You are on page 1of 114

‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫كليلة ودمنة‬
‫البن المقفع‬
‫أهم وأشهر كتب ابن املقفع على اإلطالق‬
‫وهو جمموعة من احلكاايت تدور على ألسنة احليواانت حيكيها الفيلسوف بيداب للملك دبشليم‪ ،‬ويبث‬
‫للحكْم‪ ،‬واملشهور أن ابن املقفع ترجم هذه‬
‫من خالهلا ابن املقفع آراءه السياسية يف املنهج القومي ُ‬
‫احلكاايت عن الفارسية‪ ،‬وأهنا هندية األصل‪ ،‬لكن أحبا اًث كثرية حديثة تؤكد أن كليلة ودمنة من أتليف‬
‫ابن املقفع وليست جمرد ترمجة‪ ،‬كما أن بعض هذه األحباث يعتقد أن اآلراء اليت أوردها ابن املقفع يف‬
‫كليلة ودمنة كانت أحد األسباب املباشرة لنهايته األليمة‪،‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫باب مقدمة الكتاب‬


‫قدمها هبنود بن سحوان ويعرف بعلي بن الشاه الفارسي‪ .‬ذكر فيها السبب الذي من أجله عمل بيداب‬
‫الفيلسوف اهلندي رأس الربامهة لدبشليم ملك اهلند كتابه الذي مساه كليلة ودمنة؛ وجعله على ألسن‬
‫البهائم والطري صيانةا لغرضه فيه من العوام‪ ،‬وضنا مبا ضمنه عن الطغام؛ وتنزيه ا للحكمة وفنوهنا‪،‬‬
‫وحماسنها وعيوهنا؛ إذ هي للفيلسوف مندوحة‪ ،‬وخلاطره مفتوحة؛ وحملبيها تثقي‪ ،‬ولطالبيها تشريف‪.‬‬
‫وذكر السبب الذي من أجله أنفذ كسرى أنوشروان بن قباذ بن فريوز ملك الفرص بروزيه رأس األطباء‬
‫إىل بالد اهلند كتاب كليلة ودمنة؛ وما كان من تلطف بروزيه عند دخوله إىل اهلند؛ حىت حضر إليه‬
‫الرجل الذي استنسخه له سرا من خزانة امللك ليالا‪ ،‬مع ما وجد من كتب علماء اهلند‪ .‬وقد ذكر الذي‬
‫كان من بعثه بروزيه إىل مملكة اهلند ألجل نقل هذا الكتاب؛ وذكر فيها ما يلزم مطالعه من إتقان‬
‫قراءته والقيام بدراسته والنظر إىل ابطن كالمه؛ وأنه إن مل يكن كذلك لك حيصل على الغاية منه‪ .‬وذكر‬
‫فيها حضور بروزيه قراءة الكتاب جهرا‪ .‬وقد ذكر السبب الذي من اجله وضع بزرمجهر ابابا مفردا‬
‫يسمى ابب بروزيه التطبب‪ ،‬وذكر فيه شأن بروزيه من أول أمره وآن مولده إىل أن بلغ التأديب‪ ،‬وأحب‬
‫احلكمة واعترب يف أقسامها‪ .‬وجعله قبل ابب األسد والثور الذي هو أول الكتاب‪.‬‬
‫قال علي بن الشاه الفارسي‪ :‬كان السبب الذي من أجله وضع بيداب الفيلسوف لدبشليم ملك اهلند‬
‫كتاب كليلة ودمنة‪ ،‬أن اإلسكندر ذا القرنني الرومي ملا فرغ من أمر امللوك الذين كانوا بناحية املغرب‪،‬‬
‫سار يريد ملوك الشرق من الفرس وغريهم؛ فلم يزل حيارب من انزعه ويواقع من واقعه‪ ،‬ويسامل من‬
‫وادعه من ملوك الفرس‪ ،‬وهم الطبقة األوىل‪ ،‬حىت ظهر عليهم وقهر من انوأه وتغلب على من حاربه؛‬

‫‪1‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فتفرقوا طرائق ومتزقوا حزائق ‪ ،‬فتوجه ابجلنود حنو بالد الصني؛ فبدأ يف طريقه مبلك اهلند ليدعوه إىل‬
‫طاعته والدخول يف ملته وواليته‪ .‬وكان على اهلند يف ذلك الزمان ملك ذو سطوة وأبس وقوة ومراس‪،‬‬
‫فور‪ .‬فلما بلغه إقبال ذي القرنني حنوه أتهب حملاربته‪ ،‬واستعد جملاذبته؛ وشم إليه أطرافه‪ ،‬وجد‬
‫يقال له ٌ‬
‫يف التألب عليه؛ ومجع له العدة يف أسرع مدة من الفيلة املعدة للحروب‪ ،‬والسباع املضراة ابلوثوب؛ مع‬
‫اخليول املسرجة والسيوف القواطع‪ ،‬واحلراب اللوامع‪ .‬فلما قرب ذو القرنني من فور اهلندي وبلغه ما أعد‬
‫له من اخليل اليت كأهنا قطع الليل مما مل يلقه مبثله أحد من امللوك الذين كانوا يف األقاليم‪ ،‬ختوف ذو‬
‫القرنني من تقصري يقع به إن عجل املبارزة‪ .‬وكان ذو القرنني رجالا ذا حيل ومكايد‪ ،‬مع حسن تدبري‬
‫وجتربة‪ ،‬فرأى إعمال احليلة والتمهل‪ ،‬واحتفر خندقا على عسكره؛ وأقام مبكانه الستنباط احليلة والتدبري‬
‫ألمره؛ وكيف ينبغي له أي يقدم على اإليقاع به‪ ،‬فاستدعى ابملنجمني‪ ،‬وأمرهم ابالختيار ليوم موافق‬
‫تكون له فيه سعادة حملاربة ملك اهلند والنصرة عليه‪ .‬فاشتغلوا بذلك‪ .‬وكان ذو القرنني ال مير مبدينة إال‬
‫أخذ الصناع املشهورين من صناعها ابحلذق من كل صنف‪ .‬فأنتجت له مهته ودلته فطنته أن يتقدم إىل‬
‫الصناع الذين معه يف أن يصنعوا خيالا من حناس جموفة‪ ،‬عليها متاثيل من الرجال‪ ،‬على بك ٍر جتري‪ ،‬إذا‬
‫دفعت مرت سراع ا‪ .‬وأمر إذا فرغوا منها أن حتشى أجوافها ابلنفط والكربيت؛ وتلبس وتقدم أمام‬
‫الصف يف القلب‪ .‬ووقت ما يلتقي اجلمعان تضرم فيها النريان‪ .‬فإن الفيلة إذا لفت خراطيمها على‬
‫الفرسان وهي حامية‪ ،‬ولت هاربة‪ ،‬وأوعز إىل الصناع ابلتشمري واالنكماش والفراغ منها‪ .‬فجدوا يف‬
‫ذلك وعجلوا‪ .‬وقرب أيضا وقت اختيار املنجمني‪ .‬فأعاد ذو القرنني رسله إىل فور يدعوه إليه من‬
‫طاعته واإلذعان لدولته‪ .‬فأجاب جواب مصر على مص ٍر على خمالفته‪ ،‬مقي ٍم على حماربته‪ .‬فلما رأى ذو‬
‫القرنني عزميته سار إليه أبهبته؛ وقدم فور الفيلة أمامه‪ ،‬ودفعت الرجال تلك اخليل ومتاثيل الفرسان؛‬
‫فأقبلت الفيلة حنوها‪ ،‬ولفت خراطيمها عليها‪ .‬فلما أحست ابحلرارة ألقت من كان عليها‪ ،‬وداستهم‬
‫شيء وال متر ٍ‬
‫أبحد إال وطئته‪ .‬وتقطع فوٍر ومجعه‪،‬‬ ‫حتت أرجلها‪ ،‬ومضت مهزومة هاربة‪ ،‬ال تلوي على ٍ‬
‫وتبعهم أصحاب اإلسكندر؛ وأثخنوا فيهم اجلراح‪.‬‬
‫وصاح اإلسكندر‪ :‬اي ملك اهلند أبرز إلينا‪ ،‬وأبق على عدتك وعيالك‪ ،‬وال حتملهم على الفناء‪ .‬فإنه‬
‫ليس من املروءة أي يرمي امللك بعدته يف املهالك املتلفة واملواضع اجملحفة‪ ،‬بل يقيهم مباله ويدافع عنهم‬
‫بنفسه‪ .‬فأبرز إىل ودع اجلند‪ ،‬فأينا قهر صاحبه فهو األسعد‪ .‬فلما مسع فور من ذي القرنني ذلك‬
‫الكالم دعته نفسه ملالقاته طمعا فيه؛ وظن ذلك فرص اة‪ .‬فربز إليه اإلسكندر فتجاوال على ظهري‬

‫‪2‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فرسيهما ساعات من النهار ليس يلقى أحدمها من صاحبه فرص اة؛ ومل يزاال يتعاركان‪ .‬فلما أعيا‬
‫اإلسكندر أمره ومل جيد له فرص اة وال حيلة أوقع ذو القرنني يف عسكره صيحة عظيمة ارجتت هلا األرض‬
‫فور عندما مسع الزعقة‪ ،‬وظنها مكيدة يف عسكره؛ فعاجله ذو القرنني بضربة أمالته‬
‫والعساكر؛ فالتفت ٌ‬
‫عن سرجه‪ ،‬وتبعه أبخرى؛ فوقع على األرض‪ .‬فلما رأت اهلند ما نزل هبم‪ ،‬وما صار إليه ملكهم؛ محلوا‬
‫على اإلسكندر فقاتلوه قتاالا أحبوا معه املوت‪ .‬فوعدهم من نفسه اإلحسان‪ ،‬ومنحه هللا أكتافهم؛‬
‫فاستوىل على بالدهم‪ ،‬وملك عليه رجالا من ثقاته‪ .‬وأقام ابهلند حىت استوثق مما أراد من أمرهم واتفاق‬
‫كلمتهم؛ مث انصرف عن اهلند وخلف ذلك الرجل عليهم‪ .‬مضى متوجها حنو ما قصد له‪ .‬فلما بعد ذو‬
‫ا لقرنني عن اهلند جبيوشه‪ ،‬تغريت اهلند عما كانوا عليه من طاعة الرجل الذي خلفه عليهم؛ وقالوا ليس‬
‫يصلح للسياسة وال ترضى اخلاصة والعامة أن ميلكوا عليهم رجالا ليس هو منهم وال من أهل بيوهتم‪.‬‬
‫فإنه ال يزال يستذهلم ويستقلهم‪ .‬واجتمعوا ميلكون عليهم رجالا من أوالد ملوكهم؛ فملكوا عليهم ملك ا‬
‫يقال له دبشليم؛ وخلعوا الرجل الذي كان خلفه عليهم اإلسكندر‪ .‬فلما استوسق له األمر‪ ،‬واستقر له‬
‫امللك‪ .‬وكان مع ذلك مؤيدا مظفرا منصورا‪ .‬فهابته الرعية‪ .‬فلما رأى ما هو عليه من امللك والسطوة‪،‬‬
‫عبث ابلرعية واستصغر أمرهم وأساء السرية فيهم‪ .‬وكان ال ترتقي حاله إال ازداد عتوا‪ .‬فمكث على‬
‫حكيم‪ ،‬يعرف بفضله‪ ،‬ويرجع يف‬‫فاضل ٌ‬ ‫ذلك برهة من دهره‪ .‬وكان يف زمانه رحل فيلسوف من الربامهة‪ٌ ،‬‬
‫األمور إىل قوله‪ ،‬يقال له بيداب‪ .‬فلما رأى امللك وما هو عليه من الظلم للرعية‪ ،‬فكر يف وجه احليلة يف‬
‫صرفه عما هو عليه‪ ،‬ورده إىل العدل واإلنصاف؛ فجمع لذلك تالميذه‪ ،‬وقال‪ :‬أتعلمون ما أريد أن‬
‫أشاوركم فيه? اعلموا إين أطلت الفكرة يف دبشليم وما هو عليه من اخلروج عن العدل ولزوم الشر‬
‫ورداءة السرية وسوء العشرة مع الرعية؛ وحنن ما نروض أنفسنا ملثل هذه األمور إذا ظهرت من امللوك‪،‬‬
‫غال لنردهم إىل فعل اخلري ولزوم العدل‪.‬‬
‫ومىت أغفلنا ذلك وأمهلناه لزم وقوع املكروه بنا‪ ،‬وبلوغ احملذورات إلينا؛ غذ كنا يف أنفس اجلهال أجهل‬
‫منهم؛ ويف العيون عندهم أقل منهم‪ .‬وليس الرأي عندي اجلالء عن الوطن‪ .‬وال يسعنا يف حكمتنا‬
‫إبقاؤه على ما هو عليه من سوء السرية وقبح الطريقة‪ .‬وال ميكننا جماهدته بغري ألسنتنا‪ .‬ولو ذهبنا إىل‬
‫أن نستعني بغريان مل تتهيأ لنا معاندته‪ .‬وإن أحس منا مبحالفته وإنكاران سوء سريته كان يف ذلك بواران‪.‬‬
‫وقد تعلمون أن جماورة السبع والكلب واحلية والثور على طيب الوطن ونضارة العيش لغد ٍر ابلنفس‪.‬‬
‫حلقيق أن تكون مهته مصروفة إىل ما حيصن به نفسه من نوازل املكروه ولواحق احملذور؛‬ ‫وإن الفيلسوف ٌ‬

‫‪3‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫ويدفع املخوف الستجالب احملبوب‪ .‬ولقد كنت أمسع أن فيلسوفا كتب لتلميذه يقول‪ :‬إن جماور رجال‬
‫السوء ومصاحبهم كراكب البحر‪ :‬إن سلم من الغرق مل يسلم من املخاوف‪ .‬فإذا هو أورد نفسه موارد‬
‫املهلكات ومصادر املخوفات‪ ،‬عد من احلمري اليت ال نفس هلا‪ .‬ألن احليوان البهيمية قد خصت يف‬
‫طبائعها مبعرفة ما تكتسب به النفع وتتوقى املكروه‪ :‬وذلك أننا مل نرها تورد أنفسها موردا فيه هلكتها‪.‬‬
‫وأهنا مىت أشرفت على مورد مهلك هلا‪ ،‬مالت بطبائعها اليت ركبت فيها ‪ -‬شحا أبنفسها وصيان اة هلا ‪-‬‬
‫إىل النفور والتباعد عنه‪ ،‬وقد مجعتكم هلذا األمر‪ :‬ألنكم أسريت ومكان سري وموضع معرفيت؛ وبكم‬
‫أعتضد‪ ،‬وعليكم أعتمد‪ .‬فإن الوحيد يف نفسه واملنفرد برأيه حيث كان فهو ضائع وال انصر له‪ .‬على‬
‫أن العاقل قد يبلغ حبيلته ما ال يبلغ ابخليل واجلنود‪ .‬واملثل يف ذلك أن قنرباة اختذت أدخي اة وابضت فيها‬
‫على طريق الفيل؛ وكان للفيل مشرب يرتدد إليه‪ .‬فمر ذات يوم على عادته لريد مورده فوطئ عش‬
‫القنربة؛ وهشم بيضها وقتل فراخها‪ .‬فلما نظرت ما ساءها‪ ،‬علمت أن الذي انهلا من الفيل ال من‬
‫غريه‪ .‬فطارت فوقعت على رأسه ابكي اة؛ مث قالت‪ :‬أيها امللك مل هشمت بيضي وقتلت فراخي‪ ،‬وأان يف‬
‫جوارك? أفعلت هذا استصغارا منك ألمري واحتقارا لشأين‪ .‬قال‪ :‬هو الذي محلين على ذلك‪ .‬فرتكته‬
‫وانصرفت إىل مجاعة الطري؛ فشكت إليها ما انهلا من الفيل‪ .‬فقلن هلا وما عسى أن نبلغ منه وحنن‬
‫الطيور? فقالت للعقاعق والغرابن‪ :‬أحب منكن أن تصرن معي إليه فتفقأن عينيه؛ فإين أحتال له بعد‬
‫ذلك حيل اة أخرى‪ .‬فأجبنها إىل ذلك‪ ،‬وذهنب إىل الفيل‪ ،‬ومل يزلن ينقرن عينيه حىت ذهنب هبما‪ .‬وبقي ال‬
‫يهتدي إىل طريق مطعمه ومشربه إال ما يلقمه من موضعه‪ .‬فلما علمت ذلك منه‪ ،‬جاءت إىل غدير‬
‫فيه ضفادع كثري‪ ،‬فشكت إليها ما انهلا من الفيل‪.‬‬
‫قالت الضفادع‪ :‬ما حيلتنا حنن يف عظم الفيل? وأين نبلغ منه‪ .‬قالت‪ :‬احب منكن أن تصرن معي إىل‬
‫ٍ‬
‫وهدة قر ٍ‬
‫يبة منه‪ ،‬فتنققن فيها‪ ،‬وتضججن‪ .‬فإنه إذا مسع أصواتكن مل يشك يف املاء فيهوي فيها‪.‬‬
‫فأجبنها إىل ذلك؛ واجتمعن يف اهلاوية‪ ،‬فسمع الفيل نقيق الضفادع‪ ،‬وقد اجهده العطش‪ ،‬فأقبل حىت‬
‫وقع يف الوهدة‪ ،‬فارتطم فيها‪ .‬وجاءت القنربة ترفرف على رأسه؛ وقالت‪ :‬أيها الطاغي املغرت بقوته احملتقر‬
‫ألمري‪ ،‬كيف رأيت عظم حيليت مع صغر جثيت عند عظم جثتك وصغر مهتك? فليشر كل واحد منكم‬
‫مبا يسنح له من الرأي‪ .‬قالوا أبمجعهم‪ :‬أيها الفيلسوف الفاضل‪ ،‬واحلكيم العادل‪ ،‬أنت املقدم فينا‪،‬‬
‫والفاضل علينا‪ ،‬وما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك‪ ،‬وفهمنا عند فهمك? غري أننا نعلم أن‬
‫السباحة يف املاء مع التماسيح تغر ٌير؛ والذنب فيه ملن دخل عليه يف موضعه‪ .‬والذي يستخرج السم من‬

‫‪4‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫جان على نفسه‪ ،‬فليس الذنب للحية‪ .‬ومن دخل على األسد يف غابته مل‬ ‫انب احلية فيبتلعه ليجربه ٍ‬
‫أيمن من وثبته‪ .‬وهذا امللك مل تفزعه النوائب‪ ،‬ومل تؤدبه التجارب‪ .‬ولسنا أنمن عليك وال على أنفسنا‬
‫سطوته وإان خناف عليك من سورته ومبادرته ٍ‬
‫بسوء إذا لقيته بغري ما حيب‪ .‬فقال احلكيم بيداب‪ :‬لعمري‬
‫لقد قلتم فأحسن تم‪ ،‬لكن ذا الرأي احلازم ال يدع أن يشاور من هو دونه أو فوقه يف املنزلة‪ .‬والرأي الفرد‬
‫ال يكتفي به يف اخلاصة وال ينتفع به يف العامة‪ .‬وقد صحت عزمييت على لقاء دبشليم‪ .‬وقد مسعت‬
‫مقالتكم؛ وتبني يل نصيحتكم واإلشفاق علي وعليكم‪ .‬غري أين قد رأيت رأايا وعزمت عزم ا؛ وستعرفون‬
‫حديثي عند امللك وجماوبيت إايه فإذا اتصل بكم خروجي من عنده فاجتمعوا إيل‪ .‬وصرفهم يدعون له‬
‫ابلسالمة‪.‬‬
‫مث إن بيداب اختار يوم ا للدخول على امللك؛ حىت إذا كان ذلك الوقت ألقى عليه مسوحة وهي لباس‬
‫الربامهة؛ وقصد ابب امللك‪ ،‬وسأل عن صاحب إذنه وأرشد إليه وسلم عليه؛ وأعلمه قال يل‪ :‬إين رجل‬
‫رجل من الربامهة يقال له‬ ‫ٍ‬
‫قصدت امللك يف نصيحة‪ .‬فدخل اآلذن على امللك يف وقته؛ وقال‪ :‬ابلباب ٌ‬
‫بيداب‪ ،‬ذكر أن معه للملك نصيحة‪ .‬فأذن له؛ فدخل ووقف بني يديه وكفر وسجد له واستوى قائما‬
‫وسكت‪.‬‬
‫شيء منا يصلح به حاله‪،‬‬‫وفكر دبشليم يف سكوته؛ وقال‪ :‬إن هذا مل يقصدان إال ألمرين‪ :‬إما اللتماس ٍ‬
‫فضل يف مملكتها فإن للحكماء فضالا يف‬
‫وإما ألمر حلقه فلم تكن له به طاقةٌ‪ .‬مث قال‪ :‬إن كان للملوك ٌ‬
‫حكمتها أعظم‪ :‬ألن احلكماء أغنياء عن امللوك ابلعلم وليس امللوك أغنياء عن احلكماء ابملال‪ .‬وقد‬
‫وجدت العلم واحليا إلفني متآلفني ال يفرتقان‪ :‬مىت فقد أحدمها مل يوجد اآلخر؛ كاملتصافيني إن عدم‬
‫منهما أحد مل يطب صاحبه نفسا ابلبقاء أتسفا عليه‪ .‬ومن مل يستحي من احلكماء ويكرمهم‪ ،‬ويعرف‬
‫فضلهم على غريهم‪ ،‬ويصنهم عن املواقف الواهنة‪ ،‬وينزههم عن املواطن الرذلة كان ممن حرم عقله‪،‬‬
‫وخسر دنيا ه‪ ،‬وظلم احلكماء حقوقهم‪ ،‬وعد من اجلهال‪ .‬مث رفع رأسه إىل بيداب؛ وقال له‪ :‬نظرت إليك‬
‫اي بيداب ساكت ا ال تعرض حاجتك‪ ،‬وال تذكر بغيتك‪ ،‬فقلت‪ :‬إن الذي أسكته هيبةٌ ساورته أو حريةٌ‬
‫أدركته؛ وأتملك عند ذلك من طول وقوفك‪ ،‬وقلت‪ :‬لك يكن لبيداب أن يطرقنا على غري عادةٍ عن‬
‫سبب دخوله؛ فإن مل يكن من ضي ٍم انله‪ ،‬كنت أوىل من أخذ بيده وسارع يف تشريفه‪ ،‬وتقدم يف البلوغ‬
‫إىل مراده وإعزازه؛ وإن كانت بغيته غرض ا من أغراض الدنيا أمرت إبرضائه من ذلك فيما أحب؛ وإن‬
‫يكن من أمر امللك‪ ،‬ومما ال ينبغي أن يبذلوه من أنفسهم وال ينقادوا إليه نظرت يف قدر عقوبته؛ على‬

‫‪5‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أن مثله مل يكن ليجرتئ على إدخال نفسه يف ابب مسألة امللوك؛ وإن كان شيئا من أمور الرعية يقصد‬
‫فيه أين أصرف عناييت إليهم‪ ،‬نظرت ما هو؛ فإن احلكماء ال يشريون إال ابخلري‪ ،‬واجلهال يشريون‬
‫بضده‪ .‬وأان قد فسحت لك يف الكالم‪ .‬فلما مسع بيداب ذلك من امللك أفرخ روعه ؛ وسرى عنه ما‬
‫كان وقع يف نفسه من خوفه وكفر له وسجد؛ مث قام بني يديه وقال‪ :‬أول ما أقول لك أسأل هللا تعاىل‬
‫بقاء امللك على األبد‪ ،‬ودوام ملكه على األمد‪ :‬ألن امللك قد منحين يف مقامي هذا حمالا جعله شرفا‬
‫يل على مجيع من بعدي من العلماء؛ وذكرا ابقي ا عل ى الدهر عند احلكماء‪ .‬مث أقبل على امللك بوجهه‪،‬‬
‫مستبشرا به فرحا مبا بدا له منه‪ ،‬وقال‪ :‬قد عطف امللك علي بكرمه وإحسانه‪ .‬واألمر الذي دعاين إىل‬
‫الدخول على امللك‪ ،‬ومحلين على املخاطرة لكالمه‪ ،‬واإلقدام عليه‪ ،‬نصيحةٌ اختصصته هبا دون غريه‪.‬‬
‫وسيعلم من يتصل به ذلك أين مل أقصر عن ٍ‬
‫غاية فيما جيب للموىل على احلكماء‪ .‬فإن فسح يف كالمي‬
‫ووعاه عين‪ ،‬فهو حقيق بذلك وما يراه؛ وإن هو ألقاه‪ ،‬فقد بلغت ما يلزمين وخرجت من لوم يلحقين‪.‬‬

‫قال امللك بيداب تكلم كيف شئت‪ :‬فإنين مص ٍغ إليك‪ ،‬ومقبل عليك‪ ،‬وسامع منك‪ ،‬حىت أستفرغ ما‬
‫عندك إىل آخره‪ ،‬وأجازيك على ذلك مبا أنت أهله‪ .‬قال بيداب‪ :‬إين وجدت األمور اليت اختص هبا‬
‫اإلنسان من بني سائر احليواانت أربعة أشياء‪ ،‬وهي مجاع ما يف العامل‪ ،‬وهي احلكمة والعفة والعقل‬
‫والعدل‪ .‬والعلم واألدب والروية داخلةٌ يف ابب احلكمة‪ .‬واحللم والصرب والوقار داخلةٌ يف ابب العقل‪.‬‬
‫واحلياء والكرم والصيانة واألنفة داخلةٌ يف ابب العفة‪ .‬والصدق واإلحسان واملراقبة وحسن اخللق داخلةٌ‬
‫يف ابب العدل‪ .‬وهذه هي احملاسن‪ ،‬وأضدادها هي املساوئ‪ .‬فمىت كملت هذه يف و ٍ‬
‫احد مل خترجه‬

‫‪6‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬
‫الزايدة يف ٍ‬
‫نعمة إىل سوء احلظ من دنياه وال إىل ٍ‬
‫نقص يف عقباه‪ ،‬ومل يتأسف على ما مل يعن التوفيق‬
‫كنز ال يفىن على‬ ‫ٍ‬
‫ببقائه‪ ،‬ومل حيزنه ما جتري به املقادير يف ملكه‪ ،‬ولك يدهش عند مكروه‪ .‬فاحلكمة ٌ‬
‫ٍ‬
‫إنفاق‪ ،‬وذخريةٌ ال يضرب هلا ابإلمالق ‪ ،‬وحلة ال ختلق جدها‪ ،‬ولذةٌ ال تنصرم مدهتا‪ .‬ولئن كنت عند‬
‫مقامي بني يدي امللك أمسكت عن ابتدائه ابلكالم‪ ،‬وإن ذلك مل يكن مين إال هليبته واإلجالل له‪.‬‬
‫ألهل أن يهابوا؛ ال سيما من هو يف املنزلة اليت جل فيها امللك عن منازل امللوك‬
‫ولعمري إن امللوك ٌ‬
‫قبله‪ .‬وقد قالت العلماء‪ :‬الزم السكوت؛ فإن فيه سالمةا؛ وجتنب الكالم الفارغ؛ فإن عاقبته الندامة‪.‬‬
‫كل بكالم يكون أصالا لألدب‪.‬‬ ‫وحكي أن أربع اة من العلماء ضمهم جملس امللك‪ ،‬فقال هلم‪ :‬ليتكلم ٌ‬
‫فقال أحدهم‪ :‬أفضل خلة العلم السكوت‪ .‬وقال الثاين‪ :‬إن من انفع األشياء لإلنسان أن يعرف قدر‬
‫منزلته من عقله‪ .‬وقال الثالث‪ :‬أنفع األشياء لإلنسان أال يتكلم مبا ال يعنيه‪ .‬وقال الرابع‪ :‬أروح األمور‬
‫على اإلنسان التسليم للمقادير‪ .‬واجتمع يف بعض الزمان ملوك األقاليم من الصني واهلند وفارس والروم؛‬
‫احد منا بكلمة تدون عنه على غابر الدهر‪ .‬فقال ملك الصني‪ :‬أان على ما‬ ‫وقالوا ينبغي أن يتكلم كل و ٍ‬
‫مل أقل أقدر مين على رد ما قلت‪ .‬وقال ملك اهلند‪ :‬عجبت ملن يتكلم ابلكلمة فإن كانت له مل تنفعه‪،‬‬
‫وإن كانت عليه أوبقته ‪ .‬وقال ملك فارس‪ :‬أان إذا تكلمت ابلكلمة ملكتين‪ ،‬وإذا مل أتكلم هبا ملكتها‪.‬‬
‫وقال ملك الروم‪ :‬ما ندمت على ما مل أتكلم به قط‪ ،‬ولقد ندمت على ما تكلمت به كثريا‪ .‬والسكوت‬
‫عند امللوك أحسن من اهلذر الذي ال يرجع منه إىل نفع‪ .‬وأفضل ما استظل به اإلنسان لسانه‪ .‬غري أن‬
‫امللك‪ ،‬أطال هللا مدته‪ ،‬ملا فسح يل يف الكالم وأوسع يل فيه؛ كان أوىل ما أبدأ به من األمور اليت هي‬
‫غرضي أن يكون مثرة ذلك له دوين؛ وأن اختصه ابلفائدة قبلي‪ .‬على أن العقىب هي ما أقصد يف كالمي‬
‫اجع إليه؛ وأكون أان قد قضيت فرضا وجب علي فأقول‪ :‬أيها امللك إنك يف‬ ‫له؛ وإمنا نفعه وشرفه ر ٌ‬
‫منازل آابئك وأجدادك من اجلبابرة الذين أسسوا امللك قبلك‪ ،‬وشيدوه دونك‪ ،‬وبنوا القالع واحلصون‪،‬‬
‫ومهدوا البالد‪ ،‬وقادوا اجليوش؛ واستجاشوا العدة ‪ ،‬وطالت مل املدة؛ واستكثروا من السالح والكراع؛‬
‫وعاشوا الدهور‪ ،‬يف الغبطة والسرور؛ فلم مينعهم ذلك من اكتساب مجيل الذكر‪ ،‬وال قطعهم عن اغتنام‬
‫الشكر؛ وال استعمال اإلحسان إىل من خولوه‪ ،‬واإلرفاق مبن ولوه‪ ،‬وحسن السرية فيما تقلدوه؛ مع‬
‫عظم ما كانوا فيه من غرة امللك‪ ،‬وسكرة االقتدار‪ .‬وإنك أيها امللك السعيد جدة‪ ،‬الطالع كوكب‬
‫سعده‪ ،‬قد ورثت أرضهم ودايرهم وأمواهلم ومنازهلم اليت كانت عدهتم؛ فأقمت فيما خولت من امللك‬
‫وورثت من األموال واجلنود؛ فلم تقم يف ذلك حبق ما جيب عليك؛ بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت‬

‫‪7‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫على الرعية‪ ،‬وأسأت السرية‪ ،‬وعظمت منك البلية‪ .‬وكان األوىل واالشبه بك أن تسلك سبيل أسالفك‪،‬‬
‫وتتبع آًثر امللوك قبلك‪ ،‬وتقفو حماسن ما أبقوه لك‪ ،‬وتقلع عما عاره الزم لك‪ ،‬وشينه واقع بك؛ حتسن‬
‫النظر برعيتك‪ ،‬وتسن هلم سنن اخلري الذي يبقى بعدك ضره‪ ،‬ويعقبك اجلميل فخره؛ ويكون ذلك أبقى‬
‫على السالمة وأدوم على االستقامة‪ .‬فإن اجلاهل املغرت من استعمل يف أموره البطر واألمنية‪ ،‬واحلازم‬
‫اللبيب من ساس امللك ابملداراة والرفق؛ فانظر أيها امللك ما ألقيت إليك‪ ،‬وال يثقلن ذلك عليك‪ :‬فلم‬
‫ٍ‬
‫معروف تكافئين به؛ ولكين أتيتك انصح ا مشفق ا‬ ‫أتكلم هبذا ابتغاء ٍ‬
‫عرض جتازيين به‪ ،‬وال التماس‬
‫عليك‪.‬‬
‫فلما فرغ منه بيداب من مقالته‪ ،‬وقضى مناصحته‪ ،‬أوغر صدر امللك فأغلظ له يف اجلواب استصغارا‬
‫ألمره؛ وقال‪ :‬لقد تكلمت ٍ‬
‫بكالم ما كنت أظن أحدا من أهل مملكيت يستقبلين مبثله‪ ،‬وال يقدم على ما‬
‫أقدمت عليه‪ .‬فكيف أنت مع صغر شأنك‪ ،‬وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت إعجايب من‬
‫إقدامك علي‪ ،‬وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك‪ .‬وما أجد شيئا يف أتديب غريك أبلغ من‬
‫التنكيل بك‪ .‬فذلك عربةٌ وموعظةٌ لكن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من امللوك إذا أوسعوا هلم يف‬
‫جمالسهم‪ .‬مث أمر به أن يقتل ويصلب‪ .‬فلما مضوا به فيما أمر‪ ،‬فكر فيما أمر به فأحجم عنه‪ ،‬مث أمر‬
‫حببسه وتقييده‪ .‬فلما حبس أنفذ يف طلب تالميذه ومن كان جيتمع إليه فهربوا يف البالد واعتصموا‬
‫جبزائر البحار؛ فمكث بيداب يف حمبسه أايما ال يسأل امللك عنه‪ ،‬وال يلتفت إليه؛ وال جيسر أح ٌد أن‬
‫يذكره عنده؛ حىت إذا كان ليلةٌ من الليايل سهد امللك سهدا شديدا ؛ فطال سهده‪ ،‬ومد إىل الفلك‬
‫بصره؛ وتفكر يف تفلك الفلك وحركات الكواكب‪ ،‬فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إىل استنباط ٍ‬
‫شيء‬
‫عرض له من أمور الفلك‪ ،‬واملسألة عنه‪ .‬فذكر عند ذلك بيداب‪ ،‬وتفكر فيما كلمه به؛ فأرعوى لذلك‪.‬‬
‫وقال يف نفسه‪ :‬لقد أسأت فيما صنعت هبذا الفيلسوف‪ ،‬وضيعت واجب حقه؛ ومحلين على ذلك‬
‫سرعة الغضب‪ .‬وقد قالت العلماء‪ :‬أربعةٌ ال ينبغي أن تكون يف امللوك‪ :‬الغضب فإنه أجد األشياء‬
‫مقت ا؛ والبخل فإن صاحبه ليس مبعذوٍر مع ذات يده؛ والكذب فإنه ليس ٍ‬
‫ألحد أن جياوره؛ والعنف يف‬
‫احملاورة فإن السفه ليس من شأهنا‪ .‬وإين أيت إىل رجل نصح يل‪ ،‬ومل يكن مبلغا؛ فعاملته بضد ما‬
‫يستحق‪ ،‬وكافأته خبالف ما يستوجب‪ .‬وما كان هذا جزاءه مين؛ بل كان الواجب أن أمسع كالمه‪،‬‬
‫وأنقاد ملا يشري به‪ .‬مث أنفذ يف ساعته من أيتيه به‪ .‬فلما مثل بني يديه قال له‪ :‬اي بيداب ألست الذي‬
‫قصدت إىل تقصري مهيت‪ ،‬وعجزت رأيي يف سرييت مبا تكلمت به آنفا? قال له بيداب‪ :‬أيها امللك‬

‫‪8‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫صالح لك ولرعيتك‪ ،‬ودوام ملكك لك‪ ،‬قال له‬‫ٌ‬ ‫الناصح الشفيق‪ ،‬والصادق الرفيق‪ ،‬إمنا نبأتك مبا فيه‬
‫امللك‪ :‬اي بيداب أعد علي كالمك كله‪ ،‬وال تدع منه حرف ا إال جئت به‪ .‬فجعل بيداب ينثر كالمه‪ ،‬وامللك‬
‫مص ٍغ إليه‪ .‬وجعل دبشليم كلما مسع منه شيئا ينكت على األرض ٍ‬
‫بشيء كان يف يده‪ .‬مث رفع طرفه إىل‬
‫بيداب‪ ،‬وأمره ابجللوس‪ .‬وقال له‪ :‬اي بيداب‪ ،‬إين قد استعذبت كالمك وحسن موقعه من قليب‪ .‬وأان انظر‬
‫يف الذي أشرت به‪ ،‬وعامل مبا أمرت‪ .‬مث أمر بقيوده فحلت‪ .‬وألقى عليه من لباسه‪ ،‬وتلقاه ابلقبول‪.‬‬
‫فقال بيداب‪ :‬اي أيها امللك‪ ،‬إن يف دون ما كلمتك به هنيةا ملثلك‪ .‬قال‪ :‬صدقت أيها احلكيم الفاضل‪.‬‬
‫وقد وليتك من جملسي هذا إىل مجيع أقاصي مملكيت‪ .‬فقال له‪ :‬أيها امللك أعفين من هذا األمر‪ :‬فإين‬
‫غري مضطل ٍع بتقوميه إال بك‪ .‬فأعفاه من ذلك‪ .‬فلما انصرف‪ ،‬علم أن الذي فعله ليس برأي‪ ،‬فبث‬
‫فرده‪ .‬وقال‪ :‬إين فكرت يف إعفائك مما عرضته عليك فوجدته ال يقوم إال بك‪ ،‬وال ينهض به غريك‪ ،‬وال‬
‫يضطلع به سواك‪ .‬فال ختالفين فيه‪ .‬فأجابه بيداب إىل ذلك‪.‬‬
‫وكان عادة ملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيرا أن يعقدوا على رأسه اتجا‪ ،‬ويركب يف أهل اململكة‪،‬‬
‫ويطاف به يف املدينة‪ .‬فأمر امللك أن يفعل ببيداب ذلك‪ .‬فوضع التاج على رأسه‪ ،‬وركب املدينة ورجع‬
‫فجلس مبجلس العدل واإلنصاف‪ :‬أيخذ للدين من الشريف‪ ،‬ويساوي بني القوي والضعيف؛ ورد‬
‫املظامل‪ ،‬ووضع سنن العدل‪ ،‬وأكثر من العطاء والبذل‪ .‬واتصل اخلرب بتالميذه فجاءوه من كل مكان‪،‬‬
‫فرحني مبا جدد هللا له من جديد رأي امللك يف بيداب؛ وشكروا هللا تعاىل على توفيق بيداب يف إزالة‬
‫دبشليم عما كان عليه من سوء السرية‪ ،‬واختذوا ذلك اليوم عيدا يعيدون فيه فهو إىل اليوم عي ٌد عندهم‬
‫يف بالد اهلند‪.‬‬
‫فلما فرغ منه بيداب من مقالته‪ ،‬وقضى مناصحته‪ ،‬أوغر صدر امللك فأغلظ له يف اجلواب استصغارا‬
‫بكالم ما كنت أظن أحدا من أهل مملكيت يستقبلين مبثله‪ ،‬وال يقدم على ما‬‫ألمره؛ وقال‪ :‬لقد تكلمت ٍ‬
‫أقدمت عليه‪ .‬فكيف أنت مع صغر شأنك‪ ،‬وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت إعجايب من‬
‫إقدامك علي‪ ،‬وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك‪ .‬وما أجد شيئ ا يف أتديب غريك أبلغ من‬
‫التنكيل بك‪ .‬فذلك عربةٌ وموعظةٌ لكن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من امللوك إذا أوسعوا هلم يف‬
‫جمالسهم‪ .‬مث أمر به أن يقتل ويصلب‪ .‬فلما مضوا به فيما أمر‪ ،‬فكر فيما أمر به فأحجم عنه‪ ،‬مث أمر‬
‫حببسه وتقييده‪ .‬فلما حبس أنفذ يف طلب تالميذه ومن كان جيتمع إليه فهربوا يف البالد واعتصموا‬
‫جبزائر البحار؛ فمكث بيداب يف حمبسه أايما ال يسأل امللك عنه‪ ،‬وال يلتفت إليه؛ وال جيسر أح ٌد أن‬

‫‪9‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫يذكره عنده؛ حىت إذا كان ليلةٌ من الليايل سهد امللك سهدا شديدا ؛ فطال سهده‪ ،‬ومد إىل الفلك‬
‫بصره؛ وتفكر يف تفلك الفلك وحركات الكواكب‪ ،‬فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إىل استنباط ٍ‬
‫شيء‬
‫عرض له من أمور الفلك‪ ،‬واملسألة عنه‪ .‬فذكر عند ذلك بيداب‪ ،‬وتفكر فيما كلمه به؛ فأرعوى لذلك‪.‬‬
‫وقال يف نفسه‪ :‬لقد أسأت فيما صنعت هبذا الفيلسوف‪ ،‬وضيعت واجب حقه؛ ومحلين على ذلك‬
‫سرعة الغضب‪ .‬وقد قالت العلماء‪ :‬أربعةٌ ال ينبغي أن تكون يف امللوك‪ :‬الغضب فإنه أجد األشياء‬
‫مقت ا؛ والبخل فإن صاحبه ليس مبعذوٍر مع ذات يده؛ والكذب فإنه ليس ٍ‬
‫ألحد أن جياوره؛ والعنف يف‬
‫احملاورة فإن السفه ليس من شأهنا‪ .‬وإين أيت إىل رجل نصح يل‪ ،‬ومل يكن مبلغا؛ فعاملته بضد ما‬
‫يستحق‪ ،‬وكافأته خبالف ما يستوجب‪ .‬وما كان هذا جزاءه مين؛ بل كان الواجب أن أمسع كالمه‪،‬‬
‫وأنقاد ملا يشري به‪ .‬مث أنفذ يف ساعته من أيتيه به‪ .‬فلما مثل بني يديه قال له‪ :‬اي بيداب ألست الذي‬
‫قصدت إىل تقصري مهيت‪ ،‬وعجزت رأيي يف سرييت مبا تكلمت به آنف ا? قال له بيداب‪ :‬أيها امللك‬
‫صالح لك ولرعيتك‪ ،‬ودوام ملكك لك‪ ،‬قال له‬ ‫ٌ‬ ‫الناصح الشفيق‪ ،‬والصادق الرفيق‪ ،‬إمنا نبأتك مبا فيه‬
‫امللك‪ :‬اي بيداب أعد علي كالمك كله‪ ،‬وال تدع منه حرفا إال جئت به‪ .‬فجعل بيداب ينثر كالمه‪ ،‬وامللك‬
‫مص ٍغ إليه‪ .‬وجعل دبشليم كلما مسع منه شيئ ا ينكت على األرض ٍ‬
‫بشيء كان يف يده‪ .‬مث رفع طرفه إىل‬
‫بيداب‪ ،‬وأمره ابجللوس‪ .‬وقال له‪ :‬اي بيداب‪ ،‬إين قد استعذبت كالمك وحسن موقعه من قليب‪ .‬وأان انظر‬
‫يف الذي أشرت به‪ ،‬وعامل مبا أمرت‪ .‬مث أمر بقيوده فحلت‪ .‬وألقى عليه من لباسه‪ ،‬وتلقاه ابلقبول‪.‬‬
‫فقال بيداب‪ :‬اي أيها امللك‪ ،‬إن يف دون ما كلمتك به هني اة ملثلك‪ .‬قال‪ :‬صدقت أيها احلكيم الفاضل‪.‬‬
‫وقد وليتك من جملسي هذا إىل مجيع أقاصي مملكيت‪ .‬فقال له‪ :‬أيها امللك أعفين من هذا األمر‪ :‬فإين‬
‫غري مضطل ٍع بتقوميه إال بك‪ .‬فأعفاه من ذلك‪ .‬فلما انصرف‪ ،‬علم أن الذي فعله ليس برأي‪ ،‬فبث‬
‫فرده‪ .‬وقال‪ :‬إين فكرت يف إعفائك مما عرضته عليك فوجدته ال يقوم إال بك‪ ،‬وال ينهض به غريك‪ ،‬وال‬
‫يضطلع به سواك‪ .‬فال ختالفين فيه‪ .‬فأجابه بيداب إىل ذلك‪.‬‬
‫وكان عادة ملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيرا أن يعقدوا على رأسه اتج ا‪ ،‬ويركب يف أهل اململكة‪،‬‬
‫ويطاف به يف املدينة‪ .‬فأمر امللك أن يفعل ببيداب ذلك‪ .‬فوضع التاج على رأسه‪ ،‬وركب املدينة ورجع‬
‫فجلس مبجلس العدل واإلنصاف‪ :‬أيخذ للدين من الشريف‪ ،‬ويساوي بني القوي والضعيف؛ ورد‬
‫املظامل‪ ،‬ووضع سنن العدل‪ ،‬وأكثر من العطاء والبذل‪ .‬واتصل اخلرب بتالميذه فجاءوه من كل مكان‪،‬‬
‫فرحني مبا جدد هللا له من جديد رأي امللك يف بيداب؛ وشكروا هللا تعاىل على توفيق بيداب يف إزالة‬

‫‪10‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫دبشليم عما كان عليه من سوء السرية‪ ،‬واختذوا ذلك اليوم عيدا يعيدون فيه فهو إىل اليوم عي ٌد عندهم‬
‫يف بالد اهلند‪.‬‬
‫مث أن بيداب ملا أخلى فكره من اشتغاله بدبشليم‪ ،‬تفرغ لوضع كتب السياسة ونشط هلا‪ ،‬فعمل كتبا‬
‫كثرياة‪ ،‬فيها دقائق احليل‪ .‬ومضى امللك على ما رسم له بيداب من حسن السرية والعدل يف الرعية‪.‬‬
‫فرغبت إليه امللوك الذين كانوا يف نواحيه‪ ،‬وانقادت له األمور على استوائها‪ .‬وفرحت به رعيته وأهل‬
‫مملكته‪ .‬مث أن بيداب مجع تالميذه فأحسن صلتهم‪ ،‬ووعدهم وعدا مجيالا‪ .‬وقال هلم‪ :‬لست أشك أنه‬
‫وقع يف نفوسكم وقت دخويل على امللك أن قلتم‪ :‬إن بيداب قد ضاعت حكمته‪ ،‬وبطلت فكرته‪ :‬إذ‬
‫عزم على الدخول على هذا اجلبار الطاغي‪ .‬فقد علمتم نتيجة رأيي وصحة فكري‪ .‬وإين مل آته جهالا‬
‫به‪ :‬ألين كنت أمسع من احلكماء قبلي تقول‪ :‬إن امللوك هلا سورةٌ كسورة الشراب‪ :‬فامللوك ال تفيق من‬
‫السورة إال مبواعظ العلماء وأدب احلكماء‪ .‬والواجب على امللوك أن يتعظوا مبواعظ العلماء‪ .‬والواجب‬
‫على العلماء تقومي امللوك أبلسنتها‪ ،‬وأتديبها حبكمتها‪ ،‬وإظهار احلجة البينة الالزمة هلم‪ :‬لريتدعوا عما‬
‫هم عليه من االعوجاج واخلروج عن العدل‪ .‬فوجدت ما قالت العلماء فرضا واجبا على احلكماء‬
‫مللوكهم ليوقظوهم من رقدهتم؛ كالطبيب الذي جيب عليه يف صناعته حفظ األجساد على صحتها أو‬
‫ردها إىل الصحة‪ .‬فكرهت أن ميوت أو أموت وما يبقى على األرض غال من يقول‪ :‬إنه كان بيداب‬
‫الفيلسوف يف زمان دبشليم الطاغي فلم يرده عما كان عليه‪ .‬فإن قال قائل‪ :‬إنه مل ميكنه كالمه خوفا‬
‫على نفسه‪ ،‬قالوا‪ :‬كان اهلرب منه ومن جواره أوىل به؛ واالنزعاج عن الوطن شدي ٌد؛ فرأيت أن أجود‬
‫حبيايت؛ فأكون قد أتيت فيما بيين وبني احلكماء بعدي عذرا‪ .‬فحملتها على التغرير أو الظفر مبا أريده‪.‬‬
‫وكان من ذلك ما أنتم معاينوه‪ :‬فإنه يقال يف بعض األمثال‪ :‬إن مل يبلغ أحد مرتبة إال إبحدى ٍ‬
‫ثالث‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بوضعية يف ماله أو و ٍ‬
‫كس يف دينه ‪ .‬ومن مل يركب األهوال مل ينل‬ ‫إما ٍ‬
‫مبشقة تناله يف نفسه‪ ،‬وإما‬
‫الرغائب‪ .‬وإن امللك دبشليم قد بسط لساين يف أن أضع كتاابا فيه ضروب احلكمة‪ .‬فليضع كل واحد‬
‫منكم شيئ ا يف أي فن شاء؛ وليعرضه علي ألنظر مقدار عقله‪ ،‬وأين بلغ من احلكمة فهمه‪ .‬قالوا‪ :‬أيها‬
‫احلكيم الفاضل‪ ،‬واللبيب العاقل‪ ،‬والذي وهب لك ما منحك من احلكمة والعقل واألدب والفضيلة‪،‬‬
‫ما خطر هذا بقلوبنا ساع اة قط‪ .‬وأنت رئيسنا وفاضلنا‪ ،‬وبك شرفنا‪ ،‬وعلى يدك انتعاشنا‪ .‬ولكن‬
‫سنجهد أنفسنا فيما أمرت‪ .‬ومكث امللك على ذلك من حسن السرية زماانا يتوىل ذلك له بيداب ويقوم‬
‫به‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫مث إن امللك دبشليم ملا استقر له امللك‪ ،‬وسقط عنه النظر يف أمور األعداء مبا قد كفاه ذلك بيداب‪،‬‬
‫صرف مهته إىل النظر يف الكتب اليت وضعتها فالسفة اهلند آلابئه وأجداده؛ فوقع يف نفسه أن يكون له‬
‫مشروح ينسب إليه وتذكر فيه أايمه كما ذكر آابؤه وأجداده من قبله‪ .‬فلما عزم على ذلك‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫كتاب‬
‫أيضا ٌ‬
‫علم أنه ال يقوم ذلك إال ببيداب‪ :‬فدعاه وخال به؛ وقال له‪ :‬اي بيداب‪ ،‬إنك حكيم اهلند وفيلسوفها‪ .‬وإين‬
‫فكرت ونظرت يف خزائن احلكمة اليت كانت للملوك قبلي؛ فلم أر فيهم أحدا إال وضع كتاابا يذكر فيه‬
‫ٍ‬
‫حكمة فيها؛‬ ‫أايمه وسريته‪ ،‬وينبئ عن أدبه وأهل مملكته؛ فمنه ما وضعته امللوك ألنفسها‪ ،‬وذلك لفضل‬
‫ومنها ما وضعته حكماؤها‪ .‬وأخاف أن يلحقين ما حلق أولئك مما ال حيلة يل فيه‪ ،‬وال يوجد يف خزائين‬
‫كتاب أذكر به من بعدي‪ ،‬وأنسب إليه كما ذكر من كان قبلي بكتبهم‪ .‬وقد أحببت أن تضع يل كتاابا‬
‫ٌ‬
‫بليغ ا تستفرغ فيه عقلك يكون ظاهره سياسة العامة وأتديبها‪ ،‬وابطنه أخالق امللوك وسياستها للرعية‬
‫كثري مما حنتاج إليه يف معاانة امللك‪ .‬وأريد أن‬
‫على طاعة امللك وخدمته؛ فيسقط بذلك عين وعنهم ٌ‬
‫يبقى يل هذا الكتاب من بعدي ذكرا على غابر الدهور‪ .‬فلما مسع بيداب كالمه خر له ساجدا‪ ،‬ورفع‬
‫رأسه وقال‪ :‬أيها امللك السعيد جده‪ ،‬عال جنمك‪ ،‬وغاب حنسك‪ ،‬ودامت أايمك؛ إن الذي قد طبع‬
‫عليه امللك من جودة القرحية ووفور العقل حركه لعايل األمور؛ ومست به نفسه ومهته إىل أشرف املراتب‬
‫منزل اة‪ ،‬وأبعدها غاي اة؛ وأدام هللا سعادة امللك وأعانه على ما عزم من ذلك‪ ،‬وأعانين على بلوغ مراده‪.‬‬
‫صائر إىل غرضه‪ ،‬جمتهداٌ فيه برأيي‪ .‬قال له امللك‪ :‬اي بيداب مل تزل‬
‫فليأمر امللك مبا شاء من ذلك‪ :‬فإن ٌ‬
‫موصوفا حبسن الرأي وطاعة امللوك يف أمورهم‪ .‬وقد اختربت منك ذلك‪ ،‬واخرتت أن تضع هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬وتعمل فيه فكرك‪ ،‬وجتهد فيه نفسك‪ ،‬بغاية ما جتد إليه السبيل‪ .‬وليكن مشتمالا على اجلد‬
‫واهلزل واللهو واحلكمة والفلسفة‪ .‬فكفر له بيداب وسجد‪ ،‬وقال‪ :‬قد أجبت امللك أدام هللا أايمه إىل ما‬
‫أمرين به‪ ،‬وجعلت بيين وبينه أجالا‪ .‬قال‪ :‬وكم هو األجل? قال‪ :‬سنةٌ‪ .‬قال‪ :‬قد أجلتك؛ وأمر له جبائزٍة‬
‫ٍ‬
‫سنية تعينه على عمل الكتاب فبقى بيداب مفكرا يف األخذ فيه‪ ،‬ويف أي صورٍة يبتدي هبا فيه ويف‬
‫وضعه‪.‬‬
‫مث إن بيداب مجع تالميذه وقال هلم‪ :‬إن امللك قد ندبين ألمر فيه فخري وفخركم وفخر بالدكم‪ ،‬وقد‬
‫مجعتكم هل ذا األمر‪ .‬مث وصف هلم ما سأل امللك من أمر الكتاب‪ ،‬والغرض الذي قصد فيه‪ ،‬فلم يقع‬
‫أمر إمنا يتم ابستفراغ‬
‫هلم الفكر فيه فلما مل جيد عندهم ما يريده فكر بفضل حكمته‪ ،‬وعلم أن ذلك ٌ‬
‫العقل وإعمال الفكر؛ وقال‪ :‬أرى السفينة ال جتري يف البحر إال ابملالحني‪ :‬ألهنم يعدلوهنا؛ وإمنا تسلك‬

‫‪12‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫اللجة مبدبرها الذي تفرد إبمرهتا ؛ ومىت شحنت ابلركاب الكثريين وكثر مالحوها مل يؤمن عليه من‬
‫الغرق‪ .‬ومل يزل يفكر فيما يعمله يف ابب الكتاب حىت وضعه على االنفراد بنفسه‪ ،‬مع ٍ‬
‫رجل من‬
‫تالميذه كان يثق به؛ فخال به منفردا معه‪ ،‬بعد أن أعد الورق الذي كانت تكتب فيه اهلند شيئا‪ ،‬ومن‬
‫القوت ما يقوم به وبتلميذه تلك املدة‪ .‬وجلسا يف مقصورٍة‪ ،‬وردا عليهما الباب مث بدأ يف نظم الكتاب‬
‫وتصنيفه؛ ومل يزل هو ميلي وتلميذه يكتب‪ ،‬ويرجع هو فيه؛ حىت استقر الكتاب على غاية اإلتقان‬
‫واإلحكام‪ .‬ورتب فيه أربعة عشر ابابا؛ كل ٍ‬
‫ابب منها قائم بنفسه‪ .‬ويف كل ابب مسألةٌ واجلواب عنها؛‬
‫ظ من اهلداية‪ .‬وضمن تلك األبواب كتاابا واحدا؛ ومساه كتاب كليلة ودمنة‪ .‬مث‬ ‫ليكون ملن نظر فيه ح ٌ‬
‫جعل كالمه على ألسن البهائم والسباع والطري‪ :‬ليكون ظاهره هلوا للخواص والعوام‪ ،‬وابطنه رايض اة‬
‫لعقول اخلاصة‪ .‬وضمنه أيض ا ما حيتاج إليه اإلنسان من سياسة نفسه وأهله وخاصته‪ ،‬ومجيع ما حيتاج‬
‫إليه من أمري دينه ودنياه‪ ،‬وأخرته وأواله؛ وحيضه على حسن طاعته للملوك وجينبه ما تكون جمانبته خريا‬
‫له‪ .‬مث جعله ابطنا وظاهرا كرسم سائر الكتب اليت برسم احلكمة‪ :‬فصار احليوان هلوا‪ ،‬وما ينطق به‬
‫حكم اة وأدابا‪ .‬فلما ابتدأ بيداب بذلك جعل أول الكتاب وصف الصديق‪ ،‬وكيف يكون الصديقان‪،‬‬
‫وكيف تقطع املودة الثابتة بينهما حبيلة ذي النميمة‪ .‬وأمر تلميذه أن يكتب على لسان بيداب مثل ما‬
‫كان امللك شرطه يف أن جعله هلوا وحكم اة‪ .‬فذكر بيداب أن احلكمة مىت دخلها كالم النقلة أفسدها‬
‫وجهلت حكمتها‪ .‬فلم يزل هو وتلميذه يعمالن الفكر فيما سأله امللك‪ ،‬حىت فتق هلما العقل أن يكون‬
‫كالمهما على لسان هبيمتني‪ .‬فوقع هلما موضع اللهو واهلزل بكالم البهائم‪ .‬وكانت احلكمة ما نطقا‬
‫به‪ .‬فأصغت احلكماء إىل حكمه وتركوا البهائم واللهو‪ ،‬وعلموا أهنا السبب يف الذي وضع هلم‪ .‬ومالت‬
‫إليه اجلهال عجبا من حماورة هبيمتني‪ ،‬ومل يشكوا يف ذلك؛ واختذوه هلوا‪ ،‬وتركوا معىن الكالم أن يفهموه‪،‬‬
‫ومل يعلموا الغرض الذي وضع له؛ ألن الفيلسوف إمنا كان غرضه يف الباب األول أن خيرب عن تواصل‬
‫اإلخوان كيف تتأكد املودة بينهم على التحفظ من أهل السعاية والتحرز ممن يوقع العداوة بني‬
‫املتحابني‪ :‬ليجر بذلك نفع ا إىل نفسه‪ .‬فلم يزل بيداب وتلميذه يف املقصورة‪ ،‬حىت استتما عمل الكتاب‬
‫يف مدة ٍ‬
‫سنة‪ .‬فلما مت احلول أنفذ إليه امللك أن قد جاء الوعد فماذا صنعت? فأنفذ إليه بيداب‪ :‬إين على‬
‫ما وعدت امللك‪ .‬فليأمرين حبمله‪ ،‬بعد أن جيمع أهل اململكة لتكون قراءيت هذا الكتاب حبضرهتم‪ ،‬فلما‬
‫رجع الرسول إىل امللك سر بذلك‪ ،‬ووعده يوم ا جيمع فيه أهل اململكة‪ .‬مث اندى يف أقاصي بالد اهلند‬
‫ليحضروا قراءة الكتاب‪ .‬فلما كان ذلك اليوم‪ ،‬أمر امللك أن ينصب لبيداب سر ٌير مثل سريره‪ ،‬كراسي‬

‫‪13‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫ألبناء امللوك والعلماء‪ .‬وأنفذ فأحضره‪ .‬فلما جاءه الرسول قام فلبس الثياب اليت كان يلبسا إذا دخل‬
‫على امللوك وهي املسوح السود‪ ،‬ومحل الكتاب تلميذه‪ .‬فلما دخل على امللك وثب اخلالئق أبمجعهم‪،‬‬
‫وقام امللك شاكرا‪ .‬فلما قرب من امللك كفر له وسجد‪ ،‬ومل يرفع رأسه‪ .‬فقال له امللك‪ :‬اي بيداب ارفع‬
‫رأسك‪ ،‬فإن هذا يوم ٍ‬
‫هناءة وفرٍح وسروٍر‪ ،‬وأمره أن جيلس‪ .‬فحني جلس لقراءة الكتاب‪ ،‬سأله عن معىن‬
‫كل ابب من أبوابه‪ ،‬وإىل أي ٍ‬
‫شيء قصد فيه‪ .‬فأخربه بغرضه فيه‪ ،‬ويف كل ابب‪ .‬فازداد امللك منه‬
‫تعجب ا وسرورا‪ .‬فقال له‪ :‬اي بيداب ما عدوت الذي يف نفسي؛ وهذا الذي كنت أطلب؛ فالطلب ما‬
‫شئت وحتكم‪ .‬فدعا له بيداب ابلسعادة وطول اجلد‪ .‬وقال‪ :‬أيها امللك أما املال فال حاجة يل فيه‪ ،‬وأما‬
‫ٍ‬
‫حاجة‪ .‬قال امللك‪ :‬اي بيداب ما‬ ‫الكسوة فال أختار على لباسي ذا شيئا؛ ولست أخلي امللك من‬
‫ٍ‬
‫حاجة لك قبلنا مقضيةٌ‪ .‬قال‪ :‬أيمر امللك أن يدون كتايب هذا كما دون آابؤه وأجداده‬ ‫حاجتك? فكل‬
‫كتبهم‪ ،‬وأيمر ابحملافظة عليه‪ :‬فإن أخاف أن خيرج من بالد اهلند‪ ،‬فيتناوله أهل فارس إذا علموا به؛‬
‫فامللك أيمر أال خيرج من بيت احلكمة‪ .‬مث دعا امللك بتالميذه وأحسن هلم اجلوائز‪ .‬مث إنه ملا ملك‬
‫كسرى أنوشروان وكان مستأثرا ابلكتب والعلم واألدب والنظر يف أخبار األوائل ويقع له خرب الكتاب؛‬
‫فلم يقر قراره حىت بعث بروزيه الطبيب وتلطف حىت أخرجه من بالد اهلند فأقره يف خزائن فارس‪.‬اف‬
‫أن خيرج من بالد اهلند‪ ،‬فيتناوله أهل فارس إذا علموا به؛ فامللك أيمر أال خيرج من بيت احلكمة‪ .‬مث‬
‫دعا امللك بتالميذه وأحسن هلم اجلوائز‪ .‬مث إنه ملا ملك كسرى أنوشروان وكان مستأثرا ابلكتب والعلم‬
‫واألدب والنظر يف أخبار األوائل ويقع له خرب الكتاب؛ فلم يقر قراره حىت بعث بروزيه الطبيب وتلطف‬
‫حىت أخرجه من بالد اهلند فأقره يف خزائن فارس‪.‬‬

‫ابب بعثة برزويه إىل بالد اهلند‬


‫وكذلك طالب اآلخرة جمتهد يف العمل املنجي به روحه ال يقدر على إمتام عمله وإكماله إال ابلعقل‬
‫سعادة‪ .‬فليس ألحد غين عن العقل‪ .‬والعقل مكتسب ابلتجارب‬ ‫ٍ‬ ‫الذي هو سبب كل خري ومفتاح كل‬
‫واألدب‪ .‬وله غريزةٌ مكنونةٌ يف اإلنسان كامنةٌ كالنار يف احلجر ال تظهر وال يرى ضوءها حىت يقدحها‬
‫قادح من الناس؛ فإذا قدحت ظهرت طبيعتها‪ .‬وكذلك العقل كامن يف اإلنسان ال يظهر حىت يظهره‬ ‫ٌ‬
‫األدب وتقويه التجارب‪ .‬ومن رزق العقل ومن به عليه وأعني على صدق قرحيته ابألدب حرص على‬
‫طلب سعد جده‪ ،‬وأدرك يف الدنيا أمله‪ ،‬وحاز يف اآلخرة ثواب الصاحلني‪ .‬وقد رزق هللا امللك السعيد‬

‫‪14‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أنوشروان من العقل أفضله‪ ،‬ومن العلم أجزله؛ ومن املعرفة ابألمور أصوهبا‪ ،‬ومن األفعال أسدها‪ ،‬ومن‬
‫البحث عن األصول والفرع أنفعه؛ وبلغه من فنون اختالف العلم‪ ،‬وبلوغ منزلة الفلسفة‪ ،‬ما مل يبلغه‬
‫ملك قط من امللوك قبله؛ حىت كان فيما طلب وحبث عنه من العلم أن بلغه عن كتاب ابهلند‪ ،‬علم أنه‬
‫ٌ‬
‫أصل كل أدب ورأس كل عل ٍم‪ ،‬والدليل على ٍ‬
‫منفعة‪ ،‬ومفتاح عمل اآلخرة وعلمها‪ ،‬ومرعبة النجاة من‬
‫هوهلا؛ فأمر امللك وزيره بزرمجهر أن يبحث له عن رجل ٍ‬
‫أديب عاقل من أهل مملكته‪ ،‬بصري بلسان‬
‫الفارسية‪ ،‬ماهر يف كالم اهلند؛ ويكون بليغ ا ابللسانني مجيع ا‪ ،‬حريص ا على طلب العلم جمتهدا يف‬
‫استعمال األدب‪ ،‬مبادرا يف طلب العلم‪ ،‬والبحث عن كتب الفلسفة‪ .‬فأاته ٍ‬
‫برجل أديب كامل العقل‬
‫معرف بصناعة الطب‪ ،‬ماهر يف الفارسية واهلندي يقال له بروزيه؛ فلما دخل عليه كفر‬ ‫واألدب‪ٍ ،‬‬
‫وسجد بني يديه‪ .‬فقال له امللك‪ :‬اي بروزيه‪ :‬إن قد اخرتتك ملا بلغين من فضلك وعلمك وعقلك‪،‬‬
‫وحرصك على طلب العلم حيث كان‪ .‬وقد بلغين عن كتاب ابهلند خمزون يف خزائنهم‪ ،‬وقص عليه ما‬
‫بلغه عنه‪ .‬وقال له‪ :‬جتهز فإين مرحلك إىل أرض اهلند؛ فتلطف بعقلك وحسن أدبك وانقد رأيك‪،‬‬
‫الستخراج هذا الكتاب من خزائنهم ومن قبل علمائهم؛ فتستفيد بذلك وتفيدان‪ .‬وما قدرت عليه من‬
‫كتب اهلند مما ليس يف خزائننا منه شيءٌ فأمحله معك؛ وخذ معك من املال ما حتتاج إليه‪ ،‬وعجل‬
‫ذلك‪ ،‬وال تقصر يف طلب العلوم وإن أكثرت فيه النفقة‪ ،‬فإن مجيع ما يف خزائين مبذول لك يف طلب‬
‫العلوم‪ .‬وأمر إبحضار املنجمني؛ فاختاروا له يوما يسري فيه‪ ،‬وساعة صاحلةا خيرج فيها‪ .‬ومحل معه من‬
‫اب فيه عشرة آالف دينار‪ .‬فلما قدم بروزيه بالد اهلند طاف بباب امللك‬‫املال عشرين جراابا؛ كل جر ٍ‬
‫وجمالس السوقة ‪ ،‬وسأل عن خواص امللك واألشراف والعلماء والفالسفة؛ فجعل يغشاهم يف منازهلم‪،‬‬
‫ويتلقاهم ابلتحية‪ ،‬وخيربهم أبنه رجل غريب قدم بالدهم لطلب العلوم واألدب‪ ،‬وأنه حمتاج إىل معاونتهم‬
‫يف ذلك‪ .‬فلم يزل كذلك زماانا طويالا يتأدب عن علماء اهلند ميا هو عامل جبميعه؛ وكأنه ال يعلم منه‬
‫شيئ ا؛ وهو فيما بني ذلك يسرت بغيته وحاجته‪ .‬واختذ يف تلك احلالة لطول مقامه أصدقاء كثريةٌ من‬
‫ٍ‬
‫وصناعة؛ وكان قد اختذ من بني أصدقائه‬ ‫األشراف والعلماء والفالسفة والسوقة ومن أهل كل طبقة‬
‫رجالا واحدا قد اختذه لسره وما حيب مشاورته فيه؛ للذي ظهر له من فضله وأدبه‪ ،‬واستبان له من‬
‫صحة إخائه؛ وكان يشاوره يف األمور‪ ،‬ويراتح إليه يف مجيع ما أمهه‪.‬‬
‫إال أنه كا ن يكتم منه األمر الذي قدم من أجله لكي يبلوه وخيربه‪ ،‬وينظر هل هو أهل أن يطلعه على‬
‫سره‪ .‬فقال له يوما ومها جالسان‪ :‬اي أخي ما أريد أن أكتمك من أمري فوق الذي كتمتك‪ .‬فاعلم أنين‬

‫‪15‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫ألم ٍر قدمت‪ ،‬وهو غري الذي يظهر مين؛ والعاقل يكتفي من الرجل ابلعالمات من نظره‪ ،‬حىت يعلم سر‬
‫نفسه وما يضمره قلبه‪ .‬قال له اهلندي‪ :‬إين وإن مل أكن بدأتك وأخربتك مبا جئت له‪ ،‬وإايه تريد؛ وأنك‬
‫تكتم أمرا تطلبه‪ ،‬وتظهر غريه؛ ما خفي على ذلك منك‪ .‬ولكين لرغبيت يف إخائك‪ ،‬كرهت أن أواجهك‬
‫به‪ .‬وإنه قد استبان ما ختفيه مين‪ .‬فأما إذ قد أظهرت ذلك‪ ،‬وأفصحت به وابلكالم فيه‪ ،‬فإين خمربك‬
‫عن نفسك‪ ،‬ومظهر لك سريرتك‪ ،‬ومعلمك حبالك اليت قدمت هلا؛ فإنك قدمت بالدان لتسلبنا كنوزان‬
‫النفيسة‪ ،‬فتذهب هبا إىل بالدك‪ ،‬وتسرهبا ملكك‪ .‬وكان قدومك ابملكر واخلديعة‪ .‬ولكين ملا رأيت‬
‫صربك‪ ،‬ومواظبتك على طلب حاجتك‪ ،‬والتحفظ من أن يسقط منك الكالم‪ ،‬مع طول مكثك‬
‫عندان‪ٍ ،‬‬
‫بشيء يستدل به على سريرتك وأمورك‪ ،‬ازددت رغب اة يف إخائك‪ ،‬وثقة بعقلك‪ ،‬فأحببت‬
‫مودتك‪ .‬فإين مل أر يف الرجال رجالا هو أرصن منك عقالا‪ ،‬وال أحسن أدابا‪ ،‬وال أصرب على طلب العلم‬
‫وال أكتم لسره منك؛ وال سيما يف بالد الغربة‪ ،‬ومملكة غري مملكتك‪ ،‬عند ٍ‬
‫قوم ال تعرف سنتهم‪ .‬وإن‬
‫عقل الرجل ليبني يف مثاين خصال‪ :‬األوىل الرفق‪ ،‬والثانية أن يعرف الرجل نفسه فيحفظها‪ ،‬والثالثة طاعة‬
‫امللوك‪ ،‬والتحري ملا يرضيهم‪ .‬والرابعة معرفة الرجل موضع سره‪ ،‬وكيف ينبغي أن يطلع عليه صديقه‪،‬‬
‫واخلامسة أن يكون على أبواب امللوك أديب ا ملق اللسان ‪ .‬والسادسة أن يكون لسره وسر غريه حافظ ا‪.‬‬
‫والسابعة أن يكون على لسانه قادرا‪ ،‬فال يتكلم إال مبا أيمن تبعته‪ .‬والثامنة إن كان ابحملفل ال يتكلم إال‬
‫مبا يسأل عنه‪ .‬فمن اجتمعت فيه هذه اخلصال كان هو الداعي اخلري إىل نفسه‪ .‬وهذه اخلصال كلها‬
‫قد اجتمعت فيك‪ ،‬وابنت يل منك‪ .‬فاهلل تعاىل حيفظك‪ ،‬ويعينك على ما قدمت له؛ فمصادقتك‬
‫إايي‪ ،‬وإن كانت لتسلبين كنزي وفخري وعلمي‪ ،‬جتعلك أهالا ألن تسعف حباجتك‪ ،‬وتشفع بطلبتك ‪،‬‬
‫وتعطي سؤلك‪.‬‬
‫فقال له بروزيه‪ :‬إين كنت هيأت كالما كثريا‪ ،‬وشعبت له شعوابا؛ وأنشأت له أصوالا وطرقا؛ فلما‬
‫انتهيت إىل ما بدأتين به من إطالعك على أمري والذي قدمت له‪ ،‬وألقيته على من ذات نفسك‪،‬‬
‫ورغبتك فيما ألقيت من القول‪ ،‬اكتفيت ابليسري من اخلطاب معك‪ ،‬وعرفت الكبري من أموري ابلصغري‬
‫من الكالم‪ ،‬واقتصرت به معك على اإلجياز‪ .‬ورأيت من إسعافك إايي حباجيت ما دلين على كرمك‬
‫وحسن وفائك‪ :‬فإن الكالم إذا ألقي إىل الفيلسوف‪ ،‬والسر إذا استودع إىل اللبيب احلافظ‪ ،‬فقد حصن‬
‫وبلغ به هناية أمل صاحبه‪ ،‬كما حيصن الشيء النفيس يف القالع احلصينة‪ .‬قال له اهلندي‪ :‬ال شيء‬
‫أفضل من املودة‪ .‬ومن خلصت مودته كان أهالا أن خيلطه الرجل بنفسه‪ ،‬وال يدخر عنه شيئا‪ ،‬وال‬

‫‪16‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫يكتمه سرا‪ :‬فإن حفظ السر رأس األدب‪ .‬فإذا كان السر عند األمني الكتوم فقد احرتز من التضييع؛‬
‫سر ين اثنني قد علماه وتفاوضاه‪ .‬فإذا تكلم ابلسر اثنان فال بد من‬
‫مع أنه خليق أال يتكلم به؛ وال يتم ٌ‬
‫ًثلث من جهة أحدمها؛ فإذا صار إىل الثالثة فقد شاع وذاع‪ ،‬حىت ال يستطيع صاحبه أن جيحده‬
‫متقطع‪ ،‬ال يقدر أح ٌد على‬
‫ٌ‬ ‫غيم‬
‫ويكابر عنه؛ كالغيم إذا كان متقطعا يف السماء فقال قائل‪ :‬هذا ٌ‬
‫سرور ال يدله شيءٌ‪ .‬وهذا األمر الذي تطلبه مين أعلم‬
‫تكذيبه‪ .‬وأان قد يداخلين من مودتك وخلطتك ٌ‬
‫أنه من األسرار اليت ال تكتم؛ فال بد أن يفشو ويظهر‪ ،‬حىت يتحدث به الناس‪ .‬فإذا فشا فقد سعيت‬
‫ظ‪ ،‬يعاقب على الذنب‬‫ظ غلي ُ‬
‫يف هالكي هالكا ال أقدر على الفداء منه ابملال وإن كثر‪ :‬ألن ملكنا ف ٌ‬
‫الصغري أشد العقاب؛ فكيف مثل هذا الذنب العظيم? وإذا محلتين املودة اليت بني وبينك فأسعفتك‬
‫حباجتك مل يرد عقابه عين شيءٌ‪ .‬قال بروزيه‪ :‬إن العلماء قد مدحت الصديق إذا كتم سر صديقه‬
‫اثق بكرم‬
‫وأعانه على الفوز‪ .‬وهذا األمر الذي قدمت له‪ ،‬ملثلك ذخرته‪ ،‬وبك أرجو بلوغه؛ وأان و ٌ‬
‫طباعك ووفور عقلك‪ ،‬وأعلم أنك ال ختشى مين وال ختاف أن أبديه؛ بل ختشى أهل بيتك الطائفني‬
‫مقيم‪،‬‬
‫ظاعن وأنت ٌ‬‫بك وابمللك أن يسعوا بك إليه‪ .‬وأان أرجو أال يشيع شيءٌ من هذا األمر‪ :‬ألين أان ٌ‬
‫وما أقمت قال ًثلث بيننا‪ .‬فتعاهدا على هذا مجيع ا‪ .‬وكان اهلندي خازن امللك‪ ،‬وبيده مفاتيح خزائنه‪.‬‬
‫فأجابه إىل ذلك الكتاب وغلى غريه من الكتب‪ .‬فأكب على تفسريه ونقله من اللسان اهلندي إىل‬
‫ع من ملك اهلند؛‬ ‫وجل وفز ٌ‬
‫اللسان الفارسي؛ وأتعب نفسه‪ ،‬وانسب بدنه ليالا وهنارا‪ .‬وهو مع ذلك ٌ‬
‫خائف على نفسه من أن يذكر امللك الكتاب يف ٍ‬
‫وقت ال يصادفه يف خزائنه‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫فلما فرغ من انتساخ الكتاب وغريه مما أراد من سائر الكتب‪ .‬كتب إىل أنوشروان يعلمه بذلك‪ .‬فلما‬
‫وصل إليه الكتاب‪ ،‬سر بذلك سرورا شديدا‪ ،‬مث ختوف معاجلة املقادير أن تنغص عليه الفرحة؛ فكتب‬
‫إىل بروزيه أيمره بتعجيل القدوم‪ .‬فسار بروزيه متوجها حنو كسرى‪ .‬فلما رأى امللك ا قد مسه من‬
‫الشحوب والتعب والنصب‪ ،‬قال له‪ :‬أيها العبد الناصح الذي كان أيكل مثرة ما قد غرس‪ ،‬أبشر وقر‬
‫عين ا‪ :‬فإين مشرفك وابل ٌغ بك أفضل ٍ‬
‫درجة‪ .‬وأمره أن يريح بدنه سبعة أايم‪ .‬فلما كان اليوم الثامن‪ ،‬أمر‬
‫امللك أن جيتمع إليه األمراء والعلماء‪ .‬فلما اجتمعوا‪ ،‬آمر بروزيه ابحلضور‪ .‬فحضر ومعه الكتب؛‬
‫ففتحها وقرأها على من حضر من أهل اململكة‪ .‬فلما مسعوا ما فيها من العلم فرحوا فرحا شديدا؛‬
‫وشكروا هلل على ما رزقهم‪ ،‬ومدحوا بروزيه وأثنوا عليه؛ وأمر امللك أن تفتح لربوزيه خزائن اللؤلؤ‬
‫مال أو ٍ‬
‫كسوة؛ وقال‪ :‬اي‬ ‫والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؛ وأمره أن أيخذ من اخلزائن ما شاء من ٍ‬

‫‪17‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫بروزيه إين قد أمرت أن جتلس على مثل سريري هذا‪ ،‬وتلبس اتجا‪ ،‬وترتأس على مجيع األشراف‪.‬‬
‫فسجد بروزيه للملك ودعا له وطلب من هللا وقال‪ :‬أكرم هللا تعاىل امللك كرامة الدنيا واآلخرة‪ ،‬وأحسن‬
‫عين ثوابه وجزاءه؛ فإين حبمد هللا مستغ ٍن عن املال مبا رزقين هللا على بد امللك السعيد اجلد‪ ،‬العظم‬
‫امللك؛ وال حاجة يل ابملال؛ لكن ملا كلفين امللك ذلك وعلمت أنه يسره‪ ،‬أان أمضي إىل اخلزائن فآخذ‬
‫منها طلبا ملرضاته وامتثاالا ألمره‪ .‬مث قصد خزانة الثياب فأخذ منها ختتا من طرائف خراسان من مالبس‬
‫امللوك‪ .‬فلما قبض بروزيه ما اختاره ورضيه من الثياب فال‪ :‬أكرم هللا تعاىل امللك ومد يف عمره أبدا‪.‬‬
‫البد أن اإلنسان إذا أكرم وجب عليه الشكر؛ وإن كان قد استوجبه تعبا ومشق اة فقد كان فيهما رضا‬
‫ٍ‬
‫ومشقة‪ ،‬ملا أعلم أن لكم فيه الشرف أيهل هذا البيت! فإن مل‬ ‫امللك‪ .‬وأما أان فما لقيته من ٍ‬
‫عناء ٍ‬
‫وتعب‬
‫أزل إىل هذا اليوم اتبع ا رضاكم‪ ،‬أرى العسري فيه يسريا‪ .‬والشاق هين ا‪ ،‬والنصب واألذى سرورا ولذةا‪ :‬ملا‬
‫أعلم أن لكم فيه رض ا وقربة عندكم‪ .‬ولكين أسألك أيها امللك حاجة تسعفين هبا‪ ،‬وتعطيين فيها سؤيل‪:‬‬
‫فإن حاجيت يسريةٌ‪ ،‬ويف قضائها فائدةٌ كثريةٌ‪ .‬قال أنوشروان‪ :‬قل فكل ٍ‬
‫حاجة لك من قبلنا مقضيةٌ‪ ،‬ومل‬
‫نرد طلبتك؛ فكيف ما سوى ذلك? فقل وحتتشم؛ فإن األمور كلها مبذولة لك‪ .‬قال بروزيه‪ :‬أيها امللك‬
‫ال تنظر إىل عنائي يف رضاك وانكماشي يف طاعتك؛ فإمنا أان عبدك يلزمين بذل مهجيت يف رضاك؛ ولو‬
‫مل جتزين مل يكن ذلك عندي عظيما وال واجبا على امللك؛ ولكن لكرمه وشرف منصبه عمد إىل‬
‫جمازايت؛ وخصين وأهي بييت بعلو املرتبة ورفع الدرجة؛ حىت لو قدر أن جيمع لنا بني شرف الدنيا واآلخرة‬
‫لفعل‪ .‬فجزاه هللا عنا أفضل اجلزاء‪.‬‬
‫قال أنوشروان‪ :‬اذكر حاجتك‪ ،‬فعلى ما يسرك‪ .‬فقال بروزيه‪ :‬حاجيت أن أيمر امللك‪ ،‬أعاله هللا تعاىل‪،‬‬
‫وزيره بزرمجهر بن البختكان؛ ويقسم عليه أن يعمل فكره‪ ،‬وجيمع رأيه‪ ،‬وجيهد طاقته‪ ،‬ويفرغ قلبه يف نظم‬
‫أتليف ٍ‬
‫كالم متق ٍن حمك ٍم؛ وجيعله ابابا يذكر فيه أمري ويصف حايل؛ وال يدع من املبالغة يف ذلك أقصى‬
‫ما يقدر عليه‪ .‬وأيمره إذا استتمه أن جيعله أول األبواب اليت تقرأ قبل ابب األسد والثور‪ :‬فإن امللك إذا‬
‫فعل ذلك فقد بلغ يب وأبهلي غايةا الشرف وأعلى املراتب؛ وأبقى لنا ما ال يزال ذكره ابقي ا على األبد‬
‫حيثما قرئ هذا الكتاب‪.‬‬
‫فلما مسع كسرى أنوشروان والعظماء مقالته وما مست إليه نفسه من حمبة إبقاء الذكر استحسنوا طلبته‬
‫واختياره‪ ،‬وقال كسرى‪ :‬حب ا وكرام اة لك اي بروزيه‪ ،‬إنك ألهل أن تسعف حباجتك؛ فما أقل ما قنعت‬
‫به وأيسره عندان! وإن كان خطره عندك عظيما‪ .‬مث أقبل أنوشروان على وزيره بزرمجهر فقال له‪ :‬قد‬

‫‪18‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫عرفت مناصحة بروزيه لنا‪ ،‬وجتشمه املخاوف واملهالك فيما يقربه منا‪ ،‬وإتعابه بدنه فيما يسران‪ ،‬وما أتى‬
‫به إلينا من املعروف‪ ،‬وما أفادان هللا على يده من احلكمة واألدب الباقي لنا فخره‪ ،‬وما عرضنا عليه من‬
‫شيء من ذلك؛ وكان بغيته وطلبته منا أمرا‬‫خزائننا لنجزيه بذلك على ما كان منه‪ ،‬فلم متل نفسه إىل ٍ‬
‫يسريا رآه هو الثواب منا له والكرامة اجلليلة عنده؛ فإين أحب أن تتكلم يف ذلك وتسعفه حباجته‬
‫وطلبته‪ .‬واعلم أن ذلك مما يسرين‪ ،‬وال تدع شيئا من االجتهاد واملبالغة إال بلغته‪ ،‬وإن انلتك فيه مشقة‪.‬‬
‫وهو أن تكتب ابابا مضارع ا لتلك األبواب اليت يف الكتاب؛ وتذكر فيه فضل بروزيه‪ ،‬وكيف كان ابتداء‬
‫أمره وشأنه‪ ،‬وتنسبه إليه وإىل حسبه وصناعته‪ ،‬وتذكر فيه بعثته إىل بالد اهلند يف حاجتنا؛ وما أفدان‬
‫على يديه من هنالك؛ وشرفنا به وفضلنا على غريان؛ وكيف كان حال بروزيه وقدومه من بالد اهلند؛‬
‫فقل ما تقدر عليه من التقريظ واإلطناب يف مدحه‪ ،‬وابلغ يف ذلك أفضل املبالغة واجتهد يف ذلك‬
‫اجتهادا يسر بروزيه وأهل اململكة‪.‬‬
‫وإن بروزيه أهل لذلك مين ومن مجيع أهل اململكة ومنك أيضا‪ :‬حملبتك للعلوم‪ .‬واجهد أن يكون غرض‬
‫هذا الكتاب الذي ينسب إىل بروزيه أفضل من أغراض تلك األبواب عند اخلاص والعام‪ ،‬وأشد‬
‫مشاكل اة حلال هذا العلم‪ :‬فإنك أسعد الناس كلهم بذلك‪ :‬النفرادك هبذا الكتاب‪ ،‬واجعله أول‬
‫األبواب‪ .‬فإذا أنت عملته ووضعته يف موضعه فأعلمين ألمجع أهل اململكة وتقرأه عليهم‪ ،‬فيظهر فضلك‬
‫واجتهادك يف حمبتنا؛ فيكون لك بذلك فخر‪ .‬فلما مسع بزرمجهر مقالة امللك خر له ساجدا‪ ،‬وقال‪ :‬أدام‬
‫هللا لك أيها امللك البقاء‪ ،‬وبلغك أفضل منازل الصاحلني يف اآلخرة واألوىل؛ لقد شرفتين بذلك شرفا‬
‫ابقي ا إىل األبد‪ .‬مث خرج بزرمجهر من عند امللك‪ ،‬فوصف بروزيه من أول يوم دفعه أبواه إىل املعلم‪،‬‬
‫ومضيه إىل بالد اهلند يف طلب العقاقري واألدوية؛ وكيف تعلم خطوطهم ولغتهم؛ إىل أن بعثه أنوشروان‬
‫إىل اهلند يف طلب الكتاب‪ .‬ومل يدع من فضائل بروزيه وحكمته وخالئقه ومذهبه أمرا إال نسقه‪ ،‬وأتى‬
‫به أبجود ما يكون من الشرح‪ .‬مث أعلم امللك بفراغه منه‪ .‬فجمع أنوشروان أشراف قومه وأهل مملكته‪،‬‬
‫وأدخلهم إليه؛ وأمر بزرمجهر بقراءة الكتاب‪ ،‬وبروزيه قائم إىل جانب بزرمجهر‪ ،‬وابتدأ بوصف بروزيه حىت‬
‫انتهى إىل آخره‪ .‬ففرح امللك مبا أتى به بزرمجهر من احلكمة والعلم‪ .‬مث أثىن امللك ومجيع من حضره على‬
‫بزرمجهر‪ ،‬وشكروه ومدحوه؛ وأمر امللك مبال جزيل و ٍ‬
‫كسوة وحل ٍي وأو ٍان؛ فلم يقبل من ذلك شيئا غري‬
‫ٍ‬
‫كسوة كانت من ثياب امللوك‪ .‬مث شكر له ذلك بروزيه وقبل رأسه ويده؛ وأقبل بروزيه على امللك وقال‪:‬‬

‫‪19‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أدام هللا لك امللك والسعادة فقد بلغت يب وأبهلي غاية الشرف مبا أمرت به بزرمجهر من صنعه‬
‫الكتاب يف أمري وإبقاء ذكري‪.‬‬
‫ابب عرض الكتاب ترمجة عبد هللا بن املقفع‬
‫هذا كتاب كليلة ودمنة‪ ،‬وهو مما وضعه علماء اهلند من األمثال واألحاديث اليت أهلموا أن يدخلوا فيها‬
‫أبلغ ما وجدوا من القول يف النحو الذي أرادوا‪ .‬ومل تزل العلماء من أهل كل ملة يلتمسون أن يعقل‬
‫عنهم‪ ،‬وحيتالون يف ذلك بصنوف احليل؛ ويبتغون إخراج ما عندهم من العلل‪ ،‬حىت كان من تلك العلل‬
‫خالل‪ .‬أما هم فوجدوا متصرفا يف‬
‫وضع هذا الكتاب على أفواه البهائم والطري‪ .‬فاجتمع هلم بذلك ٌ‬
‫القول وشعاابا أيخذون منها‪ .‬وأما الكتاب فجمع حكم اة وهلوا‪ :‬فاختاره احلكماء حلكمته‪ .‬والسفهاء‬
‫ط يف حفظ ما صار إليه من أمر يربط يف صدره وال يدري ما هو‪ ،‬بل‬ ‫للهوه‪ ،‬واملتعلم من األحداث انش ٌ‬
‫عرف أنه قد ظفر من ذلك مبكتوي مر ٍ‬
‫قوم‪ .‬وكان كالرجل الذي ملا استكمل الرجولية وجد أبويه قد كنزا‬
‫له كنوزا وعقدا له عقودا استغىن هبا عن الكدح فيما يعمله من أمر معيشته؛ فأغناه ما أشرف عليه من‬
‫احلكمة عن احلاجة إىل غريها من وجوه األدب‪.‬‬

‫غاية جرى مؤلفه فيه عندما‬ ‫وينبغي ملن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه اليت وضعت له؛ وإىل أي ٍ‬
‫مفصح؛ وغري ذلك من األوضاع اليت جعلها أمثاالا‪ :‬فإن قارئه مىت مل‬
‫ٍ‬ ‫نسبه إىل البهائم وأضافه إىل غري‬
‫يفعل ذلك مل يدر ما أريد بتلك املعاين‪ ،‬وال أي مثراة جيتين منها‪ ،‬وال أي نتيجة حتصل له من مقدمات‬
‫ما تضمنه هذا الكتاب‪ .‬وإنه وإن كان غيته استتمام قراءته إىل آخره دون معرفة ما يقرأ منه مل يعد عليه‬
‫شيءٌ يرجع إليه نفعه‪.‬‬
‫ومن استكثر من مجع العلوم وقراءة الكتب؛ من غري إعمال الروية فيما يقرؤه‪ ،‬كان خليقا أال يصيبه إال‬
‫ما أصاب الرجل الذي زعمت العلماء أنه اجتاز ببعض املفاوز‪ ،‬فظهر لو موضع آًثر كنز؛ فجعل حيفر‬
‫وورق؛ فقال يف نفسه‪ :‬إن أان أخذت يف نقل هذا املال قليالا قليالا‬‫ني ٍ‬ ‫ويطلب‪ ،‬فوقع على ٍ‬
‫شيء من ع ٍ‬
‫طال علي‪ ،‬وقطعين االشتغال بنقله وإحرازه عن اللذة مبا أصبت منه؛ ولكن سأستأجر أقواما حيملونه‬
‫إىل منزيل‪ ،‬وأكون أان أخرهم‪ ،‬وال يكون بقي ورائي شيءٌ يشغل فكري بنقله؛ وأكون قد استظهرت‬
‫لنفسي يف إراحة بدين عن الكد بيسري األجرة أعطيهم إايها‪ .‬مث جاء ابحلمالني‪ ،‬فجعل حيمل كل و ٍ‬
‫احد‬
‫منهم ما يطيق‪ ،‬فينطلق به إىل منزله‪ :‬فلم جيد فيه من املال شيئا‪ ،‬ال قليالا وال كثريا‪ .‬وإذا كل و ٍ‬
‫احد من‬

‫‪20‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫احلمالني قد فاز مبا محله لنفسه‪ .‬ولك يكن له من ذلك إال العناء والتعب‪ :‬ألنه مل يفكر يف آخر أمره‪.‬‬
‫وكذلك من قرأ هذا الكتاب‪ ،‬ومل يفهم ما فيه‪ ،‬ومل يعلم غرضه ظاهرا وابطن ا‪ ،‬مل ينتفع مبا بدا له من‬
‫صحيح مل ينتفع به إال أن يكسره؛ وكان أيضا كالرجل‬
‫ٌ‬ ‫جوز‬
‫خطه ونقشه؛ كما لو أن رجالا قدم له ٌ‬
‫علم ابلفصاحة‪ ،‬فأعلمه‬
‫الذي طلب علم الفصيح من كالم الناس؛ فأتى صديقا له من العلماء‪ ،‬له ٌ‬
‫حاجته إىل علم الفصيح؛ فرسم له صديقه يف صحيفة صفراء فصيح الكالم وتصاريفه ووجوهه؛‬
‫يوم يف ٍ‬
‫حمفل‬ ‫فانصرف املتعلم إىل منزله؛ فجعل يكثر قراءهتا وال يقف على معانيها‪ .‬مث إنه جلس ذات ٍ‬
‫من أهل العلم واألدب‪ ،‬فأخذ يف حماورهتم؛ فجرت له كلمةٌ أخطأ فيها؛ فقال له بعض اجلماعة‪ :‬إنك‬
‫قد أخطأت؛ والوجه غري ما تكلمت به‪ ،‬فقال وكيف أخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء؛ وهي يف‬
‫منزيل? فكانت مقالته هلم أوجب للحجة عليه وزاده ذلك قرابٌ من اجلهل وبعدا من األدب‪.‬‬
‫مث إن العاقل إذا فهم هذا الكتاب وبلغ هناية علمه فيه‪ ،‬ينبغي له أن يعمل بنا علم منه لينتفع به؛‬
‫وجيعله مثاالا ال حييد عنه‪ .‬فإذا مل يفعل ذلك‪ ،‬كان مثله كالرجل الذي زعموا أن سارقا تسور عليه وهو‬
‫انئم يف منزله‪ ،‬فعلم به فقال‪ :‬وهللا ألسكنت حىت أنظر ماذا يصنع‪ ،‬وال أذعره؛ وال أعلمه أين قد علمت‬
‫به‪ .‬فإذا بلغ مراده قمت إليه‪ ،‬فنغصت ذلك عليه‪ .‬مث إنه أمسك عنه‪ .‬وجعل السارق يرتدد‪ ،‬وطال‬
‫تردده يف مجعه ما جيده؛ فغلب الرجل النعاس فنام‪ ،‬وفرغ اللص مما أراد‪ ،‬وأمكنه الذهاب‪ .‬واستيقظ‬
‫الرجل‪ ،‬فوجد اللص قد أخذ املتاع وفاز به‪ .‬فأقبل على نفسه يلومها‪ ،‬وعرف أن مل ينتفع بعلمه ابللص‪:‬‬
‫إذ مل يستعمل يف أمره ما جيب‪ .‬فالعلم ال يتم إال ابلعمل‪ ،‬وهو كالشجرة والعمل به كالثمرة‪ .‬وإمنا‬
‫صاحب العلم يقوم ابلعمل لينتفع به؛ وإن مل يستعمل ما يعلم ال يسمى عامل ا‪ .‬ولو أن رجالا كان عامل ا‬
‫ٍ ٍ‬
‫بطريق خموف‪ ،‬مث سلكه على عل ٍم به‪ ،‬مسي جاهالا؛ ولعله إن حاسب نفسه وجدها قد ركبت أهواءا‬
‫هجمت هبا فيما هو أعرف بضررها فيه وأذاها من ذلك السالك يف الطريق املخوف الذي قد جهله‪.‬‬
‫ومن ركب هواه ورفض ما ينبغي أن يعمل مبا جربه هو أو أعلمه به غريه‪ ،‬كان كاملريض العامل برديء‬
‫الطعام والشراب وجيده وخفيفه وثقيله‪ ،‬مث حيمله الشره على أكل رديئه وترك ما هو أقرب إىل النجاة‬
‫والتخلص من علته‪ .‬وأقل الناس عذرا يف اجتناب حممود األفعال وارتكاب مذمومها من أبصر ذلك‬
‫وميزه وعرف فضل بعضه على بعض كما أنه لو أن رجلني أحدمها بصري واآلخر أعمى ساقهما األجل‬
‫إىل حفرة فوقعا فيها‪ ،‬كاان إذا صارا يف قاعها مبنز ٍلة واحدةٍ؛ غري أن البصري أقل عذرا عند الناس من‬
‫الضرير‪ :‬إذ كانت له عينان يبصر هبما‪ ،‬وذاك مبا صار إليه جاهل غري عارف‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫وعلى العامل أن يبدأ بنفسه ويؤدهبا بعلمه‪ ،‬وال تكون غايته اقتناؤه العلم ملعاونة غريه‪ ،‬ويكون كالعني اليت‬
‫يشرب منها الناس ماءها وليس هلا يف ذلك شيءٌ من املنفعة‪ ،‬وكدودة القز اليت حتكم صنعته وال تنتفع‬
‫به‪ .‬فينبغي ملن يطلب العلم أن يبدأ بعظة نفسه‪ ،‬مث عليه بعد ذلك أن يقبسه ؛ فإن خالالا ينبغي‬
‫لصاحب الدنيا أن يقتنيها ويقبسها‪ :‬منها العلم واملال‪ .‬ومنها اختاذ املعروف‪ .‬وليس للعامل أن يعيب أمرا‬
‫بشيء فيه مثله‪ ،‬ويكون كاألعمى الذي يعري األعمى بعماه‪ .‬وينبغي مل طلب أمرا أن يكون له فيه غايةٌ‬‫ٍ‬
‫وهنايةُ‪ ،‬ويعمل هبا‪ ،‬ويقف عندها؛ وال يتمادى يف الطلب؛ فإنه يقال‪ :‬من سار إىل غري غاية يوشك أن‬
‫تنقطع به مطيته؛ وأنه كان حقيقا أال يعين نفسه يف طلب ما ال حد له‪ ،‬وما مل ينله أحد قبله‪ ،‬وال‬
‫يتأسف عليه؛ وال يكون لدنياه مؤثرا على أخرته‪ :‬فإن من مل يعلق قلبه ابلغاايت قلت حسرته عند‬
‫مفارقتها‪ .‬وقد يقال يف أمرين إهنما جيمالن بكل ٍ‬
‫أحد‪ :‬أحدمها النسك واآلخر املال احلالل وال يليق‬
‫ابلعاقل أن يؤنب نفسه على ما فاته وليس يف مقدوره؛ فرمبا أاتح هللا ما يهنأ به ومل يكن يف حسبانه‪.‬‬
‫وعري‪ ،‬فأجلأه ذلك إىل أن سأل أقاربه أصدقاءه‪ ،‬فلم يكن‬‫وجوع ٌ‬‫ومن أمثال هذا أن رجالا كان به فاقةٌ ٌ‬
‫ليلة يف منزله إذ أبصر ٍ‬
‫بسارق فيه؛ فقال‪ :‬وهللا ما‬ ‫عند أحد منهم فضل يعود به عليه‪ .‬فبينما هو ذات ٍ‬
‫يف منزيل شيءٌ أخاف عليه‪ :‬فليجهد السارق جهده‪ .‬فبينما السارق جيول إذ وقعت يده على خابية‬
‫فيها حنطةٌ‪ ،‬فقال السارق‪ :‬وهللا ما أحب أن يكون عنائي الليلة ابطالا‪ .‬ولعلي ال أصل إىل موضع‬
‫آخر‪ ،‬ولكن سأمحل هذه احلنطة‪ .‬مث بسط قميصه ليصب عليه احلنطة‪ .‬فقال الرجل‪ :‬أيذهب هذا‬
‫ابحلنطة وليس ورائي سواها? فيجتمع علي مع العري ذهاب ما كنت أقتات به‪ .‬وما جتتمع وهللا هااتن‬
‫اخللتان على ٍ‬
‫أحد إال أهلكاه‪ .‬مث صاح ابلسارق‪ ،‬وأخذ هراوةا كانت عند رأسه؛ فلم يكن للسارق حليةٌ‬
‫إال اهلرب منه‪ ،‬وترك قميصه وجنا بنفسه؛ وغدا الرجل به كاسيا‪ .‬وليس ينبغي أن يركن إىل مثل هذا‬
‫ويدع ما جيب عليه من احلذر والعمل يف مثل هذا لصالح معاشه؛ وال ينظر إىل من تواتيه املقادير‬
‫قليل؛ واجلمهور منهم من أتعب نفسه يف الكد‬ ‫وتساعده على غري التماس منه‪ :‬ألن أولئك يف الناس ٌ‬
‫والسعي فيما يصلح أمره وينال به ما أراد‪ .‬وينبغي أن يكون حرصه على ما طاب كسبه وحسن نفعه؛‬
‫وال يتعرض ملا جيلب عليه العناء والشقاء؛ فيكون كاحلمامة اليت تفرخ الفراخ وتذبح‪ ،‬مث ال مينعها ذلك‬
‫أن تعود فتفرخ موضعها‪ ،‬وتقيم مبكاهنا فتؤخذ الثانية من فراخها فتذبح‪ .‬وقد يقال‪ :‬إن هللا تعاىل قد‬
‫شيء حدا يوقف عليه‪ .‬ومن جتاوز يف أشياء حدها أوشك أن يلحقه التقصري عن بلوغها‪.‬‬ ‫جعل لكل ٍ‬
‫ويقال‪ :‬من كان سعيه ألخرته ودنياه فحياته له وعليه‪ .‬ويقال يف ثالثة أشياء جيب على صاحب الدنيا‬

‫‪22‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫إصالحها وبذل جهده فيها‪ :‬منها أمر معيشته؛ ومنها ما بينه وبني الناس؛ ومنها ما يكسبه الذكر‬
‫عمل‪ .‬من التواين؛ ومنها تضييع الفرص؛ ومنها‬ ‫ٍ‬
‫اجلميل بعد‪ .‬وقد قيل يف أمور من كن فيها مل يستقم له ٌ‬
‫التصديق لكل خم ٍرب‪ .‬فرب خم ٍرب ٍ‬
‫بشيء عقله وال يعرف استقامته فيصدقه‪.‬‬
‫وينبغي للعاقل أن يكون هلواه متهما؛ وال يقبل من كل ٍ‬
‫أحد حديثا؛ وال يتمادى يف اخلطأ إذا ظهر له‬
‫خطؤه وال يقدم على أم ٍر حىت يتبني له الصواب‪ ،‬وتتضح له احلقيقة؛ وال يكون كالرجل الذي حييد عن‬
‫الطريق‪ ،‬فيستمر على الضالل‪ ،‬فال يزداد يف السري إال جهدا‪ ،‬وعن القصد إال بعدا؛ وكالرجل الذي‬
‫تقذى عينه فال يزال حيكها‪ ،‬ورمبا كان ذلك احلك سببا لذهاهبا‪ .‬وجيب على العاقل أن يصدق‬
‫ابلقضاء والقدر‪ ،‬وأيخذ ابحلزم‪ ،‬وحيب الناس ما حيب لنفسه‪ ،‬وال يلتمس صالح نفسه بفساد غريه‪،‬‬
‫فإنه من فعل ذلك كان خليق ا أن يصيبه ما أصاب التاجر من رفيقه‪.‬‬
‫يك‪ ،‬فاستأجرا حانواتا‪ ،‬وجعال متاعهما فيه‪ .‬وكان أحدمها‬
‫اتجر‪ ،‬وكان له شر ٌ‬
‫رجل ٌ‬‫فإنه يقال إنه كان ٌ‬
‫قريب املنزل من احلانوت؛ فأضمر يف نفسه أن يسرق عدالا من أعدال رفيقه؛ ومكر احليلة يف ذلك‪،‬‬
‫وقال‪ :‬إن أتيت ليالا مل آمن من أن أمحل عدالا من أعدايل أو رزمة من رزمي وال أعرفها؛ فيذهب عنائي‬
‫وتعيب ابطالا‪ .‬فأخذ رداءه‪ ،‬وألقاه على العدل الذي أضمر أخذه‪ .‬مث انصرف إىل منزله‪ .‬وجاء رفيقه بعد‬
‫ذلك ليصلح أعداله‪ ،‬فوجد رداء شريكه على بعض أعداله‪ ،‬فقال‪ :‬وهللا هذا رداء صاحيب؛ وال أحسبه‬
‫إال قد نسيه‪ .‬وما الرأي أن أدعه هاهنا؛ ولكن اجعله على رزمه؛ فلعله يسبقين إىل احلانوت فيجده‬
‫رجل قد واطأه على ما عزم عليه‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حيث حيب‪ .‬مث أخذ الرداء فألقاه على عدل من أعدال رفيقه ومعه ٌ‬
‫وضمن له جعالا على محله؛ فصار إىل احلانوت؛ فالتمس اإلزار يف الظلمة فوجده على العدل؛ فاحتمل‬
‫ذلك العدل؛ وأخرجه هو والرجل‪ ،‬وجعال يرتاوحان على محله؛ حىت أتى منزله‪ ،‬ورمى نفسه تعبا‪ .‬فلما‬
‫أصبح افتقده فإذا هو بعض أعداله؛ فندم أشد الندامة‪ .‬مث انطلق حنو احلانوت‪ ،‬فوجد شريكه قد سبقه‬
‫إليه ففتح احلانوت ووجد العدل مفقودا‪ :‬فاغتم لذلك غم ا شديدا؛ وقال‪ :‬واسوءاته من رفيق صا ٍحل قد‬
‫ائتمنين على ماله وخلفين فيه! ماذا يكون حايل عنده? ولست أشك يف هتمته إايي‪ .‬ولكن قد وطنت‬
‫نفسي على غرامته‪ .‬مث أتى صاحبه فوجده مغتما‪ ،‬فسأله عن حاله؛ فقال إين قد افتقدت األعدال‪،‬‬
‫وفقدت عدالا من أعدالك‪ ،‬وال أعلم بسببه؛ وإين ال أشك يف هتمتك إايي؛ وإين قد وطنت نفسي‬
‫على غرامت ه‪ .‬فقال له‪ :‬اي أخي ال تغتم‪ :‬فإن اخليانة شر ما عمله اإلنسان‪ ،‬واملكر واخلديعة ال يؤداين‬
‫إىل خ ٍري؛ وصاحبهما مغرور أبدا‪ ،‬وما عاد وابل البغي إال على صاحبه‪ :‬وكيف كان ذلك? فأخربه‬

‫‪23‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫خبربه‪ ،‬وقص عليه قصته‪ .‬فقال له رفيقه‪ :‬ما مثلك إال مثل اللص والتاجر‪ .‬فقال له‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫قال‪ :‬زعموا أن اتجرا كان له يف منزله خابيتان إحدامها مملوءة حنطة‪ ،‬واألخرى مملوءة ذهب ا‪ .‬فرتقبه‬
‫بعض اللصوص زماانا‪ ،‬حىت إذا كان بعض األايم تشاغل التاجر عن املنزل؛ فتغفله اللص‪ ،‬ودخل‬
‫املنزل‪ ،‬وكمن يف بعض نواحيه‪ .‬فلما هي أبخذ اخلابية اليت فيها الداننري أخذ اليت فيها احلنطة‪ ،‬وظنها‬
‫كد ٍ‬
‫وتعب حىت أتى هبا منزله فلما فتحها وعلم ما فيها ندم‪ .‬قال له‬ ‫اليت فيها الذهب؛ ومل يزل يف ٍ‬
‫اخلائن‪ :‬ما أبعدت املثل‪ ،‬وال جتاوزت القياس؛ وقد اعرتفت بذنيب وخطئي عليك‪ ،‬وعزيز علي أن يكون‬
‫هذا كهذا‪ .‬غري أن النفس الرديئة أتمر ابلفحشاء‪ .‬فقبل الرجل معذرته‪ ،‬وأضرب عن توبيخه وعن الثقة‬
‫به؛ وندم هو عندما عاين من سوء فعله وتقدمي جهله‪.‬‬
‫وقد ينبغي للناظر يف كتابنا هذا أال تكون غايته التصفح لتزاويقه‪ .‬بل يشرف على ما يتضمن من‬
‫كلمة‪ ،‬ويعمل فيها رؤيته؛ ويكون مثل أصغر االخوة‬ ‫مثل و ٍ‬‫األمثال‪ ،‬حىت ينتهي منه؛ ويقف عند كل ٍ‬
‫الثالثة الذين خلف هلم أبوهم املال الكثري‪ ،‬قتنازعوه بينهم؛ فأما الكبريان فإهنما أسرعا يف إتالفه وإنفاقه‬
‫يف غري وجهه؛ وأما الصغري فإنه عندما نظر ما صار إليه أخواه من إسرافهما وختليهما من املال‪ ،‬اقبل‬
‫وجه‪ :‬لبقاء حاله‪ ،‬وصالح‬‫على نفسه يشاورها وقال‪ :‬اي نفسي إمنا املال يطلبه صاحبه‪ ،‬وجيمعه من كل ٍ‬
‫معاشه ودنياه‪ ،‬وشرف منزلته يف أعني الناس‪ ،‬واستغنائه عما يف أيديهم‪ ،‬وصرفه يف وجهه‪ :‬من صلة‬
‫مال وال ينفقه يف حقوقه‪ ،‬كان‬
‫الرحم‪ ،‬واإلنفاق على الولد‪ ،‬واإلفضال على اإلخوان‪ .‬فمن كان له ٌ‬
‫كالذي يعد فقريا وإن كان موسرا‪ .‬وإن هو أحسن إمساكه والقيام عليه‪ ،‬مل يعدم األمرين مجيعا من دنيا‬
‫تبقى عليه‪ٍ ،‬‬
‫ومحد يضاف إليه؛ ومىت قصد إنفاقه على غري الوجوه اليت علمت‪ ،‬مل يلبث أن يتلفه ويبقى‬
‫ٍ‬
‫وندامة‪ .‬ولكن الرأي أن أمسك هذا املال‪ ،‬فإين أرجو أن ينفعين هللا به‪ :‬ويغين أخوي على‬ ‫على حسرٍة‬
‫يدي‪ :‬فإمن ا هو مال أيب ومال أبيهما‪ .‬وإن أوىل اإلنفاق على صلة الرحم وإن بعدت‪ ،‬فكيف أبخوي?‬
‫فأنفذ فأحضرمها وشاطرمها ماله‪ ،‬وكذلك جيب على قارئ هذا الكتاب أن يدمي النظر فيه من غري‬
‫ضج ٍر‪ ،‬ويلتمس جواهر معانية‪ ،‬وال يظن أن نتيجة اإلخبار عن حيلة هبيمتني أو حماورة سب ٍع لثوٍر‪:‬‬
‫ف ينصرف بذلك عن الغرض املقصود‪ .‬ويكون مثله مثل الصياد الذي كان يف بعض اخللجان يصيد فيه‬
‫السمك يف زورق فرأى ذات يوم يف أرض املاء صدف اة تتألأل حسنا‪ ،‬فتومهها جوهرا له قيمة وكان قد‬
‫مسكة كانت قوت يومه‪ ،‬فخالها وقذف نفسه يف املاء ليأخذ‬ ‫ألقى شبكته يف البحر‪ ،‬فاشتملت على ٍ‬
‫الصدفة‪ ،‬فلما أخرجها وجدها فارغة ال شيء فيها مم ظن‪ .‬فندم على ترك ما يف يده للطمع‪ ،‬وأتسف‬

‫‪24‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫على ما فاته‪ ،‬فلما كان اليوم الثاين تنحى عن ذلك املكان‪ ،‬وألقى شبكته‪ ،‬فأصاب حواتا صغريا‪ ،‬ورأى‬
‫أيض ا صدفة سني اة‪ ،‬فلم يلتفت إليها‪ ،‬وساء ظنه هبا‪ ،‬فرتكها‪ .‬فاجتاز هبا بعض الصيادين فأخذها‪ ،‬فوجد‬
‫فيها درةا تساوي أمواالا‪ .‬وكذلك اجلهال إذا أغفلوا أمر التفكري يف هذا الكتاب‪ ،‬وتركوا الوقوف على‬
‫أسرار معاين‪ ،‬وأخذوا بظاهره‪ .‬ومن صرف مهته إىل النظر يف أبواب اهلزل‪ ،‬كان ٍ‬
‫كرجل أصاب أرضا‬
‫طيب اةَ حرةا وحبا صحيحا‪ ،‬فزرعها وسقاها‪ ،‬حىت إذا قرب خريها وأينعت‪ ،‬تشاغل عنها جبمع ما فيها‬
‫من الزهر وقطع الشوط؛ فأهلك بتشاغله ما كان أحسن فائدةا وأمجل عائد اة‪.‬‬
‫اض‪ :‬أحدها ما قصد فيه إىل وضعه‬ ‫وينبغي للناظر يف هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إىل أربعة أغر ٍ‬
‫على ألسنة البهائم غري الناطقة ليسارع إىل قراءته أهل اهلزل من الشبان‪ ،‬فتستمال به قلوهبم‪ :‬ألنه‬
‫الغرض ابلنوادر من حيل احليوان‪.‬‬
‫والثاين إظهار خياالت احليوان بصنوف األصباغ واأللوان‪ :‬ليكون أنس ا لقلوب امللوك‪ ،‬ويكون حرصهم‬
‫عليه أشد للنزهة يف تلك الصور‪ .‬والثالث أن يكون على هذه الصفة‪ :‬فيتخذه امللوك والسوقة‪ ،‬فيكثر‬
‫بذلك انتساخه‪ ،‬وال يبطل فيخلق على مرور األايم؛ ولينتفع بذلك املصور والناسخ أبدا‪ .‬والغرض‬
‫الرابع‪ ،‬وهو األقصى‪ ،‬وذلك خمصوص ابلفيلسوف خاصةا‪.‬‬
‫ابب بروزيه ترمجة بزرمجهر بن البختكان‬
‫قال بروزيه رأس أطباء فارس‪ ،‬وهو الذي توىل انتساخ هذا الكتاب‪ ،‬وترمجه من كتب اهلند ‪ -‬وقد مضى‬
‫ذكر ذلك من قبل ‪ : -‬أيب كان من املقاتلة‪ ،‬وكانت أمي من عظماء بيوت الزمازمة ‪ .‬وكان منشئي يف‬
‫نعمة ٍ‬
‫كاملة‪ ،‬وكنت أكرم ولد أبوي عليهما؛ وكاان يب أشد احتفاظ ا من دون إخويت‪ ،‬حىت إذا بلغت‬ ‫ٍ‬
‫السبع سنني‪ ،‬أسلماين إىل املؤدب؛ فلما حذقت الكتابة‪ ،‬شكرت أبوي؛ ونظرت يف العلم‪ ،‬فكان أول‬
‫ما ابتدأت به وحرصت عليه‪ ،‬علم الطب‪ :‬ألين كنت عرفت فضله‪ .‬وكلما ازددت منع علما ازددت فيه‬
‫حرص ا ‪ ،‬وله اتباع ا‪ .‬فلما مهت نفسي مبداواة املرضى‪ ،‬وعزمت على ذلك آمرهتا مث خريهتا بني األمور‬
‫األربعة اليت يطلبها الناس‪ ،‬وفيها يرغبون‪ ،‬وهلا يسعون‪ .‬فقلت‪ :‬أي هذه اخلالل أبتغي يف علمي? وأيها‬
‫أحرى يب فأدرك منه حاجيت? املال‪ ،‬أم الذكر‪ ،‬أم اللذات أم اآلخرة? وكنت وجدت يف كتب الطب‬
‫أن أفضل األطباء من واظب على طبه‪ ،‬ال يبتغي إال اآلخرة‪ .‬فرأيت أن أطلب االشتغال ابلطب ابتغاء‬
‫اآلخرة‪ :‬لئال أكون كالتاجر الذي ابع ايقوت اة مثين اة خبرزٍة ال تساوي شيئ ا؛ مع أين قد وجدت يف كتب‬
‫األولني أن الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر اآلخرة ال ينقصه ذلك حظه يف الدنيا‪ .‬وإن مثله مثل الزارع‬

‫‪25‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫الذي يعمر أرضه ابتغاء الزرع ال ابتغاء العشب‪ .‬مث هي ال حمالة انبت فيها ألوان العشب مع اينع‬
‫الزرع‪ .‬فأقبلت على مداواة املرضى ابتغاء أجر اآلخرة‪ ،‬فلم أدع مريض ا أرجو له الربء‪ ،‬وآخر ال أرجو له‬
‫ذلك‪ ،‬إال أين أطمع أن خيف عنه بعض املرض‪ ،‬إال ابلغت يف مداواته ما أمكنين القيام عليه بنفسي؛‬
‫ومن مل أقدر على القيام عليه وصفت له ما يصلح‪ ،‬وأعطيته من الدواء ما يعاجل به‪ .‬ومل أرد ممن فعلت‬
‫معه ذلك جزاءا وال مكافأ اة؛ ومل أغبط أحدا من نظرائي الذين هم دوين يف العلم وفوقي يف اجلاه واملال‬
‫وغريمها مما ال يعود بصالح وال حسن سريةٍ قوالا وال عمالا‪ .‬ملا اتقت نفسي إىل غشياهنم ومتنت منازهلم‬
‫أثبت هلا اخلصومة ؛ فقلت هلا‪ :‬اي نفس‪ ،‬أما تعرفني نفعك من ضرك? أال تنتهني عن متين ما ال يناله‬
‫قل انتفاعه به‪ ،‬وكثر عناؤه فيه‪ ،‬واشتدت املئونة عليه وعظمت املشقة لديه بعد فراقه? اي‬
‫أحد إال ّ‬
‫نفسي‪ ،‬أما تذكرين ما بعد هذه الدار‪ :‬فينسيك ما تشرهني إليه منها? أال تستحبني من مشاركة الفجار‬
‫يف حب هذه العاجلة الفانية اليت من كان يف يده شيء منها فليس له‪ ،‬وليس ٍ‬
‫بباق عليه؛ فال أيلفها إال‬ ‫ٌ‬
‫املغرتون اجلاهلون? اي نفس انظري يف أمرك‪ ،‬وانصريف عن هذا السفه‪ ،‬وأقبلي بقوتك وسعيك على‬
‫موجود ٍ‬
‫آلفات‪ ،‬وأنه مملوءٌ أخالطا فاسدةا قذراة‪،‬‬ ‫تقدمي اخلري‪ ،‬وإايك والشر‪ ،‬واذكري أن هذا اجلسد‬
‫ٌ‬
‫مسمار واح ٌد‪،‬‬ ‫تعقدها احلياة‪ ،‬واحلياة إىل ن ٍ‬
‫فاد؛ كالصنم املفصلة أعضاؤه إذا ركبت ووضعت‪ ،‬جيمعها‬
‫ٌ‬
‫بعض‪ ،‬فإذا أخذ ذلك املسمار تساقطت األوصال‪ .‬اي نفس‪ ،‬ال تغرتي بصحبة‬ ‫ويضم يعضها إىل ٍ‬
‫أحبائك وأصحابك‪ ،‬وال حترصي على ذلك كل احلرص‪ :‬فإن صحبتهم ‪ -‬على ما فيها من السرور ‪-‬‬
‫كثرية املئونة‪ ،‬وعاقبة ذلك الف راق‪ .‬ومثلها مثل املغرفة اليت تستعمل يف جدهتا لسخونة املرق‪ ،‬فإذا‬
‫انكسرت صارت وقودا‪ .‬اي نفس‪ ،‬ال حيملنك أهلك وأقاربك على مجع ما هتلكني فيه‪ ،‬إرادة صلتهم؛‬
‫فإذا أنت كالدخنة األرجة اليت حترتق ويذهب آخرون برحيها‪ .‬اي نفس‪ ،‬ال يبعد الكثري ابليسري؛ كالتاجر‬
‫بيت من الصندل‪ ،‬فقال‪ :‬إن بعته وزانا طال علي‪ ،‬فباعه جزافا أبخبس الثمن‪ .‬وقد‬ ‫الذي كان له ملء ٍ‬
‫خمالف‪ .‬فلما‬
‫ومغتاب‪ ،‬ولقوله ٌ‬
‫ٌ‬ ‫عدو‬ ‫كل على ٍ‬
‫كل ر ٌاد‪ ،‬وله ٌ‬ ‫وجدت آراء الناس خمتلفة وأهواءهم متباينة؛ و ٌ‬
‫رأيت ذلك مل أجد إىل متابعة ٍ‬
‫أحد منهم سبيالا؛ وعرفت أين إن صدقت أحدا منهم ال علم يل حباله‪،‬‬
‫كنت يف ذلك كاملصدق املخدوع الذي زعموا يف شأنه أن سارقا عال ظهر بيت ٍ‬
‫رجل من األغنياء‪،‬‬
‫وكان معه مجاعةٌ من أصحابه‪ ،‬فاستيقظ صاحب املنزل من حركة أقدامهم‪ ،‬فعرف امرأته ذلك؛ فقال‬
‫هلا‪ :‬رويدا إين ألحسب اللصوص علوا البيت‪ ،‬فأيقظيين بصوت يسمعه اللصوص وقويل أال ختربين أيها‬
‫الرجل عن أموالك هذه الكثرية وكنوزك العظيمة? فإذا هنيتك عن هذا السؤال فأحلي علي ابلسؤال‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫ففعلت املرأة ذلك وسألته كما أمرها؛ وأنصتت اللصوص إىل مساع قوهلما‪ .‬فقال هلا الرجل‪ :‬أيتها املرأة‪،‬‬
‫قد ساقك القدر إىل ٍ‬
‫رزق واس ٍع كث ٍري‪ :‬فكلي واسكيت‪ ،‬وال تسأيل عن أم ٍر إن أخربتك به مل آمن من أن‬
‫يسمعه أح ٌد‪ ،‬فيكون يف ذلك ما أكره وتكرهني‪ .‬فقالت املرأة‪ :‬أخربين أيها الرجل‪ ،‬فلعمري ما بقربنا‬
‫أح ٌد يسمع كالمنا‪ .‬فقال هلا‪ :‬فإين أخربك أين مل أمجع هذه األموال إال من السرقة‪ .‬قال‪ :‬وكيف كان‬
‫ذلك? وما كنت تصنع? قال‪ :‬ذلك لعل ٍم أصبته يف السرقة‪ ،‬وكان األمر علي يسريا‪ ،‬وأان آمن من أن‬
‫يتهمين أح ٌد أو يراتب يف‪.‬ين‪ .‬فقالت املرأة‪ :‬أخربين أيها الرجل‪ ،‬فلعمري ما بقربنا أح ٌد يسمع كالمنا‪.‬‬
‫فقال هلا‪ :‬فإين أخربك أين مل أمجع هذه األموال إال من السرقة‪ .‬قال‪ :‬وكيف كان ذلك? وما كنت‬
‫تصنع? قال‪ :‬ذلك لعل ٍم أصبته يف السرقة‪ ،‬وكان األمر علي يسريا‪ ،‬وأان آمن من أن يتهمين أح ٌد أو‬
‫يراتب يف‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فاذكر يل ذلك‪ ،‬قال‪ :‬كنت أذهب يف الليلة املقمرة‪ ،‬أان وأصحايب‪ ،‬حىت أعلو داء بعض األغنياء‬
‫مثلنا؛ فأنتهي إىل الكوة اليت يدخل منها الضوء فأرقي هبذه الرقية وهي شومل شومل سبع مرات‪ ،‬وأعتنق‬
‫الضوء؛ فال حيس بوقوعي أح ٌد‪ ،‬فال أدع ماالا وال متاعا إال أخذته‪ .‬مث أرقي بتلك الرقية سبع مر ٍ‬
‫ات‪.‬‬
‫وأعتنق الضوء فيجذبين؛ فأصعد إىل أصحايب‪ ،‬فنمضي ساملني آمنني‪ .‬فلما مسع اللصوص ذلك قالوا‪:‬‬
‫قد ظفران الليلة مبا نريد من املال؛ مث إهنم أطالوا املكث حىت ظنوا أن صاحب الداء وزوجته قد هجعا؛‬
‫فقام قائدهم إىل مدخل الضوء؛ وقال‪ :‬شومل شومل سبع مر ٍ‬
‫ات؛ مث اعتنق الضوء لينزل إىل أرض املنزل‪،‬‬
‫فوقع على أم رأسه منكسا‪ .‬فوثب إليه الرجل هبراوته‪ ،‬وقال له‪ :‬من أنت? قال‪ :‬أان املصدق املخدوع‬
‫املغرت ميا ال يكون أبدا؛ وهذه مثرة رقيتك‪ .‬فلما حترزت من تصديق ما ال يكون‪ ،‬ومل آمن إن صدقته أن‬
‫مهلكة عدت إىل طلب األداين والتماس العدل منها؛ فلم أجد عند ٍ‬
‫أحد ممن كلمته جواابا‬ ‫ٍ‬ ‫يوقعين يف‬
‫فيما سألته عنه فيها‪ ،‬ومل أر فيما كلموين به شيئا حيق يل يف عقلي أن أصدق به وال أن أتبعه‪ .‬فقلم ملا‬
‫مل أجد ثق اة آخذ منه‪ ،‬الرأي أن ألزم دين آابئي وأجدادي الذي وجدهتم عليه‪ .‬فلما ذهبت التمس‬
‫العذر لنفسي يف لزوم دين اآلابء واألجداد‪ ،‬مل أجد هلا على الثبوت على دين اآلابء طاقةا؛ بل وجدهتا‬
‫تريد أن تتفرغ للبحث عن األداين واملسألة عنها‪ ،‬وللنظر فيها؛ فهجس يف قليب وخطر على ابيل قرب‬
‫األجل وسرعة انقطاع الدنيا واعتباط أهلها وحتزم الدهر حياهتم‪ .‬ففكرت يف ذلك‪ .‬فلما خفت من‬
‫عمل تشهد النفس أنه يوافق‬ ‫الرتدد والتحول‪ ،‬رأيت أال أتعرض ملا أختوف منه املكروه؛ وأن أقتصر على ٍ‬
‫كل األداين‪ .‬فكففت يدي عن القتل والضرب‪ ،‬وطرحت نفسي عن املكروه والغضب والسرقة واخليانة‬

‫‪27‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬
‫والكذب والبهتان والغيبة‪ ،‬وأضمرت يف نفسي أال أبغي على ٍ‬
‫أحد‪ ،‬وال أكذب ابلبعث وال القيامة وال‬
‫الثواب وال العقاب؛ وزايلت األشرار بقليب‪ ،‬وحاولت اجللوس مع األخيار جبهدي‪ ،‬ورأيت الصالح ليس‬
‫ين‪ ،‬ووجدت مكسبه إذا وفق هللا وأعان يسريا؛ ووجدته ال ينقص على اإلنفاق‬‫كمثله صاحب وال قر ٌ‬
‫منه؛ بل يزداد جد اة وحسنا؛ ووجدته ال خوف عليه من السلطان أن يغصبه‪ ،‬وال من املاء أن يغرقه‪ ،‬وال‬
‫من النار أن حترقه‪ ،‬وال من اللصوص أن تسرقه‪ ،‬وال من السباع وجوارح الطري أن متزقه؛ووجدت الرجل‬
‫الساهي الالهي املؤثر اليسري يناله يف يومه ويعدمه يف غده على الكثري الباقي نعيمه‪ ،‬يصيبه ما أصاب‬
‫نفيس‪ ،‬فاستأجر لثقبه رجالا‪ ،‬اليوم مبائة دينار؛ وانطلق به إىل‬
‫جوهر ٌ‬
‫التاجر الذي زعموا أنه كان له ٌ‬
‫موضوع‪ .‬فقال التاجر للصانع‪ :‬هل حتسن أن تلعب ابلصنج?‬ ‫ٌ‬ ‫صنج‬
‫املنزل ليعمل؛ وإذا يف انحية البني ٌ‬
‫قال نعم‪ .‬وكان بلعبه ماهرا‪ .‬فقال التاجر‪ :‬دونك الصنج فأمسعنا ضربك به‪ .‬فأخذ الرجل الصنج‪ ،‬ومل‬
‫يزل يسمع التاجر الضرب الصحيح‪ ،‬والصوت الرفيع‪ ،‬والتاجر يشري بيده ورأسه طرابا‪ ،‬حىت أمسى‪.‬‬
‫فلما حان وقت الغروب قال الرجل للتاجر‪ :‬مر يل ابألجرة‪ .‬فقال له التاجر‪ :‬وهل عملت شيئا تستحق‬
‫به األجرة? فقال له‪ :‬عملت ما أمرتين به‪ ،‬وأان أجريك‪ ،‬وما استعملتين عملت؛ ومل يزل به حىت استوىف‬
‫منه مائة دينار‪ .‬وبقي جوهره غري مثقوب‪ .‬فم أزدد يف الدنيا وشهواهتا نظرا‪ ،‬إال ازددت فيها زهادةا‬
‫ومنها هرابا‪ .‬ووجدت النسك هو الذي ميهد للمعاد كما ميهد الوالد لولده؛ ووجدته هو الباب املفتوح‬
‫إىل النعيم املقيم؛ووجدت الناسك قد تدبر فعلته ابلسكينة فشكر؛ وتواضع وقنع فاستغىن‪ ،‬ورضي ومل‬
‫يهتم‪ ،‬وخلع الدنيا فنجا من الشرور‪ ،‬ورفض الشهوات فصار طاهرا‪ ،‬واطرح احلسد فوجبت له احملبة‪،‬‬
‫وسخت نفسه بك ٍ‬
‫شيء؛ واستعمل العقل وأبصر العاقبة فأمن الندامة‪ ،‬ومل خيف الناس ومل يدب إليهم‬
‫فسلم منهم‪ .‬فلم أزدد يف أمر النسك نظرا‪ ،‬إال ازددت فيه رغب اة‪ ،‬حىت مهمت أن أكون من أهله‪ .‬مث‬
‫ختوفت أال أصرب على عيش الناسك‪ ،‬ومل آمن إن تركت الدنيا وأخذت يف النسك‪ ،‬أن أضعف عن‬
‫ذلك؛ ورفضت إعماالا كنت أرجو عائدهتا؛ وقد كنت أعملها فأنتفع هبا يف الدنيا‪ ،‬فيكون مثلي يف‬
‫ضلع‪ ،‬فرأى ظلها يف املاء‪ ،‬فهوى ليأخذها‪ ،‬فأتلف ما كان‬‫ذلك مثل الكلب الذي مر بنه ٍر ويف فيه ٌ‬
‫معه؛ ومل جيد يف املاء شيئا‪ .‬فهبت النسك مهاب اة شديد اة‪ ،‬وخفت من الضجر وقلة الصرب‪ ،‬وأردت‬
‫الثبوت على حاليت اليت كنت عليها‪ .‬مث بدا يل أن أسرب ما أخاف أال أصرب عليه من األذى والضيق‬
‫واخلشونة يف النسك؛ وما يصيب صاحب الدنيا من البالء؛ وكان عندي أنه ليس شيءٌ من شهوات‬
‫الدنيا ولذاهتا إال وهو متحول إىل األذى ومول ٌد للحزن‪ .‬فالدنيا كاملاء امللح الذي يصيبه الكلب فيجد‬

‫‪28‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فيه ريح اللحم؛ فال يزال يطلب ذلك حىت يدمي فاه‪ .‬وكاحلدأة اليت تظفر بقطعة من اللحم‪ ،‬فيجتمع‬
‫عليها الطري‪ ،‬فال تزال تدور وتدأب حىت تعيا وتتعب؛ فإذا تعبت ألقت ما معها‪ .‬وكالكوز من العسل‬
‫ذعاف ‪ ،‬وكأحالم النائم اليت يفرح هبا‬
‫ٌ‬ ‫موت‬
‫الذي يف أسفله السم الذي يذاق منه حالوةٌ عاجلةٌ وآخره ٌ‬
‫اإلنسان يف نوم ه‪ ،‬فإذا استيقظ ذهب الفرح‪ .‬فلما فكرت يف هذه األمور‪ ،‬رجعت إىل طلب النسك‪،‬‬
‫وهزين االشتياق إليه؛ مث خاصمت نفسي إذ هي يف شرورها سارحةٌ‪ ،‬وقد ال تثبت على أم ٍر تعزم عليه‪:‬‬
‫كقاض مسع من خص ٍم و ٍ‬
‫احد فحكم له‪ ،‬فلما خضر اخلصم الثاين عاد إىل األول وقضى عليه‪ .‬مث‬ ‫ٍ‬
‫نظرت يف الذي أكابده من احتمال النسك وضيقه؛ فقلت‪ :‬ما أصغر هذه املشقة يف جانب روح األبد‬
‫وراحته‪ .‬مث نظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا‪ ،‬فقلت‪ :‬ما أمر هذا وأوجعه‪ ،‬وهو يدفع إىل‬
‫عذاب األبد وأهواله! وكيف ال يستحلي الرجل مرارةا قليل اة تعقبها حالوةٌ طويلةٌ? وكيف ال متر عليه‬
‫يوم‬ ‫ٍ‬
‫حالوةٌ قليلةٌ تعقبها مرارةٌ دائمةٌ? وقلت‪ :‬لو أن رجالا عرض عليه أن يعيش مائة سنة‪ ،‬ال أييت عليه ٌ‬
‫واح ٌد إال بضع منه بضعةٌ ؛ مث أعيد عليه من الغد؛ غري أنه يشرط له‪ ،‬أنه إذا استوىف السنني املائة‪ ،‬جنا‬
‫من كل أمل وأذى‪ ،‬وصار إىل األمن والسرور‪ ،‬كان حقيقا أال يرى تلك السنني شيئا‪ .‬أسرب ما أخاف أال‬
‫أصرب عليه من األذى والضيق واخلشونة يف النسك؛ وما يصيب صاحب الدنيا من البالء؛ وكان عندي‬
‫أنه ليس شيءٌ من شهوات الدنيا ولذاهتا إال وهو متحول إىل األذى ومول ٌد للحزن‪ .‬فالدنيا كاملاء امللح‬
‫الذي يصيبه الكلب فيجد فيه ريح اللحم؛ فال يزال يطلب ذلك حىت يدمي فاه‪ .‬وكاحلدأة اليت تظفر‬
‫بقطعة من اللحم‪ ،‬فيجتمع عليها الطري‪ ،‬فال تزال تدور وتدأب حىت تعيا وتتعب؛ فإذا تعبت ألقت ما‬
‫ذعاف ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫موت‬
‫معها‪ .‬وكالكوز من العسل الذي يف أسفله السم الذي يذاق منه حالوةٌ عاجلةٌ وآخره ٌ‬
‫وكأحالم النائم اليت يف رح هبا اإلنسان يف نومه‪ ،‬فإذا استيقظ ذهب الفرح‪ .‬فلما فكرت يف هذه األمور‪،‬‬
‫رجعت إىل طلب النسك‪ ،‬وهزين االشتياق إليه؛ مث خاصمت نفسي إذ هي يف شرورها سارحةٌ‪ ،‬وقد ال‬
‫احد فحكم له‪ ،‬فلما خضر اخلصم الثاين عاد إىل‬ ‫كقاض مسع من خص ٍم و ٍ‬‫تثبت على أم ٍر تعزم عليه‪ٍ :‬‬
‫األول وقضى عليه‪ .‬مث نظرت يف الذي أكابده من احتمال النسك وضيقه؛ فقلت‪ :‬ما أصغر هذه‬
‫املشقة يف جانب روح األبد وراحته‪ .‬مث نظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا‪ ،‬فقلت‪ :‬ما أمر هذا‬
‫وأوجعه‪ ،‬وهو يدفع إىل عذاب األبد وأهواله! وكيف ال يستحلي الرجل مرارةا قليلةا تعقبها حالوةٌ‬
‫طويلةٌ? وكيف ال متر عليه حالوةٌ قليلةٌ تعقبها مرارةٌ دائمةٌ? وقلت‪ :‬لو أن رجالا عرض عليه أن يعيش‬
‫يوم واح ٌد إال بضع منه بضعةٌ ؛ مث أعيد عليه من الغد؛ غري أنه يشرط له‪ ،‬أنه‬ ‫ٍ‬
‫مائة سنة‪ ،‬ال أييت عليه ٌ‬

‫‪29‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫إذا استوىف السنني املائة‪ ،‬جنا من كل أمل وأذى‪ ،‬وصار إىل األمن والسرور‪ ،‬كان حقيقا أال يرى تلك‬
‫السنني شيئ ا‪.‬‬
‫قليل يعقب خريا كثريا? فلنعلم‬
‫وكيف أيىب الصرب على أايم قالئل يعيشها يف النسك‪ ،‬وأذى تلك األايم ٌ‬
‫وعذاب‪ .‬أوليس اإلنسان إمنا يتقلب يف عذاب الدنيا من حني يكون جنينا إىل أن‬
‫ٌ‬ ‫أن الدنيا كلها بالءٌ‬
‫استطعام‪ ،‬أو عطش‬
‫ٌ‬ ‫يستويف أايم حياته? فإذا كان طفالا ذاق من العذاب ألواانا‪ :‬إن جاع فليس به‬
‫فليس به استسقاءٌ‪ ،‬أو وجع فليس به استغاثةٌ؛ مع ما يلقى من الوضع واحلمل واللف والدهن واملسح؛‬
‫إن أنيم على ظهره مل يستطع تقلبا؛ مث يلقى أصناف العذاب مادام رضيعا‪ ،‬فإذا أفلت من هذا الرضاع‪،‬‬
‫أخذ يف عذاب األدب‪ ،‬فأذيق من ألواانا‪ :‬من عنف املعلم‪ ،‬وضجر الدرس‪ ،‬وسآمة الكتابة؛ مث له من‬
‫الدواء واحلمية واألسقام واألوجاع أوىف ٍ‬
‫حظ‪ .‬فإذا أدرك كانت مهته يف مجع املال وتربية الولد وخماطرة‬
‫الطلب والسعي والكد والتعب‪ .‬وهو مع ذلك يتقلب مع أعدائه الباطنية الالزمة له‪ :‬وهي الصفراء‬
‫والسوداء والريح والبلغم والدم والسم املميت واحلية الالذعة؛ مع اخلوف من السباع واهلوام؛ مع صرف‬
‫احلر والربد واملطر والرايح؛ مث أنواع عذاب اهلرم ملن يبلغه‪ .‬فلو مل خيف من هذه األمور شيئا‪ ،‬وكان قد‬
‫أمن ووثق ابلسالمة منها فلم يفكر فيها‪ ،‬لوجب عليه أن يعترب ابلساعة اليت حيضره فيها املوت‪ ،‬فيفارق‬
‫الدنيا؛ ويتذكر ما هو انزل به يف تلك الساعة‪ :‬من فراق األحبة واألهل واألقارب وكل ٍ‬
‫منون به من‬
‫الدنيا‪ ،‬واإلشراف على اهلول العظيم بعد املوت‪ .‬فلو مل يفعل ذلك‪ ،‬لكان حقيقا أن يعد عاجزا مفرطا‬
‫حمبا للدانءة مستحقا للوم؛ فمن ذا الذي يعلم وال حيتال لغد جهده يف احليلة‪ ،‬ويرفض ما يشغله ويلهيه‬
‫كدر فإنه وإن كان امللك‬
‫من شهوات الدنيا وغرورها? و السيما يف هذا الزمان الشبيه ابلصايف وهو ٌ‬
‫حازما عظيم املقدرة‪ ،‬رفيع اهلمة بليغ الفحص‪ ،‬عدالا مرجوا صدوقا شكورا‪ ،‬رحب الذراع مفتقدا مواظبا‬
‫مستمرا عاملا ابلناس واألمور‪ ،‬حمبا للعلم واخلري واألخيار‪ ،‬شديدا على الظلمة‪ ،‬غري ٍ‬
‫جبان و خفيف‬
‫القياد‪ ،‬رفيق ا ابلتوسع على الرعية فيما حيبون‪ ،‬والدفع ملا يكرهون؛ فإان قد نرى الزمان مدبرا بكل‬
‫مكان‪ ،‬فكأن أمور الصدق قد نزعت من الناس‪ ،‬فأصبح ما كان عزيزا فقده مفقودا‪ ،‬وموجودا ما كان‬ ‫ٍ‬
‫ضائرا وجوده‪ .‬وكأن اخلري أصبح ذابالا والشر أصبح انضرا‪ .‬وكأن الفهم أصبح قد زالت سبله‪ .‬وكأن‬
‫احلق وىل كسريا وأقبل الباطل اتبعه‪ .‬وكأن اتباع اهلوى وإضاعة احلكم أصبح ابحلكام موكالا؛ وأصبح‬
‫املظلوم ابحليف مقرا والظامل لنفسه مستطيالا‪ .‬وكأن احلرص أصبح فاغرا فاه من كل ٍ‬
‫وجهة يتلقف ما‬
‫قرب منه وما بعد‪ .‬وكأن الرضا أصبح جمهوالا‪ .‬وكأن األشرار يقصدون السماء صعودا‪ .‬وكأن األخيار‬

‫‪30‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫يريدون بطن األرض؛ وأصبحت الدانءة مكرمةٌ ممكنةٌ؛ وأصبح السلطان منتقالا عن أهل الفضل إىل‬
‫أهل النقص‪ .‬وكأن الدنيا جذلة مسرورةٌ تقول‪ :‬قد غيبت اخلريات وأظهرت السيئات‪ .‬فلما فكرت يف‬
‫الدنيا وأمورها؛ وأن اإلنسان هو أشرف اخللق فيها وأفضله؛ مث هو ال يتقلب إال يف الشرور واهلموم‪،‬‬
‫عقل يعلم ذلك مث ال حيتال لنفسه يف النجاة؛ فعجبت من ذلك كل‬ ‫عرفت أنه ليس إنسا ٌن ذو ٍ‬
‫العجب‪ .‬مث نظرت فإذا اإلنسان ال مينعه عن االحتيال لنفسه إال لذةٌ صغريةٌ حقريةٌ غري ٍ‬
‫كبرية من الشم‬
‫والذوق والنظر والسمع واللمس‪ :‬فعله يصيب منها الطفيف أو يقتين منها اليسري؛ فإذا ذلك يشغله‬
‫ويذهب به عن االهتمام لنفسه وطلب النجاة هلا‪.‬‬
‫هائج إىل بئ ٍر‪ ،‬فتدىل فيها‪ ،‬وتعلق‬
‫فيل ٍ‬‫رجل جنا من خوف ٍ‬ ‫فالتمست لإلنسان مثالا‪ ،‬فإذا مثله مثل ٍ‬
‫حيات أربع قد أخرجن‬ ‫ٍ‬
‫بغصنني كاان على مسائها‪ ،‬فوقعت رجاله على شيء يف طي البئر‪ .‬فإذا ٌ‬
‫رءوسهن من أحجارهن‪ ،‬مث نظر فإذا يف قاع البئر تنني فاتح فاه منتظر له ليقع فيأخذه؛ فرفع بصره إىل‬
‫الغصنني فإذا يف أصلهما جرذان أسود وأبيض‪ ،‬ومها يقرضان الغصنني دائبني ال يفرتان‪ ،‬فبينما هو يف‬
‫حنل؛ فذاق العسل‪ ،‬فشغلته حالوته‬ ‫النظر ألمره واالهتمام لنفسه‪ ،‬إذا أبصر قريبا منه كواراة فيها عسل ٍ‬
‫شيء من أمره‪ ،‬وأن يلتمس اخلالص لنفسه؛ ومل يذكر أن رجليه على ٍ‬
‫حيات‬ ‫وأهلته لذته عن الفكرة يف ٍ‬
‫أرب ٍع ال ي دري مىت يقع عليهن؛ ومل يذكر أن اجلرذين دائبان يف قطع الغصنني؛ ومىت انقطعا وقع على‬
‫التنني‪ .‬فلم يزل الهيا غافالا مشغوالا بتلك احلالوة حىت سقط يف فم التنني فهلك‪ .‬فشبهت ابلبئر الدنيا‬
‫ٍ‬
‫وعاهات؛ وشبهت ابحليات األربع األخالط األربعة اليت يف البدن‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫وخمافات‬ ‫اململوءة ٍ‬
‫آفات وشرورا‪،‬‬
‫فإهنا مىت هاجت أو أحدها كانت كحمة األفاعي والسم املميت؛ وشبهت ابجلرذين األسود واألبيض‬
‫الليل والنهار اللذين مها دائبان يف إفناء األجل؛ وشبهت ابلتنني املصري الذي ال بد منه؛ وشبهت‬
‫ابلعسل هذه احلالوة القليلة اليت ينال منها اإلنسان فيطعم ويسمع ويشم ويلمس‪ ،‬ويتشاغل عن نفسه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫فحينئذ صار أمري إىل الرضا حبايل وإصالح ما استطعت‬ ‫ويلهو عن شأنه‪ ،‬ويصد عن سبيل قصده‪.‬‬
‫إصالحه من عملي‪ :‬لعلي أصادف ابقي أايمي زماانا أصيب فيه دليالا على هداي‪ ،‬وسلطاانا على‬
‫نفسي‪ ،‬وقواما ألمري‪ ،‬فأقمت على هذه احلال وانتسخت كتبا كثرياة؛ وانصرفت من بالد اهلند‪ ،‬وقد‬
‫نسخت هذا الكتاب‪.‬‬
‫ابب األسد والثور وهو أول الكتاب‬

‫‪31‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ ،‬وهو رأس الربامهة‪ :‬اضرب لنا مثالا ملتحابني يقطع بينهما الكذوب‬
‫احملتال‪ ،‬حىت حيملهما على العداوة والبغضاء‪ .‬قال بيداب‪ :‬إذا ابتلي املتحاابن أبن يدخل بينهما‬
‫شيخ وكان‬
‫رجل ٌ‬
‫الكذوب احملتال‪ ،‬مل يلبثا أن يتقاطعا ويتدابرا‪ .‬ومن أمثال ذلك أنه كان أبرض دستاوند ٌ‬
‫له ثالثة بنني‪ .‬فلما بلغوا أشدهم أسرفوا يف مال أبيهم؛ ومل يكونوا احرتفوا حرف اة يكسبون ألنفسهم هبا‬
‫خريا‪ .‬فالمهم أبوهم؛ ووعظهم على سوء فعلهم؛ وكان من قوله هلم‪ :‬اي بين إن صاحب الدنيا يطلب‬
‫ثالثة أمور لن يدركها إال أبربعة أشياء‪ :‬أما الثالثة اليت يطلب‪ ،‬فالسعة يف الرزق واملنزلة يف الناس والزاد‬
‫لآلخرة؛ وأما األربعة اليت حيتاج إليها يف درك هذه الثالثة‪ ،‬فاكتساب املال من أحسن وجه يكون‪ ،‬مث‬
‫حسن القيام على ما اكتسب منه‪ ،‬مث استثماره‪ ،‬مث إنفاقه فيما يصلح املعيشة ويرضي األهل واإلخوان‪،‬‬
‫فيعود عليه نفعه يف اآلخرة‪ .‬فمن ضيع شيئ ا من هذه األحوال مل يدرك ما أراد من حاجته‪ :‬ألنه إن مل‬
‫ٍ‬
‫اكتساب مث مل حيسن القيام عليه‪ ،‬أوشك املال‬ ‫مال يعيش به؛ وإن هو كان ذا ٍ‬
‫مال و‬ ‫يكتسب‪ ،‬مل يكن ٌ‬
‫أن يفىن ويبقى معدما؛ وإن هو وضعه ومل يستثمره‪ ،‬مل تنعه قلة اإلنفاق من سرعة الذهاب‪ :‬كالكحل‬
‫يع فناؤه‪ .‬وإن أنفقه يف غري وجهه‪ ،‬ووضعه يف غري‬‫الذي ال يؤخذ منه إال غبار امليل مث هو مع ذلك سر ٌ‬
‫موضعه‪ ،‬وأخطأ يف مواضع استحقاقه‪ ،‬صار مبنزلة الفقري الذي ال مال له؛ مث ال مينع ذلك ماله من‬
‫التلف ابحلوادث والعلل اليت جتري عليه؛ كمحبس املاء الذي ال تزال املياه تنصب فيه‪ ،‬فإن مل يكن له‬
‫خمرج ومفيض ومتنفس خيرج املاء منه بقدر ما ينبغي‪ ،‬خرب وسال ونز من نو ٍاح ٍ‬
‫كثرية‪ ،‬ورمبا انبثق البثق‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫العظيم فذهب املاء ضياعا‪ .‬مث أنبين الشيخ اتعظوا بقول أبيهم وأخذوا به وعلموا أن فيه اخلري وعولوا‬
‫كثري؛ وكان معه‬ ‫ٍ‬ ‫عليه؛ فانطلق أكربهم حنو ٍ‬
‫وحل ٌ‬‫أرض يقال هلا ميون؛ فأتى يف طريقه على مكان فيه ٌ‬
‫عجلةٌ جيرها ثوران يقال ألحدمها شرتبة ولآلخر بندبة‪ ،‬فوحل شرتبة يف ذلك املكان‪ ،‬فعاجله الرجل‬
‫وأصحابه حىت بلغ منهم اجلهد‪ ،‬فلم يقدروا على إخراجه؛ فذهب الرجل وخلف عنده رجالا يشارفه‪:‬‬
‫لعل الوحل ينشف فيتبعه ابلثور‪ .‬فلما ابت الرجل بذلك املكان‪ ،‬تربم به واستوحش؛ فرتك الثور والتحق‬
‫بصاحبه‪ ،‬فأخربه أن الثور قد مات؛ وقال له‪ :‬إن اإلنسان إذا انقضت مدته وحانت منيته فهو وإن‬
‫اجتهد يف التوقي من األمور اليت خياف فيها على نفسه اهلالك مل يغن ذلك عنه شيئا؛ ورمبا عاد‬
‫اجتهاده يف توقيه وحذره وابالا عليه ‪.‬‬
‫خوف من السباع؛ وكان الرجل خبريا بوعث تلك األرض‬ ‫كالذي قيل‪ :‬إن رجالا سلك مفازةا فيها ٌ‬
‫ذئب من أحد الذائب وأضراها؛ فلما رأى الرجل أن الذئب‬ ‫وخوفها؛ فلما سار غري بعيد اعرتض له ٌ‬

‫‪32‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫قاصد حنوه خاف منه‪ ،‬ونظر ميينا ومشاالا ليجد موضعا يتحرز فيه من الذئب فلم ير إال قري اة خلف واد؛‬
‫قوم‬
‫ورأى الذئب قد أدركه‪ ،‬فألقى نفسه يف املاء‪ ،‬وهو ال حيسن السباحة‪ ،‬وكاد يغرق‪ ،‬لوال أن بصر به ٌ‬
‫من أهل القرية؛ فتواقعوا إلخراجه ف أخرجوه‪ ،‬وقد أشرف على اهلالك؛ فلما حصل الرجل عندهم وأمن‬
‫على نفسه من غائلة الذئب رأى على عدوة الوادي بيتا مفردا؛ فقال‪ :‬أدخل هذا البيت فأسرتيح فيه‪.‬‬
‫فلما دخله وجد مجاعةا من اللصوص قد قطعوا الطريق على ٍ‬
‫رجل من التجار‪ .‬وهم يقتسمون ماله؛‬
‫ويريدون قتله؛ فلما رأى الرجل ذلك خاف على نفسه ومضى حنو القرية؛ فأسند ظهره إىل حائط من‬
‫حيطاهنا ليسرتيح مما حل به من اهلول واإلعياء‪ ،‬إذ سقط احلائط عليه فمات‪ .‬قال التاجر‪ :‬صدقت؛‬
‫ٍ‬
‫خمصب كثري املاء‬ ‫قد بلغين هذا احلديث‪ .‬وأما الثور فإنه خلص من مكانه وانبعث‪ .‬فلم يزل يف مرٍج‬
‫عظيم؛ وهو‬
‫والكأل؛ فلما مسن وأمن جعل خيور ويرفع صوته ابخلوار‪ .‬وكان قريب ا منه أمجةٌ فيها أس ٌد ٌ‬
‫منور؛ وكان هذا األسد منفردا‬ ‫وفود و ٌ‬
‫وذائب وبنات آوى وثعالب ٌ‬‫ٌ‬ ‫سباع كثريةٌ‬
‫ملك تلك الناحية‪ ،‬ومعه ٌ‬
‫أحد من أصحابه‪ .‬فلما مسع خوار الثور‪ ،‬ومل يكن رأى ثوراُ قط‪ ،‬وال مسع خواره؛‬ ‫أخذ برأي ٍ‬
‫برأيه دون ٍ‬
‫يوم على يد جنده‪ .‬وكان فيمن معه من‬ ‫ألنه كان مقيما مكانه ال يربح وال ينشط؛ بل يؤتى برزقه كل ٍ‬
‫أدب‪ .‬فقال دمنة ألخيه‬ ‫السباع ابنا آوى يقال ألحدمها كليلة ولآلخر دمنة؛ وكاان ذوي دهاء وعل ٍم و ٍ‬
‫كليلة‪ :‬اي أخي ما شأن األسد مقيما مكانه ال يربح وال ينشط? قال له كليلة‪ :‬ما شأنك أنت واملسألة‬
‫عن هذا? حنن على ابب ملكنا آخذين مبا أحب واتركني ملا يكره؛ ولسنا من أهل املرتبة اليت يتناول‬
‫أهلها كالم امللوك والنظر يف أمورهم‪ .‬فأمسك عن هذا‪ ،‬واعلم أنه من تكلف من القول والفعل ما ليس‬
‫من شأنه أصابه ما أصاب القرد من النجار‪ .‬قال دمنة‪ :‬وكيف كان ذلك? قال كليلة‪ :‬زعموا أن قردا‬
‫رأى جنارا يشق خشبة بني وتدين‪ ،‬وهو راكب عليها؛ فأعجبه ذلك‪ .‬مث إن النجار ذهب لبعض شأنه‪.‬‬
‫فقام القرد؛ وتكلف ما ليس من شغله‪ ،‬فركب اخلشبة‪ ،‬وجعل ظهره قبل الوتد‪ ،‬ووجهه قبل اخلشبة؛‬
‫فتدىل ذنبه يف الشق‪ ،‬ونزع الوتد فلزم الشق عليه فخر مغشي ا عليه‪ .‬فكان ما لقي من النجار من‬
‫الضرب أشد مما أصابه من اخلشبة‪ .‬قال دمنة‪ :‬قد مسعت ما ذكرت‪ ،‬ولكن اعلم أن كل من يدنو من‬
‫امللوك ليس يدنو منهم لبطنه‪ ،‬وإمنا يدنو منهم ليسر الصديق ويكبت العدو‪ .‬وإن من الناس من ال‬
‫مروءة له؛ وهم الذين يفرحون ابلقليل ويرضون ابلدون؛ كالكلب الذي يصيب عظما ايبسا فيفرح به‪.‬‬
‫أهل‬
‫وأما أهل الفضل واملروءة فال يقنعهم القليل‪ ،‬وال يرضون به‪ ،‬دون أن تسموا به نفوسهم إىل ما هم ٌ‬
‫أهل؛ كاألسد الذي يفرتس األرنب‪ ،‬فإذا رأى البعري تركها وطلب البعري‪ ،‬أال ترى أن‬
‫له‪ ،‬وهو أيضا هلم ٌ‬

‫‪33‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫الكلب يبصبص بذنبه‪ .‬حىت ترمى له الكسرة‪ ،‬وأن الفيل املعرتف بفضله وقوته إذا قدم إليه علفه ال‬
‫ٍ‬
‫وإفضال على أهله وإخوانه فهو وإن قل‬ ‫مال وكان ذا ٍ‬
‫فضل‬ ‫يعتلفه حىت ميسح ويتملق له‪ .‬قمن عاش ذا ٍ‬
‫وإمساك على نفسه وذويه فاملقبور أحيا منه‪ .‬ومن‬
‫ٌ‬ ‫ضيق وقلةٌ‬
‫عمره طويل العمر‪ .‬ومن كان يف عيشه ٌ‬
‫عمل لبطنه وقنع وترك ما سوى ذلك عد من البهائم‪.‬‬
‫قال كليلة‪ :‬قد فهمت ما قلت؛ فراجع عقلك‪ ،‬واعلم أن لكل ٍ‬
‫إنسان منزل اة وقدرا‪ .‬فإن كان يف منزلته‬
‫اليت هو فيها متماسك ا‪ ،‬كان حقيق ا أن يقنع‪ .‬وليس لنا من املنزلة ما حيط حالنا اليت حنن عليها‪ .‬قال‬
‫دمنة‪ :‬إن املنازل متنازعةٌ مشرتكةٌ على قدر املروءة؛ فاملرء ترفعه مروءته من املنزلة الوضيعة إىل املنزلة‬
‫الرفيعة؛ ومن ال مروءة له حيط نفسه من املنزلة الرفيعة إىل املنزلة الوضيعة‪ .‬إن االرتفاع إىل املنزلة الشريفة‬
‫عسر‪ ،‬ووضعه إىل األرض‬ ‫مهني؛ كاحلجر الثقيل‪ :‬رفعه من األرض إىل العاتق ٌ‬‫شدي ٌد‪ ،‬واالحنطاط منه ٌ‬
‫هني‪ .‬فنحن أحق أن نروم ما فوقنا من املنازل‪ ،‬وأن نلتمس ذلك مبروءتنا‪ .‬مث كيف نقنع هبا وحنن‬
‫ٌ‬
‫نستطيع التحول عنها? قال كليلة‪ :‬فما الذي اجتمع عليه رأيك? قال دمنة‪ :‬أريد أن أتعرض ألسد عند‬
‫هذه الفرصة‪ :‬فإن األسد ضعيف الرأي‪ .‬ولعلي على هذه احلال أدنو منه فأصيب عنده منزل اة ومكان اة‪.‬‬
‫قال كليلة‪ :‬وما يدريك أن األسد قد التبس عليه أمره? قال دمنة‪ :‬ابحلس والرأي أعلم ذلك منه‪ :‬فإن‬
‫الرجل ذا الرأي يعرف حال صاحبه وابطن أمره مبا يظهر له من دله وشكله‪ .‬قال كليلة‪ :‬فكيف ترجو‬
‫علم خبدمة السالطني? قال دمنة‪ :‬الرجل الشديد‬ ‫املنزلة عند األسد ولست بصاحب السلطان‪ ،‬وال لك ٌ‬
‫القوي ال يعجزه احلمل الثقيل‪ ،‬وإن مل تكن عادته احلمل؛ والرجل الضعيف ال يستقل به وإن كان ذلك‬
‫من صناعته‪ .‬قال كليلة‪ :‬فإن السلطان ال يتوخى بكرامته فضالء من حبضرته؛ ولكنه يؤثر األدىن ومن‬
‫قرب منه‪ .‬ويقال‪ :‬إ ن مثل السلطان يف ذلك مثل شجر الكرم الذي ال يعلق إال أبقرب الشجر‪ .‬وكيف‬
‫ترجو املنزلة عند األسد ولست تدنو منه? قال دمنة‪ :‬قد فهمت كالمك مجيعه وما ذكرت‪ ،‬وأنت‬
‫يب من السلطان وال ذلك يف موضعه وال تلك منزلته‪ ،‬ليس كمن‬ ‫صادق‪ .‬لكن اعلم أن الذي هو قر ٌ‬
‫ٌ‬
‫حق وحرمةٌ؛ وأان ملتمس بلوغ مكانتهم جبهدي‪ .‬وقد قيل‪ :‬ال يواظب على ابب‬ ‫دان منه بعد البعد وله ٌ‬
‫السلطان إال من يطرح األنفة وحيمل األذى ويكظم الغيظ ويرفق ابلناس ويكتم السر؛ فإذا وصل إىل‬
‫ذلك فقد بلغ مراده‪ .‬قال كليلة‪ :‬هبك وصلت إىل األسد‪ ،‬فما توفيقك عنده الذي ترجو أن تنال به‬
‫املنزلة واحلظوة لديه? قال دمنة‪ :‬لو دنوت منه وعرفت أخالقه‪ ،‬لرفقت يف متابعته وقلة اخلالف له‪ .‬وإذا‬
‫أراد أمرا هو يف نفسه صواب‪ ،‬زينته له وصربته عليه‪ ،‬وعرفته مبا فيه من النفع واخلري؛ وشجعته عليه‬

‫‪34‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫وعلى الوصول إليه‪ ،‬حىت يزداد به سرورا‪ .‬وإذا أراد أمرا مبا فيه الضر والشني‪ ،‬وأوقفته على ما يف تركه‬
‫من النفع والزين‪ ،‬حبسب ما أجد إليه السبيل‪ .‬وأان أرجو أن أزداد بذلك عند األسد مكان اة ويرى مين‬
‫ما ال يراه من غريي‪ :‬فإن الرجل األديب الرفيق لو شاء أن يبطل حقا أو حيق ابطالا لفعل‪ :‬كاملصور‬
‫ٍ‬
‫خبارجة‪ ،‬وأخرى كأهنا داخلةٌ وليست‬ ‫املاهر الذي يصور يف احليطان صورا كأهنا خارجةٌ وليست‬
‫بداخلة‪ .‬قال كليلة‪ :‬أما إن قلت هذا أو قلت هذا فإن أخاف عليك من السلطان فإن صحبته خطرةٌ‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫قليل‪ ،‬وهي‪ :‬صحبة‬‫وقد قالت العلماء‪ :‬إن أمورا ثالثة ال جيرتئ عليهن إال أهوج‪ ،‬وال يسلم منهن إال ٌ‬
‫السلطان‪ ،‬وائتمان النساء على األسرار‪ ،‬وشرب السم للتجربة‪ .‬وإمنا شبه العلماء السلطان ابجلبل‬
‫الصعب املرتقى الذي فيه الثمار الطيبة واجلواهر النفيسة واألدوية النافعة‪ .‬وهو مع ذلك معدن السباع‬
‫والنمور والذائب وكل ضا ٍر ٍ‬
‫خموف‪ .‬فاالرتقاء إليه شدي ٌد‪ ،‬واملقام فيه أشد‪ .‬قال دمنة‪ :‬صدقت فيما‬
‫ذكرت؛ غري أنه من مل يركب األهوال‪ ،‬مل ينل الرغائب؛ ومن ترك األمر الذي لعله يبلغ فيه حاجته هيبةا‬
‫وخماف اة ملا لعله أن يتوقاه‪ ،‬فليس ببال ٍغ جسيما‪ .‬وقد قيل‪ :‬إن خصاالا ثالًثا لن يستطيعها أحد إال ميعونة‬
‫مهة وعظيم خط ٍر‪ :‬منها عمل السلطان وجتارة البحر ومناجزة العدو‪ .‬وقد قالت العلماء يف‬ ‫من علو ٍ‬
‫الرجل الفاضل الرشيد‪ :‬إن ال يرى إال يف مكانني‪ ،‬وال يليق به غريمها‪ :‬إما مع امللوك مكرم ا‪ ،‬وإما مع‬
‫النساك متعبدا‪ ،‬كالفيل إمنا مجاله وهباؤه يف مكانتني‪ :‬إما أن تراه وحشيا وإما مركبا للملوك‪ .‬قال كليلة‪:‬‬
‫خار هللا لك فيما عزمت عليه‪.‬‬
‫مث إن دمنة انط لق حىت دخل األسد فسلم عيه‪ .‬فقال األسد لبعض جلسائه‪ :‬من هذا? فقال فالن بن‬
‫فالن‪ .‬قال‪ :‬قد كنت أعرف أابه‪ .‬مث سأله أين تكون? قال‪ :‬مل أزل مالزم ا ابب امللك‪ ،‬رجاء أن حيضر‬
‫أمر فأعني امللك به بنفسي ورأيي‪ :‬فإن أبواب امللك تكثر فيها األمور اليت رمبا حتتاج فيها إىل الذي ال‬
‫ٌ‬
‫يؤبه له؛ وليس أح ٌد يصغر أمره إال وقد يكون عنده بعض الغناء واملنافع على قدره؛ حىت العود امللقى‬
‫يف األرض رمبا نفع‪ ،‬فيأخذه الرجل فيكون عدته عند احلاجة إليه‪ .‬فلما مسع األسد قول دمنة أعجبه‪،‬‬
‫وظن أن عنده نصيحةا ورأايا‪ .‬فأقبل على من حضر فقال‪ :‬إن الرجل ذا العلم واملروءة يكون خامل‬
‫الذكر خافض املنزلة‪ ،‬فتأىب منزلته إال أن تشب وترتفع؛ كالشعلة من النار يضرهبا صاحبها وأتىب إال‬
‫ارتفاعا‪ .‬فلما عرف دمنة أن األسد قد عجب منه قال‪ :‬إن رعية امللك حتضر ابب امللك‪ ،‬رجاء أن‬
‫يعرف ما عندها من عل ٍم واف ٍر‪ .‬وقد يقال‪ :‬إن الفضل يف أمرين‪ :‬فضل املقاتل على املقاتل والعامل على‬
‫العامل‪ .‬وإن كثرة األعوان إذا مل يكونوا خمتربين رمبا تكون مضرةا على العمل‪ :‬فإن العمل ليس رجاؤه‬

‫‪35‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫بكثرة األعوان ولكن بصاحلي األعوان‪ .‬ومثل ذلك مثل الرجل الذي حيمل احلجر الثقيل‪ ،‬فيقل به‬
‫نفسه‪ ،‬وال جيد له مثن ا‪ .‬والرجل الذي حيتاج إىل اجلذوع ال جيزئه القصب وإن كثر‪ .‬فأنت اآلن أيها‬
‫حقيق أال حتقر مروءةٌ أنت جتدها عند رجل صغري املنزلة‪ :‬فإن الصغري رمبا عظم‪ ،‬كالعصب يؤخذ‬ ‫امللك ٌ‬
‫من امليتة فإذا عمل منه القوس أكرم‪ ،‬فتقبض عليه امللوك وحتتاج إليه يف البأس واللهو‪.‬‬
‫وأحب دمنة أن يري القوم أن ما انله من كرامة امللك غنما هو لرأيه ومروءته وعقله‪ :‬ألهنم عرفوا قبل‬
‫ذلك أن ذلك ملعرفته أابه‪ ،‬فقال‪ :‬إن السلطان ال يقرب الرجال لقرب آابئهم‪ ،‬وال يبعدهم لبعدهم‪،‬‬
‫رجل مبا عنده‪ :‬ألنه ال شيء أقرب إىل الرجل من جسده ومن جسده ما‬ ‫ولكن ينبغي أن ينظر إىل كل ٍ‬
‫يدوى حىت يؤذيه وال يدفع ذلك عنه إال ابلدواء الذي أيتيه من بعد‪.‬‬
‫فلما فرغ دمنة من مقالته هذه أعجب امللك به إعجاابا شديدا‪ ،‬وأحسن الرد عليه‪ ،‬وزاد يف كرامته‪ .‬مث‬
‫رجل‬
‫قال جللسائه‪ :‬ينبغي للسلطان أال يلج يف تضييع حق ذوي احلقوق‪ .‬والناس يف ذلك رجالن‪ٌ :‬‬
‫طبعه الشراسة‪ ،‬فهو كاحلية إن وطئها الواطئ فلم تلدغه‪ ،‬مل يكن جديرا أن يغره ذلك منها‪ ،‬فيعود إىل‬
‫ورجل أصل طباعه السهولة‪ ،‬فهو كالصندل البارد الذي إذا أفرط يف حكه صار‬‫وطئها ًثنية فتلدغه؛ ٌ‬
‫حارا مؤذايا‪.‬‬
‫مكان و ٍ‬
‫احد ال يربح منه‪ ،‬فما‬ ‫مث إن دمنة استأنس ابألسد وخال به‪ .‬فقال يوما‪ :‬أرى امللك قد أقام يف ٍ‬
‫سبب ذلك? فبينما مها يف هذا احلديث إذ خار شرتبة خوارا شديدا‪ :‬فهيج األسد وكره أن خيرب دمنة مبا‬
‫انله؛ وعلم دمنة أن ذلك الصوت قد أدخل على األسد ريب اة وهيب اة‪ .‬فسأله‪ :‬هل راب امللك مساع هذا‬
‫حبقيق أن يدع مكانه ألجل ٍ‬
‫صوت‪.‬‬ ‫الصوت? قال مل يربين شيءٌ سوى ذلك‪ .‬قال دمنة‪ :‬ليس امللك ٍ‬
‫فقد قالت العلماء‪ :‬إن ليس من كل األصوات جتب اهليبة‪ .‬قال األسد‪ :‬وما مثل ذلك?‬
‫قال دمنة‪ :‬زعموا أن ثعلبا أتى أمج اة فيها طبل معلق على شجرٍة‪ ،‬وكلما هبت الريح على قضبان تلك‬
‫عظيم؛ فتوجه الثعلب حنوه ألجل ما مسع من عظم‬‫صوت ٌ‬ ‫الشجرية حركتها‪ ،‬فضربت الطبل فسمع له ٌ‬
‫صوته؛ فلما أاته وجده ضخم ا‪ ،‬فأيقن يف نفسه بكثرة الشحم واللحم‪ .‬فعاجله حىت شقه‪ .‬فلما رآه‬
‫أجوف ال شيء فيه‪ ،‬قال‪ :‬ال أدري لعل أفشل األشياء أجهرها صواتا وأعظمها جث اة‪ .‬وإمنا ضربت لك‬
‫هذا املثل لتعلم أن هذا الصوت الذي راعنا‪ ،‬لو وصلنا إليه‪ ،‬لوجدانه ايسر مما يف أنفسنا‪ .‬فإن شاء‬
‫امللك بعثين وأقام مبكانه حىت آتيه ببيان هذا الصوت‪ .‬فوافق األسد قوله‪ ،‬فأذن له ابلذهاب حنو‬
‫الصوت‪ .‬فانطلق دمنة إىل املكان الذي فيه شرتبة‪ .‬فلما فصل دمنة من عند األسد‪ ،‬فكر األسد يف‬

‫‪36‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أمره‪ ،‬وندم على إرسال دمنة حيث أرسله‪ ،‬وقال يف نفسه‪ :‬وأصبت يف ائتماين دمنة‪ ،‬وقد كان ببايب‬
‫مطروح ‪ ،‬فإن الرجل إذا كان حيضر ابب امللك‪ ،‬وقد أبطلت حقوقه من غري ٍ‬
‫جرم كان منه‪ ،‬أو كان‬ ‫ا‬
‫وضيق فلم‬
‫ضر ٌ‬ ‫مبغيا عليه عند سلطانه؛ أو كان عنده معروفا ابلشره واحلرص‪ ،‬أو كان قد أصابه ٌ‬
‫ينعشه‪ ،‬أو كان قد اجرتم جرما فهو خياف العقوبة منه‪ ،‬أو كان يرجو شيئا يضر امللك وله منه نفع؛ أو‬
‫خياف يف ٍ‬
‫شيء مما ينفعه ضرا‪ ،‬أو كان لعدو امللك مساملا‪ ،‬وملسامله حمارابا‪ ،‬فليس السلطان ٍ‬
‫حبقيق أن‬
‫يب‪ .‬وقد كان ببايب مطروح ا جمفوا‪.‬‬
‫يعجل ابالسرتسال إليه‪ ،‬والثقة به‪ ،‬واالئتمان له‪ :‬فإن دمنة داهيةٌ أر ٌ‬
‫ولعله قد احتمل علي بذلك ضغنا‪ ،‬ولعل ذلك حيمله على خيانيت وإعانة عدوي ونقيصيت عنده؛ ولعله‬
‫علي‪ .‬مث قام من مكانه فمشى‬
‫صادف صاحب الصوت أقوى سلطاانا مين فريغب به عين ومييل مع ّ‬
‫بعيد‪ ،‬فبصر بدمنة مقبالا حنوه فطابت نفسه بذلك‪ ،‬ورجع إىل مكانه‪ ،‬ودخل دمنة على األسد‬ ‫غري ٍ‬
‫فقال له‪ :‬ماذا صنعت? وماذا رأيت? قال‪ :‬رأيت ثورا هو صاحب اخلوار والصوت الذي مسعته‪ .‬قال‪:‬‬
‫فما قوته? قال‪ :‬ال شوكة له‪ .‬وقد دنوت منه وحاورته حماورة األكفاء وال يصغرن عندك أمره‪ :‬فإن الريح‬
‫الشديدة ال تعبأ بضعيف احلشيش‪ ،‬لكنها حتطم طوال النخل وعظيم الشجر‪ .‬قال دمنة‪ :‬ال هتابن أيها‬
‫امللك منه شيئ ا؛ وال يكربن عليك أمره‪ :‬فأان آتيك به ليكون لك عبدا سامع ا مطيع ا‪ .‬قال األسد‪:‬‬
‫دونك وما بدا لك‪.‬‬
‫فانطلق دمنة إىل الثور‪ ،‬فقال له غري هائب وال مكرتث‪ :‬إن األسد أرسلين إليك آلتيه بك‪ .‬وأمرين‪ ،‬إن‬
‫أنت عجلت إليه طائعا‪ ،‬أو أؤمنك على ما سلف من ذنبك يف التأخر عنه وتركك لقاءه؛ وإن أنت‬
‫أتخرت عنه وأحجمت‪ ،‬أن أعجل اجلرعة إليه فأخربه‪ .‬قال له شرتبة‪ :‬ومن هو هذا األسد الذي‬
‫كثري من‬
‫أرسلك إيل? وأين هو? وما حاله? قال دمنة‪ :‬هو ملك السباع‪ ،‬وهو مبكان كذا‪ ،‬ومعه جن ٌد ٌ‬
‫جنسه فرعب شرتبة من ذكر األسد والسباع‪ .‬وقال‪ :‬إن أنت جعلت يل األمان على نفسي أقبلت‬
‫معك إليه‪ .‬فأعطاه دمنة من األمان ما وثق به‪ .‬مث أقبل والثور معه‪ ،‬حىت دخال على األسد فأحسن‬
‫وقربه؛ وقال له‪ :‬مىت قدمت هذه البالد? وما أقدمكها? فقص شرتبة عليه قصته‪ .‬فقال‬ ‫األسد إىل الثور ّ‬
‫له األسد اصحبين والزمين‪ :‬فإين مكرمك‪ .‬فدعا الثور وأثىن عليه‪.‬‬
‫مث إن األسد قرب شرتبة وأكرمه وأنس به وأمتنه على أسراره وشاوره يف أمره‪ ،‬ومل تزده األايم إال عجبا به‬
‫ورغب اة فيه وتقريب ا منه؛ حىت صار أخص أصحابه عنده منزل اة‪ .‬فلما رأى دمنة أن الثور قد اختص‬
‫ابألسد دونه ودون أصحابه‪ ،‬وأنه قد صاد صاحب رأيه وخلواته وهلوه‪ ،‬حسده حسدا عظيما‪ ،‬وبلغ منه‬

‫‪37‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫غيظه كل مبلغ‪ :‬فشكا ذلك إىل أخيه كليلة‪ ،‬وقال له‪ :‬أال تعجب اي أخي من عجز رأيي‪ ،‬وصنعي‬
‫بنفسي? ونظري فيما ينفع األسد‪ ،‬وأغفلت نفع نفسي حىت جلبت إىل األسد ثورا غلبين على منزليت‪.‬‬
‫قال كليلة‪ :‬أخربين عن رأيك وما تريد أن تعرم عليه يف ذلك‪ .‬قال دمنة‪ :‬أما أان فلست اليوم أرجو أن‬
‫تزداد منزليت عند األسد فوق ما كانت عليه؛ ولكن ألتمس أن أعود إىل ما كنت عليه‪ :‬فإن أمورا ثالث اة‬
‫العاقل جدير ابلنظر فيها‪ ،‬واالحتيال هلا جبهده‪ :‬منها النظر فيما مضى من الضر والنفع‪ ،‬فيحرتس من‬
‫الضر الذي أص ابه فيما سلف لئال يعود إىل ذلك الضر‪ ،‬ويلتمس النفع الذي مضى وحيتال ملعاودته؛‬
‫ومنها النظر فيما هو مقيم فيه من املنافع واملضاء‪ ،‬واالستيثاق مبا ينفع واهلرب مما يضر؛ ومنها النظر يف‬
‫مستقبل ما يرجو من قبل النفع‪ ،‬وما خياف من قبل الضر‪ ،‬فيستتم ما يرجو ويتوقى ما خياف جبهده‪.‬‬
‫وإين ملا نظرت يف األمر الذي به أرجو أن تعود منزليت‪ ،‬وما غلبت عليه مما كنت فيه‪ ،‬مل أجد حيل اة وال‬
‫وجه ا إال االحتيال آلكل العشب هذا‪ ،‬حىت أفرق بينه وبني احلياة‪ :‬فإنه إن فارق األسد عادت يل‬
‫يق أن يشينه ويضره يف أمره‪ .‬قال‬ ‫منزليت‪ .‬ولعل ذلك يكون خريا لألسد‪ :‬فإن إفراطه يف تقريب الثور خل ٌ‬
‫كليلة‪ :‬ما أرى على األسد يف رأيه يف الثور ومكانه منه ومنزلته عنده شينا وال شرا‪ .‬قال دمنة‪ :‬إمنا يؤتى‬
‫السلطان ويفسد أمره من قبل ستة أشياء‪ :‬احلرمان والفتنة واهلوى والفظاظة والزمان واخلرق‪.‬‬
‫فأما احلرمان فأن حيرم صاحل األعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة واألمانة‪ ،‬وترك التفقد‬
‫ملن هو كذلك‪ .‬وأما الفتنة فهي حتارب الناس ووقوع احلرب بينهم‪ .‬وأما اهلوى فالغرام ابحلدث واللهو‬
‫والشراب والصيد وما أشبه ذلك‪ .‬وأما الفظاظة فهي إفراط الشدة حىت جيمح اللسان ابلشتم واليد‬
‫ابلبطش يف غري موضعه ما‪ .‬وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنني واملوت ونقص الثمرات‬
‫والغزوات وأشباه ذلك‪ .‬وأما اخلرق فإعمال الشدة يف موضع اللني‪ ،‬واللني يف موضع الشدة‪ .‬وإن األسد‬
‫قد أغرم ابلثور إغراما شديدا هو الذي ذكرت لك أنه خليق ألن يشينه ويضره يف أمره‪ .‬قال كليلة‪:‬‬
‫وكيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على األسد وأكثر أعواانا? قال دمنة‪ :‬ال تنظر إىل صغري‬
‫ٍ‬
‫ضعيف قد‬ ‫وضعفي‪ :‬فإن األمور ليست ابلضعف وال القوة وال الصغر وال الكرب يف اجلثة‪ :‬فرب صغ ٍري‬
‫بلغ حيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثري من األقوايء‪ .‬أومل يبلغك أن غراابا ضعيفا احتال ألسود حىت‬
‫كر يف شجرٍة على ٍ‬
‫جبل؛ وكان‬ ‫قتله? قال كليلة‪ :‬وكيف كان ذلك? قال دمنة‪ :‬زعموا أن غراابا كان له و ٌ‬
‫قريب ا منه حجر ٍ‬
‫ثعبان أسود‪ ،‬فكان الغراب إذا فرخ عمد األسود إىل فراخه فأكله؛ فبلغ ذاك من الغراب‬
‫وأحزنه‪ ،‬فشكا ذلك إىل صديق له من بنات آوى؛ وقال له‪ :‬أريد مشاورتك يف أم ٍر قد عزمت عليه؛‬

‫‪38‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫قال‪ :‬وما هو? قال الغراب‪ :‬قد عزمت أن أذهب اليوم إىل األسود إذا انم‪ ،‬فأنقر عينيه‪ ،‬فأفقأمها‪ ،‬لعلي‬
‫أسرتيح منه‪ .‬قال ابن آوى‪ :‬بئس احليلة اليت احتلت؛ فالتمس أمرا تصيب فيه بغيتك من األسود‪ ،‬من‬
‫غري أن تغرر بنفسك وختاطر هبا‪ .‬وإايك أن يكون مثلك مثل العلجوم الذي أراد قتل السرطان فقتل‬
‫نفسه‪ .‬قال الغراب‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫عشش يف ٍ‬
‫أمجة كبرية السمك؛ فعاش هبا ما عاش؛ مث هرم فلم يستطع‬ ‫قال ابن آوى‪ :‬زعموا أن علجوما ّ‬
‫جوع وجه ٌد شدي ٌد؛ فجلس حزين ا يلتمس احليلة يف أمره؛ فمر به سرطا ٌن‪ ،‬فرأى حالته‬
‫صيدا؛ فأصابه ٌ‬
‫وما هو عليه من الكآبة واحلزن؛ فدان منه وقال‪ :‬مايل أراك أيها الطائر هكذا حزينا كئيبا? قال العلجوم‪:‬‬
‫وكيف ال أحزن وقد كنت أعيش من صيد ما ها هنا من السمك? وإين قد رأيت اليوم صيادين قد مرا‬
‫هبذا املكان؛ فقال أحدمها لصاحبه‪ :‬إن ها هنا مسك ا كثريا أفال نصيده أوالا? فقال اآلخر‪ :‬إين قد رأيت‬
‫يف مكان كذا مسك ا أكثر من هذا السمك‪ ،‬فلنبدأ بذلك‪ ،‬فإذا فرغنا منه جئنا إىل هذا فأفنيناه‪ .‬وقد‬
‫علمت أهنما إذا فرغا مما هناك‪ ،‬انتهيا إىل هذه األمجة فاصطادا ما فيها؛ فإذا كان ذلك فهو هالكي‬
‫ونفاذ مديت‪ .‬فانطلق السرطان من ساعته إىل مجاعة السمك فأخربهن بذلك؛ فأقبلن إىل العلجوم‬
‫فاستشرنه؛ وقلن له‪ :‬إان أتينا لك لتشري علينا‪ :‬فإن ذا العقل ال يدع مشاورة عدوه‪ .‬قال العلجوم‪ :‬أما‬
‫مسك‬
‫يب من ها هنا‪ ،‬فيه ٌ‬ ‫مكابرة الصيادين فال طاقة يل هبا؛ وال أعلم حيلةا إال املصري إىل غدي ٍر قر ٍ‬
‫وقصب‪ ،‬ف إن استطعن االنتقال إليه‪ ،‬كان فيه صالحكن وخصبكن‪ .‬فقلن له‪ :‬ما مين‬ ‫ٌ‬ ‫ومياهٌ عظيمةٌ‬
‫علينا بذلك غريك‪ .‬فجعل العلجوم حيمل يف كل يوم مسكتني حىت ينتهي هبما إىل بعض التالل‬
‫فيأكلهما؛ حىت إذا كان ذات يوم جاء ألخذ السمكتني؛ فجاءه السرطان؛ فقال له‪ :‬إين أيض ا قد‬
‫أشفقت من مكاين هذا واستوحشت منه فاذهب يب إىل ذلك الغدير؛ فاحتمله وطار به‪ ،‬حىت إذا دان‬
‫من التل الذي كان أيكل السمك فيه نظر السرطان فرأى عظام السمك جمموع اة هناك؛ فعلم أن‬
‫العلجوم هو صاحبها؛ وأنه يريد به مثل ذلك‪ .‬فقال يف نفسه‪ :‬إذا لقي الرجل عدوه يف املواطن اليت‬
‫يعلم أنه فيها هالك‪ .‬سواءٌ قاتل أم مل يقاتل؛ كان حقيق ا أن يقاتل عن نفسه كرم ا وحفاظ ا ‪ ،‬مث أهوى‬
‫بكلبتيه على عنق العلجوم‪ ،‬فعصره فمات؛ وختلص السرطان إىل مجاعة السمك فأخربهن بذلك‪ .‬وإمنا‬
‫ضربت لك هذا املثل لتعلم أن بعض احليلة مهلكة للمحتال ولكين أدلك على أم ٍر‪ ،‬إن أنت قدرت‬
‫عليه‪ ،‬كان فيه هالك األسود من غري أن هتلك به نفسك‪ ،‬وتكون فيه سالمتك‪ .‬قال الغراب وما ذاك?‬
‫قال ابن آوى‪ :‬تنطلق فتبصر يف طريانك‪ :‬لعلك أن تظفر ٍ‬
‫بشيء من حلي النساء فتخطفه؛ وال تزال‬

‫‪39‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫طائرا واقعا‪ ،‬حبيث ال تفوت العيون‪ ،‬حىت أتيت حجر األسود فرتمي ابحللي عنده‪ .‬فإذا رأى الناس ذلك‬
‫أخذوا حليهم وأراحوك من األسود‪ .‬فانطلق الغراب حملقا يف السماء؛ فوجد امرأةا من بنات العظماء‬
‫فوق سطح تغتسل؛ وقد وضعت ثياهبا وحليها انحي اة؛ فانقض واختطف من حليها عقدا‪ ،‬وطار به‪،‬‬
‫فتبعه الناس؛ ومل يزل طائرا واقعا‪ ،‬حبيث يراه كل ٍ‬
‫أحد؛ حىت انتهى األمر إىل جحر األسود؛ فألقى العقد‬
‫عليه‪ ،‬والناس ينظرون إليه‪ .‬فلما أتوه أخذوا العقد وقتلوا األسود‪ .‬وإمنا ضربت لك هذا املثل لتعلم أن‬
‫احليلة جترئ ماال جتزئ القوة‪ .‬قال كليلة‪ :‬إن الثور لو مل جيتمع مع شدته رأيه لكان كما تقول‪ .‬ولكن له‬
‫مع شدته وقوته حسن الرأي والعقل‪ .‬فماذا تستطيع له? قال دمنة‪ :‬إن الثور لكما ذكرت يف قوته‬
‫مقر يل ابلفضل؛ وأان خليق أن اصرعه كما صرعت األرنب األسد‪ .‬قال كليلة‪ :‬وكيف‬ ‫ورأيه‪ ،‬ولكنه ٌ‬
‫كان ذلك?‬
‫أرض كثرية املياه والعشب؛ وكان يف تلك األرض من الوحوش يف‬ ‫قال دمنة‪ :‬زعموا أن أسدا كان يف ٍ‬
‫كثري؛ إال أنه مل يكن ينفعها ذلك خلوفها من األسد؛ فاجتمعت وأتت إىل‬
‫سعة املياه واملرعى شيءٌ ٌ‬
‫أمن‬
‫األسد‪ ،‬فقالت له‪ :‬إنك لتصيب منا الدابة بعد اجلهد والتعب؛ وقد رأينا لك رأايا فيه صالح لك و ٌ‬
‫لنا‪ .‬فإن أنت امنتنا ومل ختفنا‪ ،‬فلك علينا يف كل ٍ‬
‫يوم دابةٌ نرسل هبا إليك يف وقت غدائك‪ :‬فرضي‬
‫األسد بذلك‪ ،‬وصاحل الوحوش عليه‪ ،‬ووفني له به‪ .‬مث إن أرنبا أصابتها القرعة‪ ،‬وصارت غداء األسد؛‬
‫فقالت للوحوش‪ :‬إن أننت رفقنت يب فيما ال يضركن؛ رجوت أن أرحيكن من األسد‪ .‬فقالت الوحوش‪:‬‬
‫وما الذي تكلفيننا من األمور? قالت‪ :‬أتمرن الذي ينطلق يب إىل األسد أن ميهلين ريثما أبطئ عليه‬
‫بعض اإلبطاء‪ .‬فقلن هلا ذلك لك‪ .‬فانطلقت األرنب متباطئةا؛ حىت جاوزت الوقت الذي كان يتغدى‬
‫فيه األسد‪ .‬مث تقدمت إليه وحدها رويدا‪ ،‬وقد جاع؛ فغضب وقام من مكانه حنوها؛ فقال هلا‪ :‬من أين‬
‫نب لك‪ ،‬فتبعين أس ٌد يف بعض تلك الطريق‪،‬‬
‫أقبلت? قالت‪ :‬أان رسول الوحوش إليك‪ :‬بعثين ومعي أر ٌ‬
‫فأخذها مين‪ ،‬وقال‪ :‬أان أوىل هبذه األرض وما فيها من الوحش‪ .‬فقلت‪ :‬إن هذا غداء امللك أرسلين به‬
‫الوحوش إليه‪ .‬فال تغصبنه‪ ،‬فسبك وشتمك‪ .‬فأقبلت مسرعةا ألخربك‪ .‬فقال األسد‪ :‬انطلقي معي فأريين‬
‫صاف؛ فاطلعت فيه‪ ،‬وقالت‪ :‬هذا‬ ‫موضع هذا األسد‪ .‬فانطلقت األرنب إىل جب فيه ماء غامر ٍ‬
‫ٌ ٌ‬
‫املكان‪ .‬فاطلع األسد‪ ،‬فرأى ظله وظل األرنب يف املاء؛ فلم يشك يف قوهلا؛ ووثب إليه ليقاتله‪ ،‬فغرق‬
‫يف اجلب‪ .‬فانقلبت األرنب إىل الوحوش فأعلمتهن صنيعها ابألسد‪ .‬قال كليلة‪ :‬إن قدرت على هالك‬
‫الثور ٍ‬
‫بشيء ليس فيه مضرةٌ لألسد فشأنك‪ :‬فإن الثور قد أضر يب وبك وبغريان من اجلند؛ وإن أنت مل‬

‫‪40‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫غدر مين ومنك‪ .‬مث إن دمنة ترك الدخول على‬‫تقدر على ذلك إال هبالك األسد‪ ،‬فال تقدم عليه؛ فإنه ٌ‬
‫األسد أايم ا كثريةا؛ مث أاته على خلوةٍ منه؛ فقال له األسد‪ :‬ما حبسك عين? منذ زمان مل أرك‪ .‬أال خل ٍري‬
‫أمر? قال دمنة‪ :‬حدث‬‫كان انقطاعك? قال دمنة‪ :‬فليكن خريا أيها امللك‪ .‬قال األسد‪ :‬وهل حدث ٌ‬
‫فظيع‪ .‬قال‪ :‬أخربين به‪ .‬قال‬
‫كالم ٌ‬
‫ما مل يكن امللك يريده وال أحد من جنده‪ .‬قال‪ :‬وما ذاك? قال‪ٌ :‬‬
‫ٍ‬
‫فضيلة‪ ،‬ورأيك يدلك على‬ ‫كالم يكرهه سامعه‪ ،‬وال يشجع عليه قائله‪ .‬وإنك أيها امللك لذو‬
‫دمنة إنه ٌ‬
‫أن يوجعين أن أقول ما تكره؛ وأثق بك أن تعرف نصحي وإيثاري إايك على نفسي‪ .‬وإنه ليعرض يل‬
‫أنك غري مصدقي فيما أخربك به؛ ولكين إذا تذكرت وتفكرت أن نفوسنا‪ ،‬معاشر الوحوش‪ ،‬متعلقةٌ‬
‫بك مل أجد بدا من أداء احلق الذي يلزمين وإن أنت مل تسألين وخفت أال تقبل مين فإنه يقال‪ :‬من كتم‬
‫السلطان نصيحته واإلخوان رأيه فقد خان نفسه‪ .‬قال األسد‪ :‬فما ذاك? قال دمنة‪ :‬حدثين األمني‬
‫الصدوق عندي أن شرتبة خال برءوس جندك‪ ،‬وقال‪ :‬قد خربت األسد وبلوت رأيه ومكيدته وقوته‪:‬‬
‫فاستبان يل أن ذلك يئول منه إىل ٍ‬
‫ضعف وعج ٍز‪ ،‬وسيكون يل وله شأ ٌن من الشئون‪ .‬فلما بلغين ذلك‬
‫غدار؛ وأنك أكرمته الكرامة كلها‪ ،‬وجعلته نظري نفسك‪ ،‬وهو يظن أنه مثلك‪.‬‬ ‫علمت أن شرتبة خوا ٌن ٌ‬
‫وأنك مىت زلت عن مكانك صار له ملكك؛ وال يدع جهدا إال بلغه فيك‪ .‬وقد كان يقال‪ :‬إذا عرف‬
‫امللك من الرجل أنه قد ساواه يف املنزلة واحلال‪ ،‬فليصرعه؛ فإن مل يفعل به ذلك‪ ،‬كان هو املصروع‪.‬‬
‫وشرتبة أعلم ابألمور وأبلغ فيها؛ والعاقل هو الذي حيتال لألمر قبل متامه ووقوعه‪ :‬فإنك ال أتمن أن‬
‫وعاجز؛ فأحد احلازمني من إذا نزل به‬
‫ٌ‬ ‫حازم وأحزم منه‬
‫يكون وال تستدركه‪ .‬فإنه يقال‪ :‬الرجال ثالثةٌ‪ٌ :‬‬
‫األمر مل يدهش له‪ ،‬ومل يذهب قلبه شعاع ا ‪ ،‬ومل تعي به حيلته ومكيدته اليت يرجو هبا املخرج منه؛‬
‫وأحزم من هذا املتقدم ذو العدة الذي يعرف االبتالء قبل وقوعه‪ ،‬فيعظمه إعظاما‪ ،‬وحيتال له حىت كأنه‬
‫قد لزمه‪ :‬فيحسم الداء قبل أن يبتلي به‪ ،‬ويدفع األمر قبل وقوعه‪ .‬وأما العاجز فهو يف ٍ‬
‫تردد ومت ٍن وتو ٍان‬
‫حىت يهلك‪ .‬ومن أمثال ذلك مثل السمكات الثالث‪ .‬قال األسد‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫ٍ‬
‫مسكات‪ :‬كيسةٌ وأكيس منها وعاجزةٌ؛ وكان ذلك الغدير‬ ‫قال دمنة‪ :‬زعموا أن غديرا كان فيه ثالث‬
‫بنجواة من األرض ال يكاد يقربه أح ٌد وبقربه هنر جا ٍر‪ .‬فاتفق أنه اجتاز بذلك النهر صيادان؛ فأبصرا‬
‫الغدير‪ ،‬فتواعدا أن يرجعا إليه بشباكهما فيصيدا ما فيه من السمك‪ .‬فسمع السمكات قوهلما‪ :‬فأما‬
‫شيء حىت خرجت من‬ ‫أكيسهن ملا مسعت قوهلما‪ ،‬واراتبت هبما‪ ،‬وختوفت منهما؛ فلم تعرج على ٍ‬
‫املكان الذي يدخل فيه املاء من النهر إىل الغدير‪ .‬وأما الكيسة فإهنا مكثت مكاهنا حىت جاء‬

‫‪41‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫الصيادان؛ فلما رأهتما‪ ،‬وعرفت ما يريدان‪ ،‬ذهبت لتخرج من حيث يدخل املاء؛ فإذا هبما قد سدا‬
‫ٍ‬
‫فحينئذ قالت‪ :‬فرطت‪ ،‬وهذه عاقبة التفريط؛ فكيف احليلة على هذه احلال‪ .‬وقلما تنجع‬ ‫ذلك املكان‬
‫حيلة العجلة واإلرهاق ‪ ،‬غري أن العاقل ال يقنط من منافع الرأي‪ ،‬وال ييئس على ٍ‬
‫حال‪ ،‬وال يدع الرأي‬
‫واجلهد‪ .‬مث إهنا متاوتت فطفت على وجه املاء منقلبة على ظهرها اتراة‪ ،‬واتراة على بطنها؛ فأخذها‬
‫تزل يف‬
‫الصيادان فوضعاها على األرض بني النهر والغدير؛ فوثبت إىل النهر فنجت‪ .‬وأما العاجزة فما ْ‬
‫إقبال وإدابر حىت صيدت‪.‬‬
‫قال األسد‪ :‬قد فهمت ذلك؛ وال أظن الثور يغشين ويرجو يل الغوائل ‪ .‬وكيف يفعل ومل ير مين سوءا‬
‫ُّ‬
‫قط? ومل أدع خريا إال فعلته معه? وال أمني اة إال بلغته إايها?‪ .‬قال دمنة‪ :‬إن اللئيم ال يزال انفعا انصحا‬
‫حىت يرفع إىل املنزلة اليت ليس هلا أبهل؛ فإذا بلغها التمس ما فوقها؛ وال سيما أهل اخليانة والفجور‪:‬‬
‫فإن اللئيم الفاجر ال خيدم السلطان وال ينصح له إال من ٍ‬
‫فرق ‪ .‬فإذا استغىن وذهبت اهليبة عاد إىل‬
‫جوهره؛ كذنب الكلب الذي يربط ليستقيم فال يزال مستوايا ما دام مربوطا؛ فإذا حل احنىن واعوج كما‬
‫كان‪ .‬واعلم أيها امللك أنه من مل يقبل من نُصائِحه ما يثقل عليه مما ينصحون له به‪ ،‬مل حيمد رأيه؛‬
‫كاملريض الذي يدع ما يبعث له الطبيب؛ ويعمد إىل ما يشتهيه‪ .‬وحق على موازر السلطان أن يبالغ يف‬
‫التحضيض له على ما يزيد من سلطانه قواة ويزينه؛ والكف عما يضره ويشينه؛ وخري اإلخوان واألعوان‬
‫بطر؛‬
‫أقلهم مداهنة يف النصيحة؛ وخري الثناء ما كان على أفواه األخيار؛ وأشرف امللوك من مل خيالطه ٌ‬
‫وخري األخالق أعوهنا على الورع‪ .‬وقد قيل‪ :‬لو أن أمرا توسد النار وافرتش احليات‪ ،‬كان أحق أال يهنئه‬
‫النوم‪ .‬والرجل إذا أحس من صاحبه بعداوةٍ يريده هبا؛ ال يطمئن إليه؛ وأعجز امللوك آخذهم ابهلويىن‪،‬‬
‫وأقلهم نظرا يف مستقبل األمور‪ .‬وأشبههم ابلفيل اهلائج الذي ال يلتفت إىل ٍ‬
‫شيء‪ :‬فإن حز به أمر‬
‫هتاون به‪ ،‬وإن أضاع األمور محل ذلك على قرانئه‪ .‬قال له األسد‪ :‬لقد أغلظت يف القول؛ وقول‬
‫حممول‪ .‬وإن كان شرتبة معادايا يل‪ ،‬كما تقول‪ ،‬فإنه ال يستطيع يل ضرا؛ وكيف يقدر‬
‫مقبول ٌ‬
‫الناصح ٌ‬
‫على ذلك وهو آكل عشب وأان آكل حلم? وإمنا هو يل طعام‪ ،‬وليس علي منه خمافةٌ‪ .‬مث ليس إىل‬
‫الغدر به سبيل بعد األمان الذي جعلته له‪ ،‬وبعد إكرامي له‪ ،‬وثنائي عليه‪ .‬وإن غريت ما كان مين‬
‫وبدلته‪ .‬سفهت رأيي وجهلت نفسي وغدرت بذميت‪ .‬قال دمنة‪ :‬ال يغرنك قولك‪ :‬هو يل طعام وليس‬
‫علي منه خمافةٌ‪ :‬فإن شرتبة إن مل يستطعك بنفسه احتال لك من قبل غريه‪ .‬ويقال‪ :‬إن استضافك‬

‫‪42‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫ضيف ساع اة من هنا ٍر‪ ،‬وأنت ال تعرف أخالقه فال أتمنه على نفسك؛ وال أتمن أن يصلك منه أو‬
‫ٌ‬
‫بسببه ما أصاب القملة من الربغوث‪ .‬قال األسد‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫انئم ال‬
‫رجل من األغنياء دهرا فكانت تصيب من دمه وهو ٌ‬‫قال دمنة‪ :‬زعموا أن قملة لزمت فراش ٍ‬
‫برغوث؛ فقالت له‪ :‬بت‬
‫ٌ‬ ‫يشعر‪ ،‬وتدب دبيبا رفيقا؛ فمكث كذلك حينا حىت استضافها ليل اة من الليايل‬
‫ني؛ فأقام الربغوث عندها حىت إذا أوى الرجل إىل فراشه وثب عليه‬‫اش ل ٍ‬ ‫الليلة عندان يف ٍدم ٍ‬
‫طيب وفر ٍ‬
‫الربغوث فلدغه لدغةا أيقظته؛ وأطارت النوم عنه؛ فقام الرجل وأمر أن يفتش فراشه؛ فنظر فلم ير إال‬
‫القملة؛ فأخذت فقصعت وفر الربغوث‪ .‬وإمنا ضربت لك هذا املثل لتعلم أن صاحب الشر بسببه‪ .‬وإن‬
‫كنت ال ختاف من شرتبة‪ ،‬فخف غريه من جندك الذين قد محلهم عليك وعلى عداوتك‪ .‬فوقع يف‬
‫نفس األسد كالم دمنة‪ .‬فقال‪ :‬فما الذي ترى إذا? ومباذا تشري? قال دمنة‪ :‬إن الضرس ال يزال‬
‫متآكالا‪ ،‬وال يزال صاحبه منه يف أٍمل وأ اذى حىت يفارقه‪ .‬والطعام الذي قد عفن يف البطن‪ ،‬الراحة يف‬
‫مرسل إليه‪،‬‬
‫قذفه‪ .‬والعدو املخوف‪ ،‬دواؤه قتله‪ .‬قال األسد‪ :‬لقد تركتين أكره جماورة شرتبة إايي؛ وأان ٌ‬
‫وذاكرا له ما وقع يف نفسي منه؛ مث آمره ابللحاق حيث أحب‪ .‬فكره دمنة ذلك‪ ،‬وعلم أن األسد مىت‬
‫كلم شرتبة يف ذلك ومسع منه جواابا عرف ابطل ما أتى به‪ ،‬واطلع على غدره وكذبه؛ ومل خيف عليه‬
‫أمره‪ .‬فقال لألسد‪ :‬أما إرسالك إىل شرتبة فال أراه لك رأايا وال حزما؛ فلينظر امللك يف ذلك‪ :‬فإن شرتبة‬
‫مىت شعر هبذا األمر‪ ،‬خفت أن يعاجل امللك ابملكابرة‪ .‬وهو إن قاتلك قاتلك مستعدا؛ وإن فارقك‪،‬‬
‫فارقك فراقا يليك منه النقص‪ ،‬ويلزمك منه العار‪ .‬مع أن ذوي الرأي من امللوك ال يعلنون عقوبة من مل‬
‫يعلن ذنبه؛ ولكن لكل ذنب عندهم عقوبةٌ‪ :‬فلذنب العالنية عقوبة العالنية‪ ،‬ولذنب السر عقوبة السر‪.‬‬
‫قال األسد‪ :‬إن امللك إذا عاقب أحدا عن ٍ‬
‫ظنة ظنها من غري تيقن جبرمه‪ ،‬فنفسه عاقب وإايها ظلم‪.‬‬
‫قال دمنة‪ :‬أما إذا كان هذا رأي امللك‪ ،‬فال يدخلن عليك شرتبة إال وأنت مستع ٌد له؛ وإايك أن‬
‫ٍ‬
‫بعظيمة‪.‬‬ ‫تصيبك منه غرةٌ أو غفلةٌ‪ :‬فإين ال أحسب امللك حني يدخل عليه إال سيعرف أنه قد هم‬
‫ومن عالمات ذلك أنك ترى لونه متغريا؛ وترى أوصاله ترعد؛ وتراه ملتفت ا ميين ا ومشاالا؛ وتراه يهز قرنيه‬
‫فعل الذي هم ابلنطاح والقتال‪ .‬قال األسد‪ :‬سأكون منه على حذ ٍر؛ وإن رأيت منه ما يدل على ما‬
‫شك‪.‬‬
‫ذكرت علمت أن ما يف أمره ٌ‬
‫فلما فرغ دمنة من مح ل األسد على الثور‪ ،‬وعرف أنه قد وقع يف نفسه ما كان يلتمس‪ ،‬وأن األسد‬
‫سيتحذر الثور‪ ،‬ويتهيأ له‪ ،‬أراد أن أييت الثور ليغريه ابألسد؛ وأحب أن يكون إتيانه من قبل األسد‬

‫‪43‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫خمافة أن يبلغه ذلك فيتأذى به‪ .‬فقال‪ :‬أيها امللك أال آيت بشرتبة فانظر إىل حاله وأمره؛ وأمسع كالمه‪:‬‬
‫لعلي اطلع على سره‪ ،‬فأطلع امللك على ذلك‪ ،‬وعلى ما يظهر يل منه? فأذن له األسد يف ذلك‪.‬‬
‫فانطلق فدخل على شرتبة كالكئيب احلزين‪ .‬فلما رآه الثور رحب به‪ ،‬وقال‪ :‬كان سبب انقطاعك‬
‫ٍ‬
‫سالمة! قال دمنة‪ :‬ومىت كان أهل السالمة من ال ميلك نفسه‪،‬‬ ‫عين? فإين مل أرك منذ ٍ‬
‫أايم؛ ولعلك يف‬
‫ٍ‬
‫وخوف‪ .‬حىت ما من ساعة متر وأيمن فيها على‬ ‫وأمره بيد غريه ممن ال يوثق به‪ ،‬وال ينفك على خط ٍر‬
‫كائن‪ .‬ومن ذا الذي غالب‬‫نفسه‪ .‬قال شرتبة‪ :‬وما الذي حدث? قال دمنة‪ :‬حدث ما قدر وهو ٌ‬
‫القدر? ومن ذا الذي بلغ من الدنيا جسيما من األمور فلم يبطر? ومن ذا الذي بلغ منياه فلم يغرت?‬
‫ومن ذا الذي تبع هواه فلم خيسر? ومن ذا الذي طلب من اللئام فلم حيرم? ومن ذا الذي خالط‬
‫األشرار فسلم? ومن ذا الذي صحب السلطان فذام له منه األمن واإلحسان? قال شرتبة‪ :‬إين أمسع‬
‫أمر‪ .‬قال دمنة‪ :‬أجل‪ ،‬لقد رابين منه‬
‫يب‪ ،‬وهالك منه ٌ‬ ‫منك كالم ا يدل على أنه قد رابك من األسد ر ٌ‬
‫ذلك‪ ،‬وليس هو يف أمر نفسي‪ ،‬قال شرتبة‪ :‬ففي نفس من رابك? قال دمنة‪ :‬قد تعلم ما بيين وبينك‪،‬‬
‫وتعلم حقك علي‪ ،‬وما كنت جعلت لك من العهد وامليثاق أايم أرسلين األسد إليك‪ ،‬فلم أجد لك بدا‬
‫من حفظك وإطالعك على ما أطلعت عليه مما أخاف عليك منه‪ .‬قال شرتبة‪ :‬وما الذي بلغك? قال‬
‫دمنة‪ :‬حدثين اخلبري الصدوق الذي ال مرية يف قوله أن األسد قال لبعض أصحابه وجلسائه‪ :‬قد‬
‫أعجبين مسن الثور؛ وليس يل إىل حياته حاجةٌ‪ ،‬فأان آكله ومطعم أصحايب من حلمه‪ .‬فلما بلغين هذا‬
‫القول‪ ،‬وعرفت غدره ونقض عهده؛ أقبلت إليك ألقضي حقك؛ وحتتال أنت ألمرك‪ .‬فلما مسع شرتبة‬
‫كالم دمنة‪ ،‬وتذكر ما كان من دمنة جعل له من العهد وامليثاق‪ ،‬وفكر يف أمر األسد‪ ،‬ظن أن دمنة قد‬
‫صدقهُ ونصح له؛ ورأى أن األمر شبيهٌ مبا قال دمنة‪ .‬فأمهه ذلك؛ وقال‪ :‬ما كان لألسد أن يغدر يب ومل‬
‫آت إليه ذنبا‪ ،‬وال إىل أحد من جنده‪ ،‬منذ صحبته؛ وال أظن األسد إال قد محل علي ابلكذب وشبه‬
‫وجرب منهم الكذب وأمورا هي تصدق عنده ما بلغه من‬ ‫عليه أمري‪ :‬فإن األسد قد صحبه قوم ٍ‬
‫سوء؛ َّ‬
‫غريهم‪ :‬فإن صحبة األشرار رمبا أورثت صاحبها سوء الظن ابألخيار؛ ومحلته جتربته على اخلطأ كخطأ‬
‫كب‪ ،‬فظنته مسك اة‪ ،‬فحاولت أن تصيدها‪ ،‬فلما جربت ذلك‬ ‫البطة اليت زعموا أهنا رأت يف املاء ضوء كو ٍ‬
‫مرارا‪ ،‬علمت أنه ليس ٍ‬
‫بشيء يصاد فرتكته‪ .‬مث رأت من غد ذلك اليوم مسك اة‪ ،‬فظنت أهنا مثل الذي‬
‫كذب فصدقه علي ومسعه يف‪ ،‬فما‬
‫رأته ابألمس‪ ،‬فرتكتها ومل تطلب صيدها‪ .‬فإن كان األسد بلغه عين ٌ‬
‫جرى على غريي جيري علي‪ .‬وإن كان مل يبلغه شيء‪ ،‬وأراد السوء يب من غري ٍ‬
‫علة‪ ،‬فإن ذلك ملن‬ ‫ٌ‬

‫‪44‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أعجب األمور‪ .‬وقد كان يقال‪ :‬إن من العجب أن يطلب الرجل رضا صاحبه وال يرضى‪ .‬وأعجب من‬
‫ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط‪ .‬فإذا كانت املوجدة عن ٍ‬
‫علة‪ ،‬كان الرضا موجودا والعفو مأموالا‪ .‬وإذا‬
‫كانت عن غري ٍ‬
‫علة‪ ،‬انقطع الرجاء‪ :‬ألن العلة إذا كانت املودة يف ورودها‪ ،‬كان الرضا مأموالا يف‬
‫صدورها‪.‬‬
‫قد نظرت‪ :‬فال أعلم بيين وبني األسد جرما‪ ،‬وال صغري ذنب‪ ،‬وال كبريه‪ .‬ولعمري ما يستطيع أحد أطال‬
‫صحبة صاحب أن حيرتس يف كل ٍ‬
‫شيء من أمره‪ ،‬وال أن يتحفظ من أن يكون منه صغريةٌ أو كبريةٌ‬
‫يكرهها صاحبه؛ ولكن الرجل ذا العقل وذا الوفاء إذا سقط عنده صاحبه سقط اة نظر فيها‪ ،‬وعرف قدر‬
‫أمر خياف ضره وشينه? فال يؤاخذ صاحبه‬ ‫مبلغ خطئه عمدا كان أو خطأا‪ .‬مث ينظر هل يف الصفح عنه ٌ‬
‫ٍ‬
‫بشيء يد فيه إىل الصفح عنه سبيالا‪ .‬فإن كان األسد قد اعتقد على ذنب ا؛ فلست أعلمه؛ إال أين‬
‫خالفته يف بعض رأيه نصيحةا له؛ فعساه أن يكون قد أنزل أمري على اجلراءة عليه واملخالفة له؛ وال‬
‫الرشد واملنفعة وال ِّدين‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫أجد يل يف هذا احملضر إمثا ما‪ :‬ألين مل أخالفه يف شيء إال ما قد ندر من خالفة ّ‬
‫بشيء من ذلك على رءوس جنده وعند أصحابه؛ ولكين كنت أخلو به وأكلمه سرا كالم‬ ‫ومل أجاهر ٍ‬
‫اهلائب املوقر وعلمت أنه من التمس الرخص من اإلخوان عند املشاورة‪ ،‬ومن األطباء عند املرض‪ ،‬ومن‬
‫الفقهاء عند الشبهة‪ ،‬أخطأ منافع الرأي؛ وازداد فيما وقع فيه من ذلك تورطا ‪ ،‬ومحل الوزر‪ .‬وإن مل‬
‫يكن هذا‪ ،‬فعسى أن يكون ذلك من بعض سكرات السلطان‪ :‬فإن مصاحبة السلطان خطرةٌ‪ ،‬وإن‬
‫صوحب ابلسالمة والثقة واملودة وحسن الصحبة‪ .‬وإن مل يكن هذا‪ ،‬فبعض ما أوتيت من الفضل قد‬
‫جعل يل فيه اهلالك‪ .‬وإن مل يكن هذا وال هذا‪ ،‬فهو إذا من مواقع القضاء والقدر الذي ال يدفع عنه؛‬
‫وهو الذي حيمل الرجل الضعيف على ظهر الفيل اهلائج؛ وهو الذي يسلط على احلية ذات احلمة من‬
‫ينزع محتها ويلعب هبا؛ وهو الذي جيعل العاجز حازما‪ ،‬ويثبط الشهم‪ ،‬ويوسع على املقرت ‪ ،‬ويشجع‬
‫اجلبان‪ ،‬وجينب الشجاع عندما تعرتيه املقادير من العلل اليت وضعت عليه األقدار‪.‬‬
‫قال دمنة‪ :‬إن إرادة األسد بك ليست من حتميل األشرار وال سكرة السلطان وال غري ذلك‪ ،‬ولكنها‬
‫مميت‪ .‬قال شرتبة‪ :‬فأراين قد‬
‫سم ٌ‬ ‫غدار‪ :‬لطعامه حالوةٌ وآخره ٌ‬
‫فاجر خوا ٌن ٌ‬
‫الغدر والفجور منه‪ :‬فإن ٌ‬
‫استلذذت احلالوة إذ ذقتها‪ :‬وقد انتهيت إىل آخرها الذي هو املوت؛ ولوال احلني ما كان مقامي عند‬
‫األسد‪ ،‬وهو آكل حل ٍم وأان آكل ٍ‬
‫عشب فأان يف هذه الورطة كالنحلة اليت جتلس على نور النيلوفر إذ‬
‫تستلذ رحيه وطعمه‪ ،‬فتحبسها تلك اللذة؛ فإذا جاء الليل ينضم عليها‪ ،‬فرتتبك فيه ومتوت‪ .‬ومن مل‬

‫‪45‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫يرض من الدنيا ابلكفاف الذي يغنيه وطمحت عينه إىل ما سوى ذلك‪ ،‬ومل يتخوف من عاقبتها‪ ،‬كان‬
‫كالذابب الذي ال يرض ى ابلشجرة والرايحني‪ ،‬وال يقنعه ذلك‪ ،‬حىت يطلب املاء الذي يسيل من أذن‬
‫الفيل‪ ،‬فيضربه الفيل آبذانه فيهلكه‪ .‬ومن يبذل وده ونصيحته ملن ال يشكره‪ ،‬فهو كمن يبذر يف‬
‫السباخ‪ .‬ومن يشر على املعجب‪ ،‬فهو كمن يشاور امليت أو يسار األصم‪ .‬قال دمنة‪ :‬دع عنك هذا‬
‫الكالم واحتل لنفسك‪ .‬قال شرتبة‪ :‬أبي ٍ‬
‫شيء أحتال لنفسي‪ ،‬إذا أراد األسد أكلي‪ ،‬مع ما عرفتين به‬
‫من رأي األسد وسوء أخالقه? وأعلم أنه مل يرد يب إال خريا‪ ،‬مث أراد أصحابه مبكرهم وفجورهم هالكي‬
‫لقدروا على ذلك فإنه إذا اجتمع املكرة الظلمة على الربيء الصحيح‪ ،‬كانوا خلقاء أن يهلكوه‪ ،‬وإن‬
‫ك انوا ضعفاء وهو قوي؛ كما أهلك الذئب والغراب وابن آوى اجلمل‪ ،‬حني اجتمعوا عليه ابملكر‬
‫واخلديعة واخليانة‪ .‬قال دمنة‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫ذئب‬ ‫قال شرتبة‪ :‬زعموا أن أسدا كان يف ٍ‬
‫أمجة جماورةٍ لطر ٍيق من طرق الناس؛ وكان له‬
‫أصحاب ثالثةٌ‪ٌ :‬‬
‫ٌ‬
‫مجل‪ ،‬فدخل تلك األمجة‬ ‫مجال‪ ،‬فتخلف منها ٌ‬ ‫اب وابن آوى؛ وأن رعا اة مروا بذلك الطريق‪ ،‬ومعهم ٌ‬‫وغر ٌ‬
‫حىت انتهى إىل األسد؛ فقال له األسد‪ :‬من أين أقبلت? قال‪ :‬من موضع كذا‪ .‬قال‪ :‬فما حاجتك?‬
‫قال‪ :‬ما أيمرين به امللك‪ .‬قال‪ :‬تقيم عندان يف السعة واألمن واخلصب‪ .‬فأقام األسد واجلمل معه زمن ا‬
‫طويالا‪ .‬مث إن األسد مضى يف بعض األايم لطلب الصيد‪ ،‬فلقي فيالا عظيما‪ ،‬فقاتله قتاالا شديدا؛‬
‫وأفلت منه مثقالا مثخنا ابجلراح‪ ،‬يسيل منه الدم‪ ،‬وقد خدشه الفيل أبنيابه‪ .‬فلما وصل إىل مكانه‪ ،‬وقع‬
‫ال يستطيع حراكا‪ ،‬وال يقدر على طلب الصيد؛ فلبث الذئب والغراب وابن آوى أايما ال جيدون‬
‫جوع شدي ٌد وهز ٌال‪ ،‬وعرف األسد‬
‫طعام ا‪ :‬ألهنم كانوا أيكلون من فضالت األسد وطعامه؛ فأصاهبم ٌ‬
‫ذلك منهم؛ فقال‪ :‬لقد جهدمت واحتجتم إىل ما أتكلون‪ .‬فقالوا ال هتمنا أنفسنا‪ :‬لكنا نرى امللك على‬
‫ما نراه‪ .‬فليتنا جند ما أيكله ويصلحه‪ .‬قال األسد‪ :‬ما أشك يف نصيحتكم‪ ،‬ولكن انتشروا لعلكم‬
‫رزق‪ .‬فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند‬ ‫تصيبون صيدا أتتونين به؛ فيصيبين ويصيبكم منه ٌ‬
‫األسد؛ فتنحوا انحيةا‪ ،‬وتشاوروا فيما بينهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬مالنا وهلذا األكل العشب الذي ليس شأنه من‬
‫شأننا‪ ،‬وال رأيه من رأينا? أال نزين لألسد فيأكله ويطعمنا من حلمه? قال ابن آوى‪ :‬هذا مما ال نستطيع‬
‫ذكره لألسد‪ :‬ألنه قد أمن اجلمل‪ ،‬وجعل له من ذمته عهدا‪ .‬قال الغراب‪ :‬أان أكفيكم أمر األسد‪ .‬مث‬
‫انطلق فدخل على األسد؛ فقال له األسد‪ :‬هل أصبت شيئ ا? قال الغراب‪ :‬إمنا يصيب من يسعى‬
‫ويبصر‪ .‬وأما حنن فال سعي لنا وال بصر‪ :‬ملا بنا من اجلوع؛ ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه؛ إن‬

‫‪46‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫املتمرغ بيننا‬
‫وافقنا امللك فنحن له جميبون‪ .‬قال األسد‪ :‬وما ذاك? قال الغراب‪ :‬هذا اجلمل آكل العشب ّ‬
‫من غري منفعة لنا منه‪ ،‬وال رد ٍ‬
‫عائدة‪ ،‬وال عمل يعقب مصلح اة‪ .‬فلما مسع األسد ذلك غضب وقال‪:‬‬
‫ما أخطأ رأيك‪ ،‬وما اعجز مقالك‪ ،‬وأبعدك من الوفاء والرمحة? وما كنت حقيقا أن جترتي علي هبذه‬
‫املقالة‪ ،‬وتستقبلين هبذا اخلطاب؛ مع ما علمت من أين قد أمنت اجلمل‪ ،‬وجعلت له من ذميت‪ .‬أو مل‬
‫ٍ‬
‫بصدقة هي أعظم أجرا ممن أمن نفسا خائف اة‪ ،‬وحقن دما مهدرا? وقد‬ ‫متصدق‬
‫ٌ‬ ‫يبلغك أنه مل يتصدق‬
‫أمنته ولست بغادر به‪ .‬قال الغراب‪ :‬إين ألعرف ما يقول امللك؛ ولكن النفس الواحدة يفتدى هبا أهل‬
‫البيت؛ وأهل البيت تفتدى هبم القبيلة؛ والقبيلة يفتدى هبا أهل املصر؛ وأهل املصر فداء امللك‪ .‬وقد‬
‫نزلت ابمللك احلاجة؛ وأان أجعل له من ذمته خمرجا‪ ،‬على أال يتكلف امللك ذلك‪ ،‬وال يليه بنفسه‪ ،‬وال‬
‫وظفر‪ .‬فسكت األسد عن جواب الغراب عن‬ ‫أيمر به أحدا؛ ولكنا حنتال ٍ‬
‫إصالح ٌ‬‫ٌ‬ ‫حبيلة لنا وله فيها‬
‫هذا اخلطاب‪ .‬فلما عرف الغراب إقرار األسد أتى أصحابه‪ ،‬فقال هلم‪ :‬قد كلمت األسد يف أكله‬
‫اجلمل؛ على أن جنتمع حنن واجلمل عند األسد‪ ،‬فنذكر ما أصابه‪ ،‬ونتوجع له اهتماما منا أبمره‪ ،‬وحرصا‬
‫احد منا نفسه عليه جتمالا ليأكله‪ ،‬فريد اآلخران عليه‪ ،‬ويسفها رأيه‪،‬‬‫على صالحه؛ ويعرض كل و ٍ‬
‫ويبينان الضرر يف أكله‪ .‬فإذا فعلنا ذلك‪ ،‬سلمنا كلنا ورضي األسد عنا‪ .‬ففعلوا ذلك‪ ،‬وتقدموا إىل‬
‫األسد؛ فقال الغراب‪ :‬قد احتجت أيها امللك إىل ما يقويك؛ وحنن أحق أن هنب أنفسنا لك‪ :‬فإان بك‬
‫ألحد منا بقاء عندك‪ ،‬وال لنا يف احلياة من ٍ‬
‫خرية؛ فليأكلين امللك‪ :‬فقد‬ ‫نعيش؛ فإذا هلكت فليس ٍ‬
‫ٌ‬
‫طبت بذلك نفسا‪ .‬فأجابه الذئب وابن آوى أن اسكت؛ فال خري للملك يف أكلك؛ وليس فيك‬
‫شبع‪ .‬قال ابن آوى لكن أان أشبع امللك‪ ،‬فليأكلين‪ :‬فقد رضيت بذلك‪ ،‬وطبت عنه نفس ا‪ .‬فرد عليه‬
‫ٌ‬
‫قذر‪ .‬قال الذئب‪ :‬إين لست كذلك‪ ،‬فليأكلين امللك‪ ،‬فقد مسحت‬
‫ملننت ٌ‬
‫الذئب والغراب بقوهلما‪ :‬إنك ٌ‬
‫بذلك‪ ،‬وطنب عنه نفسا؛ فاعرتضه الغراب وابن آوى وقاال‪ :‬قد قالت األطباء‪ :‬من أراد قتل نفسه‬
‫ذئب‪ .‬فظن اجلمل أنه إذا عرض نفسه على األكل‪ ،‬التمسوا له عذرا كما التمس بعضهم‬ ‫فليأكل حلم ٍ‬
‫شبع‬
‫لبعض األعذار‪ ،‬فيسلم ويرضى األسد عنه بذلك‪ ،‬وينجو من املهالك‪ .‬فقال‪ :‬لكن أان يف للملك ٌ‬ ‫ٍ‬
‫نظيف‪ ،‬فليأكلين امللك‪ ،‬ويطعم أصحابه وخدمه‪ :‬فقد رضيت بذلك‪،‬‬ ‫هين‪ ،‬وبطين ٌ‬ ‫طيب ٌ‬‫وري؛ وحلمي ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وطابت نفسي عنه‪ ،‬ومسحت به‪ .‬فقال الذئب والغراب وابن آوى‪ :‬لقد صدق اجلمل وكرم؛ وقال ما‬
‫عرف‪.‬‬
‫مث إهنم وثبوا عليه فمزقوه‪.‬م إهنم وثبوا عليه فمزقوه‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫وإمنا ضربت لك هذا املثل لتعلم أنه إن كان أصحاب األسد قد اجتمعوا على هالكي فإين لست أقدر‬
‫أن أمتنع منهم‪ ،‬وال أحرتس؛ وإن كان رأي األسد يل على غري ما هم من الرأي يف‪ ،‬فال ينفعين ذلك‪،‬‬
‫وال يغين عين شيئا‪ .‬وقد يقال‪ :‬خري السالطني من عدل يف الناس‪ .‬ولو أن األسد مل يكن يف نفسه يل‬
‫إال اخلري والرمحة‪ ،‬لغريته كثرة األقاويل‪ :‬فإهنا إذا كثرت مل تلبث دون أن تذهب الرقة والرأفة‪ .‬أال ترى‬
‫املاء ليس كالقول؛ وأن احلجر مل يلبث حىت يثقبه ويؤثر فيه‪ .‬وكذلك القول يف اإلنسان‪ .‬قال دمنة‪:‬‬
‫فماذا تريد أن تصنع اآلن? قال شرتبة‪ :‬ما أرى إال االجتهاد واجملاهدة ابلقتال‪ :‬فإنه ليس للمصلي يف‬
‫صالته‪ ،‬وال للمتصدق يف صدقته‪ ،‬وال للورع يف ورعه من األجر ما للمجاهد عن نفسه‪ ،‬إذا كانت‬
‫جماهدته على احلق‪ .‬قال دمنة‪ :‬ال ينبغي ألحد أن خياطر بنفسه‪ ،‬وهو يستطيع غري ذلك‪ ،‬ولكن ذا‬
‫الرأي جاعل القتال آخر احليل؛ وابد ٍئ قبل ذلك مبا استطاع من ر ٍفق و ٍ‬
‫متحل‪ .‬وقد قيل‪ :‬ال حتقرن‬
‫حيلة ويقدر على األعوان؛ فكيف ابألسد على جراءته‬‫العدو الضعيف املهني‪ ،‬وال سيما إذا كان ذا ٍ‬
‫وشدته? فإن من حقر عدوه لضعفه أصابه ما أصاب وكيل البحر من الطيطوى قال شرتبة‪ :‬وكيف‬
‫كان ذلك? قال دمنة‪ :‬زعموا أن طائرا من طيور البحر يقال له الطيطوى كان وطنه على ساحل‬
‫البحر‪ ،‬ومعه زوجةٌ له‪ ،‬فلما جاء أوان تفرخيها قالت األنثى للذكر‪ :‬لو التمسنا مكاانا حريزا نفرخ فيه‪:‬‬
‫فإين أخشى من وكيل البحر إذا مد املاء أن يذهب بفراخنا‪ .‬فقال هلا‪ :‬أفرخي مكانك‪ :‬فإنه موافق لنا؛‬
‫يب‪ .‬قالت له‪ :‬اي غافل ليحسن نظرك‪ :‬فإن أخاف وكيل البحر أن يذهب بفراخنا‪.‬‬ ‫واملاء والزهر منا قر ٌ‬
‫فقال هلا أفرخي مكانك‪ :‬فإنه ال يفعل ذلك فقالت له‪ :‬ما أشد تعنتك ! أما تذكر وعيده وهتديده‬
‫إايك? أال تعرف نفسك وقدرك? فأىب أن يطيعها‪ .‬فلما أكثرت عليه ومل يسمع قوهلا‪ ،‬قالت له‪ :‬إن من‬
‫مل يسمع قول الناصح يصيبه ما أصاب السلحفاة حني مل تسمع قول البطتني‪ .‬قال الذكر‪ :‬وكيف كان‬
‫عشب‪ ،‬وكان فيه بطتان وكان يف الغدير سلحفاةٌ‪،‬‬
‫ذلك? قالت األنثى‪ :‬زعموا أن غديرا كان عنده ٌ‬
‫بينها وبني البطتني مودةٌ وصداقةٌ‪ .‬فاتفق أن غيض ذلك املاء؛ فجاءت البطتان لوداع السلحفاة‪ ،‬وقالتا‪:‬‬
‫السالم عليك فإننا ذاهبتان عن هذا املكان ألجل نقصان املاء عنه‪ .‬فقالت‪ :‬إمنا يبني نقصان املاء على‬
‫مثلي‪ :‬فإين كالسفينة ال أقدر على العيش إال ابملاء‪ .‬فأما أنتما فتقدران على العيش حيث كنتما‪.‬‬
‫فاذهبا يب معكما ‪ .‬قالتا هلا‪ :‬نعم‪ .‬قالت‪ :‬كيف السبيل إىل محلي? قالتا‪ :‬أنخذ بطريف ٍ‬
‫عود‪ ،‬وتتعلقني‬
‫بوسطه؛ ونطري بك يف اجلو‪ .‬وإايك‪ ،‬إذا مسعت الناس يتكلمون‪ ،‬أن تنطقي‪ .‬مث أخذاتها فطارات هبا يف‬
‫عجب‪ :‬سلحفاة بني بطتني‪ ،‬قد محلتاها‪ .‬فلما مسعت ذلك قالت‪ :‬فقأ هللا أعينكم‬ ‫ٌ‬ ‫اجلو‪ .‬فقال الناس‪:‬‬

‫‪48‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أيها الناس‪ ،‬فلما فتحت فاها ابلنطق وقعت على األرض فماتت‪ .‬قال الذكر‪ :‬قد مسعت مقالتك؛ فال‬
‫كائن‪.‬‬
‫ختايف وكيل البحر‪ .‬فلما مد املاء ذهب بفراخها‪ .‬فقالت األنثى‪ :‬قد عرفت يف بدء األمر أن هذا ٌ‬
‫قال الذكر‪ :‬سوف أنتقم منه‪ .‬مث مضى إىل مجاعة الطري فقال هلن‪ :‬إنكن أخوايت وثقايت‪ :‬فأعنين‪ .‬قلن‪:‬‬
‫ما تريد أن نفعل? قال‪ :‬جتتمعن وتذهنب معي إىل سائر الطري‪ ،‬فنشكو إليهن ما لقيت من وكيل البحر؛‬
‫طري مثلنا‪ :‬فأعننا‪ .‬فقالت له مجاعة الطري‪ :‬إن العنقاء هي سيدتنا وملكتنا‪ :‬فاذهب‬
‫ونقول هلن‪ :‬إنكن ٌ‬
‫بنا إليها حىت نصيح هبا‪ ،‬فنظهر لنا؛ فنشكو إليها ما انلك من وكيل البحر؛ ونسأهلا أن تنتقم لنا بقوة‬
‫ملكها‪ .‬مث إهنن ذهنب إليها من الطيطوى‪ ،‬فستغثنها؛ وصحن هبا؛ فرتاءت هلن فأخربهنا بقصتهن؛‬
‫وسألنها أن تسري معهن إىل حماربة وكيل البحر‪ ،‬فأجابتهن إىل ذلك‪ .‬فلما علم وكيل البحر أن العنقاء‬
‫ملك ال طاقة له به‪ .‬فرد فراخ الطيطوى؛ وصاحله فرجعت‬ ‫قد قصدته يف مجاعة الطري خاف من حماربة ٍ‬
‫العنقاء عنه‪.‬‬
‫وإمنا حدثتك هبذا احلديث لتعلم أن القتال مع األسد ال أراه لك رأايا‪ .‬قال شرتبة‪ :‬فما أان مبقاتل‬
‫األسد‪ ،‬وال انصب له العداوة سرا وال عالني اة ال متغ ٍري له عما كنت عليه‪ ،‬حىت يبدو يل منه ما أختوف‬
‫فأغالبه‪ .‬فكره دمنة قوله‪ ،‬وعلم أن األسد إن مل ير من الصور العالمات اليت ذكرها له اهتمه وأساء به‬
‫الظن‪ .‬فقال دمنة لشرتبة‪ :‬اذهب إىل األسد فستعرف حني ينظر إليك ما يريد منك‪ .‬قال شرتبة‪:‬‬
‫وكيف أعرف ذلك? قال دمنة‪ :‬سرتى األسد حني تدخل عليه مقعيا على ذنبه‪ ،‬رافعا صدره إليك‪،‬‬
‫مادا بصره حنوك‪ ،‬قد صر أذنيه وفغر فاه‪ ،‬واستوى للوثبة‪ .‬قال شرتبة‪ :‬إن رأيت هذه العالمات من‬
‫األسد عرفت صدقك يف قولك‪ .‬مث إن دمنة ملا فرغ من محل األسد على الصور‪ ،‬والثور على األسد‬
‫يب من الفراغ‬
‫توجه إىل كليلة‪ .‬فلما التقيا‪ ،‬قال كليلة‪ :‬إالم انتهى عملك الذي كنت فيه? قال دمنة‪ :‬قر ٌ‬
‫على ما أحب وحتب‪ .‬مث إن كليلة ودمنة انطلقا مجيعا ليحضرا قتال األسد والثور‪ ،‬وينظرا ما جيري‬
‫بينهما‪ ،‬ويعاينا ما يئول إليه أمرمها‪ .‬وجاء شرتبة‪ ،‬فدخل على األسد‪ ،‬فرآه مقعي ا كما وصفه له دمنة‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬ما صاحب السلطان إال كصاحب احلية اليت يف مبيته ومقيله‪ ،‬فال يدري مىت هتيج به‪ .‬مث إن‬
‫األسد نظر إىل الثور فرأى الدالالت اليت ذكرها له دمنة‪ :‬فلم يشك أنه جاء لقتاله‪ .‬فواثبه‪ ،‬ونشأ بينهما‬
‫احلرب‪ ،‬واشتد قتال الثور واألسد‪ ،‬وطال‪ ،‬وسالت بينهما الدماء‪ .‬فلما رأى كليلة أن األسد قد بلغ منه‬
‫ما قد بلغ‪ .‬قال لدمنة‪ :‬أيها الفسل ما أنكر جهلتك وأسوأ عاقبتك يف تدبريك! قال دمنة‪ :‬وما ذاك?‬
‫قال كليلة‪ :‬جرح األسد وهلك الثور‪ .‬وإن أخرق اخلرق من محل صاحبه على سوء اخللق واملبارزة‬

‫‪49‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫والقتال‪ ،‬وهو جيد إىل غري ذلك سبيالا‪ .‬وإن العاقل يدبر األشياء ويقيسها قبل مباشرهتا‪ :‬فما رجا أن‬
‫يتم له منها أقدم عليه‪ ،‬وما خاف أن يتعذر عليه منها احنرف عنه‪ ،‬ومل يلتفت إليه‪ .‬وإين ألخاف عليك‬
‫عاقبة بغيك هذا‪ :‬فإنك قد أحسنت القول ومل حتسن العمل‪ .‬أين معاهدتك إايي أنك ال تضر ابألسد‬
‫يف تدبريك? وقد قيل‪ :‬ال خري يف القول إال مع العمل‪ ،‬وال يف الفقه إال مع الورع‪ ،‬وال يف الصدقة إال مع‬
‫النية‪ ،‬وال يف املال إال مع اجلود‪ ،‬وال يف الصدق إال مع الوفاء‪ ،‬وال يف احلياة إال مع الصحة‪ ،‬وال يف‬
‫األمن إال مع السرور‪.‬‬
‫واعلم أن األدب يذهب عن العاقل الطيش‪ ،‬ويزيد األمحق طيشا؛ كما أن النهار يزيد كل ذي بصر‬
‫نظرا‪ ،‬ويزيد اخلفاش سوء النظر‪.‬‬
‫وقد أذكرين أمرك شيئ ا مسعته‪ ،‬فإن يقال‪ :‬إن السلطان إذا كان صاحل ا‪ ،‬ووزراؤه وزراء ٍ‬
‫سوء‪ ،‬منعوا خريه‪،‬‬
‫فال يقدر أح ٌد أن يدنو منه‪ .‬ومثله يف ذلك مثل املاء الطيب الذي فيه التماسيح‪ :‬ال يقدر أح ٌد أن‬
‫أمر ال‬
‫يتناوله‪ ،‬وإن كان إىل املاء حمتاجا‪ .‬وأنت اي دمنة أردت أال يدنو من األسد أحد سواك‪ .‬وهذا ٌ‬
‫يصح وال يتم أبدا‪ .‬وذلك للمثل املضروب‪ :‬إن البحر أبمواجه‪ ،‬والسلطان أبصحابه‪ .‬ومن احلمق‬
‫احلرص على التماس اإلخوان بغري الوفاء هلم‪ ،‬وطلب اآلخرة ابلرايء‪ ،‬ونفع النفس بغري الضر‪ .‬وما عظيت‬
‫وأتدييب إايك إال كما قال الرجل للطائر‪ :‬ال تلتمس تقومي ما ال يستقيم‪ ،‬وال تعاجل أتديب من ال‬
‫يتأدب‪ .‬قال دمنة‪ :‬وكيف كان ذلك? قال كليلة‪ :‬زعموا أن مجاع اة من القردة كانوا سكاانا يف ٍ‬
‫جبل‪،‬‬
‫ليلة ٍ‬
‫ابردة ذات رايح وأمطا ٍر اندرا‪ ،‬فلم جيدوا‪ ،‬فرأوا يراعةا تطري كأهنا شرارة ان ٍر‪ ،‬فظنوها‬ ‫فالتمسوا يف ٍ‬
‫انرا‪ ،‬ومجعوا حطب ا كثريا فألقوه عليها‪ ،‬وجعلوا ينفخون طمع ا أن يوقدوا انرا يصطلون هبا من الربد‪ .‬وكان‬
‫قريبا منهم طائر على شجرٍة‪ ،‬ينظرون إليه وينظر إليهم‪ ،‬وقد رأى ما صنعوا‪ ،‬فجعل يناديهم ويقول‪ :‬ال‬
‫تتعبوا فإن الذي رأيتموه ليس بنا ٍر‪ .‬فلما طال ذلك عليه عزم على القرب منهم لنهاهم عما هم فيه‪،‬‬
‫رجل فعرف ما عزم عليه‪ .‬فقال له‪ :‬ال تلتمس تقومي ما ال يستقيم‪ :‬فإن احلجر املانع الذي ال‬
‫فمر به ٌ‬
‫ينقطع ال جترب عليه السيوف‪ ،‬والعود الذي ال حنين ال يعمل منه القوس‪ :‬فال تتعب‪ .‬فأىب الطائر أن‬
‫بناء‪ .‬فتناوله بعض القردة فضرب به األرض فمات‪.‬‬‫يطيعه‪ ،‬وتقدم إىل القردة ليعرفهم أن الرباعة ليسن ٍ‬
‫فهذا مثلي معك يف ذلك‪ .‬مث قد غلب عليك اخلب والفجور ‪ ،‬ومها خلتا ٍ‬
‫سوء‪ ،‬واخلصب شرمها عاقب اة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وهلذا مثل‪ .‬قال دمنة‪ :‬وما ذلك املثل?‬

‫‪50‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫قال كليلة‪ :‬زعموا أن خبا ومغفالا اشرتكا يف جتارةٍ وسافرا‪ ،‬فبينما مها يف الطريق‪ ،‬إذ ختلف املغفل لبعض‬
‫حاجته‪ ،‬فوجد كيس ا فيه ألف دينار‪ ،‬فأخذه؛ فأحس به اخلب‪ ،‬فرجعا إىل بلدمها؛ حىت إذا دنوا من‬
‫املدينة قعدا القتسام املال‪ .‬فقال املغفل‪ :‬خذ نصفه وأعطين نصفه؛ وكان اخلب قد قرر يف نفسه أن‬
‫يذهب ابأللف مجيعه‪ .‬فقال له‪ :‬ال نقتسم‪ ،‬فإن الشركة واملفاوضة أقرب إىل الصفاء واملخالطة؛ ولكن‬
‫آخذ نفق اة‪ ،‬وأتخذ مثلها؛ وندفن الباقي يف أصل هذه الشجرة‪ :‬فهو مكا ٌن حر ٌيز‪ .‬فإذا احتجنا جئنا أان‬
‫وأنت فنأخذ حاجتنا منه؛ وال يعلم مبوضعنا أح ٌد‪ .‬فأخذا منه يسريا‪ ،‬ودفنا الباقي يف أصل ٍ‬
‫دوحة‪،‬‬
‫ودخال البلد‪ .‬مث إن اخلب خالف املغفل إىل الداننري فأخذها‪ ،‬وسوى األرض كما كانت‪ .‬وجاء املغفل‬
‫بعد ذلك أبشهر فقال للخب‪ :‬قد احتجت إىل ٍ‬
‫نفقة فانطلق بنا أنخذ حاجتنا؛ فقام اخلب معه وذهبا‬
‫إىل املكان فحفرا‪ ،‬فلم جيدا شيئ ا‪ .‬فأقبل اخلب على وجهه يلطمه يقول‪ :‬ال تغرت بصحبة صاحب‪:‬‬
‫خالفتين إىل الداننري فأخذهتا‪ .‬فجعل املغفل حيلف ويلعن آخذها وال يزداد احلب إال شدة يف اللطم‪.‬‬
‫وقال‪ :‬ما أخذها غريك‪ .‬وهل شعر هبا أح ٌد سواك? مث طال ذلك بينهما‪ ،‬فرتافعا إىل القاضي‪ ،‬فاقتص‬
‫القاضي قصتهما‪ ،‬فادعى اخلب أن املغفل أخذها‪ ،‬وجحد املغفل‪ .‬فقال للخب‪ :‬ألك على دعواك‬
‫بينة? قال‪ :‬نعم الشجرة اليت كانت الداننري عندها تشهد يل أن املغفل أخذها‪ .‬وكان اخلب قد أمر أابه‬
‫أن يذهب فيتوارى يف الشجرة حبيث إذا سئلت أجاب‪ .‬فذهب أبو اخلب فدخل جوف الشجرة‪ .‬م إن‬
‫القاضي ملا مسع ذلك من اخلب أكربه‪ ،‬وانطلق هو وأصحابه واخلصب واملغفل معه؛ حىت واىف الشجرة؛‬
‫فسأهلا عن اخلرب‪ .‬فقال الشيخ من جوفها‪ :‬نعم املغفل أخذها‪ .‬فلما مسع القاضي ذلك اشتد تعجبه‪.‬‬
‫فدعا حبطب وأمر أن حترق الشجرة‪ .‬فأضرمت حوهلا النريان فاستغاث أبو اخلب عند ذلك‪ .‬فأخرج وقد‬
‫أشرف على اهلالك‪ .‬فسأله القاضي عن القصة فأخربه ابخلرب؛ فأوقع ابخلب ضرابا‪ ،‬وأببيه صفعا‪ ،‬وأركبه‬
‫وغرم اخلب الداننري فأخذها وأعطاها املغفل‪.‬‬
‫مشهورا ‪ّ ،‬‬
‫جامع‬
‫وإمنا ضربت لك هذا املثل لتعمل أن احلب واخلديعة رمبا كان صاحبها هو املغبون‪ .‬وإنك اي دمنة ٌ‬
‫بناج من العقوبة‪ :‬ألنك ذو‬
‫للخب واخلديعة والفجور‪ .‬وإين أخشى عليك مثرة عملك‪ ،‬مع أنك لست ٍ‬
‫لونني ولسانني‪ .‬وإمنا عذوبة ماء األهنار ما مل تبلغ إىل البحار‪ .‬وصالح أهل البيت ما مل يكن فيهم‬
‫املفسد‪ .‬وإنه ال شيء أشبه بك من احلية ذات اللسانني اليت فيها السم‪ :‬فإن قد جيري من لسانك‬
‫كسمها‪ .‬وإين مل أزل لذلك السم من لسانك خائف ا‪ ،‬وملا حيل بك متوقع ا‪ ،‬واملفسد بني اإلخوان‬
‫واألصحاب كاحلية يربيها الرجل ويطعمها وميسحها ويكرمها‪ ،‬مث ال يكون له منها غري اللدغ‪ .‬وقد‬

‫‪51‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫يقال‪ :‬الزم ذا العقل وذا الكرم‪ ،‬واسرتسل إليهما‪ ،‬وإايك ومفارقتهما؛ واصحب الصاحب إذا كان عاقالا‬
‫كامل‪ ،‬والعاقل غري الكرمي أصحبه‪ ،‬وإن كان غري حممود‬ ‫ٍ‬
‫كرمي ا أو عاقالا غري كرمي‪ :‬فالعاقل الكرمي ٌ‬
‫اخلليقة‪ ،‬وأحذر من سوء أخالقه وانتفع بعقله‪ ،‬والكرمي غري العاقل‪ ،‬الزمه وال تدع مواصلته‪ ،‬وإن كنت‬
‫ال حتمد عقله‪ ،‬وانتفع بكرمه‪ ،‬وانفعه بعقلك؛ والقرار كل القرار من اللئيم األمحق‪ .‬وإين ابلفرار منك‬
‫جلدير‪ .‬وكيف يرجو إخوانك عندك كرما وودا وقد صنعت مبلكك الذي أكرمك وشرفك ما صنعت?‬ ‫ٌ‬
‫من حديدا‪ ،‬ليس مبستنكر على بزاهتا‬‫وإن مثلك مثل التاجر الذي قال‪ :‬إن أرض ا أتكل جرذاهنا مائة ًّ‬
‫أن ختتطف األفيال‪ .‬قال دمنة‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫اتجر‪ ،‬فأراد اخلروج إىل بعض الوجوه البتغاء الرزق؛ وكان عنده‬
‫قال كليلة‪ :‬زعموا أنه كان أبرض كذا ٌ‬
‫مائة من حديدا؛ فأودعها رجالا من إخوانه‪ ،‬وذهب يف وجهه‪ .‬مث قدم بعد ذلك ٍ‬
‫مبدة؛ فجاء والتمس‬
‫احلديد‪ ،‬فقال له‪ :‬إنه قد أكلته اجلرذان‪ .‬فقال‪ :‬قد مسعت أنه الشيء أقطع من أنياهبا للحديد‪ .‬ففرح‬
‫الرجل بتصديقه على ما قال وادعى‪ .‬مث إن التاجر خرج‪ ،‬فلقي ابنا للرجل؛ فأخذه وذهب به إىل منزله؛‬
‫مث رجع إليه الرجل من الغد فقال له‪ :‬هل عندك علم اببين‪ :‬فقال له التاجر‪ :‬إين ملا خرجت من عندك‬
‫ابألمس‪ ،‬رأيت ابزايا قد اختطف صبي ا‪ ،‬ولعله ابنك‪ .‬فلطم الرجل على رأسه وقال‪ :‬اي قوم هل مسعتم أو‬
‫من من حديدا ليس بعجب‬ ‫رأيتم أن البزاة ختطف الصبيان? فقال‪ :‬نعم‪ .‬وإن أرضا أتكل جرذاهنا مائة ا‬
‫أن ختتطف بزاهتا الفيلة‪ .‬قال له الرجل‪ :‬أان أكلت حديدك وهذا مثنه‪ .‬فاردد على ابين‪ .‬وإمنا ضربت لك‬
‫هذا املثل لتعلم أنك إذا غدرت بصاحبك فال شك أنك مبن سواه أغدر؛ وأنه إذا صاحب أحد‬
‫موضع‪ :‬فال شيء أضيع من مودةٍ متنح‬
‫ٌ‬ ‫صاحب ا وغدر مبن سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة‬
‫من ال وفاء له‪ٍ ،‬‬
‫وحباء يصطنع عند من ال شكر له‪ ،‬و ٍ‬
‫أدب حيمل إىل من ال يتأدب به وال يسمعه‪،‬‬
‫وسر يستودع من ال حيفظه؛ فإن صحبة األخيار تورث اخلري‪ ،‬وصحبة األشرار تورث الشر‪ :‬كالريح إذا‬
‫مرت ابلطيب محلت طيب ا‪ ،‬وإذا مرت ابلننت محلت نتن ا‪ ،‬وقد طال وثقل كالمي عليك‪.‬‬
‫فانتهى كليلة من كالمه إىل هذا املكان وقد فرغ األسد من الثور‪ ،‬مث فكر يف قتله بعد أن قتله وذهب‬
‫وخلق ٍ‬
‫كرمي‪ ،‬وال أدري لعله كان‬ ‫عقل ورأ ٍي ٍ‬‫عنه الغضب‪ .‬وقال‪ :‬لقد فجعين شرتبة بنفسه؛ وقد كان ذا ٍ‬
‫بريئا أو مكذوابا عليه؛ فحزن وندم على ما كان منه‪ ،‬وتبني ذلك يف وجهه؛ وبصر به دمنة‪ ،‬فرتك حماورة‬
‫كليلة‪ ،‬وتقدم إىل األسد فقال له‪ :‬ليهنئك الظفر إذ أهلك هللا أعداءك‪ .‬فماذا حيزنك أيها امللك? قال‪:‬‬
‫ين على عقل شرتبة ورأيه وأدبه? قال له دمنة‪ :‬ال ترمحه أيها امللك‪ :‬فإن العاقل ال يرحم من‬
‫أان حز ٌ‬

‫‪52‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫خيافه‪ .‬وإن الرجل احلازم رمبا أبغض الرجل وكرهه‪ ،‬مث قربه وأدانه‪ :‬ملا يعلم عنده من الغناء والكفاية‪ ،‬فعل‬
‫الرجل املتكاره على الدواء الشنيع رجاء منفعته‪ .‬ورمبا أحب الرجل‪ ،‬وعز عليه‪ ،‬فأقصاه وأهلكه‪ ،‬خمافة‬
‫ضرره؛ كالذي تلدغه احلية يف إصبعه فيقطعها‪ ،‬ويتربأ منها خمافة أن يسر مسها إىل بدنه‪ .‬فرضي األسد‬
‫بقول دمنة‪ .‬مث علم بعد ذلك بكذبه وغدره وفجوره فقتله شر ٍ‬
‫قتلة‪.‬‬
‫ابب الفحص عن أمر دمنة‬
‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد حدثتين عن الواشي املاهر احملتال‪ ،‬كيف يفسد ابلنميمة املودة‬
‫الثابتة بني املتحابني‪ .‬فحدثين حينئ ٍذ مبا كان من حالة دمنة وما آل أمره إليه بعد قتل شرتبة‪ ،‬وما كان‬
‫من معاذيره عند األسد وأصحابه حني راجع األسد رأيه يف الثور‪ ،‬وحتقق النميمة من دمنة‪ ،‬وما كانت‬
‫حجته اليت احتج هبا؛ قال الفيلسوف‪ :‬أان وجدت يف حديث دمنة أن األسد حني قتل شرتبة ندم على‬
‫قتله‪ ،‬وذكر قدمي صحبته وجسيم خدمته‪ ،‬وأنه كان أكرم أصحابه عليه‪ .‬وأخصهم منزلةا لديه‪ ،‬وأقرهبم‬
‫وأدانهم إليه؛ وكان يواصل له املشورة دون خواصه‪ .‬وكان من أخص أصحابه عنده بعد الثور النمر‪.‬‬
‫ليلة عند األسد؛ فخرج من عنده جوف الليل يردي منزله‪ ،‬فاجتاز على‬ ‫فاتفق أنه أمسى لنمر ذات ٍ‬
‫منزل كليلة ودمنة‪ .‬فلما انتهى إىل الباب مسع كليلة يعاتب دمنة على ما كان منه‪ ،‬ويلومه على النميمة‬
‫واستعماهلا؛ خصوصا مع الكذب والبهتان يف حق اخلاصة‪ .‬وعرف النمر عصيان دمنة وترك القبول له‪.‬‬
‫فوقف يستمع ما جيري بينهما فكان فيما قال كليلة لدمنة‪ :‬لقد ارتكبت مركبا صعبا‪ ،‬ودخلت مدخالا‬
‫ضيقا‪ ،‬وجنيت على نفسك جناي اة موبق اة‪ ،‬وعاقبتها وخيمةٌ؛ وسوف يكون مصرعك شديدا‪ ،‬إذا‬
‫انكشف لألسد أمرك‪ ،‬واطلع عليه‪ ،‬وعرف غدرك وحمالك ‪ ،‬وبقيت ال انصر لك؛ فيجتمع عليك‬
‫اهلوان والقتل‪ ،‬خمافة شرك‪ ،‬وحذرا من غوائلك؛ فلست مبتخذك بعد اليوم خليالا‪ ،‬وال ٍ‬
‫مفش إليك سرا؛‬
‫ألن العلماء قد قالوا‪ :‬تباعد عمن ال رغبة فيه‪ .‬وأان جدير مبباعدتك‪ ،‬والتماس اخلالص يل مما وقع يف‬
‫نفس األسد من هذا األمر‪.‬‬
‫فلما مسع النمر هذا من كالمهما قفل راجع ا‪ ،‬فدخل على أم األسد؛ فأخذ عليها العهود ومواثيق أن ال‬
‫تفشي ما يسر إليها‪ ،‬فعاهدته على ذلك فأخربها مبا مسع من كالم كليلة ودمنة‪ .‬فلما أصبحت دخلت‬
‫على األسد‪ ،‬فوجدته كئيبا حزينا مهموما‪ :‬ملا ورد عليه من قتل شرتبة‪ .‬فقالت له‪ :‬ما هذا اهلم الذي قد‬
‫أخذ منك‪ ،‬وغلب عليك? قال‪ :‬حيزنين قتل شرتبة؛ إذ تذكرت صحبته ومواظبته على خدميت‪ ،‬وما‬
‫كنت أمسع من مناصحته‪ .‬قالت أم األسد‪ :‬إن أشد ما شهد امرٌؤ بال علم وال يقني? ولوال ما قالت‬

‫‪53‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫العلماء يف إذاعة األسرار وما فيها من اإلمث والشنار ‪ ،‬لذكرت لك وألخربتك مبا علمت‪ .‬قال األسد‪:‬‬
‫إن أقوال العلماء هلا وجوه كثريةٌ‪ٍ ،‬‬
‫ومعان خمتلفةٌ‪ .‬وإين ألعلم صواب ما تقولني‪ :‬وإن كان عندك رأي فال‬ ‫ٌ‬
‫تطويه عين؛ وإن كان قد أسر إليك أح ٌد سرا فأخربيين به‪ ،‬وأطلعيين عليه‪ ،‬وعلى مجلة األمر‪ .‬فأخربته‬
‫جبميع ما ألقاه إليها النمر من غري أن ختربه ابمسه‪ .‬وقال‪ :‬إين مل أجهل قول العلماء يف تعظيم العقوبة‬
‫وتشديدها‪ ،‬وما يدخل على الرجل من العار يف إذاعة األسرار؛ ولكين أحببت أن أخربك مبا فيه‬
‫املصلحة لك؛ وإن وصل خطؤه وضرره إىل العامة فإصرارهم على خيانة امللك مما ال يدفع الشر عنهم‪،‬‬
‫وبه حيتج السفهاء‪ ،‬ويستحسنون ما يكون من أعماهلم القبيحة‪ .‬وأشد معارهم إقدامهم على ذي احلزم‪.‬‬
‫فلما قضت أم األسد هذا الكالم‪ ،‬استدعى أصحابه وجنده فأدخلوا عليه‪ .‬مث أمر أن يؤتى بدمنة‪ .‬فلما‬
‫وقف بني يدي األسد‪ ،‬ورأى ما هو عليه من احلزن والكآبة‪ ،‬التفت إىل بعض احلاضرين فقال‪ :‬مالذي‬
‫حدث? وما الذي أحزن امللك? فالتفتت أم األسد إليه وقالت‪ :‬قد أحزن امللك بقاؤك ولو طرفة عني؛‬
‫ولن يدعك بعد اليوم حيا! قال دمنة‪ :‬ما ترك األول لآلخر شيئا‪ :‬ألنه يقال‪ :‬أشد الناس يف توقي‬
‫الشر‪ ،‬يصيبه الشر قبل املستسلم له‪ .‬فال يكونن امللك وخاصته وجنوده املثل السوء؛ وقد علمت أنه قد‬
‫قيل‪ :‬من صحب األشرار‪ ،‬وهو يعلم حاهلم‪ ،‬كان أذاه من نفسه‪ :‬ولذلك انقطعت النساك أبنفسها عن‬
‫اخللق‪ ،‬واختارت الوحدة على املخالطة‪ ،‬وحب العمل هلل على حب الدنيا وأهلها‪ .‬ومن جيزي ابخلري‬
‫خريا وابإلحسان إحساانا إال هللا? ومن طلب اجلزاء على اخلري من الناس‪ .‬وإن أحق ما رغبت فيه رعية‬
‫امللك هو حماسن األخالق ومواقع الصواب ومجيل السري؛ وقد قالت العلماء‪ :‬من صدق ما ينبغي أن‬
‫يكذب‪ ،‬وكذب ما ينبغي أن يصدق‪ ،‬خرج من مصاف العقالء‪ ،‬وكان جديرا ابالزدراء‪ .‬فينبغي أال‬
‫ٍ‬
‫بشبهة‪ .‬ولست أقول هذا كراه اة للموت‪ :‬فإنه وإن كان كريها‪ ،‬ال منجى منه‪.‬‬ ‫يعجل امللك يف أمري‬
‫نفس وأعلم أن هوى امللك يف إتالفهن‪ ،‬لطبت له بذلك نفسا‪.‬‬ ‫هالك‪ .‬ولو كانت يل مائة ٍ‬
‫حي ٌ‬ ‫وكل ٌ‬
‫فقال بعض اجلند‪ :‬مل ينطق هبذا حلبه ابمللك‪ ،‬ولكن خلالص نفسه‪ ،‬والتماس العذر هلا‪ .‬فقال هلا دمنة‪:‬‬
‫عيب? وهل أح ٌد أقرب إىل اإلنسان من نفسه? وإذا مل‬
‫ويلك! وهل علي يف التماس العذر لنفسي ٌ‬
‫يلتمس هلا العذر‪ ،‬فمن يلتمسه? لقد ظهر منك ما مل تكن متلك كتمانه من احلسد والبغضاء؛ ولقد‬
‫ألحد خريا؛ وأنك عدو نفسك‪ ،‬فمن سواها ابألوىل‪ .‬فمثلك‬ ‫عرف من مسع منك ذلك أنك ال حتب ٍ‬
‫ال يصلح أن يكون مع البهائم‪ ،‬فضالا عن أن يكون مع امللك‪ ،‬وأن يكون ببابه‪ .‬فلما أجابه دمنة‬
‫بذلك‪ ،‬خرج مكتئبا حزينا مستحيا‪ .‬فقالت أم األسد لدمنة‪ :‬لقد عجنب منك‪ ،‬أيها احملتال‪ ،‬يف قلة‬

‫‪54‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬
‫ني و ٍ‬
‫احدة‪،‬‬ ‫حيائك‪ ،‬وكثرة وقاحتك‪ ،‬وسرعة جوابك ملن كلمك‪ .‬قال دمنة‪ :‬ألنك تنظرين إىل بع ٍ‬
‫احدة‪ ،‬مع أن شقاوة جدي قد زوت عين كل شيء‪ ،‬حىت لقد سعوا إىل امللك‬ ‫أبذن و ٍ‬
‫وتسمعني مين ٍ‬
‫ابلنميمة علي‪ ،‬ولقد صار من بباب امللك الستخفافهم به‪ ،‬وطول كرامته إايهم‪ ،‬وما هم فيه من العيش‬
‫والنعمة‪ ،‬ال يدرون يف أي وقت ينبغي هلم الكالم‪ ،‬وال مىت جيب عليهم السكوت‪ .‬قالت‪ :‬أال تنظرون‬
‫إىل هذا الشقي‪ ،‬مع عظم ذنبه‪ ،‬كيف جيعل نفسه بريئا كمن ال ذنب له? قال دمنة‪ :‬إن الذين يعملون‬
‫غري أعماهلم ليسوا على شيء؛ كالذي يضع الرماد موضع ا ينبغي أن يضع فيه الرمل؛ ويستعمل فيه‬
‫السرجني ‪ ،‬والرجل الذي يلبس لباس املرأة‪ ،‬واملرأة اليت تلبس لباس الرجل‪ ،‬والضيف الذي يقول‪ :‬أان‬
‫رب البيت‪ ،‬والذي ينطق بني اجلماعة مبا ال يسأل عنه‪ .‬وإمنا الشقي من ال يعرف األمور وال أحوال‬
‫الناس ال يقدر على دفع الشر عن نفسه‪ ،‬وال يستطيع ذلك‪ .‬قالت أم األسد‪ :‬أتظن أيها الغادر احملتال‬
‫بقولك هذا أنك ختدع امللك‪ ،‬وال يسجنك? قال دمنة‪ :‬الغادر الذي ال أيمن عدوه مكره‪ ،‬وإذا‬
‫انج من‬
‫استمكن من عدوه قتله على غري ذنب‪ .‬قالت أم األسد‪ :‬أيها الغادر الكذوب‪ ،‬أتظن أنك ٍ‬
‫عاقبة كذبك? وأن حمالك هذا ينفعك مع عظم جرمك? قال دمنة‪ :‬الكذوب إيل يقول ما مل يكن‪،‬‬
‫مبني‪ .‬قالت أم األسد‪ :‬العلماء منكم هم الذين يوضحون‬ ‫اضح ٌ‬
‫وأييت مبا مل يقل ومل يفعل‪ ،‬وكالمي و ٌ‬
‫أمره بفضل اخلطاب‪ .‬مث هنضت فخرجت‪ .‬فدفع األسد دمنة إىل القاضي‪ ،‬فأمر حببسه‪ ،‬فألقي يف عنقه‬
‫حبل‪ ،‬وانطلق به إىل السجن‪ .‬فلما انتصف الليل أخرب كليلة أن دمنة يف احلبس‪ .‬فأاته مستخفيا؛ فلما‬
‫ٌ‬
‫رآه وما هو عليه من ضيق القيود‪ ،‬وخرج املكان‪ ،‬بكى‪ ،‬وقال له‪ :‬ما وصلت إىل ما وصلت إليه إال‬
‫الستعمالك اخلديعة واملكر‪ ،‬وإضرابك عن العظة؛ ولكن مل يكن لدي ب ٌد فيما مضى من إنذارك‬
‫جمال‪.‬‬
‫مقال؛ ولكل موض ٍع ٌ‬
‫مقام ٌ‬‫والنصيحة لك واملسارعة إليك يف خلوص الرغبة فيك‪ :‬فإنه لكل ٍ‬
‫ولو كنت قصرت يف عظتك حني كنت يف ٍ‬
‫عافية‪ ،‬لكنت اليوم شريكك يف ذنبك؛ غري أن العجب‬
‫دخل منك مدخالا قهر رأيك‪ ،‬وغلب على عقلك؛ وكنت أضرب لك األمثال كثريا‪ ،‬وأذكرك قول‬
‫العلماء‪ .‬وقد قالت العلماء‪ :‬إن احملتال ميوت قبل أجله‪ .‬قال دمنة‪ :‬قد عرفت صدق مقالتك‪ .‬وقد‬
‫خري‬
‫قالت العلماء‪ :‬ال جتزع من العذاب إذا وقفت منك على خطيئة؛ وألن تعذب يف الدنيا جبرمك‪ٌ ،‬‬
‫عظيم‪ ،‬وعقاب‬‫من أن تعذب يف اآلخرة جبهنم مع اإلمث‪ .‬قال كليلة‪ :‬قد فهمت كالمك؛ ولكن ذنبك ٌ‬
‫معتقل يسمع كالمهما‪ ،‬وال يراينه؛ فعرف معاتبة كليلة‬
‫ٌ‬ ‫أليم‪ .‬وكان بقرهبما يف السجن فه ٌد‬
‫األسد شدي ٌد ٌ‬
‫مقر بسوء عمله‪ ،‬وعظيم ذنبه؛ فحفظ احملاورة بينهما‪،‬‬
‫لدمنة على سوء فعله‪ ،‬وما كان منه؛ وأن دمنة ٌ‬

‫‪55‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫وكتمها ليشهد هبا إن سئل عنها‪ .‬مث إن كليلة انصرف إىل منزله‪ ،‬ودخلت أم األسد حني أصبحت‬
‫على األسد؛ وقالت له‪ :‬اي سيد الوحوش‪ ،‬حوشيت أن تنسى ما قلت ابألمس؛ وأنك أمرت به لوقته؛‬
‫وأرضيت به رب العباد‪ .‬وقد قالت العلماء‪ :‬ال ينبغي لإلنسان أن يتواىن يف اجلد للتقوى؛ بل ال ينبغي‬
‫أن يدافع عن ذنب األثيم‪ .‬فلما مسع األسد كالم أمه‪ ،‬أمر أن حيضر النمر‪ ،‬وهو صاحب القضاء‪ .‬فلما‬
‫للجواس العادل‪ :‬اجلسا يف موضع احلكم‪ ،‬وانداي يف اجلند صغريهم وكبريهم أن حيضروا‬ ‫حضر قال له و ّ‬
‫وينظروا يف حال دمنة‪ ،‬ويبحثوا يف شأنه‪ ،‬ويفحصوا عن ذنبه‪ ،‬ويثبتوا قوله وعذره يف كتب القضاء؛‬
‫وارفعا إىل ذلك يوما فيوما‪ .‬فلما مسع ذلك النمر واجلواس العادل وكان هذا اجلواس عم األسد‪ ،‬قاال‪:‬‬
‫مسعا وطاع اة ملا أمر امللك‪ .‬وخرجا من عنده؛ فعمال مبقتضى ما أمرمها به؛ حىت إذا مضى من اليوم‬
‫الذي جلسوا فيه ثالث ساعات‪ ،‬أمر القاضي أن يؤتى بدمنة؛ فأيت به‪ ،‬فأوقف بني يديه‪ ،‬واجلماعة‬
‫حضور‪ .‬فلما استقربه املكان اندى سيد اجلمع أبعلى صوته‪ :‬أيها اجلمع‪ .‬إنكم قد علمتم أن سيد‬
‫السباع مل يزل منذ قتل شرتبة خائر النفس‪ ،‬كثري اهلم واحلزن‪ ،‬يرى أنه قد قتل شرتبة بغري ذنب؛ وأنه‬
‫أخذه بكذب دمنة ومنيمته‪ .‬وهذا القاضي قد أمر أن جيلس جملس القضاء‪ ،‬ويبحث عن شأن دمنة‪.‬‬
‫فمن علم منكم شيئ ا يف أمر دمنة من خ ٍري أو ش ٍر‪ ،‬فليقل ذلك‪ ،‬وليتكلم به على رءوس اجلمع‬
‫واألشهاد‪ ،‬ليكون القضاء يف أمره أوىل‪ ،‬والعجلة من اهلوى‪ ،‬ومتابعة األصحاب على الباطل ذل‪.‬‬
‫فعندها قال القاضي‪ :‬أيها اجلمع امسعوا قول سيدكم‪ ،‬وال تكتموا ما عرفتم من أمره؛ واحذروا يف السرت‬
‫خصال‪ :‬إحداهن‪ ،‬وهي أفضلهن‪ ،‬أال تزدروا فعله‪ ،‬وال تعدوه يسريا‪ :‬فمن أعظم اخلطااي قتل‬‫ٍ‬ ‫عليه ثالث‬
‫الربيء الذي ال ذنب له ابلكذب والنميمة؛ ومن علم من أمر هذا الكتاب الذي اهتم الربيء بكذبه‬
‫ومنيمته شيئا‪ ،‬فسرت عليه فهو شريكه يف اإلمث والعقوبة‪ .‬والثانية إذا اعرتف املذنب بذنبه‪ ،‬كان أسلم له‪،‬‬
‫وأحرى ابمللك وجنده أن يعفوا عنه ويصفحوا‪ .‬والثالثة ترك مراعاة أهل الذم والفجور‪ ،‬وقطع أسباب‬
‫مواصالهتم ومودهتم عن اخلاصة والعامة؛ فمن علم من أمر هذا احملتال شيئ ا‪ ،‬فليتكلم به على رءوس‬
‫ميت‪ ،‬أجلم ٍ‬
‫بلجام من ان ٍر‬ ‫األشهاد ممن حضر‪ ،‬ليكون ذلك حجةا عليه؛ وقد قيل‪ :‬إنه من كتم شهادة ٍ‬
‫يوم القيامة؛ فليقل كل واحد منكم ما علم‪ .‬فلما مسع ذلك اجلمع كالمه‪ ،‬أمسكوا عن القول‪ .‬فقال‬
‫دمنة‪ :‬ما يسكتكم? تكلموا مبا علمتم؛ واعلموا أن لكل كلمة جواابا‪ .‬وقد قالت العلماء‪ :‬من يشهد مبا‬
‫ال ي‪ ،‬ويقول ما ال يعلم‪ ،‬أصابه ما أصاب الطبيب الذي قال ملا ال يعلمه‪ :‬إين أعلمه‪ .‬قالت اجلماعة‪:‬‬
‫وكيف كان ذلك?‬

‫‪56‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫قال دمنة‪ :‬زعموا أنه كان يف بعض املدن طبيب له رفق وعلم‪ ،‬وكان ذا فطنة فيما جيري على يديه من‬
‫املعاجلات‪ ،‬فكرب ذلك الطبيب وضعف بصره‪ .‬وكان مللك تلك املدينة ابنة قد زوجها البن أخ له‪،‬‬
‫فعرض هلا ما يعرض للحوامل من األوجاع‪ .‬فجيء هبذا الطبيب‪ ،‬فلما حضر‪ ،‬سأل اجلارية عن وجعها‬
‫وما جتد‪ ،‬فأخربته‪ ،‬فعرف دائها ودواءها‪ ،‬وقال‪ :‬لو كنت أبصر‪ ،‬جلمعت األخالط على معرفيت‬
‫أبجناسها‪ ،‬وال أثق يف ذلك أبحد غريي‪ .‬وكان يف املدينة رجل سفيه‪ ،‬فبلغه اخلرب‪ ،‬فأاتهم وادعى علم‬
‫الطب‪ ،‬وأعلمهم انه خبري مبعرفة أخالط األدوية والعقاقري‪ ،‬عارف بطبائع األدوية املركبة واملفردة‪ ،‬فأمره‬
‫امللك أن يدخل خزانة األدوية فيأخذ من أخالط الدواء حاجته‪ ،‬فلما دخل السفيه اخلزانة‪ ،‬وعرضت‬
‫سم قاتل لوقته‪،‬‬
‫عليه األدوية‪ ،‬وال يدري ما هي‪ ،‬وال له هبا معرفة‪ ،‬أخذ يف مجلة ما أخذ منها صرة فيها ّ‬
‫وخلطه يف األدوية‪ ،‬وال علم له به‪ ،‬وال معرفة عنده جبنسه‪ .‬فما متت أخالط األدوية‪ ،‬سقى اجلارية منه‪،‬‬
‫فماتت لوقتها‪ .‬فلما عرف امللك ذلك‪ ،‬دعا ابلسفيه‪ ،‬فسقاه من ذلك الدواء‪ ،‬فمات من ساعته‪ .‬وإمنا‬
‫ضربت لكم هذا املثل لتعلموا ما يدخل على القائل والعامل من الزلة ابلشبه يف اخلروج عن احلد‪ ،‬فمن‬
‫خرج منكم عن حده أصابه ما أصاب ذلك اجلاهل‪ ،‬ونفسه امللومة‪.‬‬
‫وقد قالت العلماء‪ :‬رمبا جزى املتكلم بقوله‪ .‬والكالم بني أيديكم‪ :‬فانظروا ألنفسكم‪ .‬فتكلم سيد‬
‫اخلنازير‪ ،‬إلدالله وتيهه مبنزلته عند األسد‪ ،‬فقال‪ :‬اي أهل الشرف من العلماء‪ ،‬امسعوا مقاليت‪ ،‬وعوا‬
‫أبحالمكم كالمي‪ ،‬فالعلماء قالوا يف شأن الصاحلني‪ :‬إهنم يعرفون بسيماههم‪ ،‬وأنتم معاشر ذوي‬
‫االقتدار‪ ،‬حبسن صنع هللا لكم‪ ،‬ومتام نعمته لديكم‪ ،‬تعرفون الصاحلني بسيماهم وصورهم‪ ،‬وختربون‬
‫ابلشيء الصغري‪ ،‬وهاهنا أشياء كثرية تدل على هذا الشقي دمنة‪ ،‬وخترب عن شره‪ ،‬فاطلبوها على ظاهر‬
‫جسمه‪ :‬لتستيقنوا وتسكنوا إىل ذلك‪ .‬قال القاضي لسيد اخلنازير‪ :‬قد علمت‪ ،‬وعلم اجلماعة‬
‫احلاضرون‪ ،‬أنك عارف مبا يف الصور من عالمات السوء‪ ،‬ففسر لنا ما تقول‪ ،‬وأطلعنا على ما ترى يف‬
‫صورة هذا الشقي‪ .‬فأخذ سيد اخلنازير يذم دمنة‪ ،‬وقال‪ :‬إن العلماء قد كتبوا وأخربوا‪ :‬أنه من كانت‬
‫عينه اليسرى أصغر من عينه اليمىن وهي ال تزال ختتلج‪ ،‬وكان أنفه مائالا إىل جنبه األمين‪ ،‬فهو شقي‬
‫خبيث‪ .‬قال له دمنة‪ :‬شأنك عجب‪ ،‬أيها القذر‪ ،‬ذو العالمات الفاضحة القبيحة‪ ،‬مث العجب من‬
‫جرائتك على طعام امللك‪ ،‬وقيامك بني يديه‪ ،‬مع ما جبسمك من القذر والقبح‪ ،‬ومع ما تعرفه أنت‬
‫ويعرفه غريك من عيوب نفسك‪ ،‬أفتتكلم يف النقي اجلسم الذي ال عيب فيه? ولست أان وحدي أطلع‬
‫على عيبك‪ ،‬لكن مجيع من حضر قد عرف ذلك‪ .‬وقد كان حيجزين عن إظهاره ما بيين وبينك من‬

‫‪57‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫يف بغري علم على‬


‫علي وهبتين يف وجهي‪ ،‬وقمت بعداويت‪ ،‬فقلت ما قلت ّ‬
‫الصداقة‪ .‬فأما إذا قد كذبت ّ‬
‫رؤوس احلاضرين ‪ ،‬فأين أقتصر على إظهار ما أعرف من عيوبك‪ ،‬وتعرف اجلماعة‪ ،‬وحق على من‬
‫عرفك حق معرفتك أن مينع امللك من استعماله إايك على طعامه‪ ،‬فلو كلّفت أن تعمل الزراعة لكنت‬
‫جديرا ابخلذالن فيها‪ ،‬فاألحرى بك أالّ تدنو إىل عمل من األعمال‪ ،‬وأالّ تكون دابغا وال حجاما‬
‫ِ‬
‫لعام ٍّي فضالا عن ِّ‬
‫خاص خدمة امللك‪ .‬قال سيد اخلنازير‪ :‬أتقول يل هذه املقالة‪ ،‬وتلقاين هبذا امللقى?‬ ‫ّ‬
‫جل‪ ،‬املنفوخ البطن‪،‬‬‫قال دمنة‪ ،‬نعم‪ ،‬وحق ا قلت فيك‪ ،‬وإايك أعين‪ ،‬أيها األعرج املكسور األفدع ال ِّر ِ‬
‫ِ‬
‫السيء املنظر واملخرب‪ .‬فلما قال ذلك دمنة‪ ،‬تغري وجه سيد اخلنازير واستعرب واستحى‪،‬‬ ‫األفلح الشفتني‪،‬‬
‫وتلجلج لسانه‪ ،‬واستكان وفرت نشاطه‪ .‬فقال دمنة‪ ،‬حني رأى انكساره وبكاءه‪ :‬إمنا ينبغي أن يطول‬
‫بكاؤك‪ ،‬إذا اطلع امللك على قذرك وعيوبك فعزلك عن طعامه‪ ،‬وحال بينك وبني خدمته‪ ،‬وأبعدك عن‬
‫حضرته‪ .‬مث إن شغربا قد جربه فوجد فيه أمانة وصدق ا‪ ،‬فرتبه يف خدمته‪ ،‬وأمره أن حيفظ ما جيري بينهم‬
‫‪ ،‬ويطلعه على ذلك‪ .‬فقام الشغرب فدخل على األسد فحدثه ابحلديث كله على جليته‪ .‬فأمر األسد‬
‫بعزل سيد اخلنازير عن عمله‪ ،‬وأمر أال يدخل عليه‪ ،‬وال يرى وجهه‪ ،‬وأمر بدمنة أن يسجن‪ ،‬وقد مضى‬
‫من النهار أكثره‪ ،‬ورجع كل واحد منهم إىل منزله‪.‬‬
‫مث إن شغربا يقال له روزبة‪ ،‬كان بينه وبني كليلة إخاء ومودة‪ ،‬وكان عند األسد وجيها‪ ،‬وعليه كرميا‪،‬‬
‫واتفق أن كليلة أخذه الوجد إشفاقا وحذرا على نفسه وأخيه‪ ،‬فمرض ومات‪ ،‬فانطلق هذا الشغرب إىل‬
‫دمنة‪ ،‬فأخربه مبوت كليلة فبكى وحزن‪ ،‬وقال‪ :‬ما أصنع ابلدنيا بعد مفارقة األخ الصفى?????! ولكن‬
‫أمحد هللا تعاىل حيث مل ميت كليلة حىت أبقى يل من ذوي قرابيت أخ ا مثلك‪ :‬فإين قد وثقت بنعمة هللا‬
‫إيل فيما رأيت من اهتمامك يب ومراعاتك يل‪ ،‬وقد علمت أنك رجائي وركين فيما أان‬ ‫تعاىل وإحسانه ّ‬
‫فيه‪ ،‬فأريد من إنعامك أن تنطلق إىل مكان كذا‪ ،‬فتنظر إىل ما مجعته أان وأخي حبيلتنا وسعينا ومشيئة‬
‫هللا تعاىل‪ ،‬فتأتيين به‪ ،‬ففعل الشغرب ما أمره به دمنة‪ .‬فلما وضع املال بني يديه أعطاه شطره‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫إنك على الدخول واخلروج على األسد أقدر من غريك‪ ،‬فتفرغ لشأين‪ ،‬واصرف اهتمامك إيل‪ ،‬وامسع ما‬
‫أذكر به عند األسد‪ ،‬إذا رفع إليه ما جيري بيين وبني اخلصوم‪ ،‬وما يبدو من أم األسد يف حقي‪ ،‬وما‬
‫ترى من متابعة األسد هلا‪ ،‬وخمالفته إايها يف أمري‪ ،‬وأحفظ ذلك كله‪ .‬فأخذ الشغرب ما أعطاه دمنة‬
‫وانصرف عنه على هذا العهد‪ .‬فانطلق إىل منزله فوضع املال فيه‪ .‬مث إن األسد ب ّكر من الغد فجلس‪،‬‬
‫حىت إذا مضى من النهار ساعتان‪ ،‬استأذن عليه أصحابه فأذن هلم‪ ،‬فدخلوا عليه‪ ،‬ووضعوا الكتاب بني‬

‫‪58‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫يديه‪ .‬فلما عرف قوهلم وقول دمنة دعا أمه فقرأ عليها ذلك‪ .‬فلما مسعت ما يف الكتاب اندت أبعلى‬
‫صوهتا‪ :‬إن أان أغلظت يف القول فال تلومين‪ :‬فإنك لست تعرف ضرك من نفعك‪ .‬أليس هذا مما كنت‬
‫أهنا ك عن مساعه‪ :‬ألنه كالم هذا اجملرم املسيء إلينا‪ ،‬الغادر بذمتنا? مث إهنا خرجت مغضبة‪ ،‬وذلك بعني‬
‫الشغرب الذي أخاه دمنة وبسمعه‪ .‬فخرج يف أثرها مسرعا‪ ،‬حىت أتى دمنة‪ ،‬فحدثه ابحلديث‪ .‬فبينما هو‬
‫عنده إذ جاء رسول انطلق بدمنة إىل اجلمع عند القاضي‪ .‬فلما مثل بني يدي القاضي استفتح سيد‬
‫اجمللس فقال‪ :‬اي دمنة قد أنبأين خبربك األمني الصادق وليس ينبغي لنا أن نفحص عن شأنك أكثر من‬
‫هذا‪ :‬ألن العلماء قالوا‪ :‬إن هللا تعاىل جعل الدنيا سببا ومصداقا لآلخرة‪ :‬ألهنا دار الرسل واألنبياء‬
‫الدالني على اخلري اهلادين إىل اجلنة الداعني إىل معرفة هللا تعاىل‪ .‬وقد ثبت شأنك عندان وأخربان عنك‬
‫من وثقنا بقوله إال أن سيدان أمران ابلعودة يف أمرك والفحص عن شأنك وإن كان عندان ظاهرا بينا‪.‬‬
‫قال دمنة‪ :‬أراك أيها القاضي مل تتعود العدل يف القضاء وليس يف عدل امللك دفع املظلومني ومن ال‬
‫ذنب له إىل قاض غري عادل بل املخاصمة عنهم والذود‪ .‬فكيف ترى أن أقتل ومل أخاصم? وتعجل‬
‫ذلك موافقة هلواك ومل متض بعد ذلك ثالثة أايم‪ .‬ولكن صدق الذي قال‪ :‬إن الذي تعود عمل الرب هني‬
‫عليه عمله وإن أضربه‪ .‬قال القاضي‪ :‬إن جند يف كتب األولني‪ :‬أن القاضي ينبغي له أن يعرف عمل‬
‫احملسن واملسيء ليجازى احملسن إبحسانه واملسيء إبساءته فإذا ذهب إىل هذا ازداد احملسنون حرصا‬
‫على اإلحسان واملسيؤون إجتناابا للذنوب‪ .‬والرأي لك اي دمنة أن تنظر الذي وقعت فيه وتعرتف‬
‫بذنبك وتقر به وتتوب‪ .‬فأجابه دمنة‪ :‬إن صاحلي القضاة ال يقطعون ابلظن وال يعملون به ال يف‬
‫اخلاصة وال يف العامة ‪ :‬لعلمهم أن الظن ال يغين من احلق شيئا‪ .‬وأنتم إن ظننتم أين جمرم فيما فعلت فإين‬
‫أعلم بنفسي منكم وعلمي بنفسي يقني الشك فيه وعلمكم يب غاية الشك وإمنا قبح أمري عندكم أين‬
‫سعيت بغريي فما عذري عندكم إذا سعيت بنفسي كاذاب عليها فأسلمتها للقتل والعطب على معرفة‬
‫مين برباءيت وسالمي مما قرفت به? ونفسي ألعظم األنفس على حرمة وأوجبها حق ا‪ .‬فلو فعلت هذا‬
‫أبقصاكم وأدانكم‪ ،‬ملا وسعين يف ديين‪ ،‬وال حسن يب يف مروءيت‪ ،‬وال حق يل أن أفعله فكيف أفعله‬
‫بنفسي? فأكفف أيها القاضي عن هذه املقالة‪ :‬فإهنا إن كانت منك نصيحة فقد أخطأت موضعها‬
‫وإن ك انت خديعة فإن أقبح اخلداع ما نظرته وعرفت أنه من غري أهله مع أن اخلداع واملكر ليسا من‬
‫أعمال صاحلي القضاة وال تقاة الوالة واعلم أن قولك مما يتخذه اجلهال واألشرار سنة يقتدون هبا‪ :‬ألن‬
‫أمور القضاة أيخذ بصواهبا أهل الصواب وخبطئها أهل اخلطأ والباطل والقليلو الورع وأان خائف عليك‬

‫‪59‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أيها القاضي من مقالتك هذه أعظم الرزااي والبالاي وليس من البالء و املصيبة أنك مل تزل يف نفس‬
‫امللك واجلند واخلاصة والعامة فاضالا يف رأيك مقنع ا يف عدلك مرضي ا يف حكمك وعفافك وفضلك‬
‫وإمنا البالء كيف أنسيت ذلك يف أمري‪ .‬فلما مسع القاضي ذلك من لفظ دمنة هنض فرفعه إىل األسد‬
‫على وجهه فنظر يف األسد مث دعا أمه فعرضه عليها‪ .‬فقالت حني تدبرت كالم دمنة لألسد‪ :‬لقد صار‬
‫اهتمامي مبا أختوف من احتيال دمنة لك مبكره ودهائه حىت يقتلك أو يفسد عليك أمرك أعظم من‬
‫اهتمامي مبا سلف من ذنبه إليك يف الغش والسعاية حىت قتلت صديقك‪ .‬بغري ذنب‪ .‬فوقع قوهلا يف‬
‫نفسه‪ .‬فقال هلا‪ :‬أخربيين عن الذي أخربك عن دمنة مبا أخربك فيكون حجة يل يف قتل دمنة‪ .‬فقالت‪:‬‬
‫إين ألكره أن أفشي سر استكتمنيه‪ ،‬فال يهنئين سروري بقتل دمنة إذا تذكرت أين استظهرت عليه‬
‫بركوب ما هنت عنه العلماء من كشف السر ولكين أطالب الذي استودعنيه أن جيعلين يف حل من‬
‫ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما مسع منه‪ .‬مث انصرفت وأرسلت إىل النمر وذكرت له ما حيق عليه من‬
‫حسن معاونته األسد على احلق وإخراج نفسه من الشهادة اليت ال يكتمها مثله مع ما حيق عليه من‬
‫نصر املظلومني وتثبيت حجة احلق يف احلياة واملمات‪ :‬فإنه قد قالت العلماء‪ :‬من كتم حجة ميت‬
‫أخطأ حجته يوم القيامة‪ .‬فلم تزل به حىت قام فدخل على األسد فشهد عنده مبا مسع من إقرار دمنة‪.‬‬
‫فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد احملبوس الذي مسع إقرار دمنة وحفظه إىل األسد فقال‪ :‬إن عندي‬
‫شهادة‪ .‬فأخرجوه‪ .‬فشهد على دمنة مبا مسع من إقراره‪ .‬فقال هلما األسد‪ :‬ما منعكما أن تقوما‬
‫بشهادتكما وقد علمتما أمران واهتمامنا ابلفحص عن أمر دمنة فقال كل واحد منهما‪ :‬قد علمنا أن‬
‫شهادة الواحد ال توجب حكم ا فكرهنا التعرض لغري ما ميضي به احلكم حىت إذا شهد أحدان قام‬
‫اآلخر بشهادته فقبل األشد قوهلما‪ .‬وأمر بدمنة أن يقتل يف حبسه‪ :‬فقتل أشنع قتلة‪ .‬فمن نظر يف هذا‬
‫فليعلم أن من أراد منفعة نفسه بضر غريه ابخلالبة واملكر فإنه سيجري على خالبته ومكره‪.‬ايا يف‬
‫حكمك وعفافك وفضلك وإمنا البالء كيف أنسيت ذلك يف أمري‪ .‬فلما مسع القاضي ذلك من لفظ‬
‫دمنة هنض فرفعه إىل األسد على وجهه فنظر يف األسد مث دعا أمه فعرضه عليها‪ .‬فقالت حني تدبرت‬
‫كالم دمنة لألسد‪ :‬لقد صار اهتمامي مبا أختوف من احتيال دمنة لك مبكره ودهائه حىت يقتلك أو‬
‫يفسد عليك أمرك أعظم من اهتمامي مبا سلف من ذنبه إليك يف الغش والسعاية حىت قتلت صديقك‪.‬‬
‫بغري ذنب‪ .‬فوقع قوهلا يف نفسه‪ .‬فقال هلا‪ :‬أخربيين عن الذي أخربك عن دمنة مبا أخربك فيكون حجة‬
‫يل يف قتل دمنة‪ .‬فقالت‪ :‬إين ألكره أن أفشي سر استكتمنيه‪ ،‬فال يهنئين سروري بقتل دمنة إذا تذكرت‬

‫‪60‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أين استظهرت عليه بركوب ما هنت عنه العلماء من كشف السر ولكين أطالب الذي استودعنيه أن‬
‫جيعلين يف حل من ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما مسع منه‪ .‬مث انصرفت وأرسلت إىل النمر وذكرت له‬
‫ما حيق عليه من حسن معاونته األسد على احلق وإخراج نفسه من الشهادة اليت ال يكتمها مثله مع ما‬
‫حيق عليه من نصر املظلومني وتثبيت حجة احلق يف احلياة واملمات‪ :‬فإنه قد قالت العلماء‪ :‬من كتم‬
‫حجة م يت أخطأ حجته يوم القيامة‪ .‬فلم تزل به حىت قام فدخل على األسد فشهد عنده مبا مسع من‬
‫إقرار دمنة‪ .‬فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد احملبوس الذي مسع إقرار دمنة وحفظه إىل األسد فقال‪:‬‬
‫إن عندي شهادة‪ .‬فأخرجوه‪ .‬فشهد على دمنة مبا مسع من إقراره‪ .‬فقال هلما األسد‪ :‬ما منعكما أن‬
‫تقوما بشهادتكما وقد علمتما أمران واهتمامنا ابلفحص عن أمر دمنة فقال كل واحد منهما‪ :‬قد علمنا‬
‫أن شهادة الواحد ال توجب حكم ا فكرهنا التعرض لغري ما ميضي به احلكم حىت إذا شهد أحدان قام‬
‫اآلخر بشهادته فقبل األشد قوهلما‪ .‬وأمر بدمنة أن يقتل يف حبسه‪ :‬فقتل أشنع قتلة‪ .‬فمن نظر يف هذا‬
‫فليعلم أن من أراد منفعة نفسه بضر غريه ابخلالبة واملكر فإنه سيجري على خالبته ومكره‪.‬‬
‫ابب احلمامة املطوقة‬
‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت مثل املتحابني كيف قطع بينهما الكذب وإىل ماذا‬
‫صار عاقبة أمره من بعد ذلك‪ .‬فحدثين‪ ،‬إن رأيت؛ عن إخوان الصفاء كيف يبتدأ تواصلهم ويستمع‬
‫بعضهم ببعض? قال الفيلسوف‪ :‬إن العاقل ال يعدل ابإلخوان شيئا فاإلخوان هم األعوان على اخلري‬
‫كله‪ ،‬واملؤاسون عند ما ينوب من املكروه‪ .‬ومن أمثال ذلك مثل احلمامة املطوقة واجلرذ والظيب والغراب‪.‬‬
‫قال امللك‪ :‬وكيف كان ذلك? قال بيداب‪ :‬زعموا أنه كان أبرض سكاوندجني‪ ،‬عند مدينة داهر‪ ،‬مكان‬
‫كثري الصيد‪ ،‬ينتابه الصيادون؛ وكان يف ذلك املكان شجرة كثرية األغصان ملتفة الورق فيها وكر غراب‬
‫فبينما هو ذات يوم ساقط يف وكره إذ بصر بصياد قبيح املنظر‪ ،‬سيئ اخللق‪ ،‬على عاتقه شبكة‪ ،‬ويف‬
‫يده عص ا مقبالا حنو الشجرة‪ ،‬فذعر منه الغراب؛ وقال‪ :‬لقد ساق هذا الرجل إىل هذا املكان‪ :‬إما حيين‬
‫وإما حني غريي‪ .‬فألثبنت مكاين حىت أنظر ماذا يصنع‪ .‬مث إن الصياد نصب شبكته‪ ،‬ونثر عليها احلب‪،‬‬
‫وكمن قريبا منها‪ ،‬فلم يلبث إال قليال‪ ،‬حىت مرت به محامة يقال هلا املطوقة‪ ،‬وكانت سيدة احلمام ومعها‬
‫ِ‬
‫احلب يلتقطنه فعلقن يف الشبكة كلهن؛‬
‫محام كثري؛ فعميت هي وصواحبها عن الشرك‪ ،‬فوقعن على ّ‬
‫وأقبل الصياد فرح ا مسرورا‪ .‬فجعلت كل محامة تضطرب يف حبائلها وتلتمس اخلالص لنفسها‪ .‬قالت‬
‫املطوقة‪ :‬ال ختاذلنا يف املعاجلة وال تكن نفس إحداكن أهم إليها م نفس صاحبتها؛ ولكن نتعاون مجيعا‬

‫‪61‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فنقلع الشبكة فينجو بعضنا ببعض؛ فقلعن الشبكة مجيعهن بتعاوهنن‪ ،‬وعلون يف اجلو؛ ومل يقطع الصياد‬
‫رجاءه منهن وظن أهنن ال جياوزن إال قريب ا ويقعن‪ .‬فقال الغراب‪ :‬ألتبعهن وأنظرو ما يكون منهن‪.‬‬
‫فالتفتت املطوقة فرأت الصياد يتبعهن‪ .‬فقالت للحمام‪ :‬هذا الصياد جمد يف طلبكن‪ ،‬فإن حنن أخذان يف‬
‫الفضاء مل خيف عليه أمران ومل يزل يتبعنا وإن حنن توجهنا إىل العمران خفي عليه أمران‪ ،‬وانصرف‪.‬‬
‫ومبكان كذا جرذٌ هو يل أخ؛ فلو انتهينا إليه قطع عنا هذا الشرك‪ .‬ففعلن ذلك‪ .‬وأيس الصياد منهن‬
‫وانصرف‪ .‬وتبعهن الغراب‪ .‬فلما انتهت احلمامة املطوقة إىل اجلرذ‪ ،‬أمرت احلمام أن يسقطن‪ ،‬فوقعن؛‬
‫وكان للجرذ مائة حجر للمخاوف فنادته املطوقة ابمسه‪ ،‬وكان امسه زيرك‪ ،‬فأجاهبا اجلرذ من حجره‪ :‬من‬
‫أنت? قالت‪ :‬أان خليلتك املطوقة‪ .‬فأقبل إليها اجلرذ يسعى‪ ،‬فقال هلا‪ :‬ما أوقعك يف هذه الورطة? قالت‬
‫مقدر على من تصيبه املقادير‪ ،‬وهي اليت أوقعتين يف‬
‫له‪ :‬أمل تعلم أنه ليس من اخلري والشر شيء إال هو ٌ‬
‫هذه الورطة؛ فقد ال ميتنع من القدر من هو أقوى مين وأعظم أمرا؛ وقد تنكسف الشمس والقمر إذا‬
‫قضي ذلك عليهما‪ .‬مث إن اجلرذ أخذ يف قرض العقد الذي فيه املطوقة‪ .‬فقالت له املطوقة‪ :‬ابدأ بقطع‬
‫عقد سائر احلمام‪ ،‬وبع ذلك أقبل على عقدي؛ وأعادت ذلك عليه مرارا‪ ،‬وهو ال يلتفت إىل قوهلا‪،‬‬
‫علي كأنك ليس لك يف نفسك حاجة‪،‬‬ ‫فلما أكثرت عليه القول وكررت‪ ،‬قال هلا‪ :‬لقد كررت القول ّ‬
‫وال لك عليها شفقة‪ ،‬وال ترعني هلا حقا‪ .‬قالت‪ :‬إين أخاف‪ ،‬إن أنت بدأت بقطع عقدي أن متل‬
‫وتكسل عن قطع ما بقي؛ وعرفت أنك إن بدأت هبن قبلي‪ ،‬وكنت أان األخرية مل ترض وإن أدركك‬
‫الفتور أن أبقى يف الشرك قال اجلرذ‪ :‬هذا مما يزيد الرغبة واملودة فيك‪ .‬مث إن اجلرذ أخذ يف قرض‬
‫الشبكة حىت فرغ منها‪ ،‬فانطلقت املطوقة ومحامها معها‪.‬‬
‫فلما رأى الغراب صنع اجلرذ‪ ،‬رغب يف مصادقته‪ ،‬فجاء وانداه ابمسه‪ ،‬فأخرج اجلرذ رأسه‪ ،‬فقال له‪ :‬ما‬
‫حاجتك? قال‪ :‬إين أريد مصادقتك‪ .‬قال اجلرذ‪ :‬ليس بيين وبينك تواصل‪ ،‬وإمنا العاقل ينبغي له أن‬
‫سبيل‪ ،‬فإمنا أنت اآلكل‪ ،‬وأان طعام لك‪ .‬قال‬‫يلتمس ما جيد إليه سبيالا‪ ،‬ويرتك التماس ما ليس إليه ٌ‬
‫الغراب‪ :‬إن أكلي إايك‪ ،‬وإن كنت يل طعام ا‪ ،‬مما ال يغين عين شيئ ا؛ وإن مودتك آنس يل مما ذكرت‬
‫ولست حبقيق‪ ،‬إذا جئت أطلب مودتك‪ ،‬أن تردين خائبا‪ .‬فإنه قد ظهر يل منك من حسن اخللق ما‬
‫رغبين فيك‪ ،‬وإن مل تكن تلتمس إظهار ذلك‪ :‬فإن العاقل ال خيفي فضله‪ ،‬وإن هو أخفاه؛ كاملسك‬
‫الذي يكتم مث ال مينعه ذلك من النشر الطيب واألرج الفائح‪ .‬قال اجلرذ‪ .‬إن أشد العداوة عداوة‬
‫اجلوهر‪ :‬وهي عداواتن‪ :‬منها ما هو متكافئ كعداوة الفيل واألسد‪ .‬فإنه رمبا قتل األسد الفيل أو الفيل‬

‫‪62‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫األسد‪ ،‬ومنها ما َّقوته من أحد اجلانبني على اآلخر كعداوة ما بيين وبني السنور وبيين وبينك‪ :‬فإن‬
‫علي‪ :‬فإن املاء لو أطيل إسخانه مل مينعه ذلك من‬
‫العداوة اليت بيننا ليست تضرك‪ ،‬وإمنا ضررها عائد َّ‬
‫العدو ومصاحله كصاحب احلية حيملها يف كمه‪ ،‬والعاقل‬
‫إطفائه النار إذا صب عليها‪ ،‬وإمنا مصاحب ّ‬
‫ال يستأنس إىل العدو األريب‪.‬‬
‫قال الغراب‪ :‬قد فهمت ما تقول‪ ،‬وأنت خليق أن أتخذ بفضل خليقتك‪ ،‬وتعرف صدق مقاليت وال‬
‫علي األمر بقولك‪ :‬ليس إىل التواصل بيننا سبيل‪ :‬فإن العقالء الكرام ال يبتغون على معروف‬
‫تصعب ّ‬
‫جزاء‪ ،‬واملودة بني الصاحلني سريع اتصاهلا بطيءٌ انقطاعها‪ .‬ومثل ذلك مثل الكوز من الذهب‪ :‬بطيء‬
‫يع انقطاعها‪،‬‬
‫هني اإلصالح‪ ،‬إن أصابه ثلم أو كسر‪ ،‬واملودة بني األشرار سر ٌ‬
‫االنكسار‪ ،‬سريع اإلعادة‪ّ ،‬‬
‫بطيء اتصاهلا‪ .‬ومثل ذلك مثل الكوز من الفخار سريع االنكسار ينكسر من أدىن عيب وال وصل له‬
‫ودك ومعروفك حمتاج‪ :‬ألنك‬ ‫يود أحدا إال عن رغبة أو رهبة‪ .‬وأان إىل ّ‬
‫يود الكرمي واللئيم ال ّ‬
‫أبدا‪ .‬والكرمي ّ‬
‫كرمي وأان مالزم لبابك غري ذائق طعاما حىت تؤاخيين‪ .‬قال اجلرذ‪ :‬قد قبلت إخاءك‪ :‬فإين مل أردد أحدا‬
‫قط‪ ،‬وإمنا بدأت مبا بدأتك به إرادة التوثق لنفسي فإن أنت غدرت يب مل تقل‪ :‬إين وجدت‬ ‫عن حاجة ُّ‬
‫اجلرذ سريع االخنداع‪ .‬مث خرج من حجره‪ ،‬فوقف عند الباب‪ .‬فقال له الغراب‪ :‬ما مينعك من اخلروج‬
‫إيل‪ ،‬واالستئناس يب? فهل يف نفسك بعد ذلك مين ريبة? قال اجلرذ‪ :‬إن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم‬ ‫ّ‬
‫أمرين ويتواصلون عليهما ومها ذات النفس‪ ،‬وذات اليد‪ .‬فاملتباذلون ذات النفس هم األصفياء‪ ،‬وأما‬
‫املتباذلون ذات اليد فهم املتعاونون الذين يلتمس بعضهم االنتفاع ببعض‪ .‬ومن كان يصنع املعروف‬
‫لبعض منافع الدنيا فإمنا مثله فيما يبذل ويعطى كمثل الصياد وإلقائه احلب للطري‪ ،‬ال يريد بذلك نفع‬
‫الطري وإمنا يريد نفع نفسه‪ .‬فتعاطى ذات النفس أفضل من تعاطي ذات اليد‪ .‬وإين وثقت منك بذات‬
‫ظن بك‪ ،‬ولكن قد عرفت‬ ‫نفسك‪ ،‬ومنحتك من نفسي مثل ذلك‪ .‬وليس مينعين من اخلروج إليك سوء ٍّ‬
‫يف رأيك‪.‬‬
‫أن لك أصحاابا جوهرهم كجوهرك‪ ،‬وليس رأيهم َّ‬
‫قال الغراب‪ :‬إن من عالمة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديق ا‪ ،‬ولعدو صديقه عدوا؛ وليس يل‬
‫بصاحب وال صديق من ال يكون لك حمبا؛ وإنه يهون عن قطيعة من كان كذلك من جوهري‪ .‬مث إن‬
‫اجلرذ خرج إىل الغراب فتصافحا وتصافيا‪ ،‬وأنس كل واحد منهما بصاحبه؛ حىت إذا مضت هلما أايم‬
‫قال الغراب للجرذ‪ :‬إن جحرك قريب من طريق الناس‪ ،‬وأخاف أن يرميك بعض الصبيان حبج ٍر؛ ويل‬
‫صديق من السالحف وهو خمصب من السمك وحنن واجدون هناك ما أنكل‬ ‫ٌ‬ ‫مكان يف عزلة‪ ،‬ويل فيه‬

‫‪63‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فأريد أن أنطلق بك إىل هناك لنعيش آمنني‪ .‬قال اجلرذ‪ :‬إن يل أخبار وقصصا سأقصها عليك إذا‬
‫انتهينا حيث تريد فافعل ما تشاء‪ .‬فأخذ الغراب بذنب اجلرذ وطار به حىت بلغ به حيث أراد‪ .‬فلما دىن‬
‫من العني اليت فيها السلحفاة بصرت السلحفاة بغراب ومعه جرذ فذعرت منه ومل تعلم أنه صاحبها‪،‬‬
‫فناداه فخرجت إليه وسألته من أين أقبلت? فأخربها بقصته حني تبع احلمام وما كان من أمره وأمر‬
‫اجلرذ حىت انتهى إليها‪ .‬فلما مسعت السلحفاة شأن اجلرذ عجبت من عقله ووفاءه ورحبت به وقالت‬
‫علي األخبار اليت زعمت أنك حتدثين هبا‬
‫له‪ :‬ما ساقك إىل هذه األرض? قال الغراب للجرذ‪ :‬اقصص ّ‬
‫فأخربين هبا مع جواب ما سألت السلحفاة‪ :‬فإهنا عندك مبنزليت‪ ،‬فبدأ اجلرذ وقال‪ :‬كان منزيل أول أمري‬
‫مبدينة ماروت يف بيت رجل انسك وكان خاليا من األهل والعيال‪ ،‬وكان يؤتى يف كل يوم بسلة من‬
‫الطعام فيأكل منها حاجته ويعلق الباقي‪ ،‬وكنت أرصد الناسك‪ ،‬حىت خيرج وأثب إىل السلة‪ ،‬فال أدع‬
‫فيها طعام ا إال أكلته‪ ،‬وأرمي به إىل اجلرذان‪ .‬فجهد الناسك مرارا أن يعلق السلة مكاانا ال أانله فلم‬
‫يقدر على ذلك‪ ،‬حىت نزل به ذات ليلة ضيف فأكال مجيعا‪ ،‬مث أخذا يف احلديث فقال الناسك‬
‫للضيف‪ :‬من أي أرض أقبلت? وأين تريد اآلن? وكان الرجل قد جاب اآلفاق ورأى عجائب فأنشأ‬
‫عما وطئ من البالد‪ ،‬ورأى من العجائب‪ ،‬وجعل الناسك خالل ذلك يصفق بيديه‬ ‫حيدث الناسك ّ‬
‫لين ّفرين عن السلة‪ ،‬فغضب الضيف وقال‪ :‬أان أحدثك وأنت هتزأ حبديثي! فما محلك على أن سألتين?‬
‫فاعتذر إليه الناسك‪ ،‬وقال‪ :‬إمنا أصفق بيدي ألن ّفر جرذا قد حتريت يف أمره‪ ،‬ولست أضع يف البيت‬
‫شيئا إال أكله‪ ،‬فقال الضيف‪ :‬جرذٌ واحد يفعل ذلك أم جرذان كثرية? فقال الناسك‪ :‬فما أستطيع له‬
‫حيلة‪ .‬قال الضيف‪ :‬لقد ذكرتين قول الذي قال‪ :‬ألمر ما ابعت هذه املرأة مسسم ا مقشورا بغري مقشور!‬
‫قال الناسك‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫قال الضيف‪ :‬نزلت مرة على رجل مبكان كذا‪ ،‬فتعشينا‪ ،‬مث فرش يل‪ .‬وانقلب الرجل على فراشه‪،‬‬
‫فسمعته يقول يف آخر الليل المرأته‪ :‬إين أريد أن أدعو غدا رهطا ليأكلوا عندان‪ ،‬فاصنعي هلم طعام ا‪.‬‬
‫فقالت املرأة‪ :‬كيف تدعو الناس إىل طعامك‪ ،‬وليس يف بيتك فضل عن عيالك? وأنت رجل ال تبقي‬
‫شيئا وال تدخره‪ .‬قال الرجل‪ :‬ال تندمي على ٍ‬
‫شيء أطعمناه وأنفقناه‪ :‬فإن اجلمع واالدخار رمبا كانت‬
‫قانص‪،‬‬
‫عاقبته كعاقبة الذئب‪ .‬قالت املرأة وكيف كان ذلك? قال الرجل‪ :‬زعموا أنه خرج ذات يوم رجل ٌ‬
‫بري‬
‫ومعه قوصه ونشابه فلم جياوز غري بعيد‪ ،‬حىت رمى ظبي ا‪ ،‬فحمله ورجع طالب ا منزله‪ ،‬فاعرتضه خنزير ٌّ‬
‫ٍ‬
‫بنشابة نفذت فيه‪ ،‬فأدركه اخلنزير وضربه أبنيابه ضربة أطارت من يده القوس‪ ،‬ووقعا ميتني‪ ،‬فأتى‬ ‫فرماه‬

‫‪64‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫عليهم ذئب فقال‪ :‬هذا الرجل والظيب واخلنزير يكفيين أكلهم مد اة‪ ،‬ولكن أبدأ هبذا الوتر فآكله‪ ،‬فيكون‬
‫قوت يومي‪ ،‬فعاجل الوتر حىت قطعه فلما انقطع طارت سية القوس فضربت حلقه فمات‪ .‬وإمنا ضربت‬
‫لك هذا املثل لتعلمي أن اجلمع واالدخار وخيم العاقبة‪ .‬فقالت املرأة‪ :‬نعم ما قلت! وعندان من األرز‬
‫والسمسم ما يكفي ستة نفر أو سبعة‪ ،‬فأان غاديةٌ على اصطناع الطعام‪ ،‬فادع من أحببت‪ .‬وأخذت‬
‫املرأة حني أصبحت مسسما فقشرته‪ ،‬وبسطته يف الشمس ِّ‬
‫ليجف‪ ،‬وقالت لغالم هلم‪ :‬اطرد عنه الطري‬
‫كلب‪ ،‬فعاث فيه؛ فاستقذرته‬‫والكالب وتفرغت املرأة لصنعها؛ وتغافل الغالم عن السمسم؛ فجاء ٌ‬
‫املرأة‪ ،‬وكرهت أن تصنع منه طعاما ما؛ فذهبت به إىل السوق‪ ،‬فأخذت به مقايضة مسسما غري‬
‫رجل‪ :‬ألم ٍر ما ابعت هذه املرأة مسسما مقشورا بغري‬ ‫مقشور‪ :‬مثالا مبث ٍل‪ ،‬وأان و ٌ‬
‫اقف يف السوق؛ فقال ٌ‬
‫علة ما يقدر على ما شكوت منه‪.‬‬‫مقشوٍر‪ .‬وكذلك قويل يف هذا اجلرذ الذي ذكرت أنه على غري ٍ‬
‫فالتمس يل فأس ا لعلي أحتقره جحره فأطلع على بعض شأنه‪ .‬فاستعار الناسك من بعض جريانه فأس ا‪،‬‬
‫حينئذ يف غري جحري أمسع كالمهما‪ ،‬ويف جحري كيس فيه مائة دينار‪ ،‬ال أدري‬ ‫فأتى هبا الضيف‪ ،‬وأان ٍ‬
‫من وضعها‪ ،‬فاحتفر الضيف حىت انتهى إىل الداننري فأخذها وقال الناسك‪ :‬ما كان هذا اجلرذ يقوى‬
‫على الوثوب حيث كان يثب إال هبذه الداننري‪ :‬فإن املال جعل له قوة وزايدة يف الرأي والتمكن‪.‬‬
‫وسرتى بعد هذا أنه ال يقدر على الوثوب حيث كان يثب‪ .‬فلما كان من الغد اجتمع اجلرذان اليت‬
‫كانت معي فقالت‪ :‬قد أصابنا اجلوع‪ ،‬وأنت رجائنا فانطلقت ومعي اجلرذان إىل املكان الذي كنت‬
‫أثب منه إىل السلة فحاولت ذلك مرارا‪ :‬فلم أقدر عليه فاستبان للجرذان نقص حايل فسمعتهن يقلن‪:‬‬
‫انصرفن عنه‪ ،‬وال تطمعن فيما عنده‪ :‬فإان نرى له حاالا ال حنسبه إال قد احتاج معها إىل من يعوله‪.‬‬
‫فرتكين‪ ،‬وحلقن أبعدائي وجفونين‪ ،‬وأخذن يف غيبيت عند من يعاديين وحيسدين‪ .‬فقلت يف نفسي‪ :‬ما‬
‫عما‬
‫اإلخوان وال األعوان وال األصدقاء إال ابملال ووجدت من ال مال له‪ ،‬إذا أراد أمرا قعد به العدم ّ‬
‫يريده‪ :‬كاملاء الذي يبقى يف األودية من مطر الشتاء‪ :‬ال مير إىل هنر وال جيري إىل مكان‪ ،‬فتشربه أرضه‪.‬‬
‫ووجدت من ال إخوان له ال أهل له‪ ،‬ومن ال ولد له ال ذكر له‪ :‬ومن ال مال له ال عقل له‪ ،‬وال دنيا‬
‫وال آخرة له‪ :‬ألن الرجل إذا افتقر قطعه أقاربه وإخوانه‪ :‬فإن الشجرة النابتة يف السباخ‪ ،‬املأكولة من كل‬
‫جانب‪ ،‬كحال الفقري احملتاج إىل ما يف أيدي الناس‪.‬‬
‫ووجدت الفقر رأس كل بالء‪ ،‬وجالب ا إىل صاحبه كل مقت‪ ،‬ومعدن النميمة‪ .‬ووجدت الرجل إذا افتقر‬
‫اهتمه من كان له مؤمتنا‪ ،‬وأساء به الظن من كان يظن فيه حسنا‪ :‬فإن أذنب غريه كان هو للتهمة‬

‫‪65‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫ذم‪ ،‬فإن كان شجاعا قيل‪ :‬أهوج‪ ،‬وإن كان‬ ‫موضعا‪ .‬وليس من خلة هي للغين مدح إال وهي للفقري ٌ‬
‫جوادا مسّي مبذرا‪ ،‬وإن كان حليم ا مسي ضعيف ا‪ ،‬وإن كان وقورا مسي بليدا‪ .‬فاملوت أهون من احلاجة‬
‫اليت حتوج صاحبها إىل املسألة‪ ،‬وال سيما مسألة األشحاء واللئام‪ :‬فإن الكرمي لو كلف أن يدخل يده‬
‫يف فم األفعى‪ ،‬فيخرج منه مسا فيبتلعه كان ذلك أهون عليه وأحب إليه من مسألة البخيل اللّئم‪ .‬وقد‬
‫كنت رأيت الضيف حني أخذ الداننري فقامسها الناس‪ ،‬فجعل الناسك نصيبه يف خريطة عند رأسه وملا‬
‫جن الليل‪ ،‬فطمعت أن أصيب منها شيئ ا فأرده إىل جحري‪ ،‬ورجوت أن يزيد ذلك يف قويت‪ ،‬ويراجعين‬
‫ّ‬
‫بسببه بعض أصدقائي‪ .‬فانطلقت إىل الناسك وهو انئم‪ ،‬حىت انتهيت عند رأسه‪ ،‬ووجدت الضيف‬
‫يقظان‪ ،‬وبيده قضيب‪ ،‬فضربين على رأسي ضربة موجعة‪ ،‬فسعيت إىل جحري‪ .‬فلما سكن عين األمل‪،‬‬
‫هيجين احلرص والشره‪ ،‬فخرجت طمع ا كطمعي األول‪ ،‬وإذا الضيف يرصدين‪ ،‬فضربين ضربة أسالت‬
‫علي‪ ،‬فأصابين من الوجع ما بغض إىل املال‬
‫مين الدم‪ ،‬فتقلبت ظهرا لبطن إىل جحري‪ ،‬فخررت مغشي ا ّ‬
‫رعدة وهيبة‪ .‬مث تذكرت فوجدت البالء يف الدنيا إمنا يسوقه احلرص والشره‪ ،‬وال يزال صاحب الدنيا يف‬
‫علي من بسط اليد إىل‬
‫بلية وتعب ونصب‪ ،‬ووجدت جتشم األسفار البعيدة يف طلب الدنيا أهون ّ‬
‫خى ابملال‪ ،‬ومل أر كالرضا شيئ ا‪ ،‬فصار أمري إىل أن رضيت وقنعت‪ ،‬وانتقلت من بيت الناسك إىل‬ ‫الس ِّ‬
‫َّ‬
‫الربية‪ ،‬وكان يل صديق من احلمام‪ ،‬فسيقت إيل بصداقته صداقة‪ .‬مث ذكر يل الغراب ما بينك وبينه من‬
‫املودة‪ ،‬وأخربين أنه يريد إتيانك‪ ،‬فأحببت أن آتيك معه‪ ،‬فكرهت الوحدة‪ ،‬فإنه ال شيء من سرور‬
‫الدنيا يعدل صحبة اإلخوان‪ ،‬وال غم فيها يعدل البعد عنهم‪ .‬وجربت‪ :‬فعلمت أنه ال ينبغي للعاقل أن‬
‫يلتمس من الدنيا غري الكفاف الذي يدفع به األذى عن نفسه‪ :‬وهو اليسري من املطعم واملشرب‪ ،‬إذا‬
‫اشتمل على صحة البدن ورفاهة البال‪.‬‬
‫ولو أن رجالا وهبت له الدنيا مبا فيهان مل يك ينتفع من ذلك إال ابلقليل الذي يدفع به عن نفسه‬
‫احلاجة‪ :‬فأقبلت مع الغراب إليك على هذا الرأي‪ ،‬وأان لك أخ‪ ،‬فلتكن منزليت عندك كذلك‪ .‬فلما فرغ‬
‫عذب‪ ،‬وقالت‪ :‬قد مسعت كالمك‪ ،‬وما أحسن ما‬ ‫قيق ٍ‬ ‫اجلرذ من كالمه أجابته السلحفاة بكالٍم ر ٍ‬
‫حتدثت به! إال أين رأيتك تذكر بقااي أموٍر هي يف نفسك‪ .‬واعلم أن حسن الكالم ال يتم إال حبسن‬
‫العمل‪ ،‬وأن املريض الذي قد علم دواء مرضه إن يتداو به‪ ،‬مل يغن به شيئا‪ ،‬ومل جيد لدائه راحة وال‬
‫خف اة‪ .‬فاستعمل رأيك‪ ،‬وال حت زن لقلة املال‪ :‬فإن الرجل ذا املروءة قد يكرم على غري مال‪ :‬كاألسد‬
‫الذي يهاب‪ ،‬وإن كان رابضا‪ ،‬والغين الذي ال مروءة له يهان وإن كان كثري املال‪ :‬كالكلب ال حيفل به‪،‬‬

‫‪66‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫وإن طوق وخلخل ابلذهب‪ .‬فال تكرب ّن عليك غربتك‪ :‬فإن العاقل ال غربة له‪ :‬كاألسد الذي ال ينقلب‬
‫إال ومع ه قوته‪ .‬فلتحسن تعاهدك لنفسك‪ :‬فإنك إذا فعلت ذلك جاءك اخلري يطلبك كما يطلب املاء‬
‫احنداره‪ .‬وإمنا ُجعل الفضل للحازم البصري ابألمور‪ ،‬وأما الكسالن املرتدد فإن الفضل ال يصحبه‪ .‬وقد‬
‫ثبات وال بقاء‪ :‬ظل الغمامة يف الصيف‪ ،‬وخلة األشرار‪ ،‬والبناء على غري أساس‪،‬‬ ‫قيل يف أشياء ليس هلا ٌ‬
‫واملال الكثري‪ :‬فالعاقل ال حيزن لقلته‪ ،‬وإمنا مال العاقل عقله‪ ،‬وما ق ّدم من صاحل‪ ،‬فهو واثق أبنه ال‬
‫يسلب ما عمل وال يوآخذ ٍ‬
‫بشيء مل يعمله‪ ،‬وهو خليق أال يغفل عن أمر أخرته‪ :‬فإن املوت ال أييت إال‬
‫بغت اة‪ ،‬ليس له وقت معني‪ .‬وأنت عن موعظيت غين مبا عندك من العلم‪ .‬ولكن رأيت أن أقضي مالك‬
‫من حق قبلنا‪ :‬ألنك أخوان وما عندان من النصح مبذول لك‪ .‬فلما مسع الغراب كالم السلحفاة للجرذ‬
‫تسري نفسك‬‫علي‪ ،‬وأنت جديرة أن ّ‬ ‫وردها عليه ومالطفتها إايه فرح بذلك وقال‪ :‬لقد سررتين وأنعمت ّ‬
‫مبثل ما سررتين به‪ .‬وإن أوىل أهل الدنيا بش ّدة الس رور من ال يزال عنده منهم مجاعة يسرهم ويسرونه‪،‬‬
‫ويكون من وراء أمورهم وحاجاهتم ابملرصاد‪ :‬فإن الكرمي إذا عثر ال أيخذ بيده إال الكرام‪ :‬كالفيل إذا‬
‫وحل ال خترجه إال الفيلة‪ .‬فبينما الغراب يف كالمه‪ ،‬إذ أقبل حنوهم ظيب يسعى‪ ،‬فذعرت منه السلحفاة‪،‬‬
‫فغاصت يف املاء‪ ،‬وخرج اجلرذ إىل جحره‪ ،‬وطار الغراب فوقع على شجرة‪.‬‬
‫مث إن الغراب حلّق يف السماء لينظر هل للظيب طالب? فنظر فلم ير شيئا؛ فنادى اجلرذ والسلحفاة‪،‬‬
‫وخرجا‪ ،‬فقالت السلحفاة للظيب‪ ،‬حني رأته ينظر إىل املاء‪ :‬اشرب إن كان بك عطش‪ ،‬وال ختف‪ :‬فإنه‬
‫ال خوف عليك‪ .‬فدان الظيب فرحبت به السلحفاة وحيّته وقالت له‪ :‬من أين أقبلت? قال‪ :‬كنت أسنح‬
‫هبذه الصحارى فلم تزل األساورة تطردين من مكان إىل مكان حىت رأيت اليوم شبح ا‪ .‬فخفت أن‬
‫ودان ومكاننا واملاء واملرعى‬
‫يكون قانصا قالت‪ :‬ال ختف‪ :‬فإان مل نرى هاهنا قانصا قط‪ ،‬وحنن نبذل لك ّ‬
‫كثريان عندان فارغب يف ص حبتنا‪ .‬فأقام الظيب معهم وكان هلم عريش جيتمعون فيه ويتذاكرون‬
‫األحاديث واألخبار‪ .‬فبينما الغراب واجلرذ والسلحفاة ذات يوم يف العريش غاب الظيب فتوقعوه ساعة‬
‫عنت‪ ،‬فقال اجلرذ والسلحفاة للغراب‪ :‬انظر هل ترى‬
‫فلم أيت‪ .‬فلما أبطأ أشفقوا أن يكون قد أصابه ٌ‬
‫مما يلينا شيئا? فحلق الغراب يف السماء فنظر‪ :‬فإذا الظيب يف احلبائل مقتنصا فانقض مسرعا فأخربمها‬
‫بذلك فقالت السلحفاة والغراب للجرذ‪ :‬هذا أمر ال يرجى فيه غريك‪ ،‬فأغث أخاك‪ ،‬فسعى اجلرذ‬
‫مسرع ا‪ ،‬فأتى الظيب‪ ،‬فقال له‪ :‬كيف وقعت يف هذه الورطة وأنت من األكياس? قال الظيب‪ :‬هل يغين‬
‫الكيس مع املقادير شيئا‪ ،‬فبينما مها يف احلديث إذ وافتهما السلحفاة فقال هلا الظيب‪ .‬ما أصبت‬

‫‪67‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أحجار كثرية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مبجيئك إلينا‪ :‬فإن القانص لو انتهى إلينا وقد قطع اجلرذ احلبائل استبقه عدوا‪ ،‬وللجرذ‬
‫والغراب يطري وأنت ثقيلة‪ :‬ال سعى لك وال حركة وأخاف عليك القانص‪ .‬فقالت‪ :‬ال عيش مع فراق‬
‫األحبة وإذا فارق األليف أليفه فقد سلب فؤاده‪ ،‬وحرم سروره‪ ،‬وغشى بصره‪ ،‬فلم ينتهي كالمهما حىت‬
‫واىف القانص‪ ،‬ووافق ذلك فراغ اجلرذ من قطع الشرك‪ ،‬فنجا الظيب بنفسه‪ ،‬وطار الغراب حملقا ودخل‬
‫اجلرذ بعض األحجار ومل يبق غري السلحفاة‪ ،‬ودان الصياد فوجد حبالته مقطّعة‪ ،‬فنظر ميينا ومشاالا فلم‬
‫جيد غري السلحفاة تدب‪ ،‬فأخذها وربطها‪ ،‬فلم يلبث الغراب واجلرذ والظيب أن اجتمعوا فنظروا القانص‬
‫قد ربط السلحفاة فاشتد حزهنم‪ ،‬وقال اجلرذ‪ :‬ما أراان جناوز عقبة من البالء إال صران يف أشد منها‪.‬‬
‫ولقد صدق الذي قال‪ :‬ال يزال اإلنسان مستمرا يف إقباله ما مل يعثر‪ ،‬فإذا عثر جلَّ به العثار وإن مشى‬
‫يف جدد األرض‪ .‬وحذري على السلحفاة خري األصدقاء اليت خلتها ليست للمجازاة وال اللتماس‬
‫مكافأة‪ ،‬ولكنها خلة الكرم والشرف‪ ،‬خلة هي أفضل من خلة الوالد لولده‪ ،‬خلة ال يزيلها إال املوت‪.‬‬
‫ويح هلذا اجلسد املوكل به البالء الذي ال يزال يف تصرف وتقلب‪ ،‬وال يدوم له شيء‪ ،‬وال يلبث معه‬
‫ٌ‬
‫أفول‪ ،‬لكن ال يزال للطالع منها آفالا‪،‬‬
‫أمر‪ :‬كما ال يدوم للطالع من النجوم طلوع‪ ،‬وال لآلفل منها ٌ‬
‫واآلفل طالع ا‪ ،‬وكما تكون آالم الكلوم وانتقاض اجلراحات‪ ،‬كذلك من قرحت كلومه بفقد إخوانه بعد‬
‫اجتماعه هبم‪.‬‬
‫كل منها ال يغين عن‬
‫فقال الظيب والغراب للجرذ‪ :‬إ ّن حذران وحذرك وكالمك‪ ،‬وإن كان بليغا‪ٌ ،‬‬
‫السلحفاة شيئا‪ ،‬وإنه كما يقال‪ :‬إمنا خيرت الناس عند البالء‪ ،‬وذو األمانة عند األخذ والعطاء‪ ،‬واألهل‬
‫والولد عند الفاقة‪ ،‬كذلك خيترب اإلخوان عند النوائب‪ .‬قال اجلرذ‪ :‬أرى من احليلة أن تذهب أيها الظيب‬
‫فتقع مبنظر من القانص‪ :‬كأنك جريح‪ ،‬ويقع الغراب عليك كأنه أيكل منك‪ ،‬وأسعى أان فأكون قريبا‬
‫من القانص‪ ،‬مراقبا له‪ ،‬فعلّه أن يرمي ما معه من اآللة‪ ،‬ويضع السلحفاة‪ ،‬ويقصدك طامعا فيك‪ ،‬راجيا‬
‫حتصيلك‪ .‬فإذا دان منك ففر عنه رويدا‪ :‬حبيث ال ينقطع طمعه منك‪ ،‬ومكنه من أخذك مرة بعد مرة‪،‬‬
‫حىت يبعد عنا‪ ،‬وانْ ُح منه هذا النحو ما استطعت‪ :‬فإين أرجو أال ينصرف إال وقد قطعت احلبائل عن‬
‫السلحفاة‪ ،‬وأجنو هبا‪ .‬ففعل الغراب والظيب ما أمرمها به اجلرذ‪ ،‬وتبعهما القانص‪ ،‬فاستجره الظيب‪ ،‬حىت‬
‫مقبل على قطع احلبائل‪ ،‬حىت قطعها‪ ،‬وجنا ابلسلحفاة‪ ،‬وعاد‬‫أبعده عن اجلرذ والسلحفاة‪ ،‬واجلرذ ٌ‬
‫القانص جمهودا الغباُ فوجد حبالته مقطعة‪ .‬ففكر يف أمره مع الظيب املتظالع‪ ،‬فظن أنه خولط يف عقله‬
‫وفكر يف أمر الظيب والغراب الذي كأنه أيكل منه وقرض حبالته فاستوحش من األرض وقال‪ :‬هذه‬

‫‪68‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أرض ٍّ‬
‫جن أو سحرة‪ .‬فرجع موليا ال يلتكس شيئا وال يلتفت إليه‪ .‬واجتمع الغراب والظيب واجلرذ‬
‫والسلحفاة إىل عريشهم ساملني آمنيني كأحسن ما كانوا عليه‪ .‬فإذا كان هذا اخللق مع صغره وضعفه قد‬
‫قدر على التخلص م مرابط اهللكة مرة بعد أخرى مبودته وخلوصها وثبات قلبه عليها واستمتاعه مع‬
‫أصح ابه بعضهم ببعض فاإلنسان الذي قد أعطي العقل والفهم‪ .‬وأهلم اخلري وال شر ومنح التميز‬
‫واملعرفة‪ ،‬أوىل وأحرى ابلتواصل والتعاضد‪ .‬فهذا مثل إخوان الصفاء وأتالفهم يف الصحبة‪.‬‬
‫ابب البوم والغرابن‬
‫العدو‬
‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت مثل إخوان الصفاء وتعاوهنم‪ ،‬فاضرب يل مثل ّ‬
‫الذي ال ينبغي أن يغرت به‪ ،‬وإن أظهر تضرعا وملقا‪ ،‬قال الفيلسوف‪ :‬من اغرت ابلعدو الذي مل يزل‬
‫عدوا‪ ،‬أصابه ما أصاب البوم من الغرابن‪ .‬قال امللك وكيف كان ذلك?‬
‫قال بيداب‪ :‬زعموا أنه كان يف جبل يف اجلبال شجرة من شجر الدوح‪ ،‬فيها وكر ألف غراب‪ ،‬وعليهن‬
‫و ٍال من أنفسهن‪ ،‬وكان عند هذه الشجرة كهف فيه ألف بوم‪ ،‬وعليهن و ٍال منهن‪ .‬فخرج ملك البوم‬
‫لبعض غدواته وروحاته‪ ،‬ويف نفسه العداوة مللك الغرابن‪ ،‬ويف نفس الغرابن وملكها مثل ذلك للبوم‪،‬‬
‫فأغار ملك البوم يف أصحابه على الغرابن يف أوكارها‪ ،‬فقتل وسىب منها خلق ا كثرياُ‪ ،‬وكانت الغارة ليالا‪،‬‬
‫فلما أصبحت الغرابن اجتمعت إىل ملكها فقلن له‪ :‬قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم‪ ،‬وما منّا‬
‫إلال أصبح قتيالا أو جرحيا أو مكسور اجلناح أو منتوف الريش أو مقطوف الذنب وأشد مما أصابنا ضرا‬
‫لعلمهن مبكاننا‪ :‬فإمنا‬
‫ّ‬ ‫وهن عائدات إلينا غري منقطعات عنّا‪:‬‬
‫علينا جراءهتن علينا‪ ،‬وعلمهن مبكاننا‪ّ ،‬‬
‫حنن لك‪ ،‬ولك الرأي‪ ،‬أيها امللك‪ ،‬فانظر لنا ولنفسك‪ ،‬وكان يف الغرابن مخسة معرتف هلن حبسن‬
‫إليهن يف األمور‪ ،‬ويلقى عليهن أزمة األحوال‪ .‬وكان امللك كثريا ما يشاورهن يف األمور‪،‬‬
‫الرأي‪ ،‬يسند ّ‬
‫وأيخذ آراءهن يف احلوادث والنوازل‪ .‬فقال امللك لألول من اخلمسة‪ :‬ما رأيك يف هذا األمر? قال‪ :‬رأي‬
‫قد سبقتنا إليه العلماء‪ ،‬وذلك أهنم قالوا‪ :‬ليس للعدو احلنق إال اهلرب منه‪ .‬قال امللك للثاين‪ :‬ما رأيك‬
‫يف هذا األمر? قال‪ :‬رأي ما رأى هذا من اهلرب‪ .‬قال امللك‪ :‬ال أرى لكما ذلك رأايا‪ ،‬أن نرحل عن‬
‫أوط اننا وخنليها لعدوان من أول نكبة أصابتنا منه وال ينبغي لنا ذلك ولكن جنمع أمران ونستعد لعدوان‬
‫ونذكي انر احلرب فيما بيننا وبني عدوان وحنرتس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه مستعدين ونقاتله قتاالا‬
‫غري مراجعني فيه‪ ،‬وال مقصرين عنه وتلقى أطرافنا أطراف العدو ونتحرز حبصوننا وندافع عدو ّان‪ :‬ابألانة‬
‫مرة وابجلالد أخرى حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا‪ ،‬وقد ثنينا عدوان عنّا‪ .‬مث قال امللك للثالث‪ :‬ما رأيك‬

‫‪69‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أنت? قال‪ :‬ما أرى ما قاال رأايا‪ .‬ولكن نبث العيون ونبعث اجلواسيس ونرسل الطالئع بيننا وبني عدوان‬
‫فنعلم أيريد صلحنا أم يريد حربنا أم يريد الفدية? فإن رأينا أمره أمر طامع يف مال‪ ،‬مل نكره الصلح على‬
‫خر ٍاج نؤديه إليه كل سنة‪ ،‬ندفع به عن أنفسنا ونطمئن يف أوطاننا‪ :‬فغن من أراء امللوك إذا أشتدت‬
‫شوكة عدوهم‪ ،‬فخافوه على أنفسهم وبالدهم‪ ،‬أن جيعلوا األموال جنة البالد وامللك والرعية‪ .‬قال امللك‬
‫للرابع‪ :‬فما رأيك يف هذا الصلح? قال ال أراه رأايا بل أن نفارق أوطاننا ونصرب على الغربة وشدة‬
‫خري من أن نضيع أحسابنا وخنضع للعدو الذي حنن أشرف منه مع أن البوم لو عرضنا ذلك‬ ‫املعيشة ٌ‬
‫عليهن ملا رضني منّا إال ابلشَّطط‪ .‬ويقال يف األمثال‪ :‬قارب عدوك بعض املقاربة‪ :‬لتنال حاجتك‪.‬‬
‫وال تقاربه كل املقاربة‪ :‬فيتجرىء عليك ويضعف جندك َّ‬
‫وتذل نفسك‪ .‬ومثل ذلك مثل اخلشبة املنصوبة‬
‫الظل‪ .‬وليس عدوان‬
‫يف الشمس‪ :‬إذا أملتها قليالا زاد ظلها‪ ،‬وإذا جاوزت هبا احلد يف إمالتها نقص ُّ‬
‫راضي ا منّا ابلدون يف املقاربة‪ ،‬فالرأي لنا ولك احملاربة‪ .‬قال امللك للخامس‪ :‬ما تقول أنت? وماذا ترى‪:‬‬
‫القتال أم الصلح أم اجلالء عن الوطن? قال‪ :‬أما القتال فال سبيل للمرء إىل قتال من ال يقوى عليه وقد‬
‫يقال‪ :‬إنه من ال يعرف نفسه وعدوه وقاتل من ال يقوى عليه‪ ،‬محل نفسه على حتفها مع أن العاقل ال‬
‫يستصغر عدوا‪ :‬فإن من استصغر عدوه اغرت به ومن اغرت بعدوه مل يسلم منه‪ .‬وأان للبوم شديد اهليبة‬
‫وإن أضربن عن قتالنا وقد كنت أهاهبا قبل ذلك‪ ،‬فإن احلازم ال أيمن عدوه على كل حال فإن كان‬
‫بعيدا مل أيمن سطوته‪ ،‬وإن كان مكثبا مل أيمن من وثبته‪ ،‬وإن كان وحيدا مل أيمن من مكره‪ .‬وأحزم‬
‫األقوام وأكسيهم من كره القتال جلل النفقة فيه‪ :‬فإن ما دون القتال النفقة فيه من األموال والقول‬
‫والعمل‪ ،‬والقتال النفقة فيه من األنفس واألبدان‪ .‬فال يكونن القتال للبوم من رأيك‪ ،‬أيها امللك‪ :‬فإن‬
‫من قاتل من ال يقوى عليه فقد غرر بنفسه‪ .‬فإذا كان امللك حمصنا لألسرار‪ ،‬متخريا للوزراء‪ ،‬مهيبا يف‬
‫أعني الناس‪ ،‬بعيدا من أن يقدر عليه‪ ،‬كان خليقا أال يسلب صحيح ما أوتى من اخلري‪ .‬وأنت‪ ،‬أيها‬
‫سر ولألسرار‬
‫مين عنه‪ ،‬يف بعضه عالنية‪ ،‬ويف بعضه ٌ‬ ‫امللك‪ ،‬كذلك‪ .‬وقد استشرتين يف أمر جوابك ّ‬
‫منازل‪ :‬منها ما يدخل فيه الرهط‪ ،‬ومنها ما يستعان فيه ابلقوم‪ ،‬ومنها ما يدخل فيه الرجالن‪ .‬ولست‬
‫آذان ولساانن‪ .‬فنهض امللك من ساعته‪ ،‬وخال‬ ‫أرى هلذا السر على قدر منزلته أن يشارك فيه إال أربع ٍ‬
‫به‪ ،‬فاستشاره‪ ،‬فكان أول ما سأله عنه امللك أنه قال‪ :‬هل يعلم ابتداء عداوة ما بيننا وبني البوم? قال‪:‬‬
‫نعم‪ :‬كلمة تكلم هبا غراب‪ .‬قال امللك‪ :‬وكيف كان ذلك? قال الغراب‪ :‬زعموا أن مجاعة من الكراكي مل‬
‫يكن هلا ملك‪ ،‬فأمجعت أمرها على أن ميلكن عليهن ملك البوم فبينما هي يف جممعها إذ وقع هلا‬

‫‪70‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫غراب‪ ،‬فقالت‪ :‬لو جاءان هذا الغراب‪ .‬الستشرانه؛ فلم يلبثن دون أن جاءهن الغراب‪ .‬فاستشرنه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬لو أن الطري ابدت من األقاليم‪ ،‬وفقد الطاوس والبط والنعام واحلمار من العامل ملا اضطررتن إىل‬
‫عليكن البوم اليت هي أقبح الطري منظرا‪ ،‬وأسوؤها خلقا‪ ،‬وأقلها عقالا‪ ،‬وأشدها غضبا وأبعدها‬
‫ّ‬ ‫أن متلّكن‬
‫من كل رمحة‪ ،‬مع عماها وما هبا من العشا ابلنهار‪ ،‬وأشد من ذلك وأقبح أمورها سفهها وسوء‬
‫أخالقها‪ ،‬إال أن ترين أن متلكنها وتكن أننت تدبرن األمور دوهنا برأيكن وعقولكن‪ ،‬كما فعلت األرنب‬
‫اليت زعمت أن القمر ملكها‪ ،‬مث عملت برأيها‪ ،‬قال الطري‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫قال الغراب‪ :‬زعموا أن أرضا من أراضي الفيلة تتابعت عليها السنون‪ ،‬وأجدبت‪ ،‬وقل ماؤها‪ ،‬وغارت‬
‫عيوهنا‪ ،‬وذوى نبتها‪ ،‬ويبس شجرها‪ ،‬فأصاب الفيلة عطش شديد‪ :‬فشكون ذلك إىل ملكهن‪ ،‬فأرسل‬
‫امللك رسوله ورواده يف طلب املاء‪ ،‬يف كل انحية‪ .‬فرجع إليه بعض الرسل‪ ،‬فأخربه إين قد وجدت مبكان‬
‫كذا عين ا يقال هلا عني القمر‪ ،‬كثرية املاء‪ .‬فتوجه ملك الفيلة أبصحابه إىل تلك العني ليشرب منها هو‬
‫وفيلته‪ .‬وكانت العني يف أرض لألرانب‪ ،‬فوطئن األرانب يف أجحارهن‪ ،‬فأهلكن منهن كثريا‪ ،‬فاجتمعت‬
‫األرانب إىل ملكها فقلن له‪ :‬قد علمت ما أصابنا من الفيلة فقال‪ :‬ليحضرن منكن كل ذي رأي رأيه‪.‬‬
‫نب من األرانب يقال هلا فريوز‪ .‬وكان امللك يعرفها حبسن الرأي واألدب‪ ،‬فقالت‪ :‬إن رأى‬ ‫فتقدمت أر ٌ‬
‫امللك أن يبعثين إىل الفيلة ويرسل معي أمينا‪ ،‬لريى ويسمع ما أقول‪ ،‬ويرفعه إىل امللك‪ ،‬فقال هلا امللك‪:‬‬
‫أنت أمينة‪ ،‬ونرضى بقولك‪ ،‬فانطلقي إىل الفيلة‪ ،‬وبلغي عين ما تريدين‪ .‬واعلمي أن الرسول برأيه‬
‫وعقله‪ ،‬ولينه وفضله‪ ،‬خيرب عن عقل املرسل‪ .‬فعليك ابللني والرفق واحللم والتأين‪ :‬فإن الرسول هو الذي‬
‫يلني الصدور إذا رفق‪ ،‬وخيشن الصدور إذا خرق‪ .‬مث إن األرنب انطلقت يف ليلة قمراء‪ ،‬حىت انتهت إىل‬
‫كن غري متعمدات‪ .‬مث أشرفت‬ ‫الفيلة‪ ،‬وكرهت أن تدنو منهن‪ :‬خمافة أن يطأهنا أبرجلهن‪ ،‬فيقتلنها‪ ،‬وإن ّ‬
‫على اجلبل واندت ملك الفيلة وقالت له‪ :‬إن القمر أرسلين إليك‪ ،‬والرسول غري ملوم فيما يبلغ‪ ،‬وإن‬
‫أغلظ يف القول‪ .‬قال ملك الفيلة‪ :‬فما الرسالة? قالت‪ :‬يقول لك‪ :‬إن من عرف فضل قوته على‬
‫الضعفاء‪ ،‬فاغرت بذلك يف شأن األقوايء‪ ،‬قياس ا هلم على الضعفاء‪ ،‬كانت قوته وابالا عليه‪ .‬وأنت قد‬
‫فغرك ذلك‪ ،‬فعمدت إىل العني اليت تسمى ابمسي‪ ،‬فشربت منها‪،‬‬ ‫عرفت فضل قوتك على الدواب‪ّ ،‬‬
‫ُغش بصرك‪ ،‬وأتلف نفسك‪.‬‬ ‫وك ّدرهتا‪ .‬فأرسلين إليك‪ :‬فأنذرك أال تعود إىل مثل ذلك‪ .‬وإنك إن فعلت أ ِّ‬
‫شك من رساليت‪ ،‬فهلم إىل العني من ساعتك‪ :‬فإين موافيك هبا‪ .‬فعجب ملك الفيلة من‬ ‫وإن كنت يف ٍّ‬
‫قول األرنب‪ ،‬فانطلق إىل العني مع فريوز الرسول‪ .‬فلما نظر إليها‪ ،‬رأى ضوء القمر فيها‪ .‬فقالت له‬

‫‪71‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فريوز الرسول‪ :‬خذ خبرطومك من املاء فاغسل به وجهك‪ ،‬واسجد للقمر‪ .‬فأدخل الفيل خرطومه يف‬
‫املاء‪ ،‬فتحرك فخيل للفيل أن القمر ارتعد‪ .‬فقال‪ :‬ما شأن القمر ارتعد? أتراه غضب من إدخايل‬
‫اخلرطوم يف املاء? قالت فريوز األرنب‪ :‬نعم‪ .‬فسجد الفيل للقمر مرة أخرى‪ ،‬واتب إليه مما صنع‪ ،‬وشرط‬
‫اخلب‬
‫أال يعود إىل مثل ذلك هو وال أحد من فيلته‪ .‬قال الغراب‪ :‬ومع ما ذكرت من أمر البوم إن فيها َّ‬
‫واملكر واخلديعة‪ ،‬وشر امللوك اخلادع‪ ،‬ومن ابتلى بسالن خمادع‪ ،‬وخدمه‪ ،‬أصاب ما أصاب األرنب‬
‫والفرد حني احتكما إىل السنور‪ .‬قالت الكراكي‪ :‬وكيف كان ذلك? قال الغراب‪ :‬كان يل جارا من‬
‫االصفاردة يف أصل شجرة قريبة من وكرى وكان يكثر مواصليت مث فقدته فلم أعلم أين غاب وطالت‬
‫غيبته عين‪ .‬فجاءت أرنب إىل مكان الصفرد فسكنته فكرهت أن أخاصم األرنب فلبثت فيه زماانا‪ .‬مث‬
‫إن الصفرد غاد بعد زمان فأتى منزله فوجد فيه األرنب‪ .‬فقال هلا ‪ :‬هذا املكان يل ‪ ،‬فانتقلي عنه‪ .‬قالت‬
‫علي‪ .‬قال الصفرد‪:‬‬
‫حق فاستعد إبثباته ّ‬ ‫األرنب‪ :‬املسكن يل‪ ،‬وحتت يدي؛ وأنت م ّدع له‪ .‬فإن كان لك ٌ‬
‫القاضي منا قريب‪ :‬فهلمي بنا إليه‪ .‬قالت األرنب‪ :‬ومن القاضي? قال الصفرد‪ :‬إن بساحل البحر‬
‫دابة‪ ،‬وال يهرق دما‪ ،‬عيشه من احلشيش ومما‬ ‫سنورا متعبدا‪ ،‬يصوم النهار‪ ،‬ويقوم الليل كله؛ وال يؤذي ٍ‬
‫يقذفه إليه البحر‪ .‬فإن أحببت حتاكمنا إليه‪ ،‬ورضينا به‪ .‬قالت األرنب‪ :‬املسكن يل‪ ،‬وحتت يدي‪ ،‬وأنت‬
‫علي‪.‬‬
‫مدع له‪ .‬فإن كان لك حق فاستعد إبثباته ّ‬
‫قال الصفرد‪ :‬القاضي? منا قريب‪ :‬إن بساحل البحر سنورامعبدا‪ ،‬يصوم النهار‪ ،‬ويقوم الليل كله‪،‬‬
‫واليؤذى دابة‪ ،‬وال يهريق دما‪ ،‬عيشه من احلشيش ومما يقذفه إليه البحر‪ .‬فإن أحببت حتاكما إليه‪،‬‬
‫ورضينا به‪ .‬قالت األرنب‪ :‬ما أرضاين به إذا كان كما وصفت‪ .‬فانطلقا إليه فتبعهما ألنظر إىل حكومة‬
‫الصوام القوام مث إهنما ذهبا إليه فلما بصر النور ابألرنب والصفرد مقبيلني حنوه‪ ،‬انتصب قائما يصلي‪،‬‬
‫وأظهر اخلشوع والتنسك‪ .‬فعجبا ملا رأاي من حاله ودنوا منه هائبني له‪ ،‬وسلما عليه وسأاله أن يقضي‬
‫بينهما‪ .‬فأمر مها أن يقصا عليه القصة ففعال‪ .‬فقال هلما‪ :‬قد بلغين الكرب وثقلت أذاني‪ :‬فادنوا مين‬
‫فامسعاىن ما تقوالن‪ .‬فدنوا منه‪ ،‬وأعادا عليه القصة وسأاله احلكم فقال قد فهمت ما قلتما‪ ،‬وأان‬
‫مبتدئكما ابلنصيحة قبل احلكومة بينكما‪ :‬فأان آمركما بتقوى هللا وأالتطلبا إال احلق هو الذي يفلح‪،‬‬
‫وأن قضى عليه وطالب احلق هو الذي يفلح وإن قضى عليه وطالب الباطل خمصوم وإن قضى له‪.‬‬
‫وليس لصاحب الدنيا من دنياه شئ ال مال وال صديق سوى العمل الصاحل يقدمه فذو العقل حقيق‬
‫أن يكون سعيه يف طلب ما يبقى وعود نفعه عليه غدا‪ ،‬وأن ميقت بسعيه فيما سوى ذلك من أمور‬

‫‪72‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫الدنيا‪ :‬فإن منزلة املال عند العاقل مبنزلة املدر‪ ،‬ومن زلة الناس عنده فيما حيب أهم من اخلري ويكره من‬
‫يقص عليهما من جنس هذا وأشباهه‪ ،‬حىت أنسا إليه‪ ،‬وأقبال‬‫السنّور مل يزل ّ‬ ‫الشر مبنزلة نفسه‪ .‬مث إن ّ‬
‫عليه‪ ،‬ودنوا منه‪ ،‬مث وثب عليهما فقتلهما‪ .‬قال الغراب‪ :‬مث إن البوم جتمع مع ما وصفت لكن من‬
‫الشؤم سائر العيوب‪ :‬فال يكونن متليك البوم من رأ يكن‪ .‬فلما مسع الكراكى ذلك من كالم الغراب‬
‫أضربن عن متليك البوم‪ .‬زكان هناك بوم حاضر قد مسع ما قالوا‪ ،‬فقال الغراب‪ :‬لقد وترتين أعظم الرتة‪،‬‬
‫وال أعلم أنه سلف مين إليك سوءٌ أوجب هذا‪ .‬وبعد فاعلم أن الفأس يقطع به الشجر فيعود ينبت‬
‫السيف يقطع اللحم مث يعود فيندمل واللسان ال يندمل جرحه وال تؤسى مقاطعه‪ .‬والنصل من السهم‬
‫يغيب يف اللحم مث ينزع فيخرج‪ ،‬وأشباه النصل من الكالم إذا وصلت إىل القلب مل تنزع ومل تستخرج‪.‬‬
‫مطفئ‪ :‬فللنار املاء‪ ،‬وللسم الدواء وللحزن الصرب ونلر احلقد ال ختبو أبدا‪ .‬وقد غرستم‬
‫ولكل حريق ٌ‬
‫معاشر الغرابن بيننا وبينكم شجر احلقد والعداوة والبغضاء‪.‬‬
‫وىل مغضبا‪ ،‬فأخرب ملك البوم مبا جرى وبكل ما كان منقول الغراب‪ ،‬مث إن‬ ‫فلما قضى البوم مقالته‪ّ ،‬‬
‫الغراب ندم على ما فرط منه‪ ،‬وقال‪ :‬وهللا لقد خرقت يف قويل الذي جلبت به العداوة والبغضاء على‬
‫نفسي وقومي! وليتين مل أخرب الكراكي هبذه احلال! وال أعلمتها هبذا األمر! ولعل أكثر الطري قد رأى‬
‫أكثر مما رأيت‪ ،‬وعلم أضعاف ما علمت‪ ،‬فمنعها من الكالم مبثل ما اتقاء ما مل أتق‪ ،‬والنظر فيما مل‬
‫أنظر فيه من حذار العواقب‪ ،‬ال سيما إذا كان الكالم أفظع كالم‪ ،‬يلقى منه سامعه وقائله املكروه مما‬
‫يورث احلقد والضغينة‪ ،‬فال ينبغي ألشباه هذا الكالم‪ ،‬أن تسمى كالما‪ ،‬ولكن سهاما‪ .‬والعاقل‪ ،‬وإن‬
‫كان واثق ا بقوته وفضله‪ ،‬ال ينبغي أن حيمل ذلك على أن جيلب العداوة على نفسه اتكاالا على ما‬
‫عنده من الرأي والقوة‪ ،‬كما أنه وإن كان عنده الرتايق ال ينبغي له أن يشرب السم اتكاالا على ما‬
‫عنده‪ .‬وصاحب حسن العمل‪ ،‬وإن قصر به القول يف مستقبل األمر‪ ،‬كان فضله بيّنا واضحا يف العاقبة‬
‫واالختار‪ ،‬وصاحب حسن القول‪ ،‬وإن أعجب الناس منه حسن صفته لألمور مل حتمد عاقبة أمره‪ .‬وأان‬
‫صاحب القول الذي ال عاقبة له حممودة‪ .‬أليس من سفهي اجرتائي على التكلم يف األمر اجلسيم ال‬
‫أستشري فيه أحدا‪ ،‬ومل أعمل فيه رأايا? ومن مل يستشر النصاء األولياء‪ ،‬وعمل برأيه من غري تكرار النظر‬
‫والروية‪ ،‬مل يغتبط مبواقع رأيه‪ .‬فما كان أغناين عما كسبت يومي هذا‪ ،‬وما وقعت فيه من اهلم! وعاتب‬
‫الغراب نفسه هبذا الكالم وأشباهه وذهب‪ .‬فهذا ما سألتين عنه من ابتداء العداوة بيننا وبني البوم‪.‬‬
‫وأما القتال فقد علمت رأيي فيه‪ ،‬وكراهيت له‪ ،‬ولكن عندي من الرأي واحليلة غري القتال ما يكون فيه‬

‫‪73‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫رب قوم قد احتالوا آبرائهم حىت ظفروا مبا أرادوا‪ .‬ومن ذلك حديث‬
‫الفرج إن شاء هللا تعاىل‪ :‬فإنه َّ‬
‫اجلماعة الذين ظفروا ابلناسك‪ ،‬وأخذوا عريضه قال امللك‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫قال الغراب‪ :‬زعموا ان انسكا اشىت عريضا ضخما ليجعله قرابانا‪ ،‬فانطلق به يقوده فبصر به قوم من‬
‫املكرة‪ ،‬فأمتروا بينهم أن أيخذوه من الناسك‪ .‬فعرض له أحدهم فقال له‪ :‬أيها الناسك‪ ،‬ما هذا الكلب‬
‫الذي معك? مث عرض له اآلخر فقال لصاحبه‪ :‬ما هذا الناسك‪ ،‬ألن الناسك ال يقود كلبا‪ .‬فلم يزالو‬
‫كلب‪ ،‬وأن الذي ابعه إايه سحر عينه‪،‬‬
‫أن الذي يقوده ٌ‬ ‫مع الناسك على هذا ومثله حىت مل يشك َّ‬
‫فأطلقه من يده‪ ،‬فأخذه اجلماعة احملتالون ومضوا به‪ .‬وإمنا ضربت لك هذا املثل ملا أرجو أن نصيب من‬
‫حا جتنا ابلرفق واحليلة‪ .‬وإين أريد من امللك أن ينقرين على رؤوس األشهاد‪ ،‬وينتف ريشي وذنيب‪ ،‬مث‬
‫أين أصرب وأطلع على‬ ‫يطرحين يف أصل هذه الشجرة‪ ،‬ويرحتل امللك هو وجنوده إىل مكان كذا‪ .‬فأرجو ّ‬
‫أحواهلم‪ ،‬ومواضع حتصينهم وأبواهبم‪ ،‬فأخادعهم وآيت إليكم لنهجم عليهم‪ ،‬وننا منهم غرضنا إن شاء هللا‬
‫تعاىل‪.‬‬
‫قال امللك‪ :‬أتطيب نفسك لذلك? قال‪ :‬نعم‪ ،‬وكيف ال تطيب نفسي لذلك وفيه أعظم الراحات‬
‫للملك وجنوده? ففعل امللك ابلغراب ما ذكر‪ ،‬مث ارحتل عنه فجعل الغراب يئن ويهمس حىت رأته البوم‬
‫ومسعته يئن‪ ،‬فأخربن ملكهن بذلك‪ ،‬فقصد حنوه ليسأله عن الغرابن فلما دان منه أمر بوما أن يسأله‬
‫فقال له‪ :‬من أنت? وأين الغرابن? فقال‪ :‬أما امسي ففالن‪ ،‬وأما ما سألتين عنه فإين أحسبك ترى أن‬
‫حايل حال من ال يعلم األسرار فقيل مللك البوم‪ :‬هذا وزير ملك الغرابن وصاحب رأيه‪ ،‬فنسأله أبي‬
‫فيكن‪ :‬وكنت ٍ‬
‫يومئذ‬ ‫ذنب صنع به ما صنع? فسئل الغراب عن أمره فقال‪ :‬إن ملكنا استشار مجاعتنا َّ‬
‫مبحض ٍر من األمر‪ ،‬فقال‪ :‬أيها الغرابن‪ ،‬ما ترون يف ذلك? فقلت‪ :‬أيها امللك ال طاقة لنا بقتال البوم‪:‬‬
‫ألهنن أشد بطشا‪ ،‬وأحد قلبا منَّا ولكن أرى أن نلتمس الصلح‪ ،‬مث نبذل الفدية يف ذلك‪ ،‬فإن قبلت‬
‫هلن وشرا لنا‪ ،‬فالصلح‬
‫البوم ذلك منّا‪ ،‬وإال هربنا يف البالد وإذا كان القتال بيننا وبني البوم كان خريا ّ‬
‫العدو‬
‫هتن ابلرجوع عن احلرب‪ ،‬وضربت هلن األمثال يف ذلك‪ ،‬وقلت هلن‪ :‬إن ّ‬ ‫أفضل من اخلصومة وأمر َّ‬
‫الشديد ال يرد أبسه وغضبه مثل اخلضوع له‪ :‬أال ترين إىل احلشيش كيف يسلم من عاصف الريح للينه‬
‫ومي له معها حيث مالت فعصينين يف ذلك وزعمن أهنن يردن القتال وأهتمنين يف ما قلت‪ ،‬وقلنا إنك قد‬
‫ماألت البوم علينا ورددن قويل ونصيحيت وعذبنين هبذا العذاب وتركين امللك وجنوده وأرحتل وال علم يل‬
‫هبن بعد ذلك‪ :‬فلما مسع ملك البوم مقالة الغراب قال لبعض وزرائه‪ :‬ما تقول يف الغراب? وما ترى‬

‫‪74‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فيه? قال‪ :‬ما أرى إال املعاجلة له ابلقتل‪ :‬فإن هذا أفضل ُعد ِد الغرابن‪ ،‬ويف قتله لنا راحة من مكره‬
‫وفقده على الغرابن شديد ويقال‪ :‬من ظفر ابلساعة اليت فيها ينجح العمل مث ال يعاجله ابلذي ينبغي‬
‫له فليس حبكيم ومن طلب األمر اجلسيم فأمكنه ذلك فأغفله فاته األمر وهو خليق أال تعود له الفرصة‬
‫ًثنية ومن وجد عدوه ضعيفا ومل ينجز قتله ندم إذا استقوى ومل يقدر عليه قال امللك لوزير آخر‪ :‬ما‬
‫أهل ألن يستبقى‬
‫ترى أنت يف هذا الغراب? قال‪ :‬أرى أال تقتله‪ :‬فإن العدو الذليل الذي ال انصر له ٌ‬
‫أهل ألن يؤمن‪.‬‬
‫ويرحم ويصفح عنه وال سيما املستجري اخلائف‪ :‬فإنه ٌ‬
‫قال ملك البوم لوزير آخر من وزائه‪ :‬ما تقول يف الغراب? قال‪ :‬أرى أن تستبقيه وحتسن إليه‪ :‬فإنه‬
‫خليق أن ينصحك والعاقل يرى معادات بعض أعدائه بعضا ظفرا حسنا ويرى أشتغال بعض أعدائه‬
‫ببعض خالص ا لنفسه منهم وجناة كنجاة الناسك من اللص والشيطان حني اختلفا عليه قال امللك له‪:‬‬
‫وكيف كان ذلك?‬
‫قال الوزير‪ :‬زعموا أن انسكا أصاب من رجل بقرة حلوابا فانطلق هبا يقودها إىل منزله‪ ،‬فعرض له لص‬
‫أراد سرقتها واتبعه شيطان يريد اختطافه‪ .‬فقال الشيطان للص‪ :‬من أنت? قال أان اللص‪ ،‬أريد أن‬
‫أسرق البقرة من الناسك إذا انم‪ .‬فمن أنت? قال‪ :‬أان الشيطان أريد أختطافه إذا انم وأذهب به فاهتيا‬
‫على هذا إىل املنزل فدخل الناسك منزله ودخال خلفه وأدخل البقرة فربطها يف زاوية املنزل وتعشى‬
‫وانم‪ .‬فأقبل اللص والشيطان أيمتران فيه واختلفا على من يبدأ بشغله أوالا فقال الشيطان للص‪ :‬إن‬
‫أنت بدأت أبخذ البقرة فرمبا استيقظ وصاح‪ ،‬واجتمع الناس‪ :‬فال أقدر على أخذه فأنظرين ريثما‬
‫آخذه‪ ،‬وشأنك وما تريد‪ .‬فأشفق اللص إن بدأ الشيطان ابختطافه فرمبا استيقظ فال يقدر على أخذ‬
‫البقرة‪ ،‬فقال‪ :‬ال‪ ،‬بل انظرين أنت حىت آخذ البقرة وشأنك زما تريد فلم يزاال يف اجملادلة هكذا حىت‬
‫اندى اللص‪ :‬أيها الناسك انتبه‪ :‬فهذا الشيطان يريد اختطافك‪ ،‬واندى الشيطان‪ :‬أيها الناسك انتبه‪:‬‬
‫فهذا اللص يريد أن يسرق بقرتك فانتبه الناسك وجريانه أبصواهتما‪ ،‬وهرب اخلبيثان‪ .‬قال الوزير األول‬
‫منكن موقعه‪ ،‬فرتدن‬
‫خدعكن ووقع كالمه يف نفس الغيب ّ‬ ‫َّ‬ ‫الذي أشار بقتل الغراب‪ :‬أظن أن الغراب قد‬
‫تضعن الرأي يف غري موضعه فمهالا مهالا أيها امللك عن هذا الرأي‪ .‬فلم يلتفت امللك إىل قوله وأمر‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫الغراب أن حيمل إىل منازل البوم‪ ،‬ويكرم ويستوصى به خريا‪.‬‬
‫مث إن الغراب قال للملك يوم ا وعنده مجاعة من البوم وفيهن الوزير الذي أشار بقتله‪ :‬أيها امللك قد‬
‫علي من الغرابن وأنه ال يسرتيح قليب إال أبخذي بثأري منهن‪ ،‬وإين قد نظرت يف ذلك‬‫علمت ما جرى ّ‬

‫‪75‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فإذا يب ال أقدر على ما رمت‪ :‬ألين غراب وقد روى عن العلماء أهنم قالوا‪ :‬من طابت نفسه أبن حيرقها‬
‫فقد قرب هلل أعظم القرابن ال يدعو عند ذلك بدعوة إال استجيب له فإن رأى امللك أن أيمرين فأحرق‬
‫نفسي وأدعو ريب أن حيولين بوما فأكون أشد عداوة وأقوى أبسا عل الغرابن لعلي أنتقم منهن! قال‬
‫الوزير الذي أشار بقتله‪ :‬ما أشبهك يف خري ما تظهر وشر ما ختفي إال ابخلمرة الطيبة الطعم والريح‬
‫املنقع فيها السم أرأيت لو أحرقنا جسمك ابلنار كان جوهرك وطباعك متغرية! أليست أخالقك تدور‬
‫معك حيثما درت‪ ،‬وتصري بعد ذلك إىل أصلك وطويتك? كالفأرة اليت خريت يف األزواج بني الشمس‬
‫والريح والسحاب واجلبل فلم يقع اختيارها إال على اجلرذ وقيل له‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫قال‪ :‬زعموا أنه كان انسكا مستجاب الدعوة فبينما هو ذات يوم جالسا على ساحل البحر إذ مرت‬
‫به حدأة يف رجلها درص فأرة فوقعت منها عند الناسك‪ ،‬وأدركته هلا رمحة‪ ،‬فأخذها ولفها يف ورقة‪،‬‬
‫وذهب هبا إىل منزله‪ ،‬مث خاف أن تشق على أهله تربيتها فدعا ربه أن حيوهلا جارية‪ :‬فتحولت جارية‬
‫حسناء فانطلق هبا إىل امرأته‪ ،‬فقال هلا هذه ابنيت فاصنعي معها صنيعك بولدي‪ .‬فلما كربت قال هلا‬
‫الناسك‪ :‬اي بنية أختاري من أحببت حىت أزوجك به‪ .‬فقالت‪ ،‬أما إذا خريتين فإين أختار زوجا يكون‬
‫أقوى األشياء‪ .‬فقال الناسك لعلك تريدين الشمس! مث انطلق إىل الشمس فقال‪ :‬أيها اخللق العظيم إن‬
‫يل جارية وقد طلبت زوجا يكون أقوى األشياء‪ ،‬فهل أنت متزوجها? فقالت الشمس أان أدلك على‬
‫من هو أقوى مين‪ :‬السحاب الذي يغطيين‪ ،‬ويرد حر شعاعي ويكسف أشعة أنواري‪ .‬فذهب الناسك‬
‫إىل السحاب فقال له ما قال للشمس‪ ،‬فقال السحاب‪ :‬وأان أدلك على من هو أقوى مين‪ :‬فاذهب‬
‫إىل الريح اليت تقبل يب وتدبر وتذهب يب شرق ا وغرابا فجاء الناسك إىل الريح فقال هلا كقوله للسحاب‬
‫فقالت‪ :‬وأان أدلك على من هو أقوى مين وهو اجلبل الذي ال أقدر على حتريكه فمضى إىل اجلبل وقال‬
‫له القول املذكور فأجابه اجلبل وقال له‪ :‬أان أدلك على من هو أقوى مين‪ :‬اجلرذ الذي ال أستطيع‬
‫االمتناع منه إذا ثقبين واختذين مسكن ا‪ .‬فانطلق الناسك إىل اجلرذ فقال له‪ :‬هل أنت متزوج هذه‬
‫اجلارية? فقال وكيف أتزوجها وجحري ضيق? إمنا يتزوج اجلرذ الفأرة فدعا الناسك ربه أن حيوهلا فأرة‬
‫كما كانت وذلك برضى اجلارية‪ ،‬فأعادها هللا إىل عنصرها األول فانطلقت مع اجلرذ فهذا مثلك أيها‬
‫املخادع فلم يلتفت ملك البوم إىل ذلك القول‪ ،‬ورفق ابلغراب ومل يزدد له إال إكراما حىت إذا طاب‬
‫عيشه ونبت ريشه واطلع على ما أراد أن يطلع عليه راغ روغة‪ .‬فأتى أصحابه مبا رأى ومسع فقال‬
‫للملك‪ :‬إين قد فرغت مما كنت أريد ومل يبقى إال أن تسمع وتطيع‪ ،‬فقال له‪ :‬أان واجلند حتت أمرك‪،‬‬

‫‪76‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فاحتكم كيف شئت‪.‬‬


‫قال الغراب‪ :‬إن البوم مبكان كذا يف جبل كثري احلطب ويف ذلك املوضع قطيع من الغنم مع رجل راع‪،‬‬
‫وحنن مصيبون هناك انرا‪ ،‬ونلقيها يف أنقاب البوم ونقذف عليها من ايبس احلطب ونرتاوح عليها ضرابا‬
‫أبجنحتنا حىت تضرم النار يف احلطب‪ :‬فمن خرج منهن احرتق ومن مل خيرج مات ابلدخان موضعه‬
‫فأهلكن البوم قاطب اة ورجعن إىل منازهلن ساملات آمنات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ففعل الغرابن ذلك‪:‬‬
‫مث إن ملك الغرابن قال لذلك الغراب‪ :‬كيف صربت على صحبة البوم وال صرب لألخيار على صحبة‬
‫األشرار? فقال الغراب‪ :‬إمنا ما قلته أيها امللك لكذلك لكن العاقل إذا أاته األمر الفظيع العظيم الذي‬
‫خياف من عدم حتمله اجلائحة على نفسه وقومه مل جيزع من شدة الصرب عليه‪ ،‬ملا يرجو من أن يعقبه‬
‫صربه حسن العاقبة زكثري اخلري فلم جيد لذلك أمل ا‪ ،‬ومل تكره نفسه اخلضوع ملن هو دونه حىت يبلغ‬
‫حاجته فيغتبط خبامتة أمره وعاقبة صربه‪ .‬فقال امللك‪ :‬أخربين عن عقول البوم‪ :‬فقال الغراب‪ :‬مل أجد‬
‫فيهن عاقالا إال الذي كان حيثهن على قتلي‪ ،‬وكان حرضهن على ذلك مرارا فكن أضعف شيء رأايا!‬
‫فلم ينظرن يف رأيه ويذكرن أين قد كنت ذا منزلة يف الغرابن‪ ،‬وأين أعد من ذوي الرأي ومل يتخوفن مكري‬
‫وحيليت وال قبل ّن من الناصح الشفيق وال أخفني دوين أسرارهن وقد قال العلماء‪ :‬ينبغي للملك أن‬
‫حيصن أموره من أهل النميمة وال يطلع أحدا منهم على مواضع سره فقال امللك‪ :‬ما أهلك البوم يف‬
‫نفسي إال الغي‪ ،‬وضعف رأي امللك وموافقته وزراء السوء فقال الغراب‪ :‬صدقت أيها امللك‪ ،‬إنه قلما‬
‫وقل من وثق بوزراء السوء وسلم من أن‬ ‫وقل من أكثر من الطعام إال مرض‪ّ .‬‬‫بغىن ومل يطع‪ّ ،‬‬
‫ظفر أحد ا‬
‫اخلب يف كثرة الصديق‪ ،‬وال‬ ‫يطمعن ذو الكرب يف حسن الثناء‪ ،‬وال ُّ‬
‫ّ‬ ‫يقع يف املهالك وكان يقال‪ :‬ال‬
‫الرب‪ ،‬وال احلريص يف قلة الذنوب وال امللك احملتال‪ ،‬املتهاون‬
‫الس ّي األدب يف الشرف‪ ،‬وال الشحيح يف ّ‬
‫ّ‬
‫ابألمور‪ ،‬الضعيف الوزراء يف ثبات ملكه‪ ،‬وصالح رعيّته قال امللك‪ :‬لقد احتملت مش ّقة شديدة يف‬
‫هلن قال الغراب‪ :‬إنه من احتمل مشقة يرجو نفعها‪ ،‬وحنى عن نفسه األنفة‬
‫تصنعك للبوم‪ ،‬وتضرعك ّ‬
‫واحلمية‪ ،‬ووطنها على الصرب محد غب رأيه‪ ،‬كما صرب األسود على محل ملك الضفادع على ظهره‪،‬‬
‫وشبع بذلك وعاش قال امللك‪ :‬وكيف كان ذلك? قال الغراب‪ :‬زعموا أن أسود من احليات كرب‪،‬‬
‫وضعف بصره وذهبت قوته‪ :‬فلم يستطع صيدا ومل يقدر على طعام وأنه انساب يتلمس شيئا يعيش به‪،‬‬
‫حىت انتهى إىل عني كثرية الضفادع‪ ،‬قد كان أيتيها قبل ذلك‪ ،‬فيصيب من ضفاضعها رزقه فرمى نفسه‬
‫منهن مظهرا للكآبة واحلزن فقال له ضفدع‪ :‬ما يل أراك أيها األسود كئيبا حزينا? قال‪ :‬ومن أحرى‬
‫قريبا ّ‬

‫‪77‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫بطول احلزن مين! وإمنا كان أكثر معيشيت مما كنت أصيب من الضفادع فابتليت ببالء وحرمت على‬
‫الضفادع من أجله‪ ،‬حىت إين إذا التقيت ببعضها ال أقدر على إمساكه‪ .‬فانطلق الضفدع إىل ملك‬
‫الضفادع‪ ،‬فبشره مبا مسع من األسود فقال له‪ :‬كيف كان أمرك? قال سعيت منذ أايم يف طلب ضفدع‬
‫وذلك عند املساء فاضطررته إىل بيت انسك‪ ،‬ودخلت يف أثره يف ظلمة ويف البيت ابن الناسك‪،‬‬
‫فأصبت إصبعه‪ ،‬فظننت أهنا الضفدع‪ ،‬فلدغته فمات فخرجت هارابا‪ ،‬فتبعين الناسك يف أثري‪ ،‬ودعا‬
‫علي ولعنين وقال‪ :‬كما قتلت ابين الربيء ظلم ا وتعدايا‪ ،‬أدعو عليك أن تذل وتصري مركب ا مللك‬
‫ّ‬
‫الضفادع‪ ،‬فال تستطيع أخذها‪ ،‬وال أكل شيء منها‪ ،‬إال ما يتصدق به عليك ملكها فأتيت إليك‬
‫لرتكبين مقرا بذلك راضيا به فرغب ملك الضفادع بركوب األسود‪ ،‬وظن أن ذلك فخرا له وشرف ورفعة‬
‫فركب و استطاب له ذلك‪.‬‬
‫فقال له األسود‪ :‬قد علمت أيها امللك أين حمروم فاجعل يل رزق ا أعيش به فقال ملك الضفادع‪ :‬لعمري‬
‫البد من رزق يقوم بك‪ ،‬إذا كنت مركيب فأمر له بضفدعني يؤخذان يف كل يوم ويدفعان إليه فعاش‬
‫بذلك‪ ،‬ومل يضره خضوعه للعدو الذليل‪ ،‬بل انتفع بذلك وصار له رزقا ومعيشة وكذلك كان صربي‬
‫على ما صربت عليه‪ ،‬التماس ا هلذا النفع العظيم الذي اجتمع لنا فيه األمن الظفر‪ ،‬وهالك العدو‬
‫والراحة منه ووجدت صرعة اللني والرفق أسرع وأشد استئصاالا للعدو من صرعة املكابرة‪ :‬فإن النار ال‬
‫تزيد حبدهتا وحرها إذا أصابت الشجرة على أن حترق ما فوق األرض منها واملاء بربده ولينه يستأصل ما‬
‫حتت األرض منها ويقال أربعة أشياء ال يستقل قليلها‪ :‬النار واملرض والعدو والدين‪ .‬قال الغراب‪ :‬وكل‬
‫ذلك من رأى امللك وأدبه وسعادة ج ّده وإنه كان يقال‪ :‬إذا طلب اثنان أمرا ظفر به منها أفضلهما‬
‫مروءة فإن اعتدال يف املروءة فأشدمها عزما‪ .‬فإن استواي يف العزم فأسعدمها جدا وكان يقال‪ :‬من حارب‬
‫امللك احلازم األريب املتضرع الذي ال تبطره السراء وال تدهشه الضراء كان هو داعي احلتف إىل نفسه‪،‬‬
‫وال سيما إذا كان مثلك أيها امللك العامل بفروض األعمال‪ ،‬ومواضع الشدة واللني‪ ،‬والغضب والرضا‬
‫واملعاجلة واألانة الناظر يف أمر يومه وغده‪ ،‬وعواقب أعماله قال امللك للغراب‪ :‬بل برأيك وعقلك‬
‫ونصيحتك ومين طالعك كان ذلك‪ ،‬فإن رأى الرجل الواحد‪ ،‬العاقل احلازم أبلغ يف هالك العدو من‬
‫اجلنود الكثرية‪ ،‬من ذوي البأس والنجدة‪ ،‬والعدد والعدة‪ .‬وإن من عجيب أمرك عندي طول لبثك بني‬
‫ظهراين البوم تسمع الكالم الغليظ‪ ،‬مث مل تسقط بينهن بكلمة! قال الغراب‪ :‬مل أزل متمسك ا أبدبك أيها‬
‫امللك‪ :‬أصحب البعيد والقريب‪ ،‬ابلرفق واللني‪ ،‬واملبالغة واملوااتة‪ .‬قال امللك‪ :‬أصبحت وقد وجدتك‬

‫‪78‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫من هللا علينا‬


‫صاحب العمل‪ ،‬ووجدت غريك من الوزراء أصحاب أقاويل‪ :‬ليس هلا عاقبة محيدة فقد ّ‬
‫بك منّة عظيمة مل نكن قبلها جند لذة الطعام والشراب‪ ،‬وال النوم وال القرار وكان يقال‪ :‬ال جيد املريض‬
‫لذة الطعام والنوم حىت يربأ‪ ،‬وال الرجل الشره الذي قد أطعمه سلطانه يف مال وعمل يف يده‪ ،‬حىت‬
‫ينجزه له‪ ،‬وال الرجل الذي قد أحل عليه عدوه‪ ،‬وهو خيافه صباحا ومساءا حىت يسرتيح منه قلبه ومن‬
‫وضع احلمل الثقيل عن يديه أراح نفسه ومن أمن عدوه ثلج صدره‪.‬‬
‫قال الغراب‪ :‬أسأل هللا الذي أهلك عدوك أن ميتعك بسلطانك‪ ،‬وأن جيعل يف ذلك صالح رعيتك‪،‬‬
‫ويشركهم يف قرة العني مب لكك! فإن امللك إذا مل يكن يف ملكه قرة عيون رعيته‪ ،‬فمثله مثل زمنة العنز‬
‫اليت ميصها‪ ،‬وهو حيسبها حلمة الضرع‪ ،‬فال يصادف فيها خريا‪ .‬قال امللك‪ :‬أيها الوزير الصاحل‪ ،‬كيف‬
‫كانت سرية البوم وملكها يف حروهبا‪ ،‬وفيما كانت فيه من أمورها? قال الغراب‪ :‬كانت سريته سرية‬
‫بطر‪ ،‬وأشر وخيالء وعجز وفخر مع ما فيه من الصفات الذميمة وكل أصحابه ووزرائه شيبه به‪ ،‬إال‬
‫الوزير الذي كان يشري عليه بقتلي‪ :‬فإنه كان حكيما أريبا‪ ،‬فيلسوفا حازما عاملا‪ ،‬قلما يرى مثله يف علو‬
‫اهلمة‪ ،‬وكمال العقل‪ ،‬وجودة الرأي قال امللك‪ :‬وأي خصلة رأيت منه كانت أدل على عقله? قال‬
‫خلتان‪ :‬إحدامها رأيه يف قتلي واألخرى أنه مل يكتم صاحبه نصيحته وإن استقلها ومل يكن كالمه كالم‬
‫عنف وقسوة ولكنه كالم رفق ولني حىت إنه رمبا أخربه ببعض عيوبه وال يصرح حبقيقة احلال بل يضرب‬
‫له األمثال ويدثه بعيب غريه فيعرف عيبه فال جيد ملكه إىل الغضب عليه سبيالا وكان مما مسعته يقول‬
‫مللكه‪ :‬إنه ال ينبغي للملك أن يغفل عن أمره فإنه أمر جسيم ال يظفر به من الناس إال قليل وال يدرك‬
‫إال ابحلزم فإن امللك عزيز فمن ظفر به فليحسن حفظه وحتصينه‪ ،‬فإنه قد قيل إنه يف قلة بقاءه مبنزلة‬
‫قلة بقاء الظل عن ورق النيلوفر وهو يف خفة زواله‪ ،‬وسرعة إقباله وإدابره كالريح ويف قلة ثباته كاللبيب‬
‫مع اللئام‪ ،‬ويف سرعة اضمحالله كحباب املاء من وقع املطر‪ .‬فهذا مثل أهل العداوة الذين ال ينبغي أن‬
‫يغرت هبم‪ ،‬وإن هم أظهروا توددا وتضرع ا‪.‬‬
‫ابب القرد والغيلم‬
‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت هذا املثل ‪ ،‬اضرب يل مثل الرجل الذي يطلب احلاجة‬
‫فإذا ظفر هبا أضعها قال الفيلسوف‪ :‬إن طلب احلاجة أهون من االحتفاظ هبا ومن ظفر حباجة مث مل‬
‫حيسن القيام هبا أصابه ما أصاب الغيلم‪ .‬قال امللك‪ :‬وكيف ذلك? قال بيداب‪ :‬زعموا أن قردا يقال له‬
‫ماهر كان ملك القردة وكان قد كرب وهرم فوثب عليه قرد شاب من بيت اململكة فتغلب عليه‪ ،‬وأخذ‬

‫‪79‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫مكانه فخرج هارابا على وجهه حىت انتهى إىل الساحل فوجد شجرة من شجر التني فارتقى إليها‬
‫وجعلها مقامه فبينما هو ذات يوم أيكل من ذلك التني‪ ،‬إذا سقطت من يده تينة يف املاء فسمع هلا‬
‫صواتا وإيقاعا فجعل أيكل ويرمي يف املاء‪ ،‬فأطربه ذلك‪ :‬فأكثر من طرح التني يف املاء ومث غيلم كلما‬
‫وقعت تينة أكلها‪ .‬فما كثر ذلك ظن أن القرد إمنا يفعل ذلك ألجله فرغب يف مصادقته‪ ،‬وأنس إليه‬
‫وكلمه‪ ،‬وألف كل واحد منهما صاحبه‪ .‬وطالت غيبة الغيلم عن زوجته‪ :‬فجزعت عليه وشكت ذلك‬
‫إىل جارة هلا وقا لت‪ :‬قد خفت أن يكون قد عرض له عارض سوء فاغتاله‪ .‬فقالت هلا‪ :‬إن زوجك‬
‫ابلساحل قد ألف قرد وألفه القرد ‪ :‬فهو مؤاكله ومشاربه‪ ،‬وهو الذي قطعه عنك‪ ،‬وال يقدر أن يقيم‬
‫عندك حىت حتتايل هلالك القرد‪ .‬قالت وكيف أصنع? قالت هلا جارهتا‪ :‬إذا وصل إليك فتمارضي‪ ،‬فإذا‬
‫سألك عن حالك فقويل‪ :‬إن احلكماء وصفوا يل قلب قرد‪.‬‬
‫مث إن الغيلم انطلق بعد مدة إىل منزله فوجد زوجته سيئة احلال مهمومةا فقال هلا الغيلم‪ :‬مايل أراك‬
‫هكذا‪ ،‬فأجبته جارهتا‪ ،‬وقالت‪ :‬إن زوجتك مريضة مسكنة‪ .‬وقد وصف هلا األطباء قلب قرد‪ ،‬وليس هلا‬
‫دواء سواه قال الغيلم‪ :‬هذا أمر عسري من أين لنا قلب قرد‪ ،‬وحنن يف املاء? لكن سأحتال لصديقي مث‬
‫انطلق إىل ساحل البحر‪ :‬فقال له القرد اي أخي‪ ،‬ما حبسك عين? قال الغيلم‪ :‬ما حبسين إال حيائي‪:‬‬
‫فلم أعرف كيف أجازيك على إحسانك إيل? وأريد أن تتم إحسانك إيل بزايرتك أي يف منزيل فإن‬
‫ساكن يف جزيرة طيبة الفاكهة‪ .‬فركب ظهر الغيلم‪ ،‬فسبح به حىت إذا سبح به عرض له قبح ما أضمر‬
‫يف نفسه من الغدر‪ ،‬فنكس رأسه‪ ،‬فقال له القرد‪ :‬مايل أراك مهتما? قال الغيلم‪ :‬إمنا مهي ألين ذكرت‬
‫أن زوجيت شديدة املرض وذلك مبنعي من كثري مما أريد أن أبلغه من حرصك على كرامتك ومالطفتك‪.‬‬
‫قال القرد‪ :‬إن الذي أعرف من حرصك على كراميت يكفيك مؤونة التكليف‪ .‬قال الغيلم‪ :‬أجل ومضى‬
‫ابلقرد ساع اة‪ ،‬مث توقف به ًثنية‪ :‬فساء ظن القرد وقال يف نفسه‪ :‬ما احتباس الغيلم وإبطاؤه إال ألمر‬
‫ولست آمن ا أن يكون قلبه قد تغري يل وحال عن موديت‪ ،‬فأراد يب سوءا‪ :‬فإنه ال شيء أخف وأسرع‬
‫تقلب ا من القلب وقد يقال‪ :‬ينبغي للعاقل أال يغفل عن التماس ما نفس أهله وولده وإخوانه وصديقه‬
‫عند كل أمر‪ ،‬ويف كل حلظة وكلمة وعند القيام والقعود‪ ،‬وعلى كل حال فإن ذلك كله يشهد على ما‬
‫يف القلوب وقد قالت العلماء إذا دخل قلب الصديق من صديقه ريبة فليأخذ ابحلزم يف احلفظ منه‬
‫وليتفقد ذلك يف حلظاته وحاالته فإن كان ما يظن حق ا ظفر ابلسالمة‪ ،‬وإن كان ابطالا ظفر ابحلزم‪ ،‬ومل‬
‫يضره ذلك مث قال للغيلم‪ :‬ما الذي حيبسك? ومايل أراك مهتما‪ ،‬كأنك حتدث نفسك مرة أخرى?‬

‫‪80‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫قال‪ :‬يهمين أنك أتيت منزيل فال جتد أمري كما أحب‪ :‬ألن زوجيت مريضة قال القرد‪ :‬ال هتتم فإن اهلم ال‬
‫يغين عنك شيئ ا ولكن التمس ما يصلح زوجتك من األدوية واألغذية‪ :‬فإنه يقال ليبذل ذو املال ماله‬
‫يف أربعة مواضع‪ :‬يف الصدقة ويف احلاجة وعلى البنني وعلى األزواج‪ .‬قال الغيلم‪ :‬صدقت‪ .‬وقد قال‬
‫األطباء إنه ال دواء هلا إال قلب قرد فقال القرد واأسفاه لقد أدركين احلرص والشر على كرب سين‪ :‬حىت‬
‫وقعت يف شر ورطة ولقد صدق الذي قال‪ :‬يعيش القانع الراضي مسرتحيا مطمئنا وذو احلرص والشره‬
‫يعيش ما عاش يف تعب ونصب‪.‬‬
‫وأين قد احتجت اآلن إىل عقلي يف التماس املخرج مما وقعت فيه‪ .‬مث قال الغيلم‪ :‬وما منعك أن تعلمين‬
‫عند منزيل حىت كنت أمحل قليب معي? فهذه سنة فينا معاشر القردة إذا خرج أحد لزايرة صديق خلّف‬
‫قلبه عند أهله أويف موضعه‪ ،‬للنظر إذا نظران إىل حرم املزور وليس قلوبنا معنا قال الغيلم‪ :‬وأين قلبك‬
‫اآلن? قال‪ :‬خلّفته يف الشجرة فإن شئت فارجع يب إىل الشجرة حىت آتيك به ففرح الغيلم بذلك وقال‪:‬‬
‫لقد وافقين صاحيب بدون أن أغدر به‪ .‬مث رجع ابلقرد إىل مكانه فلما أبطأ على الغيلم‪ ،‬انداه‪ :‬اي خليلي‬
‫أين كاحلمار الذي زعم ابن آوى أنه مل يكن‬ ‫امحل قلبك وانزل فقد حبستين فقال القرد‪ :‬هيهات أتظن ّ‬
‫له قلب وال أذانن قال الغيلم‪ :‬وكيف ذلك? قال القرد‪ :‬زعموا أنه كان أسد يف أمج اة‪ ،‬وكان معه ابن‬
‫آوى أيكل من فواضل طعامه‪ ،‬فأصاب األسد جرب‪ ،‬وضعف شديد فلم يستطيع الصيد فقال له ابن‬
‫آوى‪ :‬ما ابلك اي سيد السباع قد تغريت أحوالك? قال‪ :‬هذا اجلرب الذي قد أجهدين وليس له دواء‬
‫إال قلب محار وأذانه قال ابن آوى‪ :‬ما أيسر هذا وقد عرفت مبكان كذا محارا مع قصار حيمل عليه‬
‫ثيابه‪ ،‬وأان آتيك به مث دلف إىل احلمار فأاته وسلم عليه فقال له‪ :‬مايل أراك مهزوالا? قال ما يطعمين‬
‫صاحيب شيئا فقال له‪ :‬وكيف ترضى املقام معه على هذا? قال‪ :‬فما يل حيلة يف اهلرب منه‪ ،‬لست‬
‫أتوجه إىل جهة إال جهة أضريب إنسان فكدين وأجاعين قال ابن آوى‪ :‬فأان أدلك على مكان معزول‬
‫عن الناس‪ ،‬ال مير به إنسان‪ ،‬خصيب املرعى فيه قطيع من احلمر مل تر عني مثلها حسن ا ومسن ا قال‬
‫احلمار‪ :‬وما حيبسنا ومسن ا وقال احلمار‪ :‬وما حيبسنا عنها? فانطلق بنا إليها‪ ،‬فانطلق به ابن آوى حنو‬
‫األسد‪ ،‬وتقدم ابن آوى ودخل ا لغابة على األسد‪ ،‬فأخربه مبكان احلمار فخرج إليه وأراد أن يثبت‬
‫عليه‪ ،‬فلم يستطيع لضعفه‪ ،‬وختلص احلمار منه فأفلت هلعا على وجهه فلما رأى ابن آوى أن األسد مل‬
‫يقدر على احلمار‪ ،‬قال له‪ :‬أعجزت اي سيد السباع إىل هذه الغاية? فقال له‪ :‬إن جئتين به مرة أخرى‪،‬‬
‫فلن ينجو مين أبدا فمضى ابن آوى إىل احلمار فقال له‪ :‬ما الذي جرى عليك? إن أحد احلمر رآك‬

‫‪81‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫غريبا‪ ،‬فخرج يتلقاك مرحبا بك‪ ،‬ولو ثبت له آلنسك‪ ،‬ومضى بك إىل أصحابه فلما مسع احلمار كالم‬
‫ابن آوى‪ ،‬ومل يكن رأى أسدا قط‪ ،‬صدقه وأخذ طريقه إىل األسد وأعلمه مبكانه وقال له‪ :‬استعد له‬
‫فقد خدعته لك‪ :‬فال يدركنَّك الضعف يف هذه النوبة إن أفلت فلن يعود معي أبدا فجأش جأش‬
‫األسد لتحريض ابن آوى له‪ ،‬وخرج إىل موضع احلمار فلما بصر به عاجله بوبثة افرتسه هبا‪ .‬مث قال‪ :‬قد‬
‫ذكرت األطباء أنه اليؤكل إال بعد الغسل والطهور‪ :‬فاحتفظ به حىت أعود فآكل قلبه وأذنيه‪ ،‬وأترك ما‬
‫سوى ذلك قواتا لك فلما ذهب األسد ليغتسل‪ ،‬عمد ابن آوى إىل احلمار فأكل قلبه وأذنيه‪ ،‬رجاء أن‬
‫يتطري األسد منه‪ ،‬فال أيكل منه شيئا‪ ،‬فقال البن آوى‪ :‬أين قلب احلمار وآذانه? قال ابن آوى‪ :‬أمل‬
‫تعلم أنه لو كان له قلب يفقه به‪ ،‬وأذانن يسمع هبما‪ ،‬مل يرجع إليك بعد ما أفلت وجنا من اهللكة‪ :‬و َّامنا‬
‫ضربت لك هذا املثل لتعلم أين لست كذلك احلمار الذي زعم ابن آوى أنه مل يكن له قلب وأذانن‪،‬‬
‫علي وخدعتين فخدعتك مبثل خديعتك‪ ،‬واستدركت فارط أمري‪ .‬وقد قيل‪ :‬إن الذي‬ ‫ولكنك احتلت َّ‬
‫يفسده احللم ال يصلحه إال العلم‪ .‬قال الغيلم‪ :‬صدقت‪ ،‬إال أن الرجل الصاحل يعرتف بزلته‪ ،‬وإذا أذنب‬
‫يؤدب‪ :‬لصدقه يف قوله وفعله‪ ،‬وإن وقع يف ورطة أمكنه التخلص منها حبيلته وعقله‪:‬‬‫ذنبا مل يستحي أن َّ‬
‫كالرجل الذي يعثر على األرض‪ ،‬مث ينهض عليها معتمدا فهذا مثل الرجل الذي يطلب احلاجة فإذا‬
‫ظفر هبا أضاعها‪.‬‬
‫الناسك وابن عرس‬
‫ق ال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت هذا املثل‪ .‬فاضرب يل مثل الرجل العجالن يف أمره من‬
‫غري روية وال نظر يف العواقب قال الفيلسوف‪ :‬إنه من مل يكن يف أمره متثبت ا مل يزل اندم ا ويصري أمره إىل‬
‫ما صار إليه الناسك من قتل ابن عرس وقد كان له ودودا‪ .‬قال امللك‪ :‬وكيف كان ذلك? قال‬
‫الفيلسوف‪ :‬زعموا أن انسكا من النساك أبرض جرجان وكانت له امرأة مجيلة‪ ،‬فمكثا زمنا مل يرزقا ولدا‬
‫مث محلت منه بعد اإلايس فسرت املرأة وسر الناسك بذلك فحمد هللا تعاىل وسأله أن يكون احلمل‬
‫ذكرا وقال لزوجته‪ :‬أبشري فإين أرجو أن يكون غالم ا لنا فيه منافع‪ ،‬وقرة عني‪ ،‬أختار له أحسن األمساء‬
‫وأحضر له سائر األدابء‪ .‬فقالت املرأة‪ :‬ما حيملك أيها الرجل على أن تتكلم مبا ال تدري أيكون أم ال?‬
‫ومن فعل ذلك أصابه ما أصاب الناسك الذي أراق على رأسه السمن والعسل‪ .‬قال هلا‪ :‬وكيف ذلك?‬
‫قالت‪ :‬زعموا أن انسك ا كان جيري عليه من بيت رجل اتجر‪ ،‬يف كل يوم رزق من السمن والعسل وكان‬
‫أيكل منه قوته وحاجته ويرفع الباقي وجيعله يف جرة‪ ،‬فيعلقها يف وتد يف انحية البيت حىت أمتألت‬

‫‪82‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فبينما الناسك ذات يوم مستلق على ظهره والعكاز يف يده واجلرة معلقة على رأسه‪ ،‬تف ّكر يف غالء‬
‫السمن والعسل‪ ،‬فقال‪ :‬سأبي ع ما يف هذه اجلرة بدينار وأشرتي به عشرة أعنز‪ ،‬فيحبلن ويلدن يف كل‬
‫مخسة أشهر بطنا‪ ،‬وال تلبث قليالا حىت تصري غنما كثرية إذا ولت أوالدها‪ ،‬مث حرر على هذا النحو‬
‫بسنني فوجد ذلك أكثر من أربعمائة عنز‪ ،‬فقال‪ :‬أان أشرتي هبا مائة من البقر‪ ،‬وأشرتى أرضا وبذرا‪،‬‬
‫وأستأج ر أكرة وأزرع على الثريان‪ ،‬وأنتفع أبلبان اإلانث ونتاجها فال أييت على مخس سنني أال وقد‬
‫أصبت من الزرع ماالا كثريا‪ ،‬فأبين بيت ا فاخرا وأشرتي إماء وعبيد‪ ،‬وأتزوج امرأة مجيلة ذات حسن‪ ،‬مث‬
‫أتيت بغالم سري جنيب‪ ،‬فأختار له أحسن األمساء‪ ،‬فإذا ترعرع أدبته وأحسنت أتديبه وأشدد عليه يف‬
‫ذلك‪ ،‬فإن يقبل مين‪ ،‬وإال ضربته هبذه العكازة وأشار إىل اجلرة فكسرها‪ ،‬فسال ما كان فيها على وجهه‬
‫وإمنا ضربت لك هذا املثل لكي ال تعجل بذكر ما ال ينبغي ذكره‪ ،‬وما ال تدري أيصح أم ال يصح‬
‫فاتعظ الناسك مبا حكت زوجته‪ .‬مث إن املرأة ولدت غالم ا مجيالا ففرح به أبوه وبعد أايم حان هلا أن‬
‫تتطهر فقالت املرأة للناسك‪ :‬اقعد عند ابنك حىت أذهب إىل احلمام فأغتسل وأعود مث إهنا انطلقت إىل‬
‫احلمام‪ ،‬وخلفت زوجها والغالم فلم يلبث أن جاءه رسول امللك يستدعيه ومل جيد من خيلفه عندابنه غري‬
‫ابن عرس داجن عنده كان قد رابه صغريا فهو عنده عديل ولده فرتكه الناسك عند الصيب وأغلق‬
‫عليهما البيت وذهب مع الرسول‪ .‬فخرج من بعض أحجار البيت حية سوداء فدنت من الغالم فضرهبا‬
‫ابن عرس مث وثب عليها فقتلها مث قطعها وا متألفمه من دمها مث جاء الناسك وفتح الباب فالتقاه ابن‬
‫عرس كاملبشر له مبا صنع من قتل احلية‪ .‬فلما رآه ملوًثا ابلدم وهو مذعور طار عقله وظن أنه قد خنق‬
‫ولده ومل يتثبت يف أمره ومل يتو فيه حىت يعلم حقيقة احلال ويعمل بغري ما يظن من ذلك ولكن عجل‬
‫أبن عرس وضربه بعكازه كانت يف يده على أم رأسه فما‪ .‬ودخل الناسك فرأى الغالم سليما حيا‬
‫وعنده أسود مقطع‪ .‬فلما عرف القصة وتبني له سوء فعله يف العجلة لطم على رأسه‪ .‬وقال‪ :‬ليين مل‬
‫أرزق هذا الولد ومل أغدر هذا الغدر ودخلت امرأته فوجدته على تلك احلال فقالت له‪ :‬ماشأنك‬
‫فأخربها ابخلرب من حسن فعل ابن عرس وسوء مكافأته له فقالت‪ :‬هذه مثرة العجلة فهذا مثل من ال‬
‫يتثبت يف أمره بل يفعل أغراضه ابلسرعة والعجلة‪.‬‬
‫ابب اجلرذ والسنور‬
‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت هذا املثل فاضرب يل مثل رجل كثر اعدؤه وأحدقوا به‬
‫من كل جانب فأشرف معهم على اهلالك فالتمس النجاة وا ملخرج مبواالة بعض أعدائه ومصاحلته‬

‫‪83‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فسلم من اخلوف وأمن مث ويف ملن صاحله منهم‪ .‬قال الفيلسوف‪ :‬إن املودة والعداوة التثبتان على حالة‬
‫واحدة أبدا‪ .‬ومبا حالت املودة إىل العداوة وصارت العداوة والية و صداقة‪ .‬وهلذا حوادث وعلل‬
‫وجتارب وذو الرأي حيدث لكل ما حيدث من ذلك رأايا جديدا‪ :‬أما من قبل العدو فبا لبأس وأما من‬
‫قبل الصديق فبا الستئناس وال متنع ذا العقل عداوة كانت يف نفسه لعدوه من مقاربته واالستنجاد به‬
‫على دفع خموف أو جر مرغوب‪ .‬ومن عمل يف ذلك ابحلزم ظفر حباجته‪ .‬ومثل ذلك مثل اجلرذ‬
‫والسنور حني وقعا يف الورطة فنجوا ابصطالحهما مجيع ا من الورطة والشدة قال امللك‪ :‬وكيف كان‬
‫ذلك قال بيداي‪ :‬زعموا أن شجرة عظيمة كان يف أصلها جحر سنور يقال له رومي وكان قريبا منه‬
‫جحر جرذ يقال له فريدون وكان الصيادون كثريا يتداولون ذلك املكان يصيدون فيه الوحش والطري‬
‫فنزل ذات يوم صياد فنصب حبالته قريب ا من موضع رومي فلم يلبث أن وقع فيها‪ .‬فخرج اجلرذ يدب‪،‬‬
‫فسر واستبشر‪ ،‬مث‬
‫ويطلب ما أيكل‪ ،‬وهو حذر من رومي فبينما هو يسعى إذ بصر به يف الشرك‪ّ ،‬‬
‫فتحري يف أمره‪ ،‬وخاف إن‬
‫التفت فرأى خلفه ابن عرس‪ ،‬يريد أخذه‪ ،‬ويف الشجرة بوما‪ ،‬يريد اختطافه‪ّ ،‬‬
‫رجع وراءه أخذه ابن عرس‪ ،‬وإن ذهب ميينا أو مشاالا اختطفه البوم‪ ،‬وإن تقدم أمامه افرتسه السنور‪.‬‬
‫وحمن قد أحاطت يب‪ .‬وبعد ذلك فمعي‬ ‫علي‪ٌ ،‬‬ ‫فقال يف نفسه‪ :‬هذا بالء قد اكتفين‪ ،‬وشرور تظاهرت ّ‬
‫عقلي‪ ،‬فال يفزعين أمري‪ ،‬وال يهولين شأين‪ ،‬وال يلحقين الدهش‪ ،‬وال يذهب قليب شعاعا‪ :‬فالعاقل ال‬
‫يفرق عند سداد رأيه وال يعزب عنه ذهنه على حال‪ .‬وإمنا العقل شبيهٌ ابلبحر الذي ال يدرك غوره وال‬
‫يبلغ البالء من ذي الرأي جمهوده فيهلكه‪ ،‬وحتقق الرجاء ال ينبغي أن يبلغ منه مبلغا يبطره ويسكره‪:‬‬
‫فيعمى عليه أمره ولست أرى يل من هذا البالء خملص ا إال مصاحلة السنّور‪ :‬فإنه قد نزل به من البالء‬
‫عين ف ِصيح خطايب‪ ،‬وحمض‬ ‫مثل ما قد نزل يب أو بعضه ولعل إن مسع كالمي الذي أكلّمه به‪ ،‬ووعى ّ‬
‫ص مجيعا‪.‬‬
‫صدقي الذي ال خالف فيه‪ ،‬وال خداع معه ففهمه‪ ،‬وطمع يف معونيت إايه‪ ،‬خنلُ ْ‬
‫مث إن اجلرذ دان من السنّور فقال له‪ :‬كيف حالك? قال له السنور‪ :‬كما حتب‪ :‬يف ضنك وضيق قال‪:‬‬
‫وأان اليوم شريكك يف البالء‪ ،‬ولست أرجو لنفسي خالص ا إال ابلذي أرجو لك فيه اخلالص وكالمي‬
‫عدو فإن‬
‫كامن يل‪ ،‬والبوم يرصدين وكالمها يل ولك ٌّ‬
‫هذا ليس فيه كذب وال خديعة وابن عرس ها هو ٌ‬
‫جعلت يل األمان‪ ،‬قطعت حبائلك‪ ،‬وخلّصتك من هذه الورطة فإذا كان ذلك ختلّص كل واحد منّا‬
‫بسبب صاحبه‪ :‬كالسفينة والركاب يف البحر‪ :‬فبالسفينة ينجون وهبم تنجو السفينة‪ .‬فلما مسع السنور‬
‫كالم اجلرذ وعرف أنه صادق قال له‪ :‬إن قولك هذا لشبيه ابحلق وأان أيضا راغب فيما أرجو لك‬

‫‪84‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫ولنفسي به اخلالص‪ .‬مث إنك إن فعلت ذلك فسأشكر لك ما بقيت قال اجلرذ‪ :‬فإين سأدنو منك‬
‫فأقطع احلبائل كلها إال حبالا واحدا أبقيه ألستوثق لنفسي منك مث أخذ يف قرض حبائله مث إن البوم‬
‫وابن عرس ملا رأاي دنو اجلرذ من السنور أيسا منه وانصرفا مث إن اجلرذ أبطأ على رومي قطع احلبائل‬
‫فقال له‪ :‬مايل ال أراك جمدا يف قطع حبائلي فإن كنت قد كنت ظفرت حباجتك‪ :‬فتغريت عما كنت‬
‫عليه وتوانيت يف حاجيت فما ذلك من فعل الصاحلني‪ :‬فإن الكرمي ال يتواىن يف حق صاحبه‪ .‬وقد كان‬
‫لك يف سابق موديت من الفائدة والنفع ما قد رأيت‪ .‬وأنت حقيق أن تكافئين بذلك وال تذكر العداوة‬
‫اليت بيين وبينك‪ :‬فالذي حدث بيين وبينك من الصلح حقيق أن ينسيك ذلك مع ما يف الوفاء من‬
‫الفضل واألجر وما يف الغدر من سوء العاقبة‪ :‬فإن الكرمي ال يكون إال شكورا غري حقود تنسيه اخللة‬
‫الوحدة من اإلحسان اخلالل الكثرية من اإلساءة وقد يقال‪ :‬إن أعجل العقوبة عقوبة الغدر ومن إذا‬
‫تضرع إليه وسئل العفو فلم يرحم ومل يعف فقد غدر قال اجلرذ‪ :‬إن الصديق صديقان‪ :‬طائع ومضطر‬
‫وكالمها يلتمسان املنفعة وحيرتسان من املضرة فأما الطائع فيسرتسل إليه ويؤمن يف مجيع األحوال وأما‬
‫املضطر ففي بعض األحوال يسرتسل إليه ويف بعضها يتحذر منه‪ .‬وال يزال العاقل يرهتن منه بعض‬
‫حاجاته لبعض ما يتقي وخياف وليس عاقبة التواصل من املتواصل إال طلب عاجل النفع وبلوغ مأموله‬
‫وأان واف لك مبا جعلت لك وحمرتس منك مع ذلك من حيث أخافك ختوفا أن يصيبين منك ما أجلأين‬
‫خوفه إىل مصاحلتك وأجلأك إىل قبول ذلك مين‪ :‬فإن لكل عمل حينا‪ .‬فما مل يكن منه يف حينه فال‬
‫حسن لعاقبته‪ .‬وأان قاطع حبائلك كلها غري أين اترك عقدة واحدة أرهتنك هبا وال أقطعها إال يف الساعة‬
‫اليت أعلم أنك فيها عين مشغول‪ :‬وذلك عند معاينيت الصياد‪ .‬مث إن اجلرذ أخذ يف قطع حبائل السنور‪.‬‬
‫فبينما هو كذلك إذ واىف الصياد فقال له السنور‪ :‬اآلن جاء اجلد يف قطع حبائلي‪ .‬فأجهد اجلرذ نفسه‬
‫يف القرض حىت إذا فرغ وثب السنور إىل الشجرة على دهش من الصياد ودخل اجلرذ بعض األحجار‬
‫وجاء الصياد فأخذ حبائله مقطع اة‪ ،‬مث انصرف خائب ا‪.‬‬
‫مث إن اجلرذ خرج بعد ذلك‪ ،‬وكره أن يدنو من السنّور‪ ،‬فناداه السنّور‪ :‬أيها الصديق الناصح‪ ،‬ذو البالء‬
‫إيل وال تقطع إخائي‪:‬‬
‫هلم‪َّ ،‬‬
‫إيل‪َّ ،‬‬ ‫احلسن عندي‪ ،‬ما منعك من ِّ‬
‫إيل‪ ،‬ألجازيك أبحسن ما أسديت ّ‬ ‫الدنو ّ‬
‫فإنه من اختذ صديقا‪ ،‬وقطع إخاءه‪ ،‬وأضاع صداقته‪ُ ،‬ح ِرم مثرة إخائه‪ ،‬وأيس من نفعه اإلخوان‬
‫حقيق أن تلتمس مكافأة ذلك مين ومن إخواين‬ ‫واألصدقاء‪ .‬وإن يدك عندي ال تنسى‪ ،‬وأنت ٌ‬
‫مبذول‪ .‬مث حلف واجتهد على صدقه فيما‬‫ختافن مين شيئا‪ .‬واعلم أن ما قِبلي لك ٌ‬ ‫وأصدقائي‪ .‬وال ّ‬

‫‪85‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫رب صداقة ظاهرة ابطنها عداوة كامنة‪ .‬وهي أشد من العداوة الظاهرة‪ .‬ومن مل‬
‫قال‪ .‬فناداه اجلرذ‪َّ :‬‬
‫حيرتس منها‪ ،‬وقع موقع الرجل الذي يركب انب الفيل املغتلم مث يغلبه النعاس فيستيقظ حتت فراسن‬
‫الفيل‪ ،‬فيدوسه ويقتله‪ .‬وإمنا مسي الصديق صديقا‪ :‬ملا يرجى من نفعه‪ ،‬ومسي العدو عدوا‪ :‬ملا خياف من‬
‫ضر الصديق أظهر له العداوة‪ .‬أال‬
‫ضرره‪ .‬والعاقل إذا رجا نفع العدو أظهر له الصداقة‪ ،‬وإذا خاف ّ‬
‫ترى? تتّبع البهائم أمهاهتا رجاء ألباهنا‪ ،‬فإذا انقطع ذلك انصرفت عنها‪ .‬ورمبا قطع الصديق عن صديقه‬
‫شره‪ :‬ألن أصل أمره مل يكن عداوة‪ .‬فأما من كان أصل أمره عداوة‬ ‫بعض ما كان يصله‪ ،‬فلم خيف ّ‬
‫جوهرية‪ ،‬مث أحدث صداقة حلاجة محلته على ذلك‪ ،‬فإنه إذا زالت احلاجة اليت محلته على ذلك‪ ،‬زالت‬
‫صداقته‪ ،‬فتحولت عداوة وصار إىل أصل أمره‪ :‬كاملاء الذي يسخن ابلنار‪ ،‬فإذا رفع عنها عاد ابردا‪.‬‬
‫عدو أضر يل منك‪ .‬وقد اضطرين وإايك وإىل ما أحدثنا من املصاحلة‪ .‬وقد ذهب‬ ‫وليس من أعدائي ٌّ‬
‫إيل واحتجت إليك فيه‪ ،‬وأخاف أن يكون مع ذهابه عود العداوة‪ .‬وال خري‬ ‫األمر الذي احتجت ّ‬
‫للضعيف يف قرب العدو القوي‪ ،‬وال للذليل يف قرب العدو العزيز‪ .‬وال أعلم لك قبلي حاجة‪ ،‬وليس‬
‫عندي بك ثقة‪ :‬فإين قد علمت أن الضعيف احملرتس من العدو القوي أقرب إىل السالمة من القوي إذا‬
‫وده‪ ،‬ويريه من‬
‫اغرت ابلضعيف واسرتسل إليه‪ .‬والعاقل يصاحل عدوه إذا اضطر إليه‪ ،‬ويصانعه‪ ،‬ويظهر له ّ‬
‫يعجل االنصراف عنه‪ ،‬حني جيد إىل ذلك سبيال‪.‬‬
‫نفسه االسرتسال إليه إذا مل جيد من ذلك ب ّدا‪ ،‬مث ّ‬
‫واعلم أن سريع االسرتسال ال تقال عثرته‪ .‬والعاقل يفي ملن صاحله من أعدائه مبا جعل له من نفسه‪،‬‬
‫وال يثق به كل الثقة‪ ،‬وال أيمنه على نفسه مع القرب منه‪ .‬وينبغي أن يبعد عنه ما استطاع‪ .‬وأان أودك‬
‫من بعيد‪ ،‬وأحب لك من البقاء والسالمة‪ ،‬ما مل أكن أحبه لك من قبل‪ .‬وال عليك أن جتازيين على‬
‫صنيعي إال مبثل ذلك‪ :‬إذ ال سبيل إىل اجتماعنا والسالم‪.‬‬
‫ابب ابن امللك والطائر فنزة‬
‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت هذا املثل‪ ،‬فاضرب يل مثل أهل ِّ‬
‫الرتات الذين ال بد‬
‫لبعضهم من اتقاء بعض‪ .‬قال بيداب‪ :‬زعموا أن ملك ا من ملوك اهلند كان يقال له بريدون‪ ،‬وكان له فرخ‬
‫وكان هذا الطائر وفرخه ينطقان أبحسن منطق‪ ،‬وكان امللك هبما معجبا‪ ،‬فأمر هبما أن جيعال عند‬
‫امرأته‪ ،‬وأمرها ابحملافظة‪ ،‬عليهما‪ .‬واتفق أن امرأة امللك ولدت غالما‪ ،‬فألف الفرخ الغالم‪ .‬وكالمها‬
‫طفالن يلعبان مجيع ا‪ ،‬وكان فنزة يذهب إىل اجلبل كل يوم فيأيت بفاكهة ال تعرف فيطعم ابن امللك‬
‫شطرها‪ .‬ويطعم فرخه شطرها‪ .‬فأسرع ذلك يف نشأهتما وزاد يف شباهبما وابن عليهما أثره عند امللك‪:‬‬

‫‪86‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فازداد لفنزة إكراما وتعظيما وحمبة حىت إذا كان يوم من األايم وفنزة غائب يف اجتناء الثمرة وفرخه يف‬
‫حجر الغالم ذرق يف حجره فغضب الغالم وأخذ الفرخ فضرب به األرض فمات‪ .‬مث إن فنزة أقبل‬
‫فوجد فرخه مقتوالا فصاح وحزن وقال‪ :‬قبحا للملوك الذين ال عهد هلم وال وفاء ويل ملن ابتلى بصحبة‬
‫امللوك الذين ال محي هلم وال حرمة وال حيبون أحد وال يكرم عليهم إال إذا طمعوا فيما عنده من غناه‬
‫واحتاجوا إىل ما ع نده من علم‪ :‬فيكرمونه لذلك فإذا ظفروا حباجتهم منه فال ود وال إخاء وال إحسان‬
‫وال غفران ذنب وال معرفة حق هم الذين أمرهم مبين على الرايء والفجور‪ .‬وهم يستصغرون ما يرتكبونه‬
‫من عظيم الذنوب ويستعظمون اليسري إذا خولفت فيه أهواؤهم‪ .‬ومنهم هذا الكفور الذي ال رمحة له‬
‫ا لغادر أبليفه وأخيه‪ .‬مث وثب يف شدة حنقه على وجه الغالم ففقأ عينه‪ ،‬وطار فوقع على شرفة املنزل‪.‬‬
‫مث إنه بلغ امللك ذلك‪ ،‬فجزع أشد الفزع‪ ،‬مث طمع أن حيتال له فوقف قريب ا منه وانداه وقال له‪ :‬إنك‬
‫آمن فنزل اي فنزة‪ .‬فقال له‪ :‬أيها امللك إن الغادر مأخوذ بغدره وإنه إن أخطأه عاجل العقوبة مل خيطئه‬
‫اآلجل حىت إنه يدرك األعقاب وأعقاب األعقاب وإن ابنك غدر اببين‪ ،‬فعجلت له العقوبة‪ .‬قال‬
‫امللك‪ :‬لعمري قد غدران اببنك‪ ،‬فانتقمت منا‪ :‬فليس لك قبلنا وال لنا قبلك وتر مطلوب‪ .‬فارجع إلينا‬
‫آمن ا‪ .‬قال فنزة‪ :‬لست براجع إليك أبدا فإن ذوي الرأي قد هنوا عن قرب املوتور فإنه ال يزيدك لطف‬
‫احلقود ولينه وتكرمه إايك إال وحشة منه‪ ،‬وسوء ظن به‪ :‬فإنك ال جتد للحقود املوتور أماانا هو أوثق لك‬
‫من الذعر منه وال أجود من البعد عنه وألحرتس منه أوىل‪ .‬وقد كان يقال‪ :‬إن العاقل يعد أبويه أصدقاء‬
‫واألخوة رفقاء واألزواج ألفاء والبنني ذكرا‪ ،‬والبنات خصماء واألقارب غرماء ويعد نفسه فريدا‪ .‬وأان‬
‫الفريد الوحيد الغريب الطريد قد تزودت من عنكم من احلزن عبئ ا ثقيالا ال حيمله معي أحد‪ .‬وأان‬
‫ذاهب‪ .‬فعليك مين السالم‪.‬‬
‫قال امللك‪ :‬إنك لو مل تكن اجتزيت منا فيما صنعناه بك‪ ،‬بل كان صنيعك بنا من غري ابتداء منا‬
‫ابلغدر كان األمر كما ذكرت‪ .‬وأما إذا كنا حنن بدأانك‪ ،‬فما ذنبك? وما الذي مينعك من الثقة بنا?‬
‫هلم فارجع‪ :‬فإنك آمن‪ .‬قال فنزة‪ :‬اعلم أن األحقاد هلا يف القلوب مواقع ممكنة موجعة‪ .‬فاأللسن ال‬
‫تصدق يف خربها عن القلوب‪ ،‬والقلب أعدل شهادة من اللسان على القلب‪ .‬وقد علمت أن قليب ال‬
‫يشهد للسانك‪ ،‬وال قلبك للساين‪ .‬قال امللك‪ :‬أمل تعلم أن الضغائن وألحقاد تكون بني كثري من‬
‫الناس‪ :‬فمن كان ذا عقل كان على إماتة احلقد أحرص منه على تربيته‪ .‬قال فنزة‪ :‬إن ذلك لكما‬
‫ذكرت‪ ،‬ولكن ليس ينبغي لذي الرأي مع ذلك أن يظن أن املوتور احلقود انس ما وتر به‪ ،‬مصروف عنه‬

‫‪87‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فكره فيه‪ .‬وذو الرأي يتخوف املكر واخلديعة واحليل ويعلم أن كثريا من العدو ال يستطاع ابلشدة‬
‫واملكابرة‪ ،‬حىت يصاد ابلرفق واملالينة‪ ،‬كما يصاد الفيل الوحشي ابلفيل الداجن‪ .‬قال امللك‪ :‬إن العاقل‬
‫الكرمي ال يرتك إلفه‪ ،‬وال يقطع إخوانه وال يضيع احلفاظ‪ ،‬وإن هو خاف على نفسه‪ ،‬حىت إن هذا‬
‫اخللق يكون قي أوضع الدواب منزلة‪ :‬فقد علمت أن اللعابني يلعبون ابلكالب‪ ،‬مث يذحبوهنا وأيكلوهنا‪.‬‬
‫ويرى الكلب الذي قد ألفهم ذلك‪ ،‬فال يدعوه إىل مفارقتهم‪ ،‬وال مينعه من إلفته إايهم‪ .‬قال فنزة‪ :‬إن‬
‫األحقاد خموفة حيثما كانت‪ .‬فأ خوفها وأشدها ما كان يف أنفس امللوك‪ :‬فإن امللوك يدينون ابالنتقام‪،‬‬
‫ويرون الدرك والطلب ابلوتر مكرمة وفخرا‪ .‬وإن العاقل ال يغرت بسكون احلقد إذا سكن فإمنا مثل احلقد‬
‫يف القلب‪ ،‬إذا مل جيد حمركا‪ ،‬مثل اجلمر املكنون‪ ،‬ما مل سجد حطبا‪ ،‬فليس ينفك القد متطلعا إىل‬
‫العل ل‪ ،‬كما تبتغي النار احلطب فإذا وج علة استعر استعار النار‪ ،‬فال يطفئه حسن كالم‪ ،‬وال لني وال‬
‫رفق وال خضوع وال تضرع وال مصانعة‪ ،‬وال شيء دون تلف األنفس‪ .‬مع أنه رب واتر يطمع يف‬
‫مراجعة املوتور مبا يرجو أن يقدر عليه من النفع له‪ ،‬والدفع عنه‪ .‬ولكين أان أضعف عن أن أقدر على‬
‫شيء يذهب به ما يف نفسك‪ .‬ولو كانت نفسك منطوية يل على ما تقول ما كان ذلك عين مغنيا وال‬
‫أزل يف خوف ووحشة وسوء ظن‪ ،‬ما اصطحبنا‪ .‬فليس الرأي بيين وبينك إال الفراق‪ .‬وأان أقرأ عليك‬
‫السالم‪.‬‬
‫قال امللك‪ :‬لقد علمت أنه ال يستطيع أحد ألحد ضرا وال نفعا‪ ،‬وأنه ال شيء من األشياء صغريا وال‬
‫كبريا يصيب أحد أال بقضاء وقدر معلوم‪ .‬وكما أن خلق ما خيلق‪ ،‬ووالدة ما يولد‪ ،‬وبقاء ما يبقى ليس‬
‫إىل اخلالئق منه شئ‪ ،‬كذلك فناء ما يفىن وهالك ما يهلك‪ .‬وليس لك يف الذي صنعت اببين ذنب‪،‬‬
‫وال ال بين فيما صنع اببنك ذنب‪.‬‬
‫إمنا كان ذلك كله قدرا مقدورا‪ ،‬وكالان له علة‪ :‬فال نوأخذ مبا به القدر‪ .‬قال فنزة‪ :‬إن القدر لكما‬
‫ذكرت‪ ،‬لكن ال مينع ذلك احلازم من توقى املخاوف‪ ،‬واالحرتاس من املكاره‪ .‬وملنه جيمع تصديق ا‬
‫ابلقدر وأخذا ابحلزم والقوة‪ .‬وأان أعلم أنك تكلمين بغري ما يف نفسك‪ .‬واألمر بيين وبينك غري صغري‪:‬‬
‫أل ن ابنك قتل ابين‪ ،‬وأان فقأت عني ابنك‪ ،‬وأنت تريد أن تشتفي بقتلي‪ ،‬وختلين عن نفسي‪ ،‬والنفس‬
‫أتىب املوت‪ .‬وقد كان يقال‪ :‬الفاقة بالء واحلزن بالء وقرب العدو بالء وفراق األحبة بالء والسقم بالء‬
‫واهلرم بالء‪ ،‬ورأس البالاي كلها املوت‪ .‬وليس أحد أبعلم مبا يف نفس املوجع احلزين ممن ذاق مثل ما به‪.‬‬
‫فأان مبا يف نفسي عامل مبا نفسك‪ :‬للمثل الذي عندي من ذلك‪ .‬وال خري يل يف صحبتك‪ :‬فإنك لن‬

‫‪88‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫تتذكر صنيعي اببنك‪ ،‬ولن أتذكر صنيع ابنك اببين‪ ،‬إال أحدث ذلك لقلوبنا تغيريا‪.‬‬
‫قال امللك‪ :‬ال خري فيمن ال يستطيع اإلعراض عما يف نفسه‪ ،‬وينساه ويهمله‪ ،‬حىت ال بذكر منه شيئ ا‪،‬‬
‫وال يكون له يف نفسه موقع‪ .‬قال فنزة‪ :‬إن الرجل الذي يف ابطن قدمه قرحة‪ ،‬إن هو حرص على املشي‬
‫فال بد أنه ال يزال يشتكي قرحته‪ ،‬والرجل األرمد العني إذا استقبل هبا الريح‪ ،‬تعرض ألن تزداد رمدا‪.‬‬
‫وكذلك الواتر إذا دان من املوتور‪ ،‬فقد عرض نقسه للهالك‪ .‬وال ينبغي لصاحب الدنيا إال توقي املهالك‬
‫واملتالف‪ ،‬وتقدير األمور وقلة االتكال على احلول والقوة‪ ،‬وقلة االغرتار مبن ال أيمن‪ :‬فإنه من اتكل‬
‫على قوته‪ ،‬فحمله ذلك على أن يسك الطريق املخوف‪ ،‬فقد سعى يف حتف نفسه‪ .‬ومن ال يقدر‬
‫لطاقته طعامه وشرابه ومحل نفسه ما ال تطيق وال حتمل فقد قتل نفسه‪ .‬ومن ال يقدر لقمته‪ ،‬وعظمها‬
‫فوق ما يسع فوه‪ ،‬فرمبا غص هبا فمات‪ .‬ومن اغرت بكالم عدوه‪ ،‬واخندع له وضيع احلزم‪ ،‬فهو أعدى‬
‫احلزم لنفسه من عدوه‪ .‬وليس ألحد النظر يف القدر الذي ال يدري ما أيتيه منه وال ما يصرف عنه‪،‬‬
‫ولكن عليه العمل ابحلزم واألخذ ابلقوة وحماسبة نفسه يف ذلك‪ .‬والعاقل ال يثق أبحد ما استطاع‪ ،‬وال‬
‫يقيم على خوف وهو جيد عنه مذهبا‪ .‬وأان كثري املذاهب وأرجو أال أذهب وجها أال أصبت فيه مت‬
‫يغنيين‪ :‬فإن خالالا مخس ا من تزودهن كفينه يف كل وجه‪ ،‬وآنسنه يف غربة‪ ،‬وقربن له البعيد‪ ،‬وأكسبنه‬
‫املعاش اإل خوان‪ :‬أوهلن كف األذى والثانية حسن األدب‪ ،‬والثالثة جمانبة الريب والرابعة كرم اخللق‪،‬‬
‫واخلامسة النبل يف العمل‪ .‬وإذا خاف اإلنسان على نفسه شيئا طابت نفسه عن املال واألهل والولد‬
‫والوطن‪ :‬فإنه يرجو اخللف من ذلك كله وال يرجو عن النفس خلفا‪ .‬وشر املال ما ال إنفاق منه وشر‬
‫األزواج اليت ال توايت بعلها‪ ،‬وشر الولد العاصي العاق لوالديه وشر اإلخوان اخلاذل ألخيه عند النكبات‬
‫والشدائد‪ ،‬وشر امللوك الذي خيافه الربيء‪ ،‬وال يواظب على حفظ أهل مملكته‪ ،‬وشر البالد بالد بال‬
‫خصب فيها وال أمن‪ ،‬وإنه ال أمن يل عندك أيها امللك وال طمأنينة يل يف جوارك‪ .‬ومث ودع امللك‬
‫وطار‪ .‬فهذا مثل ذوي األواتر الذين ال ينبغي لبعضهم أن يثق ببعض‪.‬‬
‫????????ابب األسد والشغرب الناسك وهو ابن آوى‬
‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت هذا املثل فاضرب يل مثل امللك الذي يراجع من‬
‫أصابته منه عقوبة من غري جرم أو جفوة من غري ذنب‪ .‬قال الفيلسوف‪ :‬إن امللك لو مل يراجع من‬
‫أصابته منه جفوة عن ذنب أو عن غري ذنب‪ ،‬ظلم أومل يظلم ألضر ذلك وخيرب ما عنده من املنافع فإن‬
‫كان ممن يوثق به يف رأيه وأمانته‪ ،‬فإن امللك حقيق ابحلرص على مراجعته‪ :‬فإن امللك ال يستطاع‬

‫‪89‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫ضبطه إال مع ذوي الرأي وهم الوزراء واألعوان إال ابملودة والنصيحة‪ ،‬وال مودة وال نصيحة إال لذوي‬
‫الرأي والعفاف‪ .‬وأعمال السلطان كثرية‪ ،‬والذين حيتاج إليهم من العمال واألعوان كثريون‪ .‬ومن جيمع‬
‫منهم ما ذكرت من النصيحة والعفاف قليل‪ .‬واملثل يف ذلك مثل األسد وابن آوى‪ .‬قال امللك‪ :‬وكيف‬
‫كان ذلك?‬
‫قال الفيلسوف‪ :‬زعموا أن ابن آوى كان يسكن يف بعض الدحال وكان متزهدا متعففا‪ ،‬مع بنات آوى‬
‫وذائب وثعالب‪ .‬ومل يكن يصنع ما يصنعن‪ ،‬وال يغري كما يغرن‪ ،‬وال يهريق دم ا وال أيكل حلم ا‪.‬‬
‫فخاصمه تلك السباع‪ ،‬وقلن ال نرضى بسريتك و ال رأيك الذي أنت عليه من تزهدك‪ :‬مع أن تزهدك‬
‫ال يغين عنك شيئا‪ .‬وأنت ال تستطيع أن تكون إال كأحدان‪ :‬تسعى معنا‪ ،‬وتفعل فعلنا فما الذي كفك‬
‫عن الدماء وعن أكل اللحم? قال ابن آوى‪ :‬إن صحبيت إايكن ال تؤمثين إذا مل أؤمث نفسي‪ :‬ألن اآلًثم‬
‫ليست من قبل األماكن واألصحاب‪ ،‬ولكنها من قبل القلوب واألعمال‪ .‬ولو كان صاحب املكان‬
‫الصاحل يكون عمله فيه صاحلا‪ ،‬وصاحب املكان السيء يكون عمله فيه سيئا‪ ،‬كان حينئذ من قتل‬
‫الناسك يف حمرابه مل أيمث‪ ،‬ومن استحياه يف معركة القتال أمث‪ .‬وإين إمنا صحبتكن بنفسي‪ ،‬ومل أصحبكن‬
‫بقليب وأعمايل‪ :‬ألين أعرف مثرة األعمال‪ :‬فلزمت حايل‪ :‬وثبت ابن آوى على حاله تلك واشتهر‬
‫ابلنسك والتزهد حىت بلغ ذلك أسدا كان ملك تلك الناحية فرغب فيه‪ :‬ملا بلغه عنه من العفاف‬
‫والنزاهة والزهد واألمانة فأرسل إليه يستدعيه‪ .‬فلما حضر كلمه وآنسه فوجده يف مجيع األمور وفق‬
‫غرضه‪ .‬مث دعاه بعد أايم إىل صحبته وقال له‪ :‬تعلم أن عمايل كثري وأعواين جم غفري وأان مع ذلك إىل‬
‫األعوان حمتاج‪ .‬وقد بلغين عنك عفاف وأدب وعقل ودين فازددت فيك رغبة‪ .‬وأان موليك من عملي‬
‫جسيما ورافعك إىل منزلة شريفة وجاعلك من خاصيت‪ .‬قال ابن آوى‪ :‬إن امللوك أحقاء ابختيار‬
‫األعوان فيما يهتمون به من أعماهلم وأمورهم‪ .‬وهم أحرى أال يكرهوا على ذلك أحدا‪ :‬فإن املكره ال‬
‫يستطيع البالغة يف العمل‪ .‬وإين لعمل السلطان كاره‪ .‬وليس يل به جتربة وال ابلسلطان رفق‪ .‬وأنت ملك‬
‫السباع وعندك من أجناس الوحوش عدد كثري فيهم أهل نبل وقوة وهلم على العمل حرص وعندهم به‬
‫وابلسلطان رفق‪ :‬فإن استعملتهم أغنوا عنك واغتبطوا ألنفسهم مبا أصاهبم من ذلك‪ .‬قال األسد‪ :‬دع‬
‫عنك هذا‪ :‬فإين غري معفيك من العمل‪ .‬قال ابن آوى‪ :‬إمنا يستطيع خدمة السلطان رجالن لست‬
‫بواحد منهما‪ :‬إما فاجر مصانع ينال حاجته بفجوره ويسلم مبصانعته وإما مغفل ال حيسده أحد‪ .‬فن‬
‫أراد أن خيدم السلطان ابلصدق والعفاف فال خيلط ذلك مبصانعته وحينئذ قل أن يسلم على ذلك‪:‬‬

‫‪90‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫ألنه جيتمع عليه عدو السلطان وصديقه ابلعداوة واحلسد‪ .‬أما الصديق فينافسه يف منزلته ويبغى عليه‬
‫فيها ويعاديه ألجلها وأما عدو السلطان فيضطغن عليه لنصيحته لسلطانه وإغنائه عنه‪ .‬فإذا اجتمع‬
‫عليه هذان الصنفان فقد تعرض للهالك‪ .‬قال األسد‪ :‬ال يكونن بغي أصحايب عليك وحسدهم إايك مما‬
‫يعرض يف نفسك‪ :‬فأنت معي وأان أكفيك ذلك وأبلغ بك من درجات الكرامة واإلحسان على قدر‬
‫مهتك‪ .‬قال ابن آوى‪ :‬إن كان امللك يريد اإلحسان إيل فليدعين يف هذه الربية أعيش آمنا قليل اهلم‬
‫راضي ا بعيشي من األذى واخلوف يف ساعة واحدة ما ال يصل إىل غريه يف طول عمره وإن قليالا من‬
‫العيش يف آمن وطمأنينة خري من كثري من العيش يف خوف ونصب‪ .‬قال األسد‪ :‬قد مسعت مقالتك‪،‬‬
‫فال ختف شيئا مما أراك ختاف منه‪ .‬وست أجد بدا من االستعانة بك يف أمري‪ .‬قال ابن آوى ‪ :‬أان إذا‬
‫أىب امللك إال ذلك فليعجل يل عهدا إن بغى على أحد من أصحابه عنده‪ ،‬ممن هو فوقي‪ :‬خمافة على‬
‫منزلته‪ ،‬أو ممن هو دون‪ :‬لينازعين يف منزليت فذكر عند امللك منهم ذاكر بلسانه‪ ،‬أو على لسان غريه ما‬
‫يريد به حتميل امللك على أال يعجل يف أمر وأن يتثبت فيما يرفع إليه ويذكر عنده من ذلك ويفحص‬
‫عن ه مث ليصنع ما بدا له‪ .‬فإذا وثقت منه بذلك أعنته بنفسي فيما حيب وعملت له فيما أوالين بنصيحة‬
‫واجتهاد وحرصت على أال أجعل له على نفسي سبيالا‪ .‬قال األسد‪ :‬لك ذلك على وزايدة‪ .‬مث واله‬
‫خزائنه واختص به دون أصحابه وزاد يف كرامته‪ .‬فلما رأى أصحاب األسد ذلك غاظهم وساءهم?‬
‫فأمجعوا كيدهم‪ ،‬واتفقوا كلهم على أن حيملوا عليه األسد وكلن األسد قد استطاب حلما فعزل منه‬
‫مقدرا‪ ،‬وأمره ابالحتفاظ به‪ ،‬وأن يرفعه يف أحصن موضع طعامه ومحلوه إىل بيت ابن آوى‪ ،‬فخبئوه فيه‪،‬‬
‫وال علم له به‪ ،‬مث حضروا يكذبونه إن جرت يف ذلك حال‪ .‬فلما كان من الغد ودعا األسد بغدائه‪،‬‬
‫فقد ذلك اللحم‪ ،‬فالتمسه ومل جيده‪ ،‬وابن آوى مل يشعر مبا صنع يف حقه من املكيدة‪ .‬فحضر الذين‬
‫عملوا املكيدة‪ ،‬وقعدوا يف اجمللس‪ .‬مث إن امللك سأل عن اللحم‪ ،‬وشدد فيه‪ ،‬وقي املسألة عنه‪ ،‬فنظر‬
‫بعضهم إىل بعض‪ ،‬فقال أحدهم قول املخرب الناصح‪ :‬إنه ال بد لنا من أن خنرب امللك مبا يضره وينفعه‪،‬‬
‫وإن شق ذلك على من يشق عليه‪ .‬وإنه بلغين أن ابن آوى هو الذي ذهب ابللحم إىل منزله‪ .‬قال‬
‫اآلخر‪ :‬ال أراه يفعل هذا‪ ،‬ولكن انظروا وفحصوا فإن معرفة اخلالئق شديدة‪ .‬فقال اآلخر‪ :‬لعمري ما‬
‫تكاد السرائر تعرف‪ ،‬وأظنكم إن فحصتم عن هذا وجدمت اللحم ببيت ابن آوى‪ ،‬وكل شيء يذكر من‬
‫عيوبه وخيانته حنن أحق أن نصدقه‪ .‬قال اآلخر‪ :‬لئن وجدان هذا حق ا فليست ابخليانة فقط‪ ،‬ولكن مع‬
‫اخليانة كفر النعمة‪ ،‬واجلراءة على امللك‪ .‬قال اآلخر‪ :‬أنتم أهل العدل والفضل‪ ،‬ال أستطيع أن أكذبكم‪،‬‬

‫‪91‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫ولكن سيبني هذا لو أرسل إىل امللك من يفتشه‪ .‬قال اآلخر‪ :‬إن كان امللك مفتشا منزله فليعجل‪ :‬فإن‬
‫عيونه وجواسيسه مبثوثة بكل مكان‪ .‬ومل يزالوا يف الكالم و أشباهه‪ ،‬حىت وقع يف نفس األسد ذلك‪،‬‬
‫فأمر اببن آوى فحضر فقال له‪ :‬أين اللحم الذي أمرتك ابالحتفاظ به‪ ،‬قال‪ :‬دفعته إىل صاحب‬
‫الطعام ليقربه إىل امللك‪ .‬فدعا األسد بصاحب الطعام‪ ،‬وكان ممن وابيع مع القوم على ابن آوى‪ .‬فقال‪:‬‬
‫ما دفع إىل شيئا‪ .‬فأرسل األسد أمينا إىل بيت ابن آوى ليفتشه‪ ،‬فوجد فيه ذلك اللحم‪ ،‬فأتى به‬
‫األسد‪ .‬فدان من األسد ذئب مل يكن تكلم يف شيء من ذلك‪ .‬وكان يظهر أنه من العدول الذين ال‬
‫يتكلمون فيما ال يعل مون‪ ،‬حىت يتبني هلم احلق‪ .‬فقال‪ :‬بعد أن اطلع امللك على خيانة ابن آوى فال‬
‫َّ‬
‫يعفون عنه‪ :‬فإنه إن عفا عنه مل يطلع امللك بعدها على خيانة خائن‪ ،‬وال ذنب مذنب‪ .‬فأمر األسد‬
‫اببن آوى أن خيرج‪ ،‬وحيتفظ به‪ .‬فقال بعض جلساء امللك‪ :‬إين ألعجب من رأي امللك ومعرفته ابألمور‬
‫كيف خي فى عليه أمر هذا‪ ،‬ومل يعرف خبثه وخمادعته? وأعجب من هذا أين أراه سيصفح عنه‪ ،‬بعد‬
‫الذي ظهر منه‪ .‬فأرسل األسد بعضهم رسوالا إىل ابن آوى يلتمس منه العذر‪ ،‬فرجع إليه الرسول برسالة‬
‫عجل يف‬
‫كاذبة اخرتعها فغضب األسد من ذلك وأمر اببن آوى أن يقتل‪ .‬فعلمت أم األسد أنه قد ّ‬
‫أمره‪ ،‬فأرسلت إىل الذين أمروا بقتله أن يؤخروه‪ ،‬ودخلت على ابنها‪ ،‬فقالت‪ :‬اي بين أبي ذنب أمرت‬
‫عجلت‪ .‬وإمنا يسلم العاقل من الندامة برتك العجلة‬
‫بين ّ‬
‫بقتل ابن آوى? فأخربها ابألمر‪ .‬فقالت‪ :‬اي َّ‬
‫وابلتثبت‪ .‬والعجلة ال يزال صاحبها جيتين مثرة الندامة‪ ،‬بسبب ضعف الرأي‪ .‬وليس أحد أحوج إىل‬
‫التُّؤدة والتثبت من امللوك‪ :‬فإن املرأة بزوجها‪ ،‬والولد بوالديه‪ ،‬واملتعلم ابملعلم واجلند ابلقائد‪ ،‬والناسك‬
‫ابلدين‪ ،‬والعامة ابمللوك‪ ،‬وامللوك ابلتقوى‪ ،‬والتقوى ابلعمل‪ ،‬والعقل ابلتثبت واألانة‪ ،‬ورأس الكل احلزم‪،‬‬
‫ورأس احلزم للملك معرفة أصحابه‪ ،‬وإنزاهلم منازهلم على طبقاهتم‪ ،‬واهتامه بعضهم على بعض‪ .‬فإنه لو‬
‫وجد بعضهم إىل هالك بعض سبيالا لفعل‪ .‬وقد جربت ابن آوى‪ ،‬وبلوت رأيه وأمانته ومروءته‪ ،‬مث مل‬
‫خيونه بعد ارتضائه إايه وائتمانه له‪ ،‬ومنذ جميئه إىل‬
‫تزل مادح ا له راضي ا عنه‪ .‬وليس ينبغي للملك أن ّ‬
‫اآلن مل يطلع له على خيانة إال على العفة والنصيحة‪ .‬وما كان رأي امللك أن يعجل عليه ألجل طابق‬
‫ليتعرض للحم استودعته‬ ‫حلم‪ .‬وأنت أيها امللك حقيق أن تنظر يف حال ابن آوى‪ :‬لتعلم أنه مل يكن ّ‬
‫إايه‪ .‬ولعل امللك إن فحص عن ذلك ظهر له أن ابن آوى له خصماء هم الذين أمتروا هبذا األمر‪ .‬وهم‬
‫ال ذين ذهبوا ابللحم إىل بيته فوضعوه فيه‪ :‬فإن احلدأة إذا كان يف رجلها قطعة حلم اجتمع عليها سائر‬

‫‪92‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫الطري‪ ،‬والكلب إذا كان معه عظم اجتمع عليه الكالب‪ .‬وابن آوى منذ كان إىل اليوم انفع‪ ،‬وكان‬
‫حمتمالا لكل ضرر يف جنب منفعة تصل إليك‪ ،‬ولكل عناء يكون لك فيه راحة‪ ،‬ومل يطوى دونك سرا‪.‬‬
‫فبينما أم األسد تقص عليه هذه املقالة‪ ،‬إذ دخل على األسد بعض ثقاته‪ ،‬فأخربه برباءة ابن آوى‪.‬‬
‫يرخص ملن سعى به‬ ‫فقالت أم األسد‪ ،‬بعد أن اطلع امللك على براءة ابن آوى‪ :‬إن امللك حقيق أال ّ‬
‫لئال يتجرءوا إىل ما هو أعظم من ذلك بل يعاقبهم عليه لكي ال يعودوا إىل مثله‪ :‬فأنه ال ينبغي للعاقل‬
‫أن يراجع يف أمر الكفور للحسىن‪ ،‬اجلريء على الغدر‪ ،‬الزاهد يف اخلري الذي ال يوقن ابآلخرة‪ .‬وينبغي‬
‫أن جيزى بعمله‪ ،‬وقد عرفت سرعة الغضب وفرط اهلفوة‪ ،‬ومن سخط ابليسري مل يبلغ رضاه ابلكثري‪.‬‬
‫واألوىل لك أن تراجع ابن آوى‪ ،‬وتعطف عليه‪ ،‬وال يوئسنك من مناصحته ما فرط منك إليه من‬
‫اإلساءة‪ :‬فإن من الناس من ال ينبغي تركه على حال من األحوال‪ ،‬وهو من عرف ابلصالح والكرم‬
‫وحسن العهد والشكر والوفاء واحملبة للناس والسالمة من احلسد والبعد من األذى واالحتمال لإلخوان‬
‫واألصحاب وإن ثقلت عليه منه املئونة‪ .‬وأما من ينبغي تركه فهو من عرف ابلشراسة ولؤم العهد وقلة‬
‫الشكر والوفاء والبعد من الرمحة والورع‪ ،‬واتصف ابجلحود لثواب اآلخرة وعقاهبا‪ .‬وقد عرفت ابن آوى‬
‫وجربته وأنت حقيق مبواصلته‪ .‬فدعى األسد اببن آوى وأعتذر إليه مما كان منه ووعده خريا‪ ،‬وقال‪ :‬إين‬
‫معتذر إليك ور ّادك إىل منزلتك‪ .‬فقال ابن آوى‪ :‬إن شر األخالء من التمس منعة نفسه بضر أخيه‪،‬‬
‫ومن كان غري انظر له كنظره لنفسه‪ ،‬أو كان يريد أن يرضيه بغري احلق ألجل إتباع هواه‪ .‬وكثريا ما يقع‬
‫ذلك بني األخالء‪ .‬وقد كان من امللك إىل ما علم فال يغلظن على نفسه ما اخربه به إين به غري واثق‪،‬‬
‫وإنه ال ينبغي يل أن أصحبه‪ :‬فإن امللوك ال ينبغي أن يصحبوا من عاقبوه أشد العقاب‪ ،‬وال ينبغي هلم‬
‫أن يرفضوه أصالا‪ :‬فإن ذا السلطان إذا عزل كان مستحقا للكرامة يف حالة إبعاده واإلقصاء له‪ .‬فلم‬
‫يلتفت األسد إىل كالمه‪ .‬مث قال له‪ :‬إين قد بلوت طباعك وأخالقك‪ ،‬وجربت أمانتك ووفاءك‬
‫متحل احليلة لتحملي عليك‪ .‬وإين منزلك من نفسي منزلة األخيار‬ ‫وصدقك‪ ،‬وعرفت كذب من ّ‬
‫الكرماء‪ ،‬والكرمي تنسيه اخللة الواحدة من اإلحسان‪ ،‬اخلالل الكثرية من اإلساءة‪ .‬وقد عدان إىل الثقة‬
‫بك‪ ،‬فعد إىل الثقة بنا‪ :‬فإن لنا ولك بذلك غطة وسرورا‪ .‬فعاد ابن آوى إىل والية ما كان يلي‪،‬‬
‫وضاعف له امللك الكرامة‪ ،‬ومل تزده األايم إال تقرابا من السلطان‪.‬‬
‫ابب إيالذ وبالذ وايراخت‬

‫‪93‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت هذا املثل‪ ،‬فاضرب يل مثالا يف األشياء اليت جيب على‬
‫امللك أن يلزم هبا نفسه‪ ،‬وحيفظ ملكه ويثبت سلطانه‪ ،‬ويكون ذلك رأس أمره ومالكه‪ :‬أابحللم أم‬
‫ابملروءة أم ابلشجاعة أم ابجلود? قال بيداب‪ :‬إن أحق ما حيفظ به امللك ملكه احللم‪ ،‬وبه تثبت‬
‫السلطنة‪ ،‬واحللم رأس األمور ومالكها‪ ،‬وأجود ما كان يف امللوك‪ :‬كالذي زعموا من أنه كان ملك يدعى‬
‫بالذ‪ ،‬وكان له وزير يدعى إيالذ‪ .‬وكان متعبدا انسكا‪ .‬فنام امللك ذات ليلة‪ ،‬فرأى يف منامه مثانية أحالم‬
‫النساك ليعربوا رؤايه‪ .‬فلما حضروا بني يديه قص عليهم ما‬
‫أفزعته‪ ،‬فاستيقظ مرعوابا‪ .‬فدعا الربامهة‪ ،‬وهم ّ‬
‫رأى‪ .‬فقالوا أبمجعهم‪ :‬لقد رأى امللك عجبا فإن أمهلتنا سبعة أايم جئناه بتأويله‪ .‬قال امللك‪ :‬قد‬
‫أمهلتكم فخرجوا من عنده مث اجتمعوا يف منزل أحدهم وأمتروا بينهم‪ .‬وقالوا‪ :‬قد وجدمت علما واسعا‬
‫تدركون به أثركم و تنقمون به من عدوكم‪ ،‬وقد علمتم أنه قتل منا ابألمس اثىن عشر ألفا‪ .‬وها هو قد‬
‫أطلعنا على سره وسألناه تفسري رؤايه‪ :‬فهلم نغلظ له القول وخنوفه حىت حيمله الفرق واجلزع على أن‬
‫يفعل الذي نريد وأنمر‪ .‬فنقول‪ :‬ادفع إلينا أحباءك ومن يكرم عليك حىت نقتلهم‪ :‬فإن قد نظران يف‬
‫كتابنا فلم نر أن يدفع عنك ما رأيت لنفسك وما وقعت فيه من هذا للشر إال بقتل من نسمي لك‬
‫فإن قال امللك‪ :‬وما تريدون أن تقتلوا? مسوهم يل‪ .‬قلنا نريد امللكة ايراخت أم جوير احملمودة أكرم‬
‫نسائك عليك‪ .‬ونريد جوير أحب بنيك إليك وأفضلهم عندك‪ .‬ونريد ابن أخيك الكرمي‪ ،‬وإيالذ‬
‫خليلك وصاحب أمرك‪ .‬ونريد كاال الكاتب صاحب سرك وسيفك الذي ال يوجد مثله والفيل األبيض‬
‫الذي ال تلحقه اخليل والفرس الذي هو مركبك يف القتال‪ .‬ونريد الفيلني اآلخرين العظيمني الذين‬
‫يكوانن مع الفيل الذكر‪ .‬ونريد البخيت السريع القوي‪ .‬ونريد كباريون احلكيم الفاضل العامل ابألمور‬
‫لننتقم منه مبا فعل بنا‪ .‬مث نقول‪ :‬إمنا ينبغي لك أيها امللك أن تقتل هؤالء الذين مسيناهم لك‪ ،‬مث جتعل‬
‫دماءهم يف حوض متلؤه‪ ،‬مث تقعد فيه‪ .‬فإذا خرجت من احلوض اجتمعنا حنن معاشر الربامهة من اآلفاق‬
‫األربعة جنول حولك فنرقيك ونتفل عليك ومنسح عنك الدم ونغسلك ابملاء والدهن الطيب‪ .‬مث تقوم‬
‫البهي فيدفع هللا بذلك البالء الذي نتخوفه عليك‪ .‬فإن صربت‪ ،‬أيها امللك‪ ،‬وطابت نفسك‬ ‫إىل منزلك ّ‬
‫عن أحبائك الذين ذكران لك‪ ،‬وجعلتهم فداءك‪ ،‬ختلصت من البالء‪ ،‬واستقام لك ملكك وسلطانك‪،‬‬
‫ختوفنا عليك أن يغضب ملكك أو هتلك‪ .‬فإن‬ ‫واستخلفت من بعدهم من أحببت‪ .‬وإن أنت مل تفعل ّ‬
‫هو أطاعنا فيما أنمره قتلناه أي قتلة شئنا‪ .‬فلما أمجعوا على ما أمتروا به رجعوا إليه يف اليوم السابع‪.‬‬
‫وقالوا له‪ :‬أيها امللك‪ ،‬إ ّان نظران يف كتبنا يف تفسري ما رأيت‪ ،‬وفحصنا عن الرأي فيما بيننا‪ .‬فلتكن لك‬

‫‪94‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أيها امللك الطاهر الصاحل الكرامة‪ .‬ولسنا نقدر أن نعلمك مبا رأينا إال أن ختلو بنا‪ .‬فأخرج امللك من‬
‫كان عنده وخال هبم‪ .‬فحدثوا ابلذي ائتمروا به‪ .‬فقال هلم‪ :‬املوت خري يل من احلياة إن أان قتلت هؤالء‬
‫الذين هم عديل نفسي‪ .‬وأان ميت ال حمالة‪ ،‬واحلياة قصرية‪ ،‬ولست كل الدهر ملكا‪ ،‬وإن املوت عندي‬
‫وفراق األحباء سواء‪ .‬قال له الربامهة‪ :‬إن أنت مل تغضب أخربانك‪ .‬فأذن هلم‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬أيها امللك إنك مل تقل صواابا حني جتعل نفس غريك أعز عندك من نفسك‪ .‬فاحتفظ بنفسك‬
‫وقر عين ا مبلكك يف وجوه أهل‬
‫وملكك‪ .‬واعمل هذا الذي لك فيه الرجاء العظيم على ثقة ويقني‪ّ .‬‬
‫مملكتك الذين شرفت وكرمت هبم‪ .‬وال تدع األمر العظيم وأتخذ ابلضعيف فتهلك نفسك إيثارا ملن‬
‫حتب‪ .‬واعلم أيها امللك أن اإلنسان إمنا حيب احلياة حمبة لنفسه‪ .‬وأنه ال حيب من أحب من األحباء إال‬
‫ليتمتع هبم يف حياته‪ .‬وإمنا قوام نفسك بعد هللا تعاىل مبلكك‪ .‬وإنك مل تنل ملكك إال ابملشقة والعناء‬
‫الكثري يف الشهور والسنني‪ .‬وليس ينبغي أن ترفضه ويهون عليك‪ .‬فاستمع كالمنا‪ .‬فانظر لنفسك‬
‫مناها‪ ،‬ودع ما سواها‪ :‬فإنه ال خطر له‪ .‬فلما رأى امللك أن الربامهة قد أغلظوا له يف القول واجرتءوا‬
‫فخر على وجهه يبكي‬ ‫غمه وحزنه‪ .‬وقام من بني ظهرانيهم ودخل إىل حجرته ّ‬ ‫عليه يف الكالم اشتد ّ‬
‫ويتقلب كما تتقلب السمكة إذا خرجت من املاء‪ ،‬وجعل يقول يف نفسه‪ :‬ما أدري أي األمرين أعظم‬
‫علي إىل األبد‪.‬‬
‫يف نفسي? اململكة أم قتل أحبائي? ولن أانل الفرح ما عشت‪ .‬وليس ملكي بباق ّ‬
‫ولست ابملصيب سؤيل يف ملكي‪ .‬وإين لزاهد يف احلياة إذا مل أرى إيراخت‪ .‬وكيف أقدر على القيام‬
‫مبلكي إذا هلك وزيري إيالذ? وكيف أضبط أمري إذا هلك فيلي األبيض وفرسي اجلواد? وكيف أدعى‬
‫ملك ا وقد قتلت من أشار الربامهة بقتله? وما أصنع ابلدنيا بعدهم? مث إن احلديث فشا يف األرض حبزن‬
‫امللك ومهّه‪ .‬فلما رأى إيالذ ما انل امللك من اهلم واحلزن ف ّكر حبكمته ونظر وقال‪ :‬ما ينبغي يل أن‬
‫أستقبل امللك فأسأله عن هذا األمر الذي قد انله من غري أن يدعوين‪ .‬مث انطلق إىل إيراخت فقال‪ :‬إين‬
‫منذ خدمت امللك إىل اآلن مل يعمل عمالا إال مبشوريت ورأيي‪ .‬وأراه يكتم عين أمرا ال أعلم ما هو‪ .‬وال‬
‫أراه يظهر منه شيئ ا‪ .‬وإين رأيته خالي ا مع اجلماعة الربمهيني منذ ليال‪ .‬وقد احتجب عنّا فيها‪ .‬وأان‬
‫خائف أن يكون قد أطلعهم على شيء من أسراره‪ .‬فلست آمنهم أن يشريوا عليه مبا يضره ويدخل‬
‫عليه منه ا لسوء‪ .‬فقومي وادخلي عليه فاسأليه عن أمره وشأنه‪ .‬واخربيين مبا هو عليه وأعلميين‪ :‬فإين‬
‫فلعل الربمهيني قد زينوا له أمرا أو محلوه على خطة قبيحة‪ .‬وقد علمت‬‫لست أقدر على الدخول عليه‪ّ .‬‬
‫أن من ُخلُ ِق امللك أنه إذا غضب ال يسأل أحدا‪ .‬وسواء عنده صغري األمور وكبريها‪ .‬فقالت إيراخت‪:‬‬

‫‪95‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫إنه كان بيين وبني امللك بعض العتاب فلست بداخلة عليه هبذه احلال‪ .‬فقال هلا إيالذ‪ :‬ال حتملي عليه‬
‫احلقد يف مثل هذا‪ .‬وال خيطر ّن ذلك على ابلك فليس يقدر على الدخول عليه أحد سواك‪.‬‬
‫سرى عين‪ ،‬فقومي إليه واصفحي عنه‪.‬‬ ‫غمي ودخلت علي إيراخت إال ِّ‬‫وقد مسعته كثريا يقول‪ :‬ما أشتد ّ‬
‫ّ‬
‫وكلميه مبا تعلمني أنه تطيب به نفسه ويذهب الذي جيده‪ .‬وأعلميين مبا يكون جوابه‪ :‬فإنه لنا وألهل‬
‫اململكة أعظم الراحة‪ .‬فانطلقت إيراخت فدخلت على امللك فجلست عند رأسه‪ .‬فقالت‪ :‬ما الذي‬
‫بك أيها امللك احملمود? وما الذي مسعت من الربامهة? فإين أراك حمزوانا‪ .‬فأعلمين ما بك‪ ،‬فقد ينبغي لنا‬
‫غما وحزانا‪:‬‬
‫أن حنزن معك ونواسيك أبنفسنا‪ .‬فقال امللك‪ :‬أيتها السيدة ال تسأليين عن أمري فتزيديين ّ‬
‫فإنه أمر ال ينبغي أن تسأليين عنه‪ .‬قالت‪ :‬أو قد نزلت عندك منزلة من يستحق هذا? إمنا أمحد الناس‬
‫عقالا من إذا نزلت به النازلة كان لنفسه أشد ضبط ا‪ ،‬وأكثرهم استماع ا من أهل النصح حىت ينجو من‬
‫تلك النازلة ابحليلة والعقل والبحث واملشاورة‪ .‬فعظيم الذنب ال يقنط من الرمحة‪ .‬وال تدخلّن عليك‬
‫شيئا من اهلم واحلزن‪ .‬فإهنما ال يردان شيئا مقضيا‪ .‬إال أهنما ينحالن اجلسم ويشفيان العدو‪ .‬قال هلا‬
‫علي‪ .‬والذي تسألينين عنه ال خري فيه‪ :‬ألن عاقبته هالكي‬
‫امللك‪ :‬ال يسأليين عن شيء فقد شققت ّ‬
‫وهالكك وهالك كثري من أهل مملكيت ومن هو عديل نفسي‪ .‬وذاك أن الربامهة زعموا أنه ال بد من‬
‫قتلك وقتل كثري من أهل موديت‪ .‬وال خري يف العيش بعدكم‪ .‬وهل أحد يسمع هبذا إال اعرتاه احلزن?‪.‬‬
‫فلما مسعت ذلك إيراخت جزعت‪ .‬ومنعها عقلها أن تظهر للملك جزعا‪ .‬فقالت‪ :‬أيها امللك ال جتزع‬
‫فنحن لك الفداء‪ .‬ولك يف سواي ومثلي من اجلواري ما تقر به عينك‪ .‬ولكين أطلب منك‪ ،‬أيها‬
‫امللك‪ ،‬حاجة حيملين على طلبها حيب لك وإيثاري إايك‪ .‬وهي نصيحيت لك‪ .‬قال امللك‪ :‬وما هي?‬
‫قالت‪ :‬أطلب منك أن ال تثق بعدها أبحد من الربامهة‪ .‬وال تشاورهم يف أمر حىت تتثبت يف أمرك‪ .‬مث‬
‫تشاور فيه ثقاتك مرارا‪ :‬فإن القتل أمر عظيم‪ ،‬ولست تقدر على أن حتيي من قتلت‪ .‬وقد قيل يف‬
‫احلديث‪ :‬إذا لقيت جوهرا ال خري فيه فال تلقيه من يدك حىت تريه من يعرفه‪ .‬وأنت أيها امللك ال‬
‫تعرف أعداءك‪ .‬واعلم أن الربامهة ال حيبونك‪.‬‬
‫وقد قتلت منهم ابألمس اثين عشر ألفا‪ .‬وال تظن أن هؤالء ليسو من أولئك‪ .‬ولعمري ما كنت جديرا‬
‫أن ختربهم برؤايك‪ ،‬وال أن تطلعهم عليها‪ .‬وإمنا قالوا لك ما قالوا ألجل احلقد الذي بينك وبينهم‪ :‬لعلهم‬
‫يهلكونك ويهلكون أحباءك ووزيرك‪ :‬فيبلغوا قصدهم منك‪ .‬فأظنك لو قبلت منهم فقتلت من أشاروا‬
‫بقتله ظفروا بك وغلبوك على ملكك‪ ،‬فيعود امللك إليهم كما كان‪ .‬فانطلق إىل كباريون احلكيم‪ ،‬فهو‬

‫‪96‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫سرى عنه وما‬


‫عما رأيت يف رؤايك واسأله عن وجهها وأتويلها‪ .‬فلما مسع امللك ذلك ّ‬ ‫عامل فطن فاخربه ّ‬
‫كان جيده من الغم‪ .‬فأمر بفرسه فأسرج فركبه مث انطلق إىل كباريون احلكيم‪ .‬فلما انتهى إليه نزل عن‬
‫فرسه وسجد له‪ ،‬وقام مطأطئا الرأس بني يديه‪ .‬فقال له احلكيم‪ :‬ما ابلك أيها امللك? وما يل أراك‬
‫متغري اللون? فقال له امللك إين رأيت يف املنام مثانية أحالم فقصصتها على الربامهة‪ .‬وأان خائف أن‬
‫يصيبين من ذلك عظيم أمر مما مسعت من تعبريهم لرؤايي‪ .‬وأخشى أن يغصب مين ملكي أو أن أغلب‬
‫علي‪ .‬فلما قص عليه امللك رؤايه‪ .‬قال‪ :‬ال حيزنك‬ ‫عليه‪ .‬فقال له احلكيم‪ :‬إن شئت فاقصص رؤايك ّ‬
‫أيها امللك هذا األمر وال ختف منه‪ :‬أما السمكتان احلمراوان اللتان رأيتهما قائمتني على أذانهبما فإنه‬
‫أيتيك رسول من ملك هناوند بعلبة فيها عقدان من الدر والياقوت األمحر‪ ،‬قيمتهما أربعة آالف رطل‬
‫من ٍ‬
‫ذهب فيقوم بني يديك‪ .‬وأما الوزاتن اللتان رأيتهما طارات من وراء ظهرك فوقعتا بني يديك‪ :‬فإنه‬
‫أيتيك من ملك بلخ فرسان ليس على األرض مثلهما فيقومان بني يديك‪ .‬وأما احلية اليت رأيتها تدب‬
‫على رجلك اليسرى‪ :‬فإنه أيتيك من ملك صنجني من يقوم بني يديك بسيف خالص احلديد ال يوجد‬
‫مثله‪ .‬وأما الدم الذي رأيت كأنه خضب به جسدك‪ :‬فإنه أيتيك من ملك كازرون من يقوم بني يديك‬
‫بلباس معجب يسمى حلّة أرجوان يضيء يف الظلمة‪ .‬وأما ما رأيت من غسلك جسمك ابملاء‪ :‬فإنه‬
‫أيتيك من ملك رهزين من يقوم بني يديك بثياب كتان من لباس امللوك‪ .‬وأما ما رأيت من أنك على‬
‫جبل أبيض‪ :‬ال تلحقه اخليل‪ .‬وأما ما رأيت على رأسك شبيها ابلنار‪ :‬فإنه أيتيك من ملك أرزن من‬
‫يقوم بني يديك إبكليل من ذهب ٍ‬
‫مكلل ابلدر والياقوت‪ .‬وأما الطري الذي رأيته ضرب رأسك مبنقاره‪:‬‬
‫عمن‬
‫فلست مفسرا ذلك اليوم‪ .‬وليس بضارك‪ ،‬فال توجلن منه‪ .‬ولكن فيه بعض السخط واإلعراض ّ‬
‫حتبه‪ :‬فهذا تفسريه رؤايك أيها امللك‪ ،‬وأما هذه الرسل والربد فإهنم أيتونك بعد سبعة ٍ‬
‫أايم مجيعا فيقومون‬
‫بني يديك‪ .‬فلما مسع امللك ذلك سجد لكباريون ورجع إىل منزله‪.‬‬
‫فلما كان بعد سبعة أايم جاءت البشائر بقدوم الرسل فخرج امللك فجلس على التخت‪ ،‬وأذن‬
‫لألشراف‪ ،‬وجاءته اهلدااي كما اخربه كباريون احلكيم‪ .‬فلما رأى امللك ذلك اشتد عجبه وفرحه من علم‬
‫كباريون‪ .‬وقال‪ :‬ما وفقت حني قصصت رؤايي على الربامهة فأمروين مبا أمروين به‪ .‬ولوال أن هللا تعاىل‬
‫تداركين برمحته لكنت قد هلكت وأهلكت؛ وكذلك ال ينبغي لكل أحد أن يسمع إال من األخالء‬
‫ذوي العقول‪ .‬وإن إيراخت أشارت ابخلري فقلبته‪ .‬ورأيت به النجاح‪ .‬فضعوا اهلدية بني يديها لتأخذ‬
‫منها ما اختارت‪ .‬مث قال إليالذ‪ :‬خذ اإلكليل وامحلها واتبعين هبا إىل جملس النساء‪ .‬مث إن امللك دعا‬

‫‪97‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫إيراخت وحورقناه أكرم نسائه بني يديه‪ .‬فقال إليالذ‪ :‬ضع الكسوة واإلكليل بني يدي إيراخت لتأخذ‬
‫أيها شاءت‪ .‬فوضعت اهلدااي بني يدي إيراخت‪ .‬فأخذت منها اإلكليل‪ ،‬وأخذت حورقناه كسوة من‬
‫أفخر الثياب وأحسنها‪ .‬وكان من عادة امللك أن يكون ليلة عند إيراخت وليلة عند حورقناه‪ .‬وكان من‬
‫سنة امللك أن هتيء له املرأة اليت يكون عندها يف ليلتها أرزا حبالوة فتطعمه إايه‪ .‬فأتى امللك إيراخت يف‬
‫ابلصحفة واإلكليل على رأسها‪ .‬فعلمت حورقناه بذلك‬ ‫نوبتها‪ .‬وقد صنعت له أرزا‪ .‬فدخلت عليه ّ‬
‫فغارت من إيراخت‪ .‬فلبست تلك الكسوة‪ .‬ومرت بني يدي امللك وتلك الثياب تضيء عليها مع نور‬
‫وجهها كما تضيء الشمس‪ .‬فلما رآها امللك أعجبته‪ .‬مث التفت إىل إيراخت فقال‪ :‬إنك جاهلة حني‬
‫أخذت اإلكليل وتركت الكسوة إيل ليس يف خزائننا مثلها‪ .‬فلما مسعت إيراخت مدح امللك حلورقناه‬
‫وذم رأيها أخذها من ذلك الغرية والغيظ‪ .‬فضربت ابلصحفة رأس امللك‪.‬‬ ‫وثناءه عليها وجتهيلها هي ّ‬
‫فسال األرز على وجهه‪ .‬فقام امللك من مكانه ودعا إبيالذ‪ .‬فقال له‪ :‬أال ترى‪ ،‬وأان ملك العامل‪ ،‬كيف‬
‫حقرتين هذه اجلاهلة‪ ،‬وفعلت يب ما ترى? فانطلق هبا فاقتلها وال ترمحها‪ .‬فخرج إيالذ من عند امللك‬
‫وقال‪ :‬ال أقتاها حىت يسكن عنه الغضب‪ .‬فاملرأة عاقلة سديدة الرأي من امللكات إيل ليس هلا عديل‬
‫يف النساء‪ .‬وليس امللك بصابر عنها‪ .‬وقد خلصته من املوت‪ ،‬وعملت أعماالا صاحلة‪ .‬ورجاؤان فيها‬
‫عظيم‪ .‬ولست آمنة أن يقول‪ :‬مل ملْ تؤخر قتلها حىت تراجعين? فلست قاتلها حىت أنظر رأي امللك فيها‬
‫ًثنية‪ :‬فإن رأيته اندما حزينا على ما صنع جئت هبا حية‪ .‬وكنت قد عملت عمالا عظيما‪ .‬وأجنيت‬
‫إيراخت من القتل‪ .‬وحفظت قلب امللك‪ .‬واختذت عند عامة الناس بذلك يدا‪ .‬وإن رأيته فرحا مسرتحيا‬
‫مصوابا رأيه يف الذي فعله وأمر به فقتلها ال يفوت‪ .‬مث انطلق هبا إىل منزله‪ ،‬ووكل هبا خادم ا من أمنائه‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأمره خبدمتها وحراستها‪ ،‬حىت ينظر ما يكون من أمرها وأمر امللك‪ .‬مث خضب سيفه ابلدم ودخل على‬
‫امللك كالكئيب احلزين‪ .‬فقال أيها امللك‪ :‬إين قد أمضيت أمرك يف إيراخت‪ .‬فلم يلبث امللك أن سكن‬
‫عنه الغضب‪ ،‬وذكر مجال إيراخت وحسنها‪ .‬واشتد أسفه عليها‪ .‬وجعل يعزي نفسه عنها‪ .‬ويتجلد وهو‬
‫مع ذلك يستحي أن يسأل إيالذ‪ :‬أحق ا أمضى أمره فيها أم ال? ورجا ملا عرف من عقل إيالذ أال‬
‫يكون قد فعل ذلك‪ .‬ونظر إليه إيالذ بفضل عقله فعلم الذي به‪ ،‬فقال له‪ :‬ال هتتم وال حتزن أيها امللك‪:‬‬
‫فإنه ليس يف اهلم واحلزن منفعة‪ .‬ولكنهما ينحالن اجلسم ويفسدانه‪ .‬فاصرب أيها امللك على ما لست‬
‫بقادر عليه أبدا‪ .‬وإن أحب امللك حدثته حبديث يسليه‪ .‬قال‪ :‬حدثين‪.‬‬
‫قال إيالذ‪ :‬زعموا أن محامتني ذكرا وأنثى مال عشهما من احلنطة والشعري‪ .‬فقال الذكر لألنثى‪ :‬إان إذا‬

‫‪98‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫وجدان يف الصحارى ما نعيش به فلسنا أنكل مما هاهنا شيئا‪ .‬فإذا جاء الشتاء ومل يكن يف الصحارى‬
‫شيء رجعنا إىل ما يف عشنا فأكلناه‪ .‬فرضيت األنثى بذلك‪ .‬وقالت له‪ :‬نعم ما رأيت‪ .‬وكان ذلك‬
‫احلب ندايا حني وضعاه يف عشهما‪ .‬فانطلق الذكر فغاب‪ .‬فلما جاء الصيف يبس احلب وانضمر‪ .‬فلما‬
‫رجع الذكر رأى احلب انقصا‪ .‬فقال هلا‪ :‬أليس كنا أمجعنا رأينا على أال أنكل منه شيئا? فلم أكلته?‬
‫فجعلت حتلف أهنا ما أكلت منه شيئا‪ .‬وجعلت تعتذر إليه‪ .‬فلم يصدقها‪ .‬وجعل ينقرها حىت ماتت‪.‬‬
‫فلما جاءت األمطار ودخل الشتاء تندى احلب وامتأل العش كما كان‪ .‬فلما رأى الذكر ذلك ندم‪ .‬مث‬
‫اضطجع إىل جانب محامته وقال‪ :‬ما ينفعين احلب والعيش بعدك إذا طلبتك فلم أجدك‪ ،‬ومل أقدر‬
‫عليك‪ ،‬وإذا فكرت يف أمرك وعلمت أين قد ظلمتك‪ ،‬وال أقدر على تدارك ما فات‪ .‬مث استمر على‬
‫حزنه فلم يطعم طعام ا وال شراابا حىت مات إىل جانبها‪ .‬والعاقل ال يعجل يف العذاب والعقوبة‪ ،‬وال‬
‫سيما من خياف الندامة‪ ،‬كما ندم احلمام الذكر‪ .‬وقد مسعت أيض ا أن رجالا دخل اجلبل وعلى رأسه‬
‫كارة من العدس فوضع الكارة عن ظهره ليسرتيح‪ .‬فنزل قرد من شجرة فأخذ ملء كفه من العدس‬
‫وصعد إىل الشجرة‪ .‬فسقطت من يده حبة فنزل يف طلبها فلم جيدها‪ .‬وانتثر ما كان يف يده من العدس‬
‫أمجع‪ .‬وأنت أيض ا أيها امللك عندك ستة عشر ألف امرأة تدع أن تلهو هبن وتطلب اليت ال جتد??!‬
‫فلما مسع امللك ذلك خشي أن تكون إيراخت قد هلكت‪ .‬فقال إليالذ‪ :‬مل ال أتنيت وتثبت? بل‬
‫أسرعت عند مساع كلمة واحدة فتعلقت هبا‪ ،‬وفعلت ما أمرتك به من ساعتك? قال إيالذ‪ :‬إن الذي‬
‫قوله واحد ال خيتلف هو هللا الذي ال تبديل لكلماته وال اختالف لقوله‪ .‬قال امللك‪ :‬لقد أفسدت‬
‫أمري وشددت حزين بقتل إيراخت‪ .‬قال إيالذ‪ :‬إثنان ينبغي هلما أن حيزان‪ :‬الذي يعمل اإلمث يف كل‬
‫يوم‪ ،‬والذي مل يعمل خريا قط‪ :‬ألن فرحهما يف الدنيا ونعيمهما قليل‪ .‬وندامتهما إذ يعاينان اجلزاء‬
‫طويلة ال يستطاع إحصاؤها‪ .‬قال امللك‪ :‬لئن رأيت إيراخت حي اة ال أحزن على ٍ‬
‫شيء أبدا‪ .‬قال إيالذ‪:‬‬
‫اثنان ال ينبغي هلما أن حيزان‪ :‬اجملتهد يف الرب كل يوم‪ ،‬والذي مل أيمث قط‪ .‬قال امللك‪ :‬ما أان بناظ ٍر إىل‬
‫إيراخت أكثر مما نظرت قال إيالذ‪ :‬اثنان ال ينظران‪ :‬األعمى والذي ال عقل له‪ .‬وكما أن العمى ال‬
‫ينظر السماء وجنومها وأرضها وال ينظر القرب والبعد‪ ،‬كذلك الذي ال عقل له ال يعرف احلسن من‬
‫القبيح وال احملسن من املسيء‪ .‬قال امللك‪ :‬لو رأيت إيراخت الشتد فرحي‪ .‬قال إيالذ‪ :‬اثنان مها‬
‫الفرحان‪ :‬البصري والعامل‪ .‬فكما أن البصري يبصر أمور العامل وما فيه من زايدة ونقصان والقريب والبعيد‪،‬‬
‫فكذلك العامل يبصر الرب واإلمث‪ ،‬ويعرف عمل اآلخرة‪ ،‬ويتبني له جناته‪ ،‬ويهتدي إىل صراط املستقيم‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫قال امللك‪ :‬ينبغي لنا أن نتباعد منك إييالذ وأنخذ احلذر ونلزم االتقاء‪ .‬قال إيالذ‪ :‬اثنان جيب أن‬
‫نتباعد منهما‪ :‬الذي يقول ال بر وال إمث وال عقاب وال ثواب وال شيء على مما أان فيه‪ ،‬والذي ال يكاد‬
‫فيه يصرف بصره عما ليس له مبحرم وال أذنه عن استماع السوء‪ ،‬وال قلبه عما هتم به نفسه من اإلمث‬
‫واحلرص‪ .‬قال امللك‪ :‬صارت يدي من إيراخت صفرا‪ .‬قال إيالذ‪ :‬ثالثة أشياء أصفار‪ :‬النهر الذي ليس‬
‫فيه ماء‪ ،‬واألرض اليت ليس فيها ملك‪ ،‬واملرأة اليت ليس هلا بعل‪ ،‬قال امللك‪ :‬إنك اي إيالذ لتلقي‬
‫اجلواب‪ .‬قال إيالذ‪ :‬ثالثة يلقون ابجلواب‪ :‬امللك الذي يعطي ويقسم من خزائنه‪ ،‬واملرأة املهداة اليت‬
‫هتوى من ذوي احلسب‪ ،‬والرجل العامل املوفق للخري‪.‬‬
‫مث إن إيالذ ملا رأى امللك أشتد به األمر‪ ،‬قال‪ :‬أيها امللك إن إيراخت ابحلياة‪ .‬فلما مسع امللك ذلك‬
‫اشتد فرحه‪ .‬وقال إييالذ‪ :‬إمنا منعين من الغضب ما أعرف من نصيحتك وصدق حديثك‪ .‬وكنت أرجو‬
‫ملعرفيت بعلمك أال تكون قد قتلت إيراخت‪ .‬فإهنا وإن كانت أتت عظيم ا وأغلظت يف القول فلم أتته‬
‫عداوة وال طلب مضرة‪ ،‬ولكنها فعلت ذلك للغرية‪ .‬وقد كان ينبغي يل أن أعرض عن ذلك وأحتمله‪،‬‬
‫ولكنك اي إيالذ أردت أن ختتربين وترتكين يف شك من أمرها‪ .‬وقد أخذت عندي أفضل األيدي‪ .‬وأان‬
‫لك شاكر‪ .‬فانطلق فأتين هبا‪ .‬فخرج من عند امللك فأيت إيراخت وأمرها أن تتزين ففعلت ذلك‪.‬‬
‫وانطلق هبا إىل امللك‪ .‬فلما دخلت سجدت له‪ .‬مث قامت بني يديه‪ .‬وقالت‪ :‬أمحد هللا تعاىل مث أمحد‬
‫امللك الذي أحسن إيل‪ :‬قد أذنبت الذنب العظيم الذي مل أكن للبقاء أهالا بعده‪ ،‬فوسعه حلمه وكرم‬
‫طبعه ورأفته‪ ،‬مث أمحد إيالذ الذي آخر أمري‪ ،‬وأجناين من اهللكة‪ ،‬لعلمه برأفة امللك وسعة حلمه وجوده‬
‫وكرم جوهره ووفاء عهده‪ .‬وقال امللك إليالذ‪ :‬ما أعظم يدك عندي وعند إيراخت وعند العامة‪ :‬إذ قد‬
‫أحييتها بعد ما أمرت بقتلها‪ :‬فأنت الذي وهبتها يل اليوم‪ :‬فإين مل أزل واثقا بنصيحتك وتدبريك‪ .‬وقد‬
‫ازددت اليوم عندي كرامة وتعظيما‪ .‬وأنت حم ّك ٌم يف ملكي تفعل فيه مبا ترى‪ ،‬وحتكم عليه مبا تريد‪ .‬فقد‬
‫جعلت ذلك إليك ووثقت بك‪ .‬قال إيالذ‪ :‬أدام هللا لك أيها امللك امللك والسرور‪ .‬فلست مبحمود‬
‫ُ‬
‫على ذلك‪ .‬فإمنا أان عبدك‪ .‬لكن حاجيت أالّ يعجل امللك يف األمر اجلسيم الذي يندم على فعله‪،‬‬
‫وتكون عاقبته الغم واحلزن‪ .‬وال سيما يف مثل هذه امللكة الناصحة املشفقة اليت ال يوجد يف األرض‬
‫مثلها‪ :‬فقال امللك حبق قلت اي إيالذ‪ ،‬وقد قبلت قولك‪ ،‬ولست عامالا بعدها عمالا صغريا وال كبريا‪،‬‬
‫فضالا عن مثل هذا األمر العظيم الذي ما سلمت منه‪ ،‬إال بعد املؤامرة والنظر والرتدد إىل ذوي العقول‬
‫ومشاورة أهل املودة والرأي‪ .‬مث أحسن امللك جائزة إليالذ‪ ،‬وم ّكنه من أولئك الربامهة الذين أشاروا بقتل‬

‫‪100‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫أحبائه فأطلق فيهم السيف‪ ،‬وقرت عني امللك وعيون عظماء أهل مملكته‪ ،‬ومحدوا هللا وأثنوا على‬
‫كباريون بسعة علمه وفضل حكمته‪ :‬ألنه بعلمه خلّص امللك ووزيره الصاحل وامرأته الصاحلة‪.‬‬
‫ابب اللبوة واإلسوار والشغرب‬
‫ضر غريه‬
‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت هذا املثل‪ .‬فاضرب يل مثالا يف شأن من يدع ّ‬
‫الضر‪ ،‬ويكون له فيما ينزل به واعظ وزاجر عن ارتكاب الظلم والعداوة‬
‫إذا قدر عليه ملا يصيبه من ّ‬
‫لغريه‪ .‬قال الفيلسوف‪ :‬إنه ال يقدم على طلب ما يضر الناس وما يسوءهم إال أهل اجلهالة والسفه‬
‫وسوء النظر يف العواقب من أمور الدنيا واآلخرة‪ ،‬وقلة العلم مبا يدخل عليهم يف ذلك من حلول‬
‫النقمة‪ ،‬ومبا يلزمهم من تبعة ما اكتسبوا مما ال حتيط به العقول‪ .‬وإن سلم بعضهم من ضرر بعض مبنية‬
‫عرضت له قبل أن ينزل به وابل ما صنع‪ :‬فإن من مل يفكر يف العواقب مل أيمن املصائب‪ ،‬وحقيق أال‬
‫يسلم من املعاطب‪ .‬ورمبا اتعظ اجلاهل واعترب مبا يصيبه من املضرة من غريه‪ ،‬فارتدع عن أن يغشى أحدا‬
‫كف عنه من ضرر لغريه يف العاقبة‪ ،‬فنظري ذلك‬
‫مبثل ذلك من الظلم والعدوان‪ ،‬وحصل له نفع ما َّ‬
‫حديث اللبوة واإلسوار والشغرب‪ .‬قال امللك‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫قال الفيلسوف‪ :‬زعموا أن لبؤة كانت يف غيضة‪ ،‬وهلما شبالن‪ ،‬وأهنا خرجت قي طلب الصيد‬
‫فمر هبما إسوار فحمل عليهما ورمامها فقتلهما‪ ،‬وسلخ جلديهما فاحتقبهما‪،‬‬‫وخلفتهما يف كهفهما‪ّ ،‬‬
‫حل هبما من األمر الفظيع اضطربت ظهرا لبطن‬ ‫وانصرف هبما إىل منزله‪ ،‬مث إهنا رجعت‪ .‬فلما رأت ما ّ‬
‫وضجت‪ .‬وكان إىل جانبها شغرب‪ .‬فلما مسع ذلك من صياحها قال هلا‪ :‬ما هذا الذي‬
‫وصاحت ّ‬
‫مر هبما إسوار فقتلهما‪ ،‬وسلخ جلديهما‬
‫تصنعني? وما نزل بك? فأخربيين به‪ .‬قالت اللبؤة شبالي ّ‬
‫ِ‬
‫تضجي وأنصفي من نفسك‪ ،‬واعلمي أن هذا اإلسوار مل‬
‫فاحتقبهما‪ ،‬ونبذمها ابلعراء‪ .‬قال هلا شغرب‪ :‬ال ّ‬
‫أيت إليك شيئا إال وقد كنت تفعلني بغريك مثله‪ ،‬وأتتني إىل غري واحد مثل ذلك‪ ،‬ممن كان جيد‬
‫حبميمه ومن يعز عليه مثل ما جتدين بشبليك‪ .‬فاصربي على فعل غريك كما صرب غريك على فعلك‪:‬‬
‫فإنه قد قيل‪ :‬كما تدين تدان‪ .‬ولكل عمل مثرة من الثواب والعقاب‪ .‬ومها على قدره يف الكثرة والقلة‪.‬‬
‫كالزرع إذا حضر احلصاد أعطى على حسب بذره‪ .‬قالت اللبؤة‪ :‬بني يل ما تقول‪ ،‬وأفصح يل عن‬
‫إشارته‪ .‬قال الشغرب‪ :‬كم أتى لك من العمر? قالت اللبؤة‪ :‬مائة سنة‪ .‬قال الشغرب‪ :‬ما كان قوتك?‬
‫قالت اللبؤة‪ :‬حلم الوحش‪ .‬قال الشغرب‪ :‬من كان يطعمك إايه? قالت اللبؤة‪ :‬كنت أصيد الوحش‬
‫وآكله‪ .‬قال الشغرب‪ :‬أرأيت الوحش اليت كنت أتكلني‪ ،‬أما كان هلا آابء وأمهات? قالت‪ :‬بلى‪ .‬قال‬

‫‪101‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫الشغرب‪ :‬فما ابيل ال أرى وال أمسع لتلك اآلابء واألمهات من اجلزع والضجيج ما أرى وأمسع لك? أما‬
‫أنه مل ينزل بك ما نزل إال لسوء نظرك يف العواقب وقلة تفكريك فيها‪ ،‬وجهالتك مبا يرجع عليك من‬
‫ضرها‪ .‬فلما مسعت اللبؤة ذلك من كالم الشغرب عرفت أن ذلك مما جنت على نفسها‪ ،‬وأن عملها‬
‫كان جورا وظلما‪ ،‬فرتكت الصيد‪ ،‬وانصرفت عن أكل اللحم إىل الثمار واملسك والعبادة‪ .‬فلما رأى‬
‫ذلك ورشان ا لذي كان صاحب تلك الغيضة وكان عيشه من الثمار‪ .‬قال هلا‪ :‬قد كنت أظن أن‬
‫الشجرة عامنا هذا مل حتمل‪ :‬لقلة املاء‪ ،‬فلما أبصرتك أتكلينها‪ ،‬وأنت آكلة اللحم‪ ،‬فرتكت رزقك‬
‫وطعامك وما قسم هللا لك‪ ،‬وحتولت إىل رزق غريك فانتقصته‪ ،‬ودخلت عليه فيه؛ علمت أن الشجر‬
‫العام أمثرت كما كانت تثمر قبل اليوم‪ ،‬وإمنا أتت قلة الثمر من جهتك‪ .‬فويل للشجر وويل للثمار‬
‫وويل ملن عيشه منها! ما أسرع هالكهم إذا دخل عليهم يف أرزاقهم‪ ،‬وغلبهم عليها من ليس له فيها‬
‫حظ ومل يكن معتادا ألكلها! فلما مسعت اللبؤة ذلك من كالم الورشان تركت أكل الثمار وأقبلت على‬
‫أكل احلشيش والعبادة‪ .‬وإمنا ضربت لك هذا املثل لتعلم أن اجلاهل رمبا انصرف بض ٍر يصيبه عن ِّ‬
‫ضر‬
‫الناس‪ ،‬كاللبؤة اليت انصرفت ملا لقيت يف شبليها عن أكل اللحم مث عن أكل الثمار بقول الورشان‪،‬‬
‫وأقبلت على النّسك والعبادة‪ .‬والناس أحق حبسن النظر يف ذلك‪ :‬فإنه قد قيل‪ :‬ما ال ترضاه لنفسك ال‬
‫تصنعه لغريك‪ :‬فإن يف ذلك العدل‪ :‬ويف العدل رضا هللا تعاىل ورضا الناس‪.‬‬
‫ابب الناسك والضيف‬
‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت هذا املثل‪ .‬فاضرب يل مثل الذي يدع صنعه الذي يليق‬
‫به ويشاكله‪ ،‬ويطلب غريه فال يدركه‪ :‬فيبقى حريان مرتددا‪ .‬قال الفيلسوف‪ :‬زعموا أنه كان أبرض‬
‫الكرخ انسك عاب ٌد جمته ٌد‪ .‬فنزل به ضيف ذات ٍ‬
‫يوم‪ ،‬فدعا الناسك لضيفه بتمر‪ :‬ليطرفه به‪ .‬فأكال منه‬ ‫ٌ‬
‫مجيعا‪ .‬مث قال الضيف‪ :‬ما أحلى هذا التمر وأطيبه! فليس هو يف بالدي اليت أسكنها‪ ،‬وليته كان فيها!‬
‫مث قال‪ :‬أرى أن تساعدين على أن آخذ منه ما أغرسه يف أرضنا‪ :‬فإين لست عارف ا بثمار أرضكم‪ ،‬هذه‬
‫وال مبواضعها‪ .‬فقال له الناسك‪ :‬ليس لك يف ذلك راحة‪ :‬فإن ذلك يثقل عليك‪ .‬ولعل ذلك ال يوافق‬
‫أرضكم‪ ،‬مع أن بالدكم كثرية األمثار فما حاجتها مع كثرة مثارها إىل التمر مع وخامته وقلة موافقته‬
‫للجسد? مث قال له الناسك‪ :‬إنه ال يعد حكيما من طلب ما ال جيد‪ .‬وإنك سعيد اجل ِّد إذا قنعت‬
‫ابلذي جتد‪ ،‬وزهدت فيها ال جتد‪ .‬وكان هذا الناسك يتكلم ابلعربانية‪ .‬فاستحسن الضيف كالمه‬
‫وأعجبه‪ ،‬فتكلف أن يتعلمه؛ وعاجل يف ذلك نفسه أايما‪ .‬فقال الناسك لضيفه‪ :‬ما أخلقك أن تقع مما‬

‫‪102‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫تركت من كالمك‪ ،‬وتكلفت من كالم العربانية‪ ،‬يف مثل ما وقع فيه الغراب! قال الضيف‪ :‬وكيف كان‬
‫ذلك?‬
‫قال الناسك‪ :‬زعموا أن غراابا رأى حجلة تدرج ومتشي‪ ،‬فأعجبته مشيتها‪ ،‬وطمع أن يتعلمها‪ .‬فراض‬
‫على ذلك نفسه‪ ،‬فلم يقدر على إحكامها‪ ،‬وأيس منها‪ ،‬وأراد أن يعود إىل مشيته اليت كان عليها‪ :‬فإذا‬
‫هو قد اختلط وختلع يف مشيته‪ ،‬وصار أقبح الطري مشيا‪ .‬وإمنا ضربت لك هذا املثل ملا رأيت من أنك‬
‫تركت لسانك الذي طبعت عليه‪ ،‬وأقبلت على لسان العربانية‪ ،‬وهو ال يشاكلك‪ ،‬وأخاف أال تدركه‪،‬‬
‫شرهم لساانا‪ :‬فإنه قد قيل‪ :‬إنه يعد جاهالا من تكلف من‬
‫وتنسى لسانك‪ ،‬وترجع إىل أهلك وأنت ّ‬
‫األمور ما ال يشاكله‪ ،‬وليس من عمله ومل يؤدبه عليه آابؤه وأجداده من قبل‪.‬‬
‫ابب السائح والصائغ‬
‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت هذا املثل‪ .‬فاضرب يل مثالا يف شأن الذي يضع‬
‫املعروف يف غري موضعه‪ ،‬ويرجو الشكر عليه‪ .‬قال الفيلسوف‪ :‬أيها امللك إن طبائع اخللق خمتلفة‪.‬‬
‫وليس مما خلقه هللا يف الدنيا مما ميشي على أربع أو على رجلني أو يطري جبناحني شيء هو أفضل من‬
‫اإلنسان‪ ،‬ولكن من الناس الرب والفاجر‪ .‬وقد يكون يف بعض البهائم والسباع والطري ما هو أوىف منه‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ جيب على ذوي العقل من امللوك‬ ‫ذمة‪ ،‬وأشد حماماة على حرمه‪ ،‬وأشكر للمعروف‪ ،‬وأقوم به‪،‬‬
‫وغريهم أن يضعوا معروفهم مواضعه وال يضعوه عند من ال حيتمله‪ .‬وال يقوم بشكره‪ ،‬وال يصطنع أحدا‬
‫إال بعد اخلربة بطرائقه‪ ،‬واملعرفة بوفائه ومودته وشكره‪ .‬وال ينبغي أن خيتصوا بذلك قريبا لقرابته‪ ،‬إذا كان‬
‫غري ٍ‬
‫حمتمل للصنيعة‪ ،‬وال أن مينعوا معروفهم ورفدهم للبعيد‪ ،‬إذا كان يقيهم بنفسه وما يقدر عليه‪ :‬ألنه‬
‫يكون ٍ‬
‫حينئذ عارفا حبق ما اصطنع إليه مؤدايا لشكر ما أنعم عليه‪ ،‬حممودا ابلنصح معروفا ابخلري‪،‬‬
‫صدوقا عارفا‪ ،‬مؤثرا حلميد الفعال والقول‪ .‬وكذلك كل من عرف ابخلصال احملمودة ووثق منه هبا‪ ،‬كان‬
‫للمعروف موضع ا‪ ،‬ولتقريبه واصطناعه أهالا‪ :‬فإن الطيب الرفيق العاقل ال يقدر إىل مداواة املريض إال‬
‫بعد النظر إليه واجلس لعروقه ومعرفة طبيعته وسبب علته‪ ،‬فإذا عرف ذلك كله حق معرفته أقدم على‬
‫مداواته‪ .‬فكذلك العاقل‪ :‬ال ينبغي له أن يصطفي أحدا‪ ،‬وال يستخلصه إال بعد اخلربة‪ :‬فإن من أقدم‬
‫على مشهور العدالة من غري اختبار كان خماطرا يف ذلك ومشرفا منه على هالك وفساد‪ .‬ومع ذلك رمبا‬
‫صنع اإلنسان املعروف مع الضعيف الذي مل جيرب شكره‪ ،‬ومل يعرف حاله يف طبائعه فيقوم بشكر‬
‫ذلك ويكافئ عليه أحسن املكافأة‪ .‬ورمبا حذر العاقل الناس ومل أيمن على نفسه أحدا منهم‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫وقد أيخذ ابن عرس فيدخله يف كمه وخيرجه من اآلخر‪ ،‬كالذي حيمل الطائر على يده‪ ،‬فإذا صاد شيئا‬
‫انتفع به‪ ،‬ومطعمه منه‪ .‬وقد قيل‪ :‬ال ينبغي لذي العقل أن حيتقر صغريا وال كبريا من الناس وال من‬
‫البهائم‪ ،‬ولكنه جدير أبن يبلوهم‪ ،‬ويكون ما يصنع إليهم على قدر ما يرى منهم‪ .‬وقد مضى يف ذلك‬
‫مثل ضربه بعض احلكماء‪ .‬قال امللك‪ :‬وكيف كان ذلك? قال الفيلسوف‪ :‬زعموا أن مجاعة احتفروا‬
‫ركية فوقع فيها رجل صائغ وحية وقرد وبرب‪ ،‬ومر هبم رجل سائح فأشرف على الركية‪ ،‬فبصر ابلرجل‬
‫واحلية والبرب والقرد ففكر يف نفسه‪ ،‬وقال‪ :‬لست أعمل آلخريت عمالا أفضل من أن أخلص هذا الرجل‬
‫من بني هؤالء األعداء‪ .‬فأخذ حبالا وأداله إىل البئر فتعلق به القرد خلفته فخرج‪ .‬مث داله ًثنية‪ ،‬فالتفت‬
‫به احلية فخرجت‪ .‬مث داله ًثلثا فتعلق به البرب فأخرجه‪ .‬فشكرن له صنيعه‪ .‬وقلن له‪ :‬ال خترج هذا‬
‫الرجل من الركية‪ :‬فإنه ليس شيء أقل شكرا من الناس مث هذا الرجل خاص اة‪ .‬مث قال له القرد‪ :‬إن منزيل‬
‫يف جبل قريب من مدينة يقال هلا‪ :‬نوادرخت‪ .‬فقال له البرب‪ :‬أان أيض ا يف أمجة إىل جانب تلك املدينة‪.‬‬
‫فصوت‬‫قالت احلية‪ :‬أان أيضا يف سور تلك املدينة‪ .‬فإن أنت مررت بنا يوما من الدهر‪ ،‬واحتجت إلينا ّ‬
‫علين ا حىت أنتيك فنجزيك مبا أسديت إلينا من معروف‪ .‬فلم يلتفت السائح إىل ما ذكروا له من قلة‬
‫شكر اإلنسان‪ ،‬وأدىل احلبل‪ ،‬فأخرج الصائغ‪ ،‬فسجد له‪ ،‬وقال له‪ :‬لقد أوليتين معروفاُ‪ .‬فإن أتيت يوم ا‬
‫من الدهر ملدينة نوادرخت فاسأل عن منزيل‪ :‬فأان رجل صائغ لعلي أكافئك مبا صنعت إيل من‬
‫معروف‪ .‬فانطلق إىل مدينته وانطلق السائح إىل جانبه‪ .‬فعرض بعد ذلك أن السائح اتفقت له احلاجة‬
‫إىل تلك املدينة‪ ،‬فانطلق‪ ،‬فاستقبله القرد‪ ،‬فسجد له وقبّل رجليه‪ .‬واعتذر إليه‪ ،‬وقال‪ :‬إن القرود ال‬
‫ميلكون شيئ ا‪ ،‬ولكن اقعد حىت آتيك‪ .‬وانطلق القرد‪ ،‬وآاته بفاكهة طيبة‪ ،‬فوضعها بني يديه‪ ،‬فأكل منها‬
‫فخر له ساجدا وقال له‪ :‬إنك‬‫حاجته‪ .‬مث إن السائح انطلق حىت دان من ابب املدينة فاستقبله البرب‪ّ ،‬‬
‫قد أوليتين معروفا‪ .‬فاطمئن ساعة حىت آتيك‪ .‬فانطلق البرب فدخل يف بعض احليطان إىل بنت امللك‬
‫فقتلها‪ ،‬وأخذ حليها‪ ،‬فأاته هبا‪ ،‬من غري أن يعلم السائح من أين هو‪ .‬فقال يف نفسه‪ :‬هذه البهائم قد‬
‫أولتين هذا اجلزاء‪ ،‬فكيف لو قد أتيت إىل الصائغ فأنه إن كان معسرا ال ميلك شيئ ا فسيبيع هذا احللي‬
‫فيستويف مثنه‪ .‬فيعطيين بعضه‪ ،‬وأيخذ بعضه‪ ،‬وهو أعرف بثمنه‪ .‬فانطلق السائح فأتى إىل الصائغ‪ .‬فلما‬
‫رآه رحب به وأدخله إىل بيته‪ .‬فلما بصر ابحللي معه‪ ،‬عرفه وكان هو الذي صاغه البنة امللك‪.‬‬
‫فقال للسائح‪ :‬اطمئن حىت آتيك بطعام فلست أرضى لك ما يف البيت‪ .‬مث خرج وهو يقول‪ :‬قد‬
‫أصبت فرصيت‪ :‬أريد أن أنطلق إىل امللك وأدله على ذلك‪ ،‬فتحسن منزليت عنده‪ .‬فانطلق إىل ابب‬

‫‪104‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫امللك‪ ،‬فأرسل إليه‪ :‬إن الذي قت ل ابنتك وأخذ حليها عندي‪ .‬فأرسل امللك وأتى ابلسائح فلما نظر‬
‫احللي معه مل ميهله‪ ،‬وأمر به أن يعذب ويطاف به يف املدينة‪ ،‬ويصلب‪ .‬فلما فعلوا به ذلك جعل السائح‬
‫يبكي ويقول أبعلى صوته‪ :‬لو أين أطعت القرد واحلية والبرب فيما أمرنين به وأخربنين من قلة شكر‬
‫اإلنسان مل يصر أمري إىل هذا البالء‪ ،‬وجعل يكرر هذا القول‪ .‬فسمعت مقالته تلك احلية فخرجت من‬
‫جحرها فعرفته‪ ،‬فاشتد عليه أمره‪ ،‬فجعلت حتتال يف خالصه‪ .‬فانطلقت حىت لدغت ابن امللك‪ ،‬فدعى‬
‫امللك أهل العلم فرقوه ليشفوه فلم يغنوا عنه شيئ ا‪ .‬مث مضت احلية إىل أخت هلا من اجلن‪ ،‬فأخربهتا مبا‬
‫صنع السائح إليها من املعروف‪ ،‬وما وقع فيه‪ .‬فرقت له‪ ،‬وانطلقت إىل ابن امللك‪ ،‬وختايلت له‪ .‬وقالت‬
‫له‪ :‬إنك ال تربأ حىت يرقيك هذا الرجل الذي قد عاقبتموه ظلما‪ .‬وانطلقت احلية إىل السائح فدخلت‬
‫عليه السجن‪ ،‬وقالت له‪ :‬هذا الذي كنت هنيتك عنه من اصطناع املعروف إىل هذا اإلنسان‪ :‬ومل‬
‫تطعين‪ .‬وأتته بورق ينفع من ِمسّها‪ .‬وقالت له‪ :‬إذا جاءوا بك لرتقي ابن امللك فاسقه من ماء هذا‬
‫الورق‪ :‬فإنه يربأ‪ .‬وإذا سألك امللك عن حالك فاصدقه‪ :‬فإنك تنجوا إن شاء هللا تعاىل‪ .‬وإن ابن امللك‬
‫أخرب امللك أنه مسع قائالا يقول‪ :‬إنك لن تربأ حىت يرقيك هذا السائح الذي حبس ظلما‪ .‬فدعا امللك‬
‫السائح‪ ،‬وأمره أن يرقي ولده‪ .‬فقال‪ :‬ال أحسن الرقي‪ ،‬ولكن اسقه من ماء هذه الشجرة فيربأ إبذن هللا‬
‫تعاىل‪ .‬فسقاه فربئ الغالم‪ .‬ففرح امللك بذلك‪ :‬وسأله عن قصته‪ ،‬فأخربه‪ .‬فشكره امللك‪ ،‬وأعطاه عطية‬
‫حسنة‪ ،‬وأمر ابلصائغ أن يصلب‪ .‬فصلبوه لكذبه واحنرافه عن الشكر وجمازاته الفعل اجلميل ابلقبيح‪ .‬مث‬
‫قال الفيلسوف للملك‪ :‬ففي صنيع الصائغ ابلسائح‪ ،‬وكفره له بعد استنقاذه إايه‪ ،‬وشكر البهائم له‪،‬‬
‫وختليص بعضها إايه‪ ،‬عربة ملن اعترب‪ ،‬وفكرة ملن تفكر‪ ،‬وأدب يف وضع املعروف واإلحسان عند أهل‬
‫الوفاء والكرم‪ ،‬قربوا أو بعدوا ملا يف ذلك من صواب الرأي وجلب اخلري وصرف املكروه‪.‬‬
‫ابب ابن امللك وأصحابه‬
‫قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف‪ :‬قد مسعت هذا املثل‪ .‬فإن كان الرجل ال يصيب اخلري إال بعقله‬
‫ورأيه وتثبته يف األمور كما يزعمون‪ ،‬فما ابل الرجل اجلاهل يصيب البالء والضر?‪ .‬قال بيداب‪ :‬كما أن‬
‫اإلنسان ال يبصر إال بعينيه وال يسمع إال أبذنيه‪ ،‬كذلك العمل‪ ،‬إمنا هو ابحللم والعقل والتثبت‪ ،‬غري أن‬
‫القضاء والقدر يغلبان على ذلك‪ .‬ومثل ذلك مثل ابن امللك وأصحابه‪ .‬قال امللك‪ :‬وكيف كان ذلك?‬
‫قال الفيلسوف‪ :‬زعموا أن أربعة نفر اصطحبوا يف طريق واحدة‪ ،‬أحدهم ابن امللك والثاين ابن اتجر‬
‫والثالث ابن شريف ذو مجال والرابع ابن أكار‪ .‬وكانوا مجيعا حمتاجني‪ ،‬وقد أصاهبم ضرر وجهد شديد‬

‫‪105‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫يف موضع غربة ال ميلكون إال ما عليهم من الثياب‪ .‬فبينما هم ميشون إذ فكروا يف أمرهم وكان كل‬
‫إنسان منهم راجع ا إىل طباعه وما كان أيتيه منه اخلري‪ :‬قال ابن امللك‪ :‬إمنا أمر الدنيا كله ابلقضاء‬
‫والقدر‪ ،‬والذي قدر على اإلنسان أيتيه على كل حال‪ ،‬والصرب للقضاء والقدر وانتظارمها أفضل األمور‬
‫وقال ابن التاجر‪ :‬العقل أفضل من كل شيء وقال ابن الشريف‪ :‬اجلمال أفضل مما ذكرمت‪.‬‬
‫مث قال ابن األكار‪ :‬ليس يف الدنيا أفضل من االجتهاد يف العمل فلما قربوا من مدينة يقال هلا مطرون‪،‬‬
‫جلسوا يف انحية منها يتشاورون‪ :‬فقالوا البن األكار‪ :‬انطلق فاكتسب لنا ابجتهادك طعام ا ليومنا هذا‪.‬‬
‫فعرفوه أنه ليس يف‬
‫فانطلق ابن األكار‪ ،‬وسأل عن عمل إذا عمله اإلنسان يكتسب فيه طعام أربعة نفر ّ‬
‫تلك املدينة شيء أعز من احلطب‪ ،‬وكان احلطب منها على فرسخ‪ .‬فانطلق ابن األكار فاحتطب طنا‬
‫من احلطب‪ ،‬وأتى به املدينة فباعه بدرهم واشرتى به طعام ا وكتب على ابب املدينة‪ :‬عمل يوم واحد‬
‫إذا أجهد فيه الرجل بدنه قيمته درهم‪ .‬مث انطلق إىل أصحابه ابلطعام فأكلوا‪ .‬فلما كان من الغد‪ :‬قالوا‬
‫ينبغي للذي قال إنه ليس شيء أعز من اجلمال أن تكون نوبته‪ .‬فانطلق ابن الشريف ليأيت املدينة‪،‬‬
‫ففكر يف نفسه وقال‪ :‬أان لست أحسن عمالا فما يدخلين املدينة? مث استحيا أن يرجع إىل أصحابه‬
‫وهم مبفارقتهم‪ .‬فانطلق حىت أسند ظهره إىل شجرة عظيمة‪ ،‬فغلبه النوم فنام‪ .‬فمر به رجل‬ ‫بغري طعام‪ّ ،‬‬
‫فرق له ومنحه مخسمائة درهم‪ .‬فكتب على‬ ‫من عظماء املدينة فراقه مجاله وتوسم فيه شرف النِّ َّجار َّ‬
‫ابب املدينة‪ :‬مجال يوم واحد يساوي مخسمائة درهم‪ .‬وأتى ابلدراهم إىل أصحابه‪ .‬فلما أصبحوا يف‬
‫اليوم الثالث‪ ،‬قالوا البن التاجر‪ :‬انطلق أنت فاطلب لنا بعقلك وجتارتك ليومنا هذا شيئا‪ .‬فانطلق ابن‬
‫التاجر فلم يزل حىت بصر بسفينة من سفن البحر كثرية املتاع قد قدمت إىل الساحل‪ ،‬فخرج إليها‬
‫التجار يريدون أن يبتاعوا مما فيها من املتاع‪ .‬فجلسوا يتشاورون يف انحية من املركب‪ ،‬وقال‬
‫مجاعة من ّ‬
‫بعضهم لبعض‪ :‬ارجعوا يومنا هذا ال نشرتي منهم شيئا حىت يكسد املتاع عليهم فريخصوا علينا‪ ،‬مع أننا‬
‫حمتاجون إليه‪ ،‬وسريخص‪ .‬فخالف الطريق وجاء إىل أصحاب املركب‪ ،‬فابتاع منهم ما فيه مبائة ألف‬
‫دينار نسيئة وأظهر أنه يريد أن ينقل متاعه إىل مدينة أخرى‪ .‬فلما مسع التجار ذلك خافوا أن يذهب‬
‫ذلك املتاع من أيديهم‪ ،‬فأرحبوه على ما اشرتاه مائة ألف درهم‪ ،‬وأحال عليهم أصحاب املركب ابلباقي‪،‬‬
‫ومحل رحبه إىل أصحابه وكتب على ابب املدينة‪ :‬عقل يوم واحد مثنه مائة ألف درهم‪ .‬فلما كان اليوم‬
‫الرابع قالوا البن امللك‪ :‬انطلق أنت واكتسب لنا بقضائك وقدرك‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فانطلق ابن امللك حىت أتى إىل ابب ملدينة فجلس على متكأ يف ابب املدينة‪ ،‬واتفق أن ملك تلك‬
‫فمروا عليه جبنازة امللك ومل حيزنه وكلهم حيزنون‪ .‬فأنكروا‬
‫الناحية مات ومل خيلف ولدا وال أحدا ذا قرابة‪ّ .‬‬
‫حاله وشتمه البواب‪ ،‬وقال له‪ :‬من أنت اي هذا? وما جيلسك على ابب املدينة وال نراك حتزن ملوت‬
‫امللك? وطرده البواب عن الباب فلما ذهبوا عاد الغالم فجلس مكانه‪ .‬فلما دفنوا امللك ورجعوا بصر به‬
‫البواب فغضب وقال له‪ :‬أمل أهنك عن اجللوس يف هذا املوضع? وأخذه وحبسه‪ .‬فلما كان الغد اجتمع‬
‫كل منهم يتطاول ينظر صاحبه‪ ،‬وخيتلفون بينهم‪.‬‬ ‫أهل تلك املدينة يتشاورون فيمن ميلكونه عليهم‪ ،‬و ٌّ‬
‫فقال هلم البواب‪ :‬إين رأيت أمس غالما جالسا على الباب‪ ،‬ومل أره حيزن حلزننا‪ ،‬فكلمته فلم جيبين‪،‬‬
‫فطردته عن الباب‪ .‬فلما عدت رأيته جالسا فأدخلته السجن خمافة أن يكون عينا‪ .‬فبعثت أشراف أهل‬
‫املدينة إىل الغالم فجاءوا به‪ ،‬وسألوه عن حاله‪ ،‬وما أقدمه إىل مدينتهم‪ .‬فقال‪ :‬أان ابن ملك فويران‪،‬‬
‫لك‪ ،‬فهربت من يده حذرا على نفسي حىت انتهيت إىل هذه‬ ‫وإنه ملا مات والدي غلبين أخي على امل ْ‬
‫ُ‬
‫الغاية‪ .‬فلما ذكر الغالم ما ذكره من أمره عرفه من كان يغشى أرض أبيه منهم‪ ،‬وأثنوا على أبيه خريا‪ .‬مث‬
‫إن األشراف اختاروا الغالم أن ميلكوه عليهم ورضوا به‪ .‬وكان ألهل تلك املدينة سنة إذا ملكوا عليهم‬
‫مر بباب املدينة فرأى الكتابة‬‫ملك ا محلوه على فيل أبيض‪ ،‬وطافوا به حوايل املدينة‪ .‬فلما فعلوا به ذلك ّ‬
‫على الباب فأمر أن يكتب‪ :‬إن االجتهاد واجلمال والعقل وما أصاب الرجل يف الدنيا من خري أو شر‬
‫عز وجل‪ .‬وقد ازددت يف ذلك اعتبارا مبا ساق هللا إيل من الكرامة واخلري‪.‬‬ ‫إمنا هو بقضاء وقدر من هللا ّ‬
‫مث انطلق إىل جملسه فجلس على سرير ملكه وأرسل إىل أصحابه الذين كان معهم فأحضرهم فأشرك‬
‫صاحب العقل مع الوزراء‪ ،‬وضم صاحب االجتهاد إىل أصحاب الزرع‪ ،‬وأمر لصاحب اجلمال ٍ‬
‫مبال‬ ‫ّ‬
‫كثري مث نفاه كي ال يفتنت به‪ .‬مث مجع علماء أرضه وذوي الرأي منهم وقال هلم‪ :‬أما أصحايب فقد تيقنوا‬
‫أن الذي رزقهم هللا سبحانه وتعاىل من اخلري إمنا هو بقضاء هللا وقدره‪ ،‬وإمنا أحب أن تعلموا ذلك‬
‫وتستيقنوه‪ ،‬فإن الذي منحين هللا وهيأه يل إمنا كان بقدر‪ ،‬ومل يكن جبمال وال عقل وال اجتهاد‪ .‬وما‬
‫كنت أرجو إذ طردين أخي أن يصيبين ما يعيشين من القوت فضالا عن أن أصيب هذه املنزلة‪ ،‬وما‬
‫كنت أؤمل أن أكون هبا‪ :‬ألين قد رأيت يف هذه األرض من هو أفضل مين حسنا ومجاالا‪ ،‬وأشد‬
‫اجتهادا وأسد رأايا‪ ،‬فساقين القضاء إىل أن أعتززت بقدر من هللا‪ ،‬وكان يف ذلك اجلمع شيخ فنهض‬
‫حىت استوى قائم ا‪ ،‬وقال‪ :‬إنك قد تكلمت بكالم كامل عقل وحكمة‪ ،‬وإن الذي بلغ بك ذلك وفوز‬
‫عقلك وحسن ظنّك‪ ،‬وقد حققت ظننا فيك ورجاءان لك‪ .‬وقد عرفنا ما ذكرت‪ ،‬وصدقناك فيما‬

‫‪107‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫لك والكرامة كنت أهالا له‪ ،‬ملا قسم هللا تعاىل لك من العقل‬ ‫وصفت‪ .‬والذي ساق هللا إليك من امل ِ‬
‫ُ‬
‫والرأي‪ .‬وإين أسعد الناس يف الدنيا واآلخرة من رزقه هللا رأايا وعقالا‪.‬‬
‫عز‬
‫كرمنا بك‪ .‬مث قام شيخ آخر سائح فحمد هللا ّ‬
‫وقد أحسن هللا إلينا إذ وفق لنا عند موت ملكنا و ّ‬
‫وجل وأثىن عليه وقال‪ :‬إين كنت أخدم وأان غالم قبل أن أكون سائحا‪ ،‬رجالا من أشراف الناس‪ .‬فلما‬
‫بدا يل رفض الدنيا فارقت ذلك الرجل‪ ،‬وقد كان أعطاين من أجريت دينارين‪ ،‬فأردت أن أتصدق‬
‫أبحدمها‪ ،‬وأستبقي اآلخر‪ ،‬فأتيت السوق‪ ،‬فوجدت مع رجل من الصيادين زوج هدهد‪ ،‬فساومت‬
‫فيهما فأىب الصياد أن يبيعهما إال بدينارين‪ ،‬فاجتهدت أن يبيعنيهما بدينار واحد فأىب‪ .‬فقلت يف‬
‫نفسي‪ :‬أشرتي أحدمها وأترك اآلخر‪ .‬مث فكرت وقلت لعلهما يكوان زوجني ذكرا وأنثى فأفرق بينهما‪،‬‬
‫فأدركين هلما رمحة فتوكلت على هللا وابتعتهما بدينارين وأشفقت إن أرسلتهما يف أرض عامرة أن يصادا‪،‬‬
‫وال يستطيعا أن يطريا مما لقيا من اجلوع واهلزال‪ ،‬ومل آمن عليهما اآلفات‪ .‬فانطلقت هبما إىل مكان كثري‬
‫املرعى واألشجار بعيد عن الناس والعمران‪ ،‬فأرسلتهما‪ ،‬فطارا ووقعا على شجرة مثمرة‪ .‬فلما صارا يف‬
‫أعالها شكرا يل‪ ،‬ومسعت أحدمها يقول لآلخر‪ :‬لقد خلصنا هذا السائح من البالء الذي كنا فيه‪،‬‬
‫واستنقذان وجنّاان من اهللكة‪ .‬وإان خلليقان أن نكافئه بفعله‪ .‬وإ ّن يف أصل هذه الشجرة جرة مملوءة‬
‫داننري‪ .‬أفال ندله عليها فيأخذها? فقلت هلما‪ :‬كيف تدالنين على كنز مل تره العيون وأنتما مل تبصرا‬
‫وغشى البصر وإمنا صرف القضاء‬ ‫الشبكة? فقاال‪ :‬إن القضاء إذا نزل صرف العيون عن موضع الشيء ّ‬
‫اعيننا عن الشرك ومل يصرفه ا عن هذا الكنز‪ .‬فاحتفرت واستخرجت الربنية وهي مملوءة داننري‪ ،‬فدعوت‬
‫هلما ابلعافية‪ ،‬وقلت هلما‪ :‬احلمد هلل الذي علّمكما ما مل تعلما‪ ،‬وأنتما تطريان يف السماء‪ ،‬وأخربمتا ما‬
‫حتت األرض‪ .‬قاال يل‪ :‬أيها العاقل‪ ،‬أما تعلم أن القدر غالب على كل شيء‪ ،‬وال يستطيع أحد أن‬
‫يتجاوزه‪ .‬وأان اخرب امللك بذلك رأيته‪ :‬فإن أمر امللك أتيته ابملال فأودعته يف خزائنه‪ .‬فقال امللك ذلك‬
‫لك‪ ،‬وموفّر عليك‪.‬‬
‫ابب احلمامة والثعلب ومالك احلزين‬
‫وهو ابب من يرى الرأي لغريه وال يراه لنفسه‪ .‬قال امللك للفيلسوف‪ :‬قد مسعت هذا املثل فاضرب يل‬
‫مثالا يف شأن الرجل الذي يرى الرأي لغريه وال يراه لنفسه‪ .‬قال الفيلسوف‪ :‬إن مثل ذلك مثل احلمامة‬
‫والثعلب ومالك احلزين‪ .‬قال امللك‪ :‬وما مثلهن?‬

‫‪108‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫قال الفيلسوف‪ :‬زعموا أن محامة كانت تفرخ يف رأس خنلة طويلة ذاهبة يف السماء‪ ،‬فكانت احلمامة‬
‫تشرع يف نقل العش إىل رأس تلك النخلة‪ ،‬فال ميكن أن تنقل ما تنقل من العش وجتعله حتت البيض إال‬
‫بعد شدة وتعب ومشقة‪ :‬لطول النخلة وسحقها‪ ،‬فإذا فرغت من النقل ابضت مث حضنت بيضها‪ ،‬فإذا‬
‫فقست وأدرك فراخها جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها لوقت قد علمه بقدر ما ينهض فراخها‪،‬‬
‫فيقف أبصل النخلة فيصيح هبا ويتوعدها أن يرقي إليها فتلقي إليه فراخها‪ .‬فبينما هي ذات يوم قد‬
‫أدرك هلا فرخان إذ أقبل مالك احلزين فوقع على النخلة‪ .‬فلما رأى احلمامة كئيبة حزينة شديدة اهلم قال‬
‫هلا مالك احلزين‪ :‬اي محامة‪ ،‬ما يل أراكي كاسفة اللون سيئة احلال? فقالت له‪ :‬اي مالك احلزين‪ ،‬إن‬
‫ثعلبا دهيت به كلما كان يل فرخان جاء يهددين ويصيح يف أصل النخلة‪ ،‬فأفرق منه فأطرح إليه فرخي‪.‬‬
‫قال هلا مالك احلزين‪ :‬إذا ِ‬
‫أاتك ليفعل ما تقولني فقويل له‪ :‬ال ألقي إليك فرخي‪ ،‬فارق إيل وغرر‬
‫بنفسك‪ .‬فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي‪ ،‬طرت عنك وجنوت بنفسي‪ .‬فلما علمها مالك احلزين هذه‬
‫احليلة طار فوقع على شاطئ هنر‪ .‬فأقبل الثعلب يف الوقت الذي عرف‪ ،‬فوقف حتتها‪ ،‬مث صاح كما‬
‫كان يفعل‪ .‬فأجابته احلمامة مبا علمها مالك احلزين‪ .‬قال هلا الثعلب‪ :‬أخربيين من علمك هذا? قالت‪:‬‬
‫فتوجه الثعلب إىل مالك ا احلزين على شاطئ النهر‪ ،‬فوجده واقف ا‪ .‬فقال له‬
‫علمين مالك احلزين‪ّ .‬‬
‫الثعلب‪ :‬اي مالك احلزين‪ :‬إذا أتتك الريح عن ميينك فأين جتعل رأسك? قال‪ :‬عن مشايل‪ .‬قال‪ :‬فإذا‬
‫أتتك عن مشالك فأين جتعل رأسك‪ .‬قال‪ :‬أجعله عن مييين أو خلفي‪ .‬قال‪ :‬فإذا أتتك الريح من كل‬
‫مكان وكل انحية فأين جتعله? قال‪ :‬أجعله حتت جناحي‪ .‬قال‪ :‬وكيف تستطيع أن جتعله حتت‬
‫جناحك? ما أ راه يتهيأ لك‪ .‬قال‪ :‬بلى‪ :‬قال‪ :‬فأرين كيف تصنع? فلعمري اي معشر الطري لقد فضلكم‬
‫هللا علينا‪ .‬إنكن تدرين يف ساعة واحدة مثلما ندري يف سنة‪ ،‬وتبلغن ما ال نبلغ‪ ،‬وتدخلن رؤسكن‬
‫حتت اجنحتكن من الربد والريح‪ .‬فهنيئا لكن فأرين كيف تصنع‪ .‬فأدخل الطائر رأسه حتت جناحه‬
‫فوثب عل يه الثعلب مكانه فأخذه فهمزه مهزة دقت عنقه‪ .‬مث قال‪ :‬اي عدوي نفسه‪ ،‬ترى الرأي‬
‫للحمامة‪ ،‬وتعلمها احليلة لنفسها‪ ،‬وتعجز عن ذلك لنفسك‪ ،‬حىت يستمكن منك عدوك‪ ،‬مث أجهز‬
‫عليه وأكله‪ .‬فلما انتهى املنطق للملك والفيلسوف إىل هذا املكان سكت امللك‪ .‬فقال له الفيلسوف‪:‬‬
‫أيها امللك عشت ألف سنة‪ ،‬وملكت األقاليم السبعة‪ ،‬وأعطيت من كل شيء سببا‪ ،‬مع وفور سرورك‬
‫وقرة عني رعيتك بك‪ ،‬ومساعدة القضاء والقدر لك‪ ،‬فإنه قد كمل فيك احللم والعلم‪ .‬وزكا منك العقل‬
‫والقول والنية‪ ،‬فال يوجد يف رأيك نقص‪ ،‬وال يف قولك سقط وال عيب‪ .‬وقد مجعت النجدة واللني‪ ،‬فال‬

‫‪109‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫توجد جباانا عند اللقاء‪ ،‬وال ضيق الصدر عندما ينوبك من األشياء‪ .‬وقد مجعت لك يف هذا الكتاب‬
‫مشل بيان األمور‪ ،‬وشرحت لك جواابا ما سألتين عنه منها فأبلغتك يف ذلك غاية نصحي‪ ،‬واجتهدت‬
‫فيه برأيي ونظري ومبلغ فطنيت‪ ،‬التماسا لقضاء حقك وحسن النية منك‪ .‬أبعمال الفكرة والعقل‪ .‬فجاء‬
‫كما وصفت لك من النصيحة واملوعظة مع أنه ليس اآلمر ابخلري أبسعد من املطيع له فيه‪ ،‬وال الناصح‬
‫أبوىل ابلنصيحة من املنصوح‪ ،‬وال املعلم للخري أبسعد من متعلمه منه‪ .‬فافهم ذلك أيها امللك وال حول‬
‫وال قوة إال ابهلل العلي العظيم‪.‬‬
‫قال الفيلسوف‪ :‬زعموا أن محامة كانت تفرخ يف رأس خنلة طويلة ذاهبة يف السماء‪ ،‬فكانت احلمامة‬
‫تشرع يف نقل العش إىل رأس تلك النخلة‪ ،‬فال ميكن أن تنقل ما تنقل من العش وجتعله حتت البيض إال‬
‫بعد شدة وتعب ومشقة‪ :‬لطول النخلة وسحقها‪ ،‬فإذا فرغت من النقل ابضت مث حضنت بيضها‪ ،‬فإذا‬
‫فقست وأدرك فراخها جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها لوقت قد علمه بقدر ما ينهض فراخها‪،‬‬
‫فيقف أبصل النخلة فيصيح هبا ويتوعدها أن يرقي إليها فتلقي إليه فراخها‪ .‬فبينما هي ذات يوم قد‬
‫أدرك هلا فرخان إذ أقبل مالك احلزين فوقع على النخلة‪ .‬فلما رأى احلمامة كئيبة حزينة شديدة اهلم قال‬
‫هلا مالك احلزين‪ :‬اي محامة‪ ،‬ما يل أراكي كاسفة اللون سيئة احلال? فقالت له‪ :‬اي مالك احلزين‪ ،‬إن‬
‫ثعلبا دهيت به كلما كان يل فرخان جاء يهددين ويصيح يف أصل النخلة‪ ،‬فأفرق منه فأطرح إليه فرخي‪.‬‬
‫قال هلا مالك احلزين‪ :‬إذا ِ‬
‫أاتك ليفعل ما تقولني فقويل له‪ :‬ال ألقي إليك فرخي‪ ،‬فارق إيل وغرر‬
‫بنفسك‪ .‬فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي‪ ،‬طرت عنك وجنوت بنفسي‪ .‬فلما علمها مالك احلزين هذه‬
‫احليلة طار فوقع على شاطئ هنر‪ .‬فأقبل الثعلب يف الوقت الذي عرف‪ ،‬فوقف حتتها‪ ،‬مث صاح كما‬
‫كان يفعل‪ .‬فأجابته احلمامة مبا علمها مالك احلزين‪ .‬قال هلا الثعلب‪ :‬أخربيين من علمك هذا? قالت‪:‬‬
‫فتوجه الثعلب إىل مالكا احلزين على شاطئ النهر‪ ،‬فوجده واقفا‪ .‬فقال له‬
‫علمين مالك احلزين‪ّ .‬‬
‫الثعلب‪ :‬اي مالك احلزين‪ :‬إذا أتتك الريح عن ميينك فأين جتعل رأسك? قال‪ :‬عن مشايل‪ .‬قال‪ :‬فإذا‬
‫أتتك عن مشالك فأين جتعل رأسك‪ .‬قال‪ :‬أجعله عن مييين أو خلفي‪ .‬قال‪ :‬فإذا أتتك الريح من كل‬
‫مكان وكل انحية فأين جتعله? قال‪ :‬أجعله حتت جناحي‪ .‬قال‪ :‬وكيف تستطيع أن جتعله حتت‬
‫جناحك? ما أراه يتهيأ لك‪ .‬قال‪ :‬بلى‪ :‬قال‪ :‬فأرين كيف تصنع? فلعمري اي معشر الطري لقد فضلكم‬
‫هللا علينا‪ .‬إنكن تدرين يف ساعة واحدة مثلما ندري يف سنة‪ ،‬وتبلغن ما ال نبلغ‪ ،‬وتدخلن رؤسكن‬
‫حتت اجنحتكن من الربد والريح‪ .‬فهنيئا لكن فأرين كيف تصنع‪ .‬فأدخل الطائر رأسه حتت جناحه‬

‫‪110‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫فوثب عليه الثعلب مكانه فأخذه فهمزه مهزة دقت عنقه‪ .‬مث قال‪ :‬اي عدوي نفسه‪ ،‬ترى الرأي‬
‫للحمامة‪ ،‬وتعلمها احليلة لنفسها‪ ،‬وتعجز عن ذلك لنفسك‪ ،‬حىت يستمكن منك عدوك‪ ،‬مث أجهز‬
‫عليه وأكله‪ .‬فلما انتهى املنطق للملك والفيلسوف إىل هذا املكان سكت امللك‪ .‬فقال له الفيلسوف‪:‬‬
‫أيها امللك عشت ألف سنة‪ ،‬وملكت األقاليم السبعة‪ ،‬وأعطيت من كل شيء سببا‪ ،‬مع وفور سرورك‬
‫وقرة عني رعيتك بك‪ ،‬ومساعدة القضاء والقدر لك‪ ،‬فإنه قد كمل فيك احللم والعلم‪ .‬وزكا منك العقل‬
‫والقول والنية‪ ،‬فال يوجد يف رأيك نقص‪ ،‬وال يف قولك سقط وال عيب‪ .‬وقد مجعت النجدة واللني‪ ،‬فال‬
‫توجد جباانا عند اللقاء‪ ،‬وال ضيق الصدر عندما ينوبك من األشياء‪ .‬وقد مجعت لك يف هذا الكتاب‬
‫مشل بيان األمور‪ ،‬وشرحت لك جواابا ما سألتين عنه منها فأبلغتك يف ذلك غاية نصحي‪ ،‬واجتهدت‬
‫فيه برأيي ونظري ومبلغ فطنيت‪ ،‬التماس ا لقضاء حقك وحسن النية منك‪ .‬أبعمال الفكرة والعقل‪ .‬فجاء‬
‫كما وصفت لك من النصيحة واملوعظة مع أنه ليس اآلمر ابخلري أبسعد من املطيع له فيه‪ ،‬وال الناصح‬
‫أبوىل ابلنصيحة من املنصوح‪ ،‬وال املعلم للخري أبسعد من متعلمه منه‪ .‬فافهم ذلك أيها امللك وال حول‬
‫وال قوة إال ابهلل العلي العظيم‪.‬‬
‫قال الفيلسوف‪ :‬زعموا أن محامة كانت تفرخ يف رأس خنلة طويلة ذاهبة يف السماء‪ ،‬فكانت احلمامة‬
‫تشرع يف نقل العش إىل رأس تلك النخلة‪ ،‬فال ميكن أن تنقل ما تنقل من العش وجتعله حتت البيض إال‬
‫بع د شدة وتعب ومشقة‪ :‬لطول النخلة وسحقها‪ ،‬فإذا فرغت من النقل ابضت مث حضنت بيضها‪ ،‬فإذا‬
‫فقست وأدرك فراخها جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها لوقت قد علمه بقدر ما ينهض فراخها‪،‬‬
‫فيقف أبصل النخلة فيصيح هبا ويتوعدها أن يرقي إليها فتلقي إليه فراخها‪ .‬فبينما هي ذات يوم قد‬
‫أدرك هلا فرخان إذ أقبل مالك احلزين فوقع على النخلة‪ .‬فلما رأى احلمامة كئيبة حزينة شديدة اهلم قال‬
‫هلا مالك احلزين‪ :‬اي محامة‪ ،‬ما يل أراكي كاسفة اللون سيئة احلال? فقالت له‪ :‬اي مالك احلزين‪ ،‬إن‬
‫ثعلب ا دهيت به كلما كان يل فرخان جاء يهددين ويصيح يف أصل النخلة‪ ،‬فأفرق منه فأطرح إليه فرخي‪.‬‬
‫قال هلا مالك احلزين‪ :‬إذا ِ‬
‫أاتك ليفعل ما تقولني فقويل له‪ :‬ال ألقي إليك فرخي‪ ،‬فارق إيل وغرر‬
‫بنفسك‪ .‬فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي‪ ،‬طرت عنك وجنوت بنفسي‪ .‬فلما علمها مالك احلزين هذه‬
‫احليلة طار فوقع على شاطئ هنر‪ .‬فأقبل الثعلب يف الوقت الذي عرف‪ ،‬فوقف حتتها‪ ،‬مث صاح كما‬
‫كان يفعل‪ .‬فأجابته احلمامة مبا علمها مالك احلزين‪ .‬قال هلا الثعلب‪ :‬أخربيين من علمك هذا? قالت‪:‬‬
‫فتوجه الثعلب إىل مالكا احلزين على شاطئ النهر‪ ،‬فوجده واقفا‪ .‬فقال له‬
‫علمين مالك احلزين‪ّ .‬‬

‫‪111‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫الثعلب‪ :‬اي مالك احلزين‪ :‬إذا أتتك الريح عن ميينك فأين جتعل رأسك? قال‪ :‬عن مشايل‪ .‬قال‪ :‬فإذا‬
‫أتتك عن مشالك فأين جتعل رأسك‪ .‬قال‪ :‬أجعله عن مييين أو خلفي‪ .‬قال‪ :‬فإذا أتتك الريح من كل‬
‫مكان وكل انحية فأين جتعله? قال‪ :‬أجعله حتت جناحي‪ .‬قال‪ :‬وكيف تستطيع أن جتعله حتت‬
‫جناحك? ما أراه يتهيأ لك‪ .‬قال‪ :‬بلى‪ :‬قال‪ :‬فأرين كيف تصنع? فلعمري اي معشر الطري لقد فضلكم‬
‫هللا علينا‪ .‬إنكن تدرين يف ساعة واحدة مثلما ندري يف سنة‪ ،‬وتبلغن ما ال نبلغ‪ ،‬وتدخلن رؤسكن‬
‫حتت اجنحتكن من الربد والريح‪ .‬فهنيئ ا لكن فأرين كيف تصنع‪ .‬فأدخل الطائر رأسه حتت جناحه‬
‫فوثب عليه الثعلب مكانه فأخذه فهمزه مهزة دقت عنقه‪ .‬مث قال‪ :‬اي عدوي نفسه‪ ،‬ترى الرأي‬
‫للحمامة‪ ،‬وتعلمها احليلة لنفسها‪ ،‬وتعجز عن ذلك لنفسك‪ ،‬حىت يستمكن منك عدوك‪ ،‬مث أجهز‬
‫عليه وأكله‪ .‬فلما انتهى املنطق للملك والفيلسوف إىل هذا املكان سكت امللك‪ .‬فقال له الفيلسوف‪:‬‬
‫أيها امللك عشت ألف سنة‪ ،‬وملكت األقاليم السبعة‪ ،‬وأعطيت من كل شيء سبب ا‪ ،‬مع وفور سرورك‬
‫وقرة عني رعيتك بك‪ ،‬ومساعدة القضاء والقدر لك‪ ،‬فإنه قد كمل فيك احللم والعلم‪ .‬وزكا منك العقل‬
‫والقول والنية‪ ،‬فال يوجد يف رأيك نقص‪ ،‬وال يف قولك سقط وال عيب‪ .‬وقد مجعت النجدة واللني‪ ،‬فال‬
‫توجد جباانا عند اللقاء‪ ،‬وال ضيق الصدر عندما ينوبك من األشياء‪ .‬وقد مجعت لك يف هذا الكتاب‬
‫مشل بيان األمور‪ ،‬وشرحت لك جواابا ما سألتين عنه منها فأبلغتك يف ذلك غاية نصحي‪ ،‬واجتهدت‬
‫فيه برأيي ونظري ومبلغ فطنيت‪ ،‬التماسا لقضاء حقك وحسن النية منك‪ .‬أبعمال الفكرة والعقل‪ .‬فجاء‬
‫كما وصفت لك من النصيحة واملوعظة مع أنه ليس اآلمر ابخلري أبسعد من املطيع له فيه‪ ،‬وال الناصح‬
‫أبوىل ابلنصيحة من املنصوح‪ ،‬وال املعلم للخري أبسعد من متعلمه منه‪ .‬فافهم ذلك أيها امللك وال حول‬
‫وال قوة إال ابهلل العلي العظيم‪.‬‬
‫قال الفيلسوف‪ :‬زعموا أن محامة كانت تفرخ يف رأس خنلة طويلة ذاهبة يف السماء‪ ،‬فكانت احلمامة‬
‫تشرع يف نقل العش إىل رأس تلك النخلة‪ ،‬فال ميكن أن تنقل ما تنقل من العش وجتعله حتت البيض إال‬
‫بعد شدة وتعب ومشقة‪ :‬لطول النخلة وسحقها‪ ،‬فإذا فرغت من النقل ابضت مث حضنت بيضها‪ ،‬فإذا‬
‫فقست وأدرك فراخها جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها لوقت قد علمه بقدر ما ينهض فراخها‪،‬‬
‫فيقف أبصل النخلة فيصيح هبا ويتوعدها أن يرقي إليها فتلقي إليه فراخها‪ .‬فبينما هي ذات يوم قد‬
‫أدرك هلا فرخان إذ أقبل مالك احلزين فوقع على النخلة‪ .‬فلما رأى احلمامة كئيبة حزينة شديدة اهلم قال‬
‫هلا مالك احلزين‪ :‬اي محامة‪ ،‬ما يل أراكي كاسفة اللون سيئة احلال? فقالت له‪ :‬اي مالك احلزين‪ ،‬إن‬

‫‪112‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫ثعلبا دهيت به كلما كان يل فرخان جاء يهددين ويصيح يف أصل النخلة‪ ،‬فأفرق منه فأطرح إليه فرخي‪.‬‬
‫قال هلا مالك احلزين‪ :‬إذا ِ‬
‫أاتك ليفعل ما تقولني فقويل له‪ :‬ال ألقي إليك فرخي‪ ،‬فارق إيل وغرر‬
‫بنفسك‪ .‬فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي‪ ،‬طرت عنك وجنوت بنفسي‪ .‬فلما علمها مالك احلزين هذه‬
‫احليلة طار فوقع على شاطئ هنر‪ .‬فأقبل الثعلب يف الوقت الذي عرف‪ ،‬فوقف حتتها‪ ،‬مث صاح كما‬
‫كان يفعل‪ .‬فأجابته احلمامة مبا علمها مالك احلزين‪ .‬قال هلا الثعلب‪ :‬أخربيين من علمك هذا? قالت‪:‬‬
‫فتوجه الثعلب إىل مالك ا احلزين على شاطئ النهر‪ ،‬فوجده واقف ا‪ .‬فقال له‬
‫علمين مالك احلزين‪ّ .‬‬
‫الثعلب‪ :‬اي مالك احلزين‪ :‬إذا أتتك الريح عن ميينك فأين جتعل رأسك? قال‪ :‬عن مشايل‪ .‬قال‪ :‬فإذا‬
‫أتتك عن مشالك فأين جتعل رأسك‪ .‬قال‪ :‬أجعله عن مييين أو خلفي‪ .‬قال‪ :‬فإذا أتتك الريح من كل‬
‫مكان وكل انحية فأين جتعله? قال‪ :‬أجعله حتت جناحي‪ .‬قال‪ :‬وكيف تستطيع أن جتعله حتت‬
‫جناحك? ما أراه يتهيأ لك‪ .‬قال‪ :‬بلى‪ :‬قال‪ :‬فأرين كيف تصنع? فلعمري اي معشر الطري لقد فضلكم‬
‫هللا علينا‪ .‬إنكن تدرين يف ساعة واحدة مثلما ندري يف سنة‪ ،‬وتبلغن ما ال نبلغ‪ ،‬وتدخلن رؤسكن‬
‫حتت اجنحتكن من الربد والريح‪ .‬فهنيئا لكن فأرين كيف تصنع‪ .‬فأدخل الطائر رأسه حتت جناحه‬
‫فوثب عليه الثعلب مكانه فأخذه فهمزه مهزة دقت عنقه‪ .‬مث قال‪ :‬اي عدوي نفسه‪ ،‬ترى الرأي‬
‫للحمامة‪ ،‬وتعلمها احليلة لنفسها‪ ،‬وتعجز عن ذلك لنفسك‪ ،‬حىت يستمكن منك عدوك‪ ،‬مث أجهز‬
‫عليه وأكله‪ .‬فلما انتهى املنطق للملك والفيلسوف إىل هذا املكان سكت امللك‪ .‬فقال له الفيلسوف‪:‬‬
‫أيها امللك عشت ألف سنة‪ ،‬وملكت األقاليم السبعة‪ ،‬وأعطيت من كل شيء سببا‪ ،‬مع وفور سرورك‬
‫وقرة عني رعيتك بك‪ ،‬ومساعدة القضاء والقدر لك‪ ،‬فإنه قد كمل فيك احللم والعلم‪ .‬وزكا منك العقل‬
‫والقول والنية‪ ،‬فال يوجد يف رأيك نقص‪ ،‬وال يف قولك سقط وال عيب‪ .‬وقد مجعت النجدة واللني‪ ،‬فال‬
‫توجد جباانا عند اللقاء‪ ،‬وال ضيق الصدر عندما ينوبك من األشياء‪ .‬وقد مجعت لك يف هذا الكتاب‬
‫مشل بيان األمور‪ ،‬وشرحت لك جواابا ما سألتين عنه منها فأبلغتك يف ذلك غاية نصحي‪ ،‬واجتهدت‬
‫فيه برأيي ونظري ومبلغ فطنيت‪ ،‬التماس ا لقضاء حقك وحسن النية منك‪ .‬أبعمال الفكرة والعقل‪ .‬فجاء‬
‫كما وصفت لك من النصيحة واملوعظة مع أنه ليس اآلمر ابخلري أبسعد من املطيع له فيه‪ ،‬وال الناصح‬
‫أبوىل ابلنصيحة من املنصوح‪ ،‬وال املعلم للخري أبسعد من متعلمه منه‪ .‬فافهم ذلك أيها امللك وال حول‬
‫وال قوة إال ابهلل العلي العظيم‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫كليلة ودمنة البن المقفع‬

‫‪114‬‬

You might also like