Professional Documents
Culture Documents
نظراً لقبول اإلسالم للجمال ضمن أطر الطبيعة ،والنتاجات البشرية الفكرية واليدوية ،واألهداف المعقولة ،وما وراء
الطبيعة ،لهذا فإن دراسة الجمال دراسة علمية هادفة ليست مفيدة على الصعيد المعنوي فحسب ،بل وتعد خطوة ضرورية
الفن من المنظار الكالمي.
لفهم التعامل مع الحياة ،فضالً عن كونها عمالً ال ب ّد منه للتعرف على ّ
وألجل الدخول إلى هذا البحث ال ب ّد من توضيح أربع مفردات مهمة ،قد ال يميز الكثيرون بينها وبين مفردة لجمال»،
مما يؤدي إلى حدوث الكثير من الشطحات واألخطاء عند دراسة «علم الجمال» ،وهذه المفردات هي:
- 1القيمة
وهي عبارة عن النوعية المنتزعة من الفائدة التي تتسم بها حقيقة من الحقائق ،وقد ال تملك بذاتها حقيقة موضوعية ،إال
أنها تفهم كحقيقة على أساس منشأ انتزاعها الذي هو «الفائدة» بمعناها العام.
- 2اللذة
وهي عبارة عن الرضا النفسي الناجم عن نيل اإلنسان لشيء يرى أنه خير وفائدة وكمال .وهذا التعريف للذة تعريف
بسيط وابتدائي ،فمعرفة الحقيقة وأنواعها يع ّد من أعقد وأطول المباحث النفسية والفلسفية.
- 3التعجب
هو الحالة الذهنية المتولدة عن توقف اإلنسان أمام موضوع أو حدث ما خارج دائرة القوانين والمبادئ المعروفة،
وبشكل عام خارج معلومات اإلنسان ومعارفه وظروفه النفسية.
- 4الجودة
عبارة عن اتصاف موضوع أو حدث بعناصر الكمال التي يمكن للموضوع أو الحدث أن يتحملها.
ونحن نعلم أن هذا التعاريف ليست كاملة ،غير أن هدفنا تقديم صورة بسيطة عنها يمكن لنا من خاللها أن نميزها عن
الجمال .وال ب ّد لنا هنا أن نتحدث بإيجاز عن العالقة بين كل من هذه المفردات األربع والجمال ومدى انطباقها أو انفصالها
عنه:
إن الجمال في الحقيقة يالزم اللذة باستمرار ،اي بإمكاننا القول أن إدراك الجمال واستيعابه يؤدي إلى الشعور باللذة ،إال
أن كل شعور باللذة ال ينجم بالضرورة عن إدراك الجمال!
فنحن نعلم أن عوامل اللذة كثيرة ومتنوعة ،أحدها العامل األخير ،فاالنتصار على العدو مثالً يحقق هو اآلخر الشعور
باللذة ،لكنه ليس من سنخ الجماالت ،وإنما يتم تحقيقه من خالل أقسى الظواهر وأكثرها ألماً ،ومع ذلك فهو يبعث على
اللذة!
واألغرب من ذلك :أننا قد نشعر باللذة أحياناً حتى عند مشاهدة منظر قبيح ،لما له من اتصال خاص بذواتنا ونفسياتنا،
مثل مشاهدة كوخ طيني يذكرنا بذكريات طفولتنا.
- 2القيمة والجمال
لو أخذنا القيمة بالمعنى الذي أشرنا إليه فيما سبق ،فسيكون لها مفهوم أوسع من الجمال ،ألن المواد الضرورية التي
تستهلك خالل الحياة ،وينظر إليها كمعدات ووسائل مرغوبة ،تتصف بالقيمة واألهمية ،لكنها ال تتصف بالجمال ،أو ال
تطرح كجمال بشكل مستقل.
وهنا يمكن أن نقول :أن كل جمال له قيمة ،وليس المقصود بالقيمة ،القيمة المتبادلة ،ألن ذلك الجزء من جماالت
الطبيعة الذي ال يقبل االنتقال والملكية والحيازة الشخصية ،خارج عن مجرى التبادل ،مثل جمال السماء والكواكب والقمر
والجبال والوديان واألشجار.
- 3التعجب والجمال
على ضوء التعريف الذي قدمناه للتعجب نقول :أننا ال نريد بتوقف ذهن اإلنسان أمام موضوع أو حدث ،ركود هذا
الذهن تماماً ،وإنما نريد به مراوحته أمام تلك الحالة المتعارضة مع األصول المثبّتة في الذهن.
وقد يكون ذلك التعجب ناجماً عن الشعور بعظمة الظاهرة المشاهدة ،أو الشعور بتفاهتها ،مثل ارتكاب إحدى
الشخصيات الفاضلة لبعض األعمال المشينة.
وهذا النوع من التعجب يرتفع عند ارتفاع الجهل ،ولهذا قيل« :عند العلم باألسباب يرتفع اإلعجاب».
- 4الجودة والجمال
.1قد نجد حقيقة ما تتصف بالجودة والعلو ،إال أنها ال تتميز بمظهر جمالي ،مثل ماكينة الحراثة .فهذه الماكينة تحمل
العناصر المطلوبة ألداء الهدف المتوخى من صنعها رغم قباحة منظرها.
.2مظاهر الجمال العادية الموجودة حوالينا والمؤلّفة من عناصر بسيطة وألوان شائعة ،تع ّد مظاهر جميلة إال أنها ليست
من النوع الرائع الذي يلفت االنتباه أو يقع ضمن إطار «الجودة».
ومما سبق نفهم أن القيمة أو اللذة أو التعجب أو الجودة ،ال يمكن أن تكون مفردات مرادفة للجمال ،إال أنها يمكن أن
تكون من خصائص الجمال ومواصفاته.
ما هو الجمال؟
هل أن الجمال حقيقة موضوعية وعينية محضة ينحصر دور الذهن في إبرازها وعكسها ،أم أنه عبارة عن اإلدراك
واالستيعاب الذهني للظواهر الموضوعية ،بحيث ينعدم الجمال مع عدم وجود مثل هذا اإلدراك؟ أم أنه حقيقة موضوعية
عينية يعد إدراكها نوعاً من الجمال المتصل بالشهود أو الذوق أو الشعور الخاص بالذهن اإلنساني؟
األول :الجمال ظاهرة عينية وموضوعية تحظى بقبول الذهن ،وال دور للذهن اإلنساني سوى عكس أو إبراز هذه
الظاهرة.
الثاني :الجمال عبارة عن التلقي واإلدراك الذهني للظواهر الموضوعية ،وال وجود للجمال في حالة عدم توفر الذهنية
المدركة.
الثالث :الجمال ذو قطبية ثنائية ،أي أنه ظاهرة مرتبطة بقطبي داخل الذات وخارج الذات.
ويأخذ بعض المفكرين بالرأي األول ،ويعتقدون أن الذهن اإلنساني في تعامله مع الجمال أشبه بالمرآة التي ال تعكس
سوى الجسم الموضوع أمامها!
وإذا أخذنا بهذا الرأي فال يمكن قبول الرأي القائل أن العالم الطبيعي صورة لمدركاتنا ،الن حقائق العالم الموضوعية
موجودة سواء أدركناها آم لم ندركها .ومن أفراد هذه المجموعة يمكن اإلشارة إلى «بي برغاستاال» الذي يقول« :ال يوجد
الجمال إال في وجودنا ،وكلما كان غنياً وكلياً ،كان شديداً أيضاً .فالجمال مجرد شعور حساس بمظاهر الجمال ،كما أنه
ليس سوى قوة واستغناء يتمتع بهما طبعنا».
واالنتقاد الموجه للرأي األول هو :لو كان الجمال عبارة عن ظاهرة موضوعية تحظى بقبول الذهن ،وليس لهذا الذهن
اي دور فيها سوى عكسها ،فكيف نعلل اللذة الناجمة عن إدراك الجمال؟
فالشعور بلذة الجمال يدل على وجود اتصال ما وراء اتصال االنعكاس الذهني المجرد بين الجمال وذهن ونفس
اإلنسان.
وحينما نقف أمام الجماالت ،قد يصبح بإمكاننا تفسيرها إلى حد ما وتبيان أسبابها وتأثيراتها على الذهن والنفس ،واللذة
التي تمنحها لنا .وفي هذا التفسير والتعليل نفيد بشكل رئيس من محتويات نفوسنا .السنا عندما نشاهد مظهراً أفقيا مفتوحاً،
نلجأ بشكل عفوي إلى استعراض المسار الحياتي الذي نمر به ،ونتلذذ به؟
أما الرأي اآلخر الذي يرى الجمال عبارة عن التلقي والفهم الذهني للظواهر الموضوعية ،فأصحاب هذا الرأي ينكرون
موضوعية الجمال كمظهر وتجسيد للجمال.
والرد على هذا الرأي واضح ،ألن دعاته يقولون لو أننا عرفنا النفس اإلنسانية فال حاجة إلى علم الجمال وسيغنينا علم
النفس عنه ،وهذا أمر ال يختلف احد في خطئه.
الموجه لهذا الرأي هو :لماذا تقوم كافة التيارات والمظاهر الطبيعية واإلنسانية بإثارة شعورنا أو شهودنا
ّ واالنتقاد اآلخر
وتذوقنا للجمال وإشباعه؟ ولماذا تبدو الجماالت بأشكال ونوعيات مختلفة بحيث يترك كل شكل ونوعية لوناً خاصاً من
والرأي اآلخر القائل بأن الجمال حقيقة ثنائية القطب ،وأن مظاهر الجمال ال تختلف عن باقي الحقائق والظواهر الطبيعية
سواء كان هناك إنسان يراها ويتلذذ بها ،أم لم يكن ،فمن المؤكد أن الحيوانات ال تتلذذ برؤية الجمال الطبيعي أو
األخرىً ،
الفني ،وال تبدي ردود الفعل الذهنية والنفسية التي نبديها نحن بني اإلنسان ،فالحيوانات حينما تشاهد أجمل الورود ،فإنها
تدير ظهرها لها بمجرد أن تدرك أنها ال تصلح طعاماً لها ،وتنطلق باتجاه األحراش والعواسج .فلماذا يدرك اإلنسان الجمال
بذهنه ونفسه ويتلذذ به؟
وبغض النظر عن الذهن والروح ،فلو لم يكن للحقيقة وجود ،النتفى موضوع الجمال أيضاً ،حتى ولو ُوجد اإلنسان،
وكان على أعلى درجات الشعور واإلحساس من حيث الفهم الذهني والتلقي النفسي.
ولو افترضنا أن اإلنسان يتلذذ باألفكار التي تسري في ذهنه ،فمن الطبيعي أن المدرك في هذه الظاهرة النفسية يختلف
المدرك ،بل حتى الفنان الذي يلقي نظرة على أثره الفني ،فإنه يدرك جمال أثره العيني بشكل يختلف عن إدراكه الذاتي.
عن َ
وهناك ثالثة عناوين قد يحصل خطأ لدى بعض المفكرين في فهمها ال يتمكنون في إنقاذ أنفسهم منه وهي:
وكما أشرنا من قبل ليس هناك من شك انه لو لم يكن للـ «أنا» وجود بظروفها الذهنية والنفسية الخاصة ،لما كان وجود
للشعور بالجمال والتأثر به .فالجمال ال مفهوم له كحقيقة بالنسبة لنا بدون ارتباط المنظر بقطب داخل الذات .ولهذا فان
الذهن البشري في مفهوم الجمال يتمتع باألصالة باعتباره احد األساسين أو القطبين .غير أن اإلفراط على هذا الصعيد اي
اعتبار كل ما موجود هو القطب الذاتي والذهن البشري سيحول علم الجمال آخر المطاف إلى علم النفس.
فمن المؤكد أن باقة الورد البسيطة ذات اللون البسيط العادي ،تختلف عن باقات الورد ذات األلوان الزاهية الجميلة
التي البد وان يكون جمالها أعظم وأروع بكثير من الباقة األولى .كما أن الصوت الهادئ الذي يبعث االرتياح في نفس
السامع يختلف هو اآلخر عن اإليقاع المتزن الذي البد وان يكون أجمل من األول.
األمر الثالث:
عندما تُطرح علينا حقيقة ما على أساس أنها حقيقة جمالية ،فهل أن أبعادها الجمالية تقتصر فقط على ما طُرح علينا،
ونعتبرها جميلة على هذا األساس فحسب ،آم أن الجمال حقيقة تقودنا إلى حقيقة أخرى؟ أي هل لنا أن نقف عند حدود
تلك الحقيقة الجميلة ونعتبرها الهدف النهائي لذلك المظهر الذي عُ ِرض علينا؟
بعبارة أخرى :هل يحق لذهننا أو هل يستطيع أن يجتاز ذلك المظهر إلى حقيقة أخرى ارفع وأكثر معقولية وأصالة من
األولى؟ وهل علينا أن نتلقى هذه الحقيقة الجميلة على أساس أنها رمز يخفي خلفه حقيقة أخرى؟
بعبارة أوضح :هل الجماالت العينية رموز وظالل لحقائق تختفي خلف ستارات الجمال ،وا ّن هناك حقيقة أخرى كامنة
خلف هذه المظاهر الجمالية؟
ويمكن أن ننسب بداية االهتمام بهذا األمر إلى «أفالطون» لقوله أن روح اإلنسان في عالم المجردات وقبل دخولها إلى
عالم الدنيا ،كانت تشاهد حقيقة الجمال والحسن المطلق بدون حجاب .وحينما تبصر الحسن الظاهري المجازي في هذه
الدنيا ،تذكر الجمال المطلق الذي شاهدته من قبل ،فتحزن لفراقه ،وتتوق إليه ،فتصبح أشبه بالطير الحبيس الذي يتطلع
لالنفالت من القفص [. ]1
وطبقاً لآلثار التي خلفها «أفالطون» فإنه يرى الجماالت المحسوسة في عالم الطبيعة ظالً ورمزاً للجمال المطلق ،وليس
بإمكانها أن تشبع الشعور بالحاجة إلى الجمال لدى اإلنسان.
ويستدل «أفالطون» على مجازية وظليّة الجماالت بقوله" :لو قيل لك ما هو الجمال؟ ألشرت إلى زهرة وقلت :هذه
جميلة ،أو ألشرت إلى وجه جميل وقلت :هذا جميل .ومن الممكن أن تشير إلى منظر طبيعي أو إلى القمر .نعم كل هذه
المظاهر جميلة ،اي أنها مظاهر للجمال ،إال انك لم تخبرني ما هو الجمال .فأنا أسألك عن حقيقة الجمال ال عن مظاهر
يتجلى فيها .فإذا كان الجمال في الزهرة فقط ،فمن المحال أن يتجلى في شيء آخر كالقمر أو المنظر الطبيعي أو الوجه
الحسن .وهذا يؤكد على أن الجمال حقيقة عامة.
كما يمكن االستدالل على وحدة حقيقة الجماالت من خالل وحدة الكلمة المستخدمة في كافة مظاهر الجمال ،فإذا
كان الجمال خاصاً بنوع من المظاهر ،فال معنى لتعميمه على مختلف األنواع واستعمال كلمة واحدة في كافة أنواعه.
ومن الممكن أن تعترض قائالً أن الجمال ليس حقيقة واحدة ،بل هناك أنواع من الجماالت تظهر في األشياء؟!
مما ال شك فيه انك لم تنتزع هذا العامل المشترك من المظاهر الموضوعية أو العينية ،الن عينك لم تشاهد شيئاً في
الزهرة الجميلة يشبه ما هو موجود في الليلة المقمرة .إضافة إلى ذلك أن التشابه بين األشياء ال يُدرك دون المقارنة بينها،
ومن الواضح أن المقارنة عمل ذهني وليس حساً طبيعياً .ويجب أن نقول بالنتيجة أن ذهنك يحمل فكرة عامة عن الجمال
يقارن على أساسها بين األشياء خارج الذات واألشياء داخل الذات.
وإذا لم يكن للفكرة اي مدلول في العالم يمكن أن تُقارن به ،فالجمال في هذه الحالة يُع ّد ظاهرة خيالية من نسج الذهن،
وهذا ما ينسجم مع الفلسفة السفسطائية التي تقول :اإلدراك الشخصي لإلنسان هو مقياس لكافة األشياء في الكون ،فكل ما
يراه جميالً فهو جميل ،وكل ما يراه قبيحاً فهو قبيح .وعلى هذا األساس ال يوجد اي طريق أمامنا سوى أن نقول :فكرة
الجمال الموجودة في عقلنا تنطبق مع حقيقة واقعية خارج إطار ذهننا وعقلنا .ويصح هذا التفسير على العدل والخير،
والبياض والسواد ،وباقي الظواهر الكونية األخرى"]2[ .
وعلى صعيد آخر فان تحليل الجماالت الموضوعية ومن اي نوع كانت ،ليس كافياً للتفسير النهائي .فلو شرعت
بالبحث عن علة جمال شجيرة ورد من حيث الشكل واللون وطبيعة األوراق ،فمن الممكن أن تحصل على أجوبة شبه شافية
في المراحل األولى من البحث ،إال أن التفسير التحليلي ألي نوع من أنواع الجماالت ال يصل إلى تحديد العلل النهائية
حتى على يد األخصائيين في علم الجمال.
فأنت ما أن تشير إلى علة جمال اللون أو الشكل حتى يُطرح عليك سؤال حول هذه العلة ،وربما يشير «صائب
التبريزي» إلى هذا المعنى في البيت التالي:
[]poem=2افتح العين لمشاهدة الصنع اإللهي وأغلق الشفة []plineفاألفضل رؤية خط األستاذ بدالً من قراءته[/
]poem
ويتفق «هيغل» مع «أفالطون في رأيه بالجمال مع فارق واحد وهو أن هيغل يرى أ ّن كافة الجماالت تعبّر عن مثال واحد
(فكرة معقولة عامة) ،في حين يعتقد أفالطون أن كل نوع من أنواع الجماالت ،ظل أو تعبير عن مثال واحد (فكرة ما وراء
الطبيعة المعقولة).
فيقول هيغل على هذا الصعيد« :الضياء المطلق من خلف حجاب عالم المحسوسات يسمى الجمال .ويشترط في مفهوم
الجمال أن يكون موضوعه محسوساً ،اي أن يكون حقيقة تستشعرها الحواس كالنصب أو المبنى أو اإليقاع المحبب ،أو أن
ويخلص «هيغل» إلى القول« :غير أن جمال الطبيعة يعاني من بعض النقائص والسلبيات .فمن ضروريات عرض الجمال
الحقيقي ،الالنهائية والحرية .فمثال الفكرة الكلية مطلق ال ينتهي]3[.»...
ولو دققنا النظر في ما تحدث به «أفالطون» و «هيغل» ،لوجدنا أنهما يتحدثان عن حقيقة يمكن أن نطلق عليها
«الحقيقة المطلقة» ،ولن نجد بينهما تفاوتاً كبيراً في الرأي ،ولظهر لنا أنهما يق ّدمان للجمال مفهوماً واحداً.
نُضيف إلى ذلك القول :أن نظرية «هيغل» الجمالية تتفق في الواقع مع نظرية بعض أبرز فالسفة وشعراء المسلمين،
كالشاعر العارف «جالل الدين الرومي» المعروف بالمولوي ،التي ترى أن مظاهر الجمال هي مظاهر للجمال اإللهي
المطلق.
وال يراد في ذلك أن جماالت الطبيعة أو الفن شبيهة بالجمال المطلق اإللهي ،بل المقصود أن الجمال نموذج من
الكمال المطلق الجامع لكافة الصفات اإللهية.
وليس هناك شك في أن استدالل «أفالطون» و «المولوي» على رفض النمط الفكري القائل بأن الجمال ظاهرة
موضوعية بحتة ندركها بحواسنا ،استدالل رصين غير قالللرفض وذلك:
.1أن تنوع الجماالت كبير إلى درجة أن البحث عن التشابهموضوعي بين هذه األنواع يعد أحد األعمال التي ال معنى
لها .فعلى حد تعبير «أفالطون» :ما هو وجه الشبه بين الليلة المقمرة ،وبين الزهرة القهوائية التي زينها عدد كبير من النقاط
البيضاء؟ وما هو وجه الشبه بين جمال وجه اإلنسان و ريش الطاووس؟
.2أن كل ما هو محسوس يقع ضمن حركة التحوالت الذاتية والظاهرية ،وليس له من عودة أبداً ،بل وال يمكن له أن
يتكرر أيضاً حتى في مكان واحد وزمان واحد .إذن ما هي علة إدراك وقبول الجميع للمفاهيم التي تطرح كحقائق وقوانين
عامة وثابتة عن الظواهر داخل وخارج الذات؟
ويمكن أن يكون استدالل «أفالطون» و «المولوي» إجابة على مثل هذه التساؤالت ،غير أن هذا االستدالل ال يلزمنا
بشكل قاطع بقبول األفكار العامة الثابتة (أي مثل حقائق ما وراء المحسوس) في عالم خارج الذات ،بل ويمكن أن يطرح
أمامنا ثالثة مواضيع أخرى:
وجود حقائق في داخل الذات ،تصل إلى مرحلة العقلية ،من خالل تزايد األفكار والتجارب المفيدة واإلخالص في فهم
الجمال وأهدافه المعقولة.
والبد أن تتفتح األزهار الجميلة في داخل النفس اإلنسانية عند تعاظم المشاعر الفكرية العليا ،وهذا ال يعني أن زهرة
العالم العيني ،من صنع ذات اإلنسان ،بل أن النفس اإلنسانية تتصف بجوهر الجماالت وتمتزج بالجمال.
الموضوع الثاني:
الوجود الحقيقي للجماالت في العالم وجود موضوعي عيني ،يؤدي إلى إشاعة الهدوء في النفس اإلنسانية ،وقد جعل اهلل
هذه الحقائق في نظام الوجود انطالقاً من حكمته البالغة ،فتعمل على الح ّد من خشونة المادة التي ال تكثرت قوانينها بالنفس
اإلنسانية ،والتي تطبق امتداداتها على عالم الطبيعة ،ولوال جماالت عالم الوجود ،لجعلت خشونة المادة وال أبالية قوانينها
التي تعرقل نفوذ الروح وعبورها من الحياة مرحلة ال تطاق.
ولو تفحصنا الوضع النفسي ألولئك الذين ال يشعرون باللذة والراحة في عالم الطبيعة ،لوجدناهم ممن ألغى شعور البحث
عن الجمال ،أو أن العوامل البيئية واالجتماعية القاهرة هي التي أبطلت مفعول هذا الشعور.
وفي عصرنا الراهن ضغطت الماكينة الال واعية بمختلف أنواعها على اإلنسان الواعي ،ولهذا فان موضوع عالقة اإلنسان
بالجماالت ،يعد أحد العوامل المهمة جداً في نضارة وغضاضة الحياة ،ال سيما جماالت الطبيعة وجماالت األهداف
والشعارات المعقولة.
وقد أُقصي اإلنسان إلى حد ما عن هذين النوعين من الجماالت بفعل قسرية الحياة الميكانيكية ،ولهذا اكتنف حياة
الناس شعور بالخوائية والعبثية إلى درجة أدى إلى ضعف الطاقة الحياتية التي تع ّد أقوى الطاقات.
مما سبق ،يتلخص مفهوم الجمال في :أن الحكمة اإللهية البالغة قد أوجدت ذلك المقدار العظيم من المظاهر الجمالية
في كيان الطبيعة ،من أجل إشاعة الهدوء في النفس اإلنسانية واستمرار الحياة .كما أنه تعالى أوجد استعداد التجميل لدى
اإلنسان فيقوم بصناعة زجاجات ملونة وشفافة في سجن الحياة الكبير ،فيجعل من هذا السجن قابالً للتحمل والعيش.
الموضوع الثالث:
اإلنسان ومن خالل عالقته بالجماالت ،يدرك أن خالق الوجود ليس موجداً صانعاً محضاً للوجود ،بحيث يقتصر على
إيجاد الكائنات وتحريكها ،ثم يدعها وشأنها ،فيحصل الناس خالل م ّد الحياة وجزرها على المعارف ويعطلون استعداداتهم
المتنوعة بحفنة من الخيال والوهم.
وتذكر اهلل في الحقيقة ،يعني تذكر حكمة اهلل وكماله وجماله المطلق ،مما يدفعه للحركة ضمن مدار جاذبيته.
وذلك الذي ال يحركه الكمال والجمال اإللهي نحو النمو والتسامي الروحي ،فليس بمقدور النظام وقانون عالم الوجود
الرفيع أن يرشده نحو الحكمة الربانية.
والبد من اإلشارة إلى نقطة في غاية األهمية وهي انه ال يمكن إدراك مظهر الفكرة المطلقة على حد تعبير هيغل
والمعشوق الجميل المطلق على حد تعبير المولوي في مظاهر الجمال المحسوسة أو القضايا المعقولة بدون تنقية النفس من
األدران والتلوثات الحيوانية والخروج من مستنقع العالقات المحدودة والمحددة للفكر والشهود الجمالي.
وهذه ليست نصيحة أخالقية محترفة كما يتصور بعض الكتاب ،وإنما لما كان من العسير على العقل اإلنساني ادارك
القانون العام للعلوم بدون التخلص من مخالب المحسوسات المتغيرة واألهواء غير المنطقية ،كذلك ال يمكن للذهن
البشري إدراك مظهر الفكرة المطلقة والكمال المطلق بدون تصفية النفس وتنقيتها.
فما دام المرء يغوص في مستنقع الذاتية ،فليس بإمكان اي ظاهرة وقانون في إطار الوجود أن ينقذه من أطر مواقفه
الخاصة وأالعيب حواسه الطبيعية المحضة ،واالرتفاع به إلى الذرى التي يلمح من خاللها عظمة النظام والقانون والوجه
الرياضي للوجود!
كما ليس بإمكان تغاريد الطير الجميل ،والليلة المقمرة ،والسماء الزرقاء بنقاطها الذهبية ،أن تحلّق به في الفضاء
العلوي ،كي تداعب أنوار الجمال المطلق بصيرته ،ويطّلع على فظاظة المادة وال أبالية قوانينها ومظاهرها القبيحة!
فما دام المرء ينسج نماذج وأنماط القبح والجمال والقيم والال قيم واللذة والحزن من خيوط أهوائه ومعلوماته الناقصة،
ويفسر جماالت الوجود بشكل قاطع وجذري؟
فكيف بإمكانه أن يدرك جمال اهلل ّ
وكيف يمكن تصور أن ينظر اإلنسان الشيطاني إلى السماء الزرقاء كما ينظر إليها اإلنسان اإللهي فتضفي دموع الشوق
إلى الجمال على وجهه جماالً أروع من جمال السماء؟
ومن أجل إدراك الجمال العلوي في هندسة الوجود ،ال ب ّد من تحول استعداد مشاهدة الجمال الموجود في ذات
اإلنسان من حالته الكامنة إلى الحالة المتحركة.
[ ]3فلسفة هيغل ،و .ت ،استيس ،ترجمة الدكتور عنايت ،ص .617
* مالحظة :اآلراء الواردة تعبر عن رأي صاحبها وال تعبر بالضرورة عن رأي المؤسسة.