‫ً‬
‫معاقبة وبشكل مستمر‬ ‫التاريخ املوث َّق بالنسبة للنحاس وكافة السلع األخرى يف العالم‪،‬‬
‫أولئك الذين يختارون هذه السلع كنقد وذلك من خالل تخفيض قيمة ثروتهم وإفقارهم‬
‫عىل املدى الطويل‪ ،‬ومن خالل إعادة السلعة إىل دورها الطبيعي كسلعة سوقية‪ ،‬وليس‬
‫كوسيط للتبادل‪.‬‬

‫ولكي يُثبت أي مخزون للقيمة جدارته‪ ،‬يجب عليه أن يتغلب عىل هذا الفخ‪:‬‬
‫فيجب أن ترتفع قيمته عندما يطلبه الناس كمخزون للقيمة‪ ،‬لكن يجب أن يتم منع‬
‫منتجيه من تضخيم العرض بشكل كبري كفيل لتخفيض السعر‪ .‬إن أصالً كهذا سيُكافئ‬
‫أولئك الذين يختارونه كمخزون للقيمة‪ ،‬فتزيد ثروتهم عىل املدى الطويل عندما يُصبح‬
‫هذا األصل املخزون الرئييس للقيمة‪ ،‬بينما أولئك الذين يختارون سلعا ً أخرى فعليهم أن‬
‫يُبدِّلوا مسارهم بتقليد خيار نظرائهم األكثر نجاحاً‪ ،‬أو أنهم ببساطة سيفقدون ثروتهم‪.‬‬

‫والرابح الجيل ُّ يف هذا السباق عىل م ّر تاريخ البرشية هو الذهب‪ ،‬والذي حافظ‬
‫عىل دوره النقدي بامتيازه عن السلع األخرى بخاصيتني فيزيائيتني فريدتني‪ :‬أوالً‪ ،‬الذهب‬
‫مستقر كيميائيا ً إىل درجةٍ يكاد يستحيل تدمريه‪ .‬ثانياً‪ ،‬يستحيل تصنيعه من مواد أخرى‬
‫(رغم ادعاءات الكيميائيني) حيث أنه ال يمكن استخراجه إال من مادته الخام غري املكررة‪،‬‬
‫وهي نادرة جدا ً يف كوكبنا‪.‬‬

‫فاالستقرار الكيميائي للذهب يُشري إىل أ َّن كل كمية الذهب التي استخرجها‬
‫البرش ال تزال تقريبا ً مُلكا ً للناس حول العالم‪ .‬فكانت البرشية وال تزال تجمع كنزا ً متزايدا ً‬
‫من الذهب عىل شكل مجوهرات‪ ،‬وقطع نقدية وسبائك‪ ،‬وهي ال تُستهلك أبدا ً وال تصدأ أو‬

‫‪23‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫تتحلل‪ .‬فاستحالة تصنيع الذهب من مواد كيميائية أخرى تعني أن الطريقة الوحيدة‬
‫لزيادة عرضه هي باستخراجه من األرض‪ ،‬وهي عملية مُكلِفة‪ ،‬وسامَّة وغري موثوقة‪ ،‬عَ ِم َل‬
‫أن املخزون‬ ‫فيها البرش منذ آالف السنني بعوائد متناقصة باستمرار‪ .‬وهذا كله يعني َّ‬
‫الحايل من الذهب الذي يمتلكه الناس حول العالم هو نِتاج آالف السنني من إنتاج الذهب‪،‬‬
‫وهو أكثر بكثري من اإلنتاج السنوي الجديد‪ .‬فعىل مدى العقود السبعة املاضية‪ ،‬وبوجود‬
‫إحصائيات موثوقة نسبياً‪ ،‬حافظ معدل نمو العرض هذا عىل نسبة ‪ %1.5‬ولم يتجاوز‬
‫‪2‬‬
‫‪ %2‬أبدا ً‪( .‬انظر الشكل ‪.)1‬‬

‫لكي تفهم الفرق بني الذهب وأي سلعة استهالكية‪ ،‬تخيّل تأثري زياد ٍة كبرية يف‬
‫ري يف السعر ويُضاعف اإلنتاج‬ ‫الطلب عليها كمخزون للقيمة بحيث يؤدي إىل ارتفاع كب ٍ‬
‫السنوي‪ .‬فمضاعفة اإلنتاج هذا بالنسبة إىل أي سلعة استهالكية سيُحجِّ م أي مخزون‬
‫ط ٍم يف األسعار وسيُلحق الرضر باملالكني‪ .‬أما فيما يخص‬ ‫وسيتسبَّب بحدوث تح ُّ‬
‫حايل‪َ ،‬‬
‫الذهب‪ ،‬فلن يكون ارتفاع األسعار الذي يؤدي إىل مضاعفة اإلنتاج السنوي ذا أهمية‪ ،‬حيث‬
‫أنه يزيد املخزون بنسبة ‪ %3‬بدال ً من ‪ .%1.5‬وإذا تم الحفاظ عىل وترية اإلنتاج املتزايدة‬
‫الجديدة‪ ،‬فستنمو املخزونات برسعة أكرب‪ ،‬مما سيُقلِّل من أهمية الزيادات الجديدة‪.‬‬
‫وسيستحيل فعليا ً عىل عُ مال املناجم أن يستخرجوا الذهب بكميات كبرية لدرجةٍ تكفي‬
‫لخفض السعر بشكل كبري‪.‬‬

‫تقترص الفضة باالقرتاب من الذهب يف هذا الشأن‪ ،‬حيث يبلغ معدل نمو‬
‫عرضها السنوي تاريخيا ً حوايل ‪ ،%10-5‬وارتفع إىل ‪ %20‬يف العرص الحديث‪ .‬ويُعَ ُّد ذلك‬
‫أعىل من معدل نمو الذهب لسببني‪ :‬أوالً‪ ،‬إن الفضة تتآكل كما يمكن استهالكها يف‬
‫العمليات الصناعية‪ ،‬مما يعني أ َّن املخزونات الحالية للفضة ليست كبرية مقارنة باإلنتاج‬
‫السنوي كما هي مخزونات الذهب مقارنة بإنتاجه السنوي‪ .‬ثانياً‪ ،‬إن الفضة أقل ندرة من‬
‫الذهب يف قرشة األرض وعملية صقلها سهلة‪ .‬وبسبب امتالكها لثاني أعىل نسبة مخزون‬
‫إىل تدفق‪ ،‬وألن قيمتها أقل من الذهب لكل وحدة وزن؛ فقد تم استخدام الفضة كنقد‬
‫رئييس للتحويالت الصغرية آلالف السنني؛ وبهذا َكمَّلت الذهب الذي وبسبب قيمته‬

‫‪ 2‬املصدر‪ :‬هيئة املسح اجليولوجي األمريكية‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫‪200‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪180‬‬
‫‪2.5‬‬
‫‪160‬‬
‫‪140‬‬
‫‪2‬‬
‫باآلالف‬

‫‪120‬‬
‫‪100‬‬ ‫‪1.5‬‬
‫‪80‬‬
‫‪1‬‬
‫‪60‬‬
‫‪40‬‬ ‫نمو املخزون السنوي (املحور األيمن‪ ،‬النسبة املئوية)‬ ‫‪0.5‬‬
‫‪20‬‬ ‫مجموع مخزونات الذهب (املحور األيرس‪ ،‬ألف طن)‬
‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪1910‬‬

‫‪1990‬‬
‫‪1930‬‬
‫‪1900‬‬

‫‪1950‬‬
‫‪1940‬‬

‫‪2000‬‬

‫‪2010‬‬
‫‪1960‬‬

‫‪1970‬‬
‫‪1980‬‬
‫‪1920‬‬

‫الشكل ‪ : 1‬مخزون الذهب العاملي ومعدل نمو املخزون السنوي‬

‫املرتفعة‪ ،‬أصبحت عملية تقسيمه إىل وحدات أصغر أمرا ً ليس عمليا ً‪ .‬فتبَنِّي واعتماد‬
‫املعيار الذهبي العاملي أتاح الدفع باستخدام األوراق املدعومة بالذهب يف كل املقاييس‪،‬‬
‫مما أزال الدور النقدي للفضة كما سيتم نقاشه بمزيد من التفصيل الحقا ً هذا الفصل‪.‬‬
‫ففقدت الفضة دورها النقدي مع االستغناء عنها للتحويالت واملبادالت الصغرية‪،‬‬
‫وأصبحت معدنا ً صناعياً‪ ،‬وخرست قيمتها مقارنة بالذهب‪ .‬وقد تحافظ الفضة عىل‬
‫تصنيفها يف املركز الثاني‪ ،‬ولكن بعدما أصبح الدفع ممكنا ً دون الحاجة إىل نقل الوحدة‬
‫النقدية نفسها بفضل تكنولوجيا القرن التاسع عرش‪ ،‬أصبح املركز الثاني يف املنافسة‬
‫النقدية ِمث ْ َل الخسارة‪.‬‬

‫ُفرس انفجار فقاعة الفضة سابقا ً كما ستنفجر مجددا ً إذا‬ ‫إن هذا األمر ي ِّ‬
‫دفق االستثمارات النقدية إىل الفضة‪ ،‬لن يكون صعبا ً عىل‬ ‫تضخمت‪ :‬فبمجرد ِبدء تَ ُّ‬
‫املنتجني زيادة العرض بشكل كبري بهدف تحطيم األسعار وسلب ثروة املستثمرين يف‬
‫هذه العملية‪ .‬وأبرز األمثلة شيوعا ً عىل فخ النقد السهل يأتي من الفضة نفسها من بني‬
‫جميع السلع األخرى‪ .‬ففي أواخر سبعينيات القرن املايض‪ ،‬قرر األخوان "هنت" وهم‬
‫فاحشو الثراء إعادة استخدام الفضة كنقد‪ ،‬فبدؤوا برشاء كميات هائلة منها‪ ،‬مما أدى إىل‬

‫‪25‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫َنطقهما ينص عىل أنه حتى مع ارتفاع السعر‪ ،‬فاألم ُر ُس ِّ‬


‫يحفز‬ ‫ارتفاع سعرها‪ .‬إ َّن م ُ‬
‫الكثريين عىل الرشاء‪ ،‬مما سيحافظ عىل ارتفاع األسعار‪ ،‬وهذا بدوره سيخلق رغبة لدى‬
‫الناس بأن يُد َفع لهم باستخدام الفضة‪ .‬لكن ومع ذلك‪ ،‬مهما تكن الكمية التي سيشرتيها‬
‫األخوان "هنت"‪ ،‬فإن ثروتهما لن تُضاهي قدرة عمال املناجم وأصحاب الفضة عىل‬
‫مُجاراة الكميات التي سيتم فيها بيع الفضة يف السوق‪ .‬ويف النهاية‪ ،‬تحطمت أسعار‬
‫الفضة وخرس األخوان هنت أكثر من مليار دوالر‪ ،‬وهو عىل األرجح أعىل سعر تم دفعه‬
‫لتعلم أهمية نسبة املخزون إىل التدفق‪ ،‬ولِتَعلُّم معنى عبارة "ليس كل ما يلمع ذهبا"‪.‬‬
‫ً ‪3‬‬

‫(انظر الشكل ‪.)42‬‬

‫فمعدل عرض الذهب املنخفض عىل الدوام هو السبب الجوهري لحفاظه عىل‬
‫دوره النقدي عىل م ّر تاريخ البرشية‪ ،‬وهو دور مستمر حتى يومنا هذا‪ ،‬حيث لم تزل‬
‫البنوك املركزية تحتفظ بعرض كبري من الذهب كي تحمي عمالتها الورقية‪ .‬وتبلغ‬
‫احتياطات البنك املركزي الرسمية حوايل ‪ 33,000‬طن‪ ،‬أو ُسدْس إجمايل الذهب املوجود‬
‫فوق األرض‪ .‬فنسبة املخزون إىل التدفق املرتفعة للذهب تجعله السلعة ذات أقل سعر‬
‫عرف بأنها الزيادة بالنسبة املئوية للكمية املعروضة‬ ‫بالنسبة ملرونة العرض‪ ،‬والتي ت ُ َّ‬
‫أن العرض الحايل من الذهب‬ ‫مقسومة عىل الزيادة بالنسبة املئوية للسعر‪ .‬ونظرا ً إىل َّ‬
‫اململوك من قِ بَل الناس يف كل مكان هو نِتاجٌ آلالف السنني من اإلنتاج‪ ،‬فإن زيادة مقدارها‬
‫س‪ %‬يف سعره قد تُسبب زياد ًة يف إنتاج استخراج الذهب الجديد‪ ،‬ولكن هذه الزيادة‬
‫ستكون متدنيّة إذا ما قورنت باملخزونات الحالية‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬شهد عام ‪2006‬‬
‫زيادة بنسبة ‪ %36‬يف سعر الذهب‪ .‬بالنسبة إىل أي سلعة أخرى‪ ،‬من املتوقع أن يزيد هذا‬
‫من ناتج استخراج املعادن بمعدل كبري ل َِغمر األسواق وخفض السعر‪ .‬بدال ً من ذلك‪ ،‬بلغ‬
‫اإلنتاج السنوي يف عام‪ 2,370 ،2006‬طناً‪ ،‬أي أقل بمقدار ‪ 100‬طن من إنتاج عام‬
‫‪ ،2005‬وانخفض بمقدار ‪ 10‬أطنان أخرى يف ‪ .2007‬ففي حني كان العرض الجديد‬
‫يساوي ‪ %1.67‬من املخزونات املوجودة يف عام ‪ ،2005‬إال أنه كان ‪ %1.58‬من‬

‫‪ 3‬فاتورة كبرية لقاء ‪ ،Bullion Binge‬جملة اتمي‪ 29 ،‬أغسطس‪.1989 ،‬‬


‫‪ 4‬املصدر‪ :‬بياانت هيئة املسح اجليولوجي األمريكية للذهب‪ ،‬وبياانت مؤسسة الفضة للفضة‪ ،‬ومراجعات‬
‫‪ BP.com‬اإلحصائية للنفط‪ ،‬وتقدير الكاتب من مصادر متعددة للنحاس‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫الشكل‪ 2 :‬املخزونات املوجودة كانعكاس لإلنتاج السنوي‬

‫املخزونات املوجودة يف عام ‪ ،2006‬و‪ %1.54‬من املخزونات املوجودة يف عام ‪.2007‬‬


‫فحتى لو ارتفع السعر بنسبة ‪ ،%35‬فإن ذلك لن يؤدي إىل زيادة ملحوظة يف عرض‬
‫الذهب الجديد يف السوق‪ .‬فوفقا ً لهيئة املسح الجيولوجي األمريكية‪ ،‬كانت أكرب زيادة‬
‫سنوية يف اإلنتاج حوايل ‪ %15‬يف عام ‪ ،1923‬والتي تُرجمت إىل زيادة بنسبة ‪ %1.5‬فقط‬
‫يف املخزونات‪ .‬فحتى لو تضاعف اإلنتاج‪ ،‬فإن الزيادة املحتملة يف املخزونات لن تكون إال‬
‫حوايل ‪ .%4-3‬أما الزيادة السنوية األكثر يف املخزونات العاملية فقد حدثت عام ‪،1940‬‬
‫عندما ارتفعت املخزونات بنحو ‪ .%2.6‬ولم يتجاوز النمو السنوي للمخزون هذا الرقم‬
‫بعد ذلك‪ ،‬ولم يتجاوز نسبة ‪ %2‬منذ عام ‪.1942‬‬

‫وعندما ازداد إنتاج املعادن بشكل ملحوظ‪ ،‬بدأت الحضارات القديمة يف الصني‪،‬‬
‫والهند ومرص باستخدام النحاس كنقد ومن ثم الفضة‪ ،‬حيث أنه كان من الصعب نسبيا ً‬
‫تصنيع َهذَين املع َدنَني يف ذلك الوقت‪ ،‬األمر الذي أعطاهما قابلية جيدة للبيع عرب الزمان‬

‫‪27‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫واملكان‪ .‬وكان للذهب مكانة بارزة يف هذه الحضارات‪ ،‬لكن ندرته اقتضت يف محدودية‬
‫قابليته للبيع يف املبادالت‪ .‬وقد تم صك الذهب إىل قطع معدنية ألول مرة لغرض التجارة‬
‫يف اليونان‪ ،‬مهد الحضارات الحديثة‪ ،‬تحت حكم امللك "كرويسوس"‪ ،‬ون َ َّشط هذا األمر‬
‫التجارة العاملية حيث أدت جاذبية الذهب العاملية إىل انتشار العملة عىل مدى واسع‪ .‬ومنذ‬
‫ذلك الحني‪ ،‬تشابكت منعطفات التاريخ البرشي بشكل وثيق مع سالمة النقد‪ ،‬فازدهرت‬
‫الحضارات اإلنسانية يف األزمان واألماكن التي تم فيها تَبنِّي النقد السليم عىل نطاق واسع‪،‬‬
‫يف حني تزامن النقد غري السليم يف كثري من األحيان مع التدهور الحضاري واالنهيار‬
‫املجتمعي‪.‬‬

‫العرص الذهبي الروماين وانحداره‬


‫كان "الديناريوس" العملة املعدنية الفضية املُتداولة يف عهد الجمهورية الرومانية‪،‬‬
‫واحتوى عىل ‪ 3.9‬جرام من الفضة‪ ،‬بينما كان الذهب النقد األكثر قيمة يف املناطق‬
‫أسس‬ ‫املتحرضة يف العالم يف ذلك الوقت‪ ،‬وكانت العمالت الذهبية تزداد انتشارا ً‪ .‬و َّ‬
‫الديكتاتور األخري للجمهورية الرومانية‪" ،‬يوليوس قيرص"‪ ،‬العملة املعدنية "أوريوس"‬
‫والتي كانت تحتوي عىل حوايل ‪ 8‬جرامات من الذهب‪ ،‬وتم قبولها عىل نطاق واسع يف‬
‫أوروبا والبحر املتوسط مما زاد من نطاق التجارة والتخصص يف العالم القديم‪ .‬وساد‬
‫االستقرار االقتصادي ملدة ‪ 75‬عاماً‪ ،‬حتى يف فرتة االضطرابات السياسية الغتياله والتي‬
‫شهدت تحول الجمهورية إىل إمرباطورية تحت ظل وريثه "أُغسطس" الذي اختاره‬
‫بنفسه‪ .‬استمر هذا األمر حتى عهد اإلمرباطور صاحب السمعة السيئة "نريون"‪ ،‬الذي‬
‫كان أول من انخرط يف العادة الرومانية ب ِـ "تقسيم وقص العملة"‪ ،‬حيث كان اإلمرباطور‬
‫يجمع عمالت السكان ويصك منها عمالت جديدة ولكن بمحتوى أقل من الفضة أو‬
‫الذهب‪.‬‬

‫استمتع جنود وأباطرة "روما" بإنفاق غنائمهم طوال الفرتة التي كانوا فيها‬
‫أراض جديدة كثرية الثروات‪ ،‬حتى أن أباطرتها قد قرروا رشاء شعبية‬
‫قادرين عىل غزو ٍ‬
‫صنعيا ً (زائفة) للحبوب وغريها من السلع األساسية‪،‬‬
‫ألنفسهم بفرض أسعار منخفضة ُ‬

‫‪28‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫بل وتجاوزوا بمنحها باملجان يف بعض األحيان‪ .‬فعوضا ً عن العمل لكسب لُقمة العيش يف‬
‫الريف‪ ،‬ترك العديد من الفالحني مزارعهم لالنتقال إىل "روما" حيث كان بإمكانهم عيش‬
‫حياة أفضل وباملجان‪ .‬ومع مرور الوقت‪ ،‬لم يعد يف العالم القديم أية أراض مزدهرة لكي‬
‫يتم غزوها‪ ،‬ونمط الحياة املتزايد ترفا ً وبَذَخا ً جنبا ً إىل جنب مع الجيش املتنامي احتاج‬
‫مصدرا ً جديدا ً للتمويل‪ ،‬كما ازداد مع ذلك أيضا ً عدد املواطنني غري املنتجني الذين‬
‫يعيشون عىل كرم اإلمرباطور وعىل عملية ضبط األسعار‪" .‬نريون"‪ ،‬الذي حكم بني عامي‬
‫صيغة لحل هذا‪ ،‬صيغ ًة شابهت إىل حد كبري حل "كينز" ملشاكل بريطانيا‬ ‫ً‬ ‫‪ 54‬و‪ ،68‬وجد‬
‫والواليات املتحدة بعد الحرب العاملية األوىل‪ :‬فعملية تخفيض قيمة العملة ستؤدي مبارشة‬
‫إىل تخفيض األجور الحقيقية للعمال‪ ،‬وستقلل من عبء الحكومة يف دعم السلع األساسية‪،‬‬
‫وستوفر املزيد من األموال لتمويل النفقات الحكومية األخرى‪.‬‬

‫فتم تخفيض محتوى عملة "أوريوس" الذهبية من ‪ 8‬إىل ‪ 7.2‬جرام‪ ،‬يف حني تم‬
‫تخفيض محتوى "الديناريوس" الفيض من ‪ 3.9‬إىل ‪ 3.41‬جرام‪َّ .‬‬
‫فوَفر ذلك بعض الراحة‬
‫املؤقتة‪ ،‬لكنه رشع ببدء دورة شديدة التدمري وذاتية الدعم من الغضب الشعبي‪ ،‬وضبط‬
‫األسعار‪ ،‬وتخفيض قيمة العملة وارتفاع األسعار‪ ،‬والتي تَ ِبعت كل منها األخرى بشكل‬
‫‪5‬‬ ‫مُنتظم وم َّ‬
‫ُتوقع كتتابع الفصول‪.‬‬

‫"كركال" (‪ ،)217 – 211‬تم تخفيض محتوى الذهب بشكل أكرب‬ ‫َّ‬ ‫ويف عهد‬
‫ليصل إىل ‪ 6.5‬جرام‪ ،‬و ُخ ِّفض أكثر يف عهد "ديوكلتانيوس" (‪ )305-284‬إىل ‪ 5.5‬جرام‪،‬‬
‫قبل أن يُقدِّم "ديوكلتانيوس" عملة بديلة تسمى "صوليدوس"‪ ،‬والتي احتوت عىل ‪4.5‬‬
‫آثار من‬
‫جرام من الذهب فقط‪ .‬ففي عرص "ديوكلتيانوس"‪ ،‬احتوى الديناريوس عىل ٍ‬
‫الفضة لتغطية قلبه الربونزي‪ ،‬وكانت الفضة رسيعة االختفاء بسبب االندثار واالحتكاك‬
‫باالستعمال العادي‪ ،‬مما أنهى الديناريوس كعملة فضية‪ .‬ومع تزايد حدة التضخم يف‬
‫القرنني الثالث والرابع‪ ،‬جاءت معه محاوالت األباطرة املضللة إلخفاء هذا التضخم وذلك‬
‫بوضع ضوابط ألسعار السلع األساسية‪ .‬وعندما سعت قوى السوق إىل رفع األسعار‬
‫استجاب ًة النخفاض قيمة العملة‪ّ ،‬‬
‫تكفل سقف األسعار القائم بمنع تعديل هذه األسعار‪،‬‬

‫‪ 5‬اقرأ كتاب شوتينغر وابتلر املمتع للغاية أربعون قرانً من التحكم ابألجور واألسعار‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫مما جعل األمر غري مربحا ً للمنتجني للمشاركة يف عملية اإلنتاج‪ ،‬فتوقف اإلنتاج‬
‫االقتصادي إىل أن صدر مرسوم جديد يسمح بحرية رفع األسعار‪.‬‬

‫ومع هذا االنهيار يف قيمة نقدها‪ ،‬أدت العملية الطويلة النحدار اإلمرباطورية إىل‬
‫للق َّراء املعارصين‪ :‬فعملية "تقسيم وقص العملة" َخ َّفضت من قيمة‬‫دورة قد تبدو مألوفة ُ‬
‫األوريوس الحقيقية‪ ،‬وزادت العرض النقدي سامح ًة لإلمرباطور بمتابعة َف ْر ِط اإلنفاق‬
‫الطائش‪ ،‬ولكنها يف النهاية أدت إىل التضخم واألزمات االقتصادية‪ ،‬والتي حاول األباطرة‬
‫املضللني تحسينها من خالل املزيد من تقسيم وقص العملة املعدنية‪ .‬ويلخص "فرديناند‬
‫ليبس" هذه العملية بدرس للقراء املعارصين‪:‬‬

‫يجب عىل االقتصاديني "الكينيزيني" املعارصين‪ ،‬وكذلك عىل الجيل الحايل من‬
‫املستثمرين‪ ،‬فِ هْ م أنه عىل الرغم من محاولة األباطرة الرومانيني املسعورة لـِ"إدارة"‬
‫اقتصادهم‪ ،‬إال أنهم نجحوا فقط بجعل األمور أكثر سوءاً‪ .‬فلقد تم سن القوانني لضبط‬
‫األسعار وضبط األجور والعتماد العملة الرسمية‪ ،‬لكن األمر كان أشبه بمحاولة كبح‬
‫جماح املد والجزر‪َ .‬فع َّم الشغب‪ ،‬والفساد‪ ،‬وغياب القانون‪ ،‬والهوس الطائش باملضاربة‬
‫والقمار كالطاعون يف اإلمرباطورية‪ ،‬ويف ظل وجود نقد غري موثوق ومنخفض القيمة‬
‫بشكل كبري‪ ،‬أصبحت املضاربة بالسلع األساسية أشد إغراء من إنتاجها‪.‬‬

‫فلقد كانت العواقب طويلة األمد مدمرة لإلمرباطورية الرومانية‪ .‬وبالرغم من‬
‫احتمال عدم تصنيف روما حتى القرن الثاني للميالد عىل أنها اقتصاد سوق حرة‬
‫رأسمالية ناضج بسبب بقاء الكثري من القيود الحكومية عىل النشاط االقتصادي بوجود‬
‫العملة الذهبية الرومانية األوريوس‪ ،‬إال أنها رغم ذلك أسست ما كان حينئذ يُعرف كأكرب‬
‫سوق يف التاريخ البرشي‪ ،‬بحيث احتوى هذا السوق عىل أكرب تقسيم لليد العاملة وكان‬
‫األكثر إنتاجية عىل اإلطالق يف العالم‪ 6.‬فلقد حصل مواطنو روما واملدن الرئيسية عىل‬
‫احتياجاتهم األساسية عن طريق التجارة مع أولئك املتواجدين يف أقىص بقاع‬
‫اإلمرباطورية‪ ،‬وهذا ما يساعد عىل فهم النمو يف االزدهار‪ ،‬وفهم االنهيار املدمر الذي عانت‬

‫‪ 6‬لودويغ فون ميزس‪ ،‬الفعل البشري‪ :‬طبعة الباحث (أوبورن‪ ،‬أالابما‪ :‬مؤسسة لودويغ فون ميزس‪.)1998 ،‬‬

‫‪30‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫منه اإلمرباطورية عندما انهار تقسيم العمالة هذا‪ .‬ففي الوقت الذي ازدادت فيه الرضائب‬
‫أراض فارغة‪،‬‬ ‫وأدى التضخم إىل فشل عملية ضبط األسعار‪ ،‬بدأ سكان املدن بالفرار إىل ٍ‬
‫حيث كان لديهم عىل األقل فرصة للعيش بحالة اكتفاء ذاتي‪ ،‬بحيث أن دخلهم املحدود‬
‫سيعفيهم من دفع الرضائب‪ .‬فانهار الرصح الحضاري املعقد لإلمرباطورية الرومانية‪،‬‬
‫والتقسيم الكبري للعمالة يف أوروبا والبحر املتوسط‪ ،‬وأصبح أحفادهم فالحني م َُشتَّتني‬
‫مكتفني ذاتيا ً يعيشون يف عزلة‪ ،‬وتحولوا بعد فرتة قصرية إىل عبيد يعيشون تحت حكم‬
‫األسياد اإلقطاعيني‪.‬‬

‫بيزنطة والعملة البيزنطية (البيزنت)‬


‫ارتبط اسم اإلمرباطور ديوكلتانيوس ارتباطا ً أبديَّا ً باالحتيال املايل والنقدي‪ ،‬وتحت حكمه‬
‫وصلت اإلمرباطورية إىل الحضيض‪ .‬ولكن بعد عام من تنحيه‪ ،‬توىل "قسطنطني" العظيم‬
‫ً‬
‫مسؤولة اقتصادياً‪.‬‬ ‫زمام االمرباطورية وعَ َك َس مسارها باعتماد سياسات وإصالحات‬
‫َفـ"قسطنطني"‪ ،‬الذي كان أول إمرباطور مسيحي‪ ،‬التزم بالحفاظ عىل عملة الصوليدوس‬
‫بوزن ‪ 4.5‬جرام من الذهب دون اقتصاص أو غش‪ ،‬وبدأ بصك العملة بكميات كبرية يف‬
‫عام ‪ .312‬انتقل رشقا ً وأسس "القسطنطينية" يف نقطة التقاء آسيا وأوروبا‪ ،‬لرتى‬
‫اإلمرباطورية الرومانية الرشقية النور والتي اعتمدت الصوليدوس كعملة لها‪ .‬ويف حني‬
‫واصلت روما تدهورها االقتصادي واالجتماعي والثقايف حتى انهيارها يف نهاية املطاف‬
‫عام ‪ ،476‬نجت العملة البيزنطية ملدة ‪ 1,123‬عاماً‪ ،‬بينما أصبح الصوليدوس أكثر عملة‬
‫سليمة دام استخدامها يف التاريخ البرشي‪.‬‬

‫ث قسطنطني يف الحفاظ عىل سالمة الصوليدوس جعله أكثر عملة معروفة‬ ‫إ َّن إ ِ ْر َ‬
‫ووَسع تقبُّله‪ ،‬وأصبح يُعرف باسم "بيزنت"‪ .‬ويف حني احرتقت روما تحت حكم‬ ‫يف العالم َّ‬
‫أباطر ٍة مُفلسني لم يعد بمقدورهم دفع أجور جنودهم مع انهيار عمالتهم‪ ،‬ازدهرت‬
‫القسطنطينية ونمت لعدة قرون أخرى بوجود مسؤولية مالية ونقدية‪ .‬فظلت‬
‫القسطنطينية مزدهرة وخالية من الغزو لقرون‪ ،‬يف حني َدمَّر "الفانداليون" و"القوط"‬
‫روما‪ .‬ولم تسقط القسطنطينية كما حدث يف روما إال بعد أن بدأ حكامها بخفض قيمة‬

‫‪31‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫العملة‪ ،‬ويعتقد املؤرخون أن هذه العملية بدأت يف عهد "قسطنطني" التاسع‬


‫"مونوماخوس" (‪ .7)1055-1042‬فمع التدهور النقدي‪ ،‬حصل التدهور املايل‪،‬‬
‫ُثق ًلة بتزايد‬
‫والعسكري‪ ،‬والثقايف والروحاني لإلمرباطورية‪ ،‬حيث أصبحت اإلمرباطورية م َ‬
‫األزمات إىل أن استوىل عليها العثمانيون عام ‪.1453‬‬

‫وحتى بعد انخفاض قيمته وانهيار إمرباطوريته‪ ،‬نجا "البيزنت" وأوحى‬


‫بأشكال أخرى من النقد السليم ال تزال مُستخدم ًة عىل نطاق واسع حتى يومنا هذا عىل‬
‫الرغم من أنه لم يعد العملة الرسمية ألية دولة‪ ،‬وكان هذا الشكل هو الدينار اإلسالمي‪.‬‬
‫فمع ازدهار اإلسالم خالل العرص الذهبي لبيزنطة‪ ،‬انترش البيزنت والقطع املعدنية‬
‫النقدية املشاب هة له يف الوزن والحجم يف املناطق التي انترش فيها اإلسالم‪ .‬وحدد الخليفة‬
‫طبع عليه الشهادة اإلسالمية‬‫األموي عبد امللك بن مروان وزن وقيمة الدينار اإلسالمي و َ‬
‫عام ‪ .697‬وعىل الرغم من سقوط األرسة األموية الحاكمة‪ ،‬وسقوط عدة واليات إسالمية‬
‫أخرى بعدها‪ ،‬إال أن الدينار بقي مُتداوال ً ومنترشا ً عىل نطاق واسع يف املناطق اإلسالمية‬
‫بوزن وحجم البيزنت األصليني‪ ،‬وهو يُستخدم حتى يومنا هذا كمهر للزواج‪ ،‬وللهدايا‬
‫وباملناسبات الدينية والتقليدية‪ .‬لكن عىل عكس الرومان والبيزنطيني‪ ،‬لم يكن انهيار‬
‫الحضارات العربية واإلسالمية مرتبطا بانهيار عملتهم‪ ،‬حيث أنهم حافظوا عىل سالمة‬
‫ص ًّكها ديوكلتانيوس أول مرة عام ‪،301‬‬ ‫عمالتهم لقرون‪ .‬فالصوليدوس وهو العملة التي َ‬
‫تم تغيري اسمها إىل البيزنت والدينار اإلسالمي‪ ،‬ولكن تداولها مستمر إىل يومنا هذا‪.‬‬
‫واستخدم الناس هذه العملة للتداوالت يف جميع أنحاء العالم ملدة سبعة عرش قرناً‪ ،‬معزز ًة‬
‫بذلك قابلية بيع الذهب عرب الزمن‪.‬‬

‫عرص النهضة‬
‫بعد االنهيار االقتصادي والعسكري لإلمرباطورية الرومانية‪ ،‬ظهرت اإلقطاعية كأسلوب‬
‫رئييس لتنظيم املجتمع‪ ،‬فدمار النقد السليم كان أمرا ً محوريا ً يف تحويل مواطني‬

‫‪ 7‬كتاب ديفيد لوسكومب وجونثان رايلي مسيث‪ ،‬اتريخ كامربيدج اجلديد للعصور الوسطى‪ :‬اجمللد الرابع‪ ،‬بني‬
‫عامي ‪( 1198-1024‬مطبعة جامعة كامربيدج‪ ،)2004 ،‬الصفحة ‪.225‬‬

‫‪32‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫اإلمرباطورية الرومانية إىل عبيد لألرض يعملون تحت رحمة أسيادهم املحليني‬
‫ُركزا ً بني أيادي األسياد اإلقطاعيني‪ ،‬وكانت القطع النقدية‬
‫اإلقطاعيني‪ .‬فلقد كان الذهب م َّ‬
‫الرئيسني من النقد املُتاحَ ني للفالحني يف أوروبا يف ذلك‬
‫َ‬ ‫النحاسية والربونزية هما الشكلَني‬
‫الوقت‪ ،‬وكان تضخيم عرضهما أمرا ً سهال ً بحيث أصبح إنتاج هذه املعادن أكثر سهولة‬
‫مع تقدم علم وصناعة املعادن‪ ،‬مما جعلها مخزونا ً سيئا ً للقيمة‪ .‬يُضاف إىل ذلك أن‬
‫العمالت الفضية كان عاد ًة يتم تخفيض قيمتها ويتم َغ ُّشها‪ ،‬كما أنها لم تكن وحدة‬
‫معيارية يف جميع أنحاء القارة‪ ،‬مما منحها قابلية بيع ضعيفة عرب األماكن وحَ َّد من نطاق‬
‫التجارة عرب القارة‪.‬‬

‫فلقد دمّ ر التضخم والرضائب ثروات ومدخرات شعوب أوروبا‪ ،‬فنشأت أجيال‬
‫جديدة من األوروبيني دون ثروة مرتاكمة موروثة من أجدادهم‪ .‬كما أ َّن غياب وجود عملة‬
‫معيارية نقدية سليمة مقبولة عىل نطاق واسع ح َّد وبشكل كبري من نطاق التجارة‪ ،‬وأغلق‬
‫املجتمعات عن بعضها البعض‪ ،‬وعزز النزعات املحلية للمجتمعات التي كانت بالسابق‬
‫مجتمعات تجارية وحضارية مزدهرة‪ ،‬لتَسقط هذه املجتمعات إىل عصور مظلمة من‬
‫العبودية‪ ،‬واألمراض‪ ،‬واالنغالق الفكري واالضطهاد الديني‪.‬‬

‫ُعرف باسم "مدن الدول" بنقل أوروبا من العصور املظلمة‬ ‫وقد قام ظهور ما ي َ‬
‫إىل عرص النهضة وهذا أمر معرتف به عىل نطاق واسع‪ ،‬لكن دور النقد السليم يف هذه‬
‫ظى بما يكفي من االعرتاف والتقدير‪ .‬فقد كان بوسع البرش يف مدن الدول‬ ‫النهضة ال يَح َ‬
‫العيش بحرية من أجل العمل‪ ،‬واإلنتاج‪ ،‬والتجارة واالزدهار وكان هذا نتيجة لتبني هذه‬
‫املدن معيارا ً نقديا ً سليما ً إىل حد كبري‪ .‬وقد بدأ األمر كله يف "فلورنسا" عام ‪ ،1252‬عندما‬
‫ص ُّكها منذ عملة‬
‫ص َّكت املدينة عملة "الفلورين"‪ ،‬وهي أول عملة أوروبية سليمة مهمة تم َ‬
‫يوليوس قيرص الذهبية‪ .‬فنهضة فلورنسا جعلت منها مركز أوروبا التجاري‪ ،‬حيث‬
‫أصبحت عملتها الفلورين الوسيط األوروبي الرئييس للتبادل‪ ،‬مما سمح ملصارفها‬
‫باالزدهار عىل امتداد القارة بأكملها‪ .‬وكانت "فينيسيا" أول من حذا حذو فلورنسا يف‬
‫صك عملة "الدوكات" بنفس مواصفات الفلورين يف عام ‪ .1270‬وبحلول نهاية القرن‬
‫الرابع عرش‪ ،‬رشعت أكثر من ‪ 150‬مدينة ودولة أوروبية بصك عمالت معدنية بنفس‬
‫مواصفات الفلورين‪ ،‬مما أعطى ملواطنيها الكرامة وحرية جمع الثروة واملتاجرة‬

‫‪33‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫باستخدام نقد سليم ذي قابلية بيع مرتفعة عرب الزمن واألماكن‪ ،‬حيث كان يمكن‬
‫تقسيمها إىل عمالت معدنية صغرية‪ ،‬مما َسهَّ ل قابلية التجزئة الخاصة بها‪ .‬ومع التحرر‬
‫االقتصادي للفالحني األوروبيني؛ ظهر االزدهار السيايس‪ ،‬والعلمي‪ ،‬والفكري‪ ،‬والثقايف‬
‫للمدن اإليطالية املستقلة‪ ،‬والذي انترش فيما بعد إىل جميع أنحاء القارة األوروبية‪ .‬فسواء‬
‫أكان يف روما‪ ،‬أو القسطنطينية‪ ،‬أو فلورنسا أو البندقية‪ ،‬يُظهر التاريخ أن معيار النقد‬
‫السليم هو رشط رضوري الزدهار اإلنسان‪ ،‬ألنه ومن دونه سيقف املجتمع عىل حافة‬
‫الهمجية والدمار‪.‬‬

‫أن الفرتة التي تلت ظهور الفلورين شهدت تحسنا ً يف سالمة‬ ‫وعىل الرغم من َّ‬
‫النقد من حيث تزايد أعداد األوروبيني القادرين عىل تبني الذهب والفضة لالدخار‬
‫وسع مدى األسواق إىل جميع أنحاء أوروبا والعالم‪ ،‬إال أن الوضع لم يكن‬ ‫والتجارة‪ ،‬وتَ ّ‬
‫مثاليا ً عىل اإلطالق‪ .‬فقد كان هناك العديد من الفرتات التي قام فيها بعض امللوك بخفض‬
‫قيمة عملة شعبهم لتمويل الحروب أو لإلنفاق بشكل مُبذِّر‪ .‬وبحكم أنهما استُخدما‬
‫بشكلهما املادي‪ ،‬ك َّمل الذهب والفضة أحدهما اآلخر‪ :‬فنسبة املخزون إىل التدفق املرتفعة‬
‫للذهب جعلته مثاليا ً كمخزون للقيمة طويل األمد‪ ،‬وجعلته وسيلة للدفعات الكبرية‪ ،‬ولكن‬
‫القيمة املنخفضة للفضة لكل وحدة وزن َسهَّ لت تقسيمها إىل كميات مالئمة للتبادالت‬
‫الصغرية ولالمتالك لفرتات أقرص‪ .‬ورغم فوائد هذا الرتتيب‪ ،‬إال أنه يحوي عيبا ً جسيماً‪:‬‬
‫فتَقلُّب سعر الرصف بني الذهب والفضة أدى إىل مشاكل يف التجارة والحسابات‪ ،‬وآلت‬
‫محاوالت تثبيت سعر العملتني فيما بينهما بالفشل‪ ،‬ولكن انترصت أفضلية الذهب النقدية‬
‫بنهاية املطاف‪.‬‬

‫فعندما كان امللوك يحددون سعر الرصف بني سلعتني‪ ،‬فإنهم كانوا ي ِّ‬
‫ُغريون‬
‫حوافز املالكني القتناء أو إنفاق هاتني السلعتني‪ .‬ولقد استمر هذا النظام غري املناسب‬
‫لتثبيت السعر لعدة قرون يف أوروبا والعالم‪ .‬ولكن كما هو الحال مع االنتقال من امللح‪،‬‬
‫واملاشية واألصداف إىل املعادن‪ ،‬أَمَّن التقدم التكنولوجي الحثيث حال ً لهذا األمر‪.‬‬

‫فهناك تقدمان تكنولوجيان مُحدَّدان قاما بنقل أوروبا والعالم بعيدا ً عن‬
‫العمالت املعدنية املادية وبالتايل ساعدا عىل إنهاء الدور النقدي للفضة‪ :‬وهما التلغراف‪،‬‬

‫‪34‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫والذي نُرش تجاريا ً ألول مرة عام ‪ ،1837‬وشبكة القطارات املتزايدة والتي سمحت‬
‫بالتنقل عرب أوروبا‪ .‬ف ِبفضل هذين االبتكارين‪ ،‬أصبح بإمكان املصارف التواصل مع‬
‫بعضها أكثر وبشكل أسهل من ذي قبل‪ ،‬وذلك بإرسال الدفعات بفاعلية عرب األماكن عند‬
‫الحاجة‪ ،‬وتقييد الحسابات بدال ً من إرسال مدفوعات مادية‪ .‬فأدى هذا األمر إىل زيادة‬
‫استخدام الفواتري‪ ،‬والشيكات واإليصاالت الورقية كوسائط نقدية بدال ً من العمالت املادية‬
‫الذهبية والفضية‪.‬‬

‫وبدأت دول أخرى باالنتقال إىل معيار نقدي من أوراق مدعومة بالكامل‬
‫بمعادن ثمينة محفوظة يف الخزائن‪ ،‬وكانت هذه األوراق قابلة لالستبدال والتحويل‬
‫وبشكل فوري‪ .‬فاختارت بعض الدول الذهب واختارت غريها الفضة‪ ،‬وكان هذا قرارا ً‬
‫مصرييا ً ترتَّبت عليه عواقب وخيمة‪ .‬فكانت بريطانيا أول من اعتمد معيارا ً ذهبيا ً حديثا ً يف‬
‫عام ‪ِ ،1717‬وفقا ً لتوجيه عالم الفيزياء "إسحاق نيوتن"‪ ،‬الذي كان حامي دار الصك‬
‫ا َمللكية‪ ،‬ولعب املعيار الذهبي دورا ً كبريا ً يف نرش تجارتها عرب إمرباطوريتها حول العالم‪.‬‬
‫وبقيت بريطانيا تحت املعيار الذهبي حتى عام ‪ ،1914‬عىل الرغم من أنها قامت بتعليقه‬
‫خالل حروب "نابليون" من ‪ 1797‬إىل ‪ .1821‬فالتفوق االقتصادي لربيطانيا كان‬
‫مرتبطا ً بشكل معقد باستخدامها معيارا ً نقديا ً متفوقاً‪ ،‬وبدأت تتبعها دول أوروبية‬
‫وبرشت نهاية الحروب ببداية العرص الذهبي ألوروبا‪ ،‬حيث بدأت الدول األوروبية‬ ‫أخرى‪ّ .‬‬
‫الكربى يف تبني املعيار الذهبي واحدة تلو األخرى‪ .‬وكلما تَبن َّت دول أكثر املعيار الذهبي‬
‫رسمياً‪ ،‬أصبح الذهب األكثر قابلية للتداول‪ ،‬وزاد حافز الدول األخرى لالنضمام إليه‪.‬‬

‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬وبدال ً من أن يضطر األفراد إىل حمل عمالت ذهبية وفضية‬
‫للمعامالت الكبرية والصغرية‪ ،‬أصبح بإمكانهم اآلن تخزين ثرواتهم بالذهب يف املصارف‬
‫واستخدام إيصاالت ورقية‪ ،‬وفواتري وشيكات لتسديد الدفعات املتنوعة‪ .‬ويمكن لحاميل‬
‫ُ‬
‫املصارف‬ ‫صمت‬‫اإليصاالت الورقية استخدامها للدفع ولكن بأنفسهم فقط؛ حيث َخ َ‬
‫الفواتريَ واستخدمتها لتصفية الحسابات‪ ،‬وأصبح باإلمكان أيضا ً رصْ ف الشيكات من‬
‫املصارف التي أصدرتها‪ .‬إن هذا األمر قام بحل مشكلة قابلية بيع الذهب يف مختلف‬
‫املقاييس‪ ،‬مما جعل الذهب أفضل وسيط نقدي – هذا يف حال لم تَ ِزد املصارف التي‬
‫تُخ ِّزن ذهب الناس من عرض األوراق التي أصدرتها كإيصاالت‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ومع تغطية هذه الوسائط بالذهب املادي املوجود يف الخزائن‪ ،‬والسماح‬


‫باملدفوعات بمختلف أحجامها‪ ،‬لم تَعد هناك حاجة حقيقية لدور الفضة يف الدفعات‬
‫الصغرية‪ .‬فتُعترب نهاية الحرب الفرنسية الربوسية ناقوس فناء الدور النقدي للفضة‪،‬‬
‫وذلك عندما انتزعت أملانيا من فرنسا تعويضا ً من الذهب بقيمة ‪ 200‬مليون جنيه‬
‫إسرتليني‪ ،‬واستخدمته لالنتقال إىل املعيار الذهبي‪ .‬وبعد انضمام أملانيا لربيطانيا‪ ،‬اتجهت‬
‫فرنسا‪ ،‬وهولندا‪ ،‬وسويرسا‪ ،‬وبلجيكا وغريهم إىل استخدام املعيار الذهبي‪َ ،‬فمَ ا َل النظام‬
‫النقدي اتجاه الذهب بشكل حاسم‪ ،‬مما جعل األفراد والدول التي تستعمل الفضة حول‬
‫العالم تشهد خسارة تصاعدية لقواهم الرشائية‪ ،‬وأعطاهم حافزا ً أقوى لالنتقال إىل‬
‫الذهب‪ .‬وأخريا ً بدأت الهند باستخدام الذهب بدال ً من الفضة عام ‪ ،1898‬يف حني كان‬
‫اقتصاد الصني وهونغ كونغ آخر اقتصادَين يف العالم يهجران املعيار الفيض يف عام‬
‫‪.1935‬‬

‫فلقد أدى كل من الذهب والفضة دورا ً نقديا ً طوال املدة التي تم استخدامهما‬
‫فيها للدفع املبارش‪ ،‬بحيث ظ َّل السعر النسبي بينهما ثابتا ً إىل حد كبري مع مرور الوقت‬
‫بمعدل يرتاوح بني ‪ 12‬و‪ 15‬أونصة من الفضة لكل أونصة ذهب‪ ،‬وهو معدل قريب من‬
‫ندرتهما النسبية يف قرشة األرض وللصعوبة والتكلفة النسبية الستخراجهما‪ .‬ولكن مع‬
‫ازدياد شعبية األدوات واألوراق املالية املدعومة من قبل هذَين املع َدنَني‪ ،‬لم يعد هناك مربر‬
‫للدور النقدي للفضة‪ ،‬فانتقل األفراد والدول إىل استخدام الذهب‪ ،‬مما أدى إىل انهيار كبري‬
‫يف سعر الفضة‪ ،‬يصعب التعايف منه‪ .‬وكان متوسط النسبة بني املعدنني عىل مدار القرن‬
‫العرشين ‪ ،47:1‬ويف عام ‪ ،2017‬تَ َّ‬
‫وقف عند ‪ .75:1‬ويف حني أن َّه ال يزال للذهب دورا ً نقديا ً‬
‫أن الفضة قد خرست‬ ‫يؤديه كما هو ظاهر من تخزين البنوك املركزية له‪ ،‬فإنه يُعتَقد َّ‬
‫دورها النقدي‪( .‬انظر الشكل ‪.)3‬‬

‫ولقد كان إللغاء الدور النقدي للفضة تأثري سلبي جسيم عىل الدول التي كانت‬
‫تستخدمه كمعيار نقدي يف ذلك الوقت‪ .‬فشهدت الهند انخفاضا ً مستمرا ً يف قيمة‬
‫"الروبية" مقارنة بالدول األوروبية التي اعتمدت الذهب‪ ،‬مما دفع بالحكومة االستعمارية‬
‫الربيطانية إىل زيادة الرضائب لتمويل عملياتها‪ ،‬األمر الذي أدى إىل تزايد االضطرابات‬
‫واالستياء من االستعمار الربيطاني‪ .‬وعندما انتقلت الهند إىل دعم الروبية بالجنيه‬

‫‪36‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫الشكل ‪ :3‬سعر الذهب ألوقيات الفضة‪2017–1687 ،‬‬

‫اإلسرتليني املدعوم بالذهب يف عام ‪ ،1898‬كانت الفضة والتي هي تدعم الروبية الهندية‬
‫قد خرست ‪ %56‬من قيمتها خالل السنوات السبع وعرشين بعد نهاية الحرب الفرنسية‬
‫الربوسية‪ .‬أما بالنسبة إىل الصني‪ ،‬والتي بقيت عىل املعيار الفيض حتى عام ‪ ،1935‬فقد‬
‫خرست فضتها (بأسماء وأشكال مختلفة) ‪ %78‬من قيمتها خالل تلك الفرتة‪ .‬ويرى‬
‫املؤلف أ َّن تاريخ الصني والهند‪ ،‬وفشلهما يف اللحاق بالغرب خالل القرن العرشين‪،‬‬
‫مرتبطان ارتباطا ً وثيقا ً بهذا الدمار الهائل للثروة ورأس املال الناتج عن إلغاء الصفة‬
‫النقدية للمعدن النقدي الذي استخدمته هاتان الدولتان‪ .‬بالتايل‪ ،‬إن إلغاء الصفة النقدية‬
‫للفضة قد وضع الصينيني والهنود يف موضع مماثل لألشخاص الذين كانوا يمتلكون‬
‫الخرز الزجاجي يف غرب أفريقيا عندما وصل األوروبيون‪ :‬فالنقد املحيل الصعب كان نقدا ً‬
‫سهال ً بالنسبة إىل األجانب‪ ،‬وبالتايل فإن هذا النقد األجنبي كان يقوم بإقصاء هذا النقد‬
‫املحيل‪ ،‬مما سمح لألجانب بالتحكم وامتالك كميات متزايدة من رأس املال واملوارد‬
‫املوجودة يف الصني والهند خالل تلك الفرتة‪ .‬ويُع ُّد هذا درسا ً تاريخيا ً بالغ األهمية‪ ،‬ويجب‬
‫أن يُؤخذ بعني االعتبار من قِ ب َِل أي شخص يعتقد أن رفضه للبيتكوين يعني أنه غري‬

‫‪37‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫مضطر الستخدامه‪ .‬فيُبني لنا التاريخ أنه ليس باإلمكان عزل نفسك عن عواقب امتالك‬
‫اآلخرين لنقد أكثر صعوبة من نقدك‪.‬‬
‫ً‬
‫قابلية للبيع عرب الزمن‪ ،‬واملقاييس‪ ،‬واملوقع أثناء تزايد‬ ‫فلقد اكتسب الذهب‬
‫وجوده بني أيدي البنوك املركزية‪ ،‬لكنه فقد ميزته كنقد‪ ،‬مما جعل املدفوعات باستخدامه‬
‫صفي الشيكات‬ ‫صدِر اإليصاالت‪ ،‬وتُ ِّ‬
‫أمرا ً يخضع ملوافقة السلطات املالية والسياسية التي ت ُ ْ‬
‫وتُخ ِّزن الذهب‪ .‬فكانت مأساة الذهب متمثلة يف أنه لم يتمكن من حل مشاكل قابلية البيع‬
‫عرب الزمن واملقاييس واألماكن إال بأن يكون مركزيا ً‪ ،‬ويصبح بالتايل فريسة للمشكلة‬
‫الرئيسية للنقد السليم والتي أكد عليها اقتصاديو القرن العرشين‪ :‬وهي سيطرة الفرد‬
‫عىل النقد ومقاومته للسيطرة املركزية الحكومية‪ .‬وبالتايل أصبح بوسعنا فهم سبب تركيز‬
‫اقتصاديي النقد السليم يف القرن التاسع عرش أمثال "مينجر" عىل فهم تأثري سالمة النقد‬
‫عىل قابليته للبيع كسلعة سوقية‪ ،‬يف حني رك ّز اقتصاديو النقد السليم يف القرن العرشين‬
‫أمثال "ميزس"‪ ،‬و"هايك"‪ ،‬و"روثبارد" و"سالرينو"‪ ،‬تحليلهم عىل تأثري سالمة النقد‬
‫عىل مقاومته لسيطرة الحكام‪ .‬وبما أن نقطة ضعف نقد القرن العرشين كانت هي‬
‫تمركزه يف أيدي الحكومات‪ ،‬فسنرى الحقا ً كيف أن النقد الذي تم اخرتاعه يف القرن‬
‫الواحد والعرشين‪ ،‬وهو البيتكوين‪ ،‬كان مُصمَّما ً بشكل أسايس لتجنب السيطرة املركزية‪.‬‬

‫العرص اجلميل‬
‫إن نهاية الحرب الفرنسية الربوسية عام ‪ ،1871‬وما ترتب عىل ذلك من تَحوُّل جميع‬ ‫َّ‬
‫القوى األوروبية الكربى إىل معيار نقدي واحد‪ ،‬وتحديدا ً الذهب‪ ،‬قد أدت إىل خلق فرتة من‬
‫االزدهار والرخاء تزيدنا إذهاال ً مع مرور الوقت وحتى بإعادة النظر إليها‪ .‬ويمكن االدِّعاء‬
‫أن القرن التاسع عرش ‪ -‬وال سيما النصف الثاني منه – كان أعظم فرتة شهدها العالم من‬
‫االزدهار البرشي واالبتكارات واإلنجازات‪ ،‬والدور النقدي للذهب كان محوريا ً فيها‪ .‬فمع‬
‫تزايد عملية إبطال الصفة النقدية للفضة ولوسائط التبادل األخرى‪ ،‬استَخدمت غالبية‬
‫الكوكب املعيار النقدي الذهبي نفسه‪ ،‬مما سمح بتطور االتصاالت والنقل وشجَّ ع عىل‬
‫جمع رأس مال عاملي وتجارة لم يسبق لها مثيل‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫ولقد كانت العمالت تختلف عن بعضها باختالف وزن الذهب املادي لكل منها‪،‬‬
‫وكان سعر الرصف بني عملتي دولتني هو التحويل البسيط بني وحدات الوزن املختلفة‪،‬‬
‫أو ببساطة مثل عملية تحويل اإلنش إىل سنتيمرت‪ .‬ف ُحدِّد الجنيه الربيطاني ب ِـ ‪ 7.3‬جرام‬
‫من الذهب‪ ،‬بينما كان الفرنك الفرنيس ‪ 0.29‬جراما ً من الذهب‪ ،‬واملارك األملاني ‪0.36‬‬
‫جرام‪ ،‬أي أن سعر الرصف بينها كان ثابتا ً بالرضورة عىل ‪ 26.28‬فرنكا ً فرنسيا ً و‪24.02‬‬
‫ماركا ً أملانيا ً لكل جنيه‪ .‬وبنفس الطريقة التي تُستخدم فيها الوحدات املرتية واإلمربالية‬
‫لقياس الطول األسايس‪ ،‬فإن العمالت الوطنية كانت مجرد طريقة لقياس القيمة‬
‫االقتصادية مُمثَّلة بمخزون القيمة العاملي أال وهو الذهب‪ .‬ولقد كانت العمالت املعدنية‬
‫الذهبية لبعض ا لبلدان قابلة للبيع إىل حد ما يف بلدان أخرى‪ ،‬وذلك ألنها كانت مصنوعة‬
‫من الذهب‪ .‬فلم يكن عرض النقد يف كل بلد مقياسا ً تُحدده لجان تخطيط مركزية تمتلئ‬
‫بحاميل شهادات الدكتوراة‪ ،‬بل كان هذا العرض يُحدَّد بالعمل الطبيعي لنظام السوق‪.‬‬
‫القد َر الذي يشاؤون من النقد وإنفاق َ‬
‫القد َر الذي يحلو لهم عىل‬ ‫فاستطاع الناس امتالك َ‬
‫املنتجات املحلية أو األجنبية‪ ،‬ولم يكن العرض النقدي الفعيل قابالً للقياس بسهولة‪.‬‬

‫فسالمة النقد انعكست يف التجارة الحرة عرب العالم‪ ،‬ولكن ربما كان األهم من‬
‫ذلك هو تزايد معدالت االدخار يف معظم املجتمعات املتقدمة التي كانت تعتمد املعيار‬
‫الذهبي‪ ،‬مما سمح برتاكم رأس املال لتمويل التصنيع‪ ،‬والتحرض‪ ،‬والتقدم التكنولوجي‬
‫الذي َش َّكل حياتنا الحديثة‪( .‬انظر الجدول ‪ .)81‬وبحلول عام ‪ ،1900‬اعتمدت حوايل ‪50‬‬
‫دولة معيار الذهب رسمياً‪ ،‬وشمل ذلك جميع الدول الصناعية‪ ،‬وكانت القطع النقدية‬
‫الذهبية تُستخدَم كوسيط أسايس للتبادل يف الدول التي لم تعتمد معيار الذهب رسميا ً‬
‫بعد‪ .‬ولقد تم اخرتاع بعض من أهم اإلنجازات التقنية‪ ،‬والطبية‪ ،‬واالقتصادية والفنية‬
‫خالل عرص املعيار الذهبي‪ ،‬وهذا ما يفرس جزئيا ً ملاذا عُ رفت تلك الحقبة باسم " ‪la belle‬‬
‫‪ "époque‬أو العرص الجميل يف جميع أنحاء أوروبا‪ .‬فلقد شهدت بريطانيا ذروة سنوات‬
‫السالم النسبي بني القوى العظمى‪ ،‬حيث توسعت اإلمرباطورية الربيطانية يف جميع أنحاء‬
‫العالم دون التورط يف رصاعات عسكرية كبرية‪ .‬وعندما انطلقت الكاتبة األمريكية "نييل‬
‫بالي" عام ‪ 1899‬يف رحلة غري مسبوقة حول العالم يف مدة ‪ 72‬يوماً‪ ،‬حملت معها عمالت‬

‫‪ 8‬املصدر‪.2001 ،Lips :‬‬

‫‪39‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ذهبية بريطانية وأوراقا ً مرصفية من مرصف إنجلرتا‪ 9.‬فكان باإلمكان اإلبحار حول العالم‬
‫واستخدام شكل واحد من النقد يف كل األماكن التي زارتها نييل‪.‬‬

‫ُعرف باسم العرص الذهبي يف الواليات املتحدة‪ ،‬حيث ازدهر‬ ‫وكان هذا العرص ي َ‬
‫النمو االقتصادي بعد استعادة املعيار الذهبي عام ‪ 1879‬عقب الحرب األهلية األمريكية‪.‬‬
‫ويُذكر أن املعيار الذهبي توقف مرة واحدة فقط يف حادثة من الجنون النقدي‪ ،‬والتي‬
‫عَ نَت بشكل فعال احتضار وموت الفضة كعملة نقدية‪ ،‬وكان ذلك عندما حاولت وزارة‬
‫الخزانة األمريكية إعادة التعامل بالفضة بتعيينها كنقد‪ ،‬وهذا ما سيُناقش يف الفصل‬
‫السادس‪ .‬فلقد تسبَّب ذلك األمر يف زياد ٍة كبرية يف العرض النقدي‪ ،‬والذعر املرصيف من‬
‫قبل أولئك الذين يسعون إىل بيع أوراق الخزانة النقدية والفضة لقاء الذهب‪ .‬وكانت‬
‫النتيجة ركود يف عام ‪ ،1893‬والذي استَأنف االقتصاد من بعده نموَّه يف الواليات املتحدة‪.‬‬

‫إن الفرتة التي استَخدم فيها معظم العالم وحدة نقدية سليمة واحدة هي فرتة‬
‫لم نشهد مثلها عىل مر األزمان من ناحية تراكم رأس املال‪ ،‬والتجارة العاملية‪ ،‬وتقييد‬
‫الحكومات وتغيري مستويات املعيشة‪ .‬فلم تكن األنظمة االقتصادية الغربية أكثر حرية يف‬
‫ذلك الوقت فحسب‪ ،‬بل كانت املجتمعات نفسها أكثر حرية أيضاً‪ .‬وكان لدى الحكومات‬
‫عدد قليل جدا ً من البريوقراطيات والتي ركزت عىل اإلدارة الدقيقة والتفصيلية لحياة‬
‫املواطنني‪ ،‬وكما وصفها "ميزس"‪:‬‬

‫كان املعيار الذهبي هو املعيار العاملي لعرص الرأسمالية‪ ،‬والذي أدى إىل زيادة‬
‫الرفاهية‪ ،‬والحرية والديمقراطية سواء من الناحية السياسية أو االقتصادية‪.‬‬
‫ويف نظر التُجَّ ار األحرار‪ ،‬إن ِ‬
‫السمة األساسية لهذا املعيار تمثلت بحقيقة كونه‬
‫معيارا ً دوليا ً مطلوبا ً للتجارة الدولية وتحويالت األموال الدولية واألسواق‬
‫الرأسمالية‪ .‬ولقد كان هذا املعيار وسيط التبادل الذي استخدمته الثورة‬
‫الصناعية الغربية ورأس املال الغربي يف نقل الحضارة الغربية إىل أقىص بقاع‬
‫األرض‪ ،‬لتُد ِّمر بذلك يف كل مكان قيود وتحيزات وخرافات العالم القديم‪ ،‬وتزرع‬

‫‪9‬نيلي بالي‪ ،‬رحلة حول العامل يف ‪ 72‬يوماً‪( .‬نيويورك‪ :‬اجمللة األسبوعية‪.)1890 ،‬‬

‫‪40‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫العملة‬ ‫الفرتة حتت معيار الذهب‬ ‫األعوام‬


‫الفرنك الفرنسي‬ ‫‪1814–1914‬‬ ‫‪100‬‬
‫الغيلدر اهلولندي‬ ‫‪1816–1914‬‬ ‫‪98‬‬
‫اجلنيه اإلسرتليين‬ ‫‪1821–1914‬‬ ‫‪93‬‬
‫الفرنك السويسري‬ ‫‪1850–1936‬‬ ‫‪86‬‬
‫الفرنك البلجيكي‬ ‫‪1832–1914‬‬ ‫‪82‬‬
‫الكروان السويدية‬ ‫‪1873–1931‬‬ ‫‪58‬‬
‫املارك االملاين‬ ‫‪1875–1914‬‬ ‫‪39‬‬
‫اللرية اإليطالية‬ ‫‪1883–1914‬‬ ‫‪31‬‬

‫الجدول ‪ :1‬الفرتات االقتصادية األوروبية الرئيسية بموجب املعيار الذهبي‬

‫بذور حياة ورفاهية جديدة‪ ،‬وتُح ِّرر العقول واألرواح‪ ،‬وتخلق ثروات لم يُعرف‬
‫عنها من قبل‪ .‬وقد قام بمرافقة التقدم الناجح غري املسبوق لليربالية الغربية‪،‬‬
‫وكان جاهزا ً لتوحيد جميع الدول يف مجتمع من الدول الحرة التي تتعاون فيما‬
‫بينها سلميا ً‪ .‬فأصبح من السهل علينا فهم اعتبار الناس املعيار الذهبي رمزا ً‬
‫لهذا التغيري األكرب واألعم فائدة من بني كل التغيريات التاريخية‪.‬‬

‫ولقد انهار هذا العالم يف عام ‪ 1914‬الكارثي‪ ،‬والذي لم تندلع فيه الحرب‬
‫العاملية األوىل فحسب‪ ،‬بل كان هو العام الذي تَخلَّت فيه األنظمة االقتصادية الكربى يف‬
‫يبق سوى سويرسا‬ ‫العالم عن املعيار الذهبي واستبدلته بنقد حكومي غري سليم‪ .‬ولم َ‬
‫والسويد من الدول التي بقيت عىل الحياد خالل الحرب العاملية األوىل عىل املعيار الذهبي‬
‫وحتى ثالثينيات القرن العرشين‪ ،‬حيث بدأ عرص النقد الذي تسيطر عليه الحكومة عامليا ً‬
‫بعد ذلك‪ ،‬صاحبا ً معه عواقب وخيمة وكارثية مطلقة‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫وعىل الرغم من اعتباره أقرب ما شهده العالم للنقد املثايل السليم‪ ،‬إال أن املعيار‬
‫الذهبي يف القرن التاسع عرش كان له عيوب‪ .‬أوالً‪ ،‬كانت الحكومات واملصارف تستحدث‬
‫دائما ً وسائط للتبادل تتجاوز كميتها مخزون الذهب االحتياطي الذي لديها‪ .‬ثانياً‪ ،‬لم‬
‫تستخدم العديد من الدول الذهب وحده يف احتياطاتها‪ ،‬بل استخدمت أيضا ً عمالت بلدان‬
‫أخرى‪ .‬فربيطانيا التي كانت القوة العاملية العظمى آنذاك استفادت من استخدام نقدها‬
‫كعملة احتياطية يف جميع أنحاء العالم‪ ،‬مما جعل احتياطها من الذهب جزءا ً صغريا ً من‬
‫عرضها النقدي املذهل‪ .‬ومع نمو التجارة الدولية والتي تعتمد عىل تسوية كميات كبرية‬
‫من النقود عرب أنحاء العالم‪ ،‬كانت األوراق النقدية ملرصف إنكلرتا ووفقا ً لرأي الكثريين يف‬
‫أن األدوات‬‫ذلك الوقت "بجودة الذهب"‪ .‬ويف حني كان الذهب نقدا ً صعبا ً للغاية‪ ،‬إال َّ‬
‫املستخدمة لتسوية الدفعات بني البنوك املركزية والتي يمكن تحويلها ظاهريا ً لذهب‪،‬‬
‫انتهى بها األمر فعليا ً ليصبح إنتاجها أسهل من إنتاج الذهب‪.‬‬

‫إن وجود هذَين العَ يبني يعني أن املعيار الذهبي كان دائما ً عرضة لنفاد الذهب‬
‫يف أي بلد قد تدفع ظروفه نسبة كبرية من السكان إىل املطالبة باستبدال نقودهم الورقية‬
‫بالذهب‪ .‬فالعيب القاتل للمعيار الذهبي يف صميم هاتني املشكلتني تَمثَّل بتسوية الذهب‬
‫البطيئة‪ ،‬واملكلفة وغري اآلمنة‪ ،‬مما يعني أن احتياطي الذهب املادي يجب أن يتم تركيزه يف‬
‫مواقع قليلة‪ -‬املصارف والبنوك املركزية ‪ -‬مما جعله عرضة الستيالء الحكومات عليه‪.‬‬
‫فبعد أن أصبح عدد الدفعات والتسويات التي يتم اجرائها بالذهب املادي جزءا ً صغريا ً‬
‫للغاية من كل الدفعات‪ ،‬استطاعت املصارف والبنوك املركزية التي تملك الذهب أن‬
‫تستحدث نقدا ً غري مدعوم من قِ بل ذهب مادي واستخدمته للتسوية‪ ،‬بحيث أصبحت‬
‫شبكة التسوية ذات قيمة كافية لتُم ِّكن من تحويل رصيد مالكيها بشكل فعال إىل نقد‪.‬‬
‫فانجذبت الحكومات بشكل طبيعي إىل االستيالء عىل القطاع املرصيف من خالل البنوك‬
‫املركزية‪ ،‬خصوصا عندما أصبحت إدارة املصارف تعني استحداث النقد‪ .‬ولقد كان‬
‫اإلغراء قويا ً جداً‪ ،‬ولم تستطع الثروة املالية الالمحدودة واملضمونة إسكات املخالفني‬
‫بالرأي فحسب‪ ،‬بل مَوَّلت أيضا ً املروجني لتسويق هذه األفكار‪ .‬فلم يُقدِّم الذهب أية آلية‬
‫لحد وضبط الحُ َّكام‪ ،‬واضطر إىل االعتماد عىل الثقة بهم بأال يسيئوا استخدام املعيار‬
‫الذهبي‪ ،‬وعىل بقاء السكان يف حالة حذر دائم ملنعهم من فعل هذا‪ .‬ولربما كان هذا ممكنا ً‬

‫‪42‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫عندما كان السكان عىل درجة عالية من التعليم واملعرفة بمخاطر النقد غري السليم‪ ،‬ولكن‬
‫مع وجود الرضا الذاتي الفكري لكل جيل جديد والذي يرافقه الثروة عادة‪ 10،‬أصبحت‬
‫مقاومة حِ يَل االقتصاديني املحتالني ومهرجي البالط أصعب عىل الشعب‪ ،‬تاركة قلة فقط‬
‫من االقتصاديني واملؤرخني واسعي املعرفة ليحاربوا يف معركة شاقة إلقناع الناس بأن‬
‫التالعب بالعرض النقدي ال يُولِّد الثروة‪ ،‬وأ َّن السماح للحكام بالسيطرة عىل النقد لن‬
‫يؤدي بهم إال إىل زيادة سيطرتهم عىل حياة الجميع‪ ،‬وأن املعيشة البرشية املتحرضة‬
‫تعتمد عىل نزاهة النقد الذي يُو ِّفر أساسا ً متينا ً للتجارة وجمع رأس املال‪.‬‬

‫فمركزية الذهب جعلت منه عرضة الستيالء أعدائه عىل دوره النقدي‪ ،‬وببساطة‬
‫للذهب الكثري من األعداء‪ ،‬كما أدرك ميزس ذلك جيدا ً‪:‬‬

‫فيحارب القوميون املعيار الذهبي ألنهم يريدون فصل بالدهم عن السوق‬


‫العاملية وبناء اكتفاء ذاتي وطني قدر اإلمكان‪ ،‬وتحارب الحكومات التَّ ُّ‬
‫دخليَّة‬
‫ومجموعات الضغط املعيا َر الذهبي ألنها تعتربه أخطر عقبة أمام مساعيهم‬
‫تعصبا ً ضد الذهب‬ ‫ُّ‬ ‫للتالعب باألسعار ومعدالت األجور‪ ،‬ولكن أكثر الهجمات‬
‫ك انت من قبل أولئك الذين يخططون لتوسيع االئتمان‪ ،‬فالتوسع االئتماني‬
‫‪11‬‬
‫بالنسبة إليهم هو الدواء الشايف لجميع األمراض االقتصادية‪.‬‬

‫فاملعيار الذهبي يتنزع من الساحة السياسية تحديد القوة الرشائية لهذا النقد‪،‬‬
‫ويتطلب قبوله العام االعرتاف بحقيقة أنه ال يمكن للمرء أن يجعل جميع الناس‬
‫أكثر ثرا ًء بطباعة النقد‪ .‬وين ُجم ُكره املعيار الذهبي من ُخرافة أن الحكومات‬
‫ذات السلطة املطلقة قادرة عىل خلق الثروات من قصاصات ورق صغرية‪...‬‬
‫لكن الحكومات كانت تتوق لتدمريه‪ ،‬وذلك ألنها كانت ملتزمة باملغالطات التي‬
‫تَدَّعي أ َّن التوسع االئتماني هو وسيلة مناسبة لخفض معدل الفائدة‬
‫و"تحسني" التوازن التجاري‪ ...‬ويحارب الناس املعيار الذهبي ألنهم يريدون‬

‫‪ 10‬اقرأ كتاب جون غالب‪ ،‬مصري اإلمرباطورايت والسعي إىل البقاء‪.‬‬


‫‪ 11‬لودويغ فون ميزس‪ ،‬الفعل البشري (الصفحة ‪.)473‬‬

‫‪43‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫استبدال التجارة الحرة باالكتفاء الذاتي الوطني‪ ،‬والسالم بالحرب‪ ،‬والحرية‬


‫‪12‬‬
‫بحكومة استبدادية مطلقة النفوذ‪.‬‬

‫وقد بدأ القرن العرشين بوضع الحكومات ذهبَ مواطنيها تحت‬


‫ِ‬
‫املعتمد عىل املعيار الذهبي‪ .‬ومع‬ ‫سلطتها‪ ،‬وذلك باخرتاع البنك املركزي الحديث‬
‫بدء الحرب العاملية األوىل‪ ،‬أتاحت مركزية االحتياطات لهذه الحكومات توسيع‬
‫العرض النقدي بما يتجاوز احتياطاتها من الذهب‪ ،‬مما خفض قيمة عملتها‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬واصلت البنوك املركزية مصادرة وتجميع املزيد من الذهب حتى‬
‫الستينيات عندما بدأ االنتقال نحو معيار دوالر أمريكي عاملي‪ .‬وعىل الرغم من‬
‫اإللغاء الكامل للصفة النقدية للذهب عام ‪ ،1971‬إال َّ‬
‫أن البنوك املركزية‬
‫استمرت يف االحتفاظ باحتياطات كبرية منه‪ ،‬وتخلصت منها ببطء قبل أن‬
‫تعاود رشاء الذهب يف العقد األخري‪ .‬فحتى عندما كانت تعلن البنوك املركزية‬
‫مرارا ً وتكرارا ً انتهاء دور الذهب النقدي‪ ،‬إال أ َّن احتفاظها باحتياطي الذهب‬
‫الخاص بها هو أمر أكثر صدقا ً‪ .‬ومن منظور منافسة نقدية‪ ،‬فإن االحتفاظ‬
‫باحتياطي الذهب هو قرار عقالني تماماً‪ ،‬واالحتفاظ باحتياطات من النقد‬
‫السهل للحكومات األجنبية لن يؤدي إال النخفاض قيمة عملة البلد إىل جانب‬
‫العمالت االحتياطية‪ ،‬يف حني ستذهب رسوم صك العمالت إىل مُصدِر العملة‬
‫االحتياطية‪ ،‬وليس إىل بنك البالد املركزي‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬إذا باعت البنوك‬
‫املركزية كل ما تمتلكه من الذهب (والذي يُقدّر بحوايل ‪ %20‬من مخزون‬
‫الذهب العاملي)‪ ،‬فإن األثر األكثر ترجيحا ً هو أ َّن الذهب‪ ،‬الذي يحظى بتقدير‬
‫كبري الستخداماته الصناعية والجمالية‪ ،‬سوف يتم رشاءه برسعة كبرية مع‬
‫انخفاض صغري يف سعره‪ ،‬وستُرتك البنوك املركزية دون أي احتياطي من‬
‫الذهب‪ .‬ومن املرجح أن تؤدي املنافسة النقدية بني النقد الحكومي السهل‬
‫والذهب إىل فائز واحد عىل املدى الطويل‪ .‬فحتى يف عالم النقود الحكومية‪ ،‬لم‬
‫تستطع الحكومات أن تلغي دور الذهب النقدي‪ ،‬وذلك ألن أفعالها أبلغ من‬

‫‪ 12‬لودويغ فون ميزس‪ ،‬الفعل البشري (الصفحة ‪.)474‬‬

‫‪44‬‬
‫املعادن النقدية‬

‫‪13‬‬
‫أقوالها‪( .‬انظر الشكل ‪. )4‬‬

‫الكيل‬
‫‪45000‬‬
‫‪40000‬‬
‫املؤسسات‬
‫‪35000‬‬
‫الدولية‬
‫‪30000‬‬
‫‪25000‬‬
‫‪20000‬‬
‫‪15000‬‬
‫‪10000‬‬
‫‪5000‬‬
‫‪0‬‬
‫‪1900‬‬ ‫‪1925‬‬ ‫‪1950‬‬ ‫‪1975‬‬ ‫‪2000‬‬

‫الشكل ‪ :4‬احتياطي الذهب الرسمي يف البنك املركزي‪ ،‬باألطنان‬

‫‪ 13‬املصدر‪ :‬جممع الذهب العاملي‪ ،‬إحصائيات االحتياطات‪ .‬متاح على ‪https://www.gold.org/data/gold-‬‬


‫‪reserves‬‬

‫‪45‬‬
46
‫الفصل الرابع‬

‫النقد احلكومي‬

‫شهدت الحرب العاملية األوىل نهاية عرص الوسائط النقدية بكونها خيارا ً يتم تحديده‬
‫باألسواق الحرة‪ ،‬وبداية عرص النقد الحكومي‪ .‬وبينما استمر الذهب يف دعم وتعزيز‬
‫النظام النقدي العاملي إىل يومنا هذا‪ ،‬إال أن املراسيم والقرارات الحكومية جنبا ً إىل جنب‬
‫مع السياسة النقدية أصبحت تُش ِّكل الواقع النقدي للعالم أكثر من أي جانب من جوانب‬
‫الخيارات الفردية‪.‬‬

‫إن االسم الشائع للنقد الحكومي هو النقود الورقية‪ ،‬وهو من الكلمة الالتينية‬
‫وبداية يتوجب فهم حقيقتني هامتني حول النقود‬ ‫ً‬ ‫للمرسوم أو النظام أو التفويض‪،‬‬
‫الحكومية‪ .‬الحقيقة األوىل‪ ،‬هناك اختالف كبري جدا ً بني النقود الحكومية التي يمكن‬
‫استبدالها بالذهب‪ ،‬وبني النقود الحكومية التي ال يمكن استبدالها حتى وإن كانت‬
‫الحكومة تدير كال ً منهما‪ .‬ففي ظل املعيار الذهبي‪ ،‬كان النقد هو الذهب‪ ،‬وتتحمل‬
‫الحكومة مسؤولية صك وحدات معيارية من املعدن أو طباعة الورق املدعوم بالذهب‬
‫فقط‪ ،‬وال تملك الحكومة أي سيطرة عىل عرض الذهب يف االقتصاد بحيث يمكن للناس‬
‫استبدال أوراقهم بالذهب املادي يف أي وقت يرغبون‪ ،‬كما يمكنهم استخدام أشكال وصيغ‬
‫أخرى من الذهب كالسبائك والقطع النقدية األجنبية يف تعاملهم مع بعضهم البعض‪ .‬من‬
‫جهة أخرى‪ ،‬ومع النقود الحكومية غري القابلة لالستبدال‪ ،‬فإنه يتم استخدام دَين‬
‫الحكومة و‪/‬أو األوراق الحكومية كنقود‪ ،‬ويمكن للحكومة زيادة عرضها بما تراه مناسباً‪.‬‬
‫صن ْ َع املزيد من النقود‬
‫أشكال أخرى للتبادل‪ ،‬أو حاول ُ‬
‫ٍ‬ ‫ويف حال قام أي فرد باستخدام‬
‫الحكومية‪ ،‬فسيواجه خطر تعرضه للعقاب واملُساءلة‪.‬‬

‫الحقيقة الثانية والتي غالبا ما يتم تجاهلها هي أنه خالفا ً ملا قد يوحي به االسم‬

‫‪47‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫فلم يبدأ تداول أي نوع من أنواع النقود الورقية عرب َس ِّن مراسيم الحكومة لوحدها؛ فقد‬
‫كانت جميع النقود الورقية هذه باملقام األول قابلة للتحويل إىل ذهب أو فضة أو إىل‬
‫عمالت كان باإلمكان تحويلها إىل ذهب أو فضة‪ ،‬ويمكن القول أنه فقط عَ ْ َ‬
‫رب قابلية تحويل‬
‫هذه النقود الورقية إىل صيغ أخرى قابلة للبيع‪ ،‬اكتسبت هذه األوراق النقدية الحكومية‬
‫قابليتها للبيع‪ .‬وقد ت ُصدر الحكومة مرسوما ً يقيض بإجبار الناس عىل استخدام أوراقها‬
‫إلجراء املدفوعات‪ ،‬ولكن لم تستطع أي حكومة حتى اآلن فرض قابلية البيع هذه عىل‬
‫أوراقها دون أن تكون هذه األوراق قبل ذلك قابلة للتحويل إىل الذهب والفضة‪ .‬فحتى‬
‫ٍ‬
‫باحتياطات وذلك كي تدعم‬ ‫يومنا هذا‪ ،‬ما تزال جميع البنوك املركزية الحكومية تحتفظ‬
‫قيمة عملتها الوطنية‪ ،‬وغالبية الدول تحتفظ ببعض الذهب يف احتياطاتها‪ ،‬وأما بالنسبة‬
‫للدول التي ال تمتلك احتياطات من الذهب‪ ،‬فإنها تحافظ عىل احتياطاتها بصيغة النقود‬
‫الورقية للبلدان األخرى واملدعومة بدورها باحتياطات الذهب‪ .‬فال توجد أي عملة ورقية‬
‫يجري تبادلها حاليا ً دون أي شكل من أشكال الدعم لها‪ .‬وخالفا ً للعقيدة املركزية‬
‫املغلوطة بشكل فاضح يف نظرية إصدار وإدارة الدولة للنقد‪ ،‬لم تُصدر الحكومات‬
‫مراسيما ً تقيض بجعل الذهب نقداً؛ بل تمكنت هذه الحكومات من جعل نقودها مقبولة‬
‫فقط عرب عملية االحتفاظ بالذهب‪.‬‬

‫وأقدم مثال مسجل عىل النقود الورقية هو "جياوزي"‪ ،‬وهي عملة ورقية‬
‫صادرة عن عائلة "سونغ" يف الصني يف القرن العارش‪ .‬يف البداية‪ ،‬كانت جياوزي إيصاال ً‬
‫للذهب أو الفضة‪ ،‬ولكن بعد ذلك سيطرت الحكومة عىل إصدارها وعلَّقت قابلية تحويلها‪،‬‬
‫مما زاد من حجم العملة املطبوعة حتى انهارت‪ .‬كما أصدرت عائلة "يوان" عملة ورقية‬
‫عام ‪ُ 1260‬سميَّت "تشاو"‪ ،‬وتجاوَز عرضها النقدي بشكل كبري الدعم املعدني لها‬
‫وبنتائج كارثية كما هو متوقع‪ .‬وبانهيار قيمة النقود‪ ،‬أصبح الناس يف فقر مدقع‪ ،‬حيث‬
‫لجأ العديد من الفالحني إىل بيع أطفالهم للعبودية‪.‬‬

‫إذاً‪ ،‬فالنقود الحكومية يف صيغتها تشبه الصيغ البدائية من النقد والتي تمت‬
‫مناقشتها يف الفصل الثاني‪ ،‬كما تشبه أيضا ً السلع األخرى عدا الذهب بإمكانية زيادة‬
‫رسيع لقابلية بيعها‪ ،‬وتدمري‬
‫ٍ‬ ‫فقدان‬
‫ٍ‬ ‫عرضها بشكل رسيع مقارنة بمخزونها‪ ،‬مما يؤدي إىل‬
‫قوتها الرشائية وإفقار حامليها‪ .‬ففي هذا الصدد‪ ،‬إنها تختلف عن الذهب الذي ال يمكن‬

‫‪48‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫زيادة عرضه بسبب الخواص الكيميائية األساسية لهذا املعدن والتي تم نقاشها سابقا ً‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬إ ْن اشرتطت الحكومة استخدام نقودها لدفع رضائبها فقد يضمن ذلك حياة أطول‬
‫لتلك النقود‪ ،‬لكن هذا الضمان مرهون بقدرة الحكومة عىل منع التوسع يف العرض الجديد‬
‫من هذه النقود وذلك من أجل حماية قيمتها من التدهور الرسيع‪ .‬وعند مقارنة العمالت‬
‫أن العمالت الوطنية الرئيسية املُستخدمة بشكل كبري وعىل نطاق‬‫الوطنية املختلفة‪ ،‬سنجد َّ‬
‫واسع‪ ،‬هي تلك التي تكون زيادة عرضها السنوي أقل باملقارنة مع العمالت الثانوية األقل‬
‫قابلية للبيع‪.‬‬

‫القومية النقدية وهناية العال احلر‬


‫إن الكثري من أعداء النقد السليم والذين س َّماهم "ميزس" يف االقتباس املشار إليه يف نهاية‬
‫الفصل السابق قد حققوا انتصارهم عىل املعيار الذهبي مع بداية حرب صغرية يف مركز‬
‫أوروبا عام ‪ ،1914‬والتي اتَّسعت بعد ذلك لتصبح الحرب العاملية األوىل يف التاريخ‬
‫البرشي‪ .‬ومن املؤكد أنه لم يتصور أحدهم مع بداية الحرب أنها ستدوم طويالً م ً‬
‫ُنتجة هذا‬
‫برشت الصحف‬ ‫العدد الهائل من الوفيات‪ ،‬ولكن هذا ما حدث بالفعل‪ .‬فعىل سبيل املثال‪َّ ،‬‬
‫ُتوقع ًة بذلك أن تكون مجرد رحلة صيفية‬ ‫أن هذه الحرب هي بمثابة عطلة‪ ،‬م ِّ‬ ‫الربيطانية َّ‬
‫مبهجة لقواتها‪ ،‬وكان هناك توقع بأ َّن ذلك سيكون رصاعا ً محدوداً‪ ،‬خصوصا ً وأنه بعد‬
‫عقود من السالم النسبي يف جميع أنحاء أوروبا‪ ،‬نشأ جيل جديد فيها ال يُقدِّر العواقب‬
‫املحتملة إلشعال فتيل الحروب‪ .‬وحتى يومنا هذا‪ ،‬فشل املؤرخون يف تقديم تفسري‬
‫اسرتاتيجي أو جيوسيايس مقنع كيف أشعل رصاع بني اإلمرباطورية النمساوية‪-‬املجرية‬
‫وبني االنفصاليني الرصبيني فتي َل حرب عاملية أودت بحياة املاليني‪ ،‬وأعادت تشكيل معظم‬
‫حدود العالم بشكل جذري‪.‬‬

‫وبالنظر للمايض‪ ،‬يُمكن القول أن االختالف الرئييس بني الحرب العاملية األوىل‬
‫وبني الحروب املحدودة السابقة لم يكن اختالفا ً جيوسيايس أو اسرتاتيجي‪ ،‬بل كان نقدياً‪.‬‬
‫فعندما كانت الحكومات تعمل تحت ظل املعيار الذهبي‪ ،‬كان لديها سيطرة مبارشة عىل‬
‫خزائن كبرية من الذهب‪ ،‬وكان مواطنوها يقومون بالتبادالت بوساطة الوصوالت الورقية‬

‫‪49‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫املدعومة بهذا الذهب‪ .‬والسهولة التي يمكن فيها للحكومة إصدار املزيد من العملة‬
‫الورقية كانت مغرية للغاية وخاص ًة يف أوج الرصاع‪ ،‬وكانت بهذا أسهل بكثري من املطالبة‬
‫بالرضائب من املواطنني‪ .‬ففي غضون أسابيع قليلة من بدء الحرب‪ ،‬قام جميع املتحاربني‬
‫الرئيسيني بتعليق قابلية تحويل الذهب مما أدى إىل تعطيل املعيار الذهبي فعلياً‪ ،‬وإجبار‬
‫السكان عىل االمتثال ملعايري النقود الورقية الحكومية‪ ،‬وبهذا كانت النقود التي‬
‫استخدموها بعد ذلك هي األوراق النقدية التي تصدرها الحكومة والتي ال يمكن تحويلها‬
‫إىل ذهب‪.‬‬

‫ومع االستبعاد البسيط لقابلية تحويل الذهب‪ ،‬لم تعد جهود الحكومة الحربية‬
‫تقترص عىل األموال التي تمتلكها الحكومات يف خزائنها فحسب‪ ،‬بل امتدت فعليا ً لثروة‬
‫الشعب بأكمله‪ .‬وما دامت الحكومات قادرة عىل طباعة املزيد من النقود وإجبار مواطنيها‬
‫واألجانب عىل قبول تلك النقود‪ ،‬فإنه يمكنها االستمرار يف تمويل الحرب‪ ،‬بينما سابقا ً ويف‬
‫ظل نظام نقدي ساد فيه الذهب كعملة نقدية يف متناول الناس‪ ،‬لم يكن أمام الحكومة إال‬
‫خزينتها الخاصة لتح ُّمل تكاليف الحرب‪ ،‬إىل جانب الرضائب أو السندات لتمويل هذه‬
‫الحرب‪ .‬األمر الذي جعل الرصاعات محدود ًة‪ ،‬بل وأصبحت قابع ًة يف قلب فرتة السالم‬
‫الطويلة نسبيا ً والتي شهدها العالم بأكمله قبل القرن العرشين‪.‬‬

‫لو بقيت الدول األوروبية عىل املعيار الذهبي أو لو احتفظت الشعوب األوروبية‬
‫بذهبها الخاص يف يديها مُجرب ًة الحكومات عىل اللجوء إىل الرضائب بدال ً من التضخم‪،‬‬
‫عندها لربما شهدنا تاريخا ً مختلفاً‪ .‬فمن املرجح أنه كان من املمكن تسوية الحرب‬
‫العاملية األوىل عسكريا يف غضون بضعة أشهر من الرصاع خاصة حني بدأ تمويل إحدى‬
‫الفصائل بالنفاد‪ ،‬وواجه هذا الفصيل صعوبات يف سلب الثروة من السكان الذين لم‬
‫يكونوا عىل استعداد للتخيل عن ثرواتهم للدفاع عن بقاء نظامهم‪ ،‬لكن مع تعليق املعيار‬
‫الذهبي‪ ،‬فإن نفاد التمويل لم يعد كافيا ً إلنهاء الحرب‪ ،‬بل كان عىل الحاكم أن يسلب‬
‫حصيلة ثروة شعبه املرتاكمة من خالل التضخم‪.‬‬

‫إن البلدان األوروبية التي َخ َّفضت قيمة عملتها سمحت بمواصلة النزيف‬
‫الدموي ملدة أربع سنوات دون إيجاد حل أو تقدم‪ .‬ولم تكن الشعوب وحدها يف غفلة عن‬

‫‪50‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫وهول تلك الحرب‪ ،‬بل الجنود املخاطرين بأرواحهم يف الصفوف األمامية كانوا‬ ‫ِ‬ ‫حماقة‬
‫كذلك أيضا ً‪ .‬فلقد كان هؤالء الجنود يموتون دون سبب واضح سوى الغرور غري املحدود‬
‫والطموح ألولئك امللوك الذين كانوا عاد ًة أقارب وأنساب‪ .‬وأكرب تجسيد واضح للحماقة‬
‫املطلقة لهذه الحرب كان عشية عيد امليالد عام ‪ ،1914‬وذلك عندما توقف الجنود‬
‫الفرنسيون واإلنجليز واألملان عن متابعة أوامر القتال وألقوا بأسلحتهم‪ ،‬وعربوا خطوط‬
‫املعركة لالختالط والتواصل مع بعضهم البعض‪ .‬فالعديد من الجنود األملان كانوا قد‬
‫عملوا يف إنجلرتا‪ ،‬ولذلك كانوا قادرين عىل التحدث باللغة اإلنجليزية‪ ،‬كما أن معظم‬
‫الجنود كان لديهم ول ٌع بكرة القدم‪ ،‬فتم تنظيم العديد من املباريات بني الفرق بطريقة‬
‫ارتجالية‪ 1.‬والحقيقة املذهلة التي كشفتها هذه الهدنة هي أ َّن أولئك الجنود لم يكونوا‬
‫أعدا ًء بأي شكل من األشكال‪ ،‬ولم يكن لديهم ما يكسبونه من القتال بهذه الحرب‪ ،‬ولم‬
‫يكن هناك سبب واضح الستمرار تلك الحرب‪ .‬لهذا‪ ،‬يمكن لكرة القدم التي لعبوها أن‬
‫تكون أفضل مخرج لهذه الدول املتنافسة فيما بينها‪ ،‬فهي لعبة شعبية عاملية يمكن من‬
‫خاللها ممارسة االنتماءات القبلية والوطنية بشكل سلمي‪.‬‬

‫لقد است مرت الحرب ألربعة أعوام أخرى دون أي تقدم ملحوظ إىل أن تدخلت الواليات‬
‫املتحدة عام ‪ ،1917‬وغريت موازين الحرب لصالح طرف عىل حساب اآلخر وذلك بجلب‬
‫كمية كبرية من املوارد بحيث لم يستطع أعداؤهم مجاراتهم فيها‪ .‬وبينما كانت جميع‬
‫الحكومات تُموِّل آالت الحرب الخاصة بها عرب التضخم‪ ،‬بدأت أملانيا واإلمرباطورية‬
‫النمساوية‪-‬املجرية تشهد انخفاضا ً كبريا ً يف قيمة عملتها عام ‪ ،1918‬مما جعل هزيمتها‬
‫أمرا ً حتمياً‪ .‬وإذا قمنا بمقارنة أسعار رصف عمالت األطراف املتنازعة بالفرنك‬
‫السويرسي‪ ،‬الذي كان ال يزال عىل املعيار الذهبي يف ذلك الوقت‪ ،‬فسيُ ِّ‬
‫وفر ذلك لنا مؤرشا ً‬
‫‪2‬‬
‫مفيدا ً لالنخفاض الذي َم َّرت به كل عملة‪ ،‬كما هو ظاهر يف الشكل ‪.5‬‬

‫بعد أن وضعت الحرب أوزارها‪ ،‬انخفضت القيمة الحقيقية لعمالت كل القوى‬

‫‪ 1‬مالكوم براون وشرييل سيتون‪ ،‬هدنة عيد امليالد‪ :‬اجلبهة الغربية ديسمرب ‪( 1914‬لندن‪ :‬ابن ماكميالن‪،‬‬
‫‪.)2014‬‬
‫‪ 2‬املصدر‪ :‬جورج هال‪" ،‬معدالت أسعار الصرف والوفيات خالل احلرب العاملية األوىل"‪ ،‬جملة االقتصاد النقدي‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الشكل ‪ :5‬أسعار الرصف الوطنية الرئيسية مقابل الفرنك السويرسي خالل الحرب‬
‫العاملية األوىل‪ .‬معدل التبادل يف يونيو ‪1=1914‬‬

‫الدولة‬ ‫اخنفاض العمالت يف‬


‫احلرب العاملية األوىل‬
‫الوالايت املتحدة‬ ‫‪3.44%‬‬
‫بريطانيا‬ ‫‪6.63%‬‬
‫فرنسا‬ ‫‪9.04%‬‬
‫إيطاليا‬ ‫‪22.3%‬‬
‫أملانيا‬ ‫‪48.9%‬‬
‫أسرتاليا‬ ‫‪68.9%‬‬
‫الجدول ‪ :2‬انخفاض قيمة العملة لوطنية بالنسبة للفرنك السويرسي خالل الحرب‬
‫العاملية األوىل‬

‫‪52‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫األوروبية‪ .‬وبالنسبة للقوى الخارسة‪ ،‬أملانيا والنمسا‪ ،‬انخفض متوسط قيمة عمالتها يف‬
‫نوفمرب ‪ 1918‬إىل ‪ %51‬و‪ %31‬من قيمتها التي كانت يف عام ‪ .1913‬وشهدت عملة‬
‫إيطاليا انخفاضا ً بلغ ‪ %77‬من قيمتها األصلية‪ ،‬بينما انخفضت العملة الفرنسية إىل‬
‫‪3‬‬
‫‪ ،%91‬وبريطانيا إىل ‪ ،%93‬والعملة األمريكية إىل ‪ %96‬من قيمتها األصلية فقط‪.‬‬
‫(انظر الجدول ‪.)42‬‬

‫إن التغريات الجغرافية التي أحدثتها الحرب بالكاد استحقت هذه املذابح‪ ،‬حيث‬
‫أ َّن معظم الدول اكتسبت أو خرست ٍ‬
‫أراض هامشية‪ ،‬كما أنه ال يمكن ألي منترص أن يَدَّعي‬
‫أراض كبرية تستحق التضحية من أجلها‪ .‬فتم تقسيم اإلمرباطورية‬ ‫ٍ‬ ‫أنه سيطر عىل‬
‫النمساوية‪-‬املجرية إىل دويالت صغرية‪ ،‬ولكنها بقيت تحت حكم شعبها وليس تحت حكم‬
‫املنترصين بالحرب‪ ،‬أما التغيري الرئييس ما بعد الحرب كان هو زوال العديد من األنظمة‬
‫امللكية األوروبية واستبدالها باألنظمة الجمهورية‪ .‬والسؤال عما إذا كان هذا االنتقال‬
‫لألفضل ستتضاءل قيمة إجابته عند مقارنتها بالدمار والخراب الذي ألحقته الحرب‬
‫بمواطني هذه الدول‪.‬‬

‫ومع تعطيل استبدال الذهب من البنوك املركزية‪ ،‬ومع تعليق حركة الذهب‬
‫دوليا ً والتي تم تقييدها بشكل كبري يف اقتصاد الدول الرئيسية‪ ،‬تمكنت الحكومات من‬
‫االحتفاظ بقيمة زائفة للعمالت التي ثَبَّتت صلتها بالذهب بأسعار ما قبل الحرب‪ ،‬وذلك‬
‫رغم ارتفاع األسعار‪ .‬ومع انتهاء الحرب‪ ،‬لم يعد النظام النقدي الدويل الذي اعتَمد املعيار‬
‫الذهبي يعمل كما كان‪ ،‬وكان عىل جميع البلدان التي نفد منها الذهب مواجهة املعضلة‬
‫الكبرية فيما إن كان ينبغي عليها العودة إىل املعيار الذهبي‪ ،‬وإن كان األمر كذلك‪ ،‬كيف‬

‫تساءلت عما إذا كان قرب أملانيا والنمسا من سويسرا‪ ،‬والعالقة الوثيقة بني هؤالء السكان‪ ،‬قد أدت‬ ‫ُ‬ ‫‪ 3‬لقد‬
‫ابألملان والنمساويني إىل تبديل عمالهتم ابلفرنك السويسري‪ ،‬األمر الذي َسَّرع بسقوط هذه العمالت‪ ،‬مما أدى‬
‫إىل زايدة املوارد االقتصادية احلكومية‪ ،‬وأدَّى دوراً حامساً يف نتائج احلرب العاملية األوىل‪ .‬مل أصادف أبداً أي حبث‬
‫صادفت عزيزي القارئ‪ ،‬فالرجاء االتصال بنا‪.‬‬
‫َ‬ ‫حول هذه املسألة‪ ،‬ولكن إن‬
‫‪ 4‬من يوليو ‪ 1914‬إىل نوفمرب ‪ . 1918‬املصدر‪ :‬جورج هول‪" ،‬أسعار الصرف والوفيات خالل احلرب العاملية‬
‫األوىل"‪ ،‬جملة االقتصاد النقدي‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫تعيد تقييم عمالتها مقارنة بالذهب‪ .‬فالتقييم السوقي العادل ملخزونها الحايل من‬
‫العمالت بالنسبة إىل مخزونها من الذهب سيكون اعرتافا ً غري مرغوب به بسبب االنخفاض‬
‫الذي جرى للعملة‪ ،‬وأما خيار العودة إىل أسعار الرصف القديمة فإنه سيجعل املواطنني‬
‫يطالبون بامتالك الذهب بدال ً من الحصول عىل إيصاالت ورقية واسعة االنتشار‪ ،‬وسيؤدي‬
‫مكان يحظى فيه بقيمته املُ ِ‬
‫نصفة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أيضا ً إىل تهريب الذهب إىل خارج البالد إىل‬

‫إن هذه املعضلة أخذت األموال بعيدا ً عن األسواق وحولتها إىل قرار اقتصادي‬
‫خاضع لسيطرة سياسية‪ .‬فبدال ً من اختيار املشاركني يف السوق ألكثر سلعة قابلة للبيع‬
‫ً‬
‫خاضعة للتخطيط‬ ‫كوسيط للتبادل‪ ،‬أصبحت اآلن قيمة وعرض ومعدل فائدة النقد كلها‬
‫املركزي من قبل الحكومات الوطنية‪ ،‬وهذا نظام نقدي أ َطلق عليه "هايك" تسمية‬
‫"القومية النقدية" يف كتاب قصري رائع بنفس العنوان‪:‬‬

‫القومية النقدية هي العقيدة التي تنص عىل أن حصة الدولة العاملية من‬
‫العرض النقدي ال ينبغي أن يتم تركها لتحددها املبادئ واآللية ذاتها التي‬
‫تُحدِّد املبالغ النسبية للنقود يف أقاليمها أو مناطقها املختلفة‪ .‬ونظام النقد‬
‫العاملي الفعيل سيكون هو ذلك النظام الذي يمتلك فيه العالم كله عملة‬
‫متجانسة مثل تلك العملة التي حصلت عليها دول منفصلة‪ ،‬بحيث كان تدفق‬
‫هذه العملة بني األقاليم مرتوكا ً ليتم تحديده وفقا ً لنتائج أعمال جميع األفراد‪.5‬‬

‫لن يعود الذهب مرة أخرى ليكون العملة املتجانسة يف العالم‪ ،‬خصوصا ً مع‬
‫موقف البنك املركزي املحتكر واملقيِّد ملُلكية الذهب والذي أجرب الناس عىل استخدام النقود‬
‫الحكومية الوطنية‪ .‬ولهذا‪ ،‬إن وصول البيتكوين كعملة تتخذ من االنرتنت موطنا ً لها‪،‬‬
‫وتتجاوز الحدود الوطنية‪ ،‬وتقع خارج نطاق السيطرة الحكومية‪ ،‬سي ِّ‬
‫ُوفر إمكانية مثرية‬
‫لالهتمام لظهور نظام نقدي دويل جديد‪ ،‬سيتم تحليله يف الفصل التاسع‪.‬‬

‫‪ 5‬فريدريك هايك‪ ،‬القومية النقدية والثبات العاملي (فايرفيلد‪ ،‬إن جي‪ :‬أغسطس كيلي‪. ))1937(1898 ،‬‬

‫‪54‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫عرص ما بني احلربني‬


‫يف حني أنه تحت ظل املعيار الذهبي الدويل كانت األموال تتدفق بحرية بني الدول مقابل‬
‫السلع‪ ،‬وكان سعر الرصف بني العمالت املختلفة هو مجرد تحويل األوزان املختلفة‬
‫للذهب‪ ،‬إال أنه يف القومية النقدية‪ ،‬يتم تحديد العرض النقدي للدول وأسعار الرصف‬
‫ضت‬ ‫بينها يف االتفاقيات واالجتماعات الدولية‪ .‬فعانت أملانيا من التضخم املُفرط بعد أن َف َر َ‬
‫عليها معاهدة "ِفرساي" تعويضات كبرية‪ ،‬وقد سعت إىل سدادها باستخدام التضخم‪.‬‬
‫وواجهت بريطانيا مشاكل كبرية بتدفق الذهب من شواطئها إىل فرنسا والواليات املتحدة‪،‬‬
‫وذلك ألنها حاولت الحفاظ عىل املعيار الذهبي ولكن بمعدل يبالغ بقيمة الجنيه‬
‫اإلسرتليني ويَنتقص من قيمة الذهب‪.‬‬

‫وكانت معاهدة "جَ نوى" أول معاهدة رئيسية يف قرن القومية النقدية عام‬
‫‪ ،1922‬وبموجب رشوط هذه املعاهدة‪ ،‬فإن الدوالر األمريكي والجنيه اإلسرتليني سيتم‬
‫اعتبارهما عمالت احتياطية مماثلة للذهب يف مكانتهما بالنسبة الحتياطات الدول األخرى‪.‬‬
‫وبهذه الحركة‪ ،‬كانت بريطانيا تأمل تخفيف مشاكلها مع الجنيه اإلسرتليني املُبالَغ يف‬
‫قيمته وذلك من خالل دفع بلدان أخرى لرشاء كميات كبرية منه لوضعه يف احتياطاتها‪.‬‬
‫وأشارت القوى الكربى يف العالم إىل خروجها عن صالبة املعيار الذهبي باتجاه التضخمية‬
‫كحل للمشاكل االقتصادية‪ ،‬وتَمثَّل جنون هذا الرتتيب يف رغبة الحكومات بالقيام‬
‫بالتضخم ولكن مع املحافظة عىل سعر مستقر لعمالتها من حيث مستويات الذهب ما‬
‫قبل الحرب‪ ،‬ولقد تم أخذ الحيطة والحذر بالتقدير اآلتي‪ :‬إذا قام الجميع بخفض قيمة‬
‫عمالتهم‪ ،‬فلن يكون هناك مكان إلخفاء رأس املال‪ ،‬لكن هذا لم ينجح ولم يكن لينجح‪،‬‬
‫واستمر تدفق الذهب من بريطانيا إىل الواليات املتحدة وفرنسا‪.‬‬

‫ويُع ُّد استنزاف الذهب من بريطانيا قصة غري معروفة لكنها ذات عواقب‬
‫وخيمة‪" .‬لياكت أحاميد" ويف كتابه "ملوك االقتصاد" يركز عىل هذه الواقعة‪ ،‬ويناقش‬
‫برباعة قضية األفراد املتورطني والدراما التي حدثت آنذاك‪ ،‬ولكنه تبنى املفهوم‬
‫"الكينيزي" السائد للموضوع‪ ،‬ووضع لوم الواقعة بأكملها عىل املعيار الذهبي‪ .‬فعىل‬
‫الرغم من بحثه املكثف‪ ،‬إال أن أحاميد أخفق يف فهم أ َّن املشكلة لم تكن يف املعيار الذهبي‪،‬‬

‫‪55‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫حيث أن حكومات ما بعد الحرب العاملية األوىل أرادت العودة إىل املعيار الذهبي بمعدالت‬
‫ما قبل الحرب‪ .‬فلو أن تلك الحكومات اعرتفت لشعوبها بحجم االنخفاض الذي تم‬
‫لعمالتها لتمويل الحرب‪ ،‬ثم أعادت ربط عمالتها بالذهب بمعدالت جديدة‪ ،‬فإنه غالبا ً كان‬
‫سيحدث ركود اقتصادي‪ ،‬وبعد ذلك كان االقتصاد سيتعاىف عىل أساس نقدي سليم‪.‬‬

‫ونستطيع إيجاد أفضل عالج لهذه الواقعة وعواقبها املروعة يف كتاب "موراي‬
‫روثبارد" الكساد األمريكي العظيم‪ .‬فبينما كانت احتياطات الذهب يف بريطانيا تغادر‬
‫شواطئها إىل األماكن التي كانت تحظى فيها بقيمة أفضل‪ ،‬كان رئيس مرصف إنجلرتا‬
‫"السري مونتاجو نورمان" يعتمد بشكل كبري عىل نظرائه الفرنسيني‪ ،‬واألملان واألمريكيني‬
‫لزيادة العرض النقدي يف دُوَ ِلهم‪ ،‬ليُقللوا بذلك من قيمة عمالتهم الورقية عىل أمل أن‬
‫يُوقِف ذلك تدفق الذهب من إنجلرتا‪ .‬وبينما لم يكن املرصفيون الفرنسيون واألملان‬
‫متعاونني‪ ،‬كان رئيس مجلس االحتياطي الفيدرايل يف نيويورك "بنجامني سرتونغ"‬
‫متعاوناً‪ ،‬وانخرط يف السياسة النقدية التضخمية طوال فرتة العرشينيات‪ .‬ولربما نجح‬
‫ذلك يف خفض تدفق الذهب من بريطانيا إىل حد ما‪ ،‬ولكن أهم اآلثار املرتتبة عىل ذلك هو‬
‫أنه خلق فقاعة أكرب يف اإلسكان وسوق األوراق املالية يف الواليات املتحدة‪ .‬وانتهت السياسة‬
‫التضخمية لالحتياطي الفيدرايل يف الواليات املتحدة بنهاية عام ‪ ،1928‬ويف ذلك الوقت‬
‫كان االقتصاد األمريكي عىل شفا االنهيار الحتمي املرافق الستبعاد التضخمية‪ .‬فما جرى‬
‫بعد ذلك كان هو انهيار سوق األوراق املالية عام ‪ ،1929‬وأدى رد فعل الحكومة‬
‫األمريكية عىل هذا االنهيار إىل تحويله إىل أطول فرتة كساد يف التاريخ الحديث املسجَّ ل‪.‬‬

‫والقصة الشائعة حول الكساد العظيم تفرتض أن الرئيس "هوفر" اختار أن‬
‫يبقى ساكنا ً يف مواجهة التباطؤ االقتصادي بسبب اإليمان الخاطئ يف قدرة األسواق الحرة‬
‫عىل تحقيق االنتعاش والتعايف‪ ،‬والتزم باملعيار الذهبي‪ ،‬وفقط عندما تم استبداله من قبل‬
‫"فرانكلني ديالنو روزفلت" والذي انتقل إىل دور حكومي ن َ ِشط وقام باستبعاد املعيار‬
‫الذهبي‪ ،‬تعافت الواليات املتحدة‪ .‬بعبارة لطيفة‪ ،‬هذا هراء‪ .‬فلم يزد هوفر من اإلنفاق‬
‫الحكومي عىل مشاريع العمل العام ملكافحة الكساد فحسب‪ ،‬بل اعتمد أيضا ً عىل‬
‫االحتياطي الفيدرايل لتوسيع االئتمان‪ ،‬ور َّكز سياسته عىل السعي الجنوني للحفاظ عىل‬
‫بقاء األجور مرتفعة يف مواجهة االنخفاض يف معدالت هذه األجور‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬تم‬

‫‪56‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫وضع ضوابط لألسعار وذلك إلبقاء أسعار املنتجات يف مستويات عالية وخصوصا ً‬
‫الزراعية منها‪ ،‬وهذا أمر مشابه للحالة التي تسبق الكساد وهو أمر طبيعي يف هذه‬
‫الحالة‪ .‬فالواليات املتحدة وجميع االقتصادات العاملية الرئيسية بدأت يف تنفيذ سياسات‬
‫‪6‬‬
‫التجارة الوقائية التي جعلت األمور أسوء بكثري عىل مستوى االقتصاد العاملي‪.‬‬

‫ُعترب هذا الحدث حقيق ًة غري معروفة وقد تم مسحه بعناية من كتب التاريخ‪،‬‬ ‫ي َ‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫منصة تدَخلية‬‫وهو أنه يف فرتة االنتخابات العامة للواليات املتحدة عام ‪ ،1932‬أدار هوفر َّ‬
‫َّ‬
‫منصة للمسؤولية املالية والنقدية‪ .‬ويف الواقع‪،‬‬ ‫كبرية بينما أدار فرانكلني ديالنو روزفلت‬
‫قام األمريكيون بالتصويت ضد سياسات هوفر‪ ،‬ولكن عندما توىل روزفلت السلطة وجد‬
‫أنه من األنسب السري مع املصالح التي ألهمت هوفر‪ ،‬ونتيجة لذلك‪ ،‬تم تضخيم السياسات‬
‫التدخلية لهوفر إىل ما أصبح يُعرف باسم الصفقة الجديدة‪ .‬ومن املهم إدراك أنه لم يكن‬
‫هناك يشء فريد أو مستجد فيما يخص الصفقة الجديدة‪ ،‬حيث أنه كان تضخيما ً وتكبريا ً‬
‫للسياسات التدخلية الشديدة التي وضعها هوفر‪.‬‬

‫إن الفهم العابر واألويل لالقتصاد سيجعل األمر واضحا ً من أ َّن وضع ضوابط‬
‫لألسعار يؤدي دائما ً إىل نتائج عكسية‪ ،‬يَنتج عنها وجود فائض وعجز‪ ،‬واملشاكل التي‬
‫ً‬
‫وثيقا‬ ‫واجهها االقتصاد األمريكي يف ثالثينيات القرن العرشين كانت مرتبطة ارتبا ً‬
‫طا‬
‫بتثبيت األجور واألسعار‪ .‬حيث أنه تم تثبيت األجور بشكل مرتفع جداً‪ ،‬مما أدى إىل معدل‬
‫بطالة مرتفع جدا ً بلغ ‪ %25‬يف بعض األحيان‪ ،‬يف حني أدت الضوابط املفروضة عىل‬
‫األسعار إىل خلق حاالت فائض وعجز يف سلع مختلفة‪ ،‬حتى أنه تم حرق بعض املنتجات‬
‫الزراعية من أجل الحفاظ عىل أسعارها املرتفعة‪ ،‬مما أدى إىل الوصول لحال كارثي والذي‬
‫ماسة للعمل‪ ،‬يف حني لم يستطع املنتجون من توظيفهم‬ ‫كان فيه الناس جياع ويف حاجة َّ‬
‫ألنهم لم يستطيعوا تحمل تكلفة أجورهم‪ ،‬بينما كان عىل املنتجني الذين بإمكانهم إنتاج‬
‫بعض املحاصيل أن يحرقوا جزءا ً منها للمحافظة عىل ارتفاع السعر‪ .‬وقد تم القيام بكل‬
‫هذا للحفاظ عىل األسعار عند مستويات االزدهار الذي حصل قبل ‪ ،1929‬مع التمسك‬
‫ضخم عرشينيات القرن‬ ‫بالوهم بأن الدوالر لم يزل يحافظ عىل قيمته مقارنة بالذهب‪ .‬فتَ ُّ‬

‫‪ 6‬ميكن إجياد سياسات هوفر التدخلية يف كتاب موري روثبارد "الكساد األمريكي العظيم"‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫أصول كبرية يف أسواق اإلسكان وأسواق األوراق املالية‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫فقاعات‬ ‫العرشين تَسبَّبَ يف ظهور‬
‫طنع يف األجور واألسعار‪ .‬وبعد انفجار الفقاعة‪ ،‬اتجهت أسعار‬ ‫مما أدى إىل ارتفاع مُص َ‬
‫تعديالت من خالل خفض قيمة الدوالر مقارنة بالذهب‪ ،‬ومن خالل‬ ‫ٍ‬ ‫السوق لعمل‬
‫انخفاض حقيقي لألجور واألسعار‪ .‬وعِنا ُد املخططني املركزيني الواهمني الذين أرادوا منع‬
‫الثالثة من الحدوث أدُّوا بذلك إىل شلل االقتصاد‪ :‬فقد كان هناك مبالغة يف تقدير قيمة‬
‫الدوالر‪ ،‬واألجور واألسعار‪ ،‬مما أدى بالناس إىل رغبتهم بالتخيل عن دوالراتهم لصالح‬
‫الذهب‪ ،‬فضالً عن وجود البطالة الهائلة وفشل اإلنتاج‪.‬‬

‫بطبيعة الحال‪ ،‬ال يشء من هذا سيكون ممكنا مع النقد السليم‪ ،‬حيث أنه وفقط‬
‫من خالل تضخيم العرض النقدي يمكن حدوث مثل هذه املشاكل‪ .‬وحتى بعد حدوث‬
‫التضخم‪ ،‬فإن التأثريات ستكون أقل رضرا ً لو أنهم أعادوا تقييم الدوالر بالنسبة للذهب‬
‫بسعر يحدده السوق‪ ،‬ثم القيام برتك األجور واألسعار لتتعدل بشكل حر‪ .‬لكن بدال ً من‬
‫تَعلُّم هذا الدرس‪ ،‬صمَّم اقتصاديو الحكومة بتلك الحقبة عىل أن الخطأ لم يكن يف‬
‫التضخمية‪ ،‬بل باألحرى كان يف املعيار الذهبي الذي يَح ُّد من تضخمية الحكومة‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫ومن أجل إزالة هذه القيود الذهبية من عىل التضخم‪ ،‬أصدر الرئيس روزفلت أمرا ً تنفيذيا ً‬
‫ُجربا ً األمريكيني عىل بيع ذهبهم إىل الخزانة األمريكية‬
‫يحظر فيه امللكية الخاصة للذهب‪ ،‬م ِ‬
‫بمعدل ‪ 20.67‬دوالرا ً لألونصة‪ .‬ومع حرمان السكان من النقد السليم وإجبارهم عىل‬
‫التعامل بالدوالر‪ ،‬قام روزفلت بعد ذلك بإعادة تقييم الدوالر يف السوق الدولية من‬
‫‪ 20.67‬دوالرا ً لألونصة إىل ‪ 35‬دوالرا ً لألونصة‪ ،‬وهو انخفاض َق ْد ُره ‪ %41‬يف الدوالر‬
‫بالقيمة الحقيقية (الذهب)‪ .‬فكان ذلك هو الواقع الحتمي لسنوات من التضخم والذي بدأ‬
‫عام ‪ 1914‬مع إنشاء االحتياطي الفيدرايل‪ ،‬ومع تمويل دخول أمريكا للحرب العاملية‬
‫الثانية‪.‬‬

‫إن التخيل عن النقد السليم واستبداله بالنقود الورقية التي أصدرتها الحكومة‬
‫هو ما قام بتحويل االقتصادات الرائدة يف العالم إىل إخفاقات مُخ َّ‬
‫ططة مركزيا ومُوجَّ هة‬
‫حكومياً‪ .‬وبينما كانت الحكومات تسيطر عىل النقود‪ ،‬سيطرت أيضا ً عىل معظم األنشطة‬
‫االقتصادية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والثقافية والتعليمية‪ .‬فبالرغم من عدم دراسة كينز االقتصاد أو‬
‫االستقصاء عنه بشكل احرتايف‪ ،‬تم َّكن كينز من االستحواذ عىل روح هذه الحكومات‬

‫‪58‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫طلَقة السلطة من أجل التوصل إىل املسار النهائي الذي يمنح الحكومات ما تريد سماعه‪.‬‬ ‫ُم ْ‬
‫فلقد اختفت جميع أسس املعرفة االقتصادية املكتسبة عىل مدى قرون من العلوم‬
‫الدراسية حول العالم‪ ،‬ليحل مكانها اإليمان الجديد مع االستنتاجات املالئمة دائما ً والتي‬
‫تناسب السياسيني ذوي التفضيل الزمني املرتفع والحكومات االستبدادية‪ :‬بحيث يتم‬
‫تحديد حالة االقتصاد بوساطة عامل اإلنفاق الكيل‪ ،‬وأي ارتفاع يف البطالة أو تباطؤ يف‬
‫اإلنتاج ليس له أي سبب ضمني يف هيكل اإلنتاج أو يف تشوهات األسواق بسبب املخططني‬
‫املركزين‪ ،‬فسيكون ذلك كله بسبب نقص اإلنفاق‪ ،‬والعالج سيكون عن طريق إفساد‬
‫العملة وزيادة اإلنفاق الحكومي‪ .‬ووفقا ً لذلك فاالدخار يقلل اإلنفاق‪ ،‬وألن اإلنفاق هو كل‬
‫ما يهم‪ ،‬يجب عىل الحكومة أن تفعل كل ما يف وسعها لردع مواطنيها من االدِّخار‪ .‬أ َ ِضف‬
‫لهذا أن االسترياد يؤدي إىل ترسيح العمال من عملهم‪ ،‬ولهذا‪ ،‬يجب عىل الزيادات باإلنفاق‬
‫أن تذهب إىل السلع املحلية‪ .‬لقد حظيت هذه الرسالة بإعجاب الحكومة‪ ،‬وكان كينز عىل‬
‫علم بذلك‪ ،‬وتمت ترجمة كتابه إىل األملانية عام ‪ 1937‬يف ذروة العرص "النازي"‪ ،‬ويف‬
‫مقدمة الطبعة األملانية كتب كينز‪:‬‬

‫إ َّن نظرية اإلنتاج الكيل وهي نقطة الكتاب التايل‪ ،‬يمكن تبنيها يف كل األحوال‬
‫بسهولة أكثر يف نظام شمويل من تبني نظرية اإلنتاج وتوزيع هذا اإلنتاج يف‬
‫‪7‬‬
‫ظروف املنافسة الحرة واالقتصادات الحرة‪.‬‬

‫وعند بدء الطوفان الكينيزي الذي ال يزال العالم يتعاىف منه‪ ،‬فقدت الجامعات‬
‫استقالليتها وأصبحت جزءا ً ال يتجزأ من الجهاز الحكومي الحاكم‪ ،‬وتوقفت علوم‬
‫االقتصاد األكاديمية عن كونها نظاما ً فكريا ً يركز عىل فهم الخيارات اإلنسانية من أجل‬
‫الشح والندرة‪ ،‬وعوضا ً عن ذلك‪ ،‬أصبحت هذه الجامعات‬ ‫تحسني الظروف يف حاالت ُّ‬
‫صنَّاع السياسة نحو أفضل السياسات‬ ‫بمثابة ذراع للحكومة بحيث تهدف إىل توجيه ُ‬
‫إلدارة األنشطة االقتصادية‪ .‬فالفكرة بأن إدارة الحكومات لالقتصاد هو أمر رضوري‬
‫أصبحت فكر ًة ليست محل نقاش يف جميع التعاليم االقتصادية الحديثة‪ ،‬كما يمكن‬
‫استخالصه بالنظر إىل أي كتاب اقتصادي حديث‪ ،‬حيث تؤدي الحكومة الدور نفسه الذي‬

‫‪ُ 7‬مقتبس يف هينري هازلت‪ ،‬فشل االقتصاد اجلديد‪ .‬صفحة ‪.277‬‬

‫‪59‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫يؤديه البطل الخارق يف املجالت التصويرية واألفالم‪ :‬فهو كيل الوجود‪ ،‬وكيل العلم‪ ،‬وهو‬
‫القوة القاهرة التي تحتاج فقط تحديد املشاكل ملعالجتها عىل نحو مُريض‪ .‬لهذا‪ ،‬إ َّن‬
‫الحكومة ليست مشمولة بمفهوم تكاليف الفرصة البديلة‪ ،‬ونادرا ً ما يتم النظر يف النتائج‬
‫السلبية للتدخل الحكومي يف النشاطات االقتصادية‪ ،‬حتى وإن تم النظر فيها‪ ،‬فإن ذلك‬
‫يحصل فقط لتربير املزيد من التدخل الحكومي‪ .‬لهذا‪ ،‬فقد تم تنحية التقاليد الليربالية‬
‫أساس االزدهار االقتصادي‪ ،‬يف حني أن‬ ‫َ‬ ‫الكالسيكية التي اعتربت الحرية االقتصادية‬
‫املروِّجني الحكوميني املتنكرين عىل هيئة االقتصاديني قاموا بتقديم الكساد العظيم‪ ،‬والذي‬
‫كانت القيود الحكومية سببَ تفاقمه‪ ،‬كدحض لألسواق الحرة‪ .‬فكان الليرباليون‬
‫الكالسيكيون أعدا ًء مع األنظمة السياسية يف الثالثينات‪ ،‬وقد تم قتلهم ومطاردتهم من‬
‫ظهم أنه تم اضطهادهم بشكل أكاديمي‬ ‫روسيا‪ ،‬وإيطاليا‪ ،‬وأملانيا والنمسا‪ ،‬ولحسن ح ِّ‬
‫فقط يف الواليات املتحدة وبريطانيا‪ ،‬حيث كافح أولئك العمالقة يف سبيل العثور عىل‬
‫العمالة‪ ،‬يف حني مأل البريوقراطيون متوسطو الفهم واإلحصائيون الفشلة أقسام االقتصاد‬
‫يف جميع الجامعات بعلمهم الزائف وإيمانهم الوهمي‪.‬‬

‫إن املناهج االقتصادية املُعتَمدة اليوم من الحكومة ال تزال تلوم املعيار الذهبي‬
‫يف موضوع الكساد العظيم‪ .‬ذلك املعيار الذهبي نفسه الذي أ َنتج أكثر من أربعة عقود من‬
‫النمو واالزدهار العاملي غري املنقطع بني ‪ 1870‬و‪ 1914‬قد توقف فجأة عن العمل يف‬
‫الثالثينات‪ ،‬ألنه لم يسمح للحكومات بتوسيع عرضها النقدي ملكافحة الكساد الذي لم‬
‫يتمكن هؤالء االقتصاديني من تفسري أسبابه إال عرب ايحائات كينزية ل ِـ "أرواح‬
‫الحيوانات" التي ال معنى لها‪ .‬وال يبدو أ َّن أيا ً من هؤالء االقتصاديني قد الحظ أنه إذا‬
‫كانت املشكلة هي باملعيار الذهبي‪ ،‬فإن استبعاده كان من شأنه أن يتسبب ببداية التعايف‬
‫واالنتعاش‪ .‬عوضا ً عن ذلك‪ ،‬استغرق األمر أكثر من عقد بعد استبعاده الستئناف النمو‪.‬‬
‫إن النتيجة الجليَّة ألي شخص لديه فهم أسايس للنقد واالقتصاد هي أن االنهيار العظيم‬
‫عام ‪ 1929‬نتج بسبب االبتعاد عن املعيار الذهبي يف سنوات ما بعد الحرب العاملية األوىل‪،‬‬
‫وأن زيادة عمق الكساد كان سببه سيطرة الحكومة وإضفاء الطابع االجتماعي عىل‬
‫االقتصاد يف سنوات هوفر وروزفليت‪ .‬ولم يكن الستبعاد وتعليق املعيار الذهبي أو‬
‫لإلنفاق يف زمن الحرب أي صلة بالتخفيف من حدة الكساد العظيم‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫فلقد تحطمت سفينة التجارة العاملية عىل شواطئ النقود الورقية املتذبذبة‬
‫رسعان خروج االقتصادات الرئيسية يف العالم عن املعيار الذهبي‪ ،‬حيث أنه يف ظل عدم‬
‫وجود قيمة معيارية تسمح بوجود آلية أسعار دولية‪ ،‬ومع تزايد الدوافع االستبدادية‬
‫واالنعزالية للحكومات‪ ،‬ظهر التالعب بالعملة كأداة من أدوات السياسة التجارية‪َ .‬ف َسعَ ت‬
‫الدول إىل خفض قيمة عمالتها من أجل منح ميزة لصادرتها‪ ،‬وبهذا تم تشييد املزيد من‬
‫الحواجز التجارية‪ ،‬وأصبحت القومية االقتصادية من أخالقيات تلك الحقبة لكن بالطبع‬
‫ً‬
‫سوية قبل‬ ‫مع وجود عواقب وخيمة ُمتَوَقعة‪ .‬وبهذا األمر‪ ،‬أصبح لدى الدول التي ازدهرت‬
‫أربعني عاما ً بممارسة العمل التجاري تحت ظل املعيار الذهبي العاملي الواحد‪ ،‬أصبح‬
‫لديها حواجز نقدية وتجارية كبرية فيما بينها‪ ،‬وقادة شعبويون صاخبون ألقوا اللوم‬
‫لجميع إخفاقاتهم عىل دول أخرى‪ ،‬مما تسبب بموجة متصاعدة من القومية الحاقدة التي‬
‫رسعان ما حققت نبوءة "أوتو مالريي"‪" :‬إذا لم يتجاوز الجنود الحدود الدولية‪ ،‬يجب‬
‫عىل السلع أن تتجاوزها‪ ،‬وإذا لم يتم إسقاط القيود عن التجارة‪ ،‬سيتم إسقاط القنابل من‬
‫‪8‬‬
‫السماء"‪.‬‬

‫احلرب العاملية الثانية و"برايتون وودز"‬


‫بالفعل‪ ،‬لقد سقطت القنابل من السماء‪ ،‬وسقط معها عدد ال يُحىص من القتل والرعب‬
‫الذي ال يمكن تصورهما‪ .‬فآالت الحرب التي بَنتها االقتصادات املوجَّ هة من قِ بل الحكومة‬
‫كانت أكثر تقدما ً من أي وقت َش ِهده العالم‪ ،‬وكان هذا بفضل شعبية أخطر وأسخف‬
‫املغالطات الكينزية والتي تعتقد أن اإلنفاق الحكومي عىل الجهود العسكرية سوف يساعد‬
‫عىل التعايف االقتصادي‪ ،‬حيث أن اإلنفاق بجميع أشكاله يتساوى يف اقتصاديات الكينزيني‬
‫رسهم أو من حكومات‬ ‫الساذجة‪ ،‬ولذلك ال يهم إذا كان هذا اإلنفاق يأتي من أفراد يعيلون أ ُ َ َ‬
‫تقتل األجانب؛ فكلها تصب يف الطلب الكيل وكلها تُقلِّل من البطالة! ومع تزايد عدد‬
‫األشخاص الذين عانوا من الجوع خالل فرتة الكساد‪ ،‬قامت كل الحكومات الرئيسية‬
‫باإلنفاق وبشكل َسخِ ي عىل تسليح نفسها‪ ،‬والنتيجة كانت هي العودة إىل الدمار الذي ال‬

‫‪ 8‬أوتو مالريي‪ ،‬االحتاد االقتصادي والسالم الدائم (هاربر واألخوة‪ ،)1943 ،‬الصفحة ‪.10‬‬

‫‪61‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫معنى له يف العقود الثالثة السابقة‪.‬‬

‫بالنسبة لخرباء االقتصاد الكينزيني‪ ،‬كانت الحرب هي سبب االنتعاش‬


‫االقتصادي‪ ،‬وإذا نظرنا إىل الحياة من خالل عدسة اإلحصائيات التي جمعها‬
‫البريوقراطيون الحكوميون‪ ،‬فإن فكر ًة سخيف ًة كهذه يمكن القبول والتمسك بها‪ .‬فمع‬
‫ارتفاع درجة اإلنفاق الحكومي والتجنيد اإلجباري يف الحرب‪ ،‬ارتفع اإلنفاق اإلجمايل بينما‬
‫تراجعت معدالت البطالة بشكل رسيع‪ ،‬لذلك تعافت جميع الدول املشاركة يف الحرب‬
‫العاملية الثانية بسبب مشاركتها يف هذه الحرب‪ .‬يمكن ألي شخص غري مُبتىل بداء‬
‫االقتصاد الكينزي إدراك أ َّن الحياة خالل الحرب العاملية الثانية‪ ،‬ال يمكن وصفها بأي‬
‫شكل من أشكال الخيال بأنها "انتعاش اقتصادي" حتى يف الدول التي لم تشهد حربا ً‬
‫عىل أراضيها مثل الواليات املتحدة‪ .‬فإضاف ًة إىل املوت والدمار‪ ،‬فإن عملية تكريس الكثري‬
‫من رؤوس األموال وموارد اليد العاملة يف الدول املتحاربة لصالح املجهود الحربي أدَّت إىل‬
‫نقص حاد يف اإلنتاج داخل حدود الوطن‪ ،‬مما أدى إىل تخصيص وتقنني األسعار والتحكم‬
‫فيها‪ .‬ففي الواليات املتحدة‪ ،‬تم حظر بناء مساكن جديدة وتم حظر إصالح املساكن‬
‫أن الجنود الذين يقاتلون يف الصفوف‬ ‫القائمة‪ 9.‬وبشكل أوضح‪ ،‬ال يمكن للمرء أن يَدَّعي َّ‬
‫األمامية يف الحرب ويموتون‪ ،‬وهم يُش ِّكلون نسبة كبرية من سكان الدول املتحاربة‪ ،‬هم‬
‫جنود يستمتعون بأي شكل من أشكال االنتعاش االقتصادي‪ ،‬بغض النظر عن مقدار‬
‫اإلنفاق الكيل الذي تم إنفاقه عىل صنع األسلحة التي كانوا يحملونها‪.‬‬

‫ويف أعقاب الحرب العاملية الثانية‪ ،‬جاءت إحدى أكثر الرضبات املدمرة‬
‫للنظريات الكينيزية والتي تَدَّعي أن الطلب الكيل هو مُح ِّد ٌد لحالة االقتصاد وقد كان هذا‬
‫األمر يف الواليات املتحدة بالتحديد‪ .‬حيث التقت مجموعة من العوامل "وتآمرت" لتقلِّص‬
‫من اإلنفاق الحكومي بشكل كبري‪ ،‬األمر الذي دفع باالقتصاديني الكينزيني يف تلك الحقبة‬
‫إىل توقع املوت والظالم للفرتة التي ستتبع الحرب‪ :‬حيث أ َّن نهاية األعمال العسكرية قامت‬
‫بتقليل اإلنفاق العسكري الحكومي بشكل كبري‪ ،‬ثم إ َّن موت "روزفلت" القوي‬

‫‪ 9‬روبرت هيغز "احلرب العاملية الثانية وانتصار الكينيزية" ‪ ،2001‬مقالة حبثية اتبعة ملؤسسة مستقلة‪ .‬متوفرة على‬
‫‪http://www.independent.org/publications/article.asp?id=317‬‬

‫‪62‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫والشعبوي‪ ،‬واستبداله بعد ذلك من قِ بَل األكثر وداعة واألقل رمزية "ترومان" ملواجهة‬
‫الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون‪ ،‬قام بإنشاء جمود وأزمة سياسية حالت دون‬
‫تجديد قوانني الصفقة الجديدة‪ .‬وعند تحليل كل هذه العوامل مجتمعة من قبل‬
‫االقتصاديني الكينزيني‪ ،‬فإنها تشري إىل كارثة وشيكة تماما ً كما طرح "بول‬
‫سامويلسون" ‪ ،‬الرجل الذي كتب الكتب الدراسية للتعليم االقتصادي يف فرتة ما بعد‬
‫الحرب عام ‪:1943‬‬

‫االستنتاج النهائي الذي تم استخالصه من تجربتنا يف نهاية الحرب األخرية ال‬


‫مفر منه‪ :‬فإذا انتهت الحرب فجأة يف غضون األشهر الستة املقبلة‪ ،‬وإذا قمنا‬
‫بإنهاء مجهوداتنا الحربية بال تخطيط مسبق وبترسع كبري‪ ،‬وذلك عن طريق‬
‫ترسيح قواتنا املسلحة‪ ،‬وتصفية ضوابط األسعار من أجل أن ننتقل من عجز‬
‫فلكي إىل عجز أكرب يف الثالثينيات‪ ،‬عندئذٍ‪ ،‬سنشهد أكرب فرتة من البطالة‬
‫‪10‬‬
‫والتفكك الصناعي سيواجهها أي اقتصاد عىل اإلطالق‪.‬‬

‫فنهاية الحرب العاملية الثانية وتفكيك الصفقة الجديدة كانت تعني َّ‬
‫أن‬
‫الحكومة األمريكية قامت بخفض إنفاقها بنسبة مذهلة بلغت ‪ %75‬بني عامي ‪1944‬‬
‫و‪ ،1948‬كما أنها أزالت معظم ضوابط األسعار كإجراء احتياطي‪ .‬مع ذلك‪ ،‬شهد‬
‫االقتصاد األمريكي ازدهارا ً غري اعتيادي خالل هذه السنوات‪ ،‬حيث عاد ما يقارب ال ‪10‬‬
‫مليون رجل إىل ديارهم بعد أن تم حشدهم للحرب‪ ،‬وتم استيعابهم بسالسة يف القوى‬
‫العاملة‪ ،‬وازدهر اإلنتاج االقتصادي وحلَّق يف وجه جميع التنبؤات الكينيزية‪ ،‬وقام بسحق‬
‫أن مستوى اإلنفاق هو ما‬ ‫وتدمري الفكرة السخيفة بشكل كيل‪ ،‬تلك الفكرة التي تدَّعي َّ‬
‫يحدد الناتج يف االقتصاد‪ .‬فحاملا انحرس التخطيط املركزي الحكومي ألول مرة منذ انهيار‬
‫عام ‪ 1929‬وبمجرد أن تم السماح لألسعار بأن تتعدل بشكل حر‪ ،‬قامت هذه األسعار‬
‫بتأدية دورها كآلية تنسيق للنشاط االقتصادي‪ ،‬وقامت بمطابقة البائعني واملشرتين‪،‬‬
‫وأدت إىل تحفيز إنتاج السلع املطلوبة من قِ بَل املستهلكني‪ ،‬وإىل تعويض العمال عىل‬

‫‪10‬بول سامويلسون‪" ،‬العمالة الكاملة بعد احلرب"‪ ،‬يف سيمور هاريس‪ ،‬املشاكل االقتصادية اليت تبعت احلرب‬
‫(نيويورك‪ :‬ماكغراي‪-‬هيل‪.)1943 ،‬‬

‫‪63‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫جهودهم‪ .‬لكن يجب اإلضافة أنه مع ذلك‪ ،‬فلم يكن الوضع مثاليا ً‪ ،‬فبقاء العالم بعيدا ً عن‬
‫املعيار الذهبي أدَّى إىل اختالالت دائمة يف العرض النقدي قد تستمر يف مطاردة االقتصاد‬
‫العاملي اليوم بأزمة ِتلْ َو األخرى‪.‬‬
‫التاريخ يكتبه املنترصون هي حقيقة مُسلَّمة بها‪ ،‬لكن ويف عرص النقود‬
‫الحكومية‪ ،‬يَحِ ُّق للمنترصين تقرير األنظمة النقدية أيضا ً‪ ،‬حيث قامت الواليات املتحدة‬
‫باستدعاء ممثيل حلفائها إىل برايتون وودز يف "نيو هامبرش" ملناقشة صياغة نظام‬
‫تجاري عاملي جديد‪ .‬ويمكن القول أن التاريخ لم يكن لطيفا ً جدا ً مع مهنديس هذا النظام‪،‬‬
‫حيث كان ممثل بريطانيا لهذا النظام بالطبع هو "جون ماينارد كينز"‪ ،‬والذي كان من‬
‫املفرتض أن يتم تدمري تعاليمه االقتصادية عىل شواطئ الواقع يف العقود التي أعقبت‬
‫الحرب‪ .‬كما تم الكشف الحقا ً بأن ممثل الواليات املتحدة‪" ،‬هاري ديكسرت وايت"‪ ،‬هو‬
‫شيوعي كان عىل اتصال مع النظام السوفيتي لسنوات عديدة‪ .11‬ففي املعركة عىل النظام‬

‫‪11‬بعد أن مت التحقيق معه وأدىل بشهادته أمام الكونغرس‪ ،‬عاىن وايت من نوبتني قلبيتني وتويف بسبب جرعة زائدة‬
‫من الدواء‪ ،‬واليت من املمكن أن تكون جرعة انتحارية‪ .‬ميكن العثور على نقاش مناسب هلذه احلادثة يف كتاب بن‬
‫ستيل "معركة برايتون وودز"‪ ،‬مما يؤكد وجهة النظر اليت تقول أن وايت كان جاسوساً سوفييتياً‪ .‬وهناك قراءة بديلة‬
‫للوضع ُميكن أن تؤدي إىل منظور أكثر دقة‪ ،‬على الرغم من أهنا لن تكون أكثر من جمرد متلّق‪ .‬فالروابط بني‬
‫التقدميني األمريكيني والشيوعيني الروس سبقت االنقالب الروسي عام ‪ ،1917‬وتضمنت متويالً كبرياً من‬
‫فصل ذلك املؤرخ الربيطاين األمريكي أنتوين سوتون‪.‬‬
‫الوالايت املتحدة للبالشفة وذلك لعزل امللكية الروسية‪ ،‬كما ّ‬
‫فالتقدميون ال"ويلسيون" األمريكيون‪ ،‬الذين كانوا وراء عصبة األمم والحقاً األمم املتحدة‪ ،‬قد حبثوا عن حكومة‬
‫إدارية تكنوقراطية دميقراطية تقدمية‪ ،‬وقد سعوا إىل التعاون بني القوى العاملية اليت ستدعم هذا اهلدف‪ ،‬وإىل خلع‬
‫كل األنظمة وامللكيات الرجعية اليت لن تتعاون مع هذا النظام العاملي‪ .‬لذلك‪ ،‬أدت املصاحل األمريكية دوراً قيادايً‬
‫يف ترويج البالشفة ومساعدهتم ألخذ السلطة‪ ،‬وخاصة عرب "ليون تروتسكي‪ ،‬الذي كان يف نيوورك أثناء الثورة‪،‬‬
‫ويبحث عن دعم وعتاد لرفقائه يف روسيا‪ .‬وبينما كان تروتسكي اشرتاكيا أممياً قد يتعاون مع املصاحل األمريكية‪ ،‬إال‬
‫أنه مل يكن ليحصل على السلطة يف روسيا‪ .‬وبدالً من ذلك جنح بذلك ستالني وأخذ السلطة من لينني‪ ،‬وذهب‬
‫ابجتاه املزيد من "األبرشية"‪ ،‬وأعطى األولوية لالشرتاكية يف الوطن على حساب التعاون العاملي‪ .‬منذ ذلك الوقت‬

‫‪64‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫النقدي العاملي املخطط مركزياً‪ ،‬كان من املفرتض أن يخرج وايت منترصا ً بخطة تجعل‬
‫كينز ال يبدو معتوها ً كليا ً‪ ،‬فالواليات املتحدة ستصبح مركز النظام النقدي العاملي‪،‬‬
‫وستستخدم دوالراتها كعملة احتياطية عاملية من قبل البنوك املركزية‪ ،‬والتي ستكون‬
‫عمالتها قابلة للتحويل إىل الدوالر بأسعار رصف ثابتة‪ ،‬بينما سيكون الدوالر نفسه قابالً‬
‫للتحويل إىل الذهب بسعر رصف ثابت‪ .‬ولتسهيل هذا النظام‪ ،‬ستأخذ الواليات املتحدة‬
‫الذهبَ من البنوك املركزية يف الدول األخرى‪.‬‬

‫ويف حني كان ممنوعا ً عىل الشعب األمريكي امتالك الذهب‪ ،‬وَعَ دَت الحكومة‬
‫األمريكية بتبديل الدوالر بالذهب للبنوك املركزية يف الدول األخرى بسعر ثابت‪ ،‬مبتدئة بما‬
‫كان يُعرف باسم نافذة رصف الذهب‪ .‬فمن الناحية النظرية‪ ،‬النظام النقدي العاملي كان‬
‫ال يزال قائما ً عىل الذهب‪ ،‬وإذا قامت الحكومة األمريكية باملحافظة عىل قابلية التحويل إىل‬
‫الذهب بعدم تضخيمها لعرض الدوالر بما يتجاوز احتياطاتها من الذهب‪ ،‬وبنفس الوقت‬
‫إذا لم تقم الدول األخرى بتضخيم عرض نقودها بما يتجاوز احتياطاتها من الدوالر‪،‬‬
‫فالنظام النقدي بهذه الصورة كان سيقرتب بشكل فعال من املعيار الذهبي يف حقبة ما‬
‫قبل الحرب العاملية األوىل‪ .‬لم تلتزم الدول بهذا بالطبع‪ ،‬بل ويف الواقع‪ ،‬لم تكن أسعار‬
‫الرصف ثابتة عىل اإلطالق‪ ،‬وتم اتخاذ إجراءات تسمح للحكومات بتعديل هذه النِّسب‬
‫‪12‬‬
‫ملعالجة "االختالل األسايس"‪.‬‬

‫وإلدارة هذا النظام العاملي من أسعار الرصف املأمول ثباتها‪ ،‬وملعالجة أي‬
‫اختالل أسايس محتمل‪ ،‬أنشأ مؤتمر برايتون وودز صندوق النقد الدويل الذي عمل كهيئة‬

‫وصاعداً‪ ،‬حافظ األمريكيون التقدميون على اتصاهلم مع املصاحل الروسية‪ ،‬حماولني أخذ روسيا للتعاون مع املصاحل‬
‫التقدمية األمريكية‪ ،‬ولكن عبثاً‪ .‬هلذا‪ ،‬نستطيع فهم وايت ليس بكونه جاسوساً شيوعياً‪ ،‬ولكن بكونه أمريكياً‬
‫تقدمياً يبحث على التعاون مع البالشفة الروس للمشروع العظيم الذي يتمثل ابلنظام االقتصادي ما بعد احلرب‬
‫الذي حبث عنه األمريكيون التقدميون‪.‬‬

‫‪ 12‬وزارة اخلارجية األمريكية‪" ،‬اجمللد ‪" 1‬إجراءات وواثئق املؤمتر النقدي واملايل لألمم املتحدة‪ ،‬برايتون وودز‪،‬‬
‫نيوهامبشري‪ ،‬يوليو ‪.1944 ،22-1‬‬

‫‪65‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫استقرار يف أسعار الرصف‬


‫ٍ‬ ‫بهدف واضح وهو تحقيق‬ ‫ٍ‬ ‫تنسيق عاملية بني البنوك املركزية‬
‫والتدفقات املالية‪ .‬أي أن برايتون وودز حاول باألساس تحقيق ما حققه املعيار الذهبي‬
‫الدويل يف القرن التاسع عرش بشكل تلقائي‪ ،‬ولكن هنا من خالل التخطيط املركزي‪ ،‬حيث‬
‫أنه يف ظل املعيار الذهبي الكالسيكي‪ ،‬كانت الوحدة النقدية هي الذهب‪ ،‬وتَ َّ‬
‫دفق رأس املال‬
‫والسلع بحرية بني الدول‪ ،‬وتَعدَّل تدفقهما بصورة تلقائية دون حاجة للتحكم املركزي أو‬
‫التوجيه‪ ،‬ولم ينتج عن ذلك يوما ً أزمات يف ميزان املدفوعات‪ :‬بحيث كان يتم نقل أي مبلغ‬
‫من املال أو أي كمية من السلع عرب الحدود ِوفقا ً لتوجيهات مالكيها‪ ،‬ولم تظهر مشاكل يف‬
‫االقتصاد الكيل‪.‬‬

‫لكن يف نظام برايتون وودز‪ ،‬كانت الحكومات تحت سيطرة االقتصاديني‬


‫الكينيزيني الذين اعتربوا السياسة املالية والنقدية النشطة جزءا ً طبيعيا ً ومهما ً من سياسة‬
‫الحكومة‪ .‬وبشكل طبيعي ستؤدي اإلدارة النقدية واملالية املستمرة إىل تذبذب قيمة‬
‫العمالت الوطنية‪ ،‬مُؤديَّة إىل عدم توازن التجارة وتدفقات رأس املال‪ ،‬حيث أنه عندما‬
‫تنخفض قيمة عملة دولة ما‪ ،‬تصبح منتجاتها أرخص بالنسبة إىل األجانب‪ ،‬مما يؤدي إىل‬
‫مغادرة املزيد من السلع من هذه الدولة‪ ،‬فيسعى حاملو هذه العملة إىل رشاء عمالت‬
‫أجنبية لحماية أنفسهم من انخفاض قيمة عملتهم‪ .‬وبما أ َّن تخفيض قيمة العملة عاد ًة ما‬
‫صنعيا ً (زائفة)‪ ،‬فإن رأس املال سيسعى إىل‬ ‫يكون مصحوبا ً بأسعار فائدة منخفضة ُ‬
‫مغادرة البالد ليجد مكانا ً مُجزيا ً أكثر‪ ،‬األمر الذي يؤدي إىل تفاقم انخفاض قيمة العملة‪.‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬فالدول التي حافظت عىل عمالتها بشكل أفضل من غريها كانت تشهد‬
‫تدفق رؤوس األموال إليها كلما قامت دول الجوار بالتخفيض‪ ،‬مما أدى إىل ارتفاع قيمة‬
‫عملتها أكثر‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬إن تخفيض قيمة العملة يزرع بذور املزيد من تخفيض قيمة‬
‫العملة‪ ،‬يف حني أن ارتفاع قيمة العملة يؤدي إىل ارتفاع أكثر للقيمة‪ ،‬األمر الذي يخلق‬
‫إشكالية ديناميكية للحكو َمتَني املعنيَّتَني‪ .‬وال يمكن أن تتواجد مثل هذه املشاكل مع‬
‫املعيار الذهبي‪ ،‬وذلك ألن قيمة العملة كانت ثابتة يف كلتا الدولتني ألنها كانت ذهبية‪ ،‬كما‬
‫أن حركة السلع ورؤوس املال لم تقم بالتأثري عىل قيمة العملة‪.‬‬

‫فآليات التعديل التلقائية للمعيار الذهبي أَمَ نَّت وبشكل دائم أداة قياس ثابتة‬
‫يُمكن بوساطتها قياس كل النشاطات االقتصادية‪ ،‬لكن وجود العمالت ذات سعر الرصف‬

‫‪66‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫العائم سببت اختالالت يف االقتصاد العاملي‪ ،‬وكان دور صندوق النقد الدويل هو القيام‬
‫بموازنة مستحيلة بني جميع حكومات العالم يف محاولة إليجاد شكل ما من االستقرار أو‬
‫"التوازن" يف هذه الفوىض‪ ،‬للحفاظ عىل أسعار الرصف ضمن نطاق تقديري من القيم‬
‫تدفق وحركة التجارة ورأس املال قاما بتغيريها‪ ،‬حيث أنه ومن‬‫املح َّددة مسبقا ً‪ ،‬بينما ُّ‬
‫دون وجود وحدة حسابية مستقرة لالقتصاد العاملي‪ ،‬كانت هذه مهمة يائسة مثل‬
‫محاولة بناء منزل برشيط قياس مرن يتباين طوله كلما يتم استخدامه‪.‬‬

‫وفضال ً عن إنشاء املرصف الدويل وصندوق النقد الدويل يف برايتون وودز‪،‬‬


‫أرادت الواليات املتحدة وحلفاؤها إنشاء مؤسسة مالية دولية أخرى تتخصص يف تنظيم‬
‫السياسة التجارية‪ .‬واملحاولة األولية إلنشاء منظمة التجارة الدولية فشلت بعد أن رفض‬
‫الكونجرس األمريكي املصادقة عىل املعاهدة‪ ،‬ولكن بعد ذلك تم البحث عن بديل يف‬
‫االتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارية والتي بدأت عام ‪ ،1948‬بحيث كان‬
‫هدف االتفاقية هو مساعدة صندوق النقد الدويل يف املهمة املستحيلة ملوازنة امليزانيات‬
‫والتجارة لضمان االستقرار املايل‪ .‬بكلمات أخرى‪ ،‬القيام بالتخطيط املركزي للتجارة‬
‫العاملية وللسياسة املالية والنقدية وذلك من أجل الحفاظ عىل توازنها‪ ،‬وكأن هذا يشء‬
‫يمكن تحقيقه‪.‬‬

‫إن أحد الجوانب املهمة والذي كان غالبا ً يتم إغفاله يف نظام برايتون وودز هو‬
‫أ َّن معظم الدول األعضاء قامت بنقل كميات كبرية من احتياطاتها من الذهب إىل الواليات‬
‫املتحدة واستلمت دوالرات لقاء له بمعدل ‪ 35‬دوالرا ً لألونصة الواحدة‪ ،‬وكان التربير‬
‫املنطقي لذلك هو أ َّن الدوالر األمريكي سيصبح العملة العاملية للتجارة‪َّ ،‬‬
‫وأن البنوك‬
‫املركزية ستستخدمه للتداول ولتسوية حساباتها‪ ،‬متجنبني بذلك الحاجة إىل النقل املادي‬
‫للذهب‪ .‬فكان هذا النظام يف جوهره أشبه بإدارة كامل االقتصاد العاملي كدولة واحدة‬
‫تعمل وفقا ً للمعيار الذهبي‪ ،‬حيث أدَّى االحتياطي الفيدرايل األمريكي دور البنك املركزي‬
‫العاملي‪ ،‬وأدَّت جميع البنوك املركزية العاملية دور املصارف اإلقليمية‪ ،‬وكان الفارق‬
‫األسايس هو فقدان االنضباط النقدي للمعيار الذهبي بشكل كامل تقريبا ً يف هذا العالم‪،‬‬
‫حيث لم يكن هناك ضوابط فعالة عىل توسيع العرض النقدي يف جميع البنوك املركزية‪،‬‬
‫ألنه لم يكن هناك إمكانية للمواطنني الستبدال نقودهم الحكومية بالذهب‪ .‬وكان بإمكان‬

‫‪67‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الحكومات وحدها استبدال دوالراتها بالذهب من الواليات املتحدة‪ ،‬لكن اتَّضح َّ‬
‫أن هذا‬
‫متوقعا ً‪ .‬فقيمة كل أونصة ذهب تقاضت البنوك املركزية‬‫َّ‬ ‫األمر أكثر تعقيدا ً مما كان‬
‫األجنبية ‪ 35‬دوالرا ً لقاءها يف ذلك الوقت‪ ،‬تبلغ اليوم حوايل ‪1200‬دوالر‪.‬‬

‫فالتَّوسعية النقدية أصبحت هي النهج العاملي الجديد‪ ،‬وأثبتت الصلة الهشة‬


‫ْ‬
‫ووق ِف أزمات ميزان‬ ‫للنظام بالذهب أنها عاجزة عن وَ ْقف إفساد العمالت العاملية‬
‫املدفوعات املستمرة والتي تؤثر عىل معظم الدول‪ .‬فوُضعت الواليات املتحدة يف موضع‬
‫مميز مشابه لإلمرباطورية الرومانية لنهب وتضخيم العرض النقدي الذي استخدمه‬
‫معظم العالم القديم‪ ،‬مع اعتبار أن املوضع هنا أوسع نطاقا ً وبشكل كبري‪ .‬فبفضل انتشار‬
‫عملتها يف جميع أنحاء العالم‪ ،‬واضطرار البنوك املركزية لالحتفاظ بدوالراتها كاحتياطي‬
‫للتداول بها فيما بينها‪ ،‬أمكن للحكومة األمريكية جمع رسوم صك العملة بشكل كبري من‬
‫توسيع عرض الدوالر‪ ،‬كما لم يكن لديها سبب للقلق بشأن مواجهة أي عجز يف ميزان‬
‫املدفوعات‪ .‬ولهذا‪ ،‬صاغ االقتصادي الفرنيس "جاك روف" عبارة "عجز من غري دموع"‬
‫لوصف الواقع االقتصادي الجديد الذي تعيشه الواليات املتحدة‪ ،‬حيث كان بإمكانها رشاء‬
‫كل ما رغبت به من العالم وذلك من خالل تمويله عن طريق َديْن يُحول إىل نقد من خالل‬
‫تضخيم العملة التي يستخدمها العالم بأرسه‪.‬‬

‫إن القيود املالية النسبية يف السنوات القليلة األوىل بعد الحرب العاملية الثانية‬
‫رسعان ما أفسحت املجال أمام اإلغراء السيايس الذي ال يمكن مقاومته وسمحت له برشاء‬
‫وجبات الغداء املجانية من خالل التضخم‪ ،‬وخاصة للصناعة الحربية ون ُظم الرفاه‬
‫االجتماعي‪ .‬فنمت الصناعة العسكرية التي ازدهرت خالل الحرب العاملية الثانية إىل ما‬
‫أ َطلق عليه الرئيس "إيزنهاور" "املُجمَّع الصناعي العسكري" ‪ -‬وهو تَكتُّل هائل من‬
‫الصناعات التي كانت قوية بما يكفي لطلب تمويل متزايد من الحكومة‪ ،‬ود َْفع السياسة‬
‫الخارجية األمريكية نحو سلسلة ال نهاية لها من النزاعات باهظة الثمن دون هدف نهائي‬
‫عقالني أو هدف واضح‪ .‬وقد ادَّعت العقيدة الكينزية املتشددة أ َّن هذا اإلنفاق سيكون‬
‫نافعا ً لالقتصاد‪ ،‬األمر الذي جعل ماليني األرواح التي تم تدمريها مستساغا ً أكثر بالنسبة‬
‫للناخبني األمريكيني‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫يمكن اإلضافة أيضا ً أن الشعب األمريكي استساغ آلة الحرب هذه بشكل كبري‬
‫وسعوا نظام الرفاه االجتماعي ليكون‬ ‫وذلك ألنها جاءت من نفس السياسيني الذين َّ‬
‫بأشكال وصيغ مختلفة‪ .‬فابتدا ًء من مرشوع املجتمع العظيم وانتها ًء باإلسكان‪ ،‬والتعليم‬
‫والرعاية الصحية‪ ،‬سمحت النقود الورقية للناخبني األمريكيني بتجاهل قوانني االقتصاد‪،‬‬
‫وباالعتقاد أنه من املمكن توفري وجبة غداء مجانية‪ ،‬أو عىل األقل توفري وجبة عليها حسم‬
‫دائم‪ .‬ففي غياب قابلية التحويل إىل الذهب وحضور القدرة عىل توزيع تكاليف التضخم‬
‫عىل بقية العالم‪ ،‬تشكلت الصيغة السياسية الرابحة الوحيدة من زيادة اإلنفاق الحكومي‬
‫املُمَّول من التضخم‪ ،‬حيث شهدت كل فرتة رئاسة بعد الحرب نموا ً يف اإلنفاق الحكومي‬
‫والدَّين الوطني‪ ،‬وخسارة يف القوة الرشائية للدوالر‪ ،‬حيث أنه ويف ظل النقود الورقية التي‬
‫تُمِّول الحكومة‪ ،‬تختفي االختالفات السياسية بني األحزاب بحيث أن السياسة لم تعد‬
‫تحتوي عىل املقايضات‪ ،‬ويمكن بذلك لكل مرشح أن ينارص كل القضايا‪.‬‬

‫السجل التارخيي للنقد احلكومي‬


‫إن الرابط الضعيف للقدرة عىل تبديل الذهب كان تفصيالً مزعجا ً بالنسبة إىل السياسة‬
‫ضني‪ :‬أوالً‪ ،‬سوق الذهب العاملي‬‫التضخمية لحكومة الواليات املتحدة‪ ،‬وقد تَج َّىل ذلك يف عَ َر َ‬
‫كان يسعى دائما ً إىل عكس واقع التضخم من خالل سعر أعىل للذهب‪ ،‬وقد تم تَناوُل ذلك‬
‫عن طريق إنشاء مُجمَّع الذهب يف لندن‪ ،‬والذي سعى إىل تخفيض سعر الذهب عن طريق‬
‫طرح بعض احتياطاته التي تحتفظ بها الحكومات يف السوق‪ .‬ولقد نجح هذا بشكل‬
‫مؤقت فقط‪ ،‬ولكن يف عام ‪ 1968‬كان ال بُ َّد من إعادة تقييم قيمة الدوالر األمريكي مقارنة‬
‫بالذهب وذلك لإلقرار بسنوات التضخم التي عانى فيها‪ .‬ثانياً‪ ،‬إن بعض الدول بدأت‬
‫بمحاولة اسرتداد احتياطي الذهب الخاص بها من الواليات املتحدة ألنها بدأت تُدرك‬
‫القدرة الرشائية املتناقصة لنقودها الورقية‪ ،‬لدرجة أن الرئيس الفرنيس "شارل ديغول"‬
‫أرسل حاملة عسكرية فرنسية إىل نيويورك الستعادة ذهب بالده‪ ،‬لكن عندما حاول األملان‬
‫اسرتداد ذهبهم‪ ،‬اتخذت الواليات املتحدة قرارا ً بعدم إرجاع الذهب‪ .‬فاحتياطات الذهب‬
‫كانت تتناقص‪ ،‬ويف ‪ 15‬أغسطس ‪ ،1971‬أعلن الرئيس "ريتشارد نيكسون" نهاية قابلية‬
‫تحويل الدوالر إىل ذهب‪ ،‬األمر الذي سمح لسعر الذهب بأن يعوم يف السوق بشكل حر‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫نتيجة لذلك‪ ،‬تَخلَّفت الواليات املتحدة عن الوفاء بالتزامها بتحويل دوالراتها للذهب‪ ،‬وأما‬
‫أسعار الرصف الثابتة بني عمالت العالم والتي تم تكليف صندوق النقد الدويل باملحافظة‬
‫عليها‪ ،‬فقد تُركت ليتم تحديدها من قِ بَل حركة السلع ورؤوس األموال عرب الحدود‪ ،‬ويف‬
‫أسواق الرصف األجنبي التي تزداد تعقيداً‪.‬‬

‫وبعد أن تحررت الواليات املتحدة من آخر قيود التظاهر ِب َر ّد الذهب‪َّ ،‬‬


‫وَسعَ ت‬
‫الحكومة األمريكية سياستها النقدية بنطاق غري مسبوق‪ ،‬مُسبَّبة انخفاضا ً كبريا ً يف القوة‬
‫الرشائية للدوالر‪ ،‬وارتفاعا ً شامال ً يف األسعار يف جميع املجاالت‪ ،‬ثم ألقت الحكومة‬
‫األمريكية واقتصاديوها اللوم عىل كل يشء وعىل كل فرد‪ ،‬باستثناء املنشأ الفعيل الوحيد‬
‫الرتفاع األسعار‪ ،‬وهو زيادة العرض النقدي للدوالر األمريكي‪ .‬وكانت معظم العمالت‬
‫األخرى أسوء حاال ً‪ ،‬حيث كانت هذه العمالت ضحية تضخم الدوالر األمريكي الذي‬
‫يدعمها‪ ،‬إضاف ًة إىل التضخم من قبل البنوك املركزية التي تُصدرها‪.‬‬

‫وخطوة الرئيس نيكسون أتمَّت هذه العملية التي بدأت مع الحرب العاملية‬
‫األوىل‪ ،‬وذلك بتحويل االقتصاد العاملي من معيار ذهبي عاملي إىل معيار يستند عىل عدة‬
‫ً‬
‫عوملة جنبا ً إىل جنب مع التقدم‬ ‫عمالت تصدرها الحكومات‪ .‬فبالنسبة إىل عالَ ٍم كان يزداد‬
‫يف مجال النقل واالتصاالت‪َ ،‬ش َّكلت أسعار الرصف املتقلبة بشكل حر ما وصفه "هوبه"‬
‫بأنه "نظام من املقايضة الجزئية"‪ 13.‬فرشاء األشياء من األفراد الذين يعيشون عىل‬
‫الجانب اآلخر من الخطوط الوهمية املرسومة يف الرمال أصبح يتطلب أكثر من وسيط‬
‫تبادل واحد‪ ،‬وأعاد إثارة مشكلة الزمن القديم ِبنُدرة تطابق الرغبات‪ .‬ويف هذه املشكلة ال‬
‫يرغب البائع بالعملة التي يمتلكها املشرتي‪ ،‬وبهذا يتوجب عىل املشرتي رشاء عملة أخرى‬
‫أوال ً وتُحمُّ ل تكاليف التحويل‪ .‬وبينما يستمر التقدم يف مجال النقل واالتصاالت يف زيادة‬
‫التكامل االقتصادي العاملي‪ ،‬إال أن االرتفاع يف تكلفة عدم الكفاءة الحاصلة يستمر‬
‫باالزدياد‪ .‬فوجود سوق الرصف األجنبي الذي يبلغ حجمه خمسة تريليونات دوالر من‬
‫حجم التداول اليومي‪ ،‬نتج فقط بسبب غياب الكفاءة من عدم وجود عملة دولية واحدة‬

‫‪13‬هانز هرمان هوبه‪" ،‬كيف تكون العملة الورقية ممكنة؟" مراجعة االقتصاد النمساوي‪ ،‬اجمللد ‪ ،7‬رقم ‪2‬‬
‫(‪.)1994‬‬

‫‪70‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫متجانسة عاملية‪.‬‬

‫ويف حني تُنتج معظم الحكومات عمالتها الخاصة‪ ،‬أنتجت الحكومة األمريكية‬
‫العملة االحتياطية الرئيسية التي استخدمتها الحكومات األخرى لدعم عملتها‪ ،‬وكانت هذه‬
‫هي املرة األوىل يف تاريخ البرشية التي يَستخدم فيها الكوكب بأكمله النقد الحكومي‪.‬‬
‫وبينما يتم اعتبار هذه الفكرة بأنها طبيعية وغري قابلة للشك يف معظم الدوائر األكاديمية‪،‬‬
‫إال أنه من الجدير بنا أن نتفحَّ ص سالمة هذا الشكل السائد من النقد‪.‬‬

‫فنظرياً‪ ،‬يمكننا استحداث أصول نادرة صناعيا ً إلكسابها دورا ً نقدياً‪ ،‬وهذا ما‬
‫فعلته حكومات هذا العالم بعد التخيل عن املعيار الذهبي كما فعل مؤسس البيتكوين‬
‫أيضاً‪ ،‬ولكن كانت النتائج متناقضة‪ .‬فبعد قطع الرابط بني النقود الورقية والذهب‪ ،‬كانت‬
‫رسعة نمو العرض النقدي الورقي أكرب منه مقارنة بالذهب‪ ،‬وكنتيجة لذلك‪ ،‬شهدت‬
‫العمالت انهيارا ً يف قيمتها مقارن ًة بالذهب‪ .‬حيث بلغ مجموع مقياس العرض النقدي ‪M2‬‬
‫يف الواليات عام ‪ 1971‬حوايل ‪ 600‬مليار دوالر‪ ،‬يف حني أنه يتجاوز اليوم ‪ 12‬تريليون‬
‫دوالر بمعدل نمو سنوي يبلغ ‪ .%6.7‬باملقابل ويف عام ‪ ،1971‬كان سعر أونصة واحدة‬
‫من الذهب ‪ 35‬دوالراً‪ ،‬وتبلغ قيمتها اليوم أكثر من ‪ 1200‬دوالر‪.‬‬

‫إن النظر إىل السجل التاريخي للنقود الحكومية سريسم لنا صورة مختلطة عن‬
‫نسبة املخزون إىل التدفق للعمالت املختلفة عرب الوقت‪ .‬فالعمالت املستقرة والقوية نسبيا ً‬
‫يف البلدان املتقدمة شهدت عادة معدالت نمو يف عرضها من أرقام فردية‪ ،‬ولكن بتباين‬
‫كبري‪ ،‬ويشمل ذلك تقليص العرض أثناء فرتات الركود‪ 14.‬أما عمالت البلدان النامية فقد‬
‫شهدت يف كثري من األحيان معدالت نمو يف عرضها أقرب إىل السلع االستهالكية‪ ،‬مما أدى‬
‫إىل تضخم كارثي ودمار ثروة املالكني‪ .‬ويُقدم لنا املرصف الدويل بيانات عن نمو النقود‬
‫باملعنى الواسع يف ‪ 167‬بلدا ً يف الفرتة بني عامي ‪ 1960‬و‪ .2015‬وبيانات املعدل السنوي‬

‫‪ 14‬هذه ميزة هامة للنقد احلكومي لكنها ال حتظى عادةً بتقدير كاف‪ .‬ينخفض العرض النقدي عند سداد الديون‬
‫أو إفالس املقرتض بسبب استحداث البنوك للنقد عند إصدار القروض‪ .‬وميكن أن يزداد أو ينقص العرض النقدي‬
‫اعتماداً على جمموعة متنوعة من قرارات احلكومة والبنوك املركزية‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫‪140‬‬

‫‪120‬‬

‫‪100‬‬

‫‪80‬‬

‫‪60‬‬

‫‪40‬‬

‫‪20‬‬

‫‪0‬‬
‫‪1960‬‬ ‫‪1970‬‬ ‫‪1980‬‬ ‫‪1990‬‬ ‫‪2000‬‬ ‫‪2010‬‬

‫شكل ‪ :6‬متوسط معدل النمو السنوي للنقد باملعنى الواسع لـ‪167‬‬


‫عملة‪.2015-1960 ،‬‬

‫لجميع الدول موضحة يف الشكل رقم ‪ .6‬ويف حني أن هذه البيانات ليست كاملة لجميع‬
‫البلدان وجميع السنوات‪ ،‬إال أن متوسط نمو العرض النقدي هو ‪ % 32.16‬سنويا ً لكل‬
‫بلد‪.‬‬

‫إن الرقم ‪ %32.16‬ال يتضمن العديد من سنوات التضخم املفرط والتي دُمِّ رت‬
‫خاللها العملة بالكامل واستُبدلت بعملة جديدة‪ ،‬وبهذا فإن نتائج هذا التحليل ال يمكن أن‬
‫تثبت لنا بشكل قاطع أي من العمالت كانت األسوأ حاالً‪ ،‬وذلك ألن بعضا ً من أهم البيانات‬
‫ال يمكن مقارنتها‪ .‬فبالنظر إىل البلدان التي حققت أعىل متوسط زيادة يف عرضها النقدي‪،‬‬
‫سيَظهر لنا قائمة البلدان التي شهدت عدة حوادث من العناء التضخمي وحظيت بتغطية‬
‫إعالمية واسعة خالل الفرتة املشمولة‪ .‬ويُبني الجدول رقم ‪ 153‬البلدان العرشة التي لديها‬
‫أعىل زيادة باملعدل السنوي يف العرض النقدي‪.‬‬

‫‪ 15‬املصدر‪ :‬املصرف العاملي‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫البلد‬ ‫املعدل‬
‫نيكاراغوا‬ ‫‪480.24‬‬
‫مجهورية الكونغو الدميقراطية‬ ‫‪410.92‬‬
‫أنغوال‬ ‫‪293.79‬‬
‫الربازيل‬ ‫‪266.57‬‬
‫البريو‬ ‫‪198.00‬‬
‫بوليفيا‬ ‫‪184.28‬‬
‫األرجنتني‬ ‫‪148.17‬‬
‫أوكرانيا‬ ‫‪133.84‬‬
‫أذربيجان‬ ‫‪109.25‬‬
‫أرمينيا‬ ‫‪100.67‬‬
‫الجدول ‪ :3‬البلدان العرشة ذات أعىل معدل سنوي للنقد باملعنى الواسع‪،‬‬
‫‪2015-1960‬‬

‫وخالل فرتات التضخم املفرط‪ ،‬يقوم الناس يف البلدان النامية ببيع عملتهم‬
‫الوطنية ويشرتون سلعا ً متينة وأساسية‪ ،‬وذهباً‪ ،‬وعمالت أجنبية‪ .‬والعمالت االحتياطية‬
‫الدولية مثل الدوالر‪ ،‬واليورو‪ ،‬والني والفرنك السويرسي هي عمالت متوافرة يف معظم‬
‫أنحاء العالم وحتى يف األسواق السوداء‪ ،‬وتُلبي جزءا ً كبريا ً من الطلب العاملي عىل مخزون‬
‫للقيمة‪ .‬يصبح السبب يف ذلك واضحا ً عندما يدرس املرء معدل نمو عرضها النقدي والذي‬
‫كان منخفضا ً نسبيا ً عرب الزمن‪ .‬ونظرا ً إىل أنها تُشكل الخيارات الرئيسية املتاحة ملعظم‬
‫الناس يف جميع أنحاء العالم كمخزون للقيمة‪ ،‬يَجدر بنا تفحُّ ص معدالت نمو عرضها‬
‫بشكل منفصل عن العمالت األقل استقراراً‪ .‬فيحتوي الجدول ‪ 4‬قائمة بأكرب عرش عمالت‬
‫يف أسواق الرصف األجنبية‪ ،‬إىل جانب الزيادة السنوية يف العرض النقدي بمعناه الواسع‬
‫يف الفرتات بني ‪ 2015-1960‬و‪ .2015-1990‬ومتوسط معدل العمالت العرش األكثر‬

‫‪73‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫البلد‪/‬املنطقة‬ ‫‪1960–2015‬‬ ‫‪-‬‬


‫‪20151990‬‬
‫الوالايت املتحدة‬ ‫‪7.42‬‬ ‫‪5.45‬‬
‫منطقة اليورو (‪ 19‬دولة)‬ ‫‪5.55‬‬

‫الياابن‬ ‫‪10.27‬‬ ‫‪1.91‬‬


‫بريطانيا‬ ‫‪11.30‬‬ ‫‪7.28‬‬
‫أسرتاليا‬ ‫‪10.67‬‬ ‫‪9.11‬‬
‫كندا‬ ‫‪11.92‬‬ ‫‪10.41‬‬
‫سويسرا‬ ‫‪6.50‬‬ ‫‪4.88‬‬
‫الصني‬ ‫‪21.82‬‬ ‫‪20.56‬‬
‫السويد‬ ‫‪7.94‬‬ ‫‪6.00‬‬
‫نيوزيالندا‬ ‫‪12.30‬‬ ‫‪6.78‬‬
‫الجدول ‪ :4‬النسبة املئوية ملعدل الزيادة السنوية يف عرض النقد بمعناه الواسع ألكرب‬
‫عرش عمالت عاملية‬

‫سيولة دوليا ً هو ‪ %11.13‬يف الفرتة املمتدة بني عامي ‪ 1960‬و‪ ،2015‬و‪ %7.79‬فقط يف‬
‫الفرتة بني ‪ 1990‬و‪ .2015‬ويُظهر هذا أن العمالت األكثر قبوال ً يف العالم والتي تتمتع‬
‫بأعىل قابلية للبيع عىل مستوى العالم‪ ،‬هي تلك العمالت التي لديها نسبة مخزون إىل‬
‫تدفق أعىل من العمالت األخرى‪ ،‬كما يتوقع تحليل هذا الكتاب‪ .‬وفرتة السبعينيات‬
‫والثمانينيات التي احتوت عىل بداية عرص العمالت الوطنية العائمة‪ ،‬كانت فرتة شهدت‬
‫فيها معظم البلدان تضخما ً شديداً‪ ،‬لكن تحسنت األمور بعد عام ‪ ،1990‬وانخفض‬
‫متوسط معدالت نمو العرض‪ .‬وتُظهر بيانات ‪ OECD‬أنه بالنسبة لدول (‪ )OECD‬بلغ‬
‫معدل نمو العرض النقدي السنوي بمعناه الواسع ‪ %7.17‬خالل الفرتة ما بني ‪1990‬‬

‫‪74‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫و‪.2015‬‬

‫يمكننا مالحظة أن العمالت الوطنية الرئيسية يف العالم ينمو عرضها بشكل‬


‫عام بمعدالت منخفضة متوقعة‪ ،‬ولهذا شهدت االقتصادات املتقدمة ازديادا ً بطيئا ً يف‬
‫عرض عمالتها مقارنة باالقتصادات النامية‪ ،‬والتي شهدت ارتفاعا ً أرسع يف األسعار‬
‫والعديد من حاالت التضخم املفرط يف التاريخ الحديث‪ .‬فمعدالت نمو النقد بمعناه الواسع‬
‫يف االقتصادات املتطورة كانت ترتاوح ما بني ‪ %2‬و‪ ،%8‬بمتوسط ‪ %5‬تقريباً‪ ،‬ونادرا ً ما‬
‫تصل إىل أرقام مزدوجة أو تنخفض إىل مناطق سلبية‪ .‬أما معدالت النمو يف البلدان النامية‬
‫فكانت أكثر تذبذباً‪ ،‬حيث أنها كانت تتأرجح يف خانة األرقام املزدوجة‪ ،‬واألرقام ثالثية‬
‫الخانة أحياناً‪ ،‬وحتى األرقام الرباعية أحياناً‪ ،‬بينما تنخفض يف بعض األحيان إىل املناطق‬
‫السلبية‪ ،‬لتعكس عدم االستقرار املايل الكبري يف هذه البلدان والعمالت‪( .‬انظر الشكل ‪7‬‬
‫‪16‬‬
‫)‪.‬‬

‫فالنمو بنسبة ‪ %5‬يف السنة قد ال يبدو كبرياً‪ ،‬لكنه سيُضاعف العرض النقدي‬
‫ألي بلد خالل ‪ 15‬عاما ً فقط‪ .‬وهذا األمر كان هو السبب يف خسارة الفضة للسباق النقدي‬
‫مقابل الذهب‪ ،‬والذي أدَّى معدل نمو عرضه املنخفض إىل انخفاض وتآكل قوته الرشائية‬
‫بشكل أبطأ بكثري‪.‬‬

‫فالتضخم املفرط هو شكل من أشكال الكوارث االقتصادية الفريدة بالنقد‬


‫الحكومي‪ .‬فلم يكن هناك أبدا ً مثال عىل التضخم املفرط يف االقتصادات التي استخدمت‬
‫صنعي الشكل كاألصداف والخرز‬ ‫املعيار الذهبي أو الفيض‪ .‬وحتى عندما فقد النقد ُ‬
‫الزجاجي دوره النقدي مع الزمن‪ ،‬فإنه كان يفقده عادة بشكل بطيء‪ ،‬حيث كانت بدائل‬
‫هذا النقد تستويل عىل القوة الرشائية للنقد السابق بشكل تدريجي‪ .‬لكن مع النقود‬
‫الحكومية التي تميل تكلفة إنتاجها إىل الصفر‪ ،‬أصبح من املمكن وبشكل كبري أن يشهد‬
‫مجتمع بكامله اختفاء كامل مدخراته املوجودة عىل شكل هذا النقد يف غضون أشهر أو‬
‫حتى أسابيع‪.‬‬

‫‪ 16‬املصدر‪.)OECD.Stat( :‬‬

‫‪75‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫اليابان‬ ‫بريطانيا‬ ‫‪0.18‬‬


‫الواليات املتحدة‬ ‫منطقة اليورو‬
‫‪0.16‬‬
‫‪0.14‬‬
‫‪0.12‬‬
‫‪0.1‬‬
‫‪0.0 8‬‬
‫‪0.06‬‬
‫‪0.04‬‬
‫‪0.02‬‬
‫‪0‬‬
‫‪1991‬‬ ‫‪1996‬‬ ‫‪2001‬‬ ‫‪2006‬‬ ‫‪2011‬‬
‫‪–0.02‬‬

‫الشكل ‪ :7‬معدل نمو النقد بمعناه الواسع يف اليابان‪ ،‬بريطانيا‪ ،‬الواليات‬


‫املتحدة ومنطقة اليورو‬

‫فالتضخم املفرط هو أكثر من مجرد ظاهرة تُسبب رضرا ً وخسارة الكثري من‬
‫القيمة االقتصادية للعديد من الناس؛ بل إنه يشكل انهيارا ً تاما ً لبُنية اإلنتاج االقتصادي‬
‫ملجتمع تم بناؤه عىل مدى قرون وآالف السنني‪ .‬فعند انهيار النقد‪ ،‬يصبح من املستحيل‬
‫التداول أو اإلنتاج أو االنخراط يف أي يشء عدا تأمني أساسيات الحياة الرضورية‪ .‬وعند‬
‫انهيار هياكل اإلنتاج والتجارة التي طوَّرتها املجتمعات عرب قرون بسبب عدم قدرة‬
‫املستهلكني واملنتجني والعاملني عىل الدفع لبعضهم البعض‪ ،‬تبدأ السلع التي تُعترب من‬
‫املُسلَّمات بالنسبة إىل البرش باالختفاء‪ ،‬فيُد َّمر رأس املال ويُباع لتمويل االستهالك‪.‬‬
‫بالبداية‪ ،‬تختفي السلع الكمالية‪ ،‬ولكن رسعان ما تتبعها أساسيات البقاء حتى يعود‬
‫البرش إىل حالة بربرية يحتاجون فيها إىل تَدبُّر أمورهم والنضال لتأمني االحتياجات‬
‫األساسية للبقاء‪ .‬عندها ومع تدهور نوعية حياة الفرد بصورة ملحوظة‪ ،‬يبدأ اليأس‬
‫بالتحول إىل غضب‪ ،‬ويُبحث عن أكباش فداء‪ ،‬ويَستغل هذا الوضع أكثر السياسيني‬
‫مراوغة وانتهازاً‪ ،‬مُأجِّ جني غضب الناس للوصول إىل السلطة‪ .‬إن املثال األكثر وضوحا ً عىل‬
‫هذا هو تضخم جمهورية "فايمار" يف العرشينات‪ ،‬حيث أن التضخم املفرط لم يُؤدي‬

‫‪76‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫فقط إىل تدمري وانهيار أحد أكثر اقتصادات العالم تقدما ً وازدهارا ً فحسب‪ ،‬بل عَ َّزز‬
‫وصول "أدولف هتلر" إىل السلطة‪.‬‬

‫لهذا‪ ،‬حتى و إن كانت الكتب املرجعية صادقة بخصوص فوائد اإلدارة‬


‫الحكومية للعرض النقدي‪ ،‬إال أن الرضر الناجم عن حادثة واحدة من التضخم املفرط يف‬
‫أي مكان يف العالم يفوق هذه الفوائد بشكل كبري‪ ،‬ويف هذا القرن الذي تم فيه استخدام‬
‫النقود الحكومية‪ ،‬يوجد لدينا أكثر من مجرد حادثة فاجعة واحدة‪.‬‬

‫وبالتزامن مع كتابة هذه السطور‪ ،‬حان دور فنزويال لتمر بهذه املهزلة وتشهد‬
‫وَ يْالت الدمار الناتجة عن تدمري النقد‪ ،‬ويجدر بنا اإلشارة أن هذه العملية حدثت ‪ 56‬مرة‬
‫منذ نهاية الحرب العاملية األوىل‪ .‬ووفقا ً لبحث "ستيف هانكي" و"تشارلز بوشنل" اللذان‬
‫ُعرفان التضخم املفرط بأنه زيادة بنسبة ‪ %50‬يف مستوى السعر خالل فرتة شهر‪،‬‬ ‫ي ِّ‬
‫‪17‬‬
‫تَم َّكن هانكي وبوشنيل من التحقق من ‪ 57‬حادثة من التضخم املفرط يف التاريخ‪،‬‬
‫وقعت حادثة واحدة منها فقط قبل عرص القومية النقدية‪ ،‬وكان ذلك التضخم يف فرنسا‬
‫عام ‪ ،1795‬عىل أعقاب فقاعة "املسيسيبي" والتي نتجت أيضا ً من خالل النقود‬
‫الحكومية‪َ ،‬‬
‫وصمَّمها األب الفخري للنقود الحكومية الحديثة‪" ،‬جون لو"‪.‬‬

‫فمشكلة النقد الذي تؤمنه الحكومة هي أن صعوبته تعتمد بشكل كيل عىل قدرة‬
‫أولئك املسؤولني عنه بعدم تضخيم عرضه‪ ،‬وذلك ألن القيود السياسية وحدها هي التي‬
‫توفر هذه الصعوبة حاليا ً‪ ،‬وال توجد أي قيود مادية‪ ،‬أو اقتصادية أو طبيعية عىل حجم‬
‫النقود التي يمكن أن تنتجها الحكومة‪ .‬فبينما تتطلَّب كل من املاشية‪ ،‬والفضة‪ ،‬والذهب‬
‫واألصداف البحرية جهدا ً حقيقا ً إلنتاجها‪ ،‬بجانب أنه ال يمكن أبدا ً إنتاجها بكميات كبرية‬
‫برسعة وسهولة‪ ،‬إال أن النقد الحكومي يحتاج أمرا ً من الحكومة فقط‪ .‬وزيادة العرض‬
‫املستمرة تؤدي إىل انخفاض مستمر لقيمة العملة‪ ،‬فيتم بذلك مصادرة ثروات املالكني‬

‫‪ 18‬ستيف هانكي وتشارلز بوشنيل‪" ،‬فنزويال تدخل سجل التاريخ‪ :‬املدخل رقم ‪ 57‬يف جدول هانكي‪-‬كروس‬
‫جلدول التضخم املفرط العاملي"‪" ،‬دراسات يف االقتصاد التطبيقي"‪ ،‬رقم ‪( 69‬ديسمرب ‪.)2016‬‬

‫‪77‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫لصالح أولئك الذين يطبعون العملة‪ ،‬ولصالح أولئك الذين يحصلون عليها باكراً‪ 18.‬ولقد‬
‫أظهر التاريخ أن الحكومات ستستسلم حتما ً إلغراء تضخيم العرض النقدي‪ ،‬سواء أكان‬
‫ذلك بسبب الرسقة أو بسبب "الطوارئ الوطنية" أو غزو املدارس االقتصادية التضخمية‬
‫ُوسعة ُسلطتها‬‫للعقول‪ ،‬فستجد الحكومة دائما سببا ً وطريقة لطباعة املزيد من النقود‪ ،‬م ِّ‬
‫ومُقلِّصة ثروة مالكي العملة‪ .‬إن هذا األمر ال يختلف عن منتجي النحاس الذين‬
‫يستخرجون املزيد منه استجابة للطلب النقدي عليه؛ فهو يكافئ منتجي السلعة النقدية‪،‬‬
‫لكنه يعاقب أولئك الذين يختارون حفظ مدخراتهم بالنحاس‪.‬‬

‫لهذا‪ ،‬إذا أثبتت عملة ما وبشكل موثوق أنه من غري املمكن توسيع عرضها‪،‬‬
‫فستزداد قيمتها كثريا ً وبشكل فوري‪ .‬ففي عام ‪ ،2003‬عندما غزت الواليات املتحدة‬
‫العراق‪ ،‬دمر القصف الجوي البنك املركزي العراقي ودمر معه قدرة الحكومة العراقية‬
‫عىل طباعة دنانري عراقية جديدة‪ .‬فأدى ذلك إىل ارتفاع قيمة الدينار بشكل كبري خالل‬
‫ليلة وضحاها‪ ،‬حيث أصبح العراقيون أكثر ثقة يف العملة نظرا ً لعدم قدرة أي بنك مركزي‬
‫عىل طباعتها بعد اآلن‪ 19.‬لقد حدثت قصة مشابهة للشلنات الصومالية بعد تدمري بنكها‬
‫خفض قيمته بقدر ما يُرغب فيه‬‫املركزي‪ 20.‬لهذا‪ ،‬ال يُرغب بالنقد عندما يكون عرض ًة ألن ت ُ َّ‬

‫‪ 18‬يُطلق على هذا األمر "أتثري الكانتيلون"‪ ،‬تيمناً ابالقتصادي االيرلندي‪ -‬الفرنسي ريتشارد كانتيلون‪ ،‬الذي‬
‫وضحه يف القرن الثامن عشر‪ .‬وفقا لكانتيلون‪ ،‬إن املستفيدين من التوسع يف العرض النقدي هم أول احلاصلني‬
‫على النقد اجلديد‪ ،‬والذين يستطيعون إنفاقه قبل أن يتسبب ابرتفاع األسعار‪ .‬فكل من يستلمه منهم يستطيع‬
‫إنفاقه مع زايدة صغرية يف مستوى السعر‪ .‬ومع إنفاق أكثر للنقود‪ ،‬يرتفع مستوى السعر‪ ،‬إىل أن يعاين آخر‬
‫املستلمني من اخنفاض قوهتم الشرائية احلقيقية‪ .‬هذا هو أفضل تفسري للسؤال القائل‪ :‬ملاذا يؤذي التضخم أفقر‬
‫الناس ويساعد األغن ياء يف االقتصاد احلديث‪ .‬إن أكثر من يستفيد من هذا هم الذين لديهم أفضل وصول إىل‬
‫ائتمان احلكومة‪ ،‬وأكثر من يتضرر من هذا هم أصحاب الدخل الثابت واحلد األدىن من األجور‪.‬‬
‫‪" 19‬الدوالر أو الدينار؟" جملة "ميس ديلي"‪ ،‬متوفر على الرابط ‪https://mises.org/library/dollar-‬‬
‫‪or-dinar‬‬
‫‪ 21‬جي يب كونينغ‪" ،‬عملة يتيمة‪ :‬قضية الشلنات الصومالية الغريبة‪ ".‬متوفر‬
‫‪https://jpkoning.blogspot.ca/2013/03/orphaned-currency-odd-case-of-‬‬
‫‪somali.html?m=1‬‬

‫‪78‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫عندما يكون نادرا ً‪.‬‬

‫و إليكم بعضا ً من األسباب التي قد تجعل النقد الحكومي هو النقد األسايس يف‬
‫عرصنا‪ .‬أوالً‪ ،‬تفرض الحكومات دفع الرضائب بالنقد الحكومي‪ ،‬وهذا يعني ترجيح قبوله‬
‫من األفراد‪ ،‬مما يعطيه ميز ًة يف قابلية بيعه‪ .‬ثانياً‪ ،‬إن رقابة الحكومة وتحكمها بالنظام‬
‫املرصيف تعني أنه ال يمكن للمصارف فتح الحسابات والقيام بالتبادالت إال بالنقد الذي‬
‫قره الحكومة‪ ،‬مما يمنح النقد الحكومي درجة أعىل من قابلية البيع أكثر من أي منافس‬ ‫ت ُ ِّ‬
‫محتمل آخر‪ .‬ثالثاً‪ ،‬قوانني العملة الرسمية يف العديد من البلدان تجعل األمر غري قانوني‬
‫باستخدام أشكال أخرى من النقد للقيام باملدفوعات‪ .‬رابعاً‪ ،‬ال تزال جميع النقود‬
‫الحكومية مدعومة باحتياطيات الذهب‪ ،‬أو مدعومة بعمالت مدعومة باالحتياطات‬
‫الذهبية‪ .‬فوفقا ً للبيانات الصادرة عن مجمع الذهب العاملي‪ ،‬تمتلك البنوك املركزية حاليا ً‬
‫حوايل ‪ 33‬ألف طن من الذهب يف مخزونها االحتياطي‪ .‬حيث أن احتياطات الذهب لدى‬
‫البنوك املركزية ارتفعت بشكل رسيع يف أوائل القرن العرشين حيث صادرت العديد من‬
‫الحكومات ذهبَ شعبها ومصارفها وأجربتهم عىل استخدام نقودها‪ .‬ويف أواخر‬
‫الستينيات‪ ،‬ومع إنهاك نظام برايتون وودز الذي يرزح تحت ضغط زيادة العرض‬
‫بعض من احتياطاتها من الذهب‪ .‬لكن يف عام ‪،2008‬‬ ‫النقدي‪ ،‬بدأت الحكومات يف إفراغ ٍ‬
‫انعكس هذا االتجاه وعادت البنوك املركزية لرشاء الذهب وازداد العرض العاملي‪ .‬إنه ألمر‬
‫مثري للسخرية والدهشة أنه يف عرص النقود الحكومية‪ ،‬تمتلك الحكومات نفسها كمية من‬
‫الذهب يف احتياطاتها الرسمية أكثر مما كانت تمتلكه تحت ظل املعيار الذهبي الدويل يف‬
‫الفرتة ما بني ‪ .1914-1871‬فمن الواضح أن الذهب لم يفقد دوره النقدي‪ ،‬حيث أنه‬
‫سيبقى املطفأة األخرية والوحيدة للدَّين‪ ،‬وهو النقد الوحيد الذي ال تقع قيمته تحت‬
‫مسؤولية أحد‪ ،‬وهو األصل العاملي األسايس الذي ال يوجد به مخاطر تَخلُّف الطرف‬
‫املقابل‪ ،‬لكن تم حظر الوصول إىل دوره النقدي بحيث اقترص ذلك عىل البنوك املركزية‪،‬‬
‫بينما تم توجيه الناس الستخدام النقود الحكومية‪.‬‬

‫ويمكن استخدام احتياطات البنوك املركزية الكبرية من الذهب كعرض طارئ‬


‫للبيع أو التأجري يف سوق الذهب وذلك ملنع ارتفاع سعر الذهب خالل الفرتات التي يزداد‬
‫فيها الطلب عليه‪ ،‬وذلك لحماية الدور االحتكاري للنقود الحكومية‪ ،‬وكما رشح آالن‬

‫‪79‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫غرينسبان ذات مرة‪" :‬البنوك املركزية عىل أهبة االستعداد لتأجري الذهب بكميات متزايدة‬
‫يف حال ارتفع السعر‪(21 ".‬انظر الشكل ‪.)224‬‬

‫ومع تقدم التكنولوجيا التي سمحت بوجود أشكال متعددة من النقد أكثر‬
‫تعقيدًا من ضمنها النقود الورقية التي يسهل حملها‪ ،‬تم اختالق مشكلة جديدة‬
‫بخصوص قابلية بيعها‪ ،‬وهي قدرة البائع عىل بيع سلعته دون تدخل أي طرف ثالث قد‬
‫يضع قيودا ً عىل قابلية بيع هذا النقد‪ .‬فهذه مشكلة لم تكن متواجدة يف النقود السلعية‪،‬‬
‫التي تنشأ قيمتها السوقية من السوق وال يمكن أن تفرضها أطراف ثالثة عىل املبادلة‪:‬‬
‫فاملاشية‪ ،‬وامللح‪ ،‬والذهب والفضة لكل منها أسواقها ومشرتييها الجاهزين‪ ،‬ولكن مع‬
‫النقود التي تصدرها الحكومة والتي لديها قيمة متدنية كسلعة‪ ،‬يمكن لقابلية البيع هذه‬
‫ً‬
‫معلنة أنها لم تعد مناسبة كعملة‬ ‫أن تتعرض لخطر كبري من قبل الحكومة التي تُصدرها‪،‬‬
‫قانونية‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬يمكن للهنود الذين استيقظوا يف ‪ 8‬نوفمرب ‪ 2016‬أن يسمعوا‬
‫خربا ً مفاده أن حكومتهم قد استبعدت العملة الرسمية من فئة ‪ 500‬و‪ 1000‬روبية‪،‬‬
‫وسيُدركوا هذا األمر جيداً‪ .‬ففي طرفة عني‪ ،‬خرست النقود التي كانت قابلة للبيع بشكل‬
‫كبري قيمتها‪ ،‬وأصبح ال بُ َّد من الوقوف يف طوابري طويلة للغاية لدى املصارف الستبدالها‪.‬‬
‫ومع توجه نسبة كبرية من العالم نحو تقليل اعتمادها عىل النقد الورقي‪ ،‬يتم وضع املزيد‬
‫من أموال الناس يف البنوك الخاضعة إلرشاف الحكومة‪ ،‬مما يجعلها عرضة للمصادرة أو‬
‫التحكم برأس املال‪ .‬وحقيقة أن هذه اإلجراءات تحدث عادةً يف أوقات األزمات االقتصادية‬
‫وعندما يكون الفرد يف أقىص حاجته للمال‪ ،‬هي عائق رئييس لقابلية بيع النقود الصادرة‬
‫من الحكومة‪.‬‬

‫فسيطرة الحكومة عىل النقد حولته من كونه مكافأة إلنتاج قيمة إىل مكافأة‬
‫لطاعة املسؤولني الحكوميني‪ .‬فمن غري العميل ألي شخص أن يجمع ثروة بالنقود‬

‫‪" 21‬تنظيم املشتقات خارج البورصة"‪ .‬شهادة الرئيس آالن غرينسبان أمام جلنة اخلدمات املصرفية واملالية‪ ،‬جملس‬
‫النواب األمريكي‪ 24 ،‬يوليو ‪.1998‬‬
‫‪ 23‬املصدر‪ :‬جممع الذهب العاملي‪ ،‬إحصائيات االحتياطات‪ .‬متاح على‪:‬‬
‫‪https://www.gold.org/data/goldreserve‬‬

‫‪80‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫الحكومية دون موافقة هذه الحكومة‪ ،‬ألنه بإمكان الحكومة مصادرة هذه األموال من‬
‫املصارف االحتكارية التي تسيطر عليها‪ ،‬وذلك عرب تضخيم العملة لتخفيض قيمة ثروة‬
‫املالكني وملكافأة رعاياها األكثر وال ًء‪ ،‬ولفرض رضائب قاسية وملعاقبة أولئك الذين‬
‫يتجنبونها‪ ،‬وحتى ملصادرة األوراق النقدية‪.‬‬

‫ففي زمن عالِم االقتصاد النمساوي "مينجر"‪ ،‬كانت املعايري التي تُح ِّدد أفضل‬
‫شكل للنقد تدور حول فهم قابلية بيعه‪ ،‬وعىل ما يختاره السوق كنقد‪ .‬أما يف القرن‬
‫معيار مه ٍم جديد يُضاف إىل‬
‫ٍ‬ ‫العرشين‪ ،‬فقد قامت سيطرة الحكومة عىل النقد بإضافة‬
‫قابلية بيعه‪ ،‬وهو قابلية بيع النقد بناء عىل رغبة مالكيه وليس أي طرف آخر‪ .‬و ِبجمع‬
‫كامل ملصطلح "النقد السليم" كالنقد الذي‬‫ٍ‬ ‫هذَين املعيا َرين سويا ً فإنه سيتم تشكيل فه ٍم‬
‫يتم اختياره بالسوق بحريِّة‪ ،‬وكالنقد الذي يقع بشكل كامل تحت سيطرة الشخص الذي‬
‫اكتسبه بشكل قانوني يف السوق الحرة‪ ،‬وليس أي طرف آخر ثالث‪.‬‬

‫وعىل الرغم من أن "لودفيج فون ميزس" كان مدافعا ً صلبا ً عن دور الذهب‬
‫كنقد يف عرصه‪ ،‬إال أن ميزس أدرك أن هذا الدور النقدي ليس شيئا ً متأصالً أو جوهريا ً‬
‫للذهب‪ .‬فباعتباره واحدا ً من عمداء التقاليد النمساوية يف االقتصاد‪ ،‬أدرك ميزس جيدا ً أنه‬
‫ال وجود للقيمة خارج الوعي البرشي‪ ،‬وأن املعادن واملواد ال تملك أي يشء متأصل فيها‬
‫يمكنه أن يعطيها دورا ً نقدياً‪ .‬فبالنسبة إىل ميزس‪ ،‬إن مكانة الذهب النقدية كانت تعتمد‬
‫عىل تحقيق املعايري الخاصة بالنقد السليم كما فهمها‪:‬‬

‫مبدأ النقد السليم له جانبني؛ جانب إيجابي يف املصادقة عىل اختيار السوق‬
‫لوسيط تبادل شائع االستخدام‪ ،‬وجانب سلبي يف عرقلة نزعة الحكومة بالتدخل‬
‫‪23‬‬
‫يف نظام العمالت‪.‬‬

‫فوفقا ً مليزس‪ ،‬النقد السليم هو ما يختاره السوق بحرية ليكون نقداً‪ ،‬وهو ما‬
‫يبقى تحت سيطرة مالكه‪ ،‬ويف مأمن عن التدخل القرسي‪ .‬فطاملا أن النقد يقع تحت‬

‫‪ 23‬نظرية النقود واالئتمان‪ ،‬الطبعة الثانية (لودويغ فون ميزس إيرفنغتون على موقع هدسون‪ ،‬نيويورك‪ :‬مؤسسة‬
‫التعليم االقتصادي‪ ،)1971 ،‬صفحات من ‪ 414‬إىل ‪.416‬‬

‫‪81‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫سيطرة أي أحد باستثناء املالك‪ ،‬أيا كان من يسيطر عليه‪ ،‬فإنه سيواجه حافزا ً قويا ً للغاية‬
‫لرسقة قيمة هذا النقد من خالل التضخم أو املصادرة‪ ،‬والستخدامه أيضا ً كأداة لتحقيق‬
‫أهداف سياسية عىل حساب املالكني‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬هذا األمر سيسلب الثروة من الناس‬
‫الذين ينتجونها وسيعطيها إىل األشخاص املتخصصني يف السيطرة عىل النقود دون أن‬
‫ينتجوا أشياء ذات قيمة للمجتمع‪ ،‬تماما كما تمكن التجار األوروبيني من رسقة املجتمع‬
‫األفريقي عن طريق إغراقهم بالخرز الرخيص‪ ،‬كما تم ذكره يف الفصل الثاني‪ .‬وبهذا‪ ،‬ال‬
‫يمكن ألي مجتمع أن يزدهر طاملا بقي هذا الطريق مفتوحا ً للكسب الرسيع عىل حساب‬
‫إفقار أولئك الذين يسعون للحصول عىل الثروات عرب الطرق اإلنتاجية‪ .‬من ناحية أخرى‪،‬‬
‫إن النقد السليم يجعل الخدمات قيِّمة بالنسبة لآلخرين وهو الطريق الوحيد املتاح‬
‫الزدهار أي شخص‪ ،‬وبهذا يتم تركيز جهود املجتمع عىل اإلنتاج‪ ،‬والتعاون‪ ،‬وجمع رأس‬
‫املال والتجارة‪.‬‬

‫والقرن العرشين هو قرن النقد غري السليم وقرن الدولة ذات السلطة املطلقة‪،‬‬
‫حيث تم رفض خيار السوق من النقد باإلمالءات الحكومية‪ ،‬وتم فرض النقود الورقية‬
‫الحكومية بتهديد العنف‪ .‬ومع مرور الوقت‪ ،‬ابتعدت الحكومات عن النقد السليم أكثر من‬
‫أي وقت مىض وذلك بالتزامن مع زيادة إنفاقها وعجزها‪ ،‬وتخفيض قيمة عمالتها‬
‫باستمرار‪ ،‬فتم السيطرة عىل أكرب حصة من الدخل القومي من قِ بَل الحكومة‪ .‬ومع زيادة‬
‫تدخل الحكومة يف جميع جوانب الحياة‪ ،‬فقد سيطرت بشكل متزايد عىل النظام التعليمي‬
‫واستخدمته لختم عقول الناس بالفكرة الخيالية التي مفادها أن قواعد االقتصاد ال‬
‫تنطبق عىل الحكومات‪ ،‬وبأنه كلما أنفقت الحكومات أكثر‪ ،‬ازداد االزدهار‪ .‬إن أعمال‬
‫فاقدي العقل بالنقد مثل أعمال جون ماينارد كينز‪ ،‬يتم تدريسها اآلن يف الجامعات‬
‫الحديثة والتي تقول أن اإلنفاق الحكومي ينجم عنه فوائد فقط‪ ،‬وليس له أي تكاليف‪.‬‬
‫ففي نهاية املطاف‪ ،‬تستطيع الحكومة دائما ً طباعة املزيد من النقود‪ ،‬ولن تواجه أي قيود‬
‫حقيقية عىل إنفاقها‪ ،‬ويمكنها بالتايل استخدام هذه النقود ألي هدف يضعه لها‬
‫الناخبون‪.‬‬

‫فبالنسبة ألولئك الذين يعبدون السلطة الحكومية ويستمتعون بالسيطرة‬


‫الشمولية‪ ،‬كالعديد من أنظمة القرن العرشين الشمولية والدموية‪ ،‬يُعترب هذا النظام‬

‫‪82‬‬
‫النقد الحكومي‬

‫النقدي هبة من السماء‪ .‬ولكن بالنسبة ألولئك الذين يُقدِّرون حرية اإلنسان‪ ،‬والسالم‬
‫طا خصوصا ً مع تراجع احتماالت اإلصالح‬ ‫والتعاون بني البرش‪ ،‬كان ذلك وقتًا محب ً‬
‫االقتصادي كلما مر الوقت‪ ،‬وأن احتماالت عودة العملية السياسية إىل عالم نقدي سليم‬
‫أصبحت حلما ً خياليا ً يتزايد يوما ً بعد يوم‪ .‬كما وضح "فريدريك هايك"‪:‬‬

‫ال أعتقد أننا سنحصل عىل أموال جيدة من جديد قبل أن نستعيد زمام األمور‬
‫من أيدي الحكومة‪ ،‬أي أننا ال نستطيع الحصول عىل ما نريد من الحكومة‬
‫باستخدام العنف‪ ،‬لذلك كل ما يمكننا القيام به هو العمل وفق بعض الطرق‬
‫‪24‬‬
‫امللتوية‪ ،‬بتقديم يشء يتعذر عليهم إيقافه‪.‬‬

‫مُتحدِّثا ً عام ‪ 1984‬مع جهل تام للشكل الحقيقي لهذا "اليشء الذي ال‬
‫يستطيعون إيقافه"‪ ،‬تبدو بصرية فريدريك هايك مذهل ًة حتى يومنا هذا‪ ،‬حيث أنه وبعد‬
‫مرور ثالثني عاما ً من نطقه بهذه الكلمات‪ ،‬وبعد قرن كامل من تدمري الحكومات آلخر‬
‫بقايا النقد السليم الذي كان هو املعيار الذهبي‪ ،‬أصبح لدى األفراد يف جميع أنحاء العالم‬
‫فرصة لالدخار والتبادل بوساطة شكل جديد من النقد تم اختياره بحرية يف السوق‪،‬‬
‫ويقع خارج السيطرة الحكومية‪ .‬ففي بداية ظهوره‪ ،‬يبدو أن البيتكوين قد استوىف‬
‫بالفعل جميع متطلبات مينجر‪ ،‬وميزس وهايك‪ :‬فهو خيار قابل للبيع بشكل كبري يف‬
‫السوق الحرة ومقاوم للتدخل الحكومي‪.‬‬

‫‪ 25‬مت استخراجه من مقابلة فيديو أُجريت عام ‪ 1984‬مع جيمس يو بالنشارد يف جامعة فرايبورغ‪.‬‬

‫‪83‬‬
84
‫الفصل الخامس‬

‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫يتم اختيار النقد السليم بشكل حر يف السوق لقابلية بيعه‪ ،‬حيث أنه يحتفظ بقيمته عرب‬
‫الزمن‪ ،‬ويستطيع نقل القيمة بفعالية عرب األماكن‪ ،‬ويمكن تقسيمه وجمعه يف أحجا ٍم‬
‫كبرية وصغرية‪ ،‬كما أنه نقد ال يمكن التالعب بعرضه من قِ بل سلطة مُستبدة تَفرض‬
‫استخدامه عىل اآلخرين‪ .‬حَ ْسبَ التحليل السابق‪ ،‬و َح ْسبَ فهمنا لالقتصاد النقدي الذي‬
‫َقدَّمه لنا االقتصاد النمساوي‪ ،‬يُمكن توضيح أهمية النقد السليم بثالثة أسباب أساسية‪:‬‬
‫أوالً‪ ،‬إنه يحتفظ بقيمته مع مرور الزمن‪ ،‬مما يمنح الناس حافزا ً أكرب ليفكروا يف‬
‫مستقبلهم‪ ،‬كما أنه يُقلل من تفضيلهم الزمني‪ .‬وتقليل التفضيل الزمني هو بداية‬
‫الحضارة البرشية وما يمنح سبل التعاون بني البرش‪ ،‬واالزدهار والعيش بسالم‪ .‬ثانياً‪،‬‬
‫النقد السليم يسمح للتجارة بأن تصبح مُستنِد ًة عىل وحدة قياس مستقرة‪ ،‬مما يُسهِّ ل من‬
‫وجود أسواق كبرية مُتح ِّررة من سيطرة وقهر الحكومات‪ ،‬وحيثما حَ لَّت التجارة الحرة‪،‬‬
‫حَ َّل السالم واالزدهار‪ .‬يُمكن اإلضافة أن وحدة الحساب هي أمر رضوري لكل أشكال‬
‫الحسابات والتخطيطات االقتصادية‪ ،‬والنقد غري السليم يجعل هذه الحسابات االقتصادية‬
‫غري موثوقة‪ ،‬كما أنه السبب الرئييس للركود واألزمات االقتصادية‪ .‬ثالثا ً وأخرياً‪ ،‬النقد‬
‫السليم هو مُتطلَّب أسايس للحرية الفردية يف وجه القمع واالستبداد‪ ،‬وذلك ألن قدرة‬
‫سلطة مفرطة عىل رعاياها‪ ،‬سلطة ستجذب‬ ‫ً‬ ‫السلطات املستبدة عىل إنشاء النقد قد يمنحها‬
‫بشكل طبيعي أولئك األقل جدارة وعديمي األخالق ليستلموا زمام أمورها‪.‬‬

‫فالنقد السليم هو عامل جوهري يف تحديد التفضيل الزمني الفردي والذي‬


‫يُعترب جانب هام للغاية ومُه َمل بشكل واسع يف عملية اتخاذ القرارات الفردية‪ .‬إن هذا‬
‫التفضيل الزمني يُشري إىل النسبة التي يقيُّم بها األفرا ُد الحارضَ مقارنة باملستقبل‪ ،‬حيث‬

‫‪85‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫أن البرش ال يُخ ّلدون إىل األبد‪ ،‬وقد يوافينا املوت يف أية لحظة‪ ،‬مما يجعل املستقبل غامضا ً‬
‫وغري مؤكد‪ .‬وبما أن االستهالك من متطلبات النجاة‪ ،‬فالناس دائما ً تُقدِّر االستهالك الحايل‬
‫بالزمن الحارض بشكل أكرب منه من االستهالك املستقبيل‪ ،‬وذلك ألن نقص االستهالك‬
‫الحايل قد يمنعنا من الوصول إىل املستقبل‪ .‬وبمعنى آخر‪ ،‬إن التفضيل الزمني إيجابي‬
‫لكل البرش‪ ،‬وهناك حس ٌم دائما ً عىل املستقبل مقارنة بالحارض‪.‬‬

‫إضافة إىل ذلك‪ ،‬وبما أنه يمكننا إنتاج املزيد من السلع بتخصيص املزيد من‬
‫ُفضل األفراد العقالنيون دائما ً أن يمتلكوا كمية مُ حدَّدة من املوارد يف‬
‫الوقت واملوارد‪ ،‬فسي ِّ‬
‫وقتهم الحايل مقارنة باملستقبل‪ ،‬حيث أنه بإمكانهم استخدامها إلنتاج املزيد‪ .‬ولكي يَقب َل‬
‫الفرد بتأجيل اكتسابه لسلعة ما ملدة عام واحد‪ ،‬يتوجب عرض كمية أكرب من هذه السلعة‬
‫عليه‪ ،‬فالزيادة الرضورية إلغراء هذا الفرد بتأجيل اكتسابه للسلعة هو ما يُحدد تفضيله‬
‫الزمني‪ .‬فكل األفراد العقالنيون لديهم قيمة للتفضيل الزمني‪ ،‬لكن هذا التفضيل الزمني‬
‫يختلف تبعا ً الختالف األفراد‪.‬‬

‫والتفضيل الزمني للحيوانات أعىل بكثري منه لدى البرش‪ ،‬حيث أنها تترصف‬
‫إلرضاء دوافعها الغريزية اآلنية كما أن إدراكها للمستقبل ضئيل‪ .‬ولكن تستطيع بعض‬
‫الحيوانات بناء أعشاش أو بيوت قابلة للبقاء والصمود يف املستقبل بحيث أن التفضيل‬
‫الزمني لهذه الحيوانات يكون أقل منه لدى تلك الحيوانات التي تترصف إلرضاء‬
‫احتياجاتها اآلنية مثل الجوع والعدائية‪ .‬بينما يسمح التفضيل الزمني املنخفض للبرش‬
‫بكبح الدوافع الغريزية والحيوانية‪ ،‬والتفكري بما هو أفضل للمستقبل‪ ،‬والترصف‬
‫بعقالنية بدال ً من االندفاعية‪ .‬فبدال ً من أن نميض كامل وقتنا يف إنتاج سلع لالستهالك‬
‫الفوري‪ ،‬يمكننا انتهاز هذا الوقت يف العمل عىل إنتاج سلع تستغرق وقتا ً أطول لتكتمل يف‬
‫حال كانت هذا السلع أكثر جودة‪ .‬فعندما يُقلِّل البرش من تفضيلهم الزمني‪ ،‬فإنهم‬
‫يخلقون فرصا ً لتوسيع نطاق عملهم وذلك إلجراء مهمات تستغرق وقتا ً أطول إلرضاء‬
‫لصنع سلع ليست لالستهالك‬ ‫احتياجات أكثر بُعداً‪ ،‬ويطورون أيضا ً من قدراتهم العقلية ُ‬
‫الفوري بل إلنتاج سلع مستقبلية‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬إنشاء سلع رأسمالية‪.‬‬

‫ففي حني يستطيع البرش والحيوانات القيام بعملية الصيد‪ ،‬فقد تَميَّز البرش عن‬

‫‪86‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫الحيوانات بقضاء الوقت يف تطوير أدوات لهذه العملية‪ .‬وقد تَستخدم الحيوانات أحيانا ً‬
‫أداة لصيد حيوان آخر‪ ،‬لكن ليس لهذه الحيوانات القدرة عىل امتالك هذه األدوات‬
‫رب التفضيل الزمني املنخفض يمكن‬ ‫والحفاظ عليها لالستخدام طويل األمد‪ .‬وفقط عَ ْ َ‬
‫بعض من الوقت ليخصصه يف صنع رمح أو صنارة صيد غري‬ ‫لإلنسان أن يقرر اقتصار ٍ‬
‫قابلة لألكل‪ ،‬لكن هذه الصنارة باملقابل ستسمح له بالصيد بفعالية أكرب‪ ،‬وهذا هو جوهر‬
‫االستثمار‪ :‬فعندما يؤجل البرش متعتهم اآلنية‪ ،‬فإنهم يستثمرون أوقاتهم ومواردهم يف‬
‫إنتاج سلع رأسمالية ستجعل اإلنتاج أكثر تعقيدا ً وأكثر تطورا ً عىل الصعيد التقني‪،‬‬
‫وستجعله مُمت َّدا ً عىل آفاق زمنية أطول‪ .‬فالدافع الوحيد وراء اختيار أي شخص تأجيل‬
‫بإنتاج ما خالل مدة زمنية أطول‪ ،‬هو أن هذه العمليات‬
‫ٍ‬ ‫إشباع رغباته ليجازف باملشاركة‬
‫األطول قد تُولِّد له ناتجا ً أكثر وسلعا أكثر جودة‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬االستثمار يزيد من إنتاجية‬
‫ً‬
‫املنتجني‪.‬‬

‫ويرشح عا ِلم االقتصاد "هانز هرمان هوبه" أنه عندما ينخفض التفضيل‬
‫الزمني لدرجة كافية تسمح بتشكيل أية مدخرات أو أية سلع استهالكية أو معمرة أو‬
‫إنتاجية‪ ،‬فعندها تكون قد بدأت النزعة لتخفيض التفضيل الزمني وبشكل أكرب من‬
‫‪1‬‬ ‫السابق بما يُعرف ب ِـ "عملية التَ ُّ‬
‫حرض"‪.‬‬

‫فالصياد الذي يصنع صنارة صيد‪ ،‬يستطيع اصطياد أسماك أكثر من الصياد‬
‫الذي يصطاد بيديه العاريتني يف املدة نفسها‪ ،‬لكن الطريقة الوحيدة لصنع هذه الصنارة‬
‫هي بتخصيص مدة زمنية أولية للعمل ال "تُنتج" أسماكا ً فيها‪ ،‬بل تنتج صنارة صيد‪.‬‬
‫وبالطبع‪ ،‬إ َّن هذه عملية غري موثوقة ألنه من املمكن أن ال تلبي الصنارة الغاية املرجوة‬
‫منها‪ ،‬وبهذا يكون الصياد قد أضاع وقته هبا ًء‪ .‬لذلك‪ ،‬ال يتطلب االستثمار تأخري املتعة‬
‫فحسب‪ ،‬بل يحمل معه دائما ً احتمال الفشل‪ ،‬ولهذا لن يُبارش املرء باستثماره إال إذا كان‬
‫هناك توقعات باملكافأة والربح‪ .‬وكلما كان التفضيل الزمني أقل لدى الفرد‪ ،‬ازداد احتمال‬
‫دخوله يف االستثمارات وجمع رأس املال‪ ،‬وعىل الجهة األخرى ازداد تأخريه للمتعة‪ .‬وكلما‬
‫ازداد رأس املال املرتاكم‪ ،‬ازدادت إنتاجية العمل‪ ،‬وامت َّد األفق الزمني لإلنتاج‪.‬‬

‫‪ 1‬هانز هريمان هوبه‪ ،‬الدميقراطية‪ :‬اإلله الذي أخفق‪ ،‬الصفحة ‪.6‬‬

‫‪87‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫لِفهم الفرق بشكل أوضح‪ ،‬سنقارن بني شخصني افرتاضيني لم يمتلكا يف‬
‫البداية إال أيديهما العارية‪ ،‬وتفضيال ً زمنيا ً مختلفاً‪ :‬فلدى "هاري" تفضيل زمني أعىل من‬
‫"ليندا"‪ ،‬ولذلك سيختار هاري أن يميض وقته فقط يف صيد األسماك بيديه‪ ،‬مستغرقا ً‬
‫حوايل ثماني ساعات يوميا ً الصطياد سمك يكفيه قوت يومه‪ .‬باملقابل‪ ،‬ليندا والتي لديها‬
‫بنصيب أقل من‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫مكتفية‬ ‫تفضيل زمني أقل‪ ،‬تميض ست ساعات فقط يف صيد السمك‪،‬‬
‫تبقيتني يف العمل عىل صناعة صنارة صيد‪ .‬بعد مرور‬ ‫السمك يومياً‪ ،‬وتميض الساعتني املُ ِّ‬
‫أسبوع‪ ،‬نجحت ليندا يف صناعة صنارة صيد جيدة‪ ،‬ويف األسبوع التايل أصبح بإمكانها‬
‫اصطياد ضعف كمية السمك التي يصطادها هاري خالل ثماني ساعات‪ .‬فاستثمار ليندا‬
‫يف صنارة الصيد أعطاها إمكانية العمل ألربع ساعات يف اليوم فقط وتَنَاول نفس كمية‬
‫السمك التي يتناولها هاري‪ ،‬لكن وألن لديها تفضيال ً زمنيا ً أقل‪ ،‬فلن تكتفي بإنجازها‪ ،‬بل‬
‫ستميض أربع ساعات يف اصطياد نفس الكمية التي يصطادها هاري خالل ثماني‬
‫ساعات‪ ،‬ثم ستميض أربع ساعات أخرى يف جمع رأس مال أكثر‪ ،‬كأن تبني لنفسها قارب‬
‫صيد عىل سبيل املثال‪ .‬بعد شهر‪ ،‬أصبح لدى ليندا صنارة صيد وقارب تتمكن بهما‬
‫بالتعمق يف البحار‪ ،‬لتصطاد سمكا ً لم يره هاري من قبل‪ .‬فلم تعد إنتاجية ليندا أكثر‬
‫قياسا ً بالزمن فحسب‪ ،‬بل أصبح صيدها مختلفا ً وأفضل من سمك هاري‪ ،‬وأصبحت‬
‫كرس وقتها املتبقي يف جمع‬ ‫تحتاج اآلن ساعة من الصيد فقط لتؤمِّ ن بها قوت يومها‪ ،‬وتُ ِّ‬
‫صنع صنارات صيد أفضل وأكرب‪ ،‬وشباكا ً وقوارب‪ ،‬مما سيؤدي بدوره‬ ‫رأس مال أكثر‪َ ،‬ك ُ‬
‫إىل ارتفاع إنتاجيتها وتحسني مستوى معيشتها‪.‬‬

‫وإذا استمر هاري وساللته بالعمل واالستهالك بالتفضيل الزمني ذاته‪،‬‬


‫فسيعيشون الحياة ذاتها التي عاشوها سابقا ً وبنفس مستوى االستهالك واإلنتاجية‪ .‬وإذا‬
‫استمرت ليندا وساللتها بالتفضيل الزمني املنخفض ذاته‪ ،‬فسيستمرون يف تطوير‬
‫مستوى وجودة معيشتهم مع مرور الزمن‪ ،‬رافعني مخزونهم من رأس املال ومنهمكني يف‬
‫عمليات تستغرق زمنا ً أطول بكثري‪َّ .‬‬
‫إن املثال الواقعي‬ ‫ٍ‬ ‫أعمال إنتاجية نوعية من خالل‬
‫ٍ‬
‫لساللة ليندا اليوم سيكون مالكو آنليس إيلينا‪ ،‬وهي أكرب سفينة صيد يف العالم‪ .‬ولقد‬
‫استغرق تَخيُّل وتصميم وبناء هذه اآللة العمالقة عقودا ً من الزمن قبل أن تكتمل يف عام‬
‫‪ ،2000‬وستستمر يف العمل عقودا ً من الزمن لتُعيد للمستثمرين أصحاب التفضيل‬

‫‪88‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫الزمني املنخفض رأس املال الذي قدموه لعملية البناء هذه قبل عرشات السنني‪ .‬فعملية‬
‫"إنتاج" السمك بالنسبة لساللة ليندا أصبحت طويلة ومعقدة لدرجة أنها باتت تستغرق‬
‫عقودا ً إلتمامها‪ ،‬يف حني أنه لم تزل ساللة هاري تُنهي عمليتها ببضع ساعات كل يوم‪.‬‬
‫والفرق بالطبع هو أن إنتاجية ساللة ليندا هي أكثر بكثري من إنتاجية ساللة هاري‪ ،‬وهذا‬
‫ما يجعل العمل بهذه العمليات الطويلة أمرا ً جديرا ً بالعناء‪.‬‬

‫إن أحد الرباهني املهمة عىل أهمية التفضيل الزمني يأتي من تجربة‬
‫"املارشميلو" الشهرية يف "ستانفورد"‪ 2‬والتي أُجريت يف أواخر الستينات‪ .‬فالعا ِلم النفيس‬
‫"والرت ميشل" ترك أطفاال ً يف غرفة مع قطعة مارشميلو أو بسكويت‪ ،‬وقال لهؤالء األطفال‬
‫أنهم يستطيعون تناولها إذا أرادوا‪ ،‬علما ً بأنه سيعود لهم بعد ميض ‪ 15‬دقيقة‪ ،‬ويف حال‬
‫عدم تناول األطفال لتلك الحلوى‪ ،‬فسيعطيهم قطعة ثانية كمكافأة‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬كان‬
‫لألطفال حرية االختيار بني املتعة الفورية بتناول قطعة حلوى‪ ،‬وبني تأجيل املتعة‬
‫والحصول عىل قطعتي حلوى‪ .‬وتُع ُّد هذه طريقة بسيطة الختبار التفضيل الزمني لدى‬
‫األطفال‪ :‬فالطالب أصحاب التفضيل الزمني املنخفض كانوا أولئك الطالب الذين‬
‫استطاعوا االنتظار من أجل قطعة الحلوى الثانية‪ ،‬يف حني الطالب ذوي التفضيل الزمني‬
‫األعىل لم يستطيعوا االنتظار‪ .‬لقد تابع ميشل تجربته مع األطفال بعد عقود من الزمن‬
‫ووجد عالقة مهمة بني التفضيل الزمني املنخفض كما تم قياسه يف اختبار املارشميلو‬
‫وبني اإلنجازات األكاديمية الجيدة‪ ،‬والدرجات املرتفعة يف اختبار ‪ ،SAT‬ومؤرش كتلة‬
‫الجسم )‪ (BMI‬املنخفض‪ ،‬وغياب اإلدمان عىل املخدرات‪.‬‬

‫وبصفتي أستاذ يف علم االقتصاد‪ ،‬أَحرص دائما ً عىل تدريس تجربة املارشميلو‬
‫هذه يف كل مادة أُعلِّمها‪ ،‬حيث أنني أعتقد أن هذا هو الدرس األكثر أهمية الذي يُعلِّمه‬
‫االقتصاد لألفراد‪ ،‬ويدهشني أن املناهج الدراسية االقتصادية الجامعية تجاهلت هذا‬
‫الدرس بالكامل تقريباً‪ ،‬لدرجةٍ أصبح فيها الكثري من االقتصاديني األكاديميني ال يدركون‬
‫مفهوم التفضيل الزمني عىل اإلطالق وال يدركون مدى أهميته‪.‬‬

‫‪ 2‬والرت ميشل‪ ،‬إب يب‪ .‬إبسن‪ ،‬وأنتوانيت راسكوف زايس‪" ،‬آليات املعرفة واالنتباه يف أتجيل املتعة"‪ ،‬جملة‬
‫الشخصية وعلم النفس االجتماعي‪ ،‬اجمللد ‪ ،21‬رقم ‪.218-204 )1972( 2‬‬

‫‪89‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ففي حني ركز االقتصاد الجزئي عىل املبادالت بني األفراد‪ ،‬وركز االقتصاد الكيل‬
‫ً‬
‫أهمية للفرد هي‬ ‫عىل دور الحكومة يف االقتصاد‪ ،‬يف الحقيقة إن أكثر القرارات االقتصادية‬
‫تلك التي يجريها الفرد يف مبادالته مع نفسه املستقبلية‪ .‬فاملرء يجري يوميا ً بعض‬
‫املبادالت االقتصادية مع اآلخرين‪ ،‬لكنه يشارك يف عدد أكرب من املبادالت مع نفسه‬
‫املستقبلية‪ ،‬وال نهاية ألمثلة هذه املبادالت‪ :‬كأن تقرر ادخار املال بدال ً من إنفاقه؛ أو أن‬
‫تقرر االستثمار يف اكتساب املهارات للحصول عىل وظيفة مستقبالً بدال ً من البحث عن‬
‫وظيفة آنية بأجر زهيد؛ أو أن تشرتي سيارة عملية وبسعر مقبول بدال ً من أن تقرتض‬
‫لتشرتي سيارة باهظة الثمن؛ أو أن تعمل وقتا ً إضافيا ً بدال ً من الذهاب إىل حفلة مع‬
‫فضل استخدامه يف الحصة الدراسية‪ :‬أن تُقرر دراسة املواد‬ ‫األصدقاء؛ أو املثال الذي أ ُ ِّ‬
‫التعليمية للمساق كل أسبوع يف الفصل بدال ً من أن ترتكها إىل الليلة السابقة لالمتحان‬
‫النهائي‪.‬‬

‫ففي كل واحدة من تلك األمثلة‪ ،‬ال يوجد شخص يفرض هذه القرارات عىل‬
‫الفرد‪ ،‬واملستفيد أو الخارس الرئييس من عواقب هذه الخيارات هو الفرد نفسه‪ ،‬والعامل‬
‫األسايس الذي يحدد خيارات املرء يف حياته هو تفضيله الزمني‪ .‬ويف حني يختلف التفضيل‬
‫الزمني وضبط النفس عند األفراد من موقف آلخر‪ ،‬إال أنه يمكن بشكل عام إيجاد صلة‬
‫وثيقة بني كل نواحي اتخاذ قراراتهم‪ .‬فالحقيقة املؤملة التي يجب أن نتذكرها هي أن‬
‫مبادالت املرء مع نفسه املستقبلية ستحدد بشكل كبري حصته يف هذه الحياة‪ ،‬ومهما أراد‬
‫املرء أن يلوم اآلخرين عىل فشله‪ ،‬أو أن ينسب نجاحه لآلخرين‪ ،‬فالغالب أن املبادالت غري‬
‫النهائية التي أجراها مع نفسه هي أكثر أهمية من أية ظروف أو أية أحوال خارجية‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬مهما بلغت الظروف التي تآمرت عىل املرء ذي التفضيل الزمني املنخفض‪ ،‬فإنه‬
‫ً‬
‫أولوية إىل أن يحقق أهدافه‪ ،‬ومهما‬ ‫غالبا ً سيجد طريقة يعطي فيها نفسه املستقبلية‬
‫ظ املر َء ذا التفضيل الزمني املرتفع‪ ،‬فإنه سيجد طريقة ليستمر بالتحايل‬ ‫ساعد الح ُّ‬
‫وخداع نفسه املستقبلية‪ .‬لهذا‪ ،‬هناك تناقض صارخ بني القصص الكثرية لألفراد الذين‬
‫نجحوا رغم كل االحتماالت والظروف غري املواتية لهم وبني قصص الناس ذوي املهارات‬
‫واملواهب التي كافأتهم هذه املواهب بشكل رائع‪ ،‬ومع ذلك قاموا بإهدارها ولم يحققوا‬
‫شيئا ً ثابتا ً ألنفسهم‪ .‬فالعديد من الرياضيني والفنانني املحرتفني‪ ،‬أكسبتهم مواهبهم مبالغ‬

‫‪90‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫كبرية من املال‪ ،‬ولكنهم ماتوا مفلسني بسبب سيطرة التفضيل الزمني املرتفع عليهم‪.‬‬
‫باملقابل‪ ،‬هناك العديد من األفراد العاديني الذين ال يمتلكون أية مواهب مميزة عملوا بجد‬
‫وادخروا واستثمروا مدى الحياة وحققوا أمانا ً مالياً‪َّ ،‬‬
‫وورثوا أبناءهم حياة أفضل من التي‬
‫وَ ِرث ُوها هم‪.‬‬

‫ففقط عن طريق التفضيل الزمني املنخفض يمكن للمرء أن يبدأ بتقدير أهمية‬
‫االستثمارات طويلة املدى ويبدأ بإعطاء األولوية للنتائج التي يمكن أن يجنيها مستقبالً‪.‬‬
‫ُورث فيه األفراد أبناءهم أكثر مما أخذوا هم من والديهم هو مجتمع‬ ‫فاملجتمع الذي ي ِّ‬
‫متحرض‪ :‬إنه مكان تتحسن فيه الحياة‪ ،‬ويعيش الناس فيه بهدف تحسني حياة الجيل‬
‫القادم‪ .‬ومع استمرار ارتفاع مستويات رأس املال يف املجتمع‪ ،‬تزيد اإلنتاجية وترتفع معها‬
‫جودة الحياة‪ .‬ومع تأمني االحتياجات األساسية وتفادي مخاطر الطبيعة‪ ،‬يُحوِّل األفراد‬
‫نواح أخرى يف الحياة أعمق من تلك املتعلقة بالرفاهية املادية ومَ َّ‬
‫شقة العمل‪،‬‬ ‫انتباههم إىل ٍ‬
‫فيُنشئون العائالت والروابط االجتماعية؛ ويعملون عىل مشاريع ثقافية‪ ،‬وفنية وأدبية؛‬
‫وسيحاولون تقديم مساهمات راسخة ملجتمعاتهم وللعالم‪ .‬فالحضارة ال تتعلق بجمع‬
‫رأس املال تحديداً‪ ،‬بل بما يستطيع البرش إنجازه برأس املال هذا من االزدهار والحرية يف‬
‫البحث عن معنى أسمى يف الحياة‪ ،‬وذلك بعد تأمني احتياجاتهم األساسية وتجنب املخاطر‬
‫املحدقة بهم‪.‬‬

‫وهناك العديد من العوامل التي تلعب دورا ً يف تحديد التفضيل الزمني لدى‬
‫األفراد‪ 3،‬ويمكن القول إ َّن أ َ ْم َن األفراد وممتلكاتهم هو واحد من أهم هذه العوامل‪.‬‬
‫فاألفراد الذين يعيشون يف مناطق يَ ْكثُر فيها الرصاع والجريمة يرتفع احتمال موتهم‪،‬‬
‫وبالتايل يرتفع احتمال قيامهم بحسم عىل مستقبلهم‪ ،‬مما يؤدي إىل ارتفاع التفضيل‬
‫الزمني لديهم أكثر من أولئك الذين يعيشون يف املجتمعات املساملة‪ .‬لذلك‪ ،‬إن تأمني املُلكية‬

‫‪ُُ 3‬يال القارئ إىل الفصل األول من كتاب هوبة‪ ،‬الدميقراطية‪ :‬اإلله الذي أخفق لقراءة دراسة ممتازة عن تلك‬
‫العوامل‪ .‬ميكن إجياد مناقشات أساسية وتقنية أكثر يف الفصل السادس من كتاب موراي روثبورد‪ ،‬االنسان‬
‫واالقتصاد والدولة يف الفصل الثامن عشر والفصل التاسع عشر من كتاب ميزس الفعل البشري‪ ،‬وكتاب يوجني‬
‫فون بوم‪-‬ابفرك رأس املال والفائدة‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫هو عامل رئييس آخر يُؤثِّر عىل التفضيل الزمني لدى األفراد‪ :‬فاملجتمعات التي يُحتَمل‬
‫فيها أن تَنتزع الحكومة أو اللصوص ممتلكات األفراد وفقا ً لنزواتهم سيكون ألفرادها‬
‫ٍ‬
‫ترصفات كهذه ستدفع األفراد لزيادة أولوية إنفاق مواردهم‬ ‫تفضيل زمني أعىل‪ ،‬حيث أن‬
‫عىل املُتع اآلنية بدال ً من استثمارها يف ملكية قد تُنتَزع منهم يف أية لحظة‪ .‬ومعدالت‬
‫الرضيبة تؤثر أيضا ً سلبا ً عىل التفضيل الزمني‪ :‬فكلما ارتفع معدل الرضيبة‪َ ،‬ق َّل الدخل‬
‫الذي يُسمح لألفراد االحتفاظ به؛ وهذا سيدفع األفراد للعمل لوقت أقل ولالدخار بشكل‬
‫أقل ملستقبلهم‪ ،‬وذلك ألن عبء الرضائب سيُقلل غالبا ً من املدخرات أكثر مما سيُقللها‬
‫االستهالك‪ ،‬خصوصا ً بالنسبة ألولئك أصحاب الدخل املنخفض الذي يتم إنفاق الجزء‬
‫األكرب منه لتأمني رضورات الحياة األساسية‪.‬‬

‫لكن العامل املؤثر عىل التفضيل الزمني األكثر اتصاال ً بموضوعنا‪ ،‬هو القيمة‬
‫املتوقعة للنقد مستقبالً‪ .‬ففي األسواق الحرة التي يختار فيها األفراد نقدهم بحرية‪،‬‬
‫ستختار هذه األفراد شكل النقد الذي بالغالب سيحافظ عىل قيمته مع مرور الزمن‪ .‬وكلما‬
‫كان النقد أكث َر ُقدر ًة عىل االحتفاظ بقيمته‪ ،‬حَ َف َّز الناس بشكل أكرب عىل تأجيل االستهالك‬
‫وتخصيص املوارد لإلنتاج يف املستقبل‪ ،‬مما يؤدي إىل تراكم رأس املال وتحسني معايري‬
‫الحياة‪ ،‬باإلضافة إىل خلق تفضيل زمني منخفض لدى األفراد يف مجاالت أخرى غري‬
‫اقتصادية من حياتهم‪ .‬وعندما يكون اتخاذ القرار االقتصادي مُوجها ً نحو املستقبل‪ ،‬فمن‬
‫الطبيعي أن تكون كل القرارات األخرى موجهة نحو املستقبل أيضاً‪ ،‬فيصبح الناس‬
‫عندها مُساملني ومتعاونني أكثر‪ ،‬مُوقنني أن التعاون هو اسرتاتيجية طويلة األمد أكثر‬
‫فائدة ونفعا ً من أية فائدة قصرية األمد قد تعود عليهم بفعل الرصاعات‪ .‬بذلك‪ ،‬يُطوِّر‬
‫ُفضلني الخيارات األخالقية التي ستؤدي إىل نتائج طويلة‬ ‫الناس حِ َّسا ً أخالقيا ً عالياً‪ ،‬م ِّ‬
‫األمد أفضل لهم وألوالدهم‪ .‬فالشخص الذي يفكر عىل املدى البعيد لديه احتمال ضعيف‬
‫بأن يغش أو يكذب أو يرسق‪ ،‬حيث أن نتيجة تلك الترصفات قد تكون إيجابية عىل املدى‬
‫القصري‪ ،‬لكنها ستكون سلبية مُدمِّ رة عىل املدى البعيد‪.‬‬

‫إن انخفاض القيمة الرشائية للنقد مشاب ٌه لعملية فرض نوع من الرضائب أو‬
‫املصادرة‪ ،‬بحيث يتم خفض القيمة الحقيقية لعملة الفرد ولو بقيت القيمة الظاهرية‬
‫ثابتة‪ .‬ففي االقتصاد الحديث‪ ،‬ترتبط النقود التي تصدرها الحكومة ارتباطا ً وثيقا ً‬

‫‪92‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫صنعي (زائف)‪ ،‬وهذا هدف مرغوب لعلماء‬ ‫بمعدالت فائدة أكثر انخفاضا ً ولكن بشكل ُ‬
‫االقتصاد الحديث ألنه يشجع عىل االقرتاض واالستثمار‪ ،‬لكن نتيجة هذا التالعب يف قيمة‬
‫صنعي للمدخرين واملستثمرين‪ ،‬إضاف ًة‬ ‫رأس املال ستُقلل من معدالت الفائدة بشكل ُ‬
‫ألولئك الذين يَدفع لهم املقرتضون‪ .‬والنتيجة الطبيعية لهذه العملية هي تقليص املدخرات‬
‫وزيادة االقرتاض‪ .‬عىل الهامش‪ ،‬سيقوم األفراد أيضا ً باستهالك كمية أكرب من دخلهم‬
‫وسيقرتضون املزيد ملستقبلهم‪ ،‬وهذا األمر لن يؤثر عىل تفضيلهم الزمني من ناحية‬
‫قراراتهم املالية فحسب‪ ،‬بل عىل األغلب سينعكس عىل كل نواحي حياتهم‪.‬‬

‫فاالنتقال من النقد الذي يرتفع أو يحتفظ بقيمته إىل النقد الذي يخرس قيمته‬
‫هو أمر مهم جدا ً عىل املدى الطويل‪ :‬فعندما يقل ادخار املجتمع‪ ،‬فإنه سيجمع رأس مال‬
‫أقل ومن املحتمل أن يبدأ باستهالك رأس ماله؛ وستبقى إنتاجية العمال ثابتة أو‬
‫ستنخفض‪ ،‬مما يؤدي إىل ركود يف األجور الحقيقية حتى وإن ُرفعت األجور الظاهرية‬
‫بالقوة السحرية لطباعة املزيد من النقد الورقي املرتاجع يف قيمته‪ .‬وعندما يزداد إنفاق‬
‫الناس ويقل ادخارهم‪ ،‬فإنهم يصبحون أكثر تركيزا ً عىل الحارض يف كل قراراتهم‪ ،‬مما‬
‫فشل باألخالق وارتفاع احتمال الدخول يف الرصاعات والترصفات املدمرة للذات‪.‬‬
‫يؤدي إىل ٍ‬

‫يساعد هذا يف تفسري سبب ازدهار الحضارات تحت نظام نقدي سليم‪ ،‬وسبب‬
‫تفككها عندما تنخفض قيمة نظامها النقدي‪ ،‬تماما ً كما كان عليه الحال مع الرومان‪،‬‬
‫والبيزنطيني‪ ،‬واملجتمعات األوروبية الحديثة‪ .‬فالتباين بني القرن التاسع عرش والقرن‬
‫العرشين يمكن فهمه يف سياق االبتعاد عن النقد السليم وكل ما يرافقه عادة من مشاكل‪.‬‬

‫التضخم النقدي‬
‫إن الحقيقة البسيطة الواضحة عرب التاريخ هي أن أي شخص يجد طريقة لصنع‬
‫الوسائط النقدية فإنه سيحاول فعل ذلك‪ ،‬فاإلغراء يف فعل هذا األمر قوي جدا ً‪ .‬لكن يجب‬
‫اإلضافة بأن عملية صنع وسيط نقدي ال تُعتَرب نشاطا ً مُنتِجا ً للمجتمع حيث أن أي عرض‬
‫ُعترب عرضا ً كافيا ً لكي يعمل االقتصاد مهما بلغ حجمه‪ .‬وكلما حَ َّد هذا الوسيط‬
‫نقدي ي َ‬
‫النقدي من الرغبة يف صنعه‪ ،‬أصبح هذا األمر أفضل له كوسيط للتبادل وكمخزون مستقر‬

‫‪93‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫للقيمة‪ .‬وعىل عكس كل السلع األخرى‪ ،‬فإن وظائف النقد كوسيط للتبادل‪ ،‬وكمخزون‬
‫للقيمة وكوحدة للحساب‪ ،‬ال عالقة لها بكميته‪ ،‬فاملهم بالنسبة للنقد هو قوته الرشائية‪،‬‬
‫عترب كمية كافية لتُ ِّ‬
‫حقق فيها الوظائف النقدية‬ ‫وليس كميته‪ .‬لذلك إن أية كمية من النقد ت ُ َ‬
‫طاملا كانت قابلة للقسمة وطاملا يمكن وضعها يف مجموعات بكميات كافية بحيث يقتنع‬
‫بها املالكون لتلبية مبادالتهم التجارية واحتياجاتهم التخزينية‪ .‬فيُمكن ألي عرض نقدي‬
‫مهما كان حجمه دعم أية كمية من التحويالت االقتصادية إذا كانت هذه الوحدات النقدية‬
‫قابلة للقسمة بشكل كاف‪.‬‬

‫والنقد املثايل نظريا ً هو ذلك النقد الذي سيكون عرضه ثابتاً‪ ،‬أي أن ال أحد‬
‫يستطيع إنتاج املزيد منه‪ ،‬والطريقة الوحيدة غري اإلجرامية للحصول عىل نقد يف مجتمع‬
‫كهذا ستكون عن طريق إنتاج يشء ذي قيمة بالنسبة إىل اآلخرين ثم القيام بتبادله معهم‬
‫لقاء ذلك النقد‪ .‬وبما أن الجميع يرغب يف الحصول عىل املزيد من النقد‪ ،‬فإن الجميع‬
‫سيعمل أكثر وسينتج أكثر‪ ،‬مما سيؤدي إىل تحسني الرفاهية املادية للجميع‪ ،‬األمر الذي‬
‫سيسمح بدوره للناس بجمع رأس مال أكثر ليزيدوا من إنتاجيتهم‪ .‬إن نقدا ً كهذا سيكون‬
‫مثاليا ً أيضا ً كمخزون للقيمة وذلك من خالل َمن ْ ِع اآلخرين من زيادة عرضه النقدي‪،‬‬
‫وبهذا لن تنخفض الثروة املُختزنة فيه مع مرور الوقت؛ مما سيُحفز الناس عىل االدخار‬
‫وسيسمح لهم بالتفكري أكثر يف املستقبل‪ .‬ومع زيادة الثروة واإلنتاجية‪ ،‬ومع القدرة‬
‫املتزايدة عىل التفكري يف املستقبل‪ ،‬يبدأ الناس بتخفيض تفضيلهم الزمني‪ ،‬وسيتمكنون‬
‫نواح غري مادية يف حياتهم‪ ،‬كاملجهودات الروحية‪ ،‬واالجتماعية‬
‫ٍ‬ ‫من الرتكيز عىل تحسني‬
‫والثقافية‪.‬‬

‫لكن أُثبت أنه من املستحيل اإلتيان بشكل من النقد ليس باإلمكان صناعة املزيد‬
‫منه‪ ،‬وذلك ألن أي يشء يتم اختياره كوسيط للتبادل سرتتفع قيمته‪ ،‬ولهذا سيحاول املزيد‬
‫من الناس إنتاج املزيد منه‪ .‬بهذه الكيفية‪ ،‬يمكن القول أن أفضل شكل من النقد يف‬
‫التاريخ كان ذلك النقد الذي جعل العرض الجديد منه أقل أهمية عند مقارنته باملخزون‬
‫القائم‪ ،‬وبالتايل جعل عملية صنعه مصدرا ً غري جيد للربح‪ .‬وبما أن الذهب غري قابل‬
‫للتلف‪ ،‬فهو املعدن الوحيد الذي كانت مخزوناته تنمو منذ أن بدأ البرش باستخراجه‪ .‬ومع‬
‫أن استخراجه ما يزال ي ُجرى منذ آالف السنني‪ ،‬ولم يتمكن علم الكيمياء بعد من إثبات‬

‫‪94‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫نجاحه لرتويجه وبيعه بشكل تجاري واسع النطاق‪ ،‬فإن العرض الجديد لعملية‬
‫االستخراج تلك ما زالت مستمر ًة وتُش ِّكل جزءا ً صغريا ً موثوقا ً من املخزونات القائمة‪.‬‬

‫إن هذه الخاصية هي سبب كون الذهب مرادفا ً للنقد السليم‪ :‬فهو نقد ذو‬
‫ضمن أال يزداد بشكل كبري بفضل قوانني الفيزياء والكيمياء الصارمة‪ .‬ففشل‬ ‫عرض ُ‬
‫ً‬
‫سالمة من الذهب‪ ،‬ولهذا كان‬ ‫البرش رغم محاوالتهم لقرون بإنتاج شكل من النقد أكثر‬
‫الذهب األداة النقدية الرئيسية التي تستخدمها معظم الحضارات البرشية عرب التاريخ‪.‬‬
‫وحتى بعد أن انتقل العالم إىل النقد الحكومي كمخزون للقيمة‪ ،‬وكوسيط للتبادل‬
‫وكوحدة للحساب‪ ،‬ما تزال الحكومات نفسها تحتفظ بنسبة كبرية من احتياطاتها‬
‫بالذهب‪ ،‬وتُمثل هذه االحتياطات نسبة كبرية من عرض الذهب الكيل‪.‬‬

‫تَذ َّمر كينز أن استخراج الذهب هو نشاط مبذر يستهلك الكثري من املوارد دون‬
‫أن يضيف شيئا ً للثروة الحقيقية‪ ،‬وبالرغم من أن نقده فيه يشء من الحقيقة‪ ،‬بمعنى أن‬
‫زيادة العرض من الوسيط النقدي ال تزيد من ثروة املجتمع الذي يستخدمه‪ ،‬إال أنه َغفِ ل‬
‫عن النقطة املهمة بأن دور الذهب النقدي نَتَج أصالً عن كونه املعدن األقل جذبا ً للبرش‬
‫واملوارد الرأسمالية الستخراجه والتنقيب عنه‪ ،‬مقارنة بكل املعادن األخرى‪ .‬وبما أنه ال‬
‫يمكن زيادة عرض الذهب إال بكميات صغرية جدا ً حتى عند االرتفاع الحاد باألسعار‪،‬‬
‫َصعُب إيجاده‪ ،‬فإن استخراج الذهب النقدي سيكون أقل ربحا ً من‬ ‫وبما أنه نادر جدا ً وي ْ‬
‫استخراج أي معدن آخر يحمل دورا ً نقدياً‪ ،‬مما يجعل البرش يخصصون أقل كمية من‬
‫الوقت واملوارد الستخراجه‪ .‬فلو تم استخدام أي معدن آخر كوسيط نقدي‪ ،‬فإنه عندما‬
‫ينخفض التفضيل الزمني للمجتمع ويشرتي املزيد من الناس هذا املعدن لالدخار‪ ،‬رافعني‬
‫بذلك من سعره‪ ،‬فسيكون هناك فرصة مهمة للربح من إنتاج املزيد من هذا املعدن‪ ،‬لكن‬
‫وألن املعدن قابل للتلف‪ ،‬فدائما ً سيكون اإلنتاج الجديد أكرب كنسبة مئوية (نسبة إىل‬
‫الذهب) بالنسبة إىل املخزونات القائمة‪ ،‬كما يف مثال النحاس‪ ،‬مما سيقلل السعر ويحط‬
‫من قيمة مدخرات املالكني له‪ .‬يف مجتمع كهذا‪ ،‬يُمكن أن تُرسق املدخرات بشكل فعال من‬
‫املدخِ رين ملكافأة األفراد الذين عملوا عىل استخراجه بكميات كبرية تفوق استخدامهم‬
‫االقتصادي‪ .‬فسوف تقل املدخرات واإلنتاج النافع يف مجتمعات كهذه‪ ،‬وسيرتتب عىل ذلك‬
‫فيش الفقر بسبب الهوس بإنتاج وسائط نقدية‪ ،‬وسيكون املجتمع جاهزا ً لتستويل عليه‬ ‫تَ ِّ‬

‫‪95‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫وتغزوه مجتمعات أكثر إنتاجية لديها أفراد يفعلون ما هو أفضل من إنتاج املزيد من‬
‫الوسائط النقدية‪.‬‬

‫فحقيقة املنافسة النقدية أَرضَّ ت عىل الدوام أولئك األفراد واملجتمعات التي‬
‫استثمرت مدخراتها يف معادن غري الذهب‪ ،‬يف حني كافأت أولئك الذين استثمروا‬
‫مدخراتهم يف الذهب لعدم إمكانية تضخيمه بسهولة وذلك ألنه يُجرب الناس عىل إبعاد‬
‫طاقاتهم عن إنتاج سلع نقدية‪ ،‬وي ُحوِّل هؤالء الناس إىل إنتاج مزيد من السلع والخدمات‬
‫النافعة‪ .‬هذا األمر يساعدنا عىل تفسري سبب إشارة العالم العربي ابن خلدون عن عملية‬
‫‪4‬‬
‫تنقيب واستخراج الذهب بأنها املهنة األقل جدارة باالحرتام بعد الخطف من أجل الفدية‪.‬‬
‫والحماقة يف استهجان كينز للذهب بكونه نقدا ً تتمثل بقوله أن استخراج الذهب هو أمر‬
‫مبذر لكنه األقل تبذيرا ً من بني كل املعادن املحتمل استخدامها كنقد‪َ .‬فـ "ح ُّل" كينز‬
‫للقصور املوجود بالذهب كان حماقة مُر َّكبة ومضاعفة وتمثلت هذه الحماقة باقرتاحه‬
‫معيارا ً نقديا ً ورقيا ً أدى إىل تخصيص املزيد من الوقت والعمل واملوارد البرشية إلدارة‬
‫إصدار هذا العرض النقدي والربح منه‪ .‬فلم يحدث يف تاريخ الذهب كوسيط نقدي أن‬
‫ظف اليوم يف البنوك املركزية وكل املصارف واألعمال التابعة‬ ‫ظف عمال مناجم كما يُو َّ‬ ‫وُ ِّ‬
‫لها والتي تستفيد من قدرتها عىل الوصول إىل أجهزة طباعة النقد‪ ،‬كما سيُرشح يف الفصل‬
‫السابع‪.‬‬

‫فعندما يكون العرض الجديد غري مهم مقارنة بالعرض القائم‪ ،‬فإن القيمة‬
‫السوقية لشكل النقد يتم تحديدها عرب رغبة الناس بامتالك أو إنفاق هذا النقد‪ .‬وستتباين‬
‫تلك العوامل بشكل كبري مع مرور الزمن بالنسبة لكل فرد‪ ،‬حيث تتغري ظروف األفراد‬
‫الشخصية من مراحل يفضلون فيها حمل الكثري من النقد إىل مراحل يفضلون فيها حمل‬
‫القليل منه‪ ،‬لكن وبشكل عام‪ ،‬ستتباين هذه العوامل بشكل قليل للمجتمع ككل وذلك ألن‬
‫النقد هو السلعة السوقية ذات املنفعة الهامشية األقل تناقصاً‪ .‬إن أحد أهم قوانني‬
‫االقتصاد هو قانون املنفعة الهامشية املتناقصة والذي يقول‪ :‬إن الحصول عىل املزيد من‬
‫أية سلعة سيقوم بالتقليل من املنفعة الهامشية لكل وحدة إضافية‪ .‬وحتى النقد‪ ،‬الذي ال‬

‫‪ 4‬ابن خلدون‪ ،‬املقدمة‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫يُمتلك من أجل امتالكه لذاته‪ ،‬بل من أجل مبادلته مع سلع أخرى‪ ،‬فستقل منفعته‬
‫الهامشية ولكن بشكل أبطأ من أية سلعة أخرى‪ ،‬وذلك ألنه يمكن دوما ً مبادلته مع أية‬
‫سلع أخرى‪ .‬فعندما تزداد ممتلكات األفراد من البيوت أو السيارات أو التلفازات‪ ،‬أو‬
‫التفاح أو األملاس‪ ،‬ينخفض التقييم الهاميش الذي يضعه هؤالء األفراد عىل كل وحدة‬
‫إضافية‪ ،‬مما يُقلل الرغبة بجمع املزيد من أي منها‪ .‬لكن املزيد من النقد ليس كاملزيد من‬
‫تلك السلع‪ ،‬حيث أنه وعند امتالك املزيد منه‪ ،‬سيتمكن مالكه من مبادلته ببساطة مع‬
‫ُفضلها‪ .‬ويف الحقيقة‪ ،‬إن املنفعة الهامشية للنقد تقل أيضاً‪،‬‬
‫املزيد من السلع األخرى التي ي ِّ‬
‫كما يمكن رؤيته يف اآلتي‪ :‬فكل دوالر إضايف يف الدخل يعني أكثر بكثري بالنسبة لشخص‬
‫دخله اليومي دوالرا ً واحدا ً مقارنة بمن يجني ألف دوالر يف اليوم‪ ،‬لكن املنفعة الهامشية‬
‫للنقد تقل بشكل أبطأ من أية سلعة أخرى‪ ،‬حيث أنها تقل رغبتها بكل هذه السلع‪ ،‬وليس‬
‫بسلعة معينة‪.‬‬

‫فاملنفعة الهامشية املتناقصة ببطء لحمل النقد تعني أن الطلب عليه لن يتغري‬
‫لعرض شبه دائم‪ ،‬فإنه سيؤدي إىل قيمة سوقية‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل كبري‪ .‬هذا األمر وعند إضافته‬
‫مستقرة نسبيا ً للنقد يف مجال السلع والخدمات‪ ،‬أي أنه من غري املحتمل أن يرتفع أو يقل‬
‫النقد بقيمته بشكل كبري‪ ،‬مما سيجعله استثمارا ً سيئا ً عىل املدى الطويل‪ ،‬لكنه سيكون‬
‫مخزونا ً جيدا ً للقيمة‪ .‬أما االستثمارات فإنه يُتوقع منها أن تحمل معها ارتفاعا ً كبرياً‪،‬‬
‫لكنها ستحمل معها أيضا ً احتمال خسارة كبرية أو انخفاض بالقيمة‪ ،‬فاالستثمار هو‬
‫مكافأة املجازفة‪ ،‬لكن النقد السليم كونه يحمل املجازفة األقل‪ ،‬ال يُقدِّم أية مكافآت‪.‬‬

‫باملجمل‪ ،‬إن الطلب عىل النقد سيتباين بتباين التفضيل الزمني فقط‪ ،‬حيث أنه‬
‫عندما يطور البرش تفضيالً زمنيا ً منخفضا ً بشكل عام‪ ،‬فغالبا ً سريغب املزيد من الناس‬
‫بامتالك النقد‪ ،‬مما يؤدي إىل ارتفاع قيمته السوقية مقارنة بالسلع والخدمات األخرى‪،‬‬
‫األمر الذي سيزيد من مكاسب مالكيه‪ .‬باملقابل‪ ،‬إن املجتمع الذي يطور تفضيالً زمنيا ً‬
‫أكثر ارتفاعاً‪ ،‬فإنه يميل عادة إىل التقليل من امتالكه للنقد‪ ،‬مما سيؤدي إىل انخفاض‬
‫قيمته السوقية بشكل هاميش‪ .‬يف كال الحالتني‪ ،‬امتالك النقد سيبقى دائما ً األقل خطرا ً‬
‫وسيبقى أصال ً مكافئا ً بشكل عام‪ ،‬وهذا بجوهره هو السبب الرئييس للطلب واإلقبال عليه‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫إن هذا التحليل يُساعد عىل تفسري قدرة الذهب املذهلة يف املحافظة عىل قيمته‬
‫مع مرور السنني‪ ،‬والعقود والقرون‪ .‬فأسعار السلع الزراعية يف اإلمرباطورية الرومانية‬
‫مشابهة بشكل كبري ألسعار اليوم‪.‬‬‫ً‬ ‫بقيمة جرامات الذهب تُظهر أنها تمتلك أسعارا ً‬
‫وبدراسة مرسوم أسعار ديوكلتيانوس‪ 5‬من عام ‪ 301‬ثم تحويل أسعار الذهب إىل ما‬
‫يعادلها اليوم بالدوالر األمريكي‪ ،‬سنجد أن ثمن رطل من اللحم سيكون حوايل ‪ ،$4.50‬يف‬
‫حني أن ثمن نصف لرت من الجعة يساوي ‪ $2‬تقريباً‪ ،‬وثمن نصف لرت من النبيذ حوايل‬
‫‪ $13‬إذا كان من النوع الجيد و‪ $9‬للصنف قليل الجودة‪ ،‬وتبلغ تكلفة نصف لرت من زيت‬
‫الزيتون حوايل ‪ .$20‬كما أن املقارنات بني البيانات املختلفة لألجور لبعض املهن تُظهر‬
‫أنماطا ً متشابهة أيضاً‪ ،‬لكن وبالرغم من أن نقاط البيانات الفردية هذه لها دالالت‪ ،‬إال أنه‬
‫ال يمكن أن تُعترب جازمة يف هذا املوضوع‪.‬‬

‫لقد قام "روي جاسرتام" بإخراج دراسةٍ منهجية لقوة الذهب الرشائية عىل‬
‫أطول مجموعة من البيانات املُتَّسقة املتاحة‪ 6،‬مراقبا ً البيانات اإلنجليزية من ‪ 1560‬حتى‬
‫‪ 1976‬لتحليل مدى التغري يف القوة الرشائية للذهب فيما يتعلق بالسلع األساسية‪.‬‬
‫ويكتشف جاسرتام أن قوة الذهب الرشائية انخفضت خالل أول ‪ 140‬سنة‪ ،‬لكنها بقيت‬
‫ثابتة نسبيا ً من عام ‪ 1700‬إىل ‪ 1914‬وذلك عندما خرجت بريطانيا عن املعيار الذهبي‪.‬‬
‫فألكثر من قرنني من الزمن عندما كانت بريطانيا تستخدم الذهب كنقد بشكل أسايس‪،‬‬
‫ظلت قيمته الرشائية ثابتة نسبيا ً‪ ،‬وكذلك كان األمر مع سعر السلع األساسية يف أسواق‬
‫الجملة‪ .‬وبعد أن خرجت بريطانيا عن املعيار الذهبي بشكل فعال يف بداية الحرب العاملية‬
‫األوىل‪ ،‬ارتفعت القوة الرشائية للذهب‪ ،‬كما ارتفع مقياس أسعار السلع األساسية بالجملة‪.‬‬
‫(انظر إىل الشكل ‪.)78‬‬

‫‪ 5‬آر‪ .‬كنت‪" ،‬مرسوم تثبيت األسعار القصوى لديوكليتانيوس"‪ ،‬اجمللة القانونية يف جامعة بنسلفانيا‪ ،‬اجمللد ‪96‬‬
‫(‪.35 :)1920‬‬
‫‪6‬روي جاسرتام‪ ،‬الثابت الذهيب ‪:‬التجربة اإلجنليزية واألمريكية‪( 2007 –1560 ،‬شلتنهام‪ ،‬املمكلة املتحدة‪:‬‬
‫إدوارد إلغار‪.)2009 ،‬‬
‫‪ 7‬املصدر‪ :‬جاسرتام‪ ،‬الثابت الذهيب‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫‪300‬‬ ‫‪1400‬‬

‫‪250‬‬ ‫‪1200‬‬

‫‪1000‬‬
‫‪200‬‬
‫‪8 00‬‬
‫‪150‬‬
‫‪600‬‬
‫‪100‬‬
‫‪400‬‬

‫‪50‬‬ ‫‪200‬‬

‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪1560‬‬ ‫‪1610‬‬ ‫‪1660‬‬ ‫‪1710‬‬ ‫‪1760‬‬ ‫‪1 8 10‬‬ ‫‪1 8 60‬‬ ‫‪1910‬‬ ‫‪1960‬‬

‫قوة الذهب الرشائية (املحور األيمن)‬ ‫مؤرش السلع األساسية يف سوق الجملة (املحور األيرس)‬
‫الشكل ‪ :8‬القوة الرشائية للذهب والسلع األساسية يف سوق الجملة يف إنجلرتا‪-1950 ،‬‬
‫‪1976‬‬

‫أسعار السلع األساسية بالدوالر‬ ‫‪3200‬‬


‫األمريكي‬
‫السلع األساسية بالذهب‬ ‫أسعار‬
‫‪800‬‬

‫‪200‬‬

‫‪50‬‬

‫‪12.5‬‬
‫‪1792‬‬ ‫‪1862‬‬ ‫‪1897‬‬ ‫‪1932‬‬ ‫‪1967‬‬ ‫‪2002‬‬
‫‪1827‬‬

‫الشكل ‪ :9‬سعر السلع األساسية بالذهب وبالدوالر األمريكي‪ ،‬عىل مقياس طويل األمد‪،‬‬
‫‪2016 -1792‬‬

‫‪99‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫من املهم استيعاب أن بقاء الوسيط النقدي ثابتا ً بشكل كيل يف القيمة هو أمر‬
‫ليس ممكنا ً أو قابال ً للتحديد حتى من الناحية النظرية‪ .‬فالسلع والخدمات التي يشرتيها‬
‫النقد ستتغري مع مرور الوقت وذلك ألن التكنولوجيا الحديثة ستُقدِّم سلعا ً جديدة‬
‫تستبدل القديمة منها‪ ،‬كما أن ظروف العرض والطلب ملختلف السلع ستتغري مع مرور‬
‫الزمن‪ .‬وواحدة من أهم الوظائف الرئيسية لوحدة النقد هي خدمتها كوحدة قياس للسلع‬
‫االقتصادية التي تتغري قيمتها باستمرار‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬من غري املمكن قياس سعر سلعة‬
‫ُرض‪ ،‬عىل الرغم من أنه عىل امتداد آفاق زمنية طويلة‪ ،‬هناك‬ ‫نقدية بشكل دقيق وم ٍ‬
‫ميل وتوجهٍ إجمايل ألحد‬
‫احتمالية ألن تشري الدراسات املشابهة لدراسة جاسرتام إىل ٍ‬
‫الوسائط النقدية ليحافظ عىل قيمته‪ ،‬خاصة عند مقارنته بأشكال النقد األخرى‪.‬‬

‫فالبيانات الحديثة من الواليات املتحدة قامت بالرتكيز عىل آخر قرنني واللذين‬
‫شهدا نموا ً اقتصاديا ً أرسع من الفرتة املغطاة يف بيانات جاسرتام‪ ،‬وأظهرت أيضا ً ارتفاع‬
‫قيمة الذهب من ناحية السلع األساسية التي ارتفع سعرها بشكل كبري بالنسبة للدوالر‬
‫األمريكي‪ ،‬وَهذا يتماىش تماما ً مع كون الذهب أصعب نقد متاح لنا‪ .‬فمن املمكن االستمرار‬
‫بزيادة عرض كل السلع األساسية بشكل أكثر سهولة من الذهب‪ ،‬لذلك ومع مرور الوقت‪،‬‬
‫ستصبح كل تلك السلع أكثر وفرة من الذهب‪ ،‬مما سيؤدي إىل ارتفاع القوة الرشائية له‬
‫مع مرور الوقت‪ .‬وكما يَظ َهر يف الشكل ‪ 8،9‬فإن قيمة الدوالر األمريكي كانت تزداد أيضا ً‬
‫مقابل السلع األساسية عندما كان مرتبطا ً بالذهب‪ ،‬لكنه خرس قيمته بشكل ملحوظ‬
‫عندما ُقطع ارتباطه بالذهب‪ ،‬كما حصل أثناء الحرب األهلية األمريكية‪ ،‬وطباعة الدوالر‬
‫األخرض‪ ،‬ويف املرحلة بعد تخفيض قيمة الدوالر عام ‪ 1943‬ومصادرة ذهب املواطنني‪.‬‬

‫إن املرحلة ما بني عام ‪ 1931‬و‪ ،1971‬ارتبط فيها النقد بشكل ظاهري‬
‫بالذهب‪ ،‬وكان هناك حظر عىل عملية تبديل النقود بالذهب‪ ،‬لكن وفقط عرب تدابري‬
‫حكومية متعددة‪ ،‬تم السماح باستبدال الذهب بنقود ورقية برشوط غامضة‪ .‬إن تلك‬

‫‪ 8‬املصدر‪ :‬اإلحصائيات التارخيية يف الوالايت املتحدة األمريكية‪ ،‬السلسلة ‪ E 52-63‬و‪ .E 23-3‬متاحة‬


‫على الرابط‬
‫‪https://fred.stlouisfed.org‬‬

‫‪100‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫الشكل ‪ :10‬أسعار العمالت الكبرية بالذهب‪2017-1971 ،‬‬

‫استقرار يف قيمة كل من النقود الحكومية‪ ،‬والذهب‪ ،‬والتغريات‬


‫ٍ‬ ‫الفرتة شهدت عدم‬
‫َّ‬
‫السياسية‪ .‬وللمقارنة بني الذهب والنقود الحكومية‪ ،‬يُفضل رؤية املدة الزمنية من سنة‬
‫‪ 1971‬حتى يومنا هذا‪ ،‬حيث كان يتم تبادل العمالت الوطنية بأسعار رصف حرة يف‬
‫األسواق و ُكلَّفت البنوك املركزية بضمان قوتها الرشائية‪( .‬انظر إىل الشكل ‪.)910‬‬

‫فحتى أكثر أشكال النقد الحكومي ثباتا ً وأفضلها أدا ًء َش ِه َدت تَحطما ً لقيمتها‬
‫مقارنة بالذهب‪ ،‬حيث أصبحت قيمتها حاليا ً تساوي حوايل ‪ %3-2‬مما كانت عليه عام‬
‫‪ 1971‬عندما تم َف ُّك ارتباطها عن الذهب‪ .‬وهذا األمر ال يُمثل ارتفاعا ً يف القيمة السوقية‬
‫للذهب‪ ،‬بل يُمثِّل انخفاضا ً يف قيمة العمالت الورقية‪ .‬حيث أننا وعند مقارنة أسعار السلع‬
‫والخدمات بقيمة هذا النقد الحكومي والذهب‪ ،‬فإننا سنجد ارتفاعا ً ملحوظا ً يف أسعارها‬
‫بالنسبة إىل النقد الحكومي‪ ،‬لكننا سنجد استقرارا ً نسبيا ً يف أسعارها مقارنة بالذهب‪.‬‬
‫فسعر برميل من النفط‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬وهو أحد السلع األساسية يف املجتمعات‬
‫االقتصادية الحديثة‪ ،‬كان ثابتا ً نسبيا ً من ناحية الذهب منذ عام ‪ ،1971‬يف حني ارتفع‬
‫بشكل ضخم بالنسبة للنقد الحكومي‪( .‬انظر إىل الشكل ‪.)11‬‬

‫‪ 9‬املصدر‪ :‬إحصائيات االحتياطي الفيدرايل األمريكي‪ُ .‬متاح على الرابط ‪.https://fred.stlouisfed.org‬‬


‫بياانت أسعار الذهب من جممع الذهب العاملي‪http://www.gold.org ،‬‬

‫‪101‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الشكل ‪ :11‬أسعار النفط بالدوالر األمريكي وبأونصات الذهب‪،2017-1861 ،‬‬


‫حيث تتعدد األسعار عام ‪.1971‬‬

‫فالنقد الصعب الذي ال يمكن توسيع عرضه بسهولة غالبا ً ستكون قيمته أكثر‬
‫مرن بتاتاً‪ ،‬حيث أن الطلب االجتماعي عىل‬ ‫استقرارا ً من النقد السهل وذلك ألن عرضه غري ٍ‬
‫هذا النقد سيتباين قليالً مع مرور الوقت بتباين التفضيل الزمني‪ .‬باملقابل‪ ،‬فالنقد السهل‬
‫وبسبب قدرة منتجيه عىل تغيري كميته بشكل كبري‪ ،‬فإنه سيُنشئ طلبا ً متقلبا ً للغاية من‬
‫طرف املالكني حيث ستتباين هذه الكمية مما سيؤدي إىل تَقلُّب مصداقيته كمخزون‬
‫للقيمة‪.‬‬

‫إن استقرار القيمة النسبي ليس مهما ً للمحافظة عىل القوة الرشائية ملدخرات‬
‫املالكني فحسب‪ ،‬بل قد يكون ذا أهمية أكرب يف املحافظة عىل نزاهة الوحدة النقدية كوحدة‬
‫حساب‪ .‬فعند وجود توقعات بأن يكون النقد ذا قيمة مستقرة بفضل التباينات الصغرية‬
‫يف العرض والطلب‪ ،‬فإنه يمكن لهذا النقد أن يترصف كمؤرش موثوق ل ُّ‬
‫لتغريات بأسعار‬
‫السلع والخدمات األخرى‪ ،‬مثلما فعل الذهب‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫لكن يف حالة النقد الحكومي‪ ،‬فإن العرض النقدي يزداد عرب توسيع هذا‬
‫العرض من قِ بَل البنك املركزي واملصارف التجارية‪ ،‬ويتضاءل أثناء الركود واالنكماش‬
‫االقتصادي وحاالت اإلفالس‪ .‬وبطبيعة الحال إن الطلب عىل النقد يمكن أن يتباين بشكل‬
‫ال يمكن التنبؤ به وفقا ً لتوقعات الناس لقيمة هذا النقد‪ ،‬ووفقا ً لسياسات املرصف‬
‫املركزي‪ .‬فهذا املزيج عديم االستقرار سيؤدي إىل وجود النقد الحكومي بصفته نقدا ً ذا‬
‫قيمة غري متوقعة عىل املدى الطويل‪ .‬ويمكن اإلضافة بأن مهمة البنوك املركزية املتمثلة‬
‫بضمان استقرار األسعار جعلتهم وبشكل مستمر يقومون بإدارة العرض النقدي‬
‫باستخدام أدواتهم املتعددة لضمان االستقرار بالسعر‪ ،‬مما جعل العديد من العمالت‬
‫الرئيسية تبدو أكثر استقرارا ً عىل األمد القصري مقارنة بالذهب‪ ،‬لكن عىل املدى الطويل‪،‬‬
‫فالزيادة املستمرة يف عرض النقد الحكومي مقارنة بالزيادة الثابتة والبطيئة للذهب‬
‫ستجعل من قيمة الذهب أكثر توقعاً‪.‬‬

‫فالنقد السليم الذي يتم اختياره يف األسواق الحرة‪ ،‬تحديدا ً ألنه يحتفظ بقيمته‬
‫غالبا ً مع مرور الوقت‪ ،‬سيكون بشكل طبيعي نقدا ً ذا استقرار أفضل من النقد غري‬
‫السليم الذي يتم استخدامه بسبب َف ْرض الحكومات القرسية له‪ .‬فلو كان هذا النقد‬
‫الحكومي وحد ًة متفوقة للحساب ولتخزين القيمة‪ ،‬ملا احتاج لقوانني حكومية كي تفرضه‬
‫ط َّرت الحكومات يف أنحاء العالم إىل مصادرة كميات كبرية من‬ ‫كعملة قانونية‪ ،‬وملا اض ُ‬
‫الذهب ‪ ،‬بل واستمرت بتخزينها يف احتياطات بنوكها املركزية‪ .‬فحقيقة احتفاظ البنوك‬
‫املركزية بالذهب الخاص بها‪ ،‬بل وأنها بدأت بزيادة االحتياطي منه‪ ،‬تشهد عىل مدى عدم‬
‫ثقتها بعمالتها عىل املدى الطويل‪ ،‬وعىل الدور النقدي الحتمي للذهب‪ ،‬يف نفس الوقت‬
‫الذي يستمر فيه تدني قيمة العمالت الورقية ملستويات جديدة‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫االدخار ومجع رأس املال‬


‫إن واحدة من أهم املشاكل التي تُسببها عملة تتناقص قيمتها هي التحفيز سلبا ً عىل‬
‫االدخار للمستقبل‪ .‬والتفضيل الزمني هو تفضيل إيجابي عاملياً‪ :‬فإذا تم إعطاء الفرصة‬
‫بالحصول عىل السلعة نفسها اليوم أو يف املستقبل‪ ،‬فإن أي شخص عاقل سيُفضل أن‬
‫يحصل عليها اليوم‪ ،‬ولن يُفكر الناس بتأخري املتعة إال إن ارتفعت العوائد يف املستقبل‪.‬‬
‫والنقد السليم هو نقد تزداد قيمته بشكل طفيف مع مرور الوقت‪ ،‬مما يعني أن امتالكه‬
‫سيُق ِّدم زياد ًة يف قوته الرشائية‪ ،‬والنقد غري السليم الذي تتحكم به البنوك املركزية‪ ،‬والتي‬
‫تتمثل مهمتها الرصيحة يف إبقاء التضخم إيجابياً‪ ،‬سيُقدِّم حافزا ً قليالً ملالكيه لكي‬
‫يحتفظوا به‪ ،‬بحيث يزداد احتمال هذه األفراد بإنفاقه أو اقرتاضه‪.‬‬

‫فعند الحديث عن االستثمار والنقد‪ ،‬يخلق النقد السليم بيئة اقتصادية تكون‬
‫فيها أي نسبة إيجابية للعوائد مفيدة للمستثمر‪ ،‬بحيث تحتفظ الوحدة النقدية بقيمتها‬
‫غالباً‪ ،‬هذا إن لم ترتفع‪ ،‬مما يرفع الحافز لالستثمار‪ .‬لكن عندما يتعلق األمر بالنقد غري‬
‫السليم‪ ،‬ففقط العائدات األكثر ارتفاعا ً من معدل انخفاض العملة ستكون إيجابية يف‬
‫إلنفاق واستثمار ذي عوائد مرتفعة لكنها عالية‬
‫ٍ‬ ‫القيمة الحقيقية‪ ،‬مما يصنع حوافزا ً‬
‫املجازفة‪ .‬أيضاً‪ ،‬بما أن الزيادة يف العرض النقدي تعني بشكل فعال ن َِسب فائدة‬
‫منخفضة‪ ،‬فإن الحافز لالدخار واالستثمار يقل يف حني يرتفع الحافز لالقرتاض‪.‬‬

‫وسجل التجربة عىل النقد غري السليم التي أُجريت عىل مدار ‪ 46‬عاما ً تعزز هذه‬
‫ِ‬
‫الخالصة‪ ،‬فمُعدالت االدخار كانت تنخفض يف الدول املتقدمة‪ ،‬ووصلت إىل مستويات‬
‫منخفضة جداً‪ ،‬يف حني ارتفعت الديون الشخصية واملحلية والوطنية إىل مستويات لم يكن‬
‫يمكن تَصوُّرها يف املايض‪( .‬انظر إىل الشكل ‪.)12‬‬

‫إن سويرسا هي الدولة الوحيدة التي بقيت عىل معيار ذهبي رسمي حتى سنة‬
‫‪ ، 1934‬واستمرت يف دعم عملتها باحتياطات كبرية من الذهب حتى بداية التسعينات‪،‬‬
‫وبقي معدل االدخار مرتفعا ً فيها‪ ،‬لتكون آخر مَعْ قِ ل للحضارة الغربية ذي التفضيل‬

‫‪104‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫فرنسا‬ ‫ألمانيا‬ ‫إيطاليا‬ ‫‪25‬‬

‫سويسرا‬ ‫المملكة المتحدة‬ ‫الواليات المتحدة‬


‫‪20‬‬

‫‪15‬‬

‫‪10‬‬

‫‪5‬‬

‫‪0‬‬
‫‪1970‬‬ ‫‪1980‬‬ ‫‪1990‬‬ ‫‪2000‬‬ ‫‪2010‬‬
‫‪–5‬‬

‫الشكل ‪ :12‬نسب االدخار الوطنية يف االقتصادات الكربى‪-1970 ،‬‬


‫‪% ،2016‬‬

‫الزمني املنخفض بنسبة ادخار مكونة من خانتني‪ ،‬يف حني تراجع كل اقتصاد غربي آخر‬
‫إىل ن َِس ِب ادخار مكونة من خانة واحدة إذا لم تكن سلبية يف بعض الحاالت‪ .‬فنسبة‬
‫االدخار املتوسطة يف أكرب سبعة اقتصادات متطورة‪ 10‬كانت ‪ %12.66‬يف عام ‪،1970‬‬
‫لكنها انخفضت إىل ‪ %3.39‬عام ‪ ،2015‬وهو انخفاض يساوي ثالثة أرباع تقريباً‪.‬‬

‫وبينما انخفضت نسب االدخار يف العالم الغربي‪ ،‬إال أن املديونية استمرت‬


‫باالرتفاع بحيث أصبح لألرسة الغربية العادية مديونية تُعادل أكثر من ‪ %100‬من دخلها‬
‫السنوي‪ ،‬وأصبحت أعباء الديون االجمالية للمستويات املختلفة من الحكومة والعائالت‬
‫تتجاوز إجمايل الناتج املحيل بعدة أضعاف‪ ،‬األمر الذي أدى ويؤدي إىل عواقب وخيمة‪.‬‬
‫لكن تم تطبيع تلك األرقام حيث قام االقتصاديون الكينيزيون بطمأنة املواطنني بمفاد أن‬
‫الدَّين جيد للنمو وأن االدخار سيؤدي إىل الركود االقتصادي‪ .‬فأحد أهم التخيالت الكاذبة‬

‫‪ 10‬إهنا الوالايت املتحدة‪ ،‬الياابن‪ ،‬أملانيا‪ ،‬اململكة املتحدة‪ ،‬فرنسا‪ ،‬إيطاليا‪ ،‬وكندا‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫التي تَسود الفِ ْك َر االقتصادي الكينيزي هي الفكرة بأن الدَّين القومي "ليس مهماً‪ ،‬ألننا‬
‫مدينون به ألنفسنا‪ ".‬فقط التابعني لكينز ذوي التفضيل الزمني املرتفع يمكن أن يفشلوا‬
‫بفهم أن "أنفسنا" هذه هي ليست كتلة متجانسة بل هي كتلة تتباين يف عدة أجيال‬
‫وبشكل أسايس‪ ،‬الجيل الحايل الذي يستهلك بتهور عىل حساب األجيال القادمة‪ .‬ولزيادة‬
‫الطني بلة‪ ،‬تلك العبارة تُتبع عادة بابتزاز عاطفي عىل غرار قول "سنخدع ونحرم أنفسنا‬
‫إن لم نقرتض لنستثمر من أجل مستقبلنا‪".‬‬

‫يَدَّعي الكثريون أن هذا اكتشاف حديث مذهل من بصرية كينز الرائعة‪ ،‬مفاده‬
‫أن اإلنفاق هو كل ما يهم‪ ،‬وأنه عند التأكد ببقاء مستوى اإلنفاق مرتفعاً‪ ،‬ستستمر الديون‬
‫بالزيادة إىل ما ال نهاية وسيتم وقتها استبعاد املدخرات‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬ال يشء جديد يف هذه‬
‫ظفها األباطرة الرومان الفاسدون أثناء تدهور اإلمرباطورية‪ ،‬إال أنها‬‫السياسة حيث و َّ‬
‫تُطب ق اآلن باستخدام نقد ورقي أصدرته الحكومة‪ .‬حيث أنه وبالواقع‪ ،‬يسمح النقد‬
‫الورقي بالتحكم به بشكل أكثر سالسة‪ ،‬وأقل وضوحا ً من العمالت املعدنية القديمة‪ ،‬لكن‬
‫النتائج هي ذاتها‪.‬‬

‫فاإلرساف بثقافة استهالك املظاهر أمام الناس يف القرن العرشين ال يمكن‬


‫فيش فِ كر الكينيزيني ذوي التفضيل‬‫فهمها بشكل منفصل عن دمار النقد السليم‪ ،‬وتَ ِّ‬
‫الزمني املرتفع يف تشويه قيمة االدخار‪ ،‬وتعظيم االستهالك بكونه مفتاح االزدهار‬
‫االقتصادي‪ .‬فحافز االدخار املنخفض ينعكس ويتجىل بحافز اإلنفاق املتزايد‪ .‬ومع‬
‫التالعب املُنتَظم لتخفيض معدالت الفائدة وقدرة املصارف عىل إصدار االئتمانات أكثر من‬
‫أي وقت مىض‪ ،‬لم يعد اإلقراض محصورا ً عىل االستثمار‪ ،‬بل أصبح لالستهالك أيضاً‪.‬‬
‫فبطاقات االئتمان وقروض املستهلك تسمح لألفراد باالقرتاض من أجل االستهالك دون‬
‫أي حاجة للتظاهر حتى للقيام باستثمار يف املستقبل‪ .‬وهذه إشارة ساخرة عىل عمق‬
‫ُحرض عليه االقتصاديون الكينيزيون بأن الرأسمالية –‬‫الجهل االقتصادي الحديث الذي ي ِّ‬
‫وهي نظام اقتصادي يعتمد عىل جمع رأس املال من املدخرات‪ -‬هي املسؤولة عن انتشار‬
‫ثقافة استهالك املظاهر أمام الناس‪ ،‬وهو أمر معاكس تماما ً لعملية جمع رأس املال‪.‬‬
‫فالرأسمالية هي ما تحدث عندما يُقلل الناس تفضيلهم الزمني‪ ،‬بحيث يؤجلون املتعة‬

‫‪106‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫الفورية ويستثمرون يف املستقبل‪ ،‬وأما االستهالك الواسع الذي تغذيه الديون فهو جزء‬
‫طبيعي من الرأسمالية كما أن االختناق هو جزء طبيعي من التنفس‪.‬‬

‫هذا األمر يساعد أيضا ً يف تفسري السبب الرئييس لسوء فهم االقتصاد عند‬
‫الكينيزيني‪ ،‬الذين يعتربون أن تأخري االستهالك الحايل عرب االدخار سيؤدي إىل ترسيح‬
‫العمال وتعطيل اإلنتاج االقتصادي‪ .‬فرأى كينز أن مستوى اإلنفاق يف أي نقطة محددة‬
‫من الزمن هو املُحد ِّد األكثر أهمية لحالة االقتصاد‪ ،‬حيث أن كينز وألنه لم يدرس االقتصاد‬
‫ظفة فقط يف السلع‬ ‫أبداً‪ ،‬لم يفهم نظرية رأس املال وكيف أن العمالة ال يجب أن تكون مُو َّ‬
‫النهائية‪ ،‬بل يمكن توظيفها يف إنتاج السلع الرأسمالية التي ستُنتج سلعا ً نهائية يف‬
‫املستقبل فقط‪ .‬وبما أنه عاش باالعتماد عىل ثروة عائلته الضخمة دون أن يضطر للعمل‬
‫يف وظائف حقيقية‪ ،‬لم يكن كينز يُقدِّر االدخار أو جمع رأس املال ودورهما الرئييس يف‬
‫النمو االقتصادي‪ .‬وبالتايل‪ ،‬كان كينز يراقب الركود االقتصادي بالتزامن مع انخفاض‬
‫إنفاق املستهلكني والزيادة باالدخار‪ ،‬ويفرتض أن السبب يبدأ من زيادة االدخار التي‬
‫تؤدي إىل انخفاض االستهالك ثم الركود االقتصادي‪ .‬لو كانت لديه الرغبة ليدرس نظرية‬
‫رأس املال‪ ،‬لَ َف ِهم أن انخفاض االستهالك هو رد فعل طبيعي عىل الدورة االقتصادية‪،‬‬
‫والتي بدورها نشأت من التوسع بالعرض النقدي‪ ،‬كما سيتم نقاشه يف الفصل السادس‪،‬‬
‫لف ِهم أيضا ً أن السبب الوحيد للنمو االقتصادي باملقام األول هو تأجيل املتعة واالدخار‬ ‫َ‬
‫واالستثمار‪ ،‬الذي يُطيل من أمد دورة اإلنتاج ويزيد من إنتاجية وسائل اإلنتاج‪ ،‬األمر الذي‬
‫ُحسن من معايري الحياة‪ ،‬وكان ليعرف أيضا ً أن السبب الوحيد لكونه وُ ِلد يف عائلة ثرية‬‫ي ِّ‬
‫يف مجتمع ثري هو أن أجداده أمضوا عقودا ً يف جمع رأس املال‪ ،‬مؤجلني املتعة‬
‫ومستثمرين يف املستقبل‪ ،‬لكنه مثل األباطرة الرومان أثناء انحالل اإلمرباطورية‪ ،‬لم يكن‬
‫بمقدوره فِ هْ ُم العمل والتضحية الالزمة لتحقيق ثروته‪ ،‬واعتقد بدال ً من ذلك أن كثرة‬
‫االستهالك هي سبب االزدهار بدال ً من أن تكون نتيجته‪.‬‬

‫ً‬
‫احتمالية لجمع رأس املال‬ ‫فالدَّين هو عكس االدخار‪ ،‬وإن كان االدخار يخلق‬
‫وللتطور الحضاري‪ ،‬فالديون تستطيع إبطال ذلك عرب تقليل مخزون رأس املال عرب‬
‫األجيال‪ ،‬وعرب انخفاض اإلنتاجية‪ ،‬وعرب تقليل جودة معايري الحياة‪ .‬وسواء أكانت ديون‬
‫اإلسكان أم تكاليف الضمان االجتماعي أم القروض الحكومية‪ ،‬فكلها تطلبت رضائب‬

‫‪107‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫أكثر من أي وقت مىض وتطلبت تسييل الديون إلعادة تمويلها‪ ،‬ولهذا قد تكون األجيال‬
‫الحالية هي أول أجيال يف العالم الغربي منذ انتهاء اإلمرباطورية الرومانية (أو عىل األقل‬
‫منذ الثورة الصناعية) تُولَد يف العالم برأس مال أقل مما كان ألهاليهم‪ .‬فبدال ً من أن يشهد‬
‫هذا الجيل تراكم مدخراته ويزيد من مخزون رأس املال‪ ،‬يجب عليه أن يعمل ليسدد‬
‫الفائدة املتزايدة عىل ديونه‪ ،‬حيث أنه سيضطر للعمل بجد أكثر لتمويل برامج االستحقاق‬
‫التي بالكاد سيستمتع بها أثناء دفعه لرضائب أكثر‪ ،‬وبالكاد سيتمكن من االدخار‬
‫لشيخوخته‪.‬‬

‫إن هذا االنتقال من النقد السليم إىل النقد الذي تنخفض قيمته أدى إىل تبذير‬
‫الثروة التي تم جمعها من قِ بَل عدة أجيال عىل ثقافة استهالك املظاهر أمام الناس خالل‬
‫جيل واحد أو اثنني‪ ،‬جاعال ً املديونية الطريقة الجديدة لتمويل النفقات الكبرية‪ .‬ففي حني‬
‫كان معظم الناس قبل ‪ 100‬عام يدفعون ثمن بيوتهم‪ ،‬وتعليمهم‪ ،‬وزواجهم من عملهم‬
‫ً‬
‫سخيفة بالنسبة للناس اليوم‪.‬‬ ‫الخاص أو مدخراتهم املرتاكمة‪ ،‬إال أن فكر ًة كهذه قد تبدو‬
‫فحتى األغنياء ال يعيشون وفقا ً ملواردهم املالية‪ ،‬بل يستخدمون ثروتهم ليحصلوا عىل‬
‫قروض أكرب لتمويل مشرتيات أكثر‪ .‬يمكن لنظا ٍم كهذا أن يستمر فرتة من الزمن‪ ،‬لكن‬
‫يجب علينا أال نخلط بني استمراره واستقراره‪ ،‬حيث أنه ليس سوى استهالك منظم‬
‫ملخزون املجتمع من رأس املال‪.‬‬

‫مَمي‪ ،‬تم وضع هذا النقد تحت سيطرة‬ ‫وعندما أصبح النقد عىل نطاق أ ُ ِ‬
‫السياسيني الذين يعملون من أجل آفاق زمنية قصرية األمد ولبضع سنوات فقط‪ ،‬بحيث‬
‫يبذلون كل ما بوسعهم ليتم انتخابهم مجدداً‪ .‬فكان من الطبيعي أن تؤدي عملية كهذه‬
‫إىل اتخاذ قرارات قصرية األمد بحيث يقوم السياسيون بإساءة استخدام العملة لتمويل‬
‫ٍ‬
‫حمالت إلعادة انتخابهم عىل حساب األجيال القادمة‪ .‬وكما قال إتش‪ .‬إل‪ .‬منكن‪" :‬كل‬
‫انتخابات هي مزاد مُسبق عىل السلع املرسوقة‪ ".‬ففي مجتمع يكون فيه النقد حرا ً‬
‫‪11‬‬

‫وسليماً‪ ،‬يجب عىل األفراد فيه اتِّخاذ قرارات خاصة برأس مالهم بحيث تؤثر هذه‬

‫‪ 11‬إتش‪ .‬إل‪ .‬منكن ومالكوم موس (حمرر)‪ ،‬مهرجان بونكوم (ابلتيمور‪ ،‬مطبعة جون هوبكنز‪ ،)1956 ،‬الصفحة‬
‫‪.325‬‬

‫‪108‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫القرارات عىل ذويهم عىل املدى الطويل‪ .‬ويف حني أنه من املحتمل أن يتخذ البعض قرارات‬
‫غري مسؤولة ستؤدي إىل إيذاء ذريتهم‪ ،‬إال أن أولئك الذين يريدون اتخاذ قرار مسؤول‬
‫كان لهم الحرية بفعل هذا‪ .‬لكن مع النقد املؤمم‪ ،‬أصبح اتِّخاذ قرار كهذا أكثر صعوبة‪،‬‬
‫حيث تقوم الحكومة املركزية بالسيطرة عىل العرض النقدي‪ ،‬فتُدمر الحافز لالدخار‬
‫بشكل مؤكد وبهذا تقوم بزيادة الحافز لالقرتاض‪ .‬ومهما كان الشخص حكيماً‪ ،‬فسيشهد‬
‫أبناؤه انخفاض قيمة مدخراتهم وسيضطرون إىل دفع الرضائب ليغطوا السخاء‬
‫التضخمي لحكومتهم‪.‬‬

‫ويف حني قلص االنخفاض باإلرث العاملي من قوة العائلة كوحدة‪ ،‬فإن دفرت‬
‫شيكات الحكومة الذي ال ينتهي قام بزيادة قدرتها عىل توجيه وتشكيل حياة الناس‪ ،‬مما‬
‫أعطاها دورا ً متزاي َد األهمية كي تؤديه يف ٍ‬
‫نواح أكثر يف حياة األفراد‪ .‬فتم بذلك حجب قدرة‬
‫العائلة عىل تمويل الفرد بسخاء الدولة‪ ،‬مما أدى إىل انخفاض الدوافع للمحافظة عىل هذه‬
‫العائلة‪.‬‬

‫ففي املجتمعات التقليدية‪ ،‬يُدرك األفراد حاجتهم للدعم من أبنائهم يف املستقبل‪،‬‬


‫ولهذا سيقضون سنوات شبابهم وهم ِّ‬
‫أصحاء يف بناء العائلة‪ ،‬واالستثمار يف توفري أفضل‬
‫حياة ممكنة ألبنائهم ‪ ،‬لكن إن تم تثبيط االستثمار عىل املدى الطويل بشكل عام‪ ،‬وإن كان‬
‫االدخار سيكون غالبا ً غري مثمر مع انخفاض قيمة النقد‪ ،‬يصبح هذا االستثمار أقل فائدة‪.‬‬
‫َ‬
‫كذبة أن الرفاه األبدي وفوائد التقاعد هي‬ ‫كذلك األمر‪ ،‬فعندما يبيع السياسيون الناس‬
‫ممكن ٌة باستخدام سحر طباعة النقد الورقي‪ ،‬يصبح االستثمار يف العائلة أقل قيمة‪ .‬ومع‬
‫مرور الوقت‪ ،‬سيقل الحافز لبناء عائلة وسيزداد عدد األفراد الذين يبقون عازبني‪ ،‬كما‬
‫سيزداد أيضا ً احتمال انهيار منظومة الزواج بسبب انخفاض االستعداد ملا سيضعه‬
‫الرشيكان يف االستثمار العاطفي‪ ،‬واألخالقي واملادي لنجاح عالقتهما‪ ،‬يف حني أن الزواج‬
‫الذي يستمر سيُنتِج أبنا ًء أقل‪ .‬فظاهرة انهيار منظومة األرسة املعروفة جيدا ً ال يمكن‬
‫فهمها دون فهم دور النقد غري السليم الذي يسمح للدولة بمصادرة الكثري من األدوار‬
‫األساسية التي كانت العائلة تؤديها آلالف السنني‪ ،‬فتُقلل بذلك حافز كل أفراد العائلة عىل‬
‫االستثمار يف عالقات عائلية طويلة األمد‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫فاستبدال العائلة بسخاء الحكومة يُمكن اعتباره تجارة خارسة لألفراد الذين‬
‫كانوا طرفا ً بذلك‪ .‬وتُظهر عدة دراسات أن الرضا عن الحياة يعتمد بدرجة كبرية عىل‬
‫تشكيل روابط أرسية حميمية طويلة األمد مع رشيك وأوالد‪ 12.‬كما تُظهر عدة دراسات أن‬
‫معدالت االكتئاب واالضطرابات النفسية تزداد مع مرور الوقت بتفكك األرس وانهيارها‪،‬‬
‫وخاصة لدى النساء‪ 13.‬ويف كثري من األحيان يكون تفكك األرسة هو السبب املؤدي إىل‬
‫حاالت االكتئاب واالضطرابات النفسية تلك‪.‬‬

‫فليس مصادفة أن تَف ُّكك األرسة قد حدث بتطبيق التعاليم االقتصادية لرجل لم‬
‫يكن يوما ً مهتما ً بالنتائج طويلة األمد‪َ .‬ف ِمن عائلة غنية جمعت رأس مال ضخم لعدة‬
‫أجيال‪ ،‬كان كينز فاجرا ً يتبع مذهب اللذة وأمىض معظم حياته وهو بالغ يف عالقات‬
‫‪14‬‬
‫جنسية مع األطفال‪ ،‬بما فيها التِجوال حول البحر املتوسط ليزور بيوت دعارة األطفال‪.‬‬
‫ففي حني كانت بريطانيا الفيكتورية مُجتمعا ً ذا تفضيل زمني منخفض وتتمع ٍ‬
‫بحس‬
‫أرس مستقرة‪ ،‬كان كينز جزءا ً من جيل ثار عىل‬
‫عال‪ ،‬ورصاعات قليلة بني األفراد و ٍ‬‫أخالقي ٍ‬
‫تلك التقاليد واعتربها مؤسسة قامعة يجب أن يُقىض عليها‪ .‬لهذا‪ ،‬من املستحيل فهم‬
‫اقتصاد كينز دون فهم نوعية األخالق التي أراد أن يراها يف مجتمع آمَ َن بشكل كب ٍ‬
‫ري‬
‫بقدرته عىل تشكيله وفقا ً لرغبته‪.‬‬

‫‪ 12‬جورج فيالنت‪ ،‬انتصارات التجربة‪ :‬رجال دراسة منحة هارفارد‪( .‬كامربيدج‪ ،‬ماجستري‪ :‬صحافة جامعة‬
‫هارفارد‪.)2012 ،‬‬
‫‪ 13‬بيتسي ستيفنسن وجاسنت وولفرز‪" ،‬معضلة اخنفاض سعادة اإلانث‪ ".‬اجمللة االقتصادية األمريكية‪ :‬السياسة‬
‫االقتصادية‪ ،‬اجمللد ‪ ،1‬رقم ‪.225-190 :)2009(2‬‬
‫‪ 14‬اقرأ كتاب مايكل هولرويد‪ ،‬ليتون سرتاتشي‪ :‬السرية الذاتية اجلديدة‪ ،‬اجمللد ‪ ،I‬الصحفة ‪ ،80‬فيه رسالة أرسلها‬
‫سرة والصبيان ليسا‬‫كينز إىل صديقه ليتون سرتاتشي يف جمموعة بلومزبري ونصحه أن يزورو تونس "حيث األَ ّ‬
‫مكلفني‪ ".‬اقرأ أيضاً كتاب ديفيد فيليكس‪ ،‬كينز‪ :‬حياة حرجة‪ ،‬الصفحة ‪ ،112‬اليت تقتبس رسالة من كينز يُعلم‬
‫َسرة والصبيان‘ جاهزون‪ ".‬نصح سرتاتشي يف رسالة‬ ‫فيها صديقاً‪" ،‬أان ذاهب إىل مصر‪ ...‬علمت للتو أن ‘األ َّ‬
‫أخرى ابلذهاب إىل تونس وصقلية "إن أردت أن تذهب إىل حيث يرقص الصبية العراة‪".‬‬

‫‪110‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫ابتكارات‪" :‬صفر إىل واحد" مقابل "واحد إىل عديد"‬


‫يمكن رؤية تأثري النقد السليم عىل التفضيل الزمني وعىل التوجهات املستقبلية عىل أبعاد‬
‫أكرب من مستوى االدخار فحسب‪ ،‬بحيث يمكننا رؤية ذلك عىل نوعية املشاريع التي‬
‫يستثمر فيها املجتمع‪ .‬ففي ظل نظام من النقد السليم مشابه ألنظمة العالم يف أواخر‬
‫القرن التاسع عرش‪ ،‬يرتفع احتمال مشاركة األفراد يف استثمارات طويلة األمد‪ ،‬وأن يكون‬
‫لديهم كميات كبرية متاحة من رأس املال لتمويل تلك املشاريع التي تحتاج وقتا ً طويال ً‬
‫لجنى ثمارها‪ .‬نتيجة لهذا‪ ،‬شهدت الحقبة الذهبية يف نهاية القرن التاسع عرش بعضا ً من‬
‫أهم االبتكارات يف تاريخ البرشية‪.‬‬

‫ففي عملهما الرائع واملؤثر تاريخ العلوم والتكنولوجيا جَ مَ َع "بانش وهيلمانز"‬


‫قائمة من ‪ 8,583‬من أهم االبتكارات واالخرتاعات يف تاريخ العلوم والتكنولوجيا‪ .‬وحَ لَّل‬
‫الفيزيائي "جوناثان هوبنر"‪ 15‬كل هذه األحداث مع السنة التي وقع فيها كل حدث‬
‫وقارنه مع التعداد السكاني العاملي يف تلك السنة‪ ،‬ثم قاس معدل وقوع تلك األحداث‬
‫بالسنة لكل فرد منذ العصور املظلمة‪ .‬لقد وجد "هوبنر" أنه رغم ارتفاع العدد اإلجمايل‬
‫لالبتكارات يف القرن العرشين‪ ،‬إال أن إجمايل عدد االبتكارات لكل فرد بلغ ذروته يف القرن‬
‫التاسع عرش‪.‬‬

‫ويمكن دعم بيانات هوبنر بإلقاء نظرة فاحصة عىل ابتكارات ما قبل عالم سنة‬
‫‪ ،1914‬وال نبالغ بالقول أن عاملنا الحديث قد تم اخرتاعه يف سنوات املعيار الذهبي التي‬
‫َّ‬
‫وحسن‪،‬‬ ‫سبقت الحرب العاملية األوىل‪ .‬والقرن العرشين كان هو القرن الذي صقل‪ ،‬وطوَّر‪،‬‬
‫واقتصد وعَ َّمم ابتكارات القرن التاسع عرش‪ .‬فعجائب ومعجزات تطويرات القرن‬
‫العرشين تُسهِّ ل عىل املرء نسيان أن االبتكارات األصلية‪ -‬وهي االبتكارات التي غريت‬
‫وحولت العالم‪ُ -‬‬
‫اخرتعت كلها تقريبا ً يف العرص الذهبي‪.‬‬

‫‪ 15‬جواناثن هوبنر‪" ،‬اخنفاض حمتمل للميل يف االبتكارات العاملية"‪ ،‬التوقع التكنولوجي والتغري االجتماعي‪ ،‬اجمللد‬
‫‪.986-980 .)2005( 72‬‬

‫‪111‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ويف كتابه الشهري‪ ،‬من صفر إىل واحد‪ ،‬يناقش "بيرت ثايل" تأثري أصحاب الرؤى‬
‫الذين يصنعون عاملا ً جديدا ً بإنتاج أول نموذج ناجح لتقنية جديدة‪ .‬فاالنتقال من العدم‬
‫إىل وجود نموذج تقني ناجح‪( ،‬صفر إىل واحد) عىل حد تعبريه‪ ،‬هو أصعب وأهم خطوة‬
‫نحو االبتكار‪ ،‬يف حني أن االنتقال من واحد إىل العديد هو مجرد عملية توسيع‪ ،‬وتسويق‬
‫َصعُب عىل الشغوفني منا بفكرة التطور تَقبُّل فكرة أن عالم النقد السليم‬‫وتطوير‪ .‬وقد ي ْ‬
‫ما قبل ‪ 1914‬كان عالم الصفر إىل واحد‪ ،‬يف حني أن عالم ما بعد ‪ 1914‬ذي النقد الذي‬
‫تنتجه الحكومة هو عالم االنتقال من واحد إىل العديد‪ .‬وال َ‬
‫ضْ َ‬
‫ري يف االنتقال من واحد إىل‬
‫العديد‪ ،‬لكنه بالتأكيد يدعو إىل التفكري بجدية يف سبب عدم وجود املزيد من انتقاالت‬
‫الصفر إىل واحد يف نظامنا النقدي الحديث‪.‬‬

‫فأغلب مظاهر التكنولوجيا التي نستخدمها يف حياتنا العرصية تم ابتكارها يف القرن‬


‫التاسع عرش تحت املعيار الذهبي‪ ،‬وتم تمويلها من قبل املخزون املتزايد باستمرار من‬
‫رأس املال الذي جمعه املدخرون الذين يعملون عىل تخزين ثروتهم يف نقد سليم أو يف‬
‫مخزون قيمة لم ينخفض برسعة‪ .‬ويرد هنا ملخص ألهم ابتكارات تلك الفرتة‪:‬‬

‫املياه الجارية الساخنة والباردة‪ ،‬واملراحيض الداخلية‪ ،‬وتمديدات الرصف الصحي‪،‬‬


‫والتدفئة املركزية‪:‬‬

‫إن هذه االبتكارات التي تُعترب أمرا ً مُسلَّما ً به ألي شخص يعيش يف املجتمع‬
‫املتحرض‪ ،‬هي الفرق بني الحياة واملوت بالنسبة ِلغالبيتنا‪ .‬وقد كانت هذه االبتكارات‬
‫العامل األسايس يف القضاء عىل معظم األمراض املُعدية عىل الكوكب‪ ،‬وسمحت بنمو‬
‫املناطق املتحرضة دون ويالت األمراض الدائمة‪.‬‬

‫الكهرباء‪ ،‬ومحرك االحرتاق الداخيل‪ ،‬واإلنتاج الضخم‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫بُني مجتمعنا الصناعي الحديث عىل استخدا ٍم متزايد للطاقة الهيدروكربونية‪،‬‬


‫ولوالها ملا كان أي من زخارف وجمال الحياة العرصية ممكناً‪ ،‬بحيث أن األساسيات‬
‫التكنولوجية لهذه الطاقة والصناعة تم ابتكارها يف القرن التاسع عرش‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫السيارات‪ ،‬والطائرات‪ ،‬وقطار األنفاق يف املدن‪ ،‬واملصعد الكهربائي‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫يتوجب علينا شكر العرص الجميل عىل شوارع مدننا غري املليئة بروث األحصنة‪،‬‬
‫وعىل قدرتنا للسفر لجميع أنحاء العالم‪ .‬فلقد اخرتع "كارل بنز" السيارة عام‬
‫‪ ،1855‬واخرتع األخوان "رايت" الطائرة عام ‪ ،1906‬واخرتع "تشارلز بريسون"‬
‫قطار األنفاق عام ‪ ،1843‬كما اخرتع "إليشا أوتيس" املصعد الكهربائي عام‬
‫‪.1852‬‬

‫جراحة القلب‪ ،‬وزراعة األعضاء‪ ،‬واستئصال الزائدة الدودية‪ ،‬وحاضنة األطفال‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫والعالج اإلشعاعي‪ ،‬والتخدير‪ ،‬واألسبريين‪ ،‬و ُزمَ ر الدم ونقل الدم‪ ،‬والفيتامينات‪،‬‬
‫وتخطيط القلب الكهربائي‪ ،‬وسماعة الطبيب‪:‬‬

‫إن الجراحة والطب الحديث مَدينان أيضا ً للعرص الجميل لتوفريه لهم أهم مظاهر‬
‫تقدمهم وتطوراتهم‪ .‬فإدخال كل من خدمات الرصف الصحي الحديث والطاقة‬
‫الهيدروكربونية املوثوقة سمحت لألطباء بتغيري طريقة عنايتهم بمرضاهم بعد قرون من‬
‫اإلجراءات غري املجدية‪.‬‬

‫الكيماويات املشتقة من النفط‪ ،‬والفوالذ املقاوم للصدأ‪ ،‬واألسمدة النيرتوجينية‪:‬‬ ‫‪‬‬


‫ً‬
‫ممكنة انبثقت من ابتكارات‬ ‫كل املواد الصناعية التي تجعل حياتنا العرصية‬
‫العرص الجميل‪ ،‬والتي سمحت بالتصنيع عىل مستوى واسع‪ ،‬باإلضافة إىل الزراعة‬
‫عىل مستوى واسع‪ .‬فالبالستيك وكل ما يُصنع منه أيضا ً هو نتاج استخدام املواد‬
‫الكيماوية املشتقة من النفط‪.‬‬

‫الهاتف‪ ،‬والتلغراف الالسلكي‪ ،‬وتسجيل الصوت‪ ،‬والتصوير امللون‪ ،‬واألفالم‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫يف حني أننا نود االعتقاد بأن عرصنا الحديث هو عرص االتصاالت واسعة النطاق‪،‬‬
‫لكن يف الحقيقة‪ ،‬إن معظم انجازات القرن العرشين كان هو تطوير ابتكارات القرن‬
‫التاسع عرش‪ .‬فأول حاسوب تم تصنيعه كان هو حاسوب "باباج" الذي صممه "تشارلز‬

‫‪113‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫باباج" عام ‪ 1833‬وقام ابنه "هينري" بإكماله عام ‪ .1888‬وقد نبالغ يف قولنا بأن‬
‫اإلنرتنت وكل ما يحتويه هو مجرد أجراس وصفارات مضافة إىل ابتكار التلغراف عام‬
‫‪ ، 1843‬لكن يف هذا القول يشء من الحقيقة‪ .‬فالتلغراف هو الذي قام بالتحول الجوهري‬
‫للمجتمع البرشي عرب تمكينه لنا بالتواصل دون الحاجة للنقل املادي للرسائل أو االنتقال‬
‫املادي للمرسلني‪ ،‬فكانت تلك اللحظة هي صفر إىل واحد بالنسبة إىل االتصاالت‪ ،‬وكل ما‬
‫تبعها بالرغم من كل روعته‪ ،‬كان تطويرا ً من واحد إىل العديد‪.‬‬

‫االزدهار الفني‬
‫إن مساهمات النقد السليم لالزدهار البرشي ليست محصورة عىل التقدم العلمي‬
‫والتكنولوجي؛ بل يمكن رؤيتها بوضوح أيضا ً يف العالم الفني‪ .‬فليس مصادفة أن فناني‬
‫"فلورنسا" و"البندقية" كانوا قادة النهضة‪ ،‬حيث قادت هاتان املدينتان أوروبا لتبني‬
‫النقد السليم‪ .‬فاملدارس الباروكية‪ ،‬والكالسيكية الجديدة‪ ،‬والرومانسية‪ ،‬والواقعية‪ ،‬وما‬
‫بعد االنطباعية كانت مدارس ممولة من قبل رعاة أثرياء يملكون نقدا ً سليماً‪ ،‬ولديهم‬
‫كاف لينتظروا سنوات‪ ،‬وحتى عقوداً‪ ،‬إلتمام روائع‬ ‫تفضيل زمني منخفض جدا ً وصرب ٍ‬
‫فنية ستبقى قرونا ً من الزمن‪ .‬فقِ بابُ كنائس أوروبا املذهلة‪ ،‬التي بُنيت و ُزيِّنت عىل مدى‬
‫عقود من عمل دقيق ُم ِلهم من قبل معماريني وفنيني ال شبيه لهم مثل "فيليبو‬
‫برونليسكي" و"مايكل أنجلو"‪ ،‬تم تمويلها أيضا ً بنقد سليم من قبل رعاة ذوي تفضيل‬
‫زمني منخفض جداً‪ .‬فالطريقة الوحيدة إلذهال أولئك الرعاة كانت بإنجاز عمل فني‬
‫سيعيش طويال ً ليُخلِّد أسماءهم كمالكني ملجموعات رائعة وكرعاة لفنانني عظماء‪ .‬وقد‬
‫يكون هذا هو سبب رسوخ آل "ميديتيش" من فلورنسا بالذاكرة بأنهم رعاة فنون أكثر‬
‫من تذكرهم بابتكاراتهم املرصفية واملالية‪ ،‬بالرغم من أن نتائج األخرية قد تكون أكثر‬
‫أهمية‪.‬‬
‫كذلك األمر‪ ،‬فاألعمال املوسيقية لـِ"باخ"‪ ،‬و"موزارت"‪ ،‬و"بيتهوفني"‪ ،‬وملحني‬
‫عرص النهضة‪ ،‬والعرص الكالسيكي والعرص الرومانيس تتفوق عىل األصوات الحيوانية‬
‫الحالية التي تُسجَّ ل عىل شكل عينات من بضع دقائق‪ ،‬تنتجها استوديوهات عديدة بشكل‬
‫رسيع‪ ،‬وتستفيد من بيع الناس ما يالمس غرائزهم األساسية‪ .‬ففي حني كانت موسيقى‬

‫‪114‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫العرص الذهبي تالمس روح املرء وتوقظه ليفكر يف نداءات أرقى من ضجيج الحياة‬
‫اليومية الدنيوي‪ ،‬إال أن ضجيج املوسيقى الحديثة يالمس غرائز املرء الحيوانية األساسية‪،‬‬
‫ليُشتِّته عن حقائق الحياة بدعوته إىل االنغماس يف امللذات الحسية الفورية دون االهتمام‬
‫بالعواقب طويلة األمد أو أي يشء قد يكون أكثر عمقاً‪ .‬فلقد كان النقد الصعب هو من‬
‫مَوَّل "براندينربج كونسريتو" ل ِـ "باخ" يف حني مَوَّل النقد السهل رقصات هز املؤخرة‬
‫ل ِـ"ماييل سايرس"‪.‬‬
‫ففي زمن النقد السليم والتفضيل الزمني املنخفض‪ ،‬ينشغل الفنانون يف إتقان‬
‫حِ ْرفتهم ليكونوا قادرين عىل إنتاج أعمال َقيِّمة تبقى عىل املدى الطويل‪ ،‬فقد أمضوا أعواما ً‬
‫يف تَعلُّم التفاصيل الدقيقة والتقنيات املعقدة لعملهم ليجعلوه مثاليا ً ويبدعوا يف تطويره‬
‫ظ أح ٌد برشف‬‫بشكل يفوق قدرات اآلخرين‪ ،‬ولكي يذهلوا ُرعاتَهم وعامة الشعب‪ .‬فلم يح َ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫لقب "الفنان" دون سنوات من العمل الشاق يف تطوير وتحسني حِ ْرفته‪ ،‬ولم يَقم‬
‫تعال عن ماهية الفن‪ ،‬وعن عُ مْ ِق انتاجاتهم‬
‫الفنانون بإلقاء املحارضات عىل العامة ِب ٍ‬
‫َدَّع باخ يوما ً أنه عبقري‪ ،‬ولم يُ ِطل‬
‫الكسولة التي استغرق إنتاجها يوما ً فقط‪ .‬ولم ي ِ‬
‫الحديث باعتبار موسيقاه أكثر أهمية من موسيقى اآلخرين‪ ،‬بل أمىض حياته يف جعلها‬
‫مثالية‪ .‬فأمىض مايكل أنجلو أربع سنوات مُعلَّقا ً من سقف كنيسة "سيستني" وهو يعمل‬
‫معظم اليوم مع قليل من الطعام لريسم تُحفته الفنية‪ ،‬حتى أنه كتب قصيدة ِليَصف فيها‬
‫‪16‬‬
‫صعوبة عمله‪:‬‬

‫أُصبت باملرض من املكوث يف هذا ال ُجحْ ر‪-‬‬


‫مثل قطط الجداول اآلسنة يف "المبوردي"‬
‫أرض أخرى يصدف أن تكون فيها‪-‬‬ ‫أو أي ٍ‬
‫مما يقوِّس جسدي‪:‬‬
‫فأرفع رأيس نحو السماء؛ وتالمس رقبتي كتفي‪،‬‬
‫وأنا مثبتا ً عىل ظهري‪ :‬فينتفخ صدري‬
‫بوضوح مثل قيثارة‪ :‬و تُزيِّن األلوان الغنية‬

‫‪16‬جون أدينغتون سيمونز‪ ،‬أشعار مايكل أجنلو بوانرويت (لندن‪ :‬مسيث إلدر وشركاه‪.)1904 ،‬‬

‫‪115‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫وجهي من البُقع الرفيعة املتساقطة‪.‬‬


‫وتتصارع أمعاء بطني برشاسة‪:‬‬
‫وبالكاد يحمل جسمي وزني‪،‬‬
‫تتحرك قدماي ذهابا ً وإيابا ً دون توجه‪،‬‬
‫يذوب جلدي يف هذا الحر لألمام والخلف‪،‬‬
‫أصبح جسدي مشدودا ً ومستقيما ً من االنحناء؛‬
‫فأنا أُجهد نفيس مثل قوس سوري‪:‬‬
‫أعلم أن هذا خاطئ وغريب‪،‬‬
‫لكنه سيكون ثمرة العقل والعني؛‬
‫حيث يمكن للمرض أن يوجه السالح الذي يضل طريقه‪.‬‬
‫تعال إذاً‪ ،‬يا جيوفاني‪ ،‬حاول‬
‫أن تُنجد رسوماتي وشهرتي امليتة؛‬
‫بما أن أ َجري يسء ورسمي عار‪.‬‬

‫ففقط عَ ْرب هذه املجهودات الدقيقة وبالغة االهتمام بالتفاصيل عىل مدى عقود‬
‫من الزمن‪ ،‬نجح أولئك العباقرة بإنتاج تلك التحف الفنية مُخلِّدين أسماءهم كأسياد‬
‫مهنتهم‪ .‬أما يف عرص النقد غري السليم‪ ،‬فال يملك أي فنان تفضيال ً زمنيا ً منخفضا ً ليعمل‬
‫بجد لوقت طويل كما عمل مايكل أنجلو أو باخ ليتعلما مهنتهما جيدا ً أو ليمضيا زمنا ً‬
‫ظهر لنا أعماال ً فنية ال يتطلب‬ ‫ً‬
‫جولة يف معرض للفنون الحديثة ستُ ِ‬ ‫طويال ً يف إتقانها‪ .‬إن‬
‫إنتاجها أكثر من جهد أو موهبة طفل يف السادسة من عمره وهو يشعر بالضجر‪.‬‬
‫فاستبدل الفنانون املعارصون الحرفة وساعات التدريب الطويلة بالغطرسة‪ ،‬وقوة‬
‫بل لجذب املشاهدين إىل تقدير فنهم‪ ،‬وكثريا ً ما‬ ‫الصدمة‪ ،‬والسخط‪ ،‬والقلق الوجودي ُ‬
‫كس ٍ‬
‫يضيفون تظاهرا ً باملثاليات السياسية التي تكون عادة من التعددية املاركسية الصبيانية‬
‫وذلك ليَدَّعوا العمق‪ ،‬لدرجةٍ يمكن القول أن أي يشء جيد عن "الفن" الحديث‪ ،‬هو أنه فن‬
‫ذكي‪ ،‬لكن عىل شكل خدعة أو ُدعابة‪ .‬فال يوجد أي يشء جميل بالنسبة إىل ناتج أو عملية‬
‫تشكيل معظم الفن الحديث‪ ،‬ألنه أُنتج خالل ساعات فقط من قبل فاشلني كسولني‬
‫عديمي املوهبة لم يتعبوا أنفسهم يوما ً يف التمرن عىل حرفتهم‪ .‬فالتظاهر الرخيص‪،‬‬

‫‪116‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫والفحْ ش وقوة الصدام بالقيم تجذب االنتباه لهذا الفن الحديث الزائف‪ ،‬أضف إىل ذلك‬ ‫ُ‬
‫السجاالت الطويلة والالذعة التي تهني اآلخرين ألنهم ال يفهمون هذا الفن الزائف‪.‬‬

‫الرعاة ذوي التفضيل‬ ‫ومع استبدال النقد السليم بالنقد الحكومي‪ ،‬تم استبدال ُّ‬
‫الزمني املنخفض والذوق الرفيع ببريوقراطيني حكوميني أصحاب أجندات سياسية فظةَّ‬
‫ً‬
‫مهمة‪ ،‬حيث‬ ‫كذوقهم الفني‪ .‬لهذا وبشكل طبيعي‪ ،‬لم تعد أمور الجمال أو الديمومة أمورا ً‬
‫أنه تم استبدالهما بالثرثرة السياسية والقدرة عىل إذهال البريوقراطيني الذين يسيطرون‬
‫عىل معظم موارد التمويل للمعارض واملتاحف الكبرية‪ ،‬والتي أصبحت احتكارا ً محميا ً من‬
‫الحكومة للذوق ومعايري التعليم الفنية‪ .‬فاملنافسة الحرة بني الفنانني واملتربعني استُبدلت‬
‫اليوم بتخطيط مركزي من قبل بريوقراطيني عديمي املسؤولية‪ ،‬وبالطبع بنتائج كارثية‬
‫متوقعة‪ .‬ففي األسواق الحرة‪ ،‬الرابحون هم دائما ً من يقدمون السلع التي يعتربها الناس‬
‫األفضل‪ ،‬ولكن عندما تكون الحكومة مسؤولة عن تحديد الرابحني والخارسين‪ ،‬يصبح‬
‫األشخاص الذين ليس لديهم أي يشء جيد ليفعلوه يف حياتهم سوى العمل كبريوقراطيني‬
‫حكوميني هم حكام الذوق والجمال‪ .‬وبدال ً من أن يتم تحديد نجاح الفن من قبل األفراد‬
‫الذين نجحوا يف تحصيل ثروة عرب عدة أجيال من الذكاء والتفضيل الزمني املنخفض‪،‬‬
‫أصبح يُحدد من قبل أشخاص ذوي انتهازية تسمح لهم انتهازيتهم بصعود النظام‬
‫السيايس والبريوقراطي بأفضل شكل ممكن‪ .‬ومعرفة هذا النوع من األشخاص سطحيا ً‬
‫كفيلة بالتفسري ألي شخص كيف وصلنا لفظاعة ما وصل الفن الحديث إليه‪.‬‬

‫ويف مملكة السيطرة الخاصة بهم واملتنامية بنقودهم الورقية‪ ،‬تُخصص كل‬
‫الحكومات الحديثة تقريبا ً موازنات لتمويل الفن والفنانني يف وسائط اإلعالم املختلفة‪.‬‬
‫ولكن مع مرور الوقت‪ ،‬ظهرت قصص غريبة بالكاد يمكن تصديقها عن تدخل حكومي‬
‫خفي يف الفن من أجل أجندات سياسية‪ .‬ففي حني مَوَّل ووَجَّ ه االتحاد السوفييتي "الفن"‬
‫الشيوعي لتحقيق أهداف سياسية ودعائية‪ُ ،‬كشف مؤخرا ً أن وكالة املخابرات املركزية‬
‫(‪ )CIA‬ردت باملثل بتمويل وترويج أعمال الزائفني واالنطباعيني التجريديني أمثال‬

‫‪117‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫"مارك روثكو" و"جاكسون بولوك" ليكونوا النقيض األمريكي‪ 17.‬ال يمكن أن نصل إىل‬
‫َ‬
‫عمالقني اقتصادياً‪ ،‬وعسكرياً‪،‬‬ ‫هذه املأساة الفنية إال بالنقد غري السليم‪ ،‬حيث أن أكرب‬
‫وسياسيا ً يف العالم كانا يروجان ويموالن بشكل نشط فضالت تافهة اختارها أشخاص‬
‫ذوقهم الفني يؤهلهم للعمل يف وظائف يف وكاالت التجسس والوكاالت البريوقراطية يف‬
‫واشنطن وموسكو‪.‬‬

‫فمع استبدال آل ميديتيش بما يقابلهم فنيا ً بعمال دائرة املركبات املتحركة‬
‫(‪ ،)DMV‬كانت النتيجة عاملا ً فنيا ً مليئا ً بقذارات برصية مثرية لالشمئزاز‪ ،‬أ ُنتجت يف‬
‫غضون دقائق من قبل حمقى كسولني عديمي املوهبة يبحثون عن مصدر دخل رسيع عن‬
‫طريق خداع أولئك الطامحني للوصول إىل الطبقة الفنية يف العالم بقصص م َّ‬
‫ُلفقة عديمة‬
‫املعنى بكونها تمثل شيئا ً آخر غري الفساد الكيل لذلك املخادع الذي يَدَّعي أنه فنان‪َ .‬فـ‬
‫"فن" مارك روثكو استغرق ساعات فقط الكتماله‪ ،‬لكنه ِبيع لساذجني يحملون املاليني‬
‫من عملة اليوم غري السليمة‪ ،‬مرسخني بذلك الفن الحديث بكونه أكرب حيلة بعرصنا‬
‫لكيفية أن تصبح ثريا ً وبشكل رسيع‪ .‬فليس مطلوبا ً من الفنان املعارص أن يكون موهوبا ً‬
‫متعال عىل‬
‫ٍ‬ ‫أو أن يعمل بجد أو اجتهاد‪ ،‬بل يجب عليه أن يحتفظ بوجه جدي وسلوك‬
‫الناس عندما يرشح لألثرياء الجدد عن سبب كون بقع الطالء عىل لوحته هي أكثر من‬
‫مجرد بقع طالء قبيحة عشوائية‪ ،‬وكيف أنه يمكن عالج عدم قدرتنا عىل فهم هذا العمل‬
‫فرس عن طريق تقديم ودفع مبلغ ضخم لهم‪.‬‬ ‫الفني غري املُ َّ‬

‫إن املذهل يف هذا األمر ليس هو تفوق التافهني أمثال روثكو يف عالم الفن‬
‫الحديث فحسب‪ ،‬بل الغياب الواضح للتحف الفنية العظيمة التي يمكن مقارنتها بأعمال‬
‫املايض العظيمة‪ .‬فاليوم ال بُ ّد للمرء من مالحظة قلة األبنية املشابهة لكنيسة سيستني يف‬
‫أي مكان؛ أو عدم وجود وفرة من التحف الفنية التي يمكن مقارنتها بلوحات مهمة‬
‫كأعمال "ليوناردو"‪ ،‬و"رافائيل"‪ ،‬و"رامربانت"‪ ،‬و"كارفاجيو"‪ ،‬أو "فريمري"‪ .‬ويصبح‬
‫األمر أكثر إذهاال ً عندما يدرك املرء أن تطورات التكنولوجيا والتحول الصناعي تجعل‬

‫اقرأ كتاب فرانسيس ستونور سوندرز‪ ،‬احلرب الباردة الثقافية‪ :‬وكالة املخابرات املركزية وعامل الفنون واألحرف‬ ‫‪17‬‬

‫(‘ذا نيو بريس‘‪.)ISBN 1-56584-596-X ،2000 ،‬‬

‫‪118‬‬
‫النقد والتفضيل الزمني‬

‫إنتاج أعمال كهذه أسهل مما كانت عليه يف العرص الذهبي‪.‬‬

‫فكنيسة سيستني ستبهر من يراها‪ ،‬وإن أي رشح إضايف ملحتواها وطريقة‬


‫تقدير لعمق الفكرة‪ ،‬والحرفة‪ ،‬والعمل الشاق الذي‬‫ٍ‬ ‫رسمها وتاريخها سيُحوِّل االنبهار إىل‬
‫استُثمر فيها‪ .‬فقبل أن يصبحوا مشهورين‪ ،‬أمكن حتى ألكثر نقاد الفن ادعا ًء أن يمروا‬
‫بلوحةٍ لروثكو مهملة عىل الرصيف‪ ،‬وال يالحظوها حتى‪ ،‬ناهيك عن حملها وأخذها إىل‬
‫البيت‪ .‬لكن فقط وبعد أن أمضت دائرة من النقاد السافلني ساعات طويلة يف إلقاء‬
‫املواعظ ل لرتويج لهذا العمل‪ ،‬بدأ الطفيليون والطامحون واألثرياء الجدد باالدعاء أن لها‬
‫معنى أعمق‪ ،‬وبدأوا بإنفاق نقد حديث غري سليم عليها‪.‬‬

‫فلقد ظهرت قصص عديدة عىل مر السنني عن مخادعني قاموا بوضع أغراض‬
‫عشوائية يف متاحف الفن الحديث‪ ،‬ليتجمع حولها فقط محبو الفن الحديث منبهرين‪،‬‬
‫مُعربين عن الفراغ الكيل للذوق الفني يف عرصنا‪ .‬لكن ليس هناك ما يعرب عن قيمة الفن‬
‫الحديث أكثر من الحراس الكثريين ملعارض الفن الحديث يف أنحاء العالم‪ ،‬الذين يُظهرون‬
‫ٍ‬
‫حديث باهظ‬ ‫بصري ًة وإخالصا ً رائعا ً يف عملهم‪ ،‬حيث قاموا وبشكل متكرر بإلقاء نتاج ٍ‬
‫فن‬
‫فبعض من أهم رموز "فناني" عرصنا‪ ،‬أمثال "داميان‬ ‫ٌ‬ ‫الثمن يف القمامة إىل حيث ينتمي‪.‬‬
‫هريست"‪ ،‬و"غوستاف" و"ميتزغر"‪ ،‬و"ترييس إمني"‪ ،‬والثنائي اإليطايل "سارا‬
‫حراس أكثر حكمة من األغنياء‬
‫ٍ‬ ‫غولدشميد" و"إليونورا كيارا"‪ ،‬القوا هذا التقييم من قبل‬
‫املعارصين فاقدي الثقة بأنفسهم والذين أنفقوا ماليني الدوالرات عىل ما رماه الحراس‪.‬‬

‫ف ِلكونها عارا ً لعرصنا قد تمت بتمويل حكومي‪ ،‬يمكن تربير تجاهل كل هذه‬
‫الخربشة عديمة القيمة ورؤية ما هو قيِّم خلفها‪ .‬ففي النهاية‪ ،‬لن يحكم أحد عىل دولة‬
‫مثل الواليات املتحدة وفقا ً لترصفات موظفي دائرة املركبات املتحركة عديمي الفائدة‬
‫الذين يأخذون قيلولة أثناء دوامهم‪ ،‬ويفرغون إحباطهم عىل زبائنهم العاجزين‪ .‬وربما ال‬
‫يجب أن نحكم أيضا ً عىل عرصنا بنا ًء عىل عمل موظفني حكوميني ينرشون قصصا ً عن‬
‫أكوام أوراق عديمة الفائدة كما لو أنها كانت إنجازات فنية‪ .‬لكن ومع ذلك‪ ،‬يتضاءل أعداد‬
‫هذه األشياء التي نستطيع إيجادها مقارنة باملايض‪ .‬ففي كتابه من الفجر إىل اإلنحدار‪،‬‬
‫الذي يقدم نقدا ً الذعا ً عن الثقافة "الشعبية" الحديثة‪ ،‬يقول "جاك برازون" ‪" :‬إن كل ما‬

‫‪119‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ساهم به وصنعه القرن العرشين هو التحسني عن طريق التحليل أو النقد عن طريق‬


‫التقليد واملحاكاة الساخرة‪ ".‬فعم ُل برازون القى صدى كبريا ً لدى الكثري من هذا الجيل‬
‫ألنه احتوى عىل درجة كبرية من الحقيقة املؤسفة‪ :‬فما أن يتجاوز املرء انحيازه للموروث‬
‫ليؤمن بحتمية التطور‪ ،‬فال مفر من االستنتاج بأن جيلنا هو جيل أقل جودة من أسالفه يف‬
‫الثقافة وعملية الصقل‪ ،‬تماما كما كان الرومان عُ رضة لديوكلتيانوس‪ ،‬الذي كان يحيا من‬
‫إنفاقه التضخمي وهو مخمور عىل املظاهر الوحشية يف املدرج الروماني‪" -‬الكولوسيوم"‪،‬‬
‫وال يمكن مقارنته بالرومان العظماء يف عرص قيرص‪ ،‬الذين كان عليهم كسب نقودهم‬
‫بعمل جاد وشاق‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الذهبية لعملة األوريوس‬

‫‪120‬‬
‫الفصل السادس‬

‫نظام املعلومات الرأساملية‬

‫َّ‬
‫الحق يف إنتاج أموال جيدة هو ما‬ ‫" َمن ْ ُع الحكومات الرشكات واملشاريع الحرة‬
‫يُسبِّب موجات من البطالة وليست ‘الرأسمالية‘ هي من تسبب ذلك‪".‬‬

‫‪ -‬فريدريك هايك‬

‫إن وظيفة النقد األساسية كوسيط للتبادل هي السبب الذي يسمح للجهات‬
‫االقتصادية الفاعلة بالتخطيط وإجراء الحسابات االقتصادية‪ .‬فعند انتقال اإلنتاج‬
‫االقتصادي من مرحلته شديدة البدائية‪ ،‬خصوصا ً عند عدم وجود إطار مرجعي ثابت‬
‫يمكن استخدامه ملقارنة قيمة األغراض املختلفة فيما بينها‪ ،‬تُصبح عملية اإلنتاج‬
‫واالستهالك واتخاذ قرارات التجارة أكثر صعوبة‪ .‬إن هذه الخاصية كوحدة حساب هي‬
‫ثالث وظيفة للنقد بعد كونه وسيطا ً للتبادل ومخزونا ً للقيمة‪ .‬ولفهم أهمية هذه الخاصية‬
‫بالنسبة إىل النُّظم االقتصادية‪ ،‬فإننا سنقوم باتِّباع ُخطى الحكماء يف سعيهم لفهم األسئلة‬
‫االقتصادية‪ ،‬وبمعنى آخر‪ ،‬سنلجأ إىل أعمال االقتصاديني النمساويني الراحلني‪.‬‬

‫إن أُطروحة فريدريك هايك‪" ،‬استخدام املعرفة يف املجتمع"‪ ،‬قد تكون إحدى‬
‫أهم األطروحات االقتصادية التي تم نرشها عىل اإلطالق‪ .‬فعىل عكس األبحاث األكاديمية‬
‫النظرية الحديثة غري الهامة والتي ال يقرؤها أحد‪ ،‬ما تزال الصفحات اإلحدى عرشة من‬
‫هذه األطروحة تُقرأ عىل نطاق واسع حتى بعد مرور ‪ 70‬سنة عىل نرشها‪ ،‬كما أنها تركت‬
‫ً‬
‫دائمة يف حياة وأعمال الكثريين يف أنحاء العالم‪ ،‬ربما كان أكثرها أهمية هو دورها‬ ‫ً‬
‫بصمة‬
‫يف تأسيس أحد أهم املواقع اإللكرتونية عىل اإلنرتنت‪ ،‬وأكرب كتلة مجتمعة من املعرفة يف‬

‫‪121‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫رصح "جيمي ويلز" مؤسس "ويكيبيديا"‪ ،‬أن فكرة إنشاء‬ ‫تاريخ البرشية‪ ،‬حيث َ َّ‬
‫"ويكيبيديا" تبادرت إىل ذهنه بعد أن قرأ أطروحة هايك وتفسريه للمعرفة‪.‬‬

‫يرشح هايك‪ ،‬وعىل عكس عملية التعامل الشائعة واألولية مع املوضوع‪ ،‬أن‬
‫املشكلة االقتصادية ليست هي مشكلة تخصيص املوارد واملنتجات‪ ،‬لكنها وبدقة أكرب‪ ،‬هي‬
‫مشكلة تخصيص هذه املوارد واملنتجات باستخدام معرفة ال يمكن ألي فرد أو كيان ما أن‬
‫يحيط بها جميعها بمفرده‪ .‬فاملعرفة االقتصادية لحاالت اإلنتاج والتوفر النسبي مع وُفرة‬
‫عوامل اإلنتاج وتفضيالت األفراد‪ ،‬هي ليست معرف ًة موضوعية يمكن أن يحيط بها كيان‬
‫بمفرده‪ .‬ويمكننا القول أن معرفة الظروف االقتصادية بطبيعتها هي معرفة م َّ‬
‫ُوزعة‬
‫وكامنة لدى الناس املعنيني وذلك من خالل اتخاذهم لقراراتهم الفردية‪ .‬فيُميض كل‬
‫شخص وقته يف فهم وتعلم املعلومات االقتصادية املفيدة له‪ ،‬ويميض األفراد األذكياء‬
‫ملنصب‬
‫ٍ‬ ‫والكادحون عقودا ً يف تعلم الحقائق االقتصادية لصناعاتهم وذلك لكي يصلوا‬
‫لطة عىل عمليات إنتاج سلعة واحدة فقط‪ .‬لهذا‪ ،‬من غري املُتصور االستعاضة‬ ‫يمنحهم ُس ً‬
‫عن كل تلك القرارات الفردية وتجميع كل املعلومات يف عقل فرد واحد ليجري الحسابات‬
‫نياب ًة عن الجميع‪ ،‬كما أنه ال حاجة لهذا السعي الجنوني لرتكيز كل املعرفة يف يدي صانع‬
‫قرار وحيد‪.‬‬

‫ففي نظام اقتصادي قائم عىل حرية السوق‪ ،‬تكون األسعار بمثابة املعرفة‬
‫واإلشارات التي تنقل وتُرسل املعلومات‪ ،‬وبهذا يستطيع كل صانع قرار اتخاذ قراراته‬
‫بتفحص أسعار السلع املعنية‪ ،‬والتي تحمل خالصة كل ظروف وحقائق السوق يف متغري‬
‫عميل بالنسبة إىل ذلك الفرد‪ .‬وبدورها‪ ،‬ستؤدي قرارات كل فرد دورا ً يف تحديد السعر‪ ،‬وال‬
‫تستطيع أية ُسلطة مركزية استيعاب كل املعلومات املُحدِّدة للسعر أو استبدال عملها‪.‬‬

‫لفهم وجهة نظر هايك‪ ،‬تخيل حدوث زلزال ي ُسبب دمارا ً كبريا ً يف البنية التحتية‬
‫لدولة ما بحيث تكون هذه الدولة هي أكرب مُنتِج لسلعة أساسية يف العالم‪ ،‬مثل زلزال عام‬
‫‪ 2010‬يف "تشييل"‪ ،‬والتي هي أكرب مُنتِج للنحاس يف العالم‪ .‬لقد رضب الزلزال منطقة‬
‫تَ ْكثُر فيها مناجم النحاس‪ ،‬مما تسبَّبَ يف أرضار جسيمة لهذه املناجم وللمرفأ البحري‬
‫الذي يتم منه تصدير النحاس‪ .‬فأدى هذا إىل انخفاض عرض النحاس يف أسواق العالم‬

‫‪122‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫ارتفاع مبارش ألسعاره بنسبة ‪ 1.%6.2‬كل من له عالقة بسوق النحاس يف العالم‬ ‫ٍ‬ ‫وإىل‬
‫سيتأثر بهذا األمر‪ ،‬ولكن اتخاذ القرارات لن يتطلب منهم معرفة يشء عن الزلزال أو‬
‫تشييل أو ظروف السوق‪ .‬فارتفاع السعر نفسه يحتوي عىل كل املعلومات الالزمة لهم‬
‫التخاذ القرار‪ .‬نتيجة لهذا وعىل الفور‪ ،‬تَولَّد لدى كل الرشكات التي تطلب النحاس حافزا ً‬
‫لطلب كميات أقل منه‪ ،‬وتأجيل املشرتيات غري الرضورية وغري العاجلة‪ ،‬وإيجاد بدائل‪.‬‬
‫باملقابل‪ ،‬ي ُولِّد ارتفاع السعر حافزا ً لكل الرشكات التي تُنتِج النحاس يف كل أنحاء العالم‬
‫إلنتاج املزيد منه لالستفادة من ارتفاع السعر‪.‬‬

‫فمع االرتفاع الطفيف يف السعر‪ ،‬أصبح لكل املعنيني يف صناعة النحاس يف كافة‬
‫خفف من عواقب الزلزال السلبية‪ :‬فاملُنتِجون‬ ‫أنحاء العالم حافزا ً ليترصفوا بطريقة ت ُ ِّ‬
‫سيوفرون املزيد يف حني سيطلب املستهلكون كميات أقل‪ .‬بالنتيجة‪ ،‬عَ جْ ز اإلنتاج الذي‬
‫سبَّبه الزلزال لم يكن كارثيا ً كما كان من املحتمل حدوثه‪ ،‬واألرباح اإلضافية من األسعار‬
‫املرتفعة قد تساعد عمال املناجم عىل إعادة بناء البنية التحتية الخاصة بهم‪ ،‬ويف غضون‬
‫أيام‪ ،‬عاد السعر إىل طبيعته‪ .‬إن هذه االضطرابات الفردية أصبحت أقل أثرا ً من السابق‬
‫صنَّاع السوق‬‫بعد أن أصبحت األسواق العاملية أكرب وأكثر اندماجاً‪ ،‬حيث أصبح لدى ُ‬
‫َ‬
‫العمق والسيولة الكافية ليتجاوزوها برسعة وبأقل الخسائر‪.‬‬

‫ولفهم قوة األسعار كطريقة إليصال ونقل املعرفة‪ ،‬تخيل أنه يف اليوم الذي‬
‫سبق الزلزال أن صناعات النحاس بأكملها توقفت عن كونها مؤسسة سوق وتحولت بدال ً‬
‫من ذلك لتصبح تحت سلطة وكالةٍ مختصة‪ ،‬بمعنى أن اإلنتاج سيتم تخصيصه دون‬
‫االستعانة أو الرجوع إىل األسعار‪ .‬كيف ستكون ردة فعل هذه الوكالة عىل الزلزال؟ كيف‬
‫نتاجه من بني كل مُنتِجي النحاس الكثريين يف أنحاء‬
‫ستقرر من يتوجب عليه زيادة إ ِ‬
‫ُ‬
‫العالم‪ ،‬وما هي نسبة الزيادة؟ ففي نظام مرتبط باألسعار‪ ،‬ستَنظر إدارة كل رشكة إىل‬
‫أسعار النحاس وأسعار كل مستلزمات إنتاجه لتصل وتجد مستوى اإلنتاج الجديد األكثر‬

‫‪ 1‬بني روين‪" ،‬ارتفاع أسعار النحاس بعد زلزال تشيلي"‪ 1( CNN Money ،‬مارس‪ .)2010 ،‬متوفر على‬
‫الرابط ‪/http://money.cnn.com/2010/03/01/markets/copper‬‬

‫‪123‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫َّ‬
‫ليتوصلوا إىل هذه اإلجابات‬ ‫فعالية‪ .‬فيعمل الكثري من الخرباء عقودا ً من الزمن يف رشكة‬
‫بمساعدة األسعار‪ ،‬فهؤالء األفراد يعرفون رشكتهم أكثر من املخططني املركزيني الذين ال‬
‫يستطيعون االعتماد عىل األسعار‪ .‬كذلك أيضاً‪ ،‬كيف سيقرر املخططون مَ ن تحديدا ً من‬
‫مستهلكي النحاس عليه تخفيض استهالكه وما هي كمية التخفيض خصوصا ً عندما ال‬
‫يكون هناك أسعار تسمح للمستهلكني بكشف تفضيالتهم؟‬

‫لهذا‪ ،‬مهما تكن كمية املعرفة والبيانات املوضوعية التي ستجمعها الوكالة‪ ،‬فلن‬
‫يكون لدى تلك الوكالة أي إملا ٍم أبدا ً بكل املعارف املُ َّ‬
‫وَزعة التي تؤثر يف القرارات التي‬
‫يتخذها كل فرد‪ ،‬بما فيها تفضيالتهم وتقييمهم لألشياء‪ .‬بالتايل‪ ،‬إن األسعار ليست مجرد‬
‫أداة ليكسب منها الرأسماليون‪ ،‬بل إنها نظام املعلومات الخاص باإلنتاج االقتصادي الذي‬
‫ظم عمليات اإلنتاج املعقدة‪ .‬فالنظام االقتصادي الذي‬ ‫ينقل املعلومات عرب العالم ويُن َ ِّ‬
‫وسيعيد املجتمع‬‫يحاول االستغناء عن األسعار سيُسبِّبُ انهيارا ً كامال ً للنشاط االقتصادي ُ‬
‫البرشي إىل حالته البدائية‪.‬‬

‫فاألسعار هي اآللية الوحيدة التي تسمح بالتجارة والتخصص يف اقتصاد‬


‫سوقي‪ .‬ودون اللجوء إىل األسعار‪ ،‬لن يتمكن الناس من االستفادة من تقسيم العمل‬
‫والتخصصات إال بقدر صغري بدائي للغاية‪ .‬حيث أن التجارة تسمح للمُنتِجني برفع‬
‫مستويات معيشتهم عن طريق التخصص بالسلع التي يمتلكون فيها ميزة نسبية‪ -‬وهي‬
‫سل ٌع يمكنهم إنتاجها بسعر منخفض نسبياً‪ ،‬ويمكن للناس التعرف عىل امليزة النسبية‬
‫الخاصة بهم والتخصص بها فقط من خالل أسعار دقيقة يُع َّرب عنها بوسيط تبادل‬
‫شائع‪ .‬فالتخصص نفسه الذي تقوده مؤرشات األسعار سيُؤدي إىل تحسني جودة إنتاج‬
‫املنتجني لتلك السلع عن طريق التعلم باملمارسة‪ ،‬واألهم من ذلك‪ ،‬جَ مْ ُع رأس مال متعلق‬
‫به‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬إن التخصص سيسمح لكل مُنت ٍِج بجمع رأس مال حسب إنتاجه‪ ،‬مما‬
‫سيؤدي لزيادة إنتاجيته الهامشية فيه‪ ،‬وذلك كله بغض النظر عن االختالفات الكامنة يف‬
‫األسعار النسبية‪ .‬وهذا األمر سيُتيح للمنتجني إمكانية تقليل كلفة اإلنتاج الهامشية‪،‬‬
‫وسيسمح لهم بالتجارة مع أولئك الذين يجمعون رأس مال بغرض التخصص يف سلع‬
‫أخرى‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫اشرتاكية السوق الرأساميل‬


‫يف حني تُدرك الغالبية أهمية ن ظام األسعار بالنسبة إىل تقسيم اليد العاملة‪ ،‬إال أن قلة‬
‫فقط تدرك الدور الحاسم الذي يؤديه يف جمع رأس املال ويف التخصيص‪ ،‬ولهذا سنلجأ إىل‬
‫وَضحَ ميزس يف كتابه "االشرتاكية" عام ‪ ،1922‬السبب الجوهري‬ ‫أعمال ميزس‪ .‬فقد َّ‬
‫لحتمية فشل األنظمة االشرتاكية‪ ،‬وهو ليس الفكرة الشائعة بأن األنظمة االشرتاكية تعاني‬
‫من مشكلة يف الحوافز (ل َم سيعمل أي شخص إن كان الجميع سيحصل عىل األجر ذاته‬
‫بغض النظر عن جهده؟)‪ .‬فبما أن الحكومة تُعاقب عىل التقصري يف تطبيق العمل عادة‬
‫باإلعدام أو السجن‪ ،‬يمكن القول أن االشرتاكية تجاوزت مشكلة الحوافز بنجاح بغض‬
‫النظر عن دموية هذه اآللية‪ .‬فبعد أن ُقتل خالل قرن ‪ 100‬مليون شخص تقريبا ً يف أنحاء‬
‫العالم من قبل األنظمة االشرتاكية‪ 2،‬كان من الواضح أن هذا العقاب ليس مجرد أمر‬
‫نظري‪ ،‬وعىل األرجح الحوافز للعمل كانت أكرب فيه من تلك املوجودة يف النظام الرأسمايل‪.‬‬
‫إذاً‪ ،‬البد من وجود عوامل أخرى غري الحوافز لفشل النظام االشرتاكي‪ ،‬وكان ميزس أول‬
‫وَضحَ حتمية فشل االشرتاكية حتى وإن تجاوزت مشكلة الحوافز بنجاح عن طريق‬ ‫من َّ‬
‫صنع "اإلنسان االشرتاكي الجديد‪".‬‬‫ُ‬

‫فكان خطأ االشرتاكية الفادح الذي كشفه ميزس‪ ،‬هو أنه بغياب آلية لتحديد‬
‫لألسعار يف األسواق الحرة‪ ،‬سيفشل النظام االشرتاكي يف إجراء الحسابات االقتصادية‪،‬‬
‫خاصة يف توزيع وتخصيص السلع الرأسمالية‪ 3.‬فاإلنتاج الرأسمايل كما ذُكر سابقاً‪،‬‬
‫يتضمن وسائل إنتاج تزداد تعقيدا ً بشكل تدريجي‪ ،‬ويتضمن آفاقا ً زمنية أكثر بعدا ً وعددا ً‬
‫كبريا ً من السلع الوسيطة التي ال تُستهلك بحد ذاتها‪ ،‬بل يتم إنتاجها فقط كي ت ُ ِ‬
‫شارك يف‬
‫إنتاج سلع استهالكية نهائية للمستهلكني يف املستقبل‪ .‬وبهذا‪ ،‬ال تنشأ بُنية اإلنتاج املتقدمة‬
‫إال من خالل شبكة معقدة من حسابات فردية يُجريها منتجو كل سلعة رأسمالية (سلعة‬

‫‪ 2‬ستيفان كورتوا‪ ،‬نيوكالس فريث‪ ،‬كاريل ابرتوسك‪ ،‬أندزيه ابتشكوفسكي‪ ،‬جان لويس ابنيه‪ ،‬وجان لويس‬
‫مارغولني‪ ،‬الكتاب األسود للشيوعية‪ :‬جرائم‪ ،‬إرهاب‪ ،‬وكبت (صحافة جامعة هارفارد‪.)1997 ،‬‬
‫‪ 3‬لودفيغ فون ميزس‪ ،‬االشرتاكية‪ :‬حتليل اقتصادي واجتماعي‪ .‬مؤسسة لودفيغ فون ميزس‪ .‬أوبرن‪ ،‬أالابما ‪2008‬‬
‫(‪.)1922‬‬

‫‪125‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫إنتاجية) واستهالكية‪ ،‬يبيعون ويشرتون املُدخالت واملُخرجات فيما بينهم‪ 4.‬فالتخصيص‬


‫ً‬
‫إنتاجية للسلع‬ ‫األكثر إنتاجية يتم تحديده فقط عرب آلية أسعار تسمح ألكثر املستخدمني‬
‫الرأسمالية بعرض السعر األعىل لقاء استخدامها‪ ،‬فينشأ العرض والطلب عىل السلع‬
‫الرأسمالية من خالل تفاعل املنتجني واملستهلكني ومن قراراتهم املتكررة‪.‬‬

‫ويف النظم االشرتاكية‪ ،‬تملك وتسيطر الحكومة عىل وسائل اإلنتاج‪ ،‬فتصبح‬
‫مبارش ًة هي البائع واملشرتي الوحيد لكل السلع الرأسمالية يف االقتصاد‪ .‬إن هذه املركزية‬
‫تُعيق عمل السوق الحقيقة‪ ،‬مما يجعل القرارات السليمة املبنية عىل األسعار أمرا ً‬
‫مستحيالً‪ .‬فدون وجود سوق لرأس املال تستطيع فيه أطراف مستقلة عرض أسعارهم‪،‬‬
‫ال يمكن أن يتواجد سعر لرأس املال باملجمل أو للسلع الرأسمالية الفردية‪ .‬ودون وجود‬
‫أسعار للسلع الرأسمالية تعكس العرض والطلب النسبي عليها‪ ،‬لن يكون هناك طريقة‬
‫عقالنية لتحديد االستخدامات األكثر إنتاجية لرأس املال‪ ،‬وال طريقة عقالنية لتحديد كمية‬
‫إنتاج كل سلعة رأسمالية‪ .‬ففي عالَ ٍم تمتلك فيه الحكومة مصنع الفوالذ‪ ،‬باإلضافة إىل كل‬
‫املصانع التي تستخدم الفوالذ يف إنتاج سلع رأسمالية (إنتاجية) واستهالكية متعددة‪ ،‬لن‬
‫يظهر سع ٌر للفوالذ ألي من السلع التي يُستخدم يف إنتاجها‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬من املستحيل معرفة‬
‫استخداماته األكثر أهمية وقيمة‪ .‬فكيف يمكن للحكومة أن تحدد إذا كانت كمياتها‬
‫املحدودة من الفوالذ يجب أن يتم استخدامها يف صناعة السيارات أو القطارات‪ ،‬علما ً أنها‬
‫هي أيضا ً من يملك مصانع السيارات والقطارات بل وتفرض مرسوما ً عىل املواطنني‬
‫يقيض بعدد السيارات والقطارات التي يمكنهم امتالكها؟ فدون وجود نظام أسعار لكي‬
‫يستطيع املواطنون من خالله اختيار السيارات أو القطارات‪ ،‬تستحيل معرفة التخصيص‬
‫األمثل واالستخدام األهم للفوالذ‪ .‬واستطالع رأي املواطنني بهذه الحالة عديم الجدوى ألنه‬
‫ال قيمة لخيارات الناس دون سعر لكي يفكروا بتكلفة الفرصة البديلة الحقيقية‬
‫للمقايضة بني الخيارين‪ ،‬حيث أن استطالع الرأي الذي يفتقر لألسعار سيكشف لنا أن‬
‫الجميع سريغب بسيارة فرياري‪ ،‬لكن بالطبع عندما يضطر الناس لدفع الثمن‪ ،‬ستختار‬

‫‪ 4‬هناك أخطاء كثرية يف االقتصاد الكينيزي‪ ،‬لكن أكثرها سخافة يف الغالب هو الغياب الكامل ألي إدراك لطريقة‬
‫عمل بنية اإلنتاج الرأمسايل‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫قلة فقط سيارة الفرياري‪ .‬ولهذا‪ ،‬ال يمكن للمخططني املركزيني معرفة تفضيالت كل فرد‬
‫وال تخصيص املوارد بطريقة تُلبِّي احتياجات الفرد بأفضل شكل ممكن‪.‬‬

‫كذلك األمر‪ ،‬فعندما تملك الحكومة كل مستلزمات عمليات اإلنتاج يف االقتصاد‪،‬‬


‫فإن غياب آلية األسعار سيؤدي إىل استحالة عملية تنظيم وتنسيق إنتاج السلع الرأسمالية‬
‫املختلفة بالكميات الصحيحة وذلك لكي تسمح لكل املصانع بالعمل وأداء وظيفتها‪ .‬لهذا‪،‬‬
‫يمكن القول أن الندرة هي نقطة بداية كل اقتصاد‪ ،‬وليس ممكنا ً إنتاج كميات غري‬
‫محدودة من كل املستلزمات؛ بل يجب أن تُجرى مقايضات‪ ،‬لذا فإن تخصيص رأس املال‪،‬‬
‫واألرض واليد العاملة إلنتاج الفوالذ ستكون عىل حساب صنع املزيد من النحاس‪ .‬فعندما‬
‫تتنافس املصانع يف األسواق الحرة عىل حيازة النحاس والفوالذ‪ ،‬ستبدأ أمور الوفرة‬
‫والندرة بالتشكل يف تلك األسواق‪ ،‬وستسمح األسعار لصانعي النحاس والفوالذ بالتنافس‬
‫عىل املوارد الالزمة إلنتاجهما‪ ،‬وال يعرف املخطط املركزي شيئا ً عن شبكة التفضيالت‬
‫وتكاليف الفرصة البديلة بني القطارات‪ ،‬والسيارات‪ ،‬والنحاس‪ ،‬والفوالذ‪ ،‬واليد العاملة‪،‬‬
‫ورأس املال واألرض‪ .‬فمن دون وجود األسعار‪ ،‬يستحيل حساب ومعرفة الكيفية‬
‫لتخصيص هذه املوارد إلنتاج املنتجات املثالية‪ ،‬والنتيجة هي انهيار كامل يف اإلنتاج‪.‬‬

‫إن هذا كله مجرد جانب واحد من مشكلة الحساب متعلقة فقط بإنتاج سلع‬
‫موجودة مسبقا ً يف سوق ثابت‪ ،‬واملشكلة تتضح أكثر عندما يتذكر املرء أن ال يشء ثابت يف‬
‫العالقات البرشية‪ ،‬حيث أن البرش يسعون دائما ً إىل تحسني وضعهم االقتصادي إلنتاج‬
‫سلع جديدة‪ ،‬وإيجاد طرق أكثر وأفضل إلنتاج السلع‪ .‬فدافع املرء األزيل لإلصالح‪،‬‬
‫والتحسن‪ ،‬واالبتكار يُمثل املشكلة األكثر استعصاء لالشرتاكية‪ .‬فحتى إن نجح نظام‬
‫التخطيط املركزي يف إدارة اقتصاد ثابت‪ ،‬فال قدرة له عىل التأقلم مع التغيري أو السماح‬
‫بتنظيم املشاريع وريادة األعمال‪ .‬فكيف يمكن لنظام اشرتاكي إجراء حسابات للتقنيات‬
‫واالبتكارات غري املوجودة‪ ،‬وكيف يمكن تخصيص عوامل إنتاج لها إذا لم يكن هناك‬
‫إشارة عىل نجاح هذه املنتجات؟‬

‫‪127‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫َغضون الطرف عن‬‫"أولئك الذين ال يميزون بني ريادة األعمال واإلدارة ي ُّ‬
‫املشكلة االقتصادية‪ ...‬فالنظام الرأسمايل ليس نظاما ً إدارياً؛ إنه نظام ريادي‪".‬‬
‫‪5‬‬
‫‪ -‬لودفيغ فون ميزس‬

‫إن الفكرة من هذا التوضيح ليست هي انتقاد النظام االقتصادي االشرتاكي‬


‫الذي ال يأخذه أي بالغ رزين عىل محمل الجد يف هذا العرص بعد الفشل الشامل الدموي‬
‫طبِّق فيه يف القرن األخري‪ ،‬بل إن الفكرة هي توضيح‬ ‫الذريع الذي حققه يف كل مجتمع ُ‬
‫الفرق بني طريقتني يف تخصيص رأس املال واتخاذ قرارات اإلنتاج‪ :‬أال وهما األسعار‬
‫والتخطيط‪ .‬فبينما ال تمتلك معظم دول العالم اليوم لجنة تخطيط مركزي مسؤولة عن‬
‫التوزيع املبارش للسلع الرأسمالية‪ ،‬إال أنه مع ذلك يوجد يف كل دولة يف العالم لجنة‬
‫تخطيط مركزي ألهم األسواق عىل اإلطالق‪ ،‬أال وهي سوق رأس املال‪ .‬فاألسواق الحرة هي‬
‫أسواق يكون للمشرتين والبائعني فيها حرية التبادل وفقا ً لرشوطهم الخاصة‪ ،‬حيث‬
‫يكون الدخول والخروج من السوق مجانيا ً بمعنى أن األطراف الثالثة ال تمنع دخول‬
‫املشرتين والبائعني إىل السوق‪ ،‬وال تقوم هذه األطراف الثالثة بتقديم الدعم املادي‬
‫للمشرتين والبائعني الذين ال يستطيعون إجراء التبادالت يف السوق‪ .‬وال يوجد اليوم سوق‬
‫رأسمالية بهذه الخصائص يف أية دولة يف العالم‪.‬‬

‫فاألسواق الرأسمالية يف االقتصاد الحديث تتألف من أسواق لألموال القابلة‬


‫لإلقراض‪ ،‬وعندما تصبح بُنية اإلنتاج أكثر تعقيدا ً وأطول أمداً‪ ،‬يتوقف األفراد عن‬
‫استثمار مدخراتهم بأنفسهم‪ ،‬ويقومون بإقراضها عرب مؤسسات متعددة لرشكات‬
‫قرض لقاء إقراض‬ ‫مختصة باإلنتاج‪ ،‬ويكون معدل الفائدة هو السعر الذي يتلقاه املُ ِ‬
‫موارده املالية‪ ،‬وهو السعر الذي يدفعه املقرتض ليحصل عليها‪.‬‬

‫ففي سوق حرة لألموال القابلة لإلقراض‪ ،‬تزداد كمية األموال املعروضة مع‬
‫ارتفاع معدل الفائدة كما هو الحال يف كل منحنيات العرض‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬كلما ارتفع‬

‫‪ 5‬لودفيغ فون ميزس‪ ،‬الفعل البشري‪ ،‬الصفحات ‪.704-703‬‬

‫‪128‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫معدل الفائدة‪ ،‬ازداد ميل الناس إىل االدخار وتقديم مدخراتهم إىل منظمي املشاريع‬
‫والرشكات‪ .‬لكن باملقابل‪ ،‬الطلب عىل القروض مرتبط عكسيا ً بمعدل الفائدة‪ ،‬أي أن رواد‬
‫املشاريع والرشكات سريغبون باقرتاض مبالغ أقل عندما يرتفع معدل الفائدة‪.‬‬

‫ومعدل الفائدة يف سوق حرة لرؤوس األموال سيكون إيجابيا ألن التفضيل‬
‫الزمني اإليجابي لدى الناس يعني أن ال أحد سيتخىل عن أمواله إال إذا حصل عىل املزيد‬
‫منها يف املستقبل‪ .‬وغالباً‪ ،‬املجتمعات التي يَ ْكثُر فيها أصحاب التفضيل الزمني املنخفض‬
‫يكون لديها الكثري من املدخرات‪ ،‬مُقللة بذلك معدل الفائدة ومُؤمِّن ًة رؤوس أموال كبرية‬
‫كي تستثمرها الرشكات‪ ،‬مما يؤدي إىل نمو اقتصادي كبري يف املستقبل‪ .‬ولكن عند ارتفاع‬
‫التفضيل الزمني يف املجتمع‪ ،‬فإن احتمال ادخار األفراد يقل‪ ،‬وترتفع معدالت الفائدة‪،‬‬
‫وتقل رؤوس األموال التي يستطيع املنتجون اقرتاضها‪ .‬وبهذا‪ ،‬إن املجتمعات التي تحيا‬
‫بسالم وفيها حقوق ملكية آمنة ودرجة كبرية من الحرية االقتصادية غالبا ً ما تكون ذات‬
‫تفضيل زمني منخفض حيث تؤمِّ ن هذه املجتمعات حافزا ً كبريا ً لألفراد لتقليل الحسم‬
‫عىل مستقبلهم‪ .‬لدرجة أن اقتصاديا ً نمساويا ً آخر‪" ،‬يوجني فون بوم‪-‬بافرك"‪ ،‬ذهب إىل‬
‫أن معدل الفائدة يف دولة ما يعكس مستواها الثقايف وقال‪" :‬كلما ارتفع ذكاء األفراد‬
‫وقوتهم األخالقية‪ ،‬ازداد ادخارهم وانخفض معدل الفائدة"‪.‬‬

‫لكن السوق الرأسمالية ال تعمل بهذه الكيفية يف االقتصادات الحديثة بوقتنا‬


‫الحارض‪ ،‬وهذا بسبب اخرتاع البنك املركزي الحديث وتطفله وتدخله الدائم يف األسواق‬
‫األكثر حساسية‪ .‬بحيث تقوم البنوك املركزية بتحديد معدل الفائدة وعرض األموال‬
‫القابلة لإلقراض باستخدام أدوات نقدية متعددة‪ ،‬تعمل من خالل سيطرتهم عىل النظام‬
‫‪6‬‬
‫املرصيف‪.‬‬

‫‪ 6‬أهم األدوات اليت تستخدمها البنوك املركزية‪ :‬حتديد معدل النقد الفيدرايل‪ ،‬وحتديد نسبة االحتياطي النقدي‬
‫الالزمة‪ ،‬واملشاركة يف عمليات السوق املفتوحة‪ ،‬وحتديد املعايري املؤهلة لإلقراض‪ .‬ميكن إجياد تفسري مفصل عن آلية‬
‫استخدام تلك األدوات يف أي دليل متهيدي عن االقتصاد الشامل‪ .‬للتلخيص‪ :‬ميكن للبنك املركزي أن يشارك يف‬
‫السياسة النقدية التوسعية عن طريق (‪ ) 1‬ختفيض معدالت الفائدة‪ ،‬مما ُيفز على اإلقراض ويزيد من استحداث‬

‫‪129‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫يجب فهم معلومة أساسية عن النظام املايل الحديث وهي أن املصارف‬


‫تستحدث النقد كلما شاركت يف عمليات اإلقراض‪ .‬ففي نظام مرصيف احتياطي جزئي‬
‫قرض املصارف مدخرات زبائنها فحسب‪،‬‬ ‫مشابه للموجود يف كل أنحاء العالم اليوم‪ ،‬ال ت ُ ِ‬
‫بل تقوم أيضا ً بإقراض الودائع الخاصة بهم تحت الطلب‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬قد يطالب املُودِع‬
‫باملال يف أي وقت يف حني تكون نسبة كبرية من هذا املال قد ُمنِحَ ت كقرض ملقرتض آخر‪.‬‬
‫وعن طريق إعطاء املال للمقرتض مع إبقائه متاحا ً للمودع‪ ،‬يستحدث املرصف نقدا ً جديدا ً‬
‫مما يؤدي إىل ارتفاع العرض النقدي‪ ،‬ويشكل هذا األمر أساس العالقة بني العرض‬
‫النقدي ومعدالت الفائدة‪ :‬فعندما تنخفض معدالت الفائدة‪ ،‬يزداد اإلقراض مما يؤدي إىل‬
‫زيادة االستحداث النقدي وارتفاع عرضه‪ .‬باملقابل إ َّن ارتفاع معدالت الفائدة ستؤدي إىل‬
‫انخفاض اإلقراض وتقلص العرض النقدي‪ ،‬أو عىل األقل ستقلل معدل نموه‪.‬‬

‫الدورات االقتصادية واألزمات املالية‬


‫بينما يُحدد املشاركون يف عمليات السوق عرض األموال القابلة لإلقراض يف سوق حرة‬
‫لرأس املال بناء عىل معدل الفائدة‪ ،‬إال أنه يف اقتصاد قائم عىل بنك مركزي وعىل النظام‬
‫املرصيف االحتياطي الجزئي يُدار عرض األموال القابلة لإلقراض من قبل لجنة من‬
‫االقتصاديني تحت تأثري السياسيني واملرصفيني ومثقفي التلفاز‪ ،‬وأحيانا ً بشكل مدهش‬
‫الجنراالت العسكريني‪.‬‬

‫إن أية معرفة طفيفة باالقتصاد ستجعل من مخاطر التحكم باألسعار أمرا ً‬
‫جليا ً وواضحاً‪ .‬فإن ق َّررت الحكومة تحديد سعر التفاح ومنعت تغيريه‪ ،‬ستكون النتيجة‬

‫النقد؛ (‪ ) 2‬ختفيض نسبة االحتياطي النقدي الالزمة‪ ،‬مما يسمح للمصارف بزايدة قروضها‪ ،‬مما يزيد من استحداث‬
‫النقد؛ (‪ )3‬شراء اخلزائن واألصول املالية‪ ،‬مما يؤدي أيضاً إىل استحداث النقد؛ و(‪ )4‬تسهيل املعايري املؤهلة‬
‫لإلقراض‪ ،‬مما يسمح للمصارف بزايدة اإلقراض وابلتايل استحداث النقد‪ُ .‬جترى السياسة النقدية االنكماشية‬
‫بعكس هذه اخلطوات‪ ،‬مما يؤدي إىل اخنفاض يف العرض النقدي‪ ،‬أو على األقل اخنفاض يف معدل منو العرض‬
‫النقدي‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫إما شحا ً أو فائضا ً وخسارات كبرية للمجتمع بأكمله نتيجة لزيادة أو نقص اإلنتاج‪.‬‬
‫يحدث يشء مشابه يف األسواق الرأسمالية‪ ،‬لكن اآلثار تكون أكثر رضرا ً ألنها تؤثر يف كل‬
‫قطاعات االقتصاد‪ ،‬وذلك ألن رأس املال له دور يف إنتاج كل السلع االقتصادية‪.‬‬

‫ومن املهم أوال ً فِ هْ م الفرق بني األموال القابلة لإلقراض والسلع الرأسمالية‬
‫الحقيقية‪ .‬ففي اقتصاد سوق حرة بنقد سليم‪ ،‬يجب عىل املدخرين تأجيل االستهالك من‬
‫أجل االدخار‪ .‬واملال الذي يُودَع يف مرصف كمدخرات سيكون ماال ً ال يمكن استهالكه من‬
‫قبل أشخاص يؤجلون املتعة التي قد يقدمها االستهالك لهم كي يحصلوا عىل متعة أكرب‬
‫يف املستقبل‪ .‬بهذا األمر‪ ،‬تُصبح كمية املدخرات هي نفسها كمية األموال القابلة لإلقراض‬
‫املتاحة للمنتجني لكي يقرتضوها‪ ،‬ويرتبط توفر السلع الرأسمالية ارتباطا ً وثيقا ً‬
‫بتخفيض االستهالك‪ :‬فاملوارد املادية الفعلية‪ ،‬واليد العاملة‪ ،‬واألرض‪ ،‬والسلع الرأسمالية‬
‫ظفة لتأمني سلع استهالكية نهائية إىل إنتاج السلع الرأسمالية‪.‬‬ ‫ستنتقل من كونها مُو َّ‬
‫وبهذا‪ ،‬يتم توجيه العامل الهاميش من بيع السيارات إىل وظيفةٍ يف مصنع السيارات‪،‬‬
‫بمعنى أنه سيتم بذر بذور الذرة يف األرض بدال ً من أكلها‪.‬‬

‫إن الندرة هي النقطة األساسية يف بداية كل اقتصاد‪ ،‬وأهم أثر لها هي الفكرة‬
‫بأن لكل يشء تكلفة فرصة بديلة‪ .‬ففي السوق الرأسمالية‪ ،‬تكون تكلفة الفرصة البديلة‬
‫لرأس املال هي االستهالك املُتنا َزل عنه‪ ،‬وتكلفة الفرصة البديلة لالستهالك هي االستثمار‬
‫الرأسمايل املتنازل عنه‪ ،‬ومعدل الفائدة هو السعر الذي يُنظم هذه العالقة‪ :‬فعندما يطالب‬
‫الناس بزيادة االستثمارات‪ ،‬يرتفع معدل الفائدة مُحفزا ً عددا ً أكرب من املُدخرين ليدَّخروا‬
‫املزيد من أموالهم‪ .‬أما عندما ينخفض معدل الفائدة‪ ،‬فإنه ي ِّ‬
‫ُحفز املستثمرين عىل املشاركة‬
‫إنتاج متقدمة تكنولوجيا ً بآفاق زمنية‬ ‫ٍ‬ ‫يف املزيد من االستثمارات‪ ،‬وعىل االستثمار يف طرق‬
‫أطول‪ .‬وبالتايل‪ ،‬إن معدل الفائدة املنخفض يسمح باستخدام وسائل إنتاج أطول أمدا ً‬
‫وأكثر إنتاجية‪ :‬فينتقل املجتمع من الصيد باستخدام الصنارة إىل الصيد بقوارب كبرية‬
‫تعمل عىل الوقود‪.‬‬

‫ومع تطور االقتصاد وازدياد درجة تعقيده‪ ،‬ال يتغري الرابط بني رأس املال‬
‫املادي وسوق األموال القابلة لإلقراض يف العالم الحقيقي‪ ،‬لكن هذا الرابط يصبح أكثر‬

‫‪131‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫تشوشا ً يف عقول الناس‪ .‬فاالقتصاد الحديث ذي البنك املركزي يُبنى عىل تجاهل هذه‬
‫املقايضة األساسية وافرتاض أنه يمكن للمصارف تمويل االستثمارات بأموال جديدة دون‬
‫أن يضطر املستهلكون للتنازل عن استهالكهم‪ُ .‬‬
‫فقطعَ ت الصلة بني املُدَخرات واألموال‬
‫القابلة لإلقراض إىل درجة أنها لم تعد تُد ََّرس يف مراجع االقتصاد حتى‪ 7،‬ناهيك عن‬
‫العواقب الكارثية لتجاهلها‪.‬‬

‫وما دام البنك املركزي يدير العرض النقدي ومعدل الفائدة فسيكون هناك‬
‫تناقض حتمي بني املدخرات واألموال القابلة لإلقراض‪ .‬فالبنوك املركزية بشكل عام‬
‫تحاول تحفيز النمو االقتصادي واالستثمارات وزيادة االستهالك‪ ،‬ولذلك تميل إىل زيادة‬
‫العرض النقدي وتخفيض معدل الفائدة‪ ،‬مما يجعل كمية األموال القابلة لإلقراض أكرب‬
‫من كمية املدخرات‪ .‬ومع معدالت الفائدة هذه املنخفضة صنعياً‪ ،‬تأخذ األعمال واملشاريع‬
‫التجارية قروضا ً (ديوناً) لتبدأ مشاريعا ً أكثر مما وضع املدخرون جانبا ً لتمويل تلك‬
‫االستثمارات‪ ،‬أي أن قيمة االستهالك املؤجل أصغر من قيمة رأس املال املُقرتَض‪ .‬ودون‬
‫كاف‪ ،‬لن يكون هناك ما يكفي من رأس املال‪ ،‬واألرض‪ ،‬واليد العاملة‬ ‫تأجيل استهالك ٍ‬
‫لتحويلها من السلع االستهالكية إىل سلع رأسمالية رفيعة املستوى وذلك يف مراحل اإلنتاج‬
‫األولية‪ .‬ففي نهاية األمر‪ ،‬ال توجد وجبة غداء مجانية‪ ،‬وإن ق َّل ادخار املستهلكني فحتما ً‬
‫ستقل رؤوس األموال املتاحة للمستثمرين‪ .‬فعملية إصدار واستحداث األوراق الجديدة‬
‫والقيام بإدخاالت رقمية لهذه األوراق لسد النقص الحاصل يف املدخرات لن تزيد بشكل‬
‫سحري من مخزون رأس املال املادي؛ بل ستقوم بخفض قيمة العرض النقدي املوجود‬
‫حاليا ً وستشتت األسعار‪.‬‬

‫وال يظهر نقص رأس املال هذا عىل الفور ألن املصارف والبنك املركزي‬
‫تستطيع إصدار ما يكفي من هذا النقد للمقرتضني‪ -‬فهذه يف نهاية األمر هي امليزة‬

‫‪ 7‬من املمتع دائماً أن أعلم طاليب يف السنة األخرية عن سوق مالية حرة افرتاضية‪ ،‬وإن كان جملرد مشاهدة ردة‬
‫الفعل على وجوههم عندما يقارنون املنطق السليم للطريقة اليت ميكن أن تعمل هبا سوق مالية حرة‪ ،‬مقارنة‬
‫بنظرايت التخطيط املركزي الكينيزية غري العلمية اليت تعلموها يف حصص النظرية النقدية لسوء حظهم‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫الرئيسية الستخدام النقد غري السليم‪ .‬ولكن بالطبع سيكون هذا التالعب بسعر رأس املال‬
‫مستحيال ً يف اقتصاد ذي نقد سليم‪ :‬فما أن يتم ضبط معدل الفائدة ليصبح منخفضا ً‬
‫بشكل صنعي‪ ،‬فإن نقص املدخرات يف املصارف سينعكس بانخفاض رأس املال املتاح‬
‫ارتفاع يف معدل الفائدة‪ ،‬األمر الذي سيُقلل من الطلب عىل‬
‫ٍ‬ ‫للمقرتضني‪ ،‬مما سيؤدي إىل‬
‫القروض ويرفع من عرض املدخرات حتى يتساويا‪.‬‬

‫إن النقد غري السليم يجعل هذا التالعب ممكنا ً لكن بالطبع ملدة قصرية فقط‪،‬‬
‫حيث أنه من غري املمكن خداع الواقع إىل األبد‪ .‬فمعدالت الفائدة املُ َّ‬
‫خفضة صنعيا ً مع النقد‬
‫إنتاج تتطلب مواردا ً من‬
‫ٍ‬ ‫املطبوع الفائض سوف تخدع املُنتِجني وتجعلهم يبدؤون عمليات‬
‫رأس املال أكثر مما هو مُتاح يف الحقيقة‪ .‬فالنقد الفائض الذي ال يدعمه أي تأجيل‬
‫لالستهالك‪ ،‬يؤدي إىل زيادة ما يقرتضه املنتجون يف البداية‪ ،‬وهم يعملون تحت ْ‬
‫وَه ِم أن‬
‫النقود ستسمح لهم برشاء كل السلع الرأسمالية الالزمة لعملية اإلنتاج الخاصة بهم‪.‬‬
‫ولكن عندما يتنافس املزيد من املنتجني عىل سلع رأسمالية وموارد أقل ستكون النتيجة‬
‫الطبيعية ارتفاعا ً يف أسعار السلع الرأسمالية أثناء عملية اإلنتاج‪ .‬عندها‪ ،‬سيُكشف هذا‬
‫التالعب مؤديا ً إىل انهيار متزامن لعدة استثمارات رأسمالية والتي ستُصبح فجأ ًة غري‬
‫مربحة مع أسعار السلع اإلنتاجية الجديدة‪ .‬إن هذه املشاريع هي التي سمَّ اها ميزس‬
‫بـ"االستثمارات السيئة"‪ -‬وهي استثمارات لم تكن ستبدأ دون التالعب بالسوق‬
‫ُكشف سوء التخصيص الذي حصل‪ .‬فتَ ُّ‬
‫دخل‬ ‫الرأسمالية ولن يكون إتمامها ممكنا ً ما أن ي َ‬
‫البنك املركزي بالسوق الرأسمالية يسمح بالرشوع بمزيد من املشاريع بسبب تحريف‬
‫األسعار الذي يجعل املستثمرين يخطئون التقدير‪ ،‬حيث أنه ال يمكن لتدخل البنك‬
‫املركزي أن يزيد من كمية رأس املال الحقيقية املتاحة‪ .‬لهذا‪ ،‬ال تكتمل تلك املشاريع‬
‫اإلضافية وتصبح هدرا ً غري رضوري لرأس املال‪ ،‬وسيؤدي إيقاف تلك املشاريع بشكل‬
‫متزامن إىل ارتفاع البطالة يف جميع مجاالت االقتصاد‪ .‬إن هذا الفشل االقتصادي واسع‬
‫النطاق واملتزامن يف األعمال واملشاريع التجارية الكثرية والعاجزة عن أداء عملها هو ما‬
‫يعرف بالركود االقتصادي‪.‬‬

‫وال يمكن للمرء فهم أسباب الركود االقتصادي وتقلبات الدورة االقتصادية إال‬
‫بفهم الهيكل الرأسمايل وكيف يدمر التالعب بمعدل الفائدة الحاف َز لجمع رأس املال‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫فالدورة االقتصادية هي النتيجة الطبيعية للتالعب بمعدل الفائدة والذي يشوِّش السوق‬
‫الرأسمالية بحيث يجعل املستثمرين يعتقدون أن بإمكانهم الحصول عىل رأس مال أكثر‬
‫من املتاح بالنقد غري السليم الذي أعطتهم إياه املصارف‪ .‬وعىل عكس األساطري الكينيزية‬
‫فتور "بأرواح‬
‫ٍ‬ ‫الروحانية‪ ،‬فالدورات االقتصادية ليست ظواهر غامضة نشأت بسبب‬
‫الحيوانات" بحيث يجب علينا أن نتجاهلها يف الوقت الذي يحاول فيه أصحاب البنوك‬
‫املركزية إيجاد حل للتعايف‪ 8.‬فاملنطق االقتصادي يُظهر بوضوح أن الركود االقتصادي هو‬
‫النتيجة الحتمية للتالعب بمعدل الفائدة تماما ً كما أن العجز هو النتيجة الحتمية لعملية‬
‫كبح سقف األسعار‪.‬‬

‫ولتوضيح الفكرة‪ ،‬يُمكننا استعارة تشبيه مُن َّمق من أعمال ميزس‪ :9‬تخيل أن‬
‫مخزون رأس املال ملجتمع ما هو طوب بناء‪ ،‬والبنك املركزي هو املقاول املسؤول عن بناء‬
‫بيوت منها‪ .‬نحتاج ‪ 10,000‬طوبة لبناء كل بيت‪ ،‬ويبحث املتعهد عن مقاول يستطيع‬
‫بناء مئة بيت بكلفة مليون طوبة باملجمل‪ .‬لكن مقاوال ً كينيزيا ً يتوق للحصول عىل العقد‪،‬‬
‫سيستنتج أن فرصته بالحصول عىل العقد ستتحسن إن َقدَّم مناقصة يَعِ ُد فيها ببناء‬
‫‪ 120‬بيتا ً متماثال ً باستخدام ‪ 800,000‬طوبة فقط‪ .‬إن هذا األمر يُماثِل عملية التالعب‬
‫بمعدل الفائدة حيث أنه يُقلل من عرض رأس املال يف حني يزيد الطلب عليه‪ .‬يف الواقع‪،‬‬
‫يلزم ‪ 1.2‬مليون طوبة لبناء ‪ 120‬بيتاً‪ ،‬لكن ال يوجد سوى ‪ 800,000‬طوبة متوفرة‪.‬‬
‫وتكفي األخرية للبدء ببناء البيوت املئة والعرشين‪ ،‬لكنها ليست كافية إلنهائها‪ .‬فعند بدء‬
‫عملية البناء‪ ،‬يُرس املتعهد برؤية ‪ %20‬إضافية من البيوت بكلفة أقل بـ‪ %80‬بفضل‬
‫أعاجيب الهندسة الكينيزية‪ ،‬مما سيجعله ينفق الـ ‪ %20‬التي ادخرها من التكلفة عىل‬
‫رشاء يخت جديد‪ .‬لكن لن تستمر هذه الخدعة طول الوقت ألنه سيصبح واضحا ً أنه من‬

‫‪ 8‬ال يوجد نقص يف بدائل النظرية الرأمسالية النمساوية كتفسري للركود االقتصادي‪ ،‬مع هذا‪ ،‬كل هذه البدائل هي‬
‫جمرد إعادة صياغة جلداالت فاقدي العقل النقديني من أوائل القرن العشرين‪ .‬وال ُيتاج املرء حىت إىل قراءة النقض‬
‫احلديث آلخر صف من النظرايت الكينيزية والنفسية الشائعة‪ .‬بل يكفي قراءة كتاب هايك النظرية النقدية والدورة‬
‫التجارية‪ ،‬من ‪ ،1933‬أو كتاب روثبارد‪ ،‬الكساد العظيم يف أمريكا‪ ،‬من عام ‪.1963‬‬
‫‪ 9‬لودفيغ فون ميزس‪ ،‬الفعل البشري‪ ،‬الصفحة ‪.560‬‬

‫‪134‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫غري املمكن إتمام هذه البيوت بحيث يتوجب إيقاف البناء‪ .‬فلم يفشل املقاول يف بناء ‪120‬‬
‫بيتا ً فحسب‪ ،‬بل فشل أيضا ً يف بناء أي بيت‪ ،‬وبدال ً من ذلك حصل املتعهد عىل ‪ 120‬بيتا ً‬
‫من أنصاف البيوت‪ ،‬حيث حصل فعليا ً عىل مجرد أكوام من الطوب عديمة الفائدة دون‬
‫أسقف‪ .‬بهذا األمر‪ ،‬قللت حيلة املقاول من رأس املال الذي أنفقه املتعهد وأدت إىل بناء‬
‫بيوت أقل مما كان ممكنا ً بوجود مؤرشات دقيقةٍ لألسعار‪ .‬فلو استخدم املتعهد مقاوال ً‬
‫صادقاً‪ ،‬كان سيحصل عىل ‪ 100‬بيت‪ .‬لكن باستخدامه املقاول الكينيزي الذي يعبث‬
‫باألرقام‪ ،‬فإن املتعهد سيستمر بإضاعة رأس ماله ما دام رأس املال هذا مُخصصا ً لخطةٍ‬
‫ال أساس لها يف الحقيقة‪ .‬ولو انتبه املتعهد إىل الخطأ باكراً‪ ،‬فإن رأس املال املُبدَّد للبدء‬
‫ببناء ‪ 120‬بيتا ً قد يكون صغريا ً جداً‪ ،‬وعندها سيتمكن مقاول جديد من أخذ باقي الطوب‬
‫واستخدامه يف إنتاج ‪ 90‬بيتاً‪ .‬وإن بقي املتعهد جاهال ً للحقيقة حتى نفاد رأس املال‪ ،‬فإنه‬
‫سيحصل فقط عىل ‪ 120‬بيتا ً غري منتهي وعديم الفائدة حيث لن يدفع أحد ليسكن يف بيت‬
‫بال سقف‪.‬‬

‫كذلك االمر‪ ،‬فعندما يتالعب البنك املركزي بمعدل الفائدة ليجعله أقل من سعر‬
‫التصفية بالسوق عرب توجيه املصارف إلصدار املزيد من النقد عن طريق اإلقراض‪ ،‬فإنه‬
‫وبآن واحد يقوم بتقليل قيمة املدخرات املتاحة يف املجتمع ويزيد الكمية املطلوبة من‬
‫املقرتضني‪ ،‬وبنفس الوقت يوجه رأس املال املقرتَض نحو مشاريع ال يمكن إنهاؤها‪.‬‬
‫بالتايل‪ ،‬كلما قلت سالمة النقد‪ ،‬وكان التالعب بمعدالت الفائدة أسهل بالنسبة إىل البنوك‬
‫املركزية‪ ،‬فإ َّن الدورات االقتصادية ستكون أكثر حدة‪ .‬ويشهد التاريخ النقدي عىل ازدياد‬
‫حدة الدورات االقتصادية والركودات االقتصادية عندما كان يتم التالعب بالعرض النقدي‬
‫مقارنة بغيابه‪.‬‬

‫ويف حني يعتقد معظم الناس أن املجتمعات االشرتاكية أصبحت من املايض وأن‬
‫االقتصادات الرأسمالية تحكمها أنظمة السوق الحرة‪ ،‬إال أن الحقيقة هي أن النظام‬
‫الرأسمايل ال يستطيع العمل دون وجود سوق حرة لرأس املال‪ ،‬بحيث يظهر سعر رأس‬
‫املال هذا من خالل التفاعل بني العرض والطلب وقرارات أصحاب رؤوس األموال التي‬
‫ُّ‬
‫فتدخل البنك املركزي يف السوق الرأسمالية هو أساس‬ ‫تقودها مؤرشات األسعار الدقيقة‪.‬‬
‫كل ركود وكل أزمة اقتصادية‪ ،‬والتي يُحبذ معظم السياسيني‪ ،‬والصحفيني‪ ،‬واألكاديميني‬

‫‪135‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫والناشطني اليساريني لوم الرأسمالية عليها‪ .‬لكن فقط وعن طريق التخطيط املركزي‬
‫للعرض النقدي يُمكِن إفساد آلية األسعار يف األسواق الرأسمالية ليتسبَّب ذلك‬
‫باضطرابات واسعة يف االقتصاد‪.‬‬

‫فإذا سلكت حكوم ٌة طريق تضخيم العرض النقدي‪ ،‬فال مجال للهرب من‬
‫العواقب السلبية‪ .‬وإذا أوقف البنك املركزي عملية التضخم‪ ،‬سرتتفع معدالت الفائدة‪،‬‬
‫كشف العديد من املشاريع التي بدأت بكونها عديمة‬ ‫وسيتبعه الركود االقتصادي حيث ست ُ َ‬
‫الجدوى ويجب إيقافها‪ ،‬كاشفة سوء تخصيص املوارد ورأس املال الذي جرى‪ .‬وأما إذا‬
‫استمر البنك املركزي بعملية التضخيم إىل األبد‪ ،‬فسيزداد معدل سوء التخصيص يف‬
‫االقتصاد‪ ،‬مما سيُهدِر املزيد من رأس املال ويجعل الركود االقتصادي الحتمي أكثر أملاً‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬ال مفر من دفع فاتورة ضخمة لقاء وجبة الغداء التي يُفرتض أنها مجانية والتي‬
‫قام الكينزيون الحمقى ِبد َِّسها علينا‪.‬‬

‫"أمسكنا اآلن بالن َّ ِمر من ذيله‪ :‬كم سيدوم هذا التضخم؟ فإذا حُرر النمر (أو‬
‫التضخم) سوف يأكلنا؛ وإذا ركض مرسعا ً ونحن متعلقون بذيله بيأس‪،‬‬
‫سيُقىض علينا أيضاً! يرسني أنني لن أكون هنا ألرى النتيجة النهائية‪".‬‬
‫‪10‬‬
‫_ فريدريك هايك‬

‫إن تخطيط البنك املركزي للعرض النقدي ليس مستحبا ً وال ممكناً‪ ،‬حيث أنه‬
‫خاضع لتحكم املتغطرسني الذين يضعون أهم سوق يف االقتصاد تحت سيطرة بضعة‬
‫أشخاص جاهلني لحقائق سوق االقتصاد‪ ،‬ويعتقدون أن بإمكانهم التخطيط مركزيا ً‬
‫وقع أن تكون البنوك‬ ‫لسوق كبري ومعقد وناشئ مثل السوق الرأسمالية‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن تَ ُّ‬
‫املركزية قادرة عىل "منع" أو "محاربة" أو "إدارة" الركود االقتصادي هو أمر خيايل‬
‫وخاطئ كجعل املولعني بإرضام الحرائق ومُشعيل الحرائق مسؤولني عن فِ ِر ِق اإلطفاء‪.‬‬

‫‪ 10‬فريديرك هايك‪ ،‬اإلمساك ابلنمر من ذيله‪ ،‬الصفحة ‪.126‬‬

‫‪136‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫إن االستقرار النسبي للنقد السليم والذي بسببه اختاره السوق‪ ،‬يسمح بعمل‬
‫سوق حرة عن طريق اكتشاف األسعار واتخاذ القرارات الفردية‪ .‬أما النقد غري السليم‬
‫أسعار دقيقة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الذي يتم التخطيط لعرضه مركزياً‪ ،‬فال يمكنه السماح بظهور مؤرشات‬
‫ألنه بطبيعته يقع تحت السيطرة‪ .‬فخالل عقود من التحكم باألسعار‪ ،‬حاول املخططون‬
‫‪11‬‬
‫املركزيون إيجاد أفضل سعر لتحقيق األهداف التي يريدونها‪ ،‬ولكن دون جدوى‪.‬‬
‫والفشل الحتمي للتحكم باألسعار ال يكون بسبب عدم قدرة املخططني املركزيني عىل‬
‫اختيار السعر املناسب‪ ،‬بل ألنهم وببساطة عندما يفرضون سعرا ً بغض النظر عن هذا‬
‫السعر‪ ،‬فإنهم يمنعون آلية السوق من السماح لألسعار بأن تُنظم قرارات االستهالك‬
‫عجز أو فائض حتمي‪ .‬بشكل مكافئ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫واإلنتاج بني املشاركني يف السوق‪ ،‬مما يؤدي إىل‬
‫فالتخطيط املركزي ألسواق االئتمان سيفشل ألنه يُد ِّمر آليات األسواق الكتشاف السعر‬
‫الذي يُ َزوِّد املشاركني يف السوق بمؤرشات دقيقة وحوافز ليديروا استهالكهم وإنتاجهم‪.‬‬

‫إ َّن َش ْك َل الفشل الذي يأخذه التخطيط املركزي للسوق الرأسمالية سيكون‬


‫عبارة عن دورة ازدهار وكساد كما ُفرس يف نظرية الدورة االقتصادية النمساوية‪ .‬لذا ال‬
‫عجب يف أن يُعترب هذا الخلل جزءا ً طبيعيا ً من اقتصاد السوق‪ ،‬ألنه يف نهاية األمر‪ ،‬تَح ُّكم‬
‫البنك املركزي بمعدالت الفائدة هو جزء طبيعي من اقتصاد السوق الحديث يف عقول‬
‫االقتصاديني املعارصين‪ .‬ولقد كان تاريخ سجل البنوك املركزية يف هذا املجال سيئا ً جدا ً‬
‫خاصة إذا تم مقارنته بالفرتات التي لم يكن فيها تخطيط مركزي وتَح ُّكم بالعرض‬
‫النقدي‪ .‬فكان البنك االحتياطي الفيدرايل األمريكي الذي أُسس عام ‪ ،1914‬مسؤوال ً عن‬
‫االنكماش الحاد باالحتياطي عام ‪ ،1921-1920‬وثم االنهيار الحاد يف عام ‪ ،1929‬والذي‬
‫استمرت تداعياته حتى نهاية عام ‪ .1945‬ومنذ ذلك الحني‪ ،‬أصبح الكساد االقتصادي‬
‫جزءا ً دوريا ً ومؤملا ً من االقتصاد‪ ،‬يتكرر حدوثه كل بضع سنوات ويُؤ ِّمن مربرا ً لتدخل‬
‫حكومي متزايد ليتعامل مع تداعياته‪.‬‬

‫‪ 11‬يُنصح بشدة قراءة السرد التارخيي للعواقب الكارثية واملضحكة للتحكم ابألسعار عرب التاريخ‪ ،‬أربعون قرانً من‬
‫التحكم ابألسعار واألجور‪ :‬كيف ال حتارب التضخم‪ ،‬لروبرت شوتينغر وإميون بتلر‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ويُمكن إيجاد مثال جيد لفوائد النقد السليم بالنظر إىل مصري ومآل االقتصاد‬
‫السويرسي‪ ،‬ا َملعقِ ل األخري للنقد السليم‪ ،‬حيث بقيت العملة مرتبطة بالذهب حتى القرار‬
‫املشؤوم بالتخيل عن الحياد العاملي واالنضمام إىل صندوق النقد الدويل عام ‪ .1992‬فقبل‬
‫ذلك التاريخ‪ ،‬كان معدل البطالة صفرا ً وال يرتفع عن ‪ %1‬فعلياً‪ .‬أما بعد انضمامها إىل‬
‫صندوق النقد الدويل الذي تمنع قواعده الحكومات من ربط قيمة عمالتها بالذهب‪ ،‬بدأ‬
‫االقتصاد السويرسي باالستمتاع بلذة النقد الكينيزي الغبي‪ ،‬مع ارتفاع معدل البطالة إىل‬
‫‪ %5‬خالل بضع سنوات‪ ،‬والذي نادرا ً ما انخفض عن ‪( .%2‬انظر إىل الشكل ‪.)1312‬‬

‫فعند مقارنة الكساد بفرتات املعيار الذهبي‪ ،‬يجب أن نتذكر أن املعيار الذهبي‬
‫يف أوروبا والواليات املتحدة يف القرن التاسع عرش لم يكن شكال ً مثاليا ً للنقد السليم‪ ،‬حيث‬
‫كان هناك عدة ثغرات فيه‪ ،‬أهمها أن املصارف والحكومات كانت تستطيع غالبا ً توسيع‬
‫الخاصني بها بكميات أكثر من الذهب املختزن يف االحتياطي‪،‬‬‫َّ‬ ‫العرض النقدي واالئتمان‬
‫ازدهار وكساد مشابه للذي نراه يف القرن العرشين‪ ،‬لكن بدرجة أقل حدة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مما أدى إىل‬

‫بوضع هذه الخلفية بعني االعتبار‪ ،‬يمكننا فهم التاريخ النقدي الحديث بوضوح‬
‫ُدرس بشكل شائع يف املراجع األكاديمية منذ الطوفان الكينيزي‪ .‬فالنص‬ ‫أكثر مما ي َّ‬
‫ُعترب العمل واملرجع النهائي للتاريخ النقدي األمريكي‪ :‬تاريخ‬
‫التأسييس للمدرسة النقدية ي َ‬
‫النقد يف الواليات املتحدة لـِ"ميلتون فريدمان" و"آنا شوارتز"‪ .‬إن هذا الكتاب هو مجلد‬
‫عمالق من ‪ 888‬صفحة‪ ،‬وهو مذهل يف قدرته عىل ترتيب كمية هائلة من الحقائق‪،‬‬
‫والتفاصيل‪ ،‬واالحصائيات وأدوات التحليل دون تقديم أي رشح ولو ملرة واحدة للقارئ‬
‫غري املحظوظ عن قضية أساسية رئيسية‪ :‬وهي أسباب األزمات املالية والركودات‬
‫االقتصادية‪.‬‬

‫إن العيب الجوهري يف كتاب فريدمان وشوارتز هو عيب نموذجي مُعتاد يف‬
‫العلوم األكاديمية الحديثة ويكون هذا بالعمل املتقن املتمثل باستبدال املنطق بالصالبة‪.‬‬
‫ظم ومنهجي التساؤل عن أسباب األزمات املالية التي أثرت عىل‬‫فالكتاب يتجنب بشكل مُن َّ‬

‫‪ 12‬املصدر‪ :‬البياانت االقتصادية لالحتياطي الفيدرايل‪ ،‬متاح على الرابط ‪https://fred.stlouisfed.org‬‬

‫‪138‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫الشكل ‪ :13‬معدل البطالة يف سويرسا‪% ،‬‬

‫اقتصاد الواليات املتحدة طوال عقد من الزمن‪ ،‬وبدال ً من ذلك يقوم بإغراق القارئ‬
‫ببيانات وحقائق وتفاصيل وأمور تافهة بُحث عنها بشكل مدهش‪.‬‬

‫فاالدّعاء األسايس للكتاب يفرتض أن الركود نتج بسبب عدم استجابة الحكومة‬
‫بالرسعة الكافية لكل من األزمة املالية والذعر املرصيف وانهيار التضخم‪ ،‬وذلك بزيادة‬
‫العرض النقدي إلعادة تضخيم القطاع املرصيف‪ .‬فجماعة ميلتون فريدمان الليربالية وكما‬
‫هو املعتاد ستلوم الحكومة عىل املشاكل االقتصادية‪ ،‬لكن املنطق الخاطئ سيؤدي بهم إىل‬
‫اقرتاح زيادة التدخل الحكومي َكحَ ّل‪ .‬فالخطأ الفادح يف الكتاب هو أن الكاتبَني لم يناقشا‬
‫أبدا ً أسباب كل من األزمة املالية والذعر املرصيف وانهيار التضخم للعرض النقدي‪ .‬وكما‬
‫رأينا يف نقاش نظرية الدورة االقتصادية النمساوية‪ ،‬إن السبب الوحيد للركود االقتصادي‬
‫الشامل هو تضخيم العرض النقدي يف املقام األول‪ .‬لكن يمكن لفريدمان وشوارتز وبكل‬
‫أريحية اقرتاح املُسبِّب نفسه كعالج‪ ،‬بعد أن حررا نفسيهما من عبء فهم السبب‪ :‬فيجب‬
‫أن تتحرك الحكومة لتعيد رسملة النظام املرصيف بقوة وتزيد السيولة عند أول إشارة عىل‬
‫الركود االقتصادي‪ .‬يمكنك أن تبدأ برؤية سبب كره االقتصاديني املعارصين الشديد لفهم‬
‫السببية املنطقية؛ التي ستكشف زيف كل حلولهم تقريباً‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫فقد بدأ فريدمان وشوارتز كتابهما سنة ‪ ،1867‬وقاما بهذا العمل يف هذه‬
‫السنة تحديدا ً حيث أنه وعند تحليل أسباب الركود يف عام ‪ ،1873‬كان بإمكانهم أن‬
‫يتجاهال بالكامل "املشكلة الصغرية" الكامنة يف طباعة الحكومة لألوراق النقدية‬
‫الخرضاء لتمويل الحرب األهلية‪ ،‬حيث كانت هذه الحرب هي السبب الرئييس للركود‬
‫االقتصادي‪ ،‬وسيتكرر هذا النمط يف كل الكتاب‪.‬‬

‫وبالكاد يناقش فريدمان وشوارتز أسباب ركود عام ‪ ،1893‬مُلمحني لحاجتنا‬


‫للفضة وذلك ألن الذهب ليس كافيا ً لتلبية االحتياجات النقدية باالقتصاد‪ ،‬ومن ثم أغرقا‬
‫القارئ بمعلومات تافهة عن الركود يف تلك السنة‪ .‬فلم يذكرا قانون "شريمان" لرشاء‬
‫الفضة عام ‪ 1890‬الذي وافق عليه الكونغرس األمريكي‪ ،‬والذي ألزم وزارة الخزانة‬
‫إصدار جديد من سندات الخزانة‪ .‬وسعى‬
‫ٍ‬ ‫األمريكية برشاء كميات كبرية من الفضة مقابل‬
‫حاملو الفضة وحاملو سندات الخزانة إىل تحويلها إىل ذهب‪ ،‬وذلك ألن تداول الفضة كان‬
‫قد أُلغي يف كل العالم تقريبا ً آنذاك‪ ،‬مما أدى إىل استنزاف احتياطي الخزانة من الذهب‪.‬‬
‫فتورطت الخزانة بشكل فعال يف جرعة مضللة كبرية من التوسع النقدي بزيادة العرض‬
‫النقدي محاول ًة االدعاء بأن الفضة ال تزال تُعترب نقداً‪ .‬وكل ما فعله هذا هو تخفيض قيمة‬
‫سندات الخزانة األمريكية‪ ،‬مما صنع فقاعة مالية انفجرت بتسارع عمليات سحب الذهب‪.‬‬
‫ُوضح هذا األمر ألي شخص لديه معرفة عابرة‬ ‫إن أي كتاب تاريخي عن تلك الحقبة سي ِّ‬
‫بالنظرية النقدية‪ ،‬لكن فريدمان وشوارتز تجنبا ذِ ْك َر هذا بشكل مدهش‪.‬‬

‫فعالج الكتاب لكساد عام ‪ 1920‬يتجاهل الجرعة الكبرية من التوسع النقدي‬


‫والتي وجب أن تتم لتمويل مشاركة الواليات املتحدة يف الحرب العاملية األوىل‪ .‬وبالرغم من‬
‫عدم ذكرهما لهذا يف تحليلهما‪ ،‬إال أن بياناتهما ست ُظهر لنا‪ 13‬وجود زيادة بنسبة ‪%115‬‬
‫يف املخزون النقدي بني يونيو ‪ 1914‬ومايو ‪ .1920‬وفقط ‪ %26‬من الزيادة كانت نتيجة‬
‫لزيادة مخزون الذهب‪ ،‬أي أن الباقي كان مدفوعا ً من قبل الحكومة‪ ،‬واملصارف‬
‫واالحتياطي الفيدرايل‪ .‬فلقد كان هذا هو السبب الرئييس لكساد عام ‪ ،1920‬لكن هذا لم‬
‫يُذكر أيضاً‪.‬‬

‫‪ 13‬انظر إىل اجلدول ‪ 10‬يف الصفحة ‪ 206‬من كتاب فريدمان وشوارتز‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫لكن أكثر ما يثري الفضول هو كيف تجاهال بالكامل التعايف من الكساد عام‬
‫‪ ،1921-1920‬الذي دُعي "آخر تصحيح طبيعي للعمالة الكاملة" من قِ بل خبري‬
‫االقتصاد "بنجامني أندرسون"‪ ،‬حيث تم تخفيض الرضائب ونفقات الحكومة وتُركت‬
‫‪14‬‬
‫األجور لتتعدل بحرية‪ ،‬مما أدى إىل عودة رسيعة للعمالة الكاملة خالل أقل من سنة‪.‬‬
‫وبهذا‪ ،‬شهد كساد عام ‪ 1920‬أحد أرسع انكماشات اإلنتاج يف التاريخ األمريكي‬
‫(انخفاض بنسبة ‪ %9‬خالل فرتة ‪ 10‬أشهر من سبتمرب ‪ 1920‬حتى يوليو ‪،)1921‬‬
‫وكذلك شهد أرسع تصحيح‪ .‬إال أنه ومع إدخال وحَ قن السيولة من قِ ب َِل الكينيزيني‬
‫وأصحاب املدرسة النقدية‪ ،‬ومن خالل زيادة العرض النقدي‪ ،‬وزيادة إنفاق الحكومة‪،‬‬
‫كان التصحيح أبطأ يف الكسادات األخرى‪.‬‬

‫ففي حني يحاول الجميع تع ُّلم الدرس من الكساد العظيم‪ ،‬إال أن مراجع‬
‫االقتصاد السائدة واملنترشة ال تَذ ُكر كساد عام ‪ ،1920‬وال تحاول معرفة ل َم ُ‬
‫صحِّ ح هذا‬
‫الكساد بالذات رسيعا ً‪ 15.‬لقد كان الرئيس آنذاك "وارن هاردينغ" ملتزما ً بالسوق الحرة‬
‫التزاما ً كبريا ً ورفض أن يستجيب لنداء االقتصاديني التدخليني‪ ،‬فتم تصفية االستثمارات‬
‫السيئة‪ ،‬وأُعيد توزيع اليد العاملة ورأس املال اللذين استُخدما يف هذه االستثمارات السيئة‬
‫وتم توجيههما إىل استثمارات جديدة برسعة كبرية‪ .‬فعادت البطالة إىل مستوياتها‬
‫دخل الحكومة الذي يزيد من الدمار الذي سببته‬ ‫الطبيعية رسيعا ً تحديدا ً بسبب غياب تَ ُّ‬
‫أصالً‪ .‬إن هذا األمر يعاكس تماما ً كل ما نصح به فريدمان وشوارتز‪ ،‬ولهذا السبب‪ ،‬فإن‬
‫هذا أيضا ً ال يُذكر يف عملهما‪.‬‬

‫والفصل األكثر شهرة يف الكتاب (والوحيد الذي يقرأه الناس عىل ما يبدو) هو‬
‫الفصل السابع‪ ،‬الذي يركز عىل الكساد العظيم‪ .‬يبدأ الفصل بعد انهيار سوق األوراق‬
‫املالية يف أكتوبر ‪ ،1929‬بينما ينتهي الفصل السادس يف عام ‪ .1921‬فكامل الفرتة بني‬
‫‪ 1921‬حتى أكتوبر ‪ ،1929‬والتي قد تتضمن أي أسباب للكساد العظيم‪ ،‬لم تستحق أية‬

‫‪ 14‬موري روثبارد‪ ،‬الكساد العظيم يف أمريكا‪ ،‬الطبعة اخلامسة‪ ،‬الصفحة ‪.186‬‬


‫‪ 15‬ميكن إجياد معاجلة دقيقة ممتازة هلذا الكساد يف كتاب جيمس غرانت‪ ،‬الكساد املنسي‪ :1921 :‬االهنيار الذي‬
‫َ‬
‫عاجل نفسه ( ساميون& شوسرت‪.)2104 ،‬‬

‫‪141‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫صفحة من ‪ 888‬صفحة يف الكتاب‪.‬‬

‫يذكر فريدمان وشوارتز بشكل مخترص فقط أن مستوى األسعار لم يرتفع‬


‫برسعة كبرية أثناء العرشينات‪ ،‬وبهذا استنتجا أن الفرتة لم تكن تضخمية وبالتايل ال‬
‫يمكن أن تكون أسباب الكساد تضخمية‪ .‬لكن عرشينات القرن املايض شهدت نموا ً‬
‫اقتصاديا ً رسيعا ً جداً‪ ،‬مما أدى إىل انخفاض يف األسعار‪ .‬ولقد كان هناك أيضا ً توسع‬
‫نقدي كبري‪ ،‬وكان سببه محاولة االحتياطي الفيدرايل األمريكي مساعدة مرصف إنجلرتا يف‬
‫كبح تدفق الذهب من عىل شواطئه‪ ،‬والذي تسبب به أيضا مرصف إنجلرتا من خالل قيامه‬
‫بعملية التضخيم بدال ً من ترك األجور لتتعدل باالنخفاض‪ .‬إن املحصلة النهائية الرتفاع‬
‫العرض النقدي والنمو االقتصادي الرسيع تمثلت بعدم ارتفاع مستوى األسعار بشكل‬
‫كبري‪ ،‬لكن أسعار األصول ارتفعت كثريا ً‪ -‬اإلسكان واألسهم بشكل أسايس؛ بحيث أن‬
‫بارتفاع يف أسعار السلع االستهالكية ألنه كان موجها ً‬
‫ٍ‬ ‫ارتفاع العرض النقدي لم يُرتجم‬
‫بشكل أسايس من قبل االحتياطي الفيدرايل لتحفيز أسواق اإلسكان واألسهم‪ .‬فازداد‬
‫العرض النقدي بنسبة ‪ %68.1‬بني عامي ‪ 1929-1921‬يف حني ازداد مخزون الذهب‬
‫بنسبة ‪ %15‬فقط‪ 16.‬إن هذه الزيادة الكبرية يف مخزون الدوالر مقارن ًة بمخزون الذهب‬
‫هي السبب األسايس وراء الكساد العظيم‪.‬‬

‫يجب أيضا ً ترشيف أب النقديني بالذكر‪" ،‬إرفينغ فيرش" الذي أمىض‬


‫العرشينات يف العمل عىل "اإلدارة العلمية ملستوى األسعار"‪ .‬فلقد تخيل فيرش أنه أثناء‬
‫زيادة الواليات املتحدة للعرض النقدي‪ ،‬فإن عملية جمعه املوسعة للبيانات واإلدارة‬
‫العلمية ستسمحان له بالسيطرة عىل نمو العرض النقدي وأسعار األصول ليضمن بقاء‬
‫مستوى األسعار مستقراً‪ .‬ففي السادس عرش من أكتوبر عام ‪ ،1929‬رصَّ ح فيرش بفخر‬
‫يف صحيفة "نيويورك تايمز" أن األسهم املالية وصلت إىل "درجة استقرار مرتفعة بشكل‬
‫دائم‪ 17".‬وبدأ انهيار سوق األسهم املالية يف الرابع والعرشين من أكتوبر ‪ ،1929‬ومع‬

‫‪ 16‬موراي روثبارد‪ ،‬الكساد العظيم يف أمريكا‪.‬‬


‫‪" 17‬يرى فيشر أن األسهم املالية مرتفعة واستقرت بشكل دائم‪ "،‬نيويورك اتميز‪ 16 ،‬أكتوبر‪ .1929 ،‬الصفحة‬
‫‪.8‬‬

‫‪142‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫زيادة عمق الكساد‪ ،‬لم ترجع سوق األسهم املالية إىل "درجة االستقرار املرتفعة بشكل‬
‫دائم" التي رصَّ ح عنها فيرش عام ‪ 1929‬حتى منتصف الخمسينات‪ ،‬أي بعد سنوات من‬
‫وفاة فيرش‪ .‬بالتايل ليس غريبا ً أن يَعترب ميلتون فريدمان الحقا ً أن إيرفينغ فيرش أهم‬
‫اقتصادي أنتجته أمريكا‪.‬‬

‫إن هذا االنهيار نتج بسبب التوسع النقدي يف العرشينات‪ ،‬والذي وَ لَّد فقاعة‬
‫ضخمة من الثروة الوهمية يف سوق األسهم املالية‪ .‬فعندما بدأ التوسع باالنخفاض‪ ،‬كان ال‬
‫بُ َّد من انفجار الفقاعة‪ ،‬وانفجار الفقاعة يعني أن هناك دوامة انكماشية ستختفي فيها‬
‫كل الثروة الوهمية التي كانت يف هذه الفقاعة‪ .‬ومع اختفاء الثروة‪ ،‬فإنه ال مفر من الذعر‬
‫املرصيف حيث ستعاني هذه املصارف للوفاء بالتزاماتها‪ .‬إن هذا األمر يكشف عن مشكلة‬
‫وجود نظام مرصيف جزئي احتياطي‪ -‬فهو كارثة ننتظر حدوثها‪ .‬نظرا ً إىل ذلك‪ ،‬كان‬
‫جديرا ً بالفيدرالية أن تَ ْض َمن إيداعات الناس بدال ً من أن تضمن خسائر األعمال واملشاريع‬
‫التجارية وسوق األسهم املالية‪ .‬فالحل الوحيد هو أن يتم ترك املصارف تعاني من هذا‬
‫بمفردها‪ ،‬والسماح بحدوث التصفية وانخفاض األسعار‪ .‬صحيح أن هذا الحل كان‬
‫سيتضمن ركودا ً مؤملا ً لكن لهذا السبب تماما ً لم يكن يجب أن يحصل توسع نقدي أصالً!‬
‫فمحاولة تجنب الركود بزيادة السيولة لن تؤدي إال إىل تفاقم الخلل الذي سبَّب األزمة‬
‫أساساً‪.‬‬

‫صنع التوسع النقدي ثروة وهمية أساءت تخصيص وتوزيع املوارد‪ ،‬وال‬ ‫فلقد َ‬
‫بُ َّد أن تختفي تلك الثروة كي ترجع السوق إىل العمل بشكل صحيح بآلية أسعار‬
‫صحيحة‪ .‬فتلك الثروة الوهمية هي من تَسبب باالنهيار أساساً‪ ،‬وإعادة تلك الثروة‬
‫الوهمية إىل مكانها األصيل هي ببساطة إعادة ترتيب بيت األوراق مجددا ً واالستعداد‬
‫لسقوط آخر أكرب وأقوى‪.‬‬

‫فبتجاهل الفرتة التي سبقت عام ‪ 1929‬وكأنه ال عالقة لها بانهيار سوق‬
‫األسهم املالية‪ ،‬استنتج فريدمان وشوارتز أن ردة فعل الفيدرالية املنخفضة عىل االنهيار‬
‫كانت هي سبب تحوله إىل الكساد العظيم‪ .‬فلو فتح االحتياطي الفيدرايل الحنفيات‬
‫النقدية ليُغرق النظام املرصيف بالسيولة برأيهما‪ ،‬لكانت خسائر سوق األسهم املالية أقل‬

‫‪143‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫أثرا ً بكثري عىل االقتصادات األوسع وملا ازداد الكساد‪ .‬ويف خضم فيضان البيانات‪ ،‬يتم‬
‫غض الطرف عن حقيقة أنه ردا ً عىل األزمة‪ ،‬تبنى االحتياطي الفيدرايل سياسة توسعية‪.‬‬
‫ويف حني حاول االحتياطي الفيدرايل تقليل نقص السيولة يف القطاع املرصيف‪ ،‬إال أنه لم‬
‫يستطع إيقاف االنهيار‪ ،‬ليس بسبب نقص اإلرادة‪ ،‬بل بسبب االنهيار واسع النطاق من‬
‫االستثمارات الرأسمالية التي أُيسء تخصيصها وتوزيعها‪ ،‬وبسبب السياسات التدخلية‬
‫الكبرية التي نوقشت يف الفصل الرابع‪.‬‬

‫لقد بقيت ثالث أسئلة مهمة دون أجوبة يف هذا العمل الضخم‪ ،‬األمر الذي‬
‫يكشف فجو ًة كبرية يف منطق هذا الكتاب‪ .‬أوالً‪ ،‬ملاذا يفتقر الكتاب إىل مقارنةٍ بني كسادَي‬
‫‪ 1920‬و‪1929‬؟ فلم يدم الكساد األول مدة طويلة بالرغم من أن املرصف الفيدرايل لم‬
‫يتدخل بالطريقة التي نصح بها الكاتبان‪ .‬ثانياً‪ ،‬ل َم ل ْم تعاني الواليات املتحدة من أزمة‬
‫مالية يف القرن التاسع عرش خالل الفرتة التي لم يكن فيها بنك مركزي‪ ،‬إال يف املرتني‬
‫عندما أمر الكونغرس وزارة الخزانة بأن تترصف كبنك مركزي‪ :‬أثناء الحرب األهلية‬
‫بطباعة الدوالر األخرض‪ ،‬ويف عام ‪ 1980‬بعد تحويل الفضة إىل نقد؟ ثالثا ً وهي النقطة‬
‫األهم‪ ،‬كيف تدبرت الواليات املتحدة أمرها خالل إحدى أطول فرتات النمو االقتصادي‬
‫املستقرة دون أية أزمة مالية بني عامي ‪ 1873‬و‪ 1890‬عندما لم يكن هناك بنك مركزي‬
‫عىل اإلطالق‪ ،‬حيث كان هناك قيود عىل العرض النقدي‪ ،‬واستمر مستوى األسعار‬
‫باالنخفاض؟ يذكر فريدمان وشوارتز تلك الفرتة بشكل عابر فقط‪ ،‬مشريين إىل أن‬
‫االقتصاد نما بشكل مذهل "بالرغم من" انخفاض مستوى األسعار‪ ،‬دون أن يعلقا كيف‬
‫حقيقة كهذه يمكن تجاهلها وذلك بسبب رعبهما من انخفاض مستوى األسعار‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أن‬

‫وكما رشح روثبارد‪ ،‬ال يوجد أي يشء متأصل يف عمل اقتصاد سوق يستمر يف‬
‫خلق مشكلة البطالة‪ ،‬بحيث ستشهد أعمال السوق الحرة الطبيعية خسارة الكثريين‬
‫لوظائفهم أو استقالتهم منها‪ ،‬وستُفلس أو تُغلق الكثري من األعمال واملشاريع التجارية‬
‫ألسباب عديدة جداً‪ ،‬لكن خسارة تلك الوظائف بالكاد ستُلغى مع الوظائف واألعمال‬
‫الجديدة التي سيتم إنشاؤها‪ ،‬مما سيؤدي إىل عدد صغري هاميش من األفراد العاطلني عن‬
‫العمل بشكل إلزامي يف أية نقطة من الزمن‪ .‬إن هذا األمر مشاب ٌه ملا كانت الحالة عليه‬
‫خالل السنوات التي لم يُنتهك فيها املعيار الذهبي يف القرن التاسع عرش‪ ،‬وكما كانت عليه‬

‫‪144‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫الحالة يف سويرسا قبل سنة ‪ .1992‬فتَالعُ ب البنك املركزي بالعرض النقدي ومعدل‬
‫الفائدة هو األمر الوحيد الذي من شأنه أن يجعل الفشل عىل مستوى واسع يف كل‬
‫قطاعات االقتصاد يف الوقت نفسه ممكناً‪ ،‬مما سيتسبب بموجات من البطالة الشاملة يف‬
‫صناعات بأكملها‪ ،‬ويرتك الكثري من العمال دون عمل يف الوقت نفسه‪ ،‬بمهارات ال يمكن‬
‫نقلها بسهولة إىل مجاالت أخرى‪ 18.‬وكما قال هايك‪" :‬مَ ن ْ ُع الحكومات الرشكات واملشاريع‬
‫الحق يف إنتاج أموال جيدة هو ما يسبب موجات من البطالة وليست ‘الرأسمالية‘‬ ‫َّ‬ ‫الحرة‬
‫‪19‬‬
‫هي من تسبب ذلك‪".‬‬

‫األساس السليم للتجارة‬


‫يف عا َلم النقد السليم‪ ،‬تدفقت السلع ورؤوس األموال بني البلدان املختلفة تقريبا ً بنفس‬
‫الطريقة التي كانت تتدفق فيها بني مناطق مختلفة من البالد ذاتها أي وفقا ً لرغبة‬
‫مالكيها الرشعيني ووفقا للمتفق عليه يف تبادل ذي نفع مشرتك‪ .‬وتحت حكم عملة‬
‫يوليوس قيرص الذهبية‪ ،‬أو تحت املعيار الذهبي ملرصف أمسرتدام يف القرن السابع عرش‪،‬‬
‫أو تحت املعيار الذهبي يف القرن التاسع عرش‪ ،‬كان نقل السلع ماديا ً من مكان إىل آخر‬
‫أكرب عقبة أمام التجارة‪ .‬وبالكاد كانت توجد تعاريف أو عوائق تجارية‪ ،‬وإن وُجدت‪،‬‬
‫كانت تتضمن قليال ً من الرسوم من أجل إدارة وصيانة نقاط العبور الحدودية واملوانئ‪.‬‬

‫أما يف عرص النقد غري السليم‪ ،‬كعرص انحدار أوروبا إىل النظام اإلقطاعي أو‬
‫انحدار العالم الحديث إىل التأميم النقدي‪ ،‬توقفت التجارة عن كونها حق لألفراد‬
‫املتاجرين وأصبحت مسألة ذات أهمية قومية‪ ،‬تحتاج إرشاف اإلقطاعيني أو الحكومات‬
‫التي تَدَّعي السيادة عىل األفراد املتاجرين‪ .‬وكان هذا التحول يف طبيعة التجارة مكتمالً‬
‫بشكل سخيف‪ ،‬لدرجة أن مصطلح التجارة الحرة يف القرن العرشين أصبح يشري إىل‬
‫التبادل الذي يُجرى بني فردين عرب الحدود‪ ،‬وفقا ً لقوانني اتفقت عليها حكوماتهما‪،‬‬

‫‪ 18‬اقرأ كتاب موراي روثبارد‪ ،‬الكساد االقتصادي‪ :‬أسبابه وعالجه (‪.)2009‬‬


‫‪ 19‬فريدريك هايك‪ ،‬إلغاء أتميم النقد (‪.)1976‬‬

‫‪145‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫وليس األفراد املعنيني!‬

‫فالتخيل عن املعيار الذهبي عام ‪ 1914‬بإيقاف وتقييد عملية تبديل النقد‬


‫الورقي بالذهب من قبل معظم الحكومات بدأ املرحلة التي سماها هايك "التأميم‬
‫النقدي"‪ .‬فلم تعد قيمة النقد وحدة ثابتة من الذهب الذي كان السلعة ذات أعىل نسبة‬
‫مخزون إىل التدفق‪ ،‬وبالتايل العرض األقل مرونة يف السعر‪ ،‬بحيث يمكن التنبؤ بقيمته‬
‫الثابتة نسبياً‪ .‬وبدال ً من ذلك‪ ،‬تأرجحت قيمة النقد مع تقلبات السياسة النقدية واملالية‬
‫باإلضافة إىل التجارة العاملية‪ .‬فمعدالت الفائدة املنخفضة أو العرض النقدي املتزايد‬
‫سيؤدي إىل انخفاض قيمة النقد‪ ،‬واألمر ذاته سيحدث مع إنفاق الحكومة الذي تموله‬
‫العاملَني تحت سيطرة‬‫ِ‬ ‫قروض البنك املركزي للحكومة‪ .‬ويف الوقت الذي كان فيه هذَين‬
‫الحكومات التي توهم نفسها عىل األقل بأنها تستطيع إدارتهما لتحقق الثبات‪ ،‬كان‬
‫العامل الثالث نتاج عملية معقدة من ترصفات كل املواطنني والعديد من األجانب‪ .‬فرتتفع‬
‫قيمة عملة دولة ما يف أسواق الرصف العاملية عندما تكون صادراتها أكرب من وارداتها‬
‫(فائض تجاري)‪ ،‬يف حني تنخفض قيمتها عندما تصبح وارداتها أكرب من صادراتها‬
‫صنَّاع السياسة هذا األمر إشار ًة للكف عن التالعب‬ ‫(عجز تجاري)‪ .‬وبدال ً من أن يَعترب ُ‬
‫بقيمة النقد وإعطاء الناس حرية استخدام السلعة األقل تقلبا ً يف القيمة كنقد‪ ،‬اعتربوه‬
‫دعوة للتدخل يف كل كبرية وصغرية يف التجارة العاملية‪.‬‬

‫فقيمة النقد التي يُفرتض أن تكون وحدة الحساب التي يُقاس وي ُخطط عىل‬
‫أساسها كل نشاط اقتصادي‪ ،‬انتقلت من كونها القيمة األقل تقلبا ً بالسوق إىل قيمة‬
‫تحددها سياسة ثالث أدوات حكومية‪ -‬السياسة النقدية‪ ،‬واملالية والتجارية‪ -‬وردود‬
‫ض مقياس‬ ‫أفعال األفراد غري املتوقعة عىل تلك األدوات السياسية‪ .‬فقرار الحكومات َف ْر َ‬
‫ض مقياس للطول وفقا ً لطول األفراد وطول ارتفاع‬ ‫للقيمة يماثل بمنطقه محاولتها َف ْر َ‬
‫األبنية يف أراضيها‪ .‬يمكن للمرء تخيل االرتباك الذي سيصيب كل املشاريع الهندسية إذا‬
‫كان طول املرت يتأرجح يوميا ً وفقا ً لترصيحات مكتب قياسات مركزي‪.‬‬

‫ف غرور املجانني وحده هو ما يتأثر بتغيري الوحدة التي يتم القياس بها‪،‬‬
‫فتقصري املرت قد يجعل من يمتلك بيتا ً مساحته ‪ 200‬مرت مربع يعتقد أنه ‪ 400‬مرت مربع‪،‬‬

‫‪146‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫لكنه سيبقى البيت ذاته‪ .‬فلن تؤدي إعادة تحديد املرت إال إىل تدمري قدرة املهندسني عىل‬
‫البناء بشكل جيد وتدمري قدرتهم عىل صيانة البيت‪ .‬باملثل‪ ،‬إن تخفيض قيمة العملة قد‬
‫يجعل الدولة أكثر ثراء ظاهرياً‪ ،‬أو قد يزيد القيمة الظاهرية (االسمية) لصادراتها‪ ،‬لكنه‬
‫لن يجعل الدولة أكثر ازدهاراً‪.‬‬

‫فاالقتصاد الحديث َش َّكل "الثالوث املستحيل" للتعبري عن محنة املرصفيني‬


‫املركزيني املعارصين‪ ،‬والتي تنص عىل اآلتي‪ :‬ال يمكن ألية حكومة أن تنجح بتحقيق‬
‫األهداف الثالثة من سعر رصف أجنبي ثابت‪ ،‬وتدفق رؤوس أموال حر وسياسة نقدية‬
‫مستقلة‪ .‬فإذا كان للحكومة سعر رصف أجنبي ثابت وتدفق رؤوس أموال حر‪ ،‬فال يمكن‬
‫أن يكون لديها سياسة نقدية خاصة بها‪ ،‬حيث أن تغيري معدل الفائدة سيؤدي إىل تدفق‬
‫رؤوس األموال إىل الداخل أو الخارج إىل الدرجة التي يصبح عندها من املستحيل الدفاع‬
‫عن سعر الرصف‪ ،‬وكلنا نعرف كم يحب االقتصاديون املعارصون أن يكون لديهم سياسة‬
‫نقدية كي "يديروا" االقتصاد‪ .‬لهذا‪ ،‬ال يمكن تحقيق سياسة نقدية مستقلة وسعر رصف‬
‫ثابت إال بحد تدفق رؤوس األموال‪ ،‬كما كان الوضع السائد بني عامي ‪ 1946‬و‪.1971‬‬
‫لكن حتى هذا األمر لم يستمر‪ ،‬حيث أصبح تدفق السلع هو الطريقة التي سيحاول بها‬
‫سعر الرصف تعويض اختالل التوازن بحيث تقوم بعض الدول بعمليات تصدير كثرية‬
‫وتقوم أخرى بعمليات استرياد كثرية مما أدى إىل مفاوضات سياسية إلعادة معايرة سعر‬
‫الرصف‪ .‬وال يمكن إيجاد أساس منطقي لتحديد نتائج تلك املفاوضات يف املنظمات‬
‫العاملية‪ ،‬وذلك ألن حكومة كل دولة ستحاول تحقيق مصالح مجموعاتها الخاصة‬
‫وستفعل كل ما يلزم لفعل هذا‪ .‬وبعد عام ‪ ،1971‬انتقلت غالبية دول العالم إىل الحفاظ‬
‫عىل سياسة نقدية مستقلة وتدفق رؤوس أموال حر لكن أسعار الرصف بني العمالت‬
‫ظلت عائمة‪.‬‬

‫ولقد سمح هذا التدبري لالقتصاديني الكينزيني باللعب بأدواتهم املفضلة‬


‫لـ"إدارة" االقتصاد مع الحفاظ أيضا ً عىل سعادة املؤسسات املالية العاملية وأصحاب‬
‫رؤوس األموال الكبرية‪ ،‬حيث أنها كانت مفيدة للغاية للمؤسسات املالية الكبرية‪ ،‬التي‬
‫خلقت سوق تبادل عمالت بقيمة تريليونات الدوالرات يومياً‪ ،‬ويتم فيها تبادل العمالت‬

‫‪147‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫والعقود اآلجلة‪ .‬لكن هذا التدبري غالبا ً ال يفيد أحداً‪ ،‬خاصة أصحاب املشاريع املنتجة حقا ً‬
‫والتي تقدم سلعا ً َقيِّمة للمجتمع‪.‬‬

‫ففي عالم تسوده العوملة بشكل كبري ويعتمد سعر رصف العمالت األجنبية فيه‬
‫عىل عدد كبري من املتغريات املحلية والعاملية‪ ،‬تُصبح عملية إدارة عمل أو مرشوع تجاري‬
‫مُنتِج أمرا ً صعبا ً دون أي مربر‪ .‬فغالبا ً ما تنتقل موارد ومنتجات رشكة ناجحة بني عدة‬
‫دول‪ ،‬وقرار كل عملية رشاء وبيع يعتمد عىل سعر الرصف بني الدول املعنية‪ .‬لهذا ويف هذا‬
‫غري سعر الرصف‬ ‫العالم‪ ،‬قد تعاني رشكة تنافسية للغاية من خسائر فادحة ملجرد تَ ُّ‬
‫بدولة أخرى‪ .‬فإذا شهدت دولة املُ ِو ّرد لرشكة ما ارتفاعا ً يف قيمة عملتها‪ ،‬فقد ترتفع‬
‫أسعار موارد هذه الرشكة بما يكفي لتدمر أرباحها‪ ،‬وقد يحدث اليشء ذاته إذا انخفضت‬
‫قيمة عملة السوق الرئييس الذي تُصدِّر إليه‪ .‬فالرشكات التي أمضت عقودا ً يف العمل عىل‬
‫ميزة تنافسية قد تشهد اختفاء تلك امليزة خالل ‪ 15‬دقيقة من تقلب سعر الرصف‬
‫األجنبي غري املتوقع‪ .‬وتُالم التجارة الحرة عىل هذا عادة‪ ،‬كما يستخدمها االقتصاديون‬
‫والسياسيون كعذر أيضا ً لفرض سياسات تجارية وقائية شائعة لكنها مدمرة‪.‬‬

‫بتدفق حر لرؤوس األموال‪ ،‬وإنشاء تجارة حرة قائمة عىل أساسات متزعزعة‬‫ٍ‬ ‫ف‬
‫من سعر رصف عائم ومتقلب كالرمال املتحركة‪ ،‬فإن نسبة كبرية من األعمال والرشكات‬
‫التجارية ومتخصيص الدولة ستضطر لالهتمام بتغريات قيمة العملة‪ .‬فكل عمل ومرشوع‬
‫تجاري يجب عندها أن يخصص مواردا ً وقوة برشية لدراسة قضية مهمة للغاية لكن‬
‫ليس له أي سيطرة عليها‪ .‬وبهذا‪ ،‬سيحاول املزيد من الناس تخمني ترصفات البنوك‬
‫املركزية‪ ،‬والحكومات الوطنية‪ ،‬وتغريات قيمة العملة‪ .‬وعادة‪ ،‬إن أدوات التخطيط املركزي‬
‫الدقيقة هذه وما يرافقها من طقوس ينتهي بها األمر بعرقلة النشاط االقتصادي‪ .‬وقد‬
‫تكون إحدى الحقائق األكثر إذهاال ً يف اقتصاد العالم الحديث هي حجم سوق الرصف‬
‫األجنبي مقارنة بالنشاط االقتصادي املنتج‪ .‬حيث أن مرصف التسويات الدولية‪ 20‬يُقدِّر‬
‫حجم سوق الرصف األجنبي بحوايل ‪ 5.1‬تريليون دوالر يف اليوم يف أبريل ‪ ،2016‬والتي‬

‫‪ 20‬مصرف التسوايت الدولية (‪ ،)2016‬استطالع البنك املركزي الذي َجيري كل ثالث سنوات‪ ،‬املبيعات‬
‫اإلمجالية لسوق الصرف األجنيب يف أبريل ‪.2016‬‬

‫‪148‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫تساوي حوايل ‪ 1,860‬تريليون دوالر يف السنة‪ .‬ويُقدِّر املرصف العاملي الناتج املحيل‬
‫اإلجمايل لكل دول العالم مجتمعة بحوايل ‪ 75‬تريليون دوالر يف عام ‪ ،2016‬أي أن سوق‬
‫الرصف األجنبي أكرب بحوايل ‪ 25‬مرة من كل اإلنتاج االقتصادي الذي يحدث يف الكوكب‬
‫بمجمله‪ 21.‬من املهم أن نتذكر هنا أن أسعار الرصف ليست عملية منتجة‪ ،‬ولهذا السبب ال‬
‫يُحتسب حجم ها يف إحصائيات الناتج املحيل اإلجمايل؛ ألنه ال يتم إنتاج قيمة اقتصادية يف‬
‫تحويل عملة إىل أخرى؛ إنه مجرد ثمن يُدفع لتجاوز املشقة الكبرية الناتجة عن وجود‬
‫عملة وطنية مختلفة لكل دولة‪ .‬فما أطلق عليه خبري االقتصاد هانز هرمان هوبه "نظام‬
‫عاملي من التبادل الجزئي"‪ 22‬عَ ْرب الحدود العاملية هو نطا ٌم يعيق قدرة التجارة العاملية‬
‫عىل إفادة الناس‪ ،‬متطلبا ً كمية كبرية من تكاليف التحويالت لتخفيف عواقبه‪ .‬بهذا األمر‪،‬‬
‫ال يُضيع العالم كميات كبرية من رأس املال واليد العاملة يف محاولة تجاوز هذه العقبات‬
‫فحسب‪ ،‬بل إن األعمال واملشاريع التجارية واألفراد يف أنحاء العالم أصبحت تواجه‬
‫خسائر كبرية متكررة ناجمة عن سوء الحسابات االقتصادية الذي يُسبّبه تقلب أسعار‬
‫الرصف‪.‬‬

‫ففي سوق حرة للنقد‪ ،‬سيختار األفراد العملة التي يريدون استخدامها‪،‬‬
‫والنتيجة هي أنهم سيختارون العملة ذات نسبة املخزون إىل التدفق املرتفعة املوثوقة‪،‬‬
‫بحيث يكون تقلب هذه العملة صغريا ً مع تغريات العرض والطلب‪ ،‬وبالتايل ستصبح‬
‫وسيطا ً للتبادل مطلوبا ً عاملياً‪ ،‬مما يسمح بأن تُجرى كل الحسابات االقتصادية‬
‫باستخدامها‪ ،‬لتصبح وحدة حساب منترشة عىل صعيد الزمان واملكان‪ .‬فكلما زادت قابلية‬
‫بيع السلعة‪ ،‬أصبحت ِ‬
‫مناسبة أكثر لهذا الدور‪ ،‬وكانت العملة الذهبية الرومانية‪ ،‬والعملة‬
‫البيزنطية‪ ،‬والدوالر األمريكي إىل حد ما أمثلة عىل هذا‪ ،‬بالرغم من أن لكل منها سلبياتها‪.‬‬
‫والذهب يف السنوات األخرية من املعيار الذهبي العاملي كان هو أكثر نقد اقرتب من تحقيق‬

‫‪ 21‬لقراءة املزيد عن هذا‪ ،‬اقرأ‪ :‬فضيحة النقد‪ :‬ملَ تتعاىف وول سرتيت لكن االقتصاد ال يتعاىف أبداً‪ ،‬جلورج جيلدر‬
‫(العاصمة واشنطن‪ ،‬ريغنري‪.)2016 ،‬‬
‫‪ 22‬هانز هرمان هوبه‪" ،‬كيف تكون العملة الورقية ممكنة؟" مراجعة االقتصاد النمساوي‪ ،‬اجمللد ‪ ،7‬رقم ‪2‬‬
‫(‪.)1994‬‬

‫‪149‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ذلك‪ ،‬رغم أنه حتى آنذاك بقيت بعض الدول واملجتمعات عىل النقد الفيض أو أشكال‬
‫بدائية أخرى‪.‬‬

‫وهذه حقيقة مذهلة من واقع الحياة العرصية أن رياديا ً يف سنة ‪ 1900‬كان‬


‫بإمكانه إجراء خطط وحسابات اقتصادية عاملية بشكل كيل وبأية عملة دولية يريد دون‬
‫التفكري نهائيا ً بتقلبات أسعار الرصف‪ .‬أما بعد مرور قرن‪ ،‬فإن ريادي أعمال مماثل‬
‫خطط اقتصادية خارج الحدود‪ ،‬سيواجه صفا ً من أسعار رصف متقلبة‬ ‫ٍ‬ ‫يحاول إجراء‬
‫بشدة قد تجعله يظن أنه دخل لوحة ل ِـ "سالفادور دايل"‪ .‬إن أي محلل عاقل ينظر إىل‬
‫هذه الفوىض سيستنتج أنه من األفضل ربط قيمة النقد بالذهب مجددا ً والتخلص من هذا‬
‫العرض البهلواني‪ ،‬وعندها يُحل الثالوث املستحيل بالتخلص من الحاجة إىل سياسة‬
‫نقدية تتحكم بها الحكومة‪ ،‬وبالتايل سنحصل عىل حركة رؤوس أموال حرة وتجارة حرة‪.‬‬
‫وسيصنع هذا وعىل الفور استقرارا ً اقتصاديا ً وسيحرر كمية كبرية من رأس املال واملوارد‬
‫إلنتاج سلع وخدمات َقيِّمة‪ ،‬بدال ً من التفكري بتقلبات أسعار الرصف املعقدة‪.‬‬

‫لكن ولألسف‪ ،‬إن للمسؤولني عن النظام النقدي الحايل مصلحة خاصة يف‬
‫استمراره‪ ،‬وبالتايل فضلوا إيجاد طرق إلدارته‪ ،‬وإيجاد طرق أكثر إبداعا ً لرفض املعيار‬
‫الذهبي‪ ،‬وهذا أمر مفهوم تماما ً وذلك ألن وظائفهم تعتمد عىل حكومة تستطيع طباعة‬
‫النقد لتكافئهم‪.‬‬

‫فتوليفة أسعار الرصف العائمة مع الفكر الكينيزي قدمت لعاملنا ظاهرة حديثة‬
‫تماما ً من حروب العمالت‪ :‬فالتحليل الكينيزي يقول أن زيادة الصادرات تؤدي إىل زيادة‬
‫الناتج املحيل اإلجمايل‪ ،‬والناتج املحيل اإلجمايل هو أعظم إنجاز لصحة وسالمة االقتصاد‪،‬‬
‫لذلك وبرأي الكينزيني‪ ،‬إن أي أمر يعزز الصادرات هو أمر جيد‪ .‬فأي دولة تواجه تباطؤا ً‬
‫يف االقتصاد فإنه يمكنها تعزيز ناتجها املحيل اإلجمايل وتعزيز العمالة بتخفيض قيمة‬
‫عملتها وزيادة صادراتها وذلك ألن العملة التي تنخفض قيمتها ستجعل الصادرات‬
‫أرخص‪.‬‬

‫يوجد الكثري من األمور الخاطئة يف هذه النظرة العاملية‪ ،‬فتخفيض قيمة العملة‬
‫ال يؤدي إىل زيادة منافسة الصناعات باملعنى الحقيقي‪ ،‬بل إنه يُقدم حسما ً ملرة واحدة‬

‫‪150‬‬
‫نظام املعلومات الرأسمالية‬

‫عىل منتجاتها‪ ،‬وبالتايل يعرضها عىل األجانب بسعر أرخص من املحليني‪ ،‬مؤديا ً إىل فقر‬
‫املحليني ودعم األجانب‪ .‬كما أنه يجعل كل أصول الدولة أرخص بالنسبة إىل األجانب‪ ،‬مما‬
‫يسمح لهم بالقدوم ورشاء األرايض‪ ،‬ورؤوس األموال‪ ،‬واملوارد يف الدولة مع حسم بالسعر‪.‬‬
‫طبَ يف رشاء األجانب ألصول محلية‪ ،‬لكن يف نظام‬ ‫ففي نظام اقتصادي ليربايل‪ ،‬ال َخ ْ‬
‫اقتصادي كينيزي‪ ،‬يُدعم األجانب بشكل نشط ليأتوا ويشرتوا الدولة بسعر زهيد‪ .‬ويُظهر‬
‫التاريخ االقتصادي أن معظم االقتصادات الناجحة يف مرحلة ما بعد الحرب‪ ،‬مثل أملانيا‪،‬‬
‫واليابان‪ ،‬وسويرسا‪ ،‬زادت صادراتها بشكل كبري مع استمرار ارتفاع قيمة عملتها‪ ،‬ولم‬
‫تكن يوما ً هذه الدول بحاجة إىل تخفيض قيمة العملة بشكل مستمر لتنمو صادراتها؛ بل‬
‫طورت ميزة تنافسية جعلت منتجاتها مطلوبة عاملياً‪ ،‬والتي أدت بالتايل إىل ارتفاع قيمة‬
‫عمالتها مقارنة برشكائهم التجاريني‪ ،‬مما زاد ثروة شعبها‪ .‬فإذا َف َّك َرت الدول املستوردة‬
‫منها أن بإمكانها تعزيز صادرتها بتخفيض قيمة العملة‪ ،‬فهذا األمر سيكون غري مثمر‪.‬‬
‫وهذه الدول ستدمر ثروة شعوبها إذا سمحت لألجانب برشاء هذه الثروة مع تخفيض‬
‫وحسم‪ .‬لهذا‪ ،‬لم يكن مصادفة أن الدول التي شهدت أكثر انخفاض يف قيمة عملتها يف‬
‫مرحلة ما بعد الحرب هي نفسها التي عانت من ركود وانحطاط اقتصادي‪.‬‬

‫لكن حتى وإذا كانت كل مشاكل تخفيض القيمة كطريقة لالزدهار هي غري‬
‫دقيقة‪ ،‬فهناك سبب بسيط لعدم قدرتها عىل النجاح‪ ،‬وهو‪ :‬إذا نجح أمر تخفيض العملة‬
‫وقامت كل الدول بتجربته‪ ،‬فسنتخفض قيمة كل العمالت ولن يكون ألية دولة أفضلية‬
‫عىل األخرى‪ ،‬ويصل هذا بنا إىل الوضع الراهن يف االقتصاد العاملي‪ ،‬حيث تحاول معظم‬
‫الحكومات تخفيض قيمة عمالتها كي تعزز صادراتها‪ ،‬وكلها تشتكي من تالعب‬
‫الحكومات األخرى "غري العادل" بعمالتها‪ .‬فتُسبِّب كل دولة فقر شعبها وبفعالية كي‬
‫تعزز صادراتها وترفع أرقام الناتج املحيل اإلجمايل‪ ،‬ثم تتذمر عندما تفعل مثلها دول‬
‫أخرى‪ .‬وال يضاهي الجهل االقتصادي إال َك ِذبَ وافرتاء السياسيني واالقتصاديني الذين‬
‫يرددون هذه الجمل كالببغاوات‪ ،‬حيث أنه يتم إجراء مؤتمرات اقتصادية عاملية يحاول‬
‫فيها قادة العالم التفاوض عىل تخفيض مقبول لقيمة العملة لكل منها‪ ،‬جاعلني قيمة‬
‫العملة قضية ذات أهمية جيوسياسية‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫بالطبع‪ ،‬لن يكون أي من هذا رضوريا ً إن استند العالم إىل نظام نقدي عاملي‬
‫سليم يعمل عامليا ً كوحدة حساب ومقياس للقيمة‪ ،‬سامحا ً للمنتجني واملستهلكني يف كل‬
‫أنحاء العالم بالحصول عىل تقييم دقيق لتكاليفهم وأرباحهم‪ ،‬مع فصل الربح االقتصادي‬
‫عن السياسة الحكومية‪ .‬فالنقد الصعب وبانتزاعه ملسألة العرض من أيدي الحكومات‬
‫ُجرب الجميع عىل أن يكونوا منتجني للمجتمع بدال ً من السعي‬
‫ومُروِّجيهم االقتصاديني سي ِ‬
‫وراء الثراء بطرق غبية كالتالعب بالنقد‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫الفصل السابع‬

‫النقد السليم واحلرية الشخصية‬

‫"تعتقد الحكومات أنه عندما يكون لها خيار بني فرض رضيبة بشكل إكراهي‬
‫وإلزامي وبني إنفاق مرغوب بشكل كبري‪ ،‬فهذا يعني أنه لديها طريق نجا ٍة‬
‫ومخرج‪ ،‬ويكون هذا الطريق ُممَثال ً بالطريق نحو التضخم املايل‪ ،‬وهذا األمر‬
‫ي ِّ‬
‫ُجسد معضلة االبتعاد عن املعيار الذهبي‪".‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬لودفيج فون ميزس‬

‫يف ظل نظام نقدي سليم‪ ،‬تؤدي الحكومة مهامها بطريقة ال تستطيع األجيال‬
‫وق ِع دورة أخبار القرن العرشين تصورها‪ :‬فوجب عىل هذه األجيال أن‬ ‫التي نشأت عىل ْ‬
‫مسؤولة مالياً‪ .‬فدون وجود بنك مركزي قادر عىل زيادة العرض النقدي لدفع‬ ‫ً‬ ‫تكون‬
‫ديون الحكومة‪ ،‬وجب عىل امليزانيات الحكومية االنصياع لقواعد املسؤولية املالية املعمول‬
‫بها والتي تنطبق عىل كل كيان طبيعي سليم‪ ،‬والتي حاولت القومية النقدية إلغاءها‬
‫وحاول التعليم الحكومي تشويهها‪.‬‬

‫وبالنسبة لشعوب الحارض التي نشأت عىل الحمالت الدعائية لحكومات القرن‬
‫ري من األحيان تصوُّر عالم‬
‫العرشين ذات السلطة غري املحدودة‪ ،‬فإنه من الصعب يف كث ٍ‬
‫تَحِ ل فيه الحرية الشخصية واملسؤولية الفردية محل سلطة الحكومة‪ ،‬ولكن كانت هذه‬
‫هي حالة العالم خالل أهم فرتات التقدم والحرية اإلنسانية‪ ،‬حيث اقترصت مهام الحكومة‬

‫‪ 1‬بيتينا بني غريفز‪ ،‬لودفيج فون ميزس يف كتابه املال والتضخم‪ :‬جتميع من عدة حماضرات‪ ،‬الصفحة ‪.32‬‬

‫‪153‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫عىل حماية الحدود الوطنية وامللكيات الخاصة والحريات الفردية‪ ،‬فأُتيح لألفراد ك ٌم هائل‬
‫من الحرية التخاذ قراراتهم الخاصة لجني الفوائد أو تحمل التكاليف‪ .‬أوالً‪ ،‬سنبدأ‬
‫بالتفكري بعني ناقدة للسؤال التايل‪ ،‬هل يجب أن تتوىل الحكومة مهمة تنظيم العرض‬
‫النقدي يف املقام األول؟ ثم ننتقل بعد ذلك للنظر يف عواقب األمور إذا تم تطبيق ذلك‪.‬‬

‫هل جيب عىل احلكومة إدارة العرض النقدي؟‬


‫إن الحيلة األساسية للحداثة تتمثل بالفكرة القائلة أن إدارة العرض النقدي هي من مهام‬
‫الحكومة‪ .‬فهذا افرتاض مبدأي ال جدال فيه لدى كل املدارس االقتصادية الفكرية‬
‫واألحزاب السياسية األكثر شيوعا ً رغم عدم وجود أي دليل واقعي يدعم هذا االدِّعاء‪ ،‬بل‬
‫وانتهت كل محاوالت إدارة هذا العرض النقدي بكارثة اقتصادية‪ .‬فإدارة العرض النقدي‬
‫هي املشكلة التي تَتَقنَّع وتَتَن َ َّكر بكونها هي الحل‪ ،‬فهي انتصار األمل العاطفي عىل املنطق‬
‫الصارم‪ ،‬وهي أساس جميع وجبات الغداء السياسية املجانية التي يتم بيعها للناخبني‬
‫الساذجني‪ .‬فهي تعمل كدواء إدماني ومُدمر للغاية مثل املخدرات أو السكر‪ ،‬فتمنح نشوةً‬
‫جميل ًة يف البداية وتخدع ضحاياها الذين يتملكهم شعور بالحصانة لكن بمجرد أن‬
‫يتالىش تأثريها‪ ،‬فإن نوبة االنسحاب تكون مُدمر ًة وتُرغِم ضحاياها عىل طلب املزيد‪،‬‬
‫وعندها يحني الوقت الذي يتحتم فيه اتخاذ القرارات الصعبة‪ :‬فإما تَحمُّ ل العذاب‬
‫واملعاناة جراء اإلقالع عن اإلدمان‪ ،‬أو تلقي رضبة أخرى وتأجيل الحساب إىل يوم آخر‬
‫والتعرض ألرضار أشد عىل املدى الطويل‪.‬‬

‫بالنسبة لالقتصاديني الكينزيني واملاركسيني وغريهم من أنصار نظرية إصدار‬


‫وإدارة الدولة للنقد‪ ،‬إن النقد هو ما تعتربه الدولة نقداً‪ ،‬وبالتايل فإنه من حق الدولة فعل‬
‫ما يحلو لها به‪ ،‬ويعني هذا حتما ً طباعته ليتم إنفاقه لتحقيق أهداف الدولة‪ .‬لهذا‪ ،‬إن‬
‫أهداف األبحاث االقتصادية هي تحديد أفضل طريقة لزيادة العرض النقدي وألية غايات‪.‬‬
‫لكن الحقيقة بأنه تم استخدام الذهب كنقد منذ آالف السنني حتى قبل أن يتم اخرتاع‬
‫كاف لهذه النظرية‪ .‬وال تزال البنوك املركزية‬‫ٍ‬ ‫الدول القومية‪ ،‬هي بحد ذاتها دحض‬
‫تحتفظ بكميات كبرية من احتياطي الذهب وتثابر عىل جمع كميات أكرب منه‪ ،‬وهذا يشهد‬

‫‪154‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫عىل الطبيعة النقدية الثابتة للذهب عىل الرغم من عدم قيام الحكومة بفرض التعامل به‪.‬‬
‫لكن أيا ً كانت املراوغات التاريخية التي يستخدمها أنصار نظرية إصدار وإدارة الدولة‬
‫للنقد أمام هذه الحقائق‪ ،‬فقد تم دحض نظريتهم أمام أعيننا يف العقد املايض من خالل‬
‫ً‬
‫مكانة نقدية وأرباحا ً تفوق معظم‬ ‫استمرار نجاح البيتكوين ونموه‪ ،‬حيث حقق البيتكوين‬
‫العمالت املدعومة من قبل الحكومة‪ ،‬وذلك بسبب قابليته املوثوقة للبيع بالرغم من عدم‬
‫‪2‬‬
‫وجود سلطة تفرض استخدامه كعملة متداولة‪.‬‬

‫يف الوقت الحايل‪ ،‬يوجد مدرستان رئيسيتان للفكر االقتصادي مُعتمَ دتان من‬
‫قبل الحكومة‪ :‬وهما املدرسة الكينزية واملدرسة النقدية‪ .‬ويف حني تمتلك هاتان املدرستان‬
‫منهجيات وأُطر تحليلية متباينة عىل نطاق واسع‪ ،‬وبالرغم من وقوعهما يف معارك‬
‫أ كاديمية مريرة يتهم كل منهما اآلخر بعدم االهتمام ألمر الفقراء‪ ،‬أو األطفال أو البيئة أو‬
‫عدم املساواة أو الصفات الطنانة "املنترشة يف الوقت الحارض"‪ ،‬إال أن كلتيهما يتفقان عىل‬
‫حقيقتني ال جدال فيهما‪ :‬أوالً‪ ،‬يتعني عىل الحكومة زيادة العرض النقدي‪ .‬ثانياً‪ ،‬تستحق‬
‫كلت ا املدرستني املزيد من التمويل الحكومي ملواصلة البحث عن إجابات ألسئلة هامة‬
‫للغاية ستؤدي بهم إىل إيجاد طرق أكثر إبداعا ً للوصول إىل الحقيقة األوىل‪.‬‬

‫ومن املهم فهم األسس املنطقية املختلفة للمدرستني الفكريتني من أجل فهم‬
‫متساو‪ .‬فكينز كان‬
‫ٍ‬ ‫كيفية وصول كلتيهما إىل النتيجة ذاتها وكونهما مخطئتني بقدر‬
‫مستثمرا ً فاشال ً وإحصائيا ً لم يدرس االقتصاد ولكنه كان عىل اتصال جيد جدا ً بالطبقة‬
‫حرج الذي كتبه يف كتابه األَشهَ ر "النظرية العامة‬
‫الحاكمة يف بريطانيا لدرجة أن الهراء املُ ِ‬
‫للتوظيف‪ ،‬واملال والفوائد" قد تم ترقيته عىل الفور ليصبح من الحقائق التأسيسية لعلم‬
‫بافرتاض غري ُمربَّر وال أساس له من الصحة‪ ،‬أن أهم‬ ‫ٍ‬ ‫االقتصاد الكيل‪ .‬فبدأت نظريته‬

‫‪ 2‬جون ماتونس‪" ،‬تدمري البيتكوين لنظرية إصدار وإدارة احلكومة للنقد"‪ ،‬جملة فوربس (‪ 2‬أبريل عام ‪)2013‬‬
‫متاح على املوقع‪:‬‬
‫‪https://www.forbes.com/sites/jonmatonis/2013/04/03/bitcoin-‬‬
‫‪obliterates-the-state-theory-of-money/#1d0d814c2274‬‬

‫‪155‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫مقياس يف تحديد حالة االقتصاد هو مستوى اإلنفاق الكيل يف املجتمع‪ .‬فعندما يقوم‬
‫املجتمع بشكل جماعي بالكثري من اإلنفاق‪ ،‬فإن هذا اإلنفاق سيحفز املنتجني عىل صناعة‬
‫املزيد من املنتجات‪ ،‬وبالتايل توظيف املزيد من اليد العاملة والوصول إىل توازن العمالة‬
‫الكاملة‪ .‬وإذا ارتفع اإلنفاق بشكل كبري لدرجةٍ يعجز فيها املنتجون عىل مواكبته‪،‬‬
‫إجمايل يف مستوى األسعار‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬فعندما‬
‫ٍ‬ ‫وارتفاع‬
‫ٍ‬ ‫فسيؤدي ذلك إىل التضخم‬
‫بإنفاق قليل‪ ،‬سيقوم املنتجون بتقليل إنتاجهم‪ ،‬وترسيح العمال فتزيد‬‫ٍ‬ ‫يقوم املجتمع‬
‫البطالة مما يؤدي إىل حدوث الركود‪.‬‬

‫إن حاالت الركود حسب كينز‪ ،‬تحدث بسبب االنخفاض املفاجئ يف مستوى‬
‫اإلنفاق الكيل‪ .‬وبما أن كينز لم يكن ماهرا ً جدا ً يف استيعاب مفهوم السببية وإيجاد‬
‫التفسريات املنطقية‪ ،‬فلم يكلف نفسه عناء رشح أسباب حدوث هذا االنخفاض املفاجئ يف‬
‫مستويات اإلنفاق‪ ،‬بل ابتكر تعبريا ً آخرا ً من تعابريه املجازية الخرقاء املشهورة التي ال‬
‫تحمل أي معنى لرييح نفسه من عناء التفسريات‪ .‬فلقد عزى السبب إىل فتور "أرواح‬
‫الحيوانات"‪ .‬وحتى يومنا هذا‪ ،‬ال أحد يعرف بالضبط ما هي هذه األرواح الحيوانية أو‬
‫ملاذا قد تفرت فجأ ًة‪ ،‬ولكن هذا بالطبع يعني أن ترسانة كاملة من االقتصاديني املُمَولني من‬
‫قبل الحكومة قد حققوا مسرية مهنية يف محاولة لتفسري هذه العبارة أو للعثور عىل‬
‫بيانات يف العالم الحقيقي قد ترتبط بها‪ .‬فكان هذا البحث إيجابيا ً للمهن األكاديمية‪ ،‬لكنه‬
‫يُعترب بال قيمة ألي شخص يحاول فهم الدورة االقتصادية‪ .‬بعبارة أكثر رصاحة‪ ،‬ال تُعترب‬
‫خزعبالت علم النفس الزائف‪ 3‬بديالً عن نظرية رأس املال‪.‬‬

‫وبعد تحرره من إيجاد سبب للركود‪ ،‬استطاع كينز بعدها أن يويص بالحل‬
‫الذي يبيعه‪ .‬فعن دما يحدث ركود أو ارتفاع يف مستوى البطالة‪ ،‬فالسبب هو انخفاض‬
‫مستوى اإلنفاق الكيل ويكون الحل بقيام الحكومة بتحفيز اإلنفاق‪ ،‬مما سيؤدي بدوره إىل‬
‫زيادة اإلنتاج وتقليل البطالة‪ .‬يجدر بنا اإلشارة إىل أنه هناك ثالث طرق لتحفيز اإلنفاق‬

‫‪ 3‬ويف نظرية رأس املال‪ ،‬ال تقبل بديالً لنظرية رأس املال النمساوية‪ ،‬كما شرح بوهيم ابورك‪ ،‬وميزس هايك‪،‬‬
‫وروثبارد هويرات دي سوتو‪ ،‬وسالرينو‪ ،‬وآخرين‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫الكيل‪ :‬زيادة العرض النقدي أو زيادة اإلنفاق الحكومي أو تخفيض الرضائب‪ .‬عموماً‪ ،‬إن‬
‫ً‬
‫فاعلية ألن‬ ‫طريقة تخفيض الرضائب مرفوضة من قبل الكينزيني وتُعترب الطريقة األقل‬
‫الناس لن تقوم بإنفاق كل الرضائب التي ال يجب عليهم دفعها‪ ،‬بل سيقومون بادخار‬
‫بعض هذه األموال‪ ،‬وبالطبع كينز يكره االدخار‪ .‬فاالدخار يؤدي إىل خفض اإلنفاق‪،‬‬
‫ُعترب انخفاض اإلنفاق أسوأ أمر يمكن تصوره لالقتصاد الذي يسعى للتعايف‬ ‫وي َ‬
‫واالنتعاش‪ .‬لهذا‪ ،‬كان دور الحكومة هو فرض التفضيل الزمني املرتفع عىل املجتمع من‬
‫خالل املزيد من اإلنفاق أو طباعة النقود‪ ،‬ونظرا ً إىل أنه من الصعب رفع الرضائب خالل‬
‫فرتة الركود‪ ،‬فإن اإلنفاق الحكومي سيُرتجَ م فعليا ً إىل زيادة العرض النقدي‪ .‬اعتُرب هذا‬
‫األمر حينها أعظم إنجاز كينزي والذي يقول‪ :‬إن لم يعمل االقتصاد بعمالة كاملة‪ ،‬فالحل‬
‫يكون بزيادة العرض النقدي‪ ،‬وليس هناك جدوى من القلق بشأن التضخم‪ ،‬ألنه كما‬
‫أظهر كينز بافرتا ٍض ال أساس له‪ ،‬إن التضخم يحدث فقط عندما يكون اإلنفاق مرتفعا ً‬
‫للغاية‪ ،‬وألن معدل البطالة يكون مرتفعا ً أيضاً‪ ،‬فهذا يعني أن اإلنفاق منخفض للغاية‪.‬‬
‫وقد تكون هناك عواقب عىل املدى الطويل‪ ،‬لكن ال جدوى من القلق بشأن هذه العواقب‬
‫طويلة األمد‪ ،‬ألنه "عىل املدى الطويل‪ ،‬سنكون كلنا موتى‪ . "4‬هذا هو دفاع كينز‬
‫الالمسؤول والساذج واألكثر شهرة عن التفضيل الزمني املرتفع‪.‬‬

‫إن النظرة الكينزية لالقتصاد بطبيعة الحال عىل خالف تام مع الواقع‪ .‬فإذا‬
‫كان نموذج كينز يحمل أي صحة‪ ،‬فهذا يعني بالرضورة عدم وجود مثال عىل مجتمع‬
‫يعاني من تضخم مرتفع وبطالة مرتفعة يف نفس الوقت‪ ،‬لكن حدث هذا يف الواقع عدة‬

‫‪ 4‬جاي‪ .‬إم‪ .‬كينز‪" ،‬السبيل حنو اإلصالح النقدي" الفصل الثالث‪ ،‬الصفحة ‪ .80‬من اجلدير ابلذكر أن الكينزيون‬
‫املعاصرون يرفضون تفسري هذا االقتباس على أنه يشري إىل قلق كينز على احلاضر على حساب املستقبل‪ .‬بدالً من‬
‫ذلك‪ ،‬جيادل الكينزيون مثل ساميون اتيلور أبن هذا يدل على إعطاء كينز األولوية ملعاجلة البطالة بشكل فوري‬
‫بدالً من القلق بشأن التهديد البعيد للتضخم‪ .‬إن هذا الدفاع لألسف ال يؤدي إال إىل فضح تالميذ كينز‬
‫املعاصرين بكوهنم مهتمني ابملدى القصري فقط‪ ،‬وهم جاهلني متاماً ابلواقع اجلوهري أبن السياسات التضخمية هي‬
‫ما يسبب البطالة يف املقام األول‪ .‬اقرأ‪( ،‬املعىن احلقيقي لـ"على املدى الطويل‪ ،‬سنكون كلنا موتى") متوفر على‬
‫املوقع‪http://www.simontaylorsblog.com/2013/05/05/the-true-meaning-‬‬
‫‪/of-in-the-long-run-we-are-all-dead‬‬

‫‪157‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫مرات‪ ،‬وعىل األخص يف الواليات املتحدة يف سبعينات القرن املايض بالرغم من تأكيدات‬
‫االقتصاديني الكينزيني عىل عدم حدوثه‪ ،‬ورغم تبني املؤسسة األمريكية بأكملها لنغمة‬
‫الفكر الكينزي من الرئيس نيكسون وصوال ً إىل ميلتون فريدمان ‪" -‬اقتصاد السوق‬
‫الحرة"‪" .‬نحن كلنا كينزيون اآلن" كما قيل باملؤسسة األمريكية حيث أخذت الحكومة‬
‫عىل عاتقها مهمة القضاء عىل البطالة عرب زيادة التضخم‪ ،‬ولكن مع هذا ظلت البطالة يف‬
‫ازدياد مع ارتفاع التضخم‪ ،‬مما أدى إىل دحض النظرية املشرية إىل وجود مقايضة بينهما‪.‬‬
‫ففي أي مجتمع عاقل‪ ،‬كان ينبغي إزالة فكر كينز من الكتب واملراجع االقتصادية‬
‫وحرصها يف عالم الكوميديا األكاديمية‪ ،‬ولكن يف مجتمع تسيطر فيه الحكومة عىل‬
‫الجامعات إىل درجة كبرية للغاية‪ ،‬واصلت الكتب التدريسية بالتبشري بنغمة الفكر‬
‫الكينزي الذي بَ َّرر طباعة النقد بشكل أكرب‪ .‬فامتالك القدرة عىل طباعة النقد‪ ،‬باملعنى‬
‫الحريف واملجازي‪ ،‬يزيد من قوة الحكومات‪ ،‬وتبحث كل الحكومات عن أي أمر يمنحها‬
‫املزيد من القوة‪.‬‬

‫صادق عليه‬ ‫ويف أيامنا هذه‪ ،‬إن املدرسة الرئيسية األخرى للفكر االقتصادي ا ُمل َ‬
‫من قبل الحكومة هي املدرسة النقدية‪ ،‬واألب الفكري لها هو ميلتون فريدمان‪ .‬وأفضل‬
‫طريقة لفهم أصحاب النظرية النقدية هي بتشبيههم بزوجات الكينزيني املُعَ نَّفات‪ ،‬فهن‬
‫موجودات لتوفري نسخة مبتذلة متساهلة من نظرية السوق الحرة وذلك لخلق مناخ‬
‫وهمي من النقاش الفكري‪ ،‬وليتم دحضهن بشكل دائم وشامل ملنع املثقفني الفضوليني‬
‫من التفكري جديا ً باألسواق الحرة‪ .‬والنسبة املئوية لالقتصاديني الذين هم يف الواقع من‬
‫طون‬‫أتباع النظرية النقدية هي نسبة ضئيلة باملقارنة مع نسبة الكينزيني‪ ،‬لكنهم يُع َ‬
‫مساحة كبرية جدا ً للتعبري عن أفكارهم كما لو كان الجانبَني متساويَني‪ .‬كما أن مؤيدو‬
‫النظرية النقدية يتفقون إىل حد كبري مع الكينزيني يف االفرتاضات األساسية للنماذج‬
‫الكينزية‪ ،‬لكنهم يجدون مفاهيم رياضية معقدة وغري مهمة ويطرحون بعض‬
‫االستنتاجات للنموذج‪ ،‬األمر الذي أدى دائما ً إىل تجرؤهم عىل اقرتاح تخفيف دور الحكومة‬
‫يف االقتصاد الكيل‪ ،‬مما يجعلهم يبدون عىل الفور كزعماء رأسماليني أرشار بال قلب وال‬
‫يهتمون للفقراء‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫عموماً‪ ،‬يعارض مؤيدو النظرية النقدية الجهود الكينزية بإنفاق النقود بهدف‬
‫القضاء عىل البطالة‪ ،‬بحجة أنه عىل املدى البعيد‪ ،‬سيصبح تأثري ذلك عىل البطالة معدوما ً‬
‫وسيتسبب بحدوث التضخم‪ ،‬وبدال ً من ذلك‪ ،‬يفضل مؤيدو املدرسة النقدية تخفيض‬
‫الرضائب لتحفيز االقتصاد‪ ،‬ألنهم يجادلون بأن السوق الحرة ستُخصص املوارد بشكل‬
‫أفضل من اإلنفاق الحكومي‪ .‬وبالرغم من احتداد هذا الجدال حول تخفيض الرضائب‬
‫وزيادة اإلنفاق‪ ،‬إال أن الحقيقة هي أن كلتا السياستني تؤدي إىل زيادة العجز الحكومي‬
‫الذي ال يمكن تمويله إال بالدَّين النقدي‪ ،‬وهو زيادة فعلية يف العرض النقدي‪ .‬مع هذا‪،‬‬
‫فالعقيدة واملبدأ األسايس للفكر النقدي هو الحاجة امللحة للحكومات ملنع االنهيارات يف‬
‫العرض النقدي و‪/‬أو االنخفاض يف مستوى األسعار‪ ،‬الذي يعتربونه أساس جميع‬
‫املشاكل االقتصادية‪ .‬فاالنخفاض يف مستوى األسعار‪ ،‬أو "االنكماش" كما يحب‬
‫الكينزيون ومؤيدو املدرسة النقدية تسميته‪ ،‬سيؤدي إىل ادخار الناس ألموالهم والحد من‬
‫إنفاقهم‪ ،‬مما يسبب زيادة يف البطالة ينتج عنه الركود‪ ،‬وأكثر ما يقلق مؤيدو املدرسة‬
‫النقدية هو أن االنكماش عاد ًة ما يكون مصحوبا ً بانهيارات يف امليزانيات العمومية‬
‫للقطاع املرصيف‪ .‬وألنهم ينفرون أيضا ً من فهم السبب والتأثري‪ ،‬فينتج عن ذلك ميل البنوك‬
‫املركزية لفعل أي يشء ممكن لضمان عدم حدوث هذا االنكماش أبداً‪ .‬أما بالنسبة للتفسري‬
‫الدقيق لرعب مؤيدي املدرسة النقدية من االنكماش‪ ،‬فابحثوا عن خطاب الرئيس السابق‬
‫للنظام االحتياطي الفيدرايل بن برنانكي يف عام ‪ 2002‬بعنوان "االنكماش‪ :‬التأكد من‬
‫‪5‬‬
‫عدم حدوثه هنا"‪.‬‬

‫إن مجموع مساهمات كلتا مدرستي الفكر هو الحصيلة التي يتم تدريسها يف‬
‫مقررات االقتصاد الكيل يف املرحلة الجامعية يف جميع أنحاء العالم‪ :‬فعىل البنك املركزي‬
‫السعي لزيادة العرض النقدي بوترية مُسيطر عليها لتشجيع الناس عىل إنفاق املزيد‪،‬‬
‫وبالتايل الحفاظ عىل مستوى البطالة منخفضا ً بما فيه الكفاية‪ .‬وإذا قلَّص البنك املركزي‬
‫العرض النقدي أو أخفق يف توسيع نطاقه بشكل مناسب‪ ،‬عندئذ يمكن حدوث دوامة‬
‫انكماشية‪ ،‬تؤدي إىل كبح الناس عن إنفاق أموالهم مما يلحق الرضر بنسبة العمالة‬

‫‪" 5‬مالحظات املدير بن إس‪ .‬برياننكي أمام اندي االقتصاديني الوطنيني" واشنطن‪ 21 ،‬نوفمرب عام ‪،2002‬‬
‫االنكماش‪ :‬والتأكد من عدم حدوثه هنا‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ويتسبب بحدوث االنكماش االقتصادي‪ .6‬فطبيعة تلك املناقشة التي يطرحها معظم علماء‬
‫االقتصاد والكتب التدريسية الشائعة تتجاهل اإلجابة عىل التساؤل إذا ما كان يجب أصال ً‬
‫زيادة العرض النقدي‪ ،‬وتفرتض أن زيادته هو أمر م َُسلَّم به‪ ،‬فيتجه النقاش لكيفية إدارة‬
‫البنوك املركزية لهذه الزيادة وتحديد معدالتها‪ .‬فعقيدة كينز‪ ،‬التي تحظى بشعبية عاملية‬
‫اليوم‪ ،‬هي عقيدة االستهالك واإلنفاق لتلبية االحتياجات الفورية‪ .‬وعرب زيادة العرض‬
‫النقدي بشكل مستمر‪ ،‬قامت السياسة النقدية للبنوك املركزية بجعل االدخار واالستثمار‬
‫أقل جاذبية وبالتايل شجعت الناس عىل تقليلهما وعىل اإلنفاق بشكل أكرب‪ .‬واألثر الحقيقي‬
‫لهذا األمر يتمثل يف انتشار ثقافة استهالك املظاهر أمام الناس‪ ،‬حيث يعيش الناس‬
‫حياتهم لرشاء كميات هائلة من الرتهات التي ال يحتاجونها‪ ،‬حيث أنه عندما يكون بديل‬
‫إنفاق األموال هو مشاهدة مدخراتك تفقد قيمتها بمرور الوقت‪ ،‬فحتما ً ستميل إىل‬
‫االستمتاع بإنفاقها قبل أن تفقد قيمتها‪ .‬يجدر اإلشارة إىل أن القرارات املالية التي يتخذها‬
‫األفراد تنعكس عىل جميع الجوانب األخرى من شخصياتهم‪ ،‬األمر الذي يُوَ لِّد حدوث‬
‫التفضيل الزمني املرتفع يف جميع جوانب الحياة‪ :‬فانخفاض قيمة العملة يؤدي إىل تقليل‬
‫االدخار‪ ،‬وزيادة االقرتاض وزيادة العمليات قصرية املدى يف اإلنتاج االقتصادي ويف‬
‫املساعي الفنية والثقافية‪ ،‬وربما األكثر رضراً‪ ،‬استنزاف الرتبة من موادها الغذائية‪ ،‬مما‬
‫يؤدي إىل وجود مستويات منخفضة جدا ً من املواد الغذائية يف الطعام‪.‬‬

‫عىل الجهة املقابلة من هاتني املدرستني الفكريتني نجد التقاليد الكالسيكية‬


‫لعلم االقتصاد والتي هي حصيلة مئات السنني من العلوم الدراسية من جميع أنحاء‬
‫العالم‪ .‬ي ُشار إىل هذه املدرسة اليوم باسم املدرسة النمساوية تكريما ً للجيل األخري من‬
‫علماء االقتصاد املنحدرين من النمسا يف عرصها الذهبي قبل الحرب العاملية األوىل‪،‬‬
‫وتعتمد هذه املدرسة عىل األعمال الكالسيكية لالقتصاديني األسكتلنديني والفرنسيني‬
‫واإلسبان والعرب واليونانيني القدماء يف توسيع فهمها لعلم االقتصاد‪ .‬وعىل عكس ولع‬
‫الكينزيني ومؤيدي النظرية النقدية بالتحليل الرقمي املتزمت واملغالطات الرياضية‪ ،‬تُر ِّكز‬

‫‪ 6‬اقرأ كتاب كامبيل مكونل‪ ،‬وستانلي برو‪ ،‬وشون فلني‪ ،‬علم االقتصاد (نيويورك‪ :‬مكغرو‪ -‬هيل عام ‪،)2009‬‬
‫الصفحة ‪.535‬‬

‫‪160‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫املدرسة النمساوية عىل تأسيس فهم الظواهر بطريقة سببية‪ ،‬وعن طريق التوصل‬
‫املنطقي لالستنتاجات من البديهيات الحقيقية الواضحة‪.‬‬

‫إن النظرية النمساوية للنقد تفرتض أن النقد يظهر يف السوق كأكثر السلع‬
‫أصل قابل للبيع‪ ،‬فهو األصل الوحيد الذي يمكن ملالكيه بيعه بكل‬
‫ٍ‬ ‫قابلية للتسويق وكأكثر‬
‫‪7‬‬
‫سهولة بظروف مناسبة لهم ‪ ،‬بحيث يتم تفضيل األصل الذي يحتفظ بقيمته عىل األصل‬
‫الذي يفقد قيمته‪ ،‬واملدخرون الذين يرغبون باختيار وسيط للتبادل سينجذبون بطبيعة‬
‫الحال لجمع األصول التي تحافظ عىل قيمتها كأصول نقدية مع مرور الوقت‪ .‬ويف نهاية‬
‫املطاف‪ ،‬النتيجة النهائية تعني أنه سيبقى أص ٌل واحد أو عدة أصول صالحة لالستخدام‬
‫كوسيط للتبادل‪ .‬فبالنسبة مليزس‪ ،‬إن غياب سيطرة الحكومة هو رشط رضوري للحفاظ‬
‫عىل سالمة النقد‪ ،‬حيث يرى أن الحكومة لديها إغراء لتحط من قيمة عملتها وتبدأ بجمع‬
‫الثروات عندما يبدأ املدخرون باالستثمار‪.‬‬

‫فمن خالل فرض حد أقىص عىل العرض الكيل للبيتكوين‪ ،‬كما سيتم مناقشته‬
‫يف الفصل الثامن‪ ،‬كان من الواضح عدم اقتناع "ناكاموتو" بحجج وبراهني كتب‬
‫االقتصاد الكيل القياسية وتأثره أكثر باملدرسة النمساوية التي تقول إن كمية النقد بحد‬
‫ذاتها هي أمر غري هام‪ ،‬وإن أي عرض نقدي سيكون كافيا ً لتشغيل وإدارة النظم‬
‫االقتصادية مهما كان حجمها‪ ،‬وذلك ألن وحدات العملة قابلة للقسمة بشكل ال نهائي‪،‬‬
‫وألن القوة الرشائية للنقود هي املهمة عىل صعيد السلع الحقيقية والخدمات‪ ،‬ال كميتها‬
‫العددية‪ .‬وكما قال لودفيج فون ميزس‪:8‬‬

‫إ َّن الخدمات التي تقدمها النقود مرتبطة بارتفاع قوة رشائها‪ ،‬فال أحد يريد أن‬
‫يكون يف مقتنياته النقدية عددا ً محددا ً أو وزنا ً محددا ً من النقود؛ بل يريد‬
‫الجميع أن تتضمن مقتنياتهم النقدية كمية محددة من القوة الرشائية‪ ،‬وبما أن‬
‫عمليات السوق تميل إىل تحديد الحالة النهائية لقوة النقد الرشائية بمقدار‬

‫‪ 7‬كارل مينغر‪ " ،‬حول أصول النقد" عام ‪.1892‬‬


‫‪ 8‬لودفيج فون ميزس‪ ،‬الفعل البشري عام ‪ ،1949‬الصفحة ‪.421‬‬

‫‪161‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫يتطابق فيه العرض النقدي مع مقدار الطلب عليه‪ ،‬فال يمكن أبدا ً أن يكون‬
‫هناك فائض أو عجز يف النقود‪ .‬بهذا‪ ،‬يتمتع الفرد وكل األفراد معا ً دائما ً باملزايا‬
‫التي يمكنهم جَ نْيُهَ ا من التبادل غري املبارش واستخدام النقد بغض النظر عما‬
‫إذا كانت الكمية اإلجمالية للنقد كبرية أو صغرية‪ ...‬فالخدمات التي يقدمها‬
‫النقد ال يمكن أن تتحسن أو تتدهور من خالل تغيري العرض النقدي‪ ...‬فكمية‬
‫النقد املتاحة يف االقتصاد كله هي دائما ً كافية لتُؤ ِّمن للجميع كل ما يفعله النقد‬
‫وما يستطيع فعله‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫يتفق موراي روثبورد مع ميزس ويقول‪:‬‬

‫إن العالَم الذي فيه العرض النقدي ثابت سيكون مشابها ً للمجتمعات يف معظم‬
‫القرنني الثامن عرش والتاسع عرش‪ ،‬حيث تميزت هذه املجتمعات بازدهار‬
‫الثورة الصناعية مع زيادة االستثمارات الرأسمالية‪ ،‬األمر الذي أدى إىل زيادة‬
‫عرض السلع وانخفاض أسعارها وتكاليف إنتاجها‪.‬‬

‫فوفقا ً للمدرسة النمساوية‪ ،‬إذا كان العرض النقدي ثابتاً‪ ،‬فإن النمو االقتصادي‬
‫سيؤدي إىل انخفاض أسعار السلع والخدمات الحقيقية‪ ،‬مما سيسمح للناس برشاء‬
‫كميات متزايدة من السلع والخدمات بأموالهم يف املستقبل‪ .‬وعال ٌم كهذا سيقوم بتثبيط‬
‫االستهالك الفوري كما يخىش الكينزيون‪ ،‬لكنه سيشجع عىل االدخار واالستثمار‬
‫للمستقبل الذي من املمكن أن يحدث فيه املزيد من االستهالك‪ .‬وبالنسبة ملدرسة فكرية‬
‫تميل بشكل كبري إىل التفضيل الزمني املرتفع‪ ،‬إنه أمر مفهوم أن كينز ال يستطيع إدراك‬
‫أن تأثري املدخرات املتزايدة عىل االستهالك يف أي لحظة آنية تتفوق عليه الزيادة يف اإلنفاق‬
‫الناتجة عن زيادة االدخار يف املايض‪ .‬فاملجتمع الذي يؤجل االستهالك دوما ً ينتهي به‬
‫املطاف بكونه مجتمعا ً يستهلك عىل املدى الطويل أكثر من مجتمع ذي مدخرات قليلة‪،‬‬
‫حيث أن املجتمع ذا التفضيل الزمني املنخفض يستثمر أكثر‪ ،‬وبهذا فإنه يزيد من نسبة‬

‫‪ 9‬موراي روثبورد‪" ،‬النظرية النمساوية للنقد" أسس علم االقتصاد النمساوي احلديث‪ ،‬عام ‪:1976‬‬
‫‪.184C160‬‬

‫‪162‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫دخل أفراده‪ .‬وحتى بوضع نسبة كبرية من دخلهم يف مدخراتهم‪ ،‬فإن مجتمعات التفضيل‬
‫الزمني املنخفض سينتهي بها األمر يف نهاية املطاف بمستويات أعىل من االستهالك عىل‬
‫املدى الطويل باإلضافة إىل مخزون رأسمايل أكرب‪.‬‬

‫فإذا كان املجتمع بمثابة الطفلة الصغرية يف تجربة املارشميلو‪ ،‬فإن االقتصاد‬
‫الكينزي يسعى إىل تغيري التجربة لكي يصبح االنتظار بمثابة عقاب للفتاة وذلك‬
‫بإعطائها نصف مارشميلو عوضا ً عن اثنتني‪ ،‬مما يجعل مفهوم السيطرة عىل النفس‬
‫والتفضيل الزمني املنخفض يظهران كأمر يأتي بنتائج عكسية‪ ،‬حيث أن إشباع امللذات‬
‫الفورية سيكون هو املسار األكثر احتماال ً من الناحية االقتصادية‪ ،‬وسينعكس ذلك عىل‬
‫الثقافة واملجتمع ككل‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬إن املدرسة النمساوية ومن خالل تبشريها‬
‫بالنقد السليم‪ ،‬فهي تدرك حقيقة املقايضة التي توفرها الطبيعة للبرش‪ ،‬وأنه إذا انتظرت‬
‫الطفلة‪ ،‬فستكون هناك مكافأة أكرب لها مما يجعلها أكثر سعادة عىل املدى الطويل‪،‬‬
‫وسيشجعها ذلك عىل تأجيل إشباع رغباتها لزيادة مكاسبها الحقاً‪.‬‬

‫فعندما ترتفع قيمة النقد‪ ،‬غالبا ً ما يكون الناس أكثر ذكا ًء فيما يتعلق‬
‫باستهالكهم وسيقومون بادخار املزيد من دخلهم للمستقبل‪ .‬فثقافة استهالك املظاهر‬
‫أمام الناس‪ ،‬واعتبار التسوق عالجا ً نفسياً‪ ،‬والحاجة املستمرة الستبدال الفضالت‬
‫البالستيكية الرخيصة بفضالت بالستيكية رخيصة أيضا ولكن أكثر حداثة وجمالية‪ ،‬إن‬
‫هذه األفكار لن يكون لها مكان يف مجتمع ترتفع قيمة عملته بمرور الوقت‪ .‬وعال ٌم كهذا‬
‫سيشجع الناس عىل خفض تفضيلهم الزمني‪ ،‬بحيث تكون قراراتهم النقدية هي من‬
‫يوجه أفعالهم نحو املستقبل‪ ،‬وبالتايل سيتعلمون تقدير املستقبل بشكل أكرب‪ .‬بهذا‪،‬‬
‫يمكننا أن نرى كيف يمكن ل ِِمث ْ ِل هذا املجتمع أن يدفع الناس ليس فقط نحو ادخار‬
‫واستثمار أكثر‪ ،‬ولكن ليكون أيضا ً موجها ً أخالقيا ً وفنيا ً وثقافيا ً نحو مستقبل بعيد املدى‪.‬‬

‫فالعملة التي ترتفع قيمتها هي عملة تحفز عىل االدخار بحيث تكتسب‬
‫املدخرات املزيد من القوة الرشائية بمرور الوقت‪ ،‬ولهذا فهي تشجع عىل تأجيل‬
‫االستهالك‪ ،‬مما يؤدي إىل حدوث التفضيل الزمني املنخفض‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬فالعملة‬
‫التي تنخفض قيمتها‪ ،‬هي عملة ترتك املواطنني ببحث مستمر عن استثمارات تأتي‬

‫‪163‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫بعائدات للتغلب عىل التضخم‪ ،‬وهي عائدات تأتي مع مخاطر‪ ،‬ويؤدي هذا إىل زيادة‬
‫االستثمار يف املشاريع الخطرية‪ ،‬وإىل زيادة قدرة املستثمرين عىل قبول املخاطر‪ ،‬وبالتايل‬
‫زيادة الخسائر‪ .‬فعاد ًة‪ ،‬املجتمعات التي تتمتع بنقد ذي قيمة مستقرة تتبع سياسة‬
‫التفضيل الزمني املنخفض‪ ،‬وتتعلم كيفية االدخار والتفكري يف املستقبل‪ ،‬أما املجتمعات‬
‫ذات معدالت التضخم املرتفعة واالقتصادات املتدهورة فتتبع سياسة التفضيل الزمني‬
‫املرتفع ألن الناس ستفقد اإلحساس بأهمية االدخار وسرتكز عىل امللذات الفورية‪.‬‬

‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬إن أي اقتصاد ذي عملة ترتفع قيمتها‪ ،‬هو اقتصاد لن يشهد‬
‫االستثمار إال يف املشاريع التي توفر عائدا ً حقيقيا ً إيجابيا ً عىل معدالت ارتفاع قيمة أسهم‬
‫رأس املال‪ ،‬مما يعني أنه سيتم فقط تمويل املشاريع التي يُتوقع منها أن تزيد رأس مال‬
‫املجتمع‪ .‬عىل النقيض من ذلك‪ ،‬إن اقتصادا ً ذا عملة تنخفض قيمتها هو اقتصاد يحفز‬
‫األفراد عىل االستثمار يف املشاريع التي تقدم فوائد إيجابية عىل صعيد قيمة العملة‬
‫املرتاجعة‪ ،‬لكن الفوائد الحقيقية ستكون سلبية‪ .‬فاملشاريع التي تتغلب عىل التضخم وال‬
‫تقدم فوائد حقيقية إيجابية هي مشاريع تقلل فعليا ً من مخزون رأس مال املجتمع‪،‬‬
‫ولكنها مع ذلك تُعتَ َرب بديالً منطقيا ً للمستثمرين ألنها تقلل من رؤوس أموالهم بشكل‬
‫أبطأ من انخفاض قيمة العملة‪ ،‬وهذه االستثمارات هي ما ي َِص ُفها لودفيج فون ميزس‬
‫باالستثمارات السيئة ‪ -‬وهي مشاريع عديمة الجدوى واستثمارات ال تبدو مربحة إال أثناء‬
‫فرتة التضخم وعندما تكون معدالت الفائدة منخفضة بشكل صنعي‪ ،‬والتي ستتكشف‬
‫خسارتها الحقا ً بمجرد انخفاض معدالت التضخم وارتفاع معدالت الفائدة‪ ،‬مما يتسبب‬
‫يف حدوث جزء الكساد من دورة االزدهار والكساد‪ .‬وكما يقول ميزس‪" ،‬يُبدد االزدهار‬
‫االقتصادي عوامل اإلنتاج الشحيحة من خالل االستثمارات السيئة‪ ،‬ويقلل من األموال‬
‫املتاحة عرب الزيادة املفرطة يف االستهالك؛ ليُد َفع ثمن فوائده ونِعمه املزعومة عرب‬
‫‪10‬‬
‫اإلفقار‪".‬‬

‫يساعد هذا التوضيح يف تفسري سبب تفضيل اقتصاديي املدارس النمساوية‬


‫استخدام الذهب كنقد بينما يدعم اقتصاديو املدرسة الكينزية إصدار الحكومة للنقود‬

‫‪ 10‬ليدوفيج فون ميزس‪ ،‬الفعل البشري عام ‪ ،1949‬الصفحة ‪.575‬‬

‫‪164‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫املرنة التي يمكن زيادتها بنا ًء عىل طلب الحكومة‪ .‬فبالنسبة ألتباع املدرسة الكينزية‪ ،‬إن‬
‫حقيقة استخدام كافة البنوك املركزية حول العالم للنقود الورقية تُمثِّل شهادة عىل تفوق‬
‫أفكارهم‪ .‬عىل الصعيد اآلخر‪ ،‬ترى املدرسة النمساوية يف لجوء الحكومة للتدابري القرسية‬
‫وفرض استخدام العمالت الورقية دليالً مبارشا ً عىل دونيَّة‬ ‫لحظر استخدام الذهب كنقد ْ‬
‫النقود الورقية وعجزها عن النجاح يف سوق حرة‪ ،‬كما أنها املُسبب الرئييس الزدهار‬
‫وانهيار جميع الدورات االقتصادية‪ .‬ويف حني أن االقتصاديني الكينزيني ليس لديهم أي‬
‫تفسري لسبب حدوث الركود سوى حجة "أرواح الحيوانات"‪ ،‬فقد طور اقتصاديو املدرسة‬
‫النمساوية النظرية الوحيدة املرتابطة واملتسقة والتي ترشح أسباب الدورات االقتصادية‪:‬‬
‫‪11‬‬
‫وهي النظرية النمساوية للدورة االقتصادية‪.‬‬

‫النقد غري السليم واحلرب األزلية‬


‫كما نوقش يف الفصل الرابع عن تاريخ النقد‪ ،‬لم تكن مجرد مصادفة أن تزامنت وبدأت‬
‫طر عليه من قبل البنوك املركزية‪.‬‬‫أول حرب عاملية يف التاريخ البرشي مع حقبة النقد املُسي َ‬
‫وهناك ثالثة أسباب رئيسية تسيطر عىل العالقة بني النقد غري السليم والحرب‪ .‬أوالً‪ ،‬النقد‬
‫غري السليم هو بمثابة حاجز للتجارة بني البلدان ألنه يزيف القيمة بني هذه البلدان‬
‫ويجعل تدفق التجارة مشكل ًة سياسي ًة‪ ،‬ويُولِّد العداء والخصومة بني الحكومات‬
‫والشعوب‪ .‬ثانيا ً‪ ،‬إن قدرة الحكومة عىل طباعة النقد تسمح لها بمواصلة القتال حتى‬
‫تدمري قيمة عملتها كلياً‪ ،‬وليس حتى نفاد النقود‪ .‬لكن ومع وجود النقد السليم‪ ،‬فإن‬
‫جهود الحكومة الحربية تَحدُّها وتقيدها قيمة الرضائب التي تستطيع الحكومة جمعها‪،‬‬
‫أما بالنسبة للنقد غري السليم‪ ،‬فاألمر مقيد بكمية النقود التي بإمكان الحكومة طباعتها‬
‫قبل أن تُدمَّ ر العملة مما يجعلها قادرة عىل مصادرة الثروات بشكل سهل‪ .‬ثالثاً‪ ،‬إن‬
‫األفراد الذين يستخدمون النقد السليم يميلون إىل إتِّباع سياسة التفضيل الزمني‬
‫املنخفض مما يسمح لهم بالرتكيز عىل التعاون عوضا ً عن النزاعات‪ ،‬كما نوقش يف الفصل‬

‫‪ 11‬اقرأ كتاب الكساد االقتصادي‪ :‬أسبابه وعالجه للكاتب موراي إن‪.‬روثبورد‪( ،‬معهد ليدوفيج فون ميزس‪ ،‬عام‬
‫‪.)2009‬‬

‫‪165‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الخامس‪.‬‬

‫فكلما ازداد حجم السوق الذي يستطيع األفراد التداول فيه‪ ،‬ازدادت قدرتهم‬
‫عىل التخصص يف إنتاجهم وازدادت أرباحهم من التجارة‪ .‬فكمية الجهود نفسها‬
‫املخصصة للعمل يف اقتصاد بدائي مكون من عرشة أفراد ستؤدي إىل مستوى معيشة أقل‬
‫بكثري مما سيكون لو بُذلت الجهود ذاتها يف أسوق أكرب مكونة من ألف أو مليون فرد‪.‬‬
‫فالفرد املعارص الذي يعيش يف مجتمع ذي تجارة حرة يستطيع العمل لعدة ساعات يوميا ً‬
‫يف عمل تخصيص للغاية‪ ،‬وبوساطة املال الذي يجنيه فإنه يستطيع رشاء السلع التي‬
‫يريدها من أي مُنتِج يف العالم بأكمله بأقل تكلفة وبأفضل نوعية‪ .‬ولتقدير املكاسب‬
‫الناتجة من التجارة التي ستعود بالنفع عليك‪ ،‬تخيل عَ يْش حياتك باكتفاء ذاتي‪ ،‬عندها‬
‫ستصبح مهمة البقاء األساسية مهمة صعبة بالنسبة ألي منا بحيث لن يتم استثمار‬
‫الوقت بشكل مثمر وفعال ألننا سنحاول تأمني احتياجاتنا األساسية‪.‬‬

‫فالنقد هو الوسيط الذي تتم به التجارة‪ ،‬وهو األداة الوحيدة التي تُم ِّكن‬
‫التجارة من التوسع خارج نطاق املجتمعات الصغرية ذات العالقات الشخصية الوثيقة‪.‬‬
‫بشكل سلي ٍم‬
‫ٍ‬ ‫ولكي تعمل آلية األسعار‪ ،‬يجب أن تكون هذه األسعار مُقوَّمة ومُ حتَ ً‬
‫سبة‬
‫عملة مشرتكة‪ ،‬أصبح‬ ‫ً‬ ‫بالنقد للمجتمع الذي يتاجر به‪ .‬وكلما َك ُربت املنطقة التي تستخدم‬
‫نطاق التجارة داخل هذه املنطقة أكرب وأكثر سهولة‪ ،‬وبهذا تخلق التجارة بني الشعوب‬
‫تعايشا ً سلميا ً من خالل منحهم مصلحة ثابتة يف ازدهار اآلخرين‪ .‬أما عندما تستخدم‬
‫املجتمعات أنواعا ً مختلف ًة من النقد السهل‪ ،‬تصبح التجارة أكثر تعقيداً‪ ،‬حيث تختلف‬
‫األسعار مع اختالف قيمة العمالت‪ ،‬مما يضيف صفة التقلب إىل التجارة ويجعلها يف كثري‬
‫من األحيان غري مثمرة يف حال تم التخطيط لنشاط اقتصادي عرب الحدود‪.‬‬

‫إن األفراد املُتَّ ِبعني لسياسة التفضيل الزمني املنخفض وبسبب ميلهم للرتكيز‬
‫عىل املستقبل فهم أقل عرضة لالنخراط يف الرصاع من أولئك الذين يميلون للرتكيز عىل‬
‫الحارض‪ .‬فالرصاع بطبيعته ُمد ِّمر‪ ،‬ويف معظم الحاالت‪ ،‬األفراد األذكياء والذين يميلون‬
‫للرتكيز عىل املستقبل يدركون أنه ال يوجد منترص يف الرصاعات العنيفة‪ ،‬وذلك ألن‬
‫املنترصين سيعانون عىل األرجح من خسائر أكثر مما لو كانوا قد امتنعوا عن املشاركة يف‬

‫‪166‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫الرصاع يف املقام األول‪ .‬واملجتمعات املتحرضة تعمل عىل أساس أن الناس يحرتمون إرادة‬
‫أحدهم اآلخر‪ ،‬وإذا كان هناك رصاعات‪ ،‬فإنهم سيحاولون التوصل إىل حلول سلمية‪ ،‬فإذا‬
‫لم يتم العثور عىل حلول سلمية‪ ،‬فمن املرجح أن يفرتق املتخاصمان ويتجنبان بعضهما‬
‫عوضا ً عن االستمرار بإزعاج اآلخر والبقاء يف حالة رصاع‪ .‬وهذا األمر يساعد عىل تفسري‬
‫عدم وجود الكثري من الجرائم أو العنف أو الرصاعات يف املجتمعات املتحرضة املزدهرة‪.‬‬

‫عىل املستوى الدويل‪ ،‬إن الدول التي تستخدم النقد السليم‪ ،‬من املرجح لها أن‬
‫تبقى يف حالة سلم‪ ،‬أو أن يكون الرصاع فيها بحده األدنى‪ ،‬وذلك ألن النقد السليم يضع‬
‫قيودا ً حقيقي ًة عىل قدرة الحكومات يف تمويل عملياتها العسكرية‪ .‬ففي أوروبا يف القرن‬
‫جرب امللوك الذين أرادوا قتال بعضهم البعض عىل فرض رضائب عىل‬ ‫التاسع عرش‪ ،‬أ ُ ِ‬
‫شعوبهم من أجل تمويل جيوشهم‪ .‬وعىل املدى الطويل‪ ،‬قد تكون اسرتاتيجية كتلك مربحة‬
‫ظف امللوك قواهم العسكرية بشكل دفاعي‪ ،‬وليس بشكل هجومي‪ .‬حيث‬ ‫فقط يف حال و َّ‬
‫أن العمل العسكري الدفاعي يحظى دائما ً بميزة أقوى من الطبيعة العسكرية الهجومية‪،‬‬
‫وذلك ألن املدافع يقاتل عىل أرضه وترابه‪ ،‬بالقرب من شعبه وخطوط إمداده‪ .‬فالحاكم‬
‫الذي يركز جيوشه عىل العمل الدفاعي سيجد شعبه عىل استعداد لدفع الرضائب للدفاع‬
‫عن أنفسهم أمام الغزاة األجانب‪ ،‬لكن الحاكم الذي يشارك يف مغامرات خارجية مطولة‬
‫إلثراء نفسه‪ ،‬فمن األرجح أن يستاء شعبه منه وأن يتحمل تكاليف باهظة يف محاربة‬
‫جيوش أخرى وهم عىل أرضهم‪.‬‬

‫يمكن أن يساعدنا هذا يف تفسري سبب كون القرن العرشين القرن األكثر دموية‬
‫يف التاريخ‪ ،‬فتقرير األمم املتحدة للتنمية البرشية‪ 12‬لعام ‪ 2005‬حلل الوفيات الناجمة من‬
‫الرصاعات عىل مدى القرون الخمسة املاضية‪ ،‬ووجد أن القرن العرشين هو أكثرها‬
‫دموية‪ .‬فحتى عندما دخلت الدول األوروبية الكربى يف حرب مع بعضها البعض يف حقبة‬ ‫ً‬
‫املعيار الذهبي‪ ،‬كانت تلك الحروب عاد ًة قصرية وحوربت يف ساحات القتال بني الجيوش‬
‫املحرتفة‪ .‬فالحرب الرئيسية يف القرن التاسع عرش يف أوروبا كانت هي الحرب الفرنسية ‪-‬‬
‫الربوسية املمتدة بني العامني ‪ ،1871-1870‬والتي استمرت ملدة ‪ 9‬أشهر ُ‬
‫وقتل فيها‬

‫‪ 12‬تقرير التنمية البشرية يف عام ‪( 2005‬نيويورك‪ :‬برانمج األمم املتحدة للتنمية البشرية عام ‪.)2005‬‬

‫‪167‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫حوايل ‪ 150,000‬شخص‪ ،‬وهذا العدد قريب من متوسط عدد الوفيات األسبوعية يف‬
‫الحرب العاملية الثانية املمولة من حكومات القرن العرشين وعمالتها السهلة‪ .‬لكن وألن‬
‫ض قيودا ً عليهم يف تمويل الحرب من الرضائب‪ ،‬كان عىل الحكومات‬ ‫املعيار الذهبي َف َر َ‬
‫األوروبية تجهيز نفقاتهم قبل املعركة‪ ،‬وأن تنفقها يف تجهيز جيوشها بأكرب فعالية‬
‫ممكنة‪ ،‬وأن تحاول تحقيق نرص حاسم‪ .‬وحاملا يبدأ تيار املعركة باالنقالب عىل أحد‬
‫الجيوش‪ ،‬تصبح املعركة خارسة من الناحية اللوجستية واالقتصادية عند محاولة زيادة‬
‫الرضائب إلعادة تسليح الجيش وتحويل مسار املعركة‪ ،‬ويف هذه الحالة من األفضل‬
‫التفاوض إلقرار السالم مع أقل قدر ممكن من الخسائر‪ .‬وكانت الحروب النابليونية هي‬
‫األكثر دموية يف القرن التاسع عرش‪ ،‬حيث حدثت قبل اعتماد املعيار الذهبي رسميا ً يف‬
‫جميع أنحاء القارة‪ ،‬بعد التجارب الحمقاء التي قامت بها الثورة الفرنسية مع التضخم‪.‬‬
‫(انظر الجدول ‪.13)5‬‬

‫اآلن‪ ،‬ويف جميع االقتصادات املتقدمة بشكلها الحايل‪ ،‬يتخصص عدد كبري من‬
‫الرشكات يف الحروب كعمل تجاري‪ ،‬وهي تعتمد عىل استمرار هذه الحروب إلبقاء عملها‪.‬‬
‫فهي تعيش عىل اإلنفاق الحكومي بشكل حرصي‪ ،‬وكامل أمر استمراريتا ووجودها يعتمد‬
‫عىل وجود حروب دائمة تتطلب إنفاقا ً متزايدا ً عىل األسلحة‪ .‬ففي الواليات املتحدة‪ ،‬ميزانية‬
‫الدفاع تساوي تقريبا ً مجموع امليزانيات لجميع الدول األخرى عىل الكوكب‪ ،‬ولتلك‬
‫الرشكات مصلحة كبرية يف اإلبقاء عىل الحكومة األمريكية مشارك ًة يف شكل من أشكال‬
‫املغامرات العسكرية أو ما شابه‪ .‬إن هذا األمر‪ ،‬أكثر من أي عمليات اسرتاتيجية أو ثقافية‬
‫أو أيديولوجية أو عمليات أمنية‪ ،‬يفرس سبب تورط الواليات املتحدة يف العديد من‬
‫الرصاعات يف أجزاء من العالم بحيث ال يمكن أن يكون لها أي تأثري عىل حياة األمريكي‬
‫العادي‪ .‬إنه وفقط عرب النقد غري السليم‪ ،‬يمكن لهذه الرشكات أن تنمو إىل ذلك الحجم‬
‫الهائل بحيث يمكنها التأثري عىل الصحافة‪ ،‬واألوساط األكاديمية‪ ،‬واملراكز البحثية‬
‫للتشجيع الدائم عىل قرع طبول حرب أخرى‪.‬‬

‫‪ 13‬املصدر‪ :‬تقرير التنمية البشرية من برانمج التنمية لألمم املتحدة (عام ‪.)2005‬‬

‫‪168‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫الجدول ‪ :5‬الوفيات الناجمة عن الرصاعات يف آخر خمسة قرون‬

‫احلكومات ذات السلطة املحدودة مقابل احلكومات ذات السلطة‬


‫املطلقة‬
‫يف تاريخه الشامل لخمسة قرون من الحضارة الغربية‪" ،‬من الفجر إىل االنحطاط"‪ ،‬حَ دَّد‬
‫"جاك بارزون" نهاية الحرب العاملية األوىل كنقطة تحول حاسمة لبدء االنحطاط‬
‫والتدهور وزوال الغرب‪ .‬فبعد هذه الحرب‪ ،‬عانى الغرب مما وصفه بارزون ب ِـ "التحول‬
‫العظيم"‪ ،‬وهو استبدال الليربالية بالتحرر‪ ،‬فهو ذلك املحتال الذي يَدَّعِ ي شيئا ً ولكنه يف‬
‫ً ‪14‬‬
‫الواقع عكسه تماما‪.‬‬

‫انترصت الليربالية بناء عىل املبدأ القائل بأن أفضل الحكومات هي أقلها حكماً؛‬
‫أما اآلن عىل صعيد الدول الغربية‪ ،‬فالحكمة السياسية لهذه الدول قامت بإعادة‬
‫فكرة التحرر إىل الليربالية‪ ،‬فوضع هذا التحول املفردات بحالة من الفوىض‪.‬‬

‫‪ 14‬جاك ابرزون‪ ،‬كتاب "من الفجر إىل االحنطاط"‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ففي حني قامت الليربالية بدور الحكومة وذلك بالسماح لألفراد بالعيش بحرية‬
‫وباالستمتاع بمزايا أفعالهم وتحمل عواقبها‪ ،‬اُعترب التحرر فكرة راديكالية تشري إىل أن‬
‫دور الحكومة يتمحور حول السماح لألفراد باالنخراط يف رغباتهم وحمايتهم من‬
‫العواقب‪ .‬فعىل الصعيد االجتماعي واالقتصادي والسيايس‪ ،‬تم إعادة صياغة دور الحكومة‬
‫وكأنها الجنِّي املانح لألمنيات‪ ،‬وما عىل السكان سوى التصويت عىل األماني املُراد‬
‫تحقيقها‪.‬‬

‫وحدَّد املؤرخ الفرنيس "إييل هاليفي" عرص االستبداد بأنه قد بدأ عام ‪1914‬‬
‫مع بداية الحرب العاملية األوىل‪ ،‬عندما انتقلت القوى الكربى يف العالم نحو التأميم‬
‫االقتصادي والفكري‪ .‬فلقد قاموا بتأميم وسائل اإلنتاج وبدؤوا باستخدام صيغ نقابية‬
‫ومؤسساتية يف منظومة املجتمع‪ ،‬وقد حدث كل ذلك أثناء قيامهم بقمع األفكار التي تُعترب‬
‫‪15‬‬
‫ضد املصلحة الوطنية باإلضافة إىل تعزيز القومية يف ما أسماه "تنظيم الحماس"‪.‬‬

‫فاملفهوم الليربايل الكالسيكي للحكومة ال يمكن تحقيقه إال يف عالم يستخدم النقد السليم‬
‫والذي كان بمثابة قيد طبيعي عىل تجاوزات الحكومة واستبدادها‪ .‬فطاملا كان عىل‬
‫الحكومة فرض رضائب عىل مواطنيها لتمويل عملياتها‪ ،‬وجب عليها تقييد هذه العمليات‬
‫بما يعتربه مواطنوها مقبوالً‪ ،‬ووجب عليها املحافظة عىل ميزانية متوازنة عرب إبقاء‬
‫االستهالك ضمن حدود دخل الرضائب‪ .‬ففي مجتمع يستخدم النقد السليم‪ ،‬تعتمد‬
‫الحكومة عىل موافقة سكانها لتمويل عملياتها‪ ،‬وعند طرح أي مرشوع حكومي جديد‪،‬‬
‫سيتعني جَ مْ ُع تكاليفه مُسبقا ً من الرضائب أو بيع السندات الحكومية طويلة األمد‪ ،‬مما‬
‫يمنح السكان مقياسا ً دقيقا ً للتكاليف الحقيقية لهذه االسرتاتيجية‪ ،‬والتي تم ِّكنهم‬
‫بسهولة من املقارنة بينها وبني الفوائد‪ .‬لهذا‪ ،‬إن الحكومة التي تبحث عن تمويل منطقي‬
‫ً‬
‫صعوبة تُ ْذ َكر يف فرض‬ ‫من أجل الدفاع القومي ومشاريع البنية التحتية لن تواجه‬
‫الرضائب وبيع السندات للسكان الذين يستطيعون رؤية املزايا بأم أعينهم‪ ،‬لكن الحكومة‬

‫‪ 15‬إيلي هاليفي وماي واالس‪ ،‬كتاب‪" :‬عصر االستبداد"‪ ،‬الوضع االقتصادي‪ ،‬سلسلة جديدة‪ ،‬اجمللد الثامن الرقم‬
‫‪( 29‬فرباير عام ‪ :)1941‬الصفحة ‪ 77‬إىل الصفحة ‪.93‬‬

‫‪170‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫التي ترفع الرضائب لتمويل نمط الحياة الفخم للحُكام ستولِّد استيا ًء عاما ً بني السكان‬
‫مما يُعَ ِّرض رشعية حكمها للخطر ويزيد من عدم استقراره‪ .‬فكلما ازدادت رضائب‬
‫الحكومة املُرهِ قة وتدابريها املفروضة‪ ،‬ازداد احتمال رفض السكان دفع الرضائب‪،‬‬
‫وازدادت تكاليف تحصيل الرضائب بشكل أكرب‪ ،‬ولربما يؤدي ذلك إىل االحتجاج ضد‬
‫الحكومة الستبدالها‪ ،‬سواء عن طريق االقرتاع أو العنف‪.‬‬

‫وبهذا‪َ ،‬ف َرض النقد السليم عىل الحكومات الترصف بشفافية وصدق‪ ،‬وحَ رص‬
‫ُحكمها ضمن ما يريض السكان وما يستطيعون تحمل تكاليفه‪ ،‬فقد سمح بمحاسبةٍ‬
‫مجتمعيةٍ صادقة وشفافة للتكاليف والفوائد الحقيقية لألعمال واملشاريع‪ ،‬فضالً عىل‬
‫املسؤولية االقتصادية الالزمة ألي منظمة أو فرد أو كائن حي للنجاح يف الحياة‪:‬‬
‫فاالستهالك يجب أن يحصل بعد اإلنتاج‪.‬‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬يسمح النقد غري السليم للحكومات برشاء الوالء والشعبية من‬
‫خالل اإلنفاق لتحقيق األهداف الشعبية دون الحاجة إىل إعالم شعوبها بالتكاليف‪.‬‬
‫فببساطة‪ ،‬تقوم الحكومة بزيادة العرض النقدي لتمويل أي مخطط طائش تقوم‬
‫بتلفيقه‪ ،‬وال يدرك السكان التكلفة الحقيقية ملثل هذه املخططات إال يف السنوات التالية‬
‫عندما يؤدي تضخم العرض النقدي إىل ارتفاع األسعار‪ .‬ويف تلك النقطة يمكن عزو‬
‫أسباب انهيار قيمة العملة إىل عوامل ال تُعَ ُّد وال تحىص‪ ،‬تتضمن عاد ًة مؤامرات خبيثة من‬
‫قبل األجانب‪ ،‬واملرصفيني واألقليات العرقية املحلية أو الحكومات السابقة أو املستقبلية‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬يُعترب النقد غري السليم أداة خطرية يف أيادي الحكومات الديمقراطية الحديثة التي‬
‫تواجه بشكل مستمر ضغط إعادة االنتخاب‪ .‬كما أنه ليس من املرجح أن يُفضل الناخبون‬
‫العرصيون املرشحني الرصيحني بشأن تكاليف مخططاتهم وفوائدها؛ فهم عىل األرجح‬
‫سيختارون أولئك األوغاد الذين يَعِ دونهم بغداء مجاني ثم يلقون لوم التكاليف عىل من‬
‫وَهما ً‬
‫سبقوهم أو عىل بعض املؤامرات الشنيعة‪ .‬بهذه الطريقة‪ ،‬تصبح الديمقراطية ْ‬
‫جماعيا ً لألشخاص الذين يحاولون تجاوز قواعد االقتصاد عن طريق التصويت ملن يقدم‬
‫لهم وجبة غداء مجانية ويخدعهم لالحتجاج العنيف ضد كبش فداء حينما تصل فاتورة‬
‫الغداء املجاني عىل شكل تضخم وركود اقتصادي‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫فالنقد غري السليم يقع يف قلب الوهم الحديث الذي يؤمن به معظم الناخبون‬
‫ومن شاء حظهم العاثر دراسة االقتصاد الكيل الحديث عىل املستوى الجامعي‪ :‬فاإلجراءات‬
‫الحكومية ليس لديها تكاليف الفرص البديلة حيث يمكن للحكومة تحريك عصاها‬
‫السحرية الخارقة لبناء الواقع الذي تريده‪ ،‬سواء أكان ذلك عىل صعيد الحد من الفقر أو‬
‫فرض األخالق أو الرعاية الصحية أو التعليم أو البنية التحتية أو إصالح املؤسسات‬
‫السياسية واالقتصادية يف الدول األخرى أو تجاوز قواعد العرض والطلب عىل أي سلعة‬
‫مهمة عاطفياً‪ .‬فمعظم املواطنني الحاليني يعيشون يف أرض أحالم وهمية ال يوجد فيها‬
‫تكلفة ألي يشء من هذه األشياء‪ ،‬وكل ما هو مطلوب لتحقيق هذه األهداف هو "اإلرادة‬
‫السياسية" و"القيادة القوية" وغياب الفساد‪ .‬فلقد قىض النقد غري السليم عىل فكرة‬
‫املقايضات وعىل تكاليف الفرصة البديلة من عقول األفراد الذين يفكرون يف الشؤون‬
‫العامة‪ ،‬وسيُصدم املواطن العادي من إعالمه بما هو واضح وبديهي‪ :‬إن كل هذه األشياء‬
‫الجميلة التي تريدها ال يمكن تحقيقها دون تكلفة من قبل السيايس املفضل لديك أو حتى‬
‫من خصمه‪ ،‬بل يجب تحقيقها جميعها من قبل أشخاص حقيقيني – وهم أشخاص‬
‫عليهم االستيقاظ يف الصباح الباكر وقضاء أيامهم وسنواتهم بالعمل بجد إلعطائك ما‬
‫تريده‪ ،‬وحرمان أنفسهم من فرصة العمل عىل أشياء أخرى ربما يفضلون إنتاجها‪.‬‬
‫وبالرغم من أنه لم يتم انتخاب أي سيايس بنا ًء عىل هذه الحقيقة‪ ،‬إال أن صندوق االقرتاع‬
‫ال يمكنه إبطال جوهر وأساس ندرة الوقت البرشي‪ .‬ففي أي وقت تقرر فيه الحكومات‬
‫تقديم يشء فإنها ال تزيد من الناتج االقتصادي؛ بل إن هذا ببساطة يعني املزيد من‬
‫‪16‬‬
‫التخطيط املركزي للناتج االقتصادي مع عواقب يمكن التنبؤ بها‪.‬‬

‫فالنقد غري السليم كان بمثابة نعمة للطغاة واألنظمة القمعية والحكومات غري‬
‫الرشعية حيث سمح لهم بتجنب حقيقة التكاليف والفوائد من خالل زيادة العرض‬
‫ترك السكان ليتحملوا العواقب الحقا ً وهم يشهدون‬
‫النقدي لتمويل مشاريعهم أوالً‪ ،‬ثم ْ‬
‫زوال ثرواتهم وقواهم الرشائية‪ .‬والتاريخ حافل بأمثلة تُظهر لنا كيف أن الحكومات التي‬

‫‪ 16‬موراي روثبورد‪" ،‬هناية االشرتاكية ومراجعة جدال احلساابت"‪ ،‬مراجعة علم االقتصاد النمساوي‪ ،‬اجمللد ‪ 5‬الرقم‬
‫‪( 2‬عام ‪.)1991‬‬

‫‪172‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫يتواجد لها امتيازات طباعة النقد من الفراغ‪ ،‬غالبا ً ما تيسء استخدام هذا االمتياز عرب‬
‫قلبه ضد شعوبها‪.‬‬

‫لهذا‪ ،‬ليس من قبيل املصادفة أنه عند رسد الروايات عن أبشع طغاة التاريخ‪،‬‬
‫يكتشف املرء أن كل واحد منهم كان قد اتَّبع نظام حكومة ذات سلطة لطباعة النقود‬
‫األمر الذي أدى دائما ً إىل تَض ُّخ ٍم لتمويل عمليات الحكومة‪ .‬فهناك سبب وجيه لكون‬
‫"فالديمري لينني"‪ ،‬و"جوزيف وستالني"‪ ،‬و"ماو تيس دونغ"‪ ،‬و"أدولف هتلر"‪،‬‬
‫و"ماكسميليان روبسبيار"‪ ،‬و"بول بوت"‪ ،‬و"بينيتو موسوليني"‪ ،‬و"كيم جونغ إل"‬
‫والعديد من املجرمني ذوي السمعة السيئة‪ ،‬قد حكموا يف فرتات إصدار الحكومة للنقد غري‬
‫السليم حيث كان بإمكانهم طباعة الكمية التي يحتاجونها لتمويل جنون عظمتهم‬
‫اإلجرامي واالستبدادي‪ .‬وهو السبب ذاته يف أ َّن نفس املجتمعات التي أنجبت هؤالء القتلة‬
‫الجماعيني لم تُنجب أي شخص قريب من مستوى إجرامهم عند العيش يف ظل أنظمة‬
‫نقدية سليمة والتي أجربت الحكومات عىل فرض الرضائب قبل القيام باإلنفاق‪ .‬فلم يقم‬
‫أي من هؤالء الوحوش بإلغاء النقد السليم بغرض تمويل عمليات اإلبادة الجماعية‪ ،‬فقد‬
‫حصل تدمري النقد السليم من قبل‪ ،‬بل وتم اإلشادة به بقصص مبهجة رائعة شملت‬
‫األطفال والتعليم وتحرير العمال والكرامة الوطنية‪ ،‬لكن وبمجرد تدمري النقد السليم‪،‬‬
‫أصبح من السهل للغاية عىل هؤالء املجرمني تويل السلطة والسيطرة عىل كل موارد‬
‫املجتمع عن طريق زيادة عرض هذا النقد غري السليم‪.‬‬

‫فالنقد غري السليم يجعل سلطة الحكومة غري محدودة مع عواقب كبرية عىل كل‬
‫فرد‪ ،‬مما يقحم السياسة يف قلب حياة هذه األفراد ويعيد توجيه الكثري من طاقة املجتمع‬
‫وموارده إىل لعبة محصلتها صفر وهي‪ ،‬من الذي سينال الحكم وكيف‪ .‬من ناحية أخرى‪،‬‬
‫ً‬
‫مسألة ذات عواقب محدودة‪ ،‬فالديمقراطية أو‬ ‫فالنقد السليم يجعل من شكل الحكومة‬
‫الجمهورية أو امللكية كلها مقيدة بالنقد السليم‪ ،‬مما يتيح ملعظم األفراد درجة كبرية من‬
‫الحرية يف حياتهم الشخصية‪.‬‬

‫ويف كل من االقتصادات السوفيتية أو الرأسمالية‪ ،‬يُعتَرب مفهوم "إدارة" أو‬


‫"تنظيم" الحكومة لالقتصاد لتحقيق األهداف االقتصادية أمرا ً جيدا ً ورضورياً‪ ،‬ومن املهم‬

‫‪173‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫العودة هنا إىل وجهة نظر جون ماينارد كينز لفهم دوافع النظام االقتصادي الذي‬
‫َ‬
‫املناضلة طيلة العقود املاضية‪ .‬ففي إحدى دراساته‬ ‫يقرتحه‪ ،‬والذي كان عىل البرشية فيه‬
‫األقل شهرة‪" ،‬انتهاء االقتصاد الحر"‪ ،‬يقدم كينز تصوره عما يجب أن يكون عليه دور‬
‫الحكومة يف املجتمع‪ ،‬فأعرب كينز عن معارضته لكل من الليربالية والنزعة الفردية‪ ،‬وهذا‬
‫أمر متوقع‪ ،‬ولكنه يُقدِّم أيضا ً أُسس معارضته لالشرتاكية‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬

‫الدولة االشرتاكية يف القرن التاسع عرش انبثقت من "جريمي بينثام" ومن‬


‫املنافسة الحرة وما إىل ذلك‪ ،‬وهي نسخة أكثر وضوحا ً يف بعض النواحي‪ ،‬وأكثر‬
‫نواح أخرى من الفلسفة ذاتها التي ارتكز عليها مبدأ الفردية يف‬
‫ٍ‬ ‫غموضا ً يف‬
‫القرن التاسع عرش‪ .‬فوَضع كالهما بشكل متساو كل ضغوطهما عىل الحرية‪،‬‬
‫وكان تأثري أحدهما سلبيا ً لتجنب وضع قيود عىل الحرية القائمة‪ ،‬وكان تأثري‬
‫اآلخر إيجابيا ً لتدمري االحتكارات الطبيعية أو املكتسبة‪ .‬إنها ردود فعل مختلفة‬
‫لنفس الجو الفكري‪.‬‬

‫بهذا‪ ،‬يتضح لنا أن مشكلة كينز مع االشرتاكية هي أن هدفها النهائي كان هو‬
‫زيادة الحرية الفردية‪ .‬وبالنسبة إىل كينز‪ ،‬ال ينبغي أن يتعلق الهدف النهائي بقضايا‬
‫"تافهة" مثل الحرية الفردية‪ ،‬بل يجب أن يتعلق بتحكم الحكومة يف الجوانب االقتصادية‬
‫كما يحلو له‪ ،‬حيث قام كينز باستعراض ثالثة مجاالت رئيسية يرى فيها أن دور‬
‫الحكومة حيوي ورضوري‪ :‬األول‪" ،‬السيطرة املُتعمدة عىل العملة واالئتمان من قبل‬
‫وَض َع أُسس البنوك املركزية الحديثة‪ .‬الثاني‪ ،‬اعتقد‬
‫مؤسسة مركزية‪ "،‬وهو االعتقاد الذي َ‬
‫كينز أنه من مهام الحكومة اتخاذ القرار بشأن "الدرجة التي يصبح عندها من املرغوب‬
‫فيه عىل املجتمع أن يدخر ككل‪ ،‬والدرجة التي يجب أن تُستثمر فيها هذه املدخرات يف‬
‫الخارج عىل شكل استثمارات أجنبية‪ ،‬وما إذا كان التنظيم الحايل لسوق االستثمار يُو ِّزع‬
‫إنتاجية عىل املستوى الوطني‪ .‬حيث قال‪" :‬ال أعتقد أن هذه‬‫ً‬ ‫املدخرات عىل أكثر القنوات‬
‫األمور يجب أن تُرتَك بالكامل ملصادفات األحكام الشخصية واألرباح الشخصية‪ ،‬كما هو‬
‫الوضع اآلن‪ ".‬وأخرياً‪ ،‬اعتقد كينز أنه من مهام الحكومة وضع "سياسة وطنية مدروسة‬
‫حول عدد السكان األكثر مالءمة‪ ،‬سواء أكان أكرب أو يساوي أو أصغر من العدد الحايل‪.‬‬
‫وعند االستقرار عىل تلك السياسة‪ ،‬سيتوجب علينا اتخاذ خطوات لتنفيذها‪ ،‬ويف وقت‬

‫‪174‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫الحق‪ ،‬قد يتعني عىل املجتمع ككل االنتباه إىل النوعية الحقيقية وعدد األعضاء يف‬
‫‪17‬‬
‫املستقبل‪".‬‬

‫بعبارة أخرى‪ ،‬إن املفهوم الكينزي للدولة الذي انبثقت منه املبادئ املرصفية‬
‫املركزية الحديثة والتي تم تطبيقها عىل نطاق واسع من قِ ب َِل جميع املرصفيني املركزيني‪،‬‬
‫والتي تشكل الغالبية العظمى من الكتب الدراسية االقتصادية املكتوبة يف جميع أنحاء‬
‫مكان أراد فيه رج ٌل تركيز الحكومة عىل مجالَني مهمَّ ني يف الحياة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫العالم‪ ،‬قد أتت من‬
‫األول‪ ،‬السيطرة عىل النقد واالئتمان واالدخار وقرارات االستثمار‪ ،‬مما يعني املركزية‬
‫الشمولية لتخصيص رأس املال وتدمري املشاريع الفردية الحرة‪ ،‬األمر الذي يجعل األفراد‬
‫معتمدين كليا ً عىل الحكومة لنجاتهم‪ .‬الثاني‪ ،‬هو السيطرة عىل كمية ونوعية السكان‪ ،‬مما‬
‫يعني تحسني النسل‪ .‬فعىل النقيض من االشرتاكيني‪ ،‬لم يس َع كينز لتحقيق هذا املستوى‬
‫من السيطرة عىل األفراد من أجل تعزيز حريتهم عىل املدى الطويل‪ ،‬لكنه َف َّضل تطوير‬
‫رؤية أشمل للمجتمع كما يراه هو مناسباً‪ .‬وربما كان لالشرتاكيني لباق ٌة عىل األقل يف‬
‫التظاهر بأنهم يريدون استعباد اإلنسان ملصلحته ولتحريره يف املستقبل‪ ،‬إال أن كينز أراد‬
‫استعباد الحكومة فقط ملجرد االستعباد‪ ،‬كهدف نهائي‪ .‬وقد يساعدنا هذا بفهم دافع‬
‫موراي روثبورد لقول‪" :‬هناك أمر واحد جيد يف "كارل ماركس"‪ ،‬عىل األقل لم يكن‬
‫ً ‪18‬‬
‫كينزيا‪".‬‬

‫وعىل الرغم من أن هذا املفهوم قد يحلو للمثاليني املتواجدين يف أبراجهم‬


‫العاجية والذ ين يتصورون أن هذا لن ينتج عنه سوى نتائج إيجابية‪ ،‬إال أنه يف الواقع‬
‫يؤدي إىل تدمري آليات السوق الالزمة لإلنتاج االقتصادي‪ .‬ويف ظل نظام كهذا‪ ،‬يتوقف‬
‫النقد فيه عن العمل كنظام معلومات لإلنتاج‪ ،‬ويعمل كربنامج والء حكومي‪.‬‬

‫‪ 17‬جاي إم كينز‪" ،‬هناية االقتصاد احلر" يف "مقاالت عن اإلقناع" الصفحة‪.295-272 ،‬‬


‫‪ 18‬موراي روثبورد‪" ،‬حمادثة مع موراي روثبورد" النشرة اإلخبارية لالقتصاد النمساوي‪ ،‬اجمللد ‪ ،11‬الرقم ‪( 2‬صيف‬
‫عام ‪.)1990‬‬

‫‪175‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫للِ مسة )‪(The Bezzle‬‬


‫العملة ا م‬
‫وضح لنا الفصل الثالث كيف أن أي سلعة تكتسب دورا ً نقديا ً من شأنها‬ ‫لقد َّ‬
‫أن تُحفز األفراد عىل إنتاج املزيد منها‪ .‬فالنقد الذي يَس ُهل إنتاجه سيؤدي إىل تخصيص‬
‫املزيد من املوارد االقتصادية والوقت البرشي من أجل إنتاجه‪ .‬وبما أن النقود ال تُجمع‬
‫لع وخدمات أخرى‪ ،‬فإن قوتها الرشائية هي املهمة‪،‬‬ ‫لخصائصها الخاصة‪ ،‬بل ملبادلتها بس ٍ‬
‫ال كميتها املطلقة‪ .‬لهذا‪ ،‬ليس هناك فائدة اجتماعية من أي نشاط يؤدي إىل زيادة العرض‬
‫النقدي‪ .‬وهذا هو السبب يف أنه‪ ،‬يف أي سوق حرة‪ ،‬إن اكتسب أي يشء دورا ً نقدياً‪،‬‬
‫فستكون نسبة مخزونه إىل تدفقه مرتفعة بشكل موثوق‪ ،‬وسيكون العرض النقدي‬
‫الجديد قليال ً وال يُشكل أهمية مقارن ًة بالعرض اإلجمايل املتوفر‪ .‬وهذا األمر يضمن‬
‫تكريس أقل كمية ممكنة من العمل واملوارد الرأسمالية إلنتاج املزيد من الوسائط النقدية‪،‬‬
‫وبدال ً من ذلك‪ ،‬يتم تكريسها إلنتاج سلع وخدمات مفيدة تُعتَرب كميتها املطلقة مهمة عىل‬
‫عكس النقود‪ .‬لذلك‪ ،‬أصبح الذهب هو املعيار النقدي العاملي الرائد ألن إنتاجه الجديد‬
‫نسبة صغري ًة للغاية من عرضه املتاح‪ ،‬مما جعل من عملية تنجيم الذهب‬ ‫ً‬ ‫َش َّكل دائما ً‬
‫تجار ًة خطر ًة وغري مربحة للغاية‪ ،‬األمر الذي أجرب املزيد من رؤوس املال واليد العاملة يف‬
‫العالم عىل التوجه نحو إنتاج السلع غري النقدية‪.‬‬

‫بالنسبة لجون ماينارد كينز وميلتون فريدمان‪ ،‬كان أحد أهم العوامل الرئيسية‬
‫البتعادهما عن املعيار الذهبي هو انخفاض تكاليف استخراجه كنتيجة الستخدام النقود‬
‫الورقية التي تصدرها الحكومة‪ ،‬والتي تكون تكلفة إنتاجها أقل بكثري من تكلفة إنتاج‬
‫الذهب‪ .‬فليس فقط أنهم لم يفهما أن املوارد املُوجَّ هة إلنتاج الذهب هي قليلة جدا ً مقارنة‬
‫بالسلع األخرى التي يمكن تضخيم عرضها بسهولة‪ ،‬بل إنهم أيضا ً قد قللوا من شأن‬
‫التكاليف الحقيقية التي سيتحملها املجتمع بسبب استخدام شكل من النقد يمكن‬
‫تضخيم عرضه كما يحلو لحكومة رسيعة التأثر بالسياسات الديمقراطية واملصالح‬
‫الشخصية‪ .‬فالتكلفة الحقيقة يف هذه الحالة ليست هي التكلفة املبارشة لتشغيل‬
‫الطابعات‪ ،‬بل هي تكلفة التنازل عن النشاطات االقتصادية وذلك ألن املوارد اإلنتاجية‬
‫ستتجه نحو النقود الحكومية الجديدة عوضا ً عن االنخراط يف اإلنتاج االقتصادي‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫ويمكن فهم عملية استحداث االئتمان التضخمي كمثال واسع للمجتمع الذي‬
‫أطلق عليه االقتصادي جون كينيث غالربيث"العملة َ‬
‫الخل َِسة"‪ 19‬يف كتابه عن الكساد‬
‫العظيم‪ .‬فمع الزيادة الكبرية للتوسع االئتماني يف عرشينيات القرن املايض‪ُ ،‬غمرت‬
‫الرشكات بالنقود‪ ،‬وأصبح من السهل عىل الناس اختالس تلك النقود بطرق مختلفة‪،‬‬
‫وطاملا استمر تدفق االئتمان‪ ،‬سيبقى الضحايا غافلني‪ ،‬وسينترش ْ‬
‫وَه ُم الثروة املتزايدة يف‬
‫كامل املجتمع حيث أن ُك ّالً من الضحية والسارق يظنان أنهما يملكان املال‪ .‬فاستحداث‬
‫البنوك املركزية لالئتمان يؤدي إىل حدوث طفرات غري مُستدامة وذلك عرب السماح بتمويل‬
‫املشاريع غري املربحة والسماح لها باالستمرار يف استهالك املوارد يف أنشطة غري منتجة‪.‬‬

‫بينما يف نظا ٍم نقدي سليم‪ ،‬فإن أي عمل أو مرشوع تجاري يستمر بعمله‪ ،‬فهو‬
‫يستمر به ألنه يقوم بتقديم قيمة للمجتمع وذلك من خالل جني إيرادات عالية من‬
‫منتجاته بحيث تكون هذه اإليرادات أكثر من التكاليف التي تم دفعها أثناء اإلنتاج‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ُدخالت بسعر سوق معني إىل‬ ‫فالعمل واملرشوع التجاري يكون مُنتِجا ً ألنه يقوم بتحويل م‬
‫ُخرجات بسعر سوق أعىل‪ .‬وأي رشكة تُنتج مخرجات تق ُّل قيمتها عن مدخالتها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫م‬
‫ُ‬
‫ستتوقف عن العمل‪ ،‬وستحرر مواردها ليتم استخدامها من قبل رشكات أخرى أكثر‬
‫إنتاجية‪ ،‬فيما وصفه االقتصادي "جوزيف شومبيرت" بـ"الدَّمار الخ َّالق"‪ .‬ففي سوق‬
‫حرة‪ ،‬ال يكون هناك أي ربح دون احتمال حقيقي بالخسارة‪ ،‬والجميع م َ‬
‫ُجرب عىل‬
‫املخاطرة يف اللعبة‪ :‬فالفشل دائما ً هو احتمال مطروح‪ ،‬ويمكن أن يكون مكلفاً‪ ،‬لكن النقد‬
‫يؤخر ويماطل هذه العملية‪ ،‬مما يُبقي الرشكات غري‬ ‫غري السليم الذي تصدره الحكومة ِّ‬
‫املنتجة غري ميتة ولكنها أيضا ً غري حية‪ ،‬فتكون بذلك هي املكافئ االقتصادي ملخلوقات‬
‫الزومبي (األحياء األموات) أو مصايص الدماء الذين يعتمدون عىل موارد الرشكات املنتجة‬
‫والحية إلنتاج أشياء قيمتها أقل من املوارد الالزمة إلنتاجها‪ .‬إن هذا األمر يؤدي إىل إنشاء‬
‫طبقة اجتماعية جديدة تتبع قواعد مختلفة عن قواعد اآلخرين‪ ،‬مع عدم وجود مخاطر‬
‫بالنسبة لهم‪ .‬ولعدم مواجهتهم اختبار السوق يف عملهم‪ ،‬فسيصبحون يف عزلة عن عواقب‬
‫أفعالهم‪ ،‬وهذه الطبقة الجديدة موجودة يف كل قطاع اقتصادي تموله النقود الحكومية‪.‬‬

‫‪ 19‬جون كينيث غالربيث‪ ،‬االهنيار العظيم عام ‪( ،1929‬بوسطن‪ ،‬شركة النشر‪( :‬هوتون ميفلني هاركورت) عام‬
‫‪ )1997‬الصفحة ‪.133‬‬

‫‪177‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫وليس من املمكن القيام بتقدير دقيق للنسبة املئوية للنشاط االقتصادي يف‬
‫االقتصاد العاملي الحديث الذي يسري باتجاه النقود املطبوعة من قبل الحكومة بدال ً من‬
‫إنتاج السلع والخدمات املفيدة للمجتمع‪ ،‬لكن من املمكن الحصول عىل فكرة عن ذلك من‬
‫خالل النظر إىل الرشكات والقطاعات التي تنجو بسبب نجاحها يف اختبار السوق الحرة‪،‬‬
‫واألخرى التي بقيت حية بفضل سخاء الحكومة سواء عىل الصعيد النقدي أم املايل‪.‬‬

‫فالدعم املايل هو من األمثلة الواضحة عىل أسلوب إنشاء الزومبي‪ ،‬فأي رشكة‬
‫تتلقى الدعم الحكومي املبارش‪ ،‬والغالبية العظمى من الرشكات التي هي عىل قيد الحياة‬
‫بسبب بيع منتجاتها للقطاع العام‪ ،‬هي يف الواقع رشكات زومبي‪ .‬فلو كانت هذه الرشكات‬
‫منتجة يف املجتمع‪ ،‬لكان األفراد األحرار قد فضلوا إنفاق أموالهم لدفع ثمن منتجاتها‪،‬‬
‫ولكن حقيقة عدم قدرة هذه الرشكات عىل النجاة من املدفوعات الطوعية فقط‪ ،‬يظهر أنها‬
‫عبء وليس لها أصول إنتاجية للمجتمع‪.‬‬

‫لكن الطريقة األكثر رضرا ً إلنشاء الزومبي هي ليست من خالل املدفوعات‬


‫الحكومية املبارشة‪ ،‬بل من خالل الحصول عىل قروض منخفضة الفائدة‪ .‬فبما أن النقود‬
‫الورقية قد حَ دَّت ببطء من قدرة املجتمع عىل االدخار‪ ،‬فإن االستثمارات الرأسمالية لم‬
‫تعد تأتي من ُمد َّ‬
‫َخرات املُدَّخِ رين‪ ،‬بل من الديون التي أنشأتها الحكومة‪ ،‬والتي تقلل من‬
‫أرصدة األموال املتاحة‪ .‬ففي مجتمع ذي نقد سليم‪ ،‬كلما ادخر الشخص أكثر‪ ،‬استطاع أن‬
‫يراكم رأس مال أكثر‪ ،‬وتمكن من االستثمار أكثر‪ ،‬مما يعني أن مالكي رأس املال يميلون‬
‫إىل اتباع سياسة التفضيل الزمني املنخفض‪ ،‬لكن عندما يأتي رأس املال من استحداث‬
‫الحكومة لالئتمان‪ ،‬سيتوقف موزعو رؤوس املال عن كونهم موجهني نحو املستقبل‪،‬‬
‫وسيصبحون مجرد أعضاء يف عدة وكاالت بريوقراطية‪.‬‬

‫ففي سوق حرة ذات نقد سليم‪ ،‬يختار أصحاب رؤوس األموال تخصيص‬
‫رؤوس أموالهم يف االستثمارات التي يجدونها أكثر إنتاجية‪ ،‬وبإمكانهم االستفادة من‬
‫املصارف االستثمارية إلدارة عملية التخصيص هذه‪ .‬وهذه العملية تكافئ الرشكات التي‬
‫تخدم العمالء بنجاح‪ ،‬واملستثمرين الذين يكتشفونهم بينما يتم عقابهم عىل ارتكاب‬
‫األخطاء‪ .‬أما يف أنظمة النقد الورقي‪ ،‬فالبنك املركزي هو املسؤول عن كامل عملية‬

‫‪178‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫تخصيص االئتمان‪ ،‬ويقوم بالتحكم واإلرشاف عىل املصارف التي تُخصص رأس املال‪،‬‬
‫ويضع املعايري األهلية لإلقراض‪ ،‬ويحاول تحديد املخاطر بطريقة رياضية تتجاهل‬
‫املخاطر وطريقة عمل العالم الحقيقي‪ .‬فيتم بذلك استبعاد اختبار السوق الحرة ألن‬
‫التوجه االئتماني للبنك املركزي بإمكانه إبطال الواقع االقتصادي للربح والخسارة‪.‬‬

‫ففي عالم النقد الورقي‪ ،‬الوصو ُل إىل حنفيات نقد البنك املركزي أهم من خدمة‬
‫الزبائن‪ .‬فالرشكات التي يمكنها الحصول عىل قروض بفائدة منخفضة لتسيري أعمالها‬
‫ستمتلك ميزة دائمة مقابل املنافسني الذين ال يستطيعون تحقيق ذلك‪ .‬وبذلك‪ ،‬تصبح‬
‫معايري النجاح يف السوق متعلق ًة أكثر بالقدرة عىل تأمني التمويل بفوائد أقل عوضا ً عن‬
‫تقديم الخدمات للمجتمع‪.‬‬

‫تُفرس هذه الظاهرة البسيطة الكثري عن الواقع االقتصادي الحديث‪ ،‬مثل العديد‬
‫من الصناعات التي تكسب املال دون إنتاج أي يشء ذي قيمة ألي أحد‪ .‬فالوكاالت‬
‫السمعة العاملية السيئة التي اكتسبتها بعدم‬‫الحكومية هي املثال األبرز‪ ،‬وال يمكن فهم ُ‬
‫كفاءة موظفيها إال كنتيجة لتمويل "العملة َ‬
‫الخل َِسة" لها حيث أنهم مفصولون كليا ً عن‬
‫الواقع االقتصادي‪ .‬فبدال ً من اجتياز االختبار الصعب للنجاح يف السوق من خالل خدمة‬
‫املواطنني‪ ،‬تَخترب الوكاالت الحكومية نفسها وتَستنتج بشكل دائم أن حل جميع مواضع‬
‫فشلها يكمن يف زيادة التمويل‪ .‬وبغض النظر عن مستوى عدم الكفاءة أو اإلهمال أو‬
‫الفشل‪ ،‬فالوكاالت الحكومية وموظفيها نادرا ً ما يواجهون عواقب حقيقية‪ .‬فحتى بعد‬
‫إزالة األساس املنطقي لوجود وكالة حكومية ما‪ ،‬ستستمر هذه الوكالة بالعمل وستجد‬
‫ً‬
‫سلطة‬ ‫لنفسها املزيد من الواجبات واملسؤوليات‪ .‬لبنان‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ال تزال تملك‬
‫للقطارات بالرغم من خروج القطارات من الخدمة منذ عقود‪ ،‬حيث صدأت سككها‬
‫‪20‬‬
‫الحديدية بشكل كبري‪.‬‬

‫ويف عالم يتسم بالعوملة‪ ،‬ال تقترص "العملة َ‬


‫الخل َِسة" عىل املنظمات الحكومية‬

‫‪ 21‬لقراءة املزيد عن هذا‪ ،‬اقرأ‪ :‬فضيحة النقد‪ :‬ملَ تتعاىف وول سرتيت لكن االقتصاد ال يتعاىف أبداً‪ ،‬جلورج جيلدر‬
‫(العاصمة واشنطن‪ ،‬ريغنري‪.)2016 ،‬‬

‫‪179‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الوطنية فحسب‪ ،‬بل نمت لتشمل املنظمات الحكومية الدولية‪ ،‬فهي استنزاف عاملي واضح‬
‫للوقت والجهد‪ ،‬ال تحمل أي فائدة إال للعاملني فيها‪ .‬ولوقوع هذه املنظمات بعيدا ً عن‬
‫دافعي الرضائب الذين يمولونها‪ ،‬فإنها تواجه تدقيقا ً أقل بكثري من املنظمات الحكومية‬
‫ونهج أكثر اسرتخا ًء عىل صعيد‬
‫ٍ‬ ‫الوطنية‪ ،‬وهي بذلك تعمل بقدر أقل من املساءلة‬
‫امليزانيات ومواعيد التسليم والعمل‪.‬‬

‫إن األوساط األكاديمية هي مثال جيد آخر‪ ،‬حيث يدفع الطالب رسوما ً باهظة‬
‫أكثر من أي وقت مىض لدخول الجامعات ليتم تدريسهم من قبل أساتذة ال يقضون سوى‬
‫القليل من وقتهم وجهدهم عىل تدريس وتوجيه الطالب‪ ،‬بل يقضون معظم وقتهم يف نرش‬
‫أبحاث غري قابلة للقراءة للحصول عىل املنح الحكومية وتسلق السلم األكاديمي‪ .‬أما يف‬
‫السوق الحرة‪ ،‬فيتعني عىل األكاديميني املساهمة بالقيمة عن طريق التدريس أو كتابة‬
‫أشياء يقرأها الناس ويستفيدون منها بالفعل‪ .‬لكن األبحاث األكاديمية العادية ال يقرأها‬
‫عاد ًة إال دائرة صغرية من األكاديميني يف كل تخصص ويوافقون عىل ِمنَح بعضهم‬
‫البعض ويفرضون معايري التفكري الجماعي‪ ،‬وأصبح لهم استنتاجات ذات دوافع سياسية‬
‫متن ِّكرة بزي الرصامة والدقة األكاديمية‪.‬‬

‫وأكثر الدراسات االقتصادية شعبي ًة وتأثريا ً يف فرتة ما بعد الحرب كانت قد‬
‫ُكتبت عىل يد "بول سامويلسون" الحائز عىل جائزة نوبل‪ .‬فلقد رأينا يف الفصل الرابع‬
‫تنبؤ سامويلسون القائل بأن إنهاء الحرب العاملية الثانية سيتسبب بأكرب ركود يف تاريخ‬
‫العالم‪ ،‬ليرتتب عىل ذلك واحدة من أكرب فرتات االزدهار يف تاريخ الواليات املتحدة‪ ،‬ليس‬
‫هذا فحسب‪ ،‬بل إن األمر سيصبح أكثر إحراجا ً له‪ :‬فكتب سامويلسون الكتاب األكثر‬
‫ً‬
‫شعبية يف علم االقتصاد يف عرص ما بعد الحرب‪" ،‬االقتصاد‪ :‬تحليل تمهيدي"‪ ،‬ولقد باع‬
‫ماليني النسخ عىل مدى ستة عقود‪ 21.‬درس "ليفي" و "بريت"‪ 22‬اإلصدارات املختلفة من‬

‫‪ 21‬مارك سكوزن‪" :‬املثابرة على علوم بول سامولسن االقتصادية"‪ ،‬جملة املنظورات االقتصادية‪ ،‬اجمللد ‪ 11‬الرقم ‪،2‬‬
‫العام (‪ )1997‬الصفحة ‪.152 – 137‬‬
‫‪ 22‬ديفيد ليفي‪ ،‬وساندرا بريت‪" ،‬النمو السوفيييت والكتب املرجعية األمريكية‪ :‬الذايت" جملة التنظيم والسلوك‬
‫االقتصادي‪ ،‬اجمللد ‪ ،78‬اإلصدار ‪( 2-1‬أبريل عام ‪ )2011‬الصفحة ‪.125 -110‬‬

‫‪180‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫كتاب سامويلسون ليجدا أنه يطرح بشكل متكرر نموذج االقتصاد السوفييتي بكونه‬
‫وَق َع يف الطبعة الرابعة يف عام ‪ 1961‬أن اقتصاد‬ ‫األكثر مالءمة للنمو االقتصادي‪ ،‬وتَ َّ‬
‫االتحاد السوفيتي سيتفوق عىل اقتصاد الواليات املتحدة يف وقت ما بني العامني ‪1984‬‬
‫و‪ .1997‬واستمر بطرح تنبُّئه بتفوق االقتصاد السوفيتي عىل اقتصاد الواليات املتحدة‬
‫بثقة متزايدة عرب سبع طبعات من الكتاب حتى الطبعة الحادية عرشة عام ‪ ،1980‬مع‬
‫تقديرات متفاوتة عىل وقت حدوث ذلك‪ .‬يف الطبعة الثالثة عرش التي صدرت عام ‪،1989‬‬
‫والتي وصلت إىل مكات ب طالب الجامعة بينما كان االتحاد السوفييتي قد بدأ بالتفكك‪،‬‬
‫كتب سامويلسون ورشيكه يف التأليف آنذاك "وليام نوردهاوس"‪" :‬إن االقتصاد‬
‫السوفييتي دليل عىل أنه وبعكس اعتقادات الكثري من املشككني‪ ،‬هو اقتصاد مركزي‬
‫اشرتاكي يستطيع أن يعمل وأن يزدهر حتى‪ 23".‬لم يكن هذا محصورا ً يف كتاب واحد‪،‬‬
‫فقد أظهر ليفي وبريت أن مثل هذه الرؤى كانت شائعة يف الطبعات العديدة فيما اُعترب‬
‫كتاب االقتصاد الثاني من حيث الشعبية لالقتصادي "مكونيل"‪" :‬االقتصاد‪ :‬املبادئ‪،‬‬
‫والسياسات واملشاكل"‪ ،‬وكان شائعا ً بالعديد من الكتب األخرى‪ .‬وأي طالب تَعَ لَّم‬
‫االقتص اد يف فرتة ما بعد الحرب يف جامعة تتبع املنهج األمريكي (غالبية طالب العالم) قد‬
‫تعلم أن النموذج السوفييتي هو طريقة أكثر فاعلية لتنظيم النشاط االقتصادي‪ .‬وحتى‬
‫بعد انهيار االتحاد السوفييتي وفشله املطلق‪ ،‬استمر تدريس هذه الكتب يف الجامعات‬
‫ذاتها بحيث تمت إزالة الجمل التي تمدح عظمة النجاح السوفياتي من اإلصدارات‬
‫الحديثة‪ ،‬دون التشكيك ببقية نظرتهم االقتصادية العاملية وأدواتها املنهجية‪ .‬كيف يمكن‬
‫االستمرار يف تدريس مثل هذه الكتب الفاشلة بامتياز يف الجامعات؟ وكيف يمكن تدريس‬
‫وجهة نظر الكينزيني التي نَقضها الواقع بشكل كبري جدا ً عىل مدى العقود السبعة‬
‫املاضية من االزدهار الذي تال الحرب العاملية الثانية‪ ،‬إىل الركود التضخمي يف‬
‫السبعينيات‪ ،‬إىل انهيار االتحاد السوفياتي‪ .‬لقد كتب عميد االقتصاديني الكينزيني اليوم‪،‬‬
‫"بول كروغمان"‪ ،‬أن غزو الفضائيني سيكون مفيدا ً لالقتصاد ألنه سيجرب الحكومة عىل‬

‫‪ 23‬مارك سكوزن‪" :‬املثابرة على علوم بول ساميولسن االقتصادية"‪ ،‬جملة املنظورات االقتصادية‪ ،‬اجمللد ‪ 11‬الرقم ‪،2‬‬
‫العام (‪ )1997‬الصفحة ‪.152 – 137‬‬

‫‪181‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫‪24‬‬
‫إنفاق املوارد وحشدها‪.‬‬

‫ففي نظام اقتصادي قائم عىل حرية السوق‪ ،‬لن ترغب أي جامعة تحرتم نفسها‬
‫بتعليم طالبها معلومات خاطئة ومنافية للعقل بشكل كبري‪ ،‬وذلك ألنها تسعى إىل تسليح‬
‫طالبها بأكثر املعارف فائد ًة‪ ،‬لكن يف نظام أكاديمي أفسدته كليا ً النقود الحكومية‪ ،‬ال يتم‬
‫تحديد املنهج الدرايس من خالل توافقه مع الواقع‪ ،‬بل من خالل توافقه مع األجندة‬
‫السياسية للحكومات التي تموله‪ .‬فالحكومات يف كافة أنحاء العالم‪ ،‬تفضل االقتصاد‬
‫الكينزي اليوم للسبب ذاته الذي أحبته يف الثالثينيات حيث قدَّم لها املغالطات واملربرات‬
‫للحصول عىل املزيد من القوة واملال‪.‬‬

‫إن هذا الحوار قد يستمر ليشمل العديد من املجاالت والتخصصات األخرى يف‬
‫األوساط األكاديمية الحديثة‪ ،‬حيث يُك َّرر النمط ذاته‪ :‬فالتمويل القادم من الوكاالت‬
‫الحكومية تحتكره مجموعات من العلماء لديهم الفكر ذاته ويتشاركون بتحيزات‬
‫منح دراسية‬
‫جوهرية‪ ،‬ولن تحصل عىل عمل أو تمويل يف هذا النظام من خالل تقديم ٍ‬
‫مهمة مثمرة ومفيدة للعالم الحقيقي‪ ،‬بل من خالل تعزيز أجندة املُمولني‪ .‬فحقيقة أن‬
‫التمويل يأتي من مصدر واحد فقط يعني إلغاء إمكانية وجود سوق حرة لألفكار‪ .‬لهذا‪،‬‬
‫أصبحت املناقشات األكاديمية تتعلق بتفاصيل غامضة أكثر من أي وقت مىض‪ ،‬بحيث‬
‫تميل جميع األطراف يف هذه النزاعات السلمية إىل االتفاق دوما ً عىل أن كال الطرفني‬
‫بحاجة ملزيد من التمويل ملواصلة هذه الخالفات الهامة‪ .‬فمناقشات األوساط األكاديمية ال‬
‫عالقة لها تقريبا ً بالعالم الحقيقي‪ ،‬وال تتم قراءة املقاالت التابعة لها إال من قبل‬
‫األشخاص الذين يكتبونها ألغراض الرتويج للوظائف‪ ،‬لكن "العملة َ‬
‫الخل َِسة" الحكومية‬
‫تستمر لعدم وجود آلية يتم فيها تخفيض التمويل الحكومي إذا لم يستفد منه أي أحد‪.‬‬

‫ففي مجتمع يستخدم النقد السليم‪ ،‬يُعَ ُّد العمل املرصيف عمالً مهما ً ومُنتِجا ً‬
‫للغاية‪ ،‬حيث يؤدي املرصفيون فيه وظيفتني محوريتني للغاية لتحقيق االزدهار‬

‫‪ 24‬بول كروغمان‪" ،‬الركود العلماين‪ ،‬ومناجم الفحم‪ ،‬والفقاعات‪ ،‬والري سامرز"‪ ،‬نيويورك اتميز‪ 16 ،‬نوفمرب عام‬
‫‪.2003‬‬

‫‪182‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫االقتصادي‪ :‬حفظ األصول كودائع‪ ،‬واملوائمة بني االستحقاقات وتحمل املخاطر بني‬
‫املستثمرين وفرص االستثمار‪ .‬فيجني املرصفيون أموالهم عن طريق أخذ جزء من األرباح‬
‫إذا نجحوا بعملهم‪ ،‬لكنهم ال يحققون أي ربح إذا فشلوا بتحقيق ذلك‪ .‬وعندها‪ ،‬ستحافظ‬
‫املصارف واملرصفيون الناجحون وحدهم عىل وظائفهم‪ ،‬ويتم التخلص من أولئك الذين‬
‫يفشلون‪ .‬ففي مجتمع يستخدم النقد السليم‪ ،‬ال توجد مخاوف من السيولة بسبب فشل‬
‫املرصف‪ ،‬وذلك ألن جميع املصارف تُبقِ ي ودائعها يف متناول اليد‪ ،‬وتتمتع باستثمارات‬
‫ذات استحقاق مكافئ‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬ال يوجد فرق بني عدم السيولة واإلعسار املايل‪ ،‬وال‬
‫يوجد مخاطر نظامية قد تجعل أي مرصف "أكرب من أن يفشل‪ ".‬فاملرصف الذي يفشل‬
‫هو مشكلة حاميل أسهمه ومقرضيه‪ ،‬ال أحد سواهم‪.‬‬

‫لكن النقد غري السليم يسمح بإمكانية وجود االستحقاق غري املكافئ‪ ،‬بحيث ال‬
‫يكون النظام املرصيف االحتياطي الجزئي إال مجموعة فرعية‪ ،‬وهذا األمر يرتك املصارف يف‬
‫عرضة دائمة ألزمة سيولة أو عرضة للذعر املرصيف‪ .‬فحالة عدم تكافؤ االستحقاق وكون‬
‫النظام املرصيف االحتياطي الجزئي حالة خاصة منه‪ ،‬يضعهما يف عرضة دائمة ألزمة‬
‫قرضون واملودعون بسحب إيداعاتهم يف نفس الوقت‪ .‬والطريقة‬ ‫سيولة يف حال طالب املُ ِ‬
‫الوحيدة لجعل االستحقاق غري املتكافئ آمنا ً هي بوجود مُقرض املالذ األخري املستعد‬
‫إلقراض املصارف يف حالة حدوث الذعر املرصيف‪ 25.‬ففي مجتمع ذي نقد سليم‪ ،‬سيتوجب‬
‫عىل البنك املركزي فرض الرضائب عىل كل شخص غري مشارك يف املرصف من أجل إنقاذ‬
‫املرصف‪ .‬وأما يف مجتمع ذي نقد غري سليم‪ ،‬فإن البنك املركزي يستطيع وببساطة‬
‫استحداث عرض نقدي جديد واستخدامه لدعم سيولة املصارف‪ .‬بهذه الكيفية‪ ،‬يُشكل‬
‫النقد غري السليم فرقا ً بني السيولة واملالءة املالية‪ :‬فاملرصف يمكن أن يكون قادرا ً عىل‬
‫سداد الدين من حيث صايف القيمة الحالية ألصوله‪ ،‬لكنه سيواجه مشكلة سيولة قد‬
‫تمنعه من الوفاء بالتزاماته املالية بغضون فرتة زمنية معينة‪ ،‬لكن افتقار السيولة بحد‬
‫ذاتها قد يؤدي إىل ذعر مرصيف حيث يسعى املودعون واملقرضون إىل سحب ودائعهم من‬

‫‪ 25‬لقراءة التصريح الرمسي‪ ،‬راجع كتاب دي دبليو داميوند‪ ،‬ويب إتش دايبيغ‪" ،‬الذعر املصريف‪ ،‬وأتمني الودائع‪،‬‬
‫والسيولة" جملة االقتصاد السياسي‪ ،‬اجمللد ‪ 91‬العدد ‪( 3‬عام ‪ )1983‬الصفحة ‪.419 – 401‬‬

‫‪183‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫املرصف‪ .‬واألسوأ من ذلك‪ ،‬هو أن نقص السيولة يف أحد املصارف قد يؤدي إىل نقص‬
‫السيولة يف املصارف األخرى التي تتعامل مع هذا املرصف‪ ،‬مما يخلق مشاكل نظامية‬
‫شاملة‪ .‬لكن إذا تعهد البنك املركزي بتوفري السيولة يف مثل هذه الحاالت‪ ،‬فلن يكون هناك‬
‫مخاوف من حدوث أزمة سيولة‪ ،‬وهذا بدوره يتفادى احتمال حدوث سيناريو الذعر‬
‫املرصيف ويرتك النظام املرصيف بأمان‪.‬‬

‫ومن املرجح أن يستمر النظام املرصيف االحتياطي الجزئي أو االستحقاق غري‬


‫املتكافئ بشكل عام يف التسبب يف أزمات مالية دون وجود بنك مركزي يَستخدم عرضا ً‬
‫نقديا ً مرنا ً إلنقاذ هذه املصارف‪ ،‬لكن وجود هذا البنك املركزي القادر عىل إنقاذ هذه‬
‫املصارف قد يطرح مشكل ًة أخالقي ًة كبرية لهذه املصارف‪ ،‬فبإمكان تلك املصارف اآلن‬
‫املجازفة بشكل متهور ألنها باتت تدرك أنه هناك بنك مركزي سيقوم بإنقاذها لتجنب‬
‫طور القطاع املرصيف ليصبح‬ ‫حدوث أزمة نظامية شاملة‪ .‬ومن هنا نستطيع رؤية كيفية ت َّ‬
‫عمال ً ومرشوعا ً تجاريا ً يُولِّد عوائد دون مخاطر عىل املرصفيني‪ ،‬ويُش ِّكل يف نفس الوقت‬
‫مخاطر دون عوائد ألي أحد‪.‬‬

‫فالقطاع املرصيف هو قطاع يبدو أنه ينمو فقط يف هذه األيام‪ ،‬وإغالق املصارف‬
‫لعملها هو أمر مستبعد‪ .‬فنظرا ً للمخاطر النظامية التي تنطوي عليها إدارة املرصف‪،‬‬
‫يمكن اعتبار فشل أي مرصف كمشكلة سيولة ومن املرجح جدا ً حصوله عىل دعم البنك‬
‫املركزي‪ .‬وال يوجد قطاع خاص ظاهريا ً يتمتع بمثل هذا االمتياز الباهظ‪ ،‬حيث يجمع بني‬
‫أعىل معدالت ربحية يف القطاع الخاص وبني أمان القطاع العام‪ .‬إن هذا املزيج جعل من‬
‫عمل املرصفيني عمال ً َّ‬
‫خالقا ً ومنتجا ً مثل عمل موظفي القطاع العام‪ ،‬لكنه أكثر مكافأة من‬
‫ونتيجة لذلك‪ ،‬يستمر القطاع املايل يف النمو حيث أصبح‬ ‫ً‬ ‫معظم الوظائف األخرى‪.‬‬
‫االقتصاد األمريكي "أكثر تمويالً‪ ".‬فمنذ إلغاء قانون "غالس ستيغال" عام ‪ ،1999‬تمت‬
‫إزالة الفصل بني الودائع البنكية والخدمات املرصفية االستثمارية‪ .‬وبالتايل‪ ،‬إن مصارف‬
‫تأمني للودائع من قبل املؤسسة الفيدرالية للتأمني عىل الودائع‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الودائع التي حازت عىل‬
‫يمكنها االنخراط اآلن يف تمويل االستثمارات‪ ،‬حيث أن ضمان املؤسسة الفيدرالية للتأمني‬
‫عىل الودائع يحميهم من خسائر االستثمار‪ .‬وبهذا‪ ،‬فاملستثمر الذي لديه ضمان لخسارته‬
‫هو مستثمر لديه خيار حر‪ ،‬ويستطيع طباعة النقود بشكل فعال‪ .‬فالقيام باالستثمارات‬

‫‪184‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫امل ربحة سيسمح له بتجميع كل املكاسب‪ ،‬يف حني أن الخسائر ستتوزع عىل املجتمع‪.‬‬
‫ويمكن ألي شخص يحمل مثل هذه الضمانة أن يكسب كميات كبرية من املال ببساطة‬
‫عن طريق االقرتاض واستثمار أمواله حيث أنه بإمكانه الحفاظ عىل األرباح‪ ،‬وسيتم‬
‫تغطية خسائره‪ .‬فال عجب أن هذا قد أدى إىل ميل عدد أكرب من رؤوس املال وموارد‬
‫مثال ملثال وجبة الغداء املجانية‪.‬‬
‫العمل نحو التمويل‪ ،‬ألن هذا األمر هو أقرب ٍ‬

‫ولقد أصدر خبري االقتصاد "توماس فيليبون"‪ 26‬دراسات مفصلة عن حجم‬


‫القطاع املايل كنسبة مئوية من الناتج املحيل اإلجمايل عىل مدى آخر مئة وخمسني عاماً‪،‬‬
‫وكانت النسبة أقل من ‪ %3‬خالل السنوات التي سبقت الحرب العاملية األوىل‪ ،‬ولكنها‬
‫كانت سرتتفع بعد ذلك‪ ،‬ثم انهارت خالل فرتة الكساد العظيم‪ ،‬لكن يبدو أنها تنمو اآلن‬
‫بطريقة ال يمكن إيقافها منذ نهاية الحرب العاملية الثانية‪ .‬وبشكل مرتبط بما قيل‪ ،‬يمكن‬
‫للمرء أن يرى انعكاس ذلك من خالل النظر إىل النسبة املئوية املرتفعة من طالب‬
‫مهن يف مجال الشؤون املالية‪ ،‬بدال ً من الهندسة أو الطب أو‬
‫الجامعات الساعني ملزاولة ٍ‬
‫غريها من القطاعات األكثر إنتاجية‪.‬‬

‫فمع تقدم تكنولوجيا االتصاالت‪ ،‬يتوقع املرء أن يتم إنجاز الكثري من املهام يف‬
‫القطاع املايل بشكل آيل‪ ،‬مما يؤدي إىل تقلص حجم هذا القطاع بمرور الوقت‪ ،‬لكن يف‬
‫الواقع‪ ،‬إنه يستمر يف التوسع‪ ،‬ليس بسبب أي طلب جوهري عليه‪ ،‬بل ألن هناك حكومة‬
‫تحميه من الخسائر وتسمح له بالنمو واالزدهار‪.‬‬

‫وقد تكون "العملة َ‬


‫الخل َِسة" أكثر وضوحا ً يف القطاع املايل‪ ،‬لكنها ال تتوقف عند‬
‫القطاع املرصيف‪ ،‬فيمكن القول إنها تمنح أفضلية تنافسية طويلة األمد للرشكات ذات‬
‫مقارنة بتلك ذات الحجم األصغر‪ .‬ففي مجتمع يتم فيه تمويل استثمارات‬ ‫ً‬ ‫الحجم الواسع‬
‫رؤوس األموال من املدخرات‪ ،‬فإن رؤوس األموال فيه يمتلكها أولئك الذين يتبعون سياسة‬
‫التفضيل الزمني املنخفض‪ ،‬ويقومون بتخصيصه بنا ًء عىل تقديراتهم الحتماالت نجاح‬

‫‪ 26‬توماس فيليبون‪ ،‬وأريل ريشيف‪" .‬نظرة عاملية على منو االقتصاد احلديث" جملة املنظورات االقتصادية‪ ،‬اجمللد ‪27‬‬
‫العدد ‪( 2‬عام ‪ )2013‬الصفحة ‪.96 – 72‬‬

‫‪185‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ُّ‬
‫ليتلقوا املكافآت إذا كانوا مصيبني وسيفقدوها إذا كانوا عىل خطأ‪ .‬لكن مع النقد‬ ‫السوق‬
‫غري السليم‪ ،‬يتم تدمري املدخرات ويتم إنشاء رؤوس األموال من ائتمان املصارف‬
‫التضخمي ثم يتم تخصيصه من قبل البنوك املركزية ومصارفه الفرعية‪ .‬فبدال ً من أن يتم‬
‫تحديد التخصيص من قبل حكماء املجتمع الذين يتبعون سياسة التفضيل الزمني‬
‫املنخفض ويملكون بصرية يف األسواق‪ ،‬يقع القرار بأيادي البريوقراطيني الحكوميني‬
‫الذين هدفهم هو إقراض أكرب قدر ممكن من املال‪ ،‬وال يكون هدفهم أن يكونوا عىل صواب‬
‫وذلك ألنهم محميون من الجوانب السلبية‪.‬‬

‫وبهذا‪ ،‬ال يختلف التخطيط املركزي لتخصيص االئتمان عن أي نوع من‬


‫التخطيط املركزي‪ ،‬وينتج عن ذلك انخراط البريوقراطيني يف فحص تحقيق الرشوط‬
‫وتوقيعهم لألوراق لضمان تحقيقهم ملتطلبات رؤسائهم بينما يضيع هدف العمل‬
‫الظاهري‪ .‬فرأي املرصيف وعملية املثابرة للتحقق من القيمة الحقيقية لالستثمار يتم‬
‫أحقية وأهلية املتقدم ملتطلبات املرصف لعملية‬ ‫ِّ‬ ‫استبدالها بمىلء مربعات لفحص‬
‫اإلقراض‪ .‬وبهذا‪ ،‬إن امليزة الرئيسية يف ضمان االئتمان املركزي هي الحجم‪ ،‬حيث تبدو‬
‫عملية إقراض املقرتضني العمالقة أقل خطورة بشكل كبري من ناحية الكمية‪ ،‬وكلما كانت‬
‫الرشكة أكرب‪ ،‬كانت صيغة نجاحها أكثر قابلية للتنبؤ‪ ،‬وكانت الضمانات أكرب يف حالة‬
‫فشلها‪ ،‬كما أنها ت ُ ِّ‬
‫عزز أيضا ً شعور البريوقراطيني املرصفيني باألمان عند تقديم القروض‬
‫وفقا ً ملعايري اإلقراض من البنك املركزي‪ .‬ويف حني أن العديد من القطاعات يمكن أن‬
‫تستفيد من امتياز اقتصاد الحجم الواسع‪ ،‬إال أن إصدار االئتمان املركزي يُربز مزايا‬
‫الحجم الواسع وكيف كانت ستكون عليه الحالة يف السوق الحرة‪ .‬فأي قطاع يمكنه‬
‫اقرتاض مبلغ مايل ال يعرف أصحابه ما عليهم فعله به‪ ،‬يُعترب مرشحا ً جيداً‪ ،‬ولكن‬
‫سيناريو كهذا ال يمكن تحقيقه يف عالم من رؤوس األموال التي تم جمعها باملدخرات‪.‬‬

‫فكلما كرب حجم الرشكة‪ ،‬أصبح من األسهل عليها تأمني تمويل منخفض‬
‫الفائدة‪ ،‬مما يمنحها أفضلية كبرية عىل املنتجني املستقلني األصغر‪ .‬ففي مجتمع يتم فيه‬
‫تمويل االستثمارات من املدخرات‪ ،‬يتنافس مطعم عائيل صغري عىل الزبائن والتمويل‬
‫بالتساوي مع عمالقة الوجبات الرسيعة‪ :‬حيث أن لدى الزبائن واملستثمرين حرية‬
‫االختيار يف تخصيص أموالهم بني القطاعَ ني‪ ،‬وحرية االختيار بني فوائد امتياز اقتصاد‬

‫‪186‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫الحجم الواسع مقابل فوائد االهتمام الشخيص والعالقة بني الطباخ وزبون املطعم‬
‫الصغري‪ ،‬وبالنهاية اختبار السوق سيقرر النتيجة‪ .‬لكن يف عالم يتم فيه تخصيص‬
‫االئتمان من قبل البنوك املركزية‪ ،‬فإن الرشكة الكبرية تتمتع بأفضلية تأمني تمويل بمعدل‬
‫منخفض ال يستطيع املنافس الصغري الحصول عليه‪ 27.‬يساعد هذا يف تفسري سبب انتشار‬
‫عمالقة منتجي الطعام عىل نطاق واسع يف جميع أنحاء العالم حيث تسمح لهم معدالت‬
‫الفائدة املنخفضة بتحصيل هوامش أكرب‪ .‬وال يمكن فهم سبب انتصار الوجبات الرسيعة‬
‫سيئة املذاق وواسعة اإلنتاج إال عرب املنافع الضخمة التي يوفرها امتياز الحجم الواسع‬
‫للمنتجني‪.‬‬

‫ففي عالم يتم فيه تمويل جميع الرشكات تقريبا ً من خالل التوسع االئتماني‬
‫للبنك املركزي‪ ،‬ال يمكن أن تكون هناك طريقة بسيطة للتعرف عىل القطاعات التي تنمو‬
‫الخل َِسة"‪ ،‬ولكن هناك بعض األعراض املُنبهة‪ .‬فأي قطاع‬ ‫بسبب حَ ْق ِن منشطات "العملة َ‬
‫يشتكي فيه الناس من رئيسهم األحمق هو عىل األرجح جزء من "العملة َ‬
‫الخل َِسة"‪ ،‬وذلك‬
‫ألن الرؤساء ال يستطيعون إال أن يكونوا أغبياء يف الواقع االقتصادي املزيَّف ل ِـ "العملة‬
‫الخل َِسة"‪ .‬ففي رشكة منتجة تُقدم خدمات َقيِّمة للمجتمع‪ ،‬يعتمد النجاح عىل إرضاء‬ ‫َ‬
‫الزبائن‪ ،‬ويُكا َفأ العمال عىل مدى نجاحهم يف القيام بتلك املهمة األساسية‪ .‬والرؤساء الذين‬

‫‪ 27‬ميكن اعتبار مركزية إصدار االئتمان كالتدخل احلكومي يف تطبيق قانون كواس‪ ،‬الذي وصفه كواس يف مقاله‪:‬‬
‫"طبيعة الشركات"‪ ،‬جملة إيكونوميكا‪ ،‬اجمللد ‪ 4‬العدد ‪( 16‬عام ‪ )1937‬الصفحة ‪ .405 – 386‬فوفقا لكواس‪،‬‬
‫إن سبب وجود الشركات هو أن التعاقد الفردي للمهام ميكن أن يكون أكثر تكلفة ألنه يتضمن تكاليف‬
‫التحويالت مثل البحث واملعلومات واملساومة والتعاقد وتكاليف التنفيذ‪ .‬ابلتايل‪ ،‬ستنمو الشركة ما دام ميكنها‬
‫االستفادة من القيام أبنشطة داخلية للتغلب على ارتفاع تكاليف التعاقد اخلارجي‪ .‬ففي عامل ذي عملة تفقد‬
‫خمصص مركزايً‪ ،‬يصبح حتقيق التمويل أحد مزااي التكلفة الرئيسية للنمو من حيث احلجم‪ .‬فلدى‬ ‫قيمتها وائتمان ّ‬
‫الشركات الكبرية املزيد من السلع الرأمسالية والضماانت‪ ،‬مما يطرح أمامها شروط متويل أقل‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن احلافز‬
‫لكل نشاط جتاري ينمو إىل حد يتجاوز فيه ما يفضله املستهلكون‪ .‬أما يف سوق حرة لرؤوس املال حيث كان‬
‫على الشركات االعتماد بشكل أكرب على إيراداهتا وأتمني االئتمان يف األسواق احلرة‪ ،‬فإن الناتج سيفضل حجم‬
‫اإلنتاج األكثر مالءمة لتفضيالت املستهلكني‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫يسيئون معاملة موظفيهم‪ ،‬إما سيخرسون موظفيهم لرشكة منافسة أو سيدمرون‬


‫أعمالهم برسعة‪ .‬أما يف الرشكات غري املنتجة التي ال تخدم املجتمع وتعتمد عىل السخاء‬
‫البريوقراطي الستمراريتها‪ ،‬فال يوجد معيار جيد ملكافأة العمال أو معاقبتهم‪ .‬ويمكن أن‬
‫ظمة وقلة‬‫الخل َِسة" مغري ًة من الخارج‪ ،‬وذلك بفضل الرواتب املرتفعة املنت َ‬
‫تبدو "العملة َ‬
‫العمل الفعيل‪ ،‬لكن إذا تعلمنا من االقتصاد أمرا ً واحداً‪ ،‬فإنه ال يوجد يشء يُدعى وجبة‬
‫غداء مجانية‪ .‬فإعطاء األموال إىل األشخاص غري املنتجني سيجذب الكثري من هؤالء‬
‫األشخاص الذين يرغبون يف القيام بمثل بهذه الوظائف‪ ،‬مما يؤدي إىل زيادة تكلفة القيام‬
‫بهذه الوظائف عىل صعيد الوقت والكرامة‪ .‬فالتوظيف‪ ،‬وترسيح العمال‪ ،‬والرتقية‬
‫والعقاب‪ ،‬كل ذلك يحدث وفقا ً لتقدير الكثري من البريوقراطيني‪ ،‬وإذا لم يتواجد أي عمل‬
‫ذي قيمة للرشكة‪ ،‬فيمكن عندها االستغناء عن الجميع‪ ،‬والطريقة الوحيدة التي يحافظ‬
‫فيها أي شخص عىل عمله هي بإثبات قيمته أمام الطبقة التي تعلوه‪ .‬إن العمل يف هذه‬
‫الرشكات هو بمثابة لَعب لعبة سياسات املكتب طيلة الوقت‪ .‬فهذه الوظائف ال تجذب‬
‫سوى األشخاص املاديني السطحيني الذين يستمتعون بفرض سلطتهم عىل اآلخرين‪،‬‬
‫ويتم تَحمّ ل أعوام من سوء املعاملة مقابل الراتب واألمل يف أن يكونوا قادرين عىل معاملة‬
‫اآلخرين بشكل يسء الحقاً‪ .‬وال عجب يف أ َّن األشخاص الذين يعملون يف هذه الوظائف هم‬
‫أشخاص يتعرضون لالكتئاب بشكل منتظم ويحتاجون إىل دواء دائم وعالج نفيس‬
‫للحفاظ عىل وظائفهم األساسية‪ ،‬لكن ال يستحق أي مبلغ من نقود "العملة َ‬
‫الخل َِسة" هذا‬
‫التدمري الروحي الذي تُخلِّفه هذه البيئة لدى الناس‪ .‬ويف حني أن هذه املنظمات ال تواجه‬
‫أي مساءلة حقيقية‪ ،‬إال أن الجانب اآلخر من عدم وجود إنتاجية هو أنه من املحتمل أن‬
‫يستلم مسؤول مُنتَخب حديثا ً زمام األمور ليقوم بقطع التمويل عنهم بغضون أسابيع‪.‬‬
‫إن مصريا ً كهذا سيكون أكثر مأساوية لعمال هذه املنظمات ألنهم بشكل عام ال يملكون‬
‫أي مهارات مفيدة يمكن استخدامها يف أعمال أخرى‪.‬‬

‫والعالج الوحيد ملثل هذه األمراض هو النقد السليم الذي سيقيض عىل مفهوم‬
‫األشخاص الذين يعملون من أجل توقيع األوراق وإسعاد الرؤساء الساديني‪ ،‬وسيصبح‬
‫وَجدت نفسك كادحا ً يف إحدى‬
‫َ‬ ‫انضباط السوق هو الحَ كم الوحيد لدخل أي شخص‪ .‬فإذا‬
‫هذه القطاعات بحيث يتمحور جهد وظيفتك حول إرضاء مديرك فقط بدال ً من إنتاج يشء‬

‫‪188‬‬
‫النقد السليم والحرية الشخصية‬

‫ذي قيمة وال يرضيك هذا الواقع‪ ،‬فقد تشعر باالرتياح أو الخوف من إدراك أن هذا العالم‬
‫ال يجب أن يكون عىل هذا الشكل‪ ،‬وقد ال تبقى وظيفتك إىل األبد‪ ،‬ألنه قد ال تستمر مطابع‬
‫حكومتك يف العمل إىل األبد‪ .‬تابع القراءة‪ ،‬ألن مزايا النقد السليم قد تُنشئ عاملا ً جديدا ً من‬
‫الفرص ألجلك‪.‬‬

‫‪189‬‬
190
‫الفصل الثامن‬

‫النقد الرقمي‬

‫إن ثورة تكنولوجيا االتصاالت العاملية التي بدأت بإنتاج أول حاسوب قابل للربمجة بشكل‬
‫كامل يف خمسينات القرن العرشين قد وصلت إىل عدد متزايد من الجوانب املادية للحياة‪،‬‬
‫هندسية ملشاكل موجودة منذ زمن طويل‪ .‬ويف حني زادت املصارف‬ ‫ً‬ ‫وقدَّمت حلوال ً‬
‫والرشكات الناشئة من كمية استخدامها للحواسيب وتكنولوجيا الشبكات من أجل‬
‫املدفوعات وحفظ السجالت‪ ،‬إال أن االبتكارات التي نجحت لم تُقدِّم شكال ً جديدا ً من النقد‪،‬‬
‫وجميع االبتكارات التي حاولت تقديم شكل جديد من النقد باءت بالفشل‪ .‬لهذا‪ ،‬يُمثِّل‬
‫البيتكوين أول حل رقمي حقيقي ملشكلة النقد‪ ،‬وفيه نجد حالً محتمالً ملشاكل قابلية‬
‫البيع وسالمة وسيادة النقد‪ .‬فلقد عمل البيتكوين دون فشل خالل السنوات التسع‬
‫املاضية‪ ،‬وإذا استمر يف العمل عىل هذا النحو يف التسعني سنة القادمة‪ ،‬فسيُمثِّل حالً‬
‫مُقنِعا ً ملشكلة النقد مانحا ً األفراد ميزة السيادة عىل نقودهم‪ ،‬وذلك ألنه مقاوم للتضخم‬
‫غري املتوقع‪ ،‬كما أنه قابل للبيع بشكل كبري عىل صعيد املكان والزمان والقياس‪ .‬وإذا‬
‫ظفها‬ ‫استمر البيتكوين بالعمل كما يعمل حالياً‪ ،‬فإن جميع التقنيات السابقة التي وَ َّ‬
‫البرش كنقد مثل األصداف‪ ،‬وامللح‪ ،‬واملاشية‪ ،‬واملعادن الثمينة واألوراق النقدية الحكومية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫عدادات بجوار أجهزة‬ ‫قد تبدو كتقنيات غريبة عفا عليها الزمن يف عاملنا الحديث – مثل‬
‫الحواسيب الحديثة‪.‬‬

‫ولقد رأينا كيف أن ظهور علم املعادن قد أنتج حلوال ً ملشكلة النقد‪ ،‬حلوال ً‬
‫متفوقة عىل الخرز واملحار وغريها من األدوات‪ ،‬ورأينا كيف أن ظهور العمالت املُنتَظمة قد‬
‫سمح للعمالت الذهبية والفضية بالظهور كأشكال نقدية متفوقة عىل الكتل املعدنية غري‬
‫املنتظمة‪ ،‬كما ورأينا كيف أن املصارف املدعومة بالذهب قد سمحت للذهب بالهيمنة‬
‫كمعيار نقدي عاملي مما أدى إىل إلغاء الصفة النقدية للفضة‪ .‬وانطالقا ً من رضورة إضفاء‬

‫‪191‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الطابع املركزي للذهب‪ ،‬انبثق النقد الحكومي املدعوم بهذا الذهب‪ ،‬والذي كان أكثر قابلية‬
‫للتداول من حيث القياسات‪ ،‬ولكن أتى مع ذلك الزيادة الحكومية للعرض النقدي‬
‫والسيطرة القرسية اللذين دمرا يف نهاية املطاف سالمة وسيادة النقد‪ .‬ففي كل خطوة عىل‬
‫ظفها البرش‪،‬‬‫الطريق‪َ ،‬ش َّكلت الحقائق والتطورات التكنولوجية املعايريَ النقدية التي وَ َّ‬
‫وكانت عواقب ذلك هائلة عىل االقتصادات واملجتمعات‪ .‬فاملجتمعات واألفراد الذين‬
‫اختاروا معيارا ً نقديا ً سليما ً استفادوا بشكل كبري مثل الرومان تحت قيادة قيرص‪،‬‬
‫والبيزنطيني تحت قيادة قسطنطني‪ ،‬واألوروبيني الذين كانوا جميعا ً تحت حكم املعيار‬
‫الذهبي‪ .‬أما أولئك الذين كانوا يملكون نقدا ً غري سليم أو ضعيف من الناحية التكنولوجية‬
‫مثل سكان جزيرة ياب مع وصول أوكييفي‪ ،‬أو سكان غرب أفريقيا الذين استخدموا‬
‫الخرز الزجاجي‪ ،‬أو الصينيني الذين كانوا تحت حكم املعيار الفيض يف القرن التاسع‬
‫عرش‪ ،‬فقد دفعوا ثمنا ً باهظاً‪.‬‬

‫ويُ َمث ِّ ُل البيتكوين حال ً تكنولوجيا ً جديدا ً ملشكلة النقد وُ ِل َد من العرص الرقمي‪،‬‬
‫مُستخدِما ً العديد من االبتكارات التكنولوجية التي تم تطويرها عىل مدى العقود القليلة‬
‫املاضية‪ ،‬ومستفيدا ً من التجارب العديدة إلنتاج نقد رقمي‪ ،‬وذلك لتقديم يشء كان من‬
‫املستحيل تَصوُّره قبل اخرتاعه‪ .‬ولفهم الكيفية‪ ،‬سنقوم بالرتكيز عىل الخصائص النقدية‬
‫إن هذا الفصل‬‫للبيتكوين باإلضافة إىل األداء االقتصادي للشبكة منذ إنشائها‪ .‬لهذا السبب‪َّ ،‬‬
‫لن يتعمق كثريا ً يف التفاصيل التقنية لعمليات شبكة البيتكوين‪ ،‬بل سريكز عىل‬
‫الخصائص النقدية لعِ ملة البيتكوين‪ ،‬تماما ً كما تُر ِّكز بعض الكتب عىل مناقشة معيار‬
‫الذهب فقط وال تقوم بمناقشة خواصه الكيميائية‪.‬‬

‫البيتكوين كنقد رقمي‬


‫لفهم أهمية وجود التكنولوجيا للعمالت النقدية الرقمية‪ ،‬من املهم النظر إىل‬
‫العالَم قبل اخرتاع عملة البيتكوين‪ ،‬حيث يمكن بسهولة تقسيم طرق الدفع إىل فئتني‬
‫مختلفتني غري متداخلتني‪:‬‬

‫‪192‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫‪ -1‬املدفوعات النقدية‪ :‬وهي التي تتم شخصيا ً بني طرفني‪ .‬وتتميز هذه املدفوعات بكونها‬
‫فورية ونهائية‪ ،‬وال تتطلب الثقة يف أي طرف متعاقد‪ ،‬وال يوجد أي تأخري يف تنفيذ عملية‬
‫الدفع‪ ،‬وال يمكن ألي طرف ثالث التدخل بفعالية لوقف هذه املدفوعات‪ .‬وتتمثل العقبة‬
‫الرئيسية يف هذه الطريقة برضورة تواجد الطرفني يف نفس املكان يف الوقت ذاته‪ ،‬وهي‬
‫مشكلة تزداد حدة وذلك ألن االتصاالت قد زادت من احتمالية رغبة األفراد بالتعامل مع‬
‫أشخاص ليسوا يف مكان قريب منهم‪.‬‬

‫‪ -2‬املدفوعات عرب وسيط‪ :‬وهي التي تتطلب طرفا ً ثالثا ً موثوقا ً به وتشمل الشيكات‪،‬‬
‫والبطاقات االئتمانية‪ ،‬وبطاقات ال َّدين‪ ،‬والحواالت املرصفية‪ ،‬وخدمات تحويل األموال‪،‬‬
‫واالبتكارات الحديثة مثل "‪ ."PayPal‬وحَ ْسبَ التعريف‪ ،‬إن الدفع عرب وسيط يتضمن‬
‫طرفا ً ثالثا ً يدير عملية تحويل النقد بني الطرفني املتعاملني‪ .‬واملزايا الرئيسية للمدفوعات‬
‫عرب وسيط هي سماحها بإجراء املدفوعات دون الحاجة لتواجد الطرفني يف نفس املكان يف‬
‫الوقت ذاته‪ ،‬والسماح للعميل بالدفع دون الحاجة إىل حمل النقود‪ .‬أما العقبة األساسية‬
‫فيها فتتمثل بالثقة املطلوبة يف تنفيذ هذه التحويالت‪ ،‬وبمخاطر اخرتاق الطرف الثالث‪،‬‬
‫وبالتكلفة والوقت الالزمني إلتمام وتصفية عملية الدفع وذلك من أجل السماح للمتلقي‬
‫بإنفاق املال‪.‬‬

‫فلدى كل من الطريقتني ميزات وعيوب‪ ،‬ويلجأ معظم الناس إىل مزيج من‬
‫الطريقتني يف تحويالتهم املالية‪ .‬وقبل اخرتاع البيتكوين‪ ،‬احتوت املدفوعات عرب وسيط‬
‫جميع أشكال املدفوعات الرقمية‪ .‬وطبيعة األشياء الرقمية منذ اخرتاع أجهزة الحاسوب‬
‫أنها ليست نادرة أو شحيحة‪ ،‬حيث يمكن إعادة إنتاجها بشكل سهل‪ ،‬وبالتايل كان من‬
‫املستحيل اتِّخاذ أحدها كعملة وذلك ألن إرسالها لن يؤدي إال إىل نسخها ومضاعفتها‪ .‬لهذا‬
‫السبب‪ ،‬وجب وجود وسيط لتنفيذ أي شكل من أشكال الدفع اإللكرتوني بسبب خطر‬
‫اإلنفاق املزدوج‪ :‬حيث أنه لم يكن هناك طريقة تَ ْض َم ُن صدق ونزاهة الدافع بشأن نقوده‬
‫وعدم استخدامه لها أكثر من مرة‪ ،‬ما لم يكن هناك طرف ثالث موثوق به يرشف عىل‬
‫الحساب‪ ،‬ويستطيع التحقق من سالمة ونزاهة التحويالت التي تم إجراؤها‪ .‬لهذا األمر‪،‬‬
‫اقترصت التحويالت النقدية عىل عالَم االتصال املبارش الفيزيائي‪ ،‬يف حني أن جميع أشكال‬
‫املدفوعات الرقمية وجب أن يُرشف عليها طرف ثالث‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫لكن وبعد سنوات من التجربة املبتكرة وارتكاب األخطاء من قِ بَل العديد من‬
‫املربمجني‪ ،‬ومن خالل االعتماد عىل مجموعة واسعة من التقنيات‪ ،‬كان البيتكوين أول حل‬
‫هنديس يسمح بإجراء مدفوعات رقمية دون الحاجة إىل االعتماد عىل وسيط ثالث موثوق‬
‫به‪ .‬وبكونه أول كيان رقمي محدود الكمية‪ ،‬أصبح البيتكوين أول مثال عىل النقد الرقمي‪.‬‬

‫ف هناك العديد من العيوب يف إجراء التحويالت عرب طرف ثالث موثوق به‪ ،‬وهذا‬
‫ف‬ ‫ما يجعل النقد الرقمي مسألة َقيِّمَة للكثريين‪ .‬فاألطراف الثالثة بطبيعتها هي َ‬
‫ضعْ ٌ‬
‫أمني إضايف‪ -1‬فوجود طرف إضايف يف التحويالت يطرح يف حد ذاته مخاطر‪ ،‬ألنه يحمل‬
‫معه احتماالت جديدة للرسقة أو الفشل التقني‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬إن الدفع عن طريق‬
‫وسطاء يجعل األطراف عرضة للمراقبة والحظر من قبل السلطات السياسية‪ .‬وبعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬عند اللجوء إىل أي شكل من أشكال الدفع الرقمي‪ ،‬فال يوجد هناك خيار سوى‬
‫الثقة يف الطرف الثالث والسلطات السياسية التي تحكمه‪ ،‬والخضوع لخطر إيقاف‬
‫السلطة السياسية لعملية الدفع تحت ذرائع األمن أو اإلرهاب أو غسل األموال‪ .‬وما يزيد‬
‫الطني بلة‪ ،‬هو أن املدفوعات عرب وسيط تتضمن دائما ً مخاطر االحتيال‪ ،‬مما يرفع تكاليف‬
‫التحويالت ويؤخر التسوية النهائية للمدفوعات‪.‬‬

‫بعبارات أخرى‪ ،‬إن املدفوعات عرب وسيط تسلب النقد جزءا ً كبريا ً من خصائصه‬
‫كوسيط تبادل يسيطر عليه مالكه‪ ،‬مع منحه سيولة عالية لبيعه وقتما يشاء‪ .‬فتاريخياً‪،‬‬
‫أكثر خصائص النقد ثباتا ً هي قابلية االستبدال (أيُّ وحدة من النقد تعادل أي وحدة‬
‫أخرى)‪ ،‬والسيولة (قدرة املالك عىل البيع برسعة بسعر السوق)‪ .‬وبهذا‪ ،‬يختار األفراد نقدا ً‬
‫قابال ً لالستبدال وذا سيولة مرتفعة ألنهم يريدون تحقيق السيادة عىل نقودهم‪ ،‬حيث‬
‫يحتوي النقد ذو صفة السيادة يف طياته عىل كل اإلذن الالزم إلنفاقه؛ والرغبة يف احتفاظ‬
‫األفراد به تتعدى قدرة اآلخرين عىل فرض ضوابط عليه‪.‬‬

‫ويف حني أن املدفوعات عرب وسيط تقيض عىل بعض امليزات املرغوبة للنقد‪ ،‬إال‬

‫‪ 1‬اقرأ كتاب نك سابو‪ ،‬األطراف الثالثة املوثوقة هي نقاط ضعف أمنية‪ .2001 ،‬متوفر على املوقع‬
‫‪http://www.nakamotoinstitute.org‬‬

‫‪194‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫أن أوجه القصور هذه ليست موجودة يف التحويالت النقدية املادية‪ .‬فبعد ازدياد كمية‬
‫التجارة والتوظيف عرب مسافات طويلة بفضل االتصاالت الحديثة‪ ،‬أصبحت التحويالت‬
‫النقدية املادية باهظة بشكل غري عميل‪ ،‬كما أن التوجه نحو املدفوعات الرقمية قام‬
‫بالتقليل من مقدار السيادة التي يمتلكها الناس عىل أموالهم الخاصة تاركا ً هؤالء الناس‬
‫خاضعني ألهواء األطراف الثالثة التي لم يكن لديهم خيار سوى الثقة بهذه األطراف‪.‬‬
‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬إن االبتعاد عن الذهب‪ ،‬وهو النقد الذي ال يستطيع أي أحد طباعته‪،‬‬
‫واالتجاه نحو العمالت الورقية التي تسيطر البنوك املركزية عىل املعروض منها‪ ،‬قد قلل‬
‫من سيادة األفراد عىل ثرواتهم‪ ،‬وتركهم عاجزين أمام التآكل البطيء لقيمة نقودهم‬
‫بسبب تضخيم البنوك املركزية للعرض النقدي من أجل تمويل عمليات الحكومة‪ .‬وبشكل‬
‫إذن من‬
‫متزايد‪ ،‬أصبح من غري العميل مراكمة رؤوس املال والثروات دون الحصول عىل ٍ‬
‫الحكومة املُصدرة لتلك النقود‪.‬‬

‫فالدافع إلنشاء ساتويش ناكاموتو للبيتكوين كان هو طرح "شكل من العملة‬


‫اإللكرتونية بنظام نظري إىل نظري" ال يتطلب الثقة يف أطراف ثالثة إلجراء التحويالت‪ ،‬وال‬
‫يمكن تعديل عرضها من قبل أي طرف آخر‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬إن البيتكوين سيجلب ميزات‬
‫النقد املادي املرغوبة (عدم وجود وسطاء‪ ،‬نهائي التحويالت) إىل عالم التكنولوجيا‬
‫الرقمية‪ ،‬وسيجمعها مع سياسة نقدية صارمة ال يمكن التالعب بها إلحداث تضخم غري‬
‫متوقع لصالح طرف خارجي عىل حساب مالكيها‪ .‬وقد نجح ناكاموتو يف تحقيق ذلك عرب‬
‫استخدام عدد قليل من التقنيات املهمة وغري املفهومة بشكل واسع‪ :‬وذلك من خالل إنشاء‬
‫ُوَزعة مع عدم وجود نقطة واحدة من الفشل‪ ،‬وتشمل خاصية‬ ‫شبكة نظري إىل نظري م َّ‬
‫‪2‬‬
‫الدمج‪ ،‬والتوقيعات الرقمية ونظام إثبات العمل‪.‬‬

‫فلقد ألغى ناكاموتو حاجتنا للثقة يف األطراف الثالثة عن طريق إنشاء‬


‫أساس يعتمد بشكل شامل ودقيق عىل عمليَّتي اإلثبات والتحقق‪ .‬ويمكن‬‫ٍ‬ ‫البيتكوين عىل‬
‫القول إن امليزة التشغيلية الرئيسية للبيتكوين هي التحقق‪ ،‬وبسبب ذلك فقط‪ ،‬تَ َم َّكن‬

‫‪ 2‬يوجد وصف موجز للتقنيات الثالث األوىل من هذه يف ملحق هذا الفصل‪ ،‬بينما يتم نقاش نظام إثبات العمل‬
‫مبزيد من التفصيل يف هذا الفصل ويف الفصل العاشر‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫البيتكوين من إزالة حاجتنا للثقة كليا ً‪ .3‬ويف هذه الطريقة‪ ،‬يجب أن يتم تسجيل كل‬
‫تحويل من قبل جميع أعضاء الشبكة بحيث يتشارك جميعهم يف سجل مشرتك يحتوي‬
‫عىل جميع األرصدة والتحويالت‪ .‬وعندما يقوم عضو من الشبكة بتحويل مبلغ إىل عضو‬
‫آخر‪ ،‬يمكن لجميع أعضاء الشبكة التحقق من امتالك املرسل لرصيد كاف‪ ،‬ثم تتنافس‬
‫العقد لتكون أول من يقوم بتحديث السجل وإضافة كتلة جديدة من التحويالت كل عرش‬
‫دقائق‪ .‬ولكي تتمكن العقدة من إضافة كتلة من التحويالت إىل السجل‪ ،‬يجب عليها أن‬
‫تُنفِ ق طاقة املعالجة عىل حل املسائل الرياضية املعقدة التي يَص ُعب حلها‪ ،‬ولكن يَسهُل‬
‫التحقق من صحة هذا الحل‪ ،‬وهذا ما يُدعى بنظام إثبات العمل "‪ ،"PoW‬وفقط بعد‬
‫إيجاد حل صحيح‪ ،‬يمكن إدخال كتلةٍ واملوافقة عليها من قِ ب َِل جميع أعضاء الشبكة‪ .‬ويف‬
‫حني أن هذه املسائل الرياضية ال عالقة لها بتحويالت البيتكوين‪ ،‬إال أنه ال غنى عنها‬
‫جرب ال ُع َقد عىل إنفاق طاقة املعالجة من أجل توثيق‬ ‫لتشغيل النظام‪ ،‬حيث أنها ت ُ ِ‬
‫التحويالت‪ ،‬وسيتم إهدار هذه الطاقة إذا ما قامت هذه العقد بإدراج تحويالت احتيالية‪.‬‬
‫وبمجرد أن تح َّل العقدة نظام إثبات العمل بشكل صحيح وتعلن عن التحويالت‪ ،‬تُصوِّت‬
‫عقد الشبكة األخرى عىل صحته‪ ،‬وبمجرد أن تصوت األغلبية لصالح املوافقة عىل الكتلة‪،‬‬
‫تبدأ العقد بإيداع التحويالت إىل كتلة جديدة ليتم ربطها بالكتلة السابقة والقيام بح ّل‬
‫نظام إثبات العمل الجديد للكتلة الجديدة‪ .‬األهم من ذلك‪ ،‬هو أن العقدة التي تُودِع ً‬
‫كتلة‬
‫صالحة من التحويالت للشبكة تحصل عىل مكافأة الكتلة‪ ،‬والتي هي عبارة عن أمرين‪:‬‬
‫بيتكوين جديد يتم إضافته إىل العرض الحايل‪ ،‬باإلضافة إىل كل رسوم التحويالت التي‬
‫يتم دفعها من قبل األشخاص الذين يحولونها‪.‬‬

‫إن هذه العملية تُدعى "التعدين"‪ ،‬مُستمَدة من تعدين املعادن الثمينة‪ ،‬ولهذا‬
‫السبب‪ ،‬عُ رفت العقد التي تحل نظام إثبات العمل باسم املُعَ دِّنني‪ ،‬وتقوم مكافأة الكتل‬
‫بتعويض هؤالء املُعدّنني عن املوارد التي أنفقوها عىل نظام إثبات العمل‪ .‬ويف حني أنه يف‬
‫نشأة حديثا ً لتمويل اإلقراض واإلنفاق‬ ‫البنوك املركزية الحديثة يتم توظيف النقود املُ َ‬

‫‪ 3‬كونراد غراف‪" ،‬بشأن أصول البيتكوين‪ :‬مراحل التطور النقدي" (عام ‪ )2013‬متوفر على املوقع‪:‬‬
‫‪http://www.konradsgraf.com‬‬

‫‪196‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫الحكومي‪ ،‬إال أنه يف البيتكوين يتم تخصيص النقود الجديدة فقط إىل أولئك الذين‬
‫ينفقون مواردهم لتحديث السجل‪ .‬فقد قام ناكاموتو بربمجة البيتكوين إلنتاج كتلة‬
‫جديدة كل عرش دقائق تقريباً‪ ،‬بحيث تحتوي كل كتلة عىل مكافأة قدرها ‪ 50‬قطعة نقدية‬
‫صف بعد ذلك إىل ‪ 25‬قطعة نقدية‪،‬‬ ‫يف السنوات األربع األوىل من عمل شبكة البيتكوين‪ ،‬لتُن َ َّ‬
‫صف مرة أخرى بعد أربع سنوات‪ ،‬ويستمر هذا النمط‪.‬‬ ‫ثم تُن َ َّ‬

‫نشأة قد تم برمجتها مسبقا ً وال يمكن تغيريها بغض النظر‬‫فكمية البيتكوين املُ َ‬
‫عن مقدار الجهد والطاقة املستهلكة عىل نظام إثبات العمل‪ ،‬ويتم تحقيق هذا من خالل‬
‫عملية تُدعى تعديل الصعوبة‪ ،‬والتي هي غالبا ً أذكى جانب من جوانب تصميم البيتكوين‪.‬‬
‫فمع اختيار املزيد من الناس االحتفاظ بالبيتكوين‪ ،‬فإن هذا يؤدي إىل ارتفاع قيمته‬
‫السوقية‪ ،‬وسيجعل من تعدين العمالت الجديدة أمرا ً مربحا ً بشكل أكثر‪ ،‬مما سيدفع‬
‫املزيد من املُعَ دِّنني إىل إنفاق املزيد من مواردهم لحل مسائل نظام إثبات العمل‪ .‬واملزيد‬
‫من املُعدنني يعني املزيد من قوة املعالجة‪ ،‬والتي من شأنها أن تؤدي إىل حلول ملسائل‬
‫نظام إثبات العمل بشكل أرسع‪ ،‬وبالتايل زيادة معدل إصدار عمالت جديدة من‬
‫البيتكوين‪ .‬لكن مع ازدياد قوة املعالجة‪ ،‬فإن البيتكوين سيزيد من صعوبة املسائل‬
‫الرياضية الالزمة للحصول عىل مكافآت التعدين وذلك لكي يضمن أن إنتاج كل كتلة‬
‫جديدة سيتسمر باستغراقه لعرش دقائق تقريباً‪.‬‬

‫إن عملية تعديل الصعوبة هي التكنولوجيا األكثر موثوقية يف صنع النقد‬


‫الصعب والحد من ارتفاع نسبة املخزون إىل التدفق‪ ،‬كما أنها تجعل البيتكوين مختلفا ً‬
‫بشكل جوهري عن كل أنواع النقد األخرى‪ .‬ففي حني أن ارتفاع قيمة أية نقد يؤدي إىل‬
‫تخصيص موارد أكثر إلنتاجه وبالتايل يزيد من عرضه‪ ،‬إال أنه عند ارتفاع قيمة‬
‫البيتكوين‪ ،‬فإن زيادة الجهود املبذولة إلنتاجه ال تؤدي إىل إنتاج املزيد من عمالت‬
‫البيتكوين‪ .‬وبدال ً من هذا‪ ،‬يؤدي ذلك فقط إىل زيادة طاقة املعالجة الرضورية إليداع‬
‫تحويالت صالحة إىل شبكة البيتكوين‪ ،‬والتي من شأنها أن تجعل الشبكة أكثر أمانا ً‬
‫وأكثر صعوبة عىل االخرتاق‪ .‬لهذا‪ ،‬إن البيتكوين هو أصعب نقد تم اخرتاعه عىل اإلطالق‪:‬‬
‫فال يمكن الرتفاع قيمته التسبب بزيادة عرضه‪ ،‬بل يؤدي ذلك إىل جعل الشبكة أكثر أمانا ً‬
‫ً‬
‫ومناعة ضد الهجمات‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫فبالنسبة لكل أنواع النقد األخرى‪ ،‬فإنه مع ارتفاع قيمتها‪ ،‬يبدأ كل من يستطيع‬
‫إنتاجها بإنتاج املزيد منها‪ ،‬سواء أكانت حجارة الراي أو أصداف البحر أو الفضة أو‬
‫الذهب أو النحاس أو النقود الحكومية‪ ،‬حيث أن الجميع سيكون لديهم الحافز ملحاولة‬
‫إنتاج املزيد منها‪ .‬وكلما ازدادت صعوبة إنتاج كميات جديدة من النقد كاستجابة‬
‫لزيادات األسعار‪ ،‬ازداد احتمال استخدامه وتبنيه عىل نطاق واسع‪ ،‬وازدهر املجتمع‬
‫بشكل أكرب ألن هذا يعني أن جهود األفراد يف إنتاج الثروة سيتم توظيفها يف خدمة‬
‫بعضهم‪ ،‬ال يف إنتاج النقد‪ ،‬وهو نشاط ال قيمة له يف املجتمع وذلك ألن أي عرض نقدي‬
‫يُعترب كافيا ً لتشغيل أي اقتصاد‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬أصبح الذهب هو النقد األسايس لكل‬
‫مجتمع متحرض تحديدا ً ألن إنتاجه هو األصعب‪ ،‬ولكن عملية تعديل صعوبة البيتكوين‬
‫تجعل إنتاجه أكثر صعوبة حتى من الذهب‪ .‬فالزيادة الكبرية يف سعر الذهب عىل املدى‬
‫الطويل ستقود إىل إنتاج كميات أكرب منه‪ ،‬لكن مهما ارتفع سعر البيتكوين‪ ،‬فإن عرضه‬
‫سيبقى كما هو‪ ،‬ولكن ستزداد مناعة وأمن شبكته‪.‬‬

‫إن أ َ ْم َن البيتكوين يكمن يف عدم التماثل بني تكلفة حل نظام إثبات العمل‬ ‫َّ‬
‫الرضوري إليداع التحويل إىل السجل‪ ،‬وبني تكلفة التحقق من صحة هذا الحل‪ .‬فتسجيل‬
‫التحويالت يكلف كميات متزايدة من الكهرباء وقوة املعالجة‪ ،‬لكن تكلفة التحقق من‬
‫صالحية التحويالت تقرتب من الصفر‪ ،‬وستبقى عند ذلك املستوى بغض النظر عن املدى‬
‫الذي سيصله نمو البيتكوين‪ .‬لهذا‪ ،‬إ َّن محاولة إيداع تحويالت احتيالية إىل سجل‬
‫البيتكوين هو أشبه بالتعمد إلهدار املوارد عىل حل نظام إثبات العمل ليكون الناتج هو‬
‫رفض هذه التحويالت ودون أي تكلفة تقريباً‪ ،‬وبالتايل حجب مكافأة الكتلة عن املُعدّن‪.‬‬

‫ومع مرور الوقت‪ ،‬ستزداد صعوبة تغيري السجل وذلك ألن الطاقة املطلوبة‬
‫ستكون أكثر من الطاقة التي أ ُنفقت بالفعل‪ ،‬والتي تنمو مع مرور الوقت‪ .‬فلقد نمت هذه‬
‫العملية التكرارية املعقدة بشكل كبري لتتطلَّب كميات هائلة من طاقة املعالجة والكهرباء‬
‫ولكنها باملقابل تُنتج ِسجل ُملكية وتحويالت ال شك بصحتها‪ ،‬دون الحاجة إىل االعتماد‬
‫عىل مصداقية أي طرف ثالث‪ .‬بمعنى أنه تم إنشاء البيتكوين عىل مبدأ التحقق ‪%100‬‬

‫‪198‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫‪4‬‬
‫والثقة ‪.%0‬‬

‫يمكن تشبيه السجل املشرتك الخاص بالبيتكوين بحجارة الراي يف جزيرة ياب‬
‫التي تمت مناقشتها يف الفصل الثاني بأنه ال يتطلب إجراء التحويالت تحريك النقد فعلياً‪،‬‬
‫لكن يف جزيزة ياب‪ ،‬كان عىل السكان االلتقاء إلعالن نقل ملكية الحجر من شخص آلخر‪،‬‬
‫وستعرف البلدة بأكملها من يمتلك هذه الحجارة‪ .‬أما يف البيتكوين‪ ،‬يقوم أعضاء الشبكة‬
‫ببث تحويالتهم لجميع أعضاء الشبكة الذين سيتحققون من أن املرسل لديه الرصيد‬
‫الالزم إلجراء التحويل‪ ،‬ثم القيام بإيداعه للمتلقي‪ .‬وللدرجة التي تتواجد بها العمالت‬
‫الرقمية‪ ،‬فهي ببساطة عبارة عن إدخاالت عىل السجل‪ ،‬والتحويل املُوَ ثَّق يقوم بتغيري‬
‫ملكية هذه العمالت يف هذا السجل من املرسل إىل املتلقي‪ .‬بحيث يتم تعيني ملكية العمالت‬
‫من خالل العناوين العامة‪ ،‬وليس من خالل أسماء حامليها‪ ،‬ويتم تأمني الوصول إىل‬
‫العمالت التابعة لعنوان ما من خالل ملكية املفتاح الخاص‪ ،‬وهو سلسلة من الرموز‬
‫‪5‬‬
‫مشابهة لكلمة املرور‪.‬‬

‫ويف حني أن الثقل الفيزيائي لحجر الراي يجعل من قابليته للقسمة أمرا ً غري‬
‫عميل أبداً‪ ،‬إال أن البيتكوين ال يواجه هذه املشكلة‪ ،‬حيث أن عرض البيتكوين يتكون من‬

‫‪ 4‬أان ال أنوي جر هذا الكتاب والقارئ إىل التساؤل عن أسئلة غيبية‪ ،‬ولكن خطر ببايل أن سجل حتويالت‬
‫البيتكوين قد يكون اجملموعة الوحيدة من احلقائق املوضوعية يف العامل‪ .‬ميكنك أن جتادل (كما يفعل العديد من‬
‫الفالسفة) أبن كل حقيقة هي غري موضوعية وأن صحتها تعتمد على الشخص الذي يقوهلا أو يسمعها‪ ،‬ولكن‬
‫يتم إنشاء سجل حتويالت البيتكوين من خ الل حتويل الكهرابء وطاقة املعاجلة إىل حقيقة دون احلاجة إىل االعتماد‬
‫على كالم أي شخص أخر‪.‬‬
‫‪ 5‬الطريقة الوحيدة المتالك البيتكوين هي ابلسيطرة على املفاتيح اخلاصة‪ ،‬وإذا متكن شخص ما من الوصول إىل‬
‫مفاتيحك اخلاصة‪ ،‬فستصبح عمالت البيتكوين اخلاصة بك له‪/‬هلا‪ .‬فسرقة املفاتيح اخلاصة مثل سرقة الدوالرات‬
‫املادية أو الذهب‪ ،‬إهنا هنائية وال عودة فيها‪ .‬وال يوجد سلطة ميكنك االتصال هبا إللغاء السرقة‪ .‬هذا جزء ال مفر‬
‫منه من كون البيتكوين نقد‪ ،‬وهي نقطة مهمة جيب أن يفهمها املستثمرون احملتملون يف البيتكوين بشكل كامل‬
‫قبل وضع أي مبلغ من املال يف البيتكوين‪ .‬فتأمني املفاتيح اخلاصة ليس مهمة بسيطة‪ ،‬وعدم القدرة على أتمينها‬
‫هو أمر حمفوف ابملخاطر‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫‪ 21,000,000‬عملة كحد أقىص‪ ،‬كل منها قابلة للقسمة إىل ‪ 100,000,000‬ساتويش‪،‬‬


‫مما يجعلها قابلة للبيع بشكل كبري عىل مختلف القياسات‪ .‬ويف حني أن حجارة جزيرة‬
‫ياب كانت عملي ًة لعدد قليل من التحويالت يف جزيرة صغرية ذات عدد صغري من السكان‬
‫الذين يعرفون بعضهم البعض بشكل جيد للغاية‪ ،‬إال أن البيتكوين يتمتع بقابلية بيع‬
‫فائقة عرب املكان وذلك ألن سج ّله الرقمي مُتاح ألي شخص متصل باإلنرتنت يف أي مكان‬
‫من العالم‪.‬‬

‫وما يحافظ عىل صدق ونزاهة عُ قد البيتكوين بشكل فردي‪ ،‬هو أنه إذا كان‬
‫مالكها غري نزيه فسيتم اكتشافه عىل الفور‪ ،‬مما يجعل عدم األمانة مماثال ً بفعاليته لعدم‬
‫القيام بأي يشء‪ ،‬لكنه يطرح تكلفة باهظة‪ .‬أما عىل الصعيد الجماعي‪ ،‬فإن ما يمنع‬
‫األغلبية من التواطؤ والتآمر عىل الترصف بعدم أمانة هو أنها إذا نجحت يف تقويض‬
‫نزاهة سجل التحويالت‪ ،‬فستُد َّمر القيمة الكلية للبيتكوين وستنهار قيمته لتقرتب من‬
‫الاليشء‪ .‬فالتآمر يُكلِّف الكثري لكنه سيؤدي بحد ذاته إىل فقدان قيمة الغنيمة‪ .‬بعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬يعتمد البيتكوين عىل الحوافز االقتصادية مما يجعل االحتيال أكثر ُكلفة من‬
‫مكافآته‪.‬‬

‫وال يتم االعتماد عىل كيان واحد للحفاظ عىل السجل‪ ،‬وال يمكن لفرد واحد تغيري‬
‫هذا السجل دون موافقة غالبية أعضاء الشبكة‪ ،‬فصالحية التحويالت ليست مرهونة‬
‫بقرار سلطة واحدة بل بالربنامج الذي يشغل العقد الفردية عىل الشبكة‪.‬‬

‫لقد قام "رالف مريكل"‪ ،‬مخرتع هيكل بيانات شجرة مريكل "‪"Merkle‬‬
‫رائع للبيتكوين‪:‬‬
‫وصف ٍ‬‫ٍ‬ ‫املُستَخدَم لتسجيل التحويالت يف البيتكوين‪ ،‬بتقديم‬

‫إن البيتكوين هو املثال األول لشكل جديد من أشكال الحياة‪ ،‬إنه يعيش‬
‫ويتنفس عىل شبكة اإلنرتنت‪ .‬يعيش ألنه يستطيع أن يَدفع لألشخاص مقابل‬
‫ً‬
‫خدمة مفيدة يَدفع الناس له كي يقدمها‪ ،‬يعيش‬ ‫إبقائه حياً‪ ،‬يعيش ألنه يُقدم‬
‫ألن أي شخص يف أي مكان يمكنه تشغيل نسخة من شيفرته‪ ،‬يعيش ألن جميع‬
‫الن ُّ َسخ العاملة منه تتحدث باستمرار مع بعضها البعض‪ ،‬يعيش ألنه إذا تم‬
‫إيجاد نسخة تالفة منه فسيتم التخلص منها برسعة دون ضجة أو فوىض‪،‬‬

‫‪200‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫يعيش ألنه يتسم بالشفافية بشكل جذري حيث أنه بإمكان أي شخص رؤية‬
‫شيفرته وما الذي تفعله بالضبط هذه الشيفرة‪.‬‬

‫ال يمكن تغيريه‪ ،‬ال يمكن الجدال معه‪ ،‬ال يمكن التالعب به‪ ،‬ال يمكن إتالفه‪ ،‬ال‬
‫يمكن إيقافه‪ ،‬ال يمكن مقاطعته حتى‪ .‬وإذا دمرت حرب نووية نصف كوكبنا‪،‬‬
‫فسيستمر بالعيش دون انقطاع‪ ،‬وسيستمر بتقديم خدماته‪ ،‬وسيستمر بالدفع‬
‫لألشخاص من أجل إبقائه حياً‪.‬‬

‫فالطريقة الوحيدة إليقافه هي بقتل كل خادم يستضيفه‪ ،‬وهذا أمر صعب‪،‬‬


‫وذلك ألن الكثري من الخوادم تستضيفه يف الكثري من البلدان‪ ،‬كما أن الكثري من‬
‫الناس يريدون استخدامه‪ .‬وبشكل واقعي‪ ،‬إن الطريقة الوحيدة لقتله هي‬
‫بجعل الخدمة التي يقدمها غري مفيدة وقديمة لدرجة أن ال أحد سريغب يف‬
‫استخدامها‪ ،‬قديمة لدرجة أن ال أحد يريد دفع ثمنها‪ ،‬وال أحد يريد استضافتها‪.‬‬
‫وعندها‪ ،‬لن يملك البيتكوين ماال ً يدفعه ألي أحد‪ ،‬ثم سيموت من الجوع‪ .‬ولكن‬
‫ما دام هناك أشخاص يريدون استخدامه‪ ،‬فمن الصعب جدا ً قتله أو إتالفه أو‬
‫إيقافه أو مقاطعته‪"6.‬‬

‫فالبيتكوين هو تقنية تنجو لنفس سبب نجاة عجلة القيادة أو السكني أو‬
‫الهاتف أو أي تقنية أخرى‪ :‬فهو تقنية توفر ملستخدميها فوائد من استخدامها‪ ،‬بحيث يتم‬
‫مكافأة املستخدمني واملُعدِّنني ومديري العقد اقتصاديا ً بسبب تفاعلهم مع البيتكوين‪،‬‬
‫وهذا ما يبقيه مستمراً‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن جميع األطراف التي تساهم بتشغيل‬
‫البيتكوين قابلة لالستبدال‪ ،‬فال أحد رضوري لعمل البيتكوين‪ ،‬وإذا أراد أي شخص تغيري‬
‫البيتكوين‪ ،‬فإن البيتكوين قاد ٌر تماما ً عىل االستمرار يف العمل كما هو دون االعتماد عىل‬
‫ُدخل قد يقوم به أي شخص عليه‪ .‬وسيساعدنا هذا عىل فهم الطبيعة الثابتة‬ ‫أي م َ‬
‫للبيتكوين يف الفصل العارش‪ ،‬وملاذا ستؤدي محاوالت إجراء تغيريات جدية يف شيفرة‬

‫‪ 6‬رالف مريكل‪" ،‬املنظمات املستقلة غري املركزية‪ ،‬الدميقراطية واحلكم" جملة كرايونيكس‪ ،‬اجمللد ‪ 37‬العدد ‪( 4‬يوليو‬
‫– أغسطس عام ‪ :)2016‬الصفحة ‪ :40 – 28‬ألكور‪http://www.alcor.org ،‬‬

‫‪201‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫البيتكوين إىل حتمية إنشاء نسخة بديلة منه أقل قيمة‪ ،‬حيث ستكون هذه النسخة عاجزة‬
‫عىل إعادة خلق التوازن االقتصادي للحوافز التي تحافظ عىل البيتكوين وتجعله مستمرا ً‬
‫وغري قابل للتغيري‪.‬‬

‫كما يمكن فهم البيتكوين عىل أنه رشكة ناشئة ومستقلة توفر شكال ً جديدا ً من‬
‫النقد وشبكة مدفوعات جديدة‪ .‬فال يوجد هيكل رشكة أو مجلس إدارة لهذه الرشكة‪،‬‬
‫حيث أن جميع القرارات تكون تلقائية ومربمجة مسبقاً‪ .‬ويمكن للمربمجني املتطوعني يف‬
‫ض تغيريات وتحسينات عىل الشيفرة‪ ،‬لكن القرار سيكون‬ ‫مرشوع مفتوح املصدر عَ ْر ُ‬
‫ٍ‬
‫رتحة لهذه الرشكة تتمثل يف‬ ‫بأيادي املستخدمني للموافقة عىل اعتمادهما أم ال‪ .‬والقيمة املق َ‬
‫أن عرضها النقدي غري مرن بتاتا ً كاستجابةٍ لزيادة الطلب والسعر؛ بدال ً من ذلك‪ ،‬يؤدي‬
‫الطلب املتزايد عىل البيتكوين إىل تكوين شبكة أكثر أمانا ً بسبب تعديل صعوبة التعدين‪.‬‬
‫فيستثمر املُعدنون الكهرباء وقوة املعالجة يف البنية التحتية التعدينية التي تحمي الشبكة‬
‫ألنهم يُكافؤون عىل ذلك‪ ،‬ويدفع مستخدمو البيتكوين رسوم التحويالت ويشرتون القطع‬
‫النقدية من املعدنني ألنهم يريدون استخدام النقود الرقمية واالستفادة من ارتفاع قيمة‬
‫العملة مع مرور الوقت‪ ،‬ويف أثناء هذه العملية‪ ،‬فإنهم يمولون استثمار املعدنني عرب‬
‫تشغيل الشبكة‪ .‬فاالستثمار يف أدوات تعدين نظام إثبات العمل يجعل الشبكة أكثر أمانا ً‪،‬‬
‫ويمكن فهمه عىل أنه رأس مال الرشكة‪ .‬وكلما ازداد الطلب عىل الشبكة‪ ،‬ازدادت قيمة‬
‫رسوم التحويالت ومكافآت املعدنني‪ ،‬األمر الذي يتطلب املزيد من طاقة املعالجة لتوليد‬
‫عمالت جديدة‪ ،‬مما يزيد من رأس مال الرشكة ويجعل الشبكة أكثر أمانا ً وإنتاج العمالت‬
‫أكثر صعوب ًة‪ .‬إن هذا ترتيبٌ اقتصادي منتِج ومر ِبح لكل املعنيني‪ ،‬مما يؤدي بدوره إىل‬
‫استمرار نمو هذه الشبكة بوترية مذهلة‪.‬‬

‫فبهذا التصميم التكنولوجي‪ ،‬استطاع ناكاموتو اخرتاع ال ُّندرة الرقمية‪.‬‬


‫فالبيتكوين هو املثال األول عىل السلعة الرقمية النادرة التي ال يمكن إعادة إنتاجها بشكل‬
‫غري محدود‪ .‬وعىل الرغم من بساطة إرسال يشء رقمي من موقع إىل آخر عرب شبكة‬
‫رقمية‪ ،‬كما هو الحال يف الربيد اإللكرتوني أو الرسائل النصية أو تنزيل امللفات‪ ،‬إال أنه من‬
‫األدق وصف هذه العمليات كنسخ بدال ً من إرسال‪ ،‬وذلك ألن األشياء الرقمية تبقى مع‬

‫‪202‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫املرسل ويمكن اعادة انتاجها بال حدود‪ .‬لهذا‪ ،‬إن البيتكوين هو املثال األول عىل السلعة‬
‫الرقمية التي تزول فيها ملكية املرسل بعد اإلرسال‪.‬‬

‫وبعيدا ً عن الندرة الرقمية‪ ،‬يُعترب البيتكوين أيضا ً املثال األول عىل الندرة‬
‫املطلقة‪ ،‬وهو السلعة الوحيدة ذات السيولة (الرقمية أو املادية) التي كميتها ثابتة ُمح َّددة‬
‫نسبية‪ ،‬ولم تكن مطلقة‬ ‫ً‬ ‫ال يمكن زيادتها‪ .‬فحتى اخرتاع البيتكوين‪ ،‬كانت الندرة دائما ً‬
‫أبداً‪ .‬فهناك اعتقاد خاطئ شائع ِبتصوُّر أن أي سلعة مادية هي محدودة أو نادرة بشكل‬
‫مطلق‪ ،‬لكن يجدر اإلشارة أن الحد األقىص لكمية إنتاج أي سلعة ال يُحَ دَّد مع مدى‬
‫املكر َسني إلنتاجها‪ .‬فمع‬
‫َّ‬ ‫انتشارها يف هذا الكوكب‪ ،‬وإنما يتم تحديده بالجهد والوقت‬
‫ندرته املطلقة‪ ،‬يحتفظ البيتكوين بقابليته الكبرية للبيع عرب الزمن‪ ،‬وهذه نقطة أساسية‬
‫سيتم رشحها بشكل أكرب يف الفصل التاسع املتعلق بدور البيتكوين كمخزون للقيمة‪.‬‬

‫العرض والقيمة والتحويالت‬


‫أصل ذي معدل نمو عرض ثابت أو منخفض وذلك‬ ‫ٍ‬ ‫لطاملا كان من املمكن نظريا ً إنتاجُ‬
‫للسماح له بالحفاظ عىل دوره النقدي‪ ،‬ولكن تَبني أن الواقع كما هو الحال دائماً‪ ،‬أكثر‬
‫تعقيدا ً من النظريات‪ .‬فمن املستحيل أن تسمح الحكومات لألطراف الخاصة بإصدار‬
‫عمالتها الخاصة وتَجاوز الطريقة الرئيسية التي تُموّ ل بها الحكومة ذاتها وتنمو‪.‬‬
‫فالحكومة ترغب دائما ً باحتكار إنتاج النقود وتواجه إغرا ًء قويا ً لالنخراط يف زيادة‬
‫توصل العالَم أخريا ً إىل شكل من أشكال‬
‫َّ‬ ‫العرض النقدي‪ .‬ولكن مع اخرتاع البيتكوين‪،‬‬
‫نمو عرض منخفض‪.‬‬ ‫معدل ٍ‬
‫ِ‬ ‫النقد الصناعي يتمتع بالضمان الصارم يف املحافظة عىل‬
‫وبهذا‪ ،‬يُقيص البيتكوين خرباء االقتصاد الكيل‪ ،‬والسياسيني‪ ،‬والرؤساء‪ ،‬والقادة الثوريني‪،‬‬
‫والدكتاتوريني العسكريني ون ُقاد التلفاز من السياسة النقدية تماماً‪ .‬فيتم تحديد نمو‬
‫العرض النقدي عرب وظيفة مُربمَ جة يعتمدها جميع أعضاء الشبكة‪ .‬ولربما كان هناك‬
‫وقت عند بداية هذه العملة كان ممكنا ً فيه تغيري جدول التضخم‪ ،‬ولكن هذا الوقت قد‬
‫وَ َّىل‪ .‬فبالنسبة لجميع الغايات واألهداف العملية‪ ،‬إن جدول التضخم يف البيتكوين مثل‬

‫‪203‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ِس ِج ّل تحويالته‪ ،‬غري قابل للتغيري‪ 7.‬ويف حني أنه يف السنوات األوىل من وجود البيتكوين‬
‫كان معدل النمو يف عرضه مرتفعا ً جداً‪ ،‬ولم يكن هناك ضمان موثوق أن جدول العرض‬
‫هذا لن يتبدل‪ ،‬لكن مع مرور الوقت‪ ،‬انخفض معدل نمو العرض وارتفعت مصداقية‬
‫الشبكة يف الحفاظ عىل جدول العرض‪ ،‬وال تزال املصداقية ترتفع مع مرور كل يوم ال يتم‬
‫فيه إجراء تغيريات جدية عىل الشبكة‪.‬‬

‫فعند والدة الشبكة‪ ،‬تم برمجة مكافأة الكتلة لتكون ‪ 50‬بيتكوين لكل كتلة‬
‫بحيث يتم إضافة كتل البيتكوين إىل السجل املشرتك كل عرش دقائق تقريباً‪ .‬ويف كل أربع‬
‫سنوات تقريبا ً أو بعد صدور ‪ 210,000‬كتلة‪ ،‬تنخفض مكافأة الكتلة إىل النصف‪ .‬وقد‬
‫حدث التنصيف األول يف ‪ 28‬نوفمرب يف عام ‪ ،2012‬وبعد ذلك انخفض إصدار عمالت‬
‫البيتكوين الجديدة إىل ‪ 25‬قطعة نقدية لكل كتلة‪ ،‬ويف ‪ 9‬يوليو عام ‪ ،2016‬انخفض مرة‬
‫أخرى إىل ‪ 12.5‬قطعة نقدية لكل كتلة‪ ،‬وسينخفض إىل ‪ 6.25‬يف عام ‪ .2020‬فوفقا ً لهذا‬
‫الجدول الزمني‪ ،‬سيستمر العرض يف الزيادة بمعدل متناقص‪ ،‬ليقرتب تقريبا ً من ‪21‬‬
‫مليون قطعة نقدية يف وقت ما من عام ‪ ،2140‬وعند هذه النقطة لن يتم إنتاج املزيد من‬
‫عمالت البيتكوين الجديدة‪( .‬انظر الشكل ‪.)14‬‬

‫وبما أن العمالت الجديدة ال تُنتَج إال بعد إصدار كتلة جديدة‪ ،‬وبما أن كل كتلة‬
‫جديدة تتطلب حل مسائل نظام إثبات العمل‪ ،‬فهناك تكلفة حقيقية إلنتاج عمالت‬
‫بيتكوين جديدة‪ .‬ومع ارتفاع سعر البيتكوين يف السوق‪ ،‬تَد ُ‬
‫ْخل املزيد من العقد للتنافس‬
‫عىل حل مسائل نظام إثبات العمل للحصول عىل مكافأة الكتلة‪ ،‬مما يزيد من صعوبة حل‬
‫ً‬
‫تكلفة‪ ،‬وبالتايل سرتتفع تكلفة‬ ‫هذه املسائل‪ ،‬األمر الذي يجعل الحصول عىل املكافأة أكثر‬
‫إنتاج البيتكوين بشكل عام مع سعر السوق‪.‬‬

‫قسم ساتويش كل بيتكوين إىل ‪100‬‬ ‫فبعد تحديد جدول نمو هذا العرض‪َّ ،‬‬
‫مليون وحدة‪ ،‬والتي ُسميت فيما بعد باسم "ساتويش" تقديرا ً له‪ .‬وتقسيم كل بيتكوين‬
‫إىل ‪ 8‬خانات يعني أن العرض سيستمر يف النمو بمعدل متناقص حتى عام ‪2140‬‬

‫ٍ‬
‫مناقشة بشأن ثبات البيتكوين ومقاومته للتغيري‪.‬‬ ‫‪ 7‬اقرأ الفصل العاشر لالطالع على‬

‫‪204‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫الشكل ‪ :14‬عرض البيتكوين ومعدل نمو عرض البيتكوين‪ ،‬إن ُ‬


‫افرتض أنه يتم إصدار‬
‫كتلة كل ‪ 10‬دقائق بالضبط‪.‬‬

‫تقريباً‪ ،‬وعندها ستمتلئ الخانات جميعها لتصل إىل ‪ 21‬مليون قطعة نقدية‪ .‬وتناقص‬
‫معدل النمو يعني أنه سيتم تعدين أول ‪ 20‬مليون قطعة نقدية بحلول عام ‪2025‬‬
‫تقريباً‪ ،‬بحيث تبقى مليون قطعة نقدية ليتم تعدينها عىل مدى قرن آخر‪.‬‬

‫إن عدد العمالت الجديدة التي يتم إصدارها ال يمكن التنبؤ به بدقة من خالل‬
‫الخوارزمية‪ ،‬وذلك ألن الكتل الجديدة ال يتم تعدينها كل عرش دقائق بالضبط‪ ،‬نظرا ً ألن‬
‫عملية تعديل الصعوبة ليست عملية دقيقة بل هي مُعايرة تتعدل كل أسبوعني‪ ،‬ويمكن أن‬
‫تحقق الرقم املتوقع أو ال‪ ،‬اعتمادا ً عىل عدد الُمعدنني الجُدد الذين يدخلون أعمال التعدين‪.‬‬
‫ففي عام ‪ ،2009‬عندما استَخدم عدد قليل جدا ً من الناس البيتكوين‪ ،‬كان اإلصدار أقل‬
‫بكثري من الجدول‪ ،‬أما يف عام ‪ ،2010‬كان أعىل من الرقم النظري املتوقع من العرض‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫وبالطبع‪ ،‬ستتباين األرقام الدقيقة‪ ،‬ولكن هذا التباين يف النمو النظري سيتناقص مع‬
‫ازياد العرض‪ .‬واألمر الثابت الذي لن يحصل فيه تباين هو سقف عدد العمالت‪ ،‬وحقيقة‬
‫أن معدل نمو املعروض سيستمر يف االنخفاض‪ ،‬حيث يتم إضافة عدد متناقص من‬
‫العمالت إىل مخزون متزايد من العمالت‪ .‬وبحلول نهاية عام ‪ ،2017‬تم بالفعل تعدين‬
‫‪ 16.775‬مليون عملة‪ ،‬وتُش ِّكل هذه نسبة ‪ %79.9‬من جميع العمالت التي سيتم‬
‫إصدارها‪ .‬فبلغت نسبة نمو العرض السنوي يف عام ‪ ،%4.35 2017‬حيث انخفضت عن‬
‫نسبة ‪ %6.8‬يف عام ‪ .2016‬ويُبني الجدول ‪ 6‬نمو العرض الفعيل للبيتكوين (‪)BTC‬‬
‫ومعدل نموه‪ .‬و إذا نظرنا بتمعن إىل جدول عرض البيتكوين خالل السنوات القادمة‪،‬‬
‫فسيمنحنا هذا تقديرات عن عرض ومعدل النمو‪ ،‬وستختلف األرقام الفعلية عن هذا‬
‫بالتأكيد‪ ،‬لكن ليس بشكل كبري‪ .‬انظر (الجدول ‪.)87‬‬

‫يستنبط الشكل ‪ 15‬معدل نمو عرض العمالت االحتياطية العاملية الرئيسية‬


‫والذهب يف السنوات الخمس والعرشين املاضية وعىل مدى السنوات الخمس والعرشين‬
‫القادمة‪ ،‬ويقوم بزيادة عرض البيتكوين عرب معدالت النمو املربمجة‪ .‬فمن خالل هذه‬
‫الحسابات‪ ،‬سيزداد عرض البيتكوين بنسبة ‪ %27‬يف السنوات الخمس والعرشين‬
‫القادمة‪ ،‬يف حني أن عرض الذهب سيزداد بنسبة ‪ ،%52‬والني الياباني بنسبة ‪،%64‬‬
‫والفرنك السويرسي بنسبة ‪ ،%169‬والدوالر األمريكي بنسبة ‪ ،%272‬واليورو بنسبة‬
‫‪ ،%286‬والجنيه الربيطاني بنسبة ‪.%429‬‬

‫قد يساعدنا هذا الرشح يف تقدير قابلية بيع البيتكوين وإدراك مدى تحقيقه‬
‫لوظائف النقد‪ .‬فمع انخفاض معدل نمو عرضه إىل ما دون مستوى الذهب بحلول عام‬
‫‪ ،2025‬فإن قيود البيتكوين املوجودة به عىل عرضه قد تجعل عليه طلبا ً كبريا ً كمخزون‬
‫للقيمة‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬قد يكون لديه صفة قابلية البيع عرب الزمن‪ .‬فطبيعة البيتكوين‬
‫الرقمية التي تجعل إرساله بشكل آمن يف جميع أنحاء العالم أمرا سهالً‪ ،‬تجعله أيضا‬
‫قابال ً للبيع عرب املكان بطريقة لم يسبق رؤيتها يف أشكال النقد األخرى‪ .‬يف حني أن‬
‫قابليته للقسمة إىل ‪ 100,000,000‬ساتويش تجعله قابال ً للبيع عىل صعيد القياسات‪.‬‬

‫‪ 8‬املصدر‪ :‬حساابت الكاتب‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫‪2017‬‬ ‫‪2016‬‬ ‫‪2015‬‬ ‫‪2014‬‬ ‫‪2013‬‬ ‫‪2012‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫‪2010‬‬ ‫‪2009‬‬ ‫العام‬
‫‪16.77‬‬ ‫‪16.07‬‬ ‫‪15.02‬‬ ‫‪13.67‬‬ ‫‪12.19‬‬ ‫‪10.61‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪5.018‬‬ ‫‪1.623‬‬ ‫عرض‬
‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪3‬‬ ‫البيتكوين‬
‫اإلجمايل‪،‬‬
‫باملاليني‬
‫‪4.35‬‬ ‫‪6.8‬‬ ‫‪9.93‬‬ ‫‪12.06‬‬ ‫‪14.94‬‬ ‫‪32.66‬‬ ‫‪42‬‬ ‫‪59‬‬ ‫‪209.1‬‬ ‫معدل‬
‫‪3‬‬ ‫النمو‬
‫السنوي‪،‬‬
‫‪%‬‬
‫الجدول ‪ :6‬عرض البيتكوين ومعدل النمو‬

‫‪2018‬‬ ‫‪2026‬‬ ‫‪2025‬‬ ‫‪202‬‬ ‫‪202‬‬ ‫‪202‬‬ ‫‪202‬‬ ‫‪202‬‬ ‫‪201‬‬ ‫‪2018‬‬ ‫العام‬
‫‪4‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪9‬‬
‫‪17.41‬‬ ‫‪20.08‬‬ ‫‪19.92‬‬ ‫‪19.7‬‬ ‫‪19.5‬‬ ‫‪19.1‬‬ ‫‪18.8‬‬ ‫‪18.5‬‬ ‫‪18.0‬‬ ‫‪17.41‬‬ ‫عرض‬
‫‪5‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪58‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪84‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪27‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪5‬‬ ‫البيتكوين‬
‫اإلجمايل‪،‬‬
‫باملاليني‬
‫‪3.82‬‬ ‫‪0.82‬‬ ‫‪0.83‬‬ ‫‪1.26‬‬ ‫‪1.71‬‬ ‫‪1.74‬‬ ‫‪1.77‬‬ ‫‪2.61‬‬ ‫‪3.68‬‬ ‫‪3.82‬‬ ‫معدل‬
‫النمو‬
‫السنوي‪،‬‬
‫‪%‬‬
‫الجدول ‪ :7‬عرض البيتكوين ومعدل النمو (املتوقع)‬

‫‪207‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الشكل ‪ :15‬النسبة املئوية للنمو املتوقع لعرض البيتكوين والعمالت الوطنية‬


‫عىل مدى ‪ 25‬عاما‬

‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬إن قضاء البيتكوين عىل سيطرة وتحكم الوسطاء واستحالة تقويض أي‬
‫حكومة له أو مصادرته‪ ،‬ستجعله خاليا ً من العيوب الرئيسية للنقود الحكومية‪ .‬ومع‬
‫تقديم العرص الرقمي لنا الكثري من التحسينات والكفاءات يف معظم جوانب حياتنا‪ ،‬يُمثِّل‬
‫البيتكوين قفزة تكنولوجية هائلة إىل األمام يف الحل النقدي ملشكلة التبادل غري املبارش‪ ،‬قد‬
‫تكون أهميتها مماثلة ألهمية االنتقال من استخدام املاشية وامللح إىل الذهب والفضة‪.‬‬

‫ويف حني يزداد عرض العمالت التقليدية باستمرار وتنخفض قوتها الرشائية‪،‬‬
‫إال أنه حتى هذه اللحظة شهد البيتكوين ارتفاعا ً ملحوظا ً يف قوته الرشائية بالرغم من‬
‫الزيادة املعتدلة واملتناقصة واملحدودة يف عرضه‪ .‬فمكافأة املُعدنني‪ ،‬الذين يتحققون من‬
‫صحة التحويالت‪ ،‬بعمالت البيتكوين تُوَ لِّد لديهم اهتماما ً قويا ً بالحفاظ عىل نزاهة‬
‫الشبكة‪ ،‬مما يؤدي بدوره إىل ارتفاع قيمة العملة‪.‬‬

‫لقد بدأت شبكة البيتكوين العمل يف يناير عام ‪ ،2009‬ولفرتة من الوقت كانت‬
‫بمثابة مرشوع غامض يستخدمه عدد قليل من الناس يف قائمة تراسل مشفرة‪ ،‬وربما‬

‫‪208‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫كان أهم حدث يف حياة البيتكوين هو اليوم األول الذي تحولت فيه العمالت الرمزية يف‬
‫هذه الشبكة من كونها عديمة القيمة من الناحية االقتصادية إىل امتالكها لقيمة يف السوق‪،‬‬
‫مما أ َّكد أن البيتكوين قد اجتاز اختبار السوق‪ :‬فقد عملت الشبكة بنجاح ٍ‬
‫كاف لدرجة‬
‫بعض من عمالتها الرمزية‪ .‬لقد‬ ‫اقتناع فرد ما بالتخيل عن النقود املادية للحصول عىل ٍ‬
‫حدث هذا يف أكتوبر عام ‪ ،2009‬عندما أُبرمت مقايضة عرب موقع عىل اإلنرتنت يُدعى‬
‫"‪ "New Liberty Standard‬وتم بيع البيتكوين بسعر ‪ .$0.000994‬ويف مايو عام‬
‫‪ ، 2010‬تم استخدام البيتكوين ألول مرة يف عملية رشاء فعلية يف العالم الحقيقي‪ ،‬حيث‬
‫دفع أحدهم ‪ 10‬آالف بيتكوين مقابل ‪ 2‬بيتزا بقيمة ‪ ،$25‬حيث بلغ سعر البيتكوين‬
‫‪ .$0.0025‬مع مرور الوقت‪ ،‬سمع املزيد من الناس عن البيتكوين وأصبحوا مهتمني‬
‫‪9‬‬
‫برشائه واستمر السعر يف االرتفاع أكثر‪.‬‬

‫َفطلبُ السوق عىل عمالت البيتكوين الرمزية يأتي من حقيقة أنها مطلوبة‬
‫لتشغيل أول (وحتى اآلن الوحيد) نظام نقدي رقمي موثوق وفعال‪ 10.‬فحقيقة أن هذه‬
‫الشبكة قد عملت بنجاح يف أيامها األوىل قد أعطى عملتها الرقمية صفة قابلية الجمع يف‬
‫أوساط املشفرين والليرباليني‪ ،‬الذين حاولوا تعدينها باستخدام أجهزة الحاسوب الخاصة‬
‫بهم‪ ،‬ويف النهاية بدؤوا برشائها من بعضهم البعض‪ 11.‬وحقيقة أن هذه العمالت الرمزية‬
‫كانت محدودة بشكل صارم وال يمكن نسخها وتقليدها قد ساعدها عىل كسب صفة‬
‫القابلية للتجميع‪ .‬فبعد أن جمعه األفراد الستخدامه عىل شبكة البيتكوين‪ ،‬وبعد اكتسابه‬
‫لقيمة اقتصادية‪ ،‬بدأ البيتكوين يأخذ دورا ً نقديا ً وذلك ألن العديد من الناس طالبوا به‬
‫كمخزون للقيمة‪ .‬إن تسلسل هذه األنشطة يتطابق مع نظرية لودفيج فون ميزس عن‬
‫"ن ظرية الرتاجع" حول أصول النقد‪ ،‬والتي تنص عىل أن السلعة النقدية تبدأ كسلعة يف‬

‫‪ 9‬ميكن إجياد تفاصيل عن التحويلتني يف كتاب اناثنيال بوبر‪ ،‬الذهب الرقمي‪.‬‬


‫‪ 10‬راجع الفصل العاشر ملعرفة سبب عدم قدرة إطالق اسم النقد الرقمي على نسخ البيتكوين املقلَّدة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫‪ 11‬لقراءة نقاش جيد عن هذه النقطة‪ ،‬راجع كتاب كايل توريب "إليك ما يفقده مؤيدو استخدام الذهب بشأن‬
‫قيمة البيتكوين الفعلية"‪ ،‬جملة فوربس النقد الرقمي‪ ،‬متوفر على املوقع‪:‬‬
‫‪https://www.forbes.com/sites/ktorpey/2017/10/27/heres-what-gold-‬‬
‫‪bugs-miss-about-bitcoins-intrinsic-value/#219507c92d88‬‬

‫‪209‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫السوق وتُستخدم بعد ذلك كوسيط للتبادل‪ .‬وبهذا األمر‪ ،‬ال تختلف قابلية البيتكوين‬
‫للتجميع يف املجتمعات الصغرية عن قيمة األصداف البحرية‪ ،‬وحجارة الراي والقيمة‬
‫الجمالية للمعادن الثمينة‪ ،‬والتي اكتسبت من خاللها دورا ً نقديا ً مما أدى إىل ارتفاع‬
‫قيمتها بشكل كبري‪.‬‬

‫وبما أن البيتكوين جديد ويف أوائل انتشاره‪ ،‬فإن سعره قد تأثر بشدة بتقلب‬
‫الطلب عليه‪ ،‬ولكن استحالة زيادة عرضه بشكل قرسي من قبل أي سلطة كاستجابة‬
‫الرتفاع األسعار يُفرس االرتفاع الحاد والرسيع يف القوة الرشائية للعملة‪ .‬فعندما يزداد‬
‫الطلب بشكل كبري عىل البيتكوين‪ ،‬ال يُمكِن للمعدنني زيادة اإلنتاج بشكل يتعدى الجدول‬
‫املح َّدد له‪ ،‬ولكن هذا أمر يستطيع مُعدِّنو النحاس فعله‪ .‬كما ال يمكن ألي بنك مركزي‬
‫التدخل إلغراق السوق بكميات متزايدة من البيتكوين‪ ،‬مثل ما اقرتح "غرينسبان" عىل‬
‫البنوك املركزية فعله مع الذهب‪ .‬فالطريقة الوحيدة لتلبية الطلب املتزايد يف السوق تكمن‬
‫برفع السعر بما فيه الكفاية لتحفيز أصحاب بعض العمالت الرمزية عىل بيعها للوافدين‬
‫ال ُجدد‪ .‬وهذا يساعد عىل تفسري أسباب ارتفاع سعر البيتكوين من ‪ $0.000994‬يف ‪5‬‬
‫أكتوبر عام ‪ 2009‬يف أول تحويل مسجل‪ ،‬إىل ‪ $4200‬يف ‪ 5‬أكتوبر عام ‪ ،2017‬بزيادة‬
‫قدرها ‪ %422520000‬يف ثمانية أعوام‪ ،‬وبلغ معدل النمو السنوي املركب ‪%573‬‬
‫سنوياً‪( .‬انظر الشكل ‪.)1216‬‬

‫ولكي يرتفع سعر البيتكوين‪ ،‬يجب عىل األشخاص االحتفاظ به كمخزون للقيمة وليس‬
‫إنفاقه فقط‪ ،‬ويف حال عدم وجود أشخاص راغبني يف االحتفاظ بالعملة لفرتة زمنية‬
‫طويلة‪ ،‬فإن االستمرار يف بيع العملة سيُبقِ ي سعرها منخفضا ً وسيمنعها من االرتفاع‪.‬‬

‫فبحلول نوفمرب عام ‪ ،2017‬بلغت القيمة السوقية اإلجمالية لجميع عمالت‬


‫ً‬
‫معطية إياها قيمة أكرب من عرض النقود‬ ‫البيتكوين املتداولة ما يقارب ‪ 110‬مليار دوالر‪،‬‬
‫بمعناه الواسع للعمالت الوطنية ملعظم البلدان‪ .‬فإذا كان البيتكوين بلداً‪ ،‬فستحتل قيمة‬

‫‪ 12‬املصدر‪ :‬مؤشر كوينديسك لسعر البيتكوين‪ ،‬متوفر يف املوقع‬


‫‪http://www.coindesk.com/price‬‬

‫‪210‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫الشكل ‪ :16‬سعر البيتكوين مقابل الدوالر األمريكي‬

‫عملته املرتبة ‪ 56‬يف قائمة أهم العمالت الوطنية يف جميع أنحاء العالم‪ ،‬وستساوي تقريبا ً‬
‫حجم العرض النقدي للكويت أو بنغالديش‪ ،‬وستكون أكرب من حجم العرض يف املغرب‬
‫والبريو‪ ،‬لكنها أقل من كولومبيا وباكستان‪ .‬وإذا تم مقارنتها مع عرض النقود بمعناه‬
‫الضيق‪ ،‬فستكون قيمة عرض البيتكوين يف املرتبة ‪ 33‬يف العالم‪ ،‬مع قيمة مماثلة لعرض‬
‫النقود بمعناه الضيق للربازيل وتركيا وجنوب إفريقيا‪ .‬وربما تكون واحدة من أبرز‬
‫اإلنجازات التي حققتها شبكة اإلنرتنت أن اقتصادا ً الكرتونيا ً قد نما يف تسع سنوات بعد‬
‫ظهوره بشكل عفوي وطوعي حول شبكة صممها مربمج مجهول‪ ،‬بل وأصبح يملك قيمة‬
‫ُحتفظ به يف العرض النقدي ملعظم الدول القومية والعمالت الوطنية‪.‬‬‫أكرب مما هو م َ‬

‫فتُعترب هذه السياسة النقدية املحافظة واالرتفاع يف القيمة السوقية للبيتكوين‬


‫أمرا ً جوهريا ً لنجاح عمليات البيتكوين‪ ،‬وذلك ألنها هي السبب يف إعطاء املعدنني الحافز‬
‫إلنفاق الكهرباء وقوة املعالجة للتحقق من صحة التحويالت بنزاهة‪ .‬فلو تم إنشاء‬
‫البيتكوين وفق سياسة النقد السهل مثل ما يويص به خبريو االقتصاد الكينزيون أو‬
‫النقديون‪ ،‬فكان عرضه النقدي سيزداد بما يتناسب مع عدد املستخدمني أو التحويالت‪،‬‬

‫‪211‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ولكن يف هذه الحالة كان سيظل تجربة هامشية بني محبي التشفري عىل االنرتنت‪ .‬وعندها‪،‬‬
‫لم يكن سيتم تخصيص أي قدر كبري من قوة املعالجة لتعدينه‪ ،‬حيث أنه لن يكون هناك‬
‫أي فائدة من االستثمار بكثافة يف التحقق من التحويالت وحل مسائل نظام إثبات العمل‬
‫من أجل الحصول عىل العمالت الرمزية التي سيتم تخفيض قيمتها كلما ازداد عدد‬
‫األشخاص الذين يستخدمون النظام‪ .‬لهذا‪ ،‬يمكن القول أن السياسات النقدية التوسعية‬
‫لالقتصادات الحديثة ذات النقود الورقية واالقتصاديني التابعني لها لم تجتز مطلقا ً‬
‫اختبار السوق يف تبنيها طواعي ًة‪ ،‬لكن وبدال ً من ذلك‪ ،‬تم فرضها عرب قوانني الحكومة‪ ،‬كما‬
‫نوقش يف السابق‪ .‬وكنظا ٍم طوعي ال يوجد فيه آلية إلجبار الناس عىل استخدامه‪ ،‬كان‬
‫البيتكوين سيفشل يف جذب طلب كبري عليه‪ ،‬ونتيجة لذلك كان لن يتم ضمان مكانته‬
‫ومنزلته كنقد رقمي ناجح‪ .‬ويف حني أنه يمكن إجراء التحويالت دون الحاجة إىل الثقة يف‬
‫طرف ثالث‪ ،‬إال أن الشبكة ستكون عرضة للهجوم من قبل أي جهة فاعلة خبيثة تحشد‬
‫مقادير كبرية من قوة املعالجة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬من دون اعتماد سياسة نقدية محافظة‬
‫وآلية لتعديل الصعوبة‪ ،‬فإن البيتكوين كان سينجح نظريا ً كنقد رقمي‪ ،‬لكنه كان سيبقى‬
‫غري آمن بشكل كبري‪ ،‬بحيث ال يمكن عمليا ً استخدامه عىل نطاق واسع‪ .‬ويف هذه الحالة‪،‬‬
‫إن أول منافس للبيتكوين سيعتمد سياسة النقد الصعب‪ ،‬فإنه سيجعل من عملية تحديث‬
‫السجل وإنتاج الوحدات الجديدة أمرا ً أكثر تكلفة بشكل تدريجي‪ .‬والتكلفة املرتفعة‬
‫لتحديث السجل ستعطي املعدنني الحافز ليكونوا نزيهني بتحديث هذا السجل‪ ،‬مما‬
‫سيجعل الشبكة أكثر أمانا ً من املنافسني متبعي سياسة النقد السهل‪.‬‬

‫إن النمو والزيادة يف السعر هو انعكاس لالستخدامات واملكاسب املتزايدة التي‬


‫توفرها الشبكة ملستخدميها‪ ،‬كما أن عدد التحويالت عىل الشبكة ازداد أيضا ً وبرسعة‬
‫كبرية‪ :‬ففي حني أنه تم تنفيذ ‪ 32,687‬تحويل يف عام ‪( 2009‬بمعدل ‪ 90‬تحويل يف‬
‫اليوم)‪ ،‬إال أن الرقم نما إىل أكثر من ‪ 103‬مليون تحويل يف عام ‪( 2017‬بمعدل ‪284,797‬‬
‫تحويل يومياً)‪ ،‬واقرتب العدد الرتاكمي للتحويالت من ‪ 300‬مليون تحويل يف يناير عام‬
‫‪ .2018‬يوضح الجدول ‪ 813‬والشكل ‪ 1714‬معدل النمو السنوي‪ .‬ويف حني أن الزيادة يف‬

‫‪ 13‬املصدر ‪.blockchain.info‬‬

‫‪212‬‬
‫النقد الرقمي‬
‫العام‬ ‫التحويالت‬ ‫متوسط التحويالت اليومية‬

‫‪2009‬‬ ‫‪32,687‬‬ ‫‪90‬‬

‫‪2010‬‬ ‫‪185,212‬‬ ‫‪507‬‬

‫‪2011‬‬ ‫‪1,900,652‬‬ ‫‪5,207‬‬

‫‪2012‬‬ ‫‪8,447,785‬‬ ‫‪23,081‬‬

‫‪2013‬‬ ‫‪19,638,728‬‬ ‫‪53,805‬‬

‫‪2014‬‬ ‫‪25,257,833‬‬ ‫‪69,200‬‬

‫‪2015‬‬ ‫‪45,661,404‬‬ ‫‪125,100‬‬

‫‪2016‬‬ ‫‪82,740,437‬‬ ‫‪226,067‬‬

‫‪2017‬‬ ‫‪103,950,926‬‬ ‫‪284,797‬‬

‫الجدول ‪ :8‬التحويالت السنوية ومتوسط التحويالت اليومية‬

‫التحويالت مثرية لإلعجاب‪ ،‬إال أنها ال تتوافق مع الزيادة يف قيمة املخزون اإلجمالية لعملة‬
‫البيتكوين‪ ،‬والدليل عىل ذلك هو أن عدد التحويالت أقل بكثري مما كان سيتم يف اقتصاد‬
‫ذي عملة تساوي قيمتها قيمة عرض البيتكوين‪ ،‬حيث أن ‪ 300,000‬تحويل يوميا ً هو‬
‫مساو‬
‫ٍ‬ ‫عدد التحويالت التي تتم يف بلدة صغرية وليس يف اقتصاد متوسط الحجم‪ ،‬وهو‬
‫تقريبا ً لقيمة عرض البيتكوين‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬فإنه مع الحجم الحايل للكتل يف البيتكوين‬
‫والتي تقترص عىل ‪ 1‬ميغابايت‪ ،‬فإن ‪ 500,000‬تحويل يف اليوم هو معدل قريب من الحد‬
‫األعىل الذي يمكن تنفيذه من قبل شبكة البيتكوين والذي يجب أن يتم تسجيله من قبل‬
‫جميع أعضاء الشبكة‪ .‬وحتى عندما تم الوصول إىل هذا الحد وتم اإلعالن عن وجوده عىل‬

‫‪ 14‬املصدر ‪.blockchain.info‬‬

‫‪213‬‬
‫املاليني‬ ‫معيار البيتكوين‬

‫الشكل ‪ :17‬التحويالت السنوية عىل شبكة البيتكوين‬

‫القيمة اإلمجالية احملولة مقدرة ابلدوالر‬ ‫العام‬


‫‪0‬‬ ‫‪2009‬‬
‫‪985,887‬‬ ‫‪2010‬‬
‫‪417,634,730‬‬ ‫‪2011‬‬
‫‪607,221,228‬‬ ‫‪2012‬‬
‫‪14,767,371,941‬‬ ‫‪2013‬‬
‫‪23,159,832,297‬‬ ‫‪2014‬‬
‫‪26,669,252,582‬‬ ‫‪2015‬‬
‫‪58,188,957,445‬‬ ‫‪2016‬‬
‫‪375,590,943,877‬‬ ‫‪2017‬‬
‫‪499,402,199,987‬‬ ‫‪Total‬‬

‫الجدول ‪ :9‬القيمة اإلجمالية السنوية للتحويالت عىل شبكة البيتكوين مقدرة بالدوالر‬
‫األمريكي‬

‫‪214‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫نطاق واسع‪ ،‬فإن النمو يف قيمة العملة وقيمة التحويالت اليومية لم ترتاجع‪ .‬ويشري هذا‬
‫إىل أن ُمتَبني البيتكوين يُقدِّرونه كمخزون للقيمة أكثر من تقديرهم له كوسيط للتبادل‪،‬‬
‫وسيتم مناقشة هذا يف الفصل التاسع‪.‬‬

‫كما وازدادت أيضا ً القيمة السوقية للتحويالت عىل مدى عمر الشبكة‪ ،‬حيث أن‬
‫الطبيعة املميزة لتحويالت البيتكوين ت ُ َ‬
‫صعِّ ب من عملية تقدير القيمة الدقيقة للتحويالت‬
‫بالبيتكوين أو بالدوالر األمريكي‪ ،‬لكن أشارت أدنى التقديرات إىل بلوغ حجم يومي يُقدَّر‬
‫ب ِـ ‪ 260,000‬بيتكوين يف عام ‪ 2017‬مع نمو متقلب للغاية عىل مدى عمر البيتكوين‪ .‬ويف‬
‫حني أن قيمة تحويالت البيتكوين لم تزدد بشكل ملحوظ بمرور الوقت‪ ،‬إال أن القيمة‬
‫السوقية لهذه التحويالت بالدوالر األمريكي قد ازدادت‪ .‬فبلغ حجم التحويالت ‪375.6‬‬
‫مليار دوالر أمريكي يف عام ‪ ،2017‬وبحلول عيد ميالده التاسع‪ ،‬قام البيتكوين بمعالجة‬
‫تحويالت بقيمة نصف تريليون دوالر منذ نشأته‪ ،‬مع حساب قيمة الدوالر األمريكي يف‬
‫وقت التحويل‪( .‬انظر الجدول ‪.)159‬‬

‫هناك مقياس آخر لنمو شبكة البيتكوين وهو قيمة الرسوم املطلوبة ملعالجة التحويالت‪.‬‬
‫ففي حني أنه يمكن نظريا ً معالجة تحويالت البيتكوين بشكل مجاني‪ ،‬إال أنه يتحتم عىل‬
‫املعدنني معالجتها‪ ،‬وكلما ارتفعت الرسوم‪ ،‬ازدادت فرصة املعالجة ورسعة تحصيلها‪.‬‬
‫ففي األيام األوىل عندما كان عدد التحويالت صغرياً‪ ،‬قام املعدنون بمعالجة التحويالت‬
‫التي لم تتضمن رسوما ً وذلك ألن "دعم الكتلة" للعمالت الجديدة ذاتها كان يستحق‬
‫العناء‪ .‬ومع ازدياد الطلب عىل تحويالت البيتكوين‪ ،‬كان ِبوسع املعدنني أن يكونوا أكثر‬
‫ً‬
‫انتقائية لذا قاموا ِبمنح األولوية للتحويالت ذات الرسوم األعىل‪ .‬فقد كانت الرسوم أقل من‬
‫‪ 0.1‬دوالر لكل تحويل حتى أواخر عام ‪ ،2015‬ثم بدأت باالرتفاع فوق ‪ 1‬دوالر لكل‬
‫تحويل يف أوائل عام ‪ .2016‬ومع االرتفاع الرسيع يف سعر البيتكوين عام ‪ ،2017‬وصل‬
‫متوسط رسوم التحويل اليومي إىل ‪ 7‬دوالرات بحلول نهاية نوفمرب‪( .‬انظر الشكل ‪.)1816‬‬

‫‪ 15‬املصدر ‪.blockchain.info‬‬
‫‪ 16‬املصدر ‪.blockchain.info‬‬

‫‪215‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الشكل ‪ :18‬متوسط قيمة رسوم التحويالت عىل شبكة البيتكوين مقدرة بالدوالر‬
‫األمريكي‪ ،‬مقياس لوغاريتمي‬

‫الشكل ‪ :19‬مؤرش التقلب الشهري (بفواصل ‪ 30‬يوم) للبيتكوين والدوالر‬


‫األمريكي‬

‫‪216‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫ويف حني أن سعر البيتكوين قد ارتفع بشكل عام بمرور الوقت‪ ،‬إال أن هذا‬
‫االرتفاع كان شديد التقلب‪ ،‬وي ُِّبني الشكل ‪ 19‬االنحراف املعياري بناء عىل ‪ 30‬يوم‬
‫للعائدات اليومية يف السنوات الخمس املاضية من تداول البيتكوين‪ .‬ويف حني يبدو أن‬
‫ً‬
‫مقارنة بالعمالت الوطنية‬ ‫معدل التقلبات يف انخفاض‪ ،‬إال أنه ال يزال مرتفعا ً جدا ً‬
‫والذهب‪ ،‬وال يزال هذا التوجه ضعيفا ً جدا ً كي نستطيع الجزم فيما إن كان هذا االنخفاض‬
‫سيستمر أو ال‪ .‬وقد تم ذكر مؤرش التقلب بناء عىل ‪ 30‬يوم للدوالر األمريكي يف الشكل ‪19‬‬
‫لتزويدكم بما يكفي الستيعاب الفكرة‪.‬‬

‫إن التمعن يف بيانات أسعار الذهب والعمالت الوطنية والرقمية يُظهر تغريا ً‬
‫ملحوظا ً يف ثبات سعر السوق لهذه العمالت‪ .‬فتم جمع العوائد اليومية للذهب وأهم‬
‫العمالت الورقية والبيتكوين يف السنوات الخمس السابقة‪ ،‬وكان لكل العمالت الوطنية‬
‫الرئيسية انحرافا ً معياريا ً أكرب بسبع مرات من االنحراف املعياري للبيتكوين‪( .‬شاهد‬
‫‪17‬‬
‫الجدول ‪.)10‬‬

‫إن تقلبات البيتكوين هذه تنبثق من حقيقة أن عرضه غري مرن بتاتا ً وال‬
‫يستجيب لتغريات الطلب عليه وذلك ألنه قد تم برمجته للنمو بمعدل مُحدَّد سلفا ً‪ .‬لكن‬
‫بالنسبة ألي سلعة عادية‪ ،‬فإن االختالف يف الطلب سيؤثر عىل قرارات اإلنتاج ملنتجي هذه‬
‫السلعة‪ :‬بحيث تؤدي الزيادة يف الطلب عليها إىل زيادة إنتاجها‪ ،‬وبالتايل تعديل االرتفاع يف‬
‫السعر مما سيسمح ملنتيجها بزيادة األرباح‪ .‬بينما انخفاض الطلب عليها سيؤدي إىل ميل‬
‫املنتجني إىل تخفيض العرض مما يسمح لهم بتقليل الخسائر‪ .‬توجد حالة مماثلة يف‬
‫العمالت الوطنية من املتوقع فيها أن تحافظ البنوك املركزية عىل استقرار نسبي يف القوة‬
‫الرشائية لعمالتها من خالل وضع معايري لسياستها النقدية ملواجهة تقلبات السوق‪.‬‬

‫‪ 17‬أسعار مجيع العمالت مقدرة ابلدوالر األمريكي بينما مت استخدام مؤشر الدوالر األمريكي من أجل الدوالر‬
‫األمريكي‪ .‬بياانت العملة الوطنية من البياانت االقتصادية لالحتياطي الفيدرايل يف (سانت لويس)‪ ،‬بياانت الذهب‬
‫من جممع الذهب العاملي‪ .‬بياانت البيتكوين من املوقع ‪coindesk.com‬‬

‫‪217‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫العملة‬ ‫متوسط النسبة املئوية‬ ‫االحنراف املعياري‬


‫للتغري اليومي‬

‫الني الصيين‬ ‫‪0.00002‬‬ ‫‪0.00136‬‬


‫الدوالر األمريكي‬ ‫‪0.00015‬‬ ‫‪0.00305‬‬

‫اجلنيه اإلسرتليين‬ ‫‪0.00005‬‬ ‫‪0.00559‬‬


‫الروبية اهلندية‬ ‫‪0.00019‬‬ ‫‪0.0056‬‬
‫اليورو‬ ‫‪−0.00013‬‬ ‫‪0.00579‬‬
‫الني الياابين‬ ‫‪0.0002‬‬ ‫‪0.0061‬‬
‫الفرنك السويسري‬ ‫‪0.00003‬‬ ‫‪0.00699‬‬

‫الذهب‬ ‫‪−0.00018‬‬ ‫‪0.01099‬‬


‫البيتكوين‬ ‫‪0.0037‬‬ ‫‪0.05072‬‬
‫الجدول ‪ :10‬متوسط النسبة املئوية للتغري اليومي واالنحراف املعياري يف سعر العمالت يف‬
‫السوق مقدرة بالدوالر األمريكي يف الفرتة املمتدة بني ‪ 1‬سبتمرب عام ‪ 2011‬و‪ 1‬سبتمرب‬
‫عام ‪.2016‬‬

‫فبوجود جدول للعرض غري متجاوب إطالقا ً مع الطلب‪ ،‬ومع عدم وجود بنك‬
‫مركزي إلدارة هذا العرض‪ ،‬فمن املحتمل أن يكون هناك تقلبات خصوصا ً يف املراحل‬
‫املبكرة عندما يتغري الطلب بصورة غري منتظمة للغاية من يوم آلخر‪ ،‬وذلك ألن األسواق‬
‫املالية التي تستخدم البيتكوين ما تزال صغرية‪ .‬ولكن مع نمو حجم السوق إضافة‬

‫‪218‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫لتعقيد وعمق املؤسسات املالية التي تستخدم البيتكوين‪ ،‬فمن املرجح أن ينخفض هذا‬
‫التقلب‪.‬‬

‫ومع وجود سوق أكرب ذي سيولة أكثر‪ ،‬من املحتمل أن تصبح التغريات اليومية‬
‫ِصنَّاع القرار يف السوق كالتُّجار باالستفادة من تقليل‬
‫يف الطلب أصغر نسبياً‪ ،‬مما يسمح ل ُ‬
‫تغريات األسعار وتخفيف السعر‪ .‬لكن لن يتحقق هذا إال إن احتفظ عدد كبري من‬
‫املشاركني يف السوق بالبيتكوين بقصد التمسك به عىل املدى الطويل‪ ،‬األمر الذي سيزيد‬
‫من القيمة السوقية لعرضه بشكل كبري‪ ،‬ويجعل وجود سوق كبرية ذات سيولة أمرا ً ممكنا ً‬
‫عرب استخدام قسم صغري من العرض فقط‪ .‬فإذا وصلت الشبكة إىل حجم مستقر يف‬
‫نقطة ما‪ ،‬فإن تدفق النقود منها وإليها سيكون متساويا ً نسبيا ً ويمكن أن يستقر سعر‬
‫البيتكوين عندها‪ .‬ويف مثل هذه الحالة‪ ،‬سيكتسب البيتكوين مزيدا ً من الثبات مع امتالكه‬
‫أيضا ً لسيولة كافية لكي ال يتقلب بشكل كبري مع تحويالت السوق اليومية‪ .‬لكن ما دام‬
‫معدل تبني البيتكوين مستمرا ً بالزيادة‪ ،‬فإن ارتفاع قيمته سيجذب املزيد من الراغبني‬
‫بامتالكه فينتج عن ذلك ارتفاع أكثر يف القيمة‪ ،‬مما سيجعل هذا االنخفاض يف التقلب أمرا ً‬
‫بعيد املنال‪ .‬وطاملا أن البيتكوين بحالة نمو‪ ،‬فإن سعر عمالته الرمزية سيترصف مثل‬
‫سهم يف رشكة ناشئة يحقق نموا ً رسيعا ً للغاية‪ ،‬ولكن إذا توقف نمو البيتكوين واستقر‪،‬‬
‫فإنه سيتوقف عن جذب تدفقات االستثمار عالية الخطورة‪ ،‬وسيصبح مجرد أصل نقدي‬
‫عادي يُتوقع أن ترتفع قيمته قليال ً يف كل عام‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ملحق الفصل الثامن‬

‫فيما ييل وصف موجز لثالث تقنيات يستخدمها البيتكوين‪:‬‬

‫الدمج والتشفري (‪ :)Hashing‬هو عملية تأخذ أي تيار من البيانات كم َ‬


‫ُدخل وتحولها إىل‬
‫مجموعة بيانات ذات حجم ثابت (املعروفة باسم الهاش) باستخدام معادلة رياضية غري‬
‫قابلة للعكس‪ .‬بصيغة أخرى‪ ،‬يمكن ببساطة استخدام هذه العملية إلنشاء هاش ذات‬
‫حجم موحد ألي جزء من البيانات‪ ،‬ولكن ال يمكن تحديد السلسلة األصلية للبيانات من‬
‫الهاش‪ .‬ويُعترب الدمج أمرا ً رضوريا ً لتشغيل البيتكوين حيث يتم استخدامه يف التوقيعات‬
‫الرقمية‪ ،‬ونظام إثبات العمل وهيكل أشجار "مريكل"‪ ،‬ومحددات التحويالت‪ ،‬وعناوين‬
‫البيتكوين والعديد من التطبيقات األخرى‪ .‬ويسمح الدمج يف جوهره بتحديد جزء من‬
‫البيانات يف العلن دون الكشف عن أي يشء يخص تلك البيانات‪ ،‬والتي يمكن استخدامها‬
‫بشكل آمن وموثوق ملعرفة ما إذا كانت تمتلك عدة أطراف البيانات ذاتها‪.‬‬

‫تشفري املفتاح العام‪ :‬هو طريقة للمصادقة تعتمد عىل مجموعة من األرقام املرتابطة‬
‫رياضياً‪ :‬مفتاح خاص‪ ،‬ومفتاح عام وتوقيع واحد أو أكثر‪ .‬يمكن للمفتاح الخاص الذي‬
‫يجب أن يبقى رسيا ً أن يُو ِّلد مفتاحا ً عاما ً يمكن توزيعه بحرية وذلك ألنه ال يمكن تحديد‬
‫املفتاح الخاص من خالل دراسة املفتاح العام‪ ،‬ويتم استخدام هذه الطريقة للمصادقة‪:‬‬
‫حيث أنه بعد أن ينرش شخص ما مفتاحه العام فإنه يمكنه دمج وتشفري بعض البيانات‬
‫ثم التوقيع عىل الهاش تلك بمفتاحه الخاص إلنشاء توقيع‪ .‬فيمكن ألي شخص يمتلك‬
‫البيانات ذاتها إنشاء الهاش ذاتها والتأكد من أنه قد تم استخدامها إلنشاء التوقيع؛‬
‫عندئذٍ‪ ،‬يمكنها مقارنة التوقيع مع املفتاح العام الذي تلقته من قبل‪ ،‬ورؤية أنهما‬
‫مرتبطان رياضياً‪ ،‬مما يثبت أن الشخص ذا املفتاح الخاص قد َّ‬
‫وَق َع عىل البيانات التي‬
‫تُغ ِّ‬
‫طيها الهاش‪ .‬فالبيتكوين يَستخدم تشفري املفتاح العام للسماح بتبادل آمن للقيمة عرب‬

‫‪220‬‬
‫النقد الرقمي‬

‫شبكة مفتوحة غري آمنة‪ .‬ويمكن لحامل البيتكوين الوصول إىل البيتكوين الخاص به فقط‬
‫إذا كان لديه املفاتيح الخاصة املرتبطة به‪ ،‬بينما يمكن توزيع العنوان العام املرتبط به‬
‫عىل نطاق واسع‪ .‬يمكن أيضا ً لجميع أعضاء الشبكة التحقق من صحة التحويل بالتحقق‬
‫من أن التحويالت التي أُرسلت النقود من خاللها قد جاءت من مالك املفتاح الخاص‬
‫املناسب‪ .‬ففي البيتكوين‪ ،‬إن الشكل الوحيد للمُلكية هو ملكية املفاتيح الخاصة‪.‬‬

‫شبكة نظري إىل نظري‪ :‬هي بُنية شبكية يمتلك فيها جميع األعضاء امتيازات ومسؤوليات‬
‫متساوية اتجاه بعضهم البعض‪ ،‬وال يوجد منسقون مركزيون يمكنهم تغيري قواعد‬
‫الشبكة‪ .‬فمشغلو العقد الذين ال يتفقون مع طريقة عمل الشبكة‪ ،‬ال يستطيعون فرض‬
‫آرائهم عىل أعضاء الشبكة اآلخرين أو تجاوز حدود امتيازاتهم‪ .‬واملثال األكثر شهرة‬
‫لشبكة نظري إىل نظري هو (‪ ،)BitTorrent‬وهو بروتوكول لتبادل امللفات عرب اإلنرتنت‪.‬‬
‫ويف حني أنه يف الشبكات املركزية يقوم األعضاء بتحميل امللفات من خادم مركزي‬
‫يستضيفهم‪ ،‬إال أنه يف الـ (‪ ،)BitTorrent‬يقوم املستخدمون بتحميل امللفات من بعضهم‬
‫البعض مبارش ًة‪ ،‬وتكون امللفات مقسمة إىل أجزاء صغرية‪ .‬وبمجرد أن يقوم املستخدم‬
‫بتحميل جزء من امللف‪ ،‬فإنه يمكن استخدام ذلك الجزء كبذرة لهذا امللف‪ ،‬مما يسمح‬
‫لآلخرين بتحميله منه‪ .‬فمن خالل هذا التصميم‪ ،‬يمكن أن ينترش ملف كبري برسعة كبرية‬
‫نسبيا ً دون الحاجة إىل خوادم كبرية وبنية تحتية ضخمة لتوزيعه‪ ،‬كما أنه يحمي‬
‫املستخدمني أيضا ً من إمكانية حدوث نقطة واحدة من الفشل والتي من املمكن أن تُقوِّض‬
‫هاش رقمية والتي‬ ‫العملية‪ .‬فتتم حماية كل ملف تمت مشاركته عىل الشبكة من خالل ٍ‬
‫يمكن التحقق منها بسهولة للتأكد من عدم تلفه من أي عقدة تشاركه‪ .‬وبعد أن تم اتخاذ‬
‫إجراءات صارمة من قبل سلطات تطبيق القانون عىل مواقع تبادل امللفات املركزية مثل‬
‫(‪ ،(Napster‬طبيعة ال (‪ )BitTorrent‬الالمركزية تعني أنه ال يمكن لقوات تطبيق‬
‫القانون إغالقه أبداً‪ .‬ومع زيادة عدد مستخدمي الشبكة يف جميع أنحاء العالم‪ ،‬مَ ثَّل‬
‫(‪ )BitTorrent‬يف مرحلة ما حوايل ثلث حركة اإلنرتنت عىل مستوى العالم‪ .‬إن البيتكوين‬
‫يستخدم شبكة تشبه شبكة (‪ ،)BitTorrent‬لكن يف (‪ )BitTorrent‬يتشارك أعضاء‬
‫ً‬
‫أغنية أو كتاباً‪ ،‬أما يف البيتكوين فيتشارك‬ ‫الشبكة يف أجزاء البيانات التي تشكل فيلما ً أو‬
‫أعضاء الشبكة بسجل لجميع تحويالت البيتكوين‪.‬‬

‫‪221‬‬
222
‫الفصل التاسع‬

‫ِ مل مي ْص ُلح البيتكوين؟‬

‫خمزون للقيمة‬

‫إن االعتقاد بأن املوارد نادرة ومحدودة هو فهم خاطئ لطبيعة الندرة‪ ،‬وهو املفهوم‬
‫األسايس وراء علم االقتصاد‪ .‬فالكمية املطلقة ألي مادة خام موجودة عىل سطح األرض‬
‫هي كبرية جدا ً بالنسبة لنا كبرش لقياسها أو الستيعابها حتى‪ ،‬وال تُش ِّكل بأي حال من‬
‫األحوال حدا ً حقيقيا ً ملا نستطيع نحن البرش إنتاجه‪ .‬فنحن بالكاد خدشنا سطح األرض‬
‫بحثا ً عن املعادن التي نحتاج إليها‪ ،‬وكلما بحثنا أكثر وحفرنا بشكل أعمق‪ ،‬ازدادت املوارد‬
‫التي نجدها‪ .‬لهذا‪ ،‬إن ما يشكل الحد العميل والواقعي لكمية أي مورد هو دائما ً مقدار‬
‫الوقت البرشي املُوَجَّ ه إلنتاجه‪ ،‬حيث أن هذا هو املورد النادر الوحيد (حتى إنشاء‬
‫البيتكوين)‪ .‬ويف كتابه الرائع‪" ،‬املورد غري املنتهي"‪ ،‬يرشح الخبري االقتصادي الراحل‬
‫"جوليان سايمون" كيف أن املورد املحدود الوحيد‪ ،‬ويف الواقع اليشء الوحيد الذي ينطبق‬
‫عليه مصطلح املورد‪ ،‬هو الوقت البرشي‪ .‬فلدى كل إنسان وقت محدود عىل وجه األرض‬
‫وهذه هي الندرة الوحيدة التي نتعامل معها كأفراد‪ .‬وكمجتمع‪ ،‬إن ندرتنا الوحيدة تتمثل‬
‫بالوقت اإلجمايل املتاح ألفراد هذا املجتمع إلنتاج سلع وخدمات مختلفة‪ ،‬حيث يمكن دائما ً‬
‫زيادة إنتاج أي سلعة إذا خصص البرش وقتا ً لذلك‪ .‬لهذا‪ ،‬إن التكلفة الحقيقية ألي سلعة‬
‫هي دائما ً تكلفة الفرصة البديلة بالنسبة للسلع التي تم التنازل عن إنتاجها‪.‬‬

‫ففي كل تاريخ البرشية‪ ،‬لم ننفد أبدا ً من أي مادة خام أو مورد‪ ،‬والسعر الحايل‬
‫لجميع املوارد اليوم هو أقل مما كان عليه يف املايض وذلك ألن تَقدُّمنا التكنولوجي يسمح‬

‫‪223‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫لنا بإنتاجها بتكلفة ووقت أقل‪ .‬فليس فقط أننا لم ننفد من أي مادة خام‪ ،‬بل إن‬
‫االحتياطات املؤكدة املوجودة لكل مورد قد ازدادت مع مرور الوقت رغم ارتفاع استهالكنا‬
‫لها‪ .‬فإذا قمنا باعتبار املوارد محدودة‪ ،‬فإنه بمرور الوقت ستنخفض املخزونات املتوفرة‬
‫مع زيادة استهالكنا لها‪ .‬لكن حتى مع استمرار زيادة استهالكنا‪ ،‬فإن األسعار ما زالت‬
‫تستمر يف االنخفاض‪ ،‬بل وسمحت لنا التحسينات يف التكنولوجيا من أجل البحث عن‬
‫املوارد واستخراجها بالعثور عىل املزيد منها‪ .‬فالنفط وهو ُ‬
‫الساللة الحيوية لالقتصادات‬
‫مثال عىل هذا األمر وذلك ألن له إحصائيات موثوقة نسبياً‪ .‬وي ِّ‬
‫ُوضح‬ ‫ُعترب أفض َل ٍ‬
‫الحديثة ي َ‬
‫الشكل ‪ 20‬أنه حتى مع استمرار زيادة االستهالك واإلنتاج بمرور الوقت‪ ،‬فإن‬
‫االحتياطيات املؤكدة ما زالت تزداد بمعدل أرسع‪ 1.‬ووفقا ً للبيانات الواردة من التقرير‬
‫اإلحصائي لرشكة (‪ ،)BP‬فإن اإلنتاج السنوي للنفط كان أكثر بنسبة ‪ %46‬يف عام ‪2015‬‬
‫عن مستواه يف عام ‪ ،1980‬بينما كان االستهالك أعىل بنسبة ‪ .%55‬من ناحية أخرى‪،‬‬
‫ارتفعت احتياطات النفط بنسبة ‪ %148‬أي حوايل ثالثة أضعاف الزيادة يف اإلنتاج‬
‫واالستهالك‪.‬‬

‫يمكن التوصل إىل إحصائيات مماثلة للموارد ذات درجات االنتشار املتفاوتة يف‬
‫قرشة األرض‪ ،‬وندرة هذه املوارد تُحدِّد التكلفة النسبية الستخراجها من األرض‪ .‬فمن‬
‫السهل العثور عىل املزيد من املعادن املنترشة مثل الحديد والنحاس‪ ،‬ولهذا فهي رخيصة‬
‫نسبياً‪ .‬أما املعادن األندر مثل الفضة والذهب فهي أغىل ثمناً‪ ،‬حيث أن الحد األقىص الذي‬
‫يمكن إنتاجه من أي من هذه املعادن تحدده تكلفة الفرصة البديلة إلنتاجها مقارنة‬
‫ببعضها البعض‪ ،‬وليس كميتها املطلقة هي من تحدد ذلك‪ .‬وأفضل دليل عىل ذلك هو أن‬
‫أندر املعادن يف قرشة األرض‪ ،‬الذهب‪ ،‬قد تم تعدينه واستخراجه منذ آالف السنني وما زال‬
‫يتم استخراجه بكميات متزايدة مع تقدم التكنولوجيا بمرور الوقت‪ ،‬كما هو موضح يف‬
‫الفصل الثالث‪ .‬فإذا كان اإلنتاج السنوي ألندر معدن يف القرشة األرضية يرتفع سنوياً‪،‬‬
‫ف أي عنرص طبيعي بعنرص محدود الكمية‪.‬‬ ‫فليس من املنطقي وال من العميل أن ن َ ِص َ‬
‫ولهذا‪ ،‬تُعتَرب الندرة نسبية فقط يف املوارد املادية‪ ،‬واختالفات تكلفة استخراجها هي من‬
‫تُحَ ِّد ُد مستوى ندرتها‪ .‬فالندرة الوحيدة كما أظهر "جوليان سيمون" بشكل بارع‪ ،‬هي‬

‫‪ 1‬املصدر‪ :‬التقرير اإلحصائي لـ (‪.)BP‬‬

‫‪224‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫الشكل ‪ :20‬نسبة االستهالك واإلنتاج واالحتياطي املؤكد ونسبة االحتياطي إىل‬


‫اإلنتاج السنوي‪ ،‬للنفط العاملي بني عامي ‪.2015-1980‬‬

‫الوقت الذي يقضيه البرش إلنتاج هذه املعادن‪ ،‬وهذا هو السبب يف استمرار ارتفاع األجور‬
‫العاملية يف جميع أنحاء العالم‪ ،‬األمر الذي جعل املنتجات واملواد تتطلب تكلفة أقل عىل‬
‫صعيد اليد العاملة والجهد البرشي‪.‬‬

‫إن هذا األمر هو واحد من أصعب املفاهيم االقتصادية عىل الناس من ناحية‬
‫الفهم‪ ،‬وهو يغذي الهسترييا التي ال نهاية لها والتي دأبت حركة البيئة بفرضها علينا‬
‫خالل عقود من إثارة الرعب املروع‪ .‬فبذل جوليان سايمون قصارى جهده ملكافحة هذه‬
‫الهسترييا من خالل تحدي أحد أشهر نوبات هسترييا القرن العرشين ِب ِرهان مشهور‬
‫مدته عرش سنوات‪ .‬بدأت القصة عندما كتب "باول إرليخ" عدة كتب هستريية مفادها أن‬
‫األرض كانت عىل حافة كارثة نفاد املوارد الحيوية‪ ،‬مع توقعات أليمة ودقيقة حول‬
‫التواريخ التي ستنفد فيها هذه املوارد‪ .‬ويف عام ‪ 1980‬قام سيمون بتحدي إرليخ عىل‬
‫تسمية أية مواد خام يختارها مع تحديد فرتة تكون أطول من عام واحد لرهانه‪ ،‬وراهن‬
‫بـ ‪10,000‬دوالر أن سعر كل من هذه املعادن املعدلة من أجل التضخم‪ ،‬سيكون أقل بعد‬
‫نهاية الفرتة املتفق عليها‪ .‬فاختار إرليخ النحاس والكروم والنيكل والقصدير وعنرص‬

‫‪225‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫التنجستن‪ ،‬وتنبأ أن جميع هذه املواد ستنفد‪ .‬مع ذلك ويف عام ‪ ،1990‬انخفض سعر كل‬
‫هذه املعادن‪ ،‬وازداد مستوى إنتاجها السنوي‪ ،‬عىل الرغم من أن العقد املنرصم قد شهد‬
‫زيادة يف عدد السكان بمقدار ‪ 800‬مليون نسمة‪ ،‬وهي أكرب زيادة يف عقد واحد منذ ذلك‬
‫الحني‪.‬‬

‫يف الواقع‪ ،‬كلما ازداد عدد البرش‪ ،‬ازداد إنتاج هذه املواد الخام‪ ،‬واألهم من ذلك‬
‫ربما كما قال الخبري االقتصادي "مايكل كريمر"‪ ،2‬إن الدافع األسايس للتقدم البرشي‬
‫ليس هو املواد الخام‪ ،‬بل الحلول التكنولوجية للمشاكل املوجودة‪ .‬فالتكنولوجيا بطبيعتها‬
‫هي سلعة غري قابلة للمنع (بمعنى أنه عندما يخرتع شخص ما شيئا ً ما‪ ،‬فإنه يمكن‬
‫لآلخرين تقليده واالستفادة منه) وسلعة غري تنافسية (بمعنى أن الشخص املستفيد من‬
‫االخرتاع ال يقلل من الفائدة التي تعود عىل اآلخرين الذين يستخدمونه)‪ .‬عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫فلنأخذ العجلة‪ ،‬حاملا اخرتعها أحدهم‪ ،‬يستطيع أي شخص آخر تقليدها وصناعة عجلة‬
‫خاصة به‪ ،‬ولن يقلل استخدام الناس لعجلتهم بأي شكل من األشكال من قدرة اآلخرين‬
‫عىل االستفادة منها‪ .‬فاألفكار املبتكرة نادرة‪ ،‬وال تستطيع سوى قلة قليلة من الناس‬
‫التفكري والوصول إليها‪ .‬لهذا‪ ،‬ستُنتِج املجتمعات الكبرية تقنيات وأفكار أكثر من‬
‫املجتمعات الصغرية‪ ،‬ولكن ألن الفائدة تعود عىل الجميع‪ ،‬فمن األفضل العيش يف عالم ذي‬
‫عدد أكرب من السكان‪ .‬فكلما ازداد عدد البرش عىل األرض‪ ،‬تم التفكري يف املزيد من‬
‫التقنيات واألفكار اإلنتاجية‪ ،‬واستفاد البرش بشكل أكرب من هذه األفكار‪ ،‬وقاموا بنسخها‬
‫وتقليدها عن بعضهم‪ ،‬مما يؤدي إىل زيادة إنتاجية الوقت البرشي وتحسني مستويات‬
‫املعيشة‪.‬‬

‫يوضح "كريمر" ذلك من خالل إظهار أنه ومع زيادة عدد ُس َّكان األرض‪ ،‬إال أن‬
‫الس َّكاني ازداد أيضا ً عوضا ً عن انخفاضه‪ .‬فلو كان البرش عبارة عن عبء‬
‫معدل النمو ُ‬
‫باستهالكهم للموارد‪ ،‬فعندها كلما سيزداد عدد السكان‪ ،‬ستنخفض كمية املوارد املتاحة‬
‫لكل فرد‪ ،‬وسينخفض معدل النمو االقتصادي والنمو السكاني‪ ،‬كما تنبأ النموذج‬

‫‪ 2‬مايكل كرمير‪" :‬منو الكثافة السكانية والتغري التقين‪ :‬مليون عام قبل امليالد إىل عام ‪ "1990‬اجمللة الفصلية مذكرة‬
‫علم االقتصاد‪ ،‬اجمللد ‪ 108‬العدد ‪( 3‬عام ‪ :)1993‬الصفحة ‪.716 – 681‬‬

‫‪226‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫"املالتويس" ‪ .‬لكن وألن البرش هم بحد ذاتهم املورد‪ ،‬واألفكار اإلنتاجية هي الدافع لإلنتاج‬
‫االقتصادي‪ ،‬فإن زيادة عدد البرش َسيَنتج عنها زيادة باألفكار اإلنتاجية والتكنولوجيات‪،‬‬
‫وإنتاجٌ أكثر لكل فرد‪ ،‬وقدرة أكرب عىل رعاية ودعم الكثافات السكانية العالية‪ .‬عالوة عىل‬
‫ذلك‪ ،‬يوضح كريمر كيف أن األماكن املعزولة ذات الكثافة السكانية العالية قد شهدت‬
‫نموا ً اقتصاديا ً وتقدما ً أرسع من تلك ذات الكثافة السكانية املنخفضة‪.‬‬

‫لهذا‪ ،‬من الخطأ تسمية املواد الخام باملوارد‪ ،‬ألن البرش ليسوا مستهلكني سلبيني‬
‫ملا ينزل عليهم من السماء‪ .‬وبما أن املواد الخام هي دائما ً نتاج العمل البرشي واإلبداع‪،‬‬
‫فإن البرش هم املورد النهائي ألنه يمكن دوما ً توظيف الوقت والجهد واإلبداع البرشي‬
‫لزيادة اإلنتاج‪.‬‬

‫واملعضلة األبدية التي تواجه البرش فيما يخص وقتهم تتعلق بكيفية تخزين‬
‫القيمة للمستقبل‪ ،‬تلك القيمة التي يستهلكون وقتهم إلنتاجها‪ .‬ففي حني أن الوقت‬
‫البرشي هو وقت محدود‪ ،‬إال أن كل يشء آخر هو غري محدود عملياً‪ ،‬ويمكن إنتاج املزيد‬
‫منه إذا تم توظيف املزيد من الوقت البرشي فيه‪ .‬فأيا ً كان اليشء الذي يختاره البرش‬
‫كمخزون للقيمة‪ ،‬فإن قيمته سرتتفع‪ .‬وألنه يمكن دائما ً تصنيع املزيد من هذا اليشء‪ ،‬فإن‬
‫اآلخرين سينتجون املزيد منه للحصول عىل القيمة املخزنة فيه‪ .‬فسكان جزيرة ياب طلبوا‬
‫من أوكييفي أن يجلب لهم متفجرات وقوارب متطورة إلنتاج املزيد من حجارة الراي‬
‫لحصد القيمة املخزنة يف الحجارة املوجودة‪ ،‬وقام األوروبيون بتعبئة قواربهم بالخرز بناء‬
‫عىل طلب األفارقة للحصول عىل القيمة املخزنة يف خرزهم‪ .‬فكل املعادن‪ ،‬عدا الذهب‪ ،‬التي‬
‫استُخدمت كوسيط نقدي تم املبالغة يف إنتاجها إىل أن انهار سعرها‪ .‬اليوم‪ ،‬تملك‬
‫االقتصادات الحديثة بنوكا ً مركزية كينزية تَدَّعي دوما ً محاربة التضخم أثناء قيامها‬
‫تدريجيا ً أو بشكل رسيع بتخفيض قيمة نقدها‪ ،‬كما هو مذكور يف الفصل الرابع‪ .‬ومع‬
‫بدء األمريكيني مؤخرا ً استخدام منازلهم كوسيلة وكوسيط لالدخار‪ ،‬ازداد عدد املنازل‬
‫املتوفرة واملعروضة كثريا ً مما أدى إىل انهيار سعرها‪ .‬ومع استمرار التضخم النقدي‪،‬‬
‫يمكن فهم عدد الفقاعات الكبري عىل أنه نوع من املراهنات واملضاربات وعىل أنه طريقة‬
‫إليجاد مخزون جيد للقيمة‪ .‬والذهب وحده الذي من اقرتب من حل هذه املعضلة بفضل‬
‫كيميائيته التي تجعل من تضخيم عرضه أمرا ً مستحيالً‪ ،‬ونتج عن ذلك واحدة من أعظم‬

‫‪227‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫حقب التاريخ البرشي‪ ،‬لكن االنتقال اتجاه سيطرة الحكومة عىل الذهب قد حَ َّد من دوره‬
‫النقدي عن طريق استبداله بالنقود الحكومية‪ ،‬التي كان سجلها سيئا ً للغاية‪.‬‬

‫إن هذا األمر يُلقِ ي الضوء عىل جانب مذهل من جوانب االنجازات التقنية وهو‬
‫البيتكوين‪ .‬فللمرة األوىل‪ ،‬لجأت البرشية إىل سلعة كان عرضها محدودا ً بشكل صارم‪.‬‬
‫فمهما كان عدد األشخاص الذين يستخدمون الشبكة‪ ،‬ومهما كان مدى ارتفاع قيمتها‪،‬‬
‫ومدى تقدم ا َملعدَّات املستخدمة يف إنتاجها‪ ،‬فإنه ال يمكن أن يتعدى عدد عمالت البيتكوين‬
‫املتوفرة الـ ‪ 21‬مليون‪ ،‬وال توجد إمكانية تقنية لزيادة العرض ليتناسب مع زيادة‬
‫الطلب‪ .‬فإذا ازداد طلب الناس عىل االحتفاظ بالبيتكوين‪ ،‬فإن الطريقة الوحيدة لتلبية‬
‫الطلب هي من خالل زيادة قيمة العرض املتوفر‪ .‬وبسبب قابلية قسمة كل بيتكوين إىل‬
‫‪ 100‬مليون ساتويش‪ ،‬فهناك مساحة نمو كبرية للبيتكوين من خالل استخدام وحداته‬
‫الصغرية عندما ترتفع قيمته‪ .‬إن هذا األمر يطرح نوعا ً جديدا ً من األصول كي يكون‬
‫مناسبا ً لتأدية دور مخزون للقيمة‪.‬‬

‫فحتى اخرتاع البيتكوين‪ ،‬كانت جميع أشكال النقد غري محدودة يف كميتها‬
‫وبالتايل لم تكن تتمتع بالكفاءة بقدرتها يف املحافظة عىل قيمتها بمرور الوقت‪ ،‬لكن‬
‫العرض النقدي الثابت للبيتكوين يجعله أفضل وسيط لتخزين القيمة الناتجة من الوقت‬
‫البرشي املحدود‪ ،‬مما يجعله أفضل مخزون للقيمة اخرتعته البرشية عىل اإلطالق‪.‬‬
‫لتوضيح األمر بشكل مختلف‪ ،‬إن البيتكوين هو أرخص طريقة لرشاء املستقبل ألنه‬
‫الوسيط الوحيد الذي يضمن أال تُخفض قيمة عملته‪ ،‬بغض النظر عن مدى ارتفاع قيمته‪.‬‬
‫(انظر الشكل ‪.)321‬‬

‫ففي عام ‪ ،2018‬عندما كان البيتكوين بعمر التسع سنوات فقط‪ ،‬تم اعتماده‬

‫‪ 3‬املصادر‪ :‬بياانت الذهب من هيئة املسح اجليولوجية األمريكية‪ .‬بياانت الفضة من مؤسسة الفضة‪ .‬بياانت‬
‫البيتكوين من حساابت الكاتب ومن موقع ‪ .Blockchain.info‬بياانت النفط من التقرير اإلحصائي ل ـ‬
‫(‪ ) BP‬للطاقة العاملية‪ .‬بياانت العمالت الوطنية من البياانت االقتصادية لالحتياطي الفيدرايل‪ ،‬متوفر على املوقع‬
‫‪ .https://fred.stlouisfed.org‬بياانت النحاس وفق تقديرات الكاتب‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫الشكل ‪ :21‬إجمايل املخزونات العاملية املتاحة مقسومة عىل إنتاجها السنوي‬

‫وتبنيه بالفعل من قبل املاليني‪ 4‬يف جميع أنحاء العالم‪ ،‬لدرجةٍ أصبح يتم فيها مقارنة‬
‫معدل نمو عرضه الحايل مع عرض العمالت االحتياطية العاملية‪ .‬فعىل صعيد نسبة‬
‫املخزون إىل التدفق التي نوقشت يف الفصل األول‪ ،‬كانت مخزونات البيتكوين املتوفرة عام‬
‫‪ 2017‬أكرب بنحو ‪ 25‬مرة من الوحدات الجديدة التي تم انتاجها يف عام ‪ ،2017‬وال يزال‬
‫هذا أقل من نصف نسبة الذهب‪ ،‬ولكن بحدود عام ‪ ،2022‬ستتفوق نسبة املخزون إىل‬
‫التدفق للبيتكوين عىل الذهب‪ ،‬وبحلول عام ‪ ،2025‬ستبلغ النسبة ضعف الذهب‬
‫وستستمر يف الزيادة برسعة يف املستقبل بينما سيبقى الذهب ثابتا ً تقريباً‪ ،‬وذلك نظرا ً‬
‫لديناميكيات تعدين الذهب التي نوقشت يف الفصل الثالث‪ .‬وبحلول عام ‪ 2140‬تقريباً‪،‬‬
‫لن يكون هناك أي عرض جديد من البيتكوين‪ ،‬وستصبح نسبة املخزون إىل التدفق ال‬
‫نهائية‪ ،‬وهي املرة األوىل التي تحقق فيها أي سلعة أو أي مادة هذا األمر‪.‬‬

‫‪ 4‬ليس هناك طرق بسيطة لتقدير عدد مستخدمي البيتكوين‪ ،‬حيث يستطيع كل مستخدم امتالك العدد الذي‬
‫يريد من العناوين العامة لتكون مقرونة به‪ .‬أُجريت عدة حماوالت لتقدير العدد وتبني أنه يرتاوح بني ‪ 10‬ماليني إىل‬
‫‪ 100‬مليون مستخدم يف عام ‪ ،2017‬وأعتقد أن هذا أدق تقدير ميكننا احلصول عليه‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫إن األثر الهام لعرض البيتكوين املتناقص واالنخفاض املستمر يف معدل نمو‬
‫هذا العرض هو ما جعل عرض البيتكوين املتوفر كبريا ً جدا ً مقارنة مع العرض الجديد‪.‬‬
‫ومن هذا املنطلق‪ ،‬فإن تعدين البيتكوين يشبه تعدين الذهب‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬كوسيط نقدي‪،‬‬
‫سيتم ضمان تخصيص وقت وجهد أقل نسبيا ً لتأمني عرض جديد منه‪ ،‬يف حني أن أنواع‬
‫النقد األخرى يمكن زيادة عرضها بسهولة؛ وبهذا يتم تكريس املزيد من الوقت والجهد‬
‫لتحقيق إنتاج اقتصادي مفيد يمكن استبداله بعد ذلك بالبيتكوين‪ .‬ومع انخفاض العائد‬
‫من "دعم الكتلة"‪ ،‬فإن املوارد املُخصصة لتعدين البيتكوين سيتم توجيهها بشكل رئييس‬
‫ملعالجة التحويالت وبالتايل تأمني الشبكة‪ ،‬وليس إلنتاج عمالت جديدة‪.‬‬

‫ويف غالبية تاريخ البرشية‪ ،‬تم استخدام بعض "األشياء" املادية كمخزون‬
‫للقيمة‪ ،‬ويجدر بنا اإلضافة أن وظيفة تخزين القيمة لم تكن تتطلب وجودا ً مادياً‪ ،‬لكن‬
‫وجود هذا "اليشء" املادي جعل من أمر زيادة عرض مخزون القيمة أمرا ً أكثر صعوبة‪.‬‬
‫لكن البيتكوين ومن خالل عدم وجود أي كيان مادي له‪ ،‬وكونه رقمي بحت‪ ،‬فهو قادر‬
‫عىل تحقيق ندرة مطلقة‪ .‬إن هذا األمر لم يتحقق من قبل من قِ ب َِل أي مادة يمكن تقسيمها‬
‫ومن قِ ب َِل أي مادة قابلة للنقل‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬يسمح البيتكوين للبرش بنقل القيمة رقميا ً دون‬
‫أي اعتماد عىل العالم املادي‪ ،‬األمر الذي يسمح بتحويل كميات كبرية من األموال عرب‬
‫العالم يف دقائق معدودة‪ .‬فالندرة الرقمية املطلقة لعمالت البيتكوين تجمع أفضل صفات‬
‫الوسائط النقدية املادية‪ ،‬مع عدم وجود أي من العوائق املادية لنقلها وتحويلها‪ ،‬وبهذا‬
‫يمكننا القول إن البيتكوين قد يكون أفضل تقنية ادخار تم اخرتاعها عىل اإلطالق‪.‬‬

‫السيادة الفردية‬
‫باعتباره أول شكل من أشكال النقد الرقمي‪ ،‬فإن أول وأهم مسائل البيتكوين تتمثل‬
‫بقدرته عىل منح أي شخص يف العالم إمكانية تحقيق السيادة عىل نقده‪ .‬ولهذا‪ ،‬يحقق‬
‫البيتكوين ملالكه درجة من الحرية االقتصادية لم تكن ممكنة قبل اخرتاعه‪ .‬فيمكن‬
‫لحاميل البيتكوين إرسال كميات كبرية من القيمة يف أنحاء الكوكب دون الحاجة إىل طلب‬
‫إذن من أي شخص حيث أن قيمة البيتكوين ال تعتمد عىل أي يشء مادي يف أي مكان يف‬

‫‪230‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫العالم‪ ،‬وبالتايل ال يمكن بشكل كيل عرقلته أو تدمريه أو مصادرته من قبل أي من القوى‬
‫الفيزيائية لعالم السياسية أو عالم الجرائم‪.‬‬

‫وأهمية هذا االخرتاع للواقع السيايس يف القرن الحادي والعرشين هي أنه وألول‬
‫وَفر لألفراد حل تقني واضح للهروب من النفوذ‬ ‫مرة منذ ظهور الدولة الحديثة‪ ،‬تَ َّ‬
‫والسطوة املالية للحكومات التي يعيشون تحت سيطرتها‪ .‬ومن الالفت للنظر أن أفضل‬
‫وصف ألهمية هذه التكنولوجيا يمكن العثور عليه يف كتاب ُكتب عام ‪ 1997‬أي قبل ‪12‬‬
‫وقع وجود عملة رقمية مشابهة بشكل ملحوظ‬ ‫سنة من إنشاء البيتكوين‪ ،‬حيث تم تَ ُّ‬
‫للبيتكوين‪ ،‬واألثر الذي سترتكه يف تحوُّل املجتمع البرشي‪.‬‬

‫ففي كتاب "الفرد ذو السيادة"‪ ،‬يرى "جيمس دافيدسون" و"ويليام‬


‫ريزموغ" بأن الدولة القومية الحديثة بقوانينها التقييدية ورضائبها املرتفعة ودوافعها‬
‫الشمولية‪ ،‬قد وصلت إىل مستوى قمع كبري لحرية مواطنيها يمكن مقارنته بقمع الكنيسة‬
‫يف العصور األوروبية الوسطى‪ ،‬وأن األمور قد وصلت إىل مرحلة الغليان وجاهزة‬
‫لالنفجار‪ .‬فبعد عبء الرضائب الثقيل وتزايد الرقابة عىل األشخاص‪ ،‬وتزايد الطقوس‪،‬‬
‫أصبحت تكاليف دعم الكنيسة ال تطاق بالنسبة لألوروبيني‪ ،‬فظهرت أشكال تنظيمية‬
‫سياسية واقتصادية أكثر إنتاجية قامت باستبدال الكنيسة ونفت وجودها‪ .‬اليوم‪ ،‬وَ لَّد‬
‫ظهور اآلالت‪ ،‬والصحافة املطبوعة‪ ،‬والرأسمالية‪ ،‬والدولة القومية الحديثة عرصَ املجتمع‬
‫الصناعي واملفاهيم الحديثة للمواطنة‪.‬‬

‫وبعد مرور خمسمائة عام‪ ،‬أصبح املجتمع الصناعي والدولة القومية الحديثة‬
‫هم من يتسم بالقمع والصالبة واإلرهاق‪ ،‬وأصبحت التكنولوجيا الجديدة هي من يبدد‬
‫قوتها وأسباب وجودها‪" .‬املعالجات الدقيقة َست ُ َقوِّض الدولة القومية وستدمرها" هي‬
‫األطروحة االستفزازية للكتاب‪ .‬حيث ستنبثق أشكال جديدة تنظيمية من تكنولوجيا‬
‫املعلومات‪ ،‬وستدمر قدرة الدولة التي تُ ِ‬
‫جرب املواطنني عىل دفع أكثر مما يرغبون به مقابل‬
‫خدماتها‪ ،‬وستقوم الثورة الرقمية بتدمري سيطرة الدولة الحديثة عىل مواطنيها‪ ،‬وستقلل‬
‫من أهمية الدولة القومية كوحدة تنظيمية‪ ،‬وستمنح األفراد سلطة وسيادة لم يسبق لها‬
‫مثيل عىل حياتهم الخاصة‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫يمكننا بالفعل رؤية حدوث هذه العملية بفضل ثورة تكنولوجيا االتصاالت‪.‬‬
‫ففي حني أن الصحافة املطبوعة قد سمحت لفقراء العالم بالوصول إىل املعرفة التي كانت‬
‫ممنوعة عليهم ومحتكرة من قبل الكنائس‪ ،‬إال أنها بقيت محدودة بقيود إنتاج الكتب‬
‫املادية‪ ،‬حيث أنه يمكن دائما ً مصادرتها أو حظرها أو حرقها‪ .‬لكن ال يوجد مثل هذا‬
‫التهديد يف العالم الرقمي حيث تتواجد جميع املعارف البرشية‪ ،‬وهي متاحة بسهولة‬
‫لألفراد بحيث يمكنهم الوصول إليها دون إمكانية مراقبتها من قبل الحكومة أو حظرها‪.‬‬

‫بشكل مشابه‪ ،‬تسمح املعلومات للتجارة والعمالة بتدمري القيود والقوانني‬


‫الحكومية‪ ،‬وأفضل أمثلة عىل ذلك هي رشكات مثل (‪ )Uber‬و (‪ ،)Airbnb‬حيث لم تطلب‬
‫هاتان الرشكتان إذن الحكومة لتقديم منتجاتهما بنجاح‪ ،‬وقامتا بإلغاء األشكال التقليدية‬
‫للتنظيم واإلرشاف‪ .‬فأصبح بإمكان األفراد املعارصين التعامل مع اآلخرين الذين‬
‫يقابلونهم عىل اإلنرتنت عرب أنظمة الهوية والحماية املبنية عىل املوافقة واالحرتام املتبادل‪،‬‬
‫دون الحاجة إىل اللجوء إىل اللوائح التنظيمية الحكومية القرسية‪.‬‬

‫كما أدى ظهور أشكال زهيدة الثمن من االتصاالت عرب اإلنرتنت إىل إلغاء أهمية‬
‫املوقع الجغرايف للعمل‪ ،‬فيمكن اآلن ملنتجي العديد من السلع اختيار اإلقامة يف أي مكان‬
‫يفضلونه‪ ،‬وذلك ألن منتجات عملهم أصبحت رقمية وغري مادية بشكل متزايد‪ ،‬فأصبح‬
‫باإلمكان نقلها حول العالم بشكل فوري‪ .‬فبالتايل‪ ،‬أصبحت اللوائح التنظيمية الحكومية‬
‫والرضائب أقل قوة حيث يمكن لألفراد العيش أو العمل يف األماكن التي تناسبهم وتسليم‬
‫أعمالهم عرب شبكة اإلنرتنت‪.‬‬

‫ومع تزايد قيمة اإلنتاج االقتصادي الذي يأخذ شكل السلع غري املادية‪،‬‬
‫انخفضت القيمة النسبية لألرايض ووسائل اإلنتاج املادية‪ ،‬وقللت عوائد مُصادرة تلك‬
‫الوسائل املادية بالقوة‪ .‬وبذلك‪ ،‬أصبحت رؤوس املال املنتجة متجسد ًة أكثر يف األفراد‬
‫أنفسهم‪ ،‬مما يجعل تهديد مُصادرتها قهرا ً أمرا ً عقيما ً بشكل متزايد‪ ،‬حيث أصبحت‬
‫إنتاجية األفراد اآلن ترتبط ارتباطا ً وثيقا ً بموافقتهم ورضاهم‪ .‬لكن عندما كانت إنتاجية‬
‫الفالحني ونجاتهم مرتبطة باألرض التي ال يملكونها‪ ،‬كان تهديد استخدام العنف كفيل‬
‫بجعلهم منتجني لصالح صاحب األرض‪ .‬وبشكل مشابه‪ ،‬فإن اعتماد املجتمع الصناعي‬

‫‪232‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫الكبري عىل رأس املال اإلنتاجي املادي وناتجه امللموس قد جعل مُصادرته من قبل الدولة‬
‫أمرا ً بسيطا ً نسبيا ً كما تَب ََّني ذلك بشكل دموي يف القرن العرشين‪ ،‬لكن مع َكون القدرات‬
‫العقلية للفرد هي القوة اإلنتاجية الرئيسية للمجتمع‪ ،‬أصبح التهديد باستخدام العنف‬
‫أقل فعالية بكثري‪ .‬فبإمكان البرش االنتقال وبسهولة إىل حيث ال ت ُش ِّكل ُ‬
‫السلطات القضائية‬
‫تهديدا ً لهم ‪ ،‬أو بإمكانهم أن يكونوا منتجني عىل أجهزة الحواسيب دون أن تعرف‬
‫الحكومة ما الذي ينتجونه‪.‬‬

‫لقد كانت هناك قطعة واحدة أخرية مفقودة يف لغز الرقمنة وهي تحويل‬
‫األموال والقيمة‪ .‬فحتى يف الوقت الذي تمكنت فيه تكنولوجيا املعلومات من إلغاء الضوابط‬
‫والقيود الجغرافية والحكومية‪ ،‬إال أن املدفوعات ظلت تحت سيطرة الحكومات‬
‫واالحتكارات املرصفية التي تفرضها الدولة‪ .‬ومثل جميع االحتكارات التي تفرضها‬
‫الحكومة‪ ،‬قاومت البنوك لسنوات االبتكارات والتغيريات التي تفيد العمالء‪ ،‬وحدّت من‬
‫قدرتهم عىل استخراج الرسوم واإليجارات‪ ،‬لكن مع نمو وانتشار االقتصاد العاملي‪ ،‬نما‬
‫هذا االحتكار ليصبح عبئا ً ثقيال‪ .‬لهذا‪ ،‬تنبأ دافيدسون وريزموغ بدقة بالغة شكل آلية‬
‫الهروب من السجن النقدي وقاال‪" :‬أشكال رقمية من النقد مشفرة ومحمية ومستقلة عن‬
‫جميع القيود املادية‪ ،‬ال يمكن وقفها أو مصادرتها من قبل السلطات الحكومية"‪ .‬ويف حني‬
‫أن هذا قد بدا كتنبؤ غريب عند كتابة الكتاب‪ ،‬إال أنه أصبح اآلن حقيقة حية يستخدمها‬
‫بالفعل املالي ني يف جميع أنحاء العالم‪ ،‬عىل الرغم من أن أهمية ذلك ليست مفهومة عىل‬
‫نطاق واسع‪.‬‬

‫ف البيتكوين والتشفري بشكل عام‪ ،‬هي تقنيات دفاعية تجعل تكلفة الدفاع عن‬
‫املمتلكات واملعلومات أقل بكثري من تكلفة مهاجمتها‪ ،‬إنها تجعل الرسقة مكلفة للغاية‬
‫فضل من يريد العيش بسالم دون عدوان اتجاه اآلخرين‪ .‬ولقد‬ ‫وغري مؤكدة‪ ،‬وبالتايل تُ ّ‬
‫قطع البيتكوين شوطا ً طويال ً يف تصحيح اختالل توازن القوى الذي ظهر خالل القرن‬
‫املايض عندما كانت الحكومة قادرة عىل مصادرة املال ثم وضعه يف بنوكها املركزية‪،‬‬
‫وبالتايل جعْ ل األفراد يعتمدون عليها بشكل كامل من أجل بقائهم ورفاهيتهم‪ .‬فالنسخة‬
‫التاريخية من النقد السليم‪ ،‬الذهب‪ ،‬لم يمتلك هذه املزايا حيث أن ماديته جعلته عرضة‬
‫لسيطرة الحكومة عليه‪ .‬كما أنه لم يكن من املمكن تحريك الذهب بسهولة ويعنى هذا أن‬

‫‪233‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫املدفوعات التي تتم بوساطته وجب أن تكون مركزية يف املصارف والبنوك املركزية‪ ،‬األمر‬
‫الذي يجعل من مصادرته أمرا ً سهالً‪ .‬أما يف البيتكوين من ناحية أخرى‪ ،‬فالتحقق من‬
‫التحويالت هو أمر بسيط وغري مكلف‪ ،‬حيث يمكن ألي شخص الوصول إىل سجل‬
‫التحويالت من أي جهاز متصل باإلنرتنت وبشكل مجاني‪ 5.‬ويف حني أنه من املرجح أن‬
‫تتطلب زيادة سعة تحويالت البيتكوين استخدام أطراف ثالثة‪ ،‬إال أن هذا يختلف عن‬
‫تصفية الذهب يف عدة جوانب مهمة للغاية‪ .‬فجميع تعامالت األطراف الثالثة سيتم‬
‫تصفيتها عىل سجل بإمكان الجميع الوصول إليه‪ ،‬مما يسمح بمزيد من الشفافية‬
‫والتدقيق‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬سيوفر البيتكوين فرصة للفرد املعارص كمخرج من الدول‬
‫االستبدادية واإلدارية والكينزية واالشرتاكية‪ ،‬فهو تصحيح تكنولوجي بسيط ألوبئة‬
‫الحكومات الحديثة التي تحافظ عىل كيانها عرب استغالل األفراد املنتجني الذين يعيشون‬
‫عىل أراضيها‪ .‬وإذا استمر البيتكوين يف النمو وحصل عىل حصة أكرب من الثروة العاملية‪،‬‬
‫ُجرب الحكومات عىل أن تصبح شكال ً من أشكال التنظيم الطوعي‪ ،‬حيث يمكنها‬ ‫فقد ي ِ‬
‫الحصول عىل "رضائبها" طواعي ًة فقط من خالل تقديم خدماتها غري املوضوعية التي قد‬
‫يريد رعاياها الدفع للحصول عليها‪.‬‬

‫يمكن فهم الرؤية السياسية للبيتكوين من خالل التعمق بدراسة أفكار حركة‬
‫(‪ 6)cypherpunk‬التي انبثقت منها البيتكوين‪ .‬فعىل حد تعبري "تيموثي ماي"‪:‬‬

‫إن الجمع بني تشفري متني وقوي للمفتاح العام ومجتمعات الشبكات‬
‫االفرتاضية يف الفضاء اإللكرتوني سيؤدي إىل تغيريات عميقة ومثرية لالهتمام يف‬
‫طبيعة النُّظم االقتصادية واالجتماعية‪ .‬إن الالسلطوية اإللكرتونية هي التطبيق‬
‫اإللكرتوني لالسلطوية الرأسمالية‪ ،‬فهي تتجاوز الحدود الدولية وتحرر األفراد‬
‫ليصبحوا قادرين عىل اتخاذ القرارات االقتصادية التي يرغبون يف اتخاذها‪...‬‬

‫‪ 5‬فاحلصول على أجهزة قادرة على االتصال بشبكة اإلنرتنت واحلصول على اتصال بشبكة اإلنرتنت هو أمر زهيد‬
‫ويزداد رخصه ابستمرار‪.‬‬
‫‪ 6‬تيموثي سي ماي‪ ،‬الالسلطوية اإللكرتونية واجملتمعات االفرتاضية‪ ،1994 ،‬متوفر على‪:‬‬
‫‪nakamotoinstitute.org‬‬

‫‪234‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫إن الالسلطوية اإللكرتونية هي تحرير األفراد من قمع الحكومات ومن قمع‬


‫جريانهم الذين ال يستطيعون معرفتهم من عىل شبكة اإلنرتنت‪ ،‬فبالنسبة إىل‬
‫الليرباليني‪ ،‬يوفر التشفري القوي الوسائل التي سيتم من خاللها تجنب‬
‫الحكومة‪.‬‬

‫إن تلك الرؤية الالسلطوية الرأسمالية التي يصفها "ماي" هي الفلسفة‬


‫السياسية التي طورها االقتصادي األمريكي التابع للمدرسة النمساوية‪" ،‬موراي‬
‫روثبارد"‪ .‬ففي"أخالقيات الحرية" يفرس روثبارد الالسلطوية الرأسمالية الليربالية‬
‫باعتبارها األثر املرتابط املنطقي الوحيد لفكرة اإلرادة الحرة وامللكية الذاتية‪:‬‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬لنفكر بالوضع العاملي ألخالقيات الحرية‪ ،‬وبالحق الطبيعي‬
‫لإلنسان واملُلكية التي تحدث يف ظل هذه األخالقيات‪ .‬يخضع كل شخص يف أي‬
‫زمان وأي مكان لتلك القواعد األساسية‪ :‬وهي مُلكية الشخص لنفسه‪ ،‬وملكية‬
‫املوارد التي لم يتم استخدامها من قبل والتي احتلها الشخص وتحولت له؛‬
‫وملكية جميع األلقاب املستمدة من تلك امللكية األساسية إما من خالل التبادل‬
‫الطوعي أو الهدايا الطوعية‪ .‬إن هذه القواعد التي يمكن أن نطلق عليها "قواعد‬
‫امللكية الطبيعية" يمكن تطبيقها بوضوح‪ ،‬بحيث يتم الدفاع عن هذه امللكية‬
‫بغض النظر عن الزمان أو املكان‪ ،‬وبغض النظر عن املؤهالت واإلنجازات‬
‫االقتصادية للمجتمع‪ .‬فمن املستحيل ألي نظام اجتماعي أن يكون مؤهالً‬
‫ليصبح قانونا طبيعيا عامليا؛ ألنه إذا كان هناك أي ُحكم قرسي من قبل شخص‬
‫عىل شخص آخر أو مجموعة عىل أخرى (وكل ُحكم هو جزء من هذه الهيمنة)‪،‬‬
‫عندئذ يكون من املستحيل تطبيق نفس القاعدة عىل الجميع؛ فيمكن فقط‬
‫للعالم التحرري وغري السلطوي والخايل من القواعد تحقيق رشوط الحقوق‬
‫الطبيعية والقانون الطبيعي‪ ،‬أو األهم من ذلك‪ ،‬يمكن أن يفي برشوط األخالق‬
‫العاملية للبرشية جمعاء‪.7‬‬

‫‪ 7‬موراي روثربد‪" ،‬أخالقيات احلرية" (نيويورك‪ ،‬صحافة جامعة نيويورك‪ ،‬عام ‪ )1998‬الصفحة ‪.43‬‬

‫‪235‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ف مبدأ عدم االعتداء هو أساس نسخة روثبارد عن الالسلطوية الرأسمالية‪ ،‬وعىل‬


‫أساسها‪ ،‬ال يمكن أن يكون ألي عدوان تم ارتكابه سواء من قبل الحكومة أو األفراد‪ ،‬مربر‬
‫أخالقي‪ .‬فالبيتكوين ولِكونه طوعي تماما ً وسلمي دوماً‪ ،‬يقدم لنا البنية التحتية النقدية‬
‫لعالم مبني عىل التعاون الطوعي فقط‪ .‬وعىل النقيض من التصورات الشائعة ملؤيدي‬
‫الالسلطوية كسفاحني مقنَّعني‪ ،‬فإن نسخة البيتكوين عن الالسلطوية هي سلمية تماماً‪،‬‬
‫وت ُو ِّف ر لألفراد األدوات الالزمة للتحرر من التضخم وسيطرة الحكومة‪ .‬فهي نسخة ال‬
‫تسعى لفرض نفسها عىل أي أحد‪ ،‬وإن نمت ونجحت‪ ،‬فسيكون ذلك بسبب مزاياها‬
‫الخاصة كتكنولوجيا محايدة سلمية عىل صعيد النقد والتسويات‪ ،‬وليس بسبب فرضها‬
‫عىل اآلخرين‪.‬‬

‫ففي املستقبل القريب‪ ،‬وحيث أنه ال يزال عند مستوى منخفض جدا ً من التبني‬
‫العام‪ ،‬يوفر البيتكوين خيارا ً ذا تكلفة فعالة لألشخاص الذين يحتاجون إىل االلتفاف‬
‫حول القيود الحكومية يف القطاع املرصيف‪ ،‬باإلضافة إىل ادخار الثروة يف مخزون ذي قيمة‬
‫وسيولة‪ ،‬وغري خاضع لتضخم الحكومة‪ .‬فإذا تم تبَن ِّيه عىل نطاق واسع‪ ،‬من املرجح أن‬
‫ترتفع تكلفة التحويالت املُنجَ زة داخل سلسلة كتل البيتكوين (‪ - Blockchain‬البلوك‬
‫تشني) بشكل كبري‪ ،‬مثلما سيتم مناقشته يف القسم الخاص بزيادة سعة تحويالت‬
‫البيتكوين‪ ،‬مما سيجعل األمر غري مج ٍد لألفراد ليقوموا بإجراء التحويالت التي ال يمكن‬
‫إيقافها عىل سلسلة الكتل (البلوك تشني) من أجل االلتفاف عىل قواعد الحكومة وقوانينها‪.‬‬
‫يف هذه الحالة وبكل األحوال‪ ،‬سيكون لتبني البيتكوين عىل نحو واسع النطاق تأثريا ً‬
‫إيجابيا ً بشكل كبري عىل الحرية الفردية‪ ،‬وذلك بتقليص قدرة الحكومة عىل تمويل‬
‫عملياتها من خالل التضخم‪ ،‬حيث أن النقود الحكومية يف القرن العرشين هي من سمح‬
‫بميالد الدولة اإلدارية ذات التدخل الكبري‪ ،‬مع وجود توجهات ونزعات استبدادية وقمعية‪.‬‬
‫أما يف مجتمع يستخدم العملة الصعبة‪ ،‬فمن غري املرجح أن تنجو االمالءات والرضائب‬
‫الحكومية غري املنتجة اقتصاديا ً لفرتة طويلة‪ ،‬حيث ستنعدم الحوافز ملواصلة تمويلها‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫التسوية الدولية واملتصلة بشبكة اإلنرتنت‬

‫تقليدياً‪ ،‬كان الذهب وسيط تسوية عمليات الدفع‪ ،‬وكان يعمل كمخزون للقيمة يف كل‬
‫أنحاء العالم‪ ،‬وحدث هذا بسبب عدم قدرة أي جهة عىل زيادة عرضه بكميات كبرية‪،‬‬
‫فاكتسب قيمته يف السوق الحرة وليس بضمانةٍ من أي شخص آخر‪ .‬وعندما اتَّسع مجال‬
‫االتصاالت والسفر يف القرن التاسع عرش متطلبا ً تحويالت مالية عرب مسافات أكثر بعداً‪،‬‬
‫انتقل الذهب من أيدي الناس إىل خزائن املصارف‪ ،‬ويف النهاية إىل البنوك املركزية‪ .‬ويف‬
‫ظل املعيار الذهبي‪ ،‬استخدم الناس وصوال ً ورقية للذهب أو كتبوا شيكات مرصفية‬
‫لتبادل قيمة الذهب دون الحاجة لنقله مادياً‪ ،‬مما طور كثريا ً من رسعة وفعالية التجارة‬
‫العاملية‪.‬‬

‫ولكن عندما قامت الحكومات بمصادرة الذهب وأصدرت نقدا ً خاصا ً بها‪ ،‬لم‬
‫يعد ممكنا ً إجراء تسويات عاملية بني األفراد والبنوك بالذهب‪ ،‬وبدال ً من ذلك أصبحت‬
‫تُجرى بعمالت وطنية متقلبة القيمة‪ ،‬مما تَسبَّب بمشاكل كثرية للتجارة الدولية كما‬
‫نوقش يف الفصل السادس‪ .‬ولهذا‪َ ،‬‬
‫صنع اخرتاع البيتكوين من الصفر‪ ،‬آلية بديلة جديدة‬
‫مستقلة للتسويات الدولية ال تعتمد عىل أي وسيط‪ ،‬ويمكن إجراؤها بشكل منفصل تماما ً‬
‫عن البنية التحتية املالية املوجودة‪.‬‬

‫فقدرة أي فرد عىل تشغيل عقدة بيتكوين وإرسال ماله الخاص دون إذن من‬
‫أحد ودون أن يُضطر لكشف هويته‪ ،‬تُمثِّل اختالفا ً مهما ً بني الذهب والبيتكوين‪ .‬فليس‬
‫رضوريا ً تخزين البيتكوين عىل الحاسوب حيث أن املفتاح الخاص ملخزون املرء من‬
‫البيتكوين هو عبارة عن سلسلة من األحرف أو سلسلة من الكلمات التي يتذكرها املرء‪.‬‬
‫وبهذا‪ ،‬إن عملية التنقل بمفتاح خاص للبيتكوين أسهل بكثري من التنقل بمخزون من‬
‫الذهب‪ .‬كما أن عملية إرساله عرب العالم أسهل بكثري من إرسال الذهب دون حاجة‬
‫للمخاطرة برسقته أو مصادرته‪ .‬ففي حني تصادر الحكومات مدخرات الناس من الذهب‬
‫وتُجربهم عىل املبادلة بالنقود الذي يُفرتض أن الذهب يدعمها‪ ،‬يستطيع الناس االحتفاظ‬
‫بكتلة مدخراتهم من البيتكوين يف وحدة تخزين بعيدة عن أيدي الحكومات واستخدام‬
‫مبالغ صغرية فقط لتحويلها عرب الوسطاء‪ .‬فطبيعة البيتكوين التكنولوجية ذاتها تضع‬

‫‪237‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الحكومات بموقف تنافيس ضعيف للغاية إذا ما قورنت بكل أشكال النقد األخرى وبالتايل‬
‫تجعل مصادرته أصعب بكثري‪.‬‬

‫كما أنه من غري العميل بشكل كبري عىل أية سلطة أن تؤدي دور املقرض األخري‬
‫للمصارف التي تتعامل مع البيتكوين وذلك بفضل قدرة حاميل البيتكوين عىل تعقب كل‬
‫ممتلكات البيتكوين عىل سلسلة الكتل الخاصة به‪ .‬فحتى يف أوج فرتة املعيار الذهبي‬
‫الدويل‪ ،‬أمكن استبدال الذهب بالنقود‪ ،‬ونادرا ً ما كانت تمتلك البنوك املركزية ما يكفي من‬
‫الذهب لتغطية كامل عرض العملة الذي طرحته‪ ،‬وبالتايل كان لديها دوما ً هامش لزيادة‬
‫العرض الورقي لدعم العملة‪ .‬أما يف البيتكوين‪ ،‬إن هذا األمر أصعب بكثري‪ ،‬وهو الذي‬
‫يقدم إثباتا ً رقميا ً مشفرا ً للحساب ويساعد يف كشف وفضح املصارف التي تعمل بطريقة‬
‫نظام مرصيف احتياطي جزئي‪.‬‬

‫ففي الغالب‪ ،‬إن االستخدام املستقبيل للبيتكوين للمدفوعات الصغرية لن يتم‬


‫إجراؤه عىل السجل املوزع للبيتكوين وسيتم إجراؤه باستخدام حلول الطبقات الثانية‪،‬‬
‫كما سيتم توضيحه يف النقاش عن زيادة سعة تحويالت البيتكوين يف الفصل العارش‪.‬‬
‫ويمكن رؤية البيتكوين كالعملة االحتياطية الظاهرة حديثا ً للتبادالت التي تتم عىل‬
‫ٍ‬
‫عمالت رمزية مدعومة من قبل‬ ‫اإلنرتنت‪ ،‬حيث سيُص ِدر ما يماثل املصارف عىل اإلنرتنت‬
‫البيتكوين للمستخدمني بحيث يقوم هؤالء املستخدمني بحفظ مخزونهم من البيتكوين يف‬
‫مخازن غري متصلة بشبكة االنرتنت‪ ،‬ويكون لكل فرد القدرة عىل تدقيق حسابات‬
‫ممتلكات الوسيط بشكل فوري‪ .‬وبوجود القدرة عىل التوثيق عىل اإلنرتنت ووجود سمعة‬
‫للنظام‪ ،‬فسيكون األفراد قادرين عىل توثيق عدم وجود تضخم‪ .‬وهذا األمر سيسمح‬
‫بإجراء عدد ال نهائي من التحويالت عىل اإلنرتنت دون حاجة لدفع ثمن مرتفع لرسوم‬
‫جرى داخل سلسلة الكتل‪.‬‬‫التحويالت التي ت ُ َ‬
‫ً‬
‫إضافة الرتفاع رسوم‬ ‫ومع تطور البيتكوين ليصبح له قيمة سوقية أعىل‬
‫تحويالته‪ ،‬يصبح البيتكوين أقرب إىل عملة احتياطية منه إىل عملة للمبادالت والتحويالت‬
‫اليومية‪ .‬ويف وقت كتابة الكتاب‪ ،‬وحتى مع درجة تبن ّي قليلة نسبيا ً من العامة للبيتكوين‪،‬‬
‫فإن غالبية تحويالت البيتكوين هي تحويالت غري مسجلة داخل سلسلة الكتل‪ ،‬ولكنها‬

‫‪238‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫تحصل يف بورصات وأنواع مختلفة من املنصات االلكرتونية املبنية عىل البيتكوين مثل‬
‫املواقع االلكرتونية للمقامرة والكازينوهات‪ .‬إن تلك األعمال واملشاريع التجارية ستحتسب‬
‫وستُقيِّد البيتكوين لزبائنها عىل السجالت الداخلية الخاصة بها ولن تجري التحويالت‬
‫عىل شبكة البيتكوين إال عندما يودع أو يسحب الزبائن رصيداً‪.‬‬

‫وبحكم كونه نقدا ً رقمياً‪ ،‬فإن األفضلية النسبية للبيتكوين ربما لن تكون‬
‫باستبدال عمليات الدفع النقدية‪ ،‬بل ستكون بإعطاء القدرة عىل إجراء عمليات الدفع‬
‫النقدية عرب مسافات بعيدة‪ ،‬بينما يمكن تسديد املدفوعات الشخصية للمبالغ الصغرية‬
‫بعدة خيارات‪ :‬املبالغ النقدية املادية‪ ،‬واملقايضة‪ ،‬والخدمات‪ ،‬وبطاقات االئتمان‪،‬‬
‫والشيكات املرصفية وغريها‪ ،‬حيث قدمت تقنية تسوية عمليات الدفع الحالية الحديثة‬
‫مجموعة كبرية من الخيارات لتسوية عمليات الدفع الصغرية بكلفة زهيدة‪ .‬فأفضلية‬
‫البيتكوين ال تكمن يف الغالب يف منافسة عمليات دفع املبالغ الصغرية وللمسافات‬
‫القصرية؛ بل تكمن يف نقل نهائية التسوية النقدية إىل العالم الرقمي‪ ،‬حيث صنعت أرسع‬
‫طريقة للتسوية النهائية لعمليات الدفع الكبرية عرب املسافات البعيدة والحدود الدولية‪.‬‬
‫وهنا تظهر أفضلية البيتكوين الكبرية عند مقارنته بعمليات الدفع تلك‪ .‬فهناك بضع‬
‫عمالت فقط مقبولة يف عمليات الدفع يف كل أنحاء العالم مثل الدوالر األمريكي‪ ،‬واليورو‪،‬‬
‫والذهب‪ ،‬وحقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدويل‪ .‬وتُحتَسب أغلبية عمليات‬
‫الدفع الدولية بإحدى تلك العمالت مع نسبة صغرية فقط من بضع عمالت مهمة أخرى‪.‬‬
‫فإرسال مبلغ بقيمة بضعة آالف الدوالرات من تلك العمالت دوليا ً يكلف عادة عرشات‬
‫الدوالرات‪ ،‬وقد يستغرق بضعة أيام‪ ،‬وقد يتعرض لفحص جنائي تطفيل من قبل‬
‫املؤسسات املالية‪ .‬والسبب الرئييس للتكلفة املرتفعة لهذه التحويالت هو عدم استقرار‬
‫عمالت التبادل‪ ،‬ووجود مشاكل التسوية بني املؤسسات يف الدول املختلفة‪ ،‬مما يقتيض‬
‫توظيف عدة طبقات من الوساطة‪.‬‬

‫أما البيتكوين فقد حقق خالل أقل من عرش سنوات من وجوده درجة مهمة من‬
‫السيولة العاملية‪ ،‬سامحا ً بعمليات دفع دولية بأسعار أقل بكثري من التحويل الدويل‬
‫الحايل‪ ،‬وال يُقصد بهذا أن البيتكوين سيستبدل سوق تحويل النقد الدولية‪ ،‬بل إنه مجرد‬
‫تنبيه إىل إمكانياته يف مجال السيولة الدولية‪ .‬فحجم التدفقات الدولية بوضعها الراهن‬

‫‪239‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫أكرب بكثري مما تستطيع سلسلة كتل البيتكوين تحمله‪ ،‬وإن انتقل املزيد من هذه الدفعات‬
‫إىل البيتكوين‪ ،‬فسرتتفع الرسوم لدرجة ستحد من الطلب عليه‪ ،‬لكن هذا ال يعني أيضا ً‬
‫هالك البيتكوين‪ ،‬وذلك ألن قدرات البيتكوين ليست محدودة بإرسال عمليات الدفع‬
‫الفردية تلك‪.‬‬

‫فالبيتكوين هو نقد خال من مخاطر تَخلُّف الجهة املقابلة‪ ،‬ويمكن أن تقدم‬


‫شبكته تسوية نهائية لعمليات دفع كبرية الحجم خالل دقائق‪ .‬بالتايل‪ ،‬يُمكن فهم‬
‫البيتكوين بأفضل شكل بكونه منافسا ً بتسوية الدفعات بني البنوك املركزية واملؤسسات‬
‫املالية الكبرية‪ ،‬وبأن له أفضلية عليهم بفضل سجلِّه التي يمكن التحقق منها‪ ،‬وبفضل‬
‫الحماية املشفرة وحصانته ضد الثغرات األمنية الناجمة عن وجود طرف ثالث‪ .‬أما‬
‫استخدام عمالت وطنية كبرية للتسوية (الدوالر األمريكي‪ ،‬اليورو) فإنه يحمل معه‬
‫مجازفة تَ َقلُّب أسعار الرصف لتلك العمالت‪ ،‬كما أنه يتضمن الثقة بعدة طبقات من‬
‫الوساطة املوجودة‪ ،‬ولهذا تستغرق التسويات بني البنوك املركزية واملؤسسات املالية‬
‫الكبرية أياماً‪ ،‬وأحيانا ً أسابيع ليتم تصفيتها‪ ،‬حيث يتعرض كل طرف خالل هذه املدة إىل‬
‫مخاطر تخلف الجهة املقابلة وتقلب كبري بسعر العمالت األجنبية‪ .‬لهذا‪ ،‬إن الذهب هو‬
‫الوسيط النقدي التقليدي الوحيد الذي ال أحد يقدم له ضمانة‪ ،‬وخال من مخاطر تخلف‬
‫الجهة املقابلة‪ ،‬لكن نقل الذهب هو مهمة مكلفة جداً‪ ،‬ومحفوفة باملخاطر‪.‬‬

‫وبما أن البيتكوين ال يعاني من مخاطر تخلف الجهة املقابلة وال يعتمد عىل أي‬
‫طرف ثالث‪ ،‬فهو مناسب بشكل مميز ألداء نفس الدور الذي أدَّاه الذهب يف املعيار‬
‫الذهبي‪ .‬فهو نقد محايد لنظام دويل؛ ال يُعطي أية دولة "االمتياز الباهظ" بإصدار العملة‬
‫االحتياطية العاملية‪ ،‬وال يعتمد عىل أدائها االقتصادي‪ .‬وبما أنه غري مرتبط باقتصاد أي‬
‫دولة محددة‪ ،‬فلن تتأثر قيمته بحجم التبادالت املحتسبة به‪ ،‬متجنبا ً كل مشاكل أسعار‬
‫الرصف التي اجتاحت القرن العرشين‪ .‬كما أن نهائية التسوية بالبيتكوين ال تعتمد عىل‬
‫أي جهة مقابلة‪ ،‬وال تتطلب أي مرصف ليتحكم بالواقع‪ ،‬مما يجعله مثاليا ً لشبكة من‬
‫النظراء العامليني‪ ،‬بدال ً من نظام مركزي عاملي مهيمن‪ .‬وبهذا‪ ،‬تستند شبكة البيتكوين عىل‬
‫شكل من النقد ال يمكن تضخيم عرضه من قبل أي مرصف عضو‪ ،‬مما يجعله مخزون‬

‫‪240‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫قيمة مقرتح جذاب أكثر من العمالت الوطنية التي تم استحداثها تحديدا ً كي تتم زيادة‬
‫عرضها لتمويل الحكومات‪.‬‬

‫وقدرة البيتكوين عىل إجراء التحويالت أكرب بكثري مما ستحتاجه البنوك‬
‫املركزية املوجودة حاليا ً حتى وإن قامت بتسوية حساباتها يومياً‪ .‬فسعة البيتكوين‬
‫الحالية املقدرة بحوايل ‪ 350,000‬تحويلة يف اليوم تسمح لشبكة عاملية من ‪ 850‬مرصف‬
‫بأن يجري كل منها تحويالت يومية مع كل مرصف آخر يف الشبكة‪( .‬رقم االتصاالت‬
‫املميزة يف شبكة يساوي ‪ ،n(n – 1)/2‬حيث ‪ n‬هي عدد العقد‪).‬‬

‫وبهذا‪ ،‬تستطيع شبكة عاملية من ‪ 850‬بنك مركزي إجراء تسويات نهائية‬


‫يومية فيما بينها عرب شبكة البيتكوين‪ .‬فإذا كان كل بنك مركزي يخدم حوايل عرشة‬
‫ماليني عميل‪ ،‬فإن هذا سيُغطي سكان العالم بالكامل‪ ،‬وهذه أسوأ االحتماالت يف حال لم‬
‫تزدد سعة البيتكوين عىل اإلطالق‪ .‬ويف الفصل التايل‪ ،‬سيتم مناقشة عدة طرق يمكن بها‬
‫تعديل ببنية البيتكوين بطريقة غري متوافقة مع البنية‬
‫ٍ‬ ‫زيادة السعة‪ ،‬حتى من غري‬
‫سويات يومية بني بضعة آالف من‬ ‫ٍ‬ ‫الحالية‪ ،‬بحيث يمكن لتلك الطرق أن تسمح ِبتَ‬
‫املصارف‪.‬‬

‫ففي عال ٍم ال تستطيع فيه أية حكومة استحداث املزيد من البيتكوين‪ ،‬ستتنافس‬
‫البنوك املركزية للبيتكوين بحرية فيما بينها بتقديم حلول دفع ووسائل نقدية مادية‬
‫ورقمية مدعومة من البيتكوين‪ .‬وسيصبح النظام املرصيف االحتياطي الجزئي تدبريا ً‬
‫خطريا ً جدا ً دون وجود املالذ األخري لإلقراض‪ ،‬وأتوقع أن املصارف الوحيدة التي ستنجو‬
‫عىل املدى الطويل هي تلك املصارف التي تقدم أدوات مالية مدعومة ‪ %100‬من قِ بل‬
‫البيتكوين‪ ،‬لكن هذه نقطة خالف بني االقتصاديني والوقت وحده يستطيع تحديد هذا‪.‬‬
‫حيث أن تلك املصارف ستقوم بتسوية الدفعات بني عمالئها خارج سلسلة كتل البيتكوين‬
‫ثم ستجري تسوية نهائية يومية فيما بينها عىل سلسلة الكتل‪.‬‬

‫ويف حني قد تبدو هذه الرؤية خيانة للرؤية األصلية للبيتكوين وذلك بأن تكون‬
‫ُ‬
‫الشبكة شبك َة نقد نظري إىل نظري بشكل كامل‪ ،‬إال أنها ليست رؤية جديدة‪َ .‬فـ "هال‬

‫‪241‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫فيني"‪ ،‬مُستلم أول تحويل بيتكوين من ناكاموتو‪ ،‬كتب هذا عىل منتدى البيتكوين عام‬
‫‪:2010‬‬

‫يف الحقيقة‪ ،‬هناك سبب جيد جدا ً لوجود مصارف مدعومة بالبيتكوين تُصدر‬
‫عملتها النقدية الخاصة التي يُمكن استبدالها بالبيتكوين‪ .‬فال يمكن أن يرتقي‬
‫البيتكوين نفسه ليكون كل تحويل مايل يف العالم منشورا ً للجميع ومُتضمَّنا ً يف‬
‫سلسلة الكتل‪ ،‬بل يجب أن يكون هناك مستوى ثانوي ألنظمة الدفع أخف وزنا ً‬
‫وأكثر فعالية‪ ،‬كما أن الوقت الالزم إلنهاء تحويالت البيتكوين لن يكون عمليا ً‬
‫كوسيط للمشرتيات مرتفعة القيمة‪.‬‬

‫فاملصارف املدعومة بالبيتكوين ستحل تلك املشاكل بحيث يمكنها أن تعمل كما‬
‫كانت تعمل املصارف قبل تأميم العملة‪ .‬فيمكن للمصارف املختلفة أن تمتلك سياسات‬
‫مختلفة‪ ،‬بعضها أكثر شدة واألخرى أكثر محافظة‪ ،‬كما سيكون بعضها احتياطيا ً جزئيا ً‬
‫يف حني سيكون غريها مدعوما ً بالبيتكوين ‪ ،%100‬وقد تختلف معدالت الفائدة‪ ،‬وقد‬
‫يُتبادل النقد من بعض املصارف بخصم بالسعر مقارنة بغريها‪.‬‬

‫ووضع "جورج سليجن" نظرية مفصلة للبنوك الحرة التنافسية‪ ،‬وهو يقول‬
‫أن نظاما ً كهذا سيكون مستقراً‪ ،‬ومقاوما ً للتضخم‪ ،‬وذاتي التنظيم‪:‬‬

‫أظن أن هذا سيكون مصري البيتكوين النهائي ليكون "املال االحتياطي" الذي‬
‫يخدم كعملة احتياطية للمصارف التي تصدر نقدها الرقمي الخاص‪ .‬فمعظم‬
‫تحويالت البيتكوين ستحدث بني املصارف لتسوية التحويالت النهائية‪ ،‬وأما‬
‫تحويالت البيتكوين من قبل األفراد العاديني فستكون نادرة مثل عمليات‬
‫الرشاء املعتمدة عىل البيتكوين اليوم‪.‬‬

‫فيمكن أن يكون عدد التحويالت يف اقتصاد البيتكوين كبريا ً كما هو اليوم‪ ،‬لكن‬
‫لن يتم تسوية تلك التحويالت عىل سجل البيتكوين‪ ،‬وذلك ألن صفة عدم قابليته للتغيري‬
‫أو اعتماده عىل ثقة طرف ثالث ستجعله أثمن من أن يُستخدم يف املدفوعات الفردية‪ .‬وأيا ً‬
‫كانت أوجه القصور بحلول الدفع الحالية‪ ،‬فإنها ستستفيد كثريا ً من تقديم منافسة‬

‫‪242‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫السوق الحرة إىل القطاع املرصيف وعمليات الدفع‪ ،‬وهو أحد أهم القطاعات املُتصلبة يف‬
‫اقتصاد العالم الحديث‪ ،‬ألنه يقع تحت سلطة الحكومات التي تستطيع استحداث النقود‬
‫التي تديرها وتعمل بسبب وجودها‪.‬‬

‫وسيصبح البيتكوين عملة احتياطية لشكل جديد من البنوك املركزية إذا استمر‬
‫نمو قيمته‪ ،‬وتَزايَد استخدامه من قبل املؤسسات املالية‪ .‬فيمكن أن تكون تلك البنوك‬
‫املركزية مستندة بشكل أسايس عىل العالم الرقمي أو املادي‪ ،‬لكن أصبح من الجدير بنا أن‬
‫نفكر فيما إذا كان عىل البنوك املركزية الوطنية دعم احتياطاتها بالبيتكوين‪ .‬ففي النظام‬
‫النقدي العاملي الحايل‪ ،‬تحتفظ البنوك املركزية باحتياطي‪ ،‬ويكون هذا االحتياطي عادة‬
‫ُممثال ً بالدوالر األمريكي‪ ،‬واليورو‪ ،‬والجنيه اإلسرتليني‪ ،‬وحقوق السحب الخاصة من‬
‫صندوق النقد الدويل‪ ،‬والذهب‪ .‬وتُستخدم تلك العمالت االحتياطية لتسوية الحسابات بني‬
‫البنوك املركزية وللدفاع عن القيمة السوقية لعمالتها املحلية‪ .‬ومن املحتمل أن يجذب‬
‫البيتكوين اهتمام البنوك املركزية املتطلعة إىل املستقبل وذلك إذا استمر ارتفاع قيمته‬
‫بنفس النهج الذي ارتفعه كما يف السنوات األخرية‪.‬‬

‫وسيُؤ ِّمن البيتكوين للبنك املركزي مرونة أكرب لسياساته النقدية ولتسوية‬
‫الحسابات الدولية إذا استمر ارتفاع قيمته بشكل كبري‪ ،‬لكن قد يكون الهدف الحقيقي‬
‫المتالك البنوك املركزية للبيتكوين هو كضمان الحتمال نجاحه‪ .‬حيث أنه وبما أن عرض‬
‫البيتكوين محدود بشكل صارم‪ ،‬فقد يكون من الحكمة أن ينفق البنك املركزي مبلغا ً‬
‫صغريا ً لرشاء نسبة صغرية من معروض البيتكوين اليوم يف حال ارتفعت قيمته كثريا ً يف‬
‫املستقبل‪ .‬فإذا استمرت قيمة البيتكوين باالرتفاع بحيث لم يمتلك البنك املركزي أيا ً منه‪،‬‬
‫فستنخفض القيمة السوقية للذهب والعمالت االحتياطية لديه مقارنة بالبيتكوين‪ ،‬مما‬
‫سيضع هذا البنك املركزي بحالة عدم أفضلية كلما تأخر يف قرار رشاء احتياطي منه‪.‬‬

‫إن تجربة البيتكوين ال تزال تُعترب تجربة إنرتنت غري تقليدية وغريبة حتى اآلن‪،‬‬
‫لكنها ستبدأ بجذب اهتمام حقيقي لألفراد ذوي الرصيد املايل الضخم‪ ،‬وهيئات االستثمار‪،‬‬
‫ومن ثم ربما البنوك املركزية بفضل استمراره بالنجاة وارتفاع قيمته مع مرور الوقت‪.‬‬
‫ف ِبد ُء تفكري البنوك املركزية يف استخدام البيتكوين سيكون هو النقطة التي يبدؤون فيها‬

‫‪243‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫سباق الحصول عليه‪ ،‬وبهذا‪ ،‬إن أول بنك مركزي سيشرتي البيتكوين سيُنبِّه بقية البنوك‬
‫املركزية إىل اإلمكانية ويجعل الكثري منها تُسارع إىل رشائه‪ .‬فغالباً‪ ،‬ستؤدي أول عملية‬
‫ارتفاع كبري يف قيمته وبالتايل ستجعل سعره‬
‫ٍ‬ ‫اقتناء للبيتكوين من قبل بنك مركزي ما إىل‬
‫يرتفع تدريجيا ً بالنسبة إىل البنوك املركزية التالية التي ستشرتيه‪ .‬والترصف األكثر حكمة‬
‫يف هذه الحالة هو برشاء البنك املركزي لحصة صغرية من البيتكوين‪ ،‬وإذا كان للبنك‬
‫املركزي القدرة املؤسساتية لرشاء العملة دون اإلعالن عن األمر‪ ،‬فإن هذا سيكون ترصفا ً‬
‫أكثر حكمة‪ ،‬سامحا ً للبنك املركزي بجمعه بأسعار منخفضة‪.‬‬

‫ويمكن أن يخدم البيتكوين أيضا ً بكونه أصالً احتياطيا ً مفيدا ً للبنوك املركزية‬
‫التي تواجه قيودا ً دولية عىل عملياتها املرصفية‪ ،‬أو إذا كانت غري سعيدة بالنظام النقدي‬
‫العاملي املتمركز حول الدوالر‪ .‬فقد تُثبت إمكانية تبني احتياطي من البيتكوين بحد ذاتها‬
‫أنها ورقة مساومة قيِّمة لتلك البنوك املركزية مع السلطات النقدية األمريكية‪ ،‬التي تُفضل‬
‫غالبا ً أال ينشق أي بنك مركزي ويتحول إىل البيتكوين كوسيلة للتسوية‪ ،‬ألن هذا سيُغري‬
‫اآلخرين لالنضمام‪.‬‬

‫ويف حني كانت البنوك املركزية بمعظمها رافضة ومتجاهلة ألهمية البيتكوين‪،‬‬
‫فقد يكون هذا تر ًفا لن تتمكن من تحمله لفرتة طويلة‪ .‬فمهما َ‬
‫صعُ ب عىل البنوك املركزية‬
‫تصديق هذا‪ ،‬لكن البيتكوين هو منافس مبارش ملجال عملها الذي كان معزوال ً عن‬
‫املنافسة السوقية طوال قرن من الزمن‪ .‬فالبيتكوين يجعل املعالجة العاملية لعمليات الدفع‬
‫والتصفيات النهائية متاحة ألي شخص كي يجريها بكلفة صغرية‪ ،‬كما أنه يستبدل‬
‫السياسة النقدية التي يتحكم بها البرش بخوارزميات متفوقة عليهم ويمكن توقعها بشكل‬
‫مثايل‪ .‬لهذا‪ ،‬إن نموذج عمل البنك املركزي الحديث يتعرض للعرقلة والتعطيل‪ ،‬وال‬
‫تستطيع البنوك املركزية اآلن إيقاف املنافسة عن طريق تمرير القوانني كما كانت تفعل‬
‫دائما ً‪ ،‬حيث أنها اآلن يف مواجهة منافس رقمي لن تتمكن غالبا ً من إخضاعه لقوانني‬
‫العالم املادي‪ .‬ويف حال لم تلجأ البنوك الوطنية املركزية إىل استخدام سياسة البيتكوين‬
‫النقدية السليمة وقدرته عىل التسوية الفورية‪ ،‬فإنها سترتك الباب مفتوحا ً لتستويل هذه‬
‫األساليب الرقمية عىل املزيد من هذا السوق لتخزين القيمة وللتسوية‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫فإذا كان العالم الحديث اآلن هو روما القديمة التي تعاني من عواقب اقتصادية‬
‫النهيار نقدي‪ ،‬وإن اعتربنا أن الدوالر هو العملة الذهبية الرومانية‪ ،‬فسيكون ساتويش‬
‫ناكاموتو هو قسطنطني والبيتكوين هو عملته‪ ،‬واإلنرتنت هو القسطنطينية‪ .‬بهذا‪ ،‬إ َّن‬
‫البيتكوين يعمل كقارب نجاة نقدي لألفراد املُجربين عىل التحويل واالدخار بالوسائط‬
‫النقدية التي تحط الحكومات من قدرها بشكل مستمر‪ .‬ووفقا ً للتحليل السابق‪ ،‬تكمن‬
‫ميزة البيتكوين الحقيقية يف كونه مخزون للقيمة يمكن الوثوق به عىل املدى الطويل‪،‬‬
‫وبكونه شكال ً نقديا ً ذا سيادة يسمح لألفراد بإجراء تحويالت دون إذن‪ .‬وستنبع‬
‫استخدامات البيتكوين الرئيسية يف املستقبل القريب من هذه امليزات التنافسية‪ ،‬وليس‬
‫من قدرته عىل تقديم تحويالت رخيصة أو واسعة االنتشار‪.‬‬

‫وحدة حساب عاملية‬

‫غالباً‪ ،‬لن يتبلور التطبيق األخري للبيتكوين يف وقت قريب لكنه مع ذلك أمر مثري لالهتمام‬
‫نظرا ً إىل خواص البيتكوين املميزة‪ .‬فمنذ نهاية عرص املعيار الذهبي‪ ،‬تمت إعاقة التجارة‬
‫العاملية بسبب اختالف قيمة العملة يف الدول املختلفة‪ ،‬وتم تدمري قدرة الناس عىل إجراء‬
‫لصنع عالم يجب عىل‬ ‫تبادل غري مبارش باستخدام وسيط وحيد للتبادل‪ ،‬مما اضطرهم ُ‬
‫املرء فيه رشاء عملة املُنتج نفسه قبل رشاء أي يشء خارج دولته بشكل يشبه املقايضة‬
‫تقريباً‪ .‬فأعاق هذا األمر وبشدة من قدرة الناس عىل إجراء الحسابات االقتصادية عرب‬
‫الحدود‪ ،‬وأدى إىل نمو هائل بقطاع رصف العمالت األجنبية‪ ،‬ليس لذلك القطاع أي ناتج‬
‫ذي قيمة إال تحسني العواقب الوخيمة التي نتجت من تأميم النقد‪.‬‬

‫فقدَّم املعيار الذهبي حال ً لهذه املشكلة حيث كان املعيار النقدي يف كل أنحاء‬
‫العالم شكال ً واحدا ً من النقد‪ ،‬وكان مستقالً عن سيطرة وسلطة أية حكومة‪ ،‬كما كان‬
‫باإلمكان معايرة األسعار بأسعار الذهب وتم التعبري عنها باستخدامه‪ ،‬مما سهّ ل‬
‫الحسابات عرب الحدود‪ .‬لكن وبسبب وزنه املادي الثقيل‪ ،‬وجب أن يكون الذهب مركزيا ً‬
‫وأن تتم التسويات بني البنوك املركزية‪ .‬فما أن أصبح الذهب مركزياً‪ ،‬لم تستطع‬

‫‪245‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الحكوم ات مقاومة إغراؤه‪ ،‬فسيطرت عليه واستبدلته يف نهاية األمر بعمالت ورقية‬
‫تُسيطر عىل عرضها‪ ،‬وبالنتيجة أصبح النقد السليم نقدا ً غري سليم‪.‬‬

‫وفيما إن كان للبيتكوين القدرة عىل أداء دور وحدة حساب عاملية للتجارة‬
‫والنشاط االقتصادي‪ ،‬فإن هذا سؤال يبقى مفتوحا ً‪ .‬لكن ولكي يتم تطبيق هذه اإلمكانية‪،‬‬
‫فإنه يجب أن يتم تبني البيتكوين من قبل عدد كبري جدا ً من الناس يف العالم بشكل غري‬
‫مبارش غالباً‪ ،‬وذلك باستخدامه كعملة احتياطية‪ .‬كما أنه علينا االنتظار أيضا ً لنعرف إذا‬
‫كان ثبات عرض البيتكوين سيحافظ عىل استقرار قيمته أيضاً‪ ،‬حيث ستكون التحويالت‬
‫اليومية فيه هامشية مقارنة بالكميات املُمتلكة‪ .‬ولكن بما أن البيتكوين يشكل أقل من‬
‫‪ %1‬من العرض النقدي العاملي بصيغته الحالية‪ ،‬فيمكن أن يكون تأثري التحويالت‬
‫الفردية الضخمة يف البيتكوين كبريا ً عىل األسعار‪ ،‬وقد تُسبِّب التغيريات الطفيفة يف الطلب‬
‫عليه تأرجحا ً وتقلبا ً كبريا ً يف األسعار‪ .‬لكن هذه خاصية للوضع الحايل‪ ،‬حيث لم يزل‬
‫البيتكوين كعملة وكشبكة تسوية عاملية يشكل جزءا ً صغريا ً من تسوية عمليات الدفع‬
‫العاملية والعرض النقدي‪ .‬وقد يُعترب رشاء عملة بيتكوين رمزية اليوم استثمارا ً يف النمو‬
‫املتسارع للشبكة وقد يُعترب عملة كمخزون قيمة‪ ،‬ألنها لم تزل صغرية جدا ً ويمكن أن‬
‫ينمو حجمها وقيمتها أضعافا ً مضاعفة برسعة كبرية‪ .‬فإذا أصبحت حصة البيتكوين من‬
‫العرض النقدي العاملي وتحويالت التسوية العاملية الحصة األكرب يف السوق العاملية‪،‬‬
‫سيصبح عندها مستوى الطلب عليه أسهل للتوقع وسيكون أكثر استقراراً‪ ،‬مما سيؤدي‬
‫إىل استقرار قيمة العملة‪ .‬وإذا أصبح البيتكوين‪َ ،‬ف َرضا ً‪ ،‬النقد الوحيد املستخدم يف العالم‪،‬‬
‫فلن يكون هناك مجال كبري للنمو يف قيمته‪ ،‬وسيكون الطلب عليه يف تلك النقطة ببساطة‬
‫هو طلب امتالك نقد يمتلك سيولة‪ ،‬أما الطلب عليه لالستثمارات القائمة عىل املراهنات‬
‫التي نراها اليوم فسيختفي‪ .‬ويف هذه الحالة‪ ،‬ستتغري قيمة البيتكوين وفقا ً للتفضيل‬
‫الزمني للبرشية بأكملها مع تزايد الطلب عليه كمخزون قيمة مؤديا ً إىل ارتفاع طفيف‬
‫فقط يف قيمته‪.‬‬

‫عىل املدى الطويل‪ ،‬سيؤدي غياب أية سلطة مسيطرة عىل عرض البيتكوين إىل‬
‫تخفيف تقلبات السعر بدال ً من خلقها بحيث تصبح تقلبات الطلب اليومية أقل أهمية‬
‫كمحدد للسعر‪ ،‬وذلك بفضل إمكانية توقع العرض مع ازدياد عدد املستخدمني‪ ،‬حيث‬

‫‪246‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫صنَّاع السوق من حد وتخفيف تقلبات العرض والطلب‪ ،‬واستحداث سعر أكثر‬


‫سيتمكن ُ‬
‫استقراراً‪.‬‬

‫عندها‪ ،‬سيكون الوضع مشابها ً للذهب تحت املعيار الذهبي‪ ،‬كما ُرشح‬
‫بالتفصيل يف دراسة جاسرتام املشار إليها يف الفصل السادس‪ .‬فلم ترتفع أو تنخفض‬
‫قيمة الذهب كثريا ً طوال العقود التي كان يُستخدم فيها كنقد بفضل التزايد الثابت‬
‫والتدريجي يف عرضه‪ ،‬مما جعله وحدة الحساب املثالية عرب الزمان واملكان‪.‬‬

‫لكن هذا السيناريو يتجاهل اختالفا ً جوهريا ً بني الذهب والبيتكوين‪ ،‬يتمثل هذا‬
‫االختالف بالطلب الكبري املرن عىل الذهب املستخدم يف عدد وافر من التطبيقات الصناعية‬
‫والتزيينية‪ ،‬حيث أن خواص الذهب الكيميائية املميزة تَ ْضمن دوام ارتفاع الطلب عليه‬
‫بغض النظر عن دوره النقدي‪ .‬فحتى مع تغري الطلب النقدي عىل الذهب‪ ،‬ستبقى‬
‫الصناعة مستعدة الستخدام كميات غري محدودة من الذهب إن انخفض السعر بسبب‬
‫انخفاض الطلب النقدي عليه‪ .‬لهذا‪ ،‬إن الذهب هو الخيار األمثل لعديد من الصناعات‬
‫بفضل خواصه‪ ،‬حيث ال يتم اختيار بدائل ثانوية إال بسبب ارتفاع سعره‪ .‬وحتى يف‬
‫السيناريو الذي تتخلص فيه كل البنوك املركزية من احتياطاتها من الذهب‪ ،‬فإن‬
‫املتطلبات الصناعية وصناعة املجوهرات ستمتص كل العرض الفائض بتخفيضات‬
‫أسعار مؤقتة‪ .‬فن ُدرة الذهب يف القرشة األرضية ستضمن لنا دائما ً أن يظل سعره مرتفعا ً‬
‫نسبيا ً مقارنة باملواد األخرى واملعادن‪ ،‬ولقد كان لتلك الخاصية دور رئييس يف تبني‬
‫الذهب كنقد ألنها ضمنت استقرارا ً نسبيا ً يف قيمته بمرور الوقت بغض النظر عن تغريات‬
‫الطلب النقدي يف البلدان التي تتبنى أو تتخىل عن املعيار الذهبي‪ .‬ويمكن القول إن هذا‬
‫االستقرار النسبي عزز من جاذبية الذهب كأصل نقدي وضمن الطلب عليه‪ ،‬ويُمكن أن‬
‫يُفهم أيضا ً كالسبب الحقيقي لعدم بيع البنوك املركزية كل احتياطاتها من الذهب بعد‬
‫عقود من فصل عمالتها عن الذهب‪ .‬فإذا باعت البنوك املركزية احتياطاتها من الذهب‪،‬‬
‫ستكون املحصلة النهائية هي استخدام أطنان إضافية من الذهب يف التطبيقات الصناعية‬
‫يف السنوات القليلة القادمة‪ ،‬بتأثري صغري عىل سعره‪ .‬ولن يحصل البنك املركزي يف هذه‬
‫املبادلة إال عىل عملة ورقية يستطيع طباعتها بنفسه‪ ،‬وسيخرس أصال ً من املرجح أن‬
‫يحصل عىل قيمة أكرب من قيمة عملته‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫فيمكن فهم الطلب املكافئ غري النقدي عىل البيتكوين كالطلب عىل القطع‬
‫النقدية ليس من أجل تخزين القيمة‪ ،‬بل كرشط أسايس رضوري الستخدام الشبكة‪ .‬ولكن‬
‫عىل عكس الطلب الصناعي عىل الذهب املستقل تماما ً عن طلبه النقدي‪ ،‬فإن الطلب عىل‬
‫البيتكوين لتشغيل الشبكة مرتبط بشكل ال يمكن فصله بتاتا ً بالطلب عليه كمخزون‬
‫للقيمة‪ .‬وبالتايل ال يمكن أن نتوقع أن يؤدي دورا ً مهما ً يف التخفيف من حدة تقلب قيمة‬
‫البيتكوين السوقية يف الوقت الذي يزداد فيه دوره النقدي‪.‬‬

‫فمن جهة‪ ،‬يُعترب البيتكوين خيارا ً جذابا ً جدا ً كمخزون للقيمة بفضل ندرته‬
‫الصارمة‪ .‬ويمكن لعدد متزايد من مالكيه تحمل التقلبات يف قيمته لفرتات زمنية طويلة‬
‫إذا كانت قيمته متجهة بقوة لألعىل‪ ،‬كما كان الوضع حتى اآلن‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬إ َّن‬
‫استمرار تقلب قيمة البيتكوين سيمنعه من تأدية دور وحدة حساب‪ ،‬عىل األقل حتى‬
‫تتضاعف قيمته عدة مرات وتتضاعف معها نسبة الناس حول العالم الذين يمتلكونه‬
‫ويقبلوه‪.‬‬

‫بالرغم من ذلك‪ ،‬ونظرا ً إىل أن سكان العالم اليوم عاشوا فقط يف عالم من‬
‫عمالت ورقية متقلبة ومتغرية القيمة فيما بينها‪ ،‬فغالبا ً ما سيكون مالكو البيتكوين أكثر‬
‫تحمال ً لتقلباته من أجيال نشأت يف ثبات املعيار الذهبي حيث أن أفضل العمالت الورقية‬
‫اآلن كانت مستقرة عىل املدى القصري فقط‪ ،‬لكن انخفاض القيمة عىل املدى الطويل هو‬
‫أمر واضح‪ .‬باملقابل حافظ الذهب عىل استقراره عىل املدى الطويل‪ ،‬لكنه غري مستقر‬
‫نسبيا ً عىل املدى القصري‪ ،‬لكن ال يبدو أن عدم استقرار البيتكوين سيكون عيبا ً قاتالً قد‬
‫يمنع نموه وتبنيه نظرا ً إىل أن جميع بدائله تعاني أيضا من عدم االستقرار النسبي‪.‬‬

‫وال يمكن اإلجابة عىل هذه األسئلة بشكل قاطع يف الوقت الراهن‪ ،‬والعالم‬
‫الحقيقي وحده سيكشف لنا ما ستؤول إليه األمور‪ .‬فالحالة النقدية هي مُنتَج عفوي‬
‫للفعل البرشي‪ ،‬وليست مُنتَجا ً عقالنيا ً من التصميم البرشي‪ .‬ويترصف األفراد وفقا ً‬
‫ملصلحتهم الخاصة‪ ،‬بحيث أن اإلمكانيات التكنولوجية والواقع االقتصادي للعرض‬
‫والطلب تُش ِّكل ناتج ترصفاتهم‪ ،‬مؤمِّنة لهم حوافز ليثابروا‪ ،‬ويتأقلموا‪ ،‬ويغريوا‪ ،‬أو‬
‫يبتكروا‪ .‬فانبثاق نظا ٍم نقدي عفوي من هذه التفاعالت املعقدة ليس أمرا ً يتم تداوله‬

‫‪248‬‬
‫َصلُح البيتكوين‬
‫ِل َم ي ْ‬

‫ونقاشه يف املناظرات األكاديمية‪ ،‬أو التخطيطات العقالنية‪ ،‬أو يمكن أن يتم بوصاية‬
‫الحكومة‪ .‬فما قد يبدو أنه تكنولوجيا أفضل للنقد نظريا ً ليس بالرضورة أن تنجح‬
‫ظرو النقد البيتكوين كوسيط نقدي بسبب‬ ‫بالعمل يف الواقع‪ ،‬كما أنه قد يستبعد مُن ِّ‬
‫تقلبات قي مته‪ ،‬لكنهم ال يستطيعون تجاهل النظام العفوي الذي يظهر يف السوق نتيجة‬
‫فكمخزون للقيمة‪ ،‬قد يستمر البيتكوين يف جذب طلب املدخرات عليه‪ ،‬مما‬
‫ٍ‬ ‫ألفعال البرش‪.‬‬
‫سيسبب استمرار ارتفاع قيمته بشكل كبري مقارنة بكل أشكال النقد األخرى حتى يصبح‬
‫الخيار األول لكل من يريد أن يُد َفع له‪.‬‬

‫فإذا حققت قيمة البيتكوين استقرارا ً من نوع ما‪ ،‬سيتفوق البيتكوين عىل‬
‫العمالت الوطنية لتسوية عمليات الدفع العاملية‪ ،‬كما هي الحالة اليوم‪ ،‬وذلك ألن قيمة‬
‫العمالت الوطنية تتذبذب وفقا ً لظروف كل دولة وظروف كل حكومة‪ ،‬ووفقا ً لتبنيها‬
‫املنترش كعملة احتياطية عاملية مما يؤدي إىل "امتياز باهظ" للدول التي تستحدثها‬
‫وتُصد ُِرها‪ .‬لهذا‪ ،‬يجب أن تكون عملة التسوية العاملية محايدة للسياسة النقدية للدول‬
‫املختلفة‪ ،‬وأدى الذهب هذا الدور بتميز أثناء فرتة املعيار الذهبي العاملي‪ .‬لكن‪ ،‬يوجد‬
‫للبيتكوين أفضلية عىل الذهب يف أداء هذا الدور ألنه يمكن إنهاء تسويته خالل دقائق‪،‬‬
‫ويمكن تأكيد مصداقية تحويالته بسهولة من قبل أي شخص لديه اتصال باإلنرتنت‬
‫بدون تكلفة تقريباً‪ .‬باملقابل فإن الذهب يستغرق وقتا ً لنقله‪ ،‬وتعتمد تصفيته عىل‬
‫درجات مختلفة من الثقة بالوسطاء املسؤولني عن تسويته ونقله‪ .‬فقد يحفظ هذا األمر‬
‫دور الذهب النقدي يف التحويالت النقدية الفردية التي تحدث وجها ً لوجه يف حني‬
‫سيصبح البيتكوين مختصا ً يف التسوية العاملية‪.‬‬

‫‪249‬‬
250
‫الفصل العارش‬

‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫مع األساسيات االقتصادية لتشغيل البيتكوين التي تم رشحها يف الفصل الثامن‪ ،‬ومع‬
‫الحاالت الرئيسية املحتمل استخدام البيتكوين فيها والتي تمت مناقشتها يف الفصل‬
‫التاسع‪ ،‬سيتم فحص ومناقشة مجموعة من األسئلة البارزة حول عمل وتشغيل البيتكوين‬
‫يف هذا الفصل‪.‬‬

‫هل ُي مع ُّد تعدين البيتكوين تبذيراً ؟‬


‫عندما ينضم شخص ما إىل شبكة البيتكوين فإنه يُوَ لِّد عنوانا ً عاماً‪ ،‬ومفتاحا ً‬
‫خاصاً‪ ،‬وهما يشابهان عنوان الربيد اإللكرتوني وكلمة الرس الخاصة به‪ ،‬بحيث يُمكِن‬
‫للناس أن ترسل لك عمالت بيتكوين عىل عنوانك العام‪ ،‬بينما يمكنك إرسال عمالت‬
‫بيتكوين من ميزانيتك باستخدام مفتاحك الخاص‪ ،‬كما يمكن أيضا ً عرض تلك العناوين‬
‫عىل هيئة رمز )‪ (QR‬رسيع االستجابة‪.‬‬

‫رسل إىل جميع أعضاء الشبكة اآلخرين (العُ َقد)‬


‫فعندما يتم تحويل ما‪ ،‬يبثه املُ ِ‬
‫الذين بإمكانهم تأكيد أن املرسل يمتلك ما يكفي من عمالت البيتكوين إلجراء ذلك‬
‫ا لتحويل‪ ،‬وأنه لم يقم بإنفاق تلك العمالت يف تحويل آخر‪ ،‬وبمجرد املُصادقة عىل صحة‬
‫التحويل من قِ بل غالبية قوى املعالجة يف الشبكة‪ ،‬يتم إدراجه يف السجل املشرتك بني‬
‫جميع أعضاء الشبكة سامحا ً لكل األعضاء بتحديث ميزانية طريف التحويل‪ .‬ويف الوقت‬
‫الذي من السهل فيه عىل أي عضو يف الشبكة تأكيد صالحية التحويل‪ ،‬فإنه من املمكن‬

‫‪251‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ملخرتق ما أن يتالعب بنظام التصويت املبني عىل إعطاء كل عضو صوتا ً واحداً‪ ،‬وذلك عن‬
‫طريق إنشائه الكثري من العُ َقد لكي يُصوِّت ويصادق عىل التحويالت االحتيالية واملُ َزوَّرة‪.‬‬
‫لكن البيتكوين يستطيع حل مشكلة اإلنفاق املزدوج هذه دون الحاجة لوجود طرف ثالث‬
‫موثوق وذلك عرب ربط الدقة بإنفاق األعضاء لقوة املعالجة‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬عن طريق‬
‫توظيف نظام إثبات العمل "‪."POW‬‬

‫ويف جوهره‪ ،‬يتضمن نظام إثبات العمل ‪ POW‬أعضا ًء من الشبكة يتنافسون‬


‫لحل مسائل رياضية صعبة الحل‪ ،‬لكن التأكد من صحة حلها هو أمر سهل‪ .‬ففي كل ‪10‬‬
‫نسخ كل تحويالت البيتكوين املُصادَق عليها يف كتلة واحدة‪،‬‬ ‫دقائق تقريبا ً‪ ،‬تُدوَّن وت ُ َ‬
‫وتتنافس ال ُع َقد لحل املسائل الرياضية لنظام إثبات العمل لكتلة من التحويالت‪ ،‬والعُ ْقدة‬
‫التي تتوصل للحل أوال ً تقوم ببثه ألعضاء الشبكة الذين يمكنهم التحقق من صحته‬
‫برسعة كبرية ‪ .‬وبمجرد مصادقة غالبية عقد الشبكة عىل صحة التحويالت ونظام إثبات‬
‫العمل‪ ،‬يتم مكافأة تلك ال ُع ْقدة بإصدار كمية مُحددة من البيتكوين‪ .‬تُعرف هذه املكافأة‬
‫باسم "دعم الكتلة"‪ ،‬وتسمى عملية إصدار تلك العمالت الجديدة "بالتعدين" مُستم َّدة‬
‫من تعدين املعادن كتعدين الذهب‪ ،‬وهي الطريقة الوحيدة لزيادة عرض البيتكوين تماما ً‬
‫كما هي الطريقة لزيادة عرض الذهب‪ .‬إضاف ًة إىل حصولها عىل دعم الكتلة‪ ،‬فإن العُ ْقدة‬
‫التي تحل نظام إثبات العمل بشكل صحيح تحصل أيضا ً عىل رسوم التحويل املتضمنة‬
‫من قبل املرسلني‪ .‬ويُطلَق عىل مجموع كل من رسوم التحويل ودعم الكتلة اسم "مكافأة‬
‫الكتلة"‪.‬‬

‫ومع أن حل هذه املسائل قد يبدو يف البداية إهدارا ً للطاقة الكهربائية‬


‫ُعترب جوهريا ً لعمليات البيتكوين‪ .1‬فمن‬
‫والستخدام الحاسوب‪ ،‬إال أن نظام إثبات العمل ي َ‬

‫‪ 1‬السؤال عما إذا كان البيتكوين هو إهدار للكهرابء هو حبد ذاته سوء فهم ألساس الطبيعة غري املوضوعية للقيمة‪.‬‬
‫يتم توليد الكهرابء حول العامل بكميات كبرية إلرضاء احتياجات املستهلكني‪ ،‬أما موضوع إهدار الكهرابء من‬
‫عدمه فهو يقع على عاتق املستهلك الذي يدفع مثن هذه الكهرابء‪ .‬فاألفراد الذين ينوون أن يدفعوا مثن عملية‬
‫فعال‪ ،‬مما يعين ان إنتاج‬
‫شبكة البتكوين من أجل حتويالهتم هم أفراد يستثمرون استهالكهم للكهرابء بشكل ّ‬
‫سدى‪ .‬عملياً إن نظام إثبات العمل هو الطريقة الوحيدة‬
‫الكهرابء يتم مبا يرضي احتياجات املستهلك وال يضيع ً‬
‫‪252‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫خالل تَطلُّبه لرصف الكهرباء وطاقة املعالجة إلنتاج عمالت جديدة‪ ،‬فإن نظام إثبات‬
‫العمل يُعَ ُّد الطريقة الوحيدة املُكتشفة لجعل صناعة سلعة رقمية مكلفة بشكل موثوق‬
‫حتى اآلن ‪ ،‬مما يسمح لها بأن تكون عملة صعبة‪ .‬ومع ضمان جعل عملية إيجاد الحلول‬
‫للمسائل الرياضية تتطلب إنفاق كميات كبرية من الكهرباء وطاقة املعالجة‪ ،‬فإن العُ َقد‬
‫التي تستهلك هذه الطاقة الكبرية للمعالجة سيتكوَّن لديها دافع قوي جدا ً كي ال تقبل وال‬
‫تضع أية تحويالت مُزورة يف ُكتَلِها من أجل أن تحصل عىل مكافأة الكتلة‪ .‬وبما أن‬
‫التحقق من صحة التحويالت ونظام إثبات العمل أرخص بكثري من إيجاد الحل الخاص‬
‫بنظام إثبات العمل‪ ،‬فإن العُ َقد التي ستحاول إدخال تحويالت مُزوَّرة لكتلة التحويالت‬
‫محكوم عليها دائما بالفشل‪ ،‬وبذلك فإنها تُبدد الطاقة التي أنفقتها دون الحصول عىل‬
‫عائد‪.‬‬

‫فنظام إثبات العمل يجعل ثمن تدوين الكتلة باهظا ً جداً‪ ،‬وثمن التحقق من‬
‫صحتها زهيدا ً جداً‪ ،‬مما يكاد يقيض عىل الحافز ألي شخص إلنشاء تحويالت مُزورة‪ .‬فإذا‬
‫حاول أحدهم‪ ،‬فإنه سيقوم بإهدار الكهرباء وطاقة املعالجة دون الحصول عىل مكافأة‬
‫الكتلة‪ .‬لذلك‪ ،‬يمكن فهم البيتكوين عىل أنه تكنولوجيا تُحوِّل الكهرباء إىل سجالت‬
‫صحيحة عرب إنفاق طاقة املعالجة‪ ،‬ويتم مكافأة أولئك الذين ينفقون هذه الكهرباء‬
‫بعمالت البيتكوين‪ ،‬ولذلك‪ ،‬يتولد لديهم دافع قوي للحفاظ عىل نزاهته‪ .‬وكنتيجةٍ لربط‬
‫الصدق بحافز اقتصادي قوي‪ ،‬ظ َّل ِسجّ ل البيتكوين عصيا ً عىل اإلتالف طوال فرتة عمله‬
‫حتى اآلن‪ ،‬حيث أنه لم يشهد هجمة إنفاق مزدوج عىل تحويلة مؤكدة قط‪ .‬وبهذا األمر‪،‬‬
‫تتحقق تلك النزاهة يف سجل البيتكوين دون الحاجة لالعتماد عىل صدق ونزاهة أي طرف‬
‫يف الشبكة‪ .‬ومن خالل االعتماد كليا ً عىل عملية التحقق واملصادقة‪ ،‬يَح ُكم البيتكوين عىل‬
‫التحويالت االحتيالية واملزورة بالفشل ويتجنب الحاجة إىل الثقة يف أي طرف إلتمام‬
‫التحويالت‪.‬‬

‫ولكي يتمكن مهاجم ما من إدخال تحويالت مزورة إىل سجل البيتكوين‪ ،‬فهو‬

‫اليت اخرتعها البشر إلنشاء نقد صعب رقمي‪ .‬لذلك فإن الكهرابء ال يتم إهدارها إن رأى الناس أن ذلك يستحق‬
‫الدفع من أجله‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫يحتاج ألن يمتلك غالبية طاقة املعالجة املستخدمة يف الشبكة لكي يتم قبول احتياله‪،‬‬
‫ولكن ال ُع َقد الصادقة والنزيهة والتي هي جزء من الشبكة ال تملك أي دافع لتفعل ذلك‬
‫ألنها وإن فعلت‪ ،‬فستقلل من نزاهة البيتكوين‪ ،‬وستقلل من قيمة العوائد التي تحصل‬
‫عليها مما يؤدي إىل إهدارها للكهرباء واملوارد التي تم رصفها‪ .‬لهذا‪ ،‬إن أَمَ َل املهاجم‬
‫الوحيد هو أن يحشد أكثر من ‪ %50‬من كمية طاقة املعالجة املستخدمة يف الشبكة لكي‬
‫يتم تأكيد احتياله عىل أنه صادق ليتمكن من البناء عليه‪ .‬لقد كان باإلمكان اإلقدام عىل‬
‫هذه الحركة يف بدايات عرص البيتكوين عندما كان إجمايل طاقة املعالجة املرصوفة يف‬
‫الشبكة قليال ً جداً‪ ،‬لكن وألن القيمة االقتصادية التي حملتها الشبكة يف تلك األيام كانت‬
‫ضئيلة جدا ً وغري مهمة‪ ،‬لم تتحقق أية هجمات‪ .‬ومع استمرار نمو الشبكة وتزايد عدد‬
‫األعضاء الذين يجلبون معهم املزيد من طاقة املعالجة‪ ،‬ارتفع ثمن الهجوم عىل الشبكة‪.‬‬

‫ولقد أثبتت مكافأة ال ُع َقد‪ ،‬التي تؤكد صحة التحويالت‪ ،‬أنها استخدا ٌم مربح‬
‫لطاقة املعالجة‪ .‬ففي يناير من عام ‪ ،2017‬كان حجم طاقة املعالجة لشبكة البيتكوين‬
‫مساويا ً ل ِـ ‪ 2‬تريليون البتوب‪ ،‬وهو أمر أكثر ب ‪ 2‬مليون مرة من طاقة املعالجة ألقوى‬
‫حاسوب عمالق يف العالم‪ ،‬وأكثر من ‪ 200,000‬مرة من طاقة املعالجة ألقوى ‪500‬‬
‫حاسوب عمالق يف العالم مجتمعني‪ .‬وقد أصبح البيتكوين عرب تحويل قيمة طاقة املعالجة‬
‫بشكل مبارش أكرب شبكة حاسوبية بهدف موحد يف العالم‪.‬‬

‫هناك عامل آخر ساهم يف نمو طاقة املعالجة وتَمثَّل ذلك عندما انتقلت عمليات‬
‫التحقق من صحة التحويالت وحل مسائل نظام إثبات العمل من إجرائها عرب الحواسيب‬
‫الشخصية إىل إجرائها من قِ بل معالجات خاصة بُ ِنيَت بشكل خاص لتكون فعالة يف عملية‬
‫إدارة برمجيات البيتكوين‪ .‬وبدأ هذا مع بداية استخدام الدارات املدمجة املحددة برمجيا ً‬
‫)‪ (ASICs‬يف عام ‪ ،2012‬حيث أن عملية توظيفها ونرشها زادت من فعالية إضافة طاقة‬
‫املعالجة إىل شبكة البيتكوين‪ ،‬حيث أنه وبهذه الطريقة ال يتم إهدار أي كهرباء يف عمليات‬
‫حوسبة غري مرتبطة مبارشة بالبيتكوين‪ ،‬كتلك العمليات املتاحة يف وحدات الحوسبة‬
‫العامة‪ .‬ويف الوقت الحايل‪ ،‬تتوىل شبكة مُو َّزعة عامليا ً من مُعدّنني مستقلني ومتخصصني‬
‫حماي َة نزاهة سجل البيتكوين‪ ،‬وغايتهم الوحيدة هي التحقق من صحة تحويالته وحل‬
‫املسائل الرياضية لنظام إثبات العمل‪ .‬وإذا َف ِش َل البيتكوين ألي سبب كان‪ ،‬ستصبح تلك‬

‫‪254‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫الدارات املدمجة املحددة برمجيا ً بال أي فائدة‪ ،‬وسيفقد أصحابها استثماراتهم‪ ،‬لهذا‬
‫فلديهم دافع قوي جدا ً للحفاظ عىل مصداقية ونزاهة الشبكة‪.‬‬

‫ولكي يتمكن شخص ما من تغيري سجل شبكة البيتكوين‪ ،‬فسيحتاج إىل‬


‫استثمار مئات ماليني الدوالرات‪ ،‬إن لم تكن مليارات الدوالرات‪ ،‬وذلك لبناء دارات مدمجة‬
‫محددة برمجيا ً )‪ (ASICs‬جديدة لتغيري السجل‪ .‬ولكن من املُستبعد أن يعود الهجوم‬
‫بالنفع االقتصادي للمهاجم حتى و إن تكلل بالنجاح‪ ،‬وذلك ألن اإلرضار بالشبكة من شأنه‬
‫تقليص قيمة عمالت البيتكوين تقريبا ً إىل الاليشء‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬لتدمري البيتكوين‪،‬‬
‫سيكون عىل املُهاجم إنفاق مبالغ كبرية جدا ً من املال دون أي عائد عىل اإلطالق‪ ،‬والحقيقة‬
‫أنه حتى وإن نجح الهجوم‪ ،‬فبإمكان ال ُع َقد الصادقة والنزيهة عىل الشبكة العودة بفعالية‬
‫إىل سجل التحويالت الذي سبق الهجوم واستكمال العمل‪ ،‬وسيكون عىل املهاجم عندها‬
‫استمرار تحمل تكاليف تشغيل باهظة ملواصلة الهجوم عىل إجماع العُ َقد النزيهة‪.‬‬

‫ويف السنوات األوىل من عمل البيتكوين‪ ،‬قام مستخدمو البيتكوين بتشغيل عقد‬
‫واستخدموها يف إجراء تحويالتهم الخاصة والتحقق من صحة تحويالت اآلخرين يف‬
‫الشبكة‪ ،‬بحيث كانت كل عقدة تؤدي دور محفظة ومُوث ِّق‪/‬مُعدّن‪ ،‬لكن تم فصل تلك‬
‫العمليات مع مرور الوقت‪ ،‬فتخصصت الرقاقات املدمجة املحددة برمجيا ً اآلن يف التوثيق‬
‫واملصادقة عىل التحويالت من أجل الحصول عىل مكافأة البيتكوين (لهذا السبب يُعرفون‬
‫باملُعدّنني)‪ .‬ويستطيع مشغلو العُ َقد اآلن إنشاء عدد غري محدود من املحافظ مما يسمح‬
‫للرشكات واألعمال واملشاريع التجارية بإتاحة َمحافظ مريحة ومناسبة للمستخدمني‬
‫الذين سيستطيعون إرسال واستقبال البيتكوين دون الحاجة إىل إدارة عقدة التعدين أو‬
‫إنفاق طاقة معالجة للمصادقة عىل التحويالت‪ .‬وهذا األمر‪ ،‬ن َ َق َل البيتكوين بعيدا ً عن كونه‬
‫شبكة نظري إىل نظري فقط بني عقد متطابقة‪ ،‬لكن رغم ذلك‪ ،‬يمكن القول إن األهمية‬
‫الوظيفية الرئيسية للطبيعة الالمركزية واملُو َّزعة للشبكة ال تزال قائمة وسليمة‪ ،‬وذلك ألنه‬
‫يوجد عدد كبري من العُ َقد التي ما تزال قائمة‪ ،‬بحيث ال يتم االعتماد عىل أي طرف كي‬
‫تعمل الشبكة‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فقد سمح التخصص يف التعدين بنمو طاقة املعالجة‬
‫الداعمة للشبكة إىل الحجم املذهل الذي وصلت إليه‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ففي بدايات البيتكوين عندما كانت قيمة العملة صغرية أو معدومة‪ ،‬كان من‬
‫املمكن رسقة الشبكة وتدمريها من قبل املهاجمني‪ ،‬ولكن بما أن القيمة االقتصادية‬
‫للشبكة كانت قليلة‪ ،‬لم يُتعِ ب أحد نفسه بهذا األمر‪ .‬اآلن‪ ،‬ومع ازدياد حجم القيمة‬
‫االقتصادية للشبكة‪ ،‬قد يكون ازداد معها دافع رسقة الشبكة‪ ،‬لكن تكلفة فعل ذلك قد‬
‫ازدادت بشكل كبري أيضاً‪ ،‬وبسبب ذلك‪ ،‬لم تتحقق أية هجمة‪ .‬ومن املرجح أن يكون‬
‫السبب الحقيقي وراء حصانة شبكة البيتكوين هو أن قيمة العملة تعتمد كليا ً عىل‬
‫مصداقية ونزاهة الشبكة‪ .‬فنجاح أي هجوم يف تغيري سلسلة الكتل أو رسقة العمالت‪ ،‬أو‬
‫ُعرف باسم اإلنفاق املزدوج لن يعود بفائدة كبرية عىل املهاجم‪،‬‬ ‫إنفاقها عدة مرات فيما ي َ‬
‫حيث سيتَّضح لجميع أعضاء الشبكة أنه من املمكن تقويض الشبكة‪ ،‬مما سيقلل بشكل‬
‫كبري من الطلب عىل استخدامها وعىل االحتفاظ بالعملة‪ ،‬وسيؤدي هذا إىل انهيار سعرها‪.‬‬
‫بتعبري آخر‪ ،‬ال تقترص دفاعات شبكة البيتكوين عىل ارتفاع تكلفة الهجوم فحسب‪ ،‬بل إن‬
‫نجاح الهجوم سيجعل الغنيمة بال قيمة‪ .‬ف َكوْنها نظاما ً طوعيا ً تماماً‪ ،‬ال يمكن لشبكة‬
‫البيتكوين العمل إال إذا كانت نزيهة‪ ،‬حيث يمكن للمستخدمني مغادرتها بسهولة إذا لم‬
‫تكن كذلك‪.‬‬

‫فتَو ُّزع طاقة معالجة البيتكوين ومقاومته الكبرية لتعديل شيفرته الربمجية‪،‬‬
‫إضافة إىل عناد سياسته النقدية‪ ،‬هي ما جعلت البيتكوين يستمر ويزداد يف قيمته إىل‬
‫الدرجة التي هو عليه فيها اآلن‪ ،‬ومن الصعب عىل األشخاص الجديدين عىل البيتكوين أن‬
‫يُقدِّروا ك َّم التحديات اللوجستية واألمنية التي نجح البيتكوين بتخطيها كل هذه السنوات‬
‫حتى وصل إىل ما هو عليه اآلن‪ .‬وعند األخذ بالحسبان أن اإلنرتنت قد خلق فرصا ً‬
‫للمخرتقني ملهاجمة كافة أنواع الشبكات واملواقع بهدف التسلية والربح‪ ،‬فسنرى أن هذا‬
‫إنجاز مذهل‪ .‬فالعدد املتزايد للخروقات األمنية التي تحصل لشبكات الحاسوب وخوادم‬
‫الربيد اإللكرتوني بشكل يومي حول العالم ال تتعدى غنيمتها رسقة بيانات‪ ،‬أو تحقيق‬
‫رص لتسجيل نقاط سياسية‪ .‬ويف الجهة املقابلة‪ ،‬يحتوي البيتكوين عىل مليارات‬ ‫ُف ٍ‬
‫الدوالرات من القيمة‪ ،‬وال يزال يعمل بشكل آمن وموثوق‪ ،‬حيث أنه ومنذ بداية النظام كان‬
‫قد تم تصميمه ليعمل يف بيئة عدائية ليكون مقاوما ً للهجمات القاسية‪ .‬وقد حاول‬

‫‪256‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫املخرتقون واملربمجون من كافة أنحاء العالم أن يدمروا البيتكوين باستعمال سائر‬


‫الوسائل التكنولوجية‪ ،‬لكنه مع ذلك‪ ،‬استمر بالعمل بما يتناسب مع جوهر خصائصه‪.‬‬

‫خارج السيطرة‪ :‬ملاذا ليس ِبو ِْس ِع أحد تغيري البيتكوين؟‬


‫"إن طبيعة البيتكوين هي طبيعة تعني أنه بمجرد إطالق النسخة ‪ 0.1‬منها‪،‬‬
‫فسيعمل تصميمها الجوهري ولألبد‪".‬‬

‫ساتويش ناكاموتو‪2010\17\6 ،‬‬

‫إن مناعة ومتانة البيتكوين لم تكن فقط سببا ً يف صد الهجمات عىل الشبكة‪ ،‬بل‬
‫كانت قادر ًة أيضا ً عىل مقاومة كل محاوالت تغيريه أو تعديل خصائصه‪ ،‬ولكن لم يفهم‬
‫عمق هذه الحقيقة وآثارها بعد‪ .‬وإذا أردنا مقارنة البيتكوين ببنك‬ ‫َ‬ ‫معظم املشككني‬
‫مركزي‪ ،‬فسيكون أكثر بنك مستقل يف العالم‪ ،‬وإذا أردنا مقارنته بدولة قومية‪ ،‬فسيكون‬
‫أكثر دولة قومية ذات سيادة يف العالم‪ .‬بهذا‪ ،‬يمكن القول إ َّن سيادة البيتكوين تُستمَد من‬
‫الطريقة التي تعمل بها قوانني اإلجماع بالرأي جاعل ًة إياه مقاوما ً وبشكل كبري للتعديل‬
‫من قبل األفراد‪ .‬وال نبالغ إن قلنا أنه ال أحد يتحكم بالبيتكوين‪ ،‬وأن الخيار الوحيد املتوفر‬
‫أمام األفراد هو إما استخدامه كما هو أو عدم استخدامه‪.‬‬

‫فهذا الثبات ال يُعَ ُّد من خصائص برمجية البيتكوين حيث يمكن ألي شخص‬
‫بارع بالربمجة أن يغري من برمجيته‪ ،‬لكن يمكن القول أن البيتكوين مُقيَّد بقيمة عملته‬
‫وبشبكته وصعوبة إقناع كل األعضاء يف الشبكة بتبني نفس التغيري الربمجي‪ .‬فالتطبيق‬
‫الربمجي الذي يسمح لألفراد بتشغيل عقدة متصلة بشبكة البيتكوين هو تطبيق مفتوح‬
‫املصدر‪ ،‬أطلقه يف البداية "ساتويش ناكاموتو" بالتعاون مع الراحل "هال فيني"‬
‫وآخرين‪ .‬ومنذ ذلك الوقت‪ ،‬أصبح ألي مستخدم كان‪ ،‬ذكرا ً أم أنثى‪ ،‬إمكانية تنزيل‬
‫واستخدام الربنامج كما يريد‪ ،‬وإجراء التغيريات التي يريدها عليه‪ .‬إن هذا األمر خلق‬

‫‪257‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫سوقا ً تنافسية حرة يف تطبيقات البيتكوين بحيث يمكن ألي شخص املساهمة يف إجراء‬
‫التغيريات أو التحسينات والتطويرات عىل الربنامج وتقديمها للتبني من قِ بل املستخدمني‪.‬‬

‫ومع مرور الوقت‪ ،‬تطوع املئات من مربمجي الحاسوب من جميع أنحاء العالم‬
‫بأوقاتهم لتحسني برمجيات ال ُع َقد وكنتيجة تحسني إمكانيات العُ َقد الفردية‪ ،‬فكوَّن هؤالء‬
‫املربمجني عدة تطبيقات مختلفة أكربها وأكثرها شهرة هو "‪ ."Bitcoin Core‬وهناك‬
‫أيضا ً عدة تطبيقات أخرى متواجدة‪ ،‬وللمستخدم الحرية الكاملة يف تغيري الشيفرة‬
‫األصلية يف أي وقت يشاء‪ .‬لكن ولكي تكون ال ُع ْقدة جزءا ً من الشبكة التي تتبعها‪ ،‬فلديها‬
‫متطلب واحد فقط وهو أن تتبع القوانني املُتفق عليها بني العُ َقد األخرى‪ ،‬بحيث يؤدي‬
‫كرس العُ َقد للقوانني املُتَّ َفق واملُجمَع عليها إىل رفض تحويالتها من قِ بل بقية العُ َقد‪ ،‬سواء‬
‫أكان ذلك الخروج عن اإلجماع عرب تعديل بنية السلسلة‪ ،‬أو صالحية التحويالت‪ ،‬أو‬
‫مكافأة الكتلة‪ ،‬أو أي من املعايري األخرى للنظام‪.‬‬

‫والعملية التي تحدد معايري البيتكوين هي مثال ملا أ َطلق عليه الفيلسوف‬
‫االسكتلندي "آدم فريجوسن" "مُنتَج األفعال اإلنسانية‪ ،‬وليس التصاميم اإلنسانية‪."2‬‬
‫ومع أن ساتويش ناكاموتو وهال فيني وآخرين قد أنشأوا نموذجا ً يعمل للربنامج يف يناير‬
‫عام ‪ ،2009‬إال أن الشيفرة الربمجية قد تطورت بشكل كبري منذ ذلك الوقت من خالل‬
‫مساهمات مئات املطورين املُختارين من قبل آالف األعضاء الذين يُشغلون العُ َقد‪ .‬يجدر‬
‫اإلضافة أنه ليس هناك أي ُسلطة مركزية تحدد تطور برنامج البيتكوين‪ ،‬كما أنه ال يوجد‬
‫أي مربمج يستطيع إمالء وفرض أي نتيجة عليه‪ .‬وبهذا‪ ،‬تم إثبات أن الطريقة إلجراء‬
‫تعديالت ل كي يتم تبنيها يجب أن تكون طريقة تلتزم بمعايري التصميم األصلية‪ .‬وللدرجة‬
‫التي حصلت فيها التغريات عىل الربنامج‪ ،‬فإنه يمكن فهمها عىل أنها تطويرات للطريقة‬
‫التي تتواصل فيها ال ُع َقد مع الشبكة‪ ،‬وليست تبديال ً لشبكة البيتكوين أو معايريها أو‬
‫قوانينها املتفق عليها‪ .‬ومع أن ماهية تلك املعايري هو أمر خارج عما يقدمه الكتاب إال أنه‬
‫يكفينا تحديد هذا املعيار‪ :‬يف حال تَبَني عقدة لتغيري ما بحيث يضعها هذا التغيري خارج‬
‫إجماع القوانني املُتفق عليها‪ ،‬فسيتوجب عىل جميع ال ُع َقد األخرى تَبَني نفس التغيري لكي‬

‫‪ 2‬آدم فريجوسن‪ ،‬مقالة عن اتريخ اجملتمع املتحضر‪( .‬لندن‪.)1782 ،T. Cadell ،‬‬

‫‪258‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫تبقى ال ُع ْقدة املبادرة بهذا التغيري عضوا ً يف الشبكة‪ ،‬وإذا قامت مجموعة من ال ُع َقد بتَبَني‬
‫قوانني اإلجماع الجديد‪ ،‬فسينتج عن ذلك ما يُعرف باسم "انقسام كيل" يف العملة الرقمية‪.‬‬

‫لهذا السبب ال يمكن ملربمجي البيتكوين مهما كانوا بارعني أن يتحكموا‬


‫بالبيتكوين‪ ،‬حيث يتم عدُّهم فقط كمربمجني للبيتكوين يف حدود توفري الربمجيات التي‬
‫يرغب مشغلو ال ُع َقد يف تبنيها واستخدامها‪ .‬وليس املربمجون وحدهم من ال يستطيع‬
‫التحكم بالبيتكوين‪ ،‬فاملعدِّنون أيضا ً مع كل طاقة املعالجة التي يمكنهم حشدها‪ ،‬ال‬
‫نفقة يف معالجة الكتل‬ ‫يمكنهم أيضا ً التحكم بالبيتكوين‪ .‬فال يهم مقدار طاقة املعالجة املُ َ‬
‫غري الصالحة‪ ،‬وذلك ألنه لن يتم املصادقة عليها من قبل غالبية عقد البيتكوين‪ .‬لذلك‪ ،‬إن‬
‫محاوالت املعدنني لتغيري قوانني الشبكة هي إهدار ملواردهم يف حل املسائل الرياضية‬
‫إلثبات العمل‪ ،‬ويكون هذا اإلهدار ُممثالً بعدم حصولهم عىل أي مكافأة‪ .‬لهذا‪ ،‬فمعدِّنو‬
‫تل تتضمن تحويالت صالحة وفقا ً إلجماع‬ ‫البيتكوين هم ُمع ِّدنون يف حدود إنتاج ُك ٍ‬
‫القوانني الحالية املُتفق عليها‪.‬‬

‫من املغري القول هنا أن مدراء ال ُع َقد يتحكمون بالبيتكوين‪ ،‬وهذا صحيح‬
‫باملعنى الجمعي‪ ،‬لكن بالحقيقة‪ ،‬إن مدراء ال ُع َقد ال يمكنهم التحكم إال بعقدهم الخاصة‬
‫واختيار قوانني الشبكة املناسبة لهم والتي يريدون االنضمام إليها‪ ،‬وتحديد إذا ما كانت‬
‫التحويالت التي يسجلونها عىل أنها صالحة أم غري صالحة‪ .‬فال ُع َقد محدودة بشكل كبري‬
‫يف اختيارها للقوانني املتفق عليها حيث أن تحويالتها سيتم رفضها إذا قامت بفرض‬
‫قوانني غري متوافقة مع ما هو مُتفق عليه يف الشبكة‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬يَتولَّد لدى كل عقدة‬
‫توافق مع ال ُع َقد‬
‫ٍ‬ ‫دافع قوي جدا ً للمحافظة عىل تطبيق القوانني املتفق عليها والبقاء عىل‬
‫األخرى ضمن هذه القوانني املتفق عليها‪ .‬فال تستطيع ال ُع ْقدة الفردية أن تفرض عىل‬
‫ال ُع َقد األخرى تغيري شيفرتها الربمجية‪ ،‬وهذا ما يخلق اتفاقا ً وتحيزا ً جماعيا ً للبقاء ضمن‬
‫القوانني الحالية املتفق عليها‪.‬‬

‫خالصة القول‪ ،‬يملك مربمجو البيتكوين دافعا ً قويا ً لاللتزام بالقوانني املتفق‬
‫عليها لكي يتم تَبَني شيفرتهم الربمجية‪ ،‬كما يجب عىل املعدِّنني أيضا ً االلتزام بقوانني‬
‫الشبكة املتفق عليها لكي يحصلوا عىل تعويض عن املوارد التي رصفوها عىل نظام إثبات‬

‫‪259‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫العمل‪ .‬وأعضاء الشبكة أيضا ً يملكون دافعا ً قويا ً للبقاء عىل تلك القوانني املتفق عليها‬
‫لكي يتمكنوا من تصفية تحويالتهم عىل الشبكة‪ .‬يجب أن نضيف هنا أنه من املمكن‬
‫االستغناء عن أي ُمعد ٍِّن أو ُمربمج‪ ،‬أو مدير عُ قدة يف الشبكة‪ ،‬حيث أنه إذا لم يلتزم أي‬
‫أحد منهم بالقوانني املتفق عليها فالناتج املرجح هو خسارتهم ملواردهم‪ .‬وطاملا تُقدِّم‬
‫الشبكة مكافآت إيجابية ملشرتكيها‪ ،‬من املرجح أن يظهر مشرتكون بدالء‪ .‬لذلك‪ ،‬يمكن‬
‫فهم معايري البيتكوين املتفق عليها بأنها ذات سيادة‪ ،‬فاستمرار وجود البيتكوين للدرجة‬
‫التي يتواجد بها مرهون باستمرار وجود تلك املعايري والصفات‪ .‬وهذا التحيز القوي‬
‫ُصعِّ ب للغاية من عملية تغيري جدول العرض‬ ‫للتمسك بالوضع الراهن يف عمل البيتكوين ي َ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ُعترب البيتكوين نقدا سليما بسبب هذا‬ ‫النقدي أو املعايري االقتصادية املهمة‪ .‬لهذا‪ ،‬ي َ‬
‫التوازن املستقر فقط‪ ،‬وستَضعف قيمته كثريا ً كنقد سليم إذا انحاز عن ذلك اإلجماع‪.‬‬

‫و إىل حد معلومات مؤلف هذا الكتاب‪ ،‬لم تحدث أية محاوالت مهمة و ُمن َ َّسقة‬
‫لتعديل السياسة النقدية للبيتكوين‪ ،3‬حيث أنه حتى املحاوالت البسيطة لتعديل بعض‬
‫املواصفات التقنية عىل الشيفرة باءت بالفشل‪ .‬أي أنه حتى التغيريات البسيطة غري‬
‫الضارة للربوتوكول يَصعُب إجراؤها وذلك بسبب طبيعة الشبكة املوزعة‪ ،‬وبسبب الحاجة‬
‫إىل أن تقبل أطراف متفرقة وعدائية بتغيريات ال يفهمون نتائجها تماماً‪ ،‬بينما الوضع‬
‫الحايل اآلمن والذي تم تجربته مسبقا ً يبقى معروفا ً ويُعتمَ د عليه بشكل كيل‪ .‬لهذا‪ ،‬يمكن‬
‫فهم وضع وحالة البيتكوين بأن األعضاء قد وصلوا إىل درجة مستقرة من التفاهم‬
‫والتنسيق الصامت والضمني‪ ،4‬مما يؤ ِّمن دافعا ً مفيدا ً لجميع املشاركني للتمسك به‪ ،‬حيث‬
‫أن االبتعاد عنه سيتضمن دائما ً خطورة خسارة كبرية‪.‬‬

‫‪ 3‬بعد التنصيف األول لعوائد العمالت يف ‪ ،2012‬حاول بعض املع ّدنني االستمرار يف تعدين كتل املعامالت‬
‫أبرابح ‪ 50‬عملة‪ ،‬إال أنه مت إيقاف تلك احملاوالت بشكل سريع بسبب رفض العقد لتلك الكتل اليت مت تعدينها‬
‫من قبل أولئك املع ّدنني‪ ،‬مما أجربهم على الرجوع إىل جدول التضخم األصلي‪.‬‬
‫‪ 4‬إن "نقطة شيلينج"‪ :‬هي اسرتاتيجية يستعملها األفراد يف غياب التواصل مع اآلخرين ألن هذه النقطة تظهر‬
‫بشكل طبيعي‪ ،‬وألهنم يتوقعون من اآلخرين اختيار هذه االسرتاتيجية‪ .‬و مبا أنه ال يوجد أي طريقة رمسية لتقييم‬
‫كمية عقد البيتكوين املوجودة‪ ،‬فإن نقطة شيلينج لكل عقدة متعلقة اباللتزام مبجموعة القوانني املتفق عليها حالياً‪،‬‬
‫مع جتنب االجتاه حنو جمموعات القوانني اجلديدة‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫معيار يف شيفرة‬
‫ٍ‬ ‫فإن قرر بعض أعضاء شبكة البيتكوين القيام بتغيري‬
‫البيتكوين الربمجية وذلك عرب تقديم نسخة جديدة من الربنامج غري متوافقة مع بقية‬
‫أعضاء الشبكة‪ ،‬فالنتيجة ستكون انقساما ً يُنشئ بشكل فعال عملتني منفصلتني‬
‫وشبكتني‪ .‬وطاملا بقي أعضا ٌء يف الشبكة القديمة‪ ،‬فسيمكنهم االستفادة من البنية التحتية‬
‫للشبكة كما هي ومن معدات التعدين‪ ،‬ومن مفعول تأثري الشبكة‪ ،‬وشهرة االسم‪.‬‬
‫وسيتطلب نجاح االنقسام الجديد هجرة الغالبية العظمى من املستخدمني‪ ،‬وقوى‬
‫التعدين‪ ،‬وكل ما يتعلق بالبنى التحتية يف نفس الوقت للعملة الجديدة‪ .‬وإن لم تحصل‬
‫عىل تلك الغالبية العظمى‪ ،‬فالنتيجة املتوقعة هي أن كال العملتني سيتم تبادلهما مقابل‬
‫بعضهما البعض يف البورصات‪ .‬لهذا‪ ،‬إن أ َ ِمل األفراد املسؤولني عن االنقسام بأن ينجح‬
‫انقسامهم‪ ،‬فسيكون عليهم بيع جميع عمالتهم القديمة عىل أمل أن يفعل الجميع اليشء‬
‫ً‬
‫جاذبة كل‬ ‫ذاته‪ ،‬وذلك كي تنهار أسعار العملة القديمة وتصعد أسعار العملة الجديدة‪،‬‬
‫طاقة التعدين والشبكة االقتصادية إىل الشبكة الجديدة‪ .‬لكن وألن أي تغيري بأي معيار يف‬
‫عمل البيتكوين من املرجح أن يعود بمنافع عىل بعض أعضاء الشبكة عىل حساب‬
‫اآلخري ن‪ ،‬فمن غري املرجح أن يحدث اتفاق جماعي لالنتقال إىل العملة األخرى‪ .‬حيث أنه‬
‫وبشكل عام‪ ،‬ينجذب غالبية حَ َملة البيتكوين إىل طبيعة قوانينه اآللية املُمَ انِعة لتوجيهه‬
‫من قبل األطراف الثالثة‪ .‬ومن غري املرجح أن يُخاطر هؤالء األعضاء بمنح حرية إجراء‬
‫ً‬
‫أساسية غري متوافقة‬ ‫ً‬
‫برمجية‬ ‫تغيريات جوهرية بالشبكة ملجموعة جديدة تطرح شيفر ًة‬
‫موض َع جدل‪ ،‬ولكن ما يهم‬ ‫مع القوانني الحالية‪ .‬ووجود هذه الغالبية أو عدم وجودها هو ِ‬
‫كاف من األعضاء وسيستمرون باستخدام معايري النظام‬ ‫هو أنه دائما ً ما سيتواجد عدد ٍ‬
‫الحايل‪ ،‬إال إذا تم تقويض عملهم ألمر ما‪.‬‬

‫ففي ما عدا وجود حالة فشل كارثي يف التصميم الحايل‪ ،‬يمكننا ضمان أن‬
‫تختار نسبة كبرية من ال ُع َقد استمرار استخدامها للتطبيق الحايل‪ ،‬مما يجعل تلقائيا ً ذلك‬
‫الخيار آمنا ً أكثر ألي شخص يفكر باتخاذ القرار باالنقسام‪ .‬واملشكلة بقرار االنقسام هي‬
‫أن الطريقة الوحيدة لضمان نجاحه هي عرب بيع عمالتك يف السلسلة القديمة‪ ،‬ولكن ال‬
‫أحد يريد أن يبيع عمالته يف الشبكة القديمة لالنتقال إىل الشبكة الجديدة ليكتشف عدم‬
‫انتقال أحد‪ ،‬ويكتشف هبوط قيمة العملة يف الشبكة الجديدة‪ .‬وبشكل إجمايل‪ ،‬ال يتم‬

‫‪261‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫االنتقال إىل تطبيق قوانني جديدة إال إذا أراد غالبية أعضاء الشبكة االنتقال سوي ًة بعد‬
‫االتفاق عىل هذه القوانني‪ ،‬وأي انتقال ال يتضمن غالبية األعضاء هو بالتأكيد أمر كارثي‬
‫اقتصاديا ً عىل أي شخص شارك بالعملية‪ .‬وبما أن أي انتقال إىل أي تطبيق جديد غالبا ً ما‬
‫يمنح الطرف الذي اقرتح االنتقال تحكما ً كبريا ً بمستقبل مسار البيتكوين‪ ،‬فإن حَ مَ لة‬
‫البيتكوين الرضوريني لنجاح هذا االنتقال يرفضونه‪ ،‬وذلك ألنهم مختلفون فكريا ً بشكل‬
‫كبري ألن يكون ألي مجموعة السلطة عىل البيتكوين‪ .‬فغالبا ً لن يدعم حملة البيتكوين‬
‫حركة االنقسام هذه‪ .‬إن وجود هذه املجموعات التي تدعم االنقسامات تشكل خطرا ً عىل‬
‫اآلخرين‪ .‬وربما يفرس هذا التحليل سبب مقاومة البيتكوين لجميع محاوالت تغيريه بشكل‬
‫كبري حتى اآلن‪ .‬فمشكلة التنسيق لتنظيم انتقال متزامن بني أشخاص بمطامع عدائية‪،‬‬
‫لدى كثري منهم إيمان راسخ بمبدأ عدم الثبات لهدف الثبات‪ ،‬هي أمر صعب جدا ً فيما عدا‬
‫وجود سبب ضاغط يجرب الناس عىل االنتقال من التطبيق الحايل‪.‬‬

‫بتعديل يرفع معدل إصدار العملة بهدف زيادة قيمة‬ ‫ٍ‬ ‫ُرس الُمعدِّنون‬
‫مثالً‪َ ،‬سي َ ُّ‬
‫ُرس حاملو العملة الحاليني بهذا التعديل‪ ،‬ولذلك‬ ‫العمالت التي تكافئ املعدنني‪ ،‬لكن لن ي َ َّ‬
‫ُ‬
‫لن يوافق حملة العملة عىل تعديل كهذا‪ .‬بشكل مشابه‪ ،‬قد يستفيد المعدِّنون من تعديل‬
‫آخر بهدف زيادة حجم كتل شبكة البيتكوين حيث أن ذلك التعديل سيسمح لهم بالقيام‬
‫بتحويالت أكثر يف الكتلة الواحدة‪ ،‬مما يؤدي إىل حصولهم عىل أرباح أكثر من رسوم‬
‫التحويالت‪ ،‬وسيزيد من الدخل القادم من استثمارهم ملعدات التعدين الخاصة بهم‪ .‬لكن‬
‫هذا لن يُريض حملة البيتكوين الذين يريدونه عىل املدى الطويل‪ ،‬والذين سيقلقهم أن‬
‫زيادة حجم الكتل ستتسبَّب يف زيادة حجم سلسلة الكتل (‪ ،)Blockchain‬مما سيجعل‬
‫إدارة عقدة كاملة أغىل ثمناً‪ ،‬األمر الذي يؤدي إىل انخفاض عدد ال ُع َقد يف الشبكة‪ ،‬ويجعلها‬
‫أكثر مركزية‪ ،‬وبالتايل يجعلها أكثر عرضة للهجمات‪ .‬لهذا‪ ،‬ال يستطيع املربمجون الذين‬
‫يطورون تطبيقات لتشغيل عقد البيتكوين أن يفرضوا أي تغيري عىل أي أحد‪ ،‬حيث أن‬
‫مهمة هؤالء املربمجني هي عرض شيفرتهم‪ ،‬وللمستخدم كامل الحرية بالشيفرة التي‬
‫سيحملها أو بالنسخة التي سيحملها‪ .‬وغالبا ً سيُح ِّمل املستخدمون الشيفرة املتوافقة مع‬
‫التطبيقات الحالية أكثر من أي شيفرة أخرى غري متوافقة‪ ،‬وذلك ألن نجاح الشيفرة‬
‫األخرى متعلق يف تشغيل غالبية أعضاء الشبكة لها‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫ُظهر البيتكوين تحيزا ً كبريا ً للوضع الراهن حيث أنه إىل اآلن لم يتم‬
‫بالنتيجة‪ ،‬ي ِ‬
‫تطبيق إال التغريات البسيطة وغري الجدلية عىل شيفرته الربمجية‪ ،‬وانتهت جميع محاوالت‬
‫ُرس بذلك مستخدمي البيتكوين القدامى‬ ‫إجراء تعديالت كبرية عىل الشبكة بفشل ذريع‪ِ ،‬لي َ َّ‬
‫الذين أكثر ما يُسعدهم يف عُ ملتهم هي ثباتها ومقاومتها للتغيري‪ .‬وأهم وأبرز املحاوالت‬
‫كانت تلك املهتمة بزيادة حجم الكتل املنفردة وذلك لزيادة إجمايل التحويالت‪ ،‬وجمعت‬
‫بعض املشاريع أسما ًء من أشهر وأقدم مستخدمي البيتكوين والذين أنفقوا الكثري يف‬
‫محاولة كسب شهرة للعملة‪ .‬ويُعَ ُّد "جافِ ن أندرسن" واحدا ً من أكثر الوجوه ُشهرة حيث‬
‫ارتبط اسمه بالبيتكوين‪ ،‬وقد قام األخري بعدة محاوالت جاهدة لعمل انقسام بالبيتكوين‬
‫وذلك لكي يحتوي عىل كتل أكرب‪ ،‬إضافة إىل الكثري من أصحاب املصالح‪ ،‬ومنهم بعض‬
‫املربمجني املحرتفني‪ ،‬ورياديني بأموال طائلة‪.‬‬

‫بداي ًة‪ ،‬تم اقرتاح "‪ - Bitcoin XT‬بيتكوين ‪ "XT‬من قبل "أندرسن" ومربمج‬
‫اسمه "مايك هرن" يف يونيو من عام ‪ ،2015‬وكان كل منهما يركز عىل زيادة حجم الكتلة‬
‫من ‪ 1‬ميغابايت إىل ‪ 8‬ميغابايت‪ ،‬لكن رفضت غالبية العُ َقد تحديث نسخهم لنُسخ هؤالء‬
‫وفضلت هذه ال ُع َقد البقاء عىل كتل الـ ‪ 1‬ميغابايت‪ .‬ثم تم توظيف هرن بعد ذلك من قبل‬
‫"اتحاد سلسلة الكتل للمؤسسات املالية" إلدخال تكنولوجيا سلسلة الكتل‬
‫(‪ -Blockchain‬بلوك تشني) لألسواق املالية‪ ،‬وقام هرن بنرش مقالة بالتزامن مع اتساع‬
‫شهرته يف "نيويورك تايمز" التي رحبت به كمن يحاول ببسالة إنقاذ البيتكوين الذي‬
‫كان يُصوَّر كاملحكوم عليه بالفشل‪ ،‬فأعلن هرن "انتهاء تجربة البيتكوين" مشريا ً إىل قلة‬
‫نمو سعة التحويالت كعائق قاتل لنجاح البيتكوين‪ ،‬ثم أعلن هرن أنه قد باع جميع‬
‫عمالته‪ .‬كان سعر البيتكوين يف ذلك اليوم حوايل ‪ ،$350‬ومع مرور السنتني التاليتني‪،‬‬
‫ازداد سعر البيتكوين أربعني ضعفا ً بينما لم يُنتج "اتحاد سلسلة الكتل" الذي انضم إليه‬
‫أي منتَج حقيقي‪.‬‬

‫غري عابئ ودون رادع‪ ،‬اقرتح جافِ ن أندرسن بشكل فوري محاول ًة جديدة‬
‫النقسام البيتكوين تحت اسم "بيتكوين كالسيك ‪ "Bitcoin Classic -‬والتي كانت‬
‫سرتفع حجم الكتلة إىل ‪ 8‬ميغابايت‪ ،‬ولم تفلح هذه املحاولة أيضاً‪ ،‬ويف مارس من عام‬
‫‪ 2016‬بدأ عدد ال ُع َقد التي تدعمه باالنخفاض‪ .‬مع هذا‪ ،‬ويف عام ‪ 2017‬اجتمع املؤيدون‬

‫‪263‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫لزيادة حجم الكتلة يف "بيتكوين أنليميتيد ‪ ،"Bitcoin Unlimited -‬وهو تحالف كبري‬
‫ضم أكرب صانعي رشائح تعدين البيتكوين‪ ،‬إضافة إىل فرد غني جدا ً يتحكم باسم موقع‬
‫لكتل أكرب‪ .‬فحدث الكثري من‬
‫ٍ‬ ‫‪ Bitcoin.com‬وقد رصف موارد هائلة محاوال ً الرتويج‬
‫الصخب اإلعالمي وكان شعور األزمة واضحا ً عند العديد من متابعي أخبار البيتكوين عىل‬
‫وسائل اإلعالم والتواصل االجتماعي‪ ،‬مع هذا‪ ،‬لم يحدث أي انقسام‪ ،‬حيث استمر القسم‬
‫األكرب من ال ُع َقد باستخدام التطبيقات املتوافقة مع تلك ذات سعة ‪ 1‬ميغابايت‪.‬‬

‫أخرياً‪ ،‬ويف أغسطس عام ‪ ،2017‬اقرتح مجموعة من املربمجني انقساما ً جديدا ً‬


‫للبيتكوين تحت اسم "‪ - Bitcoin Cash‬بيتكوين كاش" تَضمَّ ن نفس الدعوة القديمة‬
‫لزيادة حجم الكتلة‪ ،‬ومصري البيتكوين كاش هو مثال واضح ملا يؤول اليه انقسام عن‬
‫البيتكوين دون الحصول عىل دعم إجماع أعضاء الشبكة‪ ،‬حيث بقيت قيمة عملة‬
‫البيتكوين أعىل بكثري من البيتكوين كاش وذلك ألن الغالبية قد قرروا البقاء عىل السلسلة‬
‫األصلية‪ .‬وبما أن البنية االقتصادية التحتية للتبادالت واألعمال التي تدعم البيتكوين كانت‬
‫تصب تركيزها عىل البيتكوين األصيل‪ ،‬أدى هذا إىل استمرار انخفاض قيمة البيتكوين‬
‫كاش حتى وصلت إىل ‪ 5%‬من قيمة البيتكوين يف نوفمرب عام ‪ .2017‬فليس فقط أنها لم‬
‫تستطع الحصول عىل قيمة اقتصادية‪ ،‬بل واجهت أيضا ً مشكلة تقنية جدية جعلتها غري‬
‫قابلة لالستعمال تقريباً‪ .‬كما أنه ونظرا ً إىل أن السلسلة الجديدة لديها خوارزمية الدمج‬
‫والتشفري ذاتها التي يملكها البيتكوين‪ ،‬فيمكن لل ُمعدنني أن يستخدموا طاقة معالجتهم‬
‫عىل السلسلتني واكتساب املكافآت يف العملتني‪ .‬لكن وألن قيمة البيتكوين أعىل بكثري من‬
‫قيمة البيتكوين كاش‪ ،‬فإن طاقة املعالجة وراء البيتكوين تبقى أعىل بكثري منها يف‬
‫البيتكوين كاش‪ ،‬ويمكن ملُعدّني البيتكوين أن ينتقلوا إىل البيتكوين كاش يف أي وقت‬
‫تصبح املكافآت فيها أعىل‪ .‬إن هذا األمر يضع البيتكوين كاش يف مأزق كبري‪ ،‬فإذا كانت‬
‫صعوبة التعدين كبرية جداً‪ ،‬سيتأخر إنتاج الكتل ومعالجة التحويالت‪ ،‬لكن إذا تم تحديد‬
‫صعوبة التعدين لتكون سهلة بشكل كبري‪ ،‬فسيتم تعدين العملة برسعة كبرية وسيزداد‬
‫عرض البيتكوين كاش بشكل أرسع من البيتكوين‪ ،‬مما سيزيد من عرض عمالت‬
‫البيتكوين كاش بشكل أرسع من سلسلة البيتكوين‪ ،‬األمر الذي سيؤدي إىل نفاد مكافآت‬
‫البيتكوين كاش بشكل أرسع‪ ،‬مُقلالً بذلك من حوافز املُعدنني املستقبليني لتعدينها‪ .‬وهذا‬

‫‪264‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫األمر قد يتسبب يف التوجه نحو انقسام كيل آخر لضبط معدل نمو العرض لالستمرار يف‬
‫عرض أرباح ومكافآت للمعدنني‪ .‬وبالنسبة إىل سلسلة منقسمة عن البيتكوين فهي‬
‫مشكلة فريدة‪ ،‬إال أنها لم تكن يوما ً كذلك بالنسبة للبيتكوين نفسه‪ .‬فلطاملا كان تعدين‬
‫البيتكوين يستخدم أكرب كميات من طاقة املعالجة من أجل خوارزميته‪ ،‬كما وكانت‬
‫الزيادة يف طاقة املعالجة دائما ً تدريجية وذلك مع توظيف املُعدنني سعة تعدين أكرب‪ .‬لكن‬
‫مع عملةٍ منقسمة عن سلسلة البيتكوين‪ ،‬فإنه كلما قلت قيمة العملة وانخفضت‬
‫الصعوبة‪ ،‬كانت العملة أكثر عرضة للتعدين الرسيع من قبل سعات التعدين األكرب‬
‫للسالسل األكثر قيمة‪.‬‬

‫وبعد فشل هذا االنقسام بتحدي مكانة البيتكوين الرئيسية‪ ،‬كان هناك محاولة‬
‫أخرى تم التفاوض بها عىل االنقسام ملضاعفة حجم الكتلة بني عدة رشكات ناشئة نشطة‬
‫يف اقتصاد البيتكوين‪ ،‬وقد أ ُلغيت يف منتصف نوفمرب إلدراك مروجيها أنهم لن يستطيعوا‬
‫غالبا ً تحقيق اإلجماع عىل حركتهم وأنه سينتهي بهم املطاف بعملة أخرى وشبكة أخرى‪.‬‬
‫وقد تعلَّم القدامى يف البيتكوين أال يبالوا بمحاوالت كهذه‪ ،‬متيقنني أنه مهما كان الحماس‬
‫وقدر الضجة اإلعالمية‪ ،‬فإن أي محاولة لتغيري قواعد اإلجماع بالبيتكوين ستؤدي إىل‬
‫إنتاج نسخة مُقلَّدة أخرى منه‪ ،‬كما كل العمالت البديلة املنسوخة عن البيتكوين والتي‬
‫تقلد التفاصيل الثانوية للبيتكوين لكنها ال تملك أهم صفاته (الثبات)‪ .‬نستنتج مما سبق‬
‫أنه من الواضح أن أفضلية البيتكوين ال تكمن يف رسعته‪ ،‬أو سهولته أو تجربة املستخدم‬
‫املريحة له‪ ،‬بل يمكن القول إن قيمة البيتكوين تأتي من خالل امتالكه لسياسة نقدية‬
‫ثابتة وال يمكن ألي فرد تغيريها بسهولة‪ .‬لذلك‪ ،‬إ َّن أي عملة تبدأ بمجموعة من األفراد‬
‫الذين يغريون خواص البيتكوين فهي من بدايتها قد خرست الخاصية أو الصفة الوحيدة‬
‫التي تعطي البيتكوين قيمته‪.‬‬

‫إن استعمال البيتكوين هو أمر سهل ومبارش لكن تغيريه مستحيل افرتاضياً‪.‬‬
‫وبما أن البيتكوين عملة طوعية‪ ،‬فإنه ال يتم إرغام أح ٍد عىل استخدامها‪ ،‬لكن أولئك الذين‬
‫يريدون استخدامها ليس أمامهم خيار سوى اتِّباع قواعدها‪ .‬فمحاولة تغيري البيتكوين‬
‫بأية طريقة ليست ممكنة فعلياً‪ ،‬وإذا تمت املحاولة‪ ،‬فسينتهي األمر بإنتاج عملة م َُقلَّدة‬
‫أخرى ال معنى لها تضاف إىل اآلالف من العمالت املوجودة حالياً‪ .‬لهذا‪ ،‬يجب أن يتم‬

‫‪265‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫استخدام البيتكوين كما هو‪ ،‬ويجب قبوله بما تقتيض قوانينه وبما يُقدم لنا‪ .‬فالبيتكوين‬
‫هو السيادة‪ :‬وهو يعمل بقواعده الخاصة‪ ،‬وال يمكن ألي دخيل خارجي تعديل قوانينه‪.‬‬
‫ولهذا ربما من املفيد حتى أن نُف ِّكر بمعايري البيتكوين عىل أنها مشابهة لدوران األرض أو‬
‫الشمس أو القمر أو النجوم‪ ،‬وهي قوى تقع خارج سيطرتنا‪ ،‬بحيث يتوجب علينا أن‬
‫نتقبلها كما هي وال نحاول تغيريها أو تعديلها‪.‬‬

‫األنظمة املضادة للهشاشة‬

‫ُعرفها‬
‫إن البيتكوين هو تجسيد لفكرة نسيم طالب عن األنظمة املضادة للهشاشة‪ ،‬والتي ي ِّ‬
‫عىل أنها الكسب من املِحن واالضطرابات‪ .‬فيمكن القول أن البيتكوين ليس عصيا ً عىل‬
‫الهجمات فحسب‪ ،‬بل إنه أيضا ً مضاد للهشاشة عىل الصعيدَين االقتصادي والتقني‪.‬‬
‫وبينما باءت محاوالت قتل البيتكوين بالفشل حتى اآلن‪ ،‬جعلته العديد من هذه املحاوالت‬
‫أقوى‪ ،‬مما سمح للمربمجني أن يحددوا نقاط ضعفه ثم قاموا بإصالحها‪ .‬إضافة إىل ذلك‪،‬‬
‫فإ َّن إحباط أي هجوم يشكل تهديدا ً للبيتكوين هو نقطة إيجابية لصالحه‪ ،‬حيث أن هذا‬
‫األمر يشكل شهادة ودعاية ألمن الشبكة أمام املشرتكني بها وللناس خارجها‪.‬‬

‫ولقد أخذ فريق عاملي من املربمجني‪ ،‬واملراجعني‪ ،‬واملخرتقني املتطوعني عىل‬


‫مسؤوليتهم اهتماما ً مهنيَّا ً‪ ،‬ومالياً‪ ،‬وفكريا ً يف العمل عىل تحسني وتقوية الشيفرة‬
‫الربمجية للبيتكوين والشبكة‪ ،‬بحيث سيجذب وجود أي خطر أو نقاط ضعف يف خواص‬
‫الشيفرة الربمجية بعضا ً من هؤالء املربمجني ليُقدموا حلوال ً للمشكلة‪ ،‬ولتتم مناقشة تلك‬
‫الحلول‪ ،‬واختبارها‪ ،‬ومن ثم عرضها عىل أعضاء الشبكة لكي يتم تبنيها‪ .‬ويمكن القول أن‬
‫التغيريات الوحيدة التي جرت عىل الشبكة حتى اآلن كانت تغيريات تشغيلية تسمح‬
‫للشبكة بالعمل بفعالية أكرب‪ ،‬وليست تغيريات تعدل من جوهر عمل العملة‪ .‬إضافة لهذا‪،‬‬
‫يمكن ألولئك املربمجني أن يمتلكوا عمالت بيتكوين‪ ،‬مما يعطيهم الدافع املايل ليعملوا عىل‬
‫التأكد من نجاحه ونموه‪ .‬باملقابل‪ ،‬يكافئ النجاح املستمر للبيتكوين املربمجني ماليا ً‬
‫وبالتايل يسمح لهم بأن يكرسوا وقتا ً أكثر وجهدا ً أكرب لحماية وصون البيتكوين‪ .‬وبهذا‪،‬‬
‫أصبح بعض املربمجني البارزين الذين يعملون عىل حماية وصون البيتكوين أغنياء بما‬

‫‪266‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫يكفي من استثمارهم يف البيتكوين حتى استطاعوا جعله حرفتهم األساسية دون أن‬
‫يستلموا أي مقابل من أي أحد‪.‬‬

‫أما من حيث التغطية اإلعالمية‪ ،‬فيبدو أن البيتكوين هو تجسيد جيد للمثل‬


‫القائل‪" :‬أي دعاية هي دعاية جيدة"‪ .‬فالبيتكوين كان دائما ً سيتلقى تغطية إعالمية‬
‫عدائية غري دقيقة‪ ،‬ألنه تكنولوجيا جديدة ليست سهلة الفهم كما هو الحال مع الكثري من‬
‫التكنولوجيات‪ .‬وجَ مع موقع ‪ 99bitcoin.com‬أكثر من ‪ 200‬مثال عىل مقاالت شهرية‬
‫تعلن موت البيتكوين عىل مر السنني‪ ،‬ووجد بعض كاتبي هذه املقاالت أن البيتكوين‬
‫يخالف رؤيتهم للعالم والتي غالبا ً ما تكون متعلقة بنظرية إصدار وإدارة الدولة للنقد أو‬
‫املذهب الكينيزي ألهمية عرض نقدي مرن‪ ،‬فرفض أولئك ال ُكتَّاب األخذ يف وضع االعتبار‬
‫باحتمالية كونهم عىل خطأ‪ .‬بل باملقابل‪ ،‬استنتجوا أن وجود البيتكوين هو الخاطئ‬
‫بالرضورة‪ ،‬ولذلك تنبَّؤوا أنه سيموت قريباً‪ .‬وآمن آخرون بشكل كبري برضورة تَ ُّ‬
‫غري‬
‫البيتكوين لإلبقاء عىل نجاحه‪ ،‬وعندما فشلوا بتغيريه بما يتناسب مع رغباتهم‪ ،‬استنتجوا‬
‫أنه يجب أن يموت أيضاً‪ .‬بالواقع‪ ،‬أدت هجمات أولئك الناس عىل البيتكوين إىل الكتابة‬
‫عنه ووضعه كمصدر اهتمام ألكرب جمهور ممكن‪ ،‬وكلما ازدادت عدد مرات نَعْ ي موت‬
‫البيتكوين‪ ،‬ازدادت طاقة املعالجة الخاصة به‪ ،‬وتحويالته وقيمة عملته السوقية‪ .‬ولقد بدأ‬
‫العديد من حَ َملة البيتكوين‪ -‬بما فيهم هذا الكاتب‪ -‬بتقدير أهمية البيتكوين عرب مالحظة‬
‫عدد املرات التي توقع الناس فيها نهاية البيتكوين‪ ،‬وكيف أنه استمر رغم ذلك بالعمل‬
‫بنجاح‪ .‬فلم يستطع عدد مرات نعي البيتكوين من إيقافه‪ ،‬بل باملقابل يبدو أنه ساعد‬
‫البيتكوين عىل اكتساب شهرة أكثر وعىل إيقاظ فضول العامة لحقيقة أنه استمر بالعمل‬
‫بنجاح عىل الرغم من كل العدائية والصحافة السيئة التي تلقاها‪.‬‬

‫لقد حدث مثال مهم عىل نظام البيتكوين املضاد للهشاشة يف خريف عام‬
‫‪ 2013‬عندما ألقى مكتب التحقيقات الفيدرايل القبض عىل املالك املزعوم ملوقع " ‪Silk‬‬
‫ً‬
‫مجانية تماما ً عىل اإلنرتنت تسمح للناس ببيع ورشاء أي يشء‬ ‫‪ ،"Road‬والذي كان سوقا ً‬
‫يريدونه عىل اإلنرتنت مبارشة‪ ،‬بما يف ذلك املخدرات غري القانونية‪ .‬فتنبأ غالبية املحللني‬
‫مع ارتباط البيتكوين يف عقل العامة باملخدرات والجرائم أن إغالق املوقع سيدمر‬
‫استخدام البيتكوين‪ .‬فانخفضت األسعار يف ذلك اليوم من مستويات ‪ $120‬إىل مستويات‬

‫‪267‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫بارتفاع كبري يف األسعار‪ ،‬حيث وصل‬


‫ٍ‬ ‫‪ ،$100‬لكن البيتكوين عاد برسعة كما كان وبدأ‬
‫سعر البيتكوين الواحد خالل عدة أشهر إىل ‪ .$1,200‬فحتى وقت كتابة هذا الكتاب‪ ،‬لم‬
‫ينخفض السعر أبدا ً إىل املستويات التي كان عليها قبل إغالق موقع "سيلك رود"‪ .‬ومن‬
‫خالل نجاته بسالمة من إغالق موقع سيلك رود‪ ،‬أظهر البيتكوين أنه أكثر من مجرد عملة‬
‫للجريمة‪ ،‬واستفاد خالل تلك العملية من الدعاية املجانية بسبب التغطية اإلعالمية لهذا‬
‫املوقع‪.‬‬

‫ظهر مثال آخر عىل نظام البيتكوين املضاد للهشاشة يف سبتمرب عام ‪2017‬‬
‫بعد إعالن الحكومة الصينية إغالق كل البورصات الصينية التي كانت تتم فيها مبادالت‬
‫البيتكوين‪ .‬وبينما كانت أول ردة فعل هي الذعر حيث ظهر أن سعر البيتكوين قد‬
‫انخفض بنسبة ‪ 40%‬إال أنها كانت مسألة ساعات حتى تعاىف سعر البيتكوين مجدداً‪.‬‬
‫الضعف من الوقت الذي كان‬ ‫وبعد مرور عدة أشهر عىل الحادثة ازداد سعره ألكثر من ِّ‬
‫فيه قبل الحجب الحكومي عليه‪ .‬وبالرغم من ظهور حجب البورصات لتبادالت البيتكوين‬
‫كإعاقة لتبينه وذلك عرب خفض سيولته‪ ،‬إال أنه من الواضح أن هذا الحجب قد خدم‬
‫مسألة تعزيز قيمة البيتكوين‪ .‬فبدأت تحويالت أكثر بالظهور بعيدا ً عن البورصات يف‬
‫مواقع كموقع ‪ ،Localbitcoins.com‬فكان من الواضح أن‬ ‫ٍ‬ ‫الصني‪ ،‬بحجم كبري جدا ً يف‬
‫نتيجة تعليق التجارة يف الصني كانت معاكسة للتأثري املقصود‪ ،‬حيث أنها دفعت‬
‫الصينيني للتمسك بعمالت البيتكوين الخاصة بهم للمدى الطويل بدال ً من التجارة بها‬
‫عىل املدى القصري‪.‬‬

‫هل يستطيع البيتكوين التوسع؟‬


‫توسع البيتكوين أو زيادة سعة التحويالت‬‫يف زمن كتابة هذا الكتاب‪ ،‬يُع ُّد السؤال عن ّ‬
‫واحدا ً من أهم النقاشات حول البيتكوين‪ .‬فكتلة ‪ 1‬ميغابايت من البيتكوين تعني أن سعة‬
‫التحويالت هي أقل من ‪ 500,000‬تحويل يف اليوم‪ ،‬ولقد اقرتب البيتكوين إىل هذا الحد‬
‫من التحويالت من قبل وبالنتيجة‪ ،‬ارتفعت رسوم التحويالت بشكل كبري خالل الفرتة‬
‫السابقة‪ .‬لكن قد يؤدي إدخال واستعمال تكنولوجيا تسمى‪ِ SegWit"-‬سيغويت" إىل‬

‫‪268‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫زيادة السعة اليومية بأربعة أضعاف‪ ،‬لكن بالرغم من ذلك‪ ،‬يبدو واضحا ً أنه سيكون‬
‫هناك حد صعب تخطيه لعدد التحويالت التي يمكن لسلسلة كتل البيتكوين معالجتها‪،‬‬
‫وذلك بسبب طبيعة البيتكوين املوزعة وغري املركزية‪ ،‬حيث أنه يتم تسجيل كل تحويل يف‬
‫البيتكوين عند جميع عقد الشبكة املُر َغمني عىل إبقاء نسخة من كامل سجل التحويالت‪.‬‬
‫يعني هذا بالرضورة أن ثمن تسجيل التحويالت سيكون أكرب بكثري من أي حل مركزي‬
‫يحتاج سجال ً واحدا ً وبعض النسخ االحتياطية‪ ،‬ولهذا إن أفضل أنظمة للدفع هي أنظمة‬
‫مركزية لسبب وجيه‪ :‬فإبقاء سجل مركزي واحد أرخص من إبقاء عدة سجالت م َّ‬
‫ُوزعة‬
‫مع القلق الدائم حول تحديثهم ومزامنتهم‪ ،‬وهو عملية ال يمكن حتى اآلن تنفيذها إال عرب‬
‫نظام إثبات العمل الخاص بالبيتكوين‪.‬‬

‫ظف سجالً واحدا ً مركزيا ً‬ ‫فحلول الدفع املركزية كالفيزا أو املاسرت كارد تُو ِّ‬
‫يضم جميع التحويالت التي تمت‪ ،‬باإلضافة لنسخة احتياطية منفصلة تماماً‪ ،‬ويمكن‬
‫للفيزا أن تعالج حوايل ‪ 3,200‬تحويل بالثانية‪ ،‬أو ‪ 100.8‬مليار تحويل يف السنة‪ .5‬بينما‬
‫كتل البيتكوين والتي سعتها ‪ 1‬ميغابايت يمكنها أن تعالج ‪ 4‬تحويالت يف الثانية كحد‬
‫أقىص‪ ،‬أو ‪ 350,000‬تحويل يف اليوم‪ ،‬أو حوايل ‪ 120‬مليون تحويل يف السنة‪ .‬ولكي‬
‫يعالج البيتكوين املئة مليار تحويل التي تعالجها الفيزا‪ ،‬فستحتاج كل كتلة منه ألن تكون‬
‫حوايل ‪ 800‬ميغابايت‪ ،‬مما يعني بأنه كل ‪ 10‬دقائق تقريبا ً ستحتاج كل عقدة يف‬
‫البيتكوين أن تضيف بيانات بحجم ‪ 800‬ميغابايت‪ ،‬بمعنى أنه ستضيف كل عقدة يف‬
‫البيتكوين كل سنة ما يقارب ‪ 42‬تريابايت من البيانات‪ ،‬أو ‪ 42,000‬غيغابايت لسلسلة‬
‫الكتل الخاصة بها‪ .‬إ َّن رقما ً كهذا سيكون خارجا ً عن نطاق طاقة املعالجة املوجودة يف‬
‫الحواسيب املتاحة تجاريا ً اآلن وحتى يف املستقبل القريب‪ ،‬حيث أن الحاسوب االستهالكي‬
‫املتوسط أو القرص الصلب الخارجي يملك سع ًة متوسطة تقارب ال ‪ 1‬تريابايت‪ ،‬أي ما‬
‫يقارب قيمة أسبوع من التحويالت بأحجام الفيزا‪ .‬لتوضيح أكثر‪ ،‬إن البنية التحتية‬
‫للحوسبة التي يستخدمها موظفو الفيزا إلجراء تلك التحويالت تستحق الدراسة‪.‬‬

‫‪ 5‬فيزا‪ ،‬إبمكامكم إلقاء نظرة على ‪:‬‬


‫‐‪https://usa.visa.com/dam/VCOM/download/corporate/media/visa‐fact‬‬
‫‪sheet‐Jun2015.pdf‬‬

‫‪269‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ففي عام ‪ ،2013‬أظهر تقرير أن الفيزا تملك مركز بيانات يتم وصفه ب ِـ‬
‫"قلعة رقمية محصنة"‪ ،‬محتويا ً عىل ‪ 376‬خادماً‪ 277 ،‬جهاز تحويل‪ 85 ،‬راوتر و‪42‬‬
‫جدار ناري‪ .6‬وبما أن طبيعة نظام فيزا املركزي تجعل منه نظام نقطة الفشل الواحدة‪،‬‬
‫فإنه يتم توظيف كميات كبرية من التكرار واملساحة التخزينية االحتياطية للحماية من‬
‫الظروف املباغتة‪ ،‬بينما يف حالة البيتكوين‪ ،‬وبسبب تواجد عدد كبري من العُ َقد‪ ،‬فإن ذلك‬
‫سيقلل من أهمية كل عقدة بشكل فردي‪ ،‬مما يجعلها غري أساسية وغري حاسمة‪ ،‬األمر‬
‫الذي سيتطلب كمية أقل من الحماية والسعة‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فستحتاج العُ َقد التي يمكنها أن‬
‫تضيف ‪ 42‬تريابايت من البيانات كل سنة حاسوبا ً مكلفا ً جداً‪ ،‬كما أن سعة حجم الشبكة‬
‫املطلوبة ملعالجة كل تلك التحويالت كل يوم ستكون كبرية وستتطلب تكلفة باهظة‪ ،‬مما‬
‫سيجعل الشبكة معقدة وغري عملية ومكلفة بالنسبة لشبكة موزعة‪.‬‬

‫وال يوجد سوى عدد قليل جدا ً من تلك املراكز يف العالم‪ :‬وهي تلك املراكز‬
‫املُستخدمة من قبل الفيزا أو املاسرت كارد‪ ،‬وبعض ُمعالجات الدفع األخرى‪ .‬وإذا حاول‬
‫البيتكوين ُمعالجة سعة كهذه‪ ،‬فلن يتمكن من منافسة تلك الحلول املركزية وهو يمتلك‬
‫آالف املراكز املوزعة عىل مقياس مشابه؛ بل كان سيتوجب عليه أن يصبح مركزيا ً وأن‬
‫يوظف القليل من مراكز البيانات‪ .‬ولكي يبقى البيتكوين موزعاً‪ ،‬يجب أن تكون تكلفة‬
‫كل عقدة عىل الشبكة تكلف ًة معقول ًة بالنسبة آلالف األفراد حتى تشغلها حواسيب‬
‫شخصية متوفرة تجارياً‪ ،‬ويتوجب أن يكون تحويل البيانات بني العُ َقد عىل مستويات‬
‫مدعومة من قبل سعة شبكة االتصاالت للمستهلكني العاديني‪.‬‬

‫فمن غري املمكن التصور أن البيتكوين سيكون قادرا ً عىل إجراء نفس سعة‬
‫التحويالت داخل السلسلة كتلك التي تدعمها األنظمة املركزية‪ ،‬وهذا يفرس سبب ارتفاع‬
‫ثمن التحويالت‪ ،‬والتي من املرجح استمرار ارتفاعها مع استمرار نمو الشبكة‪ .‬فغالباً‪ ،‬إن‬
‫أكرب مجال ونطاق لنمو سعة تحويالت البيتكوين سيكون خارج سلسلة الكتل‪ ،‬بينما‬

‫‪ 6‬توين كونزير‪" ،‬من داخل مركز بياانت فيزا"‪ ،‬معاجلة الشبكة‪ ،‬متوفر على ‪:‬‬
‫‪http://www.networkcomputing.com/networking/inside-visas-data-‬‬
‫‪center/1599285558‬‬

‫‪270‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫يمكن إجراء املدفوعات الصغرية وغري املهمة باستخدام الكثري من التقنيات األبسط‪ .‬وهذا‬
‫األمر سيضمن عدم التنازل أو املساس بأهم خاصيتني يف البيتكوين واللتني تربران‬
‫استخدام طاقة معالجة كبرية‪ :‬وهما النقد الرقمي السليم والنقود الرقمية‪ .‬فال يوجد أية‬
‫تقنيات بديلة تمنح هاتني الوظيفتني‪ ،‬لكن هناك العديد من التقنيات التي يمكنها أن توفر‬
‫وإنفاق استهالكي بثمن منخفض‪ ،‬ويمكن تطبيق هذه التقنيات‬ ‫ٍ‬ ‫مدفوعات بحجم قليل‬
‫ً‬
‫موثوقة نسبيا ً وذلك باستخدام التقنيات الحالية‬ ‫لهذه الخيارات بشكل سهل لتكون‬
‫للنظام املرصيف‪ .‬لهذا‪ ،‬إ َّن استخدام البيتكوين بشكل واسع للمدفوعات التجارية ليس أمرا ً‬
‫قابال ً للتحقيق حيث تحتاج التحويالت وقتا ً يُقدَّر ب ِـ ‪ 1‬إىل ‪ 12‬دقيقة حتى تحصل عىل‬
‫التأكيد األول لها‪ ،‬وال يمكن للتجار واملستهلكني االنتظار كل ذلك الوقت عىل املدفوعات‪.‬‬
‫ومع أن خطورة هجمة إنفاق مزدوج ليست كبرية بما يكفي لدفعة صغرية‪ ،‬إال أنها كبرية‬
‫بما يكفي بالنسبة للتجار الذين يستلمون كميات كبرية من التحويالت كما يف الهجمة‬
‫التي حصلت عىل موقع املراهنات "‪ ،"Bitcoin dice‬والتي سيتم نقاشها الحقا ً يف قسم‬
‫الهجمات عىل البيتكوين‪.‬‬

‫فبالنسبة لألشخاص الذين يريدون استخدام البيتكوين كمخزن قيمة رقمي‬


‫طويل األمد أو لألشخاص الذين يريدون إتمام تحويالت مهمة دون املرور بحكومة‬
‫مُستبدة‪ ،‬فرسوم التحويالت مرتفعة الثمن هي ثم ٌن يستحق أن يُدفع‪ .‬واالدخار بطبيعته‬
‫يف البيتكوين لن يتطلَّب الكثري من التحويالت‪ ،‬لذلك يستحق أن يُدفع فيه رسو ٌم مرتفعة‬
‫من أجل هذه التحويالت‪ .‬وبالنسبة للتحويالت التي ال يمكن أن تتم باستخدام النظام‬
‫املرصيف التقليدي مثل أشخاص يريدون إخراج أموالهم من بلد تعاني تضخما ً اقتصاديا ً‬
‫أو تعاني من وجود ضوابط عىل رؤوس األموال‪ ،‬فستكون رسوم التحويالت مرتفعة‬
‫الثمن سعرا ً يستحق أن يُدفع أيضاً‪ .‬وحتى يف هذه املراحل منخفضة التبنّي‪ ،‬زاد الطلب‬
‫عىل النقود الرقمية والنقد الرقمي السليم من رسوم التحويالت للدرجة التي ال يمكن فيها‬
‫أن تنافس الحلول املركزية مثل "‪ "PayPal‬وبطاقات االئتمان فيما يتعلق باملدفوعات‬
‫الصغرية‪ .‬ولكن كل ذلك لم يُعِ ق نمو البيتكوين ويشري إىل أن طلب السوق عليه يتم دفعه‬
‫وتحريكه من خالل استعماله كنقد رقمي وكمخزن رقمي للعملة‪ ،‬وليس من أجل‬
‫املدفوعات الرقمية الصغرية‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫وإذا استمرت شعبية البيتكوين باالزدياد‪ ،‬فهناك بعض الحلول املحتملة ملشكلة‬
‫التوسع والتي ال تتضمن أي تغيري عىل بنية البيتكوين‪ ،‬بل تستغل الطريقة التي تم بها‬
‫بناء التحويالت لزيادة عدد املدفوعات املحتملة‪ .‬فيمكن لكل تحويل يف البيتكوين أن‬
‫دخالت واملُخ َرجَ ات‪ .‬وباستخدام تكنولوجيا تسمى "‪ُ - CoinJoin‬كوين‬‫يحوي عددا ً من املُ َ‬
‫جوين" يمكن تجميع عدة مدفوعات مع بعضها البعض يف تحويل واحد‪ ،‬مما يسمح‬
‫بإجراء عدة مدخالت ومخرجات باستخدام جزء فقط من املساحة والذي كان من املمكن‬
‫استخدامه يف الحالة األخرى‪ .‬ومن املحتمل أن يزيد هذا من حجم تحويالت البيتكوين ملا‬
‫يُقدَّر بماليني التحويالت يف اليوم‪ .‬وبازدياد ثمن التحويالت بشكل أكرب‪ ،‬تزداد االحتمالية‬
‫بأن يصبح هذا الخيار هو الخيار الشائع‪.‬‬

‫توجد احتمالية أخرى لزيادة توسع البيتكوين وهي عن طريق َمحَ افظ )‪(USB‬‬
‫ا لرقمية املحمولة التي يمكن صناعتها لتكون مضادة للتالعب‪ ،‬ومن املمكن التحقق من‬
‫ميزانيتها يف أي وقت‪ .‬فستَحمل محركات )‪ (USB‬تلك املفتاح الخاص لعدد محدد من‬
‫عمالت البيتكوين سامح ًة ألي شخص يحملها بسحب النقود منها‪ .‬ويمكن استخدامها‬
‫أيضا ً كنقود فعلية مادية‪ ،‬ويمكن لكل حامل لها أن يؤكد القيمة يف تلك املحركات‪ .‬ففي‬
‫الوقت الذي كانت تزداد فيه الرسوم عىل الشبكة‪ ،‬لم يكن هناك أي فرتة من الراحة يف‬
‫ازدياد الطلب عىل البيتكوين‪ ،‬ويشهد عىل ذلك سعره املتزايد‪ ،‬مما يشري إىل أن املستخدمني‬
‫يقدرون قيمة التحويالت بما هو أكثر من تكلفة هذه التحويالت والتي من املُفرتض عليهم‬
‫دفعها‪ .‬فبدال ً من أن يبطئ ازدياد ثمن الرسوم من عدد متبني البيتكوين‪ ،‬فإن كل ما‬
‫يحصل هو أنه يتم نقل التحويالت األقل أهمية إىل خارج السلسلة وتزداد أهمية‬
‫التحويالت التي تجري داخل السلسلة‪ .‬لهذا‪ ،‬إن أهم حاالت االستخدام للبيتكوين كمخزن‬
‫للقيمة‪ ،‬وللمدفوعات التي ال يمكن مصادرتها ومنعها‪ ،‬تستحق رسوم التحويالت‬
‫توقع دفع تحويل‬‫املوضوعة‪ .‬فعندما يشرتي الناس البيتكوين لتخزينه لفرتة طويلة‪ ،‬يتم ُّ‬
‫واحد صغري عادة ما يتضاءل حجمه مقارنة بالعمولة والعالوة املوضوعة من قبل‬
‫البائعني‪ .‬لهذا‪ ،‬إن رسوم تحويالت البيتكوين تستحق أن تُدفع بالنسبة لألفراد الذين‬
‫يبحثون عن طريقة للهروب من الضوابط املفروضة عىل رأس املال‪ ،‬أو للذين يريدون‬
‫لبلدان تواجه صعوبات اقتصادية باعتبار البيتكوين البديل الوحيد لهم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫إرسال أموالهم‬

‫‪272‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫ومع انتشار تبني البيتكوين وازدياد رسوم التحويالت فيه إىل حدٍ تصبح فيه مسألة‬
‫الستعمال أكرب لحلول‬
‫ٍ‬ ‫مهمة للناس التي تدفع ثمنها‪ ،‬سيكون هناك ضغط اقتصادي‬
‫زيادة التوسع املذكورة يف ما سبق‪ ،‬والتي بدورها ستسمح بزيادة سعة التحويالت دون‬
‫الحاجة إىل القيام بتغيريات قد تساوم وتقوِّض قواعد الشبكة والتي قد تؤدي إىل انقسام‬
‫يف الشبكة‪.‬‬

‫بعيدا ً عن تلك االحتماالت‪ ،‬إن القسم األكرب من تحويالت البيتكوين اليوم‬


‫تحصل خارج السلسلة‪ ،‬ويتم تسويتها داخل السلسلة فقط‪ ،‬حيث أن األعمال القائمة عىل‬
‫البيتكوين‪ ،‬كالبورصات‪ ،‬والكازينوهات‪ ،‬ومواقع األلعاب‪ ،‬ال تستخدم سلسلة كتل‬
‫البيتكوين إال لتسجيل إيداعات وسحوبات الزبائن‪ ،‬وتقوم بتسجيل كل التحويالت داخل‬
‫منصاتهم عىل قواعد بياناتهم املحلية‪ ،‬والتي يتم تسعريها بالبيتكوين‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬ال‬
‫يمكن معرفة العدد الدقيق لتلك التحويالت بسبب عدد األعمال الكبري جداً‪ ،‬وبسبب رسية‬
‫بيانات التحويالت التي تجري عىل منصاتهم الحرصية‪ ،‬وبسبب التغريات الديناميكية‬
‫الرسيعة يف اقتصاد البيتكوين‪ .‬لكن قد يجعل تقدير محُ افظ عدد هذه التحويالت أكرب ب‬
‫‪ 10‬مرات من عدد التحويالت الحاصلة عىل سلسلة كتل البيتكوين‪ .‬كنتيجة‪ ،‬يتم استخدام‬
‫البيتكوين حاليا ً كأصول احتياطية يف غالب التحويالت يف اقتصاد البيتكوين‪ ،‬وإذا استمر‬
‫نمو البيتكوين‪ ،‬فمن الطبيعي أن نرى عدد التحويالت خارج السلسلة يزداد بشكل أرسع‬
‫منه من التحويالت داخل السلسلة‪.‬‬

‫قد يناقض هذا التحليل الخطاب الذي رافق ظهور البيتكوين والذي قام‬
‫برتويجه عىل أنه سيضع حدا ً للمصارف واألعمال املرصفية‪ .‬لكن الفكرة بأن املاليني أو‬
‫حتى املليارات ستستطيع استعمال شبكة البيتكوين مبارشة من أجل القيام بجميع‬
‫تحويالتهم هي فكرة غري واقعية وذلك ألنها تستلزم عىل كل عضو يف الشبكة أن يسجل‬
‫كل تحويل لكل عضو آخر فيها‪ ،‬ومع ازدياد العدد‪ ،‬سيزداد حجم التسجيالت وستصبح‬
‫ً‬
‫حاملة لثقل كبري من الحوسبة‪ .‬عىل الجانب اآلخر‪ ،‬سيستمر ازدياد الطلب عىل‬ ‫الشبكة‬
‫خواص البيتكوين الفريدة كمخزن للقيمة مما سيجعل األمر صعبا ً عىل البيتكوين أن‬
‫ينجو كشبكة نظري إىل نظري نقية تماماً‪ ،‬وستُصبح حلول معالجة الدفع التي تجري‬

‫‪273‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫خارج سلسلة كتل البيتكوين أمرا ً مفروضا ً ليستمر البيتكوين بالنمو‪ ،‬وستظهر هذه‬
‫الحلول من خالل منافسة األسواق الحرة‪.‬‬

‫فهناك سبب آخر هام لعدم التخيل عن املصارف كمؤسسة وهو أمان الوصاية‬
‫املرصفية‪ .‬فبينما يُقدِّر األصوليون يف البيتكوين قيمة الحرية املمنوحة لهم بقدرتهم عىل‬
‫االحتفاظ بنقودهم وعدم االعتماد عىل أي مؤسسة مالية من أجل الوصول إليها‪ ،‬إال أنه‬
‫باملقابل ال تريد الغالبية العظمى من الناس تلك الحرية وتفضل أال يكون مالها الخاص‬
‫تحت مسؤوليتها بسبب الخوف من الرسقة أو الخطف‪ .‬فمن السهل النسيان يف هذه األيام‬
‫يف خضم الخطابات الشائعة املشهورة املضادة للبنوك‪ ،‬وخاصة يف أوساط ودوائر حَ مَ لَة‬
‫البيتكوين‪ ،‬أن اإليداع املرصيف هو عمل رشعي طالب به الناس ملئات السنني حول العالم‪.‬‬
‫آمن كي يستطيعوا حمل كمية‬ ‫ف َد َفع الناس بسعادة مقابل تخزين أموالهم يف مكان ٍ‬
‫صغرية من النقود ومواجهة خطورة فقدان كمية صغرية منها وليس كمية كبرية‪.‬‬
‫فاستعمال البطاقات البنكية بدال ً من النقود الحقيقية سمح للناس حَ ْم َل مجموعات قليلة‬
‫من هذه النقود معهم كل الوقت‪ ،‬وهو غالبا ً ما جعل املجتمع الحديث أكثر أمانا ً مما إذا‬
‫كان غري ذلك‪ ،‬حيث ال يتوقع املهاجمون املحتملون يف هذه األيام أن يقابلوا أحدا ً ما يحمل‬
‫معه كمية كبرية من النقود‪ ،‬لدرجة أن رسقة البطاقات البنكية أصبحت غري مثمرة لجني‬
‫أرباح كبرية حيث أن الضحية ستحاول وقفها بأرسع وقت ممكن‪.‬‬

‫فحتى وإن كانت شبكة البيتكوين قادرة عىل دعم مليارات التحويالت يف اليوم‬
‫متفادية الحاجة لطبقة مُعالجة ثانية‪ ،‬فسيلجأ الكثري بالنهاية‪ ،‬إن لم يكن معظم حملة‬
‫البيتكوين ذوي الرصيد الكبري‪ ،‬لالحتفاظ بعمالت البيتكوين الخاصة بهم يف واحد ٍة من‬
‫الخدمات الكثرية من أجل الحفاظ عىل أمان البيتكوين‪ .‬فهذا قطاع جديد كليا ً ومن املرجح‬
‫أن يتطور بشكل هائل ِّ‬
‫ليوفر حلوال ً تقنية للمساحة التخزينية بدرجات مختلفة من األمان‬
‫والسيولة‪ .‬ومهما كان الشكل الذي سيتخذه هذه القطاع‪ ،‬فسرتسم الخدمات التي يقدمها‬
‫وكيفية تطورها شك َل ومعالم النظام املرصيف املبني عىل البيتكوين يف املستقبل‪ .‬وال‬
‫يمكنني أن أتوقع الشكل الذي ستتخذه هذه الخدمات أو ما هي القدرات التقنية التي‬
‫ستحملها‪ ،‬لكن يمكنني توقع أنها ستستخدم آليات إثبات مشفرة إضافة إىل تحقيق‬
‫سمعة السوق كي تعمل بنجاح‪ .‬ومن املمكن تحقيق ذلك باستخدام تكنولوجيا تُدعى‬

‫‪274‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫"‪ - Lightning Network‬شبكة الربق"‪ ،‬وهي تكنولوجيا تحت التطوير تَعِ د بزيادة‬
‫سعة التحويالت بشكل كبري عرب السماح للعقد بإدارة قنوات للدفع خارج سلسلة الكتل‬
‫بحيث ال تستعمل سجل البيتكوين إال من أجل تأكيد مصداقية امليزانيات بدال ً من النقل‪.‬‬

‫ففي ‪ 2016‬و‪ 2017‬وبينما كان البيتكوين يقرتب من الحد األقىص للتحويالت‬


‫اليومية‪ ،‬استمرت الشبكة بالنمو كما هو واضح يف بيانات الفصل الثامن‪ .‬فسعة‬
‫البيتكوين تزداد بزيادة قيمة التحويالت التي تُجرى داخل سلسلة الكتل‪ ،‬وليس بزيادة‬
‫عدد تلك التحويالت‪ .‬ولهذا‪ ،‬فالعديد من التحويالت يتم إجراؤها خارج سلسلة الكتل‪،‬‬
‫بحيث يتم تسويتها عىل البورصات أو املواقع التي تستعمل البيتكوين‪ ،‬مما يُحوِّل‬
‫البيتكوين إىل شبكة تسوية أكثر من كونه شبكة دفع مبارش‪ .‬هذا األمر ال يمثل ابتعادا ً عن‬
‫عمل البيتكوين كعملة نقدية كما هو االعتقاد الشائع‪ ،‬حيث أنه وبينما يتم استعمال‬
‫مصطلح نقد (كاش) يف أيامنا هذه ليدل عىل النقود التي تُستعمل يف تحويالت استهالكية‬
‫صغرية‪ ،‬إال أن املعنى األصيل للمصطلح يشري إىل النقود عىل أنها صكوك مالية يمكن‬
‫لقيمتها أن تُحَ وَّل مبارش ًة دون اللجوء أو االعتماد عىل ضمان األطراف الثالثة‪ .‬ففي القرن‬
‫التاسع عرش‪ ،‬أشار املصطلح نقد الحتياطي الذهب الخاص بالبنك املركزي‪ ،‬وكان معنى‬
‫تسوية النقد هو النقل املادي للذهب بني املصارف‪ .‬فإن صحَّ هذا التحليل‪ ،‬واستمرت‬
‫قيمة البيتكوين بالنمو جنبا ً إىل جنب مع التحويالت التي تتم خارج السلسلة‪ ،‬بينما ال‬
‫تزداد التحويالت التي تجري داخل السلسلة بالنسبة ذاتها‪ ،‬فيمكننا فهم البيتكوين‬
‫كاملصطلح القديم للنقد‪ ،‬أي بشكل مشابه لالحتياطي النقدي للذهب بدال ً من املصطلح‬
‫الحديث للنقد وهو عمالت ورقية تُستخدم للتحويالت الصغرية‪.‬‬

‫نستنتج مما سبق أن هناك الكثري من االحتماالت لزيادة عدد تحويالت‬


‫البيتكوين دون االضطرار لتعديل بنية البيتكوين كما هي‪ ،‬ودون حاجة جميع مدراء‬
‫ال ُع َقد الحاليني للقيام بالتحديث يف وقت واحد متزامن‪ .‬وحلول التوسعة ستأتي من مدراء‬
‫ال ُع َقد وهم يُطوِّرون الطريقة التي من خاللها يرسلون البيانات يف تحويالت البيتكوين‬
‫ألعضاء الشبكة اآلخرين‪ .‬وسيتم هذا من خالل تجميع التحويالت معاً‪ ،‬تلك التحويالت‬
‫جرى خارج سلسلة الكتل وقنوات الدفع‪ .‬ومن املرجح أن حلول التوسعة داخل‬ ‫التي ت ُ َ‬
‫السلسلة لن تكون كافية لتواكب الطلب املستمر عىل البيتكوين مع مرور الزمن‪ ،‬لذا‬

‫‪275‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫وغالبا ً‪ ،‬ستستمر حلول الطبقات الثانية يف النمو بأهميتها‪ ،‬مما سيؤدي إىل ظهور نوع‬
‫جديد من املؤسسات املالية مشابه للمصارف يف يومنا الحايل تستخدم التشفري وتعمل عىل‬
‫االنرتنت بشكل رئييس‪.‬‬

‫هل البيتكوين للمجرمني ؟‬


‫إن واحد ًة من أكرب االعتقادات الخاطئة والشائعة عن البيتكوين منذ بدايته هي أنه يَصلُح‬
‫بشكل كبري كعملة للمجرمني واإلرهابيني‪ ،‬حيث أنه تم نرش الئحة طويلة من املقاالت‬
‫الصحفية بادعاءات ال أساس لها تفيد بأن جماعات إرهابية وإجرامية تستخدم‬
‫البيتكوين يف نشاطاتهم‪ ،‬ثم تم سحب الكثري من تلك املقاالت ‪ ،7‬لكن ليس قبل أن تُ ْ‬
‫طبَع‬
‫تلك الفكرة يف عقول الكثري من الناس بما فيهم املجرمني املُ َضلَّلني‪.‬‬

‫يف الواقع‪ ،‬إن ِسج َّل البيتكوين ثابت ومتاح عامليا‪ ،‬وسيحتوي هذا السجل عىل‬
‫كل التحويالت ما دام البيتكوين مستمر بالعمل‪ .‬لهذا‪ ،‬ليس من الدقة القول أن‬
‫مستخدمي البيتكوين مجهولو الهوية‪ ،‬بدال ً من القول أن هوياتهم مُستعارة‪ .‬ألنه من‬
‫املحتمل‪ ،‬لكن ليس أكيداً‪ ،‬تحقيق الربط بني شخصيات الحياة الواقعية وعناوين‬
‫البيتكوين‪ ،‬وبالتايل السماح بتَتبُّع شامل لكل التحويالت عرب العنوان عندما يتم التحقق‬
‫من الهوية الحقيقية وراء هذا العنوان‪ .‬فعندما يتعلق األمر بإخفاء الهوية الفعلية‪ ،‬من‬
‫العميل لنا أن نفكر ِب َكوْن البيتكوين مجهول الهوية كاإلنرتنت‪ :‬فيعتمد األمر عىل مهارتك‬
‫بالتخفي ومهارة اآلخرين بالبحث‪ .‬لكن سلسلة كتل البيتكوين تجعل إخفاء الهوية صعبا ً‬
‫جدا ً عىل الشبكة‪ ،‬حيث أنه وبينما من السهل التخلص من جهاز ما‪ ،‬أو عنوان بريد‬
‫إلكرتوني‪ ،‬أو عنوان ‪ IP‬ومن ثم عدم استخدامه مرة أخرى‪ ،‬إال أنه من الصعب مسح‬
‫مسار املوارد املتجهة إىل عنوان بيتكوين ما بشكل تام‪ ،‬حيث أن طبيعة بنية سلسلة كتل‬
‫البيتكوين ال تجعله مثاليا ً للخصوصية‪.‬‬

‫‪ 7‬ستني‪ ،‬مارا ليموس‪" .‬تقرير اخلطورة الصباحي‪ :‬متويل اإلرهاب عن طريق البيتكوين قد يكون مبالغاً به" صحيفة‬
‫وال سرتيت‪.2017 ،‬‬

‫‪276‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫وكل هذا يعني أنه من أجل ارتكاب أي جريمة يوجد بها ضحية فعلية‪،‬‬
‫فسيكون من غري العقالني بالنسبة للمجرمني استخدام البيتكوين‪ .‬فطبيعة الهويات‬
‫املستعارة تعني أنه من املمكن ربط العناوين بهويات العالم الحقيقي حتى بعد سنوات‬
‫كثرية من ارتكاب الجريمة‪ .‬فيمكن للرشطة أو الضحايا أو املحققني الذين يتم توظيفهم‬
‫أن يقوموا بإيجاد رابط يقودهم إىل هويات أولئك املجرمني‪ ،‬حتى بعد مرور العديد من‬
‫السنوات‪ .‬لهذا‪ ،‬كان مسار مدفوعات البيتكوين بحد ذاته سببا ً يف كشف هويات العديد‬
‫من تُجَّ ار املخدرات عىل الشبكة واإلمساك بهم ألنهم وقعوا يف خدعة كون البيتكوين‬
‫مجهول الهوية بالكامل‪.‬‬

‫إن البيتكوين تكنولوجيا خاصة بالنقد‪ ،‬والنقد هو يشء يمكن استعماله من‬
‫قبل املجرمني طوال الوقت‪ .‬لهذا‪ ،‬يمكن ألي شكل من أشكال النقد أن يتم استعماله من‬
‫قبل املجرمني أو من أجل إتاحة الجريمة‪ ،‬لكن سجل البيتكوين الثابت يجعله غري مناسب‬
‫لهؤالء املجرمني الرتكاب جرائم مع وجود ضحايا قد تكون لديهم نية يف إجراء‬
‫التحقيقات‪ .‬فيمكن للبيتكوين أن يكون مفيدا ً بشكل كبري يف إتاحة "الجرائم التي ال‬
‫تحتوي عىل ضحايا"‪ ،‬وذلك ألن غياب الضحية يعني أن ال أحد سيحاول كشف هوية‬
‫"املجرم"‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ويف اللحظة التي يتجاوز بها الشخص الدعاية الضخمة لحكومات‬
‫القرن العرشين‪ ،‬فسنجد أنه ليس هناك ما يُدعى بالجريمة التي ال تحتوي عىل ضحية‪،‬‬
‫يحتو الفعل عىل ضحية‪ ،‬فهو ليس جريمة بغض النظر عما يعتقد بعض‬ ‫ِ‬ ‫ألنه إن لم‬
‫صوِّتني املُعتَدّين بأنفسهم أو البريوقراطيني بشأن حقهم يف سن وترشيع األخالق‬ ‫املُ َ‬
‫لآلخرين‪ .‬فيمكن للبيتكوين أن يكون مفيدا ً يف تلك األعمال غري الرشعية لكن األخالقية‬
‫بالكامل‪ ،‬ألنه ال يوجد هناك ضحايا يحاولون اإلمساك باملجرم‪ .‬فتلك النشاطات غري‬
‫املؤذية التي تم ارتكابها ستَظهر عىل سلسلة الكتل كتحويل فردي قد تتعدد أسبابه‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬إن الجرائم التي ال تحتوي عىل ضحايا كاملقامرة عىل الشبكة والتهرب من الضوابط‬
‫املفروضة عىل رأس املال‪ ،‬من املمكن للمرء أن يتوقع استخدام البيتكوين فيها‪ ،‬ولكن لن‬
‫يُتوقع استخدام البيتكوين لجرائم القتل واإلرهاب‪ .‬لهذا‪ ،‬يبدو أنه يتم استخدام سلسلة‬
‫كتل البيتكوين لتجارة املخدرات‪ ،‬كما دلتنا األرقام الكبرية من أعداد أولئك الذين يشرتون‬
‫املخدرات عرب البيتكوين والذين تم التعرف عليهم من تطبيق القانون‪ ،‬مع العلم أن تلك‬

‫‪277‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫التجارة غالبا ً تَنتج عن شهوة املدمنني وليس عن قرار عقالني‪ .‬ويف حني أنه من الصعب‬
‫إيجاد اإلحصائيات الكافية حول هذا املوضوع‪ ،‬إال أنني لن أتفاجأ إذا اكتشفت أن رشاء‬
‫املخدرات باستخدام البيتكوين أخطر بكثري منه باستخدام النقود الورقية املادية‬
‫الحكومية‪.‬‬

‫بكلمات أخرى‪ ،‬سيزيد البيتكوين غالبا ً من حرية األفراد بينما ليس بالرضورة‬
‫أن ي ُسهِّ ل عليهم ارتكاب الجرائم‪ ،‬فهو ليس أداة لنخاف منها‪ ،‬بل أداة يتم تبنِّيها عىل أنها‬
‫جزء متكامل من مستقبل مسالم ومزدهر‪.‬‬

‫إ َّن "املطالبة بفدية" هي واحدة من أكرب وأهم أنواع الجرائم التي تم استخدام‬
‫البيتكوين فيها بشكل كبري‪ :‬وهي طريقة لدخول غري مرصح به إىل حواسيب الضحايا‬
‫وتُشفر ملفات الضحايا‪ ،‬وال تطلق رساحها إال يف حال قيام الضحية بالدفع للمستلم غالبا ً‬
‫باستخدام عمالت البيتكوين‪ .‬ويف حني كانت تلك األنواع من الجرائم موجودة حتى قبل‬
‫البيتكوين‪ ،‬إال أن تنفيذها أصبح أكثر سهولة منذ اخرتاعه‪ ،‬وهذا بال شك أفضل مثال عىل‬
‫استخدام البيتكوين لتسهيل وإتاحة الجريمة‪ .‬مع هذا‪ ،‬يمكن للشخص ببساطة أن يفهم‬
‫أن جرائم طلب الفدية تلك تستفيد وتستغل الحواسيب التي تفتقر لألمن والحماية‪.‬‬
‫فالرشكة التي يتم تشفري كامل نظام حوسبتها من قبل مجموعة من املخرتقني املجهولني‬
‫الذين يطالبون ببضعة آالف من الدوالرات بعملة البيتكوين هي رشكة لديها مشاكل أكرب‬
‫بكثري من أولئك املخرتقني‪ .‬وقد يكون دافع املخرتقني هو بضعة آالف من الدوالرات‪ ،‬لكن‬
‫قد يكون دافع الرشكات املنافِ سة أو العمالء أو حتى املُمولني يف جمع بيانات تلك الرشكة‬
‫أكرب بكثري‪ .‬بالنتيجة‪ ،‬سمحت جرائم املطالبة بالفدية عن طريق البيتكوين بتحديد‬
‫وكشف العيوب يف حماية وأمن الحواسيب‪ ،‬فأدت هذه العملية بالرشكات التخاذ تدابري‬
‫وقائية أفضل وإىل زياد ٍة يف نمو حماية الحواسيب كتجارة‪ .‬بكلمات أخرى‪ ،‬يسمح‬
‫البيتكوين بتسييل سوق حماية الحواسيب‪ .‬وبينما يمكن للمخرتقني حاليا ً االستفادة من‬
‫ذلك‪ ،‬إال أنه عىل املدى البعيد‪ ،‬ستقوم الرشكات املنتجة بتحديد املوارد األفضل للحماية‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫كيفية قتل البيتكوين‪ :‬دليل املبتدئني‬


‫طوَّر العديد من مستخدمي البيتكوين اعتقادات شبه دينية يف قدرة البيتكوين يف النجاة‬
‫من أي يشء ممكن‪ .‬فالكمية الكبرية من طاقة املعالجة املخصصة له وتأكيد العدد الكبري‬
‫من ال ُع َقد املوزعة عامليا ً للتحويالت‪ ،‬تعني أنه من الصعب جدا ً أن يتم تغيري البيتكوين‪،‬‬
‫وعىل األرجح سيبقى كما هو‪ .‬وبينما غالبا ً ما يعتقد معظم أولئك الذين ال يعرفون‬
‫البيتكوين جيدا ً أنه سينتهي بال شك ألنه حتما ً سيتعرض لالخرتاق كما هو مصري أي‬
‫يشء رقمي‪ ،‬إال أنه عندما يتم فهم عمليات البيتكوين‪ ،‬سيصبح من الواضح أن "االخرتاق"‬
‫لن يكون مهمة سهل ًة‪ .‬فهناك العديد من التهديدات األخرى للبيتكوين‪ ،‬ويف حالة الحديث‬
‫عن أمن الحواسيب والتي تُعد مشكلة كبرية‪ ،‬فإن االخرتاق سوف يتضمن اكتشاف‬
‫املخرتقني الذين ال يمكن التنبؤ بأعمالهم لزوايا جديدة يف البيتكوين يمكن اخرتاقه منها‪.‬‬
‫وتفسري جميع التهديدات املحتملة للبيتكوين وتقدير كلفتها هو أمر خارج عن إطار هذا‬
‫الكتاب‪ .8‬لهذا‪ ،‬سرياجع هذا القسم بعضا ً من أخطر وأكثر التهديدات املتعلقة بالبيتكوين‬
‫إضافة للتهديدات األكثر ارتباطا ً بهذا الكتاب وتركيزه عىل البيتكوين كنقد سليم‪.‬‬

‫القرصنة‬

‫إن مقاومة البيتكوين للهجمات متجذرة بثالث خواص‪ :‬بساطة أساسياته‪ ،‬وطاقة‬
‫املعالجة الخاصة به والتي شغلها الشاغل هو ضمان أمن هذا التصميم البسيط‪ ،‬إضافة‬
‫إىل ال ُع َقد املوزعة التي تحتاج إىل الوصول إىل اتفاق عىل أي تغيري كي يتم إجراؤه‪ .‬ولرسم‬
‫صورة عن درجة تحصني البيتكوين‪ ،‬تخيل املرادف الرقمي لوضع جميع مشاة الجيش‬
‫األمريكي وأسلحته حول ساحة مدرسة ما لحمايتها من الغزو‪ ،‬وستكون هذه هي درجة‬
‫التحصني‪.‬‬

‫‪ 8‬بدأ جي‪ .‬دبليو‪ .‬ويذرمان مشروعاً ذي مصدر مفتوح لتقييم التهديدات على شبكة البيتكوين‪ ،‬ميكن إجياد‬
‫املشروع على ‪BTCthreats.com :‬‬

‫‪279‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ففي جوهره‪ ،‬البيتكوين هو دفرت وسجل ملكية لعمالت افرتاضية بحيث أن‬
‫هناك ‪ 21‬مليون فقط من تلك العمالت‪ ،‬باإلضافة إىل بضع ماليني من العناوين التابعة له‪،‬‬
‫وكل يوم يتم نقل بعض تلك العمالت فيما ال يتعدى ‪ 500‬ألف تحويلة‪ .‬وقوة الحوسبة‬
‫الالزمة إلدارة نظام كهذا ضئيلة جدا ً ويمكن لحاسوب محمول ب ‪ $100‬إدارتها يف نفس‬
‫الوقت الذي يتم تصفح اإلنرتنت عليه‪ ،‬ولكن يرجع سبب عدم تشغيل البيتكوين عىل‬
‫حاسوب واحد ألن ترتيبا ً وعمال ً كهذا سيتطلب ثق ًة يف مالك الحاسوب‪ ،‬وثقة يف عدم كون‬
‫هذا الحاسوب سهل االخرتاق نسبياً‪.‬‬

‫فكل الشبكات الحاسوبية تعتمد يف حمايتها عىل جعل بعض الحواسيب‬


‫محصنة ضد املهاجمني واستعمالها كمرجع نهائي‪ ،‬أما البيتكوين فهو يأخذ ُخ ً‬
‫طى‬ ‫ً‬
‫مختلفة تماما ً فيما يتعلق بالحماية الحاسوبية‪ :‬فال يأخذ البيتكوين عىل مسؤوليته حماية‬
‫جميع حواسيبه بشكل فردي‪ ،‬بل يعمل عىل افرتاض أن حواسيب جميع العُ َقد هي‬
‫أي من أعضاء الشبكة‪ ،‬يقوم البيتكوين بالتحقق من‬‫هجومية عدائية‪ .‬فبدال ً من الثقة يف ٍ‬
‫كل حركة يفعلها األعضاء‪ ،‬وعملية التحقق هذه عرب نظام إثبات العمل هي ما يستهلك‬
‫الكمية الكبرية من طاقة املعالجة‪ .‬وقد أثبت ذلك النظام فعاليته ألنه جعل حماية‬
‫البيتكوين تعتمد عىل ضخامة طاقة املعالجة‪ ،‬وبذلك يكون منيعا ً ضد مشاكل الدخول‬
‫وتأكيد الهوية‪ .‬فإذا ت َّم ال ُحكم عىل الجميع بعدم الصدق‪ ،‬فعىل الجميع أن يدفع ثمنا ً‬
‫باهظا ً إلجراء التحويالت إىل السجل العام‪ ،‬وكل من يتم ضبطه محاوال ً الخداع والتزوير‬
‫سيخرس تلك األثمان التي دفعها‪ .‬بهذه الكيفية‪ ،‬ستجعل الحوافز االقتصادية الخداع يف‬
‫البيتكوين أمرا ً مكلفا ً جدا ً ومن غري املرجح له أن ينجح‪.‬‬

‫خرتق البيتكوين عن طريق إفساد سجل التحويالت من أجل النقل‬ ‫فلكي ي ِ‬


‫الكاذب للعمالت إىل حساب معني أو لجعل هذا الحساب غري قابل لالستعمال‪ ،‬فإن هذا‬
‫سيتطلب من عقدة ما أن تُدخل كتلة غري صالحة إىل سلسلة الكتل ويتطلب من الشبكة أن‬
‫تتبناها وتستمر بالبناء عىل أساسها‪ .‬لكن من غري املرجح أن ينترص املخرتقون بتلك‬
‫املعركة‪ ،‬بل وستتزايد صعوبة ذلك مع تزايد ثمن إضافة الكتل وذلك ألن تكلفة الكشف‬
‫عن احتيال ما هي تكلفة صغرية جدا ً بالنسبة للعقد‪ ،‬بينما تكلفة إضافة كتلة من‬

‫‪280‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫التحويالت تتزايد بشكل مستمر‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬تهتم معظم العُ َقد يف الشبكة باستمرار‬
‫البيتكوين وبقائه‪.‬‬

‫فهناك عدم تماثل جوهري يف قلب تصميم البيتكوين بني تكلفة إضافة كتلة‬
‫جديدة من التحويالت وتكلفة التأكد من صالحية تلك التحويالت‪ .‬هذا األمر يعني أنه ويف‬
‫حني أن تزوير السجل هو أمر ممكن تقنياً‪ ،‬إال أن الحوافز االقتصادية تتكدس ضد ذلك‪.‬‬
‫ونتيج ًة لذلك‪ ،‬يُشكل سجل التحويالت سجال ً ال جدال فيه لكل التحويالت الصالحة التي‬
‫تم تأكيدها حتى اآلن‪.‬‬

‫هجمة الـ‪51%‬‬

‫إن هجمة الـ ‪ 51%‬هي طريقة يُستخدم فيها كميات كبرية من طاقة املعالجة إلنتاج‬
‫تحويالت احتيالية ومُزوَّرة وذلك عرب إنفاق العملة ذاتها مرتني‪ ،‬مما يؤدي إىل إلغاء أحد‬
‫التحويلني ورسقة املستلم‪ .‬وهذا األمر يعني أنه إذا استطاع مُعدّن ما‪ ،‬لديه قدرة عىل‬
‫التحكم بنسبة كبرية من معدل الهاش‪ ،‬ح َّل مسائل نظام إثبات العمل بشكل رسيع‪،‬‬
‫فبإمكانه أن ينفق عملة بيتكوين عىل سلسلة الكتل العامة التي تحصل عليها التأكيدات‪،‬‬
‫بينما وبالوقت نفسه‪ ،‬يقوم بتعدين سلسلة منقسمة موازية بتحويل آخر لعملة البيتكوين‬
‫ذاتها لعنوان آخر يعود للمهاجم‪ .‬فيحصل متلقي التحويل األول عىل التأكيدات لكن‬
‫سيحاول املهاجم استخدام طاقة معالجته لجعل السلسلة األخرى أطول‪ .‬ويتكلل الهجوم‬
‫بالنجاح إذا استطاع املهاجم جعل السلسلة األخرى أطول من األوىل‪ ،‬وعندها سريى مُستلم‬
‫التحويل األول أن العمالت التي تلقاها قد اختفت‪.‬‬

‫وكلما ازداد معدل الهاش الذي يسيطر عليه املهاجم‪ ،‬ازدادت قدرته عىل جعل‬
‫السلسلة االحتيالية أطول من السلسلة العامة‪ ،‬وبالتايل سيستطيع إلغاء تحويله وكسب‬
‫الربح‪ .‬وبينما يبدو ذلك سهال ً يف مبدأه إال أنه صعب جدا ً عملياً‪ ،‬فكلما ازدادت مدة انتظار‬
‫املتلقي للتأكيدات‪ ،‬قلت احتمالية نجاح املهاجم‪ ،‬وإذا كان امللتقي عىل استعداد لالنتظار‬
‫للحصول عىل ستة تأكيدات‪ ،‬فسيتقلص احتمال نجاح الهجوم بشكل كبري جداً‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫نظرياً‪ ،‬تبدو هجمة الـ ‪ 51%‬قابلة للتنفيذ من الناحية التقنية‪ ،‬لكن عمليا ً تقف‬
‫نفذ معدِّن هجمة ال ‪ %51‬بنجاح‪،‬‬ ‫الدوافع االقتصادية عائقا ً أمامها بشكل كبري‪ .‬فإذا َّ‬
‫فإنه سيقلل بشدة من الدافع االقتصادي الستخدام البيتكوين‪ ،‬وبذلك سيقلل من الطلب‬
‫عىل عمالت البيتكوين‪ .‬ومع تزايد تعدين البيتكوين ليصبح قطاعا ً قائما ً عىل كثافة رأس‬
‫مكرسة إلنتاج العمالت‪ ،‬ازداد معه اهتمام املُعدنني طويل األمد‬‫املال باستثمارات كبرية َّ‬
‫للمحافظة عىل نزاهة الشبكة‪ ،‬حيث تعتمد قيمة مكافآتهم عىل ذلك‪ .‬كما أنه لم يتم‬
‫تسجيل أي هجمة إنفاق مزدوج ناجحة عىل أي من تحويالت البيتكوين التي حصلت عىل‬
‫توثيق واحد عىل األقل‪.‬‬

‫وأقرب محاولة ناجحة لإلنفاق املزدوج شهدها البيتكوين كانت عام ‪،2013‬‬
‫حيث كان موقع مراهنة للبيتكوين يسمى "‪ - Bitcoin Dice‬بيتكوين دايس" يحوي ما‬
‫يُقدَّر بمجموع ‪ 1000‬عملة بيتكوين (تقدر قيمتها بحوايل الـ ‪ $100.000‬يف ذلك‬
‫الوقت)‪ ،‬وتمت رسقة العمالت منه يف هجمة إنفاق مزدوج باستخدام مصادر تعدين‬
‫هائلة‪ .‬عىل كل حال‪ ،‬لم تنجح الهجمة إال ألن موقع الـ "بيتكوين دايس" كان يقبل‬
‫تحويالت بال أي توثيق عليها‪ ،‬مما جعل تكلفة الهجمة زهيدا ً نسبياً‪ .‬فالهجوم كان‬
‫سيصبح صعبا ً إن قبل املوقع تحويالت بتأكيد واحد فقط‪ .‬وهذا سبب آخر من األسباب‬
‫التي تجعل سلسلة كتل البيتكوين غري مثالية ملدفوعات املستهلكني الكبرية‪ :‬فإنتاج كتلة‬
‫جديدة يأخذ بني ‪ 1‬إىل ‪ 12‬دقيقة وذلك لعمل توثيق واحد للتحويل‪ ،‬وإذا َق ِبل ُمعالج‬
‫مدفوعات كبري وخاطر بقبول تحويالت بال أي تأكيدات‪ ،‬فسيشكل ذلك هدفا ً مربحا ً‬
‫لهجمات اإلنفاق املزدوج َّ‬
‫املنسقة التي تستخدم موارد تعدين كبرية‪.‬‬

‫كنتيجة‪ ،‬يمكن تنفيذ هجمة الـ ‪ %51‬نظريا ً إن لم ينتظر متلقي املدفوعات‬


‫حتى يتم إنتاج كتل جديدة تؤكد مصداقية التحويل‪ .‬أما عملياً‪ ،‬فيقف الدافع االقتصادي‬
‫عائقا ً وبشكل كبري أمام ممتلكي طاقة املعالجة الذين يستخدمون استثماراتهم يف هذا‬
‫االتجاه وبالنتيجة‪ ،‬لم يكن هناك أية هجمة ناجحة من هجمات الـ ‪ %51‬عىل أي عضو‬
‫من أعضاء ال ُع َقد الذين انتظروا عىل األقل توثيقا ً واحداً‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫فلن تكون هجمة الـ ‪ %51‬ناجحة غالبا ً إن حدثت بهدف دافع ربحي‪ ،‬لكن قد‬
‫تحدث هجمة كهذه دون الحاجة لوجود دافع ربحي بل بنية القضاء عىل البيتكوين‪ .‬فقد‬
‫تُقرر جهة حكومية أو خاصة أن تحصل عىل سعة تعدين البيتكوين لالستيالء عىل غالبية‬
‫ً‬
‫خادعة بذلك‬ ‫شبكته‪ ،‬ومن ثم استخدام طاقة املعالجة تلك إلجراء هجمات إنفاق مزدوج‬
‫العديد من املستخدمني ومدمر ًة أمان الشبكة‪ ،‬لكن الطبيعة االقتصادية للتعدين ستقف‬
‫سوق عاملية تنافسي ٌة بشكل‬
‫ٌ‬ ‫بشكل كبري ضد حصول ذلك الحدث‪ .‬فطاقة املعالجة هي‬
‫كبري‪ ،‬ويُع ُّد تعدين البيتكوين يف العالم واحدا ً من أكرب استخدامات طاقة املعالجة‪،‬‬
‫وأكثرها ربحاً‪ ،‬وأرسعها نمواً‪ .‬وقد يبحث املهاجم عن ثمن االستيالء عىل ‪ 51%‬من طاقة‬
‫املعالجة املستخدمة حاليا ً ليقرر تخصيص هذا الثمن لرشاء األجهزة املطلوبة لذلك‪ .‬لكن‬
‫إذا تم استخدام هذا القدر الكبري من املوارد لرشاء معدات تعدين البيتكوين‪ ،‬فسيؤدي‬
‫ذلك إىل صعود حاد يف ثمن تلك املعدات‪ ،‬مما سيكافئ املعدِّنني الحاليني وسيسمح لهم‬
‫لالستثمار بشكل أكرب يف رشاء معدات تعدين أكثر‪ ،‬كما أنه سيؤدي أيضا ً إىل استثمار‬
‫رأس مال أكرب يف إنتاج طاقة التعدين من قبل منتجي معدات التعدين‪ ،‬مما سيؤدي إىل‬
‫تقليل ثمن طاقة املعالجة وسيزيد من رسعة نمو معدل طاقة املعالجة للبيتكوين‪.‬‬
‫وكطرف خارجي يدخل السوق‪ ،‬فإن املهاجم سيبقى بوضع ال يحصل فيه عىل أفضلية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حيث يؤدي رشائه ملعدات التعدين املطلوبة إىل نمو رسيع يف طاقة املعالجة املستخدمة يف‬
‫التعدين التي ال يمكنه التحكم بها‪ .‬باملقابل‪ ،‬كلما ازدادت املوارد املرصوفة عىل إنتاج طاقة‬
‫املعالجة ملهاجمة البيتكوين‪ ،‬ازدادت رسعة نمو طاقة املعالجة فيه وازدادت صعوبة‬
‫مهاجمة البيتكوين‪ .‬لذلك ومرة أخرى‪ ،‬بينما يمكن تقنيا ً تنفيذ هذا النوع من الهجمات‪،‬‬
‫إال أن اقتصاد الشبكة سيجعل من نجاحه أمرا ً غري مرجح الحدوث‪.‬‬

‫فيمكن ملهاجم وخاصة إذا كان حكوميا ً أن يحاول الهجوم عىل البيتكوين عرب‬
‫االستيالء عىل البنية التحتية الخاصة بالتعدين واستخدامها بشكل غري ربحي‪ ،‬وذلك‬
‫للتقليل من أمن وحماية الشبكة‪ ،‬لكن حقيقة أن عملية تعدين البيتكوين هي عملية‬
‫موزعة جغرافيا ً بشكل كبري تجعل هذا األمر احتماال ً صعبا ً قد يحتاج تعاونا ً من قبل عدة‬
‫حكومات عرب العالم‪ .‬ولهذا أفضل طريقة لتنفيذ ذلك ربما لن تكون عرب االستيالء عىل‬
‫معدات التعدين مادياً‪ ،‬بل عن طريق االستيالء عليها عرب األبواب الخلفية لألجهزة‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫األبواب اللفية لألجهزة‬

‫هناك احتمالية أخرى للتشويش عىل شبكة البيتكوين أو تدمريها وهي عرب إفساد األجهزة‬
‫التي تش ِّغل النظام الربمجي الخاص بالبيتكوين لكي تصبح متاحة ألطراف خارجية‪.‬‬
‫فعىل سبيل املثال‪ ،‬يمكن للعقد التي تقوم بالتعدين أن يتم دس برمجيات خبيثة بها غري‬
‫قابلة للرصد لت ُ َم ِّكن لألطراف الخارجية السيطرة عىل األجهزة‪ .‬وبهذا‪ ،‬يمكن أن يتم‬
‫تعطيل تلك األدوات أو التحكم بها عن بعد يف الوقت الذي يتم به تنفيذ هجمة الـ ‪.%51‬‬

‫ولدينا مثال آخر عىل هذه الهجمات وتتم عرب تكنولوجيا التجسس والتي إذا تم‬
‫تنصيبها عىل حاسوب مستخدم ما‪ ،‬فسيُسمح بالدخول إىل حساب البيتكوين الخاص به‬
‫عرب الحصول عىل مفاتيحه الخاصة‪ .‬ويمكن لهذا النوع من الهجمات إذا تمت عىل نطاق‬
‫واسع أن تُقلِّل الثقة يف البيتكوين كنوع من األصول بشكل حاد جداً‪ ،‬ومن الطلب عىل‬
‫البيتكوين أيضاً‪.‬‬

‫ومن املمكن تنفيذ نوعَ ي الهجمات تلك تقنياً‪ ،‬ولكن عىل عكس نوعي الهجمتني‬
‫السابقتني‪ ،‬فليس من الرضوري أن تنجح تلك الهجمات بشكل كامل كي تشكل قدرا ً‬
‫كافيا ً من االرتباك والفوىض لتؤذي ُسمعة البيتكوين ومن الطلب عليه‪ .‬ومن املرجح أن‬
‫ينجح هذا النوع من الهجمات عىل معدات التعدين إذا أخذنا بعني االعتبار أنه يوجد عدد‬
‫قليل من مُصنِّعي معدات التعدين‪ ،‬حيث أن هذا يشكل واحد ًة من أكثر النقاط الحرجة‬
‫للبيتكوين والتي من املمكن أن تقوده نحو الفشل‪ .‬لكن مع نمو تعدين البيتكوين‪ ،‬من‬
‫املرجح أن يبدأ هذا األمر بجذب عدد أكرب من صانعي األجهزة لصناعة معدات التعدين‪،‬‬
‫مما سيؤدي إىل تقليص األثر الكارثي عىل الشبكة يف حال تم اخرتاق عمليات صانع‬
‫أجهزة واحد‪.‬‬

‫إن هذه الخطورة هي أقل تنظيميا ً عىل الشبكة مع وجود الحواسيب الشخصية‬
‫وذلك ألنه هناك نظريا ً عدد غري نهائي من صانعي هذه األجهزة حول العالم‪ ،‬الذين لديهم‬
‫معدات يمكنها الدخول إىل شبكة البيتكوين‪ .‬فإذا كان أي مُنتِج لهذه األجهزة مخرتَقا ً وتم‬
‫الكشف عن ذلك‪ ،‬فغالبا ً سيؤدي ذلك إىل انتقال املستهلك إىل مُنتِج آخر‪ .‬أضف إىل ذلك أنه‬

‫‪284‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫يمكن للمستخدمني أن يُولِّدوا مفتاحا ً خاصا ً لعناوينهم عىل الحواسيب غري املتصلة‬
‫بالشبكة والتي لن يتصلوا عربها بالشبكة أبداً‪ .‬وحتى بالنسبة لألفراد األكثر قلقا ً وارتياباً‪،‬‬
‫فيمكنهم توليد عناوينهم ومفاتيحهم الخاصة عىل حواسيب غري متصلة بالشبكة ومن ثم‬
‫تدمريها عىل الفور‪ ،‬وستنجو العمالت املخزنة يف تلك املفاتيح االفرتاضية الخاصة من أي‬
‫نوع من الهجمات التي ت ُ َشن عىل الشبكة‪.‬‬

‫كما أن ميول حَ َملَة البيتكوين الالسلطوية مع تبنيهم ألفكار‬


‫حركة "‪ - Cypherpunk‬سايفر بانق" تُعَ ُّد من أهم العوامل التي تحمي البيتكوين من‬
‫هذه الهجمات‪ ،‬األمر الذي يجعلهم يؤمنون بالتوثيق أكثر بكثري من الثقة‪ .‬فمالكو‬
‫البيتكوين ُمختصون تقنيا ً أكثر بكثري من البقية العادية‪ ،‬وهم دقيقون جدا ً فيما يخص‬
‫فحص أجهزتهم وبرمجياتهم التي يستعملونها‪ .‬كما أن ثقافة استعراض النظراء‬
‫مفتوحة املصدر تعمل كآلية دفاعية هامة ضد هذا النوع من الهجمات‪ .‬وبأخذ االعتبار أن‬
‫طبيع ة الشبكة هي موزعة‪ ،‬فمن املرجح أن تؤدي تلك الهجمات إىل خسارات وتكاليف‬
‫باهظة لألفراد‪ ،‬وحتى أنها قد تؤدي إىل أعطال يف نظام الشبكة‪ ،‬لكن سيكون من الصعب‬
‫جدا ً أن تتسبب يف إيقاف الشبكة تماما ً أو يف تدمري الطلب عىل البيتكوين كلياً‪ .‬ويف‬
‫الحقيقة‪ ،‬إن الدوافع االقتصادية للبيتكوين هي ما تجعله َقيِّماً‪ ،‬وليس أي نوع من أنواع‬
‫األجهزة املستخدمة ما يفعل ذلك‪ .‬فيمكن استبدال أي قطعة من املعدات بمعدات أخرى‬
‫إن استمرار وصالبة البيتكوين‬ ‫ولن تؤثر عىل عمليات البيتكوين‪ .‬عىل الرغم من ذلك‪َّ ،‬‬
‫ستتحسنان إذا تم تنويع مُصنِّعي األجهزة التي يستعملها بحيث ال يجعل أي أحد فيهم‬
‫مهما ً ومؤثرا ً من ناحية النظام‪.‬‬

‫هجامت اإلنرتنت والبنية التحتية‬


‫إن أحد أكرب أشكال سوء الفهم حول البيتكوين هو أن إيقاف وتعطيل البنية التحتية‬
‫لالتصاالت التي يعتمد عليها البيتكوين قد يقوم بإيقاف البيتكوين تماماً‪ ،‬أو أنه يمكن‬
‫إيقافه بتعطيل عمل اإلنرتنت‪ .‬إن املشكلة يف هذا النوع من الحاالت أنه يتم إساءة فهم‬
‫البيتكوين عىل أنه شبكة باملعنى التقليدي للكلمة باحتوائه عىل أجهزة متخصصة وبُنى‬
‫تحتية لديها نقاط ضعف حرجة يمكن مهاجمتها وتعطيلها‪ .‬لكن البيتكوين هو‬

‫‪285‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫بروتوكول برمجي؛ فهو عملية داخلية يمكن تشغيلها عىل أي حاسوب من مليارات‬
‫الحواسيب املوزعة حول العالم‪ .‬لهذا‪ ،‬ليس للبيتكوين نقطة الفشل الواحدة‪ ،‬وال يعتمد‬
‫عىل أي جهاز أو بُنية بحيث أنه ال يمكن التخيل عنهما يف أي نقطة من العالم‪ .‬فيمكن ألي‬
‫حاسوب يُشغل برمجيات البيتكوين أن يتصل بالشبكة وأن يتم إجراء العمليات عليه‪.‬‬
‫بهذا املنطق‪ ،‬إن البيتكوين يشبه اإلنرتنت عىل أنه برتوكول يسمح للحواسيب باالتصال‬
‫ببعضها البعض؛ وليست البنية التحتية هي التي تصل هذه الحواسيب ببعضها‪ .‬كما أن‬
‫كمية البيانات املطلوبة لنقل املعلومات حول البيتكوين ليست كبرية‪ ،‬وتُقدَّر هذه الكمية‬
‫بجزء صغري جدا ً من كمية تدفق املعلومات يف اإلنرتنت‪ .‬فال يحتاج البيتكوين إىل الحجم‬
‫الكبري ذاته من البنية التحتية التي يحتاجها باقي اإلنرتنت‪ ،‬وذلك ألن سلسلة كتل‬
‫البيتكوين تبث ‪ 1‬ميغابايت فقط من البيانات كل عرش دقائق تقريبا ً‪ .‬وبما أنه هناك عدد‬
‫غري نهائي من التقنيات السلكية والالسلكية التي تُستعمل يف نقل البيانات حول العالم‪،‬‬
‫فاملستخدم يحتاج إىل واحدة فقط من تلك التقنيات كي يستطيع الولوج إىل الشبكة‪ .‬ومن‬
‫أجل إنشاء عالَ ٍم ال يمكن فيه ألي مستخدم بيتكوين أن يتصل مع أي مستخدم آخر‪ ،‬فإن‬
‫ذلك سيتطلب إحداث كمية هائلة ومدمرة من الرضر عىل معلومات العالم وبياناته وعىل‬
‫البنية التحتية لالتصاالت‪ .‬يجدر اإلشارة إىل أن حياة املجتمع الحديث تعتمد بدرجة كبرية‬
‫عىل االتصاالت وذلك ألن العديد من الخدمات الهامة والحيوية‪ ،‬إضافة ألمور حياة أو موت‬
‫تعتمد عىل استمرار البنية التحتية لهذه االتصاالت‪ .‬لهذا‪ ،‬إن محاولة البدء بإيقاف‬
‫وتعطيل عمل كل البنية التحتية لإلنرتنت بشكل متزامن ستَتسبَّب عىل األرجح بأذىً كبري‬
‫ألي مجتمع يحاول ذلك بينما من املرجح أن يفشل هذا يف إيقاف تدفق البيتكوين‪ .‬حيث‬
‫أنه يمكن دائما ً لألجهزة املتفرقة واملنترشة أن تتصل ببعضها البعض باستخدام‬
‫برتوكوالت واتصاالت مشفرة‪ .‬ببساطة‪ ،‬هناك عدد كبري جدا ً من الحواسيب واالتصاالت‬
‫املوزعة حول العالم والتي يتم استخدامها من قبل عدد كبري من األفراد‪ ،‬لدرجة أنه ال‬
‫يوجد أي قوة تستطيع إيقافها بشكل متزامن‪ .‬لذلك‪ ،‬إن الحالة الوحيدة املُتصوَّرة لفعل ما‬
‫سبق ستكون نوعا ً من أنواع الحاالت املتعلقة بنهاية العالم والتي لن يفكر خاللها أحد‬
‫فيما إن كان البيتكوين يعمل أو ال يعمل‪ .‬ومن بني كل التهديدات املحيطة بالبيتكوين‪،‬‬
‫أجد هذا التهديد بالذات أقلها مصداقية وأقلها معنى‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫الع مقد والتناقص يف عددها‬


‫التزايد يف تكلفة ُ‬
‫بدال ً من تخيل حاالت خيال علمي تتضمَّ ن دمار البينة التحتية لالتصاالت البرشية يف‬
‫محاولة فاشلة الستئصال برنامج ما‪ ،‬هناك تهديدات أكثر واقعية عىل البيتكوين تأتي من‬
‫مبادئ وأساسيات يف تصميمه‪ .‬فخواص البيتكوين كنقد سليم ال يمكن التالعب بعرضه‬
‫وكعملة نقدية رقمية ال يمكن إيقافها ومصادرتها دون تدخل طرف ثالث‪ ،‬تعتمد عىل أن‬
‫يكون تغيري القواعد املتفق عليها للشبكة أمرا ً صعبا ً وتحديدا ً فيما يخص العرض النقدي‪.‬‬
‫وما يحقق تلك الحالة املستقرة التي يحافظ عليها البيتكوين‪ ،‬كما هو مذكور سابقاً‪ ،‬هو‬
‫أنه سيكون من الخطر ألي فرد أن يحاول العمل خارج القواعد املشرتكة الحالية‬
‫خصوصا ً إذا لم يتب َّن بقية األفراد تلك القواعد الجديدة‪ .‬لكن السبب الذي يجعل تلك‬
‫الخطوة خطرية جدا ً وغري مرجحة هو أن عدد العُ َقد التي تشغل الربنامج كبري جدا ً إىل ح ٍد‬
‫يجعل عملية التنسيق بينها غري عميل‪ .‬فإن ازداد ثمن إدارة العقد يف البيتكوين بشكل‬
‫كبري‪ ،‬فسيجعل ذلك األمر من إدارة عقدة ما أصعب بكثري بالنسبة للعديد من األعضاء‪،‬‬
‫وبالنتيجة سيُقلل من عدد العُ َقد يف الشبكة‪ .‬وإن قل عدد ال ُع َقد يف الشبكة فسيتوقف‬
‫البيتكوين عن كونه شبكة غري مركزية فعالة حيث سيصبح من السهل جدا ً عىل العُ َقد‬
‫التي تدير الشبكة أن تتواطأ لكي تعيد صياغة القواعد يف الشبكة بما يخدم مصالحها‬
‫وحتى تخريبها‪.‬‬

‫إن هذا الخطر برأيي هو األخطر تقنيا ً حيث أنه يشكل أكرب تهديد عىل‬
‫البيتكوين يف املدى املتوسط والبعيد‪ .‬وبالحالة التي يتواجد عليها اآلن‪ ،‬إن األمر الوحيد‬
‫الذي يحد من قدرة األفراد عىل إدارة عقدهم الخاصة هو سعة اتصالهم باإلنرتنت‪ .‬فإن‬
‫بقي حجم الكتل أقل من ‪ 1‬ميغابايت‪ ،‬فإن ذلك عمليا ً سيكون ضمن قدرة واستطاعة‬
‫الناس ‪ ،‬لكن إن حدثت عملية انقسام كلية يف الشبكة بغرض زيادة حجم الكتلة‪ ،‬فإن ذلك‬
‫سيؤدي إىل زيادة تكلفة إدارة هذه ال ُع َقد مما يُقلل عددها العامل عىل الشبكة‪ .‬وكما يف‬
‫األخطار السابقة‪ ،‬فهذا التهديد ممكن تقنياً‪ ،‬لكنه يبقى غري مرجح الحدوث وذلك ألن‬
‫الدافع االقتصادي للنظام سيَحول دون تحقيق ذلك‪ ،‬والدليل عىل ذلك هو الرفض الواسع‬
‫ملحاوالت زيادة حجم الكتلة إىل اآلن‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫كرس خوارزمية الدمج ‪SHA-256‬‬


‫تُعد خوارزمية الدمج ‪ SHA-256‬مكونا ً أساسيا ً لعمل نظام البيتكوين‪ .‬وباختصار‪،‬‬
‫عملية الدمج هي عملية تأخذ أي سلسلة من البيانات كمُدخل وتحولها إىل قاعدة بيانات‬
‫بحجم ثابت (معروفة باسم الهاش) باستخدام معادلة رياضية غري قابلة للعكس‪.‬‬
‫وبكلمات أخرى‪ ،‬من السهل استعمال هذه املعادلة إلنتاج الدمج ألي نوع من البيانات‪،‬‬
‫لكن ليس من املمكن تحديد أصل سلسلة البيانات عن طريق الدمج‪ .‬ولكن قد يصبح ذلك‬
‫ممكنا ً عن طريق بعض التحديثات والتحسينات يف طاقة املعالجة‪ ،‬حيث قد تستطيع‬
‫بعض الحواسيب عكس العملية الحسابية لعمليات الدمج تلك مما سيجعل جميع عناوين‬
‫البيتكوين عرض ًة للرسقة‪.‬‬

‫وليس من املمكن تحديد متى وإذا كان هذا السيناريو سيصبح ممكناً‪ ،‬لكن إن‬
‫أصبح كذلك‪ ،‬فإنه سيشكل تهديدا ً تقنيا ً خطريا ً عىل البيتكوين‪ .‬والحل التقني ملواجهته‬
‫سيكون عن طريق االنتقال واعتماد تشفري أقوى‪ ،‬ولكن األمر الصعب يف هذه العملية‬
‫سيكمن بكيفية تنسيق هذا االنقسام الكيل للشبكة‪ ،‬وبكيفية إقناع جميع عقد الشبكة عىل‬
‫هجر وترك القوانني املشرتكة القديمة لالنتقال إىل قواعد جديدة بعملية دمج جديدة‪ .‬وكل‬
‫املشاكل التي تمت مناقشتها سابقا ً عن عملية تنسيق االنقسام تنطبق عىل هذه الحالة‬
‫أيضاً‪ ،‬لكن يف هذه املرة وألن التهديد حقيقي‪ ،‬فإن أي مالك للبيتكوين سيختار أن يبقى‬
‫ضمن التطبيقات القديمة فإنه سيكون معرضا ً لالخرتاق ولهذا السبب‪ ،‬من املرجح أن‬
‫تشارك الغالبية الكربى من املستخدمني يف هذا االنقسام الكيل‪ .‬يبقى السؤال األكثر أهمية‬
‫ظما ً وسيشهد انتقال كل املستخدمني إىل‬ ‫هو ما إذا كان هذا االنقسام الكيل سيكون مُن َّ‬
‫السلسلة ذاتها‪ ،‬أو سيؤدي إىل انفصال السلسلة إىل عدة فروع تستخدم أنواعا ً مختلفة من‬
‫التشفري‪ .‬ففي حني أنه من املمكن جدا ً أن يتم كرس‪/‬اخرتاق تشفري الـ ‪ ،SHA-256‬إال أن‬
‫الدافع االقتصادي للمستخدمني عندئذ سيكون هو االنتقال منها إىل خوارزمية أقوى بل‬
‫واالنتقال سويا ً إىل خوارزمية واحدة‪.‬‬

‫‪288‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫عودة إىل النقد السليم‬


‫بينما تركز معظم النقاشات عىل الكيفية التي من املمكن أن يفشل بها البيتكوين أو عىل‬
‫كيفية تدمريه عرب الهجمات التقنية‪ ،‬إال أن هناك طريقة أكثر فعالية يف مهاجمة البيتكوين‬
‫ويتم ذلك عن طريق التقليل من الدافع االقتصادي الستخدامه‪ .‬فليس من املرجح نجاح‬
‫محاولة الهجوم عىل البيتكوين بأي من الطرق املذكورة سابقا ً وذلك ألنها تتعارض مع‬
‫الدافع االقتصادي الستعماله‪ .‬فالوضع هنا يشبه محاولة منع العجلة أو السكني‪ .‬فطاملا‬
‫أن هذه التكنولوجيا مفيدة للناس‪ ،‬فستفشل محاوالت منعها وذلك ألن الناس ستستمر يف‬
‫إيجاد طرق الستخدامها رشعية كانت أو غري رشعية‪ .‬لهذا‪ ،‬إن الطريقة األمثل إليقاف‬
‫تقنية ما لن تكون عرب حظرها‪ ،‬بل عرب اخرتاع بديل أفضل لها أو عرب إزالة الحاجة‬
‫الستخدامها‪ .‬فمثالً‪ ،‬لم يكن ممكنا ً حظر اآللة الكاتبة أو سن ترشيعات إلخراجها من هذا‬
‫العالم‪ ،‬لكن دخول الحواسيب الشخصية قام بالقضاء عليها بفعالية‪.‬‬

‫فالطلب عىل البيتكوين يأتي من خالل حاجة األفراد له حول العالم لتنفيذ‬
‫تحويالتهم وتجاوز القيود السياسية‪ ،‬وللحصول عىل مخزون للقيمة مضاد للتضخم‪ .‬ويف‬
‫حال استمرت السلطات السياسية بوضع حدود وقيود عىل األفراد فيما يتعلق بعملية نقل‬
‫األموال‪ ،‬ويف حال بقيت النقود الحكومية عملة سهلة يمكن لعرضها أن يتوسع بسهولة‬
‫تبعا ً لرغبات الحكومة‪ ،‬فإن الطلب عىل البيتكوين سيظل قائماً‪ .‬وسيؤدي النمو املتناقص‬
‫يف عرضه إىل ارتفاع قيمته مع مرور الوقت‪ ،‬األمر الذي سيجذب عددا ً متزايدا ً من‬
‫األشخاص الستخدامه كمخزن للقيمة‪.‬‬

‫وإن افرتضنا أنه قد تم استبدال كامل النظام املرصيف العاملي والنظام النقدي‬
‫بتلك األنظمة التي كانت تَعتمد املعيار الذهبي يف أواخر القرن التاسع عرش‪ ،‬حيث كانت‬
‫الحرية الفردية والعملة الصعبة أمرا ً مهما ً وأساسيا ً‪ ،‬عندها سينخفض الطلب عىل‬
‫البيتكوين بشكل كبري جداً‪ .‬إن أمرا ً كهذا قد يكون كافيا ً لخفض الطلب عىل البيتكوين‬
‫كاف لينخفض سعره بشكل كبري أيضا ً مما سيؤذي حملة البيتكوين الحاليني‬ ‫بشكل ٍ‬
‫وسريجع تقدمها إىل سنوات عديدة‬ ‫بشكل كبري‪ ،‬وسيزيد من عدم ثبات وتقلب العملة‪ُ ،‬‬
‫للخلف‪ .‬فمع وجود نقد صعب بمعيار نقدي عاملي بحيث يزداد هذا النقد ثباتا ً واستقرارا ً‬

‫‪289‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ليصبح موثوقا ً به نسبياً‪ ،‬سينخفض الدافع الستعمال البيتكوين بشكل كبري جداً‪ .‬لكن يف‬
‫عالم ت ُ َقيَّد فيه ميول الحكومة التضخمية بمعيار الذهب‪ ،‬قد تكون القضية هي أن أفضلية‬
‫الذهب املتمثلة بقدرته الرشائية الثابتة نسبيا ً ستشكل حاجزا ً مستعصيا ً ال يمكن‬
‫للبيتكوين تخطيه‪ ،‬وذلك عرب حرمان البيتكوين من النمو الرسيع يف عدد مستخدميه‪ ،‬مما‬
‫سيمنعه من الوصول إىل حج ٍم ٍ‬
‫كاف مع شكل من الثبات يف سعر عملته‪.‬‬

‫عملياً‪ ،‬إن احتمالية حدوث عودة عاملية لنقد سليم ولحكومات ليربالية غري‬
‫مرجحة بشكل كبري‪ ،‬ألن تلك املفاهيم ستبدو غريبة وخيالية للغالبية العظمى من‬
‫السياسيني واملصوتني حول العالم‪ ،‬والذين تربوا ألجيال عىل فهم قيود الحكومة عىل املال‬
‫واألخالق كحاجة وكأمر رضوري لعمل أي مجتمع‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬فحتى لو كان تحو ٌل‬
‫نقدي وسيايس كهذا أمرا ً محتمالً‪ ،‬فإن تضاؤل معدل نمو املخزون الخاص بالبيتكوين‬
‫سيستمر بكونه رهانا ً مضاربا ً جذابا ً للكثريين‪ ،‬وهذا سيجعل البيتكوين ينمو أكثر‬
‫إن عود ًة عاملية نقدية للذهب ستشكل أكرب‬ ‫ويكتسب دورا ً نقديا ً أكرب‪ .‬ففي تقديري‪َّ ،‬‬
‫تهديد للبيتكوين‪ ،‬ولكن من غري املرجح حدوثها ومن غري املرجح أن تستطيع تدمري‬
‫البيتكوين بشكل كيل‪.‬‬

‫هناك احتمالية أخرى لتعطيل وعرقلة البيتكوين وهي عرب اخرتاع شكل جديد‬
‫من النقد السليم يتفوق عليه‪ .‬ويعتقد الكثريون أنه قد تستطيع العمالت الرقمية املُشفرة‬
‫ألي من‬
‫التي تحاكي وتقلد البيتكوين تحقيق ذلك‪ ،‬لكنني أؤمن بشدة بأنه ال يمكن ٍ‬
‫العمالت التي تقلد تصميم البيتكوين أن تنافسه بكونها نقدا ً سليما ً ألسباب سنناقشها‬
‫بشكل مطول يف القسم التايل من الفصل‪ .‬فباملقام األول‪ ،‬إن البيتكوين هو العملة الرقمية‬
‫الوحيدة غري املركزية التي نمت بشكل عفوي بتوازن جيد بني املعدِّنني واملربمجني‬
‫واملستخدمني‪ ،‬بحيث ال يمكن ألي أحد منهم التحكم بالبيتكوين‪ .‬وتطوير عملة رقمية‬
‫تعتمد عىل هذا التصميم هو أمر يحدث مر ًة واحد ًة فقط‪ ،‬بحيث إن اتَّضح أن هذه‬
‫الطريقة تعمل جيداً‪ ،‬فكل محاولة أخرى لتقليدها ستكون محاولة من األعىل لألسفل أي‬
‫أنها ستكون مركزية يتم التحكم بها ولن تتخلص أبدا ً من سيطرة منشئيها‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫لذلك عندما يعود األمر إىل بنية البيتكوين والتكنولوجيا ورائه‪ ،‬فإن أي عملة‬
‫تقوم بنسخه وتقليده من غري املرجح لها أن تستطيع استبداله‪ .‬فقد يُنتِج تصمي ٌم جديد‬
‫وتقنية جديدة لتطبيقات النقد الرقمي والعملة الصعبة منافسا ً للبيتكوين‪ ،‬ولكن ال‬
‫ً‬
‫معرفة‬ ‫يمكننا تنبؤ بروز هذا النوع من التكنولوجيا قبل أن يتم إنشاؤها‪ ،‬حيث أن‬
‫طالعا ً عىل مشاكل النقود الرقمية طوال هذه السنوات ستوضح لنا أن هذا ليس اخرتاعا ً‬‫وا ِّ‬
‫يمكن ابتكاره بسهولة‪.‬‬

‫العمالت البديلة (‪)Altcoins‬‬

‫بينما كان البيتكوين أول مثال عىل شبكة نقد إلكرتوني مبنية عىل أساس نظري إىل نظري‪،‬‬
‫فهو حتما ً لم يكن األخري‪ .‬فما لبث أن انترش تصميم ناكاموتو‪ ،‬ونجحت العملة يف‬
‫الحصول عىل املزيد من القيمة واملتبنني لها حتى بدأ الكثريون بتقليدها إلنتاج عمالت‬
‫مشابهة‪ .‬وكانت "‪ - Namecoin‬نيمكوين" أول عملة من هذا النوع حيث استَخدمت‬
‫شيفرة البيتكوين الربمجية وبدأت بالعمل يف أبريل عام ‪ .2011‬وحتى فرباير من عام‬
‫‪ 2017‬تم ابتكار ما ال يقل عن ‪ 732‬عملة رقمية مشابهة حسب موقع‬
‫‪.coinmarketcap.com‬‬

‫وبينما هو شائع أن يتم االعتقاد أن تلك العمالت تشكل منافسا ً للبيتكوين‬


‫وبأنه قد تتفوق واحدة منهن عىل البيتكوين يف املستقبل‪ ،‬إال أنه يف الحقيقة أن هذه‬
‫العمالت ليست يف مجال املنافسة مع البيتكوين وذلك ألنها ال تملك الخواص التي يمتلكها‬
‫البيتكوين والتي تجعله عملة رقمية فعالة وتجعله نقدا ً سليماً‪َ .‬ف ِل َكي يعمل نظا ٌم رقمي‬
‫كنقد رقمي‪ ،‬يجب أن يكون خارجا ً عن سيطرة أي طرف ثالث؛ فحسب الربوتوكول يجب‬
‫أن تتم عملياته بما يريض ويتفق مع مستخدميه دون وجود أي احتمال بتدخل طرف‬
‫ثالث إليقاف تلك املدفوعات‪ .‬وبعد سنوات من مشاهدة العديد من العمالت البديلة التي تم‬
‫إنشاؤها‪ ،‬يبدو أنه من املستحيل أن تستطيع أية عملة إعادة خلق املنافسة الرشسة بني‬
‫الجهات املعنية بالبيتكوين وبني منع أي طرف خارجي من التحكم بمدفوعاته‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ف لقد تم تصميم البيتكوين من قبل مربمج باسم مستعار ال تزال هويته‬


‫الحقيقية غري معروفة إىل اآلن‪ .‬وقام هذا املربمج بنرش التصميم يف قائمة بريد مخفية‬
‫ملربمجي الحواسيب املهتمني يف التشفري‪ ،‬وبعد عدة أشهر من استالمه الردود عليها‪ ،‬قام‬
‫بإطالق الشبكة مع املربمج هال فيني الذي تويف يف أغسطس عام ‪ .2014‬ثم بعد عدة أيام‬
‫من التعامل مع فيني وتجربة الربنامج‪ ،‬بدأ أعضاء آخرون باالنضمام إىل الشبكة‬
‫واستخدامها والقيام بأمور التعدين‪ .‬ثم اختفى ناكاموتو يف منتصف ‪ ،2010‬واضعا ً‬
‫‪9‬‬
‫عبارة "حان وقت االنتقال إىل مشاريع جديدة" ولم يُسمع منه يشء آخر منذ ذلك الحني‪.‬‬
‫يف جميع األحوال‪ ،‬هناك ما يقارب املليون عملة بيتكوين يف حساب يتم التحكم‪/‬تم‬
‫التحكم به من قبل ناكاموتو‪ ،‬ولكن لم يتم نقل هذه العمالت قط‪ .‬فناكاموتو اتخذ تدابري‬
‫احتياطية قاسية لكي يتأكد بأنه لن يتم تحديد هويته‪ ،‬وحتى يومنا هذا ليس هناك دليل‬
‫كاف ملعرفة شخصية ناكاموتو الحقيقية‪ .‬فإن كان يريد أن يتم التعرف عليه‪ ،‬كان‬ ‫ٍ‬
‫ُّ‬
‫سيُقدِّم نفسه للعامة وإن قام برتك أثر كي يدل عىل هويته‪ ،‬كان سيتم تعقب هذا الدليل‬
‫وهويته ثم يُستخدم للكشف عنه‪ .‬فتم التمعن بكل كتاباته واتصاالته بشكل مكثف من‬
‫قبل املحققني والصحفيني بال أي فائدة‪ .‬وقد حان الوقت لجميع من لهم عالقة‬
‫بالبيتكوين ليتوقفوا عن إشغال أنفسهم بهوية ناكاموتو‪ ،‬وتقبُّل حقيقة أن ذلك ال يهم‬
‫لعمليات البيتكوين التقنية‪ ،‬تماما ً كما هو األمر بالنسبة ملخرتع العجلة التي أصبحت‬
‫هويته غري مهمة‪.‬‬

‫يبق للبيتكوين أي سلطة مركزية أو قائد يمكنه تحديد اتجاه سريه أو‬ ‫ولم َ‬
‫العمل عىل التأثري عىل مسار تطوره وذلك ألن ناكاموتو وفيني لم يبقوا معنا‪ .‬وحتى جافِ ن‬
‫أندرسن الذي كان عىل تواصل مقرب من ناكاموتو ومن أكثر الوجوه املألوفة يف‬

‫‪ 9‬مت التواصل مع انكاموتو مرتني منذ ذلك الوقت‪ ،‬مرة قام هبا إبنكار هويته اليت كانت املهندس األمريكي الياابين‬
‫دوراين برينتيك ساتوشي انكاموتو‪ ،‬حيث مت التعرف على صاحب االسم احلقيقي من قبل جملة نيوزويك حيث مل‬
‫يكن االسم انكاموتو مبنياً إال على صدفة أمساء ومعرفة يف احلاسوب‪ .‬أما التواصل اآلخر فهو من أجل طرح رأي‬
‫عن الكيفية اليت كانت تسري هبا أمور توسعة البيتكوين‪ .‬مل يكن من الواضح إن مت نشر تلك املنشورات من قبل‬
‫انكاموتو نفسه أو من قبل شخص آخر اخرتق حسابه‪ .‬وخاصة كما هو معروف أبن اإلمييل الذي استخدامه‬
‫كان ُخمرتقاً‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫البيتكوين‪ ،‬قد فشل بشكل متكرر بالتأثري عىل طريق تطور البيتكوين‪ .‬ويُقتبَس بريد‬
‫إلكرتوني يف الصحافة يُعتقد أنه آخر بريد أرسله ناكاموتو والذي يقول فيه‪" :‬لقد انتقلت‬
‫إىل أشياء أخرى‪ ،‬إن البيتكوين يف أي ٍد أمينة عند جافِ ن والبقية"‪ .10‬وحاول أندرسن مرارا ً‬
‫وتكرارا ً أن يزيد من حجم الكتل يف البيتكوين‪ ،‬لكن فشلت كل محاوالته يف جذب اهتمام‬
‫مشغيل العُ َقد‪.‬‬

‫استمر البيتكوين يف نموه وازدهاره بكل املقاييس التي تم ذكرها يف الفصل‬


‫الثامن بينما تضاءلت السلطة ألي جهة وألي فرد بشكل كبري جداً‪ .‬وبهذا‪ ،‬يمكن فهم‬
‫البيتكوين عىل أنه قطعة برمجية ذات سيادة بسبب عدم وجود أي سلطة خارجية‬
‫تستطيع التحكم بسلوكه‪ .‬فال يحكم البيتكوين إال قوانني البيتكوين‪ ،‬وأصبح من غري‬
‫العميل محاولة تغيري هذه القوانني بطريقة جوهرية وذلك ألن التحيز للوضع الراهن‬
‫للبيتكوين ما زال مستمرا ً بتشكيل الدوافع ألي شخص مشرتك بهذا املرشوع‪.‬‬

‫فما يجعل البيتكوين حال ً فعاال ً وحقيقيا ً فيما يتعلق بمشاكل اإلنفاق املزدوج‪،‬‬
‫وما يجعله نقدا ً رقميا ً ناجحا ً هو سيادة شيفرته الربمجية املدعومة من نظام إثبات‬
‫العمل‪ ،‬وما ال يمكن للعمالت الرقمية األخرى تقليده هو انعدام الثقة هذه‪ .‬فمواجهة أي‬
‫من العمالت الرقمية التي تم إنشاؤها بعد البيتكوين ستُشكل أزمة وجودية لتلك العمالت‪:‬‬
‫فبما أن البيتكوين موجود أصال ً وبحماية أكرب‪ ،‬وطاقة معالجة أكثر‪ ،‬وقاعدة مستخدمني‬
‫راسخة‪ ،‬فأي شخص يريد دخول العمالت الرقمية سيُفضل البيتكوين عىل تلك العمالت‬
‫البديلة األصغر واألقل حماية‪ .‬وبما أن نَسخ الشيفرة الربمجية إلنتاج عمالت جديدة هو‬
‫أمر غري مكلف تقريباً‪ ،‬وبسبب تكاثر العمالت الرقمية عن طريق النسخ والتقليد‪ ،‬فال‬
‫يمكن ألي عملة أن تُطوِّر أي شكل من أشكال النمو أو الزخم إال إن كان هناك فريق نشط‬
‫يتفانى برعاية هذه العملة‪ ،‬وحمايتها‪ ،‬وتنميتها‪ ،‬وبرمجتها‪ .‬وبما أن البيتكوين هو األول‬

‫‪ 10‬ال يستطيع الكاتب أن ُيدد دقة الربيد اإللكرتوين‪ ،‬لكن ميكننا أن نقول أن هذا الربيد اإللكرتوين قد مت اقتباسه‬
‫كثرياً‪ ،‬إىل مرحلة أن املراجعة التكنولوجية يف معهد ماستشوسس التقين قامت بنشر ورقة حبث طويلة عن أندرسن‬
‫بعنوان "الرجل الذي بىن البيتكوين يف احلقيقة"‪ ،‬ابدعائهم أن أندرسن كان له دور أهم يف تطوير البيتكوين من‬
‫انكاموتو‪.‬‬

‫‪293‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫يف هذه االخرتاعات‪ ،‬فقد كان استعراض البيتكوين لقيمته كنقد رقمي وعملة صعبة كافيا ً‬
‫لتأمني الطلب املتزايد عليه‪ ،‬مما تَسبَّب بنجاح البيتكوين الذي يقف وراءه شخص واحد‬
‫وهو مربمج مجهول الهوية لم يقم بإنفاق املال لرتويجه‪ .‬فالعمالت البديلة ال تتمتع‬
‫برفاهية أن يكون عليها طلب يف العالم الحقيقي وذلك ألن تلك العمالت البديلة هي ن ُ ٌ‬
‫سخ‬
‫مقلدة وأقل قيمة بجوهرها ويمكن إنتاجها بسهولة‪ ،‬ويجب أن تطور من نفسها وتزيد‬
‫من الطلب عليها‪.‬‬

‫ٌ‬
‫فريق يديرها؛ فبدأ الفريق املرشوع‪،‬‬ ‫لذلك‪ ،‬يوجد لجميع العمالت البديلة تقريبا ً‬
‫وقام بتسويقه‪ ،‬وبتصميم مواد التسويق‪ ،‬وبنرشها يف الصحف كما لو كانت أخبارا ً‪ ،‬بينما‬
‫كان لدى هذه الفِ رق األفضلية يف تعدين عدد كبري من العمالت قبل أن تُعرف تلك العمالت‬
‫من قِ ب َِل أحد‪ .‬فتلك الفرق هي عبارة عن أفراد معروفني عاملياً‪ ،‬ومهما حاولوا فلن‬
‫يستطيعوا بشكل قابل للتصديق إظهار أنهم ال يملكون أي نوع من السيطرة عىل اتجاه‬
‫العملة‪ ،‬مما يُضعف أي ادِّعاء ألي عملة بأنها عملة رقمية ال يمكن تعديلها أو التحكم بها‬
‫من قبل أي طرف ثالث خارجي‪ .‬بكلمات أخرى‪ ،‬بعد خروج اخرتاع البيتكوين إىل النور‪،‬‬
‫إن أراد أحد أن ينجح يف بناء بديل للبيتكوين‪ ،‬فعليه أن يستثمر بشكل كبري يف العملة مما‬
‫يجعله متحكما ً بها بشكل كبري‪ .‬وطاملا تَواجد طرف ما لديه قوة التحكم والسيادة عىل‬
‫العملة الرقمية‪ ،‬فلن يتم فهم هذه العملة كشكل من أشكال النقد الرقمي‪ ،‬بل كشكل من‬
‫أشكال الوساطة للدفع‪ ،‬وحتى كشكل غري فعال‪.‬‬

‫وهذا األمر يشكل معضلة تواجه مصممي العمالت البديلة‪ :‬فدون اإلدارة‬
‫َ‬
‫واملسوِّقني‪ ،‬لن تجذب أي عملة االهتمام أو الرتكيز أو‬ ‫النشطة من قبل فريق من املطورين‬
‫رأس املال يف بحر مما يزيد عن ألف عملة‪ .‬ولكن مع اإلدارة النشطة‪ ،‬والتطوير‪ ،‬والتسويق‬
‫من قبل فريق معني‪ ،‬ال يمكن للعملة إال أن تَظهر بمظهر تلك العملة التي يتم التحكم بها‬
‫من قبل أولئك األفراد‪ .‬وعندما يتحكم مجموعة من املطورين بغالبية العمالت وبطاقة‬
‫ٍ‬
‫عمالت مركزية يتم‬ ‫املعالجة وبمختيص الربمجة والتشفري‪ ،‬فستكون تلك العمالت عمليا ً‬
‫تحديد مسار تطورها عن طريق اهتمامات الفريق العامل عليها‪ .‬وليس هناك ما هو‬
‫خاطئ يف عملة رقمية مركزية‪ ،‬وقد نحصل يوما ً ما عىل منافسة يف سوق حرة دون قيود‬
‫حكومية‪ ،‬لكن هناك يشء جوهري عميق خاطئ بشأن العمالت املركزية التي تتبنى‬

‫‪294‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫تصاميما ً بطيئة وغري فعالة بشكل كبري‪ ،‬والتي أفضليتها الوحيدة هي إزالة نقطة الفشل‬
‫الواحدة‪.‬‬

‫إن هذه املشكلة تتوضح بشكل أكرب فيما يخص العمالت الرقمية التي تبدأ‬
‫بعرض عمالت أويل "‪ ،"ICO‬بحيث يشكل ذلك مجموعة واضحة جدا ً من املطورين الذين‬
‫يتواصلون علنا ً مع املستثمرين‪ ،‬مما يجعل كامل املرشوع مركزيا ً بامتياز‪ .‬فالتجارب‬
‫واملِحن يف"‪ - Ethereum‬اإليثرييوم" وهي أكرب عملة رقمية كقيمة سوقية بعد البيتكوين‬
‫تُظهر هذه النقطة بشكل واضح‪.‬‬

‫فلقد كانت املنظمة املستقلة الالمركزية "‪ "DAO‬أول تطبيق للعقود الذكية عىل‬
‫شبكة اإليثرييوم‪ ،‬وبعد استثمار أكثر من ‪ $150‬مليون يف العقود الذكية‪ ،‬استطاع مهاجم‬
‫ُنفذ الشيفرة الربمجية بطريقة تم بها نقل ما يقارب ثلث أصول الـ "‪ "DAO‬إىل‬ ‫أن ي ِّ‬
‫حسابه الخاص‪ .‬وليس من الدقيق وصف هذا الهجوم بالرسقة وذلك ألن جميع املودعني‬
‫قد قبلوا بأن يتم التحكم بأموالهم من قبل الشيفرة الربمجية وال يشء سواها‪ ،‬ولم يفعل‬
‫املهاجم شيئا ً سوى أنه قام بتنفيذ هذه الشيفرة الربمجية كما تمت املوافقة عليه من قبل‬
‫املودعني‪ .‬فكان من آثار اخرتاق الـ )‪ ،(DAO‬أنه قام مطورو اإليثرييوم بإنشاء نسخة‬
‫جديدة منها لم يحدث بها هذا الخطأ املزعج‪ ،‬ثم قاموا بمصادرة أموال املهاجم ووزعوها‬
‫عىل الضحايا‪ .‬إن عملية إعادة تدخل اإلدارة البرشية غري املوضوعية هذه تتعارض مع‬
‫هدف جعل الشيفرة الربمجية قانوناً‪ ،‬وتشكك يف كامل منطق العقود الذكية‪.‬‬

‫فإذا كان من املمكن تعديل سلسلة كتل ثاني أكرب شبكة من حيث طاقة‬
‫املعالجة عندما ال ترسي التحويالت بما يتناسب مع مصالح فريق املطورين‪ ،‬فإنه ال يمكن‬
‫قبول الفكرة بأن أحدا ً من العمالت البديلة يتم تنظيمها عن طريق طاقة املعالجة‪ .‬إذاً‪،‬‬
‫فرتكيز حَ َملة العملة وطاقة املعالجة ومهارات الربمجة بني أيدي مجموعة واحدة من‬
‫الناس املشرتكني يف مرشوع ما تتعارض مع الهدف الكامل لتوظيف بنية سلسلة الكتل‪.‬‬

‫كما أنه من الصعب رؤية عمالت تم إصدارها بشكل خاص ترتقي لتصبح‬
‫عمالت عاملية عندما يكون لدى هذه العمالت فريق واضح مسؤول عنها‪ .‬فإن ارتفعت‬
‫قيمة هذه العمالت بشكل كبري‪ ،‬فسيصبح فريق صغري من املبتكرين غنيا ً جداً‪ ،‬وسيملك‬

‫‪295‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الطاقة الكافية لجمع رسوم صك العملة وهو دور مقصور للدول القومية يف العالم‬
‫الحديث‪ .‬لذلك‪ ،‬لن تأخذ البنوك املركزية والحكومات الوطنية موضوع التقليل من‬
‫سلطتها بشكل سهل‪ ،‬وسيكون من السهل نسبيا ً عىل البنوك املركزية أن تجد تلك الفرق‬
‫التي تقف خلف العمالت وتدمرها‪ ،‬أو حتى تعدل من عملياتها بطريقة تمنعها من‬
‫ظهر أية عملة بديلة صمو َد البيتكوين أمام التغيري‬ ‫املنافسة مع العمالت الوطنية‪ .‬ولم ت ُ ِ‬
‫الذي يُستمد من طبيعته الالمركزية ومن الدوافع القوية للجميع لاللتزام بالقوانني‬
‫الحالية املُجمع عليها للبيتكوين‪ .‬وبهذا‪ ،‬يحق للبيتكوين اإلدالء بهذا الترصيح بعد صموده‬
‫ونموه يف عالم الغاب باإلنرتنت ملدة تسع سنوات دون أي سلطة تتحكم به‪ ،‬وبعد صدِّه‬
‫نسقة لتعديله‪ .‬بينما وباملقارنة‪ ،‬إن تلك العمالت البديلة يوجد‬ ‫باقتدار للحمالت املُموَّلة واملُ َّ‬
‫لديها ثقافة الصداقة الواضحة ملجموعة من األشخاص اللطفاء الذين يعملون مع بعضهم‬
‫البعض كفريق عىل مرشوع معني‪ .‬وبينما يبدو ذلك رائعا ً لرشكة ناشئة جديدة‪ ،‬إال أنه‬
‫يُعد لعنة بالنسبة ملرشوع يريد أن يربهن عىل التزامه بسياسة نقدية ثابتة‪ .‬حيث أنه إذا‬
‫قررت الفِ رق التي تقف خلف أي عملة بديلة تغيري سياستها النقدية‪ ،‬فلن يكون ذلك‬
‫صعب التنفيذ‪ .‬فعملة اإليثريوم مثال ً ال تملك إىل اآلن رؤية واضحة عن الكيفية التي‬
‫ستكون بها سياستها النقدية يف املستقبل‪ ،‬تارك ًة املوضوع لنقاش مجتمع اإليثرييوم‪.‬‬
‫وبينما قد يفعل ذلك العجائب لروح مجتمع اإليثرييوم‪ ،‬إال أن ذلك ليس طريقة لبناء عملة‬
‫عاملية صعبة‪ ،‬ولكي نكون عادلني‪ ،‬ال تَدَّعِ ي عملة اإليثرييوم أنها تفعل ذلك‪ .‬وسواء أكان‬
‫ذلك ألنهم يدركون تلك النقطة‪ ،‬أو ألنهم يتجنبون االصطدام بالسلطة السياسية‪ ،‬أو قد‬
‫يكون خدعة تسويقية‪ ،‬فإن معظم العمالت البديلة ال ت ُ َسوِّق نفسها كمنافس للبيتكوين‪،‬‬
‫ولكنها تُسوِّق نفسها كعمالت تقوم بتنفيذ مهام مختلفة عن البيتكوين‪.‬‬

‫وليس هناك أي يشء يف تصميم البيتكوين يقرتح أنه سيكون فعاال ً للعديد من‬
‫االستعماالت كما تَدَّعي العمالت البديلة أنها قادرة عىل فعله‪ ،‬بل ولم تقدم أي عملة غري‬
‫البيتكوين قدرات مختلفة أو مميزات ال يملكها البيتكوين حتى اآلن‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن‬
‫جميعها تمتلك عملة تُتَداول بحرية وهو سبب بشكل ما أسايس بالنسبة لنظامهم املعقد‬
‫لكي تعمل بعض التطبيقات املتصلة باإلنرتنت‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫إن الفكرة بأن التطبيقات الشبكية الجديدة تتطلَّب وجود عمالتهم الالمركزية‬
‫هي فكرة وأمل ساذج بشكل كبري‪ ،‬ألنه وبطريقة ما‪ ،‬إن عدم حل مشاكل ندرة التطابق يف‬
‫الرغبات قد يكون مُربحا ً اقتصادياً‪ .‬فهناك سبب حقيقي وراء عدم إصدار الرشكات يف‬
‫العالم الحقيقي عمالتها الخاصة وهو عدم رغبة الناس بامتالك عملة ال يمكن رصفها إال‬
‫يف رشكة واحدة‪ .‬فالفكرة يف حمل وامتالك النقد هي حمل سيولة يمكن رصفها بأسهل ما‬
‫يمكن‪ ،‬أما حمْ ُل أشكال من النقد يمكن رصفها عند باعة محددين فقط يعني أنها تعرض‬
‫سيولة قلي ًلة جدا ً وال تخدم أي هدف‪ ،‬وسيفضل الناس بالطبع أن يحملوا وسائط دفع ذي‬
‫سيولة‪ .‬وأي رشكة تُرصّ عىل مدفوعات بعملتها التجارية الخاصة هي رشكة تقوم بإدخال‬
‫جانب من التكاليف العالية مع إنشاء مخاطر لزبائنها املحتملني‪.‬‬

‫فحتى يف األعمال واملشاريع التجارية التي تحتاج نوعا ً من أنواع العمالت‬


‫التشغيلية كمدينة املالهي أو الكازينوهات‪ ،‬فدائما ً ما تكون تلك العمالت التشغيلية ثابتة‬
‫يف القيمة بمقارنتها مع أي نقد ذي سيولة‪ .‬لذلك يستطيع الزبائن تحديد ما سيحصلون‬
‫عليه بشكل دقيق إضافة إىل قدرتهم عىل القيام بعمليات حسابية اقتصادية دقيقة‪ .‬فإذا‬
‫قامت أي من تلك العمالت البديلة التي من املفرتض أنها ثورية وغري مركزية بطرح أي‬
‫تطبيق ذي قيمة يف الحياة الحقيقية‪ ،‬فمن غري املتصور أن يتم الدفع لهذا التطبيق بالعملة‬
‫التجارية الحرة ذاتها‪.‬‬

‫يف الواقع وبعد دراسة هذا املجال لسنوات‪ ،‬لم أستطع تحديد ولو عملة رقمية‬
‫واحدة تعرض أي مُنتَج أو خدمة عليها أي طلب من السوق حيث يبدو أن تلك التطبيقات‬
‫الالمركزية املتفاخرة التي تتبع املستقبل لن تصل إلينا‪ .‬ولكن تلك العمالت الرمزية التي‬
‫من املفرتض أنها أساسية لعملياتهم ال تزال مستمرة باالزدياد باملئات كل شهر‪ ،‬وال‬
‫يستطيع الفرد إال أن يتساءل عما إذا كان االستعمال الوحيد لتلك العمالت الثورية هو‬
‫إلغناء أصحابها‪.‬‬

‫فال يمكن ألي عملة عدا البيتكوين أن تَدَّعي بشكل قابل للتصديق أنها خارج‬
‫سيطرة أي شخص‪ ،‬وبهذا‪ ،‬فإ َّن كامل موضوع استخدام البنية املعقدة جدا ً والتي يرتكز‬
‫وْضع نقاش‪ .‬فليس هناك أي يشء مُبتَ َكر أو صعب يف نسخ تصميم‬ ‫عليها البيتكوين هو َم ِ‬

‫‪297‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫البيتكوين وإنتاج نسخة مختلفة قليال ً عنه‪ ،‬فقد قام اآلالف تقريبا ً بهذا اليشء حتى اآلن‪.‬‬
‫ومع مرور الوقت‪ ،‬يمكننا أن نتوقع دخول املزيد من تلك العمالت إىل السوق‪ ،‬مما سيؤدي‬
‫إىل التخفيف من شأن العمالت البديلة الباقية‪ .‬لهذا‪ ،‬تُعترب جميع العمالت الرقمية‪ ،‬عدا‬
‫عمالت سهلة‪ ،‬وال يمكن النظر إىل هذه العمالت البديلة عىل حدة وفقا ً لظروفها‬
‫ٍ‬ ‫البيتكوين‪،‬‬
‫الخاصة ألنه ال يمكن التمييز بينها من خالل كيفية عملها وماهية وظيفتها‪ ،‬وهو األمر‬
‫الذي يؤديه البيتكوين‪ ،‬لكن يمكن تمييز هذه العمالت عن البيتكوين بأن تصميمها‬
‫وعرضها يمكن تعديلهما بسهولة‪ ،‬بينما سياسة البيتكوين النقدية بكل أهدافها ونواياها‬
‫منقوشة يف الحجر‪.‬‬

‫والسؤال عما إذا كانت تلك العمالت ستنجح بطرح خدمة يطلبها السوق غري‬
‫تلك التي يطرحها البيتكوين هو سؤال غري معروف إجابته إىل اآلن‪ .‬لكن يبدو بوضوح‬
‫أنها لن تستطيع منافسة البيتكوين بكونها عمالت رقمية ال تعتمد عىل الثقة‪ ،‬خصوصا ً‬
‫أنها جميعا ً اختارت تقليد طقوس البيتكوين متظاهر ًة بأنها تقوم بحل أشياء إضافية‪.‬‬
‫صنَعها‪.‬‬
‫ولكن هذا األمر ال يزيد من الثقة بها وذلك ألنها ال تنجز شيئا ً سوى إغناء من َ‬
‫ومن املمكن أن تكون التصاميم التي تقلد تصميم ناكاموتو والتي تقدر باآلالف هي أكثر‬
‫األشكال صدقا ً من أشكال اإلطراء‪ ،‬لكن فشلها املستمر يف عدم تحقيق أي يشء أكثر مما‬
‫قدمه تصميم ناكاموتو هو شهادة فخر وعظمة عىل هذا اإلنجاز وعىل عظمة ناكاموتو‪.‬‬
‫فاإلضافات الوحيدة عىل تصميم البيتكوين والتي تستحق االهتمام كانت من قبل‬
‫املربمجني البارعني املتطوعني الذين يكرسون أنفسهم باملساهمات لساعات طويلة يف‬
‫جعل الشيفرة الربمجية للبيتكوين أفضل‪ .‬والعديد من املربمجني متوسطي الرباعة نجحوا‬
‫يف الحصول عىل ثروة ضخمة عن طريق إعادة طرح تصميم ناكاموتو بالتسويق وبتعابري‬
‫طنانة ال فائدة منها‪ ،‬ولكن فشل جميعهم بإضافة أي قدرات وظيفية لها أي طلب يف‬
‫العالم الحقيقي‪ .‬لهذا‪ ،‬ال يمكن فهم نمو تلك العمالت البديلة خارج إطار العملة‬
‫الحكومية السهلة التي تبحث عن استثمار سهل‪ ،‬مما ي ُشكل فقاعات كبرية باستثمارات‬
‫ضخمة فاشلة‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫‪11‬‬
‫تكنولوجيا سلسلة الكتل‪(-‬البلوك تشني‪(Blockchain-‬‬

‫كنتيجة لالرتفاع املدهش يف قيمة البيتكوين وللصعوبة يف فهم إجراءات وتقنيات عمله‪،‬‬
‫كان هناك سوء فهم والتباس كبريَين جدا ً فيما يتعلق به‪ ،‬وربما أهم وأشهر تلك‬
‫االلتباسات هي الفكرة بأن امليكانيكية التي تضع التحويالت يف كتل بحيث تكون متصلة‬
‫ببعضها كسلسلة لت ُشكل سجالً – التي هي جزء من عمليات البيتكوين‪ -‬هي تقنية يمكن‬
‫بشكل ما نرشها وتوظيفها لحل أو تحسني مشاكل اقتصادية واجتماعية‪ ،‬أو حتى إحداث‬
‫ثورة بها‪ ،‬كما هو الحال مع كل لعبة مبالغ بقيمتها تم ابتكارها يف أيامنا هذه‪.‬‬
‫"البيتكوين غري مهم لكن تكنولوجيا سلسلة الكتل التي يستند عليها هي ما يحمل‬
‫نغمة قديمة تم تكرارها حتى الغثيان بني عامي ‪ 2014‬و‪ 2017‬من‬ ‫ً‬ ‫األهمية"‪ .‬إن هذه‬
‫قبل مديري البنوك‪ ،‬والصحفيني‪ ،‬والسياسيني‪ ،‬الذين يتشاركون جميعا ً بيشء واحد وهو‬
‫افتقارهم لفهم طريقة عمل البيتكوين‪( .‬شاهد الشكل رقم ‪.)22‬‬

‫فالهوس والرتكيز عىل تكنولوجيا سلسلة الكتل هو مثال رائع عىل " ادّعاء‬
‫العلم"‪ ،‬وهو فكرة تم نرشها من قبل الفيزيائي "ريتشارد فاينمان"‪ .‬تقول القصة أن‬
‫الجيش األمريكي أنشأ مدرجات لهبوط الطائرات للمساعدة يف العمليات العسكرية عىل‬
‫جزير ٍة يف جنوب املحيط الهادئ خالل الحرب العاملية الثانية‪ ،‬وكانت الطائرات غالبا ً‬
‫تجلب هدايا للسكان األصليني للجزيرة الذين كانوا يستمتعون بها بشكل كبري‪ .‬وبعد‬
‫وتوقف الطائرات عن الهبوط عىل هذه املدرجات بالجزيرة‪ ،‬حاول السكان‬ ‫ُّ‬ ‫انتهاء الحرب‬
‫املحليون بكل جهدهم إعادة الطائرات وحمولتها إىل الجزيرة‪ .‬وخالل يأسهم الشديد‪،‬‬
‫كانوا يقلدون سلوك وحدات التحكم الربية التابعة للجيش األمريكي الذي رحل منذ زمن‪،‬‬
‫معتقدين أنه وبوضعهم رجال ً يف كوخ مع هوائي وإشعال نار كما اعتادت وحدات تحكم‬
‫الجيش فعله‪ ،‬فستعود طائرات الجيش األمريكي حاملة لهم الهدايا‪ .‬بوضوح لم تكن‬
‫اسرتاتيجية كهذه لتعمل‪ ،‬وذلك ألن االجراءات التي اتَّبعتها وحدات تحكم الجيش لم تكن‬

‫‪ 11‬يعتمد هذا القسم بشكل كبري على مقاليت "تكنولوجيا سلسلة الكتل‪ :‬ما فائدهتا؟" املنشورة يف مراجعة قوانني‬
‫النقد واخلدمات املصرفية‪ ،‬القضية األوىل‪ ،‬القسم ‪.2018 ،33.3‬‬

‫‪299‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫كيف تقرر إذا كنت تحتاج سلسلة كتل أم ال‬

‫هل تحتاج النقود الرقمية‬

‫ال‬ ‫نعم‬

‫ال تحتاج سلسلة كتل‬ ‫استخدم البيتكوين‪ :‬سلسلة‬


‫الكتل الوحيدة الفعالة‬

‫الشكل ‪ :22‬مخطط قرار سلسلة الكتل‬

‫تخلق تلك الطائرات من العدم؛ بل كانت هذه الوحدات جزء متكامل لعملية تقنية دقيقة‪،‬‬
‫تبدأ بتصنيع الطائرات وإقالعها من قواعدها‪ ،‬وهو أمر لم يستطع سكان جزيرة املحيط‬
‫الهادئ فهمه‪.‬‬

‫ومثل أولئك السكان‪ ،‬فالناس الذين يروجون تكنولوجيا سلسلة الكتل عىل أنها‬
‫عملية يمكنها إنتاج منافع اقتصادية لوحدها ال يفهمون العملية األكرب والتي تكون‬
‫سلسلة الكتل جزءا ً منها‪ .‬فميكانيكية البيتكوين لرتسيخ وتأسيس ثبات ومصداقية‬
‫السجل هي عملية معقدة للغاية‪ ،‬لكنها تخدم هدفا ً واضحاً‪ :‬وهي إصدار عملة ونقل قيمة‬
‫عىل الشبكة دون الحاجة لوجود طرف ثالث موثوق به‪" .‬فتكنولوجيا سلسلة الكتل"‪ ،‬إىل‬
‫الحد التي هي موجودة به اآلن ليست طريقة فعالة أو زهيدة الثمن أو حتى رسيعة يف‬
‫إجراء التحويالت عىل الشبكة‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬إنها غري فعالة بشكل كبري وبطيئة مقارنة‬
‫بالحلول املركزية‪ ،‬واألفضلية الوحيدة لهذه التكنولوجيا هي إلغاء الحاجة لوجود طرف‬

‫‪300‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫ثالث موثوق به كوسيط‪ .‬فاالستعمال الوحيد املحتمل لهذه التكنولوجيا يكمن يف املجاالت‬
‫التي ستنتج قيمة مرتفعة جدا ً للمستخدمني النهائيني عند نزع توسط الطرف الثالث‬
‫من ها‪ ،‬مما يربر ارتفاع ثمنها وقلة فعاليتها‪ .‬والطريقة الوحيدة التي يمكن من خاللها أن‬
‫تنجح يف إلغاء توسط الطرف الثالث هي عرب نقل العمالت األصلية للشبكة نفسها‪ ،‬وذلك‬
‫ألنه ال يوجد للشيفرة الربمجية لسلسلة الكتل أي سيطرة مدمجة عىل أي يشء يحصل‬
‫خارجها‪.‬‬

‫فإذا قمنا بعمل مقارنة‪ ،‬فإن هذه املقارنة ستساعدنا عىل تقديم صورة عىل‬
‫عدم فعالية البيتكوين فيما يخص عملية تنفيذ التحويالت‪ ،‬حيث أنَّنا وإذا قمنا بنزع ٍ‬
‫كل‬
‫من زخارف الالمركزية‪ ،‬وإثباتات نظام إثبات العمل‪ ،‬والتعدين‪ ،‬وانعدام الثقة‪ ،‬ثم قمنا‬
‫بتشغيل نسخة مركزية من البيتكوين‪ ،‬عندها سيتكون بشكل أسايس من خوارزمية‬
‫إلنتاج العمالت‪ ،‬وقاعدة بيانات مللكية العمالت التي تعالج ما يقارب ‪ 300,000‬تحويل يف‬
‫اليوم‪ .‬ويُعد هذا األمر سهال ً للغاية ويمكن ألي حاسوب شخيص حديث القيام به بشكل‬
‫فعال‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬يمكن لحواسيب محمولة استهالكية قديمة أن تؤدي ما يقارب‬
‫‪ 14,000‬تحويل يف الثانية‪ ،‬أو تؤدي كامل حجم تحويالت البيتكوين اليومية يف ‪20‬‬
‫ثانية‪ .12‬وإلنجاز حجم تحويالت سنة كاملة للبيتكوين فسيحتاج الحاسوب املحمول‬
‫الشخيص ألكثر من ساعتني بقليل‪.‬‬

‫إن املشكلة يف تشغيل هذا النوع من العمالت عىل حاسوب شخيص محمول هي‬
‫أن ذلك يتطلب الثقة يف مالك هذا الحاسوب‪ ،‬والثقة بحماية وأمن الحاسوب أمام‬
‫املهاجمني‪ .‬والطريقة والتصميم الوحيد املوجود لتشغيل هذه الربمجية البسيطة دون‬
‫الحاجة لطرف واحد موثوق به حتى ال يتم تزوير سجل التحويالت أو تغيري معدل‬
‫ِ‬
‫املعتمدة عىل مبدأ نظري إىل نظري‬ ‫إصدار العملة‪ ،‬هو تصميم شبكة البيتكوين الالمركزية‬
‫بتأكيد نظام إثبات العمل‪ .‬فهذا األمر ليس مشكلة برمجية بسيطة‪ ،‬حيث استغرق عقودا ً‬

‫‪ 12‬اقرأ مدونة بيرت جيوجان اليت توضح كيف استطاع حتقيق ذلك عن طريق حاسوبه الشخصي على‪:‬‬
‫‐‪http://pgeoghegan.blogspot.com/2012/06/towards‐14000‐write‬‬
‫‪transactions‐on‐my.html‬‬

‫‪301‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫من الزمن من محاوالت مربمجي الحواسيب إيجاد التصميم األفضل لها قبل أن يستطيعوا‬
‫ابتكار هذا التصميم الذي يحقق ذلك‪ .‬ويف حني أنه لدى الحاسوب الشخيص املحمول‬
‫معدل هاش يُقدر بحوايل ‪ 10‬ميغاهاش يف الثانية‪ ،‬فإن شبكة البيتكوين تعالج باإلجمال‬
‫ما يقارب ‪ 20‬إكساهاش يف الثانية‪ ،‬أو ما يساوي ‪ 2‬تريليون حاسوب محمول‪ .‬بكلمات‬
‫أخرى‪ ،‬إلزالة الحاجة للثقة‪ ،‬يجب أن تزداد طاقة املعالجة املستخدمة لتشغيل عملة‬
‫بسيطة وبرنامج قاعدة بيانات بعامل يصل إىل ‪ 2‬تريليون تقريباً‪ .‬وليست العملة أو‬
‫تحويالتها هي ما يحتاج كل تلك الطاقة من املعالجة بل جعْ ُل النظام غري قائم عىل الثقة‬
‫هو ما يحتاج ذلك‪ .‬ولهذا‪ ،‬إن أي معالجة حاسوبية يتم تشغيلها من قبل تكنولوجيا‬
‫سلسلة الكتل يجب أن تحقق معيارين‪:‬‬

‫أوالً‪ ،‬يجب أن تكون املكاسب من الالمركزية مُقِ نعة بما فيه الكفاية لكي تربر‬
‫ثمنها املرتفع‪ .‬فال يمكن تربير الثمن املرتفع لالمركزية ألي عملية تحتاج شكالً من‬
‫أشكال الطرف الثالث املوثوق لتطبيق جزء صغر منها‪ .‬فلتطبيق العقود التي تتعامل مع‬
‫األعمال واملشاريع التجارية للعالم الحقيقي والتي تقع تحت إدارة سلطات قضائية‬
‫رشعي ة‪ ،‬ستبقى هناك رقابة قانونية متعلقة بتطبيق تلك العقود يف العالم الحقيقي حيث‬
‫يمكن تجاوز قواعد الشبكة املتفق عليها‪ ،‬مما سيجعل التكلفة الباهظة لالمركزية بال أي‬
‫فائدة‪ .‬واألمر ذاته ينطبق عىل قاعدة البيانات غري املركزية الخاصة باملؤسسات املالية‪،‬‬
‫حيث ستبقى تلك املؤسسات املالية كطرف ثالث موثوق بها يف عملياتها الخاصة مع‬
‫بعضها البعض أو بينها وبني العمالء‪.‬‬

‫ثانياً‪ ،‬إن العملية األولية نفسها يجب أن تكون بسيطة بما فيه الكفاية لكي‬
‫تضمن القدرة عىل تشغيل السجل املُو َّزع من قبل العديد من ال ُع َقد‪ ،‬دون جعل سلسلة‬
‫الكتل ثقيلة وكبرية جدا ً عىل أن يتم توزيعها‪ .‬ألنه ومع تكرار العملية بمرور الوقت‪،‬‬
‫سيكرب حجم سلسلة الكتل وسيصبح صعبا ً بشكل متصاعد عىل ال ُع َقد املوزعة أن تحتفظ‬
‫بنسخة كاملة من سلسلة الكتل‪ ،‬مما يعني أن قلة فقط من الحواسيب العمالقة ستكون‬
‫قادرة عىل تشغيل سلسلة الكتل جاعل ًة الالمركزية شيئا ً قديما ً وبالياً‪ .‬الحظ هنا االختالف‬
‫بني العُ َقد التي تحتوي وتحتفظ بالسجل وبني املعدِّنني املُ َك َّرسني الذين يقومون بحل‬
‫مسائل نظام إثبات العمل‪ ،‬كما تم النقاش يف الفصل الثامن‪ :‬حيث أن املعدنني يحتاجون‬

‫‪302‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫ف كميات هائلة من طاقة املعالجة إلتمام التحويالت يف السجل املشرتك‪ ،‬بينما تحتاج‬ ‫رص َ‬‫َ ْ‬
‫العُ قد لقدر قليل جدا ً من طاقة املعالجة لالحتفاظ بنسخة من السجل والذي من خالله‬ ‫َ‬
‫تستطيع التأكيد عىل دقة تحويالت املعدنني‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬يمكن أن تُدار العُ َقد عن طريق‬
‫حواسيب شخصية بينما يملك املعدنون الفرديون طاقة معالجة مئات الحواسيب‬
‫الشخصية‪ .‬وإذا أصبحت العملية املتعلقة بالسجل معقدة جداً‪ ،‬فستحتاج العُ َقد ألن تكون‬
‫خوادم كبرية بدال ً من أن تكون حواسيب شخصية‪ ،‬مما سيدمر احتمالية الالمركزية‪.‬‬

‫وقد وَضعت سلسلة كتل البيتكوين حدا ً عىل حجم كل كتلة يُقدَّر ب ِـ ‪1‬‬
‫ميغابايت‪ ،‬مما حد من رسعة نمو سلسلة الكتل‪ .‬لكن هذا الحد سيسمح للحواسيب‬
‫البسيطة بإدارة العُ َقد واإلبقاء عليها‪ .‬فإذا ازداد حجم كل كتلة أو إذا تم استعمال سلسلة‬
‫الكتل لعمليات معقدة أكثر كتلك العمليات التي يتم الرتويج لها من قبل أولئك املتحمسني‬
‫لسلسلة الكتل‪ ،‬فإن ذلك سيجعلها أكرب حجما ً وأصعب من أن يتم إدارتها من قبل‬
‫حواسيب شخصية بحيث أن تركيز الشبكة يف عدة عقد كبرية تملكها وتديرها مؤسسات‬
‫كبرية‪ ،‬سيهدم كامل فكرة الالمركزية‪.‬‬

‫إن العمالت النقدية الرقمية غري املبينة عىل الثقة حتى اآلن كانت التطبيق‬
‫الوحيد الناجح لتكنولوجيا سلسلة الكتل‪ ،‬وذلك ألن هذه التكنولوجيا سهلة وبسيطة‬
‫التشغيل‪ ،‬مما أدى إىل نمو بطيء نسبيا ً لسجلها عىل مدى الزمن‪ .‬وهذا يعني أنه من‬
‫املمكن ألي حاسوب محيل وأي شبكة اتصال يف جميع أنحاء العالم أن يكون عضوا ً يف‬
‫شبكة البيتكوين‪ .‬فالتضخم املتوقع واملُسيطر عليه يحتاج أيضا ً كمية صغرية من طاقة‬
‫ً‬
‫قيمة هائلة للمستخدمني‬ ‫ض فيها الالمركزية وانعدام الثقة‬‫عر ُ‬
‫املعالجة‪ ،‬ولكنه عملية تَ ِ‬
‫النهائيني‪ ،‬كما ُرشح يف الفصل الثامن‪ .‬وكل وسائل اإلعالم النقدية يتم التحكم بها يف‬
‫أيامنا هذه من قبل أطراف يمكنها أن تقوم بتضخيم العرض من أجل الربح من الطلب‬
‫املتزايد‪ .‬وهذا األمر صحيح بالنسبة للعمالت الورقية واملعادن غري الثمينة‪ ،‬لكنه صحيح‬
‫أيضا ً بالنسبة للذهب‪ ،‬الذي تخزنه البنوك املركزية بكميات كبرية مستعدين لبيعه يف‬
‫السوق ملنعه من االزدياد يف القيمة برسعة كبرية وبهذا تَستبدل العمالت الورقية‪ .‬فألول‬
‫مرة منذ إلغاء املعيار الذهبي‪ ،‬استطاع البيتكوين جعل النقد السليم يف متناول الجميع‬
‫من مختلف أنحاء العالم وبشكل سهل‪ .‬وهذه التوافقية غري املتوقعة بني حِ مْ ٍل خفيف من‬

‫‪303‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الحوسبة وقيمة اقتصادية كبرية هي السبب يف نمو حجم طاقة معالجة شبكة البيتكوين‬
‫إىل أكرب شبكة يف التاريخ‪ .‬ولقد أثبت البيتكوين خالل الثماني سنوات التي مر بها أنه من‬
‫املستحيل إيجاد حالة َقيِّمة أخرى لالستعمال قد تكفي لتربير توزعه عىل آالف العُ َقد‬
‫األعضاء‪ ،‬بينما يكون وبالوقت نفسه خفيفا ً لدرجة تسمح بتلك الالمركزية التي يتصف‬
‫بها‪.‬‬

‫وأول أثر لهذا التحليل هو أنه من املرجح عدم نجاح أي تغيري يف برتوكول‬
‫البيتكوين إذا كان هدفه زيادة حجم سلسلة الكتل‪ ،‬ليس فقط بسبب الثبات املذكور‬
‫سابقاً‪ ،‬ولكن ألن ذلك غالبا ً سيمنع معظم مدراء ال ُع َقد من تشغيل عقدهم الخاصة‪ .‬وبما‬
‫أن هذه العُ َقد هي من يقرر أي برنامج يتم تشغيله‪ ،‬فمن اآلمن التنبؤ بأنه ستستمر أقلية‬
‫متشددة من العُ َقد يف العمل عىل النظام الربمجي الحايل‪ ،‬حاملني عمالت البيتكوين‬
‫الخاصة بهم‪ ،‬بحيث أن أي محاولة لتحديث برنامج البيتكوين ستُحوِّ له إىل عملة بديلة بال‬
‫قيمة كمئات العمالت املوجودة حالياً‪.‬‬

‫األثر الثاني هو أن جميع تطبيقات "تكنولوجيا سلسلة الكتل" التي يتم‬


‫الرتويج لها عىل أنها ثورة يف عالم املعامالت املرصفية أو تكنولوجيا قواعد البيانات‪ ،‬هي‬
‫تطبيقات محكوم عليها بالفشل يف عدم تحقيق أكثر من نماذج تجريبية لن يتم نقلها أبدا ً‬
‫إىل العالم الحقيقي‪ ،‬وذلك ألنها ستبقى دائما ً طريقة غري فعالة أبدا ً لألطراف الثالثة‬
‫صمِّمَت خصيصا ً‬ ‫املوثوقة التي تديرها إلجراء أعمالهم‪ .‬فمن غري املنطقي أن تكنولوجيا ُ‬
‫إلزالة وساطة األطراف الثالثة أن ينتهي بها األمر بتأدية هدف مفيد للجهات الوسيطة‬
‫والتي تم إنشاء تلك التكنولوجيا الستبدالها‪.‬‬

‫فهناك العديد من الطرق األسهل واألرسع لتسجيل التحويالت‪ ،‬لكن هذه هي‬
‫الطريقة الوحيدة إلزالة الحاجة لوجود طرف ثالث موثوق‪ .‬حيث أنه يتم االلتزام بإجراء‬
‫التحويل عىل سلسلة الكتل وذلك ألن الكثري من املوثِّقني يتنافسون لتأكيد هذه التحويالت‬
‫من أجل الربح‪ .‬ومع هذا‪ ،‬ال يوجد واحد منهم يمكن االعتماد عليه أو يمكن إعطائه الثقة‬
‫إلقرار ما إذا كان ذلك التحويل سيسري أم ال‪ .‬يف الواقع‪ ،‬يتم كشف االحتيال عىل الفور ثم‬
‫يتم إلغاؤه من قبل أعضاء الشبكة اآلخرين الذين يملكون دافعا ً قويا ً للحفاظ عىل‬

‫‪304‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫مصداقية ونزاهة الشبكة‪ .‬بكلمات أخرى‪ ،‬إن البيتكوين هو نظام بُني بأكمله عىل‬
‫التصديقات مرتفعة الثمن والبطيئة لكي يكون قادرا ً عىل إزالة الحاجة لوجود كل من‬
‫الثقة واملساءلة بني األطراف‪ :‬أي أنه ‪ %100‬تأكيد و‪ %0‬ثقة‪.‬‬

‫وعىل عكس الحماس والضجة اإلعالمية املحيطة بالبيتكوين‪ ،‬فإن إزالة الحاجة‬
‫للثقة يف األطراف الثالثة ليس أمرا ً جيدا ً بشكل مطلق يف جميع مجاالت الحياة واألعمال‪،‬‬
‫وبعدما يفهم الشخص ميكانيكية عمليات البيتكوين‪ ،‬فسيكون واضحا ً له أن هناك‬
‫مقايض ًة تتم عند االنتقال إىل نظام ال يعتمد عىل طرف ثالث موثوق‪ .‬فاألفضلية بهذا‬
‫االنتقال تكمن يف السيادة الفردية عىل الربوتوكول‪ ،‬ومقاومة والرقابة‪ ،‬وثبات نمو العرض‬
‫النقدي ووجود املعايري التقنية‪ ،‬أما السلبيات فتتلخص يف الحاجة لرصف طاقة معالجة‬
‫كبرية جدا ً إلتمام الكمية ذاتها من العمل‪ .‬فليس هناك سبب خارج نطاق الدعاية‬
‫والحماس املستقبيل الساذج لالعتقاد بأن تلك مقايضة مفيدة جداً‪ .‬ومن املحتمل أن يكون‬
‫املكان الوحيد الذي تكون فيه هذه املقايضة مفيدة هو بإدارة نقد عاملي سليم وموحد‬
‫لسببني هامني للغاية‪ .‬األول‪ ،‬يمكن تعويض التكاليف الباهظة املدفوعة عىل تشغيل‬
‫وإدارة النظام عن طريق االستيالء ببطء عىل أجزاء من سوق العمالت العاملي‪ ،‬الذي يعمل‬
‫بما يُقدَّر بقيمة ‪ 80‬ترليون دوالر أمريكي‪ .‬الثاني‪ ،‬إن طبيعة النقد السليم كما ُرشح‬
‫سابقا ً تكمن وبشكل دقيق يف حقيقة أنه ال يوجد إنسان قادر عىل التحكم بها‪ ،‬وبالتايل‪،‬‬
‫فوجود خوارزمية ثابتة بشكل متوقع تتناسب بشكل كبري مع هذه املهمة‪ .‬وبعد التفكري‬
‫بهذا السؤال لعدة سنوات‪ ،‬لم أتمكن من إيجاد عملية مشابهة عىل درجة عالية من األهمية‬
‫يف كل مجاالت األعمال واملشاريع األخرى‪ ،‬لدرجةٍ تستحق القيمة اإلضافية لقاء عدم وجود‬
‫وسطاء موثوقني‪ ،‬ويف نفس الوقت تكون بسيطة وشفافة بشكل كبري جدا ً بحيث أن إزالة‬
‫السلطة البرشية تكون ذات فائدة ومنفعة عظيمة‪.‬‬

‫إن مثاال ً مشابها ً بقطاع السيارات سيكون مفيدا ً وتعليميا ً هنا‪ .‬ففي عام‬
‫‪ ،1885‬أضاف "كارل بنز" محرك احرتاق داخيل للعربة وذلك إلنتاج أول آلية تمد نفسها‬
‫بالطاقة بشكل آيل‪ ،‬وكان الهدف األسايس من ذلك هو إزالة األحصنة من العربات وتحرير‬
‫الناس من التعامل الدائم مع مفرزات األحصنة‪ .‬فلم يكن بنز يحاول جعل األحصنة‬
‫أرسع‪ ،‬حيث أن تحميل الحصان بمحرك حديدي ثقيل لن يجعل األحصنة تركض بشكل‬

‫‪305‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫أرسع؛ بل سيبطئها األمر أكثر بينما لن يفعل شيئا ً حيال الحد من كمية املفرزات التي‬
‫تنتجها تلك األحصنة‪ .‬بشكل مشابه وكما ُرشح يف الفصل الثامن‪ ،‬إن طاقة املعالجة‬
‫الهائلة املطلوبة لكي تعمل شبكة البيتكوين تقيض عىل الحاجة لوجود طرف ثالث موثوق‬
‫إلجراء مدفوعاتها أو ت ُح ِّدد العرض النقدي الخاص بها‪ .‬فإن ظ َّل الطرف الثالث موجوداً‪،‬‬
‫فإن كل طاقة املعالجة تلك ال هدف لها وتُع ُّد إهدارا ً للكهرباء‪.‬‬

‫والوقت وحده سيخربنا عما إذا كان هذا النموذج من البيتكوين سيستمر بالنمو‬
‫يف شعبيته ودرجة تبنيه‪ .‬فمن املمكن أن ينمو البيتكوين ليستبدل الكثري من الوسطاء‬
‫املاليني‪ ،‬لكن من املمكن أيضا ً أن يظل ثابتا ً يف حالته الحالية أو حتى أن يفشل ويختفي‪،‬‬
‫ولكن ما ال يمكن حدوثه أبدا ً هو أن تَخد َم سلسلة كتل البيتكوين وسطا ًء ُ‬
‫صمِّمت‬
‫خصيصا ً الستبدالهم‪.‬‬

‫فسلسلة الكتل بالنسبة ألي طرف ثالث موثوق يقوم بإجراء املدفوعات أو‬
‫التجارة‪ ،‬أو يقوم بالحفاظ عىل السجالت‪ ،‬هي تكنولوجيا باهظة الثمن وغري فعالة‬
‫لالستخدام‪ .‬وبهذا‪ ،‬تجمع سلسلة الكتل لغري البيتكوين أسوء ما يف العالَمني‪ :‬البنية‬
‫الباهظة لسلسلة الكتل إضافة للخطورة األمنية املتعلقة باألطراف الثالثة‪ .‬فليس من‬
‫الغريب بأنه بعد ثماني سنوات من ابتكارها‪ ،‬لم تستطع تكنولوجيا سلسلة الكتل أن‬
‫تنترش بنجاح أو أن تُطلق تطبيقات تجارية جاهزة للسوق عدا املجال الذي تم ابتكاره‬
‫خصيصا ً من أجله أال وهو البيتكوين‪.‬‬

‫باملقابل‪ ،‬كان هناك حماس وفري حول قدرات وإمكانيات تكنولوجيا سلسلة‬
‫الكتل يف كل من املؤتمرات‪ ،‬والنقاشات عىل مستوى رفيع يف وسائل اإلعالم‪ ،‬والحكومات‪،‬‬
‫واألكاديميات‪ ،‬واملؤسسات‪ ،‬ومنتدى االقتصاد العاملي‪ .‬وتم استثمار ماليني الدوالرات‬
‫كرؤوس أموال استثمارية‪ ،‬ويف األبحاث والتسويق من قبل الحكومات واملؤسسات التي تم‬
‫إغراؤها يف هذا الحماس‪ ،‬ولكن بال أي نتيجة عملية تُذكر‪.‬‬

‫ولقد قام مستشارو سلسلة الكتل ببناء نماذج لتداول األسهم‪ ،‬وإدراج األصول‪،‬‬
‫والتصويت‪ ،‬وتخليص املدفوعات‪ ،‬لكن لم تتطور أي منها لتُوَ َّ‬
‫ظف تجاريا ً حيث أنها كانت‬

‫‪306‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫أكثر تكلف ًة من الطرق البسيطة التي تعتمد عىل قواعد البيانات املُنشأة والحزم الربمجية‪،‬‬
‫كما استنتجت حكومة "فريمونت" مؤخرا ً‪.13‬‬

‫ويف الوقت نفسه‪ ،‬ال تملك املصارف تاريخا ً جيدا ً فيما يتعلق بتطبيق التطورات‬
‫التكنولوجية الستعمالها الشخيص‪ .‬فبينما كان "جيمي ديمون" املدير التنفيذي‬
‫ل ِـ "‪ "JPMorgan Chase‬يروج لتكنولوجيا سلسلة الكتل يف "دافوس" يف يناير من عام‬
‫‪ ،2016‬قام مرصفه بافتتاح واجهات للبورصات املالية – وهي تكنولوجيا من عام ‪1997‬‬
‫تُو ِّفر للجهات املعنية قاعدة بيانات مركزية تحتوي عىل معلومات العمالء ‪ -‬ولم تعمل‬
‫حتى كتابة هذا الكتاب‪.‬‬

‫باملقابل‪ ،‬وُلدت شبكة البيتكوين من تصميم سلسلة الكتل بعد شهرين من‬
‫طرح ناكاموتو لتلك التقنية‪ .‬وحتى يومنا هذا‪ ،‬ال تزال تعمل بشكل متواصل دون‬
‫تقطعات ونمت إىل ما يزيد عىل قيمة ‪ $150‬مليار من عمالت البيتكوين‪ .‬فسلسلة الكتل‬
‫كانت هي الحل ملشكلة النقد اإللكرتوني‪ .‬فبسبب هذا وألنها عملت‪ ،‬فقد نمت برسعة يف‬
‫ٍ‬
‫متخف حيث كان يتواصل عرب الربيد اإللكرتوني‬ ‫الوقت الذي عمل فيه ناكاموتو بشكل‬
‫فقط وباقتضاب ملا يقارب السنتني‪ ،‬ولم تحتج إىل االستثمارات‪ ،‬ورؤوس األموال‬
‫االستثمارية‪ ،‬واملؤتمرات‪ ،‬أو الدعاية‪.‬‬

‫بهذا الرشح‪ ،‬أصبح واضحا ً أن االدِّعاء القائل بأن "تكنولوجيا سلسلة الكتل"‬
‫موجودة ويمكن نرشها وتوظيفها لحل أي مشكلة هو ادعاء مشبوه‪ .‬وسيكون األمر أكثر‬
‫دقة يف حال تم فهم بنية سلسلة الكتل كقسم أسايس ومتكامل من عملية البيتكوين ومن‬
‫النُّسخ التي تقلد البيتكوين والنُّسخ التي يتم التجربة عليها‪ .‬مع هذا‪ ،‬يتم استخدام‬
‫مصطلح تكنولوجيا سلسلة الكتل من أجل البساطة يف التوضيح‪ .‬والقسم التايل من‬
‫الفصل سيبحث أشهر حاالت استعمال تكنولوجيا سلسلة الكتل التي تم الرتويج لها‪،‬‬
‫بينما يحدد القسم الذي يليه املصاعب الرئيسية التي تواجه تطبيق سلسلة الكتل لتلك‬

‫‪ 13‬ستان هيغينز ‪" :‬تقول فريمونت أن سجل سلسلة الكتل جيعل النظام مكلفاً جداً ‪.‬موقع ‪coinbase.com‬‬
‫يف ‪ 20‬يناير عام ‪.2016‬‬

‫‪307‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫املشاكل‪.‬‬

‫التطبيقات املحتملة لتكنولوجيا سلسلة الكتل‬

‫من ملحة عامة عىل الرشكات الناشئة ومشاريع البحث املتعلقة بتكنولوجيا سلسلة الكتل‪،‬‬
‫يمكننا أن نصل للنتيجة أنه يمكن تقسيم تطبيقات سلسلة الكتل املحتملة إىل ثالثة‬
‫مجاالت رئيسية‪:‬‬

‫تسديد الدفعات بشكل رقمي‬

‫سجالت مركزية لكي تُسجل جميع‬ ‫ٍ‬ ‫تعتمد اآلليات التجارية الحالية لتصفية الدفعات عىل‬
‫التحويالت وتصون أرصدة الحسابات‪ .‬وبشكل أسايس‪ ،‬يتم نقل التحويالت من أطراف‬
‫املعاملة إىل الوسيط ثم يتم التأكد من صحتها‪ ،‬وبعدها يتم تعديل كال الحسابني وفقا ً‬
‫لذلك‪ .‬أما يف سلسلة الكتل‪ ،‬فإنه يتم نقل التحويلة إىل كل عقد الشبكة التي تحتوي عىل‬
‫الكثري من التحويالت وقوة املعالجة والوقت‪ ،‬بحيث تُصبح هذه التحويلة جزءا ً من سلسلة‬
‫الكتل ويتم نسخها إىل حواسيب كل األعضاء‪ .‬إن هذه العملية أبطأ وأغىل ثمنا ً من‬
‫التصفية املركزية‪ ،‬وهذا يساعدنا عىل فهم قدرة بطاقتي فيزا وماسرتكارد عىل تصفية‬
‫‪ 2,000‬تحويلة يف الثانية يف حني يُصفي البيتكوين أربعة بأفضل األحوال‪ .‬فالبيتكوين‬
‫لديه سلسلة كتل ليس ألنه يسمح بتحويالت أرسع وأرخص‪ ،‬بل ألنه يلغي الحاجة ألن‬
‫نثق بوساطة األطراف الثالثة‪ :‬فيتم تصفية التحويالت بحيث تتنافس العُ َقد عىل تأكيدها‬
‫وتوثيقها‪ ،‬ومع ذلك فإنه ال حاجة للوثوق بأية عقدة‪ .‬لذلك‪ ،‬من غري العميل لألطراف‬
‫الثالثة الوسيطة أن تتخيل أنه بإمكانها تطوير أدائها بتوظيف تقنية تُضحي بالفعالية‬
‫والرسعة بالذات من أجل إزالة األطراف الثالثة الوسيطة‪ .‬ولهذا‪ ،‬بالنسبة إىل أية عملة‬
‫ُسيطر عليها طرف مركزي‪ ،‬فإن األمر دائما ً سيكون أكثر فعالية إذا تمت عملية تسجيل‬ ‫ي ِ‬
‫التحويالت مركزياً‪ .‬وما يُمكن رؤيته بوضوح هو أن تطبيقات تسديد الدفعات عىل‬
‫سلسلة الكتل يجب أن تكون بعملة سلسلة الكتل ذاتها وغري املركزية‪ ،‬وليس بعمالت يتم‬
‫السيطرة عليها بشكل مركزي‪.‬‬

‫‪308‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫العقود‬

‫يصيغ املحامون العقود حالياً‪ ،‬وتح ُكم عليها املحاكم‪ ،‬وتفرض الرشطة تطبيقها‪ .‬أما يف‬
‫شفر أنظمة تشفري العقود الحديثة العقو َد مثل اإليثريوم وتضعها‬‫عالم النظام الرقمي‪ ،‬فت ُ ِّ‬
‫عىل سلسلة الكتل ليتم تنفيذها دون تدخل خارجي ودون إمكانية االستئناف أو اإلبطال‬
‫وبذلك تكون بعيد ًة عن سلطة املحاكم والرشطة‪" .‬الشيفرة الربمجية هي القانون" هذا‬
‫هو الشعار الذي يستخدمه مربمجو العقود الذكية‪ .‬إن املشكلة يف هذا املفهوم هي أن اللغة‬
‫التي يستخدمها املحامون لصياغة العقود يفهمها عدد أكرب بكثري من الناس مقارنة بلغة‬
‫الشيفرة الربمجية التي يستخدمها من يصيغون العقود الذكية‪ .‬وعىل األغلب‪ ،‬يوجد بضع‬
‫مئات فقط من األفراد يف كل أنحاء العالم ممن يمتلكون الخربات التقنية الالزمة لفه ٍم‬
‫كامل ألثر وتعقيدات العَ قد الذكي‪ ،‬وحتى هم قد يرتكبون ويُفوِّتون أخطا ًء برمجية‬ ‫ٍ‬
‫فادحة‪ .‬فرغم تزايد عدد األفراد الذين يتقنون لغات الربمجة الرضورية لتشغيل تلك‬
‫العقود‪ ،‬إال أن القلة األكثر إتقانا ً لهذه اللغات‪ ،‬وحسب التعريف‪ ،‬سيكون لهم أفضلية عىل‬
‫البقية‪ .‬فكفاءة كتابة الشيفرة الربمجية ستعطي دوما ً أفضلية اسرتاتيجية ألولئك األكثر‬
‫إتقانا ً لها عىل اآلخرين‪.‬‬

‫وقد أصبح كل هذا واضحا ً يف أول تطبيق للعقود الذكية عىل شبكة اإليثرييوم‬
‫من خالل العَ قد الخاص باملنظمة املستقلة والالمركزية (‪ .)DAO‬فبعد استثمار أكثر من‬
‫‪ 150‬مليون دوالر يف هذا العَ قد الذكي‪ ،‬تَمكن مهاجم من تنفيذ الشيفرة بطريقة حوَّلت‬
‫حوايل ث ُلث ممتلكات املنظمة املستقلة والالمركزية إىل حسابه‪ .‬وال يمكن بشكل دقيق‬
‫تسمية هذا الهجوم بالرسقة‪ ،‬ألن كل املودعني وافقوا عىل أن تتحكم الشيفرة فقط‬
‫نفذ الشيفرة بحسب ما وافق عليه املودعون‪.‬‬ ‫بنقودهم‪ ،‬ولم يفعل املهاجم شيئا ً سوى أنه َّ‬
‫ونتيجة الخرتاق املنظمة املستقلة والالمركزية‪ ،‬قام مطورو اإليثرييوم بابتكار نسخة‬‫ً‬
‫جديدة منها لم يحدث فيها هذا الخطأ املزعج‪ .‬وبهذا األمر‪ ،‬إن عملية إعادة تدخل اإلدارة‬
‫البرشية غري املوضوعية التي تمت تتعارض مع هدف جعل الشيفرة قانوناً‪ ،‬وتُشكك يف‬
‫كامل منطق العقود الذكية‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫ف سلسلة كتل اإليثرييوم هي ثاني أكرب سلسلة كتل بعد البيتكوين من ناحية‬
‫قوة املعالجة الخاصة بها‪ ،‬ويف حني ال يمكن بشكل فعال الرتاجع وإلغاء العمليات يف‬
‫سلسلة كت ل البيتكوين‪ ،‬إال أن إمكانية الرتاجع يف اإليثرييوم تعني أن كل سلسلة كتل‬
‫أصغر من سلسلة كتل البيتكوين هي عبارة عن قواعد بيانات مركزية تقع تحت سيطرة‬
‫مشغليها‪ .‬فتَ َّبني أن الشيفرة الربمجية ليست قانونا ً حقا ً وذلك ألن مشغيل تلك العقود‬
‫يستطيعون تجاوز ما ينفذه العَ قد‪ .‬وبهذا‪ ،‬لم تقم العقود الذكية باستبدال املحاكم‬
‫بالشيفرة الربمجية‪ ،‬بل قامت باستبدال املحاكم بمطوري برمجيات قلييل الخربة‪،‬‬
‫واملعرفة‪ ،‬واملسؤولية يف التحكيم‪ .‬والوقت وحده سيكشف لنا إن كانت املحاكم واملحامون‬
‫سيبقون عىل الحياد يف هذا الشأن حيث أننا ما زلنا نكتشف تداعيات تلك االنقسامات‪.‬‬
‫عقد بعقد ذكي عىل سلسلة الكتل‬ ‫فاملنظمة املستقلة والالمركزية كانت أول تطبيق ُم ّ‬
‫وحتى اآلن الوحيد‪ .‬وت ُوحي التجربة أن التطبيقات عىل نطاق واسع ال تزال بعيدة‪ ،‬هذا إن‬
‫حدثت‪ .‬فالتطبيقات الحالية األخرى جميعها موجودة عىل شكل نماذج فقط‪ ،‬وربما يف‬
‫مستقبل افرتايض يكون فيه تعليم الشيفرة الربمجية أكثر شيوعا ً وتكون الشيفرة‬
‫ً‬
‫وموثوقة أكثر‪ ،‬قد تصبح تلك العقود أكثر شيوعاً‪ .‬لكن إن كان‬ ‫الربمجية فيه قابل ًة للتنبؤ‬
‫تشغيل عقود كهذه ال يفعل شيئا ً سوى زيادة متطلبات طاقة املعالجة يف حني تبقى هذه‬
‫العقود عرضة للتعديل‪ ،‬واالنقسام‪ ،‬واإللغاء من قبل مهنديس سلسلة الكتل‪ ،‬فإن هذا‬
‫العمل بأكمله لن يفيد يف يشء سوى توليد الدعاية والتعابري الطنانة‪ .‬ومن املحتمل وبشكل‬
‫كبري أن يكون مستقبل العقود الذكية بتواجدها عىل حواسيب مركزية محمية تُشغلها‬
‫أطراف ثالثة موثوقة قادرة عىل التحكم فيها وإلغائها‪ .‬إن هذا يُش ّكل واقع العقود الذكية‬
‫عىل سلسلة الكتل بأن تكون قابلة للتعديل يف حني يتم تقليل متطلبات طاقة املعالجة‬
‫وتقليل القوى املهاجمة املحتملة التي تعرضها للخطر‪.‬‬

‫ومن أجل تواجد سالسل كتل تكون جاهزة للعمل‪ ،‬فإن الطلب عىل العقود‬
‫البسيطة سيكون عىل األغلب بتلك العقود التي يمكن فهم شيفرتها الربمجية والتحقق‬
‫منها بسهولة‪ .‬والسبب املنطقي الوحيد الستخدام هذه العقود عىل سلسلة الكتل بدال ً من‬
‫نظام حاسوبي مركزي سيكون من أجل العقود التي تَستخدم عملة سلسلة الكتل األصلية‬
‫بشكل ما‪ ،‬بحيث يتم تطبيق كل العقود األخرى واإلرشاف عليها بشكل أفضل دون وجود‬

‫‪310‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫العبء اإلضايف لنظام سلسلة الكتل املو َّزع‪ .‬والتطبيق الوحيد املوجود والذي له معنى‬
‫لتطبيقات عقود سلسلة الكتل هو ذلك التطبيق املوجود من أجل تسديد الدفعات البسيطة‬
‫املربمجة حسب الوقت‪ ،‬ومن أجل ا َملحافظ عديدة التواقيع‪ ،‬التي تُجرى كلها باستخدام‬
‫عملة سلسلة الكتل ذاتها‪ ،‬وغالبا ً عىل شبكة البيتكوين‪.‬‬

‫إدارة قواعد البيانات والسجل‬

‫إن سلسلة الكتل هي عبارة عن قاعدة بيانات موثوقة ومنيعة ضد التزوير‪ ،‬وهي أيضا ً‬
‫سجل لألصول‪ ،‬ولكنها منيعة فقط بالنسبة لعملة سلسلة الكتل االصلية‪ .‬وينطبق هذا‬
‫األمر فقط إذا كانت العملة ذات قيمة كافية لتكون للشبكة طاقة معالجة قوية تكفي‬
‫أصول أخرى مادية أو رقمية‪ ،‬فالثقة يف سلسلة‬
‫ٍ‬ ‫ملقاومة الهجمات‪ .‬أما بالنسبة إىل أي‬
‫الكتل تكون عىل قدر الثقة باملسؤولني الذين يشكلون الصلة بني األصول وما يشري إليها‬
‫عىل سلسلة الكتل‪ .‬ولن نحصل عىل فوائد من ناحية الفعالية أو الشفافية يف استخدام‬
‫سلسلة كتل مُرخصة هنا‪ ،‬حيث أن مدى الثقة بها تكمن يف الثقة بالطرف الذي يمنح‬
‫اإلذن بالكتابة فيها‪ .‬فإدراج سلسلة الكتل إىل أرشيف ذلك الطرف سيجعله أبطأ دون‬
‫إضافة حماية أو ثبات‪ ،‬لعدم وجود إثبات عمل‪ .‬وبهذا‪ ،‬يجب أن تبقى الثقة يف وسطاء‬
‫األطراف الثالثة بينما وبالوقت نفسه تزداد طاقة املعالجة ويزداد الوقت الذي يتطلبه‬
‫تشغيل قاعدة البيانات‪ .‬فيمكن استخدام سلسلة كتل محمية وعملتها كخدمة مُوثَّقة‬
‫ومُصدَّقة‪ ،‬حيث تكون العقود والوثائق مدمجة يف كتلة تحويالت‪ ،‬مما يسمح ألي طرف‬
‫بالوصول إىل العَ قد والتأكد من أن النسخة املعروضة هي فعال ً النسخة التي تم دمجها يف‬
‫ذلك الوقت‪ .‬إن خدمة كهذه ستو ِّفر سوقا ً ملساحة قليلة من الكتلة‪ ،‬لكن لن تعمل مع أية‬
‫سلسلة كتل دون وجود عملة‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫العوائق االقتصادية لتكنولوجيا سلسلة الكتل‬

‫بالنظر إىل التطبيقات الثالثة املحتملة السابقة لتكنولوجيا سلسلة الكتل‪ ،‬فإننا نستطيع‬
‫تبن أكرب‪.‬‬
‫تمييز خمسة عوائق أساسية أمام عملية ٍ‬

‫‪ .1‬التكرار‬

‫إن تسجيل كل تحويل من قبل كل عضو من أعضاء الشبكة هو تكرار مكلف جدا ً هدفه‬
‫الوحيد هو إزالة الوساطة‪ .‬وبالنسبة ألي وسيط مايل أو قانوني‪ ،‬ال يوجد منطق بإضافة‬
‫مثل هذا التكرار مع االستمرار بالبقاء وسيطاً‪ .‬فليس هناك أي سبب مقنع لقيام مرصف‬
‫ما بمشاركة السجل الخاص به لجميع تحويالته املشرتكة بينه وبني املصارف األخرى‪،‬‬
‫وليس هناك أي سبب مقنع لرغبة املرصف يف رصف موارد هائلة عىل الكهرباء وطاقة‬
‫املعالجة لتسجيل التحويالت الخاصة ملؤسسة مالية مع أخرى‪ .‬وبالتايل‪ ،‬يؤدي هذا‬
‫التكرار إىل زيادة التكلفة دون أي فائدة تُرتجى‪.‬‬

‫‪ .2‬زيادة السعة‬

‫ُوَزعة تُسجِّ ل فيها جميع العُ َقد كل التحويالت هي شبكة سينمو سجل‬ ‫إن شبكة م َّ‬
‫تحويالتها بشكل ضخم جدا ً وبشكل أرسع من نمو عدد أعضاء الشبكة‪ .‬وبهذا‪ ،‬فإن ثقل‬
‫وعبء العمليات الحاسوبية مع املساحة التخزينية بالنسبة ألعضاء الشبكة املوزعة‬
‫سيكون أكرب بكثري منه يف شبكة مركزية بالحجم ذاته‪ .‬فسلسلة الكتل ستواجه دائما ً هذا‬
‫العائق الذي يمنع التوسع الناجح‪ ،‬وهذا يرشح لنا ملاذا يتحرك مطورو البيتكوين باتجا ٍه‬
‫يتم فيه تصفية املدفوعات عىل طبقة ثانية‪ ،‬كما يف "الشبكة الربق"‪ ،‬أو خارج سلسلة‬
‫الكتل عرب وسطاء‪ ،‬خالل بحثهم عن حلول للتوسعة بعيدا ً عن نموذج سلسلة كتل نقية‬
‫غري مركزية‪ .‬فهناك مقايضة واضحة بني الحجم والالمركزية‪ ،‬وإذا أصبحت سلسلة الكتل‬
‫قادرة عىل استيعاب أحجام أكرب من التحويالت‪ ،‬فعندها يجب أن يزداد معها حجم الكتل‪،‬‬
‫مما سريفع من تكلفة االنضمام للشبكة‪ ،‬األمر الذي سيقلل من عدد العُ َقد‪ ،‬وكنتيجة‪،‬‬

‫‪312‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫ستميل الشبكة باتجاه املركزية‪ .‬الخالصة‪ ،‬إن أكثر طريقة اقتصادية للحصول عىل حجم‬
‫أكرب من التحويالت هو عن طريق املركزية يف عقدة واحدة‪.‬‬

‫‪ .3‬االمتثال لألنظمة‬

‫إن سالسل الكتل بعمالتها الخاصة مثل البيتكوين ال عالقة لها بالقانون‪ :‬فليس هناك أي‬
‫أمر يمكن ألي سلطة حكومية أن تفعله بهدف التأثري والتعديل عىل عمليات سلسلة‬
‫الكتل‪ .‬حتى أن رئيس االحتياطي الفيدرايل قال‪" :‬ال يوجد أية سلطة إلدارة وتنظيم‬
‫البيتكوين عىل اإلطالق"‪ .14‬فيتم إنتاج كتلة كل عرش دقائق تقريبا ً عىل شبكة البيتكوين‬
‫بحيث تحتوي هذه الكتلة عىل جميع التحويالت الصالحة املُنتجة خالل العرش دقائق‬
‫التقريبية تلك‪ ،‬وال يشء آخر‪ .‬ويتم قبول وتصفية التحويالت إذا كانت صالحة‪ ،‬وال يتم‬
‫تصفيتها إذا لم تكن كذلك‪ ،‬وال يمكن للمدراء واملنظمني الحكوميني أن يفعلوا شيئا ً إللغاء‬
‫القواعد املشرتكة لطاقة معالجة الشبكة‪ .‬لهذا‪ ،‬إن تطبيق تكنولوجيا سلسلة الكتل يف‬
‫القطاعات التي تخضع بشكل كبري إلدار ٍة وتنظي ٍم حكومي كاملؤسسات القانونية واملالية‬
‫مع عمالت غري البيتكوين‪ ،‬سيُنتِج مشاكل إدارية وتنظيمية وتعقيدات قانونية‪ .‬فالقوانني‬
‫ُنيات تحتية تختلف بشكل كبري عن بنية سلسلة الكتل‪ ،‬وال‬ ‫والتنظيمات تم تصميمها ِلب ٍ‬
‫ً‬
‫يمكن ضبط هذه القوانني لتتالءم مع عمليات سلسلة الكتل بشكل سهل‪ ،‬خصوصا مع‬
‫وجود الشفافية الكاملة من امتالك جميع أعضاء الشبكة لنسخةٍ من السجل املشرتك‪.‬‬
‫إضافة لهذا‪ ،‬إن سلسلة الكتل تعمل عىل الشبكة عرب السلطات القضائية بقوانني إدارية‬
‫وتنظيمية مختلفة‪ ،‬لذلك إن االمتثال لكل القوانني هو أمر يصعب ضمانه‪.‬‬

‫‪ .4‬الال رجوع‬

‫مع إدارة الوسطاء للمدفوعات والعقود وقواعد البيانات‪ ،‬فإنه يمكن الرتاجع وإلغاء‬
‫األخطاء البرشية أو الربمجية التي تحصل عن طريق االستعانة بالوساطة‪ ،‬أما يف سلسلة‬

‫‪ 14‬س‪.‬روسوليلو "ييلن يقول يف البيتكوين‪ :‬ال متلك الفيدرالية أي سلطة إلدارة البيتكوين أبي شكل من‬
‫األشكال"‪ ،‬صحيفة وول سرتيت‪ ،‬فرباير ‪.2014 ,27‬‬

‫‪313‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫الكتل‪ ،‬فتلك األمور معقدة بشكل كبري جداً‪ .‬ففي الوقت الذي يتم فيه قبول كتلة ما ويتم‬
‫ربط الكتل األخرى بها‪ ،‬فإنه يمكن الرتاجع عن التحويالت الخاصة بها فقط عن طريق‬
‫توجيه ‪ %51‬من طاقة املعالجة الخاصة بالشبكة إلرجاع الشبكة كما كانت‪ ،‬بحيث توافق‬
‫كل العُ َقد عىل االنتقال وبشكل متزامن إىل سلسلة كتل مُعدَّلة‪ ،‬آملني بأن الـ ‪%49‬‬
‫اآلخرين لن يريدوا إنشاء شبكتهم الخاصة وسينضمون إىل الشبكة الجديدة‪ .‬وكلما يزداد‬
‫حجم الشبكة‪ ،‬يزداد معها صعوبة إلغاء وإرجاع أي تحويل مغلوط بها‪ .‬لكن بالنهاية‪ ،‬تم‬
‫إنشاء تكنولوجيا سلسلة الكتل ملحاكاة التحويالت النقدية ولكن هنا عىل الشبكة‪ ،‬بحيث ال‬
‫يكون هناك تراجع بالتحويالت النقدية مع عدم القدرة عىل االستفادة من الوساطة‬
‫الوصيَّة يف املراجعة والتعويض‪ .‬فاملشاكل البرشية والربمجية تَظهر دائما ً يف القطاع‬
‫املرصيف‪ ،‬ولن يَنتج عن توظيف بنية سلسلة الكتل إال جعل تلك األخطاء أكرب ثمنا ً من أن‬
‫يتم إصالحها‪ .‬فكشفت حادثة الـ ‪ DAO‬عن الثمن الباهظ واملمتد لعكس وإلغاء مشكلة‬
‫كهذه يف سلسلة الكتل حيث تطلَّب أسابيعا ً من الربمجة وحمالت العالقات العامة لنَيل‬
‫موافقة أعضاء الشبكة عىل تبني الربنامج الجديد‪ .‬وحتى بعد كل ذلك‪ ،‬استمرت السلسلة‬
‫القديمة بالتواجد وأخذت معها كمية كبرية من قيمة وطاقة الشبكة القديمة‪ .‬فهذه‬
‫الخسارة شكلت وأنشأت وضعا ً يتواجد فيه نسختني من التحويل السابق‪ ،‬تحويل نجح‬
‫فيه هجوم الـ ‪ DAO‬وآخر لم ينجح به‪.‬‬

‫فإ ذا كان من املمكن استبدال سجل ثاني أكرب شبكة من حيث طاقة املعالجة‬
‫عندما ال تسري التحويالت يف الطريق الذي يناسب مصالح فريق التطوير‪ ،‬فال يمكن قبول‬
‫االعتبار والفكرة القائلة بأنه يتم تنظيم سالسل الكتل األخرى عرب طاقة معالجتها‪.‬‬
‫فرتكيز حَ َملة العملة‪ ،‬وطاقة املعالجة ومهارات الربمجة يف أيدي مجموعة من الناس الذين‬
‫هم بالواقع زمالء يف مشاريع خاصة يُقوِّض الهدف من تطبيق هذه البنية الدقيقة‪.‬‬

‫إن تراجعا ً وإلغا ًء كهذا غري عميل أبدا ً وغري مرجح الحدوث يف البيتكوين‬
‫لألسباب التي تمت مناقشتها يف الفصل التاسع بشكل خاص‪ ،‬ألنه ال يتاح ألي طرف يف‬
‫شبكة البيتكوين االنضمام إىل الشبكة إال إذا وافق عىل القوانني املوجودة واملتفق عليها‪.‬‬
‫فاملصالح العدائية لألعضاء املختلفني للنظام املتكامل تعني وبشكل دائم أن الشبكة لن‬
‫تنمو إال عرب جذب املساهمات التطوعية لألفراد الراغبني يف قبول القواعد املتفق عليها‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫ففي البيتكوين‪ ،‬تبقى القواعد املشرتكة ثابتة أما املستخدم فهو من يختار البقاء أو‬
‫الذهاب‪ .‬لكن تواجد دائما ً مجموعة واحدة مسؤولة عن وضع قواعد أي مرشوع سلسلة‬
‫كتل آخر تم تأسيسه بتقليد تصميم البيتكوين‪ ،‬وبالتايل كان لتلك املجموعة القدرة عىل‬
‫تغيري تلك القواعد‪ .‬فبينما نما البيتكوين تحت ظل القواعد املشرتكة َ‬
‫املؤ َّسسة عرب‬
‫الترصفات البرشية‪ ،‬نمت جميع املشاريع األخرى عرب التصاميم البرشية واإلدارة البرشية‬
‫النشطة‪ .‬لهذا‪ ،‬اكتسب البيتكوين سمعته عن طريق كونه ثابتا ً بعد سنوات من مقاومته‬ ‫ِ‬
‫للتغيري‪ ،‬وال يمكن ألي مرشوع سلسلة كتل آخر أن يديل بهذا االدعاء‪.‬‬

‫فسلسلة الكتل القابلة للتبديل تُعد تطبيقا ً نافعا ً عمليا ً يف هندسة املغالطات‬
‫واألمور السخيفة‪ :‬فهي تستخدم طرقا ً معقدة وباهظة الثمن من أجل إزالة الوساطة‬
‫وتأسيس الثبات‪ ،‬لكنها بعد ذلك تمنح الوسيط القدرة عىل قلب وإلغاء ذلك الثبات‪.‬‬
‫وأفضل التطبيقات املوجودة حاليا ً يف هذه املجاالت هي تلك التي لديها القدرة عىل الرتاجع‬
‫واإللغاء باإلضافة إىل الرقابة من قِ بَل السلطات الرشعية والتنظيمية‪ ،‬حيث أن هذه‬
‫ظف طرقا ً أرخص‪ ،‬وأكثر رسعة وفعالية‪.‬‬ ‫السلطات تو ِّ‬

‫‪ .5‬احلامية‬

‫تعتمد حصانة قاعدة بيانات سلسلة الكتل بأكملها عىل إنفاق طاقة املعالجة لتصديق‬
‫التحويالت ونظام إثبات العمل‪ .‬ويمكن فهم تكنولوجيا سلسلة الكتل بشكل جيد عىل أنها‬
‫تحويل الطاقة الكهربائية إىل سجالت موَّثقة بشكل قاطع تتضمن امللكية والتحويالت‪.‬‬
‫ولكي يكون هذا النظام محمياً‪ ،‬يجب أن يتم تعويض املُوثِّقني الذين يرصفون طاقة‬
‫املعالجة بعملة نظام الدفع نفسه لضمان موائمة دافعهم مع صحة ودوام الشبكة‪ .‬لكن‬
‫إذا تم جعل مدفوعات طاقة املعالجة بعملة أخرى‪ ،‬فعندها سيتم اعتبار سلسلة الكتل عىل‬
‫أنها سجل خاص يُحا َفظ عليها من قبل أي شخص يدفع ثمن طاقة املعالجة‪ .‬وتعتمد‬
‫حصانة النظام عىل حصانة الطرف املركزي الذي يدعم املعدنني‪ ،‬لكنه سيكون محفوفا ً‬
‫باملخاطر إذا عمل عرب سجل مشرتك ألنه يزيد من احتمال حدوث خروقات أمنية‪ .‬فكلما‬
‫ازداد انفتاح النظام وازداد عدد أعضاء الشبكة الذين يرصفون طاقة املعالجة عىل التأكيد‬
‫والتوثيق‪ ،‬تزداد حصانة النظام املفتوح غري املركزي املبني عىل التصديق عرب طاقة‬

‫‪315‬‬
‫معيار البيتكوين‬

‫املعا لجة‪ .‬أما بالنسبة للنظام املركزي الذي يعتمد عىل نقطة واحدة من الفشل‪ ،‬فإنه‬
‫سيكون أقل حصانة إذا كان لعدد كبري من أعضاء الشبكة القدرة عىل الكتابة عىل سلسلة‬
‫الكتل‪ .‬ويف كل مرة ينضم فيها عضو جديد للشبكة فإن ذلك سيشكل احتمالية جديدة‬
‫لحدوث خرق أمني‪.‬‬

‫تكنولوجيا سلسلة الكتل كآلية إلنتاج النقد اإللكرتوين‬

‫إن التطبيق التجاري الناجح الوحيد لتكنولوجيا سلسلة الكتل إىل حد اآلن هو النقد‬
‫اإللكرتوني وتحديدا ً البيتكوين‪ .‬ومعظم التطبيقات املحتملة التي تم الرتويج لها‬
‫لتكنولوجيا سلسلة الكتل ‪ -‬كاملدفوعات‪ ،‬والعقود‪ ،‬وسجالت األصول‪ -‬ستعمل فقط إذا تم‬
‫استعمال العملة الرقمية غري املركزية الخاصة بسلسلة الكتل‪ .‬لهذا‪ ،‬إن سالسل الكتل‬
‫جميعها التي ال تستند عىل عمالت رقمية هي سالسل لم تنتقل من مرحلة النموذج‬
‫البدائي إىل التطبيق التجاري وذلك ألنها ال تستطيع التنافس مع أفضل تطبيق حايل يف‬
‫سوقهم‪ .‬فتصميم البيتكوين كان وال يزال متوفرا ً بشكل مجاني ملدة تسع سنوات اآلن‪،‬‬
‫ويمكن للمطورين النَّسخ منه وتطويره لتقديم منتجات تجارية‪ ،‬لكن لم يظهر هذا النوع‬
‫من املنتجات بعد‪.‬‬

‫ويُظهر اختبار السوق أن تكرار تسجيل التحويالت ونظام إثبات العمل يمكن‬
‫تربيرهما فقط بهدف إنتاج نقد إلكرتوني وشبكة مدفوعات دون وجود وساطة طرف‬
‫ثالث‪ ،‬بحيث يمكن التعامل مع مُلكية النقد اإللكرتوني والتحويالت عرب كميات صغرية‬
‫جدا ً م ن البيانات‪ .‬لكن الحاالت االقتصادية األخرى التي تحتاج متطلبات بيانات أكرب‬
‫كاملدفوعات والعقود الكبرية تصبح باهظة الثمن بشكل غري عميل يف نموذج سلسلة الكتل‪.‬‬
‫فبالنسبة ألي تطبيق يحتاج وجود الوسطاء‪ ،‬لن تُقدِّم سلسلة الكتل حلوال ً منافِ سة‪ ،‬ولهذا‬
‫ال يمكن أن يكون هناك تبن كبري لتكنولوجيا سلسلة الكتل يف القطاعات املعتمدة عىل‬
‫الثقة بالوسطاء‪ .‬فتواجد الوسطاء ولو بشكل بسيط يجعل من جميع األثمان املتعلقة‬
‫بتشغيل سلسلة الكتل أمرا ً غري رضوري‪ .‬لهذا‪ ،‬لن يكون تطبيق تكنولوجيا سلسلة الكتل‬

‫‪316‬‬
‫أسئلة متعلقة بالبيتكوين‬

‫ذا معنى إال إذا كان عمله قائما ً عىل النقد اإللكرتوني‪ ،‬وفقط إذا قدم النقد اإللكرتوني غري‬
‫القائم عىل الوساطة مناف َع اقتصادية تفوق تلك التي تأتي من استخدام العمالت العادية‬
‫وقنوات الدفع‪.‬‬

‫محاو ًلة إيجاد الحل األمثل لها بحيث أن‬ ‫ِ‬ ‫فالهندسة الجيدة تبدأ بمشكلة واضحة‬
‫هذا الحل األمثل ال يحل املشكلة فقط‪ ،‬بل وحسب التعريف ال يحمل أيَّ جهد إضايف غري‬
‫رضوري‪ .‬فمُنشئ ُ البيتكوين كان متحفزا ً إلنتاج شبكة "نق ٍد إلكرتوني قائمة عىل نظام‬
‫داع‪ ،‬إال الجهل بتقنية عمله‪،‬‬ ‫نظري إىل نظري"‪ ،‬وقد صنع تصميما ً لذلك‪ ،‬وليس هناك أي ٍ‬
‫لتوقع أنه قد يناسب أعماال ً واحتياجات أخرى‪ .‬فبعد تسع سنوات وماليني املستخدمني‪،‬‬
‫يمكننا القول أن تصميمه قد نجح يف إنتاج نقد رقمي وكما هو متوقع ال يشء سواه‪.‬‬
‫ويمكن أن يحتوي هذا النقد اإللكرتوني عىل تطبيقات تجارية ورقمية‪ ،‬لكن قضية‬
‫مناقشة تكنولوجيا سلسلة الكتل عىل أنها ابتكار تكنولوجي يف حد ذاتها مع تطبيقات يف‬
‫مجاالت وحقول مختلفة هي أمر ال يحمل أي معنى‪ .‬فيمكن فهم سلسلة الكتل بشكل‬
‫أفضل عىل أنها جزء ال يتجزأ من اآللة التي تصنع نقدا ً إلكرتونيا ً مبنيا ً عىل نظام نظري إىل‬
‫نظري بتضخم يمكن التنبؤ به‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫شكر وتقدير‬
‫استفاد هذا الكتاب كثريا ً من الخربة التقنية ومساعدة وإرشاد مطور البيتكوين ديفيد‬
‫هاردينغ‪ ،‬الذي يمتلك موهبة رائعة إليضاح مواضيع تقنية معقدة بشكل فعال‪ .‬وأشكر‬
‫نسيم طالب ألنه وافق عىل كتابة مقدمة هذا الكتاب‪ ،‬وألنه ساعدني يف إيجاد دار نرش‪ .‬يف‬
‫دار النرش واييل‪ ،‬كنت محظوظا ً جدا ً للعمل مع محرر آ َم َن بكتابي ودفعني ألحسنه دون‬
‫كلل‪ ،‬ولهذا أنا ممتن للغاية لبيل فالون‪ ،‬باإلضافة إىل كل فريق واييل عىل احرتافيتهم‬
‫وكفاءتهم‪ .‬كما أشكر ريتشل ترششيل عىل تدقيقها الشامل والرسيع‪.‬‬

‫ُقرأت مسودات سابقة لهذا الكتاب من قبل عدة أصدقاء قدموا يل تعليقات‬
‫ممتازة ألحسنه‪ ،‬وأنا ممتن جدا ً لهذا‪ .‬أشكر بشكل خاص أحمد عموص‪ ،‬ستيفانو برتولو‪،‬‬
‫أفشني بيدجيل‪ ،‬أندريا بوتوالمياتزي‪ ،‬مايكل بايرن‪ ،‬نابوليون كول‪ ،‬أدولفو ونرتيراس‪،‬‬
‫راني جيها‪ ،‬بنجامني جيفا‪ ،‬مايكل هارتل‪ ،‬آالن كراسوسكي‪ ،‬راسل المربتي‪ ،‬باركر لويس‪،‬‬
‫أليكس ميلر‪ ،‬جوشوا ماتيتور‪ ،‬دانييل أوليفر‪ ،‬توماس شيلني‪ ،‬فالنتني شميت‪ ،‬عمر شمس‪،‬‬
‫جيمي سونغ‪ ،‬لويس توراس‪ ،‬وهاشم ياسني‪.‬‬

‫هذا الكتاب نتيجة لعملية تعلم استغرقت سنوات عديدة‪ ،‬كنت محظوظا ً بأن‬
‫تعلمت خاللها من بعض أذكى العقول‪ .‬أشكر بشكل خاص تور دميسرت‪ ،‬رايان‬
‫ديكهربر‪ ،‬بيت دوشنسكي‪ ،‬ميشيل فهد‪ ،‬أكني فرنانديز‪ ،‬فيكتور غيلري‪ ،‬مايكل غولدستني‪،‬‬
‫كونارد غراف‪ ،‬بونتس ليندبولم‪ ،‬مريسيا بوبيسكو‪ ،‬بيري روتشارد‪ ،‬نِك زابو‪ ،‬كايل توربي‪،‬‬
‫وكرتيس يارفني عىل كتاباتهم ومناقشاتهم التي كانت فعالة يف تحسني فهمي للبيتكوين‪.‬‬

‫حظي البحث والتحرير يف هذا الكتاب من عمل بعض أصحب العقول النرية‬
‫أمثال ريبيكا ضاهر‪ ،‬جيدا حاج دياب‪ ،‬ماغي فرح‪ ،‬سادم سبيتي‪ ،‬ورشا خياط‪ ،‬الذين‬
‫أقدم لهم شكرا ً جزيالً‪.‬‬

‫وقام أحمد حمدان ببذل مجهود رائع يف ترجمة وتدقيق هذا الكتاب للعربية‪،‬‬
‫وأنا ممتن جدا ً لهذا الجهد الفريد الذي لواله ملا صدر الكتاب بهذه الطالقة‪ .‬وقد ساعد‬

‫‪318‬‬
‫شكر وتقدير‬

‫بالرتجمة كل من رزان حربا‪ ،‬كارلوس شموط‪ ،‬فارس خدوج‪ ،‬مصطفى خالد‪ ،‬هال كنعان‪،‬‬
‫محمد أحمد مصطفى‪ ،‬وأحمد املعيقل‪ .‬وقد قام عنان أبو رميلة وهشام أبو الفتوح‬
‫كل من جورج أتاناس‪ ،‬وصديق بيطار بإعطاء االستشارات لهم‪ .‬كما‬ ‫بالتدقيق‪ .‬وساهم ٍ‬
‫أَمَّ ن يل الربوفسور جورج هال بيانات من ورقة البحث الخاصة به‪ ،‬وأنا ممتن عىل هذا‪.‬‬

‫أخرياً‪ ،‬لم يكن هذا الكتاب أو البيتكوين ممكنني لوال عمل املطورين املتطوعني‬
‫الجاد‪ ،‬الذين كرسوا وقتهم لتطوير وصيانة الربوتوكول‪ .‬أنا ممتن لغرييتهم وتفانيهم يف‬
‫هذا املرشوع‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫مصادر شبكة اإلنرتنت‬

‫‪ :http://www.bitcoin.org‬املوقع األصيل الذي استخدمه ناكاموتو لإلعالن عن‬


‫البيتكوين‪ ،‬ومشاركة الوثيقة‪ ،‬وتوزيع الشيفرة‪ .‬ال يزال يديره عدة مساهمني وهو مصدر‬
‫جيد للمعلومات‪.‬‬

‫‪ :http://www.en.bitcoin.it/wiki/‬موسوعة مفتوحة للمعلومات عن البيتكوين‪،‬‬


‫وتتضمن معلومات مفيدة وحديثة عادة عن البيتكوين‪.‬‬

‫‪ :http://www.nakamotoinstitute.org‬تقدم مؤسسة ساتويش ناكاموتو مصدرا ً‬


‫أدبيا ً أوليا ً عن علم الشيفرة واملجتمع‪ ،‬برتكيز عىل تاريخ واقتصاديات البيتكوين‪ .‬كما‬
‫تتضمن أرشيفا ً لكل كتابات ناكاموتو املعروفة‪ :‬وثيقة البيتكوين‪ ،‬ورسائل الربيد‬
‫االلكرتوني التي أرسلها‪ ،‬ومنشورات املنتدى التي كتبها‪.‬‬

‫‪ :http://lopp.net/bitcoin.html‬صفحة ممتازة‪ ،‬شاملة‪ ،‬وتُحدّث بشكل دوري‪،‬‬


‫ت ُدرج مصادر البيتكوين املوجودة لدى "جيمسون لوب"‪.‬‬

‫‪320‬‬
‫قائمة األشكال‬

‫الشكل ‪ :1‬مخزونات الذهب العاملية ومعدل نمو املخزون السنوي‪.‬‬

‫الشكل ‪ :2‬املخزونات املوجودة كانعكاس لإلنتاج السنوي‪.‬‬

‫الشكل ‪ :3‬سعر الذهب ألوقيات الفضة‪.2017–1687 ،‬‬

‫الشكل ‪ :4‬احتياطي الذهب الرسمي يف البنك املركزي‪ ،‬باألطنان‪.‬‬

‫الشكل ‪ :5‬أسعار الرصف الوطنية الرئيسية مقابل الفرنك السويرسي خالل الحرب‬
‫العاملية األوىل‪ .‬معدل التبادل يف يونيو ‪.1 :1914‬‬

‫الشكل ‪ :6‬متوسط معدل النمو السنوي للنقد باملعنى الواسع لـ‪ 167‬عملة‪-1960 ،‬‬
‫‪.2015‬‬

‫الشكل ‪ :7‬معدل نمو النقد بمعناه الواسع يف اليابان‪ ،‬اململكة املتحدة‪ ،‬الواليات املتحدة‪،‬‬
‫ومنطقة اليورو‪.‬‬

‫الشكل ‪ :8‬مقياس القوة الرشائية للذهب والسلع األساسية يف سوق الجملة يف إنجلرتا‪،‬‬
‫‪.1976-1950‬‬

‫الشكل ‪ :9‬سعر السلع األساسية بالذهب وبالدوالر األمريكي‪ ،‬عىل مقياس طويل األمد‪،‬‬
‫‪.2016 -1792‬‬

‫الشكل ‪ :10‬أسعار العمالت الكبرية بالذهب‪.2017-1971 ،‬‬

‫‪321‬‬
‫قائمة األشكال‬

‫الشكل ‪ :11‬أسعار النفط بالدوالر األمريكي وأونصات الذهب‪ ،2017-1861 ،‬حيث‬


‫تتعدد األسعار عام ‪.1971‬‬

‫الشكل ‪ :12‬نسب االدخار الوطنية يف االقتصادات الكربى‪.% ،2016 -1970 ،‬‬

‫الشكل ‪ :13‬معدل البطالة يف سويرسا‪.% ،‬‬

‫الشكل ‪ :14‬عرض البيتكوين ومعدل نمو معروض البيتكوين‪ ،‬إن افرتض أنه يتم إصدار‬
‫كتلة كل ‪ 10‬دقائق بالضبط‪.‬‬

‫الشكل ‪ :15‬النسبة املئوية للنمو املتوقع ملعروض البيتكوين والعمالت الوطنية عىل مدى‬
‫‪ 25‬عاماً‪.‬‬

‫الشكل ‪ :16‬سعر البيتكوين مقابل الدوالر األمريكي‪.‬‬

‫الشكل ‪ :17‬التحويالت السنوية عىل شبكة البيتكوين‪.‬‬

‫الشكل ‪ :18‬القيمة الوسطية لرسوم التحويالت عىل شبكة البيتكوين مقدرة بالدوالر‬
‫األمريكي‪ ،‬مقياس لوغاريتمي‪.‬‬

‫الشكل ‪ :19‬مؤرش التقلب الشهري (بفواصل ‪ 30‬يوم) للبيتكوين والدوالر األمريكي‪.‬‬

‫الشكل ‪ :20‬نسبة االستهالك واإلنتاج واالحتياطي املؤكد ونسبة االحتياطي إىل اإلنتاج‬
‫السنوي‪ ،‬للنفط العاملي بني عامي ‪.2015-1980‬‬

‫الشكل ‪ :21‬إجمايل املخزونات العاملية املتاحة مقسومة عىل إنتاجها السنوي‪.‬‬

‫الشكل ‪ :22‬شكل قرار سلسلة الكتل‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫قائمة اجلداول‬

‫الجدول ‪ :1‬فرتات االقتصادات األوروبية الرئيسية بموجب املعيار الذهبي‪.‬‬

‫الجدول ‪ :2‬انخفاض قيمة العملة اتجاه الفرنك السويرسي خالل الحرب العاملية الثانية‪.‬‬

‫الجدول ‪ :3‬البلدان العرش ذات أعىل متوسط معدل النمو السنوي للنقد باملعنى الواسع‪،‬‬
‫‪.2015-1960‬‬

‫الجدول ‪ :4‬النسبة املئوية ملتوسط الزيادة السنوية يف عرض النقد عىل نطاق واسع ألكرب‬
‫عرش عمالت عاملية‪.‬‬

‫الجدول ‪ :5‬الوفيات الناجمة عن الرصاعات يف آخر خمسة قرون‪.‬‬

‫الجدول ‪ :6‬مخزون البيتكوين ومعدل النمو‪.‬‬

‫الجدول ‪ :7‬مخزون البيتكوين ومعدل النمو(املتوقع)‪.‬‬

‫الجدول ‪ :8‬التحويالت السنوية ومتوسط التحويالت اليومية‪.‬‬

‫الجدول ‪ :9‬القيمة اإلجمالية السنوية للتحويالت عىل شبكة البيتكوين مقدرة بالدوالر‬
‫األمريكي‪.‬‬

‫الجدول ‪ :10‬متوسط النسبة املئوية للتغري اليومي واالنحراف املعياري يف سعر العمالت‬
‫يف السوق‪ .‬مقدرة بالدوالر األمريكي يف الفرتة املمتدة بني ‪ 1‬سبتمرب عام ‪ 2011‬و‪1‬‬
‫سبتمرب عام ‪.2016‬‬

‫‪323‬‬
‫قائمة املراجع‬

Ammous, Saifedean. “Blockchain Technology: What Is It Good For?”


Banking & Finance Law Review 33, no. 3 (Issue 1, 2018).

Bank of International Settlements. Triennial Central Bank Survey. Foreign


Exchange Turnover in April 2016, 2016 .

Barzun, Jacques. From Dawn to Decadence: 1500 to the Present—500 Years


of Western Cultural Life. New York: HarperCollins, 2000 .

Bernanke, Ben S. “Deflation: Making Sure ‘It’ Doesn't Happen Here.” In


Remarks by Governor Ben S. Bernanke Before the National Economists
Club, Washington, D.C., November 21, 2002.

Bly, Nellie. Around the World in Seventy‐Two Days. New York: Pictorial
Weeklies, 1890 .

Böhm‐Bawerk, Eugen. Capital and Interest: A Critical History of Economical


Theory. Vol. 1. Macmillan, 1890 .

Brown, Malcolm, and Shirley Seaton. Christmas Truce: The Western Front
December 1914. Macmillan, 2014.

Buchanan, James M., and Gordon Tullock. The Calculus of Consent: Logical
Foundations of Constitutional Democracy. Liberty Fund Indianapolis, 1962 .

Bunch, Bryan, and Alexander Hellemans. The History of Science and


Technology: A Browser's Guide to the Great Discoveries, Inventions, and the
People Who Made Them from the Dawn of Time to Today. Houghton
Mifflin Harcourt, 2014 .

Coase, Ronald. “The Nature of the Firm.” Economica 4, no. 16 (1937): 386–
405. Courtois, Stephane, Nicolas Werth, Karel Bartosek, Andrzej

324
‫قائمة املراجع‬

Paczkowski, Jean‐Louis Panné, and Jean‐Louis Margolin. The Black Book of


Communism: Crimes, Terror, Repression. Harvard University Press, 1997 .

Davidson, James, and William Rees‐Mogg. The Sovereign Individual: The


Coming Economic Revolution. McMillan, 1997 .

De Soto, Jesús Huerta. Money, Bank Credit, and Economic Cycles. Auburn,
AL: Ludwig von Mises Institute, 2009 .

Diamond, Douglas W., and Philip H. Dybvig. “Bank Runs, Deposit


Insurance, and Liquidity.” Journal of Political Economy 91, no. 3 (1983):
401–419 .

Fekete, Antal. “Whither Gold?” International Currency Prize 1996 (1996).


http://www.professorfekete.com/articles/AEFWhitherGold.pdf

Felix, David. Keynes: A Critical Life. ABC‐CLIO, 1999 .

Ferguson, Adam. An Essay on the History of Civil Society. London: T.


Cadell, 1782.

Friedman, Milton, and Anna Schwartz. A Monetary History of the United


States, 1867–1960. Princeton University Press, 2008 .

Gilder, George. The Scandal of Money: Why Wall Street Recovers but the
Economy Never Does. Regnery Publishing, 2016 .

Glubb, John. The Fate of Empires and Search for Survival. Blackwood, 1978 .

Graf, Konrad. On the Origins of Bitcoin: Stages of Monetary Evolution


(2013). http://www.konradsgraf.com

Grant, James. The Forgotten Depression: 1921: The Crash That Cured Itself.
Simon & Schuster, 2014 .

Greaves, Bettina Bien. Ludwig von Mises on Money and Inflation: A


Synthesis of Several Lectures. Ludwig von Mises Institute, 2010 .

Greenberg, Andy. This Machine Kills Secrets: Julian Assange, the


Cypherpunks, and Their Fight to Empower Whistleblowers. Penguin, 2013 .

325
‫قائمة املراجع‬

Halévy, Élie, and May Wallas. “The Age of Tyrannies.” Economica 8, New
Series, no. 29 (1941): 77–93.

Hall, George. “Exchange Rates and Casualties During the First World War.”
Journal of Monetary Economics 51, no. 8 (2004): 1711–1742 .

Hanke, Steve H. and Charles Bushnell. “Venezuela Enters the Record Book:
The 57th Entry in the Hanke‐Krus World Hyperinflation Table.” The Johns
Hopkins Institute for Applied Economics, Global Health, and the Study of
Business Enterprise, Studies in Applied Economics, no. 69 (December 2016.)

Haslam, Philip and Russell Lamberti. When Money Destroys Nations.


Penguin UK, 2014 .

Hayek, Friedrich. Monetary Theory and the Trade Cycle. Jonathan Cape,
London, 1933.

_____. Monetary Nationalism and International Stability. Fairfield, NJ:


Augustus Kelley, 1989 (1937).

_____. “The Use of Knowledge in Society.” American Economic Review 35,


no. 4 (1945): 519–530.

_____. “The Intellectuals and Socialism.” The University of Chicago Law


Review 16, no. 3 (1949): 417–433.

_____. A Tiger by the Tail. Vol. 4. Laissez?Faire Books, 1983.

_____. Denationalization of Money. Institute of Economic Affairs, 1976.

Hazlitt, Henry. The Failure of the New Economics. NJ: D. Van Nosrat
Company, Inc, 1959.

Higgs, Robert. “World War II and the Triumph of Keynesianism.”


Independent Institute (2001).
http://www.independent.org/publications/article.asp?id=317

Holroyd, Michael. Lytton Strachey: The New Biography. Norton & Co.,
2005 .

326
‫قائمة املراجع‬

Hoppe, Hans‐Hermann. “How Is Fiat Money Possible? Or, The Devolution


of Money and Credit.” The Review of Austrian Economics 7, no. 2 (1994) .

Hoppe, Hans‐Hermann. Democracy: The God That Failed. New Brunswick:


Transaction Publishers, 2001 .

Huebner, Jonathan. “A Possible Declining Trend for Worldwide Innovation.”


Technological Forecasting and Social Change 72, no. 8 (2005): 980–986 .

Ibn Khaldun, Abd Alrahman. Al‐Muqaddima. 1377 .

Jastram, Roy W. The Golden Constant: The English and American


Experience 1560–2007. Edward Elgar, 2009 .

Kent, Roland G. “The Edict of Diocletian Fixing Maximum Prices.”


University of Pennsylvania Law Review 69 (1920): 35 .

Keynes, John Maynard. A Tract on Monetary Reform. Macmillan, 1923 .

_____. The General Theory of Employment, Money, and Interest. Palgrave


Macmillan, 1936.

_____. Essays in Persuasion. W. W. Norton, 1963.

Komlos, John, Patricia Smith, and Barry Bogin. “Obesity and the Rate of
Time Preference: Is There a Connection?” Journal of Biosocial Science 36,
no. 2 (2004): 209–219 .

Kremer, Michael. “Population Growth and Technological Change: One


Million B.C. to 1990.” Quarterly of Journal of Economics 108, no. 3 (1993):
681–716 .

Levy, David, and Sandra Peart. “Soviet Growth and American Textbooks:
An Endogenous Past.” Journal of Economic Behavior & Organization 78, no.
1–2 (2011): 110–125 .

Liaquat Ahamed. Lords of Finance: The Bankers Who Broke the World.
Penguin, 2009 .

327
‫قائمة املراجع‬

Lips, Ferdinand. Gold Wars: The Battle Against Sound Money as Seen from
a Swiss Perspective. New York: Foundation for the Advancement of
Monetary Education, 2001 .

Mallery, Otto Tod. Economic Union and Durable Peace. New York: Harper,
1943.

May, T. C. Crypto Anarchy and Virtual Communities. 1994. Available on


nakamotoinstitute.org

McConnell, Campbell, Stanley Brue, and Sean Flynn. Economics. New


York: McGraw‐Hill, 2009.

Mencken, H. L., and Malcolm Moos (eds.), A Carnival of Buncombe.


Baltimore: Johns Hopkins Press, 1956 .

Menger, Carl. “On the Origins of Money.” The Economic Journal 2, no. 6
(1892): 239–255.

Merkle, R. “DAOs, Democracy and Governance.” Cryonics 37, no. 4


(July/August 2016): 28–40; Alcor, http://www.alcor.org

Mischel, Walter, Ebbe B. Ebbesen, and Antonette Raskoff Zeiss. “Cognitive


and Attentional Mechanisms in Delay of Gratification.” Journal of
Personality and Social Psychology 21, no. 2 (1972): 204–218 .

Mises, Ludwig von. Human Action. The Scholar's Edition. Auburn, AL:
Ludwig von Mises Institute, 1998 .

_____. Profit and Loss. Ludwig von Mises Institute, 2008.

_____. Socialism: An Economic and Sociological Analysis. Ludwig von


Mises Institute, Auburn, AL. 2008 (1922).

_____. The Theory of Money and Credit, 2nd ed. Irvington?on?Hudson, New
York: Foundation for Economic Education, 1971.

Nakamoto, Satoshi. Bitcoin: A Peer‐to‐Peer Electronic Cash System (n.p.,


2008.)

328
‫قائمة املراجع‬

Narayanan, Arvind et al. Bitcoin and Cryptocurrency Technologies: A


Comprehensive Introduction. Princeton University Press, 2016 .

Paar, Christof, Bart Preneel and Jan Pelzl. Understanding Cryptography: A


Textbook for Students and Practitioners. Springer, 2009 .

Philippon, Thomas, and Ariell Reshef. “An International Look at the Growth
of Modern Finance.” Journal of Economic Perspectives 27, no. 2 (2013): 73–
96 .

Popper, Nathaniel. Digital Gold. Harper, 2015.

Raicho, Ralph. The Costs of War: America's Pyrrhic Victories. NJ:


Transaction Publishers, 1999.

Rothbard, Murray. America's Great Depression, 5th ed. Auburn, AL: Ludwig
von Mises Institute, 2000.

_____. “The Austrian Theory of Money.” The Foundations of Modern


Austrian Economics (1976): 160–184.

_____. “A Conversation with Murray Rothbard.” Austrian Economics


Newsletter 11, no. 2 (Summer 1990): 1–5.

_____. Economic Depressions: Their Cause and Cure. Auburn, AL: Ludwig
von Mises Institute, 2009.

_____. “The End of Socialism and the Calculation Debate Revisited.” The
Review of Austrian Economics 5, no. 2 (1991): 51–76.

_____. The Ethics of Liberty. New York, NY: New York University Press,
1998.

_____. Man, Economy, and State. Ludwig von Mises Institute, 2009.

Salerno, Joseph. Money: Sound and Unsound. Ludwig von Mises Institute,
2010 .

Samuelson, Paul Anthony. Full Employment after the War. New York:
McGraw‐Hill, 1943.

329
‫قائمة املراجع‬

Saunders, Frances Stonor. The Cultural Cold War: The CIA and the World of
Arts and Letters. The New Press, 2000. ISBN 1‐56584‐596‐X .

Schuettinger, Robert L., and Eamonn F. Butler. Forty Centuries of Wage and
Price Controls: How Not to Fight Inflation. Ludwig von Mises Institute,
1979 .

Schumpeter, Joseph A. Capitalism, Socialism and Democracy. Routledge,


2013 .

Simon, Julian. The Ultimate Resource. Princeton University Press, 1981 .

Singh, Simon. The Code Book: The Science of Secrecy from Ancient Egypt
to Quantum Cryptography. Anchor, 2000 .

Skousen, Mark. “The Perseverance of Paul Samuelson's Economics.” Journal


of Economic Perspectives 11, no. 2 (1997): 137–152.

Smith, Vernon. Rationality in Economics. New York: Cambridge University


Press. 2008 .

Steil, Benn. The Battle of Bretton Woods: John Maynard Keynes, Harry
Dexter White and the Making of a New World Order. Princeton University
Press, 2013 .

Stein, Mara Lemos. “The Morning Risk Report: Terrorism Financing Via
Bitcoin May Be Exaggerated.” Wall Street Journal, 2017 .

Sutton, Antony. Wall Street and the Bolshevik Revolution, Crown Publishing
Group, 1974 .

Szabo, Nick. 2001. Trusted Third Parties Are Security Holes. Available on
NakamotoInstitute.org

Szabo, Nick. Shelling Out: The Origins of Money. (2002). Available on


NakamotoInstitute.org

Taleb, Nassim Nicholas. Antifragile: How to Live in a World We Don't


Understand. London: Allen Lane, 2012.

330
‫قائمة املراجع‬

_____. Fooled by Randomness: The Hidden Role of Chance in Life and in


the Markets. Random House, 2005.

_____. The Black Swan: The Impact of the Highly Improbable. Random
House, 2007.

Thiel, Peter. From Zero to One: Notes on Start‐ups, or How to Build the
Future. Crown Business, 2014 .

Zweig, Stefan. The World of Yesterday: Memoirs of a European. Pushkin


Press, 2009.

331

You might also like