Professional Documents
Culture Documents
كليلة ودمنة
البن المقفع
أهم وأشهر كتب ابن املقفع على اإلطالق
وهو جمموعة من احلكاايت تدور على ألسنة احليواانت حيكيها الفيلسوف بيداب للملك دبشليم ،ويبث
للحكْم ،واملشهور أن ابن املقفع ترجم هذه
من خالهلا ابن املقفع آراءه السياسية يف املنهج القومي ُ
احلكاايت عن الفارسية ،وأهنا هندية األصل ،لكن أحبا اًث كثرية حديثة تؤكد أن كليلة ودمنة من أتليف
ابن املقفع وليست جمرد ترمجة ،كما أن بعض هذه األحباث يعتقد أن اآلراء اليت أوردها ابن املقفع يف
كليلة ودمنة كانت أحد األسباب املباشرة لنهايته األليمة،
بسم هللا الرحمن الرحيم
1
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فتفرقوا طرائق ومتزقوا حزائق ،فتوجه ابجلنود حنو بالد الصني؛ فبدأ يف طريقه مبلك اهلند ليدعوه إىل
طاعته والدخول يف ملته وواليته .وكان على اهلند يف ذلك الزمان ملك ذو سطوة وأبس وقوة ومراس،
فور .فلما بلغه إقبال ذي القرنني حنوه أتهب حملاربته ،واستعد جملاذبته؛ وشم إليه أطرافه ،وجد
يقال له ٌ
يف التألب عليه؛ ومجع له العدة يف أسرع مدة من الفيلة املعدة للحروب ،والسباع املضراة ابلوثوب؛ مع
اخليول املسرجة والسيوف القواطع ،واحلراب اللوامع .فلما قرب ذو القرنني من فور اهلندي وبلغه ما أعد
له من اخليل اليت كأهنا قطع الليل مما مل يلقه مبثله أحد من امللوك الذين كانوا يف األقاليم ،ختوف ذو
القرنني من تقصري يقع به إن عجل املبارزة .وكان ذو القرنني رجالا ذا حيل ومكايد ،مع حسن تدبري
وجتربة ،فرأى إعمال احليلة والتمهل ،واحتفر خندقا على عسكره؛ وأقام مبكانه الستنباط احليلة والتدبري
ألمره؛ وكيف ينبغي له أي يقدم على اإليقاع به ،فاستدعى ابملنجمني ،وأمرهم ابالختيار ليوم موافق
تكون له فيه سعادة حملاربة ملك اهلند والنصرة عليه .فاشتغلوا بذلك .وكان ذو القرنني ال مير مبدينة إال
أخذ الصناع املشهورين من صناعها ابحلذق من كل صنف .فأنتجت له مهته ودلته فطنته أن يتقدم إىل
الصناع الذين معه يف أن يصنعوا خيالا من حناس جموفة ،عليها متاثيل من الرجال ،على بك ٍر جتري ،إذا
دفعت مرت سراع ا .وأمر إذا فرغوا منها أن حتشى أجوافها ابلنفط والكربيت؛ وتلبس وتقدم أمام
الصف يف القلب .ووقت ما يلتقي اجلمعان تضرم فيها النريان .فإن الفيلة إذا لفت خراطيمها على
الفرسان وهي حامية ،ولت هاربة ،وأوعز إىل الصناع ابلتشمري واالنكماش والفراغ منها .فجدوا يف
ذلك وعجلوا .وقرب أيضا وقت اختيار املنجمني .فأعاد ذو القرنني رسله إىل فور يدعوه إليه من
طاعته واإلذعان لدولته .فأجاب جواب مصر على مص ٍر على خمالفته ،مقي ٍم على حماربته .فلما رأى ذو
القرنني عزميته سار إليه أبهبته؛ وقدم فور الفيلة أمامه ،ودفعت الرجال تلك اخليل ومتاثيل الفرسان؛
فأقبلت الفيلة حنوها ،ولفت خراطيمها عليها .فلما أحست ابحلرارة ألقت من كان عليها ،وداستهم
شيء وال متر ٍ
أبحد إال وطئته .وتقطع فوٍر ومجعه، حتت أرجلها ،ومضت مهزومة هاربة ،ال تلوي على ٍ
وتبعهم أصحاب اإلسكندر؛ وأثخنوا فيهم اجلراح.
وصاح اإلسكندر :اي ملك اهلند أبرز إلينا ،وأبق على عدتك وعيالك ،وال حتملهم على الفناء .فإنه
ليس من املروءة أي يرمي امللك بعدته يف املهالك املتلفة واملواضع اجملحفة ،بل يقيهم مباله ويدافع عنهم
بنفسه .فأبرز إىل ودع اجلند ،فأينا قهر صاحبه فهو األسعد .فلما مسع فور من ذي القرنني ذلك
الكالم دعته نفسه ملالقاته طمعا فيه؛ وظن ذلك فرص اة .فربز إليه اإلسكندر فتجاوال على ظهري
2
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فرسيهما ساعات من النهار ليس يلقى أحدمها من صاحبه فرص اة؛ ومل يزاال يتعاركان .فلما أعيا
اإلسكندر أمره ومل جيد له فرص اة وال حيلة أوقع ذو القرنني يف عسكره صيحة عظيمة ارجتت هلا األرض
فور عندما مسع الزعقة ،وظنها مكيدة يف عسكره؛ فعاجله ذو القرنني بضربة أمالته
والعساكر؛ فالتفت ٌ
عن سرجه ،وتبعه أبخرى؛ فوقع على األرض .فلما رأت اهلند ما نزل هبم ،وما صار إليه ملكهم؛ محلوا
على اإلسكندر فقاتلوه قتاالا أحبوا معه املوت .فوعدهم من نفسه اإلحسان ،ومنحه هللا أكتافهم؛
فاستوىل على بالدهم ،وملك عليه رجالا من ثقاته .وأقام ابهلند حىت استوثق مما أراد من أمرهم واتفاق
كلمتهم؛ مث انصرف عن اهلند وخلف ذلك الرجل عليهم .مضى متوجها حنو ما قصد له .فلما بعد ذو
ا لقرنني عن اهلند جبيوشه ،تغريت اهلند عما كانوا عليه من طاعة الرجل الذي خلفه عليهم؛ وقالوا ليس
يصلح للسياسة وال ترضى اخلاصة والعامة أن ميلكوا عليهم رجالا ليس هو منهم وال من أهل بيوهتم.
فإنه ال يزال يستذهلم ويستقلهم .واجتمعوا ميلكون عليهم رجالا من أوالد ملوكهم؛ فملكوا عليهم ملك ا
يقال له دبشليم؛ وخلعوا الرجل الذي كان خلفه عليهم اإلسكندر .فلما استوسق له األمر ،واستقر له
امللك .وكان مع ذلك مؤيدا مظفرا منصورا .فهابته الرعية .فلما رأى ما هو عليه من امللك والسطوة،
عبث ابلرعية واستصغر أمرهم وأساء السرية فيهم .وكان ال ترتقي حاله إال ازداد عتوا .فمكث على
حكيم ،يعرف بفضله ،ويرجع يففاضل ٌ ذلك برهة من دهره .وكان يف زمانه رحل فيلسوف من الربامهةٌ ،
األمور إىل قوله ،يقال له بيداب .فلما رأى امللك وما هو عليه من الظلم للرعية ،فكر يف وجه احليلة يف
صرفه عما هو عليه ،ورده إىل العدل واإلنصاف؛ فجمع لذلك تالميذه ،وقال :أتعلمون ما أريد أن
أشاوركم فيه? اعلموا إين أطلت الفكرة يف دبشليم وما هو عليه من اخلروج عن العدل ولزوم الشر
ورداءة السرية وسوء العشرة مع الرعية؛ وحنن ما نروض أنفسنا ملثل هذه األمور إذا ظهرت من امللوك،
غال لنردهم إىل فعل اخلري ولزوم العدل.
ومىت أغفلنا ذلك وأمهلناه لزم وقوع املكروه بنا ،وبلوغ احملذورات إلينا؛ غذ كنا يف أنفس اجلهال أجهل
منهم؛ ويف العيون عندهم أقل منهم .وليس الرأي عندي اجلالء عن الوطن .وال يسعنا يف حكمتنا
إبقاؤه على ما هو عليه من سوء السرية وقبح الطريقة .وال ميكننا جماهدته بغري ألسنتنا .ولو ذهبنا إىل
أن نستعني بغريان مل تتهيأ لنا معاندته .وإن أحس منا مبحالفته وإنكاران سوء سريته كان يف ذلك بواران.
وقد تعلمون أن جماورة السبع والكلب واحلية والثور على طيب الوطن ونضارة العيش لغد ٍر ابلنفس.
حلقيق أن تكون مهته مصروفة إىل ما حيصن به نفسه من نوازل املكروه ولواحق احملذور؛ وإن الفيلسوف ٌ
3
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ويدفع املخوف الستجالب احملبوب .ولقد كنت أمسع أن فيلسوفا كتب لتلميذه يقول :إن جماور رجال
السوء ومصاحبهم كراكب البحر :إن سلم من الغرق مل يسلم من املخاوف .فإذا هو أورد نفسه موارد
املهلكات ومصادر املخوفات ،عد من احلمري اليت ال نفس هلا .ألن احليوان البهيمية قد خصت يف
طبائعها مبعرفة ما تكتسب به النفع وتتوقى املكروه :وذلك أننا مل نرها تورد أنفسها موردا فيه هلكتها.
وأهنا مىت أشرفت على مورد مهلك هلا ،مالت بطبائعها اليت ركبت فيها -شحا أبنفسها وصيان اة هلا -
إىل النفور والتباعد عنه ،وقد مجعتكم هلذا األمر :ألنكم أسريت ومكان سري وموضع معرفيت؛ وبكم
أعتضد ،وعليكم أعتمد .فإن الوحيد يف نفسه واملنفرد برأيه حيث كان فهو ضائع وال انصر له .على
أن العاقل قد يبلغ حبيلته ما ال يبلغ ابخليل واجلنود .واملثل يف ذلك أن قنرباة اختذت أدخي اة وابضت فيها
على طريق الفيل؛ وكان للفيل مشرب يرتدد إليه .فمر ذات يوم على عادته لريد مورده فوطئ عش
القنربة؛ وهشم بيضها وقتل فراخها .فلما نظرت ما ساءها ،علمت أن الذي انهلا من الفيل ال من
غريه .فطارت فوقعت على رأسه ابكي اة؛ مث قالت :أيها امللك مل هشمت بيضي وقتلت فراخي ،وأان يف
جوارك? أفعلت هذا استصغارا منك ألمري واحتقارا لشأين .قال :هو الذي محلين على ذلك .فرتكته
وانصرفت إىل مجاعة الطري؛ فشكت إليها ما انهلا من الفيل .فقلن هلا وما عسى أن نبلغ منه وحنن
الطيور? فقالت للعقاعق والغرابن :أحب منكن أن تصرن معي إليه فتفقأن عينيه؛ فإين أحتال له بعد
ذلك حيل اة أخرى .فأجبنها إىل ذلك ،وذهنب إىل الفيل ،ومل يزلن ينقرن عينيه حىت ذهنب هبما .وبقي ال
يهتدي إىل طريق مطعمه ومشربه إال ما يلقمه من موضعه .فلما علمت ذلك منه ،جاءت إىل غدير
فيه ضفادع كثري ،فشكت إليها ما انهلا من الفيل.
قالت الضفادع :ما حيلتنا حنن يف عظم الفيل? وأين نبلغ منه .قالت :احب منكن أن تصرن معي إىل
ٍ
وهدة قر ٍ
يبة منه ،فتنققن فيها ،وتضججن .فإنه إذا مسع أصواتكن مل يشك يف املاء فيهوي فيها.
فأجبنها إىل ذلك؛ واجتمعن يف اهلاوية ،فسمع الفيل نقيق الضفادع ،وقد اجهده العطش ،فأقبل حىت
وقع يف الوهدة ،فارتطم فيها .وجاءت القنربة ترفرف على رأسه؛ وقالت :أيها الطاغي املغرت بقوته احملتقر
ألمري ،كيف رأيت عظم حيليت مع صغر جثيت عند عظم جثتك وصغر مهتك? فليشر كل واحد منكم
مبا يسنح له من الرأي .قالوا أبمجعهم :أيها الفيلسوف الفاضل ،واحلكيم العادل ،أنت املقدم فينا،
والفاضل علينا ،وما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك ،وفهمنا عند فهمك? غري أننا نعلم أن
السباحة يف املاء مع التماسيح تغر ٌير؛ والذنب فيه ملن دخل عليه يف موضعه .والذي يستخرج السم من
4
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
جان على نفسه ،فليس الذنب للحية .ومن دخل على األسد يف غابته مل انب احلية فيبتلعه ليجربه ٍ
أيمن من وثبته .وهذا امللك مل تفزعه النوائب ،ومل تؤدبه التجارب .ولسنا أنمن عليك وال على أنفسنا
سطوته وإان خناف عليك من سورته ومبادرته ٍ
بسوء إذا لقيته بغري ما حيب .فقال احلكيم بيداب :لعمري
لقد قلتم فأحسن تم ،لكن ذا الرأي احلازم ال يدع أن يشاور من هو دونه أو فوقه يف املنزلة .والرأي الفرد
ال يكتفي به يف اخلاصة وال ينتفع به يف العامة .وقد صحت عزمييت على لقاء دبشليم .وقد مسعت
مقالتكم؛ وتبني يل نصيحتكم واإلشفاق علي وعليكم .غري أين قد رأيت رأايا وعزمت عزم ا؛ وستعرفون
حديثي عند امللك وجماوبيت إايه فإذا اتصل بكم خروجي من عنده فاجتمعوا إيل .وصرفهم يدعون له
ابلسالمة.
مث إن بيداب اختار يوم ا للدخول على امللك؛ حىت إذا كان ذلك الوقت ألقى عليه مسوحة وهي لباس
الربامهة؛ وقصد ابب امللك ،وسأل عن صاحب إذنه وأرشد إليه وسلم عليه؛ وأعلمه قال يل :إين رجل
رجل من الربامهة يقال له ٍ
قصدت امللك يف نصيحة .فدخل اآلذن على امللك يف وقته؛ وقال :ابلباب ٌ
بيداب ،ذكر أن معه للملك نصيحة .فأذن له؛ فدخل ووقف بني يديه وكفر وسجد له واستوى قائما
وسكت.
شيء منا يصلح به حاله،وفكر دبشليم يف سكوته؛ وقال :إن هذا مل يقصدان إال ألمرين :إما اللتماس ٍ
فضل يف مملكتها فإن للحكماء فضالا يف
وإما ألمر حلقه فلم تكن له به طاقةٌ .مث قال :إن كان للملوك ٌ
حكمتها أعظم :ألن احلكماء أغنياء عن امللوك ابلعلم وليس امللوك أغنياء عن احلكماء ابملال .وقد
وجدت العلم واحليا إلفني متآلفني ال يفرتقان :مىت فقد أحدمها مل يوجد اآلخر؛ كاملتصافيني إن عدم
منهما أحد مل يطب صاحبه نفسا ابلبقاء أتسفا عليه .ومن مل يستحي من احلكماء ويكرمهم ،ويعرف
فضلهم على غريهم ،ويصنهم عن املواقف الواهنة ،وينزههم عن املواطن الرذلة كان ممن حرم عقله،
وخسر دنيا ه ،وظلم احلكماء حقوقهم ،وعد من اجلهال .مث رفع رأسه إىل بيداب؛ وقال له :نظرت إليك
اي بيداب ساكت ا ال تعرض حاجتك ،وال تذكر بغيتك ،فقلت :إن الذي أسكته هيبةٌ ساورته أو حريةٌ
أدركته؛ وأتملك عند ذلك من طول وقوفك ،وقلت :لك يكن لبيداب أن يطرقنا على غري عادةٍ عن
سبب دخوله؛ فإن مل يكن من ضي ٍم انله ،كنت أوىل من أخذ بيده وسارع يف تشريفه ،وتقدم يف البلوغ
إىل مراده وإعزازه؛ وإن كانت بغيته غرض ا من أغراض الدنيا أمرت إبرضائه من ذلك فيما أحب؛ وإن
يكن من أمر امللك ،ومما ال ينبغي أن يبذلوه من أنفسهم وال ينقادوا إليه نظرت يف قدر عقوبته؛ على
5
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أن مثله مل يكن ليجرتئ على إدخال نفسه يف ابب مسألة امللوك؛ وإن كان شيئا من أمور الرعية يقصد
فيه أين أصرف عناييت إليهم ،نظرت ما هو؛ فإن احلكماء ال يشريون إال ابخلري ،واجلهال يشريون
بضده .وأان قد فسحت لك يف الكالم .فلما مسع بيداب ذلك من امللك أفرخ روعه ؛ وسرى عنه ما
كان وقع يف نفسه من خوفه وكفر له وسجد؛ مث قام بني يديه وقال :أول ما أقول لك أسأل هللا تعاىل
بقاء امللك على األبد ،ودوام ملكه على األمد :ألن امللك قد منحين يف مقامي هذا حمالا جعله شرفا
يل على مجيع من بعدي من العلماء؛ وذكرا ابقي ا عل ى الدهر عند احلكماء .مث أقبل على امللك بوجهه،
مستبشرا به فرحا مبا بدا له منه ،وقال :قد عطف امللك علي بكرمه وإحسانه .واألمر الذي دعاين إىل
الدخول على امللك ،ومحلين على املخاطرة لكالمه ،واإلقدام عليه ،نصيحةٌ اختصصته هبا دون غريه.
وسيعلم من يتصل به ذلك أين مل أقصر عن ٍ
غاية فيما جيب للموىل على احلكماء .فإن فسح يف كالمي
ووعاه عين ،فهو حقيق بذلك وما يراه؛ وإن هو ألقاه ،فقد بلغت ما يلزمين وخرجت من لوم يلحقين.
قال امللك بيداب تكلم كيف شئت :فإنين مص ٍغ إليك ،ومقبل عليك ،وسامع منك ،حىت أستفرغ ما
عندك إىل آخره ،وأجازيك على ذلك مبا أنت أهله .قال بيداب :إين وجدت األمور اليت اختص هبا
اإلنسان من بني سائر احليواانت أربعة أشياء ،وهي مجاع ما يف العامل ،وهي احلكمة والعفة والعقل
والعدل .والعلم واألدب والروية داخلةٌ يف ابب احلكمة .واحللم والصرب والوقار داخلةٌ يف ابب العقل.
واحلياء والكرم والصيانة واألنفة داخلةٌ يف ابب العفة .والصدق واإلحسان واملراقبة وحسن اخللق داخلةٌ
يف ابب العدل .وهذه هي احملاسن ،وأضدادها هي املساوئ .فمىت كملت هذه يف و ٍ
احد مل خترجه
6
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
الزايدة يف ٍ
نعمة إىل سوء احلظ من دنياه وال إىل ٍ
نقص يف عقباه ،ومل يتأسف على ما مل يعن التوفيق
كنز ال يفىن على ٍ
ببقائه ،ومل حيزنه ما جتري به املقادير يف ملكه ،ولك يدهش عند مكروه .فاحلكمة ٌ
ٍ
إنفاق ،وذخريةٌ ال يضرب هلا ابإلمالق ،وحلة ال ختلق جدها ،ولذةٌ ال تنصرم مدهتا .ولئن كنت عند
مقامي بني يدي امللك أمسكت عن ابتدائه ابلكالم ،وإن ذلك مل يكن مين إال هليبته واإلجالل له.
ألهل أن يهابوا؛ ال سيما من هو يف املنزلة اليت جل فيها امللك عن منازل امللوك
ولعمري إن امللوك ٌ
قبله .وقد قالت العلماء :الزم السكوت؛ فإن فيه سالمةا؛ وجتنب الكالم الفارغ؛ فإن عاقبته الندامة.
كل بكالم يكون أصالا لألدب. وحكي أن أربع اة من العلماء ضمهم جملس امللك ،فقال هلم :ليتكلم ٌ
فقال أحدهم :أفضل خلة العلم السكوت .وقال الثاين :إن من انفع األشياء لإلنسان أن يعرف قدر
منزلته من عقله .وقال الثالث :أنفع األشياء لإلنسان أال يتكلم مبا ال يعنيه .وقال الرابع :أروح األمور
على اإلنسان التسليم للمقادير .واجتمع يف بعض الزمان ملوك األقاليم من الصني واهلند وفارس والروم؛
احد منا بكلمة تدون عنه على غابر الدهر .فقال ملك الصني :أان على ما وقالوا ينبغي أن يتكلم كل و ٍ
مل أقل أقدر مين على رد ما قلت .وقال ملك اهلند :عجبت ملن يتكلم ابلكلمة فإن كانت له مل تنفعه،
وإن كانت عليه أوبقته .وقال ملك فارس :أان إذا تكلمت ابلكلمة ملكتين ،وإذا مل أتكلم هبا ملكتها.
وقال ملك الروم :ما ندمت على ما مل أتكلم به قط ،ولقد ندمت على ما تكلمت به كثريا .والسكوت
عند امللوك أحسن من اهلذر الذي ال يرجع منه إىل نفع .وأفضل ما استظل به اإلنسان لسانه .غري أن
امللك ،أطال هللا مدته ،ملا فسح يل يف الكالم وأوسع يل فيه؛ كان أوىل ما أبدأ به من األمور اليت هي
غرضي أن يكون مثرة ذلك له دوين؛ وأن اختصه ابلفائدة قبلي .على أن العقىب هي ما أقصد يف كالمي
اجع إليه؛ وأكون أان قد قضيت فرضا وجب علي فأقول :أيها امللك إنك يف له؛ وإمنا نفعه وشرفه ر ٌ
منازل آابئك وأجدادك من اجلبابرة الذين أسسوا امللك قبلك ،وشيدوه دونك ،وبنوا القالع واحلصون،
ومهدوا البالد ،وقادوا اجليوش؛ واستجاشوا العدة ،وطالت مل املدة؛ واستكثروا من السالح والكراع؛
وعاشوا الدهور ،يف الغبطة والسرور؛ فلم مينعهم ذلك من اكتساب مجيل الذكر ،وال قطعهم عن اغتنام
الشكر؛ وال استعمال اإلحسان إىل من خولوه ،واإلرفاق مبن ولوه ،وحسن السرية فيما تقلدوه؛ مع
عظم ما كانوا فيه من غرة امللك ،وسكرة االقتدار .وإنك أيها امللك السعيد جدة ،الطالع كوكب
سعده ،قد ورثت أرضهم ودايرهم وأمواهلم ومنازهلم اليت كانت عدهتم؛ فأقمت فيما خولت من امللك
وورثت من األموال واجلنود؛ فلم تقم يف ذلك حبق ما جيب عليك؛ بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت
7
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
على الرعية ،وأسأت السرية ،وعظمت منك البلية .وكان األوىل واالشبه بك أن تسلك سبيل أسالفك،
وتتبع آًثر امللوك قبلك ،وتقفو حماسن ما أبقوه لك ،وتقلع عما عاره الزم لك ،وشينه واقع بك؛ حتسن
النظر برعيتك ،وتسن هلم سنن اخلري الذي يبقى بعدك ضره ،ويعقبك اجلميل فخره؛ ويكون ذلك أبقى
على السالمة وأدوم على االستقامة .فإن اجلاهل املغرت من استعمل يف أموره البطر واألمنية ،واحلازم
اللبيب من ساس امللك ابملداراة والرفق؛ فانظر أيها امللك ما ألقيت إليك ،وال يثقلن ذلك عليك :فلم
ٍ
معروف تكافئين به؛ ولكين أتيتك انصح ا مشفق ا أتكلم هبذا ابتغاء ٍ
عرض جتازيين به ،وال التماس
عليك.
فلما فرغ منه بيداب من مقالته ،وقضى مناصحته ،أوغر صدر امللك فأغلظ له يف اجلواب استصغارا
ألمره؛ وقال :لقد تكلمت ٍ
بكالم ما كنت أظن أحدا من أهل مملكيت يستقبلين مبثله ،وال يقدم على ما
أقدمت عليه .فكيف أنت مع صغر شأنك ،وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت إعجايب من
إقدامك علي ،وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك .وما أجد شيئا يف أتديب غريك أبلغ من
التنكيل بك .فذلك عربةٌ وموعظةٌ لكن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من امللوك إذا أوسعوا هلم يف
جمالسهم .مث أمر به أن يقتل ويصلب .فلما مضوا به فيما أمر ،فكر فيما أمر به فأحجم عنه ،مث أمر
حببسه وتقييده .فلما حبس أنفذ يف طلب تالميذه ومن كان جيتمع إليه فهربوا يف البالد واعتصموا
جبزائر البحار؛ فمكث بيداب يف حمبسه أايما ال يسأل امللك عنه ،وال يلتفت إليه؛ وال جيسر أح ٌد أن
يذكره عنده؛ حىت إذا كان ليلةٌ من الليايل سهد امللك سهدا شديدا ؛ فطال سهده ،ومد إىل الفلك
بصره؛ وتفكر يف تفلك الفلك وحركات الكواكب ،فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إىل استنباط ٍ
شيء
عرض له من أمور الفلك ،واملسألة عنه .فذكر عند ذلك بيداب ،وتفكر فيما كلمه به؛ فأرعوى لذلك.
وقال يف نفسه :لقد أسأت فيما صنعت هبذا الفيلسوف ،وضيعت واجب حقه؛ ومحلين على ذلك
سرعة الغضب .وقد قالت العلماء :أربعةٌ ال ينبغي أن تكون يف امللوك :الغضب فإنه أجد األشياء
مقت ا؛ والبخل فإن صاحبه ليس مبعذوٍر مع ذات يده؛ والكذب فإنه ليس ٍ
ألحد أن جياوره؛ والعنف يف
احملاورة فإن السفه ليس من شأهنا .وإين أيت إىل رجل نصح يل ،ومل يكن مبلغا؛ فعاملته بضد ما
يستحق ،وكافأته خبالف ما يستوجب .وما كان هذا جزاءه مين؛ بل كان الواجب أن أمسع كالمه،
وأنقاد ملا يشري به .مث أنفذ يف ساعته من أيتيه به .فلما مثل بني يديه قال له :اي بيداب ألست الذي
قصدت إىل تقصري مهيت ،وعجزت رأيي يف سرييت مبا تكلمت به آنفا? قال له بيداب :أيها امللك
8
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
صالح لك ولرعيتك ،ودوام ملكك لك ،قال لهٌ الناصح الشفيق ،والصادق الرفيق ،إمنا نبأتك مبا فيه
امللك :اي بيداب أعد علي كالمك كله ،وال تدع منه حرف ا إال جئت به .فجعل بيداب ينثر كالمه ،وامللك
مص ٍغ إليه .وجعل دبشليم كلما مسع منه شيئا ينكت على األرض ٍ
بشيء كان يف يده .مث رفع طرفه إىل
بيداب ،وأمره ابجللوس .وقال له :اي بيداب ،إين قد استعذبت كالمك وحسن موقعه من قليب .وأان انظر
يف الذي أشرت به ،وعامل مبا أمرت .مث أمر بقيوده فحلت .وألقى عليه من لباسه ،وتلقاه ابلقبول.
فقال بيداب :اي أيها امللك ،إن يف دون ما كلمتك به هنيةا ملثلك .قال :صدقت أيها احلكيم الفاضل.
وقد وليتك من جملسي هذا إىل مجيع أقاصي مملكيت .فقال له :أيها امللك أعفين من هذا األمر :فإين
غري مضطل ٍع بتقوميه إال بك .فأعفاه من ذلك .فلما انصرف ،علم أن الذي فعله ليس برأي ،فبث
فرده .وقال :إين فكرت يف إعفائك مما عرضته عليك فوجدته ال يقوم إال بك ،وال ينهض به غريك ،وال
يضطلع به سواك .فال ختالفين فيه .فأجابه بيداب إىل ذلك.
وكان عادة ملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيرا أن يعقدوا على رأسه اتجا ،ويركب يف أهل اململكة،
ويطاف به يف املدينة .فأمر امللك أن يفعل ببيداب ذلك .فوضع التاج على رأسه ،وركب املدينة ورجع
فجلس مبجلس العدل واإلنصاف :أيخذ للدين من الشريف ،ويساوي بني القوي والضعيف؛ ورد
املظامل ،ووضع سنن العدل ،وأكثر من العطاء والبذل .واتصل اخلرب بتالميذه فجاءوه من كل مكان،
فرحني مبا جدد هللا له من جديد رأي امللك يف بيداب؛ وشكروا هللا تعاىل على توفيق بيداب يف إزالة
دبشليم عما كان عليه من سوء السرية ،واختذوا ذلك اليوم عيدا يعيدون فيه فهو إىل اليوم عي ٌد عندهم
يف بالد اهلند.
فلما فرغ منه بيداب من مقالته ،وقضى مناصحته ،أوغر صدر امللك فأغلظ له يف اجلواب استصغارا
بكالم ما كنت أظن أحدا من أهل مملكيت يستقبلين مبثله ،وال يقدم على ماألمره؛ وقال :لقد تكلمت ٍ
أقدمت عليه .فكيف أنت مع صغر شأنك ،وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت إعجايب من
إقدامك علي ،وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك .وما أجد شيئ ا يف أتديب غريك أبلغ من
التنكيل بك .فذلك عربةٌ وموعظةٌ لكن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من امللوك إذا أوسعوا هلم يف
جمالسهم .مث أمر به أن يقتل ويصلب .فلما مضوا به فيما أمر ،فكر فيما أمر به فأحجم عنه ،مث أمر
حببسه وتقييده .فلما حبس أنفذ يف طلب تالميذه ومن كان جيتمع إليه فهربوا يف البالد واعتصموا
جبزائر البحار؛ فمكث بيداب يف حمبسه أايما ال يسأل امللك عنه ،وال يلتفت إليه؛ وال جيسر أح ٌد أن
9
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
يذكره عنده؛ حىت إذا كان ليلةٌ من الليايل سهد امللك سهدا شديدا ؛ فطال سهده ،ومد إىل الفلك
بصره؛ وتفكر يف تفلك الفلك وحركات الكواكب ،فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إىل استنباط ٍ
شيء
عرض له من أمور الفلك ،واملسألة عنه .فذكر عند ذلك بيداب ،وتفكر فيما كلمه به؛ فأرعوى لذلك.
وقال يف نفسه :لقد أسأت فيما صنعت هبذا الفيلسوف ،وضيعت واجب حقه؛ ومحلين على ذلك
سرعة الغضب .وقد قالت العلماء :أربعةٌ ال ينبغي أن تكون يف امللوك :الغضب فإنه أجد األشياء
مقت ا؛ والبخل فإن صاحبه ليس مبعذوٍر مع ذات يده؛ والكذب فإنه ليس ٍ
ألحد أن جياوره؛ والعنف يف
احملاورة فإن السفه ليس من شأهنا .وإين أيت إىل رجل نصح يل ،ومل يكن مبلغا؛ فعاملته بضد ما
يستحق ،وكافأته خبالف ما يستوجب .وما كان هذا جزاءه مين؛ بل كان الواجب أن أمسع كالمه،
وأنقاد ملا يشري به .مث أنفذ يف ساعته من أيتيه به .فلما مثل بني يديه قال له :اي بيداب ألست الذي
قصدت إىل تقصري مهيت ،وعجزت رأيي يف سرييت مبا تكلمت به آنف ا? قال له بيداب :أيها امللك
صالح لك ولرعيتك ،ودوام ملكك لك ،قال له ٌ الناصح الشفيق ،والصادق الرفيق ،إمنا نبأتك مبا فيه
امللك :اي بيداب أعد علي كالمك كله ،وال تدع منه حرفا إال جئت به .فجعل بيداب ينثر كالمه ،وامللك
مص ٍغ إليه .وجعل دبشليم كلما مسع منه شيئ ا ينكت على األرض ٍ
بشيء كان يف يده .مث رفع طرفه إىل
بيداب ،وأمره ابجللوس .وقال له :اي بيداب ،إين قد استعذبت كالمك وحسن موقعه من قليب .وأان انظر
يف الذي أشرت به ،وعامل مبا أمرت .مث أمر بقيوده فحلت .وألقى عليه من لباسه ،وتلقاه ابلقبول.
فقال بيداب :اي أيها امللك ،إن يف دون ما كلمتك به هني اة ملثلك .قال :صدقت أيها احلكيم الفاضل.
وقد وليتك من جملسي هذا إىل مجيع أقاصي مملكيت .فقال له :أيها امللك أعفين من هذا األمر :فإين
غري مضطل ٍع بتقوميه إال بك .فأعفاه من ذلك .فلما انصرف ،علم أن الذي فعله ليس برأي ،فبث
فرده .وقال :إين فكرت يف إعفائك مما عرضته عليك فوجدته ال يقوم إال بك ،وال ينهض به غريك ،وال
يضطلع به سواك .فال ختالفين فيه .فأجابه بيداب إىل ذلك.
وكان عادة ملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيرا أن يعقدوا على رأسه اتج ا ،ويركب يف أهل اململكة،
ويطاف به يف املدينة .فأمر امللك أن يفعل ببيداب ذلك .فوضع التاج على رأسه ،وركب املدينة ورجع
فجلس مبجلس العدل واإلنصاف :أيخذ للدين من الشريف ،ويساوي بني القوي والضعيف؛ ورد
املظامل ،ووضع سنن العدل ،وأكثر من العطاء والبذل .واتصل اخلرب بتالميذه فجاءوه من كل مكان،
فرحني مبا جدد هللا له من جديد رأي امللك يف بيداب؛ وشكروا هللا تعاىل على توفيق بيداب يف إزالة
10
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
دبشليم عما كان عليه من سوء السرية ،واختذوا ذلك اليوم عيدا يعيدون فيه فهو إىل اليوم عي ٌد عندهم
يف بالد اهلند.
مث أن بيداب ملا أخلى فكره من اشتغاله بدبشليم ،تفرغ لوضع كتب السياسة ونشط هلا ،فعمل كتبا
كثرياة ،فيها دقائق احليل .ومضى امللك على ما رسم له بيداب من حسن السرية والعدل يف الرعية.
فرغبت إليه امللوك الذين كانوا يف نواحيه ،وانقادت له األمور على استوائها .وفرحت به رعيته وأهل
مملكته .مث أن بيداب مجع تالميذه فأحسن صلتهم ،ووعدهم وعدا مجيالا .وقال هلم :لست أشك أنه
وقع يف نفوسكم وقت دخويل على امللك أن قلتم :إن بيداب قد ضاعت حكمته ،وبطلت فكرته :إذ
عزم على الدخول على هذا اجلبار الطاغي .فقد علمتم نتيجة رأيي وصحة فكري .وإين مل آته جهالا
به :ألين كنت أمسع من احلكماء قبلي تقول :إن امللوك هلا سورةٌ كسورة الشراب :فامللوك ال تفيق من
السورة إال مبواعظ العلماء وأدب احلكماء .والواجب على امللوك أن يتعظوا مبواعظ العلماء .والواجب
على العلماء تقومي امللوك أبلسنتها ،وأتديبها حبكمتها ،وإظهار احلجة البينة الالزمة هلم :لريتدعوا عما
هم عليه من االعوجاج واخلروج عن العدل .فوجدت ما قالت العلماء فرضا واجبا على احلكماء
مللوكهم ليوقظوهم من رقدهتم؛ كالطبيب الذي جيب عليه يف صناعته حفظ األجساد على صحتها أو
ردها إىل الصحة .فكرهت أن ميوت أو أموت وما يبقى على األرض غال من يقول :إنه كان بيداب
الفيلسوف يف زمان دبشليم الطاغي فلم يرده عما كان عليه .فإن قال قائل :إنه مل ميكنه كالمه خوفا
على نفسه ،قالوا :كان اهلرب منه ومن جواره أوىل به؛ واالنزعاج عن الوطن شدي ٌد؛ فرأيت أن أجود
حبيايت؛ فأكون قد أتيت فيما بيين وبني احلكماء بعدي عذرا .فحملتها على التغرير أو الظفر مبا أريده.
وكان من ذلك ما أنتم معاينوه :فإنه يقال يف بعض األمثال :إن مل يبلغ أحد مرتبة إال إبحدى ٍ
ثالث:
ٍ
بوضعية يف ماله أو و ٍ
كس يف دينه .ومن مل يركب األهوال مل ينل إما ٍ
مبشقة تناله يف نفسه ،وإما
الرغائب .وإن امللك دبشليم قد بسط لساين يف أن أضع كتاابا فيه ضروب احلكمة .فليضع كل واحد
منكم شيئ ا يف أي فن شاء؛ وليعرضه علي ألنظر مقدار عقله ،وأين بلغ من احلكمة فهمه .قالوا :أيها
احلكيم الفاضل ،واللبيب العاقل ،والذي وهب لك ما منحك من احلكمة والعقل واألدب والفضيلة،
ما خطر هذا بقلوبنا ساع اة قط .وأنت رئيسنا وفاضلنا ،وبك شرفنا ،وعلى يدك انتعاشنا .ولكن
سنجهد أنفسنا فيما أمرت .ومكث امللك على ذلك من حسن السرية زماانا يتوىل ذلك له بيداب ويقوم
به.
11
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
مث إن امللك دبشليم ملا استقر له امللك ،وسقط عنه النظر يف أمور األعداء مبا قد كفاه ذلك بيداب،
صرف مهته إىل النظر يف الكتب اليت وضعتها فالسفة اهلند آلابئه وأجداده؛ فوقع يف نفسه أن يكون له
مشروح ينسب إليه وتذكر فيه أايمه كما ذكر آابؤه وأجداده من قبله .فلما عزم على ذلك،
ٌ كتاب
أيضا ٌ
علم أنه ال يقوم ذلك إال ببيداب :فدعاه وخال به؛ وقال له :اي بيداب ،إنك حكيم اهلند وفيلسوفها .وإين
فكرت ونظرت يف خزائن احلكمة اليت كانت للملوك قبلي؛ فلم أر فيهم أحدا إال وضع كتاابا يذكر فيه
ٍ
حكمة فيها؛ أايمه وسريته ،وينبئ عن أدبه وأهل مملكته؛ فمنه ما وضعته امللوك ألنفسها ،وذلك لفضل
ومنها ما وضعته حكماؤها .وأخاف أن يلحقين ما حلق أولئك مما ال حيلة يل فيه ،وال يوجد يف خزائين
كتاب أذكر به من بعدي ،وأنسب إليه كما ذكر من كان قبلي بكتبهم .وقد أحببت أن تضع يل كتاابا
ٌ
بليغ ا تستفرغ فيه عقلك يكون ظاهره سياسة العامة وأتديبها ،وابطنه أخالق امللوك وسياستها للرعية
كثري مما حنتاج إليه يف معاانة امللك .وأريد أن
على طاعة امللك وخدمته؛ فيسقط بذلك عين وعنهم ٌ
يبقى يل هذا الكتاب من بعدي ذكرا على غابر الدهور .فلما مسع بيداب كالمه خر له ساجدا ،ورفع
رأسه وقال :أيها امللك السعيد جده ،عال جنمك ،وغاب حنسك ،ودامت أايمك؛ إن الذي قد طبع
عليه امللك من جودة القرحية ووفور العقل حركه لعايل األمور؛ ومست به نفسه ومهته إىل أشرف املراتب
منزل اة ،وأبعدها غاي اة؛ وأدام هللا سعادة امللك وأعانه على ما عزم من ذلك ،وأعانين على بلوغ مراده.
صائر إىل غرضه ،جمتهداٌ فيه برأيي .قال له امللك :اي بيداب مل تزل
فليأمر امللك مبا شاء من ذلك :فإن ٌ
موصوفا حبسن الرأي وطاعة امللوك يف أمورهم .وقد اختربت منك ذلك ،واخرتت أن تضع هذا
الكتاب ،وتعمل فيه فكرك ،وجتهد فيه نفسك ،بغاية ما جتد إليه السبيل .وليكن مشتمالا على اجلد
واهلزل واللهو واحلكمة والفلسفة .فكفر له بيداب وسجد ،وقال :قد أجبت امللك أدام هللا أايمه إىل ما
أمرين به ،وجعلت بيين وبينه أجالا .قال :وكم هو األجل? قال :سنةٌ .قال :قد أجلتك؛ وأمر له جبائزٍة
ٍ
سنية تعينه على عمل الكتاب فبقى بيداب مفكرا يف األخذ فيه ،ويف أي صورٍة يبتدي هبا فيه ويف
وضعه.
مث إن بيداب مجع تالميذه وقال هلم :إن امللك قد ندبين ألمر فيه فخري وفخركم وفخر بالدكم ،وقد
مجعتكم هل ذا األمر .مث وصف هلم ما سأل امللك من أمر الكتاب ،والغرض الذي قصد فيه ،فلم يقع
أمر إمنا يتم ابستفراغ
هلم الفكر فيه فلما مل جيد عندهم ما يريده فكر بفضل حكمته ،وعلم أن ذلك ٌ
العقل وإعمال الفكر؛ وقال :أرى السفينة ال جتري يف البحر إال ابملالحني :ألهنم يعدلوهنا؛ وإمنا تسلك
12
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
اللجة مبدبرها الذي تفرد إبمرهتا ؛ ومىت شحنت ابلركاب الكثريين وكثر مالحوها مل يؤمن عليه من
الغرق .ومل يزل يفكر فيما يعمله يف ابب الكتاب حىت وضعه على االنفراد بنفسه ،مع ٍ
رجل من
تالميذه كان يثق به؛ فخال به منفردا معه ،بعد أن أعد الورق الذي كانت تكتب فيه اهلند شيئا ،ومن
القوت ما يقوم به وبتلميذه تلك املدة .وجلسا يف مقصورٍة ،وردا عليهما الباب مث بدأ يف نظم الكتاب
وتصنيفه؛ ومل يزل هو ميلي وتلميذه يكتب ،ويرجع هو فيه؛ حىت استقر الكتاب على غاية اإلتقان
واإلحكام .ورتب فيه أربعة عشر ابابا؛ كل ٍ
ابب منها قائم بنفسه .ويف كل ابب مسألةٌ واجلواب عنها؛
ظ من اهلداية .وضمن تلك األبواب كتاابا واحدا؛ ومساه كتاب كليلة ودمنة .مث ليكون ملن نظر فيه ح ٌ
جعل كالمه على ألسن البهائم والسباع والطري :ليكون ظاهره هلوا للخواص والعوام ،وابطنه رايض اة
لعقول اخلاصة .وضمنه أيض ا ما حيتاج إليه اإلنسان من سياسة نفسه وأهله وخاصته ،ومجيع ما حيتاج
إليه من أمري دينه ودنياه ،وأخرته وأواله؛ وحيضه على حسن طاعته للملوك وجينبه ما تكون جمانبته خريا
له .مث جعله ابطنا وظاهرا كرسم سائر الكتب اليت برسم احلكمة :فصار احليوان هلوا ،وما ينطق به
حكم اة وأدابا .فلما ابتدأ بيداب بذلك جعل أول الكتاب وصف الصديق ،وكيف يكون الصديقان،
وكيف تقطع املودة الثابتة بينهما حبيلة ذي النميمة .وأمر تلميذه أن يكتب على لسان بيداب مثل ما
كان امللك شرطه يف أن جعله هلوا وحكم اة .فذكر بيداب أن احلكمة مىت دخلها كالم النقلة أفسدها
وجهلت حكمتها .فلم يزل هو وتلميذه يعمالن الفكر فيما سأله امللك ،حىت فتق هلما العقل أن يكون
كالمهما على لسان هبيمتني .فوقع هلما موضع اللهو واهلزل بكالم البهائم .وكانت احلكمة ما نطقا
به .فأصغت احلكماء إىل حكمه وتركوا البهائم واللهو ،وعلموا أهنا السبب يف الذي وضع هلم .ومالت
إليه اجلهال عجبا من حماورة هبيمتني ،ومل يشكوا يف ذلك؛ واختذوه هلوا ،وتركوا معىن الكالم أن يفهموه،
ومل يعلموا الغرض الذي وضع له؛ ألن الفيلسوف إمنا كان غرضه يف الباب األول أن خيرب عن تواصل
اإلخوان كيف تتأكد املودة بينهم على التحفظ من أهل السعاية والتحرز ممن يوقع العداوة بني
املتحابني :ليجر بذلك نفع ا إىل نفسه .فلم يزل بيداب وتلميذه يف املقصورة ،حىت استتما عمل الكتاب
يف مدة ٍ
سنة .فلما مت احلول أنفذ إليه امللك أن قد جاء الوعد فماذا صنعت? فأنفذ إليه بيداب :إين على
ما وعدت امللك .فليأمرين حبمله ،بعد أن جيمع أهل اململكة لتكون قراءيت هذا الكتاب حبضرهتم ،فلما
رجع الرسول إىل امللك سر بذلك ،ووعده يوم ا جيمع فيه أهل اململكة .مث اندى يف أقاصي بالد اهلند
ليحضروا قراءة الكتاب .فلما كان ذلك اليوم ،أمر امللك أن ينصب لبيداب سر ٌير مثل سريره ،كراسي
13
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ألبناء امللوك والعلماء .وأنفذ فأحضره .فلما جاءه الرسول قام فلبس الثياب اليت كان يلبسا إذا دخل
على امللوك وهي املسوح السود ،ومحل الكتاب تلميذه .فلما دخل على امللك وثب اخلالئق أبمجعهم،
وقام امللك شاكرا .فلما قرب من امللك كفر له وسجد ،ومل يرفع رأسه .فقال له امللك :اي بيداب ارفع
رأسك ،فإن هذا يوم ٍ
هناءة وفرٍح وسروٍر ،وأمره أن جيلس .فحني جلس لقراءة الكتاب ،سأله عن معىن
كل ابب من أبوابه ،وإىل أي ٍ
شيء قصد فيه .فأخربه بغرضه فيه ،ويف كل ابب .فازداد امللك منه
تعجب ا وسرورا .فقال له :اي بيداب ما عدوت الذي يف نفسي؛ وهذا الذي كنت أطلب؛ فالطلب ما
شئت وحتكم .فدعا له بيداب ابلسعادة وطول اجلد .وقال :أيها امللك أما املال فال حاجة يل فيه ،وأما
ٍ
حاجة .قال امللك :اي بيداب ما الكسوة فال أختار على لباسي ذا شيئا؛ ولست أخلي امللك من
ٍ
حاجة لك قبلنا مقضيةٌ .قال :أيمر امللك أن يدون كتايب هذا كما دون آابؤه وأجداده حاجتك? فكل
كتبهم ،وأيمر ابحملافظة عليه :فإن أخاف أن خيرج من بالد اهلند ،فيتناوله أهل فارس إذا علموا به؛
فامللك أيمر أال خيرج من بيت احلكمة .مث دعا امللك بتالميذه وأحسن هلم اجلوائز .مث إنه ملا ملك
كسرى أنوشروان وكان مستأثرا ابلكتب والعلم واألدب والنظر يف أخبار األوائل ويقع له خرب الكتاب؛
فلم يقر قراره حىت بعث بروزيه الطبيب وتلطف حىت أخرجه من بالد اهلند فأقره يف خزائن فارس.اف
أن خيرج من بالد اهلند ،فيتناوله أهل فارس إذا علموا به؛ فامللك أيمر أال خيرج من بيت احلكمة .مث
دعا امللك بتالميذه وأحسن هلم اجلوائز .مث إنه ملا ملك كسرى أنوشروان وكان مستأثرا ابلكتب والعلم
واألدب والنظر يف أخبار األوائل ويقع له خرب الكتاب؛ فلم يقر قراره حىت بعث بروزيه الطبيب وتلطف
حىت أخرجه من بالد اهلند فأقره يف خزائن فارس.
14
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أنوشروان من العقل أفضله ،ومن العلم أجزله؛ ومن املعرفة ابألمور أصوهبا ،ومن األفعال أسدها ،ومن
البحث عن األصول والفرع أنفعه؛ وبلغه من فنون اختالف العلم ،وبلوغ منزلة الفلسفة ،ما مل يبلغه
ملك قط من امللوك قبله؛ حىت كان فيما طلب وحبث عنه من العلم أن بلغه عن كتاب ابهلند ،علم أنه
ٌ
أصل كل أدب ورأس كل عل ٍم ،والدليل على ٍ
منفعة ،ومفتاح عمل اآلخرة وعلمها ،ومرعبة النجاة من
هوهلا؛ فأمر امللك وزيره بزرمجهر أن يبحث له عن رجل ٍ
أديب عاقل من أهل مملكته ،بصري بلسان
الفارسية ،ماهر يف كالم اهلند؛ ويكون بليغ ا ابللسانني مجيع ا ،حريص ا على طلب العلم جمتهدا يف
استعمال األدب ،مبادرا يف طلب العلم ،والبحث عن كتب الفلسفة .فأاته ٍ
برجل أديب كامل العقل
معرف بصناعة الطب ،ماهر يف الفارسية واهلندي يقال له بروزيه؛ فلما دخل عليه كفر واألدبٍ ،
وسجد بني يديه .فقال له امللك :اي بروزيه :إن قد اخرتتك ملا بلغين من فضلك وعلمك وعقلك،
وحرصك على طلب العلم حيث كان .وقد بلغين عن كتاب ابهلند خمزون يف خزائنهم ،وقص عليه ما
بلغه عنه .وقال له :جتهز فإين مرحلك إىل أرض اهلند؛ فتلطف بعقلك وحسن أدبك وانقد رأيك،
الستخراج هذا الكتاب من خزائنهم ومن قبل علمائهم؛ فتستفيد بذلك وتفيدان .وما قدرت عليه من
كتب اهلند مما ليس يف خزائننا منه شيءٌ فأمحله معك؛ وخذ معك من املال ما حتتاج إليه ،وعجل
ذلك ،وال تقصر يف طلب العلوم وإن أكثرت فيه النفقة ،فإن مجيع ما يف خزائين مبذول لك يف طلب
العلوم .وأمر إبحضار املنجمني؛ فاختاروا له يوما يسري فيه ،وساعة صاحلةا خيرج فيها .ومحل معه من
اب فيه عشرة آالف دينار .فلما قدم بروزيه بالد اهلند طاف بباب امللكاملال عشرين جراابا؛ كل جر ٍ
وجمالس السوقة ،وسأل عن خواص امللك واألشراف والعلماء والفالسفة؛ فجعل يغشاهم يف منازهلم،
ويتلقاهم ابلتحية ،وخيربهم أبنه رجل غريب قدم بالدهم لطلب العلوم واألدب ،وأنه حمتاج إىل معاونتهم
يف ذلك .فلم يزل كذلك زماانا طويالا يتأدب عن علماء اهلند ميا هو عامل جبميعه؛ وكأنه ال يعلم منه
شيئ ا؛ وهو فيما بني ذلك يسرت بغيته وحاجته .واختذ يف تلك احلالة لطول مقامه أصدقاء كثريةٌ من
ٍ
وصناعة؛ وكان قد اختذ من بني أصدقائه األشراف والعلماء والفالسفة والسوقة ومن أهل كل طبقة
رجالا واحدا قد اختذه لسره وما حيب مشاورته فيه؛ للذي ظهر له من فضله وأدبه ،واستبان له من
صحة إخائه؛ وكان يشاوره يف األمور ،ويراتح إليه يف مجيع ما أمهه.
إال أنه كا ن يكتم منه األمر الذي قدم من أجله لكي يبلوه وخيربه ،وينظر هل هو أهل أن يطلعه على
سره .فقال له يوما ومها جالسان :اي أخي ما أريد أن أكتمك من أمري فوق الذي كتمتك .فاعلم أنين
15
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ألم ٍر قدمت ،وهو غري الذي يظهر مين؛ والعاقل يكتفي من الرجل ابلعالمات من نظره ،حىت يعلم سر
نفسه وما يضمره قلبه .قال له اهلندي :إين وإن مل أكن بدأتك وأخربتك مبا جئت له ،وإايه تريد؛ وأنك
تكتم أمرا تطلبه ،وتظهر غريه؛ ما خفي على ذلك منك .ولكين لرغبيت يف إخائك ،كرهت أن أواجهك
به .وإنه قد استبان ما ختفيه مين .فأما إذ قد أظهرت ذلك ،وأفصحت به وابلكالم فيه ،فإين خمربك
عن نفسك ،ومظهر لك سريرتك ،ومعلمك حبالك اليت قدمت هلا؛ فإنك قدمت بالدان لتسلبنا كنوزان
النفيسة ،فتذهب هبا إىل بالدك ،وتسرهبا ملكك .وكان قدومك ابملكر واخلديعة .ولكين ملا رأيت
صربك ،ومواظبتك على طلب حاجتك ،والتحفظ من أن يسقط منك الكالم ،مع طول مكثك
عندانٍ ،
بشيء يستدل به على سريرتك وأمورك ،ازددت رغب اة يف إخائك ،وثقة بعقلك ،فأحببت
مودتك .فإين مل أر يف الرجال رجالا هو أرصن منك عقالا ،وال أحسن أدابا ،وال أصرب على طلب العلم
وال أكتم لسره منك؛ وال سيما يف بالد الغربة ،ومملكة غري مملكتك ،عند ٍ
قوم ال تعرف سنتهم .وإن
عقل الرجل ليبني يف مثاين خصال :األوىل الرفق ،والثانية أن يعرف الرجل نفسه فيحفظها ،والثالثة طاعة
امللوك ،والتحري ملا يرضيهم .والرابعة معرفة الرجل موضع سره ،وكيف ينبغي أن يطلع عليه صديقه،
واخلامسة أن يكون على أبواب امللوك أديب ا ملق اللسان .والسادسة أن يكون لسره وسر غريه حافظ ا.
والسابعة أن يكون على لسانه قادرا ،فال يتكلم إال مبا أيمن تبعته .والثامنة إن كان ابحملفل ال يتكلم إال
مبا يسأل عنه .فمن اجتمعت فيه هذه اخلصال كان هو الداعي اخلري إىل نفسه .وهذه اخلصال كلها
قد اجتمعت فيك ،وابنت يل منك .فاهلل تعاىل حيفظك ،ويعينك على ما قدمت له؛ فمصادقتك
إايي ،وإن كانت لتسلبين كنزي وفخري وعلمي ،جتعلك أهالا ألن تسعف حباجتك ،وتشفع بطلبتك ،
وتعطي سؤلك.
فقال له بروزيه :إين كنت هيأت كالما كثريا ،وشعبت له شعوابا؛ وأنشأت له أصوالا وطرقا؛ فلما
انتهيت إىل ما بدأتين به من إطالعك على أمري والذي قدمت له ،وألقيته على من ذات نفسك،
ورغبتك فيما ألقيت من القول ،اكتفيت ابليسري من اخلطاب معك ،وعرفت الكبري من أموري ابلصغري
من الكالم ،واقتصرت به معك على اإلجياز .ورأيت من إسعافك إايي حباجيت ما دلين على كرمك
وحسن وفائك :فإن الكالم إذا ألقي إىل الفيلسوف ،والسر إذا استودع إىل اللبيب احلافظ ،فقد حصن
وبلغ به هناية أمل صاحبه ،كما حيصن الشيء النفيس يف القالع احلصينة .قال له اهلندي :ال شيء
أفضل من املودة .ومن خلصت مودته كان أهالا أن خيلطه الرجل بنفسه ،وال يدخر عنه شيئا ،وال
16
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
يكتمه سرا :فإن حفظ السر رأس األدب .فإذا كان السر عند األمني الكتوم فقد احرتز من التضييع؛
سر ين اثنني قد علماه وتفاوضاه .فإذا تكلم ابلسر اثنان فال بد من
مع أنه خليق أال يتكلم به؛ وال يتم ٌ
ًثلث من جهة أحدمها؛ فإذا صار إىل الثالثة فقد شاع وذاع ،حىت ال يستطيع صاحبه أن جيحده
متقطع ،ال يقدر أح ٌد على
ٌ غيم
ويكابر عنه؛ كالغيم إذا كان متقطعا يف السماء فقال قائل :هذا ٌ
سرور ال يدله شيءٌ .وهذا األمر الذي تطلبه مين أعلم
تكذيبه .وأان قد يداخلين من مودتك وخلطتك ٌ
أنه من األسرار اليت ال تكتم؛ فال بد أن يفشو ويظهر ،حىت يتحدث به الناس .فإذا فشا فقد سعيت
ظ ،يعاقب على الذنبظ غلي ُ
يف هالكي هالكا ال أقدر على الفداء منه ابملال وإن كثر :ألن ملكنا ف ٌ
الصغري أشد العقاب؛ فكيف مثل هذا الذنب العظيم? وإذا محلتين املودة اليت بني وبينك فأسعفتك
حباجتك مل يرد عقابه عين شيءٌ .قال بروزيه :إن العلماء قد مدحت الصديق إذا كتم سر صديقه
اثق بكرم
وأعانه على الفوز .وهذا األمر الذي قدمت له ،ملثلك ذخرته ،وبك أرجو بلوغه؛ وأان و ٌ
طباعك ووفور عقلك ،وأعلم أنك ال ختشى مين وال ختاف أن أبديه؛ بل ختشى أهل بيتك الطائفني
مقيم،
ظاعن وأنت ٌبك وابمللك أن يسعوا بك إليه .وأان أرجو أال يشيع شيءٌ من هذا األمر :ألين أان ٌ
وما أقمت قال ًثلث بيننا .فتعاهدا على هذا مجيع ا .وكان اهلندي خازن امللك ،وبيده مفاتيح خزائنه.
فأجابه إىل ذلك الكتاب وغلى غريه من الكتب .فأكب على تفسريه ونقله من اللسان اهلندي إىل
ع من ملك اهلند؛ وجل وفز ٌ
اللسان الفارسي؛ وأتعب نفسه ،وانسب بدنه ليالا وهنارا .وهو مع ذلك ٌ
خائف على نفسه من أن يذكر امللك الكتاب يف ٍ
وقت ال يصادفه يف خزائنه. ٌ
فلما فرغ من انتساخ الكتاب وغريه مما أراد من سائر الكتب .كتب إىل أنوشروان يعلمه بذلك .فلما
وصل إليه الكتاب ،سر بذلك سرورا شديدا ،مث ختوف معاجلة املقادير أن تنغص عليه الفرحة؛ فكتب
إىل بروزيه أيمره بتعجيل القدوم .فسار بروزيه متوجها حنو كسرى .فلما رأى امللك ا قد مسه من
الشحوب والتعب والنصب ،قال له :أيها العبد الناصح الذي كان أيكل مثرة ما قد غرس ،أبشر وقر
عين ا :فإين مشرفك وابل ٌغ بك أفضل ٍ
درجة .وأمره أن يريح بدنه سبعة أايم .فلما كان اليوم الثامن ،أمر
امللك أن جيتمع إليه األمراء والعلماء .فلما اجتمعوا ،آمر بروزيه ابحلضور .فحضر ومعه الكتب؛
ففتحها وقرأها على من حضر من أهل اململكة .فلما مسعوا ما فيها من العلم فرحوا فرحا شديدا؛
وشكروا هلل على ما رزقهم ،ومدحوا بروزيه وأثنوا عليه؛ وأمر امللك أن تفتح لربوزيه خزائن اللؤلؤ
مال أو ٍ
كسوة؛ وقال :اي والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؛ وأمره أن أيخذ من اخلزائن ما شاء من ٍ
17
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
بروزيه إين قد أمرت أن جتلس على مثل سريري هذا ،وتلبس اتجا ،وترتأس على مجيع األشراف.
فسجد بروزيه للملك ودعا له وطلب من هللا وقال :أكرم هللا تعاىل امللك كرامة الدنيا واآلخرة ،وأحسن
عين ثوابه وجزاءه؛ فإين حبمد هللا مستغ ٍن عن املال مبا رزقين هللا على بد امللك السعيد اجلد ،العظم
امللك؛ وال حاجة يل ابملال؛ لكن ملا كلفين امللك ذلك وعلمت أنه يسره ،أان أمضي إىل اخلزائن فآخذ
منها طلبا ملرضاته وامتثاالا ألمره .مث قصد خزانة الثياب فأخذ منها ختتا من طرائف خراسان من مالبس
امللوك .فلما قبض بروزيه ما اختاره ورضيه من الثياب فال :أكرم هللا تعاىل امللك ومد يف عمره أبدا.
البد أن اإلنسان إذا أكرم وجب عليه الشكر؛ وإن كان قد استوجبه تعبا ومشق اة فقد كان فيهما رضا
ٍ
ومشقة ،ملا أعلم أن لكم فيه الشرف أيهل هذا البيت! فإن مل امللك .وأما أان فما لقيته من ٍ
عناء ٍ
وتعب
أزل إىل هذا اليوم اتبع ا رضاكم ،أرى العسري فيه يسريا .والشاق هين ا ،والنصب واألذى سرورا ولذةا :ملا
أعلم أن لكم فيه رض ا وقربة عندكم .ولكين أسألك أيها امللك حاجة تسعفين هبا ،وتعطيين فيها سؤيل:
فإن حاجيت يسريةٌ ،ويف قضائها فائدةٌ كثريةٌ .قال أنوشروان :قل فكل ٍ
حاجة لك من قبلنا مقضيةٌ ،ومل
نرد طلبتك؛ فكيف ما سوى ذلك? فقل وحتتشم؛ فإن األمور كلها مبذولة لك .قال بروزيه :أيها امللك
ال تنظر إىل عنائي يف رضاك وانكماشي يف طاعتك؛ فإمنا أان عبدك يلزمين بذل مهجيت يف رضاك؛ ولو
مل جتزين مل يكن ذلك عندي عظيما وال واجبا على امللك؛ ولكن لكرمه وشرف منصبه عمد إىل
جمازايت؛ وخصين وأهي بييت بعلو املرتبة ورفع الدرجة؛ حىت لو قدر أن جيمع لنا بني شرف الدنيا واآلخرة
لفعل .فجزاه هللا عنا أفضل اجلزاء.
قال أنوشروان :اذكر حاجتك ،فعلى ما يسرك .فقال بروزيه :حاجيت أن أيمر امللك ،أعاله هللا تعاىل،
وزيره بزرمجهر بن البختكان؛ ويقسم عليه أن يعمل فكره ،وجيمع رأيه ،وجيهد طاقته ،ويفرغ قلبه يف نظم
أتليف ٍ
كالم متق ٍن حمك ٍم؛ وجيعله ابابا يذكر فيه أمري ويصف حايل؛ وال يدع من املبالغة يف ذلك أقصى
ما يقدر عليه .وأيمره إذا استتمه أن جيعله أول األبواب اليت تقرأ قبل ابب األسد والثور :فإن امللك إذا
فعل ذلك فقد بلغ يب وأبهلي غايةا الشرف وأعلى املراتب؛ وأبقى لنا ما ال يزال ذكره ابقي ا على األبد
حيثما قرئ هذا الكتاب.
فلما مسع كسرى أنوشروان والعظماء مقالته وما مست إليه نفسه من حمبة إبقاء الذكر استحسنوا طلبته
واختياره ،وقال كسرى :حب ا وكرام اة لك اي بروزيه ،إنك ألهل أن تسعف حباجتك؛ فما أقل ما قنعت
به وأيسره عندان! وإن كان خطره عندك عظيما .مث أقبل أنوشروان على وزيره بزرمجهر فقال له :قد
18
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
عرفت مناصحة بروزيه لنا ،وجتشمه املخاوف واملهالك فيما يقربه منا ،وإتعابه بدنه فيما يسران ،وما أتى
به إلينا من املعروف ،وما أفادان هللا على يده من احلكمة واألدب الباقي لنا فخره ،وما عرضنا عليه من
شيء من ذلك؛ وكان بغيته وطلبته منا أمراخزائننا لنجزيه بذلك على ما كان منه ،فلم متل نفسه إىل ٍ
يسريا رآه هو الثواب منا له والكرامة اجلليلة عنده؛ فإين أحب أن تتكلم يف ذلك وتسعفه حباجته
وطلبته .واعلم أن ذلك مما يسرين ،وال تدع شيئا من االجتهاد واملبالغة إال بلغته ،وإن انلتك فيه مشقة.
وهو أن تكتب ابابا مضارع ا لتلك األبواب اليت يف الكتاب؛ وتذكر فيه فضل بروزيه ،وكيف كان ابتداء
أمره وشأنه ،وتنسبه إليه وإىل حسبه وصناعته ،وتذكر فيه بعثته إىل بالد اهلند يف حاجتنا؛ وما أفدان
على يديه من هنالك؛ وشرفنا به وفضلنا على غريان؛ وكيف كان حال بروزيه وقدومه من بالد اهلند؛
فقل ما تقدر عليه من التقريظ واإلطناب يف مدحه ،وابلغ يف ذلك أفضل املبالغة واجتهد يف ذلك
اجتهادا يسر بروزيه وأهل اململكة.
وإن بروزيه أهل لذلك مين ومن مجيع أهل اململكة ومنك أيضا :حملبتك للعلوم .واجهد أن يكون غرض
هذا الكتاب الذي ينسب إىل بروزيه أفضل من أغراض تلك األبواب عند اخلاص والعام ،وأشد
مشاكل اة حلال هذا العلم :فإنك أسعد الناس كلهم بذلك :النفرادك هبذا الكتاب ،واجعله أول
األبواب .فإذا أنت عملته ووضعته يف موضعه فأعلمين ألمجع أهل اململكة وتقرأه عليهم ،فيظهر فضلك
واجتهادك يف حمبتنا؛ فيكون لك بذلك فخر .فلما مسع بزرمجهر مقالة امللك خر له ساجدا ،وقال :أدام
هللا لك أيها امللك البقاء ،وبلغك أفضل منازل الصاحلني يف اآلخرة واألوىل؛ لقد شرفتين بذلك شرفا
ابقي ا إىل األبد .مث خرج بزرمجهر من عند امللك ،فوصف بروزيه من أول يوم دفعه أبواه إىل املعلم،
ومضيه إىل بالد اهلند يف طلب العقاقري واألدوية؛ وكيف تعلم خطوطهم ولغتهم؛ إىل أن بعثه أنوشروان
إىل اهلند يف طلب الكتاب .ومل يدع من فضائل بروزيه وحكمته وخالئقه ومذهبه أمرا إال نسقه ،وأتى
به أبجود ما يكون من الشرح .مث أعلم امللك بفراغه منه .فجمع أنوشروان أشراف قومه وأهل مملكته،
وأدخلهم إليه؛ وأمر بزرمجهر بقراءة الكتاب ،وبروزيه قائم إىل جانب بزرمجهر ،وابتدأ بوصف بروزيه حىت
انتهى إىل آخره .ففرح امللك مبا أتى به بزرمجهر من احلكمة والعلم .مث أثىن امللك ومجيع من حضره على
بزرمجهر ،وشكروه ومدحوه؛ وأمر امللك مبال جزيل و ٍ
كسوة وحل ٍي وأو ٍان؛ فلم يقبل من ذلك شيئا غري
ٍ
كسوة كانت من ثياب امللوك .مث شكر له ذلك بروزيه وقبل رأسه ويده؛ وأقبل بروزيه على امللك وقال:
19
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أدام هللا لك امللك والسعادة فقد بلغت يب وأبهلي غاية الشرف مبا أمرت به بزرمجهر من صنعه
الكتاب يف أمري وإبقاء ذكري.
ابب عرض الكتاب ترمجة عبد هللا بن املقفع
هذا كتاب كليلة ودمنة ،وهو مما وضعه علماء اهلند من األمثال واألحاديث اليت أهلموا أن يدخلوا فيها
أبلغ ما وجدوا من القول يف النحو الذي أرادوا .ومل تزل العلماء من أهل كل ملة يلتمسون أن يعقل
عنهم ،وحيتالون يف ذلك بصنوف احليل؛ ويبتغون إخراج ما عندهم من العلل ،حىت كان من تلك العلل
خالل .أما هم فوجدوا متصرفا يف
وضع هذا الكتاب على أفواه البهائم والطري .فاجتمع هلم بذلك ٌ
القول وشعاابا أيخذون منها .وأما الكتاب فجمع حكم اة وهلوا :فاختاره احلكماء حلكمته .والسفهاء
ط يف حفظ ما صار إليه من أمر يربط يف صدره وال يدري ما هو ،بل للهوه ،واملتعلم من األحداث انش ٌ
عرف أنه قد ظفر من ذلك مبكتوي مر ٍ
قوم .وكان كالرجل الذي ملا استكمل الرجولية وجد أبويه قد كنزا
له كنوزا وعقدا له عقودا استغىن هبا عن الكدح فيما يعمله من أمر معيشته؛ فأغناه ما أشرف عليه من
احلكمة عن احلاجة إىل غريها من وجوه األدب.
غاية جرى مؤلفه فيه عندما وينبغي ملن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه اليت وضعت له؛ وإىل أي ٍ
مفصح؛ وغري ذلك من األوضاع اليت جعلها أمثاالا :فإن قارئه مىت مل
ٍ نسبه إىل البهائم وأضافه إىل غري
يفعل ذلك مل يدر ما أريد بتلك املعاين ،وال أي مثراة جيتين منها ،وال أي نتيجة حتصل له من مقدمات
ما تضمنه هذا الكتاب .وإنه وإن كان غيته استتمام قراءته إىل آخره دون معرفة ما يقرأ منه مل يعد عليه
شيءٌ يرجع إليه نفعه.
ومن استكثر من مجع العلوم وقراءة الكتب؛ من غري إعمال الروية فيما يقرؤه ،كان خليقا أال يصيبه إال
ما أصاب الرجل الذي زعمت العلماء أنه اجتاز ببعض املفاوز ،فظهر لو موضع آًثر كنز؛ فجعل حيفر
وورق؛ فقال يف نفسه :إن أان أخذت يف نقل هذا املال قليالا قليالاني ٍ ويطلب ،فوقع على ٍ
شيء من ع ٍ
طال علي ،وقطعين االشتغال بنقله وإحرازه عن اللذة مبا أصبت منه؛ ولكن سأستأجر أقواما حيملونه
إىل منزيل ،وأكون أان أخرهم ،وال يكون بقي ورائي شيءٌ يشغل فكري بنقله؛ وأكون قد استظهرت
لنفسي يف إراحة بدين عن الكد بيسري األجرة أعطيهم إايها .مث جاء ابحلمالني ،فجعل حيمل كل و ٍ
احد
منهم ما يطيق ،فينطلق به إىل منزله :فلم جيد فيه من املال شيئا ،ال قليالا وال كثريا .وإذا كل و ٍ
احد من
20
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
احلمالني قد فاز مبا محله لنفسه .ولك يكن له من ذلك إال العناء والتعب :ألنه مل يفكر يف آخر أمره.
وكذلك من قرأ هذا الكتاب ،ومل يفهم ما فيه ،ومل يعلم غرضه ظاهرا وابطن ا ،مل ينتفع مبا بدا له من
صحيح مل ينتفع به إال أن يكسره؛ وكان أيضا كالرجل
ٌ جوز
خطه ونقشه؛ كما لو أن رجالا قدم له ٌ
علم ابلفصاحة ،فأعلمه
الذي طلب علم الفصيح من كالم الناس؛ فأتى صديقا له من العلماء ،له ٌ
حاجته إىل علم الفصيح؛ فرسم له صديقه يف صحيفة صفراء فصيح الكالم وتصاريفه ووجوهه؛
يوم يف ٍ
حمفل فانصرف املتعلم إىل منزله؛ فجعل يكثر قراءهتا وال يقف على معانيها .مث إنه جلس ذات ٍ
من أهل العلم واألدب ،فأخذ يف حماورهتم؛ فجرت له كلمةٌ أخطأ فيها؛ فقال له بعض اجلماعة :إنك
قد أخطأت؛ والوجه غري ما تكلمت به ،فقال وكيف أخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء؛ وهي يف
منزيل? فكانت مقالته هلم أوجب للحجة عليه وزاده ذلك قرابٌ من اجلهل وبعدا من األدب.
مث إن العاقل إذا فهم هذا الكتاب وبلغ هناية علمه فيه ،ينبغي له أن يعمل بنا علم منه لينتفع به؛
وجيعله مثاالا ال حييد عنه .فإذا مل يفعل ذلك ،كان مثله كالرجل الذي زعموا أن سارقا تسور عليه وهو
انئم يف منزله ،فعلم به فقال :وهللا ألسكنت حىت أنظر ماذا يصنع ،وال أذعره؛ وال أعلمه أين قد علمت
به .فإذا بلغ مراده قمت إليه ،فنغصت ذلك عليه .مث إنه أمسك عنه .وجعل السارق يرتدد ،وطال
تردده يف مجعه ما جيده؛ فغلب الرجل النعاس فنام ،وفرغ اللص مما أراد ،وأمكنه الذهاب .واستيقظ
الرجل ،فوجد اللص قد أخذ املتاع وفاز به .فأقبل على نفسه يلومها ،وعرف أن مل ينتفع بعلمه ابللص:
إذ مل يستعمل يف أمره ما جيب .فالعلم ال يتم إال ابلعمل ،وهو كالشجرة والعمل به كالثمرة .وإمنا
صاحب العلم يقوم ابلعمل لينتفع به؛ وإن مل يستعمل ما يعلم ال يسمى عامل ا .ولو أن رجالا كان عامل ا
ٍ ٍ
بطريق خموف ،مث سلكه على عل ٍم به ،مسي جاهالا؛ ولعله إن حاسب نفسه وجدها قد ركبت أهواءا
هجمت هبا فيما هو أعرف بضررها فيه وأذاها من ذلك السالك يف الطريق املخوف الذي قد جهله.
ومن ركب هواه ورفض ما ينبغي أن يعمل مبا جربه هو أو أعلمه به غريه ،كان كاملريض العامل برديء
الطعام والشراب وجيده وخفيفه وثقيله ،مث حيمله الشره على أكل رديئه وترك ما هو أقرب إىل النجاة
والتخلص من علته .وأقل الناس عذرا يف اجتناب حممود األفعال وارتكاب مذمومها من أبصر ذلك
وميزه وعرف فضل بعضه على بعض كما أنه لو أن رجلني أحدمها بصري واآلخر أعمى ساقهما األجل
إىل حفرة فوقعا فيها ،كاان إذا صارا يف قاعها مبنز ٍلة واحدةٍ؛ غري أن البصري أقل عذرا عند الناس من
الضرير :إذ كانت له عينان يبصر هبما ،وذاك مبا صار إليه جاهل غري عارف.
21
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
وعلى العامل أن يبدأ بنفسه ويؤدهبا بعلمه ،وال تكون غايته اقتناؤه العلم ملعاونة غريه ،ويكون كالعني اليت
يشرب منها الناس ماءها وليس هلا يف ذلك شيءٌ من املنفعة ،وكدودة القز اليت حتكم صنعته وال تنتفع
به .فينبغي ملن يطلب العلم أن يبدأ بعظة نفسه ،مث عليه بعد ذلك أن يقبسه ؛ فإن خالالا ينبغي
لصاحب الدنيا أن يقتنيها ويقبسها :منها العلم واملال .ومنها اختاذ املعروف .وليس للعامل أن يعيب أمرا
بشيء فيه مثله ،ويكون كاألعمى الذي يعري األعمى بعماه .وينبغي مل طلب أمرا أن يكون له فيه غايةٌٍ
وهنايةُ ،ويعمل هبا ،ويقف عندها؛ وال يتمادى يف الطلب؛ فإنه يقال :من سار إىل غري غاية يوشك أن
تنقطع به مطيته؛ وأنه كان حقيقا أال يعين نفسه يف طلب ما ال حد له ،وما مل ينله أحد قبله ،وال
يتأسف عليه؛ وال يكون لدنياه مؤثرا على أخرته :فإن من مل يعلق قلبه ابلغاايت قلت حسرته عند
مفارقتها .وقد يقال يف أمرين إهنما جيمالن بكل ٍ
أحد :أحدمها النسك واآلخر املال احلالل وال يليق
ابلعاقل أن يؤنب نفسه على ما فاته وليس يف مقدوره؛ فرمبا أاتح هللا ما يهنأ به ومل يكن يف حسبانه.
وعري ،فأجلأه ذلك إىل أن سأل أقاربه أصدقاءه ،فلم يكنوجوع ٌومن أمثال هذا أن رجالا كان به فاقةٌ ٌ
ليلة يف منزله إذ أبصر ٍ
بسارق فيه؛ فقال :وهللا ما عند أحد منهم فضل يعود به عليه .فبينما هو ذات ٍ
يف منزيل شيءٌ أخاف عليه :فليجهد السارق جهده .فبينما السارق جيول إذ وقعت يده على خابية
فيها حنطةٌ ،فقال السارق :وهللا ما أحب أن يكون عنائي الليلة ابطالا .ولعلي ال أصل إىل موضع
آخر ،ولكن سأمحل هذه احلنطة .مث بسط قميصه ليصب عليه احلنطة .فقال الرجل :أيذهب هذا
ابحلنطة وليس ورائي سواها? فيجتمع علي مع العري ذهاب ما كنت أقتات به .وما جتتمع وهللا هااتن
اخللتان على ٍ
أحد إال أهلكاه .مث صاح ابلسارق ،وأخذ هراوةا كانت عند رأسه؛ فلم يكن للسارق حليةٌ
إال اهلرب منه ،وترك قميصه وجنا بنفسه؛ وغدا الرجل به كاسيا .وليس ينبغي أن يركن إىل مثل هذا
ويدع ما جيب عليه من احلذر والعمل يف مثل هذا لصالح معاشه؛ وال ينظر إىل من تواتيه املقادير
قليل؛ واجلمهور منهم من أتعب نفسه يف الكد وتساعده على غري التماس منه :ألن أولئك يف الناس ٌ
والسعي فيما يصلح أمره وينال به ما أراد .وينبغي أن يكون حرصه على ما طاب كسبه وحسن نفعه؛
وال يتعرض ملا جيلب عليه العناء والشقاء؛ فيكون كاحلمامة اليت تفرخ الفراخ وتذبح ،مث ال مينعها ذلك
أن تعود فتفرخ موضعها ،وتقيم مبكاهنا فتؤخذ الثانية من فراخها فتذبح .وقد يقال :إن هللا تعاىل قد
شيء حدا يوقف عليه .ومن جتاوز يف أشياء حدها أوشك أن يلحقه التقصري عن بلوغها. جعل لكل ٍ
ويقال :من كان سعيه ألخرته ودنياه فحياته له وعليه .ويقال يف ثالثة أشياء جيب على صاحب الدنيا
22
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
إصالحها وبذل جهده فيها :منها أمر معيشته؛ ومنها ما بينه وبني الناس؛ ومنها ما يكسبه الذكر
عمل .من التواين؛ ومنها تضييع الفرص؛ ومنها ٍ
اجلميل بعد .وقد قيل يف أمور من كن فيها مل يستقم له ٌ
التصديق لكل خم ٍرب .فرب خم ٍرب ٍ
بشيء عقله وال يعرف استقامته فيصدقه.
وينبغي للعاقل أن يكون هلواه متهما؛ وال يقبل من كل ٍ
أحد حديثا؛ وال يتمادى يف اخلطأ إذا ظهر له
خطؤه وال يقدم على أم ٍر حىت يتبني له الصواب ،وتتضح له احلقيقة؛ وال يكون كالرجل الذي حييد عن
الطريق ،فيستمر على الضالل ،فال يزداد يف السري إال جهدا ،وعن القصد إال بعدا؛ وكالرجل الذي
تقذى عينه فال يزال حيكها ،ورمبا كان ذلك احلك سببا لذهاهبا .وجيب على العاقل أن يصدق
ابلقضاء والقدر ،وأيخذ ابحلزم ،وحيب الناس ما حيب لنفسه ،وال يلتمس صالح نفسه بفساد غريه،
فإنه من فعل ذلك كان خليق ا أن يصيبه ما أصاب التاجر من رفيقه.
يك ،فاستأجرا حانواتا ،وجعال متاعهما فيه .وكان أحدمها
اتجر ،وكان له شر ٌ
رجل ٌفإنه يقال إنه كان ٌ
قريب املنزل من احلانوت؛ فأضمر يف نفسه أن يسرق عدالا من أعدال رفيقه؛ ومكر احليلة يف ذلك،
وقال :إن أتيت ليالا مل آمن من أن أمحل عدالا من أعدايل أو رزمة من رزمي وال أعرفها؛ فيذهب عنائي
وتعيب ابطالا .فأخذ رداءه ،وألقاه على العدل الذي أضمر أخذه .مث انصرف إىل منزله .وجاء رفيقه بعد
ذلك ليصلح أعداله ،فوجد رداء شريكه على بعض أعداله ،فقال :وهللا هذا رداء صاحيب؛ وال أحسبه
إال قد نسيه .وما الرأي أن أدعه هاهنا؛ ولكن اجعله على رزمه؛ فلعله يسبقين إىل احلانوت فيجده
رجل قد واطأه على ما عزم عليه، ٍ
حيث حيب .مث أخذ الرداء فألقاه على عدل من أعدال رفيقه ومعه ٌ
وضمن له جعالا على محله؛ فصار إىل احلانوت؛ فالتمس اإلزار يف الظلمة فوجده على العدل؛ فاحتمل
ذلك العدل؛ وأخرجه هو والرجل ،وجعال يرتاوحان على محله؛ حىت أتى منزله ،ورمى نفسه تعبا .فلما
أصبح افتقده فإذا هو بعض أعداله؛ فندم أشد الندامة .مث انطلق حنو احلانوت ،فوجد شريكه قد سبقه
إليه ففتح احلانوت ووجد العدل مفقودا :فاغتم لذلك غم ا شديدا؛ وقال :واسوءاته من رفيق صا ٍحل قد
ائتمنين على ماله وخلفين فيه! ماذا يكون حايل عنده? ولست أشك يف هتمته إايي .ولكن قد وطنت
نفسي على غرامته .مث أتى صاحبه فوجده مغتما ،فسأله عن حاله؛ فقال إين قد افتقدت األعدال،
وفقدت عدالا من أعدالك ،وال أعلم بسببه؛ وإين ال أشك يف هتمتك إايي؛ وإين قد وطنت نفسي
على غرامت ه .فقال له :اي أخي ال تغتم :فإن اخليانة شر ما عمله اإلنسان ،واملكر واخلديعة ال يؤداين
إىل خ ٍري؛ وصاحبهما مغرور أبدا ،وما عاد وابل البغي إال على صاحبه :وكيف كان ذلك? فأخربه
23
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
خبربه ،وقص عليه قصته .فقال له رفيقه :ما مثلك إال مثل اللص والتاجر .فقال له :وكيف كان ذلك?
قال :زعموا أن اتجرا كان له يف منزله خابيتان إحدامها مملوءة حنطة ،واألخرى مملوءة ذهب ا .فرتقبه
بعض اللصوص زماانا ،حىت إذا كان بعض األايم تشاغل التاجر عن املنزل؛ فتغفله اللص ،ودخل
املنزل ،وكمن يف بعض نواحيه .فلما هي أبخذ اخلابية اليت فيها الداننري أخذ اليت فيها احلنطة ،وظنها
كد ٍ
وتعب حىت أتى هبا منزله فلما فتحها وعلم ما فيها ندم .قال له اليت فيها الذهب؛ ومل يزل يف ٍ
اخلائن :ما أبعدت املثل ،وال جتاوزت القياس؛ وقد اعرتفت بذنيب وخطئي عليك ،وعزيز علي أن يكون
هذا كهذا .غري أن النفس الرديئة أتمر ابلفحشاء .فقبل الرجل معذرته ،وأضرب عن توبيخه وعن الثقة
به؛ وندم هو عندما عاين من سوء فعله وتقدمي جهله.
وقد ينبغي للناظر يف كتابنا هذا أال تكون غايته التصفح لتزاويقه .بل يشرف على ما يتضمن من
كلمة ،ويعمل فيها رؤيته؛ ويكون مثل أصغر االخوة مثل و ٍاألمثال ،حىت ينتهي منه؛ ويقف عند كل ٍ
الثالثة الذين خلف هلم أبوهم املال الكثري ،قتنازعوه بينهم؛ فأما الكبريان فإهنما أسرعا يف إتالفه وإنفاقه
يف غري وجهه؛ وأما الصغري فإنه عندما نظر ما صار إليه أخواه من إسرافهما وختليهما من املال ،اقبل
وجه :لبقاء حاله ،وصالحعلى نفسه يشاورها وقال :اي نفسي إمنا املال يطلبه صاحبه ،وجيمعه من كل ٍ
معاشه ودنياه ،وشرف منزلته يف أعني الناس ،واستغنائه عما يف أيديهم ،وصرفه يف وجهه :من صلة
مال وال ينفقه يف حقوقه ،كان
الرحم ،واإلنفاق على الولد ،واإلفضال على اإلخوان .فمن كان له ٌ
كالذي يعد فقريا وإن كان موسرا .وإن هو أحسن إمساكه والقيام عليه ،مل يعدم األمرين مجيعا من دنيا
تبقى عليهٍ ،
ومحد يضاف إليه؛ ومىت قصد إنفاقه على غري الوجوه اليت علمت ،مل يلبث أن يتلفه ويبقى
ٍ
وندامة .ولكن الرأي أن أمسك هذا املال ،فإين أرجو أن ينفعين هللا به :ويغين أخوي على على حسرٍة
يدي :فإمن ا هو مال أيب ومال أبيهما .وإن أوىل اإلنفاق على صلة الرحم وإن بعدت ،فكيف أبخوي?
فأنفذ فأحضرمها وشاطرمها ماله ،وكذلك جيب على قارئ هذا الكتاب أن يدمي النظر فيه من غري
ضج ٍر ،ويلتمس جواهر معانية ،وال يظن أن نتيجة اإلخبار عن حيلة هبيمتني أو حماورة سب ٍع لثوٍر:
ف ينصرف بذلك عن الغرض املقصود .ويكون مثله مثل الصياد الذي كان يف بعض اخللجان يصيد فيه
السمك يف زورق فرأى ذات يوم يف أرض املاء صدف اة تتألأل حسنا ،فتومهها جوهرا له قيمة وكان قد
مسكة كانت قوت يومه ،فخالها وقذف نفسه يف املاء ليأخذ ألقى شبكته يف البحر ،فاشتملت على ٍ
الصدفة ،فلما أخرجها وجدها فارغة ال شيء فيها مم ظن .فندم على ترك ما يف يده للطمع ،وأتسف
24
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
على ما فاته ،فلما كان اليوم الثاين تنحى عن ذلك املكان ،وألقى شبكته ،فأصاب حواتا صغريا ،ورأى
أيض ا صدفة سني اة ،فلم يلتفت إليها ،وساء ظنه هبا ،فرتكها .فاجتاز هبا بعض الصيادين فأخذها ،فوجد
فيها درةا تساوي أمواالا .وكذلك اجلهال إذا أغفلوا أمر التفكري يف هذا الكتاب ،وتركوا الوقوف على
أسرار معاين ،وأخذوا بظاهره .ومن صرف مهته إىل النظر يف أبواب اهلزل ،كان ٍ
كرجل أصاب أرضا
طيب اةَ حرةا وحبا صحيحا ،فزرعها وسقاها ،حىت إذا قرب خريها وأينعت ،تشاغل عنها جبمع ما فيها
من الزهر وقطع الشوط؛ فأهلك بتشاغله ما كان أحسن فائدةا وأمجل عائد اة.
اض :أحدها ما قصد فيه إىل وضعه وينبغي للناظر يف هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إىل أربعة أغر ٍ
على ألسنة البهائم غري الناطقة ليسارع إىل قراءته أهل اهلزل من الشبان ،فتستمال به قلوهبم :ألنه
الغرض ابلنوادر من حيل احليوان.
والثاين إظهار خياالت احليوان بصنوف األصباغ واأللوان :ليكون أنس ا لقلوب امللوك ،ويكون حرصهم
عليه أشد للنزهة يف تلك الصور .والثالث أن يكون على هذه الصفة :فيتخذه امللوك والسوقة ،فيكثر
بذلك انتساخه ،وال يبطل فيخلق على مرور األايم؛ ولينتفع بذلك املصور والناسخ أبدا .والغرض
الرابع ،وهو األقصى ،وذلك خمصوص ابلفيلسوف خاصةا.
ابب بروزيه ترمجة بزرمجهر بن البختكان
قال بروزيه رأس أطباء فارس ،وهو الذي توىل انتساخ هذا الكتاب ،وترمجه من كتب اهلند -وقد مضى
ذكر ذلك من قبل : -أيب كان من املقاتلة ،وكانت أمي من عظماء بيوت الزمازمة .وكان منشئي يف
نعمة ٍ
كاملة ،وكنت أكرم ولد أبوي عليهما؛ وكاان يب أشد احتفاظ ا من دون إخويت ،حىت إذا بلغت ٍ
السبع سنني ،أسلماين إىل املؤدب؛ فلما حذقت الكتابة ،شكرت أبوي؛ ونظرت يف العلم ،فكان أول
ما ابتدأت به وحرصت عليه ،علم الطب :ألين كنت عرفت فضله .وكلما ازددت منع علما ازددت فيه
حرص ا ،وله اتباع ا .فلما مهت نفسي مبداواة املرضى ،وعزمت على ذلك آمرهتا مث خريهتا بني األمور
األربعة اليت يطلبها الناس ،وفيها يرغبون ،وهلا يسعون .فقلت :أي هذه اخلالل أبتغي يف علمي? وأيها
أحرى يب فأدرك منه حاجيت? املال ،أم الذكر ،أم اللذات أم اآلخرة? وكنت وجدت يف كتب الطب
أن أفضل األطباء من واظب على طبه ،ال يبتغي إال اآلخرة .فرأيت أن أطلب االشتغال ابلطب ابتغاء
اآلخرة :لئال أكون كالتاجر الذي ابع ايقوت اة مثين اة خبرزٍة ال تساوي شيئ ا؛ مع أين قد وجدت يف كتب
األولني أن الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر اآلخرة ال ينقصه ذلك حظه يف الدنيا .وإن مثله مثل الزارع
25
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
الذي يعمر أرضه ابتغاء الزرع ال ابتغاء العشب .مث هي ال حمالة انبت فيها ألوان العشب مع اينع
الزرع .فأقبلت على مداواة املرضى ابتغاء أجر اآلخرة ،فلم أدع مريض ا أرجو له الربء ،وآخر ال أرجو له
ذلك ،إال أين أطمع أن خيف عنه بعض املرض ،إال ابلغت يف مداواته ما أمكنين القيام عليه بنفسي؛
ومن مل أقدر على القيام عليه وصفت له ما يصلح ،وأعطيته من الدواء ما يعاجل به .ومل أرد ممن فعلت
معه ذلك جزاءا وال مكافأ اة؛ ومل أغبط أحدا من نظرائي الذين هم دوين يف العلم وفوقي يف اجلاه واملال
وغريمها مما ال يعود بصالح وال حسن سريةٍ قوالا وال عمالا .ملا اتقت نفسي إىل غشياهنم ومتنت منازهلم
أثبت هلا اخلصومة ؛ فقلت هلا :اي نفس ،أما تعرفني نفعك من ضرك? أال تنتهني عن متين ما ال يناله
قل انتفاعه به ،وكثر عناؤه فيه ،واشتدت املئونة عليه وعظمت املشقة لديه بعد فراقه? اي
أحد إال ّ
نفسي ،أما تذكرين ما بعد هذه الدار :فينسيك ما تشرهني إليه منها? أال تستحبني من مشاركة الفجار
يف حب هذه العاجلة الفانية اليت من كان يف يده شيء منها فليس له ،وليس ٍ
بباق عليه؛ فال أيلفها إال ٌ
املغرتون اجلاهلون? اي نفس انظري يف أمرك ،وانصريف عن هذا السفه ،وأقبلي بقوتك وسعيك على
موجود ٍ
آلفات ،وأنه مملوءٌ أخالطا فاسدةا قذراة، تقدمي اخلري ،وإايك والشر ،واذكري أن هذا اجلسد
ٌ
مسمار واح ٌد، تعقدها احلياة ،واحلياة إىل ن ٍ
فاد؛ كالصنم املفصلة أعضاؤه إذا ركبت ووضعت ،جيمعها
ٌ
بعض ،فإذا أخذ ذلك املسمار تساقطت األوصال .اي نفس ،ال تغرتي بصحبة ويضم يعضها إىل ٍ
أحبائك وأصحابك ،وال حترصي على ذلك كل احلرص :فإن صحبتهم -على ما فيها من السرور -
كثرية املئونة ،وعاقبة ذلك الف راق .ومثلها مثل املغرفة اليت تستعمل يف جدهتا لسخونة املرق ،فإذا
انكسرت صارت وقودا .اي نفس ،ال حيملنك أهلك وأقاربك على مجع ما هتلكني فيه ،إرادة صلتهم؛
فإذا أنت كالدخنة األرجة اليت حترتق ويذهب آخرون برحيها .اي نفس ،ال يبعد الكثري ابليسري؛ كالتاجر
بيت من الصندل ،فقال :إن بعته وزانا طال علي ،فباعه جزافا أبخبس الثمن .وقد الذي كان له ملء ٍ
خمالف .فلما
ومغتاب ،ولقوله ٌ
ٌ عدو كل على ٍ
كل ر ٌاد ،وله ٌ وجدت آراء الناس خمتلفة وأهواءهم متباينة؛ و ٌ
رأيت ذلك مل أجد إىل متابعة ٍ
أحد منهم سبيالا؛ وعرفت أين إن صدقت أحدا منهم ال علم يل حباله،
كنت يف ذلك كاملصدق املخدوع الذي زعموا يف شأنه أن سارقا عال ظهر بيت ٍ
رجل من األغنياء،
وكان معه مجاعةٌ من أصحابه ،فاستيقظ صاحب املنزل من حركة أقدامهم ،فعرف امرأته ذلك؛ فقال
هلا :رويدا إين ألحسب اللصوص علوا البيت ،فأيقظيين بصوت يسمعه اللصوص وقويل أال ختربين أيها
الرجل عن أموالك هذه الكثرية وكنوزك العظيمة? فإذا هنيتك عن هذا السؤال فأحلي علي ابلسؤال.
26
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ففعلت املرأة ذلك وسألته كما أمرها؛ وأنصتت اللصوص إىل مساع قوهلما .فقال هلا الرجل :أيتها املرأة،
قد ساقك القدر إىل ٍ
رزق واس ٍع كث ٍري :فكلي واسكيت ،وال تسأيل عن أم ٍر إن أخربتك به مل آمن من أن
يسمعه أح ٌد ،فيكون يف ذلك ما أكره وتكرهني .فقالت املرأة :أخربين أيها الرجل ،فلعمري ما بقربنا
أح ٌد يسمع كالمنا .فقال هلا :فإين أخربك أين مل أمجع هذه األموال إال من السرقة .قال :وكيف كان
ذلك? وما كنت تصنع? قال :ذلك لعل ٍم أصبته يف السرقة ،وكان األمر علي يسريا ،وأان آمن من أن
يتهمين أح ٌد أو يراتب يف.ين .فقالت املرأة :أخربين أيها الرجل ،فلعمري ما بقربنا أح ٌد يسمع كالمنا.
فقال هلا :فإين أخربك أين مل أمجع هذه األموال إال من السرقة .قال :وكيف كان ذلك? وما كنت
تصنع? قال :ذلك لعل ٍم أصبته يف السرقة ،وكان األمر علي يسريا ،وأان آمن من أن يتهمين أح ٌد أو
يراتب يف.
قالت :فاذكر يل ذلك ،قال :كنت أذهب يف الليلة املقمرة ،أان وأصحايب ،حىت أعلو داء بعض األغنياء
مثلنا؛ فأنتهي إىل الكوة اليت يدخل منها الضوء فأرقي هبذه الرقية وهي شومل شومل سبع مرات ،وأعتنق
الضوء؛ فال حيس بوقوعي أح ٌد ،فال أدع ماالا وال متاعا إال أخذته .مث أرقي بتلك الرقية سبع مر ٍ
ات.
وأعتنق الضوء فيجذبين؛ فأصعد إىل أصحايب ،فنمضي ساملني آمنني .فلما مسع اللصوص ذلك قالوا:
قد ظفران الليلة مبا نريد من املال؛ مث إهنم أطالوا املكث حىت ظنوا أن صاحب الداء وزوجته قد هجعا؛
فقام قائدهم إىل مدخل الضوء؛ وقال :شومل شومل سبع مر ٍ
ات؛ مث اعتنق الضوء لينزل إىل أرض املنزل،
فوقع على أم رأسه منكسا .فوثب إليه الرجل هبراوته ،وقال له :من أنت? قال :أان املصدق املخدوع
املغرت ميا ال يكون أبدا؛ وهذه مثرة رقيتك .فلما حترزت من تصديق ما ال يكون ،ومل آمن إن صدقته أن
مهلكة عدت إىل طلب األداين والتماس العدل منها؛ فلم أجد عند ٍ
أحد ممن كلمته جواابا ٍ يوقعين يف
فيما سألته عنه فيها ،ومل أر فيما كلموين به شيئا حيق يل يف عقلي أن أصدق به وال أن أتبعه .فقلم ملا
مل أجد ثق اة آخذ منه ،الرأي أن ألزم دين آابئي وأجدادي الذي وجدهتم عليه .فلما ذهبت التمس
العذر لنفسي يف لزوم دين اآلابء واألجداد ،مل أجد هلا على الثبوت على دين اآلابء طاقةا؛ بل وجدهتا
تريد أن تتفرغ للبحث عن األداين واملسألة عنها ،وللنظر فيها؛ فهجس يف قليب وخطر على ابيل قرب
األجل وسرعة انقطاع الدنيا واعتباط أهلها وحتزم الدهر حياهتم .ففكرت يف ذلك .فلما خفت من
عمل تشهد النفس أنه يوافق الرتدد والتحول ،رأيت أال أتعرض ملا أختوف منه املكروه؛ وأن أقتصر على ٍ
كل األداين .فكففت يدي عن القتل والضرب ،وطرحت نفسي عن املكروه والغضب والسرقة واخليانة
27
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
والكذب والبهتان والغيبة ،وأضمرت يف نفسي أال أبغي على ٍ
أحد ،وال أكذب ابلبعث وال القيامة وال
الثواب وال العقاب؛ وزايلت األشرار بقليب ،وحاولت اجللوس مع األخيار جبهدي ،ورأيت الصالح ليس
ين ،ووجدت مكسبه إذا وفق هللا وأعان يسريا؛ ووجدته ال ينقص على اإلنفاقكمثله صاحب وال قر ٌ
منه؛ بل يزداد جد اة وحسنا؛ ووجدته ال خوف عليه من السلطان أن يغصبه ،وال من املاء أن يغرقه ،وال
من النار أن حترقه ،وال من اللصوص أن تسرقه ،وال من السباع وجوارح الطري أن متزقه؛ووجدت الرجل
الساهي الالهي املؤثر اليسري يناله يف يومه ويعدمه يف غده على الكثري الباقي نعيمه ،يصيبه ما أصاب
نفيس ،فاستأجر لثقبه رجالا ،اليوم مبائة دينار؛ وانطلق به إىل
جوهر ٌ
التاجر الذي زعموا أنه كان له ٌ
موضوع .فقال التاجر للصانع :هل حتسن أن تلعب ابلصنج? ٌ صنج
املنزل ليعمل؛ وإذا يف انحية البني ٌ
قال نعم .وكان بلعبه ماهرا .فقال التاجر :دونك الصنج فأمسعنا ضربك به .فأخذ الرجل الصنج ،ومل
يزل يسمع التاجر الضرب الصحيح ،والصوت الرفيع ،والتاجر يشري بيده ورأسه طرابا ،حىت أمسى.
فلما حان وقت الغروب قال الرجل للتاجر :مر يل ابألجرة .فقال له التاجر :وهل عملت شيئا تستحق
به األجرة? فقال له :عملت ما أمرتين به ،وأان أجريك ،وما استعملتين عملت؛ ومل يزل به حىت استوىف
منه مائة دينار .وبقي جوهره غري مثقوب .فم أزدد يف الدنيا وشهواهتا نظرا ،إال ازددت فيها زهادةا
ومنها هرابا .ووجدت النسك هو الذي ميهد للمعاد كما ميهد الوالد لولده؛ ووجدته هو الباب املفتوح
إىل النعيم املقيم؛ووجدت الناسك قد تدبر فعلته ابلسكينة فشكر؛ وتواضع وقنع فاستغىن ،ورضي ومل
يهتم ،وخلع الدنيا فنجا من الشرور ،ورفض الشهوات فصار طاهرا ،واطرح احلسد فوجبت له احملبة،
وسخت نفسه بك ٍ
شيء؛ واستعمل العقل وأبصر العاقبة فأمن الندامة ،ومل خيف الناس ومل يدب إليهم
فسلم منهم .فلم أزدد يف أمر النسك نظرا ،إال ازددت فيه رغب اة ،حىت مهمت أن أكون من أهله .مث
ختوفت أال أصرب على عيش الناسك ،ومل آمن إن تركت الدنيا وأخذت يف النسك ،أن أضعف عن
ذلك؛ ورفضت إعماالا كنت أرجو عائدهتا؛ وقد كنت أعملها فأنتفع هبا يف الدنيا ،فيكون مثلي يف
ضلع ،فرأى ظلها يف املاء ،فهوى ليأخذها ،فأتلف ما كانذلك مثل الكلب الذي مر بنه ٍر ويف فيه ٌ
معه؛ ومل جيد يف املاء شيئا .فهبت النسك مهاب اة شديد اة ،وخفت من الضجر وقلة الصرب ،وأردت
الثبوت على حاليت اليت كنت عليها .مث بدا يل أن أسرب ما أخاف أال أصرب عليه من األذى والضيق
واخلشونة يف النسك؛ وما يصيب صاحب الدنيا من البالء؛ وكان عندي أنه ليس شيءٌ من شهوات
الدنيا ولذاهتا إال وهو متحول إىل األذى ومول ٌد للحزن .فالدنيا كاملاء امللح الذي يصيبه الكلب فيجد
28
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فيه ريح اللحم؛ فال يزال يطلب ذلك حىت يدمي فاه .وكاحلدأة اليت تظفر بقطعة من اللحم ،فيجتمع
عليها الطري ،فال تزال تدور وتدأب حىت تعيا وتتعب؛ فإذا تعبت ألقت ما معها .وكالكوز من العسل
ذعاف ،وكأحالم النائم اليت يفرح هبا
ٌ موت
الذي يف أسفله السم الذي يذاق منه حالوةٌ عاجلةٌ وآخره ٌ
اإلنسان يف نوم ه ،فإذا استيقظ ذهب الفرح .فلما فكرت يف هذه األمور ،رجعت إىل طلب النسك،
وهزين االشتياق إليه؛ مث خاصمت نفسي إذ هي يف شرورها سارحةٌ ،وقد ال تثبت على أم ٍر تعزم عليه:
كقاض مسع من خص ٍم و ٍ
احد فحكم له ،فلما خضر اخلصم الثاين عاد إىل األول وقضى عليه .مث ٍ
نظرت يف الذي أكابده من احتمال النسك وضيقه؛ فقلت :ما أصغر هذه املشقة يف جانب روح األبد
وراحته .مث نظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا ،فقلت :ما أمر هذا وأوجعه ،وهو يدفع إىل
عذاب األبد وأهواله! وكيف ال يستحلي الرجل مرارةا قليل اة تعقبها حالوةٌ طويلةٌ? وكيف ال متر عليه
يوم ٍ
حالوةٌ قليلةٌ تعقبها مرارةٌ دائمةٌ? وقلت :لو أن رجالا عرض عليه أن يعيش مائة سنة ،ال أييت عليه ٌ
واح ٌد إال بضع منه بضعةٌ ؛ مث أعيد عليه من الغد؛ غري أنه يشرط له ،أنه إذا استوىف السنني املائة ،جنا
من كل أمل وأذى ،وصار إىل األمن والسرور ،كان حقيقا أال يرى تلك السنني شيئا .أسرب ما أخاف أال
أصرب عليه من األذى والضيق واخلشونة يف النسك؛ وما يصيب صاحب الدنيا من البالء؛ وكان عندي
أنه ليس شيءٌ من شهوات الدنيا ولذاهتا إال وهو متحول إىل األذى ومول ٌد للحزن .فالدنيا كاملاء امللح
الذي يصيبه الكلب فيجد فيه ريح اللحم؛ فال يزال يطلب ذلك حىت يدمي فاه .وكاحلدأة اليت تظفر
بقطعة من اللحم ،فيجتمع عليها الطري ،فال تزال تدور وتدأب حىت تعيا وتتعب؛ فإذا تعبت ألقت ما
ذعاف ،
ٌ موت
معها .وكالكوز من العسل الذي يف أسفله السم الذي يذاق منه حالوةٌ عاجلةٌ وآخره ٌ
وكأحالم النائم اليت يف رح هبا اإلنسان يف نومه ،فإذا استيقظ ذهب الفرح .فلما فكرت يف هذه األمور،
رجعت إىل طلب النسك ،وهزين االشتياق إليه؛ مث خاصمت نفسي إذ هي يف شرورها سارحةٌ ،وقد ال
احد فحكم له ،فلما خضر اخلصم الثاين عاد إىل كقاض مسع من خص ٍم و ٍتثبت على أم ٍر تعزم عليهٍ :
األول وقضى عليه .مث نظرت يف الذي أكابده من احتمال النسك وضيقه؛ فقلت :ما أصغر هذه
املشقة يف جانب روح األبد وراحته .مث نظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا ،فقلت :ما أمر هذا
وأوجعه ،وهو يدفع إىل عذاب األبد وأهواله! وكيف ال يستحلي الرجل مرارةا قليلةا تعقبها حالوةٌ
طويلةٌ? وكيف ال متر عليه حالوةٌ قليلةٌ تعقبها مرارةٌ دائمةٌ? وقلت :لو أن رجالا عرض عليه أن يعيش
يوم واح ٌد إال بضع منه بضعةٌ ؛ مث أعيد عليه من الغد؛ غري أنه يشرط له ،أنه ٍ
مائة سنة ،ال أييت عليه ٌ
29
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
إذا استوىف السنني املائة ،جنا من كل أمل وأذى ،وصار إىل األمن والسرور ،كان حقيقا أال يرى تلك
السنني شيئ ا.
قليل يعقب خريا كثريا? فلنعلم
وكيف أيىب الصرب على أايم قالئل يعيشها يف النسك ،وأذى تلك األايم ٌ
وعذاب .أوليس اإلنسان إمنا يتقلب يف عذاب الدنيا من حني يكون جنينا إىل أن
ٌ أن الدنيا كلها بالءٌ
استطعام ،أو عطش
ٌ يستويف أايم حياته? فإذا كان طفالا ذاق من العذاب ألواانا :إن جاع فليس به
فليس به استسقاءٌ ،أو وجع فليس به استغاثةٌ؛ مع ما يلقى من الوضع واحلمل واللف والدهن واملسح؛
إن أنيم على ظهره مل يستطع تقلبا؛ مث يلقى أصناف العذاب مادام رضيعا ،فإذا أفلت من هذا الرضاع،
أخذ يف عذاب األدب ،فأذيق من ألواانا :من عنف املعلم ،وضجر الدرس ،وسآمة الكتابة؛ مث له من
الدواء واحلمية واألسقام واألوجاع أوىف ٍ
حظ .فإذا أدرك كانت مهته يف مجع املال وتربية الولد وخماطرة
الطلب والسعي والكد والتعب .وهو مع ذلك يتقلب مع أعدائه الباطنية الالزمة له :وهي الصفراء
والسوداء والريح والبلغم والدم والسم املميت واحلية الالذعة؛ مع اخلوف من السباع واهلوام؛ مع صرف
احلر والربد واملطر والرايح؛ مث أنواع عذاب اهلرم ملن يبلغه .فلو مل خيف من هذه األمور شيئا ،وكان قد
أمن ووثق ابلسالمة منها فلم يفكر فيها ،لوجب عليه أن يعترب ابلساعة اليت حيضره فيها املوت ،فيفارق
الدنيا؛ ويتذكر ما هو انزل به يف تلك الساعة :من فراق األحبة واألهل واألقارب وكل ٍ
منون به من
الدنيا ،واإلشراف على اهلول العظيم بعد املوت .فلو مل يفعل ذلك ،لكان حقيقا أن يعد عاجزا مفرطا
حمبا للدانءة مستحقا للوم؛ فمن ذا الذي يعلم وال حيتال لغد جهده يف احليلة ،ويرفض ما يشغله ويلهيه
كدر فإنه وإن كان امللك
من شهوات الدنيا وغرورها? و السيما يف هذا الزمان الشبيه ابلصايف وهو ٌ
حازما عظيم املقدرة ،رفيع اهلمة بليغ الفحص ،عدالا مرجوا صدوقا شكورا ،رحب الذراع مفتقدا مواظبا
مستمرا عاملا ابلناس واألمور ،حمبا للعلم واخلري واألخيار ،شديدا على الظلمة ،غري ٍ
جبان و خفيف
القياد ،رفيق ا ابلتوسع على الرعية فيما حيبون ،والدفع ملا يكرهون؛ فإان قد نرى الزمان مدبرا بكل
مكان ،فكأن أمور الصدق قد نزعت من الناس ،فأصبح ما كان عزيزا فقده مفقودا ،وموجودا ما كان ٍ
ضائرا وجوده .وكأن اخلري أصبح ذابالا والشر أصبح انضرا .وكأن الفهم أصبح قد زالت سبله .وكأن
احلق وىل كسريا وأقبل الباطل اتبعه .وكأن اتباع اهلوى وإضاعة احلكم أصبح ابحلكام موكالا؛ وأصبح
املظلوم ابحليف مقرا والظامل لنفسه مستطيالا .وكأن احلرص أصبح فاغرا فاه من كل ٍ
وجهة يتلقف ما
قرب منه وما بعد .وكأن الرضا أصبح جمهوالا .وكأن األشرار يقصدون السماء صعودا .وكأن األخيار
30
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
يريدون بطن األرض؛ وأصبحت الدانءة مكرمةٌ ممكنةٌ؛ وأصبح السلطان منتقالا عن أهل الفضل إىل
أهل النقص .وكأن الدنيا جذلة مسرورةٌ تقول :قد غيبت اخلريات وأظهرت السيئات .فلما فكرت يف
الدنيا وأمورها؛ وأن اإلنسان هو أشرف اخللق فيها وأفضله؛ مث هو ال يتقلب إال يف الشرور واهلموم،
عقل يعلم ذلك مث ال حيتال لنفسه يف النجاة؛ فعجبت من ذلك كل عرفت أنه ليس إنسا ٌن ذو ٍ
العجب .مث نظرت فإذا اإلنسان ال مينعه عن االحتيال لنفسه إال لذةٌ صغريةٌ حقريةٌ غري ٍ
كبرية من الشم
والذوق والنظر والسمع واللمس :فعله يصيب منها الطفيف أو يقتين منها اليسري؛ فإذا ذلك يشغله
ويذهب به عن االهتمام لنفسه وطلب النجاة هلا.
هائج إىل بئ ٍر ،فتدىل فيها ،وتعلق
فيل ٍرجل جنا من خوف ٍ فالتمست لإلنسان مثالا ،فإذا مثله مثل ٍ
حيات أربع قد أخرجن ٍ
بغصنني كاان على مسائها ،فوقعت رجاله على شيء يف طي البئر .فإذا ٌ
رءوسهن من أحجارهن ،مث نظر فإذا يف قاع البئر تنني فاتح فاه منتظر له ليقع فيأخذه؛ فرفع بصره إىل
الغصنني فإذا يف أصلهما جرذان أسود وأبيض ،ومها يقرضان الغصنني دائبني ال يفرتان ،فبينما هو يف
حنل؛ فذاق العسل ،فشغلته حالوته النظر ألمره واالهتمام لنفسه ،إذا أبصر قريبا منه كواراة فيها عسل ٍ
شيء من أمره ،وأن يلتمس اخلالص لنفسه؛ ومل يذكر أن رجليه على ٍ
حيات وأهلته لذته عن الفكرة يف ٍ
أرب ٍع ال ي دري مىت يقع عليهن؛ ومل يذكر أن اجلرذين دائبان يف قطع الغصنني؛ ومىت انقطعا وقع على
التنني .فلم يزل الهيا غافالا مشغوالا بتلك احلالوة حىت سقط يف فم التنني فهلك .فشبهت ابلبئر الدنيا
ٍ
وعاهات؛ وشبهت ابحليات األربع األخالط األربعة اليت يف البدن: ٍ
وخمافات اململوءة ٍ
آفات وشرورا،
فإهنا مىت هاجت أو أحدها كانت كحمة األفاعي والسم املميت؛ وشبهت ابجلرذين األسود واألبيض
الليل والنهار اللذين مها دائبان يف إفناء األجل؛ وشبهت ابلتنني املصري الذي ال بد منه؛ وشبهت
ابلعسل هذه احلالوة القليلة اليت ينال منها اإلنسان فيطعم ويسمع ويشم ويلمس ،ويتشاغل عن نفسه،
ٍ
فحينئذ صار أمري إىل الرضا حبايل وإصالح ما استطعت ويلهو عن شأنه ،ويصد عن سبيل قصده.
إصالحه من عملي :لعلي أصادف ابقي أايمي زماانا أصيب فيه دليالا على هداي ،وسلطاانا على
نفسي ،وقواما ألمري ،فأقمت على هذه احلال وانتسخت كتبا كثرياة؛ وانصرفت من بالد اهلند ،وقد
نسخت هذا الكتاب.
ابب األسد والثور وهو أول الكتاب
31
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف ،وهو رأس الربامهة :اضرب لنا مثالا ملتحابني يقطع بينهما الكذوب
احملتال ،حىت حيملهما على العداوة والبغضاء .قال بيداب :إذا ابتلي املتحاابن أبن يدخل بينهما
شيخ وكان
رجل ٌ
الكذوب احملتال ،مل يلبثا أن يتقاطعا ويتدابرا .ومن أمثال ذلك أنه كان أبرض دستاوند ٌ
له ثالثة بنني .فلما بلغوا أشدهم أسرفوا يف مال أبيهم؛ ومل يكونوا احرتفوا حرف اة يكسبون ألنفسهم هبا
خريا .فالمهم أبوهم؛ ووعظهم على سوء فعلهم؛ وكان من قوله هلم :اي بين إن صاحب الدنيا يطلب
ثالثة أمور لن يدركها إال أبربعة أشياء :أما الثالثة اليت يطلب ،فالسعة يف الرزق واملنزلة يف الناس والزاد
لآلخرة؛ وأما األربعة اليت حيتاج إليها يف درك هذه الثالثة ،فاكتساب املال من أحسن وجه يكون ،مث
حسن القيام على ما اكتسب منه ،مث استثماره ،مث إنفاقه فيما يصلح املعيشة ويرضي األهل واإلخوان،
فيعود عليه نفعه يف اآلخرة .فمن ضيع شيئ ا من هذه األحوال مل يدرك ما أراد من حاجته :ألنه إن مل
ٍ
اكتساب مث مل حيسن القيام عليه ،أوشك املال مال يعيش به؛ وإن هو كان ذا ٍ
مال و يكتسب ،مل يكن ٌ
أن يفىن ويبقى معدما؛ وإن هو وضعه ومل يستثمره ،مل تنعه قلة اإلنفاق من سرعة الذهاب :كالكحل
يع فناؤه .وإن أنفقه يف غري وجهه ،ووضعه يف غريالذي ال يؤخذ منه إال غبار امليل مث هو مع ذلك سر ٌ
موضعه ،وأخطأ يف مواضع استحقاقه ،صار مبنزلة الفقري الذي ال مال له؛ مث ال مينع ذلك ماله من
التلف ابحلوادث والعلل اليت جتري عليه؛ كمحبس املاء الذي ال تزال املياه تنصب فيه ،فإن مل يكن له
خمرج ومفيض ومتنفس خيرج املاء منه بقدر ما ينبغي ،خرب وسال ونز من نو ٍاح ٍ
كثرية ،ورمبا انبثق البثق ٌ ٌ ٌ
العظيم فذهب املاء ضياعا .مث أنبين الشيخ اتعظوا بقول أبيهم وأخذوا به وعلموا أن فيه اخلري وعولوا
كثري؛ وكان معه ٍ عليه؛ فانطلق أكربهم حنو ٍ
وحل ٌأرض يقال هلا ميون؛ فأتى يف طريقه على مكان فيه ٌ
عجلةٌ جيرها ثوران يقال ألحدمها شرتبة ولآلخر بندبة ،فوحل شرتبة يف ذلك املكان ،فعاجله الرجل
وأصحابه حىت بلغ منهم اجلهد ،فلم يقدروا على إخراجه؛ فذهب الرجل وخلف عنده رجالا يشارفه:
لعل الوحل ينشف فيتبعه ابلثور .فلما ابت الرجل بذلك املكان ،تربم به واستوحش؛ فرتك الثور والتحق
بصاحبه ،فأخربه أن الثور قد مات؛ وقال له :إن اإلنسان إذا انقضت مدته وحانت منيته فهو وإن
اجتهد يف التوقي من األمور اليت خياف فيها على نفسه اهلالك مل يغن ذلك عنه شيئا؛ ورمبا عاد
اجتهاده يف توقيه وحذره وابالا عليه .
خوف من السباع؛ وكان الرجل خبريا بوعث تلك األرض كالذي قيل :إن رجالا سلك مفازةا فيها ٌ
ذئب من أحد الذائب وأضراها؛ فلما رأى الرجل أن الذئب وخوفها؛ فلما سار غري بعيد اعرتض له ٌ
32
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
قاصد حنوه خاف منه ،ونظر ميينا ومشاالا ليجد موضعا يتحرز فيه من الذئب فلم ير إال قري اة خلف واد؛
قوم
ورأى الذئب قد أدركه ،فألقى نفسه يف املاء ،وهو ال حيسن السباحة ،وكاد يغرق ،لوال أن بصر به ٌ
من أهل القرية؛ فتواقعوا إلخراجه ف أخرجوه ،وقد أشرف على اهلالك؛ فلما حصل الرجل عندهم وأمن
على نفسه من غائلة الذئب رأى على عدوة الوادي بيتا مفردا؛ فقال :أدخل هذا البيت فأسرتيح فيه.
فلما دخله وجد مجاعةا من اللصوص قد قطعوا الطريق على ٍ
رجل من التجار .وهم يقتسمون ماله؛
ويريدون قتله؛ فلما رأى الرجل ذلك خاف على نفسه ومضى حنو القرية؛ فأسند ظهره إىل حائط من
حيطاهنا ليسرتيح مما حل به من اهلول واإلعياء ،إذ سقط احلائط عليه فمات .قال التاجر :صدقت؛
ٍ
خمصب كثري املاء قد بلغين هذا احلديث .وأما الثور فإنه خلص من مكانه وانبعث .فلم يزل يف مرٍج
عظيم؛ وهو
والكأل؛ فلما مسن وأمن جعل خيور ويرفع صوته ابخلوار .وكان قريب ا منه أمجةٌ فيها أس ٌد ٌ
منور؛ وكان هذا األسد منفردا وفود و ٌ
وذائب وبنات آوى وثعالب ٌٌ سباع كثريةٌ
ملك تلك الناحية ،ومعه ٌ
أحد من أصحابه .فلما مسع خوار الثور ،ومل يكن رأى ثوراُ قط ،وال مسع خواره؛ أخذ برأي ٍ
برأيه دون ٍ
يوم على يد جنده .وكان فيمن معه من ألنه كان مقيما مكانه ال يربح وال ينشط؛ بل يؤتى برزقه كل ٍ
أدب .فقال دمنة ألخيه السباع ابنا آوى يقال ألحدمها كليلة ولآلخر دمنة؛ وكاان ذوي دهاء وعل ٍم و ٍ
كليلة :اي أخي ما شأن األسد مقيما مكانه ال يربح وال ينشط? قال له كليلة :ما شأنك أنت واملسألة
عن هذا? حنن على ابب ملكنا آخذين مبا أحب واتركني ملا يكره؛ ولسنا من أهل املرتبة اليت يتناول
أهلها كالم امللوك والنظر يف أمورهم .فأمسك عن هذا ،واعلم أنه من تكلف من القول والفعل ما ليس
من شأنه أصابه ما أصاب القرد من النجار .قال دمنة :وكيف كان ذلك? قال كليلة :زعموا أن قردا
رأى جنارا يشق خشبة بني وتدين ،وهو راكب عليها؛ فأعجبه ذلك .مث إن النجار ذهب لبعض شأنه.
فقام القرد؛ وتكلف ما ليس من شغله ،فركب اخلشبة ،وجعل ظهره قبل الوتد ،ووجهه قبل اخلشبة؛
فتدىل ذنبه يف الشق ،ونزع الوتد فلزم الشق عليه فخر مغشي ا عليه .فكان ما لقي من النجار من
الضرب أشد مما أصابه من اخلشبة .قال دمنة :قد مسعت ما ذكرت ،ولكن اعلم أن كل من يدنو من
امللوك ليس يدنو منهم لبطنه ،وإمنا يدنو منهم ليسر الصديق ويكبت العدو .وإن من الناس من ال
مروءة له؛ وهم الذين يفرحون ابلقليل ويرضون ابلدون؛ كالكلب الذي يصيب عظما ايبسا فيفرح به.
أهل
وأما أهل الفضل واملروءة فال يقنعهم القليل ،وال يرضون به ،دون أن تسموا به نفوسهم إىل ما هم ٌ
أهل؛ كاألسد الذي يفرتس األرنب ،فإذا رأى البعري تركها وطلب البعري ،أال ترى أن
له ،وهو أيضا هلم ٌ
33
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
الكلب يبصبص بذنبه .حىت ترمى له الكسرة ،وأن الفيل املعرتف بفضله وقوته إذا قدم إليه علفه ال
ٍ
وإفضال على أهله وإخوانه فهو وإن قل مال وكان ذا ٍ
فضل يعتلفه حىت ميسح ويتملق له .قمن عاش ذا ٍ
وإمساك على نفسه وذويه فاملقبور أحيا منه .ومن
ٌ ضيق وقلةٌ
عمره طويل العمر .ومن كان يف عيشه ٌ
عمل لبطنه وقنع وترك ما سوى ذلك عد من البهائم.
قال كليلة :قد فهمت ما قلت؛ فراجع عقلك ،واعلم أن لكل ٍ
إنسان منزل اة وقدرا .فإن كان يف منزلته
اليت هو فيها متماسك ا ،كان حقيق ا أن يقنع .وليس لنا من املنزلة ما حيط حالنا اليت حنن عليها .قال
دمنة :إن املنازل متنازعةٌ مشرتكةٌ على قدر املروءة؛ فاملرء ترفعه مروءته من املنزلة الوضيعة إىل املنزلة
الرفيعة؛ ومن ال مروءة له حيط نفسه من املنزلة الرفيعة إىل املنزلة الوضيعة .إن االرتفاع إىل املنزلة الشريفة
عسر ،ووضعه إىل األرض مهني؛ كاحلجر الثقيل :رفعه من األرض إىل العاتق ٌشدي ٌد ،واالحنطاط منه ٌ
هني .فنحن أحق أن نروم ما فوقنا من املنازل ،وأن نلتمس ذلك مبروءتنا .مث كيف نقنع هبا وحنن
ٌ
نستطيع التحول عنها? قال كليلة :فما الذي اجتمع عليه رأيك? قال دمنة :أريد أن أتعرض ألسد عند
هذه الفرصة :فإن األسد ضعيف الرأي .ولعلي على هذه احلال أدنو منه فأصيب عنده منزل اة ومكان اة.
قال كليلة :وما يدريك أن األسد قد التبس عليه أمره? قال دمنة :ابحلس والرأي أعلم ذلك منه :فإن
الرجل ذا الرأي يعرف حال صاحبه وابطن أمره مبا يظهر له من دله وشكله .قال كليلة :فكيف ترجو
علم خبدمة السالطني? قال دمنة :الرجل الشديد املنزلة عند األسد ولست بصاحب السلطان ،وال لك ٌ
القوي ال يعجزه احلمل الثقيل ،وإن مل تكن عادته احلمل؛ والرجل الضعيف ال يستقل به وإن كان ذلك
من صناعته .قال كليلة :فإن السلطان ال يتوخى بكرامته فضالء من حبضرته؛ ولكنه يؤثر األدىن ومن
قرب منه .ويقال :إ ن مثل السلطان يف ذلك مثل شجر الكرم الذي ال يعلق إال أبقرب الشجر .وكيف
ترجو املنزلة عند األسد ولست تدنو منه? قال دمنة :قد فهمت كالمك مجيعه وما ذكرت ،وأنت
يب من السلطان وال ذلك يف موضعه وال تلك منزلته ،ليس كمن صادق .لكن اعلم أن الذي هو قر ٌ
ٌ
حق وحرمةٌ؛ وأان ملتمس بلوغ مكانتهم جبهدي .وقد قيل :ال يواظب على ابب دان منه بعد البعد وله ٌ
السلطان إال من يطرح األنفة وحيمل األذى ويكظم الغيظ ويرفق ابلناس ويكتم السر؛ فإذا وصل إىل
ذلك فقد بلغ مراده .قال كليلة :هبك وصلت إىل األسد ،فما توفيقك عنده الذي ترجو أن تنال به
املنزلة واحلظوة لديه? قال دمنة :لو دنوت منه وعرفت أخالقه ،لرفقت يف متابعته وقلة اخلالف له .وإذا
أراد أمرا هو يف نفسه صواب ،زينته له وصربته عليه ،وعرفته مبا فيه من النفع واخلري؛ وشجعته عليه
34
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
وعلى الوصول إليه ،حىت يزداد به سرورا .وإذا أراد أمرا مبا فيه الضر والشني ،وأوقفته على ما يف تركه
من النفع والزين ،حبسب ما أجد إليه السبيل .وأان أرجو أن أزداد بذلك عند األسد مكان اة ويرى مين
ما ال يراه من غريي :فإن الرجل األديب الرفيق لو شاء أن يبطل حقا أو حيق ابطالا لفعل :كاملصور
ٍ
خبارجة ،وأخرى كأهنا داخلةٌ وليست املاهر الذي يصور يف احليطان صورا كأهنا خارجةٌ وليست
بداخلة .قال كليلة :أما إن قلت هذا أو قلت هذا فإن أخاف عليك من السلطان فإن صحبته خطرةٌ. ٍ
قليل ،وهي :صحبةوقد قالت العلماء :إن أمورا ثالثة ال جيرتئ عليهن إال أهوج ،وال يسلم منهن إال ٌ
السلطان ،وائتمان النساء على األسرار ،وشرب السم للتجربة .وإمنا شبه العلماء السلطان ابجلبل
الصعب املرتقى الذي فيه الثمار الطيبة واجلواهر النفيسة واألدوية النافعة .وهو مع ذلك معدن السباع
والنمور والذائب وكل ضا ٍر ٍ
خموف .فاالرتقاء إليه شدي ٌد ،واملقام فيه أشد .قال دمنة :صدقت فيما
ذكرت؛ غري أنه من مل يركب األهوال ،مل ينل الرغائب؛ ومن ترك األمر الذي لعله يبلغ فيه حاجته هيبةا
وخماف اة ملا لعله أن يتوقاه ،فليس ببال ٍغ جسيما .وقد قيل :إن خصاالا ثالًثا لن يستطيعها أحد إال ميعونة
مهة وعظيم خط ٍر :منها عمل السلطان وجتارة البحر ومناجزة العدو .وقد قالت العلماء يف من علو ٍ
الرجل الفاضل الرشيد :إن ال يرى إال يف مكانني ،وال يليق به غريمها :إما مع امللوك مكرم ا ،وإما مع
النساك متعبدا ،كالفيل إمنا مجاله وهباؤه يف مكانتني :إما أن تراه وحشيا وإما مركبا للملوك .قال كليلة:
خار هللا لك فيما عزمت عليه.
مث إن دمنة انط لق حىت دخل األسد فسلم عيه .فقال األسد لبعض جلسائه :من هذا? فقال فالن بن
فالن .قال :قد كنت أعرف أابه .مث سأله أين تكون? قال :مل أزل مالزم ا ابب امللك ،رجاء أن حيضر
أمر فأعني امللك به بنفسي ورأيي :فإن أبواب امللك تكثر فيها األمور اليت رمبا حتتاج فيها إىل الذي ال
ٌ
يؤبه له؛ وليس أح ٌد يصغر أمره إال وقد يكون عنده بعض الغناء واملنافع على قدره؛ حىت العود امللقى
يف األرض رمبا نفع ،فيأخذه الرجل فيكون عدته عند احلاجة إليه .فلما مسع األسد قول دمنة أعجبه،
وظن أن عنده نصيحةا ورأايا .فأقبل على من حضر فقال :إن الرجل ذا العلم واملروءة يكون خامل
الذكر خافض املنزلة ،فتأىب منزلته إال أن تشب وترتفع؛ كالشعلة من النار يضرهبا صاحبها وأتىب إال
ارتفاعا .فلما عرف دمنة أن األسد قد عجب منه قال :إن رعية امللك حتضر ابب امللك ،رجاء أن
يعرف ما عندها من عل ٍم واف ٍر .وقد يقال :إن الفضل يف أمرين :فضل املقاتل على املقاتل والعامل على
العامل .وإن كثرة األعوان إذا مل يكونوا خمتربين رمبا تكون مضرةا على العمل :فإن العمل ليس رجاؤه
35
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
بكثرة األعوان ولكن بصاحلي األعوان .ومثل ذلك مثل الرجل الذي حيمل احلجر الثقيل ،فيقل به
نفسه ،وال جيد له مثن ا .والرجل الذي حيتاج إىل اجلذوع ال جيزئه القصب وإن كثر .فأنت اآلن أيها
حقيق أال حتقر مروءةٌ أنت جتدها عند رجل صغري املنزلة :فإن الصغري رمبا عظم ،كالعصب يؤخذ امللك ٌ
من امليتة فإذا عمل منه القوس أكرم ،فتقبض عليه امللوك وحتتاج إليه يف البأس واللهو.
وأحب دمنة أن يري القوم أن ما انله من كرامة امللك غنما هو لرأيه ومروءته وعقله :ألهنم عرفوا قبل
ذلك أن ذلك ملعرفته أابه ،فقال :إن السلطان ال يقرب الرجال لقرب آابئهم ،وال يبعدهم لبعدهم،
رجل مبا عنده :ألنه ال شيء أقرب إىل الرجل من جسده ومن جسده ما ولكن ينبغي أن ينظر إىل كل ٍ
يدوى حىت يؤذيه وال يدفع ذلك عنه إال ابلدواء الذي أيتيه من بعد.
فلما فرغ دمنة من مقالته هذه أعجب امللك به إعجاابا شديدا ،وأحسن الرد عليه ،وزاد يف كرامته .مث
رجل
قال جللسائه :ينبغي للسلطان أال يلج يف تضييع حق ذوي احلقوق .والناس يف ذلك رجالنٌ :
طبعه الشراسة ،فهو كاحلية إن وطئها الواطئ فلم تلدغه ،مل يكن جديرا أن يغره ذلك منها ،فيعود إىل
ورجل أصل طباعه السهولة ،فهو كالصندل البارد الذي إذا أفرط يف حكه صاروطئها ًثنية فتلدغه؛ ٌ
حارا مؤذايا.
مكان و ٍ
احد ال يربح منه ،فما مث إن دمنة استأنس ابألسد وخال به .فقال يوما :أرى امللك قد أقام يف ٍ
سبب ذلك? فبينما مها يف هذا احلديث إذ خار شرتبة خوارا شديدا :فهيج األسد وكره أن خيرب دمنة مبا
انله؛ وعلم دمنة أن ذلك الصوت قد أدخل على األسد ريب اة وهيب اة .فسأله :هل راب امللك مساع هذا
حبقيق أن يدع مكانه ألجل ٍ
صوت. الصوت? قال مل يربين شيءٌ سوى ذلك .قال دمنة :ليس امللك ٍ
فقد قالت العلماء :إن ليس من كل األصوات جتب اهليبة .قال األسد :وما مثل ذلك?
قال دمنة :زعموا أن ثعلبا أتى أمج اة فيها طبل معلق على شجرٍة ،وكلما هبت الريح على قضبان تلك
عظيم؛ فتوجه الثعلب حنوه ألجل ما مسع من عظمصوت ٌ الشجرية حركتها ،فضربت الطبل فسمع له ٌ
صوته؛ فلما أاته وجده ضخم ا ،فأيقن يف نفسه بكثرة الشحم واللحم .فعاجله حىت شقه .فلما رآه
أجوف ال شيء فيه ،قال :ال أدري لعل أفشل األشياء أجهرها صواتا وأعظمها جث اة .وإمنا ضربت لك
هذا املثل لتعلم أن هذا الصوت الذي راعنا ،لو وصلنا إليه ،لوجدانه ايسر مما يف أنفسنا .فإن شاء
امللك بعثين وأقام مبكانه حىت آتيه ببيان هذا الصوت .فوافق األسد قوله ،فأذن له ابلذهاب حنو
الصوت .فانطلق دمنة إىل املكان الذي فيه شرتبة .فلما فصل دمنة من عند األسد ،فكر األسد يف
36
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أمره ،وندم على إرسال دمنة حيث أرسله ،وقال يف نفسه :وأصبت يف ائتماين دمنة ،وقد كان ببايب
مطروح ،فإن الرجل إذا كان حيضر ابب امللك ،وقد أبطلت حقوقه من غري ٍ
جرم كان منه ،أو كان ا
وضيق فلم
ضر ٌ مبغيا عليه عند سلطانه؛ أو كان عنده معروفا ابلشره واحلرص ،أو كان قد أصابه ٌ
ينعشه ،أو كان قد اجرتم جرما فهو خياف العقوبة منه ،أو كان يرجو شيئا يضر امللك وله منه نفع؛ أو
خياف يف ٍ
شيء مما ينفعه ضرا ،أو كان لعدو امللك مساملا ،وملسامله حمارابا ،فليس السلطان ٍ
حبقيق أن
يب .وقد كان ببايب مطروح ا جمفوا.
يعجل ابالسرتسال إليه ،والثقة به ،واالئتمان له :فإن دمنة داهيةٌ أر ٌ
ولعله قد احتمل علي بذلك ضغنا ،ولعل ذلك حيمله على خيانيت وإعانة عدوي ونقيصيت عنده؛ ولعله
علي .مث قام من مكانه فمشى
صادف صاحب الصوت أقوى سلطاانا مين فريغب به عين ومييل مع ّ
بعيد ،فبصر بدمنة مقبالا حنوه فطابت نفسه بذلك ،ورجع إىل مكانه ،ودخل دمنة على األسد غري ٍ
فقال له :ماذا صنعت? وماذا رأيت? قال :رأيت ثورا هو صاحب اخلوار والصوت الذي مسعته .قال:
فما قوته? قال :ال شوكة له .وقد دنوت منه وحاورته حماورة األكفاء وال يصغرن عندك أمره :فإن الريح
الشديدة ال تعبأ بضعيف احلشيش ،لكنها حتطم طوال النخل وعظيم الشجر .قال دمنة :ال هتابن أيها
امللك منه شيئ ا؛ وال يكربن عليك أمره :فأان آتيك به ليكون لك عبدا سامع ا مطيع ا .قال األسد:
دونك وما بدا لك.
فانطلق دمنة إىل الثور ،فقال له غري هائب وال مكرتث :إن األسد أرسلين إليك آلتيه بك .وأمرين ،إن
أنت عجلت إليه طائعا ،أو أؤمنك على ما سلف من ذنبك يف التأخر عنه وتركك لقاءه؛ وإن أنت
أتخرت عنه وأحجمت ،أن أعجل اجلرعة إليه فأخربه .قال له شرتبة :ومن هو هذا األسد الذي
كثري من
أرسلك إيل? وأين هو? وما حاله? قال دمنة :هو ملك السباع ،وهو مبكان كذا ،ومعه جن ٌد ٌ
جنسه فرعب شرتبة من ذكر األسد والسباع .وقال :إن أنت جعلت يل األمان على نفسي أقبلت
معك إليه .فأعطاه دمنة من األمان ما وثق به .مث أقبل والثور معه ،حىت دخال على األسد فأحسن
وقربه؛ وقال له :مىت قدمت هذه البالد? وما أقدمكها? فقص شرتبة عليه قصته .فقال األسد إىل الثور ّ
له األسد اصحبين والزمين :فإين مكرمك .فدعا الثور وأثىن عليه.
مث إن األسد قرب شرتبة وأكرمه وأنس به وأمتنه على أسراره وشاوره يف أمره ،ومل تزده األايم إال عجبا به
ورغب اة فيه وتقريب ا منه؛ حىت صار أخص أصحابه عنده منزل اة .فلما رأى دمنة أن الثور قد اختص
ابألسد دونه ودون أصحابه ،وأنه قد صاد صاحب رأيه وخلواته وهلوه ،حسده حسدا عظيما ،وبلغ منه
37
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
غيظه كل مبلغ :فشكا ذلك إىل أخيه كليلة ،وقال له :أال تعجب اي أخي من عجز رأيي ،وصنعي
بنفسي? ونظري فيما ينفع األسد ،وأغفلت نفع نفسي حىت جلبت إىل األسد ثورا غلبين على منزليت.
قال كليلة :أخربين عن رأيك وما تريد أن تعرم عليه يف ذلك .قال دمنة :أما أان فلست اليوم أرجو أن
تزداد منزليت عند األسد فوق ما كانت عليه؛ ولكن ألتمس أن أعود إىل ما كنت عليه :فإن أمورا ثالث اة
العاقل جدير ابلنظر فيها ،واالحتيال هلا جبهده :منها النظر فيما مضى من الضر والنفع ،فيحرتس من
الضر الذي أص ابه فيما سلف لئال يعود إىل ذلك الضر ،ويلتمس النفع الذي مضى وحيتال ملعاودته؛
ومنها النظر فيما هو مقيم فيه من املنافع واملضاء ،واالستيثاق مبا ينفع واهلرب مما يضر؛ ومنها النظر يف
مستقبل ما يرجو من قبل النفع ،وما خياف من قبل الضر ،فيستتم ما يرجو ويتوقى ما خياف جبهده.
وإين ملا نظرت يف األمر الذي به أرجو أن تعود منزليت ،وما غلبت عليه مما كنت فيه ،مل أجد حيل اة وال
وجه ا إال االحتيال آلكل العشب هذا ،حىت أفرق بينه وبني احلياة :فإنه إن فارق األسد عادت يل
يق أن يشينه ويضره يف أمره .قال منزليت .ولعل ذلك يكون خريا لألسد :فإن إفراطه يف تقريب الثور خل ٌ
كليلة :ما أرى على األسد يف رأيه يف الثور ومكانه منه ومنزلته عنده شينا وال شرا .قال دمنة :إمنا يؤتى
السلطان ويفسد أمره من قبل ستة أشياء :احلرمان والفتنة واهلوى والفظاظة والزمان واخلرق.
فأما احلرمان فأن حيرم صاحل األعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة واألمانة ،وترك التفقد
ملن هو كذلك .وأما الفتنة فهي حتارب الناس ووقوع احلرب بينهم .وأما اهلوى فالغرام ابحلدث واللهو
والشراب والصيد وما أشبه ذلك .وأما الفظاظة فهي إفراط الشدة حىت جيمح اللسان ابلشتم واليد
ابلبطش يف غري موضعه ما .وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنني واملوت ونقص الثمرات
والغزوات وأشباه ذلك .وأما اخلرق فإعمال الشدة يف موضع اللني ،واللني يف موضع الشدة .وإن األسد
قد أغرم ابلثور إغراما شديدا هو الذي ذكرت لك أنه خليق ألن يشينه ويضره يف أمره .قال كليلة:
وكيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على األسد وأكثر أعواانا? قال دمنة :ال تنظر إىل صغري
ٍ
ضعيف قد وضعفي :فإن األمور ليست ابلضعف وال القوة وال الصغر وال الكرب يف اجلثة :فرب صغ ٍري
بلغ حيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثري من األقوايء .أومل يبلغك أن غراابا ضعيفا احتال ألسود حىت
كر يف شجرٍة على ٍ
جبل؛ وكان قتله? قال كليلة :وكيف كان ذلك? قال دمنة :زعموا أن غراابا كان له و ٌ
قريب ا منه حجر ٍ
ثعبان أسود ،فكان الغراب إذا فرخ عمد األسود إىل فراخه فأكله؛ فبلغ ذاك من الغراب
وأحزنه ،فشكا ذلك إىل صديق له من بنات آوى؛ وقال له :أريد مشاورتك يف أم ٍر قد عزمت عليه؛
38
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
قال :وما هو? قال الغراب :قد عزمت أن أذهب اليوم إىل األسود إذا انم ،فأنقر عينيه ،فأفقأمها ،لعلي
أسرتيح منه .قال ابن آوى :بئس احليلة اليت احتلت؛ فالتمس أمرا تصيب فيه بغيتك من األسود ،من
غري أن تغرر بنفسك وختاطر هبا .وإايك أن يكون مثلك مثل العلجوم الذي أراد قتل السرطان فقتل
نفسه .قال الغراب :وكيف كان ذلك?
عشش يف ٍ
أمجة كبرية السمك؛ فعاش هبا ما عاش؛ مث هرم فلم يستطع قال ابن آوى :زعموا أن علجوما ّ
جوع وجه ٌد شدي ٌد؛ فجلس حزين ا يلتمس احليلة يف أمره؛ فمر به سرطا ٌن ،فرأى حالته
صيدا؛ فأصابه ٌ
وما هو عليه من الكآبة واحلزن؛ فدان منه وقال :مايل أراك أيها الطائر هكذا حزينا كئيبا? قال العلجوم:
وكيف ال أحزن وقد كنت أعيش من صيد ما ها هنا من السمك? وإين قد رأيت اليوم صيادين قد مرا
هبذا املكان؛ فقال أحدمها لصاحبه :إن ها هنا مسك ا كثريا أفال نصيده أوالا? فقال اآلخر :إين قد رأيت
يف مكان كذا مسك ا أكثر من هذا السمك ،فلنبدأ بذلك ،فإذا فرغنا منه جئنا إىل هذا فأفنيناه .وقد
علمت أهنما إذا فرغا مما هناك ،انتهيا إىل هذه األمجة فاصطادا ما فيها؛ فإذا كان ذلك فهو هالكي
ونفاذ مديت .فانطلق السرطان من ساعته إىل مجاعة السمك فأخربهن بذلك؛ فأقبلن إىل العلجوم
فاستشرنه؛ وقلن له :إان أتينا لك لتشري علينا :فإن ذا العقل ال يدع مشاورة عدوه .قال العلجوم :أما
مسك
يب من ها هنا ،فيه ٌ مكابرة الصيادين فال طاقة يل هبا؛ وال أعلم حيلةا إال املصري إىل غدي ٍر قر ٍ
وقصب ،ف إن استطعن االنتقال إليه ،كان فيه صالحكن وخصبكن .فقلن له :ما مين ٌ ومياهٌ عظيمةٌ
علينا بذلك غريك .فجعل العلجوم حيمل يف كل يوم مسكتني حىت ينتهي هبما إىل بعض التالل
فيأكلهما؛ حىت إذا كان ذات يوم جاء ألخذ السمكتني؛ فجاءه السرطان؛ فقال له :إين أيض ا قد
أشفقت من مكاين هذا واستوحشت منه فاذهب يب إىل ذلك الغدير؛ فاحتمله وطار به ،حىت إذا دان
من التل الذي كان أيكل السمك فيه نظر السرطان فرأى عظام السمك جمموع اة هناك؛ فعلم أن
العلجوم هو صاحبها؛ وأنه يريد به مثل ذلك .فقال يف نفسه :إذا لقي الرجل عدوه يف املواطن اليت
يعلم أنه فيها هالك .سواءٌ قاتل أم مل يقاتل؛ كان حقيق ا أن يقاتل عن نفسه كرم ا وحفاظ ا ،مث أهوى
بكلبتيه على عنق العلجوم ،فعصره فمات؛ وختلص السرطان إىل مجاعة السمك فأخربهن بذلك .وإمنا
ضربت لك هذا املثل لتعلم أن بعض احليلة مهلكة للمحتال ولكين أدلك على أم ٍر ،إن أنت قدرت
عليه ،كان فيه هالك األسود من غري أن هتلك به نفسك ،وتكون فيه سالمتك .قال الغراب وما ذاك?
قال ابن آوى :تنطلق فتبصر يف طريانك :لعلك أن تظفر ٍ
بشيء من حلي النساء فتخطفه؛ وال تزال
39
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
طائرا واقعا ،حبيث ال تفوت العيون ،حىت أتيت حجر األسود فرتمي ابحللي عنده .فإذا رأى الناس ذلك
أخذوا حليهم وأراحوك من األسود .فانطلق الغراب حملقا يف السماء؛ فوجد امرأةا من بنات العظماء
فوق سطح تغتسل؛ وقد وضعت ثياهبا وحليها انحي اة؛ فانقض واختطف من حليها عقدا ،وطار به،
فتبعه الناس؛ ومل يزل طائرا واقعا ،حبيث يراه كل ٍ
أحد؛ حىت انتهى األمر إىل جحر األسود؛ فألقى العقد
عليه ،والناس ينظرون إليه .فلما أتوه أخذوا العقد وقتلوا األسود .وإمنا ضربت لك هذا املثل لتعلم أن
احليلة جترئ ماال جتزئ القوة .قال كليلة :إن الثور لو مل جيتمع مع شدته رأيه لكان كما تقول .ولكن له
مع شدته وقوته حسن الرأي والعقل .فماذا تستطيع له? قال دمنة :إن الثور لكما ذكرت يف قوته
مقر يل ابلفضل؛ وأان خليق أن اصرعه كما صرعت األرنب األسد .قال كليلة :وكيف ورأيه ،ولكنه ٌ
كان ذلك?
أرض كثرية املياه والعشب؛ وكان يف تلك األرض من الوحوش يف قال دمنة :زعموا أن أسدا كان يف ٍ
كثري؛ إال أنه مل يكن ينفعها ذلك خلوفها من األسد؛ فاجتمعت وأتت إىل
سعة املياه واملرعى شيءٌ ٌ
أمن
األسد ،فقالت له :إنك لتصيب منا الدابة بعد اجلهد والتعب؛ وقد رأينا لك رأايا فيه صالح لك و ٌ
لنا .فإن أنت امنتنا ومل ختفنا ،فلك علينا يف كل ٍ
يوم دابةٌ نرسل هبا إليك يف وقت غدائك :فرضي
األسد بذلك ،وصاحل الوحوش عليه ،ووفني له به .مث إن أرنبا أصابتها القرعة ،وصارت غداء األسد؛
فقالت للوحوش :إن أننت رفقنت يب فيما ال يضركن؛ رجوت أن أرحيكن من األسد .فقالت الوحوش:
وما الذي تكلفيننا من األمور? قالت :أتمرن الذي ينطلق يب إىل األسد أن ميهلين ريثما أبطئ عليه
بعض اإلبطاء .فقلن هلا ذلك لك .فانطلقت األرنب متباطئةا؛ حىت جاوزت الوقت الذي كان يتغدى
فيه األسد .مث تقدمت إليه وحدها رويدا ،وقد جاع؛ فغضب وقام من مكانه حنوها؛ فقال هلا :من أين
نب لك ،فتبعين أس ٌد يف بعض تلك الطريق،
أقبلت? قالت :أان رسول الوحوش إليك :بعثين ومعي أر ٌ
فأخذها مين ،وقال :أان أوىل هبذه األرض وما فيها من الوحش .فقلت :إن هذا غداء امللك أرسلين به
الوحوش إليه .فال تغصبنه ،فسبك وشتمك .فأقبلت مسرعةا ألخربك .فقال األسد :انطلقي معي فأريين
صاف؛ فاطلعت فيه ،وقالت :هذا موضع هذا األسد .فانطلقت األرنب إىل جب فيه ماء غامر ٍ
ٌ ٌ
املكان .فاطلع األسد ،فرأى ظله وظل األرنب يف املاء؛ فلم يشك يف قوهلا؛ ووثب إليه ليقاتله ،فغرق
يف اجلب .فانقلبت األرنب إىل الوحوش فأعلمتهن صنيعها ابألسد .قال كليلة :إن قدرت على هالك
الثور ٍ
بشيء ليس فيه مضرةٌ لألسد فشأنك :فإن الثور قد أضر يب وبك وبغريان من اجلند؛ وإن أنت مل
40
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
غدر مين ومنك .مث إن دمنة ترك الدخول علىتقدر على ذلك إال هبالك األسد ،فال تقدم عليه؛ فإنه ٌ
األسد أايم ا كثريةا؛ مث أاته على خلوةٍ منه؛ فقال له األسد :ما حبسك عين? منذ زمان مل أرك .أال خل ٍري
أمر? قال دمنة :حدثكان انقطاعك? قال دمنة :فليكن خريا أيها امللك .قال األسد :وهل حدث ٌ
فظيع .قال :أخربين به .قال
كالم ٌ
ما مل يكن امللك يريده وال أحد من جنده .قال :وما ذاك? قالٌ :
ٍ
فضيلة ،ورأيك يدلك على كالم يكرهه سامعه ،وال يشجع عليه قائله .وإنك أيها امللك لذو
دمنة إنه ٌ
أن يوجعين أن أقول ما تكره؛ وأثق بك أن تعرف نصحي وإيثاري إايك على نفسي .وإنه ليعرض يل
أنك غري مصدقي فيما أخربك به؛ ولكين إذا تذكرت وتفكرت أن نفوسنا ،معاشر الوحوش ،متعلقةٌ
بك مل أجد بدا من أداء احلق الذي يلزمين وإن أنت مل تسألين وخفت أال تقبل مين فإنه يقال :من كتم
السلطان نصيحته واإلخوان رأيه فقد خان نفسه .قال األسد :فما ذاك? قال دمنة :حدثين األمني
الصدوق عندي أن شرتبة خال برءوس جندك ،وقال :قد خربت األسد وبلوت رأيه ومكيدته وقوته:
فاستبان يل أن ذلك يئول منه إىل ٍ
ضعف وعج ٍز ،وسيكون يل وله شأ ٌن من الشئون .فلما بلغين ذلك
غدار؛ وأنك أكرمته الكرامة كلها ،وجعلته نظري نفسك ،وهو يظن أنه مثلك. علمت أن شرتبة خوا ٌن ٌ
وأنك مىت زلت عن مكانك صار له ملكك؛ وال يدع جهدا إال بلغه فيك .وقد كان يقال :إذا عرف
امللك من الرجل أنه قد ساواه يف املنزلة واحلال ،فليصرعه؛ فإن مل يفعل به ذلك ،كان هو املصروع.
وشرتبة أعلم ابألمور وأبلغ فيها؛ والعاقل هو الذي حيتال لألمر قبل متامه ووقوعه :فإنك ال أتمن أن
وعاجز؛ فأحد احلازمني من إذا نزل به
ٌ حازم وأحزم منه
يكون وال تستدركه .فإنه يقال :الرجال ثالثةٌٌ :
األمر مل يدهش له ،ومل يذهب قلبه شعاع ا ،ومل تعي به حيلته ومكيدته اليت يرجو هبا املخرج منه؛
وأحزم من هذا املتقدم ذو العدة الذي يعرف االبتالء قبل وقوعه ،فيعظمه إعظاما ،وحيتال له حىت كأنه
قد لزمه :فيحسم الداء قبل أن يبتلي به ،ويدفع األمر قبل وقوعه .وأما العاجز فهو يف ٍ
تردد ومت ٍن وتو ٍان
حىت يهلك .ومن أمثال ذلك مثل السمكات الثالث .قال األسد :وكيف كان ذلك?
ٍ
مسكات :كيسةٌ وأكيس منها وعاجزةٌ؛ وكان ذلك الغدير قال دمنة :زعموا أن غديرا كان فيه ثالث
بنجواة من األرض ال يكاد يقربه أح ٌد وبقربه هنر جا ٍر .فاتفق أنه اجتاز بذلك النهر صيادان؛ فأبصرا
الغدير ،فتواعدا أن يرجعا إليه بشباكهما فيصيدا ما فيه من السمك .فسمع السمكات قوهلما :فأما
شيء حىت خرجت من أكيسهن ملا مسعت قوهلما ،واراتبت هبما ،وختوفت منهما؛ فلم تعرج على ٍ
املكان الذي يدخل فيه املاء من النهر إىل الغدير .وأما الكيسة فإهنا مكثت مكاهنا حىت جاء
41
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
الصيادان؛ فلما رأهتما ،وعرفت ما يريدان ،ذهبت لتخرج من حيث يدخل املاء؛ فإذا هبما قد سدا
ٍ
فحينئذ قالت :فرطت ،وهذه عاقبة التفريط؛ فكيف احليلة على هذه احلال .وقلما تنجع ذلك املكان
حيلة العجلة واإلرهاق ،غري أن العاقل ال يقنط من منافع الرأي ،وال ييئس على ٍ
حال ،وال يدع الرأي
واجلهد .مث إهنا متاوتت فطفت على وجه املاء منقلبة على ظهرها اتراة ،واتراة على بطنها؛ فأخذها
تزل يف
الصيادان فوضعاها على األرض بني النهر والغدير؛ فوثبت إىل النهر فنجت .وأما العاجزة فما ْ
إقبال وإدابر حىت صيدت.
قال األسد :قد فهمت ذلك؛ وال أظن الثور يغشين ويرجو يل الغوائل .وكيف يفعل ومل ير مين سوءا
ُّ
قط? ومل أدع خريا إال فعلته معه? وال أمني اة إال بلغته إايها? .قال دمنة :إن اللئيم ال يزال انفعا انصحا
حىت يرفع إىل املنزلة اليت ليس هلا أبهل؛ فإذا بلغها التمس ما فوقها؛ وال سيما أهل اخليانة والفجور:
فإن اللئيم الفاجر ال خيدم السلطان وال ينصح له إال من ٍ
فرق .فإذا استغىن وذهبت اهليبة عاد إىل
جوهره؛ كذنب الكلب الذي يربط ليستقيم فال يزال مستوايا ما دام مربوطا؛ فإذا حل احنىن واعوج كما
كان .واعلم أيها امللك أنه من مل يقبل من نُصائِحه ما يثقل عليه مما ينصحون له به ،مل حيمد رأيه؛
كاملريض الذي يدع ما يبعث له الطبيب؛ ويعمد إىل ما يشتهيه .وحق على موازر السلطان أن يبالغ يف
التحضيض له على ما يزيد من سلطانه قواة ويزينه؛ والكف عما يضره ويشينه؛ وخري اإلخوان واألعوان
بطر؛
أقلهم مداهنة يف النصيحة؛ وخري الثناء ما كان على أفواه األخيار؛ وأشرف امللوك من مل خيالطه ٌ
وخري األخالق أعوهنا على الورع .وقد قيل :لو أن أمرا توسد النار وافرتش احليات ،كان أحق أال يهنئه
النوم .والرجل إذا أحس من صاحبه بعداوةٍ يريده هبا؛ ال يطمئن إليه؛ وأعجز امللوك آخذهم ابهلويىن،
وأقلهم نظرا يف مستقبل األمور .وأشبههم ابلفيل اهلائج الذي ال يلتفت إىل ٍ
شيء :فإن حز به أمر
هتاون به ،وإن أضاع األمور محل ذلك على قرانئه .قال له األسد :لقد أغلظت يف القول؛ وقول
حممول .وإن كان شرتبة معادايا يل ،كما تقول ،فإنه ال يستطيع يل ضرا؛ وكيف يقدر
مقبول ٌ
الناصح ٌ
على ذلك وهو آكل عشب وأان آكل حلم? وإمنا هو يل طعام ،وليس علي منه خمافةٌ .مث ليس إىل
الغدر به سبيل بعد األمان الذي جعلته له ،وبعد إكرامي له ،وثنائي عليه .وإن غريت ما كان مين
وبدلته .سفهت رأيي وجهلت نفسي وغدرت بذميت .قال دمنة :ال يغرنك قولك :هو يل طعام وليس
علي منه خمافةٌ :فإن شرتبة إن مل يستطعك بنفسه احتال لك من قبل غريه .ويقال :إن استضافك
42
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ضيف ساع اة من هنا ٍر ،وأنت ال تعرف أخالقه فال أتمنه على نفسك؛ وال أتمن أن يصلك منه أو
ٌ
بسببه ما أصاب القملة من الربغوث .قال األسد :وكيف كان ذلك?
انئم ال
رجل من األغنياء دهرا فكانت تصيب من دمه وهو ٌقال دمنة :زعموا أن قملة لزمت فراش ٍ
برغوث؛ فقالت له :بت
ٌ يشعر ،وتدب دبيبا رفيقا؛ فمكث كذلك حينا حىت استضافها ليل اة من الليايل
ني؛ فأقام الربغوث عندها حىت إذا أوى الرجل إىل فراشه وثب عليهاش ل ٍ الليلة عندان يف ٍدم ٍ
طيب وفر ٍ
الربغوث فلدغه لدغةا أيقظته؛ وأطارت النوم عنه؛ فقام الرجل وأمر أن يفتش فراشه؛ فنظر فلم ير إال
القملة؛ فأخذت فقصعت وفر الربغوث .وإمنا ضربت لك هذا املثل لتعلم أن صاحب الشر بسببه .وإن
كنت ال ختاف من شرتبة ،فخف غريه من جندك الذين قد محلهم عليك وعلى عداوتك .فوقع يف
نفس األسد كالم دمنة .فقال :فما الذي ترى إذا? ومباذا تشري? قال دمنة :إن الضرس ال يزال
متآكالا ،وال يزال صاحبه منه يف أٍمل وأ اذى حىت يفارقه .والطعام الذي قد عفن يف البطن ،الراحة يف
مرسل إليه،
قذفه .والعدو املخوف ،دواؤه قتله .قال األسد :لقد تركتين أكره جماورة شرتبة إايي؛ وأان ٌ
وذاكرا له ما وقع يف نفسي منه؛ مث آمره ابللحاق حيث أحب .فكره دمنة ذلك ،وعلم أن األسد مىت
كلم شرتبة يف ذلك ومسع منه جواابا عرف ابطل ما أتى به ،واطلع على غدره وكذبه؛ ومل خيف عليه
أمره .فقال لألسد :أما إرسالك إىل شرتبة فال أراه لك رأايا وال حزما؛ فلينظر امللك يف ذلك :فإن شرتبة
مىت شعر هبذا األمر ،خفت أن يعاجل امللك ابملكابرة .وهو إن قاتلك قاتلك مستعدا؛ وإن فارقك،
فارقك فراقا يليك منه النقص ،ويلزمك منه العار .مع أن ذوي الرأي من امللوك ال يعلنون عقوبة من مل
يعلن ذنبه؛ ولكن لكل ذنب عندهم عقوبةٌ :فلذنب العالنية عقوبة العالنية ،ولذنب السر عقوبة السر.
قال األسد :إن امللك إذا عاقب أحدا عن ٍ
ظنة ظنها من غري تيقن جبرمه ،فنفسه عاقب وإايها ظلم.
قال دمنة :أما إذا كان هذا رأي امللك ،فال يدخلن عليك شرتبة إال وأنت مستع ٌد له؛ وإايك أن
ٍ
بعظيمة. تصيبك منه غرةٌ أو غفلةٌ :فإين ال أحسب امللك حني يدخل عليه إال سيعرف أنه قد هم
ومن عالمات ذلك أنك ترى لونه متغريا؛ وترى أوصاله ترعد؛ وتراه ملتفت ا ميين ا ومشاالا؛ وتراه يهز قرنيه
فعل الذي هم ابلنطاح والقتال .قال األسد :سأكون منه على حذ ٍر؛ وإن رأيت منه ما يدل على ما
شك.
ذكرت علمت أن ما يف أمره ٌ
فلما فرغ دمنة من مح ل األسد على الثور ،وعرف أنه قد وقع يف نفسه ما كان يلتمس ،وأن األسد
سيتحذر الثور ،ويتهيأ له ،أراد أن أييت الثور ليغريه ابألسد؛ وأحب أن يكون إتيانه من قبل األسد
43
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
خمافة أن يبلغه ذلك فيتأذى به .فقال :أيها امللك أال آيت بشرتبة فانظر إىل حاله وأمره؛ وأمسع كالمه:
لعلي اطلع على سره ،فأطلع امللك على ذلك ،وعلى ما يظهر يل منه? فأذن له األسد يف ذلك.
فانطلق فدخل على شرتبة كالكئيب احلزين .فلما رآه الثور رحب به ،وقال :كان سبب انقطاعك
ٍ
سالمة! قال دمنة :ومىت كان أهل السالمة من ال ميلك نفسه، عين? فإين مل أرك منذ ٍ
أايم؛ ولعلك يف
ٍ
وخوف .حىت ما من ساعة متر وأيمن فيها على وأمره بيد غريه ممن ال يوثق به ،وال ينفك على خط ٍر
كائن .ومن ذا الذي غالبنفسه .قال شرتبة :وما الذي حدث? قال دمنة :حدث ما قدر وهو ٌ
القدر? ومن ذا الذي بلغ من الدنيا جسيما من األمور فلم يبطر? ومن ذا الذي بلغ منياه فلم يغرت?
ومن ذا الذي تبع هواه فلم خيسر? ومن ذا الذي طلب من اللئام فلم حيرم? ومن ذا الذي خالط
األشرار فسلم? ومن ذا الذي صحب السلطان فذام له منه األمن واإلحسان? قال شرتبة :إين أمسع
أمر .قال دمنة :أجل ،لقد رابين منه
يب ،وهالك منه ٌ منك كالم ا يدل على أنه قد رابك من األسد ر ٌ
ذلك ،وليس هو يف أمر نفسي ،قال شرتبة :ففي نفس من رابك? قال دمنة :قد تعلم ما بيين وبينك،
وتعلم حقك علي ،وما كنت جعلت لك من العهد وامليثاق أايم أرسلين األسد إليك ،فلم أجد لك بدا
من حفظك وإطالعك على ما أطلعت عليه مما أخاف عليك منه .قال شرتبة :وما الذي بلغك? قال
دمنة :حدثين اخلبري الصدوق الذي ال مرية يف قوله أن األسد قال لبعض أصحابه وجلسائه :قد
أعجبين مسن الثور؛ وليس يل إىل حياته حاجةٌ ،فأان آكله ومطعم أصحايب من حلمه .فلما بلغين هذا
القول ،وعرفت غدره ونقض عهده؛ أقبلت إليك ألقضي حقك؛ وحتتال أنت ألمرك .فلما مسع شرتبة
كالم دمنة ،وتذكر ما كان من دمنة جعل له من العهد وامليثاق ،وفكر يف أمر األسد ،ظن أن دمنة قد
صدقهُ ونصح له؛ ورأى أن األمر شبيهٌ مبا قال دمنة .فأمهه ذلك؛ وقال :ما كان لألسد أن يغدر يب ومل
آت إليه ذنبا ،وال إىل أحد من جنده ،منذ صحبته؛ وال أظن األسد إال قد محل علي ابلكذب وشبه
وجرب منهم الكذب وأمورا هي تصدق عنده ما بلغه من عليه أمري :فإن األسد قد صحبه قوم ٍ
سوء؛ َّ
غريهم :فإن صحبة األشرار رمبا أورثت صاحبها سوء الظن ابألخيار؛ ومحلته جتربته على اخلطأ كخطأ
كب ،فظنته مسك اة ،فحاولت أن تصيدها ،فلما جربت ذلك البطة اليت زعموا أهنا رأت يف املاء ضوء كو ٍ
مرارا ،علمت أنه ليس ٍ
بشيء يصاد فرتكته .مث رأت من غد ذلك اليوم مسك اة ،فظنت أهنا مثل الذي
كذب فصدقه علي ومسعه يف ،فما
رأته ابألمس ،فرتكتها ومل تطلب صيدها .فإن كان األسد بلغه عين ٌ
جرى على غريي جيري علي .وإن كان مل يبلغه شيء ،وأراد السوء يب من غري ٍ
علة ،فإن ذلك ملن ٌ
44
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أعجب األمور .وقد كان يقال :إن من العجب أن يطلب الرجل رضا صاحبه وال يرضى .وأعجب من
ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط .فإذا كانت املوجدة عن ٍ
علة ،كان الرضا موجودا والعفو مأموالا .وإذا
كانت عن غري ٍ
علة ،انقطع الرجاء :ألن العلة إذا كانت املودة يف ورودها ،كان الرضا مأموالا يف
صدورها.
قد نظرت :فال أعلم بيين وبني األسد جرما ،وال صغري ذنب ،وال كبريه .ولعمري ما يستطيع أحد أطال
صحبة صاحب أن حيرتس يف كل ٍ
شيء من أمره ،وال أن يتحفظ من أن يكون منه صغريةٌ أو كبريةٌ
يكرهها صاحبه؛ ولكن الرجل ذا العقل وذا الوفاء إذا سقط عنده صاحبه سقط اة نظر فيها ،وعرف قدر
أمر خياف ضره وشينه? فال يؤاخذ صاحبه مبلغ خطئه عمدا كان أو خطأا .مث ينظر هل يف الصفح عنه ٌ
ٍ
بشيء يد فيه إىل الصفح عنه سبيالا .فإن كان األسد قد اعتقد على ذنب ا؛ فلست أعلمه؛ إال أين
خالفته يف بعض رأيه نصيحةا له؛ فعساه أن يكون قد أنزل أمري على اجلراءة عليه واملخالفة له؛ وال
الرشد واملنفعة وال ِّدين، ٍ
أجد يل يف هذا احملضر إمثا ما :ألين مل أخالفه يف شيء إال ما قد ندر من خالفة ّ
بشيء من ذلك على رءوس جنده وعند أصحابه؛ ولكين كنت أخلو به وأكلمه سرا كالم ومل أجاهر ٍ
اهلائب املوقر وعلمت أنه من التمس الرخص من اإلخوان عند املشاورة ،ومن األطباء عند املرض ،ومن
الفقهاء عند الشبهة ،أخطأ منافع الرأي؛ وازداد فيما وقع فيه من ذلك تورطا ،ومحل الوزر .وإن مل
يكن هذا ،فعسى أن يكون ذلك من بعض سكرات السلطان :فإن مصاحبة السلطان خطرةٌ ،وإن
صوحب ابلسالمة والثقة واملودة وحسن الصحبة .وإن مل يكن هذا ،فبعض ما أوتيت من الفضل قد
جعل يل فيه اهلالك .وإن مل يكن هذا وال هذا ،فهو إذا من مواقع القضاء والقدر الذي ال يدفع عنه؛
وهو الذي حيمل الرجل الضعيف على ظهر الفيل اهلائج؛ وهو الذي يسلط على احلية ذات احلمة من
ينزع محتها ويلعب هبا؛ وهو الذي جيعل العاجز حازما ،ويثبط الشهم ،ويوسع على املقرت ،ويشجع
اجلبان ،وجينب الشجاع عندما تعرتيه املقادير من العلل اليت وضعت عليه األقدار.
قال دمنة :إن إرادة األسد بك ليست من حتميل األشرار وال سكرة السلطان وال غري ذلك ،ولكنها
مميت .قال شرتبة :فأراين قد
سم ٌ غدار :لطعامه حالوةٌ وآخره ٌ
فاجر خوا ٌن ٌ
الغدر والفجور منه :فإن ٌ
استلذذت احلالوة إذ ذقتها :وقد انتهيت إىل آخرها الذي هو املوت؛ ولوال احلني ما كان مقامي عند
األسد ،وهو آكل حل ٍم وأان آكل ٍ
عشب فأان يف هذه الورطة كالنحلة اليت جتلس على نور النيلوفر إذ
تستلذ رحيه وطعمه ،فتحبسها تلك اللذة؛ فإذا جاء الليل ينضم عليها ،فرتتبك فيه ومتوت .ومن مل
45
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
يرض من الدنيا ابلكفاف الذي يغنيه وطمحت عينه إىل ما سوى ذلك ،ومل يتخوف من عاقبتها ،كان
كالذابب الذي ال يرض ى ابلشجرة والرايحني ،وال يقنعه ذلك ،حىت يطلب املاء الذي يسيل من أذن
الفيل ،فيضربه الفيل آبذانه فيهلكه .ومن يبذل وده ونصيحته ملن ال يشكره ،فهو كمن يبذر يف
السباخ .ومن يشر على املعجب ،فهو كمن يشاور امليت أو يسار األصم .قال دمنة :دع عنك هذا
الكالم واحتل لنفسك .قال شرتبة :أبي ٍ
شيء أحتال لنفسي ،إذا أراد األسد أكلي ،مع ما عرفتين به
من رأي األسد وسوء أخالقه? وأعلم أنه مل يرد يب إال خريا ،مث أراد أصحابه مبكرهم وفجورهم هالكي
لقدروا على ذلك فإنه إذا اجتمع املكرة الظلمة على الربيء الصحيح ،كانوا خلقاء أن يهلكوه ،وإن
ك انوا ضعفاء وهو قوي؛ كما أهلك الذئب والغراب وابن آوى اجلمل ،حني اجتمعوا عليه ابملكر
واخلديعة واخليانة .قال دمنة :وكيف كان ذلك?
ذئب قال شرتبة :زعموا أن أسدا كان يف ٍ
أمجة جماورةٍ لطر ٍيق من طرق الناس؛ وكان له
أصحاب ثالثةٌٌ :
ٌ
مجل ،فدخل تلك األمجة مجال ،فتخلف منها ٌ اب وابن آوى؛ وأن رعا اة مروا بذلك الطريق ،ومعهم ٌوغر ٌ
حىت انتهى إىل األسد؛ فقال له األسد :من أين أقبلت? قال :من موضع كذا .قال :فما حاجتك?
قال :ما أيمرين به امللك .قال :تقيم عندان يف السعة واألمن واخلصب .فأقام األسد واجلمل معه زمن ا
طويالا .مث إن األسد مضى يف بعض األايم لطلب الصيد ،فلقي فيالا عظيما ،فقاتله قتاالا شديدا؛
وأفلت منه مثقالا مثخنا ابجلراح ،يسيل منه الدم ،وقد خدشه الفيل أبنيابه .فلما وصل إىل مكانه ،وقع
ال يستطيع حراكا ،وال يقدر على طلب الصيد؛ فلبث الذئب والغراب وابن آوى أايما ال جيدون
جوع شدي ٌد وهز ٌال ،وعرف األسد
طعام ا :ألهنم كانوا أيكلون من فضالت األسد وطعامه؛ فأصاهبم ٌ
ذلك منهم؛ فقال :لقد جهدمت واحتجتم إىل ما أتكلون .فقالوا ال هتمنا أنفسنا :لكنا نرى امللك على
ما نراه .فليتنا جند ما أيكله ويصلحه .قال األسد :ما أشك يف نصيحتكم ،ولكن انتشروا لعلكم
رزق .فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند تصيبون صيدا أتتونين به؛ فيصيبين ويصيبكم منه ٌ
األسد؛ فتنحوا انحيةا ،وتشاوروا فيما بينهم ،وقالوا :مالنا وهلذا األكل العشب الذي ليس شأنه من
شأننا ،وال رأيه من رأينا? أال نزين لألسد فيأكله ويطعمنا من حلمه? قال ابن آوى :هذا مما ال نستطيع
ذكره لألسد :ألنه قد أمن اجلمل ،وجعل له من ذمته عهدا .قال الغراب :أان أكفيكم أمر األسد .مث
انطلق فدخل على األسد؛ فقال له األسد :هل أصبت شيئ ا? قال الغراب :إمنا يصيب من يسعى
ويبصر .وأما حنن فال سعي لنا وال بصر :ملا بنا من اجلوع؛ ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه؛ إن
46
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
املتمرغ بيننا
وافقنا امللك فنحن له جميبون .قال األسد :وما ذاك? قال الغراب :هذا اجلمل آكل العشب ّ
من غري منفعة لنا منه ،وال رد ٍ
عائدة ،وال عمل يعقب مصلح اة .فلما مسع األسد ذلك غضب وقال:
ما أخطأ رأيك ،وما اعجز مقالك ،وأبعدك من الوفاء والرمحة? وما كنت حقيقا أن جترتي علي هبذه
املقالة ،وتستقبلين هبذا اخلطاب؛ مع ما علمت من أين قد أمنت اجلمل ،وجعلت له من ذميت .أو مل
ٍ
بصدقة هي أعظم أجرا ممن أمن نفسا خائف اة ،وحقن دما مهدرا? وقد متصدق
ٌ يبلغك أنه مل يتصدق
أمنته ولست بغادر به .قال الغراب :إين ألعرف ما يقول امللك؛ ولكن النفس الواحدة يفتدى هبا أهل
البيت؛ وأهل البيت تفتدى هبم القبيلة؛ والقبيلة يفتدى هبا أهل املصر؛ وأهل املصر فداء امللك .وقد
نزلت ابمللك احلاجة؛ وأان أجعل له من ذمته خمرجا ،على أال يتكلف امللك ذلك ،وال يليه بنفسه ،وال
وظفر .فسكت األسد عن جواب الغراب عن أيمر به أحدا؛ ولكنا حنتال ٍ
إصالح ٌٌ حبيلة لنا وله فيها
هذا اخلطاب .فلما عرف الغراب إقرار األسد أتى أصحابه ،فقال هلم :قد كلمت األسد يف أكله
اجلمل؛ على أن جنتمع حنن واجلمل عند األسد ،فنذكر ما أصابه ،ونتوجع له اهتماما منا أبمره ،وحرصا
احد منا نفسه عليه جتمالا ليأكله ،فريد اآلخران عليه ،ويسفها رأيه،على صالحه؛ ويعرض كل و ٍ
ويبينان الضرر يف أكله .فإذا فعلنا ذلك ،سلمنا كلنا ورضي األسد عنا .ففعلوا ذلك ،وتقدموا إىل
األسد؛ فقال الغراب :قد احتجت أيها امللك إىل ما يقويك؛ وحنن أحق أن هنب أنفسنا لك :فإان بك
ألحد منا بقاء عندك ،وال لنا يف احلياة من ٍ
خرية؛ فليأكلين امللك :فقد نعيش؛ فإذا هلكت فليس ٍ
ٌ
طبت بذلك نفسا .فأجابه الذئب وابن آوى أن اسكت؛ فال خري للملك يف أكلك؛ وليس فيك
شبع .قال ابن آوى لكن أان أشبع امللك ،فليأكلين :فقد رضيت بذلك ،وطبت عنه نفس ا .فرد عليه
ٌ
قذر .قال الذئب :إين لست كذلك ،فليأكلين امللك ،فقد مسحت
ملننت ٌ
الذئب والغراب بقوهلما :إنك ٌ
بذلك ،وطنب عنه نفسا؛ فاعرتضه الغراب وابن آوى وقاال :قد قالت األطباء :من أراد قتل نفسه
ذئب .فظن اجلمل أنه إذا عرض نفسه على األكل ،التمسوا له عذرا كما التمس بعضهم فليأكل حلم ٍ
شبع
لبعض األعذار ،فيسلم ويرضى األسد عنه بذلك ،وينجو من املهالك .فقال :لكن أان يف للملك ٌ ٍ
نظيف ،فليأكلين امللك ،ويطعم أصحابه وخدمه :فقد رضيت بذلك، هين ،وبطين ٌ طيب ٌوري؛ وحلمي ٌ ٌ
وطابت نفسي عنه ،ومسحت به .فقال الذئب والغراب وابن آوى :لقد صدق اجلمل وكرم؛ وقال ما
عرف.
مث إهنم وثبوا عليه فمزقوه.م إهنم وثبوا عليه فمزقوه.
47
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
وإمنا ضربت لك هذا املثل لتعلم أنه إن كان أصحاب األسد قد اجتمعوا على هالكي فإين لست أقدر
أن أمتنع منهم ،وال أحرتس؛ وإن كان رأي األسد يل على غري ما هم من الرأي يف ،فال ينفعين ذلك،
وال يغين عين شيئا .وقد يقال :خري السالطني من عدل يف الناس .ولو أن األسد مل يكن يف نفسه يل
إال اخلري والرمحة ،لغريته كثرة األقاويل :فإهنا إذا كثرت مل تلبث دون أن تذهب الرقة والرأفة .أال ترى
املاء ليس كالقول؛ وأن احلجر مل يلبث حىت يثقبه ويؤثر فيه .وكذلك القول يف اإلنسان .قال دمنة:
فماذا تريد أن تصنع اآلن? قال شرتبة :ما أرى إال االجتهاد واجملاهدة ابلقتال :فإنه ليس للمصلي يف
صالته ،وال للمتصدق يف صدقته ،وال للورع يف ورعه من األجر ما للمجاهد عن نفسه ،إذا كانت
جماهدته على احلق .قال دمنة :ال ينبغي ألحد أن خياطر بنفسه ،وهو يستطيع غري ذلك ،ولكن ذا
الرأي جاعل القتال آخر احليل؛ وابد ٍئ قبل ذلك مبا استطاع من ر ٍفق و ٍ
متحل .وقد قيل :ال حتقرن
حيلة ويقدر على األعوان؛ فكيف ابألسد على جراءتهالعدو الضعيف املهني ،وال سيما إذا كان ذا ٍ
وشدته? فإن من حقر عدوه لضعفه أصابه ما أصاب وكيل البحر من الطيطوى قال شرتبة :وكيف
كان ذلك? قال دمنة :زعموا أن طائرا من طيور البحر يقال له الطيطوى كان وطنه على ساحل
البحر ،ومعه زوجةٌ له ،فلما جاء أوان تفرخيها قالت األنثى للذكر :لو التمسنا مكاانا حريزا نفرخ فيه:
فإين أخشى من وكيل البحر إذا مد املاء أن يذهب بفراخنا .فقال هلا :أفرخي مكانك :فإنه موافق لنا؛
يب .قالت له :اي غافل ليحسن نظرك :فإن أخاف وكيل البحر أن يذهب بفراخنا. واملاء والزهر منا قر ٌ
فقال هلا أفرخي مكانك :فإنه ال يفعل ذلك فقالت له :ما أشد تعنتك ! أما تذكر وعيده وهتديده
إايك? أال تعرف نفسك وقدرك? فأىب أن يطيعها .فلما أكثرت عليه ومل يسمع قوهلا ،قالت له :إن من
مل يسمع قول الناصح يصيبه ما أصاب السلحفاة حني مل تسمع قول البطتني .قال الذكر :وكيف كان
عشب ،وكان فيه بطتان وكان يف الغدير سلحفاةٌ،
ذلك? قالت األنثى :زعموا أن غديرا كان عنده ٌ
بينها وبني البطتني مودةٌ وصداقةٌ .فاتفق أن غيض ذلك املاء؛ فجاءت البطتان لوداع السلحفاة ،وقالتا:
السالم عليك فإننا ذاهبتان عن هذا املكان ألجل نقصان املاء عنه .فقالت :إمنا يبني نقصان املاء على
مثلي :فإين كالسفينة ال أقدر على العيش إال ابملاء .فأما أنتما فتقدران على العيش حيث كنتما.
فاذهبا يب معكما .قالتا هلا :نعم .قالت :كيف السبيل إىل محلي? قالتا :أنخذ بطريف ٍ
عود ،وتتعلقني
بوسطه؛ ونطري بك يف اجلو .وإايك ،إذا مسعت الناس يتكلمون ،أن تنطقي .مث أخذاتها فطارات هبا يف
عجب :سلحفاة بني بطتني ،قد محلتاها .فلما مسعت ذلك قالت :فقأ هللا أعينكم ٌ اجلو .فقال الناس:
48
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أيها الناس ،فلما فتحت فاها ابلنطق وقعت على األرض فماتت .قال الذكر :قد مسعت مقالتك؛ فال
كائن.
ختايف وكيل البحر .فلما مد املاء ذهب بفراخها .فقالت األنثى :قد عرفت يف بدء األمر أن هذا ٌ
قال الذكر :سوف أنتقم منه .مث مضى إىل مجاعة الطري فقال هلن :إنكن أخوايت وثقايت :فأعنين .قلن:
ما تريد أن نفعل? قال :جتتمعن وتذهنب معي إىل سائر الطري ،فنشكو إليهن ما لقيت من وكيل البحر؛
طري مثلنا :فأعننا .فقالت له مجاعة الطري :إن العنقاء هي سيدتنا وملكتنا :فاذهب
ونقول هلن :إنكن ٌ
بنا إليها حىت نصيح هبا ،فنظهر لنا؛ فنشكو إليها ما انلك من وكيل البحر؛ ونسأهلا أن تنتقم لنا بقوة
ملكها .مث إهنن ذهنب إليها من الطيطوى ،فستغثنها؛ وصحن هبا؛ فرتاءت هلن فأخربهنا بقصتهن؛
وسألنها أن تسري معهن إىل حماربة وكيل البحر ،فأجابتهن إىل ذلك .فلما علم وكيل البحر أن العنقاء
ملك ال طاقة له به .فرد فراخ الطيطوى؛ وصاحله فرجعت قد قصدته يف مجاعة الطري خاف من حماربة ٍ
العنقاء عنه.
وإمنا حدثتك هبذا احلديث لتعلم أن القتال مع األسد ال أراه لك رأايا .قال شرتبة :فما أان مبقاتل
األسد ،وال انصب له العداوة سرا وال عالني اة ال متغ ٍري له عما كنت عليه ،حىت يبدو يل منه ما أختوف
فأغالبه .فكره دمنة قوله ،وعلم أن األسد إن مل ير من الصور العالمات اليت ذكرها له اهتمه وأساء به
الظن .فقال دمنة لشرتبة :اذهب إىل األسد فستعرف حني ينظر إليك ما يريد منك .قال شرتبة:
وكيف أعرف ذلك? قال دمنة :سرتى األسد حني تدخل عليه مقعيا على ذنبه ،رافعا صدره إليك،
مادا بصره حنوك ،قد صر أذنيه وفغر فاه ،واستوى للوثبة .قال شرتبة :إن رأيت هذه العالمات من
األسد عرفت صدقك يف قولك .مث إن دمنة ملا فرغ من محل األسد على الصور ،والثور على األسد
يب من الفراغ
توجه إىل كليلة .فلما التقيا ،قال كليلة :إالم انتهى عملك الذي كنت فيه? قال دمنة :قر ٌ
على ما أحب وحتب .مث إن كليلة ودمنة انطلقا مجيعا ليحضرا قتال األسد والثور ،وينظرا ما جيري
بينهما ،ويعاينا ما يئول إليه أمرمها .وجاء شرتبة ،فدخل على األسد ،فرآه مقعي ا كما وصفه له دمنة،
فقال :ما صاحب السلطان إال كصاحب احلية اليت يف مبيته ومقيله ،فال يدري مىت هتيج به .مث إن
األسد نظر إىل الثور فرأى الدالالت اليت ذكرها له دمنة :فلم يشك أنه جاء لقتاله .فواثبه ،ونشأ بينهما
احلرب ،واشتد قتال الثور واألسد ،وطال ،وسالت بينهما الدماء .فلما رأى كليلة أن األسد قد بلغ منه
ما قد بلغ .قال لدمنة :أيها الفسل ما أنكر جهلتك وأسوأ عاقبتك يف تدبريك! قال دمنة :وما ذاك?
قال كليلة :جرح األسد وهلك الثور .وإن أخرق اخلرق من محل صاحبه على سوء اخللق واملبارزة
49
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
والقتال ،وهو جيد إىل غري ذلك سبيالا .وإن العاقل يدبر األشياء ويقيسها قبل مباشرهتا :فما رجا أن
يتم له منها أقدم عليه ،وما خاف أن يتعذر عليه منها احنرف عنه ،ومل يلتفت إليه .وإين ألخاف عليك
عاقبة بغيك هذا :فإنك قد أحسنت القول ومل حتسن العمل .أين معاهدتك إايي أنك ال تضر ابألسد
يف تدبريك? وقد قيل :ال خري يف القول إال مع العمل ،وال يف الفقه إال مع الورع ،وال يف الصدقة إال مع
النية ،وال يف املال إال مع اجلود ،وال يف الصدق إال مع الوفاء ،وال يف احلياة إال مع الصحة ،وال يف
األمن إال مع السرور.
واعلم أن األدب يذهب عن العاقل الطيش ،ويزيد األمحق طيشا؛ كما أن النهار يزيد كل ذي بصر
نظرا ،ويزيد اخلفاش سوء النظر.
وقد أذكرين أمرك شيئ ا مسعته ،فإن يقال :إن السلطان إذا كان صاحل ا ،ووزراؤه وزراء ٍ
سوء ،منعوا خريه،
فال يقدر أح ٌد أن يدنو منه .ومثله يف ذلك مثل املاء الطيب الذي فيه التماسيح :ال يقدر أح ٌد أن
أمر ال
يتناوله ،وإن كان إىل املاء حمتاجا .وأنت اي دمنة أردت أال يدنو من األسد أحد سواك .وهذا ٌ
يصح وال يتم أبدا .وذلك للمثل املضروب :إن البحر أبمواجه ،والسلطان أبصحابه .ومن احلمق
احلرص على التماس اإلخوان بغري الوفاء هلم ،وطلب اآلخرة ابلرايء ،ونفع النفس بغري الضر .وما عظيت
وأتدييب إايك إال كما قال الرجل للطائر :ال تلتمس تقومي ما ال يستقيم ،وال تعاجل أتديب من ال
يتأدب .قال دمنة :وكيف كان ذلك? قال كليلة :زعموا أن مجاع اة من القردة كانوا سكاانا يف ٍ
جبل،
ليلة ٍ
ابردة ذات رايح وأمطا ٍر اندرا ،فلم جيدوا ،فرأوا يراعةا تطري كأهنا شرارة ان ٍر ،فظنوها فالتمسوا يف ٍ
انرا ،ومجعوا حطب ا كثريا فألقوه عليها ،وجعلوا ينفخون طمع ا أن يوقدوا انرا يصطلون هبا من الربد .وكان
قريبا منهم طائر على شجرٍة ،ينظرون إليه وينظر إليهم ،وقد رأى ما صنعوا ،فجعل يناديهم ويقول :ال
تتعبوا فإن الذي رأيتموه ليس بنا ٍر .فلما طال ذلك عليه عزم على القرب منهم لنهاهم عما هم فيه،
رجل فعرف ما عزم عليه .فقال له :ال تلتمس تقومي ما ال يستقيم :فإن احلجر املانع الذي ال
فمر به ٌ
ينقطع ال جترب عليه السيوف ،والعود الذي ال حنين ال يعمل منه القوس :فال تتعب .فأىب الطائر أن
بناء .فتناوله بعض القردة فضرب به األرض فمات.يطيعه ،وتقدم إىل القردة ليعرفهم أن الرباعة ليسن ٍ
فهذا مثلي معك يف ذلك .مث قد غلب عليك اخلب والفجور ،ومها خلتا ٍ
سوء ،واخلصب شرمها عاقب اة. ّ
وهلذا مثل .قال دمنة :وما ذلك املثل?
50
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
قال كليلة :زعموا أن خبا ومغفالا اشرتكا يف جتارةٍ وسافرا ،فبينما مها يف الطريق ،إذ ختلف املغفل لبعض
حاجته ،فوجد كيس ا فيه ألف دينار ،فأخذه؛ فأحس به اخلب ،فرجعا إىل بلدمها؛ حىت إذا دنوا من
املدينة قعدا القتسام املال .فقال املغفل :خذ نصفه وأعطين نصفه؛ وكان اخلب قد قرر يف نفسه أن
يذهب ابأللف مجيعه .فقال له :ال نقتسم ،فإن الشركة واملفاوضة أقرب إىل الصفاء واملخالطة؛ ولكن
آخذ نفق اة ،وأتخذ مثلها؛ وندفن الباقي يف أصل هذه الشجرة :فهو مكا ٌن حر ٌيز .فإذا احتجنا جئنا أان
وأنت فنأخذ حاجتنا منه؛ وال يعلم مبوضعنا أح ٌد .فأخذا منه يسريا ،ودفنا الباقي يف أصل ٍ
دوحة،
ودخال البلد .مث إن اخلب خالف املغفل إىل الداننري فأخذها ،وسوى األرض كما كانت .وجاء املغفل
بعد ذلك أبشهر فقال للخب :قد احتجت إىل ٍ
نفقة فانطلق بنا أنخذ حاجتنا؛ فقام اخلب معه وذهبا
إىل املكان فحفرا ،فلم جيدا شيئ ا .فأقبل اخلب على وجهه يلطمه يقول :ال تغرت بصحبة صاحب:
خالفتين إىل الداننري فأخذهتا .فجعل املغفل حيلف ويلعن آخذها وال يزداد احلب إال شدة يف اللطم.
وقال :ما أخذها غريك .وهل شعر هبا أح ٌد سواك? مث طال ذلك بينهما ،فرتافعا إىل القاضي ،فاقتص
القاضي قصتهما ،فادعى اخلب أن املغفل أخذها ،وجحد املغفل .فقال للخب :ألك على دعواك
بينة? قال :نعم الشجرة اليت كانت الداننري عندها تشهد يل أن املغفل أخذها .وكان اخلب قد أمر أابه
أن يذهب فيتوارى يف الشجرة حبيث إذا سئلت أجاب .فذهب أبو اخلب فدخل جوف الشجرة .م إن
القاضي ملا مسع ذلك من اخلب أكربه ،وانطلق هو وأصحابه واخلصب واملغفل معه؛ حىت واىف الشجرة؛
فسأهلا عن اخلرب .فقال الشيخ من جوفها :نعم املغفل أخذها .فلما مسع القاضي ذلك اشتد تعجبه.
فدعا حبطب وأمر أن حترق الشجرة .فأضرمت حوهلا النريان فاستغاث أبو اخلب عند ذلك .فأخرج وقد
أشرف على اهلالك .فسأله القاضي عن القصة فأخربه ابخلرب؛ فأوقع ابخلب ضرابا ،وأببيه صفعا ،وأركبه
وغرم اخلب الداننري فأخذها وأعطاها املغفل.
مشهورا ّ ،
جامع
وإمنا ضربت لك هذا املثل لتعمل أن احلب واخلديعة رمبا كان صاحبها هو املغبون .وإنك اي دمنة ٌ
بناج من العقوبة :ألنك ذو
للخب واخلديعة والفجور .وإين أخشى عليك مثرة عملك ،مع أنك لست ٍ
لونني ولسانني .وإمنا عذوبة ماء األهنار ما مل تبلغ إىل البحار .وصالح أهل البيت ما مل يكن فيهم
املفسد .وإنه ال شيء أشبه بك من احلية ذات اللسانني اليت فيها السم :فإن قد جيري من لسانك
كسمها .وإين مل أزل لذلك السم من لسانك خائف ا ،وملا حيل بك متوقع ا ،واملفسد بني اإلخوان
واألصحاب كاحلية يربيها الرجل ويطعمها وميسحها ويكرمها ،مث ال يكون له منها غري اللدغ .وقد
51
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
يقال :الزم ذا العقل وذا الكرم ،واسرتسل إليهما ،وإايك ومفارقتهما؛ واصحب الصاحب إذا كان عاقالا
كامل ،والعاقل غري الكرمي أصحبه ،وإن كان غري حممود ٍ
كرمي ا أو عاقالا غري كرمي :فالعاقل الكرمي ٌ
اخلليقة ،وأحذر من سوء أخالقه وانتفع بعقله ،والكرمي غري العاقل ،الزمه وال تدع مواصلته ،وإن كنت
ال حتمد عقله ،وانتفع بكرمه ،وانفعه بعقلك؛ والقرار كل القرار من اللئيم األمحق .وإين ابلفرار منك
جلدير .وكيف يرجو إخوانك عندك كرما وودا وقد صنعت مبلكك الذي أكرمك وشرفك ما صنعت? ٌ
من حديدا ،ليس مبستنكر على بزاهتاوإن مثلك مثل التاجر الذي قال :إن أرض ا أتكل جرذاهنا مائة ًّ
أن ختتطف األفيال .قال دمنة :وكيف كان ذلك?
اتجر ،فأراد اخلروج إىل بعض الوجوه البتغاء الرزق؛ وكان عنده
قال كليلة :زعموا أنه كان أبرض كذا ٌ
مائة من حديدا؛ فأودعها رجالا من إخوانه ،وذهب يف وجهه .مث قدم بعد ذلك ٍ
مبدة؛ فجاء والتمس
احلديد ،فقال له :إنه قد أكلته اجلرذان .فقال :قد مسعت أنه الشيء أقطع من أنياهبا للحديد .ففرح
الرجل بتصديقه على ما قال وادعى .مث إن التاجر خرج ،فلقي ابنا للرجل؛ فأخذه وذهب به إىل منزله؛
مث رجع إليه الرجل من الغد فقال له :هل عندك علم اببين :فقال له التاجر :إين ملا خرجت من عندك
ابألمس ،رأيت ابزايا قد اختطف صبي ا ،ولعله ابنك .فلطم الرجل على رأسه وقال :اي قوم هل مسعتم أو
من من حديدا ليس بعجب رأيتم أن البزاة ختطف الصبيان? فقال :نعم .وإن أرضا أتكل جرذاهنا مائة ا
أن ختتطف بزاهتا الفيلة .قال له الرجل :أان أكلت حديدك وهذا مثنه .فاردد على ابين .وإمنا ضربت لك
هذا املثل لتعلم أنك إذا غدرت بصاحبك فال شك أنك مبن سواه أغدر؛ وأنه إذا صاحب أحد
موضع :فال شيء أضيع من مودةٍ متنح
ٌ صاحب ا وغدر مبن سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة
من ال وفاء لهٍ ،
وحباء يصطنع عند من ال شكر له ،و ٍ
أدب حيمل إىل من ال يتأدب به وال يسمعه،
وسر يستودع من ال حيفظه؛ فإن صحبة األخيار تورث اخلري ،وصحبة األشرار تورث الشر :كالريح إذا
مرت ابلطيب محلت طيب ا ،وإذا مرت ابلننت محلت نتن ا ،وقد طال وثقل كالمي عليك.
فانتهى كليلة من كالمه إىل هذا املكان وقد فرغ األسد من الثور ،مث فكر يف قتله بعد أن قتله وذهب
وخلق ٍ
كرمي ،وال أدري لعله كان عقل ورأ ٍي ٍعنه الغضب .وقال :لقد فجعين شرتبة بنفسه؛ وقد كان ذا ٍ
بريئا أو مكذوابا عليه؛ فحزن وندم على ما كان منه ،وتبني ذلك يف وجهه؛ وبصر به دمنة ،فرتك حماورة
كليلة ،وتقدم إىل األسد فقال له :ليهنئك الظفر إذ أهلك هللا أعداءك .فماذا حيزنك أيها امللك? قال:
ين على عقل شرتبة ورأيه وأدبه? قال له دمنة :ال ترمحه أيها امللك :فإن العاقل ال يرحم من
أان حز ٌ
52
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
خيافه .وإن الرجل احلازم رمبا أبغض الرجل وكرهه ،مث قربه وأدانه :ملا يعلم عنده من الغناء والكفاية ،فعل
الرجل املتكاره على الدواء الشنيع رجاء منفعته .ورمبا أحب الرجل ،وعز عليه ،فأقصاه وأهلكه ،خمافة
ضرره؛ كالذي تلدغه احلية يف إصبعه فيقطعها ،ويتربأ منها خمافة أن يسر مسها إىل بدنه .فرضي األسد
بقول دمنة .مث علم بعد ذلك بكذبه وغدره وفجوره فقتله شر ٍ
قتلة.
ابب الفحص عن أمر دمنة
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد حدثتين عن الواشي املاهر احملتال ،كيف يفسد ابلنميمة املودة
الثابتة بني املتحابني .فحدثين حينئ ٍذ مبا كان من حالة دمنة وما آل أمره إليه بعد قتل شرتبة ،وما كان
من معاذيره عند األسد وأصحابه حني راجع األسد رأيه يف الثور ،وحتقق النميمة من دمنة ،وما كانت
حجته اليت احتج هبا؛ قال الفيلسوف :أان وجدت يف حديث دمنة أن األسد حني قتل شرتبة ندم على
قتله ،وذكر قدمي صحبته وجسيم خدمته ،وأنه كان أكرم أصحابه عليه .وأخصهم منزلةا لديه ،وأقرهبم
وأدانهم إليه؛ وكان يواصل له املشورة دون خواصه .وكان من أخص أصحابه عنده بعد الثور النمر.
ليلة عند األسد؛ فخرج من عنده جوف الليل يردي منزله ،فاجتاز على فاتفق أنه أمسى لنمر ذات ٍ
منزل كليلة ودمنة .فلما انتهى إىل الباب مسع كليلة يعاتب دمنة على ما كان منه ،ويلومه على النميمة
واستعماهلا؛ خصوصا مع الكذب والبهتان يف حق اخلاصة .وعرف النمر عصيان دمنة وترك القبول له.
فوقف يستمع ما جيري بينهما فكان فيما قال كليلة لدمنة :لقد ارتكبت مركبا صعبا ،ودخلت مدخالا
ضيقا ،وجنيت على نفسك جناي اة موبق اة ،وعاقبتها وخيمةٌ؛ وسوف يكون مصرعك شديدا ،إذا
انكشف لألسد أمرك ،واطلع عليه ،وعرف غدرك وحمالك ،وبقيت ال انصر لك؛ فيجتمع عليك
اهلوان والقتل ،خمافة شرك ،وحذرا من غوائلك؛ فلست مبتخذك بعد اليوم خليالا ،وال ٍ
مفش إليك سرا؛
ألن العلماء قد قالوا :تباعد عمن ال رغبة فيه .وأان جدير مبباعدتك ،والتماس اخلالص يل مما وقع يف
نفس األسد من هذا األمر.
فلما مسع النمر هذا من كالمهما قفل راجع ا ،فدخل على أم األسد؛ فأخذ عليها العهود ومواثيق أن ال
تفشي ما يسر إليها ،فعاهدته على ذلك فأخربها مبا مسع من كالم كليلة ودمنة .فلما أصبحت دخلت
على األسد ،فوجدته كئيبا حزينا مهموما :ملا ورد عليه من قتل شرتبة .فقالت له :ما هذا اهلم الذي قد
أخذ منك ،وغلب عليك? قال :حيزنين قتل شرتبة؛ إذ تذكرت صحبته ومواظبته على خدميت ،وما
كنت أمسع من مناصحته .قالت أم األسد :إن أشد ما شهد امرٌؤ بال علم وال يقني? ولوال ما قالت
53
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
العلماء يف إذاعة األسرار وما فيها من اإلمث والشنار ،لذكرت لك وألخربتك مبا علمت .قال األسد:
إن أقوال العلماء هلا وجوه كثريةٌٍ ،
ومعان خمتلفةٌ .وإين ألعلم صواب ما تقولني :وإن كان عندك رأي فال ٌ
تطويه عين؛ وإن كان قد أسر إليك أح ٌد سرا فأخربيين به ،وأطلعيين عليه ،وعلى مجلة األمر .فأخربته
جبميع ما ألقاه إليها النمر من غري أن ختربه ابمسه .وقال :إين مل أجهل قول العلماء يف تعظيم العقوبة
وتشديدها ،وما يدخل على الرجل من العار يف إذاعة األسرار؛ ولكين أحببت أن أخربك مبا فيه
املصلحة لك؛ وإن وصل خطؤه وضرره إىل العامة فإصرارهم على خيانة امللك مما ال يدفع الشر عنهم،
وبه حيتج السفهاء ،ويستحسنون ما يكون من أعماهلم القبيحة .وأشد معارهم إقدامهم على ذي احلزم.
فلما قضت أم األسد هذا الكالم ،استدعى أصحابه وجنده فأدخلوا عليه .مث أمر أن يؤتى بدمنة .فلما
وقف بني يدي األسد ،ورأى ما هو عليه من احلزن والكآبة ،التفت إىل بعض احلاضرين فقال :مالذي
حدث? وما الذي أحزن امللك? فالتفتت أم األسد إليه وقالت :قد أحزن امللك بقاؤك ولو طرفة عني؛
ولن يدعك بعد اليوم حيا! قال دمنة :ما ترك األول لآلخر شيئا :ألنه يقال :أشد الناس يف توقي
الشر ،يصيبه الشر قبل املستسلم له .فال يكونن امللك وخاصته وجنوده املثل السوء؛ وقد علمت أنه قد
قيل :من صحب األشرار ،وهو يعلم حاهلم ،كان أذاه من نفسه :ولذلك انقطعت النساك أبنفسها عن
اخللق ،واختارت الوحدة على املخالطة ،وحب العمل هلل على حب الدنيا وأهلها .ومن جيزي ابخلري
خريا وابإلحسان إحساانا إال هللا? ومن طلب اجلزاء على اخلري من الناس .وإن أحق ما رغبت فيه رعية
امللك هو حماسن األخالق ومواقع الصواب ومجيل السري؛ وقد قالت العلماء :من صدق ما ينبغي أن
يكذب ،وكذب ما ينبغي أن يصدق ،خرج من مصاف العقالء ،وكان جديرا ابالزدراء .فينبغي أال
ٍ
بشبهة .ولست أقول هذا كراه اة للموت :فإنه وإن كان كريها ،ال منجى منه. يعجل امللك يف أمري
نفس وأعلم أن هوى امللك يف إتالفهن ،لطبت له بذلك نفسا. هالك .ولو كانت يل مائة ٍ
حي ٌ وكل ٌ
فقال بعض اجلند :مل ينطق هبذا حلبه ابمللك ،ولكن خلالص نفسه ،والتماس العذر هلا .فقال هلا دمنة:
عيب? وهل أح ٌد أقرب إىل اإلنسان من نفسه? وإذا مل
ويلك! وهل علي يف التماس العذر لنفسي ٌ
يلتمس هلا العذر ،فمن يلتمسه? لقد ظهر منك ما مل تكن متلك كتمانه من احلسد والبغضاء؛ ولقد
ألحد خريا؛ وأنك عدو نفسك ،فمن سواها ابألوىل .فمثلك عرف من مسع منك ذلك أنك ال حتب ٍ
ال يصلح أن يكون مع البهائم ،فضالا عن أن يكون مع امللك ،وأن يكون ببابه .فلما أجابه دمنة
بذلك ،خرج مكتئبا حزينا مستحيا .فقالت أم األسد لدمنة :لقد عجنب منك ،أيها احملتال ،يف قلة
54
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ني و ٍ
احدة، حيائك ،وكثرة وقاحتك ،وسرعة جوابك ملن كلمك .قال دمنة :ألنك تنظرين إىل بع ٍ
احدة ،مع أن شقاوة جدي قد زوت عين كل شيء ،حىت لقد سعوا إىل امللك أبذن و ٍ
وتسمعني مين ٍ
ابلنميمة علي ،ولقد صار من بباب امللك الستخفافهم به ،وطول كرامته إايهم ،وما هم فيه من العيش
والنعمة ،ال يدرون يف أي وقت ينبغي هلم الكالم ،وال مىت جيب عليهم السكوت .قالت :أال تنظرون
إىل هذا الشقي ،مع عظم ذنبه ،كيف جيعل نفسه بريئا كمن ال ذنب له? قال دمنة :إن الذين يعملون
غري أعماهلم ليسوا على شيء؛ كالذي يضع الرماد موضع ا ينبغي أن يضع فيه الرمل؛ ويستعمل فيه
السرجني ،والرجل الذي يلبس لباس املرأة ،واملرأة اليت تلبس لباس الرجل ،والضيف الذي يقول :أان
رب البيت ،والذي ينطق بني اجلماعة مبا ال يسأل عنه .وإمنا الشقي من ال يعرف األمور وال أحوال
الناس ال يقدر على دفع الشر عن نفسه ،وال يستطيع ذلك .قالت أم األسد :أتظن أيها الغادر احملتال
بقولك هذا أنك ختدع امللك ،وال يسجنك? قال دمنة :الغادر الذي ال أيمن عدوه مكره ،وإذا
انج من
استمكن من عدوه قتله على غري ذنب .قالت أم األسد :أيها الغادر الكذوب ،أتظن أنك ٍ
عاقبة كذبك? وأن حمالك هذا ينفعك مع عظم جرمك? قال دمنة :الكذوب إيل يقول ما مل يكن،
مبني .قالت أم األسد :العلماء منكم هم الذين يوضحون اضح ٌ
وأييت مبا مل يقل ومل يفعل ،وكالمي و ٌ
أمره بفضل اخلطاب .مث هنضت فخرجت .فدفع األسد دمنة إىل القاضي ،فأمر حببسه ،فألقي يف عنقه
حبل ،وانطلق به إىل السجن .فلما انتصف الليل أخرب كليلة أن دمنة يف احلبس .فأاته مستخفيا؛ فلما
ٌ
رآه وما هو عليه من ضيق القيود ،وخرج املكان ،بكى ،وقال له :ما وصلت إىل ما وصلت إليه إال
الستعمالك اخلديعة واملكر ،وإضرابك عن العظة؛ ولكن مل يكن لدي ب ٌد فيما مضى من إنذارك
جمال.
مقال؛ ولكل موض ٍع ٌ
مقام ٌوالنصيحة لك واملسارعة إليك يف خلوص الرغبة فيك :فإنه لكل ٍ
ولو كنت قصرت يف عظتك حني كنت يف ٍ
عافية ،لكنت اليوم شريكك يف ذنبك؛ غري أن العجب
دخل منك مدخالا قهر رأيك ،وغلب على عقلك؛ وكنت أضرب لك األمثال كثريا ،وأذكرك قول
العلماء .وقد قالت العلماء :إن احملتال ميوت قبل أجله .قال دمنة :قد عرفت صدق مقالتك .وقد
خري
قالت العلماء :ال جتزع من العذاب إذا وقفت منك على خطيئة؛ وألن تعذب يف الدنيا جبرمكٌ ،
عظيم ،وعقابمن أن تعذب يف اآلخرة جبهنم مع اإلمث .قال كليلة :قد فهمت كالمك؛ ولكن ذنبك ٌ
معتقل يسمع كالمهما ،وال يراينه؛ فعرف معاتبة كليلة
ٌ أليم .وكان بقرهبما يف السجن فه ٌد
األسد شدي ٌد ٌ
مقر بسوء عمله ،وعظيم ذنبه؛ فحفظ احملاورة بينهما،
لدمنة على سوء فعله ،وما كان منه؛ وأن دمنة ٌ
55
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
وكتمها ليشهد هبا إن سئل عنها .مث إن كليلة انصرف إىل منزله ،ودخلت أم األسد حني أصبحت
على األسد؛ وقالت له :اي سيد الوحوش ،حوشيت أن تنسى ما قلت ابألمس؛ وأنك أمرت به لوقته؛
وأرضيت به رب العباد .وقد قالت العلماء :ال ينبغي لإلنسان أن يتواىن يف اجلد للتقوى؛ بل ال ينبغي
أن يدافع عن ذنب األثيم .فلما مسع األسد كالم أمه ،أمر أن حيضر النمر ،وهو صاحب القضاء .فلما
للجواس العادل :اجلسا يف موضع احلكم ،وانداي يف اجلند صغريهم وكبريهم أن حيضروا حضر قال له و ّ
وينظروا يف حال دمنة ،ويبحثوا يف شأنه ،ويفحصوا عن ذنبه ،ويثبتوا قوله وعذره يف كتب القضاء؛
وارفعا إىل ذلك يوما فيوما .فلما مسع ذلك النمر واجلواس العادل وكان هذا اجلواس عم األسد ،قاال:
مسعا وطاع اة ملا أمر امللك .وخرجا من عنده؛ فعمال مبقتضى ما أمرمها به؛ حىت إذا مضى من اليوم
الذي جلسوا فيه ثالث ساعات ،أمر القاضي أن يؤتى بدمنة؛ فأيت به ،فأوقف بني يديه ،واجلماعة
حضور .فلما استقربه املكان اندى سيد اجلمع أبعلى صوته :أيها اجلمع .إنكم قد علمتم أن سيد
السباع مل يزل منذ قتل شرتبة خائر النفس ،كثري اهلم واحلزن ،يرى أنه قد قتل شرتبة بغري ذنب؛ وأنه
أخذه بكذب دمنة ومنيمته .وهذا القاضي قد أمر أن جيلس جملس القضاء ،ويبحث عن شأن دمنة.
فمن علم منكم شيئ ا يف أمر دمنة من خ ٍري أو ش ٍر ،فليقل ذلك ،وليتكلم به على رءوس اجلمع
واألشهاد ،ليكون القضاء يف أمره أوىل ،والعجلة من اهلوى ،ومتابعة األصحاب على الباطل ذل.
فعندها قال القاضي :أيها اجلمع امسعوا قول سيدكم ،وال تكتموا ما عرفتم من أمره؛ واحذروا يف السرت
خصال :إحداهن ،وهي أفضلهن ،أال تزدروا فعله ،وال تعدوه يسريا :فمن أعظم اخلطااي قتلٍ عليه ثالث
الربيء الذي ال ذنب له ابلكذب والنميمة؛ ومن علم من أمر هذا الكتاب الذي اهتم الربيء بكذبه
ومنيمته شيئا ،فسرت عليه فهو شريكه يف اإلمث والعقوبة .والثانية إذا اعرتف املذنب بذنبه ،كان أسلم له،
وأحرى ابمللك وجنده أن يعفوا عنه ويصفحوا .والثالثة ترك مراعاة أهل الذم والفجور ،وقطع أسباب
مواصالهتم ومودهتم عن اخلاصة والعامة؛ فمن علم من أمر هذا احملتال شيئ ا ،فليتكلم به على رءوس
ميت ،أجلم ٍ
بلجام من ان ٍر األشهاد ممن حضر ،ليكون ذلك حجةا عليه؛ وقد قيل :إنه من كتم شهادة ٍ
يوم القيامة؛ فليقل كل واحد منكم ما علم .فلما مسع ذلك اجلمع كالمه ،أمسكوا عن القول .فقال
دمنة :ما يسكتكم? تكلموا مبا علمتم؛ واعلموا أن لكل كلمة جواابا .وقد قالت العلماء :من يشهد مبا
ال ي ،ويقول ما ال يعلم ،أصابه ما أصاب الطبيب الذي قال ملا ال يعلمه :إين أعلمه .قالت اجلماعة:
وكيف كان ذلك?
56
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
قال دمنة :زعموا أنه كان يف بعض املدن طبيب له رفق وعلم ،وكان ذا فطنة فيما جيري على يديه من
املعاجلات ،فكرب ذلك الطبيب وضعف بصره .وكان مللك تلك املدينة ابنة قد زوجها البن أخ له،
فعرض هلا ما يعرض للحوامل من األوجاع .فجيء هبذا الطبيب ،فلما حضر ،سأل اجلارية عن وجعها
وما جتد ،فأخربته ،فعرف دائها ودواءها ،وقال :لو كنت أبصر ،جلمعت األخالط على معرفيت
أبجناسها ،وال أثق يف ذلك أبحد غريي .وكان يف املدينة رجل سفيه ،فبلغه اخلرب ،فأاتهم وادعى علم
الطب ،وأعلمهم انه خبري مبعرفة أخالط األدوية والعقاقري ،عارف بطبائع األدوية املركبة واملفردة ،فأمره
امللك أن يدخل خزانة األدوية فيأخذ من أخالط الدواء حاجته ،فلما دخل السفيه اخلزانة ،وعرضت
سم قاتل لوقته،
عليه األدوية ،وال يدري ما هي ،وال له هبا معرفة ،أخذ يف مجلة ما أخذ منها صرة فيها ّ
وخلطه يف األدوية ،وال علم له به ،وال معرفة عنده جبنسه .فما متت أخالط األدوية ،سقى اجلارية منه،
فماتت لوقتها .فلما عرف امللك ذلك ،دعا ابلسفيه ،فسقاه من ذلك الدواء ،فمات من ساعته .وإمنا
ضربت لكم هذا املثل لتعلموا ما يدخل على القائل والعامل من الزلة ابلشبه يف اخلروج عن احلد ،فمن
خرج منكم عن حده أصابه ما أصاب ذلك اجلاهل ،ونفسه امللومة.
وقد قالت العلماء :رمبا جزى املتكلم بقوله .والكالم بني أيديكم :فانظروا ألنفسكم .فتكلم سيد
اخلنازير ،إلدالله وتيهه مبنزلته عند األسد ،فقال :اي أهل الشرف من العلماء ،امسعوا مقاليت ،وعوا
أبحالمكم كالمي ،فالعلماء قالوا يف شأن الصاحلني :إهنم يعرفون بسيماههم ،وأنتم معاشر ذوي
االقتدار ،حبسن صنع هللا لكم ،ومتام نعمته لديكم ،تعرفون الصاحلني بسيماهم وصورهم ،وختربون
ابلشيء الصغري ،وهاهنا أشياء كثرية تدل على هذا الشقي دمنة ،وخترب عن شره ،فاطلبوها على ظاهر
جسمه :لتستيقنوا وتسكنوا إىل ذلك .قال القاضي لسيد اخلنازير :قد علمت ،وعلم اجلماعة
احلاضرون ،أنك عارف مبا يف الصور من عالمات السوء ،ففسر لنا ما تقول ،وأطلعنا على ما ترى يف
صورة هذا الشقي .فأخذ سيد اخلنازير يذم دمنة ،وقال :إن العلماء قد كتبوا وأخربوا :أنه من كانت
عينه اليسرى أصغر من عينه اليمىن وهي ال تزال ختتلج ،وكان أنفه مائالا إىل جنبه األمين ،فهو شقي
خبيث .قال له دمنة :شأنك عجب ،أيها القذر ،ذو العالمات الفاضحة القبيحة ،مث العجب من
جرائتك على طعام امللك ،وقيامك بني يديه ،مع ما جبسمك من القذر والقبح ،ومع ما تعرفه أنت
ويعرفه غريك من عيوب نفسك ،أفتتكلم يف النقي اجلسم الذي ال عيب فيه? ولست أان وحدي أطلع
على عيبك ،لكن مجيع من حضر قد عرف ذلك .وقد كان حيجزين عن إظهاره ما بيين وبينك من
57
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
58
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
يديه .فلما عرف قوهلم وقول دمنة دعا أمه فقرأ عليها ذلك .فلما مسعت ما يف الكتاب اندت أبعلى
صوهتا :إن أان أغلظت يف القول فال تلومين :فإنك لست تعرف ضرك من نفعك .أليس هذا مما كنت
أهنا ك عن مساعه :ألنه كالم هذا اجملرم املسيء إلينا ،الغادر بذمتنا? مث إهنا خرجت مغضبة ،وذلك بعني
الشغرب الذي أخاه دمنة وبسمعه .فخرج يف أثرها مسرعا ،حىت أتى دمنة ،فحدثه ابحلديث .فبينما هو
عنده إذ جاء رسول انطلق بدمنة إىل اجلمع عند القاضي .فلما مثل بني يدي القاضي استفتح سيد
اجمللس فقال :اي دمنة قد أنبأين خبربك األمني الصادق وليس ينبغي لنا أن نفحص عن شأنك أكثر من
هذا :ألن العلماء قالوا :إن هللا تعاىل جعل الدنيا سببا ومصداقا لآلخرة :ألهنا دار الرسل واألنبياء
الدالني على اخلري اهلادين إىل اجلنة الداعني إىل معرفة هللا تعاىل .وقد ثبت شأنك عندان وأخربان عنك
من وثقنا بقوله إال أن سيدان أمران ابلعودة يف أمرك والفحص عن شأنك وإن كان عندان ظاهرا بينا.
قال دمنة :أراك أيها القاضي مل تتعود العدل يف القضاء وليس يف عدل امللك دفع املظلومني ومن ال
ذنب له إىل قاض غري عادل بل املخاصمة عنهم والذود .فكيف ترى أن أقتل ومل أخاصم? وتعجل
ذلك موافقة هلواك ومل متض بعد ذلك ثالثة أايم .ولكن صدق الذي قال :إن الذي تعود عمل الرب هني
عليه عمله وإن أضربه .قال القاضي :إن جند يف كتب األولني :أن القاضي ينبغي له أن يعرف عمل
احملسن واملسيء ليجازى احملسن إبحسانه واملسيء إبساءته فإذا ذهب إىل هذا ازداد احملسنون حرصا
على اإلحسان واملسيؤون إجتناابا للذنوب .والرأي لك اي دمنة أن تنظر الذي وقعت فيه وتعرتف
بذنبك وتقر به وتتوب .فأجابه دمنة :إن صاحلي القضاة ال يقطعون ابلظن وال يعملون به ال يف
اخلاصة وال يف العامة :لعلمهم أن الظن ال يغين من احلق شيئا .وأنتم إن ظننتم أين جمرم فيما فعلت فإين
أعلم بنفسي منكم وعلمي بنفسي يقني الشك فيه وعلمكم يب غاية الشك وإمنا قبح أمري عندكم أين
سعيت بغريي فما عذري عندكم إذا سعيت بنفسي كاذاب عليها فأسلمتها للقتل والعطب على معرفة
مين برباءيت وسالمي مما قرفت به? ونفسي ألعظم األنفس على حرمة وأوجبها حق ا .فلو فعلت هذا
أبقصاكم وأدانكم ،ملا وسعين يف ديين ،وال حسن يب يف مروءيت ،وال حق يل أن أفعله فكيف أفعله
بنفسي? فأكفف أيها القاضي عن هذه املقالة :فإهنا إن كانت منك نصيحة فقد أخطأت موضعها
وإن ك انت خديعة فإن أقبح اخلداع ما نظرته وعرفت أنه من غري أهله مع أن اخلداع واملكر ليسا من
أعمال صاحلي القضاة وال تقاة الوالة واعلم أن قولك مما يتخذه اجلهال واألشرار سنة يقتدون هبا :ألن
أمور القضاة أيخذ بصواهبا أهل الصواب وخبطئها أهل اخلطأ والباطل والقليلو الورع وأان خائف عليك
59
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أيها القاضي من مقالتك هذه أعظم الرزااي والبالاي وليس من البالء و املصيبة أنك مل تزل يف نفس
امللك واجلند واخلاصة والعامة فاضالا يف رأيك مقنع ا يف عدلك مرضي ا يف حكمك وعفافك وفضلك
وإمنا البالء كيف أنسيت ذلك يف أمري .فلما مسع القاضي ذلك من لفظ دمنة هنض فرفعه إىل األسد
على وجهه فنظر يف األسد مث دعا أمه فعرضه عليها .فقالت حني تدبرت كالم دمنة لألسد :لقد صار
اهتمامي مبا أختوف من احتيال دمنة لك مبكره ودهائه حىت يقتلك أو يفسد عليك أمرك أعظم من
اهتمامي مبا سلف من ذنبه إليك يف الغش والسعاية حىت قتلت صديقك .بغري ذنب .فوقع قوهلا يف
نفسه .فقال هلا :أخربيين عن الذي أخربك عن دمنة مبا أخربك فيكون حجة يل يف قتل دمنة .فقالت:
إين ألكره أن أفشي سر استكتمنيه ،فال يهنئين سروري بقتل دمنة إذا تذكرت أين استظهرت عليه
بركوب ما هنت عنه العلماء من كشف السر ولكين أطالب الذي استودعنيه أن جيعلين يف حل من
ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما مسع منه .مث انصرفت وأرسلت إىل النمر وذكرت له ما حيق عليه من
حسن معاونته األسد على احلق وإخراج نفسه من الشهادة اليت ال يكتمها مثله مع ما حيق عليه من
نصر املظلومني وتثبيت حجة احلق يف احلياة واملمات :فإنه قد قالت العلماء :من كتم حجة ميت
أخطأ حجته يوم القيامة .فلم تزل به حىت قام فدخل على األسد فشهد عنده مبا مسع من إقرار دمنة.
فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد احملبوس الذي مسع إقرار دمنة وحفظه إىل األسد فقال :إن عندي
شهادة .فأخرجوه .فشهد على دمنة مبا مسع من إقراره .فقال هلما األسد :ما منعكما أن تقوما
بشهادتكما وقد علمتما أمران واهتمامنا ابلفحص عن أمر دمنة فقال كل واحد منهما :قد علمنا أن
شهادة الواحد ال توجب حكم ا فكرهنا التعرض لغري ما ميضي به احلكم حىت إذا شهد أحدان قام
اآلخر بشهادته فقبل األشد قوهلما .وأمر بدمنة أن يقتل يف حبسه :فقتل أشنع قتلة .فمن نظر يف هذا
فليعلم أن من أراد منفعة نفسه بضر غريه ابخلالبة واملكر فإنه سيجري على خالبته ومكره.ايا يف
حكمك وعفافك وفضلك وإمنا البالء كيف أنسيت ذلك يف أمري .فلما مسع القاضي ذلك من لفظ
دمنة هنض فرفعه إىل األسد على وجهه فنظر يف األسد مث دعا أمه فعرضه عليها .فقالت حني تدبرت
كالم دمنة لألسد :لقد صار اهتمامي مبا أختوف من احتيال دمنة لك مبكره ودهائه حىت يقتلك أو
يفسد عليك أمرك أعظم من اهتمامي مبا سلف من ذنبه إليك يف الغش والسعاية حىت قتلت صديقك.
بغري ذنب .فوقع قوهلا يف نفسه .فقال هلا :أخربيين عن الذي أخربك عن دمنة مبا أخربك فيكون حجة
يل يف قتل دمنة .فقالت :إين ألكره أن أفشي سر استكتمنيه ،فال يهنئين سروري بقتل دمنة إذا تذكرت
60
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أين استظهرت عليه بركوب ما هنت عنه العلماء من كشف السر ولكين أطالب الذي استودعنيه أن
جيعلين يف حل من ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما مسع منه .مث انصرفت وأرسلت إىل النمر وذكرت له
ما حيق عليه من حسن معاونته األسد على احلق وإخراج نفسه من الشهادة اليت ال يكتمها مثله مع ما
حيق عليه من نصر املظلومني وتثبيت حجة احلق يف احلياة واملمات :فإنه قد قالت العلماء :من كتم
حجة م يت أخطأ حجته يوم القيامة .فلم تزل به حىت قام فدخل على األسد فشهد عنده مبا مسع من
إقرار دمنة .فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد احملبوس الذي مسع إقرار دمنة وحفظه إىل األسد فقال:
إن عندي شهادة .فأخرجوه .فشهد على دمنة مبا مسع من إقراره .فقال هلما األسد :ما منعكما أن
تقوما بشهادتكما وقد علمتما أمران واهتمامنا ابلفحص عن أمر دمنة فقال كل واحد منهما :قد علمنا
أن شهادة الواحد ال توجب حكم ا فكرهنا التعرض لغري ما ميضي به احلكم حىت إذا شهد أحدان قام
اآلخر بشهادته فقبل األشد قوهلما .وأمر بدمنة أن يقتل يف حبسه :فقتل أشنع قتلة .فمن نظر يف هذا
فليعلم أن من أراد منفعة نفسه بضر غريه ابخلالبة واملكر فإنه سيجري على خالبته ومكره.
ابب احلمامة املطوقة
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد مسعت مثل املتحابني كيف قطع بينهما الكذب وإىل ماذا
صار عاقبة أمره من بعد ذلك .فحدثين ،إن رأيت؛ عن إخوان الصفاء كيف يبتدأ تواصلهم ويستمع
بعضهم ببعض? قال الفيلسوف :إن العاقل ال يعدل ابإلخوان شيئا فاإلخوان هم األعوان على اخلري
كله ،واملؤاسون عند ما ينوب من املكروه .ومن أمثال ذلك مثل احلمامة املطوقة واجلرذ والظيب والغراب.
قال امللك :وكيف كان ذلك? قال بيداب :زعموا أنه كان أبرض سكاوندجني ،عند مدينة داهر ،مكان
كثري الصيد ،ينتابه الصيادون؛ وكان يف ذلك املكان شجرة كثرية األغصان ملتفة الورق فيها وكر غراب
فبينما هو ذات يوم ساقط يف وكره إذ بصر بصياد قبيح املنظر ،سيئ اخللق ،على عاتقه شبكة ،ويف
يده عص ا مقبالا حنو الشجرة ،فذعر منه الغراب؛ وقال :لقد ساق هذا الرجل إىل هذا املكان :إما حيين
وإما حني غريي .فألثبنت مكاين حىت أنظر ماذا يصنع .مث إن الصياد نصب شبكته ،ونثر عليها احلب،
وكمن قريبا منها ،فلم يلبث إال قليال ،حىت مرت به محامة يقال هلا املطوقة ،وكانت سيدة احلمام ومعها
ِ
احلب يلتقطنه فعلقن يف الشبكة كلهن؛
محام كثري؛ فعميت هي وصواحبها عن الشرك ،فوقعن على ّ
وأقبل الصياد فرح ا مسرورا .فجعلت كل محامة تضطرب يف حبائلها وتلتمس اخلالص لنفسها .قالت
املطوقة :ال ختاذلنا يف املعاجلة وال تكن نفس إحداكن أهم إليها م نفس صاحبتها؛ ولكن نتعاون مجيعا
61
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فنقلع الشبكة فينجو بعضنا ببعض؛ فقلعن الشبكة مجيعهن بتعاوهنن ،وعلون يف اجلو؛ ومل يقطع الصياد
رجاءه منهن وظن أهنن ال جياوزن إال قريب ا ويقعن .فقال الغراب :ألتبعهن وأنظرو ما يكون منهن.
فالتفتت املطوقة فرأت الصياد يتبعهن .فقالت للحمام :هذا الصياد جمد يف طلبكن ،فإن حنن أخذان يف
الفضاء مل خيف عليه أمران ومل يزل يتبعنا وإن حنن توجهنا إىل العمران خفي عليه أمران ،وانصرف.
ومبكان كذا جرذٌ هو يل أخ؛ فلو انتهينا إليه قطع عنا هذا الشرك .ففعلن ذلك .وأيس الصياد منهن
وانصرف .وتبعهن الغراب .فلما انتهت احلمامة املطوقة إىل اجلرذ ،أمرت احلمام أن يسقطن ،فوقعن؛
وكان للجرذ مائة حجر للمخاوف فنادته املطوقة ابمسه ،وكان امسه زيرك ،فأجاهبا اجلرذ من حجره :من
أنت? قالت :أان خليلتك املطوقة .فأقبل إليها اجلرذ يسعى ،فقال هلا :ما أوقعك يف هذه الورطة? قالت
مقدر على من تصيبه املقادير ،وهي اليت أوقعتين يف
له :أمل تعلم أنه ليس من اخلري والشر شيء إال هو ٌ
هذه الورطة؛ فقد ال ميتنع من القدر من هو أقوى مين وأعظم أمرا؛ وقد تنكسف الشمس والقمر إذا
قضي ذلك عليهما .مث إن اجلرذ أخذ يف قرض العقد الذي فيه املطوقة .فقالت له املطوقة :ابدأ بقطع
عقد سائر احلمام ،وبع ذلك أقبل على عقدي؛ وأعادت ذلك عليه مرارا ،وهو ال يلتفت إىل قوهلا،
علي كأنك ليس لك يف نفسك حاجة، فلما أكثرت عليه القول وكررت ،قال هلا :لقد كررت القول ّ
وال لك عليها شفقة ،وال ترعني هلا حقا .قالت :إين أخاف ،إن أنت بدأت بقطع عقدي أن متل
وتكسل عن قطع ما بقي؛ وعرفت أنك إن بدأت هبن قبلي ،وكنت أان األخرية مل ترض وإن أدركك
الفتور أن أبقى يف الشرك قال اجلرذ :هذا مما يزيد الرغبة واملودة فيك .مث إن اجلرذ أخذ يف قرض
الشبكة حىت فرغ منها ،فانطلقت املطوقة ومحامها معها.
فلما رأى الغراب صنع اجلرذ ،رغب يف مصادقته ،فجاء وانداه ابمسه ،فأخرج اجلرذ رأسه ،فقال له :ما
حاجتك? قال :إين أريد مصادقتك .قال اجلرذ :ليس بيين وبينك تواصل ،وإمنا العاقل ينبغي له أن
سبيل ،فإمنا أنت اآلكل ،وأان طعام لك .قاليلتمس ما جيد إليه سبيالا ،ويرتك التماس ما ليس إليه ٌ
الغراب :إن أكلي إايك ،وإن كنت يل طعام ا ،مما ال يغين عين شيئ ا؛ وإن مودتك آنس يل مما ذكرت
ولست حبقيق ،إذا جئت أطلب مودتك ،أن تردين خائبا .فإنه قد ظهر يل منك من حسن اخللق ما
رغبين فيك ،وإن مل تكن تلتمس إظهار ذلك :فإن العاقل ال خيفي فضله ،وإن هو أخفاه؛ كاملسك
الذي يكتم مث ال مينعه ذلك من النشر الطيب واألرج الفائح .قال اجلرذ .إن أشد العداوة عداوة
اجلوهر :وهي عداواتن :منها ما هو متكافئ كعداوة الفيل واألسد .فإنه رمبا قتل األسد الفيل أو الفيل
62
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
األسد ،ومنها ما َّقوته من أحد اجلانبني على اآلخر كعداوة ما بيين وبني السنور وبيين وبينك :فإن
علي :فإن املاء لو أطيل إسخانه مل مينعه ذلك من
العداوة اليت بيننا ليست تضرك ،وإمنا ضررها عائد َّ
العدو ومصاحله كصاحب احلية حيملها يف كمه ،والعاقل
إطفائه النار إذا صب عليها ،وإمنا مصاحب ّ
ال يستأنس إىل العدو األريب.
قال الغراب :قد فهمت ما تقول ،وأنت خليق أن أتخذ بفضل خليقتك ،وتعرف صدق مقاليت وال
علي األمر بقولك :ليس إىل التواصل بيننا سبيل :فإن العقالء الكرام ال يبتغون على معروف
تصعب ّ
جزاء ،واملودة بني الصاحلني سريع اتصاهلا بطيءٌ انقطاعها .ومثل ذلك مثل الكوز من الذهب :بطيء
يع انقطاعها،
هني اإلصالح ،إن أصابه ثلم أو كسر ،واملودة بني األشرار سر ٌ
االنكسار ،سريع اإلعادةّ ،
بطيء اتصاهلا .ومثل ذلك مثل الكوز من الفخار سريع االنكسار ينكسر من أدىن عيب وال وصل له
ودك ومعروفك حمتاج :ألنك يود أحدا إال عن رغبة أو رهبة .وأان إىل ّ
يود الكرمي واللئيم ال ّ
أبدا .والكرمي ّ
كرمي وأان مالزم لبابك غري ذائق طعاما حىت تؤاخيين .قال اجلرذ :قد قبلت إخاءك :فإين مل أردد أحدا
قط ،وإمنا بدأت مبا بدأتك به إرادة التوثق لنفسي فإن أنت غدرت يب مل تقل :إين وجدت عن حاجة ُّ
اجلرذ سريع االخنداع .مث خرج من حجره ،فوقف عند الباب .فقال له الغراب :ما مينعك من اخلروج
إيل ،واالستئناس يب? فهل يف نفسك بعد ذلك مين ريبة? قال اجلرذ :إن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم ّ
أمرين ويتواصلون عليهما ومها ذات النفس ،وذات اليد .فاملتباذلون ذات النفس هم األصفياء ،وأما
املتباذلون ذات اليد فهم املتعاونون الذين يلتمس بعضهم االنتفاع ببعض .ومن كان يصنع املعروف
لبعض منافع الدنيا فإمنا مثله فيما يبذل ويعطى كمثل الصياد وإلقائه احلب للطري ،ال يريد بذلك نفع
الطري وإمنا يريد نفع نفسه .فتعاطى ذات النفس أفضل من تعاطي ذات اليد .وإين وثقت منك بذات
ظن بك ،ولكن قد عرفت نفسك ،ومنحتك من نفسي مثل ذلك .وليس مينعين من اخلروج إليك سوء ٍّ
يف رأيك.
أن لك أصحاابا جوهرهم كجوهرك ،وليس رأيهم َّ
قال الغراب :إن من عالمة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديق ا ،ولعدو صديقه عدوا؛ وليس يل
بصاحب وال صديق من ال يكون لك حمبا؛ وإنه يهون عن قطيعة من كان كذلك من جوهري .مث إن
اجلرذ خرج إىل الغراب فتصافحا وتصافيا ،وأنس كل واحد منهما بصاحبه؛ حىت إذا مضت هلما أايم
قال الغراب للجرذ :إن جحرك قريب من طريق الناس ،وأخاف أن يرميك بعض الصبيان حبج ٍر؛ ويل
صديق من السالحف وهو خمصب من السمك وحنن واجدون هناك ما أنكل ٌ مكان يف عزلة ،ويل فيه
63
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فأريد أن أنطلق بك إىل هناك لنعيش آمنني .قال اجلرذ :إن يل أخبار وقصصا سأقصها عليك إذا
انتهينا حيث تريد فافعل ما تشاء .فأخذ الغراب بذنب اجلرذ وطار به حىت بلغ به حيث أراد .فلما دىن
من العني اليت فيها السلحفاة بصرت السلحفاة بغراب ومعه جرذ فذعرت منه ومل تعلم أنه صاحبها،
فناداه فخرجت إليه وسألته من أين أقبلت? فأخربها بقصته حني تبع احلمام وما كان من أمره وأمر
اجلرذ حىت انتهى إليها .فلما مسعت السلحفاة شأن اجلرذ عجبت من عقله ووفاءه ورحبت به وقالت
علي األخبار اليت زعمت أنك حتدثين هبا
له :ما ساقك إىل هذه األرض? قال الغراب للجرذ :اقصص ّ
فأخربين هبا مع جواب ما سألت السلحفاة :فإهنا عندك مبنزليت ،فبدأ اجلرذ وقال :كان منزيل أول أمري
مبدينة ماروت يف بيت رجل انسك وكان خاليا من األهل والعيال ،وكان يؤتى يف كل يوم بسلة من
الطعام فيأكل منها حاجته ويعلق الباقي ،وكنت أرصد الناسك ،حىت خيرج وأثب إىل السلة ،فال أدع
فيها طعام ا إال أكلته ،وأرمي به إىل اجلرذان .فجهد الناسك مرارا أن يعلق السلة مكاانا ال أانله فلم
يقدر على ذلك ،حىت نزل به ذات ليلة ضيف فأكال مجيعا ،مث أخذا يف احلديث فقال الناسك
للضيف :من أي أرض أقبلت? وأين تريد اآلن? وكان الرجل قد جاب اآلفاق ورأى عجائب فأنشأ
عما وطئ من البالد ،ورأى من العجائب ،وجعل الناسك خالل ذلك يصفق بيديه حيدث الناسك ّ
لين ّفرين عن السلة ،فغضب الضيف وقال :أان أحدثك وأنت هتزأ حبديثي! فما محلك على أن سألتين?
فاعتذر إليه الناسك ،وقال :إمنا أصفق بيدي ألن ّفر جرذا قد حتريت يف أمره ،ولست أضع يف البيت
شيئا إال أكله ،فقال الضيف :جرذٌ واحد يفعل ذلك أم جرذان كثرية? فقال الناسك :فما أستطيع له
حيلة .قال الضيف :لقد ذكرتين قول الذي قال :ألمر ما ابعت هذه املرأة مسسم ا مقشورا بغري مقشور!
قال الناسك :وكيف كان ذلك?
قال الضيف :نزلت مرة على رجل مبكان كذا ،فتعشينا ،مث فرش يل .وانقلب الرجل على فراشه،
فسمعته يقول يف آخر الليل المرأته :إين أريد أن أدعو غدا رهطا ليأكلوا عندان ،فاصنعي هلم طعام ا.
فقالت املرأة :كيف تدعو الناس إىل طعامك ،وليس يف بيتك فضل عن عيالك? وأنت رجل ال تبقي
شيئا وال تدخره .قال الرجل :ال تندمي على ٍ
شيء أطعمناه وأنفقناه :فإن اجلمع واالدخار رمبا كانت
قانص،
عاقبته كعاقبة الذئب .قالت املرأة وكيف كان ذلك? قال الرجل :زعموا أنه خرج ذات يوم رجل ٌ
بري
ومعه قوصه ونشابه فلم جياوز غري بعيد ،حىت رمى ظبي ا ،فحمله ورجع طالب ا منزله ،فاعرتضه خنزير ٌّ
ٍ
بنشابة نفذت فيه ،فأدركه اخلنزير وضربه أبنيابه ضربة أطارت من يده القوس ،ووقعا ميتني ،فأتى فرماه
64
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
عليهم ذئب فقال :هذا الرجل والظيب واخلنزير يكفيين أكلهم مد اة ،ولكن أبدأ هبذا الوتر فآكله ،فيكون
قوت يومي ،فعاجل الوتر حىت قطعه فلما انقطع طارت سية القوس فضربت حلقه فمات .وإمنا ضربت
لك هذا املثل لتعلمي أن اجلمع واالدخار وخيم العاقبة .فقالت املرأة :نعم ما قلت! وعندان من األرز
والسمسم ما يكفي ستة نفر أو سبعة ،فأان غاديةٌ على اصطناع الطعام ،فادع من أحببت .وأخذت
املرأة حني أصبحت مسسما فقشرته ،وبسطته يف الشمس ِّ
ليجف ،وقالت لغالم هلم :اطرد عنه الطري
كلب ،فعاث فيه؛ فاستقذرتهوالكالب وتفرغت املرأة لصنعها؛ وتغافل الغالم عن السمسم؛ فجاء ٌ
املرأة ،وكرهت أن تصنع منه طعاما ما؛ فذهبت به إىل السوق ،فأخذت به مقايضة مسسما غري
رجل :ألم ٍر ما ابعت هذه املرأة مسسما مقشورا بغري مقشور :مثالا مبث ٍل ،وأان و ٌ
اقف يف السوق؛ فقال ٌ
علة ما يقدر على ما شكوت منه.مقشوٍر .وكذلك قويل يف هذا اجلرذ الذي ذكرت أنه على غري ٍ
فالتمس يل فأس ا لعلي أحتقره جحره فأطلع على بعض شأنه .فاستعار الناسك من بعض جريانه فأس ا،
حينئذ يف غري جحري أمسع كالمهما ،ويف جحري كيس فيه مائة دينار ،ال أدري فأتى هبا الضيف ،وأان ٍ
من وضعها ،فاحتفر الضيف حىت انتهى إىل الداننري فأخذها وقال الناسك :ما كان هذا اجلرذ يقوى
على الوثوب حيث كان يثب إال هبذه الداننري :فإن املال جعل له قوة وزايدة يف الرأي والتمكن.
وسرتى بعد هذا أنه ال يقدر على الوثوب حيث كان يثب .فلما كان من الغد اجتمع اجلرذان اليت
كانت معي فقالت :قد أصابنا اجلوع ،وأنت رجائنا فانطلقت ومعي اجلرذان إىل املكان الذي كنت
أثب منه إىل السلة فحاولت ذلك مرارا :فلم أقدر عليه فاستبان للجرذان نقص حايل فسمعتهن يقلن:
انصرفن عنه ،وال تطمعن فيما عنده :فإان نرى له حاالا ال حنسبه إال قد احتاج معها إىل من يعوله.
فرتكين ،وحلقن أبعدائي وجفونين ،وأخذن يف غيبيت عند من يعاديين وحيسدين .فقلت يف نفسي :ما
عما
اإلخوان وال األعوان وال األصدقاء إال ابملال ووجدت من ال مال له ،إذا أراد أمرا قعد به العدم ّ
يريده :كاملاء الذي يبقى يف األودية من مطر الشتاء :ال مير إىل هنر وال جيري إىل مكان ،فتشربه أرضه.
ووجدت من ال إخوان له ال أهل له ،ومن ال ولد له ال ذكر له :ومن ال مال له ال عقل له ،وال دنيا
وال آخرة له :ألن الرجل إذا افتقر قطعه أقاربه وإخوانه :فإن الشجرة النابتة يف السباخ ،املأكولة من كل
جانب ،كحال الفقري احملتاج إىل ما يف أيدي الناس.
ووجدت الفقر رأس كل بالء ،وجالب ا إىل صاحبه كل مقت ،ومعدن النميمة .ووجدت الرجل إذا افتقر
اهتمه من كان له مؤمتنا ،وأساء به الظن من كان يظن فيه حسنا :فإن أذنب غريه كان هو للتهمة
65
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ذم ،فإن كان شجاعا قيل :أهوج ،وإن كان موضعا .وليس من خلة هي للغين مدح إال وهي للفقري ٌ
جوادا مسّي مبذرا ،وإن كان حليم ا مسي ضعيف ا ،وإن كان وقورا مسي بليدا .فاملوت أهون من احلاجة
اليت حتوج صاحبها إىل املسألة ،وال سيما مسألة األشحاء واللئام :فإن الكرمي لو كلف أن يدخل يده
يف فم األفعى ،فيخرج منه مسا فيبتلعه كان ذلك أهون عليه وأحب إليه من مسألة البخيل اللّئم .وقد
كنت رأيت الضيف حني أخذ الداننري فقامسها الناس ،فجعل الناسك نصيبه يف خريطة عند رأسه وملا
جن الليل ،فطمعت أن أصيب منها شيئ ا فأرده إىل جحري ،ورجوت أن يزيد ذلك يف قويت ،ويراجعين
ّ
بسببه بعض أصدقائي .فانطلقت إىل الناسك وهو انئم ،حىت انتهيت عند رأسه ،ووجدت الضيف
يقظان ،وبيده قضيب ،فضربين على رأسي ضربة موجعة ،فسعيت إىل جحري .فلما سكن عين األمل،
هيجين احلرص والشره ،فخرجت طمع ا كطمعي األول ،وإذا الضيف يرصدين ،فضربين ضربة أسالت
علي ،فأصابين من الوجع ما بغض إىل املال
مين الدم ،فتقلبت ظهرا لبطن إىل جحري ،فخررت مغشي ا ّ
رعدة وهيبة .مث تذكرت فوجدت البالء يف الدنيا إمنا يسوقه احلرص والشره ،وال يزال صاحب الدنيا يف
علي من بسط اليد إىل
بلية وتعب ونصب ،ووجدت جتشم األسفار البعيدة يف طلب الدنيا أهون ّ
خى ابملال ،ومل أر كالرضا شيئ ا ،فصار أمري إىل أن رضيت وقنعت ،وانتقلت من بيت الناسك إىل الس ِّ
َّ
الربية ،وكان يل صديق من احلمام ،فسيقت إيل بصداقته صداقة .مث ذكر يل الغراب ما بينك وبينه من
املودة ،وأخربين أنه يريد إتيانك ،فأحببت أن آتيك معه ،فكرهت الوحدة ،فإنه ال شيء من سرور
الدنيا يعدل صحبة اإلخوان ،وال غم فيها يعدل البعد عنهم .وجربت :فعلمت أنه ال ينبغي للعاقل أن
يلتمس من الدنيا غري الكفاف الذي يدفع به األذى عن نفسه :وهو اليسري من املطعم واملشرب ،إذا
اشتمل على صحة البدن ورفاهة البال.
ولو أن رجالا وهبت له الدنيا مبا فيهان مل يك ينتفع من ذلك إال ابلقليل الذي يدفع به عن نفسه
احلاجة :فأقبلت مع الغراب إليك على هذا الرأي ،وأان لك أخ ،فلتكن منزليت عندك كذلك .فلما فرغ
عذب ،وقالت :قد مسعت كالمك ،وما أحسن ما قيق ٍ اجلرذ من كالمه أجابته السلحفاة بكالٍم ر ٍ
حتدثت به! إال أين رأيتك تذكر بقااي أموٍر هي يف نفسك .واعلم أن حسن الكالم ال يتم إال حبسن
العمل ،وأن املريض الذي قد علم دواء مرضه إن يتداو به ،مل يغن به شيئا ،ومل جيد لدائه راحة وال
خف اة .فاستعمل رأيك ،وال حت زن لقلة املال :فإن الرجل ذا املروءة قد يكرم على غري مال :كاألسد
الذي يهاب ،وإن كان رابضا ،والغين الذي ال مروءة له يهان وإن كان كثري املال :كالكلب ال حيفل به،
66
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
وإن طوق وخلخل ابلذهب .فال تكرب ّن عليك غربتك :فإن العاقل ال غربة له :كاألسد الذي ال ينقلب
إال ومع ه قوته .فلتحسن تعاهدك لنفسك :فإنك إذا فعلت ذلك جاءك اخلري يطلبك كما يطلب املاء
احنداره .وإمنا ُجعل الفضل للحازم البصري ابألمور ،وأما الكسالن املرتدد فإن الفضل ال يصحبه .وقد
ثبات وال بقاء :ظل الغمامة يف الصيف ،وخلة األشرار ،والبناء على غري أساس، قيل يف أشياء ليس هلا ٌ
واملال الكثري :فالعاقل ال حيزن لقلته ،وإمنا مال العاقل عقله ،وما ق ّدم من صاحل ،فهو واثق أبنه ال
يسلب ما عمل وال يوآخذ ٍ
بشيء مل يعمله ،وهو خليق أال يغفل عن أمر أخرته :فإن املوت ال أييت إال
بغت اة ،ليس له وقت معني .وأنت عن موعظيت غين مبا عندك من العلم .ولكن رأيت أن أقضي مالك
من حق قبلنا :ألنك أخوان وما عندان من النصح مبذول لك .فلما مسع الغراب كالم السلحفاة للجرذ
تسري نفسكعلي ،وأنت جديرة أن ّ وردها عليه ومالطفتها إايه فرح بذلك وقال :لقد سررتين وأنعمت ّ
مبثل ما سررتين به .وإن أوىل أهل الدنيا بش ّدة الس رور من ال يزال عنده منهم مجاعة يسرهم ويسرونه،
ويكون من وراء أمورهم وحاجاهتم ابملرصاد :فإن الكرمي إذا عثر ال أيخذ بيده إال الكرام :كالفيل إذا
وحل ال خترجه إال الفيلة .فبينما الغراب يف كالمه ،إذ أقبل حنوهم ظيب يسعى ،فذعرت منه السلحفاة،
فغاصت يف املاء ،وخرج اجلرذ إىل جحره ،وطار الغراب فوقع على شجرة.
مث إن الغراب حلّق يف السماء لينظر هل للظيب طالب? فنظر فلم ير شيئا؛ فنادى اجلرذ والسلحفاة،
وخرجا ،فقالت السلحفاة للظيب ،حني رأته ينظر إىل املاء :اشرب إن كان بك عطش ،وال ختف :فإنه
ال خوف عليك .فدان الظيب فرحبت به السلحفاة وحيّته وقالت له :من أين أقبلت? قال :كنت أسنح
هبذه الصحارى فلم تزل األساورة تطردين من مكان إىل مكان حىت رأيت اليوم شبح ا .فخفت أن
ودان ومكاننا واملاء واملرعى
يكون قانصا قالت :ال ختف :فإان مل نرى هاهنا قانصا قط ،وحنن نبذل لك ّ
كثريان عندان فارغب يف ص حبتنا .فأقام الظيب معهم وكان هلم عريش جيتمعون فيه ويتذاكرون
األحاديث واألخبار .فبينما الغراب واجلرذ والسلحفاة ذات يوم يف العريش غاب الظيب فتوقعوه ساعة
عنت ،فقال اجلرذ والسلحفاة للغراب :انظر هل ترى
فلم أيت .فلما أبطأ أشفقوا أن يكون قد أصابه ٌ
مما يلينا شيئا? فحلق الغراب يف السماء فنظر :فإذا الظيب يف احلبائل مقتنصا فانقض مسرعا فأخربمها
بذلك فقالت السلحفاة والغراب للجرذ :هذا أمر ال يرجى فيه غريك ،فأغث أخاك ،فسعى اجلرذ
مسرع ا ،فأتى الظيب ،فقال له :كيف وقعت يف هذه الورطة وأنت من األكياس? قال الظيب :هل يغين
الكيس مع املقادير شيئا ،فبينما مها يف احلديث إذ وافتهما السلحفاة فقال هلا الظيب .ما أصبت
67
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أحجار كثرية،
ٌ مبجيئك إلينا :فإن القانص لو انتهى إلينا وقد قطع اجلرذ احلبائل استبقه عدوا ،وللجرذ
والغراب يطري وأنت ثقيلة :ال سعى لك وال حركة وأخاف عليك القانص .فقالت :ال عيش مع فراق
األحبة وإذا فارق األليف أليفه فقد سلب فؤاده ،وحرم سروره ،وغشى بصره ،فلم ينتهي كالمهما حىت
واىف القانص ،ووافق ذلك فراغ اجلرذ من قطع الشرك ،فنجا الظيب بنفسه ،وطار الغراب حملقا ودخل
اجلرذ بعض األحجار ومل يبق غري السلحفاة ،ودان الصياد فوجد حبالته مقطّعة ،فنظر ميينا ومشاالا فلم
جيد غري السلحفاة تدب ،فأخذها وربطها ،فلم يلبث الغراب واجلرذ والظيب أن اجتمعوا فنظروا القانص
قد ربط السلحفاة فاشتد حزهنم ،وقال اجلرذ :ما أراان جناوز عقبة من البالء إال صران يف أشد منها.
ولقد صدق الذي قال :ال يزال اإلنسان مستمرا يف إقباله ما مل يعثر ،فإذا عثر جلَّ به العثار وإن مشى
يف جدد األرض .وحذري على السلحفاة خري األصدقاء اليت خلتها ليست للمجازاة وال اللتماس
مكافأة ،ولكنها خلة الكرم والشرف ،خلة هي أفضل من خلة الوالد لولده ،خلة ال يزيلها إال املوت.
ويح هلذا اجلسد املوكل به البالء الذي ال يزال يف تصرف وتقلب ،وال يدوم له شيء ،وال يلبث معه
ٌ
أفول ،لكن ال يزال للطالع منها آفالا،
أمر :كما ال يدوم للطالع من النجوم طلوع ،وال لآلفل منها ٌ
واآلفل طالع ا ،وكما تكون آالم الكلوم وانتقاض اجلراحات ،كذلك من قرحت كلومه بفقد إخوانه بعد
اجتماعه هبم.
كل منها ال يغين عن
فقال الظيب والغراب للجرذ :إ ّن حذران وحذرك وكالمك ،وإن كان بليغاٌ ،
السلحفاة شيئا ،وإنه كما يقال :إمنا خيرت الناس عند البالء ،وذو األمانة عند األخذ والعطاء ،واألهل
والولد عند الفاقة ،كذلك خيترب اإلخوان عند النوائب .قال اجلرذ :أرى من احليلة أن تذهب أيها الظيب
فتقع مبنظر من القانص :كأنك جريح ،ويقع الغراب عليك كأنه أيكل منك ،وأسعى أان فأكون قريبا
من القانص ،مراقبا له ،فعلّه أن يرمي ما معه من اآللة ،ويضع السلحفاة ،ويقصدك طامعا فيك ،راجيا
حتصيلك .فإذا دان منك ففر عنه رويدا :حبيث ال ينقطع طمعه منك ،ومكنه من أخذك مرة بعد مرة،
حىت يبعد عنا ،وانْ ُح منه هذا النحو ما استطعت :فإين أرجو أال ينصرف إال وقد قطعت احلبائل عن
السلحفاة ،وأجنو هبا .ففعل الغراب والظيب ما أمرمها به اجلرذ ،وتبعهما القانص ،فاستجره الظيب ،حىت
مقبل على قطع احلبائل ،حىت قطعها ،وجنا ابلسلحفاة ،وعادأبعده عن اجلرذ والسلحفاة ،واجلرذ ٌ
القانص جمهودا الغباُ فوجد حبالته مقطعة .ففكر يف أمره مع الظيب املتظالع ،فظن أنه خولط يف عقله
وفكر يف أمر الظيب والغراب الذي كأنه أيكل منه وقرض حبالته فاستوحش من األرض وقال :هذه
68
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أرض ٍّ
جن أو سحرة .فرجع موليا ال يلتكس شيئا وال يلتفت إليه .واجتمع الغراب والظيب واجلرذ
والسلحفاة إىل عريشهم ساملني آمنيني كأحسن ما كانوا عليه .فإذا كان هذا اخللق مع صغره وضعفه قد
قدر على التخلص م مرابط اهللكة مرة بعد أخرى مبودته وخلوصها وثبات قلبه عليها واستمتاعه مع
أصح ابه بعضهم ببعض فاإلنسان الذي قد أعطي العقل والفهم .وأهلم اخلري وال شر ومنح التميز
واملعرفة ،أوىل وأحرى ابلتواصل والتعاضد .فهذا مثل إخوان الصفاء وأتالفهم يف الصحبة.
ابب البوم والغرابن
العدو
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد مسعت مثل إخوان الصفاء وتعاوهنم ،فاضرب يل مثل ّ
الذي ال ينبغي أن يغرت به ،وإن أظهر تضرعا وملقا ،قال الفيلسوف :من اغرت ابلعدو الذي مل يزل
عدوا ،أصابه ما أصاب البوم من الغرابن .قال امللك وكيف كان ذلك?
قال بيداب :زعموا أنه كان يف جبل يف اجلبال شجرة من شجر الدوح ،فيها وكر ألف غراب ،وعليهن
و ٍال من أنفسهن ،وكان عند هذه الشجرة كهف فيه ألف بوم ،وعليهن و ٍال منهن .فخرج ملك البوم
لبعض غدواته وروحاته ،ويف نفسه العداوة مللك الغرابن ،ويف نفس الغرابن وملكها مثل ذلك للبوم،
فأغار ملك البوم يف أصحابه على الغرابن يف أوكارها ،فقتل وسىب منها خلق ا كثرياُ ،وكانت الغارة ليالا،
فلما أصبحت الغرابن اجتمعت إىل ملكها فقلن له :قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم ،وما منّا
إلال أصبح قتيالا أو جرحيا أو مكسور اجلناح أو منتوف الريش أو مقطوف الذنب وأشد مما أصابنا ضرا
لعلمهن مبكاننا :فإمنا
ّ وهن عائدات إلينا غري منقطعات عنّا:
علينا جراءهتن علينا ،وعلمهن مبكانناّ ،
حنن لك ،ولك الرأي ،أيها امللك ،فانظر لنا ولنفسك ،وكان يف الغرابن مخسة معرتف هلن حبسن
إليهن يف األمور ،ويلقى عليهن أزمة األحوال .وكان امللك كثريا ما يشاورهن يف األمور،
الرأي ،يسند ّ
وأيخذ آراءهن يف احلوادث والنوازل .فقال امللك لألول من اخلمسة :ما رأيك يف هذا األمر? قال :رأي
قد سبقتنا إليه العلماء ،وذلك أهنم قالوا :ليس للعدو احلنق إال اهلرب منه .قال امللك للثاين :ما رأيك
يف هذا األمر? قال :رأي ما رأى هذا من اهلرب .قال امللك :ال أرى لكما ذلك رأايا ،أن نرحل عن
أوط اننا وخنليها لعدوان من أول نكبة أصابتنا منه وال ينبغي لنا ذلك ولكن جنمع أمران ونستعد لعدوان
ونذكي انر احلرب فيما بيننا وبني عدوان وحنرتس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه مستعدين ونقاتله قتاالا
غري مراجعني فيه ،وال مقصرين عنه وتلقى أطرافنا أطراف العدو ونتحرز حبصوننا وندافع عدو ّان :ابألانة
مرة وابجلالد أخرى حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا ،وقد ثنينا عدوان عنّا .مث قال امللك للثالث :ما رأيك
69
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أنت? قال :ما أرى ما قاال رأايا .ولكن نبث العيون ونبعث اجلواسيس ونرسل الطالئع بيننا وبني عدوان
فنعلم أيريد صلحنا أم يريد حربنا أم يريد الفدية? فإن رأينا أمره أمر طامع يف مال ،مل نكره الصلح على
خر ٍاج نؤديه إليه كل سنة ،ندفع به عن أنفسنا ونطمئن يف أوطاننا :فغن من أراء امللوك إذا أشتدت
شوكة عدوهم ،فخافوه على أنفسهم وبالدهم ،أن جيعلوا األموال جنة البالد وامللك والرعية .قال امللك
للرابع :فما رأيك يف هذا الصلح? قال ال أراه رأايا بل أن نفارق أوطاننا ونصرب على الغربة وشدة
خري من أن نضيع أحسابنا وخنضع للعدو الذي حنن أشرف منه مع أن البوم لو عرضنا ذلك املعيشة ٌ
عليهن ملا رضني منّا إال ابلشَّطط .ويقال يف األمثال :قارب عدوك بعض املقاربة :لتنال حاجتك.
وال تقاربه كل املقاربة :فيتجرىء عليك ويضعف جندك َّ
وتذل نفسك .ومثل ذلك مثل اخلشبة املنصوبة
الظل .وليس عدوان
يف الشمس :إذا أملتها قليالا زاد ظلها ،وإذا جاوزت هبا احلد يف إمالتها نقص ُّ
راضي ا منّا ابلدون يف املقاربة ،فالرأي لنا ولك احملاربة .قال امللك للخامس :ما تقول أنت? وماذا ترى:
القتال أم الصلح أم اجلالء عن الوطن? قال :أما القتال فال سبيل للمرء إىل قتال من ال يقوى عليه وقد
يقال :إنه من ال يعرف نفسه وعدوه وقاتل من ال يقوى عليه ،محل نفسه على حتفها مع أن العاقل ال
يستصغر عدوا :فإن من استصغر عدوه اغرت به ومن اغرت بعدوه مل يسلم منه .وأان للبوم شديد اهليبة
وإن أضربن عن قتالنا وقد كنت أهاهبا قبل ذلك ،فإن احلازم ال أيمن عدوه على كل حال فإن كان
بعيدا مل أيمن سطوته ،وإن كان مكثبا مل أيمن من وثبته ،وإن كان وحيدا مل أيمن من مكره .وأحزم
األقوام وأكسيهم من كره القتال جلل النفقة فيه :فإن ما دون القتال النفقة فيه من األموال والقول
والعمل ،والقتال النفقة فيه من األنفس واألبدان .فال يكونن القتال للبوم من رأيك ،أيها امللك :فإن
من قاتل من ال يقوى عليه فقد غرر بنفسه .فإذا كان امللك حمصنا لألسرار ،متخريا للوزراء ،مهيبا يف
أعني الناس ،بعيدا من أن يقدر عليه ،كان خليقا أال يسلب صحيح ما أوتى من اخلري .وأنت ،أيها
سر ولألسرار
مين عنه ،يف بعضه عالنية ،ويف بعضه ٌ امللك ،كذلك .وقد استشرتين يف أمر جوابك ّ
منازل :منها ما يدخل فيه الرهط ،ومنها ما يستعان فيه ابلقوم ،ومنها ما يدخل فيه الرجالن .ولست
آذان ولساانن .فنهض امللك من ساعته ،وخال أرى هلذا السر على قدر منزلته أن يشارك فيه إال أربع ٍ
به ،فاستشاره ،فكان أول ما سأله عنه امللك أنه قال :هل يعلم ابتداء عداوة ما بيننا وبني البوم? قال:
نعم :كلمة تكلم هبا غراب .قال امللك :وكيف كان ذلك? قال الغراب :زعموا أن مجاعة من الكراكي مل
يكن هلا ملك ،فأمجعت أمرها على أن ميلكن عليهن ملك البوم فبينما هي يف جممعها إذ وقع هلا
70
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
غراب ،فقالت :لو جاءان هذا الغراب .الستشرانه؛ فلم يلبثن دون أن جاءهن الغراب .فاستشرنه،
فقال :لو أن الطري ابدت من األقاليم ،وفقد الطاوس والبط والنعام واحلمار من العامل ملا اضطررتن إىل
عليكن البوم اليت هي أقبح الطري منظرا ،وأسوؤها خلقا ،وأقلها عقالا ،وأشدها غضبا وأبعدها
ّ أن متلّكن
من كل رمحة ،مع عماها وما هبا من العشا ابلنهار ،وأشد من ذلك وأقبح أمورها سفهها وسوء
أخالقها ،إال أن ترين أن متلكنها وتكن أننت تدبرن األمور دوهنا برأيكن وعقولكن ،كما فعلت األرنب
اليت زعمت أن القمر ملكها ،مث عملت برأيها ،قال الطري :وكيف كان ذلك?
قال الغراب :زعموا أن أرضا من أراضي الفيلة تتابعت عليها السنون ،وأجدبت ،وقل ماؤها ،وغارت
عيوهنا ،وذوى نبتها ،ويبس شجرها ،فأصاب الفيلة عطش شديد :فشكون ذلك إىل ملكهن ،فأرسل
امللك رسوله ورواده يف طلب املاء ،يف كل انحية .فرجع إليه بعض الرسل ،فأخربه إين قد وجدت مبكان
كذا عين ا يقال هلا عني القمر ،كثرية املاء .فتوجه ملك الفيلة أبصحابه إىل تلك العني ليشرب منها هو
وفيلته .وكانت العني يف أرض لألرانب ،فوطئن األرانب يف أجحارهن ،فأهلكن منهن كثريا ،فاجتمعت
األرانب إىل ملكها فقلن له :قد علمت ما أصابنا من الفيلة فقال :ليحضرن منكن كل ذي رأي رأيه.
نب من األرانب يقال هلا فريوز .وكان امللك يعرفها حبسن الرأي واألدب ،فقالت :إن رأى فتقدمت أر ٌ
امللك أن يبعثين إىل الفيلة ويرسل معي أمينا ،لريى ويسمع ما أقول ،ويرفعه إىل امللك ،فقال هلا امللك:
أنت أمينة ،ونرضى بقولك ،فانطلقي إىل الفيلة ،وبلغي عين ما تريدين .واعلمي أن الرسول برأيه
وعقله ،ولينه وفضله ،خيرب عن عقل املرسل .فعليك ابللني والرفق واحللم والتأين :فإن الرسول هو الذي
يلني الصدور إذا رفق ،وخيشن الصدور إذا خرق .مث إن األرنب انطلقت يف ليلة قمراء ،حىت انتهت إىل
كن غري متعمدات .مث أشرفت الفيلة ،وكرهت أن تدنو منهن :خمافة أن يطأهنا أبرجلهن ،فيقتلنها ،وإن ّ
على اجلبل واندت ملك الفيلة وقالت له :إن القمر أرسلين إليك ،والرسول غري ملوم فيما يبلغ ،وإن
أغلظ يف القول .قال ملك الفيلة :فما الرسالة? قالت :يقول لك :إن من عرف فضل قوته على
الضعفاء ،فاغرت بذلك يف شأن األقوايء ،قياس ا هلم على الضعفاء ،كانت قوته وابالا عليه .وأنت قد
فغرك ذلك ،فعمدت إىل العني اليت تسمى ابمسي ،فشربت منها، عرفت فضل قوتك على الدوابّ ،
ُغش بصرك ،وأتلف نفسك. وك ّدرهتا .فأرسلين إليك :فأنذرك أال تعود إىل مثل ذلك .وإنك إن فعلت أ ِّ
شك من رساليت ،فهلم إىل العني من ساعتك :فإين موافيك هبا .فعجب ملك الفيلة من وإن كنت يف ٍّ
قول األرنب ،فانطلق إىل العني مع فريوز الرسول .فلما نظر إليها ،رأى ضوء القمر فيها .فقالت له
71
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فريوز الرسول :خذ خبرطومك من املاء فاغسل به وجهك ،واسجد للقمر .فأدخل الفيل خرطومه يف
املاء ،فتحرك فخيل للفيل أن القمر ارتعد .فقال :ما شأن القمر ارتعد? أتراه غضب من إدخايل
اخلرطوم يف املاء? قالت فريوز األرنب :نعم .فسجد الفيل للقمر مرة أخرى ،واتب إليه مما صنع ،وشرط
اخلب
أال يعود إىل مثل ذلك هو وال أحد من فيلته .قال الغراب :ومع ما ذكرت من أمر البوم إن فيها َّ
واملكر واخلديعة ،وشر امللوك اخلادع ،ومن ابتلى بسالن خمادع ،وخدمه ،أصاب ما أصاب األرنب
والفرد حني احتكما إىل السنور .قالت الكراكي :وكيف كان ذلك? قال الغراب :كان يل جارا من
االصفاردة يف أصل شجرة قريبة من وكرى وكان يكثر مواصليت مث فقدته فلم أعلم أين غاب وطالت
غيبته عين .فجاءت أرنب إىل مكان الصفرد فسكنته فكرهت أن أخاصم األرنب فلبثت فيه زماانا .مث
إن الصفرد غاد بعد زمان فأتى منزله فوجد فيه األرنب .فقال هلا :هذا املكان يل ،فانتقلي عنه .قالت
علي .قال الصفرد:
حق فاستعد إبثباته ّ األرنب :املسكن يل ،وحتت يدي؛ وأنت م ّدع له .فإن كان لك ٌ
القاضي منا قريب :فهلمي بنا إليه .قالت األرنب :ومن القاضي? قال الصفرد :إن بساحل البحر
دابة ،وال يهرق دما ،عيشه من احلشيش ومما سنورا متعبدا ،يصوم النهار ،ويقوم الليل كله؛ وال يؤذي ٍ
يقذفه إليه البحر .فإن أحببت حتاكمنا إليه ،ورضينا به .قالت األرنب :املسكن يل ،وحتت يدي ،وأنت
علي.
مدع له .فإن كان لك حق فاستعد إبثباته ّ
قال الصفرد :القاضي? منا قريب :إن بساحل البحر سنورامعبدا ،يصوم النهار ،ويقوم الليل كله،
واليؤذى دابة ،وال يهريق دما ،عيشه من احلشيش ومما يقذفه إليه البحر .فإن أحببت حتاكما إليه،
ورضينا به .قالت األرنب :ما أرضاين به إذا كان كما وصفت .فانطلقا إليه فتبعهما ألنظر إىل حكومة
الصوام القوام مث إهنما ذهبا إليه فلما بصر النور ابألرنب والصفرد مقبيلني حنوه ،انتصب قائما يصلي،
وأظهر اخلشوع والتنسك .فعجبا ملا رأاي من حاله ودنوا منه هائبني له ،وسلما عليه وسأاله أن يقضي
بينهما .فأمر مها أن يقصا عليه القصة ففعال .فقال هلما :قد بلغين الكرب وثقلت أذاني :فادنوا مين
فامسعاىن ما تقوالن .فدنوا منه ،وأعادا عليه القصة وسأاله احلكم فقال قد فهمت ما قلتما ،وأان
مبتدئكما ابلنصيحة قبل احلكومة بينكما :فأان آمركما بتقوى هللا وأالتطلبا إال احلق هو الذي يفلح،
وأن قضى عليه وطالب احلق هو الذي يفلح وإن قضى عليه وطالب الباطل خمصوم وإن قضى له.
وليس لصاحب الدنيا من دنياه شئ ال مال وال صديق سوى العمل الصاحل يقدمه فذو العقل حقيق
أن يكون سعيه يف طلب ما يبقى وعود نفعه عليه غدا ،وأن ميقت بسعيه فيما سوى ذلك من أمور
72
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
الدنيا :فإن منزلة املال عند العاقل مبنزلة املدر ،ومن زلة الناس عنده فيما حيب أهم من اخلري ويكره من
يقص عليهما من جنس هذا وأشباهه ،حىت أنسا إليه ،وأقبالالسنّور مل يزل ّ الشر مبنزلة نفسه .مث إن ّ
عليه ،ودنوا منه ،مث وثب عليهما فقتلهما .قال الغراب :مث إن البوم جتمع مع ما وصفت لكن من
الشؤم سائر العيوب :فال يكونن متليك البوم من رأ يكن .فلما مسع الكراكى ذلك من كالم الغراب
أضربن عن متليك البوم .زكان هناك بوم حاضر قد مسع ما قالوا ،فقال الغراب :لقد وترتين أعظم الرتة،
وال أعلم أنه سلف مين إليك سوءٌ أوجب هذا .وبعد فاعلم أن الفأس يقطع به الشجر فيعود ينبت
السيف يقطع اللحم مث يعود فيندمل واللسان ال يندمل جرحه وال تؤسى مقاطعه .والنصل من السهم
يغيب يف اللحم مث ينزع فيخرج ،وأشباه النصل من الكالم إذا وصلت إىل القلب مل تنزع ومل تستخرج.
مطفئ :فللنار املاء ،وللسم الدواء وللحزن الصرب ونلر احلقد ال ختبو أبدا .وقد غرستم
ولكل حريق ٌ
معاشر الغرابن بيننا وبينكم شجر احلقد والعداوة والبغضاء.
وىل مغضبا ،فأخرب ملك البوم مبا جرى وبكل ما كان منقول الغراب ،مث إن فلما قضى البوم مقالتهّ ،
الغراب ندم على ما فرط منه ،وقال :وهللا لقد خرقت يف قويل الذي جلبت به العداوة والبغضاء على
نفسي وقومي! وليتين مل أخرب الكراكي هبذه احلال! وال أعلمتها هبذا األمر! ولعل أكثر الطري قد رأى
أكثر مما رأيت ،وعلم أضعاف ما علمت ،فمنعها من الكالم مبثل ما اتقاء ما مل أتق ،والنظر فيما مل
أنظر فيه من حذار العواقب ،ال سيما إذا كان الكالم أفظع كالم ،يلقى منه سامعه وقائله املكروه مما
يورث احلقد والضغينة ،فال ينبغي ألشباه هذا الكالم ،أن تسمى كالما ،ولكن سهاما .والعاقل ،وإن
كان واثق ا بقوته وفضله ،ال ينبغي أن حيمل ذلك على أن جيلب العداوة على نفسه اتكاالا على ما
عنده من الرأي والقوة ،كما أنه وإن كان عنده الرتايق ال ينبغي له أن يشرب السم اتكاالا على ما
عنده .وصاحب حسن العمل ،وإن قصر به القول يف مستقبل األمر ،كان فضله بيّنا واضحا يف العاقبة
واالختار ،وصاحب حسن القول ،وإن أعجب الناس منه حسن صفته لألمور مل حتمد عاقبة أمره .وأان
صاحب القول الذي ال عاقبة له حممودة .أليس من سفهي اجرتائي على التكلم يف األمر اجلسيم ال
أستشري فيه أحدا ،ومل أعمل فيه رأايا? ومن مل يستشر النصاء األولياء ،وعمل برأيه من غري تكرار النظر
والروية ،مل يغتبط مبواقع رأيه .فما كان أغناين عما كسبت يومي هذا ،وما وقعت فيه من اهلم! وعاتب
الغراب نفسه هبذا الكالم وأشباهه وذهب .فهذا ما سألتين عنه من ابتداء العداوة بيننا وبني البوم.
وأما القتال فقد علمت رأيي فيه ،وكراهيت له ،ولكن عندي من الرأي واحليلة غري القتال ما يكون فيه
73
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
رب قوم قد احتالوا آبرائهم حىت ظفروا مبا أرادوا .ومن ذلك حديث
الفرج إن شاء هللا تعاىل :فإنه َّ
اجلماعة الذين ظفروا ابلناسك ،وأخذوا عريضه قال امللك :وكيف كان ذلك?
قال الغراب :زعموا ان انسكا اشىت عريضا ضخما ليجعله قرابانا ،فانطلق به يقوده فبصر به قوم من
املكرة ،فأمتروا بينهم أن أيخذوه من الناسك .فعرض له أحدهم فقال له :أيها الناسك ،ما هذا الكلب
الذي معك? مث عرض له اآلخر فقال لصاحبه :ما هذا الناسك ،ألن الناسك ال يقود كلبا .فلم يزالو
كلب ،وأن الذي ابعه إايه سحر عينه،
أن الذي يقوده ٌ مع الناسك على هذا ومثله حىت مل يشك َّ
فأطلقه من يده ،فأخذه اجلماعة احملتالون ومضوا به .وإمنا ضربت لك هذا املثل ملا أرجو أن نصيب من
حا جتنا ابلرفق واحليلة .وإين أريد من امللك أن ينقرين على رؤوس األشهاد ،وينتف ريشي وذنيب ،مث
أين أصرب وأطلع على يطرحين يف أصل هذه الشجرة ،ويرحتل امللك هو وجنوده إىل مكان كذا .فأرجو ّ
أحواهلم ،ومواضع حتصينهم وأبواهبم ،فأخادعهم وآيت إليكم لنهجم عليهم ،وننا منهم غرضنا إن شاء هللا
تعاىل.
قال امللك :أتطيب نفسك لذلك? قال :نعم ،وكيف ال تطيب نفسي لذلك وفيه أعظم الراحات
للملك وجنوده? ففعل امللك ابلغراب ما ذكر ،مث ارحتل عنه فجعل الغراب يئن ويهمس حىت رأته البوم
ومسعته يئن ،فأخربن ملكهن بذلك ،فقصد حنوه ليسأله عن الغرابن فلما دان منه أمر بوما أن يسأله
فقال له :من أنت? وأين الغرابن? فقال :أما امسي ففالن ،وأما ما سألتين عنه فإين أحسبك ترى أن
حايل حال من ال يعلم األسرار فقيل مللك البوم :هذا وزير ملك الغرابن وصاحب رأيه ،فنسأله أبي
فيكن :وكنت ٍ
يومئذ ذنب صنع به ما صنع? فسئل الغراب عن أمره فقال :إن ملكنا استشار مجاعتنا َّ
مبحض ٍر من األمر ،فقال :أيها الغرابن ،ما ترون يف ذلك? فقلت :أيها امللك ال طاقة لنا بقتال البوم:
ألهنن أشد بطشا ،وأحد قلبا منَّا ولكن أرى أن نلتمس الصلح ،مث نبذل الفدية يف ذلك ،فإن قبلت
هلن وشرا لنا ،فالصلح
البوم ذلك منّا ،وإال هربنا يف البالد وإذا كان القتال بيننا وبني البوم كان خريا ّ
العدو
هتن ابلرجوع عن احلرب ،وضربت هلن األمثال يف ذلك ،وقلت هلن :إن ّ أفضل من اخلصومة وأمر َّ
الشديد ال يرد أبسه وغضبه مثل اخلضوع له :أال ترين إىل احلشيش كيف يسلم من عاصف الريح للينه
ومي له معها حيث مالت فعصينين يف ذلك وزعمن أهنن يردن القتال وأهتمنين يف ما قلت ،وقلنا إنك قد
ماألت البوم علينا ورددن قويل ونصيحيت وعذبنين هبذا العذاب وتركين امللك وجنوده وأرحتل وال علم يل
هبن بعد ذلك :فلما مسع ملك البوم مقالة الغراب قال لبعض وزرائه :ما تقول يف الغراب? وما ترى
74
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فيه? قال :ما أرى إال املعاجلة له ابلقتل :فإن هذا أفضل ُعد ِد الغرابن ،ويف قتله لنا راحة من مكره
وفقده على الغرابن شديد ويقال :من ظفر ابلساعة اليت فيها ينجح العمل مث ال يعاجله ابلذي ينبغي
له فليس حبكيم ومن طلب األمر اجلسيم فأمكنه ذلك فأغفله فاته األمر وهو خليق أال تعود له الفرصة
ًثنية ومن وجد عدوه ضعيفا ومل ينجز قتله ندم إذا استقوى ومل يقدر عليه قال امللك لوزير آخر :ما
أهل ألن يستبقى
ترى أنت يف هذا الغراب? قال :أرى أال تقتله :فإن العدو الذليل الذي ال انصر له ٌ
أهل ألن يؤمن.
ويرحم ويصفح عنه وال سيما املستجري اخلائف :فإنه ٌ
قال ملك البوم لوزير آخر من وزائه :ما تقول يف الغراب? قال :أرى أن تستبقيه وحتسن إليه :فإنه
خليق أن ينصحك والعاقل يرى معادات بعض أعدائه بعضا ظفرا حسنا ويرى أشتغال بعض أعدائه
ببعض خالص ا لنفسه منهم وجناة كنجاة الناسك من اللص والشيطان حني اختلفا عليه قال امللك له:
وكيف كان ذلك?
قال الوزير :زعموا أن انسكا أصاب من رجل بقرة حلوابا فانطلق هبا يقودها إىل منزله ،فعرض له لص
أراد سرقتها واتبعه شيطان يريد اختطافه .فقال الشيطان للص :من أنت? قال أان اللص ،أريد أن
أسرق البقرة من الناسك إذا انم .فمن أنت? قال :أان الشيطان أريد أختطافه إذا انم وأذهب به فاهتيا
على هذا إىل املنزل فدخل الناسك منزله ودخال خلفه وأدخل البقرة فربطها يف زاوية املنزل وتعشى
وانم .فأقبل اللص والشيطان أيمتران فيه واختلفا على من يبدأ بشغله أوالا فقال الشيطان للص :إن
أنت بدأت أبخذ البقرة فرمبا استيقظ وصاح ،واجتمع الناس :فال أقدر على أخذه فأنظرين ريثما
آخذه ،وشأنك وما تريد .فأشفق اللص إن بدأ الشيطان ابختطافه فرمبا استيقظ فال يقدر على أخذ
البقرة ،فقال :ال ،بل انظرين أنت حىت آخذ البقرة وشأنك زما تريد فلم يزاال يف اجملادلة هكذا حىت
اندى اللص :أيها الناسك انتبه :فهذا الشيطان يريد اختطافك ،واندى الشيطان :أيها الناسك انتبه:
فهذا اللص يريد أن يسرق بقرتك فانتبه الناسك وجريانه أبصواهتما ،وهرب اخلبيثان .قال الوزير األول
منكن موقعه ،فرتدن
خدعكن ووقع كالمه يف نفس الغيب ّ َّ الذي أشار بقتل الغراب :أظن أن الغراب قد
تضعن الرأي يف غري موضعه فمهالا مهالا أيها امللك عن هذا الرأي .فلم يلتفت امللك إىل قوله وأمر
ّ أن
الغراب أن حيمل إىل منازل البوم ،ويكرم ويستوصى به خريا.
مث إن الغراب قال للملك يوم ا وعنده مجاعة من البوم وفيهن الوزير الذي أشار بقتله :أيها امللك قد
علي من الغرابن وأنه ال يسرتيح قليب إال أبخذي بثأري منهن ،وإين قد نظرت يف ذلكعلمت ما جرى ّ
75
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فإذا يب ال أقدر على ما رمت :ألين غراب وقد روى عن العلماء أهنم قالوا :من طابت نفسه أبن حيرقها
فقد قرب هلل أعظم القرابن ال يدعو عند ذلك بدعوة إال استجيب له فإن رأى امللك أن أيمرين فأحرق
نفسي وأدعو ريب أن حيولين بوما فأكون أشد عداوة وأقوى أبسا عل الغرابن لعلي أنتقم منهن! قال
الوزير الذي أشار بقتله :ما أشبهك يف خري ما تظهر وشر ما ختفي إال ابخلمرة الطيبة الطعم والريح
املنقع فيها السم أرأيت لو أحرقنا جسمك ابلنار كان جوهرك وطباعك متغرية! أليست أخالقك تدور
معك حيثما درت ،وتصري بعد ذلك إىل أصلك وطويتك? كالفأرة اليت خريت يف األزواج بني الشمس
والريح والسحاب واجلبل فلم يقع اختيارها إال على اجلرذ وقيل له :وكيف كان ذلك?
قال :زعموا أنه كان انسكا مستجاب الدعوة فبينما هو ذات يوم جالسا على ساحل البحر إذ مرت
به حدأة يف رجلها درص فأرة فوقعت منها عند الناسك ،وأدركته هلا رمحة ،فأخذها ولفها يف ورقة،
وذهب هبا إىل منزله ،مث خاف أن تشق على أهله تربيتها فدعا ربه أن حيوهلا جارية :فتحولت جارية
حسناء فانطلق هبا إىل امرأته ،فقال هلا هذه ابنيت فاصنعي معها صنيعك بولدي .فلما كربت قال هلا
الناسك :اي بنية أختاري من أحببت حىت أزوجك به .فقالت ،أما إذا خريتين فإين أختار زوجا يكون
أقوى األشياء .فقال الناسك لعلك تريدين الشمس! مث انطلق إىل الشمس فقال :أيها اخللق العظيم إن
يل جارية وقد طلبت زوجا يكون أقوى األشياء ،فهل أنت متزوجها? فقالت الشمس أان أدلك على
من هو أقوى مين :السحاب الذي يغطيين ،ويرد حر شعاعي ويكسف أشعة أنواري .فذهب الناسك
إىل السحاب فقال له ما قال للشمس ،فقال السحاب :وأان أدلك على من هو أقوى مين :فاذهب
إىل الريح اليت تقبل يب وتدبر وتذهب يب شرق ا وغرابا فجاء الناسك إىل الريح فقال هلا كقوله للسحاب
فقالت :وأان أدلك على من هو أقوى مين وهو اجلبل الذي ال أقدر على حتريكه فمضى إىل اجلبل وقال
له القول املذكور فأجابه اجلبل وقال له :أان أدلك على من هو أقوى مين :اجلرذ الذي ال أستطيع
االمتناع منه إذا ثقبين واختذين مسكن ا .فانطلق الناسك إىل اجلرذ فقال له :هل أنت متزوج هذه
اجلارية? فقال وكيف أتزوجها وجحري ضيق? إمنا يتزوج اجلرذ الفأرة فدعا الناسك ربه أن حيوهلا فأرة
كما كانت وذلك برضى اجلارية ،فأعادها هللا إىل عنصرها األول فانطلقت مع اجلرذ فهذا مثلك أيها
املخادع فلم يلتفت ملك البوم إىل ذلك القول ،ورفق ابلغراب ومل يزدد له إال إكراما حىت إذا طاب
عيشه ونبت ريشه واطلع على ما أراد أن يطلع عليه راغ روغة .فأتى أصحابه مبا رأى ومسع فقال
للملك :إين قد فرغت مما كنت أريد ومل يبقى إال أن تسمع وتطيع ،فقال له :أان واجلند حتت أمرك،
76
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
77
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
بطول احلزن مين! وإمنا كان أكثر معيشيت مما كنت أصيب من الضفادع فابتليت ببالء وحرمت على
الضفادع من أجله ،حىت إين إذا التقيت ببعضها ال أقدر على إمساكه .فانطلق الضفدع إىل ملك
الضفادع ،فبشره مبا مسع من األسود فقال له :كيف كان أمرك? قال سعيت منذ أايم يف طلب ضفدع
وذلك عند املساء فاضطررته إىل بيت انسك ،ودخلت يف أثره يف ظلمة ويف البيت ابن الناسك،
فأصبت إصبعه ،فظننت أهنا الضفدع ،فلدغته فمات فخرجت هارابا ،فتبعين الناسك يف أثري ،ودعا
علي ولعنين وقال :كما قتلت ابين الربيء ظلم ا وتعدايا ،أدعو عليك أن تذل وتصري مركب ا مللك
ّ
الضفادع ،فال تستطيع أخذها ،وال أكل شيء منها ،إال ما يتصدق به عليك ملكها فأتيت إليك
لرتكبين مقرا بذلك راضيا به فرغب ملك الضفادع بركوب األسود ،وظن أن ذلك فخرا له وشرف ورفعة
فركب و استطاب له ذلك.
فقال له األسود :قد علمت أيها امللك أين حمروم فاجعل يل رزق ا أعيش به فقال ملك الضفادع :لعمري
البد من رزق يقوم بك ،إذا كنت مركيب فأمر له بضفدعني يؤخذان يف كل يوم ويدفعان إليه فعاش
بذلك ،ومل يضره خضوعه للعدو الذليل ،بل انتفع بذلك وصار له رزقا ومعيشة وكذلك كان صربي
على ما صربت عليه ،التماس ا هلذا النفع العظيم الذي اجتمع لنا فيه األمن الظفر ،وهالك العدو
والراحة منه ووجدت صرعة اللني والرفق أسرع وأشد استئصاالا للعدو من صرعة املكابرة :فإن النار ال
تزيد حبدهتا وحرها إذا أصابت الشجرة على أن حترق ما فوق األرض منها واملاء بربده ولينه يستأصل ما
حتت األرض منها ويقال أربعة أشياء ال يستقل قليلها :النار واملرض والعدو والدين .قال الغراب :وكل
ذلك من رأى امللك وأدبه وسعادة ج ّده وإنه كان يقال :إذا طلب اثنان أمرا ظفر به منها أفضلهما
مروءة فإن اعتدال يف املروءة فأشدمها عزما .فإن استواي يف العزم فأسعدمها جدا وكان يقال :من حارب
امللك احلازم األريب املتضرع الذي ال تبطره السراء وال تدهشه الضراء كان هو داعي احلتف إىل نفسه،
وال سيما إذا كان مثلك أيها امللك العامل بفروض األعمال ،ومواضع الشدة واللني ،والغضب والرضا
واملعاجلة واألانة الناظر يف أمر يومه وغده ،وعواقب أعماله قال امللك للغراب :بل برأيك وعقلك
ونصيحتك ومين طالعك كان ذلك ،فإن رأى الرجل الواحد ،العاقل احلازم أبلغ يف هالك العدو من
اجلنود الكثرية ،من ذوي البأس والنجدة ،والعدد والعدة .وإن من عجيب أمرك عندي طول لبثك بني
ظهراين البوم تسمع الكالم الغليظ ،مث مل تسقط بينهن بكلمة! قال الغراب :مل أزل متمسك ا أبدبك أيها
امللك :أصحب البعيد والقريب ،ابلرفق واللني ،واملبالغة واملوااتة .قال امللك :أصبحت وقد وجدتك
78
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
79
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
مكانه فخرج هارابا على وجهه حىت انتهى إىل الساحل فوجد شجرة من شجر التني فارتقى إليها
وجعلها مقامه فبينما هو ذات يوم أيكل من ذلك التني ،إذا سقطت من يده تينة يف املاء فسمع هلا
صواتا وإيقاعا فجعل أيكل ويرمي يف املاء ،فأطربه ذلك :فأكثر من طرح التني يف املاء ومث غيلم كلما
وقعت تينة أكلها .فما كثر ذلك ظن أن القرد إمنا يفعل ذلك ألجله فرغب يف مصادقته ،وأنس إليه
وكلمه ،وألف كل واحد منهما صاحبه .وطالت غيبة الغيلم عن زوجته :فجزعت عليه وشكت ذلك
إىل جارة هلا وقا لت :قد خفت أن يكون قد عرض له عارض سوء فاغتاله .فقالت هلا :إن زوجك
ابلساحل قد ألف قرد وألفه القرد :فهو مؤاكله ومشاربه ،وهو الذي قطعه عنك ،وال يقدر أن يقيم
عندك حىت حتتايل هلالك القرد .قالت وكيف أصنع? قالت هلا جارهتا :إذا وصل إليك فتمارضي ،فإذا
سألك عن حالك فقويل :إن احلكماء وصفوا يل قلب قرد.
مث إن الغيلم انطلق بعد مدة إىل منزله فوجد زوجته سيئة احلال مهمومةا فقال هلا الغيلم :مايل أراك
هكذا ،فأجبته جارهتا ،وقالت :إن زوجتك مريضة مسكنة .وقد وصف هلا األطباء قلب قرد ،وليس هلا
دواء سواه قال الغيلم :هذا أمر عسري من أين لنا قلب قرد ،وحنن يف املاء? لكن سأحتال لصديقي مث
انطلق إىل ساحل البحر :فقال له القرد اي أخي ،ما حبسك عين? قال الغيلم :ما حبسين إال حيائي:
فلم أعرف كيف أجازيك على إحسانك إيل? وأريد أن تتم إحسانك إيل بزايرتك أي يف منزيل فإن
ساكن يف جزيرة طيبة الفاكهة .فركب ظهر الغيلم ،فسبح به حىت إذا سبح به عرض له قبح ما أضمر
يف نفسه من الغدر ،فنكس رأسه ،فقال له القرد :مايل أراك مهتما? قال الغيلم :إمنا مهي ألين ذكرت
أن زوجيت شديدة املرض وذلك مبنعي من كثري مما أريد أن أبلغه من حرصك على كرامتك ومالطفتك.
قال القرد :إن الذي أعرف من حرصك على كراميت يكفيك مؤونة التكليف .قال الغيلم :أجل ومضى
ابلقرد ساع اة ،مث توقف به ًثنية :فساء ظن القرد وقال يف نفسه :ما احتباس الغيلم وإبطاؤه إال ألمر
ولست آمن ا أن يكون قلبه قد تغري يل وحال عن موديت ،فأراد يب سوءا :فإنه ال شيء أخف وأسرع
تقلب ا من القلب وقد يقال :ينبغي للعاقل أال يغفل عن التماس ما نفس أهله وولده وإخوانه وصديقه
عند كل أمر ،ويف كل حلظة وكلمة وعند القيام والقعود ،وعلى كل حال فإن ذلك كله يشهد على ما
يف القلوب وقد قالت العلماء إذا دخل قلب الصديق من صديقه ريبة فليأخذ ابحلزم يف احلفظ منه
وليتفقد ذلك يف حلظاته وحاالته فإن كان ما يظن حق ا ظفر ابلسالمة ،وإن كان ابطالا ظفر ابحلزم ،ومل
يضره ذلك مث قال للغيلم :ما الذي حيبسك? ومايل أراك مهتما ،كأنك حتدث نفسك مرة أخرى?
80
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
قال :يهمين أنك أتيت منزيل فال جتد أمري كما أحب :ألن زوجيت مريضة قال القرد :ال هتتم فإن اهلم ال
يغين عنك شيئ ا ولكن التمس ما يصلح زوجتك من األدوية واألغذية :فإنه يقال ليبذل ذو املال ماله
يف أربعة مواضع :يف الصدقة ويف احلاجة وعلى البنني وعلى األزواج .قال الغيلم :صدقت .وقد قال
األطباء إنه ال دواء هلا إال قلب قرد فقال القرد واأسفاه لقد أدركين احلرص والشر على كرب سين :حىت
وقعت يف شر ورطة ولقد صدق الذي قال :يعيش القانع الراضي مسرتحيا مطمئنا وذو احلرص والشره
يعيش ما عاش يف تعب ونصب.
وأين قد احتجت اآلن إىل عقلي يف التماس املخرج مما وقعت فيه .مث قال الغيلم :وما منعك أن تعلمين
عند منزيل حىت كنت أمحل قليب معي? فهذه سنة فينا معاشر القردة إذا خرج أحد لزايرة صديق خلّف
قلبه عند أهله أويف موضعه ،للنظر إذا نظران إىل حرم املزور وليس قلوبنا معنا قال الغيلم :وأين قلبك
اآلن? قال :خلّفته يف الشجرة فإن شئت فارجع يب إىل الشجرة حىت آتيك به ففرح الغيلم بذلك وقال:
لقد وافقين صاحيب بدون أن أغدر به .مث رجع ابلقرد إىل مكانه فلما أبطأ على الغيلم ،انداه :اي خليلي
أين كاحلمار الذي زعم ابن آوى أنه مل يكن امحل قلبك وانزل فقد حبستين فقال القرد :هيهات أتظن ّ
له قلب وال أذانن قال الغيلم :وكيف ذلك? قال القرد :زعموا أنه كان أسد يف أمج اة ،وكان معه ابن
آوى أيكل من فواضل طعامه ،فأصاب األسد جرب ،وضعف شديد فلم يستطيع الصيد فقال له ابن
آوى :ما ابلك اي سيد السباع قد تغريت أحوالك? قال :هذا اجلرب الذي قد أجهدين وليس له دواء
إال قلب محار وأذانه قال ابن آوى :ما أيسر هذا وقد عرفت مبكان كذا محارا مع قصار حيمل عليه
ثيابه ،وأان آتيك به مث دلف إىل احلمار فأاته وسلم عليه فقال له :مايل أراك مهزوالا? قال ما يطعمين
صاحيب شيئا فقال له :وكيف ترضى املقام معه على هذا? قال :فما يل حيلة يف اهلرب منه ،لست
أتوجه إىل جهة إال جهة أضريب إنسان فكدين وأجاعين قال ابن آوى :فأان أدلك على مكان معزول
عن الناس ،ال مير به إنسان ،خصيب املرعى فيه قطيع من احلمر مل تر عني مثلها حسن ا ومسن ا قال
احلمار :وما حيبسنا ومسن ا وقال احلمار :وما حيبسنا عنها? فانطلق بنا إليها ،فانطلق به ابن آوى حنو
األسد ،وتقدم ابن آوى ودخل ا لغابة على األسد ،فأخربه مبكان احلمار فخرج إليه وأراد أن يثبت
عليه ،فلم يستطيع لضعفه ،وختلص احلمار منه فأفلت هلعا على وجهه فلما رأى ابن آوى أن األسد مل
يقدر على احلمار ،قال له :أعجزت اي سيد السباع إىل هذه الغاية? فقال له :إن جئتين به مرة أخرى،
فلن ينجو مين أبدا فمضى ابن آوى إىل احلمار فقال له :ما الذي جرى عليك? إن أحد احلمر رآك
81
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
غريبا ،فخرج يتلقاك مرحبا بك ،ولو ثبت له آلنسك ،ومضى بك إىل أصحابه فلما مسع احلمار كالم
ابن آوى ،ومل يكن رأى أسدا قط ،صدقه وأخذ طريقه إىل األسد وأعلمه مبكانه وقال له :استعد له
فقد خدعته لك :فال يدركنَّك الضعف يف هذه النوبة إن أفلت فلن يعود معي أبدا فجأش جأش
األسد لتحريض ابن آوى له ،وخرج إىل موضع احلمار فلما بصر به عاجله بوبثة افرتسه هبا .مث قال :قد
ذكرت األطباء أنه اليؤكل إال بعد الغسل والطهور :فاحتفظ به حىت أعود فآكل قلبه وأذنيه ،وأترك ما
سوى ذلك قواتا لك فلما ذهب األسد ليغتسل ،عمد ابن آوى إىل احلمار فأكل قلبه وأذنيه ،رجاء أن
يتطري األسد منه ،فال أيكل منه شيئا ،فقال البن آوى :أين قلب احلمار وآذانه? قال ابن آوى :أمل
تعلم أنه لو كان له قلب يفقه به ،وأذانن يسمع هبما ،مل يرجع إليك بعد ما أفلت وجنا من اهللكة :و َّامنا
ضربت لك هذا املثل لتعلم أين لست كذلك احلمار الذي زعم ابن آوى أنه مل يكن له قلب وأذانن،
علي وخدعتين فخدعتك مبثل خديعتك ،واستدركت فارط أمري .وقد قيل :إن الذي ولكنك احتلت َّ
يفسده احللم ال يصلحه إال العلم .قال الغيلم :صدقت ،إال أن الرجل الصاحل يعرتف بزلته ،وإذا أذنب
يؤدب :لصدقه يف قوله وفعله ،وإن وقع يف ورطة أمكنه التخلص منها حبيلته وعقله:ذنبا مل يستحي أن َّ
كالرجل الذي يعثر على األرض ،مث ينهض عليها معتمدا فهذا مثل الرجل الذي يطلب احلاجة فإذا
ظفر هبا أضاعها.
الناسك وابن عرس
ق ال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد مسعت هذا املثل .فاضرب يل مثل الرجل العجالن يف أمره من
غري روية وال نظر يف العواقب قال الفيلسوف :إنه من مل يكن يف أمره متثبت ا مل يزل اندم ا ويصري أمره إىل
ما صار إليه الناسك من قتل ابن عرس وقد كان له ودودا .قال امللك :وكيف كان ذلك? قال
الفيلسوف :زعموا أن انسكا من النساك أبرض جرجان وكانت له امرأة مجيلة ،فمكثا زمنا مل يرزقا ولدا
مث محلت منه بعد اإلايس فسرت املرأة وسر الناسك بذلك فحمد هللا تعاىل وسأله أن يكون احلمل
ذكرا وقال لزوجته :أبشري فإين أرجو أن يكون غالم ا لنا فيه منافع ،وقرة عني ،أختار له أحسن األمساء
وأحضر له سائر األدابء .فقالت املرأة :ما حيملك أيها الرجل على أن تتكلم مبا ال تدري أيكون أم ال?
ومن فعل ذلك أصابه ما أصاب الناسك الذي أراق على رأسه السمن والعسل .قال هلا :وكيف ذلك?
قالت :زعموا أن انسك ا كان جيري عليه من بيت رجل اتجر ،يف كل يوم رزق من السمن والعسل وكان
أيكل منه قوته وحاجته ويرفع الباقي وجيعله يف جرة ،فيعلقها يف وتد يف انحية البيت حىت أمتألت
82
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فبينما الناسك ذات يوم مستلق على ظهره والعكاز يف يده واجلرة معلقة على رأسه ،تف ّكر يف غالء
السمن والعسل ،فقال :سأبي ع ما يف هذه اجلرة بدينار وأشرتي به عشرة أعنز ،فيحبلن ويلدن يف كل
مخسة أشهر بطنا ،وال تلبث قليالا حىت تصري غنما كثرية إذا ولت أوالدها ،مث حرر على هذا النحو
بسنني فوجد ذلك أكثر من أربعمائة عنز ،فقال :أان أشرتي هبا مائة من البقر ،وأشرتى أرضا وبذرا،
وأستأج ر أكرة وأزرع على الثريان ،وأنتفع أبلبان اإلانث ونتاجها فال أييت على مخس سنني أال وقد
أصبت من الزرع ماالا كثريا ،فأبين بيت ا فاخرا وأشرتي إماء وعبيد ،وأتزوج امرأة مجيلة ذات حسن ،مث
أتيت بغالم سري جنيب ،فأختار له أحسن األمساء ،فإذا ترعرع أدبته وأحسنت أتديبه وأشدد عليه يف
ذلك ،فإن يقبل مين ،وإال ضربته هبذه العكازة وأشار إىل اجلرة فكسرها ،فسال ما كان فيها على وجهه
وإمنا ضربت لك هذا املثل لكي ال تعجل بذكر ما ال ينبغي ذكره ،وما ال تدري أيصح أم ال يصح
فاتعظ الناسك مبا حكت زوجته .مث إن املرأة ولدت غالم ا مجيالا ففرح به أبوه وبعد أايم حان هلا أن
تتطهر فقالت املرأة للناسك :اقعد عند ابنك حىت أذهب إىل احلمام فأغتسل وأعود مث إهنا انطلقت إىل
احلمام ،وخلفت زوجها والغالم فلم يلبث أن جاءه رسول امللك يستدعيه ومل جيد من خيلفه عندابنه غري
ابن عرس داجن عنده كان قد رابه صغريا فهو عنده عديل ولده فرتكه الناسك عند الصيب وأغلق
عليهما البيت وذهب مع الرسول .فخرج من بعض أحجار البيت حية سوداء فدنت من الغالم فضرهبا
ابن عرس مث وثب عليها فقتلها مث قطعها وا متألفمه من دمها مث جاء الناسك وفتح الباب فالتقاه ابن
عرس كاملبشر له مبا صنع من قتل احلية .فلما رآه ملوًثا ابلدم وهو مذعور طار عقله وظن أنه قد خنق
ولده ومل يتثبت يف أمره ومل يتو فيه حىت يعلم حقيقة احلال ويعمل بغري ما يظن من ذلك ولكن عجل
أبن عرس وضربه بعكازه كانت يف يده على أم رأسه فما .ودخل الناسك فرأى الغالم سليما حيا
وعنده أسود مقطع .فلما عرف القصة وتبني له سوء فعله يف العجلة لطم على رأسه .وقال :ليين مل
أرزق هذا الولد ومل أغدر هذا الغدر ودخلت امرأته فوجدته على تلك احلال فقالت له :ماشأنك
فأخربها ابخلرب من حسن فعل ابن عرس وسوء مكافأته له فقالت :هذه مثرة العجلة فهذا مثل من ال
يتثبت يف أمره بل يفعل أغراضه ابلسرعة والعجلة.
ابب اجلرذ والسنور
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد مسعت هذا املثل فاضرب يل مثل رجل كثر اعدؤه وأحدقوا به
من كل جانب فأشرف معهم على اهلالك فالتمس النجاة وا ملخرج مبواالة بعض أعدائه ومصاحلته
83
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فسلم من اخلوف وأمن مث ويف ملن صاحله منهم .قال الفيلسوف :إن املودة والعداوة التثبتان على حالة
واحدة أبدا .ومبا حالت املودة إىل العداوة وصارت العداوة والية و صداقة .وهلذا حوادث وعلل
وجتارب وذو الرأي حيدث لكل ما حيدث من ذلك رأايا جديدا :أما من قبل العدو فبا لبأس وأما من
قبل الصديق فبا الستئناس وال متنع ذا العقل عداوة كانت يف نفسه لعدوه من مقاربته واالستنجاد به
على دفع خموف أو جر مرغوب .ومن عمل يف ذلك ابحلزم ظفر حباجته .ومثل ذلك مثل اجلرذ
والسنور حني وقعا يف الورطة فنجوا ابصطالحهما مجيع ا من الورطة والشدة قال امللك :وكيف كان
ذلك قال بيداي :زعموا أن شجرة عظيمة كان يف أصلها جحر سنور يقال له رومي وكان قريبا منه
جحر جرذ يقال له فريدون وكان الصيادون كثريا يتداولون ذلك املكان يصيدون فيه الوحش والطري
فنزل ذات يوم صياد فنصب حبالته قريب ا من موضع رومي فلم يلبث أن وقع فيها .فخرج اجلرذ يدب،
فسر واستبشر ،مث
ويطلب ما أيكل ،وهو حذر من رومي فبينما هو يسعى إذ بصر به يف الشركّ ،
فتحري يف أمره ،وخاف إن
التفت فرأى خلفه ابن عرس ،يريد أخذه ،ويف الشجرة بوما ،يريد اختطافهّ ،
رجع وراءه أخذه ابن عرس ،وإن ذهب ميينا أو مشاالا اختطفه البوم ،وإن تقدم أمامه افرتسه السنور.
وحمن قد أحاطت يب .وبعد ذلك فمعي عليٌ ، فقال يف نفسه :هذا بالء قد اكتفين ،وشرور تظاهرت ّ
عقلي ،فال يفزعين أمري ،وال يهولين شأين ،وال يلحقين الدهش ،وال يذهب قليب شعاعا :فالعاقل ال
يفرق عند سداد رأيه وال يعزب عنه ذهنه على حال .وإمنا العقل شبيهٌ ابلبحر الذي ال يدرك غوره وال
يبلغ البالء من ذي الرأي جمهوده فيهلكه ،وحتقق الرجاء ال ينبغي أن يبلغ منه مبلغا يبطره ويسكره:
فيعمى عليه أمره ولست أرى يل من هذا البالء خملص ا إال مصاحلة السنّور :فإنه قد نزل به من البالء
عين ف ِصيح خطايب ،وحمض مثل ما قد نزل يب أو بعضه ولعل إن مسع كالمي الذي أكلّمه به ،ووعى ّ
ص مجيعا.
صدقي الذي ال خالف فيه ،وال خداع معه ففهمه ،وطمع يف معونيت إايه ،خنلُ ْ
مث إن اجلرذ دان من السنّور فقال له :كيف حالك? قال له السنور :كما حتب :يف ضنك وضيق قال:
وأان اليوم شريكك يف البالء ،ولست أرجو لنفسي خالص ا إال ابلذي أرجو لك فيه اخلالص وكالمي
عدو فإن
كامن يل ،والبوم يرصدين وكالمها يل ولك ٌّ
هذا ليس فيه كذب وال خديعة وابن عرس ها هو ٌ
جعلت يل األمان ،قطعت حبائلك ،وخلّصتك من هذه الورطة فإذا كان ذلك ختلّص كل واحد منّا
بسبب صاحبه :كالسفينة والركاب يف البحر :فبالسفينة ينجون وهبم تنجو السفينة .فلما مسع السنور
كالم اجلرذ وعرف أنه صادق قال له :إن قولك هذا لشبيه ابحلق وأان أيضا راغب فيما أرجو لك
84
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ولنفسي به اخلالص .مث إنك إن فعلت ذلك فسأشكر لك ما بقيت قال اجلرذ :فإين سأدنو منك
فأقطع احلبائل كلها إال حبالا واحدا أبقيه ألستوثق لنفسي منك مث أخذ يف قرض حبائله مث إن البوم
وابن عرس ملا رأاي دنو اجلرذ من السنور أيسا منه وانصرفا مث إن اجلرذ أبطأ على رومي قطع احلبائل
فقال له :مايل ال أراك جمدا يف قطع حبائلي فإن كنت قد كنت ظفرت حباجتك :فتغريت عما كنت
عليه وتوانيت يف حاجيت فما ذلك من فعل الصاحلني :فإن الكرمي ال يتواىن يف حق صاحبه .وقد كان
لك يف سابق موديت من الفائدة والنفع ما قد رأيت .وأنت حقيق أن تكافئين بذلك وال تذكر العداوة
اليت بيين وبينك :فالذي حدث بيين وبينك من الصلح حقيق أن ينسيك ذلك مع ما يف الوفاء من
الفضل واألجر وما يف الغدر من سوء العاقبة :فإن الكرمي ال يكون إال شكورا غري حقود تنسيه اخللة
الوحدة من اإلحسان اخلالل الكثرية من اإلساءة وقد يقال :إن أعجل العقوبة عقوبة الغدر ومن إذا
تضرع إليه وسئل العفو فلم يرحم ومل يعف فقد غدر قال اجلرذ :إن الصديق صديقان :طائع ومضطر
وكالمها يلتمسان املنفعة وحيرتسان من املضرة فأما الطائع فيسرتسل إليه ويؤمن يف مجيع األحوال وأما
املضطر ففي بعض األحوال يسرتسل إليه ويف بعضها يتحذر منه .وال يزال العاقل يرهتن منه بعض
حاجاته لبعض ما يتقي وخياف وليس عاقبة التواصل من املتواصل إال طلب عاجل النفع وبلوغ مأموله
وأان واف لك مبا جعلت لك وحمرتس منك مع ذلك من حيث أخافك ختوفا أن يصيبين منك ما أجلأين
خوفه إىل مصاحلتك وأجلأك إىل قبول ذلك مين :فإن لكل عمل حينا .فما مل يكن منه يف حينه فال
حسن لعاقبته .وأان قاطع حبائلك كلها غري أين اترك عقدة واحدة أرهتنك هبا وال أقطعها إال يف الساعة
اليت أعلم أنك فيها عين مشغول :وذلك عند معاينيت الصياد .مث إن اجلرذ أخذ يف قطع حبائل السنور.
فبينما هو كذلك إذ واىف الصياد فقال له السنور :اآلن جاء اجلد يف قطع حبائلي .فأجهد اجلرذ نفسه
يف القرض حىت إذا فرغ وثب السنور إىل الشجرة على دهش من الصياد ودخل اجلرذ بعض األحجار
وجاء الصياد فأخذ حبائله مقطع اة ،مث انصرف خائب ا.
مث إن اجلرذ خرج بعد ذلك ،وكره أن يدنو من السنّور ،فناداه السنّور :أيها الصديق الناصح ،ذو البالء
إيل وال تقطع إخائي:
هلمَّ ،
إيلَّ ، احلسن عندي ،ما منعك من ِّ
إيل ،ألجازيك أبحسن ما أسديت ّ الدنو ّ
فإنه من اختذ صديقا ،وقطع إخاءه ،وأضاع صداقتهُ ،ح ِرم مثرة إخائه ،وأيس من نفعه اإلخوان
حقيق أن تلتمس مكافأة ذلك مين ومن إخواين واألصدقاء .وإن يدك عندي ال تنسى ،وأنت ٌ
مبذول .مث حلف واجتهد على صدقه فيماختافن مين شيئا .واعلم أن ما قِبلي لك ٌ وأصدقائي .وال ّ
85
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
رب صداقة ظاهرة ابطنها عداوة كامنة .وهي أشد من العداوة الظاهرة .ومن مل
قال .فناداه اجلرذَّ :
حيرتس منها ،وقع موقع الرجل الذي يركب انب الفيل املغتلم مث يغلبه النعاس فيستيقظ حتت فراسن
الفيل ،فيدوسه ويقتله .وإمنا مسي الصديق صديقا :ملا يرجى من نفعه ،ومسي العدو عدوا :ملا خياف من
ضر الصديق أظهر له العداوة .أال
ضرره .والعاقل إذا رجا نفع العدو أظهر له الصداقة ،وإذا خاف ّ
ترى? تتّبع البهائم أمهاهتا رجاء ألباهنا ،فإذا انقطع ذلك انصرفت عنها .ورمبا قطع الصديق عن صديقه
شره :ألن أصل أمره مل يكن عداوة .فأما من كان أصل أمره عداوة بعض ما كان يصله ،فلم خيف ّ
جوهرية ،مث أحدث صداقة حلاجة محلته على ذلك ،فإنه إذا زالت احلاجة اليت محلته على ذلك ،زالت
صداقته ،فتحولت عداوة وصار إىل أصل أمره :كاملاء الذي يسخن ابلنار ،فإذا رفع عنها عاد ابردا.
عدو أضر يل منك .وقد اضطرين وإايك وإىل ما أحدثنا من املصاحلة .وقد ذهب وليس من أعدائي ٌّ
إيل واحتجت إليك فيه ،وأخاف أن يكون مع ذهابه عود العداوة .وال خري األمر الذي احتجت ّ
للضعيف يف قرب العدو القوي ،وال للذليل يف قرب العدو العزيز .وال أعلم لك قبلي حاجة ،وليس
عندي بك ثقة :فإين قد علمت أن الضعيف احملرتس من العدو القوي أقرب إىل السالمة من القوي إذا
وده ،ويريه من
اغرت ابلضعيف واسرتسل إليه .والعاقل يصاحل عدوه إذا اضطر إليه ،ويصانعه ،ويظهر له ّ
يعجل االنصراف عنه ،حني جيد إىل ذلك سبيال.
نفسه االسرتسال إليه إذا مل جيد من ذلك ب ّدا ،مث ّ
واعلم أن سريع االسرتسال ال تقال عثرته .والعاقل يفي ملن صاحله من أعدائه مبا جعل له من نفسه،
وال يثق به كل الثقة ،وال أيمنه على نفسه مع القرب منه .وينبغي أن يبعد عنه ما استطاع .وأان أودك
من بعيد ،وأحب لك من البقاء والسالمة ،ما مل أكن أحبه لك من قبل .وال عليك أن جتازيين على
صنيعي إال مبثل ذلك :إذ ال سبيل إىل اجتماعنا والسالم.
ابب ابن امللك والطائر فنزة
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد مسعت هذا املثل ،فاضرب يل مثل أهل ِّ
الرتات الذين ال بد
لبعضهم من اتقاء بعض .قال بيداب :زعموا أن ملك ا من ملوك اهلند كان يقال له بريدون ،وكان له فرخ
وكان هذا الطائر وفرخه ينطقان أبحسن منطق ،وكان امللك هبما معجبا ،فأمر هبما أن جيعال عند
امرأته ،وأمرها ابحملافظة ،عليهما .واتفق أن امرأة امللك ولدت غالما ،فألف الفرخ الغالم .وكالمها
طفالن يلعبان مجيع ا ،وكان فنزة يذهب إىل اجلبل كل يوم فيأيت بفاكهة ال تعرف فيطعم ابن امللك
شطرها .ويطعم فرخه شطرها .فأسرع ذلك يف نشأهتما وزاد يف شباهبما وابن عليهما أثره عند امللك:
86
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فازداد لفنزة إكراما وتعظيما وحمبة حىت إذا كان يوم من األايم وفنزة غائب يف اجتناء الثمرة وفرخه يف
حجر الغالم ذرق يف حجره فغضب الغالم وأخذ الفرخ فضرب به األرض فمات .مث إن فنزة أقبل
فوجد فرخه مقتوالا فصاح وحزن وقال :قبحا للملوك الذين ال عهد هلم وال وفاء ويل ملن ابتلى بصحبة
امللوك الذين ال محي هلم وال حرمة وال حيبون أحد وال يكرم عليهم إال إذا طمعوا فيما عنده من غناه
واحتاجوا إىل ما ع نده من علم :فيكرمونه لذلك فإذا ظفروا حباجتهم منه فال ود وال إخاء وال إحسان
وال غفران ذنب وال معرفة حق هم الذين أمرهم مبين على الرايء والفجور .وهم يستصغرون ما يرتكبونه
من عظيم الذنوب ويستعظمون اليسري إذا خولفت فيه أهواؤهم .ومنهم هذا الكفور الذي ال رمحة له
ا لغادر أبليفه وأخيه .مث وثب يف شدة حنقه على وجه الغالم ففقأ عينه ،وطار فوقع على شرفة املنزل.
مث إنه بلغ امللك ذلك ،فجزع أشد الفزع ،مث طمع أن حيتال له فوقف قريب ا منه وانداه وقال له :إنك
آمن فنزل اي فنزة .فقال له :أيها امللك إن الغادر مأخوذ بغدره وإنه إن أخطأه عاجل العقوبة مل خيطئه
اآلجل حىت إنه يدرك األعقاب وأعقاب األعقاب وإن ابنك غدر اببين ،فعجلت له العقوبة .قال
امللك :لعمري قد غدران اببنك ،فانتقمت منا :فليس لك قبلنا وال لنا قبلك وتر مطلوب .فارجع إلينا
آمن ا .قال فنزة :لست براجع إليك أبدا فإن ذوي الرأي قد هنوا عن قرب املوتور فإنه ال يزيدك لطف
احلقود ولينه وتكرمه إايك إال وحشة منه ،وسوء ظن به :فإنك ال جتد للحقود املوتور أماانا هو أوثق لك
من الذعر منه وال أجود من البعد عنه وألحرتس منه أوىل .وقد كان يقال :إن العاقل يعد أبويه أصدقاء
واألخوة رفقاء واألزواج ألفاء والبنني ذكرا ،والبنات خصماء واألقارب غرماء ويعد نفسه فريدا .وأان
الفريد الوحيد الغريب الطريد قد تزودت من عنكم من احلزن عبئ ا ثقيالا ال حيمله معي أحد .وأان
ذاهب .فعليك مين السالم.
قال امللك :إنك لو مل تكن اجتزيت منا فيما صنعناه بك ،بل كان صنيعك بنا من غري ابتداء منا
ابلغدر كان األمر كما ذكرت .وأما إذا كنا حنن بدأانك ،فما ذنبك? وما الذي مينعك من الثقة بنا?
هلم فارجع :فإنك آمن .قال فنزة :اعلم أن األحقاد هلا يف القلوب مواقع ممكنة موجعة .فاأللسن ال
تصدق يف خربها عن القلوب ،والقلب أعدل شهادة من اللسان على القلب .وقد علمت أن قليب ال
يشهد للسانك ،وال قلبك للساين .قال امللك :أمل تعلم أن الضغائن وألحقاد تكون بني كثري من
الناس :فمن كان ذا عقل كان على إماتة احلقد أحرص منه على تربيته .قال فنزة :إن ذلك لكما
ذكرت ،ولكن ليس ينبغي لذي الرأي مع ذلك أن يظن أن املوتور احلقود انس ما وتر به ،مصروف عنه
87
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فكره فيه .وذو الرأي يتخوف املكر واخلديعة واحليل ويعلم أن كثريا من العدو ال يستطاع ابلشدة
واملكابرة ،حىت يصاد ابلرفق واملالينة ،كما يصاد الفيل الوحشي ابلفيل الداجن .قال امللك :إن العاقل
الكرمي ال يرتك إلفه ،وال يقطع إخوانه وال يضيع احلفاظ ،وإن هو خاف على نفسه ،حىت إن هذا
اخللق يكون قي أوضع الدواب منزلة :فقد علمت أن اللعابني يلعبون ابلكالب ،مث يذحبوهنا وأيكلوهنا.
ويرى الكلب الذي قد ألفهم ذلك ،فال يدعوه إىل مفارقتهم ،وال مينعه من إلفته إايهم .قال فنزة :إن
األحقاد خموفة حيثما كانت .فأ خوفها وأشدها ما كان يف أنفس امللوك :فإن امللوك يدينون ابالنتقام،
ويرون الدرك والطلب ابلوتر مكرمة وفخرا .وإن العاقل ال يغرت بسكون احلقد إذا سكن فإمنا مثل احلقد
يف القلب ،إذا مل جيد حمركا ،مثل اجلمر املكنون ،ما مل سجد حطبا ،فليس ينفك القد متطلعا إىل
العل ل ،كما تبتغي النار احلطب فإذا وج علة استعر استعار النار ،فال يطفئه حسن كالم ،وال لني وال
رفق وال خضوع وال تضرع وال مصانعة ،وال شيء دون تلف األنفس .مع أنه رب واتر يطمع يف
مراجعة املوتور مبا يرجو أن يقدر عليه من النفع له ،والدفع عنه .ولكين أان أضعف عن أن أقدر على
شيء يذهب به ما يف نفسك .ولو كانت نفسك منطوية يل على ما تقول ما كان ذلك عين مغنيا وال
أزل يف خوف ووحشة وسوء ظن ،ما اصطحبنا .فليس الرأي بيين وبينك إال الفراق .وأان أقرأ عليك
السالم.
قال امللك :لقد علمت أنه ال يستطيع أحد ألحد ضرا وال نفعا ،وأنه ال شيء من األشياء صغريا وال
كبريا يصيب أحد أال بقضاء وقدر معلوم .وكما أن خلق ما خيلق ،ووالدة ما يولد ،وبقاء ما يبقى ليس
إىل اخلالئق منه شئ ،كذلك فناء ما يفىن وهالك ما يهلك .وليس لك يف الذي صنعت اببين ذنب،
وال ال بين فيما صنع اببنك ذنب.
إمنا كان ذلك كله قدرا مقدورا ،وكالان له علة :فال نوأخذ مبا به القدر .قال فنزة :إن القدر لكما
ذكرت ،لكن ال مينع ذلك احلازم من توقى املخاوف ،واالحرتاس من املكاره .وملنه جيمع تصديق ا
ابلقدر وأخذا ابحلزم والقوة .وأان أعلم أنك تكلمين بغري ما يف نفسك .واألمر بيين وبينك غري صغري:
أل ن ابنك قتل ابين ،وأان فقأت عني ابنك ،وأنت تريد أن تشتفي بقتلي ،وختلين عن نفسي ،والنفس
أتىب املوت .وقد كان يقال :الفاقة بالء واحلزن بالء وقرب العدو بالء وفراق األحبة بالء والسقم بالء
واهلرم بالء ،ورأس البالاي كلها املوت .وليس أحد أبعلم مبا يف نفس املوجع احلزين ممن ذاق مثل ما به.
فأان مبا يف نفسي عامل مبا نفسك :للمثل الذي عندي من ذلك .وال خري يل يف صحبتك :فإنك لن
88
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
تتذكر صنيعي اببنك ،ولن أتذكر صنيع ابنك اببين ،إال أحدث ذلك لقلوبنا تغيريا.
قال امللك :ال خري فيمن ال يستطيع اإلعراض عما يف نفسه ،وينساه ويهمله ،حىت ال بذكر منه شيئ ا،
وال يكون له يف نفسه موقع .قال فنزة :إن الرجل الذي يف ابطن قدمه قرحة ،إن هو حرص على املشي
فال بد أنه ال يزال يشتكي قرحته ،والرجل األرمد العني إذا استقبل هبا الريح ،تعرض ألن تزداد رمدا.
وكذلك الواتر إذا دان من املوتور ،فقد عرض نقسه للهالك .وال ينبغي لصاحب الدنيا إال توقي املهالك
واملتالف ،وتقدير األمور وقلة االتكال على احلول والقوة ،وقلة االغرتار مبن ال أيمن :فإنه من اتكل
على قوته ،فحمله ذلك على أن يسك الطريق املخوف ،فقد سعى يف حتف نفسه .ومن ال يقدر
لطاقته طعامه وشرابه ومحل نفسه ما ال تطيق وال حتمل فقد قتل نفسه .ومن ال يقدر لقمته ،وعظمها
فوق ما يسع فوه ،فرمبا غص هبا فمات .ومن اغرت بكالم عدوه ،واخندع له وضيع احلزم ،فهو أعدى
احلزم لنفسه من عدوه .وليس ألحد النظر يف القدر الذي ال يدري ما أيتيه منه وال ما يصرف عنه،
ولكن عليه العمل ابحلزم واألخذ ابلقوة وحماسبة نفسه يف ذلك .والعاقل ال يثق أبحد ما استطاع ،وال
يقيم على خوف وهو جيد عنه مذهبا .وأان كثري املذاهب وأرجو أال أذهب وجها أال أصبت فيه مت
يغنيين :فإن خالالا مخس ا من تزودهن كفينه يف كل وجه ،وآنسنه يف غربة ،وقربن له البعيد ،وأكسبنه
املعاش اإل خوان :أوهلن كف األذى والثانية حسن األدب ،والثالثة جمانبة الريب والرابعة كرم اخللق،
واخلامسة النبل يف العمل .وإذا خاف اإلنسان على نفسه شيئا طابت نفسه عن املال واألهل والولد
والوطن :فإنه يرجو اخللف من ذلك كله وال يرجو عن النفس خلفا .وشر املال ما ال إنفاق منه وشر
األزواج اليت ال توايت بعلها ،وشر الولد العاصي العاق لوالديه وشر اإلخوان اخلاذل ألخيه عند النكبات
والشدائد ،وشر امللوك الذي خيافه الربيء ،وال يواظب على حفظ أهل مملكته ،وشر البالد بالد بال
خصب فيها وال أمن ،وإنه ال أمن يل عندك أيها امللك وال طمأنينة يل يف جوارك .ومث ودع امللك
وطار .فهذا مثل ذوي األواتر الذين ال ينبغي لبعضهم أن يثق ببعض.
????????ابب األسد والشغرب الناسك وهو ابن آوى
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد مسعت هذا املثل فاضرب يل مثل امللك الذي يراجع من
أصابته منه عقوبة من غري جرم أو جفوة من غري ذنب .قال الفيلسوف :إن امللك لو مل يراجع من
أصابته منه جفوة عن ذنب أو عن غري ذنب ،ظلم أومل يظلم ألضر ذلك وخيرب ما عنده من املنافع فإن
كان ممن يوثق به يف رأيه وأمانته ،فإن امللك حقيق ابحلرص على مراجعته :فإن امللك ال يستطاع
89
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ضبطه إال مع ذوي الرأي وهم الوزراء واألعوان إال ابملودة والنصيحة ،وال مودة وال نصيحة إال لذوي
الرأي والعفاف .وأعمال السلطان كثرية ،والذين حيتاج إليهم من العمال واألعوان كثريون .ومن جيمع
منهم ما ذكرت من النصيحة والعفاف قليل .واملثل يف ذلك مثل األسد وابن آوى .قال امللك :وكيف
كان ذلك?
قال الفيلسوف :زعموا أن ابن آوى كان يسكن يف بعض الدحال وكان متزهدا متعففا ،مع بنات آوى
وذائب وثعالب .ومل يكن يصنع ما يصنعن ،وال يغري كما يغرن ،وال يهريق دم ا وال أيكل حلم ا.
فخاصمه تلك السباع ،وقلن ال نرضى بسريتك و ال رأيك الذي أنت عليه من تزهدك :مع أن تزهدك
ال يغين عنك شيئا .وأنت ال تستطيع أن تكون إال كأحدان :تسعى معنا ،وتفعل فعلنا فما الذي كفك
عن الدماء وعن أكل اللحم? قال ابن آوى :إن صحبيت إايكن ال تؤمثين إذا مل أؤمث نفسي :ألن اآلًثم
ليست من قبل األماكن واألصحاب ،ولكنها من قبل القلوب واألعمال .ولو كان صاحب املكان
الصاحل يكون عمله فيه صاحلا ،وصاحب املكان السيء يكون عمله فيه سيئا ،كان حينئذ من قتل
الناسك يف حمرابه مل أيمث ،ومن استحياه يف معركة القتال أمث .وإين إمنا صحبتكن بنفسي ،ومل أصحبكن
بقليب وأعمايل :ألين أعرف مثرة األعمال :فلزمت حايل :وثبت ابن آوى على حاله تلك واشتهر
ابلنسك والتزهد حىت بلغ ذلك أسدا كان ملك تلك الناحية فرغب فيه :ملا بلغه عنه من العفاف
والنزاهة والزهد واألمانة فأرسل إليه يستدعيه .فلما حضر كلمه وآنسه فوجده يف مجيع األمور وفق
غرضه .مث دعاه بعد أايم إىل صحبته وقال له :تعلم أن عمايل كثري وأعواين جم غفري وأان مع ذلك إىل
األعوان حمتاج .وقد بلغين عنك عفاف وأدب وعقل ودين فازددت فيك رغبة .وأان موليك من عملي
جسيما ورافعك إىل منزلة شريفة وجاعلك من خاصيت .قال ابن آوى :إن امللوك أحقاء ابختيار
األعوان فيما يهتمون به من أعماهلم وأمورهم .وهم أحرى أال يكرهوا على ذلك أحدا :فإن املكره ال
يستطيع البالغة يف العمل .وإين لعمل السلطان كاره .وليس يل به جتربة وال ابلسلطان رفق .وأنت ملك
السباع وعندك من أجناس الوحوش عدد كثري فيهم أهل نبل وقوة وهلم على العمل حرص وعندهم به
وابلسلطان رفق :فإن استعملتهم أغنوا عنك واغتبطوا ألنفسهم مبا أصاهبم من ذلك .قال األسد :دع
عنك هذا :فإين غري معفيك من العمل .قال ابن آوى :إمنا يستطيع خدمة السلطان رجالن لست
بواحد منهما :إما فاجر مصانع ينال حاجته بفجوره ويسلم مبصانعته وإما مغفل ال حيسده أحد .فن
أراد أن خيدم السلطان ابلصدق والعفاف فال خيلط ذلك مبصانعته وحينئذ قل أن يسلم على ذلك:
90
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ألنه جيتمع عليه عدو السلطان وصديقه ابلعداوة واحلسد .أما الصديق فينافسه يف منزلته ويبغى عليه
فيها ويعاديه ألجلها وأما عدو السلطان فيضطغن عليه لنصيحته لسلطانه وإغنائه عنه .فإذا اجتمع
عليه هذان الصنفان فقد تعرض للهالك .قال األسد :ال يكونن بغي أصحايب عليك وحسدهم إايك مما
يعرض يف نفسك :فأنت معي وأان أكفيك ذلك وأبلغ بك من درجات الكرامة واإلحسان على قدر
مهتك .قال ابن آوى :إن كان امللك يريد اإلحسان إيل فليدعين يف هذه الربية أعيش آمنا قليل اهلم
راضي ا بعيشي من األذى واخلوف يف ساعة واحدة ما ال يصل إىل غريه يف طول عمره وإن قليالا من
العيش يف آمن وطمأنينة خري من كثري من العيش يف خوف ونصب .قال األسد :قد مسعت مقالتك،
فال ختف شيئا مما أراك ختاف منه .وست أجد بدا من االستعانة بك يف أمري .قال ابن آوى :أان إذا
أىب امللك إال ذلك فليعجل يل عهدا إن بغى على أحد من أصحابه عنده ،ممن هو فوقي :خمافة على
منزلته ،أو ممن هو دون :لينازعين يف منزليت فذكر عند امللك منهم ذاكر بلسانه ،أو على لسان غريه ما
يريد به حتميل امللك على أال يعجل يف أمر وأن يتثبت فيما يرفع إليه ويذكر عنده من ذلك ويفحص
عن ه مث ليصنع ما بدا له .فإذا وثقت منه بذلك أعنته بنفسي فيما حيب وعملت له فيما أوالين بنصيحة
واجتهاد وحرصت على أال أجعل له على نفسي سبيالا .قال األسد :لك ذلك على وزايدة .مث واله
خزائنه واختص به دون أصحابه وزاد يف كرامته .فلما رأى أصحاب األسد ذلك غاظهم وساءهم?
فأمجعوا كيدهم ،واتفقوا كلهم على أن حيملوا عليه األسد وكلن األسد قد استطاب حلما فعزل منه
مقدرا ،وأمره ابالحتفاظ به ،وأن يرفعه يف أحصن موضع طعامه ومحلوه إىل بيت ابن آوى ،فخبئوه فيه،
وال علم له به ،مث حضروا يكذبونه إن جرت يف ذلك حال .فلما كان من الغد ودعا األسد بغدائه،
فقد ذلك اللحم ،فالتمسه ومل جيده ،وابن آوى مل يشعر مبا صنع يف حقه من املكيدة .فحضر الذين
عملوا املكيدة ،وقعدوا يف اجمللس .مث إن امللك سأل عن اللحم ،وشدد فيه ،وقي املسألة عنه ،فنظر
بعضهم إىل بعض ،فقال أحدهم قول املخرب الناصح :إنه ال بد لنا من أن خنرب امللك مبا يضره وينفعه،
وإن شق ذلك على من يشق عليه .وإنه بلغين أن ابن آوى هو الذي ذهب ابللحم إىل منزله .قال
اآلخر :ال أراه يفعل هذا ،ولكن انظروا وفحصوا فإن معرفة اخلالئق شديدة .فقال اآلخر :لعمري ما
تكاد السرائر تعرف ،وأظنكم إن فحصتم عن هذا وجدمت اللحم ببيت ابن آوى ،وكل شيء يذكر من
عيوبه وخيانته حنن أحق أن نصدقه .قال اآلخر :لئن وجدان هذا حق ا فليست ابخليانة فقط ،ولكن مع
اخليانة كفر النعمة ،واجلراءة على امللك .قال اآلخر :أنتم أهل العدل والفضل ،ال أستطيع أن أكذبكم،
91
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ولكن سيبني هذا لو أرسل إىل امللك من يفتشه .قال اآلخر :إن كان امللك مفتشا منزله فليعجل :فإن
عيونه وجواسيسه مبثوثة بكل مكان .ومل يزالوا يف الكالم و أشباهه ،حىت وقع يف نفس األسد ذلك،
فأمر اببن آوى فحضر فقال له :أين اللحم الذي أمرتك ابالحتفاظ به ،قال :دفعته إىل صاحب
الطعام ليقربه إىل امللك .فدعا األسد بصاحب الطعام ،وكان ممن وابيع مع القوم على ابن آوى .فقال:
ما دفع إىل شيئا .فأرسل األسد أمينا إىل بيت ابن آوى ليفتشه ،فوجد فيه ذلك اللحم ،فأتى به
األسد .فدان من األسد ذئب مل يكن تكلم يف شيء من ذلك .وكان يظهر أنه من العدول الذين ال
يتكلمون فيما ال يعل مون ،حىت يتبني هلم احلق .فقال :بعد أن اطلع امللك على خيانة ابن آوى فال
َّ
يعفون عنه :فإنه إن عفا عنه مل يطلع امللك بعدها على خيانة خائن ،وال ذنب مذنب .فأمر األسد
اببن آوى أن خيرج ،وحيتفظ به .فقال بعض جلساء امللك :إين ألعجب من رأي امللك ومعرفته ابألمور
كيف خي فى عليه أمر هذا ،ومل يعرف خبثه وخمادعته? وأعجب من هذا أين أراه سيصفح عنه ،بعد
الذي ظهر منه .فأرسل األسد بعضهم رسوالا إىل ابن آوى يلتمس منه العذر ،فرجع إليه الرسول برسالة
عجل يف
كاذبة اخرتعها فغضب األسد من ذلك وأمر اببن آوى أن يقتل .فعلمت أم األسد أنه قد ّ
أمره ،فأرسلت إىل الذين أمروا بقتله أن يؤخروه ،ودخلت على ابنها ،فقالت :اي بين أبي ذنب أمرت
عجلت .وإمنا يسلم العاقل من الندامة برتك العجلة
بين ّ
بقتل ابن آوى? فأخربها ابألمر .فقالت :اي َّ
وابلتثبت .والعجلة ال يزال صاحبها جيتين مثرة الندامة ،بسبب ضعف الرأي .وليس أحد أحوج إىل
التُّؤدة والتثبت من امللوك :فإن املرأة بزوجها ،والولد بوالديه ،واملتعلم ابملعلم واجلند ابلقائد ،والناسك
ابلدين ،والعامة ابمللوك ،وامللوك ابلتقوى ،والتقوى ابلعمل ،والعقل ابلتثبت واألانة ،ورأس الكل احلزم،
ورأس احلزم للملك معرفة أصحابه ،وإنزاهلم منازهلم على طبقاهتم ،واهتامه بعضهم على بعض .فإنه لو
وجد بعضهم إىل هالك بعض سبيالا لفعل .وقد جربت ابن آوى ،وبلوت رأيه وأمانته ومروءته ،مث مل
خيونه بعد ارتضائه إايه وائتمانه له ،ومنذ جميئه إىل
تزل مادح ا له راضي ا عنه .وليس ينبغي للملك أن ّ
اآلن مل يطلع له على خيانة إال على العفة والنصيحة .وما كان رأي امللك أن يعجل عليه ألجل طابق
ليتعرض للحم استودعته حلم .وأنت أيها امللك حقيق أن تنظر يف حال ابن آوى :لتعلم أنه مل يكن ّ
إايه .ولعل امللك إن فحص عن ذلك ظهر له أن ابن آوى له خصماء هم الذين أمتروا هبذا األمر .وهم
ال ذين ذهبوا ابللحم إىل بيته فوضعوه فيه :فإن احلدأة إذا كان يف رجلها قطعة حلم اجتمع عليها سائر
92
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
الطري ،والكلب إذا كان معه عظم اجتمع عليه الكالب .وابن آوى منذ كان إىل اليوم انفع ،وكان
حمتمالا لكل ضرر يف جنب منفعة تصل إليك ،ولكل عناء يكون لك فيه راحة ،ومل يطوى دونك سرا.
فبينما أم األسد تقص عليه هذه املقالة ،إذ دخل على األسد بعض ثقاته ،فأخربه برباءة ابن آوى.
يرخص ملن سعى به فقالت أم األسد ،بعد أن اطلع امللك على براءة ابن آوى :إن امللك حقيق أال ّ
لئال يتجرءوا إىل ما هو أعظم من ذلك بل يعاقبهم عليه لكي ال يعودوا إىل مثله :فأنه ال ينبغي للعاقل
أن يراجع يف أمر الكفور للحسىن ،اجلريء على الغدر ،الزاهد يف اخلري الذي ال يوقن ابآلخرة .وينبغي
أن جيزى بعمله ،وقد عرفت سرعة الغضب وفرط اهلفوة ،ومن سخط ابليسري مل يبلغ رضاه ابلكثري.
واألوىل لك أن تراجع ابن آوى ،وتعطف عليه ،وال يوئسنك من مناصحته ما فرط منك إليه من
اإلساءة :فإن من الناس من ال ينبغي تركه على حال من األحوال ،وهو من عرف ابلصالح والكرم
وحسن العهد والشكر والوفاء واحملبة للناس والسالمة من احلسد والبعد من األذى واالحتمال لإلخوان
واألصحاب وإن ثقلت عليه منه املئونة .وأما من ينبغي تركه فهو من عرف ابلشراسة ولؤم العهد وقلة
الشكر والوفاء والبعد من الرمحة والورع ،واتصف ابجلحود لثواب اآلخرة وعقاهبا .وقد عرفت ابن آوى
وجربته وأنت حقيق مبواصلته .فدعى األسد اببن آوى وأعتذر إليه مما كان منه ووعده خريا ،وقال :إين
معتذر إليك ور ّادك إىل منزلتك .فقال ابن آوى :إن شر األخالء من التمس منعة نفسه بضر أخيه،
ومن كان غري انظر له كنظره لنفسه ،أو كان يريد أن يرضيه بغري احلق ألجل إتباع هواه .وكثريا ما يقع
ذلك بني األخالء .وقد كان من امللك إىل ما علم فال يغلظن على نفسه ما اخربه به إين به غري واثق،
وإنه ال ينبغي يل أن أصحبه :فإن امللوك ال ينبغي أن يصحبوا من عاقبوه أشد العقاب ،وال ينبغي هلم
أن يرفضوه أصالا :فإن ذا السلطان إذا عزل كان مستحقا للكرامة يف حالة إبعاده واإلقصاء له .فلم
يلتفت األسد إىل كالمه .مث قال له :إين قد بلوت طباعك وأخالقك ،وجربت أمانتك ووفاءك
متحل احليلة لتحملي عليك .وإين منزلك من نفسي منزلة األخيار وصدقك ،وعرفت كذب من ّ
الكرماء ،والكرمي تنسيه اخللة الواحدة من اإلحسان ،اخلالل الكثرية من اإلساءة .وقد عدان إىل الثقة
بك ،فعد إىل الثقة بنا :فإن لنا ولك بذلك غطة وسرورا .فعاد ابن آوى إىل والية ما كان يلي،
وضاعف له امللك الكرامة ،ومل تزده األايم إال تقرابا من السلطان.
ابب إيالذ وبالذ وايراخت
93
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد مسعت هذا املثل ،فاضرب يل مثالا يف األشياء اليت جيب على
امللك أن يلزم هبا نفسه ،وحيفظ ملكه ويثبت سلطانه ،ويكون ذلك رأس أمره ومالكه :أابحللم أم
ابملروءة أم ابلشجاعة أم ابجلود? قال بيداب :إن أحق ما حيفظ به امللك ملكه احللم ،وبه تثبت
السلطنة ،واحللم رأس األمور ومالكها ،وأجود ما كان يف امللوك :كالذي زعموا من أنه كان ملك يدعى
بالذ ،وكان له وزير يدعى إيالذ .وكان متعبدا انسكا .فنام امللك ذات ليلة ،فرأى يف منامه مثانية أحالم
النساك ليعربوا رؤايه .فلما حضروا بني يديه قص عليهم ما
أفزعته ،فاستيقظ مرعوابا .فدعا الربامهة ،وهم ّ
رأى .فقالوا أبمجعهم :لقد رأى امللك عجبا فإن أمهلتنا سبعة أايم جئناه بتأويله .قال امللك :قد
أمهلتكم فخرجوا من عنده مث اجتمعوا يف منزل أحدهم وأمتروا بينهم .وقالوا :قد وجدمت علما واسعا
تدركون به أثركم و تنقمون به من عدوكم ،وقد علمتم أنه قتل منا ابألمس اثىن عشر ألفا .وها هو قد
أطلعنا على سره وسألناه تفسري رؤايه :فهلم نغلظ له القول وخنوفه حىت حيمله الفرق واجلزع على أن
يفعل الذي نريد وأنمر .فنقول :ادفع إلينا أحباءك ومن يكرم عليك حىت نقتلهم :فإن قد نظران يف
كتابنا فلم نر أن يدفع عنك ما رأيت لنفسك وما وقعت فيه من هذا للشر إال بقتل من نسمي لك
فإن قال امللك :وما تريدون أن تقتلوا? مسوهم يل .قلنا نريد امللكة ايراخت أم جوير احملمودة أكرم
نسائك عليك .ونريد جوير أحب بنيك إليك وأفضلهم عندك .ونريد ابن أخيك الكرمي ،وإيالذ
خليلك وصاحب أمرك .ونريد كاال الكاتب صاحب سرك وسيفك الذي ال يوجد مثله والفيل األبيض
الذي ال تلحقه اخليل والفرس الذي هو مركبك يف القتال .ونريد الفيلني اآلخرين العظيمني الذين
يكوانن مع الفيل الذكر .ونريد البخيت السريع القوي .ونريد كباريون احلكيم الفاضل العامل ابألمور
لننتقم منه مبا فعل بنا .مث نقول :إمنا ينبغي لك أيها امللك أن تقتل هؤالء الذين مسيناهم لك ،مث جتعل
دماءهم يف حوض متلؤه ،مث تقعد فيه .فإذا خرجت من احلوض اجتمعنا حنن معاشر الربامهة من اآلفاق
األربعة جنول حولك فنرقيك ونتفل عليك ومنسح عنك الدم ونغسلك ابملاء والدهن الطيب .مث تقوم
البهي فيدفع هللا بذلك البالء الذي نتخوفه عليك .فإن صربت ،أيها امللك ،وطابت نفسك إىل منزلك ّ
عن أحبائك الذين ذكران لك ،وجعلتهم فداءك ،ختلصت من البالء ،واستقام لك ملكك وسلطانك،
ختوفنا عليك أن يغضب ملكك أو هتلك .فإن واستخلفت من بعدهم من أحببت .وإن أنت مل تفعل ّ
هو أطاعنا فيما أنمره قتلناه أي قتلة شئنا .فلما أمجعوا على ما أمتروا به رجعوا إليه يف اليوم السابع.
وقالوا له :أيها امللك ،إ ّان نظران يف كتبنا يف تفسري ما رأيت ،وفحصنا عن الرأي فيما بيننا .فلتكن لك
94
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أيها امللك الطاهر الصاحل الكرامة .ولسنا نقدر أن نعلمك مبا رأينا إال أن ختلو بنا .فأخرج امللك من
كان عنده وخال هبم .فحدثوا ابلذي ائتمروا به .فقال هلم :املوت خري يل من احلياة إن أان قتلت هؤالء
الذين هم عديل نفسي .وأان ميت ال حمالة ،واحلياة قصرية ،ولست كل الدهر ملكا ،وإن املوت عندي
وفراق األحباء سواء .قال له الربامهة :إن أنت مل تغضب أخربانك .فأذن هلم.
فقالوا :أيها امللك إنك مل تقل صواابا حني جتعل نفس غريك أعز عندك من نفسك .فاحتفظ بنفسك
وقر عين ا مبلكك يف وجوه أهل
وملكك .واعمل هذا الذي لك فيه الرجاء العظيم على ثقة ويقنيّ .
مملكتك الذين شرفت وكرمت هبم .وال تدع األمر العظيم وأتخذ ابلضعيف فتهلك نفسك إيثارا ملن
حتب .واعلم أيها امللك أن اإلنسان إمنا حيب احلياة حمبة لنفسه .وأنه ال حيب من أحب من األحباء إال
ليتمتع هبم يف حياته .وإمنا قوام نفسك بعد هللا تعاىل مبلكك .وإنك مل تنل ملكك إال ابملشقة والعناء
الكثري يف الشهور والسنني .وليس ينبغي أن ترفضه ويهون عليك .فاستمع كالمنا .فانظر لنفسك
مناها ،ودع ما سواها :فإنه ال خطر له .فلما رأى امللك أن الربامهة قد أغلظوا له يف القول واجرتءوا
فخر على وجهه يبكي غمه وحزنه .وقام من بني ظهرانيهم ودخل إىل حجرته ّ عليه يف الكالم اشتد ّ
ويتقلب كما تتقلب السمكة إذا خرجت من املاء ،وجعل يقول يف نفسه :ما أدري أي األمرين أعظم
علي إىل األبد.
يف نفسي? اململكة أم قتل أحبائي? ولن أانل الفرح ما عشت .وليس ملكي بباق ّ
ولست ابملصيب سؤيل يف ملكي .وإين لزاهد يف احلياة إذا مل أرى إيراخت .وكيف أقدر على القيام
مبلكي إذا هلك وزيري إيالذ? وكيف أضبط أمري إذا هلك فيلي األبيض وفرسي اجلواد? وكيف أدعى
ملك ا وقد قتلت من أشار الربامهة بقتله? وما أصنع ابلدنيا بعدهم? مث إن احلديث فشا يف األرض حبزن
امللك ومهّه .فلما رأى إيالذ ما انل امللك من اهلم واحلزن ف ّكر حبكمته ونظر وقال :ما ينبغي يل أن
أستقبل امللك فأسأله عن هذا األمر الذي قد انله من غري أن يدعوين .مث انطلق إىل إيراخت فقال :إين
منذ خدمت امللك إىل اآلن مل يعمل عمالا إال مبشوريت ورأيي .وأراه يكتم عين أمرا ال أعلم ما هو .وال
أراه يظهر منه شيئ ا .وإين رأيته خالي ا مع اجلماعة الربمهيني منذ ليال .وقد احتجب عنّا فيها .وأان
خائف أن يكون قد أطلعهم على شيء من أسراره .فلست آمنهم أن يشريوا عليه مبا يضره ويدخل
عليه منه ا لسوء .فقومي وادخلي عليه فاسأليه عن أمره وشأنه .واخربيين مبا هو عليه وأعلميين :فإين
فلعل الربمهيني قد زينوا له أمرا أو محلوه على خطة قبيحة .وقد علمتلست أقدر على الدخول عليهّ .
أن من ُخلُ ِق امللك أنه إذا غضب ال يسأل أحدا .وسواء عنده صغري األمور وكبريها .فقالت إيراخت:
95
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
إنه كان بيين وبني امللك بعض العتاب فلست بداخلة عليه هبذه احلال .فقال هلا إيالذ :ال حتملي عليه
احلقد يف مثل هذا .وال خيطر ّن ذلك على ابلك فليس يقدر على الدخول عليه أحد سواك.
سرى عين ،فقومي إليه واصفحي عنه. غمي ودخلت علي إيراخت إال ِّوقد مسعته كثريا يقول :ما أشتد ّ
ّ
وكلميه مبا تعلمني أنه تطيب به نفسه ويذهب الذي جيده .وأعلميين مبا يكون جوابه :فإنه لنا وألهل
اململكة أعظم الراحة .فانطلقت إيراخت فدخلت على امللك فجلست عند رأسه .فقالت :ما الذي
بك أيها امللك احملمود? وما الذي مسعت من الربامهة? فإين أراك حمزوانا .فأعلمين ما بك ،فقد ينبغي لنا
غما وحزانا:
أن حنزن معك ونواسيك أبنفسنا .فقال امللك :أيتها السيدة ال تسأليين عن أمري فتزيديين ّ
فإنه أمر ال ينبغي أن تسأليين عنه .قالت :أو قد نزلت عندك منزلة من يستحق هذا? إمنا أمحد الناس
عقالا من إذا نزلت به النازلة كان لنفسه أشد ضبط ا ،وأكثرهم استماع ا من أهل النصح حىت ينجو من
تلك النازلة ابحليلة والعقل والبحث واملشاورة .فعظيم الذنب ال يقنط من الرمحة .وال تدخلّن عليك
شيئا من اهلم واحلزن .فإهنما ال يردان شيئا مقضيا .إال أهنما ينحالن اجلسم ويشفيان العدو .قال هلا
علي .والذي تسألينين عنه ال خري فيه :ألن عاقبته هالكي
امللك :ال يسأليين عن شيء فقد شققت ّ
وهالكك وهالك كثري من أهل مملكيت ومن هو عديل نفسي .وذاك أن الربامهة زعموا أنه ال بد من
قتلك وقتل كثري من أهل موديت .وال خري يف العيش بعدكم .وهل أحد يسمع هبذا إال اعرتاه احلزن?.
فلما مسعت ذلك إيراخت جزعت .ومنعها عقلها أن تظهر للملك جزعا .فقالت :أيها امللك ال جتزع
فنحن لك الفداء .ولك يف سواي ومثلي من اجلواري ما تقر به عينك .ولكين أطلب منك ،أيها
امللك ،حاجة حيملين على طلبها حيب لك وإيثاري إايك .وهي نصيحيت لك .قال امللك :وما هي?
قالت :أطلب منك أن ال تثق بعدها أبحد من الربامهة .وال تشاورهم يف أمر حىت تتثبت يف أمرك .مث
تشاور فيه ثقاتك مرارا :فإن القتل أمر عظيم ،ولست تقدر على أن حتيي من قتلت .وقد قيل يف
احلديث :إذا لقيت جوهرا ال خري فيه فال تلقيه من يدك حىت تريه من يعرفه .وأنت أيها امللك ال
تعرف أعداءك .واعلم أن الربامهة ال حيبونك.
وقد قتلت منهم ابألمس اثين عشر ألفا .وال تظن أن هؤالء ليسو من أولئك .ولعمري ما كنت جديرا
أن ختربهم برؤايك ،وال أن تطلعهم عليها .وإمنا قالوا لك ما قالوا ألجل احلقد الذي بينك وبينهم :لعلهم
يهلكونك ويهلكون أحباءك ووزيرك :فيبلغوا قصدهم منك .فأظنك لو قبلت منهم فقتلت من أشاروا
بقتله ظفروا بك وغلبوك على ملكك ،فيعود امللك إليهم كما كان .فانطلق إىل كباريون احلكيم ،فهو
96
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
97
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
إيراخت وحورقناه أكرم نسائه بني يديه .فقال إليالذ :ضع الكسوة واإلكليل بني يدي إيراخت لتأخذ
أيها شاءت .فوضعت اهلدااي بني يدي إيراخت .فأخذت منها اإلكليل ،وأخذت حورقناه كسوة من
أفخر الثياب وأحسنها .وكان من عادة امللك أن يكون ليلة عند إيراخت وليلة عند حورقناه .وكان من
سنة امللك أن هتيء له املرأة اليت يكون عندها يف ليلتها أرزا حبالوة فتطعمه إايه .فأتى امللك إيراخت يف
ابلصحفة واإلكليل على رأسها .فعلمت حورقناه بذلك نوبتها .وقد صنعت له أرزا .فدخلت عليه ّ
فغارت من إيراخت .فلبست تلك الكسوة .ومرت بني يدي امللك وتلك الثياب تضيء عليها مع نور
وجهها كما تضيء الشمس .فلما رآها امللك أعجبته .مث التفت إىل إيراخت فقال :إنك جاهلة حني
أخذت اإلكليل وتركت الكسوة إيل ليس يف خزائننا مثلها .فلما مسعت إيراخت مدح امللك حلورقناه
وذم رأيها أخذها من ذلك الغرية والغيظ .فضربت ابلصحفة رأس امللك. وثناءه عليها وجتهيلها هي ّ
فسال األرز على وجهه .فقام امللك من مكانه ودعا إبيالذ .فقال له :أال ترى ،وأان ملك العامل ،كيف
حقرتين هذه اجلاهلة ،وفعلت يب ما ترى? فانطلق هبا فاقتلها وال ترمحها .فخرج إيالذ من عند امللك
وقال :ال أقتاها حىت يسكن عنه الغضب .فاملرأة عاقلة سديدة الرأي من امللكات إيل ليس هلا عديل
يف النساء .وليس امللك بصابر عنها .وقد خلصته من املوت ،وعملت أعماالا صاحلة .ورجاؤان فيها
عظيم .ولست آمنة أن يقول :مل ملْ تؤخر قتلها حىت تراجعين? فلست قاتلها حىت أنظر رأي امللك فيها
ًثنية :فإن رأيته اندما حزينا على ما صنع جئت هبا حية .وكنت قد عملت عمالا عظيما .وأجنيت
إيراخت من القتل .وحفظت قلب امللك .واختذت عند عامة الناس بذلك يدا .وإن رأيته فرحا مسرتحيا
مصوابا رأيه يف الذي فعله وأمر به فقتلها ال يفوت .مث انطلق هبا إىل منزله ،ووكل هبا خادم ا من أمنائه،
ّ
وأمره خبدمتها وحراستها ،حىت ينظر ما يكون من أمرها وأمر امللك .مث خضب سيفه ابلدم ودخل على
امللك كالكئيب احلزين .فقال أيها امللك :إين قد أمضيت أمرك يف إيراخت .فلم يلبث امللك أن سكن
عنه الغضب ،وذكر مجال إيراخت وحسنها .واشتد أسفه عليها .وجعل يعزي نفسه عنها .ويتجلد وهو
مع ذلك يستحي أن يسأل إيالذ :أحق ا أمضى أمره فيها أم ال? ورجا ملا عرف من عقل إيالذ أال
يكون قد فعل ذلك .ونظر إليه إيالذ بفضل عقله فعلم الذي به ،فقال له :ال هتتم وال حتزن أيها امللك:
فإنه ليس يف اهلم واحلزن منفعة .ولكنهما ينحالن اجلسم ويفسدانه .فاصرب أيها امللك على ما لست
بقادر عليه أبدا .وإن أحب امللك حدثته حبديث يسليه .قال :حدثين.
قال إيالذ :زعموا أن محامتني ذكرا وأنثى مال عشهما من احلنطة والشعري .فقال الذكر لألنثى :إان إذا
98
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
وجدان يف الصحارى ما نعيش به فلسنا أنكل مما هاهنا شيئا .فإذا جاء الشتاء ومل يكن يف الصحارى
شيء رجعنا إىل ما يف عشنا فأكلناه .فرضيت األنثى بذلك .وقالت له :نعم ما رأيت .وكان ذلك
احلب ندايا حني وضعاه يف عشهما .فانطلق الذكر فغاب .فلما جاء الصيف يبس احلب وانضمر .فلما
رجع الذكر رأى احلب انقصا .فقال هلا :أليس كنا أمجعنا رأينا على أال أنكل منه شيئا? فلم أكلته?
فجعلت حتلف أهنا ما أكلت منه شيئا .وجعلت تعتذر إليه .فلم يصدقها .وجعل ينقرها حىت ماتت.
فلما جاءت األمطار ودخل الشتاء تندى احلب وامتأل العش كما كان .فلما رأى الذكر ذلك ندم .مث
اضطجع إىل جانب محامته وقال :ما ينفعين احلب والعيش بعدك إذا طلبتك فلم أجدك ،ومل أقدر
عليك ،وإذا فكرت يف أمرك وعلمت أين قد ظلمتك ،وال أقدر على تدارك ما فات .مث استمر على
حزنه فلم يطعم طعام ا وال شراابا حىت مات إىل جانبها .والعاقل ال يعجل يف العذاب والعقوبة ،وال
سيما من خياف الندامة ،كما ندم احلمام الذكر .وقد مسعت أيض ا أن رجالا دخل اجلبل وعلى رأسه
كارة من العدس فوضع الكارة عن ظهره ليسرتيح .فنزل قرد من شجرة فأخذ ملء كفه من العدس
وصعد إىل الشجرة .فسقطت من يده حبة فنزل يف طلبها فلم جيدها .وانتثر ما كان يف يده من العدس
أمجع .وأنت أيض ا أيها امللك عندك ستة عشر ألف امرأة تدع أن تلهو هبن وتطلب اليت ال جتد??!
فلما مسع امللك ذلك خشي أن تكون إيراخت قد هلكت .فقال إليالذ :مل ال أتنيت وتثبت? بل
أسرعت عند مساع كلمة واحدة فتعلقت هبا ،وفعلت ما أمرتك به من ساعتك? قال إيالذ :إن الذي
قوله واحد ال خيتلف هو هللا الذي ال تبديل لكلماته وال اختالف لقوله .قال امللك :لقد أفسدت
أمري وشددت حزين بقتل إيراخت .قال إيالذ :إثنان ينبغي هلما أن حيزان :الذي يعمل اإلمث يف كل
يوم ،والذي مل يعمل خريا قط :ألن فرحهما يف الدنيا ونعيمهما قليل .وندامتهما إذ يعاينان اجلزاء
طويلة ال يستطاع إحصاؤها .قال امللك :لئن رأيت إيراخت حي اة ال أحزن على ٍ
شيء أبدا .قال إيالذ:
اثنان ال ينبغي هلما أن حيزان :اجملتهد يف الرب كل يوم ،والذي مل أيمث قط .قال امللك :ما أان بناظ ٍر إىل
إيراخت أكثر مما نظرت قال إيالذ :اثنان ال ينظران :األعمى والذي ال عقل له .وكما أن العمى ال
ينظر السماء وجنومها وأرضها وال ينظر القرب والبعد ،كذلك الذي ال عقل له ال يعرف احلسن من
القبيح وال احملسن من املسيء .قال امللك :لو رأيت إيراخت الشتد فرحي .قال إيالذ :اثنان مها
الفرحان :البصري والعامل .فكما أن البصري يبصر أمور العامل وما فيه من زايدة ونقصان والقريب والبعيد،
فكذلك العامل يبصر الرب واإلمث ،ويعرف عمل اآلخرة ،ويتبني له جناته ،ويهتدي إىل صراط املستقيم.
99
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
قال امللك :ينبغي لنا أن نتباعد منك إييالذ وأنخذ احلذر ونلزم االتقاء .قال إيالذ :اثنان جيب أن
نتباعد منهما :الذي يقول ال بر وال إمث وال عقاب وال ثواب وال شيء على مما أان فيه ،والذي ال يكاد
فيه يصرف بصره عما ليس له مبحرم وال أذنه عن استماع السوء ،وال قلبه عما هتم به نفسه من اإلمث
واحلرص .قال امللك :صارت يدي من إيراخت صفرا .قال إيالذ :ثالثة أشياء أصفار :النهر الذي ليس
فيه ماء ،واألرض اليت ليس فيها ملك ،واملرأة اليت ليس هلا بعل ،قال امللك :إنك اي إيالذ لتلقي
اجلواب .قال إيالذ :ثالثة يلقون ابجلواب :امللك الذي يعطي ويقسم من خزائنه ،واملرأة املهداة اليت
هتوى من ذوي احلسب ،والرجل العامل املوفق للخري.
مث إن إيالذ ملا رأى امللك أشتد به األمر ،قال :أيها امللك إن إيراخت ابحلياة .فلما مسع امللك ذلك
اشتد فرحه .وقال إييالذ :إمنا منعين من الغضب ما أعرف من نصيحتك وصدق حديثك .وكنت أرجو
ملعرفيت بعلمك أال تكون قد قتلت إيراخت .فإهنا وإن كانت أتت عظيم ا وأغلظت يف القول فلم أتته
عداوة وال طلب مضرة ،ولكنها فعلت ذلك للغرية .وقد كان ينبغي يل أن أعرض عن ذلك وأحتمله،
ولكنك اي إيالذ أردت أن ختتربين وترتكين يف شك من أمرها .وقد أخذت عندي أفضل األيدي .وأان
لك شاكر .فانطلق فأتين هبا .فخرج من عند امللك فأيت إيراخت وأمرها أن تتزين ففعلت ذلك.
وانطلق هبا إىل امللك .فلما دخلت سجدت له .مث قامت بني يديه .وقالت :أمحد هللا تعاىل مث أمحد
امللك الذي أحسن إيل :قد أذنبت الذنب العظيم الذي مل أكن للبقاء أهالا بعده ،فوسعه حلمه وكرم
طبعه ورأفته ،مث أمحد إيالذ الذي آخر أمري ،وأجناين من اهللكة ،لعلمه برأفة امللك وسعة حلمه وجوده
وكرم جوهره ووفاء عهده .وقال امللك إليالذ :ما أعظم يدك عندي وعند إيراخت وعند العامة :إذ قد
أحييتها بعد ما أمرت بقتلها :فأنت الذي وهبتها يل اليوم :فإين مل أزل واثقا بنصيحتك وتدبريك .وقد
ازددت اليوم عندي كرامة وتعظيما .وأنت حم ّك ٌم يف ملكي تفعل فيه مبا ترى ،وحتكم عليه مبا تريد .فقد
جعلت ذلك إليك ووثقت بك .قال إيالذ :أدام هللا لك أيها امللك امللك والسرور .فلست مبحمود
ُ
على ذلك .فإمنا أان عبدك .لكن حاجيت أالّ يعجل امللك يف األمر اجلسيم الذي يندم على فعله،
وتكون عاقبته الغم واحلزن .وال سيما يف مثل هذه امللكة الناصحة املشفقة اليت ال يوجد يف األرض
مثلها :فقال امللك حبق قلت اي إيالذ ،وقد قبلت قولك ،ولست عامالا بعدها عمالا صغريا وال كبريا،
فضالا عن مثل هذا األمر العظيم الذي ما سلمت منه ،إال بعد املؤامرة والنظر والرتدد إىل ذوي العقول
ومشاورة أهل املودة والرأي .مث أحسن امللك جائزة إليالذ ،وم ّكنه من أولئك الربامهة الذين أشاروا بقتل
100
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
أحبائه فأطلق فيهم السيف ،وقرت عني امللك وعيون عظماء أهل مملكته ،ومحدوا هللا وأثنوا على
كباريون بسعة علمه وفضل حكمته :ألنه بعلمه خلّص امللك ووزيره الصاحل وامرأته الصاحلة.
ابب اللبوة واإلسوار والشغرب
ضر غريه
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد مسعت هذا املثل .فاضرب يل مثالا يف شأن من يدع ّ
الضر ،ويكون له فيما ينزل به واعظ وزاجر عن ارتكاب الظلم والعداوة
إذا قدر عليه ملا يصيبه من ّ
لغريه .قال الفيلسوف :إنه ال يقدم على طلب ما يضر الناس وما يسوءهم إال أهل اجلهالة والسفه
وسوء النظر يف العواقب من أمور الدنيا واآلخرة ،وقلة العلم مبا يدخل عليهم يف ذلك من حلول
النقمة ،ومبا يلزمهم من تبعة ما اكتسبوا مما ال حتيط به العقول .وإن سلم بعضهم من ضرر بعض مبنية
عرضت له قبل أن ينزل به وابل ما صنع :فإن من مل يفكر يف العواقب مل أيمن املصائب ،وحقيق أال
يسلم من املعاطب .ورمبا اتعظ اجلاهل واعترب مبا يصيبه من املضرة من غريه ،فارتدع عن أن يغشى أحدا
كف عنه من ضرر لغريه يف العاقبة ،فنظري ذلك
مبثل ذلك من الظلم والعدوان ،وحصل له نفع ما َّ
حديث اللبوة واإلسوار والشغرب .قال امللك :وكيف كان ذلك?
قال الفيلسوف :زعموا أن لبؤة كانت يف غيضة ،وهلما شبالن ،وأهنا خرجت قي طلب الصيد
فمر هبما إسوار فحمل عليهما ورمامها فقتلهما ،وسلخ جلديهما فاحتقبهما،وخلفتهما يف كهفهماّ ،
حل هبما من األمر الفظيع اضطربت ظهرا لبطن وانصرف هبما إىل منزله ،مث إهنا رجعت .فلما رأت ما ّ
وضجت .وكان إىل جانبها شغرب .فلما مسع ذلك من صياحها قال هلا :ما هذا الذي
وصاحت ّ
مر هبما إسوار فقتلهما ،وسلخ جلديهما
تصنعني? وما نزل بك? فأخربيين به .قالت اللبؤة شبالي ّ
ِ
تضجي وأنصفي من نفسك ،واعلمي أن هذا اإلسوار مل
فاحتقبهما ،ونبذمها ابلعراء .قال هلا شغرب :ال ّ
أيت إليك شيئا إال وقد كنت تفعلني بغريك مثله ،وأتتني إىل غري واحد مثل ذلك ،ممن كان جيد
حبميمه ومن يعز عليه مثل ما جتدين بشبليك .فاصربي على فعل غريك كما صرب غريك على فعلك:
فإنه قد قيل :كما تدين تدان .ولكل عمل مثرة من الثواب والعقاب .ومها على قدره يف الكثرة والقلة.
كالزرع إذا حضر احلصاد أعطى على حسب بذره .قالت اللبؤة :بني يل ما تقول ،وأفصح يل عن
إشارته .قال الشغرب :كم أتى لك من العمر? قالت اللبؤة :مائة سنة .قال الشغرب :ما كان قوتك?
قالت اللبؤة :حلم الوحش .قال الشغرب :من كان يطعمك إايه? قالت اللبؤة :كنت أصيد الوحش
وآكله .قال الشغرب :أرأيت الوحش اليت كنت أتكلني ،أما كان هلا آابء وأمهات? قالت :بلى .قال
101
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
الشغرب :فما ابيل ال أرى وال أمسع لتلك اآلابء واألمهات من اجلزع والضجيج ما أرى وأمسع لك? أما
أنه مل ينزل بك ما نزل إال لسوء نظرك يف العواقب وقلة تفكريك فيها ،وجهالتك مبا يرجع عليك من
ضرها .فلما مسعت اللبؤة ذلك من كالم الشغرب عرفت أن ذلك مما جنت على نفسها ،وأن عملها
كان جورا وظلما ،فرتكت الصيد ،وانصرفت عن أكل اللحم إىل الثمار واملسك والعبادة .فلما رأى
ذلك ورشان ا لذي كان صاحب تلك الغيضة وكان عيشه من الثمار .قال هلا :قد كنت أظن أن
الشجرة عامنا هذا مل حتمل :لقلة املاء ،فلما أبصرتك أتكلينها ،وأنت آكلة اللحم ،فرتكت رزقك
وطعامك وما قسم هللا لك ،وحتولت إىل رزق غريك فانتقصته ،ودخلت عليه فيه؛ علمت أن الشجر
العام أمثرت كما كانت تثمر قبل اليوم ،وإمنا أتت قلة الثمر من جهتك .فويل للشجر وويل للثمار
وويل ملن عيشه منها! ما أسرع هالكهم إذا دخل عليهم يف أرزاقهم ،وغلبهم عليها من ليس له فيها
حظ ومل يكن معتادا ألكلها! فلما مسعت اللبؤة ذلك من كالم الورشان تركت أكل الثمار وأقبلت على
أكل احلشيش والعبادة .وإمنا ضربت لك هذا املثل لتعلم أن اجلاهل رمبا انصرف بض ٍر يصيبه عن ِّ
ضر
الناس ،كاللبؤة اليت انصرفت ملا لقيت يف شبليها عن أكل اللحم مث عن أكل الثمار بقول الورشان،
وأقبلت على النّسك والعبادة .والناس أحق حبسن النظر يف ذلك :فإنه قد قيل :ما ال ترضاه لنفسك ال
تصنعه لغريك :فإن يف ذلك العدل :ويف العدل رضا هللا تعاىل ورضا الناس.
ابب الناسك والضيف
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد مسعت هذا املثل .فاضرب يل مثل الذي يدع صنعه الذي يليق
به ويشاكله ،ويطلب غريه فال يدركه :فيبقى حريان مرتددا .قال الفيلسوف :زعموا أنه كان أبرض
الكرخ انسك عاب ٌد جمته ٌد .فنزل به ضيف ذات ٍ
يوم ،فدعا الناسك لضيفه بتمر :ليطرفه به .فأكال منه ٌ
مجيعا .مث قال الضيف :ما أحلى هذا التمر وأطيبه! فليس هو يف بالدي اليت أسكنها ،وليته كان فيها!
مث قال :أرى أن تساعدين على أن آخذ منه ما أغرسه يف أرضنا :فإين لست عارف ا بثمار أرضكم ،هذه
وال مبواضعها .فقال له الناسك :ليس لك يف ذلك راحة :فإن ذلك يثقل عليك .ولعل ذلك ال يوافق
أرضكم ،مع أن بالدكم كثرية األمثار فما حاجتها مع كثرة مثارها إىل التمر مع وخامته وقلة موافقته
للجسد? مث قال له الناسك :إنه ال يعد حكيما من طلب ما ال جيد .وإنك سعيد اجل ِّد إذا قنعت
ابلذي جتد ،وزهدت فيها ال جتد .وكان هذا الناسك يتكلم ابلعربانية .فاستحسن الضيف كالمه
وأعجبه ،فتكلف أن يتعلمه؛ وعاجل يف ذلك نفسه أايما .فقال الناسك لضيفه :ما أخلقك أن تقع مما
102
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
تركت من كالمك ،وتكلفت من كالم العربانية ،يف مثل ما وقع فيه الغراب! قال الضيف :وكيف كان
ذلك?
قال الناسك :زعموا أن غراابا رأى حجلة تدرج ومتشي ،فأعجبته مشيتها ،وطمع أن يتعلمها .فراض
على ذلك نفسه ،فلم يقدر على إحكامها ،وأيس منها ،وأراد أن يعود إىل مشيته اليت كان عليها :فإذا
هو قد اختلط وختلع يف مشيته ،وصار أقبح الطري مشيا .وإمنا ضربت لك هذا املثل ملا رأيت من أنك
تركت لسانك الذي طبعت عليه ،وأقبلت على لسان العربانية ،وهو ال يشاكلك ،وأخاف أال تدركه،
شرهم لساانا :فإنه قد قيل :إنه يعد جاهالا من تكلف من
وتنسى لسانك ،وترجع إىل أهلك وأنت ّ
األمور ما ال يشاكله ،وليس من عمله ومل يؤدبه عليه آابؤه وأجداده من قبل.
ابب السائح والصائغ
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد مسعت هذا املثل .فاضرب يل مثالا يف شأن الذي يضع
املعروف يف غري موضعه ،ويرجو الشكر عليه .قال الفيلسوف :أيها امللك إن طبائع اخللق خمتلفة.
وليس مما خلقه هللا يف الدنيا مما ميشي على أربع أو على رجلني أو يطري جبناحني شيء هو أفضل من
اإلنسان ،ولكن من الناس الرب والفاجر .وقد يكون يف بعض البهائم والسباع والطري ما هو أوىف منه
ٍ
وحينئذ جيب على ذوي العقل من امللوك ذمة ،وأشد حماماة على حرمه ،وأشكر للمعروف ،وأقوم به،
وغريهم أن يضعوا معروفهم مواضعه وال يضعوه عند من ال حيتمله .وال يقوم بشكره ،وال يصطنع أحدا
إال بعد اخلربة بطرائقه ،واملعرفة بوفائه ومودته وشكره .وال ينبغي أن خيتصوا بذلك قريبا لقرابته ،إذا كان
غري ٍ
حمتمل للصنيعة ،وال أن مينعوا معروفهم ورفدهم للبعيد ،إذا كان يقيهم بنفسه وما يقدر عليه :ألنه
يكون ٍ
حينئذ عارفا حبق ما اصطنع إليه مؤدايا لشكر ما أنعم عليه ،حممودا ابلنصح معروفا ابخلري،
صدوقا عارفا ،مؤثرا حلميد الفعال والقول .وكذلك كل من عرف ابخلصال احملمودة ووثق منه هبا ،كان
للمعروف موضع ا ،ولتقريبه واصطناعه أهالا :فإن الطيب الرفيق العاقل ال يقدر إىل مداواة املريض إال
بعد النظر إليه واجلس لعروقه ومعرفة طبيعته وسبب علته ،فإذا عرف ذلك كله حق معرفته أقدم على
مداواته .فكذلك العاقل :ال ينبغي له أن يصطفي أحدا ،وال يستخلصه إال بعد اخلربة :فإن من أقدم
على مشهور العدالة من غري اختبار كان خماطرا يف ذلك ومشرفا منه على هالك وفساد .ومع ذلك رمبا
صنع اإلنسان املعروف مع الضعيف الذي مل جيرب شكره ،ومل يعرف حاله يف طبائعه فيقوم بشكر
ذلك ويكافئ عليه أحسن املكافأة .ورمبا حذر العاقل الناس ومل أيمن على نفسه أحدا منهم.
103
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
وقد أيخذ ابن عرس فيدخله يف كمه وخيرجه من اآلخر ،كالذي حيمل الطائر على يده ،فإذا صاد شيئا
انتفع به ،ومطعمه منه .وقد قيل :ال ينبغي لذي العقل أن حيتقر صغريا وال كبريا من الناس وال من
البهائم ،ولكنه جدير أبن يبلوهم ،ويكون ما يصنع إليهم على قدر ما يرى منهم .وقد مضى يف ذلك
مثل ضربه بعض احلكماء .قال امللك :وكيف كان ذلك? قال الفيلسوف :زعموا أن مجاعة احتفروا
ركية فوقع فيها رجل صائغ وحية وقرد وبرب ،ومر هبم رجل سائح فأشرف على الركية ،فبصر ابلرجل
واحلية والبرب والقرد ففكر يف نفسه ،وقال :لست أعمل آلخريت عمالا أفضل من أن أخلص هذا الرجل
من بني هؤالء األعداء .فأخذ حبالا وأداله إىل البئر فتعلق به القرد خلفته فخرج .مث داله ًثنية ،فالتفت
به احلية فخرجت .مث داله ًثلثا فتعلق به البرب فأخرجه .فشكرن له صنيعه .وقلن له :ال خترج هذا
الرجل من الركية :فإنه ليس شيء أقل شكرا من الناس مث هذا الرجل خاص اة .مث قال له القرد :إن منزيل
يف جبل قريب من مدينة يقال هلا :نوادرخت .فقال له البرب :أان أيض ا يف أمجة إىل جانب تلك املدينة.
فصوتقالت احلية :أان أيضا يف سور تلك املدينة .فإن أنت مررت بنا يوما من الدهر ،واحتجت إلينا ّ
علين ا حىت أنتيك فنجزيك مبا أسديت إلينا من معروف .فلم يلتفت السائح إىل ما ذكروا له من قلة
شكر اإلنسان ،وأدىل احلبل ،فأخرج الصائغ ،فسجد له ،وقال له :لقد أوليتين معروفاُ .فإن أتيت يوم ا
من الدهر ملدينة نوادرخت فاسأل عن منزيل :فأان رجل صائغ لعلي أكافئك مبا صنعت إيل من
معروف .فانطلق إىل مدينته وانطلق السائح إىل جانبه .فعرض بعد ذلك أن السائح اتفقت له احلاجة
إىل تلك املدينة ،فانطلق ،فاستقبله القرد ،فسجد له وقبّل رجليه .واعتذر إليه ،وقال :إن القرود ال
ميلكون شيئ ا ،ولكن اقعد حىت آتيك .وانطلق القرد ،وآاته بفاكهة طيبة ،فوضعها بني يديه ،فأكل منها
فخر له ساجدا وقال له :إنكحاجته .مث إن السائح انطلق حىت دان من ابب املدينة فاستقبله البربّ ،
قد أوليتين معروفا .فاطمئن ساعة حىت آتيك .فانطلق البرب فدخل يف بعض احليطان إىل بنت امللك
فقتلها ،وأخذ حليها ،فأاته هبا ،من غري أن يعلم السائح من أين هو .فقال يف نفسه :هذه البهائم قد
أولتين هذا اجلزاء ،فكيف لو قد أتيت إىل الصائغ فأنه إن كان معسرا ال ميلك شيئ ا فسيبيع هذا احللي
فيستويف مثنه .فيعطيين بعضه ،وأيخذ بعضه ،وهو أعرف بثمنه .فانطلق السائح فأتى إىل الصائغ .فلما
رآه رحب به وأدخله إىل بيته .فلما بصر ابحللي معه ،عرفه وكان هو الذي صاغه البنة امللك.
فقال للسائح :اطمئن حىت آتيك بطعام فلست أرضى لك ما يف البيت .مث خرج وهو يقول :قد
أصبت فرصيت :أريد أن أنطلق إىل امللك وأدله على ذلك ،فتحسن منزليت عنده .فانطلق إىل ابب
104
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
امللك ،فأرسل إليه :إن الذي قت ل ابنتك وأخذ حليها عندي .فأرسل امللك وأتى ابلسائح فلما نظر
احللي معه مل ميهله ،وأمر به أن يعذب ويطاف به يف املدينة ،ويصلب .فلما فعلوا به ذلك جعل السائح
يبكي ويقول أبعلى صوته :لو أين أطعت القرد واحلية والبرب فيما أمرنين به وأخربنين من قلة شكر
اإلنسان مل يصر أمري إىل هذا البالء ،وجعل يكرر هذا القول .فسمعت مقالته تلك احلية فخرجت من
جحرها فعرفته ،فاشتد عليه أمره ،فجعلت حتتال يف خالصه .فانطلقت حىت لدغت ابن امللك ،فدعى
امللك أهل العلم فرقوه ليشفوه فلم يغنوا عنه شيئ ا .مث مضت احلية إىل أخت هلا من اجلن ،فأخربهتا مبا
صنع السائح إليها من املعروف ،وما وقع فيه .فرقت له ،وانطلقت إىل ابن امللك ،وختايلت له .وقالت
له :إنك ال تربأ حىت يرقيك هذا الرجل الذي قد عاقبتموه ظلما .وانطلقت احلية إىل السائح فدخلت
عليه السجن ،وقالت له :هذا الذي كنت هنيتك عنه من اصطناع املعروف إىل هذا اإلنسان :ومل
تطعين .وأتته بورق ينفع من ِمسّها .وقالت له :إذا جاءوا بك لرتقي ابن امللك فاسقه من ماء هذا
الورق :فإنه يربأ .وإذا سألك امللك عن حالك فاصدقه :فإنك تنجوا إن شاء هللا تعاىل .وإن ابن امللك
أخرب امللك أنه مسع قائالا يقول :إنك لن تربأ حىت يرقيك هذا السائح الذي حبس ظلما .فدعا امللك
السائح ،وأمره أن يرقي ولده .فقال :ال أحسن الرقي ،ولكن اسقه من ماء هذه الشجرة فيربأ إبذن هللا
تعاىل .فسقاه فربئ الغالم .ففرح امللك بذلك :وسأله عن قصته ،فأخربه .فشكره امللك ،وأعطاه عطية
حسنة ،وأمر ابلصائغ أن يصلب .فصلبوه لكذبه واحنرافه عن الشكر وجمازاته الفعل اجلميل ابلقبيح .مث
قال الفيلسوف للملك :ففي صنيع الصائغ ابلسائح ،وكفره له بعد استنقاذه إايه ،وشكر البهائم له،
وختليص بعضها إايه ،عربة ملن اعترب ،وفكرة ملن تفكر ،وأدب يف وضع املعروف واإلحسان عند أهل
الوفاء والكرم ،قربوا أو بعدوا ملا يف ذلك من صواب الرأي وجلب اخلري وصرف املكروه.
ابب ابن امللك وأصحابه
قال دبشليم امللك لبيداب الفيلسوف :قد مسعت هذا املثل .فإن كان الرجل ال يصيب اخلري إال بعقله
ورأيه وتثبته يف األمور كما يزعمون ،فما ابل الرجل اجلاهل يصيب البالء والضر? .قال بيداب :كما أن
اإلنسان ال يبصر إال بعينيه وال يسمع إال أبذنيه ،كذلك العمل ،إمنا هو ابحللم والعقل والتثبت ،غري أن
القضاء والقدر يغلبان على ذلك .ومثل ذلك مثل ابن امللك وأصحابه .قال امللك :وكيف كان ذلك?
قال الفيلسوف :زعموا أن أربعة نفر اصطحبوا يف طريق واحدة ،أحدهم ابن امللك والثاين ابن اتجر
والثالث ابن شريف ذو مجال والرابع ابن أكار .وكانوا مجيعا حمتاجني ،وقد أصاهبم ضرر وجهد شديد
105
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
يف موضع غربة ال ميلكون إال ما عليهم من الثياب .فبينما هم ميشون إذ فكروا يف أمرهم وكان كل
إنسان منهم راجع ا إىل طباعه وما كان أيتيه منه اخلري :قال ابن امللك :إمنا أمر الدنيا كله ابلقضاء
والقدر ،والذي قدر على اإلنسان أيتيه على كل حال ،والصرب للقضاء والقدر وانتظارمها أفضل األمور
وقال ابن التاجر :العقل أفضل من كل شيء وقال ابن الشريف :اجلمال أفضل مما ذكرمت.
مث قال ابن األكار :ليس يف الدنيا أفضل من االجتهاد يف العمل فلما قربوا من مدينة يقال هلا مطرون،
جلسوا يف انحية منها يتشاورون :فقالوا البن األكار :انطلق فاكتسب لنا ابجتهادك طعام ا ليومنا هذا.
فعرفوه أنه ليس يف
فانطلق ابن األكار ،وسأل عن عمل إذا عمله اإلنسان يكتسب فيه طعام أربعة نفر ّ
تلك املدينة شيء أعز من احلطب ،وكان احلطب منها على فرسخ .فانطلق ابن األكار فاحتطب طنا
من احلطب ،وأتى به املدينة فباعه بدرهم واشرتى به طعام ا وكتب على ابب املدينة :عمل يوم واحد
إذا أجهد فيه الرجل بدنه قيمته درهم .مث انطلق إىل أصحابه ابلطعام فأكلوا .فلما كان من الغد :قالوا
ينبغي للذي قال إنه ليس شيء أعز من اجلمال أن تكون نوبته .فانطلق ابن الشريف ليأيت املدينة،
ففكر يف نفسه وقال :أان لست أحسن عمالا فما يدخلين املدينة? مث استحيا أن يرجع إىل أصحابه
وهم مبفارقتهم .فانطلق حىت أسند ظهره إىل شجرة عظيمة ،فغلبه النوم فنام .فمر به رجل بغري طعامّ ،
فرق له ومنحه مخسمائة درهم .فكتب على من عظماء املدينة فراقه مجاله وتوسم فيه شرف النِّ َّجار َّ
ابب املدينة :مجال يوم واحد يساوي مخسمائة درهم .وأتى ابلدراهم إىل أصحابه .فلما أصبحوا يف
اليوم الثالث ،قالوا البن التاجر :انطلق أنت فاطلب لنا بعقلك وجتارتك ليومنا هذا شيئا .فانطلق ابن
التاجر فلم يزل حىت بصر بسفينة من سفن البحر كثرية املتاع قد قدمت إىل الساحل ،فخرج إليها
التجار يريدون أن يبتاعوا مما فيها من املتاع .فجلسوا يتشاورون يف انحية من املركب ،وقال
مجاعة من ّ
بعضهم لبعض :ارجعوا يومنا هذا ال نشرتي منهم شيئا حىت يكسد املتاع عليهم فريخصوا علينا ،مع أننا
حمتاجون إليه ،وسريخص .فخالف الطريق وجاء إىل أصحاب املركب ،فابتاع منهم ما فيه مبائة ألف
دينار نسيئة وأظهر أنه يريد أن ينقل متاعه إىل مدينة أخرى .فلما مسع التجار ذلك خافوا أن يذهب
ذلك املتاع من أيديهم ،فأرحبوه على ما اشرتاه مائة ألف درهم ،وأحال عليهم أصحاب املركب ابلباقي،
ومحل رحبه إىل أصحابه وكتب على ابب املدينة :عقل يوم واحد مثنه مائة ألف درهم .فلما كان اليوم
الرابع قالوا البن امللك :انطلق أنت واكتسب لنا بقضائك وقدرك.
106
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فانطلق ابن امللك حىت أتى إىل ابب ملدينة فجلس على متكأ يف ابب املدينة ،واتفق أن ملك تلك
فمروا عليه جبنازة امللك ومل حيزنه وكلهم حيزنون .فأنكروا
الناحية مات ومل خيلف ولدا وال أحدا ذا قرابةّ .
حاله وشتمه البواب ،وقال له :من أنت اي هذا? وما جيلسك على ابب املدينة وال نراك حتزن ملوت
امللك? وطرده البواب عن الباب فلما ذهبوا عاد الغالم فجلس مكانه .فلما دفنوا امللك ورجعوا بصر به
البواب فغضب وقال له :أمل أهنك عن اجللوس يف هذا املوضع? وأخذه وحبسه .فلما كان الغد اجتمع
كل منهم يتطاول ينظر صاحبه ،وخيتلفون بينهم. أهل تلك املدينة يتشاورون فيمن ميلكونه عليهم ،و ٌّ
فقال هلم البواب :إين رأيت أمس غالما جالسا على الباب ،ومل أره حيزن حلزننا ،فكلمته فلم جيبين،
فطردته عن الباب .فلما عدت رأيته جالسا فأدخلته السجن خمافة أن يكون عينا .فبعثت أشراف أهل
املدينة إىل الغالم فجاءوا به ،وسألوه عن حاله ،وما أقدمه إىل مدينتهم .فقال :أان ابن ملك فويران،
لك ،فهربت من يده حذرا على نفسي حىت انتهيت إىل هذه وإنه ملا مات والدي غلبين أخي على امل ْ
ُ
الغاية .فلما ذكر الغالم ما ذكره من أمره عرفه من كان يغشى أرض أبيه منهم ،وأثنوا على أبيه خريا .مث
إن األشراف اختاروا الغالم أن ميلكوه عليهم ورضوا به .وكان ألهل تلك املدينة سنة إذا ملكوا عليهم
مر بباب املدينة فرأى الكتابةملك ا محلوه على فيل أبيض ،وطافوا به حوايل املدينة .فلما فعلوا به ذلك ّ
على الباب فأمر أن يكتب :إن االجتهاد واجلمال والعقل وما أصاب الرجل يف الدنيا من خري أو شر
عز وجل .وقد ازددت يف ذلك اعتبارا مبا ساق هللا إيل من الكرامة واخلري. إمنا هو بقضاء وقدر من هللا ّ
مث انطلق إىل جملسه فجلس على سرير ملكه وأرسل إىل أصحابه الذين كان معهم فأحضرهم فأشرك
صاحب العقل مع الوزراء ،وضم صاحب االجتهاد إىل أصحاب الزرع ،وأمر لصاحب اجلمال ٍ
مبال ّ
كثري مث نفاه كي ال يفتنت به .مث مجع علماء أرضه وذوي الرأي منهم وقال هلم :أما أصحايب فقد تيقنوا
أن الذي رزقهم هللا سبحانه وتعاىل من اخلري إمنا هو بقضاء هللا وقدره ،وإمنا أحب أن تعلموا ذلك
وتستيقنوه ،فإن الذي منحين هللا وهيأه يل إمنا كان بقدر ،ومل يكن جبمال وال عقل وال اجتهاد .وما
كنت أرجو إذ طردين أخي أن يصيبين ما يعيشين من القوت فضالا عن أن أصيب هذه املنزلة ،وما
كنت أؤمل أن أكون هبا :ألين قد رأيت يف هذه األرض من هو أفضل مين حسنا ومجاالا ،وأشد
اجتهادا وأسد رأايا ،فساقين القضاء إىل أن أعتززت بقدر من هللا ،وكان يف ذلك اجلمع شيخ فنهض
حىت استوى قائم ا ،وقال :إنك قد تكلمت بكالم كامل عقل وحكمة ،وإن الذي بلغ بك ذلك وفوز
عقلك وحسن ظنّك ،وقد حققت ظننا فيك ورجاءان لك .وقد عرفنا ما ذكرت ،وصدقناك فيما
107
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
لك والكرامة كنت أهالا له ،ملا قسم هللا تعاىل لك من العقل وصفت .والذي ساق هللا إليك من امل ِ
ُ
والرأي .وإين أسعد الناس يف الدنيا واآلخرة من رزقه هللا رأايا وعقالا.
عز
كرمنا بك .مث قام شيخ آخر سائح فحمد هللا ّ
وقد أحسن هللا إلينا إذ وفق لنا عند موت ملكنا و ّ
وجل وأثىن عليه وقال :إين كنت أخدم وأان غالم قبل أن أكون سائحا ،رجالا من أشراف الناس .فلما
بدا يل رفض الدنيا فارقت ذلك الرجل ،وقد كان أعطاين من أجريت دينارين ،فأردت أن أتصدق
أبحدمها ،وأستبقي اآلخر ،فأتيت السوق ،فوجدت مع رجل من الصيادين زوج هدهد ،فساومت
فيهما فأىب الصياد أن يبيعهما إال بدينارين ،فاجتهدت أن يبيعنيهما بدينار واحد فأىب .فقلت يف
نفسي :أشرتي أحدمها وأترك اآلخر .مث فكرت وقلت لعلهما يكوان زوجني ذكرا وأنثى فأفرق بينهما،
فأدركين هلما رمحة فتوكلت على هللا وابتعتهما بدينارين وأشفقت إن أرسلتهما يف أرض عامرة أن يصادا،
وال يستطيعا أن يطريا مما لقيا من اجلوع واهلزال ،ومل آمن عليهما اآلفات .فانطلقت هبما إىل مكان كثري
املرعى واألشجار بعيد عن الناس والعمران ،فأرسلتهما ،فطارا ووقعا على شجرة مثمرة .فلما صارا يف
أعالها شكرا يل ،ومسعت أحدمها يقول لآلخر :لقد خلصنا هذا السائح من البالء الذي كنا فيه،
واستنقذان وجنّاان من اهللكة .وإان خلليقان أن نكافئه بفعله .وإ ّن يف أصل هذه الشجرة جرة مملوءة
داننري .أفال ندله عليها فيأخذها? فقلت هلما :كيف تدالنين على كنز مل تره العيون وأنتما مل تبصرا
وغشى البصر وإمنا صرف القضاء الشبكة? فقاال :إن القضاء إذا نزل صرف العيون عن موضع الشيء ّ
اعيننا عن الشرك ومل يصرفه ا عن هذا الكنز .فاحتفرت واستخرجت الربنية وهي مملوءة داننري ،فدعوت
هلما ابلعافية ،وقلت هلما :احلمد هلل الذي علّمكما ما مل تعلما ،وأنتما تطريان يف السماء ،وأخربمتا ما
حتت األرض .قاال يل :أيها العاقل ،أما تعلم أن القدر غالب على كل شيء ،وال يستطيع أحد أن
يتجاوزه .وأان اخرب امللك بذلك رأيته :فإن أمر امللك أتيته ابملال فأودعته يف خزائنه .فقال امللك ذلك
لك ،وموفّر عليك.
ابب احلمامة والثعلب ومالك احلزين
وهو ابب من يرى الرأي لغريه وال يراه لنفسه .قال امللك للفيلسوف :قد مسعت هذا املثل فاضرب يل
مثالا يف شأن الرجل الذي يرى الرأي لغريه وال يراه لنفسه .قال الفيلسوف :إن مثل ذلك مثل احلمامة
والثعلب ومالك احلزين .قال امللك :وما مثلهن?
108
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
قال الفيلسوف :زعموا أن محامة كانت تفرخ يف رأس خنلة طويلة ذاهبة يف السماء ،فكانت احلمامة
تشرع يف نقل العش إىل رأس تلك النخلة ،فال ميكن أن تنقل ما تنقل من العش وجتعله حتت البيض إال
بعد شدة وتعب ومشقة :لطول النخلة وسحقها ،فإذا فرغت من النقل ابضت مث حضنت بيضها ،فإذا
فقست وأدرك فراخها جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها لوقت قد علمه بقدر ما ينهض فراخها،
فيقف أبصل النخلة فيصيح هبا ويتوعدها أن يرقي إليها فتلقي إليه فراخها .فبينما هي ذات يوم قد
أدرك هلا فرخان إذ أقبل مالك احلزين فوقع على النخلة .فلما رأى احلمامة كئيبة حزينة شديدة اهلم قال
هلا مالك احلزين :اي محامة ،ما يل أراكي كاسفة اللون سيئة احلال? فقالت له :اي مالك احلزين ،إن
ثعلبا دهيت به كلما كان يل فرخان جاء يهددين ويصيح يف أصل النخلة ،فأفرق منه فأطرح إليه فرخي.
قال هلا مالك احلزين :إذا ِ
أاتك ليفعل ما تقولني فقويل له :ال ألقي إليك فرخي ،فارق إيل وغرر
بنفسك .فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي ،طرت عنك وجنوت بنفسي .فلما علمها مالك احلزين هذه
احليلة طار فوقع على شاطئ هنر .فأقبل الثعلب يف الوقت الذي عرف ،فوقف حتتها ،مث صاح كما
كان يفعل .فأجابته احلمامة مبا علمها مالك احلزين .قال هلا الثعلب :أخربيين من علمك هذا? قالت:
فتوجه الثعلب إىل مالك ا احلزين على شاطئ النهر ،فوجده واقف ا .فقال له
علمين مالك احلزينّ .
الثعلب :اي مالك احلزين :إذا أتتك الريح عن ميينك فأين جتعل رأسك? قال :عن مشايل .قال :فإذا
أتتك عن مشالك فأين جتعل رأسك .قال :أجعله عن مييين أو خلفي .قال :فإذا أتتك الريح من كل
مكان وكل انحية فأين جتعله? قال :أجعله حتت جناحي .قال :وكيف تستطيع أن جتعله حتت
جناحك? ما أ راه يتهيأ لك .قال :بلى :قال :فأرين كيف تصنع? فلعمري اي معشر الطري لقد فضلكم
هللا علينا .إنكن تدرين يف ساعة واحدة مثلما ندري يف سنة ،وتبلغن ما ال نبلغ ،وتدخلن رؤسكن
حتت اجنحتكن من الربد والريح .فهنيئا لكن فأرين كيف تصنع .فأدخل الطائر رأسه حتت جناحه
فوثب عل يه الثعلب مكانه فأخذه فهمزه مهزة دقت عنقه .مث قال :اي عدوي نفسه ،ترى الرأي
للحمامة ،وتعلمها احليلة لنفسها ،وتعجز عن ذلك لنفسك ،حىت يستمكن منك عدوك ،مث أجهز
عليه وأكله .فلما انتهى املنطق للملك والفيلسوف إىل هذا املكان سكت امللك .فقال له الفيلسوف:
أيها امللك عشت ألف سنة ،وملكت األقاليم السبعة ،وأعطيت من كل شيء سببا ،مع وفور سرورك
وقرة عني رعيتك بك ،ومساعدة القضاء والقدر لك ،فإنه قد كمل فيك احللم والعلم .وزكا منك العقل
والقول والنية ،فال يوجد يف رأيك نقص ،وال يف قولك سقط وال عيب .وقد مجعت النجدة واللني ،فال
109
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
توجد جباانا عند اللقاء ،وال ضيق الصدر عندما ينوبك من األشياء .وقد مجعت لك يف هذا الكتاب
مشل بيان األمور ،وشرحت لك جواابا ما سألتين عنه منها فأبلغتك يف ذلك غاية نصحي ،واجتهدت
فيه برأيي ونظري ومبلغ فطنيت ،التماسا لقضاء حقك وحسن النية منك .أبعمال الفكرة والعقل .فجاء
كما وصفت لك من النصيحة واملوعظة مع أنه ليس اآلمر ابخلري أبسعد من املطيع له فيه ،وال الناصح
أبوىل ابلنصيحة من املنصوح ،وال املعلم للخري أبسعد من متعلمه منه .فافهم ذلك أيها امللك وال حول
وال قوة إال ابهلل العلي العظيم.
قال الفيلسوف :زعموا أن محامة كانت تفرخ يف رأس خنلة طويلة ذاهبة يف السماء ،فكانت احلمامة
تشرع يف نقل العش إىل رأس تلك النخلة ،فال ميكن أن تنقل ما تنقل من العش وجتعله حتت البيض إال
بعد شدة وتعب ومشقة :لطول النخلة وسحقها ،فإذا فرغت من النقل ابضت مث حضنت بيضها ،فإذا
فقست وأدرك فراخها جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها لوقت قد علمه بقدر ما ينهض فراخها،
فيقف أبصل النخلة فيصيح هبا ويتوعدها أن يرقي إليها فتلقي إليه فراخها .فبينما هي ذات يوم قد
أدرك هلا فرخان إذ أقبل مالك احلزين فوقع على النخلة .فلما رأى احلمامة كئيبة حزينة شديدة اهلم قال
هلا مالك احلزين :اي محامة ،ما يل أراكي كاسفة اللون سيئة احلال? فقالت له :اي مالك احلزين ،إن
ثعلبا دهيت به كلما كان يل فرخان جاء يهددين ويصيح يف أصل النخلة ،فأفرق منه فأطرح إليه فرخي.
قال هلا مالك احلزين :إذا ِ
أاتك ليفعل ما تقولني فقويل له :ال ألقي إليك فرخي ،فارق إيل وغرر
بنفسك .فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي ،طرت عنك وجنوت بنفسي .فلما علمها مالك احلزين هذه
احليلة طار فوقع على شاطئ هنر .فأقبل الثعلب يف الوقت الذي عرف ،فوقف حتتها ،مث صاح كما
كان يفعل .فأجابته احلمامة مبا علمها مالك احلزين .قال هلا الثعلب :أخربيين من علمك هذا? قالت:
فتوجه الثعلب إىل مالكا احلزين على شاطئ النهر ،فوجده واقفا .فقال له
علمين مالك احلزينّ .
الثعلب :اي مالك احلزين :إذا أتتك الريح عن ميينك فأين جتعل رأسك? قال :عن مشايل .قال :فإذا
أتتك عن مشالك فأين جتعل رأسك .قال :أجعله عن مييين أو خلفي .قال :فإذا أتتك الريح من كل
مكان وكل انحية فأين جتعله? قال :أجعله حتت جناحي .قال :وكيف تستطيع أن جتعله حتت
جناحك? ما أراه يتهيأ لك .قال :بلى :قال :فأرين كيف تصنع? فلعمري اي معشر الطري لقد فضلكم
هللا علينا .إنكن تدرين يف ساعة واحدة مثلما ندري يف سنة ،وتبلغن ما ال نبلغ ،وتدخلن رؤسكن
حتت اجنحتكن من الربد والريح .فهنيئا لكن فأرين كيف تصنع .فأدخل الطائر رأسه حتت جناحه
110
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
فوثب عليه الثعلب مكانه فأخذه فهمزه مهزة دقت عنقه .مث قال :اي عدوي نفسه ،ترى الرأي
للحمامة ،وتعلمها احليلة لنفسها ،وتعجز عن ذلك لنفسك ،حىت يستمكن منك عدوك ،مث أجهز
عليه وأكله .فلما انتهى املنطق للملك والفيلسوف إىل هذا املكان سكت امللك .فقال له الفيلسوف:
أيها امللك عشت ألف سنة ،وملكت األقاليم السبعة ،وأعطيت من كل شيء سببا ،مع وفور سرورك
وقرة عني رعيتك بك ،ومساعدة القضاء والقدر لك ،فإنه قد كمل فيك احللم والعلم .وزكا منك العقل
والقول والنية ،فال يوجد يف رأيك نقص ،وال يف قولك سقط وال عيب .وقد مجعت النجدة واللني ،فال
توجد جباانا عند اللقاء ،وال ضيق الصدر عندما ينوبك من األشياء .وقد مجعت لك يف هذا الكتاب
مشل بيان األمور ،وشرحت لك جواابا ما سألتين عنه منها فأبلغتك يف ذلك غاية نصحي ،واجتهدت
فيه برأيي ونظري ومبلغ فطنيت ،التماس ا لقضاء حقك وحسن النية منك .أبعمال الفكرة والعقل .فجاء
كما وصفت لك من النصيحة واملوعظة مع أنه ليس اآلمر ابخلري أبسعد من املطيع له فيه ،وال الناصح
أبوىل ابلنصيحة من املنصوح ،وال املعلم للخري أبسعد من متعلمه منه .فافهم ذلك أيها امللك وال حول
وال قوة إال ابهلل العلي العظيم.
قال الفيلسوف :زعموا أن محامة كانت تفرخ يف رأس خنلة طويلة ذاهبة يف السماء ،فكانت احلمامة
تشرع يف نقل العش إىل رأس تلك النخلة ،فال ميكن أن تنقل ما تنقل من العش وجتعله حتت البيض إال
بع د شدة وتعب ومشقة :لطول النخلة وسحقها ،فإذا فرغت من النقل ابضت مث حضنت بيضها ،فإذا
فقست وأدرك فراخها جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها لوقت قد علمه بقدر ما ينهض فراخها،
فيقف أبصل النخلة فيصيح هبا ويتوعدها أن يرقي إليها فتلقي إليه فراخها .فبينما هي ذات يوم قد
أدرك هلا فرخان إذ أقبل مالك احلزين فوقع على النخلة .فلما رأى احلمامة كئيبة حزينة شديدة اهلم قال
هلا مالك احلزين :اي محامة ،ما يل أراكي كاسفة اللون سيئة احلال? فقالت له :اي مالك احلزين ،إن
ثعلب ا دهيت به كلما كان يل فرخان جاء يهددين ويصيح يف أصل النخلة ،فأفرق منه فأطرح إليه فرخي.
قال هلا مالك احلزين :إذا ِ
أاتك ليفعل ما تقولني فقويل له :ال ألقي إليك فرخي ،فارق إيل وغرر
بنفسك .فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي ،طرت عنك وجنوت بنفسي .فلما علمها مالك احلزين هذه
احليلة طار فوقع على شاطئ هنر .فأقبل الثعلب يف الوقت الذي عرف ،فوقف حتتها ،مث صاح كما
كان يفعل .فأجابته احلمامة مبا علمها مالك احلزين .قال هلا الثعلب :أخربيين من علمك هذا? قالت:
فتوجه الثعلب إىل مالكا احلزين على شاطئ النهر ،فوجده واقفا .فقال له
علمين مالك احلزينّ .
111
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
الثعلب :اي مالك احلزين :إذا أتتك الريح عن ميينك فأين جتعل رأسك? قال :عن مشايل .قال :فإذا
أتتك عن مشالك فأين جتعل رأسك .قال :أجعله عن مييين أو خلفي .قال :فإذا أتتك الريح من كل
مكان وكل انحية فأين جتعله? قال :أجعله حتت جناحي .قال :وكيف تستطيع أن جتعله حتت
جناحك? ما أراه يتهيأ لك .قال :بلى :قال :فأرين كيف تصنع? فلعمري اي معشر الطري لقد فضلكم
هللا علينا .إنكن تدرين يف ساعة واحدة مثلما ندري يف سنة ،وتبلغن ما ال نبلغ ،وتدخلن رؤسكن
حتت اجنحتكن من الربد والريح .فهنيئ ا لكن فأرين كيف تصنع .فأدخل الطائر رأسه حتت جناحه
فوثب عليه الثعلب مكانه فأخذه فهمزه مهزة دقت عنقه .مث قال :اي عدوي نفسه ،ترى الرأي
للحمامة ،وتعلمها احليلة لنفسها ،وتعجز عن ذلك لنفسك ،حىت يستمكن منك عدوك ،مث أجهز
عليه وأكله .فلما انتهى املنطق للملك والفيلسوف إىل هذا املكان سكت امللك .فقال له الفيلسوف:
أيها امللك عشت ألف سنة ،وملكت األقاليم السبعة ،وأعطيت من كل شيء سبب ا ،مع وفور سرورك
وقرة عني رعيتك بك ،ومساعدة القضاء والقدر لك ،فإنه قد كمل فيك احللم والعلم .وزكا منك العقل
والقول والنية ،فال يوجد يف رأيك نقص ،وال يف قولك سقط وال عيب .وقد مجعت النجدة واللني ،فال
توجد جباانا عند اللقاء ،وال ضيق الصدر عندما ينوبك من األشياء .وقد مجعت لك يف هذا الكتاب
مشل بيان األمور ،وشرحت لك جواابا ما سألتين عنه منها فأبلغتك يف ذلك غاية نصحي ،واجتهدت
فيه برأيي ونظري ومبلغ فطنيت ،التماسا لقضاء حقك وحسن النية منك .أبعمال الفكرة والعقل .فجاء
كما وصفت لك من النصيحة واملوعظة مع أنه ليس اآلمر ابخلري أبسعد من املطيع له فيه ،وال الناصح
أبوىل ابلنصيحة من املنصوح ،وال املعلم للخري أبسعد من متعلمه منه .فافهم ذلك أيها امللك وال حول
وال قوة إال ابهلل العلي العظيم.
قال الفيلسوف :زعموا أن محامة كانت تفرخ يف رأس خنلة طويلة ذاهبة يف السماء ،فكانت احلمامة
تشرع يف نقل العش إىل رأس تلك النخلة ،فال ميكن أن تنقل ما تنقل من العش وجتعله حتت البيض إال
بعد شدة وتعب ومشقة :لطول النخلة وسحقها ،فإذا فرغت من النقل ابضت مث حضنت بيضها ،فإذا
فقست وأدرك فراخها جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها لوقت قد علمه بقدر ما ينهض فراخها،
فيقف أبصل النخلة فيصيح هبا ويتوعدها أن يرقي إليها فتلقي إليه فراخها .فبينما هي ذات يوم قد
أدرك هلا فرخان إذ أقبل مالك احلزين فوقع على النخلة .فلما رأى احلمامة كئيبة حزينة شديدة اهلم قال
هلا مالك احلزين :اي محامة ،ما يل أراكي كاسفة اللون سيئة احلال? فقالت له :اي مالك احلزين ،إن
112
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
ثعلبا دهيت به كلما كان يل فرخان جاء يهددين ويصيح يف أصل النخلة ،فأفرق منه فأطرح إليه فرخي.
قال هلا مالك احلزين :إذا ِ
أاتك ليفعل ما تقولني فقويل له :ال ألقي إليك فرخي ،فارق إيل وغرر
بنفسك .فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي ،طرت عنك وجنوت بنفسي .فلما علمها مالك احلزين هذه
احليلة طار فوقع على شاطئ هنر .فأقبل الثعلب يف الوقت الذي عرف ،فوقف حتتها ،مث صاح كما
كان يفعل .فأجابته احلمامة مبا علمها مالك احلزين .قال هلا الثعلب :أخربيين من علمك هذا? قالت:
فتوجه الثعلب إىل مالك ا احلزين على شاطئ النهر ،فوجده واقف ا .فقال له
علمين مالك احلزينّ .
الثعلب :اي مالك احلزين :إذا أتتك الريح عن ميينك فأين جتعل رأسك? قال :عن مشايل .قال :فإذا
أتتك عن مشالك فأين جتعل رأسك .قال :أجعله عن مييين أو خلفي .قال :فإذا أتتك الريح من كل
مكان وكل انحية فأين جتعله? قال :أجعله حتت جناحي .قال :وكيف تستطيع أن جتعله حتت
جناحك? ما أراه يتهيأ لك .قال :بلى :قال :فأرين كيف تصنع? فلعمري اي معشر الطري لقد فضلكم
هللا علينا .إنكن تدرين يف ساعة واحدة مثلما ندري يف سنة ،وتبلغن ما ال نبلغ ،وتدخلن رؤسكن
حتت اجنحتكن من الربد والريح .فهنيئا لكن فأرين كيف تصنع .فأدخل الطائر رأسه حتت جناحه
فوثب عليه الثعلب مكانه فأخذه فهمزه مهزة دقت عنقه .مث قال :اي عدوي نفسه ،ترى الرأي
للحمامة ،وتعلمها احليلة لنفسها ،وتعجز عن ذلك لنفسك ،حىت يستمكن منك عدوك ،مث أجهز
عليه وأكله .فلما انتهى املنطق للملك والفيلسوف إىل هذا املكان سكت امللك .فقال له الفيلسوف:
أيها امللك عشت ألف سنة ،وملكت األقاليم السبعة ،وأعطيت من كل شيء سببا ،مع وفور سرورك
وقرة عني رعيتك بك ،ومساعدة القضاء والقدر لك ،فإنه قد كمل فيك احللم والعلم .وزكا منك العقل
والقول والنية ،فال يوجد يف رأيك نقص ،وال يف قولك سقط وال عيب .وقد مجعت النجدة واللني ،فال
توجد جباانا عند اللقاء ،وال ضيق الصدر عندما ينوبك من األشياء .وقد مجعت لك يف هذا الكتاب
مشل بيان األمور ،وشرحت لك جواابا ما سألتين عنه منها فأبلغتك يف ذلك غاية نصحي ،واجتهدت
فيه برأيي ونظري ومبلغ فطنيت ،التماس ا لقضاء حقك وحسن النية منك .أبعمال الفكرة والعقل .فجاء
كما وصفت لك من النصيحة واملوعظة مع أنه ليس اآلمر ابخلري أبسعد من املطيع له فيه ،وال الناصح
أبوىل ابلنصيحة من املنصوح ،وال املعلم للخري أبسعد من متعلمه منه .فافهم ذلك أيها امللك وال حول
وال قوة إال ابهلل العلي العظيم.
113
مكتبة مشكاة اإلسالمية كليلة ودمنة البن المقفع
114