You are on page 1of 14

‫الثنائيات ابو العال‬

‫المقدمة‪:‬‬
‫شغلت الثنائيات الضدية مكا ًنا واسعً ا في الفكر اإلنساني‪ ،‬وحيزا كبيًرا في الدراسات‬
‫اللغوية‪ ،‬إذ كان لحضورها تأثير واضح ومتميز لدى الباحثين اللغويين‪ ،‬فقد َّكونت‬
‫موضوعا وإبداعا وف ًك را في المجاالت الحياتية والنفسية والفلسفية والعلمية واألدبية‪،‬‬
‫)المصالوي‪ ،‬ورازقية‪: 2015 ،‬ص ‪)، 203‬‬
‫فالثنائيات الضدية بما تشكله من تباينات‬
‫داللية ُتعُّد عنصرا فاعالً في تكوين المعنى‪ ،‬وإنتاج الداللة‪ ،‬والخروج بالنص إلى مستوى‬
‫اللغة العالية‪) ،‬حسان‪: 2019 ،‬ص ‪).71‬‬
‫وألن‪":‬الثنائيات‪ :‬سمة من سمات الحياة‪ ،‬وقد شاع ذلك في الخطاب اللغوي عامه‬
‫واألدبي خاصة‪ ،‬فدراستها ضرورة علمية وأدبية ونقدية‪ ،‬لمعرفة حدود تكوينها داخل‬
‫النص‪ ،‬ودرجة وجودها فيه‪ ،‬وأثرها في تحقيق المعنى والفكرة المراد إيصالها للمتلقي‪،‬‬
‫ومن ثم أثرها في خلق النص وداللته"‪) .‬العبودي‪: 2015 ،‬ص ‪). 226‬‬
‫ففي الدرس‬
‫اللغوي‪" :‬تعد الثنائيات الضدية نوعا من العالقة التالزمية بين المعاني؛ أي أنه يجمع‬
‫بين الشيء وضده‪ ،‬مثل‪ :‬الجمع بين الحزن والفرح‪ ،‬واليأس واألمل والفقر والغنى‪...‬‬
‫إلخ؛ إذ تهدف الثنائية في نهاية المطاف إلى التكامل"‪) .‬حسان‪: 2019 ،‬ص ‪)، 82‬‬
‫لنقل‬
‫المعاني إلى المتلقي بصورة تستهدف تحقيق مقاصد النص التعليمي‪ ،‬وإدراك الدالالت‬
‫اللغوية المنضوية تحت تراكيبه‪.‬‬

‫إن بناء النص التعليمي باستخدام الثنائيات الضدية يفتح لمتعلم اللغة آفاقاً‪ .‬متعددة للتمييز‬
‫بين المعاني الظاهرة والخفية‪ ،‬أو الصريحة والضمنية‪ ،‬واستحضار معانيها وتقابالتها‬
‫بما يضمن تأهيله وتطوير مهاراته‪ ،‬وتنمية خبرات التعلم لديه‪ ،‬وتيسير بناء مفاهيم‬
‫جديدة لفهم الوظائف اللغوية في مواقفها التعليمية‪.‬‬

‫مفهوم الثنائية في اللغة واالصطالح ‪:‬‬


‫الثنائية في اللغة‪":‬تقابل الواحدية‪ ،‬وتذهب في تفسير العالم على القول بمبدأين متقابلين‪:‬‬
‫كالخير والشر"‪) .‬المعجم الفلسفي‪: 1983 ،‬ص ‪)، 58‬فهي مشتقة من كلمة )اثنين(‪ ،‬من أصل‪ ":‬الثني‪ :‬إعادة الشيء مر ًة بعد‬
‫مرة"‪) .‬االزهري‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫‪)، 15/137: 1967‬‬
‫فالداللة َّ اللغوية لمفهوم )الثنائية( في مادتها اللغوية تعود إلى‪َ ":‬ث َّني‪ :‬وهو تكرير الشيء مرتين‪ ،‬أو‬
‫جعله شيئين متواليين أو متباينين‪ ،‬وذلك قولك ثنيت الشيء ثنيًا"‪) .‬ابن فارس‪: 1979 ،‬‬
‫‪391/1).‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وعليه كلمة )الثنائية( مؤنث كلمة )ثنائي( المشتقة من‪ ":‬من ث َنى الشيء ثنيًا‪ :‬ر َّد بعضه‬
‫على بعض‪...‬االثنان ضعف الواحد‪ ...‬وثنيَّت الشيء‪ :‬جعلته اثنين‪ ،‬وجاء القوم مثنى‬
‫مثنى‪ ،‬أي‪ :‬اثنين اثنين"‪) .‬ابن منظور‪، 138، 136، 135/ 2: 1999 ،‬‬
‫أما في االصطالح فيختلف معنى المفهوم‪ ،‬بحسب المجال العلمي الذي يتناوله‪ ،‬فلكل علم‬
‫مجاله البحثي‪ ،‬ومهاده النظري‪ ،‬وعمقه الفلسفي‪ ،‬فالثنائية من وجهة نظر فلسفية‬
‫تعني‪":‬القول بزوجية المبادئ المفسرة للكون‪ ،‬كثنائية األضداد وتعاقبها"‪) .‬صليبا‪،‬‬
‫‪)، 379/ 1: 1982‬‬
‫ف‪":‬الثنائية هي نظرية في التفسير وهو ما يفسر حالة معينة‪ ،‬أو‬
‫المجال من حيث العوامل‪ ،‬اثنين من المعارضين‪ ،‬والثنائيات هي ذات شقين وهي‬
‫التصنيفات التي ال تقبل من درجة متوسطة"‪) .‬عمر‪ ،‬ومنصور‪: 2014 ،‬ص ‪)، 481‬‬
‫فهي‪ ":‬تفترض اشتمال الشيء على مبدأين مستقلين ال يذوب أحدهما في اآلخر‪ ،‬وال‬
‫يشبهه"‪) .‬الديوب‪: 2017 ،‬ص ‪)، 16‬وتقوم‪":‬الثنائية بوصفها فكرة فلسفية على أن ثمة‬
‫قدرة على الربط بين الظواهر التي يبدو أنها منفصلة‪ ،‬فالتضاد رابطة مثل التماثل‪،‬‬
‫والتناقض رابطة‪ ،‬ألنه يعني نفي النقيض"‪) .‬الديوب‪: 2009 ،‬ص ‪).19‬‬
‫وتعني من وجهة نظر لغوية‪":‬الثنائية الضدية بنية لغوية متقاطعة اللفظ والمعنى‪ ،‬متباينة‪،‬‬
‫ظاهرة في الن سق‪ ،‬مضمرة‪ ،‬تظهر في تباينها إبداعا وجماال"‪) .‬قادرة‪: 2012 ،‬ص‬
‫‪)، 25‬أي‪":‬أن الثنائية عالقة تربط بين طرفين بينهما توافق أو تضاد‪ ،‬وغالبا ما تكون‬
‫العالقة الضدية من أوضح العالقات"‪) .‬حسان‪: 2019 ،‬ص ‪).76‬‬
‫ومن حيث المرجعية الداللية فيدل المفهوم على أن )الثنائيان(‪ ":‬يرجعان إلى نفس‬
‫الطبقة‪ ،‬فيشتركان في بعض المقومات ويختلفان في بعضها"‪) .‬مفتاح‪: 1992 ،‬ص‬
‫‪). 160‬وعليه فهي‪":‬تعني ‪-‬الثنائيات الضدية ‪ -‬وجود أمرين متضادين مرتبطين برباط‬
‫واحد"‪) .‬الديوب‪: 2017 ،‬ص ‪).23‬‬
‫ويرتبط مفهوم الثنائية بالعالقة فيدل‪" :‬لفظ الثنائية )على( ضعف العدد واحد‪ ،‬وقد يكون‬
‫هذا الضعف شبيهه‪ ،‬أو نظيره‪ ،‬أو ضده‪ ،‬ويعني هذا األمر أن العدد واحد يشكل مع واحد‬
‫آخر ثنائية مهما كانت العالقة بينهما‪ ،‬وفي هذه الحال يالزم كل طرف من طرفي الثنائية‬
‫اللنفكاك عنه انتفت عنه صفة الثنائية"‪) .‬الديوب‪،‬‬
‫اآلخر‪ ،‬وال ينفك عنه‪ ،‬وإذا كان قابا ًل‬
‫‪: 2017‬ص ‪)، 15‬عليه‪ ":‬يمكننا القول‪ :‬إن مفهوم الثنائية في اللغة واألدب قائم على‬

‫تتعدد معاني مفهوم )التضاد( وفق مادته اللغوية‪ ،‬فمن معانيه‪) :‬المخالفة(‪ ،‬وهو الذي‬
‫ينطبق مع المفهوم االصطالحي الذي يتبناه البحث من حيث الداللة‪ ،‬فد‪":‬ال ِ ضد ضُّد‬
‫الشيء‪ ،‬والمتضادان‪ :‬هما الشيئان ال يجوز اجتماعهما في وقت واحد‪ ،‬كالليل والنهار"‪.‬‬
‫)ابن فارس‪)، 3/360: 1979 ،‬كما يعني‪ ":‬ال ِ ضد‪:‬كل شيء ضاد شيًئ ا ليغلبه‪ ،‬والسواد‬
‫ضد البياض‪ ،‬والموت ضد الحياة‪ ،‬تقول‪ :‬هذا ِضده وضديده‪ ،‬والليل ضد النهار"‪.‬‬
‫)األزهري‪)، 455/ 11: 1964 ،‬و‪":‬ضد الشيء وضديده وضديدته خالفه‪ ...‬والجمع‬
‫أضداد‪ ،‬وقد ضاده‪ ،‬وهما متضادان"‪) .‬ابن منظور‪)، 8/34: 1999 ،‬ويوسع المعجم‬
‫ضدا‪ ،‬وبين الشيئين‪:‬‬ ‫الوسيط في الداللة‪ ،‬فيفسر التضاد بمعنى‪" :‬ضاده‪ :‬خالفه‪ ،‬وكان له ًّ‬
‫جعل أحدهما ضد اآلخر‪ ،‬وتضاد األمران‪ :‬كان أحدهما ضد األخر‪ .‬والضد‪ :‬المخالف‬
‫والمنافي‪...‬والمتضادان‪) :‬في المنطق(‪ :‬اللذان ال يجتمعان‪ ،‬وقد يرتفعان‪ ،‬كاألبيض‬
‫واألسود"‪) .‬المعجم الوسيط‪: 2004 ،‬ص ‪).536‬‬
‫أما في االصطالح فتتعدد معاني مصطلح )التضاد( وسيقتصر في هذا البحث على‬
‫مفهوم )المخالفة( لعالقة المفهوم بهدف البحث‪ ،‬ولتناسب العالقة بين المفهوم النظري‬
‫والتطبيقي‪ .‬فالتضاد عند )أرسطو‪)، Aristo ،‬ظاهر في كل متضادين‪ ،‬فهما إما أن يكونا‬
‫في جنس واحد بعينه‪ ،‬أي‪ :‬تكون هذه األشياء ناشئة من األضداد كاألبيض واألسود؛ وإما‬
‫أن يكونا في جنسين متضادين‪ ،‬أي‪ :‬أضداد وبحالها متضادة ومغايرة‪ ،‬كالعدل والجور‪،‬‬
‫فاألول ينتمي الى جنس الفضيلة‪ ،‬ويعد الثاني في جنس الرذيلة‪ ،‬أو أن يكونا أنفسهما‬
‫جنسين‪ ،‬كالخير والشر‪) ،‬منطق أرسطو‪)، 1/70: 1980 ،‬أي أنه يرى‪":‬جميع األشياء‬
‫ً‬
‫أضدادا‪ ،‬وإما إن تكون من أضداد" )ابن رشد‪1/333: 1938 ،‬‬ ‫إما إن تكون‬

‫المقدمة‬
‫اإليقاع الثنائي‬
‫تع ّد فرضية الثنائية (‪ ) Binary Assumption‬من الموضوعات التي أثارت دهشة اإلنسان في مسيرة تاريخ الفكر البشري‪ ،‬فثمة طرفا‬
‫ثنائية متضادان في الكون‪ ،‬مثل‪ :‬زيادة‪ /‬نقصان‪ ،‬ذكر‪ /‬أنثى‪ ،‬سلب‪ /‬إيجاب‪ ...‬ويرى بعضهم أن هذه األضداد يبحث الطرف منها عن طرفه‬
‫اآلخر؛ ليتحدا معا ً مكوّ نين الوحدة األصلية‪ ،‬ويرى آخرون أن هذه األضداد تقوم على صراع أبدي بعضها مع بعض ويرون أن هذا‬
‫الصراع مصدر الخلق‪ ،‬والتوليد؛ الستمرار الحياة‪.‬‬

‫فحين درس العلماء ـ على سبيل المثال ـ المغناطيسية وارتباطها بالمالحة بوساطة البوصلة اعتمدوا على تقسيم ثنائي‪ ،‬إلى قطبين شمالي‬
‫وجنوبي‪ ،‬وك ّل منهما يبحث عن اآلخر‪ ،‬وهي نفسها الفكرة التي قامت عليها الفلسفة الصينية القديمة‪ ،‬ثنائية الين واليانغ‪ ،‬فالكون ـ حسب‬
‫هذه الفلسفة ـ يتشكل من ثنائيات ضدية تجتمع في مقام واحد‪ ،‬ويسعى كل طرف من طرفيها إلى الطرف اآلخر؛ ألن في وجودهما معا ً‬
‫اتحاداً وتكامالً ‪ .‬وفي العصر الحديث تم التقسيم إلى كهرباء سالبة‪ ،‬وكهرباء موجبة‪ ،‬وال يقوى طرف واحد منهما على النهوض والعمل‬
‫بنفسه‪ ،‬وهكذا‪...‬‬

‫للثنائية ـ إذن ـ تأثير قوي في الصراع‪ ،‬واستمرار الحياة على األرض‪ ،‬و ُت ظهر الثنائية منظومة فكرية فلسفية حياتية متكاملة‪ ،‬ويبنى على‬
‫أساس الثنائية اإليقا ُع الثنائيّ للعالم‪ ،‬وبنيته؛ ألنه مرتبط بالثنائية حيث التضاد‪ ،‬والتوازي‪ ،‬وك ّل طرف من طرفي الثنائية يسوّ غ وجود‬
‫اآلخر‪.‬‬

‫(‪)٩‬‬
‫والثنائيات الضدية ثنائيات كونية‪ ،‬عالقتها بالوجود عالقة دينامية‪ ،‬متالزمة كثنائية النور‪ /‬الظالم‪ ،‬والبقاء‪ /‬الفناء‪ ...‬تبنى على هذه الثنائيات‬
‫منظومة فكرية فلسفية دينية أسطورية علمية نقدية‪ ،‬وتتجلى في األدب‪.‬‬

‫وتشكل كل ثنائية منظومة عالئقية أسطورية بدءاً بأساطير الخلق‪ ،‬والمعتقدات القديمة‪ ،‬وصوالً إلى الفلسفة واألدب والسياسية وعلم‬
‫الطاقة‪ ،‬وتنتج الثنائيات ثنائيات جديدة‪ ،‬فالثنائيات الضدية تندرج في مقام واحد‪.‬‬

‫والثنائيات الضدية موجودة منذ األزل‪ ،‬لكنّ طرفي الثنائية يتوحدان في واحد كلي‪ ،‬فحين تشير الثنائية إلى التعدد تنتهي إلى الوحدة‪،‬‬
‫والتكامل‪ .‬فالشر ال يناقض في جوهره الخير‪ ،‬ولكنه متمّم له‪ ،‬والزم لوجوده‪ ،‬فال تظهر الفضيلة إال باقترانها بالضد‪ ،‬وال معنى للكرم من‬
‫غير اقترانه بالضد‪ ،‬فال بد لكل شيء من ض ّد يميزه‪ ،‬ويوضّحه‪ ،‬وقديما ً قال الشاعر‪:‬‬

‫جسر من التعب‬
‫ٍ‬ ‫تأتي إال على‬ ‫ُ‬
‫بصرت بالراح ِة الكبرى فلم أرها‬

‫والثنائيات الضدية ظاهرة فلسفية أساساً‪،‬ـ ت ّم َسحْ بُها على النقد األدبي‪ ،‬وأول من طبّقها على األدب البنيويون‪ ،‬ويع ّد هذا المصطلح مفردة‬
‫من مفردات الثقافة الغربية‪ّ ،‬‬
‫يمثل أسسا ً فلسفية بالدرجة األولى‪ ،‬له أبعاد إيديولوجية وفلسفية موغلة في القدم‪ ،‬ولفهمه بأبعاده كلها البد من‬
‫العودة إلى أصله الفلسفي؛ ليتضح معناه‪ ،‬ث ّم يتعيّن على ذلك دراسته في حقل النقد األدبي الذي استفاد من اصطالحات علم االجتماع‪ ،‬وعلم‬
‫النفس‪ ..‬ومن الفلسفة التي شكلت األرض الخصبة له‪.‬‬
‫الفصل األول‬
‫الثنائيات الضدّية‪:‬‬
‫ذاكرة المصطلح‬
‫(‪)١٣‬‬
‫مقدمة‬
‫ّ‬
‫يمث ل المصطلح مفتاح العلم‪ ،‬ونواة وجوده‪ ،‬وال يمكن للعلوم والمعارف أن تؤسس مفاهيمها من غير ضبط جهازها المصطلحي‪ ،‬وتتوسل‬
‫المصطلحات باللغة لتحديد المقصود منها‪ .‬ويبنى العلم على النسقين المفهومي والمصطلحي‪ ،‬ويع ّد المصطلح الضامن الوحيد لنشأة العلوم‬
‫وتطوّ رها‪ ،‬فالمصطلحات تسميات لغوية للمفاهيم‪ ،‬ووحدات رمزية تعبّر عن المفهوم‪ ،‬كما يبني علم الرياضيات مصطلحاته على الرموز‪.‬‬

‫وقد تتش ّع ب مسارات المصطلح‪ ،‬ويصعب تأسيس المفهوم‪ ،‬وهو األمر الذي يؤدي إلى اختالف المناهج‪ ،‬وتنوع مقارباتها‪ ،‬ونظرياتها‪.‬‬

‫وقد انتقلت آثار هذا التعدد‪ ،‬واالختالف إلى المصطلحية العربية؛ إذ أنتج هذا التنوع خلطا ً مصطلحيا ً عجيبا ً في التصور والمفهوم‬
‫والترجمة‪ ،‬فأ ّد ى ذلك إلى كثرة العوائق التي حالت دون نشأ ٍة مصطلحية عربية أصيلة‪ ،‬فقد شوّ هت الترجمات الخاطئة المنقول‪ ،‬وزادت‬
‫من عوائق تأسيس المفهوم عند العرب‪ ،‬واتسمت المصطلحات العربية بالفوضى الناجمة عن عدم إدراك المفهوم في أصوله‪ ،‬وكيفية‬
‫ترجمته‪.‬‬

‫ومن هذه المصطلحات التي انتقلت إلى العربية مصطلح الثنائيات الضدية‪ ،‬فنجد ظالالً له في نقدنا القديم‪ ،‬كما نجد مصطلحات كثيرة‬
‫متداخلة فيه‪ ،‬وأخرى مختلفة عنه‪ .‬فما األصل اللغوي‪ ،‬وما الداللة االصطالحية للثنائيات الضدية؟‬

‫(‪)١٤‬‬
‫‪ - ١‬الثنائيات الضدية (‪ )Binary oppositions‬لغة واصطالحا ً‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تعود الثنائيات إلى الجذر الثالثي ث ن ي‪ ،‬ومن معانيها تكرار الشيء مرتين متواليتين[‪ ]١‬والثني‪ :‬رد الشيء بعضه على بعض[‪ ]٢‬وقيل‪:‬‬
‫إن الثنائي من األشياء ما كان ذا شقين[‪.]٣‬‬

‫يتعين على ما سبق أن دالالت الثنائيات تفترض وجود طرفين‪ ،‬وتعتمد على التثنية‪ ،‬وهذان االثنان قد يكونان متواليين‪ ،‬أو معطوفين‪ ،‬أو‬
‫متزامنين‪.‬‬

‫ويد ّل المعنى اللغوي للثنائيات على ما هو أكثر من الواحد مهماـ كان عدد الثنائيات‪ ،‬فقد تتعدد الثنائيات‪ ،‬لكنها تظل تدور في فلك الرقم‬
‫اثنين‪.‬‬

‫ويعني لفظ الثنائية ضعف العدد واحد‪ ،‬وقد يكون هذا الضّعف شبيهه‪ ،‬أو نظيره‪ ،‬أو ض ّده‪ ،‬ويعني هذا األمر أن العدد واحد يش ّكل مع واحد‬
‫ك عنه‪ ،‬وإذا كان قابالً لالنفكاك‬
‫آخر ثنائية مهما كانت العالقة بينهما‪ ،‬وفي هذه الحال يالزم ك ّل طرف من طرفي الثنائية اآلخر‪ ،‬وال ينف ّ‬
‫عنه انتفت عنه صفة الثنائية‪.‬‬

‫ويختلف المعنى االصطالحي عن المعنى اللغوي من جهة عمقه‪ ،‬وأبعاده الفلسفية والعلمية‪ ،‬فقد ع ّرفها المعجم الفلسفي بأنها “الثنائي من‬
‫األشياء ما كان ذا شقين‪ ،‬والثنائية هي القول بزوجية المبادئ المف ّس رة للكون‪ ،‬كثنائية األضداد وتعاقبها‪ ،‬أو ثنائية الواحد والمادة ‪ -‬من جهة‬
‫ماهية مبدأ عدم التعيين ‪ -‬أو ثنائية الواحد وغير المتناهي عند الفيثاغورثيين أو ثنائية عالم المثل وعالم المحسوسات عند أفالطون ‪ ...‬الخ‪،‬‬
‫والثنائية‬

‫[‪] ١‬ـ ثني من تكرير الشيء مرتين‪ ،‬أو جعله شيئين متواليين أو متباينين‪ ،‬والثني‪ :‬األمر يعاد مرتين‪ ،‬يقال للمرأة ثني إذا ولدت اثنين‪ .‬انظر‬
‫أحمد بن فارس بن زكريا‪ ، ٢٠٠٨ :‬مقاييس اللغة‪ ،‬بعناية محمد عوض مرعب‪ ،‬وفاطمة محمد أصالن‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬مادة‬
‫ثني‪.‬‬

‫صرت له ثانياً‪ ،‬وث ّنيته تثنية؛ أي جعلته‬


‫ُ‬ ‫[‪]٢‬ـ ثنى الشيء ثنياً‪ :‬ر ّد بعضه على بعض‪ ،‬ثنيت الشيء ثنياً‪ :‬عطفته‪ ،‬ومنها يقال‪ :‬ثنيته‪ :‬إذا‬
‫اثنين‪ ،‬وجاء القوم مثنى مثنى؛ أي اثنين اثنين‪ .‬انظر ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة ثني‬

‫[‪] ٣‬ـ جميل صليبا‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬بيروت‪ ،‬ج‪١/٣٧٩‬‬

‫مرادفة لالثنينية‪ ،‬وهي كون الطبيعة ذات مبدأين‪ ،‬ويقابلها كون الطبيعة ذات مبدأ واحد‪ ،‬أو عدة مبادئ (الثنوية واالثنينية)”[‪.]١‬‬

‫فاالثنينية هي كون الطبيعة ذات وحدتين‪ ،‬أو هي كون الشيء الواحد مشتمالً على ح ّد ين متقابلين‪ ،‬ومتطابقين كتقابل الفكر‪ ،‬والعمل‪.‬‬

‫ويعني الكالم السابق أن االثنينية تفترض اشتمال الشيء على مبدأين مستقلين ال يذوب أحدهما في اآلخر‪ ،‬وال يشبهه‪ ،‬كالظالم والنور‪،‬‬
‫والليل والنهار‪.]٢[ ...‬‬

‫إن الثنائيات الضدية نظرة فلسفية عميقة‪ ،‬تتجاوز الجمع المباشر‪ ،‬والسطحي بين طرفين‪ .‬فهذان الطرفان تربطهما رابطة هي رابطة‬
‫التضاد؛ إذ يجتمع الخير والشر‪ ،‬أو الظالم والنور في ثنائيات ضدية ال متناقضة‪،‬ـ فثمة عالقة بين المتضادّين المجتمعين في ثنائية‪ ،‬فال‬
‫ينفي أحدهما اآلخر‪ ،‬بل يدخالن في عالقة تواز‪ ،‬وبهذا الشكل ال يتناقضان‪ ،‬بل يتكامالن‪ .‬فحقيقة الوجود تنطوي على تقابل دائم بين‬
‫طرفين‪ ،‬لك ّل منهما قوانينه الخاصة‪.‬‬

‫الفصل الثالث‬

‫أجوفُ واويٌّ ‪ ،‬ومصدر لباب مات يموت مو ًتا علی ِز َنة قال‪ ،‬يقول‪ ،‬قواًل ؛ أو مصدر لباب مات يمات مو ًتا علی ِز َنة خاف يخاف‬
‫الموت َ‬
‫خو ًف ا؛ وعلی كل حال صياغته من كال البابين ال تغير معناه؛ بل معناه واحد‪ ،‬كما في التالي‪:‬‬

‫‪ - 1‬مات اإلنسان يموت مو ًتا‪ ،‬فهو ميِّت ‪ -‬ويقال في تخفيف ميِّت‪َ :‬ميْت ‪ -‬والجمع‪ :‬ميِّتون و َميْتون وأموات وموتی‪.‬‬
‫أما أبو العالء المعري فجدل الموت والحياة يؤطر أدبه‪ ،‬وتحتل‬
‫هذه القضية مساحةـ واضحة ومميزة في شعره يظهر معها أبو العالء نموذجا ً فلسفيا ً وشعريا ً متميزاً‬

‫في طرح هذا اإلشكالية‪ .‬وقد تعددت األبحاث والدراسات التي تناولت هذه القضية‪ ،‬وهي تكاد تجمع على أن المعري عرف بانصرافه عن‬
‫الدنيا وزهده فيها بل شعوره بأن الحياة‬
‫حصار مؤلم وسجن مظلم ال خالص معه إال بالموت‪:‬‬

‫وطول البقا ِء‬


‫ِ‬ ‫من اليسِ ر‬ ‫ٌ‬
‫رحمــــة خير‪.‬‬ ‫موٌ ت يسير معــــه‬

‫وقد بلونــــا الع َيش أطواره فمــــا وجدنا فيه غير الـشقا ِء‬
‫والموت أكثر رحمة فهو يغلق كل باب للشر تفتحه الدنيا وهو أعدل ما يمر على الناس‪:‬‬

‫ومع تأكيد أبي العالء بأن الموت راحة فإن المتتبع لشعره يجد مفارقة واضحة بين‬
‫هذا التأكيد‪ ،‬من ناحية‪ ،‬وحقيقة أن المكان اآلخر الذي يتحول إليه هو سجن بكل ما‬
‫يستدعيه لفظ السجن من و حدة وقهر ووحشة وقيد و ظلمة‪ ،‬من ناحية أخرى ‪:‬‬
‫ٌ‬
‫راحة وكل ابن أنثي في التراب سجين‬ ‫حياتي تعذيٌب وموتي‬

‫]من الطويل[ ‪74‬‬


‫وقد أسهبت الدراسات في بيان الظروف التي أدت بأبي العالء المعري إلى حياة‬
‫العزلة والعيش في تأمل صراع مفردتي الحياة والموت؛ وهي ظروف قادته إلى حياة‬
‫ظاهرها العزلة والهدوء وحقيقتها الوحشة و التمزق واأللم‪ .‬فقد توفي والده في بدء حياته‪،‬‬
‫وعاش حياة فقر وعوز‪ ،‬ثم واجه ظلم السلطة‪ .‬ورغم الشهرة العلمية التي نالها في بغداد‬
‫إال أنها اختلطت باليأس من حسن المقام بها ‪ ،‬فخرج ليلقاه في الطريق خبر وفاة أمه‬
‫ٌ‬
‫عنيفة‪ ،‬بذل فيها آخر ما كان‬ ‫عزاه وسلوته فكان »لهذا الخبر في نفس أبي العالء سورة‬
‫‪ 75‬يملك من ثقة بالدهر‪ ،‬واطمئنان إلى األيام«‬
‫‪.‬‬
‫ويمثل ديوانه »اللزوميات« المرحلة التي تصالح فيها مع الموت على كره وضعف‪ ،‬وتعد داليته التي رثى فيها الفقيه أبا حمزة التنوخي‬
‫قصيدة الموت األولى التي تجاوز فيها الشاعر تجربة الرثاء الشخصية الخاصة إلى اإلنسانية والوجود بأجمعه‪ .‬لقد‬
‫جسدت الموت بصورة فنية فلسفية فكرية بما فيها من حزن وتشاؤم وانكسار حينماعرض للحديث عن الحياة والموت وفلسفة البقاء وما‬
‫يتبع اإلنسان بعد هذه الحياة وما‬
‫يكون له من فناء ومن ثم بعث ليحاسبـ فيكون إما في شقاء أو في رشاد‪ .‬وبدا المعري‬
‫يستشعر فيها المرء فقده أكثر من فقد‬
‫فيها فيلسوفا الشاعر لصديقه‪ ،‬وربما ومرشدا‬
‫يحس المتلقي بألمه أكثر من ألم الشاعر‬

‫الحياة والموت في شعر أبي العالء المعري‬

‫سنرى أن قوام نظرة أبي العالء إلى الدنيا ما رآه من زوال هذه الدنيا وشرورها‪ .‬أما نظرته إلي الموت فتقوم على الرهبة والراحة‪.‬‬
‫وسنراه بعد ذلك يخلوا إلى نفسه خائفاً‪ ،‬يائساً‪ ،‬يحث على التقوى والزهد في الدنيا والعمل لآلخرة‪.‬‬

‫أبوالعالء والدنيا‪:‬‬
‫ما عرف عن أبوالعالء يتجه إلى العقل كثيراً ويعتبره أسمى ما وهب إلى االنسان فهويتجه إلى العقل والعقل يهديه إلى تفاهة الدنيا ألنها‬
‫إنتظار مؤلم إلى أن يأتي الموت وينقلها إلى‬
‫ٍ‬ ‫زائلة‪ .‬في حين أن فطرة اإلنسان تحب الخلود فروح أبوالعالء تجد الحياة الدنيا ليس إال فترة‬
‫ب يراه في الدنيا ‪.‬‬
‫حيا ٍة خالدة‪ .‬فبرأي الزوال هوأول عي ٍ‬

‫‪ -1‬الزوال‪ :‬وأبوالعالء يذكر رأيه ويعيده مراراً وتكراراً ‪ ،‬فاذا الصورة تكبر أوتصغر‪ ،‬وتتسع أوتضيق ولكنها التخرج عن األصل الذي‬
‫رسمه لها‪ ،‬قال‪:‬‬

‫بالـقضـاء الـبـلــيغ كـنا فعـــشـنـا‬


‫خــلق يــزو ُل‬
‫ٍ‬ ‫ثم زلنا وكـ ّل‬
‫نحــن في هذه البسيطة أضيــاف ٌ‬
‫لنــا في ذرى المليك نزو ُل‬
‫واألمـيــران ذاهــبــان مــولــىً‬
‫مستـ ّج ٌد‪ ،‬وراحــ ٌل مـهـزول‬
‫بلى الحب ُل والغزالة ُ فوق األرض ِ لـــم يبل خيطهــا المغـزول‬
‫[‪]42‬‬

‫وحقيقة الفناء هذه تنفر أبي العالء دنياه وتجعله إنسانا ً متشائما ً ويائساً‪:‬‬

‫أتذهب دا ٌر بـــــالنصاء‪ ،‬وربــها يخلفـــــها عمّا ٍ‬


‫قليل ويذهب ُ‬
‫أرى قبسا ً في الجسم يطفئه الردى وما دمت ح ّيا ً فهوذا يتلهّب‬

‫[‪]43‬‬

‫وإسمعه يكرر هذا المعنى بشكل آخر‪:‬‬

‫ً‬
‫مخــلوقــة مـن أنفس ٍتاويـه‬ ‫وتـقــــدم األرض نـفــــوسٌ أتـت‬
‫ت والحــوت فـي إهالكـه مــا حـوت الحـاوية‬ ‫والدهر كالحيّو ِ‬
‫إن تعمــــــر الـدا ُر فــــالبــ َّد مـن يوم ردىً يــتركهــا خـاوية‬
‫[‪]44‬‬

‫وذكر أحد الدارسين حياة أبي العالء المعري أن مصدر تشاؤمه يعود إلى اضطراب الحياة االجتماعية في عصره وإلى شعوره بالنقص‬
‫أيضا ً ممّا ّأث ر فيه أشد تأثير فنراه يسمي نفسه برهين المحبسين ويعتكف في منزله‪ .‬ويروح يسلك في حياته سلوك المتصوفين الذين‬
‫يرضوه بالعيش القليل فيقول‪:‬‬

‫الحمد هلل قد اصبحت في دعـ ٍة‬


‫ت‬ ‫أرضى الــقـلــيل والأهـت ُّم بالقـو ِ‬
‫وشاه ٌد خالقي أنَّ الصالة لـــه‬
‫أجـــ ُّل عندي مـــــن درّ ي وياقـوتي‬ ‫َ‬
‫ّ‬
‫والأعاشر أهل العصر‪ ،‬إنهم‬
‫ت‬
‫ِ‬ ‫وممقو‬ ‫ب‬
‫إن عوشروا بين محبو ٍ‬
‫[‪]45‬‬

‫ولم يؤثر فيه التشاؤم في حياته الشخصية وسلوكه اليومي في اإلعتكاف والتقشف فقط‪ ،‬بل إنها اعتملت في نفسه وتفجرت شعراً ونثراً‪.‬‬
‫وأي حياة تلك الحياة؟‪:‬‬
‫أخــوسـفــــر قصده لحـــــده‬
‫ٍ‬
‫تــمـادى به الســي ُر حــتى بـــلــــغ‬
‫ودنــياك مـثل اإلناء الخبيث‬
‫ب ولغ‬ ‫وصــاحــبهـــا مــثــل كـل ٍ‬
‫[‪]46‬‬

‫فالبشر في هذا العالم ضيوف‪ ،‬وما الطعام الذي تقدمه لهم الدنيا إالّ الموت فهم في هذه الحياة الهون بالمقبّالت وهذا المعنى العميق يصوره‬
‫لنا قوله‪:‬‬

‫زمان ما قراه لنا‬


‫ٍ‬ ‫إنا ضيوف‬
‫إالّ المنايا‪ ،‬ونحن اآلن في اللهن‬
‫[‪]47‬‬

‫وبرأيه مثل هذه الدار الفانية التصلح دار إقامة حيث الأمان لمقيم فيها‪:‬‬

‫لعمرك ما الدنيا بدار إقامة‬


‫حال السالمة آمـن‬
‫وكالحيُّ في ِ‬
‫[‪]48‬‬

‫‪ -2‬شرورها‪:‬‬
‫عاش أبوالعالء قرابة أربعين عاما ً قبل عزلته بين الناس وجرّ ب الحياة وتأمل فيها فوجدها ليس إالّ دار شرور‪:‬‬

‫أبوالعالء والموت‪:‬‬

‫رأينا أبوالعالء كثيراً ما يزعجه أن تنتهي الحياة بالموت‪ .‬إنه إذ تختم به الحياة فيمحوكل ما سبق من سعادة لمثل المقر المر الذي يتناوله‬
‫االنسان بعد عسل النحل فاليبقي له إال المرارة‪.‬‬
‫[‪]59‬‬

‫أرى مقراً في آخر العيش كائنا‬


‫نسيت له ما أطعمتك الجوارس‬
‫[‪]60‬‬

‫فاذا هوخائف مذعور‪ ،‬يطارده شبح الموت في كل حين‪ ،‬ويتمثل له وجهه في كل شي يحيط به‪ ،‬ويطالعه إنى إتجه‪ .‬وهذا صوت الموت‬
‫الذي يمأل أذنه يصبح حائالً بينه وبين جمال الحياة‪:‬‬

‫وأراك يا سمع الحمام فلم تبن‬


‫سجع الحمام بأسجل وأراك‬
‫[‪]61‬‬

‫فال عجب أن يحفل ديوانه اللزوميات‪ ،‬بذكر الموت‪ ،‬وتصوير اهواله وآفاته‪ .‬واذا استوصينا شعره في ذلك وجدناه قائما ً على نظرتان‬
‫رئيسيتان‪:‬‬
‫‪ - 1‬رهبة الموت‪ :‬ابوالعالء يخشي الموت ويفرق لذكره‪ ،‬واليزال يذكر الناس بأهواله وآالمه‪ ،‬ليرهبهم به‪ .‬فلن نستغرب إذا سمعناه يكرر‬
‫المعاني ويعيدها ولن نستغرب ان يحثهم على اإلنتباه من غفلتهم‪ ،‬وان في جزعه من الموت وخوفه منه‪ ،‬بعض التأويل المعقول لنقمته‬
‫على الدنيا وتشاؤمه‪:‬‬

‫كأ ّنما العالم ضــأنٌ غــــــدت‬


‫لل ّرعي‪ ،‬والموت أبوجـعده‬
‫فهاد ٌج حامـــــ ٌل عكـــــــازه‬
‫وفـــارسٌ معتق ٌل صعــــدة‬
‫وآخر ٌ يــــــدرك مــــن تلبه‬
‫ويترك الدنيا لمــــن بعـــده‬
‫عيشٌ كما تعه ُد المخلـــــفٌ‬
‫وعيده بــــل مخلــفٌ وعـدة‬
‫هل يأمن البر جيسُ في عزه‬
‫من قــدر يعدمـــه سعــــــده‬
‫كأنما النجم لخــوف الـــرّدى‬
‫فـــرق رعـــــــده‬
‫ٍ‬ ‫تأخذه من‬
‫ّ‬
‫البن في األرض لـم يذكر‬ ‫ٍ‬ ‫كم‬
‫لبناه‪ ،‬مـذبان‪ ،‬وال دعـــــدة‬
‫أحاذر السيل‪ ،‬ومن لي بمـن‬
‫جــــا ٍة اذا أسمعنـــــي رعدة‬
‫والوقت اليفتا فـي مــــــرّه‬
‫مقربــــا ً من أجـــــل بعــــدة‬
‫فراقب الخالق بالــغيب فــي‬
‫القيمة والنيمـــــة والقعــده‬
‫[‪]62‬‬

‫فتراه لرهبته من الموت يشبهه بالحيوانات المفترسه والطيور الجارحة‪:‬‬

‫كأنما العالم ضأنٌ غــــــدت‬


‫لل ّرعي‪ ،‬والموت ابوجعدة‬
‫[‪]63‬‬

‫ويقول‪:‬‬

‫أوكالمغـــــير مـــــن العــا‬


‫سلـــات يطـــــرق زربـــــه‬
‫[‪]64‬‬

‫ويقول‪:‬‬

‫يكـــــر فـــــي الناس كاألجـ‬


‫دل المـــــعاود ســـــــربــة‬
‫[‪]65‬‬
‫وهويصف كرهه إلى الموت بهذه الصورة المهيبة‪:‬‬

‫وطريقي إلى الحمام كــريــ ٌه‬


‫لم تــهبْ عــندَ هــوله ال َيـ َهما ُء‬
‫ب‬
‫ولوأنَّ البيداء صار ُم حر ٍ‬
‫ب صرما ُء‬ ‫وهي من كل جان ٍ‬
‫[‪]66‬‬

‫فهويبيّن خوفه من الموت في االبيات اآلتيه وثم يلوذ بربه ويرجوالنجاة منه‪:‬‬

‫مستطا ٌر أنا من خوف الردي‬


‫ب مستطر‬ ‫كل شي ٍء في كتا ٍ‬
‫غــــافــــــل‬
‫ٍ‬ ‫غفــــر ا‪ ...‬لعب ٍد‬
‫جهل وخطر‬ ‫ٍ‬ ‫هوفــي أعظم‬
‫[‪]67‬‬

‫ويرى جمال الحياة في الخلود وعدم الشيب‪:‬‬

‫أحسن بدنيا القوم لوكان الفتى‬


‫ال يقتضى وأديمه اليحلم‬
‫[‪]68‬‬

‫وأما الموت قدر اإلنسان ولن ينجومنه أبداً فالبد أن نعتبر منه‪:‬‬

‫رامح‬
‫ٍ‬ ‫هوالموت من ينجومن‬
‫فالب ّد من أسهم النابـل‬
‫رجال مضــــــوا‬
‫ٍ‬ ‫لنا أسوةٌ في‬
‫وهل أنا إال أخواآلبل‬

‫ب للشر تفتحه الدنيا وهوأعدل ما يمر على الناس اذ يغني‬


‫فأبوالعالء يقارن بين الموت والحياة فيجد الموت أكثر رحمة لنا فهويغلق كل با ٍ‬
‫والدنيا تفقر‪.‬‬

‫ت وأستره‬ ‫ما أعدل الموت من أ ٍ‬


‫فهيجيني فأني غيــــر مهتـــاج‬
‫العيش أفقر منا كــــل ذات غنى‬
‫بحق ك ّل محتاج‬
‫ٍ‬ ‫والموت أغنى‬
‫أذا حياةُ علينا لألذى فـــتحـــــت‬
‫بابا ً مـــــن الشــر‪ ،‬القاه بإرتاج‬
‫[‪]74‬‬
‫فسبحان ا‪ ...‬الذي ساوى بالموت بين أفراد البشر‪ :‬الغنى والفقير الساعي والمقيم‬

‫عز ّالــــذي بالموت ر ّد غنينا‬


‫كفقيــــرنا ومقيمنــــا كالراحل‬
‫[‪]75‬‬

‫وعنده الملك والصعلوك يتساويان فمصيرهما واح ٌد في حفر ٍة ترابية‪:‬‬

‫يساوي مليك الحي صعلوك قومه‬


‫وتسحى له األرض الزرود فتلهم‬
‫[‪]76‬‬

‫الجميع‪:‬‬
‫ِ‬ ‫وال يميز بين ظالم ومظلوم‪ ،‬فهويأتي على‬

‫ورأيت الحمام يأتي على العا‬


‫قاهـــر ومن مقهور‬
‫ٍ‬ ‫لـــــم مـــــــن‬
‫والموت يع ّم الدنيا‪ ،‬كما لوأنه غيم يتلوغيماً‪:‬‬

‫وجدت الموت ينتظم البرايا‬


‫ب‬
‫ب منــه فـي أعقــــاب سح ِ‬
‫بسحــ ٍ‬
‫[‪]77‬‬

‫ويصف الموت بأنه اليترك كائن حي‪ .‬فال يترك بهيمه والنبته واليترك حتى كواكب السماء‪.‬‬

‫ب يُعرّ ي الـ‬ ‫الذات يســـر ٍ‬


‫ّردى‪ ،‬والذات سُــــربـــــهْ‬
‫ومــــــا أظـــــــن ُّ المنايا‬
‫تخطوكــــــواكب جربــــه‬
‫ستأخذ السر والغـــــــــفـ‬
‫َروا السّمــــــــاك وتربـــ ْه‬
‫ف ّتشن عن كــــــــل ّ نفس ٍ‬
‫شـــــــرقَ الفضاء وغربهْ‬
‫وزرن عـــــــن غيــر برّ‬
‫عجــــم األنـــــام وعـــربه‬

‫الفصل الرابع‬

‫إن المعري بما عرف عنه من حس مرهف وفطنة حادة وعقل موهوب قل نظيره لم تقف حاسةـ فقدان البصر عائقا ً في وجه شاعرنا فعلى‬
‫الرغم من انه لم يدرك الشمس والقمر والنور والظالم برغم ان حياته كانت في ضالم‬
‫كقوله‬
‫َعلِّالني فإن ِبيض األماني فن َي ْ‬
‫ت والظالم ليس بفاني‬

‫يفن الليل‪.‬‬ ‫ُ‬


‫ففزعت إلى أحاديث النفس ومخادعتها باألماني‪ ،‬ففني ذلك ولم َ‬ ‫تطاول ليلي‬
‫َ‬ ‫يقول‬

‫اال انه قد اخرج لنا بفعل بصيرته النافذة وذكائه الحاد‬


‫صوراً بديعة في اظهار اوجه الشبه وابراز الدالالت وااليحاءات والرموز التي يريد ايصالها للمتلقي ‪ .‬اذ جعل منها مجاالً للتحدي‬
‫والمنافسة واثبات للشاعرية‪.‬‬

‫كقوله‬

‫جنح الدجنة نجمهـا المسهاد‬ ‫يالي ُل قـد نام الشـجى ولـم ينم‬
‫إن كانت الخضراء روضا ً ناضراً فلعـلَّ‪ .‬زهر نجومهـا ازهار‬

‫ويستمد من خزين اوصاف الشعراء للهالل ويخرج بوصف يصوره بقالمة االظفر في نحوله وضعفه ويجعل من بنات نعش فتيات‬
‫جميالت يصيبها االعياء من طول السهر‬
‫وذلك في قوله ‪:‬‬
‫وهـال ٌل مث ُل القـالمة ناحـ ُل‬ ‫سـبح اهللا طـالع مسـتنير‬
‫غوان لم يصيبها من اثمد الليل كاحل‬‫ٍ‬ ‫وبدت من بنات نعش‬

‫ويتخذ المعري من صورة‬


‫المعركة جانيا ً فنيا ً اذ يصور الشمسـ التي حجب الغبار رؤيتها بالفتاة التي تستر باللثام اذ يقول ‪:‬‬
‫عليها من ال ّن َقع االصم لِثام‬ ‫بيوم كأن الشمس فيه خريدة‬‫ٍ‬

‫كما ويصور الشمس في كبد السماء بالذهب اذ يقول‪:‬‬

‫ومثلك من تخيل ثم خـاال‬ ‫وقلت الشمس بالبيداء تب ٌر‬

‫فأشعار المعري وان كانت محاكاة للموروث األ انه قد اجاد فيها‬
‫من حيث المعاني والصفات فأن شروق الشمسـ ليلهم المعري في تصوير الممدوح جمال وهيبة ذلك بقوله ‪:‬‬

‫ولوال الشمس ما حسن ال َّنهار‬ ‫جما ُل المجد ان يثنى عليه‬


‫وكذلك قوله ‪:‬‬
‫انارت بنور عنه م ْن ِ‬
‫عكس‬ ‫ْ‬ ‫أرى جبينك هذي الشمس َخالقُها فقد‬
‫فان قوة التعبير وما تحمله من معان يوظفها في لغته التصويرية التي تفده في ايجاد القرائن وما تظفيه هذه الدالالت على تصوير المشاعر‬
‫من افكار ومعان‪ ،‬فتفرد سهيل في كبد السماء يقود الى فكرة تفرد الممدوح وقوة سطوته‬

‫الظلم مظلمة سوداء وان البدر ليحتقر فيها للونه وذلك بقوله ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫كما ويشير الى فساد العصر الذي يعيشه حتى لتغدوالشمس لكثرة‬
‫لحفر‬
‫ِ‬ ‫لو عاشت الشمس فينا ُألبست ظلما ً أو حاول البدر من حاجة‬
‫ويمثل أسلوب التضاد لدى المعري في مجال الحديث عن الزمن بنية متكاملة حمل من خاللها هموم الوجود‪،‬‬
‫وهمومه الفكرية والنفسية فعكستـ بشكل خفي مشاعره وأحاسيسه‪ .‬ففي تضاد الليل والنهار تتضح جدلية‬
‫الصراع اإلنساني مع الزمن في الليل‪.‬ففي الليل لدى اإلنسان العادي سر غامض‪ ،‬وقوة مهيمنة تبعث على القلق والحيرة فكيف بإنسان‬
‫حياته كلها ليل في ليل؟! يتردد في شعر المعري نمط الليل الزنجي)[‪[) 29‬في تصوير السواد والظالم وما يرمزان إليه من شؤم ومعاناة‪.‬‬
‫يقول‪٣٠‬‬

‫إذا ما اهتاج أحمر مستطيرا حسبت الليل زنجيا جريحا‬

‫صورته األولى في وصف البرق وتصوير الرعب في الليل‪ ،‬جسد‬


‫من خاللها الفزع بصورة الزنجي جريحا‬
‫تلطخ بالدماء‪ ،‬وهويس ِّّخ ر العناصر المتمثلة في الليل‪/‬الزنجي‪ ،‬فيوحي اللون األحمر بداللة الخطر‪ ،‬أما‬
‫األسود فيوحي بالشر والقبح‪ ،‬وذلك كله في إيقاع لوني يعقبه إيقاع موسيقي حركي في قوله مستطيرا‪.‬‬

‫‪1220.‬و‪ : 1211/1،8‬الزند سقط شروح(‬

You might also like