Professional Documents
Culture Documents
الثنائيات ابو العلا
الثنائيات ابو العلا
المقدمة:
شغلت الثنائيات الضدية مكا ًنا واسعً ا في الفكر اإلنساني ،وحيزا كبيًرا في الدراسات
اللغوية ،إذ كان لحضورها تأثير واضح ومتميز لدى الباحثين اللغويين ،فقد َّكونت
موضوعا وإبداعا وف ًك را في المجاالت الحياتية والنفسية والفلسفية والعلمية واألدبية،
)المصالوي ،ورازقية: 2015 ،ص )، 203
فالثنائيات الضدية بما تشكله من تباينات
داللية ُتعُّد عنصرا فاعالً في تكوين المعنى ،وإنتاج الداللة ،والخروج بالنص إلى مستوى
اللغة العالية) ،حسان: 2019 ،ص ).71
وألن":الثنائيات :سمة من سمات الحياة ،وقد شاع ذلك في الخطاب اللغوي عامه
واألدبي خاصة ،فدراستها ضرورة علمية وأدبية ونقدية ،لمعرفة حدود تكوينها داخل
النص ،ودرجة وجودها فيه ،وأثرها في تحقيق المعنى والفكرة المراد إيصالها للمتلقي،
ومن ثم أثرها في خلق النص وداللته") .العبودي: 2015 ،ص ). 226
ففي الدرس
اللغوي" :تعد الثنائيات الضدية نوعا من العالقة التالزمية بين المعاني؛ أي أنه يجمع
بين الشيء وضده ،مثل :الجمع بين الحزن والفرح ،واليأس واألمل والفقر والغنى...
إلخ؛ إذ تهدف الثنائية في نهاية المطاف إلى التكامل") .حسان: 2019 ،ص )، 82
لنقل
المعاني إلى المتلقي بصورة تستهدف تحقيق مقاصد النص التعليمي ،وإدراك الدالالت
اللغوية المنضوية تحت تراكيبه.
إن بناء النص التعليمي باستخدام الثنائيات الضدية يفتح لمتعلم اللغة آفاقاً .متعددة للتمييز
بين المعاني الظاهرة والخفية ،أو الصريحة والضمنية ،واستحضار معانيها وتقابالتها
بما يضمن تأهيله وتطوير مهاراته ،وتنمية خبرات التعلم لديه ،وتيسير بناء مفاهيم
جديدة لفهم الوظائف اللغوية في مواقفها التعليمية.
تتعدد معاني مفهوم )التضاد( وفق مادته اللغوية ،فمن معانيه) :المخالفة( ،وهو الذي
ينطبق مع المفهوم االصطالحي الذي يتبناه البحث من حيث الداللة ،فد":ال ِ ضد ضُّد
الشيء ،والمتضادان :هما الشيئان ال يجوز اجتماعهما في وقت واحد ،كالليل والنهار".
)ابن فارس)، 3/360: 1979 ،كما يعني ":ال ِ ضد:كل شيء ضاد شيًئ ا ليغلبه ،والسواد
ضد البياض ،والموت ضد الحياة ،تقول :هذا ِضده وضديده ،والليل ضد النهار".
)األزهري)، 455/ 11: 1964 ،و":ضد الشيء وضديده وضديدته خالفه ...والجمع
أضداد ،وقد ضاده ،وهما متضادان") .ابن منظور)، 8/34: 1999 ،ويوسع المعجم
ضدا ،وبين الشيئين: الوسيط في الداللة ،فيفسر التضاد بمعنى" :ضاده :خالفه ،وكان له ًّ
جعل أحدهما ضد اآلخر ،وتضاد األمران :كان أحدهما ضد األخر .والضد :المخالف
والمنافي...والمتضادان) :في المنطق( :اللذان ال يجتمعان ،وقد يرتفعان ،كاألبيض
واألسود") .المعجم الوسيط: 2004 ،ص ).536
أما في االصطالح فتتعدد معاني مصطلح )التضاد( وسيقتصر في هذا البحث على
مفهوم )المخالفة( لعالقة المفهوم بهدف البحث ،ولتناسب العالقة بين المفهوم النظري
والتطبيقي .فالتضاد عند )أرسطو)، Aristo ،ظاهر في كل متضادين ،فهما إما أن يكونا
في جنس واحد بعينه ،أي :تكون هذه األشياء ناشئة من األضداد كاألبيض واألسود؛ وإما
أن يكونا في جنسين متضادين ،أي :أضداد وبحالها متضادة ومغايرة ،كالعدل والجور،
فاألول ينتمي الى جنس الفضيلة ،ويعد الثاني في جنس الرذيلة ،أو أن يكونا أنفسهما
جنسين ،كالخير والشر) ،منطق أرسطو)، 1/70: 1980 ،أي أنه يرى":جميع األشياء
ً
أضدادا ،وإما إن تكون من أضداد" )ابن رشد1/333: 1938 ، إما إن تكون
المقدمة
اإليقاع الثنائي
تع ّد فرضية الثنائية ( ) Binary Assumptionمن الموضوعات التي أثارت دهشة اإلنسان في مسيرة تاريخ الفكر البشري ،فثمة طرفا
ثنائية متضادان في الكون ،مثل :زيادة /نقصان ،ذكر /أنثى ،سلب /إيجاب ...ويرى بعضهم أن هذه األضداد يبحث الطرف منها عن طرفه
اآلخر؛ ليتحدا معا ً مكوّ نين الوحدة األصلية ،ويرى آخرون أن هذه األضداد تقوم على صراع أبدي بعضها مع بعض ويرون أن هذا
الصراع مصدر الخلق ،والتوليد؛ الستمرار الحياة.
فحين درس العلماء ـ على سبيل المثال ـ المغناطيسية وارتباطها بالمالحة بوساطة البوصلة اعتمدوا على تقسيم ثنائي ،إلى قطبين شمالي
وجنوبي ،وك ّل منهما يبحث عن اآلخر ،وهي نفسها الفكرة التي قامت عليها الفلسفة الصينية القديمة ،ثنائية الين واليانغ ،فالكون ـ حسب
هذه الفلسفة ـ يتشكل من ثنائيات ضدية تجتمع في مقام واحد ،ويسعى كل طرف من طرفيها إلى الطرف اآلخر؛ ألن في وجودهما معا ً
اتحاداً وتكامالً .وفي العصر الحديث تم التقسيم إلى كهرباء سالبة ،وكهرباء موجبة ،وال يقوى طرف واحد منهما على النهوض والعمل
بنفسه ،وهكذا...
للثنائية ـ إذن ـ تأثير قوي في الصراع ،واستمرار الحياة على األرض ،و ُت ظهر الثنائية منظومة فكرية فلسفية حياتية متكاملة ،ويبنى على
أساس الثنائية اإليقا ُع الثنائيّ للعالم ،وبنيته؛ ألنه مرتبط بالثنائية حيث التضاد ،والتوازي ،وك ّل طرف من طرفي الثنائية يسوّ غ وجود
اآلخر.
()٩
والثنائيات الضدية ثنائيات كونية ،عالقتها بالوجود عالقة دينامية ،متالزمة كثنائية النور /الظالم ،والبقاء /الفناء ...تبنى على هذه الثنائيات
منظومة فكرية فلسفية دينية أسطورية علمية نقدية ،وتتجلى في األدب.
وتشكل كل ثنائية منظومة عالئقية أسطورية بدءاً بأساطير الخلق ،والمعتقدات القديمة ،وصوالً إلى الفلسفة واألدب والسياسية وعلم
الطاقة ،وتنتج الثنائيات ثنائيات جديدة ،فالثنائيات الضدية تندرج في مقام واحد.
والثنائيات الضدية موجودة منذ األزل ،لكنّ طرفي الثنائية يتوحدان في واحد كلي ،فحين تشير الثنائية إلى التعدد تنتهي إلى الوحدة،
والتكامل .فالشر ال يناقض في جوهره الخير ،ولكنه متمّم له ،والزم لوجوده ،فال تظهر الفضيلة إال باقترانها بالضد ،وال معنى للكرم من
غير اقترانه بالضد ،فال بد لكل شيء من ض ّد يميزه ،ويوضّحه ،وقديما ً قال الشاعر:
جسر من التعب
ٍ تأتي إال على ُ
بصرت بالراح ِة الكبرى فلم أرها
والثنائيات الضدية ظاهرة فلسفية أساساً،ـ ت ّم َسحْ بُها على النقد األدبي ،وأول من طبّقها على األدب البنيويون ،ويع ّد هذا المصطلح مفردة
من مفردات الثقافة الغربيةّ ،
يمثل أسسا ً فلسفية بالدرجة األولى ،له أبعاد إيديولوجية وفلسفية موغلة في القدم ،ولفهمه بأبعاده كلها البد من
العودة إلى أصله الفلسفي؛ ليتضح معناه ،ث ّم يتعيّن على ذلك دراسته في حقل النقد األدبي الذي استفاد من اصطالحات علم االجتماع ،وعلم
النفس ..ومن الفلسفة التي شكلت األرض الخصبة له.
الفصل األول
الثنائيات الضدّية:
ذاكرة المصطلح
()١٣
مقدمة
ّ
يمث ل المصطلح مفتاح العلم ،ونواة وجوده ،وال يمكن للعلوم والمعارف أن تؤسس مفاهيمها من غير ضبط جهازها المصطلحي ،وتتوسل
المصطلحات باللغة لتحديد المقصود منها .ويبنى العلم على النسقين المفهومي والمصطلحي ،ويع ّد المصطلح الضامن الوحيد لنشأة العلوم
وتطوّ رها ،فالمصطلحات تسميات لغوية للمفاهيم ،ووحدات رمزية تعبّر عن المفهوم ،كما يبني علم الرياضيات مصطلحاته على الرموز.
وقد تتش ّع ب مسارات المصطلح ،ويصعب تأسيس المفهوم ،وهو األمر الذي يؤدي إلى اختالف المناهج ،وتنوع مقارباتها ،ونظرياتها.
وقد انتقلت آثار هذا التعدد ،واالختالف إلى المصطلحية العربية؛ إذ أنتج هذا التنوع خلطا ً مصطلحيا ً عجيبا ً في التصور والمفهوم
والترجمة ،فأ ّد ى ذلك إلى كثرة العوائق التي حالت دون نشأ ٍة مصطلحية عربية أصيلة ،فقد شوّ هت الترجمات الخاطئة المنقول ،وزادت
من عوائق تأسيس المفهوم عند العرب ،واتسمت المصطلحات العربية بالفوضى الناجمة عن عدم إدراك المفهوم في أصوله ،وكيفية
ترجمته.
ومن هذه المصطلحات التي انتقلت إلى العربية مصطلح الثنائيات الضدية ،فنجد ظالالً له في نقدنا القديم ،كما نجد مصطلحات كثيرة
متداخلة فيه ،وأخرى مختلفة عنه .فما األصل اللغوي ،وما الداللة االصطالحية للثنائيات الضدية؟
()١٤
- ١الثنائيات الضدية ( )Binary oppositionsلغة واصطالحا ً
ّ ّ
تعود الثنائيات إلى الجذر الثالثي ث ن ي ،ومن معانيها تكرار الشيء مرتين متواليتين[ ]١والثني :رد الشيء بعضه على بعض[ ]٢وقيل:
إن الثنائي من األشياء ما كان ذا شقين[.]٣
يتعين على ما سبق أن دالالت الثنائيات تفترض وجود طرفين ،وتعتمد على التثنية ،وهذان االثنان قد يكونان متواليين ،أو معطوفين ،أو
متزامنين.
ويد ّل المعنى اللغوي للثنائيات على ما هو أكثر من الواحد مهماـ كان عدد الثنائيات ،فقد تتعدد الثنائيات ،لكنها تظل تدور في فلك الرقم
اثنين.
ويعني لفظ الثنائية ضعف العدد واحد ،وقد يكون هذا الضّعف شبيهه ،أو نظيره ،أو ض ّده ،ويعني هذا األمر أن العدد واحد يش ّكل مع واحد
ك عنه ،وإذا كان قابالً لالنفكاك
آخر ثنائية مهما كانت العالقة بينهما ،وفي هذه الحال يالزم ك ّل طرف من طرفي الثنائية اآلخر ،وال ينف ّ
عنه انتفت عنه صفة الثنائية.
ويختلف المعنى االصطالحي عن المعنى اللغوي من جهة عمقه ،وأبعاده الفلسفية والعلمية ،فقد ع ّرفها المعجم الفلسفي بأنها “الثنائي من
األشياء ما كان ذا شقين ،والثنائية هي القول بزوجية المبادئ المف ّس رة للكون ،كثنائية األضداد وتعاقبها ،أو ثنائية الواحد والمادة -من جهة
ماهية مبدأ عدم التعيين -أو ثنائية الواحد وغير المتناهي عند الفيثاغورثيين أو ثنائية عالم المثل وعالم المحسوسات عند أفالطون ...الخ،
والثنائية
[] ١ـ ثني من تكرير الشيء مرتين ،أو جعله شيئين متواليين أو متباينين ،والثني :األمر يعاد مرتين ،يقال للمرأة ثني إذا ولدت اثنين .انظر
أحمد بن فارس بن زكريا ، ٢٠٠٨ :مقاييس اللغة ،بعناية محمد عوض مرعب ،وفاطمة محمد أصالن ،دار إحياء التراث العربي ،مادة
ثني.
[] ٣ـ جميل صليبا ،المعجم الفلسفي ،دار الكتاب اللبناني ،بيروت ،ج١/٣٧٩
مرادفة لالثنينية ،وهي كون الطبيعة ذات مبدأين ،ويقابلها كون الطبيعة ذات مبدأ واحد ،أو عدة مبادئ (الثنوية واالثنينية)”[.]١
فاالثنينية هي كون الطبيعة ذات وحدتين ،أو هي كون الشيء الواحد مشتمالً على ح ّد ين متقابلين ،ومتطابقين كتقابل الفكر ،والعمل.
ويعني الكالم السابق أن االثنينية تفترض اشتمال الشيء على مبدأين مستقلين ال يذوب أحدهما في اآلخر ،وال يشبهه ،كالظالم والنور،
والليل والنهار.]٢[ ...
إن الثنائيات الضدية نظرة فلسفية عميقة ،تتجاوز الجمع المباشر ،والسطحي بين طرفين .فهذان الطرفان تربطهما رابطة هي رابطة
التضاد؛ إذ يجتمع الخير والشر ،أو الظالم والنور في ثنائيات ضدية ال متناقضة،ـ فثمة عالقة بين المتضادّين المجتمعين في ثنائية ،فال
ينفي أحدهما اآلخر ،بل يدخالن في عالقة تواز ،وبهذا الشكل ال يتناقضان ،بل يتكامالن .فحقيقة الوجود تنطوي على تقابل دائم بين
طرفين ،لك ّل منهما قوانينه الخاصة.
الفصل الثالث
أجوفُ واويٌّ ،ومصدر لباب مات يموت مو ًتا علی ِز َنة قال ،يقول ،قواًل ؛ أو مصدر لباب مات يمات مو ًتا علی ِز َنة خاف يخاف
الموت َ
خو ًف ا؛ وعلی كل حال صياغته من كال البابين ال تغير معناه؛ بل معناه واحد ،كما في التالي:
- 1مات اإلنسان يموت مو ًتا ،فهو ميِّت -ويقال في تخفيف ميِّتَ :ميْت -والجمع :ميِّتون و َميْتون وأموات وموتی.
أما أبو العالء المعري فجدل الموت والحياة يؤطر أدبه ،وتحتل
هذه القضية مساحةـ واضحة ومميزة في شعره يظهر معها أبو العالء نموذجا ً فلسفيا ً وشعريا ً متميزاً
في طرح هذا اإلشكالية .وقد تعددت األبحاث والدراسات التي تناولت هذه القضية ،وهي تكاد تجمع على أن المعري عرف بانصرافه عن
الدنيا وزهده فيها بل شعوره بأن الحياة
حصار مؤلم وسجن مظلم ال خالص معه إال بالموت:
وقد بلونــــا الع َيش أطواره فمــــا وجدنا فيه غير الـشقا ِء
والموت أكثر رحمة فهو يغلق كل باب للشر تفتحه الدنيا وهو أعدل ما يمر على الناس:
ومع تأكيد أبي العالء بأن الموت راحة فإن المتتبع لشعره يجد مفارقة واضحة بين
هذا التأكيد ،من ناحية ،وحقيقة أن المكان اآلخر الذي يتحول إليه هو سجن بكل ما
يستدعيه لفظ السجن من و حدة وقهر ووحشة وقيد و ظلمة ،من ناحية أخرى :
ٌ
راحة وكل ابن أنثي في التراب سجين حياتي تعذيٌب وموتي
سنرى أن قوام نظرة أبي العالء إلى الدنيا ما رآه من زوال هذه الدنيا وشرورها .أما نظرته إلي الموت فتقوم على الرهبة والراحة.
وسنراه بعد ذلك يخلوا إلى نفسه خائفاً ،يائساً ،يحث على التقوى والزهد في الدنيا والعمل لآلخرة.
أبوالعالء والدنيا:
ما عرف عن أبوالعالء يتجه إلى العقل كثيراً ويعتبره أسمى ما وهب إلى االنسان فهويتجه إلى العقل والعقل يهديه إلى تفاهة الدنيا ألنها
إنتظار مؤلم إلى أن يأتي الموت وينقلها إلى
ٍ زائلة .في حين أن فطرة اإلنسان تحب الخلود فروح أبوالعالء تجد الحياة الدنيا ليس إال فترة
ب يراه في الدنيا .
حيا ٍة خالدة .فبرأي الزوال هوأول عي ٍ
-1الزوال :وأبوالعالء يذكر رأيه ويعيده مراراً وتكراراً ،فاذا الصورة تكبر أوتصغر ،وتتسع أوتضيق ولكنها التخرج عن األصل الذي
رسمه لها ،قال:
وحقيقة الفناء هذه تنفر أبي العالء دنياه وتجعله إنسانا ً متشائما ً ويائساً:
[]43
ً
مخــلوقــة مـن أنفس ٍتاويـه وتـقــــدم األرض نـفــــوسٌ أتـت
ت والحــوت فـي إهالكـه مــا حـوت الحـاوية والدهر كالحيّو ِ
إن تعمــــــر الـدا ُر فــــالبــ َّد مـن يوم ردىً يــتركهــا خـاوية
[]44
وذكر أحد الدارسين حياة أبي العالء المعري أن مصدر تشاؤمه يعود إلى اضطراب الحياة االجتماعية في عصره وإلى شعوره بالنقص
أيضا ً ممّا ّأث ر فيه أشد تأثير فنراه يسمي نفسه برهين المحبسين ويعتكف في منزله .ويروح يسلك في حياته سلوك المتصوفين الذين
يرضوه بالعيش القليل فيقول:
ولم يؤثر فيه التشاؤم في حياته الشخصية وسلوكه اليومي في اإلعتكاف والتقشف فقط ،بل إنها اعتملت في نفسه وتفجرت شعراً ونثراً.
وأي حياة تلك الحياة؟:
أخــوسـفــــر قصده لحـــــده
ٍ
تــمـادى به الســي ُر حــتى بـــلــــغ
ودنــياك مـثل اإلناء الخبيث
ب ولغ وصــاحــبهـــا مــثــل كـل ٍ
[]46
فالبشر في هذا العالم ضيوف ،وما الطعام الذي تقدمه لهم الدنيا إالّ الموت فهم في هذه الحياة الهون بالمقبّالت وهذا المعنى العميق يصوره
لنا قوله:
وبرأيه مثل هذه الدار الفانية التصلح دار إقامة حيث الأمان لمقيم فيها:
-2شرورها:
عاش أبوالعالء قرابة أربعين عاما ً قبل عزلته بين الناس وجرّ ب الحياة وتأمل فيها فوجدها ليس إالّ دار شرور:
أبوالعالء والموت:
رأينا أبوالعالء كثيراً ما يزعجه أن تنتهي الحياة بالموت .إنه إذ تختم به الحياة فيمحوكل ما سبق من سعادة لمثل المقر المر الذي يتناوله
االنسان بعد عسل النحل فاليبقي له إال المرارة.
[]59
فاذا هوخائف مذعور ،يطارده شبح الموت في كل حين ،ويتمثل له وجهه في كل شي يحيط به ،ويطالعه إنى إتجه .وهذا صوت الموت
الذي يمأل أذنه يصبح حائالً بينه وبين جمال الحياة:
فال عجب أن يحفل ديوانه اللزوميات ،بذكر الموت ،وتصوير اهواله وآفاته .واذا استوصينا شعره في ذلك وجدناه قائما ً على نظرتان
رئيسيتان:
- 1رهبة الموت :ابوالعالء يخشي الموت ويفرق لذكره ،واليزال يذكر الناس بأهواله وآالمه ،ليرهبهم به .فلن نستغرب إذا سمعناه يكرر
المعاني ويعيدها ولن نستغرب ان يحثهم على اإلنتباه من غفلتهم ،وان في جزعه من الموت وخوفه منه ،بعض التأويل المعقول لنقمته
على الدنيا وتشاؤمه:
ويقول:
ويقول:
فهويبيّن خوفه من الموت في االبيات اآلتيه وثم يلوذ بربه ويرجوالنجاة منه:
وأما الموت قدر اإلنسان ولن ينجومنه أبداً فالبد أن نعتبر منه:
رامح
ٍ هوالموت من ينجومن
فالب ّد من أسهم النابـل
رجال مضــــــوا
ٍ لنا أسوةٌ في
وهل أنا إال أخواآلبل
الجميع:
ِ وال يميز بين ظالم ومظلوم ،فهويأتي على
ويصف الموت بأنه اليترك كائن حي .فال يترك بهيمه والنبته واليترك حتى كواكب السماء.
الفصل الرابع
إن المعري بما عرف عنه من حس مرهف وفطنة حادة وعقل موهوب قل نظيره لم تقف حاسةـ فقدان البصر عائقا ً في وجه شاعرنا فعلى
الرغم من انه لم يدرك الشمس والقمر والنور والظالم برغم ان حياته كانت في ضالم
كقوله
َعلِّالني فإن ِبيض األماني فن َي ْ
ت والظالم ليس بفاني
كقوله
جنح الدجنة نجمهـا المسهاد يالي ُل قـد نام الشـجى ولـم ينم
إن كانت الخضراء روضا ً ناضراً فلعـلَّ .زهر نجومهـا ازهار
ويستمد من خزين اوصاف الشعراء للهالل ويخرج بوصف يصوره بقالمة االظفر في نحوله وضعفه ويجعل من بنات نعش فتيات
جميالت يصيبها االعياء من طول السهر
وذلك في قوله :
وهـال ٌل مث ُل القـالمة ناحـ ُل سـبح اهللا طـالع مسـتنير
غوان لم يصيبها من اثمد الليل كاحلٍ وبدت من بنات نعش
فأشعار المعري وان كانت محاكاة للموروث األ انه قد اجاد فيها
من حيث المعاني والصفات فأن شروق الشمسـ ليلهم المعري في تصوير الممدوح جمال وهيبة ذلك بقوله :
الظلم مظلمة سوداء وان البدر ليحتقر فيها للونه وذلك بقوله :
ِ كما ويشير الى فساد العصر الذي يعيشه حتى لتغدوالشمس لكثرة
لحفر
ِ لو عاشت الشمس فينا ُألبست ظلما ً أو حاول البدر من حاجة
ويمثل أسلوب التضاد لدى المعري في مجال الحديث عن الزمن بنية متكاملة حمل من خاللها هموم الوجود،
وهمومه الفكرية والنفسية فعكستـ بشكل خفي مشاعره وأحاسيسه .ففي تضاد الليل والنهار تتضح جدلية
الصراع اإلنساني مع الزمن في الليل.ففي الليل لدى اإلنسان العادي سر غامض ،وقوة مهيمنة تبعث على القلق والحيرة فكيف بإنسان
حياته كلها ليل في ليل؟! يتردد في شعر المعري نمط الليل الزنجي)[[) 29في تصوير السواد والظالم وما يرمزان إليه من شؤم ومعاناة.
يقول٣٠